الكتاب: شرح زاد المستقنع
المؤلف: حمد بن عبد الله بن عبد العزيز الحمد
[الكتاب مرقم آليا]
لأن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فإذا لم يكن في التأديب إسراف، يعني زيادة في الضرب أو نحو ذلك، بل كان في موضعه، وكان المحِل قابلا للتأديب، فإن كان صبيا غير مميز، فإنه ليس بقابل للتأديب، يعني ليس محلا للتأديب.
قوله: [ولو كان التأديب لحامل، فأسقطت جنينا، ضمنه المؤدِّب]
كأن يؤدب زوجه الحامل فتسقط، ففيه الضمان، أو تُعزر امرأة حامل، فتسقط جنينها، فيكون في ذلك الضمان؛ لأن هذا ليس بمأذون فيه، فالإذن متوجه إلى تأديب المرأة، وأما الذي في بطنها، فإنه لا يتوجه إليه التأديب، فلما سقط هذا الجنين، فإنا نُضمِّن المتسبب، وهو هذا المؤدب. إذاً إذا أدّب امرأة فأسقطت جنينها، فنقول: فيه الضمان؛ لأنه متسبب، وليس في الجهة – وهي المرأة – التي قد أُذن في تأديبها.
قوله: [وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله]
كحد من حدود الله، كحد الزنا، أو حق آدمي.
قوله: [أو استعدى عليها رجل - أي طلبها لدعوى - بالشُّرَط في دعوى له، فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي]
ضمنه السلطان في المسألة الأولى، والمستعدي في المسألة الثانية.
فإذا استعدى رجل على امرأة بالشرط، يعني ذهب إلى الشرطة وقدّم دعوى على امرأة، فدُعيت من قبل الشرط، فأسقطت جنينها، أو أن السلطان أرسل إليها لكشف حق الله أو حق آدمي، فأسقطت، فإن السلطان يضمن. إذاً الضمان للجنين وذلك للتسبب، لأن الجهة قد اختلفت، فإن الذي يطالب بالحق هي المرأة، وقد تعدى الأمر إلى الجنين، وعلى ذلك: فنضمِّن هذا المتسبب، ويكون قتل خطأ. وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
قوله: [ولو ماتت فزعا لم يضمنا]
يعني لم يضمن السلطان في المسألة الأولى، ولم يضمن المستعدي في المسألة الثانية. وهذا قول في المذهب، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله؛ لأن هذا الطلب مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
(27/7)
________________________________________
وأما المذهب فإن في ذلك الضمان، فيضمن السلطان في المسألة الأولى، ويضمن المستعدي في المسألة الثانية؛ قالوا: لأنهما متسببان.
والراجح الأول، وهو قول في المذهب خلافا للمشهور في المذهب، وهو الذي اختاره المؤلف هنا، وهو مذهب الشافعية، واختاره أيضا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ وذلك للقاعدة المتقدمة أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون. لكن على ذلك لو كان هناك تعد من السلطان أو المستعدي، فإن في ذلك الضمان، فلو أن السلطان أرسل إليها قبل أن يتحرى ويتثبت، فأسقطت، فهنا يضمن السلطان , وكذلك المستعدي إذا أرسل إليها ظلما، فماتت فزعا، فإنه يضمن؛ وذلك لأن ذلك غير مأذون فيه، فطلبها من غير تحر أو ظلما هذا غير مأذون فيه.
قوله: [ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة، فهلك به - أي بهذا بالصعود أو النزول - لم يضمنه]
لأنه لم يكرهه، لكن لو أكرهه، فقد تقدم الكلام عليه في المسألة السابقة.
قوله: [ولو أن الآمر سلطان]
لأنه لم يكرهه، لكن لو عُلم من السلطان الظلم، وأنه لو لم يطعه لقتله أو نحو ذلك، فإن هذا يكون له حكم الإكراه.
قوله: [وكما لو استأجره سلطانٌ أو غيره]
فلو استأجر عاملا ليحفر له بئرا أو ينزل إلى البئر ليصلحها أو يصعد إلى الشجرة ليجني ثمرها، فسقط فمات، فإنه لا ضمان؛ لأنه لم يحصل منه تعد، ولأنه لم يكرهه، فهو مجرد مستأجر وقد فعل هذا الأمر باختياره.
وقيّده بأن يكون " مكلفا "؛ لأنه لو لم يكن مكلفا، فأمره بذلك فتلف، فإن عليه الضمان؛ وذلك لأنه لا يؤذن له بمثل ذلك، فلا يؤذن له أن يأمر من ليس بمكلف بمثل ذلك، فيكون فيه تعد حيث لم يكن مكلفا.
باب مقادير ديات النفس
قوله: [دية الحر المسلم مئة بعير، وألف مثقال ذهبا – ألف دينار – أو اثنا عشر ألف درهم فضة أو مئتا بقرة أو ألفا شاة]
(27/8)
________________________________________
هذه هي أصول الدية في المشهور في المذهب: مئة من الإبل أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مئتان من البقر أو ألفان من الشاة.
وفي الحُلَل قولان:
المشهور في المذهب: أنها ليست من أصول الدية.
والقول الثاني خلافا للمشهور فيه: أن الحلل من أصول الدية، فيجب مئتا حُلَّة، والحلل من برود اليمن، يجتمع في الحلة إزار ورداء.
إذاً الأصول في باب الدية في المذهب خمسة:
الأصل الأول: الإبل. والأصل الثاني: الذهب. والأصل الثالث: الورِق، يعني الدراهم من فضة. والأصل الرابع: البقر. والأصل الخامس: الشياه.
هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الإبل مئة من الأبل، وفي البقر مئتين من البقر، وفي الشاء ألفي شاة، وفي الحلل مئتي حُلّة " وهذا عمدة من ذهب من أهل العلم بأن الحلل داخلة في أصول الديات.
وأما الورِق فقد روى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في رجل قُتل باثني عشر ألف درهم ".
وأما الذهب، ففي النسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (وفي الذهب ألف مثقال) .
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أئمة الدعوة: أن الأصل الإبل، وأما ما سواه، فإنها قيمة الإبل. إذاً ننظر إلى قيمة الإبل في كل زمن، وهذا يختلف باختلاف الأزمان، فقد تكون قيمة مئة من الإبل، ثلاثمئة أو أربعمئة بقرة، أو تكون ثمانية آلاف درهم، وقد تكون عشرة آلاف درهم، وهكذا. وهذا هو القول الراجح.
والأدلة التي استدل بها الحنابلة، فهي أدلة فيها ضعف، أما حديث عمرو بن حزم فهو مرسل، وأما حديث ابن عباس فإن في إسناده ضعفا، وأما حديث جابر رضي الله عنه، فإن إسناده فيه عنعنة محمد بن إسحاق.
(27/9)
________________________________________
وأما أهل القول الثاني، فاستدلوا بما ثبت في سنن أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الإبل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمئة دينار أو ثمانية آلاف درهم " فالقيمة تختلف هنا عما تقدم تقريره، قال: " وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، فلما كان استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " ألا إن الإبل قد غلت "، فقوَّمها باثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار أو مئتين من البقر أو ألفي شاة أو مائتين من الحلل " إذاً هذا الأثر الصحيح دال على أنها كانت في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف ما تقدم ذكره، ثم لما كان عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال " ألا إن الإبل قد غلتْ " ففرضها في الذهب ألفا دينار، وفي الورِق اثني عشر ألف درهم، وفي البقر مئتين من البقر، وفي الشاء ألفي شاة، وفي الحلل مئتي حلة. إذاً هذا الأثر دال على الأصل هو الإبل فقط، ويدل عليه كما سيأتي إن شاء الله أن التغليظ في الدية – في العمد وشبه العمد - خاص بالإبل، ولأنها في الأطراف وفي الجراح تُقوَّم أيضا بالإبل، فدل على أن الأصل هو الإبل فقط، وأما غيرها فإن هذا يختلف باختلاف الأزمان، فتقوم بقيمتها، سواء كانت دراهم أو غيرها، على اختلاف الأزمان. وهذا هو الراجح، وعليه عمل وقضاء أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله.
قوله: [هذه أصول الدية، فأيها أحضر من تلزمه، لزم الولي قبوله]
وهذا على القول بأن الأصول خمسة، وإن قلنا أن الأصل هو الإبل، فلا يلزم القبول إلا أن تكون هي القيمة، فإذا قوَّمناها، فإنه يلزمه أن يأخذ القيمة.
قوله: [فتغلّظ في قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حِقَّة، وخمس وعشرون جَذَعة]
(27/10)
________________________________________
إذاً تجب أرباعا مغلَّظة في دية العمد وشبه العمد. هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، واستدلوا بحديث عزوه إلى السائب بن يزيد: أنها تجب أرباعا " وهذا الحديث لم أقف عليه في شيء من كتب السنة، وقد ذكره السيوطي في جمع الجوامع، وضعّفه. فهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ثبت عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال، وهو حديث حسن: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) ، لكن هذا التفصيل الذي ذكره الحنابلة رحمهم الله تعالى ينبني على هذا الحديث الذي لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب الشافعية: إلى أن الواجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلِفة في بطونها أولادها، واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي، والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدية ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها) . وهو الراجح في هذه المسألة، وقد تقدم حديث آخر في أن دية الخطأ شبه العمد مئة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. إذاً هذه هي دية العمد وشبه العمد، وهي دية مغلظة، ولذا كما تقدم أن التغليظ إنما يكون في الإبل.
قوله: [وفي الخطأ تجب أخماسا ثمانون من الأربعة المذكورة]
الأربعة المذكورة: بنات مخاض، وبنات لبون، والحقاق، والجذعات، فيجب عليه عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون جذعة، وعشرون حقة.
قوله: [وعشرون من بني مخاض]
إذاً تجب أخماسا، واستدلوا بحديث رواه الدارقطني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، لكن الصواب وقفه.
(27/11)
________________________________________
وذهب بعض أهل العلم، وهو قول طاووس من التابعين: إلى أن الواجب ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون جذعة، وعشرة من بني لبون. وقد ورد فيه حديث عند أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في دية الخطأن ثلاثين بنت مخاض، وثلاثين بنت لبون، وثلاثين حقة، وعشرة من بني لبون "، لكن ورد عند أبي داود من قول عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أن الواجب عشرون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرون من بني لبون.
واختار ابن القيم رحمه الله تعالى لمّا اختلفت الآثار هنا، أن ذلك كله مجزئ، وأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حد محدود أي حد واجب، ولذا فإن الصحابة رضي الله عنهم قضوا بخلاف ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعلى ذلك فإن فُرضت عليه أخماسا، كما في المذهب، فلا بأس، وإن فرضت عليه كما في حديث أبي داود، فلا بأس، وإن فُرِضت عليه كما ورد عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، فلا بأس بذلك. وقد قال عليه الصلاة والسلام كما تقدم في سنن النسائي، والحديث حسن: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) ، وهذا يدل على أن التحديد المتقدم ليس بواجب.
قوله: [ولا تُعتبر القيمة في ذلك]
تقدم أن الدية تجب في الدراهم، وتكون القيمة اثني عشر ألف درهم، وعلى ذلك يكون قيمة البعير مئة وعشرون درهما. فلو أنه أخرج أبعرة وكان قيمة كل بعير مئة من الدراهم، فهل يجزئ؟
قال " لا تعتبر القيمة في ذلك "، فلو كان البعير قيمته مئة أو ثمانون، فمادام أن شروط السلامة متوفرة فيه، فلا بأس. إذاً إذا أخرجنا الإبل، فلا يشترط أن نخرج إبلا قيمتها تساوي اثني عشر ألف درهم.
(27/12)
________________________________________
فإذا حدَّدنا الدية في هذا الزمن مثلا مئة وخمسون ألف درهم، فإذا أتى بمئة من الإبل، قيمتها لا تساوي إلا مئة ألف من الدراهم، لكنها سليمة، فهل يجزئه ذلك؟
يجزئه ذلك. إذاً لا نعتبر القيمة، وإنما نعتبر السلامة، ولذا قال " ولا تعتبر القيمة في ذلك " وإنما تعتبر السلامة.
قوله: [ودية الكتابي نصف دية المسلم]
لما ثبت في داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عَقْلُ أهل الكتاب على نصف عقل المسلمين) والعقل يعني الدية. هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافا للأحناف.
وأما الأحناف فذهبوا إلى أن الواجب دية المسلم، واستدلوا بقوله تعالى: {فدية مسلمة إلى أهله} .
لكن الحديث حجة عليهم، وأما الدية في الآية فهي مطلقة، فتختلف باختلاف الدين. وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى على مسلم قتل يهوديا من أهل الشام – وهو ذمي -، بمئة من الإبل " فإن هذا حيث كان القتل عمدا، فتغلّظ الدية، ويدل عليه ما رواه البيهقي والدارقطني بإسناد صحيح أن عثمان رضي الله عنه قضى على مسلم قتل ذميا عمدا، بمثل دية المسلم "؛ لأنه لما يكن هناك قود بذلك، فإن الدية تُغلّظ، وأما إذا كان قتل خطأ، فإن الواجب نصف الدية. هذا هو الصواب.
قوله: [ودية المجوسي والوثني ثمانمئة درهم]
المجوسي الذي لا كتاب له، وهو من عبدة النار، والوثني، ديتهما ثمانمئة درهم.
كم تساوي ثمانمئة درهم الآن؟
إذا كان في كل مئة درهم فيها سبعون مثقالا من الفضة، فعلى ذلك في ثمانمئة درهم خمسمئة وستون , والمثقال أربع جرام وربع، والجرام من الفضة يساوي في البيع تقريبا درهما، فيكون قريبا من ألفي درهم. وقد قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في سنن الدارقطني، وهو أثر صحيح، ولا يُعلم له مخالف.
(27/13)
________________________________________
إذاً أولئك أهل كتاب، وأما المجوس والوثنيون، فإنهم لا كتاب لهم، فالواجب في ديتهم ثمانمئة درهم إسلامي، وليس الدرهم الموجود الآن. وعليه فننظر إلى قيمته، فقد تساوي هذه الثمانمئة درهم، ألفي درهم أو ثلاثة آلاف درهم.
قوله: [ونساؤهم على النصف، كالمسلمين]
الآن دية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل الذكر المسلم، وهذا بإجماع أهل العلم، وقد حكى هذا الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر. وقد دلت عليه آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم، ففي البيهقي عن عمر علي وابن مسعود ما يدل على ذلك.
وكذلك دية المرأة الكتابية على النصف من دية الكتابي، ودية المجوسية على النصف من دية المجوسي، فيكون فيها أربعمئة درهم، وهذا أكثر من قيمتها.
وقد اختلف أهل العلم في دية المسلمة في باب الجراح والأطراف، ما الذي يجب فيها؟ على قولين:
القول الأول، وهو مذهب الحنابلة والمالكية، قالوا: إن الواجب في دية الأطراف والجراح أن تساوي الرجال حتى تبلغ ثلث الدية، فإذا تجاوزت ثلث الدية، فيكون الواجب النصف.
فالأصبع فيها عشر من الإبل، وهي أقل من الثلث، فإذا قطعت أصبع المرأة، فإن الواجب فيها عشر من الإبل، لأنها لم تتجاوز الثلث.
(27/14)
________________________________________
الرجل إذا قُطعت يده، ففيها خمسون من الإبل، فهي أكثر من الثلث، فالمرأة فيها خمس وعشرون من الإبل. واستدلوا بما روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عقْل المرأة المسلمة مثل عقل الرجل ما لم تبلغ الثلث من ديتها) . لكن الحديث من حديث إسماعيل من عياش عن الحجازيين، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، لكن له ما يعضده في موطأ مالك بإسناد صحيح أن سعيد من مسيب رحمه الله قال: " في الأصبع عشر من الإبل، وفي الأصبعين عشرون من الإبل، وفي الثلاث ثلاثون من الإبل، وفي الأربع عشرون "، فقال له ربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله تعالى: لما اشتد جرحها وعظُمت مصيبتها، قلَّت ديتها " قال: " أعراقيٌّ أنت؟ فقال رحمه الله تعالى: " بل إمّا عالِمٌ متثبتٌ أو جاهل سائل " فقال: " هي السنة يا ابن أخي ". ويحتمل في هذا الأثر السنة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل السنة المنسوبة إلى عامة الصحابة، والاحتمال الثاني أقرب، وقد صح عن عمر رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه قال في السن والموضحة: " أن دية المرأة تساوي دية الرجل، وما فوق، فإن دية المرأة على النصف من ذلك ". فالذي يترجح هذا الأثر منسوب إلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي سنة بعض الصحابة، كعمر رضي الله عنه.
والقول الثاني، وهو مذهب المالكية والشافعية الأحناف، وهو رواية عن أحمد، قالوا: بل يجب النصف مطلقا، ففي الأصبع خمس من الإبل، وفي الأصبعين عشر من الإبل، وفي الثلاث خمسة عشر بعيرا. وهذا القول هو القول الأرجح، وهو قول علي وابن مسعود كما في البيهقي، والإسناد إليهما صحيح. والله أعلم. انتهى الدرس الثاني في ليلة الأربعاء الثاني من شهر شعبان لعام 1420 للهجرة.
قوله: [ودية قن قيمته]
(27/15)
________________________________________
لأن الرقيق مال، وعلى ذلك: فديته قيمته، فإذا قتل عبداً، فإن دية العبد قيمته، فننظر كم يساوي هذا الرقيق، وتكون هي الدية.
قوله: [وجراحه ما نقَصَه بعد البرء]
في الجراح والأطرف، نقوّمه بعد برئه، وكذلك إذا اندمل الموضع الذي كان فيه قطع الطرف، فنقوّم هذا العبد، كما كان يساوي قبل قطع الطرف وقبل الجرح، وكم يساوي بعد؟ فإذا قالوا: إنه كان يساوي مئة ألف، والآن لا يساوي إلا ثمانين ألفا، فالذي يجب فيه عشرون ألفا. ما ذكره المؤلف هو قول في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأما المشهور في المذهب، فإن الواجب هو القسط من القيمة، فإذا قطع يده – واليد فيها نصف الدية -، فنقول: كم يساوي هذا الرقيق، قالوا: يساوي مئة ألف، فنقول: الواجب خمسون ألفا.
والراجح هو الأول؛ إلحاقا لما دون النفس بالنفس، لأن القول الأول قاعدته مطردة، فالقيمة في النفس وفيما دون النفس، وأما القول الثاني فإنه فرّق بين ما دون النفس وما بين النفس، فما دون النفس أوجب فيها نصف الدية، ثم بعد ذلك رجع إلى القيمة.
قوله: [ويجب في الجنين – أي الحر – ذكراً كان أو أنثى]
فلا فرق في الجنين بين الذكر والأنثى، والجنين هنا حيث تخلّق، فظهرت فيه خِلْقةُ الإنسان، وهذا يكون بعد الثمانين، فينظر، فقد تكون المضغة مخلقة، وقد تكون غير مخلقة، فينظر بعد الثمانين إن حصل تخلُّق يعني يَبِينُ فيه خلْق الإنسان، فهذا هو الجنين، وأما إذا لم يَبِن فيه خلق الإنسان، فهي قطعة لحم لا دية فيها. إذاً الجنين إذا سقط ميتا وقد تخلق أي ظهر فيه خلق الإنسان – ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة -.
لكن لو سقط حيا حياة مستقرة في ستة أشهر – كأن يصرخ - ثم مات، فإن فيه الدية كاملة؛ لأنه ثبتت حياته. وأما الكلام هنا حيث سقط ميتا، وقد تبين فيه خلق الإنسان.
قوله: [عُشْر دية أمِّه غُرَّة]
(27/16)
________________________________________
الغُرَّة: هي عُشْر دية الأم، باتفاق العلماء، فإن كانت الأم مسلمة، فالغرة خمسٌ من الإبل، لأن ديتها خمسون من الإبل، وعلى ذلك فدية الجنين - الغرة - خمس من الإبل. وحكاه الموفق عن عليّ وزيد، قال: " ولا يعلم لهم مخالف ". وتقدم حديث المرأتين الهُذليتين اللتين اقتتلتا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية الجنين غرة، عبدٌ أو أمَة، يعني بقيمة الغرة عبدٌ أو أمة، يعني إما عبد أو أمة بقيمة الغرة، والغرة خمس من الإبل، فتجب عبد أو أمة بقيمة خمس من الإبل، أو تجب خمس من الإبل. فإن تيسر وكان هناك إماء أو عبيد، وإلا كما في عصرنا، فهناك خمس من الإبل، كما أن ظاهر كلام أهل العلم أن الواجب هو خمس من الإبل مطلقا.
فإن كانت كتابية، فالواجب عبدٌ أو أمَة بقيمة بعيريْن ونصف؛ لأن دية الكتابية خمس وعشرون.
قوله: [غرة]
أي عبد أو أمة، قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل، لكن في عصرنا حيث لا إماء ولا عبيد، فإن الواجب خمس من الإبل، وأما في عصرهم، فإن الواجب عبد أو أمة بقيمة ذلك إن تيسر، وإلا فالواجب خمس من الإبل.
قوله: [وعُشْر قيمتها إن كان مملوكا، وتقدَّر الحرة – يعني الحامل برقيق - أمَة]
إن كان هذا الجنين عبدا لا حرا، فالواجب عشر قيمة الأم، فإذا كانت تساوي الأم مئة ألف، فالواجب عشرة آلاف، فإن كانت أمه حرة، فإنا نقوِّمها كما لو كانت عبدة، ونوجب عُشْر القيمة.
قوله: [وإن جنى رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه]
كالجائفة، فليس فيها القصاص، لأنه لا يؤمن الحيف، وإنما فيها الدية.
قوله: [أو فيه قود – كما لو قطع يده من المفصل – واختير فيه المال أو أتلف مالا بغير إذن سيده، تعلَّق ذلك برقبته]
(27/17)
________________________________________
وعلى ذلك نقول للسيد: أنت بالخيار، إما أن تسلِّم هذا العبد للأولياء الجناية، فإن شاؤوا باعوه، وإن شاؤوا ملكوه، وإن شئت فلتفده. فإذا قالوا: إن الجناية تساوي مثلا عشرة آلاف، لكن هذا الرقيق لا يساوي إلا خمسة آلاف، فيقول: خذوه، إن شئتم ملكتموه، وإن شئتم بعتموه، فلا يكلَّف السيد ما زاد على ذلك. وإن كان يساوي عشرة آلاف والجناية خمسة آلاف، فيقول: خذوا هذه الخمسة آلاف ويفدي رقيقه. إذاً يكون السيد بالخيار، إن شاء ملَّكَهم رقبته، وإن شاء فداه.
قوله: [فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه]
باب ديات الأعضاء ومنافعها
العضو: كالعين.
والمنفعة: كالبصر والشم والذوق.
وليعلم أنه إن جنى على عضو فأشلَّه، فكما لو قطعه، فلو ضرب اليد مثلا فأشلها، فكما لو قطعها ففي ذلك الدية، باستثناء عضوين، وهما: الأنف والأذن؛ أما الأذن فلأن السمع في الدماغ، وأما الأنف فلأن الشم أيضا في الدماغ، ولأن الجمال باقٍ. فإذا ضرب الأنف أو الأذن فأشلهما، فلا دية، ولكن في ذلك حكومة، وسيأتي الكلام على الحكومة إن شاء الله.
إن قطع عضوا مشلولا، فما الحكم؟
فيه الحكومة، وليس فيه الدية، باستثناء الأذن والأنف؛ فإن فيهما دية، بعكس المسألة السابقة، لأن المقصود بقاؤهما، فإذا زالا، فكما لو زالت اليد، لأن الشم والسمع في الدماغ، فإذا اعتدى عليهما بالقطع فإن المنفعة تفوت، سواء كانا مشلولين أو غير مشلولين.
قوله: [من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد]
ففيه الدية، وإذا أتلف ما فيه شيئان، ففي كل منها نصف الدية، وفي الجميع الدية كاملة، وإذا أتلف ما فيه ثلاثة أشياء، ففي الجميع الدية كاملة، وفي كل واحد منها ثلث الدية، فإذا كان في أربعة أشياء ففي كل واحد ربع الدية، فإذا كان في عشرة أشياء كالأصابع، ففي كل واحد عُشْر الدية.
(27/18)
________________________________________
قوله: [كالأنف واللسان والذَّكَر ففيه دية النفس]
وقد روى أحمد في مسنده والنسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال – والحديث عليه العمل وإن كان مرسلا وله شواهد -: (في الأنف إذا أوعب – يعني قطع كله – الدية، وفي العنين الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصُّلْب الدية) ، والصلب: هو العظم الذي يمتد من أعلى الظهر إلى أسفله، وهذا العظم إذا اعتُدي عليه، فإنه تفوت منفعة المشي، وقد تفوت أيضا منفعة الجماع أي النكاح، وإذا جُبر، فإنه يحدودب ظهره. فهذا العظم فيه الدية إذا لم ينجبر، فإذا انجبر لكن احدودب، ففيه حكومة، فإن فاتت منفعة المشي أو منفعة الجماع، ففيه دية واحدة، فإن فاتت المنفعتان جميعا، ففيه ديتان.
قوله: [وما فيه منه شيئان كالعينين]
فالواجب دية كاملة، فإن فُقِئت عين واحدة، فإن فيها نصف الدية.
قوله: [والأذنين والشفتين واللَّحيين]
اللحيان: هما العظمان اللذان ينبت عليهما شعر اللحية.
قوله: [وثديي المرأة]
فإذا قطع ثدي المرأة ففيهما الدية، وإذا قطعت الحَلَمة، فكما لو قطع الثدي؛ لأن المنفعة فيها. والكلام الذي أقرره هو في المذهب.
قوله: [وكثنْدُؤَتَيْ الرجل]
اللذان في مقام ثديي المرأة، ففهم الدية، وفي أحدهما نصف الدية.
ويصح أن تضم الثاء مع الهمز، ويصح بلا همز (ثندوتي) .
وقال الجمهور: بل فيها حكومة، وهذا أصح؛ لأنه ليس فيهما ما في ثديي المرأة من المنفعة، بل غاية ما فيهما أنهما يجمِّلان البدن.
قوله: [واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين – يعني البيضتين – وإسكتي المرأة]
إسْكِتَيْ المرأة: يعني حافة الفرج، ويصح أيضا أن تكون الهمزة أعلى (أسْكتي) ، وهما حافتا الفرج، وبهما يكون الجماع.
(27/19)
________________________________________
قوله: [وفي إحداهما نصفها. وفي المنخِريْن ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها]
وهذا واضح، فالأنف تتكون من منخِرين وحاجز، فإذا قُطع المنخرين ففي ذلك ثلثا الدية، وفي الحاجز الثلث، وإذا قطع منخِرا واحدا ففيه ثلث الدية.
قوله: [وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن رُبْعُها]
وهو معروف، فالجفَن هو القطعة من الجلد التي تغطي العين.
قوله: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين]
ففي سنن الترمذي وصححه، وهو كما قال، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دية أصابع اليدين والرجلين عشرة من الإبل لكل أصبع) ، إذاً كل أصبع فيها عشرة من الإبل، ولا فرق بين الخنصر والإبهام، ولذا روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء) ، فالأصابع سواء، والأسنان سواء.
قوله: [وفي كل أصبع عُشْر الدية، وفي كل أنملة ثلث عُشْرِ الدية]
كل أصبع فيها ثلاثة أنامل، إلا الإبهام ففيها أُنملتان، وعلى ذلك: الأنملة في الإبهام فيها نصف العشر، ولذا قال:
[والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية]
إذاً الآن الأصبع فيها عَشر من الإبل، وفي كل مفصل سوى الإبهام ثلث العُشر، وأما الإبهام ففيها مفصلان، ففيها نصف العُشر.
قوله: [كدية السن]
السن فيها خمس من الإبل، كما روى ذلك النسائي من حديث عمرو بن حزم، وهو مرسل، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، والحديث صحيح، وعلى ذلك: فالسن فيها خمس من الإبل.
فلو كسر أسنانه كلها، فإننا نضرب خمسا في ست وثلاثين، فيكون المجموع مئة وثمانون بعيرا. وهذا كما تقدم ما لم تَعُد السن، لكن إن عادت، فإنه ليس فيها الدية.
(27/20)
________________________________________
وفي الظفر خمس من الإبل، وقد روى ابن أبي شيبة عن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح أنه قال: " في الظفر خمس من الإبل "، فإذا قطع الظفر فلم يعد، أو عاد لكنه أسود، فالواجب فيه خمس من الإبل.
فصل في دية المنافع
قوله: [وفي كل حاسة دية كاملة]
لو أذهب عليه حاستين، ففيه ديتان، ولو أذهب عليه أربع حواس ففيه أربع ديات؛ ولذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن رجلا ضرب رجلا، فأذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى عمر رضي الله عنه بأربع ديات ".
فتجب في كل حاسة دية كاملة، كالسمع والبصر والذوق، فالذوق فيه دية كاملة، ومعلوم أن الذوق يكون لخمسة أشياء، للملوحة والعذوبة، والحلاوة والمرارة، وللحموضة. فلو أنه أذهب عليه حاسته في الحموضة فقط، ويمكن هذا طبيا، فالواجب عليه خُمْس الدية.
والنطق منفعة، ففيه الدية، كما أن اللسان فيها الدية. فإذا أذهب نطقه، فإن في ذلك الدية. واللسان فيه ثمانية عشر حرفا، لأن أربعة حروف شفهية، وستة حروف حلقية، والباقي يكون في اللسان، فلو أذهب عليه نُطْقَ حرفٍ واحدٍ، فالواجب جزء من ثماني عَشرة جزءاً.
كذلك لو أذهب عليه شيئا من البصر، وقال الأطباء: إنه قد أذهب عليه نصف البصر، أو نصف السمع، فالواجب نصف الدية.
قوله: [وهي السمع والبصر والشم والذوق]
ولم يذكر حاسة اللمس.
وقال المالكية: إن حاسة اللمس كذلك. القياس يقتضي ما ذهبوا إليه، وقد ذكرها أيضا بعض الحنابلة.
وفقْد حاسة اللمس: أن يكون لا يحس بالأشياء من حيث الحرارة والبرودة والخشونة ونحو ذلك، فإذا أذهب حاسة اللمس عنده، فإن فيها الدية.
قوله: [وكذا في الكلام والعقل – يعني جُنَّ – ومنفعة المشي والأكل]
وتذهب منفعة الأكل بألا يشتهي الطعام، أو يصبح يأكل لكن معدته لا تهضم الطعام، أو أصبح لا يأكل أبدا، أو لا يرغب في الطعام فليس له في الطعام أي شهوة، فإنه حينئذ تجب فيه الدية.
(27/21)
________________________________________
قوله: [والنكاح]
إما أن ينقطع الماء، أو يكون عنِّيناً، وقد تقدم، أو أن يكون لا ينجب فيصبح عقيما، فإن فيه الدية كاملة.
قوله: [وعدم استمساك البول أو الغائط]
إذاً هذا الضرر ترتب على المسلك البولي، ففيه الدية.
قوله: [وفي كل واحدة من الشعور الأربع الدية، وهي شعر الرأس واللحية والحاجبين وأهداب العنين]
فلو أتى إلى رجل وهو نائم ووضع عليه دواء، فأصبح لا تخرج لحيته، أو قد يقع هذا من الطبيب خطأ، فما الحكم؟
فيها الدية، وكذلك شعر الرأس فيه الدية، وشعر الحاجب فيه دية، وأهداب العينين في كل هدبٍ رُبْع الدية. هذا هو مذهب الحنابلة، واستدلوا بما روى عبد الرزاق في مصنفه عن علي وزيد أنهما قالا: " في الشعر الدية "، قالوا: وأما الشارب ففيه حكومة.
وقال الجمهور: بل في الشعر كله حكومة، وليس فيه دية؛ قالوا: لأن هذه الشعور منفعتها الجمال فقط، وعلى ذلك فلا تبلغ مبلغ العين أو الأذن، ونحو ذلك. وهذا القول أصح، وأما ما روي عن علي وزيد، فإن الأثرين ضعيفان.
قوله: [فإن عاد فنبت سقط موجَبه]
الموجَب بفتح الجيم: يعني الدية.
إن عاد فنبت، فيسقط الموجَب يعني الدية؛ لأن الدية قد وجبت به.
قوله: [وفي عين الأعور الدية كاملة]
رجل أعور فُقِئت عينه، فالواجب الدية كاملة؛ لذهاب حاسة البصر.
قوله: [وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا، فعليه دية كاملة ولا قصاص]
(27/22)
________________________________________
هذا رجل أعور فقأ عينَ صحيحٍ مماثلة لعينه الصحيحة - لأنها إن لم تكن مماثلة لعينة، فلا قصاص – فهنا الأصل أن فيه القصاص، لكن لو اقتصصنا منه لترتب على ذلك حيف، لأن الآخر بصره باق، وأما هو فبصره يذهب، وعلى ذلك: فلا قصاص، لكن الواجب الدية كاملة تغليظا؛ لأن من سقطت عنه العقوبة لمانع، ضوعفت عليه الدية أو الغُر. وبهذا قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادين صحيحيْن، وهذا كما تقدم فيما إذا قتل المسلم ذميا، فالواجب إذا كان عمدا الدية كاملة؛ لأنا لمّا أسقطنا عنه العقوبة لمانع وهو إسلامه وكفر الآخر، فإنا حينئذ نوجب عليه الدية مغلظة، فكذلك هنا.
قوله: [وقَطْعِ يد الأقطع نصف الدية كغيره]
رجل أقطع اليد أو الرجل، فقُطعت، فالواجب نصف الدية؛ قالوا: لأن اليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى، واليد اليسرى لا تقوم مقام اليد اليمنى، والرِّجل اليمنى لا تقوم مقام الرجل اليسرى، وكذلك العكس، بخلاف العين، فإن العين اليسرى تقوم مقام العين اليمنى. هذا هو المشهور في المذهب.
وعن الإمام أحمد: أن الدية تجب كاملة؛ لأن اليد – اليمنى أو اليسرى – الباقية، تقوم مقام الأخرى، فإذا قطعت يده اليمنى، فإنه يأكل بيده اليسرى ويعطي ويأخذ بيده اليسرى إلى غير ذلك، وإذا بقيت إحدى رجليه، فإنه يتكأ ويمشي عليها، بينما إذا لم يبق له رجل، فإنه لا يستطيع المشي. إذاً الأقوى أن نقول: في ذلك الدية كاملة. والله أعلم. انتهى الدرس الثالث في ليلة الأربعاء التاسع من شعبان لعام 1420 للهجرة.
تقدم أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن اليد الشلاء إذا قطعت ففيها حكومة.
(27/23)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد: أن فيها ثلث ديتها، واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قضى في العين السوداء السَّادّة مكانها بثلث ديتها) أي ثلث نصف الدية (وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قُلعت بثلث ديتها) . وهذا القول هو الأظهر؛ لهذا الحديث الحسن.
باب الشجاج وكسر العظام
قوله: [الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة، وهي عشرٌ: الحارِصَة، وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ولا تدميه]
فالحارصة: هي التي تشق الجلد ولا يخرج دم.
قوله: [ثم البازلة الدامية الدامعة: وهي التي يسيل منها الدم]
فهذه تسمى البازلة والدامية والدامعة، وهي تشق الجلد، ثم يسيل شيء من الدم يسير كالدمع، ولذا تسمى بالدامعة.
قوله: [ثم يليها الباضعة: وهي التي تبضع اللحم]
تبضع اللحم: أي تشقه، فالباضعة أشد من البازلة، فإن البازلة تشق الجلد – وإن كانت تدميه - ولا تشق اللحم، وأما الباضعة فإنها تشق اللحم.
قوله [ثم يليها المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم]
تلك تشق اللحم، وأما هذه فهي تغوص في اللحم.
قوله: [ثم يليها السِّمْحاق: وهي التي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة]
يعني ما بقي إلى العظم إلا قشرة رقيقة.
قوله: [فهذه خمس لا مُقدَّر فيها بل حكومة]
فهذه فيها حكومة.
والقول الثاني في المسألة، وهو رواية عن أحمد: أن الأربع دون الحارصة، فيها مقدَّر، وأما الحارصة ففيها الحكومة.
أما البازلة ففيها بعير، والباضعة فيها بعيران، والمتلاحمة فيها ثلاثة أبعرة، والسمحاق فيها أربعة أبعرة وصح بذلك الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه كما سنن البيهقي بإسناد صحيح. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه لا يعلم له مخالف.
قوله: [وفي الموضحة: وهي التي توضح اللحم وتبرزه، خمسة أبعرة]
(27/24)
________________________________________
" توضح اللحم " كذا ذكر المؤلف رحمه الله، والصواب: ما توضح العظم، كما ذكر الشارح، وكما تقدم تقريره في درس سابق.
فهي توضح العظم، فتجرح اللحم حتى يتضح العظم، وتزول الجلدة الرقيقة التي تكون على العظم، ففيها خمسة أبعرة، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره.
قوله [ثم الهاشمة، وهي التي تُوضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة]
قد ورد ذلك في مصنف عبد الرزاق عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولا يعلم له مخالف.
قوله: [ثم يليها المُنَقِّلة]
هي التي تنقل العظم من موضعه، فلا تكتفي هذه الجناية بتهشيم العظم، بل ينتقل العظم من موضعه. وفيها كما ذكر المؤلف خمسة عشر بعيرا.
قوله: [وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل]
وقد ورد هذا في النسائي من حديث عمرو بن حزم، وعلى ذلك يجب في المنقلة خمسة عشر بعيرا.
قوله: [وفي كل واحدة من المأمومة]
وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ، يعني أم الدماغ، ففيها ثلث الدية، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي.
قوله: [والدامغة ثلث الدية]
الدامغة: تخرق الدماغ، فتلك تصل إلى أم الدماغ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ، فتسمى بالدامغة، ففيها أيضا ثلث الدية.
وقيل: فيها ثلث الدية وحكومة. وهذا أصح؛ لأن فيها قدر زائد على المأمومة، فالمأمومة تصل إلى الدماغ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ، فكان فيها حكومة زيادة على الدية.
قوله: [وفي الجائفة ثلث الدية]
كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره، والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، سواء كان في الظهر أو البطن أو في موضع آخر.
فإذا دخل من موضع وخرج من موضع آخر فجائفتان، وعلى ذلك فيجب ثلثا الدية.
قوله: [وهي التي تصل إلى باطن الجوف. وفي الضِّلَع]
(27/25)
________________________________________
الضلع: معروف، واحد الأضلاع، ويضبط (ضِلَع) هذا هو المشهور، وضُبط بتسكين اللام (ضِلْع) ويصح لكنه على غير شهرة.
قوله: [وكل واحدة من الترقوتين بعير]
الترقوة معروفة: وهي العظم المستدير عند الرقبة، فيجب في الضلع إذا كسر، والترقوة إذا كسرت، في كل واحد منهما بعير. لكن هذا بقيد وهو ما إذا جُبر مستقيما، وأما إذا لم يجبر مستقيما ففيه حكومة. فإذا جُبر مستقيما ففي كل ضِلَع بعير، وفي كل ترقوة بعير، وقد صح بذلك الأثر عن عمر بن الخطاب، كما في موطأ الإمام مالك قال: " في كل ضلع بعير، وفي كل ترقوة بعير ".
قوله: [وفي كسر الذراع، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد. والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران]
إذا كُسر الذراع، فجبر مستقيما ففيه بعيران. لكن لو جبر غير مستقيم ففيه حكومة، وكذلك الفخذ والساق. هذا هو المشهور في المذهب.
وقال الجمهور، واختاره الموفق: أن الواجب حكومة، فالعظم إذا كسر، سواء جُبر مستقيما أم جبر غير مستقيم ففيه حكومة. وهذا أصح؛ لأنه لم يرد ما يدل على أن هناك ما هو مقدر في ذلك، وعلى ذلك فنوجب حكومة.
قوله: [وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة]
كالجراح تكون في اليد أو الرِّجل، هذه كلها فيها حكومة.
قوله: [والحكومة أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبدٌ لا جناية به، ثم يقوّم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية]
(27/26)
________________________________________
إذا أوجبنا الحكومة، فالحكومة أن نقومه عبدا، وكان في السابق رق، وكانوا يعرفون القيمة، فيقوّم كأنه رقيق، فكم يساوي وهو رقيق – عبد – لا جنابة به، وكم يساوي وبه جناية؟ فإذا قالوا: يساوي وهو خال من هذه الجناية مئة ألف، ويساوي وفيه الجناية ثمانين ألفا، فالفارق بينهما عشرون ألفا، ونسبتها إلى قيمته الخُمُس، فعلى ذلك: نوجب خُمس الدية، فلا نوجب عشرين ألفا؛ لأنه قد يكون كتابيا أو وثنيا، وبهذا الطريقة نوجب القسط من ديته.
وإذا كان يساوي مئة ألف لا جناية به، وبالجناية يساوي ستين ألفا، والفرق أربعون ألفا، ونسبتها إلى المئة الخُمُسان، وعلى ذلك فالواجب خُمُسا ديته، وهذا يختلف من امرأة إلى رجل، فالمرأة ديتها خمسون من الإبل، فيجب عشرون بعيرا، وأما الرجل فيجب أربعون بعيرا. هذه هي الحكومة , وعلى ذلك في مثل هذا الزمن إنما يعتمد القضاة على ما قد قيّده القضاة قبلهم ممن كان يوجد عندهم الرق، فيكون هناك تقديرات، فينظرون إلى تقديراتهم، ثم يحكمون بالعدل قدر الإمكان.
وقال الشافعية، واختاره طائفة من متأخري الحنابلة كالشيخ العلامة سعد بن محمد بن عتيق رحمه الله تعالى، قالوا: إنا ننظر إلى النسبة من أقرب جناية لهذه الجناية فيها قدْر محدد.
فالموضحة فيها خمس من الإبل، يعني نصف العُشر، فإذا كانت الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث، كأن يحصل جرح في بدنه، فيقول الأطباء وأهل الخبرة: إن هذه الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث، فعلى ذلك: نوجب ثلث نصف العُشر. وهذا أرجح؛ لأن العدل واجب بحسب الإمكان.
قوله [كأنْ – قدّرنا – قيمته عبدا سلميا ستون، وقيمته بالجناية خمسون، ففيه سُدس ديته]
كما تقدم في المثال السابق.
قوله: [إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدَّر، فلا يبلغ بها المقَدَّر]
(27/27)
________________________________________
لو كان الجرح دون الجائفة، والجائفة فيها ثلث الدية، فلما قوّمناه عبدا بجناية، وعبدا بلا جناية، ونظرنا إلى النسبة، وجدنا أن الفارق أكثر من ثلث الدية، فهل نوجب أكثر من ثلث الدية، مع أن الجائفة التي دونه فيها ثلث دية؟ الجواب: لا. إذاً لا نبلغ الحد المقدر، لأن الجرح دونه. وهذا يدل على ما في هذا القول من ضعف، ولذا تقدم أن الراجح أننا ننظر إلى النسبة، فإن كان الموضع فيه حد مقدر، فإنا ننظر نسبة هذا الجرح إلى الحد المقدّر.
إذاً قال الحنابلة رحمهم الله: إذا كان هناك حدّ مقدّر، فوجدنا أن النسبة تزيد على هذه الحد المقدر، فإنا لا نوجب هذه النسبة؛ لئلا نتجاوز هذا الحد المقدّر، فالجرح أقل من هذا الجرح، وفيه تقدير شرعي، فلا نوجب أكثر من هذا الذي حدده الشارع.
باب العاقلة وما تحمل
قوله [عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب]
فالعاقلة إذاً العصبة، وهي مشتقة من العقل، والعقْل – كما تقدم -: الدية، وسمي عقلا؛ لأن الإبل التي نؤديها إلى صاحبها تُعقل.
قوله: [والولاء قريبهم وبعيدهم، حاضرهم وغائبهم، حتى عمودي نسبه]
هؤلاء هم العصبة، فالعصبة: هم من لهم به صلة من جهة النسب أو من جهة الولاء. وأما ذوو الأرحام، كالخال، فإنهم ليسوا من العصبة؛ لأنهم لا يرثون، كما تقدم في الفرائض.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أن ذوي الأرحام يدخلون في العاقلة، يعني يعقلون، إن عدم أقرباؤه، فإن لم يكن له أقرباء ذوو نسب، فإن الدية تجب على ذوي أرحامه، كالإرث وكالنفقة، وتقدم أن النفقة على الراجح واجبة على ذوي الأرحام المحتاجين. وعلى ذلك فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، فنقول: إن عدمت عاقلته – يعني عصبته من النسب -، فإنا حينئذ نوجب الدية على ذوي رحمه، كما نوجب عليه أن ينفق عليهم بشرطه، كما تقدم في باب النفقات.
(27/28)
________________________________________
قال " حتى عمودي نسبه "، يدخل في العاقلة عمودا النسب، يعني الأصول والفروع، وهم الآباء والأبناء؛ لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة مَنْ كانوا، ولا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها " فهذا الحديث يدل على أن عمودي النسب يدخلون في العاقلة؛ لقوله " على عصبة القاتلة "، والآباء والأبناء من العصبة.
وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برّأ زوجها وولدها، فالحديث ضعيف.
والمشهور في المذهب: أن الدية تجب على العاقلة الأقرب فالأقرب، فأولاً نوجبها على الآباء، ثم على الأبناء ثم على الأخوة، وهكذا.
والراجح ما ذهب إليه الأحناف: وأنها تجب على الجميع – الأقارب والأباعد –؛ لعموم الحديث المتقدم " قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة " والأباعد عصبة، فإذا قتل رجل من العشيرة الفلانية، فإنا نوجب الدية على جميع العشيرة، فنقول: كم عدد الذكور البالغين الأغنياء في هذه العشيرة؟ قالوا: عددهم مئة، والدية قدرها مئة ألف، إذاً يجب على كل ذكر بالغ غني ألف.
وأما الحنابلة فيوجبونها على الأقرب فالأقرب، ولا شك أن هذا أشق على العاقلة، قالوا: قياسا على النكاح، فولاية النكاح تكون للأقرب فالأقرب.
والجواب: أن هناك فرق بين العاقلة هنا، وبين الولاية في النكاح، وذلك لأن الولاية في النكاح إذا كانت في الجميع فإن في ذلك ضرر على المرأة، وأما هنا فإنه حيث كانت العصبة كلها عاقلة – في ذلك – نفع وتخفيف وتيسير. وهذا هو القول الراجح.
قوله: [ولا عقْل على رقيق]
الرقيق على عقل عليه، فلا تجب إلا على الحر؛ لأن الرقيق لا مال له، فإن ماله لسيده.
قوله: [ولا غير مكلف]
(27/29)
________________________________________
غير المكلف حتى لو كان له مال، كالمجنون أو الصبي، فإنه لا عقل عليه؛ لأنه ليس من أهل النصرة، والعصبة هنا إنما أوجبنا عليها العقل للنصرة التي تكون بين من يجمعهم النسب أو من بينهم ولاء، وهذا الصبي أو المجنون ليس من أهل النصرة.
قوله [وفقير]
كذلك الفقير لا يجب عليه؛ لأن الفقير يحتاج إلى المواساة، فكيف يواسي غيره، مع كونه محتاجا إلى المواساة؟
قوله: [ولا أنثى]
لأن الأنثى ليست عصبة، فليست من أهل النصرة.
قوله [ولا مخالف لدين الجاني]
فلا نوجب على المخالفين لدينه، فإذا كان مسلما وله أخ ليس بمسلم، فلا نوجب على هذا الأخ الذي تحت سلطان المسلمين شيئا من العقل – الدية –؛ لأنه ليس من أهل النصرة، والولاية منتفية بين المسلمين وغيرهم.
قوله: [ولا تحمل العاقلة عمدا محضا]
فلو قتل أو قطع الطرف أو جرح عمدا، فإن العاقلة لا تتحمل ذلك، لكن إن كان خطأ أو شبه عمد، فإن العاقلة تتحمله كما تقدم، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه – كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح -: " لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما جَنى المملوك " يعني ما جَنى على المملوك كما قال أبو عبيد والأصمعي وغيرهما. فالعاقلة لا تتحمل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا جناية على مملوك.
فهنا لا تتحمل العاقلة عمدا محضا، بل الذي يتحمل ذلك هو الجاني نفسه.
قوله: [ولا عبدا]
لو جنى على عبد، فالعبد هنا كما تقدم في دروس سابقة يقاس على المال، فكما لو أن رجلا أحرق سيارة أو بيتا، فإنه هو الذي يتحمل، فكذلك إذا اعتدى على عبد، فلا تتحمل عاقلته، وإنما هو الذي يتحمل، حتى لو كان خطأ؛ للأثر المتقدم " ولا ما جنى المملوك " يعني وما جنى على المملوك.
قوله: [ولا صلحا]
أي صلحا عن إنكار.
(27/30)
________________________________________
رجل قيل له: إنك قد قتلت فلانا، قال: لم أقتله، قيل له: إذاً سنذهب إلى المحكمة ونرفع، قال: أنا لم أقتله، ولكن اطلبوا من المال ما شئتم لأني لا أريد أن يُذهب بي إلى المحاكم، قالوا: نريد مئة ألف ديته. فهل تتحمل العاقلة؟
الجواب: لا تتحمل العاقلة؛ لأن هذا صلح، وما دام أنه لم يثبت عليه شيء، فالواجب عليه أن يتحمل هو، لأنه هو الذي أراد أن يفدي نفسه عن اليمين أو الذهاب إلى المحاكم أو نحو ذلك، فعلى ذلك: هو الذي يتحمل ولا تتحمل العاقلة.
قوله: [ولا اعترافا لم تصدقه به]
لو أن رجلا قال: أقر أن قتلت فلانا خطأ، والعاقلة لم تُصدِّقه، فهل تتحمل العاقلة؟
الجواب: لا تتحمل، بل يتحمل هو؛ إذ لو فُتح الباب لأقر كذبا وتوصل إلى أخذ المال من العاقلة واقتسامه مع أولياء المقتول. وعلى ذلك فإنها لا تتحمل الاعتراف، لأن الأمر ليس بثابت عليه ببينة.
لكن إن صدّقوا وقالوا: نعم، فلان نعرفه بالصدق، وهو صادق فيما اعترف به، فهل يلزمهم؟
يلزمهم.
قوله: [ولا ما دون ثلث الدية التامة]
ما دون ثلث الدية التامة لا تتحمله العاقلة.
وما هي الدية التامة؟
هي دية المسلم الذكر، وهي مئة من الإبل.
فمثلا: الموضحة فيها خمسة أبعرة، فهل تتحملها العاقلة؟
لا تتحملها.
وكذلك الهاشمة أو المنقلة، فهذه كلها دون الثلث.
مثلا: في قطع اليد من المرأة خمس وعشرون من الإبل، وهذه أقل من الثلث التام، لأن الثلث التام أكثر من ثلاثين بعيرا، وكذلك لو أن المرأة فُقئت عينها، فإن في ذلك خمس وعشرون من الإبل، وهذه دون الثلث من الدية التامة.
استثنوا من ذلك دية الجنين، فالجنين إذا ضُربت أمه فأسقطت هذا الجنين، ففيه خمس من الإبل، قالوا: وتجب على العاقلة، وتركوا القاعدة للحديث المتقدم في قصة الهُذليتين لما اقتتلتا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة.
(27/31)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة، وهو ما ذهب إليه الشافعية، قالوا: إن العاقلة تتحمل ما كان أكثر من الثلث وما كان أقل من الثلث، ولو كان بعيرا، ما دام أن الجناية خطأ أو شبه عمد. وهذا القول أصح؛ ويدل عليه حديث الهذليتين، فإن دية الجنين خمس من الإبل، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجبه على العاقلة.
وإنما استدل أهل القول الأول بأن الأصل في الجناية أن تكون من ضمان الجاني، لكن الثلث كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الثلث والثلث كثير) ، فالثلث يُجحف بماله، فقالوا: ما كان ثلثا فأكثر فإنا نوجبه على العاقلة، وما كان دون الثلث فنوجبه على الجاني نفسه.
لكن الأصح هو القول الثاني؛ لما تقدم في قصة الهذليتين، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب الدية على العاقلة وهو خمس من الإبل، ولذا احتاج أهل القول إلى استثنائه، وقالوا: لأن الجنين تبع لأمه. لكن هذا لا يقوى على الاستثناء، فكونه تبع لأمه، هذا لا يقوى على الاستثناء، لأن الأم لها ديتها المستقلة، والجنين له ديته المستقلة. والله أعلم.
انتهى الدرس الرابع في ليلة الأربعاء السادس عشر من شعبان لعام 1420 للهجرة.
(27/32)
________________________________________
" كتاب الحدود "
الحد لغة: المنع
وشرعاً: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية، كحد الزنا لغير المحصن، مائة جلدة.
فهذه العقوبة وهي مائة جلدة، عقوبة مقدرة من الشارع فليست راجعة إلى اجتهاد الحاكم.
ويجب على الحاكم إقامة حد الله تعالى، ولا يحل له أن يتركه لشريف ولا لشفاعة إذا بلغ الحاكم.
فإذا بلغ الحاكم الحد فيجب عليه أن يقيمه والشفاعة حينئذ محرمة.
ففي الصحيحين: أن أسامة بن زيد شفع في مخزومية سرقت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فشفع أسامة بن زيد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مستنكراً: (أتشفع في حدٍ من حدود الله) .
وفي الخمسة بإسناد صحيح في قصة سرقة رداء صفوان، وفيه أن صفوان شفع لسارق ردائه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله تعالى في أمره) .
وفي أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) .
فالشفاعة محرمة إذا بلغت المعصية الحاكم، وأما قبل أن تصل إلى الحاكم فلا بأس بالشفاعة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني) .
قال: [لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل] .
فالحد لا يجب إلا على عاقل بالغ أي مكلف، وهذا بإتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين قال لماعز بن مالك: (أبك جنون) .
فالمجنون والصبي لا يقام عليهما الحد.
والمجنون لا يعزر، ولكن الصبي يُعزر بما يراه الحاكم بما يكون فيه ردعاً له عن التعدي.
قال: [ملتزم] .
فلا بد أن يكون من يقام عليه الحد ملتزماً، أي ملتزم بالشريعة الإسلامية وهو المسلم والذمي.
(28/1)
________________________________________
وأما المستأمن والحربي فإن الحد لا يقام عليهم لأنهم لا يلتزمون بأحكام المسلمين.
قال: [عالم بالتحريم] .
لقوله تعالى: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) .
وقال في الحديث - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى (قد فعلتُ) رواه مسلم فلابد أن يكون عالماً بالتحريم.
أما إن كان جاهلاً بالتحريم فلا يقام عليه الحد، وذلك حيث أمكن قبول دعواه كما لو كان ناشئاً في جهة من الجهات لا تنشر فيها أحكام الإسلام، كما يقع في بعض الأزمان في البوادي.
وإن كان في زمننا هذا، في هذه البلاد غير مقبول، لكن في بعض البلاد الأخرى يقبل هذا في بعض البوادي أو النواحي البعيدة عن سماع القرآن والأحاديث.
أو كان حديث عهد بإسلام.
أما الذي يعيش في بلاد المسلمين، فإنه لا يقبل منه ادعاء الجهل لأن الجهل بهذا الحكم غير مقبول لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة.
وكذلك إذا جهل الحال، فهو يعلم أن هذا محرم في الشريعة، لكنه يجهل أن هذه العين محرمة عليه.
كأن يعلم أن الزنا محرم لكنه يجهل أن هذه المرأة محرمة عليه كما تقدم في غير ما مسألة في كتاب النكاح.
أو كذلك في السرقة: أخذ من مال يظن أنه ماله، والمال في جرز وقد توفرت فيه الشروط التي تقطع اليد بتوفرها فإن اليد لا تقطع لأنه يجهل أن هذه العين محرمة.
إذن: لابد من العلم بالتحريم، ولابد من العلم بأن هذه العين محرمة عليه فإن علم التحريم لكنه جهل العقوبة، فإن ذلك ليس بعذر له ولا يقبل منه.
وذلك: لأنه قد انتهك حرمة من حرمات الله، والحكم معلق بذلك.
قال: [فيقيمه الإمام أو نائبه] .
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واغدُ يا أنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه.
فلا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وذلك، لأن إقامة غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد، فإنه يترتب عليها سفكاً للدماء باسم إقامة الحد، وقطعاً للأطراف باسم ذلك ولاشك أن في ذلك مفاسد كبيرة.
(28/2)
________________________________________
كما إن إثبات الحد يحتاج إلى اجتهاد، وأيضاً في تطبيقه يخشى الحيف.
والمراد بالإمام هنا، الإمام الأعظم.
" أو من ينيبه عندنا هنا الأمراء في البلاد، وكذلك وزارة الداخلية، فإنها تعتبر هي القائمة بهذا الباب".
وقال شيخ الإسلام بهذا القول لكنه ذكر أنه إذا كانت قرينة كتطلب الإمام لأحدٍ ليقتله فإنه يجوز قتله.
فمثلاً: إذا ثبت عند القاضي أن هذا حده القتل ورفعت القضية للإمام وصدق على ذلك، لكن هذا الرجل فرّ من حكم الله، فهنا القرينة طاهرة، في إرادة الإمام تطبيق حد الله تعالى عليه فحينئذ يجوز لمن رآه أن يقتله، وفي هذا القول قوة والله أعلم.
مسألة:
ويجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زنت أمة أحدكم فثبت زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فثبت زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) متفق عليه.
في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب: أنه قال في خطبته: " يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدود، فإن أمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنت". رواه أبو داود في سننه مرفوعاً، والصواب وقفه.
وبه استدل جمهور العلماء على أن السيد يقيم الحد على عبده لكنه عندهم غير القطع، فلو سرق فإنه لا يقطع يده وإنما يكون هذا بما دون القطع، كالجلد ونحوه.
وذهب الشافعية وهو وجه في مذهب أحمد إلى أنه يقيمه عليه وإن كان قطعاً.
وهو ظاهر أثر علي بن أبي طالب المتقدم، وهو صريح فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق أن عبداً سرق فقطع يده.
فالصحيح أن السيد يقيم على عبده سائر الحدود ولو كان في ذلك قطع الطرف.
وهل له أن يقيم الحد بمجرد علمه أم لابد وأن يثبت البينة؟
(28/3)
________________________________________
فإذا رأى السيد عبده وهو يزني أو يسرق فهل له أن يقيم عليه الحد أم ليس له ذلك حتى تقوم عنده البينة أو يقر هذا العبد.
قولان لأهل العلم، هما قولان في مذهب أحمد:-
القول الأول: وهو مذهب مالك، أنه لا يقيم عليه الحد بعلمه كالحاكم، بل لابّد من البينة أو الإقرار.
القول الثاني: وأنه يقيمه بمجرد علمه، وهذا هو الأظهر وأما القياس على الحاكم، فهو قياس مع الفارق.
والفارق بين الحاكم والسيد أن الحاكم إنما منع من إقامة الحد بعلمه فراراً من تهمة الحاكم.
وأما السيد فهو حريص على حفظ ماله والعبد مال له، فهو حريص عليه وعلى حفظه وألا يتطرق إليه ما ينقص ماليته، وهذا فرق ظاهر بينهما.
قال: [في غير مسجد] .
لما روى الترمذي والحاكم والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????نهى أن تقام الحدود في المساجد) .
قال: [ويضرب الرجل في الحد قائماً] .
وذلك ليعم الضرب بدنه، ولئلا يخص ذلك موضعاً منه فيضّر به.
وفي ذلك أثر عن علي بن أبي طالب في ضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة رواه البيهقي بإسناد ضعيف.
قال: [بسوط لا جديد ولا خلق] .
فيضرب بسوط لا جديد ولا خلق.
ليس بالجديد فيجرحه، ولا بالخلق فلا يؤثر به ولا يؤلمه فيكون وسطاً.
قال: [ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان] .
ولا يمد: أي لا يمد على الأرض.
ولا يربط: أي لا يقيد.
ولا يجرد من ثيابه وفي ذلك أثر عن ابن مسعود رواه البيهقي بإسناد ضعيف أنه قال: " ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد" لكن الأثر ضعيف، والمعنى صحيح ويدل عليه ما في الأحاديث من إقامة الحد من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه لم يجرد ولم يمد ولم يقيد، لكن القيد إن دعت الحاجة إليه فإنه يُفعل ولا بأس بذلك.
ويكون عليه قميص أو قميصان مما جرت العادة بلبسه مما يجعله يشعر بألم الضرب، وأما إذا كانت عليه ثياب كثيرة بحيث لا يبالي بالضرب فلا.
قال: [ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد] .
(28/4)
________________________________________
حتى قالوا: لا يرفع الضارب يده حتى يظهر بياض إبطه، لأن هذا ضرب شديد يؤلم ألماً شديداً فربما شق الجلد أو آذاه آذىً شديداً.
