تم نسخ رواية صمت الفراشات
لتكون متوافقة مع برامج المكفوفين الناطقة
ونعتذر عن وقوع أي أخطاء إملائية سهواً
صمت الفراشات
ليلى العثمان
رواية دار الآداب
صمت الفراشات
ليلى العثمان
صمت الفراشات
رواية
دار الآداب - بيروت
صمت الفراشات
ليلى العثمان / روائيّة كويتيّة
الطبعة الأولى عام 2007
الطبعة الثالثة عام 2011
ISBN 978-9953-89-056-2
حقوق الطبع محفوظة
All rights reserved. No part of this book may be reproduced, stored in aretrieval system, or transmitted in any form or by any means without prior permission in writing of the publisher.
جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أيّ جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأيّ شكل من الأشكال، دون إذن خطّي مسبق من الناشر.
إلى كل الفراشات الصامتات المحصورات كالكلمات بين قوسين
5
الإهداء
إلى صديقة القلب :
هدى بركات
لا أحد سواك يستحقّ صمت فراشاتي وألوانها
ليلى العثمان
7
فوجئت بالطبيب يخبرني:
- لا بدَّ من العمليّة.
تسمّرت وصوتي المخنوق يسأل مذعوراً:
- وهل أستردّ طبيعة صوتي بعدها؟
لم يشأ الطبيب أن يخادعن، قال:
- لييس تماماً . . على الأقل في الشهور الأولى. ثم يتحسّن.
صمتُّ . . .
ظلّ ينتظر قراري؛ وحين طال صمتي الحزين سألني:
- ها . . . ماذا قرّرتِ؟
هززت رأسي. يدي تتحسّس حنجرتي، موطن صوتي، تنحنح الطبيب:
- إن لم تتمّ العمليّة فقد يتطور الأمر إلى . . . لا سمح الله.
شهقت:
- سرطان؟
9
مطَّ شفتيه. فغر عينيه. ضرب برأس قلمه على الطاولة:
- ممكن . . كثيرون، اضطررنا لاجتثاث جزء من حنجرتهم.
تنهّدت. تلمّست حنجرتي ثانية:
- سأفكّر يا دكتور.
حذّرني:
-لا تتأخّري في اتّخاذ القرار.
ابتسم برقّة وهو يواجهني ويطمئنني:
- العمليّة سهلة. مجرّد دقائق.لكن قبل إجرائها هناك شروط.
سبق لهفتي للسؤال. قال وهو يهزُّ إصبعه الرشيق:
- الامتناع كلّيًّا عن التدخين، وعدم إجهاد الصوت . . يُفضّل أ تأخذي إجازة من التدريس.
مطَطْت جذعي، اتّكأت على طرف طاولته. سألت وحزني ينساب إليه:
- أنت متأكد أنّني سأستعيد صحّة صوتي؟
واثقاً، طرق بكفّه على الطاولة:
- طبعاً . . لكن بعد العمليّة ستلتزمين بشروط.
ضحكت، أسبقه بالشرط الأول:
- أدري . . التوقف عن التدخين!
بادلني ضحكتي:
- شاطرة! ه أنت تعرفين . . هذا البلاء سبب علّتك.
10
بتشوُّق مشوب بالخوف سألت:
- والشروط الأخرى؟
انساب صوته هادئاً:
- أولاً. ستخضعين للصمت لمدّة أسبوعين.
هلعت:
- صمت جديد؟
بهت:
- هل سبق أن أجريت العمليّة؟
ابتسمت:
- لا . . لكنّني مارست نوعاً آخر من الصمت.
كأنّه اطمأنَّ:
- إذن ستلتزمين ما دامت لديك تجربة.
ذكّرته:
- وثانياً يا دكتور؟
- ثانياً يا سيّدتي ستحتاجين لتمارين تدريبيّة لاستخراج صوتك بالتدريج. هناك طبيبة مخصّصة ستقوم بتلك المهمّة.
- وهل يطول العلاج؟
- هذا يعتمد عليك. بقدر التزامك بعدم التدخين. والأهمّ بالصمت.
شعرت بحاجة إلى البكاء، شعرت وكأنّ يداً غليظة تمتدُّ إلى
11
عنقي وتحاول خنقي ثانية عن الكلام . تواردت عليّ في لحظةٍ سنوات صباي الأول في قصر العجوز، هناك بدأ صمتي الذي فُرِضَ عليّ، والآن صمت آخر عليّ أنا أن أفرضه على نفسي لأستعيد سلامة صوتي. كِلا الصمتين صعب ومُرّ، وله نتائجه المختلفة. ذاك صمت سرق من عمري أجمل السنوات قبل أن يورثني المال، وهذا الصمت سيسرق أسبوعين ليورثني الصحّة والعافية. فرق كبير، لكنّه في المحصّلة صمت مفروض عليّ.
تركت العيادة. وكعادتي نزلت درجات السلّم مهرولة من الطابق الثالث، أفكاري تغلي في رأسي. وكذا مخاوفي:
هل أصدّق الطبيب؟ هل سيكون دقيقاً وهو يجري العمليّة؟
ماذا لو أخطأت يده وقشر أكثر من الزوائد الملتصقة بحبال الصوت! هل أفقد صوتي إلى الأبد؟
وصلت إلى سيّارتي. وما إن أغلقت بابها حتى فاجئني بكاء عارم. حرارة السيّارة في الداخل تكاد تشويني. الشارع الهائج يدفع بهديره نحوي فيختلط بهدير مخاوفي المتراكضة بداخلي، قاومت ارتخائي، أدرت مفتاح المحرّك واندفعت. دخلت إلى شقّتي الصغيرة، عالمي الذي هيّأته لنفسي منذ أن تخطّيت بوّابة عبوري إلى الحرِّيَّة من القصر الظالم.
***
12
منذ الليلة الأولى أراد تلقيني الدرس الأوّل. كنت لا أزال غاطسة في الأريكة الوثيرة داخل غرفة النوم الأسطوريّة في قصره.
سحب عقاله والغترة فبان رأسه الأجرد لامعاً مثل قدر الستانلس ستيل. التفت نحوي حاسراً الرقّة من صوته:
- اسمعي. من الآن عليك أن تعتادي الصمت. أسرار القصر لا يجوز أن تتسرّب ولو من خرم إبراة.
لم أدرك معنى أمره الأشبه بتهديد مبطّن. كدت أدفع بلساني المثقل وأسأله (( أية أسرار تخشى عليها؟)) لكنّني غشمت طريقة التخاطب الواجبة مع رجل في مقامه وسنّه، رجل لا يزال حتى اللحظة غريباً عنّي، فآثرت الصمت.
كنت لا أزال مقمّطة بثوب عرسي الأثقل من أكياس الرمل.
مئات من حبّات اللؤلؤ والستراس البارق مشغولة فوق قماشته الالساتان دوشيس، ديله الطاووسيّ يمتدّ خلفي خمسة أمتار مرصوصة هي الأخرى بحبّات أكبر. تحيط كأشعّة شمس بورود من الأورغانزا محشوّة بالفصوص الفضِّيَّة. رأسي أيضاً يثقله التاج الماسيّ الذي يشعُّ متأثّراً بأنوار الثريّا الكرستاليّة المتدلّية فوقي كخيمة من شوك، موزّعة بريقها على الأرض والجدران المكفّنة
13
بورق فخم. جسدي غير معفيٍّ من الأثقال: إسورة، ساعة، قرطان وخواتم الباجيت. أشياء ما فكّرت يومًا أنّها ستلامس جسدي. لكنّها كانت بعض أحلام أمّي. كان حلمي ينحصر في دبلة متواضعة، وبيت صغير، وقلب أوسع من كل القصور.
خطا متمهّلاً تجاهي. ظهره المُحْدَوْدَب يُثني رأسه حتى تكلد ذقنه تلامس عظمة صدره. توالدت بداخلي المخاوف مثل دبابير سجينة تتقافز، تتراكض، تحاول بشوكها خرم لحمي لتفرَّ ناجية من عصوف قلبي التي تقرع كطبول أفريقيّة مجنونة كلّما تقدّم خطوة نحوي. انتصب أمامي. ظلّت عينايَ مسبلتين كارهتين التقاء وجهه. حرّك كفّه تجاه وجهي وبسبابة هشّة رفع ذقني فتقابل وجهانا. صوته الحادُّ يأمرني:
- انظري إليّ.
تثاقل جفناي. لكنّ الأمر الوارد جعلني أنظر، تضاعف ارتجافي حين صدمني الوجه، كتلة رخوة تستند إلى عظامها، صدغان كحفرتين، أنف كقصبة ذابلة، عينان صغيرتان غائرتان يموج بؤبؤهما بماء أزرق، شفتان مترهّلتان انفرجتا عن ابتسامة فضحت أسنانه الاصطناعيّة. دسّ بعض الرقّة في صوته:
- ها . . . عسى أعجبتك؟
أغمت عينيَّ، حاولت في لحظة أن أقطع المسافة ما بينربيعي التاسع عشر وخريفه السّتيني، لأكون قادرة على استنهاض كلمة واحدة أجامله بها وأكذب. لكنّ لساني تحجّر. واشتعلت
14
بداخلي نار وودت لو تركض ألسنتها إلى أبي وأمي اللذين قدّماني لقمة لجيفة من سلالة تتوارث مالها، أمراضها، ولا حائل دون نزواتها وغزواتها. ظلَّ يحدّق بوجهي القمريّ بعينين منطفئتين لا تسعفانه على اكتشاف بضاعته وتقييمها. تصوّرته سينحني ليقبّل جبيني كما يفعل العريس في الأفلام المصريّة، ثم يسري بشفتيه على بستان وجهي الناعم ويذهب بعد ذلك حيث تسوقه شهوة الليلة الأولى. لكنّه لم يحرّك سوى إبهامه. دعك به شفتيّ دعكاًغليظاً ظننته يسعى لمسح أحمر الشفاه عنها راغباً في اكتشاف لونهما الأصليّ. لكن صوته قطع كل توقّع:
- ها الشفايف الحلوة لو نطقت بشيء سأقطعها!
ارتجفت، شعرت بأمعائي تتعارك، احتجت إلى الحمّام لأفرغ دفقة الخوف، أردت أن أنهض لكن كفّه حطّت على كتفي ورصّتني ثانية إلى الأريكة وتابع:
- سرُّ الليلة لن يعرفه أحد. تعلّمي الصمت واعتاديه.
((هل للصمت لغة أتعلّمها ولون لأعتاده؟)).
هززت رأسي هزّات سريعة متتالية لأقنعه بأنّني أفهم وأوافق.
ابتسم منتصراً، تركني واتجه إلى باب الغرفة، فتحه وقبل أن يخرج أصدر أمره:
- اخلعي ملابسك وتجهّزي للنوم. سأعود.
التقمت أمره مثل رمح مدبّب. لكنّه ظل مسمّراً عند الباب بانتظار إجابة تؤكّد انصياعي للأمر. كانت هزّة الخوف والأسى تُسوّر لُحمة لساني الذي نبض ثقيلاً:
15
- أمرك.
خرج أغلق الباب.
أعلن بنبرة تهديديّة أنّه سيعود وكأنّه يخشى إن هو غادرني أن أتحوّل فراشة وأفرّمن القصر. نظرت إلى الباب ، وتمنّين لو أنّه يتجمّد ولا يفتح. تأمّلت النافذة المغلقة وتلك الستائر المعتمة التي حجبت الدنيا بأكملها عنّي. ومثل دودة شبه مهروسة تعاني سكرة الموت ظللت على الأريكة عاجزة عن الحركة. كل شيء في الغرفة الفخمة يحاصرني بحبال غليظة، وأحسست بصمت مريب يهطل من السقف مثل بقايا رماد المواقد البائت ويتوزع في الغرفة سريعاً، يهبط على الأضواء التي لم تعد قادرة وأد الظلام الذي غمر روحي وتمازج بأنسجتها. وددت لو أُفلت صوتي، أطلق ولو صرخة واحدة تدكٌّ القصر فأواجه الفضاء حتى وإن تهت فيه، لكن حنجرتي لم تسعفني. وتاه لساني حتى حسبت أنّه قطعه قبل أن يغادر الغرفة، ظلّت كلماته تطنٌّ في أذني ((عليك أن تعتادي الصمت)).
كلُّهم كان يأمرني بالصمت. كانت أمي حين تختلف معي علىشأن حتى وإن كان يخصّني، تضغط سبابتها على شفتيها وتقول ((اصمتي واسمعيني)). أبي له طريقته الخاصّة في إصدار الأمر بالصمت. مجرّد أن يلمح إشارة الاعتراض على وجهي؛ يصفق بكفيه فأهم أنّ عليّ ابتلاع الكلام وصوتي. لم يكن أخي أرحم، فحين كنت أراه يختلف مع زوجته؛ أحاول بسبب حبّي لهما، أن أرشّ بعض كلمات لطيفة لتهدئة غضبهما قبل أن يتطوّر، فيتحوّل
16
غضبه منها إليّ. يصرخ في وجهي ((اصمتي ولا تتدخّلي)) فلم أجرؤ بعد ذلك على إقحام نفسي ومشاعري الطيّبة بينهما. حتى المعلّمة التي يفترض أنّها المربية الفاضلة ضاقت بجدالي المتكرّر. عاقبتني بطرقٍ شتّى فتعلّمت الصمت ف حضرتها.
كرهت صمتي. لكنّني واصلته حتى جاءت اللحظة التي أعلمني أبي بقراره تزويجي من الثريِّ العجوز. استطعت من هول اختياره أن أستجمع شجاعة موهومة وأنطق:
- لن أتزوج. سألتحق بالجامعة.
- لن تدخلي الجامعة، ستتزوّجين.
عويتُ من ألمي:
- هذا العجوز؟
أمّي تدخّلت:
- أبوك يريد لك الخير.
جرؤت. وقذفت بردّي:
- بل هو خائف أن يؤثّر رفضي على وظيفته عند وليّ نعمته.
إنّه يبيعني وأنت شريكته في الظلم.
لم يحتمل أبي، هاجت رياح غضبه. أمسك بي وانهال عليّ بالضرب المبرّح وأنا أتوسّل أمّي فلا يرفٌّ لها خيط أمومة.
خارت كل قواي. رفع أبي وجهي إليه، أطبق بإصبعيه على شفتيّ، فركهما فركًا وصل أعصاب روحي ونفث تهديده:
17
- سأقطعهما إن لم تصمتي من الآن حتى يوم عرسك.
أسقط عليّ صخرة قراره، ومن أحد خرومها الضيّقة المسنّنة استلّني قدري إلى القصر.
* * *
عانيت صعوبة في خلع ثوب الزفاف، وفكّ التاج الذي تشابك بخصلات شعري. ألقيت بكل أحمالي في أرض الخزانة، وارتديت الذي أمرت أمّي أن يكون رداء الليلة الأولى قالت وكأنها تقصد إثارتي ((إلبسي الأحمر الدانتيل، الألوان الفاقعة مثيرة لرجل مثله)).
جلست على أريكتي ملجومة بالصمت. جفاف حطّ على شفتيّ لا يتيح لي فرصة للتأوّه والتشهّد على روحي التي وقعت في كمائن العجوز دون أن يسمّي عليها أحد حتى أمّي!! أحسست بنفسي تتسرّب منّي، وجرار عمري كلّها تفرغ من زمزم وتمرذ. لا أسمع غير قصف عظامي الذي يكاد يكسرني، يبعثرني، تمنّيت لو يحدث هذا لأكون في منجىً ممّا ينتظرني.
تحرّت أكرة الباب بفظاظة أفزعتني. دخل وكأنّه عفريت انشقّ عنه حائط قديم، لم يغلق الباب، واربه واقترب منّي. توثّبت بانتظار شيء أجهله. نظر إليّ وهو يفرك كفيّه كمن يطرد رعشة برد فاجأته محاولاً أن يشذّب من ملامح صوته المرتجف. أمرني:
- استلقي على السرير.
تمهّلت غير عامدة أحتاج آلاف الأيدي لتنتزعني من
18
الأريكة القاسية إلى سرير أقسى وأبرد. تغيرت سحنة صوته:
- ما سمعتيني؟
لم ينتظر، اقترب ودسَّ كفّه تحت إبطي ليرفعني، تحرّكت بصعوبة إلى السرير غير شاعرةأنّ لي قدمين تتحرّكان. هل يملك من القوّة قدراً جعله ينفخ عليّ فأطير أم أنا كنت ريشة تائهة فطرت؟!
استلقيت على السرير ذبيحة جاهزة لأسنان مركّبة وذراعين شبه أعضبين، غطّيت جسدي حتى العنق واشرَأْبَبْتُ بنظرتي نحو السقف متمنّية لو ينها عليّ، أو تُفتح فيه كوّة ليراني نسر كبير فيخطفني ويطير.
جسدي يرتعد، وانقباضات روحي تتزاحم، تحدّرت دموعي تحرق وجنتيّ، لم أهتم أن أمسحها، قلت ربما لو لاآها يشفق عليّ، يتمهّل في فضِّ أوراق الزهرة المرتعشة، يعطيني فرصة لأعتاد عليه، وأتعوّد كيف ترضخ الفريسة لمفترسها.
اقترب من السرير، لاصقني، حاولت أن أهرب بنظرتي فصكّ بكفّه على وجهي، حدّقت به، عيناه كعينيّ أسدٍ هرمٍ جريح، يدرك ضعفه أمام الفريسة الشّابّة، خطا إلى ظهر السرير، انقضَّ فجأة على ذراعيّ. فتحهما وانكبَّ يهوِّس عليهما فلم أعد أملك قدرتي على الحركة. دهشتي تسلّني، ماذا يريد بالضبط؟! حاولت أن أصرخ، فنفخ على وجهي بأمره الحازم:
- أصمتي.
19
وجهه صار قريباً من وجهي. ظلَّ هكذا حتى اطمأنَّ أنّ صوتي المبلوع لن يزوع صراخه، ثم التفت ناحية الباب وصرخ:
- أدخل.
غلبني فضولي رغم خوفي، دفعني لأرفع بعض رأسي وأرى من المأمور الذي سيدخل علينا ليلة يُفترض أنها تخصّني وتخصّه، فوجت بعبدٍ بحجم مارد يقتحم الغرفة، يقترب من السرير ويبدأ يخلع ملابسه!!. لم تسعفني برائتي لأستنتج إجابة لما يحدث. فزعي تنامى حين رأيت العبد أمامي عارياً تماماً يلتمع جسده بالعرق. لم أكن قد رأيت جسد رجل من قبل.
لكنّني بشيء أشبه بالإغماءة اللحظيّة؛ لمحت جسد أخي الصغير حين كانت أمّيتُسقطنا في البانيو كل أسبوع لنستحمّ. كانت تصرُّ أن أظلَّ محتفظة بالقطعة الصغيرة التي تستر عورتي، بينما تترك أخي حراً منها. تبدأ به وعندما تنتهي وتلفُّ جسده بالفوطة تأمره أن يخرج وينتظرها على السرير حتى تفرغ منّي. عندها تأمرني أن أخلع الساتر وتدعكني بليفة غير خشنة. حين تغمر وجه أخي بالصابون ويغمض عينيه، كنت أشرع في تأمّل جسده، فلا أجد بين جسدينا أيّة فروق غير ذلك الجزء الذي تسمح له أمّي بإبرازه.
ويوم احتججت ذات مرّة زمّت مابين حاجبيها غضباً وقالت عورة البنت ما يصير يشوفها غير زوجها.
أفقت والعجوز يأمر عبده:
- ابدأ.
20
اقترب العبد فصرخت. ضاعف العجوز قوّته وهوّس على ذراعيّ ضاغطًا بكفّه اليابسة على ثغري ليكتم صوتي. بينما عينايَ المرتعبتان لا تقويان على الانغلاق، أحدّق بوجه العبد ذي العينين الصفراوين البارقتين، اقتربَ أكثر، كشف عنّي الغطاء الحريريّ. بدأ يعرّيني، عافرتُ بساقيَّ لأمنعه، لكنّه، ولشدّة قوته، استطاع أن يوهن كل جسدي حتى سيطر عليه وباغتني بسيخ النار الملتهب، اخترقني حتى الحنجرة التي أفرزت سائلاً يصطخب مذاقه بكل الطعوم المرّة.
لا أدري كيف جائت صرختي مدوّية. كأنّني اختزنت آلاف الصرخات فانطلق حبيسها دفعة واحدة. فضغط العجوز بذراعه على وجهي، شعرت بأنّني أختنق وأموت وصوت العبد اللاّهث يتسرب إليّ:
- تفضل عمي.
حرّرني العجوز من ثقله ورائحته، أفقت فاصطادت عينايَ العبد وهو ينحني لسيّده بعدما هيأَ له الوليمة، لملم ثيابه، حملها وخرج عارياً.
لماذا قالت أمّي أنّ زوجي هو الوحيد صاحب الحق في رؤية عورتي؟ لقد كذبت عليّ. شعرت بكراهية دسمة نحوها، تمنيت لو أنّها أمامي لأندفع إليها أغرز أظافري المطليّة بلون الدم داخل حلقها وأثقب لسانها. أصرخ في وجهها ((هل انكشفت عورتك على أحد غير أبي؟))
التويت على جرحي، شددت ساقيّ المبلّلتين بنثار الدم إلى
21
بطني متوجّعة أذرف أنيني، أشتهي غفوة تنسّيني الذي شاهدت وكابدت، غفوة تحملني إلى حلم أو فضاء ليس فيه أحد يكتم صوتي فأصرخ . . . أصر . . . أص . . . أ . . .
كنت أتوهّم أنّني سأخلد لتلك الغفوة، وما خطر ببالي أنّني سأكون وجبة ثانية لعجوزي الذي انتظر حتى تُفتح له أبواب القلعة المحصّنة. اقترب وقد تعرّى كما فعل العبد، رأيت جسداً بشعاً، بدا جلده المترهّل على عظامه، التي نخرتها السنوات، وكأنّنه قماش قديم مبتلّ. رفعت جذعي لأفرَّ من السرير لكنّه لشدّة وهني استطاع أن يحاصرني، انكبَّ على جسدي. واجهتني قتامة وجهه، وهرولت نظراته الجامحة إلى عينيّ، ومثل نمر جائع أخذ يتخبّط بافتراس وليمته ولَعْقِ دمها. أطبقت جفننيّ كي لا أراه.
زممْت شفتيّ كي لا ينزَّ إليهما صديد فمه وكل أوراقي الناعمة المُؤتلقة بعطرها تنكمش على بعضها كي لا تتشرّب رائحته.
مزمومة كلّي بغلياني، أسمع طقطقة عظامه وهو يحرث الجثة التي سهّل العبد الشيطانيُّ فتح قبرها. عانى طويلاً في محاولته، وفي اللحظة التي انتصر فيها وأطلق شخرات لذّته كنت أنطفئ كقمرٍمهروس.
دفنت وجهي في الوسادة الحريريّة وقد أفلست في حبس نشيجي وتأوّهاتي، اقترب ثانية، شدَّ شعري الذي استشاط وتبعثر، لوى جسده ناحيتي وحدّق بوجهي بعينيه الخرزيّتين، وصوته الجاحظ من حنجرته:
- اكتمي . . أكره بكاء النساء.
22
لم ألتم أمره. كنت مثل سحابة مشحونة يُشعلها البرق ويُطلقها الرعد:
- وأنا أكرهك.
رفع كفّه، بسطها بقسوه على صدغي. فتناثرت نجوم سوداء أغشت بصري ولعْلعَ بصوته المحتد:
- من الليلة فصاعداً ابتلعي صوتك ودموعك.
* * *
ابتلعت صوتي، مُريّ دمعي، وحسرتي، وهو يقتات كلّما شاء من حريري، كما تقتات الدودة من جسد ميت. كنت أشعر أنّني أتعفّن، اكتظظت بالأوجاع، تخمّرت رئتاي برائحة القصر الذي لا تتنفّس فيه الجدران إلاّ عِلَلَها، وتتثاءب فيه أفواه التماثيل الجامدة تنزُّ صدأَ عصورها المنصرمة. لا أحد يدخل فيحمل إليَّ نُسيْمة شهيّة. ولا عصفورٌ يطرق الشبابيك المسوّرة. لم أقدر أن أُنشئَ علاقة بيني وبين أيّ شيء، حتى الخادمات كنت أحسّهنّ كالجلاّدات متأَهّبات لجلدي في أيّة لحظة يأمرهنَّ بذلك.
سكن كلُّ شيء من حولي. لم أعد أشعر بدفء الشمس، ولا بحنان القمر في الليالي التي يصاحبني فيها الضجر والكدر. حتى الحديقة الغنّاء المحيطة بالقصر، لم تكن لتبعث في روحي غير النفور. إن جلست على أعشابها الخضراء الناعبة أحسستها شوكاً ينغرس في لحمي؛ وحين أتلمّس الزهور من كل صنف ولون، أشعرها مثلي بلا لون ولا رائحة. كنت لا أجد الرائحة إلاّ حين
23
ألتصق بشجيرات الصبّار التي تسيّج سور الحديقة العالي، وأتذكّر همسة أبي الوحيدة التي همسها في أذني في زيارة من زياراته الشّهرية؛ وكأنّه سبر صعوبة الحياة التي أعيشها:
- كوني صبورة.
ولولا أن اقترب العجوز لكنت نطقت بحقدي عليه:
- هكذا إذن أردت لي أن أكون، شجرة صبّار تحتمل الجوع والعطش.
كنت جائعة وعطشى، محرومة من كل شيء، غزالة يتيمة تحتاج إلى حظن أم، وصوت إنسان يحدّثها، يؤنسها ويمسح على ظهرها المثقل.
كلُّ ما هُيئ لي في هذا القصر من ثراء وألبسة ومجوهرات لا يساوي شيئًا، ولا يطاول قامة حلمي الوحيد أن أكسر تلك القضبان ذات يوم وأفرَّ إلى حيث الحياة عطوفةً شهيّةً وصادحة.
أن أعود إلى بيتنا البسي الآهل بالحركة وضحكات أولاد أخي الذين كانو يتناثرون حولي يعبثون بأشيائي القليلة الغاليةعليّ، يشخبطون على أوراقي وكتبي المدرسيّة، يتقاذفون وسادتيويرتدون أحذيتي الرخيصة ذات الكعب العالي. لكنّه حرمني من رؤية البيت ومن أهلي. لم يكن يسمح لهم إلاّ بزيارة شهريّة لا يجالسونني فيها إلاّ في حضرته. فلا أستطيع أن أنبس، ولا أقوى أن أصرخ في وجه أبي ((وأتني حيّةً وظلمتني)). كانت ثورتي على أمّي وأبي تتراكم داخلي حتى أصبحت مثل جبل النار تجثم على صدري وتضاعف احتراقه، وكان لا بدَّ أن أحاول مع
24
العجوز في لحظةٍ من لحظات اختطافه المتعة من جسدي، فتوسّلته ذات ليلة:
- ولهْتُ على بيتنا. أرجوك. خلّيني أزور أهلي.
كنت كمن ألقى بعود الثقاب على كومة قشّ منقوعة في بركة بنزين. اشتعل غضبه وانطفأت نشوته:
- أنتنَّ يا بنات الفقراء؛ لا تملأُ النعمة عيونكنّ. تبقيْن أسيرات لبيوت الفقر!
- لكنّهم أهلي . . . . حرام أن تقطعني عنهم.
- سأقطع لسانك لو تلفّظت بهذا الطلب مرّة ثانية.
انحنيت على يديه . . . نزفت دموعي، استعطفته وأنا أعده:
- والله لن انطق بشيء عن حياتنا.
شدَّ شعري حتى كاد يفصله عن بصيلاته، فحَّ في وجهي:
- ما بها حياتنا؟ أنت تعيشين كالأميرات.
- أرجوك . . ارحم قلبي . . لا تكن ظالمًا.
صرخ وهو يدفعني:
- اخرسي.
هوت كفّه على وجهي وأردف الصفعة ببصقة نتنة. أسرع نحو الباب، أطلق صوته بالصراخ ينادي إحدى الخادمات، وحين اقتربت مهرولة؛ أمرها أن تنادي العبد. لم تمضِ ثانية إلاّ وكان يأتي كالبرق الأسود. للمرّة الثانية يقتحم غرفتنا، في المرّة؟هل سيأمره
25
بامتطائي عقابًا لطلب الذي اعتبره زلّة عظمى؟ لم تطل حيرتي، صوته يأمر العبد أن يأتي بالسوط!!.
أغرب العبد وكأنّ ريًا صرصرًا تدفعه . . . السوط . . يا إلهي! هل هو الذي كنت ألمحه يعلو ويهبط فوق ظهور الدواب؟
هل سيسقط الآن على حرير جسدي ويفتّق خيوطه؟ طار صوابي، هرعت إليه أتبعثر تحت قدميه كدجاجة أَزَفَ ذبحها، أخذت أتضرّعه مسترحمة، طالبة العفو لكنّه في كلّ محاولاتي كان يرفسني بقسوة وصوته أقسى:
- راح تشوفين كيف يكون الظلم.
حين دفع العبد الباب ودخل والسوط يتأرجح في يديه، تلقّفته بنظراتي المسترحة آملة أن يستيقظ حسَّه الإنسانيّ فيتمرّعلى سيّده ويتحالف معي ضذَ ظلمه. كان في وجهه بعض رمقٍ من حزن وأسف، لكنّه سريعًا أقبل ناحيتي. أدركت أن لا شيء في داخله سيتحرّك إىّ ضدّي وأن الكلب لا يعتاد إلاّ طاعة سيّدة، فررت ناحية الشباك أتمسّك بقضبانه لكنّه كان الأقوى. سحبني، قذفني بوحشيّة إلى الأرض وبدأ ينفّذ أمر سيّده اللعين، يؤرجح السوط على جسدي وكأنّ بيني وبينه ثأرًا بائتًا. كان في كل جلدةي\ يستحق آدميّتي ويزهق روحي. ظلّ يجلد حتى شعرت وكأنّه وصل إلى ذاكرتي وقشر كل بطانتها فلم أعد أتذكّر من أنا، ولماذا أنا هنا! كنت فقط أطلق صراخي كعواء كلب جريح طالبة الرأفة، العفو، المغفرة، لكن حبالها تقطّعت من كفِّ العبد وقلب العجوز. انهارت قواي، ترنّح صوتي حتى سقط.
26
لا أذكري متى أعتقني العبد من سوطه تاركاً جثّتي المتهاوية على أرض الغرفة. جسدي المرضوض يئنُّ بجروحه، وجهي المذاب بدموعه يحترق، روحي المفرومة من الألم تتنازعها مشاعر الذلِّ والحقد. نحيبي الصامت يتوزّع في ثغرات جسدي المبرقش بآثار السوط. نمتُ سابتة بين نبض القلب الواهن واللسان المقيّد بالصمت.
* * *
بعد تلك الليلة التي ظللت أعاني سكراتها، مرّ شهران لم يقاربني بها العجوز، ولم أر وجهه. وقد أراحني هذا رغم جراحي التي تولّت الخادمات تجفيف نزيزها وترطيب أورامها بالماء الدافئ والمراهم. كنت بين أياديهن كطفلة معاقة يقلّبن جسدي، يتفرّجن على جروحي، يستمعن إلى أنيني وهذرة لساني غير المنطوقة، يواسين حينًا وحينًا يؤنّبن عنادي ويطلقن نصائحهنّ إليّ بالصبر والانحناء لواقعي المرذ. لكنّني ما عدت قادرة علىاجتراع المزيد، غاب أهلي عن أساي، منع زيارتهم عنّي، وقلبي يرفرف بانتظار أن تطلَّ عليّ شمسهم التي غرّبتني وظلمتني. كنت بحاجة أن ألمس أياديهم رغم أنّها ملوّثة بثمني الذي باعوني به.
كنت أتوق أن أفتح صندوق قلبي المغلق، وأفتّت أورام لساني التي تليّفت، أكشف لهم ما يحلُّ بي من مظالم تشوّه جسدي وتدمّر إنسانيّتي، أستعطفهم ليخرجوني من بئري الآسن وأوكار وحدتي. كنت واثقة أنّهم لن يمدّوا حبال النجدة نحوي، فهم مثلي مكبّلون بالخوف منه. ما كنت أملك غير إطلاق الحرّية
27
لعقلي ليعرج بي إلى رياض الحلم بالهرب قبل أن تطوي عمتة الموت عمري ونور قلبي. لماذا أتركه مختالاً يحتكر حياتي داخل قصره الذي يُعطب روحي ويوشك أن يقتل جذوة صباي الجميل؟
الزمن ي . . . ز . . . ف . . . وأنا رهينة لأعتام الأيّام والليالي متشبّة بالصبر والصمت. أسبح في أفلاك حلمي الجائل في غيماته. يدفع بي إلى ابتكار طريقة للهرب. لكنّ الطرق كلها توصد، ومحاولاتي خائبة كسلي في مرابطها، وعمري المضغوط لا يتنفس إلاّ صلوات سرِّية تتوسّل معجزة ما لتنهي خسري، تُشعل صوتي، تقلعني من هذا القبر، وتبعدني عن هذا ((العزرائيل)) الذي يلوِّح باختطاف روحي. كان عليَّ أن أستنهض عقلي وأنهض بروحي المكتظّة بأعبائها لأكون قادرة على التفكير المتألّق الخلاّق فأضع خطّة لا تؤول إلى الفشل.
هو العبد المارد لا سواه، أقفال البوّابة الحديديّة – بوّابة الرحمة – بين يديه، ما إن يخرج سيّده حتى يسارع إلى قفلها، ولا يشرعها إلاّ حين يزعق بوق عودته.
حبكت رأس خطّتي، بدأت أخرج إلى الحديقة، أتجوّل في نهارات الشمس الربيعيّة، أتسلّى بمتابعة البستانيّ وهو يتعتني بالزروع المتنوّعة، حاذيته يوما وهو يقلّم صغار الأشجار ويلقي ببعض أغصانها إلى الأرض، أحسست كأنّه يكسر أجنحتي.
اعترضت فابتسم وقال:
- أغصان مريضة وتالفة، وإن بقيت تؤثر على الساق الأساس للشجيرة.
طويت ذراعيّ إلى صدري.كفّاي تطبطبان على كتفيّ، تهدهد حلمي وتحرس أغصاني.
في نهار آخر استفقت على صوت هدير في الحديقة، قفزت من السرير، أزحت الستارة، تركّزت نظراتي على آلة البستانيّ وهي تجتثُّ رؤوس الأعشاب، لم أكن من قبل قد اهتممْت بهذا.
لكنّه حلمي التائق جعلني أشعر وكأنّ الآلة تجتثُّ عمري، تقطع رؤوس أحلامي المضيئة وتكوّمها بلا حياة. ظللت أتابع المشهد.
أستعيد سنوات الحرِّية في بيت أبي وفي المدرسة، لقد أصبحت هي الأخرى مجرّد أكوام.
خرجت إلى الحديقة، تشبّعت أنفاسي برائحة العشب المجتث، اقتربت من تلاله الصغيرة المكتوّمة، ثويت على ركبتيّ، ملأت كفّي منه، قرّبتها إلى أنفي، استنشقت العطر بكل شهيّتي، غمغمت في سرّي ((ستجد هذه الباقايا طريقها إلى الحرِّية خارج هذه الأسوار. وأنا!! سأبقى العشبة الصفراء المنسيّة . . . . أيُّ يد قادرة أن تجتثّني من هذه الأرض؟)). حزنت على نفسي المنكفئة بيأسها، هل أترك لحلمي فرصة للبوار؟ صوت البستانيّ الممتدِّ أمامي بقامته وكرشه المتهدّل:
29
- عذرك سيدتي . . . سأنظف الأرض من هذه الأكوام.
جلست تحت المظلّة المنصوبة وسط الحديقة، تتواتر في عقلي مئات الأفكار، وتتقافز عشرات الحيل التي أتخيّلها تحرّرني من أسري. أشدُّ على رغبتي في الهرب فلا بدَّ أن تكون ساخنة وجبّارة وإلاّ لن أقدر على تحقيقها، وستظل الأصفاد تقيّدني إلى زمن لا أدري كم سيطول !!.
ظللت أواصل نزهتي وحديثي مع البستانيّ كلّما سنحت الفرصة بذلك، أسأله عن أنواع الزهور، أعمارها، مواسمها، كميّة المياه التي يحتاجها كل نوع منها. طلبت منه أن يعلّمني كيف أقطفها، وحين غزّت يدي شوكت غصن الورد الجوريّ دنا يعلّمني كيف أقطف وأتحاشى الأشواك:
- عليك أن تتقني فنّ القطف . . . . هكذا.
صكّ بإصبعيه على الغصن تحت الزهرة مباشرة . . . وأطبق بالمقصّ أسفل الغصن، كانت كفّي ملوّثة بدمها لكنّي أصررت أن أحاول ثانية فقد تفهّمت درسه ونجحت. بعث اهتمامي بالحديقة بعض السكينة إلى روحي، بدأت مثل الفراشة المشتاقة للعطر أعقد صداقة مع الزهور بعدما كنت لا أصادق غير شجر الصبّار.
لم يتبقَّ عليّ إلا أن أكسب صداقة العبد. بيده وحده يكمن صكُّ خلاصي وتحرير روحي. بدا لي الأمر صعبًا. فهذا الذي تغذّى على الطاعة الصارمة لسيّده يحتاج لجهد كبير كي يتصدّق عليّ بطاعة واحدة ((فتح الباب)). كنت ألمحه يجول حول السور
30
بقامته التي تكاد تطاوله. كان لا يتوانى عن رشقي بنظرات التوجّس، فلا أتردد أن أرشقه بابتسامات ناعمة أو نظرة ودودة.
كان عليّ أن أبدأ، أرتدي \عباءة المكر وأتقرّب إليه لأوهمه أنّني اعتدت سجن سيّده ورضيت به.
اقتربت منه ذلك اليوم، ألقيت عليه تحيّة الصباح، ردّ غير مصدّق أنّ سيّدته تتنازل وتحييه. اقترب أكثر، عابثت بعض الأغصان حيث يقف، وأطلقت سؤالي بكل الرقّة:
- منذ متى وأنت تعمل بخدمة سيدك؟
فرش ابتسامة تمازجت فيها الذّلة والحزن:
- من يوم كنت في بطن أمي.
تسرّب صوته إلى أذني مثل شهقة الموجة النعاسة، صوت رخيم الذبذبات حنون لا يشبه صوت أبي الحادّ ولا صوت العجوز الأجشّ، كان ردّه قد صدمني واستثارني الفضول:
- تمزح؟
قطب. تكرمشت جلدة ما بين حاجبيه:
- لا.
فسّر لي كلامك.
كان أب وأمي عبدين لسيّدي. زوّجهما. هكذا كنت عبداً له وأنا في بطن أمّي.
31
- آآه . . . فهمت . . . هل . .
وابتلعت سؤالي، نظرت إلى وجهه، تأمّلت تقاطعيه، عينان واسعتان بقليل من الجوظ، أنف عريض منفرش الفتحتين، شفتان غليظتان دون ترهّل لا تخلوان من جمال، لونه الأسود الذي أباحه عبدًا موروثًا يتماوج بصفرة غامقة عند الجبين وطرف الذقن. كان وجهًا جميلاً رغم سواده جعلني لا أنفر من النظر إليه وأنا أحدّثه، شعرت قلبي يشفق عليه رغم فعلته الأولى، حين أطلت النظر إليه نكس رأسه، أطرق بعينيه فبدت رموشه طويلة وكثيفة، كنت أنسى المهمّه التي رسمتها وسعيت إليها لو لا أنّه نطق وسألني:
أزعجني ردّه، هل حقًّا هو مقتنع أن لا شيء ينقصه، أم هو شعور بضآلة مكانته؟ سأله:
- وحريتك؟
فجر بضحكةٍ غريبة:
- هل تريني محبوسًا في قفص؟
32
شعرته يهزأمنّي، هل تراني عبثًا أحاول إيقاظ سواكن روح مفقودة؟ هل تراه لا يدرك أنّه إنسان يعيش على هامش الحياة، رجل بلا قيمة ورثه سيّده كما يرث الأرض والمال؟ هل يتخابث عليّ أم هو حقًا لا يحسّ طعم الأسر بعدما اعتاد حياته واستسلم لها!؟
ألقيت سؤالاً آخر:
تحبُّ سيّدك:
ارتسمت دهشة على وجهه:
- ليش ما أحبّه؟!
شعرت بحقد عليه، هل الأمر بديهيّ بالنسبة إليه؟ هل يولد حبّ الأسياد مع العبيد؟ ألا يدرك أنّ الدنيا تغيّرت وأنّ له الحقّ أن يكون حرًّا؟ لماذا هذه البلادة في الشعور؟ هل تواصل الأغصان تجديد جذورها القديمة وتظلُّ الشجرة في بقاعها حتى تموت؟ لم تفيد أسألتي مدام غير قادر على سبر مرمى السؤال، قد يكون راضياً بوضعه مستسلمًا لقدره. أحلامه لا تتعدّى أن يجد سيّدًا يُسكنه قصرًا، ويطعمه اللّحم، و . . . يهبه جسد زوجته في الليلة الأولى!. هل كنت أوّل جسد لامسه؟ هل كانت لذّته الأولى؟ ألم يشعر بعدها أنّ لجسده حقًّا عليه؟ أين يفجّر طاقته المكبوته؟
لم أشأ أن أُخضع نفسي لمزيد من التساؤلات غير المجدية، تركته وروحي تجول عالمه المبهم، وشفقتي عليه تتنامى، إنّه
33
سجين مثلي لا يملك أمر نفسه، فلماذا أقلق استسلامه وأحرّك بحيرات سكونه؟ إن كان لا يدرك معنى لحرّية نفسه فكيف سيتفهّم توقي لحرّيتي؟ شعرت بأنّني على وشك أن أخسر أوّل جولة في المعركة، لكنني قرّرت ألاّ أفقد الأمل.
في الليل، حين لفّني الصمت الفجّ، تداعت إليَّ صورة العبد الذي حتى اللحظة لا أعرف اسمه. بدأت أتخيّل أسماء تليق به:
مرجان . . عنتر . . مصباح . . فرحان، لكنّي فوجئت بعد أيّام وفي اقترابي الثاني منه أن اسمه:
عطيّة!
- ولماذا أسموك بهذا الاسم؟
ابتسم:
- أمي ظلّت لسنوات بلا حمل، وحين جئت قالت هذه عطيّة الله فصرت عطيّة.
- تحب اسمك يا عطيّة؟
- وليش ما أحبّه؟
بلادة أخرى تثيرني، هو دائمًا مستسلم لكلِّ شيء. أردت أن أستثيره:
- يعني هل كنت تفضّل أن يكون اسمك محمّد . . شاهين . . حسن؟
بالبلادة ذاتها:
34
- شنو الفرق؟ هو اسم والسلام.
أُسقط بيدي! هذا العطيّة لن يفهمني ولن يحاول، وسيظلّ في غفلة عن كل ما أريد.
اكتفيت بعد ذلك بأحاديث قصيرة متنوّعة معه، وارتحت لذلك الرضا الذي بدأ يشكّل لديه كلّما قابلته أو حادثته. كنت أحسّ شيئًا يدفعني أن أسمع صوته وكأنّني أتمّم لحنًا سمعته في حلم بعيد. بمرور الأيّام صار أكثر رقّة وانفراجًا. صار يطلق بعض أسئلة ساذجة، بدا أكثر اهتمامًا بوجودي، صار يحدّثني عن أبيه وأمّه، وحين يفعل كانت عيناه تغرورقان بالدموع. جرؤت وسألته:
- تشتاق إليهما؟
- كثيرًا . . لكن الحمد لله أنّهما ماتا.
- معقول !! هل كنت تتمنّى ذلك؟
طأطأ رأسه:
- لقد ارتاحا.
- من أي شيء؟
- كان سيّدي يضربهما بالسوط أمام عينيّ . . كنت أراهما يتألّمان وهو يدمي جسديهما.
طفرت أمامي تلك اللحظة التي ساطني بها بأمر من سيّده، إلى دمي من الغيظ عليه، رفعت صوتي:
- هل تقبل هذا الظلم من سيّدك؟ ألم تتذكّر لحظتها روح أمك تحت الصوت؟
انهمرت دموعه:
- يا سيّدتي نحن عبيد . . والعبد ما يقدر يخالف أمر سيّده . . لقد كنت أتوجّع.
وجدت في كفّي بحنان تطبطب على ذراعه، شعرته يرتاح ويغتبط، أردت أن أستغلَّ لحظته المنفرجة:
- ألا تفكّر كم أشتاق أنا لأمّي وأبي؟
أومأ بالإيجاب بهزّات من رأسه، فرحت. لكنّه سرعان ما أحبط فرحي:
- عليك بطاعة زوجك.
صرخت:
لكن هذا ظلم . . ظلم . . هل تفهم؟
- أفهم يا سيّدتي. لكن ما باليد حيلة.
رفرف عصفور النجاة في صدري، اقتربت منه، هدّأت من عصف صوتي:
36
- بيدك أن تساعدني.
قفز مننقطة وقوفه حتى تخيّلته ابتعد آلاف الأمتار، انتظرت حتى هدأ:
- إيه يا عطيّة تستطيع أن تساعدني.
أطلق سؤاله وكأنّه يتمنّى لو يفعل:
- كيف؟
- تتركني أخرج لأزور أهلي حين يغيب سيّدك عن القصر.
بحلق بوجهي غير مصدّق، مسعورًا من شدة الخوف، فاغرًا فمه دون نطق، ونظرته تنفث رشحاً من اضطراب نفسه. أخذ يلتفت نحو الأشجار كمن يخشى أن تلتقط عصافيرها حوارنا الذي لم يتوقّعه، هبط بنبرة صوته. بشبه همس:
- سيّدتي .. شنو تقولين؟ والله يذبحني ويذبحك.
أردت أن أهوّن عليه:
- لن يعرف يا عطيّة . . أخرج بهدوء، ساعة وأرجع.
هز كفه بعصبيّة:
- لا . . . لا . . . لا يمكن.
ابتعد وما زال رأسه يهتز مثل ((الزّممبلك)).
هل خسرت المعركة ثانية؟ وهل حكم عليّ أن أبقى في علم من ورق، وأعواد، وظمأ؟
رفضه القاطع هشّم بعض أضلاع حلمي. خشيت أن يسيطر
37
عليه الخوف من فكرتي فيتحاشى الاقتراب مّي أو الحديث معي، وبهذا أخسر اطمئنانه إليّ وفرحة بتنازلي عن مقامي كسيّدة له.
في الليل ضجّ صرير الصمت من حولي، كانت له شهقات أشبه بأبواب تُفتح وتُغلق وتسرّب إليّ شخير العجوز مثل رسائل التهديد وكأنّه اكتشف خطّتي. ظللت قلقة، قضيت ليلة شائبة مرهقة ولا شيء أراه في فضاء الغرفة الموحش سوى وجه عطيّة ورأسه المتحرك باللاءات. ظللت مؤرّقة أنتظر الصباح بفارغ صبري لأتأكد بأن عطيّة لم يتغيّر ولم تهاجمه جحافل الخوف منّي فيبتعد وأخسر خطوة حلمي الأوّل.
* * *
صباح الخير أيّها العصفور . . .
((سِوْ . . سِوْ . . سِوْ . . .))
أجابني العصفور كعادته كل صباح، أصْفُرُ له، فيتقافز داخل القفص يردُّ عليّ بزقزقاته الحنونة. تعمّقت علاقتي بعصفوري منذ أن بدأ يعتاد صوتي ولا يخاف. في زيارة أهلي الأولى أهدته لي زوجة أخي وهي تمتدحه ((له صوت عجيب سوف يؤنسك بتغاريده الأحلى من الموسيقى)). لكنّ العصفور لم يفعل، ظلّ صامتًا رغم كل محاولاتي. كنت أقترب من القفص يلوذ بطرفه. أطرق برؤوس أصابعي طرقًا ناعمًا، ينتفض جسده، يقشعرُّ ريشه ويتقافز كالمخبول. وحين أمدُ يدي داخل القفص لأضع له الحبوب والماء يتكرمش في الطرف ولا يتحرّك إلاّ حين أبتعد. انتظرت طويلاً دون
38
يأس. كنت متلهفة لسماع صوتهالعجيب الذي جعل زوجة أخي تؤثرني وتهديني عصفورها. ظللت أحاول ولا أفلح. حتى كان ذلك النهار الذي تعبّأت فيه روحي بالقرف بعد أن لامسني العجوز فجراً. لم أقترب من القفص، لم أضع الحبوب والماء، لم أصفر، ولم أطرق بابه. فجأة تلوّن سكون الغرفة بتغريد آسرٍ هزّ روحي المنطفئة وجسدي الحائل إلى الموت. شعرت بأنّ الدنيا كلّها تفتح شبابيكها وتغدق غرفتي بآلاف الطيور، لم أصدّق أنّ ما أسمعه من نغمات صادر من حنجرة واحدة. كان يتقافز بشكل يختلف عن قفزات الخوف. هل تراه سعيدًا بألمي؟ أم تراه افتقد قربي ولون وجهي؟ فكّرت: هل أقترب منه أو أظلّ هاجعة في نقطتي التي تسمّرت عندها؟ كنت فرحة بنطقه الأوّل فخشيت إن اقتربت أن يهلع ويخرس فأحرم من موسيقاه المذهلة. انتظرت ليتعب ويصمت فأقترب منه. فإن كان يريدني سيواصل، وإن كان مصدر سعادته في ابتعادي عنه فسوف يصمت. كان عليّ أن أمتحن نواياه. قمت متثاقلة متحذّرة. اتبت بخطوات متّئدة وهو لا يزال يطلق موسيقاه. وصلت . . احتضنت القفص بكفيّ، طل يغرّد، صفرْت فأطلق صفيراً. كرّرت فاستجاب. فرحت. شعرت بمعول السعادة يشقّ له القنوات داخل روحي وينتشي في كل شراييني. منذ ذلك اليوم الذي أدخل فيه البهجة إلى جفاف أيّامي؛ وهو لا يصمت، إلا حين أطفئ كل َّ أنوار الغرفة. صرنا صديقين. ألفَ كفّي التي تدسُّ إليه الحبوب، كان أحيانًا ينطُّ عليها يلتقط الحبوب قبل أن أضعها في الوعاء المخصّص لها. أداعبه، أحاول اصطياده لأحسّ بدفئه وأبدّد بعض برودتي، يستسلم لحظة ثم يقفز إلى الخشبة
39
منتصف القفص. كثيرًا ما كنت أجلس قبالته وهو يواصل غناءه وتغريده وأحتار: لماذا يغرّد؟ كيف لمن خُلقت أجنحته للتحليق والنور أن يشتهي الغناء؟ كيف لمن هو وحيد مثلي بلا أنيس ألاّ يشعر بالحزن ويلوذ بالصمت. هل اعتاد الأسر وارتضاه أم تراه يزاول مهنة الصبر ويسلّي نفسه بالطريقة التي يجيدها؟ هل مات حلمه بالحرّيَّة أم ترى هذه الزقزقة والألحان حبّات أحلامه المقتولة؟ هل نسي رؤوس الأشجار وأوكار الإناث الدافئة؟ لماذا لا تكون تلك التغاريد توسّلات وأمنيات أن يخرج ويطير؟ روحي الكارهة للأسر دفعتني ذات صباح أن أطلق سراحه. فتحت كل نوافذ الغرفة. كانت الشمس دافئة، السماء زرقاء صافية، وهبوب النسائم يحمل عطر الحديقة. نهار تحقّق فيه كل منابع التوق إلى الحرّية. فتحت القفص، وضعت الحبوب والماء وتركت الباب مفتوحاً. جلست أنتظر وكلُّ ظنّي أنّه سينطلق من الباب إلى إحدى النوافذ فارًّا بفرحه وغنائه، لكنّ المفاجأة ألجمتني. خرج من قفصه، طار في أرجاء الغرفة، يعلو، يهبط، يصفر، يحطُّ على أعمدة السرير ويطير . . على طرف الأريكة ويطير. كان في تجواله يحاذي النوافذ المفتوحة ولا يخرج. ثم، وكمن أرهقه التجوال، اندفع داخل القفص واستقرّ ساكنًا. هو وعطيّة وأنا، ثلاث أرواح أسيرة، هذا الذي أفتح له أبواب الدنيا ليخرج يتأبّى ويعود إلى القفص. وعطيّة لا يتوق إلى التحرّر من السيّد، لكن روحي وحدها تكره الأسر، تحلم بنوافذ وأبواب مفتوحة، تحلم بجناح أقوى من جناحيّ نسر.
* * *
40
بعدما مخَطَ مرّتين، استدار إليّ. بدأت أجهّز نفسي لاستقبال ليلة مقزّزة كتلك السابقات التي يأتيني فيها بعد انقطاع فأحسُّ وكأنّ جسدي على وشك السقوط في بالوعة منسيّة. أستعد بذلّي لما يشبه سريان الدود داخل حلقي، ودبيب صراصير جائعة على رخام ساقيّ ولدونة بطني. أستسلم لكفّه بلا حنان تهرش مناطقي البليدة، ولجسده القنفذيّ ينهال عليّ بلا مقدمات، ولعرقة المالح يتقاطر إثر محاولاته الصعبة قبل أن يتقيّأَ نُطَفُهُ المريضة، ولصرخاته المجهدة حين يطلقها فور الانتهاء. تبقى رائحته تنهشني فلا أنام. لكنّه تلك الليلة وبعدما استدار إليّ شعرت بأنّ لديه حاجة أخرى يتأهّب للإفصاح عنها. حين لم أحرك ساكنًا، ركّز عينيه حيث كانت تحطّان على عصفوري الوادع في قفصه، أشار بإصبعه نحوه:
- هذا العصفور مزعج. صوته يصل غرفتي أحياناً فأفزع من غرقة النوم.
لم أرد. احتدَّ صوته بعض الشيء:
- طيرّيه وريّحيني منه.
حطت عيناي على النافذة المفتوحة. وددت أن أحكي له حكايته الغريبة حين رفض الخروج. لكنّني فضّلت ألاّ أكشف سرّ العشق الذي بيني وبين عصفوري فقد يسيئه هذا فيظلمنا معًا. حين طال صمتي وتحديقي بالنافذة التي تتراقصستارتها جذلانة، دفع بذراعيّ آمرًا:
- قومي . . اغلقي النافذة.
41
دون اعتراض قمت وفعلت . . ما إن ركنت رأسي على وسادتي حتى انكبّ بوجهه فوق وجهي وقد اتّكأَ على كوعه الأيسر. جائني صوته متذمّرًا:
- أراك تكثرين هذه الفترة من الخروج إلى الحديقة.
توجّست شرًّا. لكنّني تماسكت:
- لم تكن قد أمرتني بعدم الخروج.
- لا أمانع أن تتسلّي . . . ولكن!
ابتعد. أسند رأسه على ظهر السرير وشبه غضب في صوته:
- لا داعي للسوالف مع المزارع والعبد.
