إلى نادية الملهمة أهدي نادية القصة مع كل ما أملك من مشاعر طيبة
يوسف السباعي.
مقدمة
مرة أخرى أشعر بمسؤوليتي ككاتب يعيش في فترة مليئة بالأحداث التي تغير مجرى التاريخ في وطنه ، ولست أظن أن الكاتب يمكنه أن يفصل نفسه عما يحيط به ، فإنتاج الفنان عملية استقبال وإرسال أو امتصاص وإفراز وه يأخذ مما حوله ليؤثر في من حوله ، ، وعندما كتبتُ أرض النفقا ووراء الستار والبحث عن جسد ويا أمة ضحكت كنت أعكس بها مااستقبلت من انفعالات سببها إحساسنا بالفساد والفوضى التي كانت تدمغ حياتنا وتتركنا في حنق وضيق ولهفة تملأ نفوسنا على شيء يخلصنا من حالة الضياع التي كنا نعيش فيها ، وعاصر جيلنا هذا الشيء الذي كنا نتلهف عليه وحدثت الثورة التي أعادت لنا إحساسنا بالكرامة ووضعتنا حيث كنا نتمنى دائما أن نكون .
وأحسست بمسؤوليتي ككاتب وضابط عاش في تلك الفترة التي انتهت بالثورة وعانى كل التجارب التي مرت بها ، وأحس بالانفعالات التي أحس بها أصحابها ، أحسست بمسؤوليتي التي تدفعني لتسجيل كل الحوادث والتجارب والانفعالات التي التي سبقت الثورة وأدت إليها ، وكتبت رُدَّ قلبي بقدر ما أملك من قدرة وجهد وأمانة وقد أكون متعجلا في كتابتها وقد يكون البُعد الزمني الذي يبرز لنا الحوادث بطريقة أوضح وشكل أعم لم يتوفر لي أثناء الكتابة ، ولكني مع ذلك أقدمت على كتابتها ، يدفعني إلى ذلك إحساس بمسؤولية الكاتب تاركا لغيري ممن يتأثر بعدي وممن يتوفر له البُعد الزمني الذي يمكنه من تسجيل صورة أدق ورسم شكل أشمل وأوضح ، ولعلي أكون قد وفرت له ما يعينه على عمله ، ويبدو لي أن جيلنا من الكُتاب قد منحه الله من الأحداث الضخام ما هيأ له زادا من مصادر الإلهام والانفعال فلم تكد تنتهي أحداث الثورة حتى بدأت أحداث التأميم والعدوان والانتصار في بور سعيد ، ومرة أخرى أحسست بمسؤوليتي إزاء الأحداث الكبار التي جعلتنا في التاريخ شيئا مذكورا ، والتي جعلت من الأيام التي نعيش فيها أياما لها على الزمن قيمة ، وكتبت هذه القصة التي جرت حوادثها في الفترة التي تلت الثورة والتي امتلأت بالحوادث الضخمة والتي انتهت ببور سعيد مستعينا على كتابتها بملهمة كان لها الفضل الأكبر في كتابة هذه القصة ، تلك الملهمة هي نادية التي لقيتها في قمم الألب العليا ، والتي لولاها ما عرفت الكثير من تلك المعالم الإنسانية والطبيعية التي سجلتها في هذه القصة ، والتي كانت بالنسبة لي الدعائم الكبرى التي حملت هذه الأحداث التاريخية التي حاولت تسجيلها .
وبعدُ ، أرجو أن أكون قد حققت بها بعض ما يعوض علي جهدي في كتابتها ، وما يعوض جهد القارئ في قراءتها وما يعوض الملهمة عن عرض بعض حياتها .
والسلام عليكم ورحمة الله
يوسف السباعي ..
1
توأمتان
دقت الساعة أربع دقات وقفزت منى من فراشها في وثبة بهلوانية قاذفة بالمجلة من يدها وهتفت بنادية : هيا بنا .
وتمطت نادية وتثاءبت وأراحت أطرافها باسترخاء وأجابت وعيناها مسدلتان : دعيني أسترح .
- ألن تشاهدي المباراة ؟
- لا .
- ألن تذهبي إلى النادي ؟
- سأذهب بعد الافطار مع ماما وبابا .
- غبية ، أتعتبرين هذا ذهابا إلى النادي ؟ تحشرين نفسك وسط العجائز ، هيا قومي .
ومدت منى يدها تحاول أن تجذبها من الفراش ،
فصاحت نادية : قلت لك إني متعبة .
- أتظَلين هكذا راقدة حتى المدفع ؟
- أجل .
- إنك تضيعين عمرك بهذا الصيام ، لماذا لا تفطرين ؟
- ولماذا أفطر ؟
- لأنك عاجزة عن الصيام .
- أنا لم أشك إليك .
- ولكنك تقضين نصف نهارك راقدة بلا حراك .
- كذابة ، هذا أول يوم منذ بدء رمضان أرقد فيه ، لإننا تعبنا في المدرسة طوال اليوم .
- ولماذا لم أتعب أنا ؟
- لأنك مفطرة .
- ولماذا لا تفطرين مثلي ، أيرضيكِ أن تدخلي الجنة وحدكِ ؟
ضحكت نادية وأجابت : سأتوسط لكِ لكي تدخلي معي .
- أتُقْبل وساطتكِ ؟
- ربما .
- إذن لنأخذ معنا عصام ـ إنني لا أستطيع دخول الجنة بدونه .
- ومن أدراكِ أنه بحاجة إلى وساطة ؟
- لأنه لا يصوم أيضا .
- ولماذا وهو كالعِجْل ؟
- هل رأيْتِه بعد أن حلقوا له رأسه ؟
- حلقوا لعصام ؟! لابد أن شكله أصبح مضحكا جدا لم يكن به شيء سوى شعره ، لستُ أدري ما الذي دفع هذا الغبي إلى دخول الحربية بعد أن أخذ لسانس الحقوق ؟
- أنا .
- أنتِ ، ولِمَ ؟!
- لأني أريد أن أراه بالبدلة الرسمية ، إني أحب الضباط جدا .
- لأنَكِ هايفة وهو أهيف منك لأنه سمع كلامكِ .
- لماذا ؟ إنه سيصبح نائب أحكام على سن ورمح ، هل رأيْتِه ببدلة الكلية ؟
- لم أره .
- فاتك نصف عمرك .
- لِمَ ، من يكون جمال عبد الناصر ، أُمال لو كان بشعره ؟
-كان فاتك عمرك كله .
وقذفت منى ببنطلون البيجاما وتناولت البنطلون البْلو جينز من الشماعة ووضعت ساقيها فيه بوثبة راقصة ثم حشرت ردفيها فيه وضغطت على الكبسولة وجذبت السوسْتةَ ثم أردفت قائلة : على أية حال تستطيعين أن تريه اليوم إن لديه فسحة وسيحضر لمشاهدتي أثناء اللعب ثم نتناول الشاي معا .
ولم يلقَ قول منى ارتياحا لدى نادية ورَدَّت محذرة : لا داعي لهذا الشاي .
والتفتت إليها منى متسائِلَة : ولِمَ ؟
وهزت نادية كتفيها وأجابت : أولا لأننا في رمضان ، .
وقاطعتها منى بسرعة :
- لا يهمني رمضان .
واستمرت نادية تقول في لهجتها المحذرة : وثانيا لأن الناس ..
وعادت منى تقاطعها وفي حدة :
- ولا يهمني الناس .
- إن تصرفاتكِ يجب ..
- إني أتصرف بما يرضيني لا ما يرضي الناس ، إني لا أستطيع أن أعذب نفسي من أجل أن أُرضيهم ، إن تصرفاتي من شأني وحدي وأنا أستطيع أن أتحمل نتائجها .
- أنتِ كاذبة .
- كيف ؟
- لأنكِ لا تتحملين شيئا ولأنكِ تعرفين من الذي يتحمل .
- أقصد أنكِ تعملين العملة وتلقين بعبئها على غيركِ ، إنكِ تُسِيئين التصرف وماما المسكينة تتحمل النتائج .
- نعم ، من الذي طلب منها أن تتحمل النتائج ؟ أنا لستُ عاجزة عن مواجهة الناس إني أستطيع أن أتحمل لومهم وأتحداهم جميعا .
- إن أحدا لن يلومكِ .
- لماذا ؟
- لأنك طفلة ولأنهم يرجعون كل عبثك الصبياني إلى سوء تربيتكِ ولأن أمك الفرنسية قد نضحت عليكِ ، لقد سمعت عمتي تقول عنك في النادي اكفِ الجرة على فُمها تطلع البنت لأمها .
- لو قالت هذا أمامي لشتمتها ، أنا لا يهمني عمتي ولا أبوها ولا أُمها .
- ولكن يهمكِ أُمَنا ، لماذا تظلمينها بحماقتك لماذا تساعدينهم على التشنيع بها والحملة عليها ؟ أنتِ تعرفين كم هي طيبة وتعرفين أنها تصوم معنا رمضان ، لماذا تتركينهم يأخذونها بطيشك ويلمونها من أجلكِ ؟
- وماذا يهمنا منهم لماذا لا نُقاطِعهم جميعا ؟
- لأنها قد أصبحت جزءً من أسرتهم وهي لا تستطيع أن تفصل أبي عن أخواته وأمه وأبيه .
- إذن لتتحمل شرورهم .
- ولماذا لا تتعقلين أنتِ وتتزنين في تصرفاتك وتقطعين عليهم سبل اللوم ؟
- وماذا فعلت حتى أستحق لومهم ؟
-ألا تعرفين ماذا فعلتِ ؟
- لا .
- مثلا مصاحبتك الدائمة لعصام .
- إنه my boy friend >
- ليس في تقاليدنا شيء اسمه boy friend ، هذه صفة لم نعترف بها بعد في أُسرتنا .
- في الدول المتمدنة يعترفون بها .
- وعندنا نعتبرها انحلالاً ، ليس للفتاة الحق في أن تصاحب مخلوقا يقل عن درجة خطيب .
- وعصام سيخطبني .
- عندما يخطبكِ تستطيعين أن تصاحبيه إلى السينما وتشربي معه الشاي .
- سأجعله يخطبني اليوم ، ماذا عندك غير هذا من أدلة طيشي ؟
- قذفت منى بجاكيت البجاما ووضعت ذراعيها في قميص حَريري خفيف وأخذت تشد أزراره عليها .
وأجابت نادية وهي تنظر إلى جسدها البارز من وراء القميص الخفيف : هذا اللبس الذي ترتدينه .
- ما به ؟
- ألا تعرفين ما به ؟ ألا ترين آثاره في أعين الناس التي تريد أن تلتهمكِ وأنت سائرة في الطريق ؟ ألا ترين انعكاسه في وجه الشبان المحيطين بك في النادي ؟
وهزت منى كتفيها في استخفاف محاولة أن تخفي ابتسامة رضا شاعت في وجهها وقالت محتجة : وماذا أفعل إذا كان جسدي هكذا وكانت عيون الناس فارغة ؟
وأجابت نادية : لُمي جسدك وهم يغمضون عيونهم .
- ألُمُه أكثر من هذا ؟
ووضعت منى كفيها على ردفيها اللتين شدهما البنطلون الضيق ثم سارت تهز وسْطها في حركة ناقصة وقالت وهي تضحك : أُمال لو مشيت كده يُأُلوا إيه ؟
- إنتِ بنت مايعة
.وانحنت منى تفتح أحد أدراج الشوفونيرا وتساءلت وهي تقلب الثياب التي فيها : أين الشورت ؟
- ألا يوجد عندكِ ؟
- لا أثر له .
- لا بد أنه لم يأتِ من عند المَكوَجي .
- الله يِخرِب بِيِتو دائما يؤخر المَكْوى ، كيف أستطيع اللعب ؟
- يوجد في درجي شورت خذيه .
وفتحت منى دُرْج آخر وراحت تبحث في محتوياته حتى أخرجت الشورت ثم نشرته بين يديها وقالت وهي تزوي ما بين عينيها : هذا ليس شورت .
- ماذا يكون إذن ؟
- إنه long ، إنه طويل جدا يكاد يغطي الركبتين .
- أحسن .
- أحسن إذا ارتدته ماما .
- ولكني أرتديه في ألعاب المدرسة .
- ومن قال أنك لستِ خيرا من ماما ؟
- ألا بد أن يكشف عن فخذيكِ حتى يصلح للارتداء ؟
- طبعا .
- أتنوين اللعب أَم الاستعراض ؟
- كليهما .
- يا منى اعْقلي ، هل تعلمين أن الشورت الذي ترتدينه محل تعليق النادي كله ؟
ضحكت منى قائلة : ولهذا أرتديه .
وعادت تقلب الشورت بين يديها ثم قالت : على أية حال لابد من ارتدائه ، وأعتقد أني لو ثنيت ساقيه سيصبح معقولا ، ثم صاحت منادية بصوت مرتفع : ماما .
وأجابتها أُمها من الحجرة المجاورة : نعم يا منى .
- أريد إبرة وفتلة .
- لِمَ ؟
- لكي أثني رِجْلَي الشورت .
- الإبرة والفتْلة في دُرج مكينة الخياطة .
وكانت إجابت الأم خليطا من الفرنسية والعربية المكسرة ، وبعد لحظة كانت منى قد أتمت تقصير الشورت ووقفت تستعرضه أمام المرآة ودارت ظهرها للمرآة وقلبت شفتها السفلى قائلة : مش بطّال ، ما رأيكِ يا نادية ؟
- فضيحة .
وأجابت منى متخابثة : معكِ حق إنه يحتاج لثنية أخرى .
- ولماذا لا تخلعينه وتلعبي عارية ؟
- يا ريت ، إن سكرتير النادي يطردني .
- أتخشين فقط سكرتير النادي ؟
وواجهت منى المرآة وشبت على أطراف أصابعها ووضعت ذراعيها في وسْطها وأخذت تستعرض جسدها بإعجاب أمام المرآة قائلة : أرأيتِ أجمل من هذا جسدا أليس حرام أن يخفي الإنسان مواهبه ؟
- مغرورة وعبيطة .
أخذت مُنى تتمشى أمام المرآة ثم قفزت إلى الفراش بجوار نادية واحتضنتها وقبلتها وهي تقول ضاحكة : يا ستي العجوز أنا لست مغرورة إنما ؛أحب أن أُغيضَكِ لأني ...
وقطع حديثها كُحة خفيفة متقطعة وبدا القلق على وجه نادية وقالت ناهرة : منى البسي فانلة .
- الدنيا حَر .
- البس الفانيلا بالتي هي أحسن لأن ماما لن تتركك تخرجين هكذا .
- اسكتي أنتِ ، إنها لن تراني وأنا خارجة .
- ولماذا لا تلبسين الفانيلا إنك تعرقين بسهولة وإذا هبت عليك أي نسمة سيصيبك البرد وأنت تعرفين أن صدركِ لا يحتمل .
- لقد شُفيت تماما .
- لا تكوني عنيدة يا منى .
إني أكره الفانيلا .
- لماذا ؟
- لإنها تضغط صدري وتبططه .
- أفي سبيل العياقة تعرضين نفسك للبرد ؟
- أولا ليس هناك برد وثانيا لا أستطيع أن أبدو أمام الناس وكأنني طفلة بلا صدر ، لن ألبس شيئا ، اسكتي أنتِ ولا تتدخلي فيما لا يعنيكِ .
- إذا لم تلبسي الفانيلا سأخبر ماما .
ونهضت نادية من الفراش وفتحت دُرج منى وأخرجت الفانيلا وقذفت بها إليها قائلة : البسي .
وأمسكت منى بالفانيلا في ضيق وقالت : أتظنين نفسكِ وصية علي ، أنتِ لستِ أكبر مني .
وضحكت نادية قائلة : بل أكبر منك .
- لقد نزلنا سويا .
- بل نزلت قبلكِ .
- ببضع ثواني .
- ببضع ثواني أو بضع سنين مادمت نزلت قبلك فأنا أكبر منك .
- ومن أدراكِ أنك نزلت قبلي ؟
- اسألي ماما .
- ومن أدرى ماما ، إنها قطعا كانت في غير وعيها .
- لابد أنهم قالوا لها .
- وكيف استطاعوا أن يميزوا بيننا إنهم حتى الآن يخطئون فينا ، لقد شكرتني مدرسة الفرنسي بالأمس على ما فعلتِه أنتِ .
- على العموم أنا أكبر أو أنت المهم أن تلبسي الفانيلا .
- سألبسها بشرط .
- ما هو ؟
- أن تذهبي معي إلى النادي .
- أنا متعبة يا منى وصائمة .
- سلي صيامك .
- ليس هناك ما يسَلّي .
- حتى مشاهدة الكروكيه ؟
وبدا الاضطراب على نادية وأجابت : ماذا تعنين ؟
- أبدا ، فقط يخيل إلي أنك بدأتِ تهوين مشاهدة الكروكيه .
- وماذا في ذلك ، إنها لعبة مسلية .
- مفهوم مفهوم ، ولاسيما إذا لعبها بعضهم .
- لا تَدَّعي النباهة .
- ولاتَدَّعي أنت العبط ، هيا بنا .
شَردت نادية برهة وما لبثت حتى تناولت البلوزة والجيب .
وبعد لحظات كانت التوأمتان تغادران منزلهما في منشية البكري إلى نادي مصر الجديدة .
2
عبقري جزار
كانت الساعة قد جاوزت الرابعة والنصف عندما وصلت نادية ومُنى إلى النادي وعبرتا الباب الخلفي عند زاوية الحديقة الجديدة التي أُنشئت فيها ملاعب الكوروكيه والجولف الخضراء ، وكانت مجموعات الزهور قد تكدست في الأحواض المتناثرة بين الملاعب ، وكونت مجموعات المنثور البني والفوكْس الأحمر والباتونيا البنبا مع مسطحات النجيل الأخضر وأعواد الخطْمية ما يشبه البساط الأعجمي الدقيق الصنع الرائع الألوان ، وكانت الشمس قد بدأت تميل إلى الأفق الغربي ولسعة أشعتها قد خَفَّت ونسمة بحرية عليلة تهب في موجات خفيفة متتابعة حاملة معها خليطا من زهور البرتقال وبقايا زهور البِسلّا التي لم تُنزع بعد من الأحواض .
وحركة النشاط قد أخذت تتزايد في النادي ، وبدأت طرقات كُرة التنس تتزايد وتشتد ، وتزاحم اللعبون على ملاعب السكواش وبدأت في حوض السباحة بضعة أجساد تثير الرذاذ وتتقاذف كُرة الماء ، وعلى النجيل الملاسق للحمام تمددت أجساد أخرى مسترخية في أشعة الشمس ، وعلى منضدة البِينكبُونك أخذت الكُرة البيضاء الصغيرة تتراقص كبندول الساعة وحولها بضعة صِبية يضجون بالضحك والهتاف ويحاول كل منهم أن يقذف بالآخر إلى الحمام ، وحول البوفيه بدأ بعض الأطفال يلحسون الكلاس أو يقضمون السندويتش ، وتحت المظلة المنحدرة الفسيحة تفرق البعض على الموائد يشربون الشاي أو يرقبون الأجساد العائمة أو المستلقية .
لم يكن هناك ما يوحي بشهر رمضان سوى بضعة الضباط والموظفين الذين التفوا حول مائدة في مدخل الحمام وقد ارتدوا القمصان والبنطلونات وبدت عليهم مظاهر الاسترخاء والملل وأخذوا يتبادلون حديث السياسة وآخر النكت وقد مدوا سيقانهم وأرْخوا أجسادهم في مقاعد القماش ، وفي الحديقة الخلفية المتسعة بدت ملاعب الكوروكيه خضرا مستوية ناعمة كالبساط وقد أخذ اللاعبون يتحركون فيها الهوينة وينحنون على الكُرات الكبيرة الملونة ليضربوها بتؤدة واتزان ، وفي آخر الحديقة بدا ملعب البولي وقد أخذت الفتيات فيه يتواثبن ويتقاذفن الكُرة قبل بدء المباراة ولم تكد أحداهن تبصر منى تعْبُر الباب حتى صاحت بها :
- منى ألم تلبسي بعد ؟
وأجابتها منى وهي تعدو منطلقة إلى قاعة الحمام :
- حالا ، ثانية واحدة .
واقتربت نادية وحدها من الملعب وأقبلت الفتيات عليها يحيينها في مرح وخفة ، واتخذت نادية مجلسها على أحد المقاعد المرصوصة خارج الملعب وقد أمسكت بيدها كتاب الأيام لطه حسين وقد ثنت حافة آخر ورقة وصلت إليها .
واكتمل عدد الفريقين المتباريين فريق النادي وفريق المدرسة الإنجليزية ، ونجحت الشورتات والسيقان العارية في جذب أنظار أكبر عدد من رواد النادي فالتفوا حول الملعب لمشاهدة المباراة ، وأقبلت حَكَم المباراة ومدربة النادي مدموزيل حكيم إحدى عوانس النادي وشخصياته المحببة وقد ارتدت نظارتها وعقصت شعرها وحشرت نصفها السفلي في شورت كُحْلي وصل إلى ركبتيها .
وقبل أن تنفخ الحَكَم في صفارتها وقع بصرها على نادية فهتفت بها في دهشة :
- منى لماذا لم تغيري ملابسكِ ؟
وضحكت الفتيات وصاحت أحداهن متخابثة وهي تجذب نادية من ذراعها :
- أومي يا منى البسي .
وابتسمت نادية وأجابت في رقة :
- لقد ذهبت منى لِتُبْدِلَ ملابسها ، أنا نادية يا مدموزيل حكيم .
وقالت الحَكَم وهي تهز رأسها في يأس :
- عبثا أحاول التمييز بينكما .
وجذبت نادية ظفيرتها المدلاة على ظهرها ولوحت بها وهي تقول ضاحكة :
- أنا بظفيرة يا مدموزيل حكيم .
وكانت منى قد أقبلت تعدو في خفة بالشورت المَثْني والقميص الخفيف ولم تكد تراها مدموزيل حكيم حتى هزت رأسها هزة المعرفة وقالت : ومُنى بلا ظفيرة ولا ثياب .
وقبل أن تدخل منى الملعب رفعت ذراعها ملوحة لثلاثة أرباع الفتيان الذين اصطفوا لمشاهدة المباراة قائلة في دلال : هَلّو .
فرفع الفتية أيديهم وهتفوا لها : well منى well منى .
وانحنت منى في تهريج كما تفعل الممثلات على خشبة المسرح ، وقالت الحَكَم وهي تنفخ في صفارتها ناهرة منى : اسرعي يا منى كفى عبثاً .
وبدأت المباراة وجلست نادية ترقبها وقد وضعت الكتاب في حِجْرها ..
لم يكن خطأ الحَكَم في تمييز نادية من منى بالشيء المستغرَب فقد كان بينهما من الشبه الظاهري في القسمات ما يجعل تمييز كل منهما عسيرا إلا على من يعرفهما معرفة وثيقة ويعرف الفوارق الدقيقة التي تميز كل منهما عن الأخرى ، كانت الملامح الجامعة في كل منهما شُقرة في الشعر واتساع وخضرة في العينين وامتلاء في اشفة السفلى وغَمّزتان في جانبي الفم تظهران واضحتين مع كل بسمة وكانت ملامح الجسد تكاد تتطابق إلا في وحمة في أحد أصابع قدم منى اليسرى ، وكانت أوجه الخلاف بين التوأمتين غير وحمة القدم تكاد كلها تكون مصنوعة من اختلاف الطباع عدا سِنَّة في فم نادية ضغط عليها الناب عند النمو فبرزت بروزا خفيفا جعل طبيب الأسنان يحشر في فمها سلكا حتى يعيد السنة إلى موضعها وفيما عدا ذلك كان التمييز بين التوأمتين يقوم على فوارق الخُلُق أو انعكاسه على التصرف والمظهر .
كانت منى خفيفة مرحة وكانت نادية رزينة متئدة وقد يكون هذا ناتجا عن طبيعة التكوين وقد يكون أكثر من ذلك ، ناتجا عن إصابة منى ، تلك الإصابة التي جعلتها بين ذويها كالهشيم يُخشى عليه من التفتت ، لقد بدأت الأعراض عليها قبيل العاشرة كانت تعدو في المدرسة وعندما عادت إلى البيت سعلت وبسقت دما ، وكانت صدمة مروعة لأبيها وأمها ولم تفهمها نادية في أول الأمر ظنت أن المسألة لا تعدو أن تكون فصدا أو جرحا ولكن مظاهر الارتياع حولها وفرط الجزع والاهتمام والوحشة التي خيمت على البيت جعلتها تدرك أن هناك خطرا حاق بأختها ، ولكن الخطر لم يَطُل فقد كانت سرعة إدراكه وفرط العناية المبذولة في دفعه كفيلان باجتثاثه ، وزال الخطر عن الصبية الشقراء الحلوة المرحة ولكنه خلف وراءه إحساسا دائما بوجوده وخوفا مستمرا من رجعته ، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الإحساس هو إفراط للعناية بمُنى والخشية عليها والتدليل لها ، ولم تكن توأمتها نادية أقل من أبويها إحساسا بهذا ، كانت بطبيع ة خلقها أميل للهدوء والرزانة ، أكثر إحساسا بشعور الأمومة واحتمالا للمسؤولية وزادها الخطر الجديد الذي أحاق بأختها إحساسا بالحب لها والخوف عليها وتملكها نحوها شعور أشبه بشعور الأُم منه بشعور الند أو التوأم ، ويبدو أن فرط العناية والخوف والتدليل قد دفع في نفس منى إحساسا بأن خطرا خفيا يتربص لها وشكا بأن ذلك الذي أصابها وروع ذويها لم ينجلي تماما بل هو جاثم فوقها ليطبق عليها بين آونة وأخرى ، وقاومت منى إحساساها بمزيد من الفرح ومزيد من الضحك وبدت عن غير قصد منها متشبثة بالحياة مستغلة لساعاتها مقتنصة لمتعها وكأنها تنشد بلا وعي مع الخيام
"وَيْلَتا إن ضاع يومي من يدي".
كانت منى إذن بحكم خلقها الطبيعي المرح وبحكم إحساساها بالخطر الجاثم مندفعة نزقة طائشة مستخفة ، ولم يحاول أحد أن يوقفها إلا بما يمنع تعرضها للخطر أو الإنزلاق ، ولم تكن هي بطبيعة إدراكها للخطر تندفع إلى الحد الذي يعرضها له ولم تكن كذلك بطبيعة خُلُقِها القويم المستقر في باطنها لتندفع إلى حد الإنزلاق بما يمكن أن يُشِينها .
انهمكت مُنى في المباراة حتى حانت فترة الراحة الأولى ونادتها نادية آمرة : منى .
ونظرت إليها مُنى وهي تهز رأسها مستفسرة وقالت نادية في لهجة حاسمة : كفى يا مُنى .
واستعدت صديقتها كاميليا للدخول بدلها وقالت : سألعب بدلكِ يا مُنى لقد تعبتِ .
ونظرت منى إلى المتفرجين فلمحت عصام وقد أقبل مع صديقِهِ صبري الطالب بالطب فرفعت له يدها محيية قائلة بلهجتها المرحة : هلّو .
وأشار لها عصام ثم اتخذ وصاحبه مقعدين مجاورين نادية وحييها بإشارة من رأسيهما ، وأجابت منى على كاميليا في إصرار : انتظري سألعب فترة أخرى إني لم أتعب بعد .
ولم تحاول نادية أن تعيد طلبها فقد أدركت أن منى لابد أن تلعب للاستعراض أمام عصام .
استمرت المباراة وقد بدا القلق على نادية وأخذت ترقب منى في قذفها للكرة وعدوها وراءها ، وحانت منها التفاتة إلى ملعب الكوروكيه المجاور وقد تغير جميع اللاعبين به وأقبل عليه أربعة لاعبين جدد ثلاثة رجال وسيدة ، ولمحت أحد الرجال فدق قلبها بعنف وأعادت بصرها سريعا إلى ملعب الفولي ثم أخذت تعبث في كتاب الأيام بإصبعها في حركة عصبية مضطربة ومرت برهة قبل أن تتمالك نفسها وتستعيد جأشها وتلتفت خلسة إلى من حولها لتتأكد أن أحدا لا يعنيه أمرها وأن المتفرجين قد ركزوا كل اهتمامهم لمباراة الفولي وليس لمراقبتها . ومرة أخرى أدارت رأسها ببطء نحو ملعب الكوروكيه وبدأت تفحص اللاعبين واستقر بصرها هذه المرة على السيدة التي صحبت الرجال الثلاثة وعرفت فيها أحدى زبائن ملاعب الكوروكيه الدائمين أو احد عناصر الجاذبية فيه ، كانت جاذبية عبد الفتاح إحدى الأرستقراطيات المطلقات ، وكانت رشيقة في حركاتها جذابة في إيماءاتها ولفتاتها ، وكانت جاذبيتها العامة أغلب على جمالها التفصيلي وكانت دائما تُذَكِّر نادية بالمعيز لا تدري لِمَ ، قد يكون لبوزها الممدود أو لأذنيها المطرطقتين أو لجسدها الرفيع وحركتها الرشيقة وتواثبها في الملعب بين آونة وأخرى ،ومع ذلك ورغم اقترانها دائما في ذهن نادية بالمعيز كان أنيقة جذابة من النوع الذي يعفُ عنه الرجال ، ولم تحس نادية أبدا بضيق منها بل كانت أميل إلى استلطافها حتى أبصرتها الآن بالملعب وأبصرت الرجال الثلاثة الذين يلعبون معها ، أو عىل وجه أدق أبصرت زميلها في اللعب وأعادت نادية بصرها هنيهة إلى ملعب الفولي حتى لا يحس أحد بتحوِلها التام من مراقبة الفولي إلى مراقبة الكوروكيه ، وقبل أن تعيد بصرها إلى ملعب الكوروكيه لترقب اللاعب الذي سبب لها كل هذا الاضطراب والذي سبب لها السخط على معزة الكوروكيه الجميلة الجذابة التي يعوف عليها الرجال أحست بصبري زميل عصام يلتفت إلى الملعب ثم يدفع عصام بمرفقه قائلا :
- الله الدكتور مدحت .
والتفت عصام إلى الملعب ثم هز رأسه دون اهتمام قائلا : آه .
وعاد صبري يزغد عصام قائلا : إنه يلعب مع جاذبية .
ولم يبدِ عصام كثيرة دهشة وهز رأسه وهو يرقب ملعب الفولي ويبتسم لمُنى قائلا : طيب طيب .
واستمر صبري في تعليقه المنفرد : إنها تشتغل عليه .
وأجاب عصام بطريقته غير المُكتَرِثَة وهو منهمك في مراقبة منى : دعها تشتغل .
- مُغَفَّلة ، جيه نَأْبَها على شونة .
ولم يرد عصام ، لم يكن مهتم البتة بحديث صبري ولا كان يهمه أبدا نقب جاذبية الذي جاء على شونة الدكتور مدحت ، ولكن شخص آخر كان شديد الاهتمام بالحديث ، كانت نادية تتمنى لو استطاعت أن تجيب على صبري لتحصل على المزيد من تعليقاته ، ويبدو أن صبري كان مصرا على أن يقول كل ما بنفسه رغم عدم اهتمام عصام به .
تساءل صبري وهو يرقب جاذبية تنحني بجذعها ثم ترفع المضرب الشبيه بالدقماق لتطرق به الكُرة البيضاء : أتدري لماذا ؟
ودون أن يعرف عصام ما هو هذا الذي يريده أن يدريه لماذا قال ببساطة وهو يصفق لمُنى : لماذا ؟
لأنه يكره النساء .
فأجاب عصام بلا وعي دون أن يعرف من هو هذا الذي يكره النساء : مُغَفَّل .
- إنه عبقري ، هل تصدق أنه أجرى بالأمس أمامنا عملية لمدة ثلاثة ساعات أزال بها المثانة لأحد المرضى وأول أمس رأيته بعيني يزيل مَعِدَة مريض آخر وفي الأسبوع الماضي قطع أربعة أزوار .
وهنا التفت عصام في دهشة إلى صاحبه وتساءل قائلا : أيشتغل جزارا ؟
ولم تتمالك نادية نفسها من الضحك ،وأجاب صبري في غيظ : جزار يا غبي ؟ إنه جَرّاح ، أكبر جَرّاح عندنا في السرطان .
- اللهم احفظنا .
- إنه يبدو عنيفا ولا يجيد المجاملة ، ولذلك يكرهه معظم الأطباء عندنا ويسمونه الجزار .
- معهم حق .
- ماذا أفهمكَ أنت بالجراحة ؟
- مادام قطع في الأسبوع الماضي أربعة أزوار ومَعِدَة وطحالا فلماذا لا يسمونه جزارا ؟
- إنه أحيانا يقطع أكثر من هذا ، إن آخر ما قيل فيه هو أنه بعد انتهائه من العملية قال للممرض شيل المريض ، ونظر الممرض ما أزيل من المريض وما تبقى منه وسأله حائرا : أشيل مين فيهم ؟
- وبعد هذا لا يُسمى جزارا ؟
- بل يُسمى عبقريا ، لقد أنقذ ما يقرب من 100 حالة مستعصية كان مصيرها إلى الموت .
وملأ نادية إحساس بالتفاخر والغبطة كأنها هي التي أنقذت 100 روح ، وعادت تنظر إلى ملعب الكوروكيه لترقب العبقري الجزار بجسده الطويل وكتفيه العريضتين ووجهه الأسمر وعينيه الخضراوين وأنفه الأميل إلى الضخامة وفكه العريض وشعره الذي دبت فيه مبادئ صلع ، ورأت المعزة الجذابة تقفز حوله ضاحكة وأبصرته يضرب الكُرة ولا يضحك وسمعت صبري يردد مرة أخرى في سخرية : جي نقبها على شونة .
وأحست نادية بشيء من الطمأنينة ..
3
من بعيد
انتهت مباراة الفولي وأقبلت منى تُحيِّ عصام وقاطعتها نادية محذرة : إنتِ عرأنة اسرعي لإبدال ملابسكِ قبل أن يلفحكِ الهواء .
شدت منى على يد عصام وانطلقت تعدو باتجاه قاعة الملابس وهي تهتف : خمس دقائق .
وأجاب عصام : سأنتظرك عند حوض السباحة .
والتفت إلى نادية متسائلا : أتشربين معنا الشاي ؟
وأجابت نادية : إني صائمة .
- أنا متأسف لقد نسيت أننا في رمضان ، أقصد أني ..
وقاطعته نادية ضاحكة : لا بأس ، سأشاهد الكروكيه وألحق بكم عند الحمام .
والتفت عصام إلى صاحبه قائلا : هيا بنا .
وأجاب صبري وهو يرقب نادية : سأبقى أنا أيضا لمشاهدة الكوروكيه .
والتفت عصام إلى الدكتور مدحت وقد انحنى يضرب الكرة في الملعب وقال لصبري ضاحكا : خذ بالك من صاحبك وإلا قطع زور واحد أو نزع معدة آخر .
اتجه عصام إلى الحمام ، وجلست نادية أما أحدى المناضد المحيطة بملعب الكوروكيه واتخذ صبري مقعده على المقعد المقابل ، وبدا صبري بالقميص الأبيض المُشَمَّر الأكمام والبنطلون الفنيلا نحيلا طويلا كالعصا السمراء بارز عظام الوجنتين صغير الذَقْن يغطي عينيه ال السوداوين الضيقتين منظار أسود للشمس والنظر ، وسادت فترة صمت كانت نادية خلالها تتشاغل بمراقبة اللعب وكان صبري ينقل بصره بين اللعب وجانب وجهها ، وبدا على صبري أنه يحس بنادية أكثر مما يحس باللعب وأنه يبحث في ذهنه عن نقطة ملائمة يبدأ منها الحديث .
لم تكن المرة الأولى التي جلس فيها إلى نادية فقد سبق وأن ضمتهما بعض جلسات النادي حول الحمام أو في التراس المستدير المطل على الحديقة والملعب أو داخل البهو في أمسيات الشتاء ، ولكن الجلسات خليطا من فتيات النادي وأخوانهن أو أقاربهن أو أصدقائهن وكان الحديث عن الرياضة أو السياسة وتبادل النكتة والمزاح هو كل ما يشغل الجلسات الصبيانية المرحة ، ولكن صبري كان ينظر إلى نادية بشيء لا يلائم كثيرا هذه الجلسات الصبيانية المرحة ، كان لها في قرارة نفسه بوضع أكثر جدية من غيرها من الفتيات ، كان يملأ نفسه شعور بالتقدير وإحساس بالرغبة في أن يكون بينهما أكثر مما بين الشلة من صلات وعندما كان يرسم خطوط مستقبله العريضة ويؤثث بيته وينظم عيادته كان يضعها أو يضع شيئا شبيها بها في صدر حياته وعلى قمة أمانيه ، ذلك كان وضع نادية في نفس الفتى النحيل الطويل الجالس يسترق إليها النظر في قلق مجهدا نفسه في التقاط طرف حديث يثير به اهتمامها ، وكانت نادية تعرفه كمخلوق مميز عن بقية فتيان الشلة ، مميز بأدبه وذوقه وخُلُقه وبعُْده عن الصبيانية والتهريج ولكن تمييزه لم ييصل حد اعتباره مطمحا لآمالها أو موضوعا لتفكيرها ، كانت تستريح إليه ولا شيء أكثر من ذلك ، مخلوق آخر هو الذي وضعته في الموضع الذي وضعها هو فيه ،موضع الصدارة من الأماني والأحلام والمستقبل الوردي المزدهر ، موضع المحتل لقلب خال ، الداعي لذهن متلهف الساقي لنفسٍ عطْشى المؤنس لروح موحشة ، هذا المخلوق هو الذي جلست ترقبه في صمت دون أن يحس بها وهو يتنقل وراء الكُرة وجاذبية أو معزة الكوروكيه تقفز حوله ضاحكة متثنية ،
كان الدكتور مدحت أو العبقري الجزار هو أمنيتها السرابية البعيدة بُعْد الشمس في الأفق ، كانت ترقبه من بعيد دون أن يعرفها أو يحس بها ودون أن يعرف مخلوق سوى أختها منى التي استطاعت التخمين أنه لديها شيئا وأنه ملء أوهامها وأحلامها الملتسق بكل أمانيها ، كانت تتبعه بعينيها خفية وترقبه في استراق وصمت واستطاعت خلال عام أن تعرف كل حركاته وسكناته في النادي ، ماذا يلعب وأين يجلس ومن يصاحب ومتى يأتي ، بدأت معرفتها له بنوع من النفور والكراهية سببه إحساسها بأنه مخلوق أناني قاسي ، عندما أبصرته وقد أُغميَ على هدى أحدى فتيات النادي ينتقل إليها في تراخٍ وبطء ويلقي عليها نظرة خاطفة ثم يقول في استخفاف : اتركوها ستفيق وحدها .
وعندما قالت له أحدى الفتيات : إنها مغمى عليها .
أجاب : وماذا أفعل لها ؟ شمموها نشادر ، طسوها بجْفنة ماء .
وانفلت عائدا إلى مكانه في هدوء وهو يتمتم : مياعةْ بنات .
وأدهشها استخفافه وبروده وعجرفته وسألت عنه من حوله فأجابها عبد الله مدرب التنس : الدكتور مدحت .
ولم تستطع أن تمنع تأففها منه وسخطها عليه - ولماذا كل هذه الكبرياء والعجرفة ؟
وأجابها المدرب مأمنا على قولها : راجل أليط ليس عنده مروءة ، هل تصدقين بعد كل هذا التمرين له ذهبت إليه ذات مرة في العيادة لآخذ شهادة بأني مريض حتى أستطيع السفر إلى بلدنا فرفض إعطاءها لي قائلا : إني زي البُمْب . وأنه لا يستطيع أن يعطي شهادات مزورة فذهبت إلى الدكتور جاد الله فأعطاها لي وأنا واقف .
- الدكتور جاد الله ؟
- أجل ، زميله الذي يجلس معه دائما ، رجل أمير لا يرد لأحد طلَباً .
وأَمَّن على قوله إبراهيم مراقب الحمام وهو يهز رأسه : الله يِعمر بيته لقد أخذت له زوجتي بالأمس فأعطاها مزيجا نفعها جدا .
وأجابه : لو أخذْتَها إلى الدكتور مدحت لطردها .
- طبعا لقد رفض أن يعالج عمال النادي في الوقت الذي قبِلَ الدكتور جاد الله أن يعالجهم مجانا .
ولم يكد إبراهيم ينتهي من كلامه حتى أبصرت نادية رجلا أنيقا وسيما يندفع بين الفتيات إلى حيث رقدت هدى ثم ينحني عليها فاحصاً ويحملها بين يديه ثم يسير بها متجها إلى الكراج ليضعها في عربته ويحملها إلى عيادته .
وهز إبراهيم رأسه معجبا وقال : هذه هي الشهامة ، أرأيتِ يا ست نادية .
وهزت نادية رأسها متساءلة : من يكون ؟
- الدكتور جاد الله ، رجل شهم .
وانفض الحشد والدكتور مدحت باقٍ في مقعده لا يعبأ بمن حوله ، وتعجبت نادية من تصرفه الغريب ، تراخيه واستخفافه وكبرياؤه ثم الاكتفاء بأن يصف لإغماءة الفتاة نشادر أو طسة ماء في وجهها ! ثم يصف إغماءها مياعةْ بنات ، لا يمكن أن يكون هذا طبيبا فأي إنسان يمكن أن يعالج الإغماء بالنشادر وطسة الماء وأن يصفه بالمياعة ، إنه حيوان ، فقط غليظ القلب متعجرف وهو رجل بلا مروءة لأنه رفض أن يعطي الشهادة لإبراهيم المدرب ولأنه رفض أيضا أن يعالج العمال ، ودب في أعماقها إحساس بالنفور والبغضاء من الطبيب القاسي المتعجرف العريض المنكبين الطويل القامة الذي يغلب تجهمه ابتسامه .
وفي ذات يوم اختفى إبراهيم مدرب التنس ، وعندما سألت عليه بعد أن افتقدته بضع مرات خلال لعبها للتنس أو مشاهدتها له أنبأها أحد زملائه وهو يهز رأسه ويمصمص بشفتيه بأنه مسكين لا أمل فيه .
- كيف ؟
- لقد أصابه أبعد الله الشر عنا جميعا المرض الخبيث الذي يسمونه السرطان .
وأحست نادية برجفة وهي تسمع قول الرجل وتساءلت قائلة : وبعدين ؟
- ولا أبلين ، لا فائدة منه .
- مسكين .
-المسكينة امرأته وأولاده ، لديه من الأولاد أربعة غير الذي في بطن أمه .
ومضت بضعة أسابيع ونادية لا تكاد تقرب ملعب التنس حتى يصيبها ما يشبه الغثيان عندما تتذكر المدرب الميؤوس من حياته والزوجة الحبلى والأولاد اليتامى ، وفي ذات يوم فوجئت به وهو جالس على الدكة الخشبية أمام كشك التنس الأخضر عند مدخل قاعة الملابس ، كان يرتدي البنطلون والقميص ويلبس على رأسه البرنيطة البيضاء وكان سليما معافى وكان يضحك ويشاكس من حوله ولم يَكُ به أثر لأي مرض ولا كان ينقصه شيء مما تعودت أن تراه به اللهم إلا شيئا واحدا هو ذراعه ، لقد كان إبراهيم مدرب التنس بلا ذراع .
ولم يكد يراها حتى قفز من مكانه وأقبل عليها مُرَحِّبا وهو يقول ضاحكا : أهلا ست نادية .
وأحست نادية بغصة في حلْقِها وهي ترى الرجل قد فقدَ ذراعه اليُمنَى وسيلته الوحيدة للرزق ومع ذلك لم يبدُ عليه أنه فقدَ شيئا .
وتمالكت نادية نفسها وأجابته بنفس روحه المرحة : أهلا إبراهيم ، كيف حالك ؟
- الحمد لله ، لقد أصبحت سليما 24 قيراطا .
- أَشُفيتَ تماما ؟
- تماما لم يعد بي شيء ، لقد طار المرض مع الذراع الطائرة .
ثم أشار إلى ذراعه وأردف ضاحكا : راح الله لا يُرجعه ، لقد دوخني ، لقد أراني نجوم الظُهر لقد أراني أياما لا أراها الله لا لعدو ولا لحبيب .
وأخذت نادية ترقب الرجل الضاحك وهي تسترق النظر لذراعه وقالت وهي تحاول أن تزدرد دموعها : الحمد لله على سلامتك .
- الحمد لله ، والدكتور مدحت لم ينقذني من براثم الموت سواه .
ودُهِشَت نادية وردت متسائلة : الدكتور مدحت ؟
- أجل ، لقد أنقذني رغم أنفي هل تصدقين ؟
- كيف ؟
- عرف بمرضي وعندما كشف علي قال ببساطة وبطريقته المستخفة المتعجرفة إنه لابد من قطع ذراعي ، تصوري قطع ذراعي اليمنى سبب رزقي وحياتي وحياة أولادي .
- وماذا فعلت ؟
- تركته بالطبع وقلتُ عنه مجنون ، وعدت لأستسلم لآلامي وطمأنة الدكتور جاد الله وابتساماته ومزيجه ولسقاته .
- ثم عُدْتَ إليه ؟
- أبدا لقد عاد هو إلي عندما استَغيَبني وعندما رفضت الذهاب إلى المستشفى لأقطع ذراعي ، عندما ولولت امرأتي ضربها ثم حملني برغمي إلى المستشفى وبرك على أنفاسي وخدرني ثم قطع ذراعي .
ولم تستطع نادية أن تغالب ضحكتها رغم ما بقَول الرجل من مأساة ولكنها لم تكن تتصور قط طبيبا متمدنا يهجم على مريض ويبرك على أنفاسه ثم يحقنه ببنج ويقطع ذراعه رغم أنفه .
وتساءلت نادية خلال ضحكتها : هذا ليس طِبّاً إنها جِزارة ؟
- أي والله يا ست نادية لو ترين كيف هجم علي وكيف صاح بامرأتي ، أنتِ حيوانة تريدين أن تقتليه من أجل القرشين اللذين يأخذهما من النادي ؟
وعندما أجابته امرأتي باكية : لن يشتغل إذا قُطِعَت ذراعه .
أجابها : ولن يعيش إذا لم تُقطَع .
- لابد أنه كان على حق .
- طبعا على حق ، لقد شُفيتُ تماما ، أصبحت كالجن الأزرق ولكن بلا ذراع .
- لن يصعب عليك إيجاد عمل بغيرها .
- لقد وجدت فعلا إني أعمل كما أنا ، إن مجلس الإدارة وافق على أن أبقى مشرفا على المدربين بناءً على رجاء الدكتور مدحت .
- إنه يبدو رجلا ذا مروءة ، لقد أسأنا به الظن .
- جدا ، إنه إنسان لقد تولى أمر امرأتي وأولادي طيلة مرضي إنه مخلوق ممتاز في كل شيء عدا شيء واحد .
- ما هو ؟
- إنه مزوِر .
- كيف ؟
- إنه لم يكن يستطيع أن يجري لي عملية بتر الذراع إلا إذا أخذ مني إقرارا كتابيا بالموافقة ولما كنت أرفض إجراء العملية فقد قطع ذراعي ثم أخذها وبصم بها الإقرار .
واندفع إبراهيم مقهقها وهو يقول : هذا تزوير إنها لم تكن ذراعي حين بصم بها لقد كانت شيئا لا صلة لي به .
وصمت إبراهيم برهة وأحست نادية بأنها لا تستطيع أن تغالب دموعها ، ونظر إليها الرجل ذو الذراع المبتورة وهو يتساءل في دهشة : لماذا تبكين يا ست نادية لقد سامحته ؟
ومنذ ذلك الحين تبدد شعور الكراهية والنفور وحل محلهما إحساس بالاحترام والتقدير ثم تطور رويدا رويدا إلى إحساس بالحب أخذ يعمق ويزداد كلما جلست لتراقب الرجل الطويل العريض المنكبين الذي يغلب تجهمه بسمته والذي لا يحفل كثيرا بمجاملة الغير ، لكنه يحمل في رأسه ذهنا عبقريا وفي صدره قلب يفيض بالحنان والمحبة .
وانتهت لعبة الكوروكيه ونادية مستغرقة في شرودها وهي ترقب مدحت يتجه في تؤدة إلى خارج الملعب ، ونهض صبري وهو يسألها : أستلحقين بهم عند حوض السباحة ؟
وأجابت نادية : أجل .
تحرك الاثنان في صمت اتجاه الحمام وصبري مازال يجهد ذهنه في إيجاد يبدأ منها الحديث ...
4
حديث السلام
جلس عصام على أحدى المناضد في الشرفة تحت السقف المنحدر المستطيل المجاور لحوض السباحة وأقبل عليه بعض الصديقات والأصدقاء يحيونه في ترحيب ويعلقون مازحين على شعره المحلوق ويسألونه ، هل تعلم السلاح والتنشين ؟ وجرى الحديث بينهم في خفة ومرح حتى أقبلت منى بعد أن ارتدت ملابسها ، وبدأت الشلة تنفض رويدا رويدا حتى خلت المائدة إلا من الاثنين ، وأقبل عليهما الساقي النوبي يحمل صينية الشاي فوضع الأبريق والسكرية والفنجانين بينهما وقبل أن ينصرف سأل عصام منى : أتريدين شيئا يُؤكل كيك أو جاتو أو ساندوتش ؟
- لا داعي ، إني سأفطر معهم في البيت .
- وأنا أيضا ، لست أدري ما الداعي على إصرار البيوت على تغيير مواعيد الطعام إذا كان ثلاثة أرباع أهلها مفطرين ، ليس في بيتنا صائم غير أمي والخادمة ومع ذلك نجلس جميعا على مائدة حافلة في وقت الإفطار .
- نحن أيضا ، لا يوجد صائم في البيت غير أمي ونادية .
- أمكِ صائمة !؟
- أجل .
- ولماذا ؟
- لقد نذرت عندما أصيب أبي بالذبحة بعد أن أخرجوه من الجامعة أن تصوم رمضان .
وضحك عصام وقال : ولماذا لا تُصَلّي ؟
- لقد حاولت نادية أن تعلمها ولكن لم تستطع أن تحفظ الفاتحة أو التحيات ، لم أرَ فرنسية أخيب منها .
- إنها طيبة جدا ، يخيل أحيانا وأنا أبصر طيبتها وهدوءها وصمتها أنها جدتي أم أبي حتى أني أشك كثيرا اأنها وُلِدَت في جبال الألب وأكاد أجزم أنها من مواليد تحت الرَبْع .
- رَبْع في عينك ، .
- طيب اسأليها وإذا لم تقل لك أنها من مواليد تحت رَبْع جبال الألب.
- لن تفهم معنى تحت الرَبْع ، إنها لا تستطيع أن تتكلم جملة عربية متماسكة بعد وجودها في مصر 15 عاما .
- من غَباوَتها ، عندما تصبح حماتي سأعلمها الردح .
- على فكرة لقد قلت لنادية إنك ستخطبني اليوم .
ورفع عصام عينيه عن فنجان الشاي ونظر إليها في دهشة متسائلاً : ولماذا قلتِ لها هذا ؟
- لقد أَنَّبتني على كثرة ملازمتك لي .
- وما لها هي أقد جعلت نفسها وصية عليك ؟
- لقد قالت أن أهل أبي كلهم ثائرون على تصرفاتي وأنهم يتهمون أمي بأنها أساءت تربيتي ، فلما قلت لها إنك my boy frend قالت إن عائلتنا لا تعترف بأقل من خطيب ، فقلت لها سأجعلك تخْطبني اليوم .
- أنت مجنونة .
- لماذا ؟
- لأني لا أستطيع أن أخطبك وأنا مجرد تلميذ لا هنا ولا هناك .
- ألم تحصل على اللسانس ؟
- أجل .
- ألم تكن تستطع أن تتوظف أو تصبح محاميا ؟
- أجل .
- انتهينا .
- لم نَنْتَهِ ، لأنك ظللتِ تلحين علي حتى دخلت الكلية الحربية فأصبحت تلميذا من جديد ، وأي تلميذ ، تلميذ غلبان كحيان ليس هناك واحد من ضباط صف الكلية إلا ويتأَمر ويبيع فيه ويشتري .
وضحكت منى وسألته في حنان : أنادم أنت ؟
- أبدا على العكس ، إني نادم لأني لم آخذها من قُصْرِها وأدخل الحربية من الأول .
- لا لا، هذا أحسن ، إني أفضل أن تكون ضابطا وشيئا آخر .
- تعنين مثل تاجر وترزي ؟
- بالضبط .
ورشفت منى رشفة أخيرة من فنجانها ثم أردفت متسائلة : ومتى ستنتهي من هذه التلمذة حتى تصبح إنسانا محترما يستطيع أن يخطب ؟
ونظر عصام في عينيها الخضراوين الضاحكتين وتساءل : أحقاً تتعجلين الخطبة ؟
وهزت كتفيها في استخفاف قائلة : أبدا أنا لا يهمني شيء ، إنما نقلت إليك حديث نادية عما تقوله عمتي ، وإن كنت شخصيا لا أعبأ بها ولا بكل أهلها .
-إن أمامنا وقتا طويلا ، أنت لم تبلغي 16 بعد ، .
- في يونيا القادم سأبلُغُها .
- وأنا مازال أمامي وقت طويل حتى أستقر وأصبح رجلا جديرا بالزواج وبإنشاء أُسرة وتعمير بيت ، من يعلم أين سيقذفون بي بعد التخرج ؟
- وأين يُحتَمَل أن يقذفوا بك ؟
- من يدري ؟
- ألم تقل لي أنك ستتخرج لتكون نائب أحكام في إدارة الجيش ؟
- ليس بعد التخرج مباشرة ، إنهم سيلحقوننا بالأسلحة للتدرب على عمل القوات المسلحة حتى نستطيع أن نخدم بالميدان كبقية الضباط .
- وأي سلاح سيلحقونك به ؟
- الله أعلم ، لن يستطيع أحد أن يعرف مصيره إلا عند التخرج بعد بضعة أشهر .
ونظرت منى إليه في إعجاب وقالت : إني أريدك أن تذهب إلى السلاح الذي يضع سلسلة على كتفيه .
- لا أظن ، لأن أركان حرب المدرسة من المدفعية ، وهو يريد أن يلحقني بسلاحه حتى أنفعه في ألعاب القوى .
- لا لا سيكون منظرك هائلا بالسلسلة .
ضحك عصام قائلا : يا منى كُفّي عن هذا العبط ، إنكِ تعاملينني كأني حصان يمكن أن يكون منظره أجمل بالسلسلة من دونها .
وابتسمت منى وقالت في إصرار : سأخبر عمي سليمان لكي يرشحك للفرسان ، إنه سيتناول الفطور معنا اليوم .
- لا تتعبي نفسك مازال الوقت مبكرا ، إننا لن نتخرج قبل أغسطس .
وجاءت نادية مقبلة مع صبري يسيران الهوينة اتجاه الشرفة ورمقهما عصام قائلا : يبدو أن هناك إعجابا متبادلا بين صبري ونادية .
- لا أظن .
- لماذا ؟
- إنه ليس هناك إعجاب متبادل بينها وبين أي إنسان .
- ماذا تقصدين ؟
- أقصد أن المخلوق الوحيد الذي تُعجَبُ به لا يُعجَب بها .
- ولماذا ؟
- لأنه لا يحس بها .
- من هو ؟
- الدكتور مدحت .
- الذي كان يلعب الكوروكيه الآن .
- أجل .
- وما الداعي لإعجابها به !؟ إنه لا يجيد لعبة الكوروكيه .
- ليست المسألة مسألة كوروكيه .
- مسألة ماذا إذن ؟
- الله أعلم ، أما الذي أعلمه فهي أنها تحب أن ترقبه دائما ويصيبها الارتباك والاضطراب عندما تراه أو تسمع عنه .
ووصلت نادية وصبري وكان صبري قد منَّ الله عليه أخيرا بنقطة يبدأ منها الحديث فسأل نادية قائلا : ما رأيكِ في مؤتمر باندوغ ؟
وكانت نادية طوال الطريق أن يبدأها صبري بالحديث وأن يصل معها ما انقطع عن حديث الدكتور مدحت مع عصام ، كانت تتمنى أن يواصل حديثه عن عبقرية مدحت وعن عملياته وعما يفعل وعما يقول ، ولكن صبري أصيب بالبُكْم ولم تَدرِ هي كيف تدفعه للحديث ، كانت تخشى أن تقول شيئا يشتم من خلاله اهتمامها بمدحت أو رغبتها في الحديث عنه ، وعندما منَّ الله على صبري بالحديث تكلم عن مؤتمر باندوغ ولم يكن في ذهن نادية صورة واضحة عن باندوغ إلا ما تقرأه من عناوين الصحف العريضة ، واتخذ كل منهما مقعده على المنضدة بجوار منى وعصام ، وأخذ صبري يسترق النظر إلى جانب وجه نادية ولمح ظفيرتها الذهبية المدلاة على ظهرها والزغب الأصفر الذي يبدو على خدها أسفل سالفتها بمحاذاة أذنها ، وأحست نادية أنها لابد أن تجيب بشيء عن سؤال صبري عن رأيها بمؤتمر باندوغ ، فهزت رأسها متسائلة : رأيي في أي شيء فيه ؟
- مبادئه وأهدافه .
ورفع عصام وجهه متسائلا : ما هو ؟
- مؤتمر باندونغ .
وضحك عصام قائلا : طبعا يعجبك أنت لأنك شيوعي .
وهز صبري رأسه ثانية بشدة :أنا لستُ شيوعيا ، أنا من أنصار السلام .
- أنصار السلام يعني شيوعي .
- الذين ينادون بالسلام الآن ليسوا الشيوعيون وحدهم ، لقد كوَّن المؤتمر كُتلة جديدة تنادي بالسلام ، وتقر مبدأ التعايش السلمي .
- الشيوعيون أيضا يقرون هذا لأنهم لا ينشرون مذهبهم بالعنف ولكن بالتسلل .
- أنت أمركاني .
- وأنت شيوعي .
- أنا مع جمال عبد الناصر .
- وأنا أيضا مع جمال عبد الناصر .
وتدخلت منى صائحة : وأنا لست مع جمال عبد الناصر لأنه طرد أبي من الجامعة وأصابه بذبحة .
وتدخلت نادية قائلة : جمال عبد الناصر ليس له دخل بخروج أبيك .
- من الذي طرده إذن ؟
- الغيرة والوشايات والنمائم ، هل تظنين أن جمال مسؤول عن خطايانا جميعا ، وأن عليه أن يحتمل وزر كل واشٍ نمام ؟
- إنه مسؤول عن كل ظلم يقع علينا .
- إنه مسؤول عن إقامة العدل بيننا .
نظر عصام حوله في حرج وقال : دعونا من هذا الحديث الآن .
ونظرت إليه منى في سخرية قائلة : لمُآخذة نسيت أنك لبستَ البدلة الكاكية .
ونظر إليها عصام نظرة رادعة قائلا : منى تأدَبي .
وضحكت مُنى ورفعت يدها بالتحية العسكرية قائلة : حاضر يا أفنْدم .
وعاد صبري من جديد يدير الحديث إلى مؤتمر باندونغ قائلا : على أية حال أنا أعتبر مؤتمر باندونغ نقطة تحول في تاريخ العالم وخطوة إيجابية في سبيل إقرار السلام ، واعتبره كذلك قد وضع مصر موضعا مشرفا بين دول العالم ، لقد حددنا به شخصيتنا المستقلة ، وأزلنا به التبعية التقليدية للغرب .
وهز عصام رأسه وقال مصَدِّقا : في هذا معك حق .
ثم رفع سبابته وهزها مؤكدا وقال في إصرار : ولكني مع ذلك مازلت أصر أن أنصار السلام شيوعيون وأنهم منفعلون بمؤتمر باندونغ أكثر مما هم منفعلون بالثورة ، إنهم لم ينفعلوا بجمال إلا بعد الثورة .
- ليكن ، شيوعيون شيوعيون ، إن السلام هو السلام وغير معقول أن نكره السلام لأن الشيوعيون ينادون به .
سدت منى أذنيها قائلة في احتجاج : دعونا من السلام والشيوعيون ، لقد سببتم لي صداعا ، تحدثوا في أي شيء آخر .
ونظرت إلى مياه الحمام الفيروزية وقالت في شوق : وددتُ لو أخذت غَطْسَة ، ما رأيك يا عصام ؟
نظرت إليها نادية في غيظ وقالت : أنتِ مجنونة ، ألم يكفي الجهد الذي بذلتِه اليوم ؟
فهزت منى كتفيها قائلة : ليس هذا من شأنكِ .
فنهرها عصام قائلا : معها حق يا منى ، لم يكن هناك ضرورة للعب الذي لعبتِه اليوم ، بل ليس هناك ضرورة لأن تفعلي ما يجهدكِ
وبدا الضيق على وجه منى وأجابت : أنا سليمة مائة في المائة ، أسلم منك ومنها .
فأجاب صبري في رقة : طبعا إنكِ أسلم منا جميعا ، فقط لا ضرورة للإجهاد ، نحن أيضا لا نجهد أنفسنا ، اكتفي دائما بالفرجة على اللاعبين ، إن هذا أسلم موقف للإنسان أن يقفه في الملعب .
وضحكت منى قائلة : ولكني لا أستطيع أن أشاهد المياه ولا أقذف بنفسي فيها ، إني لا أكاد أرى البحر .
وقاطعها عصام متسائلا : هل تنوون هذا العام الذهاب إلى الإسكندرية ؟
وهزت نادية رأسها قائلة : لا أظن ، إن أبي يصر أن نذهب إلى فرنسا هذا العام .
وقالت منى : كل عام يقول هذا .
- هذا العام يبدو جادا ، إنه يريد أن نقيم هناك في كرينوب وهو ينتظر خطابا بالموافقة على تعيينه في جامعة كرينوب ، وأمي طبعا تشجعه.
وتساءل عصام في دهشة : أحقا هذا يا منى ؟
- لا تصدقها ، قلت لك كل عام يقول هذا .
وأردفت نادية : إن صدره قد ضاق بعد خروجه من الجامعة وحالته المعنوية سيئة وماما تريد الذهاب لزيرة أهلها فقد مضى علينا 5 أعوام بعد آخر زيارة ...
فقاطعتها منى : إن أقصى ما سنفعل هو أن نذهب لقضاء بضعة أشهر كما فعللنا في آخر مرة ، لا تصدق أن أبي سيتعين في كرينوفل ، كلام فارغ .
نظرت نادية إلى السعة فوجدتها تقارب السادسة والنصف فهبت قائلة : هيا بنا لقد أوشك المدفع على الضرب .
وسأل عصام منى : أتحضرين غدا للعوم ؟
وهزت منى رأسها هزة إيجابية .
وسأل صبري نادية مترددا : وأنتِ يا نادية أَسَتحضرين ؟
وأجابت نادية : يِمكن .
وتحركت التوأمتان في طريقهما إلى البيت واحدة بشعرها للمقصوص وخطواتها الخفيفة ولفتاتها المرحة ، والأخرى بظفيرتها المدلاة وخطواتها المتزنة وسيرها المتئد ...
5
صدمة تطهير
كانت الشمس قد بدأت تنحدر نحو الأفق الغربي عندما غادرت منى ونادية النادي متجهتين إلى الدار ، ولم تكن الدار تبعد كثيرا عن النادي ، كانت أحدى الفيلات المتوسطة ذات الطابق الواحد التي يمتلئ بها حي منشية البكري وكانت تقع على شريط المترو وتحيط بها حديقة متوسطة تناثرت بها أشجار البرتقال والمانجا والجوافا والأحواض التي مازالت بها بقايا زهور الشتاء الجافة المعشوشبة والنخيل قد تكاثف حولها بإهمال وغزارة وخرطوم ممزق تنساب مياهه وسط النجيل وتتسرب إلى الأحواض ، ويحد الحديقة سور حديدي قديم متوازي القضبان قد تخللته أغصان الجهنمية من ناحية الشارع المطل على المترو ، ويحدها من الناحية الخلفية سور من الحجر تشقق بياضه وتفتتت مونته من نشع الحديقة ، والبيت يبدو وقد لوحت الشمس لونه فأحالت طرطشته الحمراء إلى لون بني كالح ، وفي مواجهة الباب الحديدي العريض يقوم الدرج الرخامي الذي حددت حافتيه أحواض الجرونية ورُصَت على جانبيه قصار اللاتانيا ، وينتهي الدرج بشرفة متسعة قامت على أعمدة تسلق على أحدها عود من الياسمين ظلل بأوراقه المتكاثفة أحد جوانب الشرفة ، ويفضي باب الشرفة إل قاعة مربعة رُصَّ بها طقم جلدي ضخم عتيق وشُيِدَت على جانبها الأيمن مدفأة من الصولجانة وعُلِقَت فوق المدفأة صورة كبيرة ملونة لقبطان فرنسي تتأبط ذراعه سيدة بدينة غطت القبعة نصف وجهها ، وكانت الصورة مع صورة أخرى خشبية بارزة لكوخ فوق جبال الجلثيد هي كل بقايا ذكريات الأم الفرنسية من وطنها القديم .
وفي القاعة تناثر من الأثاث كل ما يُحتَمل أن نراه في قاعاتنا ، منضدة عليها زهرية ومشجب في الحائط عُلِقَت عليه عصا الأب وشبشب الخادمة وراء الباب وصحف ومجلات ملقاة على أحد المقاعد ، وعلى يمين القاعة حجرة استقبال يملأ نصفها بيانو عريض ورثته الأم عن أمها السمينة المعلقة صورتها فوق المدفأة بجوار القبطان ، والنصف الآخر من الحجرة رُصَت فيه المقاعد والأرائك التي تُرَصُّ شبيهاتها من الحجرات في بيوتنا ، وعلى يسار القاعة حجرة مكتب ، هي في الوقت نفسه حجرة نوم للأب بعد أن تحولت الأريكة الموضوعة في الركن إلى فراش بمضي الاستعمال ، والحجرة بعد هذا لا تزيد عن حجرة أي أستاذ في الجامعة ، كتب في رفوف معلقة على الجدران أو مرصوصة في دولاب أو مبعثرة على مكتب ، وملابس ملقاة هنا وهناك وفردة حذاء مقلوبة وشراب أسفل الأريكة وجرنال يطارده الهواء في أرض الحجرة عابثا في أوراقه ، وساحة الحجرة ميدان مستمر لمباراة بين رب الأُسرة وأهل بيته في النكْش والتسوية واللخبطة والترتيب ، وهو يبعثر وهم يلمون وهو يفركش وهم يساوون وهو يدعي أن تسويتهم لخبطة وأنهم يجب ألا يمسوا ممتلكاته والأم تؤكد له أن الحجرة جزء من البيت وأنها لابد أن تخضع لنظام النظافة والترتيب فيه ، وأخيرا استطاع أن يخرج من المكتب بمحتوياته من دائرة نفوذ أهل البيت وأن يحصل على ضمان بعدم مس كل ما يدخل في نطاقه مهما بدا قذرا مبعثرا بعد أن أقنع الأم بأن أي تغيير في نظام المكتب أو نقل لما به من أوراق وكتب يعتبر عبثا خطيرا بكل ما يعده من محاضرات ودراسات وتشتيتا لأفكاره وأنما تراه هي بعثرة إنما يراه هو أجدى طريقة في التنظيم ، ، وهو يفضل أن يجد كل شيء مبعثرا في المكان الذي تركه فيه من أن يفقده منظما في مكان لا يعرفه .
وفي مواجهة القاعة باب زجاجي يؤدي إلى دهليز يقع في نهايته السُلَّم المؤدي إلى الحديقة والسطح ، وعلى يمينه المطبخ والحمام وحجرة تستعمل للطعام وللجلوس وللخياطة ولثلاثة أرباع الأعمال التي يعملها أهل الدار وقد وُضِعت بها أريكتان وتوسطتها منضدة فُرِشَ عليها مشمع وفي ركن منها ماكينة خياطة ودولاب به كل ما يخطر على البال مما يلزم الأُسرة ومما لا يلزمها من جرائد قديمة إلى زجاجات فارغة إلى ملابس إلى علب ألوان إلى حبوب عصافير إلى عرايس قديمة إلى ألبومات صور ، إلى كل ما يخطر أو ما لا يخطر على بال ، وتواجه الحجرة المختلطة حجرة التوأمتين ذات الفراش المشترك ، والدولاب والشفونيرا والمكتبين الصغيرين ، أحدهما نظيف مرتب والآخر قد بُعثِرت فوقه الكتب وتناثرت الأوراق واختلطت المحبرة بعلبة البودرا والقلم بأصبع أحمر الشفاه وألقي على مقعده منشفة وملابس داخلية ، وبجوار حجرة التوأمتين تستقر حجرة الأم بباب يفضي إلى حجرة المكتب التي يستقر بها الأب ، ويبين الباب طبيعة العلاقات بين الأم والأب إذا كان مفتوحا فالعلاقات طيبة وإذا أُغلِقَ فسوء تفاهم مسْتحكِم ، وحجرة الأم تكاد تكون مستقلة عن حجرات البيت بطابعها وهي تعبر تعبيرا جيدا عن طبيعة الأم ، كانت الأم مدام لورا أو مدام فاضل مخلوقة منطوية طيبة القلب التقت بالأب وهو يدرس بجامعة كرينف في جنوب فرنسا وكان لقاؤهما في عام 1938 وكانت تعمل وقتذاك في سكرتاريت المدرسة وقد جمع بينهما القرب في المدرسة والقرب في السكن حيث كانا يقطنان في حجرتين متجاورتين في بيت امرأة عجوز في أحد أطراف المدينة ، وكان موطن لورا في كاب ، إحدى البلاد الصغيرة في منطقة الألب العليا جنوب كرينوب ، وكانت تذهب لزيارة أمها خلال العطلة الأسبوعية ، وأنشأت الغربة والجيرة بين الاثنين نوعا من الألفة وطدت الصداقة بينهما ، وتطورت الصداقة إلى حب ، وتردد فاضل في اتخاذ خطوة إيجابية لتحديد علاقتهما فقد كان هناك شبه ارتباط بينه وبين ابنة عمه في مصر وكانت الأُسرة تأمل بعد عودته أن يتم الزواج ، ولكن نشوب الحرب وزيادة فترة البُعد والإحساس باليأس من العودة في هذه الظروف القائمة وعدم ظهور أية بارقة تُنْبئ بأي حالة سلام وازدياد علاقة وتطورها إلى علاقة أكثر من مجرد تبادل شعور جعله يتخذ قرارا بتحديد العلاقة على ضوء الواقع ، وانتهى الأمر بهما إلى الزواج .
وقضى الاثنان الأشهر الأولى من زواجهما في بيت لورا في كاب وأمضيا في البيت الصغير المقام في وسط المزارع على سفح الجبل أسعد أيامهما ، كان كل شيء حولهما ممتعا رغم ظروف الحرب التي لم تستطع أن تمنع الثلوج من الذوبان ومياه الشلالات من التدفق على سفح الجبل ومياه البحيرة من الانسياب حول شواطئها ، ولا استطاعت أن تمنع البراعم من التفتح والزهور من أن تغطي هام الشجر .
ووضعت لورا التوأمتين ومضت بضع سنين والأربعة يعيشون بين كرينوفل وكاب في جبال الألب العليا حتى سمحت فرصة للعودة إلى أرض الوطن ، فحمل الأب زوجته وابنتيه وعاد إلى القاهرة ، وفوجئت الأُسرة بعودته وفوجئت أكثر بحِمْلِه وعندما خفت مظاهر الفرحة بعودته برزت مظاهر التبرم بحِمْلِه والثورة على فعلته الحمقاء وأخذ الوجوم يحيط بالأُسرة الصغيرة والتجهم يزداد حولها ، ولم تستطع الأُسرة الكبيرة أن تخفي خيبة أملها فيه ، وتطور الأمر إلى شبه مقاطعة وقادت الحملة عليه أخته زكية صديقة ابنة عمه التي كانت الأُسرة قد وطدت أمرها على زواجه بها .
وأحست لورا بنفور الأُسرة منها وهي بطبعها مخلوقة سلبية صامتة ، فانطوت في بيتها تعيش في شبه عزلة مع زوجها وتوأمتيها ، ومرت الأيام ونمت التوأمتان ، تكاد كل منهما تكون صورة من الأخرى وتكاد الاثنان تكونان صورة مصغرة من أمهما ، نفس الشعر والأعين المتسعة الخُضْر والحواجب الكثة المقرونة والأهداب الطويلة والشفاه الممتلئة ، ولم تستطع الأم أن تؤثر في ابنتيها كما تفعل كل أم أجنبية فقد كانت شخصية الأب أقوى وأطغى ، وكانت لورا شديدة ةالحب له والتأثر به ، فبدت هي الفرنسية الوحيدة في البيت ما عدا أثاث حجرتها والصورة المعلقة فوق المدفأة والبيانو الذي يملأ حجرة الاستقبال .
وخلال تلك المدة لم تعد إلى كاب سوى مرة واحدة لزيارة أمها وقضت هناك عطلة الصيف هي وزوجها وابنتاها ثم عادوا جميعا مع بدء الدراسة ، وأحست في قرارة نفسها أن موطنها لم يعد كاب وأن موطنها هنا ، في البيت الصغير المقام عند شريط المترو وأن كيانها أصبح مرتبطا بالمخلوقات الثلاثة التي تعيش من أجلها ، زوجها وابنتيها .
مرت السنون ونمت طفلتاها وترهل جسدها وَوَخَطَ الشيب شعر زوجها وعَمَّقت التجاعيد حول عينيه ولا شيء أكثر من ذلك ، لا تغيير عميق في جوهر حياتها ، نفس النفور والقطيعة والخصومة من الأُسرة ونفس الانطواء في بيتها ونفس السلبية إزاء أقرب الناس إليها وإزاء نفسها .
وحدثت الثورة وتبدلت أوضاع كثيرة في مصر ولكنها لم تحس بشيء وكان يمكن أن تستمر حياتها على نفس الرتابة والبساطة حتى حدثت لها أول صدمة ، عندما خرج فاضل من الجامعة ، ولم يكن خروجه بحد ذاته يعني صدمة بالنسبة لها ، ولكنصدمته هو بالخروج هو الذي هَدَّ كيانها ، كان وقع الخروج على فاضل شديدا فقد كان يحس أنه يحب عمله وأنه قد كرس له حياته ووضع فيه كل أمله ولم يحس قط أنه قَصَّر أو أخطأ ، وكان شديد التحمس للثورة والترحيب بكل أعمالها من خلع ملك إلى إلغء ألقاب إلى تحديد ملكية إلى إلى ، حتى خرج من الجامعة وكيف ؟ في التطهير ! وبعد كل هذا التحمس للثورة والإخلاص في عمله وجد نفسه على قارعة الطريق كأنه مذنب لابد من الثورة أن تطهر البلد منه حتى تستقيم أمورها ، كانت آماله كثيرة ضخمة ، كان مساعد أستاذ وكان كرسي الأستاذية أمامه خالٍ يوشك أن يتربع عليه ، ولكنه بدلا من أن يتربع عليه ترَبَّع على الرصيف ، ولم يستطع أن يتحمل الصدمة فأصابته ذبحة صدرية ورقد في الفراش وساد البيت وجوم وكآبة وأحست الزوجة الفرنسية الطيبة بخطورة في حالته ، وأحست أن سندها في هذه الدنيا الفارغة الواسعة يوشك أن يتخلى عنها ليتركها عزلاء مع ابنتين زُغْب الحواصل لا ماء ولا شجر ، وبدت في الدار تائهة تُصَلّي بكل لغة ولكل إله ، حتى منَّ الله عليه بالشفاء ، وشُفِيَ من عِلَّته ، ولكنه لم يُشْفَ من سخطه .
وفي هذه الساعة كان يجلس في حجرته وقد تمدد فوق الأريكة بالبجاما وانهمك في القراءة وبدا جسده نحيلا ورأسه قد خف شعره وبدت ملامحه التي تعودت على الابتسام وقد كَسَتْها مسحة مَرارة لا تكاد تفارقها ، وسمع وقع أقدام تصعد السُّلم الرخامي وعرف من خفة وَقْعِها أقدام أخيه سليمان وأكدها له العربة الكاكية التي رآها من النافذة تقف أمام باب الحديقة ، ووضع فاضل الكتاب الذي في يده جانبا ورفع يده فخلع منظاره وسمع أقدام زوجته تتجه إلى باب الشرفة الخارجية وعلا صوت سليمان يقول ضاحكا : كيف حالكِ ، أمازلتِ صائمة ؟
وهزت لورا رأسها مؤكدة في لهجتها الفرنسية : طبعا صايمة ، إنه نَذْر .
- أول فرنسية أراها تَنْذُر الصيام ، إنه صيام مسلمين وربنا لن يقبله منكِ إذا لم تُسلمي .
- إنه ربنا جميعا ، وأنا أؤمن به كما تؤمن به أنت ولست أحس أن هناك أي خلاف بيننا .
- مضبوط معكِ حق ، أين فاضل ؟
- في حجرته .
- والبنات ؟
- في النادي .
- نادي ؟ !
فنظر إلى ساعته وأردف متسائلا : أَلَسْنَ صائمات ؟
- نادية فقط .
- ومُنى ؟
- تصوم يوم وتُفْطِر عشرا .
- ولكن نادية قد تأخرت ، إن موعد الإفطار قد قَرُبَ .
- لابد أنهما في الطريق ، لقد كان لدى منى مباراة في الفولي .
- فولي ؟ ألم نقل أنها يجب أن تكف عن كل ما فيه إجهاد لها ؟
- لقد قلت لها هذا ولا أريد أن أُكثر عليها بالتحذير فإني أحس أنه يؤثر عليها تأثيرا عكسيا .
- كيف ؟
- إنه يُخفض من روحها المعنوية ، ويجعلها تحس أنها مريضة دائما ، إني أنصحها من آن لآخر بأن لا تجهد نفسها لأن قدرتها محدودة .
- آه ، مسكينة هذه البنت .
وقبل أن يدخل إلى القاعة بدت الفتاتان على الباب ، ولم تكد منى ترى سليمان حتى اندفعت تعدو من الباب صائحة بفرح : أُنْكِل سليمان .
وفتح سليمان ذراعيه قائلا وهو يضحك : بالحُضْن .
ووقفت منى أمامه وهي ترفع أصبعها محذرة : عيب يا أُنْكِل سليمان لقد كَبِرْت .
وجذبها سليمان من ذراعها وضمها إليه وقبلها في خدها وهو يقول : كَبِرْتِ علي ؟ سأظل أحضنك حتى بعد أن تتزوجي .
ووصلت نادية فمد سليمان إليها يده وضمها إليه وقبلهاكما فعل مع منى ثم قال : وأنتِ أيضا حتى بعد أن تتزوجي .
وضحكت نادية وهي تستسلم لضمته وقالت وهي تتساءل محذرة : وحتى بعد أن تتزوج أنت ؟
وضحك سليمان وقال : إذا كنت سأتزوج امرأة طيبة كأمك فسأحضن جميع نساء الأرض أمامها .
وضحكت الأم قائلة : هيا بنا .
واتجه سليمان إلى حجرة أخيه وتصافح الأخوان في شوق ومحبة وسأل سليمان : كيف الحال ؟
وهز فاضل كتفيه وكست ملامحه نظرة الضيق والسخط واليأس وقال : الحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه .
- لماذا كل هذا السخط يا أخي ؟
وقبل أن يجيب فاضل سُمِعَ دوي مدفع الإفطار وأقبلت نادية تُنادي : تفضلوا .
6
مصرية
جلست الأُسرة إلى مائدة الإفطار ووقفت الخادمة تنتظر في قلق بعد أن رصت آخِر صحاف الطعام وقبل أن يمد أحدهم يدا إلى المائدة قالت الأم للخادمة : اذهبي يا عطيات لتفطري مع دادا فاطمة ، وكانت فاطمة خادمة لازمت الأُسرة منذ طفولتها ثم تزوجت وطُلِقَت فعادت للخدمة في بيت فاضل بعد عودته من فرنسا ، وتولت تربية التوأمتين وخدمة الأُسرة كل هذه السنين في رضاء وإخلاص وكانت مجدة دؤوبة لا يكاد يعيبها شيء إلا حبها للباعة المتجولين والمكوَجِية والبقالين وجميع أصناف الرجال الذين يفدون على الدار .
ولم يكن على المائدة أي أثر من آثار الأم ، كانت مائدة إفطار مصرية مائة بالمائة بما فيها من دورق قمرالدين وأطباق الكشك بالفراخ وصينية البطاطس وأطباق الخُشاف وطبق القطايف ، وتناول سليمان كوب قمر الدين ومصمص بشفتيه في استطعام وقال للأم : قمر الدين لذيذ جدا ، لا يُعقل أن تعمله ربة دار فرنسية ؟
وضحكت مُنى قائلة : فرنسية إيه يا أُنْكِل سليمان ؟ إنها لم تعد فرنسية ، لقد قال عنها عصام إنها فرنسية من تحت الرَبْع .
ورد فاضل وهو ينظر إلى لورا ضاحكا : معه حق ، لولا لكنتها لما صَدَّق أحد أنها فرنسية .
واعترض سليمان قائلا : وشعرها الأصفر وعيناها الخضراوان ؟
- لدينا من هذا الكثير في المنصورة .
وأحست الأم ببعض الارتباك وهي تجد نفسها محل فحص وتعليق وردت معترِضة : إذا كان هذا من أجل قمر الدين فأنا لم أصنعه ، إن التي صنعته نادية .
ورد سليمان : برافو نادية ، ست بيت مُدْهِشة .
وأجابت نادية في تواضع : إنه ليس عملية عسيرة .
- ولكنها تحتاج إلى ضبط ..
تدخلت منى قائلة في سخرية : هي كِميَة ؟
فأجابها سليمان في تحدٍ : أتستطيعين أن تعملي مثله ؟
- لو أردت لعملت .
- ولماذا لا تُجَربين ؟
- ليس لدي وقت .
- ماذا يشغلكِ ؟
- أشياء أخرى كثيرة أهم من قمر الدين .
- مثل .
- مؤتمر باندونغ .
وضحك سليمان وتساءل في سخرية وهو يغرس الشوكة في قطعة من اللحم : هل اشتركتِ فيه ؟
- طبعا .
- وما رأيك في التعايش السلمي ؟
نظرت منى إلى نادية وسألتها ضاحكة : ما رأيكِ أنت يا نادية ، ماذا قال صبري عنه ؟
وضحكت نادية وأجابت : التعايش السلمي هو ما أفعله أنا وأنتِ ، نرقد في فراش واحد ونجلس متجاورتين على المائدة وفي الفصل وفي كل مكان نحل به ، ولكل منا مذهبها في الحياة ، لا تفعل أحدانا ما تفعله الأخرى ولا تحب ما تحبه ولكن بلا عراك ولا قتال ولا جدال .
وعلق الأب وهو يهز رأسه : ولا أنا عابدٌ ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم وليَ دينِ .
فتساءلت نادية : كما تفعل أنت مع ماما ؟
- بالضبط ، إن بيننا مثلا للتعايش السلمي .
وتساءلت منى : وما دخل التعايش السلمي بمؤتمر باندونغ ؟
وأجاب سليمان : إنه أهم مبادئه .
- آه ، أُلتِلي .
- أعرفتِ أنك لا تفهمين في قمر الدين ولا مؤتمر باندونغ ، وأن نادية تفهم في كليهما .
وأجابت مُنى ضاحكة : ومع ذلك سأُخطَب قبلها .
رفع الأب رأسه المطرق المحدق في الطبق الذي أمامه ونظر إلى منى بشيء من الدهشة .
وكست وجه منى لمحة من الحياء ، ولكنه سرعان ما بددتها وقالت في جَرأة :أجل إن عصام قرر أن يَخطبَني .
وتدخلت الأم في الحديث قائلة في شبه زجر : منى هذه الأشياء لا يمزح الناس فيها .
- أنا لا أمزح ، لقد قال لي عصام أنه سيخطبني إذا ما تخرج .
وصمتت برهة ثم وجهت نظرها إلى سليمان وأردفت قائلة : بشرط .
وتساءل سليمان ضاحكا : ما هو ؟
- أن تُلْحِقَه بسلاح الفرسان .
- وما دخله هو بالفرسان ؟
- لقد التحق بالكلية الحربية .
- عصام ابن الست أسما جارتكم ؟
- أجل .
- ألم يكن يدرس بالحقوق ؟
- لقد تخرج والتحق بالكلية الحربية ، وسيتخرج قريبا ليصبح نائب أحكام ، وهم يلحقونهم أولا بمختلف الأسلحة وهو يريد أن يكون في الفرسان .
وهز سليمان رأسه قائلا : فهمت ، إذا كانت المسألة هكذا فبَسيطة ، لقد ضَمَنّا لكِ خطيبا والدور على نادية .
وأجابت نادية : إني سأتْمِم دراستي .
وقال الأب وهو يلوك لقمة في شدقيه : ومُنى أيضا ستُتِم دراستها .
وأجابت منى : لقد زهقت من الدراسة .
ورد الأب في لهجة جادة : ستتمان الدراسة سويا في كرينوب .
وضحكت منى وصاحت في فرح : إذا كان الأمر كذلك فأنا مستعدة أن أُتَمِّمَ دراستي .
ونظر إليها سليمان وتساءل ضاحكا : والعَريس ؟
- ينتظر حتى أعود ، لقد قال لي أن أمامه وقتا طويلا حتى يستقر أمره ويصبح له مرتب معقول يؤهله لفتح بيت ، فحتى يجتاز وقت المرمطة أكون قد عدت إليه .
- وتتركينه يتمرمط وحده ؟
- إذا كان يجب أن يذهب معنا إلى كرينوب فليس لدي مانع ، أما أن ألاحقه في العريش ورفح وغزة فيفتح الله .
وضحك سليمان وهو يقول : طول عمرك بلا صاحب ، لا تُؤمَنين .
- لماذا ، إذا كان هو يرضى بذلك فما شأنك أنت ؟
وكانت نادية تبدو شاردة الذهن وهي تقلب قول الأب في رأسها ولم تكد منى تنتهي من قولها حتى تساءلت نادية في صوت خافت : ولماذا لا نُتِم دراستنا هنا في الجامعة .
وأجاب الأب في كلمات مقتضبة : لأننا سنذهب لنعيش هناك .
فتبادل الجميع النظرات ، وسألت منى أمها : حقيقةً يا ماما ؟
وهزت الأم كتفيها في استسلام : كما يريد أبوكِ .
ونظر سليمان إلى أخيه نظرة فاحصة وسأله : أَتَقول حقا يا فاضل ؟
- أجل .
- ولِمَ ؟
- لأني سأَعْمل هناك ، لقد أرسلت إلى مدير الجامعة هناك وكان أستاذي وأتوقع الرد بين حين وآخر .
- هَب أنه أتى بالرفض .
- لا أعتقد .
- على أية حال ، نرجو نحن أن يكون بالرفض .
- ولماذا ؟
- لأنه ليس هناك أبدا مبررا لسفركم .
- وهل هناك مبرر لبقائنا ؟
- طبعا ، إنه بلدك .
- لا أحد يريدني فيه .
- من قال هذا ؟
- قالته الجامعة التي فَصَلتني .
- هذا معناه ليس أن البلد لا يريدك .
- أتظن أن البلد الذي يراني غير صالح في مهنتي الأصلية ولا يأتمنني على عملي وعلى طلبتي ، أتظنه يريدني ؟
- لماذا تقول البلد ولا تقول عميد الكلية أو بعض الأساتذة ، لماذا تجمع البلد كله في شخص هؤلاء ؟
- لأن البلد لم يَنصِفْني منهم ، أتستطيع أن تذكر لي لماذا أخرجوني في التطهير ، أأنا غير منتِج ؟ لقد ألفت من الكتب ما يعلو هامتك ، لم يقل أحد هذا ، ألِأن زوجتي فرنسية ، لماذا إذن لم يخرجوا كل الذين زوجاتهم فرنسيات ؟ ألِأنني أعطي دروسا خاصة ؟ لماذا لم يرفدوا كل الذين يعطون دروسا خاصة ؟ ألِأنني ؟
- أنتَ تعرف لماذا خرجْتَ ، وتعرف الذين وشوا بك والذين كانوا ينافسونك على كرسي الأستاذية ، أنت تعرف كيف كالوا لك التهم .
- ولماذا أُاخذ بتُهَمِهم ؟
- لأن من العسير تبيان الحقائق من الأكاذيب ، لقد اختلط الباطل بالحق في عمليات التطهير ، ووجدت النفوس الدنيئة مرتعا لها ترتع فيه بالوشايات والنمائم والمكائد ، وكان من المستحيل منع عمليات الظلم أن تحدث أو عزل البريء عن أكوام المذْنبين .
- لماذا لم تحاول أنت أن توضح لهم ؟ أنت ضابط وصديق لمعظمهم .
- من قال لك أني لم أحاول ؟ لقد حاولت واقتنع بعضهم ولكن التراجع في حالة واحدة يجر وراءه الحلات الباقية وتصبح عملية التطهير كلها عبث في عبث ، ومع ذلك لماذا تستمر على هذا السخط وأنت قد عُوِضْتَ عن حالتك ؟ أنت الآن تربح أكثر مما كنت تربح في الجامعة ، لقد عُيِنْتَ في شركة إيرفرانس ، وأنت تعطي دروسا في اللسيه وتعطي دروسا خاصة ومجموع مرتبك من كل هذا أكبر من مرتبك في الجامعة .
- ليست المسألة مسألة مرتب يا سليمان .
- ماذا يضايقك إذن ؟
- مرارة التهمة الباطلة ، ألم الظلم ، هل تظنها هينة على نفسي أن أظل حياتي مدموغا بوصمة التطهير ؟ أتظنه سهلا على نفسي أن يقال عن بناتي أن أبيهن إنه مطرود في التطهير ؟ ماذا أقول أمام الناس عندما يسألونني لماذا طُرِدْتَ ، حرامي أَم فاسق ؟ كيف يكون ردي ؟
- يا أخي الذي يعرفك يعرف حقا من أنت ولن يتساءل لماذا خرجتَ ، لأنه واثق أنك لستَ حراميا ولا فاسقا ، والذي لا يعرفك لن يهمه لماذا خرجتَ ، أما الذين يكرهونك فسيقولون عنك لص وفاسق سواء طُرِدْتَ من الجامعة أو وُلِّتَ على إدارتها .
- إنك تقول هذا لأنك لم تُجَرِّب .
- وماذا سيفيدك السفر ؟
- سأعيش في جو آخر لا يقابلني فيه كل يوم إنسان يسألني لماذا خرجتَ ؟ ولا ألقى كل يوم شامتا أو مُعْزِّياً .
- أمن أجل هذا تترك بلدك وتفضل عليه الغربة ؟
- ليست غربة بالنسبة لي فقد عشت فيها 5 سنوات ، وهي بلد امرأتي أم بناتي وسأحصل فيها على مركز محترم ومرتب ضخم ، سأكون أستاذا لا طريد تطهير .
- والبنات ؟
- ما لهنَّ ؟ ستدخلان جامعة من خير الجامعات .
- وتعيشان بعيدا عن أهلهما ووطنهما ؟
- هب أنهما في بعثة دراسية .
- وبعد الدراسة ؟
- يفرجها ربنا .
- إن حياتهما هنا في بلدهما ، إنهما ستتزوجان هنا .
- لم يزل الوقت مبكرا على الزواج .
- ولكن فرصتهما تبدأ من الآن .
- الفرصة لن تضيع منهما ، ستجدان حظهما في أي مكان .
- ولكن فارقا أن تَجِدَاه في وطنهما وأن تَجِدِاه خارجه ، إنهما فوق كل اعتبار مصريتان ولابد أن تتزوجا من مصريَيْن .
ووجه سليمان القول إلى الأم متسائلا : أليس كذلك يا لورا ؟
وهزت لورا رأسها وقالت مؤكدة : أجل أنا أعرف هذا تماما ، وما حاولت قط أن أحولهما عن هذا .
وضحكت منى قائلة : لقد حولناها نحن عن فرنسيتها ، لقد أضحت مصرية من تحت الرَبْع أيضا .
وتساءل سليمان إذن لماذا تتركينه يقول هذا ؟
- ولماذا أناقشه والرد لم يصل بعد من الجامعة ؟ ألا يُحتَمل أن يكون بالرفض فأوفر على نفسي المناقشة .
وضحك سليمان وقال : معكِ حق ، وفري مناقشتكِ إلى حينها .
وقبل أن ينهض عن المائدة وهو يلتقط آخر زَبيبة في طبق الخُشاف قالت له منى : لا تنسَ أن تطلب عصام في الفرسان .
وضحك سليمان قائلا : تاني ؟
وتفرق الجميع من حول المائدة ما عدا نادية فقد جلست مطرِقة شاردة وقول سليمان يدور في رأسها فارق أن تجده في وطنها وأن تجده في خارجه إنها فوق كل اعتبار مصرية ولابد أن تتزوج مصريا ، وتخيلت المصري الطويل القامة العريض المنكبين الأسمر الوجه ، وأحست أنها لا تستطيع أن تحيا في أرض لا تطؤها قدماه ..
7
بصيص يخبو
بعد بضعة أسابيع كان الدكتور مدحت يغادر غرفة العمليات بمستشفى الدمرداش عقب إحدى عمليات الجراحة أو الجِزارة كما كان زملاؤه يسمونها استلقى مدحت على كرسيه في مكتبه مرْخيا أعصابه بعد ثلاث ساعات من الشد والتوتر ، وكانت الحجرة الصغيرة تطل على الشارع الجانبي للمستشفى المقاطع لشارع رمسيس وبين آونة وأخرى كانت تقطع استرخاءاته أصوات الباعة وزوار المرضى الذين تدفقت زرافاتهم متجهين إلى الباب الخلفي للمستشفى .
وأغمض مدحت عينيه برهة ليفتحهما على أقدام تطرق أرض الغرفة وصفير يعلو في أرجائها وصوت زميله جاد الله يصيح به : صح النوم .
ونظر إليه مدحت في غيظ وقال : ماذا تريد ؟
- الساعة قد قاربت الثانية .
- لتقارب الثانية أو الثالثة .
- والذين ينتظروننا في النادي ؟
- من هم ؟
- لا تحاول أن تَدَّعي ضعف الذاكرة كالعباقرة .
- لستُ عبقريا ولا أذكر شيئا من هذيانك .
- هذياني أنا ؟ ألم تدعُ مرفت وخالتها للغداء اليوم في النادي ، ثم نشاهد حفلة السباحة ؟
- اليوم ! ؟
- أجل اليوم .
وضغط مدحت جبينه بإبهامه وسبابته كأنه يحاول طرد الإعياء الذي حل به ، ، وأجاب بغير اكتراث : أظنني دعوتهما ، لكني ...
- ماذا ؟
- متعب ، لماذا لا تصحبهما أنت ؟
- أنا لا أدعو أحدا للغداء ، إني أستطيع أن أصحبهما فقط لحفلة السباحة .
- سأدفع لك حساب الغداء .
- معقول ، لولا أني أعلم أنهما يريدانك أنت أو على الأقل واحدة منهما .
واعتدل مدحت في جلسته وقال بلهجة جادة : اسمع يا جاد الله إني لا أريد أن أعبث بأحد أو أخدع أحدا .
- ومن قال أنك تعبث أو تخدع ؟
- أنت تعرف أنها من أسرة طيبة ، وتعرف أن صلتي بها نشأت بعد أن أجريت لأمها عملية المرارة وأجريت لها عملية الأعور .
- وماذا في ذلك ؟
- وتعرف أيضا أن ثمة استلطاف نشأ بيني وبينها .
- الحمد لله ، لقد اعترفت أنت بنفسك .
- ولكنه لم يكن من جانبي أكثر من استلطاف .
- يكفي هذا .
- ولكنه كان من جانبها مشروع حب ، ومن جانب الأُسرة مشروع زواج .
- ولِمَ لا ؟
- لأني لا أريد الزواج .
- يا غبي ترفس النعمة بقدمك ؟ ترفض 300 فدان وعمارتين وأبوها يستطيع أن ينفعك في مستقبلك ، إنه قد يصبح في أي وقت عميد كلية أو مدير جامعة أو وزير صحة .
- لا يهمني أبوها .
- ومع ذلك فالفتاة ليس بها عيب ، وأنت بنفسك قلت أنك تستلطفها ، فلماذا تترك الفرصة تفلت منك ؟
- لأني أكره أن أُقَيِّد نفسي ، أنت تعرف أني أمضي ثلاث أرباع وقتي هنا في المستشفى .
- ومن أجل هذا يجب أن تجد من ينقذك من هذا الهوس الذي تعيش فيه ، حياتك أضحت عملية سرطان مستمرة ولا أحد يسمع عنك أو يسأل عنك إلا بضعة الغلابة الذين تمزق أجسامهم وتتركهم أنصاف آدميين .
- ولكنهم أحياء .
- حياة مزعجة ، أنا أفضل الموت على حياة بلا مريء أو مَعِدَة .
- أنت مغفل .
- وأنت مجنون .
- لماذا لا تريح نفسك وتريح المرضى وتفعل كما أفعل أنا ؟
- لأني جراح ولستُ محتالا .
- يا أخي هناك جراحون كثيرون مثلك ولكنهم لا يفعلون ما تفعل ، الجراحة تقول لك : افتح وانظر ولا تقول لك افتح ومزق .
- اسمع أنا لا أريد أن أناقشك ، أنت إنسان جاهل وتجيد الابتسام والمعاملة أكثر مما تجيد الطب .
- كل الناس عندك جهلة ؟
- فعلا .
- إذن قم بنا يا حضرة العالِم لأن الموعد أوشك أن يحل ولا داعي لأن تدع الفتاة تنتظرك .
- قلت لك إني متعب ، ثلاث ساعات وأنا واقف على قدمَي .
- ستستريح في النادي ، ستتغدى وتشاهد حفلة السباحة وتلعبلك دورين كوروكيه ، ثم تواصل جهادك في تمزيق أعضاء الخلق وتقطيع أوصالهم ، قم بنا ..
ثم جذبه جاد الله من ذراعه فنهض مدحت من المقعد وذهب إلى استراحة الأطباء ، فغسل وجهه وأبدل ملابسه ، ثم هبط إلى حديقة المستشفى ، وبعد لحظات كانت عربة جاد الله تنهب بهما الأرض في شارع الخليفة المأمون متجهة إلى النادي .
وكانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف حينما وصل الصديقان إلى النادي وأقبلا على مدخله الرئيسي ليجدا المقاعد قد رُصَت حول حوض السباحة ومنصة الحُكّام قد أُعِدَّت والمايكرفون قد علا صوته مناديا أحد المتسابقين أو الحكّام ، وتلفت جاد الله حوله ثم اتجه إلى القاعة الشتوية المواجهة للمدخل يتبعه مدحت ثم دلف إلى الطرقة الزجاجية المحيطة بالنافورة فوجدا الضيفتين تنتظران على إحدى الموائد المجاورة للحاجز الزجاجي ، ولم يكن هناك فارق كبير في السن بين الفتاة والخالة ، وبدت الفتاة في جملتها لطيفة ، أهم ما يميزها عينان سوداوان واسعتان وفم انفرجت شفتاه عن ضب خفيف وشعر أميل إلى الخشونة ، والخالة تقريبا من نفس النوع مع امتلاء في الجسد واكتناز في الصدر والردفين .
وجلس الجميع حول المنضدة وواجه مدحت النافذة الزجاجية المتسعة وقد انفرجت عن النافورة وسط الحوض المستدير وقد أحاطت بها أوراق الكل الخضر وزهورها النفيرية البِيض وانبسط حولها بساط من النجيل تظلله الكافورة العجوزة الضخمة الجذع الممتدة الفروع ، وأقبل الكرصون فانشغل مدحت بانتقاء أصناف الغداء وبدا شاحبا شارد الذهن ساهم البصر ،
وحاولت مرفت أن تستدعيه من شروده قائلة : الحر اليوم شديد .
وأطرق مدحت وهو ينظر إلى أوراق شجر الكافور التي تهتز في خفة كأنما تحركها أنفاس هادئة وأجاب في اقتضاب : أجل .
- ألا تنوي السفر إلى الإسكندرية ؟
- لم أُقَرِّر بعد .
- ومتى تنوي أن تُقَرِّر ؟
- المسألة تتوقف على المرضى والعمليات .
وتدخل جاد الله ضاحكا : لن تسافر في سنتك ، لأن المرضى لا يُشْفَون والعمليات لا تنتهي .
وقالت الخالة وهي تتناول بطرف الشوكة قطعة من الخس الذي امتلأ به طبق السلطة : سنسافر إن شاء الله خلال أسبوع ، لقد كنا ننوي السفر إلى أوربا ولكن الرجل الكبير غيَّر رأيه واكتفى بسيدي بَشْر .
وقالت مرفت : ومالو سيدي بِشْر ، إني أحبه جدا .
- لأنك لم تري غيره .
ووجهت الخالة قولها إلى مدحت : لقد سألني الدكتور عبد الفتاح أن ندعوك للشاي غدا .
ورفع مدحت عينيه المحملقتين في أوراق الكافور ونظر إليها متسائلا : غدا .
- أجل .
- ولكني سأكون مشغولا .
- بعملية ؟
- بعمليتين .
- أَجِّلْهما .
- العمليات لا تنتظر .
- من أجل مريضتك العزيزة مرفت .
وبدا من قولها كأن مرفت تعني له شيئا ، ونظرت إليه مرفت نظرة راجية مستعطفة .
وأجاب مدحت قائلا : ولماذا الإصرار على أن يكون الشاي غدا ، لماذا لا يكون بعد غد مثلا ؟
وأسرعت مرفت تقول : ليكن ، كما تريد .
وأردفت الخالة مؤكدة : اتفقنا .
وهز مدحت رأسه موافقا .
وقالت مرفت : بعد غد أفضل ، ستكون أختي نايلة أتت مع زوجها من السويس ، وستكون فرصة أعرفكما ببعض .
ولم يعلق مدحت ، ونظرت إليه مرفت نظرة لم تستطع أن تخفي ما بها من إعجاب ، وأحس مدحت بشيء من الارتباك ، واستمرت الفتاة تقول في بساطة : لا تدري كيف يُقدِرك أبي ، وكيف يمتدحك ، إن الأُسرة باتت كلها تعرفك بعد أن أنقذت حياتي .
وضحك مدحت مجيبا : أنا لم أنقذ حياتك ، إن المسألة لا تستدعي كل هذا ، إنها عملية أعور لا راحت ولا جات .
- ولكن لو لم تنقذني في الوقت المناسب لانفجر وأودى بحياتي .
- من قال لكِ هاذا ؟
- كلهم .
- لا تصدقيهم ، ولا تصدقي أن أحدا يموت بالأعور أبدا .
- أنت دائما تحاول إنكار ذاتك .
- بالعكس إنهم يقولون عني أني مغرور كبير .
- لست أرى ذلك .
تدخل جاد الله قائلا : أنت مخطئة ، إنه أكبر مغرور رأيته في حياتي .
وأقبل الكارصون بصحاف الطعام ، وانهمك الجميع في تناوله ودار خلال الطعام حديث عن الجو ولإسكندرية والعمليات ، وروى جاد الله بضعة نكات ، وتبادلت مرفت مع مدحت بعض كلمات عن المستقبل والبيت والأولاد ، وأحس مدحت كأن الفتاة تطرق باب حياته وتستأذن في الدخول ، وأحس بباطنه نوعا من التردد فلا هو يصدها ولا هو يفتح لها بابه ويَأذن بالدخول ، إنه يجد فيها شيئا لطيفا ، ولكنه ليس لطيفا بالقدر الذي يقيد به نفسه ويُرضِخ له مستقبله وحياته وحريته ، والزواج في نظره عملية كبرى لا يجد في نفسه القدرة عليها فهو يبعدها دائما عن دائرة تفكيره .
وانتهى الطعام وقاموا متجهين إلى حمام السباحة لمشاهدة الحفل ، كان الحمام قد احتشد بالنَظّارة والحكّام والمتسابقين والأجساد المرنة تتواثب في الماء والرذاذ يتطاير والمايكرفون يضج والصفير يتعالى وصيحات التشجيع تنطلق من جانب لآخر ، ودلف مدحت وأصحابه بين الصفوف واستقروا على بضعة مقاعد من ناحية حجرة الملابس تكاد تكون ملاسقة لحافة الحوض ، وفي مواجهته أسفل المظلة الكبيرة استقرت نادية وقد أحاطت بها شلة النادي من الصبيان والفتيات ، وبدا صبري ملاسقا لها ، ولم صبري يكد يلمح الدكتور مدحت حتى هتف : الله الدكتور مدحت ومعاه مرفت .
- وبلا وعي سألت نادية : مرفت مين ؟
- بنت الدكتور عبد الفتاح أستاذ الأشعة في الكلية .
وصمت برهة ثم قال كأنما يحدث نفسه : إذن فالإشاعة لابد أن تكون صحيحة ؟
ومرة أخرى سألت نادية بلا تردد ولا تفكير : أية إشاعة ؟
- إشاعة خطبتهما ، لقد ترددت الإشاعة منذ أن أجرى لها عملية الأعور ، وكنت أنا أول من استنتجها منذ أن لاحظنا جميعا اهتمامه الزائد بها .
وأحست نادية كأن عبءً يطْبِق على انفاسها ويقْبِض بقسوة على جوفها ، وبدا لها كأن جانبا جميلا مريحا يوشك أن يُقتلَع من حياتها ، لم تكن تطمع في شيء محدد وإنما كانت تُبصر أملا هاديا مضيئا يلوح لها من بُعْد كما تلوح أضواء المرفأ للسفينة الضالة ، هذا البصيص البعيد الغامض من الأمل قد أخذ يبهت ويهتز ويتراقص ، لقد عصفت به كلمات الفتى التي ألقاها في غير اكتراث حتى كادت تخمده .
ونظرت نادية إلى الفتاة نظرة فاحصة واستمر صبري يردد في لهجته غير المكترثة : تبدو فتاة طيبة وأبوها رجل عظيم ، إنه من خير أساتذتنا ، لا شك أنه سيكون زواجا موفقا بالنسبة له ، وإن كنت أشك بأنه سيكون زوجا مريحا .
تساءلت نادية في حدة كأنما الأمر يعنيها هي وكأنها هي التي توشك أن تكون زوجته : ولِمَ ؟
- لأنه عبقري ، والعباقرة لا يكونون أزواجا صالحين ، إنه أحيانا يبدو جافا خشن الطبع ، وأنا لا أتصور زوجة تحتمل أن يفضل زوجها عملياته ومرضاه عليها .
- ومن أدراك أنه سيفضلهم عليها ؟
- لأنه الآن يفضلهم على نفسه وراحته .
وتعالى صوت المايكرفون فغطى على صوتيهما وأخذ يردد أسماء المتسابقين في المسابقة التالية ، تتابع 100 متر سباحة حرة ، تيمل هلويدو إبراهيم خورشيد صوفي تادرس إيمليا محمود نازي تيمل أهلي ، واستمر المايكرفون يردد الأسماء حتى وصل إلى فريق النادي وسمعت نادية اسم عصام وتلاه اسمان ثم سمعت المايكرفون يردد منى فاضل ، منى فاضل ستنزل بدلا نونة عبد السميع لمرضها ، وقفزت نادية من مقعدها قائلة : غير معقول .
واندفعت نادية من بين الصفوف وصبري يتبعها متسائلا : ما هذا الغير المعقول .
- غير المعقول أن تنزل المسابقة ، إنها لا تستطيع ، إنها مجنونة ستجهد نفسها في المسابقة والدكتور حَرَّم عليها الإجهاد .
وأسرعت نادية تخوض بين الصفوف لكي تصل إلى منى التي وقفت في صف المتسابقين الذين استعد أولهم على حافة الحمام ، ووصلت نادية إلى قرب حجرة الملابس عندما وجدت الطريق قد سُدَّ أمامه ا واُضطُرَت أن تسير على الحافة الضيقة التي بين حرف الحمام والصف الأول من المقاعد ، وحتى هذه الحافة قد سُدَّت أمامها بمنضدة وُضِعَت عليها الجوائز ، وبدا على نادية الضيق وهي تحاول أن تصل إلى منى لتمنعها من النزول ، وحانت منها التفاتة إلى يسارها فأبصرت مدحت يجلس على قيد خطوة منها ، وأحست بارتباك شديد وهي تجد نفسها على مثل هذا القرب منه ، وزادها الارتباك ضيقا حتى أحست بأنها توشك على البكاء ، ونظر إليها مدحت وأحس أنها في مأزق وأنها تريد الانتقال إلى الناحية الأخرى ، ودون أن ينطق بكلمة واحدة مد ذراعيه فحملها من ذراعيها كما يُحمَل الطفل ورفعها فوق المنضدة وهبط بها إلى الناحية الأخرى ثم جلس ، معاودا النظر إلى المتسابقين والحديث مع مرفت وكأنه لم يفعل شيئا ، ووقفت برهة مشدوهة حيرى كأن بها مس وعندما أفاقت اندفعت لتصل إلى منى وكانت منى قد قفزت في الماء وأخذت تضرب بيديها في عنف حتى تحافظ على مكان فريقها في التتابع ..
8
أعرفها جيدا
كانت منى ترقد في فراشها وقد جلست نادية بجوارها تقلب أحدى المجلات ، وكانت الشمس قد أوشكت على المَغِيب وبشائر نسمات الليل الرطبة قد أخذت تهب من النافذة البحرية المواجهة للفراش فتحرك ستائرها الأوركنزا ببرفق وخفة ، وعبق الياسمين المتسلقة على حافة الشرف الشرقية المجاورة للفراش تتصاعد إلى الغرفة في موجات خفيفة متباعدة ، ومدت منى يدها فسحبت المجلة من حجر يدها قائلة : أتقرئين أَم تسرحين ؟
- الاثنين .
- أراهن أنك لم تقرئي حرفا واحدا .
ورفعت منى المجلة من أمامها وأردفت قائلة : سأسألكِ في الصفحة التي كنت تقرئينها .
وضحكت نادية وردت قائلة : لا داعي للاختبار ستكسبين الرهان .
- فيما كنت سارحة ؟
- في أشياء كثيرة ، أولها سفرنا إلى كرينوبل الذي يصر أبي عليه .
- وماذا يضايقكِ فيه ؟
- هل تظنين من السهل أن نترك بيتنا وأهلنا ووطننا ونرحل كالمهاجرين إلى غير رجعة ؟ أو إلى رجعة بغير موعد .
- من قال هذا ؟
- أبي .
- كلام ، هو نفسه لن يحتمل أكثر بضع سنوات ، نكون قد أنهينا دراستنا في كرينوبل ويكون سخطه قد قَل وأصابه الملل من فرنسا وعاوده الحنين إلى مصر .
- وإذا استمرأ العيش هناك؟
- غير معقول .
- هبيه فعل ؟
- عن نفسي سأترككم عندما أمل وأعود في أول باخرة للزواج من عصام إذا لم يحضر هو قبل ذلك ويختطفنني ويعود بي ، لقد صمم على ذلك عندما أنبأته بعزم أبي على السفر بنا إلى فرنسا .
وأطرقت نادية وبدا الحزن على وجهها واستطردت مُنى قائلة : لست أدري لما تحملين هم السفر هكذا ، إننا سنغير حياتنا إلى الأفضل ، هل تذكرين بضعة الأشهر التي قضيناها في كاب ، الفسحة والمرح وتسلق الجبل بين المياه المنحدرة والأشجار ، هل تذكرين البحيرة في أعلى الجبل ؟ والبرقوق الذي كنا نقطعه من الشجر ؟ كانت حياتنا لذيذة .
- إلى حين وليس إلى الأبد .
- ومن قال إلى الأبد ؟ ؟
- إذا كنتِ قد وجدتِ من يجيء ليختطفكِ ويعود بكِ فإني لم أجده .
- لماذا ، أيعجز عن اختطافك وقد رفعك كريشة عن المنضدة ؟
واحمر وجه نادية وأحست بقلبها يدق في عنف وضحكت مُنى قائلة : لماذا يحمر وجهك هكذا كالأطفال ؟ ولماذا تحاولين إخفاء مشاعرك عني ؟
إني أذكر لكِ كل تافهو عن حركاتي وسكناتي ومشاعري وأحزاني وأنت تكتمين عني كل شيء في رأسك وصدرك ، ألا تثقين بي ؟
وهزت نادية رأسها في اضطراب وحيرة وأجابت : ليست مسألة ثقة ، إني لا أجد هناك ما يستحق الذكر .
- كيف ، ألا تحبينه ؟
وصمتت نادية برهة وبدا عليها الشرود وأردفت مُنى تتتساءل في إصرار : لماذا لا تجيبين ؟ إنك تحبينه .
وترددت نادية وهزت رأسها في حيرة ثم قالت : ليست المسألة بمثل هذه السهولة .
- كيف ؟
- لا أستطيع ببساطة أن أجمع بضعة أحاسيس في نفسي لأحدد لها هذه الصفة ، لست أجرؤ على هذا .
- تجرُئين ؟! أيحتاج اعترافك بالحب مع كل هذا الذي تحسينه إلى جرأة ؟
- طبعا يحتاج ، لأني لا أعرف ما هو الحب حتى أقول أن ما بي حب ، هل يمكن أن نسمي أوهامنا وتمنياتنا التي نختزنها في صدورنا وننفعل بها وحدنا دون أن يحس بها أحد حُبا ؟
- أنتِ معقدة يا نادية ، تتحدثين عن المسألة وكأنها درس طبيعة أو تمرين هندسة ، لماذا لا تجيبين ببساطة أتحبينه أَم لا تحبينه ؟
- لستُ أدري .
- قولي لي كل ما تحسين به وسأخبركِ أنا ، هل تحبين رؤيته ؟
إياك أن تقولي لا ، فأنا أعرف شغفك الفجائي بمشاهدى الكوروكيه .
وضحكت نادية وهزت رأسها بالموافقة .
واستمرت مُنى تقول : هل تفكرين فيه ؟
- أجل .
- كثيرا ؟
- كلما سنحت لي فرصة في التفكير .
- هل يدخل بينك وبين صفحات الكتب ، أعني هل يمنعك من المذاكرة ؟
- ليس دائما .
- كان يجب أن يمنعك ، فأنا عندما أكون في حالة حب لا أستطيع المذاكرة ، ما علينا ، أنت إنسانة غير طبيعية تحبين المذاكرة أكثر من اللازم ، لنكمل الأسئلة ، هل تُعجَبين بكل شيء فيه ؟
- إم ، تقريبا .
- ما معنى تقريبا ؟ هل هناك أشياء لا تعجبك فيه ؟
- لا ، إنما لست أعرف كل شيء فيه .
- هل هناك أشخاص يعجبونك أكثر منه ؟
- لا أعتقد .
- أجيبي إجابة قاطعة ، لا أو نعم ؟
وضحكت نادية وأجابت قائلة : لا .
وصمتت مُنى برهة وبدا عليها التفكير ثم قالت فجأة : هل تتمنين أن يُقَبِّلَكِ ؟
وبدا الارتباك على نادية واحمر وجهها وأجابت وكأنها تنفي عن نفسها جرما : بالطبع لا .
وبسطت مُنى كفيها وهزت رأسها في أسف قائلة : واحد من اثنين ، إما أنك لا تحبينه أو أنك مُغَفَّلة ، والأخير هو الأرجح .
- إني لم أفكر قط في أمر كهذا ، لم يخطر لي ببال أن ...
- إذن فأنت كما قلتُ ، مُغَفَّلة ، إني أتمنى لو يقبلني عصام ولولا بقية من خجل لم أستطع التخلص منها بعد لقبلته أنا ، على أية حال لو وضعنا تغفيلكِ جانبا وجمعنا كل إجاباتك فأننا نستطيع أن نصل إلى نتيجة حاسمة ومؤكدة ، هي أنك تحبينه .
شردت نادية بعينيها من الشرفة وعبرت ببصرها أوراق الياسمين الرقيقة المهتزة إلى السماء التي أخذت زرقتها تبهت وخيوط الغسق الرمادية تنتشر من خلالها ، وقبل أن تعاود مُنى حديثها قالت نادية في صوت خافت وكأنما تحدث نفسها : أنا أكره أن يكون الأمر كذلك .
- لماذا ؟
- وددت لو أنه مجرد إعجاب بشخصيته وخُلُقه ونبوغه ، وأغلب ظني أن هذا هو حقيقة ما بي .
- ولماذا تكرهين أن تحبيه ؟
- ليس هناك مبرر لهذا ، ولا نتيجة لهذا .
- مبرر ، ونتيجة ؟! أتظنينه موضوع إنشاء ؟
- لماذا أحبه ؟
- لأنك تحبينه .
- إنه لا يحس بي ، ولا يُحتَمَل أن يحس بي .
- كيف ، ألم يحملك بين ذراعيه في حفلة السباحة ؟
- حملني كطفلة أعجز عن العبور إلى الجانب الآخر .
- هذا ذنبكِ أنت .
- كيف ؟
- لأنك تتركين هذه الظفيرة السخيفة تتدلى حتى تصل إلى ردفيك ، وتلبسين الفانيلا التي تمسح صدرك ، وهذا الفستان الذي يُبديك كطفلة في مدرسة ، لماذا تصرين على هذا المظهر الصبياني السخيف ؟ لماذا لا تفعلين مثلي ، إن لك صدرا أكبر من صدري ، وردفين أملأ من ردفَي .
- ما هذه السخافة ؟ هل تظنين الحب يُكتَسَب بإبراز الصدر والأرداف ؟
- لست أقصد هذا ، وإنما فقط أريد أن تظهري كفتاة يمكن أن تلفت نظر رجل ، لا كصبية تضيع في غمار صِبْية النادي الذين يتحتم عليهم الرحيل عندما يدق جرس السابعة والذي يمنعهم هاندي من دخول القاعة ، أَفَهِمْتِ ؟
- أفَهِمْتِ ؟
- لستُ أريد أن أجذب نظر أحد .
- إنفِلْأي ، ذنْبك على جنْبكِ ، ستظلين تحملقين فيه كالبلهاء وهو يلعب الكوروكيه حتى تلْطشه منك مِعْزة الكوروكيه ، .
ولم تَطُف بذهن نادية مِعْزة الكوروكيه ولكن طافت بذهنها مرفت وقد جلست بجوار مدحت أمام حمام السباحة وتذكرت قَوْل صبري أنها شبه مخطوبة له ، وإنها تعتبر بالنسبة له زواجة رابحة ، وأحست مرة ثانية بذلك العبء الثقيل الذي يُطْبِق على أنفاسها ويعتصر جوفها وبدا لها بصيص الأمل يهتز ويترنح ويلفظ آخِر أنفاسه .
وبلا وعي أطلقت زفرة حارة وقالت في شيء من المرارة : آه ، لا فائدة ، إن الإنسان لا يخشى على ضياع ما لا يملك .
- ولماذا لا يحاول أن يملكه ؟
- لأنه ملك لغيره .
لستُ أفهم ؟
- إنه خاطب .
- من أنبأكِ ؟
- صبري .
- ومن تكون ؟
- الفتاة التي كانت تجلس معه في حفلة السباحة .
وهتفت مُنى في دهشة : هذه المِعْزة الكرتاء خطيبته !! ؟
- كل الناس عندكِ مَعيز ؟
- هذه حقيقة ، مِعْزة ، ألم ترَي ضبها وشعرها الأكرت ؟ .
- إنها فتاة لطيفة .
- ألم أقل لكِ أنكِ مُغَفَّلة ، هذه الفتاة تُفلح في لطشه وأنت قاعدة تحملقين فيه في بله بظفيرتك ومريلتك وصدرك المبطط ؟ ؟
ولم تجب نادية وعادت تحملق ببصرها من خلال الشرفة في فراغ السماء الذي تكاثفت الخيوط الرمادية في نسيجه الأزرق .
واستطردت مُنى تقول في حماس : لو كنت مكانك ما احتمل مني أكثر من بضعة أسابيع ، .
التفتت نادية إليها وتساءلت في لهجة يائسة ساخرة : ماذاك كنت ترينك فاعلة ؟
- أولا أكُفُّ عن الجلوس خارج الملعب واستراق النظر إليه وأنزل إلى الملعب لألعب معه .
- بلا معرفة ؟
- هل تظنين كل الذي يلعبون في ملعب الكوروكيه لهم معرفة ، إنهم ينزلون للعب ثم يتعارفون ويصبحون أصدقاء ، فلماذا لا تفعلين مثلهم ؟
تساءلت نادية في لهجة حالمة : ألعب معه الكوروكيه ؟
- ولِمَ لا ؟، جِزّي هذه الظفيرة والبسي البلوزة الديكولتي اللبني والجيب الرمادي الضيق وانزلي الملعب .
ومضت فترة صمت تخيلت نادية نفسها وقد وقفت بجوار مدحت في ملعب الكوروكيه وسارا يتحدثان بلا كُلْفة وهي تضرب الكُرة وهو يُعجَب بضرباتها ، وفجأة هتفت بمُنى في خذلان شديد : ولكني لا أعرف لعب الكوروكيه .
وصاحت منى في دهشة : يا غبية !! إن ثلاثة أرباع الذين يلعبون الكوروكيه لا يعرفون كيف يلعبونه ، بل ثلاثة أرباع الذين يعملون أي شيء لا يعرفون كيف يعملونه ، انزلي والعبي ولا تخشَي شيئا .
ومضت فترة سرحان بنادية قبل أن تسألها منى قائلة : ها ، اتفقنا ؟
وأطلقت نادية زفرة يأس أخرى وأجابت : أنا لا أحب هذه الطريقة ولا أُجيدها .
- أية طريقة ؟
- طريقة لفت الأنظار ووضع الخطط ومطاردة الغير ، ثم هبي أني أفلحت أن ألعب معه الكوروكيه ، هل تظنين أن كل الذين يلعبون معه أحباؤه ؟
- أنتِ وشأنكِ ، ابقي عاجزة كما أنتِ ، هل تستطيعيني أن تخبريني كيف استطاعت هذه المِعْزة الكرتاء أن تجذبه إليها وتجعله يخطبها ؟
- لقد عمل لها عملية أعور .
وأجابت مُنى ضاحكة : انتهينا ، دعيه يعمل لك عملية أعور أنتِ الأخرى مادام لا يَطُب إلا بالعمليات .
وردت عليها نادية مؤَنِّبة : أنتِ عابثة .
وأجابت مُنى في لهجة جادة : أبدا واللهِ ، لو كنت مكانك ما تركته يفلت مني أبدا ولو أدى الأمر إلى العملية .
وصمتت مُنى برهة وكأنها تفكر في شيء وهتفت في ثقة : هل تحبين أن أحضره لك الآن ؟
- كيف ؟
- هاتي التلفون وابحثي عن رقمه في الدليل .
- ماذا ستفعلين ؟
- ألستُ مريضة ؟
- أجل .
- سأستدعيه للكشف علي .
- أمجنونة أنتِ ، إن لك طبيبا يعالجكِ وما حدث لك من تعب نتيجة إجهاد نفسكِ في السباحة وقد سبق أن حذركِ من هذا ، فبأي حُجة تطلبين طبيبا آخر وجراحا للكشف عليكِ ؟
- إممم ، سأقول أني شعرت بمغص شديد وخفت أن تكون نوبة أعور فطلبت الدكتور مدحت الذي نعرفه في النادي .
- ولماذا لم ننتظر حتى يحضر بابا أو ماما ؟
- أنتظر حتى ينفجر الأعور ؟هاتي التلفون بسرعة قبل أن يحضر أحد .
- وعندما يأتي ولا يجد بكِ شيئا ؟
- أقول أن المغص انتهى ، أهي مشكلة ؟
- وإذا وجد بكِ شيئا وأصر على حملكِ إلى المستشفى وأجرى لك عملية وأطار نصف ما في جوفك كما يفعل بمرضاه ؟
وصمتت مُنى وبدا عليها الوجوم وقالت : هذه هي المشكلة .
ولكنها ما لبثت أن أردفت ضاحكة : إذا نوى هذه النية السوداء فستذهبين إنتِ ، ألستِ تحبينه ؟ ألا تضحين في سبيله بأعور ؟ إنها ستكون فرصة العمر ، تصوري نفسكِ راقدة وهو يجس نبضك ويكشف على صدرك ويضع كفه على جبينك ، وتصوري أنه يروح ويغدو حولكِ ولا عمل له إلا الغيار لكِ والسؤال عنكِ والاطمئنان عليك ، ماذا تريدين أكثر من ذلك ؟ ستغادرين المستشفى وفي يدك خاتم الخطوبة ورحِمَ الله المِعْزة الكرتاء .
وصمتت لحظة تمالكت خلالها أنفاسها ثم أردفت وكأنها أم تنصح ابنتها : اسرعي في التليفون قبل أن يطير منا .
ولم تتحرك نادية وإنما تحرك ذهنها ليتخيل كل ما قالته مُنى ، هي راقدة في فراشها ومدحت يقف بجوارها يمسك رسغها ويتحسس جبينها بكفه الكبيرة ، أي رقدة يمكن أن تكون أحب إليها من هذه الرقدة ، لماذا لا تمرض حتى تستمتع بجواره وتمسك يده ، إنها أحست أنها تطير عندما رفعها بين يديه ، لماذا يبخل الله عليها بنعمة المرض الذي يهيئ لها السبيل إليه ؟
وصاحت بها مُنى : لماذا لا تتحركين ؟ إذا لم تأتي بالتلفون فسأنهض أنا لآتيَ به .
وأفاقت نادية من أحلامها ونظرت إلى منى وقالت بلهجة خليط من اليأس والمرارة والسكينة والقناعة : لا يا منى كوني عاقلة ، ليس هذا مجال عبث ولهو .
وهزت منى رأسها وقالت : أنا مالي ؟ لقد حاولت أن أمنحكِ الفرصة فرفضتِها .
- نحن لا نستطيع أن نُتيح أنفسنا ، إنها تُتاح للنا ونحن نقتنصها .
- أنتِ عاجزة .
- ربما .
وسُمِعَ وقع أقدام مزدوجة في الخارج استطاعت كل منهما أن تميز أقدام أبيهما وأمهما ، ودخل الاثنان الحجرة وجلست الأم بجوار مُنى على الفراش وضمتها إليها في حنو ، وجلس الأب على مقعد بجوار التسريحة قائلا : كيف حالكِ يا مُنى ؟
- الحمد لله .
- نريدكِ أن تشدي حيلك حتى لا تؤخرينا عن السفر .
وسألت نادية : هل تقرر السفر ؟
وأجاب الأب : أجل ، لقد وصل الرد من كرينوبل بالموافقة وسنسافر في أقرب فرصة ، غدا سأعد جوازات السفر وأسأل عن مواعيد البواخر .
ومن جديد عادت نادية تحس بذلك الشيء الثقيل يُطْبِق على أنفاسها ويعتصر جوفها ، وبدت لها الذبالة التي كانت تتراقص قد خبت تماما ، لم يعد هناك من أمل ، حتى تلك الوسائل العابثة الصبيانية التي اقترحتها منى لم يعد إليها من سبيل ، إن منى تأمل في العودة لأن هناك ك=من ينتظرها ويعدها إن تأخرت أن يذهب ليختطفها ، أما هي فستذهببلا أمل لأن احدا لا يحس بها ولا يأبه لها ولا يعدها باختطاف أو حتى بتذكُر ..
9
مُلْكٌ للغير
كان اليوم الأخير لمُنى ونادية قبل الرحيل عن مصر، وكانت التوأمتان قد وصلتا إلى النادي قبيل الظُهر لتلقيا تحية الوداع على الأصدقاء ، وانطلقت منى إلى الحمام حيث تزاحم الأعضاء وعلا صياحهم حتى جعلوا من الحمام ما يشبه السوق ،وبدت نادية تسير الهُوَيْنة بين ممرات الملاعب الخُضْر في الحديقة الكبيرة ، كانت تحس بحزن مشوب باليأس والخوف ، ولم يكن بنفسها أي أحساس بفرحة السفر التي تحس بها منى ، كان ألم الفرقة أغلب على نفسها ، وكانت تمعن البصر في كل ما حولها كأنما تحاول تثبيته في ذذهنها حتى لا تُبْهِت الفُرْقَة صورته ، ولا يمحو البُعد ذكراه ، ، كانت تحب كل هذه الأشياء المحيطة بها ، هذه الأررض الخضراء ومجموعات الزهور والأشجار المتناثرة هنا وهناك والكُشْك الأخضر الذي أحاطت به أدوات الجميزيم وبوابات الشجر التي تسلقت عليها أعواد الجهنمية والشرفات المستديرة العريضة التي تحيط بأبنية النادي وملاعب التنس التي يعدو حولها صِبية التنس لجمع الكُرات ، وملاعب السكواش بلاعبيها الذين تلاحقت أنفاسهم وتصبب عرقهم وبرج الحمام القائم في الطريق إلى جانب الكراج الكبير بحمامه الأبيض الذي يقف على حافة حوض المياه الصغيرة ليرتشف الماء في سلام وسكينة ، كانت تحس بكل هذا كأنه قطعة من طفولتها وصباها ، وكانت تحب كل من به ، عماله وموظفيه وأعضاءه ، كانوا يمثلون في نظرها كل مظاهر الحياة من كد وجِد ومرح واستمتاع وإحساس بالحياة ، ووسط كل هذه الأشياء والمخلوقات يبرز مخلوق بذاته ، ليمنح كل ما حوله قيمة ويجعل له معنى ، كان العبقري الطويل القامة العريض المنكبين بملامحه الجادة ووجهه الأسمر وعينيه الخضراوين يقف وسط كل هذا ليخلع عليه هالة من الإشراق ويغمره في فيض من الضوء .
ومرت بملعب الكوروكيه وأشار لها بالتحية الصبي الأسمر الجالس تحت الشمسية ، فردت عليه التحية مبتسمة في رقة ، وافتر ثغر الصبي عن ابتسامة كشفت عن أسنانه الفلجاء وقال وهو يلقف إحدى الكُرات في الهواء ويلقفها : ألا تنوين أن تلعبي معنا يا ست نادية ؟
وأجابت نادية ضاحكة : أنا لا أعرف كيف ألعبها .
- إنها سهلة جدا ستتعلمينها وحدك بمجرد النزول إلى الملعب ، ألا تلعبين اليوم ؟
وهزت نادية رأسها وأجابت وهي تستمر في سيرها المتمهل : إن شاء الله .
وبرز العبقري مرة أخرى في ذهنها وقد انحنى يضرب الكُرة في دقة وإحكام وتذكرت قول مُنى : لماذا تكتفين بالفُرْجة انزلي والعبي ولا تخشي شيئا .
أجل كان يجب أن تنزل للعب ، تسلم عليه وتتحدث إليه وتتناول معه الشاي ، لِمَ لا ؟ كل الفتيات يفعلن هذا ، أشياء كثيرة كان يمكن أن تفعلها معه لو لم تكتفي بمجرد الجلوس والفُرْجة ، كان يمكن أن تمرض ويعودها ، كان يمكن أن تشاغله في التليفون ، ولكن لا ، هذا عبث لا تطيقه ولا تَقْدِر عليه ، ثم ما الفائدة في كل هذا الآن ، والرحيل قد أوشك والفُرْقَة قد تأكدت ، وأي رحيل وأية فُرْقة ؟ رحيل بلا عودة وفُرْقة بلا أمل في لقاء ، إن مُنى تجزم أنهم عائدون ، ولكن منى شديدة التفاؤل وهي تجد في حياتها أملا واضحا يبعثها على هذا التفاؤل ويجعل عودتهم مؤكَدة ، أما هي فماذا يدفعها إلى التفاؤل ؟ أي أمل يمكن أن يحتم عليها ضرورة العودة ، حتى الأمل الوهمي الذي كان يجعل أمنيتها محتملة التحقيق قد تبدد بعد أن عرفت أنه غير خالٍ ، وأن مخلوقة أخرى قد تأبطت ذراعه وانطلقت به كي تشاركه حياته ، وعادت أحاسيس اليأس والحزن تتسرب إلى أعماقها ولم يخرجها من أوهامها الحزينة إلا هتاف بلغر سمعها مناديا : هلو نادية .
فتلفتت حولها فأبصرت صبري بقامتهر الطويلة النحيلة ومنظاره السميك وشعره القصير المجعد وأجابته في رفق : هلو صبري .
- ما لك تسيرين وحدكِ ؟ أين منى ؟
- أظنها ذهبت إلى الحمام .
- كان يجب أن أعرف ذلك فقد أبصرت عصام منذ لحظة يسرع إلى هناك .
ومضت فترة صمت ، كان صبري يسترق النظر إلى وجهها وهو يسير الهُوَيْنة بجوارها وقد أحس بقرارته بشعور ممتع ، وبدت له الفرصة سانحة لأن يقول أشياء كثيرة طالما حَدَّث بها نفسه وهمَّ بضع مرات أن ينطق لكنه لم يعرف من أين يبدأ ، ووصلا إلى الشرفة المستديرة التي تتوسطها الكافورة ، وبدت لهما النافورة تحيط بها زهور الكلا وتمهل صبري قائلا : أتودين الاستمرار في السير أَم تفضلين الجلوس .؟
ورنت نادية ببصرها إلى الشرفة الخالية ذات السور المنخفض الذي غُرِسَت فيه الكارونيا الحمراء ثم جاوزت الشرفة إلى سور الياسمين الذي يفصل الحمام عن الملاعب وترامى إلى مسامعها الصخب والضجيج وأحست أنها أميل إلى الوحدة والهدوء ولم تجد في صبري الرفيق المقلِق الذي يمكن أن يزعج وحدتها أو يقطع الهدوء من حولها ، ووجدت في عينيه شبه رجاء بالجلوس .
فهزت رأسها قائلة : لنجلس هنا قليلا إذا شئت .
وصعد الاثنان إلى الشرفة المتسعة الخالية وجلسا حول المنضدة في ظلال الكافورة العجوز ، ومرة أخرى ساد الصمت ، وتذكرت نادية حديث صبري عن مدحت ووصفه له بالجزار العبقري وتمنت لو أنه عاود الحديث عنه فقصَّ عنه كل ما يعرفه ، لماذا لا تسأله عنه ؟
حتى السؤال لا تجرؤ عليه ، وانطلق صبري ليقول شيء يقطع به الصمت ويغطي به عجزه عن الإفصاح بما يدور في خلده ويراود أحلامه .
- لقد انتهيت من الامتحان بالأمس فقط .
- - حقيقة ، وماذا فعلت ؟
- - لا بأس ، ولو أنها ضربت لخمة في الجراحة ، كدت أضيع لولا ستر من الله ومن الدكتور مدحت .
- وتيَقَّظَت حواس نادية وتحول تراخيها في الإنصات إلى اهتمام شديد ورفعت إليه عينيها كأنما تطلب منه الشرح .
- ولما صمت صبري عادت تستحثه قائلة : ماذا فعل الدكتور مدحت ؟
- - لقد عاونني كثيرا ، ، إنه يبدو شرسا قاسيا وكل الطلبة كانو يخشون الوقوع في يديه ولكني لم أجد بين الممتحنين من هو أرق منه إحساسا وأشد عطفا .
- - ولكنه يبدو شديد التجهم ؟
- - إنها قشرة زائفة يكسو بها رقته وفرط إحساسه ، هل تصدقين أني ضبطته مرة في حجرته وهو يغني ؟
- وضحكت نادية وأحست بمتعة في السماع عنه ، وتساءلت في دهشة كأنما سمعت نبأً عجيبا : يغني ! ماذا كان يقول ؟
- - أظن الجندول أو الكرنك أو شيئا من هذا القبيل .