وليس المقصود هو الإتلاف وإنما المقصود هو التأديب والزجر.
قال: [ويفرق الضرب على بدنه] .
لئلا يضرّ به.
مسألة:
فإن كان من يُراد إقامة الحد عليه مريضاً، فله حالان:
الحالة الأولى: ألا يرجى زوال مرضه، فإنه يقام عليه الحد إقامة لا تضر به.
كأن يضرب بالنعال أو يضرب بطرف الثوب، أو بشماريخ العثكال أو نحو ذلك.
ويدل على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما: أن رويجلاً: أي ضعيف الزحولة "خبُثَ بأمة فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإقامة الحد عليه" فقيل هو ضعيف فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة.
والعثكال: هو مجمع الشماريخ في النخل.
وقد قال تعالى: ((فاتقوا الله ما استطعتم)) ومن ذلك إقامة الحد ومن الحديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) .
الحالة الثانية: أن يرجى زوال مرضه.
فالمشهور في المذهب: أنه كذلك فلا يؤخر عليه الحد بل يضرب وهو مريض على حالة لا يثبت معها الضر.
وقال الجمهور وهو احتمال في المذهب: أنه يتراخى حتى تزول مدة العلة وحتى يزول هذا العارض.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، ويدل عليه ما تقدم في أُر علي بن أبي طالب: فإنه لما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن يقيم الحد على الأمة وجدها حديثة عهد بنفاس فأخر إقامة الحد عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????أحسنت) .
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للزانية: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) ، وهذا يدل على تأخير إقامة الحد للعارض.
وبه يحصل مقصود الحد من الزجر والردع، أما ما استدل به الحنابلة من الحديث المتقدم فإن الرجل لا يرجى زوال مرضه بخلاف ما هو واقع في هذه المسألة.
مسألة:
إن كان الرجل في أرض العدو في الغزو، فهل يقام عليه الحد في أرض العدو أم لا؟
(28/5)
________________________________________
قولان لأهل العلم:-
أصحهما وهو المشهور في المذهب، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد ألا يقام عليه الحد.
وعليه دلت السنة وآثار الصحابة، فالسنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ((لا تقطع الأيدي في الغزو (وفي لفظ) ?في السفر)) المراد في سفر الغزو وذلك لئلا يترتب على إقامة الحد ما هو أعظم ضرراً كأن يلحق بالعدو فراراً يعني تأخذه العزة بالإثم.
وأيضاً ليكون أنكى في قتال العدو فإن إقامة الحد يضعفه.
وأما آثار الصحابة فهو قول عمر وأبي الدرداء وحذيفة ولا يعلم لهم مخالف.
فإذا رجع أقيم عليه الحد، للأدلة في ذلك، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق وإنما أخر للمعنى المتقدم.
واختار ابن القيم أنه إن ظهرت منه التوبة النصوح أو ظهرت منه حسنات كنكاية عظيمة في العدو فإنه يعفى ويدل على ذلك: ما كان من سعد بن أبي وقاص مع أبي محجن وهي قصة صحيحة رواها عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي سعد وسعيد بن منصور، وغيرهم، وقد صحح إسنادها الحافظ ابن حجر والقصة أنه شرب الخمر وكان له بعد ذلك نكاية بالعدو فحلف سعد بن أبي وقاص ألا يجلده البتة لما كان له من النكاية بالعدو.
فهذا أثر صاحب لا يعلم له في هذه المسألة مخالف أي مع هذه القيود المتقدمة.
قال: [ويتقي الرأس والوجه والفرج والمقاتل] .
وهذا ظاهر لأن المقصود هو التأديب وليس هو الإتلاف.
قال: [والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة] .
فتضرب جالسة لان ذلك أستر لها، وتقدم أثر علي وأن إسناده ضعيف لكن المعنى يدل على ذلك.
قال: [وتشد عليها ثيابها] .
فهذا أستر لها.
قال: [وأشد الجلد جلد الزنا ثم القذف ثم الشرب ثم التعزير] .
فأشد الجلد جلد الزنا، فهو أشد من جلد القاذف وجلد القاذف أشد من جلد الشارب وجلد الشارب أشد من الجلد في التعزير.
قالوا لقوله تعالى في الزنا: ((ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)) فلما ذكر ذلك بخصوص الزنا دل على أن الجلد فيه أشد.
(28/6)
________________________________________
والقذف ثمانون جلدة وهو أشد من شرب الخمر " وهو مشكل على المذهب لكن على الراجح هو أن الحد أربعون وما زاد فهو تعزير واختاره شيخ الإسلام، لا إشكال في ذلك.
قال: [ولو مات في حد فالحق قتله] .
فإذا جلد الحاكم زانياً غير محصن فإن جلده فمات بذلك مائة لا شيء عليه.
وذلك لأن فعله مأذون فيه بالشرع وما كان مأذوناً فهو غير مضمون.
لكن لو تعدى ولو زيادة جلدة واحدة أو ضربه ضرباً يحصل فيه أذى شديد فتجب ديته.
قال: [ولا يحفر للمرجوم في الزنا] .
سواء كان ذكراً أو أنثى.
قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يحفر لماعز ولا لليهوديين اللذين زنيا.
وقال بعض الحنابلة بل يحفر للمرأة سواء كان زناها ثابتاً ببينة أو بإقرار.
واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أمر بها فحفر لها إلى?صدرها) .
وذلك أستر لها.
والذي يترجح هو هذا القول، لكنا لا نقول بوجوبه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حدّ ولم يفعله كما في قصة اليهوديين.
مسألة:
???وهي هل يقام الحد من قتل أو قطع على من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى حرم الله (أي الحرم المكي) ؟
أما من فعل المعصية في الحرم كأن?يسرق أو يقتل فإنه يقام عليه الحد بلا خلاف.
لكن الخلاف فيمن سرق أو قتل ثم لجأ إلى الحرم المكي؟
فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد وهذا اختيار ابن القيم أنه لا يقام عليه الحد في الحرم لكن: يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يؤوى ولا يبايع ولا يشارى بمعنى: إن استأجر لم يؤجر وإن طلب ماءً لا يسقى ولا يجالس ويناشد الله عز وجل أن يخرج من الحرم إلى الحل ليقام عليه حد الله تعالى.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات النصوص التي تدل على إقامة الحد، كقوله تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) .
(28/7)
________________________________________
وقوله: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) .
وغير ذلك من الآيات العامة فإنها عامة في الحل والحرم.
وأما أهل القول الأول:
فاستدلوا بقوله تعالى: ((ومن دخله كان آمناً)) .
وبما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) .
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: ويدل عليه أثران عن الصحابة ولا نعلم لهم مخالف فيكون في ذلك تخصيص للعموم كما يقوي تخصيص العموم ما تقدم من قوله تعالى: ((?ومن دخله كان آمنا)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -????فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً) .
والأثران:
الأول: عند ابن جرير وهو أثر حسن عن ابن عمر قال: " لو رأيت قاتل عمر في الحرم ما ندهته" أي ما زجرته.
والثاني: رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فلا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ويناشد أن يخرج فإذا خرج أقيم عليه الحد".
وهذان الأثران لا يعلم لهما عن الصحابة مخالف.
بل قال ابن القيم: إن هذا القول هو قول جمهور التابعين وإنه لا يحفظ عن صحابي ولا عن تابعي خلاف هذا القول.
فإن قيل: قد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؟
الجواب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال ?كما في صحيح مسلم وغيره ?وإنما أُحلت لي ساعة من نهار"، فمكة قد أحلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -?ساعة من نهار ومن ذلك أنه قتل فيها ابن خطل.
فإن قيل: فما الفرق بين من فعل ذلك في الحرم ومن فعله في الحل ثم لجأ إلى الحرم؟
??والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر ويمكن أن يكون من وجهين.
الوجه الأول: أن يقال: إن من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى الحرم هارباً مستعيذاً فهو معظم للحرم.
وأما من فعل ذلك في الحرم فهو مستهين به.
(28/8)
________________________________________
الوجه الثاني: أن في عدم إقامة الحد في?أهل الحرم فوضى وفساداً كبيراً ولا شك أن مثل هذا الفساد العظيم يجب درؤه.
" باب حد الزنا"
الزنا: فيه لغتان: المد "الزنا"، والقصر "الزنا"، وهو فعل الفاحشة في قبل أو دبر.
ويدخل في ذلك اللواط وإتيان البهيمة، ويأتي الكلام على هذا وما فيه من النظر من إدخاله?في حكم الزنا.
قال: [إذا زنى المحصن رجم حتى يموت] .
????فإذا زنى المحصن -ويأتي تعريفه - رجم حتى يموت لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) .
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) .
وثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: ((إن الله قد بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم -?بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الجبل أو الاعتراف) ، والحبل هو الحمل فهذا الأثر المتفق عليه الذي نطق به عمر على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بالمدينة لا يعلم أن أحداً أنكر عليه ذلك.
وفيه أن الرجم دلت عليه آية من كتاب الله لكنها نسخ لفظها وأما حكمها فهو باق.
وحكم الرجم ثابت بإجماع العلماء، ولا يعلم أن أحداً من العلماء خالف في ذلك، إلا أهل البدع كالخوارج.
والمستحب في الرجم أن يصفوا صفاً، كصف الصلاة أي لا يحيطون بالمرجوم بل يكونون كصف الصلاة لئلا يصيب بعضهم بعضاً.
??فإذا كان الزنا ثابتاً بالاعتراف أو الحبل فأول من يرجم الإمام أو نائبه ثم الناس.
(28/9)
________________________________________
وأما إذا ثبت بالشهود فأول من يرجم هم الشهود أنفسهم ثم الناس، صح بذلك الأثر عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبه.
ولم يذكر المؤلف هنا الجلد مع الرجم وهذا هو مذهب الجمهور وأن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد.
أنه يجمع له بين الجلد والرجم.
أما أهل القول الأول:
فاستدلوا:?بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?رجم اليهوديين كما في الصحيحين ورجم ماعزاً، كما الصحيحين أيضاً، ورجم الجهنية كما مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم -????واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فرجمها) ، فهذه الأحاديث كلها ليس فيها الجلد.
وقد صح عن عمر بن الخطاب، كما في مصنف ابن أبي شيبه أنه رجم رجلاً ولم يجلده.
?وأما أهل القول الثاني:
فاستدلوا: بحديث عبادة المتقدم وفيه: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وصحّ هذا من فعل علي بن أبي طالب كما في مسند أحمد، أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -??
والصحيح هو القول الأول: لأن ذلك هو آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?
لأن حديث عبادة "خذوا عني خذوا عني) الحديث، ظاهر في أنه أول حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد الحكم السابق، فقد قال تعالى: ((واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.. إلى قوله: أو?يجعل الله لهن سبيلاً)) ، فهذا هو أول حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد فسخ الحكم الأول، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يجلد.
وهذا يدل عليه النظر أيضاً، فإن القتل يأتي على ما دونه من ذلك ثم إن ترك عقوبة خطأ أولى من فعلها خطأً، فكوننا نترك عقابه على وجه الخطأ فنكون معذورين في ذلك، أولى من أن نقيم عليه هذه العقوبة ونكون مخطئين في ذلك.
(28/10)
________________________________________
قال: [والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران] .
هذا هو المحصن.
"من وطئ" أي في قُبُل، وأما إذا كان في دبر أو مباشرةً فلا يقام عليه الرجم.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????الثيب بالثيب) ولا يثوبه إلا بعد وطئ في فرج وهذا باتفاق العلماء.
?امرأته" لا سريّته، فإذا وطئ أمته فهذا ليس بمصحن وهذا باتفاق العلماء.
والفارق ظاهر بين الزوجة والسريّة من حيث الإحصان.
"المسلمة أو الذمية": سواء كانت امرأته مسلمة أو ذمية وقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم -?حد الرجم على اليهوديين.
??وفي نكاح صحيح": تقدم تعريف النكاح الصحيح.
فإذا كان نكاحاً باطلاً، "كنكاح المعتدة" أو فاسداً كنكاح بلا ولي لمن يعتقد فساده فإنه لا يثبت به الإحصان وهما بالغان عاقلان حران فهذه شروط الإحصان.
الشرط الأول: أن يطأها في قُبُلها.
الشرط الثاني: أن تكون امرأة له.
الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.
الشرط الرابع: أن يكونا بالغين.
الشرط الخامس: أن يكونا عاقلين.
الشرط السادس: أن يكونا حرين.
الشرط السابع: ذكره بقوله: ??فإن اختلّ شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما] .
فهذا هو الشرط السابع وهو أن يكون الزوجان كذلك، فإذا كانت امرأته صبية أو غير عاقلة، أو أمةً فلا يقام عليه الحد وإن كان هو حراً، هذا هو مذهب جمهور العلماء.
وقال الشافعي في أحد قوليه: بل النظر إليه هو، فإن كان هو حراً بالغاً عاقلاً فإن الحد يقام عليه.
والأولى أصح وذلك لأن الإجماع قائم على أن من?كانت تحته سرّية فإن الحد لا يقام عليه وذلك لعدم كمال الوطء فكذلك إذا كانت صبية أو مجنونة، فكذلك لعدم كمال الوطء.
قال: [وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً ولو امرأة] .
فإذا زنى الحر غير المحصن فإنه يجلد مائة جلدة، لقوله تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)) .
(28/11)
________________________________________
وفي مسلم من حديث عبادة وفيه: (والبكر بالبكر خلد مائة ونفي سنة) .
وقال في الصحيحين في قصة العسيف: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: " لأقضين بينكما بكتاب الله" ومع ذلك فإنه لم يقض بالجلد في الثيب?بل قضى بالرجم وهذا راجع إلى المسألة السابقة وهي هل يجمع مع الرجم الجلد"
إذن يجلد مائة ويغرب عاماً.
وفي الترمذي عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????جلد وغرّب وأن أبا بكر جلد وغرّب وأن عمر جلد وغرّب) والحديث صحيح كما في الترمذي.
فيغرب عاماً أي سنة هجرية، لأن الحساب في الإسلام يكون بالسنة الهلالية لقوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس)) .
ويغرب عاماً عن بلده مسافة قصر، وذلك لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
والغريب إن زنى يغرب إلى بلد أخرى سوى بلده التي أتى منها لمعنى العقوبة.
"ولو امرأة": فالمرأة تغرب لعموم الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) وهذا عام في الذكر والأنثى.
لكن المرأة في المشهور في المذهب، يجب أن يكون معها محرم لها قالوا: وعليها أجرته، فإن تعذرت عليها الأجرة فمن بيت المال.
وذكر الموفق احتمالاً أنه ليس عليها الأجرة كما أنه ليس عليها أجرة الجالد وغير ذلك، لأن هذه إقامة حد والواجب عليها أن تستسلم لحكم الله تعالى في إقامة الحد عليها وليس عليها أجرة ذلك، وهذا أظهر وأنه لا يجب عليها أن تدفع أجرة لمحرمها.
فإن تعذر المحرم، إما لأنه لا محرم لها أو لأن المحرم اعتذر عن ذلك.
فإنها تغرب في المذهب ولو وحدها، وهذا ضعيف.
ولذا: فإن القول الثاني في المسألة: وهو اختيار الموفق وابن القيم أنها لا تغرب إلا بمحرم وذلك لما يترتب على ذلك من الفتنة وتعرضها للفساد فكونها تغرب هذا يسهل عليها العودة إلى الفاحشة.
فإن قيل بالحبس حينئذ مع الأمن ففيه قوة والله أعلم (وينظر) .
(28/12)
________________________________________
قال: [والرقيق خمسين جلدة] .
????لقوله تعالى: ((فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) .
وهذا في الإماء ويقاس عليهن العبيد.
ولا رم على الرقيق، وذلك لأن الرجم لا يتنصّف فلا يقام حد الرجم على غير الحر بل يقام عليهم الجلد فيجلد خمسين جلدة سواء كان عبداً أو أمةً.
قال: [ولا يغربّ] .
???لما في ذلك من الإضرار بالسيد، فلا تغريب في العبد ولا الإماء، لما في ذلك من الضرر بالسيد فإن في ذلك تفويتاً لمصلحة السيد فيه.
قال رحمه الله: [وحد لوطي كزان] .
??اللوطي: هو من أتى?رجلاً في دبره أو امرأةً أجنبيةً عنه في دبرها.
فحد اللوطي كحد الزاني، فإن كان محصناً رجم حتى يموت، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة.
هذا هو المشهور في مذهب أحمد.
واستدلوا: بما روى البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) .
لكن الحديث ضعيف فهو من حديث بشر بن المفضّل البجلي وهو مجهول.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية وروايته عن الإمام أحمد.
أن من فعل مثل فعل قوم لوط فإنه يقتل مطلقاً لا ينظر هل محصن أم ليس بمحصن.
واستدلوا بالسنة والإجماع.
أما السنة: فما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال من حديث ابن عباس: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة) .
والحديث في شقه الأول حديث صحيح، وله شواهد وأما الإجماع: فقالوا: هو إجماع الصحابة رضي الله?عنهم، فقد أجمع الصحابة على ذلك لكنهم اختلفوا في كيفية القتل فمنهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرجم ومنهم من قال: يقتل بالسيف.
وقد حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ورواه الآجري في تحريم اللواط، وغيره.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
(28/13)
________________________________________
فالصحيح أنه يقتل مطلقاً وهل يحرف أم يرجم أم يقتل بالسيف؟
أقوى هذه الأقوال الثلاثة، فيما يظهر لي أنه يرجم.
وقد صح ذلك عن ابن عباس، أنه قال في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم.
وتشهد له قوله سبحانه: ((وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل)) سورة الحجر.
على أنه يقوى أن يقال: إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام فيفعل ما يرى أنه أردع سواء قتلاً بالسيف أو رجماً أو إحراقاً وإن كان أقواها، فيما يظهر هو قول ابن عباس ويشهد له القرآن.
مسألة:
???من أتى بهيمة فما حكمه؟
جمهور العلماء على أنه يعزر ولا يقتل.
وقال القاضي من الحنابلة: أن حده كحد اللوطي والصحيح هو الأول.
وأما الحديث المتقدم في شقه الثاني فهو حديث منكر كما قال ذلك الإمام أحمد وقال ذلك أبو داود والترمذي والطحاوي وغيرهم.
وقد قال البخاري في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وهذا منه، قال: "له مناكير عنه" وسبب الإنكار أنه ثبت عند أبي داود بإسناد جيد أنه سئل عن ذلك فقال "لا حد عليه".
قال: [ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط] .
أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها.
فهي ما يبرز بعد الختان من الحشفة.
الأصلية: فليست من خنثى مشكل.
??في قبل أو دبر أصليين من آدمي حي حراماً محضاً] .
???لا شبهة فيه.
وكذلك أن يكون ذلك في حية لا في ميته، في المشهور في المذهب.
قالوا: لأن الميتة لا تشتهي وتتغير منها الطباع فلا يحتاج إلى الزجر عنها بحد الزنا.
فمن أتى ميتته في فرجها فإنه لا يجلد ولا يرجم بل فيه التعزير.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب وهو مذهب الأوزاعي أنه يرجم إن كان محصناً، وإن لم يكن محصناً فإنه يجلد وذلك لأنه فرج آدمية.
?وكونه لا يشتهي أو تنفر الطباع منه هذا ليس مؤثر بدليل أن اللوطي يقتل وإن كان ذلك مما تنفر عنه الطباع السليمة فهو شذوذ ولا شك، ومع ذلك فإنه أقبح?من الزنا وعقوبته أشد.
?فما ذهب إليه الحنابلة في أحد القولين وهو قول الأوزاعي أقوى والله أعلم.
(28/14)
________________________________________
قال: [الثاني: انتفاء الشبهة، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك] .
???فلو أن رجلاً يشترك وآخر في أمةً فليس لأحدهما أن يطأها لكن إن وطئها فلا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
قال: [أو لولده] .
???فإذا وطئ أمةً لولده فإنه لا يقام عليه الحد لوجود شبهة الملك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك) .
ولم يقل "لوالده" لأنه لا شبهة حينئذ، ولم يقل، لزوجته لأنه لا شبهة حينئذ.
والذي يدل على انتفاء الحد بالشبهة إجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات كما حكى ذلك ابن المنذر وأما ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إدرؤا الجلد والقتل من المسلمين بالشبهات) فالحديث ضعيف جداً فيه يزيد بن زيادة الدمشقي وهو متروك الحديث.
وعن علي في البيهقي بإسناد ضعيف: " ادرؤا الحدود بالشبهات" لكن صح ذلك عن ابن مسعود أنه قال: " ادرؤا الجلد والقتل من المسلمين ما استطعتم " رواه البيهقي بإسناد صحيح وقد أجمع أهل العلم على هذا.
لكن الاحتمالات البعيدة جداً غير معتبرة، بل المعتبر أن يكون هناك احتمال قوي يقوي أن يكون شبهة فيمنع الحد الثابت.
قال: [أو وطئ امرأة ظنها زوجته] .
???فقد ينادي الأعمى امرأته فتأتيه أخرى فيطؤها وتكون الأخرى متعمدة، وحينئذ يقام عليها الحد وأما هو فلا يقام عليه الحد لأنه ظنها زوجته فهو لا يظنها أجنبية وحينئذ لا يكون فاعلاً أمراً حراماً
قال: [أو سريته] .
إذا وطئ امرأة يظنها سريته، وليست كذلك فلا يقام عليه الحد.
قال: [أو في نكاح باطل اعتقد صحته] .
??كأن يطئ معتدةً فهذا نكاح باطل باتفاق العلماء لكنه اعتقد صحته أي جاهلاً، وأمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
أما إذا كان لا يعتقد صحته فإنه يقام عليه الحد لعدم الشبهة.
قال: [أو نكاح ... مختلف فيه] .
???النكاح المختلف فيه: كالنكاح بلا ولي.
(28/15)
________________________________________
فإذا نكح امرأة بلا ولي فهل يقام عليه الحد؟ فالمشهور في المذهب أنه لا يقام عليه الحد وإن اعتقد بطلانه وذلك لوجود الشبهة، لذلك أطلق هنا وقيد في المسألة السابقة (أو نكاح باطل اعتقد صحته)
وعن الإمام أحمد: أنه يقام عليه الحد وهو الصحيح، وذلك لأنه لا شبهة له في ذلك.
وهذا نكاح باطل في الحقيقة، وكونه يكون مختلفاً منه هذا ليس بمؤثر في حقيقة الأمر، فحقيقته أنه نكاح باطل وإنما سمي فاسداً لاختلاف أهل العلم فيه.
إذن: من نكح نكاحاً فاسداً، وهو يعلم فساده، فالصحيح أنه يحد وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: [أو ملك مختلف فيه] .
???بيع الفضولي مختلف فيه، فإذا اشترى له أمةً على بيع الفضولي فنكحها فإنه لا يقام عليه الحد ولو كان ذلك قيل الإجازة وذلك لأن بيع الفضولي مختلف فيه، فلا يقام عليه الحد للشبهة.
وهذه كالمسألة السابقة.
فإن كان يعتقد بطلان هذا البيع وإنه لا يصح فالصحيح أنه يقام عليه الحد لأنه لا شبهة له.
قال: [أو أكرهت المرأة على الزنا] .
???فإذا أكرهت المرأة على الزنا فلا يقام عليها الحد باتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -????إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ?والنسيان وما استكرهوا عليه) .
?وقال هنا: " المرأة" وليخرج من ذلك الرجل، فإن الرجل لو أكره على الزنا فإنه يقام عليه الحد في المذهب.
قالوا: لأنه لا يمكن أن ينتشر ذكره وهو مكره، بل لا يمكن أن ينتشر إلا أنه مختار.
لكن هذا ضعيف، لأنه قد يكون مكرهاً، ومع ذلك ينتشر ذكره إما لقوة شهوة، أو غير ذلك ولا دخل لهذا بهذا.
لذا فالصحيح، وهو مذهب الشافعية، أن الرجل إذا أكره على الزنا فلا يقام علي الحد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي.
مسألة:
إذا زنى بذات محرم، كأن يزني بأمه أو بأخته أو غيرهما من محارمه فما الحكم؟
الجمهور: على أنه يرجم إن كان محصناً، ويجلد إن لم يكن محصناً أي كغيره.
واستدلوا: بالعمومات.
(28/16)
________________________________________
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يقتل مطلقاً.
واستدلوا:
بما ثبت في سنن الترمذي والنسائي عن البراء بن عازب قال: "لقيني عمي ومعه راية فسألته فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله".
وله شاهد من حديث معاوية بن قرة في سنن ابن ماجه والحديثان صحيحان.
وعلى ذلك فالراجح هو القول الثاني.
ولا شك أن الفارق ظاهر بين الزنا بغير ذات المحرم وبذات المحرم، فإن ذات المحرم تعافها النفوس ولا يشتهيها الطباع فهي أشبه ما تكون بوطء الدبر الذي تقدم أن الراجح قتل فاعله.
ثم إن الواجب عليه صانة ذات محرمه وحفظها وهذا قد قام بخلاف ذلك.
قال رحمه الله: [الثالث: ثبوت الزنا] .
??هذا هو الشرط الثالث?من شروط إقامة حد الزنا.
قال: [ولا يثبت إلا بأحد أمرين:- أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس]
أي يقر بالزنا فيقول: "زنيت" فيقول ذلك أربع مرات سواء كان ذلك في مجلس واحد للقاضي، أو بقول هذا في مجالس بمعنى يقولها مرة في اليوم الأول ومرة في اليوم الثاني ثم في اليوم الثالث ثم في اليوم الرابع.
فلابد لإقامة الحد عليه من أن يقر على نفسه أربع مرات.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين في قصة ماعز، من حديث أبي هريرة وفيه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقال: "أبك جنون؟ " قال: لا، قال: فهل أحصنت؟، قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه" فقد توقف في الحد حتى تمت هذه الشهادات الأربع.
وقال المالكية والشافعية: بل بمجرد إقراره ولو مرةً واحدة يقام عليه الحد.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????واغدُ يا أنسُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) .
قالوا: فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -?
الراجح هو القول الأول.
(28/17)
________________________________________
والجواب عما استدل به أهل القول الثاني: أن يقال: هذا الحديث مطلق، والحديث الأول مقيد.
قال: [ويصرح بذكر حقيقة الوطء] .
??فيصرح بذكر حقيقة الجماع، بأن يصرح أنه قد وطئ المرأة وأدخل ذكره في فرجها صراحة.
ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -?لماعز في صحيح البخاري: (لعلك قبّلت وغمزت، ونظرت) فقال لا حتى ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?الجماع لا يكنى)
قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد] .
??فإذا قال: رجعت قبل أن يقام عليه الحد فإنه يقبل رجوعه أوقال ذلك أثناء إقامة الحد فإنه يقبل رجوعه ما لم يتم عليه الحد، أي ما لم يرجم فيموت.
دليل ذلك.
ما ثبت في سنن أبي داود وغيره في قصة ماعز وأنه جزع لما وجد مسّ الحجارة فهرب فقتلوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه) .
وهذا إنما هو في الإقرار أي عندما يقر على نفسه وأما?إذا ثبت الزنا عليه بالبينة فإنه لا يقبل رجوعه.
قال: [الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحدٍ بزنا واحد يصفونه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه، سواء أتوا الحاكم جملةً أو متفرقين] .
?هذا هو الطريق الثاني لثبوت الزنا.
أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد يصفونه أربعة:?بمعنى أنهم يخبروا أنهم رأوا الذكر في الفرج كالمرود في المكحلة وكالرشا في البئر أي صريح الجماع.
??ممن تقبل شهادتهم فيه) : وهم الرجال الأحرار البالغون ما لم يكن بينهم مانع، فمن ذلك العمي والزوجية.
أما العمى فظاهر أنه مانع لأن ذلك يحتاج إلى البصر.
وأما الزوجية فلأن الزوج إذا شهد على امرأته بذلك وكان من جملة الشهود فهذا إقرار منه بعداوته لها قالوا: فلا تقبل شهادته.
?ويدل على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله إن وجدت على امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء".
فلم يقل: " أأمهله حتى آتي بثلاثة شهداء" فهو ليس بشاهد ولا يصح أن يكون شاهداً.
(28/18)
________________________________________
إذن: الزوج لا تقبل شهادته على امرأته بذلك.
وكذلك: إذا كان في شهادتهم ما يدل على كذبهم فإن شهادتهم لا تقبل.
وكان في شهادتهم ما يدل على أنه ليس بزنا واحد بل زنا متعددة.
كأن يشهد اثنان على أنه زنا بهذه المرأة في مكانه ويشهد الآخران أنه زنا بها بمكان آخر.
أو يشهد اثنان أنه في الصباح قد زنا بها، ويشهد الآخران أنه زنا بها في المساء فهنا الزنا مختلف.
(في مجلس واحد) : فلابد أن يكون المجلس واحداً أي مجلس الحاكم بمعنى: أتى الشهداء فقالوا: إن فلاناً قد وطئ فلانة ويصفوا ذلك في مجلس القاضي وهم أربعة وتوفرت فيهم الشروط حينئذ تقبل شهادتهم.
أما لو كانوا في أكثر من مجلس كأن يأتي اثنان في مجلس في الضحى ويأتي اثنان في مجلسه في المساء.
أو يأتي ثلاثة في مجلسه اليوم ويأتي واحد في مجلسه من الغد فلا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف.
ودليل ذلك: "ما ثبت في البيهقي: أن عمر حدّ أبا بكرة ونافعاً وشبل من معبد لما شهدوا على المغيرة بالزنا".
ولم يتربص بهم حتى يأتوا بشاهد رابع، هذا من الأثر.
وأما من النظر فهو أن أهل العلم قد أجمعوا على أن الثلاثة إذا شهدوا فحدوا حد القذف ثم أتى شاهد رابع بعد ذلك فلا تقبل شهادته.
فكذلك إذا شهد ثلاثة ثم شهد آخر في مجلس آخر وإن لم يُحد هؤلاء فالحكم واحد.
وقال الشافعية: بل لا يشترط أن يكون في مجلس واحد واستدلوا: بقوله تعالى: ((فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء)) .
قالوا: وهذا مطلق سواء كان في مجلس أو مجلسين أو أكثر والجواب عن الاستدلال بهذه الآية: أن يقال وهذه الآية مطلقة وقيدها فعل عمر رضي الله عنه.
والصحابي قوله يقيّد إطلاق النصوص كما هو مرجّح في علم الأصول.
ثم يقال: ما هو مدى الانتظار؟
هل ننتظر إبداً فحينئذ يفوت علينا إقامة حد القذف وإذا كان له أمد، فما هو الأمد؟، وأصح ما يكون الأمد هو المجلس نفسه.
ولا شك أن الشارع قد اعتبر المجلس كما اعتبره في خيار البيع.
(28/19)
________________________________________
فالصحيح أن لابّد أن تكون شهادتهم في مجلس واحد.
والمراد بالمجلس الواحد أي مجلس القاضي، سواء كان إتيانهم جملة أو متفرقين.
فمثلاً: القاضي يجلس من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية عشر فأتى بعضهم في أول النهار وبعضهم في آخر المجلس أي قبل الساعة الثانية عشرة، فالمجلس واحد ولذا قال: ??سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين) ?
قال: [وإذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك] .
??إذا حملت امرأة ولا زوج لها ولا سيد يطؤها فإنها لا تحد بمجرد ذلك.
قالوا: لإحتمال للشبهة فيحتمل أنها مكرهه أو أنها وطئت وهي نائمة أو نحو ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن الحد يقام.
واستدلوا: بما تقدم من قول عمر، الذي قاله في محضر من الصحابة ومنه: "أو كان الحبل أو الاعتراف" والَحبَل هو الحمل.
فهذا قول صاحب قاله بمحضر من الصحابة ولا يعلم له مخالف.
ثم إن هذه الإمارة وهي ظهور الحمل فيها أظهر من كونه يأتي بأربعة شهداء فيشهدون عليها بالزنا.
وهذا القول هو الراجح.
فأما قولهم: إن ذلك شبهة.
فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات البعيدة وإلا لم يقم حد والأصل هنا عدم ذلك.
لكن: لو ادعت أنها قد أكرهت وكانت القرينة ظاهرة في ذلك، كأن تكون مصابة بحراجات ونحو ذلك بما يدل على أنها قد اغتصبت ثم يكون فيها حمل وتدعي أنها قد اغتصبت بدليل هذه الجراحات فحينئذ يقبل قولها أو أقامت بينه على ذلك.
مسألة:
???إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وتوفرت الشروط فيهم لكن شهدت القابلات من النساء الثقات أن المرأة بكر، فما الحكم؟
الجواب: أن المرأة لا تحد، لأن بكارتها التي تثبت بهذه البينة تمنع من الزنا.
ولا يقام?حد القذف على الشهود لأن الشروط متوفرة فيهم ولا يجزم بكذبهم.
" باب حد القذف "
(28/20)
________________________________________
القذف: هو الرمي بما يوجب الحد من زنا أو لواط أما لو رماه بما لا يوجب الحد كأن يرميه بقبلة امرأة أو مباشرتها أو نحو ذلك فليس قذفاً ولا يوجب حد القذف بل يوجب التعزير.
قال: [إذا قذف المكلف] .
تقدم اشتراط التكليف في مسائل الحدود فلو قذف الصبي أو المجنون فلا يحد كذلك لابد أن يكون مختاراً، أما لو كان مكرهاً على القذف فلا يحد أيضاً.
قال: [محصناً] .
?فإذا قذف المكلف، ولو كان ذلك بإشارة تدل على القذف كما يقع من أخرس أو نحوه.
(محصناً) :- ولو كان هذا المحصن مجبوباً أو كانت المرأة رتقاء فالحكم واحد.
فإن قيل: كيف يقع ذلك وهي رتقاء أو وهو مجبوب؟
فالجواب:
نعم، الزنا غير صحيح، لكن ما يدري الناس أن المرأة رتقاء أو أن الرجل محبوب، وحينئذ يلحقه العار بذلك.
قال: [جلد ثمانين جلدة، إن كان حراً] .
لقول تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) .
قال: [وإن كان عبداً أربعين] .
????ودليلة ما روى ابن أبي شيبه وعبد الرزاق في مصنعيهما عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: " لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومن بعدهم وكانوا لا يجلدون المملوك للقذف إلا أربعين".
قال: [والمعتق بعضه بحسابه] .
???فإذا بعضه حر وبعضه عبد، فإنه يجلد بحسابه، فإذا كان مثلاً نصفة حراً نصفة عبداً، فإنه يجلد ستين جلدة.
قال: [وقذف غير المحصن يوجب التعزير] .
????فقد كان يقذف ذمياً أو مستأمناً بالزنا، أو أن يقذف مجنوناً أو غير ذلك، فإنه يجب التعزير لأنها منقصة.
قال: [وهو حق للمقذوف] .
????هذا هو مذهب الجمهور قالوا: هو حق للمقذوف، ولذا يسقط بعقوه، ولا يستوف بدون طلبه.
لذا قال بعد ذلك في آخر الباب: " ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفي بدون الطلب".
فهذا مرتب على أنه حق للآدمي وهو المقذوف.
(28/21)
________________________________________
* واستدلوا: بالقياس على الجناية على النفس، قالوا: هو أي القذف - جناية على العرض فأشبه الجناية على النفس.
* والجناية على النفس حق للآدمي يسقط بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب وهنا كذلك فالقذف جناية على الآدمي في عرضه.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد هو حق لله تعالى وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن والسنة.
* ودليل ذلك: أن الله تعالى قال: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)) .
ولم يشترط الله تعالى رضا المقذوف ولا?طلبه.
????وأما السنة فما روى أحمد والأربعة والحديث حسن عن عائشة قالت: ((لما نزل عذري صعد النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر رجلين وامرأة فضربوا الحد)) .
وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوقف الحد على طلب عائشة ولا على رضاها.
وأما من النظر، فهو أن يقال ويصح أن يكون رداً على دليل أهل القول الأول، وهو أن يقال: إن الحد ثمانين جلدة وهو غير مماثل للجاني، فإن الجناية اعتداء باللسان على العرض وأما الحد فإنه جلد أي اعتداء على البدن بالضرب فلم يكن هناك مماثلة ففارق هذا عقوبة القاتل، فإن القاتل يقتل حيث قتل، والقاطع يقطع حيث قطع، والجارح يجرح حيث جرح، وأما هنا فإنه قد اعتدى على العرض وضرب ثمانين جلدة، فلم يكن هناك مماثلة بين الحد، وهي الجلد هنا، وبين الجناية بخلاف الجناية على النفس.
وهذا يصح أن يكون رداً على القياس المتقدم، فيقال هذا قياس مع الفارق.
لأن الجناية على النفس عقوبتها أن يقتل النفس، وإن كان قطعاً أن يقطع الطرف، وإن كان جرحاً أن يجرح البدن.
وأما هنا فلا مماثلة، فإنه اعتدى بلسانه على عرض أخيه فضرب ثمانين جلدة.
فالصحيح ما ذهب إليه أهل القول الثاني:
(28/22)
________________________________________
وعليه: فلا يحتاج إلى طلب من المقذوف ولا يكون العفو إلا قبل?أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فللمقذوف ألا يرفع ذلك إلى الحاكم، وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فإنه يقام عليه الحد ولا ينظر إلى عفو المقذوف.
قال: [والمحصن هنا: الحر] .
????وعليه فلو قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر كما تقدم في قول المؤلف: (وقذف غير المحصن يوجب التعزير) .
وقد قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات)) والمحصنات هن الحرائر المسلمات.
ولا شك أن العبد ليس كالحر، وقد فرق الله بينهما بالشرع كما في غير ما آية من كتاب الله الكريم، فليس هذا كهذا.
وإنما يستوون في أحكام الآخرة في الثواب والجزاء، وفي التكاليف الشرعية.
وهذا أي اشتراط الحرية في الإحصان كذلك ما سيذكره المؤلف من شروط المحصن هو مذهب عامة أهل العلم.
[المسلم] .
????فلو قذف ذمياً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر.
قال: [العاقل] .
????فلو قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد لكن يعزر.
قال: [العفيف] .
????أي في الظاهر، الذي ليس مشهوراً بالفجور "أي بالزنا" وإن كان قد يقع منه الزنا في الباطن لكنه لا يعرف بالزنا، أما إذا كان الفجور ظاهراً فيه فلا.
قال [الملتزم] .
هذه العبارة مشكله وليست في الأصل: وهو المقنع
وإنما ذكرها المؤلف تبعاً لبعض الحنابلة.
وهي مشكلة لأن الملتزم يدخل فيها المسلم والذمي أما المسلم فالإشكال، أنه قد ذكر قبل ذلك من قوله (المسلم) وأما الذمي فإن ذكرها ينافي قوله (المسلم) لأن ظاهر قوله مسلم أن غير المسلم ليس كذلك.
ولذا فهذه العبارة ليست بصحيحة.
قال: [الذي يجامع مثله] .
????وفي المذهب أن الذي يجامع مثله ابن عشر أي من الذكور والتي يجامع مثلها بنت تسع أي من الإناث.
?وتقدم أن الراجح أن الذي يجامع مثله ليس له سن محددة وعليه فلو قذف من لا يجامع مثله من حيث السن فإنه لا يُحد.
ولا يلحقه عارٌ بذلك لأن الكذب معلوم فلم يحتج إلى حدٍ يعلم به الكذب.
(28/23)
________________________________________
قال: [ولا يشترط بلوغه] .
??لأن الصبي إذا قذف بالزنا، وهو يجامع مثله لكنه صبي، أو قذفت البنت بالزنا وهي ممن يجامع مثلها وهي صبية لم تبلغ فإنهما يحلقهما العار إذا كبرا فيحتاج إلى الحد ليعلم كذب القاذف.
وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب مالك.
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: يشترط أن يكون بالغاً.
قالوا: لأن البلوغ هو أحد شرطي التكليف، فكما أنا نشترط أن يكون عاقلاً فكذلك نشترط أن يكون بالغاً.
والصحيح هو الأول.
والفرق ظاهر بين غير العاقل وبين العاقل غير البالغ، ويمكن أن يكون ذلك من وجهين.
الوجه الأول: أن غير البالغ يؤول أمره إلى التكليف، وأما غير العاقل فإن أمره لا يؤول إلى التكليف، فلا يلحقه العار في المستقبل.
??بخلاف غير البالغ فإن العار يلحقه في المستقبل.
الوجه الثاني: المجنون عذره عند الناس أكبر لأنه لا عقل له.
وأما غير البالغ كالمراهق مثلاً فإن العذر فيه ضعيف.
قال: [وصريح القذف: يا زاني يا لوطي ونحوه] .
??هذا صريح القذف، فمتى ما قال: يا زاني أو يا لوطي ونحوه فإنه يقام عليه الحد، ولو قال أنا لا أقصد الزنا الصريح بل أردت زنا العينين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????العين تزني وزناها النظر) فلا يقبل منه ذلك لأن هذا صريح في القذف.
قال: [وكنانية:.. ونحوه وإن فسره بغير القذف قبل] .
??كناية القذف إن فسرت بغير القذف قبل مع اليمين، فلو أن رجلاً قال لامرأة: " يا خبيثة " فلما قيل له، إنك قذفتها بالزنا، قال: إنما أريد أنها خبيثة الأعمال، فيقال "احلف على ذلك" فإن حلف على أن ذلك مراده فإنه لا يحد.
أو قال لامرأة: "نكّست رأس زوجك" ثم أدعى أنه أراد أنها لا تعتني بثيابه فيخرج وسخ الثياب فيقبل منه ذلك لكن يحلف على ذلك.
وظاهر كلام المؤلف أنه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الزنا أو اللواط.
لكن هذا الظاهر فيه ضعف.
(28/24)
________________________________________
والصحيح هو ما اختاره ابن القيم وابن عقيل من الحنابلة وهو مذهب المالكية.
??إن التعريض ونحوه، إذا كانت قرائن الأحوال تدل عليه فهو كالصريح.
وذلك لأن عدم القول بذلك يفتح باب رمي المسلمين في أعراضهم ولا تقام عليهم الحدود بذلك، فيترك قول يا زاني ويقول مثلاً يا خبيثة، والناس لا يفهمون من قوله يا خبيثة في كلامه إلا الزنا وحينئذ يفر من إقامة الحد عليه.
ولا شك أن الواجب سدُّ هذه الذريعة.
ولذا أروى عبد الرزاق وغيره "أن عمر ضرب في التعريض".
فإذا كانت هناك قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الرمي بالزنا فلا ينظر إلى قوله هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
?وقوله: "أو جعلت له قروناً" أي أنك جعلتيه كالثور أي جعلتيه ديوثاً.
قال: [وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزّر] .
??فلو أن رجلاً أتى إلى جماعة كثيرة لا حصر لهم قرماهم بالزنا ولا يتصور أن يقع منهم ذلك فلا يقام عليه الحد لأن العار لا يلحقهم لأن كذبه معلوم ولكنه يعزر لأنها معصية، أما لو كانت الجماعة يتصور منهم ذلك، كأن يأتي إلى عشرة ويقول: "أنتم زناة" فيقام عليه الحد لأن الزنا يتصور في حقهم ويلحقهم العار في ذلك.
وأصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يقام عليه إلا حد واحد أي فعليه حد واحد بظاهر الآية ولأنه إذا أقيم عليه حد واحد فإن المقصود يحصل بذلك لأنه يعلم كذبه ويندفع بذلك عنهم ما تقدم ذكره من العار.
قال: [ويسقط حد القذف بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب] .
??تقدم الكلام على هذا في أول الدرس عند قوله: (وهو حق للمقذوف) .
مسألة:
????قال تعالى: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا)) الآية.
فهل الاستثناء في قوله تعالى: ((إلا الذين تابوا)) يرجع إلى الجمل المتقدمة كلها أم إلى الجملة الأخيرة؟
(28/25)
________________________________________
أما الجلد فلا يرجع إليه الاستثناء بإجماع العلماء، فإذا تاب وقد قذف فإن ذلك لا يسقط عنه الحد بإجماع العلماء.
وأما إذا تاب من ذلك فإن الفسق يزول عنه باتفاقهم فلا يكون فاسقاً.
لكن: هل تقبل شهادته أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالجمهور أنها تقبل للاستثناء.
والأحناف قالوا: لا تقبل والاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور.
وهذه ترجع إلى مسألة أصولية وهي:
هل الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور أم إلى ما ذُكر قبله؟
والصحيح أنه يرجع إلى ما ذكر قبله كله.
وعليه فإن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله.
وعلى ذلك فيرجع إلى الجلد لكن الإجماع يدل على عدم ذلك ويرجع إلى قبول الشهادة ويرجع إلى الفسق.
أما الجلد فالإجماع على خلاف ذلك.
وأما الشهادة فالصحيح أنها تقبل فيه بعد ذلك ومما يدل على ذلك أن الشهادة تقبل من العدل وهذا قد زال عنه اسم الفسق باتفاق العلماء.
" باب حد المسكر "
????السُكر: لذةً ونشوة يغيب معها العقل فلا يدري ما يقول كما قال تعالى: ???لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)) .
والسكر محرم بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
وهو من كبائر الذنوب.
الخمر: كما قال عمر: "ما خامر العقل" أي ما سترة وغطاه.
قال المؤلف رحمه الله: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام] .
?فكل شراب من عنب أو تمر أو عسل أو حنطة أو شعير أو غير ذلك مما يصنع خمراً فيسكر كثيره فإن قليله حرام.
فإذا صنع من العنب ما لو شرب الكثير منه فإنه يسكره فالقليل غير المسكر حرام.
وإذا صنع من الشعير شراباً يسكر كثيرة فإن قليلة حرام وإن لم يكن مسكراً، وهكذا في سائر أنواع الأشربة.
لما ثبت عند الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (ما أسكر كثيرة فقليلة حرام) . بإسناد صحيح.
وعند أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (ما أسكر منه مقدار الغرف فملئ الكف منه حرام) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) رواه مسلم.
(28/26)
________________________________________
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير) .
وفي مسلم عن أنس بن مالك قال: "نزل تحريم الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر".
وقد أجمع أهل العلم على أن القليل من العنب محرم إذا أسكر الكثير منه، فإذا شرب ما خُمّر من العنب وكان ملئ الكف ولم يسكره فإنه يحرم بإجماع أهل العلم.
وإنما اختلفوا في غير العنب:-
فقال أهل الكوفة ليس بحرام، فلو شرب قليلاً من المصنوع من التمر فإنه لا يحرم عليه ذلك هذا ما لم يكن هذا القليل مسكراً، ولو كان لو?زاد لسكر.
قال الإمام أحمد: " ولا يصح في الرخصة في المسكر حديث".
وقال ابن المنذر: " وجاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها وعللها".
فالأحاديث التي استدل بها أهل الكوفة كأبي حنيفة لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?
وقال جماهير أهل العلم بتحريم ذلك: واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وهي أحاديث صحاح، وقد قال الإمام أحمد: "ثبتت من عشرين وجهاً" أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?
??فجماهير العلماء على أن كل مسكر حرام قليله وكثيره، فلو شرب قليلاً لا يسكر فذلك محرم.
وتحريمه ظاهر بالأدلة المتقدمة، وذلك لسد الذريعة فإنه شرب القليل غير المسكر ذريعة إلى شرب الكثير المسكر.
ولأن الشرع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه.
والصحيح مذهب جماهير العلماء من النصوص الشرعية تدل عليه وهو أن كل مسكر حارم سواء كان من عنبٍ أو غيره، وأنه حيث كان الكثير مسكراً فالقليل محرم.
لكن لوضع من الشعير شراباً لا يسكر كثيرة، ليس بحرام فالمقصود هنا حيث كان الكثير مسكراً.
والمشهور عند أهل العلم القائلين بتحريم القليل مما أسكر كثيرة أن من شرب القليل فإنه يُحد ولو كان ممن يعتقد الحل، ولا يشفع له كونه يعتقد الحل.
قالوا: والفرق بينه وبين النكاح بلا ولي وجهين.
الوجه الأول: لأن شرب القليل منه ذريعة إلى شرب الكثير منه، وهو محرم بالإجماع.
(28/27)
________________________________________
بخلاف مسألة النكاح بلا ولي فليست كذلك.
الوجه الثاني: لأن الخلاف فيه ضعيف جداً، فالأدلة متظاهرة على تحريم ذلك، فأشبه هذا من قدامه ابن مظعون فقد صحّ في البيهقي أن عمر أقام عليه الحد وكان متأولاً يعتقد حلها، ويستدل بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا)) .
وقال أبو ثور، وهو من المجتهدين: لا يقام عليه الحد حتى يعتقد التحريم كما لو نكح بلا ولي.
والعمل على الأول وهو أظهر.
فعلى ذلك يقام عليه الحد وإن كان يعتقد الحل.
وهذا يفتح الباب في مسألة شرب الخمر بدعوى اعتقاد أنها حلال ويظهر هذا.
قوله: "اسكر كثيره" ليس المقصود الكثير جداً وإنما المقصود الكثير عادة في الشرب.
قال: [وهو خمر من أي شيء كان] .
???لقوله - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر) رواه مسلم هذا عمن نص النبي - صلى الله عليه وسلم -?
قال: [ولا يباح شربه للذة] .
???لأن هذا هو الإسكار.
قال: [ولا لتداوٍ] .
لما ثبت عند ابن حبان، والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (إن الله لم يجعل شعاءكم فيما حرم عليكم) .
وله شاهد موقوف عن ابن مسعود في مصنف ابن أبي شيبه وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في الخمر: (إنها ليست بداوءٍ لكنها داء) .
وهل يقال إن التداوي ضرورة؟
الجواب: لا يقال ذلك وذلك لأن الدواء لا يقطع مع بزوال المرض فقد يشفى المريض وقد لا يشفى.
والضرورة نحو أكل الميتة يقطع بزوال العلة، فالجائع إذا أكل من الميتة زالت علته وهي الجوع قطعاً، وأما المريض إذا شرب الخمر وقيل له إنها علاج?فقد يشفى وقد لا يشفى كيف وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?أنها ليست بدواء وإنما هي داء، وكما قال عثمان: إنها أم الخبائث فلا يمكن أن تكون دواء.
قال: [ولا عطش ولا غيره] .
???فلا يجوز شربها للعطش قالوا: لأنها تُلهب الباطن فتزيد في حرارته، وعليه فلا يستفيد منها زوال العطش.
(28/28)
________________________________________
وهذا القول ينبني على صحة التعليل فإن صح التعليل فهو كما قالوا، وأما من اعتقد أنها تزيل العطش فأصيب بالعطش فلا بأس له أن يشرب ولأنه موضع ضرورة.
قال: [إلا لدفع لقمة غصّ بها ولم يحضره غيره] .
??لأنها ضرورة.
أما إذا حضره غير الخمر من ماءٍ ونحوه فلا يجوز له دفع اللقمة بالخمر لأنها تكون حاجة ولا يجوز أن يشربها للحاجة.
قال: [وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره مسكر فعليه الحد] .
?فإذا شربه المسلم وكان عالماً أن كثيره مسكر، وإن كان يعتقد حله كما تقدم فعليه الحد.
لكن لو لم يعلم أن كثيره مسكر فلا يقام عليه الحد لجهله بالحال ولو جهل التحريم، حيث أمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد ولابد أن يكون مختاراً لا مكرهاً، فالمكره لا حد عليه.
قال: [ثمانون جلدة مع الحرية وأربعون مع الرق] .
???فحد شارب الخمر ثمانون جلدة للحر، وأربعون للرقيق.
هذا هو مذهب الجمهور، وأن حد الخمر ثمانون جلدة واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ثم فعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الصحابة فقال عبد الرحمن بن عوف: " أخف الحدود ثمانون جلدة فأمر به".
فهم قد أخذوا بفعل عمر وكان ذلك بمحضر من الصحابة.
وعن الإمام أحمد وهو أحد القولين في مذهب الشافعي: أنه يجلد أربعين جلدة.
واستدلوا: بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث المتقدم، وفعل أبي بكر ونحوه في مسلم من حديث علي قال: "جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي " أي فعل عمر.
(28/29)
________________________________________
ولا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقول أحدٍ أياً كان هذا الأحد ولو كان عمر، كيف وأبو بكر قد جلد كما جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة وأن حد الخمر أربعون وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والجواب عن فعل عمر:
أن عمر فعل هذا من باب التعزير، حيث أنهمك الناس في شرب الخمر فرأى عمر أن يعزرهم بذلك واستشار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن حد الخمر أربعون وأن للحاكم أن يزيد فيعزر بثمانين جلدة كما أن له أن يعزر بغير ذلك إن رأى المصلحة في ذلك كأن يعزر بسجنٍ ونحوه.
وعامة أهل العلم على أن عقوبة حد الخمر حديةّ وليست بتعزيرية، كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جلد أربعين إلا خلافاً ضعيفاً في هذه المسألة.
مسألة:
?????هل يقتل شارب الخمر في الرابعة أم لا؟
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في شارب الخمر: (إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) .
واختلفت مسالك أهل العلم فيه:
المسلك الأول: أنه منسوخ، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم.
وفي أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه "وله رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم -??فحديثه من مرسل صغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فيه الحديث المتقدم ثم قال: ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر فجلد، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده، قال: ورقع القتل وكانت رخصة"
المسلك الثاني: أنه محكم وليس بمنسوخ، هذا هو مذهب أهل الظاهر، وعليه فيقتل شارب الخمر في الرابعة.
المسلك الثالث: أنه محكم لكن ليس بحد، وإنما هو تعزير يرجع إلى الإمام بحسب المصلحة.
(28/30)
________________________________________
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الحسن البصري.
وهذا القول فيما يظهر هو أصحها.
أما كونه ليس بحد فكما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر?فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. الحديث.
فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقتله مع أن الصحابي قال: "ما أكثر ما يؤتى به" وهذه صيغة تدل على كثرة ما يؤتى به لأنه شرب الخمر هذا هو ظاهر هذا الحديث وكذلك حديث قبيصة بن ذؤيب المتقدم.
وأما النسخ المذكور في الحديث المتقدم فالذي يتبين أن الراوي إنما حكم بالنسخ بناءً على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه ذكر ذلك عمدة له فإنه قال: (ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر ثم جلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده قال: فرفع القتل.
فالظاهر أنه قد بنى ذلك على الفعل، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم -?لا يفعل ذلك لا يدل على النسخ، لأنه تعزير وليس بحد فمتى رأى الإمام أن من المصلحة القتل فله ذلك.
ولا شك أن هذه المسألة لا يفتى بها الإمام إلا حيث كان مراعياًِ للمصالح لما في ذلك من سفك الدماء.
والمقصود أن التعزير بالقتل كما في هذا الحديث.
مسألة:
??اعلم أن حد الخمر يثبت بالبينة أو بالاعتراف.
فإذا شهد عليه شاهدان أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد ويثبت أيضاً بالاعتراف فإذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد.
وهذان الطريقان في إثبات حد الخمر لا خلاف بين أهل العلم في ثبوت الحد فيهما.
وإنما اختلفوا فيما إذا ظهرت?منه رائحة الخمر أو رؤي يتقيأ الخمر فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الجمهور قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد يكون شربها يظنها ليست خمراً أو غير ذلك.
(28/31)
________________________________________
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم أنه يقام عليه الحد، وهو قول عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة.
وقول عثمان كما في صحيح مسلم فإنه قال: " ما تقيأها إلا أنه قد شربها" وهو قول ابن مسعود فإنه جلد رجلاً وجدت منه رائحة الخمر.
فهذه آثار صحاح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا يعلم لهم مخالف كما قال ذلك ابن القيم.
فالذي تبين أنه يقام عليه الحد بذلك لا سيما مع القرائن.
مثال القرائن: أن يكون الرجل مشهوراً بالفسق متهماً بذلك، أو يكون الرجل مشتبهاً فيه.
أو أن يشهد عليه شاهد أنه شرب الخمر وتوجد معه رائحة فهذه قرائن قوية على أنه قد شربها.
وأما كون الحدود تدرأ بالشبهات فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات الضعيفة وإلا فإن البينة قد تكون كاذبة والمقر على نفسه قد يكون كاذباً.
لكن لو أدعى أنه لم يظنها خمراً وأشهد على ذلك، فحينئذ يقال بقبول دعواه لوجود الشبهة.
" باب التعزير "
??التعزير لغة: المنع، وله معانٍ أخر، لكن الذي له ارتباط بهذا?الباب هو هذا المعنى.
وفي الاصطلاح: قال المؤلف: ??هو التأديب] .
?وأصح من ذلك أن يقال: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
ولذا قال المؤلف بعد ذلك: ??وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة] .
فالتعزير: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
"في كل معصية": سواء كانت بترك واجب كترك صلاة الجماعة مثلاً.
أو بفعل محرم من المحرمات كحلق اللحية أو شرب التدخين.
"لا حد فيها": لابدّ من هذا القيد، لأن ما فيها حد، لا تعزير فيها بل يجب أن يقام حد الله تعالى كالزنا.
??ولا كفارة": وهذا قيد آخر، فإذا كان فيها كفارة فلا تعزير كالظهار أو الجماع في نهار رمضان فهذه معاصي فيها كفارة وعليه فلا تعزير في ذلك، وهذا هو مذهب جماهير العلماء.
وقول المؤلف: [وهو واجب] .
(28/32)
________________________________________
هذا هو المشهور في المذهب وأن التعزير واجب على الحاكم، فيجب على الحاكم أن يعزر من فعل معصية من المعاصي.
وعن الإمام أحمد: أنه مندوب.
قال: الشافعية وهو قول لبعض الحنابلة: بل إنما يجب إن كان فيه مصلحة أو كان لا ينزجر عن المعصية إلا به، وإلا فإن رأى الإمام العفو جاز ذلك.
وهذا هو أصح الأقوال وأن التعزير يرجع إلى نظر الإمام فإن كان فيه مصلحة فيجب عليه أن يقيمه أو كان لا ينزجر إلا به فيجب عليه أن يقيمه، وإلا فإنه يجوز له العفو.
ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتاه رجل وأخبره أنه أتى امرأة إلا أنه لم يجامعها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -?????إن الحسنات يذهبن السيئات" ولم يقم عليه تعزيراً.
وهذا ظاهر في كثير من المعاصي?التي كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولم يصح عنه تعزير فيها.
فالصحيح أن مرجع ذلك إلى الإمام وهو من سياسة الناس بالشرع وهو من السياسة المحمودة التي هي قائمة على العدل ولا تخالف الشرع.
فإن لم يكن هناك مصلحة فإنه له أن يعفو بل قد يترجح العفو حيث كانت هناك مصلحة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) .
فقد يترجح ألا يقام عليه التعزير.
قال: [كاستمتاع لا حد فيه، وسرقة لا قطع فيها وجناية لا قود فيها] .
??هذه أمثلة على التعزير.
"كاستمتاع لا حد فيه": كأن يباشرها دون الفرج.
" وسرقة لا قطع فيها": كأن يكون السارق صبياً مميزاً فإنه يعزر أو أن تكون من غير حرز أو أن تكون دون النصاب.
??وجناية لا قود فيها": كضربه في الوجه أو وكزٍ أو نحو ذلك وتقدم أن شيخ الإسلام يرى القصاص في هذا.
قال: [واتيان المرأة المرأة] .
?وهو ما يسمى بالسحاق وتقدم.
قال: [والقذف بغير الزنا ونحوه] .
???فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير ونحوه ذلك ومن ذلك الاستمناء لغير حاجة لذا قال بعد ذلك??
??ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر] .
(28/33)
________________________________________
فالاستمناء محرم عند عامة أهل العلم لقوله تعالى: ???والذين هم لفروجهم حافظون إلا على?أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)) ?فلم يستثن الله سبحانه إلا الأزواج أو ما ملكت الأيمان، وما سوى ذلك فهو محرم إلا لضرورة كأن يخشى الزنا على نفسه.
فمن استمنى بغير حاجة عزر.
قال: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات] .
??هذا هو المشهور في مذهب أحمد وأنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) .
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط في التعزيرات إلا أن يكون في حدٍ من الحدود.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والأحناف: أنه له أن يزيد على عشرة أسواط لكن لا يصل إلى الحد.
وعلى القول بهذا فإن أصح ما قيل: إن كان حرا فإنه لا يصل إلى أربعين سوطاً وهو حد شرب الخمر، وإنما يجلد دونها ولو بسوط واحد.
وإن كان عبداً فلا يجلد عشرين بل دونها ولو بسوط واحد واستدلوا: بحديث ضعيف رواه البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????من حدّ في غير حد فهو من المعتدين??أي من جلد فأوصل حداً في غير حدٍ من الحدود فإنه من المعتدين.
لكن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?موصولاً بل هو مرسل ضعيف.
قالوا: ولأن هذه المعاصي أضعف من المعاصي التي فيها الحدود، وقد جعل الله هذه الحدود لتلك المعاصي وهذه معاصي دونها فلم يبلغ بهذه المعاصي التي لم يجعل الله فيها حداً ولم يبلغ بها الحد لأنها لا تماثلها فهي دونها.