آآخ يا عطيّة الكلب! لا تكتم أمرًا عن سيّدك.
هكذا راودني تفكيري في اللحظة الأولى. فأردت أن أتأكّد من ظنوني:
- كيف عرفت؟
هزأ من سؤالي، وبغرور أعجف:
- تحسبيني غافلاً عمّا يحدث في بيتي؟
- تصدّق كلام عطيّ.
- العبد لم يقل شيئًا.
سكت ثانية ثم أردف:
42
- حتى حين سألته حلف أنّها مرّة أو مرّتين.
لم أصدق! عصفت بداخلي غبطة حارة طردت عقدي الكامن على عطيّة. تصوّرت لو أنّه يقف الآن أمامي لما تردّدت أن أركض إليه، أتعلّق بعنقة وأهديه قبلة الشكر. لقد كذب ععلى سيّده لحميني من غضبه أو ربما خشي إن هو اعترف بعدد المرّات أن يحرمني سيّده من الحديقة فيحرمه بذلك من وجودي، ومن حديثي الطريف معه. هل يشفق عطيّة عليّ أم تراه أحبَّ رقّتي التي لم يعتد على مثلها في هذا القصر المتحجّر كل شيء فيه؟ امتناني الذي زها لعطيّة، جعلني لا أهتمّ أن أسأل عن الشخص الذي فتن عليَّ – ربما إحدى الخادمات – المهم أنّه ليس عطيّة، وهذا سيشجّعني على الوثوق به أكثر وقد يلين بعد ذلك ويساعدني.
غبطتي المتوارية داخلي أدفأتني، جعلتني أسلّم عجوزي جسدًا أقل يباسًا وأكثر رقّة بعكس ما عوّدته فانتشى سريعًا ولم يقدر على إخفاء فرحته:
- أشوفك الليلة غير شكل.
أمسكت بتلابيب فرصتي:
- الهواء والشمس يجعلان الوردة تتفتّح.
أطلق ضحكات إعجاب، طبطب على فخذي:
- زين . . زين . . كل يوم إمشي في الحديقة بس . . . ها . .
وكأنّه ندم حين رأى الفرح يمسُّ وجهي فنبّهني أمرًا:
43
- بس مالك شغل لا بالعبد ولا بالمزارع.
لا يهمُّ الآن . . . ليرعد بأوامره كما يشاء مادام أطلق الإذن لي أن أتفتّح في الحديقة. غادر إلى غرفته. تلك الليلة تركني لا كما يتركني في كل مرّه حانقة قرفانة أسارع إلى الحمّام لأشطف عن جسدي بقاياه وروائحه وأظل أنهش بلحم مشاعري المهانة، تلك الليلة تغيّرت حالي. ظللت رابطة في السرير، فردت ساقيَّ ودراعيَّ حتى ملأت مساحة السرير العريض، تقلّبت عليه تقلّب مهرة مولودة للتوّ، لم أقم لأغتسل وكأنّ جسدي لم يمُسَّ ولم يتلوّث ويُهن. وبعكس كل الليالي التي تمنّيتها أن تطول لأنام وأختصر زمن أسري. الليلة اشتهيت أن يطلع الصباح باكرًا.
* * *
عطيّة . . .
غرّدت باسمه وأنا أشير إليه ليأتي، فأقبل طائرًا مثل عصفورٍ سعيد. حدّقت في عينيه فارتبك وكأنّه حدس بشيء. بادرني معترفًا:
- أمس لمّا سألني سيّدي والله ال . . .
قاطعته بإشارة من كفّي ليهدأ. أهديته إبتسامة حقيقيّة وأنا أشعر بإمتناني الشديد له وطمأنته:
- صدّقك سيّدك . . . وسمح لي أن أخرج كل يوم إلى الحديقة.
انفلشت أسارير وجهه، تبدّد ارتباكه وربما خوفه. نهنه بضحكة خافتة. قال:
44
- أنا مسرور لأجلك.
تخابثت أداعبه:
- لأجلي فقط؟
لم ينبئ سواد بشرته إن كان قد تورّد من خجل أو فرح. فرّمن أمامي بعدما لحظت ارتعاشه. ناديته:
- تعال.
عاد مسرعًا. وقف مرتعشًا. وعيناه مطرقتان.
- قل للخادمة أن تأتيني بالشاي هنا.
وأشرت إلى المظلّة.
غادرني وإحساسي بفرحته يقوّيني. ويفتح المزاليج أكثر لأواصل لعبتي معه حتى ينتصر على خوفه ويفتح الباب فأنتصر على سجني.
جلست . . شعرت بالنسيم الربيعي يلملم عطر الحديقة كلّه وينفذ إلى صدري، تتّسع رئتاي وتتفتّح الرغبة أن أتأمّل كل ما حولي، نبات الصبّار المجدّلة أغصانها تغطّي السور بكلاحة أوراقها السّميكة وغلاظة أشواكها، تحرسه بصمتها وصبرها الذي لا يشابه إلا صبري الثقيل، أشجار النخيل الباسقة يهتدّل سعفها كضفائر نساء لا تجرؤ يد على لمسها أو قصّها، حطّت عيناي على شجيرات الفلى الحاملة ورودها البيضاء والأرجوانيّة. كنت أحبُّ رائحتها لولا أنّ أمّي حين رأتها ذات يوم في مزهريّة غرفتي
45
أصابها ذعر جعلها تلقي بها من النافذة وهي تقول ((هذا النوع من الزهور لا يوضع إلاّ على القبور)). حين عبرت تلك الذكرى، حوّلت بصري عن ورود الشجيرات التي نشأ العداء بيني وبينها منذ ذلك اليوم. حطّت عيناي على أحواض فم السمكة والقرنفل والبانسيه . . كانت ألوانها المتعدّدة باهرة، والفراشات الرشيقة تتطاير حولها وعليها بأجنحتها الزاهية، أخذت أتأمّلها، كم هي رهيفة وناعمة، ما نبست حتى من رفيف أجنحتها! هل خُلقت الفراشات بلا صوت؟ وهل كتب عليّ في هذا القصر أن أمارس صمت الفراشات؟
شعرت بالغضب المتراكم في صدري يغلي ويفور، ليس على نايف العجوز بقدر ماهو على المتسبّبين لي بهذا الواقع المرير: أبي وأمّي. آآآه يا أمّي. ماذا تراها تفعل الآن؟ أكيد كعادتها في ثوب البيت، تنقر الكوسا وتعجن لفطائر السبانخ، أو ربما تهيّئ لأبي فتّة الباذنجان التي يحبّها، قال لي أبي ذات مرّة (( أمّك غيّرت من طباعي، بعد (( المكبوس)) . . و ((المطبّق)) و ((الجريش))
عوّدتني على أكلات بلدها، ونسيت أكلاتنا)).
* * *
لم أكن أدري كيف تزوّج أبي بأمّي. لكنّها ذات مرّة كانت تتسامر وزوجة أخي وهي تحيك خيوط الصوف. كنت على جانب الأريكة أقرأ رواية الأم لمكسيم غوركي. سمعت تطلق نهدة ((آآآه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أكلات شعبية كويتيّة.
46
على أيّامك يا حلب)) سألتها زوجة أخي ((بعدك يا خالتي تحنّين لتلك السنوات؟)) نهدة أخرى من أمّي ((يا بنتي الوطن غالي رغم هذا العمر في الكويت، لكن سبحان الله يطلُّ لموطن الطفولة والصبا عطره الخاص)). تحرّشت بها زوجة أخي (( هل كنت تتمنّين لو تزوّجت – حلبيًّا – وبقيت هناك؟)) شهقت أمّي كمن يطرد تهمة ((ولوْ! بعد هالعمر أندم؟ يا بنتي وين بياخدك قلبك بيكون بلدك)).
لكزتها زوجة أخي مداعبة ((كيف تزوّجت عمّي ؟)) أطلقت أمّي ضحكة أشبه بالتغريدة وكأنّ ذكرياتها التي استفاقت تدغدها قالت ((نصيب يا بنتي . . . نصيب)). تحرقتُ لأعرف الحكاية، طويت الكتاب، قفزت من مكاني والتصقت بأمّي، جرؤت أن أقول (( يبدو أنّ لك حكاية مشوّقة!)) ساعدتني زوجة أخي بفضول لا يقلّ عن فضولي ((إيه خالتي إحكي لنا)). حوصرت أمّي بإصرارنا لكنّها بدت وكأنّها تتمنّى أن تنبش أقفاص ذاكرتها وتنثر حبوبها الملوّنه.
لم تكن بحاجة لمزيد من الضغط عليها، لكنّها أبعدتني عنها. وقفت واتّجهت إلى المطبخ وكمن تخاطب نفسها ((خليني أول أقصّر شعلة البوتوغاز حتى لا تنحرق الطبخة ويزعل أبوك)).
كانت أمّي، رغم الحبّ الذي بينها وبين أبي، تخاف منه، ألحظها دائمًا تساير مزاجه وتوافق آراءه حتى دون تفكير. الكلمة التي يقولها تمشي عليها كما تمشي علينا وإن كان فيها بعض القهر لنا. أوامره تلبّى وطلباته لا تردّ. رغم ذلك كنت أرى أمّي سعيدة وراضية، لا تتذمّر، لا تغضب، ولا تشكو أوجاعها وكأنها
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الخليج يطلق على أم الزوج لقب خالتي وعلى أبي الزوج عمي
47
اقتنعت بنصيبها واعتبرت أنّ هذا هو شكل العلاقة الزوجيّة الأمثل. أحيانًا حين يصرخ تبدو وكأنّها لا تسمع الصراخ، تظلّ هادئة أو تربّت عليه بكلمات بسيطة لتهدّئه ((طوّل بالك شوي)) أو ((كل شيء بيصير هدّي حالك)) كنت في داخلي أحنق عليه. أتمنّى لو أردّ على صراخه بالصراخ، لكن خوفي لم يكن بأقلّ من خوفها، قلت لها ذات مرّة ((لماذا تسمحين له بأن يهينك أمامنا؟)).
غضبت وصرخت في وجهي ((أبوك يوجّهني لا يهينني . . ثم هذا ليس من شأنك)). كانت تلك آخر مرّة أقضُّ فيها مضاجع استسلام أمّي. وها إنّني وزوجة أخي نقضُّ نةم سنواتها لتفتح لنا صناديقها المغلقة وتنبش ذكرياتها. عادت من المطبخ ولا يزال البشر يلوّن وجهها، جلست. أمسكت بسنّارتها تحيك وتحدّثنا:
(كان فوق بيتنا طابق مفروش يؤجّره مالكه كل صيف. وكان ذلك الصيف من نصيب عائلة ((أبو محسن)). زوجته، ابنه الكبير محسن، وثلاث بنات، وآخر العنقود أخ صغير. كان عمري حينذاك سبع عشرة سنة، أنهين الثانويّة بجدارة ,احلم أن أنتسب إلى الجامعة. لكن أمّي كانت تحلم بأن تزوّجني ابن خالتي المهندس. في اليوم التالي لسكناهم صعدت لأتعرّف عليهم، غضب أمّي ونبّهتني ((هؤلاء أغراب ولديهم شاب في البيت لا تعاودي الكرّة))، كنت قد تعرّفت على أخته التي تماثل عمري، احتججت: ((البنات لطيفات والكبرى بمثل سنّي))، أصرّت أمي: ((ولو ... إذا أردنَ صحبتك ينزلنَ عندك فأخواك صغيران)). نزلت البنات، توطّدت علاقتنا، صرنا نخرج معًا، أعرّفهن على معالم
48
حلب، نتجول في الأسواق ونجلس في المقاهي المتناثرة. ثم تشكّلت علاقة حميمة بين أمّي وأمّهُنَّ، صارت أم محسن ضيفة يوميّة على أمّي، تجلسان لساعات تتحدّثان وأحيانًا تتشاركان في لف ورق العنب. صارت تتعلّم من أمّي فنون طبخنا وتعلّم أمّي طبخات كويتيّة، وتطوّر الأمر فصار أبو محسن ينزل مع محسن يسهران مع أبي في الشرفة الواسعة يلعبون طاولة أو يتناقشون في أمور عديدة. في تلك الليالي كنت ومحسن نتخالس النظر والابتسامات. نسج الحبُّ خيوطه سريعًا. وقبل نهاية الصيف بقليل كان أبوه يخطبني من أبي. وافق أبي لكن أمّي رغم حبّها لعائلته صاحت وناحت: ((كيف تغرّب البنت؟)). كنت أراقبها من شقّ الباب، أنتفض خائفة أن تؤثّر على أبي فينصاع لها وأتعذّب أنا. كان الحبّ قد ترسّخ في قلبي المراهق، وسافرت بي أحلامي صوب دوحة محسن، فلم أعد أتصوّر العيش من دونه. لكن قلبي ارتاح بد سمع صوت أبي حازمًا واثقًا وهو يتمسّك بقراره قال: ((ناس طيبين، أحوالهم جيّدة، ويحبّون البنت)). لم تيأس أمّي حاولت: ((نحن لا نعرفهم إلاّ من شهرين. ما أدرانا كيف حيلتهم هناك)). أبي أسكتها بحركة من يده: ((شوفي. لا تحاولي. أعطيت كلمة ولن أتراجع فيها. زينب لمحسن)). تحجّجت أمّي: يمكن البنت تريد ابن خالتها)). عوج أبي شفتيه هازئًا من غفلتها: ((مصيبة أنّك لم تشعري بميل ابنتك إلى محسن)). ذهلت أمّي. صمتت لحظة ثم أشارت عليه: ((يمكن تهيّأ لك)). ضحك أبي: ((روحي اسأليها وستعرفين أنّني على حقّ)). لم تفلح أمّي. زغرد قلبي. تمّ الزواج بسرعة. غادرت حلب ودموع أمّي تغسل وجهها
49
وهي توصي أهل محسن بي وتأخذ الوعد منهم ألاّ أنقطع عن زيارتهم كل صيف).
لم تغب عنّي حكاية أمّي التي تزوّجت من الرجل الذي أحبّته وتغرّبت لأجله وعاشت معه كل هذه السنوات على الحلوة والمرّة، ممّا دفعني تلك الليلة التي آزرت فيها أبي ليزوّجني من العجوز أن أختلي بها، أبكي بين يديها، أوسّلها وأذكّرها:
- أنت تزوّجت أبي برغبتك.
- ((كان النصيب))
- ليش ما تقفين معي؟
- هذه قسمتك ونصيبك.
تزوّجت شابًّا وتزوّجيني كهلاً قبيحًا؟!
فوجئت بلمعان غريب يشعُّ من عينيها وما توقّعت أن تقول:
- ((عنده مصاري كتير، بكره بتعيشي أميرة)).
- ((طيّب بكره بيموت وترثي أمواله)).
عصفت بي الدهشة. لم أكن أتصوّر أنّ أمّي تملك شهوة للمال تجعلها ترسم لغدي ما يفسد حاضري، كانت كمن ترقص على أحلام مجهولة فقصفت ظهر حلمي. تحقّق لها ما أرادت. تزوّجتُ العجوز نايف، لكنّني لن أنتظر بهذا العذاب حتى يموت فأحقق حلمها بالإرث.
أقبلت الخادمة بالشاي، وضعت الصينيّة، أسقطت حبّت السكر
50
في الفنجان، مالت بخرطوم الإبريق، أخذ الشاي ينسكب بلونه الشفّاف ناثرً بخاره الذي فاحت رائحته وتسرّبت إلى عمقي، فشعرب بدفء غريب أسرى بحلمي إلى حيث تواجهني البوّابة الحديديّة المغلقة، وأمنية تترنّم في صدري ((من لي بريش الطير يكسو جلدتي فأطير)).
* * *
كانت رغبتي في الخلاص من العجوز وقصره قد سيطرت بكل أبعادها عليّ وتملّكتني، لكن عطيّة يرفض خيانة سيّده. آخر مرّة جالسته في الحديقة كنت أنوي أن أستخدم معه لعبة أخرى جريئة قد تفيد مع محروم مثله. الإغراء بالجسد! ألَمْ أُرغم على أن يلامس جسدي عنوة؟ تأمّلته وهو يجلس على العشب قريبًا من قدميّ حارسًا يقظًا أمينًا. قدّمت له قطعة من كعكة البرتقال الهشّة، تردّد. أصررت عليه ففعل خجلاً. أمسك الصحن وثمّة ارتجاف واضح في كفّيه. بدأ يلتهمها رغم أنّه لا يعاني من جوع.
شحنت صوتي بالدلال:
- لذيذة؟
سريعًا ابتلع حشوة ثغره، وقال:
- شكرًا . . لذيذة جدًّا.
بدأت لعبتي:
- في الحياة يا عطيّة أشياء كثيرة لذيذة، بعضها نراه، نتذوّقه، وبعضها يغيب عنّا.
51
بحلق بوجهي بغرابة أشبه بالهبل. أدركت أنّ طاقة فهمه لا تستوعب، قلت:
- أنت مثلاً يا عطيّة . . محروم من المرأة . . كيف تبقى بدونها؟
لم يكن يتوقّع كلامي وسؤالي الجريء! شرق بفتات الكعكة.
انتابه موجة سعال متلاحق وشهقات طفرت معها دموعه ومخاطه. سارعت إليه أضرب على ظهره. هدأ. قدّمت إليه كوب الماء، عبّه بشراهة، استلّ شهيقًا عاليًا. فاجأتني نوبة ضحك.
كنت فرحة بسلامته متأثّرة بمنظره المثير. التفت نحوي:
- سيّدتي . . . كدت أموت.
أظهرت اهتمامًا شديدًا:
- سلامتك من الموت . . لكن كيف شرقت؟
طأطأ وقد عقد ما بين حاجبيه:
- سيّدتي كلامك صعب و . . .
تملّكني نزعة لإثارته:
- هل ذكر المرأة يهزّك بهذا الشكل؟
- سيّدتي . . أرجوك . . ما أنا إلاّ عبد لا يحقّ له كسر الحواجز.
تصنّعت الغضب:
52
- عليك أن تجيب عن السؤال.
أسقط رأسه بين ركبتيه المتباعدتين، ضغط عليه بيديه، أدركت فظاعة الخالة التي يعانيها، حاولت أن أعطيه مفتاحًا للحديث:
- ما طلبت من سيّدك أن يزوّجك؟
أتى صوته مدوّيًا من أعماق جبّه:
هو يزوّجني على كيفه بين فترة وأخرى.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. كاذا يخفي هذا العطيّة من أسرار؟ هل من كوارث أجهلها؟ رغم العاصفة الهوجاء التي حاصرتني تماسكت. جرؤت. مددت أطراف أناملي، شددت شعره الأجعد، لم أرحم ارتجافه، همست بعذوبة:
- هيا يا عطيّة . . فضفض عن نفسك، أطلق همومك التي تكاد تخنقك.
كان الذي قاله عطيّة أشبه بالحكايات الخرافيّة، لم أشعر بالغيظ الحارق على العجوز بقدر ما شعرت به على نفسي الغبيّة، كيف لم ألحظ هوايته بتغيير الخادمات، بين فترة وأخرى! كيف لم أحدس أن يكون في الليالي التي لا يقارب فيها فراشي ولا يتلذّذ بطعم فاكهتي؟ كيف لم أشعر بتقلّبات الخادمات من يأتين منكسرات، مهلهلات بأسمال بلادهنّ القريبة والبعيدة ثم يصبحن كالفراشات ملوّنات بالثياب وبالأصباغ، حتى طباعههنّ تتغيّر؟
كيف لم ألحظ تحوّل نبرات أصواتهنّ من الهدوء والخنوع إلى الفجور والضحكات الصاخبة، ودعاباتهن الوقحة التي ألتقطها
53
مصادفة من المطبخ أو من حجراتهنّ المتناثرة في الدور الأوّل!
بل كيف غاب عنّي ذلك الاصطفاء الواضح منه لجورجيت الصارخة بأنوثتها التي تتعمّد إبرازها ليلاً ونهارًا. كانت ترتدي التنانير القصيرة أو البنطلونات السترش التي تلتصق بفخذيها وتبرز استدارة مؤخرتها. وبلوزاتها الفاقعة التي تكشف عن صدرها وذراعيها. ولا تكتفي بذلك فطرقها في الإثارة متعدّدة، طريقة مشيها المثير ودلعها والتأوّهات الشبقة في صوتها. كنت لا أطيقها. ليس غيرةً بل حقدًا عليها منذ أن رفعت صوتها ذات مرّة حين أنّبتها بشكل إعتياديّ ما كانت تعترض عليه. لكنّها ذلك اليوم استنسرت ولم تهتمّ لوجوده معي في الصالة. صرخت لأخرسها فما كان منها إلاّ أن دفعت الطاولة الصغيرة حيث وضعت الشاي وقلبتها على السجادة، تصوّرته سيهبّ ليصفعها.
يبصق في وجهها. يرغمها على الاعتذار أو يطردها من القصر كلّه. لكنّه لم يحرّك ساكنًا، ظل يقلّب بأوراقه ويدسّها في حقيبته التي لا تفارقه. أردت أن أقتصَّ لنفسي، هببت لألحق بها والنار تغلي في عروقي عازمة على شدّها من شعرها وصفعها، لكنّه في تلك اللحظة فقط استفاق من غفلته المتعمّدة. صرخ:
- وين رايحة . . تعالي.
التفتّ إليه حانقة:
- سأدّب هذه الكلبة.
أظهر كل ما لديه من غضب:
- ارجعي . . ما لك حق عليها. أنا من يُؤدّب هنا.
- إذن قم . . أرني كيف ستؤدّبها.
نفض الكلمات بوجهي:
- أعرف متى وكيف أؤدّبها، لا أنتظر أوامرك، هيّا عودي إلى مكانك.
كان لا بد أن أستعيد كرامتي المطعونة. انتظرت إلى الليل حين استفاقت حاجته إلى جسدي فتمنّعت. ولأنّه كان في قمة اشتهائه، انتهزت الفرصة. ظللت أرفض وهو لا ييأس وحين صرخ:
- وتاليها معك؟
قلت:
- لن تمسّني حتى تردّ لي كرامتي وتطرد تلك الخادمة.
بدأصبره ينفد:
- أنا الذي يقرّر. الخادمة ستبقى. ياليتك تصيري مثلها.
قفز من الفراش بعدما لسعني بتلك الكلمة التي لم أكلّف نفسي بمجرّد استعادتها وتقليبها لأكتشف الخافي من الأمور. كان كل ما يهمّني أن يغادرني ويريحني من طريقة افتراسه لجسدي. وآآآه . . كم كنت موهومة. تناسيت أنّه الأعجف القادر على مذلّتي وكسر نفسي وكرامتي. حسبت أنّني سأنام مرتاحة وما ظننت أنّ تلك الليلة ستكون أكثر الليالي رعبًا وغرابة!!. بعد دقائق دفع
55
باب غرفتي، استويت في فراشي وإذا به مع جورجيت بقميصها الأحمر الشفّاف القصير. رغم ما سبّبه لي منظرها من قرف فإنّ الفرح غلب عليّ، ها هو يشدّها من فراشها لتأتي وتعتذر، فرحت. تصوّرت أنّني استطعت ولو لمرّة أن أحقّق رغبة في نفسي، أن أجعله ينصاع لطلب منّي، وما كنت أحسب أنّ هذا الحضور المفاجئ كان فصلاً من فصول استبداده وشذوذه!! كانت ضحكته أوسع من عرض وجهه:
لم أدرك معى كلامه. ولم أكن أتخيّل أيّ شيء من الذي حدث!!
دنا من السرير. أزاحني إلى طرفه، خلع ملابسه وأمرها:
- تعالي.
اقتربت بدلال وقح، حطّت على السرير بجانبه وهي تتدلّع ((تكرم عينيك)). أشار إليّ وهو يقول لها:
- ورّيها كيف تكون المرأة.
قفزت من السرير ملسوعة، اتجهت إلى الأريكة قرب النافذة أرتعد مثل فأرة تطاردها مئات القطط المتوحّشة، حاولت أن أجنّب عينيّ النظر، لكن عنف المشهد مثل سنارة حادّة انغرزت
56
في لحمي وأخذت تسحبني إلى اللّجَجِ الثائرة. ما الذي تفعله تلك المرأة المتجرّدة من كل خجل؟ كيف تستعذب الفعل دون تباطؤٍ ولا قرف!! صوته الأجشُّ وهو مأسور بوحُّش جسدها يصارع ليخرج إليّ:
- شوفي . . . تعلّمي.
هل فقد عقله حتى يتصوّرني أستطيع مضاهاتهابهذه اللعبة القذرة؟ هل يمكن لي أن ألوّث روحي وجسدي كما تفعل؟ كانت جورجيت أشبه بلعبة جائعة، وكان هو أشبه بالطريدة تستهويالعواء. خمدا. والنار فيّ لم تخمد. عرق مهانتي وروعي يغرقني، يثير قشعريرة برد وغثيان مُر. أدركت انّ لديه افتنانًا كبيرًا في تعذيبي وجرح كبريائي. أمرها أن تخرج، لم تفعل الحقيرة أنتسدّد لي نظرة متعالية وشامتة، وقف يرتدي ثيابه وصوته كالموسى يذبحني:
- حتى لا تحسبني تمنّعك عنّي يهمني . . شفتي الحريم الجارّات، مو مثلك لوح ثلج.
خرج من الغرفة، صفق بابها، تاركًا خلفه صمتًا كثيفًا.
للصمت صدى غير مسموع، كآبة غير ملموسة ظلمة غير مرئيّة، وأنا في أحشائه مضغه مرّة عسرة فاقدة لكل خصائصها.
يعصر رئتيّى، يفرغهما من هوائهما، يضخّمهما بدخان غليظ يدقُّ كل عصب في جسدي فأحسّني مشلولة عاجزة. ظللت على أريكتي متهككة الروح، هشّة العظام، نازفة دم كرامتي المهدورة،
57
جاحظة غير مصدّقة أنّ عينيّ قد شاهدتا هذا الفعل الفاحش.
شيء واحد كان يردّ عنّي شقاء اللحظة، أنّني لم أقدّم له جسدي يومًا إلاّ قطعة من الثلج والحجارة.
منذ ذلك اليوم تحاشيت جورجيت. لا أنده بإسمها إن احتجت طلبًا، لكنّها كانت تتعمد استباق التي أناديها كما تودّ إغاظتي وإثارة أعصابي. فأظلُّسم الأخرى محتقرة حضورها. فتنسحب بعدما تطلق ضحكة فاحشة توحي بأنها في الأصل كانت مومسًا أو راقصة رخيصة في ملاهي بلدها.
كم كنت بلهاء . . مخدوعة! ما الفرق بيني – أنا السيّدة – وبين الخادمات حين يكون السيّد مشتركًا؟ حين يكون في فراشهنَّ البسيط كما في فراشي الوثير! أيّة قذارة كان يحملها إليّ من صدأ ثغورهنَّ وسيول فروجهنَّ؟ كيف وهو الفاقد لفحولة الرجال يقدر أن يوزّع جسده وهواه بين نساء القصر؟ وهذا العطيّة المسكين الفاتح الأوّل لقلاع سيّده الموصدة. يفعل مع كل واحدة ما فعله بي في ليلتي الأولى.
وأنا . . . !!
الغبيّة التي ظننته محرومًا من اللّذّات فجئته لأستثيره لعلّه يفتح لي بوّابة الرحمة التي ستطلق روحي إلى النور. مثله مثل سيّده. يخوّض في المجاري المتاحة. يكتفي بفعل الحرام الموهوب إليه ولا يداعبه الحلم أن تكون له زوجة وأطفال أحرار لا يرثهم سيّده. حقدت عليه، تأسّفت أنّني ساعدته لينجو من شرقته. ليتني تركته يموت لكي لا أكتشف هذه القمامات التي أعيش فيها
58
. نظرت إليه وهو ذليل في جلسته قرب قدمّي يرتجف بعد أن كشف الستار والأسرار. لم يتمالك. سقط برأسه فوق ركبتيّ وتوسّل!
- أرجوك يا سيّدتي . . لا تخبري سيّدي بما قلت.
نفضت رأسه عنّي وكأنّني أنفض بزّاقة رخوة. قذفت إليه بوعدي:
غرب عن وجهي. نيران غضبي تتأجَّجُ وتحرق بقيّة صبري.
قرّرت أن أتحدّى العجوز وأتحدّاه. أبحث عن وسيلتي الخاصّة لأخرج من حاوية القمامة.
* * *
59
كان بمقدوري أن أستغلّ اعترافات عطيّة، أهدّده ((إن لم تساعدني على الهرب سأخبر سيّدك بكل ما تفوّهتبه)) لكنّني لم أفعل. فأنا التي يستحق الظلم روحي لا أستطيع أن أكون ظالمة.
إذغ عرف العجوز فلن يرحمه، سأكون قد خرجت من الأتون فرحة بخلاصي مخلّفة روحه المأسورة تئنُّ وتلعنني وتطاردني فلهيب يوجع ضميري فلا أهنأ بحرّيتي، عطيّة لم يخطئ بحقّي، هو مجرّد فاعل وشاهد، عليّ أن أشكره رغم الذي أصابني من تلف، فهو قد حفّزني أكثر لأفرَّ من هذا الجحيم.
في اللّيل فكّرت: هل أخرج من القبر عارية حتى من كفن؟ أم أتدثّر بالأشياء الثمينة التي أغدقها عليّ العجوز، لم تكون تلك الماديات التافهة أغلى عليَّ من عمري . . لكنّني، ورغم احتقاري لها، قرّرت أن آخذها معي.
قمت إلى خزانتي، أخرجت الصندوق الثقيل الذي تربض فيه كل مجوهراتي، فتحته، تلألأتأمام عينيّ أصنافه: ذهب، ألماس، ياقوت، فضة وعقيق. أصابني غثيان شديد، فهذا اللألاء لم يستطيع يومًا أن يدفئ بردي ويسعد قلبي، أو يجعلني أهب جسدي طيّعًا ليّنًا ومهادنًا لرغبات العجوز. كانت هوايته اكتناز
60
المجوهرات في خزانتي، حين يحملها إليّ ويفتح علبها المخمليّة يأمرني بتعالٍ شديد أن أنظر إليها، يشعرني، بكلمات كالإبر، بأنّه يتصدّق عليّ، وحين لا يلمح اهتمامي وابتهاجي بما أرى يعفس وجهه، ينفض أصابعه الذابلة في وجهي ويقذف كلماته ((بنت فقر ماتعرفين قيمة الأشياء)) كنت أفرح بغضبه، أهينه وأنتقم لكرامتي حين أجعله يشعر بأنّ مال الدنيا كلّه لا يهزّني ولا يدخل أيّ بهجة إلى حياتي. أتمادى أكثر، ألقي بها في الصندوق بلا اكتراث وأغلق عليها. وفي داخلي كنت أشعر بالأسى لأنّها في الظلمة قابعة مثلي، لا تتحرّك.
تلك أوّل مرّه أُخرجها، أتفرّج عليها، وأتسائل في سرّي: ((أليست هذه بعض ثمن عمري الذي دفعته؟ أليست هي بعض الإرث الذي حلمت به أمّي والسطوة التي أرضخت أبي فقدّماني لقمة وضحيّة؟ هل أعود اليهما عارية من ثمني؟)). أفرغتها كلّها في حقيبة جلديّة وجهزتها للحظة الهرب.
لم أنم . .
أحسست بحكاك شديد في جسدي، كأنّ آلاف الحشرات التصقت به : برغش، بق، جراد، صراصير، نمل وديدان من كل الأشكال. وكأنّني حين لامست تلك الأشياء المريضة قد أصُبتُ بعدوى غريبة. تكالبت عليّ مخاوف تتلاطم في فراشي. هل سأنجح في خطّتي أم سيصطاد عطيّة رائحتي فيلاحقني ويفضحني بنباحه؟ إنّها فرصتي الوحيدة، لا أريد أن أفشل فيها وإلاّ سقطت في الحضيض وعلى روحي السلام.
61
تناهى إليّ صوت الأذان حنونًا فائضًا بالنور والرحمة، تسلّل إلى عمقي، انفرش هالات تضيء بداخلي فتشعُّ سعادة غريبة في كياني وروحي. أسرعت إلى النافذة، فتحت الستارة وأطلقت بصري إلى السماء. كان غبش الفجر كالغلالة الفضيّة، ثمّة نجمات تأخّرنَ عن الرحيل، وجدتني أهمس بكل ما أوتيت من احتياج لخالق الأرض والسماء ((يارب . . .)) التمعت نجمة، كرّرت ((ياربّ)). ومع نهاية الأذان ((لا إله إلاّ الله)). شعرت وكأنّ ضفائر النور كلّها مدلاة نحوي.
انسحبت إلى فراشي وإحساسي أنّ المساحات الضيّقة في داخلي تتسع،وأنّ الهواء الموبوء داخل رئتيّ ينقشع ويحتلُّ مكانه الهواؤ النقيّ. شعرت أنّ روحي أكثر قوة، وجسدي أكثر بأسًا. استلقيت على فراشي، تمدّدت بكل اإتجاهات سعيدة بامتلاكي له وحيدة دون وجه العجوز، لكن السؤال قرصني ((أين تراه الآن؟ مع زنّوبة! أو جورجيت! أو صوفي؟)) . . . بقدر ما استطعت طردت المشاهد المتخيّلة من رأسي واستعدت خطّة هربي. تأكدت أنّني أحكمت كل خيوطها وردمت كل ثغراتها محاذرة من أي نأمة قد تشي بأمري. ظللت متوجّهة بكل مشاعري إلى الله. أرجوه أن يكون نصيري ويفتح لي الطرق الآمنة.
هي فرصة واحدة . . .
كنت طوال الأسابيع السابقة لهربي أراقب أوضاع البوّابة، أدرس جيّدًا الزمن الذي تُفتح فيه واللّحظات التي تُترك فيها حرّة قبل أن يزنّرها عطيّة بالسلاسل والقفل الكبير. هي دقائق كخطفة
62
العين، حين يصل العجوز يركض عطيّة، يفتح البوابة، تدخل السيّارة، يركض خلفها، ينتظر حتى يترجّل سيّده منها ويسلّمه حقيبة الأوراق ثم يعود ثانية ليغلقها. مسافتي وزمني قصيران، كل ما يتوجّب عليّ عمله هو الإختباء قرب البوّابة، خلف أشجار الصبّار، لأطلق ساقيّ في اللحظة التي يهرول فيها عطيّة خلف سيّده قبل الإغلاق. ماذا عن عيون الخادمات؟! لابد من إشغالهنَّ بأيّة طريقة. لا أريد لواحدة منهنَّ أن تخرج إلى الحديقة لأيّ سبب. أريد أن ينشغلن عن وجودي تمامًا قبل مجيء العجوز. الأمر يحتاج إلى تدبير وخطّة أخرى لا تخرّ من ثقوبها أيّة غفلة.
في اليوم المرصود افتعلت ثورة داخل الصالون الكبير الذي كنت لا آبه بنظافته لشعوري بأنّه لا يخصّني. فهو مجرّد مساحة باردة مليئة بالأثاث الفخم والتحف والسجّاد الفاخر. تنازلت عن كراهيّتي الثقيلة نحوه، تفقّدته فإذا بالغبار ينام عليه، ناديتهن، ركضن نحوي وأنا أمرّر بأصابعي على الغبار، أصرخ وأقذف بالأشياء حتى خلقت فوضى تحتاج لساعات حتى يستتبّ وضعها.
أمرتهنّ أن يتركن كل عمل آخر ويتعاونّ في إعادة الصالون نظيفصا ومرتبًا.كان الغضب والإستياء يرتسم على وجوههنّ لكنّهنّ التزمن بالأمر وبدأن. وهكذا أمّنت وقتي. أسرعت إلى غرفتي، ارتديت ما خفّ من الثياب، حملت الحقيبة الجلديّة وقبل أن أترك الغرفة ركضت إلى عصفوري. كان منكمشًا حزينًا كأنّه شعر أنّ لحظة فراقنا قد أزفّت. مددت كفي داخل القفص، استسلم لها
63
طائعًا، قرّبت ثغري من منقاره فأخذ يصفر صفرات موجعة.
همست له ((علينا أن نحرّر معًا)). دنوت به من النافذة، فتحتها، صار يرفرف بجناحيه محاولاً التملّص من قبضتي ليطير إلى داخل الغرفة. اندفعت دموعي غزيرة، قرّبته إلى وجهي وأشبعته قبلات الوداع الأخير ثم أطلقته من يدي. شعرت بأنّني اقتطعت قطعة من قلبي وحذفتها. أطلقت ساقيَّ إلى البوّابة العتيدة تدفعني رياح التوق إلى الحرِّيَّة والشمي والهواء النقيّ.
عطيّة كعادته مثل هذا الوقت، يؤدّي صلاة الظهر. اختبأت بحذر خلف أشجار الصّبار. كان الشوك ينغرز في لحمي فلا أكترث. انتظرت بارتجافي وقلبي يقرع حتى خشين أن يدلّعلى مكاني. هدير أعصابي يحاصرني لكنّه لا يتغلّب على عنادي وتصميمي، كانت لحظة الخلاص أقوى من خوفي المسيطر. لن يحتاج الأمر إلاّ لخطفة عين أنسلُّ فيها خارج السور مثل دودة تنسلّ من قلب ثمرة عجفاء وأنتظر حتى يغلق عطيّة البوّابة ويبتعد. فأطلقُ روحي إلى الحياة. تلك الدقائق كانت زمنًا رهيبًا قاصفًا لكنّه ما استطاع أن يميد بخلاياي المتيقّظة حتى حانت اللحظة الحاسمة.
نجحت . . نجوت . . تحرّرت. أسرعت خطوتي كعاصفة إلى الطريق المحاذي للبحر، كنت أشبه بمجنونة مفلوته من غياهب مصحٍّ عقليّ، حذائي يلعق تراب الطريق حتى وصلت تحت العمّال الهنود والآسييويّون. التقطت أنفاسي وشحنت قدميّ ثانية لأتجاوز مسافة الطريق. أحدهم صرخ بلكنة عربيّة متعثّرة ((ألحين يجي باص)).
64
بآآآآص! أيُّ باص هذا الذي سأتحمل رحلته الطويلة ووقوفه عند المحطّات المزدحمة! أحتاج لصاروخ يشقّ الفضاء . . لطائرة تقتحم الريح . . لسيّارة عجولة تخطفني من فنطاس القهر إلى الرميثيّة حيث بيت أبي الذي لا أدري كيف يستقبل فعلتي.
الصيف حارق، الشمس فاتكة، والعرق ينبع مثل شلاّل هائج ليغرق جسدي، لكنّه لا يستطيع أن يبلّل جفاف ريقي. احتملت العطش والحرارة وأنا أستنجد بذراعي نحو السيّارات الفارّة وكأنّ شياطين تلاحقها. أشتمها بسرّي وأتوسّل الله أن يسوق إليّ من امرأة كانت تصدمني. زعقت عجلاتها وقبل أن تلوط بلسانها كنت أفاجئها وأنقذف داخل السيّارة بمنظري الغريب، أوسّلها:
- أرجوك . . هناك من يطاردني، خذيني إلى بيتي.
لمحت خوفًا وريبة على وجهها. تأكّد ذلك حين فاح صوتها:
- آخذك إلى المخفر.
صرخت:
- إياك أن تفعلي . . هيّا سأدلك على بيتي.
استسلمت لأمري، ربما تصوّرت أنني مسلّحة فخافت. كان وجهها الكركميّ ينبئ بذلك، وقد ارتحت لخوفها، فهذا سيرغمها أن تواصل سيرها. كنت أشعر بفضولها العنيف يكاد كل لحظة يبقر بطنه ويقذف بسؤال. لكنّني لم أترك لها فرصة. كنت سارية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفنطاس والميثيّة مناطق في الكويت.
65
بوجهي نحو الطريق لأدلّها كيف تتوجّه: ((من هنا . . هذا الشارع . . يمين إلى تلك المحطّة . . الآن إلى اليسار . . هنا عند تلك العمارات . . ادخلي يمين . . عند ذلك البيت ذي الحجر الجيري الأصفر قرب الشجرات المائلة)).
أربع سنوات إلا شهورًا ثلاثة. لم تصافح عيناي شارعًا ولا مباني ولا سماءً غير تلك التي أراها من نافذة القصر. تصوّرتني سأنسى الطرق التي ستوصلني إلى بيت أهلي لكن حلاوة الروح التي ارتدّت إليّ لحظة الهرب أيقظت كل تلافيف ذاكرتي، فتحت الخرائط المغلقة وبعثت بروائح زمني القديم حيث تربّيت، وكبرت، وسمنت . . وباعوني. حين توقّفت السيّرة عند الباب نزلت وحشوت رأسي داخل السيّارة، أردت أن أشكر المرأة بالطريقة التي وجدتها كفيلة بأن تجعلها تشعر بالأمان والراحة. كل ما كان يهمّها هو أن تعرف سرّ هذه المجنونة التي فرضت نفسها عليها وجعلتها ترضخ لأمرها حتى أوصلتها. نطقت بصوت يلامس البكاء:
شكرًا . . سيجازيك الله خيرًا. إنّني هاربة من بيت زوجي إلى أهلي. لقد أنقذتي حياتي.
مع الدهشة التي ارتسمت على وجهها انطلقت ضحكتها:
- أيا . . الشيطانة!! منظرك كان يؤكّد أنّك هاربة من عصابة.
أكثر . . والله كان أكثر . . شكرًا لكِ.
أخرجت رأسي وركضت صوب باب البيت.
* * *
66
فاح عطر شقّتي. ملأَ صدري بنسيمٍ هو خليط من رائحة وحدتي وأماني وحرّيتي. ارتميت على غطاء سريري الوردي، أغمضت عينيّ، وبدأت أسترجع ما قاله الطبيب. كفّي تتحسّس عنقي حيث تخبئ داخله حنجرتي، وحبال صوتي. هل تُراني تأخرت؟ الطبيب بعد أن فحصني أكّد أن لا وجود لأورام. ((هي زوائد أشبه بالجلي الرَّخو ولا بدَّ من إزالتها)).
قبل شهرين، حين صرخت بإحدى طالباتي المشاغبات، اختلّ توازن صوتي، بدا مبحوحًا خشنًا أشبه بصوت الرجال. خرجت من الفصل، اتجهت إلى المستشفى الحكوميّ حيث يعمل هذا الطبيب. غرفة الإنتظار مكتظّة بالنساء المنقّبات والمحجّبات، وبالرجال ذوي اللحى والدشاديش القصيرة. كنت الشاذّة الوحيدة التي تجلس ببنطلونها القصير وبلوزتها ذات نصف الكم.
الممرّض ذو اللحية الطويلة يخرج بين لحظة وأخرى لينادي اسم إحداهنَّ أو أحدهم، ينظر نظرة حاقدة ويقول:
- انتظري . . جئتِ بلا موعد.
فرغت الغرفة، توقّعت أن يناديني، لكنّه خرج تقدّمه الطبيب
67
بلحية طويلة هو الآخر. وقفت فلم يتوقّف، ركضت إليه وصوتي بالكاد يخرج من حنجرتي:
- دكتور . . أرجوك.
هشّني بكفّه:
- شوفي طبيب آخر . . مواعيدي انتهت.
تركني مطروحة بحيرتي وغاب.
ذهبت إلى شباك الإستقبال، تفرّست في وجوه العاملات باحثة عن وجه حنون أوسّم خيره، وحين وجدته:
- من فضلك أريد أيّ طبيب.
انهش وجهها:
- من ساعتين كنتِ هنا وحوّلناك إلى دكتور عبدالرحمن.
- رفض بعد كل هذا الإنتظار.
- أكيد ((هو متعصّب شوية)) لا يرحّب بالسّافرات.
- لكنه طبيب وواجبه أن . . .
قاطعتني:
- يا أختي هذا طبعه. حتى الممرّض . . .
حدقّقت بي . . وأكملت:
أظنّك لا حظت، نفس النوعيّة.
68
- والآن . . أرجوك.
- ولا يهمّك سأحوّلك إلى طبيب مصري طيّب وخدوم.
فحص حنجرتي بدقّة وأخبرني أنّني أعاني من تضخّم في الحبال الصوتيّة ثم طمأنني:
- لا يحتاج الأمر الآن إلى عمليّة. فقط العلاج مع الامتناع عن التدخين.
لم ألتزم بالامتناع عن التدخين. بعد شهور كانت حالة حنجرتي تسوء فوجدتني مضطّرة أن آخذ بنصيحة من عانى مثل حالتي، وأن لا أُسلّم حنجرتي إلاّ إلى الدكتور عبدالرحمن.
كيف سأعود إليه وهو الذي لا يرغب في إستقبال السافرات أمثالي؟ تردّدت لكنّني ولحاجتي إليه اتصلت فجاءني الرد:
- لقد استقل من المستشفى وفتح عيادة خاصّة.
طرت إلى العيادة في السالمية. عمارة فخمة مليئة باليافطات الحمراء بأسماء الأطبّاء. دخلت باب العمارة، الأرض رخاميّة لامعة،على يميني صيدليّة فخمة. انتظرت عند باب الأسانسير طويلاً. أحدهم نزل من الدرج. لفتني أنّ الأسانسير معطّل.
اتجهت إلى الدرج أقطع المسافة إلى الدور الثالث. عيادة رقم 8.
دخلت.
عاملة الإستقبال محجّبة.
- صباح الخير.
69
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لم أستغرب طريقة ردّها على تحيّتي. قلت:
- أريد أن أقابل الطبيب.
- لحظة . . أعبّئ لك البطاقة.
- لأ . . لو سمحت قبل أن تعبّئ البطاقة أريد أن أراه.
استغربت:
- ألم تأتي للعلاج؟
اضطررت أن أكذب:
- بل لموضوع خاصّ.
هزّت برأسها. تركت مقعدها. خرجت من بابها الجانبي متّجهة إلى غرفة الطبيب بعدما ألقت عليَّ بأمرها مشيرة إلى صالة الإنتظار:
- لو سمحت انتظري.
انتظرت وألف وسواس يتناطح في داخلي، هل إذا أعطته تفاصيلي سيرضى أن يقابلني؟
فوجئت بها مبتسمة تشير إليّ:
- تفضّلي.
بعض ارتعاش أصابني، توقّعي أن يرفض إستقبالي زال. فماذا عن توقّعي يعالجني؟ هل سيتكرّم عليّ بذلك؟!
70
طرقت الباب ودخلت. وقف وصوته طلق عذب:
- أهلاً وسهلاً . . تفضّلي.
وأشار إلى الكرسي المقابل.
جلست غير مصدقة هو نفسه، بطوله، بلحيته المنزلقة تغطّي كل عنقه. يرحّب بي، يدعوني إلى الجلوس. الصورة القديمة تأتي، تتحرّك من اليمين إلى اليسار مخترقة صورته الجديدة أمامي. هل تراه يتذكّرني؟ لا أحسبه كذلك. ففي ذلك اللقاء الماضي لم يكلّف نفسه حتى بالنظر إلى وجهي. ما الذي تغيّر؟
هناك في المستشفى كان طبيبًا، وهنا في عيادته هو طبيب أيضًا!!
لم يحتجْ استغرابي إلى عصر ذهني. الأمر واضح، هو هناك طبيب حكوميّ يقبض راتبه فيصبح من حقه أن يقبل أو يرفض، هنا هو صاحب مصلحة، عيادة خاصّة تدرُّ عليه من آلام الآخرين، مستعدٌّ أن يقبل أمثالي ممّن لا يلتزمن بالزيّ الذي تقبله قناعته. الأمر الذي حيّرني أكثر؛ هذه الوداعة والإبتسامة والترحيب وما تلاها من حديث رقيق، وخفّة ظلّ واضحة، وفحص دقيق حنون جعلنيأحدّق به أكثر. ألتقط تفاصيل وجهه: عينان واسعتان جميلتان، رموش كثّة ملتوية، أنف دقيق طويل بعض الشيء لكن باستقامة شامخة، شفتان بارزتان ورديّتان، ولحيته التي رأيتها جميلة غير تلك التي نفرت منها أوّل مرّة.
وجدتني أرتاح إليه وأوافق على التفكير بإجراء العمليّة.
قبل أن أغادره حزينة على صوتي، ناوشتني نفسي أن أذكّره بذلك اليوم البعيد، لكنّي تراجعت، خشيت أن يتأذّى فيرفض أن
71
أكون واحدة من زبائنه حتى وإن كان المبلغ الذي سأدفعه بدل أتعاب العمليّة كبيرًا.
أخذت أقلّب أموري. الحيرة تتنازعني. هل أجري العمليّة أم أهرب، هل صحيح ما قاله إنّني إن لم أفعل سيتحوّل الأمر إلى عقبى غير حميدة؟ لن أهرب من قدري. ما أعانيه شيء بسيط لا يدعو للهرب، ذلك الهروب من قصر العجوز كانت دوافعه ضروريّة، كان يجب أن أحاوله منذ الشهور الأولى. لا أدري لماذا صبرت طيلة أربع سنوات!! لو كنت قادرة على استشراف مستقبلي - المضيء – بعد الهرب لكنت فعلتها. لقد حرّرني هروبي. ليس من حياة القصر وحدها. بل من أدران العجوز ذاته.
* * *
72
أخذت أطرق الباب بتلاحقٍ مجنون. حين فتحت أميّ الباب شقت غير مصدّقة. تمنّيت في لحظة أن تفتح ذراعيها لأسقط بينهما عصفورة متعبة لألقى الحَبَّ والدواء لكنّها لم تفعل. اندعت إلى الباب تطلُّ إلى الشارع متوقّعة أن يكون العجوز بأثري، وحين لفحها فراغ الشارع صفقت الباب بعنف وصرخت بأعلى صوتها:
- ((يا مجنونة! شو سوّيتي؟))
ألقمتها ردّي بحنق وصراخ مماثل:
- هربت . . . هربت.
ضربت بكلتا كفّيها على رأسها:
- ((يا خراب بيتنا. بدّك تعملي لنا مشكلة مع جوزك؟))
وأعْلتْ بصوتها تنادي أبي:
- ((تعال شوف بنتك وعملتها السودة.))
خرج أبي بسرواله والفانيلا، صوت أميّ يعلمه خبر هروبي خلال عبوره المسافة ما بين الغرفة ومكان وقوفي حاضنة حقيبتي
أمّي خرجت حاملة ثياب أبي وهو يهوي عليّ بالكلمات القاسية وأنا أتوسّله:
- أرجوك . . أرجوك اسمعني فقط. اعرف حكايتي وتعاستي ثم احكم عليّ.
زمجر بصوته:
لن أسمع أيّ شيء. ستعودين إلى زوجك ورِجْلِكْ فوق راسك. انطلقت من مكاني إلى أمي الواقفة، احتميت خلف ظهرها، قبّلت كتفها توسّلتها:
- أرجوك يا أمّي قولي له أن يهدأ ويسمعني. لن تصدّقا ما ستسمعان.
هبط الغضب بوجه أبي. أمّي بادرته:
74
- ((خلينا نسمعها وبعدين نتصرف)).
جلسنا صامتين، فتحت قربة سنواتي أمامها دون أن أهمل نقطة ولو بحجم حبّة رمل . . أفشيت أسرار الأيّم والليالي منذ الليلة الأولى التي فتح عطيّة فيها قلعتي؛ وما تلاها من أشكال القهر والظلم؛ وجلدي بذلك الصوت ومشهد الخادمة في فراشي واعترافات عطيّة لي بكل ما خفيَ عنّي. كنت وأنا أحكي أشبه بذبيحة معلّقة بسيخ حديديّ يدور فوق ألسنة النارتشويه وتحرقه.
وبصوت أليم نحو أبي:
- لقد بعتني يا أبي وعذّبتني.
أحنى أبي رأسه، وأمّي كفكفت دمعًا انساب صادقًا، همستْ لأبي:
- ((يا روح قلبي شو اتعذبت)).
ثم هدرت بصوتها وهي ترفع كفّها في وجه أبي:
- ((هذا حيوان. والله ما بترجع)).
شعرت في لحظة أنّ عاطفة أمّ ي كلّها تتحوّل تجاهي. انتهزت الفرصة، ركضت إلى الحقيبة، فتحتها، أفرغت محتوياتها على السجادة، تناثرت وكأنها الأخرى سعيدة بلإفراج عنها، ملأت الدهشة عيناي أمّي، انخطفت كلها إلى ذلك اللألاء الباهر، غادرت أريكتها، انكفأت على ركبتيها تُناثرها وتقلّبها كأنّها على شاطئ جزيرة مسحورة تنبر رمالها وتتكشّف كنزًا دفنته الساحرات وصوتها المذهول بين شهقاتها:
75
- (( يا الله! شو هاد؟))
صوت أبي الجشّ يكشط غلاف أذني:
- وليش جايبه هالبلاوي معك؟
أمّي اعترضت وهي ترفع كمشة من الكنز بين كفّيها تقرّبها من نظر أبي:
- (( بلاوي؟ هاي بتسوالها ألوف)).
خرج صوتي رخوًا:
- هذا حقي . . ثمني الذي دفعته من عمري. خذوه وأعطوني حرّيّتي.
أبي الذي أثاره كلامي اعترى وجهه الغضب. أشار لأمّي:
- أعيديها إلى الحقيبة واجلسي نفكّر ماذا نفعل بهذه المصيبة!
لم يشر إليّ، فلم أكن المصيبة التي حطّت عليه. بل تلك التي ينتظرها . . ردّة فعل العجوز حين يكتشف هربي ويأتي ليدوس على رؤوسنا.
أخذ أبي يطرق بكفّه اليمنى على فخذه بعنف وعصبيّة واضحة، بينما كفّه الأخرى تدق على زاوية رأسه كأنّه يريد فتح صواميل عقله التي شلّتها المفاجأة باحثًا عن مخرج يقيه شرّ العجوز. أمّي توجّست خوفًا على أبي من الموقف. قامت إليه، جلست على طرف الأريكة، حاوطت بذراعها كتفيه، وحاولت تهدئته:
- ((صلِّ على النبي يا رجل . . كل عقدة وإلها حلاّل)).
أمّ التي عادت إلى مكانها مقابل أبي دقّت بكفّها كمن تدقُّ كومة ثوم:
- ((غضبٍ عنه يرضى والاّ المحاكم بتشوف شغلها)).
كنت بين أمّي وأبي أشبه بطريدة محاصرة يستديان وسيلة للخروج بها من خيوط الشبكة الخشنة دون أن تجرحهما أو تلتفّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مثل كويتي
78
عليهما. وأنا تنقلني أفكاري إلى حيث القصر، أتخيّل وقع فعلتي على العجوز وعطيّة والشرّ القادم إليّ. ثم أرتدُّ إلى مشهد أمّي وأبي الحائرين بين الرضوخ لنجدتي أو إلقائي في براثن العجوز.
وقلبي المتأسّي يتواصل دعائه أن يضخَّ الله الرحمة في قلب أبي ليشفق عليّ وينجدني مكفّرًا بذلك عن جريمته الظالمة بحقّي.