- - وكيف يقضي أوقاته في المستشفى ؟
- وأحست نادية كأنما كشفت بسؤالها عن نفسها فأسرعت تقول : أعني كيف تقضون أوقاتكم في المستشفى ؟
- - بين فصول الدراسة وغرف العمليات وعنابر المرضى ، تصوري أني منذ يومين حضرت عملية مع الدكتور رمزي وأني ...
- وأحست نادية أن الحديث بدأ يضل الطريق وأنه قد ابتعد عن محوره الرئيسي فانتظرت حتى سنحت لحظة وقف وقالت وكأنها تسأل سؤالا عابرا : وخطيبة الدكتور مدحت كيف حالها ؟
- - خطيبته ! ؟
- - أجل ، الفتاة التي كانت تجلس معه في حفلة السباحة .
- - مرفت بنت الدكتور عبد الفتاح ؟
- - أظنها هي ، ألم تقل لي أنها خطيبته ، فماذا تم في المشروع ؟
- - لا أحد يعلم ، إننا لا نراه إلا في العمليات أو في النادي ، وقد تكون المسألة مجرد إشاعة .
- وأحست نادية بشيء من الراحة وبدا لها بصيص الأمل وقد عاد يتراقص ، ولكن ما فائدته اشتعل أَم خبا وهي على وشك الرحيل ، إنه مجرد إحساس مريح أليس لها الحق فيه أَم يتحتم عليها أن ترحل وملء نفسها الأسى واليأس ؟
- عاود صبري محاولاته في طَرْق باب الحديث الذي لم يفلح بعد في طَرْقِه ،
- قال متسائلا : متى تسافرون إلى الإسكندرية ؟
- ورفعت نادية حاجبيها في دهشة وقالت : الإسكندرية ؟ ! سنسافر غدا إلى فرنسا .
- وفغر صبري فاه وصاح في يأس : غدا غدا ؟
- - أجل غدا .
- وأطرق صبري برأسه في حزن وتمتم قائلا : هذه إذن زيارة وداع ؟
- - أجل ، وداع لكل الأعزاء الذين عرفْتُهُم .
- وأحس صبري بشيء من العزاء وهو يحس أن الوداع قد شمله وأنه من بين الأعزاء وتساءل في صوت خافت : وأنا بينهم ؟
- - طبعا .
- - ومتى تعودين ؟
- - من يدري ؟
- - بعد انتهاء الدراسة ؟
- - ربما .
- وران السكون إلا من حفيف أوراق الكافورة وزقزقة عصفور يتواثب على فروعها .
- وشَرَدَ صبري ببصره في الملاعب الخُضْر المترامية وعاد يقول كأنما يحدث نفسه : وربما لا تعودين ؟
- وشَرَدَت نادية ببصرها في نفس الناحية ولكن في اتجاه أكثر تحديدا وبدا لها الشبح الطويل العريض المنكبين يتحرك في أحد ملاعب الكوروكيه وأجابت على سؤال صبري بلهجة ملْؤها الأسى : أجل .
- وعاد صبري يقول في همس كَمَن يحدث نفسه : حتى هذا البصيص من الأمل الذي كنا نحوم حوله ولا نعرف كيف نقربه قد نأت به ريح الفُرْقة إلى غير رجعة .
- وبدت الكلمات التي نطق بها صبري غير غريبة على نفسها ورفعت إليه عينيها تستعيد ما قال ،
- وهز صبري رأسه وقال في لهجته الخافتة : هذه أشياء أظنكِ لن تعرفيها بعد .
- وهمت نادية بأن تقول : بل أعرفها جيدا .
- عندما أبصرت مُنى تندفع من باب القاعة الشتوية وقد تبعها عصام بثيابه الكاكية وصاحت بهما منى ضاحكة : ما شاء الله ، أنتما هنا في مناجاة حارة وأنا أبحث عنكِ في كل أنحاء النادي .
- وقال عصام مُعَقِّبا : مناجاة مع صبري غير معقول ! قيس ينطق ؟
- ورفعت مُنى يديها مُطْبِقة في وضع مناجاة وهتفت قائلة : بربك هل ضممتَ إليك ليلى قبيل الصبح ؟
- وقاطعتها نادية ناهرة : منى ، كفى عبثا .
- ثم نظرت إلى الساعة فوجدتها قد جاوزة الثانية عشرة فتساءلت : متى تنوين العودة إلى البيت ؟
- - مازال الوقت مبكرا ، ماذا يغريكِ في العودة إلى البيت ؟
- - أشياء كثيرة لابد أن نُنْهيها .
- - مثْل .
- - حزم بقية الحقائب .
- - لقد حزمت كل حقائبي .
- - ومساعدة ماما في إعداد الأثاث .
- - ولماذا نَعُدُّه ما دمنا سنتركه لعمتي كي تُؤجره .
- - على أية حال لابد لنا من العودة للغداء .
- - مازال الوقت مبكرا على الغداء ، ثم لماذا لا نتغدىَ في النادي ؟، إن عصام يدعونا للغداء .
- وعَقَّبَ عصام مؤكدا : أجل ونذهب بعد ذلك إلى سينما ريفُلي .
- - فكرة مُدْهِشَة .
- ونظرت إليهما نادية في دهشة : ما هذا الهذيان ؟ غداء وسينما ؟ أنتِ تعلمين أننا سنبحر غدا في الظُهر وأننا سنظل طوال اليوم والغد في الااستعداد للسفر ، وأن عمتك وبقية أقاربنا سيتناولون الغداء معنا اليوم ، وبعد هذا تقولين نتغدىَ في النادي ونذهب إلى السينما ؟
- - دائما تُعَقِّدينها .
- - وإنتِ ...
- وقاطعهما عصام قائلا : انتهينا ، لا داعي للعراك ، سنجلس سويا حتى الغداء ثم أوصلكما إلى البيت ، وغدا سأذهب إلى الإسكندرية لتوديعكما على الباخرة ، ما رأيك يا صبري هل تأتي معنا ؟
- ونظر صبري إلى نادية قائلا : إذا لم أضايق نادية .
- وردت نادية : بالعكس ، إني أحب أن أراكما دائما وسأشعر أن هناك من يهتم بنا عند الرحيل .
- ومرة أخرى شَرَدَ بصرها في الملاعب الخُضْر وبدا لها الشبح الطويل العريض المنكبين وكأنه يلوح لها بيده مبتسما ويهتف بها : سأنتظركِ دائما .
- حمدا لله على أوهامنا ، إنها لا تحرمنا بقية أمل وبقية عزاء ..
10
قبيل الرحيل
كانت الساعة قد بلغت الثانية عندما أقبلت منى ونادية من النادي ، وكان البيت يبدو أجرد عاريا وقد طُوِيَت سجاجيده ونُزِعَت فُرُشه وبدت الأم في حركة دائبة بين الحقائب والدولاب ، وعلى مقربة منها جلست العمة زكية وقد شَرَدَت كل منهما في وادي أفكارها لا تجمع بينهما إلا بضع كلمات تتبادلانها بين آونة وأخرى .
وقالت العمة وهي تنظر إلى الحقائب التي كُدِسَت بها الملابس والمفروشات : ما هذا كله ؟ ما الداعي لأخذ كل هذه الأشياء ؟
ونظرت إليها لرا وهي منهمكة في ترتيب البطانيات : وما الداعي لتركها ؟
- لأجل السكان الذين سيستأجرون البيت .
- لابد أن تكون معهم أغطيتهم .
- إذا كنت تخشين عليها فلماذا لا تغلقين عليها أحد الدواليب بدلا من أن تُحَمِّلوا أنفسكم كل هذه الأثقال ؟ إنكم تبدون وكأنكم راحلون بلا عودة .
- جائز .
- فال الله ولا فالِك ، لماذا تقولين هذا ؟
- لستُ أنا التي تقول ، إنه أخوكِ .
- لا تصدقيه ، هل تظنين أنه يستطيع أن يهجر أهله وبلده إلى الأبد ؟
- لماذا لا تسألينه ؟
- هل تحبين أنتِ له هذا ؟
- أنا أحب له كل ما يحب وعلى استعداد أن أفعل كل ما يريد وأن أتبعه حيث يشاء .
- وأنا لا أظن سفركم إلا انفعال غاضب ، وما أظنكم إلا عائدين عما قريب بمجرد أن تهدأ حالته وتستقر نفسه .
- أرجو هذا ، أنا شخصيا لا يهمني البقاء هنا أو هناك ما دمت مع زوجي وأولادي .
ودخلت نادية ومُنى ، وأقبلت نادية على عمتها تصافحها ، فضمتها العمة وقبلتها قائلة : أهلا نادية ، ستوحشينا يا حبيبتي .
ومرت منى بالعمة فهزت رأسها قائلة : بونجور طنط .
وهزت العمة رأسها ومصمصت بشفتيها مستنكرة طريقة منى في التحية ، ونظرت الأُم إلى منى مُؤَنِِّبة وقالت : سلمي على عمتكِ .
- سَلَّمْت .
- سلمي جيدا كما سَلَّمَت نادية .
ومدت منى يدها بنفور إلى عمتها فهزتها العمة قائلة : نحن لسنا قدر المقام يا ست مُنى ، أنت لا تحبيننا لأننا بلدي ؟
- أنا لا أحب من لا يحبني .
- ومن قال أني لا أحبك ؟
- لقد قلتِ عني أني بنت فاسدة .
وضربت العمة بيدها على صدرها قائلة في دهشة : أنا ! ، أنا قلت هذا عنكِ؟ !
- إي ، وقلتِ أيضا أن تربية أمي أفسدتني ، وقلتِ اكفي القدر على فُمَّها .
- أنا قلت هذا ! أعدم عيني .
فالتفتت الأُم إلى مُنى ناهرة وصاحت بها : ما هذا الذي تهذين به ، أمجنونة أنت ؟
وأجابت منى في إصرار : وأنا مالي ، إن كانت قد قالت هذا .
وهزت منى كتفيها واتجهت إلى حجرتها .
واستمرت الأُم تقول معتذرة : لا يضايقكِ كلامها ، إنها بنت مجنونة إنها ..
وقاطعتها العمة قائلة : لا تحدثيني عنها ، إني أعرفها جيدا ، إن نادية هي بنتنا .
وردت نادية معلقة : إن منى طيبة يا عمتي ، إنها تحبكِ ولكن لا تستطيع التحكم بلسانها .
وتبعت نادية مُنى إلى حجرتها وهي تقول لها مُأَنِّبة : ما هذه السخافة التي قلتِها .
وأدارت منى وجهها إلى نادية ونظرت إليها متحدية وهي تقول : ألم تقولي لي أنت ذلك ؟
- طبعا قلتُه ، ولكني لم أتوقع قط أنك تقوليه لها .
- ولماذا ؟ ، ولماذا لا أواجهها به حتى تكف عنه ؟ إن لا أحبها لأنها مخلوقة مُرائية ، إنها تكره أمي رغم ما تحاول أن تظهره لها من المودة .
- يا منى ، نحن لا نستطيع أن نواجه كل الناس بمساوئهم ، يجب أن نتغاضى عنها وإلا تحتم علينا أن نعيش بمعزل عن الناس .
- انتهينا ، سنسافر من الغد ولن نرى لها وجها لعدة سنوات ، هذه إحدى محاسن السفر .
وجذَبَت منى حقيبتها من أسفل الفراش وأخذت تقَلِّب فيها قائلة : لقد نسيت مضرب السكواش في النادي
- وكذلك الشورت .
- الشورت مغسول ومنشور في شرفة حجرة السُفرة .
- مازال هناك الكثير من ملابسي لم أضعها والحقيبة قد اتخِمَت وهي تكاد لا تُغلق .
- لا تحملي هَمّا ، إني أستطيع أن آخذها في حقيبتي فمازال بها متسع .
وجلست منى على حافة الفراش وقد واجهت مرآة التسريحة وأخذت تنظر إلىوجهها وجسدها وهي تخلع حذاءها بطرف أصابع قدميها ، ووضعت يدها على مَعِدَتها وهي تحس بقرصة الجوع ،وصاحت بأُمها في الحجرة الأخرى : الأكل يا ماما جوعانة .
ووصل صوت أُمها من الحجرة الأخرى يجيب : اصبري قليلا حتى يحضر عمكِ سليمان وأبيك وسنأكل كلنا سويا .
وعادت منى تتساءل : ماذا سنأكل ؟
بطاطس .
- فقط ؟
- اذهبي إلى المطبخ وانظري بعينيك ما به ، وكُفّي عن هذا الصياح .
ووثبت منى من مكانها على حافة الفراش واندفعت إلى المطبخ ووقفت على بابه ترقب فاطمة وهي تقطع الطماطم في طبق السلطة وتساءلت قائلة : مذا صنعتِ لنا يا دادا ؟
- صينية بطاطس في الفرن .
- وماذا أيضا ؟
- صينية مكرونة بالبشاميل .
- في الفرن ؟
- أجل
- وماذا أيضا ؟
- صينية قرع عسلي .
- ما شاء الله ، هذا يعني أني لن أتغدىَ اليوم .، إني أكره أكل الفرن .
وأشارت فاطمة إلى فرن البُتِجاز وقد أُغلِق على الصينيات الثلاث وقالت معتذرة : أنت تعرفين أن عمك وعمتك سيتناولان الغداء معنا اليوم وتعرفين أيضا أننا حتى الحادية عشرة كنا مشغولين في ترتيب الحقائب ولم يكن هناك ما ينقذنا سوى الصينيات .
- تقصدين لم يكن هناك ما ينقذكم سوى التصلأة والكَروتة .
- الصينيات ستعجبك يا ست منى وخصوصا صينية المكرونة ، لقد صنعتها ...
- وحياة أبيك لا تتفلسفي ، مهما عملتِ بها فإني لا أحبها ولن آكلها ، ماذا عندكِ أستطيع أن آكله ؟
- عندي مخ ، أأقلي لكِ قطعتين ؟
- أجل .
- حالا ، سأوقد وابور الجاز حتى يسعفني ، لا بركة لي سوى أنت يا ست منى .
وكانت نادية قد وصلت إلى باب المطبخ ووقفت وراء منى تسأل فاطمة : من أخذ السويتر البني من حقيبتي يا دادا ؟
- أخذت ه ماما وأعطته لأُم محمد لتغسله .
- وأين أُم محمد ؟
- في الحجرة الصغيرة تغسل بِدَل بابا .
وتركَت نادية المطبخ وسارت في الدهليز حتى وصلت باب الغرفة الصغيرة التي تعودت الأُسرة تناول الطعام والحلوى فيها ،
وكانت أم محمد الغسالة قد وقفت أمام المنضدة ووضعت أمامها طشتا صغيرا امتلأ بالبانزين ووضعت فيه إحدى بِدَل الأب وأخذت تدعق ياقته بكفيها ، ووضعت نادية أصابعها على طاقتَي أنفها وهتفت بأم محمد : إف ، أنا أكره رائحة البنزين هذه ، لماذا لم ترسلوها إلى المكوجي لينظفها ؟
- لقد عادت من عنده كما هي .
- لماذا لم ترسلوها إلى التنترليه ؟
- ليس هناك وقت يا ست نادية وقد طلبت مني ماما أن أَغْسِلَها وسأنتهي حالا .
- لقد ملأتِ رائحة الحجرة بنزينا وسنأكل الآن .
- حلا يا ست نادية ، دقيقة واحدة .
- لست أدري لماذا لم تغسليها في الحمام ؟
- الحمام مليء بالطشوت والغسيل المعصور .
وأمسكت أم محمد بالجاكتا ورفعتها بين يديها وأخذت في عصرها ، وأقبلت الخادمة الصغيرة عطيات تحمل الشوكات والسكاكين وأخذت ترصها على المنضدة قائلة : عن إذنك يا أم محمد ، نريد أن نجهز الطرَبيزة .
- سأعصر البنطلون وأرفع الطشت حالا .
وعادت عطيات إلى المطبخ لتأتي بالأطباق ، وبدت آثار أقدامها واضحة في الأرض بعد أن ابتلت بقطرات البنزين المتساقطة حول المنضدة من رذاذ عصر الجاكيتا ، وتساءلت نادية عن السويتر قائلة : هل غسلتِ السويتر البُني ؟
- مِن الصُبْح .
- وأين هو ؟
- منشور في الشرفة ولابد أنه قد جف لأن الشمس تضرب بها من الصباح .
ودخلت نادية إلى الشرفة لإحضار السويتر عندما عادت عطيات تحمل الأطباق لرصها على المائدة ، وكانت منى قد عادت إلى حجرتها بعد ثورتها على الصينيات وبعد أن اطمأنت إلى وعد فاطمة بعمل المخ وبعد أن رأت فعلا المخ بعينيها .
ووقفت فاطمة أمام وابور الجاز تدفع فيه بالكباس حتى أخرج بعض الجاز من ثقبه ، وأمسكت علبة الكبريت وأخرجت منها عودا وأوقدته ثم أشعلت به الموقد وقذفت به إلى الأرض ، ولم تحس الدادا بما فعلت ولم تُبصر عود الثقاب وهو يقع على آثار أقدام الخادمة الصغيرة الملوثة بالبنزين ، ولم تشعر بالنار تسري وراءها كالأفوان متتبعة خطوات عطيات ، لم يشعر أحد بذلك التسلل الخاطف ولكنهم أحسوا بالحجرة الصغيرة التي كانت تسطع بها الشمس والتي امتلأ جوها ببخار البنزين قد هبت بها النيران في شدة وعنف حتى بدت الحجرة كأنها كُرة تتأجج بالسعير ، صرخت أم محمد صرخة حادة واندفعت من باب الحجرة وقد أحست بالنار تهب حولها فارتطمت بالخادمة الصغيرة التي كانت تقف مذهولة بباب الحجرة وتعثرت الاثنتان على الأرض وعلا صراخهما ، واندفعت نادية على صوت الصراخ من الشرفة لتواجه اللهب وفوجئت أمامها بسد من النيران يحول بينها وبين الصرخات المتعالية من وراء النيران ، ولم تستطع نادية أن تدرك حقيقة ما حدث ، وبدا لها البيت كله وقد تأججت به النيران ، واندفعت بلا وعي تحاول اجتياز النيران لتنقذ أُمها وأختها وهي تصيح كالمجنونة ، ماما منى ، ولفحها الوهج وأحست بلسعته تلهب وجهها وذراعيها فتراجعت متأوهة ولكنها عادت مرة أخرى تحاول اجتياز النيران وهي تسمع صرخة أُمها الحادة وهي تصيح : نادية .
واندفعت إلى النيران تحاول اجتيازها ومرة أخرى لفح وجهها الوهج وأحست بلسعته أكثر حرقة وأشد إيلاما .
ومن وراء حاجز النيران سمعت صوت أمها تصيح بها في لهفة : نادية أين أنت ؟
وأجابت نادية في صوت مختنق : ماذا حدث لكم أين منى ؟-
لا شيء يا نادية نحن بخير .
- إني أريد أن آتي إليكم .
- قلت لك إننا بخير ، اقفزي إنت من الشرفة .
وترددت نادية برهة ولكنها أحست بلهب من النيران يلفحها وبدا لها كأن جسدها قد احترق ، وسمعت صوت منى يصيح بها من وراء النيران : اقفزي يا نادية من الشرفة ، سألف لآخذكِ ، نحن جميعا بخير ، إن النار لم تتعد الحجرة الصغيرة .
واستدارت نادية مندفعة إلى الشرفة لتجد منى تصيح بها وقد وقفت بجوار أمها المشدوهة وعمتها المولولة : اقفزي يا نادية .
وأحست باللهيب يطاردها وبالدخان يكاد يخنقها وأبصرت وجوه الجيران وقد أطلت من النوافذ تصيح بها : اقفزي .
ووجدت البوابين ولخدم والبواب وقد اندفعوا إلى الحديقة يمدون أيديهم إليها ، ولم تكن المسافة بعيدة فلم تتردد نادية في القفز ولاسيما بعد أن أبصرت أمها وأختها أمامها بعيدتين عن النيران ، وبعد أن أحست بلفح اللهيب يلسع جسدها ، وهبطت نادية إلى الأرض بعد أن تمزق ثوبها الذي اشتبك في حديد الشرفة ، وتلقفتها أمها بين أحضانها وخرت معها راكعة إلى الأرض وقد انهارت أعصابها ووهنت قواها ، وأخذت تتحسس وجهها وجسدها وهي تأن هامسة في بكاء مختنق : نادية حبيبتي ماذا بكِ ؟
وضمت نادية أمها إليها ودموعها تنهمر من مآقيها : لا شيء إني سليمة ، لقد خفت عليكم ، خفت أن يكون الحريق قد أصابكم .
وركعت مُنى في جوارها وأخذت ترقبها في جزع وقد احتقن وجهها وعنقها واحترقت أطراف شعرها ومؤخرة ظفيرتها ، ومدت ساقها اليمنى وقد بدت قدمها متورمة من التواء أصابها عند سقوطها إلى الأرض وهتفت لها مشفقة : لماذا اقتربتِ من النيران يا نادية ، لماذا لم تقفزي من الشرفة بمجرد أن أحسستِ بها ؟
وأجابت نادية باكية : ظننت أن النيران قد أتت على البيت كله وخشيت عليكما أنت وأمي ، الحمد لله الحمد لله .
وكان الناس قد ازدحموا عند البيت واندفعوا إلى الحديقة وكانت النار قد استشرت وسرت من الحجرة إلى المطبخ والممر ، وكانت ألسنة اللهب قد تعالت من النوفذ وأعمدة الدخان الأسود قد أخذت تتصاعد فوق البيت ، وسُمِعَ رنين جرس المطافئ وأعقبه رنين عربة الإسعاف وأخذ الضجيج يتعالى والازدحام يشتد وفي تلك اللحظة أقبلت عربة البكباشي سليمان التي أفسح سائقها الطريق لعربتَي المطافي والإسعاف دون أن يدري سليمان أين تقصد العربتان ، ولم يخطر بباله عندما رأى بوادر الزحام أول الشارع أن شيئا حدث في بيت أخيه ولكنه لم يكد يشق طريقه في الشارع ويبصر أعمدة الدخان المتصاعدة من البيت حتى ندت عنه صرخة دهشة وصاح بالسائق : الله ، أسرِع أسرِع إن الحريق في بيت أخي .
وهبط سليمان من العربة ليجد رجال الإسعاف يحملون نادية داخل العربة ، فاندفع إليها صائحا : نادية ، مالك يا نادية ؟
وأجابت وهي تهز رأسها في استسلام : لا شيء ، الحمد لله لم يُصَب منا أحد .
- وأنت ماذا بكِ ؟
- لا أدري ، أحس أن وجهي مشدود ملتهب .
واندفعت منى إلى أحضان عمها وهي تبكي : عمي سليمان نادية احترقت .
وربت سليمان على ظهرها : نادية لم تحترق إنها بخير .
وكان رجال الإسعاف قد أقبلوا حاملين أم محمد التي أصاب الحريق ساقيها وتعالى صياحها .
وقبل أن تُغلِق عربة الإسعاف بابها قفزت إليها منى وهي تصيح باكية : نادية حبيبتي .
وأقبلت الأُم تنشج وهي تتعثر وأمسك بها سليمان قائلا : تعالي في عربتي سنسير وراءهما .
والتفت إلى أخته زكية قائلا : خذي بالك أنت من البيت وعندما يأتي فاضل أخبريه أننا في مستشفى الدمرداش ، لا تُهَوِّلي عليه الأمر الحكاية بسيطة ، وقولي له إن نادية بها بعض الرضوض .
وجلست الأُم بجواره في العربة وقبل أن يتحرك السائق صاح سليمان بأخته : خذي بالك من فاضل جيدا ، لا تدعيه يُصدَم أنت تعلمين أنه لا يحتمل صدمات ، .
وأجابت العمة وهي تكفكف دمعها : حاضر ، ربنا يُسْتُر .
وانطلقت عربة فاضل وراء عربة الإسعاف ، واندفعت المياه من خرطوم الحريق إلى باب الشرفة الذي تعالت منه النيران ..
12
أُمنية مطرودة
اندفعت عربة الإسعاف تشق طريقها يسبقها رنينها المنذر المتواصل ، وعندما وصلت مستشفى الدمرداش انحرفت يمينا في الشارع الجانبي المفضي إلى باب الاستقبال تتبعها عربة سليمان الذي بدا عليه الوجوم والشرود وهو يربت على كتف الأُم كلما تعالت أنّاتها قائلا : الحمد لله ربنا لَطَف .
وكررت الأُم قوله في لَكْنَتِها الأجنبية : الحمد لله .
وصمتت لحظة ثم عاودها الأنين وهتفت مُنْشِجة :نادية بنْتي .
- إنها بخير ليس بها غير التواء بقدمها والتهاب في وجهها وعنقها ، سيضيع بالمراهم أو الكمادات ، كل شيء سليم إن شاء الله .
واجتازت عربة الإسعاف البوابة الحديدية ووقفت أمام حجرة استقبال الحوادث وهبطا عاملا الإسعاف ليحملا المصابتين إلى الداخل ، واندفعت مُنى وأُمها وسليمان في إثرهما وأُجرِيَت للمصابتين الإسعافات الأولية بالمراهم والضمادات ، ورقدت نادية في النقالة المتحرِكة وقد غطت وجهها الأربطة البِيض فلم يبدو منه سوى عينيها الاللتين بدت منهما نظرة هادئة مستسلمة .
وهمس طبيب الاستقبال الشاب الذي لم يمضِ على تخرجه أكثر بضعة أشهر : أعتقد أنه لابد من إجراء عملية لقص جلد الوجه .
وجزع سليمان من قول الطبيب إذ لم يخطر بباله من منظر وجه نادية أن الإصابة تستدعي شيئا من هذا ، لقد بدا له أن ما بالوجه مجرد احتقان لا يحتاج أكثر من مرْهَم مهدئ .
ورد على الطبيب متسائلا : أترى هذا ضروريا ؟
- إذا كنتم حريصين على أن لا يشوه الحريق وجهها .
وأحس سليمان أن شيئا يلتوي في باطنه وهو يحاول ألا يبدو جزعه على قسمات وجهه .
- طبعا طبعا ، لا نريد أن يمسها أي سوء ، افعل كل شيء أرجوك .
- لستُ أنا الذي سيفعل سأسأل لك مَنْ مِن الجراحين هنا ، أظن أن الدكتور مدحت لم يغادر المستشفى بعد فقد كان مشغولا في إحدى العمليات انتظر لحظة سأسأل لك عنه .
وكان سليمان والطبيب يقفان بجوار النافذة بعيدا عن نادية الراقدة باستسلام على النقالة ، وكان الحديث يدور بين الاثنين بصوت خفيض لم يبلغ مسامع نادية أو منى أو أمهما ، ولم تكن واحدة يدور بخلدها أن المسألة ستحتاج إلى عملية ، وكانت الأُم تقف بجوار ابنتها وقد أمسكت بيدها وكأنما تنتظر أوامر الطبيب بالعودة إلى البيت .
واتجه الطبيب إلى التليفون الموضوع على منضدة في ركن الحجرة ورفع السماعة قائلا : ألو محمود أنا حلمي اعطني الجراحة .
وبعد لحظة أجابه العامل : الجراحة معك .
وتساءل الدكتور حلمي قائلا : مَن ، اسمع يا عباس مَنْ مِنْ الأطباء موجود عندك ؟ الدكتور مدحت في حجرة العمليات مُتَشَكِر .
ووضع حلمي السماعة والتفت إلى سليمان قائلا : الدكتور مدحت موجود في غرفة العمليات أظننا نستطيع اصطياده بعد العملية .
وأثارت كلمة العمليات في الجو نذير خطر ، وأحست الأُم أن ساقيها لم تعودا قادرتين على حِمْلِها وتشبثت بقائم النقالة حتى لا تقع .
وتساءلت منى وقد فغرت فاها وبدا الجزع في عينيها : ماذا هناك يا أُنْكِل سليمان ؟ لماذا تريدون الدكتور مدحت ؟
أما نادية فلم يَعْلق بذهنها شيء من كل ما قيل غير لفظين هما ، الدكتور مدحت ، لقد بدد اسمه سحابة الاستسلام التي خيمت عليها منذ بداية الحادث وأحست بأعصابها تشتد وحواسها تُرهَف ولم يعد في جفنيها ذلك التثاقل الذي كان يطْبقهما .
- الدكتور مدحت موجود ؟
أجل ، هذا محتمل جدا أليس هذا مستشفى الدمرداش الذي يعمل به ، إن ذلك لم يطف بذهنها قط منذ أن أقبلت على المستشفى ، إن الصدمة لم تترك لها فرصة التفكير بهذه الحقيقة ومع ذلك فقد برزت أمامها فجأة لِتُنْبِئها أنه موجود وأنه يُحتَمَل أن يُقْبِل عليها بين لحظة وأخرى ليفعل بها شيئا تُحَتِّمه إصابتها ، ولم تفكر في طبيعة ذلك الشيء الذي يمكن أن يقوم لها به ولا في مدى خطورة الإصابة التي حتمت استدعاءه ، وإنما فكرت في الكائن ذاته وفي خطورة إقباله عليها وتوليه أمرها ، تلك أمنية طالما طافت بذهنها فقد كانت طريقها الوحيد إليه ، كانت بهدوئها وانطوائها وعزلتها لا تجد في أحلامها طريقا إليه سوى المرض والرقاد ، كانت لا تجسر الاقتراب منه إلا كمريضة يجس نبضها ويتحسس جبينها ويجلس إذا أمكن على طرف فراشها يحادثها في رقة وينظر إليها في حنان ، ورقدتها في النقالة بحاجة إلى إسعافه وهو على بُعد خطوات منها وكل من حولها في انتظار معونته ، لقد باتت الأمنية على وشك التحقيق ورغم ذلك لم تحس لها الفرحة المنتظرة ، لم يصفق قلبها لاستقباله كما صفق في الأوهام ، لقد كان به شيء يُثْقِلُه ، لم تكن الصورة مطابقة لما رسمته في أوهامها ، لم يكن هناك من شبه بها من قريب أو بعيد ، كانت تتخيل المكان مليئا بالزهور ، وكانت تتصور السماء من خلف النافذة الزجاجية زرقاء صافية تتحرك فيها الأوراق الخُضْر وتزقزق العصافير ، كانت تتخيل نفسها على فراش أبيض نظيف وقد أخفت الأغطية البِيض ساقيها وبدا نصفها الأعلى في ثوبها اللَّبَني وقد أسندت رأسها إلى الوسادة وبدا وجهها نظيفا يحيط به شعرها الذهبي المسدل على كتفيها ، والحجرة البيضاء النظيفة قد خلت إلا منه وزهور الزنبق والداليا وهمساته الحلوة الحنون لا يقطعها سوى صوصوة العصافير المتواثبة خارج النافذة على الفروع الخُضْر ، تلك هي صورة أوهامها كما رسمتها في دقة وإتقان وكما منحتها من ألوانها الزاهية وأنطقتها بأصواتها السعيدة ، وذلك هو الطريق كما خَطَّتْه أحلامها ، تحيطه الزهور وتتواثب به العصافير ، فأين هي من واقعها الأليم المريض في رقدتها على النقالة وأصوات المرضى الواردين على الاستقبال وسُباب الممرضين وحدة الأطباء ، أين من زهور أحلامها قطع القطن الملوثة بالدماء والمِكْركروم التي كُوِمَت في ركن الحجرة وعلاها الذباب المتواثب على أسفل الجدران السود ، وهي بقميصها الممزق الملوث بِطين الحديقة وهباب الحريق ووجهها الذي غطاه المَرْهم وحجبته الضمادات والطنين الذي يملأ رأسها والصراخ الذي يجري في مسامعها ، أتلك هي صورة أحلامها ؟ ،أذلك هو طريقها الذي طالما سلكته إليه في أوهامها ؟ ماذا ممكن أن يرى منها أكثر من كتلة ضمادات وأتربة وهباب وثياب ممزقة ؟
وعندما يرفع تلك الضمادات ماذا ممكن أن يواجهه منها ؟ ابتسامة عذبة تكشف عن أسنانها المُنَضَّدة البِيض وعينين ضاحكتين تبرقان في بشرتها الصافية ، وأحست بِرَجْفة تسري في جسدها وهي تساؤل نفسها في جزع : ماذا يمكن أن يجد في وجهها ؟ كيف أصبح وجهها بعد الحريق ؟ إنها لم تشعر بأكثر من التهاب شد جلده بعد أن لسعه وهج الحريق ، ولكن يمكن أن تكون اللسعة قد تركته على حاله ؟
لماذا إذن يطلبون عونه إذا لم يكن أصابها شيء ؟
ومرة ثانية أحست بالرجفة تشتد وأطبقت على أسنانها حتى تمنع صرخة كادت تنطلق من شفتيها ، أيمكن أن يكون الحريق قد شوه وجهها ؟ وأن يكون القدر قد فتح لها الطريق إلى مدحت لكي تواجهه لأول مرة بوجه مشوه ؟ أبعد طول التمني يُلقي لها القدر بأمنيتها فتجزع من مواجهتها ؟
إنها تجزع من أن يُقْبل عليها مدحت وهي في رقدتها تلك لينزع الضمادات ويُبصر وجهها المشوه المحترق ، ليتهم لا يستدعونه ، ليتهم يعيدونها إلى البيت لتختبئ في حجرتها .
وأحست نادية بعربة النقالة تُدفَع بها وتوالت على ناظريها أسقف الممرات الضيقة وسمعت وقع الأقدام تهرول وراءها ، ثم أحست بالعربة تُدفع في المصعد ، وبدا لها المصعد بجدرانه الحديدية ونافذته ذات القضبان المتقاطعة أشبه بسجن ، وتَمَنَّت لو استطاعت أن تصيح بهم متوسلة أن يطلقوا سراحها ويعيدوها إلى البيت ، وسمعت صوت الطبيب يقول للممرض الذي يدفع العربة حجرة 75 .
وعادت العربة تسير بها مرة أخرى في ممرات المستشفى حتى توقفت أمام الحجرة وفُتِحَ الباب ودُفِع بالعربة إلى داخل الحجرة حتى حاذت الفراش الذي توسطها وأحست نادية بسليمان ينحني عليها ثم يرفعها بين ذراعيه ليضعها على الفراش ، ثم سمعت صوت نشيج أُمها وأبصرت وجه منى ينظر إليها في إشفاق وجزع وقد ملأت الدموع عينيه ، ولم يُرَوِّعْها ذلك الجزع بقد ما رَوَّعها صوت الطبيب وهو يقول لسليمان : سأذهب لأرى الدكتور مدحت لعله انتهى من عمليته .
وسمعت سليمان يرد عليه وهو يتبعه قائلا : آسفين لما سببناه لك من إزعاج .
- لا إزعاج هناك ، كل ما أرجوه أن أعثر لكم على الدكتور مدحت حتى لا يترك الحريق أثرا على وجهها .
وسار الطبيب الشاب في الّطُرْقة متجها إلى غرفة العمليات ، وعاد سليمان إلى الحجرة وهو يحاول أن يكسو وجهه بابتسامة يمنح بها من حوله بعض الطمأنينة .
ونهضت الأم تواجهه باكية متلهفة :
- ماذا قال ؟
- لا شيء ، لا داعي لكل هذا الانزعاج ، إن المسألة بسيطة جدا .
ونظرت إليه منى نظرة متسائلة في تحدي :
- ولماذا يريدون إحضار الدكتور مدحت إنه جراح ؟
وهز سليمان كتفيه محاولا التخفيف من اأمر الإصابة قائلا : من المستحسن أن يكشف على جلد الوجه ، من باب الطمأنينة إنها مسألة في غاية البساطة .
ولم يستطع أن يقنع أحدا بكلامه حتى هو نفسه .
كان الجزع يملأ القلوب الأربعة ، الثلاثة المتحركون في قلق والرابعة الراقدة في استسلام ظاهر وجوفها يغلي بشتى الانفعالات .
لقد كانت أمنيتها الدائمة أن ترى مدحت ، فباتت أمنيتها الوحيدة ألا تراه .
وكان الدكتور حلمي قد بلغ باب حجرة العمليات وأبصر الباب يُفتَح على مصراعيه ومدحت يخرج منه بقامته الطويلة ومريلته البيضاء وقد بدا وجهه متجهما والعرق يتصبب من جبينه وسار بخطوات متثاقلة تُنْبِئ عما به من كَلال وإرهاق .
واقترب منه حلمي محييا وهو يقول : دكتور مدحت .
- نعم .
وتردد حلمي برهة قبل أن يعاود النطق ، كان يحس بحالة مدحت المرهقة ، وكان يعرف استهتار مدحت بمثل هذه العمليات وضيقه بها ، وكان يعرف ردوده القاسية ، ولكن خوفه على الفتاة الرقيقة الشقراء وإشفاقه من أن يشوه الحريق وجهها جعله يصر على الاستنجاد به .
فقال في شبه استعطاف : هناك حالة عاجلة .
ونظر إليه مدحت في غيظ قائلا : لقد مضت علي ثلاث ساعات في غرفة العمليات ، إني لا أكاد أقف على قدَمَي .
- إنها حالة مهمة .
- ما هي ؟
- فتاة قد احترق وجهها ويُخْشى أن يُشَوَّه .
ونظر إليه مدحت في غيظ قائلا : ليُشَوَّه يا أخي وأنا مالي ؟
- لا يوجد جرّاح غيرك في المستشفى .
- لقد عملت 4 عمليات ، اذهب إلى احد العطلين الذين يلعبون الشطرنج ، ليس لدي وقت لمثل هذه العمليات التافهة .
- ولكنك ستنقذ بها حياة إنسانة مسكينة يوشك أن يُشَوَّه وجهها .
- أنا لست طبيب تجميل .
- لكنك تستطيع أن تُنقذها ، إنها فتاة صغيرة جميلة وحرام أن يُقضى على مستقبلها .
وتوقف مدحت ونظر إليه وأصداغه تلعب وقال في نوع من الاستسلام : أين هي ؟
- في حجرة 75 ، سأدلك عليها .
- مالك مهتم بها كل هذا الاهتمام ، أتعرفها ؟
- أبدا ، رأيتها الآن فقط في الاستقبال وأجريت لها الاسعافات الأولية .
وتقدم حلمي يسبق مدحت إلى الحجرة التي استقرت بها نادية ودفع الباب ليفسح له الطريق .
اقترب مدحت من الفراش بملامحه الصارمة التي بدا عليها الإرهاق ومد كفه الضخم فأمسك برسغ نادية يجس نبضها وهو ينظر في ساعته ،وخيل إلى نادية أن قلبها قد تعالت دقاته حتى أوشك أن يقفز من بين ضلوعها ، وتلاحقت أنفاسها وأحست أن المرئيات أمامها قد بدأت تطول وتتشابك وترك مدحت كفها بغير اكتراث ، ولم تصدر من شفتيه لفظة أكثر من حرفين لم يعرف أحد ماذا يعني بهما وهما : ها .
ونظر في امتعاض في كل من حوله وقال لحلمي : فك الرباط .
وأمسكت نادية بحديد الفراش وهي تحس بشيء يُثقل جوفها ويسد حلقها وكادت تصيح به : لا أريد شيئا من أحد ، اذهبوا بي إلى البيت ، لا تكشفوا وجهي .
وتقدم حلمي ومد يديه إلى الضمادات التي غطت وجه نادية وهمَّ بفكها عندما فُتِح باب الحجرة فجأة وأطل منه أحد الممرضين ثم قال لشخص يقف خارج الباب : أجل إنه هنا .
واختفى وجه الممرض واندفع بدله وجه آخر يهتف بمدحت : دكتور مدحت المريض المصاب بمَعِدَته قد حدث له نزيف .
وبدا الضيق على وجه مدحت ونفخ نفخة انزعاج من أنفه وقال وكأنه يحدث نفسه : حاجة تِأْرِف .
وكان حلمي قد توقف عن فك الأربطة ، وانتقلت عينا مدحت بين حلمي والطارق الجديد وأخيرا قال له : سآتي حالا ..
وبدا الامتعاض على وجه حلمي وبقية الواقفين ، وقبل أن ينسحب الطارق قال له مدحت : اسمع يا عبد الوهاب ابقَ هنا وسأذهب أنا إلى هناك .
وأشار إلى نادية في غير اكتراث قائلا : افحص وجهها وإذا وجدت الحالة تحتاج إلى عملية قص جلد فقم بها .
وتحرك مدحت إلى الخارج بوجهه المتجهم وملامحه الممتعضة وأقبل الدكتور عبد الوهاب على نادية وهو يهز رأسه متسائلا : أَريني وجهكِ ، لا تخشي شيئا .
وبدأ حلمي يفك الضمادات وأحست نادية وهي ترى كتفَي مدحت العريضتين تختفيان وراء البابوشبحه يغيب عن عينيها كأن حِمْلا ثقيلا قد انزاح عن كاهلها ..
12
يوم أغبر
فك الدكتور حلمي الضمادات التي أحاطت بوجه نادية ، وأخذ الدكتور عبد الوهاب يفحصه وكان الجلد قد بدا مشدودا منتفخا والشفتان متورمتان وفقاقيع بيض مليئة بالمياه قد تناثرت في الخدين والجبين جعلت الجلد يبدو أشبه بورقة السَكائر أو البالون وكان لون الوجه محتقنا عدا جزء من جانب العنق أسفل الأذن اليمنى يمتد حتى الذقن قد بدا أسود كأنما لفحته هَبَّةُ دخان ، ولم يططل فحص الدكتور عبد الوهاب حتى هز رأسه قائلا : بسيطة ، احضروها إلى حجرة العمليات .
وانهارت الأُم متهاوية على أحد المقاعد وأجهشت بالبكاء ، ولم تستطع منى أن تطيل النظر إلى وجه نادية المحتقن المنتفخ بل أدارت عنقها ودفنت وجهها بين كفيها تحاول أن تكتم صيحات الجزع وأَنّات الألم .
وحاول سليمان أن يتمسك بأطراف الشجاعة والجلد فنظر إلى الأُم وابنتها وقال ناهرا : وبعدين ، أُلْنالْكم إن المسألة بسيطة ، هذا لا يصح عيب ، .
ثم هرول وراء الدكتور عبد الوهاب إلى الممر يسأله في لهفة : ماذا بها يا دكتور ؟
وتوقف الدكتور عبد الوهاب وأجابه في لهجة مُطَمْئِنة : الوجه ليس به ما يبعث على القلق .
- لكنه يبدو منتفخا مُبَقَعا .
- لا يهم إن ما به حرق من الدرجة الأولى وسأنزع عنه هذه الجلدة الرقيقة البيضاء التي كونتها الفقاقيع حتى تظهر له جلدة جديدة وحتى لا تبدو في وجهها رقع مشوهة .
- هل سيؤْلمها هذا ، هل سَتُبَنِّجُها ؟
- أبدا ، لا ضرورة البتة ، لن تتألم كثيرا .
- وهل سيعود وجهها كما كان ؟
- وجهها أجل ، أما عنقها فأعتقد أن الحريق لابد أن يترك به أثرا ، لقد مسته النار مسا مباشرا فأصابته بحرق من الدرجة الثانية ، على أية حال يجب أن نحمد الله أن النار لم تُصِبْها بحرق من الدرجة الثالثة كان من الممكن أن يقضي على حياتها .
ولم يستطع سليمان أن يقاوم تجلده وتماسكه فعض على شفته السفلى محاولا كبت دمعة في مقلتيه واختلجت طاقتا أنفه وطرفا شفتيه .
وأحس الطبيب بانفعاله فربت على ذراعه وقال مُطَمْئِنا :لا داعي للجزع ، إن المسألة خفيفة بسيطة وسأبذل كل جهدي لكي لا تترك أثر في وجهها .
- مُتَشَكِر يا دكتور ، مُتَشَكِر جدا .
وبعد لحظة كانت النقالة تسير بنادية مرة أخرى متجهة إلى حجرة العمليات وقد غُطِيَ وجهها بالضمادات ، وظلت عينيها تحملقان في سقف الطُرْقة باستسلام وقد ملأ قلبها شعور بالخوف والجزع واليأس وهي تحس من حولها نُذُر الخطر .
واجتازت النقالة غرفة العمليات وشعور الخوف يزداد بنادية وسليمان بجوارها محاولا الابتسام وهو يقول : بسيطة يا نادية ، الدكتور يقول بإنها عملية أشبه بقص الأظافر ، إنه يقول أنها عملية تجميلية ستخرجين منها بوجه رائع سيزول النمش الذي به .
ولم تستطع نادية أن تلتقط شيئا من كلماته المُطَمْئِنة ، كانت في حالة من الذهول جعلتها لا تكاد تحِس إلا بالمنْظر المخيف المحيط بها ، منْظر المناضد البِيض والمشارط والمقصات والمصابيح المشعة المطلة عليها من السقف كأنها أفواه مُكَشِّرة ، ومرة أخرى أزيلت الضمادات عن وجهها وداخَلها إحساس جديد إضافة إلى أحاسيس الجزع والخوف واليأس وهو الإحساس ببشاعة منْظرها وهي لا تستطيع أن تحرك شفتيها المتورمتين المُطْبقتين ، وتمنت لو انتهى الطبيب من عمله حتى يعيد ستر وجهها وإخفاءه من العيون المتطلِعة ، وكانت تحس برجفة كلما سمعت وقع أقدام مقبلة خشية أن يكون مدحت قد انتهى من مريضه وعاد ليجري لها العملية .
وبدأ الدكتور عبد الوهاب العملية ولم تكن بالعملية السهلة فقد كانت أشبه بعملية السلخ أزال بها طبقة الجلد التي أحرقها الوهج والتي انفصلت عن الجلد في بعض المواضع في صورة فقاقيع امتلأت بالمياه وانزلقت عنها في مواضع أُخَر كما ينزلق طبع الأطفال عن ورقته ، واستسلمت نادية لمبضع الجرّاح يسري في وجهها بلا مخدر إلا تخدير الصدمة المفاجئة التي تركتها ذاهلة مأخوذة مُرَوَّعة .
وانتهت العملية بعد أن أزيل جلد الوجه كله وغطى الطبيب الوجه بالمرهم وامتد به حتى جزء العنق الذي أصابه اللهب والذي قال عنه إنه يخشى أن يظل به أثر الحريق ، ثم أحاط الوجه والعنق بالضمادات وألسقها بالبلاستر .
وتنفس الطبيب الصعداء وارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة وهو ينظر إلى نادية قائلا : انتهينا يا أمورة .
وحاولت نادية أن تحرك شفتيها لترد شاكرة ولكن النطق تعذر عليها .
فربت الطبيب على يدها قائلا : لا داعي للكلام ، ستتناولين الطعام سائلا لبضعة أيام حتى يخف الورم ويعود وجهكِ كما كان .
وابتسم الطبيب وهو يردف قائلا : وأجمل مما كان .
ومرة أخرى عادت النقالة تشق طريقها بنادية إلى الحجرة وقد أخذت الأُم ومُنى تهرولان وراءها في لهفة وجزع .
وقال الطبيب لسليمان وهو يغادر غرفة العمليات : اطمئِن جدا لا شيء سيصيب الوجه كما قلت لك .
- والعنق ؟
- لا أستطيع أن أجزم ، قد تبقى به بعض الآثار ولكنها على أية حال بعيدة عن الوجه ، الحمد لله أن الوجه لم يصبه الحريق مباشرة .
- الحمد لله ، وماذا ستفعل لها بعد ذلك ؟
- لا شيء ، غِيار بعد 4 أيام وغِيار آخر ثم نزيل الضمادات ويعود الوجه إلى حالته على ألا يُعَرَّض للشمس والهواء إلا بعد بضعة أسابيع .
- هل ستبقى هنا هذه المدة ؟
- أبدا ، لا ضرورة البتة يمكنها أن تعود إلى البيت إذا أردتم وفي موعد الغِيار أحضِرْها لي أو أذهب إليها أنا .
- مُتَشَكِر يا دكتور ، لا ضرورة لأن تتعب نفسك سأُحضِرُها إليك في الموعد الذي تحدده ، إني عاجز عن شكرك لست أدري ماذا كنا فعلنا لولا وجودك ومروءتك .
وودع سليمان الطبيب وعاد إلى الغرفة فوجد مُنى والأُم قد أحاطتا بنادية وقد خيم عليهما صمت الكآبة ووجوم الحزن والفجيعة ، وقد بدت نادية مُغمِضة عينيها وكأنها في سُبات أو غيبوبة ، ولم يجد سليمان صعوبة هذه المرة في تكلف الشجاعة والجلد فقد كان يحس في نفسه بنوع من الطمأنينة على نادية أدخلها في نفسه حديث الطبيب وطمأَنته وربت سليمنا كتف الأُم مستضحكا وهو يقول : لا داعي أبدا للحزن إنها سليمة ليس بها شيء وسيعود وجهها كما كان بل لقد قال الطبيب وأجمل مما كان .
ثم نظر إلى مُنى التي بدت في عينيها آثار الدموع وأردف قائلا : وأنتِ يا مُنى كُفي عن هذا الوجوم ، إنها عملية تجميل لا أكثر ولا أقل ، وعندما تصحو نادية وتعجبكِ العملية فلا بأس من أن نجري لكِ مثلها لإزالة هذا النمش الذي يبدو في أنفك .
ونظر سليمان إلى الساعة وقد قاربت الخامسة وتلفت حوله في قلق قائلا : ألم يأتِ فاضل ؟
وأجابت الأُم وكأنما تذكرت زوجها وأقلقها عدم مجيئه حتى هذا الوقت : لا لم يأتِ
- عجيبة ، ولا سأل في التليفون ؟
وهزت الأُم رأسها بالنفي .
وعاد سليمان يتساءل : وما الذي أَخَّره ؟ لعله لم يعرف .
فأجابت منى : غير معقول ، إذا كان عاد إلى البيت فلابد أن يعرف ، أتظن أن كل هذا الحريق والضجيج الذي حدث يخفى عليه .
وأردفت الأم قائلة وقد بدا عليها الشرود والجزع : والمفروض أنه قد عاد ليتناول الغداء كعادته .
حاول سليمان رغم قلقه أن يبعث الطمأنينة كعادته في نفوسهن فقال في ثقة : لابد أن شيئا ما قد شغله ، إن هناك بعض أوراق السفر لم يتم استخراجها بعد فلابد أنها أَخرتْه .
ولم يستطع حديثه المُطَمْئِن أن يزيل القلق من نفس الأُم التي عاودت التساؤل : إنه لم يعتد التأخر أبدا ، تُرى ماذا حدث ؟
وعاد سليمان يرد محاولا إسكات قلقها الذي بدأ يثير في نفسه القلق : لا شيء ، لا شيء مطلقا ، قد يكون مشغولا بما حدث في البيت .
- غير معقول أن يكون مشغول بالبيت عنا ، غير معقول أبدا .
ووجد سليمنا أن عذره غير معقول فعلا ، وصمت برهة ثم قال : على أية حال سأعود الآن إلى البيت .
وتساءلت مُنى : ونحنُ ؟
- لقد قال الطبيب إن نادية تستطيع العودة الآن إلى البيت ولكني أعتقد أن الأفضل أن تبقى في المستشفى بضعة أيام حتى تتحسن قليلا وحتى يعمل لها الغِيار الأول .
وفتحت نادية عينيها لأول مرة خلال المناقشة وهزت رأسها في ضيق وبدت كأنها لا تود البقاء في المستشفى .
وتساءل سليمان قائلا : لماذا يا نادية لا تريدين البقاء في المستشفى ؟ إنه أفضل كثيرا من البيت .
وعادت نادية تهز رأسها في إصرار ، لقد كانت تريد الفرار خشية أن يعود مدحت ليراها ، إن الصدفة وحدها أنقذتها عندما أتى الممرض يخبره أن مريضه قد نزف ، فماذا ينقذها إذا عاد مرة أخرى ليراها ؟ لا ، لا ، يجب أن تغادر المستشفى في أقرب فرصة ، ومادام الطبيب قال أنها تستطيع أن تغادره الآن فماذا يُبْقيها ؟
وقالت الأُم وهي ترى رفض نادية البقاء : إذا كان الطبيب لا يرى ضرورة لبقائها فلماذا لا نعود كلنا الآن ؟
أجاب سليمان في ضيق ودهشة : كيف نعود بها الآن ، هل نعرف ماذا حدث بالبيت ؟
وفغرت الأُم فاها وصاحت في جزع : ماذا حدث ، هل احتَرَق ، وفاضل ؟
- لا أقصد هذا ، لقد تركنا به رجال المطافئ وقد أوشكوا على إخماد الحريق .
- ومن يدريك ؟
- لأنه لم يتعد الحجرة الصغيرة ، وأنا لم أقصد أننا لن نستطيع العودة إلى البيت لأنه احترق بل لأننا لابد أن نجد هناك ضجيجا وازحاما ، ثم أنه ليس من المستحب أن نعود بها إلى نفس المكان الذي حدثت فيه الحادثة ، إن ذلك يؤثر على نفسيتها تأثيرا سيئا .
وعادت نادية تهز رأسها في ضيق .
فقالت الأُم : ولكنها تريد العودة .
- وأنا أنصح بعدم العودة ، إن من رأيي أن تبقى هنا ولو هذه الليلة فقط حتى يستقر الحال في البيت ، لا داعيأبدا لإعادتها ومنْظر الحادث وآثار الحريق لم تُمْحَ بعد .
- إذن سأبقى أنا معها .
وأردفت منى قائلة : وأنا أيضا .
وأجاب سليمان : كما تشائان ، سأعود أنا الآن إلى البيت لأرى فاضل وأرى ماذا تم في البيت ثم أعود إلى هنا .
قالت الأُم : حَدِّثْني في التليفون بمجرد وصولك وطمْئِني على فاضل ، أخشى أن يكون قد أصابه مكروه .
وأحس سليمان بِرجْفة ولكنه عاد يقاوم قلقه قائلا : يا شيخة لا بد أنه تناول الغداء مع أحد أصدقائه ، وعندما أعود سألقاه وأُطمْئِنه وأعود به إليكم .
ونظر سليمان إلى نادية وربت على يدها في حنان قائلا : سأذهب الآن ، هل تريدين شيئا من البيت ؟
وأجابت الأُم : غِيار لنادية ، دع فاطمة تحضره لك ، وإذا أمكن ثوب لي وآخر لِمُنى .
- حاضر ، لن أتأخر عليكم .
وهبط سليمان إلى الطريق ليعود بعربته إلى البيت ، وفي العربة أحس كأنه قد ترك كل جَلَدَه وشجاعته بجوار الأُم وابنتها في حجرة المستشفى ، وحل به التعب الذي حاول جهده أن يشد أعصابه ويحشد قواه لمقاومته ، وبدأت الوساوس تَنْفُذ إلى رأسه : لماذا لم يأتِ فاضل ، لماذا لم يسأل عن ابنته ولو في التليفون ، أتُرى قد أصابته الصدمة بنوبة بنوبة جديدة من نوبات الذبحة ؟ ربنا يُستُر ، ليته قد يكون دُعِيَ حقا إلى الغداء مع أحد أصحابه وليته لا يعود حتى يعود هو ليلقاه ويخفف عليه وقع الحادث ، إن هذا يوم أغبر مشؤوم ، تُرى بمن اصطبح بأي وجه منحوس ؟ وتذكر نادية الطيبة الجميلة جالسة في ارتياح أسفل الشرفة وقد أحاطت بها أُمها وأختها وتذكرها راقدة في يأس واستسلام على فراشها وقد غطت وجهها الضمادات ولم يبد منها سوى عينيها وشفتيها ، وتذكر وجهها المحتقن المسلوخ وسأل نفسه : أحقا سيعود كما كان ؟ ؟
وبدأ الشك يداخل نفسه وعاودته الرغبة في البكاء من أجل الصبية المسكينة ، كيف تعيش بوجه مشوه محروق ؟ ولكن الطبيب قد طَمْأَنه ، لقد قال إنه سيعود كما كان وإلا فلماذا أجرى عملية القص التي أجراها ، لا لا ، إنها ستشفى وتعود كما كانت ، إنها مخلوقة طيبة رقيقة والله لا يمكن أن يُنزِل بها هذا العقاب ، ودارت عجلة القيادة بعد أن كاد يصطدم بعربة واقفة على جانب الطريق ، ومرة أخرى أحس بِرجْفة ، هذا اليوم يأبى أن يمر على خير ، ليته فقط يجد فاضل سليما ، وانحرف بالعربة من الطريق الرئيسي في شارع الخليفة المأمون إلى الشارع الفرعي الذي يؤدي إلى البيت ، وبدا له الطريق خاليا ، لقد انفض الحشد الذي ازدحم فيه في الظهيرة ولم يعد هناك أثر لعربة المطافئ ولا بدت ممن البيت ألسنة لهب أو أعمدة دخان كان كل شيء يوحي بالهدوء والسكينة كأن لم يكن هناك حريق منذ بضع ساعات ، وبدا له باب البيت عندما بلغ منتصف الطريق ، لم يكن هناك شيء يوحي بشر أو يُنذر بخطر ، لا شيء أبدا إلا عربة فيات صغيرة سوداء تقف أمام البيت ، تُرى عربة مَنْ ؟
لعله صاحب فاضل الذي دعاه للغداء قد عاد به إلى البيت .
ووقف سليمان جوار العربة وفجأة تذكر وأحس بشيء ثقيل يُطْبِق على أنفاسه ويُفري مَعِدَته ، إنها عربة الدكتور شَفْعي الدكتور الذي أشرف على علاج فاضل عندما أصابته الذبحة الأولى ، واندفع سليمان يقفز السُّلم وهو يلهث : يا رب رحمتك ، يا رب رفقا بهم جميعا .
ولم يكن الباب مغلقا فدفعه سليمان ليجد فاطمة الدادا تقف على باب القاعة وقد بدا عليها الوجوم ، ولم تكد تراه حتى اندفعت إليه باكية كالأطفال وهي تصيح : سيدي سليمان أين ستي نادية ، كيف حالها ؟
ولم يجب سليمان ، ووقف في منتصف القاعة يدور بعينيه في الأبواب وتساءل في لهفة : أين فاضل ؟
وعادت فاطمة تبكي وأشارت له إلى باب حجرة المكتب قائلة : إنه يرقد هنا ، إن عنده الدكتور والست زكية .
ودلف سليمان من باب الحجرة ليجد أخاه راقدا على الأريكة التي تعود النوم عليها وقد بدا شاحب الوجه مغمض العينين وأخذ يحرك رأسه يمنة ويسرى في ضيق وملل .
وهتف سليمان بأخته قائلا : ماذا به ، ماذا أصابه ؟
وأجابت زكية بصوت مختنق وهي تقاوم انفجار البكاء : لم يكد يعلم بالحادث الذي أصاب نادية حتى أصابته النوبة ، وتلاحقت أنفاسه وصرخ وهو يحس أن شيئا يتمزق في صدره وأرقدناه على الأريكة وأسرعنا في طلب الدكتور ، ومنذ ذاك الوقت وهو على حاله تلك .
ونظر سليمان إلى الدكتور متسائلا في جزع : كيف حاله يا دكتور ؟
- ربنا يُسَلِّم ، لقد أعطيته إبرة منذ أن حضرت وأرجو أن تمر بنا ال24 ساعة القادمة على خير .
- هل هناك خطورة ؟
- إن الضغط منخفض قليلا ولكن الله يُسَلِّم .
وفتح فاضل عينيه ولم يقع بصره يقع على سليمان حتى همَّ بالنهوض ، لكن الدكتور أمسك به قائلا : وبعدين ، لقد قلنا أنك يجب أن تستريح ، إن حياتك متوقفة على عدم الحركة والانفعال .
تكلم فاضل قائلا في صوت خافت : كيف حالهم ، كيف حال نادية ؟
- الحمد لله بخير .
- أين هم ؟
- في مستشفى الدمرداش .
- لماذا ؟
وتدخل الدكتور قائلا : قلنا لا داعي هناك للكلام .
وأجاب سليمان : صَدِّقْني إنهم بخير ، إن نادية قد لسع الوهج وجهها وقد وضع لها الدكتور مرهما وكان يجب أن أحضرهم الآن معي ولكني كرهت أن أواجهها بمَنْظر الحريق ثانية وفضلت أن تبقى هناك هذه الليلة وقد ...
وقبل أن يتم حديثه دق جرس التليفون في القاعة وأحس سليمان بمن المتحدث فأسرع إلى القاعة وخطف السماعة من يد فاطمة قبل أن تجيب ، ووصل إليه صوت الأُم يتساءل : سليمان أين فاضل ؟
- فاضل إنه ، إنه ، لقد أصابه تعب بسيط .
وقبل أن يتم حديثه سمع صرخة في السماعة ثم أُقفِل الخط .
ووضع سليمان السماعة ووقف حائرا وقد بدت عليه إمارات الضيق والجزع ، إن خير ما يفعله هو أن يسرع إلى المستشفى ليحضرهم جميعا فلعل وجودهم في البيت بجوار بعضهم يكون على ما فيه من إزعاج أقدر على منحهم نوعا نسبيا من الطُمأنينة ..
13
وجه غريب
مرت بضعة أيام بعد ذلك اليوم الأغبر المشؤوم والبيت بمريضيه كأنه المستشفى ، الأب راقد على الأريكة في حجرة مكتبه يتململ في ضيق وبجواره الإسطوانة الحديدية الطويلة الذي امتد منها الخرطوم ذو القناع الذي يُمد المريض بالأوكسجين كلما ضاق نَفَسه ، وفوق المكتب اختلطت زجاجات الأدوية بالكتب وبالرُشتات ، وأمام الأريكة جلست الأم على مقعد صغير ترقب المريض في جزع وقد علق بصرها برأسه القلق وأنفاسه المضطربة .
وفي حجرة أخرى رقدت نادية على فراشها ، وقد غطت الضمادات وجهها ووبدا من خلالها طرف أنفها وقد أصابه احمرار الجلد المقشور وذهب الورم من شفتيها فلم تعد عاجزة عن النطق أو تناول الطعام ، ولم يكن هناك ما يؤلمها سوى الجزء الملتهب من رقبتها وأسفل أذنها ، وكان يبدو في عيني نادية استسلام اليائس ، كانت تتصاعد من شفتيها بين آونة وأخرى زفرة ألم تحاول جهدها كتمانها ولكنها تفلت منها برغمها ، كانت تتمتم بشفتيها دعوات لا من أجل نفسها فقد سلَّمت بأمر بلواها ورَوَّضت نفسها على قبول مصابها ولم تعد تملك من أجل نفسها إلا دموع صامتة تذرفها كلما خلت الحجرة من روادها ، ولكن الدعوات كانت من أجل أبيها الراقد في الحجرة المجاورة التائه في غيبوبة دائمة لا تفيقه منها إلا صرخة حادة تُمزق سكون البيت وتصيب أهله المتحركين كالأشباح بِرجْفة تهز أبْدانهم وتشيع العجلة والاضطراب في حركاتهم الوئيدة وخطواتهم المتسللة وأصواتهم الهامسة ، وكانت نادية ترقد مشدودة الأعصاب تُنْصِت إلى كل همسة وتُصغي إلى كل حركة وتحاول أن تستنتج ما يحدث ، وكانت صرخات الأب التي تتعالى عندما تصيبه النوبة تصل إليها كطعنات المُدى أو ضربات الصياة ، وعندما كانت تهدأ الصيحات ويسود الصمت كانت نادية تشرئب بعينيها محاولة أن تعرف طبيعة هذا الصمت ، وعندما يطول بها الانتظار دون أن يطمئنها أحد من أهل الدار كانت تهتف صائحة في جزع : منى ماذا حدث ؟
وتُقْبِل عليها منى وقد علا وجهها الشحوب وأصابها الهزال وتقول لها مُطَمْئِنة : لا شيء يا نادية ، لقد أعطاه الطبيب حقنة ونام .
وتجلس منى بجوارها منهارة وقد دفنت وجهها في كفيها .
وتتمتم نادية وهي تحملق بعينيها في سقف الحجرة كإنما تحاول أن تخترقه لتُوَصِّل دعواتها إلى الله : يا رب ، يا رب رحمتك .
وكان سليمان يبدو حائرا في البيت في جيئته وذهابه وهمساته مع الأطباء وكان يحاول أن يبدو مطمئنا وإن كانت أعصابه تخونه في كل نوبة فتضطرب حركته ويحتد صوته ويُخرِج همه في أخته زكية آمرا إياها بأن تكف عن جزعها وتُوقف نَهْنهتها ، وبين آونة وأخرى كان سليمان يدخل حجرة نادية ليجلس في جوارها ويربت يدها في رفق محاولا إدخال السكينة على نفسها ، وقد حَدَّثَها في آخِر جلسة معها قائلا في ثقة وطمأنينة : كل شيء سينتهي على خير بإذن الله ، لقد أكد لي الدكتور عبد الوهاب بعد أن أجرى لك الغِيار بالأمس أن وجهك سيعود كما كان بل خيرا مما كان .
وهزت نادية كتفيها في استخفاف وأجابت : لا يهمني وجهي ليحدث به ما يحدث ، المهم هو أن ينجو بابا .
- سينجو إن شاء الله ، إن حالته مطَمْئنة ، وقد قال الطبيب إنه خلال أيام يستطيع أن يجلس في الفراش ويتحرك في الحجرة .
- أحقا قال هذا ؟
- إَي والله ، وكلها بضعة أيام أُخَر يستطيع الخروج .
- ربنا يسمع منك .
- ربنا كريم يا نادية ، وأنا واثق أنه لن يضير أحدا منكما ، لا أنت ولا فاضل .
وفي اليوم التالي أقبل الدكتور عبد الوهاب ليقوم بالغيار لنادية ،واجتاز الرجل القاعة في خطا متسللة حتى لا يزعج المريض الراقد ، واستقبلته مُنى على باب الحجرة وهي تقول : بُنْجور دكتور .
- بُنْجور منى ، كيف حال نادية ؟
وهزت منى كتفيها قائلة : أنت أدرى ، كيف نعرف حالها وهي محتجبة وراء هذا الكوم من الضمادات
وضحك عبد الوهاب وأجاب : صدقتِ ، إنها بخير ، اليوم سأزيل هذا الكوم الذي يزعجكِ لتري بنفسكِ أنها بخير ولتصدقي أني قمت بعملية تجميل .
- إذا كان الأمر كذلك فسأشعل حريقا في البيت من أجلي هذه المرة .
- إِيّاكِ ، ليست كل الحرائق مُجَمِّلة .
وجذب الطبيب مقعدا وجلس بجوار نادية وقد أمسك يدها في رفق قائلا : كيف الحال ؟
وبسكينتها المعتادة واستسلامها الطبيعي أجابت نادية : الحمد لله .
وضحك الطبيب قائلا : إنكِ تقولينها من تحت الضرس كأنها الحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه .
ورفعت إليه نادية عينيها وتساءلت وهي تُطلق زفرة حارة : أليس الأمر كذلك ؟
- لا أعتقد ، إنك بخير وسأريكِ الآن .
- أنا لا أقصد نفسي .
- وأبوكِ سيُشْفى بإذن الله ، إن سليمان أخبرني بأن حالته لم تسؤ وإنه إذا لم تحدث مضاعفات فسيُشْفى بإذن الله .
وبدأ عبد الوهاب برفع الضمادات عن وجهها وبدت على وجهه علامات الرضا وهو يقول : عال عال ، ليس هناك أي أثر في الوجه إنه سليم 24 قيراطا .
ثم أخذ في فك ضمادات العنق وأحست نادية بالألم وهو ينزع عنها الضمادات ، ولم تبد على وجه الطبيب نفس علامات الارتياح التي بدت عليها عندما فك ضمادات الوجه ، وقال وهو يفحص الجلد الذي مازال به قروح الحريق : هذا الجزء سيحتاج إلى بعض الوقت ، إن أصابته كما قلت من الدرجة الثانية وقد تترك بعض الآثار ، على أية حال الحمد لله أنها لم تمتد إلى الوجه ، سأضع عليه هذا المسحوق ومن الخير أن نستمر في رباطه .
ومدت نادية أصابعها لتتحسس وجهها وأحست ببشرتها ملساء مشدودة ، ثم مدت يدها تتحسس جروح عنقها من أسفل الأذن حتى أسفل الذقن .
وقال الطبيب متضاحكا : ها ما رأيكِ ، أظنها قد أضحت أنعم مما كانت .
والتفت الطبيب إلى منى التي وقفت تحدق في أختها في صمت وكأنما تحاول أن تتمالك وتتجلد ، وقال مازحا : ما رأيك يا مُنى ، هل لكِ غرض ؟
ورفعت نادية عينيها إلى منى وقالت في غير اكتراث : أريني المرآ’ يا منى .
- لا تجهدي نفسك الآن يا نادية ، إن وجهك لم يحدث به شيء .
وقالت نادية في إصرار : هاتي المرآة ، إني لا أخشى شيئا .
ورد الطبيب قائلا : ولكن ليس هناك ما تخشينه ، هاتي لها المرآة يا منى ، إن هذا أفضل نتيجة يمكن انتظارها من إصابة كهذه لن يكون هناك أثر للحريق إلا في العنق كما قلت لك .
وقبل أن تتحرك منى لتحضر المرآة الصغيرة ، نهضت نادية من فراشها واتجهت إلى مرآة التسريحة ووقفت تفحص وجهها ، وبدا لها وجهها أحمر بلون الجرح الملتئم الذي أُزيلت عنه قشرته وأحست في أول الأمر أنها تنظر إلى مخلوقة أخرى وأن هذا الوجه الذي يبدو أمامها ليس وجهها، ورفعت ذقنها ولوت عنقها لتفحص القروح التي به ، وأحست بالغثيان وهي ترقب الجلد اللين المقروح وعادت مرة أخرى ترقب وجهها ثم أغمضت عينيها وعضت على نواجدها كأنما تكتم آهة ، ثم استدارت لتبعد عن ناظريها ذلك الوجه الغريب الذي بدا لها في المرآة .
ونظرت إلى الطبيب الذي راح يرقبها في ألم وهو يقول مُطَمْئِنا : هذه الحمرة ستزول بالطبع والجروح التي في العنق ستخف ، على أية حال يمكن تغطيتها بإشارْب أو ياقة عالية ، إن هذا خير ما يمكن الوصول إليه الحمد لله أن لم تتعد الجروح إلى الوجه .
وتهاوت نادية على فراشها وهي تقول : الحمد لله .
ونهض الطبيب وقد بدا عليه الأسى وقد قال مؤكدا : أؤكد لك أن البَشَرَة ستتحسن مع الأيام وأنها ستعود تماما إلى حالتها الطبيعية فقط لا تعرضيها الآن للشمس أو الهواء ، واجتهدي أن تغطي وجهكِ دائما بقطعة من الشاش .
وأجابت نادية : حاضر يا دكتور .
وأحست نادية أنها خذلت الرجل الذي فعل من أجلها ما بوسعه ، وأنها رغم ادعائها عدم الاكتراث بوجهها قد تركت ليأسها العنان فرفعت رأسها وهتفت بالطبيب : أنا متأسفة يا دكتور ، أنا ...
وربت الطبيب على رأسها في حنان قائلا : إني أُقَدّر شعورك لا داعي للأسف ، لم يكن يجب أن تري وجهك في المرآة إنه لا شك قد أزعجك ولكني أؤكد لك أن البَشَرَة ستعود إلى حالتها .
- وحتى إذا لم تعد إلى حالتها أؤكد لك أني لن أنزعج ، كل ما أريد أن يُشْفي الله أبي ، هذا كل ما أرجوه .
- سيشْفيه بإذن الله ، لا تنسي أن تضعي غطاءً على وجهكِ .
- إلى متى ؟
- أسبوع على الأكثر حتى يشتد الجلد ، وضعي هذا المَرْهم والمسحوق على جروح العنق وسأحاول أن اراك بعد بضعة أيام .
- مُتْشَكِرة يا دكتور .
- مع السلامة .
وقبل أن يغادر باب الغرفة التفت قائلا : على فكرة لقد سأل عنك الدكتور مدحت .
وانتفضت نادية وهتفت مذهولة : الدكتور مدحت ! ؟
- أجل الذي كان يوشك أن يجري لك العملية .
- سأل عني أنا ؟
- أجل لقد سأل عنك عندما عَلِم أني ذاهب للغيار لك ، وطلب مني أن أعتذر إليكم حتى لا تتهموه كما يتهمه الناس بالفضاضة ، لقد قال لولا النزيف الذي حدث لأحد مرضاه لما تأخر عن القيام بالعملية .
وبدت نادية كالشاردة وهي تقول كأنما تحدث نفسها : هل قال هذا حقا ؟
ودُهِشَ الطبيب وأجاب : طبعا قاله ، إنه ليس قاسيا كما يبدو .
استمرت نادية في سؤالها الشارد : وهل يعرف من أنا ؟
وهز الطبيب كتفيه قائلا : لا أظن ، إنه لا يهتم بمعرفة الناس ولا بما يقولونه عنه وإنما فقط كره أن يبدو خاذلا للغير هاربا من غوثه ونجدته .
وأحست نادية بشيء من الخيبة ، لقد سرها أن يسأل عنها ، ولكنه كرهت أن يسأل عنها كمجهولة لا يعرف عنها إلا أنها مريضة بين آلاف المرضى ، لا يعرف لها سمة ولا يَذْكر شكْلا ، ولكن ماذا يحزن في ذلك ، ألم تهرب منه ، ألم تخشَ أن تقع عيناه على وجهها المحترق وملامحها المشوهة ؟ أمِنَ الخير أن يعرفها كمجهولة أَم يذكرها كوجه مشوه وملامح مُنَفِّرة ، ثم ماذا تأمل هي منه ؟ لكي تفرح لذكره لها وسؤاله عنها وتحزن لعدم تمييزه إياها ومعرفته إياها ، ماذا يفرحها منه أو يخْذُلها فيه بعد أن أبصرت وجهها المسلوخ وعنقها المقروح ، أليس من الخير أن تطرده من أوهامها وتُعْفي خيالها من تصوره والتفكير فيه ؟
أجل يجب أن تكون أكثر من هذا سيطرة على أحلامها .
ونظرت إليها منى وقد استغرقت في شرودها الحزين وهتفت بها : نادية ماذا بك ؟
وهزت نادية رأسها وأجابت في يأس : لا شيء .
- لا يجب أن تيأسي أبدا يا نادية ، ليس هناك شيء مستحيل في هذه الدنيا ، لا تحرمي خيالك من بقية أوهامك ، فقد تتحقق في يوم من الأيام
وردت نادية في سخرية : تتحقق ؟ بعد كل ما حدث ؟
- أجل ، إن وجهك سيعود كما كان وحتى إذا لم يعد فالحب لا يتقيد في سمات معينة ، نحن لا نحب نماذج مرسومة ، وإنما نحب سمات موجودة كما هي ، نحبها لذاتها ، لا أنه تشابه شكلا معينا ، وأنت يا نادية لا يمكن أن يشوهك شيء ستظلين دائما محبوبة لأن الناس يحبونك أنت لا ملامحك ولو كانوا يحبون ملامحك لما فَضَّلك عني أحد لأن ملامحي لا تختلف عن ملامحك ومع كل هذا فإن ملامحك كما هي لم يصبها شيء فلماذا تثقلين على نفسك بهذا اليأس المخيف ، لماذا تسلبين نفسك فرصة الأمل ؟
- أي أمل يا منى ؟
- أمل في أشياء كثيرة ، ألم تذكري قول الكاتب "إن في بقية الزهر عزاء عن النرجس" ، فلماذا تحاولين أن تتمسكي بالنرجس ؟
وهزت نادية رأسها في ضيق وأجابت : أنا لا أحاول أن أتمسك بشيء ، إن كل ما أرجوه الآن هو أن يُشْفى أبي .
- سيُشْفى بإذن الله ، ولكن يجب أن تُشْفَي تماما من يأسكِ ، أم تراك قد اعتدت العجز والاستسلام ؟
ودخل سليمان وهو يقول متضاحكا : أجل معك حق يا منى ، لقد تعودت العجز والاستسلام مع أن كل شيء يدعو إلى التفاؤل ، لقد أفاق أبوكما وهو يريد أن يراكما .
فقفزت نادية من فراشها هاتفة : حقا ، أهو يتحدث ؟
- أجل .
اندفعت منى إلى القاعة وهي تهتف : بابا .
- لا تصيحي هكذا أيتها المجنونة ، ادخلي على مَهْلِك ، يجب علينا أ، لا نعرضه لأي حركة أو انفعال .
وأجابت منى وهي تسير على أطراف أصابعها : حاضِر ، لن أزعجه أبدا .
وقبل أن تغادر نادية الحجرة اتجهت إلى التسريحة وأخذت ترقب وجهها في المرآة ، وأخذ سليمان يرقبها وهو يحاول أن يُخفي تأثره قائلا : الحمد لله ، لم يُصِبْك مكروه ، إن أباك يلح في رؤيتك إ\أنت بالذات ولست أدري ما كنا فاعلين لو لم يرفع الطبيب الضمادات عن وجهك ، إن وجهك يبدو طبيعيا تقريبا ، وأعتقد أن من الخير لو لففتِ وجهك بإشارْب يغطي شعرك وعنقك .
ومرة أخرى أدارت نادية عنقها المقروح عن الوجه الغريب الأحمر الذي يبدو لها في المرآة .
وقالت وهي تحاول أن تكبت دمعها : هل تظن أن وجهي لن يفزعه ؟
وأجاب سليمان وهو يغالب ألمه ويحاول التضاحك : يُفزعه ؟ ما تظنين نفسك غولة أَم عفريتة ؟ إن وجهك مازال جميلا كما هو .
واقتربت منه نادية فأبصر عن قرب عنقها المقروح ، وأحس بشيء يعتصر جوفه وأردف يقول وهو يحاول التماسك : أجل لن يلحظ أي تغيير بك ولاسيما إذا لبستِ الإشارْب كما قلت لك .
ونظر إلى بشَرَتِها التي التي تبدو حمراء مشدودة كالجِلْد المسلوخ وأردف قائلا : وضوء الحجرة الضعيف سيبدي لون وجهك على حقيقته ، أجل أجل لن يلحظ شيئا .
وأحست نادية بالمرارة تسري في نفسها وهي قد باتت تحس أنها تحتاج إلى الظلمة حتى تبدو مخلوقة غير مزعجة ، وأنها تحتاج إلى إشارْب يلف وجهها حتى تخفي ما به من تشويه ، ومدت يدها في سكون إلى درج التسريحة وأخرجت منه إشارْب أزرق لفت به رأسها وأحاطت به عنقها وضمت ياقة القميص حول عنقها حتى لم يعد يبدو من وجهها إلا صفحته المواجهة .
وبخطا وئيدة متسللة سارت تسترق الخطا خلف عمها الذي دفع الباب ببطء وسكون ودلف إلى حجرة الأب المريض ...
14
صرخات في الليل
اقتربت نادية في سكون من أبيها وكان شُبّاك الغرفة قد أُغلِق فلم يسمح إلا لخيوط رفيعة من أشعة الشمس الغاربة بالتسلل إلى الغرفة محددة طريقها بذرات بِيض ترتجف على امتداد الأشعة ، وعلت شفتَي الأب ابتسامة حنون وانطلقت من صدره تَنْهيدة راحة وهو يرى نادية مقبلة عليه وهمَّ في لهفته عليها أن ينهض بنصفه العلوي فهتف به سليمان : وبعدِين ، قلنا لا حركة .
ومالت نادية تقبل وجهه الهزيل الشاحب وتضمه في حنان ، ومد ذراعه يضمها إليه ويتحسس رأسها ويتمتم في شبه همس : ماذا حدث لك يا حبيبتي ؟
- لا شيء يا أبتي ، لا شيء أبدا إني بخير ، المهم هو أنت .
وأسندت الأُم رأسها بكَفِّها وهي تقبع على مقعد في ركن الحجرة وقد أحست أن الدمع يوشك أن يطفر من مقلتيها وهي ترى نادية وقد أحاطت وجهها بالإشارْب لتخفي قروح عنقها وحاولت أن تمنح صوتها لهجة الطمأنينة .
وتحدث سليمان محاولا أن يُذهِب عن الموقف رهبته ويمنحه بعض المرح فتضاحك قائلا : كفى صَلْبَطة ، أنتما الاثنان بخير ، وبعد بضعة أيام ستصبحون جميعا كالجِنّ وترحلون عنا وتريحوننا من حوادثكم .
وهز الأب رأسه وهو مايزال يُطْبِق بكفه على يد نادية وقال في صوت مستضعف : لا أظن أني سأستطيع الرحيل .
وأجابت الأُم في لهجة داعية : لا داعي للرحيل ، ليمنحك الله الصحة ويحفظك لنا .
وربت سليمان على كتف نادية وقال مطمْئنا : هذه نادية أمامك كالحصان ، لم يكن هناك ما يدعو أبدا لهذه الخضة التي صرْعتك .
وتنهد الأب وأجاب بصوت خافت : لو أبصرتم ما رأيت لعَذرتموني ، ذلك الزحام حول البيت والدخان المتصاعد وعربة الحريق والبواب يهتف بي بأن نادية احترقت وحملتها عربة الإسعاف .
وبدا الألم على وجه الأب ، وخشي سليمان عليه انفعال الذكرى فصاح به : انتهينا لا داعي لإثارة الآلام ، إنها أمامك سليمة 24 قيراطا ، أنت تعرف تهويل الناس .
وأطلق الأب تنهيدة عميقة وقال : الحمد لله ، الحمد لله .
ثم نظر إلى وجه نادية فاحصا وأردف يتساءل : هل ترك الحريق أثرا بوجهك ؟
وأسرعت نادية تنفي قائلة : أبدا أبدا ، لقد كانت لفحة الوهج فقط وقد أزال أثرها المَرْهم .
- مالَكِ إذن تتشحين بالإشارْب ؟
وضحكت مُنى وقالت تحاول أن تجيب عن نادية التي بدا عليها الاضطراب : عياءة يا بابا ، فرحانة بالإشارْب .
وقبل أن يعاود الأب تساؤله قال سليمان : كفى هذا الآن ، لقد أقلقناك ويجب أن تستريح ، هيا يا بنات ، أظن أن موعد الأقراص قد حان يا لورا .
ونهضت لورا وهي تتنهد مجيبة : أجل .
ومدت يدها إلى أنبوبة على المكتب فأخرجت منها قرْصين .
وضغط الأب على كف نادية قائلا : خذي بالك من نفسك يا حبيبتي .
- أنا بخير يا بابا ، إننا نريدك أنت سليم بيننا ، ليس لدينا قط ما يساويك ويساوي سلامتك .
ونظرت نادية إلى أبيها نظرة مِلْؤها الحنان وأحست بفرط حبها له وتمنت لو انحنت لتضمه ضمة أخرى ، ولكن سليمان جذبها قائلا : هيا بنا يجب أن ندعه يستريح .
وأجاب الأب : إني أستريح أكثر لوجودكم ، لماذا تتركونني وحدي ؟
- أنت لستَ وحدك إننا معك دائما ، ولكن يجب ألا تكثر الأنفاس في الحجرة وأن تريح نفسك من الكلام .
وأجاب الأب في عصبية : إلى متى كل هذا ، لقد ضقت بحياتي ذرعا .
- هانت ، لا داعي للانفعال كلها يوم أو يومان وتستطيع أن تجلس في الحجرة ، يجب عليك أن تصْبِر يا فاضل إن مرضك علاجه الراحة والهدوء ، هكذا قال الأطباء جميعا .
وردد الأب في ضيق شديد : الراحة والهدوء إني أكرههما ، إن هذه الرقدة ستقتلني .
وحرك ساقيه في عصبية وضيق فصاح سليمان : وبعدِين ، إنك تأخر شفاءك بنفسك ، أنت لستَ صغيرا يا فاضل .
وعضت نادية على شفتها وهي تحس بمدى ضيق أبيها وألمه وقالت له في حنان ورقة : تحَمَّل يا بابا يوم أو يومين أو بضعة أيام في سبيل شفائك ، ليتني أستطيع أن أرقد بدلا منك .
وجذبها سليمان من ذراعها وهو يضحك قائلا : هيا ، ستنهضون جميعا ، ترحلون عنا ونكسر وراءكم مائة قُلَّة .
وتساءلت مُنى ضاحكة : إلى هذا الحد زهقت منا ؟ - زهقتُ من حوادثكم ، لقد مضى علي أكثر من أسبوع لم أذق النوم الذي أغْمض فيه عينَي من العاشرة فلا أفتحهما إلا في السادسة .
- عندما نرحل ستشبع نوما .
وغادرت مُنى الحجرة تتبعها نادية ، ونظر سليمان إليها قائلا : ها ، استرحْتِ ، اطمَأنَنْتِ ععليه ، أعرفت أن المسألة لم تكن تستدعي كل هذا الانزعاج الذي أصابك ؟
وكان الأب قد أغمض عينيه وكانت خيوط أشعة المغرب التي تسللت من شقوق الشِيش قد انسحبت تاركة الغرفة في شبه ظلمة ، ومدت الأُم يدها إلى مفتاح الأبَجورة الموضوعة على المكتب وهي تتساءل : هل أُوقد النور أَم يضايق عينيك ؟
وهز الأب رأسه في ملل قائلا في صوت خافت : افعلي ما تشائين لم يعد يضايقني شيء أكثر من الضيق الذي أنا فيه .
وأجاب سليمان في نوع من الزجر : قلت لك هانت ، إن الدكتور سيأمر بالحركة في الحجرة قريبا .
ولم يجب الأب ، وبدت أصابعه تشد على حافة الفراش في عصبية ، وفتح فاه وازدادت هزة رأسه المتململة وتوترت عضلات وجهه ، فأسرعت الأُم إلى اصطوانة الأوكسجين وجذبت الخرطوم ووضعت القناع على وجهه ، ومد سليمان يده إلى مفتاح الإصطوانة فأداره ، وبعد برهة استرخت عضلات الأب المشدودة ، وبدا على ملامحه هدوء نسبي .
وأطلت زكية من الباب فلم تكد ترى القناع على وجهه حتى صاحت في جزع : ماذا حدث ثانيةً ؟
وهتف سليمان بها : كُفّي عن هذا الصياح .
- لماذا وضعت هذا القناع على وجهه ؟
- لأن نفسه قد ضاق .
- ولكنك لم ترفعه عنه إلا منذ وقت قريب ، فلمابذا وضعته ثانيةً ؟
وأجاب سليمان في ضيق : لأن نَفَسه ضاق ثانيةً .
- ولكن ..
- زكية ، كُفّي عن هذه الأسئلة وتفضلي اجلسي في القاعة لأننا لا نريد ازدحاما في الحجرة .
وأدارت زكية عنقها وهتفت في غضب : ألا أجلس مع أخي ؟ أأتركه وهو في هذه الحالة ، ألستُ أخته ؟ كلما أقبلت عليه تطردوني .
وضغط سليمان على أسنانه وهو يكظم غيظه وقال في حدة : زكية اجلسي في القاعة وكُفّي عن هذه السخافات .
- كلكم علي ؟ ألستُ أَوْلى من هذه الأجنبية برعايته ؟
- إنها ليست أجنبية ، إنها زوجته .
- إنها أجنبية مهما فعلت ، إنها هي تثيركم علي .
- إنها لم تتحدث عنك أبدا ، إن لديها من متاعبها ما لا يجعلها تحس بك أبدا .
- طبعا لا تحس بي ، من يوم أن رَقَدَ وهي لا تنظر لي إلا شزرا كأني عَدُوَّتها .
ودفعها سليمان من الباب إلى القاعة قائلا : ليس هذا وقته يا زكية ، اعقلي دَعيها في مصائبها .
- إنها السبب في كل هذه المصائب ، ماذا دعاها إلى غسيل البدْلة ؟
- هذا قضاء الله .
- لو لم تغسل البدْلة لما حدث الحريق ، ولو لم يحدث الحريق لما أصيب فاضل بهذه النوبة .
- قلت لك إن هذا قضاء الله ، ولو لم تصبْه النوبة لهذا السبب لأصابته لغيره ، يا شِيخة ليكن عندكِ إيمان بالله ، ادعي الله أن يشفيه واتركي هذا الصياح الذي لا مبرر له .
وجلست العمة على أحد مقاعد القاعة وهي تتمتم قائلة : كانت زواجة نحس ، لو أنه تزوج رشيدة أو ثريا لما أصابه هذا .
سمعت مُنى حديثها وهي تجلس في حجرتها على حرف الفراش أمام نادية فوثبت من مكانها قائلة في ضيق : أتسمعين يا نادية ما تقول ؟ إني لن أسكت لها هذه المرة .
وأجابت نادية مُنى بصوت خفيض وهي تجذبها من يدها محاولة إعادتها إلى مكانها : إياك أن تقولي لها شيئا ، .
- أيعجبك ما تقول ؟ إنها تكرهنا .
- إن أعصابها متوترة مثلنا جميعا وهي لا تَعي ما تقول .
- بل تعيه ، إنها تكره أُمَّنا وتود لو لم يتزوجها أبي .
- يا مُنى يا حبيبتي دعيها تود ما تشاء ، إنه تزوجها وانتهى ، ولن تغير أمانيها من الأمر الواقع شيئا .
- ولكنها تُهيننا .
- يجب أن نتحملها ، إنها عمتنا أخت أبينا ، وهي لا يمكن أن تُضمِر لنا شرا حتى إذا فلت لسانها .
- إنه يُفلت دائما ، إن لها لسانا كالمبْرَد .
- أعْذريها ، إنها في غير وعيها ، إنها في حالة جزع على أخيها .
- إنها مُدَّعِية .
- حرام يا مُنى ، إنه أخوها .
- إنها تَدَّعي أنها لم تَذُق الأكل منذ يومين ، وبالأمس وجدتها تشتم الدادا لأ، اللحمة كانت مشْوية ولم تكن محَمَّرَة ، وفي عز النهنهة والتأثر ترفع رأسها وتسأل عن علبة المارون إذ تخشى أن يكون قد أكل منها أحد .
- يا مُنى لا تعلقي على مثل هذه الأشياء ، كل ذلك لا يمنع جزعها .
- أنا لا أحبها .
- لا ضرورة لأن تحبيها ، دَعيها وشأنها وإياك أن تتصدي لها فليس هذا وقت مشاكل ، يجب أن نحترمها ونُكْرِمُها على الأقل من أجل أبي .
- احترميها أنت كما تشائين ، أنا لن أُكَلِّمها مطلقا .
- هذا أفضل ، ولست أظنها هي الأخرى تحب كلامك .
وقبل أن تجيب مُنى سمعت في القاعة حركة مفاجئة وخطوات تتحرك في عجلة وألفاظ تُتَبادَل في سرعة وسماعة التليفون تُرفَع وأرقام تُدار ، وفجأة وقبل أن تنهض مُنى لتستطلع الأمر دوت في أرجاء البيت صرخة حادة تلتها صرخات مختلطة مستمرة ، واندفعت منى من الباب صائحة : بابا .
ولم تنطق نادية بل تشبثت بكفيها تشد أغطية الفراش ، وأحست كأن شيئا يشدها إلى هاوي عميقة ولم تستطع الحركة أو النطق ، لقد التسق حلقها وتصلبت أعضاؤها وفقدت كل مقْدِرة على الحس والإدراك ، ولم تعِ من حولها شيئا إلا هزة الأصوات الحادة التي تتقاذفها كأنها أكف تتبادل لَطْمِها في قسوة وعنف ، وزاد الضجيج في البيت وكثرت الأصوات واستمرت الصرخات الحادة تشق الفضاء ، ونادية عاجزة عن التفكير مشلولة عن الحركة وقبل أن يبدأ وعيها بإدراك الكارثة ، وقبل أن يتبين إحساسها حقيقة المصاب توقف الصراخ وخفتت الضجة وسرت بدلها همسات وزفرات واندفعت منى عائدة إلى الحجرة وهي تقول في لهجة هستيرية : بابا بخير يا نادية لم يحدث له شيء .
واسترخت نادية وتلاحقت أنفاسها لاهثة كأنها سقطت بعد طول عدو ، وأحست أن أعصابها المشدودة قد فُكَّت وصوتها الحبيس قد انطلق ودموعها المتحجرة قد انصهرت ، فاندفعت في نوبة حادة من البكاء ، وأخذت منى تربت جسدها المهتز وتضمها إليها في حنان قائلة : كفى يا نادية ، إن بابا بخير ، لقد كان ما به مجرد إغماء إن الدكتور عنده الآن وقد أكدلنا أنه بخير ، لا تبكِ يا نادية .
ولكن نادية استمرت في البكاء فقد أحست أنها بحاجة إليه ليعيدها إلى وعيها وإدراكها من الصدمة التي كادت تتركها عاجزة مشلولة .
ومرة أخرى عاد السكون إلى البيت إلا من خطوات تسير متسللة أو أصوات ترتفع مبحوحة هامسة ، وأخذ الإقرِباء يتوافدون إلى البيت واكتظت بهم القاعة والبهو ولم تحس نادية رغبة للخروج للقائهم ، كان بنفسها ميل للوحدة والانطواء ، كانت تكره تحياتهم وثرثراتهم وكانت تعتقد أن وجهها سيصدمهم ويثير شفقتهم ورثاءهم ، وكانت تكره الرثاء وتخشى الشفقة ، وظلت نادية راقدة في فراشها تتلقى الأقرباء مستعينة بظلمة الحجرة على حجب وجهها واإخفاء ما تتوهمه من تشويه يثير الشفقة ويبعث على الرثاء ، ولفت عنقها جيدا بالإشارْب ، ورفعت الغطاء حتى أسفل ذقنها .
ورويدا رويدا بدأت أقدام الزوار تخف ، وخفتت الهمسات وساد البيت سكون شامل لا يكاد يقطعه إلا زفرات حارة تتصاعد من صدر الأُم ، ولم تستطع نادية النوم ، كانت ترقد في فراشها مفتوحة العينين تحملق من خلال النوافذ المواجهةلفراشها ، وقد أخذت النجوم المتناثر في صفحة السماء الداكنة التي بدت من النافذة تهتز مرتجفة ، وهبت نسمات خفيفة تحرك فروع الياسمينة المتسلقة على حافة النافذة ، ومن الحديقة علا صفير متقطع لدُنَيْبة استقرت أسفل الشرفة .
كانت الدهشة تجثم على الدار وإحساس بالخوف يَرْسُب في أعماق نادية ، كانت ترتجف لكل صوت وتجزع من كل حركة ، كانت تتوقع أن يعود الصراخ الحاد ليشق أجواء الفضاء مرة أخرى ، وكما تجسد العين أشباحا للمذعور كانت أُذُنا نادية تجسدان لها الصراخ في كل صوت بل وفي كل سكون ، كانت تنتفض بين آونة وأخرى من الأصوات الموهومة التي تنطلق من داخل البيت ، وأخيرا غلبها النعاس وهي تُحَدِّق في الفراغ وتُنْصِت إلى الصرخات الموهومة ، وحملتها أحلام الغفوة إلى أحضان أبيها تضاحكه وتدلله ويضاحكها ويدللها مبديا لها إعجابه بوجهها ونضارتها بعد عملية التجميل التي سببها لها الحريق ، فجأة انطلق الصراخ مرة أخرى بدأ هذه المرة بصرخة حادة من أعماق جريحة وانتفضت نادية من أحلامها جالسة في الفراش وهي تحس بقشعريرة تهزها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها ، وبدت لها الصرخة في أول الأمر بقايا حلم أو أثرا من آثار الوهم ولكن الصرخة تلَتْها أخرى استطاعت نادية فيها أن تميز صوت أُمِّها في نحيب يشق صدْرها وفي هذه المرة قفزت نادية وفي أعقابها مُنى تهرول صائحة وهي نصف نائمة : إيه يا نادية ماذا حدث لبابا ؟
وانطلقت الصرخات مرة أخرى حادة ملحة متوالية ، وبدا البيت في حركة مجنونة صاخبة كلٌّ يتحرك صائحا بلا هدف أو قصد وبدا كل إنسان في البيت لا يستطيع أن يحدد ما يجب أن يفعل حتى سليمان جثى على ركبتيه أمام الجسد المُسَجَّى باكيا كالطفل وهو يصيح في نشيج مرتفع : آه يا خُويَه ، آه يا فاضل .
وبدت نادية مشدوهة تائهة واندفعت إلى باب الحجرة صارخة وفي أعقابها مُنى وتلقتها إحدى القريبات في صدرها وضمتها إليها باكية ، وحاولت أن تبعد بها عن الحجرة ولكن نادية صاحت متشنجة : بابا ، أريد أن أراه .
واندفعت نادية إلى الحجرة واجتازت بابها لتجد أباها في رقدته كما رأته آخر مرة لا يكاد يبدو للموت به أثر ، ووقفت برهة مشدوهة ثم خرت على الأرض وهي تحس بقدميها لا تكادان تحملانها وأحست بصوت يصيح : يا جماعة اأخرجوا البنت ، حرام .
وأحست بذراعين تحملانها واجتازت القاعة وهي تحس بالضجيج والصخب ، ورقدت على فراشها وهي في شبه غيبوبة ، ووسط الصخب والضجيج بلغ مسامعها صوت يبدو وكأنه يتحدث في التليفون يقول في نبرات هادئة : بمَزيد الأسف ننعي فقيد العلم الأستاذ محمد فاضل أستاذ اللغة الفرنسية بالجامعة والد نادية ومُنى فاضل باللِسيه .
ولم تسمع نادية بقية الحديث فقد أطبقت بأسنانها على الوسادة تمزقها وهي تحس أن أباها قد أضحى مجرد نعي ...
15
مشكلةٌ تُحَل
انتهت الجنازة ومر اليوم الصاخب بنادية وهي مأخوذة ذاهلة ، وانصرف المعزون واحدا بعد الآخر حتى خَلا البيت إلا من بعض الأقارب ، يقطعون سكون البيت بأصواتهم المبحوحة وتنهداتهم المُجْهَدة ، وآوت نادية إلى حجرتها وصرخات الليل الحادة مازالت تُدَوّي في أُذنيها وأحداث اليوم تتكأكأُمختلطة متشابكة في مخيلتها وكلها صور بغيضة مقيتة مروعة ، الرجال ذوي العمائم الذين أقبلوا يتهامسون ويتفاوضون ، والنعش المستطيل الأجرد ، والكبش الذبيح أمام الباب ، وأُمّها الصارخة في ارتياع كأنها كلب يعوي ، وعمتها المُنَهْنِهَة المثرثرة ، وعمها السائر في انهيار المتحرك كالشبح ، والعربة السوداء تتحرك بالنعش ، والعربات الأخرى تلاحقها وهي قد قبعت في إحداها تحملق في ذهول من وراء الإشارْب الأزرق الذي لفت به رأسها وغطت وجهها ، وزحام المُعَزِّين حول الجامع المقام في العباسية والذي كانت تسميه جامع الأموات لفرط ما شاهدت حوله من جنازات ، والنعش محمول على الأعناق وصراخ أُمّها ينطلق من داخل العربة التي وقفت ترقبه عند تقاطع الطرق ، وعربات تنطلق تثير وراءها سحابة من الغبار في طرق المقابر ، ووقفة أخيرة عند المقابر ، وهي قابعة في العربة ترْقُب وترْقُب وفم فاغر وأعصاب مشدودة وأحاسيس أُرهِفت كحد السيف ، ونعش يهبط من العربة وأختها تندفع وراءه صارخة تريد أن تحتضنه وعمها يشدها بعيدا يحاول مواساتها وهو أجدر بالمواساة ، ورجال يغدون ويروحون وصِبية يتزاحمون ويتصايحون ، وقِرَب ترش الماء على الأرض وآيات تُتلى والنعش يخرج خاليا ، والأصوات تهدأ والأيادي تشد على بعضها ، والناس يحتشدون في العربات مرة أخرى والقافلة تعود في سحابة من الغبار جديدة و ... وينتهي الأمر .
وزادت السكينة في البيت وخفتت الأصوات المبحوحة والتنهدات المُجهَدة ولم يعد هناك من صوت إلا صفير الدُنَيْبة التي كانت تقبع أسفل الشرفة منذ ليلة أمس .
وتثاقلت أجفان نادية وما لبثت أن استسلمت لنوم مضطرب لم يستطع أن ينزعها من آلام يقظتها بل أغرقها في نفس الخليط المشوش من صور الفاجعة التي هَدَّت قواها وحطمت أعصابها ، وقضت نادية نومها بين نعوش تُحمَل وكباش تُذْبَح ومقابر تُفتَح وصراخ يشق أجواء الفضاء .
ومضت الأيام الأولى من الوفاة في صورة قاتمة ، خليط من الأنين والنواح ، والقرآن يُتلى في أنحاء الدار ليملأ الجو مهابة ورهبة ، ورويدا رويدا بدأت أقدام المُعزِّين تخف ، ويخف معها النواح وقلت الثرثرة ولم يعد في البيت سوى قلة من الأقارب ما لبثت أن اقتصرت في النهاية على العمة زكية والعم سليمان وقريبة فقيرة جاءت تساعد في خدمة البيت وضيافة المُعزّين .
بدأ موضوع الحديث يتطور لم يعد كله يدور حول المرحوم ومرضه وأيامه الأخيرة بل أخذ يتعداه إلى موضوعات أُخَر عن معاش ونقود صُرِفَت وديون ومجلس حسبي وأشياء أخرى ، كانت كلها تُطْرَق طَرْقا خفيفا عابرا أخذ يزداد مع الأيام تمهلا وإلحاحا حتى اتخذ مكانه كموضوع رئيسي لا يشغل بال الأُسرة سواه ، وكان على الأُم أن تواجه الأمر إذ لم يكن مفروضا على العم سليمان أن يستمر في الإنفاق على كل مشكلات الوفاة ، وفي جلسة غداء وقد ضمت المائدة الجميع مع بعض الأقاربا الآخرين بدأ الحديث بصورة واضحة .
قالت العمة زكية وهي تلوك لقمة بين شدقيها : وصل اليوم إعلان من القسم يطلب من لورا الذهاب إلى المحكمة ومعها بعض الأقارب القريبين لإثبات صحة الوراثة من أجل تقسيم التركة .
وهز سليمان كتفيه قائلا في استخفاف : أي ترْكة ؟
- البيت والأرض و ..
- إني لا أجد هناك ما يستحق التقسيم ، يجب أن يبقى كل شيء على ما هو ، وبمجرد أن تنتهي الضرائب من خصم ضريبة التركات نكتب كل شيء باسم البنات وتتولى لورا الوصاية عليهن أمام المجلس الحسبي ، ما رأيك يا لورا ؟
وأشارت الأُم برأسها موافقة في إطراق وهي تقول في لهجة مقتضبة : كما تشاؤون . - وإني على استعداد لأن أتنازل للبنات عن نصيبي في الأرض ، إنها مازلت بيننا على المشاع ، وأعتقد أن زكية لن تمانع في التنازل عن نصيبها إيضا ، حتى نتركها كلها للبنات ، إنها كلها لا تتجاوز 10 أفدنة ولا أظن تجزئتها ستغنينا كثيرا كانت زكية قد توقفت عن المضغ وأخذت تنقل بصرها بين لورا وسليمان في دهشة مغيظة ، وبدا لها وكأن الاثنان قد اتفقا على التآمر عليها .
ولم يكد سليمان ينتهي من تساؤله حتى هبت فيه صائحة : ما هذا الهذيان ؟ إن الأرض كلها ملكي عدا فدانين يخصانك ، سأدفع لك ثمنهما في أي وقت تريد ،
ورفع سليمان عينيه في دهشة وحملقت لورا في وجهها متسائلة : ونصيب فاضل ؟
- لقد باعه لي .
- متى ؟
- بعد أن فُصِلَ من الجامعة مباشرة ، كان محتاجا إلى نقود فأعطيته مبلغا وراء الآخر ، كيف كنت تظنينه يصرف عليك وعلى بناتك ، بمعاشه الذي لا يتجاوز بضعة عشرا جنيها ؟
- ودروسه في اللِسيه ؟
- عشرة أخرى خمسة عشر ، كم تصرفين أنت على البيت ، هل تصرفين أقل من 70 جنيها ، من أين له كل هذا ؟
- منك أنت ؟
- طبعا ، أعطيته 100 في 100 حتى ازداد الدَيْن ولم يجد أي وسيلة أمامه لسداده ، فاقترحت عليه أن أشتري منه نصيبه في الأرض فَقَبِلَ .
اندفعت مُنى بين الحاضرين تصيح : كذابة .
وهبت فيها العمة صائحة في حنق : اخرسي ، بنت قليلة الأدب ، لم تعرف أُمّك كيف تُرَبِّيكِ .
- أنت كذابة إن أبي لم يقترض منك شيئا .
وصاحت لورا في مُنى ناهرة : مُنى ليس هذا شأْنك اذهبي إلى حجرتك ، ابْقِ هناك مع نادية وتناولي معها الطعام .
وكانت نادية قابعة في حجرتها وقد أحاطت رأسها بالإشارْب الأزرق وكفت عن الطعام الذي كانت تتناوله في حجرتها وحدها وأنْصَتَتْ مرهِفة سمعها إلى المعركة الدائرة في حجرة المائدة .
وقفزت مُنى من مقعدها تصيح باكية وهي تجيب على نهر أمها التي أمرتها بمغادرة الحجرة : بل سأغادر البيت كله ، لن أبقى فيه مادامت هي فيه ، إنها تكرهني وتَكْذب على أبي ، إن أبي لم يكن محتاجا إلى أحد .
وصاحت العمة وهي تنظر إليها في حنق : طبعا كان يأتي إليكم بالنقود ليملأ بطونكم ، لماذا تحسون أنه محتاج ، لماذا تحسون أنه يريق ماء وجهه للاقتراض ما دمتم متنعمين هانئين ؟
وَجَّهَت القول إلى لورا وصاحت في لهجة خشنة : ماذا كنت تظنين سبب إصراره على الرحيل والتغرب ؟
تمتم سليمان قائلا : لأنه كان يرى أن كرامته مُسَّت في بلده .
- كلام فارغ وكَذِب ، إنه أصر على الرحيل لأن موارده لا تكفي مصاريفكم ، ولم يجد معي من النقود ما يُمَكِّنني من إقراضه ولو وجدتُ لما أقرضته ليستمر في دفعه في بالوعة لا تشبع .
وصمتت لحظة ثم أردفت تقول لنفسها : والآن وبعد هذا كله مطلوب مني أن أتنازل عن نصيبي في الأرض ؟ من أجل امرأة غريبة حمقاء وبنتين لم تتربيا ، ماذا تظنونني مجنونة ؟ إنني لن أتنازل عن قرش 1 من نصيبي في التَرِكَة .
ونظر إليها سليمان في حنق وأجابها وهو يحاول ألا يفقد أعصابه : ما هذا الذي تقولين يا زكية ؟
- إني أقول ما أعني ، قرش واحد لن أتنازل عنه ، سآخذ حتى نصيبي في هذا البيت وفي المعاش ، مفهوم ؟
وأحس سليمان أنه يجب أن يبذل جهدا كي يمنع نفسه من صفعها ، وقال وهو يضغط على ضروسه : على أية حال ليس هذا وقته الآن ، سنبحث هذا الموضوع مرة أخرى في هدوء .
- لن أبحث شيئا ، إن لي نصيبا شرعيا في الترِكَة وسآخذه والأرض كلها أرضي .
- والبنات ؟
- عندهم المعاش .
- هل تظنين المعاش يكفيهما للمعيشة والدراسة ؟
- لقد تعلمتا ما فيه الكفاية .
- هل تظنين أنه يُمَكِّنهما من مجرد العيش العادي ؟
- ليعيشا على قَدْرِه .
- هل تعتقدين بضعة الجنيهات المتبقية من المعاش بعد أن تأخذ الحكومة نصيبها منه وبعد أن تأخذي نصيبك يكفيهما لمجرد أكْل ؟
- لماذا لا تشتغلان ، هل هما صغيرتان ؟ يمكنهما أن تشتغلان في أي عمل وإلا فما فائدة المدارس والتعليم ؟ إن أصغر منهما يعملن .
وكانت نادية قد أسدلت الإشارْب على وجهها وأسرعت تجذب مُنى التي اتجهت إلى باب البيت تحاول الخروج .
وأحس سليمان أن المناقشة مع زكية قد باتت غير مُجْديَة ، فهز رأسه وهو يبذل جهده حتى لا ينفجر فيها وتساءل في هدوء : أتريدين حقا أن تشتغل بنات أخينا ونحن على قيد الحياة ؟
- ولِمَ لا ، إن أُمَّهما كانت تشتغل ، اسألها ماذا كانت تعمل عندما اقتنصته .
واحمر وجه لورا وبدت طاقَتَا أنفها ترتجفان وهي تحاول كظم غيظها ، وأجابت وهي تنهض عن المائدة : إني حقا كنت أشتغل ولكني لم أقتنصه ، وأظنني أستطيع أن أعود للعمل من جديد لِأَعول ابنتَيَّ دون حاجة لإحسان من أحد حتى ولو كان عمتهما ، وأظننا أننا نستطيع أن نجد في بلدي قوتا إذا عز القوت هنا ، إنه مازال لدينا بيت نأوي إليه هناك .
وهزت زكية كتفيها تقول ساخرة : بلدها هأ ، لو كان لديك شيء في بلدك ما رضيت أن تتزوجي غريبا ، إن التي ترضى بالاغتراب لا يمكن أن يكون لديها ما تتشبث به .
ولم تسمع لورا بقية الجملة وهي تتجه إلى حجرتها وكل عضلة في جسدها تنتفض وغَشَاوَة من الدمع قد حجبت عينيها .
وصاح سليمان بزكية : أنت مجرمة .
- أنت قليل الأدب .
- أنتِ سافلة ، سأتكفل أنا بهن .
- تتكفل بهن بمرتبك الذي لا يكاد يكفيك ؟ المفروض أن تتزوج وتتكفل بنفسك .
- أنت جاحدة أنانية ، طول عمرك بلا قلب .
- وأنت مُغَفَّل وستبقى طول عمرك حمارا .
ونهضت زكية تاركة المائدة وهي تتجه مندفعة إلى الخارج قائلة في لهجتها الحانقة : لن أدخل هذا البيت بعد الآن ، أنا لم أحضر إلى هنا كي أُهان ، ليس لأحد عندي شيء وعندما أمرض أو أحتاج لن يتكفلني أحد ، كل واحد يقول يله نفسي .
وغادرت البيت وساد بعدها سكون مُطْبِق وانفض الباقون حول المائدة متسللين واحدا بعد واحد حتى لم يبق عليها سوى سليمان وقد جلس متكئا على المائدة بمرفقيه ساندا رأسه على كفيه مستغرقا في تفكير عميق ، إنه مسؤول عن بنات أخيه وزوجته ، والمعاش الذي يستحقونه لا يكاد يتجاوز بضعة عشرا جنيها والأرض التي اعتَقدَأنها تعين بإيرادها في معيشتهن قد استولت عليها زكية ، وهو يعرف عنادها وأنانيتها ويعرف أنها لن تقبل أن تعينهن بمليم واحد بعد كل ما قالته ، وهو يستطيع أن يعينهن بجزء من مرتبه ولكن إلى متى ؟ لقد كان يفكر تفكيرا جديا في الزواج قبل أن يموت أخوه ، بل لقد أقدم على مشروع خطبة من أخت زوجة زميل له في السلاح ، على أية حال ليس أمامه سوى تأجيل المشروع وأظنهم سيقدرون السبب ، ولكن هل يمكن أن تنتظره الخطيبة ؟ وتنتظر إلى متى إلى أجل غير محدد ؟ وهل يستطيع بمرتبه أن يفتح بيتا يعول زوجة ويتوقع أولادا وهو في الوقت نفسه يُعيل أُسرة أخيه ؟ هل يستطيع أن يُهَيئ لها ولنفسه الحياة اللئقة ؟ لا يظن ، إنه قَطْعا يجب أن يصرف الآن النظر عن الزواج حتى ،، حتى يحلها ربنا ، كيف ؟ كيف يحلها ؟ بزواج البنتين ، أجل هذا هو خير حل ، وتستطيع لورا بعد ذلك أن تدبر أمر نفسها بما يبقى من معاش بعد قطع معاش البنتين وإن لم تستطع أن تدبره فهي تستطيع العيش مع إحدى بناتها وإذا استعصى عليها ذلك فيمكنها أن ترحل إلى بلدها ، إن لها بيتا كما قالت وأظنها ستفضل العيش في بلدها بعد أن تتزوج ابنتاها ، أجل هذا هو الحل المعقول ، وزواج البنتين ليس بالأمر المستبعد ، بل إن مُنى ك=تكاد تكون مخطوبة ، ألم تقل ذلك منذ بضعة أشهر ، ألم تطلب إليه السعي في إلحاق خطيبها بسلاح الفرسان ، إنه سيحاول ذلك جهده وسيسعى إلى إبقائه في القاهرة حتى ييسر له فرصة الزواج ، هذا نصف المشكلة قد انفرج ، بقي النصف الآخر وهو لا يظن أن حله يمكن أن يكون بنفس السهولة ، إن نادية مخلوقة منطوية وقد ازدادت انطواءً بعد حادثة الحريق وباتت لا تكاد تغادر حجرتها وازداد نفورها من الناس كأنها الحيوان النافر ، ولم تعد تَقْدِر على لقاء أحد إلا وقد لفت وجهها بخمارها الأزرق وكأنما تخشى أن ينفر الناس منها أو يرْثون لها ، وهو حاول مرارا أن يرفع عنها النقاب حتى يزيل عن نفسها ذلك الوهم المسيطر عليها والذي يُدخِل في روعها أنها قد باتت مخلوقة مشوهة مُنَفِّرة قائلا لها : يا نادية يا حبيبتي كُفّي عن هذا البله ، إن وجهك بخير وليس به أي أثر للحريق ، هذه الحمرة سرعان ما تزول كما يزول أثر الخدش ، ارفعي عن وجهك هذا الحجاب .
- إن الطبيب قد أمرني بوضعه .
- لقد أمرك بوضعه لعدة أيام ، وقد انتهت هذه الأيام .
- إنه لا يضايقني .
- ولكنه يضايقنا نحن .
- لماذا ؟
- لأننا نريد أن نرى وجهك .
- ولماذا تريدون أن تروه ؟
- لأنه جميل ، ونحب أن نراه دائما .
- لم يَعُد جميلا ، لقد أضحى شيئا منَفِّرا .
- إنت موهومة ، إنه لم يتغير به شيء ، لقد أصبحت بشَرَته أجمل مما كانت ، صارت أشد ضوءاً وأنعم ملمسا .
- والحبوب التي ظهرت به ؟
- سرعان ما ستزول .
- والقروح التي حول العنق ؟
- مالها ؟
- أيعجبك مَنْظَرَها المنكمش المبقع ؟
- ولماذا لا يعجبني ؟
- لا تقاوح يا عمي .
- ليكن ، لماذا لا تغطين عنقك فقط ، لماذا تخفين كل وجهك ، بل لماذا تسجنين نفسك في حجرتك ؟ يجب أن تَكُّفي عن هذا الانطواء ، يجب أن تستعيدي ثقتك بالناس وبنفسك .
وهزت منى كتفيها معلنة في يأس : منذ متى كان عندها ثقة بنفسها أو بالناس ؟ إنك تَطْلُب منها المستحيل .
أجل لقد كان يطلب منها المستحيل ، وهي تجلس قابعة في حجرتها ، عاصبة وجهها لا تكاد تكشف عنه إلا وقت الأكل أو الاستحمام ، وبعد أن تتأكد أن أحدا لا يراها ، أيمكنها بهذا الانطواء والاحتجاب أن تتزوج ؟ أيمكن لنصف المشكلة الآخر أن يُحَل وهو معقد كل هذا التعقيد ؟ لا يظن ، إنها تحتاج إلى وقت طويل ، وهو في حاجة إلى هذا الوقت لأن مشكلته لا تحتمل التأجيل ، اللهم إلا إذا عدَل عنها نهائيا ، وأحس بشيء من الخُذلان فالمرء لا يستطيع بسهولة أن يجد فرصته الملائمة في الزواج وهو لم يَعُد صغيرا ، لقد جاوز الخامسة والثلاثين وليس عليه أن ينتظر طويلا ، وأطلق زفرة حائرة ورفع رأسه عن كفيه ووجد فاطمة ترفع بقايا الطعام عن المائدة وهي ترمقه بنظرة عطف وهي تتتمتم قائلة : ربنا لا ينسى أحدا ، لا تحمل لهن هَمّايا سيدي ، إن لهن ربا كريما .
أجاب سليمان وهو يغادر المائدة : أجل يا فاطمة ، ربنا موجود .
واتجه في خطوت متثاقلة إلى القاعة فسمع صوت نشيج خافت يأتي من حجرة الأُم وطَرَق الباب فهدأ النشيج ، ومضت برهة قبل أن تجيب الأُم وبصوت خافت : ادخُل .
ودخل سليمان فوجد الأُم تقبع في أحد المقاعد الجلدية وقد احمرت عيناها وانحنى عليها وربت كتفها في رفق : قائلا : لا تحملي هَمّا إني سأتكفل بكل شيء .
ونظرت إليه الأُم وهزت رأسها في يأس وأجابت : أنت طيب القلب ولن أنسى جمائلك أبدا ، ولكني لا أريد أن أُحَمِّلك عبءً لا طاقة لك به ، إن لك حياتك ولك مستقبلك .
- ولكني ...
- أرجوك يا سليمان دعني أُتَمِّم حديثي ، أنا لا أريد أن أفقد عطفك علينا وحبك لنا ، وعندما تمر الأيام وتحس أننا أضعنا حياتك وألقينا بأعبائنا عليك ستكرهنا .
- أنت واهمة ، إني لن أضيق بكم قط .
- هذا كلام يقال الآن والعاطفة مرهفة والعبء لم يُثقل كاهلك بعد ، إن لي رجاءً عندك هو كل ما أطلبه منك .
- ما هو ؟
- أن تساعدني على الرحيل بابنَتَيَّ .
- غير معقول .
- أرجوك يا سليمان ، إني لست على استعداد في الدخول في مشكلات وراثة ومعاش وترِكات ، ولست على استعداد لتحمل المزيد من إهانات أختك .
- لن تريها بعد الآن .
- ولست على استعداد لأن أحَمِّل نفسي وابنتَي جمائل غريب .
- أنا لست غريبا .
- إنك كأخي تماما ، ولكني مع ذلك لن أقبل أن أُثْقِل عليك ، إن كل ما أرجوه منك هو أن تساعدنا على السفر ، أنا لا أعرف شيئا عن إجراءاته ولا أظنك تتركني أستعين بالغرباء .
- إني على استعداد لأن أفعل كل شيء ولكن لا أُوافِقَك أبدا على السفر .
- دعني أسافر على الأقل الآن لكي أغير هذه المناظر التي تحيط بي ، إنني لم أنم ليلة واحدة بعد موته .
- إذن سافري أنت ودعي البنتين .
- أهذا معقول ؟
- ومعقول أن تبعدينهما عن بلدهما وأهلهما ؟
- ستعودان في ظروف أفضل ، دعنا نهرب الآن من هذا الجو الذي رأيته اليوم ، جو البغضاء والضغينة ، إني لست في حالة تعاونني على الاحتمال ، ولست أريد أن أفقد أعصابي أبدا ، ساعدني أرجوك .
- والبنتان ، راضِيَتان ؟
- أعتقد ذلك ، إنهما سيغيران ذلك الجو القاتم الذي أحاط بالكارثة التي حلت بنا .
وأطرق سليمان وأحس أن المشكلة المستعصية قد حلها الله بأسرع مما كان يظن ، ورفع بصره إلى لورا وتساءل : وهل ستجدين هناك ما يعينك على عيشة لائقة ؟
- أجل ، إن لنا بيتا في كاب وأُمّي ماتزال تعيش فيه ، وتحيط به مزرعة طيبة وأنا أستطيع أن أعمل بالمدرسة هناك ، لا تقلق علينا ، إني واثقة أني أستطيع أن أتدَبَّر أمري ، كل ما أريده منك أن تعاونني على السفر
- حاضر سأفعل لك ما تريدين بشرط .
- ما هو ؟
- أن تعدِيني أن سفرك ليس إلا رحلة لتغيير الجو حولك وحول البنتين ، وأن تعودي ثانية في أقرب فرصة .
- سأحاول ...
16
حنينٌ إلى وداع
مضت بضع أسابيع وسليمان يحاول أن يحل مشكلات الأُسرة التي فقدت عائلها ولكن المشكلات ازدادت تعقيدا وتكشفت مع الأيام ديون جديدة كان فاضل قد استدانها ولم يسدد إلا جزءً ضئيل منها ، ولم يستطع سليمان أن يُلِين من حدة زكية ويغير من موقفها العدائي الأناني ، ولم يجد بدا في النهاية من التسليم من سفر الأُم وابنتيها كحل مؤقت للمشكلات ، وإراحة لهن من جو مليء بالمتاعب ومشحون بالنكد والهموم .
ولم تستغرق إجراءات السفر وقتا طويلا ، كانت جوازات السفر معدة ولم يكن أمام سليمان إلا السؤال عن مواعيد السفن وحجز التذاكر ، ومرة أخرى بدأت حركة التجهيز للسفر ، وفي هذه المرة كانت الأحمال أثقل والحقائب أكثر عددا ، وكان البيت يسوده الاكتئاب وتخيم عليه الوحشة ، كانت الأُم تُعْد العُدَّة إلى سفر بلا عودة ، كانت تحس بعد ما لاقت من عَنَت أنه لم يعد لها مقام في مصر ولن تجد مشقة للرحيل بالنسبة لنفسها ، وقد تملكها بعد وفاة فاضل إحساس باليأس جعلها تُسَلِّم بكل شيء ، وكانت تجد في العودة لبلدها خاتِمة طبيعية لحياتها ، أما بالنسبة لابنتيها فقد كان الأمر يختلف كل الاختلاف ، كانت تحس أن تلك البلدة الكائنة جنوب فرنسا على قمم الألب العليا والتي لم يعد هناك مفر من أن تكون بالنسبة إليها خاتمة المطاف ونهاية لمستقَر ، هذه البلدة النائية لا يمكن أن تكون بالنسبة للصبيتين مقرا أخيرا وموطنا نهائيا ، كانت تحس بمصريتهما تسري في دمائهما ، كان كل ما بهما مصري أصيل ، طباعهما وحديثهما ومشاعرهما ، كان ثمة شيء أعمق منها ومن أمومتها يسيطر على البنتين ويَشُدُّهما إلى هذه الأرض بأهلها وأبنيتها وشوارعها ، ولم تستطع الأُم أن تقنع نفسها أن هذا الرحيل يمكن أن يكون بالنسبة لابنتيها رحيلا أخيرا ، كانت تعرف أن إحداهما قد ربطت نفسها فعلا بمخلوق من هذه الأرض ومن بين هؤلاء الناس وأنها قد وطدت عزمها على العودة إليها ومشاركته حياته ، والثانية من يدري ؟ لعلها هي الأخرى قد شدت قلبها بمخلوق آخر لا تُفصِح عنه ، ومع ذلك فهي لا تجد بُدّا من الرحيل فأعصابها لم تعد تطيق البقاء ثانية ، وهي إن لم تسرع بالرحيل فقد تصاب بالجنون ، والإقامة كذلك من الناحية المادية تكاد تكون متعذرة بطريقة لائقة إلا على أكتاف سليمان ، وهي تكره أن تكون بابنتيها عبءاً على أحد أو أن تقيم حياتها على شقاء الآخرين ، فالرحيل إذن لا بد منه الآن ، أما العودة فعلمها عند الله هو وحده الذي يقرر مصير البنتين ، ومن يدري ألا يكون يُحتمَل أن يكون ارتباطهما بهذه الأرض مجرد وهم ؟ ألا يُحتمَل أن يتعودا الإقامة هناك ، ويستسيغا العيش وتصبح هذه الأرض وهؤلاء الناس بالنسبة لهما مجرد ذكرى ، من يدري ؟
واستمرت الأُم تطوي الملابس وتضعها في الحقائب ، وكانت مُنى ونادية تقومان بنفس المهمة في حجرتهما ، ووقفت مُنى بقدميها على حقيبتها وأخذت تقفز محاولة دق الحقيبة المنبعجة ، ونظرت إليها نادية وتساءلت في دهشة : ما هذا أجننتِ ؟
- إنها لا تريد أن تُغلَق .
- طبعا ما دمت قد حشرتِ بها كل هذه الملابس .
وعادت مُنى تقفز فوق الحقيبة فصاحت بها نادية : كُفّي عن هذا ، وإلا حطمتِ الحقيبة .
- كيف أُغلِقها إذن ؟
- خففي ما بها .
- هل تأخذينه أنت في حقيبتك ؟
- بعد كل ما أخذْتُ ؟غير معقول ، لقد أضحت حقيبتي شرا من حقيبتك .
- إذن ماذا أفعل ؟ إني لم أضع بها شيئا لا ضرورة له .
- إذن أعيدي ترتيب الملابس ثانيةً .
- يا نهار إِسود ، لقد أمضيت ساعتين في رصها .
- امضِ ساعتين أخريين ، ماذا وراءك ؟
- ماذا ورائي ؟ سأذهب إلى النادي .
- لماذا ؟
- لأرى عصام .
- ألم تريه بالأمس ؟
- أجل رأيته ، وسأراه اليوم ، هل لديك مانع ؟
- المانع لديك أنت ، وهو أنه يجب أن ننتهي الليلة من تجهيز كل لوازم السفر لأننا سنرحل في الفجر إلى الإسكندرية ، لأننا يجب أن ...
وقاطعتها مُنى في ملل قائلة : أعرف كل هذا أعرفه ، ومع ذلك لابد أن أذهب لأرى عصام .
- إِتفِلْئي ، افعلي ما تشائين ، ولكن تأكدي أنني لن أمد يدي إلى حقيبتك .
واقتربت مُنى من نادية وأحاطتها بذراعيها محاولة أن تلِين من إصرارها ، ودفعتها نادية قائلة : ابتعدي عني ، لم أَعُد آكل من هذه الحركات .
- يا نادية يا حبيبتي لِمَ تعاملينني بهذه القسوة ؟
- اذهبي أولا وأَعِدّي حقيبتك .
- واترك عصام دون أن أوَدِّعه ؟
- لقد وَدَّعتِهِ بالأمس .
- ولكنه اليوم شيء آخر غير الأمس .
- ماذا به ، على رأسه ريشة ؟
- بل على كتفه نجمة وأنت الصادقة .
ورفعت نادية حاجبيها متسائلة في دهشة : متى وضعها ؟
- اليوم ، الآن في هذه الساعة .
وصمتت مُنى برهة ثم وَثَبَتْ إلى الراديو قائلة : يا نهار أبيض لقد كدت أنسى إن حفلة تخرجه تُذاع من الراديو .
- حفلة تخرجه تُذاع ! ؟
وأمسكت مُنى بمفتاح الجهاز تديره يمنةً ويسرى محاولة تغيير الموجة وهي تقول في غيظ : لقد قال لي إنها ستُذاع ، لست أدري أين .
فردت نادية قائلة : ربما في ركن الأطفال .
ونظرت إليها مُنى في غيظ قائلة : دَمِّك خفيف يا شاطرة .
وهزت نادية رأسها متسائلة : لست أدري لماذا يوذيعون حفل تخرج سي عصام ، ماذا يمكن أن يُذاع منها ؟
- خطبة الرئيس جمال عبد الناصر .
- الرئيس جمال عبد الناصر سيخطب في حفلة تخرج عصام ؟ !
- أجل .
- لماذا ؟
- لأجل خاطر عصام ، إنه صديقه الروح بالروح ، لقد ذهب إلى الحفلة خصيصا لأجله .
- يا دَمِّكِ ، أتظنين الرئيس جمال عبد الناصر فاضي ليحضر حفلة تخرج سي عصام .
وكان الحديث يدور وأصابع مُنى لا تكف عن إدارة مفتاح الراديو حتى علا صوته فجأة يقول : وقف الرئيس جمال عبد الناصر على المنصة وعلى يمينه القائد العام اللواء عبد الحكيم عامر وعلى يساره قائد الكليَة الحربية وقد أخذ حُماة الوطن يمرون رافعوا الرؤوس .
وسُمِعَت صوت الخطوات العسكرية تدق الأرض في قوة على دقات الموسيقى .
والتفتت مُنى إلى نادية في شماتة : سمعتِ ، أصدقتِ أن الرئيس جمال عبد الناصر ذهب لحضور حفلة تخرجه .
وضحكت نادية قائلة : لقد ذهب حقا ولكن ليس من أجله .
وردت مُنى في عناد : بل من أجله وحده ، ليس هناك من يستحق أن يذهب إليه الرئيس جمال عبد الناصر سواه .
وتعالت النداءات العسكرية وسُمِع صوت يهتف : السرية الثالثة لليمين انظر .
ووقفت مُنى صائحة : هل تسمعين السرية الثالثة إنها سَرِيَته ، إن هذا صوته ، إني أميزه من آلاف الأصوات ، هل سَمعْتِه ؟
وضحكت نادية قائلة : اهدئي يا مُنى ، وكُفّي عن هذا الصراخ .
- قولي هل سَمِعْتِه ؟
- أجل سمعته .
- إياك أن تكذبيني مرة ثانية ، عندما أقول لك أن الرئيس جمال عبد الناصر سيحضر الحفل يعني سيحضره .
- وعندما تقولين أنه ذهب من أجل سي عصام يعني ذهب من أجله ؟
- أتهزئين ، لماذا ذهب إذن ؟
وكانت الموسيقى العسكرية قد خفتت وعلا صوت المذيع يقول في حماس : أيها المواطنون الرئيس جمال عبد الناصر يقف أمام المايكرفون ليلقي خطبته في جنود الوطن وحَُماة المستقبل .ومضت فترة قصيرة علا فيها صوت الرئيس جمال عبد الناصر يقول في هدوء : أيها الجنود أشعر اليوم وأنا أقف بينكم في هذا المعهد أن مصر تمر بنقطة تحول في تاريخها الحديث ، لقد كنا حين نقف بين أرجاء هذا المعهد في أيام خلت نشعر أن مصر غنية بالرجال وأن رجالها لا تنقصهم الشجاعة ولا تعوزهم القدرة على التضحية ولا الإيمان بأوطانهم والثقة بأنفسهم ، ومع ذلك ورغم شعور الثقة الذي كان يملؤنا بأنفسنا وبأوطاننا كان ثمة إحساس بالمرارة يَرْسُب في أعماقنا وشعور بالحسرة يُفعِم قلوبنا لأننا كنا نعلم أن كل ما كنا نملك من رجال وتضحية وشجاعة وإيمان ينقصه الدُعامة التي يمكن أن تجعل لكل ما نملك قوة ومضاء ، كان ينقصه السلاح ، ولم تكن حاجتنا إلى السلاح أيها الأخوان عن فقر ، لا ، ولا كانت عن تهاون وإنما كانت نتيجة التحكم الأجنبي فينا وسيطرة المستعمر علينا ، وعندما أقف اليوم بينكم .
ومدت مُنى يدها إلى الراديو تحَوِّل المؤشر إلى محطة أخرى ، وقفزت نادية إلى الراديو هاتفَة : أيتها الغبيَة ، إن هذا هو ما أتى من أجله ، اتركي الراديو .
وضحكت مُنى قائلة : ما شاء الله ، منذ متى أصبحتِ سياسية ؟
- هذه ليست سياسة ، هذا هو مصيرنا ، إنه سيتحدث عن صفقة الأسلحة .
ومرة أخرى علا صوت الرئيس جمال في الراديو يقول : مصر التي كانت تملؤها المرارة وتُفعِمها الحسرة تستطيع اليوم أن تتنفس في حريَة ، تستطيع أن تُحس بالطمأنينة والأمن لأنه لم يَعُد يعوزها السلاح ، لقد كنا فيما مضى أَغْنياء بالرجال والشجاعة والتضحية والإيمان ، واليوم نشعر أننا أَغْنياء بكل هذا وبالسلاح أيضا ، هذه يا أخواني نقطة التحول التي نمر بها .
ونظرت مُنى إلى علائم الإزصغاء والاهتمام البادية على وجه نادية وتساءلت ضاحكة : هل اطمأْننتِ إلى السلاح ؟
وأشارت نادية برأسها بالإيجاب واستمرت في إصغائها وعادت مُنى تتساءل ساخرة : هل ستأخذينه معك إلى كاب للدفاع عنه ؟
وجثمت سحابة تجهم على وجه نادية .
وعادت مُنى تقول : لماذا لا تُجيبين ؟
وصمتت نادية برهة ثم أجابت بصوت خافت : إن وصولنا إلى كاب لا يعني انقطاع إحساسنا بمصر ، لا شيء يا مُنى يستطيع أن يقطع صلتنا بها ، هل تكرهين أن تكون مصر حرة آمنة ؟
- كيف أكره هذا ؟
- إن هذا السلاح سيحقق لها الحريَة والأمن .
وصمتت مُنى وارتفع صوت الرئيس في الراديو يردد : لقد كانت يا أخواني حادثة 28 فبراير نى الماضي حادثة الاعتداء اليهودي المُدَبَّر الذي وصفه مجلس الأمن بأنه اعتداء مُدَبَّر وحشي على جنود آمنين مطمئنين ، لقد كان هذا الاعتداء الذي دبَّره بنكوريون والذي شَكَر من أجله تنفيذه رجالا من من الجيش الإسرائيلي ، كان هذا الاعتداء هو ناقوس الخطر ونحن نحمد الله عليه ، فقد استطاع أن يُنبِهنا إلى مواطن الشر ، وكان مصاب 28 من فبراير رغم فداحته نعمة علينا ، لأنه كان لنا بمثابة نذير استطعنا به أن نتلافى مصائب أكبر وندفع أخطارا أشد .
ونظرت مُنى إلى نادية في إصغائها إلى الراديو وهزت كتفيها ، ثم أمسكت بحقيبتها وقلبتها رأسا على عقب قائلة : اسمعي سأعيد ترتيبها كما طلبتِ ، ولكن عندما يحل الموعد لن يستطيع شيء منعيمن الذهاب إلى النادي .
- إنه لن يذهب إلى النادي قبل أن تنتهي الخطبة وينفض الاحتفال ، وستكونين خلال ذلك قد استطعتِ ترتيب الحقيبة .
- استطعت أو لم أستطع سأذهب إلى النادي في موعدي ولو أدى الأمر إلى السفر بالحقيبة مفتوحة ومَلابسي في يدي .
وضحكت نادية قائلة : سأُتْمِم أنا ترتيبها ، فقط أرجوكِ دعيني أسمع .
- خَلاص أصبحتِ وطنية ، إن شاء الله سيدخلونك في مجلس قيادَة الثورة .
ولم تجب نادية وعادت تُنْصِت إلى صوت الرئيس وهو يقول : منذ ذلك اليوم بدأنا نُدَقِّقُ في معنى السلام ، وفي معنى توازن القوى في هذه المنطقة ، فماذا وجدنا أيها الأخوان ؟ وجدنا أن التوازن يعني تسليح إسرائيل ومنع السلاح عنا ، إننا استطعنا أن نحصل على معلومات أكيدة تُثبِت أنهم في الوقت الذي يمنعون عنا السلاح يعملون على تموين إسرائيل به ، إنهم يريدون أن يرونا عُزَّلا مستضعفين ، يريدون أن نبقى دائما تحت رحمتهم لكي نطلب نجدتهم إذا ما أُعْتُدِيَ علينا ، تلك هي الخدعة الكبرى التي ينادون بها في أنحاء العالم ، تلك هي أسطورة السلام في الشرق الأوسط ومهزلة التوازن .
