رواية سرباز
الكاتب دكتور أحمد إبراهيم إسماعيل










عن أحداث حقيقية في حياة ثلاثة...عساكر شطرنج!

حكايتي مع الراوي...غريب الأطوار!

أحمد إبراهيم إسماعيل













إهداء
إلى كل طلال عزوز على رقعة الشطرنج!









اعطهم القسوة يعطونك الطاعة المؤقتة
امنحهم الرحمة، يعطونك الحب الدائم وبه تنال الطاعة الدائمة!


















قال غاندي، حين سأله أحدهم لماذا تكره الشطرنج، رغم أن كل العظماء يعشقونه:

لأنها اللعبة الوحيدة التي يموت فيها الضعيف لأجل أن يحيا القوي!
















أمور لابد منها قبل قراءة الرواية!

- معظم شخصيات الرواية شخصيات حقيقية، موجودة بالفعل في عالمنا، بعضهم وافق على الظهور بأسمائه الحقيقية، وبعضٌ آخر رفض إدراج اسمه، فتم استبدال الاسم باسم قريب نوعا ما، مع الحفاظ على قوام شخصيته وما أحاط بها من أحداث. وفقط وحدك عزيزي القارئ، تستطيع التمييز بين البعضين بكل وضوح!
- الكتابات الخاصة بشخصية (إبراهيم) هي كتابات حقيقية، كتبها في نفس الظروف التي تضمنتها الرواية.
- حديثي مع الرواي مدرج في الرواية بخط مخالف لباقي المشاهد، منعا لأي خلط بينه وبين أحداث الرواية الأصلية.


أحمد إبراهيم إسماعيل











هل يمكن لوجه آدمي أن يكون لوحة افترشت على أنحائها تفاصيل خريطة ما؟
ممم... سؤال غريب، لكنه قد يبدو منطقيا بعض الشيء في حالته فقط. في الواقع، كانت خريطة زمنية، فوق الحاجب أثر جرح قديم، سجل حادثة ما.. تحت العينين تجاعيد، سطرت في صفحته تفاصيل سنين مضت بثقل حملها.. عين يسرى انطبق عليها جفناها بصورة شبه تامة، تراوغهما من حين لآخر بالنظر إلى عالم ربما غادرت صوره قبل زمن بعيد. ممم...لا أعتقد أنني نسيت شيئا آخر، باستثناء بعض شعيرات بيضاء في مقدمة الرأس وجانبيه، لن تضر كثيرا على كل حال، لتكمل صورة ذلك الشيخ في... التاسعة والأربعين من عمره!
كان جالسا كما لو صاحب الحياة في أعوامٍ سبعين، انحناءة ظهره، طأطأة رأسه، نحول عوده، نظارته السوداء المحتلة نصف وجهه و... كرسي متحرك لاستقبال الجسد المشلول!
ربما اللافت للنظر أكثر، كان تلك المهابة النائلة من هيئته قدرا لا بأس به؛ ربما لم يعد يملك غيرها بعد كل ما كان، إلى جانب بعض الذكريات، التي أرغمتني على الجلوس بين يديه لعامين كاملين، ينهل قلمي من بحر لسانه العليل.
- اسمك ايه؟
- أحمد ان شاء الله!
- تعرف ان العلامة اللي فوق حاجبى دي بسبب انى مرة اتسألت عن اسمي قلت أول اسم بس؟
قالها باسما، تنطق شاشة وجهه بمشهد قديم لمعت آثاره على عينيه المريضتين، فبدا كالهارب منه، فابتسمت مجيبا أحاول إنقاذه من ذكراه:
- أحمد إبراهيم إسماعيل
- جاي ليه؟
- جاي اسمع!
- تسمع ايه؟
- كل حاجة!
- يهمك؟
- لو مايهمنيش ماكنتش جيت من آخر الدنيا عشان اسمعك!
- أشك!
- تشك في ايه؟
- انه يهمك أو يهمهم أو يهم حد!
- أنا مااعرفش تقصد مين بالظبط، بس ليه بتقول كده؟
- لو يهمكم كنتو اتحركتو ساعتها!
- ساعتها؟...ساعة ايه؟
- ساعة العركة!
- مش فاهم حاجة!
- ولا هتفهم!
- طب فهمني!
- عندك استعداد تسمع كتير؟
- طبعا!
- كل حاجة؟
- كل حاجة!
اعتدل في جلسته على نحو بطئ، يناسب شلل حركته، ينظر بعين يمنى نصف مفتوحة، عبر شباك مفتوح، كأنما يشاهد أحداث فيلم تعرضه إحدى الشاشات في سحابة ترقد هناك في أفق لا يراه غيره، في حين أخرجت قلما وبعض الأوراق لأبدأ التدوين، قبل أن يستوقفنى بقوله:
- انت بتعمل ايه؟
- هاكتب؟!
- هتكتب ايه؟
- اللي هتقوله، هاحكيه للناس واوصل صوتك انت واللي معاك!
زفر آهة حارة، انتزعها من اعماقه، محادثا بصوت تجسد فيه الحزن بكامل سطوته، وقد طأطأ رأسه للأسفل من جديد:
- قصدك اللي كانوا معايا!
- ماتوا وللا اتخلوا عنك؟
- شكلك هتتعبني معاك
ابتسم متكلفا من جديد، فأجبته وعلى شفتي ذات ابتسامته المتكلفة
- احم...عندك مانع لو نشرت الأحداث دي في رواية؟
- رواية واحدة؟! دانتا طيب قوي
ابتسم ساخرا فأجبته:
- روايتين خمسة عشرة زي ما انت عايز، بس المبدأ نفسه عندك اعتراض فيه؟
- مابقتش تفرق!
- هي ايه دي اللي مابقتش تفرق؟
- لا ماتخدش في بالك!
- مش شايف انك غريب شوية؟
- ممم... يمكن!
قالها ببرود مستفز، قبل أن يكون رده متغاضيا عن السؤال:
- شايف انك هتوصل الكلام صح؟
- مش هاوصل غير اللي هيتقال على لسانك!
ابتسم من جديد ساخرا يقول:
- سمعتها كتير قبل كده!
- مش شايف انه ظلم انك تحكم عليّ من تجارب ناس تانية؟
- يمكن، عموما انا هاحكيلك...على الله بس ماتبقاش زيهم!
- زي مين؟
- الغربان!
- غربان مين؟
- هتعرف لما أحكي!
- طب احكي!
- بتعرف تلعب شطرنج؟
- ايوه، بس ايه دخل ده في موضوعنا؟
- هتعرف برضه لما أحكي!
- طب مستني ايه ماتحكي!
- لاعبني الأول
- ألاعبك ايه؟
- شطرنج!
رغم غرابة أطواره، المتمثلة في هدوءه المستفز وألغازه التي بدت أكثر ملاءمة لينطقها لسان أحد المختلين، إلا أن شيئا ما مازلت أجهله دفعني للاستمرار.. شيء لم أعلم يوما حقيقة هويته، رغم كل ما مضى من سنوات على جلستنا الأولى. لم يكن أمامي الا الانصياع لرغبته الغريبة تلك (هكذا بدت لي حينها)، أشار إليّ بنظره إلى رف خشبي، في مكتبة توشك أن تنهار، يجاورها بيانو قديم رابض ككهف مهجور فى حضن جبل تسكنه الأشباح، على جانب الرف تربعت رقعة شطرنج شاخت قطعها بشيبة التراب. التقطتها ببطء حرصا على عدم الدخول في أي شجار مع ترابها، إلا أنه كان مصمما على خوض المعركة. كحة استمرت ثوانٍ، أتبعتها بإزالة آثار التراب من على ملابسي، قبل أن أضع الرقعة على طاولة بيننا!
- أبيض وللا اسود؟
- أبيض... عمري ماخسرت وانا بالعب بيه!
ضحك ساخرا، ثم همس لنفسه:
- مسكين!
- بتقول ايه؟
- ولا حاجة...وانا اسود!
- انت ممكن تتكلم واحنا بنلعب على فكرة!
- مستعجل؟!
- عايز اكسب وقت مش أكتر!
- تحب نبدأ منين؟
- ياريت لو من أول الحكاية!
- يااااه، هترجعني لورا كتير قوي!
- مش شايف ان الموضوع يستحق؟!
- عندك حق.. بطله كمان يستحق كتير قوي!
- بطله؟... مين؟
- سَرْباز!
- مين؟!
- سَرْباااااااااز!
....وهكذا... بدأت حكايتي معه!















وخافوا
إن هذا الشعب حمالٌ
وأن النوق إن صُرمت
فلن تجدوا لها لبنا
ولن تجدوا لها ولدا

هشام الجخ






- أحد المجمعات الطبية العسكرية... الأول من نوفمبر 2013!
تلك المساحة اللعينة من الذاكرة، المزدحمة بصور لن تختفي.. ولن تعود!
تكتفي فقط بالبقاء أسيرة لذلك البرزخ في ذكريات صاحبها، بين جنة العودة وجحيم الاختفاء، تستقطب إليها كل ذكرى يتمنى صاحبها انضمامها لأحد المعسكرين، فينعم بلذة الرجوع أو راحة النسيان، مستمتعة بإضفاء تلك الغلالة السميكة من العذاب على طبقات المخ الثلاثة!
هكذا حدَّث نفسه حاملة الذكريات أسيرة البرزخ، وهكذا بادلته النفس وذكرياتها الحديث، كأنها المستمتعة بجهاده عديم الفائدة لتحرير ما قُيِّد من صور مضت، تاهت بين دروب العودة وصحارى الرحيل!
كانوا هناك، سجناء إحدى الصور، يقاومون سجن حدودها بصحبتهم داخلها، ويتحدُّون أسْر قِدمها باجتماعهم فيها، لا زال ذاكرا يوم رحيلهم، وسيظل. رحلوا لعالم الأموات ذات يوم، تاركين ذكراهم المتجسدة في تلك الصور غريقة البرزخ اللعين، تتفنن في إيلام ذلك الوحيد بين السجناء الباقي في دنيا الأحياء.
أما عنها، فكانت في الصورة التالية، تصارع أنقاض حلم قديم ضائع، بابتسامتها الآخذة في الخفوت، وإن ظلت على حالها من الاحتفاظ بلمعان ذي مصدر خفي.. تصارع للرحيل، ويصارع للعودة، فينتهي الصراع بسقوط الصورة إلى جوار أخواتها، بين فكي برزخ آخذ في الاتساع.
بدت الصور وأصحابها في تواليها على تلك الذاكرة المسكينة أشبه بآنية السواقي، تدور حول محور خشبي بائس، تلمع تارة على السطح وتندثر أخرى في القيعان، وإن ظلت مع اللمعان والاندثار باقية بقاء الدهر، المستمر حتى قيامة صاحبها ورحيله إلى أبدية الآخرة!
- إبراهيم... إبراهيم!
قالها ذلك المهرول إلى عنبر (4) الخاص بالسرية الطبية للمعسكر، تكاد هرولته تقتلع قلبه، أسير نبضاته الآخذة في التلاحق، من عقاله بين ضلوعه، وقد أبهمت أنفاسه المتلاحقة الملفوظ من نداءاته، يأتيه رد ذلك الغارق في حديث نفسه وذكرياتها المفترش إحدى أسرَّة العنبر في فزع، وقد حررته نداءات صديقه من رقاده، فطوى صفحات ذكرياته، وأخفى ما تحويه من سطور أحباب راحلين، ناظرا من وضع الجلوس إلى مناديه الفزِع قائلا:
- عبد العاطي.. مالك يابني في ايه؟
- ماعرفتش باللي حصل؟
- ايه اللي حصل؟... منظرك بيقول ان فيه كارثة!
- هي فعلا كارثة، الجيش كله مقلوب!
- كارثة؟...كارثة ايه؟
- الكارثة مش في اللي حصل وبس، الكارثة في اللي عملها!
- اخلص يا عبد العاطي من جو الأفلام ده؟... تقصد مين؟
- صاحبك العسكري الصعيدي!
تلقاها (إبراهيم) من صديقه، فانكمشت لها ملامحه، كأنها المرسومة بفرشاة صغير يعبث ببعض أوراق رسمه وألوانها في غضب، بعدما منعته أمه حلواه، فنفث غضبه في لوحاته. لمعت في ذهنه صورة ذلك الصعيدي المذكور باسما في أول لقاء جمعهما، تتردد في أسماعه أصداء تلك النبرة لمعرِّفٍ بنفسه، حين صافحه أولى المرات:
- طلال... اخوك طلال عزوز يا باشا، تجدر تجوللي أبو العز، بينادوني كده حِدانا في البلد، أنا أصلي زي مانتا شايف كده باين عليّ ابن ذوات جوي!
قبل أن تقفز لسطح ذكرياته تلك الصورة الأخرى، ليوم جمع آخر اللقاءات:
- أشوفك على خير ان شاء الله يا داكتور، ربنا معاك يا صاحبي، شد حيلك كده عشان تبجى عسكري زين، بس أمانة عليك يا شيخ ما تنسى طلال!
قبل أن يختم قولته بعناق لم يشهد مثله ذلك الصيدلاني المودِّع!
أفاق إبراهيم من ذكرى مشاهد مضت قبل شهور لم تتم دورة العام الكامل بعد، لا يسعفه لسانه بنطق شيء، غير أنه جاهده سائلا في صعوبة:
- تـ ... تقصد طلال؟
- هو بعينه؟
- ايه اللي حصل بالظبط؟!
*** -







- قرية العش... اواخر ديسمبر 2008 (قبل ذلك بخمسة سنوات)
تلك الفئة البشرية الساقطة من ذاكرة الزمان، لا يعلمون إن كان سقوط سهو أو أنه تعمد تعنت الحياة مع البؤساء من ساكنيها، لا يهتمون على كل حال بسبب السقوط، ظلوا سنوات مكتفين بانتمائهم لتلك الفئة المهملة من الكائنات كثيرة العدد، التي لا يعني وجودها أو فناءها شيئا للحياة وصفوة سكانها، من ساتري عورات بواطنهم الفقيرة بأردية لظواهر زائفة، لم تتقن تلك الكائنات كثيرة العدد فنونها بعد!
لم يكن انزعاجهم نابعا من جفاء لوجبة عشاء لم تزرهم منذ سنوات ملُّوا تعدادها فآثروا تناسيها على انتظار مجيئها الميئوس منه، أو صلابة لأرض استضافت فُرُشُهم المهترئة، وأجسادهم التي قاربت جلودها على الموات، وأحلامهم المهاجرة من وطن عقلهم الباطن لأرض بعيدة لا يعرفونها ولا تمنحهم دنياهم الفرصة للمعرفة، فطالها النسيان كما طال الكثير من حقوقهم، التي باتت في عرف أيامهم أشبه بأمنيات عجوز بالعودة لدروب الشباب!
كان هيكلا أسريا فريد التكوين، نحيف ببساطة أحلامه، قوي بالرضا بما تحقق منها ومالم يتحقق، فكان بنحافة البساطة وقوة الرضا ذا تكوين رباني خاص، له أكبر الأثر في بقائه حتى اللحظة بين أحياء الآدميين.
حين يقتصر حلم الكبير على عدة جنيهات، يضمن بها لأسرته إحدى الوجبات الثلاثة، فتغنيهم عن الأخريين – أو أنه هكذا يظن فيظنون- وتتلخص أحلام الصغير في ساعة راحة يقتنصها من ساعات عمل الحقول، يعود فيها لبعض طفولته المنهوبة في رمي البذور وحصاد محصولها، فأنت بالتأكيد تقصد هذه الأسرة هناك على مشارف القرية، حيث منزل رسمته رحمة الأقدار!
ساكنوه ستة، على رأسهم رجل أشرف على الهلاك عملا والفناء همَّا، ينادونه (عزوز المنشاوي) تولى مهمة هذا المنزل وسكانه الستة منذ سنوات لم يعد يلتفت لتعدادها!
كان فجرا معتادا لا جديد فيه، قص شريطه ذلك القرص الذهبي المتوج على عرش الإمبراطورية السماوية، الناهض من فراشه متكاسلا يحض الخلائق على النشاط،في تناقض اعتادت عليه الأرض، وبثته كل متعلق بأهدابها من تكوينات الكون الفسيح.
كعادتها، كانت أول المتحررات من قيود الوسن، محررة طيور أجفانها من أقفاص نوم ما زال مسيطرا بسطوته على الجميع عداها. خطوات لم تتعد الخمسة، كانت كافية لانتقالها من طرف حجرة ضيقة ضمت نومتها ونومة ابنتيها دون الثانية عشر، إلى باب أدَّى بخطواتها إلى صالة المنزل، الحاوية باقي النومات لأب وابنيه، تفننت في تخطيهم حتى ذلك الباب الخشبي الموروث من ثلاثينيات الريف المصري، والمشوه فوق تشوه قِدَمِه بمزلاج قبيح ضخم، لا يعلم حتى الآن ماذا يحمي داخل هذا الكيان المسكين.
كما ينص روتينها وروتين أسرتها اليومي، وجدت أناملها تتلمس طريقها لذلك المذياع الصغير فقير الترددات، أدارت زره الدائري سجين صدأه، في نصف دائرة، في حساسية اكتسبت دقتها بالتكرار عبر الأيام، ليصدح في جنبات البيت صوت عبد الباسط عبد الصمد بحنجرته الكروانية مرتلا:
" وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ"..!
باتت وأسرتها يحفظونها عن ظهر قلب، وهي المترددة على أسماعهم كل صبيحة ليوم جديد، تلقين يومي لذلك الشريط العجوز، الذي لم يبرح يوما كهف مذياعه، مكتفيا بأداء دوره في رفع معنوياتهم من مخبئه ضيق الجدران، لا تكاد حروف الآيات تنسرب من جانبي المذياع، حتى تنكشف أجفان الجميع تباعا، في توافق فرضته عليهم فطرتهم ذات التكوين السوي.
توقظهم نغزات عقلهم الباطن، المتعلق بذكر الجِنان، سواء كانت تخيلات حلم ليلي، أو واقع بعيد لن يأتي، أو ثالث الاختيارات بين الواقع والأحلام، حيث كلمات ربانية تبشر بالحلم على أراضي واقعهم الحزين.
الطفلتان كانتا السابقتين للاستيقاظ كالعادة، وقد أقلقهما استيقاظ أمهما، فخرجتا تتحسسان وجودها بحثا عن أمان معنوي يعني لطفولتهما الكثير. تناوب الجميع بعدهما على طرق باب الاستيقاظ، فنهضوا تباعا يفكون بقبضاتهم الكسالى لوغاريتمات أعينهم المتشبعة بساعات كافية من نوم بسيط الأحلام، يُعد الشيء الوحيد الذي يحصلون منه على القدر الذي يريدون.
تباطأ كالمعتاد في مغادرة أسرَّة التكاسل عن باقي أفراد أسرته.. أخذ يحاول عابثا التظاهر بلحاقه بقافلة المستيقظين، وهو المتمسك بذيول نعاسه حتى آخر لحظات المعركة. تحفظه أمه عن ظهر قلب بطبيعة الحال، وتحفظ منه هذا التصرف اليومي:
- طلال... الساعة بجت ستة يا ولا، جوم الفجر شجشج من بدري، النهار خلص!
- يووووه يامَّا، هو فيه نهار في الدنيا بيخلص الساعة ستة الصبح بذمتك ودينك؟
- جوم يللا بلاش لماضة!
- صاحي يامّا...صاحي والمصحف...صحِّي انتِ صابرة لوَّل بس.
- صابرة صحيت من بدري أهى، طلعت أجدع منك يا كسلان.
- ......
- طلااااااال!
- حاضر يامَّا، حاضر، أديني صحيت أهو، روحي بس انتِ جهزي طبج الفول التمام كده عشان نفطر وأني جاي وراكِ طوالي.
- ماشي، لما نشوف!
لم تكد الأم الباسمة تولِّي ظهرها لصبيها الحائر بين يقظة ونوم، حتى عاد لفراشه من جديد، تلاحقه كلمات أمه العالمة مسبقا بمؤامرته لإبعادها، من خلال مخرجه اليومي الوحيد (طبج الفول)
- طلااااال... شايفاك يا نصاب!
صفة (نصاب) كانت اللفظة المحببة للسانها لوصف ولدها المشاغب، ذلك الذي أزاح غطاءه الخشن ناهضا في حركة فجائية، تحمل في طياتها ذلك النوع من الغضب الذي يسلكه المستيقظون الراغبون في مزيد من ساعات النوم. تحب أمه رؤية تلك الحالة منه على كل حال كل صباح، وهي ترقبه باسمة، تود لو تمنحه من ساعات راحاتها النادرة ما يستعين به على ساعات شقاء، لم يعرف أقرانه بعد أنه متواجد في قواميس الحياة.
حاول جاهدا طرد ما تبقى من فلول نعاسه، ببعض من حركات ذراعيه يدفع بها كتفيه للخلف دفعا، يتثاءب في تثاقل وهو يرمق أمه بنظرة عين واحدة، يستكشف بها الوجود حوله، قبل السماح للثانية بانكشاف جفنيها، قبل أن يتوقف عن حركاته ناظرا لأمه في غيظ قائلا:
- صحينا أهو، حلو كده؟!
قول تلقته أمه بضحكة، كأنها المستوردة من سوق للضحكات في عالم مثالي رائق، لم يشهد من شوائب البشريين سلعا، بعد كان ردها من ولدها أسير غضبه الطفولي:
- بتضحكي؟... ماشي... طب والله ماني فاطر معاكم!
- جلبك هيطاوعك تسيب طبج الفول بتاع أمك؟
سمعها (طلال) فصمت هنيهة يفرك مؤخرة رأسه بإصبعيه، مغمضا إحدى عينيه كأنه النادم على تصريح عنتري لن يستطيع تنفيذه، فتراجع عن عنتريته قائلا بصوت أخف حدة:
- بصراحة يعني...هو أصله... انت يعني بتمسكيني من يدِّي اللي بتوجعني؟
- اسم الله عليـــــــــــــك، هو كِيف مانتا جُلت اكده، بامسكك من يدَّك اللي بتوجعك!
قالتها تتصنع تلك الهيئة من الجدية الساخرة، تغيظ بها ولدها الذي ضحك لمغازلتها الصباحية المعتادة، ناهضا باتجاهها وقد خلَّفت الضحكات بسمة ارتسمت على ملامحه في عمق، طابعا بشفتيه المكتنزتين قبلة على جبينها وأخرى على يمينها، عائدا بنظرات عينيه الزائفتين وسط وجه أسمر شغل فيه كل ملمح من ملامحه جزءا لا بأس به قائلا:
- صباح العسل يا ست الكل.
- صباح الفل والياسمين على عينيك الحلوين يا حبة عين ست الكل.
قالتها تبادله ابتسامته البريئة، بقرينة لها ملائكية تتبع قولها ببعضٍ من الأذكار، توارثتها عن أمها الوارثة بدورها جدتها، قبل أن تحتضنه مقبِّلة إياه بين عينيه، قائمة لإعداد (طبج الفول) الذي تنتظره أجواف الجميع انتظار التائه لهادي الدروب، قبل أن يلحق (النصاب) بقطار عائلته، ينتظر دوره في دخول الدُورة (بضم الدال، كما يحبون تسمية الحمام في إشارة إلى دورة المياه) متطلعا إلى وقفته مداعبا ذلك الصنبور القديم، الذي يبثه ماءه في عشق متبادل لا يستمر أكثر من نصف الساعة، قبل أن ينقطع ماءه لمعظم فترات النهار، يحنو عليه وعلى وضوئه الصباحي، الذي اعتاد بداية يومه به وبركعتيه المساهمتين الأساسيتين في سير يومه على حال من الراحة، يستعين بمجدافيها على أمواج شقاء اعتادها واعتادته، عبر سنواته التي لم تتعدَّ بعد الخمسة عشرة (خريفا).
مضت بالبؤساء الستة الراضين دقائق وضوئهم وصلاتهم مريحة، كعادة مضيها قبل أن يلتف الجميع حول (طبج الفول) المنتظر وبعضٍ من عيدان الجرجير الأخضر، اللامعة فوق وريقاته حبات الماء كأنها مرايا العذارى. يحف وجبتهم بعضُ من أرغفة باتت ليلتها تفترش (مِشَنَّة) بائسة إلى جوارهم، تغطيها تلك القماشة المقتطعة من رداء قديم لأحدهم.
كسُنة دقائق إفطارهم، مرت حاملة بعض مشاهدهم السابحة بين تلك اللقمة تقتطعها الأم من رغيفها تسوقها يمينها إلى فم أحد الأبناء، هذه (القفشة) يدير بها (طلال) راحة الحديث لجانبه الفكاهي، ذلك السؤال القرآني من الأب لأحد أبنائه يعيد به الراحة للجانب الجدِّي، وهكذا دواليك حتى يودع (طبج الفول) آخر سكانه من حباته ولقيماتها، قبل أن ينهض الجميع إلى أكواب الشاي الدافئة التي أعدتها الأم مسبقا خلال الإفطار، بمساعدة (وابورها) الصدئ ذي الصوت المزعج المشارك بإزعاجه حديثهم الصباحي، كأنه فردهم السابع، حتى بات حديثه الدائم جزءا لا يتجزأ من أحاديثهم المتقطعة.
هكذا كانت الصورة الكاملة لصباح "عزوز المنشاوي" وعائلته ذات الأفراد الستة، قبل أن ينطلق كل منهم إلى شقاء يومه، يحاول وزوجته وأبناؤه اقتناص أي لمسة من كهوف السعادة يضفونها على مشاهد حياتهم اليومية، تساعد قاربهم الهش ببؤسهم القوي ببأسهم على عبور أمواج الحياة إلى حيث شاطئ يوفر لهم بعض الأمان، ما زالوا باحثين عنه آملين فيه.
كعادة (طلال)، انفرد بكوبه صاعدا إلى سطح المنزل، متجاهلا كل سؤال له عن السبب. خطوات بين الأربعة والخمسة كانت كفيلة ليصل إلى غايته، ذلك الركن البعيد، حيث فتحة صغيرة (بفعل فاعل) في جدار يوشك على الانهيار اليوم قبل الغد، جلس القرفصاء سريعا إلى جوار الجدار وفتحته، قبل أن ينادي على أحدهم بـ(طرقعة) أصابعه وصفير شفتيه متبعا إياهما بقول:
- ولا يا ريشة.. اطلع يلا أني طلال ماتخافش!
ثوانٍ من الصمت مرت دون ظهور هذا الـ(ريشة) الذي انتظر (طلال) إطلالته عبر الفتحة، فاستطرد قائلا:
- اني عارف انك لساك زعلان من ليلة امبارح عشان ماشجرتش عليك جبل ماانام زي عوايدي، بس اعمل ايه طيب ماني راجع مالغيط مهدود نمت طوالي، على كل حال حجك عليّ يا سيدي أني محجوجلك.
ثوانٍ أخرى من الانتظار لم تسفر عن شيء، ساهمت في إثارة ملل (طلال) وغضبه، فما كان منه إلا أن أدخل إصبعيه في فتحة الجدار، ملامسا ذلك الجسد الأملس مكتسي الشعر الأبيض، حتى تمكن أخيرا من ذيله، فجرَّه للخارج قائلا:
- مادام مش راضي تخرج أخرجك أني بمعرفتي بجى... اآي بتعض؟ ... دي آخرتها يا ريشة؟، ماشي مش هاخد على خاطري منيك بردك واطلع أحسن منك، خد فطارك اهو يا سيدي!
قالها ناظرا لذلك الفأر الأبيض الصغير بحجم نصف الكف، المتقوقع داخل حدود ذيله الملتف حول قاعدته، وقد أخرج من جيب جلبابه الأزرق الفضفاض المتواضع خيارة صغيرة وقطعة خبز عمل على تقطيعهما قطعا لا تكاد ترى، تصلح بالكاد لمعدة هذا المسكين، الذي يعتبره (طلال) من خاصة أصدقائه، منذ أهداه إياه ذلك الصيدلاني الذي عمل لفترة في الوحدة الصحية للقرية، منذ عام وبعض عام.
لم ينتظر ذلك الفأر (عزومة) صديقه، فانقض على ما وُضِع أمامه شرها كأسد جائع، ما دفع (طلال) لقوله:
- دِلْوَك بجيت زين؟... طول عمرك بتاع مصلحتك يا ريشة الكلب... أجولك؟... مانتاش شارب شاي، هاشربه لحالي!
قالها وأخذ يتلذذ بكوبه مغيظا صديقه الأليف، قبل أن يقوم سريعا يقول:
- اني هاستأذن بجى يا ريشة لحسن ورايا مشوار مهم، خلَّص وَكْل وطوالي عالبيت (قالها يشير لفتحة الجدار) بدل ماحد يشوفك ماناجصينيش فضايح...سلام يا صاحبي.
انتهى (طلال) من مشروبه الصباحي الساخن الذي يعشقه سريعا على غير ما اعتاد، واعتاد منه الجميع على رشفات بطيئة مسموعة الصوت، تصاحب إحدى عينيه المغلقتين، يستدعي بكامل حواسه الظاهرة والباطنة شيطان (المزاج) أو كما يسميه هو (الطاسة)، ناول أمه الكوب الفارغ إلا من (تِفْلِه) بعدما نزل السلم في خطوات سريعة قبل أن ينطلق لمصاحبة (مداسه)، ذلك الصديق اليومي المتهالك منطلقا إلى باب المنزل، قبل أن تستوقفه كلمات أمه:
- مش عوايدك يا واد يا طلال...على فين مستعجل اكده؟
- يوه يامَّه...لازم تعرفي كل حاجة يعني؟
قالها، وقد استدار لحديثها متأففا بعض الشيء، تأتيه إجابتها اللامبالية بتأففه:
- بطَّل لماضة وجول...رايح فين؟
- رايح الكانتو يا ستي... ارتاحتي؟
- تعمل ايه في الكانتو؟
- وهو الكانتو بيتعمل فيه ايه يعني يامَّه؟، هاشوفلي مداس زين اشتريه يكون صاحبه الأولاني اتجى ربنا فيه بدل الهلاهيل اللي أني لابسها في رجلي ديّ!
- مداس مرة واحدة؟...والله والفلوس جريت في يدَّك يابن عزوز المنشاوي!
- أومال ايه يا عسل... ابنك بجى كسيب... السبوعين اللي فاتوا دول بس اشتغلت في الغيط ييجي جد سبع تنفار لوحدي!
قالها معتدّا بنفسه، وقد داخله بعض من غرور طفولي، أعمل ريشته في تقاسيم وجهه الأسمر، ما دفع ذلك الجالس في ركن المكان الأيسر منفردا بكوب (شايه) يتابع تفاصيل الحديث بعين الساخر من طرفيه، قبل أن يقرر المشاركة أخيرا بفمه المنفرجة شفتيه عن ابتسامة مستهزئة من أخيه الأصغر، أتبعها بقوله:
- جال سبع تنفار جال... ناجص تجول إنك جمعت التسع جراريط بتوع الحاج (مهنى) لحالك!
- خليك في نفسك انت واتلهي في كوباية الشاي اللي في يدَّك!
قالها (طلال) وقد تدفق الدم إلى خلاياه القتالية، محفزا إياها لشجار على وشك البدء، أخمدته الأم بقولها:
- ابتدينا؟...نفسي مرة واحدة تجعدوا في مكان واحد من غير زعيج وإشكال ومناجرة في بعض!
- هو اللي ابتدا!
قالها (طلال) مشيرا لأخيه الأكبر، وقد تجمدت عيناه الضائقتان المستظلتان بحاجبيه المتقاربين، تقابله نظرات باردة من خصمه الجالس محتفظا بهدوء جلسته، مبالغا في استفزازه بارتشاف رشفة مسموعة، أنهتها الأم من جديد قائلة:
- خلاص، حجك عليَّ آني، أخوك وبيناغشك مايجصدش حاجة، يلا روح مكان مانتا رايح بس ماتتأخرش عالغيط عشان الحاج مهنى ماياخدش على خاطره منِّيك.
- حاضر يامَّه... حاضر!
قالها وقد سبقها بزفرة اختناق، وأعقبها بإغلاق الباب خلفه في شيء من العنف المثقل بالتأفف، تلاحقه نظرات أخيه التي لازالت عالقة في شِرك الارتياح لتعكير صفو أخيه، وسط نظرات لائمة للأم، حاولت بها انقاذ ولدها من شِركِهِ دون جدوى، وهو الذي آثر الاستسلام فعاد من جديد لكوبه الموشك على الفراغ مشيحا بوجهه ونظراته عن وجه الأم ونظراتها!
ما كاد (طلال) يخطو خطوته الأولى خارج كهفه الشبيه بالمنازل، حتى بدأت تلك القذارات المتعلقة بثوب بهجته الناصع تغادره شيئا فشيئا، وقد أزالتها عنه تلك النسائم المتلاحقة المقبلة على وجهه وصدره، تحتضنه كعزيز قادم من بعيد الأسفار. عادت إليه من جديد ابتسامته، بعدما تحررت من قيد غضبه، ذلك الذي تركته على عتبة داره. حملته مشيته الوئيدة الثرية بخيلائها عبر طرقات القرية وحقولها ذات الأخضر الأزهري، وهو يرافقها الهوينى كأب وصغيرته ذات الضفائر خرجا لتوهما في نزهة المكافأة بنجاح معتاد.
استمرت رفقته وقدماه مقدارا اقتنص من تعداد الزمن ثلث الساعة تقريبا، حتى وصل أخيرا لتلك الساحة الرملية على حدود القرية المشغولة بـ (الحُصْرْ) على مسافات متقاربة، يترأس كل حصيرة منها بائع حاول سيادة الساحة بجهارة صوته، وآخر رمى للسيادة بمطرب نداءاته، وثالث حاول اقتناصها بغرابة حركاته المصاحبة لجهوري الصوت وطرب النداءات، بدت الساحة من بعيد كخلية نحل ازدحمت بروادها، المتلخصة آمالهم في الظفر بحذاء قديم لم تصل به قدما صاحبه الأول لحد التهلكة بعد، فيسوقونه هم لهذا الحد، بعد عمر يتحكمون في طوله أو قصره باستهلاكهم إياه.
تجلَّى منظر (الحُصْرْ) من المنظر الرأسي المطل على الساحة، من تلك البقايا الجبلية المطلة على القرية، كما سِماطِ ثريٍ أقامه لفقراء قريته في ليلة رمضانية قمراء، تجمعوا حوله في لهفة ينتظرون بدء المعركة المنتظرة إشارتها، من مئذنة قريبة متلألأة بأخضر أنوارها المسلطة على صنوف الطعام، تعلن بأذانها الفاصل بين الليل والنهار إشارة البدء.
تناثرت الأحذية على (الحُصْرْ) كأشلاء معركة تاهت هويتها في تشوهات وجوهها، ينتظرون من أهليهم الواقفين على جثثهم عصر ذكرياتهم عنهم، علَّهم يلاقون من بينها ذكرى تسعفهم بالتعرف على ذويهم من شائهي الوجوه!
وكأن (طلال) كان الوحيد بين الباحثين في هويات الأشلاء، الذي يعرف هوية من يبحث عنه.. اتخذ طريقه بين السواد لتلك (الفرشة) في المنتصف، حتى انتهت خطواته أخيرا لطرفها المحدود بأحذيتها المتراصة بانتظام انصاعت له عشوائية أحجامها وألوانها وأشكالها، في اختبار نجح فيه وبقوة بائعها صاحب الأربعين عاما. أجال نظره بين البضاعة المتراصة، كأنه الباحث عن شيء بعينه، حتى أن عينيه قد أتمتا مسحهما المفصل للفَرشة عدة مرات، وفي كل مرة تكتسب نظراتهما خليطا من تركيز رأسه وقلق قلبه، كأم أوشكت على الانهيار بعد ضياع ابن لها في سوق مكتظ، لم تفلح نظرات بحثها في إيجاد أي أثر لابنها المفقود!
- عم حسنااااااااااااي!
قالها في شبه صرخة تملكها الغضب، انتبه له على إثرها جميع الوقوف، وقد تقارب لها حاجباه المُشكلان بالتقائهما الرقم سبعة، وما زالت عيناه تتقلبان يائستين فيما ضمته الفَرشة من أشباه الأحذية، مما دفع ذلك المنادَى للالتفات له مبتسما في هدوء، وقد عرف سر ثورته الطفولية، قائلا في ذات الهدوء وما زال محتفظا ببعضٍ من بقايا ابتسامته:
- صباح الخير يا واد يا طلال.. مالك صوتك عالي ليه يا لمض؟
تلقاها (طلال) في شيء من الخجل، فلجأ لإخفائه برد سريع:
- صباح العسل يا عم حسني...فين ال...
- في الحفظ والصون يا سيدي، شلتهالك مخصوص عشان ماحدش ياخدها غيرك، ايه بجى اللي هيزعلك؟
أكمل بها عم (حسني) سؤال (طلال) المتلهف لإجابته، فما كان من ذلك السائل الصبي إلاَّ أن استحالت لهفته فرحة أنطقت ملامحه الناشئة ضحكات الرُضَّع حين تلاحقهم مداعبات أمهاتهم بعد رضاعة هنيئة لم يتلقوا مثلها منذ ساعات، حتى أُشرِبَ لسانه بعضا من بهجات قلبه، انتقلت اليه عبر شرايين الأمل وخلايا الارتياح، قائلا وفي صوته بحة سعادة يعرفها منه ذلك البائع، الذي لا يزال حاظيا بابتسامته:
- طول عمري أجول عم حسني ده زينة رجالة البلد، صاحب واجب صاحب واجب يعني.
- هاهاها، ماشي يا عم النصاب، هاعمل نفسي مصدجك، خد يا سيدي عروستك أهى متروَّجة وجاهزة من سَبوع كامل، ولو اني ماخابرش ايه اللي هيعجبك في مداس ميري ناشف كيف الحديد زي ديّ، ماالفرشة مليانة حاجات أريح كَتير واصحابها ماهروهاش زي اللي انت هتتجنَ عليها ديّ!
- إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه يا عم حسني!
قالها (طلال) غير ناظر لمحادثه، يلتقط من بين يديه ذلك الحذاء الذي طالما داعب مخيلته وحلم باقتنائه، يأتيه رد ذلك البائع المتابع فرحته ببسيط الاقتناءات بفرحة لا تقل عن فرحة زبونه، قائلا يمزح:
- ماشي يا سيادة اللوا، مبروك عالأرض، عجبال ماتعلَّج الدبابير يا سيدي، تدوبها في عرج العافية!
- الله يبارك فيك يا عم حسني، اتفضل آدي العشرة جنيه الأولانية أهي والتانية بعد سَبوعين ان شاء الله زي مااتفجنا.
- زين يا عم طلال، يلا بجى سيبني لحالي اشوف باجي الزباين عطلتنا الله يجازيك.
- معلهش بجى يا عم حسني، ماني مش أي زبون بردك داني طلال.
قالها (طلال) قبل أن يهم بخلع حذائه القديم، ملقيا إياه على قارعة الطريق لأول صاحب نصيب، مرتديا حذائه الميري الأقل قِدما. ثم استقام من جديد يطوِّح قدميه من وضع الوقوف وهو يرتديه، كعادة المصريين في تجربة أحذيتهم، وكأنهم الشارون الأحذية للعراك لا الارتداء.
ثوانٍ فقط، كانت كفيلة بانهاء المشهد الضام حركات (طلال) السريعة حاملة سعادته، قبل أن ينطلق ملوحا بيديه باسما لعم (حسني) الذي بادله تحيته بمثلها وابتسامته بأعمق منها، وفي داخله شعور خدر لذيذ لنجاحه في إدخال شيء من بهجة على مثل هذا المسكين غير المعتاد كثيرا على شعور البهجات.
*** -


(عبقرية أن تكون أنت!)
ذلك النوع البدائي من العبقريات، المتلخص في انتماء المرء لشخصيته... فقط!
وهو ما يدفعه دوما لتطوير ملامح تلك الشخصية، وفق ما يقتضيه واجب ذلك الانتماء!
ذلك المنطق الحياتي الفريد ببساطته، الفذ بعمقه، الجامع بالبساطة والعمق منهجا اجتماعيا، جدير بقيادة المجتمعات الإنسانية لتقدم سنوات.
بعض ذكريات لا يجمعها كتاب واحد مشترك، بعض أحلام لا يذكر آخر مرة آمن أنها تستحق التحقيق، الكثير من خطط لم يُكتب لها أبدا أن ترى الجزء الأخير منها على أرض الواقع، و... بعض آلام الكلى!
لم يكن هذا الخليط إلا.. ملخصا سريعا لشخصيته غريبة الأطوار، ربما كانت أكبر معاناته ذلك القصور الملحوظ في تطبيقه هذا المبدأ المتعلق بالبدائي من العبقريات، ليس لعدم اقتناعه بصدقه أو قلة إيمانه باعتناقه، وإنما هو هذا الكائن الخفي الساكن داخله، يدفعه دوما لإضفاء تغييرات (يقتنع بالقليل منها) على شخصيته المستعدة بضعف تكوينها دوما لاستقبال هذه التغييرات. مازال باحثا عن كوامن القوة في تلك الشخصية المستكينة بين جوانبه، طال بحثه سنوات، متنقلا بين سبل تلك التغييرات التي يتفنن ذلك الكائن بين جدرانه في اقتناصها وحبسها داخله، حتى وإن خالفت تربيته القويمة وفطرته ذات التكوين السليم عدو التشوهات.
لا زال منذ فجر البارحة سجين مرقده الوثير المترامي في أبعد أركان حجرته، البادية كأنها المولودة من رحم العشوائية المرباة في كنف الإهمال. ببطء شديد، أشبه بالمُعاد من اللقطات السينمائية، بدأ جفناه في تمزيق سترهما الذي أسدلاه قبيل الفجر على عينيه، اللتين لازالتا تتقلبان في مخادع النعاس. دقائق لم تتعد الخمس مرت على تلك النظرة الجامدة لسقف حجرته الأبيض، يلتقط بها بعضا من لقطات مشردة، ضمها شريط حلمه ليلة البارحة. غير أنه لم يظفر بأكثر من مشاهد ممزقة لا تعني بانفصالها معنى، ولا تحمل باتصالها محملا ذا هدف. تولت قبضتاه المضمومتان مهمة إنهاء عبث اللقطات بذهنه وعينيه، فأخذت تجتهد في فرك مقلتيه، محاولة بعثهما من جديد لسجن الواقع الكبير.
بنظرته العدائية المعتادة، رمق منبهه الذي أسفر عقرباه عن ثلاث ساعات فقط، هب كل ما حصل عليه من حصة النوم. أوشك أن يحطمه ككل صباح، غير أن قوة داخله أقنعته أن الاكتفاء ببعض السباب ربما يؤدي الغرض.
(حقيقة عن البشريين:: يكرهون كل ما يدفعهم لتغيير عاداتهم، وإن كانت هذا النوع المهلك من العادات)
متثاقلا قام يستند على مرفقيه، قبل أن ينتهي به الأمر مرسلا قدميه إلى الأرض، جالسا على حافة سريره، يتفقد رعيته من حاجيات تناثرت في عشوائية، بعينين آخذتين في العودة من جديد لزاخر عهودهما من اليقظة التي أنهتها قبيل الفجر جيوش نعاسه.
- إبراهيم... الساعة بقيت سبعة يا حبيبي يللا هتتأخر عالكلية!
جاءه الصوت مرفرفا عبر فتحة صغيرة صنعتها صاحبته بمواربة باب حجرته. كررت تنبيهها عدة مرات، بصورة حفظها منها ذلك الابن الذي لم يرد بأكثر من رده المعتاد:
- حاضر، صحيت خلاص!
لم يكن بحاجة لأكثر من ربع الساعة، ليكون على استعداد لارتداء البسيط الأنيق من ملابسه. جفف سريعا شعره المبلل، قبل أن يكتفي بتصفيفه بيديه، أرسلها بين خصلاته التي لم يهتم يوما بتصفيفها بأكثر من ذلك، كأنها عبدُ ساقه قدره لسيد شحيح. وقف أمام مرآته يختلس النظر لذلك الأثر لجرح قديم في جانب رأسه، قبل أن يهرب منه سريعا كعادته، يتحسس بأصابعه تلك الذقن التي بدأت تربتها في إنبات ذلك العشب الأسود، الذي أضفى على ملامحه بعض سنوات لم يمتلكها بعد. أهملها كعادته، ثم تناول قميصه وبنطاله اللذين أظهرا نحافته البالغة، التقط حذاءه الرياضي الأسود، الذي لم يهتم يوما بعقد رباطه، أنهى مهمة ارتدائه ملابسه، بتلك النظارة الضخمة التي أظهرته أمين مكتبة مهجورة، لا يتصفح محتوياتها من الكتب سواه، وقد تخطى السبعين بعدد لا بأس به من السنوات، قبل أن يلتقط تلك الحقيبة الدراسية المارة عبر كتفه الأيسر وصدره انتهاء بجانبه الأيمن (المريض)، والتى بدا على نحافتها أنها لا تضم أكثر من كتابين، لا يعلم غالبا ما يحوياه بين دفتيهما. التقط قرص المسكن من شريط دوائي أفرغ نصفه، مرسلا إياه إلى جوفه سابحا في محتوى نصف كوب من الماء.. سار بعض خطوات إلى باب حجرته، قبل أن تستوقفه نظرة بائسة تحمل الكثير من متناقض المشاعر إلى سجادة الصلاة الصغيرة المهملة، التي استكانت في مكانها هذا لم تبرحه منذ وضعتها أمه على مسند كرسي وُضع في مكانه هذا إلى جوار مكتبه منذ أدرك وعيه تكوينات المكان. طالت نظرته بعض الشيء، دون قدرة حقيقية منه على إنهائها، كأن قوة خفية سكنت تلك الجهة استعبدت نظره المسكين، الذي تحرر أخيرا ناظرا للأرض، هاربا من مواجهة هو على يقين أنه ليس كفئا لها. تمالك نفسه، واستجمع كل سلبية تملكته في زفير ساكن ساخن عانت شفتاه من حرارته، منصرفا عبر الباب الذي ظل ممسكا بجانبه لحظات نظراته وزفيره، مغلقا إياه خلفه، محاولا تناسي المشهد وما ضمه من نداءات نفس لوامة وندم لتارك صلاة.. لم يحن ميعاد توبته بعد!
على مائدة الإفطار، كانت تلك الحركة اللاهادئة لأبيه، المنشغل بعناوين جريدته المزدحمة بصيحات الكوارث واستغاثات من طالتهم، وقد أخذ سطح القهوة يموج في عنف حتى كاد يهرب من حدود فنجانه، من أثر توتر الأب مما يقرأ.. ثم هذه الحركة الهادئة نسبيا لأخيه المنشغل بتناول إفطاره، دون أن يبدو عليه أي اهتمام بأي شيء، وكأنه ضيف على هذا العالم البغيض، ينتظر ميعاد العودة لعالم تغنى به خياله في ليلة قمراء على أنغام حلم جميل.. وأخيرا ثالث الجلوس، حيث أم تشاغلت عن الجميع بالجميع، تضع أمام هذا المزيد من طعام يوشك أن ينفد، تلقم هذا لقمة في فمه ضنت بها على نفسها، ثم -إن فاض الوقت- تطعم نفسها بعض لقيمات، تكفي بالكاد لبقائها على قيد الحياة.
- ولاد الكلب بيضربونا بقنابل فسفورية، أنا مش عارف الحكام العرب دول بيبصوا لنفسهم في المراية ازاي وللا بيجيلهم نوم بالليل ازاي بعد اللي بيحصل قدام عينيهم ده؟!
قالها الأب منفعلا، ومازال نظره معلقا بجريدته وعناوينها، لا يعلم محيطوه إن كان يخاطبهم أم يخاطب نفسه، أو أن المقصود بالخطاب كان شخصا مجهولا اختفى بين سطور الأخبار!
- غزة؟!
سألت الأم في أسى العارف بالإجابة، الخائف من تأكيدها. يأتيها الرد:
- أيوة!
قالها الأب مسبقا إياها بإيماء رقبته أن نعم، وزفير حزين، ومتبعا اياها بوضع فنجان قهوته على المنضدة أمامه زاهدا فيه مستطردا:
- فالحين بس يعتقلوا ويضربوا الشباب اللي بيطلع يقول كلمتين حق في مظاهرة مش طالب من وراهم مصلحة، أسدُ علىَّ وفى الحروب نعامةُ، أقطع دراعى إن ما كانوا بيعملوا كده عشان بيحسُّوا بالنقص كل مايشوفوا شاب مبيخافش يعلِّى صوته بالحق اللي هم مش قادرين يعلنوه وللا شابة مبيهمهاش تقول كفاية اللي هما مش قادرين ينطقوها، بيقولوا لنفسهم اشمعنى احنا جُبنا؟، لازم الجُبن يبقى علينا وعليهم، يبقى الخوف هو السياسة العامة شعوب وحكَّام!
- حسبنا الله ونعم الوكيل فيهم قبل الصهاينة!
اكتفت بها الأم، التي وقعت عيناها مصادفة على إحدى صور المجزرة في الجريدة المكبلة بمآسيها، حيث طفلة دون العاشرة محمولة بين يدي أحدهم، وجهها للسماء وعيناها سابحة في ملكوت يبعد عن عالم البشريين ملايين السنوات، وقد غطت الدماء وجهها وغطت الدموع وجه حاملها، البادي عليه أنه رسول الرحمة لتلك المفارِقة عالم الإنسانية المُقنَّعة، لا تعلم بأي ذنب قُتِلت.
- ومصر فين من كل ده؟
- مصر؟، الله يرحمها، مصر ادت لاسرائيل الأسمنت اللي بنت بيه الجدار العازل، المهم ان المنتخب كسب أفريقيا وابو علاء استقبل الأبطال في المطار بنفسه وفطر معاهم، لأ ولسه بسلامته بيقول هنحاول ننسق مع الجانب الإسرائيلي موضوع فتح المعابر ونستأذنهم لأنه من حقوقهم، بيستأذن عدوه عشان ينقذ أخوه من الموت، شفتي الهنا اللي احنا فيه؟
- مش خايف من رد فعل الشعب؟
- الشعب؟، هو فين الشعب؟، الشعب آخره يتفرج عالخبر عالقهوة في استراحة الماتشات يخبط كف بكف ويقول لا حول ولا قوة الا بالله، ولو الشوط التاني بدأ من غير مايكملها هينسى يكملها، التاريخ عمره ماهيسامح الراجل ده على تسطيح فكر كل الملايين دي، أكبر جريمة ممكن يعملها حاكم في شعبه. وبعدين ربنا يخليله مطبلاتية إعلامه، مصورين للناس إن رد الفعل ده مايصدرش إلا من سياسي محنك عبر بالبلاد لشط الأمان ويغنوله اخترناك وافرح يا شعب بزعيمك العظيم، كلهم صبيان سفاح نجمة داوود، كلهم في مزبلة التاريخ، والله كلهم في مزبلة التاريخ!
أنهاها الأب بشيء من الانفعال بدا على ملامحه البارزة ببؤسها من خلف زجاج نظارته وسطور جريدته، يأتيه رد ابنه الذي التفت أخيرا للأمر، وكأن كلمات أبيه قد انتشلته من غيبوبة لامبالاته للحظات قائلا:
- واحنا ممكن نعمل إيه؟، البلد خربانة والناس مش لاقية تاكل، مش لما نحل مشاكلنا إحنا الأول؟!
- غلط!
قالها الأب بحزم مستطردا:
- غلط ومليون غلط، هو ده اللي بيحاول إعلام النظام يصدره لفهم الناس علشان يسلموا بالموضوع وينسوا القضية، لا دين ولا إنسانية بيقولوا كده، الدين قال (طهروا أموالكم بالصدقة) وهم بيقولوا (اللي محتاجه البيت يحرم على الجامع)، الدين قال (المؤمن للمؤمن كالبنيان) وهم بيقولوا (خليك في حالك وامشي جنب الحيط)، الأنصار لما المهاجرين راحولهم قسموا معاهم كل حاجة أكلهم وشربهم وبيوتهم وفلوسهم وتجارتهم، هو ده مبدأ المشاركة اللي الإسلام أمرنا بيه وده اللي كان فيه سر إقامة دولة الإسلام وقوتها قرون، ولما ضيعنا المبدأ ده ضاعت الدولة وضعنا معاها، والغرب وأعوانه من الخونة في الداخل بيحاربوا بكل قوتهم إننا نفضل كده كل واحد مشغول بمشاكله لوحده اللي هم قدروا يضاعفوها، جيل بيسلم مشاكله لجيل يزودها ويسلمها لجيل تالت لحد ما في النهاية هنصحا مش هنلاقي الشمس طالعة من كتر ما جبل المشاكل عِلِي وحجب وراه كل حاجة نضيفة وهكذا.. نفضل في الساقية بندور مغميين عينينا بشريطة سودا اسمها حكامنا وإعلامهم!
لم يكد الأب ينتهي من كلماته الآخذة نبرتها في الحدة شيئا فشيئا، حتى انتبه الجميع لوقع أقدام رابع أفراد الأسرة يقترب، غير مدركين أنه ألمَّ بأغلب كلمات الحديث، مصطحبا حضوره بسلامه الروتيني البارد:
- صباح الخير!
- صباح النور (رد جماعي)
- إبراهيم... يللا يا حبيبي الفطار!
قالتها أمه الملتفتتة إليه، تفسح له مكانا إلى جوارها، قبل أن يأتيها رده:
- لا لا ماليش نفس، هافطر في الكلية!
قالها وانصرف إلى باب الشقة، غير عابئ بنظرات الجميع له، بين الاستغراب من تلك الحالة من الجمود التي يسبح في ملكوتها منذ فترة (رغم أنها باتت من أساسيات تكوينه، غير أنها استفحلت فيه هذه المرة) والفضول في اكتشاف سبب حالته تلك، وأخيرا الإشفاق لحاله التائهة بين استغراب البعض وفضول البعض الآخر.
- ماله الواد ده؟
قالها الأب ومازال نظره معلقا بابنه المغادر غير عابئ بحديث خلَّفه وراءه، هو على ثقة أنه متناوله بأي حال من الأحوال، سواء كان تعجبا من أبيه، أو ردا مأساويا من أمه المبالغة في قلقها عليه، أو تعليقا ساخر من أخيه.
- والله مابقيت عارفاله، كل شوية بحال، حاول تبقى تقعد معاه شوية كده تشوف حكايته ايه!
- مانتى عارفاه، من ساعة الحادثة إياها وهو عايش بدماغه بعيد عن الدنيا كلها، لا بيشارك حد في حاجة ولا بيقول لحد حاجة!
- معلش، مش هتخسر حاجة من المحاولة، أنا غُلبت معاه وزهقت من جملة (مافيش حاجة) اللي بيرد بيها على كل حاجة دي.
- أمري لله، لما نشوف حكايته ايه ده كمان!
كان هذا آخر ردود الأب، الذي طالما كان هذا الابن أكبر تحدياته في الحياة.. لم ينجح بعد النجاح الكامل الذي يرضيه في الوصول به لبر أمان ينظر إليه فيه من وسط الأمواج فخورا بحفظ كنز له من وحوش القيعان وعواصف السطوح. قام إلى عمله ومازال محتفظا بجريدته، التي طواها تحت إبطه، منشغلا عنها بعض الوقت بإعادة ملابسه إلى كامل هندامها، الذي اعتاد عليه متكاملا إلى أقصى درجاته، ثم غادر!
لم يكد ذلك الطالب المكتفي بصداقة نفسه يغادر شقته وأهلها وأحاديثها، حتى تفرغ كعادته لاستقبال الهجوم اليومي لجيوش القديم من ذكريات مضت، لا تزال مصرة على رفع رايتها فوق كامل أراضيه، وكأنها لم تكتفِ بسنوات مضت من الغزو، خلفت وراءها نفسَه أطلالا إلا من بعض البقايا العامرة لازالت تقاوم للبقاء.
كأنهم كانوا هنا بالأمس، الصور جميعها لا تزال على حالها من الصمود في ذلك الرف النائى من رفوف الذكريات، الذي لم تجرؤ قط أتربة النسيان على مجرد الاقتراب منها، فظلت على حالها من السطوع في سماء مخيلته دون غروب.
مازالت هذه الليلة حاضرة في حياته بكامل تفاصيلها، تهاجمه من حين لآخر بومضات مشاهدها السابقة، كأنها لم تكتفِ بعد بما نالته من سنوات شبابه المحال باكرا لشيخوخة العجائز.. لازال ذاكرا كل تفاصيلها وسيظل، تطارده الصور وأبطالها في كل آن ومكان، يجدها رفيقة وحدته بين جدران حجرته، جليسة عزلته في مقهى (الخيمة) الذي بات متنفسه الوحيد، وصاحبة ذلك السير العشوائي من حين لآخر، حين يحتمي بنفسه من نفسه في خطوات ضالة هدفها على كوبري عباس، تحت مظلة ليل يقسو ببرده حينا ويتعطف بنسماته أحيانا.
- إبراهيم!
انتشله النداء من دوامة صوره وذكرياتها، التي ظلت تعمل فيه أسلحتها طوال سيره من سكنه بمنيل الروضة وحتى مدخل كلية الصيدلة. التفت التفاتة المستيقظ للتو من نوم شغلته أحلام لم يستطع لها تفسيرا:
- شافعي! إزيك!
- إيه يا عم طب سلِّم علينا من بعيد حتى وانت معدِّي ده السلام لربنا، هو احنا مش قد المقام وللا ايه؟!
قالها باسما في إشراق كعادته، يحاول اقتناص ضحكة مماثلة من مخاطبه متكلف الابتسام الرَّاد في هدوء:
- ماخدتش بالي والله صباح الفل يا رجالة.
قالها وانطلق لهؤلاء الواقفين على مقربة منه، يبادلونه ابتسامته الخافتة بأخرى، أتبعتها بعض قفشاتهم في محاولة منهم لإخراج ما وراء الابتسامات من فكاهي الردود وجلجل الضحكات. بادلهم سلام الأيدى وبعضا من كلمات المرح، لم يبدُ عليها أنها صادقة ولو بقدر قليل، تلقوها منه كعادتهم بشيء من التكلف أجبرهم عليه، قبل أن يعمد (شافعي) لاستقطابه من جديد لمجرى حديثهم، قائلا في مرح معروف عنه:
- بس ماكانش العشم يا عم إبراهيم والله، تسيبنا وتمشي كده من غير سلام؟، هو انت عشان معاك قرشين يعني هتتكبر علينا، ماحنا ولاد ناس برده على فكره.
تعالت الضحكات من أفواه الجميع إثر خروج الكلمات في نمط سريع معروف عن (شافعي)، يضفى على أحاديثه شيئا من الفكاهة، يحبه منه هؤلاء الجميع، بمن فيهم ذلك المقصود بالكلمات، الذي ظهرت أسنانه من أثر ضحكاته لأول مرة منذ وقت طويل، قبل أن يعود لمضمار الحديث قائلا:
- أنا أقدر برده يا عم شافعي؟، وبعدين ماهي فلوسي وفلوسك واحد يعني.
(حقيقة مؤكدة: يتخلى إبراهيم عن غرابة أطواره ويعود لطبيعته الإنسانية حين يساعده أحدهم على ذلك)
- وكمان بتستهزأ بيا؟، هو احنا عشان غلابة وبنكمل عشانا نوم يعني؟، ماشى يا عم اللي اداك يدينا.
من جديد أطلت الضحكات من أفواه الجميع، متداخلة مع قفشاتهم المساهمة في ارتفاع نبرة هذه الضحكات حتى تشجع أحد الضاحكين في حديثه لـ (إبراهيم) قائلا:
- بقولك ايه يا هيما، فاضي النهارده بعد الكلية؟
سؤال أحس منه (إبراهيم) بعض الريبة لتوقعه القادم بعده، غير أنه آثر الانتظار للنهاية قائلا وقد توقف عن ضحكاته، وإن ظلت ابتسامة خفيفة ملازمة وجهه:
- آه... إن شاء الله، المفروض يعني، خير فيه حاجة وللا ايه؟
- طب ماتيجي معانا؟
- فين؟
- خارجين، كده كده بكرة الجمعة أجازة مافيش ورانا حاجة، يعنى النهارده نسهر براحتنا.
- معلش اعفونى أنا من الموضوع ده.
(حقيقة أخرى مؤكدة: مهما تخلى إبراهيم عن بعضٍ من غرابة أطواره، فهو أبدا لا يسمح لأحد أن ينتزعه منها بشكل كامل!)
- ليه كده؟، أهو حتى تغير جو الكلية والمحاضرات طول الأسبوع!
- معلش خليني أنا المرة الجاية بقى ان شاء الله.
- خلاص خلاص، سيبوه براحته يا رجالة، واضح انه وراه حاجات أهم!
قالها (شافعي) بشئ من الفكاهة، (يغمز) بعينيه لإبراهيم، الذي ابتسم له ابتسامة تحمل امتنانه لإنهاء الموقف بهذه الطريقة التي انقذته، فسارع بدوره لإنهاء الأمر برمته قائلا:
- طيب أستأذنكو أنا بقى يا شباب، يادوب ألحق اشربلي حاجة تفوَّقني قبل المحاضرة.
- ماشى يا هيما... اتفضل!
من جديد عاونه (شافعي) على الهروب، فانصرف تلاحقه نظرات التعجب من الجميع، وتظله قولاتهم المتداخلة عنه:
- بني آدم غريب.
- بقاله سنة ونص في الكلية ومالقتلوش صاحب واحد بيمشي معاه!
- الواد ده أكيد وراه حاجة!
- يللا يللا مش مهم، خلينا بس نشوف هنعمل ايه النهارده، مش هنضيع اليوم في كلام مالوش لازمة.
كلمات تطايرت حول (شافعي)، الذي ظل على حاله من النظر لـ(إبراهيم) في شرود، غير مدرك لما يقال حوله، وقد انشغل عنهم بذلك الذي تعلقت به عيناه حتى اختفى عن ناظريه، وفى ذهنه الكثير من علامات الاستفهام الآخذة في التكاثر!
***












لم يكن يفصله عنها سوى بعضٍ من بياض القطن المتألق بأزهريته تحت خيوط شمس، بدا على بريقها الاحتفاء به. تقافزت إليها نظراته، فوق تلك المرايا اللامعة على أسطح الزهرات القطنية، في لهفة مفضوحة لم تكسبها بعد سنواته الخمسة عشر حنكة إخفائها وراء بسمة باردة أو سترها خلف كلمة تتنكر لانتمائها لمواطن الحب ومعسكرات المحبين.
تنبهت لنظراته الساذجة، فاحتمت بخجلها من الهجوم بحياء فطري، زادته براءة الصبا ونقاء الريف تألقا، أنطق قسماتها أشعار الجمال، واقتبس من ملامحها ألحانا تتغنى بسيمفونيات أبدعتها قيثارة الأصفياء من بني البشر.
لم يفلح ذلك الجلباب الأحمر ذو التطريز البدائي الأصفر فوق الصدر والأكمام الواسعة، والمنتهي قبل قدميها بقرابة الشبر، أو ذلك المنديل الأزرق فوق الرأس، والغني ببقع تحاول يائسة تقمص دور الورود في النيل من جمال (وردة)، بل استغلت التصاقها بها في نهب بعضٍ من جمالها الناشئ، فاكتسبت الحمرة والصفرة والزرقة مزيدا من ألوان لم تعرفها بعد لوحات فناني الآدميين، وهي القادمة من لوحات فنان ملائكي قادم من عالم مثالي بعيد!
من جديد حاصرتها نظرات (طلال)، فلجأت هذه المرة للاحتماء بأحبالها الصوتية ذات الاثنى عشر ربيعا، والخبرة الغنائية الناهلة من حنجرة جدتها، الثرية بأغاني تراث مات في كل مكان، وأحيته حناجر فلاحي المحروسة عبر عقود، يسلمونها جيل لجيل، كأنها إرثهم الوحيد (إلى جانب الفقر والرضا به)
- الجُطن حدانا لولي سنان حورية
بدأت بها تغريدها الكرواني، الذي أنصت له الجميع من نساء وصبية ضمتهم حدود الحقل الفسيح، فرددوها وراءها على نفس شاكلة اللحن البدائي الجميل، مستعينين بتصفيقاتهم المنتظمة المساهمة في بروز الكلمات على نحو مطرب:
الجُطن حدانا لولي سنان حورية
دفيان بالشمس الصاحية من الفجرية
دفيان بالشمس الصاحية من الفجرية
والخير كُلاَّته ساكن اليمَّادي
والخير كُلاَّته ساكن اليمَّادي
واهي ليلة فرحه وفرحنا الليلادي
واهي ليلة فرحه وفرحنا الليلادي
هنزفُّه بحِنَّة وطلجْ البُندجية
هنزفُّه بحِنَّة وطلجْ البندجية

- جفشتك!
اختطفته الكلمة القادمة من خلفه، المصحوبة بكف قبض على كتفه، من حالة طربه وهيامه كصقر انقض على إحدى فروخ الحمام، فالتفت فزعا قبل أن يحتال فزعه ابتسامة ود صادقة لذلك الممسك به قائلا:
- شيخ بدر؟، يا صباح العسل على زينة رجالة البلد!
- زينة رجالة البلد يا نصاب؟، أومال عم حسني بقى يُبجى ايه؟
قالها ذلك الملتحي البشوش، بلهجة قصد بها شيئا ما فهمه ذلك الصبي الذي أربكه السؤال الضاحك، رادَّا في ارتباك وقد فطن بذكائه الفطري أن محادثه الشيخ كان شاهدا على حواره قبل قليل في سوق الكانتو من بين الصفوف:
- إيه؟...هو... اصل...هو انت كنت في الكانتو؟، يا راجل، دي بس حاجة اكده من ورا الجلب كده مجاملة، الراجل عمل ويَّانا واجب برده كان لازم نجبر خاطره بكلمتين.
- هاهاها مافيش فايدة منيك يا واد يا طلال، هتفضل اللماضة في دمك.
قول قابله (طلال) بضحكاته الرائقة التي يعرفها عنه الجميع، قبل أن يعود للحديث بقوله:
- أني! داني غلبان والله يا شيخ بدر، العالم دايما ظالماني معاها اكده، الناس مابجتش تسيب حد في حاله.
- إنت هتجوللي؟، دانتا أغلب من الغُلب.
قالها الشيخ (بدر) باسما، وصمت حينا قبل أن يستعير لهيئته الضاحكة مع صديقه الصغير بعضا من جديته واعظا فوق المنابر، مستعيدا يمينه من فوق كتف طلال، لتعود لمهمتها المستمرة عبر اليوم لعناق مسبحته البيضاء قائلا:
- بس أني واخد على خاطري منيك يا طلال!
- أني؟، ليه كده يا شيخ بدر؟، دانتا بالذات لو خدت على خاطرك مني ماانامش الليل.
قالها (طلال) بصدق ظهر جليا في كلماته، ما دفع الشيخ (بدر) للإشفاق عليه بعض الشيء، لائما إياه بقوله:
- دورت عليك النهارده في الفجر مالجتكش، ده كان اتفاجنا بردك؟
لوم نال بشدة من الصبي الحريص تماما على رضا ذلك الشيخ في منتصف الثلاثينيات أكثر من أي شخص آخر، قائلا في شيء من الانكسار، لازال أمام أقرانه سنوات طوال ليسمعوا عن وجوده بين الآدميين:
- معلهش يا شيخ (بدر)، حجك عليا النوبادي، والله يادوبك خلصت الشغل في الغيط جبل الشمس ماتغيِّب على طول وأول ماروحت لجيت أمي هلكانة بفرشة الدرة لسه معاودتش البيت، جمت رايح واجف مكانها وخليتها تروح عشان اخواتي البنات اللي مرميين جنبها النوم جاتِلهم على حجرها في الشارع، وفضلت على دا الحال لحد بعد صلاة العشا، روحت نمت طوالي ماصحتش إلا النهارده الصبح، حجك عليا النوبادي يا سيدنا، ماهتتكررش تاني، عهد مني!
(ملحوظة: عسكري الشطرنج لا يطمع في أغلب الأحيان في أكثر من بضع حركات آمنة في الظل، من شأنها أن تؤخر إقصاءه من الرقعة بعض الوقت!)
كلمات ودَّ بعدها ذلك الواعظ لو ينحني مقبِّلا يد هذا الغلام المكافح، وقد بدأت عيناه تلمعان ببريق جاهد في إخفائه بابتسامة عميقة، أتبعها بيمينه تربت من جديد على كتف (طلال) قائلا:
- إنت راجل يا طلال، راجل من ضهر راجل.
- كتر خيرك ياسيدنا، يعنى خلاص مش زعلان مني؟
- لا يا سيدي مش زعلان، بس تاني مرة...
- تاني مرة هتلاجيني في أول صف باسلم عليك بعد الصلاة.
قالها (طلال) مبتسما، يأتيه الرد سائرا في ذات الطريق الباسم من الشيخ (بدر)، الذي استطرد ابتسامته بقوله:
- حيث كده بجى يبجى خد أرواحة كل يوم أهي، كنت ناوي أحرمك منها النهارده، بس يللا المسامح كريم.
قالها وقد صاحبها بإخراج تلك القطعة الصغيرة من الحلوى من (سيَّالة) جلبابه ناصع البياض، كما هي عادته كل يوم مع صديقه الصغير، الذي تلقاها في نهم ضاحكا، يقول وهو يلوكها بشراهة معتادة:
- من يد مانعدمهاش يا مولانا، أهو أني دِلوَك بس اتأكدت إنك مش زعلان.
قالها دون أن يتبين مخاطبه منها الكثير، وقد أخفت معالم الكلمات تلك القطعة من الحلوى المتجولة في فمه، فلم يملك الشيخ (بدر) إلا ضحكا من سذاجة ذلك الغلام البسيط وتلقائيته، حتى انتبه الاثنان لذلك الصوت القادم من خلف الشيخ (بدر)، مصاحبا قوله بيده ذات المسبحة تربت على كتفه:
- دي الغزالة باينها رايجة صُح وعال العال النهارده أهي ما شاء الله.
التفت اليه الشاب الوسيم باسما، يمسح بنظره سريعا هيئة ذلك القادم، مظهرا إعجابه بعباءته السوداء ذات التطريز الذهبي، وعمامته البيضاء الدالة على صعيديته، التي يعتز بانتمائه اليها أكثر من أي شيء آخر، إضافة لتلك المسبحة التي لا تفارق يمينه العجوز قائلا:
- غزالتنا احنا اللي رايجة بردك؟، عيني عليك باردة يا حاج، ولا ابن العشرين.
- واجدع من ابن العشرين كمان يا سيدنا الشيخ، بتنُجْ على ابوك؟، دي أخرتها بردك يا شيخ بدر؟
قالها الرجل مازحا، يأتيه رد ولده الضاحك:
- أنا أجدر بردك يا حاج؟، دانتا الخير والبركة، وبعدين هو أني اللي باجول؟، دي البلد بحالها بتتحاكى بالحاج مهنى ليل نهار.
- البلد بحالها كوم وولدي كوم تاني، وللا ايه يا واد يا طلال؟
- هي البلد بحالها فيها زي الشيخ بدر بردك يابا الحاج؟
- طبعا ومين يشهد للعروسة؟
قالها الأب باسما، يأتيه رد ولده وطلال في ضحكات متصلة، صحباها بنظرات العينين وسلام اليدين، ما دفع الحاج (مهنى) لاستطراد كلماته في غيظ مصطنع:
- طب اتفرج بجى يا طلال هاعمل فيك ايه النهارده، ان ما خليتك تجمع الأرض كلها لحالك، ماابجاش الحاج مهنى.
- أني لاجل عيون الشيخ بدر أجمع أراضي الناحية كلاتها.
قالها (طلال)، فانفجرت لقوله ينابيع الضحك لدى الرجلين، في صدق وإعجاب بسرعة بديهته وصدق حبه للشيخ، فتولى الحاج (مهنى) الرد قائلا:
- هتفضل طول عمرك بهلوان كلام يابن عزوز، مع ان أبوك راجل طيب وامك ست زينة ماخابرش انت طالع اكده لمين.
- لخالي.
- انت ليك اخوال يا واد؟
- لأ.
ثم استمر ثلاثتهم من جديد في نوبة ضحك، أنهاها (طلال) بقوله:
- استأذن أني بجى أشوف شغلي، الوجت أزف جامد ولسه جِدامنا شغل ياما طول النهار.
- ماشي ياسي طلال، اتفضل.
قالها الشيخ (بدر)، قبل أن يستطرد قوله لأبيه مداعبا بيسراه شعيرات لحيته المعطرة بالمسك، ومغازلا بيمناه حبات مسبحته، متابعا ذلك الصغير المهرول في مهارة وخفة بين نبتات القطن، تغازلها رشاقة قفزاته بينها:
- خابر يابا لو كل عيال البلد كِيف طلال اكده؟، كان زمان (العش) أجدع بلد في الدنيا!
***
وحده بين أغلب الحضور كان منفردا في جلسته، في آخر الصفوف منعزلا عن ازدحام طلابي في المقدمة يستمع (أو هكذا يوهم نفسه) لكلمات المحاضر، المنبعثة عبر مكبرات الصوت، ناطقة تارة بمصطلح طبي يستطرد بعده في شرح معناه، وصامتة تارة مكتفية بإشارات اليد الشارحة لبعض الصور المتتابعة عبر (البروجيكتور)، وهو بين نطقها وصمتها ظل مكتفيا بجلسته التي لا توحي بامتلاكه أي إشارة من إشارات الحياة، ينتظر كعادته في ملل اعتاد عليه انتهاء المحاضرة وما بعدها من محاضرات، ليعود من جديد لجدران حجرته ذات بروايز الصور حاملة الذكريات.
- على غزة رايحين...شهداء بالملايين!
اخترق الصوت الجماعي حدود المدرج من كل جهاته، حتى ظن من فيه أن جحافل الهاتفين توشك أن تقتحم المكان على سكانه. دقائق مرت، حاول فيها المحاضر استكمال محاضرته دون الالتفات للهاتفين أو هتافاتهم.
الهتاف يحتد... المُحاضر يتغاضى... الهتاف تزداد حدته... المحاضر يزداد عناده... حتى انتهى الصراع أخيرا بذلك الصوت من داخل قاعة المحاضرات ينتفض صارخا:
- على غزة رايحين... شهداء بالملايين!
مساندا قرينه في الخارج.
لحظات من الصمت عمت أركان المكان، وقد تعلقت أنظار الجميع بذلك القائم الهاتف وسط الجلوس، كما حر انتفض بين عبيد..
- انت اتجننت يا ولد؟، اترزع مكانك!
قالها المحاضر في عنف، فلم تزد الطالب إلاَّ حماسة، فاستمرأ هتافه من جديد:
- على غزة رايحين... شهداء بالملايين!
- قلت اترزع مكانك!
- على غزة رايحين... شهداء بالملايين!
(معلومة مؤكدة: لا تسقط الأنظمة القمعية إلا بخلخلة داخلية، تنبع من فئة ظنت تلك الأنظمة أنها تحت سيطرتها، لم تعمل لثورتها حسبانا)
- شافعي!
قالها (إبراهيم) هامسا بها لنفسه، وهو يتابع ذلك الهاتف وسط جموع الجالسين، في دهشة انتشلته من حالة نعاسه لم تدم طويلا، وقد انشغل عنها بتلك الهتافات الآخذة في التزايد حوله، ينتفض بها المدرج من هؤلاء الذين تركهم بالخارج قبل قليل، كأنهم المتسللين إلى المدرج تسلل الماء من شقوق لم تقو على حفظها داخل حدودها، مؤازرين ذلك البادئ بالهتاف قبل أن تنتقل حمى الحماس لكل الجالسين حول الهاتفين في أنحاء المدرج، فهمَّ الجميع بالوقوف، يعينهم تمردهم على هتافهم و يعينهم هتافهم على تمردهم، وتدفعهم إعانة الاثنين على هذه البداية لتظاهرة اتجهت لباب المدرج، ومنه إلى الخارج لمؤازرة جموع المتظاهرين في أروقة الكلية خارج المدرج، ضاربين بالمُحاضر وتهديداته عرض الحائط، كأنها لم تكن من الأساس سوى فقاعة، لم تلبث أن تلاشت وسط موجات ترابية عاصفة اهتزت لها أركان المكان.
(معلومة أخرى مؤكدة: إصرار تلك النظم على أسلوبها القمعي، دون محاولة احتواء مناهضيها، تُعجِّل بسقوطها غير المأسوف عليه!)
دقائق فقط كانت كافية لانضمام موجة المدرج لأمواج اليم البشري المتتابعة في أنحاء الكلية، حتى التحم الجميع في نهاية المطاف في موجة واحدة، تعالى من أحشائها زئير آخذ في الحدة. قادة الهتاف فوق الأعناق، يلوحون بأيديهم المقبوضة تفاعلا مع نداءات أفواههم فاقدة المجيب، لوحات كرتونية بدا على أناقتها ودقة رموزها أنها إنتاج عمل ليلي عمره ساعات، أسفرت عن الكثير من ضحايا الفُرَش وأقلام الرصاص، ثم في نهاية المطاف ذلك العلم البغيض ذا اللونين السماوي والأبيض تتوسطه نجمة داوود، حمله أحدهم، ذلك الملتفح بالشال الفلسطيني المرصع بأبيض الألوان وأسودها، إلى وسط دائرة شكلتها جموع الهاتفين، قبل أن يضع اللمسة الأخيرة بإشعال جحيم في قماشه، اندفع من رحم قداحته، تنبعث شرارته في الأساس من قلوب المتظاهرين وحناجرهم التي لم تتوقف عن الصراخ.
لم يكن لفرحة هؤلاء المتظاهرين بما أنجزوه من تظاهر يرضي بعضا من غرور شبابهم، وإن لم يُضف لحلول القضية جديدا يساهم فعليا في حلها، أن تستمر بعد مشهد حرق العلم لأكثر من دقائق، انتبه بعدها الجميع لذلك الصارخ بينهم بعينين متسعتين مشعتين بتحدٍ لا يملك مثله الكثيرون، مشيرا بذراعه المنتصب المنتهي بقبضة لم تبرز منها إلا سبابتها نحو باب الكلية قائلا:
- الأمن المركزي وصل يا رجالة!
- يا أهلا بالحبايب!
جاء الرد من أحدهم، ذلك القابع هناك فوق كتف صديق له، بشيء من التلقائية، كأنها جرت على لسانه بشئ من الطبيعية، وهو المعتاد على مثل تلك المواجهات مع هذا الخصم بالذات. فتتبعت نظرات الآخرين نظراته وكلماته نحو هذه العربات السوداء الضخمة عند الباب، ترتدي في تجبر عباءات الرهبة، تعلو حوائطها بعض أسلاك متقاطعة -يقولون إنها جُعلت للتهوية- وقد ارتجت العربات إثر نزول منتظم لهؤلاء المسلحين بهراواتهم ودروعهم وخوذهم، يغادرونها عبر سلاسل حديدية في نهايتها، قبل أن يصطفوا بأمر ذلك المرتدي نظارته الشمسية السوداء، وبدلته (الميري) الأشد سوادا، والمتوَّجة أكتافها بنجمتين متعانقتين في أنفة، وقد انشغل عن هؤلاء الواقفين في صفوف أمامه بسيجارة شغلت ما بين شفتيه أشعلها للتو، لم يكد دخانها يتصاعد من مقدمتها المتوهجة حتى حررها من فمه مستمتعا بأول أنفاسها، ثم التفت مخاطبا جنوده:
- أنا مش متعود اتكلم كتير، هما كلمتين عشان الصداع
صمت ثانيتين يعانق سيجارته بنفس آخر، ثم استطرد:
- قسما بالله... وللا أقولك بلاش دي، مش واقعية، مش لما نبقى نصلي الأول نبقى نحلف بالله، وحياة أمي... ممم... لأ برده مش عاجباني دي، هي أمى مالها ومال الزبالة دي؟... وحياة أمك انت وهو لو العيال دي مااتلمت قبل مااخلَّص سيجارتي لتشوفوا أيام تخليكم تكرهوا أهاليكم انهم جابوكم الدنيا!
كلمات اعتادت عليها مسامع هؤلاء الأسرى في ملابس السجَّانين، فسكنوا كتماثيل تنتظر الطير فوق رؤوسها، لتكمل صورة آثار الفراعنة صديقة الثبات لآلاف السنوات، قبل أن يأتيهم ما يدفعهم للحراك من جديد عبر هذا اللسان السليط:
- ماتخلص يابن الـ**** منك له، هاتحايل على أهاليكم وللا ايه؟!
قالها قائدهم الخالي كامل الخلو من صفات القيادة، بصوت أقرب لصراخ الحروب، اندفع بعدها عبيده كعاصفة انتوت الإتيان على كل أخضر ويابس، لا لشئ إلا لسيطرة رعبهم من ذلك الوعيد المفعم بالسباب على مخيلاتهم، ممزوجا بتلك الصورة المنقولة اليهم حول خيانة هؤلاء المتظاهرين للوطن الذي يعيشون فيه، عبر خلخلة أمنها الذي يضحي أمثال هؤلاء الضابط بالكثير مما يملكون لقاء استتبابه. لعبت برؤوسهم صورة ذلك الضابط ينتظرهم بعد الفشل يُعمل فيهم عصاه، فيتحاشون الصورة والفشل بإعمال عصيهم في صفوف المتظاهرين.. يرونه ببواطن عقولهم يذيق كرامتهم الهوان بسبه النائل الآباء والأمهات، فيتقون الصورة والسباب بألسنتهم تنطلق لآباء الواقفين وأمهاتهم. لم يكن الفريقان بحاجة لأكثر من دقيقة وجزء من دقيقة ثانية، ليلتحما في معركة احتوتها ساحة الكلية، تعانقت فيها عصيّ الجنود وأجساد المتظاهرين. دماء تتناثر استقبلتها ملابس المصابين في إشفاق، ودروع مصيبيهم في إنكار.. عظام تتهشم، استقبلت آذان المُهشمين أصواتها في فزع، وأصوات مهشميهم في ارتياح.. غير أن منظر الدماء وصوت التهشيم لم يساهم في المعركة إلا بزيادة ملحوظة في أعداد المتظاهرين، وزيادة أكثر ملاحظة في صمود قدامى المتظاهرين، الذين لا يملكون أكثر من أيديهم وحناجرهم وبعضا من حجارة، سرعان ما تفتتت على دروع مصارعيهم، حتى دخلت المعركة طورا جديدا علته أدخنة قنابل الغاز، التي ساهمت في تفريق الجموع بعض الشيء، فاندفع عساكر الأمن المركزي بين الصفوف المضطربة، مستغلين ضبابية رؤية خصومهم المنشغلين بنوبات كُحَّتهم المجتهدة في طرد ما استعمر رئاتهم من جيوش الغاز، وقد عقدوا العزم على إنهاء الصراع فورا، قبل انتهاء تلك السيجارة اللعينة بين أصابع آمرهم، خوفا من وعيد هم على يقين أنه أبدا لن يخيب إن خابوا، وهو الاندفاع الذي لم يسفر إلا عن مزيد من بقع الدماء على الثياب والدروع كليهما!
انتهت المعركة، ومازالت السيجارة لم تلفظ آخر أنفاسها بعد!
*** -
بعض الأشياء التي تحاول جاهدة الانتساب شكلا إلى المقاعد، أشياء أخرى سارت محاولاتها على نفس النهج في طريق أشد وعورة للانتماء لعالم الطاولات، رائحة البساطة تعقم أجواء المكان، مقتبسة قوتها من أقماع الشاي والقهوة والسحلب والحلبة الحصى، ذوات الأغطية الحمراء والبنية سوداء الحواف من اثر انتزاع ورقة كانت تغطيها، تحمل اسم منتج عسل أو مربى كان بالداخل منذ سنوات.. أكواب وصوانٍ يجتهد أحدهم في تنظيفها دون جدوى، بماء من صنبور يحتضر وفوطة صفراء تنتظر حمل نعشها إلى أقرب صندوق قمامة ممكن. الفحم لم يكن ليرضى بدور ضيف شرف الصورة بأي حال، لمعان برتقاليته، فحيح احتكاك لسعاته بالهواء، وحربه الضروس لأجل البقاء مع رئات مدمني الشيشة وأنفاسها، كل ذلك جعل من قوة حضوره شيئا لا مفر منه. تلك الضوضاء المبعثرة في جنبات المكان من أثر ارتطام قطع الطاولة بسطحها الخشبي، ضوضاء أكثر بعثرة أخرجتها لشاشة المقهى أفواه الجالسين، فبدت ضوضاؤهم كأنها الناتجة من فم واحد كبير لمخلوق خرافي تعددت فيه الألسنة بالطلبات لـ(شلبى) القهوجي. لابد أخيرا من ذكر تلك السقيفة من البوص وعروش النخل، تقي الرواد حرور الصيف وبرد الشتاء، غضافة لتلفاز صغير مدعوم بـ (وصلة دش) يبدو ذا أهمية قصوى أثناء التمثيل المشرف للمنتخب القومي في أفريقيا، ثم استقباله استقبال الفاتحين ومكافأة ابو علاء، راعي الرياضة والرياضيين للأبطال، بالملايين التي يملك الشعب الكثير منها، مما لا يمكن تعداده. لا يبدو أننا بحاجة لذكر المزيد عن مقهى قرية العش بأي حال!
- اكده الليلة عليك يا معلم.. يدَّك عالجرشينات!
- الكلام ده مش هيحصُل... الورج دِه ملعوب فيه!
جملة وردُّها بين اثنين من الجلوس، تعالى بعدها صوتاهما بصورة لفتت أنظار الجميع!
- ملعوب فيه كيف مانتا شايفه زين وماسكه بيدك جبل مانبتدوا لعب كانه كان اتفاج نسوان ولا ايه!
- لم روحك يا وِلد عزوز بدل ماكسِّر الجهوة باللي فيها على نافوخك!
- طب ايه جولك بجى انها هتتكسر على نافوخك انت ودلوك يابن سليمان الجزماتي؟!
قالها علي، وأتبعها بعصا غليظة في يده، شقت طريقها في خفة لا تتناسب مع حجمها، أدت في النهاية لسقوط غريمه أرضا، قبل أن يستأنف علىٌّ معركته بازاحة الطاولة وما عليها، غير عابئ بهؤلاء المهرولين نحوه يحاولون منعه من الاستمرار. نجحوا في تعطيله بعض الشيء/ معطين الفرصة -عن غير قصد- لخصمه للنهوض ورد الضربة بأقسى منها.. دقائق فقط كانت كافية لاشتعال محيط القهوة، اشتعال جوال كبير من القش بحجم... بيت عم عزوز!