الوقت يمرّ عاصفًا رغم انسياب الهدوء المؤقت. أبي يوصل نفيخه وهو يردّد: لا حول ولا قوة إلاّ بالله . . حسبي الله ونعم الوكيل . . ماني قادر أصدّق كل هذا يطلع من شيبة النخرة .. وين أروح بعمري؟ . . شقدر أسوّي . . هذي مصيبة وطبّت على راسي. أمّي بكلماتها تطبطب عليه:
- ((هدّي يا رجل . . الله يعينك، بدّك ترحم حال هالبنت المنكوبة وترحم حالك. يعني شو بدّو يسوّي؟ رح يقطع روسنا؟ الله يقطعه. ةاحد نّل وبلا ضمير. لازم يطلّقها ورجله فوق رأسه. أنت بس خلّيك قوي. ما تخاف لَوْ شو ما عمل. هدّده بالمحاكم، اللي مثله ما بحب الفضايح)).
هما في الفكرة، وأنا ف السكرةالكاوية أدوخ. أتمنّى لو تحدث معجزة ما تخرجنا من هذا الطوفان الجارف. كنت من طرف خفيّ ألمح وجه أبي المصفر، أحسّ بأوداجه تنتفض، وبأنفاسه تضطرب وهو يسترق النظر إلى وجهي المُربدِّ حائرً بين أن يشفق عليه أو يحقد. يصارع كي يستقرّ على حال، وأنا !! تتكلني الوسواس: هل تنتصر أبوّته ويخلّصني رغم كل الذي سيناله من عقاب العجوز؟ أم تنتصر أنانيّته فيعاود بيعي ليأمن
79
الشرّ؟ شفقتي تزداد عليه رغم أنّه سبب مصيبتي وسبب ما نحن فيه الآن. في داخلي إحساس إنه يميل إلى مساعدتي، لكنّي لم أُؤمّل نفي بشيء حتى لا أصاب بالخذلان منه. بعد صمت قاسٍ خرج صوته وكأنّه قادم من عمق بئر. خاطب أمّي:
- الأفضل أن أذهب إليه. سأحاول التفاهم معه بهدوء.
أمّي وافقت وكأنها وجدت حبل النجدة:
- ((أحسن . . والله بيعينك. المسألة مش سهلة)).
قبل أن يتحرّك أبي زعق جرس الباب متواصلاً مُتّحِدًا بطرقات الأيدي العنيفة وكأنّ خلف الباب من يطلب النجدة من أمر جلل.
انتفضنا ثلاثتنا كمن مسّنا تيّار كهربيّ، أدركنا أنّه العجوز بعاصفته. وطأة المفاجأة شلّت أبي. أمّي وهي تحاول أن تتماسك أشارت له أن يفتح الباب. ركض أبي، شفقتي عليه تتفاقم، ما الذي سيواجهه الآن؟ أمّي دفعتني وصوتها المرتجف:
- ((أدخلي أنت غرفة النوم، أبوك سيتفاهم معه)).
مثله لا يعرف التفاهم. إن غضبته شديدة، لم أنسى قسوة سوطه بيد عطيّة، ولا ضربه وتعنيفه. هل ستتجاوز ثورته على أبي قذارة اللسان أم تتجاوزها فيرفع كفّه؟ أكيد أنّ أبي لن يرفع سيفًا ليدافع عن كرامته! يا ويلي على أبي سأتسبّب في إهانته وطرده من العمل.
ارتجّت صالة بيتنا بصوت العجوز:
80
- وينها الكلبة بنت الكلب؟
صوت أمّي يتحدّى خوفها:
- ((إحفظ لسانك وإلاّ بقطعه)).
أبي يحاول:
- إهدأ يا عم نايف . . نتفاهم.
عجّ صوته مختالاً:
- من أنت حتى أتفاهم معك؟ طلّع الكلبة.
من شقّ باب غرفة النوم كنت أدسُّ عينًا واحدة أتلصّص على حريق الصالة، عجين الكلام يترجرج منتفخًا وهابطًا، وأنا تتلاعب بي برودة روحي الآملة في الخلاص. ورعود جسدي التائقة إلى الحرِّيَّة. كان عطيّة يحاوط جسد سيّده خاشيًا عليه من السقوط، لكن قوّة العجوز التي تولّدت من بارود الغضب كانت أشدّ، يحاول الإفلات وتهديده الصارم:
- ((إن ما ذبحتها وشربت من دمها ما أكون رجّال ابن رجّال)) وبعد تهرب مني؟
صرخت أمّي تذكره:
- ((من أفعالك السوداء))
طعن أمّي:
- بنتك عايشة أحسن عيشة، وأنتم عايشين من خيري.
81
اسبدَّ غضب أمّي:
- طُزْ . . وين هالعيشة؟ بنت مثل فلقة القمر محبوسة مثل النعجة ونازل فيها ضرب وتعذيب)).
طارت أمّي إلى عطيّة. أمسكت بتلابيبه:
- ((وأنت يا عبد الشوم كيف تجلد بنتي بالسوط؟))
هبط وجه العجوز، تأكّد بأنّني أفشيت خبايا القصر وجرائمه.أمّي واصلت تصفع عطيّة، وجهه، صدره وهو مستسلم حزين مرتجف. أبي يشدّها، ذراع عطيّة التي تحاوط العجوز تراخت، فوجدها فرصة للإفلات، تحرّك نحو الباب الذي أختبئ خلفه وكأنّه لمحني، وجهه الحافل بأبشع التعابير يقترب وصوته:
- اطلعي يا كلبة.
قبل أن يصلني. كنت أخرج إليه حاشدة نفسي بقوّة خارقة، مصمّمة أن أستدَّ منه عذاب السنوات الأربع. صرخت بكل عنفي:
- تعال ورّيني . . والله أقتلك.
جفل وجهه، أمّي ركضت إليّ، وقفت بيننا حائلة دون حدوث ما تخشى عواقبه. أبي أشار إلى عطيّة أن يمسك بسيّده. لكنّ العجوز دفع بأمّي، وأمسك بذراعي يلويها. لم أتردّد. أمسكت بذراعه الأخرى لويتها وأنا أهدّده:
تلبّست العجوز ثورة. اندفع ثانية إليّ مثل ذئب استعدّت أنيابه لالتهامي. تشجّعت. استبسلت للدفاع عن نفسي، مددت ذراعيّ ودفعته عنّي، طار مثل ريشة، سقط على الأرض وارتضَّ بذراع الأريكة الخشبيّ، صرخ، هرع إليه عطيّة ليلملمه وصوته تخرقه الدموع:
- عمي . . عمي . . اسم الله عليك.
ابتلع الخوف وجه أمّي وأبي. العجوز يتراجف ويئنّ وقد زاغت عيناه. عطيّة يتوسّل:
- هاتو ماء.
أسرع أبي بالقنّينة، عطيّة بعجالة يرشُّ وجه سيده ويخاتلني بنظرة عتاب. والعجوز يستفيق، يثرثر بكلمات التهديد غير المتوازنة تارة لي وتارة لأبي. عاعده عطيّة على النهوض، بالكاد حملته ركبتاه. نظر إلى أبي بحقد شديد:
83
- ((والله أعلّقها طول عمرها وما اتشوفون شيّ مني)).
حاول أبي:
- يا عمّي نايف الله يرضى عليك البنت ما تبيك طلّقها.
نظر إلى أبي بازدراء:
- وأنا ما أبيها لكن راح أعلّقها وما أطلّق.
لم يتعثّر الكلام على شفتيّ:
-راح اطلقني غصبًا عنك . . هناك محاكم. سأفضحك.
ألوى ليخرج وهو يردّد:
- نشوف. أنا والاّ أنت وأهلك!
- صفق الباب. وجم السكون على البيت. أبي أسقط جسده المنهك على الأريكة وهو ينفخ. أمّي بجواره تثرثر:
- ((حسبنا الله ونعم الوكيل فيك، يخرب بيتك شو نذل. الله لا يردّك)).
جلست قابلتها، دموعي تنساب، شهقاتي تتواصل، صوتي يستنهض حنان أبي:
- بابا الله يخلّيك . . خلّصني منه.
أمّي ساندتني وهي تطرق خفيفًا على ركبة أبي:
- ((بكرة بتروح لمحامي شاطر وبترفع عليه قضيّة)).
زفر أبي. خرج صوته واهنًا محتدمًا بالحزن:
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) لا تريدك.
84
- ارحموني . . أنا تعبان ولا قدرة لي على التفكير.
نهض متوجّهًا إلى غرفة نومه. وقبل أن يلجها التفت إلى أمّي:
- لو سمحتِ أريد أن أنام. إبقِ مع ابنتك ولا تزعجاني.
حين أغلق الباب أحسسته كمن يدخل إلى متاهة بالغة السواد.
حزنت لأجله. وجدتني في لحظة سامية أتطهّر من كل الذي أضمرته له من مشاعر حاقدة. شيء في داخلي تأكّد أنّهلآن سنزوي في وحدته ليتأسّف على ما سبّبه لي من ظلم. وسيتّخذ قراره وينتشلني من الجُبِّ الذي أسقطني فيه.
تلك ليلتي الأولى في بيت أبي، انطرحت على السرير البسيط، لا شراشف من الحرير، ولا وسائد الديباج التي تهرشني.
أحسست السرير باتساع حديقة حافلة بشتّى الألوان والروائح.
بين ليلتي الخضراء المؤملة بخلاصي، وتلك السنوات الباهظة بمرّها.
أخذت أستعيد تفاصيلها خاصّة تلك اللحظات التي يهب عليّ فيها مثل ريح متوحّشة يزفر رغبته كالطوز الأحمر، فأشعر وكأنّني داخل قبر يُهال عليّ فيه التراب والحصى، فلا أرى غير وجهه المطفأ، ولا أحسّ سوى كفّيه الخشنتين تخرمشان جسدي، ولا أسمع إلاّ طقطقة أسنانه وعظامه وهو يلهث ليصطاد نشوته.
انتفضت حين وصلت بي الصورة هذا الحدّ، فاجأني عطش غريب، تسلّلت إلى المطبخ، عببتُ ثلاث زجاجات من الماء
85
وكأنّني صائمة عنه منذ شهور. عدت إلى سريري، أويت إليه مثل فراشة متحرّرة من الظلمة والصمت. ارتكزت على وسادتي وكأنّها صدر أمّي وأخذت أدعو الله أن يخلّصني ويخلّص أبي من ورطة أوقعته فيها. بكيت قبل أن أستسلم للكرى آملة أن أغطس في نوم عليّ طويل.
* * *
هناك فاجعات جميلات، إن كان زمن المعجزات قد انتهى؛ فها هو النار يطلّ برأسه ويفاجئ بمعجزة جديدة وكأنّ دعاء قلبي المحروق اخترق السموات السبع أسرع من البرق فشملني الله بحنانه ورحمته. أفزعتني أمي وهي تهزّني:
- ((قومي . . عطيّة بالصالة)).
- عطيّة . . خير؟!
وجه أمّي لا يخلو من سعادة مكتومة:
- ((الله خلّصك وخلّصنا)).
أيّ خبر تزفّه أمّي؟ ماذا تعني أنّ الله خلّصنا؟ توارت قبل أن تشفي غليل دهشتي. هببت من الفراش بذعري ودهشتي، ارتديت ملابسي بأسرع ما أمكننيوخرجت إلى الصالة، كان أبي جالسًا مسقطًا رأسه بين كفّيه وعطيّه لأمامه ينشج بنحيب متواصل، توجّهت إليه بالسؤال الذاعر:
- شنو صار يا عطيّة؟
86
رفع وجهه المبتلّ، عيناه متورّمتان، شفتاه ترتعشان كما صوته الغارق بالدمع:
- عمّي . . . . مات.
تهاويت على الأريكة، لا أدري ما الذي أهواني! المفاجأة أم الفرح الذي سرعان ما انتشر كالمخدّر في روحي، كيف أصدّق؟ كيف حدثت الفاجعة الجميلة!
- كيف يا عطيّة؟
عطيّة لا يقوى على الكلام. أبي تولّى عنه:
- بعدما وصل القصر تعب، أحضروا له الطبيب فقرّر نقله إلى المستشفى. ساعتان وحدث هبوط في القلب.
غير مصدّقة شامتة:
- إيه . . . كان يريد أن يعلّقني فعلقت روحه.
أبي بشزر أمرني:
- تأدبي . . . لا شماته بالموت.
ثم نحو أمّي:
- اتصلي بفيصل، الدفن قبل صلاة الظهر، علينا أن نذهب إلى المقبرة.
تخيّلت القبر، أيّهما تراه أضيق من الآخر: القبر الذي دفنني فيه وكان يسعى لتدجيني في حظيرته إلى الأبد أم هذا الذي سيفتح
87
الآن؟ تحرّكت شماتتي بتلك العظمة الفارغة التي تضخّمت في نفسه وها هي الآن قد تحطّمت، لم تداهمني ولو ذرّة حزن، لم تتكرّم دمعة ولو مصنطنعة أن تنزلق من مكانها، كان الفرح الطاغي يردم الهوّة مابين الأمس المضني وواقعي اليوم. شيء كالسحر ينفيني عن كل ما حولي، أصير مثل الفراشة التي ترقص في مهرجان ألوان يُطلق أسمه الناريّة، يضيء الكون، يصخبه ويجلّله بأثواب عرس. حتى عطيّة لم أشفق عليه، لم أفكّر بالمصير الذي ينتظره ولم أجد رغبة أن أقول له كلمة عزاء واحدة له. ما يدرني أنّه رغم كل حزنه الحقيقيّ يشعر أيضًا بالراحة والتخفّف من ثقل السّيد على العبد الموروث. حين انتصب ليخرج انتصبت. وحين اتجه ليخرج تبعته. وعن الباب التقت نظراتنا. عيناه الدامعتان يلتمع فيها شيء غريب أشبه بالود الكبوت وبالسؤال الحائر ((ما مصيري؟)). تحامل على نفسه وهمس بذلك الصوت الذي يتردّد كالموسيقى في داخلي:
- ها أنت ارتحت منه . . لقد تعذّبت معه.
فرحت بشهادته. جرؤت وقلت بصوت خفيض:
- أنا سعيدة يا عطيّة. لا تلمني.
هزّ رأسه:
- لا ألومك، لكن تعرفين أنّني . . .
قاطعته:
- أدري كم كنت تحبّه. رغم أنّه لا يستحقّ.
88
- إنّها عِشرة عمر!
قالها بألم، أردت أن أخفّف عنه وأذكّره:
- عشرة الذّل والقهر. أنت الآن مثلي، ستكون حرًّا.
عاط بنشيج عال، اندفع إليه أبي احتضنه مواسيًا:
- صلِّ على النبي يا عطيّة. نعرف كم كنت تحبّه!
ترجرج صوت عطيّة الباكي:
- وما كنت أحسب أنّه يحبّني بهذا القدر.
اعترضتُ غاضبة:
- يحبك؟ أنسيت الذلّ والضرب؟
بين زخّات دموعه تقاطرت كلماته:
- يا سيّدتي لقد عوّضني فأدركت كم يحبّني.
اشتعل فضولي:
- كيف؟ بم عوّضك؟
- حين فاجأته الأزمة أمرني أن أفتح الخزنة، وأُحضر له مظروفًا. فتحه وقال هذه شهادة عتقك ومبلغ كبير باسمك في البنك.
في تلك اللّحظة شعرت أنّ قليلاً من حقدي على العجوز يتلاشى. ها هو رغم كل فساده وجبرته فكّر بعطيّة الذي قام على خدمته، وإرضاء غروره ومساعدته في متعته. أمّا أنا! فقد ورثت
89
كلّ شيء تمامًا كما حلمت أمّي. حظّي أنّه مات سريعًا وإلاّ لكان حرمني من الثروة انتقامًا من فعلتي. الآن فقط قدّرت لأمّي نظرتها البعيدة.
خرج عطيّة وفرح كبير يتمرجح في كل أوصالي، ناداني أبي، ارتسم حزن كبير على قسمات وجهه، تنهّد ثم قال:
- اسمعي يا نادية. قد نكون أنا وأمّك ظلمناك . . سامحينا.
التهبت في قلبي شفقة صادقة عليه. كان الفرح الذي يعربد في داخلي قد شفط حقدي وغضبي عليهما، ها قد جاء خلاصي، أغلق باب الظلم وأشرع باب الحرِّيَّة والثروة معًا. همست لأبي بحبّ كبير:
- لقد نسيت كل شيء يا أبي.
احتضن وجهي، حدّق بعينين مغرورقتين بالدمع وشدّد على كلماته:
- أريدك أن تتأكّدي أنّ الأمر لم يكن ((صفقة)) وطمعًا في المال.
آآآآه يا أبي. لم ينس ما تفوّهت به. يبدو أنّ كلمتي القاسية ظلّت تحرث في قلبه وتؤرقه منذ أن خرجت من نعيم بيته إلى جحيم العجوز. أرخيت بصري خجلاً منه. رفع وجهي وأكّد:
- كنت محكومًا بسلطته . . سامحيني.
انفجرت بالبكاء، ألقيت برأسي على ركبتيه أتوسّله:
90
- أرجوك ي أبي لا تعذّبني، كنت أعرف أنّك مرغم لكنّي دفعت ثمن خضوعك لسوطوته.
طبطب على ظهري وهو يعدني:
- سنعوّضك عن كلّ ما عانيت.
دخلت أمّي. مرتعبة من نشيجي. هدّأها أبي، طلب منها الجلوس، أمرني بحنان أن أكفكف دموعي وأستمع لما يقول، فاح الجدّ من صوته:
- اسمعي يا نادية. أنت الآن أرملة. عليك أن تعودي إلى بيت زوجك لتقضي شهور عدّتك هناك.
ارتعبت:
- أبي . . ماذا تقول؟ أيّ عدّة؟
أمّي تدخّلت لتوضح:
- ((عدّة الأرملة أربعة شهور وعشرة أيام)).
اعترضت:
- هل بعد أن نجوت من القصر أرجع إليه؟
أمّي بإصرار:
- ((طبعًا ترجعين . . وإلاّ بدّك أولاده يحتلّوا القصر؟))
نظر إليها أبي غاضبًا ولا ئمًا:
- أين يشطح بك تفكيرك؟ الشرع يفرض هذا، عدّة المرأة في بيتها.
91
لم تعبرْ جملة أمي عبور الهواء، لحظتها استفقت وتذكّرت، هناك شركاء لي في الإرث. ثلاثة عشرة وريثًا، سبعة من زوجته الأولى التي طلّقها وستة من زوجته الثانية التي ماتت. ذات ليلى حدثني عنها بعبور سريع، كيف أحبّها وعاش معها سبع عشرة سنة سعيدًا، وحين توفّاها الله ظلّ يرعاهم حتى كبروا. تزوّجوا واطمأن عليهم، اشترى القصر وعاش فيه وحيدًا، لم يفكّر بالزواج ثانية. حظّي التعس أنّ أبي عمل عنده مديرًا لشركاته.
دعاه مرّة إلى بيتنا، التقطت عيناه شبابي الغضّ، تصوّر أنّه سيحيي رميمه ويجدّد عجف سنينه فتمّت الصفقة.
سرحتى بخيالي بالشركاء الذين لم أرى وجوههم، كلّهم أكبر منّي بسنوات أو بمثل عمري، ماذا سيفعلون بي؟ ماذا ينتظرني؟ أمّي رفعت صوتها لتوقظني:
- ((قدّامك مشاكل كتيرة. لازم تكوني هناك وإلاّ بكره بياكلوكي)).
أبي ليطمئنني:
- لا تخافي أنا وأمك سنكون معك حتى تنتهي شهور عدّتك.
شعرت بآلة حادة تعصر قلبي، أنا التي نمت البارحة ملء جفوني وفتحتهاعلى الضوء الفاتن. تصوّرت أنّ يوم حرّيّتي المقبور نفض ترابه الحامض وانفتح للنور؛ أجدني ثانية سأعود إلى القبر ليأسرني بشهور العدّة، هل يستحقّ الحداد عليه؟ كم شعرت أنّنا نحن النساء مهيضات الجناح.
92
بكيت حرّيَّتي المصادرة لحظة ولادتها. أمّي حاولت أن تواسيني:
- ((يا بنتي تحمّلتي كتير . . احتملي شويّة شهور)).
قبل أن أنطق بكلمة دُقَّ الباب، فتحت أمّي، اندفع أبناء أخي الثلاثة نحوي. بفرح التصقو بي وفاح ندائهم الذي افتقدته أكثر من سنة ((عمّتي . . عمّتي)). أزاحهم أخي فيصل احتضنني بحبّ كبير، ربت على كتفي بحنان، رفع وجهي حصره بين كفيه. حدّقت به. لم ألمح أيّة مشاعر للأسف على الميت. قال جملته المقتبضة التي اختصرت فرحه بخلاصي:
- لا تجوز عليه سوى الرحمة. ارتاح وريّح.
زوجته إيمان اختطفتني إليها. تعانق شوقنا. تمازجت دموعنا. همست بأذني خاشية أن يسمعها أحد:
- ألف مبروك.
ليلة زواجي من نايف لم تنطق إيمان بتلك الكلمة. كانت حزينة كأنّها تنعى شبابي وهي اليوم تبارك لي، تدرك أنّه يوم فرحي الحقيقيّ الذي تجوز فيه التهنئة.
حين خرج أبي وأخي إلى المقبرة انشغلت أمّي تُعدُّ الحقائب، تبعها الصغار فكانت فرصتي للاختلاء بإيمان. سردت عليها بإختصار عذابات السنوات الأربع وهي غير مصدّقة لما تسمع. تبكي تارة ممرورة بمراري؛ وتارة مستغربة من قدرة احتمالي. وبين وصلة وأخرى ترفع كفّيها إلى السماء وتردّد: الحمدلله . . الحمدلله الذي خلّصك.
93
بحزن قلت:
- وتصوّري بعد أن نجوت يريدون أن أعود ألى القصر وإلى وجه جورجيت.
بحماس قالت:
- أول شيء تطردينها من القصر. أنت الآن سيّدة المكان.
ثم كمن تذكّرت:
- وعطيّة! ماذا ستفعلين به؟ (وضحكت) هل سترثينه أنت الأخرى؟
ما كنت قد فكّرت بأحد غير نفسي، لكنّني وجدت شيئًا أهمس به:
- عطيّة مسكين و . . وفيّ. والله إنّه يحبّني.
واستني:
- يعينك الله كلّها شهور وتمضي ثم . . .
قاطعتها:
- سأبدأ حياتي يا إيمان. أوّل شيء سأكمل تعليمي.
انتشر الفرح على وجهها:
- أحسن قرار. لكن!
وصلني خوفها فقلت:
- لا تخافي أنا الآن أكثر قوّة. المال بيدي.
94
شدّت على كفّي بإعجاب. لحظتها دخلت أمّي وهي تضرب كفًا بكفّ:
- ((خايفة يكونو سبقونو وراحوا القصر بتكون مشكلة)).
لم أرتح لكثرة اهتمامها بالقصر، عبستُ وقُلت:
- لنفترض . . أليس من حقّهم أن يتقبّلوا العزاء في قصر والدهم؟
تضايقت أمّي فقد اكتشفت أنّني لا أضمر لهم شرًّا ولا كراهية:
- ((ناقصك تشجيعهم. هيّ ثلاثة أيّام وبعدين لازم يفارقو)).
تدخّلت إيمان:
- يا خالتي لا تستبقي الأحداث. ربما لم يفكّروا بذلك أصلاً.
أصرّت أمّي وهزت صدرها كمن ترقص:
- ((لأ . . بيفكّروا ونصّ. إن عملوها مش راح أسكت)).
- يا أمّي. الله يخلّيكي. لا نريد مشاكل معهم.
- ((أنا مش راح إبدأ. بس إذا بدأوا . . . )).
قاطعتها:
- أبي وأخي يتصرّفان.
همست بإستسلام وهي تغادر:
95
- ((طيّب بنشوف. بكرا بنقعد تحت الحيط وبنسمع الزيط)).
شعرت بالقوّة. أمّي لا يهمّها غير أن يبقى القصر لي ولها.
خوفها من أبناء زوجي سيضاعف قوّتي، تلك نقاط ضعفها التي سألعب عليها لعبتي، لقد تحقّق لها الآن حلمها الكبير ((بكرا بيموت وترثيه))، الآن دوري أن أشجّر أحلامي بالشكل الذي أريد، انتهى زمن الصمت والخنوع، إن استسلمت لأيّ أمر منذ البداية أكون بذلك فتحت قبرًا جديدًا لشبابي، لحرّيَّتي، ولأحلامي الشاسعة.
أفضيت لإيمان بأحلامي. شجّعتني وأكدت:
- أخوك فيصل سيقف معك بالتأكيد، تعرفينه لم يكن راضيًا عن زواجك، وكل تلك السنوات كان يلوم والديك ويلعن أنّهما ظلماك.
عند باب القصر استقبلنا عطيّة مكسورًا لا كما كان يقف بقوّته، سيّارات كثيرة كانت مرصوصة في ساحة القصر، أمّي لكزتني:
- ((مش قلت لك! شوفي كيف وصلوا قبلنا)).
انتابني بعض الخوف، اقتربت من عطيّة:
- ما هذه السّيارات؟
96
- أولاده . . أزواجهن وزوجاتهم كلّهم هنا.
لم أرغم نفسي على التفكير المسبق بكيفيّة استقبال الغرباء الشركاء بينما وجه أمّي يلوّن بالخوف والغضب. عطيّة أشار لأبي:
- الرجال كلّهم في الديوانيّة.
اتجهت مع أمّي وإيمان إلى مدخل القصر وشعور بالقرف يتلبّسني وسذكّرني بدخولي الأوّل فأقرّر لحظتها ((لن أحتفظ به مهما فعلت أمّي)). دخلنا الصالة الكبيرة فواجهني سواد العباءات. فاحت رائحة العجوز، اخترقتني، كدت أغيب لولا أن اندفعت النسوة إليّ تعزّيني بوالدهنّ ووالد أزوجهنّ. ولأبدأ بإبراز موقعي ندهت بأعلى صوتي للخادمة:
- زنوبة. حضّري القهوة والشاي للرجال.
انطلق صوت إحدى الجالسات (ما كنت أعرف هل هي ابنته أو زوجة أحد أبنائه):
- ماء فقط. هذا عزاء.
أمّي بصوت حاولت أن يخلو من العنف:
- ((بس يروحو المعزّين أهل البيت بيشربو)).
هبط صمت ثقيل على الصالة. انتشر رويدًا رويدًا مثل غبار المساءات المعتمة، بدت النسوة المتلفّعات بالسواد أشبه
97
بفراشات معبّآت بسنون القدور القديمة. صامتات صمت القبور. لا حركة سوى نظرات تتفرّسني ونوايا ملجومة يعلم الله وحده إن كانت بريئة أو آثمة. فضّت إحداهنّ الصمت أخيرًا واقتربت منّي وبصوت يفوح بالحياد قالت:
- سأعرّفك علينا.
تتالت الأسماء. عيناي تتبعان الوجوه، أغلبها غير حزين ولا دامع، بعضها رسم حزنًا مصطنعًا، والبعض لا تعابير عليه سوى الدهشة من صغر سنّي وجمالي، فأنا الغريبة التي يرونها لأوّل مرّة. لم ألحظ عداء يطلّ من عيونهنّ فالعداء لا يتشكّل إلاّ بالمعاشرة، شعرت ببعض الراحة وقليل من الامتنان للميّت الذي نفاني في القصر. غنّه يجنّبني الآن شرورًا كان من الممكن أن تؤذيني ركماتها لو كنت عاشرتهنّ. أتأمّل الوجوه وأتساءل في داخلي ((إن لم يأت الشرّ منهنّ هل يأتي من الرجال أولاده وأزواج بناته؟ لم أشعر بأيّ خوف، كنت أشدّ أزري بأمّي القويّة، أنظر إليها، عينيها المتربّصتين بالوجوه، بحركتها المتعمّدة لتوحي للجالسات بأنّ المكان يخصّ ابنتها سيّدته الوحيدة. كنت أشفق على أمّي من أحلامها القادمة، فقد كانت في منآها عن أحلامي بعيدة عمّا أفكر فيه وأخطّط له.
تصرّفت أمّي بالقصر وكأنّها مالكته. لم تنتظرني كي أنتقم من جورجيت. سارعت إليها في المطبخ أمرتها أن تلمّ أغراضها
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشحار الأسود.
98
لترحل: ((ما بدّي أشوف خلقتك بعد اليوم)) حين شاءت أن تفتح فمها كانت يد أمّي تطبق بكفّها على صدغها الأبيض: ((ولا كلمة الختيار اللي كنت بتدّللي عليه راح وارتحنا)) هذا الفعل من أمّي جعل الأخريات يجفلن، يدركن أنّ زمان الدلال والفساد قد انتهى. وأنّ الراعي الذي رعين كالأغنام في حظائره حرّات متعاليات قد غاب. وبغيابه تتغيّر الأمور حسب ما أريده وتريده أمّي. صوتها الحادّ حذّرهن: ((اللي ما بيعجبها الحال هون تتفضّل وتفارقنا)). حين لمحت الانكسار في عيونهنّ شعرت بكبريائي المفقود يعاودني، شمخت برأسي أمامهن وأكّدت على كلام أمّي ((زمن الدلع وقلّة الأدب انتهى)).
ثلاثة أيّام تعبّأَ فيها القصر بالمعزّين والمعزّيات، حاصرني سواد العباءات وصمته الأشبه بليل خائف. وثرثرات ما كنت أقتطف منها إلاّ جملاً متناثرة لا تعنيني في شيء. بينما كان وعي أمّي متيقّظًا لكل ما يدور بحيث كنت أسمع صوتها يدخل في نقاشات حول أمور الحياة والموت. تعرج من خلالها إلى أمور عرشه، كنت أجلس على كومات من الشوك، أنتظر اللحظة التي ينطلق بها أذان المغرب لينفضَّ مولد المعزّيات ,اهرب إلى غرفتي تاركة لأمّي مهمّة إحساسها بملكيّة المكان لتشرف على إعادة ترتيبه وإصدار أوامرها للخادمات.
حين ارتميت لأولّ ليلة على فراشي الموبوء بذكرى العجوز شعرتني متخفّفة من تلك الأثقال التي كانت تهمد كل ليلة على
99
صدري يضاعفها همود جسده على جسدي في ليالي رغباته المتوحّشة وقرفي المتواصل. هي الليلة الأولى التي شعرت فيها بأنّني غزالة حرّة سعيدة غاربة عن ظلام ساد حياتي. لم أشأ أن أفكّر باستعراض سنوات القهر، أردت أن أنفض رفوف ذاكرتي منها، أمزّق سجلاّتها الداكنة وأهيّئها لأحلامي القادمة. لم أفكر بشأن التركة ولا بالذي سيؤول إليه شأن القصر. كنت منذ لحظة هربي منه كنت اتخذت قراري ألاّ أعود إليه، وإن فرضت عليّ شهور العدّة الرجوع فلن أبقى فيه يومًا واحدًا بعد انتهائها. سأفلت منه باحثة عن شواطئ الراحة بعيدًا عن مشاكل التركة ورنين المال. حلّقت بخيالي خارج سرب البهرجة، سرحت أجدّل أحلامي المنفرطة: التحاقي بالجامعة، العمل، وحلمي بالسكن وحدي في شقّة صغيرة تطلّ على دفء البحر وصفائه في الصيف، وترتعد جذلي لجنونه في ليالي العاصفة . . كان فضاء أحلامي ممتدًّا أمامي، مضيئًا، مزخرفًا بالألوان.
احتملت شهور العّة بكلّ كآبتها، حاولت أمّي أن أتمسك بالقصر لنفسي من ضمن نصيبي، لكنّي خيّبت أملها. تركنا القصر وفي داخلي شعور التشفّي من حلمها القديم، انتظرت اسبوعًا ثم أفرجت عن قراري الرهيب:
- سأستقل بحياتي في شقّة على البحر.
اضطرب وجه أمّي. تشظّى وجه أبي بغضب أعنفه هول الفاجعة، صرخ غير مصدّق:
- هل سيخطر ببالك أنّني سأوافق؟ ماذا سيقول الناس؟
100
بععهدوء أجبت:
- لا يهمني كلام الناس. سيصيني شرّ ألسنتهم حتى وإن كنت داخل قمم.
أضافت أمّي حانقة:
- ((أرملة شابّة وحلوة تسكن لوحدها!! ما عملتها واحدة قبلك حتى تعمليها)).
لم أجنح بثورتي لأواجه ثورتهما. لم أجدني مضطرّة للصراخ والجدل لأكسب موافقتهما. تمالكت كل هدوئي لأشعرهما بأنّني قد اتخذت قراري ولن أحيد عنه مهما قدّما من حجج أو وضعا من عراقيل. كان شعوري بمكانتي الجديدة يدفعني أن أتحدّى، واتصرّف بقوّة، فأنا الآن وليّة النعمة التي سيرغدان فيها. أخي فيصل ساندني، قال كلامًا لم يعجبهما، وعزف على الوتر ذاته الذي استندت إليه، دسّ بعض العبارات التي ألمحت أنّهما بحاجة لما ورثت وذكّرهما بظلمهما القديم لي:
- لنادية أحلام قتلتموها. دعوها تغفر لكم حين تحقّقها.
تابعت بشجاعة أكثر:
- سأكمل تعليمي ومن ثمّ سأشتغل.
احتدّت أمّي:
- ((أنت مش بحاجة للشغل، صار عندك خير الله)).
حدّقت بها أذكّرها:
101
- المال الذي أذلّني لن يسعدني، أريده من جهدي وعرق جبيني.
الصوت القويّ الذي واجهت به أمّي وأبي جعلهما يستسلمان لقراري، في تلك اللحظة شعرت بأنّني دفعت كل الأبواب الموصدة، وأنّ جناحين قويّين قد نبتا صارا يحرّضاني على الطيران نحو حياة جديدة أمتلك وحدي مقبض دفّتها بلا دُسَرٍ تحكمني. كانت اللحظة التي تقافزت فيها كل طيور أحلامي الموعودة، كل يطير باتجاه وعيناي تلاحقان مسارها مؤمّلة أن أجد لكل عصفور وعصفورة عشّهما المناسب.
في الليل واجهت نفسي بالأسئلة الدقيقة: هل لاأنا قادرة حقًّا على المضيّ وحدي في الدروبالشائكة؟ ماذا أمتلك غير المال الذي سيحقّق لي حلم الشقّة؟ كيف سأواجه الحياة التي انعزلت عنها والنتاس الذين لا فكرة لديّ عن سلوكهم، أفكارهم، ونواياهم تجاه امرأة بمثل وضعي؟ امرأة ناعمة كالوردة لكنها بلا خبرة تؤهّلها للحفاظ على وريقاتها حتى من رعشة النسمة؟ كيف أزرع الثقة في نفسي؟ كيف أثبت لأمّي وأبي أنّني الكفء لتحمّل هذه المسؤوليّة؟ التي اتّسعت أمامي وبدأت أشعر بثقلها كلّما جلست إلى نفسي؟! هل أتراجع؟ هل أركض إلى غرفتيهما وأرتمي بين ذراعيهما مثل طفلة خائفة تطلب حمايتهما من المجهول فأقع ثانية فريسة لسيطرتهما وتسيير حياتي كما يشاءان؟
لم أشعر بهذا الأسى والرعب حين واجهتهما بقراري، لكنّني وأنا أواجه نفسي أدركت كم تكون مواجهة النفس صعبة،
102
والاحتكام لعقل - مثل عقلي – لم يسبر خبايا الحياة بعد ولا يخلو من اضطراب وتذبذبٍ صعبًا. رأيتني وحدي في نفق معتم ليس فيه غير بؤرة ضوء وحيدة وبعيدة يتسرّب منها إلى سمعي شقشقة عصافير حزينة وهدير أمواج ثائرة. وما بين البين تسحرني أشجان نايات وثغاء خراف صغيرة سارحة في البراري.
الضوء يغريني لأنشدّ إليه، وأنا مشدودة للواقع الذي لن يسهل التمرّد عليه ولا الخروج على قوانينه الصّعبة المحبطة. لماذا ألوم أمي الخائفة عليّ من قذائف الألسنة الجارحة وظلم الدنيا؟ لماذا أكسر قلب أبي وأسلخ عنه هيبة الأب الراغب في أن تكون له الكلمة الأولى في البيت؟
وحيدة أقلّب بأساي وأعاتب نفسي: هل تتلبّسني فكرة الانتقام منها؟ هل أصاب روحي التوحّش فغدوت مثل لبؤة تريد افتراس من أصابها بسهم أو طلقة رصاصة؟ شعرت بأنني تسرّعت في طريقة إعلامهما بقراري، وقد يكون انفلت من مكمنه لمجرّد التشفّي من ظلمهما القديم وليس من منطلق الثقة والقدرة على مواجهة الحياة التي لم أخُضْ معركتها بعد، والتي هي بالتأكيد أقوى من عودي الطريّ وأوسع من خبرتي اللاشيء.
لم أستطع أن أنام، خيّم الصمت على الغرفة، ربض على قلبي، شعرت بأوداجه تنبلق وتشمت بي وفي داخلي يربض شيء تجاه أمّي وأبي يثير شفقتي عليهما ويؤكّد لي أنّهما لم يناما بعد. وأنّهما المهانان يذرفان دموعً أليمة تجعلمها ربّما يتمنّيان لو لم يمت العجوز لأظلّ مستورة في قصره – القبر – ولا أولد ولادة
103
جديدة تحاول أن تخترق بنزقها قانون الأبوّة والأمومة والمجتمع.
ضاق بي الفراش، شعرت كأنّه يبصقني، يأمرني أن أغادره حيث القلبنان المكسوران. لم أنتظر. شحت خطايَ إلى غرؤفتهما. صدقت ظنوني، كان النور المضاء يرسم خطًّا أسفل الباب . . طرقته. اندفق صوت أبي حنونًا وكأنّه كان بانتظاري:
- ادخلي يا نادية.
فاضت نحوي رائحة غريبة لا أدري أين شممتها! هل كانت رائحة أول طفل لأخي خارجًا للتوّ من رحم إيمان؛ أم رائحة صدر اختمر بالحليب أو ثغر مليء بالقبلات؟ رائحة أشهى من أيذ شيء شممته. رائحة أبوين تفكّ مشاعرهما الرحومة أغلال مشاعري المتجبّرة، تحرّرني لأندفع إلى فراشهما حيث يتلاصقان بكلّ معاني الحبّ الذي ربطهما بخيوطه الحريريّة. وجه أمي المحزون أنبأني أنّ دموعهما مازالت تجيش في صدرها. أبي الأشدُّ جأشًا مسحت ابتسامته بعض ظلال حزنه. أوسع لي بالفراش مشيرًا أن أجلس وسرّب صوته مثل نايٍ حزين:
- هل أنت أرقة مثلنا؟
أحنيت رأسي وهمست:
- أعرف أنّني سبب أرقكما.
تنفّست أمّي عتابها:
- ((كيف بتنام عين الوالدين الخايفين على ولادهم؟))
104
لم أنبس . . كنت خجلى. أحتاج لدهر كي أخفّف خجلي.
واصلت أمّي عتابها:
- ((ولو يا نادية! أوّل ما شطح نطح؟ وبمن! بأمّك وأبوك؟)).
أبي الذي لمح خطّ الدموع النازف على خدّي توسّل أمّي:
- لا تزيدي عليها.
اندفعت إلى صدر أبي، انفرط غيم دموعي هائجًا ذارفًا كلّ ملحه، ذراعه اليسرى أحاطت بكتفي ويمناه تعابثت شعري بحنان افتقدته أربع سنوات، وصوت أمّي الكابح نشيجه يغمر لحظتي:
- ((بس يا حبيبتي . . حاجتك بُكا إحنا مسامحينك)).
هذا التذوّق الجديد لحنانهما جعلني أدحر شراسة قوّتي الطارئة. صرخت من بين فواصل دموعي:
- لأ . . . لأ . . . لأ . . . أنا غلطت.
أبي برفق حاول أن يخفّف عنّي:
- نحن لا نلومك. أربع سنوات من السجن والقهر حجبت النور في منابع قلبك وشحنتك بالتوق إلى الحرّية.
- أحلم يا أمّي أن أكمل تعليمي، أشتغل، أسكن شقّة صغيرة على البحر. عفن القصر لا يزال يسكنني، أريد أن أتحرّر، أغتسل وأتخفّف منه.
بدا وجه أبي جادًّا:
- اسمعي يا نادية، بالنسبة للدراسة نحن لسنا ضدّها، كذلك بالنسبة للعمل إن كان هذا واحدًا من أحلامك، لكن السكن لوحدك . . . . فهذا شيء فوق احتمالنا وفوق . . .
قاطعته أمّي :
- ((فوق احتمال المجتمع كلّه . . بعدك صغيرة على هالخطوة الكبيرة)).
أبي أمسك بكفّي عصرهما بحنان شعرت به يتسرّب إلى كل عروقي ويدغدغني::
- شوفي يا بابا إن كانت رغبتك في شقّة على البحر، فأنت قادرة على ذلك دون تعريض نفسك للأذى والكلام.
- كيف . . . كيف . . ؟
بلهفة أردت أن أستلّ إجابته . . قال:
- سترثين والحمدلله مالاً كثيرًا، تستطيعين شراء عمارة على البحر. تسكنين الروف – ونسكن أنا وأمّك في أحد الأدوار، والباقي ت}جّرينه ((وزيادة الخير خيرين)) وهكذا تحمين نفسك من شرور الألسن وتحمينا من الخوف عليك.
106
تأكّد لي كم كنت فقيرة الخبرة سريعة القرار. ها هو أبي بكل ما منحته الدنيا من خبرة وسقاه الله من حنان يقدّم الحلَّ المناسب الذي يحقّق لي ولهما الراحة والسعادة. شعرت بالفواصل كلّها تذوب، الصخور العالقة تتفتّت، التعالي الذي ارتكزت عليه بحماقتي ينهار، والزمن يغدو جميلاً حتى لكأنّني شعرت بالفجر يشرق قبل أوانه. صوت أمّي الذي خلع حزنه وارتدى ثوب الإرتياح يزغرد في أذني::
- ((خلاص . . من بكره طوف على هالسماسرة بتلاقيهم أكثر من الهمّ على القلب، وشوف لها عمارة)).
أبي قال مالك والحمدلله كثير، ولم يقل المال . . أمّي قالت شوف لها عمارة ولم تقل شوف لنا عمارة. أشعراني بحقّي وبسيادتي. هل كان من اللائق أن أستغلّ مكانتي وثرائي لأتصوّر أنّني ((وليّة نعمتها والحاكمة بأمري؟)). انهمرت على صدر أمّي، تنفّست عطوره، تلذّذت بكوني طفلة تندسّ في شرايين الأم وتنهل رضاها. ثم اندفعت نحو وجهها أغمره بقبلاتي المندّاه بدموعي، وهي تشهق ببكاء فرح وتردّد من أعمق عمقها:
- ((الله يرضى عليكِ ويوفّقك ويعوّضك كل خير)).
* * *
107
يفتح الله كوّة في السماء خاصّة لدعوات الأمّهات. يهيّئها للتحقّق ويرشّها مثل غيمة حبلى تساقط خيرها علينا. هكذا عوّضني الله خيرًا كما طلبت أمّي. لم أكن وأنا المخنوقة في قصر العجوز أشعر بأيّ طعم للمال، ولا كنت أتصوّره الهبة الضروريّة للحياة، لكنّني بعد أن تنفّست حرّيّتي أدركت ما الذي يمكن أن يحقّقه للإنسان. لقد صار المفتاح الكريم الذي فتح لي أبواب الحياة المغلقة والسعادة الغائبة. وصار أبي الذي أوكلت إليه إدارة ميراثي الدفّة التي توجّه كل السفائن نحو جزر الأحلام التي تمنّيتها. اشترى لي عمارة رائعة من ستّة أدوار تطلّ على بحر منطقة ((الشّعب)). حين رافقته أمّي لنراها أوّل مرّة أسرعت إلى المصعد ملهوفة. ناداني:
- انتظري. ألا تريدين أن تري ساحتها وملاحقها وأدوارها السفلى؟
أشرت إليه أن يلحق بي هو وأمّي وصوتي مترنّمًا بالفرح:
- كل ما يهمّني أن أرى الرّوف الذي سأسكنه.
لم يتباطأ المصعد بنا، كان وهو يرتفع أشبه بجناح طير خرافيّ يحملني إلى السماء السادسة ثمّ يفتح لي باب جنّتي الصغيرة.
108
اندفعت إلى الزجاج الممدّ بطول الصالة وعرضها، كان بهيًّا دافئًّا وكأنّ الشمس اختبأت فيه ولم ترحل، ألصقت وجهي به، رسمت أنفاسي دائرة من البخار، مسحتها وأرسيت نظري نحو البحر، كان شديد الإثارة، هائجًا، ترقص أمواجه وكأنّها تحتفل بقدومي. أذرع النخيل المرصوصة على الرصيف المحاذي للبحر تدفعها الرّيح تجاهي فأحسّ بها تهديني تحيّتها وعطر قلبها والرمل اللامع يعدني بأن أكون سريرًا ناعمًا لأحلامي. تطايرت في الشقّة مثل فراشة لا تدري أين تحطّ. أمّي وأبي يتضاحكان وأنا أهزج بصوتي أخطّط للشكل الذي ستكون عليه: (هنا سأضع أريكة عريضة مواجهة لوجه البحر، هنا سأعلق لوحة كبيرة لمهرة تركض في البراري، هنا سأضع مكتبة صغيرة ومكتبي الذي سأدرس عليه، وهنا . . وهنا . . نباتات خضراء واقفاص عصافير وشمعدانات من كل الأحجام.)
علّق أبي وهو يضحك:
- هل ستعيشين على ضوء الشموع؟
انتصبت أمامي في لحظة أسقف القصر بكل أثقالها من الإضاءات. قل لأبي:
- لا أريد ثريّات الكريستال ولا الأبجورات بتماثيلها الصامتة.
أسرعت إلى الغرفة التي ستكون لنومي. فوجئت بلون جدرانها الرّماديّ، شعرت وكأنّني داخل كوّة من الدّخان أتعفّر برماد حريق
109
قديم، تتكالب نحوي أدمع وألسنة كل الأشياء التي أمقتها، تفرض حضورها البشع. وجدران القصر المكفّنة بالورق المذهّب والأخشاب المنقوشة الدّاكنة تضغطني، شعرت بالاختناق، قفزت بطلبي إلى أبي وأنا أنفض الرماد العالق بي:
- أرجوك . . غيِّر اللون. أريد كل الجدران بيضاء كالغيم.
لعلّه بقلب الأب الذي شعر باختناقي، وضع إصبعه على أرنبة أنفه:
- ((على هالخشم)) . . كل ما تطلبينه يتحقّق.
تأمّلت مساحة الغرفة، رسمت خريطة أثاثها، التفتّ إلى أمّي:
- سأشتري سريرًا مفردًا.
اعترضت أمّي:
- ((شو!؟ بدّك تعمل لي حساب للمستقبل. بكره بتتزوّجي وبتفرحي بشبابك)).
كهربني افتراض أمّي، لم أكن شفيت بعد من جروحي، ولا الجسد أتمّ اغتساله من وباءات ذلك السرير المريض. كيف تفكّر الأمّهات؟ ألن أفرح بشبابي إلاّ إذا اقترن برجل؟! لم أعط أمّي فرصة لتزهر بأحلامها النابتة، هربت نحو المطبخ متظاهرة بأنّني لم أسمعها. سبقتني إليه، انتصبت أمام بابه، فردت ذراعيها بطولهما لتمنع دخولي، فاض إصرار حنون من كلماتها:
- ((ماراح تطبخي، هون بس لتحضير وجباتك الصغيرة، راح تاكلي معنا كل ما تشتهي وتطلبي)).
110
أسعدني اقتراحهما، فهي تعلم جهلي بأمور الطبخ، وسترحيني بذلك من روائح الطعام التي ستفسد عليّ عطر الشقّة، ولم يكن شأن الطبخ وحده الهمّ الذي شغل بال أمّي، فبعد تجوّلنا في الشقّة أبدت رغبتها واقترحت عليّ:
- ((مش أحسن تجيبي خادمة تساعدك؟))
كمن لسعني عقرب جائع:
- أرجوك يا أمّي . . لا تزعجيني بذكر الخادمات.
لم تعر رجائي اهتمامًا، واصلت لتقنعني:
تعرف أمّي عقدتي من جورجيت وخادمات القصر، رغم ذلك تحاول إقناعي بضرورة وجودهنّ، لكنّني بئت بمحاولاتها إلى الفشل. قرّت أن أكون وحدي من يمتلك المكان، وحدي من يرتّب سريري ويمسح الغبار. وحدي من يسقي النباتات ويغسل الستائر والمفارش. كنت أنوي أبني علاقة دائمة مع كلّ شيء حتى إذا غبت عنها تشتاقني، تتلهّف عليّ، وإذا انشغلت عنها تروادني بأيّة طريقة كي أعود إليها. أتحسّس روحها ونظافتها وأرتمي على أيّ أريكة أوسجّادة أو كرسيّ دون أن يلسعني الإحساس بأنّ جسدًا آخر اغتنم فرصة غيابي ودسّ رائحته إليها. في قصر العجوز كان كلّ شيء، يخصّني أو لا يخصّني، مباحًا
111
للخادمات، حتى سريري لم يسلم من نزوة جورجيت التي تمرّغت عليه أمام عيني.
حقّق أبي رغبتي، سكن الدددووور الخامس، وأصررت على أن يلتئم شمل أسرتي التي حرمني منها العجوز؛ فطلبت من أخي أن يسكن وأسرته الصغيرة في الدور الرابع، كان فرحي بأولاده لا يقلّ عن فرحي بالشّقة، أحضرت لهم المراجيح والألعاب الأخرى المسلّية، واشتريت لهم خيمة صغيرة يلوذون إليها حين تشتدّ حرارة الصيف. كنت في خروجي ودخولي أرى ساحة العمارة وكأنّها مدينة ملاهٍ مصغّرة تفجّر سعادة أبناء أخي وأطفال السكّان الآخرين الذين أكرى لهم أبي بقيّة الطوابق. أُحسُّ بطفولتي تنبض بحرارة فلا أخجل أن أتركها تعبّر عن نبضها.
صرت أشارك الأطفال لهوهم، مرحهم، غناءهم وحتى صراخهم، وكنت ألمح في نظرات أمّي وأبي إشفاقًا على سنواتي التي لم أعشها، وفي نظرات عطيّة ألمح ابتهاجًا وغبطة وكأنّهيتشفّى من ذلك العجوز الذي كان يدفن شبابي في مقصلة قصره المعتم.
اخترت لشقّتي أفتح الألوان وأزهاها، ملأت بالنباتات والزهور وأقفاص العصافير ذات الأصوات المغرّدة. وحين وضعت عليها آخر اللمسات جلست أمام البحر أستحمّ في فضائها الرّحب وأجوائها المأهولة بصوت حنون غير ذلك الذي عانيت منه في القصر. هنا صار للصمت لون، شكل، صوت وعافية ولذّة ترعشني. أحسست بصمت النباتات عطورًا تفوح، صمت
112
الجدران موسيقى ترسم عليها لوحات متحرّكة، صوت الأثاث أنفاس عرائس لم يفقدن بكاراتهنّ بعد.
غرقت في صمتي اللّذيذ. موجات البحر تتلألأ بضياء الشمس المنثور عليها غلائل شفّافة. حين تقبل الموجات بزبدها الضاحك أحسّها تهديني غناء وحكايات بحّارة عادو محمّلين بالؤلؤ، وحين تنسحب منطفئة من الزبد أحسّها مثل أيدٍ عطوفة تسحب أورام حزني فيتخفّف قلبي من أثقاله وذكرياته الداكنة، يمرح في مساحات الحدائق المليئة بالعصافير. تلك هي أحلامي تشقّ طريقها بلا منعطفات وبلا منغّصات. تتلوّن الأيّام باهرة رضيّة، لا أثر فيها لشحوب الأمس ورائحة لياليه الخانقة. أنا مليكة شقّتي الأليفة المنكشفة على وجه الصّباحات الدافئة، وأنا العصفورة التي نبت زغبها، وأنا الفراشة التي اكتملت ألوانها وعافت صمتها.
أصحو كلّ يوم كما النحلة أعوف روائح الأحلام المتخمّرة على وسادتي. ألاصق الزجاج المطلّ على البحر، أستلّ شهيقًا عميقًا أحصد معه رائحة البحر ولونه، أختزنهما داخل رئتيّ، أحسّ وكأنّني اصطدت ألف سمكة صغيره وهيّأت لها قلب بحيرة زرقاء. أنحدر إلى شقّة أمّي، تستقبلني رائحة التوست المحمّص، الحليب بالهيل، وطبق البيض - البريشت – ينتظرني حارًّا. ألتهم فطوري على عجل. أمّي تفرح بشهيّتي ولا تواري خوفها:
- ((على مهلك يا بنتي لا تغصّي)).
- فطورك رائع يا أمّي.
113
بفرح يضاهي فرحي:
- ((صحّتين على قلبك))
تفلت منّي ضحكة صغيرة تثير اهتمامها:
- ((ليش عم تضحكي؟))
- أحسّني شرهة. أتخيّل كيف سيكون شكلي لو امتلأت.
ربما خشيت أمّي أن أمارس رجيمًا وأمتنع عن طعامها اللّذيذ، أضافت لصحني مزيدًا من البيض وهي تطمئنني:
تأمّلتها وهي تدهن قطعة التوست بالزبدة والمربى، صدرها الأبيض يترجرج فأحسّ وكأنّ بعض أسماكي الفرحات قد هربن من بحيرة قلبي إلى قلبها، وجهها الفائض بالبشر حرّك سؤالي إليها:
- ماما . . هل أنت سعيدة؟
- ((وليش لأ . . وأحلام بنتي قد تحقّقت)).
قلت بصوت لا يخلو من حزن:
- كان هذا على حساب حلمك.
أطلقت نهدة . . هزّت كفّها كمن تطرد ريحًا:
- ((قصدك القصر؟ . . كا بدّي أتحسّر على شي راح)).
كنت موقنة أنّ حسرة أمّي لن تروح. كان الكلام أحيانًا يفلت
114
منها ويفضح تلك الحسرة. يوم أكملت تأثيث شقّتي دارت فيها.
أبدت إعجابها بذوقي وتنهّدت:
- ((والله بتستاهلي قصر)).
ويوم تجولت معها في ساحة العمارة الواسعة سألتها:
- ما رأيك أن نزرع أشجار برتقال و . . .
قاطعتني بشبه ازدراء:
- ((شو مفتكرة هالساحة حديقة قصر! يا دوبها اتكفّي شويّة نباتات وزهور)).
كنت أرتاح لأنّني بدأت أتجاوز ذكريات القصر السامّة، وكنت أحاول أن أدفع بأمّي لتنساه، لكنّه وقد سكن خاطرها ظلّ يلوح كلّما لاحت فكرة أو تناهت ذكرى، وكلّما صافحها وجه عطيّة.