وعلا صوت الأُم من حجرتها منادية : نادية .
وتَرَكَتْ تْ نادية الراديو واتجهت إلى أمها تُجيب :نعم يا ماما .
- هل أخذتِ العلبة المستديرة التي بها العُقد والأسويرة ؟
- لا لم آخذها ، لقد كانت في دُرْج الشُفُنيرا .
- إنها غير موجودَة .
- قد تكون موجودَة في دُرْج آخر .
- سأبحث عنها .
وترَكَتْ نادية الحجرة .
وأخذت مُنى ترص الملابس في حقيبتها وقد بدا عليها القلق وهي تسمع صوت الرئيس جمال يُنهي خطبته قائلا : بهذا أيها الأخوان ستسير مصر في خطها قُدُما إلى الأمام ، لا ضعف ولا استسلام بل تصميم وعزم ، إننا سنسلح جيش مصر حتى نتمكن جميعا من الدفاع عن حدود مصر ونرد العدوان بالعدوان .
ودوت بعد ذلك عاصفة من التصفيق والهتاف ، ولم تحاول مُنى أن تسمع تعليق المذيع بل قذفت الملابس التي امتلأت بها أرض الغرفة وخرجت من القاعة إلى خارج البيت دون أن يراها أحد ، وسارت تحث الخطا في طريقها إلى النادي .
وبقيت نادية في حجرة أُمها تبحث عن العلبة المنشودة حتى وجدتها ، ثم أخذت تعاونها في حزم الأمتعة ورص الملابس حتى انتهت من كل ما بحجرة أُمها ، وعادت إلى حجرتها مرة أخرى فوجدت ملابس منى مازالت مكدسَة في الحقيبة فانهمكت في ترتيبها حتى انتهت منها ، وأحست بالتعب يتملكها فخرجت إلى الشرفة تستنشق نسمات الليل المشبعة بعبير الياسمني التي تسلقت الشرفة .
ودقت الساعة الثامنة والنصف وأحست أن غيبة مُنى قد طالت وتملكتها رغبة في أن تلحق بها وتحضرها من النادي ، ورفعت أصابعها تتحسس وجهها وعنقها وتملكتها الرهبة ، إنها لا تجسر على مواجهة الناس بوجهها هذا ، لقد باتت تخشى لقاءهم جميعا فكيف تغامر بالذهاب إلى النادي لعرض نفسها للقائه هو ؟كيف تجسر أن تواجهه بوجهها المسلوخ وعنقها المقروح ، لا لا ، يجب أن تأوي إلى فراشها ، يجب أن تدع الليلة الأخيرة تمر بها على خير ، ، ومع ذلك أحست بالحنين يزداد بها إلى وداع أخير ، ولم تستطع مقاومة الرغبة الجارفة التي تدفعها إلى أن تطوف بالنادي طوفة أخيرة .
ومَدَّت يدها إلى القناع الأزرق فلفت به رأسها وأحكمته على عنقها ، ثم رفعت ياقة البلوزة وضمتها إلى رقبتها ، وبخطا وئيدة تسللت من الباب ، واندفعت في الطريق تتلفت حولها في خشية وذعر ...
17
دعها للقَدَر
وصلت نادية إلى النادي ودلفت إلى الحديقة المتسعة من الباب الخلفي ، وكانت الظلمة قد خيمت في أرجاء الحديقة فترامت أطرافها وبدت ملاعبها بلا حدود ، إلا من أطراف الجازُرينا الشاحبة المهتزة أمام هبات النسيم ، وتطلعت نادية إلى الشرفة المستديرة التي تضم النافورة والكافورة الضخمة وقد تناثرت فيها المناضد واحتشد الأعضاء يتبادلون الحديث والضحكات ، وتملكها خوف من الضوء وخشية من نظرات الناس ، وتمهلت في سيرها مستترة بالظلمة وراء أسوار التنس العالية ، وأخذت تتطلع في رهبة ووجل إلى ملعب الكوروكيه الذي بدت رقعته المستطيلة الخضراء مضيئة وسط الحديقة المظلمة وقد علتها مصابيح النيون المعلقة في الأسلاك المشدودة من أطراف الملعب ، وفجأة ارتعدت أطرافها وتلاحقت أنفاسها وتعالت دقات قلبها متتابعة في عنف عندما أبصرت الشبح الطويل يسير الهُوَيْنة في الرقعة الخضراء ثم ينحني بمنكبيه العريضتين ليضرب الكُرة الملونة في الضوء الأبيض ، وقفت في مكانها برهة وقد علقت به عيناها تتبعانه في حركته الوئيدة وراء الكُرة بجوار زملائه في الملعب ، وتمنت لو استطاعت أن تعدو إليه لتودعه وتُنْبِئه أنها ستسافر غدا ، وأنها قد لا تعود ، وتمنت لو استطاعت مجرد الاقتراب لتلقي عليه نظرة وداع قبل الرحيل ، ولتختزن من مَرْآه ما يملأ ذكرياتها ، ولكن يدها امتدت بلا وعي لتجس عنقها وتتحسس صفحة وجهها ، وارتجفت أصابعها وضغطت بأسنانها على شفتها السفلى وهي تحس بصرخة نحيب توشك أن تنطلق من أعماقها ، كيف تجرؤ على هذا التفكير ؟ كيف يخطر ببالها أن تقدم على هذه المغامرة ؟ بل كيف جرؤت على مجرد الاقتراب من النادي ؟ أي رغبة حمقاء دفعتها إلى المجيء إلى هنا ؟ وأي وداع هذا الذي ترجوه ؟
وأحست برغبة في أن تطلق ساقيها للريح وتنجو بنفسها قبل أن يُبْصرَها أحد ، ولكنه لم تكد تستدير لتعود من حيث أتت حتى أحست بوقع أقدام تقترب من ورائها من الممر ، ثم سمعت صوتا يهتف بها : نادية .
وتلفتت في خوف لتجد مُنى وقد وضعت ذراعها في ذراع عصام وسار بجوارهما شبح نحيل طويل ، استطاعت نادية أن تميز فيه صبري برأسه الصغير ومنظاره السميك الذي أخذ يلمع في الظلمة ، وبحركة لا إرادية ارتفعت يدها لتضم الإشارْب حول رأسها وتحكم ياقة البلوزة حول عنقها .
وهتف صبري في لهفة : نادية ، كنت هنا في النادي ؟
وترددت نادية برهة قبل أن تجيب : ثم هزت رأسها وقالت : أجل .
- لماذا لم نَرَكِ إذن ؟
- لقد ، كنت أتمشى في الحديقة .
- تتمشين في الحديقة ، ولماذا لم تأتِ لتجلسي معنا ؟ هيا بنا نَعُد .
وبدا القلق على نادية ونظرت إلى الشرفة المزدحمة وإلى أنوارها المتلألئة وأجابت وهي تحاول الاتجاه بهم إلى الباب الخلفي للحديقة : لم يعد هناك وقت لابد لأن نعود الآن .
وقال عصام : لا فائدة من نادية ، إنها لم تعد تحبنا ، ألا تجلسين معنا بضع دقائق على سبيل الوداع ؟
وقال صبري راجيا : أجل بضع دقائق فقط ، ألن يوحشك فراقنا ؟ ألن يوحشك البُعد عن نادينا ؟
وأحست نادية بالخناق يضيق عليها ، ولم تجد ما تستطيع الاعتذار به عن الجلوس معهم بضعة دقائق التي يطلبونها ، وتملكها الذعر عندما وجدت أنها توشك أن تظهر بوجهها وعنقها افي الضوء أمام الناس ، وبطريقتها اللاإرادية مدت يدها إلى عنقها ونظرت إلى مُنى متوسلة قائلة في ارتباك : طبعا سيوحشني الفراق ، إني أود أن أجلس معكم ولكن ...
وقاطعها صبري قائلا : ولكن ماذا ؟ لا يمكن أن تبخلي علينا ببضع دقائق نودعكِ بها .
وقالت مُنى وهي تنظر إلى يد نادية التي أخذت تتحسس عنقها في الظلمة وقد بدا الخوف على ملامحها دعونا نتمشى ، إن جلسة النادي أصبحت مزعجة .
ثم جذبت عصام من يده وسارت باتجاه البابوهي تُردِف قائلة : هيا بنا ، إن الطريق هادئ ويمكنكما أن توصلانا إلى البيت فنستطيع التحدث دون أن نضيع وقتا .
وهز صبري رأسه قائلا وهو يضحك : - موافق بشرط ألا نسير بسرعة .
وسار الأربعة بالشارع الخلفي للنادي متجهين إلى شارع الخليفة المأمون ، وكانت مُنى ماتزال تتأبط ذراع عصام ، وسار صبري مجاورا لنادية وهو ينظر إليها بطرف عينه ، وهي تحس بخوف من نظراته وتضم الياقة حول عنقها كلما اقتربوا من أحد مصابيح الطريق .
ومضت برهة صمت كان صبري يحاول خلالها كعادته أن ينتقي شيئا يحدث به نادية .
كانت نادية شاردة في مدحت التي لم تستطع في وداعها له إلا أن تطوف به طواف الأشباح ، وكانت مُنى تفكر في نادية وخوفها من الناس وإحساسها بالتشويه ، كانت تحس في سفرهم خير علاج لتلك العُقُد التي أصابتها بعد الحريق ، وكان عصام يفكر في يومه الحافل وفي غده المجهول ، يفكر في مُنى وفي بدلة الضابط التي ستنتهي غدا من عند الترزي وفي سلاح المشاة الذي أُلحِق به وفي خطبة جمال عبد الناصر عن صفقة الأسلحة وفي أشياء كثيرة مختلطة مضطربة .
وكانت مُنى أول من أحس بطول الصمت ، فقالت ضاحكة : ما شاء الله ، أتنوون أن تقضوا المسافة هكذا صامتين ؟
ثم وجهت الحديث إلى صبري ساخرة : إي ، يا صبري لقد كدنا نصل وأنت لم تنطق بحرف ، أهذا هو الوداع الحار الذي تنوي أن تودعنا به ؟
ونظر صبري إلى نادية وأجاب قائلا : لقد كنت أود أن أقول لنادية أشياء كثيرة ، ولكني أجد الوقت لا يكاد يسمح إلا بالصمت ، لقد حاولت أن أراها من قبل وانتظرتها في النادي كثيرا وسألت عنها منى في كل مرة أراها فيها فكانت تقول لي : إنها لا تخرج من البيت ولا تَلْقى أحدا ، حتى الحديث في التليفون لم أفلح فيه ، واليوم لا أكاد ألتقي بها حتى أجدها تبخل علينا ببضع دقائق للوداع ، فماذا أقول لها ؟
وأجاب عصام قائلا : قل أي شيء ، حَدَّثْها عن صفقة الأسلحة التي قَلَبْتَ رَأسَنَا بها .
وضحك صبري قائلا : تقصد الأسلحة التي جعلت منك ضابطا بحق ؟
- أنا لا تهمني الأسلحة ، أنا نائب أحكام .
- ليكن ، لقد جعلت منك نائب أحكام في جيش به أسلحة ، هل تعلم أنه لولا صفقة الأسلحة هذه ..
وقاطعته مُنى وهي تضحك قائلة :عجيبة ، إن صبري متحمس للأسلحة أكثر منك ! ؟
فأجاب عصام قائلا : لأنها أسلحة روسية ، لو كانت أسلحة أمريكية لما ...
- كلام فارغ ، إني متحمس لأننا لم نَعُد بعد عُزَّلا ، لقد أضحى عندنا السلاح الذي نستطيع به الدفاع عن أنفسنا ، إني أتصور نفسي على إحدى طائرات الميج أو داخل دبابة استالن ..
وقاطعته نادية ضاحكة : ههه لماذا إذن لم تدخل الحربية ؟
ورفع صبري سبابته وأشار إلى منظاره السميك وقال : أدخل الحربية بهذه ؟
وقال عصام ضاحكا : ههههه ولِمَ لا ؟ تستطيع أن تحسس على التخت .
- على أية حال إني على استعداد للتطوع في أي معركة إذا أحسست أني سأكون ذا فائدة ، أقل فائدة .
وتساءل عصام : حتى لو كانت معركة مع روسيا ؟
- ولماذا نتعارك مع روسيا ؟ إن عدونا هو إسرائيل وإنكلْترا .
- لماذا تتهرب من السؤال أيها الشيوعي ، إني أسألك هل أنت على استعداد للتطوع في أي معركة حتى ولو كانت ضد روسيا ؟
وتوقف صبري وتساءل غاضبا : هل لديك شك في هذا ؟ هل تظنني خائفا ؟ إني أحب روسيا لأنها تعاوننا وليس هناك عاقل يقول لك أكره من يعاونك .
وضحكت نادية وهي تجذب صبري من ذراعه قائلة : لا تغضب يا صبري إنه يضحك معك .
- لا إنه لا يضحك ، إنه دائما يتهمني بأني شيوعي .
- ألم تقل لي أنت أنك تحب الشيوعية ؟
وقالت مُنى وهي تضحك : انتهينا فضوها سِيرة ، بلا شيوعي بلا أمريكاني ، لقد أتيتما لتودعانا لا لتتعاركا .
وعبر الأربعة شارع الخليفة المأمون إلى منشية البكري وساروا في الطريق المؤدي إلى البيت وقد أطرق كل منهم وانطلق في سرحانه .
وكان صبري أول من أفاق من شروده وهو يحس أن البيت يَقْرُب دون أن يقول شيئا ، لقد كان يتمنى لو يخلو بنادية ليحدثها عن أشياء كثيرة ، ليقول لها أنه يضعها في خطط مستقبله كنواة لهذه الخطط ، وإنه يعتبرها دعامة أحلامه ومبعث آماله ومنبع أمانيه ، كان يود أن يقول لها ما عجز في السنين الماضية عن قوله ، ولكنه كان يحس أن الفرصة قد فاتت وأن بضعة الدقائق الباقية لن تسمح له بأن يقول لها أكثر وداعاً وكان يعلم أيضا أنه حتى لو واتته الفرصة فلن يقول شيئا بل سيضيعها كما أضاع غيرها ، لشد ما يحس بالعجز أمامها ، وأحس أنه يجب أن يقول شيئا فمِنْ غير المعقول أن يتركها تسافر دون أن تعرف أن ثمة خيطا يربط بينهما ، وأخيرا قال فيما يشبه الهمس : هل أستطيع أن أكتب إليكِ ؟
وأفاقت نادية من شرودها في الشبح الطويل القامة العريض المنكبين الذي مازال يسير الهُوَيْنة وينحني على الكُرة في الرقعة الخضراء تحت الضوء الأبيض ، أفاقت نادية من شرودها قائلة : طبعا طبعا ، يسعدني أن تكتب إلي .
- هل أستطيع أن أعرف العنوان ؟
وأجاب عصام : إنه معي سأعطيه لك عندما نعود إلى النادي .
وكانوا قد اقتربوا من البيت فتمهلوا في السير حتى توقفوا على بُعد خطوات من باب الحديقة ، ومدت مُنى يدها إلى عصام فأبْقاها في كفه برهة ، وقال وهو يشد عليها : لن تتأخري .
- سأعود بمجرد أن تطلب عودتي .
- أنا أطلب عودتك منذ الآن ، إني لا أريد أن تسافري ، إني على أتم الاستعداد أن نتزوج الآن إذا قررتِ البقاء .
وخيمت على وجه مُنى الضاحك سحابة حزن لم تستطع طبيعتها المرحة أن تبددها ، وحاولت جهدها أن تكسو وجهها ابتسامة ، وقالت وهي تشد على يد عصام : يجب أن نسافر الآن يا عصام ، إن أمي في حالة معنوية سيئة جدا وهي في أشد الحاجة لتغيير المكان والجو وأنا لا أستطيع أن أتخلى عنها في مثل هذه الظروف ، يجب أن نسافر سويا وسنعود كلنا عندما تنصلح الأحوال .
- أي أحوال ؟
- أحوالنا جميعا ، أنت لا تدري عن الظروف القاسية التي مررنا بها خلال المدة التي أعقبت موت أبي .
- إذن دعي ماما تسافر وحدها لتستجم .
وضحكت مُنى في مرارة قائلة : إن المسألة ليست مجرد استجمام يا عصام ، إن بقاءنا هنا الآن يكاد يكون مستحيلا ، إن حياتنا أضحت سلسلة من المشكلات .
وهز عصام رأسه كأنه لا يصدق وقال في يأس : أعتقد أنك تستطعين على الأقل البقاء أنت ونادية ؟
- إن نادية في حاجة إلى السفر أكثر من أمي .
ثم همست بصوت خفيض : إنها لا تجسر أن تلْقى الناس منذ الحريق .
وتساءل عصام في دهشة : ولِمَ ؟
- لأنها تعتقد أن وجهها قد شُوِه .
- وهل شُوِهَ حقيقةً ، هل ترك الحريق به أثرا ؟
- ألم تلحظه ؟
- لم أحقق فيها ، لقد وقفت طوال المدة في الظلام .
- لأنها تخشى أن يراها أحد .
- ولهذا رفضت الدخول في النادي ؟
- طبعا .
- ولكن هل أصابها التشويه حقا ؟
وهزت مُنى رأسها في حيرة وحزن وأجابت هامسة : لا أظن ، أنا لا أستطيع أن أحكم بالضبط عما أصابها ، أنت تعرف أن الإنسان لا يحس كثيرا بما يصيب القريبين منه من تغيير ، إني أراها كما هي جميلة رقيقة حبيبة ، قد يكون لون وجهها أضحى أكثر احمرارا وأشد لمعانا كالجرح حين يقشر ولكني لا أرى في ذلك تشويها والطبيب قد أكد أن هذا سيزول مع الزمن .
- أهذا ما يجعلها تهرب من الناس ؟
وهزت مُنى رأسها وقالت في تردد حزين : وعنقها ، لقد ترك فيه الحريق أثرا واضحا ، ولكني لا أحس أبدا أنه شوهها ، إن نادية لا يمكن أن تُشَوَه .
وأطرق عصام في حزن وتمتم قائلا : مسكينة نادية .
- ولكنها تستطيع إخفاءه ، أؤكد لك أنك لو رأيتها في النور وهي تلف رأسها بالإشارْب وتُحْكِم الياقة حول عنقها لما لاحظت بها أي تغيير .
- إنها تحتاج للكثير من الحب والحنان ، لكي تعاودها الثقة بنفسها ولكي تقتنع أن ما أصابها لا يمكن أن يترك أثرا في نفوس الغير ، ليتني أستطيع أن أفعل لها شيئا .
- لا فائدة ، إن الرحيل خير علاج لها ، يجب أن ترى أناسا جددا لا تخشى مواجهتهم .
- على العكس إنها ستستمر في انطوائها ، ليتها تبقى .
ثم نظر إلى صبري وقد وقف مع نادية على مَقْرُبة من باب الحديقة ، وقد أخذ يرقبها في إعجاب ويتحدث إليها في وله ، وهمس عصام في ثقة : إنه يستطيع أن يفعل لها شيئا كثيرا ، لا تتصوري كم يحبها .
وهزت مُنى رأسها هزة شك وقالت في مَرارة : لا أظن ، ليس هو ، إن الذي يستطيع لا يكاد يحس بها ، ولا أظن أنها باتت تجرؤ على الاقتراب منه .
وهز عصام رأسه في يأس هامسا : مسكينة .
وحاولت مُنى أن تنفض عنهما سحابة الحزن التي لفتهما فقالت ضاحكة : دعها للقدر .
وأجابها عصام في مَرارة : وماذا نملك غير ذلك ؟
وأجابت مُنى في إيمان : إني واثقة أن الله لن يخذلها ، إنها طيبة.
وكانت نادية قد بدأت تقلق ولم يكن صبري قد استطاع في تلك الفرصة التي انفرد بها أن يحدثها عن شيء أكثر من صفقة الأسلحة وفائدتها وعدم تقييدها مصر بأي قيد وعما يمكن أن تجنيه بالحياد الإيجابي وعن موقف الغرب الموالي لإسرائيل وعن الفضيحة التي كشفها جمال عبد الناصر عندما قرأ الوثيقة الرسمية التي حصلت عليها المخابرات المصرية والتي تكشف الأسلحة التي سلمتها بريطانيا لإسرائيل .
واندفع صبري يردد عن ظهر قلب : تصوري 20 متيور و 50 يوسْنانج و 20 مُسكيدو وتسعين طائرة يعطونها لإسرائيل عدا 100 جيرفن ولستيجهاون .
وكان ممكن أ أن يستمر صبري في سرد أرقام الأسلحة لولا أن بدأت نادية تتحرك في قلق وأحس صبري أن الهُنَيْهات التي منحها الوداع قد قضاها في السياسة والحرب ، وكره من نفسه هذا العجز الذي يشل لسانه عن أن يحدثها عما يفيض به صدره .
مدت نادية يدها مودعَة وهي تهتف بمُنى : هيا يا مُنى لقد تأخرنا .
وهمس صبري في لهجة ذائبة : ألم يضايقك أن أكتب إليك ؟
وأجابت نادية مؤكدة : إني أحب أن تكتب إلي .
ثم أردفت ضاحكة : ولكن لا تكتب عن صفقة الأسلحة والحياد الإجابي فقد قلت لي ما فيه الكفاية .
وقال صبري معتذرا : هل ضايقتك ؟
وهزت نادية رأسها مؤكدة : أبدا ، إني أمزح .
وكان عصام ومُنى قد اقتربا منهما وقال عصام وهو ينظر إلى نادية في أسف : سيوحشنا فراقك يا نادية .
وأجابت نادية : وأنتم أيضا ، سيوحشني فراق كل شيء في مصر .
- عسى إذن ألا تطول غيبتكم ؟
- تقصد غيبة مُنى ؟
- بل غيبتكم جميعا ، إننا نحبكم كلكم
.ومنَّ الله على صبري بأن ينطق شيئا مما في صدره فقال مؤكدا : وأنا أيضا .
وتصافح الجميع .
واختفت الفتاتان داخل البيت ، ووقف صبري يحملق في الظلمة التي ضمت نادية وقد فغر فاه في ذهول ، وجذبه عصام من ذراعه قائلا : ههِيه ، أتنْوي أن تقف هكذا إلى الصباح ؟
وأجاب صبري في وَلَه : ليتني أستطيع .
- ماذا قلت لها ؟
- قلت لها ، قلت لها ، لقد حدثتها عن صفقة الأسلحة ، عن العشرين متيور والخمسين ...
- يِخْرِبْ بِيتَك، أهذا كل ما استطعت أن تقول ، أهذا حديث يقوله المحبون ساعة الوداع ؟؟
وهز صبري رأسه الصغير في يأس وحيرة وقال : لست أدري يا عصام كيف تنطقون أحاديث الحب ، لا أعرف إني أحس بالخجل يشل لساني عندما أحاول أن أنطق بكلمة حب .
وجره عصام من ذراعه قائلا في سخرية : شاطر .
- على أية حال سأكتب لها ، سأكتب لها ما عجزت عن قوله ، إنها هي نفسها حذرتني عن الكتابة عن صفقة الأسلحة ، سأقول لها أنها أجمل وأعز ما في حياتي ...
18
نحن لا نصنع السراب
كانت الساعة الرابعة عندما وقفت عربة الأُجرة التي تحمل الأُسرة الراحلة أمام كشك الجمرك في ميناء الإسكندرية ، وهبط منها سليمان متجها إلى داخل البناء المزدحم بالمسافرين يتبعه أحد الحمالين بالحقائب ، وما لبث أن خرج يستدعي الأُم وابنتيها .
ووقف الثلاث أمام موظف الجمرك يسألهن الأسئلة التقليدية عما يحملن وهل معهن نقود أو ذهب ، ومضت فترة في إجراءات لم تدرِ نادية كنههَا ، وقدم سليمان إحدى الأورقا للأُم فوقعت عليها دون أن تعرف ما بها ، وبعد تفتيش شكلي على الحقائب تحركت الثلاثة بحقائبهن إلى الخارج متجهات مع سليمان إلى الباخرة .
وكان اليوم أحد أيام أكتوبر الخانقة التي يحاول الحر أن يؤكد في عناد سمج أنه لم يذهب بعد وأنه يستطيع أن يعاود هجماته المحرقة رغم حلول الخريف ورغم وجود البحر على قيد خطوات .
لم تحس نادية بنسمة تندي وجهها الذي كشفت عنه لأول مرة بعد أن أحاطته بالإشارْب إحاطة محكمة فلم يبدُ منه سوى صفحته المواجهة وحجبت الأذنين والسالفتين والجزء الأكبر من جانب الخدين ، وربطت الإشارْب أسفل الذقن فغطى معظم العنق والذقن وارتفعت ياقة البلوزة المستديرة المغلقة لتحكم الحصار حول الوجه وتحجب كل أثر مما ترك الحريق .
وبدت البواخر متراصَة على الميناء بأحجامها المختلفة وأعلامها المتباينة ، وتوقف رَكْب الأُسرة بحقائبها على أحد الأرصفة حيث وقفت الباخرة محمد علي بعلمها الأخضر المتهدل الذي لم تقوَ الريح الراكدة على نشره فاسترخى في سكون وكسل .
وتوقفت الأُسرة مرة أخرى أمام حاجز خشبي وُضِعَ على الرصيف أمام سُلَّم السفينة ، وأحست نادية بالضيق والقلق وهي ترى احتشاد الناس من حولها وخُيل إليها أن العيون كلها ترمقها وتفحص وجهها ، وتمنت لو استطاعت أن تعدو إلى الباخرة لتخفي نفسها في إحدى قُمراتها هاربة من العيون المتطلعة والنظرات الفاحصة التي تلاحقها ، وأخيرا عَبَرن الحاجز متجهات من السلم الخشبي الممتد من الرصيف إلى باب السفينة ، وعندما انتهى سليمان من الإجابات والاستفسارات ومن إبراز الجوازات وتسليمها اتجهن إلى حجرتهن يتبعهن الحمالون بالحقائب ، وتنفست نادية الصعداء وهي تحس بنفسها مرة أخرى بين جدران أربعة بعيدة عن زحمة الناس وضجيجهم وعيونهم المتطلعة ، وتمنت لو استطاعت أن ترتمي على الفراش وتلتف بالأغطية وتظل راقدة طوال الرحلة ، ولكنها كانت تعلم أنه مازال وراءها المزيد من المتاعب والمزيد من الاختلاط بالناس في الباخرة .
ورفعت حقيبتها على أحد الأَسِرة الأربعة التي ضمتها القُمْرة والتي وُضِع كل اثنين منهما واحد فوق الآخر .
وقالت مُنى وهي تقذف بحقيبتها فوق أحد الفراشين العاليين : سأسكن في أحد أَسِرة الدور الثاني .
فقالت نادية : اسكنيهما معا فلن يشاركك فيهما أحد .
وضحك سليمان معلِّقا :معك حق ، إنها البهلوانة الوحيدة في سكان الغرفة ولا أظن ماما على استعداد لأن تتشعلق في أحد هذه الأَسِرة .
وأجابت لورا باسمة : إني أفضل النوم على الأرض فهذا أسلم عاقبة .
وسادت برهة صمت أحس الجميع أن الوداع قد حان وداخل الثلاثة شعور عميق بالأسى وهن ينظرن إلى سليمان وهو على وشك أن يفارقهن وشعرن أي سند كان لهن ، وتمنى الثلاثة في وقت واحد لو بقي سليمان معهن فقد كن يشعرن بالضياع من غيره ، إنه لم يتركهن في الأيام الأخيرة لحظة واحدة ويخيل إليهن أنهن لولاه ما استطعن مجرد قطع تذاكر السفر إلى الإسكندرية .
وكانت مُنى أول من قطع حبل الصمت فقالت بطريقتها العابثة : لقد خطر لي خاطر .
وتساءل سليمان : ما هو ؟
- أ نغلق عليك باب الحجرة حتى ترحل السفينة ونأخذك معنا ، إننا نشعر بأننا لا نستطيع الرحيل بدونك .
فأجاب سليمان فيي تأثر : أنا أيضا أحس بأني سأفقد أعز ما عندي .
وقالت نادية : إذن عِدْنا بأن تزورنا في أول فرصة ، في الصيف القادم إن استطعت .
- إني أرجو أن تعدن أنتن قبل الصيف القادم ، كل شيء سيكون قد سُوِّيَ وأصبح على ما يرام .
ثم نظر إلى الأُم متسائلا : أليس كذلك لورا ، ألم نتفق على هذا ؟
وهزت الأُم رأسها في يأس وأجابت : أرجو هذا .
وأردفت نادية تقول : وإذا لم نَعُد فلا بد أن تأتي إلينا أنت ، إياك أن تَنْسانَى .
- أنا لا أنسى أحبائي أبدا .
ونظر في ساعته ثم خطا إلى خارج الحجرة قائلا : أظن من الخير أن أترككن الآن حتى لا يتحقق خاطر مُنى فتخطفني معها إلى فرنسا .
وسار الثلاثة في الممر الضيق ثم صعدن بضع درجات التي تؤدي إلى مدخل الباخرة ، وكانت الحركة قد اشتدت إذانا ببدء الرحيل ، والمسافرون جميعا قد اصطفوا على سور السفينة المواجه للرصيف ، وفي الجانب الآخر تزاحم المودعون وراء الحجز الخشبي الذي يفصلهم عن السفينة .
وصافح سليمان الأُم وضم البنتين وهو يحاول جهده ألا يدع التأثر يغلبه وأن يتجَلَد على انفعال الوداع بمظاهر الضحك والمرح والمزاح .
وهبط السلم ليتخذ موقفه وراء الحاجز الخشبي بين صفوف المُوَدِّعين ، وارتفعت الأيادي ملَوِّحة واختلطت الدموع بالضحكات وأُطلِقَت التحيات من السفينة وإليها وذهبت في الطريق مختلطة ببعضها البعض ولم يصل منها إلى الطرفين سوى لغط وهمهمة لا تُمَيَّز فيه حروف ولا نَبَرات .
وبدأت السفينة سيرها البطيء عن الرصيف ، ونظرت نادية إلى الرصيف المتباعد من خلال سحابة دمع خيمت على عينيها ، وبدأت مخيلتها ترسم بين الوجوه المحتشدة وجها حبيبا وتخيلت صاحبه بقامته الطويلة وكتفيه العريضتين وقد رفع يديه ملَوِّحا ، ثم أحست به يتباعد مع بقية الوجوه .
وخرجت السفينة من الميناء وتفرق ركابها بين الحجرات والأبهاء وحول حوض السباحة الصغير ، وبدا البحر ساكن الأديم مشلول الموج كأنه صفحة ملساء جرداء ، وبدا الجو مختنقا كأن يدا ثقيلة أطبقت على عنقه وكتمت أنفاسه ، وذرات الضباب الرمادية الخفيفة معلقة في الهواء ، كما قال الشاعر :
"ممسكاتٌ بعضها من الذعر بعضا"
وعادت نادية إلى الحجرة الصغيرة ذات الأَسِرة المعلقة والطاقة المستديرة المطلة على صفحة الماء ، وأحست بنوع من الطمأنينة وهي تنطوي بين الجدران الضيقة التي تحجبها عن الناس وتحجب وجهها عن عيونهم .
وفتحت نادية الحقيبة وبدأت تتشاغل في إخراج بعض ملابسها لتضعها في الدولاب الخشبي .
ونظرت إليها مُنى متسائلة : ألا تنوين الصعود لنشاهد أعلى السفينة ؟
وهزت نادية رأسها بالنفي .
وعادت مُنى تتساءل في إصرار : ستظلين جالسة هنا ؟
وأجابت نادية في لهجة مقتضبة : أجل .
- لِمَ ؟
- سأرتب الملابس في الدولاب .
- وما الداعي لترتيبها ؟ كلها خمسة أيام وسننزل من السفينة .
- عندما ننزل نعيدها إلى الحقيبة .
- تاني ؟
- أتظنين أنك تستطيعين ارتداء فساتينك وهي مطوية في الحقيبة ، أَمأنك لن تبدلي الفستان الذي ترتدينه طوال الأيام الخمسة ؟
- معك حق ، لابد من تعليقها على المشاجب .
وانحنت مُنى على نادية تربت ظهرها قائلة : طول عمرك ناصحَة ، هل تسمحين أن تخرجي لي ملابسي من الحقيبة ؟
وقبل أن تجيب نادية انطلقت تعدو إلى ظهر السفينة .
وتشاغلت نادية بإخراج ما يلزم من الملابس خلال السفر من داخل الحقائب وترتيبها في الدولاب .
وكانت الأُم قد التقت في السفينة بصديقة فرنسية عائدة من بيروت إلى فرنسا ، فصعدت إليها في البهو بعد أن اغتسلت واستراحت ، وبقيت نادية وحدها في الكبينة الضيقة ،واستلقت على الفراش محدقا إلى السماء من خلال الطاقة المستديرة وقد تملكها خليط من المشاعر وشتى الانفعالات ، كان بها طمأنينة الهارب بعد أن أفلت من مطارديه ، كانت تشعر أنه لم يَعُد هناك خوف من أن تمسك بوجهها المشوه وعنقها المحترق ، لقد نجت بِجِلْدِها ، الذي لم ينجُ من وهج النيران ، وأضحت في مأمن من العيون التي لا تنال منها غير الشفقة والرثاء .
وكان بها يأس طويل عريض لا حدود له ولا بارقة لأمل في أُفُقِهِ ، يأس الهارب الذي لا يعرف ما بعد هربه ، الضائع في صحراء جدباء قاحلة .
وطالت رقدتها وهي محدقة من الطاقة الزرقاء وأنبوبة الهواء في سقف الحجرة تدفع إليها بريح ساخنة وضربات آلات رتيبة تصل إلى أذنيها خافتة متواصلة ، ووصلت إلى مسامعها دقات ذات رنين كأنه دق مطرقة على آنية نحاسية وتذكرت أنها دقات الطعام ، وملأها احساس بالضيق فقد كرهت أن تخرج لتجلس على المائدة بين الناس ، وعاودها النفور من التجمع والأضواء والعيون المُسَلطة ، وتباعد الدقات فعاودها الاسترخاء ، وطمأَنَت نفسها بأنها تُفضل ألا تتناول العشاء لأنها لا تشعر بالجوع ولكن لم تكد تمضي لحظة حتى فُتِح الباب بعنف واندفعت منه مُنى صائحة : نادية .
ومدت يدها فأضاءت النور .
وضايق النور نادية فأغمضت عينيها وأجابت في ضيق : ماذا تريدين ؟
- العشاء انهَضي .
وهتفت بها نادية قائلة : أطفِئي النور واذهبي لن أتناول العشاء .
- أنت مجنونة ؟ إن خير ما في السفينة طعامها ، هل تذكرين آخر رحلة لنا والطعام الذي تناولناه في السفينة ؟
- ـأطفِئي النور قلت لك
ولم تطفئ مُنى النور بل أمسكت بحقيبتها وأخذت تفتش محتوياتها قائلة : أين فستاني الدانتيل ؟
وأجابت نادية وهي تضع رأسها تحت الوسادة : معلق عندك في الدولاب .
فتحت مُنى الدولاب واختطفت الفستان الدانتيلا ثم قذفت بأحد فساتين نادية على فراشها صائحة : خذي أبدلي ملابسك بسرعة .
وأخرجت نادية رأسها من أسفل الوسادة ونظرت إلى مُنى في غيظ وأجابت : ضعي الفستان مكانه وكفى سُخْفا >.
- لابد أن ترتدي هذا ، إنهم هنا يحضرون العشاء بثياب السهرة .
- ولهذا لن أتعشى .
- ولِمَ يا نادية ؟ إنها ستكون جلسة لطيفة ، إن قاعة الطعام في منتهى الأناقة ، ستجلسين للعشاء والبحر يحيط بك والأمواج تتلاطم حولك والكارصونات الأنيقات ينحنين أمامك ، وستشاهدين حولك مختلف أنواع الناس .
- لا أريد أن أرى أحدا من هؤلاء الناس ، وليس لي قابلية للأكل وأفضل الراحة هنا .
- وسيُعرَض فيلم جس واترلو بعد العشاء ، إنهم يُعِدّون آلة العرض في البهو الكبير ، هيا بنا يا نادية لا تكوني كسولة .
وأجابت نادية في ضيق وملل : قلت لك دعيني واذهبي أنت ، إني أحس براحة أكثر وأنا هنا وحدي في الحجرة .
- هل تنوين أن تُخَزِّني نفسك في الحجرة طوال أيام السفر ؟
- أجل .
- ولن تتناولي الإفطار أو الغداء .
- سأطلب منهم أن يحضروه إلي في الحجرة .
- الأيام الخمسة ؟!
- ولِمَ لا ؟
- ولِمَ نعم ، لماذا تحكمين على نفسك بهذا السجن ، أمن أجل هذا الوهم الكاذب عن وجهك ؟ لقد قلنا أنك ستغادرين مصر وتكفين عن الانطواء والخوف من الناس ، كنت تخشين أن يراك أحد من أصدقائك ومعارفك فيشفق عليك ويرثي لك ، كنت تكرهين من يُنكِر عليك شكلك ، فماذا تخشين الآن ؟ ليس هناك من يعرفك على هذه السفينة ولن يكتشف أحد ما تتوهمين من تشويه في وجهك ، ومع ذلك أنت تستطيعين باستعمال الإشارْب أن تخفي كل أثر حول وجهك ، فلماذا لا ترتدينه كما فعلت في طريقنا إلى السفينة ؟
ونظرت إليها نادية وتساءلت في مَرارة : هل تريدينني أن أذهب للعشاء بالإشارْب وأنت تقولين إنهم يحضرون بثياب السهرة ؟
وترددت مُنى برهة ثم قالت وهي تحاول أن تتراجع فيما قالته : لم أقل أنه حتم على كل إنسان أن يرتدي ثياب السهرة ، ولكن البعض يفعل كما قال لي السفرجي ولكن لن يمنعك أحد بالطبع من ارتداء الإشارْب .
- وهل من اللائق أن أظل أطوف بركاب السفينة وأدس نفسي بينهم وأنا معصوبة الوجه كالمبْليَة ، ماذا ترينهم يظنون بمخلوقة تَخْنُق نفسها بالعصابات حول وجهها وعنقها في هذا الحر الخانق ؟
وقالت مُنى مُكابِرَة : لا شيء .
- بل سيظنونني إما مجنونة أو جَرْباء .
- ليظنوا كما يشاؤون أنت حرة في أن ترتدي ما تشائين ومن غير المعقول أن تسجني نفسك من أجل ما يمكن أن يظنه فيك بعض السخفاء ممن لا يعنيك أمرهم ولا يعنيهم أمرك ، ثم أنه لم يَعُد هناك من تخشين رؤيته لك .
واقتربت مُنى من أختها وهي تشد الفستان حول جسدها وجلست على حرف الفراش ومالت عليها تقبلها في حنو قائلة : قومي يا نادية من أجل خاطري ، دعينا نسلي أنفسنا ويكفي ما لقينه من شَقاَء ، دعينا نتمتع برحلتنا في البحر فالله وحده يعلم ما سنلقاه في غَدِنا ، قومي وكفاك حَمْلا للهموم .
وأحست مُنى برطوبة الدموع على خَدَي نادية فزادت من ضمتها لها واستمرت تقول : لا تبكي يا نادية وحدِّثِني إني على استعداد لأن أخلع ملابسي وأمكث معك ، قولي ماذا يحزنك ؟
وهزت نادية رأسها وهي تقول : أبدا ، ليس هناك من شيء .
وعادت مُنى تتساءل وهي تضمها : أَأَحْزَنَك رحيلنا عن مصر ؟
- ألم يحزنك أنت ؟
- طبعا ، ولكن ليس إلى حد اليأس والنحيب ، قولي ماذا يُبكيك حقا ؟
ولم تجب نادية .
وأرادت مُنى أن تُصَوِّب سؤالا إلى الهدف مباشرة فتساءلت : أأحزنك أنه لم يَعُد هناك من تخشين رؤيته لك ، قولي .
وأطرقت نادية وساد صمت حزين رهيب .
وأحست مُنى بالندم على قولها وعادت تقول في أسف : هل آلمتك يا نادية ؟
- أبدا ، ما لجُرحٍ مَيِّتٍ إيلام .
- ولكن يجب أن تَكُفّي عن التفكير به والحزن على فقده ، إني أراه من أول يوم سرابا كاذبا .
- معك حق ، ولكن السراب خير من الّاسراب ، إنه يُعلِّلُنَا بالأمل ، وفي فسحة الأمل فسحة للحياة .
- إذن اصنعي سرابا غيره .
- نحن لا نصنع السراب يا مُنى وإنما تصنعه السماء .
وأطرقت مُنى وبدا عليها الحزن وتمتمت في صوت خفيض : أجل معك حق ، حتى السراب الذي نخدع به أنفسنا لا نملك نحن صنعه وإنما يُفرَض علينا .
ونهضت مُنى من حرف الفراش وجذبت نادية من يدها قائلة : ومن أجل هذا يجب أن تقومي معي ، يجب أن نصنع ما نستطيع صنعه من أجل أنفسنا ،قومي يا حبيبتي وانفضي عنك كل أحزانك ، لا تقبعي تحتها إنها تستسيغ الرقاد فوقك ، ولكن تَمَلَّصي منها ، هيا اغسلي وجهك وارتدي فستانك .
وبعد لحظات كانت نادية تقف أمام المرآة تعصب الإشارْب حول وجهها وتُحْكِم ربطه أسفل ذقنها وترفع ياقة البلوزة بحيث تتصل بالإشارْب وتكون معه وحدة متصلة لا تُظهر من وجهها إلا رقعة تبدو مستديرة عند المواجهة .
ونظرت مُنى إلى نادية في المرآة وقالت بإعجاب : هايْلة ، والله ولا مُنى فاضل .
ثم مدت سبابتيها إلى شفتَي نادية ودلكتهما بشدة فصاحة نادية متألمة : ما هذا ؟
- اسكتي ، هل تريدين أن تخرجي إلى الناس بشفتيك باهتتين ؟
وجذبتها من يدها إلى الخارج قائلة : هيا نستدعي ماما من البهو ، إنه بهو مدهش لقد عزفت على البيانو الذي به ولم أعدم بضعة حمير صفقوا لي وكان من بينهم صحفي مصري هَجَمَ علي في حماس وشد على يدي مهنئا وعَرَّفني بنفسه قائلا : إنه ذاهب إلى سويسرا ليتسلم عمله في السفارة المصرية كملحق صحفي ، وقد قلت له إننا في طريقنا للاصطياف في جبال الألب لأن أمي في حاجة للاستشفاء في فيشي وإيفيان ، وقد دعانا للنزول عنده في سويسرا إذا فكرنا في الذهاب إلى هناك ، فخذي بالك إياك أن تخطئي أمامه ، لقد حذرت ماما قبل أن أنزل إلى هنا ، إنه أنزوح جدا ولكني كنت أشد منه أَنْزَحَةً .
ونظرت نادية إلى مُنى من طرف عينيها وتساءلت : وماذا يهمك إن كان أنزوحا أو غير أنزوح ، هل تنوين أن نُنْشِئَ معه علاقة ؟
وأشارت مُنى برأسها وأجابت في اقتضاب : أجل مدة السفر فقط ، على سبيل الوَنَس .
- وعصام ؟
وبنفس البساطة أجابت مُنى : إني أحب عصام ولا يمكن أن يكون هذا منافسا لعصام لِأنَّ عصام لا منافس له في قلبي ، ولكن هذا مجرد زميل رحلة ، لقد قلت لك إنه أنيس .
- أنا لا أفهم هذا الأنيس الذي تَدَّعينَه ، أنا لا أعرف إلا الصرامة في الإخلاص .
- اسمعي ، هبي أنك تسيرين وحدك في طريق موحش ورأَيْتِ على الرصيف الآخر مخلوقا يسير وحده مثلك أهناك مانع من تبادل الحديث على سبيل الوَنَس وقطع وحشة الطريق ؟
- أبدا ، ولكني أفضل أن أسير في الطريق وحدي حتى لا أضل هدفي فيه .
وأجابت مُنى ساخرة : أه ، إنتِ مالك ، إنك تفضلين السير وحدك حتى لو لم يكن لك هدف .
وكانت الأُم قد بدأت الهبوط من البهو فصادفاها مع صديقتها هنرِت في منتصف السُلَّم .
فهتفت بمُنى : لماذا تأخرتِ كل هذا التأخير ؟
- لم تكن نادية تريد العشاء وكان علي أن أُقنعها .
وعرَّفت الأُم صاحبتها بابنتيها .
وهبط الأربعة إلى حجرة الطعام ، وأُخِذَت نادية بفخامة الحجرة ومن ريح الأناقة التي تسري في جوانبها ، واتجهت بهن هنرِت إلى منضدة خالية في جانب القاعة بجوار النافذة الزجاجية العريضة ، وكانت المنضدة تتسع لستة أفراد ، وترددت السيدة أمامها برهة ، ثم جرت أحد المقاعد قائلة : اجلسوا فلا أظن أحدا ينوي أن يشاركنا فيها .
واتخذت نادية مكانها عند طرف المائدة ، وأقبل الكارصون ينحني في أدب شديد ، واتخذت هنرِت موقف المضيفة بعد أن وجدت الخجل يُلجِم الأُم وابنتيها ، وقبل أن يُقْبل الكارصون بالحساء لاح بباب القاعة شاب أنيق قد انعكس الضوء على لَمْعة شعره ، وأخذ يتلفت يمنةً ويسرى بين مختلف المناضد ولمحته نادية فزغدت مُنى هامسة : أهذا هو صاحبك الأنزوح الذي يقف بالباب ؟
تلفتت مُنى إلى الباب ولم يكد يلتقي بصرها ببصره حتى أشار بيده في حماس ، ثم أقبل عليهن وكأنه لقي صديقا حميما ، ثم وقف أمام المنضدة وانحنى محييا .
وقال مُعَرِّفا الأُسرة بنفسه : جمال عبد السلام الملحق الصحفي في سويسرا .
ثم أردف في حماس : لقد كنت أبحث عنك يا مُنى ، أين كنتِ ، وبغير كُلْفة جذب أحد الكراسي الخلية ثم اتخذ بجوارهن مكانه على المائدة قائلا : لقد خشيت أن تكوني قد تناولت العشاء .
ثم نظر إلى نادية وقال ضاحكا : هذه لا شك أختك .
ثم أشار إلى الأم قائلا : وهذه ماما .
ولم تملك مُنى إلا أن تسايره في عدم كلْفته فأجابت ضاحكة : أهذا ذكاء طبيعي أَم خبرة صحفية ؟
- الاثنان .
ثم أشار إلى هنرِت قائلا : وهذه خالتك ؟
وأجابت مُنى ضاحكة : لا ، هذه طِلْعِتْ آوت .
وأقبل الكارصون بالحساء ، وانهمك الجميع في الطعام وتُبُدِلَت بينهم أحاديث عامة ، ثم ما لبث الحديث أن انقَسمَ إلى جانبين ، الأُم وصاحبتها في جانب والأختان والصحفي في جانب آخر .
وكان جمال على أَنْزَحَته ثرثارا لطيفا استطاع بسهولة أن يزيل حاجز الكلْفة فلم يكد ينتهي العشاء حتى بدا وكأنه صديق قديم للعائلة ، ووقف ينحني أمام نادية وهو يقول : أظننا يجب أن نسرع الآن إلى البهو قبل أن يبدأ عرض الفيلم .
ونظرت مُنى إلى أمها متسائلة : هل تشاهدين معنا الفيلم يا ماما ؟
وأجابت الأُم : لا ، إني في حاجة إلى الراحة .
وكان جمال قد سبقهما إلى الأعلى ليحجز الأمكنة .
ونظرت مُنى إلى نادية وهي تتبع ببصرها جمال قائلة : ما رأيك في هذا الأنيس ؟
وضحكت نادية وأجابت : إنه معقول .
ثم أردفت هامسة وهي تتأبط ذراع مُنى : إن هيافته لا تجعل في وَنَسِه خطرا ...
19
إنسان كريم
استيقظَتْ نادية عقب سبات عميق من نوم ليلة السفر الأولى في السفينة ، وأحست بجسدها مستريحا وبذهنها صافيا وألقت ببصرها من الطاقة المستديرة فراعتها زرقة البحر الفيروزية تترامى على طول امتداد البصر ، وكانت الريح قد أخذت تتحرك ، ومرت بكفها القلقة على سطح الماء فجعدته وقلبت انبساطه قلقلة وسكينته رجرجة ، ونفخت في ذرات الضباب الرمادية العالقة في الهواء وصيرتها هباءً ، وصفا الجو وشفت السماء ولم تَعُد تحس العين أن هناك ما يحد مدى إبصارها ، وأنها تستطيع أن تنفذ إلى السموات السبع ، وضغطت ناديةدة ثم انتهى المطاف بها أخيرا إلى مقدمة السفينة ووقفت ترقب الماء الأزرق ومقدمة السفينة تمخر عبابه بأنفها على زجاج النافذة فكونت حرارة أنفاسها طبقة رقيقة من البخار حجبت عنها البحر والسماء فمدت كفها تمسحه في اغتباط كما كانت تفعل وهي لم تزل بعد طفلة ، ونظرت إلى الساعة في رسغها فإذا بها لم تتجاوز السادسة وأحست في رغبة جارفة في أن تقفز من فراشها وتعدو إلى سطح السفينة لتتمتع بهذا الصباح المشرق الصافي ، وكانت تحس أن تلك هي فرصتها للاستمتاع بالبحر وظهر السفية خال والرُكاب مازالوا يقبعون في حجراتهم يغطون في نومهم أو يتثاءبون في أَسِرتهم ، ونظرت إلى مُنى فإذا بها مستغرقة في سُباتها وقد انكفأت على وجهها في فراشها العلوي وتدَلَّت ذراعها في الهواء ، ومدت نادية يدها فجذبت كفها المدلاة محاولة إيقاظها دون أن تقلق أمها ورفعت مُنى كفها وانقلبت على جنبها الآخر ، ووقفت نادية بجانب الفراش تهزها من كتفها هامسة : مُنى مُنى .
وأجابت مُنى دون أن تفتح عينيها : ها .
- انهضي .
ولم تجب مُنى فقد كان النعاس يُثقل جفونها .
وعادت نادية تهزها قائلة : مُنى انهضي لكي نصعد إلى ظهر السفينة .
واستدارت مُنى وفتحت عينيها بصعوبة متسائلة : نصعد إلى ظهر السفينة ؟دت الحمام وحجرة الآلات ومخزن البضائع وصعدت إلى حجرة القي
- أجل إن البحر رائع ونسيم الصباح عجيب .
ونظرت مُنى إليها في غيظ وهي تدعك عينيها وأجابت : البحر والنسيم ، نامي نامي بلا عبط ، سنظل خمسة أيام بلياليها لا نرى شيئا سوى البحر ولا نشم شيئا غير النسيم ، إياك أن توقظيني من أجل هذه التفاهات .
وأغمضت عينيها وعادت إلى سُباتها .
وبعد برهة كانت نادية تنطلق وحدها إلى أعلى السفينة وقد أحكمت الإشارْب حول وجهها ، وكانت السفينة قد خلت إلا من البحارة منتشرين على سطحها وفي ممراتها يغسلون الأرض وينظفون الجدران والأبواب ويلمعون المقابض النحاسية ، وكانت الشمس قد بدأت تتصاعد من الأفق باسطة أشعتها الصفراء على سطح السفينة متسللة من النوافذ الزجاجية إلى الحجرات .
ولمحت نادية عجوزين يتريضان بالسير في نشاط على سطح السفينة وقد كشف الشورت عن سيقانهما العجْفاء وصبيا قد تسلل من حجرة أبويه ليلهو بلعبة الطوق ، ولم تشعر نادية بِرَهْبة الأمس وملأها خلو السفينة من ركابها بالطمأنينة ، وسارت تطوف بأرجائها ومرافقها ، شاه، واستقر بها المقام على سور السفينة تسبح ببصرها في الفراغ الأزرق العريض ، وترقب ارتطام الماء بمقدمة السفينة واندياحه في في خط من الزَبَد الأبيض ، وأحست بوقع أقدام تقترب منها وظنت صاحبها أحد البحارة يباشر عملية النظافة ، ولكن الخطوات تمهلت حتى وقفت بجوارها ثم سمعت صوتا يهتف بحماس : هلو مُنى .
والتفتت نادية فإذا به جمال عبد السلام بأساريره المتهللة وابتسامته التي لا تبهت ، وقبل أن ترد نادية لتصحح له ظنه بأنها ليست مُنى اندفع يقول : أما مفاجأة هائلة ، لم يخطر ببالي قط أنك استيقظت في هذه الساعة المبكرة ، وكنت أود أن أذهب لإقاظك حتى تري هذا المنظر الجميل ، ولكن خشيت أن أزعجك وخشيت أكثر أن تتهمني أختك بالجنون ، إنها تبدو عاقلة جدا ، عاقلة أكثر مما يجب ، وعندما كنا نتعشى بالأمس ..
وكان على نادية أن تقاطعه لتبين له حقيقة الأمر حتى لا يتورط في أكثر من ذلك ، إن تهمة العقل محتملة أما أكثر من ذلك فيجب أن يَحْذر منه .
وقالت نادية : يا أستاذ جمال .
- قلنا جمال فقط يا مُنى .
- أنا لست مُنى يا أستاذ جمال ، أنا نادية ، نادية العاقلة أكثر مما يجب .
ورفع جمال حاجبيه في دهشة وتساءل في شك : غير معقول ! أنت تضحكين علي يا مُنى ؟
ولم تملك نادية إلا الضحك من إصراره على الخطأ وأجابت : هههه أنت وشأنك إذا كنت تصر على اعتباري مُنى فليكن ، ولكن أرجوك أن تكف عن شتيمة نادية لأن طاقة المرء في سماء نقائصه محدودة .
وهز جمال رأسه في دهشة قائلا : عجيبة ، الظاهر أنك نادية فعلا ، أنا متأسف كان يجب أن أعرف ذلك ، ولكن الشبه قريب جدا وأنا لم أجلس معكما الوقت الكافي للتمييز بينكما ، ولم أكن كذلك أتصور أنك أنت التي ستستيقظين مبكرة وتقفين هكذا لترقبي البحر والشمس ، كنت أظنك أعقل من هذا .
- وهل هذا جنون ؟
وضحك جمال قائلا : هههه ليس بالضبط .
- بالتقريب ؟
- إنه عند بعض الناس تأمل .
- وعند الآخرين جنون .، فماذا ترينه أنت ؟
- أنا أعتبره تأملا .
- وأنا أراه مقدمة جنون .
- والجنون فنون .
وقهقه جمال ثم قال : زدتِ المسألة صعوبة ، كنت أظن أني أستطيع أن أُمَيِّز مُنى بروحها المرحة ، ولكن يبدو لي حتى هذا تتشاركان فيه .
- ليس دائما ، إن حالة المرح عندي حالة عارضة .
- تصيبكِ من البحر والنسيم والشروق ؟
- ربما .
ونظر جمال إلى وجهها محدقا ، وأحست نادية لأول مرة بالاضطراب وضياع الثقة وهي تجد وجهها قد أضحى موضع فحص ، ومدت يدها بالطريقة اللاشعورية لتتحسسه ولِتُحكم الإشارْب حوله ولتشد الياقة حول عنقها .
وتساءل جمال وهو مستمر بالتحديق فيها : لست أدري إذن كيف يستطيع المرء التمييز بينكما .
وساد الصمت برهة وأشاحت نادية بوجهها حتى تبعده عن زاوية الفحص ومجال المراقبة ، وأجابت وهي تحاول التمالك : لن يصعب عليك الأمر بعد ذلك ، إن وجه مُنى جميل لا يمكن أن يخطئَه المرء .
وأجاب جمال وهو يتكئ بذراعيه على سور السفينة : وجه مُنى فقط ؟ لو كان ذلك لهان الأمر ، إن المشكلة أن وجه كل منكما أجمل من الآخر .
- هذا من ذوقك .
وتحركت نادية مغادرة مقدم السفينة وهي تحس بالرغبة في الهروب .
وسار جمال بجوارها وهو يتمتم قائلا : على أية حال لا أظنني سأخطئ بعد الآن ، إن بك شيئا مميزا .
- بي أنا ؟
- أجل ، شيئا في وجهكِ .
وأحست نادية بضربات قلبها تتلاحق وزادت من سرعة خطاها وهي تحس أنها باتت في حاجة إلى أربعة جدران تقيها شر العين الفاحصة ، ولم تحاول أن تسأله عن الشيء الذي رآه في وجهها ، كانت تخشى أن تكون بعض آثار الحريق قد افلتت من الإشارْب .
ولم يدعها جمال تسأل فقد أردف يقول مفسرا : شيء في وجهك لا أعرفه ، شيء مريح .
ولم تستطع نادية أن تكتم تنهيدة راحة انطلقت من شفتيها ، وهتفت تتساءل في دهشة : مريح ؟
- أجل ، شيء يبعث على الثقة والطمأنينة .
وكانا قد وصلا إلى أولى درجات السلم المؤدي إلى الصلون وكانت حركة الركاب قد أخذت تزداد ودبيب أقدامهم ينتشر ، وأحست نادية من قول جمال كأن التهديد الذي قد سُلِطَ عليها قد رُفِع والخطر الذي أَحْدَق بها قد زال ، وأن مغامرتها التي أقدمت عليها بالظهور أمام الناس والخروج من الجحر لم تنتهِ كما كانت تتوقع بكارثة ، إذن فوجهها مازال به شيء ، شيء مريح يبعث على الثقة والطمأنينة ، وليس شيئا كريها يبعث على النفور والاشمئزاز ، وهذا الشيء كما يجزم صاحبها شيء مميز ، يميزها عن مُنى ولكن أتراه يقول هذا لو رفعت الإشارْب وأنزلت الياقة ؟
وأفزعها الخاطر ، ومدت يدها بسرعة لتتأكد من وجود الدرع الواقي ولتثبته في موضعه جيدا حتى لا يُبدي من آثار التشويه ما يقضي قضاءً مُبْرَما على ذلك الشيء المريح المُطَمْئِن ، وقبل أن تُنزل يدها من الإشارْب تساءل جمال ببساطة : يبدو أنك معجبة جدا بهذا الإشارْب ، إنك لم تخلعيه منذ أمس .
وأحست نادية بالاضطراب يعاودها وتمنت لو أطلقت للريح ساقيها وهبطت إلى الحجرة لتختفي بين جدرانها .
لقد كان الحديث عن الإشارْب اقترابا من منطقة الخطر ، وكانت تحس أنه عورة لا يجب التكلم عنه ، ولكنها لم تملك إلا أن تردد متسائلة : هل يعجبك ؟
- لَطِيف ، أحب لونه الأزرق والزهور البِيض التي به ، ولكن مع ذلك أحس أنك بدونه ، أأَ ، أجمل منك به .
ومرة أخرى مدت يدها لتطبق على ربطة الإشارْب ، لقد بدا لها أن ذلك الأحمق قد سُلِطَ عليها وأنه سَيُكرِهها في النهاية على خلع الإشارْب .
وعاد جمال يقول : لقد دُهِشْتُ من لف رأسك ووجهك به خلال العشاء ، ولكني ظننت أنك قد استحممت وأنك تخشين على رأسك من لفحة الهواء رغم أنه لم تكن بالأمس نسمة هواء ، وقلت لنفسي إنك فتاة موسوسة وعزمت أن أعلمك في هذه الرحلة كيف تخرجين إلى الهواء برأسك عاريا وصدرك مفتوحا كما تفعل أختك مُنى .
وازداد الاضطراب بنادية وبدت لها خطورة هذا الأحمق وأخذت تتمتم قائلة وهي تحاول أن تتجنب نظراته إلى وجهها : لقد تعودت ارتداءه لأني أُصِِبْتُ بنزلة برد وأخشى إن خلعته أن تعاودني النزلة مرة أخرى .
وقال جمال في حماس : هذا بالضبط ما ظننت ولذلك يجب أن تخلعيه ، لا برْد في البحر أبدا ، افعلي كما يفعل البحارة .
وقبل أن تجيب نادية لمحت مُنى مقبلة وأحست نادية في رؤيتها منجاَة لها من مطاردة جمال وإلحاحه والخلاص من مناقشته في خلع الإشارْب .
ولم يكد جمال يلمح مُنى حتى هتف بها : هاي مُنى ، تصوري أنني ظننت نادية هي أنت .
وأجابت مُنى : لست أول من يخطئ فينا ، لقد كانت المدرسات يخلطن دائما بيننا في المدرسة وكانت المسكينة تتحمل كل مساوئي وكنت أُكافَأ عن كل حسناتها .
وضحك جمال قئلا : تماما كما حدث هذا الصباح ، لقد تحملت مساوئك في شخصي ، لقد قطعت عليها خلوتها .
- تستاهِل ، إنها أقلقت نومي إذ حاولت أن توقظني لأتمتع بالبحر والنسيم ، ولكني نَهَرْتُها ثم حاولت النوم فلم أُفلح ، ولم أجد خيرا من ارتداء ملابسي واللحاق بكما .
- كنت أظن أنك أنشط منها .
- أنا أَنشَط منها عندما تكون هناك فائدة للنشاط ، أعني فائدة أهم من مراقبة البحر وشم النسيم .
كان الثلاثة قد وصلوا إلى البهو ، وهمت نادية بالانسحاب لتعود إلى حجرتها عندما إسْتَرسَل جمال قائلا : كنا نتناقش أنا ونادية حول موضوع الإشارْب .
وبُهِتت مُنى وفغرت فاها من الدهشة ، ثم هتفت مُسْتَرْسِلة : موضوع إيه ؟
وأجاب جمال وكأنه يتحدث في موضوع مُسَلّي : الإشارْب الذي تلف به رأسها ، لقد أدهشني أن ترتديه خلال العشاء أمس ، ثم علمت منها الآن أنها أُصيبت بنزلة برْد وأأنها تخشى خلعه ، ولكني أكدت لها إنها يجب أن تطرد عنها هذا الوهم .
ونظرت مُنى إلى نادية وأحست بالاضطراب والخوف اللذَيْن تعانيهما وتبينت الخطورة التي تحس بها ، فهزت رأسها بشدة قائلة : لا لا مستحيل ، إنها لا تستطيع خلعه ، لقد حذرها الأطباء من أي هَبَّة هواء وإلا انتكست ، إياك أن تخلعيه يا نادية ، لا تكوني مجنونة إياك أن تستمعي إلى أحد وإلا .
وبدت الدهشة على وجه جمال من حماس مُنى وتمتم معتذرا : أنا متأسف ، أنا ، أنا لم أقصد أبدا .
وأجابت نادية : لا داعي للأسف ، إنك لم تكن تعرف بالطبع .
- كنت أظنها مسألة وسوسة لا تحذير طبيب ، ومع ذلك فإني ...
وقبل أن يَسْتَرْسِل في حديثه قاطعته نادية قائلة وهي تحاول الاستئذان : أتسمحان لي سأعود إلى الحجرة وسألحق بكما على الإفطار .
وهتفت بها مُنى وهي تتجه إلى حجرتها : إياك أن تخلعي الإشارْب .
وأحست نادية ببعض الطمأنينة بعد أن وجدت عذرا يقيها الفضول طول مدة الرحلة بحيث لا تُضْطَر مرة أخرى إلى الانطواء كالسجينة في الحجرة ، ولم يعاود جمال بعد ذلك الحديث في موضوع الإشارْب ، وكانت الأُلفة تزداد بينه وبين الأختين يوما بعد يوم ، كان مخلوقا طيب القلب ودودا أليفا ، وكان كما وصفته نادية ثرثارا لطيفا أو كما قالت عنه مُنى في أول لقاء به أنيس طريق وصديق رحلة .
وكانت نادية تحس في جلساتهم أن عيني جمال كثيرة التسلل إلى وجهها ، وكان يصيبها إحساس بالخوف والاضطراب وكأنما كانت تخشى أن يكتشف أمر وجهها المعصوب ويعرف ما وراء عصابة الإشارْب من تشويه ، ولكن مُنى كانت تعرف ما وراء النظرات ، كانت تدرك بحساسيتها أن جمال قد تعلق بنادية وأن إحساسه بها لم يعد مجرد إحساس صديق ، بل تَعَدّاه إلى أكثر من هذا ، وعندما كانت نادية تضيق بنظراته كانت مُنى تهمس لها : لا تخشي شيئا ، ألم يقل لك أنه رأى في وجهك شيئا مميزا ، شيئا مريحا .
وتهز نادية رأسها موافقة ، فتقول مُنى ضاحكة : إذن دعيه ينظر إليه لعله يستريح .
ثم تصمت برهة وتُرْدِف قائلة : إنه يحبك يا غبية .
وتهز نادية رأسها وتقول في غير اكتراث : يحبني أنا ؟
- أجل أنت .
- دعيه يحب .
- لماذا تستخفين به ؟، إنه إنسان ممتاز لطيف ووجيه وله مركز محترم ومستقبل مرموق .
وتنظر إليها نادية في دهشة وتتسائل : ما هذا كله ، ماذا يهمني أنا من مركزه ومستقبله ؟
- لكي لا تستخفي به .
- ومالي أنا به ، أستخف أو لا أستخف ؟
- لا تكوني بلهاء ، لو كنت منك لشجعته .
- على ماذا ؟
- على التقدم لخُطْبتي .
- ما هذه السخافة يا مُنى ؟
- سخافتي أنا ؟ والله ما على الأرض أسخف منك رغم ما تبدين به من عقل ورزانة ، هل تظنين أنك ستبقين عانسا ، هل تنوين الترهب من أجل هذا الجزّار الذي لا يحس بوجودك على ظهر الأرض ، الذي رفض نجدتكِ يوم الحريق .
- رفض نجدتي ، من قال لك هذا ؟
- ألم يترككِ دون أن يجري لك العملية ؟
- أنت تعرفين أنه ذهب لإنقاذ مريض من الموت ، فلا تحاولي تشويه سمعته بالافتراء ، ثم إني لم أكن أعني له شيئا .
- ولن تعني له شيئا أبدا .
- لست أريد أن أعني لديه ، أو لدى غيره شيئا .
- ولكنك ستتزوجين يوما ما ، فلا تحاولي أن تجعلي من حبه عقبة تضيع عليك الفرص وتبعد عنك الناس .
- أين هذه الفرص وأين هؤلاء الناس ؟ أكل هذا تقولينه لمجرد نظرة تطلع من صاحبنا هذا ، هل تعتقدين أن نظراته ستستمر لو نزعت عن وجهي الإشارْب ؟
- إذا كان يحبك فلن يضيره أي شيء .
- أنت بلهاء ، أؤكد لك أن اليوم الذي سيبصرني فيه بلا إشارْب لن يجد في وجهي أثرا لذلك الشيء الذي يريحه ويجذبه .
وبعد بضعة أيام أقبل جمال على الأختين بعد الغداء وهما في طريقهما إلى الحجرة وصاح بهما : لا لا لا ، لا نوم اليوم سنبقى مستيقظين حتى نشاهد البركان ، سنمر به في الساعة الثالثة والربع أي بعد ساعة وربع فهيا بنا نجلس هناك حتى نرقبه .
وأجابت نادية : بشرط أن تنتقي لنا ركنا هادئا لا يزعجنا فيه أحد .
- لكما علي ذلك .
وذهب الثلاثة إلى مقدمة السفينة واضطجعوا على مقاعد القماش الطويلة .
وبدأ جمال ثرثرته عن رحلاته السابقة ، وعن أول مرة عبَرَ فيها مضيق مِسينا ورأى بركان بيزوف .
وهب الهواء رَطْبا كأنه الأكف الندية تربت الوجوه ، وأسبلت نادية عينيها وأرخت أطرافها وبعد لحظة أحست بالهواء كالمخدر وتثاقلت أجفانها وبدأت أفكارها تختلط إختلاط المقبل على النوم ولم تعد تلتقط سوى فقرات متقطعة من حديث جمال حتى خفت صوته تماما ، ومضت برهة ونادية مستغرقة في سُباتها على المقعد المريح الطويل وجمال مسترسل في حديثه ومُنى تتأرجح بين الإنصات والسَرَحان .
وقال جمال ضمن أحاديثه عن رحالاته : وأعجب ما رأيت في إيطاليا مقابر جنوة ، هل رأيتماها ؟
وكانت مُنى شاردة فلم تجب ، والتفت جمال إلى نادية يستحث ردها فإذا بها نائمة ، وتشبثت عيناه في وجهها وظل ينظر إليه كالمأخوذ .
كان الإشارْب قد انزلق من رأسها وبدا أسفل صدغها وقد ظهرت به آثار الحريق ، وبدت به النقط البِيض التي بدت بالجلد عقب شفائه من الحريق ، وأصابت جمال رجفة وأحس بألم يثقل جوفه وهو يكشف سر إصراراها على عصابة وجهها ، وبغير وعي وجد نفسه يميل في مقعده ويمد ذراعه ليمسك طرف الإشارْب بطرف إبهامه وسبابته ويشده على رأسها في سكون ، وأحست مُنى بصمته والتفتت إليه لتجده يشد الإشارْب على وجه نادية بعد أن اكتشف آثار الحريق ، وخيل إلى مُنى أن المقعد يغوص بها في خشب السفينة ، ومضت بها برهة وهي تلهث كأنما تقف على شفا هاوية ، وأخذت ترقب عيني نادية وهي تدعو الله أن يُثقِلَ أجفانَها فلا يجعلها تحس بما حدث .
والتقت عينا مُنى بعيني جمال وأخذ كل منهما يحدق في الآخر دون أن ينطق بكلمة ، وأخيرا قالت مُنى في رجاء حازم : لن تذكر لها شيئا .
وهز جمال رأسه بالنفي دون أن ينطق فقد كان يخشى أن يخونه صوته وتخذله عبراته .
وعادت مُنى تتساءل هامسة : ولن تغير معاملتك لها ؟
وعاد جمال يهز رأسه في تأكيد وهمْس قائلا : سأغيِّرها ، إلى أفضل .
ونظرت مُنى هامسة : مُتَشَكِرَة ، مُتَشَكِرَة جدا ، أنت إنسان كريم ...
20
وَهَم وحقيقة
اقتربت السفينة من مرسيليا ، وبدا الميناء الفرنسي يبدو من بعيد بأسقف الحُمْر المنحدرة وبيوته المكدسة عل الشاطئ كحائط ممتد ، كان الجو قد تلبد بالغيوم والمطر قد أخذ يتساقط في غزارة ، وجمال قد وقف بجوار الأختين يتكئون على حرف السور في أحد الممرات يرقبون المرشد وهو يصعد من القارب البخاري إلى السفينة ليقودها إلى الميناء ، وأحست مُنى بشيء من الأسف على فراق جمال فقد وجدت فيه خير مؤنس لوحشة نادية ولا سيما بعد أن أدرك سر انطوائها وعرف ما وراء العصابة التي تشد بها وجهها ، فازداد إقبالا عليها وعنايةً بها ، ولم تشك مُنى أن ازدياد إقبال جمال على نادية قد سببه الإحساس بالرثاء والشفقة ، وكانت شديدة الحذر من أن يساور نادية أقل شك في حقيقة مشاعر جمال ، فقد أحست أن هذه المشاعر رغم عدم نفاذها إلى نفسها إلا أنها منحتها بعض الثقة وأبعدت عنها الاعتقاد بأنها أضحت مخلوقة مشوهة ينفر منها الناس ، وكان جمال قد بدا عليه السرور وأخذ يسترق النظر بين آونة وأخرى إلى نادية ، وقد بدا جانب وجهها مشدودا بالإشارْب وأحس برغبة شديدة في أن يتحسس رأسها ويضمها إليه في رفق ، لقد أحس أن الفتاة الشقراء الهادئة المعصوبة الرأس لم تعد مجرد عابر سبيل عِبْرَ الطريق ، بل أضحت بعد بضعة أيام السفر وكأنها جزء من كيانه ، وحوَّل بصره إلى مُنى وبدا في عينيه كمن نوى أمرا ، ومد يده فمس كتفها ، والتفتت منى متسائلة بعينيها عما يريد فبدا عليه الارتباك ثم أشار برأسه إلى داخل السفينة ، فهزت مُنى رأسها تطلب مزيدا من الشرح ، ولكن نادية التفتت قائلة وهي تجد المطر يزداد انهمارا : تصوروا الفارق بين الجو الذي صعدنا فيه إلى السفينة والجو الذي سنغادرها فيه ، من النقيض إلى النقيض .
وعلقت مُنى قائلة : أنا أفضل هذا الجو ، مهما هطلت السماء فهو خير من الجو الراكد الذي يحس فيه المرء بالاختناق .
ونظر جمال إلى مُنى وهو يقول : عن إذنكما سأذهب لأخرج حقائبي من الحجرة .
وقبل أن يستدير مغادرا قال لِمُنى : ألا تريدين المجلات التي طلبتِها يا مُنى ؟
وأجابت مُنى : أجل سآتي معك لآخذها .
وسارت مُنى لاحقة به وهو يتجه إلى الداخل وقبل أن يصلا إلى حجرته هتفت مُنى : أحقا تريدني من أجل المجلات .
وتوقف جمال وقد بدا على سيماه التفكير وأجاب في شرود : بل أريدك لشيء أهم من هذا بكثير .
- ما هو ؟
- هل تجلسين في حجرتي ؟
- يتوقف على نوع حديثك .
ثم أردفت مازحة : فإذا كان غزلا فمن الخير أن نجلس على الأريكة أو على حافة الحمام .
- بل هو حديث جاد .
- وهل الغزل حديث غير جاد ؟ طبعا لسنا قَدْر المقام .
ولم يكن يبدو على جمال أي ميل للمزاح ، فقد مد يده وجذب مُنى إلى داخل الحجرة قائلا : اسمعي يا مُنى ليس لدينا وقت للمزاح ، أريد أن أطلب منك شيئا هاما .
- ما هو ؟\
- إني أريد أن أخطب نادية .
وكانت مُنى تتوقع أن يحدثها عن نادية ولكن لم يطف بذهنها أن يصل حديثه إلى حد الخِطْبة .
كانت تتوقع أن يحدثها عن ألمه لإصابة نادية وعن استعداده لأن يكتب إليها . كانت تتوقع كل أنواع المساعدة التي يمكن أن يقدمها إنسان كريم أُثيرَت شفقته ولكنها لم تنتظر أبدا أن تصير المساعدة إلى حد الخِطْبة ، وعقدت الدهشة لسانها فلم تنبس بكلمة ، وطال الترقب بجمال وهو يحدق في قسماتها المذهولة وتساءل مستحثا : لماذا لا تجيبين .
وأجابت مُنى مترددة : لأني ، لأني ، مندهشة هذه مفاجأة لم أكن أتوقعها .
- لماذا ؟
- لأني لم أظن الشفقة تبلغ بك هذا الحد من الاندفاع .
- شفقة واِندِفاع ، ما هذا الذي تقولين ؟
- أليس الذي دفعك إلى خطبتها إحساسك بالشفقة عليها ؟
- طبعا لا .
- هل قرأتَ قصة حذار من الشفقة لِزافج ؟
- طبعا لا .
- إذن فاقرأها أولا .
ونظر إليها جمال وتسائل في غيظ : أهذا كلام ، أقول إني أود أن أخطب نادية فتقولين لي اقرأ قصة ؟
- أجل ، إنك سترى نفسك في هذه القصة ، ستجد البطل الذي دفعته الشفقة إلى خِطبة مشلولة مُقعَدة ثم يندم بعدها ويهجرها فَتَنْتَحِر .
ونظر إليها جمال وهتف قائلا : ما هذا الذي تقولين ؟ من قال إني أشفق عليها ؟
- ما الذي إذن يدفعك لخطبتها بمثل هذا الحماس ؟ إنك لم ترها سوى بضعة أيام ، فلماذا كل هذا الاندفاع ؟
- لأننا نوشك أن نفترق بعد بضعة ساعات ، ومن يعرف متى نلتقي بعد ذلك .
- أتظنك لو لم تَرَها ساعة مرورنا بالبركان وقد كشف الهواء عن وجهها أكنت مُقْدِما على خطبتها الآن ؟
وأجاب جمال مؤكدا : طبعا ، إني أعرف مشاعري جيدا .
وأطرقت مُنى برهة وبدا عليها التفكير : هذه فرصة العمر قد أتاحها القدر لنادية ، هذا المخلوق الذي لا يعيبه شيء يتقدم لخطبتها تدفعه أحاسيسه لكي يرفعها من هوَة يأسها ، إن القدر لم يقذف لها بأنيس رحلة ولكن بِشريك عُمْر ، تُرى ماذا سيكون رأي نادية ، أتُراها ستشكر القدر على منْحَته وتُقْنِع نفسها بهبته أَم ستظل في عنادها متعلقة بخيوط واهية من الأوهام والأشباح والسراب الكَاذِب ؟
ونظر جمال إلى مُنى وعاد يتساءل : ما رأيك يا مُنى ؟
- رأيي ، رأيي ممم .
ورفعت رأسها وسألته فجأة : ولماذا لا تسألها هي ؟ ما قيمة رأيي في موضوع يخصها وحدها ؟
- أنت أقرب الناس إليها وأدرى الناس بها ، ماذا تظنين سيكون رأيها ؟
وبدت على مُنى الحيرة وصمتت برهة ثم أجابت : يبدو لي أنك أدرى مني بموقعك من نفسها .
- لست واثقا منه ، أو على الأصح لا أستطيع أن أعرفه بالتحديد ، إنها تُقبِل علي وتعاملني برفق ورقة وتُشعرني بثقتها فيَّ وترحيبها بصداقتي .
- فقط .
- أظن هذا .
- وأنت ، ما هو موقعها في نفسك ؟
- أكثر كثيرا ، إني يا مُنى باختصار أحبها .
- وهل تحس هي بذلك ؟
- لا أعلم .
- ألم تحاول أن تُشعِرها ؟
- لم أدْرِ كيف ، لم تمنحني فرصة واحدة لذلك بالرغم من جلستنا معا ، حتى الساعات التي جلسناها سويا على ظهر السفينة والليل والقمر والنسيم والموج وما هيأته حولنا كل عناصر الشاعرية والحب لم تستطع أن تُخرِج من شفتَي كلمة حب ، كنا نتكلم في السياسة والأدب والوطنية والفلسفة وفي كل شيء عدا ذلك الشيء الذي أُحِسُّ لها به في صدري .
وصمت جمال ونظرت إليه مُنى متسائلة : وماذا أستطيع أنا أن أفعل ؟
- تستطيعين أن تفعلي أشياء كثيرة ، ، تستطيعين أن تُدركي مدى قبولها لمطلبي ، إنك تعرفين مشاعرها جيدا ، وهي لا شك حدثتكِ عني ، فما رأيك ؟
وأحست مُنى بالحرج وترددت برهة قبل أن تقول : رأيي ، إني في الواقع لا أعرف خبايا صدرها وإن كنت أحس بأن بها مَيْلاً إليك\ .
- مَيلاً من أي نوع ؟
- ليس شيئا أكثر من ذلك الذي تشعر به ، صداقة وود .
- ولا شيء أكثر من ذلك ؟
- لستُ أدري .
وبدت خيبة الأمل على وجه جمال ، ولكنه ما لبث حتى هز كتفيه قائلا : على أية حال لا أظن ذلك يعني أنها سترفض .
ولم تعرف مُنى كيف تجيب ، إنها لم تستطع أن تحدد لنفسها ماذا ممكن أن يكون رأي نادية في عرضه .
ولم يَطُل الصمت بجمال حتى سألها في رجاء : هل تستطيعين أن تسأليها ، أعني أن تَجِسِّي نبضها ؟
وأطرقت مُنى ومرة أخرى بدت عليها الحيرة ، لقد كانت تحس في قرارة نفسها أن نادية سترفض ولكنها كانت تحب أن تسوق لها الفرصة لتعرف أن هناك من يحبها ، وأنه على استعداد لخطبتها ، وأن ذلك التشويه الموهوم في وجهها لا أثر له ، ومن أجل ذلك كانت تحب أن يتقدم إليها جمال بنفسه لإنها كانت تعلم أن نادية قد لا تأخذ عرضها مأخذ الجد وستظن حديثها من بنات أوهامها ومبتكرات أفكارها ، ولكنها كانت تعرف أيضا أن نادية ستعتقد أن جمال سيتقدم لخِطبتها لإنه لا يعرف سوى شكلها الظاهر وأنه لو عرف ما تحت الإشارْب لانصرف عنها ولِما فكر في التقدم إليها ، ومن غير المعقول أن يُنْبئها جمال أنه يعرف أن بعنقها أثر حرق وأنه يحبها رغم ذلك ، إذن فعليها أن تتركه يتقدم إليها لتتأكد أن المسألة حقيقة واقعة ، وأنها ليست من تأليف مُنى ، وعلى مُنى بعد ذلك أن تُنْبِئها أنه يعرف الحقيقة ، وأنه رآها بلا إشارْب وأنه يحبها رغم ذلك ، كل هذه الفروض قد افترضتها مُنى على أساس استبعاد الوهم المعلَق في رأس نادية والسراب الكاذب الذي يلوح أمامها .
وقال جمال يستحث مُنى ويُخرجها من أفكارها : لماذا لا تجيبين أتستطيعين أن تَجُسّي نبضها ؟
- إني ، إني أفضل أن تتحدث إليها بنفسك ، إن ذلك أفضل كثيرا .
- ولكن أخشى أن ..
- تخشة ماذا ؟
- أعني ، ربما كان في قلبها ، إنسان آخر .
وعادت مُنى تُطْرِق .
وأردف جمال يقول : وأنت طبعا تستطيعين أن تعرفي .
ورفعت مُنى رأسها وقالت في صوتٍ خافت : أجل ، إن في قلبها شيئا ، ولكنه ليس إنسانا ، إنه وهم ، ولذلك أسألك أنت أن تتقدم إليها فلعلك تقضي عليه ، لعل واقعك يَقْهَر أحلامها ، تقدم ولِيَفعل الله ما يشاء .
وقبل أن تستدير مُنى لتنصرف من الحجرة ، عادت تقول مؤكدة : ولكن أرجوك قبل أن تُقْدِم على أي شيء أن تتأكد من حقيقة مشاعرك ، تأكد من أنها ليست شفقة ، لأني أكره أن أُعَرِّض نادية لمصير بطلة زِفِج .
- قلت لك إني أعرف مشاعري جيدا .
- إذن هيا بنا ، إني ألمح أبنية الميناء تقترب ، هيا بنا نُخرج الحقائب ، إن أمامنا مشكلات كثيرة حتى نصل إلى كاب ، لقد وفر علينا عمي سليمان كل هذه المتاعب في مصر .
- وأنا هُنا سأحل محل عمك سليمان ، دَعي لي كل شيء .
وكانت السفينة قد أخذت تتهادى داخل الميناء حتى توقفت على الرصيف ، وتعالت من الأسفل صيحات رجال الميناء والحَمّالين وصعد رجال البوليس الفرنسي وجلس مع رجال السفينة يفحص الأوراق.
ووقفت نادية ومُنى مع أمهما يفحصان الوجوه المتراصة على الرصيف ، وكان يبدو على وجه الأُم سيماء الحزن والأسى وهي تشعر بوحدتها وتتخيل بين آونة وأخرى أن فاضلا سَيُقْبِل من ورائها لِيُنْبئها أن الجوازات قد خُتِمَت وأنهم يستطيعون النزول ، وتتلفت حولها فلا تجد سوى ابنتيها تقفان متطلعتين إلى الرصيف كأنهما تتوقعان أحدا يَلقاهما كما يحدث لبقية المسافرين .
وأخيرا أقبل جمال يهتف بهن قائلا : هيا بنا لقد انتهى كل شيء .
وأخذوا يهبطون السُلَّم المعلق بين السفينة والرصيف وقد تعالى الضجيج من حولهم واشتد الصياح وأقبل عليهم أصحاب عربات الأجرة والحمّالون وهم يتبادلون الصياح والسُباب .
وقال جمال وهو يدفعهم بيده : لابد أن نحذر هؤلاء الأفاقين ، إنهم شر رجال الموانئ .
وقف الأربعة مرة أخرى تحت سقيفة الجمرك، ورُصَت الحقائب على منصة طويلة ولم يَطُل بهم الأمر حتى كانت إحدى عربات الأجرة تحملهم خارج الميناء .
وقال جمال للسائق : إلى القنصلية المصرية .
واعترضت الأُم قائلة : لماذا لا نذهب إلى المحطة رأسا ؟
- إن لي صلة بالقنصل ويمكنه إبدال العملة بالسعر الرسمي ، ونستطيع كذلك أن نعرف مواعيد القطارات بدلا من أن نذهب وننتظر في المحطة .
وهزت الأُم رأسها قائلة : كما تشاؤون .
ووقفت العربة بعد فترة أمام القنصلية المصرية وكان المطر مايزال يتساقط بشدة والمارة يَعْدون في عجلة حاملين المِظَلّات مرتدين معاطف المِشَمَّع .
وهزت نادية رأسها متعجبة : لم أتصور قط أننا سنُقابَل فجأة بمثل هذا المطر والبرْد .
ثم نظرت إلى مُنى وقد أحست أنها تنتفض وتساءلت في قلق : هل تشعرين بالبرْد يا مُنى ، أتأخذين سُتْرَتي ؟
- لا لا ، إني أشعر بانتعاش في هذا الجو .
وكان جمال قد صعد إلى القنصلية وبعد لحظات أقبل يناديهن : تفضلوا ، إن القنصل يصر على أن نشرب فنجان من القهوة .
ودخل الثلاثة يتبعون جمال إلى داخل القنصلية .
وقال جمال للسائق : لن نَغِيب أكثر من 5 دقائق .
ورحب القنصل بهن وكان شابا وسيما لطيفا ، وسألهم أن يصرفوا العربة لأن موعد القطار لم يحن بعد ، وأصر على أن يوصلهم بعربته وأكد لهم أنه سيقوم بكل إجراءات السفر وتغيير العملة .
وجرى الحديث عاما عن الجو والسياسة ، وقال القنصل وهو يهز رأسه مؤكدا : إن صفقة الأسلحة أطارت صوابهم ، أنهم يشيعون هنا أن مصر قد أصبحت دولة شيوعية .
وأجاب جمال ليشيعو ما يشاؤون المهم أننا أصبحنا نملك السلاح .
وقالت نادية : هل سمعتم عن الوثيقة الفرنسية التي كشفها الرئيس جمال عبد الناصر والتي توضح كميات الأسلحة التي سلموها لإسرائيل ، ماذا يقولون عنها هنا ؟
- الشعب هنا لا يهمه إلا الضرائب التي تُفرَض عليه ، أما ما عدا ذلك فلا يهمه شيء ، والساسة يكرهوننا لأننا نحارب الاستعمار ، إنهم يكرهون تأييدنا للجزائريين ومساعداتنا لهم في ثورتهم ضد الفرنسيين .
ولم يرق الحديث لِمُنى ونظرت إلى الساعة في قلق وقالت : أظن الوقت قد حان للرحيل .
ونهض جمال قائلا : أجل هيا بنا .
وحملتهم عربة القنصل إلى المحطة ، وكانت مُنى تحس بقلق جمال وهو يجد أن فرصته الوحيدة قد باتت معلقة برحلة القطار .
وقالت الأُم وهم يغادرون العربة : سنأخذ القطار الذاهب إلى كرينوب وسننزل في فين ثم نأخذ من هناك القطار المتجه إلى كاب .
وأجاب جمال : سآخذ معكم نفس القطار ، وسأواصل به السفر إلى جنيف ، سيغادر القطار مارسيليا الساعة السابعة وسيصل إلى فين حوالي العاشرة وسيتحرك القطار المتجه إلى كاب في العاشرة والنصف فلن يطول انتظاركم في محطة فين .
ووصلوا إلى القطار وكانت المحطة على اتساعها قد امتلأت أرصفتها بالقطارات .
وقالت مُنى على سبيل المزاح : خذ بالك حتى لا تذهب بنا إلى باريس .
وأجاب جمال ضاحكا : يا ليت .
وأخيرا استقر المقام بهم في مقاعد القطار ، وتعمدت مُنى أن تجلس بجوار أمها حتى م=تمنح جمال فرصة الجلوس بجوار نادية .
تحرك القطار وتكأت الأُم بظَهْرها إلى مسند مقعدها وأغمضت عينيها وقد بدا عليها التعب والإرهاق .
وألقت مُنى ببصرها من النافذة وكان ضوء النهار مازال منتشرا وقد كف المطر عن التساقط وانكمشت السحب مُفْسِحة لأشعة الشمس التي أخذت تتسلَل لتلقي ضوءها الأحمر الخافت على قمم الشجر وأعالي البيوت ، وبدت الأسقف المنحدرة لامعة وقد أخذت مياه المطر تتساقط من جوانبها ، وبدت تربة الطريق بجوار شريط سكة الحديد حمراء قانية كأن ترابها قد اختلط بالدماء .
وأسندت مُنى رأسها إلى زجاج النافذة وأخذت ترقب المرئيات تَتَتابع على النافذة .
وأحس جمال أن الجو قد خلا له ، وأصابه الارتباك وهو يشعر أنه قد بات يواجه نادية وحده ، ولم يعرف من أين يبدأ ولا كيف ؟
وكان لا بد له أن يبدأ بشيء عام ، فقال : بعد برهة سنبدأ الصعود وستختفي هذه السهول وتبدو لنا المساقط الجبلية الرائعة وقد كستْها الخضرة وهبطت منها شلالات المياه .
- ليت الضوء ينتظر حتى نستمتع بمشاهدتها .
- طبعا سينتظر الضوء ، إن الشمس لن تغيب قبل الساعة الثامنة وكلها نصف ساعة وندخل في المنطقة الجبلية ، إن أجمل ما فيها القمم البِيض تعلوها الثلوج .
- أجل إنها أكثر ما يعْلق بذهني من رحلتنا الأولى إلى كاب .
وأحس جمال كأن دورات عَجَل القطار تقطع من فرصته وأنه يجب عليه أن يبدأ ، وكره من نفسه هذا الارتباك أمام الصبية الهادئة المعصوبة الرأس .
وقال وهو يلُم بأطراف ذكائه ويرمقها بطرف عينيه وهي تُحَدِّق من النافذة : ستكون رحلتي هذه أكثر رحلاتي رسوخا في نفسي .
وأحست نادية بقوله نوعا من المجاملة ، ولم تعرف كيف تجيب .
فقالت ببساطة : لقد كانت رحلة لطيفة .
- كان ألطف ما فيها لقائي بكِ .
- مُتَشَكِرَة .
- إني أعني ما أقول ، لقد أحسست عندما لقيتك أنني لقيت شيئا كنت أفتقده .
وحارت نادية فيما يقصد إليه جمال ، أهي مجاملة أخرى أَم تراه يقصد من ورائها شيئا ؟
ولم تجد أمامه إلا أن تفترض حسن النية .
وقالت ترد المجاملة : إنك في الواقع هيأت لنا صحبة لطيفة ولسنا ندري كيف كان يمكن أن تكون الرحلة لو لم نُقابلك ، إن مُنى قالت عنك في أول الأمر إنك تصلح أنيسا لرحلة ، ولكني وجدتك تصلح صديقا دائما .
وأحس جمال أن نادية تدفعه في الطريق الصحيح فصمم أن يتخذ فيه خطوة طويلة ،
فقال وهو يحوِّل وجهه إلى النافذة حيث أخذت تحدق ببصرها : ليت معرفتنا تدوم حقا .
- ولِمَ لا ؟ إني سأكتب إليك .
- أقصد دواما أقوى من الكتابة .
- عندما تُتاح الفرصة لأحدنا فلا أرى هناك شكا في أننا سنتزاور ، إننا نرحب بك دائما في كاب .
وصمت جمال ثم هتف قائلا : نادية .
وأحست نادية من لهجته بدَقة خطر ، كانت تحس أنه يوشك أن يقول شيئا أكثر من مجرد مجاملة ، ولم يكذب إحساسها .
وسرعان ما أعقب جمال هتافه بقوله : نادية ، إني أحس أنك لستِ مجرد صديقة سفر ولا أنيسة رحلة ، إني أحس بك أكثر من هذا ، أحس أنك غدوتِ شيئا لا غنى لي عنه ، إني أشعر أن هناك رباطا خفيا يشد أحدنا إلى الآخر .
وأحست نادية بارتباك شديد وأُلجِمَ لسانها وجمدت شفتاها ، كانت تجد جمال قد اندفع في اعترافه بحبه ، ولم تجد في نفسها أي استعداد لقبول اعترافه أو للرد عليه ، ولم تستطع أن تفعل أكثر من الاستمرار في التحديق من النافذة .
استمر جمال يقول : إني لا أعرف كيف أشرح ما أحسه لك ، ولا أدري كيف أصف لك قيمتك عندي ، ولكن كل ما أستطيع أن أفعله هو أن أعرض عليك نفسي وحياتي ومستقبلي ، أنا لا أريد أن أمتدح نفسي ولكني أعتقد أني سأكون زوجا طيبا لك أنت .
وأحست نادية برجْفة وبدا لها العرض مفاجأة ضخمة لم تخطر لها ببال .
لقد تحولت ظنون مُنى إلى حقيقة واقعة ، إنه يطلب زواجها بمنتهى الإخلاص والحرارة ، وفجأة مدت يدها إلى عنقها وتحسست أصابعها المتشنجة جلد عنقها من فوق الإشارْب ، إنه يطلبها باعتبار الوجه البادي له ، إنه لا يعرف حقيقة ما وراء هذا الحجاب من تشويه ،إنها خَدَعته وغَرَرت به ، يجب أن تذكر له الحقيقة ، يجب أن تنتزع عن وجهها هذا الحجاب ، ولكن لماذا تفعل ؟ هل هي تقبل زواجه ؟
وأحست بالرد الأكيد ينبع من صدرها : لا لا ، إنها لا تريد الزواج ، لا تريد أن تقطع بيدها حبل الأوهام التي تتعلق بها ، حقيقة أنها حبال من الوهم تُعَلِّقُها بآمال من السراب ، ولكنها مع ذلك لا تريد أن تقطعها ، إذن فأي مبرر لأن تقول له أنها مشوهة ، يكفي أن تعتذر برقة وينتهي الموضوع .
ورفعت يدها عن عنقها وهمت بالرد ، ولكن قبل أن تنطق كلمة سمعت جمال يقول بلهجة ملؤها الحنان : لا يهم هذا يا نادية ، إني أحبك كما أنت .
وذُهِلَت نادية ونظرت إليه في ارتياع وهي تهتف : كما أنا ؟ هل تعرف ؟
- أجل ، لقد انزاح الإشارْب عن رأسك عندما غفوتِ على المقعد ونحن نمر بالبركان فأعدته إلى رأسك .
- بعد أن رأيت الحرق ؟
- أجل ، ولم أحس بأي فارق بينك وأنت في الإشارْب وأنت بدونه .
- حقا ؟
- أجل ، لقد صممت منذ ذلك الوقت أن أخطبك .
- شفقة بي ؟
- أبدا ، إني أحبك يا نادية .
وأطرقت نادية ثم أسندت جبينها إلى كفها .
وهتف جمال متسائلا : ما رأيك يا نادية ؟ أجيبي .
ورفعت نادية رأسها وقد ترقرقت دمعتان في عينيها وهي تتطلع إلى الوجه الذي يرقبها في لهفة : إني آسفة لا أستطيع أن أرتبط بأحد الآن .
- وبعد الآن ؟
- من يدري ، ولكن أؤكد لك أنك ستكون أول من ألجأ إليه حين أفكر في الارتباط .
وعادت تحدق من النافذة ، وأخذت مرتفعات الألب تظهر بسفوحها الخُضْر وهاماتها التي يعلوها البياض ومساقطها التي تنحدر منها المياه .
ونظرت مُنى إلى جمال وقد أغمض عينيه وبدا الأسى في ملامحه ، لقد كانت تعرف النتيجة سلفا ، كانت تعرف مدى تسلط الوهم الذي يحل على قلب نادية ، ومدى قدرته على هزيمة كل حقيقة ...
21
لا ندم
وصل القطار إلى بلدة فين الواقعة على مفترق الطريق المتجه غربا إلى كاب وشمالا إلى كرينوبل ثم جنيف ، وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة والنصف ، والمحطة قد بدت خالية إلا من بضعة حمّالين وناظر المحطة بمنظاره السميك ووجهه الأحمر المنتفخ وجسده الأكرش المترهل ، وكانت برودة الليل قد اشتدت والضباب قد تكاثف وبدت مصابيح المحطة المتناثرة وقد أُحيطت بهالة بيضاء من ذرات الضباب وبقايا المطر تتساقط من حواف الأسقف في قطرات ثقيلة تقرع أرض المحطة في طَرقات منتظمة .
وفتح جمال النافذة ليدفع بالحقائب إلى أحد الحمالين الذي وقف بجوار القطار يفرك يديه وينفخ الضباب من منخريه .
وصاح به جمال وهو يناوله إحدى الحقائب : إلى القطار الذاهب إلى كاب .
وأجاب الحمال وهو يضع الحقيبة بجوار قدميه : سيحضر بعد نصف ساعة ، لقد تأخر قطاركم ولكن القطار التالي سيتأخر أكثر .
وأجابت مُنى : ونصف ساعة محتملة كان يمكن أن ننتظر أكثر من ذلك .
وأحست الأم بلفحة البرْد التي هبَّت من النافذة ، فصاحت بمُنى : أَخرجي الجاكيتا الصوف من حقيبتك ، نحن لا نعرف متى يحضر القطار .
وألقت مُنى نظرة سريعة على الحقائب فوجدت حقيبتها بيد جمال يوشك أن يناولها للحمال ،
فهتفت به : لحظة واحدة حتى أُخرِج منها الجاكيت .
وتناولت نادية الحقيبة من جمال قائلة : هاتِها وإلا قلبت مُنى كل ما بها ، أنا أعرف أين وضعت الجاكيت وسأُخرِجه في ثانية .
وفتحت نادية الحقيبة ومدت يدها وأخرجت الجاكيت ، فتناولتها مُنى ودفعت ذراعيها في أكمامها وضمتها إلى صدرها .
ثم دفعت برأسها من النافذة وهي تقول : ليس الجو بمثل هذه البرودة التي تَدَّعونها ، إنه محتمل جدا ، ماذا تقولون إذن عندما يُقْبِل علينا الشتاء الحقيقي في كاب ؟ هل تذكرين يا نادية ؟
وجذبتها نادية من ذراعها وهي تتجه نحو الباب قائلة في عجلة : هيا بنا ليس هذا وقت ذكريات ، إن القطار أوشك على المسير .
وقال جمال للحمال وهو يسَلِّمه الحقيبة الأخيرة من حقائب الأُسرة : على أي رصيف سيقف القطار ؟
وصاح الحمال : نفس الرصيف .
- انتظرني إذن حتى آتي إليك .
- وبقية الحقائب ؟
- ستبقى في القطار ، لأني مستمر حتى جنيف .
وأسرع جمال يهبط القطار وراء نادية ، وبعد أن منح الحمال أجره وقف يودع الأُسرة وقد أخذ يرمق نادية في حنين وأسف .
وصاحت مُنى تستحثه على العودة للقطار : أسرِع إلى القطار وإلا سار وتركك .
- أتخشين أن أبقى معك ؟
- أبدا إني أخشى أن يسير بحقائبك ، ليتك تجيء معنا .
- لو كان لدي فسحة من الوقت لصحبتكن إلى كاب .
وقالت الأُم : إذن عِدْنا أن تزورنا عندما يسمح لك وقتك ، إننا لن ننسى جمائلك .
- العفو يا مدام ، إني لم أفعل شيئا ، لقد جعلتِني أشعر أني واحد من أُسرتكن .
وكانت نادية صامتة شاردة .
وعاد جمال يرمقها بنظراته الَّلهفىَقائلا : سأحاول أن أعود إليكن .
ثم أخفض من نبراته وقال بصوت هامس لا تكاد تسمعه سوى نادية : إذا لم تضايق زيارتي نادية .
وهزت نادية رأسها وكأنها تفيق من غيبوبة وأجابت : إني أرحب دائما بزيارتك ، وسأنتظرك دائما .
وأجاب جمال بنفس الطريقة الهامسة : شيء في داخلي يؤكد لي أني سأراك ثانيةً ، أنا لا أُصَدِّق أن هاذا يمكن أن يكون اللقاء الأول والأخير ، لقد تركتِ في نفسي أثرا عميقا .
وآذن القطار بالمسير ، فشد جمال على أيديهن ثم أسرع إلى القطار .
ووقف جمال في نافذته يلوح بيده ، وانساب القطار ببطء من المحطة ثم اندفع مسرعا ليُلقي بنفسه في ظلمات الليل والضباب .
,وأخذت مُنى ترقب القطار وهو يختفي ثم هزت كتفيها وهمست لنادية : كأني به وميض أمل قد ابتلعته الظلمة ، لستُ أدري لماذا تركْتِه ينساب منك .
وهزت نادية رأسها وأجابت في هدوء : أنا أيضا لستُ أدري .
وصمتت برهة ثم أردفت قائلة : أنا لا أدري ، إلا أني فعلت ما يريحني ولست أشعر بندم على فعله .
- قد تشعرين بالندم بعد ذلك .
- من يدري ، إننا لا نستطيع أن نقيد أفعالنا باحتمالات الندم ، يكفي أن نفعل ما يريحنا الآن .
كانت الأُم قد اتجهت إلى مظلة بجوار حجرة ناظر المحطة وجلست على مقعد خشبي طويل أسفلها ، وصاحت تنادي ابنتيها : اجلسا فميزال أمامنا نصف ساعة انتظار حتى يأتي قطار كاب .
وقالت مُنى وهي تتجه مع أختها إلى المظلة : لست أدري ما الذي لم يعجبك فيه ؟ إنه حقيقة مخلوق ممتاز رغم ما يبدو منه من خفة توهِم الناس بأنه وكما وصفته في أول لقاء إنسان هايف .
- لست أظنه كما وصفْتُه ، إنه خير بكثير .
- ألم يترك في نفسك أثرا ؟
- أعتقد أنه ترك .
- إلى أي حد ؟
وترددت نادية برهة قبل أن تقول : إلى أي حد ؟ لستُ أدري ، ولكني أحسه يُذَكِّرُني بِصبري .
وقالت مُنى : صبري مازال تلميذا .
- أنا لا أُقارن بين مركزيهما ، وإنما أقارن بين أثر كل منهما في نفسي .
- ولكن جمال يستطيع أن يتزوجك وأن يُكَوِّن لك بيتا .
- ومن قال أني أريد بيتا ؟
- ماذا تريدين إذن ، هل تظلين قابعة في كاب ؟
وجلست نادية بجوار أُمها وهي تُجيب قائلة : دعينا من هذا الآن ، المهم أن نصل إلى كاب .
ثم وَجَّهت حديثها إلى الأُم متسائلة : تُرى هل سنجد أحدا ينتظرنا في محطة كاب ؟
ونفاجئها بوصولنا .
وتساءلت مُنى وهي تهز ركبتيها : ماذا ننوي أن نفعل في كاب ؟وأجابت الأُم : لقد أرسل عمك سليمان تلغرافا إلى أمي ولا شك أنها سترسل من ينتظرنا ، وعلى أية حال نحن نستطيع أن نأخذ إحدى عربات الأُجرة ؟
والتفتت الأُم إلى مُنى مستفسرة : ماذا ننوي أن نفعل ؟ نعيش .
- أعني كيف سنعيش ؟
- كما يعيش الناس في كاب ، لدينا البيت والمزرعة وأستطيع أنا أن أعمل في المدرسة ..
وقاطعتها نادية قائلة : بل أنا التي سأَعمل .
ورفعت مُنى كتفيها قائلة : اعملا اأنتما الاثنتان ، أما أنا فلا أريد أن أعمل شيئا ، سأتسلق الجبل وآكُل الكريز وأجلس على شاطئ البحيرة حتى يرسل عصام في طلبي .
وقالت الأُم : افعلي ما يحلو لك ، ولكن احذري البرْد والإجهاد إنني لا أريد مزيدا من المتاعب .
وكأنما أعطى إنذار الأم إيحاءً لِمُنى بصدرها المريض فسعلت بضع سعلات قِصار ، وبدا القلق على وجه الأُم ، ونظرت نادية إلى مُنى فاحصة لترى هل تتصنع السُعال أَم أنها تسعل حقيقة ؟
وتساءلت في خوف : ماذا بك ؟
وردت مُنى وهي تزدرد ريقها : لا شيء .
وقالت الأُم محذرة : ارفعي الياقة حول عنقك وعندما نصل إلى البيت لا تغادري الفراش حتى يراك الطبيب .
وأدارت مُنى رأسها في دهشة وقالت في غيظ : ما هذا ، أمُحَرم علي أن أسعل ؟
وقالت الأُم مترفقة : نحن نخشى عليك يا مُنى ، لا تدرين كم يزعجني صوت السعال الذي سمعته منك ، إنه يُذَكِّرني بأيام مرضك .
- لا تنزعجي ، لن أسعل بعد الآن .
وسادت فترة صمت انطلقت كل منهن بأفكارها في ميدان أوهامها ، الأُم في ذكرياتها الأليمة عن الأب ومرضه ووفاته وخوفها من المستقبل المجهول الذي لا تبدو له سمات محددة ، ومُنى في آمالها المزدهرة وأمانيها المورقة النضرة في الانزلاق على الجليد والانطلاق في المزارع في حاضرها الجميل في كاب ومستقبلها الباهر في القاهرة تضع ذراعها في ذراع عصام يعدوان إلى بيتهما الصغير وحديقته الأنيقة ، وتستمر في الانطلاق لترى طفلا يَحْبو لتحمله بين ذراعيها ويناديها ماما و و و ، وأشياء كثيرة جميلة تزخر بها الحياة ويمتلئ بها المستقبل ، ونادية في خضم من اليأس يتكاثف منه ضباب لا تَبِين منه سمات ولا تبدو ملامح ، خضم تبدو فيه أشباح جمال وصبري ومُنى والأُم والأب الراحل والعمة القاسية والعم الحنون الطيب ، ووراء كل هذه الأشباح التي يلفها الضباب يجثم شيء لا يُرى ولا يكاد يبدو منه حتى مجرد شبح تَقْصُر عن رؤيته العين ويعجز الذهن عن التسليم بوجوده ، ولكنه رغم ذلك كائن موجود يؤكد وجوده عن إيمان وثقة قلب يَخفق بين الضلوع يستقبل إرسالاته ويلتقط إشاراته ، وتتجاوز نادية في انطلاقة أفكارها كل هذه المرئيات الملموسة لتستقر في سكينة على هذا الشيء الذي لا وجود له ولا إحساس به إلا من نبضات القلب ، والذي تُنْكِره عليها كل أدوات الحس ووسائل المنطق والإقناع .
وخيم على المحطة السكون وسادها الصمت إلا من طَرقات أقدام وهَمْهَمَة ونحنحة ، وبدأ الثلاثة يحسسن بوطأة البرْد فازددن تلاسقا .
وقالت مُنى وهي تضع كفيها تحت ساقيها وتهز ركبتيها بطريقة عصبية : لقد بدأت أُغَيّر رأيي ، إني أفضل الحر الخانق .
وقبل أن يجيبها أحد ، بدت في المحطة حركة نشاط ثم سُمِعَ ضجيج قطار مقبل وانتفض الحمال الذي وقف واضعا كفيه في جيبه ورأسه بين كتفيه يقول في تكاسُل :قطار كاب .
وبعد لحظات كان القطار يقف على الرصيف ، وأسرعت مُنى ونادية ووراءهما الأُم إلى داخله ولم يصعب عليهن العثور على الأماكن فقد كانت العربة شبه خالية ، وأخذ الحمال يرص الحقائب على الأرفف .
ولم تَطُل وقفة القطار حتى عاد ينساب بين مرتفعات الألب في طريقه إلى كاب وكانت الظلمات قد طوت الجبال فلم يعد يبدو على جانبَي الطريق من معالِم سوى أضواء خافتة مرتجفة لا تكاد العين تميز أبعادها أو دلائلها .
وأخذ النعاس يتسلل إلى جفون الثلاثة والتعب يُرْخي أعصابهن وبدأ التثاؤب يمضغ الكلمات والغفوة تطوي الأحاديث وتثاقلت الرؤوس وتراخت الأعناق وألقت بحِمْلها على الصدور تارة وعلى الأكتاف تارة ، ومدت كل منهن ساقيها على المقعد أمامها وأخذت الأجساد تشكل أوضاعها بحيث تمنح أعضاءها أقصى ما تستطيع من الراحة ، وبعد بضع حركات قليلة انتهى الثلاثة إلى سكينة النوم التي لا ترى معها إلا اضطراب الصدور ولا تسمع فيها إلا حفيف الأنفاس ، ولا يقطع ملل السفر ويَطْوي ساعاته كسلطان النوم أو حديث الهوى .
ولم تحس المسافرات الثلاث بالطريق إلى كاب إلا بقدر غمضة عين وانتباهتها فقد أمسك النوم بتلابيبهن فلم يتركهن إلا عند وقوف القطار في كاب وضجيج المحطة واختلاط أصوات الركاب بالحمالين .
وحاولت مُنى أن تستسلم مرة أخرى للنعاس وهي تتوهم وقفة القطار في إحدى محطات الطريق ،
ولكن نادية جذبتها من ذراعها قائلة وهي تنفض الكَرى عن أجفانها : هيا يا مُنى لقد وصلْنا
ونظرت مُنى من النافذة مُحَمْلِقَة إلى فناء المحطة وهزت رأسها وتساءلت متشكِكَة : وصلْنا ، إلى أين ؟
- إلى كاب ، انهضي حتى نُنْزل حقائبنا .
وقالت مُنى في دهشة وهي تتمطىَ: غير معقول ، إني لم أنم أكثر من بضع دقائق .
وأجابتها نادية في غيظ : يا غبية الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ، هيا أنزلي حقيبتك ، ليس أمامنا وقت للتمطي والتثاؤب .
وكانت الأُم قد أخذت تتناول الحقائب وتقذف بها من النافذة إلى أحد الحمالين وهي تفحص الواقفين على الرصيف وتعبر بعينيها سور المحطة باحثة عن إحدى عربات الأُجْرة ولم تكد تقذف بآخر حقيبة حتى لمحت عجوزا يقف على باب المحطة وقد تدثر بمعطف رث وكبس قبعة رمادية إلى أذنيه .
وهتفت الأُم في فرحة تنادي العجوز : بول بول .
ثم وجَّهت الحديث إلى ابنتيها مشيرة إلى الرجل : إنه بول خادم أمي ، لا شك أنه ينتظرنا ، نادي عليه يا مُنى .
وصاحت مُنى تُنادي الرجل ، ولكن الأُم أسكتتها قائلة : لا فائدة ، إن صَمَمَه لا شك قد ازداد ، انتظري حتى نهبط إليه .
واتجه الثلاثة إلى باب القاطرة وهبطن إلى الرصيف ،.
وهرعت مُنى إلى العجوز المُنْكمِش في معطفه وصاحت به : بول .
والتفت إليها الرجل في دهشة .
وعادت مُنى تَصيح به : بول ألا تُعْرِفُني ؟ إني مُنى ، ألا تَذْكُرْني ؟ لقد زرتكم مرة وأنا صغيرة مع أبي وأمي وأختي .
وفغر الرجل فاه وعلت وجهه أمارات التأثر والفرحة .
ومد ذراعيه يضم إليه مُنى وهو يهتف : أخيرا وصلتن ، لقد كَبِرْتِ جدا إني لم أعرفك ، لقد ظللت أنتظركن منذ أول أمس وكنت أرقُب كل قطار يصل إلى كاب وأعود إلى سيدتي خائب الرجاء ، أين ماما وأختك ؟
وأشارت مُنى إلى أُمها وقد وقفت بجوار الحقائب وقالت : إنها هناك تنقد الحمّال أجره .
- حمّال ، وماذا جئت أفعل ؟ مازال عندي ساعدان قويتان إني أفعل كل شيء في المزرعة .
اندفع الرجل إلى الأُم صائحا وقد اختلجت شفتاه بالبكاء : مدام لورا .
ومدت الأُم يدها تشد على يد العجوز قائلة في تأثُر : كيف حالكم يا بول ، كيف حال ماما ؟
- إنها لا تكاد تسير ، منذ عام والروماتزم يُقْعِدُها ، ولا تكاد تبلى منه إلا بضعة أسابيع في الصيف ، ولكن الحادث قد هَدَّها هذا العام ، لقد هَدَّنا كلنا يا سيدتي ، لقد كنا نحب سيدي فاضل كثيرا كنا دائما نذكره بالخير .
وجذبت مُنى الرجل من ذراعه بعد أحست أنه يوشك أن يقلب المحطة إلى مَحْزَنة .
وقالت وهي تحمل إحدى الحقائب : هيا يا بول ، دع الحديث الآن ، لدينا في البيت وقت كافٍ .
وقال الرجل وهو يحمل بقية الحقائب ويتجه إلى الباب : كم فرحنا لمجيئكن ، إن سيدتي الكبيرة ظلت تبكي طوال الليل .
فسألت الأُم وهي تتْبع الرجل : من يعيش معها الآن يا بول ؟
- السيدة جانيت ، لقد انتقلت للإقامة معنا بعد أن مات زوجها في حادث طائرة ، إنها تقيم معنا معظم العام ولا تتركنا إلا بضعة أشهر في أول الصيف لتذهب إلى أولاد أخيها في كرينوبل .
التفتت مُنى إلى أُمها متسائلة : من تكون جانيت هذه ، هل رأيتها أنا ؟
وأجابت الأُم : إنها جاني ابنةُ ابن عم أُمي ، لقد كانت صديقة الصِبا وزميلة الدراسة ..
وقاطعتها نادية قائلة : جاني التي كنت دائما تحكي لنا عنها ، والتي أُصيب زوجها في حادث الطائرة ؟
- أجل ، إنها هي .
وتساءلت مُنى : وهل ستعيش معنا ؟؟
وأجابت الأُم وهي تقف أمام عربة الأُجرة وقد نادى بول سائقها : سنرحب بها إذا أرادت البقاء معنا .
وقال بول : لقد كانت تخدم السيدة الكبيرة وترعاها ، إنها سيدة كريمة لطيفة وقد أحببناها جميعا .
وأجابت الأُم : وأنا أيضا أحبها .
وقالت نادية : لماذا لا تبقى إذن ؟
وتساءلت مُنى : ربما لا يسعنا البيت ؟
وقال بول : إن نصف البيت خال .
وركب الثلاثة العربة وجلس بول بجوار السائق وهو يقول له : إلى بلاش .
وانطلقت العربة وكانت المدينة قد سادها السكون وبدت طرقاتها خالية لا أثر فيها لحياة ، والفندق المجاور للمحطة قد أطفأ أنواره وامتدت يد صاحبته السمينة لتغلق بابه الخشبي المطل على فناء المحطة .
واجتازت العربة الطريق المؤدي إلى الميدان وكانت أرض الطريق تلمع بمياه الأمطار وأضواء المصابيح الخافتة تنعكس مرتجفة على الأرض اللامعة والضباب يلف البيوت والأشجار ، وعجل العربة يُصدِر صفيرا وهو يطوي أرض الطريق ولم تكد المسافرات الثلاث يحسسن دفء العربة وراحة الجلسة حتى عاودهن استرخاء النوم وبدأ النعاس يُثقل أجفانهن ، ولكن الخادم العجوز القابع بجوار السائق لم يكن قد انتهى بعد من إفراغ كل ما بصدره من ترحيب ،
فعاد يطرد النوم من أعينهن بقوله : ستمْلأن علينا البيت لشد ما أصبحت السيدة الكبيرة تضيق بالوحدة ، إن أعصابها باتت متوترة وباتت تجزع من كل شيء .
وتركته الأُم يثرثر ، وأغمضت مُنى عينيها ، وأسندت نادية رأسها على ظَهر المقعد وشردت ببصرها باسترخاء من نافذة العربة .
واستمر العجوز في ثرثرته قائلا : إن السيدة جانيت كانت تريد أن تأتي لتنتظركن ، ولكنها أصيبت أول أمس بنزلة برْد جعلتها لا تقوى على الخروج ، لقد أعد لكُن حجرتين في الطابق العلوي وهي تنام مع السيدة الكبيرة في الطابق السفلي مكان حجرة الأكل القديمة لأأنها لا تقوى على صعود السلم ، والشمس تسطع في الغرفة وقد تشفيها من الروماتزم .
ولم يجد أحد من الثلاثة القدرة على أن تتبع أنباء الروماتزم ، ولم يجدن ضرورة لتتبع حديث الرجل مادام كل حديثه أخبار لا تتطلب ردا ، ولكن الرجل بدا له أن يشركهن في الحديث فتساءل قالئلا : هل تعجبكنالحجرتان المطلتان على الحديقة أَم تفضلن الحجرة المطلة على الفناء الخلفي ؟
ولم تكلف مُنى نفسها مشقة الرد فقد استغرقت في سُباتها ولم تحاول نادية الرد لأنها لم تكن تذكر فارقا بين الحجرات الثلاث ، كل ما كانت تذكره هو المنظر العام للبيت بسقفه الأحمر الشديد الانحدار ومدخنته الخارجة من السقف وحجرتها ذات الشرفة التي تتسلل إليها فروع التفاح الأحمر ودجاج يملأ البيت وكرُمبات ضخمة تملأ الحديقة .
وكان على الأُم أن تجيب على ثرثرات العجوز فطردت عنها النوم وأجابت قائلة : سنرى كل ذلك عندما نصل ، وعندما يأتي النهار .
ودارت العربة في الطريق الرئيسي الذي قامت الحوانيت المغلقة على جانبه ثم أخذت تصعد في طريق جانبي متجه إلى أعلى الجبل بعد أن عبرت شريط سكة الحديد ، وأخذ الطريق يزداد ارتفاعا والدور تختفي من جوانبه وقَلَّت المصابيح المنعكسة عليه .
وقالت الأُم : لا أظن أن هناك فارقا بين الحجرتين .
وأجاب العجوز في ثقة : بل هناك فارق كبير ، إن الشمس لا تقرب واجهة البيت وإ الحجرة ...
وقاطعته الأُم قائلة : عندما نصل سننتقي ما نريد .
وكانت العربة تقطع الطريق وقد ازداد تكاثف الظلمات وتثاقل الضباب وخفت سرعة العربة ، وأخذ بول يرشدد السائق بقوله : الزم يمينك ولف يمينا بعد هذه الشجرة حذار من حفرة على الطريق بعد الشجرة ، وبعد فترة وجيزة صاح بول : هناك هدئ والزم يمينك ثم قف أمام هذه البوابة الخشبية ، أجل هنا .
ووقف السائق وقفز العجوز من جواره صائحا : تفضلن ، أنسيتن البيت هيا بنا .
وصاح السائق : هيا أنزل معي الحقائب .
ودفع بول البوابة قفأحدثت مفاصلها صريرا سُمِع على أثره نباح من الداخل .
وقال بول وهو يفرك يديه : إنه بِيتر العجوز ، هل تذْكُرنه ؟
ولم يجبه أحد فقد كان الثلاثة يرزحن تحت وطأة النعاس ولفحهن السقيع ولسعتهن رطوبة الضباب فانكمشن في ثيابهن وهن يسرن في خطوات متعثرة نحو بوابة البيت ،
وكانت مياه المطر قد أغرقت الأرض ، وأحس الثلاثة بزلق الطريق تحت أقدامهن ، واندفع بول أمامهن يشق طريقه في وحل الحديقة وقبل أن يطرق الباب الخشبي أُضيء النور وسُمِع صوت يصيح من الداخل : مَن ؟
وصاح بول : افتحي يا سيدتي لقد وصلنَ .
وفُتِح الباب وبدا في الضوء شبح امرأة متوسطة العمر تهتف في انفعال وتأثر : لورا ، أهلا وسهلا تفضلي .
ودلفت الأُم من الباب وهي تضم المرأة في شوق قائلة : كيف حالك يا جاني ؟
- كيف حالك أنت ؟ لقد تأثرنا من أجلك .
- وأنا أيضا ، أين ماما ؟
- إنها تنتظركن في الداخل .
وعلا صوت الجدة يصيح هاتفا : لورا حبيبتي تعالَي أين ابنتاك ؟
وأقبلت الأُم وابنتاها على الجدة المضطجعة في فراشها وأخذت الجدة تضمهن غلإلى صدرها ودموعها تنحدر على أخاديد وجهها وهي تنشج باكية .
وأخذت الجدة تتحسس وجه الأُم في حنان قائلة : أخيرا أراك يا لورا ، كنت أود أن أراكم جميعا في خير وسعادة ، ولكن الله أراد إلي أن أضمكن إلي في مصابكن .
وقالت جانيت وهي تجد الإرهاق والجهد قد أخذ منهن مأخذا : أظنكن في حاجة إلى العشاء ، إني أستطيع بسرعة أن أعده لكُن .
وقالت الأُم : أنا لا أريد شيئا .
وقالت نادية : ولا أنا ، لقد تناولنا طعاما خفيفا في القطار .
وقالت مُنى : وأنا لا أريد إلا أن أُلقي بنفسي على أقرب فراش وأنام مدة أسبوع .
وصعد الثلاثة إلى حجراتهن ، وبعد برهة كانت كل منهن قد رقدت في فراشها .
وجذبت نادية الأغطية على رأسها وأخرجت أنفها من تحت البطانية ، وقبل أن تُغمض عينيها تذكرت نومها في القاهرة ،وتذكرت الشرفة التي يتسلقها الياسمين في منشية البكري والنادي وتكعيبات الجهنمية وأرض الكوروكيه الخضراء المنبسطة ، والشبح الطويل القامة العريض المنكبين ، وأحست ببُعد الشُقة ونأي المزار وأحست باليأس الجاثم يكاد يخْنُقها ولم تستطع أن توقف عبْرتين انْسابتاَ على الوسادة ثم استغرقت في سُباتها ...
22
هاوية
استيقظت نادية لتستقبل أول صباح في كاب وكانت السُحب قد انقشعت والشمس قد أشرقت وترامت على الأسقف الحُمْر المنحدرة المبتلة ببقايا المطر .
ووقفت نادية وراء زجاج الشرفة ترقب من مربعاته القمم الشاهقة التي ترامت في الأفق وقد غطى هاماتها بياض يكاد يختلط ببياض السحب وانحدرت سفوحها الخُضْر التي تكدست فيها الأشجار حتى حافة الوادي وبدت المزارع منبسطة حول الدار وق\ تناثرت فيها أشجار الفاكهة تتخللها قطاعات من الكروم والبنجر وغيرها من الخُضَر ، وعلى مقربة من الدار بدت حضيرة المواشي والدواجن وقد تعالت أصواتها وأخذت تتواثب في خفة ونشاط ، وأحست نادية بالحياة تدب من حولها وسار إلى نفسها شعور بالنشاط وتمنت لو انطلقت تعدو إلى المزارع وتتسلق الجبال .
ولم يطل بها التفكير حتى سمعت منى تهتف بها وقد أقبلت من حجرتها المجاورة : هيا بنا .
- إلى أين ؟
- نصعد الجبل .
- الآن ؟
- ولِمَ لا ؟
- غير معقول ، يجب أن نجلس مع جدتنا ونرتب حجرتنا ، ليس من الذوق أنترك البيت من أول لحظة .
- سنجلس مع جدتنا قليلا ثم نستأذن منها ، ولستُ أجد حجرتنا تحتاج إلى ترتيب إنها على خير ما يرام .
- من الذوق أن نبقى اليوم في البيت ، والوقت أمامنا طويل نتسلق فيه الجال كما نشاء .
- لن يكون الجو صحواً كما هو اليوم ، هيا بنا .
وتعالى صوت الأُم من الدور السفلي يَصيح : نادية مُنى ألن تَهْبِطاَ لتناول الإفطار ؟
وأجابت مُنى : حالا يا ماما ، هيا يا نادية ارتدي بنطلونك والحقي بي .
وهبطت مُنى السلم الخشبي لتجد المنضدة العتيقة قد صُفَت عليها فناجين الشاي وبجوار كل فنجان سلطانية كبيرة مليئة باللبن وصحاف الجبن والبَيْض والأرغفة الطويلة البِيض قد توسطت المائدة .
وسألت الأُم مُنى : أين نادية ؟
- ستبدل ملابسها وتهبط حالا ، إننا سنذهب لنصعد الجبل .
تساءلت الأُم في دهشة : جبل ؟
- أجل يا ماما ، ماذا في ذلك ؟؟
- ألا تستريحان من عناء السفر ؟
- أنا شخصيا قد استرحت تماما ، أما إذا كانت نادية تريد الراحة فلتسترح .
- بل أنت التي يجب أن تستريحي .
وصمتت برهة وبدا عليها التفكير ثم قالت محذرة : اسمعي يا مُنى لا أريد هنا مناكفَة ، لا أريد وجع قلب إني أحذرك الشقاوة فأنت لا تتحملين الإجهاد ، ولست أرى معنى لصعود الجبل الآن ونحن لم نلتقط أنفاسنا من السفر بعد .
وأجابت مُنى محتجة : إنك لم تأتي بنا إلى هنا كي تُخَزِنينا ، وأنا لا أشعر بأي إجهاد ، كنت أصعد الجبل بسهولة وأنا طفلة صغيرة ولم يكن شيئا مجهدا أو مخيفا ، فلماذا لا أصعده الآن ؟
- يا مُنى يا حبيبتي إنك لم تكوني مريضة .
- وأنا لست مريضة الآن .
- أجل ولكن أخشى أن تنتكسي من الإجهاد .
واقتربت مُنى من أُمها ومدت يدها تعانقها في عطف قائلة : يا ماما كُفّي عن هذه الوساوس ، إني أنشط وأقوى من أي واحدة منكن وأنا أشد تحملا للتعب ، فلماذا تزعجين نفسك بي ؟
وكانت نادية قد بدت في أعلى السُلَّم وأخذت تهبط مرتدية البنطلون والسويتر وقد شدت الإشارْب حول وجهها .
وقالت مُنى وهي تشير إلى الإشارْب: أتنوين الاستمرار على ارتداء الإشارْب هنا أيضا ؟
وأجابت نادية : وماذا يضايقك منه ؟
- إنه يضايقك أنت .
- لقد تعودت عليه .
-يجب أن تتعودي على خلعه ، إنها فرصة لأن تُخَلِّصي نفسك من خناقه .
- إني لا أريد أن أضايق الناس بمَنظَري .
وتدخلت الأُم قائلة : ليس بك ما ينفر الناس يا نادية وسيتعودون عليك كما أنت .
وبدا الضيق على نادية واحمر وجهها وأجابت : لماذا لا تتركونني أفعل ما ئأحب ؟ أنا لا أتدخل أبدا في شؤون أحد .
وأجابت الأُم في رفق : لا تتضايقي يا حبيبتي ، افعلي ما تشائين وارتدي ما يحلو لك .
وجذبت مُنى مقعدا وهمت أن تجلس أمام المائدة عندما تدخلت الأُم قائلة : ألن تحييا جدتكما ؟
وسار الثلاثة إلى حجرة الجدة ، وكانت العجوز قد جلست بهيكلها الضامر على مقعد ومدت ساقيها على بعض الوسائد وبدت عينيها غائرتين وجِلْدَها معروقة وقد أحاطت كتفيها بشال من الصوف الأسود وعلت شفتيها ابتسامة رقيقة وهي تبصر الأُم وابنتيها مقبلات عليها ،
وقالت وهي تضم إليها الفتاتين ضاحكة : أهلا بحفيدتَي المصريتين ، لشد ما أوحشني بُعدكما ، لقد كدت أيأس من رؤيتكما ، من كان يصدق أني سأنجب نسلا من أبناء الفراعنة ، كنت أريد أن تكون أحداكما شبيهة بكيولوباترا .
وأجابت مُنى متسائلة : شكلا أَم موضوعا ؟
وضحكت الجدة قائلة : شكلا فقط ، فأنا أتمنى لكما عمرا طويلا وحياة سعيدة .
وقالت مُنى مستغلة الفرصة : إذن هل تسمحين لنا أن نبدأ حياتنا السعيدة بصعود الجبل ؟
وضحكت الجدة قائلة : يا مُنى لقد سمعت مناقشتك مع أمك ، هل يسعدك حقا صعود الجبل ؟
- جدا ، سأصعد حتى شاطئ البحيرة ، إني مازلت أذكرها وأذكر البيت المقام على حافتها ، كان به اصطبلا للخيول وكان به شجرة تفاح كبيرة وكان به فتاة جميلة تركب الحصان .
وهزت الجدة رأسها وبدا عليها الشرود وهي تقول : أجل كان به ، كان وكان ، ولكن لم يعد به الآن سوى قفر وخراب ، الفتاة الجميلة جمح بها الحصان ذات مرة فأوقعها من حافة الجرف المستند عليه البيت فسقطت في الهاوية ، وهاجر من في البيت وقضى مَنْ قضى ، ولم يبقَ فيه سوى رب البيت الذي هبط إلينا في النهاية ليقطن بجوارنا يشيد مدرسة لليتامى يقضي بها بقية عمره ، إنه رجل طيب يزورنا بين فترة وأخرى .
وكانت نادية تُنْصِتُ إلى حديث الجدة وقد شَرَد ذهنها في البيت الأنيق على حافة البحيرة والفارسة الجميلة على ظَهر الحصان ثم الحصان يجمح بها على حافة الجرف ويُلقي بها إلى أعماق الهاوية .
وأردفت الجدة تقول وهي تتناول كوب اللبن من يد جانيت : أظنه سيزورنا اليوم وستسره رؤيتكن كثيرا ، طالما حدثته عن صغيرتَيَ المصريتين أليس كذلك يا جانيت ، أظن موعد زيارته اليوم ؟
وتساءلت جانيت : مَن ؟
- مسيُو رينو .
- أجل أجل ، لقد لقيته بالأمس أمام المكتبة وسأل عنك وأنبأني أنه سيزورنا اليوم .
وبدا القلق على وجه مُنى كأنما خشيت أن يُحكَم عليها بانتظار الرجل ومدت يدها تجذب نادية من ذراعها قائلة : هيا يا نادية نتناول الإفطار حتى نذهب إلى الجبل .
وغادرت الفتاتان حجرة الجدة إلى حجرة المائدة واتخذت كل منهما مجلسها على مقعدين متجاورين وجلست الأُم وجانيت على المقعدين المواجهين ، وأقبل بول يحمل وعاءً مليئا باللبن وألقى عليهن تحية الصباح متهلل الأسارير ضاحك الوجه تتبعه امرأة بدينة قد أمسكت بيديها دجاجتين وقدمها لهن قائلا : ابنتي ميري ، لقد أتت للترحيب بكن وأصرت على أن تذبح لكن أكبر دجاجتين لديها وستبقى لطهوههما وقد أبدت استعدادها لتقوم لكُن بأعمال الطهو إذا كنتن في حاجة إليها .
وأجابت الأُم : أهلا يا ميري ، لماذا كل هذا التعب ؟ إننا نرحب بوجودك معنا دائما ويسرني أن تعاودي الطهو لنا إذا كنت لم تنسي صنع الفطائر التي كنت تصنعينها فيما مضى .
وضحكت المرأة السمينة حتى اهتزت أطرافها وأجابت : بل تعلمت أشياءً خيرا منها .
- انتهينا إذن ، سنذوقها اليوم .
وازدردَت مُنى إفطارها بسرعة وشربت اللبن ثم نظرت إلى نادية تستحثها وهي تنهض عن المائدة ، ولم يَطُل الأمر بنادية حتى تبعتها إلى الحديقة .
ونظرت نادية إلى زهور القُرُنْفُل الحُمْر النابتَة في أحد الأحواض وهتفت في إعجاب قائلة : انتظري يا مُنى حتى نقطف بعض القُرُنْفل ونضعه في الزهريات .
- يا نادية كفى تَلَكُّؤا ، هيا بنا قبل أن يأتي مسيو رينو ونضطر إلى أن نقضي الصباح في تحيته .
- أتستطيعين مقاومة إغراء هذه القُرُنْفلات ؟
- وأقاوم أباها ، هيا بنا وكفى شاعرية سخيفة ، إن القُرُنفلات لن تطير .
- اسمعي يا مُنى ، لقد خرجنا للتنزه وليس للسباق في الجبل فدعينا نتمتع .
وقطفت نادية إحدى الزهور ورفعتها إلى أنفها في نشوة وإعجاب قائلة : هائلة ، يجب أن نرفع هذه الزهور الصناعية التي كدسوها في الزهريات وتراكمت على أوراقها الأتربة ..
- عندما نعود افعلي كل هذا .
- أجل أجل سأفعل ، وسأغير كل نظام البيت ، سأرفع هذه الستائر العتيقة التي تملأ البيت كآبة ووحشة .
وأجابت مُنى وهي تعبر البوابة الخشبية : إنها تناسب كل ما في البيت ، لا تنسي أنه بيت جدتنا وهو بِستائره وأثاثه الثقيل وزهوره الورقية المكدسة في الزهريات مناسب جدا لها .
- ولكن يجب أن نغير كل هذا .
- لا يهمني كثيرا ، إننا لن نعيش فيه إلى الأبد ، إننا سنعود إلى مصر .
وهزت نادية رأسها في شك وأجابت : من يدري ؟
- عن نفسي أنا أدري ، في الصيف القادم سأكون في مصر مع عصام ، سيكون لي بيت وعربة وأشياء أخرى كثيرة .
ومدت نادية يدها تُحكِم رباط الإشارْب حول عنقها وأجابت وقد شَرَد فكرها : إن شاء الله .
- وأنت أيضا ستعودين ؟
وعادت نادية تهز رأسها وهي تجيب بصوت خافت : لا أظن ، إن من الخير أن أُوطِّن النفس على العيش هنا ، ولا أظن المسألة ستكون مثلما توقعت من مشقة .
وعبرت الفتاتان حقل الكُرومبالذي تكدست فيه الكرومبات الرمادية الخُضْر وقد تلألأت حبات المطر والندى على سطحها المنتفخ ، ووصلتا إلى الطريق ، ونظرت نادية إلى المرتقى المتجه إلى الجبل وتساءلت : أتظنيننا سنعرف الطريق إلى البحيرة ؟
- سنظل صاعدين إلى أعلى حتى نصل .
- ألا تخشين أن نضل ؟
- إذا ضللنا نعود ، ولا أظننا نضل الطريق إلى البيت .
وبدأت الفتاتان في الصعود سائرتين على الطريق ، وكان الانحدار يسيرا أول الأمر ولكنه أخذ يزداد كلما ابتعدتا عن السهل ، وأخذت الأشجار تتكاثف حولهما والمياه تنحدر من أخاديد السفح متخذة طريقها بين الحصا والطمي والصخر ، تسير تارة في هدوء ثم تنحدر تارة أخرى في عنف وصخب وفي هدوئها وصخبها تملأ النفس إحساسا بالحياة والنضرة والأمل .
وطال بهما السير والطريق لا ينتهي ، وكلما أحست إحداهما بطول الطريق وتعجلت الوصول رفعت بصرها إلى أعلى فإذا بالقمة مازالت بعيدة ، وأخذ الطريق ينحني يمنة ثم يسرة متبعا المسلك السهل متجنبا الانحدار الحاد .