- طلااااااال!
جاءه الصوت مرتعشا، به أثر جري كثير، فالتفت إليه ومازال بيده (المنجل) رافعا جلبابه، عاقدا إياه في وسطه قائلا:
- خير يا حسن مالك؟
- إلحج يا طلال!
- ألحج ايه خير ايه اللي حُصُل؟!
- علي أخوك بيتعارك مع متولي وِلدْ سليمان والدنيا خربانة عوروا بعض جامد جوي والناس اتلمت حواليهم!
- يا خبر اسود ميتى الكلام ده وفين؟
- لسه دلوك جار الجهوة.
سمعها طلال، فانطلق دون إدراك لعدد الزهرات التي دهسها، ولا عدد النداءات التي أهملها، ولا جلبابه الذي ظل متشبثا بوسطه، ولا حتى يده التي لا تزال محتضنة منجلها. ربع الساعة كان كافيا لوصوله لمكان العراك. أخوه، وإلى جواره رفيقان يحملون عصيهم، وعلى وجوههم شقت بعض الجروح قنوات لها، يتسيدها أحمر الألوان، يتأهبون لاستكمال معركتهم مع فريق مقابل بنفس الصفات.
- علي، حُصُل ايه؟!
قالها طلال الواقف بين الفريقين، وقد اختلط العرق في وجهه بعفرة الطريق الترابي، فعمَّق من بؤس مظهره، يأتيه رد أخيه في غضب:
- مالكش صالح انت باللي هيحصُل، هملنا لحالنا وروح شوف انت رايح فين!
- اهملكم لحالكم كيف، اجصر الشر يا علي، ابوك وامك ماناجصينش بلاوي!
- ابوه وامه؟، طب خده في يدك لا يتوه وهو مروح لحاله!
قالها متولي، فارتفعت لمقالها ضحكات أنصاره، فما كان من علي إلا أن ارتفع رده:
- اللي هيتوه ده هيعرفك هيعمل ايه لحاله يابن أنيسة!
- هي حصلت تجيب سيرة امي يابن الكلب؟!
ارتفعت بعدها العصي في الهواء، تقتبس من حر الظهيرة قدرا إضافيا من السخونة، لم يكن الشجار بحاجة إليه، ويشتبك الفريقان من جديد في وصلة عراك ثانية، دُهس فيها طلال بينهم دون أن يدري به أحدٌ إلا بعد حين، وقد عقد رأسه مع عصي المعركة عقدا طويل الأجل، بإقامة مشروعات لها في تلك المساحة التي لا بأس بها من الشعر الـ (أكرت) القصير، انتهى تفعيله بسقوطه بين الأقدام مغشيا عليه، وقد غطت رأسه ووجهه الدماء تماما!

-
لم أستوعب وقتها ما حدث، ولا لماذا حدث، ولا كيف بهذه السرعة حدث. على ما يبدو أن هؤلاء الأصدقاء ليسوا على هذا القدر من السهولة الذي يبدون عليه.. حياتهم تحمل الكثير من اللامفهوم بشكل ما. صبيحة ذلك اليوم، كان حديثهم عن نزهة أو سهرة ينهون بها اسبوعا آخر من العناء في كليتنا اللعينة. أنزهة إلى المستشفى للعلاج، أم سهرة في السجن للعقاب يقصدون؟! اللعنة على كل تلك العلامات الاستفهامية الحمقاء، الكون كله يتحدى فهمي للأمور بشكل بغيض.
لن يضيرني ما يفعلون على كل حال. ملعونة كل تلك الاستفهامات وما تحمله ومن رسمها وما تحمله...
مهلا... لماذا عليّ من الأساس أن أهتم لأمرهم بهذا الشكل؟.. بعض الطلاب الحمقى، يحملون بعض اللافتات الحمقاء، للتنديد ببعض الحكومات الحمقاء، في بعض المظاهرات الحمقاء، يتعاركون فيها مع بعض قوات الأمن الحمقاء!
اللعنة على كل الحماقات، لتذهب كلها إلى الجحيم!
الحياة بالنسبة لي ليست أكثر من بالون كبير سخيف، يوشك أن ينفجر في وجوه الجميع، بالنسبة لي؟... اظنه انفجر قبل الآن، مع إطارات سيارة في حادث ما!
إبراهيم!
4/2/2009
***
- وبعدين يا عزوز؟ الواد هيضيع منينا!
قالتها الأم لزوجها، وفخذها يستقبل رأس ولدها الذي لفته الأربطة تماما، وعلى عينيها آثار دموع لا تنتوي الجفاف لساعات قادمة، وهي المتناولة قدرا كبيرا من منشطات الأحزان يعينها على الاستمرار بنفس الكفاءة، ناظرة لذلك الزوج الذي أرهقه تفكيره وأرهقته ديونه بشكل أكبر، يطأطئ رأسه للأسفل مفكرا في حالة ولده الذي يوشك ارتفاع حرارته على إهلاكه، دون ان يرد. فاستطردت الزوجة حديثها:
- في الوحدة ماعملوش حاجة يادوبك خيطوله راسه وربطوه والواد من ساعتها مانطجش بجاله ييجي 3 ساعات، اتصرف يا عزوز، الواد سخن زي النار، استلف من أي حد أجرة الحكيم، خد...خد الجلابية التانية بتاعتي وبعها لأي حد، ولا اجولك المداس اللي جبته عمنول جوه جنب فرشة البنات خده بردك بيعه اهو يسند، اعمل أي حاجة يا عزوز ابوس يدك!
دون أن يرد، قام الأب متكئا على هموم بحجم الجبال، مغادرا الأم وابنها إلى حيث يضيف المزيد من رصيد الآخرين إلى بنكه البائس. خرج دون هدف محدد، باحثا في شوارع العش عن دائن يعينه على بعض ما هو فيه، تلسعه كرامته ولا تلسعه برودة الجو، يضنيه كبرياؤه ولا يضنيه طول عمل النهار. لا يلبث أن يقترب من بيت أحدهم رافعا يده للطرق، إلا وتمنع قوة خفية طرقاته تلك، كأن بها تعانده أو... تطمح في المحافظة على تلك البقايا من الكرامة والكبرياء... الشيئان الوحيدان اللذان يملك لهما في بنكه رصيدا إلى جوار أكوال الدائنين.
- عم عزوز!
سمعها تأتيه من خلفه، فالتفت لها قائلا:
- شيخ بدر! ازيك يابني؟
- ازيك يا عم عزوز؟، ايه اللي مخرجك الساعادي في الجو ده خير؟
- لا أبدا مافيش حاجة اني بس آآآآ... جلت اشم شوية هوا!
- شوية هوا وللا شوية برد يا راجل يا طيب؟
ردها الأب البائس بابتسامة متكلفة، عرف بها الشيخ الشاب أن شيئا ما كان دافع الخروج:
- مالك يا عم عزوز؟ جوللي ايه اللي مضايجك ومخرجك بره الدار الساعادي، هو اني مش زي علي و طلال وللا ايه؟
- زيهم واكتر منيهم كمان والله يا بدر يابني!
- هو فين الواد اللي اسمه طلال ده صحيح؟ انا ليا معاه حساب تاني كيف يهملك تخرج لحالك اكده في ساعة زي دي؟
عن الأب... الصمت كان أنسب الحلول!
- مالك يا عم عزوز؟ شكلك هيجول ان فيه حاجة؟
- ...........
- عيالك ومرتك بخير طيب؟!
عندها تولت عينا الأب الرد ببعض قطرات انبثقت تسانده!
(ملحوظة حياتية: إذا لم تستجب دموع عينيك لمآسيك الدنيوية، فاعلم أن تكوينك الإنساني يعاني مشكلة ما!)
- لا إله إلا الله، انت هتبكي يا عم عزوز!
قالها بدر وسارع لإحاطة رأسه بيديه، مستقبلا إياه بصدره رابتا عليها، قائلا:
- طيب اهدا بس وصلي عالنبي اكده وجوللي مالك، إيه اللي حُصُل لكل ده؟
- اني تعبان يا بدر يابني... تعبان!
قالها عم عزوز بصوت فر هاربا بصعوبة من دموعه، يأتيه رد الشيخ بدر ومازال محتضنا إياه:
- يا ساتر يارب، ألف سلامة عليك يا عم عزوز طب يلا بينا عالوحدة وللا حتى انزل معاك المركز نشوف المستشفى العام اللي هناك!
- تعبي مالوش دوا عند الحكما يابني، تعبي تعب جُلوب، الجلوب ماهتتعالجشي يابني!
- مين جال اكده يا راجل يا طيب امال ربنا فين؟ بجولك ايه... احنا ماهينفعش نتحدتوا هنا تعالى ويايا الجامع نصلي ركعتين وجوللي مالك، وان شاء الله كل حاجة وليها حل!
(ملحوظة مجتمعية: ثقة الفئات الدنيا من الشعوب العربية في رجال الدين نبعت في الأساس من المشاركة الصادقة والفعالة لـ (رجال) الدين هؤلاء لتلك الفئات كل مظاهر حيواتهم بائسة كانت أو مبهجة... فإن تخلى المشارِك عن منهجه، فلا حاجة للمشارَك بالتمسك بثقته!)
-

لم ينشغل كثيرا بما حدث، لعلها تلك الحالة الغريبة من اللامبالاة لأي شيء، الملازمة له منذ سنوات تلت الحادث الأهم في حياته. لم تشغله كثيرا مشاهد الدماء ومناظر السحل وصور الاعتقال، كأن تلك الدماء المتناثرة من الوجوه والملابس المزاحة عن الأجساد والأقفية، أسيرة كفوف تقودها إلى قبور ترتكز على عجلات أربع، لم تزد على كونها مشاهد سينمائية لم تلبث أن انتهت بتصفيق جمهور غادر لحياته الطبيعية مجددا، بعدما نفض عن رأسه غبار لقطات فيلم خمسيني وُضعت كلمة (النهاية) في آخره.
عاد من جديد لحجرته وصور المظاهرة تبهت في رأسه شيئا فشيئا، صراخ (شافعي) الآخذ في الاقتصار على الظهور في ذاكرته على مشهد صامت لفم مفتوح، كأن أحدهم قد أغلق الصوت في تلفاز ذاكرته. اختلال الصفوف، والقبض على (كفافي) مُقادا إلى إحدى العربات، تزفه اليه عصِّي الغربان الآخذة في الاختفاء، كأن الكهرباء قد انقطعت فجأة عن ذات التلفاز العارض مشاهد اليوم الطويل.
كأن باب حجرته حين أوصد خلفه عقب الدخول قد استحال قرص مخدر، ألقمته إياه لامبالاته، خلع عنه حذاءه غير مُبالٍ باختفاء إحدى فردتيه تحت سريره، مَضيف الإهمال، إثر تخلص قدمه منه بركلة تنم عن كراهية لكل مقيد لحريته، حتى حرية قدميه. ألقى بنفسه، دون تبديل ملابسه، على سريره، بوضع أقرب لجثث القبور، وما زالت عيناه معلقتين بلا شيء في سقف حجرته ومصباحها المُضاء في خفوت. رغما عنه، اقتحمت فراغ صفحة السقف نصف المظلم صور اليوم الطويل، صراخ الصارخين فوق الأكتاف، ارتطام العصيّ برؤوسهم، اقتياد الناجين منهم إلى عربات سوداء مقيتة كهيئات أصحابها... قبل أن تصرع كل الصور تلك الصورةُ المرعبة لحادث قديم، اتسعت لذكراها عيناه فجأة، كأنها المتسائلة عن علاقتها بما سبقها من مشاهد وقدرتها تلك الفائقة على هزيمة ذلك الجمع من صور لازالت في مخيلته شابة في عنفوانها. غير أن وقوفه لم يطل كثيرا أمام السؤال، وهو المعتاد على بلطجتها من حين لآخر على تلك المخيلة وجديد صورها.
بدأت عيناه في الخفوت شيئا فشيئا، تستسلمان لطلائع نوم آخذة في الزحف نحو معسكرها، قبل أن ترضخا أخيرا لنوم عميق ينتظر غامض الأحلام!
صوت مزعج لاحتكاك عجلات سيارة بأسفلت عصى أوامر فراملها بالتوقف، صوت أكثر إزعاجا لارتطام عنيف ممزوج بصرخات تشابكت تحت ستر ليل أحاط صورته أطارُ ضبابي ممطر، كتم الصراخ مانعا إياه من الوصول لآذان هؤلاء المختبئين من قسوة بردٍ جمَّد كل صورة ممكنة لتفاعلات الآدميين، ثم في نهاية الأمر طريق خالٍ من كل مظاهر الحياة إلا من انهمار مخيف لأمطار كأنها الساقطة من دلو عظيم مثقوب، وسيارة بدت كسلحفاة استوت على ظهرها، وقد انسربت من زجاجها المهشم قنوات حمراء رفيعة من دماء ساكنيها (المقيدين بأغلال الصمت) على أنغام بالداخل لمذياع لازال متشبثا بمفرده بأهداب الحياة، رغم بعض التشويشات وقد علت ألحانه بموسيقى جنائزية، رقصت على أنغامها قطرات المطر رقصة الوداع الأخير!
- إبراهيم!
انتشله النداء المسبوق بطرق خفيف على باب حجرته من براثن حلمه، الذي بات أبرز مرافقيه ط4وال مدة مضت، يود ويود محيطوه لو أنها سُطَرت في كتاب حياته بحبر سري يخفى مكنوناته عن عيون عانت من قراءة سطور الحيوات ما يغنيها عن المزيد!
- إبراهيم!
تكرر الصوت... أهمله عائدا للنوم، وإن كان في داخله ممتنا له لتخليصه من قيود حلم معتاد، مازالت بقاياه لم تبتعد أكثر من حدود وسادته...
- إبراهيم!
من جديد علت نبرة الصوت، فقام إليه متأففا يفرك عينيه، طاردا من أطرافها بقايا نعاسه، حاضنة المشاهد الباكية المبكية العائدة بتفاصيل ماضيها البعيد، متطفلة على حاضر لم يعتد غير الاستسلام لها!
- بابا!... اتفضل!
قالها مرحبا بأبيه صاحب النداء، الذي خطى عدة خطوات حتى مقعد قريب، فغاص فيه محادثا ابنه الأكبر، الذي لم يتخلص بعد من هيئته الناعسة.
- قلقتك؟!
- لأ خالص طبعا يا بابا!
- يبقى قلقتك... معلش لقيت نفسي فاضي قلت آجي أدردش معاك شوية...وللا ماعندكش استعداد تستقبل ضيوف؟
- العفو يا بابا، حضرتك تنور في أي وقت.
- بص بقى يا بطل، أبوك زي مانتا عارف مابيحبش اللف والدوران، طول عمره واخد طريق الوضوح ودايس بنزين مابيقفش عشان يريح ويرتاح، مش كده وللا إيه؟
- طبعا يا بابا... اكيد... حضرتك حتى مربينا على كده.
- جميـــــل...ومادام حضرتي بقى مربيكم على كده يبقى ان شاء الله مش هاخد من وقتك كتير.
- خير يا بابا؟...قلقتني!
- مالك يا إبراهيم؟...فيه ايه في حياتك مخبيه يابني تاعبك وتاعبنا معاك بالشكل ده؟
سؤال ألقاه الأب بشئ من الأسى، كأنما كان سؤاله يدا أجرت مشاهد عامين كاملين في ذهن الأب والابن كليهما. شعرا بتلك الرجفة الداخلية، التي لم يظهر من آثارها على هيئتهما أكثر من ارتباك لنظرات الابن، بدت جلية في مقلتيه لوهلة، ناظرا لأبيه نظرة بعمر الثواني، لم تلبث أن فرت إلى جهة معاكسة لنظرة الأب الجامدة تراقب ردود أفعال ابنه المنحسرة، في صمت ممل أعقب حيرة نظراته، فاستطرد قائلا:
- هافضل سامع سكاتك كده كتير يا دكتور؟
- مافيش حاجة يا بابا والله الحمد لله كله تمام، كل الحكاية ان المذاكرة تقيلة شوية بس، ضغط دراسة مش أكتر.
- مذاكرة!، وفى الأجازات لما بترفض تخرج معانا أو مع حد من اصحابك برده مذاكرة؟
صمت ثوانٍ قبل أن يستمرئ كلماته:
- ليه يا إبراهيم مش قادر ترجع إبراهيم اللي انا عارفه ومربيه؟ ليه مش قادر تلاقي نفسك في شخصية واحدة محددة؟ شوية مربي دقنك ومواظب على صلاتك في الجامع والمصحف مابيفارقش جيبك عشان بتقول ان مافيش غير الدين طريق وحيد للراحة، وشوية ليل نهار قدام الماتشات وفي الاستادات، بحجة ان الأولتراس كاريزما التمرد وأيقونة الحرية زي مابتقول، وشوية تالتة تتفرغ للجيم والرياضة عشان بتقول ان الدنيا مش هتمشي غير بالقوة والدراع، وشوية رابعة وشوية خامسة وشوية عاشرة.. انت مين في دول يا إبراهيم؟ مين في الشخصيات الكتير اللي عشتها وعيشتنا معاك فيها طول الفترة اللي فاتت دي؟!
- يا بابا أنا... انا... انا يعني بحاول أجرب كل حاجة عشان اعرف الصح فين.
قالها يقاوم بها ما نطقه أبوه من حقيقة يعلمها عن نفسه أكثر من أي آخر، مقاومة الفريسة لصيادها في نزعها الأخير، يأتيه سؤال أبيه من جديد يجهز على آخر أنفاس المقاومة لديه:
- وعرفت الصح؟!
- ...........
- كل ده بسبب الحادثة اياها مش كده؟!
مجددا قرعت اللفظة طبول اهتمامه المسلوب، حدج أباه بنظرة لمعت لها عيناه حينا، ينظر إليه دون نطق كلمة واحدة، قبل أن تنفك عقدة لسانه قائلا:
- حضرتك عارف إني نسيت الموضوع ده خلاص.
- مش باين!
- ...........
- انت مش شايف فيا حد جدير بثقتك ممكن تحكيله وتتكلم معاه يا إبراهيم؟
- يا بابا العفو، دي حاجة تشرفني طبعا.
- أُمَّال ايه بقى؟
- .........
(ملحوظة: تعدد الخيانات في رحلة عسكري الشطرنج قد تدفعه لفقدان الثقة في باقي القطع، حتى وإن كانت أقربها اليه!)
- واضح ان فيه مشكلة عندك في الكلام حتى مع أبوك.
قالها الأب ضاربا بكفيه على ركبتيه مستعدا للقيام، يغالب زفيرا يائسا غلبه بالخروج هاربا عبر منخاريه، من صدر ضاق بالكثير من محوياته. مقبض الباب كان هدفه التالي، قام إليه في بعض التثاقل، كأنه المنتظر جملة تستبقيه لم تسمح لها شفتا ولده بالخروج. وقف يتابعه بنظراته، من ذلك الفراغ المضئ على مشارف الباب للحظات، قبل أن ينسحب دون كلمات، تاركا شابا في العشرين يزيل آثار دمعة صمدت في عينيه حتى رحيل الأب، الضيف!
***







بعض زجاجات الدواء بنية اللون، ذات غطاء مقيت أبيض، وسائل ذهبي لزج، ينتظر إشارة الهجوم على فم أحدهم. بعض الشرائط العلاجية في خريف عمرها، وقد اقتصر ما يربطها بالحياة على قرص أو اثنين على أقصى تقدير. الكثير من أربطة (نظيفة) احتلت مكان (الطاجية البني الصوف).. زيارتان للطبيب، الذي تولى الشيخ بدر حسابه، للاطمئنان.. إضافة للكثير من دعوات الأبوين وحلوى الشيخ الشاب، ربما يكون مزيجا كافيا لعودة هذا الـ (طلال) للحياة من جديد. أسبوعان فقط، كانا كافيين بشكل ما لرحلة العودة تلك. عاد من جديد لوقفته بين شجيرات القطن، منجله الحاد في يساره، نصف رغيف احتضن قطعة جبن صغيرة ونصف ثمرة طماطم في يمينه، ربط جلبابه الأزرق ذا الأكمام الواسعة في وسطه، وقد برز من تحته (كلسون) بني اللون تمتد قدماه إلى ما تحت ركبتيه السوداوين بمقدار نصف شبر، بعدما رفعهما عن قدميه حفاظا على... ما تبقى من حياتهما. غناء وردة، مشاكسات الشيخ بدر، بسمات أخته ابتسام، (تمشية) الحاج مهنى والدهما ووالد الجميع بين الحضور... عاد طلال للحياة!

- طلال... طلااااااال!
سمعها مدوية تأتيه من خلفه، من هذا المهرول عبر شجيرات القطن، التي أخذت في التقارب تحتمي ببعضها تارة وبجامعي زهراتها تارة أخرى، من هرولته وصراخه.
- خبر ايه يا حسان؟ وشك بيجول ان فيه مصيبة!
- ماهى مصيبة صُح!
- مصيبة ايه؟، اتكلَّم!
- أبوك وجع وهو جاي الغيط ونجلوه عالوحدة!
سمعها (طلال)، فرمى ما كان قد جمعه من زهرات القطن، مهرولا نحو ذلك الذي جاءه بالخبر متسائلا في لهفة:
- حُصُل ميتَى الكلام ده؟
- لسه دِلوَكْ من ييجي عشر دجايج جار الساجية اللي نواحي أراضي الزغايبة
كأنها لم تكن -رغم قسوتها- مجرد كلمات، بدت رُخَّا من عالم الأساطير، هبط لأرض البشريين متربعا عرش الفزع، مختارا ضحيته من بين الخلائق ذلك الغلام ذا الأربعة عشر عاما، مهاجرا به لأرض بعيدة لم تطئها أقدام أبناء آدم بعد.
لم يدرِ (طلال) بنفسه إلا مهرولا بين الزروع، ومازال جلبابه عالقا في سرواله، ويداه تعانيان من آثار طين الأرض فيهما، غير مدرك لذلك النداء القادم من طرف الحقل مرددا اسمه بصوت سمعه جميع من بالحقل إلاه:
- طلال، طلااااال، طلاااال!
- ماله الواد ده؟
قالها الحاج (مهنى) مخاطبا ابنه الشاب المشغول بمتابعة (طلال) بنداءاته، التي لم تظفر بإجابة، فعاد لوالده قائلا:
- والله ماني عارف يابا علمي علمك، استنى الواد حسان وراه اهو شكله خابر اللي حُصًل... حسان، واد يا حساااان!
- نعمين ياسي بدر!
قالها ذلك الغلام ذو الاثني عشر ربيعا، ملبيا نداء الشيخ مسرعا ناحيته، متلقيا السؤال بأنفاسه المتلاحقه مستعدا لإجابته:
- خير ماله طلال بيجري كده ليه كأن مصيبة حصلت!
- عم عزوز وِجع من طوله نواحي الساجية من شوية ونجلوه عالوحدة!
سمعها الشيخ (بدر)، فتبودلت بينه وبين أبيه نظرات ذات معنى، أعقبها الأب موجها كلامه لابنه:
- روح وراه شوفه يا بدر بسرعة، وخليك معاه لحد مايروح بيته بالسلامة، وابجى طمني عليه على طول!
- حاضر يابا!
قالها الابن منفذا أمر أبيه، مصطحبا ذلك الغلام (حسان) إلى حيث يلحقان بطلال وأبيه!
ليست الا دقائق فقط، كانت كافية لوصوله لتلك الكومة البارزة من القمامة المحيطة بوحدة قرية العش الصحية، البادية بما ضمته جدرانها المتواضعة من تأوهات مصارعي الموت، وما رأته سرائرها الأكثر تواضعا من صرخات النزع الأخير لتلك الفئة المهملة من الأحياء، كما لو كانت رمقا أخيرا في صدرِ عملاقٍ يحتضر. لم تعد على كل حال جاذبة لأي نوع من أنواع الانتباه، وقد اعتادها أهل (العش) واعتادتهم، فوُلدت بين الطرفين علاقة صداقة من نوع فريد، دفعت هؤلاء البسطاء لتناسي أنها شاهد على هلاك الكثيرين منهم عبر سنوات، وهم لا يملكون عنها بديلا يتعلقون معه بأهداب أمل شفاء واهن، سرعان ما يذوب.
(حقيقة بشرية: إن تكرار وجود الخلل في حياة الكثيرين دون محاولة إصلاحه يجعل منه شيئا عادي الوجود، بل إن أي محاولة للإصلاح قد تبدو في عُرفهم نوعا من أنواع الغباء)
- آبا... حصُل ايه؟
قالها (طلال) وسط أنفاسه المتلاحقة حتى أنها تاهت بينها، وهو يخترق ذلك الجمع المحيط بآخر أسرَّة الوحدة، وقد استسلم الراقد فوقه لمجموعة من الإبر تجد طريقها في أوردته دون حراك، في معركة صامتة بين الحياة والموت. ميَّز بين الوقوف أمه الباكية وأختيه الباكيتين لبكائها وشقيقه الواجم لبكاء الأم ورقاد الأب، غير أنه لم يظفر بأكثر من استمرار للصمت المفعم ببكاء أمه، تحاول السيطرة عليه بمنديل من قماش مهترئ، فكرر سؤاله بلهجة أشد:
- حُصُل إيــــــــــــه؟!
- كان طالع مالبيت زي الفل فجأة عند الساجية مسك جنبه وزعج جاي ووجع مرة واحدة، أنا بجالي كذا يوم مش مطمناله حالته متغيرة وكل ماسأله يجول مافيش حاجة!
قالتها الأم وسط بكائها، فجاء الرد من أحد الوقوف أصدقاء الأب:
- مفيش حاجة ان شاء الله يا طلال يابني، شوية تعب عالجَد وهيروحوا لحالهم ان شاء الله طوالي، مانتا خابر أبوك ودلعه، أهو جصادك كيف البدر اهو ما شاء الله.
- ماني عشان خابره وخابر انه مش بتاع دلع جلبي اتوغوش عليه يا عم عطية، دي اول مرة في حياته تحصله حاجة كِيف ديّ!
- ماتجلجش، ان شاء الله كل حاجة هتُبجى زين وهيجوملكم بالسلامة احسن مالاول.
- الداكتور جال ايه؟
- عمل شوية تحاليل اكده خد شوية بول وخدوا من دراعه شوية دم... وادينا مستنيين نشوف هيجولوا ايه؟
- سلامو عليكم!
سمعها الجمي،ع فالتفتوا لصوت يعرفونه ويجلون صاحبه، رادِّين السلام في صوت جماعي، قبل أن يستطرد القادم:
- طلال...خير ايه اللي حُصُل؟... جلجتنا عليك!
فجاءت الإجابة من الصبي ذي الأربعة عشر عاما واهنة، على عكس ما اعتاد منه الجميع:
- شيخ بدر؟، تعبت نفسك يا مولانا!
- ماتجولش كده يا واد يا طلال، ده ابوك زي اخويا الكبير بالظبط واكتر كمان، ربنا يعلم. المهم الداكتور جال ايه؟
- لساتنا منتظرينه اهو!
صمت حينا، قبل أن يشير بعينيه قبل سبابته لذلك القادم في معطفه الأبيض من بعيد، حاملا في يديه بعض الأوراق، وتتدلى من رقبته سماعة تنتظر المزيد من ضحايا المرض، تزف لأهلهم أنباء المعاناة. تعلقت به الأنظار حتى توقف إلى جوارهم، وقد سبق إليه الكثيرون منهم استعجالا لتشخيصه:
- خير يا داكتور؟، طمَّنا ابوس يدَّك!
- كلكم أهله؟
- ايوة!
- بصراحة يا جماعة دي حاجة مااقدرش اخبيها عنكم!
علت الوجوه علامات الرعب، فتبادلوا نظرات صامتة، سرعان ما عادت من جديد للطبيب الشاب تنتظر استكماله كلماته:
- المريض بيعاني من التهاب كبدي وبائي في مرحلة متأخرة، للأسف لازم ينزل القاهرة بأسرع وقت، ماعندناش هنا امكانية اننا نعالجه بالشكل المطلوب!
وكأن بابا من أبواب الجحيم قد وجد متنفسا له في دنيا الأحياء عبر فم هذا الطبيب الشاب، فأضاف على وجوه هؤلاء الوقوف قدرا من السواد لا بأس به. مادت الأرض بأغلبهم، بيد أنهم لم يظلوا في حالة سكونهم طويلا، وقد انتبهوا جميعا لصرخة الأم، العائدة لرشدها عبر بوابة الصراخ التي يملك مفاتحها أغلب نساء الريف، عدة صرخات متتالية شقت ستار السكون في حدة، حتى انتهى بها الأمر بعد دقائق نحيبها وصراخها إلى السقوط مغشيا عليها، وإلى جوارها طفلتان تبكيان سقوط الأم وفزعها أكثر من بكائهما رقاد الأب، الذي لا يفهمون له سببا حتى الآن!
*** -

لا أعلم متى كانت أول المرات التي جمعتني فيها جلسة واحدة بورقة وقلم ومكتب ومصباح. لا يهم؛ لست بحاجة للاهتمام بأول الجلسات أو آخرها، لن أكون ذلك التافه مسجل كل شيء يمر به إلى حد يمل منه الملل. يكفيني أن أذكر أني لم أكتب قبل ذلك الحادث البغيض شيئا قط. ربما بعض الجمل العجفاء العابرة على شبكات التواصل الالكتروني، لا تعبر بالضرورة عن أي شيء، رحلة إلى الاستاد، جولة داخل مول، جلسة في مقهى، وصور تسجل كل تلك اللحظات الفارغة، هذا كل شيء.. اللعنة!...كيف كنت هذا الكائن الخاوي من أي شيء؟!
مهلا مهلا... هل أبدو الآن أمام الجميع حاويا لأي شيء؟، لا يبدو أن أي من الإجابات يحمل ذلك الرد ذا الحروف الثلاثة "نعم".. يبدو بسيطا في تكوينه الحرفي، على نقيض حقيقته المتمردة على كل علامات الاستفهام الخاصة بمشواري السخيف.
ما هذا الهراء الذي أكتبه؟... أعتقد الذهاب للنوم سيكون خيارا أفضل بشكل كبير!
إبراهيم
17/2/2009






























تلك المقولة الناصة على أن لكل شعور إنساني رائحة من مدلولاته المادية، تحمل أسرار مكنوناته.. رائحة الجوع النفاذة في وجبة يتوقف قطارها قبل محطة الشبع بأميال، رائحة الخوف الظاهرة في ملامح غلام لم يتعلم من أمور الدنيا أكثر من غسيل السيارات، رائحة البرد الراقدة إلى جوار طفلة تبيع المناديل على رصيف المترو في شتاء يناير، رائحة المعاناة المحلقة في رأس أب لا يحلم بأكثر من جنيهات تسكت إلى حين أفواها جائعة لا تطمع في أكثر من لقيمات، ورائحة الموت المتمثلة في... رجل أربعيني يفترش أحد الأسرَّة في مستشفى حكومي يصارع آلام الكبد!
حول ذلك القارب الملفوظ من بحر الحياة لجزيرة الموت، اصطف ذلك الجمع من محبيه محمولون على آخر أمواج البحر اللجي، يتابعون مراسم ابتلاع غابات الجزيرة للقارب، الذي طالما حملهم رغم وهنه بين الأمواج، متحديا غضبها بصبره، ومواجها عواصفها بثباته.
فوق أحد الأسرة البيضاء كان رقاده الأشبه بالرقاد الأبدي للمومياوات، لا يميزه عنها سوى تحرره من تلك الضمادات البيضاء المغلفة للمحنط من جثث رحل أصحابها قبل مئات العقود، وقد استبدلتها بتلك الخراطيم المتشبثة بذراعه الأيمن، تتطفل على حياة البشريين تحاول اقتناص بعض دقائقها تهديها لصاحبها المريض. إلى جانب سريره الحديدي الصدئ، المُغطى بمرتبة تآكلت أطرافها البنية، وهشَّ أوسطها الأصفر الداكن، تفوح برائحة تحمل من أثر مرضى راحلين ودَّعوا الحياة عبر بوابتها، خلال سنوات تلائم في عمرها تلك الشقوق في جدران توشك أن تنهي بانهيارها تلك المعاناة المتغلغلة في رفات المراتب وصدئ الأسرَّة وفراغ الشقوق!
وجودهم حوله كان يعني له الكثير رغم كل شيء. ربما مر بهم الكثير من ليالٍ دعوا فيها بعضهم لمائدة عشاء فاخرة، يتحلقون حولها في أحلامهم، بعدما حُجزت كل الموائد في مطعم الواقع لطبقات قادرة على الدفع.. ربما استعاضوا بسرائر حريرية، نسجتها دودة قز ملائكية في جنة أمنياتهم، عن دفء أغطية فرَّت يوم زحفهم مواجهين جيوش برد تطمع في احتلال المزيد من أجساد البسطاء.. ربما، وربما، وربما... تلك الـ (ربما) الرابضة على الدوام أمام كوخهم المسكين، تحارب واقعهم بطلائع الخيال، غير أنهم رغم كل شيء مازالوا على ثقة أن هذه الدعوة لموائد الأحلام، وتلك الاستعانة بسرائر الأمنيات قد تمَّتا ومثيلاتها...رغما عنه!
- سلام عليكم!
استقبلها الجمع حوله بردها في نبرة جماعية، ملتفتين إلى صاحبها القادم وقد بدا عليه أثر الأدوار الخمسة صعودا، تلمع على جبينه بعض كرات العرق يجففها بمنديله، متخطيا الجميع إلى سرير ذلك الراقد في وهن، قائلا وابتسامة باهتة تموج على شفتيه:
- ألف سلامة عليك يا عم عزوز، ما شاء الله وشك منور اهو داحنا اتقدمنا عالآخر!
قابلها ذلك المريض بابتسامة متكلفة، استهلكت من رصيد طاقته الكثير، قبل أن يستمرأ الشيخ بدر كلمات مجاملته قائلا:
- يلا بقى شد حيلك كده الصف الأول في الفجر مستنيك، جامع العش واحشه أذانك!
ثم توجه بحديثه إلى الابنين الواقفين إلى يمين والديهما العليل:
- كده بردك يا علي انت وطلال؟، تنجلوا عم عزوز على مصر من غير مااعرف؟، داني عرفت بالصدفة، دا يادوبك يوم وليلة سبت فيهم العش عاودت مالجتوش!
- معلش يا شيخ بدر، ماجدرناش نستنى والله بعد كلام الدكتور بتاع الوحدة اكتر من كده.
قالها طلال بنبرة ظهر عليها إجهاد دخيل على نغمتها، المعروفة بصفاء ألحانها المتغلغلة طوال سنواته الأربعة عشر في طرقات آذان الجميع:
- ماشي يا عم طلال، هاعديهالك المرادي بس لجل عم عزوز.
استقبلها الجميع من جديد بابتسامات، ساهمت في تخفيف حدة صرخات الألم المتعالية في الأنحاء، حتى ظهرت كلمات الزوجة الأم هادئة بين ابتسامات الحضور:
- والله يا شيخ بدر ابو علي والولاد ماكان ليهم سيرة غير الشيخ بدر الشيخ بدر، بيحبوك كده لله في لله!
- احبهم الله الذي أحبوني من أجله.
قالها باسما ومازالت أنامله تداعب مسبحته، قبل أن يستطرد قائلا:
- والله دول زي اخواتي بالظبط ربنا يعلم ويديم المعروف.
- الشيخ بدر ده زينة شباب العش كلاتها، الكل بيحبه ويفتخر بيه كأنه ابن كل بيت عندينا بالظبط.
- الله يكرمك يا عم مجاهد ده بس من أصلك.
- ربنا يحفظك لأهلك يابني وينجيك من كل ردي.
- تسلم يا عم مندور.
حديث ساهمت كلماته في إضفاء جو من الارتياح العام، قاده الشيخ بدر بإطلالته، التي أجمع على حبها الجميع، أنهاها الشاب الوقور بقوله لطلال يستدعيه لحديث جانبي:
- تعالى يا طلال دجيجة عاوزك!
- حاضر يا مولانا.
خطوات بين الأربعة والخمسة خطاها الشيخ بدر وطلال، حتى نافذة قريبة انفردا إلى جوارها بالحديث:
- كده بردك يا طلال؟، مش جلتلك استنى انا هاتصرف في حكاية نجله ديَ؟
- ماعلهش يا شيخ بدر اهو اللي حُصُل بجى، وبعدين بصراحة يعني... ماحبتش اتجل عليك اكتر من كده.
- اخص عليك يا طلال، هو ده بردك اللي متعود عليه معايا؟...فيه حد يجول كده لأخوه الكبير يا عبيط؟
قابلها طلال بابتسامة، استطرد بعدها الشيخ الشاب قائلا:
- على العموم انا خلاص حجزتله في مستشفى خاص هيتنجل لها بعد بكره ان شاء الله يكون سرير فضي هناك.
فاجأت الكلمات طلال، وإن حملت له بعض الاطمئنان النابع أولا وأخيرا من وجود الشيخ بدر إلى جواره، كما هي العادة، والمدعم بكلمة (خاص)، التي شعر معها لوهلة بسذاجة الأطفال أن المال قد يحافظ على لحظات عمر مهدرة.
- والله يا سيدنا ما عارف أجولك ايه، كتير جوي اللي بتعمله ده!
- تانى هنجول الكلام ده؟، بص بجى ركز ويايا، انا هاسيبك دلوك عندي مصلحة كده هاخلصها واجيلك ان شاء الله بعد بكره يوم السبت، ولو اتأخرت انا موصي دكتور حبيبي هيخلص كل إجراءات النجل ان شاء الله، خد الورجة دي فيها رقم تليفونه هيفوت عليكم بكره ان شاء الله بعد صلاة الجمعة على طول، يزور ابوك ويعرف من الدكتور اللي بيتابعه الحالة ايه بالظبط.
قابلها طلال بنظرات الامتنان الصامتة، يلتقط الورقة ناظرا للأسفل، قبل أن يرفع رأسه للأعلى بفعل يد الشيخ بدر التي رفعت وجهه لينظر اليه قائلا:
- انت راجل يا طلال، راجل بحج وحجيجي!
قالها، فانتبه لحبات لامعة توشك ان تتساقط من عيني الفتى، فاحتضنه لدقيقة ثم أفلته قائلا:
- يلا روح إإف جنب ابوك وامك واخواتك وانا هاعمل اللي جلتلك عليه.
انطلق طلال، قبل أن يعود على إثر نداء محادثه من جديد:
- طلال، استنى صحيح نسيت اديك حاجة.
- خير يا مولانا؟
- خد!
قالها يخرج من جيبه بعض السكاكر قائلا يبتسم:
- دي الأرواح بتاعة الكام يوم اللي فاتوا كلاتهم من غير ماينجصوا ولا يوم، أنا متأكد انك مافوتش فيهم ولا صلاة فجر!
التقطها طلال... ارتمى من جديد في حضنه الضاحك... باتا كجسد واحد بروحين، تتابعهما من بعيد أعين الحضور الذين لم يروادهما أي استغراب مما يحدث، وهم العالمون بطبيعة علاقة الشاب والغلام!
***



دخوله الكلية لم يكن ليحمل أي جديد.. لامبالاته بأي شيء يحيطه، سيره البطئ نوعا ما، حقيبته المهملة تضم بعض الوريقات مرسلة من كتفه الأيمن إلى جانبه الأيسر، نظارته الساترة عينيه نصف المغمضتين، ثم أخيرا تلك الخطوات المحفوظة إلى (كافيتريا) الكلية، على موعد مع مشروبه المعتاد لإزالة الغطاء عن بقية خلايا مخه النائمة.
لا يدري بالتحديد لماذا توقف فجأة، بعدما وقعت عيناه على ثلاثتهم يديرون رحى الحديث بينهم كعادتهم كل صباح. ربما تناقص عددهم إلى ثلاثة بدلا من خمسة، ربما بعض الكدمات الظاهرة بقوة على وجه أحدهم، ربما تلك الضمادة حول رأس الآخر، ربما تلك الأربطة حول ذراع الثالث، أو ربما... بعض شعور بالذنب أن جسده لا يحمل واحدة من تلك العلامات!
- سلامه عليكم!
- وعليكم السلام.
ردوا سلامه بصوت جماعي، لا تنبئ نبرته عن ترحيب كان يلازم حديثهم إليه منذ أسبوعين، فاستطرد قائلا:
- صباح الخير يا رجالة... ألف سلامة!
- الله يسلمك.
- خير ايه اللي حصل؟
- انا عن نفسي اتزحلقت في قشرة موز.
- وانا كنت باهزر مع أسد بس اتغاشمنا على بعض شوية!
كلمات قيلت في تهكم قصده الصديقان، اللذين تعالت ضحكاتهما وقد حملا الكثير من الغيظ لذلك السائل الهارب يوم المعركة وسط زحام المتعاركين، إضافة لاختفائه بعدها لأسبوعين. ربما لم يقصد الاختفاء، لكنها فقط غرابة أطواره التي لم تكن في صالحه هذه المرة... أو غيرها بكل حال!.. رؤيتهم له لم تزد عن كونها في عباءة ذلك الجبان مدلل والديه، المقتصرة أحلامه على توافه الأمور، غير مدركين أن تلك الأحلام في الأساس مقتصرة على... لا شيء!
- أبدا يا إبراهيم دي شوية إصابات كده من المظاهرة اللي كانت من أسبوعين دي، بس الحمد لله جت سليمة، عادي متعودين.
قالها معتز، أكثرهم هدوءا وأخفهم منه غيظا، يحاول الحفاظ على خيط رفيع للتواصل معه. يأتيه الرد:
- طيب وشافعي وكفافي فين مش شايفهم معاكم زي كل يوم؟!
- اتقبض عليهم.
- اتقبض عليهم!
- ايه مالك اتخضيت كده؟
- انت مش شايف ان دي حاجة تخض؟
بابتسامات تبادلها مع رفيقيه عاد معتز يقول:
- ماتخافش عليهم متعودين على كده، شافعي ابوه عميد جيش بيعرف يخرجه كويس من المصايب، وكفافي بقى بيسترزق على حسه رزق الهبل عالمجانين.
تعالت ضحكات الثلاثة، كأنهم لم يلم بهم شيء، فلم يجد إبراهيم بدًا من مشاركتهم مجاملة. ينهي ضحكته المتكلفة بقوله:
- طيب انا ممكن اساعد بحاجة؟
- يا سيدي ربنا يخليك دعواتك ليهم بس!
- انا باتكلم جد على فكرة والله مش باعزم!
(معلومة مؤكدة: عسكري الشطرنج قد يعد في الكثير من الأحيان بما لا يستطيع الوفاء به... فقط بدافع "لست أقل من باقى القطع")
- عارفين والله شكرا يا إبراهيم.
حاول بها معتز انهاء الحديث بابتسامته المعهودة البادية من خلف كدماته، يأتيه رد إبراهيم الذي بدا عليه أنه فهم الرسالة، فبادر بالانصراف قائلا:
- طيب استأذنكم انا يا رجالة وألف سلامة عليكم مرة تانية.
- الله يسلمك، اتفضل.
خطى بعض الخطوات بعيدا، قبل أن تستوقفه نداءات معتز من جديد قائلا:
- إبراهيم!
- نعم يا معتز؟
- لو فاضي النهارده ابقى تعالى قضي معانا السهرة في العنوان ده.
قالها معتز وسط تأفف واضح من صديقيه، اللذين تبادلا نظرات الاستغراب فيما بينهما، تتابعهم نظرات إبراهيم المترددة، فالتقط الورقة منه قائلا في تكلف:
- إن شاء الله يا معتز ربنا يسهل.
- هاستناك.
- ربنا ييسر ان شاء الله، يلا استأذنكو بقى عشان المحاضرة.
- اتفضل.
دقيقة كانت كافية لابتعاد أذنيه عن مرمى حديثهم، البادئ طورا جديدا بعد انصرافه، ملامحه الشجار، يقول أحدهم:
- ايه اللي عملته ده يا بني آدم؟، انت تعرفه ده مين اصلا.. داحنا كل معرفتنا بيه سنة في الكلية يادوب عرفنا فيها اسمه، ما يمكن شغال مع أمن الدولة ولا مع أي مصيبة، ايه السذاجة دى؟
- اهدا بس، مااعتقدش ليه علاقة بحاجة فيها قلق أصلا احنا عمرنا ماشفناه حتى واقف مع حد بيصور ورقة من محاضرة، كأنه من بلد تانية. الواد ده وراه مشكلة كبيرة ومحتاج حد جنبه.
- يا حنين!... وانت بقى اللي هتبقى جنبه؟، مش لما نحل مشاكلنا احنا الأول، ده كفاية موقفه امبارح لما جري زي الفِيران وسابنا في وسط المدعكة.
- ..............
- على فكرة يا جدعان مااعتقدش هييجي اصلا ده واد خِرِع، مش فاكرين لما شافعي عرض عليه قبل كده يخرج معانا طلعله 100 حجة؟، ده بيقلق من خياله.
- هييجي!
- تراهن؟!
- أراهن قوي!
- وايه ان شاء الله اللي مخليك واثق كده يا حضرة العراف؟
- كونه النهارده كسر جزء من الحاجز اللي بينه وبين الناس، جه هو سلم وسأل علينا من غير احنا ماننادي عليه زي كل مرة، بيقول ان فيه تغيير.
- وايه بقى ان شاء الله اللي يضمنلنا انه تغيير إيجابي في صالحنا؟
- يا أخي طب وليه افتراض سوء الظن ما يمكن كده فعلا؟
- انا مش متطمن عموما!
- ولا أنا!
- انا بقى متطمن، ومتطمن قوي كمان.














صعد منبره في وقار، ربما لا يحظى بمثله الكثيرون مِمَّن تخطوه بعقود.. جلبابه الأبيض، غطاء رأسه بنفس اللون، مسبحته المكللة أنامل كفه الأيمن، ولحيته التي أكسبت وجهه قمحي اللون وسامة كتبت في سطور الجمال تحت عنوان خاص يسمى جمال الإيمان. ثم كانت وقفته ممسكا بأحد عمودي المنبر، موجها كلامه لسامعيه من أهل العش المتطلعين إليه بعيون توجتها البساطة، ورؤوس تعلم أنها ستفتح أبوابها... لرجل يستحق!
- بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، أما بعد.. أخوة الإيمان والإسلام.
خطبة النهارده يمكن مش هاتكلم فيها كتير، مابجاش لينا نفس للحديث واصل، هتيجي منين النفس واحنا شايفين جثث وأشلاء لأطفال حتى لسه ماتعلَموش المشي والكلام؟، هتيجي منين النفس واحنا شايفين ستات عمرهم عدى السبعين سنة مطرودين في الشوارع مش لاجيين متوى، بعد ما الجنابل والصواريخ حرجت بيوتهم وجتلت ولادهم؟، هتيجي منين النفس واحنا شايفين شيوخ بينهم وبين الآخرة خطوة بيتزجوا ويتهانوا ويتشتموا من شوية كلاب ماسكين سلاح؟،هتيجي منين النفس واحنا شايفين المساجد بتتدخل بمداسات الصهاينة؟، هتيجي منين؟
لأ والأدهى اللي يحزن اننا يادوب بنتفرج عالتلفزيون ونجول يا عيني عليهم! فين مبدأ المشاركة اللي الإسلام علمه للعالم من اكتر من 1400 سنة؟، حكومة وبتجفل عليهم المعابر عشان يتحرجوا هناك، والريس ربنا يحميه لشبابه يجولك لما ناخد إذن الجانب الإسرائيلي، شعب وبيكتفي بجراية عناوين الجرايد في ثواني ويجلب الصفحة عشان يشوف الزمالك عمل ايه والأهلي راح فين؟، هنجول لربنا ايه؟، هتجول لربنا ايه يا مبارك؟!
عارفين اكتر حاجة تحزن ايه؟، ان بالمنظر ده في يوم من الأيام هتتعكس الآية، وحتى مجرد التعاطف ده مع اخواتنا في فلسطين مش هيبقى موجود. ماهو اصل زي مابيجولوا حدانا في الأمثال (البعد يعلم الجفا) وادينا بنبعد كل يوم اكتر من اليوم اللي جبله.
فى يوم في المستقبل إن شاء الله هيجف شيخ فلسطيني عنده ستين سبعين سنة يحكي لأحفاده عن حكاية عدى عليها خمسين ستين سنة، هيحكيلهم عن بيت وقع كان فيه أوضة ليه ماليها صور كتير، أجملها صورة الأقصى. هيحكيلهم عن صاحبه اللي كان معاه في مدرسة واحدة وفجأة لقى نفسه ماشي في جنازته وهو لسه سنه مش مخلياه واعي انه مش هيشوفه تاني. هيحكيلهم عن اخوه اللي كان لسه بيرضع وفضل يصرخ يومين تلاتة لحد ما مات لما مالقاش حد يرضعه بعد أمه ما ماتت في القذف. بس عارفين اكتر حاجة تحزن هيحكيهالهم ايه؟، هيجف يشاور على خريطة فيها بلدين جنب بعض، هيجول اني كنت جاعد هنا مع ابويا وامي وصاحبي واخويا وبيتنا وصوري، كنا بنبص للناس اللي في البلد التانية انهم اخواتنا الكبار، بس لما جت ساعة الجد، لجيناهم واجفين الناحية التانية بيتفرجوا على بيتنا وهو بيتحرج وامي وهي بتموت وصاحبي وهم بيدفنوه واخويا وهو بيصرخ، بذمتكم مش حاجة تحرج الجلب ان دي تبجى سيرتنا بعد خمسين ستين سنة؟!
آخر حاجة هاجولهالكم اتجوا الله في اخواتكم، واحذروا إعلام الفساد اللي بيجوي السلطة الظالمة على ظلمها. عايزين يوصلولنا ان اللي بيعمله الريس وحكومته هو عين العَجْل، بيجولك الفلسطينيين بيهربوا لسينا وعايزين يستولوا عليها وحماس إرهابيين و..و..و، عارفين خطورة الكلام ده ايه؟، خطورته ان فيه جيل هيتربى عالكلام ده ويقتنع بيه، والجيل ده مسافة 20- 30 سنة هيمسك هو البلد، يبجى فيهم الوزير والمسئول والظابط والدكتور والمدرس وكل حاجة، وشوية شوية هيبجى منهم رئيس الجمهورية ووزير دفاعه، يعني مش بعيد نلاجي نفسنا مشتركين مع اسرائيل في عملية عسكرية للقضاء على إرهاب حماس والفلسطينيين!، فيه جضية أمة بتضيع يااخواننا، فيه جضية أمة بتضيع!
لعلها كانت المرة الأولى التي تشهد فيها العش مثل هذه المظاهرات ذات الحشد المُرضي بشكل كبير، إذا ماقورن بكونها أولى المرات. خرجت الجموع من المسجد الكبير وسط القرية، عقب خطبة الجمعة للشيخ بدر، ينضم اليهم نساء القرية وحتى أطفالها الفرحين بتلك الحركة غير المعتادة، يرددون الهتافات في سعادة ساذجة دون أدنى فهم لمعناها. على الأقل عرفوا أن هناك صديقا يسمى فلسطين، وعدوا يسمى إسرائيل!
استمرت وقفتهم ساعة وبعض ساعة، اشتعلت فيها الهتافات وانتهت بجمع تبرعات من الجميع، تعهد الشيخ بدر بإرسالها إلى غزة مع قافلة طبية ذاهبة إلى هناك في غضون أيام...غير أن هاجسا مرعبا دار في ذهن الكثيرين، أن تلك الليلة لن تمر بسلام على... ذلك الشيخ الشاب!
***
- لحد دلوقتي ماقلتليش مين سَرْباز!
ابتسم ابتسامة أوحت لي بقدر عظيم من الغباء، أيقنت في هذه اللحظة أني أملكه، قبل أن يكون رده:
- قلتلي انك بتعرف تلعب شطرنج!
قالها لي باسما في سخرية استفزتني، بشكل ربما لم أعانِ مرارته من قبل... الرقعة بدت شبه خاوية من جيشي الأبيض، وقد رفع رايته تماما عليها بجيشه الذي لم يفقد الكثير من أركانه. الزوايا كلها تعرض صورة هزيمة ساحقة، ربما لم أعانِها قبل الآن... عليّ الاعتراف ببراعته في إدارة معارك رقعة الشطرنج على أية حال. بدا لي كأنه مبتكر اللعبة، صانع الرقعة، مُشكِّل القطع... كل الطرق تؤدي لكونه أحد عباقرة اللعبة بشكل مبالغ فيه!
اكتفيت بنظرة خاوية حملت بعض ارتباكي، قبل أن أحاول مجاراته قائلا:
- ايه علاقة السؤال ده بسؤالي؟
أهملني من جديد مستطردا:
- لسه شايف ان الأبيض عمره مابيخسر؟
لم أعد أملك الا استسلاما له، وقد امتلك تماما دفة الحديث؛ أجبت:
- عادي...خسارة عادية، مش معناها نهاية العالم.
عادت ابتسامة السخرية تلمع فوق شفتيه من جديد، متبعا إياها بقوله:
- عاجبني التفاؤل بتاعك ده قوي على فكرة.
- بتتريق؟!
- ليه سوء الظن؟
- إحساس.
- مانتا حسيت بردو ان الأبيض مابيخسرش!
تغاضيت عن تلميحه مستطردا:
- وجودي معاك مضايقك؟
- بالعكس!
- امال ليه حاسس ان نبرتك بتقول انك مش مقتنع بوجودي أصلا معاك.
- ممم... مش بالظبط كده.
استفزتني الكلمة من جديد.. أكذب لو قلت إني لم أتمنَّ لو جاملني ببعض الكلمات، غير أن شيئا ما ربما أفقده حس المجاملة ذاك، فيما مضى من السنوات:
- تقصد ايه؟
- مش هتفهم قصدي.
- ليه حكمت بكده؟
- إحساس.
- ممكن يكون إحساس غلط.
- زي إحساس ان الابيض مابيخسرش كده؟
- انت ايه حكاية الابيض والاسود معاك؟... معلق معاك ليه قوي كده اني اخترت الأبيض وقلت عليه مابيخسرش؟
- ممم...صعبان عليا!
- ليه؟!
قلتها غاضبا!
- اديت ثقتك لحد مايستحقش.
غرابة كلماته أوحت لي في كثير من الأحيان بوجود ثالث بيننا يخاطبه. ردوده غالبا ما كانت تشعرني أنها ليست الملائمة لحديثي إليه... لم أكن أملك غير الاستمرار على كل حال!
- مش فاهم!
- لسه عايز تسمع؟!
تغاضى عن تعقيبي بشكل لم أفهمه. مهارته في إدارة رحى الحديث دائما إلى صالحه كانت تدعو إلى الإعجاب بشكل كبير على كل حال.
- ياريت.
- متأكد؟!
- عندك شك؟
- عندك انت استعداد تسمع كل اللي باقي من الحكاية؟!
- لو ماعنديش ماكانش زماني قاعد قدامك!
- تلعب دور شطرنج تاني؟!
من جديد هرب بحذاقة من إجابتي:
- وتكمل؟
- وأكمِّل!
- رص جيشك!

- عفارم عليك يا بدر يابني، خطبة النهارده كانت حاجة تفرح!
- والله إن جيت للحج يابا دي حاجة تحزن، المسلمين بقوا بالنسبة لبعض مجرد مشتركين في خانة الديانة في البطايق مش أكتر.
- مسيرها تتعدل يا ولدي، ربك جادر يعدلها من عنده.
لم تكن مجرد طرقات ضيف يستقبلها باب مضيفه، لا التوقيت ولا الطريقة ينبئان بطبيعية سير الأمور على نحو يطمئن له سامعو الطرقات خلف الباب الموصد الموشك على الانهيار. بعض نظرات تبودلت بين أفراد الأسرة الصغيرة، في ذعر لم يعتادوا عليه، دون قدرة لأحدهم على النهوض لاستطلاع الأمر من أثر المفاجأة، وكأنما ثُبتت أقدامهم في الأرض بفعل أيدٍ خفية أبقت عليها في موضعها بالأرض، كأعجاز نخل خاوية، لا يعلمون حرصا منها عليهم أم... إمعانا في إثارة المزيد من سخط الطارقين عليهم!
- يا ساتر يارب! ده مين اللي جايلنا الساعادي وهيخلع الباب من مكانه إكده؟!
قالتها تلك السيدة في أوائل الخمسينيات، تتلمس لسؤالها إجابة لدى أي من الجالسين، وإن كانت على ثقة أنهم لا يملكون من الإجابات أكثر مما تملك.
- أني هاجوم اشوف فيه ايه!
قال بدر متجها إلى الباب بخطوات حاول إلباسها أسمال ثقة آخذة في الفرار، بعدما مر برأسه هاجس حاول إبعاد طيفه سريعا.. لوحظ بعض البطء في خطواته الأخيرة بعد الدرجتين السابقتين للباب الحديدي الكبير المُغلَّف ظهره بزجاج مزخرف، أظهر أطياف الطارقين بشكل انقبض له قلب بدر، وقد عاد طيف الهاجس للظهور مجددا بعد تيقنه من هوية الطارقين، إثر رؤيته لأشباح قبعاتهم المقيتة التي يعرفها:
- مين؟
- افتح الباب!
- ميـــن؟!
- افتح الباب باقولك!
- مش فاتح، جول مين بيخبط!
- اكسروا الباب!
كأنهم كانوا بانتظار أمر يعرفون قدومه لا محالة، قاموا من فورهم بتحطيم زجاج الباب بشكل جنوني، تناثرت على إثره شظايا تطايرت إلى وجه بدر وذراعيه، مسفرة عن بعض الجروح الصغيرة، من تلك الفئة من الجروح التي تستعر نارا رغم كونها لا تكاد تُرى بالعين المجردة، وسط صراخ لا إرادي أفرزته حناجر أمه وأخته المنكمشتين تحتميان ببعضهما، رغم يقين كل منهما أن الأخرى لا تملك لها شيئا أكثر مما تملكه هي لنفسها.
- فتشوا البيت!
قالها ذلك المتعجرف في بدلته الميري، التي لا يساوى بدونها في سوق الأحياء أكثر من قيمة مخلوق بدائي ذا رائحة نتنة تنبت من تحت فرائه العفن، يأكل مكان تغوطه ويتغوط مكان أكله. في الواقع، هو يملك نفس القيمة داخل بدلته ذات النجوم الثلاث على الأكتاف أيضا.
- حُصُل ايه يابني؟، دي دخلة تدخلوها على الناس في انصاص الليالي؟!
قالها الحاج مهنى في شيء من الثبات حاول التشبث به دون جدوى، فأتاه الرد من ذلك الضابط بلهجة لا تخلو من تهديد واضح، هو في واقع الأمر لم يكن بحاجة لإخفائه:
- خليك انت بعيد عن القصة دي، انت راجل كبير ومش حمل بهدلة!
- اتكلم بأدب!
أدار الضابط رأسه نصف دورة، تحاول عيناه التقاط صورة المتكلم الذي يعرفه مسبقا، ومازال كفاه ممسكان بجانبي وسطه في تغطرس ظاهر. ترقبٌ قلق للفعل ورد فعله المنتظر سيطر على الجميع، وأولهم ذلك الأب المتناسي إهانته، المنشغل عنها بقلقه على ولده الوحيد.
- بتقول ايه تاني كده بقى سمعني!
- بجولك اتكلم بأدب، انت بتتكَلَم مع واحد أكبر من أبوك.
- ممم...
همهم بها الضابط يحك بها أسفل ذقنه ناظرا للأسفل، يلتفت للشيخ بدر شيئا فشيئا، حتى أصبح في مواجهته تماما، يستأنف كلماته اليه في هدوء مريب:
- انت بقى اللي هتعلمني اتكلم ازاي... ممم... حاجة جميلة والله!
قالها في سخرية ممزوجة بغضب، قبل أن يفاجئه بلكمة قوية، وجدت طريقها سالكا لوجه الشاب، الذي ترنح على إثرها متراجعا للخلف يتحسس موضع الضربة بيده، مزيلا عنها بعض الدماء، وسط صرخات أمه وأخته. لم يكد يستعد لرد الضربة، بعدما تملكه تماما شيطان الغضب، حتى فوجئ باثنين يطوقان ذراعيه يمنعان حركته تماما، رغم محاولاته المستميتة للإفلات منهما، يستمع معهما لتعليمات لاكمه:
- خدوه عالبوكس!
- مالقيناش حاجة يا باشا غير الكتب دي!
سمعها تأتي من خلفه من أحد أتباعه، فتلقاها منه يقلبها بين يديه قائلا:
- هاتوها معاكم، حرز مش بطال!
(حين تندرج الكتب تحت وصف يضم معها المخدرات والسلاح في خانة واحدة، فاعلم أنك في دولة... بوليسية حمقاء!)
لم يعبأ كثيرا بتوسلات الأم والأب ودموع الأخت الساكنة التي تكاد تزفر بروحها إلى السماء.. ولَّاهم ظهره، وانصرف مع أتباعه، غير عابئ بزجاج افترشت شظاياه الأرض، ودماء تساقطت بعضها إلى جوارها، وأسرة يبدو أنها ستفتقد ابنها... بعض الشيء!
***












ربما وصف حجرة لا يلائمها كثيرا.. كانت أشبه بمعرض فني لفنان إيطالي في القرن السادس عشر، مع بداية انبعاث وميض النهضة الأوروبية الشاملة، عودُ خشبي معلق في صدر الجدار الأيمن، ينتظر في لهفة أنامل محبوبه، ليبادله مداعباته بألحان تغازل في دلال العذارى آذان الجميع.. مكتبة بنية صغيرة ذات رفوف سبعة، أسندت ظهرها في ثقة إلى الجدار المقابل.. صور على الجدران، مختلفة الأحجام، بين مرسومٍ ومُصوَّر، ذوات بروايز و بدون، ذوات ألوان ومكتفيات بكلاسيكيات الأبيض والأسود، أبطالها منقسمون بين الأشخاص والأماكن، وان اتفقوا فيما بينهم على.. الإيمان بحب شيء واحد!
كان جلوسهم أشبه بحلقة مفرغة. بعض مقاعد خشبية تكاتفت فيما بينها لاستقبال جلستهم المعتادة، يتبادلون أطراف أحاديثهم كما هي عادة كل الجلسات، مختلفون كصور جدرانهم في كثير من المظاهر، بين ملتحٍ لا يفارقه مصحفه، طويل شعرٍ لا تفارقه حقيبة ظهره الحاوية جيتاره، ذي نظارة طبية كبيرة لا يفارقه قلمه الملحق ببعض الوريقات، صاحب لحية خفيفة لا تفارقه كتب الرافعي والعقاد، رفيق علبة سجائره لا تفارقه كتب شكسبير وهوجو وجوته، وغيرهم من نماذج ضج بها المجلس يسبحون في أمواج الاختلاف، وإن كانوا في آخر المطاف يلجأون لقارب واحد مجمعين على... الإيمان بحب نفس الشيء الواحد!
- أنا رأيي نوقف النشاط شوية لحد الدنيا ماتهدا!
قال أحدهم!
- بالعكس، ده اللي هم عايزينا نعمله، وفى الآخر برده مش هيتهدوا، أنا شايف اننا نكمل بس بأسلوب مختلف شوية.
رد آخر!
- مختلف ازاي؟
سأل ثالث!
- يعنى هنوزع نشاطنا، مش هنركز في مكان واحد، كده هنشتت تركيزهم ونجريهم ورانا.
- قصدك المظاهرات تبقى في أكتر من مكان؟
- بالظبط كده.
- ايوه بس احنا عددنا مايسمحش باللي انت بتقوله ده، احنا قوتنا في تكتلنا لأن العدد بيبقى ملحوظ، انما كده لو أمين شرطة عدَّى على كل مظاهرة هيفضها لوحده!
- وهو ده اللي هنشتغل عليه الفترة الجاية، الانتشار بصورة أكبر شوية وخصوصا في الجامعات.
- بس ده هياخد وقت ومش مضمون قوي نجاحه خصوصا ان عيون أمن الدولة في كل حتة في الاتحادات الطلابية وشؤون الطلبة وغيرها.
- انا بأيد كلام عمرو...كده كده أمن الدولة بيحاربنا مش هتبقى فارقة خلاص، أهم حاجة التنظيم، نجاحنا مضمون ان شاء الله لسبب بسيط، احنا بندافع على سبيل المثال حاليا عن قضية غزة ودي حاجة انت مش محتاج تقنع بيها الناس لأن هم أصلا مؤمنين بيها، لما يشوفوا الشرطة بتعتقل وتضرب ناس بتحرق علم اسرائيل أكيد هيبقى ده ليه رد فعل، ورد فعل قوي جدا كمان.
جاء صوت من طرف الحلقة:
- بس احنا كده بنلعب لعبة افتراضات.
رد عليه آخر من الطرف الآخر:
- مافيش قدامنا غير الحل ده فعلا حتى لو فيه شوية مخاطر، وبعدين ماتنسوش ان فيه أكيد في باقي الكليات حركات زينا هنحاول نتواصل معاها، اكيد ده هيبقى ليه دور مهم في التكتل اللي عايزين نعمله.
استمر الحديث دقائق اضافية، أنهته تلك الطرقات على باب الحجرة، التي لم تسفر إلا عن نظرات الترقب والاستغراب بين الجميع، وهي الطرقات التي تخالف نغمتها تلك المتعارف عليها بينهم. قام معتز إلى الباب ينظر من عينه السحرية، قبل أن يبتسم ناظرا لمروان قائلا:
- ايدك على الرهان.
- جِه!
- ايوه هو بشحمه ولحمه.
- مستحيل.
- ايه يا جدعان جو الأفلام الهندي ده ماتفهمونا فيه ايه؟
فتح معتز الباب مرحبا بالقادم بابتسامته المعهودة قائلا:
- اهلا يا إبراهيم اتفضل.
دخل متفقدا المكان سريعا بناظريه، وقد داخله بعض التعجب من طبيعة ما يرى، شاعرا أن آلة زمن قد قذفت به إلى زمن آخر، قبل أن يلملم بقاياه ملقيا التحية على الحضور:
- سلام عليكم
- وعليكم السلام.
رد جماعي!
- أقدم لكم إبراهيم يا شباب، زميلنا في الكلية، متهيألي معظمنا يعرفه.
- أهلا وسهلا يا إبراهيم.
قيلت من كثيرين يعرفونه شكلا فقط، من رؤيته أحيانا في طرقات الكلية، ثم تقدم يصافحهم واحدا تلو الآخر، متخذا أحد المقاعد بينهم، وسط ترحيب ممزوج ببعض الحيطة، حتى سطع صوت معتز لأحدهم قائلا، يرغب في ازالة سحابة الغربة المحلقة في جو المكان:
- ماتسمعنا حاجة كده بقى يا كيمو نخرج شوية من جو السياسة والتوتر ده.
- أيوه يا كيمو يلا الله يخليك.
- ايوه يا كيمو.
- خلاص خلاص لا داعي للتصفيق.
قالها ذلك المنادى مازحا، ثم قام يلتقط عوده المعلق على أحد الجدران، يداعب أوتاره أولا للتجربة، محتضنا إياه -كما هي عادته- احتضان أم لوليدها، بادئا بقوله يشير لأصدقائه أن شاركوني:
- مصر يامَّا...
- يا بهية!
رد جماعي مع تصفيق جماعي منتظم
- مصر يامَّا!
- يا بهيـــة!
- يام طرحة وجلابية
- الزمن شاب وانتي شابة
- هو رايح وانتي جاية
- جاية فوق الصعب ماشية
- فات عليكي ليل ومية
- واحتمالك هو هو
- وابتسامتك هي هي
- تضحكي للصبح يصبح
- بعد ليلة ومغربية
- تطلع الشمس تلاقيكي
- معجبانية وصبيـــة
- مصر يامَّا
- يا سفينـــــة
- مصر يامَّا
- يا سفينـــــة
- مهما كان البحر عاتي...فلاحينك ملاحينك
- يزعقوا للريح يواااتي
- اللي عالضفة
- صنايعي
- واللي عالمجداف
- زناتي
- واللي فوق الصاري كاشف كل ماضي وكل آتي
- واللي فوق الصاري كاشف كل ماضي وكل آتي
- عقدتين والتالتة تابتة
- تركبي الموجة العفية
- توصلي بر السلامة
- معجبانية وصبية
- يا بهيـــــــــــــــــــــة
- يا بهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
تصفيق جماعي كان الستار الذي أُسدل على تلك الدقائق الفنية القليلة، التي اعتادتها تلك المجموعة تخفف وطأة توتر كل اجتماع، يقابلهم (كيمو) بابتسامته المعهودة ملتفتا إلى شاهين، الذي قال يمازحه:
- طب والمصحف انت أجدع من ابويا.
ضحكات تبعتها من الجميع لقول شاهين، المعروف بينهم بخفة ظله، قبل أن ينتبه الجميع من جديد لصوت معتز قائلا يخاطب أحد الحضور في جانب آخر من المجلس:
- ايه يا عم الشاعر؟، مش هتسمعنا حاجة الليلادي وللا ايه؟
- نسمعك يا معتز بيه انت تؤمر.
- الأمر لله يا عم حسام، سكوت يا شباب، يلا اتفضل يا شاعر.
اعتدل ذلك الشاعر الشاب في جلسته، وقد اتخذت ملامحه صبغة الجدية بعض الشيء، مركزا نظره الجاحظ من خلف نظارته في لا شيء بأرض الغرفة، بعدما مال بجذعه قليلا إلى الأمام كأنه المستعد لركوب آلة تنقله لعالم قصائده الحالم، بادئا إلقاءه قائلا:
- بلادي بلادي بلادي
أسف اني مع اجتهادي
اكتفيت بكوني عادي
مش أمل ليكي في خلاص

بتأسف يا بلادي إني
كنت كهل في صغر سني
من نشازي يوم مااغني
لحن حب بدون حماس

آسف اني في يأسي سبتك
للي سيفه فوق رقبتك
للي لوث توب براءتك
للشيطان والاسم ناس

آسف ان الحق خايف
والخداع فوق الشفايف
والحقيقة بوجه زايف
والحقوق تحت المداس

آسف ان ضميرى مات
في البرامج والشاشات
آسف ان سذاجتي علت
صرح حلم بدون أساس

آسف اني عشت عالة
عشت باحلم بالعدالة
حلم بان انه استحالة
من زمن رايح خلاص

آسف اني ماصونتكيش
وان طمعي مكفانيش
آسف انك لما قلتي محتاجاكم.... مالقيتيش
واما خفتي ماكانش فينا اللي قالك ماتخافيش

آســـــــــــــــــف!

