الكتاب : شرح زاد المستقنع
المؤلف : محمد بن محمد المختار الشنقيطي
مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net
[الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 417 درسا]
الولد للفراش وللعاهر الحجر
السؤال
في اختصام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعبد بن زمعة في الغلام: هل الحكم بالغلام لـ عبد بن زمعة لم يبعد الشك، وذلك في قوله: (واحتجبي منه يا سودة) أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله ولهم فيها اختيارات، واختيار الوالد رحمه الله: أن مسائل النكاح أضيق من غيرها، فمسائل الفروج والمحرمية ونحوها مما يتبع حكم النسب واللحوق يحتاط فيها، فقد يُبنى على الظن، وقد يعمل بالشكوك ويحتاط فيها صيانةً للأبضاع.
ومن هنا لما جاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنها أرضعت الزوج وزوجته وبينت له، فانتشر بين الناس، فجاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي له من هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل)، مع أن (قد قيل) صيغة تمريض، لكنه بنى عليها عليه الصلاة والسلام كما في الحديث في صحيح مسلم وغيره: (كيف وقد قيل)، فأعمل القيل وأعمل التهمة.
وكذلك في مسألة سعد وعبد بن زمعة رضي الله عنهما، خاصةً وأن الوطء كان في الجاهلية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعمل الأمرين، أعمل الفراش لقوله: (الولد للفراش)، فهذا يقتضي اللحوق ويكون لـ عبد بن زمعة؛ لأن الفراش فراش أبيه، والزنا وقع من أخي سعد وقد عهد إليه أن هذا الولد ولده، وأنه قد زنا بها، فنظر إلى وجود الشبه من أخي سعد ونظر إلى وجود الفراش، فأعطى كلاً منهما حظه، وبني الحكم على مراعاة الأمرين وعلى وجود المرجح وإن كان الأصل في الشريعة أن المسائل في الزنا مثل النسب وأحكام الولد تابعة للفراش، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
فهذا كله من الجمع بين الظنون، خاصةً إذا لم يوجد المرجح، لكن قد يستثنى منها مسائل؛ مثلاً: لو وجد المرجح ودلّ الدليل على ترجيح أحد الاحتمالين وجب العمل به، وإذا لم يوجد المرجح من المرجحات وجود القاصد.
ولذلك نص العلماء رحمهم الله: لو أن رجلاً تزوج امرأة وكانت قد حملت من الزوج الأول وتأخر حملها، وظن أنها ليست بحامل وهي حامل، فلما وطئها الثاني ظهر حمل وتبين أن هناك حملاً من الأول، فاختلط الماءان، فهل يلحق بالأول أو بالثاني؟ الأول الأصل أن الفراش فراشه، والثاني أن الأصل طارئ، وهذا يسمونه تعارض الأصل القديم والجديد.
فالأصل القديم يدل عليه أن الولد جاء قبل المدة التي في مثلها يكون الحمل، والثاني يقويه أن الفراش فراشه؛ لأنه تزوجها وأصبحت زوجةً له، ومن كانت المرأة فراشاً له، فكل ما تلده تابع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش)، ففي هذه الحالة لما كانت مدة الحمل قصيرة، لا يمكن لمثلها أن يحسب التخلق، فالغلام للأول من حيث الحكم، لكن لو حصل اشتباه فيستعان بأهل الخبرة وهم القافة، فيلحقونه بأقواهم شبهاً به.
ومثل ذلك: لو أن رجلاً سافر مع رجلٍ آخر وكل منهما معه زوجته، فجاء أحدهما ووطئ زوجة الآخر ظناً منه أنها زوجته، فما الحكم في هذا الولد، هل يكون الولد له أم لزوج المرأة؟ يرجح بالقيافة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقيافة وسيأتي بيان هذه المسائل إن شاء الله، أو بيان جمل منها إن شاء الله في أحكام النسب والله تعالى أعلم.
(307/14)
________________________________________
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان الأول للجمعة
السؤال
هل الخروج بعد الأذان الأول من يوم الجمعة يشمله النهي أثابكم الله؟
الجواب
الأذان الأول يوم الجمعة أذان شرعي، ولا يجوز لأحدٍ أن يتكلم فيه بأي وجهٍ كان، فهذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه أذان شرعي قضى به خليفة راشد أمرنا باتباع سنته، وانعقد إجماع الصحابة كلهم والأمة كلها على العمل به.
ومن قال بأن هذا الأذان بدعة فقد أخطأ كائناً من كان؛ لأننا لا نستطيع أن نرد هذا الإجماع، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد، ولا يمكن أن نرد الإجماع، فلا يتكلم في هذا الأذان.
ولو قال قائل: وجدت الآن الأجهزة والآلات -مكبرات الصوت- فهذا يُرد عليه بأنه في الزمان القديم كانت هناك قرى صغيرة لا يحتاج إليها الأذان الأول، ومع ذلك فالسلف لم يفرطوا فيه، وأتحدى أن يوجد واحد من علماء السلف ومن بعدهم ذكر أن هذا الأذان بدعة؛ لأنه ليس من السهولة بمكان أن نبدع سنة راشدة، وأن نقول إن هذه الأمة كلها على ضلالة، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، وإنما أقصد أن هذا القول لا يجوز لمسلم أن يقول إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه يرد سنة راشدة أجمعت الأمة كلها على قبولها والعمل بها، وإذا قال: إن الزمان اختلف نقول: إن هذا باطل؛ لأن العلماء رحمهم الله وأئمة الإسلام كلهم قبلوا هذا الأذان وما فرقوا بين القرى الصغيرة والكبيرة.
والقرى الصغيرة التي كانت أيام السلف ليست بحاجة إلى هذا الأذان، وإنما احتاجه عثمان لما كبرت المدينة، وهم يقولون: احتاجه لما كبرت المدينة، فلما زال السبب أصبح بدعة.
وأوصي طلاب العلم أن يتقوا الله عز وجل وأن لا يتعصبوا إلا للحق؛ لأن هذا أمر ليس بالسهولة، ومشايخنا كانوا يشددون في هذا الأمر، ويضيقون على أحد أن يتكلم في هذه المسألة؛ لأنها مسألة إجماعية، ولا يعرف عن أحد من أئمة السلف ولا من الخلف التابعين لهم أنهم قالوا: إنه بدعة، والبدعة أمرها عظيم، ومعناها أن من يؤذن آثم، والمسجد الذي أذن فيه مسجد بدعة، والمصلون الساكتون ساكتون عن بدعة، إلخ.
فقول بدعة ليست بالهينة، وينبغي لطالب العلم أن يحذر.
وعلى كل حال: فالأذان الأول يعتبر سنة كما ذكرنا، فللعلماء فيه وجهان: بعض العلماء يقول: يطرد فيه حكم الأذان مطلقاً، وإذا قلت باطراده فإنها تتفرع عليه مسائل: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الخروج بعد الأذان)، فلا يجوز أن يخرج، على ظاهر هذا الحديث؛ لأنك احتسبته أذاناً شرعياً، وإن قلنا: إنه آخذ حكم الأذان، فيجوز أن يصلي بعده الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وقصد أنه بعد الأذان تفتح أبواب السماء، وهذا مطلق، ولذلك قال بعض العلماء: يشمل هذا الأذانَ الأولَ والثاني من الفجر، فإن الأذان الأول والثاني تستحب بينهما الصلاة، وهو داخل في هذا العموم.
ومن أهل العلم من قال: يقال إنه أذان شرعي؛ لكن لا يأخذ وصف الأذان من كل وجه، فلا يتنفل على قصد بين كل أذانين، وإن كان التنفل بين الأذان الأول والثاني جائزاً عند الشافعية، كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري أن من الشافعية رحمهم الله من قال: يشرع أن يتنفل قصداً لما بين الأذانين، وهناك فرق ما بين القصد وبين كونه يتنفل نافلةً مطلقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه (صلى ثم جلس وأنصت)، فأخبر أن الذي خرج للجمعة جلس يصلي ثم جلس ينصت للخطبة.
والوقت الذي قبل الزوال يوم الجمعة محلٌ للصلاة بإجماع العلماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا طلعت الشمس فصلِّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار، ثم أمسك عن الصلاة ... )، هذا حديث صحيح، يدل على أن ما بين طلوع الشمس وبعد ارتفاعها قدر رمح إلى الزوال محلٌ للصلاة حتى يدل الدليل على المنع والتحريم، فلو صلى بين الأذان الأول والثاني من الجمعة؛ فإن الأذان الثاني لا يكون إلا بعد الزوال، فقد وافقت صلاته المحل المأذون به شرعاً.
ولا يقال: إنه بدعة، فليس هناك أحد من العلماء قال إنه بدعة، وأنا أقول هذا عن علم، والذي يأتيني بأحد من أئمة السلف ودواوين العلم المتقدمين أنه يقول: الصلاة بين الأذان الأول والثاني بدعة، فإني أعتبره قد أهدى إليَّ هديةً عظيمة، ومستعد أن أرجح عن هذا القول، وهذا أمر لا أعرفه، ولقد تعبت كثيراً كي أجد عالماً واحداً يقول: الصلاة ما بين الأذان الأول والثاني بدعة، فما وجدت أحداً يقول بهذا القول، وأقولها أمانةً وإنصافاً؛ لأن هذه مسئولية وأمانة، الأذان الأول والثاني بينهما صلاة بعموم الأحاديث الواردة في الصلاة فيما بين طلوع الشمس وزوالها، وهي أحاديث صحيحة لا غبار عليها، فإذا جئت تمنع من الصلاة حَرَّمْت، وإذا قلت: إنها بدعة أَثَّمْت، ومن يصلي في هذا الموضع أثم، إنما الذي ضُيِّق فيه أن يعتقد لهذا الوقت مزية الفضل، فإذا اعتقد ذلك فإنه يُمنع منه.
أما لو أنه أخذ بقول من يقول: (بين كل أذانين صلاة)، فقد تمسك بحديث نبوي، وبعموم ثابتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى كل حال: المسألة محتملة، ولا ينكر على من فعل هذا؛ لأن له وجهاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أذن المؤذن الأذان الأول فلا يخرج إلا إذا وجدت الحاجة والضرورة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(307/15)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [1]
من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده وعلمه بما يحصل بين الزوجين من خلاف بديهة أن سن لهم سنناً، ووضع لهم قوانين بها يتلافى الزوج أخطاءه ويحاسب نفسه إن كان ظالماً لزوجته، والعكس إن أساءت الزوجة زوجها فإنها تحاسب نفسها، وتحاول أن تغير من أخلاقها مع زوجها.
ومن هذه السنن التي سنها الله سنة الطلاق والعدة المحتومة بعده، والرجعة أثناء العدة إن أراد الزوج أن يردها أو أرادت أن ترجع إليه تائبة نادمة.
(308/1)
________________________________________
الرجعة تعريفها مشروعيتها الحكمة منها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالرجعة في لغة العرب: مأخوذة من قولهم: رجع الشيء يرجع رجوعاً، والرجعة المرة الواحدة من الرجوع، وأصل الرجوع في لغة العرب: العود إلى الشيء، يقال: رجع إلى بلده، أو رجع المسافر من سفره إذا عاد، ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة:83].
فالمقصود: أن الرجوع هو العود.
وأما في اصطلاح العلماء رحمهم الله؛ فقد عرفها بعض أهل العلم بقولهم: عود المرأة المطلقة إلى العصمة من دون عقد، فالرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، وهذا الطلاق الذي تقع الرجعة بعده يشترط فيه أمور ينبغي توفرها للحكم بكونه طلاقاً رجعياً.
وقد تقدم الإشارة إلى جملة من تلك الأمور، وسيبين المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بارتجاع المرأة.
والأصل في مشروعية إرجاع المرأة بعد الطلاق دليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب: فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبين سبحانه وتعالى حكم رجوع المرأة بقوله: (فإمساك بمعروف) أي: بعد الطلاق، (أو تسريح بإحسان) إذا كان لا يرغب في المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً.
كما دلت هذه الآية الكريمة على المرأة التي يصح ارتجاعها، وهي التي طلقت الطلقة الأولى أو الثانية، بشرط أن يكون قد دخل بها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فبيّن سبحانه وتعالى أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول أنه لا عدة عليها.
وعلى كل حال فدليل القرآن واضح في الدلالة على مشروعية ارتجاع المرأة المطلقة، ولذلك قال سبحانه في سورة الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2].
فدلت هذه الآيات الكريمات -آية البقرة وآية الطلاق- على مشروعية ارتجاع المرأة.
وأما دليل السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح حينما طلق امرأته وهي حائض؛ قال لوالده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر) الحديث.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) يدل دلالة واضحة على أن الرجعة مشروعة، ومن هنا أخذ بعض العلماء وجوب ارتجاع المرأة المطلقة طلاقاً بدعياً في الحيض كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.
وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة رضي الله عنها واختلف في إسناده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم أتاه جبريل وقال له: إنها صوّامة قوّامة فارتجعها) فأمره بارتجاعها، فعلى القول بثبوت هذا الحديث -وقد حسن بعض العلماء إسناده، ومنهم من صححه لغيره- تصبح السنة دالة بالقول والفعل، بالقول في حديث ابن عمر في الصحيح، وبالفعل بهذا الحديث.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية ارتجاع المرأة.
والرجعة بعد الطلاق فيها حكم عظيمة، فهي من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده وتيسيره لخلقه، وذلك أن الطلاق قصد منه إصلاح بيت الزوجية؛ لأن الرجل إذا طلق امرأته لا بد في الغالب أن يطلقها لسبب، وهذا السبب إما أن يكون ناشئاً منه أو ناشئاً من المرأة أو ناشئاً من الطرفين.
فإذا طلق المرأة لعيب فيها، أو عيب فيه، أو فيهما، فإنه يدركه الندم ويدركها الندم، وربما يحتاج إلى تلافي وتدارك ما فات، فشرع الله الرجعة لكي يعود الزوجان إلى حياة أفضل من حياتهما فيما قبل، ففيها حكم عظيمة، إذ بها يستطيع الزوج أن يرد زوجته فيجبر الكسر الذي وقع بسبب الطلاق.
وانظر إلى حكمة الله جل جلاله، وعلمه بخلقه سبحانه وتعالى، وكمال تشريعه؛ أن جعل الطلاق ثلاثاً، فالطلقة الأولى ربما كانت بسبب أخطاء من الزوجة، بحيث لو أخطأت المرأة وطلقت، ثم أخطأ الرجل وطلق مرة ثانية، فإنه حينئذٍ يتلافى كل منهما الخطأ؛ لكن بعد هذا كونه يتلافى خطأه وتتلافى هي خطؤها فيحتاجان إلى معين أجنبي، فإذا طلق الطلقة الثالثة وكان الخطأ منه، فإن الله لا يحلها له ولا يبيح له رجعتها حتى تنكح زوجاً أجنبياً، فيتقطع قلبه حسرة ويتألم ويحس بخطئه، ويشعر بقيمة الطلاق، بحيث لو تزوج امرأة ثانية لم يمكن أن يعود إلى الخطأ، ولو أنها طلقت وانتظرها حتى طلقت من زوجها الثاني وحنّت إليه، فإنه يعود إلى حال أفضل وأكمل.
فكانت الطلقة الأولى والثانية رجعيتين، لكن الطلقة الثالثة ليست برجعية؛ لأن الطلاق إما أن يكون باستثارة من الزوجة أو يكون باستعجال من الزوج، وحينئذٍ أعطي الطلقتين: الطلقة الأولى أن يكون الخطأ منه، والطلقة الثانية أن يكون الخطأ منها، فإذا تكرر خطؤه مرتين أدب بالزوج الأجنبي، وإذا كانت المرأة هي التي آذت الزوج وأضرت به حتى طلقها الطلقة الأولى، ثم لم تتأدب وطلبت الطلقة الثانية أدبها الله عز وجل بالطلقة الثالثة، فإنها ستذهب وتعاشر غيره، فإما أن تلتزم الأدب وتحسن القيام على بيت الزوجية وتجده أفضل من الأول فتعيش معه حياة سعيدة، ويعوضها الله عز وجل، وتترك الخطأ وتتجنب استثارة الأزواج، وإما أن ينكد عليها الزوج الثاني ويريها فضل الزوج الأول، فيحصل الطلاق، وتعود إلى الأول بأحسن حال مما كانت عليه.
وهذا كله مبني على حكم عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فشرع الله الطلاق بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته.
والحكمة فيه كما ذكرنا: أن الله شرع الرجعة بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين، وجعل من الحكم في هذه الرجعة إصلاح ما كان من الخطأ، وعود كل من الزوجين إلى حياة زوجية أفضل.
(308/2)
________________________________________
يشترط لمراجعة الزوجة أن تكون مدخولاً بها وطلقت بلا عوض
يقول رحمه الله: [باب الرجعة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بارتجاع الزوج لزوجته.
وهذه الجمل من المسائل والأحكام ذكرها العلماء رحمهم الله بعد باب الطلاق، والمناسبة في هذا ظاهرة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق، فذكر المصنف رحمه الله لباب الرجعة بعد الطلاق ترتيب صحيح راعى فيه الوقوع، ولذلك يكاد يكون منهج العلماء قاطبة أنهم يذكرون أحكام الرجعة بعد باب الطلاق.
قال رحمه الله تعالى: [من طلق بلا عوض زوجة مدخولاً بها].
أي: لم يطلقها في خلع؛ لأن الخلع فيه العوض، فقصد بهذه الجملة أن يخرج طلاق الخلع؛ لأن الله شرع الخلع لكي يخلّص المرأة من زوجها إذا كرهته ولم تستطع نفسها أن ترتاح إليه، فلو كان طلاق الخلع يوجب الرجوع لذهبت الحكمة من مشروعية الخلع، ولأن المرأة قد افتكت من الزوج بالفدية، ولذلك سمى الله عز وجل الخلع فدية، والمال المدفوع وهو المهر فدية، قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فهي تخلّص نفسها خلاصاً كلياً، وبناءً على ذلك لا يحق له أن يرتجعها، ومن هنا انعقد قول جماهير السلف والخلف على أن طلاق الخلع لا رجعة فيه.
فقوله رحمه الله: [بلا عوض] أي: يكون الطلاق بلا عوض.
وقوله: [زوجة مدخولاً بها].
أي: يشترط أن تكون زوجة له، وقد تقدم أن الطلاق لا يقع إلا على الزوجة، وقوله (مدخولاً) صفة لـ (زوجة)، والزوجة إذا طلقت يشترط في كون طلاقها رجعياً أن يقع طلاقها بعد الدخول، فإذا كان طلاقها قبل الدخول لم يوجب الرجعة، والدليل على ذلك آية الأحزاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فنصت الآية الكريمة على أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول فإنه لا يحق للزوج أن يطالبها بالعدة، ولا تجب عليها؛ لأنه إذا كانت المرأة قد طلقت قبل الدخول فإنها تصير أجنبية بالطلاق، وتخرج من عصمته، ولا يحل له أن يعيدها إليه إلا بعقد جديد، فكل من طلق امرأة بعد أن يعقد عليها وقبل أن يدخل بها فإن طلاقه حينئذٍ يكون طلاقاً بائناً بينونة صغرى، لا يحل له أن يرد هذه الزوجة إلا بعقد جديد، وتكون أجنبية عنه.
قال رحمه الله: [أو مخلواً بها].
الخلوة: إرخاء الستر، فإذا دخل الرجل على امرأة بعد أن عقد عليها وخلا بها، أي: أرخى الستر عليهما، أو أغلق الباب عليهما، ففي هذه الحالة اختلف العلماء: فجماهير العلماء من السلف والخلف على أن المرأة التي خلا بها زوجها وثبت أنه لم يجامعها؛ أن حكمها حكم المرأة الأجنبية إذا طلقت، وحينئذٍ يكون طلاقها طلاقاً بائناً في قول جمهور العلماء.
إلا أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إذا خلا بها فإن الخلوة تأخذ أحكام الدخول، وحينئذٍ يكون الطلاق رجعياً.
وهذا القول ضعيف؛ لأنه مصادم لنص كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فقوله: (من قبل أن تمسوهن) الأصل أن المراد به الجماع بالإجماع، كقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فعبر بالمس، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يكني.
فالله عز وجل يعلم عباده الأدب، وحسن التحدث عن الأمور التي يستحيا من ذكرها، فقال تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] أي: من قبل أن تجامعوهن، فدل على أن مجرد الخلوة لا يوجب ثبوت الرجعية، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو القول الصحيح، والمصنف مشى على المذهب: أن الخلوة توجب الرجعة، وهو قول مرجوح ضعيف.
(308/3)
________________________________________
يشترط ألا تكون الرجعة بعد الطلقة الثالثة
قال رحمه الله: [دون ما له من العدد].
أي: فالشرط الأول: أن يطلق.
الشرط الثاني: أن يكون الطلاق بدون عوض.
الشرط الثالث: أن يكون العدد الذي طلقه لم يصل إلى الحد الأعلى، فلو طلق بالثلاث وهو الحد الأعلى من العدد فإنه لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولا يحل له ارتجاعها؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص في آية البقرة على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول الذي طلقها إلا بعد أن ينكحها زوج آخر، وذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
إذاً يشترط: أن تكون مطلقة، وأن تكون مدخولاً بها، وأن يكون الطلاق دون العدد الذي أعطاه الله عز وجل، وتقدم معنا أنه ثلاث للحر وطلقتان بالنسبة للعبد، على تفصيل وخلاف عند العلماء رحمهم الله.
(308/4)
________________________________________
الرجعة حق للزوج في العدة وإن كرهت الزوجة
قال رحمه الله: [فله رجعتها في عدتها ولو كرهت].
فله أن يملك ارتجاع هذه الزوجة في عدتها.
إذاً الحكم الأول: أن من حقه الرجعة.
الحكم الثاني: أن هذه الرجعة تختص بالعدة، فلا ينتظر حتى تخرج عليه عدتها، وسيأتي بيان العدد وأحكامها إن شاء الله تعالى.
فإذاً يحق له ارتجاعها بشرط أن تقع هذه الرجعة أثناء العدة، وقبل خروج المرأة من عدتها بوضع حملها إن كانت ذات حمل، أو بعدة الأشهر إن كانت آيسة أو صغيرة، أو بثلاثة قروء وهي الأطهار إن كانت من ذوات الحيض.
فإذا وقعت الرجعة أثناء العدة فإنه يمتلكها الزوج ولو كرهت الزوجة، والدليل على ذلك قوله تعالى في شأن المطلقات طلاقاً رجعياً: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فدلت هذه الآية الكريمة على أن من حق الزوج أن يرتجع زوجته.
ولكن اشترط سبحانه وتعالى أن يكون ارتجاع الزوجة للإصلاح وليس للإضرار؛ والسبب في ذلك: أنه كان بعض الناس قبل شرعية هذا الحكم يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلق المرأة ويتركها تعتد وقبل أن تخرج من عدتها يردها ثم يطلقها من جديد، ثم يتركها تعتد حتى إذا قربت من الخروج من عدتها ردها، وهكذا حتى تبقى كالمعلقة لا زوجة ولا مطلقة، كما قال تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].
وقد هدد بعض الصحابة زوجته بذلك، وقال: إني لا أدعك تحلّين لزوج من بعدي وأفارقك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك، ثم أطلقك حتى إذا قاربت الخروج من عدتك راجعتك إلى آخره؛ فأنزل الله تعالى آية البقرة بتشريع الطلاق ثلاثاً، وأن المرأة إذا خرجت من عدتها لم يملك الزوج إرجاعها كما في آية البقرة التي ذكرناها في شرعية الطلاق بالثلاث، فتضمنت أنه إذا خرجت المرأة من العدة فإن الزوج لا يملك إرجاعها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] فالظرفية في قوله: (في ذلك) أي: في مدة العدة التي عبر عنها قبل في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
الأمر الثاني: أنه يستحق الزوج إرجاع زوجته، بشرط أن يردها للإحسان لا للإساءة، كما ذكرنا في خبر الصحابي رضي الله عنه أنه أراد الإضرار، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231].
ومن هنا قسم العلماء الرجعة إلى: رجعة واجبة، ورجعة مستحبة، ورجعة محرمة.
فالذي يريد إرجاع زوجته: إما أن يجب عليه إرجاعها في قول بعض العلماء رحمهم الله، وإما أن يكون مستحباً له إرجاعها، وإما أن يكون محرماً عليه إرجاعها.
فأما بالنسبة لوجوب إرجاع الزوجة فمذهب طائفة من العلماء: أنه يجب على الزوج أن يراجع زوجته إذا طلقها في الحيض، وهو مذهب الحنفية والمالكية، فيرون أنه طلاق بدعي، وأنه خطأ، ولا يمكن إصلاح هذا الخطأ إلا بردها، قالوا: ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام: (مره فليراجعها) فإنه أمر، والأمر يدل على الوجوب، قالوا: فيجب عليه أن يراجعها.
الحالة الثانية: أن تكون الرجعة مستحبة وهي: إذا انتفت الموانع والدوافع، فإنه يستحب للإنسان أن يراجع زوجته المطلقة إذا غلب على ظنه أنها ستصلح الأحوال، وغلب على ظنه أن في ذلك خيراً للمرأة، فقالوا: الأفضل والأكمل أن يراجعها؛ لأن إرجاع الزوجة ربما يكون فيه الرفق بالأولاد، خاصة إذا كانت ذات أولاد وذرية، فإنه ربما لا تجد زوجاً من بعده، خاصة إذا كانت كبيرة أو ذهب جمالها، فإنه ربما بقيت عانساً، وقد لا يأمن عليها الوقوع في الحرام، فإذا علم الله بقرارة قلبه أنه يريد إرجاعها من أجل أن لا تتعرض للحرام، ويريد ارتجاعها رفقاً بأولاده ولطفاً بهم، فإنه قد فعل أمراً مستحباً، وعلى الله أجره وثوابه، وقد أحسن في ذلك.
وأما بالنسبة لتحريم رجوع المرأة فتحرم الرجعة إذا قصد الزوج منها أذية المرأة والإضرار بها وقال: أردها حتى أنتقم منها أو أوذيها، فإنه إذا ثبت عند القاضي بشاهدة الشهود أنه قال هذا الكلام، فمن حق القاضي أن يمنعه من ارتجاع زوجته؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] ومفهوم الشرط في قوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أنه لا حق لهم إذا كانوا لا يريدون الإصلاح.
كذلك أيضاً: إذا كان رجوع المرأة فيه شر وفساد، مثل أن تتعاطى المحرمات، أو تقع في الزنا فتخلط عليه نسبه، وتفسد عليه فراشه، ولم يعلم منها توبة، بل علمها فاسدة، وطلقها من أجل ذلك، فمثل هذه لا يجوز له أن يراجعها؛ لأنه إذا راجعها آذى أولاده وذريته، وأفسد فراشه ونسبه، فلا يحل له أن يتعاطى مثل هذه الأمور؛ لأن لأولاده وذريته عليه حقاً في مثل هذا، فلا يجوز له أن يعرّض نسبه لهذه المخاطر العظيمة، والشر والبلاء الكبير.
على كل حال فقد بيّن المنصف رحمه الله أنه يستحق الرجعة بهذه الشروط التي أشار إليها رحمه الله، فيزاد إليها شرط: قصد الإحسان والإصلاح؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228].
(308/5)
________________________________________
الألفاظ التي تقع بها الرجعة
قال رحمه الله: [بلفظ: راجعت امرأتي، ونحوه].
الرجعة تقع بأمرين: الأول: القول، والثاني: الفعل.
يحق للزوج أن يراجع زوجته بالقول، وهو أقوى ما يكون في الرجعة، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا تلفظ بلفظ الرجعة الصريح أنه مراجع لزوجته، ولا خلاف بين العلماء أن القول يوجب الرجعة.
ثانياً: تقع الرجعة بالفعل، ومن ذلك أن يجامع المطلقة أو يلمسها أو يقبلها أو ينظر إلى فرجها بشهوة، على تفصيل عند العلماء: هل يقصد الرجوع أو لا؟ سيأتي إن شاء الله.
وقوله رحمه الله: [بلفظ راجعت] أي: تقع الرجعة بلفظ: راجعت، وألفاظ الرجعة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: اصطلح العلماء رحمهم الله على تسميته باللفظ الصريح، وهذا النوع من الألفاظ إذا شهد الشهود أو سمعه القاضي من الزوج، حكم بكونه مراجعاً لزوجته ولو لم يلتفت إلى نيته، وهو أنه يقول: راجعتك أو أرجعتك، فإذا قال لها: راجعتك أو أرجعتك، وما اشتق منه مما يدل على الرجعة صراحة، حكم بكون المرأة قد رجعت إلى عشرة الزوج، فلو توفي بعد هذه الكلمة حكمنا بأنها رجعية وترثه، ويحكم لها بالأحكام الزوجية، ويجب عليها أن تعتد، شأنها شأن الزوجة.
القسم الثاني من الألفاظ التي تقع بها الرجعة: الألفاظ غير الصريحة، وهي ألفاظ الكناية، وهو أن يأتي بلفظ يحتمل أنه يريد الرجعة ويحتمل أنه لا يريد الرجعة، فيقول لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، فهذا يحتمل أنني رجعت عن طلاقك وأريد أن أرتجعك، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطلاق، ويحتمل قوله: الأمر بيني وبينك على ما كان، أي: لا زلت مطلقاً لك وباقياً على طلاقك، ولا أريد رجوعك إليّ، أو يقول: أنت مني على ما كنت من قبل، فيحتمل (من قبل) أي: من قبل الطلاق، ويحتمل (من قبل) أي: من قبل أن أكلمك، فلا زلت أكرهك ولا أريد رجوعك.
فهذه الألفاظ المحتملة إذا قال لها: الأمر بيني وبينك على ما كان، أو يقول لها: عدت إلى حالي الذي كنت عليه، فنسأله: هل قصدت الرجعة؟ فإن قال: قصدت رجوعها ثبت رجوعه، وإن قال: لم أقصد بهذا اللفظ رجوعها، فإنه لا يحكم بكونه مرتجعاً لها.
واختلف العلماء في قوله: (رددتك وأمسكتك) هل يعتبر مراجعاً لزوجته؟ فلو أن رجلاً طلق امرأته طلقة ثم قال لها: رددتك، أو قال لها: أمسكتك، ثم توفي، وشهد الشهود عند القاضي أنه قال: رددتك وأمسكتك، فهل يحكم بكونه مراجعاً لزوجته أو لا يحكم؟ قال بعض العلماء: رددتك وأمسكتك صريح؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229]، وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] وهذا يدل على أنه إذا قال لها: أمسكتك، فإنه يحكم بكونه مرتجعاً لزوجته.
وهذا القول فيه قوة، خاصة وأن دليل القرآن يشير إلى اعتباره، وأنه يحتمل بقوة رجوع المرأة.
وعلى هذا فإن الألفاظ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وفي الأصل قسمان: قسم الصريح والكناية، وقسم مختلف فيه هل هو صريح أو كناية، وإن كان يرجع إلى أحد الأمرين، فيصبح المجموع قسمين على ما ذكرناه.
وقوله رحمه الله: [بلفظ: راجعتك] هو اللفظ الصريح.
قال رحمه الله: [لا نكحتها ونحوه].
لو قال: راجعتك، أو قال أمام عدلين أو أمام أصحابه كلمة: راجعتك، ارتجعت زوجتي، رددتها، أمسكتها، فيستوي أن يقول لفظ الرجعة وهو لوحده، أو يقول بحضور الزوجة، أو يقوله في حال غيبتها، فالحكم واحد، إذا قال: أرجعتك، يخاطب الزوجة فإنها تثبت الرجعة، ولو قال: راجعت زوجتي، وهو جالس مع شخص، وبقي من عدة زوجته يوم واحد، أو اتصل على أبيها قبل انتهاء عدتها بيوم وقال: رجعت، أو رددت بنتك، فحينئذٍ تثبت الرجعة.
إذا تلفظ بلفظ الرجعة فسواء خاطب به الزوجة أو لم يخاطبها به فإنه يثبت له حكم الرجعة، أي: فلا يشترط في الرجعة أن يواجه الزوجة بها، ويستوي أن تسمع منه، أو يقول ذلك في حال غيبتها.
(308/6)
________________________________________
الإشهاد وحكمه في الرجعة
قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد على الرجعة].
لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله تبارك وتعالى بالإشهاد على الرجعة.
وهذا الإشهاد من حيث الأصل فيه حكم عظيمة؛ لأن المرأة إذا طلقت فإن هذا نوع من الانفصال، بحيث لو خرجت من العدة صارت أجنبية.
فإذاً: رجوعها إلى زوجها يترتب عليه أحكام من حلها وغير ذلك، وخاصة على القول الذي يقول: إن الرجعية أجنبية، يعني: لا تعتبر في حكم الزوجة، كما هو مذهب الشافعية وغيرهم.
وأيضاً يثبت بذلك أحكام: فلو أنه توفي فجأة، أو جاءته سكتة، أو جاءه حادث -والعياذ بالله- فالإشهاد فيه صيانة، وحفظ للحقوق، فلو أن رجلاً طلق امرأته ثم قال لرجل: راجعت زوجتي، ثم ركب سيارته وتوفي، أو جاءته سكتة في تلك الليلة ولم يصبح منها؛ فإنها زوجة، ويجب عليها الحداد، وحكمها حكم الزوجات، فكيف نثبت هذه الزوجية والكل يعلم أنها قد طلقت؟! فإذاً الإشهاد على الرجعة فيه خير للزوج والزوجة، وحفظ لحق الزوج، وحفظ لحق الزوجة.
ولذلك لو كان الزوج في مكة والزوجة بالمدينة، وقبل خروجها من عدتها بيوم أو أثناء عدتها قال لشخصين: اشهدا أني راجعت زوجتي، ثم سافر يريد أن يخبر زوجته ويردها إليه، فلما وصل إليها وجدها قد خرجت من عدتها، فإذا وجدها قد خرجت من عدتها فإنها ستنكر أن تكون زوجة له، وتقول له: يا فلان! طلقتني وخرجت من عصمتك بخروجي من عدتي، فأنت أجنبي مني وأنا أجنبية منك، فإنه لا يستطيع أن يثبت هذا إلا بالشهود، فإذاً يضيع حقه لو لم يكن مشهداً، ويضيع حقها أيضاً إذا توفي عنها إلا إذا كان مشهداً، فالشهادة لا شك أنها تحفظ الحقوق.
واختلف العلماء في الإشهاد على الرجعة: فمنهم من يقول: الشهادة على الرجعة واجبة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه ولا صارف له، وهو قول الشافعية وطائفة.
وقال بعض العلماء: الإشهاد مسنون كما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور.
(308/7)
________________________________________
الأسئلة
(308/8)
________________________________________
حرمة كتم الزوج مراجعته لزوجته
السؤال
الإشهاد ليس شرطاً في الرجعة، ولكن هل له أن يكتم رجعة زوجته؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالإشهاد ليس شرطاً لصحة الرجعة على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، حتى الشافعية الذين أوجبوا الإشهاد لم يقولوا: بأنه شرط في صحة الرجعة، فتصح الرجعة بدون إشهاد؛ ولكن يجب عليه ويأثم بتركه، ولذلك جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه لما طلق رجل امرأته وردها ولم يشهد بيّن أنه خالف السنة، وقال له: (طلقت لغير السنة، وراجعت لغير السنة فلا تعد).
على كل حال: إذا كتم الرجعة فإنها تضيع حقوق الزوجة، ولا يجوز للزوج أن يكتم هذه الرجعة، بل عليه أن يخبر ويبيّن؛ لأنها امرأة تحس وتتألم، وإذا كتم ربما وقعت في المحظور من أن تُنكَح من رجل وهي ذات زوج، ولذلك لا بد أن يبين، ومن هنا جاء عن السلف وأئمة السلف رحمهم الله التشديد في كتمان شهادة الرجعة، فلو قال للشهود: لا تخبروا أحداً أني راجعت زوجتي، فإنه إذا علم القاضي بذلك يعزره ويعزر الشهود، فلا يجوز كتمان هذه الشهادة؛ لأن الله يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] فأمر الله عز وجل أن تكون شهادة تامة كاملة قائمة لله عز وجل، وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى، وأمر الشهود أن يكونوا قوّامين بالقسط شهداء لله.
فإذا كُتمت الشهادة أو كتم الزوج رجعته لزوجته ضاعت الحقوق، ولا ينبغي مثل هذا لأنه منكر، وتضييع لحق الله عز وجل وحقوق عباده.
والله تعالى أعلم.
(308/9)
________________________________________
خروج المرأة المطلقة رجعياً من بيت الزوجية
السؤال
بعض النساء عندما يطلقها زوجها طلقة واحدة فإنها لا تجلس في بيت زوجها، بل تذهب إلى بيت أهلها، فهل يصح هذا الفعل، وخاصة إذا قصدت الزوجة من خروجها أن يهدأ الزوج ويذهب غضبه؟
الجواب
في الحقيقة ينبغي على العلماء وعلى طلاب العلم وعلى أئمة المساجد والخطباء أن ينبهوا الناس على هذه القضية، وأن يتواصى طلاب العلم بها، وهي قضية خروج المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية.
فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للزوج أن يطردها من بيتها، ولا يجوز لأبيها أو أخيها أن يأتي ويأخذها.
فلينبّه الناسُ على ذلك، فهذه مسئولية الخطباء، ويجب عليهم أن يبينوا للناس حكم الله في الطلاق، وأن يبينوا لهم السنة والبدعة، والأحكام المترتبة على هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان.
تفشى بين الناس كثيراً إلا من رحم الله؛ أن المرأة بمجرد ما يطلقها زوجها يأتي أبوها أو يأتي أخوها أو يأتي قريبها، فيأخذها، وقلّ أن تجد امرأة اعتدت عدة الطلاق الرجعي في بيت الزوجية، وهذا من المنكر العظيم؛ فإن الله يقول: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فهذه المرأة المطلقة طلقة أولى أو طلقة ثانية بعد دخوله بها لا يحل خروجها من البيت، ولا يجوز للزوج أن يطردها إلا في أحوال مستثناة.
والأحوال المستثناة: هي أن يكون الزوج شريراً عظيم البلاء ويغلب على ظنها أنها لو جلست لحصل ما لا يحمد، ففي هذه الحالة من حقها أن تفر من ضرره، خاصة إذا كان عنده أمور خطيرة، أو رجل شديد العصبية، وأنه ربما أضر بها إضراراً عظيماً، وربما ضربها، وربما يتعدى بها إلى القتل أو الإضرار بها، فحينئذٍ يجوز للوالد إذا خاف من هذه الأضرار، ولأقرباء الزوجة إذا خافوا من هذه المفاسد؛ أن يخرجوا المرأة من بيت الزوجية.
أما إذا كانت الزوجة لا تخشى الضرر العظيم الفادح والغالب على الظن وقوعه؛ فإنه لا يجوز إخراجها، ويجب عليها أن تبقى في بيت الزوجية، وأخوها ظالم وأبوها ظالم ووليها ظالم إن أخرجها، ومن أخرجها من بيت الزوجية فقد ظلم، وطيلة ما تعيش في بيت أخيها أو بيت أبيها أو بيت قريبها بعيدة عن بيت الزوجية؛ فإن هذه الأيام والليالي كلها إثم وحرج على من أعانها على هذا الخروج؛ لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا تعاون على الإثم وعلى العدوان، وتضييع لحق الله العظيم.
لأن الله لما جعل المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية فذلك لحكم عظيمة؛ فإنها إذا بقيت في بيت الزوجية حنّ كل من الزوجين للآخر، ولذلك قلّ أن تسمع اليوم رجلاً راجع زوجته وصلحت الأمور، لأنها بمجرد خروجها من بيت الزوجية تذهب إلى أهلها، فتفسد على زوجها، حتى ولو عادت مرة ثانية وهي صالحة؛ فوالله لو بقيت في بيت الزوجية لكان أصلح لها وأفضل.
فهذه أمور عظيمة، ولذلك لا يصلح الأزواج إلا بتفاهم الزوجين مع بعضهم، ولا يضر الزوجين شيء مثل دخول الطرف الأجنبي، حتى ولو كان الطرف الأجنبي أباً لها أو أخاً أو قريباً، فإن المرأة إذا بقيت مع زوجها استطاع كل منها أن يعرف كيف يحل مشاكل الآخر.
فهي إذا بقيت في بيت الزوجية أولاً: يستطيع الزوج أن يستخدم قوته في الصبر عنها حتى تتأدب إذا كانت هي التي أخطأت، فتراه يمر عليها، وتمر عليها الليلة تلو الليلة وهي في نفس البيت تعيش الذكريات القارسة المؤلمة، فتكتوي بنار الفرقة، والمرأة خلقها الله ضعيفة المشاعر، وجعل هذا الضعف كمالاً لها وجمالاً وجلالاً، وهذه المشاعر لا تكتوي بها عادة إلا إذا جلست قريباً من زوجها وهي تراه، لكن إذا ذهبت إلى بيت أبيها أو إلى بيت قريبها انشغلت مع بيت أبيها عن تحسس هذه الأحاسيس، ولذلك انظر حكمة الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ونسب البيوت إليهن، مع أنها بيوت الزوجية {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].
كما أن الزوجة تفر من بيت الزوجية إذا خشي الضرر، كذلك من حق الزوج أن يطردها وأن يخرجها من بيت الزوجية إذا كانت قد ارتكبت فاحشة مبينة كالزنا والعياذ بالله، أو كانت سيئة عظيمة الضرر؛ بأن تكون شريرة تستفزه، أو ربما تؤذيه، خاصة إذا كانت مسترجلة! ففي هذه الحالة من حق الزوج أن يطردها ويخرجها من بيت الزوجية، ويقول لوليها في هذه الحالة: تعال وخذ وليتك؛ لأن هناك فاحشة، سواءً كانت فاحشة باللسان أو كانت فاحشة بالجوارح والأركان.
فإذا كانت ذات فحش وأذية وإضرار بالزوج أو بقرابته، بحيث إذا طلقها قامت تسب أمه أو تسب والده، فإذا بقيت في بيت الزوجية والرجل ساكن مع والديه، فتطيل لسانها على أبيه وأمه، فمن حقه أن يطردها من بيت الزوجية ولو كانت في عدتها؛ لأنها أتت بفاحشة مبينة، وآذت وأضرت، مثل أن تقول لأمه: قولي له يردني، وتؤذيها وتضرها، وتزعجها وتقلقها؛ لكن لو جاءت بالمعروف وبكت عند أمه، وقالت: يا أم فلان قولي لفلان يراجعني، إني مخطئة إني كذا، فهذا شيء طيب، لكنها تأتي وتسبها وتشتمها وتؤذيها وتضرها وتضيق عليها، أو تضيق على والده وعلى قرابته، فإنه في هذه الحالة من حقه أن يطردها من بيت الزوجية، وليس لها حق في سكناها.
على كل حال: هذا الأمر ينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله، وأن نتبع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الحكم العظيمة أن الزوج يحنّ لزوجته إذا كانت في بيت الزوجية، والزوجة تحنّ إلى زوجها إذا كانت في بيت الزوجية، وتصلح الأمور وتهدأ، ولا شك أن الله حكيم عليم، ولذلك قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ونشهد لله أننا لا نعلم وأنه هو وحده سبحانه العليم الحكيم علام الغيوب، ونشهد أننا أجهل ما نكون إلا أن يعلمنا سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم! فلا شك أن لله الحكمة التامة البالغة في هذا الشرع الذي أوجب علينا في المطلقة طلاقاً رجعياً أن تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه.
فالواجب أن يؤمر الناس بهذا الأمر، وأن يبين لهم شرع الله، وأن يحثوا ويحضوا على ذلك.
والله تعالى أعلم.
(308/10)
________________________________________
عدم ثبوت الرجعة بلفظ (نكحتها)
السؤال
هل تثبت الرجعة بلفظ: نكحتها، أثابكم الله؟
الجواب
إذا قال: نكحتها، لم تثبت الرجعة؛ لأنه لا يدل على الرجعة لا صراحة ولا ضمناً، ومن هنا يفتقر هذا اللفظ إلى الدلالة، فلا تثبت الرجعة به في قول جمهور العلماء رحمهم الله.
والله تعالى أعلم.
(308/11)
________________________________________
عدد الطلقات التي يملكها العبد
السؤال
مر معنا أن العبد له رجعة واحدة، فما هو التفصيل في المسألة، أثابكم الله؟
الجواب
تقدمت هذه المسألة وذكرنا خلاف العلماء رحمهم الله في: هل للعبد أن يطلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؟ وهذا مما يسمى بتعارض العموم مع القياس، وهي مسألة أصولية تكلم عليها العلماء وأشرنا إليها.
العموم في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا عام شامل للحر والعبد.
وأما القياس: فإن الله عز وجل جعل الحد في الإماء والرقيق على النصف من حد الحر: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فجعل الحد على التشطير.
فجمهور العلماء رحمهم الله يرون القياس في هذا، وفيه أقضية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقوي هذا القياس على قول من يقول: إن قول الصاحب حجة، وهذا قول جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، حتى قيل: إنه لا مخالف في أن العبد يملك طلقتين ولا يملك ثلاثاً.
ومن تمسك بالقول بالثلاث فقوله له وجه، ومن تمسك باثنتين فقوله له وجه؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف، فالطلاق لا يشطر، فتمت له طلقتان؛ لأنه لا يصح أن يقال: له نصف الطلاق طلقة ونصف، ولا يصح أن يقال: له طلقة؛ لأن الطلقة ليست بنصف إنما هي ثلث، ولو قيل: طلقة ونصف، فالطلاق لا يتشطر بالإجماع من حيث الأصل العام، ولذلك لو قال لامرأته: طلقتك نصف طلقة، طلقتك ربع طلقة، أنت طالق ثمن طلقة؛ فإنها تطلق طلقة كاملة، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله وأئمة السلف والخلف رحمهم الله برحمته الواسعة.
والله تعالى أعلم.
(308/12)
________________________________________
حكم إخراج كفارة اليمين نقوداً
السؤال
هل يجوز إخراج كفارة اليمين نقوداً أم لا؟
الجواب
كفارة اليمين بيّنها الله تبارك وتعالى فهي تخييرية وترتيبية: تخييرية في عتق الرقبة، وإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فهو مخيّر بين هذه الثلاث، إن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم.
وترتيبية: أنه إذا لم يجد واحدة من هذه الثلاث ولم يستطع فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعات.
فهي تخييرية من وجه، ومرتبة من وجه، وليس فيها ذكر للنقود، ومن أخرج النقود في كفارة الأيمان فإنها لا تجزي؛ لأن الله أمر بالإطعام، والنقود غير الطعام، وقد كانت النقود موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فالكفارات التي سمى الله لا يجوز إخراج البدل عنها نقوداً في مذهب جمهور العلماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة النعمان عليه من الله تعالى شآبيب الرحمات والرضوان، حيث قال: إنه يجوز إخراج النقود عن الإطعام في مسائل الكفارة ككفارة اليمين، وكفارة الصيام ونحو ذلك، وهذا مرجوح؛ لأنه استدل رحمه الله بحديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصدقاً قال: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فانتقل إلى البدل، وهو الخميص والبيس وقال: (إنه أرفق)؛ قال فهذا يدل على جواز إخراج البدل في الصدقات الواجبة.