ونظرت مُنى إلى الطريق في ضيق وهتفت في نادية : اسمعي يا نادية إذا اتبعنا هذا الطريق المزعج الملتوي فلن نصل في يومنا .
- ماذا تريدين إذن ؟
- هيا نشق طريقنا إلى أعلى بين الأشجار والصخور ، إننا سنوفر نصف المسافة .
- ولكن الصعود سيكون مرهقا .
- لا تكوني كالعجائز ، إنك تخشين من كل شيء .
- يا مُنى أنا لا أخشى على نفسي ولكن أخشى عليك .
- اسمعي إياك أن تكرري ما قالته أُمك اليوم ، لقد ضقت بهذه الوساوس ، إنكما أنتما اللتان ستجلبان إلي المرض ، إني أسلم من أية واحدة منكما وسأريك كيف أستطيع تسلق الجبل .
قفزت مُنى من الطريق الرئيسي المتجه يمينا وصعدت من حافته إلى أعلى الجبل ، ولم تملك نادية إلا أن تتبعها صائحة : أيتها العنيدَة الغبيَة .
واندفعت الفتاتان بين الأشجار المتكاثفة تشقان طريقهما إلى أعلى الصخور بين الحصا والأعشاب وخرير المياه يفد إلى مسامعهما في شدو جميل .
ونظرت مُنى إلى أعلى ثم هتفت بنادية : انظري لقد وصلنا .
ونظرت مُنى فإذا بقمة أحد أبراج البيت قد بدت في أعلى السفح ،
واندفعت مُنى تعدو ووراءها نادية تصيح بها : لقد قطعْتِ أنفاسي .
- اجري يا مقطوعة النَفَس ، تقولون عني مريضة ؟ إني أستطيع أن أتسلق عشرة جبال .
وأخيرا وصلت الفتاتان إلى قمة الجبل .
ووقفت نادية تنظر إلى الأفق البعيد فإذا بقمم أُخَر مازالت تتعالى في الأفق بتيجانها البِيض الثلجية ، وإذا بهما مازالتا تبدوان في بطن الوادي .
وقالت مُنى وهي تهز رأسها في عزم : في يوم من الأيام سأَصِل إلى هذه القمة العالية .
وضحكت نادية قائلة : هههه أنا شخصيا لن أحاول الوصول إليها عن طريق الأرض ، فإن الهبوط إليها من السماء أسهل كثيرا .
وأجابت مُنى : وهل تظنينهم يسمحون لنا بالهبوط إليها بعد أن أمسكوا بخِناقنا في السماء ، ههه أسهل علي أن أصعد منها إلى السماء من أن أهبط من السماء إليها .
وضحكت نادية وأجابت : على أية حال دعينا الآن منها ومن السماء يكفينا ما وصلنا إليه ، هيا بنا إلى شاطئ البحيرة .
وسارت الفتاتان بين الأشجار المتكاثفة وعبرتا قنطرة خشبية قائمة فوق مجرة تنحدر منه المياه وتكاثفت حوله الأعشاب والشجيرات ، وبعد برهة بدا لهما سطح البحيرة يلمع في ضوء الشمس ، وأخذ الجزء البادي من قمة البرج يزداد رويدا رويدا حتى بدا البيت المقام على شاطئ البحيرة كاملا في أبراجه القائمة في أركانه الأربعة وسقف الضخم الشديد الانحدار الذي علت مُسَقَّفاته الحُمْر خُضْرة الطحالب ونوافذه الصغيرة التي عصفت الريح بدلفاته وهشمت زجاجها الملون وشرفاته الخشبية التي سقطت قوائمها وبابه الحديدي الذي تراكمت الأتربة على حافتيه وتشابكت الأعشاب والحشائش على درجاته الحجرية ، وبدا السور المحيط بالبيت حائل اللون محطم الدعائم ، واسطبل الخيول المقام في طرف الحديقة قد انفصل بابه وسقط سقفه ، وفي البحيرة بدا خيال البيت الخالي يهتز ويرتجف كلما هبت نسمة على سطح البحيرة .
ووقفت نادية ترقب البيت في صمت وقد علت وجهها علامات الأسى وذكرى البيت تطوف في ذهنها كأنها صورة في حلم ، بفارسته الجميلة على صهوة جوادها والحياة تملأ رحاب البيت .
ودارت نادية حول السور وانتهت إلى الجانب الآخر من البيت المطل على الجرف وبدا الوادي ممتدا أسفله والبيوت كالدمى والأشجار كالحشائش والمزارع مقسمة في خطوط مستقيمة كأنها رقع الشطرنج .
اقتربت نادية من حافة الجرف وقد بدا شديد الانحدار وتراءت في أسفله على حافة السطح بقع بِيض قد انتظمت في خطوط متوازية استطاعت أن تميز فيها مقابر البلدَة ، ومرة أخرى طافت بذهنها الفارسة الأنيقة يُلقي بها الجواد من قمة الجرف لتهوي إلى قاع الهاوية حيث البقع البِيض منتظمة الخطوط ، وتملكتها رجفة وأصابها الغثيان وتراجعت لتتكئ على حافة كوخ خشبي وراء البيت ، وسمعت صوت مُنى يهتف بها : نادية أين أنت ، نادية أين أنت ؟
ورجع الصدى بصوت مُنى .
وازدادت الرجفة بنادية وهي تهتف مجيبة مُنى لتسمع صوتها يردده الصدى ، وأسرعت تاركة المكان وهي تحس كأن شيئا خفيا يجذبها نحو الهاوية ...
23
حفيف ونغم
عادت مُنى ونادية من رحلتهما الأولى إلى الجبل قبيل الظُهر لتجدا الضيف المُنتظَر صاحب الدار الخربة الذي هبط من الجبل لينشئ معهد للأيتام قد أقبل على الدار ، وكان الرجل قد جلس على مقعد مواجه للجدة وقد بدا ضئيل الجسد محني الظهر سمح الوجه رقيق الملامح .
ولم تكد تُقبِل الفتاتان على الجدة حتى هتفت ضاحكة : ها هما قد أقبَلَتا ،حفيدتاي المصريتان ، ليست بهما ملامح الفراعنة ولكنهما مصريتان لحما ودما .
ونهض مسيو رينو ليلقى الفتاتين مرحبا وهو يقول : إنهما تبدوان فرنسيتين أصيلتين ، لقد ورثتا شكل جدتهما .
وأجابت الجدة ضاحكة : الشكل فقط ، فهما شديدتا التعلق بمصريتهما .
وعاد العجوز إلى مقعده وهو يقول : أرجو أن تطيب لهما الإقامة بيننا .
أجابت مُنى : إن كاب جميلة ، لقد صعدنا الآن إلى الجبل وطفنا حول البحيرة .
وقال العجوز : لعلها أعجبتكما ؟ قد مضى بي وقت طويل لم أصعد إلى هناك .
وخيمت على الرجل سحابة حزن ثم أردف قائلا : إني لم أعد أطيق مَنْظَر البيت بعد الحادث ، وفوق ذلك فإني لا أكاد أجد فسحة من وقتي فهؤلاء الصغار قد استولوا على كل دقيقة منه ، إن مشكلاتهم لا تنتهي .
وردت الجدة قائلة : أنت تنهك نفسك كثيرا يا رينو ، لم تعد سنك تحتمل كل هذا الجهد .
ثم وجَّهت الحديث إلى الفتاتين متسائلة : ما رأيكما أن تعملا مع مسيو رينو في المعهد ؟ إنه في الواقع يحتاج إلى مزيد من المُدرسات ، لقد عرضت أمكما عليه معاونته ولكني قلت لها أنها لم تعد صغيرة وإن واحدة منكما قد تكون أقدر على تحمل متاعب الصِبية ، ما رأيك يا نادية ؟
وتسائلت مُنى في دهشة : ولماذا نادية ولست أنا ؟
وردت الجدة قائلة : لقد قالت أمك أن نادية أكثر جَلَدا وإنها ترغب فعلا في العمل .
- هذه إحدى تشنيعات أمي ، لن يعمل مع مسيو رينو سواي .
وضحك العجوز وربت كتف مُنى قائلا : ستعملان أنتما الاثنتان ، إني في حاجة إليكما معا ، واحدة تعاونني في المكتب والأخرى تعمل في أحد الفصول .
وأجابت مُنى : سأَعمل أنا في أحد الفصول ، إني أحب مناكفة الصغار .
وسأل رينو نادية قائلا : وأنت تعملين معي في المكتب ؟
وأجابت نادية : سأَعمل في أي شيء تريد .
- سأضع لك مكتبا صغيرا في الغرفة التي تطل على المحطة ، وستتعاونين مع مدام كلود في كل أعمال المكتب ، الواقع أني قد أثقلت عليها بالعمل وقد آن الأوان لأن تأخذ بعض الراحة .
وبدت الأُم تُقبِل من القاعة فقالت لها الجدة : لورا لقد وظَّفتُ لك الصغيرتين ، كلتيهما إن رينو رحب باستخدامهما في معهده .
- الاثنتين ؟
وأجاب رينو : أجل الاثنتين ، إني في حاجة إليهما .
- ولكن مُنى قالت إنها ...
وقاطعتها مُنى قائلة : لم أقل شيئا ، إني سأَعمل مع مسيو رينو .
- إني لا أريدك أن تجهدي نفسك .
وأجابت مُنى متحدية : أرأيتم إنها هي التي لا تريدني أن أجهد نفسي ، إنها تأبى إلا أن تتهمني بالمرض وإني سليمة كالجن ، لقد سبقت نادية في صعود الجبل .
وصمتت الأُم برهة ، ثم قالت موجهة الحديث إلى مسيو رينو : إذا كنت مُصِرّا على العمل فأرجو ألا يكون عملها مُجْهِدا ، لو أمكن أن تُوكِلَ إليها عملا مكتبيا .
وهز رينو كتفها قائلا : لقد حاولت ولكنها تصر على أن تعمل مع الصِبية .
وقالت مُنى محتجة : ليس العمل مع التلاميذ بالأمر الشاق ، إني أعرف كيف أتعامل معهم .
وتدخلت الجدة قائلة : دعيها يا لورا تعمل ما تريد إنها أدرى بنفسها لا تخشي عليها .
وأقبلت جانيت من المطبخ تقول : الغداء جاهز ، هل أعد المائدة ؟
وأجابت مُنى : إني أكاد أموت جوعا .
وردت الأُم : من فرط ما عَدَوْتِ ، هذه آخر مرة تصعدين الجبل على قدميك .
- كيف أصعده إذن ، على يدَي وقدمَي ؟
- تصعدين في عربة .
- ومن أين لي العربة ؟
فقال مسيو رينو : عربتي تحت أمركما .
- ولكن قيمة الرحلة في الصعود على القدمين في تسلق الجبل ، ما فائدة الرحلة إذا كانت العربة تحملني إلى أعلى الجبل في بضع دقائق ؟
وتدخلت الجدة قائلة : ليس هذا وقته ، انهضوا للغداء ، قلت لك لا تدققي معها يا لورا دعيها تفعل ما تشاء وعندما تتعب ستضطر إلى الرجوع ، لقد كنت مثلها من قبل ، لقد حفيت قدماي من صعود الجبل وعندما كَلَّت ساقاي وأجهدني الزمن لم أجد بدا من الرقاد في سكينة وهدوء .
ونظرت الجدة إلى رينو وتساءلت : أليس كذلك يا رينو ، أتذكر أيام صِباناَ؟
وهز الرجل رأسه وأجاب : كانت أيام جميلة ، كنت أرى الشجر أكثر ازدهارا ومياه الشلال أكثر صفاءً وقمم الجبال أنصع بياضا .
وأقبلت جانيت مرة أخرى تدعوهم إلى المائدة وسألت قائلة : أأحضر لك الطعام الآن ؟
وهزت العجوز رأسها وقالت : بل ساعديني على الجلوس إلى المائدة ، إني أريد أن أجلس اليوم بينكم ، أريد أن أحس بأحفادي من حولي بعد طول الوحدة .
وانتقل الجميع إلى المائدة .
وقد اتكأت الجدة على كتفَي الأُم وجانيت واتخذت مكانها في صدر المائدة وقد بدا على وجهها الجذل والحيوية وهي تقول : جميل أن يحس الإنسان بالأحباء من حوله ، إننا لا نحس بقيمة أحبائنا إلا بعد أن تقعدنا الحياة ونعجز عن ملاحقتها ونرى رَكْبُها يمر بنا ليُخَلِّفنا في فراغ ووحشة ونتوق إلى أن يتمهل البعض من حولنا ليمنحونا في قعدتنا العاجزة بعض الأُنس وبعض الحنان .
وقالت جانيت : تلك هي الأُسرة ، فائدة أن يكون للإنسان أبناء وأحفاد يتمهلون معه في قعدته لكي يمنحوه محبتهم وحنانهم ويزيدون له ثمن وجودهم في الحياة .
وهز رينو رأسه وطافت به موجة حزن وهو يقول في صوت خافت : وعندما نفقد هؤلاء الأحباء الذين يتمهلون معنا لكي يمنحونا عطفهم ومحبتهم نُضطَر نحن لأن نترك قعدتنا العاجزة ونعدو راء المحبة والحنان ، نضطر نحن إلى أن نجري للحاق بالركب حتى لا تقتلنا الوحدة ويُزهِق أنفاسنا الفراغ .
وأحست نادية بآلام العجوز وطافت بذهنها الفارسة الجميلة وهي على ظَهر حصانها والهاوية الفاغرة فاها والبيت الموحش الخرِب تقرع الريح أبوابه وتُصَفِّر الوحشة بين جدرانه ، وتمنت لو استطاعت أن تتمهل لتملأ عليه وحشته وتمنحه العطف الذي يرجوه والحنان الذي يفتقده وانتهى الغداء .
ومر اليوم والجميع منهمكون في العمل بالدار أو التجول في الحديقة .
وفي صبيحة اليوم التالي كانت نادية ومُنى تهبطان المنحدر الموصل من الضاحية إلى البلدَة في طريقهما إلى المدرسة ليلتقيا بمسيو رينو حيث عملهما بالمدرسة ، ولم تكن المسافة بالقصيرة ولكن برودة الصباح حببت إليهما المسير ، وكانت كل منهما قد تدثرت بمعطفها ودست كفيها في جيبيه وأخذت تحث الخطا هابطة من المنحدر ، وكانت مُنى قد ارتدت على رأسها طرطورا من الصوف الأخضر قد كبسته حتى غطى أذنيها ، وكانت نادية قد أحاطت رأسها بإشارْب من الصوف ربطته حسب عادتها حول عنقها ورفعت ياقة المعطف حتى غطت الجزء الباقي من العنق ، وبدا وضع اللإشارْب حول رأس نادية طبيعيا،
ولم يبدُ هناك فارق ظاهر بين طريقة تغطية رأسها وعنقها والطريقة التي فعلتها مُنى بالطرطور الصوفي .
ووصلت الفتاتان إلى البيوت القائمة على المنحدر والتي تحدد مدخل البلدَة من ناحية الضاحية ، واستمرتا إلى الانحدار إلى الطريق العمومي حتى عبرتا شريط سكة الحديد ، وهمت نادية في الاتجاه يسرةً في الطريق المجاور لسكة الحديد والذي تقوم المدرسة على جانبه ،
لكن مُنى جذبتها من ذراعها قائلة : هيا بنا ندخل من الشارع الرئيسي .
- لِمَ ؟
- لأن هذا الطريق فارغ مهجور ، ليس به ناس ولا حوانيت .
- وماذا تريدين من الناس والحوانيت ؟
- نتفرج ، نشاهد البلدة وأهلها ، نرى واجهات المحلات .
- هيا يا مُنى ليس هناك وقت .
- وقت ؟ ليس عندنا هنا أكثر من الوقت .
- والمدرسة ؟
- لتنتظر .
- ماذا تظنينها ؟
- بضعة يتامى يلهون مع العجوز والعمة كلود .
- إنها مدرسة يا مُنى ، وأنت لديك فصل وأنا لدي مكتب .
- هوِني عليك يا نادية ، هوِني ، ماذا كنت تظنينهم فاعلين بدوننا ؟
هيا نشاهد الفاترينات ونتفرج على الناس ، دعينا نتمتع بصباحنا .
ونظرت نادية إلى الساعة وأجابت : اسمعي الساعة الآن الثامنة والربع وموعدنا الثامنة والنصف ، لن أسمح لك بالتلكُّؤ أكثر من ربع ساعة ، نحن لا نريد أن نبدأ عملنا مع الرجل بالتأخر عن الموعد ، عمل يعني عمل .
- ياباي ، كأني بك عُيِّنتِ في أكسفورد .
- إنها تتساوى عندي بأكسفورد .
وجذبتها من ذراعها وهي تقول : سميها كما تشائين ، ولكن هيا بنا نشاهد البلدَة .
وسارت الفتاتان في الطريق الرئيسي وكانت الحوانيت قد فتحت أبوابها وامتلأت الأرصفة بصِبية المدارس يتلاحقون بحقائبهم ومرايلهم السود أو ستراتهم الكحلية ، وبدت حوانيت الفاكهة والخُضَر والزهور ندية ناضرة ، وأحست نادية لأول مرة بالحياة تجيش من حولها وملأ نفسها إحساس بالارتياح والأمل بددت تلك الرواسب التي خلَّفها البيت المهجور والهاوية وصفوف المقابر المتراصة في سفحها .
ووصلت في النهاية للميدان الرئيسي وتلكأت مُنى أمام حانوت ملابس في ناصية الميدان وأخذت تشاهد فاترينا رُصَّت بها مجموعة من الكرفتات وتنقل بصرها من واحدة إلى أخرى ، فاحصة ثمن كل منها ،
وجذبتها نادية قائلة : هيا بنا يا مُنى لقد بلغت الساعة الثامنة والنصف .
- انتظري لحظة حتى أشاهد مجموعة الكرفتات .
- ماذا تريدين من الكرفتات ؟
- أريد واحدة لعصام .
- بمناسبة ؟
- عيد ميلاده .
- متى ؟
- في الخامس عشر من نوفنبر .
- أمعك نقود ؟
- سيصبح معي في أول الشهر ، ألن نقبض مرتبنا ؟
- هل تظنين أننا سنضيعه في شراء الهدايا ؟
- إن ثمن الكرفتا لن يضيع المرَتَّب ، ولابد أننا سنجعل من المرَتَّب جزءً لمصروفنا الخاص .
وعادت مُنى تنظر إلى الفترينا ثم أشارت إلى إحدى الكرفتات قائلة : ما رأيك في هذه يا نادية ؟
- لطيفة .
- وهذه ؟
- أيضا لطيفة .
- وهذه ؟
- اسمعي يا مُنى أتظنين أننا سنقضي الصباح في المقارنة بين الكرفتات ، عندما يحل أول الشهر تعالي واشتري أي كرفتا تعجبك ، هيا بنا .
وقبل أن تجذبها من يدها لتسير بها كانت تتسلل بعينيها من الفاترينا لتفحص الكرفتات أي واحدة منها تليق بعبقريها ، العريض المنكبين المتجهم السمات ، لقد رأته مرة بجاكيت أنجليزي كاروهات تليق عليها هذه الكرفتة المخططة بالأحمر ، ومرة أخرى كان يسير في حديقة النادي ببدلة لونها كُحْلي تليق عليها هذه الكرفتة المُنَقَّطة وهذه الكرفتة تليق ببدلته الرمادية ، ولكن علامة ، كل هذا التعب ؟ إن مُنى تختار لأنها سترسل إلى عصام هدية في عيد ميلاده ، فلماذا تشغل نفسها هي في الاختيار ، هل تجرؤ على أن ترسل له هدية ، باسم مَنْ ، باسمها أَم باسم مجهول ؟
ونظرت إليها مُنى وقد شَرَدَت بنظرها في الفترينا وهتفت بها : هيه ، كنت أظنك مستعجلة من أجل الموعد .
وأفاقت نادية وأجابت قائلة : أأجل ، أجل هيا بنا .
وحثت الخطا مع أختها متجهة إلى المدرسة .
ووصلت الأختان إلى المدرسة واجتازتا الباب الخشبي الضخم الذي توسط السور الأبيض المرتفع ولاح لهما بناء المدرسة العتيق يتوسط فناءها الرحب ، وكان الصِبية قد انتشروا في الفناء وبدت بينهم بعض المُدرسات ، وتلفتت مُنى حولها ثم اتجهت إلى باب البناء تتبعها نادية وصعدتا بضعة درجات أمام الباب ثم وقفتا في دهليز غلبت عليه الظلمة .
وبرز إليهما عجوز يُمسك مِكْنسة وسألهما عما تريدان .
وأجابت مُنى : مسيو رينو .
- إنه في حجرته لم يهبط بعد ، تفضلا بانتظاره حتى أخبره ، من أقول له ؟
فأجابت مُنى : بنات مدام لورا مُنى ونادية .
ووقفت مُنى تشاهد بضع لوحات معلقة على الجدران تمثل الجبال والجليد والخيل ، وبعد لحظات سمعت خطوات العجوز تهبط الدرج ثم بدا مسيو رينو بجسده الضئيل وظهره المحني وشعيراته البِيض التي تعلو رأسا يملأه النمَش ،
ولم يكد يبصرهما حتى هتف بهما مُرَحِّبا : أهلا أهلا ، لقد أعددتُ لك مكتبك يا نادية إنه في الدور العلوي في الحجرة الصغيرة المجاورة لحجرة الموسيقى ، أرجو ألا تزعجك الموسيقى .
وأجابت نادية وهي تهز رأسها : أبدا أبدا ، إني أحب الموسيقى .
وضحك العجوز قائلا : أرجو ألا تحبيها بدرجة تصرفك عن عملك .
وأجابت نادية ضاحكة : على العكس ، إنها تساعدني على العمل .
وقالت مُنى : وأنا أين أذهب ؟
- ستتولين الفصل الثالث في الفرقة الأولى ، لقد كانت تتولاه أجاث ولكنها تزوجت وتركتنا وأضطررت لأن أحيل أعمالها إلى كِرِسْتِين ، وأعتثقد أنها بدت في حاجة إلى منقذ يُنقذها من هذا الفصل الشقي ، هل تَقْدرين عليه ؟
- وعلى شرٍ منه .
- حسنا كل ما أرجو ألا تتزوجي قريبا حتى لا نعود نلقي العبء مرة أخرى على أكتاف كِرِسْتِين .
- لا تخف لن أتزوج قبل عام ، إن أمامه فترة حتى ينتهي م أعماله في الصحاري ويستقر في القاهرة .
- مَن هو ؟
- زوجي ، إنه ضابط بالفرسان في الجيش المصري
- هكذا ؟ بلغيه تحياتي لأني أحب الفرسان .
ثم التفت إلى نادية قائلا : وأنت يا نادية لعلك لن تتركينا في نفس السرعة ، هل هو ضابط أيضا ؟
وأجابت مُنى ضاحكة : لا إنه جزّار .
وتساءل رينو في دهشة ضاحكا : ههه جزّار ؟!
- أجل ، جزّار آدميين إنه طبيب جرّاح ، أبسط عملية عنده بتر ذراع .
وصاح ارينو ضاحكا : مرة واحدة ، اللهم اكفِنا شره ، ومتى ستتزوجين ؟
وهمت مُنى بالرد ولكن نادية صاحت بها ناهرة بالعربية : مُنى كُفّي عن هذه السخافة .
ثم عاودت الحديث بالفرنسية قائلة للرجل : لا تصدق شيئا مما قالت ، إنها تمزح .
وضحك العجوز قائلا : على أية حال إذا تحقق مزاحها فأرجو أن تبعدي عنا جزّارك ، فأنا في حاجة إلى كل جزء في بدني .
ثم نادى إلى الفرّاش ليصعد مع نادية ليعد لها حجرتها قائلا : سأعود إليك بعد برهة لأعرفك بالسيدة كلود التي ستعملين معها ، إنها سيدة لطيفة ولاسيما إذا كانت على وفاق مع زوجها .
وصعدت نادية مع الفرّاش إلى أعلى ، وتحرك مسيو رينو مع مُنى إلى الفناء .
ووقفت نادية وسط حجرتها المطلة على المحطة ، وبدا لها سقف المحطة المنحدر وجزء من الرصيف وسور المحطة الممتد بجوار القضبان ، وفوق كل هذا امتدت سنديانة ضخمة تهدلت بعض أغصانها فحجبت جزءً من بناء المحطة واستقامت بقية الأغصان لتحجب جزءً من السماء والسحب ، وتذكرت للسنديانة شبيها في مكان بعيد ، تذكرت الكافورة القائمة بجوار النافورة في النادي تحجب جزءً من السماء وجزءً من الأبنية المجاورة ، وسرى حفيف بين الأغصان خيل إليها أنه نفس الحفيف ، كأنما تغرس به الأوراق هناك لتردده الأغصان هنا ، وسمعت صوت موسيقى ينبعث من حجرة مجاورة ، كانت أصابع تعزف البيانو في بطء حزين ، وأخذت تُنْصِت إلى الحفيف والنغم وعيناها تسبحان وراء الأفق بعيدا بعيدا حيث الوطن البعيد والحبيب النائي الموهوم ...
24
اُكْتُب إلَيّ
مرت الأيام بالأُسرة في موطنها الجديد بالمدينة الصغيرة القائمة على سفح الجبل وملأ نفوسهم إحساس بالاستقرار النسبي وسادتهم حالة طمأنينة ، اطمأن كل منهم الى طريقة حياته ، فاستراحت الأُم الى استقرارها في البيت الذي نشأت بين جدرانه وقضت صباها ترتع في مراعيه وتمرح بين أحراشه وملأها عزاء أن تظل الى جانب أمها حتى آخِر أيامها ، واستطاعتشاغلها بالإشراف على الدار وإعداد الطعام ورعاية شؤون المزرعة والعناية بالطيور والماشية أن يعيد الى نفسها الإحساس بالحياة .
وانْهَمَكَتْ مُنى بين الصِبية واندمجت في مشكلاتهم فإذا ما ضاقت بهم انطلقت لتتسلق الجبل أو لتشارك في الحفلات الصغيرة الراقصة التي تقيمها إحدى زميلات المدرسة أو إحدى صديقات الجيرة .
واطمأنت نادية الى عملها في الحجرة الصغيرة المطلة على السنديانة الضخمة التي تحتضن مبنى المحطة بيد وتلوح باليد الأخرى بين السحب ، ولم يكن عملها بالعمل الشاق ، كانت أشبه بمدير أرشيف المدرسة أو رئيسة محفوظاتها ، كانت ترتب بطاقات التلاميذ وتحفظ ملفاتهم وتسجل فيها كل ما يَجِدُّ من معلومات خاصة بالحالة الدراسية والصحيَة ، وكان أكثر ما يريحها في عملها هو البُعد عن الناس ، كانت في مقرها أشبه بعامل المرصد يرقب ولا يُرى ، تُبْصر كل الناس ولا يَبْصُرُها أحد ، فمن وراء الزجاج الذي تتلاعب أوراق السنديانة على حافته كانت تُبْصِر رواد المحطة وكانت ترقب الراحلين والقادمين ، الموَدِّعين والمستقبِلِين كانت ترى القطار يُفْرِغ حمولته ويملؤها وهي قابعة في مكمنها آمنة مطمئنة ، لا تكاد تُبصر في يومها سوى وجه السيدة كلود الرقيق الذي يطل عليها بين آونة وأخرى ليسألها سؤالا أو ليمنحها ابتسامة ، وكانت السيدة كلود التي تعمل نادية في معاوَنتها كهلة رقيقة الحاشية ناعمة الصوت هادئة الخُلُق ،
ولم تجد نادية موضعا لحالة الاستثناء في طبيعتها الهادئة التي حذرها منها المسيو رينو عندما لا تكون على وفاق مع زوجها ، فقد كانت السيدة دائمة البشاشة دائمة الهدوء وحتى عندما كانت تشكو من مِستر كلود في حالة سكره كانت شكواها لا تعدو المزاح والفكاهة .
وكانت مدام كلود تعمل إلى جانب إشرافها على المدرسة مُدَرسة للموسيقى ، كانت هي صاحبة العزف الذي سمعته نادية لأول مرة عندما وقفت في حجرتها ترقب السنديانة وقمم الجبال والمحطة وكانت دقات الأصابع على البيانو واضحة محددة ، ولكنها كانت تنساب الى نفسها انسياب الماء في أخاديد الجبل متصلة متدفقة ، ولم تسمع نادية العزف بعد ذلك ولم تسمع النغم ذاته وإنما سمعت أناشيد غَنَّى فيها التلاميذ وموسيقى رقصوا عليها ، أما هذه القطعة التي انسابت الى نفسها فلم تتكرر ثانيةً ، ولم تحاول نادية أن تسأل مدام كلود أن تعيدها لها ولم تكن تعرف ما هي ولم تستطع حتى أن تحفظ بعض نغمها ، ولعل الخجل من أن تسأل مدام كلود عنها أو تُذَكِّرها بيوم عزْفها .
وكانت نادية تجلس في حجرتها ذات صباح وكان شهر نوفمبر قد أقبل والأمطار قد تدفقت والسحب قد تكدست في أديم السماء ورواد المحطة قد انكمشت أجسادهم تحت المعاطف الثقيلة وطأطأت رؤوسهم تحت المظلات التي يتساقط المطر من جوانبها ،
وأخذت نادية تعيد ترتيب البطاقات عندما فُتحَ الباب وأقبلت مُنى ضاحكة تلوح برسالة في يدها قائلة : رسالة من عصام ، تصوري لم أكن أصدق أبدا أن الرسائل ممكن أن تصل الى هنا .
وأجابت نادية ضاحكة : ولماذا لا تصل أتظنيننا في مجاهل أفريقيا ؟
- بل في مجاهل الألب ، لقد كتبت له العنوان على البيت والمدرسة ومع ذلك لم يخيل إلي أن الرد يمكن أن يصل .
- مادام قد كُتِب العنوان ووُضِع طابع البريد فهو واصل واصل بلا معجزات ولا خوارق .
ووضعت مُنى الرسالة أمام عينيها ثم قالت : تصوري لقد وصلت في غضون أربعة أيام !! ، إن التاريخ الذي كتبت فيه الرسالة 28 من أكتوبر واليوم واليوم أول نوفمبر ، لابد أنه كتب إلي في نفس اليوم الذي وصلت فيه رسالتي ، فقد بدأت كتابتها يوم 20 وانتهيت من كتابتها بعد 4 أيام وقذفتها في الصندوق المعلق بجوار المحطة فلابد أنها وصلت يوم 27 أو يوم 28 أو ...
ولم تجد نادية في نفسها رغبة في متابعة تواريخ الإرسال والوصول فقاطعتها قائلة : المهم ماذا قال لك ، ما هي أخبارهم ؟
- كل شيء على خير ما يرام ، إنه مازال في القاهرة وهو يتوقع أن يُنقَل الى الإسكندرية مع كَتيبة السيارات الراحلة الى هناك ، وهو يهديك أزكى السلام أنت والأُُسرة ، إن كتابته في غاية الركاكة كلها تحيات وسلامات وهو يظن أننا نعرف كل شيء عن مصر .
- كيف ؟
- إنه يقول وكل شيء عندنا كما هو لا شيء أكثر مما يُكتَب في الصحف ويُسمَع في الإذاعة .
وضحكت نادية قائلة : صحف ؟
- وإذاعة ، تصَوري !
وصمتت نادية برهة قبل أن تجيب : لقد حاولت أن أسمع إذاعة مصر بضع مرات ولكني فشلت تماما .
- طبعا بمثل هذا الجهاز العتيق الذي يشبه صندوق البريد لا يمكن أن نسمع أكثر من إذاعة باريس .
- لقد سمعت مرة إذاعة لندن العربية فأثارت أعصابي .
- اسمعي لماذا لا نشتري راديو جديدا؟
- كيف ؟
- نشترك فيه سويا ، نخصم من مصروفنا مبلغ كل شهر لكي نشتريه .
- لقد حَيَرْتِني بمصروفك ، ماذا تنوين أن تفعلي به ؟ هدايا لعصام أَم جهاز راديو ؟
- هدايا لعصام ، هل تظنينني سأشتري له كل شهر هدية ؟ إنها هدية واحدة سأشتريها له هذا الشهر وأنتهي ، وبعد ذلك نشتري الراديو وتستطيع ماما وجدتي أن تساعدانا في ثمنه .
- لا تُعَشِّمي نفسك ، إنهما راضيتان تماما بجهازهما العتيق ولا أظن إحداهما تواقة لسماع إذاعة مصر .
- على أية حال نشتريه نحن ، ما رأيكِ ؟
- موافِقة .
- ولكن هبي أنه لا يُسمْعنا صوت مصر ؟
- كيف ؟ إننا لن نشتريه إلا إذا جربناه وسمعنا الإذاعة المصرية .
- لا ، ناصْحَة ، هل ستذهبين معي لشراء كرفاتَا لعصام ؟
- ألم تشتريها بعد ؟ لقد ظننتك اشتريتها وأرسلتِها .
- إني حائرة بين كرفتتين ، وكلما هممت بشراء إحداهما تزوغ عيني على الأخرى ، فأرجوك أن تأتي معي اليوم لكي تضطريني لشراء إحداهما .
- ولماذا لا تشترين الاثنين وتستريحين ؟
- ليس معي إلا ما يكفي واحدة .
- سأعطيك ثمن الثانية .
- حقا ؟
- أجل ، فلست أدري ماذا سأفعل بمصروفي .
- سآخذه وأرده لك فقد تحتاجينه يوما لإرسال هدية .
- لا أظنني سأحتاجه أبدا لهذا الأمر .
وخيمت على وجه نادية سحابة خفيفة من الحزن سرعان ما انقشعت .
وتساءلت مُنى كأنما تحاول أن تغير الموضوع : هل كتبت الى صبري ؟
- أنا ؟
- أجل ..
- ولماذا أكتب إليه ؟
- لتعطيه عنواننا ، ألم تعديه بذلك ؟
فصمتت نادية برهة ثم أجابت : أجل أظنني وعدته .
- لماذا لم تكتبي إليه إذَن ؟ إنه إنسان طيب وسيسعده أن تكتبي إليه ، وأعتقد أنه سيسعده أن يكتب إليك ، لا تتصوري مقدار فرحتي عندما وصلتني رسالة عصام .
كادت نادية تضحك في مرارة إن مُنى في نشوتها لا تقدر أن قيمة الرسالة ليست في الرسالة ذاتها وإنها لم تفرح لأن رسالة وصلتها وإنما لأن عصام كَتب إليها ، ولكنها كبتت المرارة في نفسها ، ما الفائدة ستعود مُنى الى لومها والسخرية منها ، وقد تَطْلب مُنى في سخريتها أن تكتب اليه ، الى الذي لا يعرف مَنْ تكون مادامت تصر على أن قيمة الرسالة مستمدة من قيمة صاحبها ، ومادام لا يوجد هناك في هذا الكون من له قيمة سواه .
وعادت مُنى تقول وهي تمد يدها بالرسالة الى نادية وهي تقول : اقرئيها ، أؤكد لك أنها ستسعدك كما أسعدتني ، إنني شممت فيها عبير مصر لقد ملأتني إحساسا إن الصلة بيننا لم تنقطع ، وأن رحيلنا لم يكن هجرة وإنما رحلة أو إجازة .
ووقفت مُنى ترقب نادية وهي تقلب الرسالة بين أصابعها ثم قالت : لا تظني أن فرحتي بها لأنها مجرد رسالة من عصام ، إني بالطبع سعيدة لأنه كَتب إلي ولكن أؤكد لك أن فرحتي أعم وأشمل ، إني أحسست بالفرحة لأن رسالة من مصر قد وصلتني وأعتقد أنك ستشاركينني الإحساس بهذه الفرحة ، ومن أجل ذلك قلت لك اكتبي لصبري إنه يحبك يا نادية وسيكتب إليك من قلبه .
وكانت نادية تنقل بصرها بين سطور الرسالة حتى وصلت الى آخرِها وكست وجهها ابتسامة وهي تقول : لماذا تقولين إن كتابته ركيكة ؟ لقد كَتب كل ما يريد أن يقوله ببساطة ، أكان من الواجب أن يكتب شِعرا ويقول لك مضناك جفاه مرقده ؟
وخطفت مُنى الرسالة وهي تقول : ولِمَ لا ، ألا استحق ؟ اكتبي الى صبري وسو نرى كيف يكتب إليك .
- سيكتب إلي عن صفقة الأسلحة والميك ودبابات استالين .
وضحكت مُنى وهي تقول : ههههه إذن اكتبي الى المضنى الآخر المرابط في جنيف ، قطعا هذا سيكتب شِعرا ، فقد كان حبه لك خاطفا ، لقد صرعتِه في غمضة عين ، اكتبي إليه تسَلِّي ، ألم تضيقي بجلستك هذه تطلين على المسافرين من هذا الجحر كالوطواط ؟
وغادرت مُنى الحجرة بضجيجها وثرثراتها وضحكاتها وساد السكون مرة أخرى ، وعادت نادية تقلب في البطاقات وبصرها يتخلل أغصان السنديانة وينطلق الى الأفق البعيد حتى القمم الثلجية البِيض .
ووسط السكون السائد والصمت المخيم نفذت من باب الحجرة دقات أصابع واضحة محددة ولكنها تنساب الى النفس بغزارة لتنفذ الى الأعماق وتتدفق تدفق السيل الهابط من أعالي القِمم في أخاديد الجبل ليصل الى الأغوار .
وأَنْصتَتْ نادية الى النغم المتقطع المتصل البطيء المتدفق ، المتقطع في دقاته المتصل في تأثيره البطيء في عزفه المتدفق في سريانه ، وأحست نادية بمشاعرها ترق وبحواسها تُرْهَف وأخيرا كفت الأصابع عن العزف .
وبعد لحظة أطلت مدام كلود وقد علت وجهها ابتسامتها الرقيقة وقالت : هل انتهيت من ترتيب البطاقات يا نادية ؟
- رتبت ما يقرب من النصف .
ردت كلود في تأنيب رقيق : النصف فقط ؟؟
وقالت نادية معتذرة : الواقع أن مُنى أضاعت نصف وقتي ، والنصف الآخر أضعتِهِ أنتِ .
- أنا ، كيف ؟
- بهذه القطعة التي عزفتها الآن ، إنها تستحوذ على مشاعري استحواذا تاما بحيث لا أستطيع أن أعمل شيئا وأنا أنصت إليها .
- الى هذا الحد تحبينها ؟
- لقد سمعتها منك عندما أتيت الى هنا أول مرة وتمنيت أن أسمعها بعد ذلك ولكني لم أجرؤ على طلبها لأني أجهل اسمها .
- تجهلين اسمها ؟ عجيبة ! إنها إحدى مقطوعات شوبان المعروفة .
وتمتمت نادية في حياء : الواقع أني لست على دراية بالموسيقى ، إني أحب موسيقانا المصرية التي تعودت أُذناي على عليها ولم أحاول من قبل سماع شيئا من الموسيقى العالمية المعروفة ، ولكن هذه القطعة بالذات أحسست أنها انسابت الى نفسي بطريقة لم أتوقعها .
- إنها فالس الوداع .
وأحست نادية بشيء من الحزن يعتمل في أعماقها وتساءلت قائلة : الوداع ؟
- أجل ، إني أحبها ، هل تجيدين العزف على البيانو ؟
- الى حد ما .
- سأعلمها لك إذا أردتِ .
- لا أظنني سأستطيع عزفها كما تعزفينها ، إنك مدهشة في عزفها يا مدام كلود .
وضحكت كلود قائلة : أهذه القطعة أعجبتك فقط في كل ما أعزف ؟
- إني أحب كل ما تعزفين ، ولكني أحب هذهالقطعة أكثر .
- لأنك تميلين الى الوحدة ، لقد أحببتِها لأنها تتجاوب مع ميولك الحزينة ، أنت تحبين الوداع يا نادية أليس كذلك ؟
وأطرقت نادية قليلا ثم أجابت بصوت خفيض : ما من إنسان يحب الوداع يا مدام كلود ، إنه يُفرَض علينا فرضا ، لا نملك إلا أن نسلم به .
- وهل فُرِضَ عليكِ وداع آلمك ؟
- وداع الوطن .
- فقط ؟
- ومن خَلَّفناهم في الوطن .
- أخَلَّفتِ هناك أعزاء عليكِ ؟
- لنا أصدقاء أعزاء كثيرون .
- كثيرون ؟
وصمتت نادية .
وأردفت مدام كلود تقول : إن الوداع الذي يُخَلِّف في نفوسنا اللوعة لا يكون للكثيرين ، إنه يكون لواحد فقط .
وأحست نادية بالدموع تتجمع في مآقيها وحاولت جهدها أن تكبتها ، وكست وجهها ابتسامة باهتَةوردت متسائلة : هل جربتِ هذا النوع من الوداع يا مدام كلود ؟
ومدت السيدة كفها تتحسس رأسها وقالت : من الذي لم يجربه ، إنه دائما يكون جزءً من حياتنا بل هو أوجع ما في حياتنا من معالم .
تذكرت نادية ليلة الرحيل وطوافها بالنادي ووقفتها في المدخل الخلفي تتطلع الى ساحة الكوروكيه وقد لفتها الظلمة ، وقد حاولت أن تتذكر الوداع أو ما سمته السيدة بأبرز معالم حياتنا ، فوجدتهر شيئا بلا معالم ، إنها قد حُرِمَت حتى من أن تجعل وداعها شيئا ينفع للتذكر .
وغادرت السيدة كلود الغرفة الصغيرة وعادت نادية تعبث بالبطاقات ، وقد شَرَد ذهنها مرة أخرى في الأفق البعيد .
وفي الليل عندما ساد السكون البلدة وجثم الصمت عليها وأوى أهل البيت الى مضاجعهم جلست نادية في فراشها تقلب كراسة في يدها كراسة مذكراتها ، لقد كانت الكراسة ملجؤها الوحيد تُنْفُث فيها همومها وتجتر ذكرياتها ، أحست برجع الصدى كانت تقف بين صفحات موحشة ومن حولها فراغ طويل عريض .
لماذا لا تكتب الى أحد ؟ لقد قالت لها مُنى اكتبي فسيسعدك الرد عندما يصل إليك .
أجل إنها في حاجة الى أن تكتب الى أحد ، في حاجة الى أن يرد عليها إنسان ، في حاجة الى أن تسمع شيئا غير رجع الصدى الذي تسمعه كراسة مذكراتها من ، لقد حثتها مُنى على أن تكتب الى صبري لأنه يحبها وسيجيبها من قلبه ، ولكن ماذا تستطيع أن تكتب إليه ؟ هل تكتب إليه عن مدحت ؟ هل تسأله ماذا يفعل وكيف أصبح ؟ هل تسأله أن يصفه لها وهو يرتدي ثيابه البِيض ويسير متجهما في المستشفى ؟ هل تسأله عن خطيبته أخطبها حقا أَم أن المسألة لم تعُ أن تكون مجرد إشاعة ؟ هل تسأله عن زملائه وزميلاته في النادي ؟ وبأي حجة تسأله كل هذه الأسئلة ؟هل تقول له إنها تحبه ؟
وهل سيكتب هو لها ليحدثها عن مدحت ؟
عبث في عبث وحُمْق في حُمْق ، هل تكتب إليه لتسأله عن صفقة الأسلحة والميج والّتي 43 ؟
ومدحت من يحدثها عنه ؟ تَدَّعي
هذه البلهاء مُنى التي تَدَّعي أنها فرحت بالرسالة لأنها رسالة ، كلام فارغ هل كانت تُسَرُّ مُنى لو أن الرسالة حملت لها أسعار البورصة في مصر أو حركة تنقلات موظفي سكة الحديد ، لقد قالت لها اكتبي الى هذا العاشق المرابط في جنيف ، ماذا تكتب إليه ؟ هل تكتب لتقول له أنها لا تحبه وأنه لا داعي لأن يأمل منها في ود جديد ، وماذا تنتظر أن يقول لها ؟ سيحدثها عن بحيرة الماي والجو في جنيف ، وسيقول لها أنه مازال ينتظر .
سخافة في سخافة ، ولكن لماذار لا تكتب إليه هو ؟ أجل إذا كان لابد من الكتابة فلماذا لا تتجه إليه مباشرةً ؟
إنها تعرف عنوانه مستشفى الدمرداش بالقاهرة ، وأحست بقَشعريرة ، إنها تستطيع أن تكتب إليه ، ليس هناك شيء يحول بينها وبين الكتابة ، ولكن ماذا تقول له ؟ وهل سيجيب عليها ؟
لتقل له إنها فتاة من مصر تعرفه أكثر مما تعرف نفسها ، وإن الظروف أبعدتها الى مكان بعيدٍ ناٍْ فوق قِمم الألب العالية ، وإن كل أملها في الحياة هو أن يكتب إليها ، أن يرد على رسائلها بكلمة أو كلمتين يشعرها أنه يعرفها ، ولن تقول له كلمة حب ستحدثه عن نفسها ما سمعته عنه وما رأته منه ، ستحدثه عن لعب الكوروكيه والنادي ، وعن عملياته في المستشفى .
ألا يُحتَمَل أن يرد عليها ، لماذا لا تُجَرِّب ؟إنها لا تريد أكثر من مجرد كلمات ستملأ عليها حياتها ، إنها لا تريد أكثر من ذلك ، إن هذا أكثر مما تطمع فيه .
وأمسكت بالقلم وبدأت تكتب ، :
لست أدري كيف أناديك وماذا أقول عنك ؟
فأنا لا أريد أن أفرض عليك نداءً أو وصفا إلا ما تسمح به أنت .
إن اسمي نادية ، وأنا أقيم في مكان بعيد جدا فوق أعلى قمم الألب ولا أظن أن هناك احتمال لِلِّقاء بيننا ومع ذلك أعرفك جيدا ، أعرفك أكثر مما تتصور أعرف كل شيء عنك عن حياتك وعن عملك وعن طباعك ، لقد قضيت فترة من عمري في مصر وكنت آمل في وقت ما أن تعرفني وأن أعرفك وفقدت هذا الأمل ورحلت عن مصر بلا عودة ، عندما استقر بنا المقام في هذا المكان النائي عاد الأمل يراود نفسي وأحسست أن ثمة عزاء قد بقي لي ، هو أن تكتب إلي وأكتب إليك .
قد تثيرك رسالتي وقد تبعث في نفسك الضحك أو الدهشة أو السخرية أو التشكك ، ولكن لو عرفت مدى ما تمنحه إياي بِرّدِّك لأجبت رجائي ورددت علي ، لست أريد أن أطيل عليك لأني أكره أن أفرض عليك سماعي حتى أعرف أنك تقْبَلُني ، وإنما أكتب إليك لأسألك فقط
هل لك أن تمنح غريبة عن وطنها عزاءً عن غُرْبتها بالكتابة إليها ؟ هل تقبل أن تقرأ لي وأن ترد علي ؟
إذا قبلت فاكتب إلي كلمة واحدة ، هي نعم ، وأؤكد لك أني لن أثقل عليك أبدا وأني سأكف عن الكتابة عندما تقول لي كفى .
وتوقفت نادية بقلمها قليلا ثم وقعت اسمها ، نادية .
وأعادت قراءة ما كتبت ثم أضافت :
ملاحظة : إذا كنت تنوي الكتابة إلي فاكتب بسرعة حتى للا أعتقد أنك خذلتني .
ثم وضعت سن القلم على الملاحظة وشطبتها وأمسكت بالرسالة وطوتها ووضعتها تحت الوسادة ، وفي الصباح أعادت قراءتها وأمسكت بها وهمت بتمزيقها ولكنها لم تجرؤ فوضعتها في الدُرْج ، وقبل أن يستيقظ أهل الدار كانت تتسلل وقد لفت رأسها بالإشارْب وضمت المعطف الثقيل على جسدها ، وقبل أن تفتح الحوانيت أبوابها وقبل أن يستيقظ حمالو المحطة كانت نادية تقف أمام صندوق البريد وبلا وعي مدت يدها الى فتحته وتركت المظروف ينزلق الى جوفه ...
25
خدعة أَم حقيقة
كانت الساعة قد قاربت التاسعة صباحا عندما أقبل مدحت على غرفة العمليات في مستشفى الدمرداش ، وقد سار بجواره جاد الله يتساءل ضاحكا : ماذا تنوي أن تقطع هذا الصباح زورا أَم مَعِدَة ؟
وأجابه مدحت جادا : مَثانة .
- يا ساتر يا رب .
- هل تدري أن نسبة السرطان في مصر تزيد عن بقية بلدان العالم بنسبة 30 بالمائة نتيجة لزيادة سرطان المثانة ؟
- ومتى تنوي أن تنتهي من عمليات الجزارة التي تباشرها في المستشفى باسم الطب ؟
- عمليات الجزارة هذه قد انقذت 99 في المئة من حياة مرضى فقدوا الأمل في الحياة .
- مفهوم مفهوم ، أنقذت حياتهم ليعيشوا بنصف أجسادهم ، لماذا لا تتركهم يعالجون أنفسهم بالأشعة أو بأي وسيلة أخرى غير هذا التشويه الذي تجريه لهم ؟
- يا غَبي ، هذا كله نصب وتضليل ، أنت وأمثالك من المضللين تجنون على المرضى بهذه الخدع ، وليس أَحب الى المرضى من الهروب من العمليات الجراحية والإسترسال بعلاج الأشعة وغيرها من المسكنات حتى يستشري الداء ويفوت الأوان ، وتتضاءل فرصة الاستشفاء بالاستئصال ، إن ثلاثة أرباع العمليات التي تأتي إلي تأتي متأخرة نتيجة محاولات الأشعة التي يقوم بها النصابون أمثالك .
- أنا نَصّاب يا جَزّار ؟
- أنت أكب نَصّاب رأيته في حياتي ، هل تذكر عندما كتبت على عيادتك أخصائي بنسلين ؟
- وما في ذلك ، ألم أكن أعالج المرضى بحقن البنسلين ؟
- وهل حقن البنسلين تحتاج الى تخصص ؟
وضحك جاد الله قائلا : طبعا ، لأن أحدا غيري لم يكن لديه بنسلين ، أنسيت أني كنت آتي به من جيوش الحلفاء ؟
- هِه كان يجب أن تكتب على عيادتك أخصائي في سرقة البنسلين .
- لم أكن أسرقه ، لقد كنت آخذه من هانم كبيرة ممرضات مستشفى القصاصين .
- إذن كان يجب أن يُكتَب على عيادتك بلطجي البنسلين لا أخصائي البنسلين .
- أخصائي أَم بلطجي ، ألم أكن أشفي الكثيرين من الحُما والأمراض السارية ؟
أتذْكُر ...
وكان مدحت قد وصل الى باب غرفة العمليات حيث وقف مساعده ينتظره وقد أحاط به الطلبة الذين سيحضرون العملية .
وقال مدحت مقاطعا جاد الله : لا أذكر شيئا الآن .
- متى سألقاك بعد العملية ؟
- بعد العملية عندي محاضرة .
- ألقاك إذن بعد المحاضرة ، فسنتناول الغداء عند العميد .
- عند العميد ؟
- أَنَسيت ؟
- كدتُ أنسى .
- سآتي لآخذك من المكتب .
وبان التردد على وجه مدحت وتوقف قليلا أمام باب الغرفة وقال لجاد الله : اسمع يا جاد الله ، يبدو لي من الخير أن أعتذر .
ضحك جاد الله قائلا : تاني ؟
ثم هز رأسه وأردف : وددت أن أراك مرة تذهب بلا تردد ، شسأمر عليك بعد المحاضرة .
ونظر الطبيب المساعد الى ساعته قلقا ، وأجاب مدحت قائلا : سنكمل المناقشة بعد المحاضرة ، سأبدي لك وجهة نظري جيدا .
وهَمَّ أن يَخْطو الى غرفة العمليات عندما اعترضته إحدى الممرضات وهي تمد يدها برسالة من رسائل البريد الجوي قائلة : رسالة لك يا دكتور .
وأمسك مدحت الرسالة وقرأ عنوانها بشيء من الدهشة ولم يستطع أن يميز خط العنوان ، وحاول أن يتذكر الأشخاص الذين يمكن أن يكتبو إليه من الخارج ، وعاد يفحص ختم البريد المطبوع على المظروف فميز منه حروف فرنسا الستة وزادت دهشته فهو لا يذكُر له أصدقاء في فرنسا ، وطاف بذهنه جمال عبد السلام قريب الدكتور جاد الله الذي سافر في الشهر الماضي الى أوربا ، ولكنه يعلم أنه قد سافر الى سويسرا وليس الى فرنسا ، ربما قد أرسل رسالته وهو في الطريق ، ولكن لماذا ؟ ليس هناك من وطيد العلاقة بينهما بحيث يكتب إليه وبهذه الصفة المستعجلة وهو في الطريق قبل أن يصل الى مقر عمله ، قد يكون هناك مدعاة الى الكتابة ، ولكن لماذا لم يكتب الى جاد الله ؟ .
ورفع الطبيب المساعد يده بالساعة مرة أخرى فأسرع مدحت بوضع الرسالة في جيبه ثم اندفع الى الغرفة ، حيث تمدد المريض على المنضدة تحت الضوء الساطع ، وبعد لحظة كان مدحت قد انهمك في العملية وانمحىَ من ذهنه كل ما يتعلق بالرسالة .
وانتهت العملية وخرج مدحت من غرفة العمليات يستحث الخُطا الى مكتبه والطلبة يتبعونه ومن بينهم صبري يلاحقه قائلا : المحاضرة في موعدها يا دكتور ؟
وهز مدحت رأسه باإيجاب واستمر في مشيته الصارمة .
وقال أحد الطلبة : لماذا لا نلغيها اليوم ؟
وتوقف مدحت ونظر إليه في غيظ وأجاب : لماذا ، هل أجهدتكم مراقبة العملية ؟
وأجاب صبري : بل أجهدك إجراؤها .
وهتف مدحت زاجرا طلبته كما يزجر عِرّيف الكُتّاب طلبته : اذهب الى المدَرَّج منك له ، بلا مياعة ، سآتي إليكم حالا ، هذه ليست عملية ، هذه مسح زور .
اندفع الى مكتبه ليبدل ثيابه .
وهبط الطلبة متجهين الى المُدرَّج ، وعلى مقعد من المدَرَّج جلس صبري يقلب أوراق كراسة في يده ، ومن الصفحات المزدحمة بمحاضرات الطب توقف أمام صفحة كُتِبت بالعربية وأخذ في قراءتها للمرة العاشرة في هذا الصباح :
عزيزتي نادية
ترددت كثيرا قبل أن أمسك القلم لأكتب إليك وحتى الآن وحتى بعد أن قهرت ذلك التردد واندفعت أكتب إليك في حماس أجد نفسي وقد عاودني التردد في إرسال ما كتبت ، لقد أعددت الظرف وألسقت عليه طوابع البريد وكتبت عليه اسمك والعنوان الذي أبيتِ أن ترسليه لي والذي استطعت اختلاسه من رسالة مُنى لعصام ،
أَعَرَفْتِ لماذا ترددت في الكتابة إليك ؟
لم يكن عن انشغال أو إهمال أو عجز أو غير ذلك مما يمكن أن أُتَّهَم هَم به ، فيَعلم الله لهفتي الشديدة على الكتابة لك ، لهفة لا تقوى أشد المشاغل حتى مشاغل الامتحان عن التغلب عليها .
ويَعلم الله ما تسخر به نفسي من انفعالات مستمدة من باطني ومما حولي ،\ من هذا الجو الصاخب الذي نعيش به والذي يملؤنا نحن المصريين إحساسا بأن علينا أن نخوض كفاحا شاقا من أجل حريتنا وكرامتنا ، إحساسا يملؤنا يقينا بأننا نصنع مستقبل بلادنا ، ونثبت دعائم الرخاء للأجيال القادمة في هذه الأيام التي نعيش فيها ، ومع ذلك ورغم ما بي من لهفة وانفعال وجدتني أُحجِم عن الكتابة إليك حتى بعد أن عرفت عنوانك من عصام ،
وقد أحسست أني يجب أن أنتظر حتى تكتبي أنت لي ، لكي تذكري عنوانك وتشُعريني بأن بك رغبة في أن أكتب إليك أو على الأقل أنك لا تكرهين أن أكتب إليك ، ولكن إحجامي لم يَطُل فقد وجدتني أعجز في صد رغبتي في الحديث إليك وأنا أعرف الطريق إليك وأُمسك في يدي بعنوانك ، فإعذريني إذا ما كتبْت بلا إذِن منك وإعذريني إذا اقتحمت عليك خلوتك في قمم الألب النائية ،
واقرئي رسالتي كما تقرئين صفحة في جريدة ، لا تكلفي نفسك مشقة الرد إذا ضقتِ بي وأؤكد لك أني لن أضيق بذلك ، فأنا أعلم مشقة الكتابة إذا تعوزنا الرغبة فيها ، كما أعلم مشقة الصمت عندما نتلهف عن الحديث .
وبعد هذه المقدمة الطويلة أبدأ بسرد أخبارنا عليك :
أنبائي الخاصة ألخصها في أني أواصل دراستي في الكليَة وأني أشتركت منذ بضعة أيام في عملية جراحية ، وعندما أقول اشتركت أعني أني حضرت عملية جراحية مع الدكتور مدحت ، لعلكِ تذكرينه ذلك العبقري الذي يلقبونه عندنا بالجزّار ، والذي رأيتِه ذات مرة في النادي في أرض الكوروكيه ، لقد أجرى عملية رائعة أنقذ بها حياة امرأة تخلى عنها جميع أطباء مصر حتى لا يُتهموا بالفشل وقد قام بها هو ونجحت الى أقصى حدود النجاح .
لا أريد أن أطيل عليك بأخبار العمليات رغم أني غارق فيها في أيامنا هذه ، إني ألقى عصام بعض الأحيان ، ولقد لقيت مرة عمك سليمان ولم يعرفني وكدت أعَرِّفه بنفسي لكني خجلت .
أما عن الأنباء العامة فلست أدري ماذا تعلمين منها ، إن صفقة الأسلحة قد مرت بسلام .
لقد أخذ الرئيس جمال عبد الناصر الأسلحة رغم أنف العالم المستعمِر ، ولست أدري هل تعرفين معنى هذا ؟
إن المسألة ليست مجرد أسلحة نأخذها من الشرق بل المعنى الأضخم للصفْقة أننا تخلصنا نهائيا من براثم المستعمِر ، أننا قد بتنا أحرارا نأخذ ما نأخذ وندع ما ندع ، وهل تذكرين يا نادية كيف كنا نسير في ركاب المستعمِر ؟
كنا نقول نعم عندما يريدنا أن نقول نعم ، وكنا نقول لا عندما ...
وأحس صبري بوقع أقدام تطرق أرض المدرج ورفع بصره فوجد مدحت يجتاز الباب فأغلق الكراسة وثبت المنظار على عينيه وأخذ يرقب منصة المدرج .
وبدأ مدحت في إلقاء محاضرته ، وكعادته في إلقاء المحاضرات رفع سبابته اليسرى وحَك أرنبة أنفه ، ثم نظر شزرا الى الطلبة ومال الى الأمام مُنْكبّا على المنصة بكفه اليسرى واضعا كفه اليمنى في جيبه ، وقبل أن ينطق بكلمة اصطدمت أصابعه بمظروف في جيبه ، ومضت لحظة وهو يتحسسه محاولا أن يتذكر ماهية المظروف ، وعندما خانته الذاكرة أخرج المظروف وألقى عليه نظرة خاطفة ، فتذكر رسالة البريد الجوي المرسلة من فرنسا والتي سلمتها له الممرضة على باب غرفة العمليات ، وأحس برغبة في فض المظروف ومعرفة صاحبه ، ولكنه رفع عينيه الى الطلبة فإذا كلهم قد أنصتوا وركزوا نظراتهم على المظروف فأعاده الى جيبه بغير اكتراث ، واندفع في إلقاء محاضرته .
وانتهت المحاضرة وغادر المدرج يحيط به الطلبة وقبل أن يصل الى مكتبه أحس بخطوات تلاحقه وسمع صوت جاد الله يهتف به ألم تنتهِ إلا الآن من محاضرتك ؟ ما شاء الله .
ثم صاح بالطلبة : انتهينا ، فُضوا الزفة ودعوا الرجل يستريح .
وتضاحك الطلبة ثم تفرقوا من حولهما .
وعاد جاد الله يقول : هيا بنا لقد جاوزت الساعة الواحدة والنصف وموعدنا الثانية .
- قلت لك إني سأَعتذر .
- لا تكن سخيفا ، كيف تعتذر عن دعوة العميد ؟ إنها جَلْيَطَة وقلة ذوق .
- ليكن ، إني لن أذهب .
- أمرك عجيب ، مدرس سنْكوح مثلك يرفض دعوة العميد الى الغداء ؟
- ولماذا يدعوني العميد ؟
- لأنك ، لأنك زوج ابنته .
- اسمع يا جاد الله ، لقد قلت لك مائة مرة كُف عن هذا المزاح .
- مزاح ؟ أما عَبيط ، لِمَ تظنه قد دعاك إذن ، من أجل سواد عينيك أَم لنبوغك في قطع أوصال الناس ؟
- إذن هو دعاني لأني زوج ابنته ؟
- طبعا .
- ولأجل هذا لن أذهب ، لأني لن أكون زوج ابنته .
- يا أخي إِعأل ، البنت لطيفة وتحبك وأبوها رجل ذو خُلُق وذو شأن وذو مستقبل ، إن نظرتي فيه لا تخيب أتذكر عندما قلت لك أنه سيصبح عميدا ، أتذْكُر ؟
وأطرق مدحت وقال متسائلا في ملل : هاه وبعدين ؟
- لقد أصبح عميدا ، وأؤكد لك الآن أنه سيصبح مديرا للجامعة هذا إذا لم يصبح وزيرا .
وعاد مدحت يتساءل في دهشة : يا أخي لييصبح ما يشاء ، إن شاء الله يصبح إمبراطورا مالي أنا به ؟
- مالك به ؟ كيف ؟ إنه سيصبح حَماك ، حَماك يا أخي .
- جاد الله أرجوك ، حِل عني ، أنت رجل نصاب ومعتاد النصب .
- أنا ؟!
- أجل أنت .
- وأنت مُغَفَّل ، ومعتاد التغفيل ، لست أدري ماذا أعجبها فيك ؟ يعطي الحلَق للي بلا وِدان ، على أي حال ليس هذا وقت مناقشة هَيا بنا الآن فلم يَعُد هناك حتى وقت للإعتذار ، احضر هذه المرة من أجْلي وبعداها يحلها ربنا .
- أنت تريد أن تأخذني طُعما للخالة ؟
- الخالة يا أخي لا تحتاج الى طُعم أنا أعتبرها كأختي تماما .
- هكاذا ؟ لماذا تريدني إذن ؟
- لأجل مستقبلك ، هيا أرجوك لقد بلغت الساعة الثانية إلا ربعا .
- انتظر حتى أضع أوراقي في المكتب .
- ليس لدينا وقت ضعها في العربة ، هيا بنا .
وجذب جاد الله مدحت من ذراعه مهرولا الى فناء المستشفى ودفعه في العربة وانطلق به الى بيت مرفت .
وحول المائدة في إحدى فيلات الدُقي الأنيقة جلس الاثنان يحيط بهما الدكتور عبد الفتاح وأُسرته الأُم والخالة ومرفت وأخوها الطالب بإعدادي طب ، وجرى الحديث عن السياسة والطب والأزياء والسينما والجو وعن كل شيء يَخطُر بالبال ، وشرد ذهن مدحت بضع مرات فيما قاله جاد الله وفيما يعيد قوله مرارا وتكرارا ، في مسألة زواجه بمرْفت ، واسترق منها بضع نظرات فاحصة وهو يضعها في ميزان الزواج ،
لماذا يصد عن نفسه فكرة الزواج بمثل هذا العناد والإصرار ؟ لماذا لا يحاول أن يفكر في المسألة بشيء من الجدية والاهتمام ؟
إن الفتاة لطيفة وذكية وليس في طباعها وأخلاقها ما يضايقه وأسرتها طيبة وأبوها كما قال جاد الله ذو خُلُق ومال وشأنٍ ومستقبل ، وهم مقبلون عليه مرحبون به ، ماذا يريد أكثر من هذا ؟
ولكن لماذا لا يريد هذا ؟ تلك هي المشكلة ، إن ما ينقصه هو الدافع الى الزواج ، إن لديه كل ما يحققه الزواج بلا زواج ، لديه البيت المنظم النظيف الذي تُشرف عليه أمه ، لديه الرعاية التامَة والطعام الجيد والمسكن المُعد ، وهو لا يَعدم في أي وقت الصديقة التي تملأ ما تبقى له من فراغ يتركه له عمله المتواصل في غرفة العمليات وفي مدرجات الدراسة وفي العيادة وفي الدروس الخاصة ، وأخيرا لديه عمله الذي يشغل كل جهده وكل وقته ، أي زوجة تلك التي تقبل أن يشاركها حياتها معه هذا العملاق الضخم الذي يبتلع كل طاقته ، أجل تلك هي مشكلته ، مشكلة الحاجة الى الدافع أو المبرر الذي يدفعه الى المقامرة بوضعه المستقر الذي يهيئ له فرصة العمل ، إنها حقا فرصة طيبة لزيجة مثالية ولكنه لم يطلب هذه الفرصة ولا يحس قط بحاجته إليها ، قد تكون فرصة طيبة لغيره أو لنفسه في وقت آخر وَظَرْف مختلف يضيق منه بالعمل أو يفقد بعد عُمْر طويل هذه الرعاية التامَة من أمه التي تهيئ له حياة مُنَعَّمَة مستقرة بلا قيد ولا متاعب حتى ولا ثمن ، ولكن من يضمن له أنه سيجد الفرصة عندما يحين الوقت ؟ أليس من الأفضل أن يغتنمها الآن ؟ لكي تنفعه في الوقت الملائم ، وإلا فلماذا يتزوج الناس ؟
وهز مدحت رأسه ، وعاد ينظر الى مرفت وأمها ليرى كيف يمكن أن تصبح مرفت عندما يحين الوقت ، بدينة مكتنزة الساقين متختخة الذراعين ، ومرة أخرى عاد يصرف نفسه عن فكرة الزواج ، وأخيرا انتهى الطعام .
ونهض الجميع واتخذوا مجالسهم على المقاعد الوثيرة في البهو ، ودارت فناجين القهوة ، وتعالى دخان السجائر .
وجلس مدحت يرتشف قهوته وعلى يمينه جلست مرفت تتحدث بحماس عن حقوق المرأة قائلة : إن الدستور الجديد سيمنحها حقها كاملا ، في الانتخابات وفي الترشيح لمجلس النواب ، .
وأجابها جاد الله وقد جلس مواجها لهما : يا ستي كفاية عليها الانتخابات .
- لماذا ، هل تظن أن عم محمد البواب أحق مني في عضوية مجلس الأمة ؟
- ومن قال أن عم محمد سيرشح نفسه للنيابة ؟
- إن له هذا الحق .
واستمر الجدال بين الاثنين ومدحت يرقبهما في صمت ، حتى أحس أنه يوشك أن يسعل فمد يده الى جيبه ليخرج منديلا ، ومرة ثانية اصطدمت يده بالرسالة المَنسية ، وفي هذه المرة لم يصعب عليه تمييزها ، وأحس بلهفة في أن يعرف حقيقتها ، وخشي أن يتركها في جيبه فينسى أمرها مرة أخرى كما نسيها في المرتين السابقتين ، وببساطة سحب الرسالة وصرف السعلة ومزق المظروف وأخرج الرسالة من داخله .
وتوقفت المناقشة بين مرفت وجاد الله وأخذا يرقبان حركة مدحت المفاجئة التي أخرج بها المظروف وفتحه ، وبالإبهام والسبابة سحب مدحت الورقة الزرقاء المطوية داخل المظروف .
وقبل أنيفتحها قال جاد الله متسائلا : ما هذه ؟
- رسالة من فرنسا .
- فرنسا !، ممن ؟ هل تعرف أحدا في فرنسا ؟!
- أبدا .
- إذن من أدراك أنها من فرنسا ؟
- ختم البريد على المظروف .
- ولكن من الذي أرسلها ؟
- لا أدري ، إني لم أَفْتحها إلا الآن .
- أوتضعها في جيبك دون أن تعرف ممن وصلتك ؟ يا صبرك يا أخي ! يا برودك .
- لقد وصلت إلي وأنا على باب غرفة العمليات بعد أن أضعت وقتي بمناقشاتك السخيفة في الصباح ، وكان المريض تحت البنج فوضعتها في جيبي حتى أَفْتحها بعد العملية .
- ولماذا لم تفتحها بعد انتهاء العملية ؟
- نسيتها ولم أذْكر إلا وأنا في المحاضرة .
- وبعد المحاضرة نسيتها بالطبع ؟
- ولم أذكرها إلا الآن وأنا أضع يدي في جيبي لإخراج المنديل .
- وحتى الآن لم تقرأها ؟ اقرأها يا أخي ، اقرأها وكفى لَكاعة ، لقد بت أكثر منك لهفة على معرفة صاحبها .
وفرد مدحت الورقة وأخذ في قراءتها ، وأخذت علامات التعجب تزداد في وجهه كلما انحدر بصره من سطْر الى سطْر ، وأخيرا هز رأسه في حيرة ثم نفخ من أنفه نفخة ساخرة ، وأخذ يقلب الرسالة بين يديه ، ثم يعيد قراءة المظروف .
وقال له جاد الله يستحثه : هاه ممن ؟
- من ،، لا أدري ، ولكني أعتقد أنه مَقْلَب سخيف من شخص فاضي ، وأغلب ظني أنه قريبك الصحفي بإعاز منك ، قل اعترِف ، أليس كذلك ؟
وهز جاد الله رأسه قائلا في دهشة : ما هذا الهذيان ، مَقْلَب من قريبي الصحفي بإعاز مني ، أُجُنِنت ؟ إن قريبي في جنيف .
- لقد ألقاها من فرنسا حتى يَسْبِكَها .
- يَسْبُكها ؟ هيه يا سلام على ذكائك ، سبحان من نَجَّحَ عملياتك ، أتظن قريبي يهمه أمره الى الحد الذي يجعله يتوقف في فرنسا ليرسل لك رسالة يعطيك بها مَقْلَبا ؟
واحمر وجه مدحت ودفع بالرسالة الى جاد الله قائلا له في غيظ : إذن خذ ، اقرأها وقل لي من أين ؟
وأمسك جاد الله بالرسالة يقرأها ، وبدت عليه علامات الدهشة الشديدة وهو يتنقل بين سطورها ، وعندما انتهى منها هتف قائلا : عجيبة !!!
- صَدَّقْت ؟
- صَدَّقْت ماذا ؟ إني أؤكد لك أنها ليست من جمال فهو لا يمكن أن يُقْدِم على شيء من هذا ، ثم إن الرسالة لا يبدو بها افْتِعال أو عبث ، إنها ، إني أعتقد أن ..
ثم مد يده بالرسالة ببساطة الى مرفت التي جلست ترقب الاثنين في صمت ودهشة وقال : اقرئيها يا مرفت ، وقولي لنا ما رأيك .
ثم وجه الحديث الى مدحت قائلا : أظنك لا تمانع في أن تقرأَها ؟
وكان مدحت أمام أمر واقع وهو يرى الرسالة تُسَلَّم الى مرفت ، فقال مؤكدا : أبدا أبدا .
وقرأتها مرفت وتصاعد الدم الى وجهها ولم تملك إلا أن تردد نفس الكلمة : عجيبة !!!
وتساءل جاد الله : هل تظنينها مَقْلَبا ؟
وهزت مرفت كتفيها : من يعلم ؟
وقال مدحت : أنا لا أشك في أنها مَقْلَب ، فلا أظن أن نادية هذه التي تعيش في أعلى قمم جبال الألب ولا عزاء لها سوى كلمة مني يمكن أن يكون لها وجود .
انطلقت منه ضحكة ساخرة ، ومد يده وتناول الرسالة ودسها في جيبه قائلا : دعونا منها .
وضحك جاد الله قائلا : لقد أصبحت عالميا ، مين أَدَك لك عشاق في جبال الألب .
وأجاب مدحت ضاحكا من أنفه في سخرية : كان يجب علي ألا أريك الرسالة لأني لن أخلص من سخريتك .
ثم صمت لحظة وأردف قائلا : على أية حال لا أجد من السهل أن أنتزع من ذهني أنك وراء هذه الرسالة بطريقة ما .
وأجاب جاد الله : أُقسم لك بكل الأيْمان إني لا أدري عنها شيئا إلا وأنا آخذها من يدك ، ثم أنا نفسي غير مقتنع أنها مَقْلَب .
وانتهت الزيارة وعاد مدحت الى بيته وخلع ملابسه وأخرج محتويات جيوبه فوضعها على المكتب كما تعود ، ووقع بصره على الرسالة ، وأعاد تلاوتها مرة أخرى وانتهى الى خاتمتها ،
"إذا قبلت فاكتب إلي كلمة واحدة هي نعم".
وقذف الرسالة الى المكتب ، إنه لم يبلغ من البلاهة بحيث ينطلي عليه المَقْلَب ويضع نفسه موضع السخرية ، وحتى إذا كانت المسألة حقيقة ، وكانت نادية هذه الساكنة أعلى جبال الألب والتي تعرف كل شيء عنه مخلوقا حقيقيا لا أكذوبة ولا خدعة ، حتى لو كانت نادية هذه شخصا حقيقيا فلن يُعقَل أن يجلس ليضيع وقته في مُكاتبتها ، وحتى لو رضي أن يكتب إليها فماذا يكتب وهو لا يعرف كيف يكتب سطرين من الإنشاء على بعضهما ، لا ، لا لا ، لن يشترك في مثل هذا العبث .
وفي الليلة التالية جلس الى مكتبه ، ومرة أخرى مد يده فتناول الرسالة وعاد يقرأها ، وتوقف أمام جملة تقول فيها "قد تثيرك رسالتي وقد تبعث في نفسك الدهشة أو الضحك أو السخرية أو التشكك ، ولكن لو عرفت مدى ما تمنحه إياي برَدك لأجبت رجائي ورددت علي".
وأحس بشيء حقيقي في كلماتها ، لقد بعثت الرسالة في نفسه الدهشة والضحك والسخرية والتشكك ، وصاحبة الرسالة قد توقعت كل هذا ، ومع ذلك فهي ترجوه في حرارة أن يجيب رجاءها ويرد عليها .
أحقا يمكن أن يمنح بِرَدِّه شيئا لهذه المخلوقة بافتراض أنها كاءن حقيقي لا خدعة ولا أكذوبة ؟
إنها تقول أنه سيمنحها شيئا كثيرا فلماذا يبخل بهذا الرد الذي لن يكلفه اكثر من بضع دقائق ، ولكن هل هي حقيقة موجودَة أَم إنها مجرد عبث ؟
وهب أنها عبث فماذا يخشى ، أيخشى أن يضع نفسه موضع السخرية ؟
ماذا يضيره من سخرية بعض السخفاء ، هل يتساوى الضرر الذي سيصيبه من السخرية لو كانت المسألة أكذوبة مع الفائدة التي ترجوها صاحبة الرسالة لو أنها حقيقة واقعة ؟
ومرة أخرى أعاد قراءة الرسالة ، وببساطة أمسك القلم وانتزع ورقة من إحدى الكراسات ثم حك أرنبة أنفه بسبابته وبدأ يكتب الرد الى نادية المقيمة في أعلى قمم الألب والتي لا يدري ما إذا كانت وَهْما أَم حقيقة ...
26
لن أَخْذُلَكِ
كانت الساعة قد بلغت الثانية عندما هبطت نادية من حجرتها الصغيرة ووقفت في الشرفة السفلى المطلة على الفناء ، وكانت الشمس قد احتجبت نهائيا منذ أسبوع والبَرَد قد أخذ يتساقط في خفة كأنه ريش أبيض أو كالقطن المندوف ،
والصِبية قد أخذوا يتواثبون في الفناء متلقين نتف البَرَد بأكفهم في فرحة محاولين تكويرها في كرات يتقاذفونها ، ومُنى قد وقفت بينهم .
ولم تكد تلمح نادية واقفة في الشرفة حتى هتفت بها : نادية ألا تنوين الانصراف ؟
- أجل إني جاهزة .
- إذن هيا بنا ، إِنّا مدعوتان للغداء عند كابي .
وغادرت نادية الشرفة عابرة القاعة الى حجرة زجاجية صغيرة أسفل السلم .
وفي
وفي تردد دفعت الباب ومدت عنقها فوقع بصرها على بِيتر كاتب الحسابات العجوز وقد أكب على مكتب صغير يفحص بضع رسائل في يده .
وتساءلت نادية في استحياء : أَ ألم تصل رسالة لي يا مِسيو بِيتر ؟
ورفع العجوز بصره من فوق المنظار ثم هتف قائلا : مدموزيل نادية ، تفضلي تفضلي .
- مُتَشَكِرَة ، إني أسأل فقط عن رسالة لي .
وهز العجوز رأسه متسائلا : وهل تنتظرين رسالة ؟
وترددت نادية قبل أن تقول : يُحتمَل أن تصل إلي رسالة .
- عندما تصل سأسرع إليك بها .
- لا داعي لأن تزعج نفسك ، سآتي لآخذها .
- وكيف تعرفين أنها وصلت ؟
- إني أمر عليك كل يوم وأنا صاعدة الى مكتبي ، وسآتي إليك لأحييك .
- أود أن تنتظري كل يوم رسالة ، حتى أراك كلك يوم .
وضحكت نادية .
- إذا كان الأمر كذلك فسآتي إليك بلا رسائل .
- إني أحب سماعك عندما تعزفين .
- تقصد عزْف مدام كلود ؟
- بل أقصد عزْفك أنت ، إني أستطيع أن أميز عزْف كلود بسهولة ، إني أسمعه منذ عشر سنوات .
- ولكني مبتدئة ، إني أتعلم عزْفها .
- ومع ذلك فعزْفك يعجبني ، وعندما أقول لك يعجبني فإنه لابد أن يكون عزْفا جيدا ، إن لي أُذُنا موسيقية رغم هذه السنين التي قضيتها بين الدفاتر والحسابات .
- يسرني جدا إطراءك .
- إنك تحسين بهذا الفالْس ، تحسين جيدا بأحاسيس الوداع التي يشيعها .
- ربما ، لقد أحببت الفالس بمجرد أن سمعته .
وسمعت نادية صوت مُنى يهتف بها من الباب : نادية أين أنت ؟
- إني آتية .
ثم ودعت بِيتر قائلة : أشكر إطراءك مِسيو بِيتر ولعلي لا أكون أزعجتك .
- بتاتا ، عندما تأتي الرسالة سآتي لك بها تواً .
- لا تضايق نفسك بها ، إنها مجرد احتمال قد لا يتحقق .
واتجهت نادية الى الباب الخارجي حيث وقفت مُنى تتتساءل : ما الذي أَخَّرك ؟
- كنت أسأل مِسيو بِيتر .
- عن ماذا ؟
- عن ،، عن شيء في الدفاتر .
ولم تجسر نادية أن تقول إنها كانت تسأل عن رسالة ، إذ لم تكن مُنى تعلم شئا عن الرسالة الطائشة التي ارسلتها ، والتي استجدت بها ردا من مدحت ، أو كما كانت تسميه مُنى الوهم الكبير .
كانت نادية تحس بالخجل من كتابتها والندم على إرسالها ، وكانت تُسائل نفسها أحيانا ، كيف واتتها الشجاعة على كتابة ما كتبت ومن أين جاءتها الجرأة التي جعلتها تُقْدِم على وضعها في المظروف وكتابة العنوان ثم وضعها في صندوق البريد ، ولو كان الأمر بيدها لأوقفتها في منتصف الطريق ولمزقتها إربا .
ومع ذلك فهي تحس بسعادة ، إن الأمر لم يَعد بيدها وإن الرسالة قد نجت بنفسها من ترددها ، وقد انطلقت لتحقق غرضها ،
إنها لابد أن تكون قد وصلته ولابد أن يكون قد قرأها ، ولابد كذلك أن يكون قد قرر شيئا بخصوصها ، ويُحتمَل جدا أن يكون هذا الشيء الذي قرره في صالحها ، فهو يحمل في صدره قلبا كريما وهو على صرامته البادية لا يخذل أحدا عندما يحس أن هذا الشخص يحتاج فعلا الى ذلك الشيء الذي يطلبه ، تشهد بذلك تصرفاته مع مدرب التنس في النادية وتصرفاته التي سمعت عنها من صبري ، وهو لا شك سيحس من رسالتها مدى حاجتها الى رده ، ومدى ما يمكن أن يمنحها بالكتابة إليها ، إنه سيشعر بلا جدال أنها لا تعبث ولا تَهزَل ، ولن يضيره أن يكتب إليها كلمة أو بضع كلمات .
لماذا بعد كل هذا لا تتوقع منه ردا ؟
ومن أجل هذا أخذت تَعد الأيام ، لقد حسبت لها مُنى مدة الرسالة بأربعة أيام عندما قرأت تاريخ وصول رد عصام وتاريخ إرسالها للرسالة ، ولقد أرسلت الرسالة في يوم الجمعة الماضي واليوم السبت ، أي مضت ثمانية أيام على إرسالها ، أربعة أيام لوصول رسالتها وأربعة أيام لوصول رسالته هذا بفرض أنه سيكتب ردا في نفس اليوم الذي تصل فيه رسالتها ، منتهى التفاءل وحسن الظن ، لم يكفيها بأن تقنع نفسها بأنه سيرد ، بل استطاعت أن تفرض بأنه سيرد في نفس اليوم ، كأن الصلة بينهما قد بلغت من شدة الوثوق والارتباط ما يجعله لا يطيق تأخير الرد لحظة أو كأن المسألة من الخطورة والإلحاح بحيث لا تحتمل أي تأجيل ،
وأحست بالخجل وهي ترى نفسها قد انزلقت الى مثل هذا الحد من التفاؤل ، ولم تجد بدا من أخذ نفسها بشيء من الشدة ونهيها من الإغراق في أحلامها الطائشة وأن تؤكد لنفسها أن صرامته وكرهه للعبث ستغلبان على رقته وكرمه ، وأن أصابعه ستتصرف في الرسالة قبل أن يتصرف فيها قلبه .
ومع ذلك فلم تكد الأيام الثمانية التي حسبتها للذهاب والإياب حتى انتابها شعور بالقلق وباللهفة ، ولم تستطع أن تمنع نفسها من أن تسأل بِيتر العجوز الذي يتسلم رسائل المدرسة عن رسالتها المنتظرة ، ولم تستطع أن تنزع من نفسها إحساس الانتظار فقد كان إحساسا ممتعا خلق في نفسها شيء آخر غير ذلك اليأس الانهائي ، شيئا ربطها بالوهم الكبير وجعل ثمة خيط بينهما تعلقت بطرف منه وألقت بالطرف الآخر عله يصلها به .
واجتازت التوأمتان باب المدرسة وهمت نادية بالاتجاه من الطريق الموازي لسكة الحديد فجذبتها مُنى الى الميدان حيث الطريق الرئيسي .
وقالت نادية : أل تقولي أنك في عجلة ؟
- ولو ، إني أكره هذا الطريق المقفر .
- لست أدري ما يعجبك في الازدحام ؟
- لأني أحب الناس ، أحب مغازلات الشبان ومعاكسات الصِبية ، أحب الفواكه في الحوانيت وأحب أجراس الدراجات وأبواق العربات ، أحب كل هذا لأنه يشعرني بالحياة .
- الحياة ليست في صخب الناس وضجيجهم ، إني أحس بالحياة في سكون البحيرة وفي حفيف الشجر وفي اهتزاز الوردة على غصنها .
ونظرت إليها مُنى وأجابت في سخرية : هذا كلام من عندياتك أَم من ديوان أحد الشعراء ؟
- إن هذا ما أقصده يا مُنى ، إني حقيقة أكره صحبة الناس وأكره ازدحامهم .
- لأنك تخشينهم ، من يوم الحريق وقد أصابك هذا الخوف من الناس ، تتوهمين أن يفحص كل عابر وجهك ويشير إليك صائحا : انظروا الى هذه الفتاة المشوهة انظروا الى عنقها المحروق .
وبلا وعي مدت نادية يدها الى عنقها وأحكمت ربط الإشارْب حوله ثم التفتت الى مُنى ناهرة إياها : ما هذا الحُمق ؟ اخفضي صوتك وإلا سمعك الناس .
- أرأيتِ يا نادية ؟ أرأيتِ يا حبيبتي لماذا تخشين الناس ؟ ترى متى تواجهينهم في ثقة وشجاعة ؟ متى تكفين عن هذا الخوف ؟
- لو أصابك ما أصابني هل كنت تواجهين الناس ؟
- وكنت أسب من لا يعجبه شكلي .
- هِم ، واهمة ، تقولين هذا لأنه لم يصِبك شيء .
- ولكن مم تخشين هنا ؟
- ولماذا أزعج الناس بمَنْظَري ؟
- إنه غير مزعج .
وتوقفت مُنى أمام محل للتصوير وأخذت تنظر الى الصورة المكبَرة الموضوعة في واجهته وقالت لنادية : أليست لك رغبة في التصوير ؟
- وجذبتها نادية قائلة في غيظ : أتسخرين ؟
- أنا !؟
- أتظنين أني حقا أرغب في التصوير ؟
- أنا شخصيا أرغب بإرسال صورة الى عصام ، لقد سألني أن أرسل إليه صورة حديثة .
- إذن تصوري أنتِ .
- وأنتِ ؟
- ليس هناك من يسألني صورة حديثة أو قديمة .
- احتفظي فيها لنفسك .
- ليس هناك في صورتي الآن ما يستهويني ، إذا أردت أنت صورة فادخلي واذكري أن حفلة كابي تنتظرك .
- أجل معك حق ، سأعود عندما يكون لدي وقت ، وعندما أكون مرتدية ثيابا لائقة ، الفستان القطيفة الأحمر مثلا ما رأيك فيه للتصوير ؟
- لا بأس ، ولو أني لا أظن أن قماشه أو لونه أو سيبدوان في الصورة .
وعاودت التوأمتان سيرهما في زحام الطريق بين عبث الصِبية ومعاكسات الشبان والدراجات ذات الأجراس والعربات ذات الأبواق ، وبدأ الزحام يخف في أول المنحدر ، وأخذت الفتاتان في صعود الطريق الخلوي المؤدي الى المزرعة ، ولم تكادا تسيران فيه برهة حتى أحستا بعربة تتوقف بجوارهما ثم سمعتا صوتا يهتف بهما : اركبَا قبل أن تتوقف العربة وتضطران الى دفعها معي حتى البيت .
ونظرت التوأمتان فإذا بجارهما مِسيو كيلي والد كابي صاحبة دعوة الغداء .
واتخذتا مكانهما في العربة التي توقفت برهة قبل أ تبدأ السير وتقهقرت بضع خطوات في المنحدر ثم ما لبثت حتى عاودت السير .
وقال الرجل البدين الأحمر الوجه الذي استقرت عجلة القيادة على بطنه : ربنا يستر ، لست أدري ماذا يمكن أن يحدث لي لو توقفت العربة ، إني لا أتصور أن أصعد كل هذه المسافة على قدمي ، سأبيت في كشك المحطة أو صالون السيدات أظن هذا يكون أكثر راحة ودِفْءاً على أحد مقاعد الحلاقة .
ثم انطلق الرجل يقهقه في انشراح وصفاء .
وقالت مُنى ضاحكة : إذا توقفت العربة فنحن على استعداد لأن نجرها لك أنا ونادية وتوني وكابي .
وأردفت نادية قائلة : في النزول فقط .
وأجاب الرجل : لست في حاجة الى مساعدة في النزول ، إني أستطيع أن أتدحرج .
ثم نظر الى الساعة في معصمه وأردف قائلا :لقد تأخرت على كابي ، لا بد أن القلق أصابها لأن نصف حاجيات الوليمة معي في العربة .
وأجابت مُنى : لا بأس سأذهب معك لأساعدها في إعدادها .
وقال الرجل : جميل ، ستذهبان معي الى بيتنا رأسا ؟
وردت نادية قائلة : أنا أريد أن أذهب الى البيت أولا لأني أحس أني مُتْرِبَة ، ولابد أن أستحم وأبدل ملابسي فإذا سمحت أنزلني أمام البيت وسألحق بكم .
وكانت العربة قد وصلت الى باب البيت فهبطت نادية وانطلق الرجل ومعه مُنى لتساعد ابنته في إعداد الوليمة .
واتجهت نادية الى الدار وعبرت الممر المفضي الى البا الداخلي من أحواض الورد والقُرُنْفُل وذهنها يغافلها ويَشْرُد في الرسالة المنتظرة ، ولم تجد أحدا في البيت سوى الجدة وميري ابنتة العجوز بول ، كانت الأُم وجانيت قد ذهبتا الى بيت كابي .
وصعدت نادية الى حجرتها بعد أن حييت الجدة ونزعت الإشارْب عن رأسها ووقفت أمام المرآة تفحص عنقها وأسفل أذنيها وذقنها كعادتها في كل مرة تنزع فيها الإشارْب ، كانت تأمل أن تحدث معجزة تزيل من جلدها المحترق هذه البقع والتجاعيد ، وكانت تحاول أن تدلك عنقها كلما انفردت بنفسها وكانت تستعمل بعض المراهم التي وصفها الطبيب لعلاج جلدها عقب الحريق ، ولكن الجلد بقي على حاله بكل ما فيه من تشويه وتذكرت قول مُنى "متى تواجهين الناس بثقة وشجاعة، متى تكفين عن هذا الخوف"؟
كيف تواجه الناس بهذا العنق المشوه والجلد البشع ، إنها تكره أن تُبْصره عيناها هي فما بالها بأعين الناس ؟
ومدت يدها بالمشط تسرح شعرها ثم عادت تُحكِم الإشارْب حول شعرها وتشد الياقة حول عنقها حتى لا يفلت جزء من العنق المحروق ليفضحها أمام الناس ، من أجل هذا عادت الى البيت لتُحكِم الرباط حول رأسها وعنقها ولتتأكد أن كل شيء في وجهها على ما يرام ، فقد كانت تحس أن حركتها خلال اليوم قد تُفْلِت وثاق الإشارْب حول رأسها ، ألم يحدث هذا في السفينة عندما هب النسيم ؟ مجرد نسيم فأزاح الإشارْب وفضحها أمام جمال .
وهبطت نادية الدرج الى أسفل ، ولم تكد تَعْبر باب البيت الى الطريق حتى أبصرت عربة المِسيو رينو تتوقف أمام الباب .
ودُهِشَت نادية ولم تدري ما الذي جاء بالرجل في هذه الساعة وتوقفت لاستقباله لكي تعتذر له من خلو البيت عن أهله .
ولم يهبط رينو من العربة ولكن هبط بدلا منهكاتب الحسابات العجوز وقد أمسك برسالة في يده وتهللت أساريره وبدت على وجهه أمارات الفرحة .
ومد يده بالرسالة قائلا : وصلت الآن فقط ، لقد أتيت بها إليك كما وعدتك ، استأذنت مِسيو رينو أن آخذ عربته فتفضل بإعطائها لي .
ومدت نادية يدها تتسلم الرسالة مشدوهة مأخوذة ، أخيرا كَتب إليها وبمثلهذه السرعة ؟ غير معقول !!
ولكن هاهي الرسالة في يدها ولابد أن تكون منه فرسائل عمها تصل الى البيت وهي لم تعطي عنوان المدرسة لأحد ، أجل لقد رد عليها ولابد أن يكون رحب بالكتابة إليها ، فغير معقول أن يرد في هذه السرعة ليقول لا .
ووقف العجوز ينظر إليها في دهشة ، وهي تُمْسِك الرسالة كالمذهولة دون أن تنبس بكلمة .
وقال العجوز متضاحكا : لقد صممت أن آتي بها إليك بمجرد أن وصلتني ، حتى لو لم يعطني مِسيو رينو عربته فقد كنت أنوي إحضارها سائراً على قدمَي بعد الغداء .
وأحست نادية أنها يجب أن تتفيق من دهشتها لتقول شيئا للرجل الماثل أمامها الذي ينتظر بضع كلمات شكر على جميله .
ابتسمت نادية قائلة : ما كان يجب عليك أن تتعب نفسك هكذا عليك يجب أن تتعب نفسك هكذا .
- كيف ؟ إنني أعرف مدى لهفتنا عندما ننتظر رسالة من عزيز علينا ، لقد قرأتها في عينيك وأنت تسألينني عنها في مكتبي .
- ولكني لم أقصد أن أُسبب لك هذه المشقة .
- أبدا أبدا ، لا مشقة هناك ، إنك لا تدرين كم سُرِرْتُ عندما وصلت الرسالة وكم أسعدني أن آتي بها إليك .
- لست أدري كيف أشكرك .
وضحك العجوز وهو يعود الى العربة قائلا : لعلكِ لا تنسين أن تمري علي كل صباح كما وعدتِ .
- لن أنسى .
- وتعزفي لي فالس دوكي كل صباح ؟
- سأعزفه لك إذا سمحت لي مدام كلود .
- دعي لي مدام كلود .
وعاد الرجل الى العربة ونادية ممسكة بالرسالة وهي مازالت في ذهولها ، ورفعت الرسالة لتقرأ العنوان على المظروف ، وميزت به طابع مصر ولم تحاول فتح المظروف لقد أحست أن الرسالة من الخطورة بحيث يتعذر فتحا=ها على قارعة الطريق ، وأنها تحتاج الى خلوة وإلى وقت ولكنها لم تكن تستطيع الصبر حتى تجد الوقت والخلوة .
لماذا لا تعود الى البيت لتقرأها أو على الأقل تفضها وتتأكد من توقيعه ؟
إنها لا تستطيع أن تصدق أنه كَتب إليها حقا ، أجل يجب أن تدخل ثانيةً لتفض المظروف وتقرأ الرسالة ، وقبل أن تستدير لتخطو داخل البيت أبصرت عربة مِسيو كيلي وقد أقبل بها ابنه توني مسرعا ومعه بعض الصحاب من الفتيةوالفتيات وهم يصيحون بها : هيا يا نادية ما هذا التَلَكُؤ إن الجميع ينتظرونك ؟
ولم تملك نادية إلا أن تطوي الرسالة بسرعة وتخبئها في جيبها ثم تركب العربة قائلة : لقد كنت في طريقي إليكم .
ورد توني : لقد قالت مُنى إنك قد تبقين في البيت لأنك تكرهين الضجيج ، فأصررنا كلنا على أن نحضر لأخذك .
- لقد قلت لجاني أني سآتي ، وإني لا أُخلِف وعدي .
وصلت الشلة الى البيت ، وانتهت الوليمة الصاخبة وانهمك الفتية والفتيات في اللعب والرقص ونادية في شرودها ، تتحسس الرسالة بين الآونة والأخرى خشية أن تكون وهما أو حلما ، وعندما انتهى الصحاب من لَهْوِهم قرروا الخروج بالعربة ليشاهدوا أحد الأفلام ، وهنا أحست نادية أن فرصة الفرار قد حانت وأنها تستطيع أن تنسحب عائدة الى البيت .
وقال توني وهو يضع يده في يدها : هيا يا نادية أنت ضيفتي في السينما .
- إني آسفة لأني لن أستطيع الذهاب .
- ولِمَ ؟
- إني أحس صداعا شديدا في رأسي ولابد أن أَستريح .
- إني سأضيع لك الصداع ، سأعطيك قرصا .
- لا لا ، إن خير ما أفعله هو أن أعود الى البيت وأرقد .
وتدخلت مُنى قائلة : لماذا يا نادية سنخرج كلنا سويا ، وإذا أردت أن نذهب الى أي مكان آخر غير السينما فسنفعل .
- إني متعبة يا مُنى ولا بد أن أَستريح .
وحاول البعض التدخل لإقناعها .
ولكن مُنى قالت : لا فائدة دعوها ، إنها عنيدَة وعندما تقول لن أذهب فهي فعلا لن تذهب .
حمدت نادية لمُنى قولها فقد وفرت عليها مزيدا من الإلحاح ومزيدا من الاعتذار .
وانطلق الجمع الصاخب بعربة مِسيو كيلي يقودها ابنه وعربة أخرى يقودها أحد الفتيان .
وسارت نادية وحدها عائدة الى البيت ويدها تتحسس الرسالة ، وبأصابع مرتجفة فضت الرسالة ، وأحست من الكتابة الكثيرة التي ضمتها سطورها أن خيبة أمل توشك أن تحدْث ، لم تعقل أن يكتب إليها مدحت كل هذه السطور وبسرعة انتقل بصرها الى السطر الأخير لتقرأ توقيع صبري .
وأحست شيء يعتصر باطنها شيء قاس أليم ، وأحست بالكره لصبري لقد كان هو السبب في خديعتها ، أجل لماذا كَتب في هذا الوقت بالذات ؟
بل لماذا يكتب إليها ؟
قذفت بالرسالة في ضيق والبكاء يكاد يخنقها ، وبعد برهة رفعت عينيها الى النافذة فأبصرت البَرَد مايزال يتساقط ولاحت لها قمم الجبال يلفها الضباب ، ورويدا رويدا عاودتها السكينة .
لماذا تظْلِم صبري ، ألأنه سأل عنها وكتب إليها ؟ ألأنه يحبها ؟
ومدت يدها الى الرسالة وأخذت بقراءتها وعندما انتهت منها أحست بشيء من عزاء .
وفي الصباح وهي في طريقها الى حجرتها في المدرسة وقبل أن تصعد الدرج أطلت على المُسِجِّل العجوز وأقرأته تحية الصباح ، ورد الرجل عليها في بشاشة ومد يده ملوحا في رسالة بيده .
- رسالة أخرى يا آنسة ، الظاهر أن الخير أتى مرة واحدة .
وذُهِلَت نادية ولم تصدق أذنيها في بادئ الأمر ، ولكنها دخلت غرفة الرجل وتناولت الرسالة ، ولم تحس لها بحماس شديد فلا يُبعُد أن تكون هي الأخرى من صبري ، أجل لقد قال لها إنه سيكتب إليها حتى ولو لم ترد ، وليس من المستبعد أن يكون قد نوى بملاحقتها برسالة كل يوم .
وقرأت الظرف فرأت خطا يختلف عن خط صبري فدق قلبها بعنف ، ولم تستطع أن تصْبِر حتى تصل الى حجرتها بل فضت المظروف وهي تصعد السلم ، ولم تكن الرسالة مزدحمة بل كانت بضعة سطور ، استطاعت أن تميز في آخِر سطر اسم مدحت أبو العلا .
وأحست نادية كأن السلم يميد تحتها ، وأطبقت على الرسالة بأصابعها ثم انطلقت مسرعة الى غرفتها وأغبلقت الباب وجلست على مكتبها ، ومضت برهة وهي تحاول أن تتمالك نفسها ، وتُهدِئ من أنفاسها المتلاحقة وأخيرا فتحت الرسالة وبدأت تقرأ .
أنا أيضا لا أعرف كيف أُسَمِّيكِ ، فإذا كنت عجزت عن تسميتي وأنت تعرفين عني ما زعمت أنك تعرفينه فكيف أُسَمِّيكِ أنا ، وأنا لا أعرف إذا ما كنت أنت أنت أَم لم تكونيه ؟
أنا أكتب إليك لأن جملة في رسالتك حتمت علي الكتابة وهي قولك
"لو عرفت ما يمكن أن يفعله رَدُّك بي لأجبت رجائي ورددت علي"
وهأنا ذا أجيب رجاءك وأرد عليكِ رغم خشيتي من أن تكون خدعة ، وأن تكون رسالتك أكذوبة .
أكتب إليك رغم أني أشك في حقيقتك وأخاف من أن تكوني رجلا يهدف الى التغرير بي والسخرية مني ، ولكن إذا كنت كذلك فلا أظن أن سخريتك يمكن أن تضرني بقدر ما يضيرك عدم ردي إذا لم تكوني كذلك ، ولهذا فقط رددت عليكِ ، فإذا كانت رسالتك مجونا وعبثا فمن الخير أن تَكُّفي عن الكتابة إلي ، وإذا لم تكن فاكتبي إلي مزيدا عن نفسك ،
من تكونين ، وماذا تريدين ؟
إني بطبعي لا أستطيع أن أخذل إنسانا أياً كان ، وأؤكد لك أنكِ كإنسان في هذا الوجود مهما كنت ومهما كان موضعك فإن قولي يشملك .
إني لن أخذلكِ، وسأفعل من أجلك كل ما ئأستطيع إذا كنت حقا أملك لك نفعا .
ليس عندي ما أقول أكثر من هذا ، قد يكون حديثي جافا ولكن عذري أني لا أعرفك ، ولست واثقا من حقيقتك ، ثم أني فوق كل هذا لا أجيد الكتابة .
لك تحياتي أياً كنتِ .
مدحت ...
27
من أنا
انتهت نادية من قراءة الرسالة وأحست وهي تُمْسِك بها بين أصابعها أنها تود أن تضمها الى صدرها وتشمها بأنفها وتمسها بشفتيها ، لم تحاول أن تفكر كثيرا في محتوياتها أو تفحص معانيها أو تزن مضمونها ، كانت تحس بها في جملتها بورقها وسطورها ومدادها شيئا عزيزا ، بغض النظر عما تحتويه من معانٍ وتهدف إليه من أغراض .
كانت نادية تحس بأنها تُمسِك لأول مرة جزءً منه ، من أوراقه ومن كتابته ومن أفكاره ، لقد ظفرت وهي في غربتها النائية بما لم تستطع به وهي على بُعد خطوات منه .
لقد خاطبته من وراء الجبال والبحار ، وسمعت رده عبر آفاق وآفاق أياً كان رده ، ألا يكفي أنه أجاب .
ومرة أخرى عادت تقرأ الرد في تمهل وإمعان ، إنه هو بنفس كبريائه وصرامته وباطنه الطيب وقلبه الكريم الذي يكره أن يخذل إنسانا مهما كان .
لقد كَتب إليها رغم شكوكه في حقيقتها ، ورغم خوفه أن تكون قصدت الى التغرير به السخرية منه .
"فإذا كانت رسالتكِ مجونا وعبثا فمن الخير أن تَكُّفي عن الكتابة إلي ، وإذا لم تكن فاكتبي إلي مزيدا عن نفسك ، من تكونين وماذا تريدين ؟"
لقد طلب منها أن تكتب عن نفسها إذا لم تكن رسالتها مجونا وعبثا .
مجون وعبث ؟ ليتها كانت كذلك إذن لأراحت واستراحت ، ولكنها ليست كذلك ، والمطلوب منها أن تقنعه أنها ليست كذلك ، وأن تكتب إليه لتقول له من تكون وماذا تريد ، ولكن من تكون أو على الأصح ماذا يمكن أن تكون بالنسبة إليه؟
وماذا تريد ، يكتب إليها ، أهذا كل ما تريد ؟
يكتب إليها عن ماذا ؟
ماذا يقول ؟
وأحست نادية بالحيرة وتملكها الوجل والخشية ، وعادت تقرأ في سطور الرسالة .
"إني لن أخذلكِ ، سأفعل من أجلك كل ما أستطيعإذا كنت حقا أملك لك نفعا"
وأحست شيئا من الطمأنينة ، إنه لن يخذلها وهو حقا يملك لها النفع كل النفع ، إنها تريد أن يُحَدِّثها كصديق وأن ينْبئها بأخباره ويسمع منها أخبارها .
ماذا بعد ذلك ، ماذا بعد أن تتوطد الصداقة بينهما على بُعد المسافة ، أتأمل في شيء أكثر من هذا ؟ في لقاء مثلا أو في إعجاب وحب ؟
لا ، لا ، إنها لا تطمع في شيء من هذا ، بل إنها تخشى اللقاء حتى لا يكشف أمرها ويهتك سترها الذي تحجب به ما بوجهها من تشويه ،
إذن ما النهاية ؟
ما نهاية كل هذا الذي تسعى إليه ؟
ولكن لماذا تضايق نفسها من الآن بالنهاية ؟ أَكُل شيء نُقْدِم عليه في حياتنا نتصرف فيه على أساس نهايته ؟
حياتنا مثلا هل نقيم تصرفاتنا فيها حسب نهايتها ؟
لو كان الأمر كذلك ما أقدمنا فيها على شيء ، ولَرَقدنا على ظهورنا ننتظر النهاية .
فلماذا إذن تحاول أن تشكل تصرفاتها في حبها على أساس نهايته ؟
لا ، إنها ستكتب إليه ، ستذكر له المزيد عن نفسها وستحدثه عما تريد وتسأله أن يكتب إليها دائما دائما ، ولتكن النهاية ما يمكن أن تكون .
ومدت نادية يدها على دُرْج عن يمينها وأخرجت منه كراسة رسائل زرقاء ، وأطَلَّت من النافذة ببصرها ليتخلل فروع السنديانة الى الأفق البعيد حيث قامت الجبال الشاهقة بقممها البِيض كأنها سد ضخم يحول بينها وبين أرض الأحلام ووطن الأماني ، الأرض الخضراء المنبسطة التي لا تحتجب عنها أشعة الشمس والوطن الذي يضم بين ربوعه عَبْقَرِيَّها الطويل العريض المنكبين الصارم القسمات الرقيق القلب ، وعاد نظرها من الأفق ليعبر فناء المحطة وقد خلا إلا من كلب ناظر المحطة وحمال يسير متثاقلا قد انكمش جسده تحت معطفه ، ثم استقرت عيناها على الكراسة الخالية ، وتملكها شعور بالرهبة وهي تضع سن القلم في أعلى الورقة لتبدأ الكتابة .
كيف تناديه ، وماذا تقول له ؟
إنها تحس أن مصير أمانيها وأحلامها يتوقف على ما ستخُطُّه يَداها ، إن عليها أن تُقنعه بِإَنَّها حقيقة وليست خدعة ولا أكذوبة ، ثم تقنعه بعد ذلك بِإَنَّها في حاجة إليه ، الى كتابته وإلى صداقته وإلى حبه إن أمكن ، وأنها لا تعبث به ولا تسخر منه ،
كل ذلك يجب أن تؤديه هذه السطور التي سيخُطُّها هذا السن الرابض على حرف الورقة ، وأغمضت عينيها وهي تحس بعجز كامل عن الكتابة ، وفجأة تعالى من ورائها النغم البطيء ذو الخفقات المنفصلة المتباعدة الذي ينساب الى النفس المتدفقة المتصلة ، وأحست بشيء جامد في بطنها يذوب وتحرك سن القلم ليؤدي مهمته الخطيرة .
سيدي الفاضل :
لا أظنك تُدرك أي شيء فعله رَدُّك بنفسي ، هذا الرد الذي لم تُفصِح به عن شيء سوى أنك رددت علي لأنك تخشى أن تخذل إنسانا يرى نفسه في حاجة إليك ،
ويعلَم الله لم أكن أتوقع أكثر من هذا ولا آمل في خير منه ، أن ترد علي مجرد رد كي تمنحني بصيص من أمل يشجعني أن أخبرك من أنا وماذا أريد ، وأن أكتب إليك بشيء من التفصيل دون أن أحس بأني أفرض عليك نفسي وأُكرِهُك على سماعي .
أكتب إليك وفي نفسي شيء من الطمأنينة ، طمأنينة المُستأذِن يُؤْذَن له أو الطارق يُسمَح له بالدخول ، أكتب إليك وقد زال من نفسي وجل المُتسَلِّل ورهبة المقتحم ، ومع ذلك ورغم ما أحسست به من طمأنينة المُسْتَأذِن ورغم زوال وجل المتسَلِّل ورهبة المقتحم أحس أني استبدلت وجلاً بوجل ورَهبةً بِرَهْبَة ، وأني لم أكن أواجِهُك لأقول لك من أنا وماذا أريد حتى أحسست بفَمي يتلعْثَم ولساني ينعقد ، وإذا بي بعد كل ما كتبت لا أعرف كيف أقول لك من أنا وماذا أريد .
ومع ذلك أحس أني لا بد أن اجتاز الاختبار ، اختبار الثقة الذي عقدته لي ، ولا بد أن أقنعك أني لست خدعة ولا أكذوبة ، وأني لا أُغَرِّر ولا أأضَلِّل وأني حقا أحتاج إليك لا أعبث ولا أسخر .
أنا كشيء مادي لا أظن وصفي بالشيء العسير ، فلنبدأ بهذا الجزء السهل من المهمة ،
أنا كما قلت لك نادية ، في الثامنة عشر من عمري شقراء خضراء العينين مقبولة الشكل ولعلي بهذا التعبير أستطيع أن أتجنب مبالغة الغرور أو إنكار التواضع ، أبي مصري وأمي فرنسية كنا نعيش في مصر ومات أبي ، وقررنا أنا وأمي وأختي أن نرحل الى كاب موطن أمي تجنبا لمتاعب المعيشة ، وقد استقر بنا المقام في بيت أمي وعملت أنا وأختي في مدرسة للأيتام ،
هل هناك تفصيلات أخرى ؟
لا أظن ، هذا هو كل ما في أنا كشيء مادي ، لا أظن بي أكثر من ذلك من ناحية التفصيلات الرئيسية ، ولا أظن التفصيلات الثانوية يمكن أن تضيف إلي شيئا كثيرا في نظرك .
بقي أن أقول من أنا كشيء معنوي ،
المخلوقة المجنونة كما لا شك قد ظننتني التي تسكن جبال الألب والتي تكتب الى طبيب في مصر تسأله أن يكتب إليها زاعمةً أن كلماته هي خير عزاء لها في غُرْبتها .
بقي علي أن أقول من أنا كشيء معنوي لأقنعك كيف يمكن أن تكون هذه الصورة التي بدت في ذهنك أول الأمر أكذوبة أو خدعة حقيقة واقعة حارة مخلصة لا عبث فيها ولا سخرية .
أنا مَخلوقة قد شدت نفسها الى نفسك من حيث لا تدري ، لا تدري أنت ولا تدري هي ، ولا أظن أحداً ممكن أن يدري إلا هذا المُدَبِّر الذي يدبر أمرك وأمري وأنا في جانب من الأرض وأنت في الجانب الآخر والذي يعلم وحده كيف شَدَدّت إليك نفسي ولِمَ .
كان ذلك منذ بضع سنوات عندما أبصرتك في النادي كمخلوق فض قاسي ، ونفرت منك بطبعي الرقيق وإحساسي المرهف عندما رأيتك .
وتوقف قلم نادية وهي تحس بوقع خطوات تقترب من الباب ، وطوت رسالة مدحت ووضعتها في جيبها ، ثم قلبت صفحة الكراسة .
وفُتِح الباب واندفعت مُنى قائلة :نادية .
والتفتت إليها نادية وهي تهز رأسها متسائلة : ماذا تريدين ؟
اندفعت مُنى قائلة : اسمعي سنخرج اليوم للانزلاق على الجليد .
ونظرت إليها نادية متسائلة في دهشة : انزلاق على الجليد ؟
- أجل .
- من ؟
- أنا وأنتِ .
- أتعرفين كيف تتزحلقين على الجليد أَم تنوين أن تَدُقّي عنقك ؟
- هل سمْعتِ عن أحد دُقَّ عنقه في الجليد يا غبيَّة ؟
- سأسمع غدا إن شاء الله .
- اسمعي أنا لا أمزح هل تأتين معي أَم لا ؟
- معكِ ، الى أين أيتها المجنونة ؟
- سنخرج مع توني وكابي وبقية الشلة ، وقد أعدوا أدوات الانزلاق ، الزحافات والعصي ، وسنصعد الجبل وسنقضي اليوم في الانزلاق على الجليد .
- تقصدين سيقضون اليوم في الانزلاق على الجليد ؟
- بل أقصد نحن ، كلنا .
- أنا وأنت سننزلق على الجليد ، هل سبق لنا هذا ؟ كوني عاقلة .
- سنتعلم ، لقد قال لي توني إنها مسألة بسيطة جدا وسيعلمنا في نصف ساعة ، سنلتقي كلنا في السعة الثانية عشرة عند ناصية الشارع عند محل التصوير .
- الساعة الثانية عشرة ، والمدرسة ؟
- لن يكون عندي عمل بعد الثانية عشرة .
- ولكني ..
- لا تزعمي أن عندك عملا ، تستطيعين أن تخدعي كلود ومِسيو رينو وتوهميهما بمشقة ترتيب البطاقات وإعداد الملفات ، أما أنا فأعلم أنك تقضين نصف وقتك في السرحان والحملقَة من زجاج النافذة والتفكير في ذلك السخيف الكِشِر الذي تتوهمين أنك تحبينه .
وحملقت نادية في وجهها في دهشة قائلة : مُنى ما هذا الهذيان الذي تقولين ؟
وربتت مُنى ظهرها وهي تقول ضاحكة : أنا التي أهذي ؟ مُتَشَكِرَة ، أنت لا تسرحين ولا تحبين هذا الحيوان الطويل العريض الذي ...
- لا تقولي عنه حيوان .
- رجعنا ، ألم تزعمي أنك لا تسرحين فيه ؟
- أسرح فيه أو لا أسرح لا داعي لأن تتكلمي عن الناس بهذه الوقاحة .
- متأسفة انتهينا ، هل ستأتين معنا ؟
- قلت لك لا .
- بل ستأتين .
- لا .
- إن لم تأتي فسأذهب لوحدي ، وسأندفع في الانزلاق حتى تُدَقّ عنقي وتكونين أنت مسؤولة عن وفاتي .
- في داهية .
- هكذا ؟
- أجل هكذا ، مادمت أنت لا يهمك نفسك فماذا يهمني أنا ؟
هزت مُنى كتفيها قائلة وهي تتجه نحو الباب : إذن سأذهب وأجهد نفسي حتى ..
ونادتها نادية قائلة : اسمعي .
- هاه .
- تعالي هنا ، متى ستغادرين المدرسة ؟
- في الحادية عشرة والنصف .
- مري علي قبل أن تنصرفي .
- ولِمَ ؟ ألم تقولي أنك لن تذهبي ؟
- سأذهب .
- وتتزحلقين ؟
- بل سأسير لمراقبتك .
- المهم أن تأتي وستتزحلقين رغم أنفك .
ولمحت مُنى كراسة الرسائل فهتفت متسائلة : ماذا كنت تفعلين ؟
وبدا على نادية الارتباك وأجابت قائلة : كنت ، كنت ، أنوي الكتابة .
- لِمَن ؟
- لِصَبري .
- لِصَبري ؟
- أجل ، سأرد عليه .
- ستردين عليه ، هل كَتب إليك ؟
- أجل .
- وكيف عرف العنوان ؟
- من عصام .
- الحمار ، هل يعرض رسائلي للناس ؟
- ولِمَ لا يكون أعطاه العنوان دون أن يريه الرسالة .
- معقول ، ومتى وصلتك رسالة صبري ؟
- بالأمس .
- ولماذا لم تخبريني ؟
- نسيت .
- طبعا ، لو كانت رسالة من حبيب القلب لما نسيتِ ، أين هي ماذا قال لك ؟
- أظنها في الحقيبة .
ومدت مُنى يدها الى حقيبة نادية وفتحتها ثم سحبت رسالة صبري وأخذت في تلاوتها .
وقالت نادية محاولة التخلص من مُنى : ليس هذا وقت قراءتها يا مُنى عودي الى فصلك .
ولم تجب مُنى بل استمرت في تلاوة الرسالة بسرعة وهي تقفز السطور أرْبَعاً في أربع، وأخيرا قذفت بها من يدها قائلة : مُغَفَّل ، ما زال يتحدث عن صفقة الأسلحة ومؤتمر باندوغ والتعايش السلمي والحياد الإجابي متى ينوي أن يتعلم الحب ؟
- دعيه هكذا فلست أدري كيف يمكن أن أجيبه لو كَتب إلي رسالة حب .
- وكيف تنوين أن تجيبيه الآن ؟
- سأنفخ في روحه وأُذْكي حماسه .
- يا بنْت الصُرَم .
- مُنى اخفضي صوتك وكُفي عن هذه البذاءة .
- لا تخافي شيئا ليس هنا من يفهم العربي ، أنت إذن تنوين أن تنفخي في روحه وتجاريه بمثل سخافته ؟
- ليست هذه سخافة يا مُنى إنها حقائق ، إن مصر الآن تمر بنقطة تحول في تاريخها كله .
- وما لنا نحن بهذا ؟
- كُفي عن هذا الاستخفاف وإلا لن أتحدث معك .
- لا تغضبي إني أتساءل حقا ، ما لنا نحن بهذا التحول ؟
- إنه مصيرنا ، مصير كل مصر وأجيالها القادمة ، فعندما نملك حريتنا نستطيع أن نُهَيئ لأنفسنا مستقبلا أفضل وحياة أكرم .
وأجابت مُنى وهي تهز رأسها غير مقتنعة : هاااا .
وبحركة غير إرادية مدت يدها وتناولت كراسة الرسائل تُقلِّبها بيدها بغير اكتراث وبلا أي قصد لمحت السطور الأولى من الكتابة ، وفي لمح البرق اختطفت نادية الكراسة من يدها .
ومضت برهة ومُنى تحملق بدهشة وفجأة برقت لها الحقيقة .
فصاحت مشدوهة : يا بنْت الإيه ، تكتبين إليه ؟
تصاعد الدماء الى وجه نادية وهتفت قائلة : لمن ؟
- له ، للدكتور مدحت .
- من قال لكِ ؟
- أُراهنك ،مائة جنيه لقرش صاغ .
- لا ليست له .
- إذن أَريني الكراسة .
- لن أريها لكِ .
- أرأيتِ ؟ "لا أظنك تُدرِك أي شيء فعله ردك بنفسي" ، من يمكن أن تقولي له هذا ، صبري أَم جمال أَم عصام ؟
صمتت مُنى فجأة وخيمت على وجهها سحابة من قلق .
وعادت تقول في شك : اسمعي ، لماذا تخفين عني الرسالة ؟
وأدركت نادية ما ساور مُنى من شكوك ، فلم تملك أن تمنع ضحكة فلتت من شفتيها برغمها وتساءلت : هههه أيتها البلهاء ماذا ظننتِ بي ، أظننتِ أني أكتب لعصام ، أيمكن أن تفكري بمثل هذه السخافة ؟
انقشعت الوساوس بسرعة من ذهن مُنى ، ولكن صَممت على استغلال الفرصة فأجابت : من يدري ، لماذا إذن لا تريدين أن تريني الرسالة ؟ألم أطلعك أنا على كل أسراري ؟
وترددت نادية برهة برهة ثم قالت : ولكن هذه الرسالة ، أقصد ..
- تقصدين ماذا ؟ أَريني الكراسة وكُفي عن هذه السخافة
- سأريها لكِ فيما بعد يجب أن تنصرفي الى فصلك .
وأجابت مُنى في عناد وإصرار : لن أتحرك من هنا حتى أراها .
ودفعت نادية إليها بالكراسة قائلة في غيظ : خذي ولكن إياك والسخرية .
وهزت مُنى رأسها وهي تبتسم وتناولت الكراسة قائلة : أنا أسخر ، حاشى لله .
ذ ذ- لو سمعت كلمة سخرية فسآخذها منك ولن أريك شيئا بعد ذلك .
وقرأت مُنى بضعة أَسْطُر من الرسالة ، ثم رفعت رأسها متسائلة : أقد رد عليكِ حقيقةً .
- أجل .
- ومتى كتبتِ إليه ؟
- منذ أسبوع .
- ولماذا لم تخبريني ؟
- خشيت ألا يجيب علي فأعرض نفسي للسخرية .
- وإين رسالته ؟
ومدت نادية يدها في جيبها ثم أخرجت الرسالة قائلة : ااسمعي يا مُنى ليس هذا وقته ، وسيتضايق مِسيو رينو إن وجد الفصل وحده ورآك تقفين معي في الحجرة .
- إن التلاميذ في الفسحة .
- لقد دخلوا الفصل منذ خمس دقائق .
- حقا ؟
وقبل أن تغادر مُنى الغرفة خطفت رسالة مدحت من يد نادية وقرأَتْها بسرعة ، ثم قلبت شفتيها قائلة في سخرية : يخشى أن تكون أكذوبة أو خدعة ، ماذا يظن نفسه جان كوكتو ؟ مغرور ، لو كنت منك لعرفت كيف أريه .
وسلمت نادية الرسالة قائلة في تحذير : اسمعي إياك أن ترسلي الرسالة قبل أن أقرأها ، أنا أعرف إنك غشيمة في الغرام وأخشى أن تَنْدَلِقي في الكتابة .
وهزت نادية رأسها وهي تدفعها نحو الباب قائلة : حاضر ، سأريها لك اذهبي الآن قبل أن يخرج التلاميذ للبحث عنك .
وخرجت مُنى من الحجرة ، وجلست نادية وحدها ثانيةً وقلبت الكراسة على الصفحة التي كانت تكتب فيها ، ومرة ثانية شَرَد بصرها من النافذة ، وقبل أن تعاود الكتابة سمعت وقع أقدام أخرى وكانت السيدة كلود هذه المرة ،
طوت نادية الكراسة ووضعتها في الحقيبة ونهضت لاستقبال السيدة محييَة .
- صباح الخير .
- صباح الخير يا نادية ، أعندكِ مانع أن تخرجي لعزف النشيد للتلاميذ ؟ فإن لدي موعدا هاما يضطرني للخروج .
- سأخرج إليهم حالا .
ولم تكد تنتهي من عزْف النشيد ولم يكد التلاميذ يتفرقون الى الفناء حتى أبصرت مُنى تقفز صاعدة الى السلم وهي تصيح بها : هيا بنا ، إن كابي تنتظر في الفناء .
وبدا التردد على وجه نادية وأجابت : أَمُصِرَّة على هذا التزحلق ؟
- إنها فرصة هائلة كي تتعلميها ، كيف تنوين عندما نعود الى مصر ألا نقُصَّ عليهم كيف تزحلقنا على الجليد .
- أمن أجل هذا تتزحلقين ؟
- طبعا ، سأصف لعصام أول رحلة خرجناها للتزحلق على الجليد .
- يمكنك أن تصفيها غَيْبا من الذاكرة .
- أنا لا أحب الكذب .
- أنت أكبر كذابة .
- أنا التي أُرسل رسائل دون أن أقول ، وأكتب فقط لِصَبري عن باندوغ والتعايش السلمي ؟ أنا التي ...
- انتهينا ، هيا بنا ، سأستأذن من مِسيو رينو قبل أن أذهب .
- يا شيخة لا تدققي ، إن مِسيو رينو في غيبوبة عندما يسألك هل استأذنتِ قولي له أجل ، هل تظنينه يتذكر شيئا ؟ هيا هيا .
وانطلقت الفتاتان من المدرسة تصحبهما كابي ، وأمام محل التصوير كانت الشلة قد اجتمعت ، خليط من الفتية والفتيات وقد التفوا حول عربة توني وحول عربة أخرى ، وبعد لحظات انطلقت العربتان الى أعلى الجبل تحت رذاذ المطر ونتف البَرَد .
واحست نادية بلسعة السقيع عندما أخذت العربة تصعد بهم ونظرت الى مُنى متسائلة : أتحسين بالبرد ؟
وأجاب توني : سندفأ حالاً عندما نبدأ الانزلاق .
وعلى سفح الجبل هبط الشلة وساروا يحملون أدوات الانزلاق .
وشَرَد ذهن نادية وهي ترى مسطحات الجليد بيضاء رائعة كما كانت تراها في الأفلام السينمائية ، وترى المدينة تبدو من أسفل الجبل وقد غشاها ضَباب خفيف أشبه بغطاء من الدانتيلا ، وكما تعودت في كل متعة تحس بها ، بدأ ذهنها يرسم لها رفيق أحلامها وتصوره أوهامها وهو يسير بجوارها حاملا العصي والزحافات ، أي متعة كانت تصيبها لو هَيئَ القدر لها صحبته على قمم هذه الجبال العجيبة ...
28
لم أعرفْها بعد
عادت مُنى ونادية الى البيت قبل الساعة الثالثة ، واجتازتا باب البيت لتجدا المدفأة قد أُوقِدَت وألسنة النيران تتلاعب حمرائ في جوفها .
وأقبلت مُنى على المطبخ لِتصيح : لِتصيح : ميري أكاد أموت جوعا .
وصاحت الأُم من حجرة الجدة : طبعا بعد هذا الجهد الذي بذلتِه ، ألم أنصحك بعد الذهاب معهم ؟
وقالت نادية وهي تحاول أن تصد عنها ما يُحتَمل أن توجهه إليها الأُم لمطاوعتها لها في الانزلاق : لقد نصحتها أنا أيضا .
فردت الأُم ساخرة : ثم ذهبتِ معها .
- لأتأكد أنها لن تذهل نفسها .
- وهل فعلتِ ؟
- بقدر المستطاع .
وتدخلت الجدة قائلة وهي تضحك : يا جماعة اتركوها تلعب ، إنها أدرى بطاقتها وجهدها .
واقتربت مُنى من الجدة واحتضنتها قائلة : أنتِ أعقل جدة رأيتها لست أدري لماذا لم تكوني أمي .
وقالت نادية وهي تنفض عن ثيابها نتف البرَد: لقد كان الانزلاق لذيذا ، لم أتصور أني سأتعلمه بمثل هذه السهولة .
وردت مُنى قائلة : علما بأنك خائبة بطبيعتك ، إنها المرة الأولى التي أراك تُقْدمين على المغامرة في لعبة من الألعاب .
وأحست نادية بمدى ما في قول مُنى من الصحة ولم يستعصي عليها معرفة الدوافع التي دفعتها إلى خروجها عن طبيعتها الساكنة المنطوية والاشتراك مع الشلة في العدو والانزلاق .
كان أول هذه الدوافع إحساس بالسعادة يبدد ذلك اليأس الذي تعودت أن تحيط نفسها به وشعور أن هناك شيئا جميلا ينتظرها ، أشبه بذلك الشعور الذي يحس به الصِبية قبل ساعات النزهة أو أيام الأعياد ، يضاف الى ذلك رغبتها في أن تخلق لِنفسها شيء تكتب عنه وتقص تفاصيله ، ثم تخيلها بأنها تُقْدِم على شيء يُحتمَل أن يشاركها فيه ولو بالوعي .
ورُصَّت صحاف الطعام ، وانتهت الفتاتان من تناول طعامهما بسرعة وصعدت كل منهما الى حجرتها .
وقالت نادية لمُنى وهي تُغلِق على نفسها باب الحجرة لا أريد دوشة ولا ازعاجات .
- مفهوم يا أَفَنْدِم مفهوم .
وقبل أن تُغلِق الباب سمعت صوت أمها تَصيح بها : لا تنسي أن تكتبي الى عمك يا نادية ، قولي له إننا جميعا بخير وهَنئيه بخطبته .
وأجابت نادية : حاضر يا ماما .
ثم وجهت القول لمُنى : ستردين على عمك سليمان هذه المرة ؟
- حاضر يا أَفَنْدِم ، هل تريدين أن أرد على صبري وأن أكتب لجمال أيضا ؟
- لا تسخري يا مُنى اكتبي لعمك فقط ، لأنك لم تكتبي له أبدا منذ وصلنا .
- وأنت ألا تنوين تهنئته بخطبته ؟
- سأكتب إليه بالطبع ولكن كتابتي لن تغني عن كتابتك واذكري أنك ستحتاجين إليه دائما من أجل عصام .
- أجل معك حق ، لقد كتب لي عصام أن الفرسان رفضوا انتدابه لإدارة الجيش وأنه هو نفسه كَتب إقرارا بأنه يُفضِل الخدمة في القوات المدرعة ، وأضاع كل دراسته للحقوق سدى .
- أنت السبب في ضياع أربع سنوات من عمره ، لو دخل الكليَة الحربية من أول الأمر لَأَضحى الآن يوزباشي .
- وهل كنت أعرف أن الجيش سيقوم بِثَورة وأنه سيصبح بعد الثورة جيشا حقيقيا ؟ على أية حال إنه لم يخسر شيئا ، لقد حصل على شهادة ثقافية وعندما يمل من القوات المدرعة يستطيع أن يعمل في المحاماة .
- عصام لا يصلح أبدا أن يكون محاميا .
- إذن سأوصي عمي سليمان بأن يأخذه معه .
- أوصيه بما تشائين ، كل ما أطلبه منك أن تتركيني بلا إزعاجات .
- على أن تريني الرسالة قبل إرسالها ؟
- حاضر .
وأغلقت نادية الباب وأوت الى حجرتها وحيدة ، وكان المطر قد أخذ يتثاقل وازدادت طَرقاته على زجاج النوافذ ، وأخرجت نادية الكراسة الزرقاء وبدأت في قراءة ما كتبت ، وشردت ببصرها برهة ترقب قطرات المطر والسماء الملبدة بالغيوم ثم عاودت الكتابة .
وفي الصباح كانت نادية تقف أمام صندوق البريد وتركت ثلاثة رسائل تنزلق من بين أصابعها الى فتحة الصندوق لِتتخذ طريقها الى القاهرة ، اثنتان الى كليَة الطب بجامعة عين شمس ، واحدة الى مدحت وأخرى الى صبري أما الثالثو فقد جاوزت العباسية ومنها الى كبري القبة حيث البكباشي سليمان في سلاح الفرسان .
وصلت الرسالة الأولى الى مدحت لتستقر على مكتبه في مستشفى الدمرداش وتبقى فوق كوم من الأوراق لا تمسها يد وهو يمر بها في لمحات خاطفة بقسماته الصارمة وملامحه المتجهمَة بين عملية وعملية ومحاضرة ومحاضرة وهو يصيح بالطلبة وينهر الممرضات ، حتى جلس جاد الله في ظهيرة اليوم التالي على حافة المكتب وأخذ يتسلى بالعبث بالأوراق ،
ولمح الرسالة فأمسك بها هاتفا في دهشة : رسالة جديدة من مجنونة الألب ؟
ورفع مدحت حاجبيه الثَقيلَين وتساءل في عدم اكتراث : ممن ؟
وعاد جاد الله يلوح بالرسالة في يده وهو يقول : من مجنونةِ الألب التي تتلهف على رد منك لتنقذ حياتها ، هل كَتبت إليها ؟
وهز مدحت رأسه قائلا : أجل كَتبْت .
وصاح جاد الله في دهشة :كَتبتَ إليها !!؟ عجيبة ! ومن علمك كتابة رسائل الغرام ؟
- من قال لك أني كَتبت لها رسالة غرام يا غبي ؟
- أَقل ما فيها ، إنها تسأل أن تَرُد روحها ، هل كَتبت إليها روشتَة أَم طلبت إليها أن تحضر إليك لِجز رقبتها ؟
- أتستخف دَمَّك ؟
- إذن قُل ماذا كَتبت إليها ؟
- كتبتُ إليها بضعة كلمات حتى لا أخذلها إن كانت حقيقة .
- هيه ، لم يطاوعك قلبك على صدها ، ولكن ألم تخشَ أن تكون خدعة ؟
- خدعة خدعة ، هل تظنها أول خدعة أصاب بها ؟
وهز جاد الله الرسالة في يده قائلا : لقد أجابت على رَدَّك ، سنعرف الآن حقيقتها ولا أظن الخدعة يمكن أن تنطلي مرتين .
وبإبهامه وسبابته فتح المظروف قائلا : لنرى ماذا تقول ساكنة الألب .
وقبل أن يُخرج جاد الله الرسالة مد مدحت يده واختطفها قائلا : مَنْ أذِنَ لك .
وضحك جاد الله : لم أكن أظن فيها شيء يستحق الاستئذان ، هل أضحت بينكما أسرار تخشى عليها ؟
- أسرار ، هكذا بسرعة ؟
- أَم تخشى أن اطلع على خديعتك ؟
- لا هذا ولا ذاك ، إنها مسألة مبدأ ، لا أحب أن تهون الرسالة حتى أتركها في يدك العابثة .
- إذن اقرأها لي أنت ، أسمِعنا .
وفتح مدحت الرسالة وأخذ يتلو سطورها الأولى باستخفاف وما لبث صوته أن خَفَت وبدت عليه علامات الاهتمام وهو ينتقل بعينيه من سطْر الى سطْر ، وعندما انتهى من الورقة الأولى وضعها على المكتب ، فاختطفها جاد الله وانهمك في تلاوتها وظل يتابع القراءة وراء مدحت حتى وضع مدحت آخر ورقة على المكتب وهز رأسه ببطء وهو يقول في دهشة : عجيبة !!!
ولم يجب جاد الله فقد كان منهمكا في القراءة حتى أتم الرسالة ،
ولم يملك إلا أن هز رأسه وقال بنفس اللهجة : إما أن تكون مخلوقة ماهرة جدا وذكية جدا أو أ أ أ أو تكون حقيقة .
وردد مدحت قوله متسائلا في شرود : حقيقة ؟
- ولِمَ لا ؟
وفجأة رفع مدحت كتفيه ثم أزاح أوراق الرسالة في ضيق وملل قائلا : حقيقة أو غير حقيقة ، مالي أنا بها ؟ بلا وجع رأس أنا فاضي ؟
وصمت برهة ثم عاد يهز رأسه قائلا : أنا لا أعرف كيف أكتب كلمتين على بعضهما ، ماذا أستطيع أن أفعل لها ؟
وتناول جاد الله الورقة الأخيرة من الرسالة وأخذ يتلو السطور التي ختمت بها الرسالة :
"تُرى هل عرفت كيف أقول لك من أنا ؟ هل عرفتُ بعد كل هذه الصفحات أن أُعَرِّفك بنفسي ، بحقيقتي ؟ تُرى هل استطعت أن أُقنعَك بأني صادقة مخلصة وإنني لست وهما ولا خدعة ؟
ليتني أكون قد استطعت ، فعلى اقتناعك تتوقف ،، أ أ ماذا أقول ؟ هل أكون مُبالِغة لو قلت لك حياتي ؟
فعلا ربما أكون مُبالِغة فلا أظن حياتنا المادية تتوقف إذا ما حطم الناس معنوياتنا ، أجل ، لست أظن اليأس قاتلي ، ولو كان لقضيت منذ زمن بعيد .
لكي أكون أكثر دقة أقول لك إن على اقتناعك بصدقي وإخلاصي وحقيقتي يتوقف امتلاء حياتي بالأمل والصفاء والسكينة .
بقي بعد ذلك أن أحدثك عما أريد ، إني أريد صداقتكَ ، أريد أن تحدثني عن نفسكَ عن أيامكَ كيف تنقضي ، ادعُني معك الى حجرة العمليات لِأشاهدك وأنت تقف الساعات الطوال تتصبب عرَقا ، أؤكد لك أني لن أخاف فإني أحب أن أشاركك كل أعمالك حتى المخيف منها ، لأني أحس بِطمأنينة الى جِوارك ، ادعُني إن لم أضايقك الى بعض نزهاتك ، الى فنجان من الشاي في النادي مثلا أو بضع ضربات في ملعب الكوروكيه ، صف لي حياتك بدقائقها وتفاصيلها ، لا تخش التزايد والإطالة إن كان لديك من وقتك فسحة للتزايد والإطالة ،
وسأدعوك أنا إذا لم يزعجك هذا لتقضي معي على الورق وبين السطور بضع جولات على قمم الألب ، ننزلق على الجليد نتنزه على شاطئ البحيرة ستسرك النزهة كثيرا وستسُرُّني أكثر ، سأحس في كل نزهة أَخرُج إليها أنك قد قَبِلْتَ دعوتي وخرجت معي ، وسأعدو في نزهاتي في فرحة وحماس لأني سأحس أني سأنقل إليك كل ما فعلت لتعيش معي فيه .