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه له أن يعزر ما شاء مما يرى فيه مصلحة.
إلا أن تكون المعصية من جنس ما فيه حد فلا يبلغ بها الحد فإذا كانت المعصية ليست من جنس ما فيه حد كحلق اللحية وغيرها فله أن يعزر بما شاء.
(28/34)
________________________________________
وأما إن كانت من جنس ما فيه حد فليس له أن يبلغ الحد، كأن يباشر رجل امرأة من غير جماع فلا يجلد مائة سوط وذلك لأن هذه المعصية دون الزنا والله قد جعل في الزنا مائة سو فلا يمكن أن يجلد من فعل معصية دون ذلك مائه سوط ولا شك أن هذا ينافي العدل المأمور به فقد جعلنا ما ليس بمثل مثلاً، فإن إتيان المرأة من غير جماع ليس مماثلاً قطعاً لإتيانها في فرجها. القول الرابع: وهو مذهب مالك: أن ذلك راجع إلى رأي الإمام مطلقاً أي لا فرق بين ما كانت المعصية من جنس معصية فيها حد أو لم تكن كذلك.
وعليه فله أن يجلد من باشر امرأة ولم يطأها له أن يجلدها أكثر من مائة سوط أو أكثر.
وأحسن هذه الأقوال: كما قال ابن القيم: القول الثالث، وإليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية، كما حكى ذلك صاحب الإنصاف.
فإن قيل: فما?هو الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ?
فالجواب: أن المراد بالحد هنا حق الله تعالى: بدليل قوله تعالى: ???تلك حدود الله فلا تقربوها)) ?هذا هو لسان الشرع كما قال ذلك ابن القيم، فالحد يطلق في الشرع على العقوبة المقدرة لحديث: (لا تقام الحدود في المساجد) .
لكن الغالب ي لسان الشرع أنه يطلق على حق الله تعالى.
فيكون معنى الحديث: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في معصية من المعاصي.
مسألة:
????تقدم ذكر أكثر التعزير، فما هو أقله؟
الجواب: لا حد لأقله عند عامة أهل العلم فله أن يجلد سوطاً أو أن ينفي أو أن يسجن يوماً أو أن يوبخ.
مسألة:
????هل يصح التعزير بالقتل؟
الجواب: نعم يصح ذلك كما تقدم في شارب الخمر وفيه: (فإذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه) .
ومذهب مالك وهو وجه في مذهب أحمد واختاره ابن القيم أنه يجوز للإمام أن يقتل الداعية إلى البدعة، وهذا من باب التعزير بالقتل حيث لم تندفع مفسدته إلا بذلك.
مسألة:
(28/35)
________________________________________
أصح قولي العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز التعزير بالمال إتلافاً وأخذاً.
خلافاً للمشهور عند جمهور أهل العلم.
وهو أي القول الراجح، جار على أصول الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
فيجوز التعزير بالمال إتلافاً، بأن يتلف المال ومن ذلك تحريق متاع الغال، كما تقدم في الصحيح.
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الترمذي أمر أن يهراق الخمر وأن تكسر دنانه.
وحرّق عمر بيت شارب خمرٍ كما في مصنف عبد الرزاق.
ومن ذلك تحريق الثوبين المعصفرين كما في صحيح مسلم ويجوز التعزير بالمال أخذاً:-
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أمر بأخذ سلب من قطع شجر حرم المدينة وهو حديث ثابت في صحيح مسلم.
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: "فيمن منع الزكاة: "ومن منعها فإن أخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث حسن كما تقدم وإذا أخذ المال فإنه يصرف في مصالح المسلمين.
وهذا الأمر راجع إلى الإمام فله أن يتلف وله أن يأخذ على حسب ما يرى من المصلحة.
وجواب الجمهور على أن التعزير بالمال ليس بثابت. أنهم قالوا: هذه الأحاديث أي التي استدل بها من يرى ذلك منسوخة.
لكن كما قال ابن القيم، " لا دليل على النسخ لا بنص ولا بإجماع" بل هذه آثار الصحابة، كما في أثر عمر وغيره، وهي تدل على ما تقدم من إثبات التعزير بالمال.
وإذا ثبت التعزير بالقتل فأولى من ذلك التعزير بالمال وهي من السياسة التي يقتضيها العدل ولا تنافي الشرع بل قد دل عليها الشرع كما تقدم.
استدراك.
في مسألة التعزير فوق عشرة أسواط.
فقد دلت آثار الصحابة على جواز التعزير فوق عشرة أسواط من ذلك، ما روى الطحاوي بإسناد صحيح أن علي بن أبي طالب، جلد رجلاً شرب الخمر في رمضان جلده الحد وعزره بعشرين سوطاً. وثبت كما تقدم أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين وإن أربعين منها تعزير.
(28/36)
________________________________________
" باب القطع في السرقة "
قال رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] .
?مسلماً كان أو ذمياً، وعليه فيخرج المستأمن وهو أحد القولين في المذهب، وأحد قولي العلماء في المسألة.
والقول الثاني: أن المستأمن إن سرق قطع والذي يترجح من هذين القولين: أن المستأمن لا يقطع وذلك لأن حد السرقة حد لله تعالى فأشبه حد الزنا، وقد تقدم أن حد الزنا لا يقام على المستأمنين فكذلك هنا.
ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الحكم ثابت في سرقة المسلم من ذمي أو سرقته من المستأمن، فلو سرق مسلم من ذمي أو من مستأمن قطع، وذلك لحرمة المال، فإن مال الذمي محترم ومال المستأمن محترم كمال المسلم.
قال: [نصاباً من حرز مثله] يأتي الكلام عليها.
قال: [من مال معصوم] .
??مال المسلم معصوم، ومال الذمي معصوم، ومال المستأمن معصوم وأما مال الحربي فليس بمعصوم، وليس دمه بمعصوم أيضاً.
قال: [لا شبهة له فيه] .
????يأتي الكلام على هذا الشرط أيضاً.
قال: [على وجه الاختفاء قًطعٍَ] .
???فلا بد أن تكون السرقة على وجه الاختفاء ومن ثم سمي استماع الجن استراقاً للسمع لأنه على وجه الاختفاء، قال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا)) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: ??تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) .
قال: [فلا قطع على منتهب] .
???المنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه الغلبة والقهر، كما يقع في الغارات التي بين البوادي مثلاً.
قال: [ولا مختلس] .
???المختلس: هو الذي يأخذ المال على حين غرة وغفلة من صاحبه.
قال: [ولا غاصب] .
الغاصب: معروف.
قال: [ولا خائن في وديعة] .
???فإذا أودع رجلاً ماله فجحده المودع، فإذا أقام البينة على الجحد فإن الجاحد لا يقطع يده.
وهذه المسائل اتفق عليها أهل العلم.
يدل عليها ما رواه الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .
(28/37)
________________________________________
والعمل عليه عند أهل العلم.
فإن قيل: لم فرّق الشارع وبين السارق بين المختلس والمنتهب والخائن؟
فالجواب: أن الفرق بينهما هو أن السرقة قد وقعت على مال احتاط عليه صاحبه وحفظه في حرزه، فلا يمكن حفظ المال إلا بمثل هذه العقوبة العظيمة.
بخلاف المنتهب والمختلس والغاصب فإنه ليس على جهة الاختفاء فالناس يمكنهم أن يأخذوا على يد هذا المنتهب ويد هذا المختلس ويد هذا الغاصب.
وفي بعضها ما يكون فيه تفريط من صاحب المال كما يقع في الاختلاس وكما يقع في الوديعة.
فإن الجناية في الوديعة تقع حيث فرط في وضعها عند الأهل فإذا وضعها عند من ليس بأهل كان في الغالب، الجحد وحينئذ يكون مفرطاً في ذلك.
قال: [أو عارية أو غيرها] .
???أي لا قطع على خائن عارية، أو غيرها من الأمانات وما ذكره المؤلف هنا من أن خائن العارية لا يقطع تبعاً لصاحب المقنع هو أحد الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء.
??قالوا: لأنها ليست بسرقة والأدلة إنما وردت في السرقة وهي من خيانة الوديعة والنبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقطع خائن الوديعة.
والقول الثاني في المسألة: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول اسحاق وهو مذهب أهل الظاهر، أن القطع يثبت في جحد العارية.
?واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة، " أن امرأة كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطع يدها" والحديث أصله في الصحيحين.
وأعل بتفرد معمر عن الزهري، وهذا لا يصح فإنه قد تابعه على هذا الحديث أيوب بن موسى وتابعه عليه شعيب بن إسحاق فلا تصح تفرد معمر بهذا الحديث.
وهو ثابت من حديث ابن عمر في سنن أبي داود والنسائي، ومن حديث سعيد بن المسيب مرسلاً في سنن النسائي فالحديث صحيح، وكما قال الإمام أحمد: "لا شي يدفعه".
وأجيب عن هذا الحديث، بأن هذا وصفُ للمرأة، وليس أنها قطعت بذلك، فمن وصفها أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، لا أن القطع كان نسيه ذلك.
(28/38)
________________________________________
ولاشك أن هذا ضعيف جداً لأنه يخالف ظاهر الحديث فإن ظاهر قول عائشة المتقدم أن هذه المرأة كانت تستعير المتاع فتجحده وبسبب ذلك قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?يدها.
ولو قبل مثل هذا التعليل لردت أحكام كثيرة يترتب على أوصاف ذكرت في الأحاديث أو في الآيات القرآنية وما سلم من ذلك إلا الشيء القليل من الأحكام أي لذهبت كثير من الأحكام الشرعية التي تنبني على أوصاف ذكرت في الأحاديث.
ولذا فالراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني واختاره ابن القيم وهو قطع يد جاحد العارية.
فإن قيل، فما الفارق بين العارية وبين الخيانة في الوديعة؟
فالجواب أن الفرق بينهما أن الخيانة في الوديعة إنما نتجت في الغالب عن تفريط من المودِع فإن هذا الجحد ناتج عن وضعها عند من ليس بأهل فيكون المودِع عنده نوع تفريط.
وأما العارية?فإنه قد فعل ما أمر به من الإعارة فقد أحسن إلى الناس وفعل ما أمر الله به.
ثم إن عدم القطع في هذا ذريعة إلى امتناع الناس عن العارية وحينئذ تفوت هذه المصلحة مع أن الحاجة داعية إليها.
قال: [ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه] .
??الطرار هو النشال الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه أي على وجه الخُفية وعليه فتقطع يده لأن أخذه على وجه الخفية وكان ذلك من حرزه.
قال: [ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً] .
???هذا هو الشرط الأول في القطع، أن يكون المال المسروق محترماً أي له حرمة.
وما ليس له حرمة لا مالية له كالصورة وآلات اللهو فهذه لا حرمة لها وعليه فلا مالية لها، وعليه فلا تساوي لا ربع دينار ولا أقل من ذلك فلا قيمة لها وإن كانت عند أصحابها لها قيمة لكن هذه القيمة غير معتبرة شرعاً.
قال: [فلا قطع في سرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر] .
???ولا تصاوير ولا غير ذلك?لأنها أشياء لا قيمة لها فهي غير محترمة ولا مال فيها.
قال: [ويشترط أن يكون نصاباً وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار] .
(28/39)
________________________________________
هذا هو الشرط الثاني: أن يكو نصاباً.
والنصاب: هو ربع دينار كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) .
وفي لفظ أحمد: " اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك".
وأما أنه يقطع بثلاثة دراهم، فلما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???قطع في مجَنّ قيمته ثلاثة?دراهم) ،?أما ما روى أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم) .
فالحديث فيه الحجاج بن أرطأه وهو ضعيف مدلس وقد استدل به الأحناف.
وهنا: كلام المؤلف يدل على أن ربع الدينار والثلاثة دراهم أن كليهما أصل.
فلو سرق مالاً لا يساوي ربع دينار لكنه يساوي ثلاثة دراهم، فإن يده تقطع.
هذا هو القول الأول وهو رواية عن الإمام أحمد.
والقول الثاني في المسألة: وهو الرواية?الأخرى عن أحمد وهو مذهب الشافعي: أنها لا تقطع إلا فيما يبلغ ربع دينار فالأصل هو ربع الدينار، وأما ثلاثة دراهم فليست بأصل وإنما المجن الذي قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -??فيه كان يساوي ثلاثة دراهم وكان يساوي ربع دينار، فكان ربع الدينار يساوي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثلاثة دراهم.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -????اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوها في أدنى من ذلك) .
فهذا الحديث نص في أن اليد لا تقطع فيما هو أدنى من ذلك.
قال: [أو عرض قيمته كأحدهما] .
???إذا كان عرضاً بسيف أو ثوب أو شاة أو غير ذلك وقيمة هذا السبب وقيمة هذه الشاة وقيمته هذا الثوب تساوي ربع دينار، على الراجح.
وعلى المذهب تساوي ربع دينار وثلاثة دراهم، فإذا سرقه أحد فإنه يقطع به.
قال: [وإذا نقصت قيمة المسروق،..لم يسقط القطع] .
(28/40)
________________________________________
فإذا سرق عرضاً يساوي ربع دينار، ثم نقضت قيمته بعد ذلك عن ربع دينار، فإنه لا يسقط القطع فالعبرة بالقيمة وقت الإخراج لأنه هو وقت السرقة والقطع وجب بسبب السرقة.
قال: [أو ملكها السارق لم يسقط القطع] .
?????إذا قال المسروق منه وقد وهبتها له أو قال السارق اشتري هذا منك وأسلم من القطع، فإنه لا يسقط?القطع.
ويدل عليه: ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي في قصة صفوان بن أميه لما سرق منه وفيه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -??لما أمر بقطع السارق فقال: يا رسول الله لم أرد هذا، وردائي له صدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) .
?فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطعه وإن كان قد وهبه إياه بعد ثبوت الحد.
أما قبل رفعه إلى الحاكم فإنه يسقط عنه ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -????تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدٍ فقد وجب) .
قال: [وتعتبر قيمتها وقت اخراجها من الحرز] .
???تقدم الدليل على هذا.
قال: [فلو ذبح فيه كبشاً أو شق فيه ثوباً فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه.. لم يقطع] .
فلو كان الكبش في الحرز يساوي ربع دينار فذبحه وقطعه لحماً ثم أخرجه من حرزه فإنه لا يقطع لأنه لم يخرجه نصاباً.
أو أخذ الثوب الذي يساوي ربع دينار فقطعه في حرزه ثم أخرجه فهذه القطع لا يساوي إلا درهماً وكانت قبل ذلك لا تساوي دراهم كثيرة، فإنه لا يقطع لأنه لم يخرج في الحرز نصاباً.
قال: [أو تلف فيه المال لم يقطع] .
??إذا دخل على مالٍ في حرزه فأتلفه، كأن يدخل على الشاة في حرزها فيقبلها فإنه لا يقطع لأنه لم يسرق فإنه لم يخرج المال من حرزه.
أما هذه فظاهره.
وأما الأوليان فلا يخلوان من نظر.
ولا?شك أنها حيلة لا سيما في الشاة فإنه قطعها لحماً إلا أن يقال: النظر إلى ماليتها وهي لا تساوي ربع دينار حينئذ.
ولم أر في هذه المسألة خلافاً فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن يخرجه من الحرز] .
(28/41)
________________________________________
هذا هو الشرط الثالث من شروط الحد في السرقة وهو أن يخرجه من الحرز.
??والحرز هو الحفظ أي أن يخرجه مما حفظ منه.
وهذا شرط عند عامة العلماء، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي، والحديث إسناده جيد ??أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?سئل عن التمر المغلف الحديث ومنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (فإن خرج بشيء منه بعد أن يؤيه الجرين) وهو الموضع?الذي يحفظ فيه التمر، فبلغ ذلك ثمن المجنّ ففيه القطع.
فدلّ هذا على اشتراط الحرز.
قال: [فإن سرقه من غير حرز فلا قطع] .
??وذلك لاختلال هذا الشرط، وهو الحرز كأن يجد الباب مفتوحاً فيأخذ من الدار، وتجد الخزينة في الدار مفتوحة والباب مفتوح فيأخذ من الخزينة فلا?قطع وذلك لعدم الحرز.
قال: [وحرز المال: ما العادة حفظه فيه] .
???فالشرع لم يحدد حداً في الحرز، وعليه فيرجع فيه إلى العادة فما كان في العادة حرزاً فهو حرز يقطع معه.
قال: [ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه] .
??يختلف الحرز باختلاف الأموال فليس حرز الذهب كحرز الماشية.
ويختلف باختلاف البلدان فليست البلدان التي يكون فيها الشرع مطبقاً ويكون فيها الأمن ظاهراً بخلاف البلدان التي يضعف فيها تطبيق الشرع، ويضعف فيها قيام الحاكم بما يجب عليه في أمن الناس من إزالة خوفهم.
فالبلد الواحدة تختلف مواضعها فليس الحرز في المدن الكبار كالحرز في المدن الصغار، وليس هو في المدن الصغار كالقرى والهجر وهكذا.
??كذلك يختلف باختلاف عدل السلطان وجوره وقوته وضعفه فإذا كان السلطان عادلاً فإن الناس يخافون من إقامة الحدود الشرعية ويعلمون أن الشفاعة لا تنفع فيرتدعون عن السرقة، وحينئذ يكون الحرز يثبت بأدنى ما يكون بخلاف ما لو كان السلطان جائراً فإنا نحتاج إلى حرز أعظم.
كذلك يختلف باختلاف قوة السلطان وضعفه، فإذا كان السلطان قوياً صارماً حازماً بخلاف ما لو كان متساهلاً.
(28/42)
________________________________________
ثم ضرب للحرز أمثلة فقال: ??فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة] .
?الأغلاق هي الأقفال.
فهذا هو حرز الجواهر والقماش والأموال ونحوها في العادة فحرزها أن تكون في الدور المبنية ويقفل عليها.
فلو وضع إنسان ذهباً في دار غير مقفلة فإن هذا الذهب ليس بمحرز لأنه لم يوضع فيما يحفظ فيه في العادة.
قال: [وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائح إذا كان في السوق حارس] .
???الشرائح: ما يوضع من القضب بعضه إلى بعض ويربط بالحبال فإذا وضعت أمثال هذه وراء الشرائح فهذا هو حرزها، إن كان في السوق حارس.
ونحو ذلك ما يوضع في الأسواق، فإن بعض المحلات تضع من الغطاء على الأواني ونحوها فهذا هو حرزها حيث وجد بعض الشرط أي الحراس.
قال: [وحرز الخشب والحطب الحظائر] .
??الحظائر معروفة وهي التي تضع من خشب، فهذه الحظائر توضع فيها الخشب والحطب وهذا هو حرزها، لجريان العادة بذلك.
قال: [وحرز المواشي الصير] .
??الصير: هي حظائر الغنم ونحوها.
فإذا وضع غنمه في حظيرة فهذا هو حرزها.
فلو وضع عند باب داره حظيرة خشب ووضع فيها أغنامه فسرق منها شيء يبلغ نصاباً فإن فيه القطع لأن هذا هو حرزها في العادة.
?قال: [وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها غالباً] .
???فإذا كانت في المرعى فهذا هو حرزها بشرط أن يكون الراعي ينظر إليها في الغالب وإن كان يغيب عنها لحظات فهذا لا يؤثر أما إذا كانت غالباً تغيب عن نظره فإنها ليست في حرز.
فالقاعدة إذن أن المال إذا وضع فيما يحفظ فيه في العادة وهذا ليس له ضابط محدد بل يختلف باختلاف الأموال والبلدان وباختلاف عدل السلطان وجوره وقوته أو ضعفه فإذا ثبت أنه حرز في العادة فإنه يقطع به.
وعليه فقد يكون في هذه البلد حرز وهو في بلدٍ أخرى ليس بحرز.
قال: [وأن تنتفي الشبهة] .
??هذا هو الشرط الرابع.
(28/43)
________________________________________
وقد تقدم أن هذا شرط في الحدود، وأن أهل العلم قد أجمعوا على ذلك.
وتقدم أنه لا يؤخذ بأدنى شبهة وبأدنى احتمال، بل لابد أن تكون الشبهة ظاهرة لتقوى على درء الحد.
قال: [فلا قطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا] .
??فإذا سرق من مال أبيه أو جده أو جد جده فلا قطع، وإن علا.
قال: [ولا من مال ولده وإن سفل والأب والأم في هذا سواء] .
????فلا يقطع إن أخذ من مال ولده أو لد ولده وإن نزل.
فلا قطع بالأخذ من مال الوالد ولا في مال الولد لولده.
والشبهة هنا وجوب النفقة، فقد تجب النفقة على الوالد.
وقد تجب النفقة على الولد لوالده، كما تقدم.
وقال بعض أهل العلم: وهو رواية عن الإمام أحمد: بل الشبهة في خصوص أخذ الوالد من مال الولد.
وأما أخذ الولد من مال الوالد فلا شبهة فيه والشبهة إنما هي في أخذ الوالد من مال ولده وهي شبهة الملك فالأب كما قال - صلى الله عليه وسلم -????أنت ومالك لأبيك) .
والوالد لا يمكن أن يقطع بسبب مال ولده كما تقدم من أن الوالد لا يقتل بولده فأولى من ذلك ألا يقطع.
أما لو ظهر في الولد فقر وحاجة فحينئذ يقوى القول بالشبهة وذلك لوجوب النفقة مع فقر الولد.
أما وهو غني فيبعد حينئذ أن يقال بالشبهة.
إذن: أخذ الوالد من مال الولد ولا إشكال في أنه لا قطع فيه لحديث: " أنت ومالك لأبيك".
وأما سرقة سوى الأب من الوالدين من الولد، فكذلك لا إشكال في أنه لا قطع لأنه لا يمكن أن يكون الولد سبباً في القطع والوالد سبباً في الوجود، وأما أخذ الولد من مال الوالد فيقوي عدم القطع، حيث كان الولد فقيراً، لهذه الشبهة وهي وجوب النفقة عليه.
??وأما وهو غني فيقوى قول من قال بإقامة الحد والله أعلم.
قال: [ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة من مال قريبه] .
???لعدم الشبهة، إلا أن يكون فقيراً والآخر ممن ركب عليه الإنفاق حيث ترجح هذا، فحينئذ يقوى القول بأنها شبهة فلا قطع.
(28/44)
________________________________________
قال: [ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر ولو كان محرزاً عنه] .
لما روى مالك في موطئه: " أن رجلاً أتى بخادم له إلى عمر فقال: إن غلامي هذ قد سرق مرآة لزوجتي قيمتها ستون درهماً فقال عمر: أرسله فلا قطع خادمكم سرق متاعكم".
قالوا: فإذا كان عبد الزوج إذا سرق من الزوجة لا يقطع فأولى من ذلك الزوج نفسه.
والشبهة في ذلك قوية لأن العادة أن كل واحدٍ من الزوجين ينبسط في مال الآخر.
وقال مالك: بل يقطع للآية: ((السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) والذي يظهر عدم القطع للشبهة وهي انبساط كل واحد في مال الآخر في العادة.
وعليه فكذلك بعض الأخوة أيضاً إذا كانوا في دار واحدة، فالعادة فيما يظهر جارية بانبساط كل واحدٍ منهما في مال الآخر.
قال: [وإذا سرق عبد من مال سيده] .
فلا قطع، قال ابن مسعود: كما روى البيهقي بإسناد صحيح "مالك سرق بعضه بعضاً فلا يقطع".
قال: [أو سيد من مال مكاتبه] .
المكاتب: كما تقدم يملك فإذا سرق السيد من مال مكاتبه فإنه لا يقطع وذلك لشبهه الملك لأنه قد يعود قنا.
قال: [أو حر مسلم من بيت المال] .
وفيه أثر عن عمر لكن اسناده ضعيف وهو في البيهقي الشبهة هنا هي ماله في بيت المال من حق.
وقال مالك بل يقطع لظاهر الآية الكريمة.
والذي يتبين أنه يختلف فإذا كان السلطان يعطي الناس حقوقهم فلا ينبغي أن يقال، إنها شبهة.
أما إذا كان يظلم الناس ولا يعطيهم حقوقهم فيقوي حينئذ أن يقال كالشبهة.
إذن: المشهور في المذهب: أن المسلم الحر إذا أخذ من بيت المال فإنه لا يقطع والشبهة هنا: أن لكل مسلم حقاً في بيت المال.
والقول الثاني: أنه يقطع.
والذي يترجح هو القول الأول إلا أن يكون السلطان يعطي الناس حقوقهم فيضعف هذا القول، والله أعلم.
وقد قال المؤلف: " أو حر مسلم" أما إذا كان عبداً فإنه يقطع لأنه لا حق له في بيت المال وعليه فلا شبهة له.
قال: [أو من غنيمة لم تخمس] .
(28/45)
________________________________________
الغنيمة إذا لم تخمس فلبيت المال منها خمس الخمس وعليه فإذا سرق أحد فكما لو سرق من بيت المال فلا قطع.
قال: [أو فقير من غلة وقف على الفقراء] .
للشبهة فإن له حقا في ذلك.
قال: [أو شخص من مال له فيه شركة له] .
فإذا أخذ أحد الشريكين من المال المشترك فيه فلا قطع للشبهة وهي هنا شبهة الملك.
قال: [أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع] .
فإذا كان لوالده نصيب من هذه الشركة، لأنه لو أخذ من مال والده فإنه لا يقطع كما تقدم في المذهب.
فكذلك إذا كان لوالده شرك في هذا المال.
إذن: لا يقطع إذا أخذ من مال له فيه شرك أو أخذ من مال شركه لمن لا يقطع بالسرقة منه.
وهنا: مسألتان:-
مسألة ظاهرة الشبهة فيها فلا يقام فيها الحد، ومسألة أخرى الشبهة فيها ضعيفة جداً.
أما المسألة الأولى: فهي السرقة في عام المجاعة، فإذا أصيب الناس بسنة أي بجدب وقحط فسرق بعضهم لما يجد من الحاجة فلا قطع عليه.
وذلك لما روى عبد الرزاق في مصنفه: أن عمر قال: " لا قطع في عام سنة" أي في عام مجاعة.
والشبهة في ذلك أن هذا السارق لا يكاد يخلو من ضرورة يجب معها على المسروق منه أن يبذل له مجاناً ما يضطر إليه وذلك لأن إحياء النفوس واجب مع القدرة.
فهذا الذي قد سرق عام المجاعة والمسروق منه قادر وعليه فيبذله لهذا الذي قد سرق واجب حيث قدر على ذلك فهذه شبهة قوية، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو قول عمر ولا يعلم له مخالف.
وأما المسألة التي في غاية الضعف بل في غاية الغرابة أن يقال باحتمال صدق دعوى السارق، وهو المشهور في المذهب إذا سرق رجل مالاً ثم قال: هو ملكي قد أودعته إياه أي المسروق منه أو رهنته إياه، أو قد أذن لي فأخذه فحينئذ نقول للمسروق منه: احلف على أن هذا الشي لك لأن جانبه أقوى فإن حلف فلا حق حينئذ للسارق لكن يده لا تقطع لاحتمال صدقه.
وحينئذ لا يعجز سارق عن مثل هذه الدعوى فيدعي أن المسروق ملكه.
(28/46)
________________________________________
وقد أبطل هذا ابن القيم غاية الإبطال وبيّن أن هذا من الحيل التي تبطل الشرع من أصله، فلا يعجز سارق أن يدعي مثل هذا وحينئذ فلا قطع.
وهذا مما تنزه عنه الشريعة الإسلامية فلا شك أن هذا من الحيل الباطلة وهذه حيلة يستطيع أن يفعلها كل سارق.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقطع إلا بشهادة عدلين] .
ذكرين حرين اتفاقاً.
فقد اتفق العلماء على أنه لا يقطع إلا بشهادة عدلين ذكرين حرين وهي البينة فثبتت بها السرقة ويترتب عليها الحد باتفاق أهل العلم ولو كان ذمياً.
فلو شهد ذميان على ذمي بالسرقة فإن الحد لا يقام عليه فالبينة هي شهادة شاهدين عدلين مسلمين ذكرين حرين.
قال: [وإقرار مرتين] .
هذا هو الطريق الثاني لثبوت السرقة التي يترتب عليه إقامة الحد وهو أن يقر بالسرقة على نفسه مرتين، فيقول: قد سرقت ثم يقول قد سرقت.
ويدل عليه ما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -????ما إذا لك سرقت) فقال: بلى فأعادها مرتين أو ثلاثاً- واليقين مرتين ??فأمر به فقطع ثم جيء به فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر الله وتب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم تب عليه ثلاثا ".
هذا الحديث فيه أبو المنذر مولى أبي ذر وهو مجهول لكن الحديث ليس بمنكر، وجهالة التابعي ليست بالجهالة القوية، مع وجود شاهد له، وهو ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وسنن البيهقي بإسناد صحيح عن علي، أن رجلاً قال له: إني سرقت فردّة، فقال: إني سرقت فقال علي: شهدت على نفسك مرتين، فأمر به فقطع.
ولا يعلم لعلي مخالف، فعلى ذلك الحديث المتقدم حديث حسن وليس بمنكر ويشهد له فعل علي ويشهد له العباس على مسألة الزنا، فالزنا بينته أربع شهادات والإقرار لابد أن يكون أربعاً.
(28/47)
________________________________________
فكذلك السرقة لابد أن يقرّ على نفسه مرتين، هذا هو المشهور في مذهب أحمد، خلافاً للجمهور.
فالجمهور قالوا: يكتفي باقرار مرة لأنه اعتراف والاعتراف يثبت بمجرد الإقرار ولو مرة واحدة.
والحجة مع أهل القول الأول لما تقدم.
فالصحيح أنه لا يقام عليه الحد إلا إذا شهد على نفسه مرتين.
إذن: لابد أن يقر على نفسه مرتين ويصف سرقة توجب الحد، فيبين الحرز ويبين قدر ما سرق، فيعلم لو توفر الشروط وكذلك في البينة فلابد وأن يشهد كل شاهد بما يوجب الحد فيصف السرقة وأنه قد سرق من حرز وأن المسروق كذا.
إذن: يثبت حد السرقة بالبينة والاعتراف.
لكن هل يثبت بطريق ثالث أم لا؟
والمذهب أنه لا طريق ثالث، بل لا يقام الحد إلا بأحدهما.
واختار ابن القيم وقال: " وهو أصح القولين" أن هناك طريقاً ثالثاً وهو: أن العين المسروقة عند السارق مع التهمة فإذا كان ممن يتهم بالسرقة ووجدت عنده العين المسروقة فيرى ابن القيم إقامة الحد عليه.
وهذا ظاهر كما تقدم في إقامة الحد على من تقيأ الخمر أو وجدت منه رائحته وإقامة حد الزنا بالحبل.
فالبينة والاعتراف خبران يحتملان الصدق والكذب، وغلبه الظن صدقهما.
وأما إذا وجدت عنده العين المسروقة فهذا نص صريح في السرقة لا يحتمل إلا السرقة كما قال ابن القيم.
لكن: فيما يظهر لو ادعي شبهة كان يدعي أنها عارية عنه فالذي يظهر أن هذا يدرأ عنه الحد، فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
قال: [ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع] .
فلو قال: رجعت قبيل القطع فإنه لا يقطع، وذلك كما تقدم في باب الزنا.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان اقراره تدل عليه القرائن كأن يصف السرقة وأن يكون المسروق عنده، وأن يكون المسروق منه قد فقد هذا الشيء – فلو دلت القرائن على السرقة فله الرجوع هذا هو ظاهر كلام الحنابلة.
(28/48)
________________________________________
والذي يتبين لي أن هذا الظاهر صحيح وذلك لأنه حيث اعترف فإنه تائب، وتوبته قبل أن يقدر عليه وقد قال تعالى: ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) . فهذا قد أتى تائباً ولم تقم عليه بينة تدل على سرقاته فحينئذ إن اعترف أقيم عليه الحد، فإن رجع عن اعترافه قبل ذلك منه، والله أعلم.
قال: [وأن يطالب المسروق منه بماله] .
إذا ثبتت السرقة عند الحاكم ولم تثبت مطالبة بهذا المال فلا يقيم عليه الحد.
إذا أتى المسروق منه إلى الحاكم فقال: سرق مالي فعُثر على السارق فهنا يقطع ولا اشكال.
لكن إن لم يطالب المسروق منه أو كان غائباً، فهل يقام عليه الحد في الصورة الأولى، وفي الصورة الثانية هل ننتظر حتى يحضر فننظر هل يطالب أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، وهو مذهب الجمهور قالوا لا يقيم عليه الحد إلا بمطالبة المسروق منه.
واستدلوا بحديث صفوان لما سرق رداؤه وهو متوسد عليه في المسجد فذهب بالسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع فشفع له صفوان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هلا كان هذا قبل أن تأتيني) .
قالوا: فيدل على أنه لا يقام إلا بالمطالبة.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحد يقام ولو لم يطالب المسروق منه وذلك لأن الحد حق لله تعالى فيقام على السارق وإن لم يطالبه المسروق منه، فما دام وصل إلى الحاكم فإن الحد يقام عليه.
واستدل: بعموم الآية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما".
ولم يشترط الله سبحانه طلب المسروق منه ولا رضاه في إقامة الحد.
وأما الحديث الذي استدلوا به، فإن الحديث قضية عين، فليس فيه أنه لو بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفع ذلك أنه لا يقيم عليه الحد.
وقد أقام الحد - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي أمية وتقدم أنه حديث حسن وأقامه علي وليس في ذلك طلب من المسروق منه.
(28/49)
________________________________________
والقول الثاني هو الصحيح وأن الحد يقام مطلقاً لأنه حق لله تعالى وعليه فلا يشترط أن يطالب بإقامة الحد.
قال: [وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى] .
إجماعاً قال تعالى: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) .
وقد أجمع أهل العلم على أن اليد التي تقطع هي اليد اليمنى.
قال: [من مفصل الكف وحسمت] .
فتقطع يده من مفصل الكف، وحسمت والحسم بأن يقطع الدم بالزيت المغلي لئلا يتزق فيموت وهذا أي الحسم واجب حفاظاً على نفسه.
فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وأبقى له عقب يطؤ به اتفاقاً وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة.
فإن سرق ثالثة:
فالحنابلة قالوا: ويحبس حتى الموت، أو يتوب، أي يعزر بالحبس وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد حسن.
وقال الجمهور وهو رواية عن أحمد: بل تقطع يده اليسرى فإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى.
واستدلوا: بأثر عن أبي بكر وعمر في رجل سرق وهو مقطوع اليد والرجل فأمر أبو بكر أن يقطع رجله فنهى عن ذلك عمر وأشار بقطع يده، والأثر حسن.
والأشبه هو قول علي، وقد تعارضت أقوال الصحابة فالأشبه هو قول علي.
وذلك لأن الله تعالى أمر بقطع اليد واتفق أهل العلم على قطع الرجل اليسرى بعد ذلك، وليس عندنا نص يدل على القطع فالله عز وجل إنما أمر بقطع اليد فحسب، وظاهره ألا يقطع سوى اليد وحين كان كذلك فإنا لا نقول بالقطع فيما سوى ذلك إلا فيما اتفق عليه أهل العلم، واتفقوا على قطع الرجل اليسرى، قال علي في أثره، "إن قطعت لا ينبغي أن يقطع رجله ويده فيبقى لا قائمة له".
فإذا قطعت يداه فلا يمكنه أن يستطيب ولا أن يأكل ولا يشرب وإذا قطعت رجلاه جميعاً فلا يمكنه المشي فمعنى ذلك إتلاف جنس العضو.
فالذي يترجح هو ما ذهب إليه علي لا سيما في أنه قال ذلك لعمر والظاهر أن عمر أقره على ذلك والله أعلم.
فإن سرق بعد ذلك وقلنا بالقطع فهل يقتل أولاً؟
(28/50)
________________________________________
قال أبو مصعب المالكي وهو قياس قول شيخ الإسلام أنه يقتل وفي ذلك أثر رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد سرق فقال: اقتلوه، فقيل: إنه قد سرق فقال: اقطعوه ثم أتى الثانية فقال كذلك ثم أتي به الثالثة فقال كذلك ثم أتي به الرابعة فقال كذلك، ثم أتي به الخامسة فقال: "اقتلوه" لكن الحديث أنكره النسائي وأعله بمصعب بن ثابت في سننه وقال لا أرى أن في هذا الباب حديثًا صحيحاً.
فالذي يتبين أن هذا الحديث منكر إذ كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة اقتلوه والواجب قطعه.
فالذي يترجح أن هذا الحدبث منكر لكن من باب التعزير فإنه يثبت بالقتل كما قال شيخ الإسلام في شارب الخمر فمرجع ذلك إلى الإمام من حيث التعزير أما في الحكم في الأصل فلا قتل.
قال: [ومن سرق شيئاً من حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع] .
الكثر: هو الجمّار الذي يكون في النخل.
المشهور في المذهب أن من سرق تمراً أو كثراً أو شاة من غير حرز فلا قطع لعدم الحرز، قالوا: لكن يجب عليه غرامة مثلية فالشاه شاتان، والتمر إذا كان صاعاً فصاعان، وإذا أخذ من الكثر القيمة الفلانية فعليه ضعفها.
واستدلوا: بما ثبت في سنن النسائي باسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التمر المعلق: (من أصاب بقية من ذي صاحب حاجة غير متخذ خبنةً - وهي طرف الثوب - فليس عليه شيء ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة) .
وفي رواية: " فعليه غرامة مثلية".
ونحوه في أبي داود وابن ماجه في الشاة.
قالوا: وأما سوى ذلك فليس فيه غرامة مثلية بل ضمان مثله لأن هذا هو الأصل، فالأصل هو ضمان المثل ولا يستثنى إلا ما دل عليه الحديث وهو التمر ونحوه والشاة.
(28/51)
________________________________________
وقال شيخ الإسلام واختاره ابن سعدي وهو القول الثاني في المذهب وهو ظاهر كلام المؤلف في قوله "أو غيرهما" وهو أن هذا الحكم ليس بمختص بالشاة والتمر، بل كل ما أخذ من غير حرز ففيه غرامة مثلية.
للقياس الصحيح، وللقاعدة وهي أن ما اسقطت عقوبته لمانع فإن الضمان يضاعف.
وعلى ذلك فليس مختصاً بالتمر والشاة بل هو عام في كل ما سرق من غير حرز فلما اسقطت العقوبة ضاعفنا الغرم.
" باب حد قطاع الطريق"
قطاع الطريق: وهم الذين يخيفون السبل بالقتل وأخذ المال.
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)) .
قال رحمه الله: [وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح] .
كالسيف والنبل ونحو ذلك.
ومثله أيضاً عند جماهير العلماء العصا والحجر، ونحو ذلك مما يتلف الأطراف ويجرح الأبدان وفيه معنى المحاربة والإفساد في الأرض.
قال: [في الصحراء أو البنيان] .
فسواء كان هذا في الصحراء أو كان في البنيان أي في المدن والقوى، وهو مذهب جماهير العلماء واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لعموم الآية: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)) فالآية عامة في البنيان وفي الصحراء.
وقال بعض أهل العلم كما هو قول بعض الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة: بل في الصحراء فقط، وأما في البنيان فليسوا من المحاربين.
قالوا: لوجود الغوث في البنيان، أي من استغاث فيها أغيث بخلاف الصحراء.
والصحيح هو الأول لظاهر الآية الكريمة فهي عامة في البنيان والصحراء.
ثم إن البنيان أعظم وذلك لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة فلا شك أن من جعل الخوف فيها، أشد وأقبح ممن جعل ذلك في الصحراء لأن البنيان موضع الأمن والطمأنينة.
قال: [فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة] .
فإذا كانت سرقة فكما تقدم.
(28/52)
________________________________________
لكن هنا يأخذون المال مجاهرة، يرفعون عليهم العصي والسلاح فيأخذون أموالهم.
قال: [فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر] .
فمن فيهم قتل مكافئاً أو غيره، كالوالد يقتل ولده كالحر يقتل العبد، وكالمسلم يقتل الذمي، وأخذ المال فإنهم يقتل ويصلب.
فلو أن الأب قتل ولده في الحرابة فإنه يقتل به أو قتل مسلم ذمياً كأن يخيف بعض المسلمين السُبل فيقتلون ذمياً فإن يقتلون به.
أو حراً أخاف الطريق فقتل عبداً وتقدم أن المشهور في المذهب أن الحر لا يقتل بالعبد، وأما هنا فإنه يقتل.
وذلك لحق الله تعالى، فهناك في باب القصاص هو لحق الآدمي، وأما هنا فهو لحق الله تعالى، فهو حد من الحدود فالفرق بين هذا الباب وباب القصاص:-
أن باب القصاص حق للآدمي وعليه فلا يقتل الوالد بولده ولا يقتل في المشهور السيد بالعبد ولا يقتل المسلم بالذمي.
وأما هنا فهو حق لله تعالى.
ولذا فإن الله لم يرجع قتلهم إلى أولياء المقتول فهو حد فقال: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله.. أن يقتلوا)) ولم يجعل ذلك إلى أوليائهم بخلاف آية القصاص فقد أرجع الله ذلك إلى أولياء المقتول وأن أولياء المقتول بالخيرة بين القتل والدية والعفو.
وقوله: "فمن منهم" قد يفهم من ذلك خلاف المذهب فقد يفهم أنه لو قتل واحد منهم يقتل وأما البقية فإنهم لا يقتلون.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك فالمشهور في المذهب أن قطاع الطريق إذا قتل واحد منهم فحكمهم جميعاً القتل وإذا أخذ المال واحد منهم فحكمهم جميعاً القطع وإذا أخذ واحد منهم المال وقتل فحكمهم جميعاً القتل والصلب هذا هو مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية: بل إنما يقتل القاتل ويقطع الآخذ.
والصحيح هو القول الأول وذلك لأن المحاربة مبناها على المنعة والمناصرة، فهو لولا هؤلاء لم يخف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال.
فمن منهم قتل وأخذ المال أي جمع بين معصيتين، القتل وأخذ المال، فإنه يتقل ويصلب.
(28/53)
________________________________________
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
قال تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)) .
وقد اختلف أهل العلم في لفظة هل هي للتنويع أم هي للتخبير؟
أي هل هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات فكل عقوبة لجناية، فالقتل والصلب لجناية والقتل لجناية وقطع الأيدي والأرجل لجناية والنفي لجناية.
أم أنها للتخيير، فالإمام مخير بين هذه العقوبات فإن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى من الأرض.
1) فمذهب المالكية إلى أنها للتخيير فقالوا: مرجع ذلك إلى الإمام فإن رأى أن يقتلوا ويصلبوا فعل ذلك، وإن رأى أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فعل ذلك، وإن رأى أن ينفوا من الأرض فعل ذلك.
2) وقال الجمهور: بل هي عقوبات مختلفة لجنايات مختلفة فإن قتل وأخذ المال فعقوبته الجمع بين القتل والصلب وإن قتل فقط ولم يأخذ المال فعقوبته القتل فقط وإن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى.
وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً فإنه ينفى من الأرض هذا هو القول الراجح ويدل عليه الأثر والنظر.
أما الأثر: فما ثبت عن ابن عباس من غير ما وجه فهو أثر حسن فقد رواه ابن جرير الطبري والبيهقي وعبد الرزاق وغيرهم أنه قال: " إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن قتلوا، ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض" فهذا أثر ابن عباس في تفسير هذه الآية.
أما النظر: فإن مقتضى العدل اختلاف العقوبات باختلاف الجنايات.
وإرجاع ذلك إلى الحاكم قد يترتب عليه تضييع وعبث فلا شك من إرجاع ذلك إلى الشرع كونها مسألة منضبطة من الشارع أولى من إرجاعها إلى الحاكم لئلا يدخل فيها شئ من العبث وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
(28/54)
________________________________________
فمن قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب حتى يشتهر إذن ليس هناك مدة محددة لصلبه.
والصلب معروف: وهو أن يوضع الخشب كالصليب ثم يوضع الرجل كالصليب قد ربطت كل يد بخشبه، فيصلب حتى يشتهر أمره بين الناس وينزجرون عن معصيته وليس محدداً بثلاثة أيام كما ذكر الشافعية بل مرجع ذلك إلى اشتهاره، فمتى ما اشتهر وحصلت المصلحة المقصودة من صلبه فإنه يزال عنه الصلب.
وهذا هو القول الراجح لعدم الدليل على التحديد ولأن المصلحة قد تكون في أكثر من ثلاثة أيام.
وكلام المؤلف هنا وهو المذهب فيه أنه يقتل ثم يصلب وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وصلبه قبل قتله) ليس من إحسان القتلة، وعليه فيقتل أولاً ويصلب ثانياً إحساناً لقتلته.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب المالكية أنه يصلب ثم يقتل أي يكون صلبه وهو حي.
وهذا هو القول الراجح لقوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا)) فجعل التصليب جزاءاً لهم فدل على أن ذلك عقوبة لهم فليس المقصود فيه مجرد انزجار الناس وردعهم بل المقصود أيضاً ايلامه وعقوبته على معصيته بذلك.
وقد ذكره في الإنصاف بلفظة "قيل" أي قال بعض الحنابلة يعني قولاً ضعيفاً قاله بعض الحنابلة فليس مخرجاً في المذهب.
قال: [وإن قتل ولم يأخذ المال قتل حتماً ولم يصلب] .
إذا قتل بعضهم ولم يأخذ المال فعقوبته القتل بلا صلب لما نقلده في أثر ابن عباس.
قال: [وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه] .
إذا جنى هؤلاء القطاع أو بعضهم بما يوجب قوداً أي قصاصاً كأن يقطعوا اليد من المفصل فإنه يتحتم استيفاؤه.
لكن لو جنوا بما لا يوجب القصاص كأن يقطعوا اليد من غير مفصل فهذا لا يوجب القصاص وعليه فلا يقطع طرفه للعلة المتقدمة في باب القصاص.
(28/55)
________________________________________
إذن: هنا إذا جنوا بما يوجب قوداً فإنه يتحتم استيفاؤه فليس مرجع ذلك إلى المجني عليه فيقال له: إن شئت أن يقطع طرفه وإن شئت أن تأخذ الدية، بل يتحتم استيفاؤه هذا هو أحد القولين في المسألة وهو ما ذكره المؤلف قياس على القتل.
والقول الثاني: وهو المذهب، " فالمذهب على خلاف ما ذكره المؤلف هنا" أنه لا يتحتم استيفاؤه.
وذلك لأن الله إنما ذكر القتل وهو حيث قتلوا، وقطع الطرف ليس بمنصوص عليه وكذلك الجرح، فالله إنما نص على النفس وأما ما دون النفس من الجراح والأطراف فإن الله لم ينص عليها فكانت كسائر الجنايات والأظهر القول الأول وهو ما ذكره المؤلف، قياساً على القتل، فكما أنه يتحتم قتل النفس فأولى من ذلك أن يتحتم قطع الطرف وأن يتحتم الاستيفاء في الجرح وكونه لم ينص عليه لا يمنع القياس فإنه في معنى المنصوص عليه.
قال: [وإن أخذ كل واحدٍ من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا ثم خلى] .
فإذا أكل واحد منهم من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق، وهو ربع دينار فصاعداً ولم يقتلوا قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى.
وعليه فلو أخذوا من المال أقل من ربع دينار فلا يقام عليهم هذا الحد.
قالوا: قياساً على السرقة.
وقال المالكية: بل لو أخذ أقل من النصاب فإنه يحد وهذا هو القول الراجح للإطلاق في الآية وفي الأُمر المتقدم وما قياس الحنابلة ففيه نظر، وذلك لأنه قياس مع الفارق والفارق بين حد السرقة وحد الحرابة، أن حد الحرابة أعظم فإن فيه قطعاً لليد اليمنى والرجل اليسرى، وأما حد السرقة فهو أخف، فكان قياساً مع الفارق فلا يصح أن يقاس الأعظم بالأخف.
وتقطع يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد لظاهر الآية، فظاهرها أن ذلك يكون في مقام واحد ولأن في عدم جعلهما في مقام واحد، بأن تقطع يده اليمنى اليوم ورجله اليسرى غداً في ذلك تعذيباً له.
(28/56)
________________________________________
وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وتقطع الرجل اليسرى مع الكعب مع إبقاء العقب اليمنى عليه، أي كالقطع في السرقة.
[وحسمتا] بالزيت المغلي.
[ثم خلي] سبيله لأنه قد استوفى منه فلا يسجن إذ لا دليل على ذلك.
قال: [فإن لم يصيبوا نفسًا ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد] .
إذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالاً وعلى المذهب لو أخذوا مالاً دون النصاب فكذلك نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلاد، بمعنى ينفون متفرقين في الصحاري ولا يقرون في بلد حتى يتوبوا.
وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في المسألة، وأنهم لا يقرون في بلد حتى يتوبوا، فمثلاً ثبت للحاكم، أنهم ذهبوا إلى الرياض فإنه بأمر بإخراجهم منها، وإذا نزل في القصيم فإنه يأمر بإخراجه منها وهكذا حتى تظهر توبته.
قالوا: لقوله تعالى: ((أو ينفوا من الأرض)) قالوا: فظاهره حتى ينفوا من الأرض كلها فلا يقرون في أرض.
وقال الأحناف بل يحبسون، وهذا في الحقيقة في معنى النفي من الأرض لأن السجين ليس في الدنيا فكما لو نفي من الأرض، لكن ظاهر الآية يخالف ذلك.
وقال مالك: ينفى من البلد الذي قطع فيه الطريق إلى بلد آخر ويسجن، وهذا فيما يظهر أصحها.
وأما كونه ينفى من الأرض فلظاهر الآية وعلى ذلك فقوله (ينفوا من الأرض) أي الأرض المعهودة وهذا حيث لم نقل بالسجن لكن لو قلنا بالسجن وهو الراجح فيكون المعنى ينفوا من الأرض كلها فإذا أخرجوا من بلد إلى آخر فقد حصل النفي، وإذا سجنوا فقد فعلنا ما نستطيع لأن الله أمر بنفيهم من الأرض وعندما نحشرهم في موضع واحد نكون قد فعلنا ما نستطيع فلم يقروا في أرض إلا الأرض التي لا يمكن أن يخرجوا منها إلا بالموت وهذا أظهر الأقوال وهو اختيار ابن جرير.
(28/57)
________________________________________
وأما كونه يسجن: فلأنه إذا سجن فقد اخرج من الأرض كلها كما تقدم إلا الأرض التي هو فيها حيث لا سبيل لنا إلى إخراجه منها فقد فعلنا ما نستطيع وهذا تفسير ابن جرير لهذه الآية.
وأما ما ذهب إليه الحنابلة: فقد تترتب عليه بعض المفاسد كخروجهم إلى أرض الكفار فيكونون محاربين للإسلام.
أو أن يكون الأمن أضعف مما ينبغي فيعودون إلى قوتهم مرة أخرى.
مسألة:
ما حكم أخذ الإتاوة وهي الضريبة التي كانت تؤخذ مقابل المرور بمنطقة معينة؟
الأظهر أن يقال: فيه تفصيل:-
فإذا كانت الأرض لهم فتكون حينئذ شبهة فتكون كالجمارك التي تؤخذ الآن، فليسوا من قطاع الطريق وإن كان هذا لا يحل لكنها تكون من باب المكوس ولا تكون من باب أخذ المال على سبيل قطع الطريق لأنهم يقولون نحن لا نخيف بل نحفظ لهم وأما إذا كانت الأرض ليست لهم فإنه لا يتبين أنها شبهة وحينئذ يكونون قطاع طريق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقولون: هؤلاء مكاساً ولا يعتبرون قطاع طريق قال: لأنهم لا يقصدون قطع الطريق بفعلهم فأطلق رحمه الله ولم يفرق بين ما إذا كانت البلدة لهم أو لم تكن لهم.
لكن فيما يظهر التفصيل المتقدم فيه قوة.
مسألة:
هل يجوز لنا أن نخدر اليد عند القطع أم لا؟
الأظهر: أنه يجوز ذلك في حد السرقة لأن المقصود من قطع اليد لا إيلام السارق قال تعالى: ((فاقطعوا أيديهما)) .
وكذلك هنا لان المقصود هو القطع.
لكن إذا قطع طرف رجل آخر فلا يجوز لنا أن نخدر يده عند القطع وذلك للمثلية لأنه إذا بنج فإنه لا يشعر بالألم كما شعر به المجني عليه، فإذن: في باب القصاص لا يجوز ذلك، وفي باب القطع يجوز ذلك.
قال رحمه الله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتمِ قتلٍ] .
ومن تاب منهم يعني قطاع الطريق قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتم قتل وهذه أحكام قاطع الطريق كما تقدم.
وأما إن تاب من بعد القدرة عليه فإن حد الحرابة يقام عليه.
(28/58)
________________________________________
قال: [وأخذ بما للآدميين] .
وذلك لأن حقوق الآدميين محفوظة لأن مبناها على المشاحة.
قال: [من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] .
فإن قتل أحد منهم نفساً فإنه يقتل إلا أن يفعوا الأولياء أو يقبلوا الدية.
وإن أخذوا مالاً ففيه الضمان.
وإن قطعوا طرفاً فإن الطرف يقطع إلا أن يعفى له عنها.
إذن: من تاب منهم قبل القدرة عليه فإن حق الله يسقط وأما حق الآدميين فمبنية على المشاحة.
وهل هذا الحكم خاص في حد الحرابة أم هو عام في سائر الحدود؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور قالوا: هو خاص في حد الحرابة، وهو مذهب المالكية والأحناف وأحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد.
فلو أن رجلاً زنا ثم تاب قبل أن يقدر عليه ثم ثبت عليه الحكم فإن الحد يقام عليه.
ولو أن رجلاً سرق ثم تاب قبل أن يبلغ ذلك الحاكم، ثم بلغه ذلك بعد توبته فإنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات الأدلة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) .
(السارق والسارقة فاقطعوا أيدهما) قالوا: وهذه العمومات تدل على أن هذا الحد لا يسقط بالتوبة.
قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية، وكانا تائبين.
والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم، وهو المعتمد في مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الحد لا يقام عليه كحد الحرابة.
ومما استدلوا به.
القياس على حد الحرابة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال: أصليت معنا، قال: نعم، فقال: قد غفر الله لك.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه وهو حديث حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) فدل على أنه مساوٍ لمن لا ذنب له، ويدخل في ذلك عدم إقامة الحد عليه.
قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول: فهي عمومات مخصوصة بالأدلة التي ذكرناها.
وأما استدلالهم برجم ماعز والغامدية.
(28/59)
________________________________________
فالجواب عنه: أنهما كانا طالبين لذلك مريدين له، ومن ثم أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فإن الحد مطهر والتوبة مطهرة وهما اختارا الحد، ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماعز لما فر: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" فدل على أنه لا يتعين إقامة الحد، وإنما أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختيارهما ذلك.
وعليه فإذا اختار صاحب المعصية إقامة الحد، فإن الحاكم يقيم عليه الحد.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن الحدود عامة تسقط بالتوبة.
وأصح القولين وهما أحد الوجهين في مذهب أحمد، أنه لابد أن يظهر منه ما يدل على صدق التوبة من صلاح العمل.
ويدل على هذا قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فقال سبحانه: "وأصلح" فدل على أن التوبة لابد أن يظهر ما يدل عليها فليس مجرد اقلاعه كافياً أو ندمه لأن هذا أي الندم لا يعلم فهو أمر قلبي، بل لابد أن يظهر عليه من صلاح العمل وظهور الاستقامة ما يدل على توبته.
قال: [ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك] .
فمن صال على نفسه أو حرمته أي حريمه أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك.
ففي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد) .
وقال: كما في الترمذي وصححه وهو كما قال: (من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) .
وثبت في مسلم أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن أراد رجل مالي ليأخذه، قال، فلا تعطه، قال: فإن قاتلني، قال قاتله، قال: فإن قتلني قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته قال، فهو في النار) .
فهذا يدل على أن القاتل يدفع.
وهنا ذكر المؤلف أن له الدفع، وقال بعد ذلك: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] .
(28/60)
________________________________________
إذن هنا قوله: "له" ليس المراد منه أنه لا يجب، بل المراد أنه مأذون له في ذلك لكن هل يجب أم لا؟
إن كان القاتل قد صال على نفسه أو على أهله فإنه يجب عليه الدفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد.
ويدل على وجود ذلك: وجوب حفظ العرض والنفس وقوله تعالى: ((ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) فما دام أنه قادر على الدفاع عن نفسه فيجب عليه ذلك لأنه إن لم يدفع عن نفسه فقد ألقى بنفسه في التهلكة.
ويجب أيضاً حفظ العرض.
وأما المال: فلا يجب وذلك لأنه يجوز له أن يبذل المال فلم يجب عليه أن يدفع عنه الصائل.
ولكن هل يجب عليه حفظ ماله من الضياع والتلف أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في المذهب أنه لا يجب.
والقول الثاني في المذهب أنه يجب.
والصحيح هو الوجوب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، دليل ذلك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن إضاعة المال) وعليه فلا يجوز له أن يتلف ماله ولا أن يضيعه.
لكن إن صال عليه آخر فيجوز له أن يتركه مرجحاً لمصلحة حفظ النفس ولأنه يجوز له أن يبذله، وهنا قد بذله في وجه يجوز وهو حفظ النفس.
وهل يجب عليه أن يدفع عن مال أخيه وعن حرمة أخيه وعن نفس أخيه أم لا؟
فلو أن رجلاً أتاه لص أو صائل فهل يجب علي الآخر أن يدفع عنه أم لا؟.
قولان:
القول الأول: وهو ظاهر كلام الموفق، أنه لا يجب.
القول الثاني: وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام أنه يجب وهو الراجح.
وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) إلا أنه يشكل على هذا وهو صريح كلام شيخ الإسلام أنه يجب أن يدافع عن مال أخيه مع أنه لا يجب عليه أن يدافع عن مال نفسه.
لكن إذا رجحت السلامة فإنه يقوى الوجوب كما هو نص كلام شيخ الإسلام فقد نص على مسألة المال وغيرها أولى ولذا ذكرت أنه ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالصحيح أنه يجب عليه أن يدافع عن مال أخيه إذا ترجحت السلامة وعن نفسه وأهله.
(28/61)
________________________________________
قال: [بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] .
فإذا كان يكفي بالتهديد فإنه يفعل، فإن لم يكف فبالعصا، فإن لم يكف فبالحديد، فإن لم يكف فبما هو أعلى منه إلى أن يصل ذلك إلى القتل.
لكن إن كان ينزجر بالتهديد ولكنه اعتدى عليه بالحديد أو قتله فحينئذ قد فعل مالا يحل له وعليه الضمان.
إذن يجب التدرج بالأسهل.
لكن لو قال: أنا لو هددته وعلم بموضعي خشيت على نفسي وأنا أعلم أنه لا يمكنني أن أنفك منه إلا بضربه فحينئذ يجوز له ذلك.
قال: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه] .
لأنه فعل مأذون شرعاً.
لما ثبت في البخاري: أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده فخرجت ثناياه فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل فلا دية) .
فهنا لم يوجب له دية ثناياه، وهذا يدل كما قال ابن القيم أن من تخلص من يد ظالم، فأتلف نفس الظالم أو شيئاً من أطرافه أو ماله فذلك هدر.
لكن لو قتله ويمكن أن يندفع بدون ذلك فإن عليه الضمان.
وكذلك: لو أصاب يديه، وحينئذ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فأتى إلي رجليه، فإن عليه دية الأرجل، لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه.
فإذا اعتدى رجل عليه أو على أهله فقتله فهذا حلال حتماً بينه وبين الله، لكن الذي يحكم به القاضي هو الظاهر فيقتل القاتل إلا أن تقر بذلك أولياء المقتول فإنه لا يقتل وهذا هو كلام الحنابلة.
لكن شيخ الإسلام استثنى ما إذا كانت القرينة الظاهرة تدل على صدقه، كأن يكون رجل معروف بالبر، ودخل في بيته رجل معروف بالفجور فقال شيخ الإسلام تقبل يمين القاتل فيحلف أنه دخل بيته وأراد الاعتداء على عرضه فقتله ولم يتمكن من دفعه إلا بالقتل فحينئذ يقبل قال: لا سيما إذا كان معروفاً بالتعرض له قبل ذلك.
وما اختاره شيخ الإسلام هو الظاهر، ولا يمكن قيام مصالح الناس إلا بهذا.
(28/62)
________________________________________
ولأنه في الغالب في مثل هذه المسائل لا توجد البينة أي الشهود ومعلوم أن البينة ما أبان الحق، فإذا كان هذا الرجل معروفاً بالصلاح والآخر معروف بالاعتداء والفجور فوجدناه في بيته قتيلاً وادعى أولياء المقتول أنه قتله فاعترف بذلك وأخبر بما تقدم ذكره وحلف على ذلك فإن الحق ظاهر معه.