وهذا ضعيف؛ لأن حديث معاذ في الحقيقة ليس في الصدقات وإنما هو في الجزية، والجزية يجوز فيها إخراج البدل، فيجوز أن نخرج في الفدية الثياب وكل شيء له قيمة، وأن يخرج عدلها من النقود، فينبغي إعمال النصوص، فنعمل بما ورد مسمى في الصدقات والكفارات، فنتقيد فيه بالواجب.
فلا يجوز إخراج صدقة الفطر في رمضان إلا طعاماً، ولو جاء شخص وقال: إن الطعام يضيّع أو يباع، نقول: على الله الأمر وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الرضا والتسليم، ولنترك هذه الاجتهادات والآراء، ولنتمسك بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع احترام أهل العلم وتقديرهم وحفظ مكانتهم وجلالتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه.
وبالنسبة لقضية: لماذا لا تخرج النقود؟ أولاً: أن الأمر تعبدي.
ثانياً: أن النقود كانت موجودة والله لم يذكرها، ولو كانت جائزة لذكرها.
ثالثاً: كأن هذا يستدرك على الله ويقول: النقود أفضل، سبحان الله! النقود أفضل الآن دون زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟!! بالعكس: النقود أفضل الآن وفي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكون الله لا ينبه عليها ولا يأمر بها مما لا يدع لعاقل أن يشك في أن الإطعام مقصود.
رابعاً: أن الله لما قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] فهذا الإطعام فيه حكمة عظيمة؛ لأن الطعام لا يأخذه إلا المستحق، ولكن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق، ولذلك لو أخذت طعاماً في فدية أو كفارة فإنك تتعب حتى تجد المستحق الذي يأخذ منك، لكن النقود يأخذ منك الغني والفقير، ويأخذها كل شخص، ويدعي كل إنسان أنه مستحق لها، ففي هذا لا شك حكم عظيمة، ومن هنا لا بد من التقيد بالوارد.
والله تعالى أعلم.
(308/13)
________________________________________
جواز اعتبار الصغار والكبار من المساكين في الكفارة
السؤال
هل يعتبر في عدد كفارة اليمين الصغار من المساكين؟ بمعنى: لو أن إنساناً أعطى كفارته لأسرة عددها أكثر من عشرة كباراً وصغاراً فهل يجزئ، أثابكم الله؟
الجواب
نعم يجزيه إذا أعطاها للصغير والكبير، وبناءً على ذلك: لو كانت هناك أسرة تتكون من عشرة أنفس فيهم زوجان والبقية أطفال وأولاد، فإنها تجزيه عن كفارته، سواء أطعمهم أو كساهم للإطلاق في الآية.
والله تبارك وتعالى أعلم.
(308/14)
________________________________________
ضابط سفر القصر
السؤال
متى يكون القصر في الصلاة الرباعية؟ هل هو بمجرد النية في السفر أم بالخروج من المدينة؟
الجواب
نص الكتاب يدل على أن أحكام السفر لا تشرع ولا تكون إلا إذا تلبست بالسفر: أولاً: لدلالة لفظ السفر.
ثانياً: قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] والتعبير بـ (على سفر) يدل على أنه في حال السفر.
ثم قال تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101].
فإذاً: لا نستبيح ولا نستحل الرخص إلا إذا كنا على حالة سفر، فإذا كان الإنسان في بيته ونوى السفر فإنه لم يسافر حقيقة، والشريعة ترتب الأحكام على الباطن والظاهر، وترتبها على مجموع الأمرين، ففي السفر نشترط الأمرين: أن يكون حاله حال السفر، وهذا الظاهر.
وأن تكون عنده نية السفر.
ولذلك لو خرج من المدينة غير ناو للسفر فحاله حال المسافر؛ لأنه أسفر وخرج، ولكن يقصر؛ لأنه تحقق أحد الأمرين ولم يتحققا معاً، وكذلك النية، فمن وجدت فيه النية ولم يسافر لم نصحح له قصره.
فالذي عنده نية للسفر ولم يسافر جزماً فليس بمسافر، وإلا لصح أن يقال: إنني لو نويت الحج هذه السنة أستبيح القصر منذ أن أبقى ناوياً لهذه النية، ثم يرد السؤال: متى تتخيل هذه النية؟ فيدخل الإنسان في إشكال لا ينتهي.
هذه مذاهب شاذة وضعيفة، وإذا قلنا: مذاهب شاذة، فالتعبير بالشذوذ عند أئمة الفقه يدل على أنها لا يؤتى بها ولا يعمل، والله عز وجل قد نص على أن الرخص لا تستباح إلا على السفر، فإذا أراد أن يفطر وهو صائم فلا يفطر وهو في بيته، وإنما يفطر بعد أن يخرج.
وما ورد من أفعال الصحابة فقد أجيب عن ذلك من أن قوله: (من السنة) في حديث أنس وأبي بردة؛ أجيب عنه: أن الصحابي ربما فهم ما ليس بسنة سنة، حتى إن الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله مع أنه يأخذ بظواهر النصوص قال: إنه ربما فهم الصحابي ما ليس بسنة سنة.
ولذلك نبقى على نص القرآن الواضح الدلالة، وهو أنه لا يجوز لك أن تقصر الصلاة، ولا يجوز لك أن تفطر في سفرك إلا إذا كنت على سفر.
وبناءً على ذلك: إذا خرجت من آخر عمران المدينة فلك أن تستحل رخص السفر، فيجوز لك الفطر، ويجوز لك قصر الصلاة، فلو أذن المؤذن وأنت في طرقات المدينة ولم تخرج من آخر عمرانها فلست على سفر، ولم تضرب في الأرض بعد، فلم يتحقق الشرط الذي ذكره الله عز وجل، ولا يجوز لك القصر في هذه الحالة، وتجب عليك الصلاة رباعية فتصلي الظهر أربعاً، فلو أذن عليك الظهر وأنت قد حزمت أمتعتك وخرجت من بيتك ومشيت، ولكن بقي عمران المدينة لم تخرج منه بعد، فإنك تصلي أربعاً في الظهر والعصر والعشاء.
لكن لو أنك وضعت متاعك وركبت سيارتك وخرجت من آخر المدينة وبمجرد خروجك ولو بدقيقة واحدة أذن الظهر، فلك أن تصلي الظهر ركعتين، ويجوز لك أن تؤخرها إلى وقت العصر، أما لو أذن عليك قبل خروجك فيجب عليك أن تصليها في وقتها، ولا يجوز أن تؤخرها وتقول: أنوي جمعها؛ لأن الحضرية لا تجمع مع السفرية على الأصل الذي بيناه في مسائل الجمع بين الصلاتين للسفر.
والله تعالى أعلم.
(308/15)
________________________________________
حكم طواف الوداع للمعتمر والحاج
السؤال
من أقام بمكة بعد حجه ثم اعتمر، فهل يطوف الوداع لحجه أم لعمرته، أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن طواف الوداع يشرع في الحج، وليس بمشروع في العمرة ولا بواجب، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في الحج ولم يأمر به في العمرة؛ والسبب في ذلك: أنهم كانوا إذا طاف طوافوا الإفاضة في الحج مكثوا أيام التشريق بمنى، ثم يسافرون إلى ديارهم من منى، فصار هذا جفاءً للبيت، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) فهذا يدل على أن طواف الوداع شرع من أجل الحاج، وأما المعتمر فأصح أقوال العلماء: أنه لا يجب عليه طواف الوداع.
والذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر قالوه بالقياس، قالوا: إن العمرة كالحج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) المراد به مقام التروكات وليس في مقام الأفعال؛ لأن أصل الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة الرجل المعتمر من الجعرانة: (أنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة عليها طيب، قال: يا رسول الله! ما ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يغط كغطيط البكر صلوات الله وسلامه عليه، فلما سري عنه، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) والسياق سباق محكم، فلا يؤتى ويقتطع في الحديث.
فإن قال قائل: العبرة بعموم اللفظ، قلنا: (اصنع بعمرتك ما أنت صانع في حجك) لو أخذت به على عمومه للزم الوقوف بعرفة على المعتمر، ولزمه أن يبيت في مزدلفة، وأن يرمي الجمار؛ لأنه قال: (اصنع) أي: افعل.
فإذا كنت تقول: إنه لا يجب عليه الوقوف بعرفة، ولا يجب عليه المبيت بمزدلفة ولا بمنى، ولا الرمي، فقل: ولا يجب عليه طواف الوداع؛ لأنه واجب من واجبات الحج، فإذا سقط هذا الواجب سقطت تلك الواجبات، وإذا سقطت تلك الواجبات سقط هذا الواجب.
أما أن نقول: هذا الواجب يلزم، وهذا الواجب لا يلزم، فهذا تفريق بدون دليل فلا يصح.
وعلى كل حال: مما يدل على ضعف القول بوجوب طواف الوداع على المعتمر؛ أنه لما قالوا بوجوبه تعارضت أقوالهم: فقال بعضهم: إذا جلس المعتمر وصلى فرضاً واحداً ثم سافر فعليه طواف الوداع.
وقال بعضهم: إذا صلى ثلاثة فروض.
وقال بعضهم: خمسة فروض.
وقال بعضهم: إذا مكث يوماً.
وقال بعضهم: إذا بات بمكة.
وهذا التعارض والتناقض في الأقوال يدل على أنه ليس هناك أصل، ويدل على ضعف الأصل؛ لأنه لو كان المعتمر عليه طواف وداع لبينت الشريعة ونصت النصوص متى يجب على المعتمر أن يطوف طواف الوداع ومتى يسقط عنه، فإذا ثبت أن المعتمر لا وداع عليه زال هذا الإشكال.
فإذاً: إذا خرج الحاج للعمرة وجاء بالعمرة فإنه متى ما أراد السفر فإنه طاف طواف الوداع.
ومن أهل العلم من قال: إذا اعتمر الحاج ونوى في عمرته أن يفارق بعد عمرته البيت دخل طواف الوداع تحت طواف العمرة، وأجزأه طواف العمرة عن طواف الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) والسعي بعد الطواف لا يقطع الطواف، ومن هنا قالوا: لو أن معتمراً جاء مباشرة وطاف وسعى ثم صدر، فلا وداع عليه.
فالسعي لا يقطع وداع البيت، وعلى هذا فإنه إذا صدر بعد عمرته مباشرة سقط عنه طواف الوداع، وأما إذا بقي بعد عمرته فإنه يجب عليه أن يطوف طواف الوداع عند خروجه، على الأصل الذي دل عليه حديث الصحيح: (أمر الناس أن لا ينفروا حتى يكون آخر عهدهم بالبيت طوافاً).
والله تعالى أعلم.
(308/16)
________________________________________
تعارض طاعة الوالدين مع حب الصدقة والإنفاق
السؤال
أحب أن أتصدق من مالي كثيراً، ولكن والدي وإخوتي يطلبون مني أن أتاجر بأموالي مما يقلل من نصيبي في الصدقة، فأيهما أفضل؟
الجواب
دين ودنيا، دنيا وآخرة، أيها أفضل؟ لا شك أنك إذا قصدت من إمساك المال بر الوالد والسمع والطاعة للوالد، ونويت أنه لو لم يأمرك الوالد لتصدقت فإن الله يأجرك بثلاثة أجور: الأجر الأول: أجر البر، وهو أعظم عند الله من الصدقة التي تفعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن: أحب الأعمال إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين) والوالد إذا أمر بأمر لا يتهم فيه بمعصية وجبت طاعته، وهو قد أمرك؛ لأنه قد يشفق عليك في مصلحة لولدك أو لك، أو يراك تحمل نفسك ما لا تطيق، فحينئذٍ تكون هذه توسعة من الله ساقها لك، وأرجو من الله أن يأجرك بحسن نيتك.
ثانياً: يأجرك الله عز جل على الصدقة بنيتك؛ لأنه لو لم ينهك والدك لتصدقت.
وثالثاً: أن هذا الأمر الذي وقع من منع والدك لك يحدث عندك نوعاً من الضيق؛ لأن الكريم يتألم إذا امتنع عن الصدقة، الكريم الذي قذف الله في قلبه الرحمة حتى ولو كان يبر والديه تجده يتألم، والله يعطيك أجر الألم، هذا أمر ثالث.
فمن نعم الله عز وجل على من أعطاه الله الكرم وأرسل يده بالإحسان، أنه لا يرجع في عطية، وأكره ما عنده أن يرد في عطيته، أو يمنع من الإحسان إلى الناس.
ومن القصص العجيبة عن الملك عبد العزيز رحمه الله برحمته الواسعة، وكان من أكرم الناس، وحدث ذات يوم أنه أعطى عطية وروجع فيها، وكانت عطية كبيرة جداً، وربما أجحفت ببعض المصالح، لكنه روجع فيها رحمه الله، فيحدث بعض الثقات الذين عايشوا هذه القضية أنه بعد أن روجع فيها ورأى المصلحة أن يرجع لم ينم ليلته تلك إلى الفجر، وهو يقول: عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! عبد العزيز يعطي ويرجع في عطيته! فلما طلع الفجر دعا المسئول وهو ابن سليمان رحمه الله، وقال له: الذي أمرت به من العطية ينفذ، وعندها جاءه النوم رحمه الله.
فالكريم لا يرجع في عطيته، ولا يرضى لنفسه البخل، ولو منع من عطيته فإنه يتألم، حتى إن بعضهم يمرض ولا يطيب له العيش ولا تهنأ له النفس.
يقال عن بعض الكرماء العرب وكرماء السلف رحمهم الله القدماء: إنه كان إذا سافر ومعه خدمه وحشمه لا يمكن أن يأكل لوحده، وكان يضع طعامه على الطريق ويقول: التمسوا لي الضيف.
فلا يرتاح الكريم إلا بالإعطاء.
فيأجرك الله الأجر الثالث بما ذكرناه، وهو كونك تتألم أنك لم تعط الناس، وهذا هو شأن من حبب الله إليه الآخرة.
أخي في الله! بر والدك، وتاجر إذا كانت تجارة مباحة، وانو في قرارة قلبك محبتك لربك وحبك للإحسان لإخوانك المسلمين، وانو في قرارة قلبك أنك تستعين بهذه التجارة لجمع مال لصدقة أعظم، فإن الله عز وجل يبلغك بحسن النية.
ولا شك أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله، وينبغي على كل من يريد أن يكون التزامه صادقاً وطاعته صادقة لله عز وجل أن تكون بينه وبين الله صدقات خفيات يجبر بها قلوب المؤمنين والمؤمنات، ومن كانت له صدقة بينه وبين الله كانت بينه وبين الله وسيلة نافعة شافعة في الدنيا والآخرة، فكم من كربات فرجت بفضل الله ثم بفضل الصدقة، وإن المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته يوم لا ظل إلا ظله جل جلاله، وإن العبد يكف عن وجهه النار بفضل الله ثم بالصدقة.
لو لم يكن في الصدقة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى، قالوا: إن الإنسان ربما كان من أعصى الناس لله عز وجل، وربما ينزل الله به بلاءً فيتصدق فيذهب عنه غضب الله، ولربما غفر الله ذنبه بتلك الصدقة، لكن يستدل على ذلك بالتوفيق في الصدقة، ومن أعظم البشائر لولي الله المؤمن بالدرجات العلى في الصدقات: أولاً: أنه إذا جاءه المال، ومكنه الله منه، نظر إلى أن هذا المال لا يغني عنه من الله شيئاً، وأنه لا قيمة لهذا المال إلا إذا اشترى به رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده، حتى إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تكون صائمة فيأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه ثلاثين ألفاً فتتصدق بها، حتى إنها لا تبقي شيئاً تفطر به في ذلك اليوم، وكانت كأبيها والشيء من معدنه لا يستغرب: إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية أبوها الذي أنفق ماله كله لله جل وعلا ورسوله، وأنزل الله من فوق سبع سماوات تزكيته أنه مجنب من النار مبرؤ منها: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18] وأعطى ماله لله، حتى إنه لما هاجر أخذ ماله معه نصرة للإسلام ونصرة لله ولدينه عز وجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فجعت أهلك بنفسك، ثم فجعتهم بمالك، ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم حب الله ورسوله) رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه.
بخٍ بخٍ! هذا والله العيش! الصدقة ما سميت صدقة إلا لأنها تدل على صدق إيمان صاحبها؛ لأنه لا يتصدق بهذه الدنيا لوجه الله ويشتري بها رحمة الله عز وجل إلا من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه؛ لأن المال يأسر صاحبه، والمال له سلطان على القلوب، به سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وقطعت الأرحام، والله يقول: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال فتنة، ومع هذا يأتي الإنسان يريد أن يتصدق فتأتيه النفس الأمارة بالسوء وتقول له: تضيع مستقبلك ومستقبل أولادك وأهلك وذريتك! وكذا وكذا، فيعده الشطيان الفقر، وتأتيه رحمة الله جل وعلا، فيثبت الله عز وجل قلبه فيقول: لا، إن خزائن الله لا تنفذ (ويد الله ملأى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة) إني أعامل الله الذي لا غنى إلا به سبحانه وتعالى، فيخرج هذا المال ولو كان من أعز أمواله صدقة، وهو موقن أن الله سيخلف عليه، وأنه هو الرابح وليس بخاسر.
ولذلك لما جاء عام الرمادة واشتد الأمر على المسلمين في المدينة جاءت عير لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فخرج التجار يتلقونه، فقالوا: يا عثمان! بعنا التجارة، نربحك الدرهم بالدرهمين؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: نعطيك ثلاثة؟ قال: أعطيت أكثر، قالوا: أربعاً خمساً قال: أعطيت أكثر، قالوا: من ذا الذي أعطاك وما بالمدينة تاجر سوانا؟ قال: إن الله أعطاني بالدرهم عشرة، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها صدقة على فقراء المسلمين! هذا هو الإيمان والثقة الصادقة بالله جل وعلا، أن تكون بما في يد الله أغنى منك بما في يدك، وإن العبد تأتيه زينة الدنيا وزهرتها حتى إذا أراد الله أن يسعده في هذه الدنيا جعل أول ما يفكر فيه أن يقدمه لآخرته.
عمر رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين لما جاءته أرض بخيبر ما دنا منها ولا أجرى ماءً ولا نهراً ولا غرس شجراً، ولكن بمجرد ما فاز بالأرض وأصبحت في ملكيته انطلق إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم لكي يشتري الآخرة، فكانت الدنيا تحت أقدامهم، وكانت الآخرة ملء قلوبهم، فجاء وقال: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أنفس مالي، ما أصبت مالاً أحب إليّ من هذا المال، فماذا تأمرني فيها؟) وقد كانوا يحكمونه في أموالهم وأنفسهم رضوان الله عليهم.
فما أخذها مع أنه لو أخذها فهي حلال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت تصدقت بها وحبّست أصلها وتصدقت بثمرتها) الحديث، فتصدق بها رضي الله عنه وأوقفها على فقراء المسلمين وضعفتهم.
فأول دلائل التوفيق للصدقة الصالحة قوة اليقين بالله عز وجل.
ثانياً: أن يخرج بهذه الصدقة وأحب ما يكون إليه ألا يعلم به أحد، حتى كان السلف الصالح رحمهم الله لا يعرفهم الفقير الذي يعطونه، فيأتي الرجل منهم متنكراً في ظلام الليل وسواده البهيم.
وكان علي زين العابدين رحمه الله برحمته الواسعة يحمل على ظهره الصدقات إلى بيوت الأرامل والأيتام، فكان إذا جنّ عليه الليل حمل على ظهره الطعام، وهو إمام من أئمة المسلمين، وديوان من دواوين العلم والعمل، فكان ينطلق إلى بيوت الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وهم في جوف الليل، فيقرع عليهم أبوابهم، ثم يعطيهم هذا الطعام، ثم لم يعلم أحد أنه زين العابدين الطيب بن الطيب رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة وأباه وجده، وهذه سلالة طيبة من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الطيبون الطاهرون.
فما علم أنه زين العابدين إلا لما توفي، ففقد ستون بيتاً من ضعفاء المسلمين ذلك الرجل الذي يطرق عليهم في جوف الليل أبوابهم، وكان رضي الله عنه يحمل الطعام على ظهره وعنده من العبيد والخدم ما لا يحصى، ولو شاء أن يأمرهم لحملوا، ولما أرادوا أن يغسلوه كشفوا عن ظهره فوجدوه متأثراً من الأكياس التي كان يحملها رحمه الله برحمته الواسعة.
فالذي يشتري رحمة الله عز وجل هو الرابح، الصدقة هي الربح والتجارة مع الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] من هو السعيد الموفق الذي يضع في دواوين الآخرة صدقاته صادقات من قلبه المؤمن الموقن بربه جل وعلا؟! وأعظم ما تكون الصدقة أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخاف الفقر وتأمل الغنى، أتخاف أن تأتيك هموم المستقبل؟ لا تبالغ، الإسلام وسط، لكن في بعض الأحيان يبالغ الإنسان في تقدير الأمور، حتى إنه يحجم عن الصدقات، فإذا كان الإنسان صحيحاً شحيحاً يخاف الفقر ويأمل الغنى، وتزينت له الدنيا بزينتها، ثم جاءه نداء الله جل وعلا، وتذكر ما عند الله فرفض الدنيا ووضعها تحت قدميه؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ووالله ثم والله
(308/17)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [2]
للرجعة أحكام كثيرة تتعلق بها، ينبغي على كل مسلم أن يتفقه فيها، لأنه يعيش في مجتمع لا يخلو من الحاجة إلى هذه الأحكام.
فمن ذلك معرفة حكم الإشهاد على الرجعة، وحكم المعتدة في حال عدتها وحقوقها على زوجها.
ومن الأحكام المهمة أن يعرف المسلم متى تنتهي عدة المرأة، وما يترتب على ذلك، وهل يصح أن يكون الوطء للمعتدة رجعة، وإذا خرجت الرجعية من العدة وتزوجت بآخر ثم عادت، فهل النكاح الثاني يهدم الأول.
وهذه مسائل وغيرها كثير فصلت أحكامها بدلائلها في هذه المادة.
(309/1)
________________________________________
حكم الإشهاد على الرجعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم أن رجعة الزوجة تكون بالقول والفعل، وبيّنا أن اللفظ الذي يتلفظ به الزوج لكي يرتجع زوجته إما أن يكون صريحاً كقوله: راجعت زوجتي، أو يكون مختلفاً في كونه صريحاً ملحقاً بالصريح عند بعض العلماء كقوله: رددت زوجتي، أو أمسكت زوجتي.
فاللفظ الصريح المتفق عليه: راجعت، وارتجعت، وأما بالنسبة لـ (رددت وأمسكت) ففيهما الوجهان عن العلماء رحمهم الله.
وبيّن المصنف رحمه الله أن الرجعة تكون بما دل عليها في القول سواء كان صريحاً أو كناية، إلا أن الكناية كقول الرجل: أنت مني كحالك من قبل، يحتمل الأمرين: يحتمل: كحالك من قبل الطلاق فأنت زوجة لي الآن، وأرجعتك من طلاقي.
ويحتمل أن يكون مراده أن الحال باق كما هو، أي: لا زلت أكرهك ولا زلت مطلقة مني، فأصبح متردداً بين الأمرين فلا بد من نية تميز.
وقد تقدم معنا قول العلماء: إن الأمور بمقاصدها، والنيات تميز الأشياء المحتملة، فلما كان اللفظ محتملاً ميزته النية في الكنايات.
وقوله رحمه الله: [لا نكحتها] فالنكاح لا علاقة له بالرجعة، ومن هنا لا يدل على الارتجاع لا صراحة ولا كناية، فلو قال: نكحتك.
فإن هذا لا يدل على الرجعة؛ لأن إنشاء العقود ليس كاستدامتها، فالرجعة استدامة للنكاح، والنكاح ابتداء للعقد من جديد، وحينئذٍ فرق بين الاستدامة وبين الابتداء، فلا يعتبر قوله: (نكحتك) ارتجاعاً لزوجته.
فقوله: [بلفظ: راجعت امرأتي ونحوه، لا نكحتها ونحوه].
قد تقدم أن لفظ النكاح لا يدل على الرجعة صراحة ولا ضمناً.
ثم قال رحمه الله: [ويسن الإشهاد].
تقدم أن الإشهاد على الرجعة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: الإشهاد على الرجعة سنة، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
ومنهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب، وانقسم أصحاب هذا القول إلى طائفتين: منهم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب لا تصح الرجعة إلا به، فجعله شرطاً في صحة الرجعة، فلو أنه ارتجع زوجته ولم يشهد لم تصح رجعته.
مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: راجعت زوجتي، ثم توفي، ولم يكن هناك من شهد أو لم يكن هناك شهود ولم يستشهد على رجعته، فعلى القول باشتراط الإشهاد فإن الرجعة لا تثبت، وتصبح لو خرجت من عدتها أجنبية إذا لم يقع الإشهاد قبل خروجها من العدة، فلو كان خروجها من العدة بمغيب شمس يوم الأحد وقال: راجعت زوجتي قبل أن تغيب الشمس بلحظة، ثم توفي بعد مغيب الشمس قبل أن يشهد، فإنها تكون قد خرجت من عدتها قبل وفاته، فتصبح أجنبية لا ترثه في هذه الحالة، ولا يرثها أيضاً لو توفيت هي؛ لأنه لم يقع إشهاد على الرجعة قبل الخروج من العدة.
إذاً لا بد من الإشهاد على الرجعة عند الظاهرية، ويرون أنه شرط في صحة الرجعة.
ومن أهل العلم من قال: الإشهاد على الرجعة واجب ولكنه ليس شرطاً في صحتها، فإنه لو أشهد صحت رجعته، وإذا لم يشهد فإننا نحكم بأنه آثم ورجعته صحيحة، ولكن يعتبر آثماً إذا تيسر له الإشهاد ولم يشهد.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ووجه الدلالة: أن الله أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر للوجوب، ولا دليل يدل على صرف هذا الأمر عن ظاهره.
ودليل جمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فجاء بالأوامر في سياق واحد، ومن المعلوم أن الإمساك في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] لي واجباً بالإجماع، ليس واجباً، فليس بواجب أن تمسك الزوجة إذا طلقتها، وليس بواجب على من طلق زوجه رجعية أن يمسك؛ لأن له أن يتركها حتى تخرج من عدتها وتصبح أجنبية.
وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ليس بواجب أن يتركها حتى تخرج من عدتها، وإنما الأمر للتخيير، أي: إن شئت فأمسك، فإن أمسكت فبمعروف، وإن شئت ففارق فإن فارقت فبمعروف، ثم أشهد على ذلك، فكما أن الأوامر الأولى للاستحباب، فكذلك أمره بالإشهاد يكون للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.
ثم الدليل الثاني على عدم وجوب الرجعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر حينما أخبره أن ابنه عبد الله رضي الله عنه طلق امرأته في الحيض: (مره فليراجعها) ولم يأمره بإشهاد على الرجعة، فدل على أن الإشهاد على الرجعة ليس بواجب.
ثم إن الأصل عدم الوجوب حتى يدل الدليل على الوجوب صراحة، والدليل هنا محتمل.
ولأن المقصود عودة المرأة إلى عصمة الزوج، وهذا لا يفتقر إلى الإشهاد لأنه ليس بمؤثر في هذه العودة، فأصبح ليس بواجب وإنما هو مستحب.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الإشهاد مستحب، لكن الخلاف في أنه لازم أو ليس بلازم، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأن الأحاديث التي ذكرت تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، خاصة وأن الصحابة نصوا على أن الإشهاد ليس بواجب، ولذلك لما سئل عمران بن حصين رضي الله عنهما: عن رجل طلق امرأته ثم راجعها ولم يشهد؟ فقال رضي الله عنه: (راجعتها بغير السنة).
يعني: أنه كان ينبغي عليك أن تتحرى السنة، ولم يقل له: عليك إثم أو عليك حرج، فدل على أن الأمر ليس للوجوب، ثم حكم بصحة النكاح والرجعة، فلو كان الإشهاد شرطاً في صحة الرجعة لقال له: إنها ليست بزوجة، ويجب عليك أن تعيد الرجعة مرة ثانية وتشهد، ولكنه صحح رجعته، فدل على أن الإشهاد ليس بشرط في صحة الرجعة، وليس بلازم.
(309/2)
________________________________________
المعتدة في طلاق رجعي لها حكم الزوجة إلا في القسم
[وهي زوجة لها وعليها حكم الزوجات، لكن لا قسم لها].
من طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية، وكان طلاقه بالطلقة الأولى والثانية بعد دخوله بها كما تقدم فإن هذه المرأة تعتد، وخلال العدة تصبح امرأة رجعية من حقه أن يراجعها في أي وقت ما دام أنها لم تخرج من عدتها كما قدمنا، لكن
السؤال
هل هذه المرأة الرجعية أجنبية، أو ما زالت في حكم الزوجة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: منهم من قال: إنها أجنبية، كما اختاره بعض العلماء، ومنهم الشافعية.
ومنهم من قال: إنها في حكم الزوجة، كما اختاره المصنف رحمه الله وهو مذهب الحنابلة، أي: أنها زوجة لها ما للزوجات وعليها ما على الزوجات إلا ما استثني، وبناءً على ذلك: يجوز له أن يختلي بها، وأن يلمسها، ويجوز أن يسافر بها وهو محرم لها؛ لأنها في حكم زوجاته.
كذلك يتفرع على هذه المسألة أنه لو قال لها وهي في أثناء عدتها من الطلقة الأولى: طلقتك، أو أنت طالق، فأردف الطلقة الثانية على الأولى وقع الطلاق؛ لأنها زوجته، وليست بأجنبية.
وعلى كل حال يعتبر الحكم أنها زوجة من هذا الوجه.
ويترتب على هذا أيضاً حقوق، فلو أنه توفي عنها وهي في أثناء العدة ووقعت الوفاة قبل خروجها من العدة ولو بلحظة، ولو بثانية واحدة، أو هي توفيت؛ فإنها ترثه ويرثها إجماعاً.
فلو طلقها طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم اعتدت، وقبل خروجها من عدتها بلحظة توفيت ورثها، وإن توفي هو ورثته، فإذاً معنى ذلك: أنه لا زالت هناك علاقة الزوجية، فقال رحمه الله: [وهي زوجة] والدليل على ذلك، عدة أدلة: أولاً: من أقوى الأدلة أن الله عز وجل قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] هذا الحكم، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] يعني: أزواجهن الذين طلقوهن ووقع الطلاق منهم، أحق بارتجاع هؤلاء الزوجات المطلقات، وقوله: {فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني: أثناء الثلاثة قروء، لأن صدر الآية يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فقال الله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] يعني في مدة العدة.
ثم قال: (بُعُولَتُهُنَّ) يعني: أزواجهن، فوصف المطلق بكونه زوجاً للمطلقة، فدل على أنها ليست بأجنبية، ولو كانت أجنبية لما صح أن يقال إنه بعل لها؛ لأن البعل هو الزوج.
كذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة على أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتبر في حكم الزوجة: أن الله قال: (فَإمْسَاكٌ)، فلو كانت المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية لم يقل: (فإمساك)؛ لأن الإمساك استدامة لما قبل، فمعناه: أن النكاح لا زال باقياً، فدل على أنه يريد رد الأمر على ما كان عليه بإثبات الرجعة، فلو كانت أجنبية لما عبر بالإمساك ولعبر بلفظ ثان يقتضي الابتداء.
ولأن الإمساك يدل على الاستدامة لا على الإنشاء؛ فتقول: أمسك؛ لأن الشيء في يدك، ولا تقول: أمسك لشيء ليس بيدك، فدل على أن قوله: (فإمساك بمعروف) أي: أنه لا زال بيده شيء، والله عز وجل يكني، فكنى عن كون النكاح لعصمة النساء وفي يد الرجل فقال: {فَإمْسَاكٌ} [البقرة:229] فدل على أن المطلقة لا زالت تحت سلطان زوجها، وأنها في عصمته.
وبمعنى آية البقرة: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] آية سورة الطلاق في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] فدل على أن النكاح لا زال مستمراً، وأن المطلقة طلاقاً رجعياً لا تزال في حكم الزوجة، وبناءً على ذلك ترثه ويرثها.
ومما يدل على أنها في حكم الزوجة أمر الله بالنفقة على المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فألزم المطلق فقال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] فأمر أن تبقى المطلقة طلاقاً رجعياً في بيت الزوجية، وهذا يدل على أنها لا زالت زوجته؛ ولأن هذا حق من حقوق النفقة، والنفقة لا تكون إلا استتباعاً لعقد النكاح، فدلت هذه الأمور كلها على أن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة وليست بأجنبية.
وقوله: [لها وعليها حكم الزوجات].
أي: فيجوز له أن ينظر إليها وأن تنظر إليه ولو بشهوة، ويجوز له أن يلمسها وأن تلمسه، ويجوز أن يختلي بها وتختلي به، ويسافر معها وهو محرمها، كما ذكرنا.
(309/3)
________________________________________
المعتدة لا قسم لها في المبيت
وقوله: [لكن لا قسم لها].
أي: لو كان عنده أربع نسوة فطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً فبقيت في عدتها، فإنه يجعل قسمه بين زوجاته على ثلاث ليال، فتسقط ليلة الرابعة مع أنها في العدة، فهي زوجة من وجه وليست بزوجة من وجه آخر، لكنها ليست بأجنبية.
(309/4)
________________________________________
حصول الرجعة بالوطء
قال رحمه الله: [وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها].
أي: لو أنه وطئ الزوجة الرجعية فإن هذا الوطء يعتبر مراجعة، وقلنا: قد تكون الرجعة بالقول وتكون بالفعل، فالرجعة بالفعل كالجماع، فلو أن رجلاً طلق امرأته الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية بعد الدخول، ثم بعد ذلك مكثت الحيضة الأولى وطهرت، والحيضة الثانية وطهرت، ثم أراد أن يجامعها فجامعها، فالجماع من أقوى الأدلة على الرغبة في الإنسان، والله يقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231]، {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والفعل يدل على الإمساك كما يدل عليه القول؛ لأنه ليس معقولاً أن يطأ امرأة أجنبية، فلما حصل الوطء دل على رغبته فيها، وحبه لها ولعودها زوجة له كما كانت؛ لأن الرجل لا يحل له أن يطأ الأجنبية، وبناءً على ذلك يكون وطؤه لها رجعة، فتقع الرجعة بالفعل وهو الوطء كما تقع بالقول.
واختلف العلماء في ذلك: فمن أهل العلم من قال: الوطء دليل على الارتجاع، سواء نوى أو لم ينو، فلو أنه جامع زوجته وهي في عدتها حكمنا برجوعها له على ما اختاره المصنف وهو مذهب الحنابلة؛ سواء نوى أو لم ينو.
ومن أهل العلم من قال: إذا جامعها وهو لا ينوي ارتجاعها فإنه في هذه الحالة لا يعتبر مراجعاً لزوجته؛ لأنه يشترط أن ينوي.
وبالمناسبة: أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيت الزوجية كما ذكرنا، وهذا البقاء يحرك الزوج إلى إعادتها، ولذلك قال الله عز وجل يشير إلى هذه الحكمة العظيمة: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] ولا يريد الله بعباده إلا كل خير، ولا يريد إلا ما يعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
فإذا كان أهل الزوجة وأم الزوجة وأبو الزوجة كل منهم يتمنى، وأبناء الزوجين يتمنون أن تعود هذه الزوجة ويحبون عودتها، فإن الله أرحم بخلقه من هؤلاء بأنفسهم؛ لأنه يحب سبحانه لهم الخير، لأنه يعلم أن الشيطان دخل بين هذه الزوجة وزوجها حتى طلقها كما في الحديث الصحيح: أن الشيطان من الشياطين لا يدنو ولا تعلو منزلته عند الشيطان الأكبر إلا إذا فرق بين الزوج وزوجته؛ لأنه من أعظم ما يكون، فمن حكمة الله عز وجل أن جعل المرأة تعتد في بيت الزوجية، فإذا اعتدت هناك فإنها تتحرك النفوس بالذكريات، ويحس بقيمتها وتحس هي بقيمته فيتحرك كل منهما للآخر، فإذا كان الخطأ شنيعاً وقف صاحب الحق لكي يؤدب الطرف الثاني، وذل المخطئ لمن أخطأ عليه، حتى التحاكم فيما بينهما يكون في مكان واحد ولا يدخل بينهما أجنبي؛ لكن إذا رجعت إلى بيت أبيها أفسدت على زوجها، وأفسد الزوج على زوجته، ودخل الأجنبي فساءت الأمور أكثر كما ذكرنا.
لكن عندما تكون المرأة في بيته فإنه إذا كان يراها معتدة في بيته ولا يمكن أن يخرجها، وليس من حقه أن يخرجها، وفي المساء والصباح يصبح ويمسي ويراها أمامه، فهذا يحركه: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فيحرّكه إلى أن يرتجعها، فلا يملك بحكم المحبة إلا أن يشتاق إليها ويجامعها.
فإذا كان شوقه إليها بقصد الرجعة فلا إشكال، وأما إذا جامعها دون أن يقصد ارتجاعها فحينئذٍ عند من يرى أن المطلقة طلاقاً رجعياً أجنبية يرد
السؤال
هل يعتبر زانياً؟ وهل يقام عليه الحد؟ لأنه ما قصد بها الوطء الشرعي.
قال جماهير العلماء: إنه لا يوجب الحد، لكن من أهل العلم من قال: إذا لم يقصد رجعتها -على القول بأنه وطئ بدون نية- فإنه لا يوجب الرجوع، وعلى هذا القول يقولون: يجب تعزيره، وحينئذٍ يعزره القاضي ويؤدبه إذا أقر على نفسه أنه جامعها ولكنه لم ينو بجماعها الرجعة.
فبيّن رحمه الله أن الرجعة تكون بالقول والفعل، فإذا جامعها ناوياً ارتجاعها وقعت الرجعة.
وأكمل ما تكون الرجعة أن يقول: ارتجعت زوجتي، ويشهد شاهدين على ارتجاعه، ثم يجامعها بنية الارتجاع، فحينئذٍ اجتمعت النية واجتمع القول والفعل، وأما القول مع النية فلا إشكال، كأن يقول: راجعت زوجتي ناوياً عودتها إلى عصمتي.
وأما نية وفعل فأن يجامع زوجته قاصداً ارتجاعها؛ فهذه كلها من صور ارتجاع الزوج لزوجته.
(309/5)
________________________________________
تعليق الرجعة بشرط
قال رحمه الله: [ولا تصح معلقة بشرط].
أي: ولا تصح الرجعة معلقة بشرط، كأن يقول: راجعتك إذا طلعت الشمس، أو إذا جاء غداً، أو إذا انتهى الشهر فقد راجعتك، أو إذا طهرت من الحيضة الأولى فقد راجعتك، فهذا تعليق لا يصح.
ومن التعليق أن يقول لها: راجعتك إن شئت، يعني: إن كنت تريدين الرجوع إليّ فقد راجعتك، فقالت: قد شئت، فليست رجعة؛ لأن الرجعة لا تصح بالتعليق، بل لا بد وأن يبتها وينجزها ويقول: راجعتك.
فإذا قال لها: راجعتك أن شئت، صحت الرجعة، لأنها هنا بمثابة التعليل، أي: لأنك شئت فقد راجعتك، لكن لو قال لها: راجعتك إن شئت، لم يصح، فهناك فرق بين الكسر والفتح، فإن قال: راجعتك إن شِئت، فهذا تعليق لرجعتها على وجود المشيئة، أو قال لها: راجعتك إن شاء أبوك، أو راجعتك إن رضي أبوك، أو رضيت أمك، فهذا لا يصح، فينبغي أن يجدد الرجعة ويقول: راجعتك، أو يفعل فعلاً دالاً على ارتجاعه لها على التفصيل الذي تقدم.
(309/6)
________________________________________
مسألة إذا طهرت المعتدة الطهر الثالث ولم تغتسل
قال رحمه الله: [فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها].
أي: لأن العدة ثلاثة أطهار، فإذا طهرت في الحيضة الثالثة فبعض العلماء يقول: لا بد أن تغتسل، حتى يحكم بانتهاء عدتها.
وبعض أهل العلم يقول: إن مجرد طهرها يوجب انتهاء عدتها وإن لم تغتسل.
فمنهم: من اشترط الاغتسال، ومنهم: من قال بعدم اشتراطه، وفائدة الخلاف: أولاً: عندنا امرأة طلقها زوجها الطلقة الأولى فاعتدت، فلما كانت في الحيضة الأخيرة قبل غروب الشمس بنصف ساعة رأت علامة الطهر، لكنها أخرت الغسل من الحيض إلى ما بعد غروب الشمس، فإذا قلت: المرأة تخرج من عدتها بمجرد انقطاع الدم ورؤية علامة الطهر، فإنها تكون قد حلّت للأزواج قبل غروب الشمس بنصف ساعة، فلو نكحت وعقد عليها بعد ذلك مباشرة صح العقد، وصارت أجنبية من الأول وزوجة للثاني؛ لأنه قد حصل تمام العدة وخرجت منها وأصبحت أجنبية على هذا القول، ولو أنه حصلت الوفاة من زوجها بعد طهرها مباشرة ورؤيتها للدم وقبل أن تغتسل، فحينئذٍ تكون قد خرجت من عدتها فلا ترثه ولا يرثها، وهي أجنبية وهو أجنبي.
فحكم بخروجها من العدة وانتهاء الرجعة بمجرد رؤية الطهر.
وعلى هذا: لا يشترط الغسل عند أصحاب هذا القول، كما اختاره جمع من العلماء رحمهم الله.
ومن أهل العلم من قال: إنها إذا طهرت من حيضتها ورأت علامة الطهر من حيضتها الأخيرة ولم تغتسل، فلا تزال في العدة حتى تغتسل، ولو أخرّت الغسل سنوات فإنها لا تزال في عدتها من زوجها الأول.
وبناءً على هذا القول: لا تزال رجعية، فلو وقع مراجعة من زوجها الأول قبل أن تغتسل حلّت له، ولو توفي ورثته، ولو توفيت ورثها، وهذا القول مأثور عن أبي بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ معاذ وأبي هريرة رضي الله عن الجميع، فهم يقولون: إنها لا تخرج من العدة إلا بالاغتسال، ورأوا أن طهارتها تابعة لدمها.
والأول أقوى من حيث الأصول، والثاني أشبه بالقوة على مذهب من يرى أن قول الصحابي حجة؛ ولكن الأول أقوى من حيث الأصول، فإن مجرد طهرها يدل على خروجها من عدتها؛ لأن الله يقول: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وقد طهرت حقيقة فيحكم بطهرها؛ لأن الشرع علق على الطهر وقد حصلت هذه الصفة، فلا داعي لاشتراط الغسل إلا للعبادات التي تشترط لها الطهارة، أما هذا فهو خارج عن العبادة، فالرجعة ليس لها علاقة بالعبادة، فهي ليست مصلية، ولا طائفة بالبيت، ولا داخلة للمسجد، ولا تالية للقرآن حتى نشترط طهارتها.
الطهارة والغسل يشترط فيها شيء نص الشرع على اشتراطه، وأما ما رتب الشرع وقوع الرجعة عليه، فحده ما لم تطهر، وقد طهرت، فتكون قد خرجت من عدتها بذلك الطهر.
(309/7)
________________________________________
حكم المرأة إذا انتهت عدتها ولم تراجع
قال رحمه الله: [وإن فرغت عدتها قبل رجعته بانت وحرمت قبل عقد جديد].
البينونة تنقسم إلى قسمين، وهي مأخوذة من: بان الشيء، إذا وضح وظهر.
ويقال: بان فلان من فلان، إذا فارقه، والبين هو الفراق.
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ ملَّه الثواء أي: آذنتنا بفراقها، فالبين هو الفراق، ولذلك يقال: غراب البين، أي الفراق، فالبين في لغة العرب يطلق بمعنى الفراق.
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي فهذا قول أبي الدحداح الصحابي رضي الله عنه يخاطب زوجته لما تصدق بحائطه فقال لها: (بيني)، أي: اخرجي من الحائط وفارقيه، والحائط: البستان، يعني: اخرجي وفارقي البستان، ويقال: بان إذا فارق.
فالبينونة هي: أن يبين الرجل من امرأته وتبين امرأته منه: فإما أن تبين بينونة كبرى كأن يطلقها ثلاث تطليقات، وحينئذٍ لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، على نص آية البقرة.
وإما أن تبين منه بينونة صغرى، والبينونة الصغرى هي التي لا تحل بها المرأة إلا بعقد جديد، إذا عقد عليها عقداً جديداً حلت له، وأما قبل العقد فلا تحل له، وهذا النوع من البينونة يقع إذا طلقها طلقة واحدة قبل أن يدخل بها، فإذا طلقها طلقة واحدة قبل الدخول فإنها بائنة منه، ولو طلقها طلقتين قبل الدخول بانت منه، بمعنى: أنها بمجرد طلاقه لها تحل لغيره، ويجوز لغيره أن ينكحها.
وأما البينونة الصغرى بعد الدخول فتقع بالخروج من العدة، وتقع أيضاً بطلاق الصلح، وطلاق القاضي، والتفريق للعيوب إلى غير ذلك مما فيه تفصيل سبق بيان بعض مسائله.
فلو طلق زوجته طلقة واحدة أو طلقها الطلقة الثانية وتركها حتى خرجت من عدتها، فإنها بمجرد خروجها من العدة لا تحل له إلا بعقد جديد، فلما كانت لا تحل له إلا بشرط أن يوجد عقد جديد علمنا أنها بائنة، ففيها شبه من المطلقة ثلاثاً، وفيها شبه من الرجعية؛ لأنه يحق له أن يتزوجها، ولكن يشترط في زواجه بها عقد جديد لأنها أصبحت كالمرأة الأجنبية.
فأشبهت المطلقة ثلاثاً في أنها لا تحل إلا بعقد جديد، فحينئذٍ قالوا: بينونة صغرى.
وأصل البين الفراق، فكل امرأة لا يحل لزوجها أن يرتجعها تعتبر بائناً، ثم تنقسم إلى بائن بينونة صغرى، وهي المرأة التي لا تحل لزوجها إلا بعقد ومهر جديد، وبائن بينونة كبرى، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ويدخل بها ويحصل الوطء.
هذا بالنسبة لقوله: (بانت منه)، والبائن بينونة صغرى إذا كانت أثناء العدة فإن من حقه أن يردها ولو لم ترض ولو لم يأذن وليها، فلو قالت: لا أريد أن أرجع، فإنها تجبر ولو كرهت كما ذكر المصنف؛ لأن الله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فأعطى الحق للزوج أن يرتجع الزوجة ما دامت في عصمته وفي مدة العدة، فإذا خرجت من العدة صارت أجنبية فلا تحل له إلا بعقد ومهر جديدين كأنها أجنبية.
(309/8)
________________________________________
مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول؟
قال رحمه الله: [ومن طلق دون ما يملك].