هل طلبت منك شيئا كثيرا ؟
قد يبدو كثيرا لأنك لا تعرفني ولأنك لا تعرف مدى ما تفعله صداقتك من أثر في حياتي ، ويبدو كثيرا أيضا إذا ما قِيس بهُنَيْهات فراغك التي تتخلل كثرة مشاغلك وأعمالك ، ولذلك فسأوطن نفسي إن قَبِلْت صداقتي على ألا أطلب منك هذا الكثير بل سأكتفي بأي شيء يسمح به وقتك .
مرة أخرى إذا اقتنعت بي فلا تعتذر بوقت ولا تقُل إنك لا تجيد الكتابة ، إني أريد منك أية كتابة وبأي أسلوب ، وأريد منك إن لم تتهمني بالطمع إحدى صورك ، وأؤكد لك إنها ستكون أثمن مِنحة وُهِبْتُها في حياتي ".
وصمت جاد الله وقذف إليه بالرسالة قائلا في لهجة جادة آمرة : اكتب لها ، اكتب لها أي شيء .
وطَوَى مدحت الرسالة في جيبه وهو يقول في ضيق : فاضي أنا لمثل هذا العتَه ، أدعوها للشاي وتدعوني للانزلاق على الجليد ؟
ثم أطلق ضحكة ساخرة من أنفه وأردف : هههه إنها لا شك مجنونة ، تصور أني أكتب لإنسانة لم أَرَها في حياتي ، أتوهم أني دعوتها لتناول الشاي ، ماذا يمكن أن يُكتَب في هذا ؟
- يا اخي لا ضرورة لهذا ، اكتب لها أي شيء وأرسل لها صورة .
- أنا أرسل صورة ؟
- إذا لم ترسل أنت سأرسل أنا .
- إياك أن تفعل .
- أؤكد لك أني سأفعل ، وسأكتب لها رسالة غرام طويلة عريضة وسأدعوها أيضا الى الكارصنيرا .
- جاد الله هل جننت ؟
- وباسمك وتوقيعك والعنوان على هذا الظرف .
اختطف جاد الله الظرف من على المكتب وصاح به مدحت : هات الظرف .
-- ستَكْتب لها ؟
- ومالك أنت ؟ وَكَّلَتكَ عن نفسها ؟
- اسمع لا داعي للرغي الكثير ، إما أن تكتب أنت أو أكتب أنا ، وأؤكد لك أني على أتم الاستعداد للأخذ والعطاء معها كما تريد وأنت تعرف أن لدي فراغ لمثل هذه الأشياء ، ما رأيك ؟
ومد مدحت يده وأجاب في حنق : هات الظرف سأَكْتب .
وناوله جاد الله الظرف وهو يقول : وعد .
- قلت لك سأَكْتب ، جاك بَلا أنت وهيَ .
- على أية حالة أرني ردها عندما يصل ، لِأتأكد أنك كتبت .
وصاح مدحت في دهشة : اسمع ، ألا تكون أنت صاحب الرسالة ولأجل هذا تهتم بردي كل هذا الاهتمام
- يا مدحت لا تكن سخيفا ، أتتصور أني أجلس لأكتب لك رسالة من هنا وأرسلها الى فرنسا لكي تعود إليك حتى تكتب لها ردا ، لماذا أَتَكتُب الدرر أَم تَنطِق حِكما ، يا أخي بعض العقل .
- لماذا إذن كل هذا الحماس ؟
- لأن البنت غلْبانة وصادِقة ولأنك لن تخسر شيئا سوى بضع كلمات بأسلوبك السخيف وصورة من صُوَرك التي تبدو فيها كالعربَجية ، أتظن هذا كثيرا ؟
- انتهينا سأَكْتب .
ووضع مدحت الرسالة في جيبه ثم قال : ولكني لن أرسل صورة .
- لماذا ؟
- لأني لا أمتلك صُوَرا إلا صورة قديمة وأنا بالبنطلون الشورت .
- أرسلها ، إنها ستكون أقل إرهابا ، على الأقل شعرك مازال برأسك وأنفك ...
- يبدو أنك حننتَ الى عُلَأ زمان ، إني لم أضربك منذ صرت طبيبا .
- اسمع إن لدي صورة لك .
- أي صورة ؟
- التي صورناها سويا لتحقيق الشخصية .
- يا ساتر يا رب ، إنها كالمشبوهين .
- لا تَدَّعي أنك أجمل منها ، اأرسلها وتوكل .
- لا لا ،لا ، سأبحث عن صورة أخرى .
- أَلَستَ تريد أن تتخلص منها ؟ أرسلها إذن حتى تضيع آمالها فيك .
- هات الصورة وذنبها على جنبها .
وفي المساء عندما خلا مدحت الى نفسه في حجرته وقف برهة يطل من النافذة على الأفق الذي تراقصت فيه الأضواء الباهتَة ، ومد يده يعبث في الرسالة المطوية بجيبه ،
أحقا ينوي أن يَرد ؟
ولِمَ لا ؟ بضع كلمات يطوي معها الصورة ويرسلها في الظرف ويريح ضميره .
ولكن حقا يحس بالمسألة كمجرد إراحة ضمير أَم أنه يشعر ولو قليلا بالرغبة في الرد ؟
إنه على الأقل لا يضيق به .
وجلس مدحت ليقطع ورقة من إحدى الكراسات ويكتب بها :
عزيزتي ..
هذه المرة لا أشعر بالشك بالقدر ما أشعر بالحيرة ، لقد نجحت في إقناعي الى حد كبير بحقيقتك ولكنك لم تستطيعي إقناعي بالجزء الثاني من المشكلة ، وهي ماذا تريدين ، أو من وجهة نظري ماذا أستطيع أن أفعل لك ؟
أحدثك عن حياتي ؟
لست أَرى بها شيئا يستحق الحديث ، لا تفاصيل أكثر من الحلقة المفرغة التي أعيش فيها بين حجرة العمليات وقاعة المحاضرات وإن كان الوهم قد هيأ لك أن بي شيئا وأن في حياتي أحداثا تستحق أن توصف وأن يُحكى عنها فأنا أؤكد لك أني خُلُو من كل هذا وأني لا أجد في نفسي أكثر من إنسان مجرد من كل ما يستحق الوصف والحديث ، وإذا كان بي شيء مما تظنين فأنا بلا جدال عاجز عن معرفته وبالتالي عن وصفه .
أما عما تسأليني إياه من دعوة الى الشاي أو الى الكوروكيه فأن أُقَدِّمها على الرحب والسعة إذا هيأَالله لنا لقاء أما أن أُقَدِّمها لك على الورق وبين السطور فأؤكد لك أني لا أعرف كيف أفعلها وأكره من نفسي أن أفعل أشياء مضحكة كأن أتوهم دعوتك ثم أخاطبك وأجيب عنك وأنا بعد لم أعرفك ولم أستطع مجرد تصورك ، ألا تجدينني على حق .
أرسل لك مع رسالتي الصورة الوحيدة التي استطعت أن أعثر عليها مع صديق لي ولست أملك إلا أن أعتذر عنها وأن أرجو ألا تخيب أمَلك فيَّ وتجعلي رسالتك السابقة آخِر رسالة إلي .
أما إذا لم تفلح وإذا كنت تنوين أن تكتبي ثانيةً فأظن أن من حقي أن أعرف عنك شيئا أكثر وأن أتوقع منك ردا على صورتي ، صورة منك .
وأعاد مدحت تلاوة الرسالة ثم دفع بها في الظرف ومعها الصورة وأخذ في كتابة العنوان على الظرف ، وفي نفس الوقت كان هناك ظرفان آخران كُتِب عليهما نفس العنوان الأول يكتبه سليمان بعد أن ضم رسالة كَتب بها أخبار الأُسرة والخطيبة ونقل عصام الى المجموعة المدرعفة وبدء المناورات وأرفق بها صورة للخطيبة طلبتها منه نادية ، والثاني كتبه صبري بعد أن ضمن رسالته عن الحياة والأمل ومستقبل مصر والدستور والديمقراطية وأخيرا أمنيته في أن تعود نادية لِتعيش بجواره في الأحداث الضخام التي تتمر بها مصر .
وفي الصباح أُلقِيَت الرسائل الثلاث في ثلاثة صناديق بريد لتجتمع كلها وتتخذ طريقها معا الى كاب كي تصل الى نادية ذات صباح وهي تطل برأسها في مكتب الكاتب العجوز فتجده يمنحها ابتسامة واسعة ويقول لها متهللا : ثلاث مرة واحدة .
وتناولت نادية الرسائل وهي تحس برجفة سعادة ، وأخذت تفحص الرسائل بسرعة ثم تُمسِك إحداها في لهفة وتحس صلابة الصورة التي بهار ، وتعدو بها الى حجرتها وتُغلِق الباب ثم تعود لتتحسس الرسالة مرة أخرى وتفتحها وتعيد قراءتها خمس مرات قبل أن تحاول فض الرسالتين الأخريين .
وفي البيت قذفت لأمها برسالة العم والى مُنى برسالة صبري ، ثم انطلقت تصعد الدرج الى حجرتها لتعيد قراءة الرسالة الثالثة مرة أخرى .
ولحقت بها مُنى صائحة : بنت يا نادية أهذا كل ما وصلك ؟
وضحكت نادية وهي تجيب : أجل .
- كذابة ، الابتسامة التي في عينيك تجزم أن رسالة أخرى وصلتك .
وهزت نادية رأسها فرحا وأجابت : أجل وصلت .
- بمثل هذه السرعة ؟
- أجل ، مع رسالة عمي ورسالة صبري .
- .
- ادخلي الى الحجرة واقرئيها معي .
وقبل أن تقرأ مُنى الرسالة وقع نظرها على الصورة فصاحت ضاحكة : وأرسل صورة أيضا ؟أَرينيها ما شاء الله ، الظاهر ستفعلين وأنت في كاب ما عجزت على فعله وأنت على بُعد خطوات منه في منشية البكري .
وعادت تنظر الى صورته وهي تبتسم قائلة : وماله مُبَوِز هكذا كأن أحدا ضربه قلمَين أو لعن أباه ؟
- منى اختشي وكفى قَلة أدب .
- طبعا مادام رد عليك وأرسل صورة ، لك حق تدافعين عنه .
ثم عادت تحدق في الصورة وتضحك قائلة : وماله حاجباه ثقيلان هكذا ، لا تنسي أن ترسلي له ملقطايساويهما به .
ثم وضعت الصورة جانبا وأخذت في تلاوة الرسالة ، وبدا عليها الاهتمام شيئا فشيئا ، وعندما انتهت منها وضعتها جانبا وبدا عليها الشرود .
فسألَتها نادية قائلة : مالِك ، ألم تعجبك الرسالة ؟
- بالعكس أعجبتني جدا .
- إذن فيما شَرَدْتِ ؟
- شَرَدَت في اللعبة التي تنزلقين إليها ببساطة ، لست أدري ماذا تتوقعين نهايتها .
وبدا الشرود على نادية وأجابت : نهايتها ؟
- أجل ، لابد لنا أن نتوقع لكل شيء نهاية بطريقة ما ...
29
دعوةٌ في الأوهام
رفعت نادية رأسها ونظرت الى مُنى وتساءلت بصوت حزين : ولماذا أفكر في النهاية منذ الآن ؟
- لأنها آتيةٌ آتية .
- وهل تفكرين أنت في نهاية حياتك ؟
- نهاية حياتي أحسها بعيدة وقد أفكر بها عندما تقترب .
- وأنا أيضا أحس بالنهاية بعيدة ، إنني مازلت في بداية أَمتع مراحل عمري ، لم أتصور قط أنه يمكن أن يكتب إلي ، يكتب إلي وحدي ويسألني صورتي .
- وهل تنوين أن ترسلي له صورتك ؟
وخيَّمت على نادية سحابة غم ومدت يدها بلا إرادَة تتحسس عنقها وتشد الإشارْب عليه ، وقالت هامسة : أُرسل صورتي ؟ لِمَ لا ؟ إن عندي صور قديمة قبل الحادث والصورة التير صورتها عند أرمان ؟
- ذات الضفيرة المدلاة على كتفك ؟
- أجل .
- التي تبدين فيها كطفلة صغيرة ؟
- ألا تعجبك ؟
- بالعكس إنها تعجبني جدا .
مدت نادية يدها الى أحد أدراجها وأخرجت ظرفا أخذت تقلب ما به حتى أخرجت منه صورة .
ونظرت إليها مُنى وهي تقول : جميلة جدا ، ولكنه لن يرد عليك بعد ذلك لأنه لا يمكن أن يتوقع أنه يُراسل طفلة بِضفائر .
- ولكني سأوضح له أنها صورتي منذ بضع سنوات .
وهزت مُنى رأسها ثم تناولت رسالة صبري وألقت نظرة على صفحاتها المكتظة بالكتابة وتساءلت : ماذا يريد أن يقول بكل هذا اللت ؟
- اقرئيها ستفيدك جدا .
- من أي ناحية ؟
- ستضيف الى معلوماتك أشياء كثيرة .
- ليس لدي وقت لهذه المعلومات ، لقد انتهيت من الدراسة ، هل قال إنه يحبك ؟
وضحكت نادية قائلة : ليس بعد ، ولكنه يتمنى أن أكون بجواره في مصر لأرقب الأحداث الضخمة التي تمر بها مصر .
- مثل ؟
- إعلان الدستور .
وتناولت نادية رسالة صبري وأخذت تقرأ لها :
"لو سمعتِ جمال عبد الناصر وهو يقف بين الشعب ليعلن سيادة الشعب لا سيادة الأمراء ولا سيادة الحكام ، ويعلن أن الثورة ثورة بناء وثورة تعمير لأحسستِ في نفسكِ مثلما أحسستُ ، ولأفعم صدرك يا نادية ما أفعم صدري من أمل ، في أننا عن قريب سنصبح شعبا عظيما ".
وهزت مُنى رأسها وقالت جادة : اسمعي عندما تكتبين الرد وجهيه مباشرة الى جمال عبد الناصر لأن نصف رسالته من خطابه وأعتقد أن جمال أولى بالرد .
وردت نادية قائلة : إن جمال هو الذي يتحدث بلسان الشعب ولهذا يحس كل فرد بأنه هو المتحدث .
- اسمعي اسأليه باختصار متى ينوي أن يقول أنه يحبك .
- لا تسخري منه يا مُنى ، إن لديه آمالا كبارا وبه وبمن غيره ممن تمتلئ قلوبهم بهذه الآمال سيتحدد مصير مصر وتتحقق حريتها .
هزت مُنى رأسها وقالت : ربما .
ثم أردفت وهي تغادر الحجرة : أَسَتحْضرين حفلة مدام كلود ؟
وأجابت نادية : طبعا .
- إذن اعتذري لها عني لأنني أكره هذه الحفلات الجنائزيَة .
- لا تكوني سخيفة ، إنها سيدة رقيقة وهي تجاملنا في كل مناسبة .
- لو ذهبت فسأقلب لها حفلها المحترم الى حفل راقص .
- أؤكد لك أنها لن تتضايق .
- سأذهب على أن تذهبي معي لنلعب تنس .
- أنا متعبة يا مُنى .
- سأَسمَح لك بأن تصحَبي معك شريكَك .
- من سيرضى أن يلعب معنا الآن ؟
- صاحبك الذي قررت أن تدعيه الى كل رحالاتك ونزهاتك ، ألم تسأليه أن يدعوك الى لعب الكوروكيه ؟
وضحكت نادية قائلة : ولكن لم يدْعُني بعد .
- ادعيه أنت الى مََطش تنس ، وسيستحي هو ويدعوك الى الكوروكيه .
وضحكت نادية ودب النشاط في جسدها وهي تتخيل مدحت يسير بجوارها وقد أمسك بمضرب التنس ،
وقالت وهي تنهض : معك حق سأريه كيف تكون الدعوة في الأوهام ، بين السطور والكلمات حتى يتعلم كيف يدعوني .
تناولت الفتاتان قطعتين من السندوتش ثم انطلقتا الى النادي القائم عند المنحدر .
وفي المساء كانت نادية قد خلت الى نفسها ، وقد ساد السكون إلا من نباحٍ\ متقطع للكلب الرابض بجوار حجرة بول ، وصفير الريح تقطعه طرقات شُباك لم يُحكَم غلقه .
وجلست نادية أمام منضدتها الصغيرة التي تستعملها للكتابة ، وأزاحت الزهرية التي وضعت بها ثلاث قرنفلات جانبا حتى تفسح مجالا للكراسة الزرقاء ، وأعادت تلاوة رسالة مدحت وأخذت تزن في رأسها كل كلمة منها ،
ثم بدأت تكتب وبنفسها شعور الرهبة الذي يتملكها كلما همت بالكتابة إليه ، والذي يدفعه في نفسها إحساسها بأن على كل رسالة تكتبها يتوقف مصير هذا الأمل الذي شاع في حياتها .
ونظرت الى كلمة عزيزتي التي بدأ بها رسالته ، لها وقع حالم في سمعها ، إنها تشعر بالأثر الذي تركته في نفسه والمدى الذي قطعته علاقتهما معا في تلك الرسائل الأربعة ، ولكن هل تستطيع أن تناديه هي كما ناداها ؟ بودها لو استطاعت أن تفعل ولكنها لا تجرؤ ، إنها تحس أنها تتجاوز حدودها لو فعلت ، تحس أنها قد طمِعَت وتخشى أن يُفقِدها الطمع ما جمعت كما يقول المثل .
وبلا إرادة خط قلمها ،
سيدي العزيز :
وأحست للنداء بشيء من ارتياع ، أجل إن في هذا الكفاية على الأقل هذه المرة ، وتمهلت لحظة ثم اندفع قلمها على الورق مُحدِّثا صاحب الرسالة ،
كيف حالك وحال مرْضاك وعملياتك وطلبتك ؟
أتسمح لي أن أنتشلك من هذا كله لأصحبك في جولة سريعة في بلدنا الصغير ، لا تقل ليس لديك وقت فأنا أعرف أنك تستطيع اقتطاع بعضه للنادي وللكوروكيه .
دعنا اليوم من النادي وهيا بنا ننطلق بين المزارع ثم ننحدر على السفح ونُدَفِّئ نفسينا ببعض ضربات التنس ثم نذهب الى منزل مدام كلود .
من هي مدام كلود ؟
ألم أحدثك عنها أبدا ؟
لا بأس ، إني لم أحدثك عن شيء بعد ، لم أحدثك إلا عن نفسي ، وحتى حديثي عن نفسي لم يتعد لجلجَة الخائف الوجل وارتباك المستحي المعتذر ، سأحدثك عن أشياء كثيرة فيما بعد ، ليس الآن لأنه لم يعد لدينا وقت ،
إن مُنى تستحثنا وتصيح بنا بصوتها الصاخب من أسفل السلم .
مُنى مَنْ ؟حتى هذه لم أذكرها لك ؟ عجيبة ! إنها أختي التوأم الملاسقة لي منذ أن رأينا النور سويا حتى الآن .
كان يجب أن أقدم لك نفسي بطريقة خير من هذه ، وأن أعرفك على الأقل بهؤلاء الملاسقين لي ،
أمي الحنون الصامتة وجدتي الطيبة المثرثِرة وجانيت قريبة أمي التي تعيش معنا وبول العجوز ، كان يجب أن أُعَرِّفك بكل هؤلاء ، وأن أُعَرِّفك كيف أعيش ، وأن أصف لك كاب التي أعيش فيها ، وأصف لك القمم البِيض والمياه المنحدرة والأشجار المتكاثفة على سفح الجبل والبحيرة المنبسطة في أعلى القمة والشمس المشرقة على المنحدر ، أشياء كثيرة كان يجب أن أحدثك عنها قبل أن أندفع في دعوتك معي كالبلهاء ، لكنني لم أفعل ، وقد يكون عذري اعتقادي أنك تعرف كل هذا لأنني أعرف كل شيء عنك ، أعرف هؤلاء المحيطين بك ، أعرف هؤلاء الذين يلعبون معك الكوروكيه ، أعرف صديقك جاد الله الذي أُرَجِّح أنه هو بعينه صاحبك الذي قلت عنه في رسالتك إنه يحتفظ بصورتك ، حتى مرفت خطيبتك أعرفها ، أعرف كل هذا لأني كنت أجلس أرقبك في صمت من بعيد وأنت لا تشعر بوجودي ، وقد توهمت أنك تعرف عني ما أعرف ، واندفعت أدعوك لصحبتي ناسية أنك لا تعرف عني إلا بضعة الأسطر الوجلة التي بعثت بها إليك في رسالتي .
عذرا سأعرفك بكل هذا إذا أردت أن تعرفه طبعا وإذا لم أثقل عليك به ، أما الآن فليس لدينا وقت هيا بنا إن مُنى بدأت تَسُّب وهي إن لم تكن تعلم وقحة قليلة الأدب لا تتحفظ في ألفاظ سبابها وأخشى أن يصيبك منها ما يغضبك ، هيا بنا هل المعطف معك ؟
إن الدنيا برْد ، برْد أكثر مم تتصور ، ارتدِه فأمي لن تسمح لك بالخروج دون أن ترتديه ستلقاها في القاعة أمام المدفأة هي وجدتي وجانيت وسيحاولن استبقاءك بالطبع للجلوس معهن أمام النيران ، ولكن دعهُن وانطلق بسرعة من الباب ، لا تخش من بول إنه لطيف ولن يعضك ، أنا أعني بول الكلب وليس بول الخادم وإن كنت لن تستطيع أن تُفَرِّقَ بينهما كثيرا لا شكْلا ولا موضوعا .
هل تعجبك هذه القُرنْفلة البيضاء التي تترنح على عُودها ؟سأقطفها لك ، إني أحب القُرُنْفل جدا ، أنت لا تهتم كثيرا بالزهور ، أكاد أعرف عنك هذا ليس لديك وقت لتأملها والتفكير فيها ، إني لا أُقِرُّك على هذا إن في حياتنا أشياء كثيرة صغيرة تستحق أن نتوقف عندها ونتأملها ، لا يجب أن نركز حياتنا في عمل معين نرى كل شيء تافها بجواره كأن حياتنا هي في ذاتها مجموعة تفاهات ، هل أتفلسف عليك ؟
أنت بالطبع تكره الفلسفة ، أنا أيضا لا أحبها ولكني في بعض الأحيان أحب أن أفكر ثم أعبر عن تفكيري .
هيا بنا .
ما رأيك في ؟
إنها لطيفة جدا ومضحكة جدا وهايْفَة جدا ، لا تأخذ على كلامها كثيرا وإذا شتمتك فَصَهْين .
إن البرْد شديد القسوة ، أتحب أن نعْدو ؟هيا بنا .
قف هذا هو النادي ، ليس كبيرا بالطبع كنادي مصر الجديدة ، ولكنه لطيف جدا وبه مدفأة تشبه مدفأة نادينا ، أعني المدفأة الكبيرة التي تتوسط القاعة القديمة ، وبه نافذة زجاجية عريضة كنوافذ الشرفة المطلة على النافورة ، لكن المنظر الذي نطل عليه أجمل كثيرا من النافورة ، سترى منها منظر الجبال تمتد أمامك بسفحها الأخضر وقممها البِيض ، وسترى منها من الجانب الآخر أسقف المدينة بمداخنها وشريط سكة الحديد يمتد أمامك ، ستبصر منها المدرسة التي أعمل بها أيضا والسنديانة الضخمة القائمة بجوار المحطة .
أتريد أ، تبدل ملابسك ؟
هذه حجرة الرجال ، لن أغيب عنك أكثر من بضع دقائق حتى أبدل ملابسي ، سنلعب أنا وأنت في جانب ومُنى والمُمَرِن في جانب آخر ، خذ بالك لا تعتمد علي كثيرا أنا لا أجيد اللعب ، لا تترك لي إلا الكُرات السهلة وإلا أضعت عليك المباراة ، أجاهز أنت ؟ هيا بنا .
إن البرْد يكاد يجمد الأطراف ، ولكن اللعب سيدفئنا ، وسنشرب الشاي بجانب النافذة الزجاجية التي حدثتك عنها ، وإذا شئت نتجه رأسا الى منزل مدام كلود .
أتدري أي سعادة أحس بها لصحبتك ؟
لم يخطر على بالي قط أن لعب التنس يمكن أن يكون ممتعا بهذا القدر ،
لماذا تقطب وجهك هكذا ؟ أهي تقطيبة العادَة ؟لا لا ، لا فك عقدة وجهك ، يجب أن نضحك نحن الاثنان مادمنا معا ، أجل هكذا .
هل تدري أن هذه أول مرة أراك تضحك ؟
ارمِ أنت السير ، خذ بالك لا تتكل علي ، لقد بدأنا نحس بالدفء ، لقد تعبت بدأت ألهث ، هذا المُمَرِن الماكر يأبى إلا أن يقذف كُراته عندي ، .
واتكأت نادية بظَهْرها على المقعد ورفعت رأسها وحركت ذراعيها وهي تحس كأن اللعب قد أجهدها ، وفجأة فُتِح الباب وبدت مُنى على الباب بالبيجاما وهي تتثاءب متسائلة : أما زلتِ مستيقظة ؟
ثم نظرت الى الكراسة وصفحاتها المليئة وتساءلت في دهشة : أَكَتَبْتِ كل هذا ؟ أوجدتِ كلاما تقولينه ؟
وأسندت يديها على كتفَي نادية وانحنت فوقها محاولة أن تقرأ ما كَتبَت وهي تقول محذرة : إياك أن تكوني قد كتَبت له عن الدستور .
وضحكت نادية قائلة : لا تخافي ، إني لا أحسن به الظن بهذا القدر .
- ماذا كتَبْتِ له إذن ؟
- عبطات .
- كيف ؟
- لقد دعوته لمرافقتنا الى نزهة .
وضحكت مُنى قائلة ما شاء الله ، ثم تتهميني بعد ذلك بالهَيافَة ؟
أَريني ما كتبتِ .
وهمت بتناول الكراسة ، ولكن نادية أقبلت عليها قائلة : عندما أنتهي منها .
وكانت مُنى تجري بعينيها بين السطور واستطاعت أن تلتقط اسمها فهتفت قائلة :
- ماذا قلتِ له عني ؟
ثم أخذت تقرأ "ما رأيك في مُنى ، إنها لطيفة جدا ومضحكة جدا وهاْيَفة جدا .
وصاحت مُنى وهي تمسك نادية من عنقها : أنا ، أنا الهايْفَة ، أنا التي أدعو الناس في القاهرة كي يلعبوا معنا تنس في كاب ؟
ثم عادت تنظر الى الكراسة لِتقرأ "لا تأخذ على كلامها كثيرا وإذا شتمتك فَصَهْيِن ".
وصاحت ضاحكة في دهشة : ما هذا أجننتِ ؟
- ألم تشتميه ؟
- وماذا قلت عني أيضا ؟
- لقد لعبنا تنس ، أنا وهو وأنت مع المدرب .
- وغلبْتما
- طبعا .
وضحكت مُنى قائلة : ولماذا لا تفعلين ؟ تستطيعين أنت وصاحبك الغشيم أن تتغلبا على أبطال العالم جميعا مادمتما تلعبان على الورق .
وربتت مُنى ظَهْر نادية قائلة : عن إذنك لا أريد أن أوقفك عن تكملة الماتش ، تفضلي .
وأجابت نادية ضاحكة : لقد انتهينا من الماتش ، ونفكر الآن الذهاب الى مدام كلود أو في تناول الشاي في النادي .
وردت مُنى في لهجة جادة : مدام كلود أرخص ، النادية سيكلفنا كثيرا وسيطير المبلغ الذي ادخرته للراديو .
وضحكت نادية وهي تقول : معك حق ، ليس لدينا وقت يا دوبك مدام كلود .
وغادرت مُنى الحجرة وهي تهز رأسها قائلة : أخشى عليك أن تجني من هذه الدعوات الوهمية ، فقد تكفين عن الذهاب الى المدرسة وتكتفين بدعوة المدرسة إليك .
وأغلقت مُنى الباب وعادت نادية تسترسل في الكتابة .
وفي الصباح قبل أن تهبط للإفطار أعادت قراءة الرسالة ، وأحست بعد قراءتها أنها اندفعت في كتابتها بطريقة حمقاء بلهاء ، وأمسكت بها بين أصابعها لبرهة وهي تهم بتمزيقها لكنها بدلل أن تمزقها طوتها ثم وضعتها في الظرف ووضعت معها الصورة ذات الضفيرة ، ماذا تخشى بعد أن اندفعت كل هذا الاندفاع ، إن المسألة برمتها حماقة كبرى فلِمَ هذا التردد ، إن الحماقات كلها تتساوى ، وخير لها أن تكون حمقاء شجاعة من أن تكون حمقاء مترددة .
وقبل أن تصل الى المدرسة اتجهت الى المحطة ومدت يدها بشجاعة ووضعت الرسالة في صندوق البريد كأنها تقطع كل خيط للتردد والحيرة .
وبعد أربعة أيام كان الخطاب الأحمق قد انتقل من الصندوق المعلق في كاب لِيستقر في يد زكية الممرضة وقد سارت تحمله الى مكتب مدحت ،
وقبل أن تصل الى المكتب ، رآها جاد الله وهو يسير في الممر ولمح بيدها الظرف ذا الخطوط الحُمْر والزُرْق فصاح بها : لمن هذه يا زكية ؟
- للدكتور مدحت .
وأمسك جاد الله الرسالة ووزنها في يده ثم تحسسها بأصبعه وأحس بصلابة الصورة في داخلها فاندفع الى حجرة مدحت وهو يهتف به ضاحكا : خذ ارني شكلها بسرعة حتى أرى إن كانت تستحق كل هذه الهِيصة .
ونظر إليه مدحت متسائلا في دهشة : من هي ؟
- صاحبتك ، ساكنة الألب افتح الرسالة بسرعة وأرني شكلها .
- وماذا يهمك من شكلها ؟
- لو كانت قبيحة فسأخرب بيتها ، لن أجعلك ترد عليها .
وضحك مدحت قائلا : ومن أدراك أن بها صورة ؟
- افتح وسترى .
وفتح مدحت الرسالة ومد أصابعه فسحب الصورة ونظر إليها وبدت على ملامحه علامات الدهشة ، ومضت لحظة وهو يحملق فيها دون أن يتكلم .
ولم يطق جاد الله فمد يده وخطف الصورة قائلا : يا أخي هات ما لك تنظر إليها كالأبله .
ونظر جاد الله الى الصورة في ذهول ثم هتف قائلا : يا بنت الإيه .
ثم صمت لحظة وهو يتأمل الصورة قائلا : جميلة جدا ولكنها صغيرة جدا ، غير معقول أن تكون هذه هي التي كتبت كل تلك الرسائل ، إنها من كتابتها تبدو ذكية عاقلة .
وقلب جاد الله الصورة وقرأ التاريخ المكتوب عليها : نوفمبر 1952 .
وهز رأسه وعاد يتأمل الصورة قائلا : هكذا معقول ، إنها صورتها منذ ست سنوات لابد أنها الآن نمت واكتملت .
وسلم الصورة الى مدحت وهو يردف قائلا : حلال عليك يا عم ، كنت ستضيعها بوجهك المعقد ، عسى أن يثمر فيك ، خسارة في جثتك .
ونظر إليه مدحت ح زاجرا يقول : ما هذا السَخَف ؟ ما هي هذه الخسارة في جثتي ؟
- بنت كاللوز ، إن لها عينين هائلتين .
- ماذا تظنني فاعلا بعينيها يا غبي ، إني أكتب إليها مجرد عطف .
- مفهوم مفهوم ، إنه أحيانا يبدأ عطْفَا .
- ما هو هذا الذي يبدأ عطْفَا ؟
- الحب يا أستاز .
- حب ؟ أنت مجنون ؟ أنا أحب فتاة تسكن قمم الألب ؟
- ولِمَ لا ، البعيد يأَرَّب .
ونظر إليه مدحت في غيظ وقال : اسمع يا جاد الله أنت تعرف أنك أنت الذي دفعتني للرد عليها فإذا أصررت على هذه السخافات التي تقولها سأمزق الرسالة والصورة مفهوم ؟
وضحك جاد الله واختطف الرسالة والصورة من يده قائلا : أنت مجنون ؟ إني أمزح ، ما ذنب البنت المسكينة ؟ أما مُغَفَل صحيح .
وأخذ جاد الله يقرأ الرسالة بصوت عالٍ ، ولكن مدحت خطفها من يده ناهرا : ما هذا أيها الغبي ، أتريد أن تلم علينا الممرضات ، ماذا يقلن ؟
- لَمُآخْزة ، نسيت أنك راجل حشمة ووقور ومحترم .
وأخذ في القراءة ، ومدحت ينظر إليه بغير اكتراث وكأن الرسالة لا تهمه حتى انتهى من قراءتها وسلمها إليه قائلا في تأثر : بنت هايلة ، تصورة تعرفني وتعرف مرفت ، إنها لطيفة جدا وفي منتهى الذكاء وإن كانت أختها تبدو قليلة الأدب .
- أختها ؟
- أجل /، إنها دعتك الى النادي وعرفتك بجميع أفراد العائلة ، حلال عليك .
وتناول مدحت الرسالة وأخذ يقلبها بلا اهتمام وهو يقول : كلام فارغ ولعب عيال ، لن أجيب عليها الآن .
- أيها الغبي إن الرسالة في منتهى اللطف ، والله لا تستحقها .
- إذا كنت تريدها فخذها ، اشبع بها .
- لو كانت ترضى أن أكتب إليها لفعلت .
- لماذا لا تجرب ؟
ونظر جاد الله إليه وقال له في غيظ : اسمع اقرأ الرسالة أولا ولا تكن مغرورا ، إن الغرور سيقتلك السلام عليكم .
وقبل أن يترك جاد الله الغرفة قال له : اسمع إنها تريد منك صورة كبيرة تضعها أمامها في إطار ، وأنصحك أن تذهب من الآن وتتصور صورة محترمة غير صورة المشردين التي أرسلتها إليها حتى لا تؤذي عينَي البنت الرقيقة ، مفهوم ؟
30
رد على دعوة
عندما غادر مدحت المستشفى ظهر اليوم كانت رسالة نادية ماتزال عالقة في ذهنه ، لقد استطاعت الرسالة رغم تظاهره بالاستخفاف بها وادعائه أنها عبط ولعب عيال أن تتسلَّل الى نفسه ، لقد أحس بحرارتها وبساطتها وصدقها ، أحس بأنه يُمْسِك يد صاحبتها ويعدو بها على المنحدر وسط البرَد المتساقط ، وبأنه يصد عنها كُرات التنس وبأنه يجلس بجوارها أمام المدفأة يحتسي الشاي وينصت الى أصابع مدام كلود وهي تعزف البيانو في دقات بطيئة متقطعة تنساب الى النفس ، إنها حملته الى جو روائي عجيب كذلك الذي كان يعيش فيه وهو يقرأ قصص شارل كارفِز في صباه ، وأحس بأنه يتوق الى أن يسمع أنغام الفالس داديه الذي ينساب الى أعماق الفتاة الشقراء ذات العينين الواسعتين والضفيرة المدلاة من وراء كتفها ، إنها تبدو صغيرة جدا في صورتها تلك ، لماذا لم ترسل له صورة حديثة ليعرف كيف تبدو ؟ ولكن ماله بها ، لماذا يفكر بها كل هذا التفكير ؟
لتبدو كما تبدو ، يجب أن يكف عن منحها مثل هذا الاهتمام ، وأن لا ينزلق معها الى عَعَبَطِها ، إنه لا يستطيع أن يكتب إليها بالطريقة التي كتبت بها ، إنه سيكون مضحكا جدا لو حاول أ، يبادلها بدعوة .
ماذا يمكن أن يقول لها ؟ وإلى أي مكان يمكن أن يدعوها ؟هل يستطيع أن يدعوها بنفس البساطة التي دعته بها ، يدعوها مثلا الى ماتش سكواش ثم الى الغداء في النادي كما ينوي أن يفعل الآن ؟
هل يستطيع أن يقول لها : لا تقلقي سأمر عليك بعد دقائق لأصطحبكِ معي الى النادي ولا تتناولي الغداء فسنتناوله معا بعد الماتش ؟
لا لا ، لن ننتظر دعي مُنى تتناوله وحدها ، لتشتم وتنفلِأ إني أعرف كيف أريها عندما أراها .
وكان مدحت قد هبط الى فناء المستشفى واتخذ مجلسه أمام عجلة قيادة السيارة وذهنه قد شَرَد في دعوته الوهمية وما يمكن أن يقول فيها .
هل يستطيع أن يصف لها الطريق ؟
لِمَ لا ؟ إنه حقا لا يبدو رائعا كالطريق الجبلي المنحدر ولكن له خصائصه ومعالمه ، لماذا إذن لا يصفه لها بنفس الدقة التي وصفت بها طريقها ، لِمَ لا يعبر بها بوابة المستشفى وينحدر بها يسارا عند عسكري المرور ؟
إن الجو ليس باردا جدا ، لا يمكن بالطبع أن يصل الى الدرجة التي بها قمم الألب ولكنه مع ذلك بارد وكُتُل الغيوم السود تتزاحم لِتَقْطع الطريق على أشعة الشمس .
هل تذكرين مَعالِم الطريق أَم أُذَكرك به ؟
هذا ضريح أحمد ماهر بقبته الضخمة المرتفعة والبناء العالي وراءه هو دار الشفاء ، وحول الضريح ينبسط المنتزه الصغير ذو الرقعة النجيلية الخضراء ، ازدحم بها أطفال ونساء العباسية واختلط النجيل الأخضر من حولهم بقشر اليوسفندي ومصاصة القصب .
أتحبين عصير القصب ؟
إني أحبه جدا وخصوصا في الشتاء ، سأتوقف بك عند أول بائع عصير .
- كُبايتين من فضلك .
ما رأيك في لونه الكهرماني وفي الرغاوي البِيض التي تعلوه كأنها الشنبانيا .
لا تحبين الشنبانيا ؟
ولا أنا ، لا لا ، ولا أحب أي شيء فيه كحول ، أحب البرتقال والمانجا والقصب والطماطم أحيانا .
أترين بائع البطاطا الذي يقف بعربته على الرصيف المقابل ، جلس على ذراع عربته والتف بالمعطف الكاكي ولف رأسه بالتلفيعة ؟
أترين الدخان المتصاعد من مدخنة الفرن ما رأيك ، أتحبين منظره ؟ حقا ، وتحبين البطاطا أيضا ؟
ولكن ليس هذا وقتها يا نادية ، لا داعي لأن تتخمي نفسك بالبطاطا قبل اللعب وقبل الغداء سأبتاع لك منها في وقت آخر ، أي وقت لا داعي للهفة الآن ، لا بد أن نسرع الى النادي حتى لا نجد الملاعب قد ازدحمت .
ما رأيك في ميدان العباسية ؟
لقد تغير كثيرا ، هل مررتِ في النفق ؟ إنه في نظري خير ما قامت به الثورة لي شخصيا ، لقد وفر علي ثلاثة أرباع وقتي وثلاثة أرباع أعصابي .
هل تصدقين أني ما مررت بالمَزْلَقان إلا وجدته مغلقا ، لقد ضربت خفير المَزْلَقان ذات مرة ، كنت على وشك أن أَعْبر المَزْلَقان بالعربة عندما رن جرس المَزْلَقان منذرا بمجيء القطار ، ولم يكن هناك أثر للقطار وكنت واثقا أنه لن يمر بالمَزْلَقان قبل بضع دقائق ، فضربتُ الكلكس للخفير عله يستذوق ويتأخر في إغلاق المَزْلَقان حتى أمر ، لكن الخفير نظر إلي باحتقار واستمر في سحب المَزْلَقان ، وصحت به أرجوه : وحِياةْأبوك ثانية واحدة حتى أمر .
ونظر إلي الخفير ثم أشاح بيده في منتهى الاحتقار قائلا : يعني وراك إيه مجلس الثورة ياخَي ؟
ولم أطق صبرا وهبطت من العربة وأنا أغلي ورفعت يدي وصفعته قَلَما رن في جميع أرجاء المَزْلَقان وقلت له ثائرا : وراية أرواح الناس ، وراية عملية .
ونظر إلي الرجل ولم ينبس ببنت شفة ، ووجدت عينيه تدمعان وبعد لحظة صمت قال لي : مَأنا يا ابني ورايَ أرواح ناس ، لو تركت تمر لأضعتك وأضعت أرواح الناس التي تتعجل من أجلها .
وهز رأسه متمتما في أسف : الله يسامحك .
وأحسست أن الرجل رد إلي اللطمة مضاعفة وتملكني ندم شديد على ثورتي وتسرعي ، ولمأعرف كيف أُكَفِّر عن ذنبي ، ومددت يدي في جيبي فأخرجتُ خمسين قرشا ودسستها في يد الرجل وأنا أقول : متأسف يا حاج ، متأسف جدا .
وانفرجت أسارير الرجل وهو يقول مبتسما : كتر خيرك يا ابني ، أنا خايف على أرواحكم .
وفي كل مرة كنت أمر بالمَزْلَقان كنت أفقد ثلاثة أرباع وقتي أو ثلاثة أرباع أعصابي أو الاثنين معا .
هل علمت سر إعجابي بنفق العباسية ؟
هل أنا ثرثار ؟
الثرثرة ليست طبيعتي ولكني أجد في نفسي ميلا للثرثرة معك .
هل ترين جامعة عين شمس ؟
لقد كانت قصر الزعفران فيما مضى ، ماذا تعرفين كل هذا ؟
ظننتك لا تعرفين ، لا لا ، العفو ، لم أظنك سائحة أبدا إنما هي مجرد ثرثرة كما قلت .
وهذا بناء الأرصاد الجويَة ، لقد قال إن الشمس اليوم مشرقة ، ويبدو أن بينه وبين الشمس ثأرا لأنها ترفض الشروق منذ يوم عرفت أن الأرصاد قد أرغمتها في نشرتها على الشروق ، يبدو لي أن الأرصاد عندنا كقراءة الفنجان تتحدث عن الماضي أما المستقبل فهو في علم الله .
على يمينك وشمالك كلها أبنيَة عسكرية ، أظن أن هذا هو سلاح الفرسان أما بقية الأبنيَة فلا أعرف عنها شيئا الللهم إلا المستشفى العسكري .
في هذا الشارع المتجه الى المطار يوجد بيت الرئيس جمال عبد الناصر ، لا شك أنك تعرفين كل هذه المنطقة وتعرفين أيضا الطريق الى النادي ، ها قد وصلنا ، ما رأيك في النادي ؟
هل أصفه لك ، أَم أنك تعرفينه خير مني ؟ هيا بنا الى الملاعب .
وكان مدحت قد وصل الى الملاعب فعلا ووقف أمام منضدة الحجز .
وعندما سأله بكْر : ستلعب مع من ؟
كاد يقول له : مع نادية من فرط ما شَرَد ذهنه طوال الطريق في دعوته الموهومة ، ولكن تدارك نفسه قائلا : معك ، هل أنت فاضي ؟
- فاضي يا دكتور .
وأبدل مدحت ملابسه واتجه الى ملعب رقم 1 حيث وقف المدرب في انتظاره ، وضمته جدران الملعب وهو مستمر في تصوراته يردد في نفسه ، ماذا يمكن أن يقول في دعوته لها للعب والغداء ؟
واتضح له أن هناك أشياء كثيرة يستطيع أن يقولها ، واتضح له أيضا أنه لعب هذه المرة بطريقة أمتع وأنه ضحك كثيرا مع بكر وأنه لم يدخل الملعب بالتكشيرة إياها ولم يقض المباراة في صمت ولم يغادر الملعب في تجهم .
وانتهى من المباراة وهو يتصبب عرقا ، فأسرع الى الحمام ووقف تحت الدُش الساخن يدلك جسده بيديه وهو يحس نشاطا وسعادة .
يجب أن ينتهي بسرعة حتى لا يتركها تنتظر ، سيأخذها بعد الحمام الى الشرفة الزجاجية ، كان يجب أن يوصي الريس بإعداد طعام فاخر شهي ، حقيقة إن معدته لم تَعد تحتمل الطعام الشهي الدسم ، فهي تكاد تهضم قطعة من اللحم المشوي مع الخضار المسلوق ، ولكنه اليوم يحس بشهية مفتوحة وهو يستطيع أن يهضم الزلط بدون ريني وبدون سترات .
أجل أجل ، يجب أن يتناسى معدته التالفة ويأمر الريس بأن يعد له سمكة بالمايونيز ومكرونة بالفرن وجنبري وطبق فتَة بالكوارع والخل والثوم ويعد له طبق كريم كراميل .
هل تحبين الكريم كراميل ؟
أنا أحبها جدا ، وأحب أيضا كميهقطايف بالقشطة رغم ما تفعله بمعدتي .
هل تصدقين أني أكلت أنا وجاد الله ذات مرة بستين قرشا كميه، كنا نسير في شارع قصر النيل ومررنا بالحلواني عطية قرب شارع شريف ، هل تعرفينه ؟
واقترح علي جاد الله أن أعزمه على كيميه قطايف ولم أتردد ، ودخلنا المحل وطلب كل منا طلبه ،
ونظر جاد الله الى طلبه وصاح بالبائع : القشدة مالها قليلة ؟
وانحنى البائع في أدب وتساءل في ابتسامة رقيقة : قشطة المحل كلها تحت أمرك يا سعدة البيه ، أتريد مزيدا من القشطة ؟
- طبعا .
وأخرج الرجل طبقا من القشطة ووضع لي قطعة ولجاد الله قطعة ، والتهم جاد الله القشطة .
فعاد الرجل يتساءل في أدب : كمان يا سعادة البيه ؟
وأجاب جاد الله وهو يتلمض : كمان .
وظل الرجل يضع القشدة ويتساءل : كمان ؟
وجاد الله يلتهم ويقول : كمان .
وكلنا يعتقد أن القشدة ملحقة بالكيميه قطايف وأنها جزء من الطلب الذي تناولناه والذي لا يزيد ثمنه بأي حال عن خمسة قروش ، وأخيرا غسلنا أيدينا وتناول كل منا كوبا من الماء المثلج ، وختم الرجل المهذب حواره بيننا بالدعاء لنا بالهناء والشفاء ، ثم قدم لنا تذكرة الحساب بستين قرشا .
ومن يومها وأنا أصر عندما أصطحب جاد الله معي أن أعرف بالضبط ثمن ما سيأكله قبل أن يفعل .
وبدأ مدحت يتناول طعامه ، طعام النادي العادي وحيدا في الشرفة ، ونظر من النافذة الزجاجية الى النافورة وإلى شجرة الكافور ، وسرعان ما حل أمامه منظر آخر ، جبال تمتد في الأفق ذات سفوح خُضْر وقمم بِيض وأسقف الدور الحُمْر المنحدرات ذوات المداخن و ، وماذا أيضا ؟
ماذا ؟
ماذا بعد كل هذه البلاهة والعبط ؟
منذ أن غادر المستشفى وهو يفكر في الرسالة البلهاء وفي صاحبتها الطفلة الشقراء ذات الضفيرة ، أهناك جنون أكثر من هذا ؟
ماذا ينوي وفيما يفكر ؟؟
إنه يفكر في أن يكتب إليها ويرد على دعوتها الوهمية بدعوة مماثلة ، بل تصور ماذا يمكن أن تكون عليه الدعوة بكل تفاصيلها وحذافيرها ، بل لقد دعاها فعلا ، إنه حتى الآن لم يفعل شيئا بمفرده ، لقد صحبها في كل ما فعل في الطريق وفي ملعب السكواش وفي الغداء ، وأكثر من هذا ، قص عليها حوادثه ونوادره ، صفع خفير المَزْلَقان قلَما ، وكيف أكل كيميه القطايف هو وزميله الحيوان بستين قرشا .
أهذه أخبار تُروى وحوادث تُقَص ؟
ماذا تقول عنه وهو يحكي لها كيف صفع خفير المَزْلَقان قلَما ، متوحش أَم همجي ؟
ثم يخبرها بعد ذلك أنه أكل بستين قرشا كيميه قطايف ، يعني حيوان نهم .
لماذا لا يبحث في ذهنه عن شيء آخر يتفاخر به غير الخفير والتهام القشدَة .
يحدثها مثلا عن عملية المعدة التي قطع ثلاث أرباعها .
أهذا كلام ؟
إن الصبية سيغمى عليها قبل أن تكمل الرسالة ، أليس عنده أخبار ألطف من هذه ؟
ماذا ، أيخبرها عن نوادره مع الممرضات ؟
لقد ضرب إحدى الممرضات بالأمس علقة ساخنة عندما وجدها تسرق نصف اللبن وتخلط النصف الآخر بالماء ، ولما سألها أجابت عليه ببجاحة ، أنها قصدت أن تخففه لكي يسهل على المرضى هضمه .
لا لا ، هذه فضائح ينبغي ألا تُروى ، ثم إنها تنتهي أن ضرب الممرضة علْقة وهذا يؤكد وحشيته ، يجب أن يبحث عن شيء آخر ، ولكن لماذا يبحث إنه لن يكتب لها شيئا مما فكر فيه من سخافات ، سيكتب إليها رسالة مختصرة يشكرها على دعوتها ويرجو لها الصحة ويتمنى لها أطيب التمنيات ويرجوها أن تبلغ سلامه الى مُنى ، هذا أقصى ما يمكن أن يكتبه .
أجل أجل ، لن ينزلق الى هذا النزق والطيش ، عليه أن يكون متزنا ولن يرسل إليها صورة أخرى ، تكفيها جدا الصورة التي أرسلها إليها ، ليس لديه خير منها ، إنه ليس ممثل سينما حتى يجلس أمام المصور ليلوي عنقه ويرفع وجهه ويفرج شفتيه في ضحكة سخيفة بلهاء .
وغادر مدحت النادي وقدأقنع نفسه بكل ما قال ، وفي طريقه الى المستشفى قبل الغروب لم يتجه الى المستشفى رأسا بل استمر في طريقه الى المحطة ثم الى ميدان مصطفى كامل وأوقف العربة ثم هبط الى الميدان ثم سار متَلَكِئا كأنه لا يبغي قصدا معينا حتى وقف أمام باب عُلِقَت على يمينه بعض صور فوتوغرافية وكُتِب فوقها أرمان .
ونظر الى الصورة نظرة فاحصة ، ثم انثنى راجعا الى العربة وهو ينهر نفسه : كفى سخافة .
وقبل أن يصل الى العربة كان قد عاد الى الباب مرة أخرى .
سخافة لِمَ ، هل التصوير سخافة ؟
إنه سيتصور لأنه لابد له من ذلك ، لقد طلب النادي منه ثلاثصور فلم يجد غير هذه الصورة السخيفة التي تشبه الصور المعلقة في قسم عابدين .
هل التصوير عيب أَم حرام ؟
إنه لن يُصَوَر من أجلها ، أجل أجل ، لن يفكر أبدا في أن يرسل إليها صورة ، إنه لم يبلغ من الحمق حد أن يُصَوَر من أجلها كما طلب منه المُغَفَّل جاد الله ، سيُصوَر من أجل نفسه ، إن أمه وأقربائه يريدون أن يحتفظوا بصورة له ومرفت أيضا قد طلبت منه صورة .
دلف مدحت من الباب وقفز درجات السلم ، وبعد برهة كان قد جلس أمام الكاميرا وقد أدار عنقه وقد رفع رأسه وفتح فمه راسما على شفتيه تلك الابتسامة البلهاء التي أصر عليها المِسيو أرمان ، والتي يصر عليها كل مصور غيره .
وبعد بضعة أيام كانت الصورة تتخذ طريقها بالطائرة الى كاب داخل ظرف حوىَ رسالة طويلة كتبها مدحت في ليلة خالية ساكنة .
وجلست نادية تُمْسِك بالرسالة وتتحسس صلابة الصورة وتزن ثقل الأوراق التي بها ، وأحست بسعادة شديدة وهي تغلق باب مكتبها بالمدرسة ثم تتلفت حولها في حذر خشية أن يكون هناك من يرقبها ، ثم رفعت الرسالة ومستها بشفتيها في تبتل وعبادة كما تمسا شفتا العابد أضرحة الرسل والأنبياء .
وفتحت الظرف وأخرجت الصورة بأصابع مرتجفة من فرط الفرحة ، ونظرت الى الصورة وأجابت على ابتسامتها بابتسامة عريضة ، ومرة أخرى عادت تتلفت في حذر وخشية ثم رفعت الصورة الى شفتيها وقلبها يدق في عنف .
ومضت فترة وهي تتأمل الصورة ثم تشرد ببصرها من النافذة ، وبعد أن تمالك نفسها أخرجت الرسالة وبدأت في القراءة .
وانهمكت في القراءة والابتسامة تعلو شفتيها ثم لا تلبث الابتسامة أن تنقلب الى قَهْقَهَة .
لشد ما أحبت دعوته الى السكواش والى الغداء ، ولشد ما أحبت وصفه للطريق ولشد ما استمتعت بكوب العصير الذي سقاها إياه ، إنها تحس برغاويه على شفتيها .
والبطاطا ، لماذا لم يشتري لها بطاطا ، في المرة القادمة سوف تصر على أن يشتري لها إنها تحبها جدا ويمكن أن تأجل تناولها الى ما بعد اللعب ، بل كان يمكن أن تأكلها قبل اللعب ، إنها على أية حال لن تفعل به كما فعله به الكيميه قطايف الذي أكله بستين قرشا .
مرة أخرى وجدت نفسها تقهقه ولكنها قطعت القهقهة عندما أحست بالباب يُفتح وسمعت صوت مدام كلود يقول لها في رقة : ألا تنوين الرحيل يا نادية ؟ لقد مضى على وقت الرحيل نصف ساعة .
ودُهِشت نادية فقد سرقها الوقت وهي منهمكة في الصورة والرسالة ، لقد قرأت الرسالة أكثر من 5 مرات .
وعندما هبطت الى الفناء وجدت مُنى تهم بالصعود إليها قائلة : ماذا أخركِ الى الآن ؟
وأجابت نادية في عجلة : شغل ، كان عندي شغل كثير .
وضحكت مُنى قائلة : يا كذابة ، إن في وجهك أنباء مثيرة لطيفة ، قولي الحق شغل أَم رسالة حلوة ؟
وأخرجت نادية الرسالة من جيبها قائلة وهي تضحك : رسالة حلوة جدا جدا .
واختطفت مُنى الرسالة ثم أخرجت الصورة ونظرت إليها قائلة في دهشة : ما شاء الله أخيرا بدا كالبَنِي آدم .
- وماذا كان يبدو من قبل ؟
- كالثيران التي تتأهب للمصارِع .
- مجرمة .
وعادت مُنى تتأمل الصورة ضاحكة وهي تقول : وماله يبتسم هكذا ، مبسوط ؟
ثم فتحت الرسالة وهالتها الصفحات المزدحمة بالسطور فتساءلت في دهشة : كل هذا كلام ؟ لقد تَدَردَح جدا ، ماذا يقول لك ؟
وألقت على الصفحة الأولى نظرة عابرة فاصطدمت عيناها بكلمة البطاطا فصاحتفي دهشة : بطاطا ، يخِرِب بِيتو ، أيصح أن يذكر سيرة البطاطا في رسالة غرام ؟
وخطفت نادية الرسالة من يدها قائلة في نهْر : من قال إنها رسالة غرام ؟
- أُمال رسالة إيه ، رسالة في شوي البطاطا ؟
وهزت مُنى رأسها مستمرة في سخريتها الضاحكة وقالت : الله يكون في عُونك ، واحد يحدثك عن الدستور والثاني عن البطاطا ، من صبري لِمدحت يا ألبي لا تحزن .
وقالت نادية غاضبة : الحق علي أنا التي أريتك الرسالة ، آخر مرة أطلعك على شيء .
ومدت مُنى يدها فلفتها حول كتفَي نادية وضمتها إليها قائلة : أغضبتِ ، إني أضحك يا عَبيطة ، هاتي الجواب .
وأخذت الرسالة وقبلتها قائلة : أموت في البطاطا وبياعين البطاطا .
ثم وضعت كفيها على خدها مثل بائع البطاطا وهو يهتف : مِعَسِلة أوي يا بطاطا .
وصاحت بها نادية : كُفي عن هذا ، ماذا يقول الناس عنكِ في الطريق ؟
- الذين سيفهمون العربي سيعرفون أني أنادي على البطاطا والذين لا يعرفون سيظنونني أغني .
وألقت مُنى نظرة على نهاية الرسالة فإذا بها ملحوظة يقول فيها مدحت "أرسل إليك صورة أخرى لي كما طلبت ، ولا شك أنه يسعدني أن أتلقى منك صورة أخرى ".
وهزت مُنى رأسها وهي تقول : مشكلة ، هل لديك صورة أخرى ؟
- لدي ألبوم صورنا القديم ، أستطيع أن أرسل إليه ما شاء من الصور .
ونظرت مُنى الى وجه نادية وإلى الإشارْب المحيط به وتملكها إحساس بالعطف عليها والقلق من أجلها ، ولكنها أخفت مشاعرها بضحكة مرحة وجملة مازحَة هاذرة ...
31
لن يراها
استمرت الرسائل بين نادية ومدحت تحمل دعوتهما الوهمية وصورهما المتبادلة ، وحاول مدحت أول الأمر أن يوهم نفسه أنه يباشر عملية إحسان وشفقة دفعته فيها الظروف ، ولكنه لم يستطع أن يمنع نفسه قط من شعور المتعة الذي يغمره كلما تسلم رسالة من كاب أو كلما جلس ليكتب إليها رسالة .
وكانت العملية ، عملية تبادل الرسائل من أنسب عمليات المتع الحسية لِطبيعة مدحت ، فهو مخلوق رقيق في باطنه وإن كان يكسو رقته بمظهر عبوس متجهم يحاول أن يكتسب به هيبة في عمله واحتراما ممن حوله ، كان مظهره الجاد يقف حائلا أمام مشاعره الرقيقة ، وكان يكره أن يبدو محبا ودودا إلا في أضيق الدوائر المحيطة به والتي لا تتعدى صاحبه جاد الله ، ومنحته الرسائل دائرة أضيق ينفس فيها عن طبيعته المرهفة المحبة ، دائرة لا يكاد يكشفه فيها أحد سوى نفسه ومخلوقة مجهولة شبه وهمية تسكن في أعالي جبال الألب كأنها إحدى أميرات الأساطير ، ومع ذلك فقد كان يصيبه أحيانا نوع من الحذر في كتابته ، عندما يتذكر نفسه ومظهره وجده ، ويتذكر العملية العجيبة التي ينغمر فيها ، والكائنة غير الكائنة التي يصادقها ويمزح معها ويدعوها لِمرافقته في ثلاثة أرباع نزهاته والتي يطلعها ببساطة على خبايا نفسه .
لقد استطاعت نادية أن تكتسب ثقة المخلوق الحذر المنطوي بصدق مشاعرها وإخلاص دعوتها وبساطة حديثها ، وأكثر من هذا بمقرها النائي وعواقبها المأمونة وخطرها البعيد غير المحتمل ، وبمر الأيام أصبحت رسائلها شيئا حيويا في حياة مدحت واحتلت قراءتها والرد عليها مكانا من وقته يتساوى في الأهميَة مع عملياته ومحاضراته وبقية الأعمال الرئيسية التي تتركب منها حياته .
ورغم محاولاته المتعالية المترفعَة في صد مشاعر الحب من التسرب الى تفكيره وبالتالي الى كتابته ، ورغم تأكيده لِنفسه المرة تِل والمرة أن العملية كلها لا تعدو عطفا على غريبة نائية لا يحس لها بأكثر من إحساس الأخت الصغرى ، رغم كل هذا لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يؤكد لها ذات مرة كأنه لا يقصد شيئا أن مرفت ليست خطيبته وأنه لم يكن بينهما أكثر من صداقة عابرة ، ولم يستطع كذلك أن يمنع إصراره على وقف تلك العلاقة المعلقة بينه وبين مرفت وعائلتها ، وأن يُفهِم جاد الله باختصار أنه لا يفكر في الزواج أبدا وأنه في غنى عن خدمات أبيها سواء كان عميدا للكليَة أو مديرا للجامعة أو حتى رئيسا للوزراء .
وأكثر من هذا ، لم يستطع أبدا أن يمنع نفسه من التفكير فيها ككائن حقيقي موجود لا يمنع بُعد مقرها من احتمال لقائها ، ولم يستطع أيضا أن يمنع لهفته على صورها وضيقه عندما يحس من خفة الظرف خلوه منها ، وأخيرا لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يكتب إليها في نهاية إحدى رسائله بعد أن انتهى من دعوته لها الى جزيرة الشاي بحديقة الحيوانات :
نادية أرسل لك مع رسالتي هذه صورة التقطها لي وكنت أود أن أقول لنا ، ولكن الظاهر إن الكاميرا لا تتسع عدستها لتصوراتنا ورغباتنا ، التقطها لي مصور من مصوري الطريق ، أتعرفينهم ؟
هؤلاء الذين يلتقطون لك الصورة ثم يقذفون لك بالتذكرة ويفرون هاربين .
لقد التقطها لي وأنا أجلس في الجزيرة في نفس المكان الذي دعوتك إليه والذي تناولنا الغداء فيه .
ما رأيك بالأشجار المحيطة بنا وفي البط السابح في البحيرة ؟
تُرى البحيرة هنا تشبه بحيرتكم ؟
لماذا لا ترسلين لي صورة لك وأنت في إحدى نزهاتك ، أعني في إحدى نزهاتنا على الأقل حتى آخذ فكرة عن هذه الأماكن التي تصحبينني فيها ؟
تُرى كاب قد خلت من المصورين الخطافين ، وإذا كانت قد خلت إليس عندكم مصور في محل يستطيع أن يلتقط لك صورة حديثة ؟
ألم تلاحظي أن كل صورك التي أرسلتها لي قد مضى على أحدث صورة منها ما لا يقل عن ست سنوات ، هل من ذلك أن موضة التصوير قد بَطُلَت ، أَم أن التصوير قد أضحى مسألة عيب ، أَم أفهم بلدكم قد خلا من المصورين ؟
أمفروض علي ألا أعرفك وألا أعرف شيئا عن ملامحك بعد الثانية عشرة ، وأنك قد أخفيت نفسك بعد هذا السن خلف البرقع فلم يَعد يُرى لك وجه أو تُبصَر لك صورة ؟
أيتها المتمنعة المتحجبة أيها الشبح المختفي منذ الثانية عشرة اظهر وبان عليك الأمان ، اختشي وأرسلي صورة حديثة لأعرف على الأقل كيف تبدين الآن ، وحتى أحس وأنا أصطحبك في دعواتي أني لا أُمسك في يدي صبِية صغيرة ليست فقط لم تتعد الثانية عشرة بل تأبى أن تتعداها .
إني في انتظار الصورة ، صورة بلا ضفائر ولا فيونكات ، صورة أستطيع أن أدعو صاحبتها الى الأوبرا دون أن أخشى من نومها وسط السهرة ودون أن أعود بها محمولة على يدَي أو على كتفي .
وَهكذا لم يستطع مدحت رغم ما به من تؤدة واتزان وعقل أن يمنع عقله على أن يعرفها كما يجب أن تُعرَف ، وأن يُقَرِّبَها الى ذهنه كواقع ، كشيء يعرف سماته وملامحه كما هو كائن لا كما يتوهم أن يكون .
ووصلت الرسالة الى نادية ، حملتها إليها مُنى في يوم من أيام أبريل ، وقد استلقت نادية في فراشها تستريح من وعكة برْد أصابتها ومنعتها من الذهاب الى المدرسة .
وكان الربيع قد بدت طلائعه والثلوج قد أخذت في الذوبان وانحدرت مياهها من أعالي الجبال متدفقة في أخاديد السفوح وبراعم الأوراق الخُضْر قد كست الأغصان التي عَرّاها الشتاء وزهور أشجار الفاكهة قد كللت فروعها بألوانها البديعة ، ونادية تجلس على فراشها وقد أطلقت بصرها متنقلا بين قمم الجبال في أقصى الأفق والسحب المتتابعة على قرص الشمس تحجبه تارة وتخفيه تارة ، وهي تُنْصِت في لهفة الى وقع أقدام مُنى تجتاز الممر الخارجي وتسمع صوتها طالبة الطعام .
ولم تطق نادية صبرا فنهضت من فراشها وأطلت من أعلى السلم صائحة : مُنى .
كان موعد الرسالة قد حل ، وكانت تعد ثمانية أيام من إرسال رسالتها ثم تبدأ لهفة الانتظار ، وقد حاولت اليوم الذهاب الى المدرسة للتبكير في إستلام الرسالة المنتظرة ، ولكن أمها أصرت على منعها ولم تستطع نادية الإصرار على الذهاب لاسيما وهي تعلم أن حرارتها مازالت مرتفعة وجسدها مازال مُجْهَدا .
ورفعت إليها مُنى من أسفل السلم وقد افتر ثغرها عن ابتسامتها المرحة وتساءلت في سخرية : مالكِ مسروعة هكذا ؟
- أريد أن أسألَكِ .
- عن ماذا ؟
- عن المدرسة .
- مدام كلود تهديكِ أزكى السلام .
- أهذا كل ما في الأمر ؟
- وكابي تسأل عن صحتك .
- وبِيتر ؟
- يسأل أيضا عن صحتكِ .
- فقط ؟
- وعن صحة جدتي .
وبدا الضيق على نادية وتساءلت في صوت حزين : ألم يرسل لكِ شيئا ؟
وهزت مُنى رأسها في استخفاف متسائلة : شيء ، شيء مثل ماذا ؟
وهتفت فيها ندية في غيظ : اسمعي كفى استعباطا ، لماذا لا تصعدين إلي بدل هذا الصراخ من أسفل السلم ؟
وضحكت مُنى قائلة : لا تشخطي هكذا .
ثم قفزت السلم صاعدة وهي تقول : لو صبرت لحظة لَصَعَدت إليكِ .
ولم تكد تصل الى آخِر السلم حتى مدت يدها في جيبها وأخرجت الرسالة وهي تقول ضاحكة : هاتي شِلِن أولا .
واختطفت نادية منها الرسالة وهي تقول مؤنبة مُنى وقد غمرتها الفرحة : يا كلبة .
- ومالكِ فرحة هكذا ، كأنكِ قد سُلِّمْتِ ألف جنيه ، تُرى أين دعاكِ هذه المرة ؟
ولم تجب نادية فقد انطلقت عائدة الى حجرتها لتنفرد بالرسالة .
وهبطت مُنى لتتناول طعامها وبعد برهة عادت إليها لِتجدها قابعة في الفراش والرسالة ملقاة في حِجْرِها وقد بدا عليها شرود حزين .
وهزت مُنى رأسها متسائلة وهي تقضم تفاحة في يدها : ماذا حدث كفى الله الشر ؟
ولم تجب نادية ، ومدت مُنى يدها تتناول الرسالة وهي تردف قائلة : لعل الدعوة هذه المرة ليست على ما يرام ، أين ذهبتما إلى الأَرَجوز ؟ لا بأس يا نادية نحن في آخِر الشهر وموسم العمليات قد كسد وكذلك ..
ورفعت نادية رأسها وقاطعتها قائلة : اسمعي يا مُنى إن مدحت يريد مني صورة حديثة .
- صورة حديثة ؟
- أجل ، لقد لاحظ أن كل صوري قديمة وتساءل لماذا أصر على إخفاء وجهي بعد الثانية عشرة .
وبدت الدهشة على وجه مُنى وتساءلت : إخفاء وجهكِ ، هل تظنين ؟
- لا لا ، إنه فقط يتساءل ، وهو يريد صورة بلا ضفائر ولا فيونكات .
وضحكت مُنى قائلة : معه حق .
وأطرقت نادية وتساءلت بصوت خفيض يائس : وما العمل ؟
ورفعت مُنى كتفيها ببساطة : ولا شيء أهي معضلة ، تصوري .
- كيف ؟
وردت مُنى بنفس البساطة التي تتحدث بها : تذهبين معي غدا الى المصور على الناصية أمام الكوافير ثم تسألينه أن يصورك وتقعدين أمام الكاميرا ، وتتركين الباقي عليه .
وصمتت نادية وقد بدا عليها الوجوم واليأس ، ثم مدت يدها تتحسس الإشارْب الذي لا يفارق رأسها وعنقها ، وتمتمت كأنها تحدث نفسها : كيف أقف أمام المصور ؟
- كما تقفين أمامي وأمام أي مخلوق آخر .
- وأظهر في الصورة بالإشارْب ؟
- ولِمَ لا ؟ إننا هنا في عز البرْد .
ثم صمتت برهة واستدركت قائلة : وإذا لم تعجبك الصورة بالإشارْب فاخلعيه .
- وأبدو في الصورة كما أنا ؟
- لن يظهر شيء في الصورة وإذا ظهر فستضيعه الرتوش .
- وكيف أقف أمام المصور بشكلي هذا ؟
- وماذا يهمك من المصور ؟ إنه لن يخطبك .
ارتسمت على وجه نادية أمارات حزن عميق وقالت لِمُنى عاتبة : هل تظنين أني أستطيع حقا أن أخدعه بالرتوش التي يصنعها المصور ؟
- إنك لا تخدعينه يا حبيبتي ، إن هذا عمل المصور ، إن الندبة التي في جبيني لا يتركها المصورون تظهر في الصورة أبدا فهل تظنين هذه خدعة ؟
- هل ندبة جبينك مثل حرق وجهي ؟
- إذن تُصَوَرين بالإشارْب ، لن يكون به ما يدعو للعجب أبدا ، إنه إشارْب وليس ملاءة لف .
وهزت نادية رأسها في استسلام ، وضمتها مُنى إليها وهي تقول ضاحكة : وسأذهب أنا معك لكي أُصَوَر أيضا ، إن عصام مازال يصر على صورة حديثة يضعها في محفظته .
وقبل أن تغادر مُنى الغرفة عادت تقول لها مؤكدة : اتفقنا ؟ سنذهب للتصوير غدا .
وهزت نادية رأسها موافقة .
وفي اليوم الثاني كان التوأمتان تطرقان باب المصور ، ونظر الرجل إليهما من وراء منظاره وتساءل ضاحكا : توأمتان ؟
وأجابت مُنى ضاحكة : من أدراك ؟
- الشبه .
وتساءلت مُنى وهي تنظر إلى وجهها في المرآة المقابلة وهي تبتسم في فرح : أهي جميلة مثلي ؟
وضحك الرجل قائلا : لو نزعت عنها الإشارْب وسرحت شعرها نفس التسريحة ، أعتقد يكفيني أن أصور أحداكما وأُخرِج من صورتها عدد كافيا لكلتيكما .
وقالت نادية مازحة وقد بدد لطف الرجل ما تملكها من رهبة : إذن تُصَوَرين أنت نيابة عني .
وقال الرجل : بل تُصَوَرين أنت نيابة عنها ، إن وجهك أكثر طيبة .
وصاحت مُنى ضاحكة : هل يعني هذا أني شريرة ؟
وأجاب الرجل : حاشى لله ، إنها أكثر طيبة وأنت أكثر لطفا .
وقالت نادية : وأنت أكثر رقة وأدبا .
ودفعتها مُنى أمامها وهي تقول : هيا بنا فليس لدينا وقت لِنتقارض المديح .
وأشار الرجل الى غرفة صغيرة وهو يقول لِنادية : تستطيعين أن تخلعي فيها الإشارْب وتعيدي تصفيف شعرك .
وهزت نادية رأسها في شيء من الخوف ورفعت يدها تُحكِم وثاق الإشارْب على عنقها قائلة : لا لا ، سأُصَوَر كما أنا .
- برأسكِ مربوطا هكذا ؟
- ـأجل أجل .
- ولكنك ستكونين بدونه أجمل كثيرا .
وردت نادية في إصرار وضيق : إني أفضل أن أكون هكذا .
وهز الرجل كتفيه قائلا في استسلام : أمرك .
وانتهى المصور من تصوير التوأمتين .
وبعد يومين كانت نادية تجلس في مكتبها في المدرسة وقد انتهت من كتابة الرسالة ووضعتها في الظرف وأمسكت بصورتها تنظر إليها في تمهل وإمعان وقد بدا عليها الضيق والقلق .
- تُرى كيف ستبدو له الصورة ؟ إنها تبدو بالإشارْب كاللاجئات والمهاجرات ، لماذا أصرت على ارتداء الإشارْب ؟ ولكن كيف تستطيع أن تُصَوَر بدونه ، كيف تجرؤ ، ألم تقل لها مُنى إن المصور كفيل بعمل ما يلزم من رتوش في إخفائه إذا ظهر ، ولكن ألا تكون تلك خديعة ، ألا تكون بذلك قد خدعته عن حقيقتها وأرسلت له وجها غير وجهها ، وهذه الصورة ألا تعتبر خديعة ، ألا تكون الخديعة إلا بالتغيير والتبديل ، والإخفاء ألا يعتبر خديعة ، أتعتبر الصورة ذات الإشارْب الذي أخفى ما بها من تشويه صورة حقيقية لها ، لماذا تورطت الى كل هذا ، لماذا لم تقصر العلاقة على مجرد الرسائل ، لماذا زجت بها الى تبادل الصور ، ألم تكن هي البادئة بطلب صورته ، ماذا كانت تتوقع غير تلك النتيجة ؟
إنها جرؤت على الكتابة إليه لإحساسها بأمن البُعد واستحالة اللقاء ولِثقتها أن الجانب المادي للعلاقة الذي قد يضطرها الى عرض نقطة ضعفها وهو شكلها لم يعد له وجود ، ومع ذلك فهي تجد نفسها قد لفت لِتواجه جزءً من المشكلة التي ظنت أنها قد جاوزتها ، وأنه لم يَعد هناك من سبيل لِمواجهتها ، وهي مهما فعلت لا تستطيع أن تحلها إلا بالخداع ، بل إن ما فعلته حتى الآن يعتبر خداعا بالتجنب واللف والدوران ، فكل ما ئأرسلته من صور لِطفولتها كان تجنبا منها للواقع المرير ، واقع شكلها المشوه وهي الآن تجد نفسها مضطرة للاستمرار في المزيد من الخداع بأية صورة من صوره وبأي شكل من أشكاله ، وإذا كان الخداع مُسَلَما به فلماذا لا تُقْدِم عليه بصورة منصفة ؟ لماذا تضطر الى صورة الإشارْب التي تبدو فيها كاللاجئات والمهاجرات والخدم ، لماذا لا تُصَوَر بدون إشارْب وتسأل الرجل وهو كما بدا لها رقيق ولطيف أن يقوم بعمل الرتوش اللازمة .
ومدت يدها لتتناول مجموعة وتقلبها بين أصابعها ، ووقع بصرها على إحدى صور مُنى بين صورها ، واستبقتها بين أصابعها تتأملها برهة ، كانت صورة جميلة رشيقة أنيقة فاتنة ، بدت بجانب وجهها وقد عُقِصَ شعرها في صورة ذيل الحصان ليس به شبه اللاجئات والمهاجرات ، أيمكن حقا أن يكون هناك شبه بين الاثنتين ؟
وتذكرت ما قاله المصور "لو نزعت عنها الإشارْب وسرحت شعرها نفس التسريحة أعتقد أنه يكفيني أحداكما وأُخرِج من صورتها عددا كافيا لكلتيكما"
لو نزعت الإشارْب إذن فستبدو كهذه الصورة أنيقة رقيقة أورستقراطية ، لماذا إذان لا تنزعه ، ولكن لماذا تنزعه ، لكي تحصل على صورة مماثلة ، ولماذا لا تأخذ نفس الصورة ، ألم يؤكد الرجل أنه يستطيع أن يصور إحداهما ويُخرِج من الصورة عددا كافيا للأخرى ؟
لماذا تتعب نفسها في التصوير مرة أخرى ، لماذا تفضح نفسها بخلع الإشارْب وبتسريحة الشعر ما دام أقصى ما يمكن الحصول عليه هو صورة أخرى طبق الأصل من هذه الصورة ، ألم يقل هذا المصور نفسه ؟
أليست المسألة من أولها خداعا في خداع ؟ فلماذا لا تُقْدِم على ما يمنحها أفضل النتائج بأسهل الوسائل ؟
هل تخشى أن تُكتَشَف الخدعة ؟
متى ، عندما يراها ؟
وهل تتصرف هي على أساس احتمال رؤيته لها ؟
إنه لو رآها لَهُدِم كل شيء .
هل تخشى أن يكتشف الخدعة ؟
لو قارن الصور الحديثة بصورها القديمة ، إن آخِر صورة لديه منذ ست سنوات بالضفائر والفيونكات ، والمفروض أن تكون قد تغيرت في السنوات الستة ، ثم إن الشبه موجود ، كل من رآها يجزم بهذا ولن يَشُك أحد أن الصبِية صاحبة الصورة ذات الضفائر ليست هي الآنسة صاحبة الصورة ذات ذيل الحصان بعد ست سنوات ، ولكنها ستكون خديعة كبرى .
وهل هناك فرق بين الخديعة الصغرى والخديعة الكبرى ؟
وأمسكت صورة مُنى تتأملها وتقارنها بصورتها ذات الإشارْب ، وأحست بكره لِصورة الإشارْب وكره لما بها من تشويه يخفيه الإشارْب .
وبالسبابة والإبهام سحبت صورة مُنى ووضعتها في الظرف بجوار الرسالة ، إنها بلا جدال لن تخذله فيها ، وعندما يطلب صورة أخرى سترسل له صورة أخرى لِمُنى ، وكلما طلب صورة ستُصَوِر له مُنى ، ستصورها له بين الثلوج وعلى سفوح الجبال وعلى شاطئ البحيرة ، وستشتري كاميرا بدل الراديو بالنقود التي جمعتها .
أجل ستقوم هي بدور المصور الخاطف الذي يصور ويقذف بالتذكرة ثم يعود هاربا ، إن الخديعة تجر الخديعة ، ولن تُكتَشَف خديعتها إلا إذا رآها ،
وهو لن يراها ...
32
إنهُ يحبها
أَمسَكَ مدحت بالرسالة الزرقاء يتحسس بأصابعه الصورة الصلبة التي حواها الظرف .
وهتف جاد الله وهو يقف وراءه ويحس تردده : افتح يا أستاذ ، ارِنا آخِر صورة لعلها تكون قد استحت وقصت ضفائرها وفكت فيونكاتها .
فتح مدحت الظرف وأخرج الرسالة وسقطت الصورة على المكتب ، وانطلقت من شفتَي جاد الله صفير طويل وصاح في دهشة : وإعجاب : يا بنت الإيه ، .
ولم ينبس مدحت ببنت شفة وأخذ ينظر الى الصورة مأخوذا ويتأملها وقد شَرَد فكره .
ومد جاد الله يده محاولا اختطاف الرسالة وهو يقول ضاحكا : أظنك اقتنعت الآن إنها تستحق الكتابة ، ما رأيك ؟
وتمتم مدحت قائلا وهو لا يزال ينظر الى الصورة : لطيفة .
- لطيفة فقط ؟ إني على استعداد لأن أذهب الى قمم الألب من أجلها ، إنها هائلة ، ولكن ماذا كتبت هذه المرة ، هل تعرف أن دمها خفيف جدا ؟
وأطبقت أصابع مدحت على الرسالة ولم يدع جاد الله يتناولها منه ، بل أمسك بالصورة وأعادها الى الظرف ،
ثم وضع الظرف في جيبه قائلا : هيا بنا .
- ألا تنوي قراءتها ؟
- بعدين .
وضحك جاد الله قائلا : بعدين أَم هناك أسرار بينكما ؟ على أي حال حلال عليك .
ولم يجب مدحت وازدادت في ملامحه علامات السرور .
فاستغرق جاد الله في الضحك قائلا : والله وقَعْتواالي كان كان .
ونظر إليه مدحت نظرة زاجرة وهتف به : ما هذا السَخَف الذي تقول ؟
- أُراهِن أنك تحبها .
- أنا ؟!
- أجل أنت .
- أحب ماذا ، أنت مجنون؟
- اسمع ، لا تَدْخل في عِبّي وتُكَرْوِتني ، بِذِمَتك ألا تتمنى أن تراها ؟
- يجوز ، من باب حب الاستطلاع .
- حب الاستطلاع فقط ، أتعني أنها تتساوى في نظرك مع قوس النصر وبرج إيِفِل ؟
وضحك مدحت وأجاب : مع الفارق ، إن برج إيِفِل لم يكتب إلي ولم يرسل لي صورته .
وأردف جاد الله متمما قول مدحت : ولم يدْعُك في لهفة ، ولم يخبرك أن حياته معلقة في سطور منك ولم يلاحقك بالدعوات ولم يصحبك في كل نَفَس يتنفسه أو حركة يتحركها .
وعاد السرور الى وجه مدحت .
وأردف جاد الله متسائلا : اسمع يا مدحت ، هل تشك أن الفتاة تحبك ؟
ورفع كتفيه قائلا في حيرة : تحبني ؟ كيف ؟
- كما يحب الناس بعضهم ، ماذا تقصد بسؤالك كيف ؟
- أعني كيف تحبني وهي لا تعتبرني أكثر من وَهَم ، تحدثني كَوَهَم وتدعوني كَوَهَم ، إنها لم تتحدث أبدا عن احتمال للقاء بيننا ، بل لم تُبْدِ لي أنها تَأْمل فيه أو تتمناه ، إنها تخاطبني كما تخاطب الأرواح .
- ولكنها تعرفك جيدا .
- تعرفني كشيء مضى ، ولكنها تتوهمني كشيء آتٍ ، أتعرف كيف أحس من حديثها معي ؟
- كيف ؟
- أحس كأني ، كأني إنسان كان في حياتها ثم خرج منها ، ولم يَعُد لها إليه من سبيل ، أحس كأني ميت لا أمل لها في لقائه .
- يا شِيخ فال الله ولا فالِك ، ما هذا الذي تقول ؟
- إني أقول الحق ، إنها لا تتحدث أبدا عن أملٍ في مستقبل ، إنها تعاملني باعتباري شيئا مستحيلا عليه أن يكون أكثر مما هو في وَهْمِها ، أَتَفْهم ما أعني ؟ إنها لا تأمَل أبدا كما يأمَل بقية الناس ، أنت تعرف أننا دائما نأمل في خطوة جديدة بعد كل خطوة نخطوها ، ولكن تبدو أنها قد جمدت آمالها عند حد معين .
- وهل تأمل أنت في خطوة أخرى ؟
وأحس مدحت أن جاد الله يَتَصَيَده فهز رأسه متسائلا وهو يحاول أن يمنح نفسه فرصة للتفكير : ماذا تعني ؟ أعني هل أنت نفسك تأمل في خطوة أبعد ؟ هل تأمل مثلا في أن تراها ؟ وأن وأن ؟
- ولِمَ لا ؟
- وماذا تأمل أيضا ؟
-
- آمل في أن أصادقها ، وأن أحقق لها الدعوات الوهمية التي دعوتها إليها .
- وماذا أيضا ؟
- لست أدري بالضبط ، ولكني أحس أني ، أود أن أُجَسِدَها أمامي .
- أنت واثق إذن أنها شيء حقيقي ؟
- طبعا .
- ويخذلك أن تكون شيئا وهميا ، خدعة مثلا أو أكذوبة ؟
وبدت على وجه مدحت علائم الضيق والخذلان .
فأردف جاد الله قائلا : لا تكتئب هكذا ، أنا أقول مثلا .
- بالطبع أكره أن تكون أكذوبة .
- لقد بدت إذن شيئا في حياتك ، شيئا واضح الملامح ، يشغل جزءً من تفكيرك واهتمامك ؟
- أعتقد هذا .
- وإذا فقدته تحس أنكَ فقدْتَ شيئا .
- لا شك .
- شيئا عزيزا ؟
- تستجوبني ؟
- أبدا ، إنما فقط أُعَرِّفك بمشاعرك ، أنت تُضمِر المسألة في نفسك وترفض أن تحددها أمام عينك ، إنك تحب الفتاة .
- كيف ؟
- تاني ؟
- أعني كيف أحب مخلوقة لم أَرَها ، مخلوقة كل معالمها مستمدة من السطور والصور ، هل يُعقَل أن يحب إنسان صورةً ووصْفا ؟
- ولِمَ لا ؟ إن الحب دائما لا يكون إلا صورةً ووصْفا نظل نحملها في أذهاننا حتى نلتقي بأقرب الناس شَبَها بها وانطباقا عليها فنرتمي في أحضانه ، والفارق بين حالتك وحالات غيرك من المحبين أن\ المخلوقة وُجِدَت أولا ثم رسمت في ذهنك صورتها وأوصافها فإذا أحسست أنها قد لاءمتك وأغلب ظني أنها لاءمتك فعلا فليس عليك إلا أن تمد يدك لتتناول الأصل ، إنها نعمة من الله أن أرسلها إليك لتوفر على ذهنك عملية خلق الصور والصفات التي تتمناها تتمناها في من تحب ، إنك مخلوق ضعيف التَصَور باهت الخيال وكان يُحتمَل أن تستمر في حياتك هكذا بلا شعور ولا حب لأنك أكسل من أن تفكر فيما تريد أو تحدده في ذهنك أو تصوره لنفسك ، أليس هذا حقيقيا ؟ أجب.
هز مدحت رأسه وأجاب ضاحكا : أنت غَلَباوي .
- وأنت حمار عنيد .
- أنا ؟
- أجل أنت ، لماذا لا تعترف أنك تحبها ؟
- الله ، أما مجنون ، أحب مَنْ يا غبي ؟ إنها مخلوقة لطيفة أُشفق عليها وأتسلى معها .
- تتسلى ؟ تتسلى حتى تغرق لأُذُنَيك ولا تجد من يُنقذك ؟ مع السلامة يا أُستاز ، يا متسلي .
وافترق الصديقان .
وعندما عاد مدحت الى حجرته في منشية الطيران وتمدد على مقعده المريح في الشرفة المطلة على المطار ، ولاحت له أشباح الدُور في ضوء القمر الباهت تَقْطَع خط الأفق وقد نتأت من بينها قِباب هليوكلِسبالس وبرج قصر البارون وبدت أشجار الكافور الضخمة بسور المطار ، ومن أسفل الشرفة تصاعدت رائحة زهر البرتقال الذي يملأ حديقة البيت تحملها نسمات مايو الدافئة لِتشبع الجو بأريجها العطر .
ومرة أخرى عاد النقاش يدور حول ساكنة قمم جبال الألب ، الشقراء المرهفة الرقيقة اللطيفة ، الذكية الحنون المحبة الودود ال ال ال ، التي لا يستطيع إلا أن يصفها بكل وصف طيب بلا مبالغة ولا مزايدة ، عاد النقاش مرة أخرى يدور حولها ، المخلوقة التي لا يحدد وجودها سوى السطور والصور ، المخلوقة الكائنة بالوصف والرسم .
وفي هذه المرة كان النقاش بين مدحت وبين نفسه ، كان نقاشا أصرح وأجرأ ،
أهو حقا يتسلى معها ويُشفق عليها ؟
جائز ، مُحتمَل أن يكون هذا بعض ما يفعله معها ، ولكنه قَطْعا ليس كل ما يفعله ، إنه يمارس معها عملية تسلية وشفقة ، ولكن هذا قد أضحى ضمن عملية أعم وأشمل ، قد تكون المسألة بدأت شفقة وامتدت تسلية ولكن الشيء المؤكد أنها لم تنتهِ الى هذا فقط ، إن هذه المخلوقة الرقيقة ذات العينين المتسعتين والشعر الذهبي المُسْتَرسل في جدائل أو المعقوص على شكل ذيل الحصان قد أضحت كما استدرجه جاد الله جزءً من حياته ، جزءً فقط ؟ إنه لم يحس لاهتمام بمخلوق قدر ما أحس لها ، وهو يستحمق نفسه وقد يخجل أن يُظهِر هذا الاهتمام أمام أحد ممن حوله ، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يمنع نفسه منه ، وهو يُسلِّم به لِنفسه كنوع من أنواع الشذوذ الذي يحاول أن يلسقه بنفسه والذي يؤكد عنه مَنْ حوله ، إنه يعتبر شذوذا من نفسه أن يمنح كل هذا الاهتمام وهو الإنسان المفروض فيه الترفع عن مشاعر الحب وغير هذا من السخافات لإنسانا أقرب وصْف يمكن أن تُوصَف به أنها غير كائنة ، إن أحدا من كل مَنْ حوله من معارف أو قريبات أو صديقات لم يستطع أن يستحوذ منه على مثل هذا الاهتمام أو التفكير ، ولكن هذه المخلوقة قد استطاعت ، وهي قد تسربت الى نفسه لِتكون جزءً هاما من حياته ومشاعره وتفكيره ، اعترف بهذا أَم أنكر ، سَلَّم بهذا أَم خجل ، واهتمامه بها كان في مَظاهر إن أخفاها عن الناس فمن العبث أن يحاول إخفاءها عن نفسه ، لهفته الشديدة على رسائلها وإحساسه الممتع بدعوتها واستغراقه معها في كل ما تذهب إليه أو تعيش فيه ، مث استمتاعه بالرد عليها وبدعوتها الى كل ما يذهب ، بل أكثر من هذا يقينه بأنه قد بات يُلَبّي دعوات السهرة والولائم من أجلها هي ، لكي يصفها لها ويمتعها ويسليها ، وهو يتصورها تصحبه في كل ما يذهب إليه ، وأخيرا يتبلور كل هذا في إحساسه بأنها باتت مخلوقة حية ، قريبة من نفسه وبأن لقاءها قد أضحى شيئا محتما إن لم يحدث اليوم فسيحدث غدا أو بعد غد ، ومع ذلك فإن شيئا من كل هذا لم يخرج عن دائرة تفكيره ولم يحاول أن يُفصح لها عنه ، ولا حاول أن يبديه لأحد ممن حوله .
وجلس يكتب إليها ليلة ذاك ، يصف لها مجلسه ويحمل إليها أريج البرتقال مع نسمات مايو الدافئة ، وينبئها أنه قضى أول أمس يسير معها في شوارع القاهرة محاولا شراء إصطوانتها المحببة فالس الوداع لِشوبان والتي لا تفتأ تصف له دقاتها المنسابة ، ووصف لها شارع عدلي ودخولهما محل بابازيان وافتقاد الإصطوانة ، ثمة المشوار الذي ساراه سويا الى شارع سليمان حيث دخلا ممر سينما راديو ، وكيف ابتاع لها غزل البنات من المحل القائم على اليسار أمام محل الإصطوانات ، وكيف خرجا من المحل بخف حُنين وذهابهما الى المحل الكائن في شارع الأنتك خانة بجوار أفرينو ، وأخيرا حصولهما على الإصطوانة وسماعها معا داخل الكشك الزجاجي الصغير ، إنها تدور الآن في البيكب الموجود في حجرته إنه يسمعها للمرة العاشرة في يومه هذا ، فهو قد يترك البيكب مغلقا عليها وتعود الإبرة الى الإصطوانة لتعيد إذاعتها بمجرد أن تنتهي ، إن موسيقاها المنسابة في الأعماق لا تتوقف ، لم يكن يتصور قط أن مقطوعةً من الموسيقى يمكن أن تصيب الإنسان بمثل هذا الأثر من النشوة والحزن ،
لماذا يحس مع هذه المقطوعة كل هذا الإحساس أمن ما حدثته عنها ، ألأنها تدفع بها في نفسه ، ألأنها تحمل الى ذهنه صورتها وهي في حجرتها الصغيرة أمام المكتب ، تشرد ببصرها من النافذة الى الأففق البعيد الذي بدت فيه القمم البِيض والى السنديانة التي تحنو بيد على سقف المحطة المنحدر وترفع الى السماء يَدا أخرى ؟
من يدري ؟ قد تكون المقطوعة معجزة في حد ذاتها أو تكون المعجزة في أنها قد باتت قطعة منها ، من نادية العزيزة الغريبة الجالسة في حجرتها تنظر سد الجبال الذي يحجب عنها شمس الوطن المشرقة .
وظل مدحت مسترسلا في الكتابة والإصطوانة لا تكف عن الدوران وموسيقاها ذات الدقات المتقطعة الهادئة المنسابة في عمق لا تتوقف ولا تَني .
وأخيرا وعندما انتهى من الرسالة أحس أنه قد نسي شيئا هاما ، إنه لم يعلق على الصورة بعد .
وأمسك بالصورة في يده وكَتب ، صورتك في كفي أمام عينَي ، هل يجب أن أقول عنها شيئا ؟
لو تُرِكْتُ لنفسي لما قلت شيئا ، فأنت عندي أَجَلُّ وأسمى من مجرد صورة ، ورغم ذلك أحس بعد طول إلحاحي في طلبها أنه يجب أن أقول رأيي فيها ، الواقع أنك أجمل كثيرا ممما كنت أتصور ، إن صورتك ذات الضفائر لطيفة وهي تحمل في مجموعها طبعك الهادئ اللطيف ، أما صورتك الأخيرة فماذا أقول عنها ، إني لست مغازلا ممتازا ولكني مع ذلك أجرؤ فأقول إنها رائعة ، بأنفك وعينيك وشعرك المعقوص في ذيل الحصان ورقبتك الفارعة ، و و ماذا ؟ أظن هذا يكفي فأنا لم أعتد أبدا هذا الغزل ، أنت جميلة دائما يا نادية في طفولتك وفي صباك ، وأؤكد لك أنك ستكونين جميلة أيضا عندما تصبحين عجوزا شمطاء لك من الأحفاد ذريَة ضخمة ، إني أشعر دائما بالاعتزاز بك وبكل ما يصدر عنك .
سأنهي الرسالة قبل أن أندفع لأقول أكثر من هذا ، فأنت تعلمين ما تفعله نسمات الصيف بنفوسنا ، تعلمين أثر زهور المشمش والخوخ وعبير زهور البرتقال ، وقد تعلمين ما يمكن أن يفعل كل هذا إذا سرت فيه دقات الوداع لِشوبان .
ووصلت الرسالة الى نادية بكل ما فيها من نسمات دافئة وأريج عطر ، وصلتها وهي هابطة من حجرتها بلمدرسة في طريقها الى البيت ، وكانت تحس بالأمل ينبض بكل ما حولها ، في الأشجار والطيور والزهور والأطفال منطلقين في فناء المدرسة ، وفي صوت عجلات القطار وهو يغادر المحطة وفي نداء الباعة وفي هزات ذيل كلب ناظر المحطة ، وفي غزل فتيان المدرسة .
وكانت هي التي أصرت على أن تسلك الطريق الطويل المزدحم بعد أن كانت دائما تفضل اختصاره بالسير بجوار سور سكة الحديد ، لم يكن بنفسها خوف من الناس ، ولم تفكر أبدا أن وراء الإشارْب الحَريري الذي تلف به رأسها وعنقها شيئا يمكن أن تخبئه وتخشى أن يكشفه الناس ، كانت تتوقف عند المحلات ، وكانت تعاكس المارة وتضحك بصوت مرتفع .
لقد نظرت إليها مُنى في دهشة متسائلة : نادية ماذا بك ، أجننتِ ؟
- لماذا ، لأني أُقلِّدكِ ؟
- أَكُلّ هذا من أجل الرسالة التي تُخفينها في جيبك ؟
- أبدا ، إني أحس بسعادة عامة ، الربيع دائما يدفع في نفسي بهذا الإحساس ، كل شيء جميل يا مُنى .
- معك حق ، ما رأيك أن نتسلق الجبل غدا ؟
- موافِقة .
- على فكرة هل رددتِ على رسالة جمال ؟
- أجل ، إنه إنسان طيب جدا ، لقد رددت عليه وعلى عمي سليمان وعلى صبري ، لقد كتبت بالأمس ثلاث رسائل .
- ما هي أخبار صبري ، أما زال منهمكا في الدستور ؟
- دستور إيه ؟ لقد انتهى منه منذ مدة ، إنه منهمك الآن جدا في بناء السد العالي .
وقهقهت مُنى قائلة : مرة واحدة .
- لقد قال لي إنه لا أمل لمصر بدونه ، وأنه لا رخاء لأجيالنا القادمة إلا به .
- دعه أولا يحقق الرخاء لجيلنا الحالي .
وتوقفت نادية أمام محل لبيع آلات التصوير والأفلام ، وأخذت تنظر الى الفاترينا في تمعن .
وجذبتها مُنى قائلة : يله يا نادية حتى نتغدى ونلحق السينما .
واستمرت نادية في مكانها تحدق في الفاترينا ، ثم هزت رأسها وبدت كأنها حزمت رأيها على أمر وقالت : اسمعي يا مُنى لقد قرت أن أشتري كاميرا .
- كاميرا ليه ؟
- لأصوركِ بها .
- أنا ؟
- أجل ، إني معجبة بكِ جدا .
وابتسمت مُنى في خبث وقالت : تعنين معجبة بنفسك ؟
وضحكت نادية وردت قائلة : أنا وأنت واحد .
- ولكن ، ألا تنتظرين حتى تَرَي رأيه فِيَّ ، لماذا لا تفتحين الرسالة وتقرئينها ؟
- الآن ؟
- ولِمَ لا .
- لا ، هذه الرسالة لا تُقرأعلى عجل ونحن في ضجة الطريق ، إنها تحتاج الى خلوة وهدوء .
- وموسيقى وزهور وسرحان و و و ، أليس كذلك ؟
- طبعا ، أليس هناك فارق بين الساندوتش والديك الرومي ؟ هل تستطيعين أن تأكلي الديك الرومي على قارعة الطريق ؟
- طبعا إذا وضعته في ساندوتش .
- لا لا ، أنا أحب أن آكله على المائدة ، وحدي .
- الظاهر أن بك اليوم لَوْثة .
- يجوز ، هيا بنا نشتري الكاميرا قبل أن أُفيق .
- والنقود ؟
- سأشتريها بثمن الراديو .
- والراديو ؟
- يحلها ربنا بعدين ، إننا نستطيع أن نسمعه عند كابي ، لقد استطعت أن أسمع محطة مصر أول أمس .
- حقيقة ؟
- لقد سمعت محطة تذيع إصطوانة جبل التوبات ، أعتقد أنها محطة مصر .
- ولماذا لم تُنْصِتِ حتى النهاية ؟
- السخيف توني أدار المؤشر ، هيا بنا نشتري الكاميرا .
وبعد دقائق خرجت نادية من المحل والكاميرا في يدها وقد وُضِع فيها فيلم .
وقالت نادية في لهجة منذرَة : خذي بالك من نفسك جيدا ، أنت تعرفين من تمثلين بصورتك ، لا أريد مَرْقَعَة .
- والله سأفْضحكِ ، لن أُصَوَر إلا بالمايو .
وفي تلك الليلة جلست نادية تستعيد قراءة رسالة مدحت ، كانت للمرة العاشرة تعود الى قراءتها في نفس اليوم ، ثمة شيء أو أشياء في هذه الرسالة يدفع في نفسها خليطا مضطربا من المشاعر ، لأول مرة تُحس أن روابطا الأوهام قد تجسدت وأضحت شيئا صلبا يمكن أن يبرز في حيز الحقائق ، لقد بدت لها أوهامها كأنها أبخرة تكاثفت لِتصبح قطرات ، والقطرات قد تجمدت لِتصبح شيئا صلبا ملموسا ، وكانت سعيدة بذلك ، سعيدة جدا ، فمجرد الإحساس بأن مدحت طيف الأوهام وفارس الأحلام قد أضحى مخلوقا حيا تشدها وإياه روابط كتلك التي تشد المخلوقات الحيَّة ، مجرد هذا الإحساس بصرف النظر عما يمكن أن يؤدي إليه من نتائج يدفع في نفسها فرحة البحث ونشوة الحياة ، وكأنها مخلوق وُلِدَ ليواجه النور والهواء والشمس ، ومع هذا الإحساس بالبعث وبالأوهام التي أضحت حقائق يداخلها شعور بالحذر والقلق والخوف ، الخوف من أثر الخديعة في هذا البعث ، أيمكن أن تكون الصورة المخادعة سببا في تحقيق كل هذا ؟
لا ، لا ،إن أحاسيسه واضحة جليَة في كل رسائله قبل أن يرى الصورة ، في دعواته الحارة وفي خوفه عليها وفي رقته معها ، في كل حرف من رسائله كانت تحس بخفقه ونبضه ، لم تكن المسألة أبدا مسألة صورة بدليل أنه قال لها "أنت عندي أجمل وأسما من مجرد صورة"
ولا تكاد تدفع بالطمأنينة في نفسها حتى يعود إحساس القلق والحذر والخشية لِيهاجمها في عنف ويعيد على أسماعها قوله في الرسالة "الواقع أنك أجمل كثيرا مما كنت أتصور ، إنك رائعة بأنفك وعنقك وشعرك"
ولم تحتمل هجوم الصوت الحذِر القلِق وهزت رأسها في ضيق وعنف كأنها تحاول طرده ، إنه قال ذلك مُجامِلا وحتى لو لم يكن مُجامِلا وكان ذلك رأيه الحقيقي فأي خوف في ذلك ؟
أَتُرى قوله سيختلف لو أنها أرسلت صورتها هي ؟
إن لها نفس الأنف ونفس العينين ونفس الشعر ،.
ألم يقل المصور بنفسه ذلك ؟ وأنه يستطيع أن يصور إحداهما ويُخرِج من الصور كمية مضاعفة تصلح للاثنتين ؟
هل لو صُوِرَت هي كانت صورتها تختلف عن هذه ؟ وهل كان قوله سيختلف عما قال ؟
لماذا إذن لم تُصَوَر ؟
هل كانت تستطيع ؟
والإشارْب والعنق والحريق و و ... أُف لكل هذا ، إن رأسها يوشك أن ينفجر ، لكن ما قيمة الصورة وهو يقول لها "إنك أجمل وأسما من الصورة"
أحقا يعني ذلك ، أحقا باتت شيئا هاما في نفسه ؟
وهب أنها قد باتت كذلك فماذا تريد ، الى أي نتيجة تريد أن تصل ، هل تجسر على لقائه بشكلها هذا ، بالإشارْب أَم بالعنق المحروق ؟
ولكن لماذا تفكر في هذا ، لماذا لا تستمتع بما حققته من نجاح ؟
إنها قد باتت تعني لديه شيئا أو على وجه أدق وأصْرح ، إنه يحبها ،
فلماذا لا تسْتمْتع بذلك ؟
أجل ، أجل إنه يحبها ، يحبها .
ودَفَنت رأسها في الوسادة وتركت جسدها ينتفض في الفراش ودموعها تُغرق غطاء الوسادة ...
33
فَك قيد
غربت شمس الثامن عشر من يونيو لعام 1956 لِتبعث في مغربها أضواء باهرة تشيع في قلوب المصريين ، فقد أفلت مع شمس ذلك اليوم شمس الاستعمار التي اصطلى المصريون سعيرها سبعين عاما وانزاح عن مصر كابوس المستعمر الذي أثقل كاهلها وأنْقَض ظهرها ، وبدت مصر في تلك الليلة وهي أشرق ما تكون ضياءً وأبهى نورا وكأن قطرات الدم والعرق التي بذلتها الأجيال المكافحة في سبيل الحريَة والكرامة قد صيغَت في حبات من النور تكلل جبين مصر الحرة المكافحة الناهضة .
وبدا الازدحام في شارع الزمالك وقت ذاك على أشده وتكدست العربات في الطريق حتى كادت حركة المرور تُشَل ، وبدا نادي الضباط وقد غمرته الأضواء الكاشفة واحتشد به المدعوون من جميع طبقات الشعب الذين دعاهم رئيس الجمهورية لحفل أقيم ابتهاجا بعيد الجلاء .
وامتدت الحديقة المواجهة لِبِناء النادي بعد أن أزيل بناء الاتحاد المصري الإنجليزي الذي كان يجاور النادي ، ورُصَت آلاف المقاعد أمام المسرح المكشوف القائم في نهاية الحديقة والذي يحجب وراء أستاره فِرَق الموسيقى والغناء والمجموعات القائمة بالاحتفال .
اتخذ المدعوون أماكنهم في الحديقة ، وفي ركن على اليسار جلس مدحت وجاد الله بين أساتذة الجامعة ومدرسيها ،
ومد جاد الله ساقيه وفرك كفيه وتجشأ ، ثم ضرب بكفه على بطنه قائلا : عشوة دسمة .
وأجاب مدحت : لقد كنت تأكل كأنك كنت تأكل في آخِر زادك .
- ولِمَ لا ، إن لم آكل في يوم جلاء الأنجليز فمتى آكل ؟
- كأنك أنت الذي أجليتهم ؟
- وهل لديك شك في ذلك ؟ ألم أشترك في مظاهرات 1935 ؟
- أبهذا أجليتهم ؟
- وأبي اشترك في ثورة 19 .
-- معقول ؟ !
- وجدي كان في جيش عُرابي .
- أصيل ، مجاهد أبا عن جد .
- أتسخر ؟ ألم تسمع جمال عبد الناصر وهو يقول اليوم في الإذاعة "إن جيلنا لم يصنع ذلك وحده ، وإن أجيال شعبنا كانت تكافح وتناضل ، وإن الشهداء كانوا يسقطون على الأرض وبجوارهم أعلامهم مضرجة بالدماء ولكنهم لا يستسلمون أبدا ، وأن قوة المقاومة فينا ظلت تخفق وتنبض" .
ونظر مدحت الى جاد الله في دهشة وتساءل : جاد الله ماذا حل بك ؟
- لِمَ ؟
- أحقا بت تؤمن بما تقول ؟
- ولِمَ لا ؟ إنه كلام جمال عبد الناصر .
- أعرف هذا ، ولكنك كنت تسخر من اتفاقية الجلاء .
- يجوز .
- وكنتَ تقول إنها إحدى مناورات الإنجليز التي تعودوا أن يخَدِّرونا بها منذ سبعين عاما .
- أنا قلت هذا ؟
- ألا تذكر ونحن في حجرة النواب في المستشفى ؟
- ربما قلت .
- وقلت إنهم ضحكوا على جمال .
وزغد جاد الله مدحت في فخذه وقال زاجرا : اخفض صوتك يا غبي .
ابتسم مدحت وأردف هامسا : وقلت إنهم لن يجْلَوا .
- وبعدين ؟
- ماذا حدث حتى بت الآن تحفظ كلام جمال عبد الناصر ؟
- ماذا حدث ؟
- أجل ماذا حدث حتى غيرت رأيك فيه؟
- أيها الغبي وماذا تريد أن يحدث أكثر من هذا ، لقد حدث الشيء الذي كان يبدو لي أنه لن يحدث أبدا ، لقد جلوا ، انكشحوا ، لقد باتت كلمة الجلاء التي كنا نُرَدِدها بلا وعي حقيقة واقعة ، لقد اتضح لي أنه هو الذي ضحك عليهم ، لقد شيعهم اليوم في بور سعيد وكاد يُخرج لهم لسانه صاخرا .
وفي الناحية الأخرى كانت هناك تتمة للحديث بين اثنين آخرين ، عصام وقد جلس في ركن الضباط وبجواره صبري وقد أخذ يُنْصِت إليه في لهفة وشغف متسائلا : وبعدين ماذا حدث ؟ صِف لي كل شيء ، كم وددت أن أكون هناك .
- كنا نقف في السرادق الكبير الذي أقيم في مبنى البحرية ، كانت نسمات تهب علينا عليلة رطبة ، كان السرادق مزدحما ، وكانت الفرحة تُفعِم قلوبنا جميعا وكنا نضحك ملء صدورنا ، لم نكن في احتفال رسمي وإنما كنا في عرس ، كانت مدينة بور سعيد كصبي في يوم عيد يَعْدو بالزمارة والبالون ويرقص ويغني ، كانت المدينة كلها تضحك وتمرح كأنما أزالت عن نفسها كابوسا أو رفعت غُمَّة ، كان الناس يتبادلون التهاني على غير معرفة ، كان بنفوسهم إحساس الأهل وقد تخلصوا من غريب ثقيل وانطلقوا يمرحون بلا كُلْفة ولا خشية ، وكانت القطع البحرية قد اصطفت أمام منصة الرئيس وقد بدت هي والسفن الراسية في الميناء مزدانة بالأعلام الملونة مكللة بالزهور كأنها في سامر أو زفة .
وتساءل صبري في لهفة : وأين كان جمال ؟
- كان يجلس في المنصة .
- وكيف كان يبدو ؟
- كان يبتسم ، ولكني كنت أحس وراء ابتسامته شيئا من رهبة ، رهبة الإحساس بجلال الموقف وضخامة العمل ، رهبة الشاب الصغير الذي كان يَعْدو منذ خمسة وعشرين عاما وسط الطلبة في ميدان المنشية لِيهتف وسط المظاهرات بالحريَة والاستقلال وينادي بجلاء الإنجليز عن بلاده والذي كان يرى مواطنيه من حوله يسقطون صرعى برصاص المحتل وعلى شفاههم نداءات الحريَة التي توارثها المصريون جيلا عن جيل مع إرث الاحتلال والذل والعبودية ، كنت أبصر في ملامحه وراء الابتسامة المشرقة رهبة الشاب الصغير الذي أمضى عمره يحلم بحريَة وطنه ويهتف مع مواطنيه باستقلاله ، يرى نفسه وقد تحققت بواسطته أحلام مواطنيه وتجمعت في يديه قوى الشهداء والمكافحين منذ سبعين عاما لِتدفع فلول المحتل الغريب وتُفلِت أعناق الوطن من أيديه وتزيح عن صدره كابوسه ، وبقدر ما كنت أحس بفرحة النصر كنت أحس بِرْهبته ، وعندما نهض لِيرفع العَلم عن السارية كنت أحس بمدى انفعاله الذي تخفيه ابتسامته المشرقة وخطواته الثابتة وهامته المرفوعة.
- وكيف رفع العلَم ؟
- حمله مطويا بين كفيه ، وبخضرته نضرة وإيناع ،وبياض هلاله نور وإشراق ، وكأنه قطعة من الحياة الخضراء اليانعة والنور الأبيض الناصع ، وانحنى جمال على قطعة الحياة والسلام والنور وقبلها وفي عينيه إغرواقة وفي قسماته اختلاج ورجْفة ، ثم رفعه بيده ونظر إليه وهو يعلو ويرفرف ، وضج الناس بالهتاف ، وأحسست أن الأرض تهتز تحت قدمَي من فرط حماسهم ، وخيل إلي أن جمال لم يرفع عَلما وإنما فكا قيدا وحطم قضبانا وأطلق العنان لوطن حبيس .
وصمت عصام وبدا عليه كمن يغالب انفعاله ، وهز رأسه وبدا كمن يحدث نفسه : كانت لحظة عجيبة .
وتساءل صبري في لهفة : وماذا قال جمال ؟
- لم يتحدث كثيرا ، لقد قال "إن هذه اللحظة هي لحظة العمر ، بل هي العمر كله ، لحظة كافح من أجلها الآباء والأجداد وراحوا قبل أن ينعموا برؤيتها" .
وصمت عصام وعاد صبري يستحثه قائلا : أهذا كل ما قال ؟
- لست أذكر أكثر من هذا ، لقد رفع عينيه الى العلَم المرفرف وقال وكأنه يبتهل الى الله "عسى ألا يرفرف على هذا الوطن وعلى هذه الأرض سوى هذا العلَم" .
وبدا التأثر على ملامح صبري ، ومد يده يتشاغل بمسح منظاره السميك وهو يقول : وددت لو فقدت نصف عمري لكي أشاهد تلك اللحظة ، لقد سبق أن ذهبت الى بور سعيد ذات صيف وكان الأنجليز لا يزالون هناك .
- أنا أيضا ذهبت إليها بضع مرات ، لكني أحسست بها اليوم شيء آخر ، ربما لم يكن هناك شيء عادي قد تغير بها ، ولكن إحساس الحريَة ونشوة الاستقلال قد خلَعَا عليها رداءً عجيبا أظهرها كأنها عروس تُزَف ، وملأ ربوعها بالبهجة والفرحة والحب والسلام .
- ليتك دعوتني .
- كيف أدعوك لقد كنت في طابور ؟
وصمت صبري وهز رأسه قائلا : على أية حال سأدعوك أنا إليها بعد اثني عشر عاما لنحتفل بعيد جديد .
- عيد جديد !؟
- أجل ، مازال هناك في القناة مزيد من الأعياد .
- لا أفهم ما تعني .
- عندما ينتهي عقد امتياز القناة وتجلو عنها الشركة الفرنسية وتصبح القناة لنا .
ورفع عصام كتفيه قائلا بغير مبالاة : إنها لنا الآن .
- أنت عَبيط ، ليس لنا فيها الآن غير حثالة الكأس ، لقد قرأت عنها كتابا في الصيف الماضي فذُهِلْت .
- لِمَ ؟
- لقد بدت لي كدولة داخل دولة ، كضرع حلوب نلقي بها للغير لِيَلْتهم خيره ويمن علينا ببضع قطرات .
- على أية حال مصيرها لنا ، متى قلت لي أن الامتياز سينتهي ؟
- بعد اثني عشر عاما سنة 1968 .
- هانت .- إذا لم يتلاعب المستعمرون .
- أي مستعمرين ؟ لقد انتهينا من الاستعمار أستاذ ، أنسيت بماذا نحتفل الآن ؟
-لقد انتهينا من عدة جولات ، ولكن هل تظن أننا انتهينا من الجولة الأخيرة ؟
- أي جولات تعني ؟ إنها معركة كبرى خضناها معا وقد كسبناها بعد صراع سبعين عاما .
- اسمع يا عصام إنك لا زلت غشيما في السياسة ، سأشرح لك الجَولات التي خضناها مع المستعمِر ، لقد كسبنا المعركة الأولى التي استمر الصراع فيها بيننا وبينه كما قلت سبعين عاما وانتهت بتسليمه بالجلاء ، ولكنه لم يسلِّم به وهو يُظهر الانسحاب فعلا وإنما كان يعد لجولة جديدة .
- ماذا تعني ؟
- أعني جولة الأحلاف ، إنه لم يكد ينتهي من التسليم بالجلاء حتى رد إلينا الكُرة بصورة حلف بغداد ، فأعدناها إليه ورفضنا الحِلف .
وضحك عصام وتساءل بشيء من االسخرية : وماذا فعل هو أيها السياسي المحنك ؟
- أعادها إلينا مرة أخرى بصورة الضغط ومنع السلاح .
وعاد عصام يضحك قائلا : الكُرة الآن في أقدامنا ؟
- أجل ، الكُرة مع جمال .
- جمال شاط ؟
- أجل شوطة جامدة في مؤتمر باندوغ مستقرة في المرمى محققة هدف الحياد الإيجابي والتعايش السلمي .
وازدادت ضحكة عصام وقال : الكُرة الآن مع المستعمِر ؟
- دفع بها لإسرائيل ، إسرائيل شاطت في الصفحة .
- خُسارة .
- ولا خُسارة ولا حاجة ، جمال أخذ الكُرة ، جمال طلع بيها جمال شاط حتِت دين شوطة رجت الملعب كله بصفقة الأسلحة .
- وبعدين .
- الكُرة مع المستعمِر ، المستعمِر جري بيها ، المستعمِر شاط وحِلِف ما يشتري القطن منه .
- خُسارة .
- بالعكس ، جمال أخذ الكُرة وحدفها مع القطن للصين الشعبية ، ومعها اعتراف بالصين الشعبية والبقية تأتي .
وقهقه عصام قائلا : خُسارتك في الطب ، كان يجب أن تكون مذيعا في الكُرة .
- الكُرة السياسية فقط .
- إذن خذ بالك جيدا حتى تصف لي أولا بأول ، إنه ليس لي جَلَد على متابعتها .
- يعطي الحلَق للي بلا وِدان .
- أي حلَق تحسدني عليه ؟
- وجودك في الجيش ، وسط دبابات استالين ومشاهدتك للجلاء اليوم .
- أما زلت تَحْسدني على حفلة اليوم
- طبعا ، لو شاهدتها لاستطعت أن أصفها لِنادية .
- ولماذا لا تصفها كما وصفتها لك أنا ؟
- سأحاول ، ولكني أكره أن أكون مجرد ناقل ، إني أحب أن أشارك في الشيء . هل تصدق أن الشيء الوحيد الذي يضايقني في احتفال الجلاء اليوم هو إحساسي أنهم جلوا في سكون ؟
- يا أخي احمِد ربنا .
- الحمد لله ، ولكني كنت أود أن أشاهد جلاءهم على الأقل لأضرب واحدا منهم شَلّوتا .
- لكي يضربك رصاصة .
- سأضربه مثلها ، ماذا تظنني عاجزا عن ضرب النار ؟ لقد ضربت في التدريب العسكري .
- مفهوم مفهوم ، على أية حال ربنا رحم الأنجليز منك ، لقد نجوا بجلدهم .
ونظر عصام في ساعته في قلق ثم تساءل : لقد بلغت التاسعة والنصف متى ينوون البدء ؟
وسُمِعَت ضجة من الخلف والتفت صبري ثم بدا عليه الحماس واللهفة ووقف قائلا : لقد أقبل جمال ، سأرقبه جيدا حتى أستطيع وصفه لِنادية وأنا أتخيله يرفع العلَم .
وضحك عصام وقال : أخشى من طول ما تكتب عنه في رسائلك أن تحبه نادية وتتركك .
وبدا الوجوم على صبري ثم أجاب بنبرة حزن : إنها لن تتركني من أجله ، إنها تحبه كما أحبه ، على أية حال لا داعي لأن أخاف أن تتركني لأنها لم تأخذني بعد .
- ولن تأخذك أبدا ما دمت تأبى أن تفتح فمك بكلمة حب .
- كلمة حب ! ؟ ، إنها لا تعطيني فرصة ، إن طريقتها في الكتابة آلية كطريقتها في الحديث ، تُكَبِلُ فمي وتقتل ألفاظ الحب على شفتَي .
وعبر جمال ومرافقوه الممر وسط ضجيج التصفيق وحماس الهتاف ، واستقر في صف المقاعد المواجه للمسرح وسط السفراء والوزراء ، وبعد لحظات اعتلى المسرح ، وبدأ بتسليم الأوسمة لِأعضاء مجلس قيادة الثورة وسط الهتاف المدوي ، وانتهى تسليم الأوسمة وعاد الرئيس مكانه ، وأُطفِئت أنوار الحديقة وسُلِّطَت الأضواء على المسرح وبدأ النشيد الافتتاحي ، وتوالى على المسرح نجوم السينما يحملون الأعلام ، ووقف عبد الوهاب بين نجوم الموسيقى ينشدون :
"قولوا لِمصر تغني معايَ في عيد تحريرْها ،
تم النصر وصبحت حُرة بإيد أَحْرارها"
وخلال النشيد والناس يرددون فقراته في حماس وفرحة التفت جاد الله الى جواره لِيرى مدحت محنيا الى الأمام وقد وضع يده على بطنه وبدت على وجهه علامات الألم ، وبدت الدهشة والقلق على وجه جاد الله وهمس به : إيه يا مدحت مالك ؟
وهز مدحت رأسه قائلا : لا شيء .
- ما بك حقيقة ؟
- أبدا ، مغص كالمعتاد .
- ولكنك لم تتناول العشاء.
- ربما من أثر الغداء .
- هل أكلت شيئا غير عادي ؟
- ربما ، لقد أكلت قطعة كُنافة .
- لابد أنها هي التي أتعبت معدتك ، كان يجب عليك أن تحاسب .
- أحاسب أكثر من هذا ؟! لقد ضقت بها ذرعا ، إني أشك أن بها قرحة .
- لم أر أجهل منك بالطب ، لست أدري كيف يسمحون لك بهذه العمليات التي تقوم بها ، أكلما أصابك هذا المغص اتهمت معدتك بالقرحة ؟
- أنا أدرى بنفسي .
- بل أنت أجهل بنفسك ، أنت وسواس كبير ، أتذكر عندما قمت بعمل أشعة منذ عامين ؟ واتضح أن معدتك ليس بها شيء .
- أشعة ، كلام فارغ .
- أتذكر ما قاله لك الدكتور سليمان من أن معدتك ليس بها قرحة ؟
- الدكتور سليمان لم يكن على حق .
- إذن ما هي أعراض القرحة التي عندك ؟ هل نزفت من معدتك دما ؟
- يا غبي ، أتظن أن ذلك من ضرورات القرحة ؟
- أعتقد أن ذلك من أول مَظاهرها .
- أبدا ، كلام فارغ .
- إذا كنت واثقا أن عندك قرحة فلماذا ؟ ...
- أنا لست واثقا ، إن عندي شكا فقط .
- وما العمل إذن ؟
- إني أفكر في السفر الى إنجلترا لِأعرض نفسي على الدكتور تامر .
- تامر ؟
- أجل ، لقد قابلته هنا في العام الماضي ، وهو نفسه الذي اقترح علي زيارته .
- لكنك لم تخبرني وقت ذاك .
- لأني لم آخذ دعوته على محمل الجد .
- والآن ؟
- أفكر فيها جديا .
- من أجل قطعة الكُنافَة التي أتعبتك ؟
- من أجل معدتي أولا ، ومن أجل رغبتي في أن أسافر الى أوربا هذا الصيف لأني في حاجة قصوى للراحة .
- من هذه الناحية معك حق ، وإن كنت أعتقد أن إجازة في الإسكندرية أو بورسعيد كافية جدا ، وَلّه أول ما تشطح تنطح ؟
- الإجازة في الإسكندرية كعدمها لأنهم يستطيعون إعادتي الى المستشفى بتليفون أو تلغراف .
- إذن اذهب الى مرسا متروح أو بورسعيد .
مَحَصَّل بعضه ، سيعيدونني في نفس السرعة .
وكانت فرقة الريحاني قد اعتلت المسرح ووقفت ماري منيب تمثل دور الداية التي تنتظر المولود .
نظر مدحت الى المسرح نظرة من لا يفه شيئا مما يجري ، ونفخ في ملل قائلا : اسمع يا جاد الله ، ما رأيك في الانصراف قبل أن يزدحم الطريق ويتعذر علينا العودة ؟
- انتظر على الأقل حتى ينتهي فصل الريحاني .
وبعد لحظات كان الفصل قد انتهى ، وكان مدحت يتسلَّل بين الصفوف متخذا طريقه الى خارج النادي ، ووصل الى عربته التي تركها في شارع ففرعي بجوار النادي ، ثم سار يشق طريقه بين المنادين والسائقين حتى وصل الى شارع الزمالك ، وكان مفروض أن يتجه يسرة الى كبري أبي العلاء ولكنه اتجه يمنة ثم دلف الى شارع شجرة الدر متجها الى طريق النيل خلف نادي الجزيرة .
وقال جاد الله : لماذا لففتَ هذه اللفة ؟
- لأني أفضل هذا الطريق .
- لِمَ ؟
- لأني أحب أشجاره المتعانقة المكللة بالزهور الحُمْر ، وأحب منظر النيل على حافته .
وضحك جاد الله قائلا : ما شاء الله ، لقد أصبحت شاعرا ، هذا شيء جد عليك منذ بدأت تكتب الرسائل الى كاب .
- لا تكن سخيفا .
- أشياء كثيرة تغيرت فيك ، لقد بت مخلوقا مهذبا ، لو كنت أعلم هذا لسلطتها عليك منذ مدة ، على فكرة ما أخبارها ؟
- بخير .
- ألا تنوي المجيء الى هنا ؟
- لا أظن .
أتنويان إذن الاستمرار على رسائلكما الولهة دون أن يفكر أحدكما في رؤية الآخر ؟
- كُفّ عن قولك رسائلنا الولهة وإلا ضربْتُك .
- لا تَزْعَل ، أقصد رسائلكما العلمية الاقتصادية .
- لا تسخر .
- ماذا أقول إذن ؟ المهم أليس لديكما مشروع للقاء ؟
- حتى الآن لا .
- ومستقبلا ؟
- من يدري ؟
- ألا تدري أنت ؟
- ربما استطعت أن أراها وأنا في طريقي الى لندن .وهنا انفجر جاد الله مقهقها وصاح به : يا ابن الإيه ، أتسرح بي كل هذه السرحة وأنا كالحمار لا أدري شيئا .
- تدري شيئا عن ماذا ؟
- تَدَّعي أن بمعدتك قرحة ، وأن الدكتور تامر دعاك لِزيارته ، وأنك تريد السفر الى لندن ، وأنا أصدقك كلأبله .
- ولماذا لا تصدقني ؟
- لأن هناك شيئا أهم من هذا كله يدفعك الى السفر .
- أولا أنا لم أجزم بعد بالسفر ، وثانيا إذا سافرت فسأسافر من أجل معدتي .
- مفهوم مفهوم ، وبالصدفة ستمر بطريقك في جبال الألب ، ولن يكون من الذوق أن تمر هناك دون أن تسأل عنها ، أليست هذه هي خطتك ؟
- أنت سخيف .
- سخيف لأني كشفت نواياك ؟
- قلت لك سأسافر من أجل معدتي .
- ستسافر الى لندن ؟
- أجل .
- بالطائرة ؟
- ولِمَ بالطائرة ؟
- لأن الناس كلهم يسافرون الآن بالطائرة .
- قد أسافر بالطائرة ، وقد أسافر بالباخرة إذا كان لدي وقت .
- وسيكون بالطبع لديك وقت ، وستنزل في مارسيليا ثم تمضي بعض الوقت في فرنسا ، أليس كذلك ؟
- ربما .
- بل مؤكد ، قل الحق .
ولم يجب مدحت ، كان يَشْرُد ببصره من خارج العربة ، وقد بدت الأرض تلمع أمامه وأخذت مصابيح الطريق تتواثب على وجهه وفروع الزهور تتكاثف في مظلة تمتد على طول الطريق ، والسكون سائد ونسمات الليل تهب رطبة من نافذة العربة ، وأخذ يفكر في كل ما قاله جاد الله ، إن فكرة السفر قد أخذت تقوى في ذهنه وأخذت معالمها تتضح وسماتها تتأكد ، وكانت معدته هي العذر الواضح للسفر ، العذر الذي يطوي في باطنه كل العلل والاتهامات التي قالها صاحبه ...
34
تفكير في زيارة
في صباح أحد الآحاد جلست نادية على مقعد في الحديقة وقد أمسكت رسالة مدحت بين أصابعها وبدا عليها الشرود .
وأقبلت مُنى من الباب الخارجي تصيح بنادية : نادية هيا بنا ، سنصعد الجبل الآن سيمر علينا توني وكابي بعربتيهما وسنتناول الغداء فوق الجبل مع بقية الشلة .
وهزت نادية رأسها في ضيق وقالت : لن أصعد معكم ، إني متعبة .
- قلت لك سنصعد بالعربة أيتها الغبية .
وعندما اقتربت منها مُنى هتفت : ماذا بك ؟
وأخفت نادية الرسالة قائلة : لا شيء ، صداع خفيف .
- صداع !؟
- أجل .
وهزت مُنى رأسها في دهشة متسائلة : منذ متى كان هذا الصداع يصاحب هذه الرسائل !؟
ورفعت نادية حاجبيها مدعية أنها لم تفهم وتساءلت قائلة : ماذا تعنين ؟
- أليست هذه رسالة مدحت ؟
- أجل .
- ماذا حدث إذن ؟
- لا شيء .
- هل تعودتي أن تتلقي رسائل مدحت بهذا الشرود والقلق والانقباض ؟
- قلت لك إن بي صداعا .
- كنت أعرف أن رسائل مدحت أنجع الوسائل في شفاء الصداع ، إنها خير بكثير من الأسبرو .
- أتمْزَحين ؟
- بل أقول جادة ، إني أعرف تماما مدى تأثير رسائله عليك ، لقد بعثتك من جديد ، انتشلتك من هوَّة اليأس وأحاطتك بسياج من الأمل المُشرِق ، لقد كنت أول الأمر أهزأ بها وأكره لك أن تتشبثي بخيوط واهية من الأحلام ، لكني بعد ما رأيت ما فعلته بك بت أحبها وأشاركك السعادة التي تغمرك بها ، فماذا حدث حتى تبعث فيك هذا الشرود والقلق .
وصمتت نادية واستغرقت في شرودها .
وعادت مُنى تسأل : نادية لماذا لا تجيبين ؟ أريني الرسالة .
وسُمِع صوت نفير عربة توني يتوالى على باب الحديقة .
وصاحت كابي منذرَة : دقيقتين ثم تتحرك العربة ، ليس لدينا وقت .
وجذبت مُنى نادية من ذراعها قائلة : هيا يا نادية ، لن أتركك وحدك ، لقد أخذنا الكرامفون معنا وسنرقص أمام البحيرة في حديقة بيت مسِيو رينو ، وسنشوي اللحم على السيخ فوق النار ، وإذا كانت المياه دافئة سأنزل في البحيرة لقد أخذت المايو و ...
نظرت نادية الى مُنى في دهشة مقاطِعةً قائلة : تنزلين في البحيرة ؟
- ولِمَ لا ؟، إن الشمس ساطعة والجو دافئ .
- إن مياه البحيرة مثلجة ، إياك وهذه الحماقة .
ورفعت مُنى كتفيها قائلة في لهجة المنذر : سأنزل إذا لم تأتِ معنا .
- أَتهددينني ؟ إنها حياتك أنت يا مُغَفَّلة وليست حياتي أنا .
وقالت مُنى في إصرار : إذا لم تأتِ سأستحم في البحيرة .
- استحمي ، انفلْئي .
- وسأعوم وأجري حتى حتى أُجهَد ويحدث ما تخشيانه حدوثه أنت وأمي .
ولم تتحرك نادية .
وعادت مُنى تقول : سأنزف دما من صدري و ...
وقاطعتها نادية ناهرة وهي تحس بغصة في حلْقِها : ما هذا السخف الذي تقولين ؟ أتظنين نفسك صغيرة ؟
ورفعت مُنى كتفيها وهي تسير متجهة الى الباب وهي تقول : أنت وشأنك لقد أنذرتك .
ثم أردفت تقول ضاحكة : إني أحس اليوم بلهفة الى الانتحار .
ونهضت نادية وهي تدفعها قائلة : يا دمك ، أتظنين نفسك خفيفة ، وأمسكت مُنى بيدها وقالت وهما في طريقهما الى الباب : لم تقولي ماذا ضايقك في رسالة المحروس ؟
- ليس هذا وقته ، سأخبرك فيما بعد .
- إذن أعطني الرسالة أقرؤها .
- الآن ؟
- ولِمَ لا ؟
- أمام هذا الحشد الذي ينتظرنا في العربة ؟
- إنهم لا يفهمون العربية وسنقول لهم إنها رسالة من عمي .
- لا لا ، سأريها لك عندما نعود .
- إذن أعطيني فكرة حتى لا ينتابني القلق طوال هذه الفترة .
- فكرة عن ماذا ؟
- عن ما ضايقك في رسالة مدحت ، ماذا به ؟
- إنه مريض .
- مريض بماذا ؟
- بمعدته .
- وأي جديد في ذلك ، ألم يقل في رسائله من قبل إنه يأكل طعاما مخصوصا لأن معدته متعبة ؟
- ـأجل ولكنها لم تكن متعبة الى هذا الحد .
- أي حد ؟
- الى حد الشك بأن بها قرحة .
- من قال له هذا ؟
- هو نفسه .
- هو يشك أن لديه قرحة ؟
- أجل .
- وماذا قال له الأطباء ؟
- لم يقولوا شيئا .
- لماذا ؟
- لأنه لا يريد أن يستشير أحدهم ، إنه يعتقد أنهم جميعا لا يفهمون .
- إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يقطعها كما يقطع مَعِدَات بقية الخلق الذين يوقعهم القدر تحت رحمته ويريح نفسه ؟
وبدا الانزعاج على وجه نادية وقالت ناهرة : ما هذا السخف الذي تقولين ؟
- وضحكت مُنى وردت قائلة : وبهذا القدر تخشين عليه وعلى معدته ؟
وأجابت نادية في غضب : أنت تافهة لا يأخذ المرء منك غير التَرْيَأَة والسخرية الحق علي أن قلت لك .
وربتت مُنى ظهرها في حنان وردت : أغضبتِ ؟ إني أضحك يا نادية ، متأسفة .
وأقبلت التوأمتان على الباب الخشبي ، وبدت العربة لهما وقد اكتضت براكبيها الذين انطلقت منهم الصيحات الهادرة والضحكات الماجنة ، وردت الفتاتان تحيات الشلة .
وقبل أن تتخذا مكانهما في العربة تساءلت مُنى : وماذا ينوي أن يفعل ؟
- إنه يفكر في الذهاب الى لندن .
وهزت مُنى رأسها وأجابت مازحَة : معقول ، ويمر علينا لِيقضي معنا أسبوعا .
وتمتمت نادية في صوت خفيض وقد أطرقت وبدا عليها الشرود والقلق : إن هذا هو ما يفكر فيه فعلا .
وهتفت مُنى مأخوذة : إيه ؟
وفُزِعَت الشلة المحيطة بها في العربة من صيحتها المأخوذة وصاحوا بها : ما بالك ، ماذا حدث لك ؟
ولم تجب مُنى بل عادت تحملق في نادية متسائلة : يفكرفي ماذا ؟
- في المرور علينا وهو في طريقه الى لندن .
وهتفت مُنى صائحة : ينهار أبوه إسوِد .
وصاحت كابي بالتوأمتين والشلة تنظر بدهشة الى انفعالهما في المناقشة دون أن تفهم معنى ما يقولان : تحدثا بالفرنسية حتى نفهم .
وأردف توني يحتج قائلا : تحدثا بلغة متحضرة .
وزَغَدَته مُنى بطرف إصبعها في خده صائحة بالفرنسية : متحضرة يا غبي ، إن لغتنا هي أصل الحضارة ، عندما كنتم مغرقون في بربرية العصور الوسطى وظلامها كنا نقول الشعر وندرِّس الطب والفلسفة بالعربية ، مفهوم أَم تريد أُفهِمَك أكثر ؟؟
وصاح توني : بلا زغد ، لم أر فتاة أطول منك يَدا .
- في المرة القادمة سأستعمل شيئا آخر غير يدي ، إياك والتحدث بالسوء عن المصريين أو العرب ألا تعرف من أنا ؟
هز توني رأسه وقال في استسلام : كنت أحب ألّا أعرف .
والتفتت مُنى الى نادية وقد عاودت تساؤلها المأخوذ بالعربية : قولي لي أحقا ينوي هذا الحمار المجيء الى هنا ؟
ورفعت نادية كتفيها مجيبة فيشرودها القلق المنزعج : إنه يفكر في هذا .
- إنه مجنون ، يجب أن تمنعيه من التفكير في هذا بتاتا .
وقالت نادية وكأنما تُحدث نفسها : لم يخطر ببالي قط أن هذا شيء يمكن أن يحدث ، أبدا أبدا .
- لعله مجرد كلام ، إنه لا شك لا يعني هذا ، غير معقول أن يذهب الى لندن لمجرد أن معدته لا تهضم الكُنافة والفتة بالثوم ، وثلاثة أرباع المصريين معدتهم ليست خير من معدة سي مدحت .
وهزت نادية رأسها في حزن وأجابت : لا لا لا ، إنه دائما يشكو من معدته .
- صحيح أنه يشكو من معدته ، أهذا يدعو أن يترك عمله وعيادته ومرضاه ويطير الى لندن ؟
وصمتت مُنى برهة ثم أردفت قائلة وكأنما تُعدد في مناحَة : وليته كان سَيَطيِر لهان الأمر وزال الخطر ، ولكنه بسلامته سيتسكع بمعدته المقروحة في البحار وسكة الحديد ويصعد قمم الألب لمجرد المرور عليكِ .