- طب والمصحف انت كمان أجدع من أبويا!
ضحكة جديدة مسبوقة بتصفيق جماعي، أعقبت كلمات حسام، ما دفع معتز لمخاطبة شاهين قائلا يمازحه:
- طب ماتدورلك على حد يتبناك منهم يلا يا شاهين بدل إحساس الحرمان اللي انت عايشه ده!
- والله يا ميزو فكرت كتير، بس قلت استنى لما الحاج يجوزني عشان ابقى استفدت منه أقصى استفادة.
- واطي واطي يعني.
ضحكات تبودلت من جديد بين الجميع، انتبهوا بينها إلى تلك الطرقات التي اعتادتها آذانهم، ينصتون اليها كأنهم الراغبين في التأكد من ماهية صاحبها، قبل أن يحيطهم القلق من قول شاهين المفاجئ:
- اتأكد الأول من اللي بيخبط مش حد غريب!
همهمات قلقة ممزوجة بنظرات قلقة أعقبت كلماته المكسوة رداء الجدية الكامل، يقابله معتز بسؤاله:
- ليه؟، انت شاكك في حاجة؟
- لا ربنا ما يجيب شك، بس أصل الواد مصطفى كاشف راسه.
لم يستطع بعدها تمييز كم السباب المنهال عليه بسبب تلك الوسادة البالية المنطلقة إلى وجهه من مصطفى، قبل أن يهرول معتز إلى الباب ضاحكا، يستقبل القادم بالأحضان قائلا:
- حمد لله على السلامة يا بطل، شافعي وصل يا رجالة.
لم يكد الجميع يسمعونها، حتى هرولوا إليه يستقبلونه بأحضانهم وترحيباتهم وقفشاتهم، حتى انتهت قائمة المستقبلين بإبراهيم، الذي اكتفى بقوله:
- حمد لله عالسلامة يا شافعي!
- إبراهيم!
اكتفى إبراهيم بابتسامة خفيفة، كرد على سؤال تعجبي، أعقبه سائله بقوله:
- واضح ان قايمة الحبايب زادت واحد وانا غايب، اهلا بيك يا هيما منورنا.
- ربنا يخليك النور نوركم.
- أمال فين كفافي يا شافعي؟
قالها معتز سائلا صديقه يطمئن على صديقه الآخر، يأتيه رده:
- قلت لابويا يوصيهم يخرجوه بكره الصبح ان شاء الله مش النهارده خليه يتربى شوية... هاهاها
- هاهاهاها، طول عمرك أصيل وصاحب صاحبك والله.
جملة أعقبتها ضحكات جميع الحضور، بما فيهم إبراهيم الذي بدأت قيوده تنفك قيدا وراء آخر، مع كل ثانية تمر عليه في المكان.
(عسكرى الشطرنج لا يشعر بطمأنينة حقيقية إلا بين أقرانه العساكر، رغم يقينه أنهم أضعف قطع الرقعة ذات اللونين!)
لا يدري تحديدا هوية ذلك الشعور الذي غمره بعد تلك الليلة.. كل ما يعرفه فقط أن راحة تملكته إلى حد كبير. فتح باب الشقة في هدوء اعتاد عليه، وجد أباه يتصفح كتابا على ضوء مصباح خافت، إلى جوار قهوته، صديقته الأعز. اقترب منه في هدوء، حتى أن وقع اقدامه لا يكاد يُسمع:
- سلام عليكم يا بابا!
تنبه لها الأب، فأجابها بابتسامة متكلفة متبعا اياها بقوله:
- وعليكم السلام يا إبراهيم.
- كنت عايز احكي لحضرتك حاجة كده لو وقتك يسمح!
وكأن الأب قد تربع فجأة على عرش من السعادة المفاجئة، نحى كتابه على أقرب كرسي، خلع نظارة قراءته واضعا إياها إلى جواره، قائلا وعلى وجهه ابتسامة ارتياح عريضة، شجعت ابنه على الحديث:
- طبعا يا بطل يسمح ونص.


















- يا باشا أوامر، هو احنا نطول برده نخدم سعادتك؟
قالها عبر هاتفه يحادث أحدهم، واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى، ممسكا سيجارته مكملا:
- اعتبر الموضوع خِلِص يا باشا، ولا يكون عند سعادتك فِكر... ماشى معاليك... إن شاء الله بالكتير يومين...على ايه يا باشا جنابك تؤمر...فى رعاية الله يا باشا ألف سلامة... ألف سلامة.
وضع سماعة الهاتف، ثم ضغط زرا أمامه يستدعي أحدهم للدخول، ذلك الذي طرق الباب ثم دخل مؤديا التحية العسكرية، يستمع توبيخا معتادا من قائده القائل:
- ماسمعتش الجرس يا روح أمك؟، هتحايل عاللي خلفوك عشان ترد وللا ايه؟!
- أ... اسف يا باشا والله أول ماسمغت جيت طوالي!
- وبتحلف كمان!، ليلة أبوك معايا مش فايتة بس أخلص اللي في ايدي...هاتلي الواد بتاع الصعيد اللي جه النهارده!
- أوامر يا باشا... أوامر!
لحظات، وكان الشيخ بدر ماثلا أمامه في قيده الحديدي، ينظر إليه بشيء من البرود، استفز كبرياء النسر الرابض فوق أكتافه، فتراجع للخلف واضعا قدميه فوق مكتبه، قاصدا أن يوجه قعر حذائه في وجه الشيخ المتهم (وفقا لقواعدهم) يشعل سيجارة تصاعدت أدخنتها تخفي معالم وجهه العابس للحظات، قبل أن تنفرج شفتاه أخيرا عن قوله:
- اسمك ايه يلا؟
ابتلع الشيخ - البادية على وجهه آثار كدمات زرقاء- الكلمة الأخيرة على مضض، وهو غير المعتاد على الإهانة قائلا في اقتضاب:
- بدر مهنى سعد الدين.
- شغال في انهي مصيبة تاخدك؟
- خطيب وإمام مسجد!
- هو انت منهم؟!
لم يتبين الشيخ بدر المقصد تحديدا من تلك الجملة، فاكتفى منها بتقطيب حاجبيه استغرابا، يستمع لاستطراد الرائد (علاء الشريف) كلماته قائلا:
- انت بقى اللي عامللي خُط الصعيد؟... مش عاجبك سياسة البلد ولا نظامها ولا رئيسها ولا حكومتها ولا حاجة أبدا، هتغير الكون بروح أمك؟، عامللي فيها زعيم شعبي يابن الكلب؟!
- وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما!
من جديد استفزت الكلمات غرور الضابط، فقال في عصبية واضحة:
- دانتوا شوية فلاحين عرر جايين من ورا الجاموسة يلا، آخركم تاكلوا وتناموا زي البهايم اللي بتربوها، ايه دخلكم في اللي ماتفهموش فيه؟!
- عادى يا باشا ممكن يكون فلاح بس راجل وعنده نخوة أكتر من البهوات والبشوات اللي قاعدين ورا المكاتب وايديهم نعمت من جلة الشجا. وبعدين ماتنساش يا باشا ان الفلاحين دول فيهم دكاترة ومهندسين ومدرسين، مش زي ناس كملت طريقها بالرشوة من فلوس بابي على 50% مجموع ثانوية عامة عشان يعملوا لنفسهم قيمة كدابة على حساب خلق الله وهم في الأصل ولا حاجة!
(ملحوظة: إظهار المظلوم للضعف أمام ظالمه أملا في نيل عطفه لن تفيد بأكثر من سهولة يجنيها ظالمه في افتراسه. أظهر ثباتك وكفى، فقد انتوى ما انتوى، على الأقل يكفيك ظهورا مشرفا أمام نفسك حين تخلو إليها!)
قالها الشيخ بدر في هدوء يحسد عليه، ساهم في تنامي استفزاز ذلك المتغطرس خلف مكتبه، فنهض إليه يعض شفتيه باسما في خبث يخفي بابتسامته بركان غيظ انفجر للتو بين جنبيه، يفرك ذقنه بأصابعه حاضنة سيجارته، ناظرا للأرض كأنه ملاكم يستعيد توازنه، بعد لكمة غير متوقعة أفقدته توازنه، قبل أن يعود لخصمه قائلا في برود مصطنع، يرد له لكمته:
- بس ان جيت للحق، رغم انك ابن كلب ولسانك طويل، بس ليك أم وأخت يحلوا من على حبل المشنقة، هاعديهالك المرادي عشان خاطرهم بس، أنا أصلي حبيت زينب وابتسام قوي يا مولانا، بس لامؤاخذة يعني احنا الحب عندنا قذر شويتين، عادي شباب بقى وكده انت فاهم الدماغ دي، ماهو أصل الشيوخ في البلد دي بيفهموا كل حاجة ويرجعوا يعملوا الطاهرة الشريفة.
لم يملك بدر وهو المقيد اليدين أكثر من ريقه يرسل به الرد، عبر بصقة كأنها المرسلة من باب جحيم، استقبلها ذلك الرائد على صفحة وجهه مغمضا عينيه مشيحا بوجهه عنه، كأنه المتلقي صفعة من كف حديدي. يزيل بأطراف أصابعه أثار بلل لعاب غطى وجهه، قبل أن يعود اليه صافعا إياه صفعة أحدثت دويا كاد يسيل الدم من شرايين وجهه، فعاد إليه يرد ببصقة أخرى، وهو الذي لا يملك ردا غيرها في ظل تقييد يديه.
جُنَّ جنون علاء، فانهال عليه صفعا ولكما وركلا، حتى انهار بدر على أريكة خلفه، يحاول تحاشي الضربات بأقصى ما يستطيع، حتى خلع الضابط حزام سرواله في نهاية الأمر، ينهال بمؤخرته الحديدية على وجهه ورأسه المختفيين خلف ستائر الدماء، قبل أن تشهد المعركة غير المتكافئة دخول حليف للضابط،ذلك الصول الذي أراد نفاق سيده بمشاركته الفتك بضحيته، مدعما لكماته وصفعاته هو الآخر ببعض البذاءات التي اعتادها لسانه في مواقف شبيهة، ختمها بقوله:
- هي حصلت تتجرأ عالباشا يا فلاح يابن الكلب؟!
دقائق مضت من السب والضرب، أسفرت في نهاية الأمر عن سقوط بدر مغشيا عليه، بعدما تلاشت أناته وتأوهاته شيئا فشيئا، غارقة في دمائه السائلة، مستترة خلف تلك البقع الأخرى من دماء تجمعت خلف زرقة انتشرت في أجزاء جسده، يودعه علاء بقوله مخاطبا الصول:
- الواد ده من النهارده اسمه أنيسة، يتنقل الليلادي زنزانة 54 لوحده وتودوله الواد جابر بتاع زنزانة 16 يقضي معاه الليلة، وبكره الصبح أمه واخته يكونوا قدامي هنا!
- أوامر يا باشا!
قالها الصول بابتسامة خبيثة، كشفت عن أسنانه الضخمة المتساقط بعضها، ونابيه اللامعين ولسانه الذي لا ينقصه إلا... شق في المنتصف!
-
















- يا أهلا يا أهلا... طب والله منورانا يا حاجة، أهلا يا... حلوة!
نظر لها نظرة ذات معنى، فاحتمت منها بالتشبث بذراع أمها، التي وارتها خلفها مركزة نظرها في حنق على ذلك الرائد ونسره، قائلة في اقتضاب:
- هي دي الرجولة يا حضرة الظابط؟ بتجبضوا على الحريم؟، نسيتوا حرمة البيوت للدرجادي؟
- ماتكبريش الموضوع قوي كده يا حاجة، احنا بقينا أهل دلوقتى يا... أم أنيسة!
صمت ثوانٍ، أتبعها بقيامه من كرسيه يشعل سيجارته، غير عابئ بنظرات التعجب المتبادلة بين الأم وابنتها قائلا:
- عموما هي نص ساعة ونمشيكي على طول، انتي و... الحلوة!
نفس النظرة ذات المعنى، هربت منها الابنة من جديد تلوذ بذراع أمها، متوارية خلفها.
- بصوا بقى، عشان مانتعبش مع بعض. أكتر حاجة ممكن تزعلني من حد اني ماالاقيش عنده إجابة لما أسأله...ومانصحكوش تجربوا موضوع الزعل ده بالمناسبة... اتفقنا؟!
تحول للجدية فجأة، تنكمش ملامحه في غضب فجائي، كأنما احتضنه قرين شيطاني:
- تعرفوا ايه عن نشاط المحروس مع الجهاديين؟!
- جهاديين؟!
همست بها الابنة في ذعر، ناظرة لأمها الجامدة نظراتها على محادثها، مستفهمة عن معنى السؤال، فأتاها رده المصحوب بضحكة استهزاء:
- لامؤاخذة نسيت انك جاهلة، أشرحلك وللا... أخلي الحلوة تشرحلك؟، باين عليها واعية ما شاء الله.
- الله يسامحك يابني، مش عيبي ان اهلى كانوا غلابة ماجدروش على علامي!
- بس بس بس، مابحبش اسطوانات فاتن حمامة دي، سوقها بِطِل خلاص من ييجي 50 سنة!
- ..........
- ردي يا مرة، ابنك بدأ نشاطه امتى مع الجهاديين؟، يعنى الإرهابيين، يعنى قتالين القتلى، فهمتي كده وللا اجيبلك عسكري غبي من بلدكم يشرحلك في نهاركم اللي مش فايت ده؟...خلصوني انا مش فاضي للي خلفوكم!
ثوانٍ من الصمت أعقبت كلماته الغاضبة، أسفرت عن زيادة في تشبث الابنة بذراع أمها في ذعر ملحوظ، وسط ثبات لافت للنظر من الأم المجيبة في هدوء:
- هي خطبة الجمعة ولم فلوس للغلابة دلوك بجوا إرهاب وجتل يا حضرة الظابط؟!
- حلو قوي، يبقى افتكروا بقى ان انتو اللي اخترتو مش أنا...شوقــــــــي!
قالها ينظر للباب، الذي فتحه أحدهم بسرعة قائلا:
- اؤمر يا باشا!
- هاتلي أنيسة!
- أوامر سعادتك.
دقائق من عدم الفهم الممزوج بالرعب سيطر على الاثنتين، شغلتاها بنظرات لبعضهما البعض، تتلمسان في متاهاتها طرق اطمئنان مفقود، حتى أفاقتا من نظراتهما مجددا على صوت طرقات على الباب، انتهت بفتحه وقد دخل هذا المكبل بأصفاد ضمت يديه خلف ظهره، مندفعا جراء دفعة أحدهم له في عنف، مسبوقة بلطمة على قفاه وجملة قيلت في غيظ:
- اخلص يا روح أمك انا لسه هاستناك؟!
انتهت الدفعة بسقوطه أرضا على ركبتيه قرب قدمي علاء، الذي دفع وجهه بقدمه قائلا:
- الجزمة لسه متلمعة يابن الكلب.
فعاد مستلقيا على ظهره، يئن من فعل القيد الحديدي، الذي استقبل ظهره أرضا، تتابعه نظرات أمه وأخته اللتين تعرفتا عليه أخيرا، رغم اختفاء لحيته وشعره وحتى حاجبيه، فبدا دمية جحظت عيناها جراء صدمة تعرض لها... ليلة أمس!
- بدر!
قالتها الأم بصوت أشبه بصرخة، تهرول اليه قبل أن يمنعها عن الوصول إليه ذراع أحدهم، يقابلها قول علاء:
- يا سلام يا جدعان على قلب الأم، بتعرف ولادها حتى لو... رجالة واتقلبوا حريم!
قالها، ثم أشار لأحدهم بعينه، فقام من فوره بانتزاع بدر من الأرض، واضعا إياه في وضع الوقوف يستقبل كلمات علاء:
- بص بقى عشان ماعنديش وقت اضيعه مع أمثالك. القعدة دي من الآخر كده مش هتخلص إلا باعترافك بالبلاوي اللي في المحضر. بمزاجك بقى غصب عنك مش قصتي. المهم عندي ان بعد نص ساعة من دلوقتى تكون الليلة خلصانة... ماشي يا حبيب أمك؟
من جديد، لم يملك بدر أكثر من لعابه يرسله إلى وجه مخاطبه، مستقبلا بعده لكمات وصفعات ذلك الصول الواقف خلفه، قبل أن يقوم علاء إليه مستكملا وصلة الصفع والضرب، متوجها لأخته، ينتزعها من بين يدي أمها في جنون، ملقيا إياها على الأرض على مرأى من أخيها الصارخ في قيوده، وأمها المنهارة في بكائها خلف ذراع أحدهم، حتى انتهى المشهد بمعاناة الأخت ذات المعاناة التي... عاناها أخوها ليلة أمس!
-






















لو أن الحياة دبت في شقوق جدرانها، البادية كشرايين جسد يستعد للاستلقاء في ذلك الصندوق الخشبي، مكشوف الرأس محمولا على أكتافٍ أربعة، تنقل ما احتواه لما تحت التراب، لتعاركت فيما بينها على مساحة إضافية، يقتنصها أحدهم من الآخر أملا في استنشاق المزيد من هواء قلما يغادر طرق المدينة، منحدرا لضيق حارة (الشوربجي) البالغ، الذي احتوى البيوت المتعاركة وساكنيها عقودا لا يعلم أحد حتى الآن تعدادها، حتى كهول الحارة وعجائزها الذين لا يذكرون من تاريخ حارتهم أكثر من كونها بدأت ببيت هَرِمٍ، أهلكه هِرَمه في وسط الحارة، شيده الشوربجي الكبير عقب تقاعده واعتزاله الناس لفقده قدمه اليمنى، بعد مشاركته المهزومة المنتهية بالاحتلال في هوجة عرابي، قبل عشرات السنين!
يُروى، فيما يروي الرواة من عجائز الحارة وشيوخها، أن الشوربجي هذا لم يتزوج قط. عاش في بيته، ذاك المشيد ببعض الطوب اللبن والمسقوف بجذوع النخيل، ما يقارب الثلاثين عاما دون زوجة أو ولد، مكتفيا باستضافة بعض البيوت الصغيرة على جانبي بيته المتفرد نوعا ما بضخامته، قياسا بتلك الأعشاش المشيدة في عشوائية تلائم حياة قاطنيها، من حرافيش المحروسة ومجاذيبها اللاجئين لهذا المكان النائي على حدود القاهرة -آنذاك- يتلمسون عيشا هادئا، وإن كان أقسى ماديا من وجودهم كرفقاء قططٍ وكلابٍ ضالة في شوارع العاصمة القديمة، هربا من أشياء شتى احتفظوا بها حتى دُفنت إلى جوارهم في مقابر الحارة، الواقعة خارجها بمسافة لا تتعدى مساحة بيت أو بيتين من الفراغ، حتى تكونت مع الزمن... حارة (الشوربجي)!
المعلم (عبد الجواد)، صاحب قهوة الشوربجي، الرابضة وسط الحارة، والمميزة بتلك الصورة المرسومة معلقة في صدرها -يقولون عنها إنها للشوربجي الكبير، رسمها له أحد الفنانين الهاربين من شظف العيش وبراثن الفشل في الظهور، عقب دخول الإنجليز إلى براح الصحراء، التي لم يتواجد بها في ذلك الحين إلاَّ الشوربجي- فشيد إلى جوار بيته الكبير ثاني بيوت هذه الحارة، والتي يحتل مكانها الآن المعلم (عبد الجواد) ببيته وقهوته، وهو الوحيد الباقي من نسل الفنان الراحل... حسبما يزعم!
(عم عرفة الحانوتي)...رغم كثرة عمله المدعوم بجثث توفرها له يوميا طقوس الحياة العادية، من إهمال أم لطفلها سحقه (توكتوك) أو (ماكنة صيني)، أو سقوط إحداهن من فوق سطح أحد المنازل، بعدما انهار بها سور يصارع الموت منذ سنوات منتظرا إياها يرافقها رحلة الدار الآخرة أثناء نشرها ملابس تخفي قِدَمها البادي في رقعها ببعض الماء والمسحوق، أو حتى رحيل أحد الكهول متأثرا بمرضه الذي يعاركه منذ أعوام دون علاج، حتى استسلم في نهاية الأمر لركب رحلة اللاعودة، أو وفاة أحد الرجال متأثرا بحسرته بعدما تم الاستغناء عن خدماته إثر فقد أحد ذراعيه بفعل إحدى ماكينات مصنع الملابس، الذي يعمل به الكثير من رجال الحارة، بعد تعويضه بمبلغ (مضحك) من المال لا يلبث أن يتبخر مع رحلة علاج لا يستكملها المريض أو ماله المتخلي عنه في بداية الطريق، أو حتى قبل أن يبدأ الطريق!
إلا أن عم عرفة لم يظفر يوما بأكثر من (مستور) تصف حالته المادية، وهو المستغني عن أجره في أكثر تلك الحالات، التي لا يملك فيها أهل المتوفي أكثر من بعض نقود تكفي بالكاد لمنع لحاقهم بالراحل جوعا!
(حلاوتهم) بياعة النابت والحراتي...لا يعلم أحد، حتى هي، عدد سنوات عمرها على وجه التحديد. الحقيقة الوحيدة المعروفة عنها أنها متخذة ذلك المكان إلى جوار زاوية الحارة، قبل ميلاد سكان الحارة جميعا، والدليل أنهم لا يذكرون يوم كان هذا المكان خاليا منها أو من طست النابت ومشنة الحراتي الرابضين أمامها، حتى ظن الكثيرون أنها جاءت بهما مع الشوربجي الكبير بنداءيها المميزين (عسل يا نابت) و (صابح يا حراتي)... إلى جانب حكاياتها المنقوشة على شعرها الأشيب وتجاعيدها الأشبه بمسالك الجبال!
(حجاج) أو كما يسميه أبناء الحارة من شباب في محيط سنه (إيجو)، صاحب محل (إيجو فون) لبيع وتصليح الهواتف المحمولة. اكتفى من التعليم بمراحل متواضعة، انتهت عند دبلوم التجارة، قبل أن يلجأ لتلك المساحة التي لا تتعدى عرض مترين وطول ثلاثة أمتار، يوهم بها نفسه أنه صاحب عمل يؤهله للظهور كصاحب مشروع. ساخط أكثر ما يسخط على المعلم عبد الجواد، لفخره بالانتماء -الكاذب حسبما يرى- للفنان صاحب الصورة، متيقنا أن هذا الفنان لم يكن سوى جده هو الأكبر، وأن صورته هذه كانت لتشغل محله هو، لولا ضيق المكان، فلم ينازع في ملكيتها المعلم عبد الجواد معليا بذلك (الصالح العام) لذكرى جده الراحل، مع قناعته التامة أن كونه من نسل الرسام لا يحتاج لمثل هذه الشكليات، يكفيه المنطق أنه الفنان الوحيد في الحارة الآن، وعليه فالفن جين موروث فيه، تلقاه عبر أجيال من ذلك الفنان الأول راسم الشوربجي الكبير!
(مارادونا)، ربما لا يعلم عنه الكثيرون أن بطاقة رقمه القومي تحمل في الأساس اسم (رمضان)، لا يُرى في الحارة بغير رداء أبيض ذي خطين أحمرين، معتزا بانتمائه المبالغ فيه لنادي الزمالك، أو كما يسميه هو والكثيرون من محبي النادي القاهري العريق (الملكي). لابد لكل جلساته في قهوة الشوربجي أو على ناصية الحارة أن تذكر واقعة تُوِّج فيها الزمالك على أحد العروش قبل سنوات، أو ربما حتى عقود، وهو الحافظ لتاريخه منذ العام 1911. لا يطلب من الحياة الكثير، اكتفى منها بحب الزمالك، واكتفت منه بدور محلل كروي يعيش على هامشها، يقضى يومه إما في مدرجات الملاعب أو أمام شاشات التلفاز، معتمدا في معاشه على أخيه الاستاذ (عزت) مدرس اللغة العربية بالمدرسة الابتدائية خارج الحارة!
(قدرة بتاع الفول)، يكفيك أن تعلم أنه... مخبر أمن دولة!
(عبد الخالق أفندي) موظف السجل المدني، متزوج من حنان زميلته في العمل منذ ثمانية أعوام، أكبر أبنائه محمد 6 سنوات ثم علياء 4 سنوات!
كعادته التي اكتسبها منذ عامين فقط، دخل الحارة مترجلا، بعدما ترك (التوكتوك) أمام محل الأسطى سعد العجلاتي في مدخل الحارة. ربما كان ذلك الخوف من تكرار ما حدث قبل عامين، حين دهس أحد الأطفال تحت العجلات. ألفا جنيه كانت ثمنا مناسبا ارتضاه الأبوان، اللذان لا يملكان بديلا، لم يبذل في جلبهما وقتا أو مجهودا جديرين بالذكر، ثمن معتاد لأدائه في مشاجرة غير متكافئة تم استئجاره فيها (لتأديب) أحد طويلي اللسان تجرأ على (عصمت باشا محروس) عضو مجلس الشعب، حين اتهمه بالتقصير في أحد المؤتمرات الانتخابية، بخصوص مشكلة المجاري الزاحفة تحت البيوت، التي تراودها أفكار الانهيار منذ سنوات.. كسر ذراع و(بشلة) فوق أحد الحاجبين، تذكره دائما (بذنبه) قد تفي بغرض التأديب، كخطوة أولى، على كل حال.
هو لا يخجل من تلك المهنة التي يتهامس بها الناس بشأنه، دون اجتراء من المتهامسين على الجهر بها. لا تشكل له المسميات الكثير من الأهمية...وعليه، فصفة (بلطجي) لم تعد تحمل ما يدعوه للتنصل منها.
طفل دون الرابعة يقضي حاجته إلى جوار أحد الجدران، رجل خمسيني يفرغ منخاريه من مخاطهما على قارعة الطريق مكملا سيره بعدما جفف البقية المتمردة على النزول بكم جلبابه، كأن شيئا لم يكن، غلام في محيط الخامسة عشر يريح مثانته على أحد الأسوار مشكلا بمحتواها لوحة، يظنها فنية، امرأتان تتبادلان بعض الثوم عبر شرفتين خشبيتين متقابلتين، يفصل بينهما ذراع بالكاد، يتناسب مع عرض الشارع الذي لا يتسع لأكثر من رفيقين متجاورين، صراخ أم تدعو على وليدها بالهلاك، بعدما غافلها بانتزاع قطعة لحم كان ليشارك فيها أربعة اخوة آخرين ينتظرونها منذ أسبوع، بعض قطرات مائية تميل بلونها إلى البنية الحاملة بعضا من بقايا متسخة لاتزال عالقة بملابس منشورة على أحبال إحدى الشرفات غادرتها قبل قليل، مطاردة أطفال الحارة لـ(بحلق العبيط) ذلك السمين المسكين ذي البقعة اللعابية الكبيرة على ملابسه، تستقبل المزيد من إمدادات فمه الغني بها، يفر منهم دون أن يعلم لمطاردتهم أو فرارهم من المطاردة سببا واضحا، صوت كركرة الشيشة وعوادم أنفاسها على مقاعد قهوة الشوربجي، صوت الشيخ محمد رفعت يتصاعد من مذياع متهالك بدكان عم عرفة، ضجيج هؤلاء المسوخ أصحاب (الفن) الجديد المسمى بالمهرجانات ينبعث عاليا بصورة مبالغ فيها من محل إيجو، نداءات حلاوتهم، قول (اتنين فول وواحد طعمية) المتكرر أمام موقد صدئ يتسيده قدرة بساعديه المعرقتين وزيته بلون طرقات الحارة، ثم... ذلك البيت الضعيف في نهاية المطاف، تحتضن جدرانه صورة جمل وكعبة، تعلوان جملة (الف مبروك يا حاجة ام رفعت وعقبال العودة) المنقوشة (لا أحد يعلم متى، باستثناء حلاوتهم) بخط عربي آخذ وصورتاه في الاختفاء تحت آثار الأتربة وتساقط الدهان شيئا فشيئا، توقف أمامه موجها رأسه للأعلى، مناديا بصوت يعرفه منه الجميع:
- عمااااااااااد، عُمدااااااااه!
لحظات، وأطل من شباك قديم أخضر اللون ذلك الناعس يفرك عينيه في تكاسل، وقد بدا عاري النصف الأعلى من جسده، باستثناء سلسلة حديدية لامعة تظهر على الجزء البادي منه خارج شباكه.. آثار جروح قديمة متفرقة ظهر القليل منها على وجهه ذي اللون الأسمر، واللحية الخفيفة الأشبه بخطوط رسام مبتدئ قائلا:
- عرفة!، عايز ايه يا بني آدم صحتني من أحلى نومة!
- ايه يا زميل، انزل عايزك في مصلحة!
- مصلحة ايه الساعادي عايز انام مانا لسه سايبك من ساعتين يلا!
- انزل بس دي لسه جاية في طريقي من شوية هتبرد لو استنينا عليها ومش هيبقالها طعم!
- مصلحة ايه دي؟، انتخابات وللا تخليص حق؟!
- لا ده ولا ده، انزل بس وانت تعرف اخلص بقى مش هنقضيها عالهوا كده!
- طب اصبر هالبس وانزلك لما نشوف أخرتها!
(ملحوظة: عسكري الشطرنج قد يصبح في بعض الأحيان.... أشرس القطع!)
-









































وِجِّي يا بلد الحرايق واصرخي بجنون
واحرقيها مدن وكروم وناس وسجون
ملعون أبوها الحمامة أم غصن زيتون
معمولة لجل الضحية يصدقوا الجلاد
يا إيد يا متكتفة
يا ضهر يا منجلد
يا طفل مين ورَّثك الاحتمال والجلد
يا طفل بهموم رجال يا بنت قبل الولد
يا قلوب بتطرح عِند
مين اللي قال الكلاب تسكن عرين الأسد

عبد الرحمن الأبنودي


















الأوفياء يتألمون أكثر!
لعله المنطق الملخص للكثير من جوانب حياته ذات السبعة عشر عاما، يستوي سدا منيعا يحجب عن عينيه أرض النسيان، بكل ما تحويه من راحة بال و... فقدان إنسانيات!
لم يكن يعلم أيحزن لفقدانه الأولى، أم يفرح لنجاته من الثانية. ربما لم تتح له محدودية تفكيره فهم مثل تلك الأمور. هي فقط فطرته الساذجة التي أبت محو آثار أقدام هؤلاء الراحلين من رمال ذكرياته شابة العمر عجوز التفصيلات.
لا يزال ذاكرا كل شيء.. تلك السيارة السوداء الأشبه بأفواه مصاصي الدماء في أفلام الرعب الغربية (أو ربما هكذا صورها له خياله الخائف من مجهول رآه يختبئ خلف زجاجها!)، تلك السيول المتساقطة على زجاجها، تحاول ممسحتاها حماية زجاجها الأمامي من بعضه دون جدوى، صوت باب السيارة الخلفي يلفظ تلك المبتلعة داخلها منذ حين، آثار خطواتها البطيئة في الطين الذي خلفه اتحاد المطر بتراب تراكم أمام مدخل البيت الكبير، بفعل رياح سبقت هطول الأمطار، رداؤها الأسود الممزق من الأمام، تحاول إخفاء تمزقاته بأقصى ما تستطيع، دموعها التي فضحتها شهقاتها السابقة لها تتردد أصداؤها في بئر عميقة، مستقرها في أحشائها، موتها الداخلي الذي تمكن من رؤية شبحه يسبح داخلها من مخبئه خلف جدار بعيد يراقب الأمر برمته، ارتماؤها في أحضان إحداهن تدفن آلامها فيها، وقد ارتفعت حدة البكاء وما صاحبه من شهقات نوعا ما.. ذلك الجثمان الملفوف في كفنه الأبيض، يخرجه رجلان من نفس السيارة القبر يضم إحدى الجثث الراحلة بتأثير سكتة قلبية، انتظاره خروج شاب ملتحٍ عهده نائلا من اسمه نصيبا وافرا من نفس السيارة دون جدوى، نحيب صامت يشبه في صمته أنين ذوي السكرات في أرجاء البيت، الذي أظلمت أضواءه أخيرا بعد سنوات من السطوع، ابتلاع الجميع من قِبَل باب حديدي ضخم تعرى من ردائه الزجاجي بفعل فاعل قبل أيام، وقوفه غير عابئ بامتلاء جيوبه بماء المطر وتقييد أذنيه بأغلال رياح آخذة في الهياج كأنها رسول غضب الطبيعة للأرض، تنقل اعتراض سيدتها على ما حدث، شعور مفاجئ بالضياع تملكه، لسبب لا يعلم عنه أكثر من كونه إشارة قدرية تنبئ عن قادم مجهول، ثم انصرافه يائسا من رؤية مزيدا قد يحمل له بعضا من اطمئنان ناجته مخيلته البسيطة ذات الخمسة عشر عاما!
كل شيء لازال حاضرا كما تركه في حافظة ذكرياته منذ عامين!
لا زال يذكر، رغم تعاقب الشهور، رعبه من ذلك الهاجس الدائر في خياله الصغير من كونه لن يرى شيخه من جديد. ذلك الهاجس الذي ظل يبحث عن إجابة شافية له طوال أيام تلت تلك الليلة دون جواب يريحه..
"مالكش صالح بالموضوع ده انت لساك صغير ومش حمل بهدلة"
"امشي جنب الحيط احسنلك يا ولدي الطريج ده واعر لا انت ولا أهلك الغلابة تجدروا عليه"
"الشيخ بدر؟، مخابرش!"
"واني اعرف منين؟، الله يسهله بجى مطرح ماراح!"
"هو اللي اختار يمشي في السكة ديّ، واهي جت على دماغه في الآخر!"
(مش حمل بهدلة)...(طريج واعر)...(جت على دماغه)...(مالكش صالح) بالإضافة لبعض الإجابات الغامضة، التي تنم عن هروب صاحبها من الجواب من عينة (ماخابرش) و (اعرف منين؟!).. لعله لم يفهم المراد من كل تلك الكلمات.. كل ما نما لعلمه أن هناك شيئا ما غير مطمئن في مستقبل رؤيته لشيخه الشاب؛ حتى كانت آخر الإجابات التي لاقاها من أحد الطلبة الأزهريين في العش، حين أجابه عن سؤاله قائلا:
- الشيخ بدر راح سكة اللي يروح مايرجعش يا طلال، خدوه اللي مابيسيبوش حد، حاول تنسى انك تشوفه تاني، الشيخ بدر... ماهيعاودشي!
لم يفهم وقتها أي سكة هذه، أي آخذين هؤلاء، ولماذا عليه النسيان؛ لكنه رغم كل شيء لم يستطع تنفيذ الشق الأخير من نصيحة الأزهري الشاب!
عامان... كأن يدا خفية اختزلتهما في دقائق تهزأ بها عقارب ساعة بالية على حائط قديم، قد لا يكونان على قدر من الكفاية يسمح له بالنسيان.. أهو الوفاء لأصحاب ذكرى ما قبل العامين؟... ممم... ربما! تلك المسحة من الانكسار التي غلفته عقب تلك الليلة في منتصف الشتاء قبل الماضي؟...يجوز! أم أنها تلك الطبيعة البشرية غير المفسرة بعدم نسيان المرء أيا من سطور التعاسة في كتاب أيامه، مهما مضى على مرورها الدهر؟.. لا بأس على كل حال بهوية الفارس الذي طرد دولة النسيان من أراضيه. حدث ما حدث، وعاد يسيطر على تلك الأرض بدولة جديدة، رفرفت رايتها بلحن التذكار المميت!
- ريشة!
قالها بصوت خافت يخطو آخر خطوة له بعد السلم الطيني الفاصل بين قاع البيت العامر المشغول بأجساد النائمين بعد يوم طويل، وسطحه العامر بأجساد طيور جاهزة لتقديم نفسها قربانا لسعادة هؤلاء النائمين بالأسفل كل حين بعيد. وجد طريقه بسهولة بين (الكراكيب) فوق السطح، حتى ذلك المخبأ الذي يقبع فيه صديقه الوحيد، حاملا في يمينه بعض فتات الخبز المبلول، وقطعة جبن بحجم إصبعين، استطاع اقتطاعها من عشائه المتواضع.
- واد يا ريشة، اطلع يلا أني طلال!
اتبع قولته ببعض طقطقات أصابعه، التي يعرفه بها صديقه الصغير، فخرج اليه مهرولا لكفه الممدودة بالطعام
- مستعجل زي عوايدك عالمصلحة، بس باين عليك جعان جامد الليلادي. كل يا صاحبي بالهنا!
قالها مرسلا كفه إلى فم صديقه الدقيق، منشغلا عنه بذلك الأفق المديد المرسومة على صفحته سحب تترقب فرصتها في إظهار موهبة الإمطار على مسرح الطبيعة الساكنة في حذر. شيء ما بداخله دفعه خلف جدران السحب المتحركة بحثا عن شيء ما، هو على يقين أنه لن يجده. ربما كان يبحث عن قمر مكتمل يختبئ بين الغيوم، ربما كان باحثا عن... بدر!
أفاق من غيبوبته المؤقتة فجأة، على صوت ريشة المحتمي من برد متصاعدة حدته باحتكاك فروته الملساء بلون الثلج بقدم صديقه الصعيدي ثرية الشقوق.
- بالهنا والشفا يابو الريش.
صمت حينا يستمع لصمته، قبل أن يستطرد مخاطبا تلك الروح الخفية التي يعشقها داخل صديقه الفأر:
- مالي؟، لحجت حسيت بيا؟، أصيل يا واد يا ريشة والله. أبدا يا صاحبي مخنوج شوية كده، هافف عليا جوي ابويا الله يرحمه والشيخ بدر الله يرد غيبته. كتير جوي سنتين من غيرهم يا ريشة. حاسس اني كبرت ييجي خمسين سنة في السنتين دولن، لا أرض الحج مهنى بجى ليها طعم من غيره، بعد ماجعد في بيته على الكرسي ابو عجل ومابجاش جادر عالنطج، ولا طبج الفول الصبحية بجى ليه طعم بعد ما ريحة أبويا سابته، ولا حتى أغانى البت وردة بجى ليها طعم بعد ما الست ابتسام أخت الشيخ بدر بطلت هي كمان تيجي الغيط تجعد جنبيها وتغني وراها واحنا بنجمع الجطن زي زمان، من ساعة الليلة اياها.. نفسي اعرف ايه اللي حُصُل في الليلة دي خلى العيلة دي ضاعت كده. أبويا كمان وحشني جوي، وحشتني جعدته وسطينا آخر الليل واحنا كلاتنا مهدودين مش جادرين نجف على حيلنا من كتر الشغل طول اليوم. كانت كلمة حلوة منه وللا بصة لحد فينا وهو بيضحك بتنسينا هموم الدنيا ننام كيف الملك في جصره. عارف يا ريشة أنا حاسس بإيه دلوك؟، حاسس إني... بردان... بردان جوي يا صاحبي!
قالها وقد تقوقع داخل نفسه، يحك ذراعيه بكفيه أملا في دفء مفقود، وقد ساهمت الكلمة حين نطقها لسانه بإضافة المزيد إلى رصيد إحساسه بالبرد. غيرأنه اكتشف في نهاية الأمر أن إحساس البرد نابع فقط من... داخله!
قام يتحسس طريقه إلى الأسفل، باحثا عن دفء هو يعلم تماما أنه بات مفقودا، لزمن لا يعلمه الا الله، وقد عملت يداه على إزالة بعض من قطرات لمعت في جانبي عينيه المبتلتين، وإن كان في قرارة نفسه يود سماع صوت تماسك كاذب يوهمه أنها فقط بعض قطرات المطر، صادف وقوعها هذه البقعة من وجهه الكهل ذي الأعوام السبعة عشر!
***




















ألا تزالين مثلي تذكرين.. تلك الليلة القمراء، حين تعاهدنا أن نشيب معا، نلتقط عكازينا معا، نزداد بدانة معا، نروي أزهار شرفتنا الذابلة معا... وفي الجوار أحفاد يلعبون؟!
حديث مقتضب لصورتها الرابضة هناك في ركن مهجور من أركان ذاكرته، كأنه به يلومها على مصير تلك الـ (معا) المنتهية إلى... لا شيء!
لم ينتظر ردها بطبيعة الحال. لو أرادت ردا، لكان نطقها به قبل الآن بآن. لازال يذكر ذلك الصمت المخيف، الذي كان حينها الرد الوحيد الذي ظفر به، كأن كلماته إليها لم يحالفها الحظ لتكمل رحلتها إلى أذنيها الباديتين ساعتئذ كأنهما المستعارتين من تمثال حجري. باتت الآن على كل حال مجرد صفحة في كتابه، انضمت للأخريات من صفحات لم يسمح لأحد قط بالاطلاع على محتوياتها... أيا كانت هويته.
لعله لا يدري الدافع الرئيسي لجلب صورتها من جديد لمسرح ذكرياته. الحقيقة أنها لم تكن الصورة الوحيدة المستدعاة.. سبقتها للظهور صور آخرين شاركوه في بعض المظاهرات ووقفات الاحتجاج وجلسات السمر في حجرة غريبة الأطوار، قبل أن تطغى على الجميع صورٌ أقدمُ تاريخا، لآخرين شاركوه ذات يوم... حادثا ما!
هي إذن تلك الحقيقة التي اعتاد عليها في كل معركة مع حزن جديد. ذلك الحزن الذي لا يلبث أن يستعين بسابقات أحزان لم يعرف لنسيانها طريقا يسلكه، جالبا مددها لأرض معركة معروفة النتائج، تتكرر في حياته بشكل شبه دوري. لهذا السبب يتضاعف لديه الإحساس بكل عقبة جديدة في حياته، إذ أن تلك العقبة لا تواجهه وحيدة، وإنما انضمت لجيش رابض من عقبات الماضي في رأسه. ها هنا تكمن معاناته فاقدة الحلول، ربما لأن... الأوفياء يتألمون أكثر!
لم تكن أكثر من مرحلة حياتية التحقت بركب المؤقتات في حياته، انضمت لغيرها من صور كان آخر ما رأته من أضواء الحياة (فلاش) آلة تصوير مقيمة في عينيه، تلتقط ما تيسر لها من مشاهد تجسد مراحل عمره سريع المرور، باعثة إياها لذلك المعرض المهجور في قصر ذاكرته، الأشبه بقصر دراكولا ملك الظلام.. وحده دراكولا، صاحب القصر ولوحاته، يستطيع الحياة بين مثل تلك الجدران على كل حال!
أيها الماضي المقيم خيام جيشه أمام عيني على الدوام، أما آن الأوان لهدنة سلام مؤقت، نلتقط فيها بعض الأنفاس؟!
هكذا ختم حديثه المقتضب لذلك القائد المجهول المقيم بجيشه هناك، في مواجهة معسكر ذكرياته، الذي بات أطلالا خلفتها تلك الحروب بين المعسكرين عبر سنوات. في حقيقة الأمر، لم يعد يدري أيهما بات أطلالا، المعسكر... أم قائده؟!
كعادته، قام إلى خزانة ملابسه، يلتقط منها ما تيسر، استعدادا لحضور درسٍ خاصٍ بمواده الصيدلانية في مكان قريب. قميص اسود اعتاد رفع أكمامه إلى ما تحت كوعه بقليل، سروال بنفس اللون، يطوقه حزام بني لابد من وجوده داعما لوسطه النحيل، حذاء لا يهتم (كالعادة) بعقد رباطيه، ثم بعض الشعيرات المتراكمة فوق ذقنه ومكان شاربه، لم يهتم يوما بظهورها على شكل يليق. نظر إلى المرآة قليلا، كأن به يطمئن أن منظره ليس على مايرام، كأنه به المنتقم بذلك المظهر من... أحد الجناة يسكن داخله!
خطوات بسيطة بين باب حجرته وقرينه باب الشقة، خطاها في تأنٍ أضاف على مشيته بعض الوقار الملصق بحزانى البشر!
- الأكل يا إبراهيم!
من جديد عاد صوت أمه يستوقفه للمشاركة، ومن جديد عاد قوله المألوف لدى الجميع:
- ماليش نفس!
-



لعل الجانب الأكبر من خوفهم كان مقترنا بأساسات بيوتهم الموشكة على الانهيار، جراء تلك السيول المنهمرة إلى أرض الحارة دون رحمة، بتلك الأساسات عجوز العمر. احتموا كالعادة داخل جدرانها الهشة، آملين في توقف الهجوم المائي عند هذا الحد، مكتفيا بالتهديد دون التنفيذ. لا مشكلة لديهم إذا ما حملت لهم أمطار تلك الليلة بعض البقع السوداء اللا منتظمة الحدود أسفل الجدران، من آثار تقافز الأطفال في برك المياه المحفورة أثناء الليل، (ممم... ربما "بعض" تلك لا تلائم العدد بشكل دقيق)، لا بأس كذلك ببعض المياة المتسربة عبر الدرجات الترابية الصغيرة إلى بيوت يعلوها سطح الشارع الغارق.. بعض الجهد صباحا من ربات تلك البيوت قد يفي بالغرض في علاج المشكلة على كل حال (وإن كانت تلك الـ "بعض" لا تصلح أيضا للتعبير هنا!)
ربما هو الفيلم الأطول في حياتهم؛ بخلاف ذلك الفيلم الطويل الشامل مشاهد حياتهم منذ الميلاد وحتى الموت في نفس المكان ونفس الظروف وربما...نفس العمر!.. بعض المؤثرات الصوتية التي لا مفر منها، من أصوات ارتطام قطرات المطر بتراب الشارع، الذي استحال أوحالا، وقد حُفرت فيه بعض البرك مازالت على استعداد لاستقبال المزيد. تلك الموجات الباردة من هواء يقتحم النوافذ والأبواب، التي تجاهد للدفاع عنهم في معركة، الجميع يعلم أنها خاسرة بشكل كبير.. أغطية بالية تلف أطفالهم المرتمين رغم أغطيتهم في أحضان الكبار بحثا عن دفء معنوي يدعم ذلك الدفء المادي السقيم. أيدي الجميع تعلو لهيب نيران صغيرة، تكفل بإهدائها لهم (وابور الجاز) الصدئ الصغير، ثم... دعوات بمرور الليلة بأقل الخسائر التي يتكفل الصباح وشمسه الخجولة بعلاجها.
وحدهما انعزلا عن العالم وأمطاره ومخاوف ساكنيه. كان لديهما ما يشغلهما عن كل ذلك بطبيعة الحال، كمية لا بأس بها من المخدرات وبعض كؤوس الخمر، كانت جاهزة للقيام بدورها المعتاد في بناء أسوار ذلك العزل حولهما، على ارتفاع يسمح بمثل تلك الحالة التي ظهرا عليها في ليلتهما تلك. لم تكن تلك الأدخنة المتصاعدة من أفواههم تارة وأنوفهم تارة وأحجار شيشتهم في ثالث التارات لتضفي جديدا على وكرهم، ذلك الذي اعتادوا جلساته المخمورة في سهرات شتائهم وصيفهم على السواء.
- خد ياض يا عمدة شد النفس الجاي ده قُصْ شريط الافتتاح بتاع الحجر.
- ماعيش مقص.
- هاهأهأهاااااي دي باينها ليلة مش فايتة انت سكرت يالا وللا ايه داحنا لسه بنسخن مانزلناش الملعب يخرب بيتك.
- مش عمدة ياض اللي يتوه من سيجارة وحجر وازازتين... بقولك ايه اسمع النكتة دي!
- ضحكني يا عمهم!
- بيقولك مرة أوباما بتاع أمريكا جه مصر، المهم لقى واحد شحات زي بتوع حارتنا المعفنة كده قاعد جنب جامع راح أول ما رجع بلدهم بعت لاسم النبي حارسه مبارك مليون جنيه يديهم للشحات ده صدقة، راح البرنس مبارك حاطط في جيبه نص مليون وادى لرئيس الوزرا نص مليون يوصلهم للشحات، رئيس الوزرا ماكدبش خبر راح حاطط في جيبه هو الآخر ربع مليون وادى المحافظ ربع مليون يوصلهم للشحات، المحافظ قام واخد مية وخمسين الف في جيبه وادى رئيس الحي 100 ألف يديهم للشحات، قام بقى رئيس الحي راح للشحات قاله ايـــــــه؟
- إيه ياسطا؟
- قاله أوباما بيقولك الله يسهلك هاهأهأهاااااااااااااي.
- هاهأهأهاااااااااااااي، دي الدماغ شكلها لعلعت جامد قوي يا صاحبي الليلة شكلها منورة من أولها.
- أهو نبرك ده هو اللي هيخربها.
- ولا هتخرب ولا حاجة يا زميلي كله تحت السيطرة، عارف احسن حاجة انك بعدت الواد عمار الليلادي... انت وديته في أنهي داهية صحيح؟
- عرفـــــــــــة... اظبط!
- خلاص يا عم خلاص هتبوظلنا الليلة والحجرين على ايه، عمار ده سيد الناس، حلو كده؟
- أخو عمار هو اللي سيد الناس وللا لحقت نسيت مكرم بالسهولة دي؟
- .......
- مكرم كان أكتر من أخويا وانت عارف، سابلي عمار أخوه أمانة في رقبتي قبل مايدخل السجن، الواد مالوش غيري ومخه على قده زي مانتا عارف... ايه؟... ارميه؟!
- خلاص يا عم قلبك ابيض صلي عالنبي وروق كده وعيش اللحظة.
- أدينا عايشينها اهو لما نشوف آخرتها، هما العيال اتأخروا كده ليه صحيح؟ هو مش الواد عزت والواد مندور كلموك المغربية قالولك جايين؟
- زمانهم جايين، لازم ييجوا انت نسيت الأمانة وللا ايه؟
- أمانة ايه؟
- مش بقولك سكرت، الشغل الجديد بتاع المعلم خضر بتاع النزلة اللي اتفقنا معاه نوزعهوله يا عم ركز معايا شوية.
- خضر آه وماله؟، مش عيب.
قالها يسحب نفسا عميقا من شيشته، انكمش لها فراغا فكيه مع ضيق في العينين على ألحان كركرة مياه الشيشة وفقاعاتها المتصاعدة في الأسفل، يأتيه رد صديقه الناظر إلى الباب:
- أنا سامع حد طالع أهو شكلهم شرَّفوا.
تعلق نظر أحدهم بالباب المنتظر طرقات أحدهم عليه، في حين انشغل الآخر بأنفاس شيشته ومداعبة أحجارها بذلك الماسك الحديدي، مستمتعا بطقطقة نيرانها، قبل أن يفاجأ وصديقه بتسارع الطرقات على نحو مزعج، فنظر إليه قائلا:
- العيال دي اتجننت وللا ايه؟ إيه دخلة الحكومة دي؟
- وديني لاشوي اللي جابوهم عالفحم اللي قدامك ده يا كبير ولا تزعل نفسك!
- أصيل وصاحب واجب يابو الأشارف، قوم افتحلهم وهاتهوملي في شوال.
قالها عمدة في شيء من السخرية، يتابع حركة صديقه نصف المغيب بفعل مخدراته، يفتح الباب الذي ما إن أسفر عن فتحة صغيرة حتى اقتحمها أحدهم وعلى وجهه علامات الفزع تختلط بمياه المطر، التي بدأت في التساقط على أرض الغرفة قائلا:
- الحق يا عمدة!
- في ايه ياض البرق كهرب أمك وللا ايه؟
- الحكومة كبست علينا واحنا جايين وخدوا الواد مندور والبضاعة اللي معاه!
- يخرب بيت أهلك، طب عرفوا ان الحاجة دي جايالنا؟
- يا عم مااعرفش أنا جريت وجيت ابلغكم!
قام عمدة من مقعده، وقد ساهمت الكلمات في هدم كل ما بناه وصديقه من حالة الراحة التخديرية خلال ساعات. يلتقط ذلك القادم من تلابيب ملابسه، رافعا مطواة واضعا إياها على رقبته قائلا:
- انت عارف لو رجلي جات في الليلة دي هاعمل في أمك ايه؟
- اهدا بس يا عمدة لما نشوف الدنيا هترسي على ايه!
قالها له اشرف في شيء من التعقل، الغريب عليه، مستطردا:
- انا شامم ريحة قدرة في الموضوع مش عارف ليه!
- قدرة المخبر؟
- هو فيه غيره؟!
- أيوه صح، أنا كنت لامح قدرة قبلها بعشر دقايق قابلنا سلَم علينا من بعيد كده بس كان قرب القرافة حتى انا استغربت انه موجود في الحتة دي بالليل كده في التلج ده!
سمعها عمدة فأرخى قبضتيه من على رقبة عزت وملابسه، مفكرا في الكلمات ثوانٍ قبل أن ينظر للاشئ بعينين فارغتين قائلا:
- بقى كده، يبقى الفطار بكره على حساب قدرة يا جدعان!
- قصدك ايه؟
- هتعرف لما يطلع النهار!
- أنا رأيي نستنى شوية لما الدنيا تهدا. انت كده بتلبس نفسك الحوار، وبعدين مش خايف مالحكومة وللا ايه؟
نظر اليه عمدة من جديد نظرة ذات معنى يفهمها منه صديقه قائلا:
- العمدة مايخافش من الغفر يا صاحبي!
(بعض الحركات المتهورة لعسكري الشطرنج فوق الرقعة، قد تدفع به أحيانا إلى... المتاعب!)
***

سأدهن حائط حياتي بالرمادي، وأكتب على بابه (مغلق...لعدم تواجد صاحبه!)
هكذا كانت أول محاولات مداده الأسود على سطور ورقته الفارغة، محاولة ربما لكسر الملل، أو رغبة في تسطير سيرته بنفس لون دهانه المفضل، أو... ربما تكون محاولة أخيرة للحديث مع أحد يفهمه، فكانت رسائله لنفسه (الوحيدة التي تفهمه) عبر خواطره المكتوبة!
حتى الآن، لا أحد يعلم السر في تفضيله اللون الرمادي. يجعله الخيار الأول في كل شيء يتعلق باختياره أحد الألوان، ربما حتى قبل الأسود، رغم كون الثاني يملك دلالة أقوى على الحزن من الأول، غير أنه كان دائما ما يجد نفسه في محراب الرمادية، تلك الحالة التائهة بين الأبيض والأسود، المعلقة بين الكمال والنقصان، لون المرض لا الحياة ولا الموت، لون التيه لا الهدى ولا الضلال، لون السجن لا الإعدام ولا الإفراج، لون... البين بين، لا ينحاز أبدا لأحد الجانبين!
لون سيطر على عدد لا بأس به من قمصانه، حذائه المفضل، حتى سرواله الجديد الذي أفتى له البائع أن اسمه في السوق (بنطلون تلج) نظرا للونه الأقرب لثلوج القطبين، ربما لم يهتم بكلام البائع وتمجيده لتلك (الموضة) قدر إعجابه بهذا اللون الباعث على الاكتئاب، وهو ما يفضله!
(ملحوظة خارج المضمار: إضافة لفظ الموضة في مجتمعاتنا كفيل بإضافة ستر زائف لعورات الاستباحة الغربية العفنة لجسد ثقافتنا المُغتصب)
مضت الدقائق على جلسته تتبعها الدقائق، حتى أتم أصغر العقربين دورة وبعض دورة في ميدان ساعته، أسفرت عن بعض مما فاض به مداد ذهنه على وريقاته. ما زالت طرقات الكلية لم تضج بساكنيها بعد، رغم تعاقب الدقائق ونفاد الأوراق وملل الأيادي والأحبار. طوى الأوراق ونحاها جانبا، قبل أن يضع إحدى قدميه فوق الأخرى، واضعا يسراه في جيبه ومتناولا مشروبه الدافئ بيمناه، وقد علا بخاره مداعبا أنفه البارد وشفتيه اليابستين من قلة الحديث، متفقدا لا شيء بعينيه الضائقتين عن محيطهما الطبيعي خلف زجاج نظارته، علَّه يجد حوله جديدا يستهلك به ملله الذي أسره بقيود قلة الحديث خلف قضبان طول الساعات.
طال انتظاره، وأخذ عدد الوافدين للكلية في التزايد، وعيناه بين الجميع حائرة تقتل بحيرتها ملل صاحبها، حتى ثبتت أخيرا بعد طول انتظار، رغم ابتعاده عن جلساتهم واجتماعاتهم شيئا فشيئا، كعادته مع كل حياة جديدة لا يلبث أن يملَّها، إلا أنه مازال يحتفظ بذلك الخيط الرفيع من المعرفة، الذي يسمح له ولهم بتبادل السلام لا أكثر. كانوا صحبة في قدومهم، كما اعتادوا على مدار ثلاثة أعوام ونصف، قضوها بين أسوار كليتهم.. ضحكات تبودلت بين الجميع، ترأسها شاهين بقفشاته يستقبل اعتداءات كيمو بعوده وحسام بأوراقه ومعتز وكفافي وشافعي بأيديهم، حتى فرَّ من هجومهم في النهاية وسط ضحكاتهم. ظل متابعا إياهم بنظره، وعلى وجهه ارتسمت بسمة باهتة لا تعبر عن حياة، زاد من اتساعها إشارة شافعي له بالسلام من بعيد، في شيء من التكلف. ردها بمثلها في نفس التكلف، قبل أن ينصرف خلفهم إلى المدرج استعدادا لبدء محاضرة، لا يعرف محاضرها أو منهجها، غير أنه فقط أداء لواجب روتيني لابد من أدائه.
- هي مش المحاضرة المفروض بتبدأ 8 يا جدعان؟
قالها شاهين ناظرا للجميع من أصدقائه المنتظرين قدوم المحاضر، فجاء رد (كيمو):
- هتفرق معاك يعني؟، انت عارف أصلا دي محاضرة ايه؟
- مش متابع الحقيقة حركة المحاضرات في الجامعة، بس شكلها مهم!
- طب اصطبح وبص قدامك بقى.
- بقولك ايه يا عم حسام ماتيجي نستغل الوقت وتسمعنا حاجة عالصبح كده نبتدي بيها اليوم.
قالها شافعي يخاطب حسام، الذي انتبه لأقوال مشابهة من الآخرين تساند قول شافعي، فقام بينهم قائلا:
- خلاص خلاص أمري لله... اسمعوا دي
- هااا..

فى وش مرايته كان واقف في عينه الدمع
ينادي حزين على الماضي اللي فقد السمع
يناجي بآهة مكبوتة سنين وايام
وأوهامه اللي سماها في يوم أحلام
لقى الماضي كأغنية بدون أنغام
كتمثال ضخم من بره وأصله الشمع
-
وقف ناظر لكف أسير تجاعيده
يدفي برد شيخوخته بماضي بذهنه بيعيده
سرح كفه في شيب شعره عجوز العمر
ما بين الخصلة والخصلة حكاوي تمر
فى واحدة كان بطل فيلمه
وواحده عذِّبه حلمه
هرب كفه من الخصلات بيحكي شكوته لإيده
-
سنين الثانوي والجامعه
وذكرى من بعيد جايه تسكِّنله أنين دمعه
سنين فيها لبس للشمس نضارة
سلاسل صدره لمّاعة بيحضن صدره بسجارة
وباهتة نظرته لنفسه كلمبة جاز في ضيق حارة
ومر العمر بالنظرة ولا شايفة ولا سامعة

وقف باصص على الماضي
لقاه فاضي
شوية ضحك عالقهوة مابين لصحاب
ودخان ضيف على صدره كما الأغراب
لا جامع ضم سجداته ولا محراب
بجري العمر بات الخصم والقاضي

هرب دوغري من الماضي اللي في مراية
سأل نفسه ايه البارز في أيامي ايه المعروف في دنيايا
بنغزه في صدره من نفسه جاله الرد
كتمها بإيده وبدمعه ولا تترد
مابين النفس والدامع بيعلا السد
وفى الآخر كتاب مقفول بتحكي سطوره في حكاية

يا كل الباكي عالماضي وأيامه
يا كل ضعيف قصاد نفسه يا كل سجين لأوهامه
حياتك لسه قدامها كتير جايات
مسيرك يوم تقف تايه أسير مرايات
تبص بعيد على العمر اللي ضاع في شتات
سجين للعمر والماضي قعد مستني إعدامه



- اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــه، اكسلانص القصيدة العربية يابني والله!
قالها شاهين بشيء من الانفعال، يأتيه رد حسام الذي نظر اليه في شيء من عدم الاهتمام قائلا في ازدراء ساخر..
- اكسلانص؟، انت قاعد بتبيع ولاعات يا بني آدم؟
- يا عم دي كناية عن الجمودية يعني.
- كناية وجمودية مع بعض!، قوم من هنا يلا!
بعض المناوشات الضاحكة بين الصديقين، تظلهما ضحكات بقية أصدقائهما، ومن بعيد على استحياء تتطفل عليهما بسمات إبراهيم، الذي مازالت كلمات حسام عالقة بذهنه، وقد تصاعدت داخله بقوة أصداء تلك الكلمات الملخصة جانبا كبيرا من حياته رمادية اللون!
(ملحوظة: قرار الابتعاد عن هؤلاء، مثل أغلب قرارات إبراهيم، تبدو عقابا لنفسه على... لا شيء)
-

قرآن الفجر المشهود، تبقى كلماته المنظومة في ترتيل رباني، من أهم لقطات حياته يومية التكرار. السر في مواظبته ربما لا يكون معلوم الهوية بقدر كافٍ.. العادة؟، الراحة النفسية؟، أم أنه... وفاء لعهد قطعه على نفسه أمام أحدهم ذات صباح بين شجيرات القطن، فأعطاه بعض الحلوى؟!
يبدو ثالث الأسباب أقربهم للواقع رغم كل شيء.. لا بأس بالسبب على أية حال. عاد لتوه من صلاة الفجر، يفتح باب الكوخ الذي يضمه وباقي أسرته فاقدة الأب، مرددا بعض الأذكار التي علمها له ذلك الـ (أحدهم) قبل سنوات في توقيت مشابه. لا زال يذكر أنه استدار له بعد الصلاة مبتسما في وجهه وهو لا يزال في موقع الإمام قائلا:
- تقبل الله يا طلال!
- منا ومنكم ان شاء الله يا سيدنا!
- طلعت راجل وجمت للفجر، لا وفي الصف الأول كمان، ماخيبتش ظني فيك.
- الله يكرمك يا سيدنا أنا أجدر أكسر كلمتي معاك بردك؟
قابلها الشاب الشيخ يومها بابتسامة اتبعها بقوله:
- جول ورايا يا طلال.
انتبه الفتى للكلمات كتلميذ في مقاعد الدرس، يهز رأسه بالإيجاب مستمعا لقول شيخه:
- لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
- لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
- اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
- اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
- رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا
- رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا
- سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم
- سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم

ظل يومها يردد على أذنيه تلك الأذكار محفظا له إياها حتى سطوع الخيط الشمسي الفضي الأول. جلسة ربانية، ربما لم يحظَ بمثلها هذا الفتى الصعيدي بعد اختفاء قرينه الذي يكبره بسنوات..
- اللي حفظتهولك ده يا طلال اتعود تجوله بعد كل صلاة فجر، اتفجنا؟
- اتفجنا يا سيدنا
- عفارم عليك، يلا جوم بجى عشان تلحج طبج الفول بتاع الحاجة. عارف انك مابتجدرش تبدأ اليوم من غيره، بس كرر الأذكار دي لحد ماتوصل البيت بجى عشان تثبت في دماغك
قابلها الغلام يومها بابتسامة رائقة دون شوائب، مجيبا برأسه أن حاضر، يقوم مسرعا للحاق بهذه الوجبة الملوكي (ربما لأنه لم يرَ قط طعام الملوك، فظل "طبج الفول" أقصى ما يمكنه الحلم به) قبل أن يستوقفه الشيخ الشاب من جديد:
- طلال، نسيت دول!
قالها مادا يده ببعض الحلوى التي يعشقها الصغير المقبل عليها ممتنا، قبل أن يغادر وقد ودَّع صديقه الكبير بابتسامة لم تظهر على شفتيه بعدها لعامين!
تذكر كل ذلك وهو يفتح بابه الصدئ، مرددا تلك الكلمات التي تعلمها قبل أكثر من عامين، يتحسس جيب جلبابه بأنامل صعيدية تشققت، باحثا عن بعض الحلوى التي... لم تعد هنا!
خطوتان فقط كانتا كافيتين ليبتلعه ظلام البيت، المتشبث بأهداب نور الفجر الآخذة في الزحف إليه عبر نوافذه شيئا فشيئا، كما أنفاس تزحف لمريض على جهاز التنفس الصناعي، تحاول انتشاله من موج الموت لشاطئ الحياة. أمام إحدى النوافذ، جلست تنظر عبر فراغ ضلفتيها المفتوحتين إلى أفق بعيد يرقد طفلا في حضن سماء صافية، تنفض كسل ليل منقضِ عن نشاط نهار شارع في البدء. يعرف عنها تلك النظرة الفارغة التي صاحبتها منذ عامين فقط، ربما كانت تناجي ذلك الراحل إلى سكن آخر تحت التراب، تستعيد بأذنيها تلك الألحان الجنائزية التي عزفتها آلام الكبد يوم الرحيل. اقترب منها في هدوء، وهو على يقين أنها لم تشعر به، بعد رغم قرب المسافة بينهما. تغاضى رغما عنه عن هاتين البلورتين المائيتين المنحدرتين من عينيها، على صفحة خدين نهبت السنون من رصيد نضارتهما الكثير.
- صباح الخير يا عسل، ايه العينين الحلوة ديّ؟ تجولش بصة غزال يا ولاد؟
قالها باسما، يتناول كفها الأيمن تاركا قبلته المعتادة على ظهره، مستمتعا باستقبال الأيسر يمسح شعره، وفي صوتها حنان لم يعد يملك غيره..
- نصاب زي عوايدك
قالتها ضاحكة في صدق، لا تعرفه ضحكاتها إلا في حضوره. تستطرد وقد احتالت الضحكة ابتسامة يكسوها الهدوء:
- صباح النور والفل والياسمين على عينيك الحلوين يا ضنايا، تصلي في الحرم ان شاء الله.
- وانتي معايا بعون الله يا أم علي.
صمت بعض ثوانٍ، ثم استمرأ حديثه الضاحك:
- جرى ايه بجى هنفضل نتحدتوا كده للضهر من غير مانفطروا وللا ايه؟، بجيتي كسلانة كيف بنتك هنية، طبج الفول فين يا ام النصاب؟
- الله يجازيك يا واد يا طلال، طب ايش جولك بجى ان مافيش فول النهارده؟
- اكده؟، طب اني ماجايمش من اهنه الا واني واكل طبج الفول ولوحدي كمان.
قالها واسترخى فوق الكنبة الجالسة على طرفها أمه، واضعا رأسه على فخذها ينظر إليها في تحدٍ ساخر
- طب خليك بجى لبكره شوف مين هايجوم يجيبهولك.
- اني مش مستعجل على حاجة، خلينا جاعدين.
- خلينا جاعدين!
- طب بجولك ايه بجى ما واحنا جاعدين مستنيين فرج ربنا اكده ماتحكيلي حدوتة زي زمان!
- حدوتة!
- إيوة حدوتة!
- طب والله ماني كاسفاك، ايه رأيك تسمع حكاية العش؟
- بلدنا؟
- إيوة يا سيدي بلدنا.
- أسمع ونص ده محسوبك ابو الوطنية احكي احكي.
- طيب يا لمض... اسمع يا سيدي
قالتها وأرسلت نظرها عبر نافذتها من جديد، كأنها تقرأ سطور حكايتها في سطور بعيدة على صفحة السماء، قبل أن تستطرد قائلة:
- كان يا ما كان يا سعد يا إكرام ولا يحلا الكلام الا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام!
- عليه الصلاة والسلام
- سنين كتير جوي فاتوا على أصل الحكاية.. سنين ماحدش واصل جِدر يعدها، أو يمكن ماحدش كان فاضي يعدها. يومها كانت الارض دي كلاتها فاضية، أرض كلها ملك لله زي ساعتها ما كانت كل حاجة ملك لله، مافيش بشر بيحطوا اسمهم على ورجة يجولوا عليها عجد ويملكوا بيها ارزاج الغلابة، يومها جيه جدع اسمر شايل بؤجته على كتفه وماشي سارح في ملكوت الله طالب رِزجُه، وِجف في الارض دي ليالي وايام، حاجة غريبة شدته ليها وحبها. كان بيلاجي رزجه بيجيله لحاله، كأن ربنا بيجوله خليك اهنه وعمَّر مكانك. جعد الجدع وبناله كوخ يأويه، اشتغل حطاب عشر سنين ليل نهار، لحد ما في يوم لجى اللي ماهايخطرش على بال.
- ايه؟
- لجى الكوخ عم بينور ويطفي لحاله. جرَّب وهو شايل فاسه وهيجرا آية الكرسي والمعوذتين، النور فضل يئيد ويطفي لحاله، جرَّب اكتر والكوخ على دالحال، لحد ما سمَّى الله وزج الباب ودخل، لجى ايــــه؟
- إيــــــــــــــــــــــــــــــــه يامَّا خلصينا؟!
- لجى جنية، زي الجَمَر، اتخض منيها واتكوم في ركن الكوخ، راحت لحد عنديه جالتله انها جاية تكافئه على العشر سنين شجا وتعب. هدا واستعاذ بالله، جضِّت معاه سبع ليالي ترتبله الكوخ وتغسله هدومه وتعمله وكله، وبعد السبع ليالي اتجوزها، ويوم ورا التاني وسنة ورا التانية بجى عنده عشرين ولد، بيشتغلوا كلهم ليل نهار لحد ماكبَّروا العش وخلوها زينة بلاد الناحية. كل واحد بجى له مرة وبيت وعزوة، بس يا خسارة، مافضلناش على حالنا، ولادهم وأحفادهم ضيعوا اللي عملوه بجلة الشغل وضيج الأحلام، وادينا اها، كيف مانتا شايف، نصنا بيبات من غير عشا، والنص التاني بينام من أساسه جبل معاد العشا.
- كان اسمه ايه الاسمر ابن الناس الغلابة ده يامَّا؟
تبسمت الأم وقد أعادت نظرها من جديد إلى وجه ولدها اللامع تحت خيوط الشروق، تمسح رأسه قائلة:
- كان اسمه طلال عزوز المنشاوي!
تلقاها طلال من أمه، فابتسم راضيا عن مجاملة أمه، متناولا كفها من جديد يُقبِّله، قبل أن يرفع رأسه معتدلا في جلسته قائلا:
- أمَّا، كنت عاوز اتحدت وياكي في حاجة كده.
- خير يا طلال.
- أني هاسافر!
- تسافر!، تسافر فين يا ولدي هو احنا لينا بعد ربنا غيرك؟
- وعشان اكده باجولك هاسافر يامَّا، لجمة الغيط مابجتش جايبة همها، شوية شوية مش هنلاجوا اللجمة يامَّا، الايام بتعدي واخواتي بيكبروا ومحتاجين مصاريف.
صمتت الأم تطأطئ رأسها للأسفل، وقد احتبست في مقلتيها بعض الدموع، قبل أن تتماسك بعض الشيء قائلة:
- هتسافر فين؟
- السودان!
- السودان!
- إيوه، واحد كلمني مبارح عايزين عمال لمشروع كبير جوي هناك، مصاريف الوكل والشرب والنوم عليهم وهيجبضوني ألف جنيه في الشهر.
- هيهون عليك تسيب أمك لحالها يا طلال؟
- ربنا وحده يعلم اني هاعمل كده واني من جوايا عامل كيف يامَّا!
صمتت قليلا دون رد، تنظر إلى لا شيء في أرض المنزل الترابية المعتمة، قبل أن تقول بصوت خنقته بعض العبرات:
- ربنا يفتحلك ببان الرزج يا ضنايا ويصبرك ويصبرنا. بس أمانة عليك ماتتطول في الغربة، أمك ماعادتش حمل حاجة يا طلال.
من جديد قبَّل يديها مطيلا عمر قبلته، قبل أن ينتبه وأمه لذلك الصوت القادم من أمام باب إحدى الحجرات قائلا:
- اني باجول نجضيها حكاوي وغناوي واجيبلكم اتنين حاجة ساقعة وشجرة تجعدوا تحتيها!
- اصطبحنا وصبح الملك لله، الناس بتجول كلمة حلوة عالصبح يا علي، وبعدين ايه اللي هايصحيك بدري اكده؟، دانتا مابتصحاش جبل ادان الضهر.
قالتها الأم معاتبة ابنها في شيء من الهدوء؛ يأتيه ردها:
- عندي مصلحة اكده لازم اخلصها بدري
- مصلحة؟، مصلحة ايه ديّ؟ هو انت بتاع مصالح؟
- جدر ربنا بجى يامَّا نجول لا؟
- مع مين المصلحة دي ومصلحة ايه؟
- ماحدش له صالح، مصلحة وخلاص.
- كده يا علي؟، بتجول كده لامك!
- يووووه يامَّا!
- جومي يامَّا طيب حضريلنا الفطار، خلاص يا علي خلي النهار يعدي على خير.
قالها طلال، يأتيه رد أخيه المتحفز لكلمة منه، وقد بدا عليه أن رده عليه جاهز:
- انت مالك انت؟، ايش دخلك في الحديث؟
- استغفر الله العظيم!
تمتم بها طلال مشيحا بوجهه عن أخيه، راغبا في إنهاء الشجار باكرا لأجل أمه:
- استغفر يا عم المؤمن ماهو كل واحد صلى ركعتين بجى شيخ الإسلام!
- لايمها يا علي، اصطبح وجول يا صبح!
- كفاية، كفاية حرام عليكم، هو انتو محاسينيش باللي اني فيه؟، ارحموا امكم شوية، ارحموها!
كانت تلك آخر الجمل التي نطقتها الأم، وأعقبتها ببعض دموعها، فما كان من الأخوين إلا أن توقفا حينا ينظران لبعضهما بتحفز، انصرف بعدها علي يتمتم ببعض السباب غير المسموع لأخيه، في حين انشغل طلال بأمه الجالسة على كنبتها يطوقها بذراعه حاضنا رأسها بصدره قائلا:
- ماتزعليش يامَّا
تلقتها منه صامتة تستقبل ذراعه وكلماته دون رد، حتى انتبه فجأة لتلك الكلمات النابتة في تربة دموعها، قائلة بشيء من التوسل لم يعرفه قبل الآن في صوتها:
- طلال، اوعى لو مت وسيبتكم تتعاركوا ويَّا بعض مهما كان، اوعى يا طلال!
لعلها ضمن كلمات قليلة تمنى معها لو كان مصابا بالصمم.. تمناها قبل الآن حين سارت إلى أذنيه بعض الجمل من عينة (البقاء لله) التي خاطبه وأهله بها أحدهم في إحدى مستشفيات القاهرة الحكومية يخبرهم برحيل أحد مرضى الكبد.. أو عينة (ماهيعاودشي) التي تلقاها من طالب أزهري حول مصير أحد الغائبين!
- بعد الشر عليكي يامَّا، ماتجوليش اكده تاني!
- اوعدني يا طلال انكم مهاتتعاركوش!
صمت حينا يغالب بعض الدموع، حتى ألحت عليه من جديد بإنجاز وعد هو على يقين أنه غير قابل للتنفيذ من جانب أخيه:
- اوعدني يا طلال!
- أوعدك يامَّا، أوعدك!
بعض الدقائق بالخارج ربما تساهم ببعض الفائدة في مثل هذه الأثناء، هدنة مؤقتة من ساحة المعركة الدنيوية، هروب إلى حين من طلاسم المعجم الحياتي، أو ربما كان ذلك التنحي المرهون بعودة عن... الرقعة ذات اللونين.
لا يزال ذلك الهدوء الفجري مسيطرا بلونه الشفقي على لوحة العش. ما مضى من الوقت على طلال وأمه وأخيه لم يكن كافيا لتغير ألوان اللوحة بكل حال. ربما هي عادة طرق العش الترابية في صبيحة كل يوم جمعة، حيث تتأخر صحوتها إلى وقت تتضح فيه سطوة الشمس عليها بصورة أكبر. خطى بخطوات الحكماء دون هدف محدد، يداه تستدفئان بجيبب جلبابه البني ذي الأكمام الصعيدية الواسعة، في حين تكفلت (تلفيحته) بمهمة الدفء لرقبته ورأسه. دون إدراك محسوس لخطواته، وجدها رغما عنه تقتاده إلى براح الحقول. ابتسم رغما عنه حين وقعت عيناه على ذلك الجالس تحت (الجميزة)، يجالس بعض أكواب الشاي ويسامر بعض (كيزان) الذرة، وبينهما نُصبت بعض ألسنة اللهب ترعى سفر الاثنين إلى فم ذلك الجالس.
- كانك بايت اهنه يا عم علام!
- طلال، اجعد اجعد، مكتوبالك كوباية الشاي وكوز الدرة يابن الإيه.
قالها الرجل ضاحكا، يقابله ضيفه بنفس ضحكته قائلا:
- اهل كرم طول عمرك يا راجل يا طيب
قالها طلال وقد خلع حذاءه (الميري) واضعا إياه إلى جوار الفرشة، التي افترشها عم علام يستعد لتلك الوجبة من الشاي والذرة، قبل أن ينتبه لتلك النظرة الباسمة الطويلة من مضيفه، كأنه به يرسمه بريشة بسماته، فخاطبه ولازالت على شفتيه ابتسامة تعبث عبث الأطفال في حديقة غناء:
- مالك يا عم علام؟، هتبصلي كده ليه؟ كانك لسه هتعرفني يا راجل.
- سبحان الله اللي خلف ماماتش، جعدة أبوك الله يرحمه الخالج الناطج.
- الله يرحمه.
قالها طلال وقد بهتت الابتسامة على شفتيه بعض الشيء، يطأطئ رأسه للأسفل، يأتيه عن يمينه من جديد قول عم علام:
- اني... اني آسف يا طلال يابني حجك عليا ماجصدتش اجلب عليك مواجع
- ولا يهمك يا عم علام، المواجع كده كده بتتجلب لوحدها زي شريط السيما، احنا بس اللي بنتلكك وندور على غطا لمواجعنا، كاننا بنخاف نعترف اننا ضعفا جوي من جوا وأي ذكرى ممكن تشد من عينينا الدموع. بنهرب من صور فاتت جوانا نلاجيها مستنيانا على لسان غيرنا، بنهرب منها ليها، وفي الآخر بنرمي التهمة على أول حد بيجابلنا شيلها على لسانه كانه هو السبب مالاول، بنعادي بعض حتى في الذكرى يا عم علام.
كلمات نالت من دهشة الشيخ وإعجابه منالا لا بأس به.. هل ما قيل كان على لسان طلال، ذلك الذي ملأ السوق صراخا قبل عامين لأجل حذاء أراده؟، أيمكن لعامين أن يحيلا طفلا يعبث إلى شيخ حكيم بهذا الشكل؟.. ربما لم يكن السر في عقربي الساعة المارة بالعامين، بقدر ما كان فيما حملاه من أحداث خلال رحلتهما بين أرقامها. صمت ثوانٍ دون جواب، يحاول تغيير الموضوع بعبثه في ألسنة النار، يقلب كيزان الذرة، حتى انتشل إحداها ملقيا بها إلى طلال قائلا:
- امسك بجى من عمك علام كوباية الشاي ديّ وادعيله
- الله يرحم لما دعيتله عالمداس الميري اللي اتجطع بعدها بيومين.
- يا ساتر دانتا جلبك طلع اسود جوي يا واد يا طلال، مش جبته وصلحته بعدها على طول؟
- لا ماني باتكلم عالمرة التانية بعد انت ماصلحته، من كتر ماصلحته مابجتش عارف اعدّ.
- خلاص بجى المسامح كريم، وبعدين ماهو زي الجن في رجلك اهو كانه ابن امبارح.
- خلاص تنزل المرادي يا راجل يا طيب.
قالها ورشف من الكوب رشفة، ثم لم يلبث أن بصقها قائلا في نفسه:
- الله يحرجك يا عم علام ايه اللي هتعمله فيا عالصبح ده هو اني ناجصك؟
- خبر ايه يا واد يا طلال؟
قالها الرجل الذي لم يسمع تعليق مضيفه الشاب
- لا ولا حاجة يا عم علام بس فين الشاي؟
- واه ماهو في يدَّك اهو!
- إيوه إيوه، لا مؤاخذة ماخدتش بالي مانمتش زين بس!
ظلا يتضحكان حينا ليس بالقصير، حتى انتبه طلال من بين قضماته لحبات الذرة لذلك الصوت الذي يعرفه، قادما من مسافة كافية لينساب واضحا عبر أذنيه:

يا حبايب هاجروا من غيطنا وجالوا مسافرين
راجعين للزرعة ولمتنا ولا مفارجين
طال شوجنا وطال عمر بعادكم
وكلامنا مخنوج بسكاتكم
راح ازغرد وارجص برجوعكم
حالفاها يمين
راح فين الجُطن وأيامه
وبياض زهراته وأحلامه
والفرسه بترمح جِدامه
سايبينه لمين؟!