أي: الذي يملك ثلاث تطليقات إذا طلق الطلقة الأولى أو الطلقة الأولى والثانية فبقيت الثالثة، وإن شئت قلت: من طلق فبقي له طلاق، فهذا (دون ما يملك) أو بقي له طلاق واحد.
فمن طلق دون ما يملك وخرجت المرأة من عدتها، ثم تزوجها زوج غيره وطلقها وأرادت أن ترجع للأول، فهل ترجع بثلاث تطليقات جديدة، أو يبني على ما سبق؟ وهذه مسألة: هل النكاح الثاني يهدم النكاح الأول أو لا يهدم؟ فمن أهل العلم من قال: لو تزوجت المرأة مائة زوج وعادت لزوجها الأول رجعت بالعدد الأول، فلو طلقها قبله طلقة واحدة ورجعت إليه بقيت له طلقتان، سواء دخلوا بها أو لم يدخلوا بها، وسواء حملت أو لم تحمل وأنجبت أو لم تنجب، المهم أنه لا زالت هناك علاقة في الطلاق الأول؛ لأن الله يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] وهذا لم يطلقها الطلقة الثانية، فبقي على الترتيب الأول بنص الآية الكريمة، وهذا مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف رحمهم الله.
وهو قول أئمة الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، فكلهم يقولون: إن النكاح لا يهدم، بل يبقى على الطلاق الأول.
وقال بعض السلف كـ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: إنه إذا نكحها زوج ثان رجعت بثلاث تطليقات من زوجها الأول إن طلقها الثانية، ويرون أن النكاح الثاني يهدم النكاح الأول.
والصحيح: مذهب الجمهور، لظاهر القرآن.
والمخالفون لهم قاسوه وألحقوه بمن طلق ثلاثاً فنكحت زوجاً غيره، فإنه بالإجماع لو طلقها ثلاثاً وتزوجها زوج غيره ودخل بها فإنه يعود لها بثلاث تطليقات، فهم يقيسون من طلق الطلقة الأولى وتزوجت من بعده ثم طلقها الثاني وتزوجها الأول؛ يقيسون على من طلق ثلاثاً ونكحها زوج غيره.
والصحيح: أنه يعود بالعدد الأول قلّ الأزواج أو كثروا، دخلوا أو لم يدخلوا، فالنكاح الثاني لا يهدم النكاح الأول.
(309/9)
________________________________________
الأسئلة
(309/10)
________________________________________
المطلقة الرجعية لها حق السكنى والنفقة
السؤال
فضيلة الشيخ! قول المصنف: [لكن لا قسم لها] هل في المبيت فقط، أم يدخل فيه النفقة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمراده القسم، وأما مسألة النفقة فالمطلقة الرجعية لها حقها في السكنى والقيام عليها، وإن كانت من أولات الحمل فإنه ينفق عليها حتى تضع حملها على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه في الدروس الماضية في النفقات وحقوق الزوجات.
والله أعلم.
(309/11)
________________________________________
دور العلماء والخطباء في مواجهة أعداء الإسلام
السؤال
تعلمون حفظكم الله أن هذه البلاد تتعرض في هذه الآونة الأخيرة إلى أذية وتشويش من أعداء الإسلام باسم حقوق الإنسان، فما هو دور الدعاة والخطباء وطلاب العلم، ودورنا في مواجهة هذا الحقد والدفاع عن هذا البلد المبارك وولاة أمره حفظهم الله، الذين نذروا أنفسهم لتطبيق الشريعة والالتزام بحدود الله، حتى أصبحوا محل تقدير العلم، وفقكم الله لكل خير؟
الجواب
هذا السؤال سؤال مهم، وشكر الله للسائل عنايته بهذا الأمر.
وقد بلغنا وسمعنا جميعاً ما يثير أعداء الإسلام ضد هذه البلاد بناءً على تطبيقها للشريعة الإسلامية، وهذا أمر لا ينبغي السكوت عنه، ولا ينبغي أن يمر على الدعاة والعلماء والأئمة والخطباء وطلاب العلم دون أن تكون هناك وقفة ترضي الله عز وجل.
فهذه البلاد أنعم الله عز وجل عليها بتحكيم الشريعة الإسلامية، وأنعم الله سبحانه وتعالى على ولاة أمرها، فنسأل الله أن يثبتهم على الحق وأن يعينهم عليه وأن يكبت أعداءهم وأن يصرف عنهم سوءهم، ولا شك أنهم محسودون على هذه النعمة.
حسد أعداء الإسلام هذا الخير الذي تعيشه هذه الأمة، وهذا الأمن وهذه الرحمة التي عاشت فيها الأمة بخير عظيم من الله سبحانه وتعالى، فأصبحوا يشوشون ويرجفون ويكيدون باسم حقوق الإنسان، ووالله إنه لحقد دفين على هذه الأمة، وهذا التدخل السافر لا يمكن أن يقبله أي إنسان منصف في شئون المسلمين؛ إلى درجة أن يدخلوا بيننا وبين شرع الله عز وجل الذي رضينا به سبحانه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ فيريدون أن يدخلوا بيننا وبين الله جل وعلا.
أصبح أعداء الإسلام في منتهى الوقاحة والسفور، إلى درجة أن يدخلوا بين المسلمين وبين شريعة ربهم، ولا شك أن هذا الحقد وهذه الأذية والكيد السافر للإسلام والمسلمين ينبغي للأئمة والدعاة والخطباء أن لا يسكتوا عنه.
ينبغي التعامل مع هذه الأذية؛ لأنه بلغنا أن الأعداء يقولون: لن نسكت، ويقولون: إننا سنثير هذه المسألة المرة بعد المرة، والقضية ليست قضية حقوق إنسان، القضية كيد لهذا الدين، وكيد لهذه الأمة المسلمة، ونوع من الإرجاف والإضعاف لهذه القوة التي خاف منها أعداء الإسلام.
من هذه النعمة العظيمة أن مئات الألوف والملايين يعيشون على هذه الأرض، ولا يمكن لأحد أن يحيد عن صراط الله عز وجل فيسرق إلا قطعت يده، ولا يزني إلا أقيم عليه حده، ولا يفعل أي حد من حدود الله إلا أقيم عليه شرع الله عز وجل، فكبت أعداء الله عز وجل، وحيل بين الناس وبين حدود الله عز وجل، هال الأعداء هذا الخير وهذه الطمأنينة وهذا الأمن، وهم لا يريدون هذا.
فليس هناك حقوق للإنسان يبحثون عنها، هؤلاء يريدون أن يفرقوا بين الناس وبين دينهم، وبين المسلمين وإسلامهم.
فإذاً: لا بد من وقفة خاصة من أهل العلم، ومن المنتسبين لهذه الدعوة ولهذا الدين، وأن يكون عندهم وقفة صادقة تدعو الناس إلى الترابط وإلى القناعة التامة بهذا الدين؛ لأن أعداء الإسلام أخوف ما يخافون من هذه الأمة أن تماسك جبهتها الداخلية، ولا يفكرون في شيء مثل زعزعة الناس والدخول بينهم واختراق صفوفهم، فينبغي على الأئمة والخطباء من وجهة نظري إذا شوش أعداء الإسلام في حقوق الإنسان وتطبيق الشريعة والحدود؛ أن يعتنوا بالخطب الهادفة المركزة التي تبين الحدود خطبة بعد خطبة، خطبة عن حد القصاص وآثاره الحميدة على النفوس، وما يثمر من الأمن للناس في أرواحهم وأنفسهم، وخطبة عن حد السرقة، وما ذكر العلماء والأئمة فيها، وخطبة عن حد الزنا، وخطبة عن حد الحرابة، وعن الثمرات التي تجنيها الأمة الإسلامية من تطبيق شرع الله عز وجل، من رضا الله سبحانه وتعالى، وحلول الخيرات، ودفع النقم والبلاء عن المؤمنين والمؤمنات.
هذه الخطب يعتني فيها الخطيب الموفق بالرجوع إلى كتاب الله وكلام أئمة التفسير حول الحكم والأسرار المبنية على الحدود، فيبين للناس الحدود حداً حداً، حتى يصبح الناس في وعي كامل وقناعة تامة بهذه الشريعة، لا نريد قناعة مبنية على العواطف، المسألة اليوم أصبحت مسألة مواجهة، لا بد للأئمة والعلماء وطلاب العلم والحاضرين أن يقوموا بدورهم، وعلى مراكز الدعوة أن تنشئ المحاضرات التي تثقف الناس وتبين لهم أمر دينهم، فلا بد أن يكون عند الناس قناعة مبنية على أساس صحيح.
أولاً: الناس على فطرتهم، مؤمنون بشرع الله، فلو أتيت إلى رجل في برية أو بادية تسأله عن شرع الله لم يقبل النقاش؛ لأن القضية عنده مسلمة وسيقول لك: الله أمر انتهى، ولا يبحث عن الحكمة ولا يسأل عنها، يقول: الخير كله في أمر الله.
لكن اليوم غزت الفضائيات العقول، وأتت بالسموم، ولبّس الحق في الباطل، فلا بد من وعي، وهناك شباب بريء وأطفال صغار يسمعون، وتحاك لهم المؤامرات من التشويش عليهم لنزع ثقتهم من أمتهم ودينهم وشريعتهم، هناك تشكيك في هذه الأمور، وطعن للأمة من داخلها حتى تنشأ أفراد تتأثر بهذه الأفكار لأن أعداء الإسلام دائماً يرمون ويخططون إلى الغد لا إلى اليوم.
ولذلك لا بد أن نواجه هذا السيل الجارف، والحقد الدفين، والإفك المبين بقوة تردعه، ولا يردعه مثل سلطان الحق، ولا تردعه مثل الكلمة الصادقة المبنية على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقولها الموفق المسدد.
فلا بد للأئمة أن يعتنوا بهذا، وأن يتواصى طلاب العلم فيما بينهم ببيان حكم الشريعة، والتحدث عن مثل هذه الحدود وآثارها الإيجابية وعواقبها الحميدة، وأن نتواصى بالحق؛ لأنه لا يسعنا السكوت؛ ولأن إغاظة الكافر مطلوبة، وأعداء الإسلام إذا وصلوا إلى درجة أن يأتونا في عقر دارنا لكي ينظروا إلى حقوق الإنسان؛ فماذا بقي بعد ذلك، قبحهم الله؟! ألا شاهت وجوههم! فلينظروا إلى دولهم وما فيها من سفك الدماء البريئة، وانتهاك الأعراض، وبيع النساء كالسلع في الحانات والخمارات، ما بحثوا عن هذا ولا فكروا فيه، إنما فكروا في البلاد الآمنة المطمئنة، وفكروا في البلاد المسلمة المسددة الموفقة التي أصبحت مضرب المثل، فالشمس لا يمكن لأحد أن ينكر ضوءها، هذه حقيقة وشيء يشكر؛ لأن من الإنصاف والحق أن يقال للمصيب: أصبت، وأن يقال للمبطل: أبطلت، فهؤلاء يكيدون.
هؤلاء لا يريدون الخير الذي نعيشه وتعيشه الأمة، وقد هالهم ما يرون، حتى إن مواسم الحج التي يأتي فيها الملايين هالهم هذا الأمن من أمم مختلفة الأجناس والأعراف والدول، كلها تأتي لتطبيق دين الله وشريعته.
فيأتون يشككون باسم حقوق الإنسان، أي حقوق للإنسان التي يهتفون بها؟! دماء تسفك! وأعراض تنتهك في مشارق الأرض ومغاربها وما حركوا لها ساكناً، نساء ترمل! أطفال تيتم وما حركوا لها ساكناً، كل هذا لا يبحثون عنه، فالدعوة ليست دعوى حقوق إنسان، وهذا هو الذي يغيظ، وهذا الذي ينبغي أن تنطلق منه حمية الدين لا حمية الجاهلية، أن تكون عندنا غيرة على هذه الأمة وعلى هذه البلاد وعلى هذا الأمن، وعلى هذا الخير الذي نرفل فيه؛ لأن هذه حقيقة لا يمكن أن ننكرها، ومن كفر نعمة الله بدل الله عز وجل عليه نعمه، نسأل الله أن لا يبدل علينا نعمه.
فالواجب علينا عدم السكوت على هذا، والواجب علينا أن نتواصى، وأن نقول الكلمة المهمة ولا نجيب بعاطفة ولا بخواء، نريد كلاماً سليماً مصيباً مبنياً على حجج مقنعة، والحمد لله فالحجة عندنا؛ لأن الله يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وإذا نطق كتاب الله بأمر فهو الأمر الذي لا يمكن أن يرد: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] فالله حكم ولا يستطيع ابن النصرانية أو ابن اليهودية أن يعقب على حكم الله جل وعلا، ولا نرضى بهذا؛ لكن لا نرضى بهذا حينما نتعقل في معالجة هذا الداء، وبتر واستئصال شأن هذا الشر، وذلك حينما يسمع أعداء الإسلام أن هذه الأمة لا تقبل أن يتدخل أحد في شئونها، ولا تقبل من داخلها أن يخترق أحد صفوفها، ولذلك ينبغي توعية الشباب، وتوعية الأحداث الصغار.
ولذلك هناك واجب على الأئمة والخطباء، والأقلام التي تخاطب الناس في وسائل الإعلام والتوجيه المسموع والمرئي؛ أن يقوموا بكلمتهم، وأن يوجه الناس؛ لأننا نخشى أن تبث هذه السموم فتجد من يتلقاها، وإن كنا على قناعة أن الأمة على ثقة بدينها، وأن أعداء الإسلام أحقر من أن يدخلوا بين المسلمين وبين ربهم، ولكن لا بد أن ننبه على هذا.
وإنني والله أقولها من قلبي، والله يشهد أنني ما أقولها إرضاءً لأحد ولكن إرضاءً لله: شكر الله لولاة الأمر في هذا البلد ثباتهم على الحق، ولقد سمعت بأذني ما صرح به وزير الداخلية من كلام يثلج الصدر، ويبهج النفس، من كشف عور الأعداء وبيان كيدهم، وأنهم لا يريدون إلا الحقد على هذه الأمة وعلى دينها، وقال: إنهم أعداء للإسلام، حتى يستطيع الإنسان أن يقف منهم الموقف الصحيح، فهذا أمر يثلج الصدر؛ لأن كل من نصر هذا الدين ننصره ونحبه، وهذا دأبنا، ولا نزكيهم على الله من نصرتهم للحق نسأل الله أن يثبتهم عليه، وأن يعينهم عليه، وأن يكبت أعداءهم فيه، وأن يجعلهم حماة لهذا الدين ورعاة للحق.
ولا شك أنهم موفقون ما داموا يقولون بذلك ويحمونه، ولا شك أنهم منصورون، لسنا نحن الذين ننصرهم، وليسوا بحاجة إلى نصرنا، لكنهم أحوج ما يكونون إلى نصر الله عز وجل، إنما نقول هذا لأن هناك واجباً ومسئولية، وهناك فرضاً محتماً على أبناء الدين الإسلامي.
وكلنا والحمد لله في هذا البلد نؤمن بهذا الإسلام، ليس عندنا تيارات دينية وكافرة، ولكن نقول: إن كل شيء ينصر هذا الدين ينبغي أن نقف معه الوقفة التي ترضي الله عز وجل.
والله عز وجل أخبر في كتابه أن المجاهدين في سبيل الله ما وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم، والجهاد كما يكون بالسنان وباللسان، ويكون بالحجة والبيان، فالذي يتكلم بحجة وبكلام قوي ومبني على حجة فقد نصر الدين، ومن تكلم كلاماً في وجه أعداء الله عز وجل لرد شبهاتهم وضلالاتهم فقد جاهد في سبيل الله؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُ
(309/12)
________________________________________
حكم من نوى ارتجاع زوجته بقلبه أثناء العدة
السؤال
هل النية معتبرة في الرجعة، فمن طلق زوجته ثم سافر ونوى ارتجاعها وهو في سفره، ولكن لم يرجع من سفره إلا بعد انتهاء العدة، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
من نوى ارتجاع زوجته ولم يتكلم ولم يعمل، فإنه لا تصح رجعته على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور.
عند المالكية: أن النية تثبت بها الرجعة، على تفصيل عندهم وتفريق في ضوابط المقاصد.
لكن مذهب جمهور العلماء رحمهم الله على أن النية وحدها لا تكفي، وأنه لا بد من قول أو فعل، فلو أنه نوى الرجعة في قرارة قلبه قبل خروجها من عدتها، ثم خرجت من عدتها؛ فهي أجنبية وليست بزوجة له؛ لأن حديث النفس لا عبرة به ما لم يصحبه قول وفعل دال عليه.
والله تعالى أعلم.
(309/13)
________________________________________
التفصيل في قتل الحمام داخل الحرم وخارجه
السؤال
فضيلة الشيخ! كنت ماشياً في الطريق، وفجأة طارت حمامة واصطدمت بسيارتي وماتت من حينها، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
الأصل أن قتل الصيد الذي هو الحمام؛ إن كان الإنسان محرماً ويقود السيارة، فقد تقدم معنا في قتل الصيد أنه يستوي فيه الخطأ والعمد، والحمامة فيها شاة بقضاء الصحابة رضوان الله عليهم، فتجب فيها شاة كما هو قضاء الصحابة، فإذا كنت مسافراً وأنت محرم بالحج أو العمرة ثم صدمت حمامة أو دهستها وقتلتها فإن عليك الضمان، ويكون هذا الضمان بشاة في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم في جزاء المثل، فتخرج شاة أو عدلها من الطعام أو عدل الطعام من الصيام، هذا هو الأصل المقرر في كفارة قتل الصيد أو جزاء الصيد.
وأما إذا كان الدهس في حرم لا إحرام فيه، أي: إذا كنت داخل مكة ودهست حمامة، فقتل الحمام أيضاً داخل الحرم فيه شاة، وهو قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أيضاً، فقد قضوا في الحمامة بشاة، وأن من قتل حمام الحرم فكل حمامة فيها شاة.
وأما إذا كان الدهس خارج الحرم والإحرام، مثل أن تكون في غير مكة والمدينة، كأن تكون في جدة وحصل الدهس في الطريق إلى مكة أو إلى المدينة قبل الدخول في حرمهما، فحينئذٍ لا شيء عليك، ولا ضمان في هذا، خاصة وأنك مخطئ.
والله تعالى أعلم.
(309/14)
________________________________________
قول (سبحانك فبلى) عند قراءة آخر سورة القيامة
السؤال
هل ورد عند قراءة آخر سورة القيامة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ذِكرٌ، كأن يقول: بلى في صلاة الفريضة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
في صلاة الفريضة لم يرد، إنما جاء في حديث الترمذي أنه سمع رجلاً في قيام الليل يقول: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقال: (سبحانك بلى).
وعلى ذلك فالسنة أنك إذا قرأتها خارج الصلاة أو سمعت رجلاً يقرؤها، فاشهد أن الله قادر على أن يحيي الموتى سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] جل جلاله، وتقدست أسماؤه.
وكذلك إذا صليت بالليل أو صليت نافلة فقرأت هذه السورة تقول: سبحانك بلى؛ لكن في الفريضة لا؛ لأنه ما حفظ في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الليل والنهار المفروضة أنه وقف عند آية رحمة ولا آية عذاب ولا رد على آية، ولذلك يجب أن نفرق بتفريق السنة.
فلو كانت سنة ما سكت عنها عليه الصلاة والسلام، وما كان ثابتاً عنه في الفرض ثبت في الفرض، وما كان في النفل فهو في النفل، فيفرق حيث فرق الشرع؛ لأننا وجدنا الشريعة تخفف في النافلة ما لا تخففه في الفرض.
فوجدنا النافلة تصح من القاعد وهو قادر على القيام ولا يصح ذلك في الفرض، ووجدنا الإنسان يصلي على دابته في السفر النافلة ولا يصلي عليها الفريضة، ويصلي على دابته حيثما توجهت به في السفر إلى غير القبلة، ولا يصح ذلك في الفريضة، ففرقت الشريعة بين الفرض والنفل، وفي الفرض مزية ليست في النفل، ففرقنا لتفريق الشرع.
قال زيد رضي الله عنه: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) وهذا أصل في أننا لا نتكلم في الفريضة، فلما جاء الكلام في نافلة ولم يوجد في فرض بقي الفرض على الأصل، وهذا ما يسمونه تخصيص العموم، خصت النافلة فبقي الفرض على أصله، فلا نقول: الأصل أن النافلة والفرض على حد سواء؛ لأن الشريعة ما قالت إنهما على حد سواء، بل جعلت في النافلة تخفيفاً ليس في الفرض، وبناءً على ذلك نقول: ما ورد بعمومه يبقى على عمومه، وما ورد بخصوصه يخص الحكم به.
والله تعالى أعلم.
(309/15)
________________________________________
جواز خروج الموكل من منى قبل رمي وكيله
السؤال
في مسألة رمي الجمار، هل يجوز للموكل أن يخرج من منى قبل رمي وكيله؟
الجواب
أول شيء يشترط في صحة التوكيل في رمي الجمار؛ أن يكون الأصيل عاجزاً عن الرمي، حقيقة أو حكماً، عاجز حقيقة مثل المشلول لا يستطيع أن يرمي، وعاجز حكماً مثل الشخص الذي يخشى منه ضرر أو يخشى أن يموت مثل المريض بالقلب، وكبير السن من الحطمة الذي يغلب على الظن أنه لو دخل في زحام الجمرة لمات، فهذا عاجز حكماً، وإن كان قادراً على الرمي حقيقة، لكنه لا يستطيع لأجل الزحام، فهو في حكم العاجز الذي لا يستطيع أن يرمي.
كذلك العاجز حكماً مثل المرأة الحامل التي يغلب على الظن أنها لو دخلت في الزحام أو ضربت على بطنها ربما قتلت، فهؤلاء يرخص لهم، ومثل الصبيان الذين لا يعرفون الرمي ولا يستطيعون، فهؤلاء يوكلون، وجاء في حديث أنس عند ابن ماجة وغيره: أنهم رموا عن الصبيان في حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: أن يكون الوكيل الذي توكله بالرمي حاجاً في ذلك العام، فلا توكل الذي لم يحج، ومن الخطأ أن بعض الباعة في منى يتوكل عن بعض الحجاج، وهذا خطأ، فلا يصح الرمي إلا من حاج؛ لأنه عبادة لا تصح إلا من الحاج، والوكيل تابع للأصيل فحكمه حكم الأصيل، كما أن هذا الرامي -الأصيل- لا يصح رميه إلا أن يكون محرماً، كذلك الوكيل لا يصح رميه إلا إذا كان محرماً بالحج في ذلك العام.
ثالثاً: يشترط أن يبدأ الوكيل بالرمي عن نفسه حتى يتم الجمرات الثلاث ثم يرجع ويرمي عمن وكله، وقلنا: الجمرات الثلاث؛ لأنها نسك واحد، فيتم الرمي الذي أوجب الله عليه حتى يتم الثلاث ثم يرجع ويرمي عن غيره بالسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم بهذا فقال: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فإذا كان هذا في الكل فإن الجزء آخذ حكم الكل، فيرمي عن نفسه ثم يرمي عن غيره، ولا يصح أن يبرئ ذمة الغير مع شغل ذمته في حق نفسه.
وقال بعض السلف: الأفضل أن يحضر الأصيل ثم يرمي الوكيل بمحضره؛ ولكن هذا إن تيسر وفعل فهو من باب الأفضل، ولكن لا بأس بتركه وليس بلازم، ولو أنه جلس في الخيمة أو جلست المرأة في الخيمة وانطلق وكيلها ورمى فإنه يصح.
والذين استحبوا حضور الموكل قالوا: فائدة حضوره أن هناك سنناً مرتبطة به شخصياً، فإذا عجز عن الرمي فهو قادر على الدعاء، فبعد ما يرمي وكيله يقوم هو بالدعاء عن نفسه ويحقق هذه السنن تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه شهد ورمى، فإن عجز عن شيء في سنة الرمي بقيت سنة الشهود والحضور، فقالوا: إن مقصود الشرع أن يكون في هذا الموضع، إلى غير ذلك مما ذكر من التعليل، وعلى كل حال: ليس الحضور بلازم ولا واجب، وإذا رمى وكيله وهو في خيمته فالرمي صحيح ويجزيه.
والله تعالى أعلم.
فإن قيل: هل الخروج من منى له تأثير؟ أي: هل يشترط أن يكون الموكل في منى، أو يكون عند الجمرات؟ فالجواب: لا يشترط؛ بحيث إنه لو رمى عني جمرة العقبة وأنا أطوف طواف الإفاضة -أي: لست في داخل منى- فلا بأس، والمرأة العاجزة عن الرمي لو وكلت عن رميها ثم بعد ذلك نزلت وطافت طواف الإفاضة وتحللت فلا بأس، فلا يشترط أثناء الرمي أن تكون بمنى، وهكذا لو تعجل ورمى عنه وكيله ثم خرج من منى فإنه يجزيه ولا حرج عليه في ذلك.
والله تعالى أعلم.
(309/16)
________________________________________
أهمية العمل بالعلم
السؤال
نجد العلماء ينبهون على ضرورة العمل بالعلم، فما معنى هذا؟ وما هو الطريق للحصول على العمل بالعلم وفقكم الله لكل خير؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالعمل بالعلم درجة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة أحبها الله وأحب أهلها، واصطفى لها خيرة خلقه بعد أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فأحب الخلق إلى الله بعد الأنبياء والرسل العلماء العاملون، وهم الصديقون الذين جعل الله مراتبهم في الجنة بعد مراتب الأنبياء، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
فالعمل بالعلم هو البركة العظيمة، وهو من أصدق الشواهد وأظهر الدلائل على أن هذا العلم مبارك، فالعبد الذي بورك له في علمه تظهر دلائل بركة علمه في جانبين عظيمين: أولهما: عمله بالعلم، وحرصه على ألا يدنس علمه بالمخالفة لله ورسوله حتى لا يمقته الله عز وجل، وإذا مقت الله عبداً فلا تسأل عن حاله والعياذ بالله.
ثانياً: أن يرزقه الله عز وجل نشر العلم، ونفع الأمة، والحرص على دلالتها للخير، ومحبة هذا النصح وهذا التوجيه بنشر العلم قائماً وقاعداً، مسافراً وحاضراً، ينشره بين الصغير والكبير، والجليل والحقير، يحب أن الناس كلهم مثله، وأن الناس أفضل منه في العلم.
فإذا رزق الله العالم هاتين الخصلتين: علماً وعملاً، ودعوة وتعليماً للمسلمين، فقد أتم الله عليه النعمة، وبارك له في العلم، وهذا هو الذي يسأله ولي الله المؤمن حينما يقول: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ومن هنا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بربه جل جلاله من علم لا ينفع.
فمن أظهر الدلائل على عدم نفع العلم أن ينزع الله من صاحبه العمل، وإذا نزع العمل من العلم أصبح صاحبه من الجاهلين، فتجده يخبط خبط عشواء، وتجد علوم العلماء الراسخين من أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان منيرة، وأقوالهم واضحة، وحججهم بينة، وألسنتهم ألسنة صدق لا تتلجلج؛ من وضوح الحق وظهوره في صدورهم؛ لأنهم أحبوا العلم من كل قلوبهم، وعملوا به بأبدانهم، أحبته قلوبهم وأجنتهم، ونطقت به ألسنتهم، وعملت به جوارحهم وأركانهم، فأسعدهم الله به في الدنيا والآخرة، فهذه هي سعادة العلم، وهي لذته وسلوته وبركته وخيره، أعني أن يرزق الإنسان العمل به؛ لأنه إذا عمل رأت الناس عمله، ورأت دلائل العلم في سمته وهديه وقوله وعمله وظاهره وباطنه، فصار إماماً هادياً مهدياً، مهتدياً في نفسه هادياً لغيره، وقد جمع الله هذه المنزلة لخيرة عباده فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] هذا الأساس والقاعدة التي عليها سعادة الدنيا والنجاة من الخسارة، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فاهتدوا في أنفسهم أولاً، ثم هدوا غيرهم، ولن يهتدي الإنسان في نفسه حتى يعمل بالعلم.
وإذا أراد الله عز وجل أن يبارك لطالب العلم في علمه، فإنه يحتمل همه العمل بعد العلم، أول ما يحمل في العلم الإخلاص، ثم بعد ذلك يحمل هم الجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، ثم إذا رزقه الله الإخلاص والجد والاجتهاد في تحصيله وطلبه، حمل هم العمل بما علم، فإذا وفق للعمل بما علم حمل هم القبول من الله جل وعلا، فإذا وفق في دلائل القبول وظهرت أمارات القبول من حب الله سبحانه وتعالى له، ووضع المحبة في الخلق، وانتشر علمه، وانتفع به الناس؛ ازداد ذلة وانكساراً لربه، فلم يشعر في نفسه حتى يجعله ربه هادياً مهدياً، فينشر العلم بين الناس، ويوطئ كنفه للناس، ويخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين حتى ينتفع الناس بعلمه.
العمل بالعلم المراد به فعل ما أوجب الله عز وجل، وترك ما حرم الله عز وجل مما علم من نصوص الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة:24] فجعل الهداية بالعلم، فلا هداية إلا بعلم، ولا يمكن أن يكون العلم صحيحاً إلا إذا كان معه العمل، قالوا في الحكمة: (هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل).
فأي سنة تتعلمها تحرص على تطبيقها، فإذا سمعت رحمك الله: أن الله يحب الصلاة والمصلين، فمن عملك بعلمك حينما علمت أن أفضل ما تكون الصلاة أن تبكر إليها، فتبكر أول الناس إلى المسجد، إن استطعت أن لا يؤذن للفريضة إلا وأنت في المسجد فقد عملت بما علمت، وإن استطعت إذا دخلت المسجد فصليت أن لا تجلس صامتاً؛ لأنك تعلم فضل الذكر، فتجلس ما بين تلاوة القرآن وتسبيح وذكر لله واستغفار وانكسار لله عز وجل حتى تصلي والملائكة تصلي عليك؛ فقد عملت بما علمت لأنك علمت فضل هذه الأمور فعملت بها.
فإذا صليت رحمك الله ووسعك أن تنتظر الصلاة بعد الصلاة، وسمعت ما ورد من السنة في فضل ذلك فجلست ورابطت واحتسبت الأجر عند الله عز وجل، خاصة إذا كنت من طلاب العلم ومن أهل القدوة فتحرص على أن تكون إماماً لغيرك؛ فإذا حرصت على ذلك فقد عملت بما علمت.
فإذا صليت وأديت الصلاة على أتم وجوهها وجاءتك الفرائض ونوافلها ورواتبها حرصت على الأكمل والأسمى، فانتقلت من السنن الراتبة ومن الوتر إلى إحياء الليل وقيامه، فحرصت على قيام الليل، فلا تمر عليك ليلة إلا قمتها ما لم تكن مسافراً أو عندك عذر، ثم إذا وفقك الله إلى قيام الليل حرصت على الإكثار من النوافل في النهار، وعلمت فضل الوضوء وفضل الصلاة بعد الوضوء، فصرت لا تحدث حتى تتوضأ، ولا تتوضأ حتى تصلي ركعتين، فبورك لك في علمك بالصلاة وفضائلها.
تنتقل بعد ذلك إلى فضائل الصدقات علمت أن الله يحب المتصدقين، وأن الصدقة صدق في الإيمان، وتصديق لما ورد من الرحمن مما يكون من فضائل الصدقة في الدين والدنيا والآخرة، والمراتب العلى في الجنان، فسخى قلبك، وأنفقت يمينك، فأصبحت الدنيا في يدك لا في قلبك، وأصبحت لا تبالي بما تنفق، وأصبح أحب ما يكون عندك أن تلتمس مرضاة الله.
فإذا علمت أن الله يحب منك الصدقة الخفية، فبعد أن كنت تتصدق أمام الناس علمت أن الأفضل أن تخفيها: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فتنتقل إلى مرتبة الإخفاء، فكنت تتصدق بالنهار ثم صرت تتصدق بالليل، كنت تتصدق مع أناس فإذا بك تحمل الصدقة لوحدك.
ثم بعد الصدقات انتقلت إلى درجة الإيثار، فكنت تتصدق بالفضل، فجاءك أخوك في كربة أو دين أو نكبة وعندك مال، فعلمت أن الله يبتليك، وخرجت من المسجد ورأيت مكروباً منكوباً يقول لك: لله! وليس في جيبك إلا ريال أو ريالان أو عشرة أو عشرون، وهو أشد ما يكون حاجة لها، فعلمت معنى: (لله) أي: أعطني وثوابك على الله، فأعطيته فقد عملت بما علمت.
ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ينزعج إذا قيل له: في سبيل الله، ولا يمكن أبداً أن يبرح حتى يعطي، يقول: لأنه قال لي: لله وفي سبيل الله، ولا يمكن أن أبرح حتى أعطيه؛ لأنه يعلم ما معنى هذه الكلمة.
ففائدة العلم أن يعمل الإنسان بما علم، وأن يعلم كيف يعامل الله سبحانه وتعالى.
ثم تنتقل إلى مراتب أخرى حتى يجعلك الله عز وجل من العلماء العاملين، والله يبتلي طالب العلم من أول خطوة يخطوها، من اليوم تفكر أنك لا تتعلم شيئاً إلا عملت به، ولا تسمع بسنة إلا عملت بها، قالوا: اعمل بالحديث ولو مرة تكن من أهله، حتى إن بعض أئمة الحديث كالإمام البخاري وغيره كانوا إذا قرءوا أحاديث الصدقات جمعوا ما عندهم فتصدقوا بها، لا يحبون أن يمر عليهم أمر من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في ندب أو طلب أو رغبة أو رهبة أو رجاء إلا حرصوا على تطبيقه والعمل به؛ وعندها ينشرح صدره، ويثبت على الخير قدمه، ولذلك تجد بعض طلاب العلم لا يطلب العلم شهراً أو شهرين إلا وجد نفحات العلم وبركاته في صدره وقلبه وقالبه، تجد فعلاً أن العلم أثر عليه.
وتجد بعض طلاب العلم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا دخل في طلب العلم إذا به يحفظ الصغير والكبير، وإذا به أقسى الناس قلباً، وأبعدهم عن الله عز وجل، وتجده يمر على المواقف التي تهز عامة المسلمين ولا يحرك فيه ساكناً؛ لأنه إذا طبع على القلب أو مقت الله صاحبه فلا تسأل عن حاله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذا.
على كل موفق سعيد أن يحرص على أن يكون بينه وبين الله سر، وأفضل ما يكون العمل بالعلم إذا كان بينك وبين الله عز وجل، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون عملك بعلمك حينما يكون بينك وبين الله في أسرارٍ خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل.
تجلس مع الناس وتعاشر طلابك وإخوانك وأهل مسجدك كواحد منهم، تسافر معهم وتجلس معهم ولا يشعرون بقيامك في ليلك، ولا بطاعاتك ولا بنفقاتك ولا بأمورك الخفية؛ لأنك تخاف الرياء على نفسك، فإذا خلوت بربك علم الله أن بينك وبينه سراً وهو الخوف الصادق والخشية الخفية، فعندها يبوئك الله مبوأ الصادقين، ويفتح عليك حتى تبلغ درجات العلماء العاملين.
هذه مرتبة.
ثم إذا أراد أن يتم عليك النعمة أوصلك إلى درجة لا تبالي بما أظهرت وأخفيت من عملك، فتصبح عندك السر والعلانية سواء، بحيث إنك لو أظهرت العمل لم تبال بالناس، ولو جلست في محاضرة وفي مسجد تخطب خطبة وأمامك عشرة آلاف، فكأنك جالس وحدك.
هذه كلها مراتب للمخلصين والأئمة المهتدين، ولذلك كان أئمة السلف يضربون أروع الأمثلة في المعاملة مع الله عز وجل.
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى ووجهه الكريم، أن يجعلنا علماء عاملين أئمة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(309/17)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [3]
لقد اهتم الإسلام بشأن المرأة فجعل لها قدرها عند زوجها، ورفع من شأنها كأم مربية للأجيال، ورد لها اعتبارها فيما إذا اختلفت مع زوجها أو حصل لها طلاق أو فراق، أو انتهت العدة ولم يشعر بذلك الزوج، فلها قولها ورأيها تتكلم وتتخاطب مع زوجها وفق معايير الشرع وآدابه وأخلاقه أمام القضاء العادل.
وهنا أحكام تتعلق باختلاف الزوج مع زوجته في وقت الطلاق وانتهاء العدة، ففي أحوال يقبل قولها وفي أحوال يقبل قوله، وقد بين الشيخ هذا الاختلاف، مع بيان مأخذ كل قول للعلماء في ذلك
(310/1)
________________________________________
اختلاف الزوجين في انقضاء العدة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان مسائل الاختلاف في الرجعة، وهذه المسائل في الحقيقة ترجع إلى كتاب القضاء، يختصم فيها الزوج مع زوجته، هل وقعت الرجعة أو لم تقع الرجعة؟ وكان ينبغي أن تُذكر هذه المسائل في كتاب القضاء؛ لأنها راجعة إلى المسألة المشهورة: من هو المدعي ومن هو المدعى عليه؟ وقد ذكرنا غير مرة أن من عادة أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون مسائل الاختلاف في كل باب من أبواب المعاملات بحسبه، فمسائل الاختلاف في البيع تُذكر في كتاب البيع، ومسائل الاختلاف في الإجارة تذكر في باب الإجارة، وهكذا بالنسبة لمسائل الاختلاف في باب الأنكحة، فذكر المصنف رحمه الله اختلاف الزوج مع زوجته وسيذكر جملة من الصور التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله.
هل نصدق الزوجة ونحكم بكونها خرجت من العدة، أو يبقى الزوج على الأصل من أنها رجعية وأنها في عدتها، ويحكم بقوله قضاءً؟ هذه المسألة فيها تفصيل: من حيث الأصل: إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، وادعت المرأة أن العدة قد انتهت، فإنها إما أن تكون من ذوات الحيض، أو تكون من ذوات الحمل، أو من ذوات الأشهر.
فالعدة إما أن تكون بالحيض (بالأقراء)، وإما أن تكون بالأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض، وإما أن تكون بوضع الحمل، فإن كانت المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من ذوات الأقراء، فإنه حينئذٍ ينظر في الشيء الذي تدعيه، إن كان الوقت الذي ادعت فيه أنها قد خرجت من عدتها يمكن في مثله أن تخرج، حُكِمَ بقولها إلا إذا دل الدليل على خلافه.
فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكان قد طلقها قبل شهر نظرنا إلى أقل الحيض، يكون فقه المسألة أنها دعت أنها قد حاضت ثلاث حيضات، أو طهرت ثلاثة أطهار، على الخلاف هل العدة ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات؟ إذا ادعت أنها خرجت من العدة وكان وقت الطلاق قد مضى عليه ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن الغالب صدقها، وهذا لأن الأصل أنها في كل شهر تحيض حيضة.
لكن الإشكال أن تدعيه في غير المعتاد، كأن يمضي شهر على الطلاق، أو يمضي شهر ونصف على الطلاق، فهل يمكن لمثلها أن تحيض ثلاث حيضات أو تطهر ثلاثة أطهار في هذه المدة؟
الجواب
نرجع إلى المسألة التي تقدمت معنا في باب الحيض، فننظر إلى أقل الحيض وأقل الطهر، فنضيف أقل الحيض إلى أقل الطهر ونكرره ثلاث مرات في الأطهار، وثلاث مرات في الحيضات مع الطُهر.
فإذا قلنا على قول الحنابلة والشافعية رحمهم الله: إن أقل الحيض يوم وليلة، وقالت: إنها حاضت الحيضة الأولى في اليوم الأول وطهرت مباشرة ثم قالت: إنها طهرت ننظر في الطهر، فإذا وافق أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً أضفناها لليوم الذي هو يوم الحيض.
ففي يوم الرابع عشر تم طهرها الأول، وتدخل في الحيضة الثانية، فإذا قالت: رأيت الدم في اليوم الخامس عشر، واليوم الخامس عشر هو الحيضة الثانية، فإذا قالت: انقطع الدم بتمام مدته أضفنا ثلاثة عشر يوماً فصار الكل ثمانية وعشرين يوماً فتكون قد دخلت في الحيضة الثالثة في التاسع والعشرين؛ فإذا قلنا: إنها قد دخلت بدخول التاسع والعشرين فأضف يوماً واحداً لحيضتها الثالثة، فبتمام اليوم التاسع والعشرين تكون قد أتمت الحيض، ثم قالت: إنها طهرت.
فبداية طهرها أن تضيف على اليوم التاسع والعشرين لحظة لكي تدخل في الطهر الثالث.
فإذا دخلت في الطهر الثالث فقد حلت على القول بتمام الحيض.
وكذلك بالنسبة للمذهب قلنا: إن هذا القول وهو أن أقل الحيض يوم وليلة وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً استند إلى قضية شريح رحمه الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
فإن امرأة ادعت أنها قد خرجت من عدتها في شهر، فرفعت القضية إلى علي رضي الله عنه فقال: شريح لهذا، وقال: (إن جاءت ببينة من أهلها يشهدون بصدقها حكمت) يعني: بخروجها من عدتها، فقال له علي رضي الله عنه: (قالون) أي: أحسنت، أو كلمة ثناء بالفارسية.
فدل هذا على أنه إذا مضت تسعة وعشرون يوماً ولحظة أنه يمكن أن يحكم بخروج المرأة من عدتها.
أما إذا قلنا: إن الحيض لا حد لأقله فالأمر أخف وأقل؛ لأنه يتحقق ولو بلحظة واحدة كما هو مذهب المالكية، وتضيف إليها ثلاثة عشر يوماً طهراً، ويكون حينئذٍ الشهر زمن الإمكان من حيث الأصل.
على كل حال المصنف رحمه الله اختار أنه تسعة وعشرون يوماً ولحظة، فإذا ادعت المرأة وكانت من ذوات الأقراء أنها قد طهرت خلال شهر أو خلال هذه المدة فأكثر، حكم بتصديقها من حيث الأصل؛ لأنه زمن الإمكان.
هكذا لو كان الزوج يقر أن زوجته عادتها مثلاً ستة أيام، وتطهر في العادة أربعة عشر يوماً، فحينئذٍ يحسب لها عشرون يوماً ثم عشرون يوماً ثم عشرون يوماً، فلو ادعت بعد شهرين حكم بخروجها من العدة.
وتقاس على هذا المسائل الأخر؛ لأن هذه المسألة أصل من جهة أقل الحيض وأقل الطهر؛ وإلا إذا ادعت المرأة أنها خرجت من عدتها في زمن يمكن أن تخرج فيه من عدتها وكانت من ذوات الحيض حكمنا بصدق قولها ما لم يقم الدليل على خلافه، هذا بالنسبة لذوات الأقراء.
وإذا كانت المرأة من ذوات الأشهر كالصغيرة والآيسة من الحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فحينئذٍ لا يكون الاختلاف في نهاية العدة مشكلاً إذا كان هناك اتفاق على بداية الطلاق.
فإذا اتفقا على اليوم الذي وقع فيه الطلاق لم يقع إشكال في خروجها؛ لأنها تضاف ثلاثة أشهر كاملة، ولو ادعت دون الثلاثة الأشهر لم يلتفت إلى قولها؛ لكن الإشكال في هذا النوع من النساء أنه يختلف الزوج مع زوجته في زمن وقوع الطلاق.
فيقول مثلاً: إن الطلاق كان يوم الخميس، وتقول هي: كان الطلاق يوم الأربعاء، فالزوج يدعي الطلاق في الخميس، والزوجة تدعي الطلاق في الأربعاء.
فالفرق بينهما يوم واحد فإذا كان قد راجعها في هذا اليوم، فهل تكون قد خرجت من عدتها أو لم تخرج؟ فحينئذٍ يحكم بالأصل.
وسيأتي إن شاء الله بيان أن الأصل بقاء الزوجية إلى يوم الخميس؛ لأنها قالت: طلقت يوم الأربعاء، فأنا الآن حل للأزواج وقد خرجت من عدتي، فقال: بل طلقتك يوم الخميس ولا زلت في عصمتي، وقد راجعتك في هذا اليوم الأخير.
فاليوم المختلف فيه الذي هو تمام الستين يوماً على قوله، وزيادة اليوم على قولها، ترجع إلى مسألة أخرى، وهي أن الزوج حينما قال: طلقتك يوم الخميس.
وقالت هي: طلقتني يوم الأربعاء، فالأصل واليقين أن الزواج باق إلى الخميس؛ لأن الأصل أنها زوجته وهو الذي أوقع الطلاق.
الأمر الثاني أنه من حيث الأصل: أننا يوم الأربعاء متفقون على أنها كانت زوجته من حيث الأصل حتى وقع طلاقها، فيقولون: نستصحب الأصل.
ولذلك فطائفة من العلماء يفرعون هذه المسألة على مسألة (اليقين لا يزال بالشك)، وهي إحدى القواعد الخمس التي ذكرناها، والتي قام عليها الفقه الإسلامي، ومن فروعها: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
فالأصل أنها زوجته إلى يوم الخميس حتى يدل الدليل على سبق الطلاق، فإذا جاءت بشهود أنه طلقها يوم الأربعاء خرجت من عدتها وأصبحت حلالاً للأزواج، ولا يملك ارتجاعها إلا بعقد جديد، فهما إذا اختلفا وقالت: طلقتني يوم الأربعاء وأنا الآن حل وليس لك عليّ سلطان؛ لأني قد خرجت من عدتي.
وقال: بل طلقتك يوم الخميس.
حكمنا بقوله، فإن شهد الشهود أنه وقع طلاقه لها يوم الأربعاء حكم بكونها أجنبية ولا تحل له إلا بعقد جديد على الأصل الذي ذكرناه في الرجعية إذا خرجت من عدتها.
أما ذات الحمل إذا طلقها وكانت حاملاً فالعلماء اختلفوا فيها على وجهين: من أهل العلم من قال: لا يمكن أن يحكم بخروجها من عدتها إلا إذا وضعت جنينها، ويكون الوضع المعتبر، وحينئذٍ لابد من مضي ستة أشهر؛ لأن الستة الأشهر هي تمام الحمل.
وتقدير الحمل بستة أشهر تتفرع عليه مسائل مهمة جداً منها: مسألة شق بطن المرأة إذا ماتت وفي بطنها جنين، فلا يجوز إلا إذا تمت له ستة أشهر، وحكم الأطباء بوجوده حياً، فحينئذٍ يشق بطنها ويستخرج، أما إذا كان دون ستة أشهر فلا يشق.
كذلك مسألة: إذا ادعت أنها وضعت حملها قبل ستة أشهر لا يحكم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فبيّن سبحانه أن حمل الجنين وفصاله عن الرضاع يتم في خلال ثلاثين شهراً.
وقد بيّن نص القرآن أن الرضاع في الأصل يكون حولين كاملين، والحولان أربع وعشرون شهراً، فإذا كان الحمل مع الرضاعة التامة بنص القرآن يكون ثلاثين شهراً، فمعنى ذلك أن أربعة وعشرين شهراً منها للرضاعة، ويبقى ستة أشهر هي للحمل، وهذا يدل على أن أقل الحمل هو ستة أشهر.