ولم تجب نادية ، كانت المشاعر والانفعالات تصطخب في نفسها ، مشاعر متناض=قضة وانفعلات متضادة متباينة ، أيمكن أن يحس لها بما يدفعه الى هذا ، إنه يقول هذا في رسالته ، لكن ألا يمكن أن يكون مجرد كلام كما قالت مُنى ، ربما ، ولكنه أيضا يمكن أن يكون حقيقة ، هل كانت تتصور في يوم من الأيام أن يشعر لها مدحت بما يدفعه الى زيارتها في قمم الألب ، ولكن هل يزورها هي ؟ هل هي نادية بشخصها ولحمها ودمها التي يحس لها من المشاعر ما يدفعه الى التفكير في زيارتها أم هي صاحبة الصور التي تعودت أن ترسلها له في كل رسالة ؟
أهي نادية صاحبة الرسائل المقصودة بالزيارة أَم هي مُنى صاحبة الصور ؟
شيء يبعث على الحيرة والشك ، من هي المخلوقة التي يفكر مدحت في زيارتها ، أهي هذه أَم تلك أَم خليط منهما معا ؟
على أية حال ، إنها قطعا ليست نادية بكل تفاصيلها ، ليست نادية مائة بالمائة ، إنها جزء من نادية تضاف إليها أجزاء أخرى من صور أَم خليط منهما معا ومن صنع أوهامه هو ، ومع ذلك ورغم أنها تعرف أن الصورة التي في ذهنه والتي يحس لها ما يدفعه الى التفكير في زيارتها ليست صورتها هي فإن شيئا ما في باطنها قد يكون رغبتها في الأمل والمقاومة والحياة يدفعها الى الإحساس بأنها هي وحدها المخلوقة المستقرة في ذهنه الراسبة في نفسه ، والتي يَتُوق الى رؤيتها ويفكر في زيارتها ، ولكن هب أنها كانت هي أَم كان غيرها ما الفائدة ما دامت في جميع الافتراضات عاجزة عن أن تَلقاه لأنها لا تصلح لالقاء كما وطدت نفسها من أول الأمر ، إنها تعجز عن لقائه بعنقها المشوه الذي يحجبه إشارْب لا يفارق رأسها ، ثم إنها قد تكون هي صاحبة المشاعر التي يكنها لها على البعد والصلة مقصورة على الرسائل والأحاسيس ، أتجسر على ادعاء ملكية هذه المشاعر عندما تواجهه وبجوارها أختها مُنى ؟
لا لا، إن اللقاء سيكون فجيعة ، إن زيارته لها أمر مستحيل .
وأفاقت نادية من شرودها على صوت مُنى وكأنما تتم تفكيرها من وجهة نظرها هي : غير معقول ! هل من المعقول أن يجشم نفسه كل هذه المشقة لمجرد أن يراك .
وأحست نادية رغم انزعاجها من تفكير مدحت في زيارتها بالضيق من قول مُنى وهمست متسائلة : ولِمَ ؟
- إنه لو فعل هذا يكون مجنونا ، هل تتصورين أن مخلوقا مريضا بمعدته بدل أن يطير الى لندن في بضع ساعات يظل متسكعا في البحر أربعة أيام حتى يصل الى مرسيليا ثم يظل يطوي القفار بسكة الحديد حتى زين ، ثم يترك طريقه ويصعد الى كاب ثم يعود الى زين مرة أخرى ويتجه الى كرنوبل ثم باريس ثم كاليه ويعبر المانش الى لندن ، لماذا يَرْكب كل هذه المصاعب ، أمن أجل أن يلقى فتاة كتبت له بضع رسائل وأرسلت له بضع صور ، أمعقول هذا ؟
وكانت نادية في حالتين من الأسف والارتياح ، الأسف لأن ليس له من المشاعر ما يدفعه الى ركوب الصعب من أجلها ، والارتياح لأنه غير معقول أن يحضر إليها .
تمتمت نادية قائلة : طبعا غير معقول ، إنه مجرد كلام .
وصمتت مُنى برهة ، لكنها لم تلبث حتى لعب الفأر في عبها وهزت رأسها قائلة : ولكن هبيه فعل ؟
ونظرت إليها نادية متسائلة في شرود : هاه ؟
- أقول هبيه فعل ؟ إنه كما يبدو لي إنسان غير معقول فماذا يمنعه من أن يقدم على أشياء غير معقولة ؟
وزادت علامات الشرود في وجه نادية .
وعادت مُنى تتساءل : ماذا نفعل إذا كان تفكير هذا المجنون جدا ، وإذا نوى فعلا أن يزورك ؟
ورددت نادية قولها كلمأخوذة : ماذا نفعل ؟
- أجل ماذا نفعل ؟دبرينا أنت السبب في كل هذا .
صمتت مُنى برهة ثم أردفت قائلة بعد تفكير : لو أنك لم ترسلي له صوري لكان الأمر أسهل من هذا .
- كيف ؟
- كان يمكنك أن تُلاقيه .
وبدا الخوف على نادية وأجابت : أهذا معقول ، كيف ألقاه ؟
- وأنت مرتدية الإشارْب ، إنه لن يمكث إلا يوم أو يومين ثم ينصرف الى غير رجعة .
وتساءلت نادية بلا إرادَة : الى غير رجعة ؟
- طبعا ، أَم تظنينه ينوي أن يقيم معنا لِيقطع أزوار ومعدات سكان كاب ؟
وهنا التفت توني الى مُنى وهز كتفيه قائلا : ألا تنويان أن تكفان عن المناقشة بلغتكما المتحضرة ؟ ماذا تقولان عن كاب ؟
والتفتت إليه مُنى قائلة : نقول أن نصف شبانها حمير .
- ولماذا لا تقولانها بالفرنسية ؟ كلنا نعرف هذا .
وكانت العربة قد وصلت الى أعلى الجبل وأخذت تشق طريقها بجوار البحيرة ، وقد تهدلت الأغصان على الطريق من الجانبين ،وبدا البيت المهجور وقد ازدادت مظاهر الخراب به وتساقطت دلف أبوابه ، وبدت الهُوَّة من ورائه وقد تكاثف بها ضَباب خفيف ، وقفز الفتية والفتيات من العربة وانتشروا في الحديقة المصفرة بعضهم يعدون الطعام والبعض يستمع الى الكرافون .
ولفت نادية حول البيت واستقر بها المقام أمام الكوخ المنعزل القائم ورائه والمطل على الجرف الذي تبدو المقابر في أسفله .
وجلست نادية على المقعد الحجري بجوار الكوخ ، وأطلقت بصرها في الفراغ العريض الذي بدت في آخِره الغمامة البيضاء التي تعلو هام الأفق ، ومدت يدها فأخرجت الرسالة من جيبها وعاودت قراءتها ، وقبل أن تصل الى نهايتها سمعت وقع أقدام خلفها ، وأبصرت مُنى تهتف بها : لم يخب ذكائي ، لقد توقعت ، لابد أن تكوني هربت بالرسالة الى هنا .
ومدت يدها قائلة : دعيني اقرأها .
وحاولت نادية أن تعيد الرسالة الى جيبها قائلة : بعدين ، عندما نعود الى البيت .
وخطفتها مُنى يدها قائلة : هاتيلِأرى كيف يفكر المجنون في زيارتنا .
وجلست مُنى على المقعد الحجري بجوار نادية التي انهمكت بقراءتها ، وأخذت نادية تنقل البصر بين مُنى وبين الوادي الممتد أسفل الجرف وأصوات الأكرافون وضجيج الشلة يأتي إليهما من وراء الدار .
عندما انتهت من القراءة بدا عليها الشرود .
وسألتها نادية في قلق قائلة : ما رأيك ؟
- شيء محير ، ليس بمستبعد على هذا الأحمق أن يزورنا فعلا .
- وما العمل ؟
- امنعيه ؟
- كيف ؟
- اكتبي إليه ألا يحضر .
- أهذا معقول ؟
- ولِمَ لا ؟ قولي له أنك ستسافرين في هذا الوقت .
- الى أين ؟
- الى أي مكان ، الى كرينوبل الى جنيف ، اكذبي أي أكذوبة .
وصمتت نادية مطرقة لبرهة ثم قالت : معقول .
ثم أطلقت من صدره تَنهيدة حزينة .
ونظرت إليها مُنى بطرف عينيها ، ثم هزت رأسها قائلة : عجيبة !!
- مَنْ ؟
- الدنيا ، من كان يصدق أنك تحاولين الفرار عندما يفكر في زيارتك .
- على أية حال لا أظنني سأحتاج الى الفرار ، لأنه لن يُخرج تفكيره الى حيز التنفيذ ، إنه مجرد كلام كما تقولين .
- أرجو هذا .
وسمعتا من ورائهما صوتا ينادي : أيتها المصريتان مؤامرة ؟!
والتفتت الفتاتان فإذا بتوني قد أقبل عليهما ومعه بعض الرفاق ، وأجابت مُنى قائلة : أجل مؤامرة .
- لأجل ؟
- طردك من كاب .
- معقول ، ألم تطردوا ملككم عن عرشه ؟
- أجل طردناه ، لأنه كان فاسدا منحلا .
- طَرَدَهم دكتاتوركم ناصر .
وتدخلت نادية قائلة في غضب : عبد الناصر ليس دكتاتورا أيها الغبي ، لقد حقق لنا كل أمانينا ، لقد منحنا العزة والحريَة والكرامة فقد أعلن الدستور باسم الشعب وأجرى عليه استفتاء وانتُخِب عبد الناصر بأغلبية تزيد على تسع وتسعين بالمائة .
وهمست مُنى لنادية متسائلة : من قال لك كل هذا ؟
وأجابتها نادية هامسة : صبري ، في رسالته التي وصلتني بالأمس .
- لقد أضحت رسائله نشرات سياسية ، ألم يقل لك بعد إنه يحبك ؟
ولم تجب نادية على سؤالها فقد شغلها عنه صياح توني ساخرا : كلام فارغ ، إني أصر على أنه دكتاتور .
وقبل أن ترد نادية مدت مُنى يدها وخلعت حذائها من قدمها ورفعته منذرة توني بقولها : الظاهر أني سأضطر الى إسكاتك بسلاح جديد .
ثم صاحت به : توني اسحب كلامك .
- وأجاب توني ضاحكا : سحبته ، إنك تستعملين معي طريقة الدكتاتوريين العُتاة .
- لا ينفع معك غير هذا .
- انتهينا ، لن أحدثك في السياسة بعد ذلك ، أنت مخيفة .
وتدخلت كابي قائلة : هيا بنا لقد أُُعِدَّ الطعام .
ونهض الجميع متجهين الى حديقة البيت على شاطئ البحيرة ، وطوت نادية الرسالة في جيبها وذهنها مازال شاردا في صاحبها ، وهي تحس بحنين إليه ، الى لقائه الى ورعايته .
وفي المساء عندما أوت الى حجرتها جلست في فراشها ممسكة بالكراسة الزرقاء لِتكتب الرد لِمدحت ، واختتمت ردها بالترحيب بزيارته وإنها لا تتمنى شيئا قدر لقياه ولكنها تخشى أن يخونها الحظ لأن هناك احتمالا لسفرها مع أمها وأختها لقضاء الشهرين القادمين عند خالتهما في كرينوبل ، وأحست وهي تطوي الرسالة بنوع من الأمن والطمأنينة إنه بلا شك بعد هذا الاعتذار لن يكون هناك احتمال لأن يفكر مرة أخرى في الزيارة ...
35
حَقٌّ يُسْتَرَدّ
مر أسبوع بعد أن أرسلت نادية ردها ، وفي مساء السادس والعشرين من يوليو كانت الشلة قد اجتمعت في شرفة النادي الزجاجية حول مائدة الشاي بعد أن انتهوا من التنس ، وبدا مسِيو بيتر كاتب المدرسة العجوز مقبلا على الشلة ولم يكد يُبصِر مُنى حتى مد يده في جيبه هاتفا : رسالة لك يا مدموزيل مُنى ، لقد مررت عليكم في المنزل فقالو لي أنكِ هنا فقلت لنفسي أشرب فنجانا من الشاي وأعطيها الرسالة .
مدت مُنى يدها تتناول الرسالة قائلة : شكرا يا مسيِو بيتر ، لم يكن هناك داعٍ لأن تتعب نفسك أبدا ، إن رسائلي تستطيع الانتظار .
- الواقع أنا لم أتعب نفسي ، فقد كان علي أن أمر الى بيتكم لأحمل رسالة من المسيو رينو الى والدتكم فلما أخبرتني أنك في النادي فضلت أن أمر عليك لأسلمها لك .
- شكرا لمجرد التفكير لِحملها إلي .
- إني أعرف قيمة رسئل الغريب .
وقالت كابي : إنها لم تعد غريبة يا مسِيو بيتر ، إنها تقيم بيننا .
وضحك بيتر وأجاب : مهما أقامت بيننا فإن وطنها هناك ، هناك في بلاد الشمس الساطعة والنهر العريض والأهرام الشامخة وأبي الهول العظيم ، إن وطنها هناك في بلد ناصر .
ورفع العجوز يده بالتحية ثم انصرف .
وأمسكت مُنى بالرسالة وقرأت الخط على الظرف وقالت لنادية التي نظرت إليها نظرة مستفسرة : من عصام .
وفضت مُنى الظرف وأخرجت الرسالة وأخذت تقرأها وهي ترشف فنجان الشاي وتلتهم قطعة من الكيك ، وكانت تبدو عليها شتى الانفعالات وهي تقرأ الرسالة ، كانت تبتسم تارة وتتجهم أخرى ، وكانت كابي تراقب ملامحها في شيء من الدهشة ، بينما أخذت نادية تنقل بصرها بين مُنى وهي منهمكة في القراءة وتنظر الى الأفق وقد أخذت الشمس تقترب منه ملقيةً ذيولها الحُمْْر على أسقف الدور المنحدرة وقد بدا بناء المحطة من بعيد بشجرته الضخمة التي تكاثفت أوراقها حتى كادت تخفيه بفروعها التي التي تحنو عليه .
وكان توني قد انحنى على الراديو الضخم الموضوع في ركن النادي ينقل مؤشره من محطة الى محطة وقد أخذ يصدر منه صفير وذبذبات منفصلة وكلمات متقطعة في شتى اللغات ، حتى استقر على محطة تصدر موسيقى صاخبة معربدة .
وصاح توني فرحا : روكاندول من أمريكا بلد العجائب .
ثم رفع ذراعيه مفتوحتين هاتفا : من يشاركني الرقص قبل أن تنتهي ؟ هيا يا مُنى .
وكانت مُنى قد انتهت من قراءة الرسالة وبدا عليها التجهم وهي تطويها وأجابته في غيظ : أوقف هذه الموسيقى الهمجية التي تصدع بها آذاننا .
وصاح توني في لهجته المرتفعة التي حاول بها أن يغلب صوت الموسيقى الصاخبة : همجية يا همجية ، إنها من أمريكا .
- ليكن ، ارحنا من سماعها ، إني لا أريد أن أسمع شيئا من أمريكا .
- والتفتت إليها كابي في دهشة وتساءلت : عجبا لماذا ؟
- لأنها سحبت قرض السد العالي .
- وما هو السد العالي ؟
- الذي نبني آمالنا عليه ، الذي سيحفظ لنا مياه نيلنا الضائعة في البحر ، ويصلح بضعة ملايين من الأفدنة نزرعها ونجني ثمارها ، لكي نهيئ لأنفسنا ولأبنائنا حياة أفضل ، حياة كالتي يحيونها ويحياها فلاحوهم وعمالهم .
وأردفت نادية قائلة : أجل إنه أملنا في أن يحيا أربع وعشرون مليونا كما يحيا الآدميون ، يأكلون لقمة طيبة ويشربون ماءً نقيا ويقطنون في مسكن نظيف ، حقيقةً إننا نرى فيه وسيلتنا الى حياة كريمة .
وسألت كابي : ولماذا لا تقيمونه ؟
- لأننا في حاجة الى نقود .
- ولِمَ لا تقترضون ؟
- لقد عرضت علينا أمريكا وإنجلترا قرضا لإقامته .
- ولماذا لا تأخذونه ؟
صاحت مُنى وهي تهز الرسالة في يدها : لقد عادوا وسحبوا عرضهم .
وأجاب توني وهو يحرك ساقيه على نغمة دقات الرقصة الصاخبة : هم أحرار في نقودهم .
وأجابته مُنى صائحة : ولكنهم ليسوا أحرارا في إهانتنا .
وتساءلت كابي : وكيف أهانوكم ؟
قالو إنهم لن يعطونا قرضا لأننا فقراء ومفلِسون واقتصادنا منهار .
ومدت نادية يدها وهي تأخذ الرسالة من مُنى وتساءلت في دهشة : من قال لك هذا ؟
وأجابت مُنى : عصام .
- عصام كَتب لك هذا ؟ لقد أصبته عدوى صبري .
- لقد أصابت العدوى أربع وعشرون مليونا ، إن رسالته مليئة بالسخط على أمريكا .
وأجاب توني وقد كف عن الرقص وأقبل يجلس على مقعد بجوار نادية : لأنكم شيوعيون .
وتساءلت نادية في دهشة : من قال إننا شيوعيون ؟
- لأنكم اشتريتم أسلحتكم من روسيا .
- أكان علينا أن ننتظر حتى تعتدي إسرائيل بأسلحتكم التي أبيتموها علينا ، ولا نمد أيدينا الى الأسلحة المعروضة علينا لكي لا نُتهَم بالشيوعية .
- بل أخذتم السلاح لتقيموا إمبراطورية عربية موالية للشرق .
- الإمبراطورية العربية لن تُقام أبدا بالسلاح ، ولكنها ستقام بالمشاعر الموحدة والمصالح المشتركة ، ولن يقيمها فرد ، ولكن ستقيمها شعوب ، ترى بقاءها في كيانها الموحد ، ونحن لن نكون موالين لشرق أو غرب ، إننا نحاول أن نكون كتلة محايدة تعمل على المحافظة على التوازن من أجل السلام .
- هذه خدعة شيوعية .
- بل هي أغراض مؤتمر باندوغ ، أغراض سلمية واضحة لا يمكن أن تشوبها الخديعة ، هل هناك خديعة في أن تكون العلاقات بين الدول قائمة على احترام حقوق الإنسان ؟
وهزت كابي رأسها بالنفي .
فعادت نادية تتساءل في انفعال : وهل هناك خديعة في أن تقوم هذه العلاقات على احترام سيادة الأمم وسلامة أراضيها ؟
وعادت كابي تهز رأسها بالنفي .
واستمرت نادية في تساؤلها : وهل هناك خديعة في الاعتراف بالمساواة بين جميع الأجناس وبين جميع الأمم ؟
وهزت كابي رأسها مرة ثالثة .
وقبل أن تعاود أسئلتها صاح بها توني محاولا إسكاتها وهو ينهض متجها الى الراديو : انتهينا ، لا تصدعي رؤوسنا بمبادئك ، إننا لم نأت هنا لِسماع دروس في السياسى والمبادئ ، من يريد أن يرقص ؟
وقبل أن يصل الى الراديو قفزت مُنى من مقعدها ولحقت به وهي تهتف : دع الراديو .
- لِمَ ؟
- لأني سأسمع القاهرة .
- وماذا من المغريات ممكن أن تأتينا به القاهرة ؟
- خطبة الرئيس جمال عبد الناصر .
ثم التفتت الى نادية متسائلة : ألا تريدين سماعها يا نادية ؟ إن اليوم 26 يوليو ، وقال لي عصام إنه سيذهب الى الإسكندرية هو وصبري لِسماعها في ميدان المنشية .
وبدا على نادية الشرود ، ترى هل ينوي مدحت سماعها ؟
إنه لم يبد قط اهتماما بالشؤون السياسية ، لم يحدثها أبدا إلا عن عملياته ومرضاه وطلبته ورياضته ، إنه يبدو وكأنه يعيش في معزل عن الأحداث التي تحيط به ، ولكنه مع ذلك قد يسمع الخطبة ، أجل قد يكون جالسا الآن مع صاحبه جاد الله في مكتبه في المستشفى أو في حجرته بالبيت ، قد انحنى على الراديو يدير مفتاحه ، إنه قد يشاركها في الاستماع الى نفس الصوت تحت نفس السماء وعلى نفس الأرض ، ولكن هل يستطيع الجهاز أن ينقل الصوت الى هنا ؟
ولِمَ لا ؟
لقد جربته بضع مرات فسمعت محطة القاهرة تارةً وسمعت صوت االعرب تارة أخرى ، لكنها في المرات القلائل التي استطاعت أن تحصل على المحطة كان الصوت متقطعا وكانت محطات أخرى تشوش عليه وتعلق فوقه ، على أية حال لِمَ لا تجرب هي ومُنى ، ليس لديهما ما يمنعهما عن الاستماع مهما طالت مدته .
ونهضت نادية تتبع مُنى الى الراديو ، وكان توني يصيح بمُنى وهي تحرك المؤشر يمنةً ويسرةً : ما هذا السخف .
وأدارت مُنى رأسها وهي تنحني على الراديو فصاحت به في غيظ مكبوت : كُف أنت عن هذا السخف وإلا جررت على نفسك الأذى ، أنت تعرف ما يمكن أن أصنع بك .
- ولكني أريد أن أستمع الى الموسيقى .
- لديك البيكآب أو جهاز الإصطوانات ، خذ بضعة فرنكات هبة مني واذهب لِتسمع ما تشاء ، فقط اُغرُب عنا الآن .
وهز توني كتفيه في غيظ وقال : ولكن ما ذنب كل هؤلاء حتى تسمعيهم خطاب جمال عبد الناصر ؟
- إن أحدا منهم لم يشتكِ .
وهنا صاحت كابي تنهر توني : توني دعها تسمع وكُف عن مشاغبتها ، لو كنت بعيدا عن وطنك لقَدَّرتَ لهفتها على سماع أي صوت من وطنها .
- لو كنت بعيدا عن وطني لما اشتقت أبدا لِسماع بينو أو موليه .
وأجابت نادية ضاحكة : لأنك لا تؤمن بهما ، أما نحن فنؤمن تماما بجمال عبد الناصر .
وهز توني كتفيه ثم صاح بالشلة : من منكم يريد الرقص ؟
ونهضت بعض اشلة وراءه الى حجرة البيكآب وجلس البعض يتشاغلون بلعبة الشطرنج والمناقشة ، وجرت نادية مقعدا بجوار الراديو وجلست بجوار مُنى التي انهمكت بتحريك المؤشر ، وبعد لحظات اقتربت كابي بمقعدها وجلست بجوارهما ، وأخذ المؤشر يتحرك يمنة ويسرة والوش يتعالى والطقطقة تزداد واللغات المختلفة تتشابك والنغمات المتناقضة تتقاطعة وتتضارب .
وهزت مُنى رأسها وهي منهمكة في إدارة المؤشر وتساءلت موجهة الحديث الى نادية وكابي : حقيقة لست أدري لماذا يكرهنا الأمريكان ويناصبوننا كل هذا العداء ؟
وأجابت نادية ببساطة : لأن هناك عداء بيننا وبين إسرائيل ولأن ثلاثة أرباع إدارات الدعاية والإذاعة والنشر في يد اليهود ، ولما كان يتحتم على الأمريكان أن يساعدوا أحد الطرفين فهم يفضلون دائما مساعدة إسرائيل .
وهزت مُنى رأسها وأجابت : ولكن عصام يقول أن السبب في رفض تمويل السد العالي بمثل هذه الطريقة الوقحة هو مؤتمر بريوني .
- طبعا لأنهم يعتبرون أن من لم يَسِر في فلكهم فليس منهم ، لقد قال لي صبري "إن العالم في نظر الأمريكان ينقسم الى قسمين لا ثالث لهما ، قسم أمريكي وقسم شيوعي ، والذي ليس أمريكيا لابد أن يكون شيوعيا" .
ونظرت مُنى بطرف عينيها الى كابي ثم قالت بالعربية : وهل نحن شيوعيون حقيقةً ؟
وأجابت نادية وهي تضحك من تشكك مُنى الدال على جهلها وأجابت بالفرنسية : طبعا لا ، نحن غير شيوعيون مطلقا .
- إذن لماذا يحبنا الشيوعيون ، ولماذا يعطوننا الأسلحة ؟
- لأنهم يؤيدون موقف الحياد الذي نقفه .
- ولماذا يؤيدونه ولا تؤيده أمريكا ؟
- لأن أمريكا تحاول أن تكتل الدول في حزام يحيط بالدول الشيوعية ، كأنه درع يمنع تسرب الشيوعية إليها أو واقي يتوقى عنها الصدمة .
- من أنبأكِ هذا ؟
- أنبأتني إياه معلوماتي العامة يا جاهلة ، إن الحزام الذي أعنيه يتكون من ثلاث قطع أو ثلاث حلقات ، الحلقة الأولى الحلف الأطلنطي في أوربا .
- والثانية ؟
- حلف بغداد في الشرق الأوسط .
- والثالثة ؟
- حلف مانيلا في جنوب شرق آسيا .
- قلت لي ، وماذا تريد منا أمريكا ما دامت قد كونت هذا الحزام ؟
- تريد أن نتخذ مكاننا في الحزام ، لا تريد أن نسقط فنحدث به ثغرة ينفذ منها النفوذ الشيوعي .
- وهل يريد النفوذ الشيوعي حقا أن يتسرب من هذه الثغرة ؟
- حتى الآن يكفيه جدا ألا يلتأم حوله الحزام في حلقات محكمة من دول معادية له أو تسير في ركاب إحدى الدول ، يكفيه جدا أن تكون هناك ثغرات من دول لا تعاديه ، بل تقف معه موقف المحايد الذي لا يشارك في مهاجمته ويرحب بصداقته والتعاون معه كما يرحب بصداقة الطرف الآخر والتعاون معه .
- وهل ستكتفي الشيوعية بهذا الموقف من الدول ، ألم تحاول أن تتسرب إليها كما يتسرب الماء في الورق النشاف ببطء وبساطة ؟
- جائز أن تحاول هذا فتلك طبيعة الأمور ، وأظن أن مهمة الدول المحايدة مثلنا ومثل الهند أن تقاوم محاولات التسرب وأن تحتفظ بحيادها حقيقة وإلا ذابت كتل الحياد وانهارت مبادئ التعايش السلمي والحياد الإيجابي وعاد العالم مرة أخرى الى كتلتين متنافرتين لا وسط بينهما ، وأصبحنا كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا .
- ويصبح إحساس الأمريكان بالحذر من تصرفاتنا ومقاومتها اتجاه الحياد الذي نتجهه إحساسا في موضعه ؟
- على أية حال كان يجب ألا يبدأون بالشك والوالعداء وأن يفرقوا بين اتجاهات القومية واتجاهات الشيوعية ، إنهم يتوهمون كل محاولة للتحر من نفوذهم ارتماء في أحضان الجانب الآخر .
وكانت أصابع مُنى لا تزال تدير المفتاح والأصوات المتنافرة والطقطقة والخرفشَة مازالت تتوالى من الجهاز ، وفجأة سُمِعَ صوت يأتي متقطعا من بعيد ، وميزت أذن نادية فيه بعض كلمات عربية فهتفت بمُنى : سمعتِ ؟
واقتربت نادية من الراديو وتناولت مفتاحه من مُنى قائلة : دعيه لي .
وقربت نادية أذنها من الجهاز وأخذت تحرك المؤشر ببطء شديد حول المحطة التي صدر منها الصوت العربي ، وسمعت نبرات الصوت خافتة متقطعة وما لبثت حتى اتصلت ، وأدارت نادية المفتاح حتى آخِره فعلَا الصوت وازدادت نبراته وضوحا ، واستطاعت أذن نادية أن تميز الصوت يهتف قائلا : أيها المواطنون حينما نتجه اليوم الى المستقبل بعد سنوات أربع من الثورة نتجه بقوة وإيمان ، نعتمد على الله ونعتمد على أنفسنا من أجل تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الثورة ، والتي كافح من أجلها الآباء والأجداد ، من أجل إقامة دولة مستقلة استقلالا حقيقيا لا استقلالا زائفا ، استقلالا سياسيا واستقلالا اقتصاديا .
وهنا غطى صوت على الراديو فقد اندفع توني يصيح في كابي : كابي تصوري لقد أحضروا هنا إصطوانة ألفرست برسلي الأخيرة ، أتتصورين هذا ؟ أترقصينها معي يا مُنى ؟
صرخت مُنى فيه في حدة : هُس .
وانحنى توني ساخرا وأجاب : متأسف لم أكن أظن أن الوحي قد هبط ، عن أذنكم إني أفضل ألفرست برسلي .
وعادت مُنى تصيح به : قلت لك صمتا .
وعاد توني من حيث أتى .
وحاولت مُنى ونادية معاودة الانصات الى الراديو ، ولكن الموجة كانت قد اختلطت بموجات أُخر ، وعادت الطقطقة والأصوات المتقاطعة تتعالى من الراديو ، وعادت أصابع نادية تدير المفتاح في بطء وحرص ، ومضت فترة والموجة ضائعة بين غيرها من الموجات ، وغادرت كابي مقعدها وأخذت ترقب لاعبي الشطرنج ، وبدا الملل على وجه مُنى ، وأخذ سمعها ينصرف الى أصوات الجاز المتصاعدة من الغرفة الأخرى ، وقبل أن تهم بالنهوض عاد الصوت يهتف مرة أخرى في حماس "قناة السويس التي ضحينا فيها قناة مصرية ، هذه القناة ملك لمصر ، فهي شركة مصرية مساهمة ، حُفِرَت بواسطة المصريين ، مائة وعشرون مصري ماتوا أثناء حفرها وكان المفروض أن نأخذ 15 بالمائة من الأرباح فوق 44 في المائة من الأسهم ، ولكن مصر أُدينت واضطرت لبيعها بمبلغ 4 ملايين جنيه وتنازل إسماعيل عن الأرباح فحصلت إنجلترا مجانا على 44 في المائة من الأسهم ، إن دخل القناة 35 مليون جنيه لا تأخذ منها مصر سوى مليون جنيه ، اليوم ستعاد حقوقنا في قناة السويس ولن نلجأ الى الاقتراض من تجار الحروب لكي نقيم السد العالي ونبني بلدنا ، بل سنبنيه بسواعدنا ومن قطرات عرقنا ودمائنا ، نحن أغنياء ولكننا كنا متهاونين في حقوقنا ، أما اليوم فسنسترد هذه الحقوق خطوة خطوة" .
ووصل أحد الكارصونات ومال على مُنى وهَمَّ أن يقول لها شيئا فصاحت : إبعد الآن ، لا أريد أن أسمع شيئا .
وهز الكارصون كتفيه وانصرف في دهشة ، وعادت مُنى الى الإنصات ، وتعالى من الراديو هتاف كأنه بحر يجيش أو سماء ترعد ، وبعد برهة صمت الضجيج ، وعاد الصوت يهتف في صوته الواثق "قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس
رئيس الجمهورية باسم الأمة
مادة 1 تُأمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية ، وتنتقل الى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات ،وتُحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليا على إدارتها ، ويُعَوَض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في برصة الأوراق المالية بباريس ، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام استلام الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المُأَمَمة .
المادة 2 ، يتولى إدارة مرفق المرور بقناة السويس ".
ومرة أخرى ضاعت الموجة وغلبت عليها صيحات بلغة غير مفهومة ثم دقات موسيقى ، وحاولت نادية عبثا أن تضبط الموجة ، وأقبلت كابي عليهما بعد أن انتهى دور الشطرنج وهتفت بهما قائلة : ما هذا الاهتمام العجيب ؟ كأني بكما تستمعان الى إعلان الحرب ؟
وأجابت مُنى ضاحكة : الى إعلان التأميم وأنت الصادقة .
- أي تأميم ؟
وأجابت نادية وهي تحاول ضبط مفتاح الراديو : تأميم قناة السويس .
وسألت كابي في دهشة : لست أفهم ، ولكن قناة السويس ملككم ؟
- أبدا ، لقد كانت ملكنا اسما ، ولكنها ملك الناس كلهم عدانا فعلا ، لقد كانت دولة داخل الدولة .
وقالت مُنى : لقد جعلها عبد الناصر ملكا للدولة المصرية بعد أن كانت ملكا للدول الأخرى .
وعادت نادية تدير المفتاح بأصابعها يمنة ويسرة حتى عَلا الصوت يهتف من جديد "اليوم وقد عادت الحقوق الى أصحابها بعد مائة سنة ، إنما تحقق التحرير الحقيقي ، لقد بُنيَت القناة من أجل مصر ، ولكنها كانت منبعا للاستغلال ، وليس عيبا أن أكون فقيرا ولكن العيب امتصاصا الدماء ".
وأقبل توني ووراءه الشلة وهم يتصايحون ويتضاحكون .
ثم هتف في ارتياع كأنما يسمع عن جريمة اُرتُكِبت أَمَّم قناة السويس !؟
ونظرت إليه نادية وتركت مفتاح الراديو من يدها وأجابت في بساطة وسخرية : أجل ، أَمَّم قناة السويس ، القناة المصرية التي تجري في أرض مصر ، أتراه قد ارتكب منكرا ؟
فصاح توني : هذه سرقة ، هذه همجية .
وهنا ارتفعت كف نادية بلا وعي وهبطت عليه في صفعة مدوية وهتفت وهي تضغط على نواجدها : السرقة ما تفعلونه منذ مائة عام ، والهمجية هي ما تفعلونه في الجزائر .
ومد توني أصابعه يتحسس في ذهول أثر الصفعة المفاجئة على وجهه وقد جحظت عيناه وفغر فاه وصاح مشدوها : متوحشة ، سأعرف كيف .
وهتفت مُنى بالعربية وهي تضحك ساخرة : أِتْنَيِل أُؤَدبك .
ومدت كابي يدها فجرت توني للخارج لتضع حدا للمعركة قائلة : أنت الذي بدأت بإهانتها يا توني .
وسار توني وراءها وهو يتحسس أثر الصفعة ويتلفت الى نادية مذهولا وهو يتمتم : سُفاج .
وعادت نادية تضبط الموجة وعَلا الصوت الهاتف يقول "والآن أيها المواطنون يتجه أخوة لكم من أبناء مصر لإدارة القناة ، والآن في هذه اللحظة يتسلمون شركة القناة المصريةويديرون ملاحتها ، وهي جزء من مصر ، نقوم بهذا العمل لنسترد حقنا المغتصب ونقيم السد العالي ونشيد صرح العزة والكرامة ...
36
لا يُمانع
لم تستطع رسالة نادية التي أشارت فيها لمدحت الى احتمال رحيلها من كاب والتي حاولت فيها أن تصده عن التفكير في زيارتها أن توقف تيار هذا التفكير ، وأخذت الفكرة تنمو وتتضخم في ذهنه وأخذ يهيئ لها نفسه ويدفع بالمبررات والعلل ، وازداد إحساسه بتلف معدته وبإرهاق أعصابه وبضرورة السفر الى لندن لِفحص معدته وعلاجها ، وبقضاء فترة استجمام يستريح فيها من الجهد المستمر المتواصل ، وكثرت أشعاته التي أجراها على معدته وزادت تحاليله ورغم سلبيتها فقد أقنع نفسه أن شيئا ما موجود بباطنه يستحق العلاج والسفر ، وهكذا استطاع أن يقيم لسفره حجة قوية مقنعة نلنفسه ولمن حوله ، ولإن يبدو إزاء نفسه وإزاء الناس جادا صارما كما تعود أن يكون ، وأن يكبت تماما ذلك الميل الخفي المتواري الذي يكمن في قرارة نفسه كما تكمن البذرة التي أنبتت النبت وأظهرت فروعه وأوراقه وبقيت وهي متوارية بجذورها المندفعة في باطن الأرض والتي تبعث الحياة في كل برعم في النبت وإن ظلت خفية مجهولة لا يُحَس لها وجود .
وهكذا انتشرت في نفسه فكرة السفر كما ينتشر النبت بفروعه وأوراقه ، وكأن ساق النبت ومحوره ودعامته الظاهرة هي فحص معدته وعلاجها يقويه ويؤيده ما تسببه له من منغصات ومتاعب وأرهاقها الدائم في بضع سنواتها الأخيرة ، أما البذرة الخفية التي لم يحاول هو نفسه النبش حولها فكانت نادية ، نادية المجهولة النائية التي تسربت الى أعماقه والتي بات يحس أنها أشد الناس قربا إليه وارتباطا به ، والتي أصبح يعرف كل تفاصيلها ودقائقها كأنها لم تفارقه لحظة ، نادية التي يعرف كيف تحس وكيف تعيش ، وهو الذي لم يأبه لحظة أن يشغل نفسه بإنسان على وجه الأرض سوى نفسه ، نادية التي يعرف شكل حجرتها ، الفراش الخشبي العتيق الذي كانت تنام عليه أمها وهي فتاة بنقوشه وزخارفه والتسريحة العالية المستقرة في ركن الغرفة المحفورة بزهور الأولما والمقعد الكبير الطراز ووالباب الزجاجي المؤدي الى الشرفة الخشبية المطلة على حقول الكرونب والبنجر وحضيرة المواشي وقمم الجبال تبدو في الأفق بيضاء مختلطة بالسحب ، والأشجار المتكاثفة على سفح الجبل ، نادية التي يكاد يعرف كل حركة من حركاتها وكل سكنة والتي يراها كل يوم تنحدر بحقيبتها في المنحدر المؤدي من رومك الى مدخل البلدة ، وتصير بجوار سكة الحديد حتى تصل الى المدرسة المطلة على المحطة ، إنها يكاد يعرف مَنْظَر المحطة بكل ما فيه من تفاصيل ، حتى هذا الحمال الذي تعود أن يرتدي المعطف الكاكي ويكبس القبعة حتى أذنيه ويدفع أمامه عربة الأحمال الحديدية الصغيرة ، نادية التي يعرف عنها أكثر مما يعرف عن أصدق أصدقائه وأقرب أقربائه ، والتي يحس بوجودها معه أكثر مما يحس بوجود أمه التي تعيش معه تحت سقف واحد ولا يفصل حجرتيهما الجدار ، كانت بنفسه لهفةالى لرؤيتها ولقائها والحديث معها والى تحقيق الدعوات الوهمية التي دعته إليها ، كانت بنفسه لهفة الى أن يصعد الجبل لِيجلسا على شاطئ البحيرة ، يوقدان النار ويطهوان الطعام ، كانت بنفسه لهفة لأن يذهب معها الى النادي لِيلعبالتنس ويشرب الشاي ، كانت بنفسه لهفة لأن يجلس معها أمام المدفأة لِيناقش حديثها ، ويحدث أمها ويتلقى مشاكسات أختها ، ومع كل هذه اللهفات لم يحاول يبرز قط لنفسه أو لمن حوله فكرة زيارتها كعلة للسفر ، بل طواها كأنها شيء لا وجود له ، وكأن سفره أبدا لم يكن إلا للعلاج والاستجمام .
وبدأ يتخذ خطوات إيجابية للسفر على الأساس الواضح ، فاتصل بالدكتور تامر في لندن وكَتب إليه بضع مرات ، واأخذ يُعِد جواز السفر ويسأله عن ترتيباته ووسائله ، وحصل من شركة السياحة على بضع خرائط لجنوب أوربا وإنجلترا .
وخلا الى نفسه ذات عصر في مكتبه بالمستشفى وأخرج إحدى الخرائط وأخذ ينظر إليها نظرة فاحصة ، وركز عينيه على المنطقة الجبلية في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا وبدأ يبحث عن منطقة بذاتها ، واستطاع أن يقرأ بالحروف الإفرنجية الكبيرة أوبسالب ، وأخذ يتتبع الحدود الرأسية التي تخترق الجبال فاصلة بين فرنسا في جانب وسويسرا وإيطاليا في جانب آخر ، وأخذ يتتبع الحدود من الجنوب الى الشمال حتى وجدها تلتقي ببحيرة ليمام وهبط ببصره مرة أخرى يفحص الجزء الفرنسي من الجبال وبرزت أمامه مدينة كرينوبل ، لا بد أن تكون كاب قريبة من هذه المنطقة ، فقد حدثته عنها نادية في عدة مناسبات ، هذا تقاطع سكة الحديد جنوب كرينوبل ، هذه بلدة فين وهذه بلدة ... وفجأة بدت له كاب بحروف صغيرة ، وتملكه إحساس بالسعادة وهو يرقب الحروف الثلاثة الصغيرة ، وأخذ ينظر الى النقطة السوداء ، وانطلق خياله يجسد ما وعته ذاكرته من مناظرها ، قمم الجبال والأسقف المنحدرات والمداخن و و ، وإنها ليست بعيدة عن طريقه ، أجل لو أنه سافر بالباخرة فسيهبط الى مرسيليا لكي يذهب الى جنيف أو باريس ، وهو لابد أن يذهب الى إحداهما أو كليهما لأنه لا يحب أن يترك الفرصة تمر دون أن يرى هاتين العاصمتين الكبيرتين ، أجل أن المفروض عليه أنه ذاهب للعلاج والاستجمام ، وهو ليس مصاب بمرض ملح عاجل يستدعي الطيران فورا الى لندن ، فلا شيء إذن يدعوه الى الاستعجال ، بل إن مرضه قد يكون خير علاج له مجرد الاستجمام والراحة ، والتجوال في هذه المناطق الجبلية الرائعة قد يغنيه عن العلاج نفسه ، والمدينة الصغيرة لا تبعد كثيرا عن طريقه من مرسيليا الى جنيف أو الى باريس ، هو يستطيع أن يهبط في فين ثم يذهب اليها يوما أو بعض يوم ثم يعود مرة أخرى الى طريقه الأصلي دون أن يبدو عمله غير طبيعي ، غير طبيعي لِمَنْ ؟
أهو مسؤول أمام أحد ، أهناك من يحاسبه ويحدد له الطريق الطبيعي وغير الطبيعي ؟
إنه حر في أن يذهب حيثما شاء وقت ما شاء ، وفي أن يستجم في أي مكان ، في جنيف في زيورخ ، أجل أجل ، كل هذا معقول ولكن ليس في كاب ، إن كاب هذه لم يسمع أحد بها من قبل ، ولا عُرِف عنها أنها مكان للاستجمام أو الاستشفاء ، فأي علة يعلل بها سفره إليها ، ولكن من الذي يطلب التعليل ؟ نفسه والناس من حوله ؟
بل نادية نفسها وأهلها ، إن المعقول أن يمر بها وهو في طريقه الى مكان ما ، أما أن يذهب خصيصا إليها فشيء يبعث على الريبة والشك ، إن شخصيته وكبرياءه واستخفافه بالميول الحادة لا تقبل منه مثل هذا العمل ، لو أن جاد الله مثلا قد أقبل عليها لما لامه أحد بل لبدا ذلك منه حماقة طبيعية لا تُستبعَد من صاحب حماقات ، وكما يقول المثل "العِيب من أهل العِيب مِش عيب " فالحماقة من أهل الحمق ليست حماقة ، أما منه فهي حماقة كبرى ، ومع ذلك فهو سيسافر ، وسيسافر بالسفينة وسيهبط في مرسيليا ويأخذ سكة الحديد المتجهة شمالا وسيهبط في فين لأي سبب ولأية علة ، وسيأخذ القطار الى كاب وسيلقاها ، سيلقى نادية وسيسلم عليها ويضحك معها ويذكرها برسائلها .
أحس بسعادة غامرة ونشوة لذيذة ، إنها بلا شك ستحس بنفس السعادة وبنفس النشوة ، ولكنها تقول قد تسافر في ذلك الوقت ،\ ما أغباها ما الذي يضطرها الى السفر في هذه الفترة ؟ لماذا لا تؤجله ، ربما لأنها لا تملك التأجيل ؟
لا بد أن خالتها وأمها وجدتها دبرن أمر السفر في هذا الموعد ، فلماذا لا ترفض هي ؟ ولكن هل تستطيع ؟
ولِمَ لا تتمارض مثلا أو تتذرع بأي عذر ، مثل ماذا ؟هل تجرؤ أن تقول إنها تنتظر زيارته ؟
طبعا لا ، من يكون هو بالنسبة إليها حتى تؤجل سفرهم من أجله ؟
إنه في نظرهم إنسان مجهول ، مجهول بقدر ما هي مجهولة ممن حوله ، والتعارف الباطني الذي حصل بينهما لا يحس به أحد سواهما ، ولكنها تقول قد ، أي أنها قد تسافر أو لا تسافر ، فلماذا يزعج نفسه بتأكيد الاحتمال الأول ؟احتمال السفر .
لماذا لا يتصرف على أساس الاحتمال الثاني وهو بقاؤها .
ولكن هب أنها سافرت ، لتفعل ما تريد ، لقد عرض عليها هو فرص اللقاء فإذا كانت قد رفضتها فَلَتَنْفَلِق ، وتملكه إحساس بالشفقة عليها وود لو كانت جواره لِيربت على ظهرها ويضمها إليه في عطف .
ما ذنبها حتى تَنْفَلِق ، إن خير ما يفعله هو أن يسافر ولِيحدث ما يشاء ، إنها لا شك ستبذل كل ما تستطيع للبقاء إذا رأت منه تصميما على السفر وإذا لم تفلح في البقاء فلن يمنعه ذلك من السفر ، إنه لن يخسر كثيرا إذا هبط في فين وذهب لِيقضي بضع ساعات في كاب لِيشاهد فيها جبالها وبحيرتها وشوارعها ، ويرى بيت نادية ومكتبها المطل على المحطة ، أجل إنها متعة أن يشاهد كل تلك الأماكن التي صورتها له ، ويطوف بها ويتنسم هواءها ، سيكون أقدر على تصورها إذا ما دعته إليها بعد ذلك ، وستُدهَش هي عندما يكتب إليها بعد ذلك عن بلدتها كتابة العارف الواثق ، وستتضايق عندما تعرف أن الفرصة سنحت للقائها ثم ضاعت ، ولكنه سيطمئنها بأنه لابد أن يَلْقاها ثانيةٍ ، أجل إن لقاءهما في رأيه قد بات أمرا محتما ، إن ما بينهما من رباط وتفاهم وود وصداقة و و ... ولماذا لا يقو حبا ؟ لماذا يحس بالخجل من هذه الكلمة ؟
لقد سبق أن اعترف بينه وبين نفسه أنه يحبها ، فلماذا يحاول أن ينحي الكلمة عن شفتيه ؟
إن هذه المشاعر الجياشة العميقة التي رسبت في نفسيهما لا يمكن أن تُبدَد في الهواء ، لا يمكن أن تنتهي الى لا شيء ، الى ما يمكن إذن أن تنتهي ؟
الى ، الى ، هو نفسه لا يمانع ، لا يمانع أبدا من أن يشد نفسه إليها مدى العمر ، لا يمانع أبدا من أن يضعها ذلك الموضع الذي أبى أن يضع فيه أحدا ، موضع المُكَبِّل لحريته ، المُسَيْطِر على أوقاته ، إنه يحس إنها أكثر المخلوقات في العالم مُلاأَمَة لهذا الوضع ، إنها لطيفة ذكية حساسة رحيمة ، إنه يحب كل ما بها ، كل كلمة وكل تصرف وكل تفكير ، يحب كل لمحة في صورها وكل لفتة ، وهو من أجل هذا لا يمانع أبدا في أن يرتبط معها بوثاق دائم ورباط أبدي مقدس ، إنه لا يخشى منها على نفسه أبدا بل هو يتوق إليها ، الى هذه الصبِية الشقراء التي لازمته في أفكاره وغدواته وروحاته طوال الأشهر الماضية ، ولكن هل هي ترحب بهذا ، ولِمَ لا ؟
إنها لم تطرق هذا الموضوع قط من قريب أو بعيد ، والمفروض أنها لا تطرقه مادام هو لم يطرقه ، ولكنها أيضا لا تطرق أي موضوع عملي ، كل حديثها أوهام في أوهام ، أيمكن أن تكون هي نفسها وهما ؟
وأحس بمرارة أليمة كأنما يوشك أن يفقد أعز ما عنده .
ما هذا السخف ، أبعد كل هذه العلاقة يعود الى التشكك في حقيقتها ؟
لماذا إذن لم تقل له في خطاباتها ما يؤدي الى شيء ؟
مثل ماذا ؟ إنه لا يعرف ما تقول الفتيات في مثل هذا الموضوع ، ولكن لابد أنهن يقلن شيئا فيدفع الرجل الى أن يخطو خطوة عملية ، أما هي فتتحدث دائما في الهواء .
على أية حال عندما يلتقيان لا شك سيكون المجال أكثر ملاأمة والنفوس أكثر شجاعة وإقداما ، إنه لن يترك هذه الفرصة تمر دون أن يفعل شيئا ، وهو لا شك سيراها عن كثب ويرى أسرتها وهو واثق أنه لن يخذله شيء لإنها أطلعته على كل دقائق حياتها ، هذا إذا كانت لم تسافر وإذا كان سيلتقي بها ، فإذا حدث العكس فماذا تراه صانعا ؟ أسينتظر الى أن تحين فرصة في الصيف القادم ؟ أسينتظر عاما آخر ؟
لا لا ، سيكتب إليها بطريقة عملية أكثر من هذا ، وسيطلب منها زيارة القاهرة ، ومع ذلك فإنه يحس أنه سيلقاها عند سفره الى كاب ، إنه واثق أنها لن تخذله ، ليست هي النوع الذي يخذل أبدا ، ستبقى لتنتظره ولو أدى ذلك لأن تفعل المستحيل ، وإنها تحبه كما يحبها ، لم تقل هذا مرة واحدة ، ولكنه يستشف من كل كلمة تكتبها ، ومن كل سطر تضمه رسائلها ، لم تقل له مرة واحدة أنها تحبه ، ولكنه يَعتبِر حبها له مسألة بديهية مسَلَّم بها لا تحتاج الى قول أو تدليل ، إنه يحس من رسائلها أنه الإنسان الوحيد الذي يعنيها أمره ، والذي ربطت به حياتها ، إنها قد باتت تسأله أتذهب الى هذه الحفلة أَم لا تذهب ؟ وهل ترتدي هذه البلوزة أَم تلك ؟ وهل هي محقة في خصامها مع أختها أَم مخطئة ؟
أَبَعد هذا يشك أنها تحبه ؟ وأنها تحس له نفس الإحساس وتكن له نفس الرغبة ؟
سيسافر إليها ، لن يمنعه شيء من السفر .
وأمسك القلم ورسم دائرة حول البلدة وأخذ يجري بالقلم على الطريق الموصل إليها حتى وصل الى مرسيليا ، ولم يكد القلم يقف على نقطة مرسيليا حتى سمع صوتا يهتف من ورائه ضاحكا : ما شاء الله ، أقد انتهيت من رحلتك وعدت ثانيةً الى مرسيليا ؟
ونظر مدحت لِيجد جاد الله يقف وراءه مطلا على الخريطة مشيرا الى الخط الأسود الذي رسمه بين مرسيليا وكاب .
وعاد جاد الله يقول ساخرا : ومعدتك ، هل أجريت عملية القرحة بواسطة حلاقي الصحة بكاب ؟
والتفت إليه مدحت وقطب ما بين عينيه حتى التقى حاجباه الكثيفان وصاح به : ما هذا السخف ، أي عملية هذه التي سيجريها حلاقو الصحة ؟
- هل تظن أن هناك في هذه القرية المرتفعة في أعلى قمم الألب أكثر من حلاق صحة ؟
- من قال إنها قرية يا حيوان ؟ هل ظننتها منية السرك التي نشأ بها أهلك ؟
- ماذا ستكون أكثر من ذلك ؟
- إنها بلدة محترمة بها دور سينما ونوادي .
- مفهوم مفهوم ، وبها مستشفى من أكبر المستشفيات وبها أطباء عالميون سيفحصون معدتك .
- ومن قال أني سأفحص معدتي هناك ؟
- إذن لماذا ستذهب الى هناك ؟
- سأمر عليها في طريقي .
- آه فهمت .
- سأنزل في فين ثم أستقل القطار الذاهب شرقا ، هل تراه ؟
- لا أرى شيئا ، وماذا ستفعل ؟
- سأبقى يوما أو بضع ساعات ، حسب الجو .
- ثم ؟
- أعود الى فين وأستقل القطار الى جنيف أو باريس ، ثم أذهب بعد ذلك الى لندن .
- ومتى تنوي أن تقوم برحلتك البلهاء ؟
- لماذا تقول عنها بلهاء ؟
- لأني لا أرى لها مبررا أبدا ولاسيما في مثل هذه الظروف .
- أي ظروف ؟
- الظروف السيئة التي نمر بها .
- ومالي أنا ولهذه الظروف ؟
- ألا تعرف أن إنجلترا دعت الدول المنتفعة بالقناة لإصدار قرار في مسألة التأميم وأن المؤتمر منعقد الآن في لندن ؟
- لِينعقد أو ينفض ، مالي أنا به ؟
- هل تظن أن الوقت سيكون ملائما لكي تذهب الى العلاج في لندن وسط هذه العواصف ؟
- ما دام الدكتور تامر لم يشترك في المؤتمر وأغلب ظني أنه لن يعرف أن هناك مؤتمرا سينعقد من أجل القناة فإن أستطيع أن أذهب إليه كي يفحصني في أي وقت .
- إن الجو السياسي ملبد بالغيوم ، والصحف تقول إن إنجلترا قررت أن تدعو الاحتياط وإن سفن إنزالا الجنود وناقلات الدبابات تتحرك الى جهة مجهولة .
- وإيه يعني ؟
- وإن فرقة مشاة كاملة نُقِلَت بالطائرات الى قبرص .
- لماذا كل ذلك ؟ أمن أجل أن شركة قناة السويس المصرية التي كان مفروضا أن تكون ملكنا بعد بضعة سنوات قد أَممْناها ؟
- وسندفع تعويضات لأصحاب أسهمها .
- ما الذي يزعجهم إذن ؟
- يزعجهم المبدأ نفسه ، يزعجهم أن يتقوض نفوذ إنجلترا الى الحد الذي لن تستطيع بعده أن تستولي على إدارة القناة التي ظلت إنجلترا ترفع عقيرتها وسط العالم بأنها شريانها الحيوي .
- ولماذا يحركون كل هذه الأساطيل وينقلون كل هؤلاء الجنود ؟
- لأجل أن يستعيدو القناة بالقوة ، إنهم لا شك يضربون أنفسهم بالنعال لأنهم جلَوا عنها .
- وهل تظنهم يجرؤون على مهاجمتها فعلا ؟
- ولِمَ لا ؟
- كلام فارغ ، إن أي هجوم منهم سيُغلِق القناة .
- وسيضع كل أرباحهم بأيدينا .
- كل هذا وتقول سيهاجمون القناة ؟
-- أنا لم أقل أنهم سيهاجمونها ، وإنما قررت واقعا وهو أن هناك حركات حشد .
- تهويش .
- لِيكن ، المهم أنه ليس من المناسب أن تسافر في هذا الجو الملبد بالغيوم ، والذي تجري فيه على أقل تقدير حركات تهويش .
- ليس لي دخل بكل هذا ، إنها زوبعة في فنجان وستنتهي الى لا شيء .
- الى هذا الحد أصررت على السفر ؟
- ـأجل .
- أحقا من أجل معدتك ؟ قل الحق .
وتردد مدحت قبل أن يجيب وهو يعبث بقلمه فوق الخريطة : الى حد ما .
ورفع جاد الله كتفيه مسلما وقال : سافر مادمت تحس بالرغبة في السفر ، وإن شاء الله سينتهي كل شيء على خير ، لن تكون المسألة أكثر من زوبعة في فنجان كما قلت ، إن إنجلترا تحاول أن تلعب بسلاح التهويش الذي كانت تلعب به فيما مضى ، هل تذكر بضعة الدبابات التي حركها الإنجليز الى القصر لِيفرضوا الوزارة التي يريدونها\ ؟
- أجل .
- إن عقليتهم لم تتغير ، ولكنهم فقط يعتبرون أن الحاكم الآن أقوى فهم يحركون له قوات كبيرة .
-بالضبط هذا ما يفعلونه ، وستنتهي تحركاتهم الى لا شيء .
- ومتى نويت السفر ؟
عندما ينتهي جواز السفر ، وأعرف مواعيد البواخر وأجهز بعض لوازم السفر .
- ماذا تنوي أن تحضر لي معك ؟
- من كاب ؟
- من لندن وباريس وجنيف يا غبي ، فأنا لا أريد عيش وسلاطين لَبَن إني أستطيع أن أحضره من منية السرك التي لا تعجبك .
- ماذا تريد أن أحضر لك ؟
- ساعة من جنيف وامرأة من باريس وإذا لقيت المستر إيدن فاسأله أين تعلم الردح والشرْشحة ، إن خطبه التي شتم فيها جمال عبد الناصر تدل على أنه نشأ في حوش بردأ لندن ، فقد سمعته كجنتلمان بعد هذه الشنقنة .
وانصرف الصديقان .
وفي الليل جلس مدحت يكتب لِنادية ويؤكد لها قرب مجيءه سواء أكانت في كاب أَم لم تكن .
وفي الصباح أسقط مدحت رسالته في صندوق البريد ، وبعد نصف ساعة سقطت رسالتان في صندوقَي بريد مختلفين تحملان نفس العنوان ، إحداهما وضعها صبري يُنْبئ فيها نادية أن التعبأة العامة قد أُعلِنَت في مصر ، وأن جيش التحرير قد أُنشِئ وأنه قد انضم إليه ، وهو يتدرب يوميا على ضرب النار ، ويخبرها أن مصر كلها تقف لتشد أزر جمال عبد الناصر وتحافظ على أضخم ربح حصلت عليه مصر ، وهو قناة السويس .
أما الرسالة الثانية فقد كتبها عصام الى مُنى يُنْبِئها بأنه سيرحل غدا الى القسيمة مع كَتيبة السيارات بعد أن استكملوا معداتهم ، وأنهم متخذون كل أهبة لِصد أي محاولة لإسرائيل للصيد في الماء العكر...
37
تدبير للقاء
جلست نادية في غرفتها تقرأ رسالة مدحت وقد وقفت وراءها مُنى ، ولم تكد تنتهي من قراءتها حتى سقطت الرسالة من يدها واستغرقت في شرود شديد ، وهبطت مُنى فير استرخاء على المقعد الكبير ومدت ساقيها وتركت رأسها يسترخي على صدرها وقالت وكأنما تحدث نفسها : جالك الموت يا تارك الصلاة .
وطوت نادية الرسالة وهي تتساءل في يأس : وما العمل ؟
وصمتت مُنى برهة وبدا عليها الاستغراق في التفكير ، وأخيرا تساءلت قائلة : اسمعي يا نادية ، هل تحبينه حقيقةً ؟
ورفعت نادية حاجبيها في دهشة وتساءلت : وماذا يجدي هذا الآن ؟
وعادت مُنى تتساءل في إلحاح : أجيبي علي أولا ، هل تحبينه حقيقةً؟ أعني هل تريدينه هو أَم تريدين عملية الحب التي نسجتها أوهامك وخلقتها خيالاتك وأحلامك ؟هل تتمنين أن تعيشي معه أَم تفضلين أن تهيمين في قصة حبه ؟
ونظرت إليها نادية حانقة وأجابت في امتعاض : لست أدري معنى لهذه الأسئلة السخيفة التي تسألينها .
- إنها ليست أسئلة سخيفة ، إنها ستحدد طريقة تصرفنا معه .
- كيف ؟
- إذا كنت تريدينه حقيقةً فقابليه ، وضحي له كل شيء واعتذري عن خدعة الصورة التي أرسلتها إليه .
وبدا الارتياع على وجه نادية وهتفت في فزع : أُقابله ؟
- أجل ، تقابلينه ، لِمَ لا ؟
ونظرت نادية الى المرآة المواجهة لها ، وجذبت عن رأسها الإشارْب بحدة ، وأخذت تتحسس آثار الحريق في عنقها ، وقد اختلجت شفتاها وبدت في ملامحها تقلصات بكاء ، وأجابت هامسة وهي تغالب دمعها :كيف أقابله ؟
- إذا كنت تريدينه حقا فيجب أن تقابليه ، يجب أن تعرضي نفسك للتجربة .
ودفنت نادية رأسها بين كفيها وهي تحاول أن تكبت رجفات بكاء توشك أن تهز جسدها .
واستمرت مُنى تقول : إنها على أية حال خير من ذلك اليأس اللانهائي الذي تهيمين فيه ، إن التجربة ستوصلك الى شيء ، قد يكون في صالحك ، ألا يُحتمَل أن يظل على حبك كما أنت ؟ فتربحين سعادتك وهنائك وحياتك .
وهزت نادية رأسها وأردفت في نبراتها اليائسة : ويُحتمَل أن يُفجَع فِيَّ فأفقد كل شيء وأهدم ما شيدته من الأماني ، وأبدد ما عشته من أحلام .
- وإلى متى ستظلين هائمة في قصور أمانيك ؟
- الى ما لا نهاية .
- ليس هناك شيء بلا نهاية ، حتى أمانينا وأحلامنا .
وصمتت مُنى برهة ثم هزت رأسها وتساءلت في عجب : أنت عاقلة يا نادية ، أعقل مني ومن كل البنات اللاتي نعرفهن ، فلماذا يقف عقلك خارج حدود أحلامك ؟ لماذا تسوقين النصح إلي وإلى كل من حولك وتأبين أن تسوقي النصح الى نفسك ؟
وأجابت نادية متسائلة في مرارة : وبما تريدين أن أنصح نفسي ؟
- أن تَكُفّي عن هذه الأوهام التي تعيشين فيها ، وتضعي نفسك في الأمر الواقع .
وعادت نادية تتساءل في نفس المرارة : وأقفقد أعز ما ملكت في حياتي ؟ أفقد أمتع إحساساتي وأجمل مشاعري ؟
وضمت مُنى ركبتيها الى صدرها ، وهزت رأسها في حيرة وقالت متسائلة : إذن ما العمل ؟ ألا تستطيعين إقاف مجيءه ؟
- لقد حاولت في رسالتي السابقة ، ولكنه يصر كما ترين على المجيء ، حتى ولو لم أكن موجودَة .
- إذن نسافر .
- إلى أين ؟
- إلى أي ناحية ، الى كرينوبل الى بريانسون .
- هل تظنين السفر بمثل هذه السهولة ؟ هل نستطيع أن نقنع ماما به ؟ وماذا نقول لها ، أنقول لها إننا نخشى مجيء مسافر من مصر ؟ ثم متى نسافر ، ومتى نعود ؟ وهو كما تَرين لم يحدد موعدا معينا ، لو أننا نعرف بالضبط موعده لاستطعنا أن ندبر الأمر .
- إنه قد يرسل تلغرافا .
- هبيه لم يرسل ؟
وساد الوجوم الفتاتين ، وبعد لحظة رفعت نادية رأسها وقالت في صوت خافت ، ولهجة تنم عن الخطورة : اسمعي يا مُنى ، إن لدي حلا ، لست أدري ما رأيك فيه .
- ما هو ؟
ولم تجب نادية وبدا عليها الشرود .
وقالت مُنى تستحثها : لم تقولي ما هو ؟
ة\وتركت نادية مقعدها واقتربت من مُنى ، وجلست على حافة المقعد الكبير وقالت متسائلة في نبراتها الشاردة : لماذا لا تقابلينه أنت ؟
وقفزت مُنى وهتفت بنادية متسائلة : أنا !؟
وجذبتها نادية من ذراعها وأجلَستها على المقعد ، وعادت تقول في هدوء : أجل أنتِ ، لماذا لا تقابلينه ؟
- أجننتِ يا نادية ؟
- لماذا يا مُنى يا حبيبتي ، ألست أنت نادية التي يعرفها من صورها ؟
ووقفت مُنى أمامها وأشارت بأصبعها محذرة ، ثم أجابت : اسمعي يا نادية ، الى هنا وكفى ، لقد وافقتك على مسألة الصور وقلت إنها لا تقدم ولا تؤخِر ، وإن صورتك وصورتي لا تفترقان كثيرا ، وإن المسألة مجرد لعبةر تملئين بها فراغك ومِسيرها تنتهي ، أما أن أنتحل شخصيتك وأمثل دورك فلا .
- من قال أنك ستنتحلين شخصيتي ؟ ليست المسألة بمثل هذه الشناعة التي تصورينها .
- ماذا تكون إذن ؟
- إنك ستنوبين عني في لقائه ؟
- وأين تكونيني أنت ؟
- معك باعتباري مُنى .
- ما شاء الله ، أتظنين أن الحيلة ستنطلي عليه ؟
- أية حيلة ؟ إننا لن نجهد أنفسنا في شيء ، وأؤكد لك أنه إذا حضر حقا ولقينا نحن الاثنتين فإنه ببساطة سيحدثك على أنك نادية لأنك أنت التي انطبعت صورتك في ذهنه .
- وماذا ستفعلين أنت ؟
- سأعرفه بنفسي على أنني مُنى ، وسأحاول أن أتصرف كما تتصرفين أنتِ .
والتفتت إليها مُنى رافعة أحد حاجبيها متسائلة في خبث : وكيف أتصرف أنا ؟
- بخفة وطيش وشقاوة .
- أنا ، أنا التي أتصرف بخفة وطيش بعد كل هذا العبث الذي فعلتِهِ والطيش الذي تنوين فعله ، تتهمينني بالخفة والطيش ؟
- إنه مأزق انزلقنا إليه ولابد من علاجه بطريقة ما .
وصمتت مُنى برهة وأخذت تقلب الأمر في ذهنها ، وما لبثت حتى هتفت في عناد : لا يا ستي ، أنا لست مجنونة ، من يدريني ما يفعل بي هذا الجزار المتجهم .
- لا تكوني مجنونة ، ماذا يستطيع أن يفعل بكِ ؟
- يقطع لي زورا أو مَعِدَة .
- يقطع لك زورا أو مَعِدَة ؟ هل تظنينه يمسك سكينا بيده ويطوح به في خلق الله ؟ إنه جراح وليس جزارا .
- من يدري ، ربما اكتشف بي سرطانا وأصر على قطع أحد أعضائي .
- بِعْد الشر عنكِ ، كُفّي عن هذا المزاح السخيف ، إننا نتكلم حقيقة .
- إذا كنا نتكلم حقيقة فما أفعل إذا حاول أن يمارس معي بعض مظاهر الحب ؟
- حب ؟
- أجل ، حب ، لماذا تنطقينها بمثل هذا الاستغراب والدهشة ، أليس من المفروض أنه يحبك ؟ ؟
- من قال هذا ؟
واستدارت مُنى لِتواجه نادية وقبضت على ناصية شعرها وقالت منذرَة : اسمعي يا نادية ، ماذا تظنينه قد دفعه الى زيارة كاب ؟ لِيرى الآثار الرئعة أَم لِيحضر المؤتمرات العالمية ؟ ماذا عندنا في كاب يدفعه الى أن يجشم نفسه لِزيارتنا ؟
- إنه لن يأتي إلينا خصيصا ، إنه في طريقه الى لندن .
- كَذّاب كَذّاب ، إنه ليس في طريقه الى لندن أبدا .
- إنه يتنزه ويستجم .
- هناك أماكن للاستجمام والتنزه كثيرة غير كاب ، لماذا لم يذهب الى فينّا ؟
- ربما سيذهب .
- اسمعي إذا كنت ستصرين على هذا البَلْف والاستعباط فتفضلي قابليه وحدك ، تحمليه وحدك ودعيني في حالي .
واقتربت نادية منها وضمتها الى صدرها وقبلت رأسها وقالت تهدئها : لا تغضبي يا مُنى حئِك عليَّ ، قولي ماذا تريدين ؟
وصمتت مُنى برهة تفكر وقالت وهي تهز رأسها في حيرة : نَسِّتِني ، ماذا كنت أقول ؟
- كنت تقولين هبي أنه حاول أن يمارس معك بعض مظاهر الحب .
وهتفت مُنى بلهجة المتذكرة : أجل ، هبيه قد فعل ؟
وهزت نادية رأسها مستفسرة وتساءلت : مظاهر الحب مثل ؟
- مثل !؟ ألا تعرفين مظاهر الحب حتى الآن ؟ يا غَبية ، تقبيل مثلا ، هبي أنه حاول تقبيلي ؟ماذا أفعل ؟
وأحست نادية بشيء يعتصر في باطنها ، ماذا تفعل ؟ إن مظاهر الحب ليست هي المشكلة ، وإنما جوهره هو المشكلة ، ماذا تفعل إذا أَحب مُنى فعلا ؟ وهو لا شك فاعل ، ماذا تفعل إذا تعلق بها كصورة مُجسِدَة للوهم الذي أَحبه ، لِنادية التي كتبت إليه ودعته وطافت به سفح الجبل وشاطئ البحيرة ، ومرحت وإياه في دفء الشمس وناجته أمام المدفأة في سكون الليل ، ألم يَكْفِها أنها منحته صورة غير صورتها حتى تمنحه كائنا غيرها ؟
ولكن هل كانت تملك غير ذلك ؟ هل كانت تملك أن تمنحه صورتها هي ؟ وهل تجسر الآن على أن تَلقاه ؟
لقد سبق وأن سلَّمت أن المسألة بوضعها المادي قد باتت مستحيلة بعد أن شوَّه الحريق عنقها ، ولم تجد لها عزاءً عن يأسها المُطْبِق سوى الصلة الروحية واللقاء الوهمي الذي أضحت تمارسه في رسائلها ، وكانت مُنى في العملية كلها مجرد أداة معاونة بصورتها في الرسائل السابقة وبكيانها في اللقاء المتوقع ، فما الذي يدفعها بعد ذلك الى الضيق والقلق والخوف و ... والغيرة !؟ أحقا باتت تغار من مُنى ؟
أبدا ، لا كانت ولا كانت حياتها ولا كان حبها لو أنها غارت من أختها الحبيبة الطيبة ، ومع ذلك كل التحليلات التي حللتها للموقف لم تستطع أن تمنع شعور القلق والخوف من الحل الذي توشك أن تُقدِم عليه ، ولكن هل هناك من حل سواه ؟
إن التهديد بالرحيل لم يجدِ في منعه من الحضور ، والرحيل نفسه عسير مستعصٍ ، ثم إنها فوق هذا كله وفي أعماق نفسها ، في أعماق الأعماق التي لا يُسْبَر له غور ولا يُدرَك لها قرار تتوق الى لُقياه بأي وضع وعلى أية حال حتى ولو كانت على هامش اللُقيا ، حتى ولو لم تكن نادية وكان غيرها يحتل مكانها في رؤيته واستقباله وسماع حديثه ، إنها على الأقل ستراه عن قرب وستسمع حديثه ، وأكثر من هذا سترى كيف يتصرف حيالها ومذا يحس لها ، ليس لها هي ولكن لِنادية التي تُمثلها مُنى ، أجل سَتُمَتِّعُها لهفته عليها في صورة مُنى ، فهي لن تَعتبِر مُنى غير صورة تُمثلها لأنها لا تستطيع هي أن تحتل ذلك الموضع الذي تود ا، تحتله ، لن تغار من مُنى أبدا لأنها ستعتبر كل لهفة على مُنى لهفة عليها ، وكل كلمة موجهة الى مُنى موجهة لها ، وكل ضحكة وكل ابتسامة وكل لفتة ستتلقاها هي وستستمتع بها هي ، ولكن هل تستطيع مُنى أن ترد بالطريقة التي تحب أن ترد بها هي ؟
إن مُنى خفيفة عابثة وقد تصدمه بتصرفاتها الماجنة الضاحكة ، وهو لا شك قد كوَّن لها في نفسه صورة لا تلائم أبدا هذه الصورة التي ستبدو بها مُنى ، إن عليها أن تعلمها كيف تتصرف وكيف تتحدث ، أجل يجب ألا تخذله ، يجب أن تتصرف تماما كما تتتصرف نادية ، لكن هل تستطيع ؟ ولِمَ لا ؟ إن مُنى قد قرأت كل رسائله ورسائلها ولا شك أنها ستعرف ما يمكن أن تقول نادية وكيف يمكن أن تتصرف .
ولكن هل تستطيع أن تعرف كيف يمكن أن تحس ؟
على أية حال تعرف أو لا تعرف ليس هناك مفر من هذا الحل ، إن المسألة كلها لن تعدو يوما أو بعض يوم ، سيرحل هو بعده ، وإذا لم يرحل فليس هناك أسهل عليها من ادعاء السفر .
وكانت مُنى ترْقب نادية في شرودها .
وعندما انتهت نادية من سلسلة تفكيرها بتنهيدة راحة تساءلت مُنى ضاحكة : هيه ، لم تجيبي علي .
وهزت نادية رأسها متسائلة فقد نسيت أن ترد على سؤال مُنى الذي دفع بها الى هذا الشرود .
وعادت مُنى تردد سؤالها في لهجة مرحة عابثة : ماذا أفعل إن قَبَّلني ؟
وهزت نادية رأسها وأجابت مؤكدة : لا تخافي لن يُقَبِّلَك .
- ولِمَ لآ ؟
- أولا لأن العلاقة التي بيننا لا تسمح له بهذا .
- وثانيا ؟
- لأن طبيعته لا تدفعه الى مثل هذا النزق .
- نَزَق !؟ يا مُغَفَّلَة ، التقبيل نزق ؟ هيه ما علِينا .
وصمتت برهة ثم أردفت متسائلة : وثالثا ؟
- وثالثا إن التصرف الذي ستتصرفينه باعتبارك أنا لا يمكن أن يدفعه الى مثل هذا .
وقلبت مُنى شفتيها وقالت : جائز جدا لو أني تصرفت فعلا كما يجب أن تتصرفي أنتِ .
ورفعت نادية أصبعها محذرة : وبالطبع ستتصرفين كما يجب أن أتصرف أنا .
- طبعا طبعا .
وقفزت مُنى من مقعدها واختطفت إحدى زهرات القُرُنْفل ثم قَرَّبتها من أنفها في حركة تمثيلية وقالت وهي تُسْبِل هُدْبها وتمد يدها بالزهرة : وا مدحتَاه ، وا حَرَّ قلباه .
ولم تتمالك نادية نفسها من الضحك وصاحت بمُنى : أنا أفعل هكذا يا مُهَرِّجة ؟
ولم تجب مُنى واستمرت في حركاتها التمثيلية صائحة وهي تركع في وضع كيلوباترا : هَلُمّي الآن منقذتي هَلُمّي وأهلا بالخلاص وقد سعى لي على نابيك من زُرْق المَنايا شفاء النفس من سود الليالي .
ومدت نادية يدها ورفعتها من شعرها ناهرة : انهضي وكفى استهزاءً ، دعينا نتحدث بجد .
ونهضت مُنى تقول وهي ضاحكة : ألا تريدين أن أتصرف كما تتصرفين ؟
وجذبتها نادية وأجلستها على المقعد قائلة : اجلسي هنا ، يجب أن نتدبر الأمر جيدا ونضع خطة مُحكمة حتى لا نَنكشِف .
- لا تخشَي شيئا دع الأمر لي .
- ماذا ستفعلين ؟
- عندما يحضر إما أن يرسل إنذارا بحضوره تلغرافا مثلا وفي هذه الحلة سأذهب وإياك لِنلقاه على المحطة ، وسنراه بالطبع يقف في النافذة برأسه المنحول وأنفه الطويل وحاجبيه الثقيلين .
- مُنى كُفّي عن الاستهزاء به .
- هل قلت شيئا من عندي ؟
- إنه ليس بمثل هذه الصورة القبيحة التي تصورينه بها .
- متأسفة ، سنراه يقف في النافذة بشعره الذهبي وحاجبيه الرفيعين وأنفه الدقيق .
- مُنى كفى سخفا .
- حَيَرْتِني ، لا يعجبك هذا ولا ذاك ، كيف أصفه إذن ؟
- لا تصفيه ، إني أعرفه جيدا ، فلا ضرورة لِوصفه ، ادخلي في الموضوع .
- دخلنا في الموضوع ، سنراه يقف خلف النافذة بعينيه ، هل أصف عينيه ؟
- لا ضرورة ، أكملي حديثكِ ، ماذا ستفعلين عندما ترينه يقف في النافذة ؟
- سأرفع يدي وألوح له بتؤدة .
- ولماذا التؤدة ؟
- هل أندفع إليه وأقْفز لِأحتضنه من النافذة ؟
- لا هذا ولا ذاك .
- ماذا أفعل إذن ؟
- ابتسمي ابتسامة من قلبكِ .
- أبتسم ، أجل ، ولكن من قلبي ؟ شيء لا يستطيع أحد أن يطلبه مني .
- ابتسمي وكفى .
- ثم ؟
- هرولي إليه .
- كيف أُهرول ؟
- أعني لا تجري كالمجنونة ، ولا تتباطئي في بلادَة ، أعني تقدمي وفي وجهكِ لهفة وفي ملامحكِ فرحة .
- مفهوم مفهوم ، شيء طبيعي .
- مدي يدك للسلام عليه .
- هل أحتضنه ؟
- أمجنونة أنتِ ؟ مدي يدك فقط ولا بأس من أن تضغطي على يده
- وأُبقيها في كفه ؟
- قليلا .
- وإذا حاول هو أن يبقيها أكثر ؟
- دَعيها .
- وماذا بعد ؟ أين نذهب به ؟
- نذهب به الى فندقر الميدان بعد أن يرفض دعوتنا الى النزول في المنزل .
- هبي أنه قَبِلَ .
- لا لا ، لن يرضى .
- افْرِضي ؟
- تبأَة مصيبة .
- ولا مصيبة ولا حاجة ، نخبر ماما بالحقيقة وننزله في إحدى الحجرات الخالية ، ونخبر أهل المنزل جميعا بأن ينادونك باسم مُنى وينادوني باسم نادية .
- أعتقد أنه لن يقبل النزول في المنزل .
- وبعد أن ينزل في الفندق ؟
- نطوف به في البلد ، نريه كل الأماكن التي دعوته إليها ، ثم ندعوه الى الغداء في النادي ، ثم نصعد به الجبل و .. ونفعل أشياء كثيرة .
- وماذا تفعلين أنتِ ؟
- سأتصرف كأنني مُنى .
- هل تعرفين ؟
- أتظنينها مسألة عسيرة ؟
- بالنسبة إليك أعتقد أنها كذلك .
- أبدا ، سأقفز وأَتَواثَب وأضحك وأمرح وأقول كلاما كثيرا فارغا .
- أما مجرمة ، أهذا كل ما ترينه فِيَّ ؟
وضحكت نادية .
-وأبدو طيبة القلب ، صافية النفس أحب الناس والحياة ، ولا أضمر ضغينة لأحد ولا أعادي أحدا ، بشوشة رقيقة ، أتريدين أكثر من ذلك ؟
وضمتها إليها نادية وضحكت مُنى وهي تتساءل : أحقا هذا رأيك فيَ ؟
- رأيي أنا فقط ؟ إنه رأي كل الناس .
وسمعتا صوت الأم يناديهما من الأسفل : نادية وضحكت مُنى ألا تنويان النزول للغداء ؟
وأجابت وضحكت مُنى : حالا يا ماما .
وبدت نادية وقد غَيَّمت على وجهها سحابة هَم .
وسألتها وضحكت مُنى : ما بك يا نادية ؟
- أبدا ، أفكر فقط في الزيارة المتوقعة .
- ماذا تخشين منها ؟ ألم نحل مشكلة لقائه ؟
- أجل .
- وسيمكث معنا بضع ساعات ثم يرحل ، وتعاودين الكتابة إليه كما تعودتِ .
- أحقا سيرحل ببساطة وبلا عواقب ؟ وهل يمكن أن أعاود الكتابة إليه كما كنت أفعل ؟
- ولِمَ لا ، مادمت أنت تريدين الكتابة إليه ، فإذا لم تريدي فليس أسهل من أن تقولي له إنك ستسافرين ، وإن عنوانك سيتغير ، وإنك سترسلين إليه بعنونك الجديد ثم تتوقفين عن الكتابة إليه ، وسيرسل لك بضع رسائل وعندما لا يجد ردا سيَيْأَس ويتوقف الأمر ، معقول ؟
وهزت نادية رأسها وأجابت في لهجة يائسة : معقول .
وقبل أن تغادر وضحكت مُنى الحجرة قالت نادية وهي تفتح دُرْجا صغيرا في دولابها : اسمعي يا وضحكت مُنى ، إن رسائله كلها في هذا الدُرْجوأعتقد أن من الأفضل أن تقرئيها كلها مرة ثانية حتى لا تخطئي في المناقشة معه .
ونظرت مُنى الى كومة الرسائل وبدا عليها الفزع وأجابت قائلة : يا نهار إسوِد ! أنا أقرأ كل هذه ؟ لا يا ست نادية يفتح الله .
- إنها لن تستغرق منك وقتا طويلا ، إن خطه كبير .
- ولماذا أقرؤها ؟
- لأنه قد يعيد عليك بعض ما قاله فيها .
- ليعيد أو يَنْفَلِق ، أتظنينني سأُسَمِّعها له كالمحفوظات ؟
- أبدا ، تكون لديك فكرة عنها .
- إن لدي فكرة جيدة عن كل ما بها من سخافات ، أعرف عصير القصب الذي اشتراه لك والبطاطا التي بخل عليك بها وأعرف الستين قرشا التي لهف بها القشطة هو صاحبه االحَلّوف جاد الله ، هل تظنين معدته تعبت من قليل ؟ من البطاطا والعصير وكيم القطايف ، ماذا تريدين أن أعرف عنه أكثر من ذلك ؟
- هل تعرفين إنه ترك مرفت ؟
- وأنا مالي ؟
- تركها من أجْلك .
- من أجْلي أنا ؟!
- أعني أجْلي أنا .
- حلال عليكِ .
وتريثت مُنى برهة ثم رفعت حاجبيها واتسعت حدقتاها وهتفت في شبه ارتياع : اسمعي ، هل تعنين أنه يجوز أن ... أقصد أنه يمكن أن ... أن ، أن يخطبني ؟
وهزت نادية رأسها في نفي بات وقالت : لا لا ، لا غير معقول ، إن ما بيننا لا يمكن أن يدعوه الى ذلك ، إنه لم يشر مرةً واحدةً الى شيء من هذا ، غير معقول مطلقا .
وهزت مُنى رأسها وتمتمت : والله يِعْمِلها ، مجنون ، مجنون لا يُستبعَد قد يكون عمل كل هذه الرحلة لكي يخطب المجهولة التي تراسله من قمم الألب .
وعادت نادية تهز رأسها نافية : غير معقول يا مُنى ، لا تكوني سخيفة .
- أنا السخيفة ؟ أنا التي أقوم بكل هذه الرحلة لمجرد أن فتاة كتبت إلي ؟
وعاد صوت الأم ينادي الفتاتين : مُنى نادية الطعام برد .
وصاحت نادية : حالا يا ماما .
والتفتت مُنى متسائلة : اسمعي ، هبيه قد فعلها وخطبني ؟
وأحست نادية بنشوة من وقع الكلمة ، ولكنها ما لبثت أن طردتها من نفسها وأجابت بطريقتها النافية المؤكِدة : يا مُنى يا حبيبتي غير معقول أن يفعلها .
- لِنفرض أنه فعل ، ماذا أفعل أنا ؟
وصمتت نادية برهة وبدا عليها الشرود .
وعادت مُنى تستحثها متسائلة : ماذا أفعل لو فعلها ؟
وأجابت نادية في صوت خافت يائس : إعتذري ، قولي أي شيء ، قولي إنك لا تستطيعين ، تصرفي .
ومرة أخرى عاد صوت الأم ينادي في غضب : هل ستنزلان أَم أرفع الطعام ؟
وأجابت الفتاتان وهما تهبطان الدَرَج : سننزل ...
38
محاولة هروب
جلست نادية ومُنى على مائدة الطعام ومعهما الأم وجانيت ، وكانت الجدة قد زحفت بمقعدها حتى استقرت جوار المنضدة ، وبدا الشرود على نادية وهي تزدرد طعامها ، ولم تكن مُنى
أقل منها شرودا فقد استبد بذهنيهما هذا الحديث الذي دار بينهما في حجرة نادية حول زيارة مدحت المتوقعة وكيفية مواجهتها .
ورأت الأم الصمت الذي ساد ابنتيها والوجوم الذي علا وجهيهما ، وقَلَّبت البصر بينهما قائلة في تساؤل : ماذا بكما ؟
وهزت مُنى
رأسها وهي تمضغ قائلة : لا شيء .
وعادت الأم تتساءل غير مصدقة : أتعاركتما ؟
وتضاحكت نادية قائلة : ليس بعد .
- إذن ما لكما صامتتين ؟
ورفعت مُنى
- كتفيها وأجابت : أنا شخصيا أفكر .
- وتساءلت جانيت ضاحكة بالتعبير الإنجليزي : بنْس لأفكارك .
وأجابت مُنى
- بالرد المألوف : لا تستحق .
- - إذن قوليها مجانا .
ونظرت مُنى
- لِنادية وتساءلت : أقول يا نادية ؟
- ورفعت نادية حاجبيها متساءلة في دهشة : تقولين ماذا ؟
- - ما أفكر فيه .
- ونظرت إليها نادية محذرة .
- ثم قالت وهي ترفع كتفيها في غير اكتراث : أنت حرة ، قولي ما تشائين .
ومدت مُنى
- يدها الى طبق الفاكهة وأمسكت بتفاحة غرزت بها أسنانها .
- ونهرتها أمها قائلة : قَشِّريها .
فأجابت مُنى
- : لا ضرورة ، إن القشر مليء بالفيتامينات .
وأحست نادية بشيء من الارتياح وهي ترى الحديث يتجه اتجاه آخر غير أفكار مُنى.
ولكن مُنى ما لبثت عادت تقول وهي مستمرة في قضم التفاحة بقِشرها : كنت أفكر أنا ونادية ب ...
وعادت تقضم التفاحة ، وتوترت أعصاب نادية وحملقت في وجه مُنى
.
واستمرت مُنى
تقول : كنا نفكر في أن نقوم برحلة . وتساءلت الأم : الى أين ؟
فكرت مُنى
برهة ثم قالت : الى بريانسن مثلا أو كرينوبل ،أليس لديك أقرباء يستضيفوننا ؟ لقد مللنا كاب .
وهزت جانيت رأسها وتساءلت قائلة : كيف لا يكون لدينا أقرباء في بريانسن وكرينوبل ، إن لدينا أقرباء ومعارف في كل بلدة في فرنسا ، إن أسرة ...
وقاطعتها مُنى قائلة : لا نريد شرحا لتاريخ الأسرة ، إننا باختصار نريد أن نغير مناظر .
وأجابت جانيت : إن عمي ريمون وزوجته سارة يتمنيان أن تزوراهما في أي وقت .
وتساءلت مُنى : عمك ريمون مَنْ ، لم نسمع به من قبل ؟
- إنه زوج عمتي .
- - هل سارة عمتك ؟
- - لا ، عمتي ماتت وقد تزوج بعدها سيدة من شابري ثم ماتت وتزوج بعدها السيدة سارة وهي ...
وهزت مُنى رأسها في يأس وقالت : هل تظنين عمك ريمون بعد زيجاته الثلاثة مازال يذكر المرحومة عمتك حتى يتفضل بدعوتنار الى منزله ؟
وردت جانيت مستنكرة : يَذْكرها ؟ إنه لم ينسها قط ، لقد قال في آخِر خطاب كتبه إلي ...
وضحكت مُنى
وتساءلت في خبث : هل عمك ريمون هذا هو الذي يرسل إليك الرسائل الزرقاء ؟
- أجل .
ونظرت مُنى
- الى أمها وتساءلت : ماما هل يجوز لزوج العمة أن يتزوج ابنة أخ زوجته ؟
- ورمقتها الأم بنظرة ناهرة وقالت : كُفّي عن هذا المزاح السخيف .
وضحكت مُنى وأجابت : إني لا أمزح والله ، إني فقط أتصور أن العم ريمون يعمل حساب عمتي جانيت في مشروعاته المستقبلية بعد أن يأخذ الله السيدة سارة الى جواره. واحمر وجه جانيت وتصاعد الدم الى أذنيها حتى أضحت كالجزرة وقالت لمُنى ناهرة : يا خبيثة ، ألا تَكُفّي عن تفكيرك الخبيث ؟
وردت مُنى قائلة : المهم هل عمك هذا على استعداد أن يستضيفنا ؟
وأجابت جانيت في حماس : طبعا ، إنه يعرفكم جيدا ، إني أكتب إليه عنكم في كل رسائلي ، وهو دائما يبلغكم السلام ، وفي آخِر رسالة سألني متى نزوره ؟
تساءلت مُنى في خبث : نزوره أو تزورينه ؟
- بل نزوره كلنا .
- هل لديه استعداد أن يستضيفنا ويتحمل متاعبنا لمدة أسبوع ؟
وكانت نادية قد لزمت الصمت طوال المناقشة ، فقد كانت تعتبرها ثرثرة من جانب مُنى فلما وجدتها تتساءل في جِد رفعت وجهها عن التفاحة التي انهمكت في تقشيرها وتساءلت في دهشة : أسبوع ؟
وأجابت جانيت : طبعا ، إنه يحتمل ، لقد سبق أن دعانا عدة مرات ، وقد قلت لأُمكما ، ألم أخبرك يا لورا ؟
وهزت لورا رأسها في ملل وقالت لمُنى ناهرة : مُنى كُفّي عن هذا السخف .
- لماذا لا نذهب ؟
- الى أين ؟
- الى بريانسن ، نتنزه إنهم يقولون إنها مدهشة .
- لن ترَي فيها أكثر مما ترين هنا .
- المهم أننا نغير المناظر من حولنا ، إن كابي وتوني ...
وقاطعتها الأم في ضيق : ليس لنا بأحد شأن .
- لماذا يا ماما ؟
- لأنني لا أكاد أتحرك من حجرة الى حجرة ، ماذا يدعوني الى الشحططة والمرمطَة ؟
- إذن ابقي أنت وسنسافر مع عمتي جانيت .
وقالت جانيت في حماس : أجل إني على استعداد لِمصاحبتهما ، لابد أن يريا المنطقة كلها فمن غير المعقول أن يظلا مرابطتين في كاب ، لا بد أن تتنزها ، إن بيت العم ريمون يقع على شاطئ البحيرة والمنظر هناك عجيب والجبل جميل .
وقفزت مُنى من مقعدها واتجهت الى الأم تحتضنها وتقبلها مستعملةً معها وسيلتها المعتادة في الإقناع ، وأخذت ترجوها متوسلة كأنها طفلة صغيرة : والنبي يا ماما .
وكانت نادية مطرِقة متشاغلة بالتفاحة في يدها ، وقد بدا الوجوم على قسماتها .
ونظرت إليها مُنى ودُهِشَت من إِطراقِها ووجومها ، فقد كان مفروضا أن كل هذه المحاولات في سبيل الرحيل من كاب من أجلها هي .
لقد بدأت مُنى المحاولة بمجرد مناقشة يائسة لا طائل تحتها ، ولكن هاهي توشك أن تُثمر عن رحلة حقيقية تُبعِدها عن كاب وتوفر عليها عملية الخداع والتمثيل التي فكرتا فيها إذا ما وقعت الواقعة وأتى مدحت الى كاب ، فلماذا تبدو نادية واجمة ؟ ولماذا لا تحاول الإسهام في محاولة إقناع أمها ؟
ونظرت مُنى الى نادية وهي منهمكة في تقشير التفاحة وهتفت بها : نادية ، مالكِ ساكتَة ، ألا تريدين الذهاب الى بريانسن ؟
ورفعت نادية رأسها كأنها أفاقت من شرود بعيد وأجابت متسائلة : بريانسن ؟
- أجل ، ألا تريدين أن نرحل عن كاب ؟
وأحست نادية أن خافقا يدق في حناياها ويكاد يهتف لا ، لا أريد أن أرحل عن كاب ، إن مدحت سيأتي ، سأراه إنه قد لا يميزني لكني سأراه ، قد لا يعرف أني أنا نادية ، نادية الحقيقية التي أحبته والتي كتبت إليه والتي تتلهف على رؤيته ، لكن مذا يهم إذا كان لا يعرفني مادمت أنا سأعرفه ؟ وسأجلس إليه وسأصحبه الى الجبل وسأسير معه على شاطئ البحيرة وأطل وإياه على الوادي الأخضر وأتطلع وإياه الى القمم البِيض ، كيف أتركه وأَفِر ؟ لأنه لن يعرفني ؟ ومنذ متى قد عرفني ؟
لا ، لا لا أريد الرحيل عن كاب سأبقى ، سأبقى حتى أراه ولو من بعيد يهبط من القطار وحده ، ويسير في البلدة وحده ، وسأرقبه أيضا وهو يرحل وحده ، سأجلس بعيدا لأودعه في صمت كما ودعته في النادي عندما رحلت عن مصر من بعيد ودون أن يحس بي ، لن يكون لِوداعي معالِم تماما كما لم يكن لوداعها الأول معالم ، سأبقى ، سأبقى .
وعادت مُنى تتكرر سؤالها في لهجة مغيضة : نادية لماذا لا تُجيبين ؟، أيعجبك البقاء في كاب ؟ ألا تودين الرحيل الى بريانسن ؟
وأجابت نادية في صوت خافت وهي ترفع رأسها في بطء : ولِمَ لا ؟
ولم يعجب مُنى لهجتها الباردة ، فعادت تردد في غيظ : ولِمَ لا ؟ أنت لا يهمك الأمر كثيرا ؟
وهزت كتفيها في استخفاف وأردفت قائلة : طبعا ما دام العبء سيقع علي ، مادمت أنا التي س.....
وانتفضت نادية ونظرت الى مُنى نظرة زاجِرة وقاطعتها قائلة : قلت لك إني أحب الرحيل الى بريانسن ، أقول لك أكثر من هذا ؟
وهزت الأم رأسها وقالت وهي تحيط مُنى بذراعها: يا مُنى يا حبيبتي ألا تخشعين ؟ ألا تهدئين في مكان واحد ؟ كل هذه النزهات التي تقومين بها في كاب ولا تكتفين ؟
- أي نزهات ؟ لقد مللت الصعود الى الجبل والذهاب الى النادي .
- إني أخاف عليك يا مُنى .
- ممِمَّن ؟
- من كل هذا الجهد الذي تقومين به .
- تاني ؟ ألم نتفق ألا نعود الى هذا الخوف ؟ لقد أثبت لك أني أشد من ابنتك هذه التي لا تخشين عليها ، بالأمس تفوقت عليها في التنس ، ومنذ يومين سبقتها في الصعود في الجبل ، وأنا على استعداد الآن أن أدخل معها في مصارعة أو ملاكمة .
ثم اتخذت موقف الملاكم وأردفت قائلة : ها إني مستعدة .
ثم أقبلت على أمها تضمها إليها مرة أخرى في توسل الأطفال : انتهينا يا ماما سنذهب الى بريانسن .
- بشرط .
- إني أقبل كل شروطك .
- أن تأخذي بالك من نفسك .
- وألا أعرق وألا أجلس في الهواء وألا أنهج وألا أعدو وألا أركب دراجة ، وألا وألا هل لديك شروط أخرى ؟
ومالت على أمها تُقَبِّلها في حنان وقالت متسائلة : أتدرين يا ماما لو نفذت شروطك لانتهى بي الأمر الى أي شيء ؟
وهزت الأم رأسها متسائلة .
فأجابت مُنى : الى أن يحملوني على نقالة في كل حركة .
وأجابت الأم وهي تضمها في حنان : بِعْد الشر ، إني فقط لا أريدك أن تجهدي نفسك .
- مفهوم .
وقالت جانيت : لا تخشي عليها سأكون أنا المسؤولة عنها ، لن أتركها لحظة .
ونظرت مُنى الى جانيت وتساءلت في خبث : والعم ريمون ؟
وضربتها جانيت بخفة على ظهرها وقالت زاجرة : يا خبيثة .
واتجهت مُنى الى نادية التي لا زالت في جلستها المطرِقة الواجمة ، وقالت وكأنما تحاول أن توقظها من شرودها هييه ، الى أين وصلتِ .
ولم تجب نادية .
وعادت مُنى تتساءل : الى منشية البكري ؟
ثم جذبتها من ذراعها واتجهت بها الى الباب الخارجي وقالت متسائلة : مالِك يا نادية ؟
- أبدا لا شيء .
- ألم تعجبكِ هذه المحاولة للزَوَغان ؟ أليس هذا ما كنت تتوقين إليه ؟
وأجابت نادية في غير حماس : أجل .
وعادت مُنى تقول وهي تهز رأسها في دهشة : إنت عجيبة يا نادية ، إني لا أستطيع فهمكِ .
وانحنت نادية بطريقة غير إرادية لِتقطف إحدى زهرات القُرُنْفُل التي تملأ الحوض القائم على مدخل الباب .
ونظرت إليها مُنى متسائلة : ألم تكوني أنت الراغبة في الهروب ؟
- أجل .
- إذن ما بالك لا تتحمسين له عندما نجحتِ فيه ؟
- لست أدري ما سنعمل في بريانسن .
- هبي أننا لن نفعل شيئا ، ألا يعجبك أنه مجرد فرار من صاحبك المصر على المجيء ؟
وأجابت نادية وهي مستمرة في شرودها : أجل .
وضغطت مُنى على ضروسها في غيظ .
- اسمعي يا نادية ، أنا أريد أن أعرف بالضبط هل ترغبين في لقاء مدحت ؟
ونظرت إليها نادية نظرة شاردة ، وأجابت وهي تطلق تنهيدة طويلة : كيف أرغب في لقائه ، كيف أجسر ؟
- وأنا أيضا لا يهمني لقاءه ، فماذا يضايقك من الرحيل ؟
- أنا لم أتضايق .
- بل تضايقتي ، أو على الأقل لم تتحمسي له ، هل أنت راغبة في أن تدفعي بي الى المأزق ؟ ؟
- أي مأزق ؟
- أن أقوم بدورك وأقابله وأطوف به وأحدثه حديث الهائمة ؟
وأجابت نادية في غضب وقد احمر وجهها : إذا كنت لا تريدين هذا فأنا لم أكرهكِ عليه .
- يا نادية يا حبيبتي أنا لا أكره أن أقوم بأي شيء من أجلك حتى الموت من أجلك لا أكرهه ، ولكن نستطيع أن نجنب أنفسنا هذه الخديعة التي نوشك أن نقوم بها ، وما دمت أنت كنت تتمنين فرصة للرحلة فلماذا لا تتحمسين لها بعد أن أتحتها لك ؟
ومدت نادية يدها فأمسكت بيد مُنى وضغطت عليها قائلة في حنان : لا تتضايقي مني يا مُنى ، إني لا أفهم نفسي ، إني حقا حائرة .
- لا داعي أبدا للحيرة ، سنقوم بالرحلة الى بريانسن مع عمتي جانيت ، فإذا أتى ونحن في السفر فبها ونَعُمَت وإذا لم يأتِ فسنستقبله كما اتفقنا ، وسأفعل لك كلما تودين .
وضمتها إليها وقبلتها في عطف ثم تساءلت : اتفقنا ؟
وأشارت نادية برأسها موافقة .
وعادت مُنى تقول : اضحكي إذن .
وقبل أن تضحك نادية ، سمعت صوتا يتساءل من ورائهما : علامة تضحكين ؟
ونظرت مُنى فإذا بكابي وتوني يقفان وراءها .
فأجابت مُنى .
- لأننا سنذهب الى بريانسن .
فصاحت كابي في حدة ودهشة : حقيقة ؟!
- أجل ، لقد دعانا أحد أقرباء عمتي جانيت ، وسنذهب لِقضاء بضعة أيام .
وصاح توني : هائلة .
ونظرت مُنى متسائلة : ما هي ؟
- سنسافر سويا ، لقد اقترح أبي علينا أن نذهب معه فلم نتحمس كثيرا لاقتراحه ، فإذا كنتما مسافرتين حقا فسنصر على الذهاب معا .
وقالت كابي في فرح : ستكون رحلة مُدْهِشَة ، هل سبق لك الذهاب الى هناك يا نادية ؟
وهزت نادية رأسها بالنفي .
وعادت كابي تقول في حماس : إنها مكان مدهش ، إنها أعلى قمة في هذه المنطقة كلها ، والطريق إليها في منتهى الجمال .
وتساءل توني : هل تسافران معنا ؟
وأجابت مُنى إذا كان لديكم مكان لِعمتي جانيت فسنسافر طبعا .
وسألت كابي : وماما ؟
- ستبقى مع جدتي .
وهز توني رأسه وقال : سنسافر كلنا معا ، سنأخذ عربة هالي إنها لا شك سترحب بالمجيء معنا .
وفي صبيحة اليوم التالي ، وقبل أن ترسل الشمس أشعتها من وراء الأفق كانت العربتان تتحركان من كاب في الطريق الصاعد الى بريانسن ، وكان الكبار قد تجمعوا في عربة ، وضمت العربة الأخرى نادية ومُنى وتوني وكابي وبقية الشلة وقد تعالى ضجيجهم وغناؤهم ، وكانت الفرحة تبدو في وجوه الجميع والمرح يتواثب في قسماتهم ، وكانت المناظر الرائعة تترامى على جانبَي الطريق ، وندى الصباح يتلألأ على الأوراق الخُضْر الناضرة المتهدلة على جوانبَيه ، وكانت مساقط المياه تتدفق منحدرة في صخب عنيف أحيانا وفي خرير ناعم أحيانا أخرى ، وفي الوديان البعيدة تبدو الغدران وقد تجمعت فيها المياه المساقط وأخذت تتدفق بين الصخور والأعشاب ، تلتقي حينا في أنهر عريضة وتفترق حينا في جداول ضحلَة كالشرايين الرفيعة ، والكباري تبدو معلقة بين أطراف الجبال كأنها الأرجوحات تهتز في مهب النسيم ، وأشعت الشمس تتسلل حمراء قانية لِتصبغ كل هذا بلون الأرجوان وتُبدي الكون في روعة مذهلة ، ونادية تشارك في الضحك وأسنانها البِيض المنظمة تلمع بين آونة وأخرى في انفراج شفتيها وهي تحس بالجمال الرائع من حولها ، وتحس بالنشوة والفرحة التي تغمر الرفاق الضاحكين من حولها ، ولكنها مع كل هذا الضوء المحيط بها تحس بشيء قاتم في باطنها ولم يكن هذا الشيء القاتم الكامن في باطنها بالشيء الجديد عليها ، فقد كان يَرْسِب دائما في أعماقها ، ولكن إحساسها به قد زاد وهي تحس بالعربة تحملها بعيدا عن كاب ، عن البلدة التي طافت بكل قمة من قممها وذراعها في ذراعه ، والتي جلست وإياه على شاطئ بحيرتها ، والتي اصطلت وإياه بنار مدفأتها ، والتي تحس بعد كل هذا أنه سيحل بها ويطوف بربوعها ، وكانت بنفسها حيرة وقلق ، لماذا تطمع بلقائه وهي وطنت نفسها على عدم اللقاء ؟ على البُعد والأوهام والأحلام ، أليس من الخير أن تجنب نفسها هذه التجربة التي قد تطيح بكل أحلامها وأوهامها ؟
وهمت بأن تستمر في دورة تفكيرها وحيرتها وتساؤلها عندما أحست بإصبعَي مُنى تجذبانها من أرنبة أنفها وتصيح بها ضاحكة : هييه نحن هنا في الطريق الى بريانسن ، في الطريق الى أعلى قمم الألب ، في الطريق الى الله .
ورفعت مُنى ذراعيها في طريقة تمثيلية وهتفت : إني صاعدة الى الله .
وأحست نادية بانقباض من قول مُنى وهتفت بها : لماذا تقولين هذا الكلام السخيف ؟ تِفي من بُإِك .
وتساءلت مُنى ضاحكة : سبع تَفات ؟
- أجل .
- على وجهكِ ؟
- على وجهي على وجهي ، تِفي أُلْتِلِك .
وأصدرت مُنى من شفتيها أصوات تف سبع مرات ، ثم هزت رأسها ضاحكة : لم تتقدمي أبدا ، ستظلين هكذا كَلوَلايا ، أفي قمم الألب تقولين تِفي من بُإِك .
- لا تعودي الى السخافات التي تقولينها .
- أتظنين السبع تَفات ستقيني من الموت وتمنعني من الصعود الى الله ؟
- قلت لك لا تكرري هذه السخافات ، إني أتشاءم منها .
- انتهينا ، اضحكي إياك أن تسرحي وإلا عاودت الصعود الى الله .
وصاح توني بالأختين وقد مل حديثهما بالعربية : أيتها البربريتان كُفا عن الرطانة بهذه اللغة ، وخَبِّراني ماذا تقولان ، أتتآمران علينا ؟ ماذا تريدان بعد أن أخذتما قناة السويس ، وصفعتني أحداكما قَلَما كأنما نحن الذين لطشنا القناة ؟
وصاحت به مُنى : يبدو أنك تريد مني قَلَما هذا المرة ، أحذرك من أن تعود الى تسمية التأميم باللطش .
- تأميم لطش ، لن أعود الى ذكر القناة بعد هذا على ألا تتكلما بالعربية .
واندمجت الأختان في الحديث والغناء مع الشلة حتى وصلت العربتان أخيرا الى بريانسن ، وأخذت جانيت تقودهم في طريقها حتى وصلوا بيت العم ريمون ، وبدا المسكن أقرب الى الكوخ منه الى المنزل بجدرانه الخشبية القديمة وسقفه المائل وشرفته العريضة المطلة على البحيرة .
ولم يكد العجوز صاحب البيت يتأكد من زواره حتى هتف في حماس : أخيرا جئتِ بقريباتك المصريات .
واندفع الى الجمع مُرَحِّبا ، وهبطت نادية ومُنى وجانيت من العربة ولحقت عربة توني بالعربة الأخرى متجهين الى فندق قريب من البيت بعد أن اتفقوا على موعد اللقاء .
ووقفت مُنى ترقب المنظر من حولها مأخوذة بروعته ، ولمحت قاربا على شاطئ البحيرة فهتفت في سعادة : مُدْهِش ، كل شيء كما أحب ، سأجدف وأعوم وأتسلق الجبل ، وهذه دراجة بجوار البيت سأركبها أياً كان صاحبها ، ماذا بقي بعد ذلك ؟
ونظرت إليها نادية وهزت رأسها وأجابت في سخرية : بقي أن ترقدي صريعة بعد أن تفعلي كل هذا الجنون .
وقلبت مُنى شفتها السفلى وقالت مقلدة نادية : ما هذا الكلام السخيف ؟ تِفي من بُإِك سبع تَفات .
وراحت نادية تنفذ الأوامر وقد بدا عليها الندم على ما قالته ، وأمسكت بذراع مُنى وقالت محذرة : اسمعي ، إياك أن تفقدي عقلك وتدوري كالمطْيورة لتفعلي كل هذه السخافات التي قلتِها .
- ماذا أفعل إذن ؟
- افعلي كما سأفعل .
- أجلس لأَسرح في جزار الدمرداش ؟
- أنا لا أسرح في أحد .
- لا تغضبي أنا التي أسرح ، هل تريدينني أن أجلس أمام البيانو لِأعزف القطعة الجنائزيَة التي لا تَكُفّين عن عزْفها ؟
- اسمعي يا مُنى يا حبيبتي ، أنا لا أطلب منك سوى أن تكوني عاقلة ، لا تنطلقي كالمطْيورة حتى تمرضي من فرط التعب .
- لك علي هذا .
وكان العجوز ريمون قد انهمك في الحديث مع جانيت ، .
ونظرت إليهما مُنى وقالت في صوت خافت : أقسم لك أن جانيت ستكون الزوجة الرابعة للعم ريمون بعد وفاة العمة سارة .
وقبل أن تدخل الأختان الكوخ وثبت مُنى على الدراجة واندفعت تعدو بها على شاطئ البحيرة ...
39
لو ينسانَا
عادت مُنى الى الكوخ بعد جولتها بالدراجة وأخذت تقفز درجاته الخشبية في خفة ومرح وانطلقت تتجول في حجراته وهي تصفر بفمها .
وهتف العجوز ريمون ضاحكا : لعل كوخنا المتواضع أعجبك أيتها المصرية الجميلة ؟
- أعجبني فقط ؟ إنه رائع .
وكان الكوخ رائعا حقا ، بقاعته الرحبة ذات المدفأة الضخمة التي عُلِق في صدرها رأس حيوان بقرونه الملتفَة ، وعُلِق على جدرانها صور زيتيَة لرجال بملابس رسمية وشوارب مبرومة ، ونساء كثيفات الحواجب واسعات الأفواه ، قد فرقن شعورهن من منتصف الرأس وتدَلَّت ضفائرهن على الأكتاف ، وصور أخرى لمناظر صيد وأخرى لمناظر طبيعية لجبال وبحيرات ، ومجموعة من السيوف والبنادق احتلت الأماكن الخلية من الجدران .
كانت حجرات الكوخ تحيط بالقاعة ، وكانت نادية قد استقرت في إحداها تمارس عمليتها المعتادة في نقل الملابس من الحقائب الى الدولاب .
ونظرت إليها مُنى وهتفت : إن المكان مدهش ، لقد قمت بجولة سريعة بالدراجة على شاطئ البحيرة وفي الشوارع المحيطة بنا ، ألا تنوين الخروج ؟
ونظرت إليها نادية في غيظ وتساءلت : وهذه الملابس المكدسَة في الحقائب من الذي سيُعَلِّقها ، خدّامين أَبونا ؟
- يا ستي ، عندما نعود يحلها ربنا .
وانحنت فوق حقيبتها وأخذت تبحث بين الملابس المطبقة حتى أخرجت شورتا كحليا سرعان ما ما دست فيه ساقيها ووقفت تتلفت حولها متسائلة : ألا توجد هنا مرآة ؟
فوقع بصرها من فتحة الباب على العجوز ريمون وقد بدا وجهه كوادٍ مليء بالأخاديد ، وقد جلس على مقعد أمام المدفأة يملأ غليونه بالتبغ .
وأردفت مُنى تقول : من مصلحة سكان البيت ألا يكون به مرايا حتى لا يروا أنفسهم .
ومدت نادية يدها وفتحت دلفة الدولاب فبدت مرْآة في داخله وقالت لمُنى : إنهم يرون أنفسهم سرا .
ووقفت مُنى تصلح الشورت والقميص أمام المرآة ، ومدت إحدى ساقيها متخذة وضعا استعراضيا ، وأطلقت بفمها صفير إعجاب وقالت مازحة : يا سلام عليكِ يا مُنى ، زي اللوز .
وهمت بالخروج وهي تتحرك على أطراف أصابعها كما تتحرك راقصات الباليه .
وتساءلت نادية وهي تعلق أحد الفساتين على الشماعة : إلى أين ؟
وفتحت مُنى ذراعيها وأخذت زفيرا طويلا وقالت في لهجة ملؤها الجذل والابتهاج : الى الدنيا ، الى الحياة الحلوة .
وأجابت نادية وهي تهز رأسها باستخفاف : ألا تعقلين ؟
- ألا تعقلين أنتِ ؟ إن تضيعين نصف عمرك في تطبيق الملابس وتعليقها والنصف الآخر في نزهات على الورق وجولات في الرسائل .
ولم تجب نادية بل استمرت في تنظيف الدولاب وتعليق الملابس .
وعادت مُنى تتساءل قبل أن تغادر الحجرة : ألا تأتين معي لِلتجديف في البحيرة ؟
والتفتت إليها نادية وقالت مستنكرة : أتنوين التجديف ؟
وهزت مُنى رأسها قائلة : أجل ، مالكِ تقولينها باستنكار كأني سأرتكب منكرا ؟
- ألم تقل لك ماما ألا تجهدي نفسكِ ؟
- ومن قال إني سأجهد نفسي ؟ إني سأجدف بلا أي إجهاد .
- هكذا ؟
- أجل هكذا ، سأضرب بالمجدافين في منتهى الخفة وبلا أي جهد .
- يا مُنى يا حبيبتي ، اعقلي ودعي الرحلة تمر على خير .
وهتفت مُنى محذرة : اسمعي يا نادية ، أرجوكِ أن تكُفّي عن اتخاذ موضع الأم مني ، إنك لست أكبر مني ، وأنا أعرف كيف ...
وقاطعتها نادية في ضيق : إِنْفِلئي ، افعلي ما تشائين ، أنت لست صغيرة .
وانطلقت مُنى من الحجرة ، وعند عبورها القاعة سألتها جانيت : الى أين ؟
- إلى البحيرة .
- ألا تنتظرين حتى تأتي مدام ريمون ؟
- وأين هي ؟
أجاب العجوز ريمون : ذهبت الى السوق ، إنها ستُسَر بقدومكم ، لقد ضقنا بالوحدة ذرعا .
- سأعود بسرعة ، إني سأخرج بالقارب في جولة قصيرة .
وتساءل العجوز : هل تستطيعن استعماله ؟
- وهل استعماله مشكلة ؟
- أبدا ، إنه خفيف جدا وليس عليك إلا أن تفكي الوثاق الذي يشده الشاطئ وتضربي بالمجدافين .
ولوحت مُنى بيدها وانطلقت تعدو الى الخارج .
وكان القارب قد رُبِط في جذع إحدى الشجيرات المتكاثفة على الشاطئ ، ولم يصعب على مُنى فك الوثاق وقفزت الى القارب في خفة واتخذت مكانها على العارضة وأمسكت بالمجدافين ، ولم تكد تضرب بهما أول ضربة على سطح البحيرة حتى سمعت هاتفا يصيح بها : مُنى .
والتفت لِتجد وني وكابي ينحدران من ربوة تشرف على البحيرة بجوار الكوخ وقد أخذا يلوحان لها .
وانتظرت مُنى حتى وصلا شاطئ البحيرة .
وهتفت بها كابي متسائلة : الى أين ؟
- جولة بالبحيرة .
- وحدكِ ؟ يا خائنة .
- وحدي لأني لم أجد من يأتي معي ، إن نادية منهمكة في ترتيب الملابس وتنظيف الدواليب .
- لماذا لم تنتظرينا ؟
- ظننتكما ستتأخران .
واقتربت مُنى من الشاطئ وأردفت قائلة : هيا بنا ، اهبطَا .
وقفز الاثنان الى القارب ، وكان توازنه يختل ، ومضى برهة وهو يتأرجح ويهتز حتى عاد الى ثباته .
وقبل أ ترفع مُنى المجدافين لِتضرب بهما الماء سُمِعَ صوت آخر يهتف .
وظهرت سالي تهبط من نفس الربوة وتشير إليهم بالانتظار .
وقالت مُنى : إن القارب لن يسع أكثر من هذا ، قل لها يا توني أن تنتظر حتى نعود ، ونستطيع أن نخرج بها في جولة أخرى .
ووضع توني كفيه حول شفتيه كالبوق وصاح بسالي : سنعود حالا ، القارب لا يتسع لأكثر من هذا ، سآخذك أنت ونادية فيجولة أخرى .
وضربت مُنى سطح المائ بالمجدافين فتطاير الرذاذ وأصاب بعضه توني .
فصاح بمُنى وهو يقف نصف وقفة : ناوليني المجداف سأجدف أنا .
صاحت مُنى آمرة : اجلس مكانك ، أنا التي سأجدف ، ماذا تظنني ؟ غشيمة ؟
وعادت مُنى تضرب سطح الماء بالمجدافين وفي كل مرة يتعالى الرذاذ فيصيب الراكبين ، ويحاول توني أن يأخذ المجدافين فتهدده قائلة : اجلس مكانك وإلا قلبت بك القارب .
واستمر القارب يجري على سطح البحيرة ، واستمرت ذراعا مُنى بحركتهما الدائرية بالمجدافين ، وأخذ صدرها يعلو ويهبط وبدأت أنفاسها تتلاحق .
وقالت لها كابي متسائلة : هل تعبتِ يا مُنى ؟
وأجابت مُنى من بين أنفاسها المتلاحقة في إصرار وعناد : ليس بعد .
وبعد فترة نظرت كابي الى الساعة وقالت لِمُنى : أظن الوقت قد حان لِنعود .
وكانت مُنى قد أحست بالتعب فعلا ، فقد أخذت عضلات ذراعيها بالتصلب وازداد تلاحق أنفاسها .
واقترب القارب مرة أخرى من الشاطئ حتى توقف عند مَرْسَى بجوار الشجرة ، وتركت مُنى المجدافين وأخذت شهيقا طويلا ثم أطلقت زفرة أطول ، ومدت ذراعيها تحركهما حتى تزيل عنهما تصلب عضلاتهما ، ثم قفزت من القارب بخفة وتبعتها كابي ، ووقف توني في القارب ينفض عن ثيابه الرذاذ الذي علاهلا من ضربات المجداف .
وقالت مُنى في تفاخر : ما رأيك في تجديفي ؟
وأجاب توني ساخرا : ممتاز ممتاز ، جعلني أَستحم وأنا في القارب .
ونظرت إليه مُنى وتساءلت : هكذا ؟
وبسرعة مدت قدميها وضغطت بها على حافة القارب ، واهتز القارب وأحس توني أن توازنه قد اختل فجأة ، وحاول أن يميل لِيحفظ توازنه ولكن الدفعة كانت مفاجئة ولم يجد هناك ما يتعلق به ووجد نفسه مضطرا الى أن يقفز في الماء .
وصاحت مُنى ضاحكة وهي تفر هاربة : تستطيع الآن أن تستحم في البحيرة ما دام الاستحمام في القارب لايعجبك .
خرج توني من البحيرة وقد أُغرِق بنطلونه في الماء ، وانطلق يعدو في إثر مُنى ، وجرت كابي تتبعهما ضاحكة ، واندفعت مُنى تتسلق الربوة وانطلقت تعدو بين الدروب الملتوية التي التي تتخلل الشجيرات والأحراش ، وطال بها العدو حتى أحست بأنفاسها تتلاحق بشدة وقلبها يدق في عنف ، وفجأة أحست بأن شيئا يخز صدرها ، وأصابها دوار جعل الأرض تميد بها والمرئيات تختلط في ناظريها .
وتوقفت مُنى مكانها ومدت يديهاتتلمس شيء تستند إليه ، وقد أحست أن ساقيها لم تعودا تقويان على حملها ، ومرة أخرى عاد الشيء يخزها في صدرها ، وأحست بصدرها يتمزق وبأكلان يدفعها الى السعال ، وسعلت بضع سعلات قصيرة جافة ، ووصل إليها توني فمد يده فأمسك ذراعها وبدأ يلويها ، ولكنه لم يكد يشد عليها حتى وجدها تتهاوى بين يديه ، ونظر الى وجهها فإذا به علته صفرة شديدة ، فخر بجوارها وهتف في جزع : مُنى مالكِ ؟
وكانت كابي قد وصلت الى مكانهما ، وخيل إليها أن توني قد أوقع مُنى على الأرض ، فصاحت به ناهرة : اتركها يا توني ، إياك أن تفعل بها شيئا .
ونظر توني الى أخته وقد فغر فاه ، وملأ الجزع ملامحه وهتف في ذعر : أنا لم أقربها ، أنا لم أفعل بها أي شيء إنها هي التي وقفت مكانها واستندت الى الشجرة ولم أكد أُمسك يدها حتى تهاوت على الأرض .
ونظرت كابي الى مُنى فوجدتها قد أسندت اليمنى الى جذع الشجرة ومالت برأسها عليه وقد أغمضت عينيها وبدا على ملامحها إعياء شديد ، ووضعت يدها اليسرى بالمنديل على فمها وقد أخذ جسدها يهتز من السعلات القصار التي يكبتها المنديل الذي غطت به شفتيها .
وركعت كابي بجوارها ومدت كفها تتحسس جبينها وهمست بها في رفق : مالكِ يا مُنى ؟
وهزت مُنى رأسها هزات خفيفة كأنما تحاول أن تنفي أن بها ألما ، وعاد الشيء الذي يمزق صدرها وازدادت السعلات شدة ولم تقوى يدها بالمنديل على كبت السَعلات فانطلقت إحداها لِتغرق المنديل دما .
وبدا الرعب على وجه كابي وهتفت بِمُنى : مُنى لابد أن نعود الى البيت لقد جُرِحَ زورك .
وفتحت مُنى عينيها في إعياء ونظرت الى المنديل وأحست كأن قواها تتسرب منها كما يتسرب الماء من بين الأصابع .
وقالت في لهجة ملْؤها الاستسلام : إنه ليس زوري ، إنه صدري ، إني أحس به يتمزق .
وهزت كابي رأسها وهي تنفي في جزع : لا لا ، لا تقولي هذا ، لقد أجهدك العدو ، وجرح الصياح زورك .
والتفتت الى توني الذي بدا عليه الذهول وقالت : هيا يا توني لابد أن نعود بها الى البيت ، إنها تحتاج الى بضع ساعات راحة .
وأَمَّن توني على قولها : أجل إنها لم تسترح منذ أن غادرنا كاب .
ومد توني يديه محاولا رفع مُنى ، ولكنها هزت رأسها قائلة : إني سأسير بينكما وأتكئ على كتفيكما ، إني أحس بأني قد تمالكت قواي .
ومد توني وكابي ذراعيهما وساعداها على النهوض ، واتكأت بذراعيها على كتفيهما وهي تحاول التماسك ، وسارا بها برهة حتى اقتربا من الكوخ ، ومرة أخرى أحست بالدوار يعاودها ، وبقواها تتسرب منها وكأن شيئا يجذبها الى أسفل ، وعادت السعلات المتقطعة تمزق صدرها ، وأخذ جسدها يتراخَى ، وكادت تهوي الى الأرض ، فأسرع توني الى حملها بين ذراعيه وحث الخطا اتجاه الكوخ ، وعدت كابي أمامه تفتح له الباب وتفسح له الطريق .
وكانت نادية تقف في القاعة تتلقى ترحيب العجوز البدينة زوجة ريمون بعد أن عادت من السوق ، وتجيب على سؤالها عن مُنى بأنها قد خرجت للتجديف في البحيرة وأنها لابد أن تكون في طريقها الى البيت .
ولم تكد نادية تنتهي من قولها حتى فوجئت باندفاع كابي وقد بدا على وجهها أمارات الجزع ، وقبل أن تستفسر نادية عما بها فوجئت بتوني يجتاز الباب حاملا مُنى بين يديه وقد تدلى رأسها وبدا وجهها في اصفراره المروع .
وصرخت نادية واندفعت الى أختها صائحة : مُنى ، حبيبتي مُنى ، مالك يا مُنى ؟
وسار توني في خطاه المتثاقلة حتى وضع حِمله على أقرب فراش .
وأجابت كابي محاولة أن تطمئن نادية : لا تخافي يا نادية ، لقد أجهدها العدو ، إنه مجرد إجهاد ، لا تجزعي هكذا إنها ...
وقبل أن تكمل كابي كلامها لمحت نادية بقعة دم على صدر مُنى ، فانطلقت منها صرخة حادة واندفعت تضمها الى صدرها وتقبلها في لهفة وجزع ، وتبلل وجهها بالدموع المنهمرَة من مقْلتيها وهتفت في صوت متشنج باكٍ : يا حبيبتي يا مُنى .
وفتحت مُنى عينيها وحاولت جهدها أن تتماسك ، ورسمت ابتسامة باهتَة على شفتيها وأجابت : لا تخافي يا نادية ، ليس بي شيء إنه مجرد إجهاد لقد عدوت كثيرا .
وخرت نادية على ركبتيها بجوار الفراش واستمرت تضم مُنى إليها وتقبلها ودموعها لا تكف عن الانهمار وهي تتساءل في صوتها الباكي بألم : يا مُنى لِمَ فعلت هذا ؟ لماذا لم تسمعي كلامي يا حبيبتي ؟
ثم وضعت وجهها بين كفيها وازداد نحيبها ، وقالت وهي تهز رأسها في يأس : أنا السبب في كل هذا ، كان يجب ألا أتركك تخرجين ، بل كان يجب ألا أوافقك على المجيء الى هنا .
وكانت مُنى قد بدأت تستعيد قواها ، فمدت يدها تتحسس رأس نادية وتقول لها : لِمَ كل هذا يا نادية ؟ قلت لك إني بخير ، وبعد أن أستريح برهة سأعود كما كنت .
ونظرت نادية الى بقعة الدم على صدرها ،ثم عضت شفتيها حتى كادت تدميهما واندفعت في بكائها .
واقتربت جانيت من نادية ومدت إليها يدها ترفعها وتقول لها في لهجة ناهرة : نادية ، ما هذا الذي تفعلين ؟ إن أختك بخير ، كُفّي عن هذا البكاء الأحمق يجب أن تكوني أكثر تجلدا ، ما هكذا يفعل العقلاء .
وحاولت نادية أن تكبت بكاءها ، ورفعت يدها تكفكف دمعها وتمسح عينيها ، وقالت وهي تزدرد ريقها : أنا متأسفة ، أنا فقط أنا ، أنا أعلم أنها بخير ، أجل أجل إنها بخير ، ولكني ، ولكني أخشى عليها ، أخاف أن ...
وأقبل العجوز ريمون يربت ظهرها قائلا : لا تخافي يا بنيتي ، لقد أرسلت في استدعاء الطبيب وسيصبح كل شيء على خير ما يرام ، ثقي بالله يا بُنَيَتي ، إنها لا تحتاج الى أكثر من الراحة .
وأحست نادية بشيء من السكينة وهي ترى مُنى تستعيد قواها شيئا فشيئا ، واستطاعت مُنى بقدرتها على المرح وبالأمل الزاخر الذي يرقد بنفسها أن تمنحها بعض الطمأنينة .
وحضر الطبيب ولم يغير حضوره من الأمر الواقع شيئا ، إذ لم يكن هو بنفسه بهيكله العجوز المتداعي وسمعه الضعيف ويده المرتجفة يمنح في النفس أي إحساس بالثقة ، وكان كل ما فعله هو أن نصح بأن تُنقَل الى المستشفى ، وتُعرَض على أخصائي في أمراض الصدر .
وعاود اليأس نادية بمجرد أن انصرف الطبيب ، وملأ نفسها حزن قاتم مُقبِض ، ولكنها كرهت أن تستسلم للانفعال ، وأن تندفع مرة أخرى في بكاء متشنج لا يجدي نفعا ، وأحست أنها يجب أن تقاوم وتتجلدلأن عليها أن تتصرف بطريقة ما ، وتملكه الخوف وهي تجد نفسها وحيدة بعيدة عن أمها وعن بيتها .
وكانت مُنى ترقد في فراشها وقد ذهبت عنها الآلام وانقطع عنها السعال وبدا عليها الهدوء والاستسلام.
وكان الجمع قد وقف في القاعة يتدبر الأمر في مناقشة تشبه التَهامُس ، وكان مسيو كيليوالد كابي وتوني قد وصل عندما أبلغه توني النبأ وجلس مطرقا في حزن .
وقال العجوز ريمون وهو ينفض غليونه على حرف المدفأة : إن أقرب مستشفى نستطيع أن نجد فيه أخصائي يبعد عن هنا مسافة ساعة على الأقل .
وقال كيليوهو ينظر اتجاه الحجرة التي رقدت فيها مُنى : ساعة أو أكثر لابد أن نَنْقُلها .
وتساءلت مدام ريمون : ولكن هل نستطيع نقلها الآن ؟
وقالت جانيت : لماذا لا نسأل الطبيب ؟
وقال توني وهو ينفخ بأنفه ساخرا : أي طبيب إنه يكاد يعيش .
وهز كيلي رلأسه وقال في حزم : رأيي أنا أن نَنْقُلها حالا .
وعَقَّب توني على قوله : والعربة موجودة على الباب .
وهزت العجوز مدام ريمون رأسها قائلة : اتركوها تستريح ، وستقوم كالحصان مرة أخرى لِتلهو وتلعب .
ورفع زوجها حاجبيه وعَقَّب ساخرا : وتسقط مرة أخرى .
ونهض كيلي وهو يقول : إذا كانت حالتها تحتمل الانتقال فسننقلها ، وإذا لم تكن فلننتظر حتى تتحسن ثم نَنْقُلها .
وأطرقت كابي وتساءلت : وإذا لم تتحسن ؟ أعني ، إذا لا قَدَّر الله حصلت مضاعفات جديدة ؟
ورفع العجوز ريمون كتفيه قائلا : يدبر الله أمرها .
وأقبلت نادية من حجرة مُنى وكأنها تحمل عبءً أنقَض ظهرها ، وقد بدت علامات اليأس والذهول في وجهها ، وكانت قد سمعت الطرف الأخير من المناقشة .
وسألتها جانيت : ما رأيك يا نادية ؟
وأجابت نادية في شرود : في أي شيء ؟
لقد اتفقنا أن ننقل مُنى الى المستشفى بمجرد أن تحتمل ذلك .
وعَقَّب توني قائلا : إن المستشفى يبعد عن هنا حوالي ساعة .
ورفعت نادية حاجبيها وتساءلت : ولماذا لا ننقلها الى كاب ؟
فتساءل العجوز ريمون في دهشة : كاب !؟
- أجل ، إن الذي يجعلها تحتمل الانتقال ساعة يجعلها تحتمله ساعة ونصف الساعة .
- وماذا يوجد في كاب ولا يوجد هنا ؟
وارتمت نادية على أحد المقاعد في إعياء ، ووضعت رأسها بين كفيها وأطلقت تَنهيدة حَمَّلتها كل ما بها من مرارة ويأس وخوف وألم : بها بيْتنا ، وبها أُمُّنا .
واختنق صوت نادية واهتز جسمها .
وربتت السيدة ريمون ذراعها وهي تقول في لهجة مشجعة : تجَلَّدي يا بُنَيَتي ، إن الله لا ينسانَا .
وهز العجوز ريمون رأسه وقال كأنما يحدث نفسه : تلك هي المشكلة ، لو أنه ينسانَا .
وقال كيلي وهو يقترب من نادية ويتحسس رأسها : كفى ، كفى يا نادية .
ثم وَجَّه الحديث الى الجميع : قائلا : إن نادية على حق ، عندما تحتمل مُنى الانتقال فسنعود بها الى كاب .
وقالت كابي في أمل وحماس : إن شاء الله ستبلى مُنى وستستطيع العودة الى كاب ، ولن تحتاج أبدا لأن ندخلها المستشفى ، إنها ستستريح وتقوم كالحصان .
وعَقَّب توني على حديثها قائلا : أجل ، إن ما بها ليس أكثر من التهاب في الزور .
وقالت العجوز ريمون : جائز جدا ، فأنا لا أثق في هذا الطبيب المخرف ، لقد مضى علي أكثر من خمسون عاما واأنا أشكو له من غثيان يصيبني ، وهو يؤكد لي أنه غثيان حمْل.
وعلت من حجرة مُنى ضحكة عالية ، وأحس الجميع كأن ضحكتها نسمة منعشَة سرت في نفوسهم .
ورفعت نادية المنديل لِتجفف عينيها وهي تضحك قائلة : يا حبيبتي يا مُنى ...
40
لَيْل بلا عويل
مرت الليلة الأولى في بريانسن دون مزيد من المتاعب ، فقد أغفت مُنى في رقدتها الهادئة المستسلِمة ، ورقدت نادية على فراش بجوارها مسبلة العينين مشدودة الأعصاب يقظة الذهن ، تتوَهَم في كل صوت صرخة وفي كل همسة سعلة أو حشرجة ، لا تكاد مُنى تتقلب أو تتحرك حتى تنهض فزعة بجذعها الأعلى مُنْصِتَة في توتر مُتَرَقِّبَة في خشية وجزع ، ولم يكد يبزغ أول شعاع حتى أخذت تفتح الحقائب وتجمع فيها ما رتبته في الأدراج والأرفف .
وفتحت مُنى عينيها متسائلة : ماذا تفعلين يا نادية ؟
- أحزم الحقائب .
- لِمَ ؟
- لأننا سنعود الى كاب .
- ولكني قد استرحت ولم يَعُد بي شيء .
- من أجل هذا سنعود ، سنعود قبل أن يحدث لك شيء ونحار فيما نفعل .
- ولكننا سنتلف رحلتهم جميعا ، إني أعدك ألا أجهد نفسي بعد ذلك وأن أظل راقدة في الفراش وأن ...
واقتربت نادية من فراش مُنى وركعت بجانبها وتحسست وجهها في رفق وقالت في حزم وإصرار : سنعود يا مُنى ، سنعود هذا الصباح ، أرجوكِ ألا تعارضيني ، كفى ما حدث لك بالأمس .
وبعد ساعة كان الركب يقف أمام الكوخ على أهبة التحرك الى كاب ، وكانت مُنى تجلس بجوار نادية وقد بدا عليها الهزال والاصفرار ، وعلت شفتيها ابتسامة باهتة وهي تلوح للعجوز ريمون وامرأته .
ورفع العجوز يده وأشار ملوحا وهو يرسم على شفتيه ابتسامة ، وقال في مرح مفتعل : ستعودين مرة ثانية .
وأجابت مُنى في ثقة : طبعا سأعود ، لقد أحببتكم جدا ، أحببت الكوخ والبحيرة وكل شيء عندكم .
ورفعت مدام ريمون يدها ملوحة ، وأخذ الركب يتحرك وقالت : ستعودين قريبا ، لن يحجزوك في المستشفى طويلا فسيكتشف الأخصائي خطأ طبيبنا المخرف وسيصرح لك بالعودة حالا .
وهزت العجوز رأسها وأردفت ساخرة : غثيان حمل ، خمسون سنة وأنا أنتظر .
وضحكت مُنى وأشارت للعجوز وهي تقول : عندما أعود في المرة القادمة أرجو أن يكون الغثيان قد ذهب وأن تكوني قد وضعتِ طفلا .
ورفع العجوز ريمون يديه وصاح محتجا : ليس مني على أية حال .
وانحدر الركب في الطريق المجاور للكوخ ، وبعد بضع دورات حول الرُبا المجاورة اتخذت الطريق الأصلي المتجه الى كاب ، وتحركت العربتان وقد خيم على ركابهما الصمت الثقيل بعد أن انقشعت سحابة المرح المفتعل الذي حاول العجوزان أن يلفان به مرارة الرحيل ووجوم العودة ، وعبثا حاول الفتية والفتيات إزالة سحابة الحزن التي حطت عليهم ، وعبثا حاولا أشاعة المرح ومواصلة الحديث ، فقد كانت الكلمات تذوب على شفاههم وترتد في أفواههم ، ولم يملكوا في النهاية سوى الاستسلام للصمت والإغراق في الشرود .
وكانت نادية ترقب وجه مُنى في خشية وقلق وبين آونة وأخرى تسألها في حنان : أتحسين بتعب ؟
وتهز مُنى رأسها ضاحكة وتقول : أنا مستريحة تماما ، كل ما أرجوه أن تستريحي أنتِ .
وفي كل منحدر أو حفرة أو منحنى تمسك نادية بيد مُنى وتهتفبتوني راجية : على مهلك يا توني ، حاسِب .
ويهز توني رأسه مطيعا : حاضر لا تَخافي .
وأحست نادية بطول الطريق ، كانت تتلهف على العودة الى البيت ، وكانت تحس أنها ستكون أكثر أمنا على اأختها وهي بجوارها .
وأخيرا لاحت كاب ، أنبأت عنها شجرة السنديان الضخمة التي تظل محطة سكة الحديد والمداخن المرتفعة الصاعدة من الأسقف الحُمُر المنحدرة .
وتوقفت العربتان في الطريق الرئيسي لكاب قرب المنعطف المؤدي الى رُومِل ، وغادر مسيو كيلي عربته متجها الى نادية ومُنى وتساءل قائلا : أنتجه الى المستشفى رأسا أَم تفضلون العودة الى المنزل أولا ؟
وهزت مُنى رأسها متسائلة في دهشة : المستشفى ، لماذا ؟ لم يَعُد بي شيء .