كان صوتها لا يزال محتفظا بالكثير من نضارته، رغم مسحة الحزن التي غلفت بعض كلماته. على غير عادتها، جلست وحيدة دون مرددات لأغنياتها، على ألحان زهرات تُجمع أو بذور تُزرع أو نبتات تُروى، كأنها مثله خرجت هاربة من إحدى مباريات الرقعة المرهقة، تطمع في بعض مما طمع فيه ووجده لدى عمه علام وكيزانه وأكوابه، في حين وجدته هي في... مناجاة بعض الغائبين!
ظل يتابعها بناظريه، مستكينة في جلبابها الوردي المستمد جماله البسيط من جمالها الأكثر بساطة، في حين عانقت أذناه غناءها في تناغم ربما لا يعرفه مع غير هذا الصوت. ظل على حالته، تلك لا يشاركه فيها الا بعض رشفات الشاي مسموعة الصوت من حين لآخر، ربما لم يكن ينقصه إلا ناي أو عود يشاركها بألحان أيهما كلماتها (أحباله الصوتية ليست على ما يرام موسيقيا على كل حال لتتولى مهمة المشاركة بالغناء).
- طلاااااااال!
- إيوة، إيوة يا عم علام حُصُل ايه كان الدنيا اتهدت وللا ايه؟!
- والله لو اتهدت ماهتدرى بيها داني بنادي عليك ييجي من تلت اسابيع!
- تلت اسابيع؟، ربنا يرد غيبتك يا عم علام.
- طب يلا يا خفيف عشان نلحجوا نجهزوا لصلاة الجمعة.
- صلاة الجمعة؟، دي الشمس لسه بتطلع يا عم علام سلامة الشوف، انت مهاجر بجالك كتير وللا ايه؟
- جوم بينا وخلاص
- لا اله الا الله ليه طيب حُصُل ايه؟
- ماحصلش حاجة بس عايز اروح
- طب ماتروح يا عم علام اني دخلي ايه؟
- هي كبرت في دماغي اكده هنمشِّي احنا الاتنين دلوك
- لا حول ولا جوة إلا بالله طب المداس حلو وزي الفل
- بردك هنجوم
- لا إله الا الله دي العش كلها شكلها ركبها عفريت عالصبح (قالها في نفسه)، طب يا عم علام اشوفك في الجامع بعد 6- 7 ساعات بجى على خير ان شاء الله يادوب اتوضا واحصلك على هناك، سلامُ عليكم!
(للمكان قلب يفتقد عند الفراق، نفس تهرم بالوحدة، ونضارة تخفت بطول الانتظار)
كان هذا حال الكثير من أماكن افتقدت وهرمت وخفتت نضارتها، في ممرات تلك القرية الصعيدية السمراء. ربما أحد البيوت الذي افتقد جلسة كبيره وسط زوجة وأبناء أحدهم يسمى طلال، أو يكون أحد الحقول الذي هرم لوداع جلسة لإحداهن بين زرعاته، بوجهها الباسم المقتبس بسماته من اسمها، أو أنه مسجد خفت نضارة منبره منذ...رحيل قائده قبل عامين!
كعادة صلوات الجمعة تراص الناس متطلعين إلى المنبر ومعتليه، شيخ خمسيني ذي لحية بيضاء كثة، عمة تنطق بأنه من رواد أهل الدين، مسبحة سكنت يمينه تداعب حباتها أنامله، وحنجرة ألقت السلام في خشونة أكملت صورة (رجل الدين) في نظر هؤلاء المساكين، الذي استعدوا لفتح خزائن رؤوسهم المجهزة دوما لاستقبال أي شيء يصدر عن لسان (رجل الدين) الذي يتصورونه!
- بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد، سنتحدث اليوم يا اخواني عن علاقة الحاكم والمحكوم. يعني ايه الاول حاكم؟، كلنا فاكرين ان الحاكم ده هو عفريت الفانوس اللي أول ما الشعب يعوز حاجة يلاجيها عنده من غير ما ينتظر حتى دجيجتين، سبحان الله، طب لو اتكلمنا عن بلد زي بلدنا إكده عدد سكانها ييجي 90 مليون، طب بالعجل كده الريس والحكومة هيجييبولنا منين؟، ناس شغالين ليل ونهار عشان خاطر الشعب وبردك مش عاجب، الراجل كل يومين تلاتة نلاجيه بيفتتح المشروع الفلاني، ويأسس المشروع العلاني، طب يعمل ايه يعني يشيل البلد على كتفه؟، الرحمة بأولي الأمر واجبة يا إخواني، جدروا ظروف البلد واللي هي فيه، لا وبعد ده كله ييجي يجولك معارضة وشيلوا الحكومة وغيروا مش عارف مين، هو انتو البعدا مش مصريين؟، البلد دي مش بلدكم ولا أهلها أهلكم عشان تدوروا تخربوها بالطريجة دي، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، ليكم يوم ربنا مابينساش حد
- اللهم وفق رئيس جمهوريتنا وسدد خطاه
- آميـــــن
- اللهم وفق حكومتنا وسدد خطاها
- آميــــــــن
- ***********************
- آميــــــــن
لا يدرى لماذا لم يبدُ مثلهم كالمنوم مغناطيسيا بهذا الشكل.. لا يدري لماذا لم ترُقْ له بعض الجمل مثلما راقت للآخرين، (هيجيبولنا منين؟) (شغالين ليل نهار) (خاطر الشعب) (المشروع الفلاني والمشروع العلاني)، شيء ما أوقفها على عتبة رأسه، ربما كانت... صورة شيخ كان يقف في هذا المكان قبل عامين أشار لها بعدم الدخول!
(مقطع خارج المضمار: في بلادنا، يكفي أحدهم ارتداء الزي الأزهري ليكون أهلا للإمامة، يكفي آخر أن يطلق لحيته ويقصر جلبابه ليصبح رمزا للفتوى. نستطيع القول إن كثيرين منهم قد انطبق عليهم المبدأ القائل إن أعتى جنود الباطل هؤلاء المحسوبين على الحق وليسوا منه في شيء!)

الضجة كانت المعلم الرئيسي لحارة الشوربجي.. عشوائية معتادة، جسدها تداخل أصوات الباعة من جانب، ومشاجرات الشارين معهم من جانب آخر، ثم الضوضاء النابعة من محل إيجو ومقهى المعلم عبد الجواد من ثالث الجوانب، لا مانع كذلك من بعض الإضافات القادمة من نداءات بين الشرف الخشبية لتبادل شيء ما بين أصحاب الشرفتين. لعل الأبرز بين كل الضجيج، كان المعركة الصباحية المتكررة عند محل قدرة حول أسبقية الحصول على الإفطار. بناء زجاجي بطول ثلثي إنسان، حوى داخله بعض صواني الطعام من فول وطعمية وباذنجان (مقلي ومخلل) وبطاطس (مهروسة وشيبسي) إضافة لبعض فواتح الشهية، التي تعتبر مهمتها سهلة إلى حد كبير في التعامل مع أمثال هؤلاء. أيادٍ تمتد خلف الزجاج، متلاصقة كأنها أخطبوط بشري، إحداها ممسك ببعض الجنيهات التي اعتصرتها يده خوفا من سقوطها تحت الأقدام المتعاركة.. أخرى ممسكة بيد وعاء صغير تطمع في ملئه بـ (اتنين جنيه فول)، وجود بعض الأطفال الذين اعتصرتهم أجساد الكبار كان وجودا مميزا على كل حال، وهم يسعون للانتقام بهرس اقدام معتصريهم بنعالهم الدقيقة؛ إن وجدت.
(حتى الأطفال في حارة الشوربجي ذوو حضور مميز في المعارك!)
- يلا ياض منك ليه من هنا ماعندناش فطار النهارده!
سمعها الجميع قادمة من خلفهم، على لسان أحدهم المشهر مطواة، يتبعه شريك جرائره. يعرفون عنهما وعن تاريخهما الأسود الكثير. عم الصمت دقائق، تعلقت خلالها عيون الواقفين بهذين القادمين وقد تطاير من عينيهما الشرر، إيذانا بمعركة لم يعرفوا بعد ضحيتها القادمة علي أيديهما:
- يعني ايه مافيش فطار يا عمدة؟... أمال ناكل ايه على صباحية ربنا كده؟!
تجرأ أحدهم ونطق بها، فما كان من ذلك الـ(عمدة) إلا أن التفت إليه ممسكا إياه من تلابيبه، ممزقا بمطواته قميصه، الذب لا يحتاج في الأصل إلى تمزيق، حتى بدا من تحته جسده الذي لا مسته المطواة في أكثر من موضع، خلال رحلتها الاستكشافية عبر القميص، قائلا:
- مافيش فطار يعنب مافيش فطار يا روح أمك، هتقضيها النهارده زبادب وبقصماط!
لم يكد الجمع يرى دماء الضحية على قميصه الممزق، حتى تعالت صرخات النساء المصاحبة لهرولتهن بعيدا عن مكان الشجار، في حين آثر الرجال السلامة مبتعدين عن المكان، تاركين المسرح لأعضاء يتقنون فن أدائه.
- عايز ايه عالصبح يا عماد، اصطبح وقول يا صبح
قالها قدرة في شيء من العنف، وقد تشكلت ملامحه في هيئة المتحفز لشجار هو على ثقة أنه ليس كفئا له، فحاول التشبث ببعض الشجاعة الغريبة عليه، محاولا ستر خوفه بها، فأتاه رد عمدة في برود المستهزئ بخصمه:
- عايز اتنين فول وواحد طعمية، اصلي لامؤاخذة هفتان، وزود عالنوتة، تجارة المخدرات اصلها مابقتش تجيب همها اليومين دول!
تعالت بعدها ضحكاته وضحكات صديقه الممسك بهراوة ضخمة في يمينه، قبل أن يتحول في لا زمن إلى هيئة الجد، قائلا يهرول باتجاه قدرة شاهرا سلاحه والى جواره رفيقه:
- بتبلغ عني يابن الكلب يا مرة؟، انت فاكرني لقمة سهلة؟، وحياة الغالية لتفضل طول عمرك فاكر العمدة وتحلف بيه!
انتفض قدرة مهرولا إلى داخل دكانه يحاول إغلاقه من الداخل، إلا أن عمدة كان أسرع، فانطلق خلفه مانعا إياه من محاولته بلكمة قوية حطمت فكه، أعقبها بوعاء الزيت ملقيا به في اتجاهه، فنال من قدرة بعض أجزاء جسده، بعد محاولة هرب فاشلة أعقبها بتأوهاته المعلنة عن تشوهاته جراء الزيت المغلي. بعض فنون استخدام المطواة لم تفته على كل حال، بعضها في وجهه، أخرى في ذراعيه، وثالثة ختم بها اللوحة كانت من نصيب صدره!
- الحكومة يا عمدة!
قالها صديقه الذي انشغل طوال تلك الأثناء بتحطيم المحل حينا ومراقبة الطريق حينا آخر.
- اهلا وسهلا. قبل مانمشي بقى اتركني اديله كُبلة الحياة!
قالها بفصحى كريهة، ساخرا من خصمه المنهار، قبل أن يتناول الهراوة من صاحبه منهالا بها على قدمي قدرة الصارخ من أثر الضربة، التي حملت له بلا شك... الكثير من الكسور!
انطلق الصديقان جريا من باب الدكان، في الوقت الذي وصل فيه بوكس الشرطة حاملا في كابينته الأمامية ضابطا ذا نجوم ثلاثة على كتفه، والكثير من (غريبي الأطوار) في صندوقه الخلفي. بسرعة اعتادوا عليها هبطوا جميعا من البوكس، مطاردين هذين الهاربين، في حين تجمع الكثير من أهل الحارة على باب الدكان يتابعون أثار المعركة، وقد تطوع أربعة منهم بحمل قدرة الغائب عن الوعي إلى اقرب مستشفى!
ذلك النوع من المطاردات رغم خطورته على عمدة وصديقه، إلا أنه كان من ضمن فقرات محببة إليهما، تساعد كثيرا في كسر حواجز الملل المنتشرة في طرق حياتهما الرتيبة ذات الإيقاع الواحد القائم على المطواة والعصي. بمهارة يحسدان عليها، تسلقا حائط الدكان إلى سطحه، متنقلين عبر الأسطح المجاورة، إلى حيث يكملان فرارهما خارج حدود الحارة، كما اعتادا في سابق المرات.
- تلاتة ييجوا معايا وتلاتة على أول الحارة من ناحية العيلين ما جريوا واتنين يستنوا هنا!
قالها النقيب شاهرا سلاحه مطاردا الصديقين، عبر طريق موازٍ في طرقات الحارة، التي حفظها عن ظهر قلب من طول اقتحامها ليلا ونهارا (الفضل في ذلك يعود لقدرة على كل حال)
دقائق المطاردة لم تكن لتمر بسهولة على الفريقين. اعتادا مناورات بعضهما البعض، فباتت مطاردتهما جزءا من فيلم سينمائي من أفلام الغرب التي ينجح فيها البطل الهارب في كل شيء خارق للعادة، غير أن النسخة المصرية كانت ذات تعديل بعض الشيء.. يتعثر البطل مرة في أحد أقفاص الدجاج على أحد الأسطح، فلا يبخل عليه برحلة جوية تنتهي بإلقاء القفص ومحتوياته إلى الشارع انتقاما من تأخيره لحظات، تعيقه بعض أحبال الغسيل الحاملة أشباه الملابس، وهي لا تدري أنها قد حكمت على نفسها بالإعدام ذبحا بمطواة من أعاقته.. مطاردة بطابع مصري خالص، برعت في إخراجها للجمهور بشدة ممرات وسطوح حارة الشوربجي!
- مش لاقيينلهم أثر يا باشا، كأنهم فص ملح وداب!
قالها أحدهم متقطعة، وصدره يعلو ويهبط من أثر الجري، فتلقاها منه صاحب النجمات الثلاث مستقبلها ببرود لا يناسب ما قيل، خالعا عنه نظارته معيدا سلاحه إلى مكمنه في جانبه، وقد علت وجهه ابتسامة لم يفهمها منه أحد من الوقوف!
(ملحوظة: بعض أفعال عسكري الشطرنج التي لا يعمل لها حسابا، قد تدفع به في نهاية الأمر... إلى الهاوية، بأسرع مما يتوقع!)

اللعنة على آلام الكلي!
مازالت مصرة على تعكير الصفو من حين لآخر، كلما سنحت لها احدى الفرص اللعينة للهجوم.
الصفو!... لا يبدو قلمي صادقا بهذا الشأن. ربما كانت تلك الرغبة في الخروج بعض الشيء من ذلك الكهف، الذي لم أنجح بعد في وضع لافتة عليه من الخارج تحمل له اسما يفسر بعض ما يحتويه. لا أظنني أهتم كثيرا بذلك التيار من الألم الممتد بين أحشائي.. لن يضيف كثيرا لمحتويات الكهف على كل حال.
آآآه، ليذهب الألم للجحيم!.. لم لا يقبع في محرابه اللعين دون إزعاج؟.. ما جدواه في تعكير صفو بني الإنسان؟ ما جدواك أيها الألم؟ لم لا تبعث بجنودك فقط إلى مستحقيهم من ملاعين البشر؟.. لماذا تقصر هجومك على الضعفاء من جنس البشر، ترى قوتك ذات قيمة حينئذ؟! أجبني إن استطعت للإجابة سبيلا!
جانبي العزيز... رفقا بي وبنفسك...رفقا أرجوك!
كان هذا آخر ما كتبه، قبل أن يسقط مغشيا عليه، بعد صرخة مدوية سقط بعدها أرضا، وقلمه لازال على ورقته مانعا إياها من الطيران!

- اشوف وشك بخير يا ريشة، الود ودي ماافوتكش يا صاحبي، نفسي اخدك معايا بس ياريته كان ينفع.. وكل العيش مر انت خابر، الحِمل زاد عليا جوي مابجتش جادر عليه، وعلي زي مانتا شايف عايش في ملكوت لحاله مش داري بينا كانه عايش في بيت غير البيت. ماتخافش انى وصيت عليك البت صابرة، البت دي جدعة وبنت حلال، هتاخد بالها منك لغاية ماعاود، بعون الله هاعاود على طول، مش هاطول الغيبة زي الشيخ بدر ما عمل زمان، مين عارف يمكن ارجع الاجيه وسطينا تاني، ادعيلي وادعيله يا ريشة، انت طيب وابن حلال ودعوتك بعون الله مستجابة.
- طلااال، يللا يا ولدي هتتأخر!
جاءه الصوت من قاع البيت، فقام مجيبا بصوت سمعته مناديته بوضوح:
- حاضر، حاضر يامَّا جاي أها
قبل أن يعود لهمسه مخاطبا فأره الصغير، مارا بيمينه على فرائه الأبيض، واضعا إياه من جديد في جحره السري:
- فُتَّك بعافية يا صاحبي!
بدا أكثر صلابة بعض الشيء من ذي قبل. ربما كان ذلك المنطق الحياتي القائل بأن الاعتياد على شيء ما يفقده جانبا كبيرا من كاريزماه المهيبة، التي ينعم بها فقط في اول مرات حدوثه!
وقفوا جميعا ينظرون إليه وهو مستند على ركبتيه وأطراف قدميه يعيد مراجعة ما وضعته له أمه في ملاءة سرير قديمة، تم استخدامها كـ (بقجة).. جلبابان من الصوف المعتبر حسب وصف البائع الذي باعهما لأبيه قبل خمسة أعوام (الجلبابان تعود ملكيتهما الأصلية لذلك الشاري الراحل بالمناسبة)، صديري أبيض اللون، لباسان من البفتة البيضاء، يصلان إلى تحت الركبة بمسافة لا بأس بها، كلسون صوف بني اللون، (زنوبة) خضراء الواجهة بيضاء القاعدة، وأخيرا برطمان صغير من المش، ذا غطاء دائري أحمر (أو هكذا كان) مع بعض أرغفة (عيش الذرة) الذي تم خبزه خصيصا في المساء السابق.
- غسيلك وخبيزك حاجة تفرح يا بت يا فايجة!
قالها باسما يداعب أمه الباسمة في تكلف، ترد مجاملته بقولها:
- تدوبهم في عرج العافية يا ضنايا.
ربما لم تكن كلمة (جميعا) تلك لتلائم حال المودعين على وجه الدقة المطلوب. أحدهم غاب عن تلك اللحظة (بإرادته أو بدونها... الأغلب أصلا أنه لا يعلم عن حدوثها شيئا!) تاركا خشبة المسرح لأم تضم إلى جانبيها فتاتين في عمر الزهور، وقد تعلقت أنظار الجميع بذلك الذي أحكم إغلاق بقجته، رافعا إياها على كتفه متدلية على ظهره، متوجها إلى أمه الدامعة طابعا على يديها قبلة طويلة... جدا!
- أشوف وشك بخير يامَّا.
سمعتها منه، فعلا صوت بكائها، فجذبته اليها ضامَّة إياه إلى صدرها، قائلة بصوت جاهد كثيرا ليخرج من بين دموعها:
- ماتسافرش يا طلال...خليك معانا يا ولدي احنا مالناش بعد ربنا غيرك، هنجضيها بأجل الجليل ربك مابينساش حد!
- وبعدين يامَّا؟... احنا مش سبج واتحدتنا في الموضوع ديّ؟
لم ترد، مكتفية بنظرتها للأسفل تحجب نظرتها غشاوة من الدموع، فاستطرد:
- وبعدين يا عسل، دول همَّ كام شهر واعاود على طول بعون الله. النصاب ماهيجدرش يبعد عن طبج الفول كتير!
ابتسم، فابتسمت في تكلف المستسلم للأمر الواقع:
- ادعيلي يامَّا... ادعيلي كَتير!
- دعيالك من كل جلبي، ربنا يفتحها عليك ويرجعك سالم غانم جادر يا كريم.
ربت على كتفيها باسما يعبر عن امتنانه، قبل أن ينحني إلى كبرى أختيه على يمين أمه قائلا ومازالت الابتسامة تعلو وجهه:
- أشوف وشك بخير يا ست صابرة يا لمضة!
- اشوف وشك بخير ياخوي...خلي بالك من نفسك.
- مش هاوصيكي على امك واخواتك، وخلي بالك بجى (يغمز بعينه خافضا صوته) من الأمانة!
- خلاص يابوي هتفضحنا!
- هاهاها مش بجولك لمضة
قالها ثم قبَّلها بين عينيها، فاستسلمت له رابتة على يديه الممسكتين برأسها في حنو، قبل أن يتركها متنقلا إلى أصغر أفراد العائلة يبتسم قائلا:
- اشوف وشك بخير يا هنية هانم، خلي بالك بجى من أمك واخواتك أني سايبهم أمانة في رجبتك.
- ماتجلجش يا وِلد ابوي، هترجع تلاجي كل حاجة زينة وزي الفل.
- أموت واعرف بناتك اتعلموا اللماضة دي كلها فين؟، شكلك كنتي مُشكِلْ وانتي صغيرة يا بت يا فايجة.
رفع رأسه مخاطبا أمه، التي ابتسمت من جديد دون رد، فعاد لأخته سائلا:
- جوليلي بجى، أجيبلك ايه معايا واني راجع ان شاء الله؟
- ممم، تجيب ايه يا طلال، تجيب ايه يا طلال، إيوه، أرواح!
سمع الكلمة فهاجت لها مشاعره، التي رسمت على الفور في مخيلته صورة أحد الغائبين، فتحسس دون إرادة منه جيب جلبابه، علَّه يعثر على إحداها مختبئة هناك منذ...عامين!
ربت على كتفها مقبلا إياها مثلما فعل مع أختها، مكتفيا بقول (حاضر) وقد صاحبها ببسمة... باهتة!
- آني هاتكل على الله بجى يادوب ألحج اطلع اجابل العربية عالطريج بره البلد، مش هاوصيكي بالدعا يا ام علي!
تغيرت ملامحه لانكماش المستغرب فجأة، وقد بدا أنه تذكر شيئا ما، فهمَّ بالسؤال عنه:
- إلا هو فين على صحيح؟
لم ترد الأم... اكتفت بنظرة بائسة للأسفل، فأتاها رد طلال النادم على هروب السؤال من بين شفتيه رغما عنه، طواعية لحنين أخوي مازال ينعم ببعض البقية في سفح إبريقه قائلا:
- أمانة تسلميلي عليه يامَّا، جوليله يخلي باله من نفسه ومنيكم.
قالها وانطلق نحو الباب حاملا حاجياته، فاتحا إياه قبل أن يعود من جديد اليهم بوجهه قائلا:
- لا إله إلا الله!
- محمد رسول الله!
جاءه الرد الجماعي، فأغلق الباب خلفه آذنا أخيرا لتلك الدمعة المتحجرة في عينيه بالانحدار، بعد حبسها طوال لقاء طغت عليه كثيرا متكلف الابتسامات، كأنما يستعطف بدمعاته تلك العجوز الرابضة هناك على عرشها العفن، تراقب معاناة الخلائق في تلذذ، يقال لها... الدنيا!
(ملحوظة: روح التضحية لدى عسكري الشطرنج لأجل الفريق، قد تؤدي في نهاية الأمر إلى... الإطاحة به تماما خارج الرقعة ذات اللونين!)
-
ببساطة اعتاد واعتدت عليها معه، أزاح إحدى القطع الخاصة بجيشي الأبيض. كانت أصغر القطع، برتبة عسكري.. لم ينطحه في رأسه بإصبعه احتقارا ملقيا به خارج الرقعة، كما هي عادته مع باقي القطع. حمله من قاعدته، بتقدير لا أعتقد أنه اعتاده مع أي موجود بخلاف تلك القطعة الشطرنجية المتناهية الصغر، كأنه الحامل نعش أحد الأبطال.. وضعه على طرف الطاولة، في مكان بعيد عن باقي ضحاياه من جيشي الخشبي، كأنه الخائف عليه من تركه بينهم!
- مش حاسس انك اتأثرت قوي بالحركة اللي فاتت.
قالها مركزا نظره في عينيّ، كأنه المنتظر ردة فعلي على قوله ذاك بالذات. أجبته بتلقائية، رغم تعجبي من كل ما كان من أمره منذ أطاح بالعسكري، قائلا:
- عادي يعني ده عسكري، المهم باقي الجيش عندى سليم اقدر أكمل، أحسن ما كان يبقى وزير وللا فيل وللا حصان!
تلقتها مني مسامعه، فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة المساحة بشكل مخيف، جسدته روحا لأحد المهرجين تسبح في فضاء سيرك مهجور، لم تطئه أقدام المتفرجين منذ مائة عام. الهدوء المبالغ فيه كان مساهما قويا في جعل الرعب ضيفا ثقيلا على صورته، الظلام المحيط بأركان الحجرة -باستثناء الضوء الخافت المسلط على الطاولة وما عليها من أثار معركتنا-، إضافة لبقايا الأمطار العالقة على صفحة النافذة الخارجية، ربما كانوا أكثر ما ميز المشهد الراحل منذ سنوات ولازال في ذاكرتي قابعا، يحظى بمكانة لن يفهمها الكثيرون. لم يكتفِ بابتسامته ونظرته التي جاهدت كثيرا للهرب منهما دون جدوى، كأني المنوم مغناطيسيا.. تمتم بكلمات، لم أتبين من بينها سوى:
- كان عندي حق لما قلت انك زيهم!
انكمشت ملامحي استغرابا، أخرجني -إلى حين- من ثواني الخوف قائلا:
- زي مين؟!
- مش مهم.
اعتدت على مثل هذه الأجوبة على كل حال.. لم تعد تمثل أكثر من مؤثرات صوتية لمبارياتنا معا. سألته من جديد، يائسا من الحصول على إجابة مريحة بشكل ما:
- لحد امتى هتفضل محسسني ان وجودي معاك بيضيعلك وقتك؟
- عمرى ماضيعت وقت!
- معنى كده انك بتستفيد من وجودي معاك؟
- مممم...شوبة!
- بتستفيد ايه؟
- باكسبك في الشطرنج!
- مستفز!
- عارف!
قالها بعد صمت فترة، استغلها في إشعال سيجارة، أضافت مقدمتها بعض الضوء الناري للمكان، مستطردا بعد استنشاق أول أنفاسها:
- كمِل لعب!
- مش هالعب!
- براحتك!
قالها وتراجع بظهره للخلف، لاصقا إياه بظهر كرسيه، واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى، في تجسيد صريح للامبالاة. الصمت كان السيد لفترة لا بأس بها.. أصابني الملل بشكل ربما لم أعانه قبل هذه اللحظة، بهذا الشكل.. تراجعت عن غروري المتجسد في صمتي أخيرا قائلا:
- انت عايز ايه؟
- انت اللي عايز!
- قلتلك عايز اسمعك واساعدك، ليه مش مقتنع بكده؟!
- ممم... تقدر تقول مش قادر تقنعني.
- واعمل ايه بقى عشان أقنعك!
- تكمل لعب!
- ده مصدر الاقتناع بالنسبة لك؟
- ايوه!
انعقد لساني غيظا، مدة لم تزد عن دقيقة، قبل أن أسلم أخيرا بالأمر الواقع، قائلا وزفيرٌ حارٌ يسبق استسلامي:
- ماشي!
ابتسم من جديد ابتسامة الظافر العالم مسبقا بظفره، عائدا من ظهر مقعده مطلا على الرقعة وجيشيها من جديد قائلا:
- العب!
شيء ما كان يدفعني دائما للاستمرار، رغم كل شيء!
***
- عاهة مستديمة، قصدي عاهات مستديمة.. شوهته بزيت مغلي، وكسرتله الجمجمة وختمتها بكسر مضاعف في رجليه، طب ماكنت تشويه عالفحم بالمرة!
- مالحقتش والله يا باشا سعادتك وصلت بدري شوية كانت هتبقى طبخة نص سوا انما ايه تستاهل بؤ سعادتك!
- انت هتهرج معايا يا روح أمك!
قالها ذلك النقيب قائما من على كرسيه يضرب مكتبه بقبضتيه، يأتيه رد (عمدة) الذي وصل بمستوى استفزازه للذروة قائلا:
- تؤتؤتؤ... ايه دخل الأم دلوقتي طيب يا باشا؟ ماحنا كنا حلوين، هي أي نعم مااعرفهاش مين، بس بردك تعز عليا كفاية انها جابتني الدنيا اشوف طلة جنابك.
أشار الضابط لأحد المخبرين الواقفين خلف عماد، فصفعه على قفاه صفعة مفاجئة كادت تطيح برقبته:
- طب وحياة أمي اللي الباشا لسه جايب سيرتها وأمك اللي هاخلي مصر كلها تجيب سيرتها، لتكون واخد قصاده عشرة، بتمد ايدك على عمدة ياض؟، دانتا هيتعملك صوان عزا بعد ساعتين!
همَّ الصول بعقابه بالمزيد، غير أن صوت النقيب المبتسم منعه قائلا:
- سيبنا واطلع بره يا عبد الموجود.
- بس يا محمود باشا....
- انت اتجننت؟...نفذ الأمر!
- أوامرك يا باشا!
انصرف الصول جارا أذيال الخيبة، وقد ارتفعت درجة كراهيته لعماد إلى حد قد يرتكب معه جريمة قتل بمنتهى السهولة، تصاحبه عينا خصمه الذي أخذ يعدل من هندامه، محولا نظره إلى الضابط القائل:
- اقعد!
نظر عماد خلفه باحثا عن مخاطب غيره فلم يجد، قبل أن ينتشله من بحثه صوت مخاطبه:
- بقولك انت... اقعد!
- انا يا باشا؟
- هو فيه غيرنا في المكان يا بني آدم؟
- بس يا باشا يعني....
- ولا.. أنا مش فاضيلك، اعمل اللي باقولك عليه وخلصني انا ماعنديش وقت اضيعه معاك.
- ماشي يا باشا اللي تشوفه.
قالها عمدة واتجه إلى المقعد المقابل للمكتب منتظرا القادم من قول الضابط الآخذ في إشعال سيجارته مناولا واحدة لمضيفه قائلا:
- سيجارة؟
- من يد مانعدمها يا باشا!
تفحصها بين يديه مستغربا بعض الشيء، يفرك مؤخرة رأسه بأصابعه:
- فيه حاجة؟
- أصل بصراحة يا باشا يعني السوجارة دي نضيفة قوي حرام تتشرب، بافكر احتفظ بيها ذكرى.
ابتسم محمود في شيء من السخرية سائلا:
- ليه انت متعود تشرب ايه؟
- عدم اللامؤاخذة يعني اسم الله على مقامك السوجارة الكليوباترا المِطِولة دي، تحس يا باشا ان هي اللي بتشربك، أنا ذات مرة اتغديت بواحدة!
ابتسم محمود ابتسامة طويلة هذه المرة متسائلا:
- ذات مرة؟، جبتها منين ذات دي؟
- لغتنا الحلوة سعادتك.
- ايه رأيك في الشعب المصري يا عماد؟
- مااترباش جنابك.
- ليه بتقول كده؟، مش عيب بردو تقول كده على الشعب اللي انت منه؟
- منا عشان منه يبقى مااترباش يا باشا.
ضحكة خفيفة أثارتها كلمة عمدة، أعقبها محمود بسؤاله:
- ايه اللي بيخليك تقول عليه كده طيب؟
- يا باشا الواحد من دول تيجي تثبته ولاَّ تاخد منه حاجة يخرب الدنيا كأن الدنيا اتهدت، يعني هنعمل ايه يا باشا؟...ناكل تراب؟...نموت مالجوع؟...همَّ مش عايزين يدونا حقوقنا معاهم بالذوق، خلاص ناخدها احنا بمعرفتنا بقى!
- ممم... تصدق فعلا عالم مش متربية.
- مش بقولك يا باشا
- طب واللي يربيهم؟!
- يبقى سيد الناس.
- يعني انت شايف الداخلية سيد الناس.
- وهي دي عايزة كلام يا باشا؟
- ممم... تحب تبقى سيد الناس معانا؟!
تلقاها عمدة، فانكمشت ملامح وجهه استغرابا قبل أن يكون سؤاله:
- عدم اللامؤاخذة يا باشا مش فاهم.
- انت هتشتغل معانا!
- مع مين يا باشا؟
- مع الداخلية... مع الحكومة!
- انا يا باشا!...واللى زيى هيشتغل ايه مع الحكومة؟... بوكس؟
- هاتشتغل مخلصاتي!
علامات غباء عميق تظهر على وجه عماد ألجمته الرد، فاستطرد محمود:
- هتربي معانا الشعب!
- بص يا باشا.. هو انا مش فاهم أي حاجة، بس اللي سعادتك شايفه يعني.. هو انا اطول اشتغل مع الجكومة؟!
- مش مهم تفهم... احنا عايزينك كده بغباوتك هتبقى أفيد كتير... انت يادوب هتنفذ أوامر!
- طب عدم اللامؤاخذة يعني يا باشا... الموضوع ده...
- من غير ماتكمل... مافيش فلوس. هو فيه حكومة بتدي فلوس يا مغفل؟
- يا باشا ماهو سعادتك عارف اللي فيها، لما عدم اللامؤاخذة مش هاقبض من الشغل ده ولا سايبيننا نتعامل احنا ونقلب رزقنا بالطريقة... اللي زيى هايشتغل ايه؟ مفتي الديار وللا شيخ الازهر؟!
- ومين قالك ان دول أساسا مش شغالين معانا زيك بالظبط؟!
- شغالين معاكم! ازاي يا باشا دول ناس بتوع ربنا وقال الله وقال الرسول ايه اللي يشغلهم مع عالم زيكم؟
- ولاااااا... اظبط لاقطعلك لسانك!
- لامؤاخذة يا باشا مااقصدش حاجة والمصحف. أنا قصدي يعنى الناس دي ايه اللي هيشغلها مع الحكومة؟... مخلصاتية بردو؟
- بس مخلصاتية من النوع الحنين... النوع اللي بيحبه الشعب.
- ازاي؟
- دول اللي بيبروزوا لنا الصورة اللي احنا بنرسمها عشان تتعلق على الحيطة الكبيرة اللي في وش الشعب!
- طب يا باشا لما الشيوخ شغالين معاكم، ليه كل ماابقى راكب اسم الله على مقامك ميكروباص ونقف في لجنة وللا حاجة ألاقيه الأمين أول حد نزله وخده معاه اللي مربي دقنه؟
- امش كلهم شغالين معانا، الباقيين دول مكانهم معروف، سجون الداخلية مليانة دقون.
- أساسي... أساسي يا باشا... بس عليا الطلاق مانا فاهم أي حاجة!
- بص يا عمدة، أي حد ماشى في شوارع مصر من شرقها لغربها ومش مرمي في السجون بتاعتنا يبقى شغال معانا، يا إما زي حالاتك كده، يا إما زي مولانا.. يا إما بقى الفئة التالتة اللي ماشية جنب الحيط لا بتهش ولا بتنش همها تاكل وتشرب وتنام بس ودول بقى... اللي بنبروزلهم الصورة!
صمت عماد حينا، وعلى وجهه نظرة بلاهة مبالغ فيها أعقبها بقوله:
- والله يا باشا انت كلامك يشرح القلب الحزين.
- شكلك مش فاهم ولا كلمة.
- ان جيت للحق يا باشا ولا أيتها حرف، الكدب خيبة.
- وهو ده المطلوب، ماحدش هنا مطلوب منه يفهم حاجة، احنا جهاز تنفيذ أوامر وبس!
- طب يا باشا ماتكلمناش بردو في حوار الأتعاب لامؤاخذة.
- ولا.. انا مابعيدش كلامي كتير، قلت مافيش فلوس يعني مافيش فلوس، خلاص خلصنا!
- ............
- بس فيه مقابل تاني!
- ايه يا باشا؟
- هنسيبك تعمل اللي بتعمله براحتك... بس بشروطنا!
- اشرط جنابك كلي ودان عدم اللامؤاخذة صاغية!
- مافيش شوشرة...يعنى لا قتل ولا سرقة حد كبير ولا بلاوي في الشارع... اشتغل في العتمة من تحت لتحت عالعالم اللي ماحدش هيسأل عليهم اتسرقوا وللا اتحرقوا!
- عُلم ويتنفذ سعادتك!
- طبعا مش محتاج أقولك ان لو جنس مخلوق عرف بالكلام ده الدبان الأزرق مش هيعرفلك طريق.
- عيب يا باشا انت بتتكلم مع العمدة.
- قوم دلوقتي، واعمل حسابك اني هابعتلك كمان كام يوم كده عشان نبدأ شغل.
- تمام يا باشا بس معلش ليا طلب أخير.
- خلصني!
- لامؤاخذة فيه مانع لو جبت معايا مساعد مخرج؟
- نعم يا روح أمك؟
- روق بس يا باشا.. انا قصدي الواد أشرف معايا على طول الخط ويمكن تحتاجوه، ايده يا باشا تتلف في حرير عليه ضربة مطواة مايعدمهاش!
- مش ده الواد اللي اتقبض عليه معاك؟
- هو سعادتك!
- سيبه يتربى يومين كده وبعدين ابقى اشوف قصته ايه.
- ربِّيه يا باشا ربنا يديك الصحة.
قالها وقام من مقعده، رافعا يده إلى جانب رأسه مؤديا التحية العسكرية قائلا وهو يتقهقر بظهره إلى الباب:
- بالإذن يا باشا!
(اذا سُخِّرت حماية الشرطة في دولة ما للمفسدين فيها، فمَن لأهلها البؤساء غير الله و... ثورة يثورونها؟!)
***
في فزع يحاول استكشاف ذلك القيد اللا مرئي، الذي ثبت ذراعيه على الحائط على امتدادهما. جال بنظره أسفله، علَّه يظفر بموضع ثاني القيود المتولي تثبيت قدميه بنفس الحائط، دون جدوى. بدا كما لو قام أحدهم برسمه على هذا الحائط بهذا الشكل الغريب، ثم نسي إضافة القيود التي تلائم تلك الوضعية إلى لوحته. استسلم للأمر الواقع في نهاية الأمر على كل حال، نظر أمامه، فإذا بالكثير من الغيوم السابحة في بحر من السواد، في عشوائية تبعث على الرعب أكثر من أي شيء آخر. بعض المشاهد بدأت في الظهور وسط الضباب، كأنها أجزاء متفرقة من أحد أفلام الرعب الغربية، نسي مخرجها أو تناسى ترتيبها في وضع يروق لجمهوره المنتظر خلف الشاشات.
رجل صعيدي أشيب الشعر، يعتصر جانبه الأيمن ألما، وقد وضح من انتفاخ بطنه واصفرار عينيه أنه يعاني بشكل ما. شاب في منتصف عشريناته، يُعذَّب على يد أحدهم، وقد بدا من انغلاق عينيه وانفتاح فمه على اتساعه أنه يتألم على نحو مخيف. بعض قطع الحلوى التي باتت مرتعا للذباب.. فأر أبيض صغير تملكه الذعر وهو يفر مسرعا من قط مخيف أعور العين يوشك على افتراسه.. أم وابنتيها تضمهما إليها في ذعر سبَّبه أحدهم، الذي بدا كأنه واحد منهم.. وأخيرا... شاب ازدحم عنقه بالسلاسل، وكفه بالخواتم، عاري النصف الأعلى من جسده، يقف في ركن بعيد من الشاشة الضبابية، عابثا بمطواة في يده، وعلى وجهه بدت ابتسامة لم يفهمها، غير أن شيئا غريبا ظهر واضحا في نظرته القائلة (أنا بانتظارك!)
- بلديناااا!
- إيوه... ايوه... ايه؟... حصُل ايه؟!
- بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا عم اتخضيت كده ليه ماحصلش حاجة.
نصف دقيقة وبعض الثواني إلى جوارها، كان وقتا كافيا لرحلة طلال من النوم إلى اليقظة. نظر بعين نصف مفتوحة إلى محادثه بعض الوقت قبل أن يستوعب أنه الآن خارج حدود الحلم في أرض جديدة انتشله لها هذا المحادث المستطرد كلامه:
- لامؤاخذة يا بلدينا انا بس حبيت اقولك اننا قربنا على استراحة وهننزل من العربية جهز نفسك بقى.
- تشكر يا زوج!
- الأخ منين صحيح؟
- طلال من سوهاج!
- يا مرحب برجالة الصعيد، أخوك عبده من بورسعيد.
- مرحبابك.
- انت لامؤاخذة جاي تشتغل ايه بقى؟
- أي حاجة!
- أي حاجة ازاي؟... انت شغلتك اصلا ايه؟... انت مش صنايعي؟
- لا يا عمنا انى فلاح جاي اشتِغِل أي حاجة... اشيل حاجة... اناول حاجة...كده يعني!
- آآآه...وماله؟... اهو كله طلوع على باب الله برده.
ينظر عبر حاجز صندوق السيارة الذي يحويهم كبضائع منتهية الصلاحية تساق لمستهلكين لا يهتمون للجودة قدر اهتمامهم بشيء يسد فراغ احتياجاتهم ولو وقف الموت خلف هذا الشيء ينتظر مرورهم إليه من خلاله.
- وصلنا أهو!
قالها عبده مشيرا بكفه المزدحم بالخواتم إلى تلك (الاستراحة) المزعومة.. بعض المقاعد والطاولات الموضوعة بشكل يخفي بعض الشيء كل قصور في هيئتها العامة، احتواها بناء هش تراوده فكرة الانتحار بشكل كبير، غير أنه بحاجة لانتظار أي ظاهرة كونية في عباءة زلزال أو رياح تعينه على فكرته.. رجل في أواسط الثلاثين يستقبل النازلين من (هيكل) السيارة، بجلبابه البني وعمامته البيضاء وضحكة صادقة بين الاثنين تلمع فيها أسنانه البيضاء قائلا:
- يا مرحب يا مرحب بالرجالة، اتفضلوا، اتفضلوا يا رجالة!
قالها وانشغل في إبراز المقاعد للجلوس، مستمعا طلباتهم مبلغا إياها لآخر واقف في ركن المكان. دقائق لم تتعدَّ الخمس، كانت كافية ليجد كل منهم مكانا له وسط (أشلاء) المقاعد:
- الرجالة تشرب ايه؟
خاطب بها طلال وعبده...
- اني هاخد كوباية شاي تجيل حبر متشوفش المعلجة جواه، عايزه شاي يتحش بالمنجل!
- يا ساتر يارب، ايه يا عم طلال مالك يا جدع الطيب أحسن، ماكانتش كوباية شاي اللي هتعمل فينا كده عالصبح!
- أني اصلي دماغي تجيلة جوي عايزة ظبطة زين.
- هو انت كده بتظبطها دانتا بتنتحر...هاتله يا عم الوجبة اللي قالها دي وهاتلي انا شاي بحليب وحجر أص!
قالها عبده مداعبا، قبل أن يعود لطلال من جديد قائلا:
- بس انت باين عليك لسه صغير يا طلال على موضوع السفر والغربة ده.
- نعملوا ايه بجى في الظروف يا عمنا!، جدرنا وراضيين بيه الحمد لله.
- ليك اخوات؟!
أتته الكلمة، فمر بذهنه شبح أحدهم يقبع هناك على مقهى العش، منشغلا بلعب القمار، إلا أنه تدارك نفسه سريعا بقوله المقتضب:
- إيوة!
- أكبر منك وللا اصغر؟
- الاتنين!
- المشاريب وصلت يا رجالة!
قطع بها رجل الاستراحة الحديث بشكل ارتاح له طلال نوعا، قبل أن ينشغل وعبده في ضبط أنفاس الشيشة، تاركين إياه يعبث بكوب الشاي (التَجيل) متأملا بنظرة خاوية دخانه المتصاعد، خافيا وراءه شريط سينمائي يلمع ويختفي بعمر الثواني، حاملة في إطاراتها صور أشخاص وأماكن مضت و... قادمة!
***
- سمعتوا آخر خبر؟
- خير؟
- بيقولك وزير الصحة سفَّر المدام مراته تعمل عملية في عينيها بره على نفقة الدولة، قامت الهانم عملت ايه بقى... صرفت 3 مليون جنيه!
- ليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه؟، بتستصلح أرض في عينيها!
قالها شاهين مصدوما قبل أن يستطرد:
- هي الناس دي ايه؟... مافيش بني آدمين جواها؟
- بني آدمين جواها؟... بس يابني ماتتكلمش عشان كل مابتتكلم باحس اني لازم اقطع علاقتي بيك!
قالها ناصر ساخرا، قبل أن يشتبك مع شاهين في مشاجرة كلامية، في حين انتبه الآخرون لحسام القائل:
- هو مش وزير الصحة ده عنده مستشفى خاص من أكبر مستشفيات البلد.
- الناس دي ماشية بمبدأ ليه ماتسرقش مادام قدامك فرصة تسرق!
- على رأيك!
- سيبكم من كل ده سمعتو بقى آخر خبر بجد؟
- خير... ايه كمان؟!
- مدوُّا العمل بقانون الطوارئ سنتين!
شافعي كان القائل، والجميع من رواد الحجرة غريبة الأطوار كانوا المستمعين.
- شيء متوقع قبل انتخابات البرلمان الجاية.
قالها شاهين، يأتيه رد كيمو على مسافة قريبة:
- ليه يا خبير؟
- لسه بتسأل ليه بعد كل اللي بيحصل؟...عشان يخوفونا ويخوفوا الناس من أي مشاركة، تسويد زي كل مرة، بس المرادي خصوصا عايزينها باكتساح لنواب الحزب الوطني، يا راجل داحنا مش ناقص غير اننا نلاقي ميتين ليهم أصوات في الصناديق.
- واشمعنى المرادي خصوصا؟!
- عشان المرادي هي اللي هتفتح الباب لجمال يمسك مكان ابوه في الانتخابات الرئاسية الجاية، نسيتوا المادة 76 وللا ايه؟
- أقسم بالله انا ما فاهم أي حاجة.
قالها ناصر بنبرة أثارت ضحك الجميع حينا، قبل ان يستمر شاهين في حديثه قائلا:
- المادة 76 بتقول ان عشان حد ينزل انتخابات رئاسة لازم يحصل على 250 صوت من نواب مجلس الشعب ومجلس الشورى والمجالس المحلية، وطبعا ده مش هيبقى متاح لأي حد غير مرشح الحزب الوطني صاحب الأغلبية الكاسحة في المجلسين والمجالس المحلية، اللي هو ولي العهد اللذيذ جيمى بيه!
- سمعتهم فين يلا يا شاهين الكلمتين دول؟
- في هذه ليلتي يا خفيف.
عمت بعض الضحكات أرجاء المكان إثر المناوشات الكوميدية بين الأصدقاء، قبل أن يعود شافعي بدفة الحديث إلى الجدية من جديد قائلا:
- كلام مقنع بصراحة ولو اني حاسس ان أصلا الحزب الوطني مش محتاج يعمل كل الليلة دي بعد خطة ابليس اللي عملوها في انتخابات 2005!
- خطة ايه؟
- الحزب الوطني سمح ببعض الحرية في انتخابات 2005 بمزاجه طبعا، حرية مصطنعة هو حاسب نسبتها بالظبط في الخلطة قد ايه، وطبعا ده كان نتيجته ظهور كبير للإخوان في البرلمان بصفتهم أقوى معارضة منظمة موجودة في الشارع، بالإضافة طبعا لمعارضين من أحزاب تانية ومستقلين، لكن بص كده بقى على اللي حصل من 2005 لحد دلوقتي.. الحكومة ماوفرتش إمكانية لأي نائب من المعارضة سواء إخوان أو غيره انه يقدم أي خدمات أو مصالح المواطن يقدر يلمسها، مع العلم انها وفرت ده بشدة لنواب الحزب الوطني، وطبعا المواطن الغلبان مع الوقت حس ان اللي بيخدمه صح وقلبه على مصلحته صح نواب الوطني مش حد تاني، وسنة سنة المواطن فقد الثقة في الكل ماعدا ابن الدايرة رمز الهلال والجمل!
- عايز تقول ان الحزب الوطني مرتب كل القصة دي لجمال من 2005؟
- ومن قبل كده بكتير... وبكتير قوي كمان. مبارك؛ أو بمعنى أصح الست هانم مراته اللي افتكرت نفسها شجرة الدر، سخروا كل إمكانيات الدولة من قضاء وإعلام وشرطة للهدف ده، و كل الظروف مساعداهم.. غياب ضمير الإعلام، فساد القضاء والشرطة، وغباء وضعف المعارضة، والأهم من كل ده التغييب الكامل للشعب اللي بيتوهوه في دوامة أكل العيش اللي خلت كل واحد يشتغل شغلانتين عشان يكفي بيته وبالتالي مايلاقيش وقت يفكر في أي حاجة تانية من ناحية، ودوامة التسطيح الفكري والثقافي اللي خلت قمة المتعة والفرحة عندهم ان عمرو زكي يجيب جول في الجزائر من ناحية تانية!
- طيب مادام بقى النظام وصَّل الشعب للدرجة دي من التفاهة والتسطيح ايه يخليه يلف كل اللفة دي ويخطط كل التخطيط ده عشان يوصل جمال للرئاسة؟ ماهو ممكن يعملها بمنتهى البساطة زي ماعملها قبل كده في كل انتخاباته وكانت هتعدي زي غيرها بدون أي مقاومة يادوب شوية معارضة هيعلا صوتهم هيترموا في المعتقلات وانتهينا.
- الموضوع مش بالبساطة دي، موضوع الرئاسة ده بالذات له أبعاد تانية، لاحظ انك بتتعامل مع مجتمع دولي فيه قوى عظمى كتير يهمها تبقى متطمنة على مصالحها مع الرئيس الجاي، عايزة تشوفه جاي من غير مايكون فيه اعتراضات كبيرة عليه من جوه البلد تعمل قلق يهدد مصالحها وفلوسها اللي المفروض هو بيحميها، على الأقل في بداية فترة توليه لغاية ما يبدأ يفرض سيطرته ويمسك أدوات البلد كلها في ايده ويحققلهم هم الاستقرار...على حسابنا!
- ده احنا سعرنا رخيص قوي...رأينا سد خانة...دِوَل وحكومات تانية هي اللي بتحدد مصيرنا واحنا قاعدين نتفرج عالمسرحية مستنيينهم يعطفوا علينا بقرارهم!
- ياريتنا حتى بنتفرج، دول كتَّر خيرهم بيفرجونا على آخر مشهد بس بالعافية!
- بقولك ايه يا كيمو سمعنا حاجة كده الله يكرمك نغير جو الاكتئاب ده شوية!
قالها شاهين، منتشلا الجميع من حالة الإحباط التي حوتهم عقب كلمات شافعي، فما كان من الجميع الا أن تداخلت أصواتهم بكلمات عدة تدور كلها في فلك تأييد الفكرة، يلوذون بأوتار العود وأحبال صديقهم الصوتية من تلك الدائرة السياسية المغلقة، التي يتوهون فيها كباقي شعبهم، منذ وعت عيونهم الحياة وما فيها ومن فيها.
التقط عوده في هدوء معتاد، أجلسه على قدميه كطفل صغير لا يستكين إلا في حضن أمه، مال برأسه المثقل بشعر أضاف إلى رأسه ضعف حجمها على الأقل، أغمض عينيه المختبئتين خلف نظارته السوداء الضخمة، عازلا نفسه عن كل ما يصله بإزعاج العالم على الجانب الآخر من زجاج النظارة، بادئا في مداعبة طفله الخشبى بعصاه الصغيرة:
- ثم ثم
بدأ بها، فتجاوب معه الحضور بتصفيقهم المنتظم مرددين خلفه:
- ثم إيـــــــــه؟!
- ثم عاااااش
- ثم ضايقوه في المعاااااااش
- ثم تاه يومها ومجااااااش
- ثم لقيوه في القرااااافة
- آآه يا عيني في القراااااااافة
- تن تررن ترارارارارااان
- ثم ثم
- ثم إيـــــــــه؟!
- ثم تاااااه
- ثم كارهاااه الحيااااااة
- ثم موصلش بطريقه لمنتهااااااه
- ثم حكِّمنا الهياااااافة
- آآه وحكمتنا الهياااااااافة
- تن تررن ترارارارارااان
- ثم كاااان
- ثم ذات مرة زماااااااان
- انه لما جالنا ضيف
- ماديناش حق الضيااااافة
- آآه وكرهتنا الضياااااافة
- تن تررن ترارارارارااان
- ثم شاف غربة في بلااااده
- ثم حرموه من ولااااااااده
- ثم شككنا في جهااااااده
- ثم زودنا المسااااااافة
- آآه وطالت المساااافة
- تن تررن ترارارارارااان
- ثم مااااات
- ثم دفنوه من سكااااات
- ثم طلعوا عالشاشااااات
- يجنوا بدماه الصرااااااافة
- آآه يا خسارة الصراااااافة
- تن تررن ترارارارارااان
- ثم لما كان معانا حبناااااااه
- ثم لما جينا نرحل عدِّيناااااه
- ثم كان البخل حتى بكلمة حلوة مالشفاااااااه
- ثم عن دمه حكينا زي تجار الثقااااااااااافة
- آه يا حسرة عالثقاااافة!
- تن تررن ترارارارارااان
***
- مكانك!
سمعها وسط الظلام آتية من فم التهمته العتمة تماما.. أوقفه الخوف السارية قوافله من أذنيه عبر عينيه المفتوحتين عن آخرهما، إلى كل كيانه الذي أحكمت الرعشة قبضتها على أطرافه، ثبتت أقدامه مكانها كأنها المشدودة إلى جذع يضرب في الأرض لأميال، في حين تولت عيناه مسئولية الحركة إلى اليمين، حيث لمع من حفنة الظلام شبح تسبقه لمعة نارية، هي في الغالب لسيجارة تستعد للفظ الرمق الآخير.
- فلوسك وساعتك وموبايلك وحالك ومحتالك وحاجتك ومحتاجتك واللي معاك واللي مش معاك يبقوا قدامي في نص دقيقة بدل مااقدم روحك على طبق فضة لدود الأرض اللي انت واقف عليها.
قالها وأتبعها بمطواة يلمع بريقها أمام عيني الشاب الذي خاطبه، مما أضاف على المشهد الكثير من دراما لم يكن الشاب في حاجة لها ليقتنع أن في الأمر مشكلة ما. قال في تلعثم سمح للقليل جدا من كلماته بالخروج متعثرة في حروفها:
- والله...والله ما معايا غير فلوس أروح بيها...و...و مفيش موبايل معايا!
- تؤتؤتؤ، كده احتمال كبير أزعل منك وده مش حلو عشان مستقبلك الدراسي والوظيفي.
قالها (عمدة) في لهجة عربية ركيكة كعادته، زادت من توتر ضحيته الذي قال:
- والله...والله مابكدب عليك... حتى بص!
قالها وأخرج من جيبه بعض النقود التي لا تتعدى خمسة جنيهات في تعدادها، مما دفع (عمدة) لإمساكه من (ياقة) قميصه بقوة كادت تمزقه، مقربا إياه من وجهه رافعا مطواة إلى طرف القميص يمزقه قائلا:
- طب كده بقى انا مضطر آخد إجراءاتي، تصحبك السلامة!
جملة أعقبها بعدد لا بأس به من اللكمات، التي صاحبتها مطواة تستدعي تأوهات الشاب إلى الخروج، حتى تملك الملل عمدة، فتركه غارقا في جروحه وتأوهاته، منصرفا إلى ضحية أخرى تكمل فصلا آخر من مسرحيته الليلية الهزلية تلك... لم ينس بطبيعة الحال مصادرة الجنيهات الخمس!
*** -
رغم أن العزلة باتت البرواز الأضخم في حائط حياته، إلا أن عزلته بين تلك الجدران كانت ذات طابع مختلف بعض الشيء، عزلة مقيتة بلونه الرمادي المفضل، ربما لأنه مجبر عليها. بنو آدم لا يسخطون على الأمور التي من صنعهم مهما كانت نتائجها، على كل حال. حجرة ذات سرير حديدي أبيض، استقبل عبر سنوات الكثير من أجساد أسرها المرض خلف قضبانه، يجاوره عمود رفيع يحمل في نهايته محلولا طبيا يصل شرايينه بالحياة، شرفة ضيقة ذات ستار بنفس الدرجة من اللون الأبيض المسيطر على أركان المكان بشكل يبعث على الاكتئاب أكثر منه على الأمل، تلفاز صغير ذو إطار أسود يجعل حضوره مميزا بعض الشيء وقد ارتكز على قاعدة هوائية من المفترض أن يربطه بذلك المفترش سريره ريموت صغير لا يذكر أنه التقطه أو حتى أحس بوجوده حتى الآن، رغم مرور أكثر من أسبوعين عليه خلف هذا الباب الذي يحمل في الخارج لافتة يسكنها الرقم (4)!
الجليس الوحيد الذي ارتاح لوجوده كان قلما وبعض الأوراق، رغم الكثير من الكشط الذي استعمر أغلب مساحات أوراقه، إلا أن لمسة من الارتياح احتضنته لوجود مستمع يتلقى إزعاج أفكاره، حتى ولو كان المستمع... بعض السطور البيضاء!
- إبراهيم!
التفت للصوت المألوف لدى أذنيه، فرفع رأسه عن أوراقه ناظرا نحو مخاطبته دون رد، مكتفيا برد العينين.
- أصحابك في الكلية جايين يزوروك!
قالتها الأم وأفسحت الطريق للزائرين، غير عابئة باستغراب ولدها الذي ظلَّ نظره مركزا على الباب، منتظرا الكشف عن هوية القادمين وهو غير المتوقع زيارة أحدهم:
- هيمـــــــــــــــــــا... ألف سلامة عليك يا عم!
قالها معتز أول الحضور، يتبعه الباقون بكلمات التمني بالشفاء، أعقبوها بسلام اليدين ثم الجلوس حوله متحلقين، كأنه من خاصة أصدقائهم..
- ألف سلامة عليك يا هيما إن شا الله كان ناصر بدل ماهو قاعد مالوش لازمة في الدنيا كده.
قالها شاهين تتبعها ضحكات الحضور، وأولهم ذلك المريض في المنتصف. يأتيه رد ناصر:
- انا لو رديت عليك هاعتبرك بني آدم، اللي يشوفك كده يقول انك تالت أهم واحد في مصر.
- تالت أهم واحد؟... ايه الإفيه ده؟... امسح رقمي من عندك بسرعة!
من جديد علت الضحكات، التي قطعها قول شافعي لإبراهيم:
- ألف سلامة عليك يا إبراهيم، كده برده نعرف انك تعبان بالصدفة؟
- الله يسلمك يا شافعي، معلش بقى الحمد لله، تعبتو نفسكو بس!
- ماتقولش كده يا عم إبراهيم هو احنا عندنا اعز منك، وبعدين أهي فرصة ناصر يخس شوية بدل ماهو خلاص داخل على النص طن كده!
من جديد عاد شاهين لمداعباته التي بادلها ناصر بمثلها وسط قهقهات الجميع:
- أخباركم وأخبار الكلية ايه يا شباب واحشنني والله!
- كله تمام والله زي الفل مش ناقصها غيرك بس، يلا شد حيلك انت كده بس وارجعلنا بالسلامة.
- الله يسلمك يا معتز ربنا يخليك.
- الدكتور قالك ايه؟
- قال ان فيه خُرَّاج على الكلى اليمين وهاعمل عملية ان شاء الله يوم الأربع الجاي!
- ان شاء الله تقوملنا بألف سلامة، وماتقلقش من ناحية المذاكرة والامتحانات والكلام ده احنا ان شاء الله هنجمعلك كل اللي فايتك ونذاكرهولك كمان لو حبيت!
- ربنا يكرمكو يا رجالة والله مش عارف اقولكم ايه!
- ولا تقول حاجة... تقول يلا اتفضلوا بقى من غير مطرود عشان اعرف أرتاح.
- يا خبر أنا اقدر بردو؟ دانتوا منوريني والله!
- يا عم إبراهيم منورين ايه بس بالمنظر اللي انت شايفه على يمينك ده؟، ده لو شافوه وهو داخل معانا من باب المستشفى كان زماننا كلنا في القسم بتهمة إتلاف ممتلكات عامة... اتكل على الله واطرده يا راجل بلاش كلام فارغ
قالها شاهين مشيرا إلى ناصر من جديد، متبعا إياها بضحكة تاهت وسط ضحكات الحضور بما فيهم ناصر، الذي بادله قفشاته بمثلها، لحين أنهى شافعي الأمر برمته قائلا:
- يلا يا رجالة عشان نسيب إبراهيم يرتاح بقى.
- والله انتو منوريني رايحين فين؟
- يادوب كده بقى وان شاء الله كل يوم حد مننا هيعدي عليك يشوفك لو محتاج أي حاجة ويجيبلك كل الورق اللي فايتك.
- أنا فعلا مش عارف اشكركم ازاي!
- ادعيلنا بس دعوة المريض ربنا بيحبها.
- ربنا يوفقكم يارب ان شاء الله لكل خير!
انصرف بعدها الجميع مودعين صديقهم المريض، الذي ظل متابعا إياهم بنظره حتى خروج آخرهم من الباب الخشبي الأبيض، وفى ذهنه تتصارع الكثير من الأسئلة حول هؤلاء المغادرين للتو!
***
حتى الشمس لم تكن في حالة مزاجية تسمح بسير الأمور الجوية على ما يرام في ظهيرة ذلك اليوم. بصقت حرارتها على تلك القطع البشرية المتكومة في أنحاء الصندوق الخلفي الصدئ للسيارة (التويوتا) الزرقاء المتسكعة على الطريق الأسفلتي، المعاقب لها على تسكعها ذاك بإلهاب إطاراتها بقدر من الحرارة لا بأس به. افترشوا سطح الصندوق كجثث بلا قبور تنتظر عطف أحد (الحانوتية) بتكفينها ومواراتها التراب. لم يظهر الحانوتي العطوف، ولم تظهر أكفانه، في حين اكتفى التراب بالانتشار على جانبي الطريق الذي بدا لمسافريه بلا نهاية. استمر رقادهم ما يقارب الساعتين، حتى بدأت لسعات الشمس تومض بشدة فوق وجوههم السمراء كلسعات طير أبابيل. بدأت أجفانهم تكشف سترها عن عيونهم الناعسة شيئا فشيئا، نظروا إليها بنصف عين، لائمين إياها على إفساد حفل أحلامهم، الذي لم يتعدَّ كونه بعض ومضات تبثها بواطن عقولهم من حين لآخر على مسارح نومهم المهجورة منذ حين.
(ورشة خراطة)...كان هذا حلم الاسطى محمود، الذي برر به لزوجته سفره هذا عبر الحدود، لتتوقف ولو لحين عن بكائها يوم شد رحاله إلى ذلك الصندوق، عقب طرده من مصنعه بعد خصخصته، حيث لم تشفع له مدة خدمة تزيد عن العشرين عاما، (جرشين أجهز بيهم البت سمية بنت ابني، يتيمة ومالهاش حد غيري وفلوس الدكانة مابجتش جايبة همها)...
أما هذا فكان حلم عم عوض البقال الصعيدي الذي تخطى الستين عاما، خاض الرحلة لأجل حفيدته يتيمة الأبوين، ربما لا يعلم هذا العجوز أن أمثاله بل ومن يصغرونه بأعوام في (دويلات) أخرى يجلسون على عروش الراحة منذ سنوات، ولو علم... ماذا عساه يفعل؟!
(بجرة بدل اللي غرجت في الترعة عام نوِّل)... حلم عبد الباقي وأسرته، ذات الزوجة والطفلين، بعد رحيل بقرتهم التي سخرها الله لتكون مصدر رزقهم الوحيد. أما عن ماجد خريج الهندسة، الذي رُفض تعيينه في الجامعة دون أسباب (فى الواقع كان هناك سبب ما احتفظت به إدارة الجامعة لنفسها، بعد استبداله بأحد أبناء الأساتذة) فكان حديثه الدائم لنفسه وهو المنعزل عن حديث الآخرين (مصر قالتلي لأ، كان لازم أشوف حد تاني يقوللي أيوه).
اللعنة على هذا الصندوق وحدوده!
أي قسوة تلك التي يملكها ليسجن كل تلك الأحلام في مساحة كتلك؟ أي قسوة يملكها ليُنكِّل بالحالمين وأحلامهم بهذه الصورة؟ أي قسوة يملكها ليجعل من بدائيات الحياة... أحلاما تزور أصحابها كل ليلة في مسارح المنام؟!
بكثير من التكاسل أخذوا في الاستفاقة شيئا فشيئا. البعض يفرك عينيه أملا في عودتها من رحلة الأحلام لموطن الواقع من جديد.. بعضٌ آخر يشد ذراعيه على اتساع محيطيهما، طاردا القليل الباقي من فلول النعاس في جسده. معركة طرد النوم من صندوق السيارة دقت طبولها بشدة، أرغمت الجميع على النهوض استعدادا للنزول للراحة بعض الشيء، في منطقة ظليلة نوعا ما على جانب الطريق، ترعاها بعض الأشجار التي يبدو عليها أنها تعثرت في هذا المكان يوما ما خلال رحلة تشبه رحلتهم، فتوقفت هاهنا مكتفية ببكاء أطلال أحلامها.
- عم عبد الباجي... جوم نريحو شوية في الضل بدل الشمس ديّ!
قالها طلال منبها جاره في سكن الصندوق، غير أنه لم يتلقَّ ردا على كلماته، فكررها مُزيدا من قوة دفعته له. الصمت المطبق ظل الرد الوحيد رغم كل المحاولات!
- عبده...عبدوووو... الحج يا عبده، عم عبد الباجي شكله اغمى عليه.
سمعها ذلك البورسعيدي الذي كان يستعد لمغادرة السيارة إلى الظل مثل الجميع، فعاد من جديد متوجها إلى طلال، ممسكا بذلك الفاقد للوعي متحسسا جبهته:
- يا خبر اسود ده سخن زي النار.
قبل أن يستقر بسمعه على صدره مستمعا لدقات ولو ضعيفة مازالت تستغيث بأسباب الحياة، لم يفلح في سماع شيء، فنهض مستغيثا بالجميع خارج الصندوق ممن غادروه للتو صارخا:
- شوية مية يا جدعاان، شوية مية بسرعة الجدع بيموت.
سمعها الجميع، فهرولوا من جديد صاعدين إلى حيث يرقد عبد الباقي على صدر طلال، الذي التقط الماء من أقربهم إليه واضعا بعضه في جوف ذلك الغائب عن الوعي، وماسحا ببعض آخر وجهه وجبهته، الذين زادت حرارتهما بشكل ملحوظ. دقائق اضافية لم تحمل سوى المزيد من الانتظار للا شيء، أنهاها ذلك الطالب الهندسي باقترابه من عبد الباقي متلمسا جبهته لثوان ثم مستمعا لدقات قلبه، وأخيرا واضعا إصبعه تحت منخاره يتحسس أنفاسه، قبل أن يقوم متثاقلا على قدميه، تتعلق به أنظار الجميع مطأطأ الرأس قائلا:
- البقاء لله!
كان هذا في واقع الأمر... أول شيء ينطقه منذ بداية الرحلة!
من جديد عاد الصمت يفرض سيطرته بقوة على المكان وساكنيه، وكأنها الجملة المنطوقة بموجة صوتية لم تُخلق لآذان الآدميين. اكتفوا بالنظر إليه وإلى الجثة بجواره دون تعليق خارج قاموس النظرات.. الموت بكامل حلته الحربية جلس على عرش المكان، متحديا الجميع وعلى فكيه ترتسم ابتسامة نصر، لم يفهم أي من الحضور مغزاها والخصم كان بهذا القدر من الضعف، الذي لا تلائمه تماما ابتسامات المنتصرين عليه!
- هنفضل واقفين نتفرج عالجدع كده يا جدعان؟!
- هنعمل ايه يعني؟!
- ندفنه طبعا... إكرام الميت دفنه!
كأنها الجملة التي نبهتهم لشيء غاب عن أذهانهم، بعدما أوقفت تلك اللحظات الجنائزية تفكيرهم حينا من الدهر. سارعوا إليه ينزلون جثمانه من السيارة إلى ظل قريب..
- عايز واحد معايا نغسله والباقيين يحفروا حفرة تحت الشجرة التانية اللي هناك دي عشان ندفنه فيها، بس عايزين حاجة نكفنه فيها!
- آني... اني معايا ملاية بيضا نضيفة!
قالها طلال سريعا، يأتيه الرد من عبده، المتولي تغسيله:
- حلو روح هاتها بسرعة.
ساعة فقط كانت كافية لإنهاء كل شيء. مهابة الموت فرضت السكون لغة رسمية للمكان.. رؤوس الجميع في معركة شرسة مع أفكار الرحيل.. باتوا ينتظرون المزيد من الحفر تحت ظل شجرة ما، والمزيد من الملاءات في حاجيات أحدهم تلف الجسد الراحل إلى الدار الآخرة. انتهى كل شيء سريعا، غسَّلوه، كفَّنوه، صلوا عليه صلاة الجنازة، دفنوه... ثم انصرفوا من جديد إلى ضيق الصندوق الحديدي الصدئ، يصارعون المزيد من الأحلام!
كان آخر ما توقعه أن تقترض هذه الرحلة من سنوات شيخوخته بعض سنوات، تضيفها لسنوات شبابه الذي لم يبدأ بعد!
أحلام تدهسها عجلات السيارة (التويوتا) الزرقاء على طريق أسفلتي، يبدو من قسوة حرارته أنه معتاد على استقبال الكثير من نعوش تلك الأحلام فيما مضى من السنوات. كهل يجاهد لتجهيز حفيدته اليتيمة للزواج، وقد أجهدته مماطلة حلمه له عبر سنوات، حتى بدا في نهاية الأمر أن هذا الحلم القاسي لن يرضى بسعرٍ للصفقة أقل من حياته (حتى هذا الثمن ربما لا يرضيه!).. شاب عشريني تاه منه حلمه في سراديب الجامعة وأنفاق الجهات الحكومية، فقطع آلاف الأميال بحثا عن أرض جديدة، لينتهي به الأمر جالسا في ركن صندوق صدئ شاردا على الدوام، يحادث شخصا ما مجهول الهوية بعينيه اللتين لا تغمضان إلا قليلا.. جثة رجل أربعيني لازالت محتفظة بملاءته -وستظل إلى الأبد- دُفن إلى جوار حلمه على قارعة الطريق، لاحقا ببقرة هزيلة ابتلعتها أحدى ترع الصعيد ذات يوم، وقد ترك خلفه زوجة وابنين ينتظرون.
وكأن مآسي الحياة كلها قد تجمعت في حدود هذا الصندوق اللعين؛ لم يعد ينقصه إلا بعض القبور تجتمع في جانب منه، تعطي سكانه البؤساء هؤلاء ولو أمل بسيط في... راحة الموت!
لم يكن بالتأكيد على قدر من الاستعداد يسمح له بهذا القرض الثقيل. لم يعد مستطيعا للسداد ولن يكون، يبدو أن دين شيخوخته سيظل ضيفا ثقيلا على شبابه لزمن لا بأس به. بات لسنوات سبعيناته الكلمة العليا الآن، رغم غياب مظاهرها من شيب الشعر وانحناء الظهر والاستعانة بقدم ثالثة من خشب يسمونها عكاز، غير أن حضورها القوي بلون الضباب قد فرض نفسه، رغم أنف كل الآمال!