إذا ثبت هذا وادعت أنها وضعت حملها، فقد اختلف العلماء فبعض العلماء يقول: ينظر إلى تمام الحمل وذلك بستة أشهر ولا يلتفت إلى ما دونه، ومن أهل العلم من قال: السقط إذا كان بعد مدة التخلق وتصويره حكم بخروجها من العدة إذا ألقته ولو كان سقطاً.
وفرعوا على ذلك مسائل منها: أنه يستتبع الدم ويحكم بكونه آخر حكم دم النفاس، كما اختاره بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله عليهم.
وبناءً على ذلك يقولون: إذا تمت ودخلت في الأربعين الثانية هي التي ينتقل فيها من النطفة إلى العلقة، ثم ألقته، حكم بخروجها من العدة، والصحيح ما ذكرناه أنه لابد من تمام مدة الحمل حتى يحكم بخروجها من العدة، كما سيأتي تفصيله في باب العدد.
بالنسبة لقوله: [إن أمكن] أي: زمان الإمكان لا نقبل من كل امرأة أن تدعي خروجها من عدتها؛ لأن هذا يفوت على الزوج إرجاعها، فالأصل أنها إذا طلقت طلقة واحدة أو طلقتين وكانت مدخولاً بها، فإن زوجها أحق بارتجاعها.
فإذا ادعت أنها خرجت من العدة فقد فوتت على زوجها حقه، وحينئذٍ يترتب عليه أنه ربما عقد عليها رجل آخر، فعقد على امرأة في عصمة غيره.
فهذا يدعو العلماء رحمهم الله إلى بيان الحد المعتبر للحكم بخروج المرأة، والقول المعتبر من المرأة إذا ادعت تمام عدتها وخروجها من حك
(310/2)
________________________________________
أحوال المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها من زوجها
(310/3)
________________________________________
أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن ممكن انقضاؤها فيه
قال المصنف رحمه الله: [وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه].
فقوله: (وإن ادعت انقضاء عدتها) أي: من طلاقها الرجعي (في زمن يمكن انقضاؤها فيه) بأن قالت ذات حمل: مضت ستة أشهر، وأيضاً إذا قالت أنها ألقت جنينها أو ولدت.
وكذلك ادعت انقضاء عدتها في شهر على القول الذي ذكرناه في أقل الحيض، أو ادعت أنها خرجت من عدتها وكان الطلاق قد وقع قبل ثلاثة أشهر، إن كانت من ذوات الأشهر، فحينئذٍ يحكم بقولها.
قوله: [في زمن يمكن] فلو انعكس الأمر وكان في زمن لا يمكن، فادعت ذات الأشهر أنها خرجت من عدتها بعد شهرين لم يقبل قولها؛ لأنها قالت: طلقني في أول رجب ثم جاءت في نهاية شعبان تقول: إنها خرجت من عدتها.
هذا زمن لا يمكن فيه خروجها من العدة؛ لأن الله عز وجل بين أن الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ادعت الشهرين أو ادعت الشهرين والنصف وعدتها ثلاثة أشهر لم يقبل قولها قطعاً.
وكذلك أيضاً لو ادعت أنها حاضت وطهرت، وحاضت وطهرت، وحاضرت وطهرت في أقل من شهر كأن تقول في عشرين يوماً، فهذا ليس بزمن إمكان، وحينئذٍ لا يعتد بقولها.
هناك قول آخر: إنه ينظر إلى أكثر الحيض ويعتد بأكثره، ويلزمها هذا الأكثر، وحينئذٍ تكون الصورة على خلاف مسألتنا كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله؛ لأنهم يحتاطون خاصة في مسألة حلها لزوج، وخروجها من عصمة الزوج الأول.
قال رحمه الله: [أو بوضع الحمل الممكن] أي: أنها مضى لها ستة أشهر فأكثر، فهذا ممكن أنها تضع فيه حملاً، ويحكم بخروجها من عدتها بالوضع، وقال تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فإذا ادعت أنها خرجت من عدتها وكانت حاملاً، ومضى على طلاقها ستة أشهر، فإننا نحكم بكونها أجنبية عنه وقد خرجت من عدتها.
قال رحمه الله: [وأنكره فقولها].
مفهوم (أنكره) أنها إن صدقها في زمن الإمكان فلا إشكال، لكن إذا أنكر فالقول قولها، ومعنى كون القول قولها أن الزوج لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على كذبها وعدم صحة ما ذكرته.
وهذا يختلف بحسب اختلاف الدعاوى، فالمسألة فيها خصومة بين الزوج وزوجته، فيأتي الزوج الأول ويجد أن زوجته قد عقد عليها زوج غيره فحينئذٍ يقول: هذه المرأة لا زالت في عصمتي.
فقالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني.
أو قال مثلاً: راجعت وأنت ما زلت في العدة الآن فكيف تنكحي، كل هذه المسائل تحتاج إلى فصل، وكل هذا الخصومات والنزاعات تحتاج إلى قطع.
فبيّن المصنف رحمه الله أننا ننظر إلى دعوى المرأة، فإن كانت دعواها أنها خرجت من العدة وافقت أصلاً صحيحاً، بحيث مضى زمن يمكن أن يصدق فيه قولها حكمنا بأنها أجنبية، وأنه لا حق للزوج إلا إذا أقام بينة.
فالأصل أن العلماء رحمهم الله ذكروا هذه المسائل لبيان هل خرجت المرأة من العدة أو لم تخرج؟ مما يترتب عليها من الحقوق والحكم ببطلان نكاح الثاني إذا وقع نكاحه، فإن المرأة في بعض الأحيان بمجرد ما تخرج من عدتها من الزوج الأول يعقد عليها في اليوم الثاني.
وحينئذٍ يقع شيء من الخصومة، وربما حصل بين الناس شرور، ففصل بينهم بأن القول قول المرأة إذا مضى زمن يمكن أن يصدق فيه دعواها فيقبل قولها ويقال له: أحضر البينة على صدق ما تقول.
فلو أقام البينة على أنها لا زالت في عصمته على صور مختلفة في ذوات الأقراء والحمل والأشهر حكم بقوله؛ لأن البينة حجة قاطعة للدعاوى.
(310/4)
________________________________________
أن تدعي المرأة انقضاء العدة في زمن غير ممكن
قال رحمه الله: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها]: إذا ادعته الحرة من ذوات الحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة، فإذا ادعت هذا كان خلاف زمن الإمكان كما ذكرنا، ويُحكم ببطلان دعواها؛ لأن الدعوى إذا كذبها الحس لم تقبل.
فالدعوى لها شروط وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء، فالقضاء لا يقبل كل دعوى، فشرط قبول الدعوى أن تكون صادقة أي: يصدقها الواقع ولا يكذبها الحس.
لو أن شخصاً جاء عند القاضي وقال: أدعي أنني أملك مكة كلها، أو أني أملك المدينة كلها، أو أملك جدة، هذه لا يصدقها الحس وتكون دعوى باطلة من أصلها.
الدعاوى الباطلة من أصلها لا تقبل، المرأة إذا ادعت أنها خرجت من عدتها في زمن لا يمكن أن تخرج فيه من عدتها كذبها الواقع والحس، فترد هذه الدعوى ولا تسمع.
(310/5)
________________________________________
خلاف الرجل والزوجة في إثبات الرجعة ونفيها
قال رحمه الله: [وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال كنت راجعتك].
هذه المسألة ترجع إلى مسألة من المدعي والمدعى عليه؟ من أهل العلم من قال: إن المدعي كل من خالف الأصل والظاهر والعرف، فإذا خالف قوله الأصل أو خالف الظاهر أو خالف العرف فإنه يُحكم بكونه مدعياً ويطالب بالبينة.
ويكون خصمه مدعىً عليه، فيكون القول قول خصمه حتى يقيم هو الدليل، ولا شك أنك حينما تكون مدعىً عليه أفضل من أن تكون مدعياً؛ لأن المدعى عليه الأصل أنه بريء، وأن القول قوله حتى يثبت ما يخالف هذا الأصل.
فإذا كانت المرأة في مسائل الاختلاف هنا ابتدأته فقالت: خرجت من عدتي فقال: كنت قد راجعتك، فإذا قالت: خرجت من عدتي فلا شك أن الزوج يسلم، واليقين أنها الآن قد خرجت من العدة، لكن عنده دعوى أنه راجع.
فاختلف العلماء رحمهم الله، هل الذي يطالب البينة الزوجة؟ لأن الأصل أنها زوجته ما دام أنه قد ادعى رجعتها فنقبل قوله ويكون إنكارها للرجعة دعوى تحتاج إلى بينة.
نحن قلنا: المدعي من كان قوله يخالف الأصل أو يخالف العرف أو يخالف الظاهر، وهناك ضابط آخر عند بعض العلماء: أن المدعي هو الذي يقول: حصل، والمدعى عليه الذي يقول: لم يحصل، أي أن المدعى عليه هو الذي ينفي، والمدعي الذي يثبت.
تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا المدعي من قوله مجرد من أصل او عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه ادعى فهو هنا يقول: كنت راجعتك، قالت: ما راجعتني، فبعض العلماء يقول: القول قوله لأنه يثبت أصلاً مستصحباً من كونها زوجة.
وبعض العلماء كما درج عليه المصنف يقول: القول قول الزوجة؛ لأننا على يقين أنها أجنبية؛ لأن الزوج لابد أن يسلم أنها انتهت عدتها، وأنها قد خرجت من وقت الرجعة؛ فحينئذٍ لا نشك أنها أجنبية؛ فإذا جاء يدعي أنه راجع كانت دعواه خلاف الأصل والظاهر.
ومن هنا نقبل الظاهر من أنها أجنبية ونلغي دعوى الرجعية حتى يقيم الدليل.
ويلاحظ كل طالب علم أن الإشكال هنا ما لم تقم البينة، فلو قامت البينة زال الإشكال، فلو أن الزوجة ادعت ولو بعد سنتين أنها خرجت من عدتها، وجاء وأثبت بالشهود أنه راجعها قبل خروجها من عدتها فإننا نحكم بكونها زوجته.
إذا قامت البينة أو صدقته فلا إشكال، والأصل أن الزوج إذا أقام البينة وأثبت أنه راجعها رجعت إلى زوجها وأصبحت في حكم زوجاته.
لكن الإشكال إذا وقع الخلاف بين الزوج والزوجة، أو تزوجها رجل آخر، فهل نهدم النكاح الثاني ونحكم بكونه دخل على امرأة محصنة، والله عز وجل حرم المحصنات لأنها زوجة للغير، ولا يحل نكاح زوجة الغير؟ وقد أفتى بهذا الأئمة، وعلي رضي الله عنه كان يقضي بهذا، ويقضي أنها للزوج الأول مطلقاً سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ فإذاً الإشكال عندنا في هذه المسألة، هل نصدق قول الزوج بناءً على أنه يستصحب أصلاً سابقاً للخروج من العدة، أو نصدق قول الزوجة؟ المصنف رحمه الله وطائفة من أهل العلم وأئمة السلف يقولون: القول قول الزوجة مطلقاً، سواء بدأت أو بدأها هو بالكلام فالقول قولها، ومن أهل العلم من قال: القول قول الزوج.
ومنهم من قال: القول قول من سبق منهما بالدعوى، ويكون من خالفه خالف الأصل، فالزوج إذا قال: راجعتك كان مدعىً عليه بنفي الرجعة عندما تقول: ما راجعتني وإنني أجنبية، أو خرجت من عدتي ولم تراجعني، والعكس لو أن المرأة قالت: أنا أجنبية وقد خرجت ولم تراجعني، فقال: راجعتك.
يكون هو المدعي.
فإذاً هذه ثلاثة أوجه عند العلماء، والأقوى والأصح إن شاء الله: أن القول هو قول الزوجة؛ لأن الظاهر والثابت عندنا هو أن يسلم أنها قد خرجت من العدة.
والصورة هذه وقع فيها الخلاف والمرأة قد خرجت من العدة، فليس الخلاف في أنها لا زالت في العدة أو لم تزل، لو كان الخلاف في أنها خرجت من العدة أو لم تخرج لرجعنا إلى أن الأصل أنها في عدتها، ويكون موقف الزوج قوياً من هذا الوجه.
لكن عندما يكون الطرفان متفقين على خروجها من العدة، وهو يدعي أنه قد راجعها قبل خروجها، فهناك شيء يسمى الظاهر، وهو أنه لم يراجعها؛ لأنه لو راجع لما نكحت، ولو راجع لقام الدليل على مراجعته فهذا يسمى عند العلماء بالظاهر.
فهناك شيء يسمى الأصل، وهناك شيء يسمى الظاهر؛ وهناك شيء يسمى العرف، فمثل الظاهر لو أن شخصين راكبان على بعير فقال أحدهما: البعير بعيري، وقال الثاني: بل هو بعيري، فإنا نقول: الذي في المقدمة الظاهر أنه يملك هذا البعير؛ لأن ظاهر الحال أنه ما يقود البعير إلا صاحبه، فنقول: البعير له.
ولو أن اثنين اختصما في بيت أحدهما داخل البيت، والثاني خارجه فأحدهما يقول: البيت بيتي فاخرج من بيتي، وقال الآخر: البيت بيتي ولست بخارج منه، فحينئذٍ نحكم للذي بداخل البيت أنه بيته؛ لأن دليل الظاهر يشهد بأن البيت بيته.
فإذا ثبت هذا فإن الظاهر أنها أجنبية، وإذا ثبت عندنا كونها أجنبية فنقدم هذا الظاهر ونحكم به، ونعتبرها مدعىً عليها حتى يقيم الزوج الدليل والبينة على أنه راجعها.
فإذا قالت: قد خرجت من عدتي ولم تراجعني، وقال: بل راجعتك، فقال القاضي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، فهنا يقول القاضي: إذاً ليس لك إلا يمينها، فإذا قلنا: القول قولها فمعناه أنها تحلف اليمين عند عجز المدعي عن إقامة البينة.
والمدعي مطالب بالبينه وحالة العموم فيه بينه والمدعى عليه باليمين في عجز مدعٍ عن التبيين فيطالب المدعى عليه بأن يحلف اليمين وتقول: والله لم تراجعني، بناءً على أن هذا هو الظاهر، وتشهد بالله أنه ما راجعها؛ لأنها ما سمعته يراجعها، ولا ثبت عندها بينة أنه راجعها، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن.
فلو أن شخصاً استلفت منه عشرة آلاف ريال، وغلب على ظنك أنك رددت له العشرة آلاف ريال فمن حقك أن تحلف اليمين، ولو قال لك: احلف لي بالله أنك رددتها -وعندك غلبة ظن- فإنه يجوز لك أن تحلف على غالب الظن.
ومن هنا فرع العلماء جواز حلف اليمين على الأمر الظاهر، فلو أن شخصاً ادعى على ورثة أن له على ميتهم مائة ألف ريال فقالوا: ما نعرف لك هذا، أحضر لنا بينة تثبت أن لك على مورثنا مائة ألف ريال، قال: ما عندي بينة ولكن احلفوا أنتم أنه ليس لي في ذمة أبيكم مائة ألف ريال.
فهل من حقهم أن يحلفوا؟ نعم؛ لأن عندهم دليل الظاهر، وهو أن مورثهم لو كان في ذمته شيء لأخبر ورثته وكتب ذلك، ولو فتح هذا الباب لكان كل شخص يدعي على الورثة أن له على مورثهم حقوقاً، فتؤكل أموال الناس بالباطل.
فإذاً من حقها أن تحلف على الظاهر وتقول: والله ما راجعتني، بناءً على أنها لم تسمع برجعته، فهو يقول لها إنه راجعها وهي لم تر منه فعلاً يوجب الرجعة، ولم تقم البينة والدليل على ثبوت رجعته، فهي على يقين من أنها أجنبية، فيجوز لها الحلف على ذلك.
قال رحمه الله: [أو بدأها به] هكذا الحكم لو بدأها، فالمصنف اختار هذا القول سواء بدأها هو بالقول أو هي بدأته، وبعض العلماء يقول: القول قول الزوجة، وبعضهم يقول: العبرة بمن بدأ، كما ذكرنا.
وهناك وجه رابع أشار إليه الإمام النووي وغيره رحمهم الله برحمته الواسعة وقالوا: إنه يقرع بينهما، ومن خرجت له القرعة فالقول قوله؛ لأن كلاً منهما له أصل.
فكل منهما له دليل قد يوجب أن يكون مدعياً من وجه ومدعىً عليه من وجه آخر، فنقول: يقرع بينهما لاستواء حقيهما، فمن خرجت له القرعة حكم بأن القول قوله.
لكن المصنف اختار هذا القول الذي مشى عليه طائفة من العلماء رحمهم الله، أن القول قول الزوجة ما لم يقم زوجها الدليل والبينة على صدق ما ادعى.
[فأنكرته فقولها].
أي قالت: ما راجعتني.
فالقول قولها لما ذكرناه.
(310/6)
________________________________________
الأسئلة
(310/7)
________________________________________
حكم من طلقت وهي حامل ثم أسقطت قبل مضي ستة أشهر
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أن ذوات الحمل يجب أن تنقضي لها ستة أشهر، فأشكل عليّ لو أسقطت قبل ذلك؛ فهل نلزمها بعدة ذوات الأشهر أو نلزمها بثلاث حيض؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: هذه المسألة مندرجة تحت مسألة ذكرها العلماء رحمهم الله: إذا كانت المرأة على حال حكم بعدتها باعتبار حالها الذي هي فيه، ثم تغير هذا الحال.
مثال ذلك: أن تكون صغيرة آيسة من الحيض ثم تحيض فهل تستمر بعدة الأشهر أو بعدة الأقراء أو يجمع بينهما؟ فبعض العلماء رحمهم الله يرى أن دخول الوصف الثاني خاصة إذا كان أصلاً يلغي الوصف الأول، فلو مضى لها شهران ثم حاضت الشهر الثالث يقول: تستأنف المدة بعدة الحيض.
ودليل هذا القول: أن الله اشترط في الاعتداد بالأشهر أن تكون غير حائض، فدل ذلك على أن الأصل أنها تعتد بالحيض.
فإذا كان الأصل أنها تعتد بالحيض فحينئذٍ إذا حكم بعدتها بالأشهر ورجعت إلى الأصل ألغي الفرع، وحكم بالرجوع إلى الأصل ووجب عليها بالأصل بمعنى: أنها تعتد ثلاث حيضات على القول بالحيض أو ثلاثة أطهار على القول بالطهر.
القول الثاني: يجمع بينهما ويحكم بإتمام العدة إن مضى لها شهران، فتكون في حكم من مضى لها حيضتان على القول بالحيض أو طهران على القول بالطهر.
ويقول أصحاب هذا القول: تحيض حيضة ثالثة ويحكم بخروجها بها، فبأول حيضة من حيضاتها تخرج فيها من عدتها، أو بأول طهر على التفصيل والاختلاف هل العدة بالحيضات أو بالطهر، سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة واختلاف أهل العلم رحمهم الله فيها.
وهذا المسلك أشبه بمسلك التلفيق، ومسلك التلفيق في بعض الصور قوي وراجح، وفي بعضها ضعيف مرجوح، ومسلك الرجوع إلى الأصل من ناحية أصولية أقوى إلا أنه في هذه المسألة أضيق، والقول بالتلفيق في الصورة الأخيرة التي ذكرناها أصح وأوجب.
وبناءً على ذلك يقع التفصيل في هذه المسألة على الخلاف المعروف عند أهل العلم رحمهم الله.
ففي بعض الأحيان بعض النساء تكون من ذوات الحيض، وفجأة يطلقها زوجها وينقطع عنها الحيض، وتبقى فترة طويلة لا يأتيها الحيض لمرض أو صدمة أو شيء يحدث لها، فهل تنتقل إلى ذوات الأشهر وتكون في حكم الآيسة؟ هذه المسألة أصعب من المسائل التي قبلها، وهذه الأمور كلها خارجة عن الأصل ويتجاذبها أكثر من أصل، ففي بعض الأحيان يتجاذبها أصلان، وبعض الأحيان يتجاذبها ثلاثة أصول.
وعلى كل حال فبالنسبة لمسألتنا التي وردت، وهي أنها لو حملت ثم أسقطت جنينها فلا أشك أنها ترجع إلى حيضها وتعتد بأطهارها؛ لأن الصحيح أن العبرة بالطهر لا بالحيض، فيلزمها أن تعتد ثلاثة أطهار؛ لأن الحمل لم يستتم، فوجوده وعدمه على حد سواء.
والله تعالى أعلم.
(310/8)
________________________________________
دلائل الشريعة جاءت بالحكم بالظاهر دون الالتفات إلى الباطن
السؤال
إذا راجع الزوج زوجته دون أن يكون هناك إشهاد وعدم العلم من الغير، ثم بعد خروج المرأة من العدة أخبرها فأنكرته، فعلى القول بأن القول قولها هل تكون زوجته ديانة؟
الجواب
هذه المسألة من حيث الأصل أنها زوجته إذا ثبتت الرجعة، خاصة على مذهب جماهير العلماء الذين لا يرون الإشهاد شرطاً لصحة الرجعة.
وأما على مذهب الظاهرية الذين يرون أن الإشهاد شرط لصحة الرجعة فلا تكون زوجة له؛ لأنهم يرون أن الإشهاد شرط، ولم يقع الشرط الذي يحكم عند وجوده بصحة الرجعة.
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لا يشترط لصحة الرجعة الإشهاد، بل ليس الإشهاد بواجب كما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر أن يراجع زوجته ولم يأمره بالإشهاد، وصُرف الأمر عن ظاهره المقتضي للوجوب إلى الندب والاستحباب.
وإذا ثبت هذا فهي زوجته ديانة بينه وبين الله، وأجنبية عنه قضاءً، فلو أنه وطئها ورفع إلى القاضي وليس عنده دليل على رجعتها فإنه يرجم ويقتل؛ لأنه زانٍ في هذه الحالة؛ وهي أجنبية منه، فلو وطئها دون أن يعقد عليها فيحكم بكونه زانياً والعياذ بالله.
أما لو أنها بقيت ودخل بها الزوج الثاني وعقد عليها فالحكم قضاءً أنها زوجة الثاني؛ لأننا مأمورون بالأخذ بالظاهر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس) فما دام أنه قد فرط في حقه حتى خرجت من عدتها فالله حكم حكماً أنها زوجة الآخر قضاءً.
والحكم القضائي لا يؤثر في الحقيقة شيئاً، الزوج الثاني الذي تزوجها هو زوج شرعي، وهي زوجة شرعية؛ لأن هذا حكم الظاهر، وليس هناك دليل يدل على أنه راجعها.
فهذا في حقوق المخلوقين، والله جعل أحكام الظاهر حتى في الحق بينه وبين عباده، فلو أن رجلاً جاء ودخل المسجد وهو يظن أنه متوضئ والواقع أنه غير متوضئ، وبقي على هذا بقية عمره وما تبين له أنه أخطأ، فصلاته تجزيه؛ لأن هذا الذي كلفه الله على الظاهر.
وكذلك لو أنه شك هل خرج منه ريح أو لم يخرج، فأوجب الله عليه أن لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، لحديث عبد الله بن زيد في الصحيحين.
فإذا صلى والواقع أنه كان قد خرج منه شيء لكنه لم يسمع صوتاً ولم يجد ريحاً برئت ذمته، وصحت صلاته؛ لأن الذي تعبده بالوضوء تعبده أن يصلي على الأصل الظاهر.
والذي تعبدنا بخروجها من عدتها وحلها للزوج الأول هو الذي حكم بهذا الظاهر، ولذلك لو أن رجلاً قذف امرأة بالزنا والعياذ بالله، وقد رآها بعينه تزني، فإنه يحكم بجلده حد القذف، ويحكم بكونه كاذباً {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13].
مع أن الآية نصت على أن من رمى امرأة محصنة بدون دليل أنه عند الله من الكاذبين، والمراد بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ) أي: في حكم الله وشرعه.
وفي الحقيقة لو أنه كان صادقاً أو أقام ثلاثة شهود عدول كلهم رأوها على الزنا والعياذ بالله، وثبت عندهم الزنا وشهدوا به، فكلهم يجلدون حد القذف إذا لم يشهد الرابع، وهؤلاء ثلاثة عدول من المسلمين كلهم شهدوا عليها بالزنا، فإننا نحكم على أنها برئية ومحصنة؛ لأن هذا هو حكم الله عز وجل.
وهذا شيء من العدل الإلهي الذي تنزل من الخبير سبحانه وتعالى، ولا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حكماً: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فهذا الحكم الرباني على الظاهر.
ولذلك ترتاح القلوب، وتبتهج النفوس بزوال الوساوس، ولو فتح باب هذه الظنون اليسيرة لما استطاع رجل طلق امرأته أن تعود له زوجته من كثرة الشكوك والحكم بالأدلة الضعيفة.
فالحكم بناءً على الظاهر، والظاهر مرتبط بأصول شرعية إذا وجدت حكم بالحكم الشرعي كما هو، وإذا تخلفت حكمنا بالأصل الذي حكم الله عز وجل به، ولا شك أن هذا هو عين العدل والحكمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].
والله تعالى أعلم.
(310/9)
________________________________________
حكم الجنين إذا دفن مع أمه المتوفية وقد تجاوز الشهر السادس
السؤال
والدتي توفيت أثناء الوضع ولم يخرج الجنين من بطنها، ولكن لجهلنا دفناها كما هي ولا ندري هل كان الجنين حياً أو ميتاً، فهل علينا شيء؟
الجواب
أولاً: كان ينبغي سؤال العلماء والرجوع إلى أهل العلم، وبالمناسبة أقول: أي مسألة شرعية تنزل للإنسان في نفسه أو مع الناس أو مع أهله أو ولده، ولا يسأل عنها ولا يستفتي العلماء؛ فإنه يتحمل إثمها وإثم كل ما يترتب عليها من الأخطاء.
هذا أمر ينبغي أن يكون الإنسان فيه على بينة، بل حتى لو اجتهد ووافق اجتهاده الشرع وعنده علماء يمكن أن يسألهم ورجع وسألهم بعد ما فعل الذي فعل ووجد أن الذي فعله صحيح، فإنه لا يزال آثماً شرعاً، الذي فعله صحيح لكنه آثم لكونه لم يسأل العلماء.
سؤال العلماء ليس بالأمر السهل وليس بالأمر الهين، ولذلك فرض الله على أهل العلم أن يجيبوا السائل إذا سأل، وأمر الله نبينا من فوق سبع سماوات صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين في أوامره فقال: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10].
فالسؤال أمر مطلوب وواجب شرعاً.
الأمر الثاني: لا يسأل كل أحد، فوالله لا تقف على أحد تسأله إلا وقفت بين يدي الله يسألك: هل هذا أهل أن تسأله أو لا؟ فجامل من شئت أن تجامل، وأنصف في دين الله وشرعه ما شئت أن تنصف، فستقف بين يدي الله عز وجل.
لا يجوز أن تسأل الجهّال وأنصاف العلماء وطويلبي العلم وكل من هب ودب، لا تتقي الله في نفسك ولا تتقي الله في دينك، ولا تتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تغرر به فتسأل إنساناً وتجلس بين يدي إنسان لا يستحق أن يجلس بين يديه أو يسأل.
وعلى كل شخص يُسأل أو إمام أو خطيب إذا جاءه أحد يسأل وهو يعلم من نفسه أن أهل العلم لم يزكوه بالفتوى، فعليه أن يتقي الله، وأن يخاف الله جل وعلا، وأن لا يكثر سواد الناس حوله ليغرر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا من الخديعة والغش.
وعلينا أن ننصح لله ولكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنصيحة لعامة المسلمين أن نتقي الله في الفتاوى، فليس كل أحد يسأل، بل تسأل من تستطيع أن تقف بين يدي الله عز وجل.
قال الإمام الشافعي: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله) لأنه علم أن كل صغير وكبير في هذا الدين سيسأل عنه أمام الله عز وجل، فلا تحضر لأحد يعلم إلا إذا كان قد أخذ العلم عن أهله، ولا تحضر لأحد يفتي إلا إذا كان قد أخذ الفتوى عن أهلها.
نقول هذا الكلام لأن هذا الزمان كثرت الفتوى فيه، وكثر الغش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبح يلمع ويبرق ويزين للأمة من ليس بأهل للفتوى، ومن ليس عنده دين ولا ورع ولا علم ولا عقل يمنعه ويردعه، فتسمع الفتاوى العجيبة هنا وهناك ويشتت بالأمة شذر مذر.
فهذا أمر ليس بالهين: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وما ضلت الأمة ولا شقيت في هذا الزمان بشيء في ثلمة الدين مثل الفتوى، خاصة في أمور العقيدة والأحكام التي يتعبد بها الناس ربهم.
فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يفعل أي شيء لنازلة نزلت به حتى يرجع إلى العلماء ويسألهم، ويسأل من يرضى بدينه قال الإمام مالك: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون)، الله أكبر ما أعظم الورع والخوف من الله جل وعلا! إنه ما رضي أن ينصب نفسه مفتياً في دين الله عز جل حتى شهد له الأمناء العلماء الأتقياء الأصفياء أنه أهل لذلك.
ولذلك بورك له في علمه وفتواه، وبورك له في قوله، وبورك فيما كان عليه رحمه الله برحمته الواسعة، فلا يجوز لأحد أن يتساهل في هذه الأمور.
وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس وينصحوا لهم، فأي شخص يأتي ليسألك قل له: يا أخي! لست بأهل للسؤال، وإذا كان في مدينتك أو قريتك أو بلدتك رجل تلقى العلم عن أهله تقول له: اذهب إلى فلان واسأله.
هكذا كان الصحابة والتابعون وأئمة السلف وأهل الخير والصلاح في كل زمان ومكان يحيلون إلى من هو أهل للفتوى.
الأمر الثالث: مسألة دفن المرأة وفي بطنها جنين فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: إن المرأة إذا لم تخرج جنينها وتمت للجنين ستة أشهر ووجد الدليل على حياته فإنه يشق بطن المرأة ويستخرج الجنين منها.
القول الثاني: إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين أو ماتت أثناء الوضع، ولا يمكن إخراج الجنين إلا بشق البطن فإنه لا تشق بطن المرأة.
القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى، من أنه يشق بطن المرأة لعدة أدلة: أولاً: أن الله أوجب علينا إنقاذ الأنفس من التهلكة، فإذا ثبت بدليل أو بشهادة أهل الخبرة، كما في زماننا من وجود الصور الإشعاعية التي تبين حال الجنين في بطن أمه؛ فإنه لا يجوز لنا أن نتسبب في هلاك هذه النفس؛ لأن الله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلما توقف إنقاذه على شق البطن صار شق البطن واجباً.
ثانياً: فقه المسألة من حيث القواعد أنه تعارضت عندنا مفسدة موت الجنين ومفسدة شق البطن، فوجدنا أن مفسدة موت الجنين أعظم من مفسدة شق البطن؛ لأن مفسدة شق البطن أهون من عدة وجوه: أولاً: أن الروح أعظم من إتلاف الجسم، ولذلك لو أن شخصاً وقعت الأكلة في يده مثل ما هو موجود الآن في مرض السكري أو نحوه، إذا سرت (الغرغرينة) في قدمه وقال الأطباء: إذا لم تقطع رجله يموت، وجب قطعها؛ لأن مفسدة العضو أهون من مفسدة النفس كلها، فهذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: أن مفسدة شق البطن يمكن تداركها بالخياطة، وأما مفسدة موت الجنين فلا يمكن تداركها أبداً.
وحينئذٍ القاعدة (أنه إذا تعارضت المفسدة التي يمكن تداركها مع المفسدة التي لا يمكن تداركها قدمت المفسدة التي لا يمكن تداركها على المفسدة التي يمكن تداركها)، فوجب شق البطن.
ولذلك كان الذي تطمئن إليه النفس أنه يشق البطن ويستخرج الجنين، وفي هذه الحالة ينزع الجنين إذا أمكن نزعه، وإذا لم يمكن فإنه يجوز الشق ولو توسع في شق الموضع الذي يخرج منه الجنين ثم يخاط بعد إخراج الجنين؛ إبقاءً لهذه النفس المحرمة.
وأما بالنسبة لكم في هذه الحال فينظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، إذا كانت هناك أدلة تدل على حياة الجنين، مثل أنها قبل الطلق بيوم أو يومين أو مدة صورت وثبت أن الجنين حي أو بالحركة التي كان يعرفها القدماء يعرفون بها حياة الجنين من حركته وانقلابه، ونحو ذلك مما يدل على وجود الروح فيه، مما أشار إليه العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.
فالأصل أنه حي ويكون قبر المرأة على هذا الوجه فيه شبهة بقتل الجنين، والقاعدة أن قتل الجنين بإلقائه حتى يموت أو تعاطي أسباب موته على هذا الوجه الذي ذكر، خاصة وأنه لم تكن هناك شبهة الفتوى، بحيث أنكم ما سألتم أحداً يرى عدم جواز الشق.
فالأشبه في هذا أنه صورة قتل بالسببية، والقتل بالسببية موجب للضمان، لأنكم لم تقتلوه مباشرة وإنما قتلتموه تسبباً، وذلك أنه كان يجب إنقاذه.
قال العلماء: لو أن شخصاً رأى غريقاً وناداه وبيده حبل كان يمكنه أن يلقيه له وينقذه، أو مر على جائع في مخمصة شديدة ويحتاج إلى ماء وطعام وبيده الطعام والماء وامتنع؛ كان قاتلاً له بالسببية، فإن قصد موته كان قاتلاً بالعمد والعياذ بالله.
أما إذا قال: لا والله أنا هذا الطعام أخذته لنفسي، وعنده نوع من البخل، فهذا نوع من الشبهة، ولا يكون قتل عمد لكن إن قال: أنا قصدت قتله وأريد أن يموت، فهذا قتل عمد؛ لأن السببية المفضية للهلاك تكون بحكم المباشرة.
أو نهشته حية فإن الحية هي التي قتلته، لكن السببية في تقريب الحية الذي أتى بها، أو حبسه في زريبة أسد فقتله الأسد، فالذي باشر قتله الأسد، والقتل سبب مفض للهلاك، فالسبب المفضي للهلاك مؤثر، ولذلك قالوا: لو أنه ضربه على مكان يغلب على الظن القتل به وأراد به الإضرار، كان سببية مفضية إلى القتل آخذة حكم قتل العمد.
وقد فصل العلماء رحمهم الله في مسائل قتل الصيد، وسيأتينا إن شاء الله بيان أحكام السببية المباشرة في باب الجنايات، ولذلك فالأشبه والأحوط في هذا أنه قتل السببية.
والله تعالى أعلم.
(310/10)
________________________________________
التفصيل فيما إذا نسي الإمام التشهد الأول ثم رجع بعدما استتم قائماً
السؤال
إمام قام عن التشهد الأول واستتم قائماً، فلما سبح المأموم عاد للجلوس، فانقسم أهل المسجد إلى طائفتين: طائفة رجعت، وطائفة استمرت في قيامها، فأي الطائفتين أقرب للصواب؟ المشكلة أنه يوجد خلاف في هذه المسألة، الجمهور على أنه إذا استتم قائماً وشرع في الفاتحة لا يرجع، فلو استتم قائماً وشرع في الفاتحة ثم رجع وعلمت أنه جاهل فعليك أن تنوي مفارقته وتبقى على القيام؛ لأنك إذا رجعت رجعت إلى فعل زائد في الصلاة؛ لأنه ليس من حقه أن يرجع وليس من حقك أن ترجع؛ فإذا رجع فإنه قد زاد، خاصة إذا كان جاهلاً.
في هذه الحالة تنوي مفارقته وتطيل في القيام حتى يقوم لأنك في مسجد لا تستطيع أن تنفرد، فإذا قام تابعته شكلياً، إذا جاء يكبر للركوع كبرت أنت لركوعك ولا تنوي متابعته، وإنما تتابعه صورة لا حقيقة، ظاهراً لا باطناً.
أما إذا كان الشخص الذي فعل هذا الفعل يرى قول من يقول من السلف: إن من وقف ولم يجلس للتشهد الأول فعليه يرجع ما لم يركع، فهذا القول شاذ وضعيف لأنه مصادم لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي، فقام من الركعتين فسبحوا له، فأشار إليهم أن قوموا).
فدل على أنه إذا استتم قائماً لا يرجع، في هذه الحالة نقول: تنوي مفارقته؛ لأنه أبطل صلاته؛ لأنه عندما رجع زاد في الصلاة ما ليس منها؛ لأنه قد سقط عنه التشهد والجلوس له، فكأنه رجع إلى جلسة ليست بلازمة له فأحدث في الصلاة فعلاً زائداً.
ومن هنا قالوا: إنك لا تتابعه وتنوي مفارقته، ومن أهل العلم من قال: تتابعه لما كان فيها من شبهة الخلاف، وخاصة إذا كان طالب علم وتظن أنه يقول بهذا القول، أو يقول بقول من يرى أن مجرد القيام لا يكفي، بل لابد أن يشرع في الفاتحة حتى يكون قد شرع في الركن فعلاً.
والصحيح أن العبرة بالوقوف؛ لأن بنفسه ركن القيام فلا يشترط له قراءة الفاتحة؛ لكن على القول الثاني لو كان الإمام يرى أنه لابد أن يقرأ الفاتحة، ففي هذه الحالة من أهل العلم من قال: يجب عليك الرجوع؛ لأنه يفعل فعلاً مشروعاً في حقه، فتجب عليك متابعته؛ لأن المتابعة في الأفعال الظاهرة واجبة في الواجبات.
ومن هنا وجب عليك القنوت إذا قنت الشافعي وأنت لا ترى القنوت؛ لأنه يراه واجباً، فينقلب واجباً عليك بحكم المتابعة، والمتابعة للإمام خلاف مذهبه واجبة في الواجبات، ولازمة في الأركان، فحينئذٍ يجب عليك الرجوع، وهذا مذهب صحيح وقوي، أنه إذا كان يرى أنه لابد من قراءة الفاتحة ورجع وكان طالب علم فإنك ترجع معه؛ لأن المتابعة في الأفعال واجبة ولو خالفت مذهبك.
وهذا أمر قرره أئمة المذاهب على اختلافهم، قرره الفقهاء الحنفية، كالإمام ابن عابدين في حاشيته، وكذلك صاحب فتح القدير الكمال بن الهمام رحمه الله.
وكذلك قرره من أئمة المالكية رحمهم الله شراح خليل كـ الحطاب وعليش، وأيضاً قرره فقهاء الشافعية كالإمام النووي خاصة في الروضة، وأشار إلى أن الاقتداء بالمخالف في الفروع يلزم المتابعة.
وقرره من أئمة الحنابلة الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، فذكر أنه يجب عليك أن تتابعه في الواجبات ولو كنت لا ترى وجوبها، لكنها لما كانت واجبة عليك صارت واجبة لك في حكم الاتباع في الائتمام، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لم حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) فرق فيه بين الأركان والواجبات.
فأمر بالمتابعة في الأركان في قوله: (إذا كبر) أي: تكبيرة الإحرام (إذا ركع) (إذا رفع)، ثم قال في الواجبات: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد).
فدل على أن الإلزام بالمتابعة للإمام واجب في الواجبات والأركان؛ لأن الحديث فصلها، وقوله: (فإذا كبر) تفصيل لقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وتفسير لهذا الأصل، وإذا ثبت هذا فإنه إذا كان الإمام يرى أن مجرد القيام لا يكفي فعليك أن ترجع معه وتبقى معه.
أما إذا كان عندك شبهة وبقيت واقفاً حتى انتهى لأنك تخاف أنه فعل هذا عن جهل، ثم قام ورجع إلى القيام، فالأفضل والأكمل أنك تنوي مفارقته لوجود العذر، وتتابعه في الصورة ولا تتابعه في الباطن؛ احتياطاً وابتعاداً عن السبب الموجب للفساد.
والله تعالى أعلم.
(310/11)
________________________________________
حكم هدم المساجد القديمة أو توسعتها
السؤال
هناك مسجدٌ يراد توسعته فأضيفت إلى أصل أرضه أراض مجاورة له، ثم هدم هذا المسجد، ولما أعيد تخطيطه جعل الموضع القديم للمسجد دورات للمياه، فما حكم ذلك؟ علماً بأنه يمكن الآن قبل إتمام البناء إعادة النظر في الخرائط.
أثابكم الله.
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أولاً: ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز هدم أي مسجد إلا إذا وجد مبرر شرعي يقتضي جواز الهدم، من المبررات خشية سقوط المسجد كلية، أعني تهدمه وتهتكه بحيث يخشى أن يسقط على المصلين، أما لو كان السقف هو الذي يخشى أن يسقط فإننا نجدد السقف فقط.
هذه أوقاف وأموال محبسة وأهلها بنوها يروجون ثوابها، وبمجرد ما بني المسجد أصبح المسجد وبناؤه وما فيه لله عز وجل، لا يجوز لأحد أن يقدم على التصرف فيه بإحداث شيء أو تغيير شيء إلا بحكم وإذن شرعي، هذا أمر تساهل فيه الناس.
ومسألة توسعة المسجد تحتاج إلى نظر، وليس كل شيء يوسع، وليس كل شيء يهدم، ويبذر في بناء المساجد وتوسع حتى تكون لإنسان على حساب حسنة لغيره ممن هو أسبق وأحق، هناك حق للسابق الذي بنى المسجد أولاً فهو أحق، ولا يجوز لأحد أن يهدم بناءه ولا أن يفسد الأجر عليه؛ لأني إذا بنيت المسجد وأصلحته وبقي صالحاً لأن يصلى فيه فإنه يبقى على حالته إلى أن يشاء الله عز وجل أن ينهدم أو يخشى هدمه.
أما أن كل شخص يأتي إلى مسجد مبني ليهدمه فلا.
وبعض المساجد مسلحة مبينة ما فيها أي شيء، ولكن نريد أن نبنيها على بناءٍ حديثٍ، أو نريد أن نجملها، أو نريد أن نكملها، وهذا لا يجوز، ولا يرضى الله عز وجل به، ولا يرضى به رسوله، ولا يرضى به أئمة الإسلام، ولا يفتي به أحد من أهل العلم لا الأموات ولا الأحياء ممن يعرف أصول أهل العلم في الأوقاف.
فالأوقاف لا يجوز التلاعب فيها، الشخص إذا أوقف مسجداً خرج من ملكه، حتى صاحب الأرض لا يستطيع أن يتصرف فيه لأنه خرج من ملكيته لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18].
فالمسجد إذا أوقف خرج عن ملكية صاحبه، فهذا أمر ينبغي أن يعلم، فلا يجوز هدم المساجد إلا بإذن شرعي، وبفتوى شرعية تبيح هدم هذا المسجد.
ثانياً: توسعة المسجد عند العلماء فيها تفصيل: أن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، إذا كان المسجد يمكن توسعته مع بقاء القديم فإنه يترك القديم كما هو، ويوسع بأن تفتح جوانبه الشرقية والغربية، ويفتح جانبه المؤخر ويبقى القديم كما هو.
لا يتلاعب في أموال الناس؛ لأن هذا إسراف، هذا بذخ، ومن علامات الساعة التباهي بالمساجد، فإذا كان التباهي بالمساجد مذموم شرعاً، والمبالغة في تزويقها مذموم شرعاً، فكيف تهدم المساجد من أجل هذا المذموم شرعاً.
هذا أمر ينبغي أن يوضع في البال.
والسبب في هذا الجهل والجرأة على حدود الله عز وجل دون الرجوع إلى أهل العلم، وقل الرجوع إلى أهل العلم وتقديرهم في مثل هذه الأمور.
ولذلك ينبغي على كل مهندس يخطط المساجد أن يسأل أهل العلم، وأن يرجع إلى أهل العلم قبل أن يرهن بين يدي الله عز وجل عن مساجد المسلمين، كل من يتصل بأمر شرعي يتحتم عليه الفتوى والسؤال وينبغي عليه أن يرجع إلى أهل العلم.
الطبيب أي شيء يطرأ عليه يرجع إلى أهل العلم قبل أن يقوم بأي عملية جراحية، فيسأل هل تجيز الشريعة هذا العمل أم لا؟ والمهندس قبل أن يقوم بتخطيط شيء يسأل ما هي الأصول الشرعية.
فالأصل الشرعي في هذا أنه إذا احتيج إلى الزيادة للتوسعة فينبغي إبقاء القديم، ودورات المياه لا تفعل في القديم ولا يحل فعلها في القديم ولا يجوز شرعاً، ولو فعلت هدمت ويرجع المسجد إلى ما كان؛ لأن صاحبه أوقف هذه الأرض للعبادة وما أوقفها لقضاء الحاجات.
ولو أن القديم بني بيتاً للإمام فإنه يهدم، وليس من حقه أن يبنى؛ لأن صاحبه أوقفه أرضاً للصلاة وما أوقفه بيتاً للإمام، ولا مسكناً للإمام ولا للمؤذن.
هذه أمور ينبغي وضعها في نصابها، وينبغي الانتباه إلى أن هذه الأشياء ينبغي ترتيبها مع من يفتي ويعرف الأصول الشرعية.
الشيء الثاني: أن هذا المسجد القديم أحق من الجديد، والله يقول: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] فصاحب المسجد القديم والأرض القديمة أولى بالعبادة من الأرض الجديدة.
وجمهرة السلف وأئمة العلم على أنه لو تعارض مسجدان أحدهما قديم والآخر جديد فالأفضل أن تصلي في القديم؛ لأن القديم نص الله عز وجل على أحقيته {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
فلذلك لا ينبغي التلاعب في هذه الأمور، ولا التساهل في إحداث المساجد وبنائها، الآن تجد مسجداً صغيراً يصلي فيه أهل القرية الجمعة، ثم تفاجأ بشخص يأتي ويبني مسجداً آخر بجواره، هذا جهل! من الذي أذن له أن يبني؟! ومن الذي أفتاه بهذا؟! ينبغي الرجوع إلى أهل العلم ووضع الأمور في نصابها، هذه أمور فيها حقوق شخصية، أهل العلم لهم كلمة في هذا وهم أحق أن يرجع إليهم، كما أن المهندس يبني عمارته.
كذلك الأرض لا يمكن أن يفرط فيها، والحقوق التي تساهل فيها أهلها وبذلوها لوجه الله عز وجل لا يمكن أن تذهب هدراً، بذلوها لوجه الله وأوقفوها لوجه الله، أموات ينتظرون ثوابها في قبورهم، ويأتي من يجرؤ على هدم المسجد ثم يجعله دورات مياه!! هذا الأمر كله باطل، ويعاد الأمر إلى ما كان عليه، ويقال لمن يريد أن يوسعه: وسع مع إبقاء القديم، الأرض القديمة تبقى أرضاً للعبادة.
إذا كان يريد أن يبني سكناً للإمام فجزاه الله خيراً، يريد أن يبني سكناً للمؤذن جزاه الله خيراً، لكن ليس على حساب حقوق الآخرين.
كذلك ننبه على أن حد الأرض المسجد الآن بكامله يصلى فيه، لو جاء إمام المسجد وقال: نريد أن نضع حاجزاً ونبني مكتبة، فلا يصح أبداً، صاحب المسجد ما وضعه مكتبة، ولا أوقفه مكتبة، أوقفه مسجداً للصلاة، فينظر إذا كان هذا يضيق للصلاة ويمنع من الصلاة فيه فيمنع منه، ويبقى على الأصل أرضاً.