إذن: الأصل أنه لابد من بينة أو أن يقر أولياء المقتول لكن إن كانت القرينة ظاهرة في صدق القاتل فإنا نكتفي بيمينه.
قال: [فإن قتل فهو شهيد] .
كما تقدم
قال: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] .
تقدم أيضاً.
قال: [ومن دخل منزل رجل متلصصًا فحكمه كذلك] .
فمن دخل منزل رجل متلصصاً أي ليسرق ونحو ذلك فحكمه كذلك وقد يكون البيت ليس فيه شيء فلا يكون سارقاً ولا يريد القتل ولا يريد العرض فحينئذ حكمه كذلك والعلة أنه معتد في دخوله البيت.
فإن نظر من نافذة أو من شق في الباب فحذفه بعصا، ففقع عينه، فلا ضمان.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن إمرءاً اطلع عليك بغير إذن ففقأت عينه فلا جناح عليك) متفق عليه وظاهره ولو لم يكن في البيت نساء لكن لو كان متساهلاً قد فتح بابه فنظر إليه رجل من الباب فلا يكون الحكم كذلك فلي له أن يفقأ عينيه لأنه مفرط.
مسألة:
لو تصنت وتسمع من شق ونحوه بغير إذن فهل يشق أذنه أم لا؟
قولان:-
المشهور في المذهب: أنه ينذره قبل ذلك.
وقال بعض الحنابلة: بل يشق أذنه وهذا أظهر للحديث المتقدم في فقيء العين.
المسألة الأولى:
تقدم في الدرس السابق أن من نظر في شق ففقئت عينه أنه لا ضمان ولادية.
وهل هذا من باب عقوبة المعتدي أو من باب دفع الصائل؟
هو من باب عقوبة المعتدي كما قرره شيخ الإسلام وليس من دقع الصائل.
ولذا لا يجب تحذيره وهو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(28/63)
________________________________________
ومن ذلك: ما اختاره شيخ الإسلام أن من وجد مع امرأته رجلاً فقتله فيما بينه وبين الله، فلا شيء عليه لا فرق بين أن يكون المقتول الزاني محصناً أو غير محصن معروفاً بالفجور أم ليس معروفاً به.
قال: أي شيخ الإسلام: " وعليه يدل كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم".
ومن ذلك أثران:
الأول: ما رواه سعيد بن منصور: بينما عمر يتغذى إذ أقبل رجل معه سيف ملطخ بالدم وخلفه قوم يجرون فجلس عند عمر، فأتى أولئك فقالوا: يا أمير لمؤمنين إن هذا قد قتل صاحبنا، فقال: ما تقول فقال: ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بين ذلك أحد فقد قتلته فقال: مما تقولون؟ قالوا: لقد ضرب بالسيف وسط الرجل وفخذي المرأة- "وهذا اقرار منهم بما فعل - فأخذ عمر السيف فهزه ودفعه له وقال: إن عادوا فعُد" وهو أثر صحيح مشهور وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
الثاني: ما ثبت عن علي كما في مصنف عبد الرزاق، لما سئل عن رجل قتل رجلاً وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فإنه يؤخذ برمته".
وظاهره أنه إذا أتى بأربعة شهداء فإنه لا يؤخذ برمته وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في حكم القاضي فإنه يحكم بالظاهر.
ولذا أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل على قوله: يا رسول الله إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوله، كما في الصحيحين.
(28/64)
________________________________________
ومما يدل على جواز ذلك فيما بينه وبين ربه أن سعد بن معاذ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى أتي بأربعة شهداء؟ فقال: نعم، وهذا جواب في الحكم بالظاهر، فقال سعد والذي بعثك بالحق لأعاجله بالسيف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وإني لغيور والله أغير منا) فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه ولم يأذن له، لأنه لو أذن له بذلك في سؤاله الأول لكان هو حكم الشرع ظاهراً وباطناً لكنه أقره ولم ينهه.
المسألة الثانية:
إذا اجتمعت حدود فلا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:-
الحال الأولى:
أن تكون كلها حدود لحق آدمي، ويدخل في هذه المسائل ما لو لم تكن حدوداً كالقتل وقطع الطرفين ونحو ذلك.
فإذا كانت حقوقاً للآدميين فيجب استيفاؤها كلها فلو أن رجلاً قتل شخصاً وقطع طرف آخر، فيجب قطع طرفه ثم يقتل.
وإذا قلنا إن حق القذف حق للآدمي كما هو المذهب فإذا قذف فإنه أيضاً يجلد.
وهذا باتفاق العلماء لأن حقوق الآدميين مبناها على المشاحة.
الحالة الثانية:
أن تكون الحدود كلها لله تعالى، كأن يجتمع عليه حد حرابة وحد سرقة ونحو ذلك، فلا تخلو هذه الحال من حالتين:-
1) ألا يكون فيها قتل فحينئذ يجب استيفاؤها كلها اتفاقاً.
كأن يكون قد سرق وعليه حد حرابة لكنها لا تصل إلى القتل وإنما النفي مثلاً فإنه يستوفي هذا وهذا باتفاق العلماء.
2) أن يكون فيها قتل، فقولان:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور: إن القتل يحيط بكل شيء وفيه أثر عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبه لكن إسناده ضعيف.
وقالوا: لأن المقصود هو الإنزجار.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعي يجب استيفاؤها كلها وذلك لأنها عقوبات فقطع يده لسرقته وقتله في الحرابة لحرابته فيجب أن نستوفي هذا وأن نستوفي هذا.
وهذا أظهر والله أعلم.
الحالة الثالثة:
أن تكون الحدود بعضها لله تعالى وبعضها للآدميين.
(28/65)
________________________________________
فحدود الآدميين يجب استيفاؤها، وكما تقدم لفظة حدودهنا فيها تجوز فيدخل فيها القصاص وهو ليس من الحدود.
وأما حدود الله تعالى فيرجع إلى الخلاف المتقدم فالشافعي يقول، يجب استيفاؤها كلها.
والجمهور يقولون: إن كان فيها قتل فإنا نكتفي به والراجح ما تقدم.
" باب قتال أهل البغي"
البغي: من بغا يبغي إذا اعتدى
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) .
وما يتفرع في هذا الباب من مسائل، فأصله قتال علي رضي الله عنه لمن خالفه من الصحابة وغيرهم في صفين والجمل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وغيره: "يقتل عمراً الفئة الباغية".
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامه قال: " شهدت صفين فكانوا لا يجيزون جريحاً أي لا يجهزون عليه، ولا يطلبون دماً أي إذا فر من القتال فإن دمه لا يطلب ولا يسلبون قتيلاً) .
وليس هذا أي قتال أهل البغي - ليس من جنس قتال الخوارج، فإن قتال الخوارج ولا شك، أوجب وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم في قوله: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل) .
وهؤلاء أي البغاة مأولون تأويلاً سائغاً وإن كان منهم من يكون غاصباً.
وأما الخوارج فليس لهم تأويل سائغ.
ولذا اختلف أهل العلم، هل قتال الخوارج كقتال البغاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في مذهب أحمد، أن قتال الخوارج كقتال البغاة فلا يجاز جريحهم ولا يطلب دم فارهم ولا يسلب قثيلهم.
والقول الثاني في المذهب وصححه الموفق والشارح وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لهم هذا الحكم، بل يجهر على جريحهم ويسلب قتيلهم ويتبع فارهم ويطلب دمة.
(28/66)
________________________________________
والمسألة مسألة توقف وإن كان القول الثاني فيما يظهر أقرب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل) . والله أعلم.
إذن في الخوارج خلاف في مذهب أحمد وغيره، وبعض أهل العلم يرجع هذه المسألة إلى الحكم بتكفيرهم هل يكفرون أم لا لكن الذي عليه نصوص أحمد وهو المشهور عنه أنهم لا يكفرون وهو قول علي وهو أعظم من قاتل الخوارج فإنه لما سئل كما نقل هذا شيخ الإسلام وغيره لما سئل أكفارهم فقال: " من الكفر فمروا" وهناك رواية عن الإمام أحمد في التكفير.
لكن الذي يظهر أن هذه المسألة لا تنبني على مسألة تكفيرهم وإنما ينبني على أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم بالمعاصي، وأما البغاة فليسوا كذلك، ولذا فقد فرف بينهم بعض أهل العلم كما تقدم.
قال رحمه الله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة] .
شوكة: من قوة وسلاح.
ومنعة: أي بعضهم يمنع بعضاً، فهم جماعة كثيرة يمنع بعضها بعضاً ولهم سلاح يقاتلون به.
قال: [على الإمام] .
أي الأعظم.
قال: [بتأويل سائغ] .
قال شيخ الإسلام: التأويل السائغ هو التأويل الجائز من جنس تأويل الفقهاء في موارد الاجتهاد، وليس من جنس تأويل الخوارج.
[فهم بغاة] .
فهؤلاء هم البغاة.
فإن اختل شرط من هذه الشروط فهم قطاع طريق، فإن كان ليس لهم شوكة ومنعة أو لم يخرجوا على الإمام وإنما خرجوا على أمير بلد وهم يقولون نرى السمع والطاعة للإمام، أو خرجوا على الشرط ونحو ذلك فهم قطاع طريق وليسوا ببغاة.
قال: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه] .
فيسألهم ما الذي ينقمون عليه، وما الذي أجاز لهم الخروج عليه بالسيف.
قال: [فإن ذكروا مظلمة أزالها] .
فإذا ذكروا ظلماً حصل لبعض الناس، أو ظلماً عاماً فإنه يجب عليه أن يزيله.
وإزالة الظلم واجبة في الأصل، لكن هنا يتأكد وجوبها لدرء المفسدة وحقن دماء المسلمين.
قال: [وإن ادعوا شبهة كشفها] .
(28/67)
________________________________________
إذا قالوا: خرجنا لأنك قد أوجبت علينا ما ليس بواجب أو حرمت علينا ما ليس بحرام فما هو دليلك على ذلك وما هي حجتك فحينئذ يبين لهم بالحجة والبرهان ما يزيل لهم شبهتهم ويكشفها أي بما يرسل لهم من أهل العلم لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) وهذا من الإصلاح.
قال: [فإن فاءوا وإلا قاتلهم] .
لقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي)) .
وقوله (فقاتلوا) يدل على أنه يجب على الرعية أن يقاتلوا لقوله تعالى: ((فقاتلوا التي تبغي)) لكن هذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه النصوص وآثار الصحابة رضوان الله عليهم في قتال صفين والجمل.
فإن أكثر الأكابر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشتركوا في القتال مع أن علياً هو أمير المؤمنين بالبيعة، وشارك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعمار بن يسار وغيره.
وإنما لم يشارك منهم من لم يشارك لأنه رأى أن في القتال مفسدة راجحة فحينئذ يكون قتال فتنة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (تكون فتن، فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل) رواه أحمد وغيره.
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود: (فكن كخير ابني آدم) وهم أي الذين لم يشاركوا مع علي، قد تعارض لديهم وجوب طاعة الإمام، ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن قتال الفتنة.
ووجوب طاعة الإمام نص عام، وهذا نص خاص فترجح النص الخاص وهو النهي عن القتال في الفتنة.
ولذا كما ذكر شيخ الإسلام، لم يكن علي يستدل بنص في قتاله لمعاوية رضي الله عنهم ومن معهم، وإنما ذكر أنه رأي قد رآه، وكان أحياناً يثني على من لم يشارك.
وقتال البغاة كما تقدم لا يجهز فيه على جريحهم، ولا يطلب فارهم، ولا يسلب قتيلهم.
(28/68)
________________________________________
فدماؤهم معصومة وأموالهم معصومة وإنما هو من جنس دفع الصائل فالجريح قد إندفعت صولته، والفار قد أندفعت صولته، والأثر المتقدم أي أثر أبي أمامة يدل على ذلك.
أيضاً لا يجوز أن يقاتلهم بما فيه إهلاك عام كالإحراق وكالمنجنيق أو نحو ذلك وذلك لأن قتالهم من باب دفع الصائل فيدفع بالأسهل.
لكن لو كان مضطراً محتاجاً إلى الدفع بالأصعب بأن كان لا يمكنه دفع صولتهم إلا بالأهلاك العام فإن ذلك يجوز.
فإذا وضعت الحرب أوزارها فلا ضمان من الطرفين أي لا هؤلاء يضمنون الدماء التي سفكوها، والأموال التي أتلفوها ولا الآخرون كذلك.
أما أهل العدل، الذين هم الإمام ومن معه، فإن هذا ظاهر لأنه قتال مأذون لهم فيه، فليس عليهم ضمان.
وأما الطائفة الأخرى وهي طائفة البغي، فلا يضمنون لأنهم متأولون.
ولذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين لم يضمن أسامة دم الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله لأنه قتله متأولاً.
فلو أن أحدهم فر فتبعه بعض أهل العدل فقتله فإنه يضمن وذلك لأنه بغير حق، وهو فعل ليس بمأذون فيه لكن هل يثبت القصاص أم لا؟
وجهان في مذهب أحمد وغيره، أصحهما أن القصاص لا يثبت للشبهة.
فإن فر إلى فئة أخرى ليتقوى فهل يجوز قتله أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقتل أيضاً أي لا يتبع فيقتل.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أبي حنيفة، ومذهب كثير من الشافعية أنه يقتل، وهذا أظهر لأنه فر للقتال والحرب فهو ليس فاراً من القتال بل فارُ له.
قال: [وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان] .
عصبية ما تقع بين القبائل فتتعصب هذه ويتعصب تلك من غير أن تكون إحداهما تطلب الرياسة من الأخرى.
"أو رياسة"وكل واحدة منهما تريد الرياسة على الأخرى فالطائفتان جميعاً ظالمتان، فكل واحدة من الطائفتين ليست بطائفة عدلٍ وليس من البغاة المتأولين.
قال: [وتضمن كل واحدة، ما أتلفت على الأخرى] .
(28/69)
________________________________________
من الأموال والأنفس.
فإذا انتهت الحرب ننظر ما أتلفت هذه على الأخرى من الأموال والأنفس، ولنفرض أنهم قدروها بمائة ألف وينظر ما أتلفت هي على الأخرى من الأموال، والأنفس فقدرناها بخمسين ألف، فالفارق بينهما وهو خمسين ألف يدفع إلى الطائفة التي الإتلاف منها أكثر في الأموال والأنفس.
"باب حكم المرتد"
المرتد لغة: هو الراجع.
أما في الاصطلاح: فعرفه المؤلف بقوله: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] .
فالمرتد هو الذي يكفر بعد اسلامه.
الردة تكون طوعاً لا كرهاً كما قال تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) .
والإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، كما قرر هذا شيخ الإسلام فليس الإكراه المعتبر على كلمة الكفر كالإكراه المعتبر على الهبة.
فالمرأة قد تخاف أن يطلقها زوجها فتهبه مالها فهذا إكراه معتبر في الهبة، وليس هذا معتبراً في الكفر فلو كفرت خوفاً من طلاق زوجها فإنها تكفر وليست بمكرهة حينئذ أي لا يقبل منها هذا الإكراه.
قال الإمام أحمد: " الإكراه أي هنا بالتعذيب والضرب" فإذا أكره منطق بكلمة الكفر فكفر بعد إسلامه بهذا لا يكون كافراً بذلك بل هو معذور عند الله عز وجل".
وليس من العذر الخوف ولا الرجاء فإن الله لم يستثن إلا الإكراه، وكما ذكر الله عز وجل في موالاة الكفار وكفر بها ثم قال: (فترى الذي في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة) .
فهم كانوا خائفين أن تكون الدائرة للكفار عليهم، فلم يعذرهم الله عز وجل بذلك.
والردة قد تكون بالاعتقاد، وقد يكون بالنطق، وقد يكون بالفعل وقد يكون بالشك.
فمثاله في الاعتقاد اعتقاد قدم العالم فمن اعتقد أن العالم قديم فهو كافر.
(28/70)
________________________________________
أو جحد ربوبية الله واعتقد ألا رب فهذا كفر بالاعتقاد ومثاله في النطق كمن استهزأ بدين الله عز وجل ولو كان هازلاً أو سب الله أو سب رسوله أو سب الإسلام ولو كان هازلاً فإنه يكفر بالإجماع وإن لم يعتقد ذلك في قلبه، أي ولو أدعى أنه لم يعتقد ذلك في قلبه.
ودليل هذا أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم عن الذين أكفرهم الله بالاستهزاء: ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)) أي لم نكن معتقدين هذا في قلوبنا وإنما كان هذا بمجرد اللسان من باب الخوض واللعب فقال الله عز وجل: ((لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) .
ومن أمثلة النطق أن يتلفظ بما فيه تنقص لله عز وجل كقول اليهود: " يد الله مغلولة".
ومثال الكفر بالفعل، عبادة غير الله عز وجل، من أتخذه وسائط يعبدهم من دون الله عز وجل ويتوكل عليهم، فهو كافر بالإجماع، وكذلك أن يطأ المصحف.
ومثال الكفر بالشك، أن يشك في كفر اليهود والنصارى، فمن شك في كفر اليهود والنصارى فهو كافر، أو شك في البعث، أو غير ذلك من الشك فيما يجب الجزم به فإن ذلك من الكفر بالله عز وجل.
قال: [فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته] .
أي قال: الله ليس برب أو ليس لهذا الكون خالق.
قال: [أو وحدانيته] .
أي أنكر أن يكون الله عز وجل، متفرداً بالعبادة، بل يجوز أن يعبد معه غيره.
قال: [أو صفة من صفاته، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً أو جحد بعض كتبه أو رسله أو سب الله أو رسوله فقد كفر] .
وهنا المؤلف لم يستثن الجاهل بخلاف المسائل الأخرى بعد ذلك، فإنه قال: (ومن جحد تحريم الزنا إلى أن قال: بجهل عرف ذلك) .
فالمسائل الظاهرة المعلومة من الدين، هذه يكفر قائلها أو فاعلها، يكفر بالله عز وجل إن أقيمت عليه حجة الله على العباد.
والمراد بالكفر هنا أحكام الكفر وهي ما يترتب على الكفر من الوعيد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأن حكم الوعيد على الكفر لا يترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله) .
(28/71)
________________________________________
فأحكام الوعيد من القتل في الدنيا، واستباحة المال والسبي، ومن أحكام الآخرة وهي التخليد في نار جهنم هذه أحكام الوعيد المترتبة على الكفر فهذه لا تترتب على العبد حتى تقوم عليه حجة الله عز وجل على عباده التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) .
فالله لا يعذب في الآخرة ولا يأذن بالعذاب في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، حتى تقوم حجة الله تعالى على العباد.
وهذه اللفظة المتقدمة من كلام شيخ الإسلام تدل على أن عامة كلامه في هذا الباب يريد به أحكام الوعيد وأن أحكام الوعيد على الكفر لا تترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله على العباد.
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
أن حجة الله على العباد، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قائمة بالقرآن فمن بلغه فقد بلغته حجة الله عز وجل قال تعالى: ((لينذركم به ومن بلغ)) وقال: ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) .
المسألة الثانية:
أنه لا يشترط في إقامة الحجة هنا فهمها، ففهم الحجة نوع وشيء، وإقامتها نوع وشيء آخر كما بين هذا الإمام محمد وغيره يتبين هذا، أن الله سبحانه وتعالى قد كفر من دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، مع أنه أخبر أنه قد جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، فقال تعالى: ((أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)) .
فكونهم لا يفهمون حجة الله عز وجل هذا لا يعذرهم عند الله عز وجل بل متى ما قامت عليهم الحجة بحيث يفقهونها ويفهمونها لكنهم لم يفهموها ولم يفقهوها فإن الحجة قائمة عليهم بذلك.
نعم لو أبلغ أعجمي القرآن لم تقم عليه بذلك حجة الله عز وجل أما من كان يعرف لغة العرب ويفهم القرآن لكنه لم يفهم حجة الله عز وجل بسبب ما ران على قلبه ذلك ليس بعذر عند الله عز وجل.
(28/72)
________________________________________
ويدل عليه كلام أهل العلم عامة فإنهم إنما يذكرون التعريف ويذكرون بيان الحجة، ولا يذكرون فهمها بل بمجرد ما تبين له الحجة ويعرف فإنه يقتل كما قرر أهل العلم في مسائل كثيرة من هذا الباب وأنهم يعرفون بالحق فإن رجعوا وإلا اقتلوا ولا يشترطون أن يعرف الحق ثم يعاند.
كما وقع لقدامة بن مظعون رضي الله عنه، ومن معه ممن أباح الخمر واستدل بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)) ، فكانت هذه الآية شبهة لهم فاتفق الصحابة كعمر وعلي بن أبي طالب أنهم يعرفون بالحق فإن تابوا وإلا قتلوا، فلم يكفروهم ابتداءً لأجل هذه الشبهة.
وأما الحكم على الشخص بالكفر الذي لا تترتب عليه أحكام الوعيد، فهذا شيء آخر.
بمعنى: كون الرجل يحكم عليه بالكفر الذي لا يترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة من قتل وسبي واستباحة مال وتخليد في نار جهنم فهذا شيء آخر وفي بعض أجوبة أئمة الدعوة النجدية كإجابة الشيخ عبد الله وحسين ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيمن عرف بفعل الشرك ومات على ذلك.
فقال: إنه إذا كان الأمر كذلك أي عرف بفعل الشرك بالله تعالى: فإن الظاهر منه أنه قد مات على الكفر، وعليه فلا يستغفر له ولا يضحى عنه.
أما في حقيقة الأمر فإن كانت قد قامت عليه حجة الله على عباده فهو كافر في الظاهر والباطن.
وأما إن لم تقم عليه حجة الله على عباده فأمره إلى الله تعالى، فهنا في هذه الفتوى بينوا أن هناك كفراً في الظاهر وأن هناك كفراً في الظاهر والباطن.
أما الكفر الذي يكون كفراً في الظاهر والباطن فهو الذي تترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة فهو من قامت عليه حجة الله على عباده فهذا يستباح ماله ودمه ويخلد في نار جهنم.
(28/73)
________________________________________
وأما من لم تقم عليه حجة الله على عباده فهو في الظاهر، أي في أحكام الدنيا يسمى كافراً ومشركاً فلا تحل ذبيحته ولا يحل نكاح نسائه ولا يستغفر له ولا يضحى عنه ولا غير ذلك مما يترتب على المسلمين فليس بمسلم.
قال ابن القيم: والإسلام هو توحيد الله تعالى وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبالرسول واتباعه فيما جاء به، فمن كان على ذلك فهو المسلم، ومن لم يكن على ذلك فليس بسلم إما أن يكون كافراً معانداً وإما أن يكون كافراً جاهلاً) أ. هـ.
فمن ناقض التوحيد وناقض أصل الرسالة فليس بمسلم إما أن يكون كافراً جاهلاً ومن هنا فإن الإسلام ألحق غير المكلفين بآبائهم فإن الأطفال في الدنيا وهكذا المجانين لهم أحكام آبائهم كما صح هذا في البخاري وغيره وقد تقدم فالمقصود من هذا أن هؤلاء الذين لم تقم عليهم حجة الله على عباده وليسوا على دين الإسلام وإن أدعوا أنهم عليه فهم كفار في الظاهر، لا تحل ذبائحهم ولا تحل نساؤهم ولا يستغفر لهم ونحو ذلك من الأحكام في الدنيا.
لكن لا يعذبون لا في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، ولا في الآخر في نار جهنم حتى تقام عليهم حجة الله على عباده.
(28/74)
________________________________________
وأما المسائل الخفية، وهي التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، التي ليس فيها مناقضة للتوحيد ولا مناقضة للإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشيخ عبد الله أبا بطين في تفسير كلام شيخ الإسلام فهذه المسائل الخفية كإنكار بعض الصفات: الذي يميل إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أن هذه المسائل لا يكفر المخالف فيها، حتى يفهم حجة الله عز وجل فلا يكفي أن تقام عليه الحجة، بل لابد وأن يفهم حجة الله عز وجل على عباده ويعلم أنه ليس بمعاند هذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام كما فسره الشيخ عبد الله أبا بطين، ويدل عليه شيخ الإسلام كان يقول للجهمية: " أنا لو وافقتكم لكنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لستم بكفار لأنكم جهال" أ. هـ.
مع أنه رحمه الله قد أقام عليهم حجة الله عز وجل وجادلهم وناظرهم في شرع الله ودينه، وقع ذلك لم يكفرهم.
فهؤلاء ليسوا بكفار حتى يفهموا حجة الله عز وجل، فإذا علم أن لهم شبهة أو أن الحق لم يثبت عندهم، فإنهم لا يكفرون بذلك.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: والمشهور في المذهب خلاف هذا والمسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد.
فهذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف.
ولذا فإن عبارة شيخ الإسلام هي: " ولو كانت من المسائل الخفية فقد يقال إنهم لا يكفرون حتى تقام عليه حجة الله التي يكفر من خالفها، ولكنهم يصدر منهم ذلك في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، واليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتى بها وكفرّ من خالفها" أ. هـ.
أي هؤلاء الذين قد صدرت منهم هذه الأخطاء لم تكن في مسائل خفية وإنما كانت في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، بل يعلم اليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفّر من خالفها.
وضرب أي شيخ الإسلام لذلك أمثلة.
(28/75)
________________________________________
منها الشرك بالله عز وجل وعدم إيجاب الصلوات الخمس وعدم تحريم الفواحش من الزنا ونحوه، فهذه من المسائل الظاهرة التي يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بها.
قال: [ومن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عُرف ذلك] .
فمن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها أو شيئاً من الفرائض الظاهرة المجمع عليها كالصلاة بجهل لكن لا يقبل عند أهل العلم مجرد ادعاء الجهل، بل لابد أن يكون مثله يجهل ذلك، ولذا قال بعد ذلك: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] .
فإذا كان أحد في البلاد الإسلامية التي يظهر فيها العلم وأدعى أنه لا يعلم أن الزنا حرام أو أن الصلاة فرض فإن ذلك لا يقبل منه.
وأما إن كان مثله يجهل ذلك كمن نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهدٍ بالإسلام، فإن ذلك يقبل منه بمعنى، إن كانت حاله تصدق ذلك.
وعليه فالجهل عذره في ثلاث مسائل:-
المسألة الأولى: أن يكون مدعي الجهل ناشئاً في بادية.
المسألة الثانية: أن يكون حديث عهد بإسلام.
المسألة الثالثة: أن تكون من المسائل الخفية.
على أن المسألتين الأوليين ليست هي في كل المسائل.
مسألة:
لا يكفر من حكى كفراً سمعه وهو لا يعتقده، قال صاحب الفروع ولعلة إجماع أي حيث لم يعتقد ذلك.
ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين وهو حديث مشهور في الرجل الذي قال: لما وجد راحلته، " اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، فقد قال الكفر وهو لا يريده ولا يعتقده فكذلك من يحكي الكفر وهو لا يعتقده.
كذلك إذا كان سبق لسان أو غير ذلك فإنه لا يكفر بذلك كشدة فرح أو غير ذلك.
(28/76)
________________________________________
وهل يكون من ذلك ما ورد في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا هو مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله عز وجل البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له: لم قلت ما قلت؟ فقال: من خشيتك وأنت أعلم فغفر له) والكفر الذي وقع فيه الشك في عموم قدرة الله عز وجل وظاهر الحديث أن الذي حمله على ذلك شدة الخوف.
لكن شيخ الإسلام وكثيراً من أهل العلم يحملون هذا على أنه لم تبلغه الدعوة، فأنكر صفة من الصفات ولم تبلغه الدعوة.
ويكون هذا دليلاً على المسألة المتقدمة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن عائشة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ فقال: نعم) فهذا شك في عموم علمه سبحانه ولم تكفر بذلك لأن هذه من المسائل التي قد تخفى فلا يكفر إلا من قامت عليه حجة الله عز وجل وفهمها.
ولذا فإن شيخ الإسلام يقول وغيره من أهل العلم: " من أخطأ في مسألة سواء كانت في المسائل النظرية أو المسائل العملية، (لا نفرق بين الأصول والفروع فالتفريق بينهما قول محدث يقوله المعتزلة) فإنه يعذر بالجهل، لأنه قد لا يبلغه الحق الذي يحبى القول به، أو يبلغه لكنه لا يثبت عنده أو تقوم عنده بعض الشبهات، وهذا فيمن آمن بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله ثم أخطأ في مسألة من المسائل ولو كانت في باب الصفات أو غير ذلك فهذا هو حكمه.
ويدل عليه أن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بالعذر بالجهل فقال سبحانه: ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) والخطأ هو الجهل، وفي مسلم قال الله تعالى: ((قد فعلتُ)) وكما تقدم من الأدلة السابقة.
قال أي شيخ الإسلام وعليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماهير علماء الأمة.
(28/77)
________________________________________
وذكر رحمه الله أن الناس قد اضطربوا في مسألة تكفير أهل الأهواء فعن الإمام أحمد روايتان، وكذلك عن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي قولان، ثم ذكر ما تقدم تقريره في أهل الأهواء كمن يقع له بعض الغلط في باب القدر وفي باب الإرجاء وفي إنكار بعض الصفات ونحو ذلك وهو من المؤمنين بالله ورسوله لكن وقع له بعض الخطأ، إما أن الحق لم يبلغه، أو بلغه لكنه لم يثبت عنده أو قامت عنده بعض الشبهات.
مسألة:- من نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فإنه لا يكفر بذلك.
مسألة:
لو قال: هو يهودي أو نصراني، فإنه يكفر بذلك.
أما إذا قال: " هو يهودي إن لم يفعل كذا" فسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله.
مسألة:
من قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذف أمه أي أم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يُعبد فيها وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعةً له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه فهو كافر، أو إيمانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم واعتقد أن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر لتضمنه اعتقاد صحة دينهم.
لكن لو فتح لهم الباب فقط، فقد لا يكفر لأنه لا يتضمن اعتقاد صحة دينهم.
قال شيخ الإسلام:
ومن اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عٌرف ذلك فإن أصر صار مرتداً لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: ((إن الدين عند الله الإسلام)) .
مسألة:
من قذف عائشة فقد كفر لأنه مكذب للقرآن، أما غيره من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قذفهن ففيه قولان أصحهما، أنه يكفر لأنه قدح بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من سب الصحابة أو سب أحداً منهم واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي، أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره"ا. هـ.
وذلك لأنه مخالف لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
مسألة:
(28/78)
________________________________________
من أنكر أن يكون أبو بكر الصديق صاحب رسول الله فقد كفر لأنه تكذيب للقرآن في قوله تعالى: ((إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)) والقاعدة أن من نفى صحبة صحابي فترتب على ذلك تكذيب للقرآن أو لما تواتر عند المسلمين وأجمعوا عليه وهو معلوم عندهم ظاهر كصحبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة ممن صحبته كذلك فإنه يكون كافراً.
مسألة:
من حرم شيئاً مجمعاً على حله كالماء كفر، وكذلك من أباح شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه..
قال: [فصل: " فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف رجل أو امرأة دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قتل بالسيف] .
"وهو مكلف": والمكلف هو البالغ العاقل فالصبي غير المميز ومن ذهب عقله بدواء، أو النائم لا خلاف في ذلك، أنه إذا أتى ما يكفر بمثله لا يكفر هو به وذلك لأنه إذا فعل ما يقتضي التكفير فإنه لا يحكم عليه.
ظاهره أن الصبي المميز كذلك، أي لا يحكم عليه بالردة، فمثلاً لو قال أو فعل ما يكفر به فإنه لا يكفر في ظاهر كلام المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد واستظهره صاحب الفروع والموفق وهو مذهب الشافعي.
والقول الثاني: وهو المذهب أنه يكفر بذلك وهو مذهب الجمهور قالوا: الصبي المميز يصح إسلامه فكذلك ردته ويدل عليه صحة العبادات منه فإنه لو صلى وصام أي الصبي المميز فإن ذلك يصح منه ولا تصح إلا من مسلم، فدل على أن الصبي المميز يصح إسلامه فإذا ثبت صحة إسلامه فردته كذلك وأما أهل القول الأول، وهو ظاهر كلام المؤلف كما تقدم فاستدلوا بالأدلة التي تدل على أن الصبي المميز مرفوع عنه القلم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة وفيه والصبي حتى يبلغ) .
(28/79)
________________________________________
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة لقوة دليله، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني، فهو أن هذا قياس مع الفارق، فإن إسلامه مصلحة محضة له، وأما ردته وكفره فهو مفسدة محضة، فما كان فيه مصلحة محضة له قُبل وهو الإسلام، وما كان فيه مفسدة محضة رُد وهو الكفر بالله عز وجل،
إذن أصح القولين أن من ارتد وهو صبي مميز فإنه لا يحكم بردته خلافاً للمشهور في المذهب، وعلى المذهب لا يقتل حتى يبلغ فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.
[مختار] فإن كان مكرهاً فلا يحكم عليه بالردة، لقوله تعالى: ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) .
[رجل أو امرأة] لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس: (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري.
والحديث عام في الذكر والأنثى.
[دعي إليه] أي إلى الإسلام [ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قُتل بالسيف] .
المذهب أنه يجب أن يستتاب ثلاثة أيام ويحبس فإن تاب وإلا قتل وهو مذهب الجمهور استدلوا: بما رواه مالك في موطئة أن عمر قال في رجل كفر بعد إسلامه: " لولا حبستموه ثلاثة أيام واطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه فإن تاب أو راجع وإلا قتلتموه" ثم قال: " اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني".
وفي الدارقطني: "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت".
والأثر الأول: ضعيف لانقطاعه وجهالة بعض رواته، والحديث الذي رواه الدارقطني فيه معمر السعدني وهو ضعيف الحديث.
وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي: أنه لا يستتاب وجوباً وإنما يستتاب استحباباً وهو مذهب أهل الظاهر.
واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يدل دينه فاقتلوه) .
قالوا: والفاء تفيد التعقيب فدل على أن القتل يكون عقيب ارتداده عن دينه وليس فيه ذكر الإستتابة بل ظاهره ترك الإستتابة.
(28/80)
________________________________________
وفي الصحيحين أن معاذ بن جبل قال في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله فأمر به فقتل".
وأما ما في أبي داود من أنه كان قد استتيب قبل ذلك فهذا من فعل أبي موسى الأشعري وليس في الأثر أن معاذا استفصل عن ذلك أي لم يقل هل استتبتموه أم لا؟
هذا من الأثر:
وأما من النظر: فيدل على ذلك أن الكافر المحارب للإسلام إذا بلغته الشريعة الإسلامية فقامت عليه حجة الله على عباده فإنه لا تجب استتابته عند إرادة قتله.
وهذا هو القول الراجح وأن استتابته لا تجب لكن إذا كان لم تبلغه الحجة فحينئذ لابد أن يعرف وذلك لقوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) وأحكام الوعيد على الكفر في الدنيا والآخرة لا تثبت إلا بعد إقامة الحجة قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) .
لكن إذا علمنا أن الحجة قد قامت عليه فهل يجب علينا أن نكررها عليها استتابة له أم لا؟ هنا الخلاف.
[فإن لم يسلم قتل بالسيف] لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) والقتلة بالسيف قتلة حسنة.
قال: [ولا تقبل توبة من سب الله أورسوله] .
ليس كلام المؤلف هنا في التوبة في الباطن، فإنها تقبل توبته إذا كان صادقاً، تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، فلا إشكال في أن كل من تاب من ذنب فإن الله يقبل توبته.
لكن إذا أتينا برجل قد سب الله أو رسوله لنقتله فقال: تبت فهل تقبل توبته؟.
الجواب: لا تقبل توبته.
فقد تقدم أن المشهور في المذهب أن من ارتد فإنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب، وإلا قتل لكن استثنى المؤلف مسائل.
فهنا: من سب الله أو رسوله، فهذا لا تقبل توبته، أي في الظاهر وهذا لعظيم اعتدائه.
ويتوجه عندي أن يقال: إن هذا يدل على نفاقه وزندقته وسيأتي الكلام على الزنديق أو المنافق.
قال: [ولا من تكررت ردته بل يقتل بكل حال] .
(28/81)
________________________________________
أي أسلم ثم كفر، ثم أسلم ثم كفر، فقد تكررت ردته، فإذا أتى به إلى القاضي ليقتل فقال: أسلمت فهل يقبل منه ذلك أم لا؟
قال المؤلف هنا: لا يقبل، لقوله تعالى: ((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً)) .
ومثل ذلك أيضاً، الساحر، لقول عمر: " اقتلوا كل ساحر وساحرة" رواه البخاري. هذا كلام فيه إطلاق فلم يستثن من تاب ومثل هذا أيضاً الزنديق وهو ما يسمى عند السلف، المنافق وهو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا ثبت لنا ذلك كأن يشهد عليه من تقبل شهادته أنه قد قال كلمة تدل على نفاقه وأنه ليس بمسلم فكذلك لا تقبل توبته في الظاهر أي عند الحاكم.
هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة وهو مذهب مالك.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن توبته تقبل لعموم الأدلة التي تدل على قبول التوبة.
والصحيح هو القول الأول: وذلك لأن المنافق أو الزنديق الذي ظهر منه الإسلام وبطن منه الكفر إذا استدللنا على كفره فأراد أن يظهر الإسلام فإننا لا نستفيد من إظهاره للإسلام لأنه كاذب علينا في الأول فلم يكن مظهراً الكفر فإذا أظهر الإسلام كان إظهاره للإسلام مقبولاً حينئذ لأنه استبدل ظاهره، لكن هنا ظاهره الإسلام في السابق وباطنه الكفر فعرفنا زندقيتة فلا نأمن إذا ادعى الإسلام مرة أخرى أن يكون منافقاً والشرع يقصد حفظ الأديان، وإن كان صادقاً في توبته فالله يقبل توبته فيما بينه وبينه عز وجل، فهذا هو القول الراجح.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شاتم الرسول وألف في ذلك مؤلفاً مشهوراً.
واختار ابن القيم هذا القول لكن قيّده بتقييد صحيح وهو ألا تقبل توبته إذا كانت بعد القدرة عليه، وأما إذا كانت قبل القدرة عليه، فإنها تقبل.
فلو أن رجلاً كان ساحراً فتاب إلى الله عز وجل قبل أن يقدر عليه السلطان فإن توبته تقبل لأن ما يخشى مأمون حينئذ.
(28/82)
________________________________________
فلو أتينا به فوقفناه عند السيف فإنه يخشى أن يكون كاذباً في دعواه فإذا أظهر أنه ترك السحر فهذا أمر ليس بجديد منه فقد كان يظهره قبل ذلك فإذا أظهره الآن فلا نأمن أن يكون مبطناً للسحر وفي ذلك ضرر عظيم على الأبدان والنفوس.
أما إذا تاب قبل أن يقدر عليه فإن هذا يقبل لأن ما يخشى قد أمن.
إذا: الصحيح أن هؤلاء لا تقبل توبتهم في الظاهر بل يقتلون في كل حال، هذا حيث كانت هذه التوبة فيهم بعد القدرة عليهم، وأما قبل القدرة عليهم، فإن التوبة تقبل في الظاهر كما تقبل في الباطن.
ومثل هذا في المشهور في المذهب المبتدع الداعية إلى بدعته.
واختار شيخ الإسلام أنه تقبل توبته، وهو أصح لأن الله قد قبل توبة أئمة الكفر فأولى من ذلك أئمة البدعة.
ولأن الفارق ظاهر بينه وبين من تقدم، فإنه كان يظهر البدعة ويدعو إليها في الظاهر، فإذا تاب فقد تاب من أمر ظاهر ليس من أمر باطن لا يُدرى أصادق فيه أم كاذب.
بخلاف أولئك فقد تابوا من أمر باطن فالساحر عند ما يقول تركت السحر، والزنديق عندما يقول اترك الزندقة هذا لا يدري أصدق في الباطن أم لا، بخلاف هذا فإن توبته تدل على أنه قد ترك ما هو عليه.
مسألة:
أصح القولين لأهل العلم، أن السكران لا قول له، أي لا يعتد بقوله حتى في كفره.
خلافاً للمشهور في المذهب وتقدم الاستدلال على هذا في كتاب الطلاق.
قال: [وتوبة المرتد وكل كافر اسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] .
توبة المرتد وتوبة الكافر تثبت بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
أو أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".
(28/83)
________________________________________
وقال في الفروع: " ويتوجه احتمال قبول شهادته بالوحدانية أي بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله" أو يقول: " لا إله إلا الله فإنه يقبل منه.
ودليل ذلك حديث أسامة بن زيد في الصحيحين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه قتل من قال: " لا إله الله".
وليس فيه أنه قال: " وأن محمداً رسول الله".
وهذا ظاهر جداً حيث استلزم ذلك الإيمان بالرسالة فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى " لا إله إلا الله فإذا أقروا بذلك فهذا دليل على إقرارهم بالرسالة.
بخلاف اليهود، مثلاً فإنهم إنما كانوا إذا قالوا: " لا إله إلا الله" فإن هذا لا يستلزم إيمانهم بالرسالة، فإنهم إنما كانوا يجحدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يجحدوا ألوهية الله عز وجل ووحدانيته.
إذن: الصحيح أنه لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
كما يدل عليه الحديث المتقدم.
لكن لو كان قوله: " لا إله إلا الله" أو قوله: " محمد رسول الله" يستلزم الشق الآمر ويدل عليه فحينئذ يقبل منه ذلك لأن الألفاظ إنما يقصد منها المعاني، فإذا دل لفظه على المعنى الآخر الذي يريد اثباته فإن ذلك يكفي.
قال: [ومن كان كفر بجحد فرض ونحوه] .
كأن يكون قد كفر بجحد النبوات أو بححد فريضة من فرائض الإسلام كأن ينكر وجوب الصلاة أو أحل محرماً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كأن يحل الزنا أو حرم حلالاً مجمعاً على حله كأن يحرم الماء.
قال: [فتوبته مع الشهادتين اقراره بالمجحود به] .
فتوبته أن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" ويقر بالمجحود به.
فالشهادتان كان يقر بهما سابقاً وهنا قد أنكر شيئاً آخر فلا يكفي أن يقر بالشهادتين بل لابد أن يقر بما نفاه وجحده فيقول: " وأن الصلاة فرض أو وأن الزنا حرام" ونحو ذلك فلا يقبل منه ذلك إلا بهذا لأنه إنما كفر به.
والقول الثاني: في المسألة: أن الشهادتين لا تجب عليه.
(28/84)
________________________________________
وفي ذلك قوة، لأنه لم ينف ذلك بل هو مقر بهما، وهو على اقراره بهما.
فالأظهر، أنه لو أنكر الصلاة فيكفي في توبته أن يقول رجعت إلى الإسلام فأقول الصلاة فرض وهكذا.
مع أن الإقرار بالشهادتين أحوط، وفيه قوة أيضاً من حيث إنه يقال: إن جحده للصلاة ترتب عليه إبطال شهادته، فأصبحت الشهادتان باطلتين لأنه جحد ما يكفر به وهذا يبطل الشهادتين.
قال: [أو قوله: " أنا برئ من كل دين يخالف الإسلام"] .
أو قال: " أنا مسلم، أو " أنا مؤمن" فيكفي هذا في دخوله في الإسلام.
وقال الموفق: ويحتمل- وذكر تفصيلاً قوياً - وهو أن يقال إن كان هذا في إسلام الكافر الأصلي فيكفي أن يقول أسلمت ومن جحد وحدانية الله فيكفي أن يقول "أسلمت".
وأما من جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نحو ذلك: فإنه لا يكفي أن يقول "أسلمت" وذلك لأنه قد يعتقد أن هذا الجحد هو الإسلام فمثلاً بعض اليهود الذين ليسوا على عناد يعتقدون أن الإسلام جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن دين النبوة قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإسلام، فإذا قال اليهودي: " أسلمت" فقد يكون مراده على دين اليهود، فلا بد أن يقول " أقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -".
ومما يدل على أن قول " أسلمت" أو "آمنت" يكفي عند الشهادتين، ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد بن عمرو أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أرأيت إن جاء أحد الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فلما أردت أن أقتله قال: أسلمت أفأقتله يا رسول الله؟، فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا".
فدل هذا على أنه إذا قال: "أسلمت" أو "آمنت" فإن ذلك يكفي لكن بالتفصيل الذي ذكره الموفق أي حيث كان قوله أسلمت يستلزم الإسلام الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(28/85)
________________________________________
والمقصود من ذلك كله، أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا كان لفظ أسلمت، يدل على معنى الشهادتين فإنه يكفي عنهما وإذا قال قوله: " آمنت بالله ورسوله، يكفي عن الشهادتين وهو كذلك فهو كاف.
مسألة:
إذا فعل الكافر ما لا يفعله إلا المسلم فهل يحكم بإسلامه؟
كأن يصلي مثلاً.
الظاهر: نعم وذلك للمعنى المتقدم فإن المقصود هو ثبوت الإسلام.
[وثبوت الإسلام يكون بالتلفظ أو بالفعل الذي يدل عليه إلا أن يأبى أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهذا شيء آخر] .
مسألة:
إذا كان رجل من المسلمين يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهو لا يدري ما معنى ذلك فحياته كلها على الشرك يذبح للقبور وينذر لها ويعبدها من دون الله عز وجل، فهل هو مسلم أم لا؟
تقدم أنه ليس بمسلم، لكن هل هو كافر أصلي أو كافر مرتد؟
والذي يترتب على هذا أن المرتد لا تحل ذبيحته وإن انتقل إلى اليهودية أو النصرانية ولا يقر على دينه بل يقتل وإذا كانت امرأة فارتدت إلى اليهودية أو النصرانية فلا يجوز نكاحها كسائر الكتابيات بل يجب قتلها.
فهنا هل نقول هو كافر أصلي أم مرتد؟
أما الشيخ الصنعاني فإنه يقول هو كافر أصلي.
يقول: لأنه لا يدري ما معنى " لا إله إلا الله"، والشيء لا يصح إلا بتوفر شروطه، ومن شروط " لا إله إلا الله" العلم وفي الصحيح من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا لا يعلم معناها ولا يدري ما المراد بها، وربما لو قيل له إن معناها أن تترك هذه العبادات لم يقرّ بها.
والمشهور عند أئمة الدعوة النجدية أنه كافر مرتد، فإن الشيخ عبد اللطيف أو الشيخ عبد الرحمن لما ذكر قول الصنعاني قال: " وشيخنا لا يوافقه" يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والمسألة فيها تجاذب، وإن كانت النفس تميل إلى قول الصنعاني من باب ما تقدم.
(28/86)
________________________________________
ومن باب آخر أن آباءهم كذلك أي على هذا الأمر من الشرك بالله فهذا فيه قوة، وعبارة الشيخ عبد الرحمن لا تدل على أن خلاف الصنعاني خلاف شاذ.
وظاهر كلام الشيخ حمد بن معمر موافقة الصنعاني على ذلك والله أعلم.
(28/87)
________________________________________
كتاب الأطعمة
الأطعمة:- جمع طعام وهو ما يؤكل أو يشرب
قال تعالى {قل لا أجد فيما أوحى الى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته} {والميته مما يؤكل} {أو دماً مسفوحاً} وهو مما يشرب وقد سماه الله طعاماً 0
وقال تعالى في قصة ملك بني اسرائيل {ومن لم يطعمه فإنه منى} فسمى الشراب طعاماً فالطعام يطلق على ما يؤكل أو يشرب 00
قال] والأصل فيها الحل [.
فالأصل في الاطعمه الحل 0
لقوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ولقوله {قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته} لانه بهذه الآيه يدل على انه ما سوى ذلك حلال وعلى أن مالم ينص الله على تحريمه فهو حلال 0
وأوسع مذاهب العلماء في باب الاطعمه هو مذهب الامام مالك رحمه الله وأصول مسائل الاطعمه هي:-
المسألة الاولى:-
أن جمهور العلماء يحرمون كل ذي ناب من السباع كالذئب ويحرمون كل ذي مخلب من الطير كالصقر والنسر، ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير) وكل ذي ناب يفترس وينهش به ويعدو به فهو محرم وكل ذي مخلب من الطير يفترس به ويعدو فهو محرم أيضاً 0
وقال مالك بل هو حلال لقوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته أو دماً مسفوحاً} 0
والصحيح مذهب الجمهور وذلك لأن الآيه مكية وليس فيها إلا إلاخبار عما هو حرام حينئذ – أى في مكه – ثم دلت الأدلة الشرعية بعد ذلك على تحريم انواع كثيرة.
المسألة الثانيه:-
أن ما نهى الشارع عن قتله فهو حرام أيضاً كالنحل والهدهد ونحو ذلك 0
ففي مسند أحمد وسنن داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -نهى عن قتل اربع من الدواب (النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد) والصرد هو نوع من أنواع الطير 0
(29/1)
________________________________________
ونهى الشارع عن قتلها يدل على تحريم أكلها وذلك لأنه إذا أبحنا أكلها فهو ذريعه الى قتلها والشريعه تأتي بسد الذرائع 000
وهذا أيضا خلافا لمذهب مالك 0
المسأله الثالثه:-
-…أن كل ما أمر الشارع بقتله كالحيه والعقرب فهو محرم الأكل ففي الصحيحين أن النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - قال (خمس يقتلن في الحل والحرم:- الحيه والغراب الأبقع (وهو الذي فيه بعض بياض في رأسه أو في بقية بدنه) والحدأة وهي نوع من سباع الطير والفأره والكلب العقور)) 000
-…فهنا هذه الخمس قد أمر الشارع بقتلها، وقتلها أتلاف لها وهذا يدل على تحريمها إذ لو كانت حلالا لأمر الشارع بذبحها فلما أمر بقتلها وإتلافها وقد نهى عن اضاعة المال دل على أنها محرمه – هذا هو مذهب الجمهور – خلافا لمذهب مالك 0
المسألة الرابعة:-
أن ما يأكل الجيف محرم عند الجمهور – لخبث مطعمه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الغراب الأبقع، والغراب الأبقع إنما يأكل الجيف وليس من السباع، وقد تقدم أن هذا يدل على تحريم أكله فقياس على ذلك كل ما يأكل الجيف وذلك لخبث مطعمه، فإن خبث مطعمه يترتب عليه خبث لحمه، ومذهب مالك خلاف هذا 00
المسألة الخامسه:-
أن مذهب الجمهور أن ما استخبثه العرب ذوو اليسار من سكان الحاضرة في المدن والقرى أنه محرم – وهذا مذهب أحمد في المشهور وأستدلوا بقوله تعالى:- {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} فالمخاطب بهذه الآيه هم العرب يدل هذا على أن كل خبيث عند العرب أى من ذوي اليسار من أهل المدن والقرى فإن ذلك محرم 0
ومذهب مالك أنه ليس حرام وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيميه قال (وهو قول أحمد وقدماء اصحابه))
(29/2)
________________________________________
وهذا هو الراجح في هذه المسأله ويدل عليه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال في العنب ((إني لم أجده في أرض قومي فأجدني أعافه) فدل على أن كراهيه بعض قريش لبعض الطعام لا يحرمه والنبي صلى الله عليه وسلم قد كره هذا الطعام فلم يحرمه 0
ولأن هذا لا يوافق أصول الشرع – فلا يمكن أن يحرم الشرع شيئا على العجم وهم يستطيبونه لكون العرب يستخبثونه هذا لا يمكن 0
وعليه فمعنى الآيه {يحل لهم الطيبات} أى كل طيب مما أحله الله عز وجل فهو طيب 0
((ويحرم عليهم كل خبيث مما حرمه الله عز وجل فهو خبيث))
ويقاس عليه كل خبيث بذاته وكل طيب بذاته أى من غير أعتبار الى من أستطاب ذلك أو أستخبثه 0
فكل خبيث بذاته مما فيه ضرر على الأبدان أو العقول أو الأخلاق فإنه محرم 0
فكل ما فيه ضرر على الأبدان كالسم أو العقول كالخمر أو الاخلاق كلحم السبع فإنه مضر بالأخلاق يثير بالآكل له قوة سبعية ومن هنا حرمه الشارع 0
هذه أصول مسائل الأطعمه ومن هنا يتبين أن مذهب مالك هو أوسعها 0
ومن ثم فإنه يبيح الحية والعقرب والحشرات وغيرها وكون بعض الناس يستخبثها هذا لا يدل على تحريمها – هذا هو مذهب مالك 0
ولم أر شيخ الإسلام – على أنه وافق مالك في مسألة الخبث والطيب لم أر أنه نص على إباحة الحشرات 0
فالمقصود أنه متى ما ثبت في الشىء ضرر على الأبدان أو الأخلاق أو العقول فإنه محرم 0
قال] فيباح كل طاهر لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما [فكل طاهر لا مضرة فيه فهو مباح 0
قال:] ولا يحل نجس كالميتة والدم [.
وكل نجس ومتنجس فإنه لا يحل وذلك لخبثه وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم)
وقال سبحانه (قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس)
قال:] ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه [لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة}
قال:] وحيوانات البر مباحة الا الحمر إلا نسية [.
(29/3)
________________________________________
لما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل)
قال:] وما له ناب يفترس به غير الضبع [.
أستثنى – الضبع لأنه قد ورد في الأدلة – ما يدل على جوازه وقد روى الخمسة وصححه البخاري أن أبن أبي عمار قال لجابر ((الضبع (يصح بتسكين الباء وضمها) أصيد هي قال جابر (نعم فقال له قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر (نعم) وهذا أثر صحيح 0
فإن قيل: فما الفارق بين الضبع وبين غيرها من السباع؟
فالجواب: أن الضبع ليس فيها القوة السبعيه التي في غيرها من السباع بل هي لا تفترس في الغالب والله أعلم 0، ثم ذكر أمثله كثيره تحتاج الى تحقيق المناط أى متى ما ثبت لنا أن فيه ناباً من السباع فهو محرم (كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير)
وابن آوى وأبن عرس؟ والسنور والنمس والقرد والدب)
ثم قال بعد ذلك:-
] وماله مخلب من الطير يصيد به [0
ثم ذكر أمثله تحتاج الى تحقيق مناطها (كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومه)
ثم قال:-] وما يأكل الجيف كالنسر [.
ثم ذكر أمثله كذلك تحتاج الى تحقيق المناط] والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغذاف وهو أسود صغير أغبر، والغراب الأسود الكبيرة [وذكره عدة أنواع من الغربان مما يدل على أن هناك من الغربان ما هو مباح 0
وقال] وما يستخبث [أى عند العرب ذوي اليسار:- قالوا أما خلاف العرب فلا عبرة يهم لأنهم قد يستطيبون بعض ما يستخبث 0
قال:-] كالقنفذ والنيص والفأرة [0
فالقنفذ مستخبث عند العرب ولكن هل فيه ضرر؟ 0
يرجع في ذلك الى الطب لأن الصحيح أنه لابد أن يكون خبيثاً بنفسه وذاته 0
والفأرة ظاهرة للحديث المتقدم 0
(29/4)
________________________________________
قال] والحيه [، قالوا: لأنها خبيثه ولأن الشارع أمر بقتلها أما كونها خبيثه، فهذا يحتاج الى تحقيق واما كون الشارع أمر بقتلها فهذا ظاهر 0
قال] والحشرات كلها [لما تقدم قال:-] والوطواط [هو ما يسمى بالخفاش 0
قال:-] وما تولد من مأكول وغيره كالبغل [فما تتولد من حيوانين أحدهما مأكول والأخر ليس بمأكول فإنه يحرم تغليباً لجانب التحريم 0
كالبغل فإنه متولد من الحمار والخيل 0
مسألة:- حمر الوحش أذا أستأنست فهل تحرم؟
الجواب:- لا، نظرا لأصلها، فأصلها حلال، وهي خلقه أخرى تختلف عن خلقة الحمار الأهلي لوعاش في البر فإنها لا يتغير طعامه وكذلك الحمر الوحشيه طعامها هو طعامها في البر 0
مسألة:- الحديث الذي قتل الخمس الدواب ظاهره الوجوب لأنه خبر 0
بمعنى الأمر يدل على الوجوب، هذا من ناحيه 0
ومن جهة أخرى:- أنه قد وصفها بالفسق فدل على أن فيها استطالة واعتداء وإزالة ذلك واجب 0
مسألة كل ما حرم قتله فإنه يجوز – أى قتله – حيث كان منه أذى دفعاً لمفسدته ولأنه حينئذ يكون كالصائل 0
قال رحمة الله تعالى:-] وما عدا ذلك حلال [هذا هو الأصل، فما لم يدل دليل على تحريمه من المطعومات والمشروبات فإنه حلال مباح 0
قال:-] كالخيل [0
وهو مذهب الجمهور لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الخيل
وقال المالكية:- بل تحرم استدلوا بقوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينه} قالوا فلم يذكر الله تعالى أكلها وإنما ذكر أنها زينه وأنها مركب 0
واستدلوا:- بما روى أبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن لحوم الحمر والخيل والبغال)
والصحيح ما ذهب اليه أهل القول الأول:-
أما الأيه الكريمة فإنه ليس فيها أن الأكل حرام فالله عز وجل لم يذكر إلا أنها زينة وركوب.
(29/5)
________________________________________
لأنها مع غير المطعومات فإنها ذكرت مع الحمر والبغال وهي محرمه – فلم ينص على اباحة أكل الخيل لأنها مذكورة مع ما لا يحل أكله 0 هذا هو الوجه الأول 0
والوجه الثاني:- أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على أنها من المطعومات لأنها ليست لذلك في الغالب فالغالب أن الناس لا يطعمونها وأنما يركبونها ويتزينون بها 0
وأما فالحديث الذي رواه ابو داوود فهو ضعيف لا يصح ضعفه أحمد والبخاري والدارقطني وغيرهم 0
قال] وبهيمة الأنعام [0
من البقر والغنم والابل قال تعالى {أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلي عليكم} 0
قال] والدجاج [0
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أكل الدجاج) والأصل يدل على ذلك 0
قال] والوحشي من الحمر والبقر [0
فيباح الوحشي من الحمر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة في قصة صيده الحمار الوحشي، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (كلوا ما بقي من لحمه)
وكذلك يباح البقر الوحشي، وهو ليس من بهيمة الأنعام 0
قال] والظباء والنعامة والأرنب وسائر الوحش [كالزرافة وغيرها، وذلك للاصل، فالأصل في المعطومات الحل 0
قال:] ويباح حيوان البحر كله [0
يدل على ذلك قوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه} 0
ويدل عليه ما روي الخمسه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال في البحر] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [وقوله (ميتته) مفرد مضاف يفيد العموم – فدل على أن صيد البحر حلال كله 0
لكن أستثنى المؤلف فقال] الا الضفدع والتمساح والحية [0
فالضفدع هي من صيد البحر لكنها تعيش في البر فهي تعيش في البر والبحر 0
ودليل تحريم الضفدع أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طبيب عن قتل الضفدع لتوضع في الدواء (فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وهو حديث صحيح 0
(29/6)
________________________________________
والتمساح لأن له ناباً يفترس به وهذا كما تقدم – يحتاج الى تحقيق المناط، أى نقول كل ما له ناب يعدو به فهو محرم ثم نحتاج الى أن ننظر الى الأمثله التي يذكرونها فإن كان فيها ذلك فهي محرمة 0
والحيه أى حية البحر وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، قالوا ولأنها مستخبثه 0
ولم يستثن الشافعية التمساح والحية 0
والصحيح ما ذكره الحنابلة حيث تحقق ما ورد في الحديث من أن في التمساح الناب الذي يفترس به 0
والحيه قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها لكن هذا حيث كانت حية البحر تلدغ وتؤذي لان الشارع أمر بقتل الحيه في البر لأذيتها ولأن فيها العدو والإعتداء فمن أكلها فإنه يكتسب شيئا من طباعها، فإن كانت الحية التي في البحر ليست كذلك فإنه لا باس بأكلها 0
قال:-] ومن أضطر الى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه [0
هذه المسأله في الإضطرار، فمن اضطر الى محرم كالميتة مثلا غير السم، لأن السم قاتل وقد قال تعالى {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} فإذا أضطر الى محرم غير باع ولا عاد فلا إثم عليه
وقوله {غير باغ} أى غير طالب لذلك راغب فيه (ولا عاد) أى غير آكل منها مالا يحل له – أى متجاوز بها ما يسد به رمقه 0
ويحل له منها ما يسد رمقه ويحفظ قوته أى ما يدفع به ضرورته لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} أى غير متجاوز ما يسد رمقه.