في البدء تشنّجت أعصابها، لم تحتمل فكرة توظيفه وسكنه كحارس في ملحق العمارة. عارضت بشدّة:
- لا تقطعي رزق الرجل . . ألا يكفي أنّه رفض القصر واختار العمل عند ابنتك؟
أخي أكّد لها أنّ من نعرفه خير ممّن لا نعرف.
استسلمت أمّي لكنّها ظلّت تتحيّن الفرص لتتصيّد له الأخطاء،
115
تزجره أو تضاعف العمل عليه وكأنّها بهذا تنتقم لي من فعلته القديمة.
لم يتركنا عطيّة منذ أن تركنا القصر، ظلّ يتردّد علينا في بيت أبي وكنت أفرح بزيارته، بصوته، بذلك اللون الغريب الذي يطفو على وجهه حين يراني ويلحّ في كل مرّة أن يؤدّي لي ولأهلي أيّة خدمات. وحين قرّرنا الإنتقال إلى العمارة وجدتها فرصة لتحقيق رغبته. أوكلت إليه جلب عمّال لتنظيفها وعليه مهمّة الإشراف.
فأصرّ أن يتولّى بنفسه كل العمل. لم يكتف بهذا، بل اهتم اهتمامًا شديدًا بأثاث أمّي القديم الذي أصرّت عليه وحاذر أن ينخدش منه ولو عود صغير رغم يقينه أنّ أمّي لا تحبه. آلمني أن تنقل أمّي عفشها القديم، تمنّيت أن تجدّد كل شيء وهي تنتقل إلى مكان جديد، حاولت إغراءها:
- في السوق موديلات وألوان حديثة . . غيّري.
تمسّكت أمّي بكل صغيرة وكبيرة في بيتها، دمعت وهي تتأوّه بالكلمات:
- ((مش كفاية راح أغيّر البيت؟ عفشاتي هذول فيهنّ كل ذكرياتي مع أبوك. والله ما بغيّرها)).
كيف تصل حدود الحبّ أقصاها عند أمي!؟ فلا تترك حتى غلاّية القهوة القديمة المثقوبة ذات اليد المكسورة، حين أردت أن أحذفها بكيس القمامة إندفعت إليها وخطفتها من يدي كالمسلوعة، أغاظني سلوكها فاحتدّيت:
116
- يا أمّي مش معقول! حتى هذه؟
ضمّتها إلى صدرها بحرارة وكأنّها تضمني أو تضمّ أبي. بكت وهي تقول:
- ((شو بيعرفك إنتي بقيمتها؟ هاي أوّل غلاية عملت فيها قهوة لأبوك. جبتها معي من حلب)).
كدت أفرط بالبكاء. ماذا حملت أنا من القصر؟ لم يكن فيه أيّ شيء عزيز على قلبي. حتى مصاغي الذي حملته كان لمجرّد إحساسي بأنّه جزء من ثمني. أتعمّق بعشق أمّي لحاجيّاتها وتمسّكها بها فأحزن لأنّها قذفتني إلى القصر ولم تمنحني فرصة لأحبّ أيّ شيء فيه فأحسّ مثل إحساسها. لهذا قرّرت أن أقيم علاقة ودودة بيني وبين أشيائي الصغيرة والكبيرة وأحبّها كما تحبّ أمّي غلاّيتها المثقوبة.
حين أنهى عطيّة عمله، قدّمت له مظروفًا حشوته بمبلغ كبير.
لم تمتدّ كفّه ليأخذه. أصررت عليه:
- خذ يا عطيّة هذه إكراميّة بسيطة.
لمحت وجهه مثل غيمة ترذرذ دموعها. وشجاني صوته الرّخيم:
- سيّدتي . . إن كنت تنوين إكرامي فاقبليني عندك حارسًا للعمارة.
فوجئت! كيف لم أفكّر بهذا الأمر؟ حتى عندما سألتني إيمان ماذا ستفعلين بعطيّة لم يحرّك سؤالها أيّ اهتمام به. هو الآن يفتح بوّابة أخرى قد تأسره ثانية في مدار زوجة السّيد. حاولت أن
117
أفهمه هذا، وأن أشعره بأن يكون حرًّا، لكنّه أخذ يرجوني فأحسست بتشبّثه بي صادقًا. وتساءلت في داخلي: هل يخشى مواجهة الحياة وغربة لا يدري إلى أين تنأى به؟! أم لأنّه يريد أن يكفّر عن ذنبه القديم أو . . . هل هناك سرّ آخر أجهله؟! فرحت بطلبه، ورغم أنّه كان بعض ميراث سنوات القهر التي أردت أن أدفن كل ما يذكّرني بها فإنّني بحماس شديد رحّبت به وخصّصت له راتبًا شهريًّا عاليًا أفزع أمي، اعترضت فشجبها أبي غاضبًا:
- هذا مالها. وهي حرّة فيه.
خدش كلام أبي مشاعري فكأنّه يتّهمني بسطوة المال عليّ.
أردت أن أدفع التهمة عنّي:
- ليس لهذا السبب يا أبي. أنت تعرف أنّ نايف وهبه مبلغًا كبيرًا، إنّني فقط أقدّر له وفاءه وتفضيلي على القصر الذي ولد وعاش فيه.
وجود عطيّة في العمارة – وأنا التي خبرت دقّته وأمانته – بعث الأمان إلى قلبي. كان شعوري بأنّه يريد التكفير عن ذنبه القديم يدفعني أن أساعده ليبرأ منه. ولم يساورني شكّ بأنّ ذاكرته، وإن احتفظت بمشهد جَلدي بالسوط، إلاّ إنّها لم تحفظ شيئًا من تفاصيل جسدي الذي اقتحمه مرغمًا. فمن يُرغم على أن يحرث الأرض لا تهمّه صغار حجارتها زلا تشقّقات جلدها ولا حفظ خرائطها.
* * *
118
لم يكن فرحي محصورًا بالحرِّيَّة ولا بالشقّة المطلّة على البحر كما تمنّيت، ولا بدخولي الجامعة وتميّزي بالنجاح المتواصل، ولا بالصداقات الجديدة التي اخترت منها ما يتناسب وطبيعتي وقد جعلت شقّتي تضاء بالجلسات الحلوة الغنيّة بالأحاديث والضحكات والطرب. كان ذلك الشيء الغريب الذي تسلّل إلى قلبي جسورًا جموحًا كحوافر خيل تدكّ أرضًا قاحلة، تقلّب تربتها، تقتل ديدانها وتبذر شتلات نادرة عليّ أن أصونها من التنافض والتناثر.
هكذا مسّني الحُبُّ في خطوته الأولى. شيء كنت أجهل حدائقه حتى دخلت فأدركت أنّ جمال الحرّيَّة والحياة لا يكتمل إلاّ بهذا النور الساطع الذي يجلو عن الروح صدأها ويعقّمها. كنت قد قفزت بامتياز إلى السنة الثالثة حين سطعت شمس الحب لتفرش ظلالها بيني وبين أستاذي د. جواد. لقد اعشوشب في طين قلبي نبت أخضر، امتدّت أغصانه وفردت أوراقه كل نعومتها وعطورها على وجهي. لم يكتفِ بهذا . . . أخذ يُفيق جسدي الخامل، فبدأت أشعر بترقرقات الجداول وعزف النّايات تثب إليه مثيرة تلك الرّعشات التي تفاجئه وتهرشه بأصابع النشوات الحمقى.
لم أكن أدري أنّ لي قلبًا فيه أجراس ذهبيّة تلمع وتدقّ، ولا جسدًا تفور سواقيه بالرّغبات. أحاسيس جديدة قلبت ميزان حياتي وأيقظت صمت السنين. كنت جاهلة بكيفيّة التعامل مع هذا الطارق الملحاح. وكنت بحاجة لمن يقتادني في الدّهاليز التي بدأت أقدامي تطأها بلا طوق ولا حذر.
119
لم يكن بعد قد كاشفني بالذي يخفيه داخل قلبه، لكنّني أحسست به من تلك النظرات الوالهة ولمسات الكفّ التي لا تضلّ طريقها إلى كفّي وإن في غفلة منه. كان احتضانه الرقيق لحضوري دون كلّ الطلبة والطالبات يبهجني، يؤكّد لي أنّني الأثيرة. فحين يراني يلهف وتغرّد عيناه، وحين أغيب يعاتب عتب من استوحش الغياب. وكنت مثله أعاني الوله والوحشة.
امتطّت الشهور بيننا . . . كان الحب يتنامى، يتألّق معلنًا خباياه بطرق شتّى لكنّنا نخادعه بلعبة الصمت الزائف. كلانا يعضُّ على عواطفه وسرّه وكأنّنا، رغم وضوح الإشارات، نخشى من صدمة تطيح بالواحد بعيدًا عن الآخر. كنت أتحرّق بانتظار أن يخرج من ثاع صمته، ورغم تحرّقي أيضًا للخروج فإنّني تمسّكت بإحجامي عن إسقاط لثام القلب، فلعلّني رغم كل ما يتأكّد لي من هيامه قد أخطأت تفسير الشظايا الناعمة المتناثرة إليّ فتكون عندها رؤوس سكاكين حادّة وجارحة. هكذا صبرت على شوكي وشوقي بانتظار أن يتحرّر من صمته ويهديني زهور اعترافه.
لم أيأس . . ولم أفقد الأمل حتى جاء ذلك الصباح الشتائيّ الغائم، فكّ عقدة لسانه واعترف. لحظتها شعرت بكل الغيوم تتمزّق وترش ماءها الغدير على الأرض العطشى فتمتصّ الرواء بلا شبع. أحسست بسيقان زهوري تخضر، بالبراعم تنبت، صرت الوردة التي تفتح وريقاتها كثغر مسّته قبلة عاجلة. أشهرت له عواطفي، نثرت عليه ضياء شموعي ورفيف مشاعري بلا تردّد وبلا خوف. كان امتلائي بالحبّ يدفعني أن أتخفّف من ثقلي،
120
أتخلّص من زفير صمتي وأترك لشهقة الحبّ كل المكان. غادرت مكتبه مثقلة بالفرح، كيف يكون الفرح ثقيلاً بوزن أطنان الحديد!
يومها ما كنت قادرة على احتمال تلك الطاقة وحدي. احتجت لفضاء يتّسع لحديدي، ويهدّئ زلزالي، يشملني برعاية مطوّقة بالحنان.
من . . . ؟ ومن غير أمّي التي لم تخفَ عنها خافية قلبي رغم مراوغتي. حين طرأ عليّ التغيير بدأت تبحبش عن أسبابه بطرقها التي تصوّرني أعجز عن التقاطها، وكنت لا أشبع فيها فضول المرأة المتلصّص على أنثى مثلها، ولا فضول الأم الراجف قلبها دومًا خوفًا على ((البنت)) لكنّها حين سألتني مباشرة ذات مرّة:
- ((ما في حدا من زملائك أو أساتذتك معجب فيكِ))؟
قلت لها وأنا أحاذر أن تكشف سرّي على وجهي:
- كثيرون يا أمّي. لكنّني لا أهتمّ بالمشاعر المتطايرة.
ألحّت وهي تحاول أن تنبش عشّي وتكشف عن أفراخه المستورة:
- ((بس أكيد بين هالمتطايرات راح تكون واحدة ثابتة)).
أردت يومها أن أشعر أمّي بأنّها تحظى بثقتي. لم أراوغها.
وجدتني أعترف:
لم أستطع أن أكذب، بل ربما تعمّدت أن أسلّمها خيطي الأوّل:
- يعجبني وأرتاح لمشاعره.
فرحت . . ورغم شهيّتها للاستماع وجدتني أحاذر بالمزيد من البوح والتفصيل. لكن اليوم غير الأمس. لا أظنّني وأنا المحمّلة بأثقال فرحي قادرة على كتمان سرّي وكظم عواطفي. طرت إليها، في حظنها أسقطت رأسي الملآن بأحلامه، وأمام عينها عرّيت قلبي من أثوابه، وعلى صدرها أفشيت حكايتي الأولى.
قلوب الأمّهات دائمًا لا تقنع ولا ترضى ببشارة المواليد وسلامتها. تريد سريعًا أن تعرف جنس الجنين: ولد أو بنت؟
وقلب أمّ هنا لا يقبل حالة الحبّ مجرّدة من نتائجها. ألقت بسؤالها الذي فاجعني:
- ما طلبك للزواج؟
تغمّم قلبي. تطوّحت شجرته فلم أشأ لأوراقها أن تسقط عند أول ضربة. ابتعدت عن حضنها وكأنّ ريحًا عوت من داخله، نظرت إليها ضاغطة على غضبي المستعرّ داخلي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مزج بين كلمتي فاجأني وفجعني.
122
- يا أمّي . . أنت رأسًا تفكّرين بالزواج. والحبّ . . . ماله قيمة عندك؟
هزّت كتفيها:
- ((ما فيه مانع من الحبّ إن كانت طريقة واضحة وسالكة لباب الزواج)).
رغم غضبي المكتوم لم أحقد ولم أندم أنّني صارحتها. كنت أقدّر مشاعرها وخوفها، ومها كنت في قلبها الابنة الغالية، فأنا بنظرها ونظر المجتمع القاسي مجرّد أرملة شابّة معرّضة للشبهات والأقاويل. كان من أوسع أحلامها أن أحظى بمن يعوّض قلبي وشبابي ما حرما منه وأنا في قفار ذلك القصر اللعين. لكن اتساع الحلم لم يقلّل من مساحة الضيق الذي شعرت به أمّي تكشف عن أفكارها وتُؤَوْلِلُها على فرحة قلبها وهو يستقبل بشارتي الأولى. شعرت بصخرة مدبّبة تنتأ في حنجرتي. لملمت زفرات ضيقي الحالك وصعدت إلى شقّتي لعل ربابات صمتها تفتّت تلك الصخرة.
هل جلبت الهمّ إلى قلبي ليدحر الفرح الذي تعبّأ به؟ هل أخطأت حين صارحت أمّي رنّات قلبي؟ لمن إذن خلقت قلوب الأمّهات رهيفة؟ أليس لتكون المخمل الذي نتمرّغ عليه بأفراحنا؟
والفضاء الآمن الذي تكبر فيه أجنحتنا ويلتقط متاعبنا؟ كنت أريدها عونًا وما حسبتني بلجوئي إليها قد هيّأتها لتقبض على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعطيها الأولويّة.
123
مفاتيح حرّيّتي الذهبيّة وتتلصّص على أيّ الأبواب تندس فيها.
* * *
حاصرتني أمّي بدأت تتفرّس في لحيظات فرحي، صمتي، غضبي، كثرة خروجي وحتى امتعاضي من صراخ الأطفال الذي كان يسعدني. كانت في تفرّسها أشبه بعين عنكبوتيّة تلتفّ حولي بخيوطها وتخنقني، وحجتها ((كلام الناس)) هل لأجل إرضائهم أعود تلك الفأرة المذعورة التي يئدها العجوز وتحاصرها أسوار القصر؟ هل أرضخ لحصار جديد بعد أن حظيت بالفجر وبالمروج؟ حين أضرمتني بشكوكها، بدأت أتحاشى دبابيسها المسنّنة، أهرب من وجبة فطورها الشهيّة ومن وجبة العشاء التي أحرص عليها لألتقي بأبي وأحينًا أخي وإيمان. كان حضورهم يرحمني من أسئلة أمّي وخوضها في شأن قلبي ولكنّه لم يسدّ عليها كلّ الفرص. كانت دائمًا تجد الكوّة التي تدلي منها مرّ السؤال وصرامة التحذيرات: ((تذكّري أن للناس عيونًا لا تغمض وألسنة لا ترحم)).
لم ترحمني أمّي. لم ترأف بقلبي ولم تشفق على روحي وهي تلاحقني بعبارة ((أنت أرملة . . همّك أكبر من همّ البنت)) ولم تكن تخفي نقمتها على ذلك الجواد الذي جمحت إليه وهو بعد لم يلوّح براية بيضاء وفستان أبيض! تسألني عن دقائق حياته التي لا أعرف عنها شيئًا، ولا اهتممت بنكش خزائنها، فاجأتني مرّة بسؤال اخترقني كالسهم: ((هل هو متزوّج)). ألهب السؤال فضولي الراقد فتحيّنت فرصه وألقيته على جواد. كنت مثل التي تلقي
124
بسنّارتها إلى البحر وتأمل أن تعود إليها فارغة بلا ثقل، لكنّها اصطادت الردّ الثقيل وامتعاضه:
- زوجتي أمريكيّة. تقيم هناك وأنا أزورها بين وقت وآخر.
لم تكن أمّي قد سألت إن كان له أبناء. ولا أدري ما الذي دفعني لذلك. تذمّر من السؤال ولكنّه ذرّ إجابة مفصّلة كي لا تسوّلي نفسي لمزيد من الأسئلة:
- ولد واحد. عمره تسع سنوات ويقيم معها.
لكنّ النفس الأمّارة تمادت:
- ولم تركَتْك زوجتك؟
كأنّني صببت عليه ماء النار وطعنته في رجولته، احتقن وجهه بدم أزرق، ارتعش صوته ارتعاشة خشنة عبقة بالاستياء:
- هل سألتك يومًا عن زوجك السابق وأسرار حياتك؟
فوجئت! وخجلت من تطفّلي الذي أضرّ بلحظة صفاء بيننا، حاولت ترطيب خاطره:
- لو كنت سألت لأجبتك.
رفع كفّه بوجهي كإشارة مرور حمراء:
- لن أسأل ولا أريد أن تسألي.
جرحني لكنّني احتملت الجرح فأنا من قدّم له السكين. في داخلي نقمت على أمّي التي ورّطتني. أدرت له ظهري وانسحبت.
125
تصوّرته سيلق بي ليعتذر عن خشونته وحين لم يفعل أدركت أنّها غضبهة الحليم.
لم أهدأ تلك الليلة. تناوبت على عقلي أفكار سوداء وكأنّها أسراب ذباب حائر: ((كيف يعيش رجل وسيم مثله بلا امرأة؟ هل هو من أبعد زوجته أم تراها قد هربت من عيوبٍ خفيّةٍ عين الزوجة هي الأقدر على اكتشافها؟ وغن كان قادرًا وصابرًا على بعد زوجته فكيف يصبر على فراق طفله الصغير المحتاج لرعايته؟ هل عاطفته قاسية للدرجة التي لا تحرّك مشاعر الأبوّة ودفئها؟ كيف يعيش وحيدًا؟ أين يفرغ طاقاته البشريّة وحاجات الجسد؟ هل يستعيض بحبّ النساء وما أنا سواء واحدة من القطعان المنجذبة إلى مزاميره ومراعيه))؟
استحضرت كلّ صورته . . طوله الفارع، صدره العريض، ذراعيه اللتين تطلّ أعشابهما حين ينسحب كُمّ الدشداشة، وجهه الحنطيّ المشبع باللون الورديّ الذي يبدو في استدارة وجنتيه، أنفه المنحني قليلاً تكاد أرنبته تلامس شعر شاربيه المونّسين بالأشقر الخفيف، عينيه اللوزيّتين الضيّقتين يكلّلهما حاجبان متصلان كسيفين متعانقين، شفتيه اللتين كانفلاق حبّة الفراولة النديّتين دائمًا. لا أنكر أنّ جماله ووسامته كانا أبرز ما لفتا نظري حين التقيته أوّل مرّة قبل دخولي قاعة المحاضرات، لكن عيني التي تسمّرت عند هذا الجمال غضّت بصرها عن حين تكشّفت قوّة الشخصيّة، سماحة الروح، والأناقة في الكلام.
صبور، طويل البال، لا يضيق بأسئلة الطلبة واستفساراتهم. لكنّه
126
صارم حين يأتي أحدهم متأخّرًا أو تتناهى إليه ثرثرة من المدرّج.
كلّ هذه الصفات كانت جاذبة لفراشات غيري يلاحقنه، يعتذّرن بالأسباب ليطيل الوقوف والحديث الباسم معهنّ. لكن عينيه كانت تسريان تجاهي حيث أكون قريبة بانتظار أن يُفكّ الحصار عنه، يسبقني إلى مكتبه. أفهم إشارته وألحق به.
كيف تبخّر حنانه وتردّى ذوقه في الكلام ممّا أسقطني في جحيم التساؤلات وطنين الذباب؟ ماذا أقول لأمّي الحالمة بالعريس؟ حتى وإن خطرت له فكرت الزواج منّي، هل سترضى أمّي بأن تكون لي ((ضرّة)) وإن كانت بعيدة في بلدها؟ لا ألوم أمّي في خوفها رغم أنّه خوف يشدّ عليّ بأسلاكه، ولا ألوم قلبي أيضًا أو أسعى لتقطيع أوتاره. شحّ عليّ الليل بالنعاس. ظللت مثل موجة تارة تهيج بالشوق إليه، وتارة تنسحب بحزنها إلى أمّي التي أورثتني قلقها.
* * *
قسا عليّ جواد . . عذّبني صدّه ومعملته الجافّة. أهملني و:انّه يقصد تلقيني درسًا بأن لا أحشر أنفي في خصوصيّاته. أعطاني دون أن أرغب فرصة لتقليب وضعي معه ونسج قرارات للنفاذ من دائرته. كنت أحسّ ملمسها متينًا في الليل وما إن ألمحه حتى أحسّ بتوالد الأعراس والطبول في داخلي فأدرك كم هي هشّة حبال القرارات بعد أن استفحل الحبّ بتضاريس قلبي البكر واستيقظت رغبات الروح. تناوبت عليّ الليالي بصمتها وأنا أتقلّب بفوضى مشاعري. أترنّح ما بين الحبّين له ولأمّي. ما بين
127
خوفها عليّ وخوفي من جواد ومن الأيّام القادمة التي لا أسبر سفائنها ولا أطال أشرعتها. وكم تمنّيت لو ترجح كفّه اختياري باتجاه أمّي لكن سطوة الحبّ كانت جارفة. انعطفت معها بكل احتياجي المستيقظ النهم. تآزرت مع قلبي ضدّ أمّي، احتملت صدّ جواد عشرة أيّام بغبشها الأسود وآلامها الصّخريّة. وحين فاض بس الصّخر والصّبر قصدت باب مكتبه مثقلة خطايَ لكنّني استعرت من ريش قلبي أجنحة لأطير. طرقت بابه وطرقات قلبيي تسبق كفّي.
التفت نحوي نصف التفاتة وعاد لأوراقه يقلّبها وكأنّه لا يبالي بحضوري. رغم مهانتي اقتربت. القيت تحيّتي، ردّ عليها دون أن يلتفت، احتملت إهانته، همست له بإعتذاري، قصدت اختيار كلمات تكون مؤثرة، عندها انتصب واقفًا. شاعت ابتسامته، تورّد وجهه، لم أحسّها ابتسامة فرح بعودتي بقدر ما كانت ابتسامة تكشف عن انتصار رجل كان بانتظار حارق لهذه اللحظة، انتصاره ((أدّبني))، انتصاره لأنّه تماسك وأمسك بعواطفه لتجيء إليه المرأة ضعيفة . . معتذرة . . يعبق وجهها بآثار السهاد والشوق، ويتدفّق صوتها بالتوسّل المهين الطامع بالصفح. لم أفرح حتى عندما أمسك بكلتا يديّ وشدّ عليهما. لم أشعر بذلك الدفء ولا ألأمان. ولم استطع التقاط كلماته الرقيقة فقد ضلّت طريقها إلى روحي. كان في داخلي شيء أشبه بالمكواة الحارقة جعلني أشمّ رائحة هزيمتي الأولى أمامه. رغم هذا شعرت بأنّني عاجزة عن اتخاذ أيّ قرار لقطع علاقتي به. فأيّام القطيعة العشرة سامتني عذابها، نهشتني أنيابها ولا تزال آثارها مغروزة في لحمي.
128
تمكّنت منّي حالة الحبّ. وصار جواد أكثر جرأة. يدعوني إلى المقاهي والمطاعم فأستجيب. يطلب أن أصاحبه في زياراته لبعض أصدقائه المتزوّجين فأنساق لطلبه بغية إرضائه. استسلمت له يذيقني بعض طعوم فاكهة الحب، سمحت بأن يحضنني، أن تتسلّل كفه تعبث بشعري وعنقي، أن تمس شفتاه صفحة وجهي ترعدني فأبرق مثل نجمة لامسها القمر. أمّا الليالي، فقد كانت تمضي وأسلاك الهاتف تتخدّر من أعسال الكلام وعصائر الوجد المنوّعة. كان صوته العذب يتسرّب إليّ بآيات العشق المرصّعة بكلّ ما يثير ويقضّ مضاجع الحرمان فاستحمّ من شغفي بعرقي وفيضان الأبواب المغلقة التي لم تألف السريان ولا انبثاق الندى المحصّن. كنت سارية في لجّته الهئجة المائجة، بدأت أكذب على أمّي كي لا تفسد فرحتي وتطفئ رنّاتها، صرت أتسلّل في الخروج والعودة. وحين ضيّقت خناقها ابتعدت وسائل للفكاك منها، صرت أضلّلها، أترك سيّارتي مركونة في كراج العمارة وأخرج حيث ينتظرني جواد بسيّارته في الشارع الجانبيّ، لم أغفل أنّها قد تصعد إلى شقّتي وتكتشف غيابي، صرت أكتب ورقة وألصقها على الباب ((أنا نائمة أرجو عدم الإزعاج)). ولم أنس أن أنبّه عطيّة كي لا يخبرها بخروجي. وجدّته يتحمّس لمساعدتي.
كان يهشّ الأطفال داخل الخيمة لحظة خروجي، أحسست بأنّه ينتقم من أمّي التي ظلّت كارهة لوجوده. سألته ذات صباح وأنا أتشمّس في الساحة:
- لماذا تساعدني؟
129
قال باندفاع لاهف:
- لأنّني . . .
لم يكمل. وارى عينيه ثمّ، كمن استنجد بسبب آخر:
- لأنّك سيّدتي ولازم أطيعك.
تضايقت. كنت أطمع في إجابة لا تشعرني وكأنّني ذلك العجوز وهو – كالكلب المطيع – يسمع كلامه وينفّذ أوامره القاسية. احتددت عليه:
- هل تخاف منّي ولا تخاف من أمّي؟
أجاب وكمن وخزته شوكة من أمّي:
- أنا عبدك أنت.
صرخت به:
- لم تعد عبدًا لأحد . . إنس الماضي يا عطيّة.
حدّق بي بعينين جريئتين:
- وأنت . . . هل نسيتيه؟
قلت بلهجة التأكيد:
- بل ردمته إلى غير رجعة.
كأنّه لم يصدّقني. صوّب نظرة أكثر جرأة وهو يلحّ:
- كلّه . . كل شيء صار في القصر؟
130
أدركت ما يرمي إليه. قرّرت أن أزيح الثقل عن صدره:
- كل شيء يا عطيّة . . صدّقني كل شيء.
أرخى رأسه، أغمض عينيه، شعرت بأنّ تحت جفونه دمعتين بحجم حصوتين عصيّتين على السقوط. ما إن فتح عينيه حتى سقطت الحصوتان وكأنّي ألمح بخارهما الساخن يتصاعد. وفي فورة إشفاق عليه مددت أصابعي وسحت دموعه. فوجئت به يشدّ كفي يمرّغ وجهه عليه فتصيبني رعشة ساخنة لكنّني لم أشأ أن أقطع عليه لحظته، كنت أتألّم وأبتلع الألم حتى رفع عينيه وأنشد بصوته العذب:
- ((ألحين أحسّ إنّي تحرّرت)).
مسّني شعور بالرضا. شعرت بودّ كبير نحوه. ضحكت.
داعبته:
رعش قلبي. هل يقدر من عاش في أسر العبوديّة أن يحلم بامرأة مثل سيّدته؟ هل . . . هل . . !!. فركني السؤل: هل تراه يحبّني؟ تمالكت نفسين ابتسمت و . . وعدته.
* * *
131
فاجأني أخي تلك الليلة. كان الوقت متأخّرا لكنّه برّر حضوره:
- أعرف أنّك صاحية. امتحاناتك على الأبواب.
لم أتوجّس شرًّا. توقّعته خلافًا بينه وبين زوجته، وكلعادة يلجآن إليّ لمصالحتهما؛ لكن إجابته الودودة حين سألته عنها أكّد أنّهما على وئام. نظراته الهاربة منّي أوحت بأنّ الأمر يخصّني.
خمّنت انّها شكوى من أمّي بسبب هروبي منها فأعددت نفسي لمجابهة شكواها بشكواي منها حارصة ألاّ أفشي الأسباب، لكن أخي الذي عرج بحديثه إلى الجامعة والدراسة والزملاء، فاجأني بما هو أبعد من ظنّي:
- كيف الدكتور جواد؟
وجف قلبي. هل لسبب ذكر حبيبي أم لخوفي ممّا يتخبّأ ظهر السؤال! جاهدت أن أنتقي إجابة اعتياديّة لا تفشي ما يتعارك في داخلي:
- بخير . . أستاذ ممتاز يبذل من قلبه في التدريس.
بخبث يواريه بالرّقة:
- يبذل في التدريس فقط!؟
بدأت الألوان تنفلش. وعليَّ أن أحذر. أتظاهر بعمى الألوان:
- ما قصدك؟
132
تنهّد أخي غير غافل مراوغتي له. حدّق في عينيّ ثمّ:
- اسمعي يا نادية . . إن كنت سأتحدّث في أمر يخصّك فليس هذا إلاّ من منطلق حبّي لك وخوفي عليك.
ازدادت نبضات قلبي. تهيّأت لمعركة أدافع فيها عن نفسي إن كان ينوي فرض حصاره عليّ. كدت أبادره وأعنف عليه لكنّني في لحظة فطنة قرّرت أن أواصل مراوغتي:
- خير . . ! ما الأمر الذي يقلقك عليّ؟
رمى أخي حصاه برفق:
- قبل أكثر من شهر لمحتك تنزلين من سيّارته. قلت ربما تعطّلت سيّارتك واستعنت بزميل ليوصلك، مرّة أخرى رأيتك معه في مطعم، قلت: الأمر عاديّ بين زميلين، لهذا لم أفاتحك بالموضوع على اعتبار أنّ من حقّك التعامل مع من تثقين به من زملائك. ولكن!!
صمت كمن يشحن نفسه بمزيد من الشجاعة. كان قلبي مستمّرًا في وجيفه، لكنّني استطعت أن أنبس ضاغطة على صوتي كيّ لا يتلمّس ارتعاده:
- لكن ماذا؟؟ هل سمعت ما أزعجك؟
هزّ رأسه هزّات متتالية:
- كنت أحسبه زميلاً ثمّ عرفت أنّه أستاذك.
- وما الفرق؟
133
لم تخف حدّة خفيفة في صوته:
- الفرق أن يتحوّل الأستاذ حبيبًا، هناك أمور مسموحة وهناك أمور يجب التوقّف عندها. ما الذي يجعلك تصاحبينه لزيارة أصدقائه في بيوتهم؟ وبأيّة صفة؟
شعرتني وقعت في الفخ:
- كيف عرفت؟
- أظنّه محرجًا لي أن تدخلي بيت أحد أصدقائه الذي هو في الوقت نفسه زميلي في العمل.
أطرقت برأسي شعرت بخيبتي. أكمل:
- عندها اضطررت إلى التحرّي عنه، واحبّ فقط أن ألفت نظرك أنّك لست الوحيدة التي يصحبها في زياراته. جواد يعرف كثيرات غيرك.
صوّب سهمًا لقلبي الراعد. حاولت ان أدافع:
- لكنّه يحبّني أنا.
نبعت من عينيه نظرة مشفقة:
- جواد رجل لا يعرف الحبّ. فلا تسحبك موجته. كوني قويّة وحذرة.
انتصب واقفًا. وقفت. أخذني إلى صدره بحنان شفيف.
همس:
134
- لي أخت اثق بها وأتمنّى ألاّ تخسر ثقة أهلها بها.
لم يضف أخي كلمة. لم يثقلني بالتحذيرات والوصايا كما تفعل أمّي، لم يذكّرني بأنّني أرملة وبأنّ للناس آذانًا وعيونًا وألسنةً. اكتفى بأن يسقط حجرة صغيرة في بركتي لأحدّق في دوائرها وفقاعاتها، أتحسّس جدرانها الإسمنتيّة، أتأكّد من حوافّها إن كانت صلبة أو مثلومة. لعلّه قصد أن أكتشف بنفسي إن كانت البركة صحِّيَّة فأواصل السباحة فيها. أو أفرّ من جوفها المطحلب كي لا أغرق في العفن.
قبل أن أغلق الباب جرؤت وطلبت منه سيجارة. أشعلها دون تردّد . . قدّمها وهو يبتسم:
- كلاهما ضارّ بالصّحة . . لكن ضرر السيجارة أرحم من أضرار الحبّ.
خرج اخي . . ترك لي مساحة صمت اتسع مثل صحراء تغوّصني برمالها ثمّ تنفضني كضبّ جائع. أحاطت بي سحابة سوداء انقضّت على الأضواء وأخرستها. صرت مثل شمعة مبعوجة بلا فتيلة، لا يفكّر أحد أن يمدَّ يده إليها بعود كبريت لتضيء الظلام. زتمادى الصمت يضاعف استبداده مثل ريح عاتية تثير زوابعها من كلّ اتجاه، تفلق حبوب عقلي التي أهملتها ول أروها بقدر ما رويت بستان قلبي واخضعته لسلطة الحبّ. بدات كل فلقة تنبت سؤالاً وتجترّ ذكرى لموقف مضى ما كنت أدقّق حينها في خباياه، ولا اهتممت بأن أفكّر في نتائجه.
135
ذات مرّة طلب أن يزورني في شقّتي، حين ابديت استغرابي وتردّدي استخدم الإغراء بكلامه – المعسول – كي يقنعني:
- أريد أن أرى أين تنام حبيبتي حيث تحلم بي، أين تجلس وهي تهامسني بالهاتف، أين مكتبها الذي تدرس عليه، والبانيو الذي تستحمّ فيه، أردي كلّما اشتقت إليك وفكرت بك أن أحتويك أنت والمكان.
اعتذرت لجواد. نقلت له غضب أمّي ورفضها، وحين سعيت لتخفيف الأمر عليه نفض استياءه بوجهي:
136
- أنت ضعيفة الشخصيّة. تستبدّ بك أمّك ولا تدافعين عن حقوقك.
الآن فقط وأنا أستعيد ذلك اليوم، ألوم نفسي، أُنّبها. كان يجب أن أعلمه برفضي الصارم قبل أمّي. كان يجب حين وصفها بالمستبدّة أن أثور وأدافع عن حقّها - الأمومّي – بالخوف عليّ لكنّني لو أفعل. بدوت أمامه ضعيفة يستبدّ بمشاعري. كل ما همّني يومها تهدئته وامتصاص غضبه، بل تماديت وحنقت على أمّي التي تسبّبت في تعكير مزاجه فعاندتها وواصلت علاقتي به ضاربة بخوفها. وها هو أخي بخوف حنون يدعوني أن أكون حذرة من السّراب.
ثمّ ماذا يا جواد؟ إلى أين ستدحرجني أنانيّتك بعد محيط سرابك؟ لعلّه السؤال المغيّب الذي كَمَنَ حتى يؤون له الانفلات.
بعد حديث أخي الحنون، بدأت أخفّف من هطول سحائبي على أرض جواد. رفضت مصاحبته إلى بيوت أصدقائه دون أن أكشف له افتضاح أمرنا لأخي. وقلّلت من الخروج معه إلى المطاعم. بدأت أهجر الهاتف، لا أبادر بالاتصال ولا أردّ إذا تواصل الرنين. تقصّدت أن يفهم أنّني لست ضعيفة ولا سهلة كما يظنّ، وأنّني بإرادتي أتّخذ قراري وليس بدافع من أحد.
للعناد لذّة!. لكنّه لم يكن سهلاً، فلا يزال جواد يسبح في دمي، يحاصرني في صمتي، ينثر عطره، صوته، وصورته، فأتوقّد حينًا إليه، أتقطّع، ويولول قلبي من الشوق، كانت فترة التناسي أشقى من قهر القصر، أنهكني الصّبر وذبت في الليالي، سفحت
137
من مياه عيني دموعًا أملح من ماء البحر، وانطويت بجوع روحي كما الدودة المرشوشة بالمبيد. أسبوع كامل وأنا أكابد لأكبح جماحي، لكنّني ما عدت قادرة على لجم شوقي المحتدم كالثغر المفتوح. أمسكت بالهاتف، أطلقت أصابعي لتدير رقمه والخوف يرجّني: ماذا لو أغلق بوجهي؟
انهلت عليه بقسوة تشحن هبوبها من أوجاع الصّبر والجوع، ظلّ صامتًا فاستدركت موقفي، غيّرت من لهجتي العنيفة، خشيت أن ينفضّ عنّي بعد أن عانقت صوته وانتعشت، لكنّه بدا وكأنّه عانى مثلي وانتظر هذه المبادرة. تجاوز لهجتي العنيفة وبدأ يسيل عواطفه، يرشّ أشواقه، كان ذكيًّا جريئًا في انتقاء عبارات غزله الدهش، كانت ذبذبات صوته مثل الفأس تحطّم شجرة مقاومتي فتذبل أغصانها وتتراخى، فاضت دموعي، فحها صوتي الذي غصّ بها. عاتبني:
- وتبكين؟ أتراه شوقًا أو ندمًا؟
لم أتمالك. انهمرت عليه بكلّ أوجع صبري وألمي الذي وصل حدّ الإدماء. بثثته كلّ عواطفي لأرطّب دروب الوصل التي
138
جفّفتها بعنادي لبعض الوقت، نثرت ورودي، فجّرت رعودي، وأطلقت بروقي مستسلمة لنشوتي المضاءة بع انطفاء.
بعد تلك القطيعة والعودة. تغيّر جواد أصبح أكثر إلحاحًا أن أخرج معه، أن أقضي الساعات لوقت متأخّر ونحن نتجوّل بسيارته في شوارع المناطق المعتمة. وذات ليلة ابتعد بي إلى منطقة بعيدة قاحلة من الحركة مسكونة بصمت موحش. كان الظلام مريبًا والشارع ضيّقًا، أصررت أن أخرج من المنطقة قبل أن يفاجئنا رجل مباحث أو سيّارة شرطة. ضحك من سذاجتي، شدّني إلى عنوة وحاول التقام شفتيّ. بعنف أبعدته عنّي فصرخ بوجهي:
- لا أفهم كيف تحبّينني وترفضين قبلة!
تحدّيته:
- وهل إذا أحببت أندفع إلى الخطأ؟
سخر منّي:
- ليس هذا هو السبب . . . يبدو لي أنّك امرأة باردة.
يتحدّاني . . يتصوّر بأنّه بتلك الكلمة يقرصني لأتحدّى نفسي وأثبت له العكس لكنّني صدمته:
- جميل أن تكتشف بأنّني امرأة قادرة أن أضع غرائزي كلّها في الفريزر.
- لن أتردّد إن جاء ابن الحلال الذي يستاهل جمالي . . و . . حرارتي.
بصق ضحكة ساخرة:
- أنت مغرورة.
بثقة أجبت:
- أعرف . . ويحقّق لي ذلك.
انتفض وكأنّ صبره فاض به، هرس دوّاسة البنزين، شفط فالتقطت عيناي انتفاضة قطط راقدة أفزعها الصوت. كنت خائفة من السرعة التي انطلق بها عبر الشوارع لكنّي ما جرؤت أن أطالبه بالتأنّي، خشيت أن يستغلّ خوفي ويضاعف السرعة فأموت.
لاحظته يوجّه دفة السيّارة إلى طريق غير طريق بيتي:
- إلى أين!؟
- بودّي أن نختلي بمنزلي.
140
دفعتني النقمة عليه أن أصرخ:
- وهل تحسبني سأوافق؟؟
كارهًا رفضي استشاط:
- أمعقول أن لا تكون لديك الرغبة في ذلك؟
ذكّرته:
- إن كنت لا أرغب في قبلتك . . فكيف أذهب إلى بيتك؟
بغرور وقح:
- كثيرات يتمنّين هذا.
أعرف. هناك المتردّية والنطيحة و ((طايحة الحظ)).
ابتلع ردّي لكنّه تقيّأه إهانة مباشرة:
- تشكّين بذوقي!! ها أنت معي.
انكمشت دون كلمة، شعرت بإهانته توقظني أنا إذن واحدة من القطيع.
ران الصمت كئيبًا مثل دود ينبر بلحمي، يتسلّى بنهشي، فأتمنّى لو أقذف نفسي من السيّارة وأختار موتي. لاحظ ضيقي. مدّ كفه محاولاً التقاط ذراعي، فالتصقت ببابي مبتعدة عنه.
- زعلتِ؟
- بل أُهنت.
141
- تعتبرين رغبتي فيك إهانة؟
- لن أحقّق رغبتك.
أوقف السيّارة، استدار نحوي، كان في عينيه بريق مخيف، وفي صوته تشنّج واضح:
- ممّ تخافين؟ أنت أرملة، من حقّك أن تستمتعي ما دمت تحبّين.
أمّي تريدني أن أخاف لأنّني أرملة، وهو يريدني أرملة لا تخاف لتشبع رغباته! كان لا بدّ أن أردّ على إهانته:
- زوجتك هناك وحدها كالأرملة. هل من حقّها أن تستمتع مع أحد غيرك؟
انتفض وكأنّني مسست إحدى مقدّساته:
- زوجتي تحبّني ولا تفعل هذا.
هل تراه يخمد سؤالي أم يسدّ ثقبًا صغيراً حفرته فجأة في عقله يخشى أن يفكّر فيه فيندفع بركان النار إليه؟ أم تراه ثقة الحيوان الذي يتصوّر أن لا رائحة تجذب أنثاه إلاّ رائحته!؟ رغم هذا خرجت الكلمة حادّه من لسانه:
- لو فعلت أقتلها.
جفلت . . أرعبني تناقضه السريع. ثقة بالحبّ زائدة ثمّ احتداد شكّ يصل حدّ الجريمة إن هي فعلت.
ساد صمت وكأنّني قد هشمت الكلام فصار كالزجاج الجارح
142
عالقًا في حلقه، كنت أصارع في بحر هائج لكنّي استطعت أن أصطاد قراري وأحذفه إليه:
- عد بي إلى البيت حالاً.
* * *
وجدتني دون تردّد أطرق باب أمّي فائضة بخيبتي ودموعي. لا شيء يطفئ حاجتي للراحة إلاّ قلب أمّ . . مهما حمل من الشدّة إلاّ أنّ أرضه تظلّ مفروشة بالوسائد الرقيقة.
فتحت الباب . . اندفعت إلى صدرها زهرة بلا أغصان، فراشة بلا أجنحة، شمعة بلا ضوء، تيّاهة في أملي أنّها سترمّم انكساري.
لكن فزعها الذي انبثق من أعماقها وصرختها وهي تشدّني إلى صدرها جعلتني أعزف عن مصارحتها بالحقيقة. فادّعيت أنّني تشاجرت مع صديقة عزيزة. رفعت وجهي المبتل، حدّقت بنظرتها الشكوكة، شعرت بشيء ينبض من صدرها ويكذّبني: بل هو جواد.
ممزوجًا بفرح وكأنّها بانتظار لحظة خلاصي منه. هل أسعد قلبها وأعترف؟ هل سأحظى منها بما يشدّ أزري ويواسيني؟ أم تراها إن عرفت كل التفاصيل ستشحن أبي وأخي ليثأر منه وربما يتآزران ليمنعاني من الذهاب إلى الجامعة ولم يبق على تخرجي سوى أشهر قليلة؟ كانت اللحظات راعدة قاسية وعقلي يلوب بالتخمينات التي لا تستقرّ فقرّرت أن أواصل كذبتي ولا أفتح عليّ بابًا آخر لمزيد من التعب. آليت أن أكتم سرّي، أكتفي بذرّ وجعي عندها ثم أفرّ إلى شقّتي. كنت بحاجة إلى سكينة ما تهبط ملائكتها على قلبي لتهدّئ روعه. ولم تكن غير سكينة الصمت ووحدتي.
143
استقبلني صمت شقّتي، لا ضوء سوى الساطع من رأس الأباجورة الورديّة وذلك النافذ عبر الزجاج من أضواء الشارع.
أرخيت جسدي الواهن على الأريكة. أسلمت روحي مطواعة للصمت المبثوث في كل الأرجاء. هو نافذتي الوحيدة أدخل إليها أستلقي في أرجوحتها وأتركها تؤرجح الجسد المنهك والقلب الدخان. لم أشعر بالصمت ثقيلاً فما هو إلاّ ضيف عليّ والضيف الحنون لا يثقل على المضيف. احتويته، استرخيت فيه أنطوى في ثناياه الحريريّة، يغانجني بألوانه، يهامسني بصوت أشبه بحفيف أوراق مثقلة بالندى، استكنت إليه بكل احتياجي للهدوء بعد العاصفة التي شنّها عليّ جواد. شيء كالإغماءة بدأ يدغدغني ما كدت أشعر بانتعاشه حتى هجم عليّ السؤال مثل كفّ تصفعني وتثوغ في تلافيف لحمي ((ثمّ ماذا يا جواد؟ عرفت الآن أنّك أبعد ما تكون عن حقيقية الحبّ الذي صار حقيقتي ووجودي. هاجسك الجسد والمتعة تريد أن تحرّض الأرملة المحرومة لتشق ستائرها وصير عشيقة لك، تريد أن تحوّل عفّة الحب إلى وحل الخطيئة وأنا لست قابلة للامتلاك. كنت في ذلك القصر أرضخ لاغتصابات العجوز ورغباته المقزّزة وهو يباشر جسدًا خاليًا من الحياة خاويًا من الرغبة. وانت! وإن كنت الرجل القادر على إشعال كل فتائلي فلن أهبك جسدًا لا يخضع لقانون المجتمع وشرع الله)).
اضطربت روحي، تورّم الصمت فجأة فأورم حقدي. صار ثورة يمتدّ كل سعيرها إلى جواد راغبة أن تحرقه، هل يُطفأ الحبّ في لحظة أم تراه يكبو ثم يهب من هول عثرته؟
144
نظرت إلى الهاتف الصامت. ماذا لو اتصل الآن ليعتذر؟ ماذا لو عاد يدفق شوقه الليليّ المسيل لشوقي؟ هل أستسلم وأعطيه الفرصة ليستقوي عليّ ويقتادني إلى رغباته؟ هل أتركه ينتصر وأنا التي رغم ضعفي انتصرت على ذلك العجوز؟
كان الحقد يغلي في داخلي والندم على كل لحظة حبّ وهبتها له يمزّقني ويطالبني بقوّة أن أحافظ على كرامتي والبقيّة الباقية من ذبالة قلبي، وأن أطوي صفحة صفراء من حياتي. مددت يدي دون تردّد، سحبت فيش الهاتف، سرّبت نفسي إلى فراشي البارد بعد أن ابتلعت حبّتين من البنادول.
* * *
145
سلّمني الطبيب ورقة الدخول وأكّد لي:
- لا تنسي بعد التاسعة تصومين.
- مازحته:
- عن الطعام أو الكلام؟
ضحك فبانت أسنانه المرصوصة بأناقة:
- يستحسن أن ترتاح حنجرتك قبل العمليّة.
تحرّكت نحو الباب. توقّفت قليلاً وعدت إليه:
- دكتور . . أرجوك أن تهتم بي، لا أريد أن أموت.
ذهلت عيناه بوقار شديد قال:
- الأعمار بيد الله اعتمدي عليه.
- وعليك يا دكتور.
ابتسم. داعب قلمه كمن يداعب توسّلي:
- ما نحن إلاّ بشر يهيّئنا الله لنخفّف آلام الناس.
146
وقف يستعجل انصرافي وهو يطمئنني:
- العمليّة بسيطة جدًّا. لن تستغرق أكثر من نصف ساعة. لا تخافي.
لا أخاف!؟ كيف لا أخاف؟ هل ثمّة إنسان لا يخاف؟ غدًا يغيّبني بنج لا أدري إن كنت سأصحو منه أم يسلّمني إلى الموت، هل أتجاوز لحظة ضعفي وأتظاهر أمامه بالشجاعة؟ لاب سؤال في داخلي، اقتربت منه ثانية:
- دكتور . . الخوف شعور طبيعيّ عند كل إنسان حتى أنت.
ألا تخاف؟
نطق كأنّه يقلّل من شأني:
- المؤمن لا يخاف، يسلّم أمره بربه ويتّكل عليه.
- لكن الله هو الذي خلق الخوف والشجاعة. كل المتناقضات موجودة في الإنسان وأنت بكلامك كأنّك تنفي ما خلقه الله.
عبس وجهه:
- أستغفر الله. لم أقصد ذلك، أردت فقط أن أوضّح لك أنّ الإنسان القويّ الإيمان يتجاوز حالات الخوف، لهذا أنا لا أخاف.
شعرت وكأنّه يشكّك بإيماني لأنّني لست محجّبة، تأمّلته وإحساسي أنّه يغالط نفسه، فمهما كان مؤمنًا وشجاعًا لكنّه جرّب الخوف وعرفه، على الأقلّ هو ككلّ الرجال، يخافون من
147
زوجاتهم وخسائر تجارتهم. لعلّه شعر بما يخالجني، خشي إن أطلت بقائي أن أفتح معه حوارًا لا يعجبه، استعجلني:
- أريدك غدًا شجاعة ومتفائلة.
خرجت.
كانت السماءمفروشة بغوم غير ناضجة، الشمس دافئة كرغيف، الزحام يخنق الشوارع، قلبي مليء بالدعاء، وصوت فيروز يتهادى من المسجّلة مثل دمعة تترقرق ((ليالي الشمال الحزيني . . ضلّي اذكريني اذكريني)). لاح طيف جواد، كان مثلي يعشق صوت فيروز، يهديني شرائطها، يدندن بمقاطع من أغانيها وهو يقطع بنا الشوارع في ليالي الحب التي مضت. لماذا لاح طيفه الآن؟ هل تراه لا يزال يتذكّرني؟ هل يندم لأنّه أفلتني من قلبه وحياته! ليته يدرك أنّني غير نادمةٍ بل مرتاحة لأنّني نفذت من خروم شبكته.
أسرعت إلى شقّة أمّي. طرقت بكفّي معزفتي الموسيقيّة التي اعتادتها. أمّي تفرح بدقّاتي التي تميّز حضوري، حاول أخي ذات يوم أن يقلّدها فتعجّلت أمّي التي كانت تشطف المطبخ بالصابون، تزحلقت . . لكنّها تحاملت على عثرتها وركضت لتفتح الباب، حين لمحت وجه أخي أشهرت غضبها عليه ((لا تدقّ مثل نادية)).
تاب أخي. لكن أبي الذي سمع الحكاية استهواه أن يشاكسها ويفعل، إلاّ أنّه لم يتقن عزفي فتركته عند الباب حتى اضطرّ أن يقرع الجرس. فتحت له وبادرته ساخرة ((هاي . . هاي . . شو حسبتني هبلة! نادية بتعمل ((تيري . . تيري لَمْ، أنت عملتها
148
تيري . . لَمْ . . لَمْ)) يومها قال لي أبي ضحكت من خيبتي وتمنّيت لو أمّك تحفظ دقّتي كما تحفظ دقّتك)).
فتحت لي الباب ملهوفة، قبل أن تسألني كنت أبادرها بقبلة محمومة وبطلبي:
- أريد أن آكل بسرعة. بعد التاسعة سأصوم، العمليّة غدًا.
انفجرت أمّي بالبكاء، ممّا حرّك السؤال في داخلي ((هل تملك الأمّهات بئرًا لا ينضب من الدموع؟ إذا فرحنَ بكينَ . . وإذا اكتوينَ بالحزن بكينَ . . يغضبنَ، يصرخنَ، يثرنَ، وتنتهي كل وصلة بالبكاء أسفًا أو استدرارًا لعطف من يُسئْنَ إليه. كل دموع الأمّهات صادقة كما دعواتهنّ في السماء حين تتوَضّأُ السماء بالنور وتفتح صدرها للدعوات. لن أنسى كم بكت أمّي لأجلي حين تركت جواد. كانت كمن تنوب عنّي لتريحني، وبدل أن تواسيني كنت أنا من يفعل ويجفّف دموعها.
ظلّت أمّي تبكي وهي تسكب لي مزيدًا من الأرز والبامية، اعترضت على الكمّية فأصرّت:
- ((لازم تشبعي . . صيام قبل العمليّة وبعدها)).
احتقن صوتها ببقايا دموعها التي حبستها، جلست قبالتي تتأمّلني وأنا ألتهم الطعام بشراهة وأثني على طعمه اللذيذ، أثرثر بأيّ شيء بمرح تقصّدته كي أخفّف عنها خوفها الذي لا يقلّ عن خوفي وهي تشحذ همّتها لتضحك أو تنطق بالكلمات.
تركت أمي الطاولة وصحونها على غير عادتها وطلبت أن
149
نصعد إلى شقّتي لتجهّز حقيبتي. سمّت بالله ثلاثًا قبل أن ترضّ فيها ما أحتاجه: ملابس داخليّة، قمصان نوم، مناشف وشبشب، فرشاة الأسنان والمعجون، فرشاة الشعر والكريمات. لم تغفل شيئًا، الراديو الصغير وضوء القراءة الذي أشبكه بالكتاب، حتى روج الشفتين والخدود ممّا أثارني فضحكت:
- هل أنا ذاهبة إلى حفلة؟!
شدّت على كلماتها:
- ((ما بدي أشوفك صفرا وبهتانة، لازم تضلّي حلوة ومزهزهة)).
كان لسانها لا يهدأ. تناثل منه الدعوات حنونة، ولا أدري هل كانت تُطمئن نفسها أم تطمئنني وهي تقول:
- ((ما تخافي. عمليّة بسيطة، بكرة بيرجع صوتك متل البلبل)).
- وأشارت إلى عصافيري التي كانت صامتة.
هل كانت عصافيري تشعر بأنّني سأغادرها وأتركها للوحدة والصّمت؟ هل تراها تتلو صلوات ودعوات أن أعود إليها سالمة؟
اقتربت من أحد الأقفاص، زججت بكفّي فنطّ العصفور عليها.
صار ينقرها برقّةٍ أثارت دغدغةً ناعمة في أوصالي، آآآه . . حتى العصافير تعرف الحبّ وتعبّر عنه، وهي بهذه البراءة أصدق من الرجال.
بعد أن أكملت أمّي حشوة الحقيبة وأغلقتها، اتجهت إلى النافذة، فتحت بلوزتها وأشرعت صدرها الأبيض وصوتها الحنون
150
إلى السماء: ((يا إلهي وأنت جاهي أحضّر لك جهاز عرسك وأزفك لبيت عريسك)).