ونقول لمن يريد أن يفعل مكتبة: جزاك الله خيراً أضف إلى المسجد قطعة أرض تكون مكتبة أو تجعل المكتبة في منطقة تابعة للمسجد.
أما إن كانت الأرض قد أوقفها وسبلها صاحبها للصلاة فتبقى للصلاة، ولا يغير في الأوقاف ولا يبدل إلا وقف أصول شرعية محددة مرتبة، وقد تقدم بيانها في كتاب الوقف.
فعلى المهندسين أن يتقوا الله عز وجل، وعلى كل من له علاقة بهذه الأمور أن يتقي الله عز وجل، وأن لا يغير ولا يبدل؛ لأن تبديل الأوقاف تبديل وتغيير لشرع الله عز وجل، فالوقف ما سمي وقفاً إلا للتحبيس.
ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عمر لما روى عن أبيه عمر قال: (إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي إلي لم أصب مالاً هو أنفس عندي منه، فماذا تأمرني فيه؟ قال: إن شئت حبست أصلها).
فبيّن أن الوقف محبوس لا يجوز صرفه عن هذا الحبس، ولذلك سميت أوقاف المسلمين أحباساً لأنها أوقفت فتبقى محبوسة على ما أوقفت عليه، وهذا أمر ينبغي التنبه له والتناصح فيه، وتذكير الناس بالله عز وجل، حتى لا يسيئوا إلى غيرهم.
فكم من إنسان يريد الحسنة فيقع في السيئة، والسبب في هذا الجهل، وقد قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فهي عاملة ناصبة.
عمر بن الخطاب لما نظر إلى النصراني في صومعته بكى قيل: يا ابن الخطاب أترق للنصرانية؟ قال: لا والله ومعاذ الله إني نظرت إليه فذكرت قول الله عز وجل: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].
فهذا الشخص قد يأتي ويهدم مسجداً ويسيء إلى أخيه ويجعله دورات المياه؛ أعوذ بالله هذا لا يجوز! وعليكم النصيحة لهذا المهندس الذي قام بهذا الشيء، وينصح كل من يقوم بهذا الأشياء أن يرجع إلى أهل العلم فيما يتصل بالمساجد ونحوها.
نسأل الله العظيم أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
والله تعالى أعلم.
(310/12)
________________________________________
جواز تقبيل الحجر واستلامه في غير الطواف
السؤال
هل استلام الحجر الأسود وتقبيله مشروع في غير الطواف؟
الجواب
نعم! هذه المسألة نص طائفة من أهل العلم على أنه يجوز أن يقبل الحجر وأن يستلم في غير الطواف لما ثبت في الحديث الصحيح في رواية أحمد في مسنده (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف في حجة الوداع صلى ركعتي الطواف، ثم شرب من زمزم، ثم مضى إلى الحجر وقبله، ثم مضى إلى الصفا والمروة).
فقبله بعد شرب زمزم، أي: بعد انفصال الطواف؛ لأنه طاف وصلى ركعتي الطواف ثم شرب من زمزم، الشرب أجنبي؛ لأنه فصل بفاصل أجنبي.
ومن هنا كان بعض العلماء يقول: عجبت من هذا الحديث لما فيه من هذا المعنى الدقيق؛ لأنه لو قبل بعد ركعتي الطواف لتوهم أحد أنها متصلة؛ لأن ركعتي الطواف متصلة بالطواف، لكن ذهب وشرب من زمزم، فقطع العبادات المتصلة بشيء أجنبي؛ لأن الأكل والشرب يقطع.
ولذلك قالوا: من جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر والمغرب والعشاء فلا يجوز له أن يتغدى بين الظهر والعصر ولا أن يتعشى بين المغرب والعشاء؛ لأن الأكل والشرب أجنبي عن الصلاة.
فلابد وأن يكون الجمع موافقاً للأصل، وعلى كل حال فإنه يصح ويجوز أن يُقبّل الإنسان الحجر ولو لم يكن طائفاً؛ لأن المراد تعظيم الحجر في الحدود الشرعية، وهذا التعظيم من تعظيم شعائر الله عز وجل، ولذلك قبله عليه الصلاة والسلام واستلمه وكان إذا وضع يده عليه قبلها، كما في الحديث الصحيح عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره فهذا كله من فضل الحجر، ولما خصه الله عز وجل به.
وقد جاء في الحديث أنه من يواقيت الجنة على اختلاف ألفاظه في رواية الترمذي وغيره، وقد حسن غير واحد من العلماء رحمهم الله هذا الحديث، وأشار الإمام الترمذي إلى أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(310/13)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - باب الرجعة [4]
لقد بين الشارع كل كبير وصغير من مسائل هذا الدين ومن ذلك تعامل الزوج مع زوجته وما يحل له منها وما يحرم عليه منها.
وقد يقع خلاف بين الزوجين يؤدي بالزوج إلى بت طلاقها، وإذا بت طلاقها حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره.
وإذا نكحت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ثم فارقها حلت للأول، ولكن هذا النكاح المحلل ينبغي أن يتصف بصفات معتبرة خالية من الحيلة، ثم إذا تم ذلك فلابد من الوطء، وهذا الوطء المحلل لابد فيه من صفات اعتبرها الشرع، بحيث يكون قد أذن بها وكانت دالة على رغبة وزواج لا احتيال فيه.
وقيد بين الشيخ ما يتعلق بذلك بياناً واضحاً.
(311/1)
________________________________________
تحريم المرأة على زوجها إذا استوفى الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بمن طلق زوجته الطلقة الأخيرة، فاستتم العدد الذي جعله الله في الطلاق.
(311/2)
________________________________________
الحكمة في اشتراط نكاح الزوجة بزوج آخر حتى تحل لزوجها الأول
ومن حكم الله سبحانه وتعالى في المطلق ثلاثاً أنه لا تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره، وبيّن هذا الحكم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء كتاب الله عز وجل باشتراط النكاح الثاني، وجاءت السنة باشتراط الوطء وحصول ما يشترط من الإيلاج المعتبر للحكم بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.
ونظراً إلى أن هذه المسألة مترتبة على الطلاق ذكرها المصنف رحمه الله في ختام كتاب الطلاق، فذكر أن المطلق إذا استتم العدد وذلك في قوله: [إذا استوفى ما يملك] أي: إذا استتم العدد الذي جعله الله له.
فكأن الزوج يملك الطلاق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل له الطلاق، فإذا استتم العدد المعتبر فإنه لا تحل له الزوجة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] أي: الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
وذلك بعد قوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] فبيّنت هذه الآية الكريمة من سورة البقرة أن من طلق الطلقة الثالثة أنه لا تحل له هذه الزوجة حتى تنكح زوجاً غيره، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأن كلا الزوجين أعطي المهلة.
فالطلقة الأولى والثانية كان بإمكان كل منهما أن يصحح خطأه، فلو حصل أن الزوج تسرع في الطلقة الأولى فإن تسرعه يستطيع أن يتلافاه بما بقي له من الطلقتين.
فإن كان الخطأ صادراً منه لأنه ربما يكون أول سبب للطلاق هو الزوج، ولربما كان السبب الزوجة، فإذا وقع من الزوج الطلقة الأولى بسبب خطأ أو تقصير منه؛ فإنه بوقوع الطلقة سيندم ويتأثر ويرجع إلى زوجته.
فلو أنه استقام ربما أخطأت الزوجة، فجعل الشرع له أن يعطيها مهلة كما أعطى لنفسه المهلة، فجاءت الطلقة الثانية على فرضية أن يكون الخطأ من الزوجة، فبقيت الطلقة الثالثة فيصلاً بينهما، حتى ولو حصل أنه تكرر خطأ من الزوج مرتين فطلق الطلقة الأولى بقيت الثالثة، فيحترز كل منهما؛ لأنه إذا أخطأ الزوج المرة الأولى، وأخطأ المرة الثانية حرصت المرأة على أسلوب أشد من حالها في الطلقة الثانية على أن تعامل زوجها وتحافظ عليه إذا كانت تريد هذا البيت.
فإذا طلقها فلا يخلو إما أن يكون الطلاق -في الثلاث تطليقات- بسبب الزوج أو يكون بسبب الزوجة، أو يكون مشتركاً بينهما.
فإن كان بسبب الزوج فإنه يكتوي بنار الغيرة حينما يحس أن زوجاً آخر قد استمتع بهذه الزوجة، وعندها يتألم ألماً شديداً، بحيث لو فكر أن يتزوج امرأة ثانية فإنه يخاف من الطلاق ويهاب.
كذلك أيضاً جعل الشرط تحقيقاً لهذا المقصود، أنها لا تحل له حتى يطأها الزوج الثاني، وهذا أبلغ ما يكون تأثيراً وزجراً ومبالغة في دفع الأذية من الأزواج.
فإذا ما نكحت الزوج الثاني -والشرع اشترط أن يدخل بها الزوج الثاني- تأثر الزوج الأول واكتوى بنار الغيرة، هذا إذا حرص وعرف قيمة زوجته الأولى.
ثم الفرض الثاني: أن يكون الخطأ من الزوجة فإذا كانت الزوجة هي التي تستفز زوجها، وهي التي ألجأته إلى الطلقة الأولى أو الثانية، أو ألجأته إلى أغلب الطلاق، أو إلى الطلقة الأخيرة التي بسببها حصل الفراق، فإن الزوج لا يحل لها أن يراجعها حتى تنكح زوجاً غيره.
وحينئذٍ فالغالب أنه لا يصبر وسيتزوج امرأة ثانية، أو يفكر في زواج الثانية، فتكتوي هي أيضاً بنار الغيرة، ولكنها لابد لحلها للزوج الأول من أن تتزوج الزوج الثاني، فإذا نكحت الثاني إما أن يكون الثاني أفضل من الأول فتحرص على عشرته على أحسن ما تكون الزوجة لزوجها.
وإما أن يكون أسوأ من الأول، فتحرص على أن ترجع للأول، والشرع من كماله ووفائه راعى المعاني النفسية ولم يهدرها، ولذلك جاءت امرأة رفاعة حينما طلقها فبت طلاقها ونكحها عبد الرحمن بن الزبير؛ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إن ما معه مثل هدبة الثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا.
حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته).
فاكتوت بنار الحرص على أن ترجع إلى زوجها الأول قبل أن ينكح غيرها؛ لأنها عرفت قيمة زوجها الأول.
وهذا لا شك أنه من أكمل ما يكون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقوم يعقلون وقوم يتقون وقوم يؤمنون؟ فالله يحكم ولا معقب لحكمه.
فمن حكمته سبحانه وتعالى أن شرع هذا الأمر، وهو أن تحل الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بشرط أن ينكحها زوج آخر.
ولهذا النكاح شروط شرعية وأحكام ومسائل وتفصيلات يعتني العلماء رحمهم الله بذكرها، وهذا ما سيبينه رحمه الله في هذا الفصل.
جاء القرآن باشتراط الزوج الثاني، وهذا الشرط محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وبناءً على ذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمن طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله.
[إذا استوفى ما يملك من الطلاق] حراً كان أو عبداً على التفصيل المذكور عند العلماء، وقد تقدم بيان هذه المسألة وكلام العلماء رحمهم الله.
[إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت] حكم بحرمة المرأة المطلقة، وهذا النوع من التحريم يوصف عند العلماء بالتحريم المؤقت؛ لأن تحريم المرأة ينقسم إلى قسمين: إما أن تحرم حرمة مؤبدة.
وإما أن تحرم حرمة مؤقتة.
فالحرمة المؤقتة من أمثلتها المطلقة ثلاثاً فإنها تحرم على الزوج الاول حتى تنكح زوجاً غيره، فأقتت باشتراط أن ينكحها زوج آخر، ومن التحريم المؤقت أن يكون عنده أربع نسوة، فلا تحل له الخامسة حتى يطلق واحدة من الأربع وتخرج من عدتها، ويسمى مانع العدد.
ومن أمثلة الموانع المؤقتة مانع الرق ومانع الكفر مثل المجوسية قال صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم).
فالمرأة إذا كانت مجوسية والعياذ بالله فلا يحل للمسلم أن ينكحها، وهكذا إذا كانت وثنية أو مشركة أو ملحدة أو لا دين لها والعياذ بالله، هذه لا يحل نكاحها.
فيعتبر وجود هذا الكفر مانعاً؛ لكنه مانع مؤقت بحيث لو أسلمت أو صارت كتابية حل نكاحها على التفصيل الذي تقدم معنا.
الحرمة المؤبدة: مثل النكاح المحرم من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة، وقد تقدم بيان هذه الموانع وتفصيلها.
قوله: [حرمت] أي: لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:230] عند علماء الأصول أن من صيغ التحريم الصريح القوية نفي الحل عن الشيء، مثل قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب:52]، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة:229].
هذه كلها تدل على تحريم الشيء، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] نص في تحريم المطلقة على من طلقها ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره.
(311/3)
________________________________________
صفات النكاح المعتبر في تحليل الزوج الثاني للمطلقة ثلاثاً
[حتى يطأها زوج في قبل] إذاً يشترط أن يكون هناك نكاح، فلو وطأها والعياذ بالله بالزنا فإنه لا يحللها لزوجها الأول، بل يجب رجمها.
وأما إذا كان وطؤها بين الحل والحرمة وهو الذي يسمى بوطء الشبهة، بأن ظنها زوجته فوطأها ثم تبين أنها أجنبية مطلقة من زوج ثلاثاً فلا تحل أيضاً، فوطء الشبهة والحرام لا يحلل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، بل يحللها الواطئ في نكاح صحيح.
إذاً يشترط وجود النكاح وأن يحصل مع النكاح وطء، وأن يكون هذا الوطء على الصفة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
قال رحمه الله: [ولو مراهقا] (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: لو وطأها مراهق وحصل به ما يحصل بالبالغ من الاستمتاع واللذة فإنه يحللها، ولا شك أن المراهق الصغير لا يحصل بمثله الاستمتاع وذوق العسيلة الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك قالوا: (ولو مراهقاً) لأن ما قارب الشيء يأخذ حكمه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
فلو أن مراهقاً عقد على امرأة مطلقة ثلاثاً ودخل بها، وحصل منه الوطء فقالوا: إن هذا الوطء معتبر، فلو طلقها هذا المراهق حلت لزوجها الأول، ولو طلقت بعد بلوغه حلت لزوجها الأول ورجعت؛ لأن الوطء من المراهق يحصل به ذوق العسيلة.
وأما إذا كان صغيراً فمثله لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر.
التحليل للمرأة المطلقة ثلاثاً له ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون مقصوداً يراد به تحليل المرأة لزوجها الأول باتفاق من أهل الزوج والزوجة، فهذا حرام بالإجماع، وملعون من فعله، والإعانة عليه من الكبائر؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها عند طائفة من العلماء رحمهم الله لورود الوعيد الشديد فيه، ولما فيه من التحايل على شرع الله عز وجل، ومخالفة مقصوده.
لأن مقصود الشرع والمقصود من الآيات الكريمة في اشتراط نكاح الزوج الثاني أن يتألم الزوج الأول، فإذا حصل ترتيب من أنه يدخل بها وبمجرد دخوله بها يطلقها، فحينئذٍ الزوج الأول لا يتألم ذلك الألم، ولا يتحقق المقصود شرعاً من اشتراط هذا الزوج.
ولذلك كان وجود نكاح المحلل وعدمه على حد سواء، ونص طائفة من العلماء على أنه من كبائر الذنوب لورود اللعن فيه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له.
فالزوج الذي يحلل له يقول: يا فلان اذهب إلى فلانة وانكحها وحللها لي، وحتى إن بعضهم والعياذ بالله ربما يقول له: وأنا أدفع المهر، فليس لك إلا أن تحللها.
ولربما والعياذ بالله اتفق معه على أن يأخذ عقداً صورياً وأنه لا يدخل بها، ثم يدعي أنه دخل بها وتدعي هي أنه أصابها، ثم ترجع إلى زوجها الأول.
وهذا كله والعياذ بالله اعتداء لحدود الله عز وجل وتحليل لما حرم الله، وجرأة على محارم الله، نسأل الله السلامة والعافية.
الصورة الثانية: أن يكون مقصود الشخص أن يحللها ولا يطلع الزوجين على ذلك، ولا أهل الزوجة على ذلك ويفعله، ففيه الخلاف، وشدد فيه طائفة من السلف، حتى أن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله لا يخادع) جاءه رجل وقال له: إن عمي طلق زوجته ثلاثاً وأنا أريد أن أنكحها حتى أحلها له، فقال له رضي الله عنه: (ويحكم! إن الله لا يخادع).
يعني: أتخادع الله عز وجل؟ فإن الله لا يخادع سبحانه وتعالى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] نسأل الله السلامة والعافية، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
فمن اجترأ على هذا الفعل أفتى ابن عباس رضي الله عنهما بأنه في حكم المحلل، وأنه اعتداء لحرمات الله عز وجل.
وقال بعض العلماء: إذا لم يطلع أحد على ذلك وغيب ذلك في نيته فلا بأس ولا حرج، وفي الحقيقة الأصل في الظاهر قد يقتضي الحل بناءً على الظاهر، ولكن بالنظر إلى المعنى يقتضي التحريم، ولذلك كان بعض مشايخنا رحمهم الله يقول: هذا النوع لا يفتى بحله ولا بحرمته زجراً للناس ومنعاً لهم عنه.
لأنه ليس على السنن الوارد شرعاً، وليس بمخالف لكل وجه، ولذلك منعوا منه وقالوا: إنه يكون في هذه المرتبة فلا يفتى للناس بحله، ولا يفتى لهم بحرمته؛ لأن النية مغيبة، كما لو تزوج امرأة وفي نيته طلاقها.
وأياً ما كان فإنا إذا نظرنا إلى معاني الشرع وجدنا أن الأصل يقتضي تحريم هذه الصورة، والسبب في هذا أن المعنى الذي أراده الشرع وهو زجر الزوج الأول، وحصول الرفق للمرأة بتغيير حياتها، فلربما وجدت الزوج الثاني أكرم من الأول، فانتظمت بيوت المسلمين، ووجدت كل زوجة ما يناسبها من الأزواج، واستقام النكاح على الوجه المعتبر.
الصورة الثالثة من النكاح الذي يحصل به التحليل: أن يتزوج الرجل المرأة المطلقة ثلاثاً وفي نيته أنها إن كانت صالحة أمسكها، وإن كانت غير صالحة طلقها، ونكحها نكاحاً على السنن المعتبر شرعاً لا يقصد تحليلها للأول، ولم يدر بخلده ذلك، فهذا لا إشكال أنه معتبر شرعاً وأنه نكاح صحيح تنبني عليه الآثار الشرعية من حلها لزوجها الأول بشرط حصول الوطء.
قال رحمه الله في بيانه للشروط التي ينبغي توفرها في هذا النكاح الثاني: [ويكفي تغييب الحشفة أو قدرها] فهذا شرط وطء الزوج الثاني للزوجة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهذا نص في المطلقة ثلاثاً أنها لا تحل لزوجها الأول إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.
قوله: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أدب من رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه، حيث عبر بالألفاظ التي تتضمن المعاني مع مراعاة الأدب والحشمة والكمال في الخطاب فلم يصرح لها تصريحاً، ولا شك أن النساء كن على فطنة ومعرفة، واللسان العربي فيه أسرار عجيبة، ودلائل بليغة؛ ولذلك جعله الله لأفضل كتبه، وأفضل ما أنزل على عباده، تشريفاً لهذا اللسان وإكراماً له.
(311/4)
________________________________________
ضابط الوطء المحلل للمطلقة ثلاثاً لزوجها الأول
فقال لها: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هذه الكلمة تنتظم شروطاً مهمة: أولاً: اشتراط الدخول؛ لأن المرأة قد عقد عليها زوجها الثاني، فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحليلها لزوجها الأول حتى يدخل بها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم على تفصيل.
ثم لما قال: (حتى تذوقي عسيلته) دل على أنه لابد من الإصابة التي يتحقق بها الإيلاج والجماع المعتبر الذي يترتب على مثله ما يترتب من أحكام الشريعة.
فبيّن رحمه الله أنه يشترط تغييب الحشفة في الفرج.
فقال رحمه الله: [ويكفي تغييب الحشفة] الحشفة: هي رأس الذكر، ومعناه: هو الذي عبر عنه بمجاوزة الختان للختان.
وتغييب رأس الذكر يترتب عليه من الأحكام الشرعية ما يقارب ثمانية أحكام ما بين العبادات والمعاملات، ومنها هذه المسألة، أنه إذا اشترط الوطء فلابد من تغييب الحشفة وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وسيأتي تفصيل ذلك أكثر في أحكام الجنايات والحدود في باب الزنا، فبيّن رحمه الله أنه لا بد من حصول الإيلاج.
فلو أنه دخل بالمرأة وحصلت المباشرة دون إيلاج لم تحل، بل لابد من الجماع وأن يحصل إيلاج في الفرج فقال: [يكفي تغييب الحشفة]، إذاً لا يشترط أن يكون الوطء بكامل الذكر وإنما يكفي أن يكون ببعضه.
وصرح العلماء رحمهم الله بهذا تصريحاً واضحاً؛ لأن المسائل الشرعية في بعض الأحيان يكتفى فيها بألفاظ الكنايات، ويتأدب ويؤتى بها مخفية، لكن في تعليم العلم وشرحه وبيانه لا بد من التوضيح والتفصيل؛ لأنه ربما فهم أحد غير المراد.
وحينئذٍ كان العلماء رحمهم الله والأئمة في مجالسهم يصرحون ويبينون حتى يفهم الناس، حتى يعذروا إلى الله عز وجل ببيان العلم وتوضيحه، ولا يقع الإنسان في لبس.
فمن هنا قالوا: لابد كما صرح رحمه الله [ويكفي تغييب الحشفة] أي: لابد من حصول إيلاج رأس الذكر في فرج المرأة المطلقة ثلاثاً.
فإذا حصل المسيس دون إيلاج من رأس العضو فإنها لا تحل، والدليل على اشتراط هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) ولا يمكن أن يوصف بهذا الوصف إلا إذا حصل الجماع، ويكفي قدر الإجزاء وهو رأس الذكر، فلو حصل الإيلاج الكامل فهذا من باب أولى وأحرى.
قوله: [أو قدرها] جمهور العلماء أن المسائل المترتبة على الحشفة وهي رأس الذكر، إذا كان الشخص مقطوع الحشفة فإنه ينظر إلى قدرها من المقطوع، فإذا أولج في فرج المرأة هذا القدر حلت لزوجها الأول.
وأما إذا حصل الاستمتاع بما دونه ولو وضع الفرج على الفرج فإنه لا يوجب الغسل، ولا يحكم بالإحصان، ولا بثبوت المهر كاملاً؛ ولا تحل لمطلقها ثلاثاً، إلى غير ذلك من الأحكام المعتبرة، وهكذا الزنا لا يحكم بثبوت حده ما لم يحصل إيلاج رأس العضو أو قدره من مقطوع الحشفة.
قال رحمه الله: [مع جب في فرجها مع انتشار].
(مع جب) أي: إذا كان مقطوع العضو وبقي منه شيء ينظر إلى القدر، فإذا كان هذا القدر المعتبر شرعاً والذي نص العلماء والأئمة على اعتباره موجوداً مثله مما بقي من العضو فإنه يكفي للحكم بالأحكام الشرعية التي ذكرناها، ومنها تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.
قوله: [مع انتشار]: أي: فإذا كان العضو غير منتشر أي: غير منتصب فإنه لا يحكم بحلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ولذلك يقول بعض العلماء: من بلاغة السنة أن الكلمة الواحدة والجملة الواحدة تتضمن من المسائل كثرة.
فهو عليه الصلاة والسلام بهذه الكلمة الجامعة أفتى، وفرع العلماء الأبواب والمسائل فيقولون: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وله مرابط وأوصاف لا بد من تحققها حتى يحكم بكون المرأة قد حلت لزوجها الأول.
ومن هنا قالوا باشتراط الانتشار، وهذا معنىً ظاهر من الحديث وواضح؛ فإنه إذا كان العضو غير منتشر فإن المرأة لا يتحقق فيها هذا الوصف من إصابة العسيلة.
قال رحمه الله: [وإن لم ينزل].
أي: لا يشترط الإنزال، ومن هنا صح وطء المراهق، وأن المراهق إذا جامع المرأة المطلقة ثلاثاً حللها للأول.
وقالوا: إنه لا يشترط الإنزال لأن الشرع رتب الحكم على ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يشترط فيه ألا تزال، فالقدر المعتبر للإجزاء هو حصول الإيلاج، وأما الإنزال فإنه ليس بشرط.
(311/5)
________________________________________
الأحوال التي لا يصح بها تحليل المرأة لزوجها الأول
قال رحمه الله: [ولا تحل بوطء دبر] لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذوق العسيلة، والمراد به الوطء المعتبر شرعاً، فالوطء المحرم شرعاً وهو وطء الدبر الذي لا يحل للزوج ولا لغيره؛ فإنه لا يحصل به التحليل ولا يحكم به بحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول.
فلا تحل بوطء في غير المكان المعتبر، وهو مكان الحرث.
[وشبهة] فلو أنها طلقت ثلاثاً ونكحها شخص نكاح الشبهة أو وطئها وطء شبهة، فإنها لا تحل بهذا الوطء لزوجها الأول.
فلو أنها كانت نائمة مع امرأة ومعها زوجها، فجاء زوجها يظنها زوجته، أو أخطأ وجاء ووطئها يظنها زوجة له، فهذا الوطء وطء شبهة لا يوجب الحد كما سيأتي إن شاء الله، ولا يعتبر موجباً لحلها لزوجها الأول.
والدليل على اشتراط أن يكون الوطء في نكاح صحيح قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ} [البقرة:230] فبيّن هذا الشرط وجوب النكاح، والنكاح حقيقة شرعية لابد من وجود نكاح معتبر شرعاً، ونكاح الشبهة ليس بنكاح معتبر شرعاً للتحليل.
قال رحمه الله: [وملك يمين] وهكذا لو وطئت يملك يمين، فلو أنها كانت أمة وطلقها زوجها الرقيق واستوفى عدد التطليقات ورجعت لسيدها، ثم بعد أن استبرأها سيدها وطئها وطء ملك اليمين، فإنه في هذه الحالة لو أرادت أن ترجع إلى زوجها الأول لم تحل له، بل لابد أن تنكح، فإذا حصل نكاحها فإنه حينئذٍ تحل لزوجها الأول بشروطها المعتبرة.
قال رحمه الله: [ونكاح فاسد] وهكذا إذا كان النكاح فاسداً، بأن طلقها ثلاثاً فنكحها رجل نكاح شغار أو نكاح متعة، فنكاح الشغار والمتعة نكاح فاسد شرعاً، فلا تحل بهذا النوع من النكاح لزوجها الأول.
قال رحمه الله: [ولا في حيض].
أي: ولو أنه تزوجها الزوج الثاني فوطئها أثناء الحيض، ثم طلقها في الطهر، فإنه حينئذٍ لا يحكم بحلها لزوجها الأول.
وهكذا لو وطئها في الحيض ثم مات عنها، وخرجت من حدادها وأراد زوجها الأول أن ينكحها نقول له: لا؛ لأن الوطء الذي حصل من الزوج الثاني حصل على غير الصورة المعتبرة شرعاً، ووطء الحيض والنفاس محرم شرعاً، والمحرم لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء.
لأن الله عز وجل حرم الوطء في الحيض، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فالمراد به الذوق المأذون به والمعتبر شرعاً.
فلما كان ذوقه لها في حال النقص وحال غير معتبرة شرعاً، كان وجوده وعدمه على حد سواء.
قال رحمه الله: [ونفاس] أي: سواء كانت في حيض أو في نفاس، وقد تقدم أن الوطء لا يحل فيهما حتى تطهر وتغتسل.
قال رحمه الله: [وإحرام وصيام فرض] أي: وهكذا لو كانت محرمة فقال بعض العلماء: إن الوطء في الإحرام محرم شرعاً، وكل وطء محرم شرعاً لا يوجب التحليل.
لأن المراد بالوطء المشترط الوطء الذي أذن به الشرع، ووطء المحرمة لا يحل، فلو أنه عقد عليها قبل الإحرام، ثم أحرمت، ثم وطئها وهي محرمة، ثم مات عنها أو طلقها، فإنها لا تحل لزوجها الأول في قول طائفة من العلماء بهذا النوع من الوطء؛ لأنه محرم شرعاً، فوجوده وعدمه على حد سواء لا يوجب الحكم بتحقق الشرط المعتبر شرعاً.
(311/6)
________________________________________
ادعاء المرأة أنها قد حلت لزوجها الأول بنكاح حال غيابها
[ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها، وانقضاء عدتها منه، فله نكاحها إن صدقها وأمكن].
امرأة طلقها زوجها ثلاثاً وغابت عنه، وقوله: [غابت] يقتضي أنها لو كانت حاضرة عنده في المدينة ويعرف أحوالها وأخبارها فلا إشكال.
من المعلوم أن النكاح يشهر ولا يستر، ويعرف ولا يخبأ عادة؛ فإذا كانت موجودة ويطلع على أحوالها، ثم ادعت يوماً من الأيام بعد مرور أشهر قالت: أنا تزوجت ثم طلقني، فحينئذٍ يعرف أنها لم تتزوج ولم تطلق، ولم يحصل الأمر المعتبر شرعاً، وأنها تريد أن تحتال لرجوعها إليه، فحينئذٍ لا يجوز له أن يعمل بهذا لأنها تدعي شيئاً لمصلحتها.
لأنه من مصلحتها أن تعود لزوجها الأول، ولربما طلقت المرأة فلم ينكحها أحد؛ لأن الغالب أن النساء المطلقات يحصل شيء من امتناع الأزواج منهن فتدعي شيئاً لمصلحتها.
فإذا قالت: تزوجت ووطئت بالزواج، وحصل تحليل، وخرجت من عدتي، وكانت حاضرة ويعلم أخبارها فالظاهر أنها غير صادقة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، أنها امرأة محرمة عليه، فلا ينبني على مثل هذا القول حكم ولا يعول عليه.
لكن لو أنه طلقها ثلاثاً، ثم سافرت إلى بلدها وغابت عنه، أو سافر هو وانقطعت أخبارها وغابت عنه، أو كانت في موضع لا يتيسر له العلم بحالها أو معرفة صدقها من كذبها.
فإنه في هذه الحالة إذا جاءت وادعت أنها نكحت، وأنه دخل بها الناكح ثم طلقها، فإن كان الزمان الذي ادعت ممكناً في مثله حصول النكاح وحصول الطلاق مع العدة، فإن له أن يعمل بقولها، ولا حرج عليه في ذلك.
إذاً: يشترط أن يكون ذلك ممكناً.
لكن لو أنه طلقها وخرجت من عدتها، وبعد أسبوع جاءت وقالت: والله تزوجت! فلا، لأنها لم تخرج من عدتها فلا يمكن؛ لأنها مازالت تابعة لزوجها الأول، لكن لو أنها خرجت من عدتها وادعت الإصابة بعد خروجها من عدتها، وجاءت بعد أسبوع فنقول: لا يمكن؛ لأنه لابد من حصول طلاق حتى تحل للزوج الأول وحصول العدة من الطلاق الصادر من الزوج الثاني.
ففي هذه الحالة لا يصح دعواها لأنه غير ممكن، لأنه لابد من وجود العدة والاستبراء، وهذا لا يتحقق في هذه المدة الوجيزة، فحينئذٍ لا يقبل قولها ولا يعول عليه.
فاشترط رحمه الله غيابها، بأن لا تكون شاهدة يمكنه أن يعرف حالها وأن يطلع على صدقها من كذبها.
ثانياً: أن يكون ما ادعته ممكناً، أما إذا كان غير ممكن فإنها لا تعطى بدعواها ما ادعت، وعليه أن يبقى على الأصل من كونها محرمة عليه.
والله تعالى أعلم.
(311/7)
________________________________________
الأسئلة
(311/8)
________________________________________
الفرق بين الطلاق والوطء حال الحيض
السؤال
أشكل عليّ أن الطلاق في الحيض يقع، وهنا لم يعتبر الوطء في الحيض، وذلك بالنسبة للتحليل؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: مسألة الطلاق في الحيض قدرنا أن هناك ما يقرب من اثنتي عشرة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عمر وعن بعض أصحاب ابن عمر رضي الله عنهم الثقات، مثل سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولاه، ومحمد بن سيرين وأنس بن سيرين ومن طريق خالد الحذاء.
وهي روايات صحيحة ليس فيها إشكال، وأن ابن عمر نفسه كان يفتي أنها مطلقة وأن الطلاق قد وقع.
وبينا أن هذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة، فإنهم يقولون بوقوع الطلاق والاعتداد به، فأوقعوا الطلاق بنص كتاب الله، فإن الله عز وجل نص على أن من طلق مضي عليه طلاقه، وهذا هو الأصل، فمن طلق في الحيض فقد طلق بكتاب الله عز وجل.
فإن قال قائل: إن المرأة أثناء الحيض محرم عليه أن يطلقها، نقول: هذا مبتدع، والمبتدع يزجر بالعقوبة؛ لأنه حتى من جهة المعنى متفق على أنه يقع طلاقه، ومن جهة الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يفتون بوقوع الطلاق.
والحقيقة للمحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة بحث من أنفس البحوث في هذه المسألة، في الجزء السابع من إرواء الغليل، تكلم كلاماً نفيساً جمع فيه الروايات، وهناك رواية عن حنظل بن أبي سفيان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها احتسبت طلقة.
فنحن نطلق بالكتاب والسنة، فالطلاق في الحيض يقع بالكتاب والسنة.
أما مسألة الجماع في الحيض، فالجماع في الحيض جماع ناقص، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222].
فاشترط الشرع أن يوجد ذوق العسيلة، وذوق العسيلة لا يكون على وجه فيه ضرر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222].
ومن إعجاز القرآن أنهم وجدوا أن الجماع في الحيض يورث التهاباً وأمراضاً في غدد البروستات وغيرها، وهذا من إعجاز القرآن ومن الحكم العظيمة، والأسرار التي أطلع الله عز وجل عليها العباد، ولم يعرفوها إلا الآن، وقد عرفها أئمة السلف من قرون عديدة.
حتى إن بعض الباحثين من الكفار لما تبجح أنهم اكتشفوا ذلك قال له بعض الموفقين: هذا الذي عرفتموه اليوم كان يعرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
كل هذا بفضل الله ثم بفضل هذا القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
فالوطء أثناء الحيض أذىً، حتى إن الأطباء يثبتون أنه ضرر، فكيف تثبت الوصف الشرعي (حتى تذوقي عسيلته)؟ فالوطء في الحيض لا يحصل به ذوق العسيلة على الوجه المعتبر، لأن المرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء وأصابها فإنه يؤذيها.
حتى إن بعض الأطباء يستغرب من اشتراط كون المرأة لا تجامع في النفاس إلى الأربعين، وجدوا من ناحية طبية أنه يضر بالمرأة، ويؤذي جماعها، فكل هذه الأمور فيها أضرار.
والوصف الذي اشترطه الشرع من كونه يذوق العسيلة وتذوق هي عسيلته غير موجود في حال الحيض وفي حال النفاس، حتى المرأة نفسها لا تذوق العسيلة على الوجه المعتبر، ومن هنا اختلف القياس.
هذا الجواب الأول، فنقول: لا اعتراض؛ لأن تلك الصورتين كل صورة تخالف الصورة الثانية، فهنا يتحقق وصف الشرع بأنه مبتدع ووصف الشرع أنه يزجر، مع نص القرآن على أن طلاقه نافذ.
أما رواية أبي الزبير (ولم يرها شيئاً) فهذه رواية محتملة؛ لأن رواية أبي الزبير ليست كالروايات الصريحة عن ابن عمر نفسه رضي الله عنه صاحب القصة، والذي هو أدرى بما رواه، وليس أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي رحمه الله بمنزلة نافع مولى ابن عمر ولا بمنزلة سالم بن عبد الله بن عمر في الضبط عن ابن عمر وهؤلاء الأئمة الأثبات في الرواية والضبط أدرى بروايتهم عن ابن عمر.
ولو سلم أن أبا الزبير له مكانته في الحفظ والرواية، لكنه خالف من هو أوثق منه وأقوى منه رواية، ثم إن اللفظ الذي قاله: (ولم يرها شيئاً) معناه: لم يرها على السنة ولم يرها موافقة على السنة.
فحينئذٍ يكون لفظه: (لم يرها شيئاً) محتملاً لأمرين: لم يرها طلاقاً، ولم يرها على السنة، والقاعدة أنه إذا روى الراوي وجاءت روايته معارضة لرواية الأكثر والأشهر، وعارضت الأصل، ولها معنىً يوافق الأشهر ويوافق الأصل، وجب صرفها لما هو موافق للأشهر والأصل.
فنقول: (لم يرها شيئاً) أي: لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، وهذا جواب الإمام الشافعي رحمه الله برحمته الواسعة، فإنه أجاب على رواية أبي الزبير من أنها ليست صريحة، إنما تكون صريحة ومعارضة حينما يقول ابن عمر: (احتسبت) ويفتي ابن عمر بالطلاق المحتسب فتأتي رواية: ولم يحتسبها طلاقاً.
إذا قال: (لم يحتسبها طلاقاً) تعارض صريح مع صريح كما هو معروف في الأصول، لكن (لم يرها شيئاً) يحتمل أنه لم يرها شيئاً موافقاً للسنة، ويحتمل أنه لم يرها طلاقاً، هذا كله محتمل.
فاللفظ ليس بصريح، والقاعدة (أنك لا تحكم بالتعارض في الروايات إلا بشيء صريح) حتى لا تضرب بعض النصوص ببعض، إذ الكل خارج من مشكاة واحدة، وشرع الله عز وجل إذا جاءنا بنقل الثقات لا شك أنه في الأصل مقبول غير مردود، وينبغي التسليم له والعمل به.
ولذلك نقول: إن الحيض ألزمنا الطلاق به إعمالاً للأصل من أن المطلق ينفذ عليه طلاقه، وعملاً بالروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعة كما في مسند عبد الله بن وهب رحمه الله وهي رواية صحيحة، واحتسبت الطلقة.
وكذلك الروايات الموقوفة عن ابن عمر أفتى فيها بالطلاق، وإعمالاً لأصل الشرع، فإن المبتدع الأصل فيه أنه يزجر ويعاقب لا أنه يخفف عليه بأنها لا تقع طلقة.
هذا ليس مقام عبادات يثاب عليه، الفقه أن تنظر إليه من أنه إنسان متعد لحدود الله؛ لأن الله لما ذكر الطلاق الشرعي في الطهر قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230].
فبيّن أن الطلاق في الحيض اعتداء على حدود الله عز وجل، والمعتدي على حدود الله نعرف من أصول الشريعة أنه يزجر ويعاقب، هذا مبتدع الأشبه به أنه يزجر.
ولذلك تجد من يطلق في الحيض ويجد من يخفف عنه ويقول له: لا ليس عليك شيء؛ يستخف بهذا الأمر، ولا يراه شيئاً.
لكن لو قيل له: إن الطلاق ماضٍ عليك وإنك ابتدعت واعتديت على حدود الله عز وجل؛ فإنه يكون أبلغ في تحقيق مقصود الشرع.
وأما بالنسبة لجماع المطلقة ثلاثاً في الحيض فإنه ليس بالجماع المأذون به شرعاً حتى نرتب عليه الأحكام الشرعية.
وقد اشترط الله عز وجل جماعاً مأذوناً على السنن الشرعي، فنقول: لا يتحقق به الحل على القول الذي اختاره المنصف رحمه الله.
والله تعالى أعلم.
(311/9)
________________________________________
حرمة نكاح الرجل المرأة لقصد التحليل تصريحاً أو ضمناً
السؤال
لو طرأت نية الطلاق بالتحليل للزوج الأول بعد أن كان الزوج الثاني على غير علم بأن الزوجة تريد زوجها الأول أو هو يريدها، فهل لو طرأت عليه هذه النية يجوز أن يطلقها؟
الجواب
الزوجة إذا أرادت أن ترجع أو تزوجت ووطئها الثاني، أو عقد عليها وأحبت الرجوع إلى الأول، هذا لا حرج عليها فيه، يعني: من حيث الأصل لا تلام.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على امرأة رفاعة لما جاءت تشتكي عبد الرحمن وقالت: يا رسول الله! إن معه كهدبة الثوب، وكان معه طفل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابني.
فعلم أنها تدعي شيئاً ليس بالصحيح؛ لأنه لو كان الأمر مثلما ذكرت ما حصل له ولد من الزوجة الأولى التي قبل هذه الزوجة المطلقة ثلاثاً.
ففطن عليه الصلاة والسلام إلى أنها اختارت زوجها الأول إما لعشرة وإما لأمور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته) فهذا حكم بيّن أنها فعلاً تريد الرجوع إلى رفاعة، ثم هي أقرت وسكتت.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أورع الخلق وأكملهم أدباً وأبعدهم عن اتهام الناس ليس بمعقول أن يقول لها: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) بالباطل والزور، حاشاه! بل ذكر لها أنها تريد أن ترجع إلى رفاعة بدليل وحجة، وهي سكتت وأقرت، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن من طلقها ثلاثاً حتى لو طلقها زوجها اليوم، وحنت إليه ورغبت أن تعود إليه فلا بأس، هذا مقصود الشرع؛ لكن الذي يحلل وينكح لا يجوز له أن ينكح بقصد أن يحللها للأول.
هناك فرق بين الاثنين، وهي بالعكس فحينما تحن لزوجها الأول فمن المصلحة أن تعود إليه، ولربما كان الزوج الثاني أسوأ، ولربما كان ظالماً مؤذياً، ومقصود الشرع أن تعرف النعمة التي كانت فيها، ولذلك كان الحكماء يحدثون عن الرجل العاقل الذي يريد زوجة أنه يقول: اطلبوا لي امرأة أدبها الدهر.
اطلبوا لي امرأة أصابت النعمة ثم أدبها الدهر، فعندما تكون في نعمة وتزول عنها، وتعظها الأيام والسنون، وتجد الشدة والحاجة، تعرف قيمة النعمة.
فإذا تزوجها أحد بعد ذلك عادت من أعقل النساء، وأعرفهن بالأمور، ومن هنا عندما تطلق ثلاثاً وتحن إلى زوجها الأول، فإنه قد عضها وآلمها ما وجدت من فراق النعمة، فهذا لا تلام عليه، فانظر حكمة الشريعة التي لم تلم المرأة ولكن لامت الرجل.
فهناك فرق بين الرجل وبين المرأة، فالرجل لا ينكح بقصد التحليل لا صراحة ولا ضمناً على التفصيل الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم.
(311/10)
________________________________________
حكم وطء العنين في تحليل المرأة للزوج الأول
السؤال
إذا كان الزوج الثاني عنيناً فكيف تذوق المرأة عسيلته ويذوق عسيلتها؟
الجواب
العنين له حكم، وتقدم معنا قضاء الصحابة رضوان الله عليهم فيه، وقضاء الفاروق رضي الله عنه أنه يمهل سنة حتى يطأ، فإذا حصل الوطء خلال السنة ولو مرة واحدة فإنه يحصل به التحليل للأول.
وأما قبل الوطء فإنها لا تحل لزوجها الأول بهذا النكاح، فإن شاءت صبرت معه، وإن شاءت عوضها الله غيره.
والله تعالى أعلم.
(311/11)
________________________________________
حكم من أوتر بركعة ثم سها فقام للثانية
السؤال
إذا أوتر شخص بواحدة فسها وقام إلى الثانية، فهل يسجد للسهو أم يجعلها شفعاً ويوتر بواحدة، لأن الوتر مرتبط بعدد الفرد؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها تفصيل، ولها نظائر، فمن أمثلتها أيضاً أن تصلي بالليل ركعتين ركعتين وفجأة قمت إلى الثالثة فهل ترجع وتجلس وتسجد للسهو وتلغي الزيادة، أو تستمر فيها وتضيف ركعة فتشفعها؟ هذه فيها وجهان للعلماء: بعض العلماء يقولون: الإعمال أولى من الإهمال، فما دام أنك تكسب الأجر والخير أكثر فتضيف هذه الركعة وتزيدها وتصبح الثنائية رباعية.
وهكذا لو صليت أربعاً ثم قمت إلى الخامسة قالوا: تضيف سادسة، وإذا صليت سبعاً تضيف ثامنة، فهذا بعض العلماء يستحبه.
لكن في مسألة الوتر كان بعض مشايخنا رحمه الله يقول: إنه إذا قام إلى الوتر وأوتر فإنه لا يعرف في الشرع ركعتان يدعى بعد الأولى منهما، فإذا كان قد قنت ودعا بعد الركعة الأولى في وتره، فإنه الأشبه به أن يجلس مباشرة وأن يسجد سجود السهو؛ لأن الشريعة لم تجعل صلاة ركعتين يكون الدعاء في الأولى منهما، وإنما الدعاء في الشفعية بعد الركوع الثاني كما في قنوت الفجر ونحو ذلك مما ورد به الشرع.
إلا أن الأولين ردوا وقالوا: إن هذا الدعاء فعله لإذن شرعي، كما لو أنه جلس للتشهد الأول ثم قام وتذكر أنه يصلي شفعاً فإنه يكون معذوراً بجلوسه، وهنا كان معذوراً لنيته الوتر.
لكن الأشبه والأولى أنه يصليها وتراً وينقض هذه الزيادة، وإن أتمها ركعتين فلا حرج على ما ذكرناه في اختيار بعض العلماء رحمهم الله؛ لأن الأجر أكمل له وأعظم، ولذلك يقولون: إن الثانية تنقض وتره الأول.
والله تعالى أعلم.
(311/12)
________________________________________
حكم دخول المأموم مع إمام يصلي العشاء بنية المغرب والعكس
السؤال
دخلت المسجد ولم أصل المغرب فانتظرت الإمام حتى قام للثانية من صلاة العشاء، ثم دخلت معه، وذلك من أجل عدم الاختلاف عليه، فما الحكم؟
الجواب
فعلت هذا من أجل أن تجتنب المخالفة ووقعت في مخالفة ثانية، فأنت إذا دخلت المسجد فأنت مأمور بأن تدخل مع الإمام (إنما جعل الإمام ليؤتم به).
فلا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد أن ينفرد عن الجماعة، ولو أدركت الإمام قبل السلام بلحظة، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فما أدركتم فصلوا) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن كل من أدرك جماعة تصلي في المسجد أنه لا يجوز له أن يشذ عنها وينتظر.
وأما مذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وبعض أهل الرأي فإنهم يقولون: إنه ينتظر إذا كان قبل السلام بلحظة حتى يحدث جماعة ثانية، وهذا اجتهاد مع النص.
النص يقول: (فما أدركتم فصلوا) ومعروف أن (أدركتم) لم يفرق فيه بين إدراك قليل أو كثير؛ لأن الإنسان يعتبر مدركاً للجماعة الأولى ولو قبل السلام بلحظة، فما دام أنه كبر قبل تسليم الإمام، فعندنا نص صحيح يدل على أنك إذا دخلت المسجد والإمام في جماعة فواجب عليك أن تتبع جماعة المسلمين.