وظاهر المذهب:- مطلقاً 0
وعن الإمام أحمد:- أنه يستثنى ما لو دام خوفه، فلوا أن رجلا في مغازة من الأرض، يغلب على ظنه أنه لا يجد من يؤويه فله أن يأكل من الميته حتى يشبع، وذلك لان غلبة الظن دوام خوفه – وهذا ظاهر – وهو حينئذ لا يكون متجاوزا ولا معتدياً 0
إذن الصحيح أن هذا ليس على أطلاقه بل اذا كان يدوم خوفه فإن له أن يأكل من الميته حتى يشبع وذلك لأن شبعه يدفع عنه الضرورة في بقية وقته 0
مسألة:-
(29/7)
________________________________________
قال شيخ الإسلام:- ((ويجب على المضطر أكل الميتة في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم))
مسألة:-
ولا يجوز للمضطر أن يقتل معصوما فيأكله – إجماعا ولو كان ذمياً 0
فلو أن رجلا قتل ذمياً مضطرا الى ذلك فهذا لا يحل بإجماع العلماء وذلك لانه لا يحل له أن يبقي نفسه في إهلاك غيره 0
فإن وجد معصوماً ميتاً فهل له أن يأكله؟ 0
المشهور في المذهب:- أنه ليس له أن يأكله 0
والقول الثاني:- واختاره الموفق وهو مذهب الشافعية أنه يحل له وهو الصحيح 0
وذلك لان حرمة الحي اعظم من حرمة الميت 0
وهل للمضطر أن يأخذ من بعض بدنه ما يأكله كأن يأخذ من فخذه أو من عضده فيأكله؟
1- المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك 0
2- والقول الثاني في المذهب أن له ذلك وهو الراجح لانها مفسده صغري في درء مفسده كبرى 0
فإن لم يكن معصوماً كالحربي أو قاتل النفس للمضطر أن يقتله فيأكله 0
قال:-] ومن أضطر الى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد أو أستسقاء ماء ونحوه وجب بذله له مجاناً [
رجل أضطر الى نفع عين من مال غيره كأن يضطر الى ثوب لدفع برد أو أستسقاء ماء كأن يضطر الى دلو وحبل ليأخذ به الماء من البئر ما لمالك لذلك يجب عليه أن يبذل له الثوب أو الدلو والحبل مجاناً وذلك لان ذلك هو الماعون الذي نهى الشارع عن منعه فقال سبحانه (الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون) فذلك واجب فإن اضطر الى عين كأن يضطر الى طعام ليأكله أو الى ماء ليشربه 0
فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب أنه لا يجب بذله له مجاناً لكن يجب بذله بالقيمه 0
فمثلا رجل أدرك رجلا في الصحراء وهو في غاية الجوع ومعه طعام كثير، فقال أبيعك هذا الطعام بقيمته، فيجب عليه أن يبذله بقيمته ولا يزيد على ذلك هذا هو المشهور في المذهب وهو أنه يجب أن يبذله بقيمته 0
فإن أبي وقال:- لا ابذله لك ولو دفعت مال الدنيا؟
فحينئذ له أن يأخذه منه قهراً وإن قاتله على ذلك لانه حينئذ كالصائل على النفوس 0
(29/8)
________________________________________
واختار شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم:- أنه يجب بذل هذه العين مجاناً وذلك لأن أحياء النفوس وإنقاذها من الملكة واجب والواجب لا يحل أخذ العوض عليه 0 وهذا هو الراجح 0
قال:] ومن مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه ولا حائط عليه ولا ناظر فله الأكل منه مجاناً من غير حمل [0
من مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه أى ليس بمجموع لان ما كان مجموعا فهو في حرز 0
ولا حائط عليه وقد نص عليه أحمد، ولا ناظر أى حارس 0
فله الأكل مجاناً من غير حمل 0
فلو أن رجلا مر ببستان لا حائط له ولا حارس عليه فله أن يأكل منه مجاناً من غير أن يحمل.
ومثل ذلك:- في أصح الروايتين عن الإمام أحمد إذا وجد شاة لا راعي معها فله أن يشرب من لبنها من غير أن يحمل 0
ومثل ذلك إذا وجد زرعا فله أن يأكل منه من غير أن يحمل سواءاً كان محتاجاً الى ذلك أو غير محتاج هذا هو القول الاول في المسألة وهو مذهب الحنابلة 0
2- وقال الجمهور، بل لا يحل له إلا أن يكون محتاجاً وعليه الضمان حينئذ وهو رواية عن الامام أحمد 0
وأستدلوا بعمومات الأدلة كقوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) قالوا وهذا ما مال مسلم فلا يحل الا بإذنه 0
وإستدلوا:- بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحلب احدكم من شاة أخيه بغير إذنه)
والقول الأول هو الراجح وهو المذهب وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد والدليل عليه ما روى أبو داوود والترمذي وهو حديث صحيح قال فيه الترمذي (حديث حسن صحيح) وهو من حديث الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذن، فإن أذن له فليحتلب وليشرب فإن لم يكن فيها – أى صاحبها – فليصوت ثلاثاً (ينادي الراعي) فإن أجابه والا فليحتلب وليشرب ولا يحمل) وفي البيهقي نحوه من حديث أبى سعيد الخدري وفيه ذكر الحائط قال أبن القيم:-
(29/9)
________________________________________
وقد ورد هذا عن طائفا من الصحابة – كما في سنن البيهقي منهم عمر بن الخطاب والاثر عنه صحيح ولا يعلم له مخالف فهذا القول هو الراجح في المسأله: وأنه أذا كان الشجر لا حائط له ولا حارس وكذلك في الماشيه والزرع فإن له أن يشرب أو يأكل من غير أن يحمل كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمل الصحابه وهو المشهور في المذهب 0
إلا أن الزرع واللبن فيه عن الإمام أحمد روايتان وأكثر أصحاب الإمام أحمد على أن ذلك - أي اللبن والزرع ليس كذلك والصحيح ما تقدم وأنه ثابت في الثمر والزرع والماشية حيث لا حائط وحارس، وحيث كان الغنم لا حارس معها 0
قال:-] وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليله [0
تجب ضيافة المسلم لا الذمي ((المجتاز به في القرى)) لا في المدن لأن المدن فيها أسواق فيمكنه أن يشترى الطعام فيطعمه (يوما وليلة) فالضيافة واجبة يوم وليلة 0
إذن الضيافة واجبة يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفة جائزته)) قالوا: وما جائزته قال ((يوم وليلة، الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه)) والصحيح انها ليست خاصة بالمسلم بل حتى في الذمي 0
وقدمه ابن رجب وهو أحد الروايتين عن الامام أحمد ويدل عليه عموم الحديث ((فليكرم ضيفه)) وهذا عام في المسلم وغيره أى حتى الذمي يجب له هذا الحق 0
وقوله (يوما وليله) للحديث المتقدم 0
والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من أصحاب الامام احمد كأبي أبو بكر وأبن ابي موسى:- إن ذلك واجب ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلم (الضيافه ثلاثة أيام) وهو أظهر 0
والحديث يدل على ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه) فدل على أن الثلاثة أيام واجبة 0
(29/10)
________________________________________
وأما قوله صلى الله عليه وسلم ((فليكرم ضيفه جائزته)) فهذا آكد أى اليوم والليلة آكد وفيها بر واحسان لان الحائزة تدل على البر والإحسان به 0
فيكون في اليوم الأول منه مزيد بر وإحسان وحفاوة وأما بعد ذلك فيطعم من سائر الطعام 0
ومرجع ذلك – كما قال شيخ الإسلام – الى العرف والعادة 0
فإن أبى فلم يضيفه فهل يجوز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بلا مفسدة؟
وهل له أن يطالب بذلك عند القاضي؟
قال الحنابله بذلك وهو صريح قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (فإن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له)) وظاهره على وجه القوة حيث لم تترتب مفسدة
باب الذكاة
الذكاة: الذبح: ذكى الشاه تذكية: أي ذبحها
والذكيه: هي الذبيحه
وتعريفها – اصطلاحاً – في المشهور من المذهب:ذبح او نحر المأكول البري المباح بقطع حلقومة ومريئه او عقر ممتنع – هذا هو تعريفها وسيأتى الكلام على هذا.
قال رحمه الله:] لا يباح شىء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة [
لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميته}
فاذا كان الحيوان مقدوراً على تذكيته فلا يحل الا بالذكاة وهذا بإجماع العلماء.
قال:] الا الجراد والسمك وكل ما لا يعيش الا في الماء [
أما الجراد فلقول ابن عمر:" أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت " ولا يعلم له مخالف.
واما السمك – فلحديث "والحل ميتته "
"وكل ما لا يعيش الا في الماء " لقوله صلى الله عليه وسلم " والحل ميتته "
(29/11)
________________________________________
لكن: ان كان يعيش في البر والبحر.فظاهر كلام المؤلف ان الذكاة شرط فيه لانه لم يستثن الا ما لا يعيش الا في الماء. وتقدم ان هذا هو القول الراجح وانه اصبح قولى العلماء – تقدم الكلام عليه في درس سابق وعليه فما يكون من الحيوانات يعيش في البر والبحر كالسلحفاه ونحوها، فانها تشترط فيها التذكية ان كان فيها دم واما ان لم يكن فيها دم فلا يشترط ذلك.
قال:] ويشترط للذكاة اربعة شروط:
أهليه المذكي: بأن يكون عاقلاً مسلماً أو كتابياً [
هذا هو الشرط الأول: وهو أهليه المذكي بان يكون عاقلاً: لاشتراط قصد التذكيه،ولأن التسميه شرط في صحة التذكيه – كما سيأتي – ولا يصح ذلك الا من عاقل، سواء كان مميزاً او بالغاً.
واما اذا كان غير عاقل كالمجنون او السكران او الطفل غير المميز فان تذكيته لا تصح باتفاق العلماء.
إلا ان الشافعيه أجازوا تذكيه الطفل غير المييز
قالوا: لأنه له نوع قصد.
والجواب: أن هذا النوع لا يكفى بل يشترط ان يكون القصد تاماً
(مسلماً او كتابياً) : اما المسلم فظاهر.
واما الكتابي: فلقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم}
قال ابن عباس – كما في البخارى -: " طعامهم ذبائحهم " أي ذبائح اهل الكتاب وهم اليهود والنصاري. وهذا باتفاق العلماء.
-وظاهر الادله الشرعيه انه لا يشترط ان يكون هذا الكتابي من أبوين كتابيين، قال شيخ الإسلام:" وهو الثابت عن الصحابه بلا نزاع بينهم وعليه نصوص الامام احمد وهو مذهب اكثر الفقهاء " أ. هـ
واما المشهور في مذهب الحنابله: انه يشترط ان يكون أبواه كتابيين وهذا القول لا دليل عليه، بل اطلاقات النصوص تدل على خلافه. والثابت عن الصحابه خلافه: وهو اختيار شيخ الإسلام.
مسألة:
هل يباح ما أهلوا به لغير الله – كأن يذبحوا على اسم المسيح هل يباح هذا أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو مذهب مالك وهو رواية عن احمد انه مباح
(29/12)
________________________________________
لعموم قوله (وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم) فيدل هذا على ان عموم طعامهم مباح لنا وكذلك ما اهلوا به لغير الله.
قال الجمهور: بل لا يحل ذلك، للايات الداله على المنع منه كقوله (وما أهل به لغير الله) وكقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق)
قالوا: واذا ثبت ذلك في المسلم فأولى من ذلك الكتابي
بمعنى: اذا كان المسلم لا تحل ذبيحته التى أهل بها لغير الله فأولى من ذلك في الكتابي.
وان كان هذا الاستدلال مشكلا من حيث انه لا يكون مسلماً وقد ذبح لغير الله عز وجل،
لكن المقصود انه اذا كان هذا شرطاً في صحة ذبيحه من هو مسلم في الاصل – فأولى من ذلك ان يشترط في الكتابي فغايه ذبيحته أهل الكتاب ان تكون مثل ذبيحه المسلمين لا ان تكون أرفع منها.
وقالوا: ان الاهلال لغير الله والذبح على غير اسمه ليس من دين اليهود والنصاري وانما هو من الشرك الذي دخل في دينهم.
-ولا شك ان الراجح في هذه المسأله ما ذهب اليه جمهور العلماء وذلك لما تقدم من الادله القويه على هذا ….
مسألة:-
هل يباح ما ذبحه أهل الكتاب مما هو محرم عليهم كلاً او بعضاً؟
فمثال: ما هو محرم كلاً: الإبل فانها محرمة على اليهود.
ومثال ما هو محرم بعضا: الشحم فانه محرم عليهم بنص كتاب الله تعالى قال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما}
فاذا ذبح يهودي أو نصراني بعيراً، او ذبح غنماً او بقراً وفي ذلك شحم فهل يحل لنا اكل البعير في الصوره الاولى، وأكل الشحم في الصوره الثانيه ام لا؟
قولان لأهل والعلم:
القول الاول: وهو مذهب مالك انه لا يحل لقوله تعالى: (وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم) قال: وهذا ليس من طعامهم.
والقول الثاني في المسأله: وهو مذهب الجمهور: ان ذلك حلال.
(29/13)
________________________________________
قالوا: لأن الادله الشرعية قد دلت على صحة تذكيته وانه اهل لأن يذكي، وانما حرمت الابل والشحم عليهم خاصة، فعلى ذلك التذكيه فيهم صحيحه، فاذا ذكوا الابل فان تذكيتهم صحيحه وهي انما هي محرمه عليهم دوننا – وهذا هو القول الأرجح في هذه المسأله.
قال:] ولو مراهقاً [
وهو من قارب البلوغ
قال:] أو امرأة [
ويدل على ذلك ما ثبت في البخارى: ان امراه ذبحت شاة بحجر فسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها " أي كان الحجر حاداً قد انهر الدم.
والشاهد هنا: ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قد أقر بأكلها مع ان المذكيه لها امرأه.
قال:] أو اقلف او أعمى [أو جنباً او حائضاً.
أو فاسقا. ما دام انه مسلم او كتابي فان ذبحه يصح.
والنصراني أقلف أي غير مختون ومع ذلك تصح ذبيحته، فهذا دليل على صحة تذكيه الأقلف
قال:] ولا تباح ذكاة سكران ومجنون [.
لانه يشترط ان يكون عاقلاً، وليس المجنون ولا السكران كذلك.
قال:] ووثني ومجوسي ومرتد [
الوثنى لا تحل ذبيحته اجماعاً
وكذلك المجوسي باتفاق العلماء الا ما ذكر عن أبي ثور فانه أباح تذكيته بناءً على انه من اهل الكتاب
والصحيح ان المجوس ليسوا من أهل الكتاب كما تقدم تقريره في درس سابق، وانما أجرى النبى - صلى الله عليه وسلم - الجزيه عليهم كسائر الكفار، لان الصحيح ان الجزيه ليست مختصه بأهل الكتاب كما تقدم تقريره في كتاب الجهاد.
(ومرتد) : وقد تقدم التنبيه على هذا وان المرتد لا تحل ذبيحته – حتى لو ارتد الى اليهوديه او النصرانيه.
قال:] الثاني: الالة فتباح الذكاة بكل محدد [
لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السنّ والظفر، اما السن فعظم، واما الظفر فمدى الحبشه) متفق عليه.
فكل ما انهر الدم فان التذكيه به صحيحه مجزئه.
قال:] ولو مغصوبا [
في اصح الوجهين في مذهب الإمام احمد، وهو اصح القولين لاهل العلم.
(29/14)
________________________________________
وذلك: لان المغصوب إذا ذبح به، فالنهي عنه ليس عائداً الى الذات وانما الى أمر آخر.
- صلى الله عليه وسلم - لم يقل لا تذبحوا بالشىء المغصوب ولو قال ذلك لكانت الذبيحه محرمه. فهنا التحريم لأمر خارج.
والقاعده: ان التحريم اذا كان لأمر خارج فان الفعل يجزئ وعليه فالتذكية صحيحه لكنه آثم.
قال:] من حديد وحجر وقصب وغيره [
وكل ما انهر الدم فالتذكيه به جائزه.
قال: (الا السن)
قالوا: الا السن خاصه، للحديث المتقدم: (ليس السن والظفر) .
وقال الشافعيه وهو روايه عن الامام احمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: بل السن وسائر العظام. وهو الراجح.
لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((اما السن فعظم)) فهنا علل - صلى الله عليه وسلم - المنع فكل عظم لا يحل ان يذكي به.
وعليه فالتذكيه ايضاً لا تصح لان النهي لذاته.
قال:] والظفر [
لحديث ليس السن والظفر – واما الظفر فمدى الحبشة (– ومدى جمع مديه وهي السكين
أي كان الحبشة يطيلون أظافرهم فإذا أرادوا ان يذكوا ذكوا بالظفر فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
-والمشهور في المذهب: ان الظفر – مطلقاً – لا تحل التذكيه به سواء كان متصلاً ام منفصلاً، من انسان او من حيوان.
-وقال الأحناف: لا يجزئ الا إن كان متصلاً.
وهذا – فيما يظهر لى – اظهر لظاهر تعليل النبى - صلى الله عليه وسلم -فإنه قال:" ما انهر الدم " ويدخل في ذلك الظفر، فان الظفر ينهر الدم – واستثنى من ذلك الظفر وعلل ذلك بانها مدى الحبشة فدل على انه ما كان على صفه فعلهم فانه لا يحل.
وقد يكون المنع من ذلك لما فيه من التشبه بهم، ولما فيه من التشبه بالطيور ومن التشبه بالطيور ذات المخالب والسباع لذلك حرم.
اذن الراجح ما ذهب اليه الأحناف في هذه المسألة
فالراجح انه انما يحرم حيث كان ظفر الانسان خاصه وكان متصلاً به والله اعلم.
قال:] الثالث: قطع الحلقوم والمرىء [
(29/15)
________________________________________
الحلقوم هو مجرى النفس
والمرى هو مجرى الطعام والشراب.
1-والمشهور في مذهب احمد والشافعي ان الذبيحه لا تحل حتى يقطع الحلقوم والمرىء قالوا: لان بهما غياب الحياة في الحيوان فإذا قطع اجزأ ذلك.
2-وعن الإمام احمد انه لا يجزئ حتى يقطع الحلقوم والمريء والودجين " وهما الوريدان اللذان يحيطان بالمريء والحلقوم وهما مجرى الدم فيتبين لنا أنهما أهم واولى بالقطع لكونهما مجرى الدم. قال - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم)
وقال الأحناف: حتى يقطع ثلاثا من اربع، فإذا قطع احد الودجين والحلقوم والمريء أجزأ، واذا قطع الودجين وقطع الحلقوم أو المرىء فان ذلك يجزى.
وقال بعض الحنابله كما قال – صاحب الكافى – " يجزئ قطع الودجين "
اذن في المسأله خلاف كثير بين اهل العلم
والنبى - صلى الله عليه وسلم - قد قال:" ما انهر الدم " يدل هذا على ان ما ثبت فيه انهار الدم فانه يجزئ.
وعلى ذلك فالذي يرجح ما ذكره بعض الحنابله من انه اذا ُقطع الودجان فان ذلك يجزئ.
ذلك لان قطع الودجين ينهر الدم.
واما قطع الحلقوم فالذي يرجح وجوبه وانه ليس شرطاً في الإجزاء – لكنه يجب لما فيه من أراحة البهيمة،وذلك لان بقاء نفسها مع قطع ودجها فيه إيذاء كبير وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الذبحة فقال: (فإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه) .
قال:] فان ابان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح [
هذا ظاهر جداً
فلو اخذ السيف فقطع رأسها مره واحده ففصله عن جسمها فحينئذ يكون قد قطع الودجين والحلقوم والمريء فلا إشكال في انه يجزئ.
قال:] وذكاة ما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه، والواقعه في بئر ونحوها نحره في أي موضع كان من بدنه [.
(والنعم المتوحشه) كالإبل والبقر والغنم التى تتوحش
(29/16)
________________________________________
فما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه او الواقعه في بئر ونحوها بان يجرحه في أي موضع كان من بدنه ويدل عليه: ما في الصحيحين: قال ندّ بعير فاهوى اليه رجل بسهم فحبسه فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (ان لهذه البهائم أو ابد كأوابد الوحش فما ندّ منكم فاصنعوا به هكذا) فاذا فرّ البعير وعجز عن امساكه لتذكيته او البقر او غير ذلك من الحيوانات او سقط شئ منها في بئر فما امكن لنا ان نذكيه الا ان نرميه بسهم ونحوه فإن حينئذ يجوز ذلك.
إذن: الواجب علينا في البقر والأغنام والإبل من بهيمه الأنعام الواجب التذكيه لكن هذا مع القدره على ذلك
اما مع العجز عن التذكيه كأن يفر البعير او يسقط في بئر او نحو ذلك فانه يرمى بسهم من أي موضع كان في بدنه للحديث. قال] إلا ان يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح [
ولانه لا يدري هل السهم قتله أم الماء لذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: (فإذا وجدت غريقاً في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك)
فما لم نتحقق من تذكيته فانه لا يحل، كان يكون على راس نهر فرمى بسهم فوقع في الماء فإننا لا ندرى الماء قتله او السهم فتغليباً لجانب الحظر يحرم.
لكن لو تحققنا ان السهم هو الذي قتله كأن يكون الماء قليلاً ونحو ذلك فانه يجوز أكله.
مسألة:
اذا ذبحت البهيمه وفي بطنها جنين، فذكاتها ذكاة لجنينها.
لما ثبت في مسند أحمد – والحديث صحيح – ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال
" ذكاة الجنين ذكاة أمه "
لكن ان خرج وفيه حياه مستقره فحينئذ تجب تذكيته.
أما لو خرج ميتاً او خرج يتحرك حركة المذبوح فانه يحل للحديث المتقدم.
-وظاهر كلام الحنابله، بل نصوا على ذلك – سواء أشعر ام لم يشعر أي سواء نبت الشعر عليه ام لا؟
وقال المالكيه، هذا الحكم حيث أشعر وهذا هو الصحيح لاثر موقوف صحيح على ابن عمر رواه مالك في موطئه ولا يعلم لابن عمر مخالف.
(29/17)
________________________________________
والقاعده عند الحنابله – ان قول الصحابي يخصص العموم – فعلى ذلك يجب ان يخصص الحديث بهذا الأثر الصحيح الثابت عند ابن عمر الذي لا يعلم له مخالف.
اذن: هذا الحكم حيث أشعر اما إذا لم يشعر فانه لا يحل كما هو مذهب المالكيه وهو قول ابن عمر – كما تقدم.
مسأله:
من أدرك مترديه أو ما أكل السبع منه – فذكاها – فهل تحل ام لا؟
نص الله عز وجل على حلها بقوله (وما أكل السبع الا ما ذكيتم)
فإذا أدركنا شاة مع سبع فذكيناها أو تردت شاه فأدركناها فذكيناها فإنها تحل بنص القرآن
لكن اختلف اهل العلم متى تحل بالتذكيه.
فقال الحنابله والشافعيه: إنما تحل حيث كانت فيها حياة مستقرة هي ما دون حركات المذبوح.
فلو أدركناها وهي حية حياة مستقرة فإنها تحل بالتذكية.
والقول الثاني: وهو مذهب الاحناف: إنها تحل متى ما وجد فيها شىء من الحياة وان كانت تتحرك كحركه المذبوح واختار هذا القول شيخ الاسلام: حيث خرج منها الدم الأحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة.
وهذا هو القول الصحيح في المسأله.
فاذا أدركها مع السبع أو تردت فلما ذبحها خرج الدم الاحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة فانها تكون حلالاً ويستدل على هذا: بما ثبت في البخارى عن كعب بن مالك ان جارية له كانت ترعى غنما بسلع فاصيبت شاة منها قال: "فأدركتها فذبحتها، فسئل - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فقال: كلوها ".
وهنا النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هل ادركتها وفيها حياه مستقره ام ان فيها بعض حياة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزله العموم في المقال.
قال:] الرابع: ان يقول عند الذبح بسم الله لا يجزيه غيرها [
هذا هو الشرط الرابع.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل " فقوله (وذكر اسم الله) في سياق الشرط فكانت من الشروط – فدل على ان التسميه شرط.
(29/18)
________________________________________
وهو مذهب جمهور العلماء.
وقال الشافعيه: وهو روايه عن الإمام أحمد: بل هي سنة
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن عائشه: ان ناساً قالوا يا رسول الله: ان قوماً يأتوننا باللحم لا ندرى أذكروا اسم الله عليه ام لا فقال صلى الله عليه وسلم (سموا عليه انتم وكلوا) .
قالوا: ولو كانت التسميه شرطاً لما اكتفى النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله (سموا عليه انتم وكلوا) بل لاشترط ان يتحقق من وجود التسميه أي لقال: لا تأكلوا حتى يثبت لكم انهم ذكروا اسم الله عليه "
وهذا الاستدلال ضعيف. بل الحديث يدل على شرطية التسمية فان هذا السؤال إنما يدل على ان المتقرر عندهم هو فرضيه التسمية – لكنهم سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن ناس من المسلمين وهم لا يدرون –أي المأتى اليهم – لا يدرون اذكروا اسم الله عليه ام لا؟ والأصل في ذبيحه المسلم الحل وانه يذكر اسم الله عليها.
ولذا أرشدهم النبى صلى الله عليه وسلم الى ما هو مشروع في حقهم وهو قوله (سموا عليه انتم وكلوا) فهذا هو المشروع في حقهم والمتعلق بفعلهم واما التسميه عند الذبح فهي متعلقه بفعل الذابح.
إذن: الصحيح ما ذهب اليه الجمهور من ان التسميه شرط (لا يجزئ غيرها) : فلو قال باسم الرحمن او باسم الخلاق او غير ذلك فانه لا يجزىء لقوله صلى الله عليه وسلم (اذكروا اسم الله عليها) واسم الله اذا اطلق فانما ينصرف الى قول "باسم الله "
وهو الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم لما ضحى
انه قال: (بسم الله والله اكبر) .
اذن لا يجزئ الا ان يقول باسم الله
لكن قالوا: لو قال بغير اللغة العربية ما يرادف باسم الله فانه يجزئه ولو مع القدره.
ومع القدره فيه اشكال والذي يتبين عدم الاجزاء واما مع عدم القدره فلا يكلف الله نفساً الا وسعها.
قال:] فان تركها سهوا أبيحت لا عمداً [.
(29/19)
________________________________________
هذا هو المشهور في المذهب لان التسميه اذا تركت سهوا فان الذبيحه تحل واما اذا تركت عمداً فانها لا تحل
قالوا واما اذا تركها جهلاً فانها لا تحل.
فالمشهور في المذهب: انها شرط لكنها تسقط بالسهو ولا تسقط بالجهل.
قالوا: كالصوم فان من اكل ناسيا عندهم فانه لا يفطر ومن اكل جاهلاً فانه يفطر – هذا هو القول الاول في المسأله وهو المشهور في مذهب احمد وكذلك هو المشهور في مذهب مالك وابى حنيفه.
2- والقول الثاني في المسألة: إنها سنه وهو مذهب الشافعي وروايه عن الأمام احمد وتقدم ذكر دليلهم والجواب عنه.
3-والقول الثالث: وهو مذهب اهل الظاهر وروايه عن الأمام احمد واختيار شيخ الإسلام: إنها لا تسقط أي التسميه لا بسهو ولا بجهل.
واستدل: بعمومات الادله كحديث (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ولقوله تعالى {لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق} قالوا: فهذه أدلة عامه تدل على انها لا تسقط لا بسهو ولا بجهل.
قالوا: واما قوله – صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) " فهذا في رفع الإثم والمؤاخذه كما ان الرجل اذا صلى بلا وضوء فلا اثم عليه لكن صلاته لا تصح فكذلك اذا ذبح ولم يسم الله فلا إثم لكن دبيحته لا تجزئ.
-والذي يترجح من هذه الأقوال ما ذهب اليه الحنابله وذلك لامور:
منها ان هذا هو الناس عن ابن عباس – فقد ثبت عنه انه قال: "ان نسى فلا بأس " روى ذلك البخارى معلقا وبوب عليه، مما يدل على اختياره لهذا القول ووصل هذا الاثر الدارقطنى واسناده صحيح، ولا يعلم له مخالف / وقول الصحابي يخصص العموم كما تقدم تقريره.
ان الطبرى – وهو ممن اختار هذا القول – قد حكى الاجماع عليه. وقال – فيمن لا يسقط بالنسيان – وهو قول بعيد لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعه " وحكى الاجماع على هذا القول ولم يذكر خلافا في المسأله.
(29/20)
________________________________________
ثم ان قوله تعالى {ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق} يدل على ان المراد بما لم يذكر اسم الله عليه، مما اهل به لغير الله او كان ميته.
بدليل قوله تعالى: {وانه لفسق} ومعلوم ان كون المسلم نسي التسميه هذا ليس بفسق
والقرآن يفسر بعضه بعضا، فقد قال تعالى هنا {وانه لفسق} وقال في ايه اخرى: {او فسقاً اهل لغير الله به}
فالذي يرجح هو ما ذهب إليه الحنابله
-والحنابله عمدتهم في التفريق بين الجاهل والناسي – ليس حديث (رفع عن امتى الخطأ والنسيان) لان هذا الحديث يدخل فيه الجهل.
انما عمدتهم: حديث ضعيف رواه الدارقطنى: ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال (المسلم يكفيه اسمه فان نسى فلم يسم فلسم ويأكل) لكن الحديث إسناده فيه ضعيف.
لكن هذا ثابت عن ابن عباس ولا نعلم له مخالف – كما تقدم – فعمدتهم تعريفهم هذا الحديث وهو ضعيف.
قال:] ويكره ان يذبح بآلة كالة [
أي غير حاده، قد استعملت مراراً وتكراراً حتى صارت لا تنهر الدم انهاراً تاماً وتؤذى البهيمه.
ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فاحسنوا القتله وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)
وظاهر الحديث الوجوب وهو قول بعض الحنابله – وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.
لقوله: (ان الله كتب) والكتب يدل على الوجوب.
ولقوله (وليحد،وليرح) هذا أمر وظاهر الأمر الوجوب.
قال:] وان يحدها والحيوان يبصره [
فيكره ان تحد السكين ونحوها – والحيوان يبصره لما فيه من الاذيه للحيوان.
وفي مسند أحمد بإسناد ضعيف ان النبى - صلى الله عليه وسلم - (أمر ان تحد الشفار وان يوارى عن البهائم)
قال:] وان يوجهه الى غير القبله [
يكره ان يوجه البهيمه الى غير القبله.
ولا دليل على الكراهيه، بل ولا هناك نص ظاهر يدل على استحباب ذلك.
(29/21)
________________________________________
واستدلوا: بما يروى البيهقى ان النبى صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " وجهها " أي الى القبله " وقال وجهت وجهى:" الحديث "
لكن الحديث اسناده ضعيف.
قالوا: وتقاس على الاذان، قالوا لانه يتعبد لله بها فالمقصود ان غايه الامر ان يكون ذلك مستحباً
وأما ان يقال ان ترك ذلك يكره فلا يظهر هذا.
قال:] وأن يكسر عنقه او يسلخه قبل ان يبرد [
فلوا ان رجلاً كسر عنقها وبها حياة أو سلخها وفيها حياة. هذا لا يحل.
وقوله (قبل ان يبرد) أي قبل ان يموت
وقد قال هنا (يكره) .
وهذا الحكم ضعيف بالنسبه الى هذا الفعل، والذي يستحقه هذا الفعل هو التحريم وهو قول القاضى من الحنابله ويدل عليه حديث (ان الله كتب الاحسان) (وليرح ذبيحته) .
فالراجح ان هذا الفعل محرم، وهو قول القاضى من الحنابله وظاهر اختيار شيخ الإسلام.
والحمدالله رب العالمين
باب الصيد
دلّ على اباحة الصيد: الكتاب والسنة واجماع العلماء.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {واذا حللتم فاصطادوا}
وأما السنه: فيها حديث عدي بن حاتم وهو ثابت في الصحيحين وسيأتى ذكر بعض الفاظه.
وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على ذلك أي على اباحة الصيد.
والصيد هو: اقتناص المأكول الحلال المتوحش طبعاً غير المقدور عليه.
فقولنا: " المتوحش طبعاً " يخرج من ذلك ما توحش على غير طبع كالإبل والبقر إذا ندّت، ولها حكم الصيد كما تقدم ذكره في قوله - صلى الله عليه وسلم -" الا ان لهذه البهائم أوابد كاوابد الوحش فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا ".
"غير المقدور عليه " يخرج من ذلك المتوحش طبعاً المتأهل وان كان في الاصل متوحشاً.
كأن تؤخذ بعض صغار الغزلان او غيرها ثم توضع في البيوت فتربى فهي في الأصل متوحشه، لكنها في هذه الحاله ليست كذلك بل هي متأهله، فلا يحل صيدها وانما لا بدّ ان تذكى لأنها مقدور عليها.
قال:] لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد الا باربعه شروط:-
(29/22)
________________________________________
احدها: ان يكون الصائد من أهل الذكاه [.
هذا هو الشرط الأول: وهو ان يكون الصائد من اهل الذكاة، لان الاصطياد يقوم مقام الذكاه.
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -– كما في الصحيحين (فإن اخذ الكلب ذكاة) .
وعليه فلا بد وان يكون الصائد من أهل الذكاة، فلو صاد غير المميز او صاد المميز الكافر او المييز غير العاقل فان الصيد لا يحل الا ان يكون الكافر كتابياً.
اذن: لا بدّ ان يكون الصائد عاقلاً مسلماً او كتابياً كما تقدم ذكره.
قال: (الثاني: الآلة وهي نوعان: محدد يشترط فيه ما يشترط في اله الذبح)
فالشرط الثاني: الآلة وهي نوعان:-
النوع الأول: محدّد فيشترط فيه ما يشترط في آله الذبح فلا تحل ان يكون سناً ولا ظفراً لان الاصطياد يقوم مقام الذكاة "
وفي صحيح البخارى ان عدي بن حاتم سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال - صلى الله عليه وسلم - (إذا أصبت بحّده فكل واذا أصبت بعرضه فانه وقيذ فلا تأكل)
والمعراض: يشبه الرمح
فلا بد ان يكون محدداً ينهر الدم كأن يضرب بسهم او ان يضرب بالرصاص او غير ذلك مما يكون حاداً
واما اذا لم يكن حادا فانه لا يحل للحديث المتقدم.
قال:] وأن يجرح [
فلا بد ان يكون جارحاً
ويدل عليه ما تقدم من حديث عدي وفيه " (اذا اصبت بحده فقتل فكل)
أما لو ضرب بسهم لكن هذا السهم لم يجرحه فإنه حينئذ يكون وقيذاً.
قال:] فإن قتله بثقله لم يبح [
اذا قتله بثقله فانه لا يباح
فلو رميت برمح فقتل طائراً لكنه قتله بثقله فإنه لا يحل لانه لم يجرح.
اذن: لا بد ان تكون الآلة ذات حد وأن تجرح.
قال:] وما ليس بمحدد كالبندق [
المراد بالبندق: الحصى وهو كحصى الخذف، فإذا ضربه به فانه لا يصح لانه يكون وقيذا.
واما البندق الذي هو الرصاص فلا إشكال في حله بل هو ابلغ من السهم لانه يجرح وينفذ أشد من نفوذ السهم.
قال:] العصا والشبكه [.
(29/23)
________________________________________
فلو وضع شبكه فصادت، لكنه وجد الصيد ميتا فيها ولم يدركه فذبحه فلا يحل.
قال:] والفخ لا يحل ما قتل به [.
فلو وضع فخا فصاد صيداً، فوجد الصيد ميتاً فيه فإنه لا يحل.
لكن لو أدركه في الشبكه او الفخ فذبحه فانه يحل لقوله تعالى {إلا ما ذكيتم}
وهذه المسألة يرجع فيها الى المسألة السابقه.
والمشهور في المذهب انه اذا كان فيه حياة مستقره الذبح يصح.
والراجح انه بمجرد ما يخرج منه ما يخرج من المذكى في العادة فانه يجزئ.
قال:] النوع الثاني: الجارحه [
لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح}
وهي نوعان:
النوع الاول: الجارح من السباع كالكلب والفهد.
النوع الثاني: الجارح من الطير كالصقر ونحوه.
-ولا تحل الا ان يكون معلماً لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} أي مؤدبين
-فان كانت طيراً فتعليمها بشيئين:
أنها اذا أرسلت استرسلت أي إذا أشار إليها بالصيد انطلقت اليه.
وأنها إذا زجرها انزجرت أي إذا قال لها قفى فإنها تقف أي بعبارته التى تفهمها منه.
فمتى ما كانت الطير هكذا فإنها تكون معلمه، فإن صادت فان صيدها يحل.
واما إذا كانت كلباً فيشترط فيها مع الشرطين المذكورين في الطير – شرطاً ثالثا وهو آلا تأكل فان أكلت فإنها ليست بمعلمه.
لقوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم}
ففى تأديبها ثلاثه شروط:
أنها إذا أرسلت استرسلت.
وإذا زجرت انزجرت.
ألا تأكل مما أمسكت.
-والمشهور في المذهب ان ذلك – أي عدم الأكل يعرف بمرة واحده
فإذا أرسلها مرة واحدة فلم تأكل فإنها تكون معلمه.
والقول الثاني في المذهب ان ذلك يعرف بثلاث مرات
(29/24)
________________________________________
فإذا أرسلها ثلاث مرات فلم تأكل فإنها تكون معلمه والقول الثالث في المسألة:- وهو مذهب الشافعية وقول في مذهب أحمد أنه لا يكون معلماً الا أن يكون ذلك من طبيعته ويكون ذلك بثلاث مرات أو خمس أو عشر يرجع في ذلك الى أهل الخبرة، وهذا هو الصحيح إذ لا دليل على التحديد وكونه لا يأكل في المره الأولى أو لا يأكل حيث أرسل ثلاثا هذا لا يدل على أنه أصبح معلماً، بل حتى يكون من طبيعته أنه اذا أرسل الى الصيد لم يأكل منه 0
وأما الفهد – فالمذهب انه يشترط فيه ما يشترط في الكلب 0
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه:- بل يرجع فيه إلى أهل الخبره، فإن كان من تعليمه الا يأكل فيكون كالكلب 0
وإن كان من تعليمه أن يأكل، فلا مانع أن يأكل كالطير فحينئذ يرجع الى أهل الخبرة بذلك 0
فقد تقدم أن الطير يكون معلماً إذا أسترسل إذا أرسل وأنزجز أذا زٌجر - وإن أكل مما يصيد 0
وأما الكلب فيشترط ألا يأكل 0
وأما الفهد فالمذهب كذلك – وأختار شيخ الاسلام أنه يرجع في ذلك الى أهل الخبرة فقد يكون عندهم يكتفى باسترساله أذا أرسل وانزجاره أذا زجر ولو أكل وهذا هو الراجح وأن مرجع ذلك الى أهل الخبره وهكذا في غير الفهد مما يصيد ننظر فيه الى أهل الخبره فإن قيل: لم فرقنا بين الطير وبين الكلب؟ 0
فالجواب:- أن الطير لا يضرب فيشق حينئذ تعليمه على ألا يأكل بخلاف الكلب ونحوه قال:-] الثالث:- إرسال الآلة قاصداً [.0
أي قاصداً الصيد
فلو أرسل الآلة ولم يقصد فيها الصيد فإن الصيد لا يحل فلو أن رجلا رأى شاخصاً في بيته فظنه لصاً – فرماه فإذا هو وحش مما يحل صيده فلا يحل وذلك لأنه لم يقصد صيده ومعلوم أن القصد شرط في التذكية فكذلك في الصيد ومن ثم أشترطنا أن يكون الصائد عاقلاً 0
فإن أرسل سهماً يقصد طائراً ليصيده فصاد طائرا أخر أو أرسل سهمه ليصيد طائرا فصاده وصاد معه غيره فهل يحل ذلك أم لا؟ هذه مسألة 0
(29/25)
________________________________________
المسألة الثانية رجل أخذ السكين ليذبح شاة وقال بسم الله ثم ذبح غيرها فما الحكم؟
أما المسألة الأولى:- وهو فيما إذا أراد صيدا فأصاب آخر فإنه يحل له ذلك:- قال صاحب الانصاف ((بلا نزاع أعمله)) وكذلك أذا أصابه وأصاب معه غيره وذلك لأنه قصد الصيد فأجزاه ذلك 0
وأما في مسألة الشاه فلا يجزئ لاشتراط التمسة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر أسم الله عليه فكل) فلابد أن تكون التسمية على خصوص المذكاة وأما الصيد فلا يشترط أن تكون التمسية على خصوصه 0
فهنا فرق في باب التسمية بين الصيد وبين الذبيحه 0
فالذبيحة:- يشترط أن تكون التمسيه لخصوصها فلو سمى على شاة وذبح غيرها لم يجزئ ذلك لحديث (ما أنهر الدم) الحديث 0
وأما اذا قال:- بسم الله وأرسل كلبه أو طائره أو رمى بسهمه فإنه يحل الصيد وإن صاد غيره وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (أذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك)) ولم يقل ((وذكرت اسم الله عليه)) وهو عام 0
وكذلك في السهم فقد قال صلى الله عليو سلم – كما مسند أحمد وسنن أبي داوود والترمذي – وابن ماجه والحديث صحيح من حديث أبي ثعلبه الخشني قال صلى الله عليه وسلم (كل ما رد عليك قوسك)
وهذا هو الذي تقتضيه السعه في هذا الباب، فإن الصائد قد يقصد شيئاً فيصيد شيئاً أخر لأن الصيد غير مقدور عليه فليس تحت يده بخلاف المذكى فإنه تحت يده فلا يشق عليه أن تكون التسمية على خصوص العين المذبوحة 0
ومسألة:- إذا قال (باسم الله) وأخذ سهماً ثم غير هذا السهم بسهم أخر ثم رمى به 0
قال الحنابلة:- لا يجزئ، فلو أن رجلا جهز البندقية وفيها شئ من الرصاص، فلما أراد أن يرمي بها كأنه غير ذلك لأمر معين ثم وضع رصاصه أخرى ثم رمى بها فإنه لا يجزئ.
(29/26)
________________________________________
ولو وضع الشاه على الارض ثم أخذ سكيناً فسمى بالله فوجد السكين كاله فرماها ثم أخذ سكيناً أخرى فذبح بها فإنه يجزئ في المذهب في هذه الصورة، وفي الصورة الأولى لا يجزئ 0
ولا يظهر أن هناك فارقاً معتبراً، لذا إختار الشيخ عبد الرحمن السعدي إستواء الصورتين لأن المقصود هو التذكيه فلا فرق بين الصورتين 0
وكأنهم – أى الحنابله – لمحوا أن التسمية على الآلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التسميه على الآله مجزئه وإن لم تكن بخصوص الصيد، لكن لا يظهر أن هذا فرق مؤثر 0
قال:-] فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح [0
إذا أسترسل الكلب أو غيره كالصقر بنفسه كأن يرى شيئا من الصيد فإنطلق اليه ليصيده فإنه لا يباح 0
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (أذا أرسلت كلبك ((وهذا شرط)) وذكرت أسم الله فكل)
قال:-] الا أن يزجره فيزيد في طلبه فيحل [.
فلو رأى الصائد أن الطير قد أنطلق الى شىء مما يصاد فلما رآه أنطلق زجره فأنزجر وزاد في عدوه كأنه يحل وذلك فإنه لما زاد في عدوه دل على أنه إنما صاد لصاحبه ولأنه اجتمع فعل ادمي وفعل بهيمه وأذا وجد فعل الآدمي مع فعل البهيمه فإنه هو المعتبر، وعليه فيلغى فعل البهيمه 0
وظ\هر كلام المؤلف أنه لو زجره فلم يزد في عدوه تبين أنه ليس للأدمي أثر وعليه فلا يحل – وهو كما ذكر – وذلك لأن الكلب لم يسترسل بإرسال صاحبه وإنما أسترسل بنفسه والشرط أن يرسله صاحبه للحديت المتقدم 0
مسألة
فإن أرسل الصائد كلبه فأكل فهل يحل أكله أم لا، وهذا خاص في الكلب والفهد على قول؟
الجواب لا يحل كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم ومنه ((إذ1 أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أسكن عليك الا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما امسك على نفسه))
والله عز وجل يقول {فكلوا مما أمسكن عليكم} فإذا أكل منها فهذا يدل على أنه إنما أمسك على نفسه فلا يحل ذلك 0
(29/27)
________________________________________
فإن قيل:- فما الجواب عما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أرسلت الكلب وذكرت اسم الله فكل وإن أكل)
فالجواب أنه من حديث عمرو الأودي وهو مقارب الحديث كما قال ذلك الإمام أحمد لكن هنا خالف هذا الحديث المتفق عليه وكان حديثه منكراَ فعلى ذلك الحديث منكر لا يصح 0
قال] : الراجح التمسيه عند إرسال السهم أو الجارحه [.
أو قبيله بزمن يسير غرفاً لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا رميت سهما فأذكر اسم الله) ، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله)
قال] : فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح [0
اذن في الصيد ان تركها سهواً فانه لا يباح، فقد فرقوا بين التسميه على الصيد وبين التسميه على الذبيحه.
قالوا: الفرق بينهما،1- التسميه على الذبيحه يسامح فيها لان الذبح وقع في محله فقد قطع الحلقوه والمرىء فكان الذبح في محله.
واما الصيد فليس في محله فانه قد يضربها في بطنها او ظهرها فتموت بذلك فليس الذبح في محله فلم يتسامح فيه.
-وعن الامام أحمد وهو قول الأحناف والمالكيه:- أن السهو كذلك هنا معفى عنه كما يعفى في الذبيحه.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:" والصواب التسوية بين النسيان والجهل في ترك التسميه على الذبائح والصيد لعدم الفارق بينهما ولان الشارع قد سوى بينهما بعدم المؤاخذه "
والصحيح هو هذا القول لعدم الفارق بين الذبيحه والصيد في هذا الباب بل الصيد أولى لأن الصيد يتسامح فيه.
ولذا انه اذا سمى على الآله او على الكلب – فصاد ولو كان الصيد شئاً آخر غير الذي أرسل اليه فانه يجزئ.
وكذلك لا يد فى الذبيحه ان يكون ذلك بقطع الودجين كما تقدم (انظر الدرس السابق) واما هنا فاالأمر يتسامح فيه، فدل على ان الصيد يتسامح فيه وأيضا في الغالب يكون النسيان، فانه قد يتبع الصيد فيغفل عن التسميه، ومن تتبع الصيد غفل.
(29/28)
________________________________________
ولأنه قد يخرج عليه فجأة، بخلاف الذبيحه فان ذلك لا يكون فيها فكان الصيد أولى بالتسامح.
وأما ما ذكروه فليس بمؤثر لأن الشارع جعل الإصابه بحد السهم او بناب او مخلب الجارح – جعله في مقام الذبح تماماً.
قال] :ويسن ان يقول معها الله اكبر كالذكاة [
فيستحب في الذكاة والصيد ان يقول مع بسم الله: الله اكبر.
أما في الذكاة، فلما ثبت في صحيح مسلم ان النبى صلى الله عليه وسلم قال – على أضحيته: " بسم الله والله اكبر ".
قالوا: والصيد يقاس على ذلك.
-واما الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم حينئذ فلا تشرع وذلك لعدم ثبوت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم.
والحمد الله رب العالمين
ثم سالت شيخنا بعد الدرس: عن استحباب الحنابله قول " الله اكبر " عند الصيد مع التسميه
فقال – حفظه الله – هذا محل توقف وذلك لأن القياس في باب العبادات محل نظر بل الاصل انه لا يقاس في باب العبادات.
ثم سئل: عن رجل رمى صيداً فأصابه فوقع على حجر فمات فما الحكم؟
الجواب: اذا كان يعلم انه قد مات بسبب رميته فانه يحل.
وكذلك اذا وقع في الماء فوجوه غريقا.
اما اذا كان لا يدرى هل مات بسبب رميه او بسبب الحجر في الصورة الأولى، والماء في الصورة الثانيه، فلا يحل للحديث المتفق عليه: (واذا وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدرى الماء قتله او سهمك) .
(29/29)
________________________________________
كتاب القضاء
القضاء في اللغة: الفصل والحكم
وفي الاصطلاح الفقهي:تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات.
"تبيين الحكم الشرعي "،وبهذا يتفق القاضي مع المفتى في تبين الحكم الشرعي، وإن كان المفتى أوسع دائرة منه في تبيين الحكم الشرعي وذلك لان القاضي إنما يبين الحكم الشرعي في المسائل المتنازع فيها.
وأما المفتى فانه يبينها في المسائل المتنازع فيها وفي غيرها.
وفي قولنا: والإلزام به " يفترق بهذ القيد المفتي عن القاضي فإن المفتي لا يلزم بالحكم الشرعي وأما القاضي فإنه يلزم به".
قال:] وهو فرض كفاية [
فالقضاء فرض كفاية، لأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا به.
-وهل متعين على أحد ان يتولى القضاء؟
لا يتعين ذلك إلا ألا يكون هناك من يقوم به سواه، فان لم يكن في الإقليم أو في المنطقة أو في البلدة من يقوم بالقضاء وقد توفرت فيه شروطه، سوى هذا العالم فواجب عليه أن يقوم به فهو فرض عين عليه.
إذن: القضاء في الأصل فرض كفاية لكن قد يتعين
فإن كان غير متعين عليه فهل يسن أن يتولى القضاء ام لا؟
قولان لاهل العلم هما روايتان عن الامام أحمد:
القول الأول: أنه لا يتعين.
واستدلوا: بما روى الاربعة أن النبى صلي الله عليه وسلم قال (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال
واستدلوا:بما روى الخمسة – أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثه: اثنان في النار وواحد في الجنه: رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به جاز في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
واستدلوا بحديث ضعيف في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتي على القاضي العادل ساعة يود انه لم يقض بين الناس في تمرة "
والقول الثاني: أنه سنة.
(30/1)
________________________________________
يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتولى القضاء، وأن خلفاءه الراشدين كانوا يتولونه , وكذلك كان خيار الناس وفضلاؤهم في القرون المفضله كانوا يتولون القضاء وهذا هو القول الراجح في المسألة وأنه مستحب وأما الدليلان اللذان استدل بهما أهل القول الأول فليس فيهما أنه ليس سنة، وإنما فيهما ما يحيط القاضي من المخاوف في قضائه فانه يخشى عليه الرغبة أو الرهبة او المجاملة أو المحاباة..
وأما أن يكون من تأهل للقضاء لا يستحب له ذلك مع أمنه على نفسه من هذه المخاوف فلا
إذن: أرجح القولين أنه سنه.
قال شيخ الإسلام:"" والواجب في ولاية القضاء اتخاذها ديناً وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال فيها "" هـ
فهو إذن من افضل القربات لما فيه من فصل النزاع بين الناس وإقامه العدل بينهم.
قال:] يلزم الإمام ان ينصب في كل إقليم قاضيا [
ففرض قيام الإمام أن ينصب في كل إقليم من الأقاليم الاسلامية قاضيا يقضى بين الناس.
قال:] ويختار أفضل من يجده علماً وورعاً [
يختار الإمام أفضل من يجده علماً وورعاً، لأنه – أي الإمام ناظر للمسلمين – والواجب على الناظر ان يختار الأصلح.
قال:] ويأمره بتقوى – وان يتحرى العدل ويجتهد في إقامته [
قال شيخ الإسلام " من عمل بما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه "
إذا تحرى العدل واجتهد في الوصول إليه فإنه معذور عند الله فيما عجز عنه.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين -: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر "
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أقضي بنحو ما أسمع "
قال:] فيقول: وليتك الحكم، أو قلدتك ونحوه [
فيقول – أي الإمام الأعظم ومن ينوب عنه كما يكون هذا في رئيس القضاة ونحوه- فيقول لمن يريد أن يوليه القضاء: وليتك الحكم او قلدتك ونحوه من الألفاظ التى تدل على تولية القضاء فكل قول يدل عليه فإانه يعمل به.
(30/2)
________________________________________
قال:] ويكاتبه في البعد [.
فإذا كان بعيداً فإنه يكاتبه بذلك أي يكتب إليه ورقة فيها توليته القضاء، وهذا كالوكالة فكما تجوز بالكتابة فكذلك القضاء.
-ثم شرع المؤلف في بيان ما يستفاد من ولاية القضاء أي الأعمال التى يقوم بها القاضي ز
وما يذكره المؤلف مبنى على ما جرت به العادة عندهم
قال:] وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، واخذ الحق لبعضهم من بعض، والنظر في أقوال غير الراشدين [.
أي النظر في أقوال السفهاء والصبيان.
قال:] والحجر على من يستوجبه لسفه او فلس [
فمن استوجب الحجر عليه لفلس أو سفه فإنه يتولى ذلك القاضى
قال:] والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها [
أي النظر في أوقاف الإقليم الذي هو فيه.
قال:] وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولى لها [
كما تقدم في الحديث: " فان اشجروا فالسلطان ولى من لا ولى له "
قال:] وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الاذى عن الطرقات وأفنيتها [
والغناء ما يسع امام الدار.
قال:] ونحوه [
من أخد الخراج وجني الزكاة.
-هكذا يستفاد من الولاية في عصر المؤلف – وليس لذلك حد شرعي كما قال ذلك شيخ الاسلام بل مرجع ذلك إلى الألفاظ والعرف.
ونحن في عرفنا لا يتسع كل ما ذكره المؤلف – للقضاة بل منه ما يكون لهم ومنه ما لا يكون لهم.
إذن: يستفاد من ولاية القضاء عندهم – ما ذكره المؤلف هنا إلا أن يستثنى شيء من ذلك، كأن ينصب عامل لجنى الزكاة أو أن ينصب رجل لإقامة العيد والجمعة؟
ومرجع ما يستفاد من الولاية الى الألفاظ والعرف.
قال:] ويجوز ان يولى عموم النظر في عموم العمل، ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما [.
الحاله الاولى: ان يولى المولي "وهو الإمام الأعظم أو من ينوب عنه "يولى عموم النظر في عموم العمل "
أي أن يوليه عموم النظر في المسائل المتنازع فيها وما يتصل فيها من المسائل التى تقدم ذكرها، في عموم العمل.
(30/3)
________________________________________
فيقول: قد وليتك سائر الأحكام في سائر البلدان وهذه أعلاها.
الحال الثاني: "ان يوليه خاصاً فيهما، أي يوليه نظراً خاصاً في عمل خاص "أي اقليم خاص "
فيقول – مثلاً -: أنت ولى أمر النكاح في الاقليم الفلاني فهنا ولايه النكاح نظر خاص، والإقليم الفلاني عمل خاص.
الحال الثالث: ان يكون النظر عاماً والإقليم خاصاً
كان يقول له: "وليتك سائر الأحكام في الاقليم الفلاني وهذا هو الكثير، فقوله سائر الأحكام: عموم في النظر.
وقوله " في الاقليم الفلاني " خصوص في العمل.
الحال الرابع: ان يكون النظر خاصاً والعمل عاماً
كان يقول: وليتك أمور الأسلحة في سائر البلدان.
إذن المراد بقوله: عموم النظر " أي عموم النظر في الأحكام والمراد بالعمل هنا أي الأقاليم.
قال] ويشترط في القاضي عشر صفات [
هنا شرع في الشروط التى تشترط في القاضي
قال] كونه بالغاً عاقلاً [
أي مكلفاً لأن غير المكلف تحت ولاية غيره فلا يصح أن يكون والياً. وهذا بالاتفاق.
قال] ذكراً [
لان الانثى لا تصح ان تتولى ولاية في الإسلام، لقول النبى صلي الله عليه وسلم:"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " راوه البخارى.
وقال أبو حنيفه: يجوز ذلك في باب الأموال ونحوها أي دون الحدود لصحة شهادتها.
وهذا نظر يخالف النص فلا عبرة به.
فالصحيح ان المرأه لا تصح ان تتولى القضاء لا في الأموال ولا في الحدود.
قال:] حرا ً [
قالوا: لأن العبد مشغول بخدمة سيده
-واختار ابن عقيل وابو الخطاب من الحنابلة: انه يصح وهذا اظهر لأن ما ذكروه لا يقوى على المنع.
قال (مسلماً عدلاً)
"عدلا" لقوله تعالى "ولا ينال عهدي الظالمين " وهذا بالاتفاق. فالعداله شرط في القاضى.
وعند العدم – أي عندما يعدم العدل.
فكما قال شيخ الإسلام ابن تميمه: يولى الأنفع من الفاسقين واقلهما شراً. فيولى الأمثل فالأمثل وذكر ان ذلك ظاهر كلام احمد وغيره.
(30/4)
________________________________________
فالشروط تعتبر حسب الامكان،فإن لم يوجد عدل فإنه يولى من الفساق أعدلهم وأنفعهم.
"مسلماً" وهذا شرط ظاهر جداً، ولا خلاف فيه بين اهل العلم.
قال] سميعاً [
لأنه إن لم يكن سميعاً فإنه لا يسمع كلام المتخاصمين.
قال:] بصيراً [
لأن الأعمى لا يعرف المدعى من المدعى عليه
قال] متكلماً [
لأن الأخرس لا ينطق بالحكم، ولأن إشارته قد لا تعلم.
-والراجح في هذه الشروط الثلاثة إنها شروط كمال وليست شروط صحة.
أما السميع والبصير فقال صاحب الإنصاف:"وقيل لا يشترطان.
واما الأخرس فهو قول في مذهب الشافعي – أن الأخرس يجوز كونه قاضياً.
-وهذا ظاهر وذلك لان غير السميع يمكن أن تكتب له القضيه فيقضى فيها.
وغير البصير يمكن أن ينصب ثقات عنده يبينون له الناس فيعرفونه بالمدعي من المدعى عليه.
والأخرس الذي لا يتكلم يمكنه أن يكتب، أو يكون عنده من يعرف إشارته.
قال] مجتهداً [
وحكى ابن جزم الاجماع على ذلك.
وذهب أبو حنيفه: إلى انه لا يشترط.
فإما ان يقال: إن ابا حنيفه خالف الاجماع، وإما أن يقال إن ابن حزم ذكر الاجماع على سبيل الخطأ مع وجود المخالف.
ويقوى أن يكون الاجماع هو الثابت وان يكون خلاف أبي حنيفة بعد الإجماع..
وذلك لظهور الأدلة على اشتراط ذلك قال تعالى:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله "وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر القاضي الذي هو أحمد ثلاثة قضاة – قال: "ورجل عرف الحق فقضى به" فيشترط أن يكون مجتهداً.
-واما أبو حنيفة فلم يشترط ذلك وقال: لأن المقصود من ذلك فصل النزاع، وهذا قول باطل لأنه ليس المقصود فصل النزاع فحسب بل المقصود فصل النزاع بالحق بالكتاب والسنة.
قال:] ولو في مذهبة [.
وهذه إشارة إلى خلاف.
فيشترط أن يكون مجتهداً ولو في المذهب ن بأن يحكم بالمقدم من المذهب قالوا: ولو اعتقد أن الحق خلافه ".
(30/5)
________________________________________
وهذا كما قال الشيخ السعدي:" هذا في غاية الضعف وهو مبني على قول ضعيف جداً وهو وجوب الإلتزام بمذهب من المذاهب الأربعة، والأخذ بالمقدم عند أئمة المذاهب.قال: وهذا قول لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع بل الأدلة تدل على بطلانه ".
وهذا ما يقرره شيخ الإسلام. والأدلة المتقدمة تدل على بطلانه.
-فإن ألزم السلطان بالقضاء في مذهب من المذاهب فما الحكم؟
قال شيخ الإسلام " فهذا شرط باطل لأنه يخالف كتاب الله عز وجل " 10.هـ
وأما توليته للقضاء فتكون صحيحة.
-ولكن إن اشترط السلطان ذلك فهل يتولى من هو أهل للاجتهاد ام لا؟
قال شيخ الإسلام: "لكن إن لم يمكنه إلا أن يقضى به "أي لإلزام السلطان فإنه ينبغى له ان يقضى بذلك المذهب وذلك تقديماً الأدنى المفسدتين، وخروجاً من أعلاهما.
فإذا تولى وهو من أهل الاجتهاد والعدالة والدين كان ذلك دفعاً أن يتولى القضاء من ليس من ذلك.
قال] وإذا حكمّ اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها [.
في مذهب أكثر الفقهاء
فإذا حكم اثنان بينهما رجلاً، وهذا الرجل يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه سواء كان رضاهما قبل معرفته بالحكم أو بعد معرفتهما له. وأيضا يلزم قاضى البلد بهذا الحكم - هذا هو مذهب أكثر الفقهاء.
وذلك لأنهما تعاقدا على الرضا بحكمه وهو من أهل القضاء وقد قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ".
وفي سنن أبي داوود – في قصه ابى شريح – انه كان يكنى ابا الحكم فسأله النبى صلى الله فقال:" ان قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ما احسن هذا "
اذن قد تراضا فلزمهما ذلك /لان الله عز وجل يقول (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)
فقد تعاقدا على الرضا فلزمهما ذلك وهو حكم مبنى على شرع فكان على القاضي ان يلزم به.
(30/6)
________________________________________
وهو في المشهور في المذهب: في المال والحدود واللعان وغيرها لكنه لا ينفذ لان التنفيذ الى الامام، واذا نفذ كان في ذلك افتيات على السلطان.