كنت أعرف أنّني أنفخ في قرة مقطوعة، لن تنسى أمّي أبدًاً ما سبّبته لنا الصدمة بجواد من عذاب ومرار، ستظلُّ تحقد عليه وتكيل له أدعية غضبها متمنّية أن تتعكّر حياته كما عكّر حياتي ذلك اليوم.
لا أشكُّ أن جوادًا أحبّني لكن رغبته أن يحظى بي كانت أقوى من الحبّ، وهي التي دفعته حين استعصيت عليه أن يطرق الباب الأخير ويفاجئني:
- نتزّوج.
لم أصدّق، أزهرت الأعراس في داخلي، شعرت وكأنّني أسقط فجأة في بحيرة من الورد والغيم، حاولت كبت شعوري المزغرد والمجنون، سكبت على لساني صمتًا ثلجيًّا بينما جمرات الفرح تستعرّ في داخلي، حسبني لم أسمعه فرفع صوته:
- أتسمعين؟ قلت نتزوّج.
طرت بفكري إلى صدر أمّي. هل تسمعين ما أسمع؟ ها هو أخيرًا بعد أن امتصّه اليأس يطرق باب الزواج.
تعمّدت أن أتمسك بصلابتي، أن أبدو غير ملهوفة، وأنّ الأمر ليس سهلاً كما يتصوّر، لم أتردّد وألقيت إليه بحجّتي:
125
- ربما لا يوافق أهلي، أقصد أنت متزوّج و . . .
قاطعني:
- ما المشكلة؟ أحلَّ الله مثنى وثلاثًا ورباعًا.
مارست عليه سطوتي:
- وزوجتك؟ هل سترضى بِضُرّة؟
تلعثم، حاول أن يواري عينيه عني:
- لن تعرف، ولا أريد لأحد أن يعرف.
خفق قلبي، اضطرب وجهي، ولعلّه لحظَ اكفهراري فحاول أن يرقّق من صوته:
- أنت تعرفين الظروف. قد يثير بعض المتشدّدين الزوابع ويتّهمون أساتذة الجامعة بأنّهم يقيمون علاقات مع الطالبات و . . .
قاطعته وقد بدأ فرحي يتقلّص:
- هذه ليس علاقة حتى تخاف، إنّه زواج على سنة الله ورسوله.
نفخ مستاءً:
- ولوْ. أريد أن أتحاشى المشاكلوغضب زوجتي.
يخاف على شعور زوجته ولا يهمّه وضعي أمام الناس، أردت أن أكشف ما الذي يدور في ذهنه وأصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ معه:
153
- والحل؟
قذف إجابته كمن يقذفني برصاصة:
- نتزوج سرًّا.
هوت الكلمات كالسّف تشقّ رأسي وقلبي، انقذفتُ في لحظةٍ من بحيرة الورد والغيم إلى نفقٍ مظلم، إلى في داخلي حقد أسود . . الحقير . . يريد أن يأتيني سرًّا ليتنفّس حرّيّته ويشبع رغبته وكأنّني جارية. لم أستطع أن أصُكّ على حقدي وغضبي:
- وهل تظنّني وأهل سنوافق؟
حاول أن يتلاطف:
يا حبيبتي . . هي مدّه نحدّدها ولا تُلزمنا بالإشهار.
إهانةٌ جعلتني أصرخ:
- قصدك زواج . . .
انشرحت أساريره وكأنه ارتاح لسرعة فهمي:
- بالضّبط. زواج متعة.
كان يُريقُ وحل أفكاره على أرضٍ يظنّها عجفاء، لسعتني وقاحته، توثّب كل شيء فيّ، كاد عصفي يهيّج كفّي باتجاه وجهه الذي تشوّه في لحظة أمامي، بدا كوجه ذئب يراوغ طريدته العنيدة. ضغطت على روحي المهانة، نظرت إليه باحتقار شديد:
- تعرف أنّ مذهبنا لا يعترف بهذا الزواج، هذا أوّلاً، أمّا ثانيًا، فأنا لا أتشرّف أن أرتبط برجل جبان مثلك.
154
ألويتُ لأفرّ من نذالته، شدّ ذراعي وضغط عليها:
- نادية . . أرجوك نتفاهم.
سحبت ذراعي حتى شكَكْت أنّني مزّقت بعض أنسجته وصرخت:
- أرجوك أنت. إيّاك أن تظنّني رخيصة إلى هذا الحد.
لم أدر كيف طارت بي ساقاي إلى سيّارتي، ولا كيف اتّسعت لتورّمي، دست على دوّاسة البنزين بقسوة وشعوري أنّني أدوس رأسه، انفلتُّ وكأنّني أهرب من أفعى شرسة.
السماء رماديّة، والغيوم قمصان داكنة تحرّكها الريح وتقطّع أوصالها، تتمزّق ثم تعود وتلتئم كتلاً كثيفة أشبه بأجساد حيوانات ضخمة، الطريق يتضبَّبُ أمامي بسبب دموعي التي اختنقت بها عيناي. كنت شاردة لا أعرف كيف أوجّه دفّة سيري، لكنّني أحسست بالسّيارة تشقُّ العباب وتوفّر عليّ مشقّة التفكير في الطريق، حتى أوصلتني إلى البيت.
أقبل عطيّة مسرعًا فرح الوجه كعادته ليحمل حقيبة الجامعة الثقيلة، خرجت من السّيارة، أغلقت بابها بعنف جعل صوته المفزوع ينطلق:
- خيرْ يا سيّدتي؟
لكنّني تخطّيته وحنجرتي المتشنّجة إثر الصدمة تأمره:
155
- اترك الحقيبة ونظّف السيارة من الداخل.
كان قد تفانى في تنظيفها في الصباح؛ لكن شعورًا غريبًا فاجأني بأنّها ازدحمت بقرفي الذي نفث روائحه، وبنثارات قلبي الذي تفتّت، وبدماء كرامتي التي سُحقت.
لم أجرؤ أن أدقَّ باب أمّي وأنا مصهورة بألمي، مغلّفة بحشف خيبتي، فررْ إلى شقتي، ارتميت على أقرب مقعد وأطلقت صرخة متأسّية على نفسي، مشفقة على قلبي الذي ناءَ بحبٍّ خادع.
أطلق الصمت هديره يسعل كصدرٍ مسلول، ومساحة الشّقة الواسعة تتزمْزم وتضيق، أحسستني فراشة هشّة في قلب زجاجة لا منفذ فيها لأتنفّس، ولا صوت يخترقها إلاّ عبارة جواد مثل رؤوس مسامير دبقة تخرم جلدي ولا تسقط. واهنة ضعيفة لا يمكنني وحدي أن أكسر الزجاجة، أحتاج لمن يجبّر كسوري ويلملم نثاري وينزح بقلبي المتكوّم على نفسه من الظلمة إلى النور. ندمت أنّني تجاوزت باب أمّي وحضنها رغم أنّني أصطكُّ من الوجع. لم أكد أسقط على أريكتي حتى زعق جرس الباب متلاحقًا. كان دخول أمّي كإشراقة الشمس في يوم غائم.
بالتأكيد لم يكن قلبها استنبأ عن حالتي لكنّه عطيّة الذي صدمه منظري نقل فزعه إليها. وجدتني فجأة أتحرّر من قعر زجاجتي المعتم، ألتوي في حضنها الدافئ وأفتح صواميل دموعي وأقفال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عنوان رواية للكاتب الكبير حنا مينة.
156
سرّي. آآآه لا شيء كالأمّ، فإن كان مجرد خيط من اللهب يذيب شمعة فليس أقدر من لمستها على إذابة صخور أوجاعي. كانت كما الخيمة الؤوفة تؤوي عصفورة مزّقتها الريح، تتلمّس أنحائي كلّها لتتأكّد أنّ الريح لم تبتر منّي قدمًا، ولم تكسر لي ذراعًا، تحوفني مثل شمس وتدفئني حتى تكسر جليدي. سال صمت لساني يسري إليها بصدمتي، توقّعت أن تثور، أن يشنّ لسانها حملته الحمراء على جواد ناسية أنّني بين يديها فرخة مذبوحة.
أف . . كم كانت ثقتي جافّة بأمّي. فوجئت بها تحيد عن ذِكْرِهِ وعن لومي وتحتوي تأزّمي، تفرش حنان أجنحتها الرطبة، تبلّل عصفي، تغسل أساي، وتقرأ ما يسعفها من آيات وأدعية بصوت يترقرق بالخوف والدموع. حين سرى الدفء والأمان إلى روحي همست لها:
- لا تقلقي يا ماما. سوف أتجاوز محنتي.
* * *
سهلٌ أن تغرينا بحيرة من العسل فنرتمي فيها. ننساب في سيلها الصافي. ننهل ما يفوق إحتمالنا من الشهد متلذّذين بطعمه حتى يبدأ السيل يتضاءل فيلوح القاع، عندها نستردُّ وعينا الغائب، ونخشى من الارتطام فتبدأ الحرب لنجذب أنفسنا من البحيرة الدبقة، نتصوّر أنّنا نجونامن شجِّ الرأس واهتراس الجسد، لكنّنا نفاجأُ ونحن مدهون بالعسل بأنّ آلاف الحشرات، بكلّ اشكالها، تنجذب إلينا لتتغذّى من بقايا عسلنا باللسع والعقص والحكاك. نبقى تحت رحمة هذه الحشرات النهمة مثابرين
157
ومجاهدين كي نتخلّص من الألم. ونكون قادرين على مداواة جلدنا وترقيع روحنا التي تمزّقت من الجروح. هكذا عانيتُ لأخرج من بحيرة العسل، كابدتُ اللوعات وأنا أهرش جروحي وأصبُّ عليها مياه صبري لتشفى، ناضلتُ لأزحزح شبكة الحديد المسنّن وأخرج منها دون أن تتقطّع أوصالي، ذرفتُ دموعًا تركتْ آثار الخرمشات على خدودي كما يترك البحر ملحه وبقاياه على صدور القواقع وخصور الحجارة. انقطعت عن الجامعة وتهتُ في فراغ شقّتي مثل قطّة فقدت صغارها، مثل ريشةٍ مفصولة عن جناحها لا تستقرّعلى أرض، صرت كالورقة الصمّاء لا تلتصق بها الحروف ولا تلوّنها الأحبار، منذ ذلك اليوم أدمنت السجائر، أحرقها، أحترق بها، أملأُ صدري بغيمات الدخان وتمتلئ شقّتي بروائحها البائتة، ولا أفطن لتعبُّؤِ المكان إلاّ حين تصمت عصافيري وتلتصق بأرض أقفاصها، عندها أفتح النوافذ فيتراقص الهواء، تزقزق العصافير وتلتقط حبوبها بشهيّة. أشعر حين أحرّرها أنّني تحرّرت من دبابيسي فأفتح الراديو أغنّي مع الأغنية مهما كانت تافهة، وحين أسمع أغنية حزينة تضرب على وتر أوجاعي، أعود إلى السجائر وتعود الشقّة تتعكّر، يلفّني صمت رائب، أتحوْصل فيه فلا أشمُّ غير الحموضة ورائحة فجيعتي.
لم تتركني أمّي أعاني وحدي. كانت مثل بستان زاهر يفتح أرجاءه للفراشة الصامته الذاوية، تُمطرني بحنانها، تلوّن جناحي بعذب كلماتها المؤاسية، وتشتل في داخلي بذور القوّة لأتجاوز ما أنا فيه من كروب، تحثّني أن أتحامل على ضعفي وأذهب إلى الجامعة. لأشمخ برأسي أمام جواد وأتحدّاه فأرفض:
158
- لا أريد أن أرى وجهه.
تضيق أمّي بعنادي وتنبّهني:
- ((بدّك تشوفي مستقبلك، الجامعة كانت حلمك)).
حين تتركني لوحدتي، أبدأ ألملم شتات عقلي، أحاور نفسي لأستمطرها السرَّ الحقيقيّ الذي يدفعني إلى الهرب. هل حقًّا لا أريد أن أرى وجه جواد لأنّني كرهته بعد أن تأكّدت أنّني مجرّد نزوة عابرة أو دمية يتشهّى اللعب بها ثم يرميها؟ أم كنت أخشى إن رأيته تستيقظ عواطفي ثانية وتتهاوى مقاومتي فأرضى بما عرضه عليّ؟ لا أنكر أنّني في لياليّ القاسية الأولى كنت أستحضر فكرته وأقلّبها:
ما المانع بأن أحقق لقلبي وجسدي فرحة ومتعة مادام هناك عقد زواج؟ فالأمر ليس حرامًا. يمارسه الشيعة علنًا ويمارسه بعض السنّة في السرّ. أليس أفضل من زواج معلن دائم يربطني برجل يعذّبني ويذلّني كما حدث لي مع ذلك العجوز؟ كدت أكاد أقتنع بالفكرة ثم أتيقّظ وأرفض ليس بسبب خوفي من الكارثة التي ستحلّ بأمّي وأبي إن أنا صمّمت على القبول، فبإمكاني إقناعهم بأنّني لست ((بنت بنوت)) يريد أن يشهدا فرحتهما الأولى بها، أنا مجرّد أرملة استحلّها رجل وقطف زهرتها البكر ولن يفكّر بالزواج منها إلاّ أرمل مثلها أو رجل متزوّج مثل جواد. كان المانع الأكبر أنّ مثل هذا الزواج لن يعطيني الإحساس بقيمتي كأمرأة تستحق أن يكون لها زوج يتباهى بها أمام الناس وتطلُّ معه على الدنيا المفتوحة، كما أنّه لن يحقّق لي مشروع الأمومة الذي
159
تحلم به كل امرأة. فما دام سرّيًّ ومؤقّتً؛ فهذا يعني أنّ الرجل لن يقبل بطفل يشير إليه ويفضح أمره. حين كنت أصل بالفكرة إلى ها الحدّ؛ أرتعش قهرًا، وأحتقن كراهية لجواد وأواصل هروبي منه ومن الجامعة.
لم يغب أمري عن أبي. لكنّه لم يواجهني بغضبه، أدركت أنّ أمّي دفعته إلى التحكّم بمشاعره وأعصابه، اكتفى بأن يشتُم الرجال الأنذال، ويهزأ من سذاجتي واندفاعي بنظراته التي لا تخلو من اللوم والتقريع الصامت. لم أكن أخشى إلاّ من اللحظة التي أواجه فيها أخي، هل سيشمت بي ويلعن تهوّري وعنادي؟
نقلت تخوّفي لإيمان فأكّدت:
- أخوك سيرتاح لأنّك أخيرًا اكتشفت ما حذّرك منه.
خفّف هذا عني وجعل لقائي بأخي مريحًا، حين دخل عليّ أسرع إلى النافذة، فتحها ليطرد الدخان. جلس عابسًا يهشّ ما تبقّى من آثاره، صمتَ قليلاً قبل أن ينطق:
- الحبّ كالرّيح لا ندري نواياها ولا ماذا تحمل إلينا، والمطلوب أن نواجهها، ننحني ولا ننكسر.
استللت سيجارة لأشعلها، قبل أن أمسّ رأسها بالنار، كان يسبقني ويقذفها من يدي مستاءً:
- ستقتلك هذه السجائر. ألا يكفي ما أنت فيه؟ كوني شجاعة مثلي واتركيها.
بكيت فتحرّكتْ كل أوتار أخوّته باتجاه دموعي، حضن رأسي، نبرة صوته احتدّت:
160
- والله لولا خوفي من الفضائح، لعرف كيف أستدّ من هذا النذل.
- أرجوك يا أخي . . لا تعرّض نفسك للمهانة . . لقد انتهى الأمر الآن.
ربما راوده بعض الشكّ:
- قد يكرّر المحاولة.
- ثق أنني لن أسمح له، إنّها كرامتي.
تنهّد أخي، شعرت أنّها نهدت الراحة، تأمّلني ثمَّ همس:
- أعرفك قويّة ستجتازين محنتك والمستقبل المضيء أمامك.
تركني أخي وقد حاوطتني أذرع الأمان وكأنّها جذور سُقيَت بنهر كامل فتفرّعت سريعًا إلى ضفاف قلبي وعمق روحي وتأجّج الإصرار أكثر لأتمسّك بقراري، أنسى جواد وأعتبره مجرّد ريح هو جاء عبرت، هشّمت بعض أضلاعي ولم تُطِح بالأساس.
كانت سنتي النهائيّة في الجامعة، تمنّيتها أن تركض لأفرّ من ريحها ومن البقعة التي تجمعني بجواد، تحاشيته، أهملته، انكببت على الدراسة وإصراري على التخرّج بامتياز لأثبت له أنّني شجاعة لا يلويني الحبّ ولا تدمّرني نذالة رجل. شيئًا فشيئًا برأتُ منه، فالحبّ لا يحتمل القلق، حين يثقل على الروح يبدأ يتضاءل، يكشُّ حتى يصير القلب مثل ليمونة معصورة أو ثديٍّ أُفرغ من أنسجته، يترهّل يتسرْطن ولا تفيد معه العلاجات
161
فيموت. وأنا أحبّ قلبي، أريد أن أحميه ليعيش. جاهدت لأخرج من الذي تصوّرته غابة نخيل أهزّ عذوقها فيسّاقط الثمر شهيًّا. فكتشفت أنّه غابت شوك دامية حمدت الله أنّني فررت منها قبل أن ينزف كل دمي.
كان يوم تخرّجي بامتياز، كما أردْت، كان من أسعد أيّام حياتي، شعرت بأنّني انتصرت عليه وثأرتُ لكرامتي رغم الآلام التي تركت أثلامها في قلبي وكادت تجعل من أحلامي بقايا تالفة.
شهور قليلة مضت وأنا أتابع سير أوراقي لأحصل على الوظيفة. ويوم تسلّمت قرار تعييني معلّمة للّغة العربية طرت إلى البيت لأبشّر أمّي، ركض عطيّة نحوي، حين لمح البشر يعوم على وجهي أدرك أسبابه وبادر بصوت يزقزق من الفرح:
- مبروك.
شكرت محبّته وفرحته، أردت أن أواصل طيراني لو لا أنّه اعترضني، اقترب منّي أكثر كمن يخفي سرًّا:
- الحمدلله حصلت على الوظيفة، فمتى تفين بوعدك لي؟
- أي وعد؟
انقبض وجهه ونظرة لوم حنون تنبع من عينيه:
- هل نسيت؟ وعدت أن تزوّجيني و . . .
أرسى نظرة غريبة على وجهي، تلعثم قبل أن ينطق:
162
- مثل ما قلت لك ونحن في القصر، أن تكون مثلك.
ضربت خفيفًا على على جبيني، ضحكت وفاجأته:
- غيّرت رأيي.
فجع. فسارعت أزيل فجيعته:
- قبل أن أزوّجك أريد أن تتعلّم.
- أتعلّم شنو؟ . . السواقة؟
- لأ . . ستتعلّم القراءة والكتابة.
أطلق ضحكة صارخة، تنبّه أنّه تمادى بها فاغلق فمه بكفّه لحظة ثم قال:
- ((يوم شابْ ودّوه الكتاب)).
- لم تشب بعد يا عطيّة. غدا تذهب وتسجّل اسمك في مركز محو الأمِّيَّة.
استاء:
- شنو أستفيد من القراءة والكتابة؟
- غدًا حين تتعلّم ستعرف قيمة هذا. وإذا نجحت في الإبتدائيّة أزوّجك على شرط أن تكمل دراستك بعد الزواج.
تهلّل وجهه، تركته يحاور أحلامه وزحامٌ تجأرُ أبواقه في رأسي وأنا أستعيد جرأة عطيّة، هل ابتدأ يتحرّر من عبوديته حين قرّبته وكسرت حواجز السيادة بيني وبينه؟ ماذا بعد أن يتعلّم ويتفتّح عقله بالمعرفة؟ هل . . .
163
انكمش قلبي حين قفز الخاطر المستحيل. كنت قد وصلت إلى شقّة أمّي التي أحمل إليها البشارة.
تلقّت بشارتي بالدموع، ظلّت تقبّلني، تبلّلني بفرحها ودعائها، اتّجهنا إلى المطبخ، جلستُ أرقبها وهي تعدّ لنا فنجانين من القهوة. تركْت الماء يغلي، فتحت الخزانة، أخرجت فنجاني الذي عليه صورة قطّة، يوم اشترته لي قالت وهي سعيدة:
من يومها أحببت هذا الفنجان، أردتُ أن أستأثر به في شقّتي، لكنّها رفضت وهي تحضنه بين كفيها. ((أخاف ان تكسريه)).
كانت أمّي حريصة كحرصها على غلاّية قهوتها المثقوبة ذات اليد المكسورة، التي صنعتْ بها أوّل فنجان قهوة لأبي.
فاحة رائحة البنّ المغلي، تناهى إليّ صوت فيروز ((في قهوة عالمفرق، في موقد وفي نار، نبقى أنا وحبيبي، نفرشها بالأشعار))، دندنتُ بالأغنية، كانت أمّي قد جلست وارتشفت أوّل رشفة، تلمّظتْ طعمها وابتسمتْ:
- ها؟ شو فكّرك بهالغنيّة؟ إن شاءالله بس ما تفتكري شيء تاني؟
تصوّرت أمّي أنّني أتذكّر جواد، ولم يكن تصوّرها قد خطر ببالي لكنّها بقولها أرجعتني إلى تلك المقاهي التي ارتدناها معًا، وشربنا العصائر والقهوة فيها. لم ترعشني الذكرى، لم يخفق قلبي
164
متمنّيًا لو تعود، كان كل الحبّ قد تلاشى، طمأنْتُ أمّي:
- كل شيء صار مجرّد ذكريات شائبة.
كانت أمّي متأكّدة أنّني نسيته رغم تلميحها. فقد عانت معي يومًا بيوم، شهرًا بشهر حتى شفيت واسترددت ما تلف من صحّتي وأعصابي. تلوّن وجهها بالراحة، أرادت أن تنحو بالحديث بعيدًا عن ذكريات مرّة:
- صدّقي يا أمّي هذا المبلغ أكبر وأهمّ من كل ما أملك. إنّه من عرق جبيني وسوف أفتح له حسابًا خاصًّا في البنك.
ضحكت أمّي هازئة، عذرتها، هي لا تدرك أيّ معنىً لمال ولو بسيطًا يأتي من تعبي، لا تستطيع أن تتخيّل أنّ أموال العجوز الطائلة لا تعني لي شيئًا ولا أشعر بسعادة امتلاكها بقدر السعادة حين أصرفها وأبدّدها وكأنّني أتخلّص من جراثيم حوض قديم.
تذكّرت موضوع عطيّة، فاجأتها به، استاء وجهها وصوتها:
- ((كمان راح تزوّجيه؟ يا بخته هالعطيّة، بكرا بيصير باشا وناقصه قصر)).
كأنّ أمّي أشعلت الفكرة في رأسي فلم أُؤجّل قراري بها:
- سأشتري له بيتًا.
شدّت أمّي شعر رأسها، قامت، خبطت فنجانها في قلب الحوض غاضبة:
166
- ((بيظْهر إنّك جنَّيتِ)).
دافعت عن فكرتي وعن عطيّة:
- عطيّة يخدمنا بأمانه ولازم نكرمه.
واجهتني بعنف:
- ((أكتر من هيك كرم؟ آكل، شارب، نايم، وكمان بياخد راتب كبير)).
قبل أن أردّ كان صوت أبي الذي دخل يتوجّه إلى أمّي:
- ما الحكاية؟ صوتك عالٍ.
كأنّ حضوره أسعفها، تفاءلت أنّها ستجد نصيرًا:
- ((تعال شوف جنون بنتك. قال شو؟! بدها تعلّم عطيّة وتْزوجه، وكمان تشتري له بيت)).
التفت أبي إليّ، كان وجهه ينبع نورًا ونظرته تُمطر كم يغسل وجهي من غبار:
- بارك الله فيك. عطيّة يستاهل.
شهقت أمّي. وقبل أن ينفجر بركانها كنت أفرّ إلى شقّتي تاركتًا أبي يعالج النار ليطفئها.
* * *
ألقيتُ بنفسي على السرير، أرسيت رأسي المجهد على الوسادة، شعرت بجسدي يمتطُّ بين الصمت والصمت الذي انبسط مثل غلالة بلون السماء الربيعيّة، تهطل عليّ نجيمات
167
صغيرات تتقافز، توزّع أضوائها الملوّنه وتمضي إلى حيث مسارب الذاكرة المغلقة، تمسّها، تكهربها، ترتعش أسلاكها فتنفث إليّ بعضًا من أنفاس القصر. أنجذب إليها رغم كراهيّتي لتلك الرائحة، أشعر بغثيان، أتخدّرُ وأغيب. أغوص في طرق لولبيّة مرصوفة جدرانها بأشجار الصبّار، تدفعني فيها ريح باردة وتقذفني إلى القصر الرّابطة فيه تلك التماثيل الجامدة والمفروشات الكئيبة. تضيق أنفاسي، أبحث عن مهرب، أندفع إلى النوافذ الموصدة لأفتحها، لكنّها تعصى وكأنّها مختومة بالإسمنت، أركض إلى الباب لكن صرخة مجنونة تجمّدني في مكاني. هل كان عواء ذئب أم اختراق الريح من الشقوق، أم شبق جنيّات هاربات من لياليهن الكالحات؟ أستدير بإتجاه الصرخة.
أرى العجوز، مثل المومياء رماديّة، متربعًا على الأريكة كاشرًا عن أسنانه المتآكلة. تجاسرت ونطقت:
- أنتَ؟؟
قدح شررٌ أحمر من تجويف عينيه. عوى:
- متى خرجت؟ وأين كنتِ؟
لم ينتظر لأجيب، وما كان لساني ليسعفني من هول منظره وصوته، تحرّك من مكانه، وصل إليّ منذرًا بالشرّ، امسك ذراعي بقوّة، غاصت أظافره بلحمي، رفع كفّه وانهال على وجهي بصفعات شعرت وكأنّها أغطية قدور ملتهبة. حاولت التخلّص من اللهب فكان أقوى منّي رغم ما بذلته من الجهد. أسقطني على الأرض، برَك على صدري وصرخ ينادي:
168
- جورجيت . . جورجيت.
برزتْ من خلف أحد الأبواب وكأنّها قد استعدّت لهذه اللحظة، حاملة بين يديها لفّة من القماش الأبيض ناولتها له. فتح طيّاتها وفرشها على الأرض، حملني بقوّة لم أعهدها به وألقاني فوق القماش المفرود وأمرَ جورجيت:
- هاتي قارورة الدم.
جاءت بها. فتحت الغطاء فأصدر صوتًا كارتطام دلوٍ بقاع بئر.
أخذت ترشّني بدمٍ متخثّر له رائحه قصديريّة، كنت أحاذر كي لا يصُبَّ على وجهي، حين تغطّى جسدي كلّه بالدم أمرَها أن تكفّ.
وبدأ يكفّنني في القماش وأنا في محاولاتي أدْأبُ للخلاص منه ولا أفوز. ترك وجهي بلا كفن ونادى بأعلى صوته:
- عطيّة . . تعال.
اقتحم الغرفة، بدأ يتّجه إليّ بخطوات بطيئة، سمحت لعينيّ أن تتأمّلا جسده العاري. أسود لامع، عنق ثخين يرتكز على كتفين عريضتين، صدر عارٍ من الشعر ينفرش عليه نهدان منتفخان تتوجّهان حلمات كبيرتان بحجم حبّة العنب الأسود، خصر ضيق وردفان ممتلئان. توقّفتْ عيناي فزعتين عند شيْئِه المتدلّي، كدت أشهق: أهذا كلّه الذي شقّني تلك الليلة بذلك العنف؟ خشيتُ أن يأمره باغتصابي. في تلك الليله لم يسمح لي الوضع أن أرى هذا الجسد، الآن عرفت حقيقته، وحين يقترب لينهش جسدي سيكون الأمر أقسى وأصعب. كنت أسمع دبيك قلبي واصْطكاك أسناني
169
لكنّهما لم يصدّا عنّي صوت العجوز وهو يخرج من غمده ويأمر عطيّة أن يبدأ. وفي اللحظة التي هجم عليّ جمعت كلّ صوتي وأطلقته بصرخة ضارية هزّتني فانتفضت وكأنّني أخرج من قبر رُدِم بالحجارة. فتحت عينيّ فإذا بالصمت الأبرص يلطمني وقد غابت عن الغرفة تلك النجيمات الضّاويات ولم أسمع سوى صدى صرختي يتردّد في الشقّة كزئيرٍ مسعور.
تحسّست جسدي المرتعش الساقط في بركة عرقي، حمدت الله أنّي صحوت قبل أن يلسعني صوط عطيّة وينكأُ جراحاتي القديمات، شعرت بعطشٍ وجفاف خشن. أخذت زجاجة الماء ودلقتها دفعةً واحدة إلى جوفي الذي تصلّبت شرايينه وفارقه دفْؤُه، احتضنت وسادتي وأخذت أفكّر: لماذا هذا الحلم الشرس والليلة بالذات؟ هل أقلق العجوز ما أنويه لعطيّة فاستكثر عليّ الفعل وعليه الأثر؟ هل يريد أن يكون وحده ربَّ نعمته ليظلّ عبده الأبديّ حتى بعد موته؟ شعرت بعتاب حارق: ماذا قدّمت لعطيّة غير وظيفته كحارس للعمارة؟ بينما العجوز عطاه صكّ عتقه ومبلغًا من المال وشهادة الجنسيّة الكويتيّة. لماذا لم أبادر منذ أن مات العجوز فأمنح عطيّة صك حرِّيَّته الحقيقي؛ أعلّمه وأزوجه وأُهيّئُ له بيتًا يؤويه وعائلته القادمة؟ لماذا نسيته كل هذه السنوات؟ والآن حين نويت يتسلّط عليّ العجوز أحلافي ليفسد عليّ نيّتي. أم هل تراها أمّي الرّافضة قد تلبستّها روح العجوز؟ أمّي التي لم تنسى ولن تنسى فعلة عطيّة رغم أنّني أنا التي توحّشَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان الكويتيّون يمنحون لعبيدهم الجنسيّة وأحيانًا اسم الأسرة.
170
في اغتصابي وجلدي بالسّوط تجاوزت ذلك التّوحش وغفرت له.
لماذا غفرت لعطيّة؟ لماذا لم أحقد عليه وأكرهه وهو الذي أغتصبني وجلدني ولم يساعدني على الهرب، لِمَ لَمْ أطرده وأتركه يشقّ لُجَجَ الدروب الغامضة والرياح المتقلّبة؟ لماذا احتفظت به وأنا التي كنت أريد أن أتخلّص من أعفان كان الماضي كلّها؟ حتى القصر، حلم أمّي، ضحّيت ولم أُضحِّ بعطيّة. هل كانت مجرّد شفقة عليه؟ كنت أحسّه مثل الكلب الأليف الذي تربّى في بيت لم يعرف سواه، يلُغُّ من صحن السيّد ثم يتكور تحت قدميه ليحرسه، فأين سيذهب بعد أن اعتاد حياة القصر والسيّد؟ كان هذا دافعًا حرّك ضميري نحوه مشفوعًا بدافع أكبر أنّني أحببت عطيّة وأكبرتُ فيه وفاءه لسيّده، رغم الذي عاناه من توارثٍ واضهاد، فتوسّمت أن يكون وفيًّا لي أيضًا. لم تخدعني مشاعري، كنت أحسّ قلبه حديقة أتربّع فيها، زهرة تخاف عليها النسمة وزخّة المطر، تفانى بخدمتي وخدمة أهلي. حين أركب سيّارتي يقف إلى جالنبها ويطلق دعواتٍ صادقة أن يحفظني الله من شرّ الطريق، ولا يتحرّك إلاّ بعد أن أبتعد بينما ذراعه الطويلة تلوّح لي مودّعًا. وحين أعود يقفز نحوي وكأنّه اشتمَّ رائحتي، وعن بعد أرى وجهه مفروشًا باللهفة والفرح، وأسنانه وحتى طواحينه تبدو مثل أحرفٍ تغرّ.
وفي كثيرٍ من الليالي حين يصيبني الأرق، وأطلّ من نافذة غرفتي، ألمحه يذرع الساحة مثل عسعسٍ يتفقّد المكان ويحرسه ليذود عنه.
حين بدأ يتلقّى دروسه كان يجتهد ليحفظ، تصوّرته في البداية تحدّيًا غير مدبّر لأمّي التي هزِئت منه. لكنّني اكتشفت أنّه كالطفل
171
الذي يريد إرضاء أمّه لتقدّم له الشكر والدعوات والهدايا. يتفانى لإرضائي. وحين تصعب عليه كلمة أو معنى يدقّ بابي بخجل كي أساعده، أوّل مرّةٍ جاء فيها جلس على الأرض متكِئًا على ذراع الأريكة التي أجلس عليها، ساءني أن يصوّر نفسه ذلك العبد الذي لا يجب أن يعلو على الأسياد، قمت من الأريكة واصْطحبته إلى طاولة الطعام وطلبت منه أن يجلس إلى يُمناي فتردّد، تظاهرت بالغضب فامتثل لطلبي محرجًا لكنّه اعتاد بعد ذلك حتى على تلاصق كفي التي تمسك بكفه لتعلّمه كيف يرسم الطّاء، وكيف يفرّق بين الصّاد والسّين. فاجأني ذات يوم بورقة كبيرة خطّ عليها اسمي بحرف كبير زوّقه بالألوان، أخذت الورقة وعلّقتها على الجدار وكافأته بعلبة كاملة من شيكولاته الكت كات التي يحبّها. كنت أحسّه يغار عليّ. يوم جاء عامل التكييف؛ وكنت أرتدي بلوزة بلا أكمام؛ تلفّت حوله فلم يجد غير شرشف الطاولة. سحبه ووضعه كالشّال على كتفيّ، حتى من عينيه كان يغار عليّ. ذات صباح فتحت الباب وكنت ما زلت في قميص النوم الشّفاف متصوّرة أنّها أمّي، وما إن لمحني حتى استدار عنّي سريعًا وكأنّه لم يكن الذي رأى جسدي عاريًا ومباحًا له.
أحببت عطيّة ذلك الحبّ الدافئ الحنون، دلّلته، أكرمته باللّباس والمعاملة والخوف عليه. كنت أرتعب حين يشتكي من صداع أو برد أو وجع في معدته، أُعِدَّ له بنفسي الليمون وأقدّم له الدواء بمواعيده، وأُصرُّ عليه أن يلازم الفراش ولا يغادر لأيّ سبب حتى من أجلي. كان يلتزم بأمري يومًا أو يومين ثم يخرج
172
مدّعيًا أنّه استردّ عافيته. ورغم خوفي عليه كان ينبض في داخلي شعور الفرح والامتنان. كنت أدرك كم يحبّني وأفهم إشارات هذا الحبّ حين أفرح وأحزن، وحين أغضب منه لأيّ سبب بسيط يظلّ يحوم ويخترع أسبابًا ليدقّ بابي أو يجمع لي أبهى زهور الحديقة حتى يرى ابتسامتي فيبدو عصفور اغتسل بالمطر. لم يكن من شيء يضايقني في عطيّة إلا تلك الرائحة التي تصدر من جسده، مزيج من بصل بائت وخلّ رخيص، لم أكن وهو في القصر أنتبه لهذه الرائحة، لكنّه ومنذ اليوم الأوّل الذي استلم عمله في العمارة بدأت رائحته تزكمني، احتملت شهرين كنت خلالها عاجزة عن إيجاد الوسيلة التي أنبّهه بها دون أن أجرحه.
حتى اهتديت إلى الحل.
ذات يوم حملت له كيسًا مليئًا بالصابون المعطّر والكولونيا وأصناف من مزيلات العرق. حين رآني أحمل الكيس أسرع ليأخذه من يدي لكنّي تشبّثت به وقلت:
- اصعد معي . . أريدك.
كان الوقت صيفًا والرطوبة جائرة، وحين أغلق باب المصعد جارت عليّ رائحته التي لا أدري بالضّبط من أين يفوح نتنها.
وبكلّ حاجتي لنسمة نظيفة كنت أتمنّى لو يطير بنا المصعد. ما إن فُتِحَ الباب حتى اندفعت منه لأستلّ شهيقًا نظيفًا وأفتح باب شقّتي وهو يتبعني برائحته.
وضعت الكيس على الطاولة، فتحته، صففتُ الأشياء أمامه و . . . :
173
- شوف يا عطية هذا صابون، وهذا عطر، وهذا . . .
رفعت ذراعي ووجّهت ثقب العلبة نحو إبطي وضغطت الرأس فانتثر رذاذه ورائحته العطرة. شعرت من خجلي وكأنّني أنزف كلّ عَرقِ جسدي، لكنّني ادّعيت شجاعة لا بدّ أن أكون عليها. قلت له وأنا أهرب بنظرتي منه:
- هذا سيمنع رائحة العرق، عليك أن تستعمله بعد كلّ حمّام.
لن أنسى جُرميَ البريء ذلك اليوم. انحنى عطيّة بذلٍّ كبير.
ارتجف جسده أمامي كمن داهمته ريح شتائيّة وعاصفة رمل.تحوّل صوته الرخيم الجميل إلى ما يشبه أنين جروٍ يتيم:
- سيّدتي . . نحن العبيد لجلودنا رائحة صِنان قويّة ما تروح و . . .
قاطعته محتدّه:
- هذا كلام فارغ. كل إنسان تصدر عنه رائحة لجسده إن أهمل نظافته. اسمع الكلام، عليك أن تستحمّ كلّ يوم مرّة أو مرّتين حسب ما تبذله من جهد وترشّ هذا.
حمل الأشياء وانصرف مسرعًا حتى شعرت بأنّه يكاد يرتطم بالباب قاصدًا يُميت نفسه. وفي داخلي شيء كالخنجر يسلخ قلبي تألّمًا عليه، ولكن كان لابدّ أن أسلخ قلبي لأسلخ عنه رائحته. منذ ذلك النهار اجتهد عطيّة لكي يرضيني، صار يبدو نظيفًا، لامعًا، معطّرًا ولم أعد أشمُّ له رائحة كريهة.
* * *
174
في المساء جاء فيصل وإيمان، صدحت شقّتي بتغاريد الصغار، تعلّقت الصغيرة بعنقي شدّت عليه وببراءة سألت:
- هل سيشقُّ الطبيب رقبتك؟ أخاف أن تموتي.
هشّتها أمّي من حضني وصرخت:
- ((لا تفاولي على عمّتك . . إن شاء الله يومين وبترجع للبيت)).
أصرّت أمّي أن تنام عندي. ورغم إحساسي بمدى خوفها فإنّني رفضت بلباقة. فقد انتبني شعور مخيف بأنّ نومها بجانبي يعني أنّها تودّعني لآخر مرّة. ممتعضة تقبّلت لباقتي وأمطرتني بالقبل والأدعية قبل أن تخرج.
بقيت وحدي والسكون، أطفأت كلّ الأضواء عدا الأباجورة الخضراء. وقد أشاع الصمت الحزين ضوءه الخاصّ. صمتٌ معقود بألوان فضيّة يسبح في الغرفة وأنا مثل قارب أعزل يبحر لأوّل مرة. تتقاذفني الموجات ويعلوني الزبد. أغمض عينيّ، أُحسّني تهاويت إلى القاع، استقررت على رمله الناعم. هدأ الموج وسمح لي الصمت، أن أتأمّل سنواتي الماضيات، أستعيد حياتي مع العجوز فلا أصطاد ظلَّ ابتسامته. تذكّرت صمتي
175
المتواصل، الشيء الوحيد الذي اعتبرته سلاحً يعبّر عن قرفي واحتقاري لحياة القصر حتى انبثق فجري بموته، وما إن تلألأت الحياة من حولي وأطلقت ضحكاتي المكبوتة حتى جاءت تجربتي مع جواد. فاتّسع الأفق ثم ضاق حتى لحظة البُرء من التجربة.
ماذا ينتظرني في الغد؟؟
بدأ السمت يضيق . . يضيق ثم ينشطر فجأة ويبعث ما يشبه ذيولاً لنيازك متفجّرة فأندفع من رمل القاع إلى مكاني في الصالة، أفتح عينيّ، ألمح عصافيري مكتومة في الأقفاص صامتة وكأنّها قرّرت بدء رحلة الصمت قبلي، اقتربت منها، ناغيت ثمّ غنيت تذكّرت صوتي الذي كان جميلاً، وذلك اليوم الذي فاجأني فيه العجوز وأنا أغنّي فلم يستطع أن يكبت إعجابه. وحين لمح الغرور علةى وجهي ندم، وشفط إعجابه قائلاً: ((لكن أين هو من صوت أم كلثوم)).
لم أترك عصافيري إلاّ بعد أن زغرد صوتها ورفرفت أجنحتها.
انسحبت إلى فراشي، تمدّدت، أغلقت النور، وتركت الصمت السّميك يعربد حتى يثقل ويتساقط.
* * *
زفّتني عائلتي إلى المستشفى. أمّي، أبي، فيصل وإيمان.
وقف عطيّة يتوسّل أن يرافقنا فرفضت أمّي. دنوت منه أمسكت بكفّه أُربّت عليها: لا تخف سأكون بخير. ركض إليّ يقبّل رأسي وقد امتلأت عيناه بالدموع. وحين انحنى يقبّل كفّي فاحت من جسده رائحة نسيم كذلك الذي يبشّر بأوّل موسم الشتاء.
176
دخلت غرفتي في المستشفى، الجدران بيضاء، والسرير الأبيض أمامي، فاجأني ذلك الحلم بالعجوز فتصوّرت السرير نعشًا والأغطية كفنًا. وكأنّ أمّي استقرأت ما يدور بداخلي.
أسرعت تفتح الحقيبة وتُخرجُ منها شراشفي الزهريّة، وقبل أن أُبدي استغرابي كانت تقول وهي تبدّل الشرشف:
ساعدتني في الصعود والاستلقاء، دخلت الممرّضة وقدّمت لي الثوب الأبيض وطاقية الشعر الورقيّة البيضاء، ضحكت أمّي وقالت:
- ((عاد هاي مافيني أغيّرها، استحمليها.)) وزفرت: ((أُف أنا عارفة ليش ما بيعملوها غير لون)).
خرج أهلي من الغرفة وبقيت أمّي لتساعدني في خلع ملابسي.
كنت أحسّها متماسكة حتى اللحظة التي ارتديت فيها الأبيض.
فانهارت صلابتها وانفجرت بالبكاء وهي تضغطني إلى صدرها فأشمُّ مزيجًا من عطور فواكه طازجة. دخلت ممرّضة أخرى تحمل جهاز الضغط وميزان الحرارة، حين زجّته تحت لساني شعرت أنّها بداية الصمت، أنهت مهمّتها بسرعة فائقة وخرجت في اللحظة التي دخلت فيها أخرى تتقدّمها عربة جهاز تخطيط القلب.
نثرت ((الجِل)) الدبق على مساحة من صدري، ذراعيّ وقدميّ.
ألصقت عليها مستديرات الأسلاك وبدأ الجهاز يعمل وأنا مستسلمة بهدوء أرقب وجه أمّي القَلِق بانتظار النتيجة. طمأنتها
177
الممرّضة وهي تفكُّ عنّي أسلاكها، ثمّ بدأت تعدُّ إبرتها. قضت بضع دقائق وهي تبحث عن وريد مناسب، ثبّتها باللاصق لاستخدامات المخدر و ((السلاينز))؛ بعد ذلك جهّزت إبرةً أخرى حقنتها في العضل بخفّة وخرجت.
أحسست بجفاف في حلقي، تمطّى خدر لذيذ إلى جسدي أشبه بغيبوبة ما قبل النوم، ذبل جفناي واستبدّ بي النعاس حتى كدت أنام لولا الجبلة التي بدأت بدخول فريق من الممرّضين بسرير آخر لنقلي. حملوني بخفّة إليه، كان ضيّقًا لكنّه اتسع لجسدي النحيل.
الآن سيمضون بي إلى المجهول، إلى حيث لا أدري هل أعود منه أم أنتهي هناك.
أجهشتْ أمّي. تمسّكت بالسرير وهو يمضي، تُسرع بخطواتها ليظلَّ وجهها يقابلني حتى وصلوا بي إلى المكان الذي لن يسمحوا لها بدخوله، انكبّت عليّ تقبّلني وتمطرني بدموعها والدعوات، بينما كان الخوف يصهل في داخلي.
ركنني الممرّضون في الممرّ الضيق، جاء طبيب البنج، سحب ذراعي ليغرز إبرته فأوقفته بصوتي الواهن:
- أين الطبيب؟
ابتسم:
- في غرفة العمليّات، تأخذين الحقنة وتدخلين.
عاندت بشدّة:
178
- لن أدخل قبل أن أراه.
حاول فأصررت. غاب وعاد يرافقه الطبيب مرتديًا قفازيه الشفّافين وكمّامته التي أخفت نصف وجهه فبدت عيناه الجميلتان أكثر اتساعًا. وصلني صوته بحنان:
- خائفة؟
أومأت بالإيجاب. فقال:
- لا تخافي. دقائق وتكونين في غرفتك بين أهلك.
لكن رفّات الخوف انبعثت مع توسلي:
- أرجوك يا دكتور لا أريد أن أموت.
- أذكري الله وتفاءلي.
أمر أن تدخل الإبرة في ذراعي فأسرعت أتلو آية الكرسي وأتشهّد.
حين فتحت عيني بصعوبة لمحت وجه الطبيب منشرحًا. صوته على غير عادته يبدو عاليًا كمن يريد أن يُؤكّد لي أنّه اهتمَّ بي وحافظ على حياتي:
- حمدًا لله على سلامتك.
جُلْتُ بنظري أتفحّص الغرفة لأصدّق أنّني خرجت ثانية إلى الحياة، رأيت وجوه أهلي ولم يخف عليّ التورّم في عيون أمّي وإيمان. أصواتهم تتداخل بالشكر للطبيب وبتهنئتي بالسلامة، أشرت للطبيب إلى عنقي وأنا أتنحنح، سارع يأمرني:
179
- حتى النحنحة ممنوعة. سيزول الألم.
التفت إلى أهلي محذرًا:
- لا يجب أن تنبس ولو بهمسة. وأفضّل أن تتركوها لترتاح.
غفوة أخرى أخذتني . . صحوت منها فإذا الغرفةخالية وصامتة.
هناك ظلالٌ للصّمت تتفشى مساحتها بعمق المكان. تحمل روائح الأمكنة التي وطأتها، تسرّب موسيقى، رياح، نسمات ترجفنا، تراقصنا، تحاول اصطياد الرائحة والهمس فلا نقبض على شيء غير الفراغ. يستطيل المكان، يأخذ شكل أنبوبة ناعمة العمق، فجأة أجدني أنزلق بانسياب لذيذ ثم أسقط في قلب دائرة شفّافة مغلقة، أسبح في سائل صافٍ له رائحة حليبيّة. تبدأُ بي رحلة أشبه بالحلم المستفيض بتلويناته، أحسُّ جسدي صغيرًا، ورديًا، ناعمًا، عريًّا، وبحبل مطّاطي يصلني بعنق الدائرة حيث أسمع دقات قلب أمّي وزفراتها. كانت الدائرة حنونة، تقلّبت فيها، تآلفت مع صمتها المضيء وكأنّني بداليات تظلّلني وتُسقط الأعناب إلى ثغري. غمرتني راحة وانبعث النور إلى أعماقي وداعبني همس وديع يصبّ في أذني وعوده الجبّارة ((ستخرجين إلى الدنيا أنثى جميلة. لا تُسقطك الريح ولا يلتهمك البحر)).
صحوت على صوت الباب يُفتح ويتسرّب منه ضوء الممرِّ الهادئ، دخلت الممرّضة واعتذرت لأنّها ستزعجني، أدخلت ميزان الحرارة تحت لساني الذي مازال مبللاً بطعم الحليب
180
الدائرة، لفّت قماشة جهاز الضغط حول ذراعي وقبل أن تغادر تفقّدت كيس السلاينز، تمنّت لي ليلة سعيدة وخرجت.
وعت في شراك الصمت الليليّ، تأمّلت الغرفة الصغيرة، كل شيء أبيض يساعد على اتتّساع المساحة، لكن حلول الصمت مثل دُمّلٍ فضوليّ يحوّل الغرفة رغم اتّساعها إلى سجن أُحسّ فيه بأنّني سجينة لعدّة سجّانين: الصّمت، الألم، والخرس، أتذكّر تحذير الطبيب ((إيّاك أن تتكلّمي)). أشعر بالقهر وبفضولٍ نافذٍ مشوبٍ بالخوف يُلحُّ عليّ أن أخون الطبيب. أريد أن أسرق صوتي لأتأكّد أنّ الطبيب نجح في مهمّته ولم تخطئ يداه وتستأصل أوتاري الصوتيّة مع ما استأصل من الزوائد. قذفت بتحذيره، اعتدلت في جلستي، استعددت للمهمّة الصّعبة لمواجهة الواقع الذي، إمّا يزغرد ببشارته أو ينعق ليفجعني بخرسٍ دائم. قرأت المعوّذات بسّري وعددت: واحد، اثنان، ثلاثة، و . . . أطلقت صوتي:
نادية . . .
ما هذا الذي سمعت؟
هل هو صوتي أم صوت جروٍ صغيرٍ نسيته أُمه ولم ترضعه؟
تحسّست عنقي، وجدته باردًا، أجريت له مسّاجاً سريعًا حتى دفأ.
وبجرأةٍ أكبر دفعت بصوتي فإذا بالجرو ثانية يسترحم ثدي أُمه.
هلعت!!. هذا الصوت الرفيع غير المتّصل المذبذب كخيط تائه في الهواء، ليس صوتي ولا حتى يشبه. لا نبرته، لا بحّته، ولا مسحة من جمال تجعلني أتقبّله. انفجرت دموعي، ابتلعتها وملحها يحرق حنجرتي وسؤال معذّب يسوطني: كيف سأواجه
181
الناس بهذا الصوت الجرواني المفزوع؟ صمت الغرفة يعصف بدمويّته يساهم في مضاعفة قهري. فأُحسّني أسقط في جحيم، أسمع أصوات الطالبات تتفازع إليّ بالصراخ الهازئ من صوتي.
فتستعرّ النار أكثر. أُكفّن نفسي باللحاف الوردي هاربة من اللّهب.
أغمض عينيّ، أصارع كي أنام لأوهم نفسي بأنّ ما أُحسّ به مجرّد حلم مفزع. لكنّني أقع في جحيم أحلام متناثرة لا يقلِّ حريقها عن الواقع.
حين لمح الطبيب وجهي في الصباح استغرب تورُّم عينيّ، سأل متلهّفًا عن سرِّ اكتئابي وحزني. أمسكت بالورقة وكتبت:
((لقد ضاع صوتي، جرّبته البارحة وفجعني)).
قطل وجهه وغضب صوته:
- ألم أحذّرك؟ لو أعدْتِ المحاولة ستفقدينه إلى الأبد.
اغرورقت عيناي. لمحت الشفقة سارية في عينيه. انحنى على السرير انحناءة حنونة وقال بصوت واعد:
- صدّقيني . . سيعود صوتك جميلاً. ولا تنسي أنّك ستخضعين للتمارين عند الطبيبة المتخصّصة. المهم أن تلتزمي الصمت لمدّة أسبوعين.
التفتَ إلى الممرّضة، أعطى تعليماته أن تحرّر ذراعي من الإبرة، ثم إليّ:
- تستطيعين أن تأكلي بشكل إعتيادي . . ما عدا الفلفل والمخلّلات والقهوة.
182
كتبت له: ((متى أخرج؟)) فتح إصبعيه الرفيعتين كعلامة النصر.
ابتسم:
- يومان.
خرج بعد أن كرّر التحذير: ((الصمت أسبوعان)).
أسبوعان . . .
كيف سيمضيان؟ حين فرض عليّ العجوز محنة الصمت مارسته وأنا أملك صوتي، كنت أطلقه شجيًّا حين يغادر القصر، أغنّي في الحمّام الذي يضاعف صداه، أطلقه مغردًا بالحُبِّ لعصفوري الحبيس مثلي، أطلقه صارخًا وأنا أجادل الخادمات إن أهملن، وأبثّه متوسّلاً لعطيّة ليساعدني على الهرب. كان صوتي يتلوّن بالرّنات حسب اللحظة ومن أخاطب. هو الآن مجرّد عواء ممزق، لن يستردّ عافيته وألقه ورنينه إلاّ بخضوعي لأمر الطبيب، هل سيكون أسوأ من ذلك الخضوع المرّ لأمر العجوز؟
كان احتفاء عطيّة بقدومي أشبه بالمفاجأة. حفيف شجنه لغيابي يتمازج ورقص أوراقه فرحًا برؤيتي. مثل أمواج دافئة تناثرت لهفته عليّ. أمسك بكفّيّ يبلّلهما ثم يزرع قبلاته على رأسي. أشعر بقلبه يكاد يطفر من مكانه ليغدق على وجهي المصفرِّ. لم أخجل من أمّي. وفي ومضة مشاعري بالامتنان تجاسرت، عانقته عناقًا رؤوفًا وقبّلته. ومثل عصفور باشقٍ انطلقت به الفرحة إلى السيّارة لحمل حقيبتي غير مكترثٍ بوجه أمّي الذي افترشه الغضب وهمهمت:
183
- ((ما كان ناقص إلاّ ابوسيه)).
* * *
لصمت النهارات، رغم صعوبته، رنّات تبعث حيويّتها حولي حين يشقُّ الفجر ستر الظلام، يترجرج عبر الهواء صوت المؤذّن الجميل القادم من المسجد القريب ويبدأ دبيب الأقدام البشريّة.
تموء قطط وينبح كلب الجار. تثير سيّارة جمع القمامة فوضاها.
تتحرّك ((سلفات)) السيّارات. تبدأ عصافري تغرّد مرحّبة بالنور وبالشروق. يعزف البحر موسيقاه، يهيج، يتناثر زبده من رؤوس المويجات المنقذفات وصدورها إلى دفء الرمل بشبقٍ عارم.
ونواح الريح يتغلغل من خلل النوافذ الألمنيوم، أحسُّ بأنّ كلَّ شيء يضاعف صوته ليلقي عليّ تحيّات الصباح. يواسي صمتي، يعدني بوقت لاحق أشاركه فيه الصّوت بعد الصّمت.
أجلس وحيدة مقابل البحروكأنّنيمستريحة على أرجوحةبلّوريّة. يؤرجحني الصّمت دون أن يمسّني، لا يخلع عنّي أثوابي،لا يغيّر طريقة جلوسي، لا يعبث بأصابعي الناعمة ولا ينزع عن أظافري طلاءها الوردي، لا يشدّ شعري، ولا يعضُّ شفتيّ، وحين يأتي صوت أمّي يساهم في تجميل الصّمت، تضع صينية الإفطار أمامي:
- ((فطورك يا حبّة قلبي. كل شيء تشتهيه نفسك)).
يتقاطر حنان صوتها كالربيع المنعش ملوّنًا كفتات أوراق الأعياد واحتفالات انتخاب ملكات الجمال. أنظر إلى الصينيّة.