ونظر الرجل الى نادية يستطلع رأيها .
وضغطت نادية يديها بين ركبتيها وقد بدا عليها القلق والحيرة وأخيرا قالت : أظن من الخير أن نعود أولا الى المنزل حتى لا تُصدَم أمي بعودتنا الى المستشفى مرة واحدة .
وعادت مُنى تهز رأسها وتقول في إصرار : لن أذهب الى المستشفى ، لا على مرة واحدة ولا على مرتين ، قلت لكم إني أحس الآن أني طيبة .
وربت مسيو كيلي على كتفها قائلا في عطف : طبعا أنت طيبة ، إنها مسألة طمأنينة فقط مجرد كشف أشعة وتحليل وسخافات مما يفعلون في المستشفيات .
ونظر الى ابنه الجالس على عجلة القيادة يرقبه وقد بدا عليه القلق وقال له : هيا يا توني .
- الى أين ؟
- الى المنزل ، لِنُسَلِّم على مدام لورا ثم نذهب الى المستشفى .
وقالت مُنى في عناد : الى المنزل فقط يا توني ، وبعدها يِحِلها ربنا ، لن أذهب الى المستشفى إلا عندما أحس أني في حاجة إليها .
ومرة أخرى تحركت العربتان صاعدتين المنحدر الى رُومِل ، واتجهت إحداهما الى منزل كيلي واتجهت الأخرى بنادية ومُنى الى منزلهما .
ووقفت العربة أمام بوابة المنزل ، وانطلق الكلب ينبح ويدور حولها .
وأطل العجوز بول من كوخه بجوار البوابة ، وصاح متسائلا في دهشة : هكذا عدتما بسرعة !؟
وأحست الأُم بوقوف العربة وسمعت صيحة بول المدهوشة فخرجت الى الشرفة السفلية وأبصرت ابنتيها تجتازان الباب ، فصاحت ضاحكة : لم يعجبكما الحال بالطبع ، قلت لكما احمدا الله على كاب لم تصدقاني .
وأحست الأُم من طريقة دخول نادية ومُنى أن في الأمر أكثر من مجرد عدم الإعجاب ببريانسن ، لم تكن مُنى تقفز ولا تصيح ولا تعدو وراء الكلب ولا تشاكس العجوز بول ، كانت تسير هادئة وقد أمسكت أختها ذراعها ، ولم يبد على الاثنتين الملامح الطلْقة المرحة البهيجة ، كانت ثمة شيء عجيب يحيط بهما ، ثم ما هذا الاصفرار بوجه مُنى ؟
وأحست الأُم بشيء يفري أمعاءها واستندت على سور الشرفة وهتفت متسائلة في خشية : ماذا بكما ؟
وكانت الأختان قد وصلاتا الى الشرفة .
وابتسمت مُنى وقالت ضاحكة : لا شيء ، لقد مللنا بريانسن واشتقنا إليك .
ونظرت الأُم الى نادية وعادت تتساءل : ماذا حدث يا نادية ؟
وهزت نادية رأسها وقالت في شيء من الاستخفاف : أبدا لقد تَعِبَت مُنى .
وقاطعتها الأُم متساءلة في حدة : تَعِبَت ، كيف ؟
وهزت نادية رأسها في ضيق وقالت : تَعِبَت كما يتعب الناس .
هتفت مُنى : يا ماما لم يحدث شيء ، ألا ترينني أمامك كالجن ، لماذا تنزعجين ؟ لقد ...
ولم تستطع مُنى أن تتم قولها فقد شعرت فجأة بالرغبة في السُعال وحاولت جهدها أن تكبته ، واستحثت الخطا محاولة الصعود الى غرفتها ولكنها لم تكد تضع قدمها على شأول درجة حتى أصابها الدوار وأحست كأن يَدا تعتصر قواها لِتجذبها الى أسفل ، واتكأت على دربزين الدرج .
اندفعت إليها نادية صائحة : مُنى ما بكِ ؟
وقبل أن تصل إليها عاودها السُعال الممزِق ، ولم تجد من قواها المتسربة ما يعاونها على كَبْتِه فانطلق من شفتيها ، سعلة جافة ثم سعلة أخرى ، ثم ثالثة تحمل معها سيلا من الدماء .
وصرخت الأُم واندفعت الى مُنى لِتضمها الى صدرها ، وتهاوت مُنى على درجة السلم وأسندت رأسها على الدرجة الأخرى ونزيف الدم يتسرب من شفتيها ، وتهاوت نادية بجوار أختها على الدرج ، ومدت يدا مرتجفة لا تعرف ماذا تفعل ، وأحست بشيء من الذهول أمام الدماء المتدفقة التي أغرقت الدرج . وهمست في أنين متحشرجمناجية : مُنى مُنى .
واندفعت جانيت من الباب على إثر الصيحة واندفع وراءها كابي وتوني وخرجت الجدة العجوز مذعورة تستند الى دلفة الباب .
ومضت لحظة ذهول لم يُسمَع فيها سوى نشيج وبكاء .
واندفع توني يَعْدو الى الخارج صائحا : سأذهب وأحضر عربة المستشفى .
واقتربت جانيت من مُنى ورفعتها من فوق الدرج فأسندتها فوق الأريكة ، وأحست بها تتهاوى في يديها كالخرقة البالية ، لا مقاومة ولا جهد وبدا وجهها كالبفتة البيضاء ونبضها لا يكاد يُحَس .
وظلت الأُم منهارة على الدرج وقد أصابتها نوبة من التشنج والأنين والهتاف باسم مُنى هتافا يمزق القلوب ، وتهاوت الجدة على أقرب مقعد وقد أخفت وجهها المجعد بكفيها وأخذت تتمتم بكلمات خافتة .
وبعد دقائق وقفت عربة المستشفى أمام المنزل وهبطت منها ممرضتان بلباسهما الأبيض وصليبهما الأحمر ، وبعد دقائق أخرى كان البيت قد ساده صمت القبور وخلا من كل من كان به إلا العجوز المتهاوية على مقعدها مخفية وجهها بكفيها كأنما تحجب عنه شرا وتحاول دفعه بدعواتها المبهمة .
وكان الكل قد انطلقوا في إثر العربة البيضاء حتى الكلب الذي كان ينبح لم يكف عن عدوه حتى وقف معها أمام باب المستشفى .
استقر الجميع في حجرة الاستقبال ، وتشاغلت جانيت في الأُم المتشنجة الباكية ، وأصرت نادية على ألا تترك مُنى ودخلت معها فيحجرتها واندست بين الأطباء والممرضات ، وكانت نادية تحس أن أعصابها قد شُدَت ومشاعرها قد جَمُدت ولم تعد لديها القدرة على الإحساس في شيء ، لا ألم ولا حزن ولا قلق ولا ضيق وباتت وكأنها تتحرك في ضوء ساطع قد سُلِطَ على عينيها وهي لا ترى غير الفراغ ، وكانت مُنى قد أخذت تفيق وفتحت جفنيها في تثاقل ولم تستطع أن تميز شيئا من الأشباح البِيض الملتفَة حولها .
وأمسكت نادية يدها وضغطت عليها وهتفت بها : مُنى حبيبتي أنا نادية .
وبللت مُنى شفتيها بلسانها وحاولت الكلام ، ثم عادت وأطبقتهما ، وهمت نادية أن تقول لها شيئا عندما سمعت الطبيب يسألها : أتستطيعين أن تقدري الكمية التي نزفتها ؟
وأحست نادية في مرارة بحلْقها ، لقد نزفت كثيرا ، نزفت ما أغرق الدرج ، نزفت ما جعلها تحس وعاءً من الدم قد سُكِب ، ولكن أنّا لها أن تُقدِِّر كمية النزيف .
وعاد الطبيب يسأل في رِفْق : بالتقريب كم لترا ؟
كم لترا ؟ إنها لا تعرف اللتر ، وهبها عرفت هل ستستطيع تقدير النزيف ؟ هل تتصور أن تضع دم مُنى العزيز في إناء لِتعرف كم لترا ؟
واندفعت تنشج باكية وهي تتمتم في نحيبها : لا أعرفلا أعرف.
وربت الطبيب ظهرها برفق : لا تنزعجي ، أنا متأسف .
وصمت برهة وهو يرقب دموعها المنسابة على خدها ، وعاد يسألها راجيا : لماذا لا تذهبين لكي تستريحي في غرفة الانتظار ؟
وهزت نادية رأسها وأجابت في إصرار : لا ، لا لن أتركها أبدا إننا لم نفترق لحظة واحدة .
وأحس الطبيب أنه يحتاج شيئا من الجهد كي يقاوم الدموع التي تتصاعد الى مقْلَتيه .
ومد يده وشد على ذراعها مشجعا وهو يقول : إذن ابقي الى جوارها سنبذل كل ما في وِسْعِنا .
ثم التفت الى إحدى الممرضات آمرا : اسرعي لإحضار نتيجة التحاليل .
وقبل أن تخرج الممرضة كان أحد الأطباء قد أقبل وبيده ورقة بها عينة الدم والكمية التي نُزِفَت ، ورفع الطبيب عينيه في دهشة وتمتم في نفسه قائلا : كل هذا نزف عجيبة !؟
ثم وَجَّه قوله الى ممرضة : أخبري الدكتور مانر لِيحضر كي ينقل إليها دما واعطيه نتيجة التحليل .
وأسرعت الممرضة الى الخارج .
وعادت مُنى تفتح عينيها وتبلل شفتيها بلسانها ، ثم تلفتت حولها وعندما أبصرت نادية بجوارها همست في صوت خافت : أنت هُنا يا نادية ؟
وحاولت نادية جهدها أن تَكْبِت النحيب المختنق في صدرها فقالت : أجل يا حبيبتي .
- أمازلتِ غاضبة مني لأني لم أستمع الى كلامك ؟
- أبدا يا حبيبتي .
- لن أجهد نفسي بعد الآن ، سأسمع نصيحتكِ دائما .
ثم صمتت لتستجمع قواها ، وعادت تبلل شفتيها وتساءلت : أين ماما ؟
- في حجرة الانتظار .
- لم أكن أريد أن أتسبب لها بكل هذا الإزعاج ، أ×أخبريها أني متأسفة جدا ، أخبريها أني سأَعقل وأني لن أجهد نفسي أبدا .
- حاضر يا مُنى ، إني ...
ونظر الطبيب الى نادية وهز رأسه مقاطعا : لا داعي لإجهادها بالحديث .
ومدت نادية يدها وتحسست جبين مُنى برفق قائلة : استريحي يا مُنى لا داعي للكلام .
وأقبلت الممرضة بأنبوبة الدم وعَلَّقتها في الحامل وأمسكت ذراع مُنى فكشفته ، وبدا الذراع أصفر متخاذِلَا ولفت الخرطوم حوله كي تُبرِز العروق ثم دفعت الإبرة في عرق نافر ، وكشت مُنى ذراعها ثم أرختها وامتد الخرطوم لِينقل الدم من الوعاء الى عروقها نقطة نقطة .
ووقفت نادية ترقب في شرود قطرات الدم تقطر في ذراع مُنى لِتعوض السيل الذي سُكِب منها على الدرج ، وانتهت عملية نقل الدم وبدت لنادية عملية طويلة مزعجة ، وبدت لها مُنى مسبلة العينين شاحبة الوجه وكأن الدماء التي تُسْكَب في عروقها تتسرب في ناحية أخرى .
وأخيرا ساد السكون الحجرة ونظر الطبيب الى نادية قائلا : من الخير أن ندعها تستريح .
وبدت مُنى كالنائمة ، وغادرت نادية الحجرة متسللة على أطراف أصابعها وذهبت الى حجرة الانتظار ، وأقبلت على أمها تحتضنها باكية ،
وتساءلت الأُم في صوتها المتشنج : أين مُنى أريد أن أراها ؟
- إنها بخير يا ماما ، لقد نقلوا إليها دما لِيعوضوا الدم الذي نزفته .
وعادت الأُم تقول في تشنجها : أريد أن أراها .
- إنها نائمة الآن ، وقد أمر الطبيب أن نتركها لِتستريح .
- أريد أن أراها يا نادية ، حرام عليكم ، أريد أن أرى ابنتي .
- سترينها يا ماما ، بمجرد أن تصحو سآخذك إليها .
وتوقفت نادية عن الحديث فقد أحست بحركة غير طبيعية في الممر المؤدي الى حجرة مُنى ، وأبصرت إحدى الممرضات تهرول ثم رأت الطبيب يغادر حجرته ، وأحست نادية بشيء يعتصر جوفها واندفعت تجاه الحجرة ولَحِقَت بالطبيب وسألته في خوف : ما بال مُنى يا دكتور ؟
وهز الطبيب رأسها قائلا في ضيق : لا شيء .
ثم وَجَّه الحديث الى الممرضة وأردف قائلا : أبدلي الملاءة واطلبي من الدكتور مانر أن ينقل لها كمية أخرى .
وأحست نادية أن قدميها سيخذلانها وأن جدران المستشفى تميد بها ، ثم تعلقت بذراع الطبيب وقالت باكية : هل نزفت ثانيةً ؟
وربت الطبيب رأسها متسائلا : لماذا لا تذهبين لِتستريحي ؟
وعادت نادية تسأل في أنينها المؤلم : أحقاً نزفت ثانيةً ؟
وأجاب الطبيب وهو يحس بقلبه يكاد يتمزق من أنينها : إننا سننقل إليها دفعة أخرى من الدم ، لا تنزعجي من النزيف لابد أن يتوقف بعد هذه المرة .
ولكن النزيف لم يتوقف ، لقد وُضِع وعاء الدم على حامله وامتد الخرطوم يستقطر الدم في ذراع مُنى ، وعندما انتهى من عملية الإفراغ عاد السُعال وعاد النزيف ، وبدت العملية كأنها إفراغ دم في وعاء مثقوب ، دم يُصَب ونزيف يُفرِغ ، حتى منَّ الله عليهم بفترة راحة وهدأ السُعال واستقرت مُنى في فراشها بضع ساعات .
وأقبل الليل وساد السكون حجرات المستشفى وبدت مُنى راقدة في فراشها هزيلة صفراء كأنها عود يَبِس أو ورق جف ، وعلى مقعد بجوارها استقرت الأُم فاغرة الفم شاردة العينين وفي ملامحها أمارات ذهول ، وعلى مقعد آخر جلست نادية ، وحاولت نادية أن تغمض عينيها وأن تُرخي أعصابها وأن تريح ذهنها من يقظته ، لكنها أحست أن الضوء الساطع مازال يغمرها ، وبدت لنفسها كأنها مخلوقة أخرى ، مشدودة متوترة ، ونبح كلب خارج المستشفى ودقت ساعة الميدان تُعلن انتصاف الليل ، وأحست نادية بخوف من دقات الساعة ومن نباح الكلب ، بل ومن خوف من الليل كله ، وتذكرت صرخة أيقظتها ذات ليلة ، وتذكرت العويل وتذكرت النواح ، وتذكرت أباها المسترخي على الأريكة في حجرته ، وبرغمها اندفع الشريط المروع يطوف في ذهنها ، الكبش المذبوح النعش المحمول على الأكتاف والموكب السئر وشواهد القبور والفقهاء يُرَتِّلون على حافتها ، والكل ينفض ولا يبقى إلا كلب ينبح وراء العربة الفارغة .
وعضت شفتيها ، لماذا تذكر نفسها بمثل هذا ؟
ليس هناك أثر لمثل هذه الأشياء ، لا يوجد فقهاء ولا يوجد كباش تُذْبَح ، ولكن توجد حقيقة الموت إنها هنا وهناك وفي كل مكان والأمر لابد أن يجري بطريقة ما ، بلا كباش تُذْبَحولا صلاة تُقام ولا فقهاء يقرؤون .
أُف ما لها تذكر كل هذا ؟
إنه شيء مروع شيء مخيف .
وهذا الليل لماذا لا ينتهي ؟
لماذا لا تشرق الشمس قبل أن تسمع الصرخات والنواح ؟
ومرة أخرى عاد الشريط يطوف بذهنها ، الكبش المذبوح والعويل والنعش المحمول والموكب السائر والقبور المقفرة العفراء المُتْرِبَة ، وتذكرت القبور المصفوفة أسفل الهاوية التي تبدو من منحدر الجبل وراء القصر الخرب ، وأحست بيد تعتصر جوفها وتفري عظامها ، وأسقطت رأسها على صدرها وراحت في الإغفاء ، وعندما استيقظت كانت الشمس تتسلَل من النافذة وأصوات العصافير تزقزق في الأشجار المحيطة بالمستشفى .
ونظرت الى مُنى فإذا بها راقدة كما هي في شحوب واستسلام ، ونظرت الى أمها فإذا عيناها شاردتان في ذهول وقد قرَّح جفونها البكاء والسهر ، وأحست نادية بنوع من السكينة وقد مر الليل المخيف بلا صراخ ولا عويل ...
41
الصلاة
فتحت مُنى عينيها في ضعف ودارت بهما في سقف الغرفة في شيء من الدهشة والاستفسار ، وشيئا فشيئا بدت عليها سيماء الإدراك ، وكانت ندية قد اقتربت منها وأمسكت كَفها بيدها وضغطت عليه برفق ، وأقبلت الأُم من الجانب الآخر من الفراش ومالت على الجسد الواهي وضمته الى صدرها في رقة وحنان ،
وهمست في دعاء يقطر أسى : يا رب لا تُرِني في إحداهما مكروها ، يا رب اجعل يومي قبل يومهما .
وضمت مُنى أمها ضمة واهنة وقالت في استخفاف : لا يومك ولا يومنا ، هَوِّني عليك فالمسألة لا تستحق .
ورفعت عينيها الى نادية وقالت وقد رسمت ابتسامة منحتها كل ما استطاعت من مرح وسعادة : كنت أحلم أننا في مصر .
وكانت نادية ترقب الوجه الذابل والابتسامة الباهتَة وتحاول أن تطرد من نفسها الأسى واليأس وأن تستجمع قواها لِتمنح أختها أملا وثقة .
وأجابت وهي تحاول أن ترد على أختها مرحا بمرح وابتسامةً بابتسامة : حقا وكيف حالهم في مصر ؟
ولم تجب مُنى وإنما حَوَّلت عينيها الى أمها وقالت في لهجة جادة راجية : اسمعي يا ماما عديني عندما أترك المستشفى أن نعود الى مصر .
وتساءلت أمها في لهجتها الحزينة اليائسة : الى مصر ؟
- أجل عِديني ، لا تتصورين كم كنت سعيدة في الحلم ، لقد رأيتهم جميعا عمي سليمان يضحك معنا كما تعود أن يضحك ، ورأيت زوجته لم تكن تشبه الصورة التي أرسلها لنا ، كانت بدينة وبين يديها طفل جميل ، ورأيت عمتي كذلك ، مجرمة كما هي ولكني شَتَمْتُها بما فيه الكفاية .
وكان صدرها قد بدأ يعلو ويهبط وأنفاسها تتلاحق .
وقالت نادية وهي تتحسس رأسها في حنان : لا تجهدي نفسك بالكلام يا مُنى .
ولم تَأْبه مُنى باعتراض نادية واستمرت تروي حلمها في اندفاع مرح : ورأيت الدادا تماما كما تعودت أن أراها تغازل مُُرسي بياع الكازوزة ، ورأسيت من أيضا ؟ رأيتهم جميعا حتى محمود صبي المَكْوَجي ، لم أجد شيئا قد تغير في البيت ، وقفت في الشرفة وقد تكاثفت حولها الياسمينة ، وذهبنا سويا الى النادي .
وصمتت برهة ثم هزت رأسها وَمَصْمَصَتْ شفتيها في إعجاب وأردفت قائلة : كان النادي جميلا وكانت الشلة كلها هناك عصام وصبري و ...
وتوقفت وقد اتسعت ابتسامتها ثم نظرت الى أمها قائلة : ماما لقد تعبت من الوقوف لماذا لا تستريحين ؟
وازدردت الأم ريقها وانحنت مرة أخرى تضم ابنتها الى صدرها في إشفاق شديد وعبراتها تنحدر من مآقيها في صمت .
وأحست مُنى بالعبرات الساخنة على وجهها فمدت كفها ومسحت برفق دموع أمها ، وقالت في لهجتها المازحَة : ألم نقل أن المسألة لا تستحق يا ماما ؟ وَفِّري دموعكِ وقت الحاجة .
وردت نادية وهي تحس بمرارة في حَلْقِها : إن شاء الله لن تكون لها حاجة .
استدارت الأُم تسير بخطواتها المتثاقلة متجهة الى خارج الحجرة .
وقبل أن تبلغ الباب هتفت بها مُنى في صوت الضعيف : سنعود الى مصر يا ماما بمجرد خروجي من المستشفى ؟
وهزت الأُم رأسها وهي مستمرة في خطواتها المتثاقلة .
وعادت مُنى تقول : عديني ، قولي نعم .
والتفتت الأم إليها وسيل العبرات مازال يتساقط مُنْهَمِرَا وقالت : نعم يا حبيبتي ، سنذهب حيث تشائين .
وخرجت الأم ونظرت مُنى الى نادية وقالت بأوسع ابتسامة استطاعت أن ترسمها على شفتيها : ورأيتُ هل تدرين من ؟
وابتسمت نادية وتساءلت وهي تتحسس شَعر مُنى : مَنْ ؟
- رأيت صاحبك ، رأيت مدحت تماما كما هو ، بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين وجبينه المتسع ورأسه الذي نحل من الشعر ، رأيته في ملعب الكوروكيه ، هل تدرين مع من كان يلعب ؟
وهزت نادية رأسها وأحست أن أنفاس مُنى قد ازدادت تلاحقا ، فربتت يدها قائلة : استريحي برهة يا مُنى ، لقد تعبت من الحديث .
ولم تأْبه مُنى لها بل استمرت تتساءل : خَمِني مع من كان يلعب ؟
وتساءلت نادية لِتجاريها في الحديث : مع مَنْ ؟
- معكِ .
- معي أنا ؟
- أجل ، كنت تسيرين بجواره على بساط الأنجيل الأخضر عارية القدمين بلا إشارْب .
ورفعت نادية يدها في حركتها الاإرادية تتحسس الإشارْب الملتف حول عنقها وتساءلت وهي تهز رأسها ساخرة : كمان بلا إشارْب ؟ كان يجب أن أُغَطيكِ جيدا قبل أن تنامي .
وضغطت مُنى على كف نادية بكل ما تملك من قوى خائرة وتساءلت في دهشة : حتى في الحلم ترين هذا مستحيلا ؟ لماذا ، لماذا يا نادية لا تقابلينه بلا خوف ولا حجاب ؟ أؤكد لك أنه سيحبك كما يحبك من رسائلك ، إنه يحبك أنت يا نادية ، أنت بشخصيتك التي يحس بها في كل كلمة كتبتِها ، إنه ...
وربتت نادية كتف مُنى وقالت مقاطعة : ليس هذا وقته يا مُنى ، دعينا من مدحت الآن .
- بل دعيني أتحدث كما أريد ، إنه يحب شخصك أكثر مما يحب صورتي ، ولن يُنقِصَ من حبه أن تكون في عنقك بعض آثار حروق أؤكد لك .
- يا مُنى يا حبيبتي أرجوكِ أن تستريحي ليس هذا وقته سنتحدث في كل هذا عندما تُشْفَيْن .
- عندما أُشفَى سأكتب إليه أنا وأقول له الحقيقة وأرسل له صورتك .
وهتفت بها نادية متسائلة في دهشة : مُنى ؟
- وإذا أتى فسألقاه وأقول له إنك نادية ، وأنك أنت التي تستحقين حبه ، وسأنزع عنك الإشارْب رغم أنفك وأريه وجهك كما سيراه دائما .
- لماذا تقولين هذا يا مُنى ؟
- وسيحبك كما كان يحبك ، وسيعجَب بك كما أعجب بك جمال عندما أسقطت الريح الإشارْب على ظهر السفينة ، هل تذكرين ؟
وهزت نادية رأسها وتنهدت في يأس وقالت في صوت خافت : يحبني أو لا يحبني المهم أن تُشْفَي أنت .
- على أية حال إني أنذرك من الآن إذا قدَّر الله وشُفيت .
وردت نادية من كل قلبها : افعلي كل ما تشائين .
ورفعت مُنى عينيها الى سقف الحجرة وتمتمت داعية : اللهم اشفِني ، لقد حصلت على وعدين خطيرين إذا شُفيت ، وعد من أمي بالعودة الى مصر ، ووعد من نادية بأن أُصلِح حالها وأردها الى صوابها ، اللهم اشفِني فإن شفائي سيحقق أحداث خطيرة ةفي الأُسرة .
ونظرت الى نادية وابتسمت في أمل قائلة : سنعود الى القاهرة وسأتزوج من عصام ، وستتزوجين من مدحت ، هل هناك أحداث أخطر من هذه ؟
وبدت مُنى في حديثها كأنها تلهث وازدادت شَدة كفها على نادية ، وبدأ وجهها يزداد شحوبا وأخرجت لسانها تبلل شفتيها وازدردت ريقها بصعوبة ، وأحست نادية أن شيئا في جوفها يعتصر قواها وهتفت بمُنى : مالك يا مُنى ، مالك يا حبيبتي ؟
ولم تجب مُنى فقد منعتها سعلة قصيرة حاولت أن تكبتها كعادتها وسعلة أخرى انطلقت جامدة وثالثة اندفعت تحمل معها نزيفا جديدا .
اندفعت نادية الى الباب صائحة بالممرضة وقد روعها السيل القاني المتدفق فوق الأغطية البِيض ، ومرة أخرى تكهرب الجو ، وأحست كأنها تدور في دوامة عميقة ممرضات يدخلن وممرضات يخرجن وأطباء ييتهمسون ويتشاورون ووعاء الدم يُعلَّق في حمالته وخرطوم يمتد بإبرة يُغرَس في ذراع مُنى لِتَقطَر الدم في عروقها .
وأحست نادية بأعصابها تتوتر حتى تكاد تتمزق ، وأخذت أصابعها تقبض على ثيابها في عنف كأنما تريد أن تمزق شيئا ، وخرجت من الحجرة ثم أطلت مرة أخرى ، واندفعت الى آخِر الممر ثم عادت دون أن تدري لماذا اندفعت ، وسمعت نحيب أمها في غرفة الانتظار كأنه أنين مجروح ، وتذكرت نفس النحيب في منتصف ليلة سوداء في القاهرة ، وأحست به يمزق نياط قلبها ، وودت لو تكف أمها عن هذا الأنين ولكنها لم تجسر على الذهاب إليها ، وعادت مرة أخرى الى الحجرة التي احتشد فيها الأطباء ، وتسللت من بينهم وألقت نظرة على مُنى فإذا هي فاقدة الوعي مسبلة العينين شملت وجهها صُفرة عجيبة .
وعادت كفا نادية يقبضان على ثوبها في عنف كأنما تود أن تمزقه .
- لماذا يتركونها هكذا ، شيء ما لابد أن يُفعَل ، شيء أكثر من هذه الدماء التي تقطر في عروقها أليسوا أطباء ؟
لماذا يقفون هكذا يرقبون في صمت وعجز ؟ لماذا لا يقول أحدهم شيئا ؟
وفجأة نطق أحدهم ، نطق أحدهم بعد أن أمسك برسغ مُنى ثم ترك يدها تسقط على الفراش ، نطق وقد تقطب جبينه وزُمَت شفتاه واختلجت زاويتا فمه وبدا وجهه مكفهرا مُرْبِدا ، نطق لِيقول للممرضة في نبرات متبرمة يائسة وهو يشير الى الوعاء القاني الذي يقطر الدم : انزعيه لا فائدة لقد انتهت الصبية .
نطق الرجل لِيعلن في كلماته القصيرة انطفاء الذبالة وجفاف العود .
وجثت نادية على ركبتيها بجوار الفراش وأطبقت بأسنانها على حافة الحشية ، ملقية رأسها على الجسد المسَجَّىى ومُطْبِقة بقبضتيها على الأغطية في استماتة كأنما تحاول أن تُوقِف شيئا أو تمنع شيئا ، وهتفت في صوت متحشرج : مُنى حبيبتي لن تذهبي يا حبيبتي ، ستشفَيْن وستتحقق لك الوعود ، ستشفَيْن وسنفعل لك ما تشائين ستخرجين من هنا يا مُنى لكي نعود الى مصر وسنعود الى مصر ، مُنى حبيبتي .
ونطق الطبيب مرة أخرى ووجهه يزداد إِرْبادَا وملامحه تزداد تقلصا وانفعالا ووجَّه القول الى الممرضة مشيرا الى نادية : خذيها خارجا .
ومدت الممرضة يدها تربت كتف نادية في رفق محاولة إبعادها عن الفراش ، ولكن نادية ازدادت تشبثا به وردت بصوتها المختنق وهي تدفن وجهها في الأغطية : لا أستطيع تركها ، إني لم أتركها أبدا أبدا .
وقال الطبيب المُرْبِد الوجه في نبراته المقتضبة الحزينة : دَعيها .
وتركتها الممرضة ، وتفرق الجمع الحاشد رويدا رويدا ، تفرقوا في سكون وصمت بلا صراخ يشق أرجاء الفضاء ولا نحيب يدوي في أنحائه ، انفضوا عن الحجرة كأن حدثا لم يقع ، كأن كارثة لم تحدث وكأن الصبية الراقدة قد أغفت الى حين .
وأحست نادية بالخوف الشديد يسري في أعماقها ، لقد كانت تخشى الضجيج الذي صاحب موت أبيها فإذا بها ترتجف من الصمت الذي حفَّ برحيل أختها .
- لماذا لا يَصْرُخون ؟ لماذا لا يُوَلْوِلون ويَضُجون ، إن فضجة الصُراخ أُنسا من وحشة الموت وتمويها لصمته المخيف ؟
لماذا يتركونها هكذا بمثل هذه السكينة القاتلة ؟ لعلها لم تذهب ؟ أجل الأمر كله خدعة وعبث . أو لعل الأمر كله لا يَعْدو كابوسا أطبق عليها حين غَفْوَتها ؟
ورفعت رأسها المدفون فيالأغطية ببطء فإذا بالغطاء الأبيض قد غطَّى الجسد كله ، ومضت لحظة وهي ترقب الغطاء المشدود على وجه أختها في ذعر شديد وهي تنتفض كريشة في مهب الريح ، وقبل أن تمد يدها لِتُزيح الغطاء سمعت نحيبا يقترب من وراء الباب ، سمعت نحيبا يشبه أنين كلب جريح ، نحيبا لا تُخْطِئُه أُذُناها ، وفُتِحَ الباب وبدت أمها تترنح تَرَنُح الذبيحة سرقتها السكين ، واندفعت نادية لِترتمي في أحضانها متشنجة صارخة وتعلقت في صدرها تعلق الطفل المذعور وهي تصيح بصوتها المختنق : ماما ، ماما لن نترك مُنى ، لم تكن تريد أن تموت كانت تريد العودة الى مصر ، لقد وعدناها يا ماما ألا تذكرين ؟
وضمت الأُم ابنتها الى صدرها .
وتواترت الأحداث بعد ذلك تزاحمت الأشباح في الحجرة باهتَة واهيَة ، سمعت نادية أصواتا مُعزِّية وأحست بربتات رقيقة ، سمعت صوت جانيت تبكي وصوت مسيو كيلي يأمرهم بالخروج ورأت وجه توني محمر العينين وأحست بكابي تضمها باكية ، وأناس كثيرون راحوا وجاءوا وجاءوا وراحوا وأشياء كثيرة حدثت ، وهي تحس كأن دوامة شديدة تدور بها لِتتركها بلا وعي ولا إدراك ولا قدرة على التصرف ، لا شيء سوى الاستسلام العاجز اليائس الراضخ لكل ما يُملَى عليه وما يُساق إليه .
وأخيرا انتهت بها الدوامة الى نفس المنظر المخيف ، منظر الرَكب السائر في بطء وتثاقل وقد حمل العزيز الراقد في صندوق خشبي لِيواريه حفرة في باطن الأرض ثم يهيل عليه الثرى ويتفرق عنه بعد أن ينفض يديه ، ولم يكن الطريق مقفرا في هذه المرة ، كانت الخضرة تكسو جوانبه وقد بدت أسقف البلدة الحمراء على يمينه وعن يَساره إنت ومهاد مخابيل أحلى ما بالأغنية أبو صوت المِزَنْجِر لك هذا صوت يغني يامو خلي ينام يشبه صوت صليوه ما أدري شسمه الي طلع في ذفويس .. بس ييله الي ياكل تفاح لازم ياكل بصل أحمر هههههههههههه بس للأمانة الصوت الثاني فدشي حلو . ولك نغم بجت اليوم على القصيدة ما ردت أحبك حاولت تكول بدون إرادتي نزلت دموعي لما كال معقولة يعني المقطع الي أنت تمرضت بيه ، وانقهرت كالت ما أريد تنزل دمعتي والمصيبة كدام مهاد بدا سفح الجبل بأشجاره الكثيفة ومياهه المنحدرة ، ومن أقصى الأفق بدت القمم البِيض التي تناطح السحاب ، وبدت لها المقابر الرخامية المصفوفة في سفح الجبل ، نفس المقابر التي كانت تُطل عليها من أعلى الجبل عندما تجلس عند حرف الجرف وراء البيت المهجور ، وكانت رائحة الزهور تعطر الجو ورطوبة الأشجار والحشائش تبلل هبات النسيم .
وتوقف الرَكب بِحِمْلِه العزيز كما توقف في أرض الغفير ، وأحست بقواها تخور وبالأرض تميد بها ، ومدت يدها لِتستند الى شيء قبل أن تتهاوى وأحست بكابي تقترب منها وتضمها إليها ، وسمعت من القوم لَغَطا ، وأحست أن شيئا ما يعوق العملية الشاقَة المخيفة ، عملية إداع مُنى في باطن الأرض ، ورأت التردد في وجوه الجميع .
وسمعت أحدهم يسأل : لماذا لا تسألون الأُم ؟
وأجاب آخر : حرام عليكم لقد فقدت وعيها مرتين خلال الطريق .
وأردف صوت ثالث : اتركوها في حالها إنها لا تكاد تتنفس .
وسمعت صوت بول العجوز : وماذا تعرف هي عن شعائرهم ، افعلوا ما يحلو لكم إن إلهنا واحد .
وهز مسيو ريمون وتمتم قائلا : أجل الإله واحد والمصير واحد .
وأبصرت نادية الصندوق الخشبي يُحمَل ثم يوضَع على الأرض ، وأحست كأن شيئا يُنزَع من جوفها ولم تستطع أن تكتم صرخة حادة انطلقت من شفتيها ، واندفعت تخر راكعة بجوار الصندوق وتحتضنه بين ذراعيها وهي تهتف في شبه حشرجة : مُنى ، مُنى يا حبيبتي كيف أتركك وحدك ؟ لماذا لا تجيبين يا مُنى ؟
ثم نظرت الى الجميع وهم واجمون من حولها وهتفت : لا تتركوها ، إنها تخشى الظلمة .
وانحنت مدام كلود فوق نادية ورفعتها في رفق قائلة : تَجَلَدي يا نادية ، اذكري الله ، اذكريه يَشْدُد من أزرك .
وضمتها مدام كلود إليها وهي ماتزال تتتمتم : اذكري الله يا نادية ، إلهنا جميعا ، اطلبي الرحمة لأختك أليست لكم صلوات ؟ إن لديكم القرآن ، لماذا لا تقرئين بعضه ، ألا تظنين أختك بحاجة إليه الآن ؟
ودفنت نادية رأسها في صدر السيدة واندفعت في نوبة من البكاء أحست بعدها بشيء من السكينة .
وعادت السيدة تربت ظهرها وتضمها قائلة : اذكري الله يا نادية ، اذكريه يا حبيبتي ، اقرئي بعض صلواتكم ستريح نفسك كثيرا وستريح أختك .
وازدردت نادية ريقها وأحست من قول السيدة بالمزيد من السكينة وأخذت تتمتم بلا وعي :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" آمين .
وعادت السيدة تضمها وهي تقول : لا تكُفي ، قولي كل ما تعرفينه من صلواتكم وقرآنكم .
وعادت نادية تتلو كل ما تحفظه من آيات القرآن ، أخذت ترددها في أول الأمر بلا وعي والسكينة تدب في صدرها شيئا فشيئا ، وكان الصندوق قد وُرِيَ الثرى ، ووقف الجميع وقد بدت عليهم الحيرة وهمت نادية بالتهاوي مرة أخرى .
وعادت السيدة كلود تشد أزرها قائلة : لماذا لا تُصَلّين لأختك يا نادية ؟ إني أعرف إن عندكم صلاة للموتى .
وتلفتت نادية حولها في عجز وقالت وهي تهتز باكية : إني ، إني ، إن الصلاة لا تنفع بلا وضوء .
- الصلاة تنفع دائما يا نادية ، إن الله لا يحاسبنا على الصغائر ، صَلّي يا نادية ، صَلّي يا حبيبتي .
وعادت نادية تنظر حولها مترددة وجلة وتمتمت قائلة : إني لا أعرف أين القِبْلَة .
- الله موجود في كل مكان يا حبيبتي ، صَلّي له إنه لن يحاسبك على اتجاه ، صَلّي يا حبيبتي .
وفي وجل وحيرة نظرت نادية الى الجمع الواقف حولها يرقبها في صمت كأن الطير على رأسه .
وكما تعودت نادية أن تُصَلّي صَلَبت جسدها ورفعت سبابتها الى أذنها ثم هبطت بكفيها مطبقتين أسفل صدرها ، وبدأت شفتاها تتمتم بالفاتحة وقل هو الله أحد ، ثم ركعت وسجدت وركعت وسجدت ، والجميع يرقبونها في خشوع شديد وقد انحدرت الدموع من مآقيهم ، وأخيرا تلفتت نادية يُمنة وحيَّت ثم تلفتت يسرة وحيَّت مرة أخرى .
وانحنت السيد ةالطيبة تضمها الى صدرها في حنان شديد .
ومرة أخرى عاد الرَكب الى المدينة في بطئه وتثاقله وصمته الحزين ...
42
لم يَعُد وَهْماً
كان مدحت قد أعد كل ترتيبات السفر ، وكانت عربة جاد الله تجتاز بهما نفق العباسية بعد أن حزم حقائبه وودع أمه مُكَفْكِفا دمعها مؤكدا لها أن سفره ضروري لنجاته من متاعب معدته ، وأنه سيعود لها سليما معافى .
ولمح جاد الله عقرب الساعة في ميدان العباسية يشير الى التاسعة فالتفت الى مدحت متسائلا : متى ستقوم الباخرة ؟
وبدا مدحت شارد الذهن مما جعل جاد الله يعيد سؤاله ساخرا : إنت يا أخينا ، متى ستقوم الباخرة ؟
والتفت إليه مدحت وأجاب باقتضاب الكاره للحديث والمحب للشرود : الرابعة .
- بعد الظُهْر ؟
ونظر مدحت الى جاد الله مغيظا ورد في سخرية : لا ، بعد منتصف الليل .
- ولماذا إذن أقلقتني بهذا التبكير ؟ -دعنا نعود الى النادي .
- إنت فايئ ورايِئ .
- أنا ؟ أنا إلي فايِئ ؟ أنا الذي أرحل في نزهة في جبال الألب في عز المَعمَعة ؟
- أي مَعمَعَة ؟
- مَعمَعَة القناة ، ألا تُحس بالأساطيل التي تتحرك والقوات التي تُحْشَد ؟
- ألم تُعرَض المسألة على مجلس الأمن ؟
- أجل .
- ألم يتفقوا على الاجتماع في جنيف في آخِر هذا الشهر ؟
- اتفقوا ، ولكنهم يستمرون في هياجهم .
- مِسيرهم يخضعوا .
وكانت العربة تقترب من مستشفى الدمرداش ، فأردف مدحت وهو ينظر الى ساعته قائلا : ادخل بنا على المستشفى .
- أَسَتَمْكُث كثيرا ؟ المفروض أن نكون في الإسكندرية قبلها بساعة من أجل إجراءات الجمرك ، أي نكون هناك في الثالثة .
- ومن هنا الى الإسكندرية أربع ساعات بما فيها نصف ساعة غداء في الرِيسْت هاوس ، يعني نتحرك من هنا الساعة الحادية عشرة .
- وساعة احتياطي للطوارئ ، يعني تستطيع أن تَمْكُث ساعة في المستشفى إذا شئت ، ألا تكفيك ساعة ؟
- تكفي جدا ، سأمر على بعض المرضى وأعطي بعض التعليمات للدكتور أنيس .
- وإذا رَزَقَك الله بعملية ؟
- لقد قلت لهم أني سافرت فعلا ، وقد وزعت كل العمليات على أنيس وإبراهيم زكي .
توقفت العربة في فناء المستشفى وهبط الاثنان متجهَين الى الدرج .
وقال جاد الله محذرا وهما يجتازان المدخل : إياك أن تأخذك الجلالة وتضيع السفر .
- غير معقول ، لن يستغرق مروري غير ربع ساعة ، إني أريد أن أطمئن على الرجل الذي أَجْرَيْت له العملية أمس .
- الذي قطعت زوره أَم الذي نزعت معدته ؟
- الذي قطعت زوره مات في منتصف الليل .
- يا ساتِر .
- كان مفروضا أنه سيموت .
- لماذا لم تتركه يموت وحده ؟
- لأن المفروض أن أبذل كل ما في وسعي .
- للقضاء عليه ؟
- لإنقاذه يا حيوان ، أنا لست جبانا حتى أترك المريض يموت وحده لمجرد خوفي من أن يقول الناس أن عملياتي كانت السبب في موته ما دام هناك أمل في أن أنقذه ولو واحد في الألف فلابد أن أُجريَ العملية ، إن ثلاثة أرباع الأطباء يتركون ...
وقاطعه جاد الله وهو يدفعه من ذراعه قائلا : مفهوم مفهوم ، اسرع بالمرور وسأنتظرك في المكتب بعد أن أمر على تِيتِي .
- ألم تخرج بعد ؟
- ولماذا تريدها أن تخرج ؟
دعنا نتسلى معها .
وافترَقَ الاثنان ، وبعد ربع ساعة التقيا مرة أخرى في المكتب ، وأخذ مدحت يجمع الأوراق المتناثرة على المكتب ويضعها في الأدراج قائلا لِجاد الله : لا تدع أحدا يعبث في المكتب .
- هل به شيء يُخشى عليه ؟
- به محاضرات وبحوث .
- إذن لن يقربه أحد .
ونظر جاد الله الى الساعة في يده وتساءل : أبقي لديك شيء تفعله ؟
ونظر مدحت حوله كمن يحاول التذكر ثم قال ممم ، أبدا هيا بنا .
وقبل أن يهما بالخروج سمعا وقع أقدام خارج الحجرة ، ثم بدا بالباب بضع جنود يرتدون ملابس كاكية وقد وضعوا على رؤوسهم الكاب وحزموا خصورهم بالقوايش الكاكية العريضة .
وبدت الدهشة على وجه مدحت وجاد الله وهما ينظران الى الحشد الكاكي الذي وقف بباب الغرفة ، وما لبث مدحت أن ميَّز تحت المَظَلّات الكاكية وجوه طلبته ومن بينهم وجه صبري النحيل بمنظاره السميك .
وهتف جاد الله ضاحكا : يِخْرِب بِيوتكم ، ما الذي عملتموه في أنفسكم .
وأجاب صبري ضاحكا : تطوعنا في جيش التحرير .
وقَطَّب مدحت جبينه وتساءل في دهشة : جيش التحرير ، وماذا تفعلون به !؟
ورد أحد الطلبة : نتدرب على ضرب النار والطوابير العسكرية .
وهز مدحت رأسه متسائلا في استخفاف : ضرب نار ؟ أتجدون من وقتكم فراغا لِضرب النار ؟ هل انتهيتم من دروسكم كلها ؟
ورد صبري بنوع من الاحتجاج : الدروس تستطيع أن تنتظر الآن يا دكتور .
تنتظر ، وضرب النار لا يستطيع الانتظار ؟
- بالطبع لا .
- لأن العدو على الأبواب ؟
- طبعا على الأبواب يا دكتور ، لقد جئنا نحتج على سفرك في مثل هذا الوقت .
ورفع مدحت حاجبيه في دهشة وأطلق من أنفه نفخة سخرية وتساءل : هه ما لهذا الوقت ؟
وأجاب صبري وقد بدت على وجهه سيماء الجد : نحن نحبك يا دكتور مدحت ، نحب رجولتك وشجاعتك ونود أن تكون الى جانبنا تشد أزرنا في كفاحنا .
وتضاحك مدحت متسائلا : أي كفاح ؟ لقد انتهت الأزمة ، لقد اتفقوا في مجلس الأمن على الاجتماع في جنيف جنيف لِحل المسألة ، إنها فورة هدأت وزوبعة مرت بسلام .
وعاد صبري يقول في لهجة الواثق : لم تمر بعد ، إنهم مستمرون في تتحركاتهم وتجمعاتهم .
- مجرد تهويش فلم يكن من المعقول أن يتلقو الصفعة على خدهم الأيمن لِيُديروا لنا باستسلام خدهم الأيسر ، هل كان هذا معقولا ؟
ورد جاد الله قائلا : طبعا لا ، كان لابد لهم من الهياج والتلطيش والتشليق والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور .
وأجاب مدحت : وهذا ما فعلوه ، فلا أظنهم سيجرؤون على أكثر من هذا .
وتساءل صبري : ولِمَ لا ، هل هناك ما يمنعهم للقيام بأكثر ؟
- مثل ؟
- استعمال القوة .
- من أجل ؟
- احتلال القناة .
- هل تتصور هذا ؟
- ولِمَ لا ؟
- إنهم لن يفعلوها إلا إذا فقدو عقولهم .
- أتظنهم لم يفقدوها بعد ؟
- ليس الى الحد الذي يدفعهم الى القضاء على مصالحهم وتعطيل القناة .
- ألم يُحاوُلوا تعطيلها بسحب المرشدين ؟
- كانت مجرد مناورة لإظهارنا أمام العالم بمظهر العاجز المتعنت .
- ولو نجحت هل تظنهم سيقفون مكتوفي الأيدي أَم كانوا سيتدخلون .
- ليس بالقوة ، لأنهم يعرفون معنى التدخل بالقوة .
- إنهم لن يكُفّوا عن خلق فرصة التدخل بأي وسيلة ، لقد عقدوا مؤتمرا وأرسلوا بعثة البغل الأسترالي لِعرض قرارات يعرفون سلفا أنها مرفوضة لكي يُظهرونا بمظهر المتعنت المُتَجَبِّر الذي يحتاج الى تأديب ، فلما فشلوا أقبلوا على مناورة سحب المرشدين لكي نظهر بمَظهر العاجز المفسد فلما فشلت ...
- اضطروا الى التسليم والشكوى لمجلس الأمن وقبول التفاوض في جنيف أليس كذلك ؟
- لا أظن ، إنهم يعتبرون جلاءهم عن القناة غلطة كبرى يجب إصلاحها .
- بأي شيء ؟
- بالعودَة .
- إلى هذا الحد ؟
- أعتقد هذا ، لقد ظنوا جلاءهم رشوة لِطاعتهم فلما عصيناهم ندموا على رِشوتهم وأحسوا أننا لا نستحقها .
وتساءل مدحت ضاحكا : وسيسحبونها منا ؟
وأجاب صبري مؤكدا : سيحاولون .
- أنت متشائم جدا ، إن الزمن لا يعود القهقرة ، لقد مضى عهد القرصنة ولم تَعُد حريات الشعوب رشاوى تُعطى وتُسحَب بل باتت حقوقا لا تملك قوة أن تسلبَها بعد أن كافح أصحابها في الحصول عليها .
ورفع مدحت معصمه بالساعة فإذا بها قد قاربت العاشرة فقال لِلصِبية المشدودين في ثيابهم الكاكية : لقد أزف الوقت ، لابد أن نرحل الآن .
ومد يده فربت كتف صبري وقال له في ثقة : لا تتشاأم هكذا ، إنها زوبعة في فنجان ، لا تنسوا دروسكم فلن أرحمكم عندما أعود .
وهز صبري رأسه وقال في أسف : خسارة .
وتساءل جاد الله قائلا : ما هي هذه الخسارة ؟
- كنا نود أن يبقى معنا ، إنه مقاتل بطبعه .
وضحك مدحت وأجاب : إن شاء الله لن يكون هناك ما يستحق القتال .
ومد يده يشد على أيديهم مودعا ، ثم أردف يقول : على الأقل حتى أعود ، إن لدينا فرصة أمان حتى آخِر الشهر ، فلا أظنهم سيستعملون معنا القوة قبل أن نجتمع ثم نختلف .
ثم وجَّه القول الى جاد الله ضاحكا : وَله إيه يا جاد الله ؟
وأجاب جاد الله بطريقته المُهَرِّجة : إي .
وبعد لحظات كانت العربة منطلقة بهما في طريق الإسكندرية الصحراوي ، وفي الساعة الرابعة كان مدحت يقف على سور السفينة ملوحا لِجاد الله ، ووقف جاد الله يشير له ملوحا ، وقبل أن تبدأ السفينة بتباعدها عن الرصيف صاح جاد الله : اُكتُب لي عن كل ما يحدث .
وهز مدحت رأسه .
وعاد جاد الله يصيح مؤكدا : بصراحة .
وضحك مدحت وعاد يلوح بيده .
ومرة أخرى انطلق صياح جاد الله من الرصيف قائلا : بلغها سلامي .
وهز مدحت رأسه ضاحكا .
وعاد جاد الله يقول : وعَرِّفها فضلي عليها ، فلولايَ ما كَتَبْتَ إليها ولا كنت الآن في طريقك إليها .
وعاد مدحت يهز رأسه ضاحكا .
وعاد جاد الله يصيح متسائلا والسفينة تتباعد رويدا رويدا والصوت يتضاءل : أَسَتَخْطُبها ؟
وفغر مدحت فاه في دهشة وبسط كفيه كأنما يقول لِجاد الله : ما هذا الجنون أهذه طريقة للسؤال .
ثم لوَّح بيده واختفى داخل السفينة حتى يوقف سيل أسئلة جاد الله الحمقاء التي اندفعت تتدفق منه في اللحظة الأخيرة .
واستمرت السفينة تتباعد عن الشاطئ وعاد مدحت لِيرقب مباني الإسكندرية وهي تتضاءل وتنكمش وهبت نسمة من نسمات البحر في صدره وأحس بشيء من الانتعاش وأطلقها في استرخاء حاملة معها ما تبقى في صدره من متاعب السفر ومشكلاته وتعقيداته ، واستلقى على مقعد طويل فوق ظهر السفينة ، وأحس وهو يلقي رأسه على حافة المقعد ويمدد ساقيه ويرخي ذراعيه أنه مخلوق سعيد بلا هموم ولا مشكلات ، بل أكثر من هذا إنه ينتظر أشياء جميلة ، لقد ملأه إحساس الطفل يلقي بكراساته وكتبه ويستلقي في انتظار عيد أو نزهة أو أمنية توشك أن تتحقق ، وبدأ يتذكر كيف بدأ الأمر ، بقلم على خريطة يرسم طريقه من مرسيليا باتجاه الشمال باحثا عن المدينة الصغيرة ذات الحروف الثلاثة القائمة وسط التضاريس البنية اللون التي تناثرت عليها الأحرف الكبيرة الألب العليا ، لقد مارس الرحلة أياما على الخريطة ، استقرت في ذهنه وتأكدت في نواياه ، وقبل ذلك كيف بدأت المسألة كلها ؟
رسالة من مجهولة في بضع كلمات تخبره أن حياتها معلقة في رده ، رد عليها ردَّ إحسان كما تمنح السائل الذي تمر عليه بعربتك بحسنة ، لا لأنه يستحقها بل لأنها لن تُضيرك ، وردت عليه ورد عليها .
وهز رأسه في دهشة : عجيبة كيف حدث كل هذا ، كيف باتت هذه المخلوقة المجهولة جزءً من حياته ، كيف أضحت أعز أمانيه وأجمل آماله ؟! كيف أمكن أن يتجسد هذا الوهم هذا الطيف هذا الاشيء المكون من حبر على ورق !؟ كيف أمكن أن يتجسد ليملأ قلبه ويملك مشاعره !؟ كيف بدت واضحة مثل هذا الوضوح !؟ كيف برزت ملامحها وتأكدت تفاصيلها حتى أضحت على بُعدها أقرب من أقرب الناس إليه !؟
وفجأة مر بذهنه خاطر أحمق مجنون ، مر بذهنه كما تمر الطلقة الطائشة تصيبنا بالذعر دون أن نعرف من أين أتت ولا أين تستقر .
تُرى ماذا يفعل إذا لم يجدها ؟ يعني إذا لم يلقَ لها وجودا ، إذا ذهب الى البلدة وإلى البيت ولم يجد هناك مثل هذه المخلوقة التي رسبت في حناياه وتدفقت في أعماقه ؟
ونفض عن نفسه هذا الخاطر الطائش ، نفضه تماما كما ينفض ذرة غبار ورفض أن يفكر فيه ، إن نادية موجودَة ، موجودَة كما هو موجود ، إن ثقته في وجودها كثقته في وجوده ، فإذا جاز له أن يتصور أنه مخلوق وهمي وأن كل هذه العمليات التي أجراها والمرضى الذين مزق أجوافهم شيء لا وجود له وإذا جاز له أن يعتبر هذا الكائن المسافر على ظهر السفينة والذي يسترخي على المقعد في سعادة الطفل كائن من ابتكار الذهن وخَلْق الأوهام ، إذا جاز له هذا فله أن يتصور أنها مخلوقَة غير كائنة .
وسمع دقات الساقي تُؤذن بالعشاء ، وجذب من الهواء الرطب نفَسا طويلا حاملا معه سخافة شكوكه وحُمْق ريبته ، ثم نهض وهو يتحسس صدره في ثقة ويشد عضلات ساقيه في قوة واتجه الى حجرته لِيبدل ملابسه .
ومرت أيامه الخمسة في السفينة ، استمتع بها ما سمحت له لهفته على الوصول ، وفي بعض هُنَيْهات القلق كان يتمنى لو اتخذ طريقه بالطائرة الى مارسيليا أو باريس أو جنيف أو الى أقرب مطار يوصل الى كاب ، ولكنه كان يهَدِّئ لهفته بأن هذا الطريق أسلم وأقرب الى العقل ، فالمفروض أن أساس السفر هو علاج معدته في لندن وأنه اتخذ طريق البحر لِيستريح ويستجم وأنه في طريقه عفوا وبلا قصد وجد نفسه قريبا من كاب فوجد من باب الذوق واللياقة أن يزور صديقته التي تُراسله ، أجل إن هذا أمر معقول ولا يمكن أن يلومه عليه أحد .
وهبط في مارسيليا وحدث له فيها ما يحدث لكل مسافر جديد ، تكأكأ عليه الحمّالون وسائقوا التكسي وحصلوا منه خمسة أمثال ما يجب أن يُدفَع ، وبعد بضع ساعات كان القطار الصاعد الى الشمال ينهب به الأرض ، وتملكه إحساس بالخشية والقلق وهو يجد نفسه وحيدا وسط الركاب المتفرقين في القطار ، الذين بدا عليهم الوجوم وخيَّم عليهم الصمت ، وتمنى لو استطاع أن يُحَدِّث أحدا ، أن يقول له كلاما أو يسأله عن أمر ، ولكنه لم يحس في لغته الفرنسية من الثقة ما يدفعه الى المغامرة بجذب أطراف الحديث ، ولم يجد خيرا من النافذة يدفع فيها بوجهه ويركز كله اهتمامه ، ولم يجد أول الأمر من المَناظر ما يثير اهتمامه اللهم إلا الأرض الحمراء ، ولكن القطار ما لبث أن بدأ الصعوده وسط الجبال ، وما لبثت مناظر السفوح الخضراء ومساقط المياه أن أخذت بلبه وأضاعت وحشته حتى بدأت الشمس تنحدر للمغيب ، ومضت برهة والكون يرفل في كساء مغربها الأرجواني ، ثم بدأت الرمادية الشاحبة تتسلّل فوق المرئيات جارة وراءها كساء الليل الأسود تحجب به الكون فلا تبقي من ملامحه إلا عيون المصابيح المتناثرة تَنْفُذ من ورائه .
وأخيرا وبعد أن بدأ النعاس يلعب بأجفان بضعة الركاب الذين ضمتهم العربة وقف القطار ، وبدت لافتة فين بجوار كُشْك المحطة ، فنهض مدحت واقفا ومد يده فقذف الى أحد الحمّالين بحقائبه ، ثم هبط في عجلة الى الرصيف .
وبنفس الطريق الذي حمل به قطار كاب نادية وأهلها منذ عام مضى حمل القطار مدحت بعد أن أمضى بضع ساعة في انتظاره وسط الشبورة الثقيلة وأشباح المحطة المتحركة في صمت .
وأخيرا تحقق الحلم ، وهدأ القطار قليلا لِيقرأ مدحت اللافتَة ذات الحروف الثلاثة التي تُكَوِّن أعز أسماء المدن الى نفسه وأقربها الى قلبه ، كاب .
وهبط مدحت الى الرصيف ، وأحس بالبرودة تلسع أطرافه وهو يقف متلفتا حوله في حيرة ، وأشار الى حمّال عجوز ، نفس الحمّال الذي تعودت نادية أن تصفه له من نافذة حجرتها في المدرسة ، أجل إنه هو بظهره المحني ومعطفه الكاكي وقبعته على أُذنَيه ويديه في جيبَيْه ، وأقبل الحمّال يهز رأسه مستفسرا ، وكاد مدحت يمد يده إليه مصافحا ، إنه يعرفه جيدا ويعرف كل ما حوله ، يعرف كُشْك المحطة والسنديانة التي تحيطه بذراع وترفع ذراعها الأخرى الى السماء ، أجل إنها هي بلا شك ، لَشد ما أجادت نادية وصفها ، وناظر المحطة البدين وكلبه الأعجف .
وعاد الحمّال يرفع إليه عينيه مستفسرا ، وبدأ مدحت يحدثه بالفرنسية سائلا عن فندق .
وأجاب الحمّال العجوز : يوجد فندق في الميدان وفندق آخر بجوار المحطة .
وكاد مدحت يقول له : أعرف .
ولكنه هز رأسه قائلا : أي فندق يقضي .
وكانت الساعة قد جاوزت الثانية عشرة بعض منتصف الليل والضباب قد تكاثف حتى كاد يُخفي أشباح الشجر والدُور .
وقال الحمّال : لا ضرورة للتاكسي فالمسافة قريبة .
وهنا لم يملك مدحت إلا أن يجيب : أجل أجل ، أجل أعرف .
ورفع إليه الحمّال عينيه من الدهشة ، ثم انحنى لِيحمل الحقيبتين .
ولكن مدحت تناول أحداهما قائلا : لِنتقاسم الحِمْل .
وضحك العجوز وقال متسائلا : ونتقاسم الأجر ؟
وربت مدحت ظهره ضاحكا .
ثم سارا سويا يطرقان أرض الطريق الصامت بكعوب حذاءيهما .
وسار الحمّال الى الميدان وهو يقول لِمدحت : هذا الفندق أحسن وأهدأ .
ودلف الاثنان من الباب الزجاجي ، ولكن قبل أن يضعا الحقائب من أيديهما أطل وجه امرأة من وراء الباب وقد غلبها النعاس وهي تقول : لا حجرات خالية .
ورفع الحمّال العجوز الحقيبة في صمت وقال لِمدحت : لم يبق أمامنا إلا فندق المحطة ، إنه قديم لكنه محترم .
وعاد الاثنان الى الفندق المطل على المحطة والملاسق للمَدرسة .
وتساءل مدحت على سبيل التأكيد : أهنا مَدرسة بجوار الفندق ؟
وأجاب الحمّال العجوز : أجل ، مَدرسة الأب رينو .
وأخيرا استقر مدحت في حجرته في الفندق ، حجرة عتيقة سميكة الجدران ذات سرير نحاسي وحوض قديم في أحد أركانها .
وأحس مدحت أنه مُجْهَد وأنه لم يَعُد له من سبيل سوى النوم ، وأبدل ملابسه والنوم يغالبه ، ولم يكد جسده يستقر على حشية الفراش ويتدثر بأغطيته حتى راح في سُبات عميق ، استغرق في نوم طويل لم يفق منه إلا والشعاع الضوء الأصفر يتسلَّل من النافذة ، فتمطّى في فراشه ورفع رأسه لِيرقب النافذة المواجهة التي تسلَّل منها الضوء فإذا بمَنْظر يُذهله ، مَنْظَر طالما حملته إليه نادية في رسائلها ، مَنْظَر السفوح الخُضْر ذوات القمم البِيض التي تبدو في أقصى الأفق .
وقفز من الفراش وفتح زجاج النافذة ، وأحس نسمة الصبح البليلة الباردة ، وأطل منها على السنديانة وسقف المحطة وبدت أمامه بقية الأسقف الحُمْر المنحدرات ومداخنها التي لم تنفض بعد أنفاسها ، وبدا كل شيء لِعينه كما تعود أن يعرفه وأن يراه ، وبدا الطريق نظيفا وأوراق الشجر يتساقط منها الندى وأشعة الشمس المشرقة تداعب قمم الدُور وأطراف الشجر وكل عصفور يزقزق أو نسمة تهب تُشْعِره بأن نادية هنا ، إنها باتت منه على مد ذراع أو خطوة قدم ، إنه معها في نفس المدينة ، لم يَعُد لقاؤهما وهما ولا حلما ...
43
دموع على قب
مرت الأيام القلائل الأولى بعد وفاة مُنى والبيت يسوده صمت القبور ووحشة الليل وسكينة الأطلال ، لا صراخ ولا عويل ولا أنين والحديث إذا تَحَتَّم يسري همسا والحركة إن وجبت تجري تسلُّلا وسكان البيت يبدون كالأشباح المذعورة النافرة ، الأُم منطوية في حجرتها جسدا بلا حس ولا حراك ولا أثر فيها للحياة إلا زفرات حارة تنطلق من صدرها بين آونة وأخرى كأنه تُنَفِّس عنه ما تراكم به من حِمم الوجيعة وسعير اللوعة ، والجدة قابعة في مقعدها شاردة الذهن جاحظة العينين فاغرة الفم تتمتم شفتاها بكلمات يُفهَم منها بين حين وآخر ، يرحمنا الله ، وبقية أهل البيت يتحركون في وجوم وشرود وفي عيونهم ذهول من الضربة المفاجئة التي اختطفت الصبية اليانعة ، التي كانت تملأ البيت مرحا وتغريدا ، ونادية حبيسة في غرفتها مستلقية في انهيار أو متشنجة في نحيب أو شاردة في ظلمات من الكآبة والوحشة ، ولم تفلح محاولات كابي وبقية الشلة في انتزاعها من سجن أحزانها والتخفيف من لوعتها ، كانت أحيانا لا تصدق أن مُنى قد فارقتها الى غير عودَة ، كانت تتوهم أن كل ما حولها كابوس مزعج لا تفتأ أن تفيق منه ، وكانت تتوقع من آونة وأخرى أن تسمع نداءها وتُبْصِر بسمتها وهي تدخل عليها ضاحكة لِتدعوها للخروج وتؤنبها على انطوائها في غرفتها وتخبرها أن الحياة جميلة ، كانت تملأ تفكيرها في اليقظة وأحلامها في النوم ، تارة تدعوها للحياة وتارةً تستغيث بها من الموت ، تارة ناضرة يانعة وأخرى ذاوية ذابلة ، رأتها ذات ليلة تُقبِل عليها لاهثة وقد افتَرَّ ثغرها عن ابتسامتها المرحة لِتنبئها أنها قد رأت مدحت مُقبِلا من المحطة وأنها قد أخبرته أنها مُنى وأن نادية تنتظره في البيت وأنه قد أقبل لرؤيتها وأخذت تجرها من ذراعها لِتهبط بها إليه ، وأخذت نادية في المقاومة وهي تصيح بها حانقة وقد صَممت ألا تراه ، وأفاقت نادية من نومها وهي تصيح بمُنى أن تتركها وشأنها ، وفتحت عينيها على ضوء القمر يتسلَّل من النافذة ، وأحست ان ما مر بها أضغاث أحلام ، فدفنت رأسها في الوسادة واندفعت في نحيب أليم حتى أغرقت عبراتها الوسادة ، وعندما هدأت نوبتة البكاء جلست في فراشها ترقب الضوء المتسلَّل من وراء الأفق وعادت تفكر في الحلم .
تُرى ماذا يمكن أن تفعل إذا أتى مدحت ؟
يأتي في مثل هذه الظروف المليئة بالحزن واليأس والوجيعة ؟
هل يمكن أن يحدث هذا ؟
هل يمكن أن تبلغ سخرية القدر بها الى هذا الحد ؟
أن تُرسل إليها مدحت في مثل هذه الظروف البغيضة المشؤومَة ؟
وأطلقت من صدرها زفرة حادة ، لقد كانت مُنى الوحيدة التي تستطيع أن تنقذها من ورطة اللقاء ، وتذكرت دعابة مُنى وكيف عرضت عليها أنها ستلقاه وماذا تنوي أن تقول له .
وعاد الدمع ينهمر من عينيها بِصَمْت ، ومدت طرف لسانها لِيلعق السائل الملحي المنحدر على ملتقى شفتيها ، ثم مسحت عينيها وأنفها بطرف كُمِّها .
وعادت تفكر مرة أخرى ، أحقا ينوي مدحت الحضور ؟
لقد أرسلت له رسالة تُلَمِّح له فيها بأن سفرهم محتمل وقت حضوره .
لكنه أرسل إليها مازحا لِيقول : إنه سيأتي حتى لو كانت غير موجودَة ، لمجرد أن يرى البلدَة ، وكَتب إليها لأول مرة في حياته بيتا من الشعر :
أَمُرُّ على الديار ديارِ ليلى .
فحضوره إذن غير مستبعد.
ماذا يمكنها أن تفعل إذا فعلها هو وحضر ؟
أليس من الأفضل أن تكتب إليه لِتُنبئه بطريقة قاطعة أنها قد سافرت الى جنيف أو أي مكان لأنها مريضة ولأنها ستكتب إليه من عنوانها الجديد ، أجل إن هذا خير ما تفعله ، أن تُنْبئه أنها سافرت وأنها ستكتب إليه مرة أخرى وهو لا شك سينتظر حتى يعرف عنوانها الجديد فلعله يستطيع زيارتها فيه ، وعليها أن تَكُفَّ عن الكتابة إليه حتى تستطيع أن تدبر أمرها معه ، إن كل ما تريده الآن هو الفرار من لقائه ، على الأقل حتى تلتقط أنفاسها وتُهَدِّئ من روعها إثر الكارثة المؤلمة .
ونهضت من فراشها وأحضرت كراستها الزرقاء وبدأت بالكتابة ، وأنهت الرسالة في بضعة أَسْطُر ، رسالة مُقتضَبة تنبِئه فيها ستسافر الآن الى جنيف لأنها مريضة وستكتب إليه بمجرد وصولها ، وأطبقت الظرف على الرسالة وكتبت العنوان ، وأحست بشيء من الارتياح والطمأنينة ،ر ونظرت الى ساعتها فإذا بها السابعة ، بعد نصف ساعة ستستدعي بول وتأمره بوضعها في صندوق البريد وينتهي الأمر وستكف بعد ذلك عن الكتابة شهرا شهرين وسيتوقف هو عن الكتابة وعن الحضور و ...
وفجأة دق جرس الباب ، وعادت تنظر الى الساعة في شيء من الدهشة ، من يكون الطارق المبكر ، إن بول لا يدق الساعة قبل السابعة والنصف .
وأحست أن عليها أن تنزل لِتفتح الباب فأُمها وجدتها لا تفتحان وجانيت لابد أن تكون مستغرقة في النوم .
وأسرعت تهبط الدرج بعد أن دق الطارق ثانيةً ، ومدت يدها لِتفتح الباب لِترى الطارق ، وبدا لها الطارق طويلا عريض المنكبين غير مُقَطِّب الجبين ولا متجهم الوجه بل مبتسما في رقة مُطرِقا في حياء ، وفغرت نادية فاها ، ووقفت لحظة ترقب في ذهول كأنما قد رأت شبحا مخيفا ، ثم انطلقت من شفتيها صيحة ارتياع واندفعت تعدو هاربة الى أعلى ، وبلا وعي ولا إرادة وقبل أن تفكر في أي شيء أو تفعل أي شيء أمسكت بالإشارْب تشده حول رأسها ىثم أبدلت ثيابها في سرعة البرق بسويتر عالي الياقة وأحكمت الياقة جيدا حول عنقها ، ثم عادت تهبط السلم في بطء ووجل مذعورة القَسَمات مرتعدَة الأوصال لاهثة الأنفاس يكاد قلبها من فرط دقاته يقفز من ضلوعها ، وكان ذهنها يعمل بسرعة ، إنه يقف أمامها بالباب بلحمه ودمه ، مدحت نفسه لا طيفه ولا صورته ،
ماذا تقول له ؟ وماذا تفعل به ؟
إنها المفروض ليست نادية ، فهو يعرف نادية من صورها ويعرف أنها ليست نادية وحتى لو لم يعرف فهي لا تجسر أن تقول إنها نادية ، ولكنه قد أتى لِيقابل نادية فأين نادية إذن ؟
أَتَقول له إنها سافرت ، أين ، إلى جنيف للعلاج كما كتبت له منذ لحظة ، أين عنوانها ؟
لا تدري .
أمعقول هذا ؟
لكن أين نادية فعلا ؟
نادية التي يعرفها من صورها .
لماذا لا تقول له الحقيقة ؟ لماذا لا تقول له إن نادية التي يتخيلها في ذهنه ، نادية التي أتى لِيراها والتي كان مفروضا أن يَلقاها قد ماتت ؟ لماذا لا تقول له الحقيقة وتنتهي ؟
ولكن أحقا أن نادية قد ماتت ؟ أيمكن أن ث\يُقضى على حبها ، على مشاعرها على إحساسها بالزوال والفناء ؟
إن نادية التي في الصورة قد ماتت ، لم يَعُد لِمخلوق على ظهر الأرض أن يُريه إياها ، لكن نادية التي تحبه والتي دعته لِيطوف معها بقمم الجبال وشاطئ البحيرة لم تمت بعد ، إنها على قيد الحياة تحبه كما كانت تحبه دائما ولكنها لا تجسر أن تلقاه وأن تخبره بأنها هي التي تحبه وهي التي كتبت إليه ، بل إنها تخشى ألا يعترف بها وأن تكون نادية قد ارتبطت في ذهنه وقلبه بصورتها أكثر مما ارتبطت بحبها ومشاعرها ، إنها لا تجسر ، إنها لا تستطيع .
ووصلت الى الدرجة الأخيرة من السلم ، وبدا لها مرة أخرى يقف بالباب بشبحه الطويل وكتفيه العريضتين وملامحه التي تبدو فوقها الابتسامة الرقيقة والحيرة الوجلة ونظرة عتاب ودهشة من هذا الاستقبال العجيب .
وتقدمت نادية تجاه الباب وهي تحس أن قدميها تلتفان أحداهما حول الأخرى ، وأنها توشك أن تتعثر في كل خطوة .
وقبل أن تفتح فمها لِتقول شيئا ، هز رأسه متسائلا في صوت رقيق : أين نادية ؟
وأحست نادية أن سؤاله قد اعتصر قلبها ، ولم يَعُد أمامها مجال للتردد فقد قطع سؤاله كل شك وأكد لها أنها ليست نادية .
وازدردت نادية ريقها وبللت شفتيها الجافتين بطرف لسانها .
وقبل أن تتمالك كي تقول شيئا ، عاد مدحت يتمتم معتذرا أَ آسف على هذا الإقلاق المبكر ولكني في الواقع لم أستطع الانتظار في الفندق ، ولم أعرف الى أين أذهب وخُيَّل إلي أن حضوري لن يقلق نادية .
وساد الصمت مرة أخرى ، وبدت نادية عاجزة عن النطق وهي تنظر إليه في ذهول .
وعاد هو يسأل في شيء من القلق : أَأَستطيع أن أرى نادية ؟
وفجأة رفعت نادية كفيها الى وجهها وأجهشت بالبكاء ، وذُهِل مدحت وتملكه إحساس بالخوف .
وعاد يسأل الصبية المُجهِشة بالبكاء في نبرة قلقة وجِلة : هل ، هل حدث شيء ؟
ورفعت نادية كفيها عن وجهها وبدا لها مدحت من خلال عبراتها وهو يتساءل في إلحاح : هل حدث شيء لِنادية ؟
وأجابت نادية في صوت مختنِق :إنها ماتت .
وفغر مدحت فاه وهو يحس كأن شيء في باطنه يلوي أمعاءه وتساءل في صوت مبحوح : ماذا تقولين ؟
وأجابت نادية في لهجة يائسة : مريرة وهي ترقب هيكله المترنِح وقد استند بذراعه الى الباب : نادية ماتت .
وأحس مدحت أنه لا يريد أن يصدق أذنيه ، إن المسألة لا يمكن أن تنتهي بهذه الكيفية ، غير معقول أبدا أن تصل سخرية القدر الى هذا الحد ، كل شيء كان محتملا إلا هذا ، لقد خطر بباله للحظة وهو في السفينة أنها قد تكون خدعة وأنها بعد كل ما تركته من أثر في نفسه قد تكون غير ذات وجود ، ولكنه لم يطف بذهنه أبدا أن يجدها وفي اللحظة التي يجدها يعرف أنها قد أصبحت شيئا غير موجود ، أنها ماتت .
وعاد يردد في ذهول وهو يحس بالأرض تميد تحت قدميه : ماتت ، ماتت ؟
وأحست نادية بحركة في الداخل وتملكتها حيرة شديدة ، ولم تعرف ماذا تفعل بعد أن قالت ما قالت ، بعد أن أصابت أعز ما عندها في أعز ما عنده ، وتمنت لو استطاعت أن تضمه إليها ، أن تتعلق به وتمسح دموعها في صدره ، وتخبره أنها نادية ، أنها لم تَمُت ، لكنها أحست أن هذا آخِر ما يمكن أن تفعله ، وبدا لها أنها يجب أن تتصرف بطريقة ما ، أن تدعوه الى الدخول مثلا بدل أن تظل واقفة أمامه وهو يترنح مشدوها أمام الباب ، ولكن ماذا يفعلان في الداخل ؟
يجلسان في صمت لِتقدم له فنجانا من القهوة ؟
وقد يخطئ أحد من البيت ويناديها نادية ، ثم ما الفائدة من إدخاله ؟
أمها لا تلقى أحدا ، وجدتها لا تحدث أحدا .
لكن الواجب أن تدعوه الى الدخول ، غير معقول أن تتركه يرحل في نفس الدقيقة التي رأته فيها ، ولكن أمعقول أنه سيرحل ؟
وأحست أنها لابد أن تقول شيئا ، فتراجعت خطوة مفسحةً له الطريق ، وقالت في صوت يملؤه الأسى : تَفَضل .
أجاب مدحت وهو يرفع كفه ويضغط به على جبينه في شيء من العنف كأنما يحاول أن يفيق من صدمته : مُتْشَكِر ، أظن من الخير أن أعود الى الفندق لِآخذ أول قطار .
وردت نادية في مَرارة : ولكن ألا تمْكُث برهة ؟ ألا ، ألا ، أعني ألا تريد أن تعرف ؟
- أعرف ماذا ؟
وهز رأسه كأنه غريق في دوامة ، وأردف يقول : لا أستطيع أن أصدق أبدا ، غير معقول .
ثم رفع رأسه وقال في حدة وهو يضغط على نواجده كأنما يبذل جهدا لكي يمنع نفسه من الانهيار : كيف حدث هذا ؟ كيف ؟ لقد أتيت لألقاها وأُحَدِّثها ، كنت أنوي أن أقول لها أشياء كثيرة .
وصمت مرة أخرى وهو يحاول أن يكبت دمعه ، ويوقف اختلاجة وجهه الباكية ثم أردف يقول : وكنت أحس أنها تود أن تراني .
وعاد مرة أخرى يردد كالمأخوذ : كيف ، كيف ؟
واستدار ببطء وسار في تثاقل متجها الى باب الحديقة وقد بدا وجهه مكفهرا مشدوها ، وسارت نادية وراءه وهي تحس أنها لا تستطيع تركه .
وهتفت متوسلة : تفَضَل استرح برهة ، غير معقول أن تتركنا هكذا ، ابق قليلا من أجل نادية .
استمر مدحت في خطواته المتثاقلة وقد تهدلت كتفاه وانحنى ظهره كأنما حطَّ عليه فجأة عبء أثقل كاهله وهد قواه .
وعادت نادية تقول له في لهجة بين الدموع والرجاء : إذن أسير معك حتى أوصلك .
والتفت مدحت إليها وزفر زفرة حارة ، ثم سألها في صوت مختنِق : أأنت مُنى ؟
- أجل .
- كانت تتحدث عنك كثيرا ، كانت تحبك .
وبلغ مدحت باب الحديقة الخارجي وقبل أن يجتازه التفت وراءه وألقى على البيت نظرة شاملة استقرت على أحواض القرنفل المستقرة على جانبَي المدخل ، ثم تمتم كأنما يُحَدِّث نفسه : كل شيء كما وصفته .
وهز رأسه في أسى وهو يرفع بصره الى الأفق حيث بدت سفوح الجبال تعلوها القمم ، ثم أردف في مَرارة : كان مفروضا أن نصعد الجبل سويا .
وأطلق زفرة ثم تمتم في يأس : كان مفروضا أن نفعل أشياء كثيرة .
وهَمَّ مدحت بالسير لكنه توقف فجأة وتساءل في لهجة مترددة : هل ، هل ، أستطيع أن ، .
وتوقف وبدا كأنه يغالب نوبة بكاء ، وعندما سيطر على خلجات وجهه وكبح دمعه عاد يقول : مُنى ، هل أستطيع أن ، أن أَزورَها ؟
ولم تستطع نادية أن تكبح نَحيبها ، كان منظره وهو يكبت دمعه مثيرا مُرَوِّعا .أجابته بصوت يقطع النشيج سأذهب معك الى هناك .
ورفع مدحت عينيه وأخذ يرقبها في أسى وقال لست أريد أن أزعجك ، صفي لي الطريق .
ورد نادية في إصرار : بل سأذهب معك .
وسارا برهة وسط الحقول ومدحت مطرِق شارد الذهن حتى بلغا الطريق ، وتوقفت نادية برهة ثم قالت وهي تنحدر الى طريق المقابر : إن الطريق طويل بعض الشيء .
ولم يُجِب مدحت
ولكن أطلق تنهيدة مَريرة وهز رأسه هزة المشدوه وتمتم لنفسه قائلا : عجيبة هذه الدنيا ، كان مفروضا أن نطل سويا على هذا الوادي من فوق الجرف .
والتفت الى نادية وتاسءل قائلا : ألا تقع هذه المقابر في أسفل الجرْف ؟
وهزت نادية رأسها بالإيجاب .
وعاد مدحت يتمتم قائلا : كانت دائما تطيل تأملها من حافة الجرْف وراء البيت المهجور ، وكانت تقول لي أن شيئا ما يجذبها الى هناك .
وصمت برهة ثم أردف في صوت خافت وهو يرفع قدميه في تثاقل : ولم أتصور أبدا أن هذا الشيء سيجذبها قبل أن أَصِل .
ولاحت المقابر أسفل المنحدَر ، وأحست نادية عند رؤيتها بما يشبه الغثيان ، وخيِّل إليها أنها توشك أن تسقط ، ولكنها حاولت التجلُد لأنها كانت تود أن تطيل السير معه ، كانت تحس بشيء من العزاء وهي تسير بجواره ولم تُرِد أن تفقد هذا العزاء ، وتمنت لو طال الطريق الى المقابر الى ما لا نهاية ، فبنهايته ينتهي سيرها الى جواره وهو أقصى ما استطاعت أن تصل إليه ، سخرية عجيبة أن يمنحها القدر أعز ما ترجو وأقصى ما تتمنى بهذه الطريقة المذهلة ، أن يجعل أول نزهة لها بجواره زيارة لِقبرها ، أن تكون المرة الأولى والأخيرة التي تصحبه فيها لا يكون لها وجود إلا كمخلوقة ميتة لم يبق منها سوى قبر يُزار ، ولم يَعُد لها من أمل سوى دمعة تُسْكَب أو آهة تصعد .
وانتهى الطريق وانتهت آخِر رحلتها معه ، وانتهى معه آخِر أمل لها فيه ، حتى الأمل الموهوم الذي كانت تَعْدو وراءه لم يَعُد لها فيه مَطْمح ولا مُرْتجى ، حتى الكتابة حتى الأمنية السرابية التي كانت تتعلل بها قد باتت عليها مستعصية .
كيف تكتب إليه بعد أن ماتت ؟
وبدا لها قبر مُنى أو قبرها ، وانحنت عليه تبكي الاثنتين ، أختها ونفسها .
ووقف مدحت فترة يحاول التجلُد والتماسك ، وبدا المكان من حوله وقد تكاثفت به الأشجار وكسته الخُضْرة وهبت نسائم الصباح رطبة تهز فروع الزنبق الأبيض التي أغرقها ندى الفجر وتحمل عبيره في كل هَبَّة من هَبّاتِها الرقيقة العَليلة ، ولم يحس مدحت بوحشة المقابر وبدت الطبيعة من حوله وكأنها تُؤْنِس وَحْشة الموتى ، وتملكه حنين الى الجلوس بجوار الراحلة الموهومة التي أَحبَّها وهَْماً وفَقَدَها وهَْماً ولم يعرف منها إلا وَهْماً في وَهَم .
ماذا يُغْنيه الآن أن يجلس إليها ويُؤْنِس وحشتها ؟
إنها على الأقل أقرب إليه منه في أي وقت مضى ، إنها منه على بُعد خطوات ، ولو صدق حديث الناس عن الروح الباقية لكانت الآن تراه وتحس به وتسمعه ، فلماذا لا يناجيها ويدللها ويقول لها ما لم يجرؤ من قبل على قوله ، يقول لها أنه يحبها ، وإنه جاء لِخطبتها ، وإنه سيأخذها معه الى مصر .
وازدرد مدحت ريقه وبلل شفتيه ، وأحس بنفسه ضعيفا متخاذلَا ، لا يقل ضعفا وتخاذلَا عن هذه الصبية الجاثية فوق القبر .
وهز مدحت رأسه كأنما يحاول أن ينفض عنه ضعفه ، وانتفض في وقفته كعصفور بلله القَطْر ، جنون في جنون وحُمْق في حُمْق ، ألم يَكْفِه كل ما فعل من سخافات وتفاهات ، يغرق في حب موهوم ويقطع كل هذه المسافات من أجل مخلوقة لا يعرف عنها إلا تصورات وخيالات ، من أجل طَيْف أو خيال ؟ وبعد هذا يقف منهارا متخاذلَا في هذا المكان الموحش القصي لِيَهْرِف كالمخبولين ويهذي كالمجاذيب .
- عُد من حيث أتيت وانس كل ما كان من أمرها وأمْرك ، إنها تجربة في وَهْم فكن أشد من التجربة وكن أقوى من الوَهْم .
رفع رأسه وأطلق زفرة حارة وهَمَّ بالتراجع ، وأحست نادية بحركة قدميه على الحشائش فرفعت إليه رأسها والتقت عيناه بعينيها ، وأبصر مدحت الدمع المنساب على وجنتيها المُنْزلق على زاوية شفتيها ، وأحس بوجهها شيئا حبيبا الى نفسه ، شيئا أذابب تجلُّده وفَكَّك تماسكه ، وتملكته رغبة جامحة في البكاء واختنق صوته وامتقع وجهه وتصاعد الدمع الى عينيه ، وعاد يجد نفسه ضعيفا عاجزا ، أَضعف وأعجز من الفتاة الرقيقة الراكعَة أمامه ، وانساب الدمع في سكون على خَدَّيه وتصلب في وقفته وعيناه تحدقان في عينيها والدمع ينهمر من مقلتيه في صمت ، وفجأة أحس بها تندفع إليه لِتدفن وجهها في صدره وتنكمش فيه كأنما تحمي نفسها من خطر داهِم أو تقي نفسها من عاصفة عاتية .
ومد ذراعه يحيط كتفيها في عطف ويتحسس رأسها في حنان وسيل دموعه مازال يتدفق من مآقيه في سَكينة وصمت ، وبعد فترة أحس كلاهما بالهدوء ، ورفع ذراعه بهدوء عن كتفيها ، وانسحبت من صدره في رِفْق وبنفسها إحساس عجيب بالقناعة ، لقد ضمها إليه ، لقد أحست برأسها على صدره ، حسبها هذا فقد فاق كل ما كانت تحلم به ، لقد حنا عليها وكفكف دمعها ، ورفعت إليه عينان تفيضان بالشكر والامتنان ، ومد يده فأمسك كفها وباليد الأخرى قَطَف أحد أعواد الزَنْبَق ووضعه فوق القبر وهمس لِنادية : سأعود في كل عام لِأضع زهرة على قبرها وعندما أعجز عن العودة ضعي لي أنت الزهرة ...
44
وداع له معالِم
غادر مدحت المقابر وكفه مطبقة على كف نادية متخذين طريقهما صوب البلدة وقد خيم عليهما الصمت وكسا ملامحهما الأسى والوجووم ، وكان الطريق يمتد أسفل الجبل وقد انبسط الوادي على يسار صوبه وقام السفح المنحدر على يمينه ،ورفع مدحت بصره الى أكداس الأشجار المتكاثفة فوق السفح ، ووصل الى أذنيه خرير المياه تتدفق بين أخاديده وتتساقط على رُباه ، وتذكر جولاته مع نادية على السفح وانزلاقهما على الجليد وجلساتهما على شاطئ البحيرة وتملكه حنين شديد لأن يطوف بكل تلك الأماكن التي دعته إليها وأن يراها رأي العين لا رأي الوهم والخيال ، وأحس بأنه سيطفئ برؤيتها بعض شوقه ويروي بعض غلته ، وأكثر من هذا أحس بأنه سيحقق لها بعض أمانيها ، سيطوف بكل ما دعته إليه وسيرى كل ما كانت تود أن يراه ، سيجلس فيه ويتحسس حصاه وأحجاره ويشم نسائمه ويجعل منه في نفسه حقيقة ملموسة لا تبهت صورتها من ذاكرته ولا يُمحى أثرها من ذهنه ، سيطوف بالسفح ويمشي على شاطئ البحيرة ولن يحس بنفسه وحيدا ، فسيدعوها هو هذه المرة ، سيدعوها الى موطنها ، الى شجيراتها وأزاهيرها وسيجلس معها على المقعد الحجري وراء المنزل المهجور لِيطل وإياها على الوادي وعلى صفوف المقابر المنتظمة حيث كانت تحس بشيء يجذبها إليها والتي لا شك سيحس هو إليها بنفس الجاذبية .
التفت نصف التفاتة الى الصبية المُطْبِقة بكَفها على كفه وبدا له رأسها وقد لفه الإشارْب وخصلة من الشعر تتدلى على جبِينها وياقة السويتر قد أُحكِمت حول عنقها ، وبدت له مخلوقة قريبة الى قلبه وأحس لها بشعور عجيب من السكينة والارتياح ، ولمح جانب وجهها فأحس برجفة تسري في أطرافه ، لشد ما كانت تشبه أختها ، بأرنبة أنفها الدقيق وحواجبها المقرونة وخصلة الشعر المُدلّا على جبينها ،لولا هذا الإشارْب الذي شُدَّ حول وجهها ولولا هذا الشحوب حول عينيها والحسنة التي في جانب ذقنها ولولا أنه يعرف أن نادية العزيزة قد ماتت لظن أنها هي التي تسير بجواره .وملاعبها وسفوحها وشواطئها .
وعاد صوت الخرير المتدفق فوق السفح يصل الى مسامعه وزاد به الحنين الى مراتع ذكريات نادية
والتفت الى السائرة بجواره وتنحنح كي يجد صوته ، ثم قال في شبه تمتمة : هل ، هل أستطيع أن أصعد الجبل ؟
وأحست نادية برجفة تهزها من أخمصها الى أعلاها ومضت فترة قبل أن تتمالك نفسها لِتستطيع
الرد .
وعاد مدحت يتمتم في شبه اعتذار :أنا أعرف أن هذا ليس وقته ، ولكني أحس بحنين شديد الى أن أطوف بكل ما دعتني إليه نادية .
وازدرد ريقه كالطفل المذنب ثم عاد يقول : لقد تعودنا أن بعضنا دعوات وهمية في رسائلنا ، كنت أدعوها الى النادي للغداء ولعب السكواش وكانت تدعوني معها الى الصعود الى الجبل والسير على شاطئ البحيرة ، إني أكاد أعرف منها كل بقعة هنا وأحس بأني ..
وعاد مرة أخرى ليزدرد ريقه ثم صمت برهة وأردف يتمتم راجيا : إني أحس بلهفة لأن أرى هذه الأماكن التي دعتني إليها ، أحس بحنين شديد إليها كأني سأرى نادية فيها .
وصمت مرة أخرى ، وغلب انفعال نادية قدرتها على الرد .
أحقا يجب أن يرى مراتع نزهاتهما ؟
أحقا سيمنح لها القدر فرصة اصطحابه إليها ؟
وعاد مدحت يتمتم في لهجة المعتذر : لو كنت تسمحين باصطحابي إليها ، إني لا أريد أن أضايقك ولكن ، ولكن ...
يضايقها ، يضايقها باصطحابه الى كعبة أوهامها ؟
يضايقها بمنحها فرصة العمر التي كانت تتوق إليها ؟
يضايقها بإطالة أول وآخِر لقاء يُنعِم القدر به عليها ؟
إنها لم تحس بحاجتها الى شيء قدر هذا الشيء الذي يطلبه منها وأن تطوف به مرة واحدة ، مرة واحدة قبل أن يتبدد كل شيء ، حتى الأمل السرابي الذي كانت تحيا من أجله والأماني الوهمية التي كانت تعيش بها في رسائلها إليه .
ورفعت نادية رأسها إليه وهي تمد يدها الخالية لِتُحكِم الإشارْب حول رأسها وتمتمت بقدر ما سمح لها انفعالها : لن يضايقني أبدا ، ليس لدي ما أفعله .
واشتدت ضربات قلبها وهي تُردِف قائلة بعد فترة صمت : ليس أَحب الى نفسي من اصطحابك الى حيث شئت .
وبد الارتياح على وجه مدحت وهو يتمتم قائلا : لست أدري كيف أشكر لك ، إني بلا شك قد سببت لكم إزعاجا وأعتقد أن لديكم ما يكفيكم .
وأطلقت نادية تنهيدة وأجابت قائلة : بالعكس لقد منحتنا زيارتك كثيرا من العزاء .
- كانت زيارة مفاجئة ، كنت أريد أن أفاجئ بها نادية ولكن القدر كان أسبق مني بالمفاجئة ، مفاجئة قاصمة قاضية .
- قاصمة لنا جميعا .
- لقد كانت تعرف أني سآتي وقالت لي في آخِر رسائلها إنها ربما سافرت .
وتمتمت نادية قائلة : ، أجل ، لقد كنا على وشك السفر قبل أن يفاجئنا مرضها .
- لم تقل لي أبدا أنها مريضة .
- كان أمرا مفاجئا ، نزيف في الصدر لم يمهلها سوى بضعة أيام .
- بلا أي سبب ؟
- إجهاد ، تجديف في البحيرة وعدو و و .
وأطلق مدحت تنهيدة أليمة وقال متمتما : لو عجلت بالمجيء لاستطعت أن أمنعها ولما تركتها تجهد نفسها أبدا .
وكانا قد وصلا الى مفترق الطريق حيث يتفرع الطريق الى طريقين أحدهما يؤدي الى الجبل والآخر الى البلدة .
وتوقفت نادية قائلة وهي تشير الى الطريق المتجه الى اليمين هذا هو الطريق الصاعد الى الجبل .
وبدا عليها التردد برهة ثم أردفت قائلة : أتحب أن نصعد الآن ؟
- إذا لم يكن في ذلك ما يعطلك أو يجهدك أو يضايقك .
- أبدا أبدا .
ومرة \أخرى بدا عليها التردد ثم قالت وهي مطرِقة : ليس أَحب إلي من الصعود معك ، ولكن يخيل إلي أني كان يجب أولا أن أقدم فنجانا من القهوة ، لقد أذهلتني زيارتك الى الحد الذي أفقدني القدرة على التصرف كمخلوقة رشيدة عاقلة والأيام التي مرت بنا كانت أياما سودا تركتنا جميعا بلا وعي ولا إدراك .
- كان الله في عونكم ، لا داعي للكلفة أنا لست غريبا ، لم أكن قط غريبا عن نادية وبيتها وأهلها ، لقد كان ما بيننا شيئا عميقا وثيقا ، لقد كانت كل شيء في حياتي .
وأحست نادية في رعدة تسري في كيانها وبدا الخفقان في صدرها كأنه يوشك أن يَنْفُذ ذ من بين الضلوع وهمست بصوت مختنق : وكنت كل حياتها .
وخطت اتجاه الطريق الصاعد وكَفها في كفه وكأن طيرا يحملها على \أجنحته وينساب بها في يسر ولين .
ووصلا الى منحنى في الطريق وتوقف مدحت وهو ينظر الى درب بين بين الأحراش يختصر المنحنى ويصعد مباشرة الى الجبل وتساء قائلا : أليس هذا الدرب يؤدي الى القمة مباشرةً ؟
وهزت نادية رأسها .
وعاد مدحت يتساءل : وعلى يمينه صخرة توشك أن تنقض ؟
وتمتمت نادية وكأنها تكمل قوله وعلى يساره شجرة بجذعها ثنية كأنها المقعد .
وردد مدحت في صوت خافت كأنما يحدث نفسه : أعرفها جيدا ، طالما دعتني للجلوس عليها لِنلتقط أنفاسنا وفوقها شلال كان يبلل ثيابنا .
وأشاحت نادية بوجهها حتى لا يرى الدموع في مآقيها ، وخطت اتجاه الدرب قائلة : هيا بنا .
واستمرا في الصعود ومدحت يتفقد بعينيه كل بقعة في الدرب ويتلمس كل فرع وكل ورقة كأنما يختزنها في ذهنه ويحفرها في ذاكرته ، ونادية تسير كالمأخوذة الحالمة وبنفسها إحساس الذي يعيش في معجزة لا يصدق إن كان حدوثها فهو \أقرب الى المذهول منها منه الى المستمتع بها وإحساس المبهور بسنا برق غلب يأسه من الظلمة الموشكة بعده انبهاره بسناه الخاطف البراق ، إحساس المغمور في الشفق الأحمر الذي يعرف ما وراء الحواشي الأرجوانية الرقيقة من ليل معتم لا مفر من سواده ولا منجاة من وحشته ، ومع ذلك فهو يحس بالسكينة إليه ولا يستطيع من منع نفسه من العيش فيه حتى آخِر ضوء وحتى يجد نفسه ولا شيء حوله سوى الظلمة المعتمة والفراغ الموحش ، وبهذا الإحساس كانت تسترق النظر الى الشبح الطويل السائر بجوارها القابض بكفه على كفها ، وكان يملؤها نحوه خليط من مشاعر الحزن والرضا والقلق والخوف ، الحزن على حزنه واللوعة على لوعته والرضا والطمأنينة مما أحسته من لهفته عليها وحنينه إليها ، والقلق الدائم الذي كان يحيرها في مشاعره نحوها .
لمن كانت اللوعة التي أصابته لأية نادية ، نادية التي راحت والتي ستنعم بحزنه ولوعته كما نعمت بحبه ولهفته ، أَم نادية الكائنة الحائرة التي لا تعرف موقعها عنده ومركزها في قلبه ؟
لمن كانت هذه الدموع الصامتة المحرقة ؟
لأية نادية فيهما ، لها هي ؟
إنها قطعا لا تستحق منها قطرة واحدة ، حتى دموعه عليها لا تستطيع أن تنعم بها ، حتى موتها عندما قررته لم تجسر أن تأخذ ما منحها من آهات وأنّات ، كل إحساس نالته كانت في شك في ملكيتها له ، حتى أحاسيس اللوعة والحزن لا تجسر أن تتلقاها في ثقة بل حيرة أو شك ، ، وكيف تثق في إحساس تتلقاه وهي لا تثق في من تكون هي بالنسبة لصاحب الإحساس ؟ ولا تملك إلا أن تُطلق أحدى زفراتها وهي تعلل نفسها بحقيقة قائمة هي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع الشك فيه ، وهي أنه موجود بجوارها وأن كفها هي في كفه وأنها تطوف معه كعبة حبها ، تتسلق وإياه الجبل وتسير بجواره على شاطئ البحيرة وتجلس معه كما تعودا أن يجلسا سويا في رحلاتهما الوهمية ، كل هذه حقائق لا جدال فيها ، أما من تكون هي بالنسبة إليه وإلى متى يمكن أن يدوم هذا فأمر لا معنى لِمناقشته ، إنها هي هي ، وأما الى متى تدوم فإن لحظات دوامه أقصر من أن تضيعها في التساؤل عن نصيبها من الدوام .
ووصلا الى قمة الجبل وبدا شاطئ البحيرة أملس ساكنا ، قد انعكست فيه صور الأشجار المحيطة تهتز في خفة كلما هبت نسمة أو سقطت فيه ورقة .
ووقف مدحت يرقب المنظر في صمت مأخوذ ، واسترق البصر الى خصلة الشعر المطلة من الإشارْب وأرنبة الأنف الدقيقة التي بدت من جانب الوجه ، وأحست نادية بنظراته المسترقة ومدت يدها في حذر تشد الإشارْب على عنقها .
وتساءل مدحت في صوت خافت وهو يرنو الى البيت المهجور في الناحية الأخرى من البحيرة : أنستطيع أن نطوف حول هذا البيت ؟
وهزت نادية رأسها بالإيجاب .
وأردف مدحت قائلا وهما يسيران باتجاه البيت : أريد أن أرى الكوخ والمقعد الحجري .
وأردفت نادية تتم قوله : والوادي الأخضر والمقابر البِيض المصفوفة .
ووراء الدار بدا الوادي ممتدا أسفل الجرف العميق ، ووقف الاثنان يرقبان الوادي الفسيح وقد بدت منه الدور والأشجار كأنها دمى الأطفال .
أحس مدحت بالغثيان وهو ينظر الى الهوة العميقة وقد بدت المقابر الصغيرة مصفوفة في أسفلها ، وشد على يد نادية وهو يتراجع وقد بدا في عينيه حزن عميق ويأس مرير وهمس بها قائلا : كانت تخاف منها ، كانت دائما تحس بشيء يجذبها إيلها ، وكانت دائما تحدثني عن الفارسة التي ألقى بها الجواد من هذه الهوة .
وهز مدحت رأسه وهو يكبت دموعه وأردف يقول : ولم يخطر ببالي قط أني عندما أقف سأجد الهوة ابتلعتها وأجد خوفها قد تحقق .
ودار الاثنان حول البيت وطافا بشاطئ البحيرة مطرقين حزينين قد أغرقهما الأسى واليأس ، ثم أخذا بالانحدار الى الطريق المؤدي الى بيت نادية ، ووقف الاثنان وخيم عليهما الصمت ، وبدا مدحت في انفعاله وأساه كأنما يبحث عن كلمات يقول بها معنى للشكر والوداع .
وقبل أن يفتح شفتيه لِيتكلم قالت نادية في تردد ووجل : أما كان يجب أن أدعوك الى البيت لِتناول فنجانا من القهوة ؟
وشد على يد نادية قائلا : لا ، يكفي ما فعلتِ من أجْلي .
- لست أشعر أني قد فعلت شيئا .
- كل هذا أجهدتك به ولم تفعلي شيئا ؟!
- كنت أود أن أفعل شيئا أكثر ولكني أحس بنفسي عاجزة ولست أعرف ما يمكن أن أفعل .
- عودي الى البيت واستريحي ، لقد دفعتني لهفتي على لقائها الى حماقة الأطفال فحضرت إليكم وخدم الفندق مازالوا نياما ، والبلدة كلها لم تستيقظ بعد ، لا شك أني أخرجتك بلا أ=إفطار .
- وأنت أيضا لم تتناول إفطارك ، كان يجب أن أدعوك الى الإفطار في البيت ولكن البيت يبدو مزعجا ومشوشا ، ولقد تركتنا الكارثة أشبه بالعجزة لا نستطيع أن نستقبل إنسانا ، إني أشعر بالأسف لأني ..
وقال مدحت وهو يهز رأسه : ليس هناك أبدا ما يدعو للاعتذار ، أنا أقدر جيدا ظروف الصدمة وسأعود الى الفندق لآخذ حقائبي وأرحل بأول قطار.
وأحست نادية بشيء يعتصر قلبها وقالت في شيء من التردد والوجل : أظن أول قطار الى فين لن يقوم قبل ساعتين ، أستطيع أن أدعوك الى تناول الإفطار في النادي ثم أوصلك الى المحطة بعد ذلك .
- لا لا ، لست أريد أن أثقل عليك أكثر من هذا ، أرجوك كفى كل ما فعلتِ .
- ليس هناك أبدا ما يثقل علي .
- ولكني أستطيع أن أتناول الإفطار في الفندق ثم أرحل من هناك الى المحطة ، فلماذا أسبب لك كل هذا الإزعاج ؟
وأطرقت نادية وقالت في صوت مختنق : ليس هناك إزعاج ، إني أحس أني أفعل شيء من أجل نادية .
وصمتت برهة تحاول كبت دموعها ثم اردفت تقول : شيئا ، كأن نادية تتمنى لو فعلته لك .
ورمق مدحت الوجه الصغير الملتف بالإشارب وقد ملأ الأسى ملامحه والتقت عيناه بعينيها المليئتين بنظرة رجاء وتوسل .
واجتاح مدحت ذلك الشعور العجيب بالألفة نحو الصبية الراجية ، وأبصر بوجهها ذلك الشيء الحبيب الأليف الذي يحس به كلما رنت إليه بعينيها .
ولم يملك إلا أن يطرق ثم يجيب : هيا بنا .
وجلس مدحت في النادي أمام نادية وبدا له المنظر من وراء النافذة الزجاجية العريضة محببا مألوفا كأنما قد تعود الجلوس إليه كل يوم ، الأسقف الحُمْر المنحدرة ، والمداخن التي بدأت أنفاسها تتصاعد ، والأشجار الملتفة المتكاثفة ، ووراء كل هذا جدار ممتد من الجبال ذات القمم البِيض ، الجدار الذي كانت تحس نادية أنه يقف حائلا بينها وبينه ، والتي كانت تتخيل من ورائه النيل العريض ينساب في هدوء والمزارع الخضر تنبسط ممتدة بلا حدود إلا التقاء الأفق بالسماء .
وتمتم مدحت وهو ينظر من الشرفة : كانت نادية تحب هذه الجلسة ، كما كانت تحب الجلسة المماثلة في مصر الجديدة ، كانت دائما تقارن بين شجرة الكافور القائمة بجوار النافورة وشجرة السنديانة القائمة وراء هذه الشرفة .
وردت نادية بنفس اللهجة الشاردة : كانت نادية ...
وصمتت ولم تقل شيئا ، وعادت تردد في أسى وحزن : كانت نادية وكانت وكانت .
وأحس مدحت أنه قد نَكَأَ في نفسها جرحا فتمتم في أسف : لم أكن أحب أن أُولمك .
وهزت نادية رأسها وهي تكبت دمعها : أبدا إن هذا لا يُؤلمني .
وانتهى الإفطار ، ووقف مدحت لِيمد يده مودعا نادية ، ولكنها هزت رأسها قائلة : سأذهب معك الى المحطة .
- لا داعي أن تتعبي نفسك .
وقالت نادية في إصرار حزين : سأذهب معك .
وسار الاثنان في صمت منحدرين الى الطريق المؤدي الى الفندق وعندما عبرا سكة الحديد تساءلت نادية : أتسير في الطريق الرئيسي ؟
وقال مدحت متنهدا : كما تشائين .
- مازال أمامنا متسع من الوقت ، هل لديك شيء تريد أن تعمله ؟
- أبدا لم يكن لدي هنا من شيء سوى نادية .
وكانت البلدة قد استيقظت والحوانيت قد فتحت أبوابها ، ووصلا الى الميدان ثم انحدرا في الطريق المؤدي الى المحطة ، وبنادية إحساس السائر في جنازة المشيع لِنعش ، وكانت الجنازة هذه المرة جنازتها هي والنعش نعشها ، كانت تحس أن الحواشي الأرجوانية تنقرض وأن كل خطوة تخطوها الى المحطة تحملها الى الليل المعتم الموحش الذي لا فجر له ، كان الشيء الباهر البراق يوشك أن ينطفئ كأنه الذبالة تترنح في مهب الريح ، كانت الحقيقة الوحيدة التي استمتعت بها توشك على الانتهاء ، الحقيقة المؤكدة أنها هي هي وأنه هو هو ، وأنهما يسيران معا جنبا الى جنب لِيطوفان بجنة أحلامهما وكعبة أوهامهما ، وبعد ذلك لا شيء ، لا حقائق ولا أوهام ، لن تعود هي هي ، لإنها هي قد ماتت ، ولن يعود هو هو لأنها قد انمحت من عالمه ، ولن يعود بينهما شيء ، لا كتابة ولا دعوات ولا آمال سرابية ولا أحلام براقة ، لا شيء إلا أحزانه على ،، على من ، عليها ؟
أبدا ، فالراقدة في القبر هي الأحق بأحزانه ، وهي الأحق بزهرته التي سيأتي كل عام كي يضعها على قبرها ، يا للقدر العجيب ، يحرمها حتى نعمة الرثاء والبكاء ؟! يحرمها حتى من زهرة على قبرها !؟
وبلغ الاثنان الفندق ، وانتظرت نادية في وجومها الشارد وصمتها الحزين حتى هبط الخادم بالحقائب ، وقبل أن يطلب منه مدحت حملها الى المحطة مدت نادية يدها فحملت الحقيبة الصغيرة قائلة : لا داعي للحمال سنحملها الى المحطة معا .
وحمل مدحت الحقيبة الأخرى ، وسارا الاثنان الى المحطة .
ورفع مدحت عينيه لِيرقب بناء المدرسة وأشار الى إحدى النوفذ وتساءل بأسى : أهذه هي نافذتها المطلة على فناء المحطة ؟
وأطرقت نادية وهي تغالب دمعها .
وعاد مدحت يتساءل وهو يشير الى السنديانة : وهذه السنديانة التي تحنو على المحطة بذراع وتبتهل للسماء بالأخرى .
وعلى المقعد الخشبي بجوار كشك المحطة استقر الاثنان وقد خيم عليهما سكون عجيب ، وفجأة علا صفير وأحست نادية من صفيره بما يشبه طرقات المعول على فتحة القبر .
وأقبل القطار يتهادى حتى وقف في فناء المحطة ، وأقبل الحمال العجوز يحمل الحقيبتين لِيضعهما في القطار ، ونظر الى مدحت رافعا حاجبيه الأشيبين الكثيفين في تساؤل ودهشة : لم تمكث سوى سواد الليل ، ألم تجد ما جئت من أجله !؟
وهز مدحت رأسه وقال كأنما يحدث نفسه : وجدته رحل .
ووقف مدحت بقامته الطويلة ومنكبيه العريضين والأسى يملأ وجهه والحزن يفيض من عينيه ، وشد على يد نادية في صمت ، وازدرد ريقه وهو يحاول أن يكبت انفعاله ، ولم يعرف ماذا يقول .
وأحست نادية أن الثواني القادمة هي خاتمة المطاف ، وأن أنفاس القطار اللاهثة ستحمل معها كل شيء ، وتركت يدها تستقر في راحته في سكينة يائسة .
ومدحت ونادية واقفان في صمت عاجز وكل منهما يحاول التماسك والتجلُّد ، وفجأة علت دقات ، لم تكن دقات جرس المحطة ولكنها دقات تنبعث من بعيد ، دقات واضحة محدودة تنساب الى النفس انسيابا متصلا عميقا ، وأحس كلاهما من الدقات البعيدة المنسابة بشيء يذيب قلبه ويفتت فؤاده ، لقد انبعث اللحن العجيب من نافذة المدرسة لِيصهر كلما حاولاه من تجلد ويهزم كلما استعانا به من مقاومة .
ومرة أخرى انساب الدمع من عينَي مدحت في صمت وهو يقول في صوت مختنق : أتسمعين فالز الوداع؟ كانت دائما تطلب مني أن أسمعه .
واندفعت نادية في نشيج هز كل بدنها .
ودق جرس المحطة مرة أخرى وعلا صفير القطار ، وصاح الحمال بمدحت : اصعد القطار قبل أن يرحل بحقائبك .
وسار مدحت الى القطار محني الهامة مهدل الكتفين ،، ووقف من النافذة لِيلوح لِنادية .
ووقفت نادية ترقبه يتباعد من خلال دموعها وتلوح له مودعَة ، وانساب اللحن المتقطع الحزين يختلط بصفير القطار وطرقات عجلاته على القضبان ، والقطار يتباعد وأخيرا اختفى القطار ، وخفتت الأصوات وانتهى كل شيء وعادت كأنها الشبح الساري وهي تحس أنها قد ودعت حياتها ، وكان وداعها هذه المرة وداعا له معالم ...
45
أمر تكليف
انساب القطار بمدحت من المحطة الصغيرة ، واستمر يلوح للفتاة ذات الإشارْب وقد بدت وهي تلوح بيدها كتمثال للأسى والحزن واليأس ، وأخذ شبحها يتضاءل رويدارويدا، ومدحت يرقبه في ذهول ، وهو يحس أن الحوادث قد مرت به بطريقة خاطفة مذهلة وكأن المسألة كلها حلم مروع ، وود لو يتمهل القطار فلا ينتزعه من البلدة العزيزة بمثل هذه السرعة والعنف ، وود لو يتوقف القطار لِيعود الى الفتاة الحزينة الرقيقة لِيقول لها شيئا أكثر مما قال ، لِيعبر لها عن أ=حزنه وأسفه بأوضح مما فعل ، لقد فاجأها بزيارته كأنه شبح ، ثم مضى بها بصمت ووجوم بين المقابر ، وأخذ يجوب معها الجبل والمدينة ، ثم انساب منها الى المحطة واختفى به القطار كأن لم يكن .
وتباعد شبح المحطة بالسنديانة الضخمة وأخذت الأسقف الحمر المنحدرة تنكمش وتتضاءل ، واتسع الأفق وانبسط صدره حتى ضاعت فيه معالم البلدة ، واستقر مدحت على المقعد مجهدا ومضت به فترة ذهول كأن ذهنه أصابه شلل أعجزه عن التفكير ، ثم أحس بشبح يقف أمامه وبدا له كأنه يسأله شيئا ، .
ورفع إليه عينيه وبدا في زيه مفتش التذاكر ، وأحس مدحت كأنه عاجز عن التصرف ، لا يريد أن يسأله أحد شيئا أو يكلفه بشيء ، وطالت وقفة الرجل ومدحت مغرق في عجزه المشلول لا يتمنى شيئا أكثر من أن يتركه الناس في صمته ووحدته .
وتحدث الرجل ، وأحس مدحت أن عليه أن يجيب وأن يتصرف وأن يقاوم هذا اليأس المشل ، فهو يتحرك في قطار في بلد غريب ومازالت أمامه رحلة طويلة عليه ان يجابه كل ما فيها من التزامات ومشكلات ما بين مواصلات وإقامة وإبدال عملة و و ، ومد يده في جيبه فأخرج دفتر تذاكر حصل عليه من مكتب السياحة في القاهرة وسلمه للرجل .
وقلَبَ الرجل الدفتر ثم سأله : الى أين ؟
الى أين ؟ لقد كان في ذهنه برنامج لرحلة طويلة ممتعة مليئة بالأماني الرائعة والآمال العريضة ، لكنه أحس أن دعامة الأماني قد تقوضت ومحور الآمال قد زال والبرنامج الممتع قد بهت في ذهنه حتى انمحىَ ، الى أين ؟ كان المفروض أن يذهب الى لندن لعلاج معدته ، ولكن هذا لم يكن إلا إطارا لبرنامجه وتبريرا لرحلته ، أما الغرض الرئيسي فكان نادية ، كان قد صمم في ذهنه على أن يخطبها ، ثم يسألها ماذا تريد منه أن يفعل ، يبقى معها في كاب ؟ يرحل بها الى سويسرا ؟ يذهب الى لندن ثم يعود إليها لِيرجعا الى القاهرة ؟
أشياء كثيرة كان يمكن أن يفعلها بعد أن تقرها هي ، ولكنها هي نفسها لم يَعُد لها كيان ، وعليه أن يقرر الى أين يحمل نفسه ، لو استطاع لبقي حيث رقدت ، لقد كان عليه أن يفعل ذلك أو يبقى على الأقل بضعة أيام ، ولكنه وجد نفسه يفر من البلدة خائفا مذعورا .
والآن عليه أن يجيب الى أين ، الى لندن لِيعالج معدته ، أحقا هو يريد علاجها ، أيحتمل بقية الرحلة وملل العلاج ورقدة المستشفى ؟
لا لا ، إنه يستطيع أن يعيش بمعدته كما عاش دائما ، ولكن ماذا يقول لهم في القاهرة ، يقول لهم إنها ماتت ، مَنْ هي ؟
الطيف الذي لم يره مرة واحدة ساكنة الألب التي كانت حياتها معلقة بكلمة منه ، فلما أقبل عليها وجد أن حياتها قد ضاعت وأحلامه قد تبددت .
وكان الرجل مايزال يقف أمامه ممسكا بالدفتر فعاود السؤال : الى أين ؟
ورفع مدحت كتفيه قائلا في نبرة يائسة : الى جنيف .
أجل ليس أمامه الآن سوى هذا ، ينزل في فين حيث هبط أول مرة ، ثم يأخذ نفس القطار الذي هبط منه حتى يصل الى جنيف ، ومن هناك يأخذ طائرة الى أي مكان في يستقر عليه رأيه ، إما الى لندن أو القاهرة .
وانصرف عنه الرجل بعد أن أعاد إليه الدفتر ، ومرة أخرى عاد الى شروده اليائس وذهوله الحزين ، واستمر القطار ينهب به الأرض دون أن يعي شيئا مما حوله ، ودون أن يميز وجها من الوجوه المحيطة به أو منظرا من المناظر الأخاذة التي يمر بها القطار وسط الجبال .
ووصل الى فين ولم يطل به الانتظار حتى أقبل القطار المتجه الى جنيف ، وتحرك القطار مرة أخرى بمدحت تاركا فين وهو مستلقٍ في مقعده ، في جلسته اليائسة العاجزة وعيناه قد شردتا بعيدا بين القمم البِيض التي تلوح وراء النافذة الزجاجية ، ولم يَعُد مدحت يحس بتفاصيل المرئيات أو يأبه لمر الزمن ، كان يجلس في صمته الكئيب ونظره معلق بالأفق ، لا يأبه لوقفة القطار أو لِسيره ، ومرت به المحطات وهو يحملق بلافتاتها بلا وعي ، واجتاز القطار كرينوبل عبر الحدود الفرنسية ، ومد مدحت يده بالجواز في حركة مستسلمة عاجزة ، وفحصه البوليس ثم أعاده إليه ، واستغرق مدحت بعدها في سكونه المطبق وشروده التائه ، حتى توقف القطار به أخيرا في جنيف ، أيقظه الضجيج من شروده ، وبدت له المحطة واسعة صاخبة ، وتمنى لو بقي في مقعده وأحس بالعجز عن التصرف وسط هذا الخضم المتلاطم من البشر ، الحافل بكل جنس الناطق بكل لغة ، ومضت برهة وهو ينظر الى الأفواج السائرة في المحطة نظرته اليائسة المكتئبة ، وهو يتمنى لو أغمض عينيه وفتحهما لِيجد نفسه على فراشه في البيت أو أمام منضدة العمليات في المستشفى ، أجل لقد أحس بحنين الى مرضاه وأدوات جراحته ، إنه سيجد فيها شيئا يملأ نفسه اليائسة الحزينة وذهنه المكدود العاجز ، وتسللت الى نفسه بعض الحياة وأحس بالرغبة في المقاومة ، مقاومة ذلك الشلل المعنوي الذي تركه عاجزا مقهورا ، ونهض من مقعده وحمل الحقيبتين بكلتا يديه ثم اندفع من باب القطار وهبط على الرصيف ، وتناول منه أحد الحمالين الحقيبتين فوضعهما فوق عربة صغيرة كُدِّسَت فوقها الحقائب ثم أعطاه تذكرة برقميهما وتركه وسار بالعربة ، واجتاز مدحت فناء المحطة ووقف في الصف لِيستبدل بعض أوراق النقد بفرنكات سويسرية ، وبعد لحظات كان يقف أمام أحد التكسيات بحقيبتيه على الرصيف وقد توقف الحمال بجوارهما .
وسأله سائق التاكسي : الى أين ؟
الى أين ؟ كلهم يسألون الى أين ؟
الى القاهرة ، الى حجرة العمليات بمستشفى الدمرداش ، هل يستطيعون نقله الى هناك في الحال ؟
إن مرضاه في حاجة إليه لِيدفع عنهم خصمه وخصمهم الذي لا يجرؤ على مواجهته سواه ، خصمه المروع الذي تعود الأطباء أن يهربوا منه ، ويعللوا مرضاهم عن مكافحته بالأشعة أو الكهرباء أو الرمال التي يدفنون فيها رؤوسهم وجثث مرضاهم .
ومرة أخرى سأله سائق التاكسي : الى أين ؟
- الى أقرب فندق .
- أقرب فندق لا يحتاج الى عربة .
ثم رفع سبابته مشيرا الى بنائين يواجهان المحطة وقال : عليك أن تختار أحدهما .
ورفع الحمال الحقيبتين قائلا : سأحملهما الى هناك .
وسار الحمال يتبعه مدحت حتى وصل أمام باب أحد الفندقين ، وتسلم الخادم الحقيبتين ، واتجه مدحت الى مكتب الاستعلامات ، وحياه الرجل الواقف وراء المكتب في رقة ، ثم مد يده بورقة مطبوعة لِيملأ مدحت ما بها من بيانات ، وتردد مدحت لحظة قبل أن يملأ البيانات ، ثم سأل الرجل : هل أستطيع أن أعرف بعض المعلومات عن مواعيد الطائرات ؟
- الى أين .
مرة أخرى الى أين ؟
وأجاب مدحت في تردد : الى القاهرة أو لندن .
وأشار الرجل الى مقعد بجوار المكتب قائلا : تفضل لحظة واحدة وسأخبرك بما تريد .
وقال مدحت وهو يجلس على المقعد في قلق : وأريد أن أعرف هل يمكن الحجز ؟
وهز الرجل رأسه وهو يرفع سماعة التليفون ، ولم يطل حديث الرجل حتى وضع السماعة قائلا : الى لندن ستقوم أحدى طائرات السويسإير في منتصف الليل ويمكن الحجز فيها على أن تنبئهم خلال نصف ساعة .
ومرت بمدحت لحظة وجوم وتفكير ، وما لبث أن تساءل : والقاهرة ؟
- القاهرة ستقوم طائرة بعد ساعة ولكنها كلها محجوزة .
- والتي تليها ؟
- غدا في نفس الموعد .
وصمت مدحت وأشار الرجل الى النموذج المطلوب ملؤه ، وأخرج مدحت قلمه لِيكتب البيانات .
الى أين يذهب الى لندن ، هل لديه الصبر على الرقاد والقدرة على الاستسلام للعلاج ؟ لا لا لا ، إنه لا يستطيع ، إن الوحشة ستقتله قبل أن تُشفى معدته ، إنه يريد أن يفعل شيء يشغله عن التردد والتفكير ويوقفه عن الاستسلام العاجز اليائس القاتل ، إنه في حاجة الى المقاومة ، ورقدته المريضة لن تمنحه أي مقاومة ، أما الشيء الذي يمنحه إياها فهو النضال والكفاح ، لو استطاع أن يرتدي إحدى تلك البِدَل الكاكية ويُمسك بالسلاح ويفعل كما فعل هؤلاء الطلبة الذين لقيهم قبل سفره لكان ذلك خير علاج له أو إذا لم يستطع فليُمسك سلاحه ولِيستأصل خصمه التقليدي السرطان .
ودق جرس التليفون بجوار الرجل الواقف وراء المكتب ينتظر في أدب .
ورفع الرجل السماعة وأجاب متسائلا : الذاهبة الى القاهرة ، انتظر سأرد عليك حالا .
ثم وجَّه الحديث الى مدحت قائلا : مكتب السويسإير يقول إن أحد الك=ركاب التي ستذهب الى القاهرة قد أعاد التذكرة ويسأل هل تريد أن يحجزوا لك المحل ؟
القاهرةبهذه السرعة ؟ أيمكن أن يشرق عليه أول شعاع للشمس بين ربوع القاهرة ؟ ماذا يقولون عنه وماذا يقول لهم ؟ و ..
ونظر إليه الرجل نظرة استفسار متعجلة .
وبلا إرادة أجاب : أجل .
ومعدته لقد باتت أسوأ مما كانت ، إن الصدمة التي تلقاها والأحزان التي أُغرِق فيها لا شك قد جعلت القرحة الموهومة قرحة حقيقية .
واستمر جدله مع نفسه ، جدلا داخليا سلبيا ، واستمرت إجراءات السفر عملية إيجابية ، حُجِزَت التذكرة ووضِعَت الحقيبتان في العربة وانطلقت العربة الى المطار واتُخِذت إجراءات السفر طريقة سريعة خاطفة ، وأخيرا وجد نفسه قد استقر على مقعده في الطائرة والجدل الداخلي السلبي مازال دائراً ، أي حُمْق أعاده الى القاهرة ؟ لماذا لم ينتهز الفرصة لِيطير الى لندن ؟ لماذا تركته الصدمة عاجزا خائرا ؟ ولكن لماذا يستمر في السفر إنه يعرف أن أصل السفر كانت هي ، هي وحدها التي دفعته الى هذه الرحلة ، لقد بدأت على الخريطة بالخط الذاهب من مارسيليا الى كاب ، ذلك هو الخط الأساسي في رحلته وبعد ذلك رُسِمَت بقية الخطوط لِتعطي الرحلة شكلا مستساغا ومظهرا معقولا .
ثم كيف يسافر في هذه الظروف الدولية القلقة ؟
الظروف الدولية ، ومنذ متى كان يعترف هو بالظروف الدولية أو يحس بها ؟
أتُرى هذه الظروف الدولية القلقة لم تظهر له غير الآن ، ألم يقولوا له جميعا إن هذه ليست ظروفا ملائمة للسفر ؟
ولكنها كانت موجودة ومن ئأجلها كان يمكن أن يصبح كل شيء ملائما .
ودار محرك الطائرة وأحس مدحت بالأرض تنزلق تحتها ، بدأت الطائرة ترتفع في تؤدة وأبنية المطار تنكمش وتتضاءل كما انكمش بناء المحطة في كاب وتضاءلت شجرة السنديانة ، ولم يتسع الأفق وحده هذه المرة وإنما استسعت رقعة الأرض كلها مبرزة آفاق جديدة وراء حافة الأفق ، واسترجع مدحت بصره من النافذة الزجاجية بعد أن بهت ما وراءها من معالم ، واختلط ما بها من مرئيات وأضحت لا تطل العين منها إلا على مساحات ضخمة من الزرقة والخُضْرة والبياض ، استرخى مدحت في مقعد الطائرة وأسند رأسه الى حافته اللينة ثم أغمض عينيه ، وتواترت في ذهنه حوادث اليوم ، اليوم ، اليوم فقط ؟
أيمكن أن يكون كل هذا حدث اليوم فقط ؟
أيمكن أن يكون يومه هذا هو نفس اليوم الذي أشرق فيه أول شعاع عليه في كاب ، الشعاع الذي ملأ نفسه بالأمل والتفاؤل ؟
أهذا اليوم الذي وقف فيه لِيرقب من نافذة الفندق أول منظر تقع عليه عيناه في كاب ، منظر الجبال الرائعة بسفوحها الخُضر وقممها الناصعة ؟
أيمكن أن يكون صباح اليوم هو نفس الصباح الذي لم يطق من فرط ما به من سعادة وفرح أن يصبر فيه حتى تستيقظ البلدة فانطلق كما ينطلق الأطفال في يوم عيد لِيطرق بابها طيش وخفة حتى يفاجئها بزيارته ، وحتى يكون أول شيء تقع عليه عيناها في هذا الصباح ؟
غير معقول أن يكون ذلك قد حدث هذا الصباح ، إنه يتصور قد ححدث منذ شهور أو سنين ، إن حوادث كثيرة قد حدثت بحيث لا يمكن أن يتسع لها يوم واحد ، واستمرت الحوادث تترى على ذاكرته ، واستمرت الطائرة تشق الفضاء ، وأخيرا أغفى .
ومرت به رحلة الجو بين إغفاءة يقظى بأحلام النوم ونوم مثقل بأحلام اليقظة ، وهو في نومه ويقظته لا تفارقه اللوعة ولا ترحمه الفجيعة واليأس .
وأخيرا هبطت الطائرة في مطار القاهرة ، وغادر المطار دون أن يحس به أحد أو يميزه مخلوق ، وبعد برهة كان يطرق باب البيت وكان يقف أمام أمه التي شهقت مشدوهة ، وأقبلت عليه تضمه ودموعها تنساب على خديها ، وتضاحك وهو يربت ظهرها وينبئها أنه قد عاد فجأة لأن الطبيب الذي كان سيعالجه قد أبرق إليه في جنيف لِيخبره ان ظروفا قاهرة قد اضطرته الى السفر الى أمريكا .
وحمدت أمه الله على عودته ، وسألته ألا يعاود السفر مرة أخرى حتى يأخذها الله الى جواره لأنها لم تعد تحتمل وجيعة فرْقته بعد هذا .
ولم يمكث مدحت في البيت إلا بقدر ما استحم وأراح جسمه المرهق المكدود ، وقبيل الظهر كان يصعد درج المستشفى متجها الى مكتبه ، وقبل أن يستقر على مقعده وراء المكتب اندفع الباب وبدا جاد الله منه وعلى وجهه علامات الدهشة والذهول وهو يهتف متسائلا : ما هذا ؟ ما الذي جاء بك ؟ وكيف حضرت ؟ ولماذا لم تكتب لي ؟ ماذا حدث ؟
اندفع سيل الأسئلة يتدفق من شفتيه ومدحت ينظر إليه في وجوم ، وأحس جاد الله خيفة من وجوم مدحت وصمته ، وأحس من ابتسامته الباهتة التي توشك أن تفر من شفتيه أن حدثا لابد أن يكون قد وقع ، هذه العودة المفاجئة والوجه الذابل والسيماء الحزينة لا يمكن أن يكون وراءها خير .
وتوقف سيل الأسئلة وخبا حماس جاد الله ، واقترب من مدحت في خطوات بطيئة ، وتساءل في صوت خافت : ما بالك ، ماذا بك ؟
ورفع مدحت كتفيه في شيء من الاستخفاف وأجاب وهو يحاول إعادة الابتسامة الى شفتيه : لا شيء ، لقد عُدْت .
- حمدا لله على السلامة .
ثم صمت لحظة وأردف معيدا تساؤله : ولكن لماذا عُدْت ؟
وهبط مدحت مسترخيا على مقعده وعاد يرفع كتفيه بنفس الحركة المستخفة وقال : عُدْت لأني أردت أن أعود .
- ولماذا أردت أن تعود ؟
ولم يجب مدحت ، وبدا من خلجات وجهه كأنه يقاوم انفعالا يوشك أن يفيض به ويغلب هدوءه ويقهر مقاومته .
وانحنى جاد الله أمامه فوق المكتب وتساءل في شيء من السخرية : لماذا أردت أن تعود ؟ إنك ذهبت لكي تذهب لا لكي تعود ، أَم تراك قد ظَلَلْتَ الطريق الى كاب ؟
استمر مدحت يقاوم انفعاله وهو ينظر في شرود الى جاد الله ، وأحس جاد الله أن شيئا يضطرم في باطنه فازدادت انحناءته وتساءل في لهجة أكثر جدة وأشد حنانا : مالك يا مدحت ؟ لماذا لا تنطق ؟
ولم يجب مدحت .
وعاد جاد الله يتساءل فيما يشبه الهمس : هل رأيتها ؟
وهز مدحت رأسه في شرود بالنفي .
واستمر جاد الله في تساؤله الخفيض : لماذا ، أكانت قد سافرت ؟
وعاد مدحت يهز رأسه بطريقته الذاهلة .
وازدادت دهشة جاد الله وأخذ يلح في تساؤله : إذن لماذا لم تَرَها ، أرفضت لقاءك ؟
وانطلقت نفخة ممرورة من أنف مدحت واستمر صمته الواجم الحزين .
وأخذ جاد الله يرقب ملامحه وقسمات وجهه ثم طاف بذهنه خاطر جعله يبدو كأنه قد وجد الإجابة ، وانحنى على مدحت وهو يتساءل في حذر : ألم تجدها ، أعني وجدتها خدعة ؟
ورفع مدحت عينيه وأطلق زفرة حارة ثم خرجت الكلمات من شفتيه تقْطُر أسى وهمس وكأنما يحدث نفسه : بل وجدتها حقيقة ، ولكنها حقيقة زائلة .
- ماذا تعني ؟
- وجدْتها ماتت .
ولم تستطع مقاومة مدحت أن تحجب الطبقة اللامعة من أن تكسو مقلتيه وهو يحدق في وجه جاد الله .
وهتف جاد الله كالملسوع : ماتت ، غير معقول !!!
وأطرق مدحت وأخفى جبينه وعينيه في كفه وبدأ رأسه يهتز .
وذهب جاد الله فأغلق الباب وجذب مقعدا وجلس بجوار الجسد القوي والملامح الصارمة التي رآها لأول مرة تنتحب في ضعف وخور .
وهز جاد الله رأسه كالمذهول وهو يحدث نفسه : عجيب ، غير معقول غيرم ممكن .
وطُرِق الباب وربت جاد الله على كتف مدحت المهتز قائلا : مدحت لا فائدة من هذا ، لقد كنت دائما تكره البكاء والضعف ، تجلَد .
وعاد الباب يُطرَق ، ونهض جاد الله لِيفتح ، وجفف مدحت عينيه بكفه وضغط على جبينه بشيء من العنف ، وبدا أحد الكَتَبة بالباب وتسلم منه جاد الله خطابا ثم أغلق الباب وعاد الى مدحت ، وعيناه تجري بين سطور الخطاب بطريقة خاطفة ، وهز كتفيه ثم قلبَ شفته السفلى وقذف بالرسالة على المكتب وهو يقول : أمر تكلييف من القوات المسلحة .
وأطلق مدحت زفرة ، ثم أخرج منديله وجفف به عينيه وأنفه ، وتساءل وهو ينظر الى الخطاب الملقى على المكتب : لِمَنْ ؟
- لنا جميعا ، أنا وأنت ورشاد ومحمود .
- وماذا سنفعل ؟
- نقدم أنفسنا لرئاسة الخدمات الطبيَة .
- وبعد ؟
- أظنهم سيحولوننا الى مستشفى الجمعية الخيرية بالعجوزة فقد استولى عليه الجيش .
وهز مدحت رأسه في ضيق وملل وتساءل : لماذا ، لِمَ كل هذه اللخبطة ؟
- تنفيذا لأوامر التعبئة .
وأطلق مدحت زفرته عوعاد يتساءل في حدة : تعبئة لأجل من ، ألم تنتهِ المسألة ، أليس مفروضا أن يجتمعوا بعد عدة أيام ؟
- أجل .
- إذن لماذا كل هذه الاستثارة ، لماذا لا نهدأ ونترك أمورنا تجري في هدوء ، لماذا يستولي الجيش على مستشفى كمستشفى العجوزة والبلد بحاجة الى سرير في مستشفى ؟
وأزاح مدحت الخطاب بطرف أصابعه في ضيق وقال : لن أذهب .
- غير معقول ، لماذا ؟
- المفروض أني مازلت مسافرا ، إن إجازتي لم تنتهِ بعد .
- لقد ألغوا جميع الإجازات .
- وكيف كان يمكنهم أن يلغوا إجازتي وأنا في كاب ؟
- الذي حدث أنك الآن في القاهرة ولست في كاب .
- إن لدينا مرضانا وعملياتنا ، ليس لدينا وقت نضيعه .
وربت جاد الله ذراع مدحت وقال في رفق : على أية حال يجب أن تعود الى البيت لكي تستريح ، إن أعصابك لا شك مرهقة وأنت في حاجة فعلا الى الراحة .
ورد مدحت في عصبية وحدة : إنرالراحة تقتلني ، لقد عدت الى القاهرة لأني أريد أن أهْرُب من التفكير الذي يصحب الراحة ، أريد أن أفعل شيئا .
- انتهينا ، إذن اذهب معنا الى الجيش .
- لن أجد ما أفعله هناك .
- من يدريك ؟
- ماذا يمكن أن أفعل في الجيش ؟
- تفعل ما يفعله أطباء الجيش .
- أحرر تذاكر لِصرف الدواء ؟
- ألا يفعل الأطباء في الجيش سوى هذا ؟
- في وقت السلم ليس لديهم أكثر من هذا .
ولم يملك جاد الله أن يكتم ضحكته قائلا : إذن ادعُ الله أن يدخلنا حربا حتى تجد عملا يريح أعصابك .
ومد جاد الله يده فشد مدحت من ذراعه قائلا : هيا بنا وكُف عن هذا اليأس والانهيار ، قل لي ماذا حدث ؟
46
جريح
مرت بضعة أيام بعد صدور أمر التكليف حتى استقر مدحت وجاد الله في مستشفى العجوزة ، وفي مساء التاسع والعشرين من أكتوبر جلس مدحت بمكتبه في حجرة الأطباء وقد بدا عليه الوجوم الطبيعي الذي كان يلازمه والحزن الدائم الذي كان يغرق فيه .
وهتف جاد الله ضاحكا وهو يدخل الحجرة : وَحِدوه .
ولم يجب مدحت ، ومد ساقيه واسترخى في مقعده بعد أن فك أزرار سترته الكاكية التي استقر النسر على كتفيها .
واستمر جاد الله يثرثر وهو يرتكز اعلى حرف المكتب وقد ألقى الكاب على طول ذراعه فاستقر على ظهر الدولاب .
قال جاد الله متسائلا في سخرية : ماذا يحزنك ألم تجرِ اليوم أربع عمليات أعور ؟
ونفخ مدحت من أنفه نفخته القصيرة وتساءل : أعور ؟الساخرة
- شوي ؟ الحق عليك لماذا لم تنزع معه نصف المصارين والكُلا والمرارة حتى تشعر أنك فعلت شيئا ؟
ولم يجب مدحت وتثاءب في ملل ، ومضت فترة صمت قبل أن يقول في غيظ : وإلى متى تنوي أن تستمر هذه الطوارئ ؟
- احمد الله على أنك تبيت نصف الأسبوع في البيت ، إنها ليست طوارئ إنها تكاد تكون نبطشية .
- ومالي أنا والنبطشية ؟
- إنك رجل عسكري ، أنسيت أنك صاغ على سن ورمح ؟ إن الجيش في حاجة الى خدماتك .