والإسلام يحارب الشذوذ خاصة في العبادات، ولذلك شرع الله صلاة الجماعة وأمر بها، ووضع عليها الفضائل والعواقب الحميدة تحقيقاً لجماعة المسلمين، وأمر من حضر هذه الجماعة أن يركع لركوع الإمام، ويسجد لسجوده، وألا يختلف على الإمام.
فكما أن الاختلاف يكون داخل الصلاة -كما ذكر العلماء- كذلك يكون الاختلاف والشذوذ قبل الصلاة، فتجد الإمام ساجداً وتجده الرجل واقفاً ينتظر أن يرفع الإمام رأسه، وهذا خلاف السنة وشذوذ عن الجماعة؛ لأنه لو سجد لرفع الله درجته، وكفر خطيئته وأعظم أجره، وأجزل مثوبته.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأي حالة أدركتمونا عليها فصلوا) أي: على أي حال وجدتمونا فصلوا معنا.
فلا يجوز الشذوذ عن الجماعة والخروج عنها، هذا مبدأ إسلامي، ولذلك لما صلى عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين ورأى رجلاً لم يصل قال: (ما منعك أن تصلي في القوم؟) وفي حديث أنه قال: (ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟).
فدل على تشديد الشرع في متابعة الجماعة، فكما أن المتابعة تكون أثناء الصلاة تكون كذلك قبل الصلاة، فإذا كنت في داخل المسجد وجب عليك أن تتبع الإمام وأن تدخل معه، حتى ولو أنك صليت في مسجدك وفي حيك وفي بيتك لزمك أن تدخل مع الجماعة (فإذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا).
فنهى الشذوذ عن الجماعة وأمر بإعادة الصلاة مرة ثانية، تحقيقاً للأصل الذي ذكرناه.
وإذا ثبت هذا فإذا دخلت والإمام في صلاة العشاء فعليك تدخل وراءه، وإن كنت لم تصل المغرب، فإن جمهور العلماء رحمهم الله على أنك تصلي وراءه نافلة، ولا يجوز إيقاع صلاة المغرب وراء العشاء؛ لأنها مخالفة لشرع الله عز وجل، فالرباعية لا تؤدى وراء الثلاثية والثلاثية لا تؤدى وراء الرباعية.
والاختلاف واضح، ولو أنك أدركت الركعتين الأخريين فإن الأصل في صلاة المغرب أن تدرك إماماً في ركعتين أوليين أن يجهر لك بقراءتهما.
ولذلك تدخل وراءه بنية النافلة؛ لأنه لا يصح أن تصليها عشاءً لأنك لم تبرئ ذمتك من المغرب، ولا يصح أن تصليها مغرباً؛ لأنك لا تصليها على الصورة المعتبرة شرعاً، ولا تؤديها على السنة.
وأما اجتهاد بعض العلماء في هذه المسألة ونظائرها قالوا: إذا صلى المغرب وراء العشاء يجلس بعد الركعة الثالثة، وهذا قول شاذ لأنهم قاسوه على صلاة الخوف، وهذا قياس ضعيف؛ لأن القاعدة في الأصول (أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس).
وصلاة الخوف صلاة ضرورة جاءت بصورة خاصة، والقياس في التعبديات ضعيف، فجاءت على هذه السنن وهذه الصورة، فلا ينقاس غيرها عليها، وقد نبه الأئمة على ضعف هذا، حتى إن الشافعية عندهم هذا الوجه، نبه الإمام النووي في روضة الطالبين وغيره على ضعفه، وعدم الاعتداد به.
ومن هنا نقول: إن من أدرك الإمام يصلي العشاء ولم يكن صلى المغرب فإنه يدخل وراءه بنية النافلة، ودخوله وراءه بنية النافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول مع الجماعة.
فلا يصح أن نصليها مغرباً لاختلاف صورة الصلاة، ولا يصح أن نصليها عشاءً لأن الذمة لم تبرأ من المغرب، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح أن يصلي العشاء قبل أن تبرأ ذمته من المغرب.
وإذا ثبت هذا فإنه يصح ما ذكرناه من مذهب جمهور العلماء أنك تصلي نافلة، ثم تقيم وتصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، وفائدة هذا أن الله يأجرك عن الثلاث الصلوات اتباعاً للسنة، واتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مع الجماعة، وتؤجر عن صلاة فرضك في المغرب والعشاء.
أما لو كانت صورة الصلاتين متحدة كأن تدخل والإمام يصلي العصر وأنت لم تصل الظهر، فيجوز أن تصلي الظهر وراء العصر، فحينئذٍ تكبر وتنوي وراء الإمام الظهر، فإذا سلم الإمام أقمت وصليت العصر أو تدخل مع جماعة ثانية تصلي العصر، ولا بأس؛ لأن صورة الصلاتين متحدة على أصح قولي العلماء.
والله تعالى أعلم.
(311/13)
________________________________________
التورك يكون في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان
السؤال
إذا قصر المسافر الصلاة فهل يشرع له التورك، أم أن التورك خاص بالصلاة الرباعية؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يشرع التورك في جميع الركعات، ومنهم من قال: يشرع التورك في كل تشهد بعده سلام، ومنهم من قال: لا يشرع التورك في الثنائية، وإنما يتورك في الرباعية والثلاثية.
ومن هنا يقولون: لا يتورك إلا في التشهد الثاني والأخير، لحديث أبي حُميد وأظن هذا هو أقوى الأقوال وأقربها إن شاء الله للسنة.
ولكن لو تورك أحد فله وجه من السنة ولا ينكر عليه، وهو قول طائفة من العلماء وبعض أئمة السلف رحمهم الله أن التورك مشروع في الثنائية، ومنهم من يقول: يسن التورك مطلقاً كما هو مذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين.
فهذه مسائل لا ينكر على أحد فيها، وأنبه على أن المسائل الخلافية كالصلوات ونحوها إذا كان هناك نصوص محتملة وترجح عند إنسان أو عند شيخه الذي يعمل بقوله قولاً، فلا ينبغي له أن ينكر على غيره.
إنما يقول: هذا الأقوى وهذا الأقرب إلى السنة، فإذا عمل بالقول الآخر الذي قال به أئمة السلف ودواوين العلم؛ فإنه لا ينكر عليه، ولا يثرب عليه؛ تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح كما ذكر العلماء والأئمة، أنه لا إنكار في الفروع المختلف فيها ما دام أن الأدلة تحتملها، وهذا من شرع الله عز وجل؛ لأنه يحتمل أن يكون الصواب والحق معه.
وذلك لأن النصوص إذا وردت محتملة فإنه إذن من الله عز وجل بالخلاف؛ فإن أصاب المصيب كتب الله له أجران وهو صاحب السنة والحق، وإن أخطأ من أخطأ بعد اجتهاد وتعاطٍ للسبب كتب الله له الأجر الواحد.
والله تعالى أعلم.
(311/14)
________________________________________
نصيحة لطلاب العلم في استغلال أوقاتهم وجدولتها
السؤال
كيف يجدول طالب العلم وقته، وذلك بالنسبة للمراجعة والضبط والتحضير للدرس، والاستفادة من أهل العلم خصوصاً إذا أراد أن يجمع إلى ذلك تلاوة للقرآن وقياماً لليل؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا شك أن من أعظم نعم الله عز وجل على العبد بعد الهداية نعمة العلم إذا صحب بالعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وكمل الله نعمته على العبد بالقبول.
فمن جمع الله له بين الهداية والعلم النافع والعمل والتطبيق والدلالة على الخير، والحرص على نفع الأمة وتعليم المسلمين وإرشادهم، حتى يجعله الله إماماً من أئمة الدين، ثم يكمل الله له بالقبول ويزيده فضلاً بالثبات حتى يختم له بخاتمة السعداء فليس هناك عبد بعد الأنبياء أسعد من هذا العبد.
هذه هي النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة، نعمة العلم والعمل مع القبول والإخلاص والثبات وحسن الخاتمة، نسأل الله بعزته وجلاله وكماله أن يرزقنا ذلك، وأن يبارك لنا في علمنا وعملنا.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد صلاة الفجر كما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً).
فكان يستفتح يومه بسؤال الله عز وجل أن يجعله من أهل العلم، وأن يزيده علماً، فإذا كان الإنسان في إجازة أو فراغ، فنسأل الله عز وجل أن يبارك له في هذا الفراغ.
والعاقل الحكيم يعلم أن أعظم ما تنفق فيه الأعمار، ويمضى فيه الليل والنهار، الاشتغال بكتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما من الأحكام الشرعية المتعلقة بأصول الدين من العقيدة، أو متعلقة بفروع الدين من أحكام العبادات والمعاملات التي تحتاجها الأمة، فسد ثغور الإسلام في هذا لاشك أنه من أعظم النعم التي يوفق الله لها وليه الصالح.
والعبد لا يكون صالحاً إلا إذا أصلح الله له قوله وعمله، ولا يصلح القول والعمل إلا بعلم وبصيرة، على كل حال طالب العلم لا يمكن أن يبارك له في طلبه للعلم إلا إذا عرف قيمة العلم الذي يطلبه، وقيمة العلم الذي يريده، وأنت طالب علم كلما سمعت كلمة أو حرفاً من العلم فأنت طالب علم.
فإن شئت فاستزد، وإن شئت فاستقل، والسعيد من استزاد من رحمة الله عز وجل، فأنت طالب علم ما طلبت كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما بني عليهما، فتحرص كل الحرص على معرفة قيمة هذا العلم، ومن عرف قيمة العلم عظّمه، وأحبه وأحب أهله، ووقرهم وأجلهم وعرف قيمة كل كلمة وكل حرف.
ولذلك تجد طلاب العلم على مراتب، منهم من يطلب العلم وهو يعرف قيمة العلماء ولكن على نقص، فلا يعرف قيمة العلماء من السلف الصالح والأئمة المتقدمين ولا المتأخرين.
وتجده يأخذ العلم بعضاً، وهم أنصاف طلاب العلم الذين يأخذون بعض العلم، فإذا تعلم الكلمة والكلمتين تطاول بها على الناس، ولربما خطأ ولربما فاجترأ على العلم قبل أن يتمكن وقبل أن يحصل، فهذا تجده يعظم العلم بقدر ما أخذ من العلم فتجد تعظيمه ناقصاً، حتى إنه لربما يجلس المجلس يتتبع الزلة والخطأ، فتجده يبحث عن الخطأ أكثر من بحثه عن النفع، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا ولو كان فيه نوع من الخير لكنه لا يأمن من مكر الله عز وجل به، ومن أراد أن يجرب ذلك فليجربه.
فسنن الله لا تتبدل ولا تتحول، فإن الله عليم حكيم، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته في الأنبياء والرسل، فهو أعلم كيف يجعل العلم ونوره آيات بينات: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلم} [العنكبوت:49].
من الذي آتى أهل العلم العلم؟ الله عز وجل، لا يستطيع أحد أن يطلب العلم إلا إذا عرف قدر العلماء خاصة من أئمة السلف ودواوين العلم، وتأدب الأدب الكامل معهم.
سواء كانوا علماء في التفسير أو الحديث أو الفقه، نتأدب معهم ونعرف قدرهم، ومن عرف قدرهم ومكانتهم أحب العلم منهم، ولذلك كان علماء الأئمة والسلف يتأدبون مع مشايخهم، حتى قال بعض المحدثين رحمهم الله لشيخ: أعطني لسانك الذي رويت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله.
لما عرف قيمة السنة أجل كل شيء، حتى إنه يريد أن يقبل لسانه إكراماً لهذا العلم وإجلالاً له، فالمقصود أن الإنسان الذي يعرف قيمة العلم، ويعرف قيمة من يأخذ عنه العلم، وعرف ما وضع الله عز وجل في صدور أهل العلم من أئمة السلف، ودواوين العلم الذين زكاهم الله لهذه الأمة، وجعلهم أئمة صالحين هداة مهتدين، يقولون بالحق وبه يعدلون، ووضع لهم القبول بين الناس يحبونهم كمال المحبة لله وفي الله، وتعظيماً لشعائر الله.
فإذا أحب السنة انحرف على كل كلمة ما وافقت شرع الله، فعند معرفته بقيمة السنة والعلم بها، يعطيه الله عز وجل النور الذي يهتدي به بهدي الكتاب والسنة؛ لأن هؤلاء العلماء ما وضعتهم الأمة في هذه المكانة وهذه المنزلة إلا بعد أن عرفت منهم العلم والعمل.
إذا عرف قيمة العلماء حرص على أخذ هذا العلم عن أهله، وعرف قيمة كل كلمة في العلم؛ فسهر ليله، وأضنى جسده، وتلذذ بهذا السهر، وتلذذ بهذا التعب، فيا لله من طالب علم يحس أن ذلة العلم عزة، وأن مهانته كرامة، وأن تعبه راحة.
ولذلك تجد أئمة السلف رحمهم الله كانوا يسافرون ويتغربون، ويجتهدون ويتعبون، فانظر إلى آثار رحمة الله عز وجل عليهم حينما وضع الله لهم الدعوات الصالحة لمن جاء بعدهم من الذكر الحسن، وأحسن لهم المآل، الله أعلم كيف ختم لهم بخاتمة السعداء؟ وكيف يتقلبون الآن في منازل العلى من جنات عدن؟! وهذا من رحمة الله عز وجل وبركته سبحانه عليهم بفضله أولاً وآخراً، ثم بما وضع لهم من هذا العلم الذي هو سبب كل رحمة وكل خير وبركة.
فطالب العلم الذي يعرف قيمة العلم يحرص عليه، ولذلك إذا كانت عندنا هذه المعرفة، وكان عندنا هذا المبدأ، حرصنا على كل دقيقة من العطلة وكل ثانية قد تستنفذ في هذا العلم، ولكن يعلم كل طالب علم أنه يعتري كل ذلك عقبات ومخذلات ومنغصات ومكدرات وهجنة ونكد، ولكن إن صبر رفع الله منزلته، وأعظم أجره، وأجزل مثوبته، فيصبر ويصابر.
فإذا جئت تطلب العلم تجد عقبات بينك وبين السلف وبين العلماء وبين الأئمة، حتى لربما وجدت أشياء يصعب عليك فهمها من كلامهم، فتصبر وتصابر، وترابط حتى يفتح الله عليك.
مما وجدنا من سنن الله عز وجل ورحمته وعظيم فضله أننا كنا نقرأ بعض الكتب ونجلس عند بعض العلماء ما نفقه منه إلا القليل، وبفضل الله أولاً وآخراً -لا بحولنا ولا بذكائنا ولا بقوتنا ونبرأ إلى الله من الحول والقوة- ما مضت إلا أسابيع، بل بعض الأحيان أيام وإذا بذلك الأمر المعقد الصعب أصبح ألذ في قلوبنا وفي نفوسنا وفي أرواحنا من الطعام والشراب.
وأقسم بالله أن بعض طلبة العلم ما كان يجلس على طعامه لغداء وعشاء إلا وكتابه مفتوح، ومنهم من كان لا يدخل حتى دورة المياه إلا ويفتح مسجلاً يذكره بالعلم من حرصه.
حتى كان بعض أئمة السلف كما جاء عن أبي حاتم البستي كان إذا دخل الخلاء أمر ابنه يقرأ الروايات كلها حتى لا تذهب عليه ساعة أو لحظة أو دقيقة دون أن يكون هناك اتصال بهذا العلم.
فالذي يريد أن يبارك في وقته وجده وتحصيله فليعرف قيمة هذا العلم، فإذا عرفت قيمة هذا العلم فتح الله لك أبواب الرحمة؛ لأن تعظيم شعائر الله مظنة التوفيق والبركة، ولذلك لما ذهبت كرامة العلماء ومكانتهم ومنزلتهم، وسب الخلف السلف وانتقصوهم، وأصبحت مكانة العلماء لا شيء؛ حتى إنك لتسمع الآن العالم يريد أن يفتي في مسألة فمن معقب وناقد ومن مداخلة! متى كنا نسمع أن العالم عنده مداخلة أو إضافة أو زيادة؟ ما تربت الأمة على هذا، ولا عرفت الأمة هذه الأساليب التي تنقص من مكانة العلماء، حتى أصبح يتكلم في العلم من لا يحصى كثرة ويقول: عندي مشاركة، وكل يشارك وكل يتكلم، حتى ذهبت كرامة العلماء، وأصبح العالم كغيره، حتى إنك تسمع الكلام المعسول من الرجل اللبق البليغ ولكن لا تجد نور العلم، ولا بهاءه عليه، ولن تجده حتى تطلبه من أهله، وتأخذه من مكانه، ممن ورث العلم وأخذه بحقه، فهذا هو الذي بورك له في علمه، المقصود أن طالب العلم إذا عرف قدر العلم فتح الله عليه وبارك له في وقته وعمره، وكل ما يعانيه، وأكثر ما يعاني طلاب العلم اليوم بل الناس جميعاً، من الجهل بقدر العلم والعلماء.
ومما يدلك على جهل كثير من الناس بقدر العلم والعلماء أن العلماء في انتقاص والجهال في ازدياد، وكل زمان يذهب من الأمة عالم لن تجد من يسد ثغرته إلا من رحم الله؛ لأنه لو كانت الأمة تعرف قيمة هذا العلم ما مات عالم إلا وخلف وراءه أمة ممن هم مثله ممن يأخذ عنهم العلم.
والسبب في هذا أن الكثير ممن يجلس مع العلماء لا يلبث أن يتعلم بعض العلم حتى يخرج، ويذهب لكي يدعو ويعلم وينسى ضبط العلم كاملاً، فيموت العالم وقلَّ أن تجد من ضبط العلم ضبطاً كاملاً، لأننا ما عرفنا قدر العلم على التمام والكمال، ولو عرفنا قدر العلم على التمام والكمال للزمنا حلق العلماء والعلماء حتى تشيب رءوسنا، ونعلم بقدر ما عندنا، حتى إذا توفاهم الله عز وجل وجدت أمثالهم ممن سار على نهجهم وتأدب بآدابهم.
فالحث على طلب العلم، وعلى معرفة قدر العلم، وطول الزمان في هذا العلم، وعدم التصدر للناس في الفتوى، وعدم أخذ العلم ممن ليس بأهله؛ هذا كله مما يعين على ضبط العلم وإتقانه وأخذه من أهله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجبر كسر هذه الأمة في ذهاب علمائها، ونسأله بعزته وجلاله أن يبارك في العلماء الباقين، وأن يبارك في أعمارهم وأوقاتهم، وأن يفتح على طلاب العلم لمحبتهم ومعونتهم على طاعة الله عز وجل ومحبته ومرضاته، وأن يجمعنا بهم في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(311/15)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1]
كانت المرأة في الجاهلية إذا آلى الرجل منها تظل بقية حياتها معلقة؛ لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، فلما جاء الإسلام وضع لذلك حداً، فجعل للرجل مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يؤمر الزوج بأن يفيء أو يطلق.
وللإيلاء أحكام ومسائل ينبغي معرفتها، منها: صفة الإيلاء، وبماذا يكون، ومن الذين يصح منهم الإيلاء، وغيرها من المسائل المذكورة في باب الإيلاء.
(312/1)
________________________________________
تعريف الإيلاء وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] الإيلاء في لغة العرب: مأخوذ من قولك: آلى الرجل يولي إيلاءً، والأليَّة: الحلفة يحلفها الرجل، ويسمى الحلف واليمين إيلاءً كما قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، فإن هذه الآية من سورة النور سببُ نزولها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يحسن إلى مسطح، فلما تكلم في حادثة الإفك حلف بالله أن لا يعطيه وأن لا يحسن إليه، فبيّن الله تبارك وتعالى له السبيل الأكمل والأفضل من أن يديم إحسانه ومعروفه عليه.
الشاهد: أن هذه الآية تدل على أن الإيلاء يستخدم بمعنى الحلف.
والمراد بالحلف هنا: الحلف المخصوص؛ وهو الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته على شيء مخصوص، وهو: ترك جماع المرأة ووطئها مدةً مخصوصة، وهي أكثر من أربعة أشهر، على أن يكون هذا الحلف متعلقاً بالزوجة، وأن يكون متعلقاً بالوطء في المحل المعتبر وهو الفرج.
(312/2)
________________________________________
صفة الإيلاء
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الإيلاء] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من المسائل والأحكام التي تتعلق بإيلاء الأزواج وحلفهم على عدم وطء زوجاتهم المدة المعتبرة شرعاً.
ونظراً إلى أن هذا النوع من المسائل بيَّن الله حكمه في كتابه، وكذلك فصّل العلماء رحمهم الله جملة المسائل المتعلقة به، ناسب أن يعتني المصنف رحمه الله بذكره في كتاب النكاح.
وإنما أخر الكلام عليه وجعله بعد الطلاق؛ لأن الإيلاء في بعض الأحيان يكون وسيلة إلى الطلاق، والسبب في هذا: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا غضب الرجل من امرأته حلف أن لا يطأها أبداً، فتبقى المرأة معلقة؛ لا هي مطلقة ولا هي زوجة، فرفع الله الظلم عن الزوجات ببيان حكم هذه المسألة، فجعل الأمر على العدل والوسط، فجعل للزوج مدة يمكنه أن يؤدب فيها زوجته ويمكنه أن يحلف فيها، ولكن إذا جاوز الحد المعتبر شرعاً فإنه حينئذٍ يوقفه القاضي الشرعي ويقول له: أنت بالخيار بين أحد أمرين: إما أن تكفر عن اليمين التي حلفتها وترجع إلى زوجتك.
وإما أن تطلقها.
فإذا حلف وكان حلفه فوق الأربعة الأشهر؛ كأن يقول يخاطب زوجته: والله لا أجامعك ستة أشهر، فحينئذٍ وصل إلى الحد المعتبر شرعاً وهو أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف هذه اليمين فإنه يوقفه القاضي عند استتمام الأربعة الأشهر، ويقول له: إما أن تكفر عن يمينك وتؤدي حق زوجك وتتقي الله ربك في أهلك، وإما أن تطلق الزوجة وتسرحها بإحسان.
فإذا امتنع طلق عليه القاضي، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السموات والأرض {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، ولقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون.
فالله سبحانه وتعالى حكم بهذا الحكم فأعطى الزوج حقه، وأعطى الزوجة حقها، فإنه ربما أساءت المرأة إلى زوجها، وأراد الزوج أن يؤدبها فحلف اليمين لأسباب معتبرة وهي صحيحة، وتعتبر مبررات لإيقاف الزوجة عند حدودها، فإذا حلف وكان الحلف دون المدة التي تضر الزوجة، فإنه حينئذٍ يحقق ما يريده من مصلحة، فإذا جاوز الحد فإن هذا من الظلم.
وفي شرعية هذا النوع دل الكتاب بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فهذه الآية من سورة البقرة أصل لبيان حكم الإيلاء.
وهذا الحكم دليل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وأنها حفظت حقوق المرأة كما حفظت حقوق الرجل، فليست بشريعة جائرة، كما يجور أهل زماننا فينظرون لجنس على حساب حقوق الجنس الآخر، ويتبجحون بالحقوق إذا كانت من مصالحهم أو أغراضهم، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ الحقوق، فمتى اعتدى أحد الطرفين على الآخر أوقفه عند حده، وزجره وبيّن له ما ينبغي بيانه والتزامه لحدوده وشرعه.
(312/3)
________________________________________
بيان أن الإيلاء لا يكون إلا بحلف الزوج بالله تعالى أو صفته
قال رحمه الله: [وهو حلف زوج بالله تعالى].
قوله: (وهو) أي: الإيلاء (حلف زوج) أي: حقيقته عندنا معشر الفقهاء: أنه حلف زوج، فالإيلاء لابد فيه من اليمين والقسم.
ولذلك جاء في قراءة أُبي وفي قراءة لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (للذين يقسمون) بدل {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:226]، فدل على أن المراد بالإيلاء القسم.
وقوله: (حلف زوج)، يدل على أن الإيلاء لا يكون إلا من زوج، فلا يكون الإيلاء من زوجة؛ لأن الزوجة لا تملك الطلاق، والإيلاء يتركب منه الطلاق.
ويدل أيضاً على أن الحلف على الأجنبية لا يتحقق به الإيلاء، فلو قال لامرأة أجنبية: والله لا أطؤك سنة، لم يكن مولياً، وفي مخاطبة الأجنبية بمثل هذا -ما لم تكن هناك دوافع أو مبررات شرعية- إذا رفع إلى القاضي عزره وعاقبه؛ لأن هذا فيه مساس بحرمة الناس.
وقد اختلف العلماء في تعليق هذا الحلف على الزواج، فقال بعض العلماء: إذا علقه على زواجها فإن الإيلاء يتعلق كما يتعلق الطلاق في قوله: إن نكحتك فأنت طالق، وإن تزوجتك فأنت طالق، وإن زُوِّجت منك فأنت طالق، وإن تزوجتني فأنت طالق.
وقد تقدم معنا شرح هذه المسألة، وبينا أن الصحيح أن الطلاق لا يقع؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49]، فجعل الطلاق من الناكح، ومن لم ينكح فليس له أن يطلق فيكون كلامه لغواً.
وأكدت هذا السنة فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وجاء في الحديث الآخر وهو حديث صحيح قال عليه الصلاة والسلام: (لا طلاق فيما لا يملك)، فإذا كان الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً على الزواج من الأجنبية، ففرعه أن الإيلاء لا يقع.
وقال بعض العلماء: الأصل أن التعليق يوجب المؤاخذة، فلما سقط في الطلاق بالدليل بقي الإيلاء على الأصل، فلو قال لها: إن تزوجتك فإني والله لا أطؤك سنة أو لا أطؤك ستة أشهر، فحينئذٍ قالوا: يكون إيلاءً.
وهذا الوجه الثاني له قوة من حيث الأصل.
قوله: (بالله تعالى أو صفته).
الحلف لا يكون إلا بالله، أو بأسمائه وصفاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمسلم أن يحلف بغير الله عز وجل، وقد عظم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال في الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
فالحلف نوع من العبادة، والعبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده لا شريك له، ولذلك يتضمن الحلف تعظيم المحلوف به.
ولو قال قائل: كيف يكون هذا والله قد حلف وأقسم بالمخلوقات؟ ف
الجواب
أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه لحكمة يعلمها سبحانه {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41].
وهل كل شيء جاز لله عز وجل يجوز للمخلوق؟! فالله له الحق، وله أن يقسم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، وليس على المخلوق إلا أن يطيع ربه ويلتزم بشرعه، وحلف الله عز وجل بما حلف من مخلوقاته لتنبيه عباده وتعظيم نعمته ومنته.
وقال بعض العلماء: إن قسم الله عز وجل وحلفه بمخلوقاته يزيد من الإيمان به سبحانه وتعالى؛ لأن المعرفة بحقيقة هذه المخلوقات وعظمة خلقها يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو تعظيم للخالق جل جلاله، فمن تأمل قول الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] دخل الإيمان في قلبه، ووقر اليقين في فؤاده، وازداد تعظيماً لله جل جلاله.
وعلى كل حال: ذكرنا أنه لا تنعقد يمين الإيلاء إلا بالله؛ لأن الإيلاء تصرف قولي تترتب عليه الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية لا تترتب على الأيمان المحرمة شرعاً؛ لأن هذا النوع من الأيمان ساقط وغير معتد به شرعاً.
فعلى كل حال: لابد أن يكون القسم بالله عز وجل أو بصفة من صفاته.
(312/4)
________________________________________
الإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء
قال رحمه الله: [على ترك وطء زوجته في قبلها].
الحلف قد يكون على فعل الشيء أو تركه، وقد يكون الحلف في إثبات شيء أو نفيه، فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج ما لو حلف على وطء الزوجة، فإنه لا يكون إيلاءً ولا يسمى إيلاءً؛ لأن ضرر الزوجة إنما يكون بالامتناع عن وطئها؛ لأن هذا يعرضها للفتنة، وإذا صبرت فإنها قد لا تستطيع الصبر إلى مدة الإيلاء.
فقوله: (على عدم وطء زوجته) خرج الحلف على غير الوطء، كأن يقول: والله لا أُقبلك سنة، فهذا ليس بإيلاء؛ لأن الضرر بالامتناع عن القبلة ليس كالضرر من الامتناع عن الوطء، فحق المرأة وعفة المرأة تتحقق بغير التقبيل، وهكذا إذا حلف على بقية الأشياء من مقدمات الجماع.
وقوله: (على ترك وطء)، يدل على أنه لابد أن يكون الحلف على عدم وطء الزوجة، ويكون على عدم الوطء باللفظ الصريح أو بلفظ الكناية، فإذا قال: والله لا أجامعك، فهذا من صريح الإيلاء.
وبعض العلماء يرى أنه يبين فيه، فلو قال: والله لا أقربك سنة، قالوا: يبين فيما بينه وبين الله تعالى فيما إذا كان مراده غير الوطء، كأن يكون مطلق القربان، قالوا: ومطلق القربان لا يستلزم عدم الوطء من كل وجه.
قالوا: ومنها القربان، ومنها المس؛ كأن يقول: والله لا أمسك سنة، قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] يعبر به عن الجماع ويكون في حكم الجماع.
أما بالنسبة للكنايات وما يتضمن معنى الوطء احتمالاً، فهذا يسأل فيه عن قصده، فلو قال: والله لا يجتمع رأسي ورأسك سنة، فهذا لفظ محتمل، ويمكنه أيضاً أن يحقق إذا كان مراده بالجماع فلا إشكال، وحينئذٍ ينعقد إيلاءً، فلو قال: قصدت الجماع فهو إيلاء.
وإن قال: قصدت أن رأسي لا يقترب من رأسها، فأكره أن أرى وجهها أو نحو ذلك، فإن هذا لا يمنع من الجماع، ويمكنه أن يجامعها دون أن يكون هناك اجتماع لرأسه مع رأسها، وعلى حال لا يقع به المحلوف عليه، فهذا لا يكون صريحاً في الحلف على ترك الوطء.
وإن قال: والله لا أغتسل منك سنة، قال بعض العلماء: قوله: لا أغتسل منك، كناية عن الجماع، وحينئذٍ يكون إيلاءً.
فالمقصود: أنه لابد من وجود اللفظ الدال على الامتناع من الوطء، فإن جاء بلفظ لا يدل على الوطء لا صراحة ولا ضمناً، كمقدمات الوطء، فحينئذٍ لا يكون إيلاءً، ويمكنه أن يمتنع عن هذا الشيء المحدود، ويبقى على الأصل من الاستمتاع بالزوجة وإعطائها حقها في الفراش دون أن يقع منه إخلال يمينه من يمينه، ولا يكون إيلاءً.
ثم إذا حلف على شيء محتمل للوطء وغيره فإنه يبين.
إذاً هنا صور: الصورة الأولى: أن يحلف على غير الوطء، فهذا ليس بإيلاء.
الصورة الثانية: أن يحلف على الوطء صراحة، فهذا إيلاء، كأن يقول: والله لا أجامعك، أو إذا عبر بإدخال الفرج كما صرح العلماء، قالوا: هذا كله من الصريح، ولا يسأل عن نيته بحيث يؤاخذ إذا مرت المدة ويلزمه حكم الإيلاء فيها.
وأما إذا جاء بلفظ محتمل فإنه يسأل عن قصده: ماذا أردت؟ فإن قال: أردت به الجماع، فهو إيلاء، وإن قال: لا أريد به الجماع، فإنه ليس بإيلاء.
وقوله: (في قبلها)؛ لأنه هو الموضع المعتبر شرعاً للجماع، ولا يجوز الوطء في الدبر، وما يحكى من الأقوال الشاذة فقد تقدم الكلام عليها وبينّاها، وبينّا أن ما حكي عن بعض السلف في هذه المسألة وإن صح ثبوته فإنه قول شاذ.
كما صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بالمسائل الغريبة، إما إبقاءً على أصول، وإما أخذاً بعمومات لا يراد منها العموم فسرتها نصوص أخر لم يطلعوا عليها، أو حكموا بشيء منسوخ، كما أفتى ابن عباس بحل ربا الفضل، وأفتى بجواز نكاح المتعة ونحو ذلك مما يحكى عن ابن عمر رضي الله عنهما في هذه المسألة.
فهذه كلها أمور تحفظ ولا يعول عليها، ويعتذر لأصحابها؛ لاحتمال الاجتهاد فيها، لكن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دال كل منهما على أن الوطء لا يكون إلا في موضع الحرث، كما قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فالله أمرنا أن نأتي النساء في موضع مخصوص وعلى صفة مخصوصة، فلا يجوز تبديل فطرة الله التي فطر الناس عليها {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
فالإيلاء لا يكون إلا على عدم الوطء في الموضع، فلو حلف أن لا يفاخذ المرأة، وأن لا يطأها في الدبر فليس بإيلاء.
(312/5)
________________________________________
مدة الإيلاء
قال رحمه الله: [أكثر من أربعة أشهر].
هذه كلها شروط: أولاً: الحلف بالله عز وجل أو صفة من صفاته.
ثانياً: أن يكون من زوج، فلا يكون من أجنبي.
ثالثاً: أن يكون على عدم وطء الزوجة، فخرج مفهوم هذا من الصفات على وطئها الذي هو عكس العدم، أو الاستمتاع بغير الوطء.
رابعاً: قوله: (قبلها) هذا شرط مفهومه أن الدبر أو المفاخذة لا يدخل في الإيلاء.
والشرط الأخير: أن يكون أكثر من أربعة أشهر.
لقد شرع الله عز وجل النكاح من أجل أن يعف الرجل امرأته وتعف المرأة زوجها، فإذا أصبح النكاح وسيلة للإضرار؛ كأن يحبس الرجل امرأته فيمتنع من وطئها فيعرضها للحرام والفتنة، أو تمتنع المرأة من زوجها ولا تعطيه حقه في الفراش، فحينئذٍ يحكم الشرع بحرمة الأمرين، حتى ورد الوعيد بالنسبة للمرأة أنها لو دعاها زوجها فامتنعت من إجابته باتت الملائكة تلعنها والعياذ بالله! فهذا أمر عظيم ووعيد شديد.
وكذلك أيضاً بالنسبة للزوج، وقد افترق الأمر بالنسبة للرجال والنساء، فالله عز وجل له الحق أن يفرق بين المجتمع وأن يجمع بين المفترق وهو أعلم وأحكم، وهي من الأمور التي يختلف فيها الحكم بين الرجل والمرأة.
ولا شك أن الحياة الزوجية المستقيمة التي تحرص فيها المرأة على حسن التبعّل لزوجها لا يقع فيها مثل هذا، قالوا: لأن الغالب أن الزوج لا يحلف هذه الأيمان إلا إذا قصرت المرأة.
ومن هنا يقول بعض العلماء: أن المرأة إذا حرصت كل الحرص على المحافظة على العشرة لزوجها بإطفاء غريزته واحتواء شهوته، ولو بالتجمل والتزين، وهذا أمر تقره الشريعة؛ فإنها تثاب على حسن تجملها وتزينها لزوجها، كما أنها تثاب على صلاتها وزكاتها، إذا قصدت أن تعفه عن الحرام وخاصة في هذا الزمان.
وقد ذكر بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن الإيلاء لا يقع إلا من امرأة في الغالب ضيعت إكرامها لبعلها في فراشه؛ لأنها لو كانت تحسن التبعّل له فلا يمكن أن يفرط الزوج في هذا، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يحلف بالله ويغلظ الامتناع منها إلا إذا فشلت في كسب وده واحتواء أمره، ولذلك ينبغي على المرأة المسلمة الصالحة الدينة أن تحسن النظر في هذه الأمور.
وليس هذا بعيب، فإن بعض الصالحين يشتكي من بعض الصالحات اللاتي فيهن خير أنه ربما عاتبها على أنها لا تحسن التزين له، فيأمرها أن تتزين، فتمتنع من ذلك وتقول: هذه شهوة عاجلة، وتحقر من هذه الأمور إن هذه فطرة وغريزة جعل الله لها مسلكها، وجعل لها وضعها وطريقها، ولا يمكن لأحد أن يستدرك على الله عز وجل.
فالمرأة مطالبة شرعاً أن تتجمل لزوجها، وأن تحسن التبعل له، حتى لا يأتي يوم من الأيام فيزهد فيها الرجل وفي فراشها، ولا يحسن الإكرام لها حتى إنه يحلف على عدم وطئها.
والإيلاء لابد أن يكون له مدة وهي أربعة أشهر، والمرأة قد تصبر على زوجها الشهر والشهرين والثلاثة على مضض، والرابع على شدة، ومن هنا جعل الله عز وجل مدة الإيلاء أربعة أشهر، وليست هي الحلف، فلابد أن يكون الحلف فوق الأربعة الأشهر.
ومن هنا لو أنه حلف حلفاً زائداً على أربعة أشهر بزمان ولو قليل فهو مول، ولكن لو حلف أربعة أشهر فليس بمولٍ على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.
ومن هنا ندرك أن تحديد الحدود الشرعية لا يقتضي أمراً معهوداً شرعاً، ولربما تجد الحد الزماني والمكاني يختلف الحكم فيه بهذا التحديد الشرعي، حتى إنك لو نظرت إلى حد الحرم، فإنك لو خطوت خطوة واحدة فأنت داخل الحرم، وإذا خطوت خطوة فأنت خارج الحرم، فإذا عملت أعمالاً داخل الحرم فلها حكم، وإذا عملت بعض الطاعات والمعاصي في الحرم فلها حكم آخر.
وهذا يدل على أن التقييد صحيح حتى ولو كان في القصر في الصلاة، وبعض المتأخرين يعيب على جمهور العلماء فيقول: كيف يحدون بثمانين كيلو أو خمسة وسبعين كيلو متراً؟ فنقول: هذا حكم الله عز وجل، ولسنا الذين حددنا، ولكن الله هو الذي حدد، فكما أنك تقول في الحرم: لو خطا خطوة واحدة كان داخل الحرم، ولو تأخر خطوة واحدة كان خارج الحرم، فكذلك الأربعة أشهر، فلو زاد عليها ولو بقليل حكم بالإيلاء، ولو اعتد بالأربعة الأشهر ولم يزد عليها فإنه ليس بإيلاء على أصح قولي العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226].
ثم جعل الحكم مركباً على تمام الأربعة الأشهر، ولذلك قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226]، فدل على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227]، وهذا إنما يكون بعد تمام المدة.
فدل على أن المدة بعينها -وهي الأربعة الأشهر- ليست بإيلاء، وفائدة ذلك: أنه بمضي الأربعة الأشهر واستتمامها سقطت يمينه وحلت له زوجته، لكن إذا حلف أكثر من الأربعة الأشهر فلا تسقط اليمين، ومن هنا اشترط أن تكون أكثر من أربعة أشهر، وأن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي لثبوت حكم الإيلاء.
(312/6)
________________________________________
بيان من يصح منهم الإيلاء
قال رحمه الله: [ويصح من كافر وقن ومميز وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه وممن لم يدخل بها].
(312/7)
________________________________________
الكافر
قوله: [ويصح من كافر].
يستوي في الإيلاء الكافر والمسلم، فلو حلف كافر على أنه لا يطأ زوجته سنة أو ستة أشهر، فإنه يصح منه.
وفائدة هذه المسألة: إذا كان المولي من أهل الذمة وحلف على زوجته أنه لا يقربها أكثر من أربعة أشهر، ورفعته زوجته إلى قضاء الإسلام وتحاكموا إلينا، فحينئذٍ يوقفه القاضي ويقول له بعد تمام الأربعة الأشهر: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك الزوجة.
وهذا خلافاً لمن قال: إنه لا يقع بالنسبة للكفار، على المسألة المتقدمة معنا في مخاطبتهم بفروع الإسلام.
والأصل في صحته من الكافر عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226].
(312/8)
________________________________________
القِن
قال: (وقن).
القن هو العبد، فلا يشترط الإسلام ولا الحرية، فلو تزوج عبد من أمة نكحها ثم حلف بالله أن لا يطأها أكثر من أربعة أشهر، انعقد إيلاؤه، فإذا تمت الأربعة الأشهر اشتكته زوجته إلى القاضي، فيوقفه القاضي عند تمام المدة ويقول له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق عليك زوجتك.
(312/9)
________________________________________
المميز
قال: (ومميز).
أي: الصبي المميز، وقد اختلف فيه العلماء: فالجمهور على أنه لا يصح من الصبي المميز، وهذا هو الصحيح، خلافاً للحنابلة، فعندهم رواية على أن المميز يعاملونه معاملة المكلف بمسائل منها هذه المسألة، والصحيح: أن المميز ليس بمكلف، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد.
والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم) والمميز دون الاحتلام؛ لأن الصبي إما أن يكون مميزاً وإما أن يكون غير مميز.
وقد تقدم معنا في أكثر من موضع أن العلماء اختلفوا في ضابط التمييز؛ فمنهم من يضبطه بالسن، ومنهم من يضبطه بالصفة، ومن ضبطه بالسن قال: سبع سنوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة لسبع سنوات، ومنهم من قال: عشر سنوات، ومنهم من يقول: إحدى عشرة سنة، وقيل: اثنا عشرة سنة، كما في مسائل الطلاق التي تقدمت معنا.
ومنهم من ضبط المميز بضابط الصفة فقال: الصبي المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب.
والصحيح: أن المميز وغيره لا يصح منهم الإيلاء؛ لأن الإيلاء يتوقف على اليمين، واليمين تنعقد من البالغ ولا تنعقد من غير البالغ، وإنما يباح له وهو صبي، فلو قال: والله لا أطؤك خمسة أشهر، فإن يمينه لا تنعقد؛ لأنه مرفوع عنه القلم؛ فحينئذٍ لا يقع بين الخيار؛ لأنه ليس ممتنعاً عن وطء زوجته بيمين.
وعلى هذا فمذهب الجمهور على أنه يشترط البلوغ، فلا يصح الإيلاء من غير البالغ، سواء كان مميزاً أو غير مميز.
(312/10)
________________________________________
الغضبان
وقوله: (وغضبان).
الغضب حالة تعتري الإنسان، وهو نوع من الهياج واختلال المزاج، وتسوء فهي أفعال الإنسان ويعكر صفوه.
وقد بينّا في مسائل طلاق الغضبان أن الغضب على ثلاث مراتب: غضب يوصل إلى الجنون؛ فلا يعي الإنسان معه ما يقول، وهذا يثبت لأحوال متعددة، فهناك من الناس من عنده هذا البلاء، فعندما يشتد غضبه يفقد عقله تماماً، ويتكلم بكلام لا يعرفه، فمثل هذا لا يؤاخذ بقوله ولا يؤاخذ بفعله، فلو ثبت لدى القاضي أن غضبه يوصل إلى درجة الجنون، وشهد الشهود العدول، وشهد الأطباء المختصون أن هذا النوع من المرض أو المزاج العصبي يوصله إلى حد عدم التمييز وعدم الإدراك في حال هيجانه؛ فإن هذا تسقط مؤاخذته بالأقوال والأفعال كالمجنون سواءً بسواء.
وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من المحققين؛ كالإمام ابن قدامة، والإمام النووي وغيرهما رحمة الله على الجميع.
المرتبة الثانية من الغضب: بداية الشدة وبداية التعكر في المزاج، والذي لا يختل معه الشعور ولا يذهب معه الإدراك، فهو يعلم أن التي أمامه زوجته، ويعلم أن الذي أمامه مسلم محرم الدم والعرض والمال، فهذا يؤاخذ على أقواله وأفعاله، ولو طلق لزمه الطلاق، والطلاق عادةً لا يقع إلا من غضب، فليس هناك رجل يطلق زوجته وهو يضحك معها، فالأصل أن الطلاق لا يقع إلا عند اختلال المزاج، وعند وجود ما يعكر صفو الإنسان ويخرجه عن طوره.
المرتبة الثالثة من الغضب: هي المرتبة التي تكون بين الجنون وبين بداية الغضب، وهي محل الإشكال عند العلماء رحمهم الله: فبعض العلماء يقول: هذا النوع من الغضب لا يسقط التكليف، فلو طلق يؤاخذ بطلاقه، ولو تكلم كلاماً يوجب الردة كسب الدين أو نحو ذلك والعياذ بالله فإنه يحكم بكفره، ويؤاخذ على أقواله وأفعاله؛ لأن الأصل فيه أنه مكلف، وما دمنا شككنا في وصوله إلى درجة سقوط التكليف، فالأصل بقاء ما كان على ما كان.
وقال بعض العلماء: إن الغضب في الأصل يعزب عن الإنسان رشده وصوابه، فإذا دخل في هذه الحالة فإن الأصل أنه لا يؤاخذ حتى يثبت أنها حالة غير مؤثرة، وهو يرى أنها حالة جنون؛ لأن الغضب نوع من أذية الشيطان للإنسان، ولذلك تنتفخ أوداجه، ويجري منه الشيطان مجرى الدم ويؤثر عليه، فقالوا: إن هذا النوع من الجنون الأصل أنه لا يؤاخذ فيه، والقول الأول أشبه بالأصول وأقوى.
ويقول الذين يسقطون عنه التكليف: الأصل أنها زوجته، فلماذا نطلقها في حالة مشتبهة وغير واضحة؟ وكذلك هنا في الإيلاء يقولون: إذا غضب وحلف وهو في حالة غضب وهيجان فالأصل أنها زوجته، ولا يؤاخذ باليمين حتى يكون عنده إدراك وكل هذه التعليلات لمن قال: إنه لا يؤاخذ، ولكن القول الذي يقول بالمؤاخذة أشبه وأقوى.
ومن هنا قال المصنف رحمه الله: (وغضبان) أي: يصح الإيلاء من الغضبان، لكن إذا وصل الغضب إلى حد الجنون -كما ذكرنا- فهذه حالة مستثناة ولا يؤاخذ فيها.
(312/11)
________________________________________
السكران
قوله: (وسكران).
السكر تقدم معنا بيانه وبيان بعض مسائله في طلاق السكران، وبينّا كلام العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران.
وقد دلت نصوص الشريعة من حيث الأصل على أن السكران في حكم المجنون، وهذا له أدلة، لكن من حيث الأصل فالسكر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون السكر على وجه يعذر فيه الإنسان، كأن يشرب خمراً يظنه عصيراً، أو مثلاً دس له الخمر بشيء لا يعرفه، أو غلب على أمره وخدر، كما هو الحال الموجود الآن في المخدرات أعاذنا الله منها، ومثله المخدر في العمليات الجراحية إذا أعطي مادة التخدير، فإذا كان سكره على وجه يعذر به شرعاً فاختل عقله، وحصل عنده تغييب، فحلف ووقع منه إيلاء أو طلاق أو عتق، فهذا على وجه يعذر به شرعاً.
والإجماع منعقد على أنه لا يؤاخذ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من العلماء؛ منهم الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، نقل الإجماع على أن من سكر وكان سكره على وجه يعذر به شرعاً، فإنه في هذه الحالة لو طلق لا ينجز طلاقه، ولو أعتق لا يعتق عليه عبده، ولو حصل منه إيلاء لا ينعقد إيلاؤه؛ لأن سكره على وجه يعذر به شرعاً.