184
أسألها بحركة كفّي راسمة شكل الغلاّية والفنجان. يتحسّر صوتها:
- ((بكرة بس تتشافي، راح أشبّعك قهوة)).
تجلس أمّي كل يوم تشاركني فطوري، تحرم نفسها قهوتها كي لا تثير مشاعري وشهيّتي، يتراكض صوتها بالحديث والأسئلة ولا أملك غير الإيماء برأسي تارة، والقلم والورقة تارّة أخرى. وحين تصرُّ عليّ أن أختار وجبة الغداء فأكتب لها: ((أيّ شيء من عطر أنفاسك وخير يديك)).
هكذا تصهر النهارات. وحدي المهرة التي فقدت صهيلها.
في اليوم الأول صمتت عصافيري وكأنّها تحترم صمتي وتشاركني فيه. صعُبَ عليّ أن تخرس مثلي، كنت أحتاج زقزقتها لتشعرني بأنّ الكون بديع وزاهٍ بما يكفي لإمدادي بالصبر والفرح. جلستُ أمام الأقفاص. قمت بحركات من يدي. أمسكت الجرس النحاسيّ أهزّه لعلّ الرّنات تستفزها. لكنّها تأبّت فانفجرتُ بالبكاء، لحظتها فوجئت بها تتقافر، تغرّد، كانت كمن تمسك بمناديل من الضوء لتمسح دموعي، وتلوّن وجهي. فهمت العصافير لغة حزني وتوسّلي وأنهت صيامها. كان صوتها مثل المبيد يلاحق الصمت، يهشّه، يلمّه في كتلة واحدة أحسّها تذبل . . . تذبل متحوّلة إلى ثؤلولة فارغة تلتصق بالجدار.
* * *
لصمت المساءات وحشة لا تضاهيها غير تلك التي توشّحْتُ
185
بها في قصر العجوز، كنت أتوحّد في غرفتي بعد أن أغتسل من عرق جسده ودبقه، أشعر وكأنّ الجدران كلّها تتّشحُ بالسواد. تنزُّ صريرًا يحكُّ على أصابعي كمن ينشرها، فتتطاير النشارات تتكوّم حتى تصير مثل تلال العشب الجاف، تلبّد فيها الخنفساءات والديدان. تغمرني الوحشة حدّ الاختناق فلا أجد وسيلة لتفتيتها وتكسير صمتها غير فتح النوافذ رغم الشتاءات القارسة التي تزجُّ ردها وقطرات مطرها، والصيف اللاهب الذي يدلق رياح السموم بأتربتها. كنت أحتمل لظنّي أنّها ستطرد تلال الوحشة واحساسي القاهر بها. لكن أكوامها تبقى تتحدّى محاولاتي الدائبة لطردها.
كنت في تلك الوحشة لا أجد سبيلاً إلى الخلاص غير اللجوء إلى عصفوري الذبي أبثّه رمادها ورائحتها. وفي الليل ألجأ إلى حلمي الذي كنت أطرّزه للحظة الهرب.
كنت معطّلة الشعور والحركة مثل ىلة مركونة لا تحرّكها إلاّ أوامر العجوز واقتحامه لجسدي الخاضع للقرف والاستياء. لكنّني في وحشة صمتي هذه أجد منافذ عدّة أتنفّس من خلالها سأمي، أقرأ الصحف والكتب، أحلُّ الكلمات المتقاطعة، أستمع إلى الإذاعات تبثُّ برامجها المتنوّعة والأغنيات التي أحبّها، افتح التلفاز، أغفو أحيانًا وأتركه يواصل عروضه، وأغلب الأماسي كنت أنحدر إلى شقّة أمّي وأبي لا يتركانني حبيسة هذا الشعور، يتحدّثان، ينقلان تفاصيل يومهما بنوادرها وإزعاجاتها، يلقيان النكات فأضحك حارصة أن لا تخرج الضحكة من الحنجرة.
وحين يحضر فيصل وإيمان تكون الجلسة أبهج، يصرُّ أخي أن
186
أتبارى معه في لعبة البرجيس. أغلبه ولا أستطيع أن أعبّر بالصراخ عن انتصاري كما كنت أفعل، يتكوّم الصراخ وكأنّه فائض من الطعام لاعت به معدتي، أحاول قذفه فأشعر بقبضة قاسية تخنق بلعومي فترتدّ الأشياء إلى معدتي، أحاول قذفه فأشعر بقبضة قاسية تخنق بلعومي فترتدّ الأشياء إلى معدتي كالأورام، وحين يحاول أخي مازحًا أن يغشَّ ويحرّك الحصان خلسة إلى مربع قريب من ((مطبخ اللعبة)) أثور فلا أجد صوتي ليعبّر عن غضبي، أعفُر على السجادة كطفلة خطفو منها لعبتها الأثيرة، أبعثر البرجيس رغم أنّني متفوّقة، أبكي وإحساس رهيب بأنّه يهزأ من صمتي رغم تآزره مع محنتي.
كان صمتي يعذّبني، أنا التي اعتدت الشرح للطالبات.
والكلام مع المدرّسات والصديقات حين نجتمع في شقّتي لحظات الأنس والتخفّف من هموم الأيّام، أجدني أخضع لهذا الصّمت الشوكّي فأكتشف أن لا شيء أصعب من الكلام سوى الصّمت.
كانت أمّي بصبر تتولّى الردّ على المكالمات الواردة من الزميلات وبعض الطالباتاللواتي يسألن عنّي ويُردْن زيارتي فأشير إليها ((لا أريد)). كنت أخشى أن ألمح نظرات الشفقة أو الشماتة، كان يفزعني مجرّد التصوّر أنّهنّ سيصدحن بأصواتهنّ من حولي وأكون أنا مثل تمثال الشمع. أرى، أسمع ولا أتكلّم.
وحدها تلميذتي عائشة التي تمنّيت أن أكلمها، فقد وعدتها، بعدما كشفت لي سرّها، أن أصطحبها إلى شقّتي ونبحث عن حل لمصيبتها. حين نطقت أمّي اسمها سارعت إلى الورقة وكتبت:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعبة سورية تشبه الشطرنج.
187
((أكّدي لها أنّني حريصة على لقائها ما إن أستعيد صوتي)). شعرت أمّي بلهفتي على عائشة. أغلقت السماعة. واجهتني بالسؤال:
- ((شو حكاية عايشة؟)).
كتبت باختصار: ((طالبة ممتازة تعاني من مشكلة)).
تركتني أمّي. سرحت أفكّر بهذه الطالبة الموهّجة، كانت ضحكتها لا تغادرها، ذكيّة مجتهدة تحلُّ المرتبة الأولى دائمًا، محبوبة من كلِّ زميلاتها، غابت يومًا عن المدرسة فاتّصلت ببيتها لأستفسر عن سر الغياب كما أفعل مع طالباتي، ردَّ عليَّ صوت حادّ: هي مريضة. طال غياب عائشة أسبوعًا كاملاً، لم أتردّد خلاله عن الاتصال أكثر من مرّة فيجيبني الصوت ذاته بالحدّة ذاتها، طلبت أن أكلّمها فرفض. ظللت أنتظر عودتها بقلق.
حين دخلت الفصل لم أعرفها، أين ذلك الوجه البلّوريّ الصادح بالحيويّة؟ لم أرى سوى وجه أشبه بوجه ميّت نبت عليه الحنظل، المكتظّ في عينيها. بعد انتهاء الدرس أمسكت بكفّها الباردة وانتحيت بها جانبًا في الممرّ. وبلهفة القلق ومفاجأتي بحجابها دحرجت سؤالي:
- ما الحكاية؟
انفرطت في بكاء مرِّ وهي تصرخ:
- لا أقدر أن أقول.
تجمّعت بعض الطالبات القلقات عليها فاضطررت أن آخذها
188
إلى غرفة المدرّسات التي كانت خالية ممّا أراحني، أجلستها وهي لا تزال تشهق بدموعها وألمها.
- قولي يا عائشة ما الذي جدَّ عليك؟ وما هذا الحجاب؟
هبطت برأسها على ذراعيها المتندتين إلى الطاولة:
- لا أستطيع أن أقول. سأكتب لك رسالة.
انتظرت رسالة عائشة وأنا أتقلّب تلك الليلة على جمري أخمّن الأسباب التي نقلت تلميذتي من حالها المبتهجة إلى هذه الحال المأساويّة المنكسرة، وجدتني أتمسّك بسبب واحد مقنع ((لقد فرض عليها الأهل الحجاب وهي لا تريد)). ما كنت أتصوّر أنّ السبب سيكون بشعًا لهذا الحدّ. حين سلّمتني الرسالة ذرفت رجاءها الحار ألاّ أقرأها في المدرسة، زادني إصرارها خوفًا فاستأذنت الناظرة بحجّة موعد للطبيب وطرت إلى شقّتي وفتحت الرسالة على عجل.
أصابني ارتياع خضَّ رأسي، تصوّرت أنّ ما أقرأ مجرّد هلوسات لفتاة فرضو عليها ما تكره. لكنّني أعدت القراءة أكثر من مرّة لأكون قادرة على استيعاب ما فيها من أمر خطير.
سافر والداها، تركاها في رعاية الأخ، في الليلة التالية لغيابهما؛ يفاجئها في غرفتها لينتهك العرض المؤتمن عليه.
سقطت عائشة الحمامة الوديعة في فخِّ صيّادها المجرم الذي سكن المنكر قلبه معتمرًا سلطة ذكورته الفارغة. أصابني ذهول وارتعاش والسؤال الحارق يدقُّ مثل جرس مجنون في رأسي ((كيف استبدَّ به
189
مجنون الشهوة؟ هل يمكن أن يتحوّل الأخ ذئبًا يفترس لحمه ويشرب دمه؟)) لم يرحمها حتى بعدما كسر غضاضة عمرها وفتّت زهرة روحها، سجنها في الغرفة ومارس عليها طقوس السّجان على السجينة. توسّلت إليه أن تعود إلى مدرستها فاشترط أن تتحجّب وتبتلع لسانها فلا تشي بفعلته الخسيسة لأحد وإلاّ سيقتلها، أيُّ حدٍّ تصله القسوة؟ حتى القمر إذا فضَّ قلب الغيمة يترك أطرافها تمضي بسلام وتواصل سيرها. وهذا الذئب البشريّ يريدها فراشة تداري تفتّتها بالصّمت وبالحجاب.
أسدل الكون كل سواده حولي واحدودب النهار الثقيل متّكِئًا على قلبي الذي ظلَّ يمضغ تقزّزه ويتقيَّاُ لوعته. صوت عائشة يخرق غلائل وحدتي، ينهش لحمي، يقرش عظمي، وهو يستعطفني لأخرجها من جحيمها فأصير كذلك الفأر الذي جاء ليقرض شبكة الأسد الجريح فما إن خرج حتى التهمه. هذكذا سقطت في شراك مصيبتها وقضيت الليل معجونة بأسايَ وحيرتي، أفكّر بالطريقة الواجبة التي أساعد فيها عائشة الواقعة في ظلمة أخطر من وباء، دون أن أعرّضها لخطر الذئب ثانية. احتدمت الأفكار في رأسي، فلم أجد غير فكرة واحدة تقود فراشات عقلي إلى حيث والديها لأبلّغهما الحقيقة المفجعة.
تطوّرُ حالتي الصحية، واختفاء صوتي، وأسابيع العلاج والعمليّة، أبعدتني عن المدرسة وعن عائشة، لكن طيفها وصدى جرحها ظلاّ يهطلان عليّ دمًا متخثّرًا وصدأً كريهًا.
* * *
190
كنت في صمتي أجمع آلاف الكلمات بانتظار الإفراج عن صوتي، أُعِدُّ أيّام الأسبوع عشرات المرّات حتى يهلَّ موعد الطبيب الذي كنت ملتزمة بنصائحه، طامعة أن يختصر لي صمت الأسبوع الثاني ويطلق صوتي.
انطلقت إليه قبل موعدي بساعة كاملة، جلست في صالة الإنتظار أقطع الوقت بقراءة رواية لكاتبة جريئة أُغرمت بها منذ أن قرأت كتابها الأوّل، كنت أتَّئِدُ وأنا أذرع السطور وأقلّب الصفحات هائمة مع الأحداث، منجذبة لهذا التطريز المتقن ما بين لغة شاعريّة وحوارات رشيقة. كانت تجلس أمامي امرأة منقّبة حدّقت في غلاف الكتاب ثم قامت من مقعدها وجلست على المقعد الملاصق لي، لامستْ الكتاب بأطراف أصابعها وكأنّها تلامس شفة مسلول تخشى عدواه، وبصوت عدائيّ سألت:
- ما الذي يعجبك بهذه الكاتبة الفاجرة؟
لحظتها شعرت بثقل محنتي وأنا عقيمة من صوتي، نظرت إليها بغضب ثم قلبت الصفحة الأخيرة الفارغة من الكتاب وكتبت عليها: ((هل قرأت شيئًا لهذه الكاتبة؟)). زجَجْتُ الجملة إلى عينيها فجاء ردّها وكأنّها تنفض حشرة سقطت على أنفها:
- لا يشرّفني ذلك، فقط سمعت عنها.
بحدّه سطرت لها جملة أخرى ((إذن لا تحكمي عليها)). ولم أكتف بذلك، فسطرت لها الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنو إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحو على ما
191
فعلتم نادمين). قرأتها وأخفضتْ نظرها كأنّها خجلت من تسرّعها ولاذت إلى مكانها. ولا أدري لماذا فاجأني شعور أكيد بأنّها ما إن تترك العيادة حتى تسارع إلى أقرب مكتبة وتشتري كتابًا إلى تلك الكاتبة.
أسقطت عيني على الكتاب. لكنّ السطور تغبّشت أمامي وقارب أفكاري قد شدّني إلى بحر عائشة ومصيبتها التي بالتأكيد أصابت غيرها من البنات المُغَرّرِ بهنّ حتى من أقرب الناس إليهنّ. أخذت أستعرض كل الذي أسمعه ولا أصدّقه عن فتيات يخرجن مدّعيات لأهلهنّ بالتزامهنّ حضور دروس دينيّة لكنّهنّ يتّجهن وجهة أخرى، بعضهنّ انكشف أمرهنّ وبعضهنّ ما زلن يسخرْن من غباء الأهل كما سخرت إحدى المدرّسات من زوجها وهي تحدّثنا: ((تتصوّروا أنّني كنت اجلس مع صديق زوجي في مقهى على البحر، فلمحناه يمارس رياضة الركض، اقترب من صديقه وظلاّ يتحدّثان ولم يعرفني!)) ردّت عليها إحدى الزميلات بصوت لا يخلو من الأسف: ((كيف سيعرفك ووجهك مستور بالنقاب وبالنظّارة السوداء التي تلازمك؟)). أعتمت روحي دهاليز الحكايات الغريبة. ولم يشرق الضوء إلاّ حين سمعت الممرّضة تنادي باسمي لأدخل إلى الطبيب الذي بادرني مبتسمًا:
- ها . . كيف صوتك الآن؟
لم يستطع أن ينتصر عليّ بذكائه، سحبت ورقة وكتبت: لم أجرّبه ثانية.
- ممتاز . . ممتاز. دعينا نراه بالفحص.
192
أمرني أن أسترخي تمامًا، مطّ أنبوب المنظار الرفيع، أدخله في فتحت الأنف وأخذ يزجّه على مهل لكنّني غصصْت وفاجأني لعيان لدرجة أوشكت فيها على التقيّؤ، فسحبه ورجاني أن أتحمل محاولته الثانية ثم الثالثة والأنبوبة مثل أفعى تزحف إلى حنجرتي حتى استقرّت في الموضع الذي يريد. عيناه تراقبان الجهاز الذي يعكس له صورة الداخل، صوته برقّة يطلق كلمات الإعجاب ولا أدري هل كان إطراؤه لالتزامي بالتعليمات أم لبراعته في إجراء العمليّة. سحب أفعاه تاركًا حنجرتي تهرشني ولا أستطيع حكّها.
سبقته إلى الكرسي المقابل لمكتبه وسطرت على الورقة: ما دام كلُّ شيء ممتازًا فهل أستطيع الكلام؟.
ابتسم وفي عينه شبه اعتذار:
- الأفضل أن تكملي الأسبوع الثاني.
امتعضتُ. فاغتصب ابتسامة توحي بالملل:
- أقدّر وضعك. لكن لا بدَّ من الصبر.
كنت أحسّ بتعب وجفاف فكتبت له. سحب ورقة الوصفات وكتب عليها اسم الدواء وهو يشرح:
- حبوب المص ستساعد على إزالة الجفاف، والأخرى ستمنع حدوث أيّ التهاب.
خرجت خائبة من عيادته. كمّمني بأوامره وفرض عليّ الصّمت. اتجهت نحو مكتب السكرتيرة لأدفع الحساب، ابتسمت ليَ الموظّفة وهي تعدّل وضع حجابها الذي انزلق، وحين رأتني
193
ما زلت أستخدم لغة الإشارة قالت كمن تواسيني ((إن شاء الله تكوني أحسن في الزيارة القادمة)). لم أطرب لمواستها بل راودني شعور غريب بأنّها تهزأُّ من صمتي وتتشفّى بحالتي، فلربما تطفّلت على قراءة ملفّي وعرفت أن أحد أسباب علّتي هو التدخين.
* * *
194
انحدرتُ إلى الدور الأسفل وأنا أغصُّ بدمعتي، خرجت من باب العمارة ثم تذكّرت الوصفة الطبِّيّة فعدت ثانية إلى الصيدليّة الأنيقة، لم أهتم بالنظر إلى وجه الصيدلاني وضعت الوصفة على الكاونتر بانتظار أن تتحرّك المرأة التي سبقتني، كنت ساهمة مهمومة بثقل الصّمت الجائر الذي سأسقط في مكائنه أسبوعًا آخر. أيقظني نداءُ اسمي فتوجّهت غير عائبة برفع بصري إلى الصيدلاني وهو يشرح:
- هذه حبوب المص، الدواء الآخر غير متوافر، إن شئتِ لدينا بديل عنه.
أخرجت ورقتي وقلمي وكتبت: ((هل يفي بالغرض ذاته؟)).
أجاب بنعم وأردفها بكلمة سلامتك.
اسرعت إلى سيّارتي، غطست في قلبها الحنون، بحثت بين المحطّات عن أغنية تلائم حالتي بعد أن تخثّرت أحلامي من أمر الطبيب. حين طرقت باب أمّي صافحني وجه أخي، اندفعت إليه، فأطلق صوته:
- أكيد سمح لك الطبيب بالكلام، هيّا أسمعينا صوت البلبل.
195
أقبل أمّي وقد التقطت جملته الأخيرة. كادت تزغرد لو لا ا،ّني فردت سبعًا من أصابعي وأشرت بها في حركة تعني أنْ بعد أسبوع.
تغدّيت دون شهيّة كمن يقوم بواجب مفروض عليه. وصعدت إلى شقّتي، تمدّدت على فراشي وحزني يقطر من عينيّ وفي داخلي شوق لأن تتراكض الأيّام كما الموجات وأصدح بصوتي الأسير.
رنَّ جرس الباب بخجل. أدركت أنّه عطيّة. فتحت له الباب، حين لمح حزن وجهي أدرك أنّني ما زلت أسيرةً للصّمت، حاول أن يستنجد بكلمات بسيطة يواسيني بها، كان صوته يتعرْبش إلىروحي وكأنّه مغموس بالعسل. هززت رأسي أشكره وكفّي تحطُّ مثل حمامة رشيقة على كتفه، هبط بعنقه وأسقط على كفّي قبل أن أسحبها قبلةً ندية فارتعشتْ.
* * *
كان صمت الأسبوع الثاني أقسى. ولم يكن يهوِّن عليّ صعوبته غير التفاف أهلي من حولي، حتى صراخ أبناء أخي، أو عراكهم حول لعبة أو قطعة حلوى، لم يكن يزعجني بقدر ما كان يثير البهجة بداخلي وأنا أشاهد مواقفهم الضاحكة، أمّا عطيّة فلم يتركني . . كنت ما إن أصعد إلى شقّتي حتى يأتي حاملاً دفاتره وكتبه، يجلس بقامته الفاحمة وملابسه النظيفة يقرأ الدروس التي حفظها وأنا أهزُّ رأسي بالرّضا الذي يتخلّله غضب مصطنع إن أخطأ في القواعد. وحين يغلق الكتاب يبدأ يحدّثني عن أحوال
196
المدرسة والزملاء ويقلّد بعض كبار السنِّ ممّن لا يحفظون، أو يغيّرون الكلمات التي لا يفهمونها، وأحيانًا كان يشتم بعض المدرّسين الذين يهزأون بالدّارسين، أو أولائك الذين لا يبّلون جهدًا في التدريس ولا يهمّهم سوى أن يقبضو بدل الأوفر – تايم. كان عطيّة لا ينسى عصافيريالتي تحبّه، وتزداد زقزقتها حين يأتي ويجلس أمام الأقفاص يصْفُرُلها، أو يغنّي بصوته الجميل وهو يبدّل إناءات الماء والحبوب. جاء مرَّة وهو يحمل لعبة بلاستيكيّة ذات دوائر ملوّنة، أدخل كفّه في القفص وعلّقها ثم التفت إليّ وقال هذه الدوائر حين تهتزُّ من حركة العصافير تُصدر موسيقى ناعمة أظنّها ستجعلها تغرّد أكثر. ومذ ذلك اليوم ازدادت حركة العصافير وتغاريدها.
ذات يوم دخل وكنت أتعارك مع مسمار لأدقّه في الحائط، كان المسمار يطير كلّما طرقت عليه، اقترب ليساعدني، لاصقني وهو يمدُّ ذراعه، وبإصبعيه ذات الأظافر الساطعة أمسك بالمسمار وأشار بأن أضرب عليه، كنت أُحسُّ بأنفاسه مثل ريح السموم تخرج من صدره لا لتقذفني بعيدًا بل لتمتصّني إليها وتؤويني داخل خيمة. اختلَّ توازن كفّي . . ضربة . . ضربتان . . والثالثة هوَتْ على إصبعه فصرخ متألمًا وهو يسحبها ويحشوها داخل فمه ليبرّد قدوحه. بأسفٍ شديدٍ نظرت إليه فأدرك أنّني أعتذر له. قال وصوته يسيل من قلبه لا من حنجرته: ((فداك إصبعي وعمري كله)).
لا أُخطئُ مشاعر عطيّة، فالحُبُّ مثل عصفور يقفز بين أصابعنا
197
وفوق وجناتنا، يفضحنا رفيفه وغناؤه مهما حاولنا أن نداريه.
كنت أفرح بهذا الحُبِّ النبيل الذي لا أعرف حدوده عند عطيّة، وكنت بحدود أعبّر له عن مشاعري التي لم أكتشفها بعد أو ربما كنت لا أريد. كانت أحلامي أحينًا تشدني إلى يوم يتفتّح فيه قلبي للحُبِّ ثانية فأجد من يعوّضني عن العجوز وجواد. وكنت أشعر بأنّني أبني أحلامي على رمال متحرّكة، فلم تعد ثقتي بالرجال تمنحني القوّة لأوافق على الخطّاب من زملاء الجامعة الذين يسعون لأبي وأخي، ولآخرين تعرف أمّي عوائلهم الكبيرة من خلال علاقاتها بالبيوت التي عقدت معها صداقات منذ أن جاءت مع أبي من حلب . . والفضل في ذلك يعود إلى أهل أبي، الذين أحبوها وقرّبوها من محيطهم ومعارفهم ولم يعاملوها كغريبة دخيلة على بيتهم ومجتمعهم. عاشت أمّي مدلّلة وحبوبة. لا أذكر أنّ شجارًا دبَّ بينها وبين جدّتي أو إحدى عمّاتي. أمّي كانت طيّبة وذكيّة تأقْلمت بسرعة مع أجواء بيت جدّي، جلست على الأرض لتأكل بيدها كما يفعلون، ارتدت العباءة والبوشيّة ولم تتذمّر يومًا من حياتها، كانت تحبُّ أبي وتفعل كل ما يرضيه ويسعده، ساعدت النساء الفقيرات والبسيطات كما صادقت نساء العائلات الكبيرة، ومنها ومن أبي تعلّمتُ روح التواضع. حتى حين حصلتُ على ثروة العجوز الكبيرة لم يغيّر هذا شيئًا بداخلي، وعندما حاول جواد ذات يوم أن يجعلني أترفّع عن بعض الطالبات ((الهليق)) كما يسمّيهنّ اعترضتُ عليه وذكّرته: ((لو لم أتزوّج العجوز وأرثه؛ لكنتُ في نظرك هليقيّة . . الفلوس لا تصنع النفوس)). ظللت أحتفظ بروح أمّي السعيدة بإفناء ذاتها في
198
شؤون بيتها، وكان يعجبني وفاؤُها لأبي وحرصها عليه واهتمامها بكلِّ ما يخصّه، كنت أراها كيفتُعدُّ له الحمّام وكيف تنتظره حتى يناديها لتفرك له ظهره، وحين يخرج يجدها قد أعدّت على السرير ملابسه المكوّية، وقبل أن يخرج تتأكد من أناقته وترُشُّ العطر على كفّيه، وقبل أن يخطو على عتبة الباب تكون قد طبعت على وجنتيه قبلاتها ودعاءها. أحببت حنان أمّي على أبي رغم أنّه كان يثور ويعْنفُ بعض الأحايين، فهي لا تعتبر ثورته إهانة أو قسوة، ويوم أحببتُ جواد وحلمت به زوجًا كنت أرسم أن أكون، مثل أمّي، زوجة تتفانى ولا تشكو. لم أكن أرفض فكرة الزواج لذاتها، بل بسبب الخوف والقرف اللّذين كبّلني بهما العجوز، والشّك الذي تركه جواد في داخلي بسبب نواياه وتناقضاته. لم أرتح لكل من تقدّم إليّ. ولا أدري ما سر ذلك الشعور الذي يلازمني حين أجلس مع أهلي لاستقبال خطيب جديد، كنت أبحث في عيني كلّ واحد منهم عن مثل تلك النظرة الحانية التي ألمحها في عينيّ عطيّة، أبحث عن تلك اللهفة حين يراني، عن خوفه عليّ، عن مشاركته لي بفرحي وحزني، عطيّة يُريحني، يفهم ما أريد من إشارة أو نظرة. أصبحت أعتمد عليه بأشياء كثيرة وأنا واثقة منه. كان ذلك الشعور الذي يدفعني للمقارنة بين الخطّاب وعطيّة يقلقني ويفتح نحوه مشاعر أعرف أنّها مستحيلة. لكنّها بدت تغزوني وتحرّك نكوص قلبي فلا أجرؤُ أن أبوح بها لأحد.
* * *
انتهى الأسبوع . . موعد الطبيب يقرع طبوله، أشرعة خزانة
199
ملابسي، وقفت طويلاً لأختار أجمل الثياب التي ستناسب وفرحة الإفراج عن صوتي. كان فرح أمّي وهي تودّعني بدعواتها كبيرًا، وكنت أتمنّى ألاّ يخيّب الطبيب أملها وأن أعود إليها بصوت البلبل.
لا أدري كيف قطعت المسافةإلى العيادة حتى وجدْتُني أجلس على كرسي الفحص غير مسيطرة على توتري، لحظ الطبيب ذلك:
- أظنّك على أحرّ من الجمر.
هززْت رأسي بالإيجاب، استسلمت لزحف الأنبوب الرفيع، لم أشعر بذلك الغثيان، كنت صبورة حتى سحبه وهلّل صوته:
- ألف مبروك. أطلقي صوتك الآن بهدوء.
رفْرفتْ الدموع في عينيّ، لم أجد جملة حنونة أفتتح بها باب صمتي غير: ((الحمدلله ربّ العالمين)). خرج الصوت رفيعًا متذبْذبًا بالبّحات. فاقشعرّ وجهي. لاحظ الطبيب هلعي فابتسم مؤكدًا:
- سكون أحسن بعد التمتارين.
- هل سأحتاج لدواء؟
- حبوب المصِّ فقط – ثم أشار بإصبعه منبّهًا – أن تواصلي مقاطعة التدخين.
وعدته بصدق، وخرجت من العيادة منزلقة بفرحي مثل عصفورة تحلّق في السماء المتّسعة بلا حدود. انطلقت أحرث
200
الطريق حائدة عن الشوارع المزدحمة وتلك المسكونة بذكريات قديمة. شعرت أنّ الحياة حلوة، وجوه الناس أحلى، الغيوم الشفّافة ترقص، تتشكّل: هذه مثل غزال شارد، وتلك وردة تفتح ثغرها باتّساعه، وهذه مهرة ترمح ويتلاعب ذيلها في الهواء، وتلك قطّة على وشك الولادة. إشارات المرور كلّها خضراء وكأنّها تتعمّد أن أواصل ركضي، تُؤكد أنّ الحياة حديقة بلا حدود تتسع لكل الأحلام وتهديني علبًا من الحلوى.
صعدتُ إلى شقّة أمّي يعصف بي فرحي، اصطدت بعض قلق على وجوههم المنتظرة، بادرتهم بصوتي الجنينيِّ الذي لم يكتمل بعد:
- إفراج . . وإجازة شهر للراحة.
زغردت أمّي. إيمان هنّأتني بالسلامة بفرح. أمّا فيصل الذي أقلقته نبرة صوتي، دنا منّي وهامسني بعيدًا عن سمع أمّي:
- هل سيظل صوتك . . .
قاطعته بالهمس ذاته:
- أكّد الطبيب أنّه سوف يتحسّن بعد التمارين.
تحرّكت لأخرج فشدّتني أمّي من ذراعي:
- ((وين رايحة؟ بدنا نتغدّى)).
أشرعت لها ابتسامتي:
- ماما . . أنا غير جائعة أريد فقط أن أرتاح.
201
انطلقت إلى شقّتي. ارتميت على أريكتي مقابل البحر. كان صافيً ضاحكًا فارتحلت فيه تارةً سمكة فضّية ترتدي فستان عرسها، وتارةً مثل قارب ذهبيّ يعبر المسافات البنفسجية.
شعرت بهدوءٍ نفسيٍّ مريح. وأذرع المكان تتمطّى من حولي، يتّسع ويتّسع حتى صار حديقة مترامية. صوت عصافيري ينطلق بغناء عجيب. شخوص اللوحات، أشجارها وغزلانها تصدر ألحان الكمانات والدفوف. حتى الصّمت الوديع صار رجلاً متحرّكًا ملوّنًا ناطقًا يرهج بأجراسه، بأقطراطه، بأساوره. مدّ ذراعين حنونين، اقتلعني من أريكتي، شدّني إلى صدره العريض، خاصرني وبدأ يراقصني رقصة الفالس السريعة. كل شيء من حولي يبادلني الرقص. الشبابيك المفتوحة، السجّاد، الأبجورات المضيئة و شراشف الطاولات القطنيّة والحريريّة. كنت أتماوج بين الذراعين. أرتفع، أهبط، ألتصق بالصدر وأبتعد. صرت فراشة طليقة حالمة بامتطاء سعادة الأيّام القادمة.
* * *
الزّمن ملغوم بالفجائع. لكنّها ليست دائمًا سارّةً كموت العجوز، حين تكون ثنايا الفرح مفرودة كلّها كالبساط، تأتي رياح الحزن لتكرمشها دون أن تطويها، فرحي بصوتي لم يُنسيني مأساة عائشة لكنّني تباطأت في الإتصال، قلت انتظر أسبوعًا آخر حتى يتحسّن صوتي بعد التمارين. الآن وبعد هذا الكم من الفرح، أهرع إلى الهاتف وأدير الرقم فيأتيني صوت أمّها نائحًا يهدر بالفاجعة:
202
- عائشة انتحرت . . ألقت بنفسها من السطح.
سقطت سماعة الهاتف من يدي، ارتطمت بالأرض كما ارتطم قلبي بالخبر. حامة أصوات غربان وحشيّة تضرب بفراغ الغرف فتهتزُّ أركانها. اللوحات تنقلع وتنقذف في كلِّ اتجاه تتبعها مساميرها الحادّة. حجارة الجدران تتهاوى مثيرة أتربة سوداء قبل أن تحطَّ على الأرض وتتراكم، قلبي المشجوج هو الآخر يتناثر نتفًا ثقيلة ويرشُّ الدم في كل مكان، صوتي الذي دلّلته وخشيت عليه يفرُّ منّي بصرخات مدوّية. حاصرني الخوف ووجه عائشة ينقسم وجوهًا كثيرة تواجهني: وجه يصرخ، وجه يحترق، وجه مختنق بالدم الأزرق، وجه مقبور تندلق منه العينان واللسان، ووجه حزين محتقن يقذف إليّ بحمم العتاب ((لقد تأخّرت عليّ)).
ما كنت قادرة على إحتمال اللحظة العنيفة، ركضت مجتازة الركمات والوجوه منحدرة إلى أمّي بذهولي، بصراخي، بدموعي الدامية. لأجدني مضطّرة للبوح لها بسرٍّ عائشة الذي قلب حالي وكرمش فرحي.
لم أجرؤ تلك الليلة على النوم وحيدة في شقّتي، توسّدْت حنان أمّي أبي الذي بصبر ظلَّ يهدّئُني ويمتصُّ نقمتي على نفسي. كان يصرُّ أن يبرّئ ضميري، وكنت بإحساسي المجهد ألعن هذا الضمير وأقسو عليه ((لقد تأخّرتُ فعلاً على عائشة فاختارت الحلَّ المجنون لوجعها ومصيبتها)).
في تلك الليلة استشْبقتْ رغبتي أن ألتهم عشرات السجائر، كنت أعلم أن لا شيء منهافي البيت، أصررت على أمّي أن
203
تبعث بعطيّة ليشتريها، لكنّها ثارت وارْعدت متخلّية عن حنانها الذي آوتني به إلى صدرها. تآزر أبي معها بصرامته التي كفَّ عنها معي منذ أن مات العجوز، استسلمتُ ورغبتي الشبقة لم تهدأ، ظلَلْت الليلة بطولها لا أقوى على إغماض عيني. كنت كلّما أطبقت جفنيّ وجه عائشة المعاتب ويحطُّ كلجمرة داخل عينيّ. ويدوّي صوتها المقهور بفضاء الغرفة هاطلاً نزيفه معه.
ظلّت أحلامي بعائشة تُؤَرّقني ليالي طويلة. لكن حلمًا غريبًا استطاع أن يكسر رتابة أحلامي، وثير زوبعة في داخلي أشبه بمواكب الجنازات وهي تُوَلْوِلُ على الموتى. وفي تلك الليلة رأيت عطيّة في حلمي (دقَّ الباب، فتحت له ونعاسي لا يزال يرعُفُ في عينيّ. بادرته والباب في نصف انفتاحه بصوتي الكسلان: خير؟ لم يردّ. دفع الباب بلطفٍ وانسلَّ داخلاً. أطبق الباب بهدوء وكأنّه يخشى أن يُؤلمه. تراجعتُ وقد بدأتُ أستخرج نفسي من حثالة النعاس. صوتي أكثر نشاطًا: خير يا عطيّة؟ لم يرد، اقترب أكثر وفاجأني باحتوائي بين ذراعيه الطويلين المُعضلين. وجدْتني مثل أرنبة يقبض عليها ثعلب جائع. فلا تُبدي حركة خشية أن يبتلعها في لقمة واحدة. استسلمت خوفً أو رغبة لا أدري. لكنّي شعرت بحاجتي إلى واحة سوداء لا شمس فيها ولا قمر. التصقت بالصّدر العريض أغطس في واديه ما بين تلّتيْ انتفاخ الثديين.
ذراعه يداعب ظهري العاري والذراع الآخر يلتف حول عنقي مثل جذْع رطب. كفّه تندس في شعري المتناثر تعابثه. شعرت بنداوة أصابعه وبدفءٍ راعشٍ يتسرّب إلى جسدي كله. دفء كنت قد
204
نسيت الإحساس به منذ أن تركت جواد وتصوّرت أن لا دفء يشبهه سيفاجئني ذات لحظة. جُرؤت كفّه بعد هذا إلى ذقني، رفعه إلي فتقابلت عيوننا. لمحت حمره مستعرّة داخل حدقتيه وانا أسمع لهاثة الخابي يشقُّ ستار المسافة بين وجهي ووجهه.
أخافتني شفتاه الغليظتان البارزتان لكنّني في لحظة وجدت شفتيَّ، حتى آخرهما، تندفنان في وسادتين لينتين، كان جسدي برجفاته ينصهر بارتجافات جسده الأكثر عصفًا. حملني بين ذراعيه بخفّة واندفع بي إلى غرفة نومي التي لم يلامس شراشفها بشر غيري.
مدّدني على السري. كنت وردة مفتوحة الأوراق وكأنّها بانتظار النسيم والندى. صار يداعب الأوراق بلهفة وكأنّه يريد أن يعرف سرَّ كلِّ ورقة. وانا أتمرغ في غيبوبتي وأدفق آهاتي قبل أن يدفق إليَّ مياه الجدول وأُطلقُ شهقتي العالية).
فزعت من نومي. وجدْتني وحيده في فراشي، لكن رائحة عطيّة كانت تفوح من جسدي وتتناثر في الغرفة، وأنا الهث كمن قطعت آلاف الأميال دون توقّف. هرعت إلى النافذة، أزحت الستارة، كانت أضواء الشارع تغطس في قلب البحر، والغيم الأسود يُؤِرّق صحو السماء وينذر بعاصفة المطر.جلست أتفكّر بالحلم فاقتحتني تلك الحادثة الغائرة في كهف ذاكرتي. كنت طفلة في السادسة من عمري ولم أتخلص بعد من الرّيالة التي تنقط في فمي. وأمّي تعلّق الصّدريات القطنيّة على صدري وتغيّرها كلما ابتلّت. كانت تضيف بريالتي وتخشى ان تكبر معي.
ولم يفد أيُّ علاج حتى قالت لها إحدى النساء المسنّات أن لا
205
شيء سيفيد إلاّ أن يُقبّلني عبد في شفتيَّ بعد صلاة يوم الجمعة.
أذكر كيف قعدتْ بي أمي عند باب المسجد، كان الجوّ حارًّا وكنت أتأفّف وهي تزجرني بهدوء وعيناها تتابعان خروج المصلّين، وما كانت ترى عبدً حتى أسرعت إليه ترجوه أن يعمل معروفًا ويُقبّلني. أذكر كيف حين اقترب منّي أخذت بالصراخ محاولة التفلُّتِ من ذراعيّ أمّي، لكنّها والعبد الذي يطمع بالأجر من الله أفلحا من تطويقي والإمساك برأسي. وعندها انهال على شفتيّ ويشفط كلَّ الريالة منها. وما إن انتهى حتى استفرغت كلَّ جوفي. وظللْ بعدها لائعة لا أستطيع ابلاع أيّ طعام. وبعد أسابيع انقطعت ريالتي . . أخذت أستعيد تلك اللحظة وأقارنها بالحلم، وبعطيّة يصهر شفتتيّ فلا ألوع ولا أقرف بل ألتذُّ وأذوب وأحلّق بفضاءات المتعة.
عدت إلى فراشي لأواصل نومي، لكنَّ الحلم الذي أيقظني سرق النوم . . فظللت أستعيده. أنتشي وأتلمّظُ عرق عطيّة الوهّاج فتفاجئني تلك الليلة النحيسة. حين ناداه العجوز ليقتحم جسدي . . . آآآه. شتّان ما بين فعل تلك الليلة وهذا الحلم! هناك كان يُؤدّي واجبًا للسيّد دون أن يتحسّس الوردة أو يحسَّ بها.
والليله هو عاشق يُهيء الوردة ليسمع شهقتها. هناك على فراش العجوز تركني دودَةً مهروسة قرفانة. وهنا على فراشي تركني جمرة مشتعلة متفتّحة المسامات ينتشر بخور جسدها المنتعش، وتفلس عيناها في احتضان نومها. في الصباح نزلت عند أمّي مرهقة جائعة كأنّني لم أنمْ ولمْ آكل منذ عام. لكنّني، رغم ذلك
206
كنت أشعر بأنّ جسدي وروحي يفوحان أكسجينًا جديدًا، ويفرزان عطرًا له عبق التّمر المستوي فوق العذوق. لاحظتْ أمّي شراهتي واندفاعي إلى الأكل، حتى الزُّبدة التي أتحاشاها كنت أكثر منها على قطعة التوست ((المحمّشة)) الساخنة وأُغطّيها بمربى البرتقال الذي أحبّه. لم تكتم دهشتها:
- ((شو مالك اليوم متل الفجعانة))؟
كانت تتحرّك في المطبخ تجفّف الصحون وتعيد ترتيبها في أماكنها. شعرت بحاجة أن أرفع عنّي ثقل ذلك الحلم الرّعون:
- ماما . . . اجلسي سأقصُّ عليك حلم البارحة.
ألقت بفوطتها وبالصحن الذي لم يجفّ بعد؛ واستقرّت بجانبي وفضولها:
- ((خير إن شاء الله بشو حلمت؟))
- بعطيّة
التسعت أمّي من ذكره:
- ((يييه علينا وعلى عطيّة. لاحقك لأحلامك. شو جاي يسوّي؟))
ألقيت عليها بطرف ((القنبلة)):
- باسني . . .
صرخت أمّي:
207
- ((يقصُفْ عمره قَصفْ. بعد مش ناقص إلاّ هالعبد يبوسك!))
ضحكت كأنّ ألوف الأصابع تدغدغني وأنا أذكّرها:
- يا ماما . . . . هذا حلم . . حلم.
توتّرت أمّي، انقبض وجهها:
- ((وَلَوْ . . ما كان لازم يتجرّأ ويقرّب منك)).
ثم استدارت نحوي. مدّت أناملها إلى وجهي تمسح عليه وكأنّها تنفض عنه بقايا ذباب وصوتها حانقًا:
- ((وين باسك؟ على خدك ولاّ . . . )).
قاطعتها وأنا أضع إصبعي المدبّق بالمربّى على شفتيّ:
- ((باسني هون)).
وقفت كمن لسعتها عقرب:
- ((بَلى يبليه إن شاء الله . . . وليش خلّيتيه يقرّب عليكي؟))
عدت أهدر بضحكاتي:
- يا ماما . . . أرجوك هذا حلم، ولا تنسي أنّ عبدًا قبله لمس شفتي.
- ((نايف ما كان عبد)).
- لا أقصد نايف. هل نسيت الذي سمحت له أن يشفط شفتيّ وأنا طفلة؟
208
- ((هداك كان علاج علشان يمنع ريالتك، هلّق مِنشو بتشكي حتى يجي هالمضروب ويبوسك؟))
كي أخفّف عنها كذبت:
- رأيت نفس طفلة وأنت تأمرينه أن يقبّلني.
نفخت أمّي وقامت إلى صحونها تكمل تجفيفها.
لم أترك لذاكرتي أن تكون أمينة وتنقل لأمّي تفاصيل الحلم.
إن كانت مجرد قبلة وتّرت أعصابها وضيّقت مزاجها، فكيف لو عرفت أنّه . . . وأنّني . . .
جائني صوتها لائمًا:
- ((من كتر ما دلعتيه ورفعتي الكلفة معه صار يتجرّأ عليكِ)).
لم تحتمل أمّي أن يقبّلني عطيّة رغم أنّه مجرّد حلم. ماذا لو كنت أعترفت لها بتفاصيله؟ ربما تفاجئها سكتة قلبيّة أو جنون يفرض علينا أن نطرد عطيّة.
ساد صمت ثقيل بيننا كنت في تعاريجه الممتدّة أتلمّس صمتها معكّرًا بالغضب والحقد على عطيّة، بينما صمتي ينزعني إلى حلمي ويبلّلني بالعرق وأنا أتصوّر أنّه ولج ليل عطيّة في اللحظة نفسها، وأنّنا كنّا شريكين يتعرّف أحدهما على جسد الآخر، وتندسُّ الشهقات في أروقة روحيهما.
* * *
منذ ذلك الحلم استيقظت كل سواكني وانفلقت بذور سعاري.
209
صارت كل خوامد الظّمأ تنغل في منابتها. وتُهَسْهِسُ رؤوس الشرارات، فتستفيق رغباتيَ المكبوتة، متمنّية مطرًا يُطفئُ توقّد النار واحتباسها في سواقي الجسد الذي أهملته، فانطفأت فيه تلك البروق الصغيرة التي اشتعلت يوم كنت أُحبُّ جواد. وها هو الحلم يحرّك شهيّتي لأن أفتقّده وأطمئن عليه.
وقفت عارية أمام المرآة أتأمّله وأندهش: آآآآهٍ لهذا الجسد المُصاغ من لُجينٍ ونور. جلده لم يترهّل، ولونه الأبيض لم يفقد نعومته ولمعانه، نابض كقلب، شهيٍّ كفاكهة الصيف. شعرت بالشفقة على نفسي كيف لامرأة مثلي في ريعانها أن تُحرم من يدٍ ترشّها بالعطر وتفتح وريقاتها المنطوية؟ تأمّلت شفتيّ الصابرتين اللّتين لم يمسّهما حتى جواد الذي أحببته، ولم يتذوّقهما غير ذلك العجوز الذي لا يستحقّهما، والذي لم يفلح أن يُسيّسْهما لتستسلما لهجوم شفتيه الرخوتين. تأمّلت صدري الناهض الذي كانت قطفته الأولى بكفّيه اليابستين اللتين لم تحرّكا فيه ساكنًا.
انحدرت نحو نصفي الأسفل المنساب نحو بوابة الدخول التي تسلّل إليها ثعبان عطيّة الحارق ثم ثعبان العجوز الأشبه بخيارةٍ ذابلة. أيقنت بفرح أنّ لي جسدًا لا يزال بضًّا يحتاج ويهتاج وله الحقّ أن يبحث عن وسيلة ترشُّه بالملح والندى. فصارت الليالي مرابض الأحلام اليقظة التي تجذبني إلى كمينها المُضيء فأغوص فيها بلا حذر مع عطيّة. أراني مأسورة بين ذراعيه أتملّى في سماء وجهه الفاحم وأرى القمر في عينيه، أشمُّ رائحة تنثُّ من جسده وكأنّه خرج للتوِّ من عصائر حديقة منوّعة الثمار، عطر أناناس،
210
برتقال، عنب وموز. أغوص في فخاخ الرائحة وأذوب فيها.
ومن شفتيه أتذوّق طعم تفاح أخضر، لا أقرف ولا أتمنّع. وحين يعتليني أحسّه مثل عمود النور المُطْفَأ ينحدر نحو شمسي ليمتصّ منها الضياء. لا أحسُّ بثقل جسده، أشعر به كتطواف ورقة ناعمة على سطح بحيرة وديعة. أسمع وشوشاتها، يؤنسُني حريقها وتشجيني عواصفها. كنت أجرُؤُ وأكشف له كل خرائط جسدي، حتى التضاريس الصغيرة. واستسلم لهرولة شلاّلاتها تبللني حتى لحظة انقداح الرجفة التي ترضع ملحها الشراشف وتندفن في وسائدها نايات الشهقات. لم أكن أحتقر نفسي، ولا أشعر بأنّني خاطئة أفعل الحرام، فالأمر لا يتعدّى كونه حلم يقظة يتركني عطيّه بعده مثل ورقة النعناع الذابلة. أجدني وحيدة في فراشي، يرشح من جدران الغرفة شيءٌ كطنين الذباب المخنوق. يأسرني لدقائق ثم يرحل فتبقى عاهات صمته مفروشة في كل الأنحاء والنار لا تزال تصليني، فأتمنى لو أجد كومة رملٍ بجانبي أذروها على جسدي وأهبط بلهيبه إلى القاعع حيث ينطفئ. أبكي حزنًا على نفسي وألتوي مثل جذع فارغ بينما أحلامي الراحلة تغور في سراب ممتدّ.
بقدر ما كنت ألتذُّ بتلك الأحلام المتخيّلة؛ وبقدر ما أحقّقه لهذا الجسد المعطّل من متع ملونة، كنت أتعذّب، أتحسّر. فأنا الأرملة الشابّة الجميلة التي يتمناها الكثيرون ويطرقون أبوابها أجدني أغوص في نفق عطيّة بكل أشعّتي، أختاره عشيقًا سريًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) عنوان رواية الكاتب السعودي يوسف المحيميد.
211
أرتمي في أحضانه بكل رضاي ورغباتي. كانت تفاجئني لحظات أثوب فيها إلى رشدي وألقي فيها إلى رشدي وألقي بالسؤال صريحًا على نفسي: هل أُحبُّ عطيّة فعلاً أم هي فورة الجسد التي أوقدها حلم تلك الليلة؟
تتشابك أفكاري ملء رأسي ثم تندفع مثل فراشات مجنونات ترتطم بجدران الغرفة، تتهشّم وترتدُّ إلى رأسي، حيث الحيرة والارتباك والعجز عن إيجاد إيجابات شافية. صرت على حال لم أكُنها من قبل. متوحّدة في شقّتي وأرق الليالي ينفرش صفرة وذبولاً على وجهي أنظر في المرآة فأحسّ الزمن قد نحت عليه عشرات الأخاديد الصغيرة. أمّي التي لا تفوتها فائتة لاحظت تغيُّري، وربما سمعت أجراس قلبي تنوح. بدأت إيماءاتها تلوح وأنا أتجاهلها، حتى فاض بها فكشفت عن قلقها ذات صباح ونحن نتناول الفطور مع أبي. التفتتْ إليه ويدها تشير نحوي:
- ((بنتك حالها مش عاجبني يمكن عندها مشكلة)).
دقّق أبي في وجهي وصوته الحنون يسيل إليّ:
- هل ما تقوله أمّك صحيح؟
افتعلت ابتسامة:
- أنت تعرف أمّي . . من قلقها عليّ تتصوّر أشياء و . . .
قاطعتني ثائرة:
- ((أنا ما بتصوّر، أنا شايفة بقلبي قبل عيني. وين ضحكتك؟
وين حكْياتك الحلوين؟ حابسة نفسك وصايرة مصفرَّة وبهتانة وسرحانة كأنّك حاملة هموم الدنيا على كتافك. شو السيرة؟))
212
هدّأها أبي:
- طوْلي بالك عليها خلّينا نسمعها.
كان لا بدَّ أن أخترع سببًا:
- يا بابا . . . تعرف ظروف العمليّة، وبقائي في البيت يسبّب لي الضيق والملل.
اقترح أبي:
- إن كنت تشعرين بتحسّن اختصري إجازتك وعودي إلى عملك.
فرحت أن عذري انطلى عليه:
- كنت أفكّر بهذا، خاصّة أنّني اشتقت لطالباتيوزميلاتي.
هدأت أمّي وارتاح وجهها:
- ((اعملي حفلة لزميلاتك. فرفشي واطلعي من هالكآبة)).
أسعدني طلبها، كنت حقًّا بحاجة لأيّ تغيير ينزح بي عن أحلامي التي حصرتني في خيوطها مثل عنكبوته جائعة.
* * *
لم يكن الأمر سهلاً أبدًا رغم سعادتي بالعودة إلى عملي. فما إن وطِئْتُ باب المدرسة حتى تراءى لي طيف عائشة فانتابتني رجفة كان عصفها أكثر حين دخلت الصف وهبّت الطالبات يصفّقن لدخولي وتنهمر عليّ تحيّاتهنَّ وتهانيهنَّ بالسلامة. كانت
213
عيناي تبحث عن وجه عائشة والغصّة تأسر صوتي المتشافي فلا أنطق. رأيت مقعدها في مكانه فارغًا إلاّ من تلاوين صمته وحزنه. لم أحتمل. دمعت عيناي. جلست مُنخضةً رأسي بين كفّيَّ حابسة دموعي. ساد صمتٌ ذَهولٌ أفقت منه على قرقعة الكراسي. كانت طالبتان تحملان مقعد عائشة وطاولتها خارج الفصل. وبقيّة الطالبات يقُمن بترتيت المقاعد بشكل يتوّه فراغهما الحزين.
لازمتني حالة الحزن أكثر من أسبوع حتى اعتدت على غياب عائشة، واستعدت نشاطي وهمّتي في دفع الطالبات لبذل المزيد من الجهد، فلم يتبقَّ على إمتحان آخر العام سوى شهرين. وكما كنت أحثّهنَّ كنت أفعل هذا مع عطيّة، متحاشيو وأنا أراجع دروسه معه أن تلامس كفّي كفّه، أو تعانق نظرتي نظرته. كان مجرّد وجوده في شقّتي يثير عطر تلك الرائحة التي أشمّها في أحلامي. وكنت بفضول أسترق النظر إلى جسده المستور بثيابه.
((هل تراه صافيًا كما أراه في أحلامي أم به ندوبات خلّفها سوط العجوز! أو به بقايان من حبوب جَدَرٍ أصابه ذات يوم. كنت أمنّى لو ينسى مرّة ويترك أزرّة قميصه مفتوحة لألمح ولو جزءًا من التلّتين وحبّتيّ العنب. كانت أفكاري الخبيثة تزعجني وتشحنني بالغيظ عليه. فأنتهز فرصة أيَّ خطأٍ في القراءة أو الإملاء لأثور عليه وأؤنبه وكأنّني أنتقم لنفسي من سلطته عليِّ في أحلام الليل وأحرم اليقظة. وحين يخرج بطوله الفارع متأبّطًا حقيبة دروسه، تاركًا رائحته التي تفوح في الفراغ المتسع فأحسّه يحفرني بمخالبه
214
في العتمة، والصّمت الأخرس يتلاعب بتلك الرائحة ويدسّها في كل مسامي فتنتعش في جسدي الرغبة الجامحة، تهرع بي إلى فراشي أبحث عن جسده وألتوي به دون خجل.
* * *
ذلك النهار كنت في شقّة أمّي نتبارى أنا وهي، في لعبة البرجيس. تلاحقت دقّات الجرس على الباب، قمت وفتحت، فإذا بعطيّة يحمل شهادته الإبتدائيّة وفراشات الفرح تتقافز من وجهه وعصافير صوته تصدح:
- نجحت وعلاماتي كلّها عالية.
- برافو عطيّة. سأقيم لك حفلة.
انتعشت اساريره مثل طفل أهدوه لعبة جديدة. وكانت الفرحة في قلبي مثل غزلان تلمح في البراري وتشهق. التفتُّ إلى أمّي التي كانت ترمق فرحنا وهي قاطبة:
- شفت يا أمّي . . قلت لك إن عطيّة ذكي وشاطر.
باستهزاء ردّت:
- ((يعني شو جايب لك شهادة دكتوراه؟ كلّها ابتدائيّة)).
ردَّ عطيّة بصوتٍ شعرت به يقصد أن يتحدّى استهزاء أمّي:
- إن شاءالله أجيبها. ما دامت سيّدتي نادية راضية عليّ.
صكت أمّي على أسنانها:
215
- ((وليييه عليك. ما ناقصك إلاّ تصير دكتور)).