-وقال القاضي من الحنابله: بل هو في المال خاصه
والصحيح ما ذهب اليه الحنابله وذلك لان العلة ثابته في الحدود واللعان كما هي ثابته في المال فقد تعاقدا على الرضا وهو من أهل القضاء فوجب عليهما ان يلتزما بحكم فهو مخبر عن الله عز وجل وعن دينه.
(باب: آداب القاضي)
يعنى: أخلاقه
فآداب القاضي هي أخلاقه
قال المؤلف رحمه الله:] ينبغى [
لفظة ينبغى عند الفقهاء بمعنى يستحب.
قال] ان يكون قوياً – من غير عنف [
لئلا يطمع فيه الظالم
قال:] لينا من غير ضعف [
لئلا يهابه صاحب الحق.
فإذا اجتمع فيه هذا الوصف لم يهبه صاحب الحق فيدلى بحجته ويوضح بينته،ولا يطمع فيه الظالم بل يهاب ان يتكلم بين يديه بغير حق.
قال:] حليما [
لئلا يغضب على خصم فيحكم بغير الحق.
قال:] ذا أناه [
أي ذا تؤدة وعدم تسرع – فليس متسرعاً مستعجلاً في قضائه بل هو ذو تؤدة.
قال:] وفطنه [
أي صاحب فطنه لئلا يرى المحق مبطلاً، والمبطل محقاً بسبب عدم الفطنه، ولئلا يخدع ويحتال عليه.
قال:] وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً [
ليكن مجلسه في وسط البلد ليمضى اليه كل اهل البلد على التساوي.
وان كان في قرى يكون في وسطها أي في القريه المتوسطه "فسيحاً" لان ذلك اشرح لصدره، وله اثر في حسن نظره وحسن تصوره.
قال:] ومعدل بين الخصمين [
هنا: ويجب ان يعدل – كما قال الشراح.
قال:] في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما [.
فيجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه: أي في نظره / فينظر اليهما نظرة واحدة لا يحسن النظر الى أحدهما ويسئ النظر الى الآخر، بل ينظر إليهما نظراً واحداً.
"وفي لفظه: أي في إجابته السلام وفي السؤال ونحو ذلك، فيكون عادلاً في الفاظه التى يوجهها أو يجيب الخصوم بها.
(30/7)
________________________________________
"ومجلسه " فيكونان في مجلس متساو فلا يضع الشريف في مجلس وغير الشريف في مجلس دونه.
ولا يقدم أحدهما إلى المجلس الأدنى اليه، ويجعل الآخر في المجلس الأبعد منه، بل يكونان على درجة واحدة في المجلس.
"ودخولهما " بأن يدخلا مرة واحدة، أو أن يقدم أحدهما الآخر بالدخول.
أما أن يقدم القاضى أحدهما بالدخول فلا.
إذن: العدل بينهما في هذه الأمور الأربع: في لحظه ولفظه وفي مجلسه وفي دخولهما.
قالوا: ويستثنى من ذلك، ما إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً، فإن المسلم يقدم في المجلس.
وقيل:- كما في الانصاف – بل يجب عليه أن يجعلهما في درجة واحدة في مجلسهما وغير ذلك.
والعلة في هذه المسائل الأربع: أنه إذا لم يعدل في هذه الأمور الأربع كان ذلك سبباً لانكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته.
وهذه العلة يشترك فيها الناس لا فرق بين ما إذا كان الخصوم مسلمين او كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فالمعنى واحد، فإنه إيجاب إيصال الحق الى صاحبه يستوى فيه المسلم والكافر والله اعلم
قال:] وينبغى ان يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، ويشاورهم فيما يشكل عليه [.
فينبغى ان يجمع فقهاء المذاهب الذين في بلده فيكون في المجلس فقيه حنفى وفقيه مالكي وفقيه شافعي وفقيه ظاهرى، فإذا أشكل عليه شئ عرض ذلك عليهم واستشارهم – هذا هو المشهور في المذاهب.
-وفي ذلك نظر، وذلك لما يترتب على ذلك من إفشاء السر، فانه قد تكون بعض القضايا فيها سر للناس فحضور هؤلاء،لا شك أنه يؤدى إلى إفشاء الأسرار.
وثانيا: قد يضعف صاحب الحق من الإدلاء بحجته، فتصبح وكأنها خطبة، فعندما يقف بين يدي فقهاء من المذاهب الاربعة هذا يجعله في هيبة عظيمة، فقد لا يظهر حجته.
والعلة التى يذكرونها هي أنه قد يشكل عليه بعض الشىء فيستشيرهم.
وهذا يمكنه أن يفعله بأن يؤخر الحكم في القضيه حتى يراجع كتب أهل العلم، وحتى يستشير أهل العلم المعاصرين.
(30/8)
________________________________________
اذن: الراحج خلاف المذهب.
قال:] ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً [.
والغضب الكثير: هو الغضب الذي يشغل الفكر، ويؤدى في الغالب الى عدم تصور المسألة، وعدم تطبيقها على الأدلة الشرعية.
أما إذا كان الغضب يسيراً فلا يمنع من القضاء.
ومن ثم فإن النبى صلى الله عليه وسلم قضى على الأنصاري – كما في الصحيح وقد قال: إن كان ابن عمتك "فقضى النبى صلى الله عليه وسلم.
وأما الغضب الكثير الذي يشغل الفكر فانه يحرم معه القضاء لقول النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه.
قال:] أو حاقن أو حاقب أو في شدة جوع أو عطش أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج [.
فكل هذه الامور قياسها على المسألة التى ورد النص فيها ظاهر، لأنها تشغل الفكر.
قال:] وان خالف فأصاب الحق نفذ [.
فإذا خالف القاضي ذلك فقضى وهو غضبان أو قضى وهو في عطش أو جوع أو ملل أو نحو ذلك فما الحكم؟
إذا أصاب الحق فإن حكمه ينفذ وذلك لأن الشارع إنما منع من قضائه وهو غضبان خوفاً من أن لا يصب الحق وهنا قد أصاب الحق فما خشى فواته قد حصل وعليه فلا داعي للقول بالبطلان.
وأما إذا لم يصب الحق فإنه لا ينفذ حكمه لأن الشارع قد نهى عن القضاء حينئذ وحصل ما يخشى منه من عدم إصابة الحق فوجب عليه أن يعيد النظر في القضية.
قال:] ويحرم قبول رشوة [
للعن النبى صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى. وتقدم الكلام على الرشوة.
قال:] وكذا هدية [
فلا يحل للقاضي أن يقبل الهدية، لما ثبت في مسند احمد بإسناد صحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال:" هدايا العمال غلوك " والغلول محرم.
قال:] إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته ان لم تكن له حكومه [
فيستثنى من عدم جواز قبول الهديه – فإذا كان يهاديه قبل ولايته، ثم أهدى اليه بعد الولايه، فإنه يقبل الهديه لعدم التهمه إذا لم تكن له حكومة عند القاضي.
(30/9)
________________________________________
أما إذا كانت له حكومه عند القاضي، فإن القاضي لا يقبل هذه الهدية وإن كان في الاصل يقبل هداياه.
اذن: لا يحل له أن يقبل الهدية إلا أن تكون ممن يهاديه قبل ولايته بشرط ألا تكون له حكومة.
-والذي يظهر: أنه إذا كان لا يهاديه قبل ولايته لكن مثله ممن يهادي، وقد طرأ ذلك فالذي ينبغى القول به قبول الهدية.
فلو أنه اتخذ صديقا وكانت الصداقه طارئة أي بعد ولاية القضاء فلا يتبين أن هناك مانعاً من قبول القاضي لهديته إلا أن تكون له حكومة أو كان له – مثلا – ابن عم وكان قبل ولايته للقضاء صغير السن ثم كبر سنه ثم اهدي اليه هديه فلا ينبغى القول بالمنع حينئذ، لعدم التهمه.
فظاهر قول المؤلف أنه لا يقبل إلا ممن كان يهاديه قبل الولاية.
والذي يظهر: أن من كان مثله فكذلك وإن لم يكن قد اهدي له قبل ذلك لكن طرأ السبب الذي يهدي به كأن تطرأ صداقه أو تطرأ قرابة. كأن يصاهر مثلاً بعد تولية القضاء فيهدي اليه صهره فلا يظهر أنه يمنع من ذلك لأن السبب لم يكن موجوداً قبل ذلك.
وهل للقاضي ان يبيع ويشترى؟
المشهور في المذهب: ان له ذلك لكنه يكره، ألا أن يضع وكيلاً لا يعرف به، أي لا يعرف ان هذا وكيل القاضي.
والصحيح: انه لا باس ببيعه وشرائه ولا دليل على الكراهية لكن ليس له ان يقبل المحاباه بمعنى: اذا بيع له الشىء بأقل من سعره المعتاد او اشترى منه الشىء بأكثر من سعره المعتاد فلا يحل له ان يقبل هذه المحاباه وذلك لانها كالهدية.
إلا إذا كانت – هذه المحاباه – ممن كان يهاديه قبل ولايته القضاء – ولم يكن في ذلك تهمه.
قال:] ويستحب آلا يحكم إلا بحضرة الشهود [
فيستحب الا يحكم القاضي الا بحضرة الشهود أي الشهود الذين ثبت الحكم بشهادتهم.
فإذا شهد اثنان على أن فلاناً قتل فلاناً عمداً فانه لا يقضي بالقتل إلا بحضرة الشهود – استحبابا –
وذلك لأنه قد يفوته بعض الشىء في شهادتهم فينبهه هؤلاء الشهود على ما قد فاته.
(30/10)
________________________________________
وكذلك: قد يتراجع بعضهم عن الشهادة حيث كانت شهادة زور، فإذا رأى أن الحكم يثبت وأن القاضي يصدع الآن بالحكم فإنه قد يتراجع عن هذه الشهادة
وهذا من باب الاستحباب لان شهادتهم قد أدوها قبل ذلك وضبطت عند القاضى.
قال:] ولا ينفذ حكمه لنفسه [
بلا نزاع
قال:] ولا لمن لا تقبل شهادته له [
كذلك لا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له كأبيه او أخيه.
قالوا: قياسا على الشهادة لأن الحكم يتضمن الشهادة، فإن القاضي يقول " أشهد أن الحكم في المسألة كذا " فلما كان الحكم متضمناً للشهاده لم ينفذ حكمه في نفسه ولا فيمن تقبل شهادته له ولا فيمن لا تقبل شهادته عليه كالعدو، وإن كان حكمه ظاهر القبول حيث حكم لعدوه وذلك لزوال التهمة، لكن لو حكم عليه فإنه لا يقبل.
إذن: لا ينفذ حكمه لنفسه بلا نزاع.
ولا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له – وهو مذهب الجمهور.
وعن الامام احمد وهو قول ابى بكر عبد العزيز من الحنابلة: أن حكمه يقبل، فإذا قضى في مسألة بين أبيه وبين أجنبيي، فقضى لابيه على الخصم فإن الحكم ينفذ ويقبل.
وفي هذا القول قوة، لأن الأصل في القاضي البعد عن التهمة.
وكونه شاهداً ليس ككونه قاضاً، فان كونه قاضاً هو بمنزلة النائب عن الامام الذي يقرر شرع الله ويلزم به الناس فهو في محل ينبغى ألا يتهم فيه وإن حكم لأبيه وإن حكم لأخيه بل وإن حكم لنفسه، لكن الحكم للنفس لا شك انه أبعد من الحكم للغير.
ومع ذلك فالاحوط الا يقضى لنفسه ولا يقضى لمن لا تقبل شهادته له.
لكن لو رضى الخصم، فقال: أنا أرضى بقضائك وان كنت أنت خصمى " او وإن كان أبوك خصمي، لعلمي انك لا تقضى إلا بالحق فحينئذ لا إشكال في صحه القضاء ونفوذه – وذلك لأن الحق له فأسقطه.
اذن المشهور عند الفقهاء آن حكم القاضي لنفسه لا ينفذ وأن حكمه لمن لا تقبل شهادته له كذلك لا ينفذ.
أما حكمه على نفسه او على من لا تقبل شهادته له فهذا ظاهر القبول.
(30/11)
________________________________________
لكن هل يتصور ذلك ام أنا نمنع من أصل إقامة القضيه على ذلك، ونقول – ما دام أن الخصم هو القاضي او من لا تقبل شهادتهم له – فمن الأصل لا يكون القضاء.
-والذي يتوجه في مثل هذه المسائل صحة حكم القاضى لانه في منصب ينبغى ألا يكون متهماً فيه.
قال:] ومن ادعى على غير برزة لم تحضر [
البرزة هي المرأة التى تبرز لقضاء حوائجها.
وغير البرزة – هي المرأة المخدرة التى لا تخرج لقضاء حوائجها.
فإذا ادعى على غير برزة لم تحضر للعذر، ولأن حياءها يمنعها من القيام بالحجة.
قال:] وأمرت بالتوكيل [.
فتؤمر بأن توكل لحفظ حق الخصم، لانه قد يكون الحق مع المدعى، فلا بد وأن توكل.
قال:] وان لزمها يمين أرسل من يحلفها [
فإذا لزمها يمين فإنه لا يمكن للوكيل أن يحلف عنها لأن اليمين لا نيابه فيها، وحينئذ فيرسل القاضى من يحلفها.
قال:] وكذا المريض [
أي المصاب بمرض يشق عليه معه الحضور عند القاضى.
وحينئذ فان القاضي يأمره بالتوكيل، وإن احتاج الى اليمين فإن القاضي يرسل إليه من يأخذ يمينه وهو في الموضع الذي يتمرض فيه.
مسألة.
إذا عزل القاضى فهل ينعزل قبل علمه أم لا؟
بمعنى: إذا قضى وحكم في مسائل قبل ان يعلم بالعزل فهل ينفذ هذه الاحكام ام لا؟
قولان في المسألة:
أصحهما وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه أنه لا ينعزل قبل العلم وذلك لأن ولايته حق لله تعالى وحقوق الله تعالى لا يثبت الفسخ فيها إلا بعد العلم أي بعد علم المكلف.
-بل هل ينعزل القاضى بالعزل؟ وهل ينعزل بموت المولّى؟
قولان لأهل العلم:
-والصحيح في مذهب أحمد: أنه لا ينعزل
وهذا مبنى على: هل القاضى نائب عن الإمام او نائب عن المسلمين.
فإذا قلنا: هو نائب عن الإمام فانه ينعزل بعزل الإمام، وإذا مات الإمام انعزل أيضا.
وإذا قلنا: هو نائب عن المسلمين أي قائم بحق الله تعالى فإنه لا ينعزل بعزله ولو عزله الإمام – وهذا هو المشهور في المذهب
(30/12)
________________________________________
-وعلى القول بأنه ينعزل، هل ينعزل قبل العلم أو لا؟
قولان: أصحهما أنه لا ينعزل قبل العلم كما تقدم واختار هذا شيخ الإسلام، ويختار أيضاً انه لا ينعزل وذلك لأن الولاية حق الله تعالى.
وهذا فيما يظهر أقوى. والله اعلم
والحمد لله رب العالمين
باب: طريق الحكم وصفته
أي كيف يقضى القاضى بين الناس، فهذا الفصل في صفة القضاء.
قال رحمه الله:] إذا حضر اليه خصمان قال: أيكما المدعي [
ويجوز غير ذلك من الألفاظ فليس هذا لفظا تعبدياً، وانما يقول هذا اللفظ او ما يدل عليه.
-وليس له ان يقول: يا فلان ما تقول؟ وذلك لانه يخصص أحدهما بالسؤال وليس من العدل
قال:] فإن سكت حتى يبدأ جاز [
فإذا سكت القاضى ولم يقل: "أيكما المدعى " بل سكت حتى يبدأ المدعي جاز ذلك.
قال:] فمن سبق بالدعوى قدمه [
فمن سبق بالدعوى من الخصمين قدمه، فإذا كان كل واحد فيهما مدع على الآخر فسبق أحدهما بالدعوى فانه يقدمه وذلك لسبقه فهو قد سبق فكان أولى من الآخر.
وإن لم يتكلم أحدهما – وكل منهما مدع – فإنه يقرع بينهما.
إذن: إذا كان أحدهما مدع والآخر مدعى عليه، فإن القاضي يقول: أيكما المدعي فيتكلم حينئذ المدعي أو يسكت القاضي حتى يتكلم المدعي.
وأما إن كان كل واحد فيهما مدع فانه يقرع بينهما فإن سبق أحدهما بالكلام قبل الآخر فإنه يسمع لدعواه لسبقه.
-وظاهر كلام المؤلف أن كل دعوى تسمع، ولو كان المدعى عليه من أهل المروءة والشرف
وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم.
فلو أن رجلاً من فقراء الناس ادعى على رجل من أشراف الناس دعوى فإن دعواه تسمع ويطالب القاضي بهذا الشريف فيحضر وان شاء وكل، وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم، اذ من الممكن أن يكون الأمر صدقاً.
-فإن قيل: قد يكون في ذلك أذى لأصحاب الشرف فلا يستطيع أحد ان يؤذيهم بذلك إلا آذاهم
(30/13)
________________________________________
فالجواب: أن هذا وإن كان ضرراً متوقعاً لكن حفظ حقوق الناس ودفع الظلم عنهم اعظم من ذلك فترجح هذه المصلحه ويمكنه – أي صاحب الشرف – ان يوكل من يخاصم عنه.
إلا ان تكون الدعوى ظاهرة الكذب، كأن يأتى إنسان مشهور بالفقر
ويقول: قد اقترض منى هذا الغنى- " وهو صاحب مال كثير - كذا من المال مما يبعد في العادة ان يقترض مثله فهنا قد يقال – لا سيما اذا ظهر فيه الكذب – قد يقال إنه لا تسمع الدعوى – حينئذ –
لكن مع ذلك القول بالعموم فيه قوة، من باب ترجيح حفظ حقوق الناس.
قال:] فإذا أقر له حكم له عليه [
إذا قال المدعى: ادعى على هذا أنه اقترض منى عشرة آلاف ريال، فقال المدعى عليه: أقر بذلك واعترف فإنه يحكم عليه بذلك وهذا ظاهر جداً.
قال:] وإذا أنكر [
أي قال: ليس عندي لفلان شيء أو فلان لا يستحق على شيئاً.
قال:] قال للمدعى: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت [
فيقول للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت – ولا يجب عليه إحضار البينة بل يحضرها إن شاء.
البينه: سيأتي الكلام عليها.
قال:] فإن احضرها سمعها وحكم بها [
فإذا أحضر المدعي البينه فان القاضي يسمعها، ولا يعنت الشهود بالأسئلة، وذلك لأن تعنيت الشهود بالاسئلة ذريعة إلى كتمان الشهادة وعدم القيام بها
إلا إذا ارتاب بالشهود فله أن يسأل ما يظهر به الحق من الباطل.
فإذا قال: يشهد فلان وفلان، واتى بهم أنى أقرضت فلاناً عشرة آلاف ريال، فحينئذ يحكم بها.
قال:] ولا يحكم بعلمه [
فلا يحكم القاضى بعلمه –لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين وهذا هو مذهب الجمهور، لقول النبي صلىالله عليه وسلم: " وإنما أقضي على نحو ما اسمع متفق عليه ". ولم يقل على نحو ما اعلم "
فلو أن القاضي رأى رجلاً يسرق أو يقتل أو رأى فلاناً وهو يقرض فلاناً، فليس له أن يحكم بذلك أي بعلمه، للحديث المتقدم.
(30/14)
________________________________________
ولأن هذا ذريعة إلى اتهام القاضي، فيقال قد قضى بالجور ولم يقض ببينة.
ولأن هذا ذريعة إلى باب شر عظيم، فقد يسلك هذا قضاة الجور فيحكمون بعلمهم.
والقول الثاني: وهو قول في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد: أنه يحكم بعلمه،
قالوا: لأن علمه بالشهود مقبول أي علمه بثقه الشهود أو تجريحهم مقبول – فكذلك هنا.
وهذا قياس مع الفارق، وذلك لأن حكمه بعلمه، حكم على وجه المباشرة، وأما حكمه بثقة الشهود أو تجريحهم فليس حكماً على المباشرة وإنما حكم بالشهود لكنه يعدل الشهود فليس هذا كهذا، فالأول حكم على المباشرة أي يحكم بعلمه مباشرة، وأما هنا فهو بواسطة الشهود وهو يعلم أن هؤلاء الشهود ثقات فقضى بقبول شهادتهم.
(3) وقال أبو حنيفه: يقضى بعلمه في حقوق الآدميين دون حقوق الله،لأن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة وأما حقوق الآدميين فمبنية على المشاحة.
-والصحيح هو القول الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي على نحو ما اسمع)
لكن هنا ثلاث مسائل تستثنى، فيجوز للقاضى أن يحكم فيها بعلمه:
المسألة الأولى: وقد تقدمت وهي أن حكمه بعلمه بتوثيق الشهود أو تجريحهم مقبول.
فإذا آتاه الشاهدان فقال:لا أقبل شهادتكما لعلمي بجرحكما فانه يقبل.
إن قبل الشهود ولم يطلب من يزكيهم لعلمه بهم ومعرفته لهم فإن هذا مقبول اتفاقاً.
المسألة الثانية: في أصح القولين وهو المشهور في المذهب:-
أنه يحكم بعلمه فيما يكون في مجلس القضاء.
فمثلاً: ادعى زيد على عمرو في مجلس القضاء – عشرة آلاف ريال، فقال عمرو: اقر بذلك ولا أنكره، ثم بعد ذلك أنكر عمرو، فإن القاضي يحكم بالإقرار بناءً على إقرار الرجل في مجلسه، ولا تحتاج إلى شهود ليشهدوا على الإقرار.
المسألة الثالثة: إذا كان الأمر مستفيضاً مشهوراً عند الناس يعلمه الخاص والعام فإن للقاضى – أن يحكم بعلمه – وذلك لزوال ما يخشى من الإتهام.
(30/15)
________________________________________
فإذا كان الناس – مثلا – يعلمون أن هذا الموضع تبع للمسجد يعلمه كل أهل السوق، وربما عامة أهل البلد يعلمون ذلك، فادعى شخص أنه له، فإن القاضي يحكم أن الأرض للمسجد بناءً على ما اشتهر واستفاض عند الناس وحينئذ لا يكون محلاً للاتهام
فإن قيل:إذا رأى القاضي رجلاً يقتل، فماذا يفعل؟
الجواب: يشهد عند قاضى آخر أنه قتل.
وكذلك إذا علم أن فلاناً قد أقرض فلاناً،فإنه يشهد عند قاضى آخر بذلك.
قال:] وإن قال المدعى:مالى بينة [
ونحو ذلك من الألفاظ، كأن يقول: لا أعلم لى بينة أو كانت لى بينة فنسيتها ونحو ذلك.
قال:] أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه [
فإذا ادعى رجل أن له على فلان عشرة آلاف – فقلنا هل لك بينه فقال: مالى بينة، فيقول له القاضي: لك اليمين على خصمك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بينة فقال النبى صلى الله عليه وسلم:- فلك يمينه – فقال يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يتورع عن شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك إلا ذلك ".
وتكون اليمين على صفة جوابه، فإذا قال المدعي قد أقرضت هذا الرجل عشرة آلاف فقال المدعى عليه: ما عندي له شئ، فيكون يمينه بأن يقول:" والله ما عندي له شئ ".
فلا يلزمه القاضي أن يقول – مثلاً –:" والله ما أقرضنى شيئاً "
بل يلزمه بالحلف على اللفظ الذي تلفظ به حال الإنكار لانه قد يكون أقرضه سابقاً ثم رده عليه.
اذن تكون يمينه على صفة جواب المدعى عليه.
فلو قال: أقرضته عشره آلاف – فقال: ما أقرضني إلا خمسه آلاف فتكون يمينه: والله ما أقرضني إلا خمسه آلاف "
قال:] فان سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله [
فإذا سأل المدعي احلاف المدعى عليه وقال: أريد يمينه
فإن القاضي يحلفه ويخلى سبيله.
فيقول له القاضي: احلف،فيقول والله ما عندي له شئ.
فإن القاضي يخلى سبيله، وبذلك تنتهى القضية.
قال:] ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعى [
(30/16)
________________________________________
إذا قال المدعي: إني أقرضت فلاناً عشرة آلاف، فقال المدعى عليه منكراً -: " والله ما أقرضني "فإن هذه اليمين لا تلغى بل لا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي وذلك لأن اليمين حق له – أي حق للمدعي – فلا تستوفى الا بطلبه.
-لكن هل المراد طلبه اللفظي ام طلبه العرفي؟
ظاهر كلام المؤلف: ان المراد بذلك طلبه اللفظي
لكن كذلك طلبه العرفي فإذا كانت العادة ان القاضي هو الذي يسال، وأن هذا ما أتى إلا ليثبت حقه فحينئذ: بمجرد ما يقول: ادعى على فلان بكذا، فيقول المدعى عليه: أنكر ذلك فيقول له القاضى: احلف فيحلف، فإن هذه اليمين يعتد بها لجريان عادة القضاة بذلك.
قال:] وان نكل [
فالقضيه مثلاً في قرض عشره آلاف
فإذا قال المدعي: قد أقرضته عشره آلاف، فقال المدعى عليه: لا لم يقرضنى شيئاً، فيقول القاضى للمدعي: هل لك بينه.
فإذا قال، لا، فانه يقول للآخر: احلف،أو يقول للمدعي: نحلف صاحبك فان قال: حلفوه، فيقول له احلف، فان حلف فذاك وتبرأ ذمته وإن قال: لا احلف فيكون حيئنذ قد نكل.
قال:] قضى عليه [
فإذا نكل فانه يقضى عليه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم
:"البينه على المدعي واليمين على من أنكر "
فحصر – عليه الصلاة والسلام – البينه على المدعي، وحصر اليمين على من أنكر.
وقد حكم بالنكول عثمان على ابن عمر كما في موطأ مالك باسناد صحيح.
ويدل عليه الحديث المتقدم: "ليس لك يمينه " ففيه أنه ليس له إلا اليمين، لكن إن نكل فكما تقدم في اثر عثمان.
(1) إذن: اذا نكل المدعى عليه فإنه يقضى عليه، ولا ترد اليمين الى المدعي وهذا هو المشهور في المذهب.
(2) وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد: بل ترد اليمين الى المدعي.
واستدلوا: بحديث رواه الدارقطني: أن النبي صلى الله عليه وسلم:"رد اليمين على صاحب الحق " لكن الحديث إسناده ضعيف.
(30/17)
________________________________________
(3) واختار شيخ الإسلام: التفصيل في هذه المسألة فقال: إذا كان العلم في هذه القضيه في جانب المدعي وحده فإن اليمين ترد عليه وأما إذا لم يكن كذلك فلا ترد اليه اليمين.
مثال ذلك، قال رجل لورثة ميت: قد اقترض منى والدكم عشره آلاف – وهو ميت – فهذه العشرة آلاف مستحقه في التركه، فقلنا للورثه احلفوا على عدم علمكم فقالوا لا نحلف على هذا فامتنعوا من ذلك تورعاً وإلا فيجوز لهم ذلك فما الحكم؟
قال شيخ الإسلام: ترد اليمين على المدعي، فإن حلف استحق ما ادعاه.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: ترد اليمين على المدعي متى ما رأى القاضي ذلك خصوصاً إذا كان المدعي منفرداً بالعلم وهذا قول قوى. حفاظاً على الحق، لانه في كثير من الأحوال المدعى عليه لا يحلف حينئذ فيترتب على ذلك أضاعه الحق، فإذا حلفنا المدعي كان في ذلك حفظا للحقوق.
إذن: أصبحت الأقوال أربعة:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: إنها لا ترد الى المدعي مطلقا.
القول الثاني: وهو قول في المذهب: أنها ترد مطلقاً الى المدعي.
القول الثالث: انها ترد اذا رأى القاضي ذلك.
القول الرابع: انها ترد اذا كان المدعي منفرداً بالعلم.
-والذي يظهر – ولا يتبين أن شيخ الاسلام يخالف هذا – ان متى ما كانت هناك قرائن عند القاضي تقوى أن يحلف المدعي فإن له ذلك.
فأحيانا يأتي للقاضى رجل معروف بالصدق، وهناك شخص يدعي عليه أنه اقترض منه عشره آلاف، فيقول القاضي للمدعى عليه أتقر بذلك فيقول: لا بل أنكره، فيقول القاضى: احلف، فيقول لا احلف، لعله اقترض منى ولكنى نسيت، فأنا لا احب أن احلف، فإن شئت أن تقبل إنكاري وإلا فليأخذ من مالىما شاء – وعلم القاضي صدقه فانه يحلف المدعي.
قال:] فيقول: إن حلفت وإلا قضيت عليك [.
فإذا نكل فإنه يقضي عليه مباشرة فيقول: إما أن تحلف وإما أن نقضى عليك من غير حبس.
(30/18)
________________________________________
خلافاً لما ذهب اليه بعض أهل العلم من الحبس ولا دليل عليه.
قال:] فإن لم يحلف قضى عليه [.
فان لم يحلف – أي المدعى عليه – قضى عليه.
قال:] فان حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق [.
لما ادعى زيد على عمرو أنه اقرضه عشرة آلاف، فقال القاضي: هل تقر بذلك يا عمرو قال: لا ليس عندي له شئ، فقال له: احلف على ذلك فحلف فإنه بذلك تنتهى القضية على هذا.
ثم من الغد أحضر المدعي بينه فكيف نعمل؟ فقد كنا حكمنا بالأمس أن ذمة المدعى عليه بريئة وقد حلف على ذلك لكن المدعى الآن احضر بينة فإنه يحكم بها.
وظاهر كلام المؤلف سواء كان المدعي قال: لا علم لي بالبينه أو قال " كانت لى بينه فنسيتها " فقلنا للآخر احلف فحلف فحينئذ انتهت القضية، فإذا أتانا من الغد ومعه شاهدان فإننا نقبل لأن إيتانه بالشهود في هذا اليوم لا يناقض قوله بالأمس وهذا هو المشهور في المذهب.
والصورة الثانية: أن يكون المدعي قد قال: " ليس لي بينة " ثم من الغد أو بعد زمن يأتي بالشهود، فإن إتيانه بالشهود اليوم يناقض قوله " ليس لى بينه " فحينئذ لا تقبل.
هذا هو المشهور في المذهب: فإنها – أي البينة – إنما تقبل منه حيث كان قوله لا يناقضها كأن يقول: " لا أعلم لى بينة أو كأن لى بينه فنسيتها " ونحو ذلك.
اما إذا قال: " ليس لي بينة " ونحو ذلك فلا تقبل منه البينة بعد ذلك.
لكن قول المؤلف هنا على خلاف هذا فظاهر العموم أي سواء كان قوله: " لا اعلم لى بينة او كانت لى بينه فنسيتها " وكان قوله "ليس لي بينه " فإنه تقبل منه البينة لأنه قال قبل ذلك:" ان قال المدعي: مالى بينه " إلى أن قال إن حلف المنكر ثم احضر المدعي بينته حكم بها ".
فظاهر كلام المؤلف خلاف المشهور في المذهب وهو أحد القولين في المسأله وهو قول في المذهب وهو القول الراجح في المسألة.
(30/19)
________________________________________
لان قوله بالامس:" لا بينة لي " هذا بناءً على ما يعتقد به لكنه قد تذكر بعد ذلك أو أتاه بعض الشهود فأخبروه فالصحيح انه يحكم له بالبينة سواء كان قال:" لا اعلم لي بينة " أو قال:" ما لى بينة ".
أما إذا قال " لا أعلم لي بينة" فهذا هو المشهور في المذهب.
واما إذا قال:" لا بينة لى " فالمشهور في المذهب خلاف ذلك لكن الصحيح خلاف المذهب.
وذلك لأن اليمين ليست مزيلة للحق لأن اليمين إنما ترفع النزاع لكنها لا تزيل الحق.
فصل
قال رحمه الله:] ولا تصح الدعوى الا محررة معلومه المدعى به إلا ما نصححه مجهولاً كالوصيه [.
لا تصح الدعوى ولا ينظر اليها القاضي ولا يلتفت إليها إلا أن تكون محررة، أي موضحة مبينه.
فإذا ادعى أن له على فلان طعاما فإنه يقول: لى عليه مائه صاع من الأرز الجيد، فيذكر الجنس ويذكر النوع ويذكر الوصف ويذكر القدر.
فان لم تكن موضحة كأن يقول: ادعى عليه طعاماً فإنها لا تسمع حتى يحررها وحتى يبينها ويوضحها، وذلك لأن القاضي لا يمكنه أن يلزم المدعى عليه بالمدعى به وهو مجهول.
فلا بد وأن تكون محررة موضحة– إلا ما استثنى مما نصححه مجهولاً كالوصية.
فلو أن رجلاً أوصى لزيد بشيء فتقدم ان هذا الشيء المجهول تصح الوصية به، وعليه فيسمع القاضى الدعوى به، فلو قال رجل: ادعي على ورثة فلان أن مورثهم قد اوصى لي بشيء، فإن الدعوى تسمع لأن القاضي يحكم بشيء ويكون له في الوصية أي شئ ولو كان شيئاً يسيراً.
قال:] وعبد من عبيده مهراً ونحوه [.
فلو أمهرها عبداً من عبيده فقد تقدم أنه يصح. فكذلك إذا ادعت المرأة على زوجها فقالت،قد أمهرني عبداً من عبيده فحينئذ يسمع القاضى هذه الدعوى وذلك لأن هذه الجهالة لا تضر، فإذا أقر الزوج بذلك فيقضي القاضي بأن لها عبدا من عبيده.
(30/20)
________________________________________
(ونحوه) أي سواء كان مهراً او غيره مما يصح فيه هذه الجهالة كالخلع كأن تخالعه على عبد من عبيدها او ارض من أراضيها فإن الخلع يصح على مثل هذا ويمكن فإن الدعوى يسمع وينظر اليها.
إذن: هذه المسألة في الدعوى التى تسمع من القاضي، لا بد أن تكون محررة معلومة المدعى به وذلك لأن القاضي يلزم بذلك ولا يمكن أن يلزمه بشيء مجهول.
والقول الثاني في المسألة: أن الدعوى تسمع، والقاضى يستفصل – وهذا أظهر لأنه إذا استفصل فإنه حينئذ – لا يلزم بمجهول.
ويدل على ذلك: حديث الحضرمي والكندي في صحيح مسلم وفيه أن الحضرمي قال: يا رسول الله: " إنه قد أخذ منى أرضا كانت لأبي: فقال الكندي: هي بيدي وأنا ازرعها "
فهنا قد قال: قد أخذ منى أرضاً كانت لأبي، ومع ذلك فإن النبى صلي الله عليه وسلم قد سمع هذه الدعوى.
فالأظهر أن الدعوى تسمع لكن يستفصل إلا إذا علم القاضى أنها ليست محررة عنده، كأن يكون عند القاضي من يستفصل في الدعاوي قبل عرضها على القاضى ويكون القاضي قد علم أن هذا المدعي ليس له شيى محرر فانه حينئذ لا يمكنه ان يقضي إلا أن يقال: إنه إذا اقر بها المدعى عليه فإنها تستفصل منه أي من المدعى عليه، فإذا كانت معلومة عند المدعى او المدعي عليه فلا وجه لعدم سماعها.
-كذلك لا تسمع الدعوى – (1) في المشهور من المذهب – إن كانت على دين مؤجل لاثباته.
فإذا جاء رجل فقال:أريد أن أثبت على فلان ديناً لي عليه موجلاً الى سنة – ولم يحل الدين – فإن الدعوى لا تسمع لإثباته حتى يحل.
(2) والقول الثاني في المذهب: أن الدعوى تسمع لاثباته وهذا هو الصحيح. وذلك لأنه يخشى موت الشهود أو نسيانهم فيحتاج أن يثبت الدين الذي له وإن كان الدين موجلاً فهو لا يطالب باعطائه قبل حلوله لكنه يطالب باثباته واثبات الدين حق له.
إذن: الصحيح أنها تسمع ما دامت لاثبات مؤجل.
(30/21)
________________________________________
قال:] وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه [.
فاذا قال – مثلاً – ادعى ان فلانة زوجة لي – وشروط النكاح متوفرة الشرط الأول كذا والشرط الثاني كذا والشرط الثالث كذا فإن كانت المرأة ممن يشترط رضاها فإنه يذكر ذلك.
فلو قال: ادعى آن فلانة زوجة لي ولم يذكر الشروط فإن هذه الدعوى لا تقبل ولا تسمع حتى يذكر الشروط.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك وأبى حنيفة: أن الدعوى تسمع، ولا يشترط فيها ذكر شروط النكاح، وذلك لأن النكاح نوع – ملك – فكما لو ادعى عبداً فكذلك هنا.
والأظهر في الاستدلال أن يقال: الأصل صحة النكاح فلا يحتاج الى ذكر شروطه.
وأما المشهور في المذهب من أن ذكر الشروط لا بد منه، فتعليلهم أن الشروط في النكاح مختلف فيها، فقد لا يكون هذا النكاح صحيحاً عند القاضى.
-والصحيح أن ذكر الشروط عند القاضى لا يشترط لأن الأصل في الانكحة الصحة.
-وإذا قال: ادعى أن فلاناً قد باع عليّ أرضه، وهؤلاء هم الشهود، فيقال له: اذكر شروط البيع وذلك للعلة المتقدمة.
-والقول الثاني في المذهب أن ذلك ليس بشرط وذلك لأن الاصل صحة البيع، وهذا هو الصحيح وأنه ليس لا بد من ذكر شروط البيع ولا غيره من العقود كالإجارة ونحوها وعلى ذلك فالصحيح في هذه المسائل كلها أن ذكر الشروط لا يحتاج اليه.
-ويقوى – بناءاً على التعليل المتقدم من أن الأصل في العقود الصحه – يقوى أن القاضى إذا ارتاب في أن هذا البيع لا يصح فإنه يسأل كما تقدم في مسأله الشهود.
قال:] وان ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها [.
فإذا ادعت المرأه أن فلانا زوج لها، فسئلت لماذا ادعت ذلك؟ فقالت: أريد النفقة أو أريد مهرى أو نحوهما.
كأن تقول: أريد السكنى فهل تسمع دعواها؟
قال المؤلف:" سمعت دعواها " لان لها حقاً
(30/22)
________________________________________
فهذه الدعوى إذا سمعت وثبتت، بينت لها ما يترتب على النكاح من الحقوق التى تسألها من نفقة أو سكنى أو مهر.
قال:] فإن لم تدع سوى النكاح ولم تقبل [.
فإذا قالت: أنا لا أدعي إلا النكاح، فلا أدعي النكاح من اجل نفقة أو من أجل مهر أو من أجل سكنى، لكنى أدعي النكاح المجرد لم تقبل دعواها قالوا: لأن الحق في النكاح للزوج فلم تسمع دعواها في حق غيرها.
-والقول الثاني في المذهب: إن دعواها تسمع وهذا الصحيح وذلك لأن ثبوت هذه الدعوى سبب لحقوق لها ثم إن المرأة لها حق في النكاح ويترتب على هذه الدعوى حقوق لها من قسم ونفقة وسكنى ونحو ذلك وإن لم تذكرها في الدعوى لكن هذه حقوق لها ثبتت بالنكاح.
ثم إن المرأة قد تدعى هذا النكاح وهي لا تريد نفقة ولا سكنى ولا مهراً لكن تريد أن تثبت هذا النكاح ثم تطالب بالطلاق لتحل نفسها للأزواج فلا تكون معلقة بهذا النكاح الذي تعتقده.
قال: "] وإن ادعى الإرث ذكر سببه [.
فإذا ادعى الإرث فقال: أنا وارث من فلان، فلا بد من ذكر سببه لأن اسباب الإرث تختلف، ويختلف الإرث بها.
لأن الإرث لا يثبت إلا بسببه من نكاح أو نسب أو ولاء.
وأما سائر الدعاوي فلا تحتاج الى ذكر سبب لكثره الأسباب
فإذا قال: لي على فلان ألف ريال فلا يشترط عليه أن يذكر سبب ذلك.
فلا نقول: هل هي قرض أم بيع أم غير ذلك. بل تسمع دعواه.
وان لم يذكر السبب.
قال:] وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً [.
فالشهود يشترط أن يكونوا عدولاً في الظاهر وفي الباطن.
في الظاهر: بمعنى ألا تظهر عليهم ريبة فيكون الصلاح فيهم هو الظاهر.
"في الباطن": هي أن يعلم من حاله – في باطن أمره – أنه عدل، فإن الإنسان قد يكون في ظاهره حسن لكنه في باطنه سيئ،يعلم ذلك من له خبره بحاله.
(30/23)
________________________________________
ويدل على ذلك: ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح:" أن رجلاً شهد عند عمر رضى الله عنه، فقال له عمر:"إني لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك " فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين " فقال له: بأى شئ تعرفه فقال: بالعدالة، فقال هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ "فقال لا.
فقال: عاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا.
فقال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال لا.
فقال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك)) .
فهذه هي العدالة الباطنة، يعلمها الجار الأدنى، ويعلمها الصاحب ويعلمها الذي يعامل الناس ببيعهم وشرائهم وغير ذلك من معاملاتهم بهذا نعرف العدالة الباطنة، وليس المراد شق القلوب فإن ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل.
-والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أنه يكتفى بالعدالة الظاهرة، لأن الأصل في المسلمين العدالة.
-والصحيح هو الأول، للأثر المتقدم، ولأن الأصل في المسلمين ليس العدالة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
لقوله تعالى ((وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً))
فالإنسان مركب على الظلم والجهل، فليس صحيحاً أن الأصل في المسلمين العدالة.
فالصحيح هو القول الأول. ويدل عليه قوله تعالى ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فلم يقل: واشهدوا اثنين منكم " يدل على أنه لا يكتفى بالإسلام بل لا بد أن يكون من أهل العدالة.
-واختار شيخ الإسلام ابن تيميه: انه يكتفى بما يرضاه الناس، بمعنى: أن يكون الرجل أميناً ليس معروفاً بالكذب فمن رضيه الناس فإن شهادته تصح، لقوله تعالى ((ممن ترضون من الشهداء)) .
(30/24)
________________________________________
وقال: الآية المتقدمه ((واشهدوا ذوى عدل منكم)) هي في التحمل، فالإنسان لا يحمّل الشهادة إلا ذوي العدالة لأن من لم يكن كذلك يخشى ألا يحمل العدالة،لكن إن حملها وأداها فإنها تقبل منه لأن الله قال ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) فالشهادة تحمل ذوى العدالة لكن إذا أداها من ليس بعدك لكنه مرضى عند الناس فإن الشهادة تقبل.
-وهذا القول هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، وذلك لأن الناس تقل فيهم العدالة جدا – أي العدالة الظاهرة والباطنة فهذا يسب الناس وهذا يغتابهم وهذا يتكلم بالنميمة وغير ذلك فيقل في الناس العداله فلا يسع الناس إلا ما ذكره شيخ الإسلام فمن كان مرضيا عند الناس يعلم أنه يحمل الشهادة وأنه يصدق فيها وإن كان ممن يقترف بعض الكبائر ويصر على بعض الصغائر فإنه متى علم أنه يؤدى الشهادة أداء صحيحا وأنه مرضي فإن شهادته تقبل. وهذا موضع ضرورة ولا يسع الناس إلا هذا.
قال:] ومن جهلت عدالته سأل عنه [.
فإذا جهلت العدالة، فلا يدري القاضى هل هذان الشاهدان عدلان أم لا فإنه يسال أهل الخبرة الباطنة بهم.
قال:] وإن علم عدالته عمل بها [.
فاذا علم القاضي أن هذا عدل فإنه يعمل بذلك اتفاقا، كما تقدم في مسألة سابقة في الدرس السابق.
قال:] وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به [.
فإذا قال الخصم: هؤلاء الشهود ليسوا بعدول لا تصح شهادتهم.
فالحكم أن يكلف البينة به. فيقال له: أحضر من يشهد على هذا أي من يشهد على أنهما ليسا بعدلين وأنهما فاسقان ويشترط في هذا الجرح ان يكون مفسراً.
فلو أتى بشاهدين فشهدا على أن هذين الشاهدين فاسقان فلا يقبل ذلك حتى يبينا سبب الفسق، فيقولان مثلا: يشربان الخمر، وغير ذلك مما يجرح.
وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في أسباب الجرح فقد يجرح الجارح بما ليس بجرح، وقد يفسق بما لا يفسق بمثله.
(30/25)
________________________________________
ولا تقبل شهادته هو " أي شهاده الخصم " فلا تقبل شهادته على فسق الشهود لأنه متهم بذلك.
إذن: إذا جرح الخصم الشهود كلف البينه بذلك، فيأتي بشاهدين يقولان: إن هذين الشاهدين فاسقان، وسبب فسقهما كذا وكذا..
أو يستدل بالإستفاضة فيقول: هذا مستفيض عند الناس، فهم يعرفون أن هذين فاسقان، فإذا ثبتت هذه الإستفاضة فإن الشهود يكونون مجروحين.
قال:] وأنظر له ثلاثاً إن طلبه [.
فإذا طلب الخصم الإنظار، فقال: أنظروني حتى أثبت انهم ليسوا بعدول فإنه ينظر ثلاثه أيام
فإن طلب أكثر من ثلاثه ايام فإنه لا ينظر إلا أن يرضى بذلك خصمه، فاذا رضى خصمه بذلك فإنه ينظر لأن الحق للخصم.
قال:] وللمدعي ملازمته [.
فإذا قال المدعي: انا أريد أن ألازم هذا الخصم " أي المدعى عليه " لئلا يهرب بحق، لأن الحق قد ثبت له، فله ذلك.
قال:] فان لم يأت ببينة حكم عليه [.
فإذا لم يأت ببينة على جرحهم فإن القاضى يحكم عليه عملاً بالبينة.
قال:] وان جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم [.
فإذا قال القاضي للمدعي: أنا لا أعرف عدالة هؤلاء الشهود الذين أتيت بهم، فحينئذ يطلب من المدعي تزكيتهم فيقول – أي القاضي- للمدعي: ائت بمن يزكيهم.
قال:] ويكفى فيها عدلان يشهدان بعدالته [.
فيكفى في التزكيه لكل شاهد، عدلان يشهدان بعدالته
هذا هو المشهور في المذهب.
وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكفي مزك واحد وهو الراجح.
وذلك لأن التزكية خبر لا يفتقر الى شهادة، فلم يشترط فيه أكثر من واحد كالرواية.
ولأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد
فالصحيح أنه يكفي في التزكية عدل واحد: فإذا أتى عدل واحد فقال: أزكي هذين الشاهدين جميعاً فأنا اعرفهما فإن قوله يقبل وتثبت بذلك عدالتهم.
فإن قال: لا أعلم فيهما إلا خيراً فهل يقبل ذلك؟
قولان: أظهرهما – وهو المشهور في المذهب – أنه لا يقبل.
(30/26)
________________________________________
وذلك لأن الفاسق الذي هو فاسق في الباطن لا يعلم منه في الظاهر إلا خيراً فالجاهل بالفاسق لا يعلم منه إلا خيراً.
فلا بد أن يتلفظ بما يدل على عدالتهما الظاهره والباطنة.
قال:] ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح [.
الترجمة: أن يكون أحد المدعيين أو كلاهما غير عربيين فالقاضي حينئذ يحتاج لمن يترجم، فلا يكفي واحد بل لا بد من عدلين اثنين يترجمان للقاضي، فلا يكفي آن يكون عدلا واحداً
وكذلك في التزكية كما تقدم.
والجرح: فإذا ادعى الخصم جرح الشهود فلا يكفى أن يأتي بعدل واحد يثبت جرحهم بل لا بد أن يأتى باثنين عدلين يشهدان على ذلك.
قال:] والتعريف [.
التعريف كأن يحتاج إليه قبل ظهور البطاقات الشخصية فعندما يدعى رجل على رجل، فان القاضى سيكتب ادعى: فلان ابن فلان على فلان ابن فلان بكذا وكذا، فلا بد أن يعرف القاضى بالمدعي وأن يعرف بالمدعى عليه. وأن يعرف بالمدعى به وهو ما وقعت فيه الخصومة، فلا بد أن يكون التعريف من عدلين. فيعرف المدعي عدلان – ويعرف المدعى عليه عدلان ويعرف المدعي به عدلان.
قال:] والرساله [
فإذا أرسل القاضي الى آخ رسالة، فلا بد أن يقول عدلان إن هذه هي رسالة القاضي اليك.
قال:] إلا قول عدلين [
فلا يقبل في هذه المسائل إلا قول عدلين.
-واختار شيخ الاسلام انه يكفي في هذه المسائل كلها قول عدل وهو الصحيح – كما تقدم – لآن هذا خبر لا يفتقر إلى شهادة فقبل فيه خبر الواحد العدل كالرواية.
قال:] ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق [
اذا دعى زيد على عمرو مالا، فقلنا أين عمرو، فقيل: عمرو غائب فى سفر تقصر فيه الصلاة.
كأن يدعى رجل في حايل على رجل في الرياض.
فإن القاضى يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق.
فيقول القاضى للمدعي: أحضر بينتك،فإذا أحضرها فإنه يقضي عليه.
(30/27)
________________________________________
قالوا: لما ثبت في الصحيحين: أن هند بنت عتبة ادعت على زوجها أبي سفيان أنه لا يعطيها وولدها ما يكفيهما بالمعروف، فقال لها النبي صلىالله وعليه وسلم: (خذى من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) قالوا: فقد قضى عليه الصلاه والسلام وهو غائب.
وهذا الاستلال فيه نظر من وجهين:
الوجه الأول / أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان فى مكة اثناء هذا القضاء، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد.
الوجه الثاني: أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة.
ولذا فذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الأمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الغائب لا يقضى عليه حتى يحضر.
استدلوا: بما ثبت عند أحمد وأبي داوود والنسائي والترمذي وحسنه – وهو كما قال – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى: ((اذا تقاضى اليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضى)) وهذا سواء كان الخصم في المجلس كما هو ظاهر هذا الحديث ام لم يكن كذلك لان العلة واحدة وهي أن يسمع من الثاني كما سمع من الأول، والقاضى إذا حكم على الغائب فإنه لم يسمع من هذا الغائب وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
إلا أن تكون هناك ضرورة، وتكون هناك قرائن قوية عند القاضي تقوي له إن المدعي محق فحينئذ له أن يقضى لأن الموضع موضع ضرورة فله بينة والقرائن تدل على صدق قوله.
إذن: المشهور في المذهب: أن القاضى يحكم على الغائب اذا ثبت عليه الحق.
لكن هل يحلف المدعي أم لا؟
ادعى زيد انه اشترى من عمرو داراً ومعه بينة على ذلك
فقيل له: اين خصمك فقال: في الرياض
فاذا قضى القاضي بالبينة على الخصم، فهل يسأل المدعي اليمين ام لا؟ أي هل يحلفّ زيداً أو لا؟
قولان لاهل العلم:-
(30/28)
________________________________________
القول الأول: وهو المشهور في المذهب: أنه لا يحلفه لأن البينة على المدعي وهذا هو المدعي فعليه البينة وليس في ذلك ذكر اليمين.
والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية: انه يحلفه وذلك احتياطاً لحق الغائب وذلك لأنه يحتمل أن يكون قد طرأ بعد البينة ما يجعل الحق للغائب، كأن يبيعه هذه الدار في أول السنة ثم يشتريها منه في آخر السنه، فالذى في البلدة يحضر شهوداً يشهدون أنه قد باعه هذه الدار وهم صادقون في شهادتهم وقد باعها إياه، لكنه بعد ذلك باعها إلى من اشتراها منه.
آو أن يكون قد اقرضه ثم أرجع اليه ماله والشهود هؤلاء قد شهدوا على القرض الأول وللغائب شهود يشهدون على انه أعاد المال فاحتياطاً لحق الغائب فإن القاضى يحلفه.
ثم هل يطالب القاضي بكفيل للمدعي، لانه قد يكون الحق مع الغائب، فإذا رجع وأتى القاضي وقال: هذه بينتي التى تدل على أن الحق لى، وثبت للقاضى أن له الحق، فقد يكون المال قد ضاع، فهل نضع كفيلاً او رهناً او نحو ذلك؟
قولان لاهل العلم
المشهور في المذهب أنه لا يوضع الكفيل.
والقول الثاني: قال صاحب الأنصاف: " وما هو ببيعيد " انه يوضع الكفيل – هذا هو الأظهر احتياطاً لحق الغائب.
-هذا كله على القول بجواز القضاء على الغائب وهو المشهور في المذهب.
وأيضا على القول الذي ترجح من أن له أن يقضى إذا كانت هناك قرينة فكذلك يحتاط لحق الغائب باليمين وبالكفيل.
قال:] وإن ادعى على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة [.
إذا قال:أدعي على عمرو وهذه بينتى، قيل له: أين عمرو، قال: عمرو في البلد فهنا لا يسمع القاضي الدعوى ولا يحكم له ببينته حتى يحضر الخصم في مجلس القاضى.
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم:-
(30/29)
________________________________________
لكن إن كان مختفياً أو امتنع من الإتيان لمجلس القاضي فإنه يحكم عليه. فإنه إن كان مختفياً فهو كالمسافر، ثم إن اختفاءه قرينة قوية على أنه لا حق له.
وإذا امتنع من حضور مجلس القاضي فالقاضي يحكم للعذر.
إذن: إذا كان في البلد فلا بد من إحضاره مجلس القاضي، ولا يحكم القاضي بالبينة حتى يحضر الخصم الى المجلس.
لكن إن امتنع من الحضور أو اختفى فان له حينئذ أن يحكم.
استدراك:
اذا ادعت الزوجة أن هذا زوج لها وأنكر ذلك وأتت ببينة تدل على أنه زوج لها، فهل يمكن منها في الظاهر؟
قولان لأهل العلم وهما قولان في المذهب:-
(1) القول الأول: انه يمكن منها في الظاهر لأن الحاكم قد حكم بأنها زوجة له، وعليه فيمكن منها في الظاهر.
القول الثاني: انه لا يمكن منها في الظاهر، وذلك لأنه ينكر أن تكون زوجة له، فهو لا يقر بهذه الزوجية.
وهذا هو الصحيح، لأنه مقر على نفسه أنه لا حق له في هذه المرأة فيعامل بإقراره في حقه.
واما المرأه فيثبت لها ما يترتب على ذلك حتى يفارقها.
-وأما على القول بأنه يمكن منها في الظاهر فهل تحل له في الباطن أم لا؟
قولان لأهل العلم
القول الأول
الجواب: فيه تفصيل:
فإن اعتقد أنها بائنة منه وأنها ليست بزوجة له فهنا لا تحل له في الباطن لأن حكم القاضى لا يحل حراماً.
وأما إن اعتقد أنها زوجه له فإنها تحل له في الباطن.
الدرس الثامن عشر بعد الأربعمئة
(يوم الجمعة: 23 / 4 / 1417)
باب كتاب القاضي إلى القاضي (1)
قال رحمه الله:] يقبل كتاب القاضي الى القاضي [.
إجماعاً: لأن الحاجة تدعو إليه
فإذا كتب القاضي الى قاض آخر في قضية لينفذها القاضي الآخر أو في قضية ليحكم فيها الآخر.
__________
(1) روجع وطبق على الأصل، أي باب كتاب القاضي إلى القاضي.
(30/30)
________________________________________
فيأتي المدعي والمدعى عليه الى القاضي ويدلي المدعي ببينته، ويتم لقاضي القضية ثم يحكم فيها ثم يكتب إلى قاض آخر في بلد أخرى أو في البلد نفسها – يكتب اليه بحكمه، فيقول: حكمت على فلان بأن لفلان عليه مئة ألف فنفِّذ هذا القضاء.
أو ادعى فلان على فلان أنه قد قذفه وأتى ببينة تدل على ذلك،فحكمتُ بجلده ثمانين جلده فنفِّذ ذلك.
أو أن يكتب القضية ولا يحكم فيها فيكتب: شهد عندي فلان وفلان على أن فلانا قد أقرض فلاناً كذا، أو يقول: ثبت عندي أن فلاناً قد أقرض فلاناً كذا ويكتب البينة.
ففى الصورة الأولى: أرسل اليه بالحكم لينفذه.
وأما في الصورة الثانية: فانه لم يحكم سواء عبر بقوله: " شهد عندي فلان وفلان "، أو بقوله:" ثبت عندي أن لفلان على فلان " ولا يقال: إن قوله: " ثبت عندي " حكمٌ؛ للفرق بين الحكم والثبوت، فإن الحكم فيه أمر ونهي يقتضي الإلزام، وأما الثبوت فليس كذلك.
ومثل هذه المسألة يحتاج إليها، فقد يكون القاضي في هذا البلد ضعيفا لا يستطيع أن ينفذ الحكم فيكتب بالقضية لتنفذ من قاضي أقوى منه.
أو أن يكون المدعى عليه له بالقاضي صلة قوية، فيخشى إن نفذ الحكم أو حكم أن يترتب على ذلك قطيعة رحم فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر للمصلحة.
فالحاجة تدعو الى كتاب القاضي الى القاضي ومن ثم فقد أجمع أهل العلم على صحة كتاب القاضي الى القاضي.
قال:] في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه [
فالقضايا التى تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي: هي كل حق - أي من حقوق الآدمي – حتى القذف.
فكل ما كان من حقوق الآدميين فإن القاضي له أن يكتب بالقضية إلى القاضي الآخر وهذا بالاتفاق.
واستثنى المؤلف حدود الله كحد الزنا ونحوه، فلا تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي، فلا يحل أن يكتب القاضي: قد شهد عندي أربعة شهود على أن فلانا قد زنا.
(30/31)
________________________________________
قالوا: لأنها من حدود الله وحدود الله ينبغي فيها الستر؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات،وكتابة القاضي إلى القاضي فيها شبهة، هذا هو المشهور في المذهب.
وهذا القول ضعيف.
- ولذا فقد اختار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية وحكي رواية عن الإمام أحمد: أن كتابة القاضي في الحدود مقبولة.
وذلك لأنه لا فرق بين المسألتين.
وما ذكروه فهو ضعيف
أما قولهم: إن حدود الله يجب فيها الستر.
فالجواب: أنه قد فضح نفسه بإتيانه ما حرمه الله عليه.
ولأنه قد يكون في الإظهار مصلحة، وقد قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}
ثم إن مصلحة كتابه القاضي إلى القاضي أعظم من هذه المصلحة.
وأما قولهم: إن الحدود تدرأ بالشبهات؟
فالجواب: أن هذه شبهة ضعيفة، أشبه ما تكون بشبهة كذب الشهود، فإن الشهود يحتمل فيهم الكذب، ومع ذلك فإذا شهد شاهدان أن فلانا قد قتل فلانا عمداً فإن القتل يثبت مع أن الكذب محتمل.
فليس كل شبهة ينظر إليها، بل لا بد أن تكون الشبهة قوية يدرأ بها الحد – كما تقدم في كتاب الحدود.
إذن: الصحيح أن حدود الله كذلك أي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي.
قال:] ويقبل فيما حكم به لينفذه [.
هذه الصورة الأولى: وهي أن يكتب القاضي إلى قاضٍ آخر بالحكم كأن يكتب له: " قد حكمت على فلان بأن يجلد مئة جلدة لأنه قد ثبت عليه الزنا " فهنا يقبل هذا الكتاب ويجب على القاضي أن ينفذه، وذلك لأن حكم القاضي لازم فيجب تنفيذه.
قال:] وإن كان في بلد واحد [
كأن يكتب قاضٍ في المحكمة إلى قاضٍ آخر في المحكمة نفسها أو في محكمة أخرى في البلد، أو أن يكتب بعض القضاة إلى رئيس القضاة لينفذ ونحو ذلك – ولو كانا في بلد واحد؛ لوجوب تنفيذ حكم القاضي.
قال:] ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر [
هذه الصورة الثانية: وهي أن يكتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به.
(30/32)
________________________________________
فلا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بينهما مسافة قصر، وأما إن كانا في بلد واحدة فلا يقبل هذا الكتاب هذا هو المشهور في المذهب.
ولم أرَ دليلاً يصار إليه في هذه المسألة.
-والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يقبل، وهو أظهر لأن الحاجة داعيه إليه.
فقد ثبتت عنده القضية ولا يحكم بها لمصلحة من المصالح أو لدفع مفسدة من المفاسد فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر ليحكم فيها فلا مانع من صحة هذا الكتاب وقبوله.
فالذي يترجح: أن الكتاب إلى قاضٍ آخر ليحكم يقبل سواء كان بينهما مسافة قصر أم لم يكن بينهما مسافة قصر.
قال:] ويجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين، وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين [.
اتفاقاً
فيجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين كأن يقول:" من القاضي إلى القاضي فلان " فهنا قد كتب إلى قاضٍ معين.
ويجوز أن يكتب إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين.