القسم الثاني: أن يكون سكره على وجه لا يعذر به شرعاً؛ كمن شرب الخمر عامداً متعمداً، فقال أثناء سكره يخاطب زوجته: والله لا أجامعك خمسة أشهر، أو والله لا أجامعك هذا العام أو هذه السنة.
فقال بعض العلماء: السكران غير مكلف، فلا يؤاخذ بإيلائه، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال جمهور العلماء: ينعقد إيلاؤه.
والصحيح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ أن السكران لا يصح إيلاؤه؛ بدليل الأثر والنظر: أما دليل الأثر وهو كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
ووجه الدلالة: بيّن الله في هذه الآية الكريمة أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه كالمجنون لا يؤاخذ على قوله، فهذه الآية تدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، وأنه في الأصل غير مؤاخذ بقوله.
أما دليل السنة فما ثبت في الصحيح: أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شرب الخمر حينما كانت مباحة في أول الإسلام، واعتدى على شارف لـ علي رضي الله عنه كان قد هيأه مهراً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى علي هذه المصيبة التي وقعت في مهره انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة، ولم يكن يعلم أن حمزة بحال السكر والشراب، فدخل على حمزة وعاتبه، فرفع حمزة رضي الله عنه وأرضاه رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أنتم إلا عبيد لآبائي.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال السكر، فرجع القهقرى ولم يؤاخذه.
فهذه الكلمة لو قالها أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفره بالإجماع، ومع ذلك لم يؤاخذ الله عز وجل ولا رسوله عليه الصلاة والسلام حمزة حينما تكلم بها في حال السكر؛ فدل على أن السكران لا يؤاخذ على قوله.
وكذلك أيضاً دل دليل النظر على أن السكران لا يؤاخذ، فلا يصح إيلاء السكران كما لا يصح إيلاء المجنون بجامع كون كل منهما فاقد لإدراكه وعقله.
فكما أن المجنون بالإجماع لو قال لامرأته: والله لا أجامعك سنة، فإنه لا ينعقد إيلاؤه؛ لأنه مجنون، ولم يدرك ما يقول، فكذلك السكران لا ينعقد إيلاؤه، ونقول: لا يقع إيلاء السكران كما لا يقع إيلاء المجنون، بجامع كون كل واحد منهما فاقداً لشعوره وإدراكه وتمييزه.
وعلى كل حال: القول بعدم صحة إيلاء السكران هو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، فلا يصح الإيلاء من السكران كما لا يصح من المجنون.
(312/12)
________________________________________
المريض المرجو برؤه
قال: (ومريض مرجو برؤه).
أي: ويصح الإيلاء من مريض يرجى برؤه، والمريض ينقسم إلى قسمين، وقد تقدم معنا هذا في أحكام تصرفات المريض مرض الموت.
وأصل المرض عند الأطباء -كما عرفه صاحب التذكرة وغيره-: أنه خروج البدن عن حد الاعتدال، فالبدن إذا اعتدلت فيه الأمزجة الأربعة المعروفة استقامت الصحة، وإذا اختل واحد منها فإنه يوصف البدن بكونه مريضاً وسقيماً، ومن هنا عُرف المرض بأنه: خروج البدن عن حال الاعتدال.
إذا ثبت هذا فالمرض إما أن يكون مرضاً يرجى برؤه؛ كالزكام والصداع، فهذا النوع من المرض لو حلف صاحبه أن لا يجامع زوجته سنة فإنه يصح إيلاؤه؛ لأن المرض يرجى برؤه.
أما إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه؛ كمرض الموت الذي لا يملك معه أن يتمكن من الوطء؛ لأن المرض يمنعه ويعيقه، فهذا لو حلف وقال: والله لا أجامعك سنة، فإنه أصلاً ليس بمجامع، ومن هنا قالوا: إنه لا إيلاء في حقه؛ لأن عنده عجزاً حسياً يمنعه من الجماع، فلا يعاقب، إنما يعاقب القادر، وهذا غير قادر، فإنه لو انحلت يمينه ليس بمجامع زوجته.
ومن هنا قالوا: إن السبب في الإيلاء أن الزوج يضر الزوجة ويمنعها عن حقها، فإذا كان الزوج لا يستطيع الجماع لمرض لا يرجى برؤه، فهذا لم يضر، وحينئذٍ لا يقع الإيلاء.
وقد نص على هذا جماهير العلماء رحمهم الله.
(312/13)
________________________________________
الزوج إذا لم يدخل على الزوجة
قال: (وممن لم يدخل بها).
أي: ويصح الإيلاء من الزوج إذا كان لم يدخل بامرأته فقال لها: والله لا أجامعك سنة، وهو لم يدخل بها، ففي هذه الحالة يقع الإيلاء ويصح، فلا يشترط فيه الدخول على الزوجة.
لكن لو كان بحال يمنعه فقد فصل فيه بعض العلماء، وأشار إلى هذه المسألة الإمام النووي رحمه الله، لكن من حيث الأصل أن من لم يدخل يصح الإيلاء منه.
(312/14)
________________________________________
الأسئلة
(312/15)
________________________________________
حكم الإيلاء إذا انتهى عند بداية حيض أو نفاس
السؤال
لو انتهت الأربعة الأشهر عند بداية حيض أو نفاس، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد اختار طائفة من العلماء في هذه الحالة: أنه يؤخر إلى أن ينتهي الحيض وإلى أن ينتهي النفاس؛ لأن الإيلاء لا يقع، ثم يطالب بأحد أمرين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
لأنهم يقولون: إذا دخل العذر فلا يقع الإيلاء، ولا يكون من حق الزوجة المطالبة حتى ينتهي العذر.
فلو آلى منها أكثر من أربعة أشهر، وقبل مدة الإيلاء التي هي الأربعة الأشهر أو عند انتهائها في اليوم الأخير جاءها حيض أو نفاس، فقالوا: ينتظر؛ لأن الزوج لا يستطيع أن يفيء، فلو قال له القاضي: يلزمك أن تفيء إلى زوجتك، فإنه لا يستطيع؛ لأن هناك مانعاً شرعياً يمنع من وطئها، فلا يوقفه القاضي إلا بعد انتهاء وزوال هذا المانع الشرعي.
هذا اختيار طائفة من أهل العلم رحمهم الله، كما أشار إليه الإمام ابن قدامة وغيره رحمة الله على الجميع.
والله تعالى أعلم.
(312/16)
________________________________________
حكم انصراف المأموم قبل الإمام
السؤال
ما حكم انصراف المأموم قبل انصراف الإمام بعد السلام؟
الجواب
السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المأموم لا يقوم من مكانه إلا بعد أن ينفتل الإمام وينحرف، وهذا هو الأصل، وهو الذي كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عليه سنته.
ومن هنا منع العلماء رحمهم الله قيام المأموم مباشرة، والعلة في ذلك عند العلماء مختلفة: فمِن أهل العلم مَن قال: إن السبب في هذا: أن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمكث وقتاً وهو مستقبل القبلة حتى ينصرف النساء، ثم بعد ذلك ينصرف بوجهه إلى أصحابه رضوان الله عليهم.
وهذا أمر محتمل؛ لكن التعليل به ضعيف، والسبب في هذا: أنه لم يقصر ذلك على الصلوات الليلية التي كان يشهدها النساء دون النهارية.
وأيضاً: لو كان الأمر كما ذكروا، ففي صلاة الفجر أيسر أن تقوم المرأة دون أن ترى؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات، ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمُرُطهن لا يعرفن من شدة الغلس).
فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفتل من صلاته حين يعرف الرجل جليسه؛ لكن البعيد لا يعرفه.
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم فعله حضراً وسفراً، فقد كان في بعض أسفاره وغزواته عليه الصلاة والسلام لا يكون معه النساء، ومع ذلك كان يمكث، ولم يحفظ عنه التفريق في الأحوال الخاصة.
فمسألة (خوفَ أن تُرَى النساء) التعليلُ بها وارد؛ لكنها ليست بعلة قوية.
وهذا يدل على أن العلة الثانية وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث في مصلاه لخوف طريان السهو، ولذلك مكث عليه الصلاة والسلام تشجيعاً للأمة وتشجيعاً للأئمة أنه إذا انفتل الإمام من الصلاة ربما كان هناك نقص أو كانت هناك زيادة، فينبه قبل أن ينصرف من مكانه، احتياطاً لحق الله عز وجل في هذه العبادة.
وهذا أمر معهود، أن العبادات يصحبها شيء بعدها يستدرك به ما فات منها، ومن هنا فإن العلة بكونه يخْشى أن يطرأ شيء في الصلاة أو نقص سيكون في موضعه هو الأقوى.
ومن هنا يُشَدد في هذا الأمر، فلا يقم المأموم من مكانه ولا يتحول ولا ينصرف إلا بعد أن ينصرف الإمام بوجهه إلى المأمومين.
وأنبه على بعض طلاب العلم الذين يستعجلون في القيام بعد السلام مباشرة، ونحن لا ننكر القيام مباشرة إلى مجالس العلماء؛ بل نرى أن هذا شرف لطالب العلم؛ لكن بشرط أن لا يؤذي إخوانه المسلمين، ولو أن البعض ينكر؛ لكن لجهله، والسنة الصحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في الصحيح أنه بعد سلامه قام مباشرة إلى غرفته وحجراته عليه الصلاة والسلام، وجاء بالتِبر لمصلحة شرعية.
ومن هنا قالوا: إذا كان هذا لدفع الضرر عن نفسه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (ما ظن محمدٍ أن لو لقي الله وهذا عنده)، فكيف بمن يتحمل مصالح الأمة في طلب العلم؟! ثانياً: لو قال قائل: هناك بعد المغرب سنة راتبة، فنقول: قال بعض العلماء: يجوز تأخيرها إذا كان هناك حلقة علم أو محاضرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه جاءه وفد عبد قيس، فلم يصلِّ سنة الظهر إلا بعد العصر وقال (هما سنة الظهر، أتاني وفد عبد قيس فشغلت عنها آنفاً).
قالوا: وهذا من أجل تعليم العلم؛ لأنه كان يعلم عليه الصلاة والسلام ويوجه ويرشد.
فأنبه وأحذر من مسألة النقد؛ لأنه مما يؤلم ويؤسف له أن الناس في هذا الزمان عندهم جرأة على نقد الغير، وهذا أمر سببه قلة العلماء، وتساهل كثير من الناس في أمر اللسان، ولو كان طالب العلم عنده خطأ فينبغي أن لا تغتابه، فالبعض يتكلم على طلاب العلم، حتى إنه يبلغ الجرأة، حتى إن بعض العوام يقوم في المسجد ويتكلم عليهم قبل المحاضرة أو قبل الدرس ويسفههم.
وهذا لا شك أنه من جهله، وإلا فمن المفروض أن يسأل من يوثق بدينه وعلمه، حتى ولو أفتى عالم أن هذا منكر وأفتى غيره بأنه جائز، وعنده سنة صحيحة، فلا إنكار ما دام أن هناك مجالاً للسنة.
ووالله إننا لنبتهج ونُسر حينما نرى من يخاف الله ويتقيه ويسعى حثيثاً إلى مجالس العلماء، ويظهر من قوله وسمته ما يدل على تعظيم شعائر الله عز وجل، وكل إنسان عنده عقل وإدراك عندما يرى حرص طلاب العلم، أو يرى شباب الأمة يحرصون على مجالس العلماء ويزدحمون عليها، تدمع عينه من خشية الله، ويقول: الحمد لله الذي أبقى في هذه الأمة من يحرص على هذا الدين، فالحمد لله أنه لا يراهم على محرم أو على فجور، أو يتكالبون على دنيا.
وهذا شرف لطالب العلم، ولو وقف على رجليه ينتظر العلم والعلماء فإن هذا شرف والله، ولا ينقص من قدره ولا يحط من مكانته.
فعلى كل حال: على طالب العلم وعلى الناس أن ينتظروا حتى ينفتل الإمام، فإذا انفتل الإمام فلهم أن يقتربوا، ومن حضر محاضرة أو مجلس ذكر وأراد القرب من العالم، فلا شك أنه يقرب في الحلقة ولا يؤذي إخوانه، والله يعلم أنه ما دنا وأنصت إلا طلباً للعلم.
قال بعض العلماء: أرجو لمن اقترب من مجالس العلماء ودنا منها الرحمة من الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ثم دنا وأنصت) وكل هذا من أجل خطبة الجمعة، وحتى المشي لأجل العلم ولأجل ثواب العلم عُد قربة عند الله عز وجل وثواباً ورفعة درجة، وموجباً لهذه المغفرات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يكره لبعض من يجلس بعيداً عن الحلقة ولو كان في المسجد، إلا إذا كان عنده عذر أو مرض أو نحوه، أما إذا لم يكن عنده عذر فإنه يدنو ويزاحم ويحرص، لكن لا يؤذي إخوانه المسلمين.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله عند بيانهم لآداب طلب العلم: فضل القرب من العلماء، وأن الله عز وجل وضع من البركة والخير والنفع للعالم القريب من علمائه ما لم يضع لمن هو أبعد، وهذا واضح جلي، ولذلك تجد الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم خيراً.
وقد أشار إلى هذا الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات، وبيّن أن الصحابة فتح الله عليهم لأنهم تلقوا مباشرة، وأنهم كانوا يحضرون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم تفاوتوا في فضل الله عليهم بحسب قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن يقترب من مجالس العلماء يعلم الله أنه لا يريد دنيا، ولا يرجو تجارة ولا مالاً، وإنما يرجو رحمة ربه إذا أخلص لربه جل وعلا بخ بخ، هذه والله التجارة الرابحة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، ونحمد الله عز وجل ونشكره أن وجد من شباب الأمة ومن طلاب العلم من يعظم شعائر الله، لكن ينبغي على كل طالب علم أن يحرص على أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: الإخلاص لوجه الله عز وجل، وأن لا يقصد من قربه من العالم أن يعرف أو يشتهر، أو يكون له حظ أو حبوة عند العلماء، والله لا ينفعك أحد دون الله عز وجل، وحتى لو اقتربت من العالم وكنت كثوبه الذي على جسده قرباً ومواظبة، فلن يغني عنك من الله شيئاً، فكن عاقلاً وكن حكيماً، وابتغِ مرضاة الله عز وجل في كل ما تفعله وما تذره، فلا ينفعك إلا الله وحده لا شريك له، فعليك أن تخلص لله سبحانه وتعالى.
ثانياً: أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فإن الله لا يطاع لكي يعصى، ولربما جاء طالب العلم تغشاه السكينة والوقار وتأدب وجلس وأنصت، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة عن تخطي الرقاب؛ لأن فضائل الجمعة ما وضعت إلا من أجل الخطبة، ولذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين اثنين، ونهى عن أن يتخطى الرقاب، وجعل الفضائل لمن احترز من هذه الأمور.
والنبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن هذا إنما قصد الأصل الشرعي، وهو أن لا تؤذي إخوانك المسلمين، فليس من المعقول أن يأتي طالب علم متأخراً ثم يزاحم إخوانه، وإذا كان هناك مجال فيحتسب الإخوان ويتراحمون ويتواصون، وكل من جاء من إخوانك متأخراً وعندك مجال فتخيل أنك في مكانه، ونفس الحجة التي تريد أن تقيمها عليه انظر إلى حجته عليك لو كنت مكانه.
فهذا يوسع الصدر، ويجعل الأمر على محبة وتواد وتواصل وتعاطف وتكاتف وتآلف، وتحمد الله عز وجل أن جعل لك أخاً في الإسلام يطلب العلم كما تطلبه، وكل من عظم شعائر الله عز وجل فإنه يُحب في الله ويوالي في الله، وهذا من دلائل كمال الإيمان، فإنك تجلس في مجلس العالم وتتمنى أن إخوانك كلهم على كف واحدة، وهذا لا أقوله مبالغة؛ لأن هذا شيء عايشته، فقد كنا في مجلس الوالد رحمة الله عليه، وكانت من أصعب الأيام عندنا أيام رمضان، فكان رحمه الله يلقي بعد صلاة العصر درساً، وبعد الفجر وبعد الظهر، وكان أصعب الدروس درس العصر، فلم يكن في المسجد النبوي مكيفات ولا مراوح، وكان يستمر الدرس إلى قرب المغرب.
فكنا نجلس وسط الزحام، والرائحة التي تخرج من الأفواه بسبب الصوم، والعرق الذين يكون من الناس، وتزاحم طلاب العلم على ذلك، وقد مرت على بعض طلاب العلم حالات يجلس فيها فيجلس على يمينه رجل وعلى يساره رجل، ويزحم حتى يكاد يرى الموت، وكانت له ثلاثة دروس رحمه الله بعد العصر: درس في صحيح مسلم، ثم في الترغيب والترهيب، ثم في السيرة، وكان يجلس أكثر من ساعة ونصف إلى ساعتين في أيام الصيف؛ لأنه لا يترك الدرس إلا قبل الإفطار بنصف ساعة رحمه الله.
فالمقصود: أنه والله كانت تمر أشياء لا تزيدنا إلا محبة لإخواننا، فإذا شعرنا بحاجة المسلمين إلى هذا العلم وحاجة الناس إلى الدعوة، فإن هذا يعيننا على كثير من الصبر.
وأحب أن أنبه على مسألة أخيرة وهي: مسألة حجز الأماكن: فإني أناشد كل مسلم بالله عز وجل أن لا يحجز المكان إلا في حالة واحدة، وهي أن يأتي مبكراً ويجلس في مكان ولا يقوم منه إلا ل
(312/17)
________________________________________
حكم فرقعة الأصابع في المسجد وتشبيكها بعد الفرض
السؤال
ما حكم الفرقعة بالأصابع في المسجد؟ وما حكم تشبيك الأصابع بعد الانتهاء من صلاة الفرض؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن فرقعة الأصابع لم يثبت دليل على تحريمها والمنع منها، ولذلك فإن فتوى البعض بأنها حرام أمر محل نظر؛ لأن تحريم الأشياء يحتاج إلى نص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والناس يختلفون، وقد يعتاد البعض فرقعة أصابعه دون شعور، وليس هناك دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريمها، وما يُحكى عن قوم لوط أنهم كانوا يفعلون هذا، فهذه أمور تحتاج إلى توثيق، وتحتاج إلى ثبوت النص بتحريمها وإنكارها وعدم جوازها.
لكن بعض العلماء عد ذلك من خوارم المروءة، ولكن ليس على كل حال يعتبر من خوارم المروءة، فقد يكون الشخص اعتاد ذلك، أو يفعله لا شعورياً بسبب الإلف، فهذا أمر موسع فيه، أما إذا كان على سبيل التكسر والتخنث فهذا أمر معروف حكمه، حتى إن لباس الثوب لو كان على صفة فيها تكسر، أو المشية لو كانت على صفة فيها تكسر، فهي محرمة لعارض لا لأصل.
ففرقعة الأصابع شدد فيها بعض العلماء وعدها من خوارم المروءة، لكن الحكم بالتحريم يحتاج إلى نص؛ لأن خوارم المروءة ليست بمحرمة؛ لأنها في أشياء مباحة، قال الناظم: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فهو مباح في الأصل؛ كالأكل أمام الناس، والأكل في الأسواق، والضحك بصوت عال في مجامع الناس، وفي أمكان لا يصلح فيها الضحك ونحو ذلك من الأمور التي تدل على نقصان عقل صاحبها، فهذه من خوارم المروءة؛ لأن المروءة هي الكمال.
والأصل في الدليل الشرعي في ضابط خوارم المروءة ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فإذا فعل الإنسان هذه الأمور أمام من ينبغي الحياء منه؛ كالعالم والوالد والشيخ أو الكبير أو الذي له مكانة، فمثل هذه الأمور تخرم المروءة، ولكنها لا تقتضي الحكم بالحرمة.
وأما تشبيك الأصابع فله حالتان: الحالة الأولى: تشبيك الأصابع قبل الصلاة، فهذا منهي عنه شرعاً، فمن خرج من بيته فلا يجوز له أن يشبك بين أصابعه؛ لأنه جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجل إذا خرج من بيته فهو في صلاة فلا يشبكن بين أصابعه؛ لأن التشبيك شعار اليهود في عباداتهم.
ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض الناس مما يسبق الصلاة: أنهم وهم جالسون بعد أداء السنن أو أداء تحية المسجد تجد الشخص يشبك أصابعه بعضها ببعض، مع أنه قبل الصلاة ممنوع منه، وينصح الناس وينبهون على ذلك.
الحالة الثانية: بعد الصلاة؛ وفيها أحاديث صحيحة منها حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي -شك من الراوي- فسلم من اثنتين، ثم قام إلى الجذع كالغضبان وشبك بين أصابعه)؛ فهذا يدل على أن تشبيك الأصابع بعد الصلاة لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين الأصابع ظاناً أن الصلاة قد انتهت.
ومن هنا قالوا: لا بأس به، ومما يدل على أن التشبيك في غير الموضع المنهي عنه جائز: أن النبي صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه، كما في الحديث الصحيح لما قال: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد وشبك بين أصابعه عليه الصلاة والسلام).
فهذا يدل على أنه لا بأس في الأصل، لكن في العبادات وأثناء الصلاة، أو في انتظار الصلاة، أو في الطريق إلى الصلاة، هذا ممنوع منه ومحظور.
والله تعالى أعلم.
(312/18)
________________________________________
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
اعتنى بعض الناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول بالاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على مشروعية المولد، بل هذه أمور أحدثت، فما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا فعلها أهل القرون المفضلة، وقد مرت أربعمائة سنة ما فعل أحد منهم المولد، وهذا أمر لا نقوله نحن، فمن أراد أن يبحث ويطلع فله ذلك.
فإن قال قائل: إنه عبادة، فنقول: إن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا رسول الأمة عليه الصلاة والسلام تمر عليه أيام مولده في سنواته كلها، فما عظم ليلة منها يوماً من الأيام، ولا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عظم ليلة واحدة، فإما أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن نعتقد أننا خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نستدرك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله.
وإذا كان الاحتفال قربة وطاعة فلماذا لم يفعله عليه الصلاة والسلام؟ ومن فعله فاسألوه؛ لأنه لا نستطيع أن نفتي الناس أن يفعلوا أشياء ثم نقف بين يدي الله نسأل عنها.
نحن نقول: إنه غير مشروع؛ لأننا لم نجد في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في هدي السلف الصالح شيئاً من هذا، فإذا لم نجد شيئاً من هذا فإننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الأمر بدعة وحدث أُحدث في دين الله عز وجل.
والعجب أنك تجد البعض يحافظ على ليلة المولد ويحافظ على حضورها وخشوعها ربما أكثر من خشوعه في صلاته وعبادته! وربما يعتقد في فضائل هذه الليالي ما لا يفعله في العشر الأواخر من رمضان، وربما يُنفق الرجل على إطعام الطعام وعلى الذبائح وغيرها، مع أنه لو جاءه رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسغبة -كما ذكر بعض المشايخ رحمة الله عليهم- يعرض عليه أنه محتاج لما أقرضه.
فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، نحن لا نحتكم للدين بالعواطف، ولا نحدث بآرائنا ولا بأهوائنا، ولكن دين وشرع {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، فنحن مأمورون باتباع ومأمورون باقتداء، وهذا شيء تعبدي لا يجوز أن يزيد فيه الإنسان ولا أن ينقص.
والنبي صلى الله عليه وسلم نحبه محبة ترضي ربنا، ونحبه محبة تدعونا إلى متابعته وتجريد هذه المتابعة، فنؤثره عليه الصلاة والسلام على أنفسنا وأهلينا، وعلى أهوائنا وآرائنا.
فانظر رحمك الله إلى كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فما وجدت فيهما فالتزمه، وما خالفهما فاتركه، ولو جرى عليه أهواء الناس، ولو جرت عليه عادة الناس، والذي ندين الله عز وجل به أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل هذا الشيء.
وعلى هذا: فإنه لا يشرع فعله، ولا يجوز للمسلم أن يحدث في دين الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم -أي: الزموا- بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، ولذلك قال قبلها: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، فأمرهم عليه الصلاة والسلام في هذا الاختلاف أن يرجعوا إلى سنته صلى الله عليه وسلم، فالواجب الاحتكام إلى هذه السنة وإلى هديه عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صام يوم الإثنين وقال: (ذاك يوم ولدت فيه وأحب أن أصومه)، فمن أراد أن يشكر نعمة الله عز وجل عليه أن جعله تابعاً لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ فليشكرها بما ورد، وليتبع ولا يبتدع، فيصوم يوم الإثنين.
لكن هل كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول؟ لم يخص الرسول اثنيناً معيناً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له؛ لأنه قد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم فعل المولد؛ لأنه صام يوم الإثنين، فنقول: لا، النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ما خص اثنيناً معيناً، فهذا أصل عندنا ودليل على عدم جواز تخصيص ليلة مولده عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام بين طريق الشكر، فقطع الطريق على من يقول: نحن نفعل المولد شكراً لله عز وجل على النعمة؛ لأنك أمام أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وشكر ربه على أتم الوجوه وأكملها وهو يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم)، وإما -وحاشاه- أن يكون دون ذلك وجئنا نكمله، فهو عليه الصلاة والسلام صام الإثنين، وصيام الإثنين دل على أن الشكر لهذه النعمة يكون بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، فتصوم هذا اليوم، لكن لا تخصه بيوم معين من الآن.
ولماذا لا نخصه؟ لأنه ليس في الإسلام إلا عيدان: عيد الأضحى وعيد الفطر، ولو أن الأمة جعل لها يوم مخصص ليوم نبيها لضلت؛ ولذلك أغلق هذا الباب، وجُعل يوم الإثنين من سائر أيام السنة، ونحن نحمد الله عز وجل ونشكره أن شرفنا وكرمنا، فليست هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام، ومن أزكى وأعظم ما يكون أن يختار الله لك أشرف الرسالات وأفضل الرسالات وأفضل الأنبياء، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك.
فهذه النعمة لا يستطيع الإنسان أن يقدرها حق قدرها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
ومما زادني شرفاً وتيهاً كدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي في ندائك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا صلوات الله وسلامه عليه، والله إننا نحبه محبة تجري في دمائنا وعروقنا، ولا نعتقد أن هذا ينقص من مكانته أبداً؛ بل ينبغي علينا أن نعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا سبيل للجنة إلا بمحبته ومتابعته عليه الصلاة والسلام أبداً؛ لأن الله أحبه، وهذا الفضل الذي خصه الله عز وجل به.
ووالله لو أن الإنسان رزق من العلم والبصيرة ما يتأمل فيه آيات الكتاب في إجلال الله لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وحبه له وإكرامه له عليه الصلاة والسلام، لوجد شيئاً يكاد يصل به إلى درجة عظيمة من المحبة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم تكفينا عن كثير من الأشياء والمحدثات.
فتأمل كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح وهي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك)، أي مقام وصل إليه أحد مثل هذا المقام الذي شرف الله به نبيه عليه الصلاة والسلام؟ ثم مع هذا كله إذا عاتبه سبحانه يعاتبه ويجعل العفو قبل المعاتبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] قبل أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إكراماً لنبيه، وإشعاراً لنا بأن نقدره ونوقره عليه الصلاة والسلام ونملأ قلوبنا بحبه وإكرامه.
ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يبيّن هذا الفضل الذي خصه به ربه ويقول: (أنا رحمةٌ مُهداة)، فيا له من مقام! ويا لها من منزلة! نحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتقد بأن عندنا بينات من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعرفنا بقدره، وتعرفنا بحقه ومنزلته، فإن الله لم يخاطبه باسمه المجرد: يا محمد! بل قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64].
وعندما يعاتبه -كما ذكرنا- يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] حتى إنك عندما تقرأ الآية لا تدري من الذي عبس، فلم يقل له: عبست؛ بل قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، ثم تأتي آيات القرآن كلها تشريفاً لهذا النبي في دلالاتها وسياقاتها تدل على مقامه وعلو شأنه عليه الصلاة والسلام.
فكل مؤمن يعتقد هذا اعتقاداً جازماً، ولا يظن أحد أن من يقول بأن المولد بدعة أن معناه: أنه انتقص مقام النبي صلى الله عليه وسلم، أو مس حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه يكره النبي صلى الله عليه وسلم لا.
فإن هذا هو الغلو.
ومن محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أننا نريد أن نتبع وأن نسير على نهج علمنا العلم الجازم أنه لا يرضى عليه الصلاة والسلام ولا يرضى ربه الذي أرسله إلا بهذه المثابة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، وأدب الله نبيه على الاتباع فقال له: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، فلا زيادة ولا نقص، فلا يجوز للمسلم أن يزيد، ولا يجوز له أن ينقص، ولا يجوز له أن يبدل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته، وأن يحشرنا في زمرته.
وأوصي طلاب العلم -إذا نبهوا الناس- بأمر مهم جداً وهو: أننا ننصح الناس بالتي هي أحسن، ولا ننفر، فينبغي أن نبين الحق وأن نبين السنة والبدعة، ولكن ينبغي أن لا يغلو الإنسان في نصح الغير وتوجيههم؛ لأنك إذا كنت صاحب سنة فينبغي أن يظهر حبك للسنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال أساليبك وطريقة توجيهك وإرشادك، فكم من أناس رأيناهم وهم يتمسكون بأمور يظنون أنها سنة، والله يعلم من قرارة قلوبهم أنهم يريدون الخير، فلما نصحناهم ووجهناهم عدلوا عن ذلك.
ووالل
(312/19)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [2]
ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها وما يترتب عليها من الحقوق الشرعية، كما ذكر الفقهاء تلك الأحكام وبينوها وفصلوا فيها، ومنها أن الإيلاء لا يصلح من المجنون ولا من المغمى عليه، ولا من العاجز عن الوطء، ومنها أن للإيلاء صيغاً، فتارة يكون بالتأبيد، وتارة بأكثر من أربعة أشهر، وتارة بأمر يبعد حصوله، وتارة بطلب شيء أو حدوثه.
(313/1)
________________________________________
بيان من لا يصح منهم الإيلاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يُحكم فيها بعدم الاعتداد بالإيلاء؛ ومنها: الجنون؛ لأن الإيلاء ينعقد باليمين، ويمين المجنون لا تنعقد، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق).
فدل هذا على أن المجنون لا يصح إيلاؤه، وهذا محل إجماع بين العلماء، فلو قال من جُن لزوجته: والله لا أطؤك سنة، فإنه لا ينعقد اليمين، ولا تترتب عليه أحكام الإيلاء.
(313/2)
________________________________________
المجنون
قال رحمه الله: [لا من مجنون].
أي: لا يصح الإيلاء من مجنون، والجنون: مأخوذ من جن الشيء إذا استتر، ومنه سمي البستان جَنة؛ لأنه يستر من فيه؛ وذلك لأن ظلال الأشجار والزروع تمنع من رؤية الغير لمن هو تحتها، فسمي الجنون جنوناً؛ لأنه يغطي العقل ويغيبه.
والمجنون ينقسم عند العلماء إلى قسمين: إما أن يكون جنونه مطبِقاً؛ فلا إشكال.
وإما أن يكون الجنون متقطعاً؛ فإن كان متقطعاً حُكِم بما ذكرنا حال الجنون، وحُكِم بالتكليف حال الإفاقة.
(313/3)
________________________________________
المغمى عليه
قال رحمه الله: [ومغمى عليه].
أي: ولا يصح إيلاء المغمى عليه، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيه: فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: المغمى عليه مكلف.
ومنهم من يقول: المغمى عليه ليس بمكلف، وهو في حكم المجنون، وقد تقدمت معنا مسائل عديدة في كتاب العبادات والمعاملات تتفرع عن هذا الخلاف، وأن الصحيح والأقوى: أن المغمى عليه في حكم المجنون، ولذلك لا يصح إيلاؤه، ولا تنعقد الأحكام المترتبة على وجود العقل مع مسلم.
(313/4)
________________________________________
العاجز عن الوطء
قال رحمه الله: [وعاجز عن وطءٍ لِجَبٍّ كامل أو شلل]: الإيلاء -كما ذكرنا- أن يحلف الزوج اليمين على أنه لا يطأ زوجته المدة المعتبرة للإيلاء، التي هي أكثر من أربعة أشهر، وهذا الحلف يتضمن الإضرار بالزوجة كما ذكرنا وبينّا، وإذا ثبت أنه يضر بالزوجة فالشريعة قصدت دفع الضرر، فإذا كان الشخص عاجزاً عن الوطء أصلاً، فهذا لا يتحقق فيه السبب الذي من أجله حُكِم بالإيلاء؛ لأنه عاجز عن الوطء أصلاً، فمثله ليس بممتنع على وجه فيه ضرر.
والشريعة تحمِّل القادر، وهذا غير قادر، ولذلك قال رحمه الله: (وعاجز عن وطء)، فلا يصح الإيلاء من عاجز عن وطء؛ وهو الذي لا يستطيع وطء زوجته.
وقوله: (لِجَبٍّ) أي: لسبب قطع العضو؛ فليس عنده عضو.
وقوله: (لِجَبٍّ كامل) أي: إذا كان العضو مقطوعاً قطعاً كاملاً، فلو قال: والله لا أطؤك سنة.
فإن هذا أمر غير موجود فيه أصلاً، فحلفُه وجودُه وعدمُه على حد سواء.
لكن أن يكون قادراً مستطيعاً للوطء ويقول: والله لا أطؤك، فهنا كان هذا من ظلم الزوج للمرأة؛ لكن إذا كان مقطوع العضو وقال: والله لا أطؤك، فهذا وجودُ اليمين وعدمُه فيه سواء.
ومفهوم قوله: (كامل) أنه إذا كان المقطوع بعض العضو، فالشريعة تفرق بين إزالة العضو كاملاً وبقائه كاملاً، وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا بقي من العضو ما يمكن معه الوطء، فهذا ظالم، وحلفه اليمين يتحقق به الظلم، ولذلك يؤمر بالفيء والتكفير عن يمينه، وإلا طلق عليه الحاكم.
وقوله: (أو شلل) أي: شلل في عضوه؛ لأنه لا يستطيع أن يجامع أصلاً، أعاذنا الله وإياكم.
(313/5)
________________________________________
صيغ التعليق في الإيلاء
قال رحمه الله: [فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر، أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال، أو حتى تشربي الخمر، أو تسقطي دينك، أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ].
قوله: (فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً): ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها، وما يترتب عليها من حقوق شرعية، وهذا الإيلاء يفتقر إلى وجود صيغة ولفظ، وهذا اللفظ تارة يكون بذكر الأشهر أو المدة التي يتحقق بها الإيلاء، وتارة يعلق على صفة يتحقق بها ويوجد بها ما يوجد في التعليق على مدة الإيلاء، وتارة يكون بألفاظ محتملة.
ولذلك درس العلماء والأئمة رحمهم الله ألفاظ الإيلاء، وعلينا أن ندرك أن هذه الأمثلة الغريبة حينما يسمعها الإنسان ويستغرب منها، ليست القضية هي المثال نفسه، إنما القضية أصل المثال، وهذا هو الذي ينبغي على من يدرس الفقه.
(313/6)
________________________________________
صيغة التأبيد
وعلى طالب العلم أن ينتبه إلى أن الزوج إذا علق امتناعه عن وطء زوجته فإما أن يعلق على التأبيد ويقول: والله لا أطؤكِ أبداً، أو والله لا أطؤكِ الدهر كله، أو والله لا أطؤكِ عمري وحياتي ومدة بقائي فهذا كله يتحقق به الإيلاء؛ لأنه متضمن لمدة الإيلاء وزيادة، فتتحقق به مدة الإيلاء، وهي أكثر من أربعة أشهر.
وهذه يسمونها: صيغة التأبيد، أي: لم يجعل حداً من الزمان أو مدة من الزمان.
والفرق بين المؤقت والمؤبد: أنه لو أقت بمدة معينة كأن يقول: والله لا أطؤك خمسة أشهر، أو لا أطؤك سنة، فيمكن أن تقول الزوجة: أنا سأصبر عليك سنة، وسأصبر عليك خمسة أشهر، لكن لو قال: والله لا وطأتك الدهر كله، أو لا وطأتك عمري، أو لا وطأتك أبداً، أو لا أطؤكِ ولن أطأكِ أبداً، فكل هذه تدل على أنه لا يريد التأقيت وإنما يريد تأبيد الامتناع.
(313/7)
________________________________________
تعليق الإيلاء على مدة تزيد على أربعة أشهر
قال رحمه الله: (أو عين مدة تزيد).
وهذه فائدة قراءة المتون الفقهية: أنها تربي في طالب العلم ملكة التركيز والتسلسل، فتعرف من الأشياء في بعض الأحيان مقابلة بعضها لبعض، فحينما يقول: والله لا وطأتك أبداً، فهذا تأبيد، وإذا عين مدة، فنفهم أنه ضد الصورة الأولى.
لكن لو قرأت الأمثلة مجردة، فإنك لا تستطيع أن تدرك الخبايا والمقاصد التي وضع العلماء من أجلها هذه الأمثلة، فهو عندما قال: (أو عين مدة)، فحينئذٍ تفهم أن (أو) هنا للمقابلة، وأن قصده أن يأتي بصورة وهو يريد أن يقابل؛ لأنه لو اقتصر على قوله: والله لا وطأتك أبداً، أو لا وطأتك الدهر، لظن ظان أن الإيلاء لا يقع إلا إذا كان مؤبداً؛ ولذلك قال رحمه الله: [أو عين مدة تزيد على الأربعة الأشهر]، فمدة الإيلاء إما أن تزيد على أربعة أشهر، أو تكون أقل من أربعة أشهر، أو تكون أربعة أشهر، فهذه ثلاثة أحوال: والله لا أطؤكِ شهراً، والله لا أطؤكِ أربعة أشهر، والله لا أطؤكِ خمسة أشهر أو سنة.
الحالة الأولى: إذا قال: والله لا أطؤك شهراً أو شهرين أو ثلاثة، فهذه أقل من مدة الإيلاء باتفاق العلماء رحمهم الله، وجماهير السلف والخلف على أنه لا يكون إيلاءً، إلا أن بعض السلف يقول: يكون إيلاءً، وهو قول شاذ، والذي نص عليه القرآن أن الإيلاء لا يقع إلا بالمدة المعتبرة وهي أكثر من أربعة أشهر.
الحالة الثانية: أن يقول: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو أربعة أشهر ويوماً، أو أربعة أشهر وأسبوعاً، فحينئذٍ ذكر مدة الإيلاء، وشبه متفق عليه عند العلماء رحمهم الله أنه إذا زاد على أربعة أشهر فإنه مولٍ.
الحالة الثالثة: أن يذكر الأربعة الأشهر بنفسها فيقول: والله لا أطؤكِ أربعة أشهرٍ، فهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الأربعة الأشهر وحدها ليست بمدة الإيلاء، وأنه لابد أن يزيد في إيلائه على الأربعة الأشهر؛ لأن الله يقول: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227].
ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأحكام المترتبة بما بعد الأربعة الأشهر، ولم يجعلها دون الأربعة الأشهر على تمامها وكمالها، فدل هذا على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي ما لم يزد عليها، فلو حلف وقال: والله لا أطؤكِ أربعة أشهر؛ فإنه مباشرة بعد انتهاء الأربعة الأشهر ستنحل اليمين، فلا وجه لإيقاف القاضي له.
وهذا وجه مذهب الجمهور رحمهم الله: أنه في تمام الأربعة الأشهر لا يكون مولياً، وأنه لابد في الإيلاء من ذكر مدة أكثر من أربعة أشهر.
وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه يُشترط في المدة المعتبرة في الإيلاء أن تكون أكثر من أربعة أشهر، فقال: (أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر)، سواءً كان بالأشهر كأن يقول: لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو ستة أشهر، أو عاماً أو سنة، أو سنتين أو ثلاث سنوات أو نحو ذلك.
(313/8)
________________________________________
تعليق الإيلاء على أمر يبعد حصوله
قال رحمه الله: [أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال].
الآن فهمنا أن الصورة الأولى للتأبيد، والصورة الثانية للتأقيت.
وقوله: (حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال) هذه أمثلة أخرى غير الأمثلة التي كنا فيها، وهي أن يعلق الإيلاء على أمر يبعد حصوله، بحيث يغلب على الظن أنه سيجاوز الأربعة الأشهر.
قال بعض العلماء: هذه الثلاث الصيغ إذا تلفظ بها انعقد الإيلاء؛ لأن الغالب أن هذه الأشياء لها أمارات وعلامات يغلب على الظن أنها لا تقع إلا بعد أربعة أشهر، بمعنى أنها تزيد على الأربعة الأشهر، هذا ما اختاره بعض العلماء والأئمة وبعض المحققين مثل الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره.
وبعض العلماء يقول -وهو الأوجه الأقوى-: إنه لا يكون إيلاءً بمجرد التلفظ، وإنما ينتظر مضي المدة التي هي الأربعة الأشهر، فإذا تمت المدة وزادت على الأربعة الأشهر فحينئذٍ يقع الإيلاء، بمعنى: أننا لا نعلم؛ لأن هذه أمور غيبية، فقد يكون خروج عيسى عليه السلام بعد أسبوع أو بعد شهر، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم، ولربما جاءت أمارات الساعة تلو بعضها والله على كل شيء قدير، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه إذا ذكر هذه الأشياء يكون مولياً مباشرة.
والذي يظهر -كما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله-: أنه ينتظر إلى أن تمضي مدة الأربعة الأشهر، ثم بعد ذلك يحكم بكونه مولياً.
والفرق بين القولين: أن القول الأول يعتبره مولياً بمجرد صدور هذا الأمر منه، والقول الثاني لا يعتبره مولياً حتى يستتم الأربعة الأشهر ويتحقق أنه قد ذكر مدة يعتد بها للإيلاء.
وقوله: (أو يخرج الدجال)، هذه الأشياء ذكرها العلماء كأمثلة على ذكر ما يستبعد وقوعه ويغلب على الظن وقوعه بعد مدة الإيلاء.
(313/9)
________________________________________
تعليق الإيلاء على طلب شيء أو حدوثه
قال رحمه الله: [أو حتى تشربي الخمر].
ذكرنا التأقيت والتأبيد في الزمان، لكن الذي معنا هنا هو التعليق على حدوث شيء أو طلب شيء، وهذا فيه تفصيل: فتارة يعلق على أمر بيد المرأة أن تفعله.
وتارة يعلق على أمر خارج عن إرادة المرأة، كأن يقول: لا أطؤكِ حتى يأتي أبي، أو لا أطؤكِ حتى أسترد مالي ونحو ذلك.
أو يعلق على أمور مستحيلة، سواء طلب من الزوجة أو غيرها.
ولذلك شرع المصنف رحمه الله في هذا النوع من التعليق فقال: (أو حتى تشربي الخمر) والعياذ بالله! قالوا: فإذا علق على فعل من المرأة فينقسم إلى قسمين: إما أن يعلق على فعل مباح، أو يعلق على فعل محرم.
وإذا علق على فعل مباح بيد المرأة أن تفعله فلا يخلو أيضاً من ضربين: إما أن يعلق على فعل مباح تتضرر المرأة بفعله، وإما أن يعلق على فعل مباح لا تتضرر منه المرأة ولا مشقة عليها في الفعل.
كأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تفتحي الباب، أو والله لا أطؤك حتى تقفلي الباب، فهذا أمر مباح، ويمكنها أن تقوم به دون وجود مشقة أو ضرر عليها.
فهذا النوع قالوا: ليس بإيلاء أصلاً؛ لأن هذا أمر بيد المرأة، وقد أصبح الشيء بيد المرأة؛ فإذا أرادت الوطء قامت به، وإن لم ترد فهذا أمر يرجع إليها، قالوا: فلا يقع به الإيلاء؛ لأنه ليس فيه ضرر، وليس بالأمر الممتنع الذي يتحقق به الإضرار بالزوجة.
أما إذا علق على فعل مباح تتضرر المرأة به وتجد فيه المشقة والعناء، فكأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تسقطي دينكِ عليّ، أو حتى تسقطي مؤخر الصداق، أو حتى تتنازلي عن حقكِ في كذا وكذا.
والحقوق المالية لاشك أن المرأة بإمكانها أن تفعل، وهو مباح لها شرعاً أن تسامح زوجها، ومن حقها أن تعطيه المال، ولكن إذا كان بدون رضى منها فهذا فيه إضرار وفيه أذية ومشقة، وهو من الأنواع التي يقع بها الإيلاء.
وأما الحالة الثانية: وهي أن يعلق على فعل محرم على المرأة، مثل قوله -والعياذ بالله-: حتى تشربي الخمر أو تزني، فهذا أيضاً يتحقق به الإيلاء؛ لأنه علق على أمر محرم، فيجعل الضرر على المرأة، والضرر على المرأة في هذا وارد.
وأما إذا طلب منها أمراً ليس بيدها أن تفعله، كأن يقول لها: حتى تصعدي إلى السماء -كما ذكر العلماء- أو حتى تقلبي الحجر ذهباً أو نحو ذلك، فقال رحمه الله يبين هذه الصور: (أو حتى تشربي الخمر) أي: أن يعلق الزوج امتناعه عن وطء زوجته على فعلها لمحرم من شرب خمر أو زنىً أو غير ذلك -والعياذ بالله- فهذا إيلاء.
وقوله: (أو تسقطي دينكِ) أي: يعني تتنازلي عن الديون التي لك علي، أو تسقطي دينك عن أبي أو أمي، أو عن الناس، أو عن قرابتي.
وقوله: (أو تهبي مالكِ ونحوه)، نحو الشيء ما كان مثله أو قريباً منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثله أو قريباً منه.
والحاصل: أن المصنف رحمه الله يقول: إذا طلب منها فعلاً مباحاً فيه ضرر عليها، أو طلب منها فعلاً محرماً شرعاً، فهذا كله يتحقق به الإيلاء، لكن فيه ضرر على المرأة.
وقوله: (فمولٍ)، أي: يحكم بكونه مولياً.
(313/10)
________________________________________
الواجب على المولي إذا انتهت مدة الإيلاء
قال رحمه الله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً، فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء، وإلا أُمر بالطلاق، فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ].
قوله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه].
بعدما بين المصنف رحمه الله الصيغ التي يتحقق بها الإيلاء، والأشخاص الذين يصح منهم الإيلاء؛ شرع في الأحكام المترتبة على الإيلاء.
فإذا قال رجل لزوجته: والله لا أطؤكِ سنة، فعند جمهور العلماء أنه يوقف بعد مضي المدة المعتبرة للإيلاء، وحينئذٍ يطلب منه القاضي ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تكفر عن اليمين؛ لأنه قال: والله لا أطؤكِ سنة، أو تطلقها.
والسبب في هذا: أن المرأة -كما ذكرنا- لا تصبر أكثر من هذه المدة، ولذلك لما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والناس أشاروا عليه، وقيل: إن ميمونة أشارت عليه رضي الله عنها وقالت: إن المرأة تصبر عن زوجها الشهر والشهرين، وتصبر الثالث على مضض، ولكنها في الرابع في الغالب لا تستطيع أن تصبر.