- غلبان قوي طلال!
قلتها عقب أول رشفة من كوب الشاي الذي أعددته لي -وله مثله- في فترة راحة قصيرة من مباريات الشطرنج، معروفة النتائج بطبيعة الحال. جلسة بعيدة بعض الشيء عن ضغوط حرب الرقعة، التي رفع فيها أسود الجيشين رايته عن جدارة، معلنا استمرار فترة حكمه التي يبدو أنها ستطول. بهدوء، دون أن ينظر إليّ كما هي عادته منذ أول دقائق لقائنا، تناول الرشفة الأولى ثم أتبعها بقوله:
- قصدك كان!
- كان!... تقصد ايه؟... ماتقولش انه مات!
تلقى لهفتي ببرود مصحوب بابتسامة تلذذ بمتاعبي -كما هي عادته- سائلا:
- هي النهاية في مفهومك بتبقى موت بس؟!
- مااااااات؟!
- هتفرق معاك؟
- ممكن تبطل ترد السؤال بسؤال؟
- لأ!
- طيب!
بغيظ قلتها، أحاول يائسا استفزازه بعض الشيء...لا جديد على كل حال في رد فعله، كأن شيئا لم يكن. بات الأمر أشبه بذبابة تحاول جذب الانتباه إلى جواره، فقتلها برشاش لامبالاته، عائدا لحالة جموده. من جديد عاد لكوب الشاي، تتابعه عيناي الآملتان في عودته لقص شريط الحديث من جديد. هممت بدوري بالعودة مجددا للحديث، غير أن شيئا ما يسمونه الغرور منع الكلمات من عبور آخر محطاتها بين الشفتين للخروج.
- اتكلم!
قالها يشعل إحدى سجائره، دون أن ينعم عليّ بنظره -كالعادة- فأجبته فرحا بتطوعه لاستئناف الحوار:
- اتكلم اقول ايه؟... ماهو طول ما انت بتكلمني بالألغاز كده مش هنعرف نوصل لحاجة.
- وكل لبيب بالإشارة يفهم!
- وهي فين أصلا الإشارة دي؟... انت كل ردودك غامضة ماتديش مدلول لأي حاجة!
- ده اللي عندي... هتسمع؟!
- مستفز!
- شكرا!
- برده ماوصلناش لحل... تقصد ايه بـ"كان" دي؟
- ماتسبقش الأحداث... انا مش باحكيلك حدوتة!
قالها بنبرة زادت حدتها بطريقة مفاجئة بعض الشيء، فلذت بالصمت مهابة، قبل أن يستطرد قائلا:
- رعونتكم وتفكيركم الطفولي ده هم اللي ضيعونا!
- ضيع مين وامتى؟
- يوم العركة... اليوم اللي ضيع اللي عمركم ماحسيتو ولا هتحسوا بيهم!
لأول مرة أشعر في صوته بتلك النبرة من الانكسار!.. أكاد أجزم أن دمعة كبيرة بحجم سنوات من العذاب قد تحجرت في عينيه الناظرتين للأسفل، حجبتهما عن ناظري عدستا نظارته السوداء. لوهلة شعرت برجفة تملكتني بشكل مخيف، رجفة الرائي لقوي في وضع ضعف.. لشديد في هيئة انكسار.. شعور غريب جمع المفاجأة والشفقة والفضول. اقتربت منه خطوتين فقط، لم تسعفني شجاعتي للاقتراب أكثر على كل حال. قلت ومازال على لساني أثر صدمتي واضحا كقيظ ظهيرة:
- أنا... أنا آسف لو كلامى ضايقك... أنا... أنا كان قصدي...
أوقفت كلماتي يدُه المشيرة إليّ بالصمت، دون أن يرتفع رأسه بمقدار أنملة. دون إرادة حقيقية، توقفت عن فعل أي شيء.. انتابنى الشك للحظة أن انتظام تنفسي وتتابع نبضاتي كادا يخضعان لإشارته بالصمت خضوع لساني وقدميّ، تمثال يمتثل لأمر تمثال... هكذا كانت حالتنا لدقائق، قبل أن تقرر بعض الشجاعة مؤازرتي من جديد، فقلت بصوت أجهد تراجعه وأجهده:
- أنا... ممكن استأذن لو حابب تبقى لوحدك أو شايف ان وجودي عبء عليك... انا آسف مرة تانية لو ضايقتك... فعلا ماقصدش أكيد!
لم يرد... بدا كصورة أبدعتها ريشة فنان، تركها مكتفيا بلونيّ السواد والبياض، مقررا عدم كسوتها ألوانها، لسبب ما احتفظ به لنفسه... أظن السبب على الأرجح راجع لسادية ظهرت أنيابها جلية في بطل لوحته المسكين.
مجددا عدت للحديث، آملا في إجابة لن تظهر للنور في غالب الأمر:
- احنا ممكن نلغي الموضوع كله من الأساس، كل اللي كتبته وراك لسه ماخرجش من هنا.. كل الورق قدامك أهو اتصرف فيه زي مانتا عايز!
مرة أخرى غاب الرد!
- واضح اني ضايقتك أكتر من اللازم.. على العموم أنا كنت سعيد جدا بالفترة اللي قضيتها معاك، أتمنى تكون أحسن في حياتك الجاية ان شاء الله.. سلام!
قلتها، وهممت بالمغادرة خاطيا نحو الباب آخر خطواتي بصحبته.. فتحت الباب، ثم عدت اليه بنظري، ملقيا النظرة الأخيرة على أركان المكان... طاولة خشبية تعلوها معركة انتهت للتو فوق رقعة ذات لونين، وإلى جوارها كوبان من الشاي مازال بهما أثر المشروب الساخن، إضافة لبعض الأوراق الشاهدة على سابق الجلسات. لن أنكر تلك الرغبة العارمة في البكاء التي تملكتني ساعتها.. شعورٌ مخزٍ بالفشل، إحساس مُذلٌ بخيبة الأمل.. كم تمنيت لو ساعدت هذا الرجل بحق. كنت دائما أرى ضعفا يلمع في جوفه، رغم محاولاته الجاهدة لإظهار قوة لم يعد يملك الكثير منها، ألمح على الدوام اهتماما منه بكل كلمة أخطها، رغم إتقانه إظهار لامبالاته بأي شيء. أعلم أنه مر بالكثير... لهذا كنت هنا طوال هذا الوقت، هكذا في لحظة تبخر كل شيء، وتجمع في دمعة مازال متسترا عليها في مخبأها خلف نظارته. عليّ أن أتحلى بشجاعة الاعتراف بعدم تقدير الأمور على نحو جيد على كل حال. ربما لم أنجح تماما في احتوائه واحتواء قصته وقصة من رافقوه رحلته على نحو يروق له. هي النهاية إذن على الرغم من كل شيء؛ لم تعد تربطنا بعد اللحظة أكثر من ذكريات لبعض مباريات الشطرنج، مصحوبة ببعض الأوراق التي سأغادر دون أن أعلم حتى مصيرها!
- استنى!
سمعتها تأتيني قبل أن أغلق الباب عقب خروجي بجزء من الثانية. لم أكن املك أكثر من ثباتي منتظرا القادم من كلماته. شيء ما في كلمته بث من نوافذ صدري شعاعا لأمل ضعيف باستئناف الرحلة..
- قرَّب!
من جديد عاد للحديث، فعدت للامتثال لأوامره... اقتربت!
- قرَّب!
اقتربت أكثر!
- قرّب!
امتثالي لثالث الأوامر لم يعد يعني إلا التصاقي بكرسيه المتحرك... وقد فعلتها!
- ماتمشيش!
قالها، وفي حروفها يومض بريق الانكسار المخيف... ببطء شديد -أو هكذا رأيته حينها- أمسك بمعطفي، جاذبا إياي ناحيته، مستندا برأسه على جذعي...قبل أن يتغير ساعتها كل شيء!
- سنين طويلة وانا باتسئل بس من غير مااجاوب، عمري ما كان ليا حق الكلام غير معاك... ماتمشيش!
يا الله!.. أي مسكين هو هذا القعيد ذو السبعة وثلاثين عاما؟! كيف سمحت لنفسي ولو للحظة أن أغضب لكلمة قالها أو نظرة نظرها أو فعل فعله؟!.. اقتراب أناملي من رأسه تربت عليه للتهدئة أصابني برعشة مازلت أذكر أثرها رغم كل ما مر من سنوات. رأس تحمل الكثير من ذكريات، لا يعلم أحدٌ ما حوته داخلها من أعوام، غير الله وصاحبها الباكي ليلتها بين يديّ.
الكلمات كلها رفضت خوض المواجهة، تخلت عني جميعها، تاركة لساني يخوض معركة تهدئته وحيدا دون أدنى مساعدات قد تعين!
- ماتخافش... مش هاسيبك غير لو انت اللي قلتلي امشي!
لم يرد... استمر في البكاء كطفل دون الرابعة.. انهارت قواه تماما بشكل أفزعني. كنت على ثقة أنه الآن -خلف نظارته- يستعيد بعض المشاهد من شريط سنوات مضت. هكذا هي رأس الإنسان، تنتهز أي فرصة ترغب فيها العينان بالبكاء، لاستعارة المزيد من عبرات الماضي، تدعوها لحفل تراقصها فيه على قبور العينين وصاحبهما المسكين.
لم أشأ أن أقطع عليه خلوته بذكرياته، اكتفيت باحتضان رأسه في صدري ما يقارب الساعة، دون أن أنطق بحرف واحد. مضت بنا الليلة بكوبين إضافيين من الشاي، أعددتهما لتهدئته، بعض الممازحات ألقيها، محاولا إخراجه من حالته، يلاقيها بابتسامات متكلفة لا تعبر عن أي تفاعل، وما زالت عيناه خلف سواد النظارة تستعيد الكثير، ثم في النهاية... مباراة شطرنج كنت -على غير العادة- الداعي لها!
مازلت أذكر تلك الليلة بجميع تفاصيلها... أبدا لن تلاقي النسيان في أي من طرقات ذاكرتي... تلك الليلة التي... أصبحنا فيها صديقين!
-
ثلاث سنوات...قد تبدو للكثيرين مدة كافية لاكتساب صديق، إلا أنني مازلت غير قادر على استيعابهم بشكل كامل حتى الآن. حاجز ما لا زال يقف حائلا بيني وبينهم، لم أنجح بعد في الكشف عن هويته. صورهم دائما ما تسرح في ممرات ذاكرتي، ثم لا تلبث أن تختفي دون سبب مقنع، كأنها الأشباح. غرباء هم إلى حد كبير، إلى حد يشعرني أن قطارهم لم يمر بالكثير من محطات، كان من شأنها أن تعطل مسيرته. محطات كتلك التي ضيع فيها الكثير من شباب مصر سنوات شبابهم، في أشياء لم أفهمها حتى الآن، كانوا بحق جديرين بقيادة القطار... قطارهم الخاص البعيد عن قضبان واقعنا الأليم... الأليم جدا بشكل مخيف!
***
الرابع من يناير للعام 2011... حجرة ما!

- تونس ولعت!
قالها أحدهم الممسك بعوده، ينظر إلى الجميع بادئا مناقشة اعتادوها بينهم، واعتادتها منهم أركان الحجرة لسنوات. يأتيه الرد من أحدهم:
- زين العابدين عامل ناصح وعزل الحكومة ورخصلهم شوية أسعار... فاكرهم شوية أطفال هيلهيهم بلعبة يفرحوا بيها!
- لأ وفتحلهم اليوتيوب بعد ما كان قافله خمس سنين، صاحب واجب صاحب واجب يعني هاهاها.
- ما كان يعزمهم على نص بلاي ستيشن أحسن هاهاها
قالها ناصر ضاحكا، يأتيه الرد من قرينه متصيدا أخطائه قائلا في مرح معروف عنه:
- ايه ياض الإفيه اللي شبهك ده؟... جالك قلب تقوله ازاي؟
- خليك في حالك!
رد بها ناصر قول شاهين، وسط ضحكات الحضور، مستقبلا رده:
- يابني أنا خايف عليك، منظرك العام بالإفيهات اللي بترزعها دي مش حلو!
- يابني انت ليه مش مقتنع اني لو رديت عليك وجها لوجه كده هاعتبرك بني آدم؟!
- ده على أساس انك دلوقتي باعتلي حمام زاجل؟!
- باكرهك يلا!
من جديد عادت الضحكات للظهور، حتى أنهاها معتز سائلا:
- طب وبعدين يا رجالة؟...هنفضل نتفرج على تونس كده كتير وللا ايه؟!
- قصدك ايه؟
- اللعبة من غير مصر ماتبقاش لعبة حلوة يا صاحبي!
- ثورة؟!
- ليه لأ؟!
- الكلام في القصة دي بدأ ينتشر قوي على الفيسبوك وتويتر على فكرة!
- أديك قلتها...كلام، شوية تعليقات حماسية عشان حوار تونس ده وخلاص، مافيش تخطيط لأي حاجة!
- عندك حق، يادوب حددوا اليوم والمكان بس!
- 25 يناير؟
- آه قالك عشان عيد الشرطة!
- حلووو قوي، فرصة ننكد فيها عالغربان!
- الموضوع مش بالبساطة دي يا جدعان، احنا بنتكلم في ثورة، يعني لازم أهداف ومطالب محددة نقدمها للنظام ونضغط بيها.
- يا جدعان شافعي لما بيتكلم باحسّ ان مصطفى النحاس بيقول خطبة في مقر الوفد!
- يابني هو انت مافيش كائن حي في المكان عاجبك؟... اهمد بقى شوية!
- آسفين يا عم الشاعر، قطعنا الوحي شويتين معلش!
- أنا رأيي يا جدعان نستغل الفرصة صح. المنطقة كلها دلوقتي والعة وأنظار العالم كلها علينا، الكل مستني مصر، فرصتنا نوصل صوتنا للعالم!
- كل ده جميل، بس هنعمل ايه أكتر من اللي بنعمله كل مرة؟
- المرادي انتشارنا هيبقى في مصر كلها مش بس القاهرة، الشعب مستني بس الشرارة، الشباب هم اللي هيبدءوها وباقي الشعب وراهم.
- بس لاحظ ان أجهزة الأمن والإعلام مش بالسذاجة اللي تخلينا نعمل كل ده بالسهولة اللي انت متخيلها.
- بالعكس، النظام دلوقتي بيمر بأعتى مراحل إجرامه وغروره خصوصا بعد مسخرة انتخابات 2010 ربنا يخليلنا القضاء الشامخ قولوا آمين!
- آآآآآآآمين!
- عمر تفكيرهم ماهيتعدى كونها مظاهرة طلابية أو شبابية عادية، حلاوة روح كده قال يعني بنقلد تونس، وهنا هنضرب ضربتنا!
- الحل في الاعتصام مش بس التظاهر، وجود عدد كبير في الميادين مقيمين مابيروحوش بيتظاهروا ليل ونهار هيجهد أجهزة الأمن بشكل كبير، مش هيقدروا يسيطروا على الموضوع زي كل مرة كنا بنروح فيها، المرادي مقاومة لحد الموت!
- خلوا بالكم ان الموضوع ده لو فشل احنا مش هنشوف نور تاني!
- واحنا امتى شوفناه أولاني؟
- تعجبني دماغك يلا يا شافعي!
- طب ها هانعمل ايه بقى دلوقتي أول خطوة؟!
- هنتواصل مع كل اتحادات الطلاب في جامعات مصر والحركات الثورية والشبابية في مصر، ونتفق على النزول في كل حتة، وأولها التحرير، في نفس الوقت، عامل المفاجأة العددية هيكون له دور كبير. هنتواصل مع الكل أيا كانت انتماءاتهم.. 6 ابريل، كفاية، اشتراكيين ثوريين، إخوان، وحتى شباب مستقل، أي حد بينتمي للمعارضة، الحشد لازم يكون غير مسبوق!
- يبقى على بركة الله نقرا الفاتحة!
-
حجرتان خشبيتان...لا علاقة لهما بمسمى المبيت من قريب أو بعيد، غير أنهما تفيان بالغرض نوعا ما. مازال الشتاء يجد طريقه بسهولة للزحف إلى ضلوع الساكنين بهما، مستمتعا برؤية بعض مظاهر المعاناة على وجوه الجميع. بالغ حينها في إظهار كامل قدرته مستغلا ضعف الخصوم. يبدو أن طول معاشرته لبني البشر قد أكسبه الكثير من صفاتهم، ليجلس على كرسي المخرج خلف كاميرا البرودة، مراقبا أدوار أبطاله. أمطار لا يضم معجمها لفظ التوقف، تتسلل عبر شقوق السقف الخشبي بمهارة تتقنها.. برق يعجل ببزوغ فجر زائف، لا يلبث أن يختفي كغالبية أحلام سكان الحجرتين.. رعد له القدرة على العبث بساعات نوم سامعيه مهما علت بهم درجات النعاس.. رياح احتفظت في قلبها ببعض الرحمة، فاكتفت بإفساد نومهم دون اقتلاع الحجرتين، من بين الرقود قام متكاسلا، بعدما فشل في مقاومة رغبة ملحة في التبول. بقدر الأمكان حاول تلاشى الخوض في الأجساد المتكومة في أركان الحجرة، غير أن محاولاته لم تسلم من بعض الفشل، تجسد في تأوه أحدهم من أثر اصطدام قدم السائر بقدمه، أو تألم آخر من أثر وقوع كفه تحت خطوته. بصعوبة وصل لمبتغاه، كما هي عادته في كل شيء أراد الوصول إليه -إن وصل-، فتح باب الحجرة، ملاقيا زوبعة كانت كافية لعودته من جديد إلى بيوت العش، قاومها بقدر استطاعته، خاطيا إلى فراغ يقع خلف الحجرتين لقضاء حاجته. بهدوء الكسالى المشتاقين للنوم خطى بعض خطوات إلى هدفه، وذراعاه يحتضنانه اتقاء لبرد يهزأ بالذراعين وصاحبهما، بمزيد من ضحكاته مسقطة الأمطار وبين نابيه تلمع ومضات البرق.
- إسرائيل!
اختطفته الكلمة من كسله بطريقة أفزعته، سمعها عند مروره بباب الحجرة الثانية، مبيت المعلمين فخري ويونس، اللذين انفردا بها لنفسيهما تاركين البقية جميعا في أولى الحجرتين. اقترب قليلا من الباب، الذي لا تسمح امكانياته بحجب أي شيء. الكلمات كلها الآن تنتظر أذن طلال الملصقة بالباب:
- هي اللي بتمول المشروع ده ومحتاجين عمالة كتير، أبو خالد كلمني النهارده وطالب 30 واحد.
- بس دي مافيهاش خطورة يا معلم؟
- خطورة من ايه لا سمح الله؟...وبعدين الفلوس تهون أي حاجة يا عمنا، على كل حال ماتقلقش ابو خالد هيسهلنا العبور من الشمال للجنوب بطريقته.
- مش عارف!
قالها ذلك المتردد فاركا ذقنه، يأتيه رد محادثه:
- احنا بقالنا هنا دلوقتي شهرين في الهوّ شغالين ليل نهار لما العمال اللي معانا خلاص بيموتوا وفي الآخر ملاليم بناخدها...غربة بغربة يبقى على الجنوب بقى.
- بس حكاية إسرائيل دي بصراحة تقلق حبتين!
ابتسم الآخر ساخرا يقول:
- تقلق!... جرى ايه يا معلم يونس ماتقوم تغنيلنا الحلم العربي أحسن؟ احنا من امتى بنقلق؟، احنا مالنا اسرائيل وللا المريخ حتى؟... ده شغل... بيزنس، بنشتغل ونقبض فلوس على شغلنا ان شا الله حتى نقبضها من الجن الأزرق!
(ملحوظة:: غياب التواصل بين المبادئ والقيم، التي أهلكتها سطور الكتب ذكرا من جانب وحياة العمل والتطبيق في ساحات الواقع من جانب آخر، هو أول خطوات سقوط أي أمة... ولنا في ضياع الأندلس ودولة العباسيين عبرة... إذا كان لنا أن نعتبر!)
استمر صمت يونس دون رد، فما كان من فخري إلا أن استغل تردده بحنكة يتقنها قائلا:
- الموضوع مش محتاج تفكير يا معلم، الشغل موجود والعمال موجودين والفلوس موجودة، يبقى ناقص ايه؟...داحنا حتى نبقى بنرفص النعمة.
- طب وهنعمل ايه مع العمال هنقولهم ايه؟
- يا عمنا دول ماتشيلش همهم دول ولا فاهمين أي حاجة، دي عالم جاية تجري ورا أكل عيشها مالهومش دعوة بأي حاجة تانية. وبعدين هم هيعرفوا منين؟...يا رجالة احنا خلصنا شغل هنا وبعد بكره ان شاء الله هنسافر نشتغل في مشروع تاني... بس كده!
- بس ده فيهم متعلمين!
- متعلمين؟...هآآو، سلملي عالمتعلمين، يا عم دول زي مابقولك ناس جاية تاكل عيش، وبعدين احنا قلقانين من ايه؟، اللي مش عاجبه مع السلامة يوريني هيرجع ازاي خلي الصحرا تاكله.
- شايف كده؟
- مافيش حاجة اصلا تتشاف غير كده، صلي عالنبي كده وقول آمين. العملية أسهل بكتير من اللي في دماغك، بكره لما تشوف منظر الفلوس هتهوي دماغك من كل ده.
لا يذكر أن قدماه مرتا بمرحلة من الثبات مثل مرورهما تلك الليلة، إذ ظلتا تحملانه رغم كل ما سمعه.. بعسر بالغ نجح في السيطرة على نفسه، عائدا إلى الحجرة التي جاء منها باحثا في الظلام عن أحدهم يناديه بصوت لا يكاد يظهر:
- عبده...عبده!
لم تأته الإجابة بطبيعة الحال، حتى وصل اليه في الفراش المجاور له (إن صح أن نطلق عليه فراش)، نكزه بيده في كتفه قائلا:
- عبده، فوج يا عبده!
- ......
- عبدوووو
- ايـــــه؟... ايه يا طلال؟، حرام عليك دانا ماصدقت نمت!
- نوم ايه دلوك جوم فيه مصيبة!
سمعها عبده، فارتكز على مرفقيه قائما يغالب نعاسه، قائلا لطلال:
- مصيبة ايه لا سمح الله خير؟
- لا تعالى معايا بره ماهينفعش احكيلك هنا!
- بره فين في الجو ده اتقي الله في عضمي!
- جوم يا عبده الله لا يسيئك الموضوع ماهيستحملش!
رغما عنه قام عبده متكاسلا يتكئ على طلال، في حين انشغل طلال بجمع حاجياته جميعها في حقيبة صغيرة، ينظر إليه عبده مستغربا:
- انت بتعمل ايه؟
- هالمّ خلجاتي!
- ليه لا سمح الله ضايقناك في حاجة وقلت تخاصمنا؟... مالك يا عم الحج انت اتجننت ياض يا طلال ولا ركبك عفريت ولا ايه؟
- هتعرف كل حاجة لما اجولك اللي حُصُل... تعالى ورايا!
قالها ثم قام يجر رفيقه من ذراعه إلى الخارج، يختبئان خلف جدار الحجرة الجانبي البعيد عن الأعين. دقائق فقط كانت كافية لينقل طلال لعبده ما سمعه، يستمع رد صديقه:
- طب وانت ناوي على ايه؟
- كيف مانتا شايف، هامشي!
- تمشي!... تمشي تروح فين يا بني آدم هو انت في المولد؟، احنا في صحرا!
- ماتخافش اني عارف السكة اللي هتوصل لحد الطريج بره!
- لا إله إلا الله، يابني هو انت رايح تركب دايري منيب؟!... انت في بلد تاني لو تهت ماحدش هيسأل فيك!
- احسن مااروح لولاد الكلب دول برجلي، ربك هيسهلها مادام سبتهم عشانه، اني مش هاجولك تعالى معايا ولا اجبرك تسيبهم وتسافر، بس خلي بالك من نفسك معاهم يا عبده!
الجملة الأخيرة نالت من خجل ذلك البورسعيدي الكثير، فنظر للأرض حينا قبل أن يقول:
- أكل العيش مر يا صاحبي، لو عندك كوم عيال مش لاقيين اللقمة كنت فكرت ألف مرة قبل ماتمشي.
(ملحوظة: لعل أكبر جرائم الحكام عبر التاريخ كانت وستظل حرمان شعوبهم من أساسيات الحياة، بشكل يجبرهم على البحث عنها في أراضٍ أخرى، بما يجيز التضحية بأي شيء مهما بلغت قيمته)
دقائق من النقاش الحاد بين الصديقين، لم تزد طلال إلا إصرارا على الرحيل، انتهت بقول عبده:
- يعني خلاص مافيش فايدة؟
- سيبها لله يا صاحبي... اشوف وشك بخير!
- لا انا هاجي اوصلك لحد الطريق بره.
- لا لا ماعايزينش حد يحس بحاجة انا عارفه زين!
- والله ما يحصل هاجي معاك يعني هاجي معاك!
- بالله عليك يا عبده ماتتعبني معاك، اعتبره يا اخى آخر طلب هاطلبه منك قبل ماامشي.
بصعوبة لبى عبده رجاء صديقه، قبل أن تجمعهما نظرة طويلة، استرجعا فيها الكثير من ذكريات شهرين.. طلال يدندن بلهجة صعيدية، وخلفه عبده يردد بلكنة بورسعيدية، والجميع من ورائهما يصفقون.. طلال يشق الأرض بفأسه لأمتار تحت الأرض، وعبده يحمل قصعة المونة، قبل اجتماعهما للغداء برغيف وقطعة جبن يتبعهما كوب شاي، للأجواف الملتهبة من جراء العمل بالساعات.. طلال يرقد ليلا وعبده إلى جواره، في حجرة خشبية تتسع رغم ضيقها لأحلام الكثيرين، يتهامسان بأحلامهما التي هجرتهما قديما في وطنهما وجاءا ينقبان عنها في هذه الأرض. الكثير والكثير من صور مرت بالرأسين، الشاهدة عيونهما اللامعة بالدموع الآن كلمة النهاية، تختم مشاهد الفيلم المبكي الجميل. بتلقائية نقية جمعهما حضن واحد طويل، لم تُنطق معه الكثير من الكلمات.. دقائق إضافية أنهاها طلال بالتقاط حقيبته، ناظرا لعبده النظرة الأخيرة منطلقا إلى... حيث لا يعلم!
ظل عبده متابعا إياه بنظره حتى اختفى عن ناظريه، فعاد من جديد إلى الحجرة لا يستطيع السيطرة على دموعه، مفضلا الانفراد بها في فراشه، غير مدرك لذلك الشاب خريج الهندسة المستمع للحديث من بدايته، خلف النافذة القريبة من الصديقين. ظل على حالة من الجمود متابعا طلال ومغادرته بعينين تلمعان ببريق عبرات توخز مقلتيه، وفي ذهنه أصوات بدأت تخفت شيئا فشيئا لنشيد وطني وقف له مرات محييا في مدرسته، باحثا في الأفق الشمالي عن أي اشارة تدفعه للعودة، غير أن شيئا لم يظهر، تاركا اياه لبراثن الحجرة التي سيغادرها في غضون يومين لأحد مشروعات الجنوب!

رُدُّوا إلى أمي القميصَ فقد رأت *** مالا أرى مـن غـربتي ومــرادي
وطــــنٌ بخيلٌ باعني في غفـــلة *** حيــن اشتـرتـــه عصابـة الإفسادِ
شاهدت من خلفِ الحدودِ مواكبا *** للجوعِ تصرخُ في حـمـى الأسيادِ
مـــا بيــن عمرٍ فــرّ منـس هاربا *** وحــكايةٍ يــزهـــو بــهــــا أولادي
كلُ الحكايةِ أنــها ضاقـــت بنـــا *** واستـــسلمــت للــصِّ والـقـــــوَّادِ
فى لحظةٍ سكـنَ الوجود تناثرت *** حولي مـــــــرايا الموت والميلاد
قد كان آخر ما لمحت على المدى *** والــنبضُ يــخبو.. صورة الجلادِ
قد كان يضحك والعصابة حوله *** وعلى امتدادِ النهرِ يبـكي الــوادي
وصرختُ والكلماتُ تهربُ من فمي *** هـــــذي بلادٌ.. لم تعد كبــلادي!
(فاروق جويدة)

دعهم يحلمون، لا يعلمون أنهم بحلمهم لا يضيفون لحياتهم إلا مزيدا من التعاسات، فليس هناك أتعس من مصري ذي حلم!
كنت أعلم أنهم هناك.. لم يداخلني في هذا شك قط، لن تكتمل حلقة هذا الميدان الكبير بدونهم بأي حال، بل إني أكاد أجزم أن تلك الحجرة هناك كان لها دور بارز فيما تكتبه الآن يد التاريخ، في الفصل الخاص بتلك الدولة المسكينة في وسط خريطة العالم. أستشعرهم بحضورهم الكامل من مرقدي هذا فوق سرير أحد المستشفيات اللعينة، أسمع ضحكات شاهين وناصر، أرى مناظرات شافعي ومعتز، أطرب لعود كيمو، وأهز رأسي متأثرا بأبيات حسام.. أقوياء رغم كل شيء، كما عرفتهم طوال ثلاثة أعوام. أخبار القنوات تتابع من حين لآخر رصد أسماء الضحايا، دون أن تضم القائمة أحد أسمائهم... حتى الآن.
لا يبدو أنني سأغلق هذا التلفاز اللعين، الذي لا يتوانى عن بث الرعب في قلبي من آن لآخر، حين تظهر شاشته الحمقاء أحد مشاهد الصراع في اليومين الأخيرين. مهلا، لماذا يبدو عليَّ الاهتمام بشيء ما الآن؟! أي شعور جديد هذا يطرق أبواب صمتي المغلقة منذ سنوات؟! هل كان الميدان أم ساكنوه؟... أم كلاهما؟!
لا أعلم ولن أهتم، يوووووه.. لتذهب هذه الممرضة السمينة التي أسمع وقع أقدامها الآن تقترب إلى الجحيم، إحدى الإبر في طريقها الآن لشك ذراعي المريض، سأغيب قليلا يا رفاق ثم... أعود!

- الداخلية خدت علقة انما ايه لووووووز.
قالها عرفة لصديقه المنشغل بإحدى سجائره ضاحكا يستطرد:
- العيال بتوع التحرير علموا عليهم جامد قوي. ده بيقولك فيه ظباط اتنكروا في لبس حريم عشان يهربوا من الاقسام قبل ماتولع هاهاهاها.
- يستاهلوا ماهم ياما عملوا فينا.
قالها عمدة يتحسس قفاه، وبين شفتيه لازالت سيجارته تخوض معركتها مع رئتيه مستطردا:
- عارف يلا يا عرفة، أنا لولا اني مش فاضي كنت نزلت علمتلي على كام أمين شرطة وكام ظابط مع العيال دي وأولهم محمود بتاعنا اللي فاكر نفسه وزير الداخلية ده.
لم يكد يكملها عماد، حتى انتبه لصوت أغنية هابطة تنير هاتفه. تناوله، فإذا باسم يظهر على شاشته انتفض له قاعدا من رقاده قائلا:
- محمود باشا، والله لسه في سيرة جنابك بالخير يا باشا، ايه؟... أوامر يا باشا حالا، مسافة السكة هاكون عند سعادتك، عارفه عارفه اللي عند المزلقان القديم، ماشي يا باشا ألف سلامة.
قالها وأغلق هاتفه قائما يرتدي معطفه:
- في ايه على فين داحنا لسه بنبدأ الليلة.
- خليك زي مانتا جايلك على طول، فيه مصلحة هاخلصها مسافة السكة وجاي.
الظلام كان اللغة الرسمية للمكان.. تلك البقعة المنسية إلى جوار مزلقان سكة حديد مهجور منذ سنوات. بين الظلام وأكوام الأخشاب والحجارة، كان شبحه هناك تلفه هالة عمود الإنارة الباهت المنعكسة على معطفه الأسود الطويل. سيجارته اللامعة، وحذاؤه الكلاسيكي الأسود أكملا صورة نجم أفلام الحركة الأميريكية، غير أن ضيفا جديدا حلَّ على تكوينه لم يعرفه قبل الآن... الخوف!
اقترب منه عماد وعلى وجهه ابتسامته الزائفة المعروفة للجميع:
- باشااااااا
- وطِّي صوتك يخرب بيت أمك!
- احم عدم اللامؤاخذة يا باشا أنا اصلي مشتاق وعندي لوعة سيادتك.
- سيبك من الهطل اللي بتقوله ده واسمعني.
- أؤمر يا باشا.
- طبعا انت عارف اللي بيحصل في البلد دلوقتي!
- معلش يا باشا شدة وتعدي.
قابلها محمود بزفرة تعكس مقدار غضبه مستطردا:
- العيال اللي في التحرير دول كلهم قابضين من بره عشان يخربوا البلد، منظمات بره مصر عايزة تضيع البلد وتخربها وتهد كل مؤسساتها مؤسسة مؤسسة!
- عدم اللامؤاخذة يعني يا باشا عشان ابقى فاهم معاليك ومتابع معاك، مش مؤسسة دي اللي بيركبولها من تحت الكوبري في المنيب بجنيه ونص؟!
لم يملك وقتها ذلك النقيب ردا أكثر من سلاحه يشهره في وجه محادثه، قائلا وعلى وجهه غضب يجاهد في السيطرة عليه:
- لو سمعت صوتك تاني قبل مااقولك اتكلم هافرتكك أنا مش ناقص.
- .....
- العيال دي زودوها جامد ولازم يقفوا عند حدهم.. كده حلو قوي عليهم طلعولهم شوية في التليفزيون والناس صقفولهم والمسرحية خلاص لازم تنتهي على كده.
- .....
- لأ ماهو أنا مش واقف مع واحد أخرس، مش عايز غباوة.
- يا باشا مانت اللي قلتلي مااتكلمش، سبحان الله.
من جديد ظهرت زفرة ذلك الضابط، مستطردا حديثه متغاضيا عن أي استفزاز من شأنه أن يعيقه:
- من الآخر كده العيال دي لازم يروحوا بيوتهم، واحنا اللي هنروحهم، وعشان كده قلتلك تعالى، مفهوم؟
- ازاي يا باشا؟...هنجيب ميكروباصات منين لكل البشرية دي هي الحكومة ناقصة مصاريف؟
لم يملك محمود ردا الا رفع مسدسه من جديد إلى رأس عمدة الذي قال:
- الله الله الله، استهدى بالله يا باشا اخزي الشيطان السلاح يطول، ماهو أنا مش فاهم سعادتك يعنى هنروحهم ازاي؟
- بطريقتنا، احنا هنعرف نروحهم، من الآخر كده هنروحهم بالعافية.
- ممم، مش عارف ليه يا باشا مش مستطعم الحوار ده.
- طب لما يجيلك نفس وتستطعمه بقى يا روح امك ابقى كلمني.
قالها محمود في غيظ وهمَّ بالانصراف، قبل أن يستوقفه عمدة من جديد:
- استنى بس يا باشا ماتبقاش خُلقي كده الكلام أخد وعطا.
- أنا ماعنديش وقت اضيعه معاك، ايوة ولا لأ؟
- طب انا مطلوب مني ايه بالظبط؟
- هتعرف كل حاجة في معادها، أهم حاجة دلوقتي جهَّز نفسك وتعالالي بكره الساعة تسعة في المكان ده.
قالها وناوله ورقة صغيرة بها عنوان ما، تفحصه عماد قليلا قبل أن يقول:
- طب عدم اللامؤاخذة يعني يا باشا المصلحة دي خميرتها عاملة ازاي؟
- هتاخد اللي انت عايزه بس لما تخلص، ولو خلصت زي ماحنا عايزين هتشوف العز اللي عمرك ماشفته.
- يبقى على بركة الله نقرا الفاتحة سعادتك.
- اقراها لوحدك أنا مش فاضي!
***
على ضفاف سطور الصفحة البيضاء، كانت هناك قوارب الأقلام تنتظر أمر الإبحار. صفحة عذراء من صفحات التاريخ، وقفت بكامل حلتها تنتظر فارسها ذا الحصان الأبيض، يجول بفرسه بين سطورها مدونا أحد أهم الفصول.
اللون الأحمر... لون الدم...
كان لون السيادة دون منازعين. افترش سطور الصفحة بقلاع كلماته وأبراج أسمائه، كما قائد حربي مخضرم، اعتاد فرض سيطرته على مثل تلك الميادين الورقية منذ فجر التاريخ، بطريقة ما لم تتغير بتغير الأزمان واختلاف مواقع الميادين وهوية سكانها بين بقاع الأرض. بدا الميدان أضعاف مساحته في تلك الأيام، ربما مددته هتافات ساكنيه، ربما غيرت آمالُهم رسم حدوده بالاتساع، أو... تكون الـ(ربما) الثالثة بتضخم شرايينه، بعدما بثته هذا الجموع الكثير من دمائها.
أيام أربعة مضت بلياليها على الجمعة الغاضبة، الثامن والعشرين من يناير للعام 2011، وما حملته لسطور الصفحة من أحبار فرضت سطوتها بقوة على محتوى قادم الصفحات. كل شيء لا زال قائما بكامل حضوره في أذهان الجميع، الهتافات القادمة من أعماق الحناجر تنادي بسقوط النظام.. اللافتات المعلقة في جنبات الميدان وبين كفوف المعتصمين، تشارك أصحابها ثورتهم.. صفوف المصلين بعرض الميدان يؤدون الصلاة، وجباههم تنهل من تراب الميدان عشقا كأنها تودعه قبل الرحيل.. تلك العربات السوداء الضخمة ذات الصناديق الأشبه بالقبور تجوب الميدان كلبؤات جريحة، تستقبل حجارة المتظاهرين وهتافاتهم ردا على رصاصها وخراطيم مياهها. معركة تفتقد للتكافؤ بشكل كبير، غير أن شيئا ما بحوزة العُزَّل يسمونه "إيمان" عجَّل بسقوط الطواغيت على نحو ما. ثم في نهاية الأمر، حلول المساء بهدوئه على الميدان، راسما على ورقته صورة مدينة إغريقية محطمة، فتكت بها قبل ساعات لعنة ما!
كانوا كعادة باقي الأيام متحلقين حول حسام وأشعاره وكيمو وعوده وشاهين وقفشاته - ذلك الذي أضيفت لرأسه بعض الأربطة وفي وسطها بقعة حمراء-
-بس عاش يلا يا كفافى العيال اصحابك الإخوان عملوا الصح يوم الجمعة دى.
-اللى نجّح اليوم كان عشان الكل إيد واحدة يا صاحبى.
- مش متطمن!
قالها معتز للجميع، فكان رد كيمو:
- ولا أنا، حاسس ان الدنيا لسه فيها كتير، نزول الجيش وانسحاب الداخلية مش معناه اننا وصلنا.
- احنا على العموم لسه في الشارع وهنفضل موجودين لحد ماالنظام يمشي، الخوف بس من عملية بيع تحصل تضيعنا.
- بيع؟... بيع من مين؟
- بصراحة مش واثق في رؤساء الأحزاب المعارضة، اشمعنى دلوقتى سمعنالهم صوت ماهم طول عمرهم ماشيين جنب الحيط مابيقولوش نص كلمة، مااستبعدش انهم يبيعونا بأي مقابل كراسي في الحكومة أو البرلمان أو ايا كان.
- متهيألى صعب شوية!
- صعب؟...دانتا غلبان قوي...فاكر انت الواد الواطي اللي كان بيبقى معاك زمان في الفصل ده تتفقوا مع بعض ماتعملوش الواجب وييجي تاني يوم تلاقيه عمله؟... ومش كده بس ده لو المدرس نسي يفكره يقوله يا استاذ شوف الواجب بتاع امبارح؟... اهو ده لما كبر بقى رئيس حزب مصري معارض!
- هاهاهاهاهاهاهاهاها
- متشائم قوي يا فنان، احنا في الوقت ده محتاجين التفاؤل.
- والحرص!
- يا جدعان أنا شايف ان كلام كيمو صح، الناس دي عمرها ما وقفت جنبنا. كان آخرهم كلمة في جورنال ولا حاجة ده؛ إذا قالوها، ماحدش خلا النظام بفجره ده غير أحزاب المعارضة اللي انشغلت بحرب بعضها عشان كرسي في الحكومة ولا البرلمان وكله في صالح النظام... اللهم إلا من رحم ربي يعني!
- عارفين كلام كيمو فكرني بإيه؟
قالها شاهين يأتيه رد ناصر؟
- بإيه يا ناصح؟
- بقصة البلياتشو!
- لا والله؟!
- يا عم استنى بس، بيقولك كان فيه مرة بلياتشو عرف بخبر موت ابنه قبل مايطلع عالمسرح على طول. المهم اول ما طلع على المسرح وقبل مايبدأ العرض بتاعه، نزلت دمعه من عينيه، الجمهور ضحك وصقفله.. دموعه بدأت تزيد، الجمهور تصقيفه وضحكه زادوا، الدموع بقت نحيب وصوته بقى عالي، الجمهور تصقيفه وضحكه زادوا اكتر واكتر، البلياتشو وقع على ركبه، الجمهور قام من كراسيه وتصقيفه بقى خلاص هيهد المسرح، البلياتشو في الآخر من القهرة وقع مات، عارفين الجمهور عمل ايه؟...فضل يصقف ويضحك لغاية مالستارة نزلت!، الخلاصة ان ماحدش هيهتم بمشاكلك وقضيتك غيرك انت، احنا المفروض مانحطش أمل على أي حد تاريخه فيه شائبة تواطؤ أو اتفاق مع نظام مبارك، لأن ماحدش منهم هيهتم بقضيتنا زي ماحنا متخيلين، مصيرنا في الآخر هيبقى مصير البلياتشو!
- تصدق طلعت بتفهم يلا يا شاهين!
- المشكلة ان رد فعل الناس على خطاب مبارك امبارح يقلق، ده كأنه عملهم عمل!
شافعي كان القائل، فتولى معتز الرد:
- انا مش قادر اصدق ازاي قدر يضحك على كل الملايين دي في 11 دقيقة، ده الناس ولا كأنه دمرهم 30 سنة بأمراض وزرع مسرطن وعشوائيات وحوادث وغرق شباب وسجون ومعتقلات مليانة ناس من سنين ماحدش يعرف عنهم حاجة...للدرجادي الشعب عاطفي؟...ده امبارح الناس بتتصل في القنوات الفضائية تعيط عليه!
- انا عن نفسي مخلص امبارح علبتين مناديل!
قالها شاهين متصنعا الجدية، يتلقى نظرة الجميع مستفهمين:
- ايه يا جدعان بلاش أنفّ!
- نهايتك هاتبقى على ايدي يلا يا شاهين!
- صعب يا عم ناصر!
- اشمعنى؟!
- مش هاهون عليك برده داحنا عِشرة ما يعلم بيها الا ربنا.
- ايه يلا الوداعة دي كلها؟ انت سخن وللا ايه؟
- رجعنا تاني للإفيهات الرخيصة مافيش منك رجا كل مااقول يا واد عامله كبني آدم تخيب ظني...
قالها والتفت لأحد باعة الشاي القريبين منهم على رصيف الدائرة الخضراء في وسط التحرير قائلا:
- عم صبراااااااي كوباية شاي كشري اتنين سكر الله يكرمك وجهز نفسك عشان تغيرلي عالجرح بس الله لا يسيئك خف ايدك بالبن شوية، امبارح كنت بتنتقم من الجرح كأن زبون مادفعلكش الحساب راقد جواه.
- من عنيا يا شاهين بيه!
قام إليه شاهين قائلا لحسام:
- بقولك ايه يا شاعر ماتقولنا حاجة كده انشغل بيها عن المعركة بتاع عم صبري في وشي دي.
- ايوه يا حس الله يباركلك قل لنا حاجة كده نغير بيها الجو.
- طب اسمع يا سيدي انت وهو.
فى نومي في صحوي مكتوبلي أعيش بيكي
أكون ليكي وأموت فيكي
وحافظ كل أساميكي
من مينا لأيامنا بميادينك وحواريكي
وحكاوينا في قهاويكي
وجاي بعودي اغنيكي
بأغنية لبنت بنوت وطالة من شبابيكي
يطول ضحكي قصاد نيلك
ويوم ماابكي يصون دمعاتي منديلك
والملم جرحي واشكيلك
وأغنيلك
وافضفض سري واحكيلك
وادندن لحن مواويلك
وأغانيكي
أنا اللي بيأسي من حضنك بقيت درويش
ألف شوارعك المبلولة بدموعي من التلطيش
ويوم ما سألت عن عنواني في بيوتك قالولي مافيش
أنا الواخد على التطفيش
أنا الدرويش
أنا المتربي عالتهميش
وفاكرين ارتباط دمي بطاقة وفيش
قوليلهم لأ
أنا الموشوم بوشم الحق
انا الفجر اللي ليله اتشق
أنا اللي قالوله غور منها وقف ثابت وقال ماامشيش
قوليلهم لأ بصوت عالي
أنا المتربي عالغالي
على إسمك
وألواني فدا رسمك
وعودك حضن موَّالي
قوليلهم إني جواكي
وعمري هاعيشه وياكي
وروحي اللي هجرتيها
وسبتيها وخونتيها
وبالنسيان قابلتيها
هتفضل برده فاكراكي
أنا المرسوم بتلوينك
أنا المبني بتكوينك
انا المتغطي بسنينك
وبحماكي!
- آآآآآآآآآآآآآآه
صرخ بها شاهين يتشبث بيد عم صبري المسيطرة على ضمادات رأسه، يكبس رأسه بكمية من البن تكفي لدعوة الميدان كله لحفلة قهوة.
- الله يجحمك بوظت المزاج اللي حسام عمله!
ناصر كان القائل
- مزاج ايه دلوقتي ده عم صبري بينقب عن كنز في دماغي!
- ايه ده سامعين اللي أنا سامعه؟
قالها شافعي قائما من مكانه ينظر باتجاه الصوت، فتبعه الجميع وقوفا ينظرون باتجاه الصوت، وقد هالهم ما شاهدوه!..
جمال وخيول تقتحم الميدان، وعلى ظهورها انتصب راكبوها بهيئات قميئة ذوات شعر خشن طويل في غير تهذيب، ولحى على نفس الشاكلة، وبين الشعر واللحى كثرت آثار المطاوي.. أياديهم لم تكن لتتخلى عن أسلحتها البيضاء وعصيها الخشبية، تجتاح رؤوس المتظاهرين ووجوههم في غل سقط على أثره كثيرون!
دون تفكير، أسرع الجميع لموقع المعركة وسط الميدان.. بين المهاجمين كان عمدة فوق فرسه يضرب هنا وهناك.. الأمر بالنسبة له أصبح معركة بقاء أو فناء، بعدما أُحيط بالمتظاهرين المريدين الفتك به. بخفة يتقنها من أيام الهروب من كمائن الشرطة أفلت منهم، ليجد نفسه مرة أخرى... في مواجهة أحدهم جريح الرأس.
انطلق شاهين فور رؤية المشهد، وسط صرخات عم صبري بالبقاء لتضميد جرحه، دون استجابة. سارع إلى الموضع الأشد شراسة، بعدما تخطى المساحة الخضراء وسط الميدان.. التقط إحدى العصي الملقاة على جانب من جوانب الطريق، من مخلفات الجمعة الغاضبة.. زحام المتظاهرين أمام أحدهم كان المشهد المواجه له تماما، قبل أن يفاجأ بهذا الـ (أحدهم) ممتطيا فرسه تماما في مواجهته!
المواجهة لم تنعم بقدر من العدالة يسمح بالتكافؤ بين طرفيها.. عمدة على فرسه وبيمينه سيف يلمع نصله تحت ضوء الشمس، وشاهين بجرحه الذي لم يلتئم بعد على الأرض وبيمينه بقايا عصا.. حاول عمدة تخطيه بفرسه إلى حدود الميدان للهروب، غير أن شاهين اعتبرها معركة ثأر لكل من طالهم سيف خصمه. وقف أمامه مباشرة، قبل أن يباغته بضربة من عصاه حاول عمدة تحاشيها، وكان له ما أراد، قبل أن يردها بضربة من سيفه استقرت تماما في رقبة شاهين، الساقط على إثرها دون حراك، تحيطه بركة من دمائه!
***
تسعة أيام على هذا النحو الذي عايشه قد لا تساعد كثيرا على البقاء حيا. التنقل بين صناديق السيارات الأجرة، التي أنفق بها كل ما ادخره خلال الشهرين.. المبيت على مقاعد الاستراحات المنتشرة على جانب الطريق، والتى يًطرد منها في أحيان كثيرة، ليقضي ليلته بالخارج تنهشه أنياب البرد.. جلبابه وعمامته ونعله، الذين لم يعد يفصلهم عن الفناء أكثر من ساعات.. أشباه الأطعمة التي يحاول من آن لآخر سد فوهة جوعه بها.. والأهم من ذلك كله، تيهه في أرض غريبة، لا يعلم عنها شيئا أكثر من كونه فريسة لسائقي السيارات وأصحاب الاستراحات، يحاولون قدر الإمكان اعتصاره لإخراج كل ما لديه من نقود.
على أحد المقاعد كانت جلسته، كما هي عادة كل ليلة لا يسافر فيها. يقاتل النعاس قتال المستميت، حتى رفع الراية البيضاء في نهاية الأمر. رقبته مالت تماما على صدره، حتى بدت للرائي بلا فقرات تقيمها. عيناه أسبلتا ستائر جفونهما منذ مدة إذعانا لأوامر سلطان النوم. ذقنه طالت لدرجة بدا فيها شخصا آخر غير صبي العش الضحوك، بقايا أغراضه تجلس على مقعد مجاور، وأخيرا كوب فارغ ترقد محتوياته الآن في جوف ذلك النائم منذ ساعة أو يزيد.
- أخينا...يا أخينااااا!
قالها ذلك العامل المصري بالاستراحة يوقظه
- إيه؟...فى إيه؟!
- بسم الله الرحمن الرحيم، مافيش حاجة يا عم انت كنت بتحلم ولا ايه؟
تلقاها طلال ناظرا إليه بعينين ضيقتين تستكشفان المكان، عائدة من مطاردة بعضهم لصاحبها، في كابوس أنقذه منه ذلك النادل. صمت حينا قبل أن يقول:
- لامؤاخذة يابا.
- ولا يهمك يا عمنا أجيبلك كوباية مية ولا حاجة؟
- لا لا تُشكر يا ذوج، أني بس عايز اطلب منك طلب.
- اؤمرني انا المصريين بالذات باشمشم عليهم هنا عشان أخدمهم دانتو أهلي يا جدع.
- تسلم، أنى بس عايز حتة انام فيها للصبح وهامشي طوالي، أي حتة عندك في الاستراحة هناي
- بس كده؟...عنيا يا عم دانا انيمك في الفرشة بتاعتي انت بتتكلم في ايه؟
- تسلم عينيك يا راجل يا طيب، طب سؤال تاني بجى مدام طلعت راجل زين كده.
- عشر اسئلة يا بلدينا اؤمر!
- أرجع مصر ازاي؟
- بس كده؟
- لو دلتني صُح تُبجى عملت فيا خدمة العمر، أني تايه بجالي 9 ايام بلياليهم لا عاد معايا فلوس ولا ايتها حاجة، يادوب اللي باجي يرجعني مصر.
- لا حول ولا قوة الا بالله، دانتا شكلك متمرمط جامد قوي، طب بص أنا هاجهزلك نومة دلوقتي والصباح رباح هاشوفلك حد من حبايبي السواقين اللي راجعين مصر ياخدك معاه قول يارب بس يبقى فيه حد نازل بكره.
- آني معارفش اجولك ايه والله يا....، اسم الكريم ايه صحيح؟
- أخوك تمَّام، ماتقولش حاجة يا عم داحنا ولاد بلد واحدة
- أخوك طلال، الله يكرمك يا تمَّام.
- هاسيبك خمس دقايق بس اظبطلك فرشتك وآجي.
- اتفضل يا ذوج!
لأول المرات منذ حين يشعر ببعض الراحة. قد يكون السبب الأكبر في ذلك وجود مصري في طريقه منذ أيام تسعة، أشعره بقرب لقيا من تركهم هناك في بيوت العش. بشكل ما لا يعلمه سمع صوت السيارة تقطع ذلك الطريق الأسفلتي من جديد، عائدة عبر الحدود لقرى الصعيد. طعم (طبج الفول) المتطفل على لسانه يستشعره بكل تفاصيله، رائحة (الصابون أبو ريحة) في شعر اختيه الصغيرتين حين يحتضنهما بعد كل عودة من أرض الحاج مهنى، ملمس ريشة الأملس حين يرتمي في حجره مداعبا إياه ببعض كسرات الخبز، آذان الفجر في مسجد العش، ضوضاء أخيه ومشاجراته على مقهى العش، شبح منزل الحج مهنى الكسير منذ أكثر من عامين.. كل شيء ساهم بريشته في رسم جزء لا بأس به من لوحة العودة الآخذة في احتلال أكبر جدران مخيلته... صدق من قال إن ماضينا يملك لأحلامنا أسباب الحياة والموت كليهما!
- طلال، يلا الفرشة جاهزة!
- ماشيٍ يا كبير.
قالها وقام إلى حيث أشار، يسبقه تمَّام الذي آثره على نفسه معدا له فراشه الخاص. ارتمى طلال على الفراش دون تفكير بمجرد رؤيته.. تسعة أيام بلا نوم مريح ربما تكون سببا مقنعا لتصرفه ذاك. ابتسم تمَّام لرؤيته على هذا الوضع، قبل أن يغلق عليه الباب والأضواء، تاركا إياه وجوانب لوحته في لقاء سيطول حتى الصباح!
*** -
(المسألة باتت واضحة، الرئيس مبارك فضَّل مصلحة الوطن على أي اسم وعلى أية مصالح أخرى)... إعلامية ما، عقب الخطاب الأول لمبارك، قبل موقعة الجمل بساعات.
(كلمات الرئيس مبارك دي قيمة هتوصل لأي إنسان مصري وهترشق في قلبه، دخلت قلبي أنا شخصيا، والذي يطمئنني أنا حاليا هو وجود شخصيتين مثل اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق في الصورة، الاتنين وطنيين ومديرين ناجحين مهنيين)... أحد الإعلاميين عقب نفس الخطاب.
(صوتي محجوز لجمال مبارك لانه ابن جيلي وهيعمل انجازات لمصر)... أحد إعلاميين قبل ثورة يناير.
(الرئيس مبارك هو الذي توعد بملاحقة الفاسدين، الرئيس مبارك هو الذي قال الوطن هو الباقي أما الأشخاص فزائلون، انا عايزه كل اللي في الاستديو يصقفوا للرئيس)... إعلامية ما بعد نفس الخطاب.
(انا بحب محمد حسني مبارك، هاقولها دلوقتي وهاقولها دايما ولا أخجل من ذلك)... أحد المحسوبين على الإعلام بعد الخطاب (إياه)
(لو تنحى مبارك هنضيع)... إحدى المحسوبات على الإعلام!
(أنا باحيي الرئيس مبارك انه أثبت للمرة الثانية بعد دوره الكبير في حرب أكتوبر انه قادر على تقدير اللحظة الحرجة اللي البلد بتمر بيها، أنا مش قادر اصدق الكلام ده انا باشكره)... أحد الإعلاميين تعقيبا على خطاب الرئيس المخلوع.
(واقف جنب قوات الشرطة لقيت واحدة ست عجوزة معاها شنطة بتقول انها رايحة تزور قبر جوزها بيفتشوا الشنطة لقيوا فيها 15 الف جنيه داخلة بيهم المظاهرة، شوية ولقينا نفس الموقف اتكرر مع واحد فلسطيني داخل المظاهرات ومعاه 10 الاف جنيه)... أحد الإعلاميين
(عمل ايه حسني مبارك عشان تمشوه؟)... ممثل بعد خلع مبارك
(فى يوم هنبوس جزمة الراجل ده، مبارك مايستاهلش مننا كده)... إعلامي ما باكيا يعلق على الخطاب المعروف.
(أنا نفسي بكره يروحو ميدان التحرير يمسكوا عشرين واحد ويشوفوا بطايقهم، هيلقوهم دخلاء وقابضين)... ممثل ما بعد موقعة الجمل.
(يا بتوع ميدان التحرير من بكره هاطلع مظاهرة لأن مش حسني مبارك اللي يحصل فيه كده)... أحد المطربين
(مبارك خدم 30 سنه للبلد، 30 سنه وطنية، ما يصحش تبقى انت رب الأسرة ويجي ابنك يقلك مش هدخل البيت الا لما تخرج منه، بأي منطق؟... مبارك كان أب لكل المصريين والراجل ماشفناش منه غير كل خير يا جماعة ماشفناش منه حاجه وحشة)... إحدى الممثلات.
(كلنا بنقول نعم لمبارك، مش متخيل حد غيره يكون مصيرنا في ايده.. هو اللي محافظ على أمننا ربنا يخليه لينا، - يضيف ببكاء- الأب ده كان طالع يموت عشانا في 73 كان كل همه المصريين، هتفضل ابويا يا ريس هتفضل ابونا كلنا وهنفضل نحبك وانت حبنا وانت في دمنا)... أحد المطربين.
(غدر برمز كبير خدم البلاد 30 سنة)... ممثلة ما.
(مبارك شخصية وطنية وجزمته فوق راسي)... ممثل ما.
(ميدان التحرير هو سبب الخراب الذي تمر به مصر الآن)... أحد الملحنين واصفا ميدان التحرير أنه ميدان نجس.
هكذا كان دعم إعلاميى مصر ونخبتها لثورة الخامس والعشرين من يناير للعام 2011.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال) سيأتي على الناس زمان سنوات خداعات: يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل يا رسول الله وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة (






حقا إنه يؤلم الأحياء لا الموتى.. كم هي عميقة تلك المقولة لأحد العارفين بالحياة المتحدثين عن الموت. سمعها قبل الآن بزمان، فمرت على بصره بين السطور مرور الكرام متجاوزا إياها لجملة أخرى في سطر آخر.. هل عادت لتعاقبه على إهماله إياها قبل سنوات؟، هل كان ساعتها آثما لتلك الدرجة، ليكون العقاب فقدان صديق؟، هل كانت الكلمات بتلك القدرة التي تستطيع معها الانتقام منه على إهماله محتواها ذات يوم؟.. كم كانت قاسية كلمات السطور، وكم كان مسكينا هو ذلك الجالس وحيدا، في أركان حجرة طالما ضجت بضحكات الراحل وقفشاته. (مش هاهون عليك)... دوت الكلمة في أذنيه دوي الرصاص.. بدت كأنها الكلمة الوحيدة التي خاطبه بها صديقه الراحل طوال سنوات، وقد محت ما سواها من كلمات. كم كان صادقا حين قالها، هل كان يعلم أنها آخر مرات اللقاء، فآثر جعلها جملة الوداع؟.. يعلم أن شاهين كان ماكرا بدرجة تجعله يمازحه حتى في آخر لحظات بقائه في ممرات الحياة.. كم كنت قاسيا يا صديقى المرح، قاسيا على غير عهدي بك، حتى في أقسى لحظات مزاحك. هل هان عليك ناصر لتتركه هكذا وحيدا دون أحد يتولى بعدك مهمة جعله ينفجر غيظا وسط ضحكات الحضور؟.. هل هان عليك جعله يظهر في الصور الفوتوغرافية دون أحد يتولى مهمة إضافة قرنين بسبابته ووسطاه وسط قهقهة ملتقط الصورة؟، هل هان عليك تركه دون أحد يتولى مهمة ضربه بإحدى وسادات الحجرة حين يقول شيئا غبيا وسط ضحكات البقية من سكان حجرتنا تلك؟ هل هان عليك، وهان عليك، وهان عليك؟.... أيها المهرج الحكيم قتيل المسرح وسط ضحكات المتفرجين، هل حقا اختطفت شاهين إلى جوارك عقابا له على ذكر قصتك بين رواد الميدان؟.. هل ألهمته بها لتكون آخر قصصه المروية بين سكان الأرض، قصة مهرج لم يهتم بأحزانه أحد.. هل ذكرك بنفسك حين مات على مسرح أكبر وسط متفرجين أكثر؟.. هل حقا سيُنسَى مثلما نسيت، منتظرا أحد المهرجين القادمين بعد عقود يعيد ذكر القصة وأبطالها؟...دعك من صحبته يا صديقي القديم، مازال في الحياة من يهتم لأمرك رغم كل شيء، مازال هنا مجموعة يلجأون لبراح الحجرة التي أسستها إلى جوارهم قديما ذات يوم... عد يا شاهين... عد يا صديقي القديم!
لم يملك بعدها ناصر إلا دموعه يكمل بها رسالة الرثاء المبعوثة إلى صديقه الراحل في براح الميدان الكبير. أوشكت الصور بين يديه على التمزق من فرط تبديلها بين أصابعه، حتى حجبتها عن عينيه في نهاية الأمر دموعه، مطرزة غشاوة أحكمتها على عينيه المستحيل لونهما للون الدماء.. ما زال كل شيء بذهنه حاضرا دون نقصان، ذلك البلطجي صاحب الحصان، صديقه الواقف أمامه، السيف يستقر في رقبة شاهين، الدماء تملؤ بقعة لا بأس بها من بقع الميدان، هرولته خلف القاتل تاركَ حصانه في الشوارع المحيطة بالميدان، الرعب في عيني القاتل الناظر خلفه، ليرى مطارده المصر على الفتك به، نجاح الهارب في النهاية من الفرار بطريقة بدا أنه يتقنها، تلك الملامح الحاضرة في ذهنه بكامل تفاصيلها تأبى النسيان، منتظرة يوم الانتقام، عودة ناصر للمستشفى الميداني للاطمئنان على حال صديقه، تلك البقع من الدماء الملطخة لأكواب عم صبري المهشم معظمها، البكاء الهستيري للجميع عند المستشفى وثمة جثث ثلاث ترقد تحت ملاءات بيضاء، كلها إشارات تنبؤ بأحداث أرعبه مجرد تصورها، أسماء الجثث الثلاث تدوي في أسماعه على لسان أحدهم (طالب من السويس وعم صبري وشاهين)... ممتاز، فقدت مصر أمل طالب، ودعوة عجوز، و... مرح أحد الظرفاء!
*** -
فى سكون الليل الشاتي المعتاد دوما على التسلية بأجساد أهل حارة الشوربجي المتجمدة من فرط برودته، دخل متخفيا على غير عادته، يلف وجهه تماما بـ (شال) يخفي معالمه باستثناء عينيه المتألقتين ببريق الخوف. تسلل عبر ضيق الحارة كصرصار هارب من ضوء الشوارع، وهو القاضي كل حياته في ظلام البالوعات، في سرعة لم تعهدها منه سلالم البيت الطينية المعتادة دوما على أثر كبير لقدمه، تتركه مع كل خطوة يخطوها مستندا إلى سور درابزين السلم وفي يده سيجارة تنتظر شفتيه تنهيان المقطع الأخير لأغنية هابطة قبل أن تستأنف رحلتها معه من جديد. الليلة لم تكن كسابقاتها على كل حال.. بانفعال شديد ضرب باب حجرته، ليجد ذلك الشاب البادية عليه علامات الخلل العقلي يتأمله مفزوعا، وبعض اللعاب يلمع على شفتيه. اقترب منه، ضمه إلى صدره، تسلل غريب لبعض الطمأنينة إلى قلبه من إثر الاحتضان، كأن البراءة المتكومة في قلب شريك حجرته باتت ملجأه الوحيد للعودة للإنسانية من جديد. المشهد لا يكف عن التكرار في رأسه.. بقعة الدم الكبيرة على سيفه، الذي ألقاه في النيل، ضحيته الساقط في دمائه ممسكا رقبته متأوها آهة انخلع لها قلبه قبل أن يسقط قتيلا، قفزته من فوق الحصان واندفاعه لشارع طلعت حرب هاربا، أحدهم يطارده وفى عينيه رغبة أكيدة في إلحاقه بضحيته، نجاحه في الهروب بحذاقة يتقنها.. وأخيرا احتضانه ذلك المريض البرئ.
- عمدة!
قالها ذلك الداخل عليه مسرعا، يستقبله صديقه قائما يقول:
- عرفة! اتأخرت ليه يا بني آدم؟
- اتأخرت ايه يابا دانا يادوب قفلت معاك وجيت، خير ايه اللي حصل مالك وشك مخطوف كده ليه؟
- أنا قتلت!
- إيـــــه؟، يخرب بيتك!
- لا ماهو أنا مش جايبك تقطمني هتعمللي فيلم يبقى تخرس وتغور من هنا.
- يا عم اهدا بس انا اصلي استغربت الكلمة احنا كنا متفقين نعمل مع بعض كل حاجة في الدنيا الا القتل ده!
- يوووووووووووووه
- خلاص يا عم ماقصدش، امتى وازاي حصل الكلام ده ومين اللي انت قتلته ده؟
- النهارده الضهر في التحرير، عيل من بتوع الثورة، حاول يمسكني قتلته.
- قلتلك بلاش منها الطلعة دي ده العيال ضربوا الداخلية بجبروتها بالجزمة، طب بس اهدا كده وصلي عالنبي ماحصلش حاجة فداك يعني يا صاحبي الداخلية دلوقتى مش فاضية أساسا تدور على حد دول نفسهم العيال دي اصلا يولعوا بجاز دانتا عملت معاهم خدمة العمر.
- مش الداخلية اللي قلقاني!
- أمال مين؟
- واحد من اصحاب الواد كان بيجري ورايا.. أول مرة اخاف من حد بالطريقة دي!
- هاهاهاهاها حتى وانت في عز البلاوي بتهزر الله يحرقك.
- أنا مابهزرش!
- لا والله!، ومن امتى عمدة بيخاف ان شاء الله؟، ويوم ما يخاف يخاف من عيل زي ده؟
- مااعرفش، مااعرفش أي حاجة، كنت حاسس ان أسد اللي بيجري ورايا مش بني آدم!
- طب بس هدِّي نفسك ده بس من الخضة بتاع الواد اللي اتقتل، انا رأيي تستكين شوية كده وتتدارى احتياطي برده لحد الدنيا ماتهدا!
- لأ!
- لأ ازاي؟... اومال هتعمل ايه؟
- أنا هادخل الجيش!
- نعم يا روح أمك؟
- اللي سمعته!
- طب سيبك ان انت ماعندكش أخ ومش هينفع، هتدخله ليه؟
- الجيش دلوقتي هو اللي ماسك الدنيا ومظبطها عسكري الجيش بيترفعله ألف تعظيم سلام في الشارع، واهو فرصة ابعدلي سنتين تلاتة عن سكة الواد ده، أنا حاسس انه هيطب عليا في أي لحظة هنا.
- للدرجادي!.. لدرجة انك تتحامى في الجيش؟، يا عم اوصفلي الواد ده ونا اروح التحرير اصفيه ونخلص.
- مش عايز كلام كتير مالوش لازمة، أنا خدت القرار خلاص.
- طب خليني معاك للآخر هتدخل ازاي؟
تلقاها عمدة باسما قبل أن ينظر لذلك الجالس المريض إلى جواره لتتسع ابتسامته قائلا:
- عمدة عمره مابيغلب ياض!
*** -













يا عم الظابط انت كداب
واللي بعتك كداب
مش بالذل هاشوفكم غير
أو استرجا منكم خير
انتوا كلاب الحاكم
واحنا الطير
انتوا التوقيف
واحنا السير
انتوا لصوص القوت
واحنا بنبنى بيوت
احنا الصوت ساعة ماتحبوا الدنيا سكوت

عبد الرحمن الأبنودى
















عام آخر جرت به عقارب ساعة الحياة في غفلة من سكانها.. أي ماكرة هي وأي لعوب أرقامها، بطيئة حين تريد وتمتطي صهوة العجلة حين تريد.. تحفز أسباب الحياة، ثم تباغت بالموت وتدفع أسباب الموت لحظة بزوغ دوافع الحياة.. كم من مصائر تعلقت برحمها تنتظر الخروج لنور التحقيق بين تحفيزها ومباغتتها ودفعها لمعادلات البقاء والفناء.. لا زال التغيير سنتها القائمة، وسيظل مادام في جسد العقربين روح تدفع دفتها لشاطئ النهاية، مهما استغاثت بها صرخات الغرقى في لجج الحياة.
المزيد من الصور أضافت إطارات لها قسرا في معرض ذكرياته الكبير. طريق ابتلع إحدى الجثث المودعة للحياة من بوابة ضربة شمس، ملاءة شاركت الجثة رحلة الابتلاع لباطن الأرض، خِرِّيج عنونه الصمت، وذيَّل رحلته البكاء لأصداء نشيد وطني لم يلبث أن تلاشى في خضم ضوضاء ثروات الجنوب، ضحكة بورسعيدية مازالت رغم الغربة تنعم بطيف أمواج القناة بين دفتيها على وجه عبده الأسمر، غناوي الصعايدة الصادحة بألحانها المغروسة في طين الصعيد في أوقات الراحة والعمل، أحلام الليلة الأخيرة في فراش تمَّام، بطء الساعات في طريق العودة للشمال، الخطوة الأولى في ممرات العش، زهرات القطن اللامعة في أرض الحاج مهنى من مدخل القرية، شجار عم حسني مع زبائنه في فرشة الكانتو، أذان الظهر في مسجد العش، صوت وردة المتألق بين شجيرات القطن، رائحة خبز أمه الخارج لتوه من الفرن القابع في ركن الصالة عارية الأثاث، الذي استقبله قبل خطوات من المنزل، صرخة أمه لمرآه وارتماؤها واختيه في أحضانه، غمزة صابرة مشيرة إلى سطوح المنزل، سعادة هنية بحلوى أخيها الموفي بوعده، نومة ريشة فوق فخذه وهو يداعب جلده الأملس بيديه حاكيا له ما كان من أمر رحلته، برودة استقبال أخيه له بسلام من طرف أصابعه من فوق كنبة في جانب الدار، رحلته الأولى بعد العودة للمنزل الكبير الذي شهد غياب والده قبل أعوام ثلاثة يسترق النظر إليه منتظرا شيئا لا يعرفه، هروبه من الانتظار إلى براح الحقول، جلسته إلى جوار كيزان الذرة وبراد الشاي تحت الجميزة.. كل الصور مازالت عالقة بجدران المعرض ترفض الانسحاب.
- أمَّا اني عملالك بجى حتة كوباية شاي انما ايه، ماعملتهاش بجالي ييجى عشرين سنة.
قالتها الأم قادمة تحمل كوبا زجاجيا بعمر ابنها على أقل تقدير، وعلى وجهها ابتسامة اعادت ولدها من ترحال ذكرياته الطويل. انتبه لها فبادلها ابتسامتها بمثلها، مقبلا يدها حاملة الكوب ملتقطا الكوب قائلا:
- تسلم يدِّك يا ست الكل.
- تسلم من كل ردي يا ضنايا.
ثم استطردت:
- جوللي بجى، النصاب كان سرحان في ايه؟
قابلها مداعبتها بابتسامة تعرف أنها مزيفة، أعقبها صاحبها بقوله:
- ولا حاجة هاسرح في ايه غير الغيط والشغل؟
- على فايجة بردك يا ولد عزوز؟
من جديد قابلها بابتسامته، قبل أن يستطرد قائلا:
- هاكون سرحان في ايه بس يا أم علي؟ ماني زي الفل أها!
- شكلك خايف من موضوع التجنيد ديّ.
- ولا خايف ولا حاجة اني بس شايل همكم هاسيبكم لمين دول 3 سنين.
- ربك ماهينساش حد يا ولدي، وبعدين هما 3 سنين سفر يعني؟، مانتا هتروح وهتاجي، الواد سيد ابن عزيزة كان بياجي كل سَبوعين يعني ماهيوطولش.
- ربنا يجدم اللي فيه الخير يامَّا، اللي مصبرني بس على كل ديّ الجرشين اللي هاجبضهم هناك، 230 جنيه بردك هيسندونا شويّ.
- ربك بيسهلها يا طلال، اتكل انت عليه بس وهتلاجيها مشيت لحالها.
- ونعم بالله يامَّا، ونعم بالله.
- يعافيك ربنا من كل شر يا ضنايا، انت هتمشي ميتى؟
- الحد الجاي ان شاء الله.
- ان شاء الله بالسلامة، وماتجلجش كلنا هنا هنبجى بخير طول مانتا بخير.
لم يجد طلال من الردود اكثر من التقاط يدها مقبلا إياها قبلة طالت لدقائق.
- طلاااااال.
انتبه لها وانتبهت لها أمه فهمَّ ملتفتا إلى اخته المنادية في لهفة وعلى وجهها ابتسامة تنطق بالخيرات:
- كنتي فين يا بت يا صابرة أمك هتجلب عليكي البيت من الصبح؟!
- كنت هالعب مع العيال في الغيط.
- وده وجت لعب بردك؟، وشغل البيت مين يعمله مع أمك؟
أحست الصغيرة ببعض الاحراج، فآثر أخوها مصالحتها بسؤاله:
- كنتى هتلعبي ايه يا لمضة؟
- كنا هنلعبو (عسكر فوج عسكر تحت).
صمتت حينا تنظر لابتسامات امها وأخيها، قبل أن تستطرد:
- يووووه شفت خدتني في دوكة ونسيتني الخبر الحلو اللي جاية اجولهولك.
- خير يا حاجة؟
- البلد كلاتها عند بيت الحاج مهنى بيجولوا الشيخ بدر رجع!
سمعها، فانتفض ساكبا في طريقه كوب الشاي، مرسلا إياه للأرض شظايا ممسكا بأخته من كتفيها قائلا:
- بتجولي ايه؟
- بجولك الشيخ بدر رجع، الشيخ بدر رجع!
***
مازلت حتى اللحظة جاهلا سبب ما حدث، أبدا لم أتوقع وجودي هناك، كما لم يتوقعه أحدهم، لكنها حياتي غريبة الأطوار، التي لم تكف يوما عن إحداث المفاجآت، فاجأتني -كما فاجأتهم- بوجودي هناك أنتظر مثلهم الموت. هكذا أخبرني ناصر يومها، وهو ينظر لصورة شاهين على هاتفه، يحبه هذا المسكين ويفتقده حد الجنون.
الصورة بكامل تفاصيلها لازالت هنا، اجتماعنا وسط الميدان في حلقة دائرية أشعلها حسام بقصائده وكيمو بأغانيه... لكنها على ما يبدو افتقدت شيئا ما، تمثل في قفشات أحدهم رحل قبل شهور عشرة، وأكواب الشاي في فرشة آخر رافق الأول مشوار الرحيل. اجتماع الشباب عند الحائط الأول لشارع محمد محمود، وقد أعملوا فُرُشهم وألوانهم في الحائط وما تلاه من حوائط، يسطرون التاريخ باللوحات. أصوات طلقات الرصاص تنجرف بصحبة الغاز المسيل للدموع من فوهة بعيدة في نهاية الشارع الكبير العامر بقدر عظيم من الجلال لم أعرفه في مثله قبل الآن.. لافتة قماشية كبيرة في مدخل الشارع (المتحف) قائلة (ممنوع دخول الإخوان)، عمليات الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الآمن، الرجال فوق الدراجات النارية يتولون إيصال المصابين للمستشفى الميداني القابع في مسجد عمر مكرم، أو حتى داخل الشارع المتأجج بالنيران، هتافات (يسقط يسقط حكم العسكر) و (مدنية مدنية) تهز أركان الميدان، إصابة شافعي بطلقة خرطوش في قدمه إثر الاشتباكات، الذعر الذي خيم على الجميع من تكرار مأساة شاهين، ركعتا الشكر لهؤلاء الجميع بعد إسعاف صديقهم (وصديقي) في المستشفى الميداني، رفض ذلك المصاب ترك الميدان رغم إصابته، انعزال حسام في لحظات هدوء المعارك منفردا بورقه وأقلامه، وأخيرا عودتي في نهاية كل يوم وسط تساؤل من أمي التي أخفيت عنها أمر تواجدي هناك، وابتسامة مصحوبة بغمزة من والدي العالم بكل شيء. أبدا لن أنسى تلك الأيام هناك، في ساحة الميدان الكبير.. أبدا لن أنسى هؤلاء الذين كنت بصحبتهم هناك.. أبدا لن أنسى، وكيف لي وبعض الأماكن في ذاكرة البشر محظور على النسيان مجرد العبور أمام أسوارها.
*** -