- لا أظن أنه يحتاجها كثيرا ، فلديهم كثيرون يستطيعون عمل الأعور .
- إذا دخلنا في حرب ..
وقاطعه مدحت صائحا في حنق : حؤرب حرب فلقْتمونا ، أين هي هذه الحرب ، لا أكاد أرى أحدا إلا وقد ارتدى البدلة الكاكي ، حتى الوزراء قد ألبسوهم الكاكي وحملوهم السلاح وصوروهم يطلقون النيران ، لِمَ كل هذه الهِيصة ؟
- ردا على هِيصتِهم ، كل يوم يحركون سفنا ويحشدون قواتا .
وهز مدحت رأسه ورد في غيظ : تهويش في تهويش .
وجذب ساقيه ثم نهض وهو يتمطىَ قائلا : سأذهب لِأنام لا تدع أحدا يقلقني ، لقد مررت على مرضاي جميعا ولا أحد منهم يحتاج لشيء إلا البكباشي الذي رقد في الحجرة رقم 9 ، إنه دائم الصراخ ، يتوهم أنه مصاب بسرطان في الزور .
- ولماذا لا تقطع زوره ؟
- لأنه ليس عنده سرطان .
- اقطعه من باب الشبْرأة ، أتظن كل ما تقطعه من أزوار الناس كان حقا به سرطان ؟
ونظر إليه مدحت في غيظ ثم قال مؤكدا : المهم لا تدع أحدا يوقظني .
- حتى ولو قامت الحرب ؟
- لن تقوم ، غدا سيجتمعون في جنيف وينهون المسألة .
واتجه مدحت الى حجرة النوم وفي دقائق خلع ثيابه واستلقى على الفراش ، وكعادته كلما خلا الى نفسه انطلق به الذهن الى كاب لِيطوف في ربوعها في حزن ومرارة ، حيث المحطى الصغيرة ذات السنديانة والسفوح الخُضْر والقمم الناصعة والقبر الأبيض الذي ضم الأمنية الراحلة وقد جثت أمامه الفتاة الرقيقة ذات الأشارْب والدقات الحزينة التي انبعثت والقطار يوشك أن يتحرك ، دقات الوداع التي كانت تحن إليها وترجوه أن يشاركها في الانصات إليها ، وأخيرا راح في إغفاءة ولم يدر كم طالت وإنما أحس بدقات ملحة على باب الحجرة وصوت يهتف به : دكتور مدحت .
وفتح عينيه ثم ضغط على زر الأبجورة ، ونظر الى الساعة الملقاة على الكُمودينو فوجدها مازالت الرابعة ، وأحس أن الطارق قد حرمه من غفوَة كان في أشد الحاجة إليها ،
فصاح به حانقا : مَنْ ؟
- أنا محمود .
- محمود مين ؟
- التمَرْجي .
- اذهب من هنا لعنة الله عليك ، لو عدت لإقاظي فسأكسر لك رقبتك ، لقد قلت لكم لا أريد أن يوقظني أحد حتى ..
وقبل أن يكمل حديثه دُفِعَ الباب وبدا منه جاد الله وهو يصيح : حتى ولو قامت الحرب ؟
وأحس مدحت أن سيماء جاد الله تحمل شيئا ، فنهض متسائلا : ماذا حدث ؟
- لقد وقعت الحرب .
- كيف ؟
- هجمَ اليهود .
- يهود ! أتسمي هجومهم حربا ؟
- اسمع يا مدحت ليس هناك وقت لنختار لهجومهم أسماء ، إن المستشفى يعج بالجرحى .
- غير معقول !.
- الذي حدث .
- كيف ومتى !؟
- وصلوا بالطائرة منذ ساعة ، لقد بدأ هجوم اليهود منذ الساعة الحادية عشرة نفس الساعة التي كنت تسخر مني فيها .
- ومازلت أسخر ، ومازلت أقول أن هجوم اليهود ليس حربا ، فالذي أعرفه من الضباط أنهم لا يجرؤون على الهجوم علينا لأن لدينا تفوق في الجو وفي المدرعات .
- اسمع يا مدحت ، إنهم ينطلقون الآن في الطريق الجنوبي صوب القناة .
- غير معقول .
- لا تقُل غير معقول لأنه حدث فعلا ، هذه أنباء المرافقين للجرحى ، لقد هجم اليهود في الكُنْتَلا وانحدروا في الطريق الخالي وهم ينزلون قوات بالمظلات عند ممر نِتلا .
- ولكن كيف يجرؤون على ذلك ، ألا يخشون من عزل قواتهم في الجنوب والقضاء عليها ؟
وأتم مدحت ارتداء ثيابه وخرج متعجلا بجوار جاد الله الذي أجاب قائلا : هذا هو ما يريب في الأمر كله .
- كيف ؟
- لابد أن يكون وراءهم سند .
- مثل ؟
- الإنجليز والفرنسيون ، غير معقول أن يقوم اليهود بهذا العمل الجريء في هذه الظروف من تلقاء أنفسهم ، إنهم مخلب قِط .
- وماذا يستفيد الإنجليز من حركتهم هذه ؟
- أي شيء ، ولو مجرد إثارة اضطراب وقلقلة يُضعف مقاومتنا لهم ويلهينا عن كفاحهم وتجعلنا أميل الى إرضائهم ، وتجعلهم أقدر على كَلْفَتَتِنا .
- على أية حال سنقضي على اليهود قبل أن ينالوا مرامهم ، فأغلب الظن أننا تعودنا على ألاعيب الإسرائيلية .
واتجه مدحت الى حجرة العمليات وهو يحس بالضجيج والصخب من حوله وقد بدا المستشفى أشبه بالسوق ، وقد اختلطت في ردهاته الأنات بالصرخات ، وبدا كل إنسان يتحرك في عصبية وعجلة ، وكل إنسان يطلب شيئا أو يرجو شيئا ، ولا أحد يعرف بالضبط ماذا يفعل ولمن يفعل .
وعلى طول عهد مدحت بالجراحة ، وعلى فرط تعوده منْظر الدماء والجراحات فقد أحس بالدوار وهو يرى منْظر الأجساد المرصوصة بوجوهها المعفرة وجلدها الممزق وأطرافها المبتورة ، ونفض مدحت عن رأسه دواره وأقبل على عمله بطريقته الجبارة وقدرته الخارقة وجلَده العجيب ، ومضت به الساعات الطويلة في عمل متواصل حتى أحس أن قدميه لم تعودا تقويان على حمله ، وأن يديه توشكان على التصلب ، وطلب مقعدا لِيجلس عليه في غرفة العمليات كي يواصل إخراج الشضايا ورأب الجروح ورم الأشلاء .
وعندما غادر حجرة العمليات كانت الساعة قد بلغت العاشرة صباحا وكان العَرَق يتصبب من جبينه وعلامات الإعياء قد بدت على وجهه ، وفي الردهة التقى ببجاد الله وقد كسا الجد ووجهه وبدا مهموما محزونا ، وحاول جاد الله أن يُغَلِّب طبيعته المرحة على الجو المشحون بالجروح والأنّات والكد والإرهاق فقال متضاحكا : مبسوط ؟ أظن ليس مثل هذا شغل .
واتجه الاثنان الى حجرة الاستراحة وقال جاد الله : أقرأتَ الصحف ؟
وهز مدحت رأسه وأجاب : لم أترك غرفة العمليات من الساعة الرابعة حتى الآن ، ماذا بها ؟
- كل الأنباء التي رويتها لك وزاد عليها أن قواتنا الجوية دقتهم بعنف وأن هجومهم على أبو عجيلة قد صُدَّ بعد أن كبدهم خسائر فادحة .
ومد مدحت يده فتناول إحدى الصحف الملقاة على المنضدة وقرأ العناوين الرئيسية ثم ألقاها جانبا واسترخى في إعياء .
وقال جاد الله : ألا تريد أن تتناول الإفطار ؟
وهز مدحت رأسه بالنفي ، ثم قال : لا أريد إلا أن أَستلقي على ظهري .
- ولكن لابد أن تأكل ، سآمر بيومي أن يعد لنا إفطارا .
وقبل أن يدق جاد الله الجرس أقبل ممرض يطلب الدكتور مدحت .
ونظرإليه جاد الله قائلا : قل لهم إنه عاجز عن الحركة وأنه يريد أن يستريح .
ولكن مدحت قال للممرض : لا تقل لهم شيئا انتظر سآتي معك ، إن الراحة تستطيع أن تنتظر ولكن الموت الذي يقف بباب غرفة العمليات لا ينتظر أبدا.
ثم وجَّهَ الحديث الى جاد الله : لقد أجريت عمليات لعشرة جرحى ثلاثة منهم قد يموتون ولكن السبعة قد أبعدت عنهم موتا مؤَكدَا .
واتجه مدحت الى غرف الجرحى وقبل أن يجتاز الباب أبصر جثة الجريح الذي استدعوه من أجله ، وقد رَقَدَ على النقالة وغُطِيَ بملاءة بيضاء عليها بعض بقع الدماء ، وأبصر وجه الجريح ، وجها جميلا لم تشوهه الحروق ولم تمزقه الشضايا ، ورفع إليه الوجه عينين مجهدتين بدت منهما نظرة صداقة وألفة ، وابتسمت الشفتان الجافتان ابتسامة باهتة ، وسمع مدحت من فم الجريح تحية خافتة : صباح الخير .
وأجاب مدحت نظرة الجريح بابتسامة رقيقة لم يألفها منه مرضاه ، ورد عليه تحيته في وداد قائلا : صباح الخير .
وأحس مدحت أن الوجه الوسيم مألوف لِذاكرته ولكنه لم يجد هناك من وقته أو من فراغ ذهنه ما يساعده على التذكر .
واستقرت النقالة وسط الغرفة ، وعاد يرفع عينيه الذابلتين ويهمس بصوته الخافت أنا أعرفك يا دكتور مدحت ، أعرفك من نادي مصر الجديدة .
- أهلا وسهلا ، أنا أيضا أحسست أني قد رأيتك من قبل .
- أنا اليوزباشي عصام الشفعي من سلاح الفرسان ، لقد كنت في القسيم عندما هاجمنا اليهود .
ورفع مدحت الملاءة البيضاء الملوثة بالدماء وبدت ساق عصام وقد لُفَت بكومة من القطن والشاش وقد مُزِق عنها البنطلون الكاكي .
وبدأ مدحت في فك الأربطة ، وعصام يعض على نواجده ويزدرد ريقه ويقول في محاولة للتجلُّد : أظنها شضية مورتر ، لقد أحطنا بالدورية اليهودية وأوشكنا نفتك بها عندما أحسست بانفجار قريب ، استلقيت على وجهي وظننت نفسي تجنبت الشضايا ، لكنني أحسست شيئا كالسكين يمزق ساقي ، وجدت الدم ينزف ، لقد نزف كثيرا حتى كدت أفقد وعيي .
وكشف مدحت عن جرح عميق طويل .
وأخذ عصام يبلل شفتيه وهو يقول متسائلا في نبراته الضعيفة : أظن الشضية مازالت موجودة ؟
وهز مدحت رأسه وهو يقول : سنرى .
وعاد عصام يتساءل في شرود : هل ستعطيني بنْجا ؟
- طبعا .
ثم أردف مدحت ضاحكا : إني لست جزارا .
وابتسم عصام ابتسامته الباهتة وهو يقول : إنهم يدعونك كذلك ، لقد عرفت هذا من صبري محمود ، إنه تلميذك وهو صديقي جدا .
وأجابه مدحت : لقد رأيته مرة بالبدلة الكاكي ، لقد تطوع في الحرس الوطني وترك الطب .
وأعاد مدحت الغطاء على الجريح ، والتفت الى طبيب البنْج متسائلا : جاهز ؟
- أجل .
وقبل أن يقترب الطبيب بالحقنة المخدرة مد عصام ذراعه ودفع يده في جيب قميصه الكاكي وأخرج محفظة صغيرة ، وقال وهو يُخرج منها بضعة وريقات : لي عندك رجاء يا دكتور مدحت ، لو استطعت أن تبلغ النبأ الى أمي بطريقة سهلة مخففة تكون قد أسديت إلي جميلا لن أنساه ، إني أخشى أن يبلغونها بطريقة مفاجئة مزعجة والأمر كما ترى ليس به ما يزعج وهي مصابة بالذبحة وقد يُقضى عليها .
صمت برهة ثم قال : أنت تعرف الأمهات يا دكتور .
وأطرق مدحت وهو يتذكر أمه وهي تضمه باكية عندما عاد ، تسأله ألا يتركها قبل أن يأخذها الله الى جواره .
وقال مدحت في صوت خافت : أعرفهن جيدا .
- ليس لي في الحياة غيرها وغير خطيبتي ، وخطيبتي لحسن الحظ لا توجد الآن في مصر لأنها تقيم في جبال الألب بفرنسا ولا أظنها ستعود إلا بعد أن أكون قد أستطعت السير .
ومد عصام يده ببطاقة وصورتين وأردف قائلا : هذا هو عنواني ، إنه لا يبعد كثيرا عن منزلك في نفس المنطقة وراء النادي ، وهذه صورة أمي وخطيبتي ، إنهما سبب حرصي على الحياة .
وتناول مدحت الأوراق من عصام ولم يحس بنفسه رغبة في التطلع الى الأوراق والصور ولكنه ألقى عليها نظرة حتى يرضي الجريح المتطلع إليه ورجاء ، وكادت صرخة دهشة تفلت من شفتيه عندما أبصر صورة الخطيبة وأمسك بها كالمشدوه فاغرا فاه جاحظا عينيه ، وقبل أن ينطق حرفا كانت إبرة المخدر قد دُفِعت في ذراع عصام ، وفي ثواني كان عصام قد أطبق عينيه وسقطت ذراعه الى جانبه ، وأحس مدحت بالممرضة وطبيب البنْج يرقبان دهشته وحملقته في الصورة فدسها في صمت في جيب مريلة واتجه الى غرفة العمليات .
ولم تغادر الصورة مخيلته وهو يجري مبضعه فيساق الجريح ، كانت نفس الصورة الجانبية التي صورتها مُنى أول مرة عند مصور كاب ، والتي أرسلتها نادية لمدحت على أنها صورتها عندما سألها أن تكف عن إرسال صور الطفولة التي تعودت إرسالها ، ولم يستطع مدحت أن يوقف تفكيره المذهول ، إنها هي نادية بعينها ، نادية التي كتبت إليه كل تلك الرسائل ، نادية التي أرسلت إليه أول مرة لِتقول أن حياتها معلقة برده ، هل كانت طوال ذلك الوقت خطيبة ذلك الجريح الذي يعتبرها السبب الأول في حرصه على حياته ؟ لماذا لم تخبره عنه ؟ تُرى أيهما المخدوع هو أَم الخطيب ؟
غير معقول أن تكون قد خَدعته ، وغير معقول أيضا أن تكون قد خَدعت الآخر لأنه لا يُتَصَوَر أن مثلها يمكن أن يعبث أو يخدع ، ولكن ما فائدة كل هذا ، ما قيمة أن يعرف من يكون المخدوع فيهما إذا كانت هي قد تركتهما وولت ؟
ولكن هذا الجريح الراقد لا يعرف أنها قد ماتت ، أجل إن أنباء موتها لم تبلغه بعد .
وخرج مدحت من حجرة العمليات يسير في الردهة ذاهلا مشدوها ويده تتحسس الصورة في جيبه ، وعندما وصل الى حجرته أخرج الصورة مرة أخرى لِيتأكد أن بصره لم يخدعه ، وأن الصورة الراسخة في ذهنه لم تفرض ملامحها على الصورة التي سلمها إليه عصام ، وكانت الصورة هي هي ، الشعر المعقوص والأنف الدقيق والوجه الساحر ، وأمسك جبينه بأصبعه وضغط عليه كأنما يحاول منعه من الانفجار .
وأقبل عليه جاد الله فرُوِع من منْظره وسأله في فزع : ماذا بك ؟
- لا شيء .
- إنك مجهد جدا لا بد أن تستريح .
- لست مُجْهَدا .
- ماذا بك إذن ؟
ومد مدحت يده بالصورة قائلا : إني أكاد أُجن .
ودُهِش جاد الله من الصورة وتساءل : ما هذه ؟
- صورة نادية .
- ما الذي أحضرها ؟
- وجدتها في جيب الجريح الذي ذهبت لِأنزع الشضية من ساقه .
- في جيب الجريح ؟
- أجل ، إنه يعرفني من النادي وقد سلمها لي هي وصورة أمه وسألني أن أبلغ نبأ إصابته لأمه بطريقة مخففة خشية أن يصدمها النبأ .
- وما دخل صورة نادية بالموضوع ؟
- إنها خطيبته .
- خطيبة مَنْ ؟
- خطيبة الجريح ، يوزباشي في سلاح الفرسان .
- غير معقول ؟!
- لقد قال هو هذا .
- ربما كان يهذي ، ألم يكن محموما ؟
- لا ، لقد كان في وعيه .
- ولو ، هل تستكثر على جريح في معركة أن يهذي حتى ولو كان في وعيه ؟
- ولكن كيف وصلت إليه الصورة ؟
- من أي طريق ، من صديقة لها أو من إحدى قريباتها ، هل تظن صورتها قد حُرِمَت إلا عليك ؟
وهز مدحت رأسه في تشكك قائلا في يأس ومرارة : لا لا ،إن المسألة ...
وقبل أن يتم قوله دُفِع الباب ودخل أحد الممرضين يحمل رسالة ، ومد بها يده الى الدكتور مدحت ، ونظر إليه مدحت في ذهول ، كان نفس الظرف اللبني ذو الخطوط الزرق الذي تعود أن يتسلمه من نادية .
وقرأ العنوان بنظرته الذاهلة فوجد نفس الخط الذي تعود أن يقرأه .
وهز جاد الله رأسه متسائلا : ما بك ؟
- رسالة من كاب .
- وماذا في ذلك ، لا شك أنها من أختها مُنى تشكرك على زيارتهم .
وأطرق مدحت هامسا في لهجة خذلان : أجل أجل ، كان يجب أن أتوقع ذلك ، ولكني ظننتها رسالة منها هي ، إن أعصابي لم تعد تحتمل ، إني في حالة غير طبيعية .
وأمسك بالرسالة بعد قراءة عنوانها وعاد يقول في صوت خافت متشكك : ولكنه ، أعني أنه نفس الخط .
- ولِمَ لا ، أليستا شقيقتين ؟ إن كل عائلتنا خطوطها متشابهة .
وصمت جاد الله وأردف متضاحكا : عدا أمي طبعا لإنها لا تعرف الكتابة .
ولم يضحك مدحت فقد كان ينظر الى ارسالة مشدوها .
وقال جاد الله : لماذا تنظر إليها وكأن بها عفريتا ، لماذا لا تفضها ؟
وأمسك جاد الله بالرسالة وهَمَّ أن يفضها لكن مدحت أطبق عليها .
ونظر إليه جاد الله في دهشة قائلا : إن بك فعلا شيء غير طبيعي ، فُضَّها يا أخي واسترح .
وأمسك مدحت بالظرف فقطع حرفه ثم أخرج الرسالة الزرقاء الرقيقة من داخله ، وهز رأسه وهو يلمح خطها وهمس قائلا : نفس الخط .
ثم قرأ أول جملة :
مدحت العزيز .
وأحس برجفة تسري في بدنه ، نفس النداء الذي كانت تبدأ به نادية رسالتها .
وقبل أن تفحص عيناه ما تلاها من كلمات قلبَ الرسالة وقرأ الإمْضاء ، وهتف مشدوها : إنها من نادية .
وأجاب جاد الله وهو يهز رأسه : ربما أرسلتها إليك قبل موتها .
وقرأ مدحت التاريخ فإذا به السادس والعشرين من أكتوبر نفس اليوم الذي غادر به كاب ، وفي ذهول بدأ مدحت يقرأ الرسالة ..
47
في موضعها
مدحت العزيز ،
أجل أنا نادية يا مدحت ، أعرف أني أذهلك بقولي كما لا شك قد أذهلك خطي على الظرف وتوقيعي في نهاية الرسالة ، أنا نادية ، نادية الأصلية ، نادية التي كتبت إليك أول مرة تتلهف منك على كلمة ترد غربتها وتُؤنس وحشتها ، نادية التي أحبتك ، أقولها بلا تردد ولا حياء أقولها وأنا أحس بمتعة في ترديدها ، أقولها بلا خوف من لوم أو خشية من تأنيب .
أنا نادية التي أحبتك بكل جارحة وفي كل لحظة ، في يقظتها وفي أحلامها ، في أحلك ساعات يأسها وفي أبهى لحظات آمالها ، ، نادية التي أحبتك بأقصى ما يملك الإنسان من قدرة على الحب وأشد ما يختلج بين جوانحه من أحاسيس ، ، نادية التي ركَّزت في شخصك كل أمانيها وأحلامها منذ بدأت تتمنى وتحلم وترجو ، نادية التي وضعتك دعامة لقصور أوهامها وشيدت على حبها لك كل ما يأمل الإنسان في حياته من سعادة ونعيم ، نادية التي كانت ترقبك وهي قائمة في مقعدها بالنادي في صمت حالم وسكون ممتع ، نادية التي مارس فيك قلبها أول تجارب حبه وآخِرها والتي أطلق قلبها من أجلك أول خفقة ، وظل لا يخفق إلا لك ولا يهتف إلا باسمك ولا يهفو لغير طيفك .
أنا نادية الحقيقية أكتب إليك رسالتي الأخيرة والتي كان مفروضا علي ألا أكتبها لأني بت في نظرك ميتة والموتى لا يتحدثون ولا يكتبون .
أكتبها إليك لم تدفعني إليها لهفة عليك رغم وجودها ، ولا أمل في عودتك رغم تمنيه ، وإنما أكتب لِأنصف نفسي ولأضعها في موضعها الحقيقي عندك ، ولِأمنحها منك الإحساس الحقيقي الذي تستحقه .
لست أدري من أين أبدأ ، فلا أظن علي من السهل في جلستي هذه أن أركز ذهني وأهدئ مشاعري وأرتب أفكاري بحيث أشرح لك كلما أود شرحه ، وأبرره لك التبرير الصادق الذي يقنعك به ويُنصفني منه .
أتدري كيف أكتب إليك ؟
هل تعرف شاطئ البحيرة ؟
تعرفه بالطبع وتعرف البيت الخرب والكوخ المطل على الهاوية ، تعرف كل ذلك معرفة الرائي لا معرفة المستمع ، وتعرف أيضا ذلك المقعد الحجري القابع وراء الكوخ والذي جلست عليه بجواري ، أجل بجواري أنا ، أنا نادية ولست مُنى ، جلست بجواري وفي الحقيقة لا في دعوة واهمة ، مَنْ يُصدق هذا ؟
من يصدق أني جلست وإياك فعلا على هذا المقعد الحجري ، وأننا حدقنا سويا في هذا الفراغ الهائل ، الذي تبدو فيه المرئيات كأنها الدمى ، والتي تصطف في أسفله القبور كأنها رقعة شطرنج .
لكن لماذا أخلط في كتابتي ؟
لماذا أبدو كالمجنونة الهاذية ؟
لماذا أتحدث إليك وكأنك تعرف كل شيء ؟
وكأنك أقتنعت ببساطة أن التي صحبتك في جولتك البائسة في الجبل ، والتي ضممتها الى صدرك فوق المقبرة هي نادية .
لماذا لا أتمهل وأشرح لك جلية الأمر في سكينة وهدوء ؟
تُرى من أين أبدأ ؟
من بعيد ، بعيد ، مذ كنت في القاهرة ، عندما قرر أبي السفر الى كاب ، وحضرت مع مُنى الى النادي لِأودعك ، أودعك من بعيد ، وداعا كما وصفته للعجوز بيتر بلا مَعالِم ولا تفاصيل ولا ذكريات .
وعدنا الى البيت لِنتم حزم الحقائب وتناول الغداء ، في تلك الظهيرة وقع الحادث المشؤوم ، حادث الحريق والذي كانت نتيجته تشويه عنقي وموت أبي .
هل تعرف أني في الليلة السابقة للحريق كنت أجلس مع منى واتهمتني بالعجز والسلبية ، وكادت تطلبك لكي تُعوُدَني مدعيَة أني قد أصابتني نوبة أعور ، وأني تمنيت تلك الليلة لو أني أصبت فعلا بالأعور لكي تمنحني العملية فرصة رؤيتك والحديث إليك .
هل تعلم أني في اليوم التالي كنت أرقد في إحدى حجرات المستشفى بعد إصابتي في الحريق وكنت أنت تقف أمامي في نفس الحجرة ؟
ومع ذلك لم أتمنَ شيئا في حياتي كما تمنيت أن يُبعدك الله عني ، واستجاب الله دعائي ولم يطل بقاؤك أكثر من ثوانٍ ، ثم استدعوك لتعود أحد مرضاك وتركتني لِمساعدك ، وتنفست الصعداء يوم ذاك ، وأنا أرقدأمامك والأربطة البِيض تحجبني عنك ، لقد كنت أكره أن يقع علي بصرك لأول مرة وأنا مسلوخة الوجه ، محروقة الجلد .
وفي اليوم التالي هربت من المستشفى ، نجوت من الطامة الكبرى وهي رؤيتك لي .
تُرى هل تذكرني ؟
هل تذكر تلك الفتاة المحترقة الملفوفة بالقطن والشاش ، التي وقفت أمامها بضع ثوان ثم تركتها ، إذا كنت تذكر الفتاة فهي أنا .
أنا نادية ، نادية التي كانت تتلهف على أن تتخلى عن نصف عمرها كي تراك أو تتحدث إليك .
وعدت الى البيت ، ومات أبي ، وزالت آثار الحريق من وجهي بفضل عملية نزع الجلد التي أجراها لي مساعدك والتي كان مفروضا أن تقوم بها أنت لولا أن أزاحك القدر أو أزاحني من طريقك .
زالت آثار الحريق من وجهي ولكنها بقيت في عنقي ، وأخذت أرقب نفسي في المرآة وأتخيل كيف يمكن أن أبدو لك ؟
وخشيت نفورك مني ، من عنقي المحترق وجلدي المشوه ، وضعت الإشارْب حول عنقي أخفي ما به من تشويه ، وأحسست أن خيط الأمل الواهي الذي كنت أتعلق به قد قُطِع ، وأنه قد تحتم علي أن أجعل منك مجرد طيف لا أمل فيه إلا كأمنية مستحيلة جُلَّ غايتي منها أن أعيش بالتفكير فيها زمنا رغدا .
ورحلنا من القاهرة ، وكنت أول الراغبين في الرحيل ، كان بنفسي رغبة في الفرار ، الفرار من ئأمنيتي المستعصية وأملي الضائع .
ووصلنا الى كاب ، وبدأت أحيا حياتي المنطوية اليائسة حتى خطر لي ذات مرة أن أكتب إليك ، وكتبت رسالتي الأولى دفعني الى كتابتها فرط الحنين وشدة اليأس وطول الوحشة ، وكتبت إليك أقول إن حياتي معلقة بَرَدِك ، ولقد كانت فعلا كذلك ولو لم تكن لما جرؤت أن أكتب إليك ، ووصلني ردك الأول وأحسست بعد ذلك أني بدأت مرحلة جديدة من عمري ، مرحلة عشتها كالفراشة الطائرة ، أهيم بين أنضر ورود الأماني وأعطر أزاهير الأحلام ، كنت أحيا في أمل بلا حدود ، كنت أتوهم أني يمكن أن أظل وإياك كما نحن بعلاقتنا الوهمية الحالمة ، التي لا تقف في سبيلها عراقيل أو سدود ، وكنت أحس بأني قد بت أعني في نفسك شيئا ، أجل لقد أضحى لي مع الزمن موقع في نفسك ، فانطلقت أهيم في نعيمي الجديد دون أي تفكير في نهايته أو تحديد لغايت منه أو أملي فيه ، وكنت طوال تلك المدة صادقة مع نفسي ، صادقة في كل ما يربطني بك ، ولم يكن هناك ما يؤلمني سوى الإحساس في بعض الأوقات بأني أحيا بطريقة الهيمان أو كما قلت لك أحلق كما تحلق الفراشة ، لم أحس أبدا أني أقف على قدمَي وأني أستقر على أرض صلبة يمكن أن يُحدَد فيها طريق وأن يوصل الطريق الى شيء ، أبدا كانت كل حياتي هياما وأحلاما ، وفي معظم الأوقات لم أكن أضيق بحياتي بل كنت قانعة بها ، راضية عنها عدا هنيهات متقطعات من اليأس أرتطم فيها بصخور الحقائق فأفكر وأحزن ثم لا ألبث حتى أهيم مرة أخرى .
ثم خُدِعْت أول خديعة انسقت إليها بطريقتي الهادئة المتسللة التي تتجنب كل المقاومات حتى تصل الى غرضها ، لقد طلبت مني صورة حديثة لي ، أتذكر ؟ إذا كنت لا تذكر فأنا أذكر جيدا ، عندما قلت لي : هل بطلت مودة التصوير عندكم ؟ لماذا تكفين عن صور الأطفال التي ترسلينها وترسلين لي صورة لأراك كما أنت ، حتى أستطيع أن أصحبك الى الأوبرا دون أن أخشى أن تنامي مني وأن عأود بك على كتفي ؟
ولم أكن أستطيع أن أرفض طلبك لأنه لم يكن هناك في رفضه عذر ، ولم أكن قد صُوِرْت منذ الحريق ، وكنت أكره أن أصَوَر ، ووجدتها مشكلة في بادئ الأمر ، ولكني صحبت منى وصُوِرْت ، صُوِرْت بالإشارْب الذي رأيتني به والذي عدوت لأشد به عنقي عندما فوجئت بك على الباب وصُوِرَت منى يوم ذاك ، وعندما جلست لأرسل إليك الصورة كرهت مَنْظَر الإشارْب وبدا لي أنك ستسألني عما وراءه إذا استمررت على ارتدائه في كل صورة ، ولقد بدا لي كأنك ستكتشف ما وراء الأ=إشارْب في الصورة وأنك سترى عنقي المشوه وأنك قد لا تكتب إلي ، وأحسست أني أوشك أن أَختنق ، وببساطة مددت يدي وأمسكت بصورة منى وضعتها مع رسالتي في الظرف ، ومن يومها بدأت خديعتي لك وبدأت شكوكي في نفسي .
وكتبت بعدها لتقول لي إني جميلة ، وساءني هذا وأحسست بالغيرة من منى ولكن لم يكن هناك بد من الاستمرار في الخديعة ، وابتعت آلة تصوير وبدأت هوايتي في تصوير منى ، وكنت أكره كل مديح لك في شكلي لأني كنت أعلم أنه لا يخصني ، وأني شيء وشكلي شيء آخر ، وأخذت تتصارع في نفسي كل الأحاسيس وأنا أحس بأني دفعت بإنسان آخر لِيشاركني في حبك ، ومع ذلك فقد بدأت أعتاد المسألة وأقنعت نفسي بأني أنا في نظرك هو أنا ، وأنك تحبني أنا صاحبة الرسالة التي تناجيك وتناجيها ، وأني مادمت لا آمل في لقاء فلن يكون هناك خوف من أن ينافسني أحد لأني سأظل أمامك مجرد روح أو حلم .
وكان ممكن أن يستمر الحال كما هو فأنا نفسي قد رضيت عنه ولم يَعُد به ما يقلقني ، فما دمت قد استبعدت شكلي من أول الأمر فلا داعي لأن أدخله في منافسة أو أجعله سبب غيرة ، حتى كتبت إلي لتقول لي إنك قادم ، وهنا أحسست أن المسألة قد أضحت خطيرة ، وأنه قد بات علي أن أواجه أحد أمرين ، إما أن أعترف بالخديعة وأُريك شكلي الحقيقي وأفقدك وإما أن أستمر في الخديعة فأجعل منى تلقاك وتقوم بنفس الدور الذي قامت به صورتها ، وتمثل أمامك دور نادية حتى ترحل ، ثم نعاود بعد ذلك علاقتنا الأصلية معا ، علاقة الكتابة والأحلام والأوهام ، وكنت حمقاء في تفكيري ، لكن الأنانية أحيانا تدفعنا لأن نشكل كل شيء حسب رغباتنا حتى رغبات الغير ومشاعرهم وأمانيهم ، كنت أتخيل أنك يمكن أن ترضى عن علاقتنا بالطريقة التي رضيت أنا بها ، كنت أتوهم أنه يمكن أن تأتي إلينا وتراني أعني ترى منى ثم تعود لتكتب إلي ببساطة كما كنت تكتب ، لم أتصور قط أن العلاقة الهوائية كأي علاقة في الدنيا لابد أن تنتهي الى شيء ، لابد أن تنتهي الى حقيقة أو تتبدد ، لم يخطر لي هذا ببال ، كنت أتعلق بك ، وكنت أعرف أن في تحقيق الأوهام ضياعك مني ، ولذلك كان علي أن أشكلك حسب ما أهوى ، واتفقت مع منى على أن تلقاك كأنها نادية ، ولكن خذلتني ، وماتت ، وأظنك تعرف جليا كيف أوجعني موتها ، لقد كانت جزءا مني ، أتدري كيف يحس الإنسان عندما يقتطعون نصفه ويتركونه نصف إنسان ؟
لقد أحسست بهذا الإحساس عندما رحلت ، ولست أريد مرة أخرى أن أحرك أشجانك وأُهمي مآقيك ، لقد رحلت منى ووصلت أنت وكان علي أن أواجهك وأواجه فيك خديعتي ، وحيدة بلا عون من منى ، واضطربت في أول الأمر ولم أعرف كيف أواجهك ولا ماذا أقول لك ، كانت مفاجأة مذهلة أن أستيقظ من النوم لأجدك تقف أمامي ، ومنحتني أنت فرصة للنجاة عندما سألتني "أين نادية" .
وأحسست أنك لم تميز فِيَّ نادية وأن نادية التي في ذهنك هي نادية الصورة أو بمعنى أصح هي منى ، وكان علي أن أجاريك في تصورك وأن أخبرك بأن نادية التي هي في ذهنك ، نادية الشكلية .
وقلت لك إنها ماتت وسرت معك وصحبتك في جولتك ، ولا أكتمك أني رغم كل ما أحاط بي من اليأس والفجيعة كنت سعيدة ، أجل كنت سعيدة وأنت تمسك يدي وتسير بي على سفح الجبل وشاطئ البحيرة ، كنت سعيدة وأنا أجلس معك وقد شرد كل منا ببصره من الشرفة العريضة ، كنت سعيدة بيأسك ولوعتك ، وفي بعض اللحظات كانت تتملكني نوبات غيرة من أختي منى عندما أفكر أن أحزانك تخصها هي ، وأنا كمخلوقة على قيد الحياة ليس لها نصيب من مشاعرك ، وانتهت جولتنا وكان علي أن أودعك ، أن أودع نفسي أن أودع حياتي أن أودع كل ما بقي لي من أمل فيك ، ومن العبث أن أشرح لك مشاعري وقد تكون أحسست ببعضها فلا أظن أن وداعي لك كان الوداع الذي يمكن أن تودعك به منى لو كانت هي أنا ، ووقفت أرقبك وأنت تلوح بيدك والقطار يتباعد بك حتى اختفيت واختفى القطار واختفى كل شيء من أمامي ، وعدت الى البيت وكأني أسير في ضبابا كثيف ، وأحسست وأنا أقبع في حجرتي إني قد بت لا شيء ، بت جسدا بلا روح ومخلوقا بلا كيان ، وأني قد حرمت نفسي من كل شيء .
لقد فقدتك نهائيا ، وأحسست أني قد ظلمت نفسي ، وأني أصبت نفسي بنقمة الموت دون أن أستمتع بنعمته ، حرمت نفسي أهم أسباب الحياة من صلة بك وأصبحت إنسانة ميتة بالنسبة لأعز الناس عندي ، وذقت مرارة فراقه ولوعة وداعه بلا أمل في عودة ولا رجاء في لقاء ، ومع ذلك فأنا لا زلت حية أمارس كل متاعب الأحياء وأُحرَم كل نِعَم الموتى ، أنا لا أنعم برقدة منى ، لا أنعم باستقرارها وراحتها ، لا أنعم بالسكينة التي تنعم بها وتُبعد عنها صخب الحياة ومرارة العيش ، أنا مازلت أفكر ، لم ينعم الله علي براحة ذهن منى ومزال علي أن أواجه الناس وأحدثهم ، وأن أذهب الى المدرسة وأن أفعل كل ما يفعله الأحياء ، مازالت بي خصائص الأحياء التي لم يَعُد بي إليها حاجة ، مازلت مثلا أحبك وأهفو إليك ، وأنت لا تشعر بي إلا كمخلوقة ميتة ، لا تُكِنُّ لي سوى الحزن والدموع ، وحتى حزنك ودموعك حتى الشيء الذي بقي لي منك لا أجسر على الاستمتاع به لأني لا أستحقه ولأني أحس إذا ما حاولت الاستمتاع ببعضه أني مخادعة مختالة ، لأني مازلت حية .
لماذا إذن أبقى بعد كل ذلك حية ، ما فائدة حياتي ، من على وجه الأرض يمكن أن تفيده حياتي ؟
لماذا لا أضع نفسي موضعها ، أعني موضعها الذي وضعتها فيه أنت ، في ذلك القبر الأبيض الذي تحيط به أعواد الزنبق البِيض ، والذي وقفت أمامه والدمع يهمي من مآقيك في صمت موجع جعلني أكاد أتفتت ؟
لماذا لا أضع نفسي موضعها حتى يكون لي الحق فيما تبقى لي من مشاعرك ، وألا أحس أن دموعك من أجلي لا تخصني ، وأن لوعتك علي لا أستحق منها شيئا ؟
لماذا لا أضع نفسي موضعها حتى أنعم على الأقل بالزهرة التي ستضعها على نادية ؟
إن العملية لا تحتاج الى جهد أو مشقة يكفي أن أترك نفسي لهذا الشيء الذي يجذبني من أعماق الهوة وسأهوي معه الى رقعة القبور البِيض المتراصة كأنها حجارة الشطرنج .
أجل إن هذا هو موضعي وذلك هو مصيري ، وقبل أن ألقاه أحب أن أصدقك وأن أنْبئك الحقيقة وأن أنصف نفسي عندك وأن أقول لك مَنْ أنا ، على الأقل حتى تذكرني ، أنا نادية الفتاة التي لقيتها بالإشارْب والتي ضممتها إليك أمام القبر والتي صعدت معها السفح وسرت بجوارها على الشاطئ ، إن نادية هي أنا ، أنا التي أحبتك وأنا التي منحتك أول خفقات قلبها وستمنحك آخِر خفقاته ، إني أرجو بعد ذاك لا أكون قد خذلتك وأن أستحق مشاعرك وحزنك وأن تحبني أنا ، وإذا ما عدت مرة أخرى لتزور القبر الذي ضممتني أمامه فلتجعل زهرتك زهرتين حتى أختص نفسي بواحدة منهما ..
المخلصة نادية .
48
إنذار
مضت برهة ومدحت يحملق في السطور الأخيرة من الرسالة مشدوها مأخوذا ، وسقطت الرسالة من بين أصابعه وهو يتمتم في شبه هذيان : كانت هي ، كانت هي نادية .
ورفع كفه الى جبينه يعتصره بأصابعه وهو مستمر في لهجته الهادئة : كان يجب أن أدرك ذلك ، كنت أحس بشيء يشدني إليها ، كان يجب ألا أتركها .
وعادت عيناه تحملقان في السطور الأخيرة .
"يكفي أن أترك نفسي لهذا الشيء الذي يجذبني من أعماق الهاوية وسأهوي معه الى رقعة القبور البِيض المتراصة كأنها حجارة الشطرنج ، هذا هو موضعي وذلك هو مصيري"
وأحس مدحت بشيء يعتصر جوفه وهتف في حدة : لا ، لن أتركها ، لن أدعها تموت ثانيةً ، إن مصيرها هنا بجواري .
ونهض من مقعده فجأة ونزع عنه المريلة البيضاء وهو يردف في في حزم : سأذهب لِأعود بها ، لن أتركها ترتكب هذا الجنون .
وكان جاد الله قد مر بناظريه عبر سطور الرسالة مرا سريعا واستطاع أن يفهم ما تضمنته ، وبدت عليه دهشة د=شديدة وهتف بمدحت متسائلا : تذهب لِتعود بها !؟
- أجل سأذهب الآن .
ونظر جاد الله الى تاريخ الرسالة وهز رأسه في شبه يأس وقال : لقد مضت أربعة أيام على إرسالها .
وعض مدحت على نواجده وبدت عروق جبينه نافرة وهو يهز رأسه كأنه يبعد عنها خاطرا بغيضا وقال في إصرار وعناد : سأذهب إليها على أية حال ، لن أستطيع أن أجلس جلسة العاجز المستسلم إني أكاد أُجن .
واتجه مدحت الى الباب في عصبية وشرود ولحق به جاد الله فأمسك بذراعه قائلا وهو يحاول تهدئته : الى أين ستذهب ؟
- الى المطار .
- إنك لن تستطيع أن تفعل شيئا بحالتك هذه ، اهدأ ودعنا نفكر معا .
وصاح مدحت به في ضيق : أفكر ؟ أنا أستطيع أن أفكر ؟
- إذن دعني أفكر لك ، إن المسألة تحتاجا الى تدبر وروية .
وأجاب مدحت في عناد المجانين : سأسافر الآن ، لن تستطيع ققوة أن تمنعني من السفر .
- ومن قال لك إنك لن تسافر ؟ اجلس واسترح ودعني أقوم لك بترتيبات السفر .
- ليس هناك ترتيبات ، سأذهب الى المطار لآخذ أول طائرة .
- الى أين ؟
- الى جنيف .
- وبعدها ؟
- آخذ القطار الى كاب .
- إذن انتظر حتى أعرف لك موعد الطائرة ثم تحجز مكانا بها .
- لا أستطيع أن أنتظر .
- لا تكن أحمق ، إن ذهابك الى المطار لن يجديك نفعا ، أنت تعرف أن الحالة مضطربة وقد نجد الخطوط الجوية قد توقفت ، فدعنا نسأل لِنتأكد من موعد الطائرة ، اللهم إلا إذا كنت تريد الإقامة بالمطار .
ووقف مدحت وقد بدت عليه الحيرة والذهول وقال في لهجته المصرة : ولكين لا أستطيع أن أتركها ، لن أدعها مرة أخرى .
- أجل ، أعرف ذلك وستسافر إليها .
- الآن .
-- أجل الآن ، ولكن دعني أدبر لك الأمر ، أنت تعرف أنه لابد من الحصول لك على إجازة وتصريح بالسفر ، إنك لم تَعُد الآن مدنيا .
- سأسافر بلا تصريح مهما كان النتائج .
- اسمع سنبذل كل ما في وِسْعنا ، تعال معي نسأل أولا عن مواعيد الطائرات فهي أهم ما في المسألة ، تعال واهدأ في حجرتك فإن منْظرك مروع تعال تعال .
وجذبه من ذراعه فانساق كالطفل واستقر به في الحجرة مرة ثانية ، ورفع سماعة التليفون وبدأ يسأل عن مواعيد الطائرات وقبل أن يأتيه الرد جاءت إحدى الممرضات وقالت لِمدحت : الدكتور رشاد يطلبك في غرفة العمليات ، لقد دخلت دفعة جديدة من الجرحى .
ونظر إليها مدحت في شرود ويأس ولم يُجب ، وعادت الممرضة تكرر قولها .
وأجاب مدحت في حنق : قولي للدكتور رشاد إني مرهَق ولا أستطيع أن أفعل شيئا ، .
وهمت الممرضة بالانصراف ولكن مدحت ضغط على نواجده ونفض رأسه في ضيق ثم صاح بها : اسمعي ، لا تقولي له شيئا .
ثم نهض وارتدى مريلته مرة أخرى وقال لجاد الله في حزم وإصرار : لا تترك السماعة حتى تعرف موعد الطائرة ، إني مسافر مسافر ، سآتي إليك بعد الانتهاء من العمليات .
- لا تحمل هَمّا سأعد لك كل شيء /.
ومضى الوقت ومدحت منهمك في غرفة العمليات ، وأحس كل من حوله بتوتر أعصابه وارتجاف يديه ، وانتهى من العملية وهو يحس أنه يكاد يختنق ، واندفع من حجرة العمليات الى غرفته وقبل أن يصل إليها التقى بجاد الله فصاح به : ماذا فعلت ؟
- وجدت طائرة على خطوط السويسإير وحجزت لك مكانا عليها .
- متى ستقوم ؟
- الساعة الحادية عشرة مساءً .
- الحادية عشرة ؟
- احمد الله إني أستطعت أن أجد لك فيها مكانا ، إنها قد تكون آخِر طائرة تقوم من مصر .
- آخِر أو أول طائرة المهم أن تسافر .
- وكيف تعود ؟
- يحِلها ربنا .
- ولكن يجب أن تعود بسرعة ، إننا نحاول أن نحصل لك على تصريح خاص بالسفر ، لقد أفهمتهم أن الأمر حيوي بالنسبة لك ، قلت لهم إنك ستنقذ حياة .
وأطلق مدحت زفرة وقال كأنما يحدث نفسه : ليتني أستطيع .
ونظر في قلق الى ساعته وكانت قد جاوزت الثانية وقال في ضيق : مازال أمامنا تسع ساعات ، إن كل دقيقة لها قيمة .
- لا تجزع ، إن شاء الله ستجدها وتعود بها ، إن من السهل علينا أن نفكر في الانتحار ولكن من أشق الأمور أن نقدم عليه .
وهز مدحت رأسه في حزن وقال : إن رسالتها مفعمة باليأس .
- على النقيض ، إن مجرد كتابتها أمر يبعث على الأمل ، لقد أقدمت على مغامرة ولابد أن تعيش حتى تعرف نتائجها ، هل تتصور أنه من السهل أن تغادر الحياة قبل أن تعرف وقع اعترافها في نفسك ، لابد أن تمنح نفسها فرصة إن الأمل أقوى من الموت .
وصمت برهة وهو يفكر بمدى إيمانه بما قال ، ثم جذب مدحت من ذراعه قائلا له : هيا بنا نتناول لقمة وإلا سقطنا جوعا ، إنك لابد أن تعود الى البيت لِتجهيز حقائبك وتوديع والدتك .
وهز مدحت رأسه في مرارة وقال : لست في حاجة الى حقائب سأذهب كما أنا .
ورفع جاد الله بصره قائلا في غيظ : اسمع يا مدحت كُف عن هذا التداعي ، إذا كنت تنوي أن تسافر فيحسن بك أن تتجلَد وتتمالك قدرتك على تصريف شؤون نفسك ، إنك في حاجة الى غيارات وفي حاجة الى ملابس مدنية وفي حاجة الى أشياء كثيرة تُعِد بها نفسك للسفر .
- لقد سبق أن سافرت والسفر ليس معضلة ، ولست أريد أن أفزع أمي بوداع جديد ، إنها تعرف أني أبيت في المستشفى وأن هناك حالة طوارئ وسأتحدث إليها قبل السفر وعليك أنت طمأنتها من وقت لآخر حتى أعود .
ومرت الساعات التسع بمدحت استطاع خلالها أن يسوي مشكلات صغيرة ويُعِد ما يلزمه ، وقبيل العاشرة كان عربة جاد الله تنهب به الأرض في طريقها الى مطار القاهرة .
ووصلت العربة الى المطار واجتاز مدحت الباب بحقيبته الصغيرة في يده ، وبدت الحركة في مبنى المطار قلقة مضطربة ، وأحس مدحت بعلامات دهشة ووجوم على وجوه الناس .
ووقف الموظف المختص بمراقبة الجوازات يهز رأسه قائلا : إنه أمر خطير ، خطير جدا .
ولم يجد مدحت في نفسه قابلية للثرثرة فقد كان يريد فحص جوازه بسرعة ، ولكن جاد االله تساءل بطريقته المرحة : ما هو هذا الأمر الخطير ؟
- الإنذار البريطاني الفرنسي .
ورفع جاد الله حاجبيه في دهشة ، وزم مدحت شفتيه في انتظار مزيد من الشرح.
واستمر الرجل يقول : لقد أرسلت إنجلترا وفرنسا إلينا إنذارا .
- لماذا ؟
- للنزول في مواني القناة .
- أقصد لماذا أرسلَتا الإنذار ؟
- لإنهما تخشيان تعطل الملاحة نتيجة القتال بيننا وبين إسرائيل .
- لكن الملاحة لم تتعطل ، وقد ضربت قواتنا القوات الإسرائيلية ضربة قاصمة ، ومدرعاتنا تحتشد لِتقضي على البقية الباقية منها وتلقنها درسا قاسيا .
ورفع الرجل كتفيه وقلّبَ شفتيه في حيرة قائلا : هكذا قال الإنذار .
وهز مدحت رأسه قائلا : غير معقول لا بد إنها إشاعة .
ولكن الأمر لم يكن إشاعة وسرعان ما علا صوت الراديو لِيعلن نص الإنذار البريطاني الفرنسي الذي وجَّهه إيدن الى الحكومة المصرية والذي يطلب فيه وقف القتال الدائر بين مصر وإسرائيل وسحب جميع قواتهما الى مسافة عشرة أميال من ضفاف القناة وأن توافق مصر على مرابط القوات البريطانية والفرنسية في المواقع الرئيسية ببور سعيد والاسماعلية والسويس ، وحددت للإنذار مهلة قدرها اثنتا عشرة ساعة التالية لِتقديمه تنتهي في الساعة السادسة والنصف من صباح الحادي والثلاثين من أكتوبر .
وعض مدحت على نواجده وهو يقول في صوت مغيظ : غير معقول غيرم= معقول أبدا ، لقد أعلنت بريطانيا أنها لن تستغل الفرصة .
وهز جاد الله رأسه وقد بدا عليه الشرود والتفكير وقال ساخرا : لن تستغلها إذا استطاعت إسرائيل أن تحقق الغرض منها ، إذا استطاعت أن تصل الى القناة وتعطل الملاحة بها أما وقد سيطرت مصر ا=على أرض المعركة وسيطر سلاحنا الجوي على سمائها وبدت إسرائيل عاجزة عن تحقيق مهمتها فكيف يقف الطرفان الآخران مكتوفي الأيدي ؟ كيف لا يستغلان اللعبة وهما أصحابها ، إنها مؤامرة مدبرَة ، لم أشك في ذلك لحظة واحدة .
وتساءل موظف الجوازات قائلا : ولكن هل وصلت إسرائيل الى القناة ؟
وهز مدحت رأسه مؤكدا : بالطبع لا .
- إذن كيف تبعد قواتها عشرة أميال عنه إذا كانت لم تصل إليه ؟
وأجاب مدحت ساخرا : أظن يتحتم على مصر أن تجرها الى القناة حتى يمكن تنفيذ الإنذار .
وعاد الرجل يتساءل : ولكن لماذا تريد بريطانيا وفرنسا أن تضع قواتهما في بورسعيد والسويس والاسماعيلية ؟
- لماذا تريدان ؟ لأننا أممنا القناة ، لأنهما نادمتان على الجلاء الذي مكننا من امتلاك أراضينا واسترجاع حقوقنا والتصرف بحرية في ممتلكاتنا ، لقد كان المفروض أن يُعقَد اليوم اجتماع في جنيف لتسوية المشكلات الناتجة عن التأميم ، لكن يبدو أن إنجلترا وفرنسا وجدتا عودة قواتهما هي أفضل طريقة للتسوية .
وهز الرجل رأسه في يأس وهو يمد يده بجواز السفر الى مدحت قائلا : ولكن ماذا يمكننا أن نفعل الآن ؟
وأجاب مدحت ببساطة : لا شيء ، نرفض الإنذار أَم ترانا فعلنا كل هذا من أجل أن نعود لِنقبل ببساطة احتلال بريطانيا وفرنسا لِقطعة من أرض مصر .
وضحك جاد الله وهو يقول : إنه مجرد تهويش ، مجرد هَبْهَبة على طريقة دبابات 4 فبراير .
وتوجه مدحت وجاد الله الى البوفيه ، واستقر جاد الله على مقعده أمام المنضدة وشرد ذهنه برهة ثم تساءل قائلا : أما زلت مصرا على السفر ؟
ورفع مدحت إليه عينيه في غيظ وأجاب : مُصِر ؟ طبعا مُصِر .
- بعد هذا الذي سمعت ؟
- ماذا سمعت ؟
- الإنذار البريطاني .
- ألم تقل إنه مجرد هَبْهَبة .
- هب أنه لم يكن ؟
- ليكن أو لا يكن سأسافر سأُسافِر ..
- أتعلم أن الطريق قد يُغلَق ، وأنك قد لا تستطيع العودة ؟
ورفع مدحت كتفيه قائلا : المهم ألا يُغلَق قبل أن أُسافر.
وعاد جاد الله الى شروده برهة وما لبث أن رفع رأسه متسائلا : اسمع ، أتعرف أنك قد لا تستطيع أن تدخل فرنسا ؟
وبدت الدهشة على وجه مدحت وتساءل قائلا : كيف ؟
- أليس من المفروض أن تنتهي مدة الإنذار في الساعة السادسة والنصف صباحا ؟
- أجل .
- هل تظن أن جمال عبد الناصر سيقبل الإنذار ؟
- بالطبع لا .
- والنتيجة ؟
رفع مدحت كتفيه قائلا : لا أعرف .
- النتيجة سوف نصبح في حالة حرب مع فرنسا وإنجلترا ومعنى ذلك أنك لن تستطيع أن تدخل فرنسا أو إنجلترا .
وبدا الوجوم على مدحت ولكنه عاد يقول في إصرار : اسمع لن يثنيني شيء عن السفر .
ورد عليه جاد الله في غيظ قائلا : أيها الغبي لست أحاول أن أُثنيك ، ولكن لابد أن نفكر في كل الاحتمالات .
وأجاب مدحت وهو يزفر في يأس : اسمع سأسافر ويحلها ربنا .
- على أية حال إذا احتجت الى شيء في جنيف فاتصل بجمال أتذكره ؟
وهز مدحت رأسه بالإيجاب ثم تساءل في غير اكتراث : وكيف أتصل به ؟
- في سفارتنا في بيرن ، اتصل به تليفونيا واذهب إليه أو اطلب منه أن يحضر إليك ، إنه إنسان خدوم جدا .
وأجاب مدحت وهو يلقي برأسه الى الخلف في كلل : أرجو ألا تحوجني الظروف الى خدماته .
ودوى صوت المايكرفون يستدعي ركاب الطائرة .
ووقف جاد الله يودع مدحت عند الحاجز الشبكي وسمع أحد الطيارين وهو يهرع من الباب ويشير الى إحدى المضيفات قائلا : وداعا لك وللقاهرة ، قد تكون آخِر مرة نعود إليكم .
وضحكت المضيفة قائلة : وقد تكونون آخِر طائرة ترحل عنا .
وعلق جاد الله على قولها بقوله لِمدحت : سامِع .
- لا يهمني .
- طبعا أنا شخصيا لو في صحبة هذه المضيفة لَفضلت ألا أنزل الى الأرض أبدا .
وسار مدحت متجها الى الطائرة وجاد الله يهتف به : مع السلامة ، إذا حدث شيء فاكتب إلي .
وارتفع الطائرة في الظلمات وتباعدت حتى أضحت كأنها نجمة تتحرك في بطء .
استقر مدحت في مقعده واسترخى وأغمض عينيه وبدأ ذهنه يغرق في دوامة أفكاره ، وسط هذا الخضم من الأحداث كان مدحت يحس بشعور من الاستقرار والسكينة ، كان أهم حدث في هذا الخضم الحافل هو حياة نادية ، إن نادية لم تمت ، نادية الحبيبة العزيزة موجودة ، إنها هي نفسها التي رآها وأحس في وجهها الحزين شيئا حبيبا ودودا ، إنها هي نفسها التي ضمها فوق القبور وصحبها الى البحيرة وجلس وإياها في شرفة النادي ، هي نفسها التي ودعته باللوعة قسماتها والدمع في مآقيها ، هي نفسها التي كتبت إليه لِتقول له إنها تحبه وإنها تود أن يحبها هي ، هي نفسها المخلوقة الرقيقة التي أحكمت الإشارْب حول وجهها ، إنه يحبها بكل ما فيها ويحب أكثر ذلك الشيء الذي تخشاه في نفسها ، ذلك الحرق في عنقها مهما كان منظره فهو جزء منها ، جزء من المخلوقة الرائعة التي أحس بروعتها منذ أول كلمة كتبتها الى آخِر حرف نطقته ، المخلوقة الرائعة التي أَحبها لِذاتها لِشخصيتها وإحساسها ، والتي يحس أنه قد أَحبها أكثر عندما لقيها وودعها ، المخلوقة الرائعة وهما وحقيقة ، إن نادية كائنة وهو قد رآها وسيراها ، سيراها ، أيستطيع أن يجزم بهذا ؟ أواثق هو أنها مازلت تنتظر وأنها لن ترحل حتى تعرف نتيجة رسالتها إليه ؟
من يدري ؟
استمر مدحت في هواجسه حتى غلبه النعاس ، وقبيل الفجر هبطت الطائرة الى مطار جنيف ، وغادر مدحت المطار بحقيبته الصغيرة الى ميدان المحطة وتوجه للسؤال عن أول قطار لِيتجه الى كرينوبل ثم الى فين ومنها الى كاب ، نفس القطار الذي حمله آخِر مرة عند عودته من كاب وكان الوقت مازال مبكرا واضطر مدحت للانتظار حتى يحين موعد القطار .
وتنفس مدحت الصعداء وهو يستقر على مقعد القطار ، وأحسبالسكينة والقطار ينساب به من مبنى المحطة ويندفع بين السفوح الخُضر ، وبعد فترة توقف القطار في أول محطة على الحدود بين سويسرا وفرنسا ، وأقبل البوليس الفرنسي يفحص جوازات الركاب ، وقد مد مدحت يده بالجواز في شيء من الاسترخاء ،ووقف الرجل يفحص الجواز ثم قلب شفتيه ورفع كتفيه وأجاب ببساطة : هذا جواز مصري ؟
وأشار مدحت برأسه علامة الموافقة .
وأعاد الرجل الجواز إليه وهو يقول له بنفس البساطة : ممنوع .
ورفع مدحت حاجبيه في في دهشة متسائلا : ما هو ذل الممنوع ؟
- دخولك الى فرنسا .
- لِمَ ؟
- الأوامر .
- أية أوامر ؟
- أوامر حكومتنا .
- لِمَ ؟
- سل حكومتك ، سل عبد الناصر ؟
ونفخ مدحت نفخة قصيرة من أنفه ، هذه سخرية جديدة لقد بدا جاد الله مازحا وهو يقول له إنه قد يُمنَع من دخول فرنسا وقد أضحت مزحته جَدا ، وههو يقف على الحدود الفرنسية لا يستطيع تجاوزها ، وتذكر جمال عبد السلام الملحق الصحفي بسفارة سويسرا الذي نصحه جاد الله بأن يلجأ إليه وقت الحاجة ،ونفخ نفخة ساخرة أخرى ، ماذا يملكه له جمال عبد السلام ، بل ماذا يملك له جمال عبد الناصر نفسه ؟
وجذب مدحت حقيبته وهبط من القطار وقد أثقل اليأس كاهله وأنقض الهم ظهره .
ماذا يفعل الآن وهو يقف على الحدود كاليهودي التائه ، ونادية ، نادية العزيزة تجلس في انتظار رده إن كان ينوي أن يرد ، ولكن لماذا لا يرد ؟ لماذا لا يرسل لها تلغرافا لكي تنتظره حتى يأتي إليها إن كان هناك أمل في مجيءه إليها ؟ بل لماذا لم يرسل إليها من القاهرة بمجرد أن وصلته رسالتها ، لقد أعماه تصميمه على الذهاب إليها عن أي حل آخر ، ولو أنه أرسل إليها تلغرافا من القاهرة لكان الآن في طمأنينة ، ولكن أتُراها مازالت تنتظر حتى الآن ؟
إنه يتعلق بتعليل جاد الله ، وهو تعليل معقول ولو لم يكن معقولا لَقضى يأسا وحزنا .
اتجه الى مكتب التلغراف ووقف أمام المكتب وقد أمسك بالقلم ، وبدت عليه الحيرة .
ماذا يكتب لها ؟ أيقول لها إنه يحبها ؟
إنه يود أن يكتب لها رسالة كرسالتها ولكن ليس هذا وقته ، يكفي أن يرجوها انتظاره .
وبدأ مدحت يخط البرقية :
نادية إني أحبك ، حاولت أن آتي إليك ولكني أُوقِفت على الحدود وأنا في طريقي إليك من جنيف ، انتظريني حتى أجد طريقة للقائنا .
مدحت ...
49
عملية تهريب
أرسل مدحت البرقية الى كاب ثم عاد في أول قطار من الحدود الى جنيف ، واتجه بحقيبته الى الفندق الذيك كاد يوشك أن ينزل به في المرة السابقة ، وكان رغم ما به من قلق وتوتر يحس بالأمل يملأ جوارحه وبأن اليأس المظلم الذي أطبق عليه في المرة السابقة قد انقشع وتبدد ، ووقف أمام مكتب الاستعلامات يحيي نفس الرجل الذي حجز له مكانا في الطائرة عند العودة الى مصر .
ورد عليه الرجل التحية وقد بدت عليه علامات الدهشة وهو يسائله في أدب : لعل سيدي لا يكون في عجلة هذه المرة ؟
وأطلق مدحت ضحكته الساخرة من أنفه وأجاب : بل في عجلة أشد .
- أتريد العودة الى القاهرة مرة أخرى ؟
- ليس الآن ، إني أريد أن أتصل بسفارة مصر في بيرن .
- حالا يا سيدي .
ورفع الرجل السماعة وطلب السفارة ، بعد بضع ثوان مد يده بالسماعة الى مدحت قائلا : السفارة المصرية معك .
وأمسك مدحت بالسماعة مناديا : ألو السفارة المصرية ؟
- نعم .
- الأستاذ جمال عبد السلام الملحق الصحفي .
- انتظر .
وبعد لحظة أجاب الصوت : الأستاذ جمال غير موجود .
وأحس مددحت بالضيق والحيرة ، وعاد يتساءل : أين أستطيع أن أجده ؟
- معك مكتبه .
وسمع مدحت صوتا يجيب عليه : أَفَنْدِم .
- أين الأستاذ جمال ؟
- في جنيف .
- إني أتكلم من جنيف .
- أين أستطيع أن أجده ؟
- من الذي يتكلم ؟
- أنا الدكتور مدحت ، وصلت الآن من القاهرة وأريده في مسألة هامة .
وصمت الصوت برهة ثم أجاب في تردُد : والله لا أعلم بالضبط ، ولكني أعتقد أنك تستطيع الاستدلال على مكانه من مكتب القنصلية .
- سأحاول أن أسأل عنه هناك ، وإذا حضر إليكم أو اتصل بكم قبل أن أستطيع الاتصال به فأرجو أن تطلبني في فندق .
ثم هز رأسه سائلا موظف الاستعلامات عن اسم الفندق .
وأجاب الرجل : سافُوُي .
وأردف مدحت مرددا الاسم في السماعة : فندق سافُوُي ، وسأمكث هنا حتى أستطيع الاتصال به .
ووضع مدحت السماعة وسأل الرجل الواقف أمامه ينتظر في أدب : هل أستطيع أن أتصل بالقنصلية المصرية ؟
- طبعا .
وبعد لحظة كانت مدحت يسأل عن جمال عبد السلام ، ولم يطل سؤاله هذه المرة ، ففي اللحظة التالية كان صوت جمال يجيب متسائلا : هلو ، أنا جمال .
- أنا الدكتور مدحت .
- مَنْ ؟
- الدكتور مدحت صديق جاد الله .
وهتف جمال مرحبا في دهشة : دكتور مدحت من أين تتحدث ؟
- من هنا من جنيف .
- متى وصلت ؟
- اليوم .
- كيف وصلت ؟
- بالطائرة .
- ألم تنقطع خطوط الطيران من القاهرة ؟ ألم تقفل المطارات بعد ؟
- أظن أنها انقطعت بعد سفري ، لقد سمعت وأنا أركب الطائرة إنها آخِر طائرة تقوم من مطار القاهرة .
- الحمد لله على السلامة ، كيف الحال عندكم في مصر ؟
- الحمد لله .
وبدأ سيل من الأسئلة يتدفق من جمال .
ولكن مدحت أوقفه بقوله متسائلا : ألا أستطيع أن أراك ؟
- طبعا من أين تتكلم ؟
- من فندق سافُوُي بجوار المحطة .
- بعد بضع دقائق سأكون عندك .
ووضع مدحت السماعة ووقف شاردا ، لقد شعر ببعض الراحة عندما عثر على جمال ، لكن ماذا يستطيع أن يفعل جمال إذا كانت الحدود مغلقة ؟ أيستطيع أن يتجاوزها بجواز دُبْلماسي ؟
إنه لا يفهم في مثل هذه الأمور ، بل هو لا يفهم حتى لماذا منعوه أن يدخل ، لقد انقضت مهلة الإنذار في الساعة السادسة والنصف ، ولكن هل معنى هذا إنذار في حالة حرب ؟ وهل يستطيع جمال في هذه الحالة أن يدخل ؟ ولكن ما قيمة أن يدخل جمال وحده ؟
إنه قد يستطيع أن يقنع نادية بحقيقة مشاعره وصدق نواياه وحرارة رغبته ، ولكن أيستطيع أن يقنعها بحيث تقبل أن تعود معه الى القاهرة ؟
وإذا أقنعها هل يستطيع أن يقنع أمها ؟
إنه هو نفسه يستطيع ، إنه يثق في قدرته وبمشاعره ، بشرط أن يجدها ، وهو يعتقد أنه سيجدها ، إنها لن ترتكب تلك الحماقة التي كتبت عنها في رسالتها ، إنها مجرد خواطر دفعها اليأس في نفسها ، وهي لابد أن تنتظر نتيجة رسالتها ، وسيؤكد لها التلغراف الذي أرسله الآن هذه النتيجة ، وسيمنحها من الأمل ما يبدد يأسها ويُقف أفكارها المظلمة ، لو أنه أرسل هذا التلغراف مبكرا ؟
ولكنه كان عاجزا عن التفكير ، كان كل ما يريده هو أن يطير إليها .
وطال شروده حتى بدأ الرجل الواقف أمامه يقلق وسأله موقظا : سيدي هل أحجز لك غرفة ؟
- وأجاب مدحت معتذرا : أ أجل أجل سأصعد إليها الآن وعندما يحضر الأستاذ جمال الذي كنت أتحدث معه اطلبني كي أهبط إليه .
وصعد مدحت الى الحجرة وأراحتهبساطتها ونظافتها .
ووقف مدحت في الشرفة المطلة على الميدان وأحس ببرودة الهواء ، وشم في نسماته عبير الجبال والبحيرات ، وأحس بأنه غير بعيد عن مواطن أحلامه ومرتع أمانيه ، وبأن نادية باتت منه على قيد خطوات ، وأن هذه القمم البِيض التي تلوح في الأفق هي نفسها التي تطل على بيتها .
واغتسل مدحت في الحمام الملحق بالغرفة ، وأبدل ملابسه ، ولم يكد يستلقي على الفراش حتى دق جرس التليفون ، ثم سمع صوت جمال مباشرةً يصيح به : دكتور مدحت .
- سأهبط إليك حالا .
ووضع السماعة وأسرع الى بهو الفندق ، وتعانق الرجلان في شوق ولهفة رغم أن أحدهما لم ير الآخر إلا مرة واحدة ، ولكن إحساس مدحت بالغربة والوحشة وإحساس جمال بأنه يرى مواطنا من بلده المكافح جعل كل منهما يشعر نحو الآخر بألفة شديدة .
وروى مدحت لجمال خلاصة الحال في مصر ، وحدثه عن الهجوم اليهودي والجرحى وعن الإنذار الذي تلقته مصر .
وهز جمال رأسه قائلا : لقد سمعت الإنذار في الساعة السابعة مساء أمس .
- لقد سمعته وأنا في المطار .
- لقد رفض جمال الإنذار .
- كنا نعرف جميعا ذلك .
- لقدرفضه بقوة وحزم ، لقد أعلن أن مصر لا يمكن أن تسمح أو توافق على احتلال بورسعيد والاسماعلية والسويس بقوات أجنبية بريطانية فرنسية ، لقد أعلن باسم مصر أن هناك انتهاكا لحريتها واعتداء على سيادة الشعب المصري وكرامته ، وقد أعلنت إسرائيل موافقتها على شروط الإنذار .
- طبعا توافق ، كيف لا توافق على الانسحاب عنالقناة العشرة أميال وهي بعيدة جدا عنه ؟
- إنها توافق لأنها معتدية ولأن قواتنا منتصرة وهي ترغمها على الارتداد .
- وماذا تظن إنجلترا فاعلة ، هل ستقف مكتوفة اليدين أمام رفضنا للإنذار ؟
- أعتقد أنها يجب أن تفعل ذلك ، يجب أن تكُف عن الاندفاع أبعد من هذا .
- لا أظن ، إنها لا تستطيع أن تتراجع بعد هذا الإنذار .
- إذن عليها أن تخوض حربا ، لأننا لن نسلم بلادنا أبدا ، إذا كان إيدن لا يستطيع التراجع في عملية اعتداء فلا أظن جمال يستطيع التراجع في عملية دفاع عن سلامة الوطن وحرية الشعب .
وأطلق جمال تنهيدة قلق قائلا : ربنا يهديهم ، إن أي اعتداء يمكن أن يقوموا به قد يُطلق الشرر في العالم كله ، ومن أجل هذا أعتقد أنهم لن يغامروا بتنفيذ الإنذار .
ورفع مدحت كتفيه قائلا : أرجو ذلك ، ليس هناك من يتوق لإشعال حرب جديدة .
ونظر جمال الى مدحت وبدا عليه الشرود وتساءل : لم تخبرني بعد ما الذي أتى بك في هذه الظروف العصيبة ؟ لقد ألهانا الحديث .
وأحس مدحت بحيرة شديدة ، ماذا يمكن أن يقول له وسط هذه الأحاديث عن الإنذار والاعتداء والحرب الموشكة والموقف المتأزم والظروف العصيبة ،؟
هل يجسر أن يقول له لماذا أتى ؟ أيقول له قد أتى لِيأخذ فتاةً تحبه ويمنعها من الانتحار من أجله ؟
وأحس بتفاهته ، وساد الصمت واستغرق في الشرود والتفكير .
وأخذ جمال يرقبه في شيء من الدهشة ، ثم تساءل في صوت خافت : ألا أستطيع أن أكون موضع ثقتك ؟
وهز مدحت رأسه قائلا : بل يجب أن تكون كذلك ، إني في حاجة إليك .
- لماذا لا تتحدث إذن ؟ ماذا أتى بك الى هنا ، وماذا يقلقك ؟
وأطرق مدحت وقال في صوت خافت كأنما يحدث نفسه : المسألة في الواقع تحتاج الى شرح طويل ، يجب أن تفهم كل الظروف المحيطة بها والدوافع التي خلقتها حتى تلتمس لي بعض العذر وحتى لا أبدو أمامك مخلوقا تافها .
وهز جمال رأسه وقال مؤكدا : إنك آخِر من يُتهَم بالتفاهة ، إني أعرفك من جاد الله جيدا وإني معجب بك جدا ، كل ما أرجوه أن تضع ثقتك فِيَّ وسأفعل من أجلك كل ما أستطيع .
ورفع مدحت بصره وزم شفتيه ثم اعتصر جبينه وقال في صوته الخافت الذي يبديه كأنما يحدث نفسه : إني أريد منك أن تجد لي سبيلا للدخول الى فرنسا .
ورفع جمال حاجبيه في دهشة وتساءل : وهل منعك أحد ؟
- أجل ، حاولت اليوم عبور الحدود بالقطار فمَنعوني .
- وإلى أين تريد الذهاب ؟
- الى بلدة في جبال الألب العليا تسمى كاب .
وبدت الدهشة على وجهه وهتف متسائلا : كاب ، ولماذا كاب بالذات ؟ من تعرف هناك ؟
- فتاة مصرية تعيش هناك .
ونظر جمال الى وجه مدحت نظرة طويلة فاحصة ، وتساءل في صوت خافت : مصرية في كاب ، لا أعتقد أن هناك غيرهما ، أتُرى من تكون منهما منى أو نادية ؟
ورفع مدحت رأسه مأخوذا وتساءل وقد تلاحقت أنفاسه : هل تعرفهما ؟
- عرفتهما على ظهر السفينة وأنا في طريقي الى هنا .
وصمت جمال برهة وتساءل في لهجته المأخوذة الحائرة : ولكن كيف عرفتهما ؟ وماذا يدفعك للإصرار على زيارتهما في هذه الظروف العصيبة .
وصمت مدحت برهة وقد بدا عليه الشرود واستبدت به الحيرة ، ومرة أخرى لا يدري كيف يشرح ، وهز رأسه في حيرة وقال في لهجته الخافتة : لست أعرف كيف أوضح لك ، إن المسألة تحتاج كما قلت لك الى شرح طويل ، فإن مجرد ذكرها لن يشعرك بمدى أهميتها وخطورتها في نفسي ، ولكني ...
وصمت مرة أخرى .
وعاد جمال يقول مستحثا : ولكنك ماذا ؟ لماذا لا تتكلم ؟ إني أفهمك جيدا قل كل ما تريد ، من منهما تهتم بأمرها ؟
وأطلق مدحت نفخته الساخرة وقال : الباقية منهما ، ألا تعرف أن منى قد ماتت ؟
وهتف جمال مرتاعا وردد قوله كالمأخوذ : منى ماتت ، غير معقول !! الفتاة المرحة اللطيفة التي لا تهدأ لحظة ولا تكُف عن المزاح والضحك ماتت ؟!! لقد رأيتها هي ونادية على ...
وقاطعه مدحت في قلق وأسى : اسمع يجب أن أذهب الآن الى نادية ، إني أخشى ...
وصمت مدحت .
وعاد جمال متسائلا : تخشى ماذا ؟ لماذا لا تنطق ؟
- لا أدري كيف أشرح لك ، ولا من أين أبدأ .
وتوقف مدحت عن الحديث فجأة ومد يده الى جيبه وأخرج رسالة نادية وأردف قائلا وهو يتنهد في يأس : اقرأ هذه ، أعتقد أنها ستكون أقدر على إفهامك كل شيء .
وأمسك جمال الرسالة وانهمك في قراءتها وقد بدت عليه أقصى علامات الدهشة ، وعندما انتهى من قراءتها طواها في رفق وهو يتمتم قائلا : إذن فهو أنت ؟
وتساءل مدحت مرددا قوله : هو أنا ؟
- أجل ، أنت الوهم الكبير الذي وقف في سَبيلي ، والذي وعدتني بأن أكون أول من تفكر فيه إذا ما زال .
وصمت جمال ثم أخذ يطرق المنضدة بإصبعه قائلا : لماذ تتوقع أن أسخر منك ، لقد أحببتها أنا كما لم أحب في حياتي ، أحببتها بعنقها المقروح ، عنقها الذي أقامت منه حاجز يأس يقف في سسبيلها إليك وإلى كل أمل ، أحببتها بكل ما أملك من مشاعر ، أحببتها وهي مستلقية على مقعدها فوق ظهر السفينة وقد أطارت الريح الإشارْب فكشفت أسها وعنقها ولم أجد به ما يستحق الإخفاء ، لم أجد بها ما يشوهها قط ، وأصابها الجزع وظنت حبي شفقة ، وحاولت أن أقنعها عبثا لأنك كنت تقف في سبيلي وهما كبيرا يسيطر على مشاعرها ، وسدا ضخما يقوم بينها وبين كل طارق لقلبها ، وكنت أنتظر أن يزول الوهم ولكني أجده الآن قد تجسد لِيصبح حقيقة واقعة لا تزول ولا تُقاوَم .
وصمت جمال ومد يده بالرسالة الى مدحت وهو يقول : إني سعيد من أجلها ، شقي من أجل نفسي .
ثم نهض فجأة وهو يقول في حزم : قم ، سأفعل المستحيل لأوصلك إليها .
وخرج الاثنان من الفندق وتساءل مدحت قائلا : الى أين ؟
- سنحاول أن نعبر الحدود بواسطة الترام .
- الترام ؟
- أجل ، سنذهب الى ألماس وسنعبر الحدود بها في الترام ، وقد تستطيع أن تمر من الحراس الفرنسيين .
- بمثل هذه السهولة ؟
وذهب مدحت وجمال الى ألماس وتحرك بهما الترام عبر الحدود ، وقد بدا القلق على وجه مدحت وأحس بأعصابه مشدودة متوترة .
وقال جمال مستضحكا : لا تحمل هَما أنا مسؤول عن إدخالك الحدود .
- وإذا مُنِعنا ؟
- سنأخذ قاربا ونهرب من البحيرة الى إيفن وهناك نستطيع أن نأخذ القطار حتى بلغراد حتى كرينوبل وأظنك تعرف طريقك بعد ذلك .
- أتظن العملية ممكنة ؟
- جدا ، ليس أكثر من أصحاب القوارب المهَربين في بحيرة ليمن ، المهم أن تعرف أنت بعد ذلك طريقك الى كاب ، ولست أظن في ذلك مشقة ، كل ما عليك أن تذهب الى المحطة وتأخذ القطار المتجه الى كرينوبل وبعدها تهبط في الطريق في فين .
وتوقف الترام وصعد جنديان فرنسيان ، وأحس مدحت بقلبه يدق في عنف ، ومر الجنديان بصفوف الركاب وهما يلقيان نظرة عابرة على الجوازات حتى وصلا الى مدحت ، ونظر أحدهما الى الباسبورت وهَمَّ بتجاوزه ولكنه عاد وتوقف ثم ألقى عليه نظرة أخرى وحدث زميله ثم ناوله الباسبورت ونظر الى مدحت قائلا : ممنوع .
وهز جمال رأسه مستفسرا : ما هو الممنوع ؟
- المرور .
- لماذا ؟
- هذه هي الأوامر .
ولم يكن هناك جدوى من المناقشة .
فهبَطَ الاثنان واتجها الى الترام العائد وجمال يقول ضاحكا : لم يبق أمامنا إلا البحيرة ، سأهرب بك كالممنوعات ، هل سبق لك أن قمت بعملية تهريب ؟
وهز مدحت رأسه وهو شارد مهموم .
وأردف جمال يقول : علينا أن ننتظر حتى يسقط الظلام ، سأتركك في الفندق وأذهب للاتفاق مع أحد أصحاب القوارب .
ووصلا الى الفندق وقبل أن يفترقا تساءل مدحت قائلا : أتظن العملية ستكون ممكنة ؟
- طبعا ممكنة .
ولم يبد على مدحت الاقتناع .
فأردف جمال قائلا : سأبقى معك حتى نصل الى كاب ، هل يريحك هذا ؟
وأحس مدحت بشيء من الطمأنينة وتساءل : وعملك ؟
- لن يضيرهم أن أتركهم يوما ، وأظننا لن نتأخر أكثر من ذلك لأننا سنكون مرتبطين بموعد مع صاحب القارب لكي يعيدنا مرة أخرى .
هز مدحت رأسه وقال مؤكدا : لا لا ، لن نتأخر أكثر من مسافة الطريق .
ومضى اليوم بمدحت وهو قابع بحجرته في الفندق ، مستلقي على الفراش مفتوح الجفنين منطلق الذهن ، قد أقدم بتفكيره على كل ما يُحتمَل أن يُقدِم عليه .
وعندما بدأ الضوء يبهُت وتسللت خيوط الليل سمع مدحت طرقات على باب الحجرة ، ثم فتح الباب ودخل جمال وهو يقول في عجلة : ها أجاهز أنت ؟
- جاهز منذ الصباح .
- لقد أعددت القارب ، إن الرجل ينتظر على الشاطئ في طرف المدينة ، هيا بنا ، خذ معطفك ارتدي كل ما تملك من بلوفرات فَبرودة الليل لا تُحتمَل وسط البحيرة .
وارتدى مدحت معطفه وهبط مع جمال ، .
وفي الطريق قال جمال : أسمعت آخر الأخبار ؟
- لم أسمع شيئا ، إني مستلقٍ في الفراش منذ أن تركتني .
- لقد أذاع صوت بريطانيا إن قيادة بريطانية فرنسية مشتركة قد تكونت في يقوسيا وأن الجنيرال جاوسكيتل البريطاني قد عُيِن قائدا لها وأن باربو الفرنسي قد عُيِن نائبا له .
- وماذا يعني هذا ؟
- يعني إن إنجلترا وفرنسا مصرتان على السير في حماقتهما حتى النهاية ، قد بدأت الغارات على القاهرة والإسكندرية والقناة وقد أبلغت مصر مجلس الأمن ، وعقد مجلس الأمن جلسته ، ولكن بريطانيا وفرنسا استهانتا بجميع القوانين الدولية واستهانتا بميثاق الأمم المتحدة واستهانتا بالرأي العام العالمي ، واعترضتا على قرار وقف القتال وقال إيدن إن بريطانيا لا تعترف بقرارات مجلس الأم وستعمل كل ما في وسعها كي لا تُعَد إسرائيل معتدية لأن عملها من أحسن الأعمال ، وأغلب الظن أن مجلس الأمن لن يستطيع الوصول الى قرار .
- إنها إذن مؤامرة وإنجلترا وفرنسا تصران على بلوغ الهدف منها وهو أحتلال القناة .
- طبعا ، إن وزارة الدفاع البريطانية تقول إنها ستضرب المطارات المصرية لأن مصر رفضت سحب قواتها ، ولكن يبدو أن الغرض هو إعجاز سلاح الطيران المصري الذي تفوق تفوقا تاما على إسرائيل وكذلك لعزل القوات المصرية التي تُحْشَد لِرد قوات إسرائيل ، إن بريطانيا وفرنسا لا يمكن أن تتركا إسرائيل تتلقى الضربة وحدها .
- لست أظن أن هناك عملا أحط من هذا ولا أحقر ، من كان يصدق أن بريطانيا وفرنسا الدولتين الكبيرتين تطعنان مصر الدولة الصغيرة في ظهرها وهي تتوجه لِحماية حدودها من عدوان إسرائيل ، إن هذا العمل سيكون سُبَّة في تاريخ إنجلترا ، كان أكرم لها أن تتجه رأسا لاحتلال القناة وتعلن أنها تدافع عن مصالحها بدل ذلك الغدر والخَتال والخديعة التي لا تنطلي على أحد .
- على أية حال لا أظن المسألة ستنتهي بسهولة ، إن مصر ستقاوم فنحن لم نعُد في القرون المظلمة التي يمكن أن تُغتال فيها الشعوب خفية عن أبصار العالم .
ووصل الاثنان الى ساحة البحيرة وكانت الظلمة قد سادت وصقيع الليل وبرودة البحيرة تَلْسَع الوجوه والأطراف ، وبدا القارب تحت إحدى الأشجار وتحقق صاحبه من وجه جمال ، وفي صمت هبط الاثنان الى القارب ، وأخذ القارب يشق طريقه في سكون الليل وسط البحيرة ولم ينبس واحد من الثلاثة ببنت شفة حتى وصل القارب الى الشاطئ مرة أخرى .
وكانتأضواء مدينة إيفيَن تتلألأ من بعيد .
هبط مدحت وجمال ، وقال جمال لِصاحب القارب : سنعود إليك في مثل هذه الساعة غدا .
وهز الرجل رأسه ، وهبط مدحت وجمال يشقان طريقهما بين الأحراش ، وبعد نصف ساعة كان القطار يتجه بهما من إيفيَن الى بلغراد .
وفرك جمال يده وهو مسترخي في مقعده قائلا : ما رأيك في عملية التهريب هذه ؟
وقبيل الصبح وصل الاثنان الى كاب ، واتجه مدحت بجمال الى النادي ثم تركه ، وسار الى بيت نادية وقلبه يدق بين جوانحه ورجفة القلق تسري في كيانه ...
50
أحقاً عُدْت
هبطت نادية سفح الجبل بعد أن أتمت رسالتها الأخيرة الى مدحت وقد عزمت على أن تلقي بها في البريد ثم تمر بالبيت لِتودع أمها ، وتعود الى الجبل مرة أخرى لِتلقي بنفسها من الهاوية أو لِتضع نفسها كما قال مدحت في موضعها حتى تستحق زهرته على قبرها وتنعم بحزنه عليها .
عندما عادت الى البيت تلقتها أمها في لهفة وقد بدا عليها القلق وهتفت بها : أين كنت يا نادية ، لقد أصابني القلق عليك ؟
- لقد صعدت الى الجبل منذ الصباح .
- وحدك ؟
- أجل .
- ومكثتِ فيه حتى الآن ؟
وأطرقت نادية وهي تنظر الى أمها في إشفاق وحزن وقد تجلت مدى الفجيعة التي يمكن أن تصيبها إذا ما أقدمت على تنفيذ خطتها ولحقت بأختها .
وضمتها الأم إليها وهي تقول : كدت أجن خوفا عليك .
- لماذا إني لم أفعل شيئا غير عادي ؟
- لم أتعود منك هذه الغيبة وحدك وخشيت أن يكون قد أصابك مكروه .
وكان الأب رينو يجلس أمام الجدة التي استرخت على مقعدها الكبير في حجرتها .
وتمتمت الجدة قائلة : إني أخشى على الفتاة الصغيرة أن يصيبها شيئ من فرط الحزن والوحدة ، لابد لها أن تبدل هذا الجو القاتل وتخرج من هذه الوحشة المعتمة .
وتساءل الأب رينو : ولماذا لا تفعل ؟
- لقد حاول أصحابها أن يخرجوها من انطوائها وزاروها بضعة مرات ولكنها كانت تضيق بهم وتصعد هاربة الى حجرتها .
- إذن سأجرب أنا معها ، إن مدام كلود ستذهب الى قريتها بضعة أيام وأعرف أنها لا يسعدها شيء كصحبة نادية وأعرف أن نادية تحب كلود وتطمئن الى صحبتها وسأحاول الآن إقناعها بالذهاب معها .
ونهض الرجل لِيَلقى نادية مُرَحِبا : أهلا بفتاتي الهاربة لقد حضرت في الوقت الملائم ، لقد كنت أتآمر مع جدتك على خطفك .
وشدت نادية على يد الرجل مُرَحِبة وتساءلت : الى أين ؟
- الى قرية مدام كلود .
- قرية مدام كلود ؟
- أجل ، لقد قررنا أن بقاءك هنا وانطواءك في حجرتك أمر غير معقول وستُسر مدام كلود بصحبتك الى قريتها .
- ولكن ...
وقاطعها مسيو رينو قائلا : ليس هناك ولكن ، لقد قررنا أنا وجدتك أن تذهبي الى معها وأظن أمك لن تعارض .
وأجابت الأم في حماس : أبدا إني أتمنى أن تخرج من عزلتها لِترى الناس ، وليس هناك أدعى للاطمئنان عليها من صحبة مدام كلود .
وأجابت نادية : ولكني لم أشكُ لأحد ، إني لم أعد أطيق صحبة الناس .
ورد مسيو رينو في شيء من الحدة : ومن أجل هذا يجب أن تخرجي الى الناس ، يجب أن تكوني أكثر جلَدا وأقوى تحملا ، يجب عليك ألا تفقدي إيمانك بالله وبالناس وبالحياة ، لقد أصابتني نفس الضربة التي نزلت بكم وكدت أقضي من اليأس وأفقد الإيمان بكل شيء ولكني تحاملت على نفسي وتجلَدت وخرجت الى الحياة لِأفعل شيء أفيد به الناس ، ونزلت من داري فوق الجبل وشيدت مدرسة لليتامى ورحت أبذل فيها كل ما أملك من جهد ومال حتى استطعت أن أصل بها الى ما ترينها الآن ، ولقد بدد العمل من نفسي اليأس ، وأضاع الجهاد في في سبيل الناس والخير كلما أحاط بي من وحشة وكآبة وحزن ، وهأنا الآن كما ترينني أحيا وأعمل .
وصمت رينو برهة ثم ربت على ظهر نادية وأردف قائلا : هيا يا بنيتي هيا ، جهزي حقيبتك وتعالي معي ، لن تغيبي أكثر من بضعة أيام تغيرين ذلك الجو القاتم الذي تعيشين فيه وتكسرين ذلك الملل الذي تجري عليه حياتك ، هيا إني سأقدم بك الى مدام كلود أجمل مفاجأة ، هيا يا نادية .
ووقفت نادية مترددة وهي لا تدري بما ترد على إلحاح الرجل الذي يوشك أن يعرقل خطتها المرسومة .
وهتفت بها الجدة قائلة : هيا يا نادية لا تكوني عنيدة .
وربتت الأم ظهرا في رقة راجية : هيا يا نادية ، إني واثقة أنك ستكونين أحسن حالا .
وأحست نادية أنها لابد أن تؤجل خطتها حتى تعود من صحبة كلود ، وتسلل الى نفسها خيط رفيع من الأمل ، من يدري ربما تعود من القرية لِتجد ردا على رسالتها ، ومن يدري أيضا ربما يكون ردا جميلا يُبعد عنها تيار اليأس الذي يجرفها الى الدمار ، من يدري من يدري ؟
ولكن أمعقول أن يحدث ؟
معقول أَم غير معقول إنه مجرد أمل ، مجرد بصيص من أمل يضيء الظلمات المكدسة في حناياها .
لماذا لا تنتظر ؟ لماذا لا تمنح نفسها فرصة الأمل حتى ولو كانت فرصة كاذبة لا طائل تحتها ، ما الذي يدفعها الى التعجل أهي الرغبة في الراحة والهروب من اليأس ؟
ولكن إذا كان هناك بصيص من أمل فلماذا لا تنتظر من أجله ؟
بصيص من أمل ؟ من الذي منحها هذا البصيص ؟ أوهامها ، أمازالت تحاول مرة أخرى أن تتعلق بالأوهام ؟
وهزت نادية رأسها في ضيق ، ثم اندفعت الى أعلى ، وبعد لحظات كانت عربة المسيو رينو تنطلق بها الى بيت كلود ، ولم يطل بها الوقت هناك حتى رحلت الاثنتان الى القرية .
واستقرت ناددية مع كلود في قريتها ، ونجح تبديل المكان والخروج من الوحدة في إزالة بعض ما في نفسها من يأس معتم ووحشة قاتلة ، ولكن لم تمضِ بضعة أيام حتى تملكها إحساس بالقلق والرغبة بالعودة الى البيت ، وكان مبعث القلق ذلك الخيط الرفيع من الأمل الذي تسلل الى نفسها والذي يجعلها تتوهم احتمال وصول رد من مدحت ، رد إن وصل سيكون الحاسم في أمرها المُقرِر لِمصيرها ، وشيء خفي في باطنها يُمسِك ذلك الخيط ويثبته ويؤيده ، شيء يجزم لها أن مدحت لن يخذلها ، وأنه يحبها هي ، هي لا الصورة ولا القبر وإنما هي بكيانها وشخصها في أية صورة وعلى أي وضع ، فإن كانت واهمة وإن خذلها فهي تعرف مقرها ، إن لها في رقدتها فيه خير راحة وأجمل عزاء .
وصل مدحت الى البيت ومرة ثانية وجد نفسه يقف بالباب لِيطرقه ، وشتان ما بين طرْقة وطرْقة ، كانت الأولى طرْقة أمل وكانت الثانية طرْقة تردد وخوف .
وفُتِحَ الباب وطل منه وجه جانيت ، وأحس مدحت بشيء من الخيبة ، كان يتمنى لو كان الوجه المطل ، الوجه ذا الإشارْب والملامح الرقيقة ، وهز مدحت رأسه محييا ، ثم تساءل في لهجة مترددة : أأستطيع أن أرى نادية؟
وهزت جانيت رأسها بالنفي .
وأحس مدحت بشيء يفري أمعاءه ، أتُرى قد نفذت وعدها ؟ أتُرى الوقت قد فات ؟
وأحس بأنه عاجز عن النطق ، عاجز عن الاستفسار ، لقد خشي مرة أخرى أن يسمع ما سمعه أول مرة من نادية نفسها ، أن نادية قد ماتت ، لقد رَوَّعه أن يتلقى الصدمة مرة ثانية ، ومضى الوقت به وهو يحملق في صمت .
وبدا القلق على الوجه المطل من الباب ، وأحس أنه لابد أن يسأل فقال في لهجته المترددة الخائفة : هل ،، أعني ، هل أستطيع ان أعرف ، أعني .
وضاقت جاني في تردده وسألته بشيء من نفاد الصبر : هل أستطيع أن أعرف من أنت ؟
- أنا ؟ أنا ، أنا الدكتور مدحت ، لقد أرسلت إليها تلغرافا بالأمس .
وقاطعته جانيت لِتسأله بشيء من الدهشة : أنت الدكتور مدحت ، لقد وصل تلغرافك ولكنها لم تتسلمه لأنها رحلت منذ بضعة أيام .
ومرة أخرى أحس بالشيء الذي يفري أمعاءه ، رحلت ما معنى رحلت ؟ هل يمكن أن تكون المرأة البليدة تعني برحلت أنها ماتت ، ولكن لماذا تقولها بمثل هذه البساطة والبلادَة ، إنها لا يمكن أن تعنيها .
وكان عليه أن يلم أطراف شجاعته ويسأل ودقات قلبه تكاد تعلو على نبرات صوته : رحلت ، إلى أين ؟
- الى قرية مدام كلود .
وتنفس مدحت الصعداء ، الحمد لله إنها مازالت كائنة ، لم تخذله وتذهب ، ولم يستطع مدحت أن يمنع التهلل من الانبساط على أساريره وقال متسائلا : ومتى ستعود ؟
- ورفعت جانيت كتفيها قائلة : لا أعرف بالضبط وإن كنت أعتقد أنها لن تغيب ، قد تعود غدا أو بعد غد .
غدا أو بعد غد ، ولكنها على أية حال أهون بكثير من ألا تعود مطلقا ، ماذا يفعل بجمال وبالقارب المنتظر ؟
إن المفروض أن يعودا هذا المساء ، إن الفرصة ضيقة أمامهما ، إن على جمال أن يعود الى عمله وعليه هو أيضا أن يعود الى القاهرة ، فليس مفروضا والمعركة يحتدم أوارها في مصر أن يبقى هو متسكعا في جبال الألب ، على أية حال إنه يستطيع أن يترك لها رسالة يشرح فيها كل مشاعره ونواياه ، ثم هو يستطيع أن يحدث أمها ويقنعها ، وقبل أن يفتح شفتيه لِيرد على التساؤل سمع صوت عربة تقف بالباب الخارجي للحديقة ، وفُتِح باب العربة ثم أُغلِق ، وسمع صوتا يقول : الى اللقاء .
واستدار لِيواجه المفاجأة العجيبة ، يواجه نادية تعبر الممر في طريقها الى الباب ، ورفعت نادية عينيها لِتجد مدحت يحملق فيها مشدوها ، فجمدت في مكانها بلا حراك .
ودون أن ينبس بكلمة واحدة مد ذراعيه وضمها إليه ، ومضت برهة وهو يحيطها بصدره وذراعيه ويمسح رأسها بشفتيه وأنفه ، واستسلمت هي لِضمته وهي تهتز مرتجفة كالصادية أهلكها الظمأ وأحرقها الهجير .
ووقفت جانيت ترقب المنْظر مشدوهة ، ثم هزت رأسها في حيرة ودلفت الى الداخل .
وخفت ضمَة ذراعي مدحت عن جسدها ، ورفعت نادية رأسها والدموع الصامتة تهمي من مآقيها ، ومد مدحت يده فانتزع الإشارْب الذي تحيط به رأسها وعنقها وقذف به بعيدا ، مث انحنى على عنقها يمسه بشفتيه في أقصى آيات الحنان والحب وهو يهمس قائلا : إني أحبك أنت بكل ما فيك ، على أية صورة وفي أي وضع ، أحب نادية التي أحبتني وكتبت إلي .
ومدت نادية يدها الى عنقها تتحسسه في خوف .
وهتف بها مدحت في لهجة تأنيب : ماذا ظننتني يا نادية ، أظننتني تافها يضيع حبه مجرد آثار أعتقد أنا المسؤول عنها ؟فلو كنت بقيت معك حتى أجريت لك العملية لما تركت هذه الآثار التي تركها هذا الأحمق في عنقك .
وكانت نادية تنظر إليه مشدوهة دون أن تنطق بكلمة .وعندما استطاعت أن تتحدث هتفت وهي تتحسس ذراعيه كأنما تحاول أن تتأكد من أنه حقيقة واقعة : أحقا عُدْت ؟
وعاد مدحت يضمها إليه ضاحكا وهو يقول : طبعا عُدت ، ماذا كنت تظنينني فاعلا إزاء رسالتك العجيبة ؟ أكنت أتركك ترتكبين حماقتك وأرسل تلغراف تعزيَة الى ماما ؟
وضحكت نادية وقالت وهي تمسك بيده وتقوده الى الداخل : ألا تنوي التعرف بماما هذه المرة ؟
- بل أنوي أخذك أنت وهي الى مصر الآن .
- الآن ؟
- أجل .
- غير معقول .
- ليس هناك شيء غير معقول ولا مستحيل بعد أن وجدتك .
- ولكن لماذا نرحل الآن ؟
- لأن مصر قد أصبحت في حالة حرب مع فرنسا وقد دخلت الى الحدود متسللا في قارب مع صديق يعرفك .
- يعرفني أنا ؟
- أجل ، جمال عبد السلام .
- جمال ، الملحق الصحفي في سويسرا ؟
- أجل ، لقد كان له الفضل في إدخالي عبر الحدود ، وقد أتى معي حتى كاب وهو ينتظرني في النادي .
- حقا ؟ إنه مخلوق نبيل .
- لا تمدحيه أكثر من ذلك لأني أغار .
ونظرت نادية إليه ضاحكة ثم همست قائلة : لا أستطيع أن أصدق أني أعيش في الحقيقة ، أبدا إن هذا فوق ما كنت أحلم به .
ونظر إليها مدحت ضاحكا وهو يهز كتفيها قائلا : دعينا الآن من الأحلام أفيقي يجب أن نعود الآن الى أيفيِن فالقاربر ينتظرنا هناك .
وبدا الشرود على وجه نادية وأجابت : ولكن ماما .
- ما لها ماما ؟ ستأتي معنا .
- غير معقول .
- دعي أمر ماما لي ، أين هي ؟
ودخلت نادية الى حجرة أمها هاتفَة وقد بدا عليها القلق والحيرة : ماما لدينا ضيف من مصر .
- من مصر ؟
وأطرقت نادية وأجابت في حياء وتردد : أجل ، الدكتور مدحت الذي ، أعني ، أننا ...
وتمتمت الأم قائلة : لا داعي للشرح إني أعرف كل شيء ، إني أعرفه جيدا من أختك منى .
وازدردت نادية ريقها وقالت : لقد عاد لِيأخذنا .
- يأخذ مَنْ ؟
- أنا وأنت .
وأطلقت الأم تنهيدة حارة وضمت نادية الى صدرها وهمست قائلة : منذ سنوات طوال أخذني أبوك الى مصر ، وكنت سعيدة كان ذلك منذ زمن سحيق ، أما الآن فأحس أن مكاني هنا ، إن فرصتنا في الحياة لا تتكرر مرتين ، فعودي أنت معه أنا أعرف مدى سعادتك بعودته وبعودتك معه ، وأحس من سعادكت عزاءً لي عن فُرْقتك ، أين هو ؟
وخرجت الأم الى القاعة ونظرت الى مدحت نظرة عطف وحنان ثم مدت يدها وضمته إليها ، وانحدرت الدموع من مآقيها وهي تهمس : خذ بالك من نادية ، ما كنت أتركها لولا يقيني من حبك لها وحبها لك .
وقال مدحت مؤكدا : ولكنك ستأتين معنا .
وهزت الأم رأسها في صمت .
وتساءل مدحت في دهشة : لماذا ؟
- لقد فات العمر ، وهنا أرضي وأرض آبائي ، وهنا ترقد حبيبتي الأخرى ، إن في هذا الوطن شيء يشدني إليه ، نفس الشيء الذي يشدكم الى مصر أرضكم الحبيبة وموطنكم العزيز .
وهتفت نادية راجية : ولكني لن أتركك وحدك .
- بل ستتركينني الآن وتعودين إلي ، تعودين إلي مع مدحت ومع أولادكما ، وأدعو الله أن تكوني أحسن مني حالا وأسعد حظا و ...
وقاطعها مدحت قائلا : ولكن فرصة العودة قد لا تَسنَح ، إن الحرب قد نشبت بين فرنسا ومصر .
وهزت الأم رأسها قائلة في نبرات ملْؤُها الثقة والسكينة : الحرب أجلها محدود والسلام أبقى وأثبت ، إن شعور المودة بين البشر أقوى من أحقاد الساسة ، الحب أقوى من كل شيء ، النيران ستخمد والدوي سيتبدد وتهب نسائم السلام على الأرض دائما ، وسنعود مرة أخرى لِيعانق بعضنا بعضا ، إن في أرضكم المحبة وفي أرضنا المحبة ، والمحبة أقوى من كل مشاعر الحقد والضغينة .
ومد مدحت ذراعيه فضم المرأة الطيبة الوادعة وقد سرى إليه من روحها الوادعة شعور فياض من السكينة والمحبة والسلام ، ولم تمضِ الساعة حتى كانت نادية قد أعدت حقيبتها ، ووقفت الأم تودع ابنتها والدموع تنهمر من مآقيها .
وأشارت لها نادية وملء نفسها الحزن والأسى وهي تهتف : سنعود إليك قريبا ، قريبا جدا .
والتفتت الى مدحت وهي تسأله مؤكدة : سنعود إليها قريبا أليس كذلك ؟
- بالطبع يا حبيبتي سنفعل كل ما يرضيك ويريحك .
وقبل أن يذهبا الى النادي لأخذ جمال مرا بالمقابر البِيض المُنَضَّدة وسط الخمائل ووضعا على أحدها عودين مكللين بأزهار الزنبق الأبيض .
وأخيرا عادا الى المحطة مع جمال ، وحملهم القطار الى إيفيَن ، وفي الموعد المحدد سار بهم القارب يشق سطح البحيرة في سكون الليل ، وأخيرا وصلا الى جنيف ، ونزلت نادية في حجرة مجاورة لحجرة مدحت وفي الصباح كانت إحدى الطائرات تقلهما الى بيروت حيث يأخذان طائرة أخرى الى الخرطوم لِيعودا الى القاهرة عن طريق سكة الحديد .
ووقف مدحت ونادية يودعان جمال .
وقالت نادية في صوت ملؤه الشكر والعرفان بالجميل : لست أدري كيف أشكر لك .
وهز جمال رأسه : تشكرينني علامَ ، لقد سرني أن أجعل من السد الوهمي الذي كان يحول بيني وبينك حقيقة واقعة ، إني الآن أحس بشيء من الراحة ، راحة اليأس فقد كنت أكره أن يحول بيني وبين سعادتي حاجز من الأوهام .
وضحك مدحت قائلا : لم أكن أحب أن أحول بينك وبين سعادتك .
والتفتت مدحت الى نادية فوجدها تُحكِم الإشارْب حول عنقها فقال لها في حزم : ارفعي هذا الإشارْب لا أريد أن تضعيه على رأسك أبدا .
وترددت نادية برهة ونظر إليها مدحت نظرة صارمة جعلتها تمد يدها في سكون لتنزع الإشارْب .
وصاح بها جمال : أجل هكذا أجمل ، مع السلامة ...
51
معركة شعب
بدأت الغارات الجوية على مصر بعد انتهاء فترة الإنذار في يوم الأربعاء الحادي والثلاثين من أكتوبر عام 1956 وشهدت القاهرة أولى تلك الغارات في الساعة الخامسة بعد الظهر ، وكان أهل القاهرة قد تعودوا منذ يومين عويل صفارات الإنذار المتقطع ثم سماع بضع طلقات من المدافع المضادة للطائرات ثم انطلاق الصفارات في عويل مستمر لِتعلن انتهاء غارة بيضاء انقشعت من سماء القاهرة من غير سوء ، وسمع الناس في تلك الغارة طرقات تدك الأرض واختلط عليهم أمرها فمن قائل إنها طلقات مدافع ، ومن مؤكد إنها دكات قنابل ، ثم غلب عليهم الاستخفاف بأمرها لِيقينهم إن طائرات إسرائيل لا يمكن أن تتطاول الى سماء القاهرة ، لم يكن هناك من يصدق بأن إنجلترا وفرنسا يمكنهما حقا أن تُقْدِما على ذلك الجرم الأحمق والخيانة الطائشة الرعناء ، لم يخطر ببال أحد أن إنجلترا وفرنسا الدولتين الكبيرتين يمكن أن تتآمرا مع إسرائيل بمثل هذه الطريقة المفضوحة المزدراة ، وكان بالناس بقايا حسن ظن بالدولتين الكبيرتين حتى أقبل المساء وأطلِقت الصفارات المتقطعة مرة أخرى ، وأغمضت القاهرة عيونها المضيئة وسحبت على بدنها كساء الليل الأسود وكتمت أنفاسها لِترقب طارق الليل الجديد ، وخيم الظلمة وساد السكون إلا من صيحات المراقبين : طفوا النور ،. وم إنطلاق بعض عربات الجيش المارقة ذات المصابيح الزرق .
ووسط الصمت المخيم سُمِع أزيز يحلق في الجو ، وفجأة أبصر سكان مصر الجديدة صوتا يخطف الأبصار وحلقت في السماء مصابيح يشيع منها ضوء أغرق الحي وكشف عن ستار الظلمة ، وبدا الحي كأن جلادا قد حسر عنه ثوبه ثم هوى عليه بالسياط ، فلم يكد يكشف الضوء الغامر ثوب الحي حتى هوت الطَرَقات شديدة متتالية تدك الأرض وتهز الجدران وترج القلوب ، وتعالت ألسنة اللهب وتصاعدت أعمدة الدخان وتوالت الضربات العنيفة والأصوات المدوية ، وأحس الناس وكأن السماء قد تحولت الى قطعة من جحيم ، واستمر جلاد الليل الأحمر يدق الأرض بدقاته المحرقة وضرباته الموجعة ، وقد حول سكون الليل الى ظُهر أحمر صاخب ضاج حتى أفرغ حمولة الدمار تاركا وراءه آثاره من خرائب وأطلال وأشلاء ، وأدرك الشعب المصري ليلته أن معركته لم تعد هينة ، وأن القتال فيها لم يَعُد مع إسرائيل وحدها وإنما مع دولتين كبيرتين أفقدهما الحمق صوابهما فاندفعتا كمجنون ضاع رشده فجعل يدمر ويحطم بلا عقل ولا روية ، وأدرك الشعب أيضا أنه يخوض معركة حياة أو موت وأنه مُقبِل على كفاح شاق مرير سيقرر مصيره ومصير حريته ومصير مستقبل أجياله القادمة .
وفي اليوم التالي تتابعت الغارات وتوالى الضرب والدوي ، وفي عصر ذلك اليوم وفي إحدى حجرات مستشفى العجوزة رقد عصام على فراشه مشدود الساق وجلس صبري أمامه بجسده النحيل الطويل وحلته الكاكية وعلى رأسه الصغيرة قد وضع الكاسكيتا الكاكية تحجب جزءً من منظاره السميك وقد وضع بندقيته عموديا بين ساقيه وأسند مرفقيه الى ركبتيه وكفيه الى فوهة البندقية وأسند ذقنه الى ظَهر راحتيه وبدا واجما شاردا .
وامتدت أصابع عصام تدير مفتاح الراديو وهو ينظر الى ساعته قائلا : أظن جمال سيتحدث الآن .
وهز صبري رأسه في أسف وقال وكأنما يحدث نفسه : لم يخطر ببالي أن خلق الدول يمكن أن ينحط الى هذا الدرك .
- بل وينحط الى أكثر من هذا ، إن المُثُل والأخلاق تنهار أمام المطامع .
- كانت هناك وسائل أخرى أكرم لهما لِتحقيق مطامعهما .
- مثل ؟
- مثل الغزو الصريح المباشر ، لو أنهما ...
وقطع حديث صبري صوت جمال عبد الناصر يعلو من الراديو ، وأرهف صبري وعصام أذنيهما ، كان الصوت ينطلق عميقا متهدجا ، كانت به رنة أسى ولأول مرة يغلب حزنه ثورته وحماسه ، لأول مرة يبدو الثائر العميق في صوت الشاب الثائر الذي غيَّر مجرى التاريخ وقفز بأمته الى ذرى المجد .
وانطلق الصوت الهادئ الحزين يقول : بدأت المؤامرة بهجوم إسرائيل المفاجئ يوم الاثنين التاسع والعشرين من أكتوبر وأعلنت إنجلترا أول الأمر أنها لن تستغل الفرصة ، ولكن لم يكد يتبين لها أن قواتنا قد سيطرت على أرض المعركة وأن صسلاحنا الجوي قد سيطر على سمائها حتى أرسلت إنذارها باحتلال القناة من أجل حماية الملاحة فيها ، حدث هذا في وقت كانت الملاحة فيه مستمرة ولم تُهدَد إطلاقا ، والقوات المصرية تحتشد لمقابلة القوات الإسرائيلية المعتدية وتردها على أعقابها ، ورفضنا الإنذار لأننا لا نقبل مطلقا أن نوافق على احتلال جزء من أراضينا بقوات أجنبية ، وفي الساعة السابعة مساء أمس أصدرت وزارة الدفاع البريطانية بلاغا بأنها ستضرب المطارات المصرية نتيجة لِرفض مصر للإنذار ، وبدأ الضرب فعلا في القاهرة والقناة والاسكندرية ، كان الغرض هو تدمير السلاح الجوي المصري وسحب قواتنا الى داخل سيناء وعزلها وتدميرها ثم احتلال مصر بلا أية مقاومة ، وكان لابد من اتخاذ قرار خطير .
وأحس عصام كأن يدا تقبض على عنقه وتكتم أنفاسه ، وخلع صبري منظاره في حركة عصبية ، ثم مد يده وأدار مفتاح الراديو لِيعلو صوته .
وعاد الصوت الهادئ الحزين يقول : كان لابد من اتخاذ قرار حاسم حتى يمكن إحباط خطط إنجلترا وفرنسا وإسرائيل والمحافظة على قواتنا الرئيسية حتى يمكنها أن تبقى دائما مساندة للشعب ، وكلفت القائد العام اللواء عبد الحكيم عامر بحماية قواته المسلحة والعمل على أن ينضم أكبر جزء منها الى الشعب حتى لا تتمكن القوات المعادية من عزلها وتدميرها في صحراء سيناء ، ولقد بدأ أمس تنفيذ ه ه الخطة .
ومد عصام يده فضغط على جبينه وشرد ذهنه فلم يستطع تمييزا لصوت المتحدث الى جواره ، أيمكن هذا ؟
أحقا سنسحب قواتنا من سيناء أمام قوات إسرائيل ؟
أيمكن أن نترك أرضنا للكلاب النابحة ؟
وتجمعت الدموع في مآقئي الجريح الراقد وعض على شفتيه حتى يرد عن نفسه نوبة بكاء ، والتفت الى صبري لِيجده شاردا واجما .
وعاد يستمع الى الصوت وقد أخذ يزول عنه الأسى وارتدت له قوته وحماسته وهو يقول : أيها الأخوة إن كل فرد منكم هو جندي في جيش التحرير الوطني ، لقد صدرت الأوامر بتوزيع السلاح وعندنا منه الكثير وسنقاتل في معركة مريرة ، سنقاتل من قرية الى قرية ومن مكان الى مكان ، لِيكن شعارنا أننا سنقاتل ولن نسلم ، إننا اليوم نكتب صفحة جديدة في تاريخنا ، إننا اليوم نريد الصبر والإيمان حتى ننتصر ، وأنا أعاهدكم أني سأُقاتل معكم من أجل حريتكم كما عاهدتكم من قبل لآخِر قطرة من دمي .
وبدأت المعركة المريرة ، معركة أحس فيها كل مصري بأنها معركته الشخصية ، بدأت المعركة ةالمريرة بلا مراةرة وإنما بحرارة وحرقة وحماس وأمست مصر كلها كأنها معسكر مسلح ،وشُقَّت الخنادق في الحدائق الخُضْر ورابطت الدبابات في زوايا الدُور ومنحنيات الطرق ولم تُعَد صفارات الإنذار تثير في النفوس ذعرا ، لا ولا عاد الدوي الذي يزلزل الأرض ويهدم الدُور بقادر على أن يزلزل الأفئدة أو يرج القلوب ، لم يكن الناس يسألون عن ضحايا الغارة من الشعب وإنما يتلهفون على ضحايا الطائرات المغِيرة ، كانت الرغبة في القتال وصد العدو الظالم المعتدي المغير أقوى من كل خوف ، لم يكن الناس ينزوون في المخابئ خوفا من الشضايا وإنما يتطلعون في الشرفات لِيرقبوا الطائرات تتهاوى .
وواجهت مصر غارات العدو على مدنها ببسالةفائقة وإيمان عجيب ، واستمر جلاد الجو الأحمر يبذر الدمار في الأرض الطيبة الخضراء ، ووسط هذا الجحيم وبين الحِمم المتساقطة من السماء والأرض المزروعة بالسلاح والجو الذي لا يهدأ فيه دوي ولا يصمت فيه عواء إنذار وصل قطار سكة الحديد من الخرطوم يحمل مدحت ونادية الى محطة القاهرة عقب رحلة شاقة طويلة ، وسارت بهما عربة الأجرة من المحطة تشق طريقها بين المدافع المتناثرة في الميادين والمركبات المتحركة في الطرقات .
ونظر مدحت الى نادية متسائلا : الى أين ؟
ورفعت نادية كتفيها في حيرة وأجابت : لست أدري ، وأنا أكره الذهاب الى بيت عمتي ولا أعرف زوجة عمي ولا أدري هل مازل في بيته ؟
وفكر مدحت برهة ثم قال لها : لماذا لا تذهبين لِتقيمي مع والدتي ، سأمر الآن بالمستشفى ثم
أذهب بك الى البيت وأعود الى المستشفى مرة أخرى .
وتساءلت نادية : ولماذا لا أبقى معك في المستشفى ؟أنا أستطيع أن أفعل شيئا ، إن لدي فكرة عن التمريض .
- أنت متعبة وتحتاجين الى راحة .
- لا أظنني أحتاج الى راحة أكثر منك ، فإذا كنت ستذهب الى المستشفى فإني أحب أن أكون بجوارك .
ونظرإليها مدحت وقال ضاحكا : ألديك فكرة عن طريقة معاملتي للممرضات ؟ أتعرفين أني أضربهن ؟
وأجابت نادية ضاحكة : ربما ، ولكنني أعتقد أني سأرغمك على ترك هذه العادة السيئة وسأعلمك كيف تعامل الناس بطريقة أَرَق .
ووصلت العربة الى مستشفى العجوزة وهبط الاثنان واتجها الى حجرة مدحت ، وفي أحد ممرات المستشفى سمع مدحت صوتا يَصيح به : مدحت .
والتفت لِيجد جاد الله مقبلا عليه في حماس ولهفة ، وقبل أن يفتح ذراعيه لِيضمه وقف ينظر الى نادية مأخوذا مشدوها .
وقال له مدحت ضاحكا : ألا تنوي أن تُسَلِّم ؟ الآنسة نادية .
وهز جاد الله رأسه وهو يطلق تنهيدة حارة : أخيرا ، لقد دَوَّخْتِنا .
وابتسمت نادية في حياء .
وأردف جاد الله ضاحكا : لم يكن يخطر ببالي أنني سأراك حقيقة ، كنت أتوهمك عفريتة تسكن قمم الجبال ، كأنك لولية بنت مرجان .
ومَدت نادية يدها مُصافِحة .
ولكنه فتح ذراعيه ضاحكا : بالحُضْن ، أأل ما فيها .
وضمها إليه في لهفة .
ومد مدحت ذراعه لِيجذبه قائلا في صرامة : كفى لا تسق الهبالة على الشيطنة .
- الحق علَي ، لَولاَي حتى ما كنت استطعت رؤيتها ، اسمع قص علي ما حدث من طأطأ لِسلام عليكم ..
- ليس هذا وقته ، إني أريد أن تُفرد إحدى حجرات الممرضات لِنادية .
- هكذا مرة واحدة ؟
- أجل ، ستعمل معي .
- وستضربها ؟
- ليس لك بها شأن .
ونظر مدحت الى نادية قائلا : أظنك تستطيعين أن تذهبي الآن لِتستريحي .
وترددت نادية برهة وتساءلت : أأستطيع أن أرى عصام ؟
- سترينه فيما بعد .
- إني أحب أن أراه الآن .
- هل ستحدثينه عن منى ؟
- ما رأيك ؟
ورفع مدحت كتفيه وقال : أظن أنه لابد أن يعرف في يوم ما ، لست أدري إذا ما كان يستطيع الآن احتمال الصدمة .
وأجاب جاد الله : إنه الآن في تحسن .
وهز مدحت رأسه قائلا : على أية حال ، لا داعي لأن تخبريه مرة واحدة ، قولي له إنها مريضة وبعد بضعة أيام يمكن أن نسوق له النبأ .
اتجه مدحت الى غرفة عصام وفتح الباب وأطل عليه .
وبدت الدهشة على وجه عصام وهتف به : أهلا دكتور مدحت ، قد طالت غيبتك عنا أين كنت ؟
- على سفر .
- في هذا الوقت ؟
- أجل ، لقد ذهبت في مهمة خطيرة وأحضرت معي أثمن ما يمكن الحصول عليه ، أحضرت معي شخصا تعرفه .
ورفع عصام حاجبه في دهشة وتساءل : أعرفه أنا ؟!
- أجل .
وتنحى عن الباب ثم دفع نادية قائلا : لقد أحضرت نادية ، خطيبتي .
وهتف عصام مأخوذا : نادية ، لا يمكن غير معقول كيف حدث هذا ؟ ومتى عرفتها ؟ ولماذا ذهبت إليها فجأة ؟ وكيف أحضرتها ؟
قال جاد الله : حيلك حيلك ، هذه أسئلة تحتاج الى سنة لِلإجابة عليها ، المهم أنه أحضرها وخطبها .
وصاح عصام فَرِحا : إذن لقد أصبحنا عدايل .
وأحس الثلاثة بلسعة أسى وخيم على وجوههم صمت رهيب .
وعاد عصام يقول لِمدحت : لقد قابلت منى طبعا ، لماذا لم تحضر معكما ؟
وأجابت نادية : لإنها مريضة .
- مريضة بمَ ؟
وازدردت نادية ريقها وأردفت قائلة : لقد أصابها التهاب رَئوي .
وبدا الفزع على وجه عصام : التهاب رئوي ؟ وكيف تركتماها ؟
- أحسن أحسن .
- من أجل هذا لم تكتب إلي ، كيف وجدتها ا=يا دكتور مدحت قل الحق ؟
وأحس مدحت أنه من الخير أن ينهي الموقف فأجاب مرددا كلمات نادية : أحسن أحسن ، هيا بنا الآن يجب أن تستريحي يا نادية .
وهَم عصام بالسؤال ولكن مدحت أسكته بإشارة من يده قائلا : انتهينا ، كفى هذا الآن يجب عليك أن تستريح أنت أيضا .
- ولكن ...
- سنعود عندما نستريح كلنا .
استدار مدحت لِيخرج من الغرفة عندما بدا صبري بالباب .
وهتف صبري مُرَحِّبا : دكتور مدحت أهلا وسهلا .
ومد يده يشد على يد مدحت في شوق ، ولم يكن في غمرة حماسه لِمدحت قد أبصر نادية ، فأشار مدحت يعرفه بها : نادية خطيبتي .
وفغر صبري فاه ووقف مكانه مشدوها ، ثم هتف متمتما : نادية .
ومدت نادية يدها تصافحه قائلة : كيف حالك يا صبري ؟
استمر صبري يردد في ذهول وقد جثمت على وجهه سحابة أسى ويأس ولوعة : نادية ، نادية خطيبتك ؟
وضحك مدحت متسائلا : خطيبتي أنا أية غرابة في ذلك ؟
وأجاب صبري وهو يهز رأسه وكأنما يحاول أن يفيق من صدمة : أ أبدا أبدا ، إني لم أكن أتوقع ، أعني ...
ثم مد يده يشد على الدكتور مدحت وهو يتمتم في اضطرابه : مبروك مبروك يا دكتور مدحت ، مبروك يا نادية ، متى أتيتِ ؟
- الآن .
- الآن ؟ وأين منى ؟
ومرة أخرى بدا الاضطراب على نادية ،وأجابت وهي تحاول أن تتمالك أعصابها : في كاب .
- ولماذا لم تحضر ؟
- لأنها مريضة .
وقبل أن يسترسل صبري في أسئلته سحب مدحت نادية من ذراعها قائلا : عن إذنكم الآن سنراكم مرة ثانية .
وخرج الثلاثة من بابا الحجرة مخلفين صبري وعصام مغرقين في دهشتيهما ...
52
متعة جزاء
الأخير
في فجر اليوم التالي يوم الاثنين الخامس من نوفمبر بدأ غزو القوات المعادية لبورسعيد ، وركزت اقوات الإنجليزية والفرنسية هجومها بالقنابل والصواريخ على المدينة الباسلة ، وحلقت الطائرات في الشوارع لِتصُب رصاصها من ارتفاع خفيض على الأهالي الوادعين ، وفي الساعة السابعة والنصف بدأ هبوط أول موجة من موجات المظلات في سماء بورسعيد ، وشاهد الشعب المكافح المعتدون يحلقون بمظلاتهم فوق مطار الجميل والجبّانة وبو فؤاد ، واندفع الأهالي بكل ما يملكون من أسلحة ، اندفعوا بأيادي الهون والسواطير والسكاكين ، اندفعوا في حماس جنوني لِيدفعوا المعتدي عن أرضهم وعرضهم وكرامتهم ، اندفعوا لِيخوضوا معركتهم المريرة الى جانب القوات المسلحة في حزم وعزم وشجاعة وإيمان ، وفي أربع ساعات كانت الموجة الأولى قد قُضِيَ عليها ، وقبيل الظهر عاد العدو لإنزال موجة أخرى استطاعت أن تعزز بعض المراكز في مطار بورتوفيق والجميل ، وكان الهجوم من القوة بحيث أعلن إيدن في مجلس العموم أن بورسعيد قد سقطت .
وأقبل صبري في المساء على عصام وقد بدا متجهم الوجه .
وقال له عصام في أسى وحزن : أسمعت ؟ لقد أذاعت الإذاعة البريطانية أن بورسعيد قد سلمت .
وصاح صبري في حنق : أبدا لم تُسَلِّم ، لقد كذبت محطتنا هذا ، لقد حاولوا تدمير محطتنا لإسكات صوتها حتى يستطيعوا نشر أكاذيبهم ، لكن محطتنا تعلن في كل مكان أن بورسعيد لم تسقط وأننا سنقاوم حتى آخِر رجل ، سنقاتل كما قال جمال عبد الناصر من قرية الى قرية ومن مكان الى مكان ،سنقاتل لآخِر قطرة من دم كل مصري .
وصمت برهة ثم أردف قائلا : اسمع يا عصام سأذهب الى بورسعيد .
وعلت الدهشة وجه عصام وتساءل : أنت لِمَ !؟
- إنهم في حاجة لكل سلاح ولكل قطرة من عَرَق ، لابد أن أقوم بواجبي في المعركة .
- ولكنك تستطيع أن تقوم به هنا .
- أبدا إن جبهتنا في بورسعيد يجب ألا تتصدع ، سأذهب من الليلة ، إن لدي موعدا مع بعض الفدائيين وستحملنا عربة عن طريق المطرية .
تنهد عصام في أسى وقال : كما تشاء .
ونقل صبري بندقيته الى يده اليسرى ثم شد على يد عصام في حرارة قائلا : لن نُهزَم أبدا .
وأجاب عصام والدموع تترقرق في عينيه : أبدا أبدا ، إن شعبنا يستطيع أن يفعل المعجزات .
وخرج صبري من الحجرة وهو يثبت منظاره على عينيه ، ولم يتجه الى الخارج وإنما عرج في ممرات المستشفى حتى وصل الى حجرة نادية وطرق الباب .
ووصل إليه صوت نادية الرقيق يقول : ادخل .
ودخل صبري .
ورفعت نادية عيناها في دهشة وقالت مُرَحِبَة : أهلا صبري تَفضل .
وقال صبري وهو يقف منتصب القامة وقد ارتجفت شفتاه وسلاحه في يده : إني آسف لإزعاجك ولكني فقط أردت أن أودعك .
- لِمَ ؟
- لإني سأسافر الى بورسعيد الليلة .
- أنت ؟!
- أجل .
وقبل أن ترد عليه نادية دفع يده في جيبه وأخرج ظرفا مغلقا وقال لها في صوت خافت أشبه بالهمس : لقد كتبت لك رسالة وسأعطيها لك بشرط .
وهزت ناادية رأسها مستفسرة ، وقد بدا عليها التأثر والدهشة ، وأجاب صبري : بشرط ألا تفتحيها الآن .
وصمت برهة ، وعادت نادية تهز رأسها مستفسرة .
وأجاب صبري في لهجته الهامسة : لا تفتحيها إلا إذا ،، سمعتِ نبأ استشهادي .
وأحست نادية برجفة وهتفت به : لماذا تقول هذا ؟ إنك ستعود سالما .
وأجاب صبري قائلا في إصرار : إذا عدت سالما فأرجوكِ لا تفتحيها ، عِديني .
وتساءلت نادية في حزم : لماذا تقول هذا يا صبري ؟ إنك ستعود سالما .
- عدت سالما أو لم أعد هذا لا يُهم ، المهم أنك لا تفتحينها إلا إذا عرفت أني اُستشهدت .
وأجابت نادية في لهجة حزينة وصوت متهدج : أرجو ألا أفتحها أبدا .
ومد صبري يده فسلمها الرسالة ثم شد على يدها ورفعها في رِفق الى شفتيه قائلا : أتسمحين ؟
وهزت نادية رأسها ، فمسها بشفتيه ثم استدار خارجا .
وهتفت نادية من أعماقها : مع السلامة ، ستعود إن شاء الله لِنقرأ الرسالة سويا ، مع السلامة .
واختفى صبري في ممرات المستشفى .
وفي صباح اليوم التالي عاود الطيران البريطاني والفرنسي هجومه العنيف على بورسعيد لِيترك المدينة حِماما وأطلالا ، وقبل الثامنة والنصف انطلقت مدافع الأسطول تدك بيوت الأهالي ودمرت حي المناخ ومعظم المباني القائمة على شاطئ بورسعيد في ثلاثة صفوف تقريبا ، واستمر الضرب حتى الساعة العاشرة ، وفي الساعة العاشرة بدأ العدو إنزال عرباته ودباباته المصفحة وقواته من المشاة تحت ستار كثيف من الدخان ،وخاض شعب بورسعيد معركته المريرة من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت تحت قنابل الطيران ونيران الأسطول ، وأخيرا استطاعت القوات الهابطة على الشاطئ الاتصال بالقوات التي هبطت بالمظلات في اليوم السابق عند كبري الرسوة ، وبرغم الطيران والأسطول والمدرعات استمرت المقاومة الشعبية تزداد عنفا ، وفي يوم وليلة تحول القطر كله الى معسكر كبير حتى بلغ عدد الذين يحملون بنادق خمسة ملايين ونصف مليون رجل وامرأة ، وووقف العالم يرقب الشعب الباسل يكافح في معركته ضد القرصنة والطغيان والظلم ،وأعلن الرأي العام العالمي سخطه على العدوان الآثم وتأييده للشعب المكافح ،و أرسل الروس إنذارهم ، ووقفت أمريكا في الأمم المتحدة لِتعلن معارضتها للإعتداء وتؤيد الشعب المناضل ضد قوى العدوان .
وفي يوم الأربعاء السابع من نوفمبر اُضطُر الباغي المعتدي للرضوخ لقرار الأمم المتحدة بوقف القتال ، وفي التاسع من نوفمبر وقف جمال عبد الناصر في الأزهر لِيعلن للشعب :
"إن موقفنا بعد عشرة أيام من المعركة أقوى مما كان ، إن القومية العربية تحققت وأصبحت عملا بعد أن كانت قولا ، الشعب قوة متحدة ، الجيش والطيران والبحرية قوة متماسكة ، اثنتان من الدول الكبرى ضد العدوان ، روسيا هددت فعلا إنها ستسحق هذا العدوان وأمريكا ستعمل على القضاء عليه ، هذا هو الموقف ، الأمم المتحدة قامت بعمل مستمرة ووقف العالم كله ضد إنجلترا وفرنسا ، وظهرت الحرب العالمية في الأفق ، وافقت إنجلترا وفرنسا على إطلاق النار ، ولكن المعركة ةلم تنتهِ بعد ، إننا سنكون على حذر دائم حتى لا نُأخَذ بالخديعة والغدر ، إننا نريد السلام ولن يُفرَض علينا الاستسلام ، إن العالم يساندنا في كل مكان ، سنقاتل سنقاتل ، سنقاتل دفاعا عن أراضينا وعن سيادتنا وعن حريتنا".
وهكذا أُوقِف العدوان وأُحبِطَت المؤامرة وانتصر الشعب المصري المكافح في سبيل كيانه وحريته ، ولم يكن النصر سهلا ولم تكن المعركة هينة ، ووقفت المدينة الباسلة لِتؤكد وجراحها تنزف ودخان الحرائق يتصاعد من إطلالها وجثث ضحاياها تتكدس بين خرائبها ودماء شهدائها تجري في ميادينها انها لن تَكُف عن المقاومة حتى تتطهر أرضها من آخِر جندي من جنود الطغاة ، وأنها على استعداد لِمزيد من البذل ومزيد من التضحية ومزيدد من عَرَق المكافحين ودماء الشهداء .
وبين هذا المزيد من الشهداء الذي قدمته المدينة الباسلة كان صبري ، ووصل نبأ استشهاده في نفس الليلة ، وتلقته نادية في ذهول ، ومدت يدها تتحسس رسالته في صمت موجع ، وبدا لها طيفه بجسده النحيل الطويل ورأسه الصغير الذي حجبته الكاسكيتا الكاكية وقد أمسك بالسلاح في يده وهمس بها في صوت رقيق متوسل : لا تفتحيها إلا إذا سمعتِ نبأ استشهادي .
وبأصابع مرتجفة فتحت نادية الرسالة ، ومن خلال الدموع المتجمعة في مآقيها قرأت سطوره الأخيرة :
حبيبتي نادية ،
لأول مرة أجسر على أن أناديك مما أحس لكِ ، وبما أحب أن أناديك به ، لأول مرة أجسر على أن أناديك بحَبيبتي ، وأنت حبيبتي منذ سنوات طِوال ، منذ عرفت كيف أحس وكيف أحب ، ومع ذلك لم أجرؤ يوما على مصارحتك بشيء مما أحس ، حتى بعد أن سافرتِ وظننت أني أستطيع برسائلي أن أكتب لك في بُعدِك ما عجزت عن قوله في مواجهتك ، ولكني لم أكن أجرؤ ، كنت أحس بالخشية والتردد والعجز ، لست أدري لِمَ ؟
ألأنك كنتِ أول حبي وأول تجربتي ؟
ألأني كنت أخشى ألا أكون كُفْأً لك ،وأن لا يكون نصيبي منك سوى الصد والسخرية ؟
جائز هذا وجائز ذاك ، لقد ظللت طيلة هذه السنين أتحدث إليك وأكتب لك دون أن أجرؤ مرة واحدة على أن أقول لك إني أحبكِ .
ولكني أحس الآن وأنا أكتب إليك أن إحساسا جديدا في باطني يمنحني الجرأة على قولها ، إحساسا يمنحنين الشجاعة والقدرة على أن أهتف بك إني أحبكِ ، أحبكِ أحبكِ ، أقولها وبنفسي جرأة عليها لأني لن ألقاكِ بعد حتى أواجه ما قد ألقاه منك من إيلام وصَد ومرارة وسخرية ، أقولها وبنفسي جرأة عليها لأنها لن تصل إليك إلا وأنا شهيد ، والاحساس بالاستشهاد يمنحني الإحساس بالجرأة ويملأ نفسي ثقة بأني قد أصبحت كُفْءاً إن لم يكن لحُبك فعلى الأقل لِتقديرك .
هل تدرين السعادة التي أحس بها عندما أتخيل أني سَأُسْتَشهَد ، وأنك ستفتحين رسالتي وأنك ستسمعين هتافي بك ، إني أحبك ، بل هل تدرين المتعة التي أحس بها الآن وأنا أجد في نفسي الجرأة على ترديدها والإحساس بأنها عندما تصل إليك لن تكون محل سخرية لأنها ليست من محب عابث بل من محب شهيد .
الاستشهاد ما تصورت قط أن يكون للاستشهاد مثل هذا الإحساس الممتع ، ، إني أحس له بمتعتين ، متعة البذل ومتعة الجزاء ، متعة البذل من أجل مصر من اجل وطننا الجريح المظلوم المعتدى عليه ، وطننا الذي استكثر عليه الطغاة حريته وكرهوا له أن يأخذ حقه في الحياة وأن يسترد أرضه ويستعيد موارده ، متعتة البذل من أجل كفاح المعتدي وصد الباغي البذل من أجل صيانة أرضنا وعرضنا ومستقبلنا من قيود استعماره وذل طغيانه ، وإذا لم نبذل نحن أبناؤه فمن الذي يبذل من أجله ؟
إن صد علعدوان يحتاج الى عَرَق ودماء فإذا لم نبذل نحن من جباهنا العَرَق ومن عروقنا الدماء فمن الذي يبذل له ؟ ومن الذي يقيه الشر ويصد عنه الأذى ؟
هذه هي متعة البذل التي أحس بها .
أما متعة الجزاء فهي جرأتي على مناجاتك وعلى أن أقول لك حبيبتي نادية ، وإحساسي بأني لن ألقى منك صدا ولا ولا سخرية ، ولهفتي على تقديرك لي وثنائك علي وحزنك من ئأجلي وطمعي في عبرتين تسكبينهما على قبري إن كان لي قبر وعلى رسالتي إن حُرِمْتُه ..
صبري .
وتكاثفت طبقة الدمع في مآقيها حتى حجبت رسالة الشهيد ، وانحدرت عبْرتان لِتستقرا بين السطور وتمتزجا بالكلمات ولِتحملا الى روح الشهيد متعة الجزاء بعد أن منح الوطن متعة البذل . ..
الخاتمة
أقبل مدحت على نادية يكفكف دمعها ، وضمها الى صدره وهو يتحسس شعرها وعنقها قائلا لها في صوت رقيق : أظنك الآن تستطيعن العودة الى البيت .
- أي بيت ؟
- بيتنا ، لقد تركته أمي خلال الغارات لأنه ملاصق للمطار وذهبت الى بيت أخيها في شُبرا ، وسنمر عليها اليوم لِنأخذها الى البيت ، إنها في حاجة الى معونتك .
وصمت برهة ثم تمتم في حيرة : لست أعرف شيئا عن إجراءات الزواج ولكن لا شك أن أمي تعرف كل شيء ، وسنتصل بعمك سليمان لِيحضر إلينا .
وتنهدت نادية وانحدرت عبراتها من عينيها .
وكفكفها مدحت ضاحكا وهو يقول : انتهينا ،لا عبرات بعد الآن بل حياة وأمل وبسمات وسلام لنا ولِوطننا ولكل الناس ...