عتبتُ عليها:
- ماما. بدل ما تشجّعيه وتهنّئيه؟؟
- ((تقبُري أمّك . . ما بعرف ليش شاغلة روحك فيه؟))
دنوت منها، طوّقتها بذراعيّ، قبّلت رأسها وداعبتها:
- ستحتفلين به معنا، ونذوق طبخاتك الحلوة. ورق عنب وفطائر وتبّولة و . . .
قاطعتني:
- ((ما بدّك كمان أرقص له وأدق عالدّربكة))؟
ضحك عطيّة وقال يداعب أمّي:
- أنت دقي وأنا أرقص.
استاءت أمّي وحدجته بنظرة قاتمة:
- ((بلى بلى يسْتُرك سَتِرِ. إمشي من خلقتي)).
لأختصر الطريق على ثورة أمّي؛ أمسكت بيد عطيّة واتّجهت به نحو الباب وأنا أمدُّ صوتي إليها:
- لا تشيلي البرجيس سأعود لأكمل اللعبة.
صعدت مع عطيّة إلى شقّتي. ما إن ولجنا حتى عزفت العصافير بتغاريدها وكأنّها تزفُّ التهاني إليه. أشرت إلى الكرسي:
216
- اجلس يا عطيّة.
دخلت إلى غرفتي. وعدت أحمل العلبة التي لففتها بورق لامع. وقف وابتسامته تملأُ وجهه. سلّمته العلبة:
- خذ يا عطيّة. كنت واثقة من نجاحك فجهّزت لك الهديّة.
أمسك بها يتفحصها:
- ما هذه؟
- ساعة.
انهمر عليّ بطوله وجسده الفتيّ. فتح ذراعيه احتوى كتفيّ بحرارة وقبّل خدّي ثم ابتعد وهو يهمس:
- آسف سيّدتي . . فرحتي غلبتني.
أدرت ظهري إليه، خشيت أن يلحظ ارتعاشي، وتورّد وجهي الذي أحسست به يتّقد. تلهّيت بمعابثة مفرش الطاولة وتسوية الزهريّة عليه؛ وصوتي غارقٌ في لوم مصطنع:
- لا تفعل هذا مرّة ثانية.
أحسسته يجرُّ قدمين ثقيلتين وقلبًا محزونًا وهو يغادر ويغلق الباب برفق. تقرفصْت على الأريكة وذراعيَّ تحتضنان كتفيّ اللّتين لامسهما، وخدّي الذي لثمه. أغمضت عينيَّ ففاح صمتٌ حنون كصوت كمانٍ عتيق يحضن روحي، ويرقص مزهرًا من تلوّن وجنتيّ دافئٍا من دفئي. شعرت ببروق تحاوطني بإشاعات ملوّنة وتسري بي إلى أحلام يقظتي، فأدخلها نشوانة مُؤمّلة نفسي بلحظة
217
اشتعال تنهض بأعناق جسدي النحنية حتى تصل بنشوتها إلى لحظة الانطفاء. أغمضت عينيّ واستحضرته لأحلام يقظتني.
* * *
كان الفجر ينزلق من فتحة الستارة، أنقذني النور من حلم مزعج. شعرت برخاوة في جسدي. ذراعاي خاملان وكأنّ ما جرى في الحلم قد شلّهما. تحسّست عنقي وصدري كانا يسبحان في عرقٍ حارّ، ورائحة تراب متخمّر تفوح من حولي. انتشلت جسدي المثقل وفي الحمّام أجريت عليه شلاّل الماء الدافئ وخرجت أفوح بشذى الصابون، اتّجهت إلى حيث أقفاص عصافيري الصامتة، كانت في تنويعات هجوعها الآمن لا تدرك سرَّ يقظتي المبكرة . . آهٍ . . لو كانت معي في الحلم؛ لقفزت الآن غير مصدّقة أنّني مازلت على قيد الحياة بعد أن عشت ذلك الحلم.
هل كان الموت بحقيقته التي أخاف منها؟ (ظلام دامس وصمت مريع غاب في جسدي بلا حراك لكن صدى أصوات متداخلة كانت تفتقه. أيدٍ رفعت جسدي العاري وأسجتْه فوق لوحٍ خشبيَّ. وبدأ سريان ماء بارد عليه. رفعوني ثانية ومدّدوني على قماش ناعم. صوت أمّي نائح وكفّها تباشر حشو فراغاتي بالقطن الرشوش بالكافور. ثم تبدأ بتكفيني وتشدُّ الأقمطة الرفيعة حول جسدي حتى عقدة الرأس. حملتني الأيدي مسافة طويلة بين نواحٍ وصراخ. أسقطوني في حفرة ضيّقة رطبة وبدأوا يهيلون التراب عليّ. وقبل أن يغمر وجهي، كانت صرخة عطيّة كالرَّعد تهزُّ
218
المكان. انتشلني من الحفرة. حملني بين ذراعيه القويّين وطار بي وكفني يتهاوى عنّي متطارًا في الأفق. وإذا ببُؤْرة ضوءٍ تفاجئ عينيّ. حين حدّقت بها كانت تلك التي تندس من فتحة الستارة فأقوم من موتي إلى الحياة).
اشتعلت زقزقة عصافيري بعد أن فضّت الأشعة بكارة المكان.
لا أدري كم أمضيت من الوقت وأنا نائمة أو سارحة أستعيد الحلم المرعب، وشعري لا يزال يقطر ماءه وجسدي محفوف بالبُرنس . . ورغبة عارمة تدفعني أن أرتدي ملابسي وأخرج قاصدة البحر مشتهيّة أن أرتمي في حضنه، وأغتسل بملحه، أطرد بقايا الكافور والتراب، وكأنَّ الصابون لم يُؤَدِّ مهمّته.
حين عدت متوهّجة بملحي وفرحي لأنّني مازلت حيّة، استقبلني عطيّة بوجهٍ مبهوتٍ وعينين يتطاشر منها الفزع:
- أبوك تعب. أخذته أمّك إلى المستشفى وتقول الحقي بها هناك.
أيّة ضربة قاضية قذفت بكُرتي من ساحة الفرح إلى مرمى الحزن؟ ما به أبي؟ ما الذي فاجأَهُ؟ هل أسرى الهواء إليه بفرحتي فلم يحتملها؟ أم هو شيء آخر داهم جسده بصمت حتى استفحل به؟ كنت وأنا أقود سيّارتي بسرعة جنونيّة استعيد صورًا لم أكن أتأمّلها في حينها. وأدني الآن أنبش أدقَّ عروقها: تلك الليلة التي كنت فيها أنا وأمّي نشاهد فيلمًا بالتلفزيون، فجأة، قفزتْ إلى الحمّام، غابت قليلاً ثم عادت تهرول إلى المطبخ، هرولت وراءها، رأيتها تعد كوب الميرميّة، استفسرتها فقالت بصوت
219
مرتجف ((أبوك استفرغ كلَّ عشائه)). ((هل نأخذه إلى الطبيب؟))
قلت لأستشفّ مدى خوف أمّي عليه. قالت ((لا أظنُّ الأمر بهذه الخطورة. ربّما تعرّض لبرد)). تركتها واندفعت إلى غرفة أبي، كان على سريره واهنًا متعرّقًا. ((أبي . . . حبيبي بماذا تُحسّ؟)) امتدّت كفّه بكسلٍ إلى وجنتيّ يربّت عليها ((لا تخافي مجرّد دوخة ولعيان. أظنّه برد؟)). في اليوم التالي أصرّت عليه أمّي أن يذهب إلى المستشفى لإجراء الفحوص، رفض. كان قد صحا باكرًا وبدا نشيطًا، قال لها ((ألا ترينني كالحصان أمامك)). لم تكن المرّة الأولى، تلتها مرّات عانى فيها أبي من صداعات، ودوخات، وآلام في الصدر تتعاقب عليه ثم تزول فيستعيد نشاطه، ويواصل العمل في مكتبه العقارّ الذي يدير من خلاله شؤون ثروتي الكبيرة.
آآآه يا أبي. يبدو أنّني أتعبته بذلك العبء الثقيل، كم مرّة حاول أن يُشركني في تحمّل أعباء المكتب ((هذا مالك ويجب أن تلمّي بكل شيء عنه)). لكنني لم أهتمّ ((يكفيني التدريس وتصحيح الدفاتر)). قبل شهور كان يتجادل وأخي ويصرُّ عليه أن يستقيل من عمله ليشاركه مسؤوليّة العمل. قلت له ((هل ضقت يا أبي بمسؤوليّتي؟))، قال ((أبدًا ولكنّي لا أضمن عمري! لو حدث لي شيء، لا أحد منكم يعرف شيئًا عن سير الأعمال)). أمّي توتّرت ((بعيد الشرّ عن قلبك))، لكن أبي واصل إصراره فالتفت أخي نحوي مازحًا ((كم تعطيني مقابل أتعابي؟))، أبي انزعج ((هل تساوم أختك؟)) أنا وأمّي تحزّبنا لأخي ((هل تريده أن يترك وظيفته إلى
220
وظيفة لا تكون مجزية؟)) أمّي قالت ((لا بدَّ أن يكون راتبًا مجزيًا، هذا حقّه)). كان راتب أخي لا يتجاوز الخمسمائة دينار، فطلبت من أبي أن يعطيه ألفي دينار. لم يعترض أبي، قال كلمته التي يردّدهادائمًا ((مالك وأنت حرّة به)). أبي لم يستثْنِ عطيّة، صار يأخذه إلى المكتب. حين اعترضت أمّي قال ((يابنت الحلال، عطيّة صار يفكُّ الخطّ على الأقل يريحني من جمع إيجارات العمارات، المستأجرون يتعبون القلب)).
الآن وبمثل سرعة قيادتي، تنهمر عليَّ تلك الصور فأقلّب الأمور برأسي المزدحم بالخوف، وتساؤلات حارقة تقبض قلبي: هل أدرك أبر سرَّ تعبه فأراد أن يوزّع المهمّات على أخي وعطيّة؟ هل تعلم أمّي بحالة أبي؟ . . لا أصدّق أنّ شيئًا كهذا يفوتها وهي التي لو شهق أبي أو شهق اصْفرّت وصاحت ((ياريتني أنا ولا أنت)). أمّي التي تحوف أبي برموش عينيها، وتخاف عليه من لمس النسمة ودفء الشمس، كانت أقرب إلى جسده وقلبه منه، مثل دمه تسري في عروقه، تلتقط أدقّ ارتجافات شرايينه، وتشمُّ المرض. لابدَّ أنّ أمّي تعمّدت أن تقصيني فترة مرضي وعلاجي إشفاقًا عليَّ من ألم يضاعف سوء حالتي.
كدت أهرس قطّة، أصطدم بسيّارة شحن، تجاوزت إشارتي مرور حمراوين، كنت أسوق سيّارتي والخوف يقودني والسؤال الحارّ يلفحني: ((أيُّ شؤم يحمله لي هذا النهار؟)).
* * *
221
هل تراه حزنًا عابرًا يُخطئ دروبه إلى بيتنا؛ أم تراه جاء ليقيم فيه؟ أب عشرة أيّام تحت الملاحظة قبل أن يسمح له الطبيب بالعودة إلى البيت، رغم فرحنا بذلك فإنَّ أفق البيت توشّح بضبابات القلق، أمّي في حالة خوف دائم، أحسُّ برجفات خوفها من صوتها الذي أفتقد رنينه الجذّاب، من حركتها التي ثقلت، من ذهولها الذي احتلَّ عينيها يسافر بها إلى حيث لا أدري. كانت بقيامها وقعودها تبتهل أن يحفظه الله خيمة حنونة تظلّلنا فأحسُّ وكأنّها تقف في مهبّ انتظارٍ مجهول. تخشى أن يهوي بها إلى جبِّ وحدةٍ دائمة.
ساعدني حلول الإجازة الصيفيّة أن أبقى بجانبها. أرعيها في تحمُّل أساها ومسؤوليّات البيت التي فقدت شهيّتها تجاهها، كرّستْ كل وقتها لأبي تراعيه، تحنو عليه، تلاطفه وتحرص على مواعيد دوائه. لكنّها أيضًا حاصرته بخزفها، اشتهى أن يخرج من البيت، طلي منّي أن آخذه مشوارًا إلى البحر، لكنَّ أمّي ارتعبت، نشجت: ((لا. لن يخرج. أخشى أن تصيبه لفحة برد))، توسّلت إليها، ((يا أمّي لا يمكن أن تضيّقي عليه وتشعريه بمرضه))، قالت ((أخاف عليه))، فأكّدت لها ((كلنا نخاف عليه ووافقناك أن لا يذهب إلى العمل لكن المشاوير الصغيرةستمنحه الإحساس بأنّ الحياة لم تتوقّف بعد)).
خفّف أبي من ذهابه إلى المكتب، كان يثق بكفاءة أخي الذي ينقل له أخبار العمل، ويأتي إليه بالأوراق التي تحتاج توقيعه أو مراجعته، كما أنّ عطيّة يقوم بواجباته الموكولة إليه باجتهاد كبير.
222
كان مثلنا قلقًا على أبي. ذات ليلة طرق باب شقّتي متأخرًا.
استغربت حضوره وتصوّرت أنّه ربما يدرك شيئًا عن أحلامي.
وحين لم أستحضره تلك الفترة جاء ليذكّرني بنفسه؛ أو قد تكون شياطينه أرسلته ليجعل من الحلم حقيقة. تحذّرت . . وبصوت حازم بادرته:
- خير يا عطيّة؟
لم ينتظر أن أدعوه - وما كنت سأفعل – دخل واقتعد أوّل أريكة ووجهه مثقل بالحزن. ظلَّ صامتًا فحثثته:
- ما بك يا عطيّة في هذه الساعة؟
تأتأ قليلاً ثم بصعوبة نطق:
- لا أريد أن أكمل تعليمي ولا أريد أن أتزوّج.
فوجئت. تصوّرته ((يتلأمن)) عليّ ليذكّرني بوعدي له:
- اتفقنا أن تتزوّج بعد الشهادة الابتدائيّة، وبشرط أن تكمل تعليمك.
ثم تنبّهت وبغضب حقيقيّ نفرت بسؤالي:
- هل هذا وقت علمك وزواجك؟ ألا ترى حالنا مع أبي؟
طأطأ ودمعت عيناه:
- لهذا جئت لأقول لك. لا أريد أن أترك عمّي سأساعده في العمل.
223
أخذ يجهش. أدهشني. أين أمّي تسمع هذا الكلام! لتصدّق أنّ ظنّي لم يخِبْ بوفائه؟ حمدت الله أنّني لو آخذه بجريرة العجوز، لكنّني رغم فرحي تظاهرت بالغضب:
- هل تتصوّر أنَّ أبي أصبح عاجزًا إلى هذا الحدّ؟
شهق شهقة مضطربة، وواصل نواحه . . فأمضيت وقتًا وأنا أُهدّئُه وأطيّب خاطره قبل أن يخرج.
قلقت تلك الليلة وألحّت عليّ الأسئلة: هل يكون إحساس عطيّة بمسؤوليّته تجاه أبي أفضل من إحساسي، لماذا لا أتحمّل جزءًا من المسئوليّة؟ لماذا أظلُّ على كراهيّتي لثروة العجوز رغم أنّني أستفيد منها على حساب الجهد الذي يبذله أبي حتى تعب قلبه وضاقت شرايينه؟
في اليوم التالي، ونحن على مائدة الغداء، أعلنت قراري لأبي:
- سأستقيل من التدريس وأعمل معك في المكتب.
تهلّلت كلُّ الوجوه، خصوصًا وجه أمّي التي مازحت أبي:
- ((كم بدّك تعطيها راتب؟))
أبي بجوابه المعتاد:
- المال مالها هي التي تعطي، وهي التي تأخذ.
لم أستطع، رغم قلقي على أبي وإحساسي بحزن أمّي، أن أقصي عطيّة عن دائرة تفكيري، خاصّة أنّه أصبح أكثر قربًا منّي.
224
ما إن بدأت أداوم في مكتب أبي حتّى صرت عن كثبٍ أرى اجتهاده، ,امانته في العمل، وسلوكه المهذّب في استقبال أصدقاء أبي من التجّار أو السماسرة الذين تربطهم بأبي علاقة في البيع والشراء. حتى أخي فيصل صار يعتمد عليه بمهامّ صعبة، كإدخال الشيكات أو سحبها ومرافقة السماسرة للتأكُّد من العقارات المعروضة علينا لشرائه. فرحت بثقة فيصل ومحبّته لعطيّة وكان فرحي يتضاعف حين يتحدّث عنه أمام أمّي وأبي الذي كان يوافق على كلام أخي، بينما أمّي تقطب وتلوي شفتيها امتعاضًا، أو تتلفّظ بكلمات الاستياء ممّا أجبر أبي لأن يعاتبها:
- إلى متى ستظلّين ناقمة عليه؟
احتقن وجهها وقذفت بإصرارها:
- ((إلى يوم الدين)).
اعتجن وجه أبي بالغضب:
- ولوْ؟ ألهذه الدرجة؟ ليس بعلمي أنّ قلبك أسود.
تدخّلتُ سالخة خجلي أمام أبي:
- أمّي لن تنسى فعلة عطيّة القديمة معي.
خفض أبي بصره متحاشيًا إحراجي واستدار لأمّي. حضن كفّها وقال:
- عطيّة لم يغتصب ابنتك. كان العبد المأمور!
حين لم تردّ، واصل بصوت عذب:
225
- ثم إنّ هذا ماضٍ وانتهى، عطيّة الآن صار منّا وفينا.
والرجل لا يقصّر.
حدّقت أمّي بوجهي كمن تسبر غوري وتستشفّ براءة عطيّة من جانبي، ابتسمت لها وهزِزْت رأسي:
- أرجوك يا أمّي . . خفّفي عنه، كلّنا نحبّه ونريدك أن تسامحيه وتحبّيه.
زفرت وكأنّها على وشك البكاء:
- ((مش بإيدي. كل ما شفته بتنط الحادثة قدّامي. لا يمكن أحبّه)).
- لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
قالها أبي وقد بدى أنّه فقد الأمل في التأثير عليها.
شعرت بأنّ أمّي تشتعل فلم أنبس، لم أشأ أن أنفخ على النار كيْ لا يمتدّ لهبها ويحرق أغصان الحبّ التي تظلّل عطيّة. هذا الحبّ شجّعني أن أُصارح فيصل ونحن في المكتب.
- ما رأيك أن نجلب حارسًا للعمارة ونريح عطيّة؟
لمعت الدهشة من عينيه ونبع غضب خفيف من صوته:
- هل اشتكى لك! أم هي زيادة مصارف والسلام؟
أزعجني ردّه. كنت طوال الشهور التي انضممت فيها إلى المكتب لا أتدخّل ولا أعترض أو أقترح. وأوافق فيصل على كلِّ
226
قرار يتخذه. لكنّني، وحين شعرت بأنّه سيقف حائلاً دون تلبة رغبتي، تحرّكت داخلي نزعة التّحدّي لأذكّره بأنّ المال مالي وبأنّني صاحبة الشأن الأولى، وقراراتي يجب أن تتنفّذ شاء ذلك أم أبى. شحنت كل إصراري بصوتي. وألقيت عليه أمري حاسمة معه أيَّ نقاش حول الموضوع:
- سيتفرّغ عطيّة للعمل هنا وسأعدُّ له مكتبًا.
فطن أخي أنّني واعية لسلطتي وإن كنت لم أمارسها، ولعلَّ هذا ما عزَّز سلطته فتصوّرني ضعيفة وساذجة، فكان لا بدَّ أن أثبت مكانتي وأؤكّد له أنّني لن أسمح أن يهمِّشها أو يتجاوزها، وأنّني، وإن كنت أسأله رأيه، فهذا لا يعني أنّه صاحب قرار يفرض عليَّ الالتزام به. عضَّ على غضبه وتقلّصت حدّة صوته:
- الأمر أمرك.
تمدّدت القوّة داخلي. وعبّأت كل الفراغ الذي اتّسع بابتعادي عن متابعة شؤون ثروتي والذي كان يمكن أن يستمرَّ لولا مرض أبي. كانت فرصتي أن أُفاجئ فيصل بقراري الآخر الذي أمضيت أسابيع أخطّط له:
- فرغت شقّة في الدور الأوّل من العمارة . . لن نرجّرها ستكون سكن لعطيّة.
ابتسم مرغمًا:
- أنت كريمة وعطيّة يستاهل.
227
رغم استسلامه لأمري، لم يخف عنّي ذلك الإنزعاج والإستهجان الذي طفح من عينيه، لكنّي لم أكترث به، كلُّ ما كان يهمّني ويشغلني هو ترتين أوضاع عطيّة في المكتب وفي البيت. كنت أريد أن أحقّق له الراحة وأُشعره بكيانه الإنسانيّ، وبأنّه لم يعد ذلك الأجير عندنا بل أصبح فردًا من العائلة. كان الأمر يلحُّ عليّ منذ أن صار عطيّة قريبًا منّي في العمل، في البيت، في أحلام نومي ويقظتي. لم أعد أرضى له وظيفة حارس ولا أطيق أن أراه بدشداشة العمل يكنس وتعفّر بالأتربة، وينقل أكياس قمامة الشقق إلى الحاوية. وما عدت أحتمل الأوامر التي تنهال عليه من أهلي ومن السكّان. كنت أريد لهذا الذي صار، دون أن يدري، قريبًا من قلبي وسيّد لياليّ المقفرة، ان يرتقي بهندامه وعمله وسكنه وعلمه. كنت أريده في كامل لياقته وحرِّيَّته وفحولته وهو يرافق أحلامي.
* * *
لم تحتمل أمّي قراري بشأن الشقّة، ثارت وتشنّجت، أبي لم يُبدِ اعتراضًا، وتصرف بمنطقه المعهود:
- المال مالك وأنت حرّه فيه.
التفتتْ إليه أمّي شاحنة صوتها بالاعتراض:
- ((أنت بتشجّعها على الإسراف – ثم التفتت إليّ – عطيّة ما راح يدفع إيجار الشقّة)).
228
استفزّتني . . ولا أدري كيف في لحظة خرجتُ عن حدود أدبي وصرخت:
- هل تدفعون أنت وأبي وأخي إيجارًا؟؟
أحنى أبي رأسه وكأنّي رشقته بسهم. بينما تضاعفت ثورة أمّي:
- ((هاي آخْرِتْها . . بتساوي بين أهلك والعبد)).
أسرعت إلى أبي أحتضنه وخجلي يقطر منّي:
- سامحني يا أبي. لا أقصد إهانتكم . . إلاّ أنّه ناصرني والتفت إلى أمّي:
- لا تنسي أنّ نايف أعتقه. هو الآن يعمل في وظيفة محترمة، ومن حقه أن يكون له سكن محترم.
هزئت أمّي:
- ((والله لو صبغتوه من راسه لساسه باللون الأبيض؛ ولو صار مدير عام للمكتب، راح يضل عبد ابن عبيد)).
أدرك أبي أنّ نقاشنا الحادّ سيسبّب مشكلة كبيرة، ضرب على كفِّ أمّي برقّة وبصوت واهن:
- خلاص. قلنا هي حرّة. إن شاء الله تبني له قصرًا. ما دخلك أنت؟
229
لاحظت أمّي اصفرار وجه أبي ووهن صوته، فخشيت أن يواجهه التعب. كظمت غيظها وهي تدحجني بنظرة قاسية وبصوت معبّإٍ بالنفور:
- ((اعملي اللي بدّك إيّاه)).
كنت أكيدة. أنّني مهما حاولت مع أمّي فإنّني غير قادرة على أن أحميها من مغبّة الحقد على عطيّة، لكنّني في محاولتي لقشع غضبها دنوت منها، قبّلت رأسها وهمست:
- رشاك يا أمّي . . .
خرجت إلى شقّتي وقراري: ((طبعًا رح أعمل اللي بدّي إيّاه)).
* * *
قمت بتجهيز شقّة عطيّة بنفسي، جعلت ألوانها كألوان شقّتي، ملأتها بأصّصِ النباتات والعصافير. علّقت على جدرانها لوحات للبحر والغابات. انتقيت ألوان الستائر بلون خطوط الأرائك. وضعت له مكتبًا في الزاوية المطلّة على الساحة.
جهّزت المطبخ ووضعت طاولة صغيرة في وسطه مع كرسيين لا ثالث لهما. كنت وأنا أرتّب الأثاث أضع في حسباني أنّه لن يكون وحيدًا، وحين اشتريت السري وجدتني أختاره عريضًا يتّسع لشخصين. وقفت أتأمّله بعد أن فردت عليه الغطاء الليلكي وخيالي يشح بي أحلام عطيّة، فربما هو يستحضرني أيضًا.
فأردت أن أُهيّئ له مكانًا لائقًا يناسبني حجمه وتعجبني ألوانه.
كنت كمن أُعدُّ بيتًا لي وسريرًا لي وليس لعروس وعدت عطيّة أن أزوّجه بها.
230
لم أترك لعطيّة فرصة ليرى الشقّة قبل أن أتمّم تجهيزها. كنت أريد أن أُفاجئه بها. دخلت مكتبه، كان غارقًا في تدبيس الأوراق ورصِّها في الملفّات. طرقت على الطاولة:
- اترك العمل الآن، أريد أن تذهب معي.
قلب يده وحدّق في ساعته:
- العاشرة والنصف . . قد يحتاجني فيصل.
أسعدني التزامه . . طمأنته:
- ما عليك لقد استأذنت لك.
خرجنا . . . كنت، وهو يجاورني في السيّارة، أشعر بحيرته وفضوله المكتوم الذي يعبّر عنه التفاتاته السريعة نحوي. بينما أتشاغل عنه بتجاوز السيّارات البليدة. لكنّه لم يطق صبرًا. حين توقّفت السيّارة أمام العمارة:
- ليش رجعنا البيت؟
- لا تسأل، هيّا تعال.
لم أستخدم المصعد، قطعت الدرجات وهو يتبعني وإحساسي أنّ قلبه يخفق فضولاً وتوجّسًا. فتحت باب الشقّة. جلست على أقرب أريكة وأخذت أراقبه وهو يتجوّل فيها مغمورًا بدهشته.
اقترب منّي وأطلق سؤالاً ما توقّعته:
- هل قرّرت أن تتركي شقّتك وتسكني هنا؟
231
لم أتمالك نفسي، لعلعت بضحكاتي ودعوته:
- اجلس يا عطيّة.
جلس ولا تزال دهشته تملأُ وجهه. ألقيت عليه بمفاجأتي:
- هذه الشقّة لك.
هبَّ مفزوعًا، مرتجفًا، فارغًا فمه وقد اتّسعت عيناه وتوقّدتا.
أشفقت عليه وخشيت أن يتوقّف نبض قلبه:
- شوف يا عطيّة. هناك حارس جديد سيتولّى شأن العمارة ويسكن غرفتك، وأنت . . .
قاطعني وذراعاه تمتدّان نحوي كمن يتوسّلني:
- هل فصلتني من العمل؟ هل قصّرت في شيء؟
سحبته من ذراعه وأجلسته عنوة بجانبي:
- اهدأ يا عطيّة – واستعرْت كلمات أبي – أنت الآن تعمل في وظيفة محترمة. ولا بد أن يكون لك سكن محترم.
- ولكن! . . .
استدار يمنةً ويسرةً وذراعاه تشيران:
- هذا كثيرٌ عليّ. كيف سأعيش هنا؟؟
فاجأني حزن كبير، شعرت وكأنّني قدّمت له جحيمًا يحرقه.
وليس جنّة يرتع فيها. أمسكت بكفّه البارد المرتعش، طبْطبْت عليه بحنان صادق، وهمست:
232
- لا تستكثر شيئًا على نفسك. من حقّك أن ترتاح.
ظلَّ غارقًا في التوهان. دموعه محتقنات في عينيه، وهمهمات شفتيه مثل أنّات الأمّهات الفاقدات. قمت متثاقلة باتّجاه الباب، ركض ورائي أمسك بكلتا يديّ وانحنى يقبّلهما بامتنان وصوته المُترجْرج بدمعه:
- سيّدتي . . لا أعرف كيف أشكر فضلك.
نزعت مفتاح شقّته من ميداليّة مفاتيحي. سلّمته إيّاه وخرجت.
* * *
لم يبق ما ينقص عطيّة غير السيّارة، بجرأة طرحت الأمر على فيصل:
- أريد أن يتعلّم عطيّة قيادة السيّارة.
لم أكد أكمل جملتي حتى كان عطيّة يدخل برزمة أوراق فبادره فيصل:
- نادية تريدك أن تتعلّم السياقة.
بسذاجة لم أتوقّعها:
- من سيعلّمني؟ عمّتي نادية؟
ضحك أخي هازئًا منه:
- وكم ستدفع لها إن شاء الله؟
صدّق السؤال وسريعًا أجاب:
233
- أعطيها كل معاشي . . . لأ، أعطيها كل عمري.
انكمش وجه فيصل وكأنّ عطيّة صفعه. تماسك وألقى عليه بالأمر:
- غدًا تذهب إلى أحد مكاتب التعليم وتتفق على الوقت والأفضل الاّ يتعارض مع مواعيد العمل.
بعد أن خرج عطيّة التفت فيصل إليّ ولومٌ يفوح من نبرة صوته:
- يبدو أنّ تدليلك الزائد له كما تقول أمّي قد جعله يتعدّى حدوده.
حاولت أن أبدو هادئة:
- عطيّة إنسان بسيط لا يعرف قواعد الإتيكيت.
- يا سلام . . . . ماذا يعني أن يعطيك عمره؟؟
- هذا دليل محبّه ووفاء . . لا تنسى أنّني شغّلته وعلّمته وسازوّجه و . . .
قاطعني محتدًّا:
- خلاص . . خلاص . . لم يبق إلاّ أن تعطيه أنت عمرك.
الليل الحنون بصمته يكرمني بموائد الأحلام العامرة بلذائذ لقاءاتي بعطيّة. ومنذ أن مرض أبي، تقلّصت أحلامي الممتعة، ولا زمتني كوابيس مرعبة تفزعني من نومي وقد اكتسح الجفاف حلقي وكأنّني عطشت أسابيع طويلة، فأظلُّ أعُبُّ من الماء ولا أرتوي، وأبقى في فراشي يقظانة كحشرة معوقة. أستعيد أحلامي أحاول البحث عن تفسير لها وفكِّ رموزها، وحين لا أمسك بخيط رفيع يشدّني، حيث لا خوف ولا تشاؤم، أتّكئُ على مقولة أمّي ((بتحلم لدارك بيصير لجارك)). لكنّ الترسّبات الثقيلة تبقى جاثمة على صدري، تدفعني أن أهرع إلى أمّي في الصباح أُفرغ عندها شحنتي وأنتظر أن تساعدني على غَرْف الموجع من تلك المخاوف، أقص عليها:
(البارحة رأيت نفسي أتجوّل وحدي في حديقة مهجورة، أشجارها صفراء ونباتها جافّة، فجأة رأيت عائشة، فرُحْتُ أركض إليها لأحضنها، لكنّها ابتعدت وهي ترفع كفّها اليمتى أمام عينيّ فلمحت بإصبعها خاتم خطوبة يبرق بريقًا مدهشًا، أردت أن أمسك بع لكنّها بسرعة فائقة استلّت الخاتم وقذفته بعيدًا، طارت عيناي خلف الخاتم فرأيته يسقط في حفرة. وسرعان ما انتشرت غربان سوداء تحمل في مناقيرها حجارة كبيرة وتهيلها على الخاتم) أمّي قالت ((هادي بشارة بخطبة جديدة، راح تنسّيكي كل متاعب الماضي)).
235
وماذا عن هذا الحلم يا أمّي؟ (رأيت أحد عصافيري الأقرب إلى قلبي هامدًا في أرض القفص). قالت أمّي ((راح تشوفي بعد أيّام إن عصفور من عصافيرك باضت)). وأمّا الحلم التالي الذي أخافني أكثر (فقد رأيت نفسي أقوم من فراشي لأفتح النافذة، وما كدت حتى اندفع طائر أسود كبير. أسقط من منقاره رسالة مطويّة وفرَّ هاربًا فزعت من نومي قبل أن أفتح الرسالة) . . أمّي اخترعت تفسيرًا مضحكًا، قالت: ((هذا الأستاذ عطيّة، بدو يجيب لك شهادة الدكتوراه)).
كنت أصارحها بأنّني خائفة. فتحاول أن تطمئنني ((وكنت أحاول أن أصدّقها لأرتاح . . لكنّ الصفرة التي تغشى وجهها وارتجاف شفتيها، ينبآن عن خوفها الذي تحاول أن تستره بضحكتها المفتعلة، أمّا أخي فيصل فحين أحكي له وأعبّر عن قلقي، يضحك ساخرًا منّي: هل يعقل أن نكون عبيدًا لأحلامنا؟ هذه مجرّد أضغاث طعام، لا تتعشّي في الليل. لكنّ الأضغاث تتوالى ولا يغيب عنها وجه العجوز نايف ولا وجه جواد. هذا يجلدني وهذا يهدّدني . . فأشعر وكأنّني على حافة وضعٍ متآكل آيل للسقوط.
* * *
صعدتْ إيمان إلى شقّتي لتصحبني بحسب اتفاقنا إلى محلّ الحلويات والفطائر. اليوم عيد ميلاد أمّي وقرّرنا أن نفاجئها بحفلة صغيرة. كانت تستعجلني وأنا من حُمّى فرحي أرتبك. فلا أجد محفظة نقودي فأفتّش عنها في الحقيبة التي نقلتُ منها
236
أغراضي. أجدها وأبدأ ألهث خلف نظّارتي الشمسيّة، تبحث معي في الأدراج وهي تتأفّف ((إلبسي غيرها وخلّصيني))، فأصرُّ على ذات الإطار الأحمر الذي يناسب لو بلوزتي، حين وجدتها شدّتني من ذراعي نحو الباب وهي تتذمّر (( هيّا بسرعة قبل أن تقرّري البحث عن شيء آخر)). وأنا أغلق باب الشّقة بالمفتاح قلت لها (( أريد كعكتين واحدة بالشيكولاته التي تحبّها أمي وأخرى بالفانيلا التي يحبّها أبي)). كان المفتاح يرتجُّ بيدي فسارعت تأخذه منّي وتقفل الباب وهي تقول ((حين نصل إلى المحلّ تختارين ما تشائين. أُفْ)).
ما كدنا ننحدر درجات قليلة حتى هزّتنا صرخة أمّي الداوية كنقبلة. ودبيك أقدام أولاد أخي يهرع إلينا. وجوههم المصفرّة تقابلنا ذاهلة دامعة ((جدّي . . جدّي)). كالسيل المندفع وصلنا لنصطدم بصخرة شجّت قلوبنا. كان أبي ملقى على أرض الصالة بلا حراك. وأمّي تشدُّ شعرها تنتف منه الخصلات وتنعب بالصراخ ((يا شحارك يا زينب . . يا مصيبتك السودة . . راح الغالي راح عمري)).
سُكّان العمارة تهاطلو. وعطيّة يصرخ بالهاتف يطلب الإسعاف ويطلب أخي وهو يُوَلْوِلُ ((آآه يا عمّي . . آآه يا عمّي)). وأنا أنوح على جسد أبي الهامد وحزني مثل صخرة جبليّة تربض على روحي.
حين وصل الطبيب لم يقم بأيّة محاولة؛ فما أن وضع السّماعة على صدره حتى أعلن بأسفٍ أنّه مات.
237
أغمض نهار الفرح عينيه، أفلش العتمة، رحل أبي. ترك البيت مثل الجسد بلا نبض ولا رعشات، ترك أمّي تهوي في أودية الحزن وأنهار الدموع، وتركني لمساحات الغد الغامضة.
يأتي نهار ويغيب نهار، وأضواء النهارات كلها تخبو خلف غلالات الشبابيك المسدلة. أمّي جاثمة في الصّمت، غارقة في كهولة مفاجئة. أحسّ بالتياعاتها الضّروس تطحن بداخلها حتى غدت أشبه بعدق ذاوٍ منسدل إلى الأرض لا تحرّكه نسمة ولا تضخُّ إليه الحياة قطرة ماء. غابت ضحكتها المعرّشة على وجهها، غاب زُهُوُّ الأعناب على وجنتيها، عافت أثوابها الزاهية وتآلفت مع كآبة السواد، تركت شعرها مرشوشًا بالشيب بعدما كانت تحرص على صبغه ما إن تطلُّ جذوره حتى لا يراه أبي، هجرت مطبخها الذي تعشقه وتتفنّن في موائده، أدمن القهوةوالسيجارة التي كانت تكرهها وتمنعني عنها، عرّش الأورق على لياليها وجفافها النوم إلاّ أوقات قليلة تغفو فأسمع غطيطها وكأنّها سقطت في أعقار النوم، فأفرح أنّها تجد فرصة لترتاح من عذابات الصحو والتفكير والبكاء. لكنّها سرعان ما تفزع وتصرخ ((شفته بمنامي. أبوك كان بيناديني بدّو إني أروح لعنده)).
ظلّت أمي تفكّر بالموت وتتمنّاه، صار حلمها الوحيد الذي تتصوّره سيجمعها بأبي لتواصل حياتها الأخرى معه.
الأيام والليالي تكرُّ وتفرُّ بأساها. وأنا أتقاسم الصّمت والصّبر معها . . نلتهم السجائر ونحتسي المزيد من القهوة التي تصرّ أن تغليها بغلاّيتها القديمة. كانت أحيانًا تواصل هذيانًا أبكم لا أكاد
238
ألتقط معانيه، لكنّها تلك الليلة ونحن بالفراش أطلقت لسانها وكأنّها تحدّث نفسها ((طلب فنجان شاي، رحت أعمله، كنت ماسكة الغلاّية، سمعته يناديني مرّتين زينب . . يا زينب، ردّيت عليه طيّب أنا جايّة، لكنّه صرخ، خفت، اهتزّت الغلاّية بإيدي وانكب الشاي. ركضت لعنده لقيته واقف إيد على صدره وإيده الثانية ممددة مثل كأنّه عم يطلب النجدة وقبل ما أوصل عنده كان وقع على الأرض متل ما شفتوا)). أجهشت وهي تردّد ((يا ويلي عليك يا محسن. يمكن لو كنت استعجلت ولبّيتك ما كنت مُتّ)) طوّقتها بذراعيّ وأخذت أمسح دموعها وأرجوها:
- يا ماما لا تحمّلي نفسك ذنبًا. هذا قدر الله.
أعطيتها حبّة الدواء المهدّئ وأخذت أداعب شعرها حتى تسرّب النعاس إلى جفنيها فالتويت على نفسي أفكّر بالذي قالته وأسأل نفسي: ((هل حقًّا تأخرت أمي عليه أم هو زيت عمره الذي نفد))؟
مضى شهر ونصف الشهر والبيت لا يفرغ من المعزّيات والمواسيات. كانت أمّي بحضورهنَّ تخرج عن صمتها لكنّها لا تتجوّل في دروب الأحاديث التي تسمعها بقدر ما تتحدّث عن حياتها، وأوقاتها الدافئة مع أبي، وبعض ذكرياتهما الحلوة في حلب التي يسافران إليها كل صيف. ثم يفاجئها النشيج وتغُصُّ بدموعها وكأنّه مات للتّوْ.
* * *
239
ظلّت أيّامي مجزّأة ما بين الحزن في شقّة أمّي؛ والشوق إلى شقّتي التي هجرتها إلاّ في بعض الساعات حين أصعد لأتفقّد عصافيري، وأفتح الشبابيك ليتجدّد هواء الغرف. كان شوقي لسريري يدغدغني ما بين ليلة وأخرى، فأحنُّ إلى أحلام يقظتي مع عطيّة الذي صرت لا أراه إلاّ قليلاً. تلك اللّيلة شعرت بحنين دافق بأن أتعانق بأثداء الليل في غرفتي، ألتمس بعض الصفاء لروحي التي أركبها الحزن، وبعض المتعة لجسدي الذي صام.
انتظرت حتى تسرّب النعاس إلى عينيّ أمّي وغاصت في شخيرها الهادئ. فتحت الباب بهدوء وخرجت. ارتقيت الدرجات بخفّة وشوق وكأنّني على موعد مع حبيب.
حين دخلتها فاح عطر روائحها المخزون. مزيج من دفء أرضٍ محناةٍ بحيضها وحصٍّ تندّى بماء مُمَلّح، وأنفاس شمس نسيت غروبها ورحلت، وبحر تمادى بجزره فترك الصخور تفقس عطن سراطينها الميتة. كل هذا المزيج لم يستطع أن يغيّب رائحة أحلامي الممتزجة برائحة عطيّة. فمسّني كالنسمة ودفعتني إلى سريري لأبحث عنه. حين اندسست في فراشي. اكتشفت كم هو ضيق، وقارنته بسرير عطيّة العريض. تذكّرت لحظتها نصيحة أمّي ((هاتي سريرك مجوز بكره بتتزوجي)). أندم الآن وأشعر أنّني أحصر جسدي وجسد عطيّة في مساحة لا تليق برياضة الحُبِّ التي نمارسها. تمنّيت لو كنت في سريره أتمرّغ عليه لا يسترني سوى غطائه الليلكي. لكنّني هنا وحدي. أمضغ جوعي وأتلمّظ خمائر صبري. والصمت يفلش عقاربه الجائعة فأسمع ((صأيها)) في عقرب الساعة المعلّقة على الحائط وصراخها يتضاعف ((تِكْ . .
240
تِكْ . . تِكْ)) فأحسّها مثل ملقط الشعر ينتف أعصابي. قمت إليها، نزعتها وألقيتها في قعر الخزانة وعدت إلى الفراش، أغمضت عيني وبدأ خطو الليل يسوقني من حزن لياليَ الفاجعة إلى ربوات الأحلام وعطيّة يسبح في ألقها الهادئ. حين أقبل أفست له أكوان روحي بحماسٍ وشوق. بدأت دقّات قلبي الكسلى تستفيق مثل دفوفمسّها جمر متوهّج، وعزمت خمائل جسدي الصامت فبدا ناعمًا كملمس شجرة يانعة. يستعدُّ لمارده الآتي من قمقمه ليكون ملك يديه. ها هو عطيّة يدنو إليّ . . . وصدره العريض أمامي مثل جنّة تجذبني إلى ينابعها وجف غيمها. هو الصدر ذاته الذي تأمّلته في ذلك الحلم حين داهمني العجوز وناداه لجلدني ((صدر بحشائش قليلة يربض عليه نهدان ممتلئان تتوّجهما حلمتان كبيرتان بحجم حبّة العنب الأسود)). اندفعت إليه التصق بالجنّة الفاردة شراعها وذراعاه كمجدافين حنونين يحيطانني ويرصّان رأسي فأسمع دبيك قلبه مثل هرولة الموج في يوم عاصف. كنت مثل عصفورة يطير عشّها ويتعلّق بفروع شجرته الرطبة. شهقت ولهًا، بكيت فرحًا وشفتاه برقّة تلعقان دموعي ولهاثي كصفير ناي مثقل بنغماته. ظلّ صاكًّا عليّ حتى أوصلني إلى السرير فانسدلنا كشلاّلين أُزيحتْ عن مصبّهما الحجارة. استسلمت له بارتخاء لذيذ. كان شعري الطويل يموج على ذراعه، وشفتاه تطبقان على شفتي، وجسدي يدفأُ بجسده وأنا ألج بارتعاشاتي دهليز المتعة ثم أنسَلُّ منه كورقة نعناع معصورة يفوح بلَلُها.
* * *
241
أي سرٍّ جعلني أحبُّ عطيّة؟ هل هو اندفاع قلبي الذي تعذّبت حتى ترمَّمت أشلاؤه بعد تجربتي الخائبة مع جواد؟ هل هي أقدارنا التي يرسمها الله لنا فنمضي إليها مسيّرين؟ أم هي فورة الجسد بعد الصبر والحرمان؟ . . . أنا الآن ملء وعيي واكتمال نضوجي، لكنّني الأرملة التي تصبح في مجتمعنا ((سكندْهاند)) لا تتوقع عريسًا إلاّ أرمل أو مطلقًا أو متزوّجًا راغبًا في زواج ثان للمتعة. كلّهم يأتون مثقلين بماضٍ يربطهم بأبناء لا تخلو قلوبهم من كراهية لزوجة الأب. لذلك لم أكن أهو إلى الزواج أو التفكير بما يطلقون عليه ((عشّ الزوجيّة))، ويصوّرنه بأنّه العش السعيد، بينما هو هشٌّ يُبنى على كفّ عفريت.
أمّي التي أنتهت عدّتها ونهضت من رماد حزنها، صارت تخرج وتزور البيوت التي انقطعت عنها، وبدأت تجلب معها طلبات الخاطبات وتحاصرني برغبتها:
- ((لازم تتزوّجي . . بدّي أفرح فيك)).
كنت أرفض، تارة باللين . . تارة بالغضب . . ومرّات بالرفض الحاسم الذي يشعل فتائل ثورتها. كان فيصل يؤازرها وإيمان التي تشفق عليها تتوسّلني:
- على الأقلّ وافقة على نقابلة الخاطب وتعرّفي عليه.
- يا إيمان أنا أصلاً أرفض فكرة الزواج بهذه الطريقة.
- وأيّ طريقة تريدين؟
- الحب . . . أريد أن أُحبّ وأتزوّج بالذي أحبّه.
242
تفرّست إيمان في وجهي بنظرات حنونة وكأنّها تودّ لو تسألني ((هل تعيشين حالة حب؟)). فكدت في لحظة غاربة عن الوعي أن أنزع دروعي الواقية وأعترف لها ((نعم أحبّ عطيّة))، لكنّني سرعان ما تنبّهت وأدركت أنّني باعترافي سأبذر الريح في فمها وأنّها - من هولها – لن تتأخّر عن نفخها إلى أمّي وفيصل، عندها سأكون وحدي في مهبِّ رياحهم الساعرة، وجبروت قلوبهم التي لن ترحمني، ولن ترحم عطيّة الذي خطوت إلى بحره بملء إرادتي.
حافية تلسعني حرارة الرمل وتمزّقني وتاوءات الحجارة. لكنّني وأنا في غمرة اندفاعي أحسُّ بشيء كالمسمار يثقب غلاف عقلي ويربكني. فأدرك أنّها غريزة من الغرائز المرتبطة بالحبّ ((آفة الخوف)) التي تتسلّل مثل دودة جائعة لتقتات من أعصاب المحبّين. كانت الدودة في زحفها تشدّني إلى تجربتي مع جواد، فتأتي صورته كأنّها تنذر بمصيبة جديدة. لكنّني رغم زحف الدودة أتشبّثُ بمشاعري تشبُّث الغريق بقشّة، وأترك لقلبي أن يَثِبَ جامحًا رغم يقيني أنّه سيواجه التعثّر والخيبة. وقد تضيع السنوات كما ضاعت وأنا متعلّقة بجواد حتى استطعت أن أنساه.
لم أكتف بلقاء عطيّة في العمل، ولا في شقّتي لأيّ سبب أخترعه، ولا في أحلام يقظتي التي أتقلّب فيها على فراش ينفخ الصمت عليه ويلهبه. صرت أجرؤُ وأدعوه إلى الغداء أو العشاء في المطاعم الصغيرة البعيدة. وفي مشاوير أخرى أغلبها إلى البحر الذي يثير أحاسيسي الناعمة. نفترش سجّادة صغيرة ونجلس عليها معانقين مرايا الماء الأزرق ونتمشّى حفاة على الرّمل
243
الملّل. استغرق عطيّة ذات يوم في سهوة أثارت فضولي فسألته:
- هل تحبّ البحر يا عطيّة؟
قال دون أن يلتف نحوي:
- كثيرًا . . . خاصّة أنّك تحبّينه.
أشعدني ردّه، كان كاعلطر يرشُّ على قلبي، ويؤكّد لي أنّه يحمل في قلبه مشاعر لا تقلُّ عن مشاعري نحوه. واصلت أسألتي:
- هل تتقن السباحة؟
استدار نحوي. ابتسم ابتسامة هازئة وحزينة:
- عمّي نايف لم يترك لي فرصة لأتعلّم أيّ شيء.
قلت وأنا أشير له إلى البحر:
- بسيطة . . . تعلّم الآن.
ضحك:
- أخاف.
اندهشت:
- معقولة؟ أنت تخاف؟ لماذا؟
- حين أنظر إلى البحر أتذكّر أحلامي، دائمًا أحلم أنّني أغرق ولا تمتدُّ إلىّ يد لتنقذني.
244
- حتى يدي؟
- حتى يدك.
قالها بأسى وبنكهة من يلوم وأكمل:
- لو كنتِ أنت من تغرقين لفعلت المستحيل لأنقذك، ربما عندها أتقن السباحة.
لسعني إحساس بالقصور والندم (مسكين يا عطيّة، أنت من هجمت ذات حلم وانتشلتني من القبر، طرتَ بي وأسقطت عنّي أمتطي وكفني . . وأنا أتخلّى عنك في أحلامك. لا تهم الأحلام يا عطيّة فلن أتخلّى عنك في الواقع ولو سوَّروا المدينة كلّها من حولي بالأسلاك الشائكة وبالكلاب البوليسيّة وبالنار. سأدافع عنك . . سأدافع عن قلبي).
تماديت في جرأتي بالاقتراب من عطيّة.صرت أُسقط الستائر الحديديّة عن حبالها وأترك الهواء يطير بي باتجاه رفيق أحلامي.
ذات ليلة شطَّ بقلبي الشوق إليه بعد أن عصِيتْ عليّ أحلام يقظتي. تسلّلت إلى شقّته، طرقت الباب، حين رآني رفرف بالفرحة وانطلق من عينيه سؤال حائر عن سبب مجيئي. لم أفكّر بحياكة حجّة ملائمة. كنت مثل المسحورة تلبّي نداء ساحرها وتنتظر منه السؤال. فتلتمع عندها الإجابة كالبرق الخاطف.
تخابثتُ وشعوري أنّه التقط خبثي وفهمه:
245
- جئت لأرى إن كنت تهتم بنظافة شقّتك.
أفسح لي لأدخل. دعاني إلى الجلوس. أسرع إلى المطبخ وعاد بكوب العصير. قمت أتجوّل في الأركان مبدية إعجابي بنظافتها وترتيبها. وبدأ قلبي يخفق سريعًا وأنا أتقرب من غرفة نومه. كدت أتراجع لولا أنّه سبقني وفتح الباب. ما إن دخلت حتى فاحت عليّ تلك الرائحة التي أشمّها في أحلامي معه. هل تراه يسرق أحلامي أم أنا التي أسرّبها إليه؟ وقفت أتأمّل السرير العريض، أتشهّى أن أتمرغ عليه ليصير الحلم حقيقة. كادت أوهامي تنسّيني وجوده لولا أنّه تنحنح فتنبّهت وألويت أفرُّ إلى الصالة تاركة أحلامي وحدها تتمرّغ على السرير.
جلسنا على الأريكة. مرّت ومضة صمت شفيفة قطعتها بسؤالي المفاجئ:
- ألا تشعر بالوحدة يا عطيّة؟
هزَّ رأسه عدّة مرّات قبل أن يجيب:
- أشعر . . . ولكن ماذا أفعل؟
- خلاص . . سأبحث لك عن العروس التي وعدتك بها.
انتفض:
- لا . . لا أريد أن أتزوّج.
246
نطَّ قلبي من فرحته، وألهبه الفضول لأعرف الذي قد يشفي توقّعي:
- لماذا . . ألم تكن ترغب في ذلك؟
استدار برأسه ليداري عينيه:
- لأنّني اشترط أن تكون مثلك ولا أظنّني سأجد.
حين لم أنبس؛ استدار إليّ ثانية وحدّق فيّ بنظرات غريبة وهويكاد يلتهم وجهي كلّه. أردت أن أصطاد سرًّا غامضًا. هل هي نظرات حبًّ أم مجرّد إعجاب بامرأة جميلة تتنازل وتهبه لحظات أنس حين تدعوه أو تجلس معه! لكنّه سرق الفرصة منّي، هبَّ واقفًا، سأل وهو يأْملُ أن أستجيب:
- هل أعدُّ عشاءً خفيفًا؟
أدركت أنّه يريد الهرب. ساعدته ليخلع رداء حرجه، وافقت.
ورافقته إلى المطبخ، أخذت أراقبه وهو يعدُّ الأطباق ويزيّنها بأوراق البقدونس وبالطماطم التي قصّها على شكل وردة. أثار اهتمامي:
- أين تعلّمت كل هذا؟
أسعده إعجابي فتباهى:
- من التلفزيون. أحرص على مشاهدة برامج الطبخ.
247
جلسنا . . . تلك هي الطاولة التي أعددْتها لشخصين مرصوصة بالمشهّيات، وبكوبين من الشاي بالنعناع. كانت الطاولة واحدة من أحلامي، وكنت أتمنّى لو تجمعني معه صدفة على وجبة شهيّة كهذه. هل تُراه حَلُمَ أيضًا وهو لذلك لا يريد أن تحتلّها امرأة غيري؟ التهمت الطعام بتلذّذٍ عجيب. وكلّما كدت أنتهي كان يضيف المزيد حتى منعته:
- خلاص . . صاير مثل أمّي تريد حشوي كالأوزّة.
عدنا إلى الصالة. جلسنا على الأريكة ذاتها. ظلّ صامتًا.
تركته لحظات وإحساسي أنّه يتوه بأفكارٍ متلاطمة . . ثم بترت الصمت:
- بماذا تفكّر يا عطيّة؟
اندفع وكأنّ الكلمة كانت كالحصوة تسدُّ حلقه فاراد قذفها:
- بك . . .
فاجأتني جرأته. لكنّي فرحت وقبضت على أجنحة قلبي خشية أن يفضحني حفيف فرحها. التجم لساني ومن طرف عيني لمحته يعضُّ على شفته السفلى وكأنّه يعاني من ندم. بدا متوتّرًا وغارقًا في رهبة من كسر جدارًا محرّمًا وأفشى ما وراءه. أشفقت عليه، مددت كفّي، حضنت كفّه اليمنى فتفشّى عرقها إلى كفّي الباردة، كنت أسمع نبض قلبه المتسارع، ,انفاسه التي تتلاحق وكأنّه
248
يخوض سباق مسافات طويلة. كنت مسحورة . . وفضولي الشفيف يريد أن يصل بي إلى الحقيقة منه، همست وعيناي مسدلتان:
- بأيّ شكل تفكّر بي؟
- سيِّ . . د . . تي ز . . أن . . أنا . . أن . .
رفعت عينيّ إلى وجهه، تأمّلته . . هو وجهه منذ أن عرفته بلونه، بتقاطيعه، لكن شيئًا جديدًا كان يموج عليه مثل غيمة بلّوريّة تسمح لضوء خافت أن يبرز. هو الحبُّ يتلألأ على سماء الوجه الداكن. التصقت به وما تزال كفّي تحضن كفّه التي ازداد ارتعاشها. وجدتني بشغف أحثّه:
- قل يا عطيّة . . لا تخف.