- التاسع من يناير 2013... معسكر (س) الحدودي... الساعة الثانية صباحا!
رقعة شطرنج خشبية، تزاحمت فوق خلاياها قطع فريقين يتعاركان، بدا على أسودهما أنه صاحب الكلمة العليا في ساحة القتال، وكأن ما يدور فوق الرقعة السوداء البيضاء ليس إلا تجسيدا لما حوته أسوار ذلك المعسكر الحدودي من أحداث سنوات تعاقبت فوق رماله وبين أحجاره وتحت شهادة أجياله، طغى فيها السواد تماما على البياض.
جلسا متقابلين، تفصل بينهما تلك الطاولة الصغيرة المُتوَّجة برقعة الشطرنج، وكوبين تراقصت بداخلهما أمواج مشروب دافئ أعدَّه ذلك الواقف على باب الحجرة من الخارج، ينتظر أوامر أخرى يقوم بتنفيذها، وقد قارب النعاس على إصابته بالانهيار.
- كش ملك!
- طول عمري أقولك يا مؤمن ان استعجالك الحكم عالأمور ده بيخليك تخسر معركتك في آخر لحظة رغم انك في أوقات كتير بتبقى أقرب للمكسب من خصمك!
قالها باسما في خبث معروف عنه، يهتز لمقالتها شاربه الكثيف وشفتاه الغليظتان، وما زالت نظرته الباسمة في حدة، والتي يعرف عنها الجميع أنها سابقة للدغة من لدغاته مركزة على جليسه، قبل أن تتحول مع حركة يديه الواثقة بين قطع الشطرنج كقدمي راقصة باليه تغازل مسرحها بإيقاعات الإبداع قائلا:
- كش انت بقى يا حضرة النقيب!
ثم عاد بظهره إلى ظهر كرسيه في ثقة، يشعل إحدى سجائره إمعانا في تحطيم معنويات خصمه، الذي انشغل عن كل ذلك بفرك ذقنه واتساع عينيه الحائرتين بين جيشي الرقعة في تركيز تام، قبل أن يعلن ظهره العائد لظهر مقعده استسلامه، رافعا باطن كفيه في وجه صاحبه باسما يقول:
- راية بيضا يا سيادة الرائد!
- هاهاها... على الله بس المرة الجاية تتعلم ان الاستعجال بيودي صاحبه في داهية بقى.
- بقولك ايه يا باشا.
- قوللي يا سيدي.
- ماتسيب العسكري اللي واقف بره ده يروح ينامله ساعتين قبل طابور الصبح، ده مانامش من امبارح ولسه هيكمل شغل بكره مع زمايله يعني يومين تقريبا من غير نوم، الواد كان هيقع من طوله وانا داخلك.
- يا حرااااام، اهي طيبتك دي مع العساكر هتنهي مشوارك في الجيش قبل أوانه بعشرين سنة!
- مش طيبة ولا حاجة، بس أصل وجوده مالوش لازمة مش هيفيدنا في حاجة.
- مالوش لازمة!... مالوش لازمة ازاي؟... افرض طلبت معايا اشرب شاي، أجيب أمي تعمله؟
- وتوقف الواد بالساعات وهو في الحالة دي عشان كوباية شاي ممكن تحتاجها وممكن لأ؟
- مؤمن!
قالها مغضبا بعض الشيء، حين لاحظ في نبرة صديقه الذي يليه في رتبته بعض الامتعاض، قبل أن يستطرد بلهجة أقل حدة:
- يا مؤمن يا حبيبي العسكري في الجيش زي السوستة، طول مانتا دايس عليه ومكتفه هيفضل تحت طوعك، تسيبه يتنطر في وشك انت أول واحد!
- يعني يفضل هو من بين كل زمايله اللي واصل يومين ببعض؟!
- يا سيدي ولا تزعل نفسك...نصحيله كل زمايله يونسوه، انت جيت في جمل يعني!
قالها بنبرة حملت استهزاءه المعتاد من كل شيء، قبل أن تتحول نبرته للهجة الآمر في غضب، وقد علت حتى اخترقت الباب لآذان الواقف خلفه قائلا:
- انت يلا ياللي عالباب...ولاااا!
- أوامر يا فندم... أوامر!
قالها المسكين مرتاعا وقد فتح الباب في لمح البصر ملبيا النداء، طاردا كل فلول للنعاس بقيت بين أجفانه. يأتيه الأمر:
- روح صحي الصول حُسيني وخليه يجمعلي كل العساكر... بسرعة يا روح أمك أنت لسه هتستغرب؟!
انطلق العسكري كأنما تلقى الأمر من عزرائيل يتوعده باقتناص روحه في حالة عدم التنفيذ.. اسرع إلى حجرة الصول حسيني الملاصقة لعنبر الجنود قائلا من بين أنفاسه المتلاحقة:
- صول حسيني، صول حسيني اصحى، صول حسيناااااااي!
- ايه؟...في ايه؟
قالها حسيني في فزع العائد من كابوس، قبل أن ينتبه لموقظه إلى جواره، فانفجر فيه قائلا:
- ايه يابن المجنونة ده؟ انت اتجننت ياض؟ ازاي تدخل عليا كده هي عزبة أبوك؟ فيه ايه؟ الحرب قامت ولا ايه؟
- اصحى يا عم حسيني الرائد وائل بيقولك صحِّي العساكر كلها واجمعهم قدام المكتب عنده بعد 4 ثواني!
- قالك بعد 4 ثواني؟
- يوووووه يا عم حسيني انجز بدل مايولَّع فينا بجاز انت عارفه ده دماغه يادوب على مقاسه.
- الله يحرقك انت وهو في يوم واحد يا بعيد.
قالها حسيني وهمَّ لارتداء زيه الميري في زمن لا يتعدى الدقائق الثلاث، قبل أن يتوجه لعنبر الجنود يتبعه ذلك العسكري الممتلئ ببعض السعادة من جراء إفزاع الحسيني وإغضابه، وهو الذي طالما أذاقه وزملاءه كأس العذاب بكل نكهاته. طرق باب العنبر مضيئا نوره بشكل أفزع الجميع، كما كانت حالته قبل قليل، فتعلقت أنظارهم بذلك المقتحم مقر مبيتهم، قبل أن ينتبه الجميع لذلك الصوت القادم من آخر فراش في العنبر:
- مين ابن الكلب اللي فتح النور ده؟، الساعة 2 بالليل يا بغل فيه ناس نايمة مش بهايم!
- هسسسس يخرب بيتك ده الصول حسين!
نبهه بها أحد القريبين منه في السرير المجاور، قبل أن يرد من جديد قائلا:
- مش تقول من بدري يا بني آدم سايبني لحد مافوَّرت أمه كده وبعدين بتقوللي هس، دانا كنت قربت اضربه سكينة في كليته.
قالها بصوت خفيض، قبل أن تعلو نبرته من جديد يرغب في إسماع ضيفه الثقيل:
- عم حسيني منورنا والله، أؤمرنا يا غالي!
- العنبر كله جامع قدام مكتب الرائد وائل بعد 5 دقايق بالظبط وعماد جامع عند السجن ويجهز بالعفريتة الزرقا لحد مااجيله.
- زرقا زي وشك الله يجحمك، انا كنت نايم وحاسس انها ليلة مش هتعدي على خير
من جديد قالها بصوت لم يسمعه غيره، قبل أن يمتثل لكلام آمره يزفه سؤال زميله:
- خير يا عم حسيني ليه الجمع ده الساعة 2 الصبح.
- انت بتناقش الأوامر العسكرية يا جندي بيادة! طب يلا اجمع مع البيه اللي سبقك عالسجن، ها أي حد تاني عايز يونسهم ولا حاجة؟، جرى ايه يا عساكر رِمَم انا هاتحايل عليكم ولا ايه؟، قوم فز منك له.
علت بها نبرته بشكل ملحوظ، أرغم الجميع على الانصياع لأوامره، ترمقه نظراتهم بشيء من الاستكانة وكثير من الكراهية، غير أن نظرة واحدة كانت ذات معنى مختلف، أتته من خلفه لذلك المغادر للتو لسجنه، قائلا يصاحب نظرته بحديثه لنفسه:
- بقى أنا العمدة اللي كانت الشوربجي كلها بتقفلي انتباه ييجي ده ويعلِّم عليا؟، ماشي يا دنيا، انا وانتي وهو والزمن طويل.
(ملحوظة: عسكري الشطرنج قد ينخدع بالكثير من مظاهر توقعه في متاعب لا طاقة له بها، لكنه أبدا لا يفقد الأمل في تخطيها، مهما فاقت قدراته!)
-
ها قد عادت الضوضاء من جديد للبيت الكبير، عاد البدر للظهور مجددا في سماء العش، بعد غياب استمر ثلاث سنوات، طغت فيها عتمات الليل على جنبات القرية الساقطة من ذاكرة الوطن الكبير. ساحة المنزل باتت مرتعا للبؤساء من مواطني البلدة، يتطلعون لرؤية ولدهم العائد بعد هجرة لمكان لا عودة منه لأحياء.. الزغاريد تملأ المكان، رقص الخيل على أنغام المزمار الصعيدي العتيق، صواني الفتة القادمة من كل البيوت لساحة الدار، في وليمة أعدها أهل القرية لأهل القرية.. رقص الرجال بالنبابيت وتناطحهم بها، صوت وردة يصدح بالشدو وسط القاعة الكبيرة مجتمع النساء... ثمة امرأة جلست في ركن الحجرة تجاهد دموع عينيها، شارد ذهنها في ذكرى مرت قبل أعوام ثلاثة، في أحد مقرات امن الدولة، عادت بعدها بصحبة جثة أمها، ونظرة أخيرة لأخيها العائد من جديد!
- جرى ايه يا حاج ماهنشوفش سيدنا الشيخ ولا ايه؟
قالها أحدهم لذلك العجوز الجالس على كرسيه المتحرك يراقب الجميع بقلب مازالت فرحته تعاني بعض الشوائب، فاكتفى بابتسامة أظهرته أكبر من سنه بأربعين عاما إضافية، فتولى آخر الرد:
- يا راجل سيبه يرتاح شويّ ده تلاجيه راجع هلكان. بعد كده ماهنسيبوشي ولا حتى خمس دجايج.
- عنديك حج والله يا صبري بس نعملو ايه بجى الواحد من كتر مالشيخ بدر متوحَّشه هاين عليه يطلع يجيبه من فوج يجعد معاه سنة بحالها.
- ومين سمعك يا وِلد أبوي، بس الصبر طيب بجى.. كُلْ كُلْ جبْل مانطلعوا من المولد بلا حمص.
- هاهاهاهاهاها، طول عمر لسانك متبري منيك.
تعثره في طريقه عدة مرات، قلبه الموشك على الهروب من صدره نجاة بالباقي من دقاته بعدما أوشك على الهلاك من فرط اللهاث، جبينه اللامع بحبات العرق كأنما عاد لتوه من رحلة لباطن الشمس، (مداسه) المحال للون التراب من كثرة ما التقطه من غبار الطريق، جلبابه المربوط في طرف لباسه (البفتة) الممتد حتى أسفل ركبتيه بقليل ليعطي نفسه المزيد من حرية حركة تؤهله لاقتطاع بعض الدقائق من زمن الذهاب يستغلها لرؤية شيخه العائد للحياة.. الزحام في ساحة الدار الخارجية لم يكن ليعنيه في شيء، ربما لم يدركه وعيه المشغول برسم لوحة لحظات اللقاء الأول مع صديقه الشيخ الشاب، انسل من بينهم إلى الداخل دون أن يراه أحدهم، كان يعلم أنه سيُمنعُ من رؤيته الآن إن حاول، نظرة سريعة ألقاها على الأب القعيد الجريحة فرحته، بهدوء تسلل إلى السلم الخشبي الصاعد إلى حجرة شيخه التي طالما جالسه فيها مارَّا بحجرة النساء. لأول مرة يلفت انتباهه شيء غير صوت وردة، اوقفته عيناه عند تلك الجالسة في طرف الحجرة صامتة، تتعلق عيناها بشئ آخر غير موجودات الحياة المرئية أمام الجميع من سكان البيت الكبير، كأنما سافرت روحا إلى عالمٍ آخر، وبقيت جسدا في عالمهم ذاك.. عينان سترتا خلفهما الكثير من مشاهد أعادت نفسها للظهور من جديد، في عالم انفرد بتلك المسكينة وانفردت بها. من مكانه رأى دموعها المخبوءة خلف ستار العينين.. حقا، إن المستتر من العبرات لا يلحظه إلا المعتادون على ستر مثله!
تجاوزها كعادته مع الحياة وعادة الحياة معه محطاتٍ تترك في عربات قطاره الكثير من العلامات، بتأنٍ شديد تخطى الدرج ثم الممر الصغير إلى غرفة الصديق العائد من جديد، قبل أن يفتح الباب في هدوء!
أكثر ما كان يذكره عنه أنه عاشق للضوء، يمقت الظلام أكثر من أي شيء (النور ده من أسماء ربنا يا طلال، نوَّر جلبك بذكر ربنا ينوَّرلك كل حاجة)... قفزت الجملة إلى رأسه فجأة، كأنها رسول عقله الباطن يعينه على لقائه به. قالها له ذات يوم بعد صلاة الفجر في مسجد العش، وهما يتأملان معا بزوغ النور الرباني من مملكة المشرق من إحدى نوافذ المسجد الحديدية الخضراء. لا يبدو الآن أنه مازال على عهد العشق والمقت، على ما يبدو أن سنوات اختفائه قد غيرت فيه الكثير. الظلام لا يكاد يسمح لأحد برؤية شيء.. رغم ذلك لمحه متكوما في ركن الحجرة الظلماء، ككوم لحم انتزعت الروح منه، ظهره مستند للحائط، وقد ضم ركبتيه إلى صدره مطوقا إياهما بذراعيه، لامعة عيناه كأنه المحتمي بجلسته تلك من وحش يوشك على افتراسه بعد لحظات يقترب ولا يراه سواه.
اقترب منه طلال بحذر ممزوج برهبة لم يعهدها قط في علاقته به. غير أن شيئا ما يطفو على السطح الآن غيَّر الكثير من الأمور بشأن الصديق العائد بعد غياب.. شيء ما منعه من الارتماء في حضنه، كما كان ينتوي. تأمل وجهه أكثر، اختفت اللحية شأنها شأن شعر الرأس والحاجبين، تحت عينيه الجاحظتين برزت بعض الدوائر الزرقاء، أثر خطين باهتين يمتدان من عينيه لحافة ذقنه، من أثر دموع كُثُرٍ لازمته ليالي الوحدة المقيتة في مكان ما، رعشة خفيفة في كفيه الذين برزت عظامهما وعروقهما بشكل ملحوظ. بدا أنحف كثيرا من ذي قبل، جسد بالكاد يكفي لحيازة أعضاء تلهث خلف نبض الحياة محاولة اللحاق بركبِه على غير إرادة صاحبها الزاهد في كل شيء. لم يكن هذا بكل تأكيد شيخه الباسم الذي فارقه قبل أعوامٍ ثلاث. كان شبحا سخيفا، لا يحمل أكثر من أساسيات ملامحه.. ثمة مسخٍ مرعبٍ أشبه بالأشرار من سكان الفضاء احتل مكان الغائب الذي لم يعد.
لم يعد بدرٌ هنا من جديد، استحال محاقا اختفى في عتمته كل ما سبق من ذكريات الماضي الجميل!
- شيـ...شيخ...شيخ بدر.
قالها بصوت مبحوح صارعته الدموع حتى صرعته، استمرت نظرته المليئة بالكثير من كلم يريد أن يصل لمسامع المستمع المنطوي دون أن ينعم برد، فاستمر بحديثه إليه:
- حمدلله عالسلامة يا سيدنا، اتوحشناك كلاتنا جوي.
من جديد غاب الرد!
- صحيح ماجولتلكش، مش آني خدوني في التجنيد؟ بجيت جندي خلاص زي اللي هياجو في الطريج إلى إيلات، ماهتفرحش لاخوك لصغيِّر وتجوله مبروك ولا ايه؟
- .........
- بص... بص آني جايبلك معايا ايه!
قالها ودسَّ يده في جيب جلبابه يخرج بعض الحلوى، مقتربا بها من ذلك الجالس في ركن حجرته، وقد بدأت عيناه تزدادان تعلقا بذلك المقترب نحوه في رعب، يحاول تحاشيه بقدر ما يستطيع، قبل أن يرفع ذراعه فوق وجهه ورأسه محتميا منه. منظره هال ذلك المقترب، فثبت كشجرة اصلها ضارب في الأرض من سنوات ألف.. لم يعد يجد من مناسب الكلمات ما ينطقه، عجز لسانه عن إيجاد المزيد في جعبته، فتوقف وتولت عيناه الكلام. وقف حينا يتأمله بدموعه دون صوت يدوي في أرجاء الحجرة غير صوت شهقاته مصاحبة دموعه، وصوت تلاحق أنفاس بدر المرتعدة من اقتراب ذلك الـ... الغريب!
الكثير من ذكريات الماضي البعيد افترست رأس طلال بأبشع ما يكون.. اللعنة على ذكريات ماضينا، دائما تتطفل علينا بزياراتها في الأوقات الخطأ. رغما عنه بدأ في التقهقر شيئا فشيئا، وعيناه لا تزلان معلقتان بشيخه الأثير. فتح الباب بهدوء، بعدما أيقن أن صديقه القديم لم يعد بعد. ألقى عليه نظرته الأخيرة المشبعة بدموع الفراق، ثم أغلق خلفه... وغادر!
بخيبة أمل نزل الدرج المضاء بأنوار الاحتفال التي جهزها محبو الشيخ من بيوت العش. مظاهر الحياة تقترب منه أكثر فأكثر كلما ابتعد عن تلك الحجرة مجسدة الموت.. أصوات الأهازيج تعبث بأذنيه من جديد كلما نزل درجة، كأنها إشارة القدر لابتعاد البهجة للأبد عن تلك الغرفة التي تركها قبل لحظات. بعينيه الدامعتين لمح تلك الجالسة في ركن الحجرة، مازالت شاردة مع مشاهد فيلمها القديم. الآن فقط عرف السبب، من جديد غادر... بانتظار عودة الشيخ الغائب منذ سنوات ثلاث. شيء ما داخله مازال مصرا أنه عائد للديار يوما!
-
مجددا عادت الحجرة لضوضائها. كانت تفتقد شيئا ما رغم تلك الضوضاء العائدة لصخبها من جديد. شيء مازال عالقا بأذهان الجميع يأبى النسيان.. شيء شارك كل اللوحات إطاراتها، وقاسم كل الأهازيج ألحانها.. شيء لازال محتفظا بمكانه في جميع الأركان. ذلك الشيء القابع هناك إلى جوار أحدهم تحت الثرى، رحل وصاحبه قبل شهور. لا زال شاهين هنا، لازالت ضحكاته تؤنس وحشة المكان المرتدي ثياب الحداد حتى الآن.. لازال يعبث مع الجميع في أركان وطنهم الصغير، الذين يجتمعون فيه منذ أعوام، حاضرا بصوره في هاتف ناصر الفاشل في النسيان، دأبه دأب الجميع.. لازال حاضرا في تلك الصورة المضافة بعد رحيله إلى أحد الجدران، تحفها شريطة سوداء.. لازال شاهين ينعم بينهم ببعض لحظات الحياة.
بعض بقايانا تظل متشبثة بأهداب الحياة، لا تصاحبنا لتراب القبور، تكتفي باستدعائنا كل حين لدنيا الأحياء بجملة (الله يرحمه) تجري على لسان أحدهم، حين تمر في رأسه صورة مشهد قديم اشتركنا وإياه في بطولته. عن شاهين، لم تكن مجرد جملة تجري على لسان ذلك الـ(أحدهم). تخطى الأمر تلك الجملة بمراتب عدة، كانت محصلتها النهائية أن شاهين... لازال ينتظر الموت، بعد أعوام لا تقبل التعداد.
عن الجميع انعزل منفردا بهاتفه. كان منظره آخذا في التغير، لحيته النابتة بشكل غير مهذب، شاربه على نفس المنوال، هندامه الذي لم يعد ذا أهمية ملحوظة له كما كان، انعزاله عن الجميع بهاتفه العامر بصور الراحل، لحظات شروده وثأر عقله الباطن من عدو مازال يطارده حتى الآن منذ عام كامل، يستحضر صورته بكامل تفاصيلها استعدادا ليوم الانتقام. الحقيقة الوحيدة التي بات يدركها الجميع... أن ناصر لم يعد هنا مجددا!
- هتترحلوا امتى ان شاء الله عالجيش يا رجالة؟
حسام كان السائل.
- يوم 22 ان شاء الله يا شاعر، اسبوعين في المدني بعدين سنة ميري بقى ان شاء الله.
تولى إبراهيم الرد، فاستمرأ حسام قوله:
- ربنا معاكم يا شباب ان شاء الله، الحمد لله ربنا تايب عليا وواخد الاعفا بقالي ييجى خمس سنين.
- أرزاااق يابا.
- بس ياض يا شافعي... جهزتو حاجاتكم؟
- حاجات ايه؟
هنا تولى شافعي الرد ساخرا:
- قصده الصن بلوك وكريم تفتيح البشرة والحاجات الحلوة دي.
- بتهزر؟... مانتا معايا في نفس الطلعة ولا انت يعني هتتجند في مول العرب؟
- مجند عن مجند يفرق ياابني انت مش شايف الفرق في الفورمة بينا عامل ازاي؟
- آه نسيت انا موضوع الفورمة ده معلش.
فصل باسم بين الصديقين، تظله ضحكات الآخرين، حتى انتبه حسام وشافعي وإبراهيم لمعتز القائل:
- لحد امتى هنسيب ناصر في الحالة دي؟

قالها آسفا، وعيون الثلاثة مازالت معلقة بهذا الجالس وحيدا هناك، بصحبة هاتفه وصوره وذكرياته مع ساكن الهاتف والصور.

- أنا مقدر إحساسه يا جماعة انا عشت المعاناةيدى قبل كده وعارف يعني ايه تفقد حد عزيز عليك.

- يا جدعان شعور ناصر مش مجرد حزن على شاهين، ناصر بيفكر ليل نهار في الانتقام

من الواد اللي قتله ده.

- انتقام!... انتقام ازاي؟

قالها شافعي، يظل قوله بحاجبيه المتقاربين يعكسان دهشته. يأتيه رد صديقه:

- من يومين كده اتكلمت معاه لوحدنا قاللي كلام كتير كده انه مش هيسيب حق شاهين وانه فاكر شكل الواد وهيجيبه يعني هيجيبه وكلام كده.

-مش هينفع نسيبه كتير على الحالة دي على فكرة.

-هنعمل ايه طيب أكتر من اللي عملناه وبنعمله؟

-مش عارف، بس أكيد فيه حل ده قرَّب يتجنن.

قالها شافعي وسكت بعدها، لينتبه الجميع لصوت طرقات الباب. نظرات بعضهم لبعض كانت مؤشر الاستغراب الأبرز، تبودلت بينهم النظرات ومازالت الطرقات تشاكس بابهم في هدوء. قام حسام إلى عين الباب السحرية يرى من خلفها، قبل أن يعود مجددا للجميع بنظراته الموحية بشيء ما

-فيه ايه يا حسام مين عالباب؟

-......

-فيه ايه ياابني ماتفتح!

تلقى حسام الأمر، ففتح الباب على استحياء ناظرا لهذا الطارق الذي لم ينتظر دعوة الدخول كثيرا.. مدَّ يده إلى حسام مصافحا، قبل أن يخطو للداخل ملقيا السلام على الجميع، ويجيئه الرد منهم في شيء من البرود، أعقبته دقيقة صمت أشبه بدقائق الحداد، فقام معتز إليه مرحبا يرغب في رفع الحرج قائلا:

-اتفضل يا كفافي ايه أخبارك وايه كل الغيبة الطويلة دي هانت عليك العشرة قوي يا جدع!

قابلها ذلك الداخل للتو بابتسامة خفيفة طفت على سطح شفتيه في تكاسل يقول:

- ربنا يخليك يا معتز كلكم ليكم وحشة والله بس شوية مشاغل كده أخرتني الفترة اللي فاتت دي

- إيه اللي جابك؟

فوجئ بها الجميع من ناصر القائم يقف في مواجهة كفافي، المقابل لها بزفير طويل ناظرا للأرض في إشارة لعدم رغبته في المواجهة، فاستطرد ناصر:

- حنيت لقعدة البلطجية ولا ايه؟

- ناصر مالوش لازمة الكلام ده.

قالها كفافي، فرد ناصر بانفعال:

- أومال ايه اللي ليه لازمة؟

قبل أن يعود لهدوء مصطنع قائلا في سخرية:

- آه صحيح نسيت، كراسي البرلمان.. يا جدعان مش حد يفكرني، بس يلا معلش بلطجي بقى ومخي على قدي.

- ناصر انت عايز ايه؟

- انت اللي عايز ايه؟...جاي ليه؟... مش احنا البلطجية اللي قلتو علينا عايزين يخربوا البلد؟...جاي تقعد معانا ليه؟

- وبعدين؟

- فاكر ده؟

قالها ورفع هاتفه في وجه مخاطبه مستطردا:

- فاكر شاهين؟، شاهين اللي انت بإيدك شيلته لحد المستشفى الميداني ومات بين ايديك؟، فاكر اصحابك الإخوان اللى شالوا يوم الجمل على اكتافهم واتدبحوا فى الميدان و لولاهم بعد ربنا كان زماننا كلنا أموات؟، تعرف ان شافعي كان هيبقى ده نفس مصيره في محمد محمود؟، وقياداتك في الإعلام بتقول الجيش والشعب ايد واحدة، فاكر ولا نسيت؟

- واضح ان انت اللي نسيت، محمد محمود انا كنت معاكم ليل نهار ماسبتش الميدان، مش معنى ان قياداتي عارضوا النزول اني كنت معاهم. كان مطلوب مني ايه تاني أكتر من اني أنزل زيي زيكم واعصى الأوامر انا وشباب غيري كتير؟

- تسيبهم!

قالها بصوت علت نبرته، ثم استطرد قائلا:

- ناس قالت على اخواتك اللي كلوا معاك عيش وملح وعاشوا معاك حلم التغيير بقالهم سنين بلطجية، وقالوا عليك انت كمان، تفضل مكمل معاهم ليه؟، اديني سبب، سبب واحد اقدر اقبلك تاني بعده؟

- عشان مش خطأ عملوه هيقطع علاقتي بالكيان اللي اتربيت فيه.

- يا سلاااام، برافو عليك والله أقنعتني هات حضن بقى!

قالها ناصر ساخرا، ثم استمرأ حديثه بلهجة الجدية قائلا:

- الخطأ ده كان فيه دم اخواتك، ولو الكيان ده اتربيت فيه فاصحابك دول كلت معاهم عيش وملح، نزلت معانا ومازلت مقتنع باللي قالوا علينا بلطجية، طب اصدقك ازاي؟ اصدقك في أي حاجة بعد كده ازاي؟، انت كده شايف نفسك صاحب مبدأ؟

- واضح ان كلامي معاك مش هيجيب نتيجة يا ناصر.

- دي حقيقة وعشان كده انا عندى حل جميل جدا... مش عايز اعرفك تاني... اطلع بره!

- ناصر!

قالها شافعى المتدخل أخيرا في الحوار، فأتاه رد ناصر:

- لو ماطلعش بره دلوقتي انا هاخرج ومش هتشوفوا وشي تاني!

- ماشي يا ناصر، انا هاخرج وتأكد انك مش هتشوف وشي تاني، بس في يوم من الأيام هتعرف انك ظالمني.

قالها كفافي وهمَّ بالخروج، وسط نظرات الجميع المكتفين بمراقبة ما يحدث، عاجزين عن أي تدخل. فتح كفافي الباب وخطى خطوته الأولى للخارج، فتبعه حسام للخارج قائلا:

- كفافي... ماتزعلش من ناصر انت عارف حالته عاملة ازاي من ساعة موضوع شاهين ده.

- حصل خير يا حسام مافيش مشكلة، أنا هاستنى لما يهدا ان شاء الله ويبقى لينا قعدة تانية.

- انت فين أراضيك دلوقتي؟

- موجود أهو والله مشغول شوية في أنشطة الحزب والدعاية للانتخابات وكده.

- ربنا يوفقك.

- ربنا يخليك...يلا سلام عليكم.

- وعليكم السلام!

(ملحوظة :: منطق (فرق تسد) يبقى أنجح وسائل الأنظمة القمعية للاحتفاظ بالسلطة بتغير الأزمنة وتباين الأنظمة واختلاف الشعوب... من يفرقهم هم أول معاونوه على تفرقتهم، تلك للأسف على كل حال!)
-------------------------------------------

حياة لم تعد كالحياة، ما أشبه أيامه الآن بعد كل ما كان بأسرَّة المستشفيات الحكومية، لم تعد تتقن إلا وداع زائريها لعالم الأحياء!
مجددا عاد لسطوح منزله وجلسته يسامر ريشة.. على غير عادته مُنِعَ الكلام، اكتفى بوضع الفأر الأبيض الصغير على فخذه، ممررا كفه فوق شعره الأملس، ناظرا لقمر بعيد في سماء العش يعاني عدم اكتماله. لأولى المرات يلحظه على هذا النحو من الخنوع، راغب في الاكتمال وتمنعه الطبيعة، آمل في اللمعان وتأبى الطبيعة الإنعام عليه به، لم يعد ذلك القوي الذي طالما عشق بسمته في ليالي حلمه، واستعان بأمله في ليالي يأسه، وأفضى له بشكواه في ليالي كبته المقيت.. البدر في حياته الآن بات مدفونا في حروف ثلاث...ك.. ا..ن!
- ماخابرش هافضل أودعك كل شوية اكده لحد ميتى يا صاحبي، ليلتين واسيبك تاني لجل الجيش، بس ماتخافِش، البت صابرة خابرة زين هي هتعمل ايه في غيابى.
بصوت ضعيف يفهمه طلال فقط، وحركة دؤوبة يعلم عنها أنها تنبئ بالغضب والحب كليهما، بادله ريشة وداعه بوداع أحر منه. الحيوان ربما يعلم عن مشاعر الفطرة مالا يعلمه البشر أنفسهم. أودعه جحره من جديد، ألقى على سماء العش نظرة لم تمتعه كسابقاتها.. لم يشعر أنه رغب في إطالة النظر إليها كما هي عادة كل ليلة.. ثمة شيء سلبه راحة النظر إليها، يرقد هناك خلف جدران البيت الكبير!
أخيرا حان وقت المغادرة.. مغادرة أخرى تضاف لرصيد قديم، أتخمته مغادراته للآخرين ومغادرات الآخرين له. لحظات الفراق لم تعد سطرا غريبا على صفحاته بأي حال، جلبابه البني ذو الأكمام الواسعة وفتحة الصدر الممتدة لمنتصف بطنه مظهرة صديره الأبيض -أو هكذا كان لونه قبل أن يستحيل للصفار حزنا على رحيل صاحبه مريض الكبد قبل سنوات- حذاؤه الميري المتقمص دور الخل الوفي، وهو الملازم صاحبه سنوات المعاناة الثلاث، بقجته رفيقة رحلة الجنوب، و... بعض الحلوى في جيب جلبابه العتيق!

- أشوف وشك بخير يامَّا
قالها وأعقبها بالتقاط كفيها يقبلهما
- توصل بالسلامة يا ضنايا، خلي بالك من نفسك.
- ادعيلي يامِّا... ادعيلي كَتير
- دعيالك من كل جلبي يا طلال يابن بطني.
من جديد عاد لتقبيل كفيها، وأطال التقبيل، قبل أن تضمه لصدرها ضمة أودعت فيها كل ما تملكه من حنو.. وجزع!
- ان شاء الله مااطوَّلش عليكم النوبادي، عيجولو معسكر التدريب اللي اني رايحه دِه زين كل العساكر اللي فيه دكاترة ووسايطهم تَجيلة بيريحوا المعسكر كله على حسهم.
- فاكر نفسك دَكتور اياك، طب تعالى...تعالى اكتبلي حاجة للسخونية يابشحكيم حكم حرارتي عالية من صباحية ربنا.
انتبه لها قادمة من خلفه، ممتطية مطية الاستهزاء. نظر لقائلها الواقف مستندا بظهره إلى الباب ويداه في جيب جلبابه الأزرق.. اقتصر رده على زفير حار ينبئ بضيقه، أعقبه بقوله المقتضب:
- الله يسامحك.
- بدل ماتجوم تسلَّم على اخوك وتاخده بالحضن وتشيل حاجته توصله بيها لحد محطة الجطر؟
تولت بها الأم دفة الحديث، فكان رد ابنها:
- اشيل حاجته؟...كانه صغير في اللفة، هاشتغله شيال على آخر الزمن أني ولا ايه؟
- ربي وجلبي غضبانين عليك يا علي يابن بطني... ربى وجلبي غضبانين عليك طول ما انت بالجساوة دي!
- لا...لا يامَّا اوعي ابوس يدِّك كله الا غضبانة عليه ديّ!
قالها طلال بشيء من الانفعال الفطري، فكان رد أخيه:
- يا واد انت يا حنين يابو جلب بفتة بيضا.
- روح يا علي شوف مصالحك...روح ياخوي الله لا يسيئك.
- وانت بجى اللي هتجوللي روح وماتروحش ولا تعرفني مصلحتي فين؟، الجوالب نامت والانصاص جامت يا جدعان.
- استغفر الله العظيم، اللهم طولك ياروح، إنت عايز مني ايه دلوك يا علي؟ داني سايبلك البلد كلها وماشي حرام عليك!
- أني أعوز منك انت؟... انت؟...تيجي ازاي ديَ؟
- هو انت ايه؟، ماهتحسش؟ اللي في ضلوعك دِه جلب ولا حجر؟ مش مكفيك اللي احنا فيه؟ مش كفاية عايش في دنيا لوحدك وسايبنا نحارب الدنيا لحالنا اني واخواتك؟ اتجي ربنا فينا بجى، اتجي ربنا حرام عليك!
قالتها الأم وأتبعتها ببعض دموع لم تستطع لها حبسا، فضمها طلال إلى صدره ناظرا نظرة ذات معنى لأخيه، الذي أسكتته الكلمات حينا ليس بالقصير. قبل أن يحاول فاشلا تدارك الأمر بقوله:
- خليكي اكده في صفه على طول الخط، كانه هو بس اللي ولدك وأني لجتوني على باب جامع... والله ماني جاعدلكم فيها.
قالها وانصرف مغلقا الباب خلفه في عنف، تلاحظه عيون الجميع في حنق ارتبط بحبهم للأم الباكية على صدر ابنها
- معلهش يامَّا حجك عليا اني، مسيره ربنا يهديه.
- يسمع من بجك ربنا يا ولدي... يسمع من بجك ربنا.
- ان شاء الله هيسمع، ادعيله وادعيلي ويَّاه.
- دعيالكم من كل جلبي يا ضنايا.
- يلا أني هاتوكل على الله بجى يدوب كده الوجت أزف، اشوف وشكم بخير.
قالها وقبَّل جبين أمه وكفيها، ثم احتضن أختيه وأودع جبينيهما قبل مماثلة، قبل أن ينتبه الجميع فزعين لذلك الصوت المنخلعة لسماعه قلوبهم، تنبئهم بكارثة ما لم يعلموا عن حقيقتها شيئا بعد... ثمة صراخ قادم من البيت الكبير!
-------------------------------------------------------

بات أكثر ألفة من ذي قبل. بدا ذلك جليا في كل شيء، أجوبته المتخلية بعض الشئ عن غموضها، تخلٍ لا يفي كثيرا بالغرض، لكنه مُرضٍ بشكل ما على كل حال.. استطراده في الحكي بشكل عجزت عن مقاطعته فيه. كان شاعرا بكل شيء، متقمصا كل شخصية، مستحضرا كل موقف، لم يعد مجرد راوٍ يستعيد أحداث سنوات مضت.. كان أشبه برحالة متمرس الترحال، يتنقل بين مواطن ذكرياته كأبرع ما يكون.
كما هي عادتنا، فصلتنا طاولته القديمة المتوجة برفيقتنا الثالثة، رقعة الشطرنج. أنهينا للتو مباراتنا الـ.....، مللت التعداد في حقيقة الأمر، النتيجة معروفة على كل حال، وإن كان مستواي يشهد تقدما ملحوظا، كما قال لي، على مقعده المتحرك استوى ساندا ظهره، يلهب صدره بأنفاس سيجارته، ناظرا إلى ضحايانا الباقية على الرقعة ذات اللونين بزهو اعتدته منه وأصبحت ابتلعه ممتعضا:
- انت مين علمك شطرنج؟
- اتعلمته لوحدي.
- لوحدك؟!
- آه لوحدي ايه المشكلة؟
-مش القصد بس غريبة شوية، اتعلمته في وقت قد ايه؟
سمع السؤال، فضاقت عيناه ناظرة إلى فضاء بعيد عبر نافذته المتهالكة يستعيد من ماضيه مشهدا ما.. أعرف منه هذه النظرة اللعينة، وأعلم أن وراءها غموضا ما، لن يفصح عنه.
- اتعلمته يوم العركة!
- يادي يوم العركة!
- إيه؟ زهقت منه للدرجادي؟
- هو انا كنت عرفت هو ايه عشان ازهق منه؟
- هتعرف... مسيرك تعرف.
- وامتى هتحن عليا بالمعرفة دي؟
- مش لما نخلص حكايتنا مع سَرْباز الأول؟
- لا والله؟...قال يعني انا عرفت الأولى لما هاعرف التانية!
- ماتستعجلش.
- لأ مستعجل.
- هابدأ اشك في ذكاءك على فكرة.
بزفير يأس معتاد أجبته، قبل أن أتبع زفيري بقولي:
- ممكن اعرف ليه؟...ولا دي برضه هاعرفها لما نخلص سَرْباز والعركة؟!
- لا دي مش هاقولها خالص!
- شكرا!
بغيظ أجبته!
- العفو!
ببرود أجابني:
- مستفز!
بحنق حاولت أخذ حقي..
- عارف!
بلامبالاة سلبني متعة أخذه
- .............
- أكمل، ولا هتعطلنا كتير؟!
- كمِّل!
- لاعبني دور شطرنج الأول!
- ده تاسع دور نلعبه النهارده، انا صوابعي نمِّلت!
- خلاص روح شوف حد يكملك بقى.
- أوفففففف
قلتها وهممت برص القطع في مواقعها مستسلما، أنظر بغيظ لعينيه الباسمتين في سخرية، قبل أن يستطرد قائلا:
- كنا بنقول ايه؟!
----------------------------------------
هل حقا أصبحت ذلك الطبيعي الذي يظنون؟.. هل غدا كل ما مضى عبثا لذاكرة شاخت، فكفَّت بشيخوختها عن العبث؟.. لماذا لم تعد صورتها مُلحَّة تزعجني بضجيجها المريح بإيلامه، المؤلم براحته كسابق الأيام؟ لماذا لم تعد ذكراهم رافعة راية سيطرتها على رأسي المستَعمر لسنوات بحكمها كما طال عهدها بي؟ هل قرر النسيانُ أخيرا إنهاء قطيعتنا بعمر السنوات؟ هل أهلكته أعوام معاركنا معا -كما أهلكتني- فقرر أخيرا الانسحاب؟.. اللعنة على كل تلك الـ (هل)، أما آن لها أن تُسجن واستفهاماتها في سجن من سجون الجحيم؟
لا أعلم إن كنت حقا نسيت، أو أنها من جديد تلك الرحلات المؤقتة خارج وطن الوفاء لذكريات الراحلة والراحلين. لا بأس... ما زالوا هنا رغم كل شيء، أشعر بوخزات ذكرياتهم من حين لآخر، تعاقبني على التشاغل عنهم بأي جديد. حتى متى سأظل هذا الكائن غريب الأطوار، طبيعي فقط حين يكون بين الناس، ثم لا يلبث أن يرتدى عباءات الغرابة حين تضمه وذكرياته جدران حجرة قميئة، تقبع هناك في آخر شقته فسيحة الأركان؟ لا بأس، سأنتظر وأنتظر ولن أملَّ الانتظار.. من يدري، ربما شملتني إحدى الإجابات بعطفها يوما ما!
----------------------------------------------
- دي بقيت عيشة تطهَّق!
- ايه يابني مالك فيه ايه؟
- عماد بيه...عماد باشا...سيادة اللوا عماد!
- عمدة؟... ماله؟
- عمل أورنيك عيادة تاني، وجدد الراحة بتاعته من الخدمات والطوابير!
- تاني!...ده بقاله شهر عالحال ده مقضيها أرانيك مضروبة.
- وطبعا احنا العبيد اللي هنشيل خدماته... مش كفاية اشيل خدمة يوم ويوم هنشيلها كل يوم لحد ما يجيلنا تسلخات وهو قاعد نايم في العنبر كأنه جاي يصيف.
- يعني هو جديد علينا؟ ماهي ماشية كده، مادام مالكش ضهر هنا هتتداس بالجزم.
- وآخرتها ايه؟... أضرب نفسي بالسونكي بقى عشان ارتاح ولا ايه؟
- إن كان عاجبك وعاجبنا... هتعمل ايه يعني؟
- هاروح للصول حسيني اقول له، ولا هو بس فالح يعمل علينا أسد في التمامات والطوابير؟
- حسيني! هاهاهاهاهاهاها
- بتضحك ليه؟
- انت لسه جديد بقالك يدوب شهرين هنا، لما تقدم شوية هتعرف ليه.
- الله لا يسيئك يا صبري مش ناقص شغل أفلام، قول وخلصني بدال ما تسيبني على عمايا كده البس في الحيط.
- يابني عماد هنا مسيطر أكتر من أي حد، حاطط الحسيني تحت ضرسه من ساعة ما وصل هنا من سنة بالظبط، هو العصفورة بتاع الحسينى هنا، أخبار المعسكر كلها عند الحسينى من عماد، ولو فيه عسكرى عمل حاجة من ضهر الحسينى ولا غلط فى حاجة يخللى عماد هو اللى يتعامل معاه خناقة صغيرة يرميه بيها فى السجن 10-15 يوم غير الدعك اللى فى وشه من عماد بيه، تقدر تقول كده هو دراعه اليمين النجس هنا فى المعسكر.. عماد بيقضى جيشه على حس الليلة دي، انت مش واخد بالك ان هو الوحيد اللي دفعة أجازاته كل مرة بتبقى زايدة عن باقي اللي نازلين يومين تلاتة، وكل مرة حجة شكل... أصل أبويا تعبان... اصل أمي عيانة... أصل أختي بتتجوز؟... ده من ساعة ماوصل هنا واخته متجوزة بتاع سبع مرات!
- طيب... بس ليه الحسيني سجنه الاسبوع اللي فات لما الرائد وائل جمعنا بالليل؟
- هاهاهاها مش باقولك جديد وعضمك طري، يابني دي حركة أفلام كده قدامنا بس، والدليل أنه طلعه الصبح بعدها بكام ساعة، ده بالعكس رحَمه من تكديرة الوقفة في التلج في نص الليل، خلاَّه راح نام في الدفا في السجن وطلع الصبح فايق بعد احنا ما استوينا تكدير طول الليل.
- أنا هابلغ الظباط، هاروح للنقيب مؤمن وهو يتصرف.
- ده كان الحسيني طيِّن عيشتك، سيبك من دور الثورة اللي انت عايشه ده، احنا هنا مش في التحرير، ماحدش هيجيبلك حقك. وبعدين النقيب مؤمن محترم وطيب وكل حاجة، بس لسه جديد في المكان مخدش قوي على الجو ولا يعرف خباياه، الحسيني هيعرف يضحك عليه ويوصل له الصورة على مزاجه هو، وساعتها بقى يا حلو هيتفق هو وعماد عليك، وهتشوف أيام أسود من أسير في اسرائيل.
- خلاص هاروح للرائد وائل.
- ياابني هو انت مصر على خراب عشَّك ليه؟... مين اصلا يا حلو يا رايق قالك ان الرائد وائل مش معاهم في الليلة دي؟
- ليلة ايه؟!
- ليلة العصافير... انت فاكره مُغفَّل مش عارف ايه اللي بيحصل في المعسكر؟
- يعني عماد بيعمل كده مع وائل بردو؟!
- مش بالظبط كده.
- مش فاهم حاجة.
- عماد كل التعامل بتاعه مع الحسيني، اتنين رمم زي بعض، انما وائل ماينفعش ينزل لمستواهم ويبقى شريك مع عسكري وصول في كلام فارغ زي ده. الحسينى فاهم كده وعارف ان وائل سايبه بمزاجه، فبيروح هو بنفسه ينقله الأخبار دى أو بيمثل انه بينقله الأخبار وانه صاحى والتاني يمثل انه بيصدق عشان شكله قدام الصول والعسكري اللي بيمثل انه مايعرفش ان الظابط بتاعه مايعرفش حاجة عن اللي بيعمله.. تمثيلية كبيرة، كل واحد فيهم عارف دوره فيها ومابيخرجش عنه، وفي الآخر مافيش حد بيدفع تمنها غير الغلابة اللي مايملكوش ضهر يتحاموا فيه زيي وزيك...فهمت؟!
- .......
- يلا زي الشاطر كده بقى روح البس وجهَّز نفسك عشان تشيل خدمة أخوك عماد!
----------------------------------------
فوق السجادة الكبيرة في منتصف الصالة، كان اجتماع العائلة الأخير، يودعونه قبل المغادرة. حقيبة كبيرة أعدتها الأم مسبقا، وجلست إلى جوارها تحصي محتوياتها للمرة المائة وثلاثة عشر بعد الألف، وسط ابتسامات باقي أفراد الأسرة الصغيرة ذات الأعضاء الأربعة، يتبادلونها بعيدا عن عينيها المنشغلتين بإعادة ترتيب احتياجات ولدها المستعد للرحيل..
- الشامبو، الغيارات، مَكَنْ الحلاقة، جِل الحلاقة، بودرة الرِجل، فوطة، سبراي مزيل للعرق، صابون وصبَّانة، قصَّافة، شبشب، قِفل كومبيوتر، كشكول، قلم، دي كده كل الحاجات اللي انت طلبتها، فيه حاجة تانية كده ناقصاك؟
- لا شكرا يا ماما تسلم إيدك.
- تروح وترجع بالسلامة ان شاء الله يا حبيبي.
قالتها الأم وأوشكت دموعها على الانحدار تحتضن ابنها المغادر، فعاجلها الأب مازحا:
- إيه يا أم إبراهيم هو مهاجر؟
- مش متعودة يبعد عني كتير، وبعدين ده رايح جيش مش رايح يصيِّف.
- يا حبيـــــــــــــــــــبي!
هنا تدخل الأخ ساخرا من أخيه الباسم في تكلف، قبل أن يعود الأب للجد من جديد قائلا:
- حاول بقى تستغل السنة دي في حاجة مفيدة ادرس حاجة أو ذاكر حاجة مثلا.
- ان شاء الله ربنا يسهل.
- انت ناوي على إيه أصلا صحيح بعد الجيش؟
- ممم... مش عارف بالتحديد بس في الغالب يعني هسافر.
- تسافر!
- آه إن شاء الله، حضرتك ليه استغربت كده؟
- لا أبدا بس ليه السفر؟
- وليه افضل هنا؟، ببساطة مصر مش عايزانا، مش عايزين نبقى ضيوف تُقال عليها.
- ضيوف!
- وتُقال!
- بس ده مكانش كلامك انت وزمايلك من كام شهر.
- ده مش كلامنا ده كلامها هي.
- كلام مين؟
- مصر!
- ممكن أسألك سؤال؟
- طبعا يا بابا اتفضل.
- بتحب مصر أكتر ولا أمريكا؟
-إيه السؤال ده؟... اكيد مصر يعني!
- اسمحلي أقولك ان دي مش الحقيقة، انت بتكره أمريكا عالورق وفى التليفزيونات زي مابتحب مصر عالورق وفي التليفزيونات، لو جاتلك فرصة تسافر وتعيش هناك طول عمرك هتسافر، ولو جاتلك فرصة تسيب هنا وتمشي ماترجعش تاني هتمشي، حب البلد عمره ما كان عالورق وفي التليفزيونات يا صديقي العزيز، معادلة حب الوطن أعمق من كده بكتير، انت كده بمقاييس الانتماء أمريكي مش مصري!
- هي اللي أجبرتني على كده، ده اختيارها مش اختياري.
- قصدك اختيارهم!
- ...........
- اللي مش عايزينكم فيها، اللي مش عايزين يسمعوا فيها صوت حق، اللي اخترعوا تهمة حيازة ضمير...عرفتهم؟
- ..........
- هروبك وهروب زمايلك واصحابك جريمة في حق البلد دي عمرها ماهاتسامحكم عليه لا هي ولا الأجيال اللي جاية بعد كده!
- ده مش هروب!
- عندك ليه اسم تاني؟
- ممكن نقول...تصحيح أوضاع!
- تصحيح أوضاع ليكم مش ليها.
- لينا احنا الاتنين.
- بتسمي وجودك براها تصحيح أوضاع
- طبعا!
- إزاي؟!
- مصر اتعودت على اللي هي فيه ده خلاص، لو شافت النور بعد كل العتمة دي هتموت من الصدمة، زي المدمن بالظبط، عارف علاجه فين ومع ذلك مش عايزه، خايف من العلاج أكتر من خوفه من الموت، لا هو عايز يتعالج، ولا الديلر اللي بيبيعله عايزه يتعالج، ولا التجار اللي بيوزعوا للديلر عايزينه يتعالج، ولا المهربين اللي بيهربوا للتجار عايزينه يتعالج، وهكذا لغاية أكبر راس بتستفيد من إدمانه، كلهم بيتآمروا عليه هو عشان مصلحتهم، وهو يوم ما يحب يعمل فِتِك ويستقوى على حد، يستقوى على أهله الغلابة عشان فلوس السم اللي بيطفحه.. شبه مصر الخالق الناطق، مش قادرة تستقوى إلا على أهلها اللي طافحين الكوتة، الناس اللي عايشين يوم بيوم مستنيين الموت يرحمهم من اللي هم فيه!
لم يجد الأب من مناسب الردود على قول ابنه المفعم باليأس أكثر من تنهيدة طويلة، أعقبها بقوله:
- منهم لله يابني اللي خلوكم تشوفوا الصورة بالسواد ده، حسبي الله ونعم الوكيل.
- مش هم اللي خلونا يا بابا، الصورة مرسومة من زمان، احنا بس اللي حاولنا نوهم نفسنا ونشوف صورة غيرها، اتضح ان الحيطة عليها صورة واحدة بس بلون واحد بس... حضرتك عارفه طبعا!
- ........
- أنا حاسس ان احنا هنرفع علم مصر على ترابيزة السفرة كمان شوية ونغني بلادي بلادي، يلا يا عم اتكل على الله هتتأخر خلي موجز التاسعة ده لما ترجع ان شاء الله.
تدخل بها الأخ من جديد مازحا، فابتسم لها الجميع. اقترب من أخيه محتضنا إياه حاملا له حقيبته، مترجلا أمامه إلى باب الشقة، منتظرا إياه حتى ينهى طقوس المغادرة من احتضان أبويه وتقبيل أياديهما:
- حد من اصحابك هيعدي عليك؟
- آه ان شاء الله شافعي لابس معايا في نفس معسكر التدريب هيعدي عليا ان شاء الله نروح مع بعض.
- خلي بالك من نفسك يا ابراهيم.
- حاضر يا ماما.
- وكلمنا أول ما توصل من أي تليفون.
- حاضر.
-وحاسب على نفسك وفلوسك وحاجتك ولاد الحرام كتير.
- حاضر والمصحف.
أنهى بها الابن الأكبر الحديث باسما، فابتسم له الجميع... ثم غادر!
(كل حركة لعسكري الشطرنج بين مربعات الرقعة تؤدي في كل الأحوال لتغيير ما في مصيره و... مصير الآخرين!)
-----------------------------------------------
هل حقا مات بدر؟، هل حقا انتهت فصول القصة عند هذا الحد؟، كم كانت سريعة للحد الذي بدت معه كل ردود الأفعال سخفا لا تفسير له. قديما، ضم هذا البيت أسرة لا تعرف من الأحزان أكثر من مسماها، يسمعون عنه في حكايات القدماء، المندرة الكبيرة في ليالى القدر وعاشوراء ووقفتي العيدين، وليمة موسم القطن في ساحة المنزل الكبير، حيث اجتماع أهل العش احتفالا بالمحصول المولود للتو للوجود، القلل الفخارية اللامعة ببللها على شرفة الحاجة الكبيرة الله يرحمها، زروع الريحان في الشرفة المجاورة لـ(الست الصغيرة)، صوت المنشاوي يصدح خلف ثالث النوافذ للشاب الراحل... ثمة أسرة سعيدة كانت هنا يوما ما!
مجددا عاد الرحالة الصعيدي لترحاله، سفر آخر يضاف لقائمة الأسفار، ثلاث سنوات رابضة تنتظره هناك خلف أسوار القلعة العسكرية شاهقة الأسوار. غادر وفي رأسه تتوالى ومضات المشهد الأخير بكل تفاصيله، أصوات الصراخ الأول لازالت تئن داخل أذنيه، صورة الجسد المرتدي كفنه في صندوق خشبي مفتوح السقف في رحاب المسجد يتلقى الوداع الأخير من أهل القرية في صلاة جنازته، شواهد القبور العامرة بقدر كبير من الرهبة لم يثنه عن البقاء بعد مراسم الدفن لقراءة الفاتحة المُتلاة من لسان أوشك على البكم حزنا، وعينين قاربتا على العمى من فرط الأسى.. بقايا الحلوى التي تركها على قبره قبل المغادرة. رحل بدر... ومازالت صور ذكرياته هنا تعبث بذاكرة المجند الصغير.
أربع ساعات كانت كافية للوصول لآخر المحطات. أمام محطة مترو المنيب كان الوقوف الأخير للسيارة (الميكروباص)، تتابع نزول راكبيها عقب الجملة المعتادة للسائق يختم بها كل رحلاته، بعد تهدئة صوت المطرب المتآمر على آذان الركاب طوال الرحلة بـ(مهرجان الست أم أحمد):
- يلا آخر يا حضرات.
الزحام الشديد للسيارات والمارة على جانبي المحطة كان السمة الأكثر تميزا، محل الكشري المواجه للمحطة على الجانب الآخر ورائحة (التقلية) المنبعثة منه تبعث على الغثيان، (كبدة ا جنيه، سجق 1.5 جنيه) مكتوبة بلون أصفر باهت على زجاج عربة زجاجية ذات آوان ثلاثة متراصة داخلها يتصاعد منها بخار ذو رائحة لا تبدو مميزة لطعام آدمي، وقد انشغل أحدهم بملء بعض أرغفة (الفينو) بمحتوى الآواني الثلاثة. نزلة الكوبري التي تراصت في نهايتها السيارات مرسخة الحقيقة الأكثر وضوحا في روتين المصريين اليومي (الطوابير)، نصبة الشاي، لصاحبها عم جمعة إلى جوار السلم الخارجي للمترو، نزاع سائقي عربات الصعيد على باب المترو على أحد الزبائن الخارجين من المحطة العجوز بهموم روادها، حرب النداءات (بني سويف بيبا والفشن) (منيا سمالوط منياااا) (بني سويف واحد يا استاذ) (نفرين سوهاج يا بيه) ( عشرة جنيه بني سويف شرق بني سويـــــــف)، هروب الزبون إلى زحام الشارع الكبير بحثا عن سفر هادئ (بعض الشيء) بعيدا عن حرب السائقين، (الحلوة من دمنهور بس احنا اللي عدينا السور) منقوشة على الزجاج الخلفي لإحدى السيارات المستعدة للرحيل، متخمٌ سقفها بحاجيات المتكومين داخلها، (الأمير عبد الله والدلوعة شهد) منقوشة على زجاج آخر لسيارة أخرى، تنازع الأولى في اقتناص راكب ينقص كليهما.. إحداهن من ذوات الثامنة تسمع لسعة (شبشبها) المتهالك للأرض في خطواتها السريعة، تحمل عبوات المناديل بيمناها، في حين انشغلت يسراها بالهرش في شعرها البني الأشعث، تزحف تحت ماكينة العبور متخفية من رجال المترو، وقد أعدت حنجرتها وقائمة أدعيتها وتوسلاتها لرحلة يومية، ربما تجني في نهايتها بعض جنيهات قد تصلح لعشاء يبقيها حية حتى رحلة مشابهة تخوض غمارها في صبيحة اليوم التالي، الزحام على شباك التذاكر وجملة (مافيش فكة) تتكرر خلف الزجاج بنبرة راغبة في تحطيم الزجاج، متبوعا برأس الواقفين خلفه...
- بجولك ايه يا أخينا، أروح الحلمية كِيف؟
- انزل رمسيس وغيَّر يا بلدينا.
- أغيَّر كيف يعني؟...واروحها كيف رمسيس ديّ من أساسه؟
- يا عم ماتقرفناش بقى عالصبح مش ناقصين غباوة.
قالها وغادر متجهما غير عابئ بنظرات سائله المصدومة من ردة فعل لا يعلم سببها.
- اركب من عالرصيف ده يا باشا وانزل محطة الشهداء، ومن على نفس الرصيف هتلاقي يافطة مكتوب عليها اتجاه المرج اركب الخط ده وانزل الحلمية.
قالها أحدهم المتابع للموقف عن قرب، فهمَّ طلال بشكره، قبل أن يفاجئ كلاهما صوت عجوز قادم من يمينهما:
- اسمها محطة مبارك... محطة السيد الرئيس محمد حسني مبارك... منكم لله خربتو البلد.
(إصرار بعض القطع في جيش الشطرنج على العودة لمربعات الرقعة الخلفية يدفع بالجيش ككل لمصير الفناء... المخزي)
- ربنا يديك الصحة يا عم الحاج...ربنا يحشرك معاه ان شاء الله.
- آمين يارب هو انا اطول ابقى مع بطل اكتوبر؟...صاحب الضربة الجوية يا ناكرين الجميل يا خونة؟
- يادي الضربة الجوية...يا عم ياريته كان ضربنا احنا الضربة الجوية وحكم اسرائيل 30 سنة، مكانش ده بقى حالنا.
- ترضى حد يتكلم على أبوك كده يا قليل الأدب.
- طيب ليه الغلط دلوقتي يا عم الحج؟، وبعدين أنا أبويا لا حرامي ولا قاتل ولا شيخ منصر... موظف على قد حاله الحمد لله بيكمل عشاه نوم!
لم يكن بطلال حاجة لاستكمال ذلك الشجار حول الهوية الحقيقية للـ... للمحطة!
انصرف مسترجعا وصفة الشاب المنشغل بشجاره مع العجوز العنيف، وقف على رصيف المحطة بانتظار القطار القادم، غير ملتفت للشجار الذي ضم أطرافا أخرى تناصر الجانبين. انتظر انفتاح الباب، قبل أن يبتلعه القطار معلنا بدء الرحلة القاهرية الأولى!
رغم كونه راكب من أولى محطات القطار، إلا أنه لم يفلح في إيجاد مكان للجلوس. للحاق بتلك المقاعد خبرة خاصة لا يتقنها الكثيرون. وجد نفسه رغما عنه لاجئا إلى الباب الآخر المغلق للعربة، يستند بظهره عليه واضعا بقجته بين قدميه، وقد تعلقت عيناه بتلك اللافتة البيضاء المستطيلة أعلى الباب المقابل، حاملة أسماء المحطات. طال بحثه عن الاسم موضع النزاع دون جدوى حقيقية، ثمة اسم في المنتصف تكاثرت حوله معارك الكلمات بشكل أنبأه أنه الاسم المراد.. أحدهم كشط الاسم الأول كاتبا إلى جواره (الشهداء)، ثانٍ بادله كشطه بمثله معيدا أول الأسماء (مبارك) للظهور، ثالث احتج مُصرَّا على عودة (الشهداء) لحياة اللافتة من جديد، رابع بادله احتجاجه بآخر عائدا بـ (مبارك) لساحة النزاع، ثم خامس أزال كل ذلك مذيِّلا إزالته بسُبة أنهى بها ضوضاء الشجار!
- الثورة مستمرة بجنيــــــــــــــــــه!
سمعها آتية من آخر أبواب العربة، فانتبه لقائلها حامل العديد من الكروت والميداليات، تغطيها ألوان انحصرت بين ثلاثة: أحمر وأبيض وأسود، وبينها ازدحمت الكثير من الشعارات.
- الثورة مستمرة بجنيـــــــه، يسقط حكم العسكر بجنيـــــــه، احنا آسفين يا ريس بجنيـــــــه، أي حاجة بجنيه لا بنقول عشرة ولا ولا خمسة ولا حتى تلاتة، هو جنيـــــه، جنيه وفرَّح حمادة وميادة، جنيــــــــــــــه، حد هنا عايز الثورة مستمرة؟... حد عايز احنا آسفين يا ريس؟... يسقط حكم العسكر يا استاذ؟... مبارك في القلب يا آنسة؟!
كلماته التي لا يملك غيرها بضاعة نثرها في آذان الجالسين، تزاحمه في نداءاته تلك السيدة ذات الرداء الأسود المارة بين الجالسين:
- ساعدوني بأي حاجة يستر طريقكم ربنا، معايا اربع عيال وجوزي لسه ميت، ساعد اليتامى بأي حاجة.
(اتفضلي اقعدي هنا يا حاجة)، (ماتركبوا عربية السيدات هي ناقصة زحمة وقرف)، (اللي واقفين عالباب دول كلهم نازلين المحطة الجاية؟)، (عديني يا أستاذ لو سمحت عشان نازل)، (وهو انا عارف اتحرك عشان اعديك دانا واقف في شبر)
زحام العبارات لم يكن بجديد على تلك العربة ومثيلاتها من عربات القطار القديم، نداءات الباعة وتوسلات السائلين ونقاشات المسافرين معا، كل شيء في مصر بات مرتبطا بالزحام، يبدو أن وحشتها قد دفعت القاطنين فيها للاستئناس بأي شيء، حتى لو كان استئناسا بالمتاعب!
-------------------------------------
فى تمام السابعة، كان وصولهما بصحبة الأخ الأكبر لشافعي في سيارته الـ (أوبترا). بسرعة غادرا السيارة مودعين إياه بسلام روتيني، حاملين حقيبتيهما. دلفا من البوابة الحديدية الكبيرة السابقة لمساحة رملية كبيرة فصلت البوابة عن المعسكر، تجاوزاها في ربع الساعة، ثم كان التحاقهما بأمثالهما من جديدي المجندين الجالسين في مدرجات أسمنتية، جلسا في آخرها منتظرين جديدا لا يعرفانه، وسط ضوضاء طبيعية اعتاد عليها المصريون في غياب قائد يمنعها قصرا.
- ألاقي معاك ولاعة يا أخ؟
سمعها الثنائي قادمة من خلفهما، فانتبها لها. يتولى شافعى الرد:
- لا والله يا باشا مابندخنش!
- ليه؟
- ليه إيه يا معلم؟
- مابتدخنوش ليه؟
تبادل بعدها الصديقان نظرات الاستغراب الضاحك، قبل أن يعود شافعي للرد:
- طيش شباب بقى بعيد عنك، ادعيلنا ربنا يهدينا وندخن قريب ان شاء الله.
- ان شاء الله، الرجالة منين؟
- من القاهرة ان شاء الله.
- أنعم وأكرم، محسوبك عدلي من المنوفية.
- أهلا وسهلا.
- بالك انت يا برنس، انا كنت داخل الجيش ظابط، ابويا دفع فلوس لعضو مجلس الشعب عندنا في البلد عشان ادخل حربية بس ماعرفش يدخلني ابن الفقرية، بس اهو الحمد لله ربنا بردك عوضني وهالبس الميري.
- انت بتحب الجيش قوي كده؟
- ان فاتك الميري اتمرغ في ترابه يا عمنا.
- آه تمام وماله، ربنا يوفقك يا معلم.
- الجيش ده أجمد حاجة في مصر هو الحاجة الوحيدة اللي لسه واقفة على رجليها، كانوا عايزين يوقعوه ولاد الكلب بس على مين الجيش روقهم.
- هم مين دول يا معلم اللي عايزين يوقعوه؟
- بتوع المنظمات الخارجية اللي بياخدوا فلوس من بره.
- أيوه اللي هم مين يعني؟
- يا عم انت مبتتفرجش عالتليفزيون ولا ايه؟
- لا والله انا اصلي مش إريال... قصدي ماعنديش إريال عشان اتفرج.
- بتوع محمد محمود والتحرير... العيال الشمال دي.
- كويس ان ناصر مش هنا كان فركك.
- ايه؟
- لا ولا حاجة... يلا ربنا ينتقم منهم هم هيروحوا من ربنا فين؟
- آمين.
- بقولك ايه صحيح، انت بتعرف تلف دراعك على ضهرك؟
- اعمل ايه؟... الف دراعي على ضهري ازاي؟
- تلف دراعك على ضهرك يا عم، اصل شايف العقيد اللي واقف هناك ده؟
- ايوه شايفه... ماله؟
- من شوية كان بيقول اللي هيعمل الحركة دي هياخدوه ظابط عشان دي حركة قوات خاصة.
- والله العظيم بتتكلم جد؟
- آه وحياة ولادي زي مابقولك كده، روحله قل له هيدخلك نقيب وقتي.
سمعها ذلك المنوفي من شافعي، فتهلل لها وجهه منطلقا إلى ذلك العقيد الواقف عند منصة يراجع الكثير من الأوراق بصحبة رتبة أقل منه، وسط ضحكات إبراهيم الخفية التي كادت ترديه قتيلا. دقائق من المتابعة للمحادثة التي لا يسمعان من كلماتها شيئا، لكنهما بدءا في توقع نتيجتها من ملاحظتهما لحاجبي العقيد الآخذين في التقارب في غضب، ونظراته الآخذة في تصويب نيرانها ناحية السائل، قبل أن ينفجر فيه قائلا:
- غور يابن الجزمة ارجع مكانك هو أنا ناقص عاهات؟!
لو كان لأحد أن يقتله ضحكه لكانا أول الضحايا. انفجرا في ضحكهما، يشاركهما فيه ثالث عن يمينهما لدقائق، قبل أن يبتدأ محادثتهما قائلا:
- عاش يا رجالة والله.
- حبيبي، انت متابعنا ولا ايه؟
- من أول الحوار، عاش رجالة محمد محمود اللي بتاخد حقها أول باول.
- واضح ان الأخ من الرجالة.
- الحمد لله.
- ياااا فرج الله دانا كنت خلاص قربت احس اني كنت لوحدي هناك واللي حواليا ده كله كان جرافيك.
- هاهاها ليه بس يا عم عمر الشقي بقي الفكرة مابتموتش.
- على رأيك... اسم الكريم ايه بقى؟
- أخوك آسر... اسر عماد صديق، صيدلة اسكندرية
- زميل يعني، أهلا يا عم آسر اخواتك شافعي وابراهيم صيدلة القاهرة.
- بصرة، منورين يا رجالة.
- بنورك يا وحش.
استمر الحديث بين الثلاثة حينا قارب الساعتين، استثمروها في شغل الوقت الذي تفنن المكان ومن فيه بتضييعه بكفاءة يُحسدون عليها. الملل كان السمة الغالبة على الجميع، البعض افترش تلك المقاعد راقدا يطمع في بعض دقائق النوم الذي استورده من ملله، بعضُ آخر اختار إضاعة الوقت في رحاب (الكانتين) يحتسون الشاي في أكواب بلاستيكية يرقد السكر في قعرها ويفتقده أعلاها، يقلبونه بعصا صغيرة تحتوي من التراب قدرا لا بأس به، يضيف للشاي نكهة خاصة يعرفها جنود الجيش.. بعضُ ثالث اختفى من الساحة، متبرعا بالدم لبنك دم القوات المسلحة يجني من تبرعه، إضافة لثوابه الرباني، كيسا بلاستيكيا يحوي علبتي عصير وخمسة جنيهات. بعضُ آخر انشغل مع هواتفه متواصلا مع أهله الذين غادرهم في الصباح لفترة لا يعلم تعدادها. بعضٌ غيره كان انشغاله بالهواتف لغرض آخر انحسر في التسلية بأغانٍ تبعث على القئ. وبعض أخير اختار قضاء وقته بصحبة كتاب قارب على إنهائه، بعدما سمح له وقت الانتظار بذلك.
حتى أنعم عليهم أحدهم أخيرا بالنداء على تخصصاتهم، يصنفهم للرحيل!
(البدايات دائما تحمل مفتاح النجاح أو مزلاج الفشل. تعلق المرء بشخص أو بمؤسسة أو بمكان أو حتى بفكرة يعتمد بشكل كبير على انطباعه الأول عن كل هؤلاء. إذا أردت كسب انتماء أحدهم، فاجعل انطباعه الأول عنك... جيدا بشكل ما!)
---------------------------------------
أسبوعان... ربما كانت مدة كافية إلى حد كبير لتغيير بعض المفاهيم لديّ، الشعور بقيمة الكثير من الأشياء، التي ظننتها اعتيادية لا قيمة لها قبل الآن، باتت تقف على مسافة بعيدة خارج أسوار ذلك المعسكر اللعين، تخرج لسانها في سخافة شامتة بكل ما ألمَّ بي من معاناة جراء فقدها. أساسيات الحياة هنا تختلف أولوياتها بعض الشيء، العنبر المستطيل في تكوينه الهندسي يتسع لأربعة وخمسين ساكنا، يشتركون جميعا في (فيشة) واحدة بجوار الباب الخشبي الأزرق ذي الضلفتين، السرائر الحديدية ذات الدورين، والدواليب الحديدية بنفس التكوين الضيق الذي انحشرت بداخله كل ممتلكاتنا بشكل بهلواني لا أعلم حتى الآن كيف تم، دورات المياه التي لم يمر يوما في مخيلة أحدنا أنه سيمر في حياته على شيء بهذا الشكل الباعث على القئ، معارك الكافيتيرا كل صباح للحاق بأحد سندوتشات الفول أو الطعمية أو (قرصة بعجوة) تمثل وجبة الإفطار، فشلي أنا وشافعي وآسر في اقتناص إحدى الفرائس الثلاث في الأسبوع الأول، ثم احترافنا اللعبة في توالي الأيام.. زيارة الجمعة ووصول الدعم العائلي من غيارات ووجبات ساخنة ونقود.. طمأنة (الواسطة) لنا على مكان توزيع جيد داخل القاهرة.. استيقاظنا في تمام الخامسة وطوابيرنا أمام دورات المياه لوضوء صلاة الفجر.. الحقنة اللعينة التي أودت بقدرة جميعنا على الصمود، فكان مصيرنا أسرة العنبر أسرى للكمادات.. طوابير العساكر (العادة) على كابينة (ميناتل) و (المصرية للاتصالات) للظفر بدقيقة يطمئنون بها ذويهم غير القادرين على زيارات الجمعة. كل شيء في هذا المكان كان رمزا لقيمة ما.. المكان الأول الذي شعرت فيه أننا نحيا إلى جوار فئة منسية في هذا الوطن، لم نشعر بوجودها قط.. المكان الأول الذي شعرت فيه أننا نحيا في وطن ذي... شعبين!
----------------------------------------
اللون الرملي كان صاحب الكلمة العليا في كل شيء، الأبنية الملقاة داخل المعسكر اكتست لونا مشابها، الجِمال والأغنام الخاصة بالبدو المحيطين بالمعسكر على مسافات متفاوتة، سيارات الإسعاف (هكذا يسمونها دون وجود أدنى علاقة بينها وبين اسمها سوى هلال أحمر رسمه أحدهم قبل ألفي عام على الأقل)، السيارات الخاصة بالـ (رُتب) بلون أغمق درجتين، الزي المموه الخاص بأفراد المعسكر والمعسكرات المجاورة.. كل شيء استعار لون الرمال الضامة لكل تلك التفاصيل على صفحتها الممتدة لأميال، يقطعها خط الحدود اللعين الذي رسمته إحدى الأيادي الآثمة ذات يوم، بين دولتين كانتا لتندمجان تحت علمٍ واحد!
كعادة سادسة كل صباح، تكفلت (نوبة الصحيان) بإيقاظ الجميع:
- يلا يا حبيبي، يلا يا اخويا، الساعة ستة هي النوبة دي لأمي؟
- يا عم حسيني الساعة لسه خمسة وربع!
جاءت ناعسة غاضبة من أحد الأسرة البعيدة، فكان الرد السريع المحضر مسبقا:
- ساعتي أنا ستة يا روح أمك، وكلمة تاني هالبسك العفريتة الزرقا وأبيتك يومين واقف من غير نوم!
حوار مقتضب أنهاه الحسيني بتهديده ذي النبرة الأقرب لنبرات الشجار (غير المتكافئ) مستطردا:
- ربع ساعة من دلوقتي، يعني ستة وربع على ساعتي وخمسة ونص على ساعة المقطف اللي مش عاجبه، وألاقي الناس كلها لابسة ومقفزة وحالقين دقونهم وجامعين قدام العنبر، ونفسي... نفسي ومنى عيني بيادة منكم يتأخر دقيقة عشان أخليه عبرة.
ألقاها في آذانهم الناعسة وانصرف، تاركا إياهم في سخطهم الصامت يسارعون لارتداء الزي المُموَّه وفرش (النِمَر)، ثم حلاقة ذقونهم (على الناشف)، وما يترتب عليه من إزالة آثار الدماء بعد الحلاقة بكم (السُترة). الخمس عشرة دقيقة كانت وقتا كافيا على كل حال للانتقال من حالة النوم الكامل لحالة الإفاقة الكاملة.. ربما كلمة السر كانت كامنة في الخوف كما هي العادة الإنسانية الوضيعة الدافعة للإنجاز استنادا للهروب من عقاب لا الطمع في ثواب. بخفة اعتادوها تراصوا في صفوف حفظوا تكوينها، في انتظار الصول حسيني الغائب لتناول إفطاره، الذي جلبه له أحد الجنود من (الميز) داعيا عليه في سره بـ(طفحه سم هاري)، الخمس عشرة دقيقة امتدت لدقائق خمسين، كان لابد منها ليتم الحسيني وجبته بكوب شاي وسيجارة، غير عابئ بهذه القطع البشرية المتكومة بالخارج تنتظره كتماثيل متحف فرعوني مندثر، حتى قرر أخيرا الخروج إليهم.
أطل عليهم بهيئته الكريهة، ثم... بدأت أول مشاهد حلقة اليوم من مسلسل معاناتهم الطويل!
- سرية صفااا...سرية انتبااااه... على اليمين حِزا!
- نفذوا الأوامر الثلاث كلٌ حسب ترتيبه كما هي العادة.
- كما كنت... لليمين حِزا... للأمام انظر.
- خد تمام يا منعم!
- أوامر يا فندم.
لحظات قضاها العريف المجند في أخذ تمام الحضور، قبل أن يعود للحسيني قائلا:
- تمام يا فندم تخلف واحد بس!
- مين؟...هاتلي اسمه عشان أخرب بيت أمه.
- عماد!
- لا عماد واخد إذن، معاه راحة من الطوابير والخدمات، مين غيره؟
- مافيش يا عم حسيني كله تمام!
- طب دوَّرهم النص ينضفوا السرية مش عايز عقب سيجارة في الأرض والنص ينزحوا الطرنشات.
تلقاها منه الجميع، فعَلت أصوات همهماتهم المعترضة في استياء، لتكدير معتاد لا يعرفون له سببا.
- ثاااابت...ثابت يا بيادة منك له، ايه مش عاجبك منك ليه ولا ايه؟... طب ايه رأيك انت وهو ان بعد ماتخلصوا الكلام ده فيه طابور ثبات ساعة ونص؟... ها فيه اعتراض ولا حاجة ان شاء الله؟... اللي مش عاجبه يوريني نفسه كده.
صمت الجميع كأن على رؤوسهم الطير، دون أن يجرؤ أحدهم على التفوه ولو بهمهمة كتلك الصادرة منذ ثوانٍ.
- دوَّر!
- ثااابت!
سمعها الجميع آتية من عتبة باب (مبيت الضباط)، فوقفوا لها جميعا:
- كما كنت.
مؤمن كان القائل.
- فيه ايه يا صول حسيني صوتك عالي ليه؟
- مفيش يا باشا كله تمام يا فندم.
- دي مش إجابة.
- أبدا يا فندم العساكر كانوا متمردين سيادتك وتم اليسطرة عليهم.
- متمردين وتم السيطرة عليهم؟...هو إحنا هنحارب خلاص؟
ضحك لها الجميع، بينما احتال وجه الحسيني للون أحمر مزج الأحراج بالغيظ.
- ثااابت!
تدارك بها مؤمن الأمر، فعاد الجميع لثباتهم يستمعون بقية الحديث:
- ايه الأوامر اللي اتمردوا عليها يا صول حسيني؟
- مش عاجبهم انهم ينضفوا السرية يا فندم.
- أيوه ايه اللي عملوه؟
-........
- أنا شايف الموقف كله من ورا الباب على فكرة... أولا هاتلي العسكرى المتخلف بأورنيك العيادة المضروب من العنبر عشان هيبات الليلادي في السجن هو واللى ضربله الأورنيك، حد يروح يجيبه احنا ماعندناش خيار وفاقوس.
قالها وأشار إلى أحد المجندين، الذي رفع يده بالتحية العسكرية منصرفا إلى العنبر لتلبية الأمر، قبل أن يستطرد مؤمن:
- ثانيا الرحمة حلوة يا عم حسيني، الرجالة دي شاربة المر من كيعانها انت عارف وانا عارف كويس قوي انهم شايلين المعسكر على اكتافهم، كفاية انهم متغربين عن أهاليهم في آخر الدنيا، مش ناقصين يعني من الاخر. ومش معنى اني باقول كده قدامهم انهم يكسلوا ولا يتخاذلوا، هما أصلا مش هيعملوا كده عشان هم رجالة مش عشان انت بتشخط وتنطر فيهم، ولا ايه يا رجالة؟
- تمااااام يافندم!
قالها الجميع بنبرة اهتزت لها أركان المعسكر، فاستطرد مؤمن:
- الرجالة دي النهارده أجازة من الشغل تمامها عنبر!
- هيييييييييييييييييه
- ثاااابت...جرى ايه يا رجالة دانا لسه باشكر فيكم!
- آسفين يا فندم.
- بس استنى انت وهو، من بكره الصبح ان شاء الله مش عايز اشوف مكان مش نضيف في السرية كلها.. اتفقنا يا رجالة؟
- أوامر ياااافندم!
- انصراف ومعادنا بكره ان شاء الله!
(ملحوظة :: للقيادة صور كثيرة أضعفها... الاستعباد!)
-------------------------------------------
- نفسي أعرف احنا قاعدين هنا بنعمل ايه!
شريف كان القائل لرفقائه الثلاثة المنتظرين وإياه على باب العنبر حلول الساعة السادسة
- يا عم ادينا بنضيع وقت!
آسر كان متولي الرد:
- أهي دي أكتر حاجة خنقاني ومستغربها، يعني المفروض أهم حاجة عند أي جيش في الدنيا عامل الوقت واستغلاله الصح، واحنا هنا في مركز التدريب اللي المفروض بنتعلم فيه أسس جيشنا وحياتنا العسكرية كلها بيعلمونا نضيع وقت ازاي، طابور الساعة 6 الصبح وطابور الساعة 12 الضهر وطابور الساعة 6 بالليل، وكل سنة وانت طيب. والغريب ان الطوابير كلها طوابير تمام تواجد، هو المهم عندهم اني ابقى موجود بس يعني؟.. طب مايستفيدوا بوجودي ده!
- يا عم ارحمنا بقى هتعملي فيها الخُط.
- يابني عد كده معايا، احنا مثلا ألف عسكري لو حسبنا بس 10 ساعات شغل كل يوم هيبقى عندك يوميا 10000 ساعة عمل كل يوم، اضربها في شهر مثلا بنقضيه هنا ادي 300000 ساعة عمل بيضيعوا على البلد في معسكر تدريب واحد بس.
- يعني هو الجيش لوحده؟... ماهي البلد كلها كده، يابني احنا تضييع الوقت بالنسبة لنا جين بنورثه.
- على رأيك، يلا يا عم نلحق التمام الصول صلاح زمانه مجهزلنا دبابتين في أرض الطابور.
- نظافة العنابر والحمامات والنظافة الشخصية شعر ودقن وضوافر يا حضرات، النظافة من الإيمان، بقالنا أسبوعين بنعيد ونزيد في نفس الكلام انتو مش صغيرين، انتو ناس مؤهلات عليا وفاهمين انا مابكلمش عساكر عادة، لو عايز اكدَّرك هاكدَّرك، وكله بالميري والعسكرية، أنا اتحدى أي حد في العسكرية، اسألوا زمايلكم اللي قبل كده عن الصول صلاح.
- المية مقطوعة بقالها يومين يا فندم!
- اللي يتكلم يرفع ايده يستأذن احنا مش في سوق احنا في جيش.
رفع المتحدث يده، فسمح له الصول صلاح بإعادة ما قال.
- المية مقطوعة بقالها يومين يا فندم.
- ان شاء الله تتحل بكره هي ومشكلة الكهربا اللي بتقطع في عنبر خمسة، وبمناسبة الكهربا ياريت الناس اللي مهربة تليفونات محمولة واحنا سايبينهم بمزاجنا مايشحنوش التليفونات دي في وقت واحد عشان مايحملوش على الفيشة الوحيدة اللي في العنبر بدل ما نلم كل التليفونات دي ونكسرها قدام اصحابها وكله بالعسكرية والميري.
- لو سمحت يا فندم.
- اتفضل
- بمناسبة المية والكهربا اللي قاطعين يعني، يا ترى بردو قاطعين في مبيت وحمامات الظباط وصف الظباط وقائد المركز ولا عساكر بس؟... اصل المفروض اننا في نفس المكان يعني!
- انتو عددكم كبير واستهلاككم للحاجات دي بيبقى بطريقة مش محترمة ومش آدمية يعني لازم تبوظ وتقطع.
-استهلاكي للمية مش محترم ازاي يا فندم هو أنا باخدها حُقن؟..دى مية يعني للشرب والوضوء، ولو هتقطع تقطع في المكان كله ولا هي المية بتختار ماسورة اللي بيحترمها وتمشي فيها؟!
- امنع كلام يا جندي انت هتهزر؟... اقعد مكانك بدل ماابعتك عالسجن!
- لو سمحت يا فندم!
- نعم انت كمان؟!
- هو ايه الميري ده؟... فيه كتاب طيب عشان نقراه ونعرف بالظبط ايه اللي لينا وايه اللي علينا ولا أي مصدر اعرف بيه حقوقي وواجباتي؟..
-إإإإإ... اللي ليك معروف واللي عليك معروف، اللي ليك فلوسك مهماتك شرفك ماحدش يقدر يقرب من التلاتة دول أيا كان هو مين، يعني مثلا اللي ليك انك تاخد جزمة تلاتة خرم لو جزمتك اتقطعت.
- جزمة تلاتة خرم؟ (قالها في سره)...شكرا يا فندم (جهر بها معلنا نهاية المناقشة الـ... مثمرة)
-العفو... حد ليه أي سؤال تاني؟
-.......
- دوَّر حكمدارية الفصايل!
- باقولكم ايه يا جدعان ماتيجوا نروح نتفرج على ماتش الزمالك في الكافيتريا نضيع شوية وقت، ماليش مزاج أروح العنبر دلوقتي لسه فاضل اربع ساعات على ميعاد النوم.
قالها إبراهيم للجميع!
- طيب ناكل الأول وبعدين نروح، الديليفري زمانه عالباب.
آسر كان المتحدث!
- انتو طلبتو ايه النهارده؟
- انت ماطلبتش ولا ايه؟ الواد سعد كان بيلف علينا واحد واحد سابك ولا ايه؟
-الا لا جالي سألني بس قلتله مش عايز، بطني تعباني من الفراخ بتاع امبارح قلت اقضيها حاجة خفيفة النهارده.
- احنا جايبين بيتزا النهارده، خمِّس معانا بقى.
- لا لا مااقدرش انا هاقضيها رز بلبن ولا فطيرة ولا حاجة خفيفة كده من الكافيتريا، خلصوا وحصلوني.
- خلاص تمام.