كأن يكتب:" إلى كل من يصله كتابي هذا من قضاة المسلمين " فهو جائز، فيجوز على التعيين، ويجوز على التعميم.
قال:] ولا يقبل إلا أن يُشهد به القاضي، الكاتبُ شاهدين فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما [.
فإذا كتب القاضي القضية سواء كان فيها حكم أم لم يكن فيها حكم فإنه يأتي بشاهدين ويقرأ عليهما الكتاب.
ويقول: "هذا كتابي فادفعاه إلى القاضي فلان "
فلا يقبل إلا أن يشهد عليه القاضى شاهدين عدلين ويقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما – هذه هو المشهور في المذهب.
- والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد: أنه لا يشترط أن يقرأ عليهما الكتاب بل يكفى أن يقول: هذا كتابي إلى القاضي فلان، فادفعاه إليه.
(30/33)
________________________________________
قالوا: لأنهما يشهدان أن هذا كتاب القاضي إليه، وهذا كاف فإن المقصود هو الشهادة على أن هذا الكتاب هو كتاب القاضي الأول إلى القاضي الثاني وإن لم يقرأ عليهما مع ما في القراءة من ظهور شىء من الأسرار ونحو ذلك، وهذا القول أصح.
3- والقول الثالث، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم: أنه يصح ولو لم يشهد عليه ما دام أن المكتوب عليه عرف أن هذا هو كتاب القاضي الأول إليه.
فإذا أتاه من حائل أو من الرياض كتاباً من القاضي فلان وهذا هو خطه وعليه ختمه فإنه يقبل ذلك، وذلك لأن المقصود هو العلم أو غلبة الظن أن هذا هو كتاب القاضي إليه وقد حصل ذلك.
قال ابن القيم: " وهذا هو عمل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن "ا. هـ أي أنهم يعتمدون على كتب بعضهم لبعض.
وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
وهذه القضية لا يحتاج إليها في عصرنا هذا، لأنه قد وجدت طرق أخرى لإرسال الرسائل.
باب القسمه
القسمة: هي جعل الشيء أقساماً
والقسم: هو النصيب
قال:] لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض إلا برضاء الشركاء [.
إذا كان بين شريكين مال كأرض ونحو. فلا يجوز قسمتها إن كانت لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض، فلا يجوز قسمتها إلا برضا الشركاء.
وما هو الضرر؟
فيه روايتان عن الأمام أحمد
(1) الرواية الأولى: وهي المشهورة عند المتأخرين: أن الضرر هو نقصان القيمة بعد القسم في كل نصيب أو في نصيب أحدهما.
والرواية الثانية: وهو القياس على قول الموفق وهو قول الخرقى: أن الضرر هو ألا يمكن الإنتفاع فيها بعد القسم.
(30/34)
________________________________________
-صورة هذا: إذا كان الاثنان يشتركان في أرض مساحتها مائتان متر، لاحدهما الخمس، وأربعه أخماسها للآخر، فإذا قسماها فإن نصيب صاحب الخمس يكون أربعين مترا والأرض ليست في موقع تجارى فهذه الأربعين مترا لا يمكن الانتفاع بها بعد ذلك فحينئذ: لا تجوز القسمة إلا برضا الشريكين وذلك لوجود الضرر وهو أنه لا يتمكن من الانتفاع بها بعد ذلك.
ومثال نقصان القيمة: إذا كانت الأرض تساوي مائة ألف، ومساحتها خمسمائه متراً، ولأحدهما الخمسمائة والآخر له ثلاثة أخماس، فإذا قسمناها صار للأول مائتا متر، وللآخر ثلاثمائه متر.
وقد كانت الأرض بكاملها تساوى مائه ألف، ونصيب صاحب الخمسين منها أربعون الفاً والآخر نصيبه ستون الفاً وبعد القسم أصبحت المائتا متر لا تساوي إلا ثلاثين الفاً. فقد تضرر بذلك لنقصان القيمة.
وهذا – فيما يظهر – أقوى وذلك لثبوت الضرر لأن هذا نوع ضرر.
إذن: لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر والضرر في المشهور – هو أن تنقص قيمة قسم أحدهما بعد القسمة.
(أو رد عوض) : أي لا يمكننا أن نقسم حتى نقول لأحدهما: أعط الآخر خمسة آلاف أو عشره آلاف لتكون القسمة عادلة فلا يلزم أحدهما بالقسمة بلا رضا، بل لا بد من الرضا.
وهذا هو النوع الأول من القسمة وهو: قسمه التراضى.
فمتى ما كان في القسمة ضرر أو رد عوض فلا تجوز القسمة إلا بالرضا.
وتكون القسمة هنا من البيع، لأنه لما ثبت رد العوض كان ذلك بيعاً – هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فيشترط فيها الرضا وفيها خيار المجلس لأنها بيع.
قال:] كالدور الصغار [.
فمثلاً: يملكان شقة فيها ثلاث غرف ولها حمام واحد ومطبخ واحد فلا تمكن القسمة من غير ضرر ورد عوض.
قال:] والحمام والطاحون الصغيرين [.
(الحمام) : فإذا كان لكل منهما غرفة والحمام مشترك بينهما فأردنا قسمته فإذا هو متر في نصف متر فلا يمكن أن يقسم من غير ضرر، فإنه لا يجوز إلا بالرضا.
(30/35)
________________________________________
" الرحى
(والطاحون) هو ما يسمى عندنا في السابق بـ " وله دار خاصة به، فإذا كانت هذه الدار صغيرة والرحى كذلك فلا تمكن القسمة إلا برضا الشريكين، لأنه إما أن يكون هناك ضرر أو رد عوض.
قال:] والأرض التى لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبناء أو بئر في بعضها [.
كأن تكون الأرض مساحتها خمسمائة متر وفيها شئ من الحجارة من الجبال الثابتة أو فيها بعض البناء أو فيها بئر، ولا يمكن ان تتعدد بالأجزاء وكان لكل واحد منهما النصف، فلو أعطينا كل واحد مائتين وخمسين متراً لكن في قسم أحدهما بئر والآخر ليس في قسمته بئر، وفي قسمة أحدهما جبل والآخر ليس فيه ذلك، فليست قسمة عادلة فلا يمكننا أن نعدل بينهما بالأجزاء.
-وهل يمكننا أن نعدل بينهما بالقسمة؟ بأن نقول لأحدهما خذ مائتى متر ليس فيها جبل، ونقول للآخر خذ ثلاثمائة متر فيها هذه القطعة من الجبل، ووجدنا أن المائتين متر هنا تساوي الثلاثمائه متر هناك فهذه قسمة عادلة.
لكن إذا لم يمكننا القسمة لا بالأجزاء ولا بالقسمة فلا تكون القسمة مقبولة بغير الرضا، بل لا بد من رضاهما.
قال:] فهذه القسمة في حكم البيع ولا يجبر من امتنع من قسمتها [.
لأنها في حكم البيع ويشترط في البيع التراضي
ولقوله صلى الله عليه وسلم - حيث كان ضرراً -: " لا ضرر ولا ضرار "
فإن قال أحدهما: ما دامت الأرض لا يمكننا أن نقسهما بيننا، ولا يرضى أحدنا بالنصيب الأقل، فأطلب أن تباع الأرض وآخذ نصيبي من القسمة، فهل يلزم الآخر بذلك أم لا؟
الجواب: أن الآخر يلزم بذلك، لدفع ضرر الشراكة فإن أبى أن يبيع فإن الحاكم يجبره.
قال:] وأما مالا ضرر ولا رد عوض في قسمته [.
هذه قسمة الإجبار – فلا يشترط الرضا فيها لأنه لا ضرر ولا رد عوض في قسمته.
قال:] كالقرية والبستان [.
فلو كانت هناك قرية بين اثنين فاقتسماها فهذا صحيح
قال:] والدار الكبيرة [.
(30/36)
________________________________________
كأن تكون الدار فيها عشرة غرف وفيها مجلسان وفيها مطبخان وحمامان، فقسمت بينهما فهذا صحيح.
والدار الكبيرة: أي التى يمكن أن تقسم قسمة عادلة.
قال:] والأرض [.
كأن تكون لهما أرض مساحتها ألف متر، فيأخذ كل واحد خمسمائة متر. فهذا جائز.
قال:] والدكاكين الواسعة [.
كأن يكون لهما في السوق دكان مساحته عشرة أمتار في خمسة أمتار، فيقول: خمسة في خمسة لي، وخمسة في خمسة لك ونضع بينهما جداراً فهذا جائز ويكون في هذا القسمة إجبار.
قال:] والمكيل والموزون من جنس واحد كالأدهان والألبان ونحوها [.
كالأرز ونحو ذلك، فهذه مكيلة أو موزونة، تمكن قسمتها قسمة عادلة ولا ضرر ولا رد عوض.
قال:] إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها [. .
أي على القسمة لأنه لا ضرر ولا رد عوض وهي مشتركة بينهما.
قال:] وهذه القسمة إفراز لا بيع [.
فهذه القسمه ليست بيعاً وإنما هي إفراز، أي تمييز حق كل ذي حق بينهما، ففيها تمييز حق كل واحد منهما عن الآخر، وعليه فلا يشترط فيها الرضا – كما تقدم – ولذا كانت إجباراً، وإذا قسمت بينهما فلا يثبت خيار لأنها ليست بيعاً وإنما هي إفراز.
قال:] ويجوز للشركاء في قسمة الإجبار - أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه او يسألوا الحاكم نصبه [.
لان الحق لهم، ويشترط أن يكون القاسم عالماً بالقسمة ليوصل الحقوق إلى أهلها.
قال:] وأجرته على قدر الأملاك [
فأجرة هذا القاسم تكون على الشركاء بقدر أملاكهم، لأنها مؤنة ملك فكانت بقدره، كما لو كان هناك عبد مشترك بينهما فنفقته بقدر الأملاك.
لكن إن كان بينهما شرط، كأن يقول صاحب القسمة الأكبر لصاحب القسمة الأقل أشترط أن تكون الأجرة بينى وبينك بالسوية، فرضي بذلك، فالذي يظهر صحة الشرط لأن المؤمنين على شروطهم – وهو قول في المذهب قال صاحب الكافى:" وهو على ما شرطاه "
(30/37)
________________________________________
إذن: إذا كان بينهما شرط فهو على ما شرطاه، وإن لم يكن هناك شرط فيكون بقدر الأملاك.
قال:] فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة [
فإذا اقتسموا بأنفسهم – في قسمة الإجبار – أو بقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه – فإذا اقتسموا على ذلك لزمت القسمة، وذلك لان القسمة قسمة إجبار ورضاهما لم يكن معتبراً في الأصل فكذلك لم يعتبر في الأثناء.
-إذا كانا قد نصبا حاكماً عالماً بالقسمة فكما لو حكما بينهما قاضياً فيلزمهما كذلك.
إذا كانا قد قسما بينهما القسمة من غير قاسم: فإذا كانا تراضيا على ذلك فكذلك أي تلزم القسمة لأنهما قد تراضيا على ذلك.
وأما إذا لم يتراضيا فلا، لأنه يقول أحدهما:القسمة جائزة أو نحو ذلك فلا يلزمه الرضا.
قال:] وكيف اقترعوا جاز [
بأي كيفية اقترعوا جاز ذلك سواء كان بالحصى أو بالرقاع وغير ذلك من طرق القرعة
فإذا لم يرض كل واحد فيهما بهذا النصيب فوضعوا القرعة بينهما فخرجت لأحدهما فيلزم الآخر الرضى بأي طريقه من طرق القرعة.
-لا شك أنه ليس المراد أن يكون أحدهما غانماً أو غارماً بل المقصود أنهما اجتهداً في التسوية، ومن أجل أنهما قد يختلفان في اختيار النصيب وضعت القرعة بينهما.
أما إذا كان أحدهما غانماً والآخر غارماً فلا يجوز ذلك.
والحمدالله رب العالمين
باب: الدعاوى والبينات
الدعاوى: بفتح الواو وكسرها جمع دعوى وهي في اللغه: الطلب قال تعالى: ولهم فيها ما يدعون "
وأما في الإصطلاح: فهي إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره او ذمته.
كان يقول: مثلاً: هذه الدار لي والدار بيد رجل آخر فهي دعوى ,
او يقول: في ذمته لي عشرة آلاف، فهي دعوى.
-أما البينات فهي جمع بينه وهي ما اظهر الحق وأبانه
كالشاهد: فالشاهد يظهر الحق ويبينه.
قال رحمه الله:] المدعي: من إذا سكت ترك والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك [
يعنى مع المطالبة.
(30/38)
________________________________________
فإذا ادعى زيد على عمرو أن في ذمته له عشرة آلاف، ثم سكت زيد عن الدعوى فإنه يترك لأن الحق له.
واما المدعى عليه وهو عمرو في هذا المثال، فإذا سكت فانه لا يترك.
وقيل غير ذلك
وتعريفهما ظاهر: فالمدعي: هو الطالب، والمدعى عليه هو المطالب وفيه تعريفات أخرى.
قال: [ولا تصح الدعوى والإنكار الا من جائز التصرف]
جائز التصرف: هو الحر المكلف الرشيد، وقد تقدم ذلك في كتاب البيع.
فاذا ادعى ابن سبع سنين او ادعى السفيه غير الرشيد او ادعى العبد – فلا تسمع دعواه أي في المال.
وكذلك إنكاره لا يسمع، فإذا ادعى عليه – أي على غير جائز التصرف – فأنكر فكما لو لم ينكر، فلا يسمع إنكاره في المال، وغير جائز التصرف لا قول له في المال، والدعوى والإنكار قول في المال.
قال: [وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه]
إذا كان عمرو عنده أرض يزرعها فادعى زيد أن هذه الارض له، فنقول: هي لمن بيده وهو عمرو، مع يمينه.
ولو أن رجلاً راكب راحلة فادعى رجل أن هذه الراحلة له، فهي لراكب الراحلة مع يمينه.
ودليله: ما ثبت في الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعّى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) يعنى المطالَب.
وفي البيهقى: " البينه على المدعي واليمين على من أنكر " وفيه ضعف
واجمع أهل العلم على ذلك أي على أن البينّة على المدعي واليمين على من أنكر.
قال: [إلا أن تكون له بينه فلا يُحلّف]
فإذا قال المدعى: هذه بينتى وأحضر من يشهد له، فإنه يحكم بها ولا يحلف أي المدعي.
وإنما حكمنا بها في المسألة السابقة لمن هي بيده لشاهد الحال، فإن الحال يشهد أنها له:
لكن لو كان الحال يشهد أنها ليست له، فحينئذ نحكم لمن يشهد له الحال.
(30/39)
________________________________________
فمثال ذلك: إذا وجدنا رجلاً معه عمامة بيده وآخر قد حسر رأسه في الشارع فتحاكما إلينا، وأحدهما على رأسه عمامة وفي يده عمامة، والآخر حاسر الرأس، وكلاهما معروف أنه لا يخرج على هذه الصفه، فإننا نحكم بالعمامة لمن كان حاسر الرأس، وإن كانت العمامة ليست بيده لشاهد الحال ونقول له – أي لحاسر الرأس – احلف أنها لك.
والأصل أن من في يده المدعى به أنه لهٍ الا أن يعارض ذلك قرينة ظاهرة , وذلك لأن اليمين من جانب أقوى المدعيين، ففى المثال المتقدم / من ليس المدعى به "وهي العمامه " في يده جانبه أقوى فعليه اليمين.
ومثال آخر:-
لو أن رجلاً طلق امرأة، وادعى شيئاً مما يختص بالنساء ادعى أنه له فإنه يحكم به للمرأة مع يمينها.
والعكس بالعكس، فلو كانت الدعوى سّيارة فادعت المرأة إنها لها –وطبعاً يوجد الآن في هذا الوقت الإستمارات التى يكتب فيها اسم مالك السيارة-، لكن لنفرض أن هذا ليس بموجود – فإننا نحكم بها للرجل مع يمينه إلا أن تأتى المرأة ببينة.
قال: [وإن أقام كل واحد منهما بينة أنها له]
كأن تكون هناك أرض يزرعها زيد، فادعي عمرو أنها له وأحضر بينّة، وأحضر زيد بينة أيضاً، فتعارض عندنا البينات فلمن نحكم؟
قال: [قضى للخارج ببينته ولغت بينة الداخل]
ففى المثال المتقدم نحكم بها لعمرو لأنه هو الخارج، ولغت بينة زيد وهو الداخل.
فإذن: يقضى بها للخارج وهو المدعي الذي ليس المدعى به في يده، وأما الداخل فهو من كان المدعى به في يده، فإن بينته تلغى.
قالوا: لان البينة في جنب المدعي، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فالبينة إنما تسمع من المدعي، وعلى ذلك فوجودها من المدعى عليه – كعدمها.
قالوا: ولأن معه – أي مع الخارج – زيادة علم لأنه ناقل عن الأصل فالخارج هو الناقل عن الأصل – لأن الأصل إنها لمن هي بيده.
(30/40)
________________________________________
وقال الجمهور وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم: أنه يقضى فيها للداخل.
قالوا: لشاهد الحال، فإن شاهد الحال يدل على أنها للداخل، والبينات تعارضتا فتساقطتا، فكما لو لم يكن لهما بينة وعليه فيحكم لمن هي بيده.
قالوا: وأما كون البينة في جنب المدعي في الأدلة الشرعية فلأن الأصل ألا يكون في القضايا إلا بينّة واحدة،ولقوة جانب المدعى عليه اكتفينا بيمينه ولم نقبل من الآخر دعواه فيحكم بها إلا ببينة، فاشترطنا عليه البينة وحففنا مع الآخر فقبلنا منه اليمين، فجانبه أقوى، واما المدعي فلما كان جانبه أضعف اشترطنا البينّه.
قالوا: وأما ما ذكرتموه من أن في دعوى المدعي زيادة علم فهذا معارض بالأصل، فإن الأصل أنها لمن هى في يده، وهذا أقوى من هذا النقل.
إذن: الصحيح أن البينتين إذا تعارضتا وكان المدعى به تحت يد أحد الطرفين فإنا نحكم له مع يمينه؟ كما هو مذهب الجمهور.
فإذا كان المدعىّ به تحت يديهما جميعاً:
كأن يأتي اثنان إلى قاضى براحلة كل واحد منهما قد أخذ بزمام الراحلة فهنا لا ترجيح.
فلو كان أحدهما أقوى كأن يكون أحدهما راكبا للراجله والآخر أخذ بزمامها فإنا نرجح الراكب لان يده أقوى. أما هنا فان كليهما اخذ بزمام الراجله، فاليدان مشتركتان لا مزية لأحداهما على الأخرى فما الحكم؟
الجواب: إن كان لا بينة لأحدهما فإننا نحلفهما جميعاً. ونجعلها بينهما نصفين.
وإن كان لكل واحد فيهما بينة فكذلك أي نقول: احلفا وتناصفا.
والقول الثاني في المسألة: إننا لا نحلفهما – أي حيث أدلى كل واحد منهما ببينة – لأن بينة كل واحد منهما تثبت النصف فلا نحتاج إلى اليمين. وهو قول الأكثر.
-وعن الإمام أحمد في المسالتين كلتيهما – أي حيث لم يأتيا ببينة – أو أتى كل واحد منهما ببينة– أننا نقرع بينهما فمن خرجت القرعة له فإنه يحلف فيكون جانبه أقوى.
(30/41)
________________________________________
فعلى هذا القول: نقوى جانب أحدهما بالقرعة.
فهذا له بينة وهذا له بينه قد تعارضتا فتساقطتا.
وهذا الدابة تحت يده وهذا الدابة تحت يده فليس أحدهما مرجحاً على الآخر، وكذلك إذا كانت الدابة ليست عند أحد منهما بل هي عند شخص آخر فكذلك – إذن جانب كل واحد منهما يساوي جانب الآخر فحينئذ يقرع بينهما فمن خرجت القرعة له كان جانبه أقوى فحينئذ نقول له احلف وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.
ويدل عليه ما ثبت في سنن أبي داوود – والحديث صحيح: أن رجلين تداعيا عيناّ وليس لأحدهما بينة فأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم " أن يستهما على اليمين أحبّا أو كَرها ".
فهذان الرجلان اختصما في عين وليس لأحدهما بينة كما أن العين ليست تحت يد أحدهما بدليل قصه الحضرمي والكندي فإن النبي صلى الله عليه وسلم " جعل البينة على الحضرمي لما كانت الأرض بيد الكندي يزرعها أما هنا فليس المدعى به تحت يد أحدهما، فلما كان الآخر كذلك رُجّحَ جانب من خرجت القرعة له.
وفي سنن البيهقى ومراسيل أبي داوود بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب: أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم في شىء فجاء كل واحد منهما بشهود على عدة الآخر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترعا وقال: "إن الله يقضي بينكما "
وله شاهد مرسل عن سليمان بن يسار ومراسيل سعيد بن المسيب صحيحه عند أهل العلم ففي هذا الحديث انه قد جاء كل واحد منهما بشهود عدول بعدد شهود الآخر فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة وقال: " والله يقضى بينكما " وهو استهام على اليمين كما في الحديث الأول. فليس فيه إلا تقوية جانب أحدهما.
(30/42)
________________________________________
-إذن الصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وأنهما إن كانت العين تحت يديهما وليس لأحد منهما بينة أو لكل واحد منهما بينة أو كان الأمر كذلك لكن العين بقيت تحت يد أحد منهم فأنا – حينئذ – نقرع بينهما ومن خرجت له القرعه نقول له: احلف فإن حلف فانه يأخذ العين.
-إذن: عندنا حالات:
الحالة الأولى: إذا ادعى رجل على آخر أن هذه العين التى تحت يده له ولا بينة له فإنا نحكم بالعين لمن هي في يده ونقول له: احلف كما في حديث الحضرمي والكندي وهو ثابت في صحيح مسلم.
الحالة الثانية: أن تكون العين ليست تحت يد أحد منهما أو تحت يديهما جميعاً، ولا بينة لأحدهما على الآخر أو لكل واحد منهما بينه فحينئذ نقرع بينهما ومن خرجت القرعه له فإنه يحلف – هذا في اصح أقوال أهل العلم.
-وفي تعارض البينتين مسألتان:
(1) المسألة الأولى:
هل يرجح بين البينتين أو لا؟
فإذا كانت إحدى البينتين شهودها أكثر أو أشهر فهل يرجح أم لا؟
أ - مذهب الجهور: أنا لا نرجح إحداهما على الأخرى، لأن كل منهما بينة فهي حجة.
فلو جاء أحدهما بمائه شاهد، وجاء الآخر بشاهدين فإن البينتين متعارضتان لا ترجح إحداهما على الأخرى.
وكذلك لو أتى أحدهما بشهود مشهورين بالعدالة وأتى الآخر بشهود عدول لكنهم ليسوا على درجة الشهود الأول فإنا لا نرجح.
ب- والقول الثاني: وهو مذهب مالك وهو قول مخرّج في مذهب أحمد: أنا نحكم بالبينة التى هي أرجح.
وهذا أظهر كأدلة الشرع، فان أدلة الشرع كل دليل بمفرده حجة لكن لما تعارضت الأدلة وأمكننا الترجيح فإننا نرجح، فكذلك البينات هنا.
ولأن من معه بينة أقوى فان جانبه أقوى، واليمن في جانب أقوى المدعيين.
إذن: الراجح أن البينات إذا تعارضت فإنه يقدم الأرجح.
(30/43)
________________________________________
ولا شك أن هذا القول قوي حيث كان الرجحان ظاهراً أما أن يدخل في ذلك شئ من التلاعب بالترجيح الخفي فليس هذا هو المراد لكن المراد ان يكون الترجيح ظاهراً بيناً حتى لا يتهّم القاضي.
ويقوىَّ هذا القول ما تقدم في حديث سعيد بن المسيب فإن فيه ((وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدّة الآخر)) : أي على عدد شهود الآخر.
المسألة الثانية:
المشهور في المذهب: أن البينة المتقدمة مقدمة على البينة المتأخرة.
فإذا كان لأحدهما شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنتين وهذا له شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنة قالوا: نقدم البينة المتقدمة.
قالوا: لأن البينة المتقدمة تثبت الملك في زمن لا تعارضها فيه البينة المتأخرة.
ب- والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر كلام الحرقى من الحنابلة أن البينتين متساويتان.
قالوا: لأن البينة المتاخرة تثبت مِلْكاً حادثاً.
ولذا لو قالت البينة الحادثة إنه يملكه منذ سنة بهبة من زيد فإن البينة الأولى تطرح لأنه لا تعارض.
لكن الكلام: إذا قالت البينة المتأخرة نحن لا نقول إنه قد وهبه أو نحو ذلك لكن تثبت أنه مِلْك له قبل سنه فهذه البينة تثبت ملكاً حادثاً، والبينة المتقدمة تثبت ملكاً قديماً، ولا شك أن إثبات الملك الحادث أقوى من إثبات الملك القديم.
قالوا:وهذا دليل يقتضى ترجيحها فلا أقل من أن يقتضي التساوي.
يعنى: أن هذه العلة تعارض تلك العلة. فهذه تدفع هذه وحينئذ يكونا متساويين.
-ولم أر قائلاً يقول بتقديم البينة الحادثة.
إذن: الصحيح أنهما على التساوي – كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر قول الحرقي من الحنالبة.
والحمدالله رب العالمين
كتاب الشهادات
الشهادات: جمع شهادة.
والشهادة هي: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد. هذا هو المشهور في المذهب.
(30/44)
________________________________________
فلو قال:" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك، فإن شهادته لا تقبل، بل لا تقبل حتى يقول:" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ: أشهد أو شهدت.
-واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف: أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة. فلو قال: " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح.
وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها.
لكن لو قال: أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله، فصدقه وأخبر بما علم فقال: " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية.
قال رحمه الله: [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية]
فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة.
ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
-وقال المؤلف هنا: (في غير حق الله تعالى) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة،ولأن المشروع فيها الستر.
(30/45)
________________________________________
فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها.
أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع.
قال صاحب الفروع: يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال.
فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة،فالستر عليه مصلحة خاصة، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة.
فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى
فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي.
قال: [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه] .
فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين.
وهكذا سائر فروض الكفاية، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق.
فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء.
كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية.
مسألة:
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟
المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية، فإذا قام بها فقد قام بفرض.
(30/46)
________________________________________
والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة.
والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال.
فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال.
قال: [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها]
لقوله تعالى: ((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))
فأداؤها فرض عين على من تحملها.
قال: [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل]
فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد) ولقوله صلىالله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد.
أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب.
قال: [ولا يحل كتمانها]
لقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه)
مسألة:
هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها؟
الجواب: نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) رواه مسلم.
وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له.
كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة، والشهادة أمانة، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة.
والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل.
(30/47)
________________________________________
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم.
قال: [ولا أن يشهد إلا بما يعلم]
لقوله تعالى: ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "
وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال:" على مثلها فاشهد أو دع ".
لكن الحديث إسناده ضعيف
قال: [برؤية أو سماع]
لا بخبر ثقة.
" برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك.
"أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك.
قال: [أو استفاضةٍ]
الاستفاضة: أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه.
قال: [فيما يتعذر علمه بدونها]
فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية.
قال: [كنسبٍ]
فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة.
فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس.
فإذا قيل له: هل تشهد أن فلان بن فلان؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة.
قال: [وموت]
فمثلاً: مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة.
قال: [ومْلكٍ مطلق]
الملك المطلق: هو غير المقيّد بشراء ولا هبة ونحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه؟ فانك تقول: نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس.
(30/48)
________________________________________
لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع.
قال: [ونكاح ووقف ونحوها]
كالخلع والولاية والعزّل ونحوها، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة.
إذن: أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة:-
(1) الطريق الاول: السماع (2) والطريق الثاني: الرؤيه وهما الأصل.
(3) والطريق الثالث: الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية.
-وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟
مثال ذلك: إذا أتاك رجل فقال: أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس؟ فقال نعم، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك؟
المشهور في المذهب: أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم.
واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس.
وقال القاضي بن الحنابلة: يكفي عدلان.
-وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك.
بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية. فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه، فكذلك هنا، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة.
قال: [ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه]
إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة.
فالقاعدة عندهم: " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة "
ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.
(30/49)
________________________________________
فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال: " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة: فنقول له هل توفرت الشروط، فان قال نعم فنقول له: ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا.
--والصحيح هنا كالصحيح هناك، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة.
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة.
قال: [وإن شهد برضاع]
فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه، فتقول المرأة:" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط.
-والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل.
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم: لما قالت المرأة: " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل:" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل.
قال: [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه]
فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد. وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة.
وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف.
فان قيل: لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع؟
فالجواب:
(30/50)
________________________________________
أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل.
قال: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها]
فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة، فنقول له: في أي ساعة؟
قال: في أول النهار / في أي مكان؟ قال في المكان الفلاني؟ فنقول: أذكر لنا المرأة
فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور.
فإن قال: بعض الشهود في أول النهار، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم.
إذن: لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد.
لكن هل يشترط ذكر المزني بها؟
ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بشرط
-وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك؟
إلا إذا كان هناك شبهة، كأن يشتبه في أنها امرأته، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
قال: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل]
ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم.
وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة.
والحمدالله رب العالمين
(30/51)
________________________________________
كتاب الشهادات
الشهادات: جمع شهادة.
والشهادة هي: الإخبار بما علمه بلفظ أشهد. هذا هو المشهور في المذهب.
فلو قال:" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك، فإن شهادته لا تقبل، بل لا تقبل حتى يقول:" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ: أشهد أو شهدت.
-واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف: أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة. فلو قال: " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح.
وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها.
لكن لو قال: أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله، فصدقه وأخبر بما علم فقال: " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية.
قال رحمه الله: [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية]
فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة.
ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.
(31/1)
________________________________________
-وقال المؤلف هنا: (في غير حق الله تعالى) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة،ولأن المشروع فيها الستر.
فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها.
أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع.
قال صاحب الفروع: يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال.
فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة،فالستر عليه مصلحة خاصة، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة.
فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى
فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي.
قال: [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه] .
فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين.
وهكذا سائر فروض الكفاية، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق.
فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء.
كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية.
مسألة:
(31/2)
________________________________________
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟
المشهور في المذهب: أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية، فإذا قام بها فقد قام بفرض.
والقول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة عليها، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة.
والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال.
فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال.
قال: [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها]
لقوله تعالى: ((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه))
فأداؤها فرض عين على من تحملها.
قال: [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل]
فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد) ولقوله صلىالله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد.
أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب.
قال: [ولا يحل كتمانها]
لقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه)
مسألة:
هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها؟
الجواب: نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها) رواه مسلم.
وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له.
كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة، والشهادة أمانة، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة.
(31/3)
________________________________________
والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم.
قال: [ولا أن يشهد إلا بما يعلم]
لقوله تعالى: ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "
وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال:" على مثلها فاشهد أو دع ".
لكن الحديث إسناده ضعيف
قال: [برؤية أو سماع]
لا بخبر ثقة.
" برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك.
"أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك.
قال: [أو استفاضةٍ]
الاستفاضة: أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه.
قال: [فيما يتعذر علمه بدونها]
فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية.
قال: [كنسبٍ]
فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة.
فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس.
فإذا قيل له: هل تشهد أن فلان بن فلان؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة.
قال: [وموت]
فمثلاً: مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة.
قال: [ومْلكٍ مطلق]
الملك المطلق: هو غير المقيّد بشراء ولا هبة ونحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه؟ فانك تقول: نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس.
(31/4)
________________________________________
لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع.
قال: [ونكاح ووقف ونحوها]
كالخلع والولاية والعزّل ونحوها، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة.
إذن: أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة:-
(1) الطريق الاول: السماع (2) والطريق الثاني: الرؤيه وهما الأصل.
(3) والطريق الثالث: الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية.
-وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟
مثال ذلك: إذا أتاك رجل فقال: أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس؟ فقال نعم، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك؟
المشهور في المذهب: أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم.
واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس.
وقال القاضي بن الحنابلة: يكفي عدلان.
-وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك.
بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية. فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه، فكذلك هنا، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة.
قال: [ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه]
إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة.
فالقاعدة عندهم: " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة "
ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.
(31/5)
________________________________________
فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال: " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة: فنقول له هل توفرت الشروط، فان قال نعم فنقول له: ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا.
--والصحيح هنا كالصحيح هناك، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة.
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم (سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة.
قال: [وإن شهد برضاع]
فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه، فتقول المرأة:" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط.
-والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل.
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم: لما قالت المرأة: " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل:" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل.
قال: [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه]
فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد. وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة.
وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف.
فان قيل: لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع؟
فالجواب:
(31/6)
________________________________________
أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل.
قال: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها]
فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة، فنقول له: في أي ساعة؟
قال: في أول النهار / في أي مكان؟ قال في المكان الفلاني؟ فنقول: أذكر لنا المرأة
فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور.
فإن قال: بعض الشهود في أول النهار، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم.
إذن: لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد.
لكن هل يشترط ذكر المزني بها؟
ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب: أن ذلك ليس بشرط
-وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك؟
إلا إذا كان هناك شبهة، كأن يشتبه في أنها امرأته، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
قال: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل]
ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم.
وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة.
والحمدالله رب العالمين
(31/7)
________________________________________
فصل
قال رحمه الله: [شروط من تقبل شهادته ستة]
هذا الفصل في شروط من تقبل شهادته.
قال: [الأول: (البلوغ) فلا تقبل شهادة الصبيان]
فالبلوغ شرط في قبول الشهادة. فالصبى المميز لا تقبل شهادته
لقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)
الصبي لا يأثم لأن قلم التكليف مرفوع عنه.
-فالصبي المميز لا تقبل شهادته وهذا في الأداء وأما في التحمل فتحمله صحيح.
-وظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أن هذا على إطلاقه حتى في شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا شهدوا قبل التفرق.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم: أن شهادة بعضهم على بعض تقبل في الجراح إذا شهدوا بذلك قبل التفرق.
وهو قول ابن الزبير – صح عنه ذلك، كما قال ذلك ابن حزم ويدل عليه: احتياط الشرع على حفظ الدماء.
ولأن هذه الجراح التى تكون بينهم – لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان، فأشبهت المسائل التى تُقبل الشهادة على خلاف الأصل لكون الشاهد لا يطلع عليها إلا هُو في الغالب كشهادة المرأة في الرضاع ونحوه، فإنها لا يطلع عليها إلا النساء في الغالب وكذلك الشهادة بالاستفاضة.
إذن شهادة بعضهم على بعض في الجراح مقبولة بشرط أن يشهدوا قبل التفرق.
أما إذا شهدوا بعد التفرق فإن شهادتهم لا تقبل وذلك لاحتمال التلقين، فيحتمل أن يلقنوا من أوليائهم.
(3) وقيل: تقبل شهادتهم مطلقاً.
-والذي يترجح قبول شهادتهم مطلقاً في المسائل التى لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان سواء كانت في الجراح أو في غيرها.
قال: [الثاني: العقل]
وهذا شرط بالإنفاق، فالمجنون والمعتوه لا تقبل شهادتهما وكذلك الصبي غير المميز وهو الطفل.
قال: [فلا تقبل شهادة مجنون]
المجنون: هو من لا عقل له مطلقاً.
قال: [ولا معتوه]
وهو من له عقل لكنه لا يميز به التمييز التام.
قال: (وتقبل ممن يخنق أحياناً في حال إفاقته)
(32/1)
________________________________________
فتقبل الشهادة ممن يحنق أحياناً أي يجن إذا شهد في حال إفاقته وذلك لأنه شهد في حال العقل فهي شهادة من عاقل.
قال: [الثالث: الكلام]
هذا هو الشرط الثالث.
قال: [فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته إلا إذا أداها بخطه]
فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته –هذا هو المشهور في مذهب أحمد.
والقول الثاني: في المسألة: وهو مذهب الشافعية: إنها تقبل حيث أفادة العلم.
-وهذا هو الصحيح لأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه: فإذا علمنا ما يريد وفهمناه فإن ذلك كالنطق.
وأما قولهم إنها لا تفيد اليقين.
فالجواب: أن هذا خلاف الظاهر بل تفيد اليقين حيث فهمت، فإنها إذا فهمت تفيد اليقين كا يفيده اللفظ.
(إلا إذا أداها بخطه) فإذا كتب الأخرس شهادته بخط يده، فإنها تقبل وذلك لأن دلالة اللفظ كدلالة الخط. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:" ما حق امرىء مسلم عنده شىء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه " فالخط مقبول في الشرع
وهنا إذا كتب الأخرس شهادته بيده فإنها تقبل حتى في المشهور من المذهب.
إذن: المشهور في المذهب أن شهادة الأخرس لا تقبل إلا أن يؤديها بخطه.
والصحيح أنها تقبل مطلقاً حتى لو أشار وعلمت إشارته.
أما إذا لم تعلم إشارته فإن شهادته لا تقبل قولاً واحداً فإذا لم يدرى ما يريد فإن شهادته لا تقبل.
قال: [الرابع: الإسلام]
لقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فيشترط في الشهود أن يكونوا مسلمين.
وهنا مسالتان:
المسألة الأولى:-
أن المشهور في المذهب – وهو من مفردات المذهب – أن شهادة اثنين من أهل الكتاب على الوصية في السفر عند الضرورة جائزة.
لقوله تعالى: (يا آيها الذين أمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم صربتم في الأرض)
فهذه الآية نص في جواز ذلك.
(32/2)
________________________________________
فإذا أراد أن يوصي ولم يجد شاهدين مسلمين فإنه يشهد اثنين من أهل الكتاب إذا كان في سفر.
-وعن الإمام أحمد: أنه لا يشترط أن يكونا من أهل الكتاب فلو كانا من غير أهل الكتاب كأن يكونا مجوسيين أو وثنيين فكذلك وهو اختيار شيخ الإسلام وهو ظاهر الآية فإن الله عز وجل قال: (أو آخران من غيركم) وهو عام من أهل الكتاب وغيرهم.
-فالصحيح أن الشهادة تقبل عند الضرورة سواء كانت من أهل الكتاب أم من غيرهم.
-واختار شيخ الاسلام – أيضاً -: أن هذه الشهادة تصح ولو في غير سفر للضرورة، لانها موضع ضرورة فإذا جازت في السفر جازت في الحضر وهذا هو الراجح.
المسألة الثانية:
أن مذهب الجمهور – منهم الحنابلة – أن شهادة الكفار بعضهم على بعض لا تقبل.
فإذا شهد يهودي على يهودي أو شهد يهودي ليهودي أو شهد نصراني على نصراني أو لنصراني، أو شهد يهودي على نصراني أو شهد نصراني على يهودي وهكذا، فان الشهادة لا تقبل.
(ب) وذهب الأحناف إلى أنها تقبل، هو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية.
-هذا هو أصح القولين، وذلك لأن الآيات الواردة في اشتراط العدالة إنما هي في المؤمنين خاصه قال تعالى ((يا آيها النبى إذا طلقتم النساء – الى أن قال سبحانه -أشهدوا ذوي عدل منكم)) وقال سبحانه (يا آيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين /إلى ان قال - سبحانه – ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) .
فالآيات في اشتراط العدالة إنما خوطب بها المؤمنون.
ولأن المقصود من العدالة انتفاء التهمة وعليه الظن بالصدق فلم تشترط العدالة إلا لهذا.
ولأن الحقوق إنما تحفظ بذلك، فإن الغالب في حقوقهم أنهم يثبتونها بشهود منهم فاذا لم نقبل شهادة بعضهم على بعض فإن ذلك يترتب عليه ضياع الحقوق.
فالراجح قبول شهادة بعضهم على بعض.
-وهل يشترط اتحاد الملة أم لا؟
(32/3)
________________________________________
قولان لأهل العلم، هما قولان في المذهب:-
القول الأول: أنه لا يشترط اتحاد الملة فعلى ذلك تقبل شهادة اليهودي على النصراني والعكس، وهو مذهب أبي حنيفة.
والقول الثاني: أنها تشترط، وهو قول إسحاق وأبي عبيد.
-والصحيح هو الثاني – للتهمة في اختلاف الدين.
ولأنه إنما يحتاج إلى شهادة بعضهم في بعض – في الغالب – عند اتفاق دينهم فالغالب أنهم إنما يحفظون حقوقهم بشهداء من ملتهم.
فأرجح القولين أنه يعتبر اتحاد الملّة.
قال: [الخامس: الحفظ]
فلا تقبل شهادة من عرف بكثرة السهو والخطأ،لأنه لا يوثق بقوله.
قال: [السادس: العدالة]
قال الشيخ محمد بن ابراهيم – رحمه الله -: " العدالة بحسب الإمكان وهكذا سائر شروط الشهداء " إنما تعتبر بحسب الإمكان.
وهذا ما يدل عليه كلام شيخ الاسلام، وأن العداله تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. فالعدل فينا ليس كالعدل في القرون المفضلة.
"فشارب التنباك " أي الدخان " لا تقبل شهادته كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم لكن اذا كان في بلد الدخانُ فيها فاشٍ فإن شهادته تقبل وذلك لأنهم ممن ترضى شهادتهم،لأن الدخان فيهم فاش وعلى ذلك فإنه يقع حتى ممن هو معروف بالصدق والأمانة.
قال ابن القيم: وتقبل شهادة الفاسق الأمثل فالأمثل عند الضرورة.
قال: وعليه العمل وإنما ينكره أكثر الفقهاء بألسنتهم.
فالعمل على هذا لأن الناس لا يسعهم إلا هذا.
قال: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة]
الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة فمن لم يؤد السنن الراتبة فليس بعدل ولا تقبل شهادته في أحد القولين في المذهب.
-والصحيح من المذهب أنها تقبل.
أما دليل ما ذكره المؤلف فهو أن من ترك السنن الراتبة فإنه لا يسلم – كما قالوا- من ترك فرض.
(32/4)
________________________________________
لكن هذا ضعيف بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم – في الرجل الذي قال: لا أزيد على هذا – أي على الفرائض - ولا أنقص منه فقال صلى الله عليه وسلم: " أفلح والله إن صدق "
فالصحيح من المذهب أن أداء السنن الراتبة لا يشترط في العدل.
قال: [واجتناب المحارم]
ويبين ذلك بقوله:
(بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة)
لأن إصراره على الصغيرة يدل على استهانته بما حرم الله عز وجل.
وهذا يجعله مظنة الكذب ولا يوثق بقوله.
والكبيرة – كما عرفها شيخ الاسلام – ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الاخرة أو ترتب عليه لعْن أو غضب أو نفْي إيمان.
قال: [فلا تقبل شهادة الفاسق]
فشهادة الفاسق لا تقبل لأنه ليس بعدل.
سواء كان فاسقاً في عمله أو فاسقاً في اعتقاده.
فالفاسق في عمله: كمن يزني أو يشرب الخمر فلا تقبل شهادته.
والفاسق في اعتقاده: هو من لم يكفر من أهل البدع، فإنه فاسق باعتقاده فلا تقبل شهاده أهل الأهواء (1) في المشهور في المذهب.
(2) وذهب الشافعي وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن القيم: إلى قبول شهادة المتحفظين من أهل الهواء.
وهذا ظاهر، لأنهم قد اعتقدوا ما اعتقدوه من البدع على اعتقاد أن هذا هو دين الله عز وجل، فهو كمن فعل أمراً محرماً يعتقد إباحته فإن هذا لا ينقض عدالته،فشارب النبيذ ممن يعتقد إباحته لا يفسق ولا تنتقض بذلك عدالته، فلذلك من له اعتقاد يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة فإن شهادته لا ترد لأنه متحفظ في دينه، يعتقد أن هذا هو دين الله ويتعبد لله عز وجل بهذه البدعة. فتقبل شهادتة.
نعم: قد ترد شهادته زجراً له حيث لم نضطر إلى قبولها وأما إذا كنا نحتاج إلى شهادته فالصحيح قبولها، فإذا كانت الحقوق تثبت بشيء فالصحيح هو قبولها وذلك لأنه ما دام أنه يعتقد أن هذا هو الحق وأن هذا هو دين الله – فالتهمة بعيدة عنه والغالب صدقه فهو معروف بالصدق والأمانة
(32/5)
________________________________________
قال: [الثاني: استعمال المرؤة وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه]
"فعل ما يجمله ويزينه " من محاسن العادات كالسخاء والشجاعة ونحو ذلك.
"واجتناب ما يدنسه ويشينه به ذكروا لذلك أمثله منها أن يطعم في الشارع فإذا أخرج إناء الطعام من بيته فأكل فإن ذلك يدنسه ويشينه وهذا في البلاد التى تعيب ذلك، وأما البلاد التى لا تعيب ذلك فإن ذلك لا يدنسه ولا يشينه.
قالوا: ومن ذلك مضغ العلك. ومن ذلك الطفيلي الذي يأتى إلى الدعوة من غير أن يُدعى لها، ومن ذلك الذي يسخر من الناس ويحكي أفعالهم وهكذا، فهذه أفعال تشين وتنقص مروءته فلا تقبل شهادته لأنه مظنة الكذب.
فاستعمال المروءة: هو فعل ما يجملّه ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه " وهذا ليس مرجعه – في الغالب – إلى الشرع وإنما مرجعه الى العادة.
فكون الرجل يخرج وهو حاسر الرأس فليس معيباً في كثير من البلاد الاسلامية الآن لكن في هذه البلاد فقد كان معيباً، وأما الآن فليس معيباً بتلك الدرجة ... بينما كانوا في زمن قديم يستعيبون أن يخرج الرجل بلا مشُلح.
قال: [ومتى زالت الموانع: فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم] .
لأن هؤلاء إنما اشترط فيهم ما اشترط في الأداء لا في التحمل فإذا كان رجل فاسق وعنده شهادة فإننا لا نقلبها منه فإذا تاب الى الله فإن شهادته تقبل وإن كان قد تحملها في فسقه.
ولو أن غير البالغ تحمل شهادة فإننا لا نقلبها منه، فإذا أداها بعد بلوغه فإننا نقبلها منه.
ولوا أن رجلاّ يحمل الشهادة وهو كافر فلا تقبل منه لكن إذا أسلم فإنها تقبل منه تلك الشهادة.
وأما العقل فشرط في الأداء والتحمل وكذلك الحفظ فإنه شرط في الأداء والتحمل.
وأما الكلام فإنه شرط في الأداء لا في التحمل فإن الأخرس يتحمل الشهادة لكن هل يؤديها؟
فيه الخلاف المتقدم والصحيح أن شهادته تقبل أيضاً.
(32/6)
________________________________________
إذن: إذا زالت الموانع فبلغ الصبي وأسلم الكافر وتاب الفاسق وعقل المجنون قبلت شهادتهم وذلك لزوال المانع الموجب لرد الشهادة.
والحمد لله رب العالمين
__________________________________________________ _________
الدرس: الثاني والعشرين بعد الأربعمائه 422
-ذكر المؤلف – كما تقدم – شروطاً ستة للشاهد ولم يذكر فيها الحرية،فليس من شروط الشاهد أن يكون حراً بل يصح أن يكون عبداً لعمومات الأدله كقوله: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) والعبيد كذلك.
ولما ثبت في البخارى في قصة المرأة التى قالت:" إني قد أرضعتُ عقبة والتي تزوج " فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "كيف وقد قيل " وفي رواية إنها كانت أمة سوداء.
*وقال الجمهور: لا تقبل شهادة العبد، وذلك لما فيه من النقص بالرق فأشبه النقص بالكفر، وهذا قياس باطل لأن الله عز وجل يقول: (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) .
فلا يصح قياس العبد المسلم بالكافر.
فالصحيح هو القول الأول.
-وفي الحديث المتقدم – وهو شهادة المرضعة – فيه صحة شهادة الإنسان على فعل نفسه، كالمرضعه على الرضاع والقاسم على القسمة والحاكم على حكمه بعد العزل – فقد شهدت هذه المرأة على فعل نفسها وهو الرضاع وقبل ذلك النبى صلى الله عليه وسلم.
(باب موانع الشهادة وعدد الشهود)
قال رحمه الله: [لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض]
المانع: هو ما يلزم من وجوده العدم.
فاذا وجد المانع – وان توفرت الشروط – فان العقد يبطل والعبادة أيضا تبطل.
فهذه الموانع يلزم من وجودها رد شهادة الشاهد وإن توفرت فيه الشروط التى تقدم ذكرها.
-ويدار هذه الموانع كلها على التهمة
"فلا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم على بعض "
وعمودا النسب هما الأصول والفروع فلا تقبل الشهادة للأباء والأمهات وإن علوا ولا تقبل الشهادة للأولاد وإن نزلوا.
(32/7)
________________________________________
فإذا شهد لأبيه أو لأمه لم تقبل شهادته وإن كان عدلاً وإذا شهد لجد أو لجدته فكذلك.
وإذا شهد لابنه او ابنته فكذلك واذا شهد لابنة ابنته او لأبن ابنه،فكذلك وهكذا.
فمتى شهد الاصل لفرع وإن نزل هذا الفرع لم تقبل شهادته، ومتى شهد الفرع لأصل وإن علا هذا الأصل فان شهادته لا تقبل.
قالوا: للتهمه لقوة القرابة وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
فالقول الأول: وهو مذهب الجمهور: أن شهادة الأصول للفروع وشهادة الفروع للأصول لا تقبل.
القول الثاني: وهو مذهب أهل الظاهر وهو قول شريح لقاضي، والمزني وابن المنذر وأبي بكر بن حزم أنها تقبل.
قالوا ولعمومات الأدلة (وأشهدوا ذوى عدل منكم)
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم) والوالد عدل والولد عدل من رجالنا.
وهذا القول قد ورد عن عمر ففي مصنف عبد الرزاق أن عمر رضى الله عنه قال: " تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده، والأخ لأخيه "
(3) والقول الثالث: أن شهادة هؤلاء تقبل مع انتفاء التهمة وترد للتهمة: إذن جعلوا المناط للرد هو التهمة بأن كان هناك تهما فإنها لا تقبل، وإن لم يكن فانها تقبل وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم وهو أظهر هذه الأقوال وهو ظاهر اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وذلك لأن العدل مقبول الشهادة كما دلت عليه الأدله الشرعية فهو عدل والعدل مقبول الشهادة.
وقد ورد أثر عن عمر يدل على الرد بالتهمة، وهو ما ثبت في سنن البيهقى بإسناد صحيح: أن عمر قال: (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً بجلد او مجّرباً بشهادة زور أو ظنيناً) أى مُتهماً (في قرابة أو ولاء)
فقد قال:" أو ظنيناً" أي متهماً – فلما كان متهماً ردت هذه الشهادة.
وأثر عمر يدل على الرد بالتهمة ولا يدل على الرد بالقرابة لأنه لم يقل " ولا قريباً" وإنما قال "ولا ظنيناً" في قرابة أو ولاء"
(32/8)
________________________________________
وهم -أي الجمهور – لا يقولون بهذا الأثر على عمومه، فإن هذا الأثر يدل على أن كل قريب ترد شهادته على قريبه.
-حيث استدل به على طريقتهم – وليس فيه تخصيص الولد والوالد بل هو عام في الولد والوالد وسائر الأقارب.
فأظهر هذه الأقوال: عدم قبول الشهادة عند التهمة والقبول عند انتفائها.
وعلى ذلك فينظر الحاكم في كل قضيه بعينها، فإذا ظهرت له التهمة، فإنه لا يقبل، وإن لم تظهر له التهمة فإنه يقبل.
فإذا كان الشاهد ممن هو مبّرز في العدالة يبعد في العادة أن يشهد لولده شهادة زور أو أن يشهد لوالده شهادة زور، فالتهمة منفية عنه فتقبل شهادتة.
إما إذا كان ليس مبّرزاً في العدالة، فله عدالة ظاهر – لكن العدالة الباطنة غير معلومة منه / فيقوى حينئذ الرد في التهمة.
-وقد اتفق أهل العلم على قبول شهادة الأخ لأخيه، وشهادة الأخ لعمه وشهادة الرجل لابن عمه وسائر الأقارب فهم إنما خصّوا المنع بمن بينهم قرابة إيلاد وأما من بينهم قرابة أخرى فإنها لا تقضي المنع عند جمهور العلماء.
-وتقدم الكلام على أثر عمر وأنه لو استدل به على المنع لاقتضى المنع من قبول شهادة كل قريب، لكن المنع إنما هو للتهمة فحيث وجدت التهمة منعت الشهادة ولم تقبل.
وهكذا أيضاً شهادة الصديق لصديقه فهى مقبولة.
واستثنى الإمام مالك: شهادة الصديق لصديقه حيث كانت الصداقة مؤكدة " أي بالغة " وهو اختيار ابن عقيل.
وهذا الضابط الذي ذكروه – في الحقيقة – قد يكون أقوى في التهمة مما يكون بين الوالد وولده، فان الرجل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده، بل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده والده وهذا ظاهر حيث كانت الصداقة مؤكدة.
وعليه: فالصداقة المؤكدة تدخل في المسألة السابقة فإذا كانت التهمة موجودة لم تقبل هذه الشهادة.
وأما إذا لم تكن التهمة موجوده كأن يكون الشاهد مبرّزاً في العادلة فان شهادتة تقبل.
(32/9)
________________________________________
-وعن الإمام مالك: أن شهادة الأخ لأخيه لا تقبل حيث كان منقطعاً على صلته – أي لا واصل له إلا أخوه – فهو يسكن عنده ويطعمه ويبرّه.
وهذه أيضاً تدخل في المسألة السابقة.
-الصحيح في هذه المسألة ما هو صحيح في المسألة السابقة من القبول عند عدم التهمة والرد عند وجودها.
وقد قال صلىالله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسند أبي داود:" لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر " أي حقد " على أخيه ولا القانع لأهل البيت "
-والقانع وهو المنقطع لأهل البيت يبرونه ويصلونه، وعليه فكذلك حتى لو كان أجنبياً لكن " أهل البيت يقومون بصلته فهو منقطع إليهم فحينئذ الحكم كذلك كأن يكون له معتق يصلونه ويبرونه فهو منقطع إليهم لا واصل له سواهم فالمحاباة – احتمالها قوي جداً فعلى ذلك لا بد أن ينظر في شهادته.
قال: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه]
فإذا شهد الرجل لامرأته ـ أو شهدت المرأة لزوجها فترد الشهادة، قالوا لقوة الوصلة بينهما.
وحيث عللنا بالتعليل المتقدم وهو احتمال التهمة،فالتهمة إنما: ظاهرة بين الزوجين.
ولكن – كما تقدم – إنما ترد مع التهمة وأما إذا كانت التهمة منتفية أو ضعيفة فإننا نقبل الشهادة بناءً على الأصل، فالأصل هو قبول شهادة العدل وقبول شهادة ذات العدالة.
فالمشهور في المذهب وهو قول الجمهور أن شهاده أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل قالوا: لقوة الوصلة.
-وعن الأمام أحمد وهو مذهب الشافعية إنها تقبل مطلقاً لعموم الأدلة.
-والصحيح التفصيل في ذلك كما تقدم في المسألة السابقة.
-وشهادة أحد الزوجين لصاحبه تردّ – كما هو المشهور في المذهب – ولو كان ذلك بعد الطلاق.
وكذلك إذا كان إثناء الطلاق فإنها ترد فان كانت رجعية فظاهر لأنها زوجة وإن كانت بائناً فإنها كانت زوجة وبينهما قوة واصلة فكذلك، ولو كان الطلاق قبل الدخول.
والصحيح في هذه المسألة ما تقدم، وأناّ ننظر إلى التهمة.
(32/10)
________________________________________
لكن: إذا كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً قد انتهت مدة عدتها به فإن التهمه بعيدة فإنها أجنبيه عنه فالتهمة ضعيفة.
قال: [وتقبل عليهم]
لقوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) .
فشهادة الرجل على ولده، وشهادته على والده وشهادة المرأة على زوجها وشهادة الزوج على امرأته، شهادة مقبولة بنص الآية، ولا مانع من قبولها ولا دليل يدل على المنع.
قال: [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً]
فلا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً. فإذا كان الشاهد يجر إلى نفسه نفعاً بهذه الشهادة فإنها لا تقبل.
مثال ذلك:إذا شهد الورثة أن مورثهم مات بالجرح قبل اندماله، فالذي يترتب على ذلك أن تكون لهم الدية لانهم هم الورثه فلا تقبل شهادتهم في ذلك لأنهم يجرون الى أنفسهم نفعاً.
ومثال آخر: شهادة الشريك لشريكه في مال الشركة، فإذا باع أحد الشريكين شيئاً من مال الشركة فلا يصح أن يكون الشريك الآخر شاهداً على ذلك، أي حيث وقع خلاف أو نزاع أو خصومة، وذلك لأن الشهادة تجر له نفعاً فهو كالشاهد لنفسه والشاهد لنفسه لا تقبل شهادته اتفاقاً.
قال: [أو يدفع عنهم ضرراً]
فإذا كانت الشهادة تدفع ضرراً عن الشاهد فإنها لا تقبل منه فإذا شهد الشهود أن فلانا قتل فلاناً خطأً فيرتب على ذلك ثبوت الدية، والدّية على العاقلة، فإذا شهدت العاقلة أن هؤلاء الشهود مجروحون فلا تقبل شهادتهم، فلو قال أحد العاقلة: هذا يشرب الخمر وقال الآخر: نعم هو كذلك، وقالوا في الثاني: هو يزني وقال الآخر نعم هو كذلك ... فلا تقبل شهاده العاقلة على جرح هؤلاء الشهود وذلك لأن في ذلك دفع ضرر عنهم لأن ثبوت هذه الشهادة يترتب عليها الدية والدية عليهم فإذا شهدوا على جرح الشهود ترتب على ذلك دفع الضرر عنهم.
إذن: لا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضرراً، لأنه شاهد لنفسه والتهمة في ذلك ظاهرة.
(32/11)
________________________________________
قال: [ولا عدو على عدوه]
للحديث المتقدم: (ولا ذي غمر على أخيه) والغمر هو الحقد فإذا شهد العدو على عدوه فلا تقبل شهادته.
ومثلّ لذلك المؤلف بقوله:
[كمن شهد على من قذفه]
قذف زيد عمراً بزنا أو لواط، فلما قذفه – وهذا لا شك أنه يثير بينهما عداوة – قال: أشهد أن لفلان عليه كذا وكذا فلا تقبل هذه الشهاده للعداوة.
قال: [أو قطع الطريق عليه]
فإذا شهد أن فلاناً قد قطع الطريق عليه، فلا تقبل شهادته بذلك لأن ذكره أن فلاناً قد قطع الطريق عليه هذا إقرار منه بالعداوة فلم تقبل شهادته.
وكذلك إذا رمى الزوج إمرائه بالزنا وشهد عليها بذلك فلا تقبل شهادته وذلك لأن شهادته عليها بالزنا تصريح منه بعداوته وبغضائه لها وحينئذ فلا تقبل شهادته.
إذن: لا تقبل شهادة العدو على عدوه – وهذا حيث كانت عداوة دنيوية.
وأما اذا كانت دينية فلا ترد – بل تقبل، كما لو شهد مسلم على كافر أو شهد سني على مبتدع فان الشهادة تقبل وذلك لأن دينه يمنعه من شهادة الزور وهو لا يبغضه لشخصه ولنفسه وإنما يبغضه لدينه فدينه الذي حمله على بغضائه لهذا المبتدع وعلى بغضه لهذا الكافر يمنعه من أن يشهد عليه بالكذب.
قال: [ومن سره مساءة شخص أو غمّه فرحُه فهو عدوه]
هذا هو العدو.
فإذا سمع أن هذا الشخص أصيب بمصيبه سر في ذلك
وإذا سمع انه قد أصيب بخير ونعمة: فإن ذلك يحزنه ويسئه فهذا هو العدو.
فضابط العدو: من يسره أن يساء هذا الشخص أو يغمه أن يفرح.
فإن قيل: ألا يقضى ذلك: رد شهادته مطلقاً لأن هذا هو الحاسد؟
فالجواب: أنه ليس كذلك مع كل أحد وإنما مع هذا الشخص المعين للعداوه التى بينهما.
أما لو كان يسيئه أن يسّر أي شخص ويغمه أن يفرح أي شخص فهذا لا شك أنه حاسد فإذا ظهر فيه ذلك فليس بعدل. .
-لكن إذا شهد العدو لعدوه فهل تقبل؟
الجواب: نعم لعدم التهمة ولا مانع من قبولها
-فإن قيل: ألا تحتمل أن يكون شهد له لدفع ضررة؟
(32/12)
________________________________________
فالجواب: إنه يحتمل ذلك لكنه احتمال ضعيف وبعيد فلا ترد به شهادة المسلم العدل.