رفع ذراعه الأيسر، مطَّه على ظهر الأريكة خلفي. أحسست بأطراف أصابعه تلامس شعري بحذر ليدو وكأنّه غير قاصد.
وكفّه المحروسة بكفّي تنسلُّ لتسيطر على ذراعي. وذقنه يسقط على رأسي بحنان. توهّجت كلّي ولم أعد أطيق أن يكتم مشاعره ورغبته! أمّا رغبتي . . فقد كانت تؤجّجها رائحته التي تنثر بخار رغيف مخبوز للتوّ تملأني نشوة وتوقظ سواكن أحلامي.
باندفاع أسقطتُ رأسي على خليّة صدره المائجة بآلاف الأسراب من النحل. وهمست له بأمري الرقيق:
- ضمّني يا عطيّة.
249
كأنّه كان بانتظار لحظة كهذه. مثل تلميذ عاقبه أستاذه وسجنه في الفصل أعوامًا وما إن قُرِعَ له الجرس حتى انطلق باحثًا عن دفء حرِّيَّته. شدّني إليه بعنف الولهان. أخذ يقبّل شعري وكفّي الحارسة كفّه. تلاطمت النار في جسدي وكأنّني في أحد أحلامي معه. نسيت من يكون ومن أكون. ألقيت أردية الفوارق كلّها.
دسست شفتيّ في عنقه أرتشف عرقه. أعطيته الحقَّ أن يتحرّر من خوفه وتردّده. رفع وجهي إليه وحرارة جهه تُذيبُ الجليد وتكويني والمسافة بيننا تضيق . . . وتضيق . . حتى لم يعد يفصل بين شفتينا سوى بَلَلِهُما.
هل جننت؟
أم تراني غيبت عقلي كما أغيّبه في أحلام يقظتي فكسرت كل الحواجز، وجعلت خطوة عطيّة التي كانت تعرف حدود بوصلتها، تقطع به المسافات وتلقي به في خضمِّ بحري؟ ها هو قد اخترق الأمواج الشاهقة حتى وطئت قدماها الجزيرة المحرّمة . . وأنا التي ساعدته وألقيت إليه بسترة النجاة.
انكمشت على الأريكة وعشارت العواصف تحاصرني بالرمل . . بالنار . . بالثلج . . بالشوك . . بالصرخ الهادر يخترق كل خلاياي وأنسجتي الرقيقة. ثم يمور صمت أخرس لا أسمع خلال ثقوبه غير لهاث عطيّة مثل صفير ريح سجينة. كنت بدوري
250
أبتلع لهاثي وأرصد وجهه الراجف وهو يعضُّ على شفتيه بقوّة كمن يعاقبهما على الجرم الذي اقترفتاه. بينما خطوط دموعه تنساب دامعة على وجنتيه. أدركت الذي يعانيه عطيّة. شعور بالقهر والخوف يلامسان روحه بأسياخ من نار. فأنا سيّدته، وليّة نعمته، النجمة البعيدة في السماء السابعة. يجدني أنحدر إليه أقُضُّ سكون ظلمته وأهبه ما لا يجر} حتى أن يحلم به. لفحني ذلك التأنيب الصارخ الذي يزعق داخله ويهزُّ عروش أمانه. فهو لا يزال في نظر نفسه ذلك العبد الذي تقوّسَ بداخله الإحساس بالرِّقِّ منذ أن وعى وأمّه وأبوه عبدان لنايف. تقوُّسٌ يصعب عليه أن يسوّي انحناءاته وكأنّه صُنع من فولاذ.
شعرت بفداحة الظلم والعذاب اللذين سبّبتهما له حين أفشيت له مشاعري، ودفعته للإفصاح عن مشاعره بتلك الصورة التي قد يخشى أن أعاقبه عليها حين أصحو من رعشتها وضبابها. كان عليّ أن أُهدّئَ روعه وأعيد إليه قواه المنهوبة وأمانه المسلوب.
همست باسمه:
- عطيّة . . .
لم يجب، طَرَح راسه بين ذراعيه وترك لنشيجه الحرِّيَّة ليهزَّ صمت المكان. بينما عقلي حائر وغير قادر أن يبتكر طريقة مثلى تخلّصه ممّا ورّطته فيه. لكن قلبي، الذي كنت متأككّدة من عاطفته، ألحَّ عليّ ألاّ أتركه في مهبّ الألم. كان لابدّ أن أفصح
251
له أنّني غير ناقمة ولا غاضبة، ,انّني أعرف مشاعره ومن حقّه أن يعبّر عنها. دنوت منه فكان عصف جسده أن يبعثرني لولا أن تمسّكت بذراعه وشحنت صوتي بالقوّة:
- اهدأ يا عطيّة واسمعني.
حرّر رأسه من بين ذراعيه وحاول بصوت مرتجف أن يجمع بعض كلمات:
- سي . . . سيّدتي أنا لا . . .
صرخت بغيظي:
- أنا الآن لست سيّدتك . . . هل تفهم؟ لم تعد بيننا حواجز.
دفن وجهه في صدري ونشج بفرح معجون بالمرارة، بينما أصابعي تنغمس في غابة شعره الأجعد وتشمُّ من بصيلاته رائحة حلم جديد.
* * *
فاح الحبُّ كالأثير إلى مسام الجدران الصلدة، لم يكن بحاجة أن أرشَّ بعض مذاقه على لسان إيمان ليصل إلى حواس الشمِّ عند أخي وأمّي. بدأوا بنغزات كإبر الأنسولين الخفيفة، ثم بتلميحات لا تُفصح عن معانيها مباشرة لكنّها تدسُّ في طيّاتها الإشارات اللاذعة. هل كانا يتّقيان شرّي أم كانا يتأنّيان حتى يُمسكا بشيءٍ ملموس يواجهانني به؟
252
جاءت اللحظة ذات صدفة.
كان الأسانسير معطّلاً. ماكدت تلك الليلة أتسلّل من شقّة عطيّة التي اعتدت التلذُّذ بأنفاس عشيّاتها، حتى اصطادني أخي الصاعد الدرجات. تسمّرت خطوات كلٍّ منّا في مكانها. بدا كالأسد الضروس وبدوت كافأرة المحشورة في المصيدة.
تحرّكت وغالبت لتبدو خطوتي واثقة لكنّه أجهضها وأمسك بذراعي يشدُّ عليها وأظافره كالأنياب تغوص في لحمي. كان يقفز بي الدرجات إلى شقّتي ويبُجُّ بقشّة أسئلته الراشحة دهشته رغم لهاثنا من الصعود:
- ماذا كنت تفعلين عنده في مثل هذه الساعة؟
أسعفتني فطنتي:
- سلّمته أوراق معاملة لينجزها في الغد.
- في آخر الليل؟ ألا تنتظر أوراقك إلى الغد؟
- عدًا لن أذهب إلى المكتب.
كان من الصعب أن أتملّص من الموقف ومن أبخرة غضبه. ما إن فتحت باب الشقّة حتى حذفني على أوّل أريكة وصرخ:
- حالاً أريد أن أعرف الحقيقة.
- أيّة حقيقة؟
253
عضّض على خدّي بكفّه المتحفّز:
- ماذا بينك وبين عطيّة؟
حرّرت كتلة خدي من قبضة كفّه:
- لا شيء.
عوى كالذئب:
- كذّابه . . هل تحسبينني وأمّك مغفّلين؟ تجاوزات أصبحت لا تطاق.
نزلت عليه الصاعقة نزول سيف باتر، شجّت قمّة رأسه فتطاير الشرر، وتقاذفت الحمم. هجم عليّ كوحش جائع لا يميّز من أين يبدأ التهام فريسته. أخضعَ وجهي، صدري، ,اطرافي المرتعدة لخبْطِ لكماته. كان ألم الصفعات كفيلاً بأن يخرس هدير التحدّي بداخلي لكنّني ورغم احتكاره الأقوى للموقف، قرّرت أن لا أضعف وأدافع عن موقفي:
- ليس من حقّك أن تضربني ولا أن تحجر على قلبي.
254
زعق كالمجنون:
- وجع يوجع قلبك . . ألم يجد غير عطيّة؟
قاومت زعيقه بزعقة أقوى:
- أنا حرّة.
شدَّ شعري، رفع وجهيَ المغدور، كوَّر بصقة في حلقه وقذفها بحجم رصاصة، وبقرف من تسقط عيناه على سيول حشرة مفقوءة؛ نبس بكلمة واحدة قبل أن يوليني ظهره ويخرج:
- يا فاسقة.
فاحت رائحة حريق هائل. وبدأ الدخان يفلش تكوّماته السوداء من حولي. كنت كمن أعوم في دائرة يحاصرني محيطها الضيّق وحوافها التي نتأت كالزجاج المسنّن. شعرت بأنّني إن بقيت فيها اختنقت وإن حاولت الخروج منها تجرّحت. وكانت الأسئلة داخل رأسي مثل مبادر النار تثقب فيه من كل جانب ويتطاير ترابها وحصاها ليضاعف هول الدخان. كنت كالعمياء أقف على أرض أجهل خارطتها. فلا أدرك أين تكون الهوّة الحيقة لأتحاشاها؛ وأين تكون بقعة الأمان لألوذ إليها. لم تكن حتى ثمّة أنفاسِ نزعٍ أخير لشمعة يتيمة تضيء لي الطريق.
* * *
ارتميت على سريري عائمة في ناري. عارية إلا من رماد
255
حريقها ورائحة شوائي. أبحث عن فروع طريّة أتعربش عليها وأستظلّ بين أوراقها، لعلَّ حفيفها ينفض عنّي رمادي ويداوي قروحي. لكن تعبي لم يسمح لي حتى أن أستحضر وجه عطيّة وأطبُّ عليه بأنيني وبمبارد رأسي التي تئزُّ.
هل يباشر الزلزال هزّاته العنيفة ليطيح بصرح الحب الذي اعتليته؟ كان كل شيء بداخلي ينطحني بقرونه ويؤرجحني في مهبّ الأسئلة: هل سأقدر على الصمود في وجه العاصفة؟ هل أمتلك القدرة لأسوّي اعوجاج قوس الواقع الثقيل الذي يُؤمن بالفوارق وبالطبقات ويزنْجرني بقضبان التقاليد والأصول؟ كان هذا القوس يتحطّم ويتهاوى في أحلام يقظتي التي يصير فيها عطيّة سيّدي وحبيبي، أجثو على صدره أرنبة بردانة طامعة بالدفء والأمان والمتعة. أنسى سواد جسده الذي كرهته ليلة اقتحمني، أتآلف الآن معه وأحبّه وأشتهيه. وكأنّ الحبّ الذي يحرّر الروح من عبوديّتها يحرّر الأجساد من ألوانها، ويخلق ألوانًا أخرى لمن نحبّ فنتماهى بها. ماذا عن الواقع الآن؟ هل أستطيع تغيير ألوانه وكسر قضبانه لأتسرّب منه فراشة حرّة؟ شعرت أنّ مجهولاً غامضًا يتربص بي فاتحًا شدقيه ليلتهمني دفعة واحدة. أخذت حبّة منوّم وحاولت الفرار من توقّعات الغد الذي ينذر بعاصفة أخرى من أمّي.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عنوان رواية الكاتبة الكبيرة هدى بركات.
256
رغم أنه رنينٌ خجول إلاّ أنّني توقّعتها أمّي المسْتأسدة لخوض حرب معي. لكنّني فوجئت بوجه عطيّة يُنبئ عن أرق وقلق.
أغلقت الباب . . . حضنته بكلّ احتياجي إليه وبكيت على صدره.
لا أدري كم رقدت عليه بوجعي وتأوّهاتي الجريحة وهو يمسح بكفّه على شعري، ودُبُّ بالأخرىعلى ظهري مربِّتًا بحنان لم أشعره حتى مع أمّي. التصقت به أكثر، أحسست جسده مُضَعْضَعًا كمن رُضَّ بالحجارة. وفحولته خاملة. لم أدرك سرَّ هذا العطب المفاجئ إلاّ حين قال:
- أخوك فاجأني بعد خروجك.
اختضَّ جسدي . . شعر عطيّة بأنّني سأتهاوى. حملني بين ذراعيه وأسندني على الأريكة. جلس أمامي. التقطت عيناي أورامًا متكوّرة على وجهه. اشْرأبَّ عنق فضولي بعنقه مدفوعًا باشْرِئْباب روحي التي هلعت:
- ماذا فعل بك؟
- أمرني أن أترك الشقّة ولا أطأ المكتب.
- هل وافقت وخضعت؟
أسقط نظرهُ إلى الأرض:
- آسف يا نادية. كان لا بدّ أن أنبّهه. قلت له سيّدتي وحدها من تملك إصدار هذا الأمر.
257
- ((برافو)) عطيّة. أظنّه خرج خائبًا.
- لا . . . بل صرخ وقال ((تتحدّاني يا حقير)) ورفع كفّه.
أسقطها حارّة وصارخة على خدّي. ثمّ خرج وهو يهدّد ((سنرى أنا . . او أنت وسيّدتك)).
شعرت بحقد كبير على أخي. تأمّلت وجه عطيّة المأزوم. ماذا أفعل لأحميه وأَنْأى عن ظلمهم؟ هل أدعوه أن ينساني؟ كنت أنْحبُ بتوسّل موجوع: ((أطفئني من قلبك يا عطيّة قبل أن تبتلعك النار . . . ابتعد عن يَمّي. لا تغرّنّك نعومة رمله ودفئه. إنّه يغلي بالألغام. ما إن تغوص فيه حتى يفيض . . . ستصير المدينة كلّها ((تسونامي)) جديدة تجرفك وتجرفني . . وتحلّ دمك ودمي)).
لكنّ التوسّل سرعان ما ذاب، وارتداني إصرار قويٌ أنّني لن أترك عطيّة لُقمة سهلة لمن يملكون شهوة الأذى. سأدافع عنه وعن حبّي حتى الرمق الأخير.
أيقظني عطيّة من غيابي:
- لم أنم البارحة. توقّعته بدأ معك واكتشف أمرنا.
لم أخجل . . صارحته:
- ضربني، بصق في وجهي حين اعترفت له أنّنا متحابّان و . . . سنتزوّج.
فوجئ عطيّة. اتّسعت عيناه وكاد بؤبؤاهما يقفزان من
258
محجريهما. لم نكن قد طرحنا هذا المشروع. تصوّرته سيفرح . . . سينطُّ ليقبّلني شاكرًا . . لكنّه ظلَّ جامدًا مبهوتًا سابحًا في تيه المفاجأة . . أيقظته:
- ما بك يا عطيّة؟
وقف. شعرت بقامته تتضخّم وبصوته يحتجُّ بغضب:
- لن أسمح أن تخسري أهلك لأجلي.
لم يعطيني الفرصة لأُحاجِجُه. ركض نحو الباب وفرَّ كمن يفرُّ من حريق.
* * *
قبل الغداء واجهت عاصفة أمّي بعاصفة أشدّ. كنت انتظرررت أن تطرق بابي. وحين لم تفعل ترجّلت إلى شقّتها. لم أطططرق طرقاتي المعهودة التي حبّها، وحين فتحت ألْوتْ قبل أن تسمع تحيّتي. جلست والعَكَرُ يملأُ وجهها. وأطلقت قذيفتها:
- ((أهلاً بالست عبلة العاشقة عنتر)).
لم أرد. تركتها تغلي . . تبحث عن مدخلٍ تنفذ منه إلى حوار أرادت له أن يكون صاخبًا:
- ((مين بيعمل عملتك؟ مش عيب عليكِ؟))
ضغطتُ على أعصابي. قرّرت أن أجابهها بهدوء:
259
- الحب مش عيب.
صرخت:
- ((حبِّك بُرْصْ. بنت أصول بتوطّي راسك لرأس عبد. هذا طمعان فيكِ)).
لم أحتمل اتّهامها، واستفاق ذلك الماضي الكريه أحسسته بحلقي كلزَّبد المتخثّر المعجون بالرمل:
- عطيّة لا يطمع. أنتِ التي طمعتِ. أم هل نسيتِ أنّك أرغمتيني على الزواج من نايف؟ نسيتِ ما قلته ((بكرا بيموت وترثيه)). نسيتِ يوم ألقيتُ بالمصاغات أمامكفهويتِ على الأرض بعينين زابغتين تقلّبين الثروة؟ وهذه الشقّة؟ وسيّارات المرسيدس الفخمة التي أصررت أن أشتريها لأبي وأخي؟
والهدايا التي أغدقتها عليك وغيرها التي تطلبينها لتهديها لمن تشائين؟ على الأقل عطيّة لم يطلب أنا التي أُعطيه.
كنت أعصب بوجهها متخطّية حدود اللياقة والأدب، وخفض جناح الذّل وكأنّها شخص غريب عنّي، بعيد عن قلبي وعقلي.
حين أخرستُ لساني توقّعتها أن تواصل ثورتها وتندفع نحوي تلوي عنقي وتدوس عليه، لكنّها ظلت في موقعها كمن صُبَّ عليها ماء حارّ. تحدّق بي غير مصدّقة. كانت غيوم داكنة تطوف على وجهها المقروح بالدهشة. وجمار الحزن العاجز تطلُّ من
260
عينيها. تحاملتْ على الإهانة قامت متثاقلة تجرُّ جسدًا من الصخر. دخلت غرفتها. أغلقت بابها. فشعرت أنّ الدنيا كلّها تغلق أبوابها في وجهي وترشّني بغبارٍ أسود.
فررت إلى شقّتي. انطرحت على فراشي. وانخرطت في بكاء ساخن. عرقي يتصبّب كالدَّم. أطرافي من ارتجافها تكاد تتكسّر. نفرتُ من نفسي وكرهتها. شعرتني ضئيلة بحجم فأرة مقيّدة بحبال من شوك. والأسئلة الدامية تصْطفُّ في رأسي مثل طابور الكراسي، كل كرسيٍّ يجلس عليه سؤال: ماذا فعلتُ بأمّي؟
كيف جرُؤت على إهانتها؟ كيف قذفت إلى سمعها مساميري الملتهبة؟ ثمَّ كيف تركتها وحيدة تعاني من وجع كرامتها المطعونة؟!.
ضاقت الغرفة عليَّ. تحركتْ جدرانها الصلبة باتّجاهي وقبضتْ الهواء عنّي والصّمت يدندن بلحن جنائزيٍّ ويسحلني إلى هوة سحيقة لا ألمح في جدرانها ثبًا صغيرًا لأنفذ منه. تحاملت على نفسي، غسلت وجهي، قرّرت أن أركض إلى أمّي أجثو أمامها وأطلب السماح والمغفرة.
فتحتُ الباب لأخرج ففاجئني وجه إيمان. اندفعت إلى الداخل متوقّعة ثورة لا تسمح قوايَ الخائرة أن تواجهها. لمحت عينيها متورّمتين وبقايا دموع محقونة تبلّلهما. أفلتتْ سؤالها الغاضب:
261
- ماذا فعلتِ بأمّك؟
رغم يقيني بفظاعة ما فعلته. فإنّني استقويت لأدافع عن موقفي:
- أمّي لا تريد أن تفهمني.
- ومن تتصوّرينه يفهم جنونك؟ أنا لم أصدّق حين أخبرني فيصل.
- تصدّقين ماذا؟ هل رآني أخرج من شقّته عارية؟
- أعوذ بالله . . . لكنّ الأمر غريب.
- وما الغرابة أن أدخل شقّته؟
احتقن وجهها:
- أنت سيّدته. تأمرينه فيصعد ليُلبّي طلباتك.
هزئت:
- وما الفرق؟ هنا نكون وحيدين كما نكون هناك. والشيطان لا يختار أمكنته إن شاء أن يكون ثالثنا.
قبل أن تفتح شفتيها لتنطق ما لا أدريه، أطلقت صوتي بالتهديد:
- اسمعي يا إيمان، هذا شأني الخاصّ ولا أسمح لأحد بالتدخّل فيه.
واجهت غضبي بغضب مماثل:
262
- الشأن لا يخصُّك وحدك. وليس من حقّك أن تقلبي الدنيا على رؤوسنا. هل جننت لتتزوّجي من عبد؟ هذا أمر عصيٌّ على الاحتمال.
تحدّيتها:
- وأنا لا أستطبع أن أكون عصيّة على قلبي.
صرخت وهي تهزّ ذراعها في وجهي:
- هناك تقاليد وعادات عليك الالتزام بها. ماذا سيقول الناس؟
(هو ذا السؤال الذي يقلقهم، ينفخون فيه حتى صار كالأسهم الناريّة تطلق جعيرها لنخشى صواعقها. يتحججون بالعادات والتقاليد التي يرضعونها من أثداء المجتماعات المتخلّفة.
ويطعمون حليبها لعقول أجيال تتوارثها جهلاً وخوفًا. لن أرضح لهذا الإرث الظالم. ليصرخ العالم أو يحترق. أنا سأعيش ولن أحرم نفسي حقّها من أجل ماذا سيقول الناس).
التفتُّ إلى إيمان:
- اسمعي المفيد . . . لن أتنازل عن قراري . . افعلوا ما شئتم.
أغلقت باب الحوار. انسلّت إيمان خائبة، وكنت أستشفُّ هسيس أفكارها المشتعل وهي تخرج من الباب.
* * *
لم أتوقع أن تأتيني أمّي، أنا النجمة التي جرحت سماءها؛
263
تأتيني السماء بجلالها. بدت في انكسارها ذليلة ما جعلني أحتقر نفسي وأستصغرها. لم أنتظر. ارتميت على صدرها وأمطرت ندم دموعي. وهي تربِّت على ظهري بهدوء. ورقرقة بكائها مثل قطرات الدم المعصورة. كانت تبكي بحرقة تفوق حرقتها يوم وفاة أبي. وكان تأنيب ضميري مثل مكاوي النار القديمة، لا تكويني لتشفي حروقي؛ بل لتزيد من الحروق وقيْء أورامها. ما إن خرج صوتها من بئر قلبها حتى أدركتُ أنّها لم تأت بعاصفة:
- ((اسمعي يا نادية . . لمّا فقدتُ أبوك كانت هذه مشيئة الله.
اليوم بحسّ إنّي راح أفقدك بمشيئة عنادك ويباس رأسك. عارفة هلّق أنتِ متل شو؟ متل الّلي بدو يرمي حاله من رأس الجبل راح يتطوّح ويقع على رأسه. أنا خايفة عليك تتدمّري من شان شي ما بيستاهل)).
فككتُ عقدة لساني المربوط:
- يا ماما هذه حياتي ومستقبلي، وأنت تعرفين كم قاسي.
نفخت أمّي تستدرُّ صبرها:
- ((وراح تقاسي أكثر لو ركبتِ رأسك. يا بنتي أنا أمّك . . أريد مصلحتك لوْ مهما قسين عليك أظلّ أمّك. بحلفك برحمة أبوك، لا تكسري غصن عمرك وتكسري قلبي. أنا مش راح أحتمل اليوم اللي تتزوّجي فيه عطيّة. الموت أسهل عليّ . . والله بنتحر)).
- ((يا بنتي الحبّ متل الفاس. ما بيضْرُب بالأرض مرّرة واحدة. زمان كنتِ هيك بتحبّي جواد وبعدين نسيتيه. راح يجي يوم وتنسي عطيّة. والفاس راح تضل تضرب حتى تنفلح الأرض منيح وتستقر فيها البزرة الصالحة)).
من أين جاءت أمّي بهذه الفلسفة وهذا التشبيه العجيب؟ هل أبدعته المصيبة التي حلّت على قلبها؛ أم هو منطق الأمّ الخائفة حدّ الموت على فلذة روحها؟ وجدتني أقف أمام منطقها مكتوفة العقل واللسان. همدت كل حرائقي ارتمين على صدرها وهمست:
- سامحيني يا أمّي لقد قسوت عليك.
لم تستنكف أمّي أن تقول:
- ((أنا اللي قسيت. لمّا راجعت نفسي؛ شفت مافي فايدة من القسوة. هلّق أنا بنصحك أنا بنصحك وأنت حرّة. تاخدي بالنصيحة أو تطُشّيها بالحيط. لكن فكّري منيح قبل ما تتلفي حياتك وحياتنا)).
* * *
265
خرجت أمّي، وضعتني في مهبِّ التفكير لأواجه نفسي. هنا قلبي يزأَر بالحُبِّ ويرفض أن أكون ضمن قطيع يخشى عواء الذئاب؛ وهنا مجتمعي الذي سيوجّه نحوي أفواه المدافع وينصب لي المشانق. تطوّحت بحيرتي. لا أريد أن تنضب روحي من سيول الأمل، ولا أريد أن أُغْرِقَ بسيول قراري قلوبهم وقلب مدينة لا تغفر، ((فالسيّد سيّد والعبد عبد)) ولا أحد يفهم أنّنا كلّنا نصير عبدًا للحبّ حين نحبّ.
شعرت بحاجتي القصوى لعطيّة، تصوّرته متكوّمًا بجسده الطافح بالأسى، غارقًا في حيرته ليبحث عن مخارج ملائمة تقينا شرَّ أهلي والمجتمع. رفعت سمّاعة الهاتف وطلبت منه أن يأتي ليسعف روحي.
حين دخل شعرت أنّ ريحًا تهب وتقصيني عنه، وحين أقترب شعرت أنّ الريح تقصيه عنّي. لكنّنا بمهارة غالبنا ريحنا.
تحاضنّا . . تلاثمنا . . واستقررنا على الأريكة التي مكثت عليها نصائح أمّي. كانت روحه متعكّرة، وعقله شاردًا لا يثوب إلى استقرار، والحزن يخترم قلبه كما يثقب قلبي. أخرست نباح الصمت بيننا:
- ماذا سنفعل يا عطيّة؟
تصوّرتها اللحظة التي سينهض فيها عطيّة من كهف عبوديّته ليرفع سيفه ويذود عن قلبينا. لكنّ سيف لسانه الذي خرج من غمده جرح سمعي:
266
- لا يجب أن نحارب أهلك.
أكمل السيف جرحه وانغرز في قلبي حين قال:
- هم أقوى منّا.
انتفض الخوف بكلّ جسدي:
- هل تتخلّى عنّي يا عطيّة وأنت مليك قلبي؟
رشح وجهه ذلاًّ وشقّت همسته شغاف قلبي:
- لا تهمّني نظرتهم . . . يهمّني أن ننتصر لحبّنا وحياتنا.
كنت كمن أذرُّ عليه فلسفة خائبة وهو يعيش الواقع المرير بعقل يفوق عقلي:
- إن كنت تقدرين فأنا لا أقدر. أنا الآن في نظرهم إنسان بشع. كلب يعضُّ اليد التي رعته وأطعمته وعلّمته.
- لا تستسلم وتكسر مجاذيفي.
- نحن في مجتمع لا يرحم.
أحسسته عاجزًا، مصرًّا أن يلوذ إلى كهف الرق، يرفع راية استسلامه. كيف سأعوّل عليه أن يرفع السيف ويصدَّ عنّي كرَّهم وفرَّهم؟ أين حبّه؟
267
بكيت:
- أنت لا تحبّني.
ركض إليّ، أهوى برأسه على ركبتيّ يتوسّل:
- أرجوك لا تقولي هذا. تعرفين كم أعبدك.
شددته من شعره، ورفعت وجهه أصبُّ عليه غضبي:
- إذن لماذا تتخلّى عني؟
- افهميني . . سأسبّب لك التعاسة، أمّك . . .
ابتلع الكلام. حدّقت فيه بإصرار. أردت أن أسبر أعماقه والوساوس تتناطح داخلي: هل اقتحمت أمّي بدورها شقّته وَلوَتْ عنق كرامته وافترست بأنياب الكلام أحلامه؟ تفعلها أمّي التي تأبى أن يكون سيّد ابنتها من كانت سيّدة له. لم تقدر أن تواجه عنادي وقوّتي فاستضعفته، وأصرّت عليه أن يبادر ويبتعد عنّي، ربما لهذا تنازلت وجاءتني. وبدت هائة لأنّها طبخت طبختها مع أخي. تركاني واستلما عطيّة. أردت أن أتأكّد، شحنت صوتي بغيظي:
- هي أمّي إذن؟
أومأ بالإيجاب . . ثرت عليه. طرحته بعيدًا عن حضني وانتفضت من أريكتي. وقفت كالمدفع المعبّبأِ بالبارود:
268
أنت جبان . . . محارب متخاذل يهرب من أرض المعركة لينجو بنفسه ويتركني فريسة لسيوفهم. لو كنتَ كم تقول تعبدني لما تخلّيت عن ((إلهك)).
لم يردّ. كان يتقبّل ثورتي وعيناه تتسعان، تدوران في محجريهما كأنّها تلمحان غدها الذي تبزغ فيه الدمعة، وتأفل منه الضحكة. صمتتْ بواريدي. أشفقت عليه من قسوتي. لم أقو أن أراه أمامي مكسور النفس مقصوص الجناحين. أسقطت رأسي بحضنه، وكالكلب الأمين صرت أتتمسّح به وقلبي في داخلي يصرخ ويتحجّج: ((لماذا خلقك الله عبدًا وخلقني السيّدة؟ من أين آتي بشمسٍ عادلة تشرق على السيّد والعبد دون أن تُفرّق وتظلم؟))
- آآآه يا عطيّة آآآ . . . . لا تذبحني.
تأوّهت من بين دموعي وكفّه تحرث بشعري وكأنّها تتمنّى لو تحرث الأرض كلّها وتنبت بسرًا لم يرضعو الإرث والبشع وأفكاره المعطوبة.
لم يكن لنا من خلاص إلاّ أن نبحر في لحظة حبّ تزفّنا إلى جنّتها. استلقينا على السجّادة. أخذ يلعق دموعي، وشفتاي تبحثان عن مستقرهما بين شفتيه. تركت لجسدي حرّيَّته ليلتهب ويشتعل بالنار، أردتها أن تصهر طوق الحديد الذي ظلّ يحافظ على حدوده. تمنّيته يقتحمني، يشُقّني كتلك الليلة الأولى. لكنّه
269
في اللحظة الحاسمة تماسك وتوقّف. واجهته بعينين لا تخلوان من خوف وحذر. كانت روحه تخوي من كل أحلامها وتتهاوى.
* * *
حرنت في شقّتي، حجبت نفسي عن وجوه أهلي الأعداااء.
انكفأت في صمت خاوٍ وظلمة لا أرى فيها غير زجه عععطيّة المتآلف مع سوادهااا؛ يبزغ كشمس مهيضة الجناح. أحاوره . . أشحنه بالتمرّد، بالقوّة، أحلّفه بحبّي، أناشده ألاّ يتركني نعجة ضعيفة يسهل ذبحي وسلخي. لكنّه بعناد المجبور يواصل استسلامه، فيشتدُّ عنادي وأصرخ: ((سأقاوم حتى آخر نفس)).
كانت ساعات الصمت صاخبة بأفكاري المتخبّطة. وكانت أحلام الليل ساحات حرب تعجّ بكل أنواععع الأسلحة، تصولها عليّ مَرَدَةٌ وأفاعٍ، وأنا عزلاء إلاّ من قلبي الذي يسكنه عطيّة.
أجاهد للألأدددافع عنه وعنّي. أبحث عن مسارب للألأفرَّ منها وأرسو على شطٍ يقيني شرَّ الإختناق. ألج منعطفات خاوية إلاّ من زئير الرّيح. ألمح نافذة يتيمة. أكسر زجاجها فأرى وجوه صديقات قديمات عشن حلات مشابهة ولم أعرف نهاياتهن. قفز وجه صفاء. تذكّرت الضجّة التي ثارت ضدّها حين تحدّت المجتمع وكسرت قوالبه الجامدة. انتصرتْ قلبها وتزوّجت سائقها. قرّرتُ أن أبحث عنها لأعرف كيف تعيش حياتها، وهل ظلّت فخورة بانتصارها وكوّنت أسرة سعيدة؟ الفضول الأكبر كان أن أعرف إن
270
كانت الفروق تكسّرت بينها وبين زوجها أم لاحقها شبح السيّد والمسود.
في الصباح اتصلت لزميلة قديمة، أخذت منها رقم صفاء وعنوانها وذهبت إليها. فوجئت بحال الشقّة الضيّقة التي تسكنها.
وبأطفالها الأربعة بملابسهم التي تبدو رخيصة الثمن. توقّعت أن أرى تلك الصفاء المرأة الأنيقة الممشوقة التي يطفح الفرح والتفاؤل على وجهها. خاب ظنّي، رأيت أمامي امرأة بدينة الجسد وقد جدب ازْهرار وجنتيها. لم أرد أن أستبق الظنّ، علّلت الأمر أنّها تتفانى لبيتها وأولادها وضربتْ بنفسها عرض الحائط.
ونحن نشرب العصير أبدت إعجابها بي:
- ما زلت محتفظة بجمالك ورشاقتك.
وأنا أوشك على الردّ كانت تسبقني:
- أكيد لم تتزوّجي بعد موت العجوز.
سلّمتني المفتاح لأدخل:
- وهل كانت صورتي ستتغيّر لو أنّي تزوجت؟
أفلتت ضحكة كالنواح:
- بس صورتك؟ ستتغيّر روحك، وأحلامك، وكل حياتك.
271
- يا لطيف . . ستجعلينني أخاف من الزواج.
بدا الجدّ على وجهها. رفعت بنانها كمن تحذِّر:
- ليس أيُّ زواج.
- ماذا تعنين؟
- أعني الزواج غير المتكافئ. حين يتمّ ضدَّ رغبة الأهل وتحفّظ المجتمع.
- إذا كان هناك حبّ فلا شيء يهمّ. ها انت مازلت تعيشين مع الرجل الذي أحببته وتحدّيت العالم لأجله.
نفرتْ، برمتْ وجهها المهزوم:
- ((يا شيخة . . بلا حبّ بلا . . بطّيخ))، لا نكتشف هذا الهراء إلاّ بعد أن تقع الفاس بالرأس.
جرَّت نهده حارقة وفاح أسى الدنيا من صوتها:
- وأيّ شقاء!
تركتها تسرد وعقلي لا يقوى على التصديق:
- (مصيبة حين يصبح الخادم سيّدًا. سوف يثأر لنفسه من الليلة
272
الأولى. تصوّري بدل أن يهمس بكلمات الحبّ كان يعضُّ شحمة أذني وينفخ فيها: قولي يا سيّدي . . يا أميري . . وبعد أن كان يركض ليلبّي أوامري؛ جعلني أنا التي أزحف لألبّيه. مرّة قذف مفتاح السيّارة وقال تذكّري كم كنتِ تقذفينه بوجهي. أشكال الإنتقام كثيرة.
أجبرني أن أنحني عند قدميه لأدلّكهما كل ليلة قبل أن ينام، كنت ألم نظرات التشفّي في عينيه وهو يراني ذليلة ولا أقوى على الاعتراض. لن أخجل منك يا نادية. ذات ليلة ونحن في لحظة انسجام اعتليته بشوقي فثار وحذفني عنه مبدّدًا شوقي بإهانته: انا السيّد أنا ال ((فوق)) وأنت ال ((تحت))، عداك عمّا فعله بأموالي، وأنا الآن لا أملك إلاّ ما يتصدّق به عليّ، أجبرني أن أعطيه وكالة عامّة، باع كل ما أملك هنا واشترى في بلده العمارات وفيلاّ لأهله أحلُّ فيها كالغريبة ضيفة عليهم. هذا الذلّ يهون أمام ذلّ الروح وجرح الكرامة بأشكال متعدّدة. لا تتصوّري كم يكون الإحساس بالدونيّة باذخًا في تطرّفه. فما إن تتسنّى الفرصة لصاحبه حتى يستبدَّ لينتقم. لا تطاق الحياة مع رجل كنتِ يومًا سيّدته).
- وما الذي يجبرك على البقاء معه؟
- سببان كلاهما أَمَرُّ من الآخر. أوّلاً الأولاد، هم من يكسرون الرأس. غدًا عندما تصبحين أمًّا ستعرفين كم ستضحّين وتصبرين. وثانيًا الخوف من شماتة الأهل والمجتمع، فالأهل لا
273
ينسون الإهانة التي نرشقهم بها. يظلّون بانتظار لحظة هزيمتنا ليرقصو شماته وطربًا. أمّا المجتمع؛ فإنّ فشلنا سيكون بمثابة الوثيقة والحجّة التي يضربون بها المثل لكلِّ من تحاول الخروج من عباءة العادات والتقاليد.
حزنت. تقطّع قلبي وشعرت ذُلّها يفتح قنوات من الجروح في روحي. همست كأنّي أكلّم نفسي:
- ظننتك حقّقت انتصارًا.
- نحن هكذا نتلذّذ بانتصاراتنا . . لكنّنا لا ندرك أنّها غير مكتملة الرشاد إلاّ حين نقع في الهاوية. القصص كثيرة، عمّنَ أحدّثك؟ هل تذكرين بهيّة؟
فركت جبهتي:
- آه تلك الجميلة التي كنّا نغار من اهتمام الأساتذة بها ونحن في الجامعة.
- هذه أيضًا تعيش تعاستها. تزوّجت لبنانيًّا من غير مذهبها، حرّم عليها أن تزور أهلها. حتى التلفزيون حرّم عليها أن تفتح قناة الكويت. كتبت لي رسالة واحدة من عشر صفحات حكت فيها عذابها وذلّها. تصوّري تلك التي كانت لا تلبس الفستان أقل من ثلاثمائة دينار صارت تشتري ملابسها من ((البالة)). استولى على أموالها ليسدَّ بها عقدة فقره. لا يلبس إلاّ الماركات العالميّة
274
الغالية. وآمال المسيحيّة. هل تذكرينها؟ عصت أهلها وتزوّجت كويتيًّا أذاقها الويل. تزوّج عليها وحين عَتَتْ عليه طلّقها وحرمها حتى من رؤية أولادها. رجال قساة كلهم ((أولاد كلب)).
عارضتها:
- كل قاعدة ولها شواذّها.
- شواذ نادرون. سلمى مثلاً مازالت تعيش سعيدة مع زوجها الفلسطيني. لو ترين كيف يحترمها وحوفها ويخاف عليها حتى من الطيور الطايرة وأهلها من عارضو زواجها يحبّوننه الآن وهم كالسمن على العسل.
* * *
خرجت من بيتها محتشدة بالخوف والقلق. هل يمكن أن يكون عطيّة مث الذين سمعت عنهم؟ هل يمكن أن يتحوّل الحبّ من الرحمة إلى الانتقام؟ من الرأفة بالمشاعر إلى سحق الكرامة بالأقدام؟ من أين تأتي القوّة؟ من السيادة الطارئة أم من قلوب تزيِّف مشاعرها وتخدع؟ من ذكاءٍ شرّيرٍ يمتلكه الرجل؛ أم من غباء النساء المفرطات بالإعلان عن عواطفهنَّ حد الاستهانة بها؟
ألا توجد نساء قادرات على خلق التوازن بين العاطفة والكرامة؟
رغم الذي سمعته وأسائني؛ قرّرت ألاّ أتأثّر به. فكل إنسان له تجربته الخاصّة، وأنا من حقّي أن أخوض تجربتي وأعيشها.
وسواء تمتّعت بغديرها أو غرقت في أَسَنِها؛ فأنا المسؤولة في
275
الحالين، وسأعتبره قدري الذي أنا مسيّرة إليه. لن أسمح لوحشيّة الشكوك أن تفترس ثقتي بعطيّة الذي عرفت وفاءه وأمانته لمجرّد أن سمعت تلك الحكايات التي هرشت بأعصابي وكادت تقرّحُ أفكاري.
تمسكت بقراري أن أقاوم حتى آخر نفس. لكن سؤالاً فاض كالطوفان وأغرقني: هل سيصمد عطيّة مثلي ويقاوم أم سيرضخ لفروضات أهلي عليه؟ لم يكن قد حدّثني بالتفاصيل عن الوسائل التي استخدموها معه حتى اتخذ موقفه وقال ((لا يجب أن نحارب أهلك)). لكنّني واثقة أنّهم لم يلجأوا لعصا الشدّة فهو ليس عربيًّا وافدًا ليهدّدوه بالتسفير من البلاد، وليس من ((البدون)) ليدبّروا له مكيدة تؤدّي به إلى السجن متّهمًا بريئًا. عطيّة كويتيٌّ وإن كان في نظرهم عبدًا ابن عبد. لا بد أنّهم استخدمو معه سياسة استنهاض الشهامة والمروءة ليحميهممن كلام الناس مستغلّين طيبة قلبه، ونبل أخلاقه، وحبّه لي. وأكيد أنّ أمّي بكت وتوسّلته وربما تنازلت عن ترفّعها فقبّلت يديه ليرفض قراري.
آآآآه يا عطيّة . . . هل أصدّق أنك ستنحاز لأهلي! وأنّك ستلملم كسور قلبهم وتكسر قلبي؟ حين دخلت المصعد وقفت متذبذبة، جسدي يضطرب، وعقلي يتردّد بين اختيار الرقم، هل أدوس على الرقم واحد أم الرقم ستة؟ هل أدقّ باب شقّته لأتخلّص من احتشادي بحكايات صفاء؛ أم أفتح باب شقّتي وأرتمي بأثقالي على سريري إلى أن أتخفّف منها ثم أقصده؟ كان
276
قلبي يحتقن بدموعه ووجعه المكتوم. ويطوف ما بين أنس الأمس بلياليه وأيّامه ونحن نعيش متعة الحبّ، وبين الواقع التي تتفشّى ظلمته في الأفق وتنذر بسي جارف يذوب معه رنين أحلامنا.
وجدت اصبعي مترنّحًا ينساق إلى الرّقم واحد ويضغط عليه ليرفعني إلى شقّة عطيّة، وبقدر ما كنت مثقلة بهمومي؛ كنت ممتلئة بالوله. فوحدها لحظة الحبّ بين ذراعي عطيّة قادرة أن تزيح حوافر الخوف الثقيلة التي ترقص على جسدي الأشبه بالجثّة الفارغة.
فتح الباب، حين رآني اضطرب واقشعرَّ وجهه. أخرج نصف جسده وهو يضيّق من فتحة الباب. بنظرتي المتذمّرة وصوتي المنزعج:
- هل ستمنعني من الدخول؟
حاول التنصّل واعتذر:
- حال الشقّة مقلوب . . كنت أنظّفها.
شعرت به يكذب، دفعته، أشرعت الباب ودخلت، كانت الشقّة مستقرّة ومرتّبة. ولم يكن من جديد فيها غير تلك الحقائب الكثيرة المرصوصة على الأرض. صفعني المنظر وأخْفَتَ برق روحي:
- ما هذا يا عطيّة؟
277
تسكّع لسانه في حلقه قبل أن ينطق:
- كما ترين . . . قرّرت الرحيل؟
زعقت بملء هزيمتي:
- إلى أين؟
- أرض الله واسعة.
صرخت كأنّي رأيت قبري يفتح أمامي:
- أرض لا أكون فيها لن تكون واسعة؟ بل ستكون قبرًا لقلبك ومقبرة لأحلامك.
اندفعت عليه بصراخي ودموعي أتوسّله، أستعطفه، أحلّفه ألاّ يتسرّع ولا يرضخ. انتظرت أن يتعطّف عليَّ بردٍّ يشفي غوائل لحظتي. لكنّه بضعف وانكسار همس:
- لا أملك ما أدافع به عنك وعنّي . . لا بدَّ أن أرحل.
قلت بإصرار:
- سأرحل معك. سنترك البلد لهم. وستفتح المدن الحانية أذرعها وشطوطها لنا.
- لا تذبح قلبي . . لا تحرقني . . لا . . لا . . لا . . .
أفلتُّ نفسي من بين يديه، كانت رئات الريح تنفث سُلَّها وزعافها وتدفعني نحو الحقائب المتراكمة. أخذت أبقُرُ بطونها، أستخرج محتوياتها وأبعثرها في كل اتجاه وأنا أصرخ، أُعْوِلُ، أرتمي على صدرة مرّة، وتحت قدميه مرّة أخرى، مثل فراشة هشّة تحاصرها النار وتبحث عن الخلاص. وكان كالإله الحائر يحاول أن يلملم فتاتي ويعيد إلى أجنحتي ألوانها الغاربة، ولروحي نبضها. حمل جسدي المتهالك وركض بي إلى غرفة نومه، مدّدني على السرير وغاب. شعرتني أنام على وسائد من عشب الجنّة.
آآآه كم تمنّيت أن أتمرّغ على هذا السرير الذي اخترته بنفسي وفرشت عليه الغطاء الليلكي.
عاد وهو يحمل قارورة الماء. سقاني رشفة ماء ومسح برشفة أخرى وجهي المعفّر بذلِّ دموعي. جلس بقربي على الأرض، اتْكى رأسه على ذراعيَ الممدود وكفّه ترعى سهول وجهي المقفرة من خضرتها. تركني أتنشّق حثالة أساي؛ ثم اقترب بشفتيه يبلّل
279
جفاف شفتيَّ ويرسم عليها خرائط حزنه وعشقه، لا ينبس بكلمة أو بوعد، حتى ولو كان بهشاشة رغوة الصابون، بأنّه سيتراجع عن قراره.
طوانا صمت جافّ كامتداد الصحراء اللافحة. تيبّست في ثنايا حنجرتان وفحت أرواحنا بانتكاساتها. كنت في سعيري أنتظر منه كلمة واحدة ((سأبقى)) . . لكنّه حين سيطر على دفّه صوته قال:
- تصعدين الآن إلى شقّتك والصباح رباح.
هل يُؤَمّلني لأستكين ثم يغافلني ويفرّ قبل أن يأتي ((رباح الصباح))؟
أردت أن أجد له أملاً:
- غدًا سأجعل أمّي وأخي يرضخان لقراري. لن أقبل باندحارك يا عطيّة.
لم ينطق وكأنّ لسانه فقد مذاق الكلام. تحاملت على نفسي، مشيت إلى الباب، كنت في طريقي أدوس كل أشيائه المبعثرةوأودُّ لو ينفتح لها قبر ويبتلعها. قبل أن أفتح الباب غرست شفتيّ في فلقتي شفتيه، أحسست ريقه مرًّا رغم رائحة الدارسين التي تنبعث من ثغره. همست في أذنه:
- سأتركك لتفكّر.
حين فتحت الباب شعرت به ضيّقًا لا يكاد يتسع لطرف من
280
إصبع، لكنّني انسللت منه مثل دودة تنسلُّ من شقوق أبواب قديمة.
* * *
رائحة عطيّة معي. مسترّبه بكل نقطة في دمي. ورائحته في شقّتي راقدة على كل بلاطة وأريكة. متعلّقة بكلّ الأضواء، واللوحات، وأغصان النباتات، وأقفاص العصافير. أموج في الرائحة وتموج بي. تصاحبني حتى سريري الذي رسمت وجهه على وسائده. كنت أحاول أن أضمَّ ولو ريشة من رياش الأمل إلى قلبي لتهفَّ عليه كمروحة وتزيح قطرات يأسه.
انطرحت على الفراش ورعود جسدي تثير برودة لا تستطيع ضآلة لحافي أن تخرسها. أتكرمش على نفسي أبحث عن شعلة تائهة من جليد جسدي لعلها تُدفّئني فأدخل جنّة الموت، لكن آلة رأسي وحفيف أفكارها الثائرة يُطفئان رأس أيّ شعلة تجرؤُ وتدنو منّي.
كان من بين أتربة الخيالات المراصّة سؤال واحد يلوط بعقلي: ((هل يجحد عطيّة حبّي ويتركني؟)). لدغني السؤال المجنون فقرّرت ألاّ أفارقه هذه الليلة، فلا طاقة لي على احتمال أن يفعل، وسأنقُمُ على هذا الليل لو تستّر على خطوته وساعده على الهرب. رفعت سمّاعة الهاتف. جائني صوته كالصدى المستسلم لسياط الفراغات الشاسعة. قلت له بلهجة تقصّدتها أن تكون آمرة:
281
- اصعد الآن. وإلاّ سأقتل نفسي.
كالبرق جاء. لم أترك له فرصة ليجلس، حاصرتهخ بذراعي ودخلت به غرفة نومي، وعلى سريري الذي شهد أحلام يقظتي هويت به. تمدّدنا متلاصقين يسري دفء واحدنا إلى الآخر.
وكلانا يأمل أن تنفتح طاقة ليلة القدر لتقطف أمنياتنا ألاّ نتفارق.
هو الآن في سريري وبين يدي، ليس خيالاً بل حقيقة من لحم ودم ونبض. أمارس معه ما اعتدته في أحلام يقظتي من مباهج العشق، كانت أصابعه كالمحراث المصنوع من لجين تعضُّ بتربة جسدي، كفّاه تدعكان صدري، وأسنانه تلوك الحلمتين فأحسّهما تكبران وتتورّمان. أصرخ بتأوّهات الألم واللّذة. وبكل إثارتي أراوده أن يقترب من البوابة التي اغتصبها في قصر العجوز؛ لعل يغرس نبته منه في رحمي لتكون ((الأمر الواقع)) الذي نواجه به أهلي المتجلّدين، فقد تنفذ شوكة من الدفء إلى قلوبهم ويرضخون، لكنّه ظلَّ يبتعد كالمرّة السابقة، والسرُّ يحيّرني: هل يلاحقه شبح العجوز فيخشى سوطه! أم يريد أن يبقيني طاهرة كطهارة حُبّه؟
أرخينا جسدينا لنرتاح. رأسي مدفون في حشائش صدره، وأصابعه بنعومه تحنو على شعري فتجلب النعاس إلى جفوني. لا أدري كم من الوقت غفوت قبل أن يوقظني قبلات سَرَتْ على وجنتيَّ سريان جدول. وقف يرتدي ثيابه فجزعت:
282
- إلى أين؟
- أتركك لتنامي.
بإصرار قلت:
- لن أتركك تذهب. ستبيت الليلة عندي.
جلس على طرف السرير تأبّط صوته كل حنانه:
- اسمعي يا نادية . . يمكن أن أعاند أهلك وأبقى، وأحارب الدنيا، لكنّني . . . .
تلعثم صوته وخرجت الكلمات تلسعني كالجمرة:
- لا أستطيع أن أتزوّجك.
بجزع واستغراب وصوت يتقهقر بدمعه:
- هل أصدّق ما تقوله يا عطيّة؟ ترفضني رغم كلّ هذا الحبّ؟
-ى أرجوك لا تسيئي الظنّ بحبّي. إنّني أتمنّى. وهذا شرف كبير لي ولكن لديَّ سببي.
- من حقّي أن أعرف السبب.
هزَّ رأسه هزّات مضطربة:
- صعب . . . . صعب.
283
قالها متأفّفًا ليثنيني عن إصراي، لكنّني أعطيته وعدًا كاذبًا ليعترف:
- أعدك . . لو أقنعني سببك أوافقك على الرحيل.
أطرق برأسه وجسده ينتفض وكأنّه أصيب بمرض الرُّعاش:
- تلك الليلة في القصر ستبقى حائلاً.
صرخت فيه:
- لكنّني نسيتها يا عطيّةوغفرتها لك.
جَعَرَ بصوتٍ كمن يصفع نفسه ويبصق عليها:
- أنت نسيت. لكنّني لم أنسى أو أغفر لنفسي.
تلاحظين كلّما اقتربت منك . . .
حاولت أن أبرّر له:
- ربّما بالزواج تزول هذه الحالة.
- أرجوك لا تعذّبني، سأرحل. وإلاّ أنا الذي سأقتل نفسي.
تأمّلته في امتداده وشموخه. كان مثل شجرة سنديان عريقة تُخبّئُ آلاف العصافير والجداول في قلبها. لتحرسني وتسقيني أنا
284
المتربّعة في القلب كلّه. كيف يمكنني أن أفارقه. رجل مثل عطيّة لا يمكنني التفريط به. حدّقت بعينيه الدامعتين، كانت فيهما آلاف الكلمات التي تكبح جماحها. لكنّني أُحسّها تتناثر عليّ كالقبلات والمطر.
انحنى نحوي مثقلاً بحزنه. غطّى جسدي باللحاف البارد برقّة وكأنّه يخشى أن يخدشني به ثم انهال عليّ بقبلات يُنذر رحيقها بأنّها القبلات الأخيرة. وحين أقفى ليخرج كنت أسمع زحف قدميه على الأرض؛ وكأنّهما تزحفان إلى قبر. ورائحته التي أعشقهاتغادره وتنهمر عليَّ سيلاً دافئًا يخترق ضلوعي ويتوزّع فيها كالأثير. نهضت، لحقت به. ضممْته أحاول أن أبقيه، لكنّه مشى، بي إلى باب الشقّة، وما كاد يحرّك أكرة الباب حتى هاجت أصوات عصافيري النائمة. كانت تغاريدها صراخًا، شجنًا ونعيبًا. كانت مثل قلبي تستصرخه ألاّ يُطفِئَ شمسنا ويُنيصَ ضوء قلبينا.
تمسّكت بتلابيبه وصوتي يقطر بضعفه:
- أرجوك يا حبيبي لا تتركني، ابقَ لي حتى وإن لم نتزوّج. لا أطيق فراقك يا عطيّة.
- آآآه يا عطيّة . . . كم أغبطك رغم ما أعانيه، فأنت الآن السيّد الحرّ الذي يتّخذ قراره ببسالة الفرسان، بينما أنا - العبدة - الضعيفة أكمن في أسري، وانتظر من يمنحني شهادة عتقي.
* * *
[كُتِبت في عاميْ 2004 – 2005 ما بين الكويت وصنعاء]
286
. . . ومثلَ دودة مهروسة تعاني سكرةَ الموت، ظللتُ على الأريكة عاجزتًا عن الحركة. كلّ شيء في الغرفة الفخمة يحاصرني بحبال غليظة. وأحسستُ بصمت مريب يهطل من السقف مثلَ بقايا رماد المواقد البائت ويتوزّع في الغرفة سريعًا . . . وددتُ لو أُفلتُ صوتي، أُطلقُ ولو صرخةً واحدةً تدكُّ القصرَ فأواجه الفضاءَ وإنْ تهتُ فيه. لكنّ حنجرتي لم تسعفني. وتاه لساني حتى حسبتُ أنّه قطعه قبل أن يغادر الغرفة. ظلّت كلماته تطنُّ في أذني: ((عليكِ أن تعتادي على الصمت)).
كلُّهم كان يأمرني بالصمت. كانت أمي حين تختلف معي على شأن، وإن كان يخصّني، تضغط سبّابتَها على شفتيْها وتقول: ((اصمتي واسمعيني)). أبي له طريقتُه الخاصّة في إصدار الأمر بالصمت. بمجرّد أن يلمح إشارةَ الاعتراض على وجهي، يصفِّق بكفَّيه، فأَفْهم أنّ عليّ ابتلاعَ الكلام وصوتي. ولم يكن أخي أرحمَ . . .
دار الآداب
هاتف 803778 – 861633
ص ب 4123 – 11 بيروت
تم إعداد الملف يدويا ليتوافق مع قارئات الشاشة للمكفوفين ..نعتذر عن أي هانات قد تحدث أثناء الطباعة.