فهذا يدل على الحكمة العظيمة التي من أجلها جعل الله هذه المدة.
فإذا مضت الأربعة الأشهر، وقد أقسم بالله، فاليمين تمنع، والزوجة تطالب، ولا يمكن أن نلغي اليمين؛ لأن اليمين يمين شرعي منعقد، فحينئذٍ بينت الشريعة الحكم وهو أننا نقول له: كفر عن يمينك وراجع زوجتك.
وهذا عين العدل والإنصاف؛ فإما أن يكفر عن يمينه ويراجع زوجته، ويعود إلى زوجته ويفيء، وإما أن تطلق عليه؛ لأن هذا ليس من المعروف، والله قد أمر بعشرة النساء بالمعروف.
ومن هنا إذا مضت المدة فقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُوقف ويطالب منه الرجوع والفيء، قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فرتب الله في الآية على الإيلاء حكمين شرعيين: أحدهما: أن يفيء الرجل ويرجع إلى زوجته، فيقال له: كفر عن يمينك، على أصح أقوال العلماء رحمهم الله؛ لأنه يمين شرعي منعقد.
الثاني: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227]، فإذا قال: لا أريدها، ولا أريد أن أرجع إليها، وما حلفت هذا اليمين من فراغ؛ بل أنا أكرهها ولا أريدها، فيقول له القاضي: طلقها وإلا طلقتها عليك.
فشرع المصنف رحمه الله في تأكيد هذا فقال: (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه)، فإذا حلف اليمين مثلاً في أول محرم، فننتظر محرم وصفر وربيع الأول إلى انتهاء ربيع الثاني، ثم من حق المرأة أن ترافعه إلى القضاء؛ لكن لو جاءت ترافعه في محرم أو في صفر أو في ربيع الأول، أو قبل تمام ربيع الثاني، فليس هذا من حقها، إنما يكون الإيقاف وطلب الفيء أو التطليق بعد تمام المدة.
ولو أن المرأة رضيت وقالت: لقد حلف عليّ خمسة أشهر، وأنا أريد أن أصبر، فإنها تصبر ولا حرج عليها، وهذا حقها.
وبناءً على ذلك يوقف بعد تمام الأربعة الأشهر -هذا الحكم الأول- ثم يخير بين الفيء وهو الرجوع إلى زوجته وبين تطليقها.
وقوله: (ولو قناً) القن: هو العبد (ولو) هنا إشارة إلى خلاف في المذهب، والمصنف رحمه الله يختار أن الحر والعبد في الإيلاء على حد سواء، وهذا هو الصحيح؛ لعموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226].
(313/11)
________________________________________
الإيلاء من المطلقة رجعياً
وفي الحقيقة كان المنبغي التنبيه على مسألة -ونحن لا نستدرك على المصنف رحمه الله؛ لأن المصنف يذكر الأمهات وهذا من حقه، لكن نريد أن ننبه على مسألة مهمة- وهي: أننا نحتسب المدة من صدور لفظ الإيلاء؛ بشرط أن لا تكون المرأة مطلقة طلاقاً رجعياً، فمثلاً: زيد من الناس آلى من امرأته وهي مطلقة الطلقة الأولى، فنقول: إنها في حكم الزوجة، كما تقدم معنا، وبناءً على ذلك يُلحق بها الإيلاء، فإذا قال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فإننا ننتظر، فإذا صدر منه في منتصف محرم، فمعنى ذلك أنه في منتصف جمادى يحق للمرأة أن ترافع وتطالب على الأصل، لكن الواقع بخلاف هذا؛ فالمطلقة رجعياً لا يبحث في مسائل الإيلاء منها إلا إذا راجعها الزوج قبل نهاية العدة، فلو راجعها وكان قد آلى منها أثناء العدة فحينئذٍ يرد الإشكال.
فلو أنه وقع منه لفظ الإيلاء في منتصف محرم -كما ذكرنا- وراجعها في أول شهر صفر؛ فحينئذٍ تحتسب مدة الإيلاء من بداية مراجعته لها إذا كان قد راجعها في آخر محرم الذي هو بداية صفر، فإننا نضيف شهراً ونحتسب الإيلاء من بعده؛ وذلك لأنه في هذه الحالة من بعد إرجاع الزوجة يكون من حقه أن يطأ ويتأتى مطالبته بالوطء.
وبناءً على ذلك تتضرر الزوجة بعد الرجعة، ولا تضرر في حال كونها رجعية، فإن هذا لا يترتب عليه حكم إلا اعتبار أن الإيلاء منعقد من حيث الأصل، فقال العلماء رحمهم الله: إنه إذا آلى منها وكانت رجعية، فأن مدة الإيلاء تحتسب من بداية الرجعة.
(313/12)
________________________________________
حصول الفيء بالوطء
قال رحمه الله: [فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء].
يشترط في اعتبار المدة التي هي الأربعة الأشهر أن لا يقع فيها جماع، أو أن لا يقع فيها وطء، فلو وطأ أثناء الأربعة الأشهر ولو مرة واحدة فقد حنث في يمينه ويلزمه التكفير، ويسقط حق المرأة في مطالبتها برجوعه عن اليمين؛ لأنه إذا وطأ ولو مرة واحدة فإنه يحكم بارتفاع اليمين ووجوب الكفارة عليه؛ لأنه حلف في يمينه وقال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فجلس الشهر الأول والشهر الثاني، وفي الشهر الثالث وطأها مرة واحدة، ولذلك قال رحمه الله: (فإن وطأ).
وإذا قلنا بأن الوطء يلغي الإيلاء ويوجب التكفير فيرد
السؤال
ما هو الحد المعتبر للوطء؟ الأصل عند العلماء والأئمة رحمهم الله: أن الوطء يحكم به بتغييب الحشفة؛ وهي رأس الذكر كما ذكرنا، ويترتب على هذا ما لا يقل عن ثمانين حكماً شرعياً ومنها هذه المسألة.
وبناءً على ذلك: فإن حصل منه وطء لامرأته بتغييب الحشفة أو قدرها من المقطوع -كما تقدم معنا- سقط الإيلاء ووجب عليه التكفير، وتعتبر فيئة منه ورجوعاً عن اليمين.
(313/13)
________________________________________
إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم
قال رحمه الله: [وإلا أمر بالطلاق].
قوله: (وإلا أمر) أي: يقال له: طلق، فإذا قال: لا أطلق ولا أرجع لزوجتي، فحينئذٍ يرفع إلى القاضي ويشتكى به، فإذا اشتكته امرأته إلى القاضي طالبه بالقضاء وقال له: ارجع إلى زوجتك، وكفر عن يمينك وأتِ الذي هو خير، فإذا قال: لا.
فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، فأصبح لا يريد أن يطلق، ولا يريد أن يكفر عن يمينه، فحينئذٍ يطلق القاضي عنه، ويكون من حق القاضي أن يتولى الطلاق، على خلاف عند العلماء، والصحيح أنه ينزل منزلته؛ لأن هذا من الظلم والإضرار، وقد بين الله عز وجل أن من حق الزوج هذه المدة، وإذا جاوزها التقط حقه، فإذا لم يفئ فإنه غير معاشر بالمعروف، فمن حق الحاكم والقاضي أن يطلق عليه.
قال رحمه الله: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ].
الحاكم: هو القاضي ومن في حكمه ممن ينصب لفض المنازعات وقطع الخصومات على الوجه الشرعي، وتكون أهليته على الوجه المعتبر، وتتحقق فيه الأهلية المعتبرة شرعاً.
فالقاضي إذا نظر حال الزوج مع الزوجة ووجده ظالماً مؤذياً مضراً، وأنه قد تعدى حدود الله، ولا مصلحة في رجوع المرأة إليه، فإن من حقه أن يطلقها عليه بالثلاث، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف على أن الثلاث بلفظ واحد ماضية، وبينّا هذا وبينّا وجهه ودليله.
فمن حق القاضي أن يطلق ثلاثاً لكي يمنعه أو يحول بينه وبين هذه المرأة التي آذاها وأضر بها، وكذلك من حقه أن يطلق الطلقة الأولى والثانية، فلو نظر أن من المصلحة أن يطلقها طلقة واحدة طلق طلقة واحدة، وهكذا لو كان الزوج قد طلق طلقتين وبقيت له طلقة واحدة، وجاء القاضي وأمر الزوج بالتطليق فلم يطلق، وأمره بالفيء فلم يفئ؛ طلق عليه الطلقة فكانت ثالثة، وسواء طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً.
وقوله: (أو فسخ) أي: يقول: فرقت بينكما، وفائدة الفسخ أنه لا يمتلك الزوج إرجاع الزوجة إلا بعقد جديد، ولذلك بعض العلماء يرى أن الطلاق هنا طلاق غير رجعي ولو كان طلقة واحدة؛ لأنه لو كان طلاقاً رجعياً لأمكن أن يقول: راجعتك، وتبقى المرأة في الضرر.
والصحيح أنه طلاق رجعي، وذلك لأن الحكم أن من حق القاضي أن يطلق أو يفسخ، فإن نظر المصلحة في الطلاق طلق، وإن نظر المصلحة في الفسخ فسخ، وإذا رأى أن يطلق فإن شاء طلق الطلقة الأولى، وإن شاء طلق الطلقة الثانية، وإن شاء طلق الطلقة الثالثة، ولو طلق عليه الطلقة الأولى والمرأة صارت رجعية فقال الزوج: راجعتك، فحينئذٍ أيضاً يحتسب له بحكم الإيلاء، ويوقف مرة أخرى ويقال له: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وهذا هو اختيار جمع من العلماء رحمهم الله.
والسبب في هذا: أن المرأة مظلومة ومتضررة، ولا شك أنه إذا راجعها ولم يطأها فمعنى ذلك أنه يريد رجعتها من أجل الإضرار بها، والله يقول: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231].
فبيّن أنه ظالم وأنه معتدٍ لحدود الله، فمن حق القاضي أن يمنعه، فلو طلق عليه الطلقة الأولى فراجعها مباشرة فاشتكته إلى القاضي وقالت: ما رجع إليّ ولا فاء، فأمره القاضي بالرجوع فأبى، فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، ففي هذه الحالة له أن يطلق عليه الطلقة الثانية، وكذلك لو راجعه بعد الثانية فله أن يطلق عليه الطلقة الثالثة، فله أن يصدرها مفرقة وله أن يصدرها مجتمعة؛ لأن الأمر عائد إلى النظر في مصالح الخصوم، والقاضي له حق النظر في مصالح الخصوم وله أن يفسخ.
ولماذا يلجأ إلى الفسخ؟ يلجأ إلى الفسخ إذا رأى أن الرجل يريد الإضرار، وأنه ليس من مصلحته أن يستخدم هذا الإضرار، فيفسخ نكاحها حتى يبعدها عن هذه المشاكل باحتمال أن يعود إليها، فيمكن أن يوجد زوج عنيد، ويعلم أن المصلحة أن تعود له زوجته، لكنه لا يريد أن يعيدها، ففي هذه الحالة لو أنه أعادها له بطلقة واحدة رجعية ربما فاتت الثلاث تطليقات بالإيلاء؛ فحينئذٍ يلجأ إلى الفسخ، فتحتسب له طلقة واحدة أفضل من أن تحسب له ثلاث طلقات، وهذا يرجع إلى فقه القاضي ودرايته بحال الخصومة.
فالعلماء رحمهم الله نصوا على هذا؛ لأن مقصود الشريعة دفع الضرر عن الزوجة بوجه لا يتضمن أيضاً الضرر على الزوج، ما لم يكن الزوج متسبباً في إدخال الضرر على نفسه؛ لأنه هو الذي حلف، وهو الذي صدر منه اليمين.
قال رحمه الله: [وإن وطأ في الدبر أو دون الفرج فما فاء].
بعد أن بيّن رحمه الله أن الوطء يرفع اليمين، بيّن أنه لا يعتد بوطء غير شرعي وهو الوطء في الدبر، وهذا من كبائر الذنوب، ومن الأمور المحرمة، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلامٌ نفيس في بدائع الفوائد وغيره من كتبه كعادته رحمه الله، فقد بيّن أموراً عجيبة -والعياذ بالله- في وقوع الزوج في هذا الأمر المحرم وهو إتيان الزوجة من الدبر؛ أنه يفسد الزوجة، ويفسد القلب ويظلمه -نسأل الله السلامة والعافية- وله العواقب الوخيمة على المرأة وعلى الزوج.
ولذلك فإن هذا النوع من الوطء محرمٌ شرعاً، ولا يُعْتَدُّ به، فلو حصل وطء به فإنه لا يعتبر فيئاً، ولا يُسْقِط حكم الإيلاء.
(313/14)
________________________________________
مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء
قال رحمه الله: [وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطأها وهي ثيب صُدِّق مع يمينه]: شرع رحمه الله في بيان مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء، وقد تقدم معنا في مسائل المعاملات أن العلماء رحمهم الله من عادتهم أن يذكروا مسائل القضاء في آخر كل باب على حدة فيما يختص به من المسائل.
فهنا عندنا مسألة وهي: إذا وقع الإيلاء وجاءت المرأة بعد أربعة أشهر واشتكت، قلنا: إن الوطء يقطع حق المرأة ويزيل حكم الإيلاء، فإن قال الرجل: وطأتها، وقالت المرأة: نعم.
وطأني، فحينئذٍ لا إشكال، وقد ثبت عندنا أنه حصل وطء، ويعتبر الوطء فيء ورجوع.
لكن الإشكال لو قال: وطأتك -يخاطب زوجته أمام القاضي- وطأتك خلال مدة، فليس من حقكِ أن تخاصميني، فقالت: ما وطأني وما حصل وطء، وأنكرت الوطء، فهل نصدق الزوج أو نصدق الزوجة؟ للعلماء وجهان في هذه المسألة: فمن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأنه يبقي حكم النكاح -وهذا هو الأصل- ولا نصدق الزوجة؛ لأنها تدعي أمراً يئول بالنكاح إلى ارتفاعه؛ لأنه ربما رجعت المسألة إلى الطلاق.
وبناءً على ذلك: قالوا: إنه يُصَدَّق الزوج؛ لكن هذا التصديق مبني على مسألة التهم، وفي مسائل التهم إذا صُدِّق القول مع التهمة فإنه يطالب باليمين التي تسمى عند العلماء في القضاء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء- بيمين التهم، ويمين التهمة تقوي جانب الخصم على خصمه، قال الناظم: فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتُضِي أي: باليمين يعتبر القول الذي يعارضه غيره مع وجود التهمة؛ لأنه يحتمل أن تكون المرأة صادقة وأنه ما وطأها.
والسبب في الخلاف: أن بعض العلماء يقول: تصدق الزوجة؛ لأن الأصل عدم وجود الوطء؛ لأنه قال: والله لا أطؤك، فالأصل أنه ما وطأ لأن عنده يميناً تمنعه من الوطء، فقالوا: نصدق الزوجة ونقبل قولها ونطالب الزوج بالفيء أو التطليق.
ومن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأن المرأة في ادعائها أنه لم يطأ تدعي أمراً خلاف الأصل، مما يوجب رفع النكاح كما تقدم معنا.
فهذا وجه الخلاف بين القولين، ولكل قول وجهه.
قال رحمه الله: [وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدلٌ صُدِّقت].
الخلاف الأول: إذا كانت ثيباً، وهي التي لا علامة فيها ولا أمارة تميز وجود الوطء وعدمه، لكن إذا كانت بكراً فهناك علامة تؤكد أو ترجح، ولذلك قالوا: قد يقع جماع البكر دون افتضاضٍ لبكارتها، وهذا أمر نادر، والشرع لا يبني الحكم على النادر؛ لكن بعض العلماء لا يعتد بهذا الوطء.
وعلى كل حال قالوا: إذا ادعت بأنه لم يطأها وكانت بكراً والبكارة موجودة؛ لأنه ربما تكون المرأة قد أزيلت بكارتها قبل النكاح، وليس زوال البكارة يدل على أن المرأة فاسدة في كل الأحوال؛ لأنه ربما زالت بكارتُها بسبب قفز أو بسبب غير الوطء، وهذا أمر ثابت طبياً.
ولذلك فمسألة وجود البكارة وعدمها قرينة أو مرجحة، لكنها لا توجب القطع ولا توجب الثبوت من كل وجه، وهي ترجح جانب المرأة، فلو أنها قالت: ما وطأني، وأنا بكر، كامرأة عقد عليها زوج وهي بكر ثم حلف أنه لا يطؤها ومكن من الدخول ثم حلف أن لا يطأها، فاشتكته إلى القاضي بعد أربعة أشهر فقالت: ما وطأني، وقال الرجل: بل وطأتها، فقالت المرأة: تزوجني وأنا بكر ولا زالت بكارتي موجودة، فقيل للرجل: ماذا تقول؟ قال: لا أزال مصراً على قولي، وفي هذه الحالة ينتدب القاضي امرأة أو طبيبة شرعية يوثق بقولها شرعاً للنظر والتأكد مما ذكرت، فإن وجدت البكارة كما هي فلا إشكال، لكن الإشكال أن هذا كان موجوداً في زمان الأولين حين يتعذر إعادة البكارة، لكن في زماننا يمكن إعادة البكارة؛ ولذلك فهذه المسائل بعضها يحتاج إلى نظر وتحرير، وهو مختلف في الحكم باختلاف الأزمنة.
وهذا النوع هو الذي يسميه العلماء: تغير الفتوى بتغير الزمان، وليس المقصود بتغير الفتوى -كما يظنه البعض- التلاعب بالنصوص الشرعية، والدعوة إلى الأمور المحرمة كمسائل السفور ونحوها تحت غطاء تغير الفتوى بتغير الزمان هذا لا يصدر من إنسان عالم قرأ نصوص الكتاب والسنة، وفكر في دين الله وشرع الله.
لكن قد توجد أمور تقتضي تغير الأحكام بتغير الأزمنة؛ ومنها هذه المسائل، فإن العلماء حكموا بأنها أمارة ودليل ربما يستأنس به، لكن في زماننا يمكن رتق غشاء البكارة.
وهذا النوع من الجراحة لا أشك في حرمته شرعاً، فلم أجد نصاً في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يبيح هذا النوع من الجراحة، مهما ادعي من الادعاءات، حتى ولو أن المرأة اغتصبت وأوذيت بالباطل، فليس من حق الطبيب أن ينظر إلى فرج المرأة، ولا أن يستبيح الإيلاج، ولا أن يستبيح اللمس، وليس من حق حتى المرأة مع المرأة؛ لأن الفرج هو العورة المغلظة المشدد في حرمتها.
فإذا قالت: إنها ستعيدها، بناءً على أن هذه المرأة اغتصبت، بقي حق الزوج، فكيف يدخل على امرأة يظنها بكراً، وتعامله معاملة البكر، ويعطيها مهر البكر، فأين حق الزوج؟ وهذا اختلال في النظر، ولذلك فإن بعضهم -أصلحهم الله- يفتي بمسألة رتق غشاء البكارة تحت العواطف وتحت المبررات، مع أن هذا أمر من ناحية شرعية ليس له مبرر فيما ظهر لي بعد دراسة هذه المسألة والنظر في أدلة من يجيزون هذا النوع من الجراحة.
ولا أشك أن هذا النوع من الجراحة المحرم لا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يقوما به؛ لأنه ليس هناك مبرر شرعي للقيام به، وكل ما في الأمر أنه إذا اعتدي عليها واغتصبت، فإنه إذا جاء من يخطبها فإن الله أمرنا بأن ننصح ونبين فنقول له: إن أردت أن تسترها فأنت مأجور، ولا شك أن من فعل ذلك له عند الله عظيم الأجر وعظيم الثواب، إذا احتسب وقصد من ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يأجره.
فيطلع على الحقيقة، ويبيّن له أن المرأة صالحة وأنها مستقيمة، وأنها اعتدي عليها، أو يثبت ذلك بالوسائل الموجودة في زماننا ثم يعرض الأمر عليه، فإذا ارتاحت نفسه واطمأنت أن يحتسب الأجر عند الله، وأن يطلب من الله عز وجل أن يخلف عليه في مصيبته، فهذا فضل وخير منه، والله يأجره على ذلك، وإذا لم يرد فلا بأس، أما أن يرتق غشاء البكارة، ويدل الرجل على المرأة على أنها بكر، فلا يجوز.
ثم إن هذا النوع من الجراحة فتح -والعياذ بالله- باب الفساد، فتجد المرأة لا تبالي أن تقدم على الحرام تحت طمأنينتها أن غشاء البكارة يمكن رتقه، فإبطال هذا النوع وقفل بابه لا شك أنه يقفل باب مفاسد كثيرة وشرور عظيمة.
فمنع هذا النوع كلية والحيلولة بين الطبيب من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية يمنع المفاسد المترتبة؛ لأنه لو وجد عذر لبعض فئات من المجتمع، فإنه لا يوجد العذر في الفئة الثانية التي ربما تقع في الحرام حقيقة، ثم تدعي أنها اغتصبت أو أنه فعل بها هذا بدون حق.
فالشاهد: أن مسألة ادعاء البكارة من المسائل التي تحتاج إلى أن يفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي أمكن فيه عود الغشاء كما لا يخفى.
(313/15)
________________________________________
امتناع الزوج عن وطء زوجته إضراراً بها بدون يمين
قال رحمه الله: [وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمولٍ] هذه المسألة الأخيرة التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب، وهي مسألة امتناع الزوج من وطئه لزوجته على سبيل الإضرار بها.
فإذا امتنع الرجل من وطء زوجته أربعة أشهر واشتكت إلى القاضي، فإن القاضي يوقفه ويقول له: إما أن تعود إلى المرأة وتفيء وتجامعها وتعطيها حقها وتعفها عن الحرام، وإما أن تطلقها أو نطلقها عليك.
وقد قصد المصنف رحمه الله من هذا بعدما بين أحكام الإيلاء التي هي الأصل، أن يشرع في بيان ما يقاس على الإيلاء، فالشريعة حينما أعطت المرأة هذا الحق، وهو مخاصمة زوجها بعد تمام المدة وهي الأربعة الأشهر وهي إيقافه شرعاً، فكذلك المعنى الذي من أجله شُرع للمرأة أن تطلب بفيء زوجها وتطليقه موجود في حال امتناعه عن وطئها بدون يمين.
فمن حقها أن توقفه وتسأله الرجوع أو التطليق، ومما ينبغي أن يتنبه له كل مسلم أن الزواج له حقوق ومسئوليات وواجبات؛ ومنها: أنه يجب على الرجل أن يعف امرأته عن الحرام، كما أنه يجب على المرأة أن تعف زوجها عن الحرام، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وكثرت فيه المحن، فالواجب على المرأة أن تحفظ زوجها وتحافظ عليه، وكذلك الزوج الواجب عليه أن يحافظ على زوجته، ويحول بينها وبين الحرام، خاصة إذا كانت صالحة وكان الزوج صالحاً.
وبعض الأزواج يتساهل في هذا الأمر، وينظر إلى أن الاستمتاع بالمرأة مجرد شهوة ولا يبالي، فيكثر من السفر، وربما يغيب الأشهر العديدة، دون أن ينظر إلى حق زوجته في فراشها وحاجتها إلى من يعفها.
وكذلك المرأة ربما عاشت مع زوجها فلا تتجمل له، ولا تحسن التجمل له حتى تحفظه من الحرام، حتى لربما -والعياذ بالله- زلت قدمه ووقع في الحرام، وتعاطى الأسباب لا يخلو الإنسان من الإثم -والعياذ بالله- والحرج.
ولذلك المرأة التي تقصر في حق زوجها في فراشه ربما كانت سبباً في وقوعه في الزنا والعياذ بالله! وهذا ستسأل عنه أمام الله عز وجل.
والرجل الذي يقصر في حقوق امرأته ويغيب عنها، ولا يشترط أن يمتنع من وطئها أربعة أشهر، فإن بعض النساء قد لا تصبر شهراً أو شهرين؛ كالمرأة حديثة العهد بالعرس، أو المرأة التي تعيش في اختلاط، أو في بيئة يصعب فيها الصبر، أو حال يدعو إلى الحرام، مثل أن تكون بين أبناء عمومته أو أبناء خئولته، ويكون مجتمعه فيه نوع من الاحتكاك والأخذ والعطاء، أو يكون وضعها الاجتماعي يوقعها في مثل هذه المحرمات، أو مخالطة الرجال، فهذا كله يشدد في أمره.
والواجب على الرجال أن يتقوا الله في النساء، والواجب على النساء أن يتقين الله في أزواجهن، وأن يحسن التبعل للأزواج، وأن يحسن الرجل إلى زوجته، وأن يعلم أن من كمال الله عز وجل وكمال شرعه أن المؤمن يحتسب الثواب عند الله حتى في شهوته، قالوا: (يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟)، فهذا يدل على كمال هذه الشريعة وسموها.
نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.
(313/16)
________________________________________
الأسئلة
(313/17)
________________________________________
حكم تكفير الزوجة عن زوجها يمين الإيلاء
السؤال
إذا طلب الزوج المولي من زوجته أن تكفر هي من مالها يمين الإيلاء، فهل تصح الكفارة؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإذا لم يكن عنده مال، ولم تكن عنده قدرة على أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإنه يصوم ثلاثة أيام، فإذا وكلها في إخراج الكفارة ورضيت بذلك وقالت: أنا أخرج من عندي، فلا بأس، وهذا أمر يرجع إليها، فإذا فعلت فالإيلاء ساقط والكفارة معتبرة.
والله تعالى أعلم.
(313/18)
________________________________________
بيان أن النشوز ليس كالإيلاء
السؤال
هل النشوز الذي يكون من المرأة يعتبر مقابلاً للإيلاء، كما لو أقسمت أن لا تمكنه من نفسها؟ أثابكم الله.
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تحلف وتقول لزوجها: والله لا أمكنك من نفسي؛ لأن الملائكة ستلعنها حتى تصبح.
وهذا يدل على أن المرأة ينبغي لها أن تأخذ الحذر في معاملتها لزوجها؛ لأن الزنا والحرام من الرجل أسهل من المرأة، وإذا امتنعت المرأة ربما نفر منها الزوج كلية؛ لأن الزوج بمجرد أن يشعر أن امرأته لا تحبه فإنه يترتب على ذلك الكثير من المفاسد والشرور.
والمرأة تستطيع أن تعلم أن زوجها لانشغاله أو لأي أمر إذا صرف عن محبتها في وقت فإنه سيعود لها، فهناك فرق بين الرجل والمرأة، ولذلك عظم الشرع امتناع المرأة، وعظم أيضاً امتناع الرجل، لكن جعل للرجل حداً لم يجعله للمرأة، والله يحكم وله أن يفضل وله أن يميز.
وهذا يدل على أن الشريعة تراعي أموراً دقيقة جداً في هذه المسائل، فعلى المرأة أن تتقي الله، ولا يجوز لها أن تمتنع ليلة واحدة، بل حتى إذا دعاها إلى الفراش وامتنعت من ليلتها -والعياذ بالله- فقد جاء في الحديث الصحيح في رواية: (كان الذي في السماء عليها غضبان حتى تصبح)، وفي الحديث الآخر: (أيما امرأة دعاها زوجها فأبت باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) نسأل الله السلامة والعافية.
والله تعالى أعلم.
(313/19)
________________________________________
امتناع الزوج عن امرأته بقصد تأديبها
السؤال
لو أراد الزوج من عدم معاشرته لأهله ووطئه أن يردعها حتى تتوب إلى الله وتقيم الصلاة، فهل هو مول إن طالت المدة، خصوصاً وأنه يريد الإصلاح لا الإضرار؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه وحلف أنه لا يطأ شهراً، وآلى من نسائه، وهذه أمور يرجع فيها إلى الزوجين، وهما أعرف، لكن لو كانت المدة دون مدة الإيلاء وقصد بها الإصلاح فما على المحسنين من سبيل، فالزوج أدرى بأهله وأدرى بزوجه، سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا، ولذلك أمر الله عز وجل بتأديب الزوجة إذا نشزت.
والأفضل والأكمل -كما ذكر بعض العلماء والحكماء- أن لا يلجأ الزوج إلى المعاقبة بالعواطف إلا عند الضرورة، فلا يصل إلى طريقة تشعر بها المرأة بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنه لا يريدها، فإن هذا من أسوأ ما يكون، وتترتب عليه العواقب الوخيمة، والعكس من المرأة أيضاً؛ فلا تشعر الزوج لا بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنها لا تريده؛ لأن هذا هو دمار البيوت، وبه تتهدم الأسر وتتشتت؛ لأن الله جعل الرباط بين الزوج والزوجة قائم على المودة والرحمة.
فمن هنا التلاعب بالعواطف والتأثير بها أمر لا تحمد عقباه، فالمرأة لا تستطيع أن تتحكم بنفسها؛ لأنه بمجرد أن تشعر أن زوجها لا يريدها أو أن زوجها ليس راغباً فيها، ربما -والعياذ بالله- أفسدت نفسها ودخلت عليها وساوس الشيطان وأصابتها الأمراض النفسية.
وانظر إلى حكمة الشريعة الإسلامية في كثير من المسائل التي بين الزوجين كيف أن الشرع جعل لها الحل، وانظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يقبل زوجته إذا خرج من البيت إلى الصلاة التي جعل الله قرة عينه فيها صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقبلها حتى يكون آخر العهد ما يدل على الرباط وعلى المودة والمحبة، وعلى الرحمة والإلف والتواصل، وهذا ليس منقصة للرجل، وإنما هو كمال؛ لأنه فعله أكمل الرجال وأكمل الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فليس ديننا بالدين الذي حجز الناس بالرهبانية وفي المساجد، وعزلهم عن الأسر وإقامتها بالمعاملة اللطيفة، فكل شيء جعل الإسلام له حقه وقدره.
فكما أن الجهاد يقوم ببذل الأنفس، وتسيل فيه الدماء لوجه الله عز وجل ولإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعداء الله عز وجل، كذلك في الأسر تجد المودة والرحمة، وتجد التعاطف واللين، وتجد الكمال الذي قامت عليه هذه الشريعة الإسلامية خاصة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا تلاعب الزوج بالعواطف وتلاعبت الزوجة بالعواطف فعندها لا تحمد العواقب؛ لأن المرأة إذا عاشت في مواقف محرجة ووجدت الزوج يعطف عليها، وعاشت في غلطات تصدر منها مع الزوج ومع ذلك تجد منه الدلائل التي تشير إلى حبه لها، ضحت من أجله وصبرت.
وهذا معروف في قصص الأولين وأخبارهم، كما ذكر الحكماء في القصص الهادفة الحقيقية المبنية على وقائع صادقة، فإن المرأة ربما أحبت زوجها وامتحنته واختبرته بمواقف عاطفية معينة صدق معها فيها، حتى وقفت معه في آخر عمره في أحلك الظروف وأشدها.
ولربما ذهب جماله في عز شبابه، ولربما ذهبت قوته وذهبت صحته، حتى إن المرأة تحب زوجها بصدق بسبب المواقف التي رأتها منه؛ من صدق المشاعر وصدق المودة، فإذا انصرف عنه كل شيء جاءت عند قدميه محبة، ولم يختلف حبها وودها بل لربما زاد أكثر.
وهذا كله يحتاج إلى أن يضحي الإنسان من أجله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسس التي ينبغي على الإنسان أن يراعيها فقال: (خيركم خيركم لأهله)، وهذه الخيرية تحتاج منا أن لا يمس الإنسان المشاعر، فالمرأة والرجل ينبغي عليهما الحذر في الأمور التي يعاقب فيها خاصة في أمور الفراش.
يقول تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فجعل الأمر مرتباً؛ لأن المرأة المؤمنة الصالحة التي تخاف الله عز وجل إذا ذكرها زوجها بالله تذكرت، وإذا رأت زوجها يسهر الليل ويتأخر عنها ويضيع حقها قالت له: يا هذا اتق الله.
والمطلوب من الزوج إذا قالت له امرأته: اتق الله، أن يجعل الجنة والنار أمام عينيه، وأن لا ينظر إلى نفسه نظرة الكمال، وقد كان السلف إذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ جلس يبكي من خشية الله عز وجل وخوفه، ولذلك سمت نفوسهم إلى العلياء وإلى الخيرات، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة.
فعلى المسلم دائماً إذا قالت له زوجته: اتق الله، أن يتقي الله، ويعتقد أنه مقصر ويقول لها: أنا مقصر؛ حتى يسمو بنفسه عن أذية الزوجة.
قال الله تعالى عن النساء: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34]، ثم قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، فجعل العقوبة بالأفعال لا بالأقوال، وهذا يدل على كمال الشريعة؛ لأن الكلمة النابية من الزوج وقعها أليم وجرحها عظيم، ويبقى أثرها في المرأة ربما سنوات، ولا يمكن أن تنسى هذه الكلمة، خاصة إذا مست مشاعرها.
وهذا يدل على أن المشاعر والعواطف التي بين الزوج والزوجة ينبغي لكل منهما أن يحذر المساس بها، والسعيد من وفقه الله ووعظ بغيره وانزجر عن هذه الأمور، ولم يصل إليها إلا إذا بلغ الأمر مبلغه.
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها فهذه أحوال خاصة وأمور خاصة يحكم فيها ويفتى بحسب وجود الحاجة وبقدرها.
والله تعالى أعلم.
(313/20)
________________________________________
جلوس الإمام المنهي عنه بعد الصلاة
السؤال
بالنسبة لمكث الإمام في مصلاه، هل النهي أن يجلس بعد السلام ووجهه إلى القبلة أم أن النهي عن جلوسه بعد الانصراف؟ أثابكم الله.
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيجلس الإمام ووجهه للقبلة قدر ما يستغفر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام) كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، ثم ينصرف.
والسبب في هذا: أنه يعطي الناس ظهره، ولا ينبغي للإنسان إذا جلس أمام الناس أن يعطيهم ظهره إلا من حاجة، فلما انتهت الحاجة وهي إمامته بالناس وصلاته رجع إلى الأصل من الإقبال على الناس بوجهه، ولذلك جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينصرف إلى المصلين.
والانصراف ينبغي أن يكون كاملاً، فيقبل على الناس ويجلس حتى تكون ميمنة الصف ميسرة له، وميسرة الصف ميمنة له، وأما الانصراف الجزئي كأن يجلس ويعطي الناس شقه الأيمن؛ فهذا في حالة ما إذا صليت ببعض الناس المتأخرين، فإذا سلمت فلا تستطيع أن تكون في وجههم، فاستحب العلماء أن تجلس وتعطيهم كتفك الأيمن إذا كانوا يتمون لأنفسهم، حتى لا يظن من يرى من بعيد أنه يسجد لمن أمامه.
فمن هنا كرهوا الجلوس أمامه مباشرة؛ لأنه سيكون كالساجد له، وإنما يعطيه كتفه الأيمن، وإذا صليت بشخص معك ثم جاء أناس في الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أو في آخر الصلاة، فإذا سلمت ستجد أمامك صفاً أو بعض الصف وأنت أمامه، فاستحب العلماء رحمهم الله أنه لا يقبل عليهم إقبالاً كاملاً ولا يجلس بين القبلة.
أما مسألة الانصراف من المصلى، فيكون بعد الانتهاء من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقول تمام المائة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وفي رواية: (بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، قالوا: لأنه إذا انصرف قبل هذا فستكون له مزية على الناس، ولا يجوز لأحد أن يتميز عن الناس؛ لأن منهم من هو أكبر منه، وقد يكون فيهم من هو أعلم منه وأفضل منه، وقد يكون فيهم والده.
ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس في مصلاه إلا في موضعين: منها صلاة الفجر؛ فقد كان يجلس إلى طلوع الشمس، وبعض الأحيان يقوم قبل طلوع الشمس؛ لما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يأتونه ويجالسونه بعد صلاة الفجر، ويتحلقون عليه حلقة حتى يخوضون في أمور الجاهلية وما كانوا فيه، فيضحكون ويتبسم، كما في صحيح مسلم وغيره.
فهذا يدل على أنه بعد صلاة الفجر يجلس في مصلاه، كأن يأتي سائل أو يأتي مستشكل ويحبسه في مصلاه، فيكون عند الضرورة والحاجة، أما في غير الضرورة والحاجة؛ كأن يريد أن يمكث في المسجد، فيقوم إلى سارية في مكان آخر، ولذلك كان العلماء والأئمة يجعلون مجلساً للفتوى ومجلساً للصلاة، فكان أحدهم إذا انتهى من الصلاة يقوم لمجلسه الذي برز فيه للناس حتى يأتون للفتوى والسؤال.
وهذا من أنسب ما يكون، وهو من فقه الإمامة وآداب الإمامة كما ذكر بعض أئمة العلم رحمهم الله.
والله تعالى أعلم.
(313/21)
________________________________________
حكم جهر المأموم بالتكبير وأذكار الركوع والسجود
السؤال
هل يشرع للمأموم الجهر بالتكبير وأذكار الركوع والسجود في صلاة الجماعة؟
الجواب
إذا كان يريد الإثم وأذية الناس والإضرار بهم يفعل ذلك، فإن الجهر من المأموم يشوش على من بجواره، ويشوش على المصلين، وهذا مجرب ومشاهد.
وأذكر عشرات المرات أنني كنت في بعض الأحيان لا أستطيع أن أقرأ التشهد، ولا أستطيع أن أسبح أو أخشع في تسبيحي لأن من بجواري يرفع صوته.
فهذا لا ينبغي ولا يجوز، وهذا من الإضرار، وخاصة أذية المصلين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الثوم والبصل حتى لا يؤذي الناس ببَخَره، فإذا كان هذا بالبَخَر والرائحة فكيف بمن يؤذيهم في خشوعهم وذكرهم لله عز وجل؟! ولربما التبس على الناس، حتى إن بعض الأئمة قد يلتبس عليه، فالمأموم لا يشرع له أن يرفع صوته، ولا يشرع إلا في مسائل نادرة؛ منها: أن يكون الصف طويلاً، وأن تكون هناك صفوف بعيدة جداً ولا يمكن التبليغ إلا يرفع الصوت، فيجوز عند الضرورة والحاجة.
وهذا القول له دليل: وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرض الوفاة، فإنه كان يرفع صوته يسمِّع الناس من ورائه.
هذا هو الذي يشرع في رفع صوت المأموم، أو يريد أن ينبه الإمام، أو الأذكار التي ورد رفع صوت المأموم بها من التأمين، فإن هذا مستثنى، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن فيه أذية وإضراراً وتشويشاً على المصلين.
ولا شك أنه في بعض الأحيان يشوش علينا؛ لكن إذا كَمُل خشوع الإنسان فقد لا يضره مثل هذا؛ لكن الغالب أنه يضر ويشوش.
فالواجب على المأموم أن يخفض صوته بقدر ما يحرك به شفتيه، وهذا هو حد الإجزاء.
والله تعالى أعلم.
(313/22)
________________________________________
المقصود بالعدل بين النساء
السؤال
من كان يتحرى العدل بين نسائه هل يلزمه أن يعدل أيضاً في الوطء والفراش؟ أثابكم الله.
الجواب
العدل هو في الفراش، كما هو في غيره من النفقات ونحوها، والعدل في الفراش فيه جانبان: الجانب الأول: مسألة أن ينام معها ويبيت، وهذا حق مُجْمَع عليه؛ لأن النصوص الشرعية دالة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدِل بينهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل) نسأل الله السلامة والعافية.
قيل: (شِقُّه مائل) أي: نصفه مشلول، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- في عرصات يوم القيامة.
وقيل: (شِقُّه مائل) أي: أن كفته -والعياذ بالله- تميل بالسيئات والأوزار والآثام.
وهذا يدل على عظم ظلم النساء، ويدل عليه حديث البخاري في الصحيح: (إني أَحَرِّج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم)، فجعل حق المرأة مع اليتيم، وهذا يدل على أن الإخلال به فيه وزر عظيم، ولذلك قال: (جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل)، فلابد أن يعدل في البيتوتة فيبيت عندها.
لكن لو أنه جامل، فقد تكون امرأة أجمل من أخرى، وقد تكون أكثر أدباً، وقد تكون أكثر إكراماً له، فتكون محبتها له أكثر من جهة القلب، فهذا لا ملامة فيه.
والقوة في الجماع والإتيان ليست مطلوبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، فهذا شيء لا يملكه الإنسان، فقد تكون المرأة من أجمل النساء ولكنها من أسوأ النساء لساناً، فتمقتها النفوس وتنفر منها الطباع، وقد تكون المرأة أقل جمالاً، ولكنها أكثر صلاحاً وأكثر أدباً وحشمةً، وأدرى بطريقة حفظها لزوجها ومحافظتها على وده ومحبته، فتكون أكثر حظوة.
ومن هنا يرجع الأمر إلى اجتهاد المرأة، فالمرأة الموفقة هي التي تعرف كيف تحرص على ود زوجها وإرضائه.
وعلى كل حال: المطلوب أن يبيت؛ لكن مسألة قوة الجماع وضعفه هذه مسألة لا يطالَب فيها بالعدل، فالمرأة التي هي أكثر حظوة ليست كغيرها، والأمر مرده إلى الإنسان في ذلك، حتى إنه لا يستطيع أن يملك نفسه.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، وقد استأذن زوجاته أن يُمَرَّض عند عائشة، ولما سُئل كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أي نسائك أحب إليك؟ قال: عائشة.
قيل: من الرجال؟ قال: أبوها).
فهذا يدل على أنه قد تقع المرأة في مكان الحظوة لكمال دينها واستقامتها وجمالها، وهذا أمر يختلف فيه النساء، وليس الزوج مسئولاً عن تحقيق العدل في مثل ذلك لتعذره وصعوبته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(313/23)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [1]
مما قد يعرض على المسلم في حياته مسألة الظهار، وهي مسألة يجهلها الكثير، فما حد الظهار في الكتاب والسنة وفي لغة العرب، وما هي شروطه وأركانه، وسبب مشروعيته، وحكمه في الكتاب والسنة، وما هي كفارته، وكل ذلك قد بينته هذه المادة.
(314/1)
________________________________________
أحكام الظهار
(314/2)
________________________________________
تعريف الظهار لغة واصطلاحاً وذكر أركانه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] الظِهار في لغة العرب وجمهور أئمة العلم رحمهم الله عليهم: مشتق من الظَهر، كما صرح به صاحب اللسان والإمام الأزهري وغيرهما من أئمة اللغة رحمة الله على الجميع.
والسبب في ذلك أن المظاهر يقول لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فنظراً لوجود هذا التشبيه بهذا الموضع قيل له: ظِهار، فهو فعِال من الظهر.
والظهر من الكاهل إلى العجز، والكاهل في لغة العرب يشمل الست الفقرات الأول من الأعلى من ظهر الإنسان، والعجز آخر الفقرات من جهة مؤخرة الإنسان.
وبعض العلماء قال: إن الظهار فعِال من الظهور، بمعنى الارتفاع والعلو، يقال: ظهر على الشيء إذا علاه، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي أن الله عز وجل لم يمكنهم من العلو على ذلك السد الذي جعله ذو القرنين.
وأما في اصطلاح الشرع فإن المراد بالظهار: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه على التأبيد.
فهو تشبيه الزوج زوجته ومنكوحته بامرأة تحرم عليه حرمة مؤبدة كأمه وأخته وعمته وخالته وبنت أخته وبنت أخيه، ونحوهن من النساء اللاتي يحرمن عليه حرمة مؤبدة في قول بعض العلماء.
وقال بعض العلماء: تشبيه المنكوحة بمن تحرم عليه.
ولم يفرق بين الحرمة المؤبدة والحرمة المؤقتة.
والفرق بين القولين أن أصحاب القول الأول يخصون الظهار بمن تحرم على التأبيد، فلو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أختك فلا يكون ظهاراً؛ لأنها ليست محرمة على التأبيد.
وعلى القول الثاني لو قال لها: أنتِ عليّ كأختك، أو: أنتِ عليّ كظهر أختك فإنه يقع الظهار.
فقولهم رحمهم الله: (تشبيه).
التشبيه: تفعيل من الشبه، يقال: هذا: يشبه هذا إذا كان مثلاً له، والتشبيه: هو الدلالة على أن أمرين أو شخصين أو شيئين اجتمعا واشتركا في أمر أو أمور، أو في شيء أو في أشياء.
فحينما يقول الإنسان: محمد كالأسد.
يكون هذا تشبيهاً، حيث شبه محمداً بالأسد، لكنه ليس من كل وجه، إنما مراده أن محمداً في الشجاعة والقوة كالأسد، أو يقول: محمدٌ كالبحر.
أي أنه كثير العلم ككثرة البحر، أو كثير الكرم والجود والعطاء كالبحر.
والمقصود أن التشبيه تمثيل، ولا بد في الظِهار من وجود التشبيه، وهذا التشبيه يستلزم أربعة أركان: مشبِّهٍ ومشبَّهٍ ومشبَّهٍ به وصيغة يقع بها التشبيه.
فالمشبِّه هو الزوج.
والمشبَّه هي الزوجة المنكوحة التي عقد عليها.
والمشبَّه به هي المرأة المحرمة حرمة مؤبدة أو حرمة مؤقتة، على التفصيل المعروف عند أهل العلم رحمهم الله.
والصيغة هي اللفظ الدال على الظهار والتحريم به، ويستوي أن يخاطبها أو يقول في غيبتها، فالمهم أن يقع التشبيه باللفظ، فلا بد من وجود الصيغة الدالة على الظهار والتحريم به.
فهذه أربعة أركان لا بد من وجودها.
أما المشبه -وهو الزوج- فيشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً، فلا يصح الظهار من الصبي، فلو أن صبياً عقد له أبوه على زوجة فقال الصبي: هذه الزوجة عليّ كظهر أمي.
فإنه لا يقع الظهار، والسبب في هذا أن لفظ الصبي غير معتد به شرعاً في المؤاخذات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة ... )، وذكر منهم الصبي حتى يحتلم.
كذلك المجنون فإنه لا يصح ظهاره بالإجماع، وفي حكم المجنون السكران ومن تعاطى المخدرات -والعياذ بالله- سواء أكان معذوراً أم غير معذور.
وقد تقدمت معنا هذه المسألة في طلاق السكران، وبينا مراتب السكر وأوجه السكر، وأقوال العلماء رحمهم الله في مؤاخذة السكران به في الطلاق، وفصلنا في ذلك، وأن الصحيح أن السكران كالمجنون لا يؤاخذ لا على طلاقه ولا على ظهاره إذا بلغ به السكر إلى درجة لا يتحكم فيها في قوله؛ لدلالة قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن كان لا يعلم ما يقول فإنه لا يؤاخذ به.
وكذلك ذكرنا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة.
ويشترط أن يكون مختاراً بحيث لا يهدد ولا يكره، فلو كان مكرهاً فإن الإكراه يسقط المؤاخذة بالألفاظ، ولذلك المرتد إذا أكره على لفظ الردة فإنه لا يؤاخذ إذا كان مطمئن القلب بالإيمان كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فدل على أن المكره ساقط القول؛ لأن الله أسقط عنه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونها.
فمعنى ذلك أنه لا بد وأن يكون الزوج المظاهر بالغاً عاقلاً مختاراً.
ولا تشترط فيه