- يلا يا رجالة نلحجوا الميز هيجولوا فيه عدس الليلادي.
- إيوه صُح الواد فهمي بتاع الميز جاللي اكده النهارده الضهر وجاللي فيه حلاوة كمان.
قالها وانطلق بصحبة الجميع عدا أحدهم
- جرى ايه يا واد يا طلال مش هاتاجي ولا ايه؟
- لا ماليش نفس آني هاروح الكافاتريا اتفرج عالتلافزيون ساعة ولا حاجة وآجي انام اتكلوا انتو على الله بالهنا والشفا.
الزحام في الكافيتريا كان السمة الأبرز الساعات الأربعة الفاصلة بين تمام السادسة وميعاد النوم في تمام العاشرة، المقاعد البلاستيكية وُضِعت بعشوائية بعثت على المكان طابعا من المصرية الخالصة، التلفاز المحاط ببرواز خشبس يظن واضعه أنه سيحميه من.... ربما هو نفسه لا يعلم من ماذا..
اتخذ مقعدا في آخر المقاعد بعيدا بعض الشيء عن ذروة الزحام، بيمينه كوب بلاستيكي شفاف يحوي مشروبا يشبه الشاي ويسمونه هناك كذلك، وبيساره أمسك زجاجة ماء معدنية اشتراها للتو. انتبه لذلك الواقف عن يمينه يحدق فيه بنوع من الغرابة دفعته للسؤال:
- فيه حاجة يا أخينا؟
- ها...لا...لا مافيش حاجة!
قالها طلال لإبراهيم، قبل أن ينتقل لمقعد مجاور يتابع التلفاز بعينيه فقط دون تركيزه، تراقبه عينا إبراهيم للحظات، قبل أن يعود من جديد للمباراة. أنهى الأخير شربته من زجاجة المياه المعدنية وألقاها جانبا إلى جوار السور الصغير، البعيد عنه بمقدار أمتار ثلاثة، عائدا بنظره إلى التلفاز. ما كادت الزجاجة تلامس الأرض حتى انطلق إليها طلال ملتقطا إياها مفرغا ما بداخلها في جوفه المشتعل عطشا. استفز المشهد اندهاش ابراهيم، الذي ظن طلال أنه لم يلتفت إليه، فعاد يراقبه حتى انتهى من شربته.
- بقولك ايه يا دفعة.
قالها، ففوجئ بها طلال الذي هزَّه النداء فهرول لصاحبه:
- أني... اني والله العظيم فكَّرتك خلصت شرب وماعايزش الجزازة تاني!
ابتسم له إبراهيم قائلا:
- أنا على فكرة مش بناديك عشان الإزازة.
- أصل... اصل المية جاطعة بجالها يومين وماعارفينيش نشربو، يدوبك هي الجزايز اللي الدكاترة هيسيبوها دي هي اللي معيشانا من أول امبارح.
اتسعت ابتسامة إبراهيم أكثر قائلا:
- ليه مجتش من الأول قلتلي أنا عايز اشرب؟
لم يرد طلال مكتفيا بنظرة خجلى لكل شيء عدا وجه محادثه، الذي عاد إليه بسؤاله ومازالت بسمته تكسو وجهه:
- اسمك ايه؟
- طلال… أخوك طلال عزوز يا باشا، تجدر تجوللي أبو العز، بينادوني كده حِدانا في البلد، أنا أصلي زي مانتا شايف كده باين عليا ابن ذوات جوي!
قالها مشيرا إلى زجاجة المياه المعدنية ضاحكا، فبادله إبراهيم ضحكته قائلا:
- اقعد يا طلال.
استجاب طلال للدعوة، فجلس.
- سرية واحد؟
- إيوه يا باشا!
- ايه رأيك بلاش باشا دى؟، احنا عساكر زي بعض يا عم.
- العفو يا دكتور ايش جاب لجاب؟
- يا عم العفو انت ماتقولش كده كلنا ولاد تسعة... انت منين يا طلال؟
-من العش.
قطب إبراهيم حاجبيه سائلا:
- فين العش دي؟... اعذرني أنا اصلي مش لافف كتير.
- صعيد، أنا أصلا صعيدي.
- مانا برده قلت الراجل الجميل ده لازم يبقى صعيدي.
قابلها طلال بابتسامته رابتا على صدره بكفه المفرودة قائلا:
- تُشكر يا ذوج!
- بقولك ايه انت اتعشيت ولا لسه؟
- لا ماليش نفس العيال راحوا الميز جلتلهم مارايحش النهارده.
- الميز؟.. انت بتاكل في الميز؟
- إيوه ليه؟
- لا أبدا أنا اصلي يادوب دخلته مرة واحدة بس و... يعني... بتاكل الـ 3 وجبات هناك؟
- يا دكتور نجول الحمد لله ده أكل أنضف من بيتنا، والحمامات اهنه انضف من اللي حدانا، والفرشة اللي هنناموا عليها انضف من اللي هننام عليها حدانا في الدار، الجيش كتر خيره بصراحة الميري عز بردك.
- مممم... واضح اني هاقعد معاك كتير يا طلال، ارتحتلك مش عارف ليه.
- الله يكرمك يا ذوج انت اللي راجل زين.
- حبيبي... بقولك ايه، بتشرب حاجة ساقعة إيه؟
- ليه؟
- هيكون ليه يعني يا عم طلال؟، هاعزمك على حاجة ساقعة، بتشربها ايه بقى؟
ثوانٍ أخرى من الصمت أقامت حاجزها بين لسانيهما، أنهاها إبراهيم قائلا:
- ايه يا عم مالك انت مكسوف ولا ايه؟، طيب أنا هاجيبلك كولا زيي... ماشي؟
ابتسم طلال دون رد، متابعا ذلك غريب الأطوار الذي ذهب لشراء (الحاجة الساقعة)... شيء ما داخله ارتاح له، شيء ما حدَّثه أن ذلك الغريب ستجمعه به علاقة افتقدها في الكثيرين من محيطيه، شيء ما داخله ربط صورته بصورة طيف لصديق قديم رحلٌ جثمانه قبل أسابيع ثلاثة إلى مقابر العش!
---------------------------------------

لا أعلم حتى الآن لماذا صادقته بهذه السرعة. شيء ما يمتلكه لم أجده لدى الآخرين، فطرته التي لم تُلَوَّث بعد ذكرتني بمصر التي عرفتها قديما في كتب المدارس، وافتقدتها في تالي سنواتي خارج أسوار مدرستي الجميلة النظيفة المتطورة، لهجته الأشبه بطرق الصعيد الترابية المتعرجة لا شوارع القاهرة السريعة الباعثة على الاكتئاب، التي أراها في لهجات وتصرفات الآخرين.. بعض الأسرار التي لم يفصح عنها بعد استترت خلف بعض كلماته، التي نطقها بعفوية مثل وردة وعليِّ وبدر. الكثير من الأمور بات عليَّ اكتشافها الآن، تختبئ في أغواره، تنتظرني لاستخراجها. رغم كل شيء، ثمة راحة تتملكني منذ ذلك اللقاء الأول. أصبحت أنتظر لقاءه كل يوم بعد تمام السادسة مساء، في نفس المكان بانتظار (كعب الشاي) كما يسميه. أبتسم لتلقائيته، أضحك لتسميته الأشياء بأسماء لم أسمع بها من قبل، اهتمامي لكل تعبير يرسمه وجهه، انتظاري لأسرار لم يحن أوان البوح بها بعد.. كل الأشياء في طلال أحببتها، كل الأشياء في طلال أشعرتني أني عدت من جديد لكوكب الأرض، بعد غربة طويلة في كوكب لا إنساني بعيد.. الآن فقط أصبحت أملك صديقا من... بني الإنسان!
-----------------------------------------
كانت الليلة الأولى المارة دون طاولة بيننا تعلوها الرقعة ذات اللونين وكوبي مشروب ساخن. طور آخر من أطوار غرابته، التي لا حق لي في السؤال عن أسبابها.. سؤالي لن يضيف أكثر من ارتفاع في مستوى الغموض الذي لا حاجة لي بالمزيد منه على كل حال، كما هي عادة جلساتنا طوال ما مضى من شهور. رغم كل ذلك، مازلت حريصا على الاستمرار.. شيء ما يدفعني لمواصلة الرحلة على قارب غموضه، لا أعرف هويته. لم يعد بي طمع في أكثر من سرده الروتيني لأحداث سنوات المعاناة؛ يكفيني منه هذا، رغم كل ما يحيط بذلك السرد من... غرابة الأطوار.
كم كانت غريبة تلك الليلة! بدا حينها كائنا من كوكب آخر، في زيارة لكوكبنا اللعين. كان مزيجا من التردد والتأمل واللامبالاة والـ...خوف!
كعادته، ناظرُ إلى شيء لا أراه، وربما لا يراه غيره في هذا العالم، شيء رابض هناك خلف سمائنا العابثة بأكوام سحبها، ربما كان أحد تلك الأشياء التي تذكره على الدوام بأحداث سنواته التي جئت لتسطيرها بين يديه.
- تعرف؟!
قالها فجأة، فانتبهت لها، وقد داخلني شيء من الرجفة الناتجة عن ضوضاء بعد صمت طويل. نظرت إليه ومازال نظره مطلا من نافذته الضيقة إلى ذلك الشيء اللامرئي هناك:
- بلدنا دي بتفكرني بسور المدرسة.
- .....
- اللي يعدى عليه من بره يلاقي مدرستي نظيفة جميلة متطورة، ولو بس عدَّى الباب يلاقي فصل فيه 70 طالب، يلاقي كل مدرس لامم حواليه الطلبة اللي بيديهم درس عشان يديهم حصة الدرس في وقت المدرسة ويوفر وقت بعد المدرسة لغيرهم، يلاقي نص المدرسين ماضيين حضور للنص التاني اللي ماجاش عشان بيدِّي حصة درس، يلاقي الطلبة واقفين في الحتة اللي ورا جامع المدرسة بيشربوا سجاير، يلاقي ناظر المدرسة لابس البدلة وقاعد على مكتبه بيقرأ الجورنال وقدامه القهوة مستني الساعة 1 تيجى عشان يروح وهو (مرتاح الضمير).
ده التعليم بتاع مدرستي نظيفة جميلة متطورة.. امشي شوية هتلاقي سور تاني مكتوب عليه (الشرطة في خدمة الشعب) وسور تالت لمحكمة بيقول (العدل أساس الملك)، وسور رابع لمستشفى بيقول (صحتك أمانة في ايدينا)، وسور خامس وسادس وسابع.. البلد بقيت مجموعة من الأسوار العالية يشوفها اللي براها يحس انها أعظم بلد في العالم، مايعرفش ان الأسوار دي مبنية على مقابر جماعية، راقدين المطحونين جواها. طول عمرنا شاطرين قوي في الكلام، عندنا مئات الأدباء والفلاسفة والكُتَّاب.. ورق وكتب موجودين في كل حتة لو طبقنا من كل كتاب سطر واحد بس ماكنش ده بقى حالنا. بس ماكانش ينفع، عارف ليه؟...عشان المقاول اللي بنى السور مش هيسمح بكده!
صمت بعدها، كأنه لم يكن ذلك المتحدث قبل ثوان!
رغم رغبتي الملحة في الاستفسار عن سبب ما قيل، أو حتى سبب الصمت الرهيب السابق لما قيل والتالي له، إلا أنني أبدا لم أجرؤ على الاستفسار. شيء ما زاده هيبة ليلتها.. صوَّره ملكا لا يسمح لأحد بدخول ديوانه.. بدا كأنه المتحدث إلى ثالث ليس بيننا، أو أنه بيننا ولا يراه غيره. مازال رغم كل ما مضى من سنوات على لقائنا ذاك متواجدا في ذاكرتي بكامل حلته من الهيبة والغرابة والحكمة. لم يكن ليلتها منتميا للأحياء بأي شكل كان.. كان أقرب للجمادات منه إلى أي شيء آخر، تأتيه الحياة للحظات يحدث فيها لا أحد، ثم يعود من جديد لجموده. انتبهت من جديد لقوله الذي أعاده للحياة:
- سَرْباز هو أهم طوبة في كل الأسوار دي، المقاول اللي بناها عمره ما كان يقدر يبنيها من غيره. سَرْباز مريض يعلِّي طوبة، سَرْباز جاهل يعلِّي طوبة، سرْباز خايف يعلِّي طوبة، وطوبة ورا طوبة بيعلا السور على مقابر الأمل والأحلام. أكبر ثورة مصر بقيت بتملكها ثورة المقابر والأسوار. وفي الثورتين سَرْباز هو كلمة سر، أغلى حد اتدفن في مقابرها، وأجمل طوبة اتحطت في أسوارها كان هو، واحنا اكتفينا بقراءة الفاتحة يوم دفنته، وتعليق يافطة عليها شريطة سودة على السور يوم ما اتحنَّط جواه. تفتكر بعد كل ده هيسامحنا؟!
لا أعلم لماذا أردت البكاء حينها، رغم عدم إدراكي الكامل لما أراد قوله. هل كانت نبرته البادية نبرة أحد ساكني الكهوف يخرج للحياة بعد انعزال ألفي عام؟، أم كانتا هاتين الدمعتين المنحدرتين على خديه، غير عابئتين بحرصه الدائم على الكتمان؟، أم أنه ذلك الاسم الذي طالما سألت عن كينونته، دون أن يُنعم عليّ بإجابة، واكتشفت الآن أنه صاحب تاريخ طويل من المعاناة؟... أشياء كثيرة كانت سببا مقنعا لاستدعاء عبراتي من عينيّ المتابعتين لنظراته الدامعة للفضاء البعيد، أسباب كثيرة دفعتني مجددا للاستمرار، أسباب كثيرة جعلت تلك الليلة تحظى بصفحة بارزة في كتاب ذكرياتي الكبير، تلك الليلة التي مهدت معرفتي الحقيقية بذلك الـ... سَرْباز!
---------------------------------------
- ماكانش ينفع على فكرة اللي انت عملته في الحسيني قدام العساكر ده يا مؤمن!
- لِحِق اشتكى لك؟
- حاجة تضايقك اني اعرف؟
- لا وهتضايق ليه يا باشا؟..بس الفكرة انك تعرف ايه وتعرفه ازاي!
- بمعنى؟
- بمعنى إني عارف ان الحسينى وصلك الكلام على مزاجه.
- قاللي انك زعقتله قدام العساكر.
- ماكدبش عليك.
- مش ملاحظ انك بتكلمني بحدة شوية؟!
- يا باشا العفو بس انا ماتوقعتش انك تدي ودنك لواحد زي الحسيني انت عارفه وعارف أخلاقه كويس.
- ومين قالك اني اديته ودني؟... انت متخيل اني ممكن افضَّل شخصية زي الحسيني عليك أو اصدقه واكدبك انت؟، يا مؤمن انا مش محتاج أقولك انك أخويا الصغير وانك أنقى واحد شفته في حياتي. اللي زي الحسينىيده أنا لو أطول اضربه بالنار بنفسي هاضربه بالنار!
- وإيه اللي يمنعك يا سيادة الرائد؟
- اللي يمنعني؟... اللي يمنعني ان هو اللي ممشي المعسكر، من غيره الدنيا هتقع. انت فاكر ان أنا ولا انت هيبقى لينا طاقة ولا خُلق نجمع عساكر ولا نتمم عليهم ولا نشغلهم؟... احنا ظباط يا مؤمن عارف يعنى ايه ظباط؟...يعني ندِّي أوامر ونمضي ورق وندِّي جزاءات بس كده... فهمت؟!
اكتفى مؤمن بابتسامة باهتة تعكس سخريته مما يسمع، فاستطرد وائل:
- بتضحك ليه؟
- ممكن أسألك سؤال يا باشا؟
- اسأل.
- ليه العسكري في الجيش لما بينهي خدمته بتبقى الدنيا مش سايعاه من الفرحة كأنه خرج من الجحيم ودخل الجنة؟
ثوان من التفكير أخذ خلالها ذلك الرائد جولة في دروب أفكاره، دون اصطياد إجابة ذات جدوى..
- ...........
- الموضوع بسيط، عشان هو فعلا خرج من الجحيم. المشكلة يا باشا مش ان العسكري من دول بينضف بلاعات بايده ولا انه بيحلق دقنه عالناشف لغاية ما وشه يجيب دم ولا انه بيصحا من الفجر يشتغل زي تور في ساقية طول النهار ولا انه بيقف بالساعات بالسلاح في عز التلج بالليل في الكُحل مستني رصاصة تجيله من أي حتة تخلص عليه واحنا الظباط نايمين جوه في اوضنا... المشكلة عند العسكري انه بعد مابيعمل كل ده بيتشتم ويتهزأ ويتسجن لو بس نسي يوم يحلق دقنه ولا نسي في طابور يلمع بيادته. قضية العسكري مش في الشغل يا باشا قضيته في الإحساس بالقهر والظلم والإهانة. الرسول عليه الصلاة والسلام بيقول في حديث شريف ليس المؤمن بطعَّان ولا لعَّان ولا فاحش ولا بذيء، واحنا عملنالهم حاجة اسمها الشتيمة الميري.. الشتيمة والإهانة قانون يا باشا، قل لي كده هيحب الجيش ازاي ولا هيبقى قلبه عليه ازاي؟... انت فاكر ان العساكر دلوقتي بتشتغل وتقف خدمات عشان خايفة عالبلد ولا الجيش؟، العساكر بتشتغل وتقف خدمات عشان خايفة من عقاب الظباط وجزاءاتهم، بيقف خدمة ومركز مع الظابط ولا صف الظابط اللي هيعدي عليه يعلَّقه ويرميه في السجن ولا يلغيله أجازته مش مع العدو اللي هييجي من بره يقتله. وغير كده وكده شايف الظابط ده أكله أحسن من أكل عساكره مليون مرة وحمامه انضف من حمامتهم مليون مرة ولبسه انضف من لبسهم مليون مرة، حتى الأجازة اللي هي ترفيه ليه الظابط بينزلها في طيارة ولا اتوبيس بولمان مكيف وهم بيتمرمطوا في القطر الحربي زي البهايم.. هو عايش في وادي وهم في وادى، طبيعي يا باشا العساكر تفرح لما تمشي من هنا.. احنا بايدينا حولنا قضيتهم من قضية وطن لقضية أشخاص، خليناهم يخافوا من الوطن مش عليه!
- مش هاناقشك في حاجة انت مقتنع بيها كده. لسه مش قادر تستوعب ان العساكر لو مادوسناش عليهم بالجزم مش هيشتغلوا ولا يعملوا حاجة، دي طبيعة شعب كامل يا مؤمن يا حبيبي، تدوس عليه ينتج، تطبطب عليه ياكلك، شوف كده كل الإنجازات اللي الشعب ده عملها من أول مينا لغاية دلوقتي.. من أول الأهرامات لغاية قناة السويس هتلاقيها كلها اتبنت بالسخرة والكرباج، راجع نفسك يا مؤمن عشان تعرف تكمِّل طريقك في الجيش وفي الحياة عموما.
من جديد ابتسم مؤمن قائلا:
- للدرجة دي الشعب المصري شايفه عبيد؟...يا سيادة الرائد الشعب المصري طول عمره بينتج بالسخرة والكرباج لأنه أصلا ماشافش غيرهم، الشعب المصري من أيام مينا لغاية دلوقتي وهو واكل مع الكرابيج عيش وملح، احنا اصلا ماجربناش معاه طريقة تانية عشان نحكم بفشلها، عارف ليه يا باشا...عشان خايفين منه!
- خايفين!...قصدك ايه؟
قالها وائل قاطبا حاجبيه في استغراب، وبدايات غضب، قبل أن يعود مؤمن من جديد لبسماته قائلا:
- مش مهم يا باشا... ماتاخدش في بالك... كل اللي اقدر اقولهولك عيد النظر في التفكير في التعامل مع العساكر، وصَّل العساكر انهم يدعولك يا باشا لو سبتهم ومشيت مش يدعوا عليك، اكسبهم هيدوك أكتر صدقني، العيال دول غلابة ورجالة وبتوع شغل وطلباتهم مش كتير، كل اللي طالبينه مايتظلموش... طلبهم مش صعب.
- مانبقاش في جيش يا سيادة النقيب!
قالها في صرامة، والتقط معطفه و... غادر!
-----------------------------------
كعادة الأسبوعين الماضيين على اللقاء الأول بينهما، جمعتهما تلك الجلسة بعد تمام السادسة، على مقاعد الكافيتيريا. ثمة تقدم مذهل في علاقتهما شهدته جلسات سمر الليالى الأربعة عشر. الكثير من الأسرار أفضى بها طلال، ضاحكُ تارة ودامع أخرى، مسترسل تارة ومُقلٌ أخرى، شاردٌ تارة ومنتبه أخرى.. وبين التارات جميعها قد هيأ لإبراهيم في فؤاده مجلسا ربما لم يجاوره فيه أحد قبل الآن، باستثناء أحد الراحلين المتربعين في قلبه على عرش كل المجالس. المقعدان البلاستيكيان بلون البياض، بينهما طاولة بنفس المادة واللون، تعلوها الكثير من بقع خلفتها بقايا الأطعمة والأشربة للجلوس قبلهما على مدار اليوم، الضوء الخافت لمصباح قديم يعلو التلفاز الأقدم، العلبتان البلاستيكيتان أمامهما كانتا تحويان (رز بلبن)، وكوبان من الشاي (الكشري) اللذان أعدهما طلال بنفسه، بعد ضبط محتواهما من السكر كما يحب هو ويحب صديقه:
- أخيرا هننزل اجازة بكره الواحد عفِّن هنا.
- على رأيك يا دكتور، امي واخواتي اتوحشوني جوي مامصدجش اني خلاص هاشوفهم بكره ان شاء الله.
ثوانِ من الصمت أنهاها إبراهيم بقوله:
- ايه رأيك في الثورة يا طلال؟
تلقى طلال السؤال بشيء من الاستغراب، كطالب جامعي في لجنة شفوي فاجأه ممتحنه بسؤال من مقرر آخر:
- الثورة!
- ايه مالك اتخضيت كده؟
قالها إبراهيم مبتسما، يأتيه ردطلال من جديد:
- هو... يعني... أصل... بصراحة ماعارفش!
- ماتعرفش رأيك؟!
- انا اصلي سمعت كَتير عن الموضوع ده في التلافزيون بتاع الجهوة بس مخولوني ماعدتش فاهم حاجة من كلامهم.
- هم مين دول؟
- العالم اللي هيصدعونا كل شوية مافاهمينيش منيهم حاجة، إشي خبير ماعارفش ايه
- استراتيجي.
- ايوه هي دي، وناشط معارفشي مين.
- حقوقي!
- إيوه اسم الله على دماغك، والتالتة دي بردك اسمها ايه؟
- خبير سياسي؟
- إيوه هي ديّ، بس يا دكتور ومن دِه لدِه لدِه واحنا تايهين مافاهمينيش حاجة، فجُلنا ناخدها من جصيرها ونريحوا نافوخنا ونخلينا في أكل عيشنا احسن، يمكن ربنا يهديهم ومايتعاركوش تاني... إلا هم هيتعاركوا ليه يا دكتور، ما البلد سايعانا كلاتنا؟
تلقاها إبراهيم بابتسامة قائلا:
- عشان كل واحد فيهم عايز يتجوز الأرملة الغنية ويدوس على عيالها بالجزمة، عشان مايورثوش معاه فيها.
- ها!
من جديد ابتسم إبراهيم قائلا:
- انت ايه أحلامك في الدنيا يا طلال؟
- أحلامي؟... إإإإإ.. ماعارفش بصراحة!
-ماتعرفش أحلامك ايه؟
- يا دكتور احنا ناس عايشين يوم بيومه، بيناموا بالليل زي الجتيل بعد شغل من أول النهار لآخره، مش فاضيين أساسا يحلموا، بيخافوا يحلموا لا يضيعوا وجت الراحة في حاجات مالهاش عازة!
- بيخافوا!... بيخافوا يحلموا؟
- يا بيه لو جلوا عّجْلُهم وفكروا يحلموا، تلاجي الصغير بيحلم بامنا الغولة اللي بيخوفوه بيها لو مارحش الغيط يشتغل ويا ابوه، والكبير لو حلم بيحلم بالبوكس الازرج اللي هاياجي ياخده من وسط عياله لو ماسددش الدين اللي عليه، يبجى ليهم حَج يخافوا من الحلم ولا لا؟!
- ممكن أسألك سؤال يا طلال؟
- طبعا يا دكتور، اسأل!
- ايه أكتر حاجة ممكن تفرحك في حياتك؟
- أحجج أمي وأتجوز البت وردة!
- بس كده؟!
- لو طلبت من ربنا حاجة تاني ابجى طماع الحَج يتجال!
قابل إبراهيم كلماته بابتسامة قائلا:
- تعرف انك احسن مني!
- العفو يا دكتور، ماتجولش اكده دانتا دكتور!
- أنا مش باجاملك، انت فعلا أحسن مني، وبعدين مش احنا اتفقنا اننا اصحاب مافيش بينا حكاية دكتور دي؟... مش قلنا إبراهيم بس؟
- ماشي يا عمنا، خد مني بقى كعب الشاي دي وهتدعيلي.
ناوله الكوب، ثم استطرد قائلا:
- ممكن آني اسألك سؤال بقى يا دكتور؟...جصدي يا ابراهيم؟
- اسأل يا سيدي
- ليه على طول بابجى حاسس انك زعلان من حاجة أو جلجان من حاجة؟... ضحكتك دايما مش صافية اكده.
(عسكري الشطرنج وحده يكون مهتما بأقرانه، بخلاف بقية القطع!)
قابلها إبراهيم بابتسامة بات طلال يحفظها منه قبل أن يجيب:
- عشان مش عارف اتمنى الأمنيتين بتوعك دول.
- كيف يعني مافاهمش حاجة.
- يعني امي حجت خلاص وماعنديش وردة زيك.
- بردك مافاهمش!
- تقدر تقول كده مابنساش!
- كيف يعني؟
-عشان مقتنع ان الدنيا احقر من انها تجبرنا على شعور زي النسيان يا طلال!
-......
-عارف انت يا طلال الحتة الصغيرة المصديَّة اللي في القلب دي اللي صدِّت زمان ومن ساعتها مافيش فرحة عارفة ترجعها للمعانها تاني؟... اهي دي أكتر حاجة ممكن تعذبك في حياتك. بتخليك تفضل تجاهد طول عمرك عشان الصدا مايمتدش للقلب كله فتلاقي نفسك مُت وانت لسه محسوب على الأحياء.
- عليا الطلاج آني ما فاهم ولا كلمة!
- هاهاهاها اهو عشان كده بقولك انت أحسن مني.
صمت حينا قبل أن يعود لجديته المكسوة لمحة حزن قائلا:
- ادعيلي يا طلال!
-ادعيلك؟... من عينيا يا باشا بس ادعيلك بإيه؟!
- ادعيلي ابقى زيك!
- ها!
ابتسم إبراهيم قائلا:
- ادعي بكده بس ومالكش دعوة.
- ان كان عالدعوة ندعولك مجدور عليها دي، ولو اني مافاهمش زيي كيف بس ماشي.
دقيقة من الصمت أحاطتهما، قبل أن ينتبه إبراهيم لأصدقائه جالسين على مقربة منهما، موشكين على البدء في أمر ما، فالتفت لطلال قائلا:
- باقولك ايه، تلعب؟
- العب؟... العب ايه؟
- نوستالجيا؟
- ايه؟...دي اللي هو كيف يعني؟
- هاهاها...تعالى بس وانت تعرف.
اصطحبه إبراهيم إلى الطاولة الأخرى القريبة منهما، ملقيا السلام على الجميع:
- سلام عليكم يا رجالة.
- هيما وعليكم السلام مساء الجمال!
- اعرفكم بقى... طلال، شافعي، شريف، آسر!
- اهلا يا طلال ازيك.
شريف كان القائل، يتبعه الآخرون بكلمات الترحيب التي قابلها طلال بقوله:
- يا مرحب بالرجالة.
- نوستالجيا؟
قالها إبراهيم للجميع، فأجابوه بهزات رؤوسهم وغمزات عيونهم أن نعم.
- طب استنوا بقى هنلعب معاكم.
- فل، يلا اسحبولكم كرسيين.
قالها شريف الذي استطرد محدثا طلال:
- بص بقى يا عم طلال... نوستالجيا دي يعني الحاجات أو الذكريات القديمة في حياتنا، اللعبة ببساطة ان واحد فينا بيبقى (جدو) بيقول كلمة وبعدها كل اللي قاعدين يقولوا كلمة متعلقة بالحاجة دي، يعني مثلا انا اللي هابقى (جدو) هاقول تليفزيون.. انتو بقى تقولوا أي كلمة بتدل على حاجة قديمة في التليفزيون أو ذكرى حلوة، وصلت كده؟
- وصلت يا ذوج بس الخسران بنعرفه كيف؟
- الخسران صاحب أبطأ اجابة لأن الذكرى لو مش موجودة وحاضرة في ذهنك باستمرار تبقى مش مؤثرة فيك بشكل كافي وده أصلا هدف اللعبة، اننا نعيد التواصل بيننا وبين الذكريات القديمة.
- فهمت.
- حلو قوي يلا بينا نبدأ، انا جدو... نقول أول حاجة تليفزيون!
- كابتن ماجد!
آسر كان القائل.
- ونيس!
شافعي قالها.
-الجوهري 98
ابراهيم كان القائل
- .....
كان هذا طلال!
- ايه يا طلال لسه مش فاهمها قوي؟
- لا بس أصل... اصل يعني... اصل احنا ماكانش عندينا تلفزيون!
- طب يا عم ومالك متردد ليه كده؟... يلا ولا يهمك ندخل في اللي بعده... رمضان!
- بكار!
-النقشبندي!
- صيام لحد الضهر!
- فانوس جِريد!
طلال كان الأخير.
- جميل... مدرسة!
- جلاد أزرق وتيكيت!
- حصة فاضية!
- رحلة القلعة والفسطاط!
- ماكملتش!
- ماكملتش ايه يا طلال؟!
- ماكملتش علام.
قابلوها من جديد بابتسامة إعجاب ببراءته، قبل أن يستطرد شريف:
- قدوة!
- أدهم صبري!
- شنب أحمد عبد العزيز!
- أستاذ حفناوي!
- الشيخ....
لم يستطع لها إكمالا... شيء ما أعاق ذكر الحروف الثلاثة، فهمّت عيناه بنطقها دموعا... اكتفى بابتسامة باهتة، لم يفهمها سوى إبراهيم، الذي قتلته نظرة صديقه الصعيدي وكلماته... نظر للجميع باسما من جديد، بعد لحظات هروب بنظره للأسفل، متظاهرا بالبحث عن شيء... ثم انصرف!
---------------------------------------------
- هو خميس وجمعة فين؟
- في النتيجة!
- كرر اللي انت قلته ده تاني عشان ادفنك مكانك... العيال فين ياض مش شايفهم من الصبح ومش حاضرين التمام؟!
- يا عم بالراحة... اتسجنوا، ارتحت؟
- اتسجنوا!... امتى وليه؟
- امبارح بالليل الساعة 10 كده الرائد وائل شافهم رايحين الكانتين بيشتروا أكل عشان العشا في الميز فاتهم بس كانوا لابسين شباشب راح اداهم 10 أيام حبس.
- ثااااااابت!
انتبه لها المجندان الواقفان، فانتشلتهما من هدوء حديثهما. قالها الحسيني تمهيدا لقدوم الرائد وائل في كامل حلته العسكرية، اللامعة أكتافها بنسرين ذهبيي اللون، يرتدي نظارته الشمسية وبيده سيجارة ذبحها بنصل شفتيه، وإلى جواره (عسكري المتابعة) الخاص به، يقف كتمثال خُلق في وضع الانتباه لن يحيد عنه إلا لتنفيذ أمر قائده الناظر للجميع نظرة ازدراء واضحة، ينقصها فقط بصقة عملاقة تكفي الجميع، منعه منها انشغاله بسيجارته. دقائق من الصمت سوَّرت المكان، أنهاها الرائد بقوله:
- واضح إنى دلعت الناس زيادة عن اللزوم، ماكنتش اعرف انكم شوية بهايم عايزين الحرق، الذوق مش نافع معاكم خلاص، امبارح اتنين رمم طالعين الكانتين الساعة عشرة بالليل بالشبشب.. البهوات فاكرين نفسهم في الغيط ورا الجاموسة، فيه حاجة اسمها مواعيد وانضباط، مواعيد طوابير ومواعيد نوم ومواعيد صحيان ومواعيد ميز يطفحوا فيه، اللي مايلحقوش عنه ما طفح يستناه لما يفتح تاني يوم احنا مش في فندق. قسما بالله... قسما بالله انتوا لسه ما شفتو مني الوش التاني، ونصيحة مني حاولوا متشوفوهوش، عشان لو شوفتوه هتكرهوا حياتكم وحياة اللي خلفوكم!
صمت حينا قبل أن يثبت نظره على آخر الصف قائلا:
- آخر واحد في اليمين تعالى... ايوه انت تعالى...تعااااااالى!
جاء الجندي مسرعا يؤدى التحية، ثم ثبت في وضع منتظر ملك الموت، يتلقى كلمات ضابطه:
- بتتحرك ليه يا زبالة يا رمة؟
- والله... والله يا فندم...
- ماتحلفش بدل ماديك باللى في رجلي... وريني شرابك!
رفع الجندى طرف بنطاله من داخل عنق البيادة في تردد:
- شراب ملكي... الله الله... انتباه!
امتثل الفتى للأمر!
- ارقد!
رقد على بطنه شابكا يديه خلف ظهره!
- ازحف...وعلى الله اشوفك واقف...صول حسيناااي!
- أوامر يا فندم!
- بعد الجمع يتدوَّر 15 يوم سجن.
- تمام يا فندم.
- المية معادها تتملي امتى؟
- بكره ان شاء الله يا فندم.
- المية تتملي النهارده.
- تمام يا فندم.
- دوَّرهم على مخزن السلاح عشان الصيانة انا مش هاخليهم يناموا النهارده!
- بس النهارده مش يوم الصيانة يا فندم.
عاد له وائل بنظره، خالعا نظارته، قاتلا اياه بنظرة شيطانية، فتدارك الحسيني الأمر قائلا:
- أوامر سيادتك!
-----------------------------------
ثمة شيء غريب ينتظره، شيء خلف هذا الباب الخشبي العتيق ينتظر مجيئه ليبوح له. التغيير يكسو كل معالم الدار (القبر)، تغيير لم تعتد عليه منذ بناها أحد مرضى الكبد الراحلين قديما، من طوب لبِن وعروش نخيل، تغيير عنوانه... الفرح!
كل شيء في المكان اجتهد ليواكب ذلك التغيير، القلل على الشرفة الأمامية تلمع بُنيَّتُها الفخارية بماءٍ فاض من داخلها إلى خارجها، ليشارك الجميع فرحته، الماء المرشوش على المصطبة الأسمنتية (قديما كان الطين مكونها الوحيد)، الرمال المنداة ببعض الماء منثورة أمام الدار وعلى جانبيها، تبرع بها الحاج سليم المقاول لمجاملة أسرة صديقه الراحل، خيوط الزينة الورقية العجوز بعمر الرمضانين، التي استعارتها صابرة من صديقتها عفاف بنت أم عفاف، تُسربل الجدران الأربعة وواجهة الباب الأشعث رافض الزينات. ربما لم يسعفها قِدَمُها ولا تكوينها الهش ذو الأوراق المستعارة بدورها من (عم احمد بتاع الطعمية) والملصقة إلى حبل غسيل بخليط من دقيق وماء، صوت زغرودة قادمة من الغرفة الجانبية للمندرة (بهذا الاسم يحاولون إنقاذ الحجرة الوضيعة ذات الكنبة البلدية والكرسيين المتهالكين) تغازل فرحة تتزين في خدرها في الأفق البعيد. بطرقاته الثلاث المعروفات طرق الباب الخجول من زينته، ظنا منه أنها تسلبه وقاره الحزين:
- طلال... طلال إجى يامَّا... طلال إجى!
قالتها صابرة المهرولة من أمام الفرن المشتعل يحوي بعض أرغفة تنتظر الخروج للحياة من رحمه النيِّر، تتبعها أمها المجتهدة في إزالة آثار (هباب الفرن) من على جبينها ووجهها المتعرقين، وتجفيف يديها من أثار العجين في ردائها الأسود متشح البياض في أكثر من موضع منه، اكتسبه من طول مرافقته لعجين الخبز ودقيقه، منذ أعلن الفجر بدء النهار:
- طلال.. يا حبيبي يا ضنايا كنت خابرة انك ماهتفوتناش نفرحوا لحالنا.
فتحت الباب بلهفة تنتظر إطلالته التي غابت عن البيت، قبل أن تضمه أحضانها المتعطشة له لدقائق غابت فيها كل الكلمات، قضتها صابرة محتضنة جانبه، مكتفية به مؤقتا:
- حمد لله على سلامتك يا ضنايا، اتوحشناك جوي، العش كلاتها ماكانش ليها طعم من غيرك.
- تسلمي يا ست الكل، اتوحشتوني جوي والله كلكم.
- حمد لله عالسلامة ياخوي.
- الله يسلمك يا ست صابرة عاملة ايه؟
- الحمد لله نحمده، الأمانة في الحفظ والصون (خفضت صوتها قليلا تغمز له بعينيها، فانتزعت ضحكاته رغما عنه)
-هاهاهاها ماشي يا لمضة.
صمت حينا قبل أن يعود لأمه قائلا:
- بس ماجولتوليش صحيح، ايه اللي اني شايفه ده جلبي هيجوللي ان فيه حاجة زينة بتُحصُل.
- جلبك طول عمره ابيض وصادج يا واد يا نصاب.
- هاهاها طب يلا بجى فرحوني وياكم.
- علي هيخطب، عقبالك يا ولد ابوي.
قالتها صابرة فانفرجت شفتا طلال عن ابتسامة صادقة بهجة لأخيه قائلا:
- يااااه عالأخبار الزينة.. فرحتيني والله يا بت يا صابرة... طب هو فين العريس اباركله واحشني جوي هو كمان.
- العريس يا سيدي عالجهوة بيعزم باجي الناس، هيفرح جوي لما يلاجيك وصلت وهتحضر خطوبته الليلة.
- طب زين عقبال مااغيِّر هدومي واريحلي ساعتين يكون وصل.
- ماشي يا ضنايا روح انت غيِّر هدومك وريحلك ساعة عقبال مااحضرلك لجمة تاكلها.
همَّ طلال بالانصراف مقبلا يد أمه، قبل أن يقفز إلى ذهنه أحد الأسئلة أفاض به لأمه:
- ألا صحيح يا ام علي هتخطبوله مين؟
- البت وردة بنت محروس الخيَّال، بت زينة وبنت حلال وأهلها ناس غلابة.
لعلها أولى المرات التي يشعر فيها بمثل هذا الدوار.. شيء ما علق في قصبته الهوائية، هدده باستدعاء سريع لملك الموت.. رغما عنه سقطت حقيبته ممهدة لسقوطه، الذي تداركه بامساك الزير الفخاري..
- طلال... مالك يا ضنايا؟
- لا...لا مافيش حاجة يامَّا، شوية... شوية تعب من السفر بس وهيروحوا لحالهم... اني... رايح انام.
- طيب يا ضنايا نوم العوافي.
النوم!... ربما لم يعد لتلك الكلمة مكانا مناسبا الآن. أي نوم سيأتي، وأي الأحلام سيضم؟.. يبدو أن الأحلام قد سحبت سفيرها من أرضه إلى غير عودة.. حلم يغادر، يتبعه آخر بحقيبة سفره، وثانٍ يموت يتبعه آخر بكفنه، وثالث يُسجَن يتبعه آخر بقيده.. الأحلام كلها لم تعد تشعر إلى جواره بالأمان، فغادرت الأرض وضحت بانتمائها لوطن آماله أسير الاستعمار. ساعة قضاها على سريره منفردا بدموع لم يستدعها، واستدعتها صورة الوردة الذابلة في ذاكرته، المتشبثة بالباقي من أشواكها التي لم يرها قبل الآن. دون أن يتعمد، وجد قدماه تصعدان الدرج الطيني إلى سطح البيت القديم.. إلى الفتحة الصغيرة التي تضم صديقه الأليف كانت وجهته. صفير معتاد يعرفه منه ريشة، الذي انطلق مرحبا بالصديق العائد من جديد. استقبله كعادته على فخذه الأيمن، بعدما جلس متربعا ينتظره، يمناه جعلت له مرقدا، في حين تولت يسراه مهمة السير بأناملها على ظهره الأملس الشائب بياضه ببعض التراب.
- اتوحشتني جوي يا واد يا ريشة، ايه دِيّ؟...ضهرك ماله ايه التراب دي، البت صابرة مكانتش هتحمِّيك ولا ايه؟
بصوته الضعيف الأشبه بأنين عصفور جاوبه صديقه، فاستطرد:
- حجك عليا اني يا صاحبي، الله يكون في عونها بردك تلاجيها شجيانة طول النهار مع امي، اني هاحمِّيك النهارده، اني... اني اصلى بصراحة مش عايز احضر الخطوبة ديّ، بس هاجولهم ايه؟، كنت باحمِّي ريشة؟... ماتفكر معايا يا واد بدل مانتا زي جِلتك اكده.. استنى استنى تاهت ولجيناها، هاجولهم اني تعبان من السفر. بس لا بردك دي ماهتخيلش عليهم، وبعدين امي هتاخد على خاطرها مني بردك.. دي بالذات ماينفعش ازعلها.. اجولك، اني هاحضر وخلاص بجى، هيُحصُل ايه يعني؟!
فجأة، توقفت الكلمات في فيهِ الشاكي.. شيء ما اصطاده من حديثه مع صديقه المستقر في كفه سامعا شكواه التي لا يفهم من كلماتها شيئا.. يعرف فقط أن قرينه البشري يعاني مشكلة ما. أوقفه الصوت عن حكيه، يعرف هذا الصوت الصيَّاد أكثر من أي شيء آخر، هذا الصوت المعزوف على كمان المعاناة، هذا الصوت الناطق دوما بالدائر في قلبه هو من الكلمات، كأنهما المخلوقين بأحبال صوتية واحدة.
كانت هي... السطح المقابل كان مسرح إنشادها هذه المرة، بخلاف سابق المرات التي ضم فيها غناؤها براح الحقول. خلف أحبال الغسيل الصفراء حاملة بقايا الملابس المتساقطة من أطرافها قطرات الماء بني اللون، خيالها خلف إحدى قطع الملابس البيضاء، قديما كانت جلبابا لأحدهم. كان غريبا بعض الشيء، انكسار لم يره فيها قبل الآن، جلست تضم ركبتيها إلى صدرها محوطة إياهما بذراعيها الدقيقين، وقد اتجهت برأسها، الذي علاه إيشارب وردي بعمر والدتها، إلى الفضاء البعيد تهمس في أذنه بشيء ما!

أميرة الأمرا بفستانها مليح اللون
وضحكة مكبوتة معاوزاشي تساع الكون
ضحكاية بهتانة جوه مراية كدابة
لغزالة رميوها من الواحة على الغابة
فينُه أمير الواحة كيف سابها لصيادها؟
وعيونه مرتاحة لما شافه مصطادها
يا غزالة سال مِسكِك وسط الغابة والأحراش
والدم تاه تاره وسط الغوغا والأوباش
يا حلم تمنه رخيص باعه الخسيس ببلاش
ما عاد في وسط الواحة حد بيدّه سيف العون
لا يعلم لماذا هزته الكلمات هذه المرة بهذا الشكل. لوهلة، أحس أنه شريك في حروفها المغزولة بنسيج الآلام.. أمير الواحة كان أم الصياد القاتل؟.. المرآة الكاذبة كان أم الضحكة الباهتة؟ .. الخسيس بائع الحلم كان أم مالك سيف العون؟.. أي مساهمة ساهمها في قصة الغزالة على عرش الأميرات، أم أنه كعادته اكتفى بدور طفل الحارة المستمع لإنشاد الربابة العجوز بحكاياتها وحسب؟!
من شروده أفاق، ليفاجأ باختفاء خيالها من لوحة حبل الغسيل، كأنها قد أرادت فقط البوح بما يضيق براح صدرها إلى الفضاء الفسيح، كأنها تخيلاته من رسمتها له رحمة به. لا تعلم أنها بلوحتها تلك قد أججت شجونا لم يعد بذلك الصعيدي الصغير طاقة لاحتماله بعد الآن.. دقق النظر من جديد، فتيقن من خلو السطح المقابل من ساكنته. أعاد ريشة إلى مخبئه، مع وعد بلقاء قريب، ثم انصرف إلى الحفل الريفي المنتظر من الجميع إلاَّه و... إحداهن!
توافد سكان العش على ساحة الدار للمجاملة. على عتبة الدار كان وقوف طلال لاستقبال المجاملين، مرتديا جلبابه الأبيض الذي ظهر من فتحة صدره الصديري سمني اللون، إضافة للـ(بُلغة) بنفس اللون. رمقه من بعيد ينظر إليه، وعلى وجهه نظرة شماتة لم تؤلمه قبل الآن بمثل هذا الشكل، رغم اعتياده عليها منه قبل الآن لسنوات. بات على يقين الآن أن هذه الخِطبة لم تكن إلا حلقة جديدة في مسلسل حقد أخيه عليه وكرهه له. الآن فقط تأكد أنه كان على علم بكل شيء، وقرر أخيرا توجيه ضربته، الآن فقط... شعر أنه وحيد أبويه!
حاد عنه بنظره إلى تلك الحجرة الخاصة بالـ (حريم)، بينهن كانت تجلس في كامل حلتها، بابتسامة باهتة تشبه ابتسامته، ضحكة ناقصة تشبه ضحكة أمه، صوت مبحوح يشبه صوت ريشة، ونظرة خاوية تشبه تلك التي رآها على وجه إحداهن في البيت الكبير، يوم ودّع البدر الراحل.
عاد بنظره مجددا إلى القادمين منشغلا بهم، ساعتان قضاهما بين الجمع على مضض، قبل أن تهزمه إنسانيته، فقرر الانسحاب دون أن يلحظه أحد من الحضور. على غير هدى، هام على وجهه في شوارع العش، مسترشدا بضوء قمري خجول يستتر ببيوت القرية الشعثاء من شوارعها.
فى هذه البقعة النائية على أطراف القرية، كانت نهاية رحلته، بقعة تجلَّى فيها ضوء القمر كاملا دون نقصان.. يشعر فيها بأمان يفتقده في غيره من طرقات القرية الصماء وبيوتها البكماء وحقولها أسيرة ضبابيات هموم مزارعيها.. ينظر إليها القمر من عليائه على عرش المملكة السماوية الظلماء إلا من بقعة يتوسطها نوره البرَّاق. هيبة المكان النابعة من سكونه وسكون ساكنيه ربما كانت السبب الأول في إرسال القمر رسل أضوائه في كامل حلتهم، ملك في السماء يراسل نظيره في الأرض بما هو أهل له، بين شواهد القبور سار طلال غير عابئ بالرهبة العظيمة التي أحاطت المكان. كان يعرف طريقه جيدا رغم الظلام، أصبحت المقابر ملاذه الأول بعد كل ما كان، بها يشعر بأمان لم يجده في مساكن الأحياء، بها يلاقس راحة لم تهبها له الحياة، بها... يرقد أحدهم افتقده بشدة.
أمام قبره وقف حينا يقرأ الفاتحة، تلك التي تعلمها أقرانه في فصول المدارس، وتعلمها هو في مآتم الأحباب.. كان هذا اختلافا كافيا على كل حال ليعيش حياة كتلك!
أنهى القراءة، قبل أن يضع إحدى قطع الحلوى فوق القبر:
-إ زيك يا سيدنا؟... اتوحشتني جوي من ساعة ما فارجتنا ومشيت، كده بردك تهون عليك العشرة وتسيبنى لحالى وسطيهم اكده؟، انى... انى عمرى ماكرهت على، عمرى ما كان نفسى أأذيه، معارفش هو هيعمل معايا اكده ليه؟، صحيح نسيت اجولك.. مش انى بجيت مصاحب داكتور... اى والله زى مابجولك اكده داكتور جدع جوى من مصر كل يوم هيعزمنى على رز بلبن وشاى من الكافتريا الملكى اللي حدانا في الجيش... ايه؟... اسلملك عليه؟... حاضر يا سيدنا يوصل، فكرنى بيك جوى، بس لساته بردك مجادرش يملى مكانك ويبجى الشيخ بدر، تعرف؟... الواد ريشة هو الوحيد بيناتهم اللي هيبكى لحالى، امى معارفاش حاجة هي وصابرة، هما مناجصينش هموم يشيلوها بردك كفاية اللي هما فيه، محدش جادر يبجى الشيخ بدر تانى يا صاحبى، محدش فيهم بجى يصحينى للفجر ولا يجيبلى ارواح ولا يجوللى يا (واد يا طلال)... انى خلاص مبجتش جادر اكمل، تعبت...تعبت جوى ياخوى، تعرف انى نفسى في ايه دِلوَك؟...نفسى أجيلك، نفسى أجيلك جوى يا شيخ بدر!
-------------------------------------------
- يا سايرين في الشوارع كِيف غبار أمشير
ومهرية كعوب أحلامكم الخضرا من المشاوير
يا حافظين المناهج صم
ودافعين للنجاح تمنه كلبش ودم
يا عايشين الفرج أزمات
وعايشين الفرح تعاسات
وعايشين في الحياة أموات
كما الصراصير

- الله الله، والله زمان يا عم حسام.
- زمان!...جرى ايه يا عسكري؟ دول يدوب اسبوعين تلاتة!
- يا راجل اسكت دول عدَّوا كأنهم سنتين تلاتة!
- هاهاها بقى هم دول عساكر الجيش اللي هيحاربوا؟، جابوا آخرهم في اسبوعين؟... اهو انا كده اتطمنت على مصر.
- يا عم ماتقطمناش بقى.
- يا جدعان ما تسيبونا بقى من السيرة دي هو احنا واخدين اجازة من الجيش عشان نتكلم عن الجيش؟
إبراهيم كان المتحدث!
- طب كلمنا عن المدنية انت يا عم المستجد.
تولى شافعي الرد.
- هو الواد كيمو فين يغنيلنا حاجة طيب؟
- كيمو زمانه جايي كلمته قاللي في الطريق.
- للكبار فقط!
قالها ناصر المنشغل بتصفح مواقع الأخبار الالكترونية، فانتبه لها الجميع، حيث قال شافعي:
- انت عبيط يا ابني ولا ايه؟... هو ايه ده اللي للكبار فقط؟... ده عمل فني جديد للمخرج المبجل إياه ولا ايه؟
- الإعلام... الإعلام كله بقى للكبار فقط، ماهو أصل كمية الكدب والتضليل والافترا والضحك عالدقون دي ماينفعش يبقى ليها اسم تاني!
- يا سيدي... يعني هي جت عالإعلام؟ جمهورية مصر العربية كلها بقت للكبار فقط!
- طب حاسب بس بدل الكبار دول ما يسمعوك.
قالها إبراهيم!
- واحنا من امتى بنخاف؟ اللي يسمع يسمع...على رأي الوايت نايتس جيلنا من الموت مابقاش بيخاف خلاص!
- بس الموضوع بقى كئيب قوي يا جدعان. حالة الانقسام اللي موجودة في الشارع الثوري دي هتودينا لكارثة.
- يا ابني الكارثة دي انا توقعتها من مشهد واحد بس، مش بس توقعتها ده انا متأكد منها كمان.
حسام كان القائل، يأتيه رد ناصر:
- مشهد ايه يا عم الشاعر؟
- أول ما فتحت التليفزيون ولقيت مذيعين الفلول جايبين مناظرة زي ماهم بيجملوها أو خناقة زي ما الواقع بيقول بين شباب الثورة المستقل من ناحية وشباب الإخوان والتيار الإسلامي السياسي من ناحية تانية.. سيبنا العدو الحقيقي ومسكنا في بعض، ويا ريتنا حتى سيبناه ده احنا عملناه حكم بيننا.
- للأسف عندك حق!
- نظام مبارك لعب لعبته في منتهى الذكاء.
- لعبة ايه؟
- السلطة في مصر بالذات قايمة على محورين رئيسيين، محور موجود في كل دول العالم اللي هو عبارة عن مؤسسات الدولة ومجالسها النيابية والمحلية، والمحور التاني اللي تملكه مصر بالذات أو بمعنى أصح كل دول العالم التالت اللي هو الإعلام، لأن الدول دي الغالبية العظمى من شعبها جاهل فالتأثير فيه سهل.
- أيوه بردو مافهمتش!
- استنى يا بنى آدم لما أكمل!
- لامؤاخذة افتكرتك خلصت.
- المجلس العسكري بص على المشهد من فوق، لقى ان المحور الأول اللي يقدر حاليا يسيطر عليه وياخده هو التيار الإسلامي عموما والإخوان خصوصا، لأنهم أكبر تيار موجود في الشارع ومحتك بالناس من زمانـ خصوصا ان إمكانية التزوير دلوقتى بعد الثورة مباشرة كده مستحيلة فماكانش فيه مفر من الصندوق. وده اللي حصل فعلا، وسيطر الإخوان على المجالس النيابية واتحادات الطلبة والنقابات وكل ما له علاقة بصندوق انتخابات. أما بقى المحور التاني اللي هو الإعلام، فالمجلس اداه للشريك التاني في الثورة اللي هو الشباب الثوري المستقل ظاهريا بس. يعنى اللي باين للناس إن الشباب هو اللي بيتكلم وبينتقد نظام الإخوان، لكن الحقيقة إن المالك الحقيقي للإعلام كان نظام مبارك اللي استغل الشباب كواجهة يستخبى وراها، مابقاش ليهم شغلانة غير شتيمة التيارات الإسلامية عمال على بطال، قال يعني هو كده مذيع ولا مذيعة ثوريين وبينتقدوا النظام، لكن الحقيقة إنه عايز يهدم أي نظام عشان يثبت ان نظام مبارك كان هو الناجح والشعب ظلمه، لدرجة ان الفُجر وصل بيهم انهم يروجوا إن الاخوان هيبيعوا قناة السويس والأهرامات والسلفيين هيحطوا مادة في الدستور تزويج البنت من سن تسع سنين. من الآخر كده الشباب الثوري اتضحك عليه وأوهموه انه يملك حرية الرأي والإعلام، زي ما الإخوان اتضحك عليهم وأوهموهم انهم يملكوا السلطة اللي ما زالت في إيد نظام مبارك في كل المؤسسات... يعنى من الآخر الطرفين امتلكوا الوهم... والحقيقة ان مبارك ونظامه كانوا المُلاَّك الحقيقيين لكل حاجة ومازالوا لغاية دلوقتي!
- احنا المسؤولين!
شافعي كان القائل.
- إحنا مين؟
سأل ناصر.
- الطرفين... إخوان وشباب.
- لأ حاسب... انت بتقارن مين بمين؟ بتقارن شاب طلع يقول كلمتين في برنامج زي واحد معاه سلطات وزارة ومجالس نيابية وغيره؟
- ما هو حسام قالك اللي فيها، ماامتلكوش أساسا، وبعدين دول مش مجرد كلمتين في برنامج، الكلمتين دول في دولة زي مصر بالذات وشعب زي شعبها ممكن يعملوا حاجات كتير قوي، وان كنت باحمِّل الإخوان الجزء الأكبر من المسؤولية.
- اشمعنى؟
- بداية انهيار الثورة كان في محمد محمود!.. نظام مبارك كان المستفيد الأول والأوحد من محمد محمود!.. اوعوا تتخيلوا اننا هزمنا مبارك ونظامه ومجلسه في محمد محمود، بالعكس دول عملوا كل اللي هم عايزينه وبامتياز كمان. المجلس العسكري ماكانش عايز يقعد في السلطة كمان كام شهر زيادة، مش دول اللي هيفرقوا معاه، المجلس عمل كده عشان يفعَّل خطة الانقسام دي، أغرى الإخوان بكراسي البرلمان واستفز الشباب بعدم تسليم السلطة بسرعة، وهنا الإخوان بلعوا الطُعم وحصلت الكارثة اللي لغاية دلوقتي بنعاني منها، رغم ان الاخوان اعتذروا بعد كده عن الخطأ ده، لكن الوقت كان فات خلاص وماعادش ينفع لأنه خطأ متعلق بدم!
طق... طق... طق!
- قوم شوف مين عالباب يا شافعي.
- شغال عند اللي خلفوكو أنا بقى ولا ايه؟
- اللي يشوفك من ثانية وانت بتحلل سياسة مايشوفكش دلوقتي... قوم يلا انت اقرب واحد للباب ماتبقاش تقيل.
- مش قايم قوم انت هو انت اتشليت؟
- يوووه... اخلص يلا اللي عالباب خلِّل من الانتظار.
- أمري لله.
قام شافعي للباب يفتحه قائلا:
-هو انت؟... ادخل بشعرك ده.
- مين؟
- ده الموسيقار المغفل!
-----------------------------------
كعادة أيام الإجازات، انتهت بسرعة لم يتخيلها الجميع. عادوا من جديد لأسوار المعسكر الكبير بانتظار الترحيل بعد سماع (التوزيعة)، اللقاء الأول بينهما كان منتظرا من كليهما بطبيعة الحال، المكان كذلك كان بانتظار جلستهما التي لم يفلح غيرهما في إقامة طقوسهما على نحو يرضي المكان ويعيد إليه ذكريات أيام سابقة.
- شكلك مش عاجبني يا دفعة، من ساعة ما قعدنا وانت سرحان، حتى كوباية الشاي اللي كنت بتشربها مولعة تلجت من الركنة وانت لسه ماقربتش عليها.
-ها؟... أبدا والله يا دكتور... كل حاجة زين الحمد لله... تعب السفر بس.
-على إبراهيم بردو؟ هو أنا يعني مش عارفك؟
لم يرد طلال، اكتفى بنظرة خاوية تحت قدميه، أتبعها بكفيه تعبثان بعينيه اللامعتين.
- ايه ده... انت بتعيط يا طلال؟
قالها إبراهيم وقام من مقعده إلى صديقه، رابتا على كتفه، ضامَّا إياه مستطردا:
- صلي عالنبي طيب وقل لي بس ايه اللي حصل لكل ده؟
- أني تعبت... تعبت وخلاص ماعدتش جادر اكمل!
- واضح ان فيه حاجة حصلت في الإجازة... حصل ايه قل لي طيب عشان اقدر اساعدك.
- وردة اتخطبت!
قابلها إبراهيم بصمته، وقد لمعت في رأسه صورة إحداهن مرسومة بأسود الألوان، لم تلبث أن محتها دموع طلال معيدة اللوحة لبياضها من جديد. ما أشبه هذا الصعيدي المسكين به، فقد أحباب وفقدهم، تاهت منه إحداهن كما تاهت منه، شبيهان في طرقات الحياة جمعتهما أخيرا على مقاعد طاولة واحدة، يستكشفان في بعضهما تلك الجوانب من المتشابهات، كأنى بها تتحداهما أو... منهما تسخر!
- اتخطبت لمين؟
- علي!
- أخوك؟
- ايوه.
من جديد سيطر الصمت على إبراهيم، مكتفيا بضم طلال إليه حينا، قبل أن يعود للحديث مجددا بقوله:
- اهدا طيب... اهدا، استنى هاجيبلك شوية مية تشربهم.
قالها إبراهيم وانصرف إلى الكانتين، لجلب زجاجة مياه وضعها أمام صديقه مستطردا:
- هاسألك سؤال يا طلال.
- ....
- عمرك سألت نفسك انا ليه باشرب الشاي بارد رغم ان طعمه بيبقى أسوأ مليون مرة؟
- ليه؟
- عشان ماتلسعش!
- ها؟
- يعني انا دايما باحب الانتظار على الحاجة لغاية ما تاخد وقتها، مش هافرح بحلاوتها دلوقتي لما تضرني بعدين، لكن ممكن اقتنع بنص الحلاوة دي لو من غير ضرر... فهمتني؟
- لأ!
ابتسم إبراهيم مستطردا:
- ماحدش عارف الخير فين يا طلال، دي مش نهاية العالم، خليك واثق ان مادام علي خطب وردة عشان بس يزعلك أو يضايقك، فعمر ربنا ما هيسمح بمهزلة زي دي تحصل على أرضه مادامت النية مش صالحة، الدين بتاعنا بيحب المرأة قوي يا طلال لا يمكن هيسمح ان حد يهينها بالطريقة دي... استنى إرادة ربنا وساعتها بس هتعرف قيمتك عنده، ساعتها بس عينيك دي مش هتبطل دموع من الفرحة!
- كلامك طمنني والله يا دكتور!
- تاني دكتور؟... ماتصحا بقى يا دفعة مش اتفقنا مافيش دكتور دي؟...دول حتى بيقولوا الصعايدة بيفهموها وهي طايرة.
ابتسم لها طلال قائلا:
- الله يسعدك والله شلت عني كتير بالكلمتين دول.
- انا ان شاء الله هاترحل بكره الصبح على المستشفى العسكري اللي في القاهرة خلاص مش عايز بقى امشي وانا قلقان عليك فرفش كده واضحك الدنيا مش مستاهلة.
- ان شاء الله، المعسكر ماهيبجاش له طعم من غيرك والله.
- ربنا يخليك يا طلال، انت هتترحل امتى صحيح؟...
- لسه هيجولوا المندوب بتاعنا هياجي على آخر الاسبوع اكده.
- خلي بالك من نفسك ربنا معاك.
- آمين يارب.
- يلا انا هاقوم بقى انام يادوب كده عشان الحق اظبط حاجتي كمان الصبح الوقت بيبقى ضيق.
- ربنا معاك يا دكتور.
قالها وقام إليه يحتضنه مستطردا:
-اشوفك على خير ان شاء الله يا دكتور، ربنا معاك يا صاحبي، شد حيلك اكده عشان تبجى مجند زين ويتحاكوا بيك، بس أمانة عليك يا شيخ ما تنسى طلال.
- يا خبر أبيض؟.. أنساك ازاي يا طلال؟، وبعدين احنا اكيد هنتقابل ان شاء الله تاني، مش كده ولا ايه؟
- طبعا، انت بس تعالى شرفنا في العش واني اخلي الحاجة تدوجك طبيخها الزين.
- لا انا عايز ادوق طبق الفول بتاعها كفاية قوي.
- هاهاهاهااها....بس اكده؟
- بس اكده
- هاهاهاهاهاها...توصل بالسلامة ان شاء الله يا ابراهيم.
- الله يسلمك يا طلال، خد صحيح... امسك الموبايل ده.
- ايه ده؟
- ده هدية!
- هدية؟
- ايوه يا عم مالك استغربت كده ليه؟... مانا بصراحة عايز اكلمك وانت كنت قايل لي ان انت مش معاك موبايل، وبعدين ده هدية هتكسفني ولا ايه؟
تبسم طلال وتناول منه الهاتف قائلا:
- ماشي كلامك، هدية مقبولة.
- انا سجلتلك رقمي وهاكلمك ان شاء الله بكره اول ما اوصل المستشفى.
- ان شاء الله توصل بالسلامة.
- يلا تصبح على خير يا دفعة.
- وانت من أهله يا صاحبي.
-----------------------------------------
أسبوع مضى على المغادرة... مازلت ذاكرا، لا أعلم حقيقة ذلك الشعور الذي غمرني حينها، مزيج من فرحة الخروج من الأسوار وحزن لوداع القابعين خلفها.. الصول رضا، الشاويش علاء، أصدقاء الفصيلة 15، محمود فتى الكانتين و... طلال! هذا الصعيدي الغريب، كم سأفتقد نداءه لي مع كل آذان ليجمعنا صف صلاة واحد في مسجد المعسكر، كم سأفتقد حلواه التي طالما أعطانيها بعد كل صلاة، كم سأفتقد جهله البرئ بكل حديث، كم سأفتقد حكاياته عن بدر ووردة وعلي وصابرة وريشة وعم علام، كم سأفتقد كل شيء حواه هذا الشاب بعقل العواجيز وقلب الرُضَّع.
أبدا لن أنساه... أبدا لن أنسى طلال ما حييت!
-----------------------------------------
- يا رجالة المندوب بتاعكم وصل!
سمعها منه الجميع، فهمُّوا كلٌ إلى دولابه الحديدي، يلتقط من مخلته الزي الزيتي استعدادا للانطلاق. ضوضاء من نوع بهيج، يقودها عتمان بصوته الكرواني على أنغام طلال المتقمص دور الـ (طبال) على دولابه الحديدي وأيادي البقية يشاركونهم بتصفيقهم:


واه يا عبد الودود
يا رابض عالحدود
ومحافظ عالنظام
كيفك يا واد يا صحيح
عسى الله تكون مليح
وراقب للأمام
أمك عتدعي ليك
وعتسلم عليك
وتجول بعد السلام
خليك ددع لابوك
ليجولوا منين دابوك
ويمسِّخوا الكلام
واه يا عبد الودود
عجول لك وانت خابر
كل الجضية عاد
ولسه دم خيَّك
ماشِرباش التراب
حسك عينك تزحزح
يدَّك عن الزناد
خليك يا عبده راصد
لساعة الحساب
ان كنت واد ابوك
تجيبلي تار أخوك
والاهل يبلغوك
دميعا السلام
- الله عليك يا واد يا عتمان يسلَّم فمَّك يا واد حسَّك ولا وهدان النمس؟
- مين وهدان النمس دِه؟
- واه؟... ماهتعرفشي وهدان النمس أجدع صاحب ربابة في جِبلي؟
- ولا عمري سمعت عنه حاجة.
- استنى هاسمعك موال البُرتجان جال لليوستفاندي حجك عليا اني اسف موت عالتلافون.
- كل ده اسم موال؟
- اصله هيغنيه بضمير شويّ... اسمع اسمع.
- لا ياعم الله لا يسيئك عايزين نلحجوا نلموا حاجاتنا خليه نسمعه واحنا مسافرين.
- ماشي كلامك.
ساعة واحدة كانت كافية للجميع لإنهاء كل شيء على النحو المطلوب، البطاطين الثلاث ملفوفة كحيَّات تحاول لدغ ذيولها في قاع المخلة، تعلوها باقي (المهمات) من أزيائهم وملاءاتهم وأحذيتهم الميري، ثم قفل (كمبيوتر) لغلق المخلة الموشكة على الانفجار. غادروا جميعا إلى أرض الطابور، لتسليم أنفسهم إلى المندوب المنتظر. سطر آخر من سطور الوداع تلوذ كلماته بصفحته، خبرته بوداع الأماكن باتت أكثر ما يميزه.. لكل تفصيلة في كل مكان مر به بصمة في لوحته، حقول العش ومسجده وأعشاشه المسماة مجازا بالبيوت، عنابر المعسكر وأرض الطابور والكانتين، حتى رحلة الجنوب لم تنس إضافة بصمتها بلون البياض والسواد في لوحة ذكرياته، التي باتت لا تعرف غير هذين اللونين. نظرة أخيرة من منصة أرض الطابور، في صورة كبيرة التقطها هاتف عزت (أبو كاميرا) الذي اهداه له عمه القادم من الإمارات في الإجازة الأخيرة. بسمة، ربما لم تعبر بشكل كامل عن أحداث الخمسة وأربعين يوما، كعادتها ذاكرة المرء تتفنن في رسم مشهد الوداع ليمحو ببديعيته رماديات سابق اللوحات. اللوحة الأخيرة، بعلامة نصر رفعها الجميع، انتبهوا بعدها لصوت الشاويش علاء:
- يلا يا رجاااااااااااااالة!
تفرق الجمع سريعا، وتوجهوا إلى حيث تقف الأتوبيسات المكلفة بنقلهم إلى محطة مصر. سريعا تم النداء على أسمائهم،امتخذوا أماكنهم، قبل أن تنطلق بهم تلك الأتوبيسات إلى حيث يستقبلهم القطار الحربي، ناقلا إياهم إلى أماكن توزيعهم.
ساعات خمس قضوها على رصيف المحطة، كقطع غيار بشرية انتهت صلاحيتها ولم تعد صالحة للاستخدام الا كـ... عساكر. جاء القطار أخيرا في تمام التاسعة مساء، كان أشبه بقبر متحرك، وُضعت بداخله بعض المقاعد التي كساها التراب تماما، لينعم الثعبان الأقرع ببعض الراحة في تعذيب ساكنيه. الظلام الدامس كان اللغة الرسمية للقطار القبر، النوافذ دون زجاج، مما يسمح بعبور تيارات الهواء المثلجة بأريحية إلى الداخل، أماكن الجلوس بالطبع لم تكن كافية للجميع.. البعض اتخذ مجلسه إلى جوار حمام القطار، مثبتين قوة تحمل، أو غياب وعي غير طبيعي. بعض آخر صعد إلى أماكن وضع الحقائب، منكمشا بقدر يسمح له بالبقاء حيا في ضيق المكان.
إذا شعرت برغبة في دخول الحمام، فلا ينصحك العقلاء بذلك، لأن دقائق الذهاب والعودة أكثر من كافية ليحتل أحدهم مكان جلوسك ويغط في نوم عميق. إذا شعرت بالصقيع يلفحك والغبار يفترسك عند عبور القطار مساحات الصحراء محيلا إياك ومن إلى جوارك إلى لون الرمال، وأردت التحرك من جوار النافذة مصدر العذاب، فسينصحك نفس العقلاء بالثبات، لأن الصبر على النافذة أهون من الصبر على مجاورة حمام القطار وطرقاته الأشبه بزنازين الرومان في العصور الوسطى، تمهيدا لافتراس الأسود لمسجونيها. إنه القطار الحربي بكل حال.
سبعة عشر ساعة من السفر المتواصل في عربات القطار الحربي، وأتوبيسات النقل الخاصة بالقوات المسلحة، أو كما يسمونها (جهاز) بصحبة مخلة بحجم بشري بالغ، ربما تكون كافية ليستعمرهم الإرهاق تمام الاستعمار بهذا الشكل المهين. وصلوا أخيرا لبوابة المعسكر المنتظر إياهم منذ حين، يحملون مِخَلَهم على ظهورهم، يستقبلهم عساكر الأمن بوجوه رسم الغضب لوحته على صفحتها بمنتهى الاقتدار.
(ملحوظة :: عساكر الأمن في الجيش المصري هم الفئة البشرية الوحيدة التي من الممكن أن تحمل لك كراهية دون معرفة مسبقة بك!)
- اللي يتفتش ييجي على يمين البوابة!
قالها ذو العلامة الحمراء على كتفه، مكتوب عليها (أمن الوحدة)، يشير بيده إلى ركن قذر لم تطله يد النظافة من أعوام تسعين. أنهى وزملاؤه تفتيشهم للمستجدين، الذين توفدوا تباعا على يمين البوابة، قبل أن ينتبهوا من جديد لقوله -ومازالت (لبانة) تعبث بلسانه ويعبث بها:
-الناس كلها انتباه... انتبااااااااه.
فى ذعر الغريب عن المكان نفذوا الأمر، منتظرين القادم من الأوامر، يصارعون نعاسا لم يعد يجد أي مقاومة في عيونهم، إلا بقايا قليلة نشطتها صرخات عسكري الأمن في آذانهم:
- كله يفضي مخلته!
تلقوها ناظرين لبعضهم بشيء من الاستغراب، قبل أن يعيدهم للانتباه قوله من جديد:
- جرى ايه يا عسكري منك له هنتحايل عليكم ولا ايه؟
- يا دفعة احنا مسافرين بجالنا يوم بحاله شفنا ليلة ما يعلم بيها الا ربنا.
- بتقول ايه؟...دفعة؟، هو انت أساسا دفعتي عشان تقوللي يا دفعة؟
- يا عم حجك عليا، بس يعني مامستهلاش ماحنا اتفتشنا خمسين مرة واحنا جايين من الشرطة العسكرية لزومه ايه نجلب المخلة بكل اللي فيها دِه على التراب ونرجعوا نحطوه تاني؟
- هتتكلم كتير مش هيبقى في مصلحتك، نفذ الأمر بالذوق احسن ماتنفذه بالعافية.
لم يعد أمام الجميع إلا الانصياع للأوامر.. الخطوة الأولى كانت إخراج إحدى البطاطين وفرشها على الأرض، ثم تفريغ المخلة من محتوياتها شيئا فشيئا، منتظرين عساكر الأمن لتفتيش المحتويات، الذي استغرق، دقائق فقط وكأنما التفتيش لم يكن المراد بقدر ما كان الرغبة في ممارسة سلطة ما على هؤلاء.
- اللي معاه موبايل يطلعه كده بالراحة، اللي هيدينا الموبايل هياخده وهو نازل أجازة انما بقى اللي هنطلعه احنا منه هنكسره قدام عينيه، وكله بالميري الموبايلات ممنوعة
قالها، وفي جيبه هاتفه الخاص بارزا، وكالعادة انصاع الجميع للأوامر مخرجين هواتفهم النقالة، مسلمين إياها إلى عسكري أمن آخر، قام بتسجيل كل هاتف باسم صاحبه، قبل أن ينتبه الجميع لذلك القادم من بعيد كغراب في زي طاووس، ينظر اليهم نظرة المستعد لإعدام أحدهم قائلا:
- انتباه... مش باقول انتباه يا بيادات يا رمم؟.. انتبااااااه!
من جديد عاد الذعر للسيطرة على المكان.. ثوانٍ فقط كانت كافية لتنفيذ أمر الحسيني الذي استطرد قائلا:
- مجموعة صفا.... انتباااه!
نفذوا الأمر، فعاد من جديد يقول:
-معتدااااال مارش!
ساروا أمامه مرتعشين، يحلمون بالنوم؛ غير أن طريقة كلام الحسيني وسيره لا تنبئان بأي نية للإنعام عليهم ببعض الراحة، فآثروا انتظار القادم متوقعينه أسوأ مما فات.
- مجموعة قف!
قالها من خلفهم، قبل أن يخطو عدة خطوات أمامهم ملتفتا إليهم قائلا:
- الناس تركز معايا، شايفين الجراكن اللي هناك دي؟ كل واحد يروح يمسك جركن منهم وييجي.
سارعوا إلى حيث أشار، يلتقطون أنصاف الجراكن المستحيل لونها إلى البني، يسدون أنوفهم من رائحتها، التي تنم عن كونها محنطة في مقابر خنازير لما لا يقل عن ألف وثمانمائة عام.
- شايفين البلاعتين الكُبار اللي هناك دول؟... تشيلوا الغطا بتاعهم وتنزحوهم بالجراكن دي واللي تشيلوه منها ترموه في آخر المعسكر هناك ورا السور الابيض ده وتردموا عليه الرملة... القصة دي كلها ماتاخدش اكتر من نص ساعة، على الله آجي الاقيكم لسه ماخلصتوش عشان تبقى وقعتكم سواد.
(معيار نجاح أي مسؤول في أي مؤسسة أيا كانت هويتها يتوقف في المقام الأول على قدرة هذا المسؤول على زيادة انتماء العاملين في المؤسسة للمؤسسة، فيعطوا دون انتظار المقابل، ويروا النجاح في تحمل مسؤولية الكيان لا الهروب منها، ويدعوا في صلواتهم للكيان لا عليه)
---------------------------------------------
- معسكااااار صفا... معسكااااار انتبااااه... جنبااا سلاح... معسكاااار صفا.... معنوي!
مجموعة من الأوامر افتتح بها العقيد خالد طابور الصباح، خاتما إياها بهذا الأمر (معنوي) آذنا لمجند بتولي دفة الحديث قائلا:
- بسم الله الرحمن الرحيم... إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة اهلها أذلة وكذلك يفعلون... صدق الله العظيم... ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم... إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة... صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم... ومن أخبار جريدة القوات المسلحة للسنة الثانية والعشرين... القائد العام يؤكد أن القوات المسلحة مستمرة في دورها الريادي لحماية البلاد يد تبني ويد تمسك السلاح!
- معسكاااار انتباه... أي حد عنده مشكلة ارفع ايدك فوق!
- معسكااااار صفا... انتبااااه... أي حد عنده مشكلة ارفع ايدك فوق... اجمع بره... حد تانى عنده مشاكل؟... طيب، بأمر السيد قائد المستشفى، صدرت أوامر بتوقيع عقوبة الحبس على أي حد يمشي على المسطحات الخضرا (في هذا الوقت كان هناك خبر عن عسكري فاته القطار الحربي ولم يجد بديلا، فمات في الصحراء حتى تم العثور على جثته متعفنة!)
- سيادة المقدم بكر اتفضل دوَّر طابور تعليم أولي يافندم!
- أوامر يا فندم، اصحى معايا الناس، تشكيل مفتوح، ساعدونا يا جماعة، السادة صف الظباط هنشتغل تعمير وتفريغ البندقية لكل المجموعات.
- بقالنا شهر ونص هنا بنشتغل تعمير وتفريغ لغاية ما حفظنا الكلام صم مافيش أي تجديد ولا ايه؟
قالها آسر بصوت خفيض لعبد العاطي، الذي رد قائلا:
- يا عم احنا هنعرف أحسن مالحكومة؟ ادينا بنضيع وقت بدل مانطلع الصيدليات من دلوقتي مش ناقصة صداع.
- على رأيك!
- بيقولك العقيد خالد عدَّى امبارح عالخدمات وكانت مذبحة.
- ليه؟
- العسكري أحمد محمد عبد الرحيم بتاع التعيينات اتلسع سبع ايام حبس شعر ودقن، والواد مينا مدحت عشر أيام حبس كان واخد معاه مخدة ولحاف في الخدمة.
-طب وايه المشكلة في اللحاف والمخدة؟
-بيقولك انك كده هتنام وتاخد راحتك قوي في النوم وده ماينفعش لازم تفضل دايما مصحصح عشان لو حصلت أي مشكلة تبقى جاهز.
- اه تمام وايه تاني؟
- الواد العريف أحمد عبد الرحمن بتاع الاشغال خد خمس أيام حجز بالوحدة كان معاه ام بي ثرى وسماعات في الخدمة.
- الحمد لله اننا مش في النبطشية بتاعته مش ناقصين.
- الصوت عالي ليــــــه؟
كانت الكلمة كافية ليصمت الحديث بين الصديقين، استماعا للصول إبراهيم الحصافي، الذي استفاض في تكرار شرح المطلوب منه، والذي يحفظه المجندون عن ظهر قلب، منتظرا إشارة النهاية لينصرف ومعه الجميع، كلٌ إلى حيث يبدأ يوم العمل... الفعلي!
- ولا يا شريف قوم هاتلنا فطار بقى انت عليك الدور النهارده!
-أ نا لسه جايب اول امبارح شافعي النهارده!
- شافعي مين.. اللي هيجيب سيرة شافعي في الفطار هادمَّره.
- خلاص يا جدعان انا هاجيب النهارده.
قالها إبراهيم، قائما إلى ورقة بيضاء وقلم، مدونا إفطار الجميع
- شافعي هتاخد ايه؟
-2 فول على طعمية على بيض على بابا غنوج!
- طيب ادي أول واحد مش هيطلب حاجة... شريف هتاكل ايه؟
-2 فول يا صاحبي!
-عبد العاطي؟
-3طعمية!
-آسر؟
-1 بطاطس.
- ايه الرقة المبالغ فيها دي؟
- يا عم انا مش جعان اصلا دي حاجة كده بس اشارككم.
- طيب دكتورة فاطمة نجيبلك معانا فطار؟
- شكرا يا إبراهيم هتعبكم بس.
- لا يا فندم متقوليش كده تاكلي ايه؟
- سندوتش مسقعة بس.
- تمام.
(عسكري الشطرنج يستطيع التأقلم مع كافة ظروف المباراة وكافة مربعات الرقعة، لعلها الميزة الوحيدة التي يملكها، أو أنها بمعنى أكثر دقة... فُرضت عليه فاستغلها!)
- نفسي اعرف حاجة واحدة بس!
قالها عبد العاطي محدثا الجميع:
- حاجة ايه يا بُرَم؟
شريف كان السائل
- دلوقتي في آخر مؤتمر عمله معانا اللوا قائد المستشفي قال ان الأدوية الميري احسن من الملكي بكتير لأن المادة الفعالة بتيجي من النمسا ومش عارف فين وبمواصفات مش عارف عاملة ازاي... ليه بقى الدوا بتاعه وبتاع الناس اللي بتروحله مكتبه اللي بياخده من الصيدلية كله تقريبا ملكي؟
- يابني مش هو بيدفع تمن الدوا ده زيه زي أي حد؟
- تمن الدوا ده اللي هو ستة جنيه للصنف حتى لو كان تمن الصنف 200 ولا 300 جنيه.
- دي خدمة بيقدمها الجيش لولاده زيه زي أي مؤسسة تانية ودي خدمة عامة للكل مش مخصوصة للقائد بس.
قالتها النقيب فاطمة، يأتيها رد شافعي:
- يا دكتورة مش ده المقصود، المقصود انه مادام بيقول لنا نقنع المرضى ان الدوا الميري احسن من الملكي عشان ياخدوه، الأولى ان هو القائد يقنع نفسه ويقنع اللي حواليه بكده.
- على فكره بقى قائد المجمع مكتبه مفتوح لأي حد، يعني لو أي حد طلعله طلب منه حاجة دوا او غيره مش هيتأخر عليه.
- يعني يا دكتورة كل واحد هيتظلم ولا مش هياخد حقه هيطلعله؟
- دي بقى مشكلة اللي بيتظلم ويسكت.
- ماهو أكيد عارف ان فيه أساسا مبدأ ظلم في المكان اللي بيديره مطلوب منه يحله مايستناش لما تجيله شكوى.
- مين قالك انه عارف؟
- لو مش عارف تبقى المصيبة أكبر.
- اطلع قل له بقى الكلام ده خليه يسجنك لآخر جيشك.
قالتها ضاحكة، تأتيها ضحكات الجميع قبل أن يقول آسر:
- والله يا دكتورة فاطمة اللي مصبَّر الواحد عالجيش ان فيه ظباط زي حضرتك كده بيعاملونا زملاء مهنة مش ظابط وعسكري، انا اصحابي في وحدات تانية بيتهانوا.
- زملاء ايه يا عم ده استنى بس لما نفطر وهتلاقيها بتقولك نضفوا الاستاندات واجردوا الصيدلية ومش بعيد تقولك امسحوا الصيدلية بلسانكم.
قالها شافعي مازحا، يأتيه رد الدكتورة فاطمة:
- طب ايه رأيك بقى يا شافعي ان انت بالذات هاتعمل كل اللي قلت عليه ده.
- هاهاهاهاهاهاها
- شافعاااااي!
- عايز ايه يا عبد العاطي؟
- كلِّم فيه حد عايزك عالشباك؟
- مين؟
- يا عم تعالى شوف انت.
- ماتقول مين يا عم وخلَّصنا.
- عم إبراهيم بتاع الشرطة العسكرية.
سمعها شافعي، فقام إلى حيث يقف عبد العاطي قائلا:
- ماتروح تقولها في ودن الدكتورة فاطمة احسن!
- اعملك ايه ما انا عمَّال اقولك تعالى شوف عامللي فيها سفير الدانمارك ومش عايز تتحرك.
-عم ابرااهيم صباح الفل.
قالها شافعي لذلك الواقف على الشباك، يأتيه رده:
- صباح الجمال يا شافعي، باقولك ايه عايز علبتين نوسك و خمسة انسولين وعلبة اوجمنتين!
- إيـــــــــه يا عم إبراهيم هو انت جاي كارفور؟
- ناس طالبينهم مني والختمة الشريفة.
- طب ما يولعوا يا عم إبراهيم هي صيدليتي...بقولك ايه هاجيبلك النوسك دلوقتي وبعد كده يحلها ربنا استناني.
- ماشي كلامك.
- باقولك ايه صحيح؟
- ايه؟
- البيادة اللي جبتهالى طلعت 43 انا كنت عايزها 42.
- عينيا.
- وعايز بقى بالمرة طقم زيتي عشان ده خلاص كده بيودَّع.
- هاجيبهملك المرة الجاية ان شاء الله.
- وشراب عشان ده اتقطع من عند صباعي الصغير.
- ماشي... مش عايز دبابة بالمرة تروح بيها؟
- لا كده فل قوي باروح بتاكسي، استنى اجيبلك النوسك.
- ماشى.
- يا جدعان عرفتوا اللي حصل؟
قالها إبراهيم الداخل لتوه وبيده الإفطار مخاطبا الجميع:
- خير؟
- العقيد خالد زوِّد خدمات السلاح على الصيادلة بقت 10 خدمات في اليوم.
- يا خبر اسود!
- عرفت منين يا ابراهيم؟
- لسه الواد مجدي بتاع الأفراد مقابلني وانا باجيب فطار وقاللي.
- احنا كده معناها اننا هننزل 3 خدمات سلاح في الأسبوع أقل واجب.
- ده في حالة لو فضلنا نفتري على بعض!
- تقصد ايه؟
- يعني احنا حوالي سبعين صيدلي، لو الخدمات اتوزعت علينا صح يبقى الواحد هيشيل خدمة واحدة في الأسبوع، انما احنا هناكل في بعض هتلاقي اللي بيقولك انا مابنزلش خدمات عشان ماسك عهدة واللي بيقولك انا بانزل نبطشية صيدلية طوارئ بس ورئيس القسم هو اللي محددلنا، واللي راح يعمل اورنيك عيادة ويقولك انا معايا راحة من الخدمات، وهكذا... لو احنا مش مقدرين بعض يبقى مانطالبش حد يقدرنا.. العقيد خالد عنده حق، ما احنا فعلا قوتنا كبيرة على الورق اللي هو شايفه!
- عند حق بصراحة!
(عسكري الشطرنج قد يصبح في بعض الأحيان العدو الأول لـ... عسكري الشطرنج!)
--------------------------------
- المستجدين اجمع بره، النقيب مؤمن رجع من الأجازة وعايز يشوفكم!
سمعها الجميع من الحسيني، فقاموا لتنفيذ الأمر في دقائق. مدة ليست بالطويلة قضوها سيرا على الأقدام حتى مكتب النقيب مؤمن، الذي خرج من مكتبه عند سماع صوت الحسيني الآمر إياهم بالتوقف.
- ثااابت!
قالها الحسيني عند رؤية مؤمن خارجا، فثبت لها الجنود حتى أتاهم رد مؤمن:
- سيبنا انت دلوقتي يا صول حسينى عايز اقعد مع الرجالة شوية.
-أوامر سيادتك يا باشا.
- محلك اقعد.
قالها مؤمن، فجلس الجنود أمامه الجلسة العسكرية، وجلس في مواجهتهم على كرسي بلاستيكي قائلا:
- منورين يا رجالة حمد لله عالسلامة.
- الله يسلمك يا فندم.
- أنا النقيب مؤمن نائب القائد هنا بعد الرائد وائل، احب اتعرف عليكم بقى كده واحد واحد، نبدأ من اليمين.. اسمك ايه ومنين؟
- عبد الله من البحيرة
- سيد من دمنهور
- محسن من الجيزة
- طلال من سوهاج
- عتمان.
- منين يا عتمان؟
- من كوم الفواحش يا باشا!
- ليه كده بس ده انت حتى شكلك راجل طيب وابن حلال... امنع الضحك.
استقبلها عتمان كما استقبل ضحكات زملائه بابتسامة باهتة، حجبت الكثير من أمارات المعاناة. بدا معتادا على تهكم الجميع وسخريتهم عند كل ذكرٍ لوطنه الصغير داخل خارطة الوطن الكبير!
- دي فين المنطقة دي يا عتمان؟
- مش مهم فين يا باشا، المهم انها موجودة.
- اصلي بصراحة اول مرة اسمع عنها.
- وآخر مرة يا باشا، احنا اصلنا صوتنا واطي مابيوصلش للى فوق.
- ممم...بس الاسم غريب بصراحة.
شرح عتمان في نبرة تهكم..
- جيراننا من الأموات، بنحسد اصحاب البيت اللي جنب باب القبر عشان شايف ضي من وش الدنيا.. النور الوحيد اللي داخل بيوتنا نور عمودين نور على باب المقابر.. الأب بيرمي بناته اللي مكملوش 15 سنة لسمسار جواز لعواجيز العرب بالفلوس، العيل اللي ماكملش 9 سنين بيشتغل زي التور ليل ونهار يمسح عربيات ويورنش جزم عشان يصرف على أمه واخواته وفي الآخر يلاقيها مش جايبة همها فيبيع مخدرات وبرشام. نبش القبور وتجارة الجثث للطلبة.. لما كل 4-5 بيوت ليهم حمام مشترك برميل بيفضوه كل اسبوع لما يتملي في مقلب الزبالة اللي جنب القرافة، ، لما تلاقي كل ده يا باشا يبقى طبيعي يبقى اسمها كوم الفواحش، الفواحش اللي في علامكم ودماغكم غير الفواحش بتاعتنا.
لعلها أولى المرات التي يلجم فيها لسان مؤمن بهذا الشكل. اكتفى بنظرة طويلة إلى عتمان، متأملا كل تفصيلة في وجهه الأسمر، كل خلية في وجهه كانت تحمل الألم بشكل ما، وجه لم يصل عمره للعشرين بعد بدا تمثالا في متحف بعمر القرون.. كوم الفواحش كانت حاضرة بخريطتها الكاملة على صفحة وجهه بصورة... اعتادها واعتادته!
- تعالى يا عتمان!
قالها مؤمن، فقام اليه الفتى مسرعا.. قام له مؤمن، ضمه إلى صدره مبتسما يقول:
- أنا على فكره كنت باهزر معاك لما باسألك مش قصدي حاجة اوعى تزعل.
ثم مخاطبا الجميع:
- تقدروا يا رجالة تعتبروني هنا زي أخوكم الكبير بالظبط، والأخ الكبير زي ما بيحل المشاكل وبيحافظ على اخواته لازم بردو لما يغلطوا يحاسبهم، يعني لو الواد عتمان ده غلط هابهدله!
قالها ضاحكا، فضحك لها الجميع فاستطرد:
- أي حد تقابله مشكلة يجيلي على طول أنا مكتبي مفتوح 24 ساعة، يلا تقدروا تتفضلوا.
- لو سمحت يا باشا!
قالها طلال رافعا يده فأتاه رد مؤمن:
- ايوه يا.... اسمك ايه معلش؟
- طلال يا باشا.
- عايز ايه يا طلال؟
- عايز سعادتك في حاجة بيني وبينك.
- ماشي تعالى انت والباقي اتفضلوا.
قام إليه طلال، فوضع مؤمن يده على كتفه قائلا:
- خير يا عم طلال عايز ايه؟
- عايز....عايز إإإإ
- ايه مالك مكسوف ولا ايه؟ ده حتى الصعايدة ولاد بلد ومابيخافوش.
- لا مش كسوف ولا حاجة هو بس يعني...
- لا يا طلال انا العساكر بتوعي رجالة، لو هتقلق وتخاف كده من أولها انقلك من هنا خالص.
- والله يا باشا اني ارتحتلك جوي من أول ماشفتك
- الله يخليك تسلم.
- بصراحة يا باشا يعني... اني عاوز اشتكيلك.
- من ايه؟
- من.....
- طلال، انت بتكلم ظابط، يعني لو ليك حق هتاخده!
- من الصول الحسيني.
- ليه عملك ايه؟
- ضـ...ضربني بالجلم على وشي!
- ايه؟...ضربك؟!
- ايوه يا باشا وكتاب الله مابكدب عليك.
قالها طلال قبل أن تهزمه دموعه فتمنعه الكلام؟. قام إليه مؤمن وقد تملكه الغضب تماما قائلا:
- ما تثبت كده يا واد يا طلال، مافيش راجل بيعيط. ايه اللي حصل بالظبط عشان اعرف اجيبلك حقك!
- والله يا باشا اني ما عملت حاجة، كل اللي حُصُل انه جاللي اجيبله وكل من الميز، رحت لجيت الصول بتاع الميز بيجوللي بلَّغ الحسيني ان مفيش وكل الا لما يجيب الأمانة اللي جايل له عليها، رحت ابلغه جام شاتمني وباعتني ليه تاني، وفضلت رايح جاى بيناتهم ياجي خمس مرات وفى الآخر جام ضاربني بالجلم وجاللي اني باعت عسكري عفش ماهيفهمش حاجة، والله يا باشا دِه اللي حُصُل.
- ماشي.... حسيناااااااي!
قالها مؤمن مناديا الحسيني، الذي جاء مهرولا وقد أيقن من نبرة النداء أن كارثة ما هناك:
- أوامر يا فندم!
قالها ورمق طلال بنظرة انتفض لها الفتى الصعيدي، قبل أن ينقذه مؤمن بقوله:
- بتمد ايدك على عسكري ليه يا صول حسيني؟
- ماحصلش يا باشا ده عسكري كداب.
- ماتشتموش بدل ما أهينك قدامه.
اكتفى الحسيني بطأطأة رأسه دون رد، ليقول مؤمن من جديد:
- كام مرة قلتلك ماتمدش ايدك على العساكر؟...دول مش عبيد عند جنابك، فيه هنا قانون ميري يحميهم مني ومنك ومن أي حد!
- يا باشا العسكري كسَّر الأوامر.
- الأوامر اللي هي تشغله مرسال تلعب بيه انت واصحابك؟ على أساس انه لعبة اشترهالك الجيش تتسلى بيها؟... ولو كسَّر الأوامر فيه ميري يتحاسب بيه الحكاية مش سبهللة، دوَّر نفسك مكتب!
- أوامر يا فندم.
- اتفضل من قدامي دلوقتي.
- تمام يا فندم.
قالها الحسيني، ثم رمق طلال بنظرة كادت ترديه قتيل خوفه، هرب منها الفتى إلى مؤمن، الذي علا صوته من جديد قائلا:
- مش قلت اتفضل؟!
(ملحوظة :: الحصان في جيش الشطرنج هو القطعة الوحيدة التي لا تنتظر تحريك العساكر من أمامها لتبدأ المعركة، وحده بين باقي القطع قادر على بدء الصراع دون جرعة الاستمتاع بدماء العساكر تغطي الرقعة ذات اللونين!)
--------------------------------------------
لا شيء ينازع ليل الشتاء هيبة.. غزارة أمطاره الأشبه بدموع قائمي الليل، شدة برودته الأشبه ببرودة قلوب مفارقي الأحباب، طول عمره الأشبه بذاكرة الأوفياء، كل شيء في ليل الشتاء قادر على احتوائك بشكل ما، احتواء لا هو احتواء قلوب الأمهات، ولا هو احتواء جدران الزنازين.. حالة البين بين تبقى المفضلة لدى هذا العنيد، بها يضم وبها يلفظ، بها يُطمئن وبها يُرهب، بها يُذكِّر وبها يُنسي.. وبين الضم واللفظ والاطمئنان والرهبة والذكرى والنسيان، يبقى ذا كاريزما خاصة، فرضتها عباءته السوداء بطول نصف الكون، وقبعته السوداء بعمر قلوب أفناها طوله المبني على أنقاض أحلام مازالت تنتظر قدوم فجر لم يسمح له أبدا ليل الشتاء بالمجئ!
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، في مناخ كهذا ووقفة كهذه، ليس بالأمر الذي اعتاده؛ لم يعد مفكرا في مثل تلك الأمور على كل حال. النوم على رصيف بجانب البوابة الحديدية التي يحرسها ومجندين آخرين بالتناوب، بصحبة بطانية ميري لا علاقة لها بعالم الأغطية من قريب أو بعيد، في الزي العسكري كان وقوفه مرتديا خوذة حديدية على رأسه وسلاحا على كتفه، إضافة لكوب من الشاي مصدره الكافيتريا الملكي، إضافة لورقة صغيرة وقلم يحتضر حبرا، ينتظر عقرب الساعة الصغير ليقفز للرقم اتنين، ليسلم الخدمة للمجند الذي يليه:
- تشرب شاي يا دكتور؟
سمعها قادمة من المجند الآخر المجاور له في الخدمة، فانتبه من كتابته قائلا:
- حبيبي شكرا بالهنا.
- يا عم والله عالنار أهو.
- هاهاهاها الله يخليك سبقتك.
- انت بتعمل ايه صحيح؟ شايفك من أول الخدمة ماسك ورقة وقلم، بتذاكر ولا ايه؟... حكم المؤهلات العليا هنا محسسيني اننا في جامعة المستقبل.
- هاهاهاها اشمعنى المستقبل يعني؟
- مااعرفش بقى هي جت كده، الباشا اسمه ايه؟
- اخوك ابراهيم.
- اخوك صدام.
- أهلا يا عم صدام منين؟
- من عين شمس ان شاء الله.
- أحسن ناس، بتشتغل في ايه هنا؟
- عسكري حملة، سواق يعني، انا أصلا شغال بره في ورشة كسِّيب يعني.
-أنعم وأكرم ربنا يعينك، عندك كام سنة؟
- 20 بعون الله.
- ما شاء الله ده انت شغال من بدري بقى.
- من سن 8 سنين وحياتك يا دكتور، هنعمل ايه طيب اكل العيش بقى ربنا يكفيك شر كوم اللحم لما يقول جعان.
- انت والدك موجود؟
- ميت بعيد عنك من وانا في اللفة، سابلي أمي وأختين بنات.
- سابهوملك؟
- طبعا يا باشا.. لامؤاخذة عندكم في التليفزيونات بيقولوا الراجل ساب لمراته كذا عيل... عندنا احنا بقى الراجل بيستلم من راجل، النسوان مالهاش بهدلة في الشرع بتاعنا، احنا غلابة ايوه بس ولاد بلد.
قابلها إبراهيم بابتسامة قبل أن يقول:
- ربنا يعينك يا طلال، باين عليك ابن حلال.
- طلال مين يا باشا عدم اللامؤاخذة؟
- طلال!... أنا قلت طلال؟
- آه وكتاب الله قلت طلال.
من جديد ابتسم إبراهيم قائلا:
- أنا آسف معلش، ممكن اسألك سؤال؟
- اسأل يا دكترة.
- انت أحلامك في الدنيا ايه؟
- أحلامي في الدنيا أحلامي في الدنيا أحلامي في الدنيا... ايوه لقيتها.
- ها؟
- أول حاجة احجج أمي.
- جميل
- تاني حاجة اجوز اخواتي البنات.
- تمام.
- تالت حاجة اشتري ماكنة صيني.
- ماكنة صيني دي اللي هي ايه؟
- موتوسيكل عدم اللامؤاخذة.
- هي دي بس أحلامك في الدنيا، ده اللي انت عايش عشانه؟
- لو طلبنا حاجة تانية يبقى افترا يا باشا كده فضل ونعمة قوي بس دول يتحققوا.
- كان عندي حق لما قلتلك طلال.
- ايه؟
- لا ولا حاجة ماتاخدش في بالك.
- طب انا هاروح اقف هناك في الخدمة عشان لو حد عدَّى بقى مايعلقناش، وبالمرة اصحي اللي بعدى يدوب كده باقي تلت ساعة.
- ماشي يا وحش اتفضل.
(أفضل ما يمكن أن تقدمه الخدمة العسكرية للمرفهين هو تعليمهم الإحساس بجملة الحمد لله، لا مجرد نطقها في الأدعية والصلوات!)
--------------------------------------
- ما تغنيلنا حاجة يا واد يا عتمان.
قالها طلال مخاطبا صديقه، الذي اعتدل في جلسته فوق السرير الحديدي قائلا:
- ماشي اسمعوا دي بس تغنوا معايا.
- ماشي يلا بينا.
- نجول طفي النور يا بهية؟
- جووووول الله ينور عليك.
- طفي النووووووور
قالها بادئا بها (غنيوته)، يأتيه رد الجميع مصحوبا بتصفيقهم المنتظم:
- طفي النووور يا بهيـــــــة
- طفي النووووووور
- دولا عساكر دوريــــــــة
- جوزك راجع من سوجُه... راكبه الهم وبيسوجُه... نطوا العسكر من فوجُه!
- دورية ورا دوريـــــــــة
- جوزك سارح على غيطه... بيلضَّم همه في خيطه... ازحوا العسكر على حيطُه!
- ألف ولاد الجنيــــــــــــة
- جوزك رايح على عكاااا... يفتح سكة ورا سكـــة... طلعوا عليه سدوُّا السكة!
- واتحاصر رايحة وجاااااية.
- قيدي النوووووووووووووووور يا بهية.... كل العسكر...
- ثااااااااابت!
فوجئ بها الجميع قادمة من باب العنبر، على لسان عماد الذي استطرد قائلا:
- ياخويا انت وهو اللي يشوفكم كده صوتكم جايب آخر الدنيا يقول بسم الله ما شاء الله أبطال، مايعرفش انكم لو حد قالكم بم هتروحوا تعيطوا زي العيال عشان حد يجيبلكم حقكم.
قالها ونظر لطلال، الذي تحاشى نظرته موجها نظره للسقف مؤثرا السلامة، فاستطرد عماد قائلا:
- الا هو صحيح اللي بيعيط ويجيب حد يجيبله حق ده بتسموه ايه ياض يا مغازي عندكم في المزبلة اللي عايشين فيها دي؟
- عيوطه لامؤاخذه.
- هاهأهأهأهااااااي
ضحكة اشترك فيها الاثنان، قبل أن يتحول عماد إلى طلال بالخطاب المباشر قائلا، يصاحب قولته بنكزه:
-ولا ايه يااااا..... بلدينا.
من جديد صمت طلال، فأكمل عمدة كلامه ضاربا إياه بقبضته في كتفه:
- لا، لما اكلمك ترد عليا بدل مااشقَّك نصين!
- ماتمدش يدَّك بدل مااجطعهالك!
- تعمل ايه؟...ت.جـ. طـ.عـ.هـ. ا.لـ.ـى؟...هاهاهاهاهاهاهاها يا نهار مش فايت، الحق ياض يا مغازي ده هيقطعلي ايدي.
قابلها مغازي بضحكة، انتهت بقول عتمان:
- جرى ايه يا جدع منك ليه؟، عمالين تمطوحوا في الجدع شمال ويمين هو ماحدش مالي عينكم ولا ايه؟
التفت له عماد بنظرة سخرية كعادته حين يبدأ مواجهة خصومه:
- الله الله داحنا طلع معانا وجوه جديدة ليها في الأكشنات أهو، النجم مين عشان عندي ليه دور جديد مع الاستاذ احمد السقا.
- حمد السقا مين يا عم شوفله محمد هنيدي انت مش شايفه عامل ازاي؟
قالها مغازي مذيلا اياها بضحكته المعتادة، التي شاركه فيها عماد، قبل أن ينتبها من جديد لقول طلال:
- انتو عايزين ايه؟
- بصراحة كده عايز افتري عليك، ماافترتش على حد من زمان؟
- الحفلة بدأت!
قالها أحد المشاهدين للحادثة من بعيد بصوت خفيض، يحادث بها صديقه:
- الحسيني لعبها صح ابن الشيطان.
- ازاي؟
- طلال لما اشتكاه قالك هاخد حقي، بس مش بنفسه عشان مايتقالش انه بيعمل راسه براس عسكري، سلَّط عليه الكلب بتاعه اللي اسمه عماد واهو يبقى شغل عساكر في بعض!
- يابن ال*****
عادا من جديد لمتابعة المشهد، الذي تطور بصورة جعلت عتمان يغادر سريره إلى عماد ومغازي قائلا:
- وريني كده بقى هتفتري عليه ازاي!
- كدهوووو
قالها عماد مزيحا عتمان من وجهه إلى الأرض، تاركا إياه إلى مغازي، الذي اشتبك معه، في حين تفرغ عماد لطلال ضاربا رأسه في الدولاب الحديدي. حاول طلال الدفاع عن نفسه بضرب عماد بقبضته في كتفه، فتحاشاها الأخير ضاربا إياه بالحزام الميري على ظهره، منتزعا منه آهة أسقطته من فوق سريره إلى الأرض، قبل أن ينهال عليه باللكمات.
- ثاااابت، ثاااابت يا رمم، الأربعة دول يجمعولي بره بسرعة!
قالها الحسينى فسكنت لها حركة الجميع في حين لبّى الرباعى الأمر.
- عاملينلي بلطجية؟، ايه مافيش كبير هنا ولا ايه؟، وانت يااااا أخ طلال، بقيت دكر وبتعرف تتخانق دلوقتي؟، ما كنت بتعيط زي النسوان من يومين.
-والله يا عم حسينى....
-اخرس يا جندي بيادة يا ابن البيادة مااسمعش انت بالذات نفسك الا لما تاخد أمر
- بعد اذنك يا عم حسيني ماتشتمنيش بأهلي.
-انت بترد عليا؟... طب يا بيادة يا ابن البيادة يا ابن ابن البيادة مااسمعش نفسك، وكلمة تاني هاديك باللي في رجلي على دماغك ودماغ اهلك اللي انت فرحان بيهم دول. وايه رأيك بقى ان انت بالذات تغور عالسجن انت والبيه التاني بتاع كوم الفواحش ده، صحيح اسم على مسمى مش عارفين بيدخلوكم جيش يعملوا بيكم ايه جايبينكم تقرفونا وخلاص. وأجازتكم النوبادي مش نازلينها. عماد و مغازي أجازتكم متأخرة 4 ايام عشان هم اللي مضروبين مع اني المفروض احبسكم معاهم بس مش هيبقى موت وخراب ديار، اتفضل غور منك له عالعنبر ومااسمعش نفسكم.
- يا عم حسيني والله.......
- قلت مااسمعش صوت اتفضل عالعنبر.
-----------------------------------
فوق جدران الزنزانة السوداء، تراقصت أمامه الكثير من الصور.. شريط سينمائي كامل، لحياة قُدِّر لها أن تضم الكثير رغم قصرها.. صورة رجل أربعيني يجتمع بأسرته على مائدة إفطار لا تضم أكثر من (طبج فول) وعدة أرغفة وبعض عيدان الجرجير، صورة خطيب ثلاثيني يعتلي منبر أحد المساجد القروية، صورة إحدى الفتيات تتغنى بأناشيد جدتها في حقل القطن، صورة أم تضم ابنتيها الناعستين على فرشة الذرة المشوي، صورة فأر أبيض صغير يسكن سطح أحد بيوت الريف، صورة أحد الصيادلة يهدي أحدهم هاتفا صغيرا، صورة وصورة وصورة، تتتابع فوق الحائط الخرساني الكئيب، وصاحب الصور يتابعها بعين ملّت المشاهد وملَّتها الدموع.
- ايه يا عم طلال مالك ساكت ليه كده؟، هوِّن عليك يا عم ماحصلش حاجة السجن للجدعان، ولو عالواد عماد ده انا بعون الله هاطحنلك أمه بس نطلع من هنا.
انتبه لها تأتيه من صديقه، فردَّ قائلا:
- والله يا عتمان أني ماهيهمنيش حاجة غير ان أبويا اللي راجد في جبره دلوك يتشتم من واحد زي الحسيني.
- يا سيدي يعنى هو أبوك مستني الحسيني عشان يقول رأيه فيه، ماتشيلش هم حاجة يا صاحبي، ليهم في ذمتنا سنتين تلاتة ياخدوهم ونتكل على الله.
لم يجب طلال، اكتفى بالتصديق على كلام صديقه مطأطئا رأسه، يأتيه رد عتمان من جديد:
- استنى هاغنيلك حاجة حلوة تفرفشك كده، تسمع البرتجان جال لليوستفاندي حجك عليا أني اسف موت؟
قالها، فضحك لها طلال على استحياء يشاركه عتمان ضحكاته قائلا:
- أيوه كده يا عم اضحك ملعون أبو الدنيا.
-بالك يا واد يا عتمان أنى نفسى فى ايه؟
-فى ايه يا عمهم؟
-نفسى ابجى بيّاع.
-بيَّاع؟..اشمعنى بيَّاع؟ وهتبيع ايه؟
-نفسى ابيع حاجات كَتير جوى ، نفسى ابيع درة مشوى زى اللى أمى بطَّلت تبيعها ، نفسى أبيع جُطن زى اللى غيط الحاج مهنى بطَّلت تطرحه ، نفسى أبيع...نفسى أبيع حلاوة أرواح.
قال تلك الأخيرة قبل أن تبدأ عيناه فى اللمعان فأنقذه عتمان منها مجددا بقوله:
-جرى إيـــــــــــه يا عم كارفوووور.
صمت ثانيتين قبل أن يستطرد قائلا:
-روَّق كده يا عم طلال، مفيش حاجة بتفضل على حالها يا صاحبى، الدنيا مش مستاهلة كل ده، روَّق كده وصللى عالنبى.
-عليه الصلاة والسلام.
-يلا صحصح بقى معايا واسمع الموال..احم احم..البرتقااااااان!
-----------------------------------
- يا باشا العيلين دول أنا عارفهم كويس، دول أغلب من الغلب الحسيني بيفتري عليهم عشان واحد منهم جالي اشتكالي منه بعد ما رجعت من الأجازة اللي فاتت.
قالها مؤمن لوائل الراد في لامبالاة:
- الحسيني قاللي ان العيال ضربوا زمايلهم وكان لازم يتسجنوا عشان يبقوا عبرة وانا خلاص صدقت على حبسهم.
- ضربوهم ازاي وهم وشهم كله شوارع واللي المفروض مضروبين مافيش في وشوهم الهوا؟
- مؤمن بقولك ايه أنا ماعنديش دماغ لكل العك بتاع العساكر ده، شوف انت عايز تعمل ايه واعمله وريحني.
-بعد اذنك يا باشا هاطلع العيال من السجن وينزلوا أجازتهم مع زمايلهم، دول مرميين هنا بقالهم اربعين يوم.
- ماشي.
قالها وائل وعاد من جديد إلى فنجان قهوته، الذي أعدَّه له عسكري المتابعة الخاص به، باصقا أول رشفة منه بمجرد تناولها قائلا:
- انت يا زفت، القهوة باردة ليه؟، غيرها بسرعة بدل ما اخلي عيشتك زي لونها.
- أوامر يا فندم، أوامر.
----------------------------------
لم تكن غيبته بهذا الطول الزمني الذي يسمح بكل ما رآه من تغيير.. الرمال أمام البيت استحالت ترابا أقرب لتراب القبور، القلل المُنداة بمائها توارت خلف ضلفة الشباك الموصدة كأنها باب مقبرة أُغلقت للأبد على ساكن لن يغادر، الزينات على جدران الدار الأربعة اختفت كأنها لم تكن إلا سرابا صوَّرته فرحة أمه وأختيه يومها، الباب العتيق بدا أشبه بعجوز غبَّره تراب الشيخوخة، مستعدا ليحكي لأحفاده أسطورة رحيل. نافذة المندرة الخلفية التي أحالت زغاريد الإجازة الماضية صمتا جنائزيا أشبه بصمت مومياوات المتاحف. كل العلامات التي حملتها، أو تخلت عنها، دار عزوز المنشاوي كانت تنبئ بشيء ما غير مفهوم. حديث قلبه إليه لم يكن مطمئنا، ثمة شيء في عباءة الحداد ينتظره خلف الباب الشيخ.. الطرقات الثلاث المعتادة لم تجد سريع الإجابات كما هي العادة.. كررها مرات مصاحبا إياها بنداءاته على صابرة وهنية وعلي، غير أن نفس الصمت كان الرد الوحيد.
- البقاء لله يا طلال يا ابني.
فوجئ بها تأتيه من أحد الفلاحين المارين بالدار، وقد ترجَّل عن حماره يصافحه مواسيا يستطرد:
- ان شاء الله تكون آخر الأحزان!
صُدِم لها طلال، ناظرا للرجل نظرة القادمين من كوكب آخر، وقد خلقت عيونهم بحجم نصف الوجه غير مغلفة بأجفان تسمح لهم ولو ببعض الإغلاق كل حين يسير.
- معلهش أني عارف ان الموضوع صعب شويّ عليك، بس انت راجل من ضهر راجل وجدَّها وجدود ان شاء الله. أني هاستأذنك دلوك لحْسَن مهمَّل الغيط لحالها، هاعدِّي اشرب وياك الشاي بعد العِشا ان شاء الله... سلام عليكم.
قالها وانصرف دون انتظار الرد حتى بقبول الدعوة.. عاد طلال للطرق على الباب بصورة أكثر جنونا، حتى انفتح أخيرا في نهاية الأمر ببطء، كأنه المفتوح بيد عجوز في التسعين. الظلام بالداخل كان أشد من أن تستوعبه دار بهذه المساحة، الدموع المتحجرة في عيني صابرة، والخطان الباهتان على خديها كنهرين جافين، أكدا له شكوكا ما زالت تتشبث بأمل يتهاوى:
- صابرة، فيه إيه؟، إيه اللي حُصُل؟
قابلتها الفتاة بالبكاء دون رد مهرولة للداخل، يراقبها بقلبه قبل عينيه:
- إيه اللي حُصُل؟، حد يفهمني فيه ايه؟ الراجل دِه هيجوللي البقاء لله ليه؟!
مجددا غاب الرد، كان عليه اكتشاف الأمر بنفسه إذن.. صال في أرجاء البيت كمجنون، أمه أمام النافذة غير مدركة لكل ما يحدث، صابرة في المندرة وفي حضنها هنية تبكيان في صمت.. ثمة غائب وحيد إذن. رغم غيبته الدائمة التي اعتادها في سابق المرات، إلا أن شعورا قويا بحضوره بات يلفه الآن رغم... الغياب!
كان حاضرا في وجوه الجميع، دموع الأختين، صمت الأم، ظلام الدار، جفاف القلل، خفوت الفرن، كل شيء كان ينعي علي بطريقة ما!
- أمَّا!
قالها مقتربا منها، فلم يأتيه رد..
- أمَّا... ايه اللي حُصُل، وفين... فين علي؟
فوجئ بها تلتفت إليه، تمسك بملابسه، تجلسه إلى جوارها، تضمه إلى صدرها، و...تبكي!
كان بكاء من نوع غريب، بكاء كأنه المتكلم لا المنتحب، كلمات ربما لن يفهمها إلا باكيتها وربها... لبكاء الأمهات كاريزما خاصة على كل حال!
لا يعلم كم مر عليه من الوقت في أحضانها، ثمة شيء قيَّده في حضنها لم يفلته، مزيج من هيبة وحب و... خوف!
اليومان التاليان لم يمرا عليه كما يرام بكل تأكيد. اطمأن لخلود الجميع للنوم، بعدما افترسهم حزنهم لأيام غاب عنهم فيها. جلسته المفضلة إلى جوار النافذة متابعا سماء العش كانت ملجأه الوحيد. ها هو راحل آخر يُضاف إلى قائمة الراحلين، راحل ربما اختلف عن سابقيه في كل شيء، غير أنه بكل تأكيد قادر على تدشين صورته للمعرض الكبير في ذاكرة أخيه المسكين!
- ليه ماجولتليش يا طلال؟!
انتبه لها تأتيه من خلفه، فالتفت قائلا:
- أمَّا؟، ايه اللي صحاكي الساعادي؟
- ليه ماجولتليش مالاول انك رايد وردة؟!
فوجئ بكلماتها الصادمة، فتلعثم غير قادر على الرد، فاستطردت:
- ماتستغربش عرفت كِيف، علي جبل مايموت جاللي على كل حاجة.
- كل حاجة؟... كل حاجة كِيف يعني؟
- جاللي انه خطبها لجل ينغص عليك عيشتك.
- علي؟...علي جالك اكده؟!
- أخوك كان حاسس انه رايح يا طلال، آخر ليلة وُسطينا بعد ما رجع من الجهوة واتعاطى السم اللي جاب أجله دِه اللي اسمه ايه، جعد معايا كيف مانتا جاعد دِلوك اكده.
- .....
- كان حاسس بالذنب نواحيك يا طلال، جاللي انه ظلمك وظلمنا كُتير، كان مستنيك تنزل اجازتك لجل يخطبلك وردة بنفسه. ماخابراش ايه اللي خلاه يجول كل دِه، شكله كان حاسس خلاص انه مفارجنا.
قالتها وشرعت في البكاء، فضمها طلال إلى صدره غير مصدق لما يقال، قبل أن تحرر نفسها منه من جديد قائلة:
- المهم دِلوك اني كلمت أم وردة وخطبتهالك، وجوازك عليها الجمعة الجاية ان شاء الله جبل ماترجع الجيش!
- إيه؟... ايه اللي هتجوليه دِه يامَّا؟، دي الناس تاكل وِشنا، طب حتى نستنو الاجازة الجاية.
- يولعوا الناس دي وصية أخوك واني ماهكسرهاش، جهَّز نفسك للجواز!
قالتها و...غادرت!
لم يعد الآن لتضل خطواته ذلك الطريق، وقد حفظته طوال سنوات. الطريق بين المقابر ليس بالجديد الذي يحمل له رهبة يحملها للآخرين، بات الآن يضم ضيفا جديدا جاء لزيارته. أمام القبر وقف قارئا الفاتحة، واضعا إحدى قطع الحلوى التي اعتاد وضعها على قبر آخر قائلا:
- كيفك يا علي، اتوحشتك جوي ياخوي، كان... كان نفسي ومنى عيني تحضر فرحي عالبت وردة وانت في يدَّك عروستك. أمك جلجانة عليك جوي يا علي، بتجعد طول الليل تصلي وتدعي ربنا يغفرلك. إيه؟...بتجول إيه؟، حاضر ياخوي هابوسلك يدَّها، الله يبارك فيك ياخوي، سلملي على أبوي والشيخ بدر والحاج مهنى كُتير يا علي. جوللهم ان العش ماعادلهاش طعم من غيرهم، بجيت كِيف بيوت مصر مالهاش طعم، لا عاد فيها لون الجطن ولا طعم الفول ولا ريحة الدرة المشوي. تعرف؟...كان نفسي أجعد وياك الجعدة دي وانت وسطينا في الدار كنت هاعرَّفك عالواد ريشة، واد طيب وابن حلال، أو.. أو كنا نجعدوا تحت الجميزة ويا عم حسني، اجولك على سر كمان؟، اتعرفت على واحد في الجيش اسمه عتمان صوته حلو جوي، هابجى اخليه يجرالك قرآن في جامع الوحدة لما ارجع ان شاء الله. عرفت كمان واحد داكتور زين جوي جاللي ان ربنا هيسعدني بوردة، ماصدجتوش بصراحة يومها بس طلع عنديه حج. اني هامشى بجى يا علي عشان مهمَّل أمك واخواتك لحالهم والوجت اتأخر، تصبح على خير يا ولد ابوي!
----------------------------------------
الجلسة المعتادة للصيادلة على الكافيتيريا الملكى بعد انتهاء اليوم بغلق الصيدليات فى تمام الثانية والنصف كانت أهم ما يميزهم ، البعض يغادر للعنبر للنوم ساعة أو ساعتين قبل استخراج التصاريح ، البعض يستغل الوقت فى تناول وجبة سريعة من (عبد اللطيف) والتى غالبا ما تكون (مكرونة فى الفرن) ، فى حقيقة الأمر كل الطعام لدى عبد اللطيف كان ذا طعم واحد:
-ناولنى ساندوتش البانيه ده يلا يا عبد العاطى.
قالها شافعى يأتيه رد صديقه:
-بانيه ايه يا بنى آدم ما انت لسه واكله اهو.
-واكل ايه ده كان كبدة.
-بانيه ورب الكعبة.
-يا حزنى ، السندوتشات كلها طعم واحد ولا ايه؟ ، الله يجحمك يا عبد اللطيف.
-يا جدعان التصاريح لسه بدرى عليها الساعة لسه 3 انا هاروح اناملى ساعة فى العنبر.
قالها آسر قبل أن يقول شريف:
-اهى التصاريح دى حاجة تقرف هى كمان ، يعنى احنا مخلصين شغلنا الساعة 2.5 نمشى الساعة 4 ولا 5 ليه؟
-انا بافكر اخرج من غير تصريح.
-هو مين عالبوابة من عساكر الأمن؟
-سعد الله.
-لا الواد ده كئيب جالى امبارح كان عايز دوا حِبِّى ومرضتش أديله حاجة.
-أهو كلمة حِبِّى دى بتضحكنى اوى.
-اشمعنى؟
-المصريين عندهم قدرة غريبة يغيروا اسماء الحاجات اللى بتضايقهم أو بمعنى أصح بتضايق ضميرهم ، الرشوة سموها شاى وحِبِّى ، والعرى سموه فن ، وقلة الأدب سموها حرية ، وقيس على كده بقى ، والغريب يا اخى ان الضمير ده بيعمل عبيط ويصدق.
-يا عم هى جت عالعساكر؟ ، أنا لما عسكرى بيجيلى من اى حتة باديله اللى هو عايزه ، اصله هيوديه فين يعنى العلاج الا اذا كان هيتعالج بيه او هيديه لحد يتعالج بيه؟ ، وفى الحالتين احسن مالدوا تاريخ الصلاحية بتاعه يعدى.
-بس دى أمانة انت مؤتمن عليها ملكش حق التصرف فيها الا بموافقة صاحبها.
-وصاحبها ده نفسه بيطلع الدوا ده بردو لحبايبه اللى اصلا ممكن يشتروا احسن منه من بره بس بيستخسروا عشان يعمل مصالح ، يبقى اعمل مصلحة بقى انا كمان على الأقل مصلحتى انا هتبقى انى اروح بدرى ساعة من غير تصريح اشوف اهلى ولا اتقى شر صول غتت يرخم عليا فى خدمة مش زى مصالحهم.
-أنا باستحرم بصراحة.
-ساكت ليه يا شافعى؟
-إحم ، لا أبدا انا اصلى باستحرم بردو؟
-على يـــــــــــــــــــــــــــــــدِّى.
قالها عبد العاطى فانفجر لها الجميع ضحكا قبل أن ينتبهوا لقول آسر :
-الواد عبد الرحمن خارج بالتصاريح عالباب اهو يلا بينا.
-ايه ده الساعة لسه 3.5 خلصت بدرى النهارده ليه كده؟
-يا عم قول الحمد لله ويلا.
(إن الاعتياد على كسرات الخبز يجعل من رغيف واحد مكتمل نعمة تستحق الثناء على عاطيها!)

-------------------------------------
ذلك اليوم..يوم عرس طلال، لا أعلم حتى اليوم حقيقة ذلك الشعور الذى غمرنى حين وطأت قدماى أرض العش، خرجت السمكة أخيرا من براح المحيطات الى حياة الترع، لم أكن اعلم أن وجود هذه الفئة من البشريين قد تعدت أسوار الأفلام وحدود الروايات لتقيم خيامها على أرض واقعنا الكئيب، الحد الأدنى من المعيشة فى كل شئ، لن أنسى حين اصطحبنى طلال فى جولة ليرينى كل ما حكاه لى هناك خلف جدران المعسكر الكبير، حقول الحاج مهنى، فرشة عم حسنى، الجميزة، ريشة، قبر أبيه وأخيه والشيخ بدر، مسجد العش، البيت الكبير، العرس الذى ضمته دار عزوز المنشاوى على عجل تقديرا للظروف، كل شئ فى العش سيظل محفورا فى ذاكرتى ما حييت، هاتف ما حادثنى أننى...عائد اليها ذات يوم!
-----------------------------------
- كده بردو يا طلال تتجوز من غير ما تعزمنا؟
- والله يا باشا الدنيا جت بسرعة جوي، بس أني كنت عاوزك في طلب اكده!
- خير يا سيدي؟... اجازة جواز؟، ماشى من غير ماتقول انا هاعملك أجازة 15 يوم.
- لا لا حاجة تانية.
- خير؟
- اني اخوي الوحيد تعيش انت!
- ايه؟... ازاي ده حصل؟، أخوك مات واتجوزت في اجازة واحدة؟!
- اللي حُصُل بجى يا مؤمن بيه الموضوع كبير اصله.
- انت ليك اخوات تانيين صبيان؟
- لا كان هو بس الله يرحمه.
- معنى كده انك بقيت وحيد؟
- ايوه وعشان اكده جيت لسيادتك.
- مممم معنى كده انك تخرج من الجيش. طيب اديني فرصة بس نخلص من يوم الرماية بتاع بكره ده وانا هاخلصلك القصة دي، أي نعم هتوحشنا بس ما علينا.
- ربنا يباركلك يا باشا والله ماعارفشي اجولك ايه، من ساعة ماجيت اهنه وانت اكتر من اخونا، ربنا يحميك لشبابك ويكرمك زي مابتكرم الغلابة اكده.
- خلاص يا عم طلال انت واقف على باب جامع ولا ايه؟
قالها ضاحكا ثم استطرد:
- يلا روح نام دلوقتي عشان عندنا بكره يوم طويل.
- حاضر يا باشا.
قالها وانصرف إلى العنبر، حيث يخلد للنوم استعدادا ليوم الغد. غير انه تفاجأ بقول يأتيه من وسط الظلام:
- مبروك يا.....عروسة!
- مين؟
- مين؟...لسه ماحفظتش صوتي؟، اللي بيهزأك ويمسح بكرامة أهلك الأرض!
اقترب أكثر، فوجده الحسيني واقفا تحت المصباح الخافت المنير باب الحمامات:
- انت عايز ايه مني؟
- عايز اقتلك!
- اني عملتلك ايه طيب لكل دِه.
- أنا تشتكيني وتخلي واحد زي مؤمن يشتمني ويمسح بيا الأرض ويقدم فيا بلاغ للأمانة بشهادتك انت وبتاع كوم الفواحش يوقف ترقيتي؟
- انت اللي بدأت ضربتني وسجنتني وشتمت اهلي وخليت العساكر بتوعك يتلموا علينا ويضربونا.
- انت فاكر اني هاسيب حقى منك ولا هسيبك تمشي وتسيب الجيش كده بالساهل؟... وحياة أمك لخليك تقضيهم في السجن ال 3 سنين اللي كنت هتقضيهم جيش دول.
قالها الحسيني وانصرف تاركا طلال لأفكاره السوداء.

---------------------------------------
على سطوح الدار العائدة (بعض الشئ) لهدوئها كانت جلستهما بجوار (عشة الطيور) بعدما وضعت إحداهن (صفيحة) من الماء وبعض البذور لسكان العشة الذين سكنت ضوضائهم بعض الشئ بعض وضع الوليمة ، ريشة بين يدى صابرة تسير بأناملها بين خصلات ظهره الأبيض الذى عاد لتألقه بعد استحمامه على يد طلال فى الليلة السابقة لزفافه ، وردة الى جوارها (تخرط) عيدان الملوخية تظل الاثنين شمس ظهيرة الشتاء الدافئة:
-فكرة زينة جوى تخريط الملوخية فى الشمس اكده يا بت يا صابرة.
-طول عمرى باعمل اكده فى الشتا ، الضهرية نتدفى بالسمس وبالليل نتدفى بالوابور.
-هاهاها عفارم عليكى ، بس حلو جوى ريشة ، طلال جاللى انه صاحبه.
-طلال بيعشجه كانه اخوه ، تعرفى ان امى لغاية دلوك مهتعرفش عنه حاجة؟
-واه واه واه ، صُحْ؟
-إيوه صُح والله كيف مابجولك اكده ، كان كل يوم وهى رايح يصللى الفجر يطلع يطمن عليه الاول وبعد مايرجع يفطره بنفسه.
-طلال هيحب صلاة الفجر جوى ، دِه مفوتهاش ليلة جوازه.
-انتى هتجوليلى؟ ، مرة جاللى يا بت صابرة انى لما حد ياجى يخطبك هاسأله سؤال واحد لو عرفه هاجوزه ليكى طواللى ، جلتله سؤال ايه جاللى هاسأله صلاة الفجر الساعة كام!
-جاللى ان لما البت فايجة تاجى هيعلمها صلاة الفجر أول حاجة.
-البت فايجة مين؟
-بنتنا ، اصل طلال جاللى انه نفسه يخلَّف بت يسميها فايجة.
قابلتها صابرة بابتسامة قائلة:
-أصيل الواد طلال دِه ، تِعرِفى؟...يوم ما رِجِع من السفرية اياها دىّ لما عرف انهم هيشتغلوا تبع اسرائيل مرضاش يجول لامى على حاجة ، جالها ان الشغل واعر ومكملوش ، خاف ليجلج أمه ولا يزعِّلها ، حاكم امى بتخاف جوى.
-واه ، اسرائيل؟
-إيوه ، جال ايه كانوا هيروحوا يشتِغلوا فى حاجات اكده هناك ويهدوا جوامع.
-واه ، يهدُّو جوامع؟...طلال كان هيعمل اكده؟
-لا ماهو هرب منيهم.
-وانتى عرفتى كِيف كل دِه؟
-منيه ماهو بيحكيلى كل حاجة ، بس مجلليش موضوع يهدوا جوامع دِه انى عرفته كده بالفهلوة.
-بس مكانوش هيجدروا يعملوا حاجة للجوامع ، تِعرفى كانوا جايبين مرة فى التلافزيون زلزال جامد جوى هد بلد بحالها ومجدرش يهوب ناحية الجامع.
-إيوه ومرة كمان شفت فى الجورنال اللى عم مدبولى حطلى فيه الطعمية صورة سمكة اصطادوها مكتوب على ضهرها الله.
-إيوه شفتها بردك دىَ هى وصورة السجرة اللى هتسجد.
-صابرااااااة ، وردااااااااة.
-دِه صوت أمى شكلها عايزة حاجة تعالى نشوف عايزة ايه.
(نجاح الأنظمة الإعلامية فى تسطيح فكرة الإيمان لدى الطبقات الأكثر تدينا مستغلين جهل تلك الطبقات من ناحية وعشقهم للايمان من ناحية اخرى أخطر على الدين من بندقية صهيونى!)
------------------------------------------
لم يغمض لطلال جفن حتى خيوط الفجر الأولى. في تمام الخامسة، كان تجمع الجميع أمام المعسكر منتظرين إشارة البدء للتحرك لميدان الرماية، عيون طلال والحسيني لم تكف عن التلاقي.. نظرة قلق من الأول، ونظرة استمتاع بهذا القلق من الثاني.
- جاهز ياض يا عماد؟
- جاهز يا عم حسيني ماتقلقش.
- طب خد الرصاصتين اللي هتحطهم في جيبه وانا لما اعمر البندقية اللي يضرب بيها هنقصها رصاصتين.
- خلاص يا عم حسيني عرفنا هو انت بتكلم مستجد؟
- ربنا يستر!
- ربنا يستر؟...هو انت طالع عمره؟، هتلفق للواد قضية وبتقول ربنا يستر؟
- اخرس انت اعمل اللي بقولك عليه وبس وحقك هتاخده مالكش دعوة بالباقي بقى.
- ماشي.
قارب اليوم على الانتهاء، وجاء دور طلال في الرماية، ليصيح الحسينى:
- كمِّل ضرب يا عسكري ناقصلك رصاصتين.
-البندجية معادش فيها رصاص تاني.
- نعم ياخويا؟ وريني؟
تناولها منه متفقدا إياها قائلا بصوت سمعه الجميع:
- عمااااد، تعالى فتش العسكري الحرامي ده.
- أني مش حرامي.
سمعهما وائل ومؤمن من بعيد، فجاءا مهرولين يقول وائل:
- فيه إيه يا حسيني؟
- العسكري ده سرق رصاصتين يا فندم فتشناه طلعوا في جيبه بشهادة كل العساكر.
- انت كدااب وضلالي.
قالها طلال بصوت عالٍ، فانفجر فيه الحسيني صافعا إياه بقوة فأسقطه أرضا قائلا:
-اخرس يا كلب يابن الكلب.
سمعها طلال، فامتطاه شيطانه متناولا إحدى البنادق معمرا إياها مصوبا إياها ناحية الحسيني، همَّ باطلاق النار، فهرول مؤمن يقف أمام الحسيني صارخا:
- اوعى يا طلااااا.
لم يكملها، اخترقت رأسه رصاصة طلال، فخرَّ غارقا في دمائه.. لم يكد طلال والجميع يفيقون من هول الصدمة، حتى اخترقت صدره هو الآخر رصاصة الحسيني..
انتهى الأمر اذن بمقتل نقيب و... أحد العساكر!
---------------------------------
- إبراهيم…أبراهيم!
قالها ذلك المهرول إلى عنبر (4) الخاص بالسرية الطبية للمعسكر، تكاد هرولته تقتلع قلبه - أسير نبضاته الآخذة في التلاحق- من عقاله بين ضلوعه، وقد أبهمت أنفاسه المتلاحقة الملفوظ من نداءاته، يأتيه رد ذلك الغارق في حديث نفسه وذكرياتها المفترش أحد أسرَّة العنبر في فزع، وقد حررته نداءات صديقه من رقاده، فطوى صفحات ذكرياته وأخفى ما تحويه من سطور أحباب راحلين، ناظرا من وضع الجلوس إلى مناديه الفزِع قائلا:
- عبد العاطب؟…مالك يابنب في ايه؟
- ماعرفتش باللى حصل؟
- ايه اللي حصل؟…منظرك بيقول ان فيه كارثة!
- هي فعلا كارثة، الجيش كله مقلوب!
- كارثة؟…كارثة إيه؟
- الكارثة مش في اللي حصل وبس، الكارثة في اللي عملها!
- اخلص يا عبد العاطي من جو الأفلام ده؟…تقصد مين؟
- صاحبك العسكري الصعيدي!
تلقاها إبراهيم من صديقه، فانكمشت لها ملامحه، كأنها المرسومة بفرشاة صغير يعبث ببعض أوراق رسمه وألوانها في غضب، بعدما منعته أمه حلواه، فنفث غضبه في لوحاته. لمعت في ذهنه صورة ذلك الصعيدي المذكور باسما في أول لقاء جمعهما، تتردد في أسماعه أصداء تلك النبرة لمعرِّفٍ بنفسه، حين صافحه أولى المرات:
- طلال …أخوك طلال عزوز يا باشا، تجدر تجوللي أبو العز، بينادوني كده حِدانا في البلد، أنا أصلي زي مانتا شايف كده باين عليا ابن ذوات جوي!
قبل أن تقفز لسطح ذكرياته تلك الصورة الأخرى ليوم جمع آخر اللقاءات:
- أشوفك على خير ان شاء الله يا داكتور، ربنا معاك يا صاحبي، شد حيلك كده عشان تبجى عسكري زين، بس أمانة عليك يا شيخ ما تنسى طلال!
قبل أن يختم قوله بعناق لم يشهد مثله ذلك الصيدلاني المودِّع!
أفاق إبراهيم من ذكرى مشاهد مضت قبل شهور لم تتم دورة العام الكامل بعد، لا يسعفه لسانه بنطق شيء، غير أنه جاهده سائلا في صعوبة:
- طلال؟
- هو بعينه
- ايه اللي حصل بالظبط؟!
- بيقولوا قتل ظابط وبعدين انتحر!
-------------------------------------
عودة المعسكر لهدوئه لم تكن بالشئ اليسير ، الكثير من التحقيقات التى تناولت أقوال الكل كانت مرهقة بشكل كبير ساهم فى النيل من قدرة الجميع وقوته ، الجميع كان فى حالة يُرثى لها ، وائل المنعزل عن الجميع غارقٌ فى أحزانه على صديقه الصدوق ، تلك الصورة التى جمعتهما فى أحد أيام الرماية السابقة يمسك كل منهما سلاحه مبتسما فى وجه الكاميرا ، تلك الأخرى فى أحد أيام الإجازات على أحد الشواطئ تغطى وجوهيهما نظارتان سوداوان ، صورة ثالثة فى فرح صديقهما محمود فى الصيف الماضى ، صورة رابعة وأخرى خامسة ومازال عداد الصور فى هاتفه يمارس متعته فى تعذيبه ، مؤمن لم يكن مجرد صديق حياة أو زميل عمل ، كان صوت الضمير الذى دائما ما صرخ فى أذنه
-ليه العسكرى فى الجيش لما بينهى خدمته بتبقى الدنيا مش سايعاه من الفرحة كأنه خرج من الجحيم ودخل الجنة؟
قفزت الكلمة فجأة فى رأسه يعيدها عليه صديقه الراحل من عالم آخر بعدما قالها له ذات مرة فى حوار ضمته هذه الحجرة.
- انت فاكر ان العساكر دلوقتى بتشتغل وتقف خدمات عشان خايفة عالبلد ولا الجيش؟ ، العساكر بتشتغل وتقف خدمات عشان خايفة من عقاب الظباط وجزاءاتهم ، بيقف خدمة ومركز مع الظابط ولا صف الظابط اللى هيعدى عليه يعلَّقه ويرميه فى السجن ولا يلغيله أجازته مش مع العدو اللى هييجى من بره يقتله!
- كل اللى اقدر اقولهولك عيد النظر فى التفكير فى التعامل مع العساكر ، اكسبهم هيدوك أكتر صدقنى ، العيال دول غلابة ورجالة وبتوع شغل وطلباتهم مش كتير ، كل اللى طالبينه ميتظلموش...للدرجة دى طلبهم صعب؟!
-وصًّل العساكر انهم يدعولك لو سبتهم يا باشا مش يدعوا عليك!
الأحاديث كلها هاجمته فى تلك الليلة ، كل كلمة سمعها بالوضوح الذى قيلت به فى أولى المرات ، كل نصيحة تلقاها من صديقه الأصغر باتت حاضرة بكامل حلتها الآن فى ذهنه ، كل كلمة أحاطتها بسمته وبسمة...احد العساكر الراحلين!
اللعنة على بنى البشر ، لماذا لا يفهمون قانون الأمر الا اذا كُتب بدماء أحدهم؟ ، لماذا لا يعون حقيقة الأمر الا اذا خرجت مع روح أحدهم؟ ، لماذا يتحتم على المكسب دائما ان يدفع ضريبة للخسارة ليُتم نجاحه؟ ، لماذا...تأخذهم العزة على الدوام بالإثم؟!
-وائل باشا تؤمرنى بأى حاجة قبل مانام؟
انتبه لها من تخيلاته فنظر لقائلها على الباب قائلا:
-لأ.
-تصبح على خير يا باشا.
-.....
هم القائل بالانصراف قبل أن يستوقفه وائل من جديد قائلا:
-حسينى!
-أؤمر يا باشا.
-انت أقذر شخصية شفتها فى حياتى!
-ل...ليه...ليه يا باشا لا سمح الله انا غلطت فى حاجة؟
-غور من وشي دلوقتي وحاول متورنيش وشك الفترة الجاية دى كلها .
لم يملك الحسينى ردا غير الانسحاب الصامت ، دخل حجرته غير مهتم لما كان من أمر وائل ، يعلم أنه لن يستطيع الاستغناء عنه أو خسرانه ، وحده قادر على تدبير أمر المعسكر والسيطرة على عساكره ، يعلم هذا جيدا هذا الضابط الذى لا عمل له إلا قضاء اليوم فى استراحته وانتظار المرتب الشهرى المذيَّل بال(لا عمل) ، أضاء نور الحجرة خالعا سترته التى تعلو كتافتها شريطه ذهبية يستعد لتبديل ملابسه قبل أن يفاجئ بأحدهم يظهر له من خلف دولاب ملابسه:
-ايه ده انت بتعمل ايه هنا؟
-جاى اقتلك!
-ايه؟
لم يرد ، اكتفى بغرس مطواه فى رقبته...وانصرف!
-------------------------------------
الشتاء لازال فى عجبته الكثير ليحمله لهذه المنازل التى لا طاقة لها بجبروته ، السطوح وساكنوه كانوا أكثر المعانين ، اعتادوا تلك المعاناة على كل حال ، ينتظرون الشتاء على كل حال رغم كل شئ ، يأملون أن تحمل أمطار سماءه بعض ما بخلت به أرض أوطانهم ، يحلمون ببعض نور يحمله برقه بخلت به مصابيح حكوماتهم ، ينتظرون بعض برودة افتقدوها فى مقابر أسكنتهم بها أنظمتهم ، الشتاء فى حارة الشوربجى كان مثالا حيا لمبدأ التضحية بالكثير من الألم لجنى بعض...اللاألم!
على باب الحجرة المتهالكة فوق سطح أحد المنازل فى الحارة البائسة كان وقوفه ، طرقته المميزة على باب الحجرة التى قابلها أحد المعاقين بالداخل بتهليلة وجه أسكته آخر بقوله:
-بس ياض مش ناقصين دوشة عالمسا ، لولا عماد كان زمانى رميتك فى أى مصيبة جتك البلاوى.
قالها وترك شيشته قائما يفتح الباب قائلا:
-عمدة؟!
لم يرد!
-حمد لله عالسلامة يابو الصحاب ، مطولتش المرادى يعنى ، ادخل...ادخل من المطرة دى.
-شوفلى أى حتة استخبى فيها بسرعة واستخبى كتير.
-تستخبى؟...تستخبى من ايه؟
-قتلت صول!
------------------------------------
كانت الليلة الأخيرة التى تحادثنا فيها بشأن ذلك ال(سَرْباز) ، أذكر يومها أنى لم أكن فى حالة تسمح بسماع المزيد عن أى شئ ، يكفينى ما سمعته من قصة هذا الصعيدى الأسمر الراحل للعالم الآخر بعد كل تلك الأعوام من المعاناة ، بات طلال جزءا من تكوينى لا يختلف بأى حال عن تكوينات اللحم والدم ، حاضر على الدوام على مسرح أوراقى بزى البطل الوحيد المستحق دور البطولة بين الجميع من المتواجدين على المسرح اللعين ، لم تعد بى رغبة لمعرفة مصير الباقين من أبطال الصفحات ، شافعى ، ابراهيم ، عمدة ، وائل ، لم يعد يهم ، ليذهبوا جميعا الى الجحيم ما دام رحل طلال ، لا أعلم لماذا شعرت لوهلة حينها أنهم ليسوا سوى بعض السطور التى خطتها الأقدار لإكمال قصة الصعيدى الراحل لا أكثر ، كم ستفتقد العش هذا المسكين ، بل مسكينة هى لتضم قبره فى أحشائها ترثيه كل شروق لشمس وكل اطلالة لقمر ، كم سيفتقده (طبج الفول) ومنبر المسجد وشجرة الجميز ، كل شئ فى العش كان مختوما بختم حضوره ، فايقة ، صابرة ، وردة ، هنية ، آه لها من أسماء لم تعد تملك فى الحياة أكثر من ...ذكرى رجال ، آه لها من معاناة تشكلت فى حياة الكثيرين بمعناها الكامل، معاناة كافية بشكل ما لتجسد معاناة...وطن!
أمام النافذة المغطاة برزاز الأمطار وقفت أنظر الى لا شئ ، صورته بادية فى كل قطرة من قطرات المطر الراحل من السماء للأرض ، ضاحك فى احداها و باكٍ فى أخرى ، حالم فى إحداها ويائس فى أخرى ، حاضر فى احداها...وغائب فى أخرى!
انتبهت فجأة لصوت البيانو القديم ، لأول مرة منذ قدومى أراه يجالسه ، كان أمهر من أمهر عازف رأيته ، اللعنة على هذا الراوى غريب الأطوار ، بارع هو فى كل شئ بشكل يثير الاستغراب ، مقطوعته كانت كافية لتذيب ثلوج الهيمالايا حزنا ، كأنه به يرثى ذاك الراحل على صفحاتى بلمساته على البيانو القديم، مازال هذا اللعين بارعا فى كل شئ، مثيرا للتساؤل فى كل حركة، غريب أطوار فى كل رد فعل، جدير هو بذلك الدور الغامض على الصفحات التى حكاها على كل حال، أكاد أجزم أن البيانو ووالنافذة رقعة الشطرنج والطاولة والكرسى ذو العجلات قد أصابهم الضجر من طول معاشرته، هذا ان كان يعاملهم بنفس الغموض الذى يعامل الأحياء به، هذا ان كان قد قابل أحد هؤلاء الأحياء سواى من الأساس منذ سنوات، لا يبدو بذلك الجفاء حين يعاملهم على كل حال، فنان مرهف الحس حين تعانق أنامله صفحة البيانو، قائد حكيم واسع الإدراك حين تحكم تلك الأنامل الرقعة ذات اللونين، شاعر مُلهم خصب الخيال حين تخاطب عيناه الفراغ الفسيح خلف النافذة، مازال أمامى الكثير لأكتشف الحقيقة وراء هذا الرجل!
-زعلت عليه؟
خاطبنى بها بعدما انتهى من عزفه ولم أنتهى من تأملى إياه فأجبته:
-عندك شك؟
-ممم ، يعنى!
-انت ليه شايفنى بالحيوانية دى؟ ، ايه اللى يجبرك تفضل معايا كل الشهور دى وانت مش شايفنى بنى آدم أساسا؟
قلتها بنبرة على صوتها بشدة فابتسم قائلا:
-مش محتاج تزعق على فكرة أنا باسمع كويس.
-......
-متزعلش!
-مش زعلان.
-كداب.
-مُصرّ تتخانق؟
-ليه زعلت على طلال؟
قالها مباغتا اياى بها كخصم انتظر الوقت المناسب لتوجيه ضربة قاصمة لخصمه وقد نجح!
لم أرد فابتسم من جديد قائلا:
-انت زعلت عليه زعلك على أبطال الروايات والأفلام ، زعل سيما يعنى.
-طيب.
-الحقيقة بتزعَّل!
-ماشى.
-هتفضل كده كتير؟
-كده ايه؟
-كده متضايق!
-عايز ايه؟
-أنا شفت اللى انت كتبته على فكرة!
انتبهت لها متفاجئا أقول:
-شفته فين؟ ، انا موريتوش لبنى آدم!
-انا مش زى أى بنى آدم أنا بطل الأحداث!
-ممكن تبطل ألغاز؟!
-للدرجادى صعبة على فهمك؟
-ايوه أنا غبى معلش.
-شفتها فى عينيك ، فى ردود أفعالك ، فى...ماتشات الشطرنج اللى لعبناها!
-ماتشات الشطرنج؟!
-بس مش بطَّال ، احسن مما توقعت ، مش ندمان انى حكيتلك.
-طيب شكرا ، يعنى فيه أن شاء الله أمل تكمل باقى الحكايات؟
-ايه المانع؟ ياريت!
-بس قبل ما نسيب سَرْباز ، مقولتليش مين هو؟
-مين هو مين؟
-سَرْباز!
ضحك بطريقة اعتبرتها مهينة قائلا:
-افتكرتك أذكى من كده.
-مانا قلتلك انى غبى!
-سَرْباز ده طلال وابراهيم وعماد وشافعى وكل اللى حكيتلك عنهم دول.
-مش فاهم.
-عارف.
-......
-سَرْباز دى كلمة فارسية معناها عسكرى الشطرنج.
-فارسية؟...طب واشمعنى اخترت الفارسية؟
-عشان الدولة الفارسية كانت مهد اللعبة ، لما اخترعوها عملوا الصف الأول من الجيش كله عساكر ، كانوا مؤمنين بدور الجندى البطل اللى بيحمى كل ممتلكات الدولة ، اللعبة لما اتنقلت بعد كده للدول العربية العرب ترجموا ده غلط ، قالوا العساكر عددها كبير فضحى بيها ملهاش قيمة ، وده انعكس على فكر الأنظمة والحكام ، قالوا كل اللى عدده كبير ملوش لزمة ضحى بيه ، فئة المواطنين الغلابة يعنى مواطنين وعمال وفلاحين وعساكر وهكذا.
-انت عبقرى!
-شكرا!
-ممكن افصح عن شخصيتك الحقيقية لما الرواية تنزل السوق؟
-لأ!
قالها فجأة بنبرة تختلف عن نبرة باقى الحديث ، نبرة منزعجة بشكل لم أره منه قبل الآن ،نبرة...خائف!
-لأ ، قصدى ملوش لزمة يعنى انت يهمك ايه انك تقول أنا مين؟ المهم الأحداث!
استطرد بها حديثه محاولا إخفاء ارتباكه يتحاشى النظر فى وجهى ، فهمت ما أراده على كل حال ، لم أشأ أن أنكأ له المزيد من جروح (لا أعرفها)، أدرت دفة الحديث لشاطئ آخر قائلا:
-واضح ان لسه قدامى كتير عشان أعرفك!
ابتسم فى ثقة قائلا:
-حتى بعد الكتير ده مش هتعرفنى.
-ثقة دى ولا غرور؟
-سميها زى ما تسميها مش مهم، ياما اتسمينا بغير أسامينا.
عقدت حاجبىّ استغرابا اتساءل:
-مش فاهم، مين اللى سماكم بغير أساميكم وليه؟
-الغربان!
-تانى؟
-وتالت.
-واضح ان مفيش فايدة!
-قلتلك متستعجلش!
-طيب!
-لسه قدامنا سنين حكايات!
-سنين؟!
-مش انت عايز تسمع الحكاية لحد آخر فصل؟
-ياريت!
-يبقى تسمع من سكات.
قابلتها بزفرة عميقة حملت استسلامى لإرادته التى فرضت سيطرتها على حديثنا متسائلا أهرب من غموضه:
-الحكاية الجاية حكاية مين؟
-تختة!
-إيـــــــه؟
-تخــــــــــــــــــــــــتة!
-أمرى لله شكلى هعانى تانى...احكى!
-نسيت حاجة مهمة!
-إيه؟
لم يرد ، اكتفى بالنظر الى تلك الطاولة التى ضمت جلساتنا لشهور مضت تعلوها...رقعة شطرنج تضم جيشين يستعدان لمعركة ما!
-----------------------------------------

إلى اللقاء فى
.
.
.
.
تختة!