والحمد لله رب العالمين
الدرس: الثالث والعشرون بعد الأربعمائة 423
فصل
-هذا الفصل في عدد الشهود وهم البينة.
وعدد الشهود يختلف باختلاف المشهود به كما سيتبين من خلال هذا الدرس.
قال: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة]
لا يقبل في الزنا إلا أربعة، فإذا شهد أربعة على شخص بالزنا، فإن الزاني يحد، كما تقدم في حد الزنا قال تعالى (حتى يأتوا بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) .
فبينة الزنا أربعة شهود وتقدم بيان هذا في حد الزنا (والإقرار به) : فإذا شهد أربعة أن فلاناً قد أقرً على نفسه بالزنا فإنه يحد بذلك.
فلو أن رجلاً في مجلس أقرّ على نفسه أنه قد زنا بالزنا الصريح فتلفظ بما يدل على أنه قد زنا فشهد عليه أربعة بهذا الإقرار فإنه يحد وذلك لأنه إثبات للزنا فلم يثبت إلا بأربعة كشهود الفعل فنقيس شهود الإقرار على شهود الفعل فكما أن شهود الفعل يشترط فيه أن يكونوا أربعة فكذلك شهود الإقرار بجامع أن كليهما إثبات للزنا.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن أحمد انه يكتفى بالإقرار بشهادة اثنين كسائر الإقرارات فسائر الإقرارات يكتفى فيها بشهادة اثنين فكذلك في الإقرار بالزنا.
-والأول أظهر، لما تقدم فتعليله أقوى لأنه إثبات للزنا فأشترط فيه أن يكون الشهود أربعة كفعل الزنا.
إذن: لا يقبل في الزنا ولا في الإقرار به إلا أربعة.
وكذلك ما يوجب حد الزنا كاللواط فانه يشترط فيه أيضاً شهود الزنا لأنه يوجب حد الزنا في المشهور من المذهب.
وتقدم أن الراجح: أن حده أعظم وأنه لا فرق بين المحصن وغيره، وعليه فيشترط فيه أربعة من باب أولى.
وإذا قلنا في إتياك البهيمة أنه يوجب حد الزنا فيشترط فيه أربعة، وتقدم أن الصحيح أن حكمه ليس كذلك.
قال: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان]
(32/13)
________________________________________
وذلك لأنه هذا الفعل لا يوجب حد الزنا وإنما يوجب التعزير فاكتفى فيه بشهادة رجلين.
قال: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص]
سائر الحدود كالقذف والسرقة، وكذلك القصاص أي القود.
قال: (وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً كنكاح …..إلى أن قال: يقبل فيه رجلان) .
فالحدود كالسرقة وغيرها من الحدود تقبل فيها رجلان اتفاقاً. وكذلك القصاص، فإذا شهد اثنان أن زيداً قتل عمراً عمداً فهذا يوجب القصاص بالشروط التى تقدم ذكرها وعليه فيشترط فيه شاهدان ذكران.
-وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً يشترط فيه رجلان، وضرب المؤلف لذلك أمثلة.
(كنكاح) : فيشرط في النكاح أن يشهد عليه رجلان وكذلك في الطلاق وكذلك في الرجعة والخلع والنسب والولاء وكذلك في الإيصاء إليه يعني بغير المال.
فإذا ادعى رجل إلى ورثة فلان: أن فلاناً قد أوصى إليه بانكاح بناته،أو قال: أوصاني أبوكم أن أقوم برعاية القُصّار فيشترط في ذلك أن يكون الشهود رجلين.
إذن: عندنا ثلاثة أشياء يشترط فيها شاهدان:
الأول: الحدود سوى الزنا.
الثاني: القصاص.
الثالث: ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال غالباً.
قال تعالى (واشهدوا ذوى عدل منكم)
-وهل يكفى شهادة رجل أو امرأتين أو الشاهد واليمين في هذه المسائل أم لا؟
الجواب فيه تفصيل:
أما الحدود والقصاص فالراجح أن شهادة النساء لا تصح فيها هذا هو مذهب عامة أهل العلم.
ويدل عليه قوله تعالى: (حتى يأتوا بأربعة شهداء) فاشترط الله عز وجل في تثبوت الزنا الذكورية فيقاس عليها سائر الحدود ويلحق بها القصاص لأن القصاص مما يحتاط فيه لأن فيه إزهاقاً للنفس أو اتلافاً للطرف أو جرحاً للبدن فكان مما يحتاط به.
-وذهب بعض السلف وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إلى أن شهادة النساء تجزئ فيه.
(32/14)
________________________________________
واستدل – رحمه الله – بالأثر والنظر.
-أما الأثر فهو قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيح – " أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل " وهذا عام.
-وأما النظر فإن مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق وهذه الصفات ثابته في النساء كما هي ثابتة في الرجال، وما يكون في النساء من نقص يجبر بمضاعفة العدد.
وهذا الاستدلال وإن كان قوياً. فالأظهر ما ذهب اليه أهل القول الأول وذلك لما تقدم في اشتراط الله عز وجل الذكورية في حد الزنا ويلحق به غيره ويلحق به القصاص احتياطاً للدماء.
وعليه العمل عند عامة أهل العلم.
-وأما ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال كالنكاح وحده:
فالصحيح فيه: وهو رواية عن الإمام احمد: قبول شهادة رجل وامرأتين.
فإذا شهد رجل وامرأتان على نكاح أو طلاق أو رجعة او خلع أو نسب أو ولاء أو إيصاء بغير مال فإن ذلك يجزئ.
وذلك لما تقدم من قول النبى صلى الله عليه وسلم: (أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل) .
وليست هذه الشهادة بمعنى الحدود والقصاص، ليس ثمت إجماع يخالف.
-وهل يقبل فيها الشاهد واليمين أم لا؟
فإذا ادعى رجل أنه قد راجع زوجته قبل انتهاء عدتها وأتى بشاهد يشهد على ذلك – وحلف بعد الشاهد فهل تثبت له الرجعه أم لا؟
-المشهور في المذهب: إنها لا تثبت له الرجعة حتى يأتى بشاهدين.
-وفي القول الثاني في المسألة: وهو رواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام: أن الشاهد ويمين المدعي يقبل في هذه المسائل أي المسائل التى يطلع عليها الرجال غالباً وليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد بها المال.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
وليس في الحديث ما يدل على أنه في المال.
-هذا هو الراجح.
قال: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه أو نحوه رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي] .
(32/15)
________________________________________
(يقبل في المال) : إذا ادعى زيد أن له في ذمة عمرو عشرة آلاف ريال، فنقول: إن أتيت بشاهدين ثبت الحق لك وإن أتيت برجل وامرأتين ثبت الحق لك، وإن أتيت بشاهد مع يمينك ثبت الحق لك.
قال تعالى: (واستشهدوا شهدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء) وهذه الآية في مسألة مالية وهي المداينة: (يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) .
(وما يقصد به كالبيع) : فإذا ادعى فلان أن فلاناً قد باعه داره فأتى برجلين يشهدان قُبل ذلك او أتى برجل وامرأتين قُبل ذلك، أو أتى بشاهد مع يمينه..
(والأجل) : إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه هذه الدار بمائة ألف مؤجلة الى سنة فأقرّ عمرو بالبيع ولم يقرّ بالأجل.
فنقول له: احضر البينة، وبينتك رجلان أو رجل وامرأتان أو شاهد مع يمينك.
- (الخيار فيه) : كأن يقول: أنا اشترطت لى الخيار ثلاثه أيام.
فيقول: احضر البينه ويكفي في ذلك شاهدك ويمينك أو شاهد ذكر وامرأتان.
(ونحوه) : كالقرض والرهن والغصب والعتق، وعامة المسائل المالية.
ودليل ثبوت الحقوق المالية بالشاهد واليمين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
وهو من حديث أبي هريرة في سنن ابي داود والترمذي.
وهل يقبل فيه – أي في المسائل المالية – شهادة امرأتين مع اليمين؟ أم لا؟
إذا ادعى رجل أن فلاناً قد باعه داره فقلنا له: أحضر البينة،
فقال: بينتي امرأتان مع يمينى، فهل يقبل ذلك؟
قولان لأهل العلم:
المشهور في المذهب: أن ذلك لا يقبل.
واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في المذهب قبول ذلك.
وهو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم:" أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل ".
ولأن شهادة المرأتين قرينة قوية تجعل الظاهر مع المدعي واليمين في جنب أقوى المتداعيين.
(32/16)
________________________________________
قال شيخ الإسلام: "ولو قيل: بقبول المرأة مع اليمين لتوجّه ".
وفيه قوة، لأن شهادة المرأة تجعل الظاهر مع المدعي فحينئذ تكون قرينة قوية، فإذا حلف معها كان القول قوله.
إذن: وجّه شيخ الإسلام قبول شهادة المرأة الواحدة مع اليمين قال: كخبر الديانة، فكما أن المرأة يقبل خبرها في الدين فكذلك هنا.
وأما قوله تعالى ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) يقول هذا في التحمل فيحتاط في التحمل واما في الاداء فليس كذلك.
-والمشهور – وحكي إجماعاً – عدم قبول شهادة أربع نسوة فإذا شهدت أربع نسوه بأن فلاناً قد باع فلاناً داره فان شهادتهن لا تقبل.
-ولو قيل بقبول شهادتهن لكان قوياً لما تقدم من أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، والله اعلم.
-وهل تقبل اليمين قبل الشاهد؟
الجواب: لا تقبل اليمين إلا بعد الشهادة، وذلك لأن اليمين إنما صارت في جنبه بعد الشاهد، فإذا شهد الشاهد كانت اليمين له أي للمدعي.
قال: [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه يقبل فيه شهادة إمراة عدل]
(كعيوب النساء) : كبرص ونحوه.
(والاستهلال) : أن يخرج المولود صارخاً فتثبت له الإرث ونحوه من الأحكام.
(ونحوه) : كالجراحة تكون في مجمع النساء كعرس أو حمام أو نحو ذلك فإنه يقبل في ذلك شهادة إمرأة عدل.
-فإذا شهدت امرأة أن في فلانة برصاً في جلدها أو شهدت أنها بكراً وأنها ثيب أو شهدت أنها حائض أو شهدت بولادة أو رضاع أو استهلال فإن شهادتها تقبل في هذه المسائل لأن هذه المسائل مما لا يطلع عليها الرجال في الغالب، فقد يطلع عليها الرجال لكن اطلاعهم عليها نادر، فقبلت فيها شهادة النساء.
(32/17)
________________________________________
وقد تقدم حديث المرأة التى قالت – وهي أمة سوداء – أنى قد أرضعت عقبة والتي تزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كيف وقد قيل " فقبل النبي صلى الله عليه وسام شهادتها وهي إمرأة واحدة وهكذا في عامة ما ذكره المؤلف من المسائل.
إذن: ما لا يطلع عليه الرجال في الغالب تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة.
-وقال المالكية: بل لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين.
وقال الشافعية: بل لا يقبل فيه إلا شهادة أربع نسوة والأظهر هو القول الأول لشهادة المرضعة على الرضاع وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادتها.
ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن الغالب في مثل هذه المسائل ألاّ تشهد فيها إلا المرأة الواحدة فيتعسر في الغالب شهادة أكثر من امرأة.
إلا ما تقع من جراحات بين النساء , فالذي يقوي – أنه لا يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، لأن الشهادة فيها بأكثر من امرأة لا تتعسّر.
ولأن جراحات الرجال لا تثبت بالرجل الواحد فأولى من ذلك ألا تثبت جراحات النساء بالمرأة الواحدة فالأظهر أنه لا يقبل فيها – أي الجراحات التى تكون في مجتمع النساء – لا يقبل فيها إلا شهادة أربع نسوة كما هو مذهب الشافعي في عامة مسائل هذا الباب.
وإذا كان يوجب المال فإذا شهدت امرأتين أو امرأة واحدة مع اليمين اكتفينا بذلك لأننا لا نقبل في الجراحات التى يوجب المال إلا شهادة رجل وامرأتين أو شاهد واليمين فإذا كان هذا في حق الرجال فأولى من ذلك النساء لأن شهادة النساء دون شهادة الرجال.
فالأظهر أنا لا نقبل إلا شهادة أربع نسوة. لكن ظاهر كلام الفقهاء أن القود لا يثبت بذلك وإنما هو في المسائل المالية اذ لا مدخل لشهادة النساء في الحدود والقصاص.
فالذي يوجب قوداً الأظهر عدم قبول شهادتها.
قال: [والرجل فيه كالمرأة]
(32/18)
________________________________________
بل أولى. فإذا شهد رجل برضاع فقال: أشهد أن فلاناً قد رضع من فلانة فهو أولى من المرأة لأن شهادته أعلى من شهادة المرأة، فإذا قبلنا شهادة المرأه فأولى من ذلك شهادة الرجل.
-وظاهر كلام المؤلف أن هذه الشهادة لا تفتقر إلى يمين وهو نص الإمام أحمد وهو ظاهر الحديث المتقدم في قضيه شهادة المرضعة فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستحلفها.
إذن: إذا شهدت المرأة على أمر لا يطلع عليه في الغالب إلا النساء فان شهادتها تقبل بلا يمين.
لكن إذا ارتاب القاضى فله أن يحلفها، لقوله تعالى (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمناّ) الآية.
قال: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال) .
تقدم أن القود يشترط فيه شهادة رجلين فإذا أتى مدع برجل وامرأتين أو أتى بشاهد ويمين فيما يوجب القود.
كأن يدعى رجل أن فلاناً قد قتل وليّه عمداً وأحضر رجلاً وامرأتين أو اأحضر رجلاً وقال: أنا أحلف على ذلك. فلا يثبت به قود ولا مال.
فلا يثبت القود لأنه يشترط في القصاص شهادة رجلين فلم تكتمل البينة.
ولا يثبت المال، فلو قال: أنا أحضرت لكم رجلاً وامرأتين فاقضوا لي بالدية فلا يحكم له بذلك وذلك لأن المال فرع وبدل عن القود، وإذا لم يثبت المبدل لم يثبت البدل، فلم يثبت القود بهذه الشهادة، والمال بدل عنه فكذلك لا يثبت.
لكن لو أتى برجل وامرأتين أو بشاهد مع يمينه يشهدون أن فلاناً قد قتل وليه خطئاً فإن المال يثبت هنا لأن هذه المسألة مالية والمسائل المالية تثبت بشهادة رجل وامرأتين أو شاهد مع اليمين.
قال: [وإذا أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع] .
إذا ادعى رجل على آخر أنه قد سرق منه عشرة آلاف ريال ثم أتى برجل وامرأتين يشهدون على ذلك.
فلا يثبت حد السرقة لان حد السرقة يشترط فيه شهادة رجلين.
لكن ثبت له المال الذي ادعاه.
(32/19)
________________________________________
والفارق بين هذه المسألة والتى قبلها هو: أن ثبوت السرقة يترتب عليه شيئان: القطع وهو الحد والشىء الثاني: الضمان. فليس المال فرعاً عن القطع كالمسألة الأولى. فإذا لم تستكمل بينة الحد واستكملت بينة المال ثبت المال.
وكذلك في الشاهد واليمين. فإذا ادعى أن فلاناً قد سرق منه عشرة آلاف وقال: بينتى هذا الشاهد ثم أدلى الشاهد بشهادته ثم حلف هو أي المدعي – فإنا نضمن المدعى عليه المال الذي أدعّى عليه،لأنها أصبحت مسألة مالية لا تثبت السرقة وبالتالى لا نقطع يده لأن بينة الحد لم تستكمل.
قال: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه] .
إذا ادعى رجل أنه خالع امرأته على عشرة آلاف ريال وهو يريد هذه العشرة آلاف منها، واحضر رجلاً وامرأتين بينة على ذلك. فلا يثبت الخلع بذلك –في المشهور من المذهب – لأنه ليس بمال ولا يقصد به المال فلم تثبت إلا بشهادة رجلين – هذا في المشهور من المذهب وتقدم الراجح.
إذن لا يثبت الخلع بهذه البينه لكنه يثبت عليه الخلع بإقراره ولذا قال: وتثبت البينونة بمجرد دعواه، ويثبت له العوض لأنه مال والمال تقبل فيه هذه البينة.
فإذا ادعت المرأة الخلع، فقالت: قد خالعنى زوجي على عشرة آلاف وأتت بشاهد ذكر وامرأتين. فلا يثبت الخلع لأنه لا يثبت إلا برجلين في المشهور من المذهب، وبالتالى لا يلزمها العوض لأن العوض مرتب على صحة الخلع.
والصحيح – كما تقدم – أن الخلع يثبت بشهادة رجل وامرأتين.
والحمدلله رب العالمين
__________________________________________________ _________
الدرس الرابع والعشرون بعد الأربعمائة 424
فصل
هذا الفصل في الشهادة على الشهادة.
(32/20)
________________________________________
إذا شهد زيد أن لعمرو على بكر ألف ريال – مثلاً – فقال: زيد وهو الشاهد الأصل، قال لسعد احفظ عنى إني شاهد لعمر على بكر بألف ريال، أو اشهد على شهادتى أن هذا البيت وقف، أو اشهد على شهادتي أن هذا قد قذف فلاناً ونحو ذلك.
إذن: عندنا شاهدان: شاهد أصل وهو الذي قد سمع أو رأى، وشاهد فرع وهو الذي لم يسمع ولم ير لكنه حملّ شهادة غيره واستحفظ.
كأن يحتضر رجل فيقول لبعض أولاده: اشهد عليّ إني شاهد لفلان بكذا على فلان ونحو ذلك.
-وهي – أي الشهادة على الشهادة – جائزة بالاجماع، والحاجة تدعو إليها، كما يكون في الوقوف.
وأيضاً قد يتأخر عرض القضية على الحاكم فيحتاج إلى شهادة الفرع فيحتاج إليها في حفظ الحقوق.
قال رحمه الله: [ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي] .
فهذه المسألة متفرعة عن مسألة سابقة وهي كتابة القاضي الى القاضي.
وقد تقدم أن المشهور في المذهب أن كتابة القاضي الى القاضي لا تصح إلا في حقوق الآدميين – ولا تصح في الحدود.
وتقدم أن الراجح خلافة.
وهنا كذلك فهذه المسألة كتلك المسألة، فالمشهور في المذهب إنها لا تصح إلا في حقوق الآدميين ولا تصح في الحدود.
-والمشهور في مذهب الشافعي صحة الشهادة على الشهادة في الحدود.
فالصحيح / أن الشهادة على الشهادة لا يشترط فيها أن تكون في حقوق الآدميين بل تصح في حقوق الآدميين وغيرها فلو شهد فرع عن أصل في حد الزنا أو في حد قذف أو في حد سرقه ونحو ذلك فإن هذه الشهادة صحيحة.
فمثلاً: أراد اثنان أن يذهبا إلى القاضي ليشهدوا على فلان أنه سرق، فاحتضر أحدهما فالقى بالشهادة الى آخر لم ير ولم يسمع فهي شهادة فرع فتقبل.
قال: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل، بموت أو مرض …او غيبة مسافة قصر]
(32/21)
________________________________________
فإذا أمكننا أن نحكم بشهادة الأصل فلا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع. وذلك لأن شهادة الأصل هي الأصل، وشهادة الفرع بدل عنها.
ولأن في شهادة الفرع تطويلاً، فإنا نحتاج إلى أن ننظر في عدالة شهود الأصل وننظر في عدالة شهود الفرع.
ولأن احتمال الخطأ يكون أكبر.
إذن: لا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو كخوف من سلطان. إذن لا يجوز لنا إلا عند الحاجة – فهي كالماء والتراب، فلا يجوز التيمم بالتراب إلا عند عدم الماء أو الضرر باستعماله – وهذا هو مذهب جمهور العلماء كما تقدم تعليله.
-وهل يكفى أن يشهد فرع عن الأصلين؟
الجواب: لا يكفي ذلك.
فإذا كان زيد وعمرو يشهدان على قضية تحتاج إلى شاهدين – فحَفَظ عنهما هذه الشهادة بكر، فلا تقبل شهادة الفرع. وهذه هي الصورة الأولى.
-الصورة الثانية: أن يشهد لكل أصل فرع.
فإذا حفظ زيد وعمر شهادة فهما شاهدا أصل فحفظ شهادة زيد بكر وحفظ شهادة عمرو سعد، فإنها تقبل – في المشهور في المذهب -.
قالوا: لأنه نقل للشهادة فقبل فيها خبر الواحد كخبر الديانة.
-وقال الجمهور: بل لا يقبل وذلك لأنها شهادة في إثبات حق كالإقرار فاشترط فيها شاهدان وعليه فلا بد أن يكون لكل أصل فرعان فيجتمع في القضية أربعة شهود.
أو أن يكون الفرعان قد حفظوا الشهادة عن هذا وعن هذا.
-والقول الأول أظهر لأن تعليله أقوى، فهي نقل للشهادة وليست إثبات حق وذلك لأنها لا يثبت الحق عليه فإن هذا الشاهد بشهادة الفرع لا يثبت على شاهد الأصل حق وإنما هي نقل لشهادته.
فالأظهر هو قبول ذلك كما هو المشهور في المذهب وهو قول إسحاق، قال الإمام أحمد:" لم يزل الناس على هذا "
فعليه عمل السلف، ونحوه عن إسحاق.
-الصورة الثالثة: أن يشهد عن كل أصل فرعان.
(32/22)
________________________________________
ففي المثال المتقدم: يقول بكر اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا ويقول سعد: اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا وهي مقبولة.
اذن: الخلاف فيما إذا كان لكل أصل فرع واحد والصحيح القبول لكن لا ينفرد في القضية فلا بد في القضية أن يكون شهود الأصل كشهود الفرع فإن كانت القضية مما لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين فلا بد وأن يكون الفرع كذلك / وإذا كانت مما يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فيكون الفرع كذلك، والنساء لهن مدخل في الباب – على الصحيح وهو المشهور في المذهب.
قال: [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل]
اذا كنت في مجلس فسمعت زيدًا يقول: " أشهد أن هذا البيت وقف " فليس لك أن تشهد على شهادته – كما ذكر المؤلف – حتى يسترعيك أي حتى يستحفظك، فإذا قال: اشهدوا عليّ إذا شهد على فلان، فحينئذ تصح شهادتك.
إذن: يشترط أن يسترعي شاهد الأصل.
قالوا: لأنه يحتمل أن تكون شهادته على العلم فيحتمل بأنه لما شهد لم يشهد على ما سمع ورأى بل شهد على العلم.
أي: يعلم أن هذا البيت وقف فقال: اشهد أن هذا البيت وقف فهو إنما يشهد بعلمه، ومعلوم أن الشهادة بالعلم لا تصح.
-والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن شهادة الفرع تصح وإن لم يسترعه شاهد الأصل.
قالوا ولأن الأصل في الشهادة أن تكون بما يسمع وبما يرى أما كونه يشهد بعلمه هذا خلاف الأصل.
فإن قيل: قد يكون شهد على أمر ماض؟
فالجواب: أن هذا – أيضاً – خلاف الأصل- والأصل بقاء ما كان على ما كان.
فالراجح من هذه المسألة، صحة الشهادة لا سيما أن الشهادة في هذا الباب إنما شرعت للحاجه اليها.
قالوا: [فيقول: اشهد على شهادتى بكذا]
فيقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي بكذا فيكون بذلك قد استرعاه أي قد استحفظه الشهادة.
قال: [أو يسمعه يقر بها عند الحاكم]
(32/23)
________________________________________
فإذا سمع شاهد الفرع شاهد الأصل يقر بالشهادة عند الحاكم فإنه يحفظها عنه ويجوز له أن يشهد عنه بذلك لأنه يزول الإحتمال المتقدم.
فإذا كان في مجلس الحاكم فأتى بشاهدين لكن القاضي لم يحكم بالقضية لأمر ما أو لم تستوف البينة، فشهد الرجل أن فلاناً قد شهد عند الحاكم بكذا، كأن يكون قد مات هذا الشاهد الذي شهد في مجلس الحاكم وكان هناك من يجلس عند القاضي فشهد أن فلاناً قد شهد فحينئذ تقبل لزوال الإحتمال المذكور.
قال: [أو يعزوها إلى سبب من قرض او بيع ونحوه] .
فعزوها إلى سبب يقويها، وحينئذ يضعف ذلك الإحتمال.
فاذا قال: أشهد أن فلانا قد شهد أن لفلان على فلان كذا وكذا قيمة داره التى باعها إياه
أو قال: أشهد أن فلانا شهد لفلانة على فلان كذا وكذا مهراً لها.
إذن: المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يسترعيه الشهادة إلا أن يشهد في مجلس القاضي أو أن يشهد على شئ ويذكر سببه فحينئذ لا يشترط أن يسترعيه الشهادة.
قال: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض – يلزمهم الضمان دون من زكاهم] .
إذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض ولو قبل الإستيفاء هنا ثلاثة أحوال.
(1) الحالة الأولى: أن يرجع شهود المال قبل الحكم.
كأن يشهد زيد وعمروّ أن لبكر على سعد عشرة آلاف ريال وأثناء جلوسهم مع القاضي وقبل أن يُبتّ بالحكم رجعوا عن الشهادة.
فالحكم: أن القاضي لا يحكم وذلك لأن الشرط في الحكم قد زال فشرط الحكم الشهادة وقد زالت قبل الحكم.
(2) الحالة الثانية: أن يرجعا بعد الحكم وقبل الإستيفاء.
أي لما حكم القاضي وبتّ في القضية قالوا رجعنا، وكان ذلك قبل الإستيفاء أي قبل أن يعطى المدعى عليه المدعي هذا المال المدعى به.
فالحكم: أن الحكم لا ينقض.
(3) الحالة الثالثة: أن يرجعا بعد الحكم وبعد الإستيفاء.
فالحكم: أن الحكم لا ينقض.
(32/24)
________________________________________
إذن: بعد الحكم سواء كان بعد الاستيفاء أو قبله فإن الحكم لا ينقض وذلك لأن الحكم قد ثبت بتوفر شروطه.
ولئلا يكون حكم القاضى العوبة بأيدي الشهود.
وقد يكون رجوعهم لرغبةٍ او رهيةٍ، لرغبة بمال كأن يعطوا رشوة أو رهبةٍ كان يهددوا ليرجعوا.
-ويلزم هولاء الشهود الضمان دون من زكاهم، فنقول للمدعى عليه أعط المدعي حقه الذي قد ثبت وارجع بحقك إلى الشهود وذلك لأن الشهود هم الذين قد اخرجوا منه ماله بغير حق فكان الضمان عليهم.
(دون من زكاهم) فإذا رجعوا فإن الحق ثبت عليهم دون من زكاهم لأن من زكاهم إنما بنى على ظاهر أمرهم من العدالة وهم قد رجعوا فيكونون هم الذين قد باشروا ذلك فأخرجوا الحق عن صاحبه.
لكن إذا بان أن هؤلاء الشهود فسّاق أي لم يرجعوا لكن بان فسقهم وكان فسقهم ظاهراً فحينئذ: يرجع على المزكي.
ولا يقال: إنه يرجع إليهم هم أي الشهود، لأنهم لا يزالون يثبتون الحق ولا يزالون يقولون نحن شهود على كذا، لكن شهادتهم لا تقبل، والذي غررّ الحاكم بهم هم هؤلاء المزكون.
وفي قوله: (شهود المال) قيد يخرج القصاص والقود، فإذا كان الشهود قد شهدوا في القصاص، فإذا رجع الشهود بعد الحكم وقبل الإستيفاء، فإن القصاص لا يستوفى.
فإذا شهد فلان وفلان أن زيداً قتل عمراً عمداً فحكمنا على زيدٍ بالقود واختار ذلك الأولياء، وقبل أن يسُتوفى رجع الشهود، فحينئذ لا تنفذ القود، وذلك احتياطياً للدماء والأطراف.
وكذلك في الحدود، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولا شك أن رجوع الشهود شبهة كبيرة.
لكن هل تثبت الدية؟
الجواب: نعم تثبت الدية، فرجوع الشهود بعد الحكم لا ينقض حكم القاضي، لكن احتطنا للدماء فلم ننفذ القود لكننا نثبت الدية، فشهادتهم تثبت الدية وبرجوعهم لا نقيم القصاص احتياطاً للدماء.
قال: [وان حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله]
إذا حكم القاضي بشاهد ويمين:
(32/25)
________________________________________
كأن يدعى زيد على عمرو أن له عليه عشرة آلاف وليس عنده إلا شاهد فيقول: يحلف على ذلك فقال: نعم فشهد الشاهد وحلف هو، ثم رجع الشاهد، فإنه يرجع إلى الشاهد بالمال كله، وذلك لأن الشاهد هو حجة الدعوى وأما اليمين فهي قول الخصم.
فعليه: اذا رجع هذا الشاهد فإنا نضمنه المال كله.
********
"باب اليمين في الدعاوي"
قال: [لا يستحلف في العبادات]
إذا ادعى رجل أنه قد أخرج زكاة ماله أو أنه أوفى بنذره أو أنه يصلى في بيته، فإنه لا يستحلف على ذلك، لأن العبادات حقوق الله وهي مبنية على المسامحة.
وقال الشافعية: بل يستحلف لأنها دعوى.
والصحيح هو الأول. لأن اليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين في قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ".
فاليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين ولا تقاس عليها حقوق الله للفارق، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة.
إذن: إذا قال عند صاحبي الحسبة: إني أصلى في بيتى فإن ذلك يقبل منه بلا يمين.
قال: [ولا في حدود الله تعالى]
لأن حدود الله تعالى حق مبنى على المسامحة،
ولأن المشروع هو الستر، وإذا كان يُلقّن عدم الاقرار فأولى من ذلك ألا يستحلف وهذا باتفاق العلماء.
قال: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي] .
فيستحلف المنكر في كل حق لآدمي إذا كان الحق مالاً أو يقصد به المال
فإذا ادعى زيد أنه اقرض عمراً ألف ريال فأنكر ذلك عمرو فنقول له: احلف
وكذلك إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه داره فأنكر ذلك عمرو فنقول له: احلف ونحو ذلك.
قال: (إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والإستيلاد والنسب والقود والقذف)
" اصل الرق " إذا ادعى فلان أن اللقيط الذي عنده في البيت رقيق له فهنا قد ادعى اأصل الرق.
" والاستيلاد " أي استيلاد الأمة.
(32/26)
________________________________________
فهذه الامور التى ذكرها المؤلف مستثناه لأنها ليست بمال ولا يقصد بها المال فلا يستحلف فيها المنكر.
فإذا ادعت امرأه أن زوجها قد طلقها فنقول: احضري البينة، فإذا قالت لا بينة عندي، فإننا لا نحلف الرجل.
وإذا ادعى رجل أنه قد راجع امرأته فأنكرت المرأه ذلك فنقول للرجل: احضر البينة، فإن قال ليس عندى بينة فلا نطلب منها اليمين.
كذلك في الإيلاء: إذا ادعت المرأة أن زوجها قد أتى منها أي حلف ألا يطأها فأنكر ذلك فلا نقول له احلف وهكذا عامة المسائل التى ذكرها المؤلف هنا.
-والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أن الاستحلاف ثابت في هذه المسائل من حقوق الآدميين وأن حقوق الآدميين كلها يستحلف فيها سواء كانت في الأموال او في غير الأموال.
-وهذا هو القول الراجح في المسألة، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " يدل على أن اليمين تثبت حتى في الدماء أي حتى في القود.
فلو قال رجل: ادعى أن فلانا قد قتل وليي عمداً، فنقول: احضر البينة فقال: لا بينه لي، فنقول للمدعى عليه احلف اأنك لم تقتل وليه عمداً.
-وهل يقضى بالنكول؟
تقدم انه في المسألة قولان:
وتقدم اختيار شيخ الاسلام في هذه المسألة وأنه يقضى بالنكول إلا أن يكون المدعي يختص بالعلم فإن اليمين ترجع إليه.
إذن: في النكاح والطلاق والرجعة وفي عامة المسائل التى هي من حقوق الآدميين تثبت اليمين.
وأما في حقوق الله عز وجل فلا.
قال: [واليمين المشروعة هي اليمين بالله]
تقدم ذكر هذا.
قال: (ولا تغلظّ إلا فيما له خطر)
(32/27)
________________________________________
فلا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كالجناية التى لا ترتب عليها قود، لأن الجناية التي يترتب عليها قود ليس فيها في المذهب – استحلاف، لكن الجناية التي تثبت فيها مال كأن يدعى زيد أن عمراً قد قتل وليه خطئاً فإن المدعى عليه يستحلف حتى في المذهب – لأنها في الأموال وهذه المسألة لا خطر فللإمام أن يغلظ في اليمين.
أو كان ذلك في طلاق، كأن تدعى المرأة أن زوجها قد طلقها ثلاثاً وهو ينكر ذلك، وقلنا بالإستحلاف فانها تغلظ حينئذ وذلك لأن الأمر فيه خطورة.
وكذلك في العتق فإذا ادعى العبد أن سيده قد أعتقه فالأمر فيه خطر فحينئذ تغلظ اليمين.
-والتغليظ في اليمين مشروع – كما قال شيخ الاسلام – حيث رأى الإمام مصلحة في ذلك.
بل قد مال شيخ الاسلام إلى وجوبه حيث كان فيه مصلحة والأمر كذلك لأنه وسيلة الى إيصال الحق إلى صاحبه.
-والتغليظ قد يكون بالقول كأن يقول له: قل " والله الذي لا الله إلا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان عليّ كذا "
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم – لعالم من علماء اليهود " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون الحد في كتابكم "
-وقد يكون التغليظ بالزمان وذلك بعد صلاه العصر قال تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاه فيقسمان بالله)
وهي صلاة العصر بإجماع المفسرين.
وقد يكون التغليظ في المكان: كالمنبر في الجامع.
لما روى مالك في موطئه وأبو داود وابن ماجه وغيرهم: ان النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على منبري يميناً آثمة فليتبوأ مقع من النار)
قال الفقهاء: ويقاس عليه غير منبره: والله أعلم لكن لا بأس بذلك من باب التغليظ.
قالوا: وكذلك بين الباب والركن عند الكعبة فهذا تغليظ في المكان.
إذن: له أن يغلظ بالزمان وله أن يغلظ بالمكان وله أن يغلظ باللفظ.
-فإذا نكل فما الحكم؟
(32/28)
________________________________________
أي قيل له:" والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان على حق " فقال أنا لا احلف إلا أن اقول:" والله " أو قيل له: احلف بعد صلاه العصر أو إحلف على المنبر.
فقال: لا أحلف، إن شئتم مني: " والله " وإلا فلا أحلف، فما الحكم؟
قالوا: يقبل منه ذلك ولا يحكم بنكوله لأنه ليس عليه إلا اليمين وقد قام بما عليه وهي اليمين.
ومال شيخ الاسلام إلى أنه يحكم بنكوله لأنه لا فائدة من التغليظ إلا هنا، فالمقصود زجره وردعه عن الإنكار بحيث إنه إذا أنكر فحلف بهذه اليمين انزجر وارتدع ونكل فثبت الحق لصاحبه وهذا هو الراجح.
------------------------------------------------------الدرس الخامس والعشرون بعد الأربعمائة – والأخير 425
كتاب الإقرار
الإقرار: هو الإعتراف بالحق.
وهو أقوى البينات، ذلك لأن العاقل لا يكذب على نفسه بما يضّرها فلا يمكن أن يعترف أن لفلان عليه عشره آلاف درهم وهو كاذب على نفسه.
-والفقهاء.منهم من يضعه في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالإقرار بالشهادتين عند الموت.
ومنهم من يضع العتقَ في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالعتق من النار.
قال رحمه الله [يصح من مكلف] .
فاذا كان الإقرار من غير مكلف كالصبي والمجنون، فإنه لا يصح.
فإذا أقر صبي أن عليه عشرة آلاف فإن إقراره لا يصح، وكذلك إقرار المجنون أو المغمي عليه أو النائم.
لقوله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة – ذكر منهم – الصبي والمجنون والنائم ".
لكن هل للصبي أن يقرّ بما يصح تصرفة فيه، مما يأذن له فيه وليه؟
فالولى يأذن للصبي أن يتصرف ببعض الشيء الذي لا يضر بماله، فإذا أذن له أن يتصرف بشيء من البيع والشراء، فهل له أن يقر به.
الجواب: نعم، لأنه لما صح تصرفه فيه صحّ إقراره معه.
مسألة:
(32/29)
________________________________________
إذا أقر الصبي ابن عشر أو الجارية بنت تسع بالاحتلام – وهذه هي السن التى يمكن فيها الاحتلام في مذهب أحمد كما تقدم – فما الحكم.
الجواب: إنهما إذا ادعياه فإنه يقبل منهما فاقرارهما بالإحتلام مقبول.
وذلك لأن الإحتلام لا يعلم إلا من جهتهما. فكان القول قولهما.
-لكن لو ادعى السن، فقال قد بلغت خمس عشرة سنة فلا تقبل إلا ببينة وذلك لأن بلوغ السن الخامسة عشرة ظاهر معلوم يعلم من غير صاحبه فاحتيج إلى بينة.
قال: [مختار]
أي ليس بمكره، لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فالإكراه مرفوع.
فإذا أكره على الإقرار بالمال فأقر به مكرهاً فهذا الإقرار لا يصح.
قال: [غير محجور عليه]
أي غير محجور عليه لسفه وذلك لأن تصرفه في المال لا يصح وعليه فلا يصح إقراره.
وأما المحجور عليه لفلس فقد تقدم ان إقراره يصح في الذمة ولا يصح في المال الذي قد حجر عليه فيه.
قال: [ولا يصح من مكره]
هذا تفريع على قوله: مختار " فلا يصح من مكره".
فلو أن رجلاً ضُربَ حتى أقر أنه قد طلق إمراته أو حتى أقر أن لفلان في ذمته عشرة آلاف فلا يصح إقراره لأنه مكره.
-فإذا أقرّ وادعى الإكراه ما الحكم؟
رجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف وشهد شاهدان على هذا الإقرار ثم ادعى أنه قد أُكره على هذا الإقرار فما الحكم؟
الجواب: لا يقبل منه ذلك إلا ببينة تدل على الإكراه.
وكذلك إذا كان هناك ما يدل على الإكراه كأن يكون أقر في حبس أو في قيد أو أثناء ضرب فإن هذه يدل على الإكراه.
وعليه: فإذا ضُرب المتهم حتى اعترف فهل يصح إقراره؟
الجواب: لا يصح إقراره لأنه مكره.
لكن هل هذا على إطلاقه؟
في المسألة قولان لأهل العلم – كما حكى ذلك شيخ الإسلام –:
(32/30)
________________________________________
القول الأول: أن ذلك على إطلاقه وهو قول بعض أصحاب أحمد والشافعي، فإذا ضرب الرجل فاعترف فإنه لا بد وأن يصدق اعترافه مرة أخرى أي لا بد وأن يقر مرة أخرى عند القاضي فإذا أقر بعد ذلك فإن الإقرار يصح.
والقول الثاني في المسألة: وهو الذي عليه القضاء هنا أن ذلك ليس على إطلاقه، بل إذا أقرّ وكان هناك ما يصدق إقراره أثناء الضرب فإن ذلك يصدق.
مثال ذلك: رجل لما أتى به فضرب على السرقة،
قال: اعترف أني قد سرقت القيمة الفلانية، من المكان الفلاني وذهبت وأخذت الشيء الفلاني وكسرت الباب ووصف السرقة وصفاً ظاهراً، والمال المفقود هو ما ذكره والباب المكسور هو المذكور فحينئذ نعلم أنه قد سرق ولا نحتاج حينئذ إلى إقراره، هذا هو أصح قول العلماء في هذه المسألة.
قال: (وإن أكره على وزن مال فباع ملكه صح)
أي صح البيع،
رجل قيل له: ادفع عشرة آلاف ريال وإلا قتلناك، وليس عنده إلا هذه الدار أو عنده غيرها، فباع هذه الدار ودفع هذه العشرة آلاف، فان البيع يكون صحيحا، وذلك لأنه لم يكره على هذا البيع، وهذه المسألة استطراد من المؤلف.
قال: (ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره به في صحته)
رجل في مرضه قال: أُقرّ أن لفلان عليّ عشرة آلافً فإن هذا الإقرار يصح، كما أقرّ في صحته لعدم التهّمه واستثنى المؤلف فقال:
[إلا في إقراره بالمال لوارث] .
فإذا أقر بالمال لوارث فلا يقبل
فلو كان له ابنان فقال في مرضه أقر أن لابنى فلاناً عشرة آلاف في ذمتي فلا يصح هذا الإقرار للتهمه.
لكن إذا أقام بينة أو أجاز بقية الورثة فإن هذا الإقرار يصح.
قال: [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره]
رجل عنده زوجتان فأقر لكليهما أو لأحدهما بالصداق فقال: أقر أن لفلانه عليّ الصداق أو أن هناك مهر مؤخر لفلانه فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره، لأن إقراره لوارث لا يصح والزوجة وارثة.
(32/31)
________________________________________
فكونها زوجة له يدل على أن لها صداقاً عنده، وإقراره هذا إخبار منه بأنه لم يوفها صداقها.
قال: [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها] .
إذا قال في مرضه (أنا قد أبنتها " أي طلقتها " طلاقا بائناً في صحتى) فنقول: هل عندك بينة؟ فإن قال لا، فنقول: إقرارك هذا لا يسقط إرثها لأنك متهم بحرمانها.
-كما تقدم في كتاب الفرائض.
قال: [وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لأنه باطل، وإن أقرّ لغير وارث أو أعطاه صح وإن صار عند الموت وارثاّ] .
فالإقرار المعتبر في صحته حال المقرَّ له حال الإقرار.
فإن كان المقر له ليس بوارث فإنه يصح هذا الإقرار وإن صار وارثاً بعد ذلك.
وأما إذا كان إثناء الإقرار وارثاً فإن الإقرار له لا يصح وإن كان ليس بوارث بعد ذلك.
فمثلاُ: رجل له زوجة حامل وله ابن عم، فإن العم وارث فلا يصح الإقرار له، لكنه أقرّ له ثم ولد له ابن من زوجته، فلا يرث ابن العم، ولا نرجع الى الإقرار المتقدم فنصححه لأن العبرة بحاله عند الإقرار، وحاله عند الإقرار أنه وارث وإن كان ليس بوارث بعد ذلك.
وكذلك العكس: رجل قال لفلانة عليّ كذا، ثم لم يمت حتى تزوجها فإن هذا الإقرار يثبت لأن حالها عند الإقرار أنها ليست بوارثه.
إذن: إذا أقرّ لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لا أنه باطل لأنه موقوف على إجازة الورثة فلو أجاز ذلك الورثة صح هذا الإقرار.
قال: [وإن أقرت المرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قبل] .
رجل قال لامرأة: " انك زوجة لى: فقالت "أقر بذلك" فهذا الإقرار صحيح لأن النكاح حق فصح إقرارها فيه كالمال.
لكن هنا شرط ألا يدعيّه اثنان.
فإذا أتى اثنان إلى قاضي وكل منهما يدعي أن فلانة زوجة له فأقرت لأحدهما فظاهر كلام المؤلف أنه لا يقبل هذا الإقرار.
-والقول الثاني – وهو الصحيح في المذهب – أن إقرارها لأحدهما صحيح وهو ظاهر.
(32/32)
________________________________________
لأنها قد أقرت لأحدهما بحق عليها وليس هناك ما يمنع فليس مع الآخر بينة تمنع ,
لكن إن كان مع كل واحد فيهما بينة؟
كأن يدعى اثنان على فلانة أنها زوجة وكل يقول هي زوجتى وأقام كل واحد فيها بينة.
فالحكم: أننا نحكم بالبينة الأسبق.
فإن لم نعلم أيهما أسبق وادعى ولي المرأة أن بينة أحدهما هي الأسبق قُبلَ قولْهَ بيمينه.
فإن قال ولىّ المرأة: لا أعلم أيهما أسبق، فحينئذ تفسخ نكاح الإثنين كما إذا زوجها وليان ولم يعلم أيهما الأسبق.
وهل نحكم لمن هي تحت يده.
الجواب: لا نحكم بها لمن هي تحت يده لأن الُحرَ لا يحكم عليه باليد. (الحر: الفرج)
قال: [وإن أقرّ وليّها المجبر بالنكاح أو الذي أذنت له صحّ] .
اذا أقرّ الولى المجبر بالنكاح فهل يصح ويكون كإقرار المرأة؟
الجواب: نعم لأن الولى المجبر – وهو الأب في المذهب – يملك إنشاء عقد النكاح فيملك إقراره.
-وكذلك الولى غير المجبر إن أذنت له المرأة لأن المرأة إذا أذنت له ملك أنشاء عقد النكاح عليها وإذا ملك عقد النكاح ملك الإقرار به.
إذن: الإقرار بالنكاح يصح بإقرار المرأة ويصح بإقرار وليها المجبر وبإقرار وليها غير المجبر إذا أذنت له بالإقرار.
قال: [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه]
إذا أقر بنسب صغير فقال – مثلاّ – هذا الطفل أبن لي أو أخ لى، وقيده بالصغير لأنه إن كان كبيراً بالغا فلا بد وأن يصدق هذا الإقرار.
كذلك لا بد أن يكون الصغير ومثل ذلك المجنون – لا بد أن يكونا مجهولى النسب لأنه إن كان معلوم النسب فلا يصح ادعاء نسب آخر له.
فإذا ادعي على هذا الصغير أو المجنون مجهول النسب أنه ابنه أو أخوه أو ابن أخيه فإن نسبه يثبت منه.
والشارع متشوف إلى إثبات النسب، وهذا المقرّ يقر بحق عليه فقبل إقراره.
لكن كان المقرّ له بالغاً فأنكر ذلك فان الإقرار صحته قاصر، فلا يصح الإقرار على الغير، بل يصح على النفس.
(32/33)
________________________________________
فلو أن رجلاً اقرّ على نفسه وعلى شريكه فيلزمه ذلك ولا يلزم شريكه
قال: [فإن كان ميتاً ورثه]
فإذا كان هذا المقرّ له ميتاً ورثه المقر، لأن الإرث يترتب على النسب وقد ثبت النسب فيترتب على ذلك الإرث.
-وصوّب صاحب الإنصاف: أنه لا يرثه للتهمة.
فلو أن هذا مجهول النسب لا يعرف نسبه له أموال كثيرة طائلة فلما فاق جاء رجل فقال هو ابني أو أخي فهل يقبل هذا الإقرار؟.
-كلام المؤلف يدل على أنه يقبل لأنه أثبت نسبه إليه ومن ثم يثبت إرثه.
-والقول الثاني: انه لا يرثه للتهمة وهذا أظهر لكن ليس على إطلاقه، فلو أن التهمة انتفت وكان الإرث عنده لا يستحق عنده إثبات النسب بل هو صادق في دعواه النسب لكن الإرث يرتب على ذلك فلا يمنع.
إذا كان الرجل غائباً وكان الإرث ليس بالكثير فادعى صاحب هذا المال أخ له فدعواه ممكنة والتهمة ضعيفة، فالمقصود أن الحكم يدور وجوداً وعدما مع التهمة فإذا كانت التهمة ظاهرة لم نقبل وإلا قبلنا.
ومثل ذلك الإقرار لوارث، فإذا انتفت التهمة فكذلك.
فلوا أن رجلاً له بنت وابن عم، فلو أنه أقرّ لابن عمه بشىء من المال لم يكن متهماً بخلاف ما لو أقر لابنته وهذا هو مذهب مالك في المسألة السابقة.
قال:] وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صحّ]
أي صح إقراراً
هذه المسألة بينّ فيها المؤلف أن الإقرار يصح بكل لفظ يدل عليه.
فإذا قال له:" لي عليك عشرة آلاف " فقال صدقت " فيكون ذلك إقراراً
أو قال:" أليس لي عليك عشرة آلاف " فقال بلى " أو كان من العامة فقال نعم، فإن ذلك يعتبر إقراراً.
***************
فصل
قال: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول: له على ألف لا يلزمني ونحوه لزمه الألف]
إذا وصل بإقراره ما يسقطه، بمعنى أقرّ لكنه وصل بإقراره ما يسقط الإقرار وينفيه.
فمثلاً: قيل له: أليس لفلان عليك ألف، فقال: له على ألف لا تلزمني.
(32/34)
________________________________________
أو قال: له عليّ ألف هي ثمن خمر، ومعلوم أن ثمن الخمر باطل.
أو قال: له على ألف هي حلوان كاهن ونحو ذلك فما الحكم؟
قال هنا: لزمه الألف، لأنه أقرّ بما يثبت الحق ثم ناقض نفسه فنفاه، وعليه فلا تقبل هذه الوصلة من الكلام إلا ببينة، فإذا قال: له عليّ ألف لا تلزمنى " فيقال له: أقم البينة على أن هذه الألف لا تلزمك وإلا فهي لازمة.
قال: [وإن قال: كان له على فقضيته فقوله مع يمينه]
إذا قال: كان له على الف ريال لكنى قضيته، فما الحكم؟
قوله الثاني المتصل بقوله الأول لا يناقض القول الأول فحينئذ لما كان هذا هو اقراره فإنا نصدقه في قوله لأنا لم نعلم ثبوت الحق إلا بإقراره فكان مؤتمنا على قوله فحينئذ يصدق قوله ويكون عليه اليمين، فنقول احلف أنك قد قضيته.
-وقال أبو الخطاب من الحنابلة: بل يكون مثبتا مقراً، ومدعياً فهو مقر بان عليه الفاً، ومدع انه قد قضى فتقول عليك البينه.
والراجح هو الأول لما تقدم فإن تعليله أقوى فإن هذا الرجل لم يثبت الحق إلا بإقراره مؤتمناً على قوله فلم تلزمه أكثر من إقراره لأنا إذا قلنا له هات بينة لزمه أكثر من إقراره.
إذن: الصحيح ما ذهب اليه الحنابلة في المشهور عندهم كما قرره المؤلف هنا.
قال: [ما لم تكن بينة أو يعترف بسبب الحق] .
إذا كانت هناك بينة تدل على الحق فلا يقبل قوله (إني قضيته) وذلك لوجود البينة.
وكذلك إذا كان اعترف بسبب الحق فقال:" له على عشرة آلاف ثمن مبيع لكني دفعتها له، فنقول له لما ذكرت سبب الحق، فحينئذ لا بد من بينة لأنه ذكر سبب الحق يوجب الحق فيكون كالبينة فعلى ذلك لا يقبل قوله:" فقضيته " إلا ببينة وقول آخر.
قال: [وإن قال: له علىّ مائة ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال، زيوفاً أو مؤجله لزمه مائة جيدة حالهّ]
قال: لفلان على مائه ثم سكت ثم قال: زيوفاً أي دراهم رديئة وهذا من أنواع الدراهم عندهم في السابق.
(32/35)
________________________________________
أو قال: " مؤجله " فانه يلزمه مائة جيدة حالة وذلك لأن هذا هو مقتضى اطلاقه، فإن قال:" له على مائه " فمقتضى هذا الإطلاق إنها حالة وإنها جيدة وأما الرابع الذي ذكره وهو قوله:" زيوفاً أو مؤجلة " فهو رافع منفصل فلم يغير من الحكم شيئاً.
قال: [وان أقر بدين مؤجل فأنكر المقرّ له الأجل فقول المقر مع يمينه]
هذه كالمسألة المتقدمة
قال رجل: لفلان علىّ مائه ألف ريال إلى سنة – فقال المقر له قد اثبتّ على نفسك الحق لكنها ليست إلى سنة بل هي حالة الآن فاحضر البينة التى تدل على أنها مؤجلة.
فنقول له: هذا المقر مؤتمن على قوله قد أقر بنفسه فلم يلزمه أكثر من اقراره وعليه فالقول قوله مع يمنيه.
قال: [وإن اقر أنه وهب أو رهن أو قبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار وسأل إحلاف خصمه فله ذلك] .
معلوم أن من وهب انساناً شيئاً فإنه لا يلزم إلا بالإقباض كما تقدم في مشهور مذهب أحمد.
فلو أن رجلاً أقر على نفسه أنه قد وهب زيداً داره وأقبضه إياها أو قال وهبته عشرة آلاف وأقبضه إياها ثم لما أتى الى القاضى، قال نعم أنا قد وهبته لكني لم أقبضه.
فنقول له: إنك قد أقررت فيقول: إني إنما أقررت لجريان العادة بذلك، فإن الكثيرين في مسألة الهبة ان يقر بالإقباض الواهب لتنقطع علاقته بها وإن كان لم يقبض حقيقة فلجريان هذه العادة نقول: حلفوا خصمى، فإن حلف أني قد اقبضته فهي له، فهل نحلفه؟
الجواب: نعم نحلفه لجريان العادة بمثل هذا أي بالاقرار بالهبة مع عدم الإقباض.
إذن: العادة تصدقه في دعواه وحينئذ نحلف خصمه.
فان حلف أنه اقبضه أخذ الهبة.
وان لم يحلف فحينئذ نرجع اليمين الى الأول لأنه منكر للإقباض.
كذلك في ثمن المبيع والرهن.وثمن المبيع هذه تقع كثيراً.
(32/36)
________________________________________
فالآن كتابة العدل لا تكتب الدار أو الأرض حتى يثبت لهم أن الثمن قد قبض، فيتبايع اثنان على أرض – مثلا- بثمن قدره عشرة آلاف ريال، وقالوا: نريد أن نقرها باسم المشترى عند كتابه العدل، فلما ذهبوا إلى كاتب العدل قال: صاحب الدار: أقر أنى أخذت الثمن كاملاً.
فلما كان بعد زمن أنكر المشترى أن تكون هذه الأشياء مجرد أشياء رسمية وقال: أنا قد أعطيتك حقك وأنت قد أقررت بذلك عند كاتب العدل،فذهبا إلى القاضي، فهل يستحلف القاضى الخصم على أنه قد أقبضه الثمن فيقول للمشترى إحلف أنك قد أعطيته الثمن؟
الجواب: نعم نستحلفه، فإن حلف وإلا رجعت الثمن على المدعي الذي هو المقر.
إذن: العادة جارية بمثل هذا أي بأن يقر بالقبض أو الإقباض لمصلحته، فالعادة جارية بهذا قديماً وحديثاً.
ولذا فان هذا الإقرار لا يحكم عليه به حتى يحلف الخصم.
قال: [وإن باع شيئا أو وهبه او أعقبه ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله] .
رجل قال: من يشترى هذه السيارة، فقال: رجل آخر، أنا اشتريها فاشتراها بعشرة آلاف، فلما أخذ البائع العشرة آلاف قال: هذه ليست سيارتي وإنما سيارة زيد من الناس فما الحكم؟
الجواب: أنه لا يقبل قوله لأن إقراره في حق غيره والإقرار حجه قاصرة.
قال: [ولم ينفسخ البيع]
لأنه قد توفرت شروطه، والإقرار هنا لا يقبل وعليه فالبيع صحيح.
قال: (ولا غيره)
كالعتق – فلو أن رجلاً اعتق عبداً، ثم قال: (هذا العبد ليس ملكاً لي) أو وهب داراً وقال: هي ليست ملكاً لي / فهل يبطل العقد وهل تبطل الهبة؟
الجواب: لا يبطل العتق ولا الهبة كالبيع.
قال: [ولزمته غرامته] للمقرّ له.
فنقول: أنت تقول أن السيارة لزيد فاذهب إلى زيد فأعطه حقه وهو قيمة هذه السيارة
لكن إن أحضر بينة أنها ليست له، فهل ينفسخ البيع بذلك؟
الجواب: نعم ينفسخ البيع بذلك ولذا قال:
[وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد وأقام بينة قبلت]
(32/37)
________________________________________
للبينة.
قال: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قد قبض ثمن ملكه لم يقبل منه]
رجل قال: من يشترى سيارتى هذه؟ أو من يشترى داري هذه؟
ثم اشتراها رجل، ثم أقام البائع بينة بأن هذه السيارة أو الدار ليست له فهل تقبل هذه البينة أم لا؟
الجواب: لا تقبل لأنه مكذب لها لأنه قال:" من يشترى سيارتي هذه ".
ومثل ذلك: لو باع سيارة ثم قال قد قبضت ثمن ملكها ثم بعد ذلك أقام بينة أنها ليست له، فإنها لا تقبل منه البينة لانه مكذب لها.
فصل
هذا الفصل في الإقرار المجمل.
والإقرار المجمل هو الإقرار غير المفسر وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على استواء.
قال: [إذا قال له: عليّ شًئأ أو كذا قيل له: فسره]
اذا أقره عند القاضى ان لزيد عليه شئ او كذا وكذا فما الحكم؟.
فإنه يطالب بتفسيره.
إذن: يقبل إقراره المجمل لكن لا يمكن القاضي أن يحكم بذلك فلا يتأتى الإلزام لأنه مجهول.
فيقال له: فسره – لأنه إقرار منه فلم يعلم تفسيره إلا من جهته
قال: [فان أبى حبس حتى يفسره]
لحق الآدمي
قال: [فإذا فسره بحق شفعة أو بأقل مال قبل]
كأن يقول له علي ريال واحد أو بحق شفعه فإن ذلك يقبل.
قال: (وإن فسره بميتة أو خمر أو قشر جوزه لم يقبل)
أو قال له على حبة شعير أو حبة حنطة أو شطر تمر فلا يقبل لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به.
-لكن قد يكون بعضه يجرى العادة به في بعض الأزمان كالتمرة يمكن أن يقرّ بها في وقت مجاعة لكن في غير مجاعه لا يمكن الإقرار بها.
إذن: لا بد أن يفسره بما تجرى العادة بالاقرار به.
أما لو قال: حقه علي رد السلام عليه أو تشميته إن عطس ونحو ذلك أو تشييع جنازته إن مات فلا يقبل منه ذلك لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به.
قال: [ويقبل بكلب مباح نفعه]
لأنه واجب رده فهو حق، والكلب المباح ككلب صيد أو كلب ماشيه أو نحو ذلك.
قال: [أو حد قذف]
(32/38)
________________________________________
-قال: حقه عليّ أن أجلد ثمانين سوطا لأني قد قذفته، فيفعل ذلك، لالأنه حق وهو مما يقّر به في العادة.
قال: [وإن قال: له عليّ ألف رجع في تفسير جنسه اليه]
فإذا قال ولزيد علي ألف،فيقال من ماذا؟ ألف دراهم أو ألف دنانير أو ألف من الثياب أو من القمص فيرجع بالتفسير أليه.
قال: [فإن فسره بجنس واحد]
كأن يقول: له عليّ ألف درهم قبل ذلك لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل قوله.
قال: [أو بأجناس قبل منه]
كأن يقول: له عليّ خمسمائة درهماً وخمسمائة ديناراّ فيقبل ذلك.
قال: [وإن قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية]
لأن الذي بين الدرهم والعشرة ثمانية دراهم.
قال: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة لزمه تسعة]
والرواية الثانية، أن تلزمه عشرة لأن الغاية تدخل في المغيّا لأن العشرة من جنس الدراهم وهذا أظهر.
قال: [وان قال: له عليّ درهم أو دينار لزمه أحدهما]
إذا قال: له عليّ إما درهم أو دينار فيلزمه أحدهما فنقول لا بد من التعيين لأن القول قوله.
-وهنا المؤلف قد أجرى هذه الإقرارات على اللغة والصحيح أجراؤها على العرف كما قرره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.
فألفاظ الناس تجرى على أعرافهم وعاداتهم.
فنحن في عرفنا إذا قال: له على ألف فإنه يريد ألف ريال.
وإذا قال له علىّ ما بين عشرة آلاف الى مائة ألف فهو لا يريد تسعين الفاً، وإنما يريد إما عشرة أو عشرين أو أربعين أو خمسين أو نحو ذلك، هذا في عرف الناس.
قال: [وإن قال: له عليّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص خاتم ونحوه فهو مقر بالأول]
لأن هذا هو مقتضى لفظه.
إذا قال: لزيد عليّ سكين في قراب " وهو ما تدخل فيه السكين " فإنه يلزمه السكين فقط.
-وكذلك إذا قال: له عليّ فص في خاتم فإنه يلزمه الفص لا الخاتم.
وكذلك إذا قال: له عليّ تمر في جراب فإنه يلزمه التمر لأن هذا مقتضى لفظه.
(32/39)
________________________________________
لكن لو قال: له عليّ سيف في قراب " فيلزمه القراب لأن السيف في العادة لا يخرج من قرابه إلا عندما يراد للضرب.
أما السكين فإنها توضع في أكثر الأحوال بلا قراب لذلك لو قال: له عليّ خاتم فيه فص فإنه يلزمه الخاتم والفص لأن هذا هو مقتضى لفظه.
والله سبحانه وتعلى اعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
وبهذا نختم شرح الكتاب
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
(32/40)
________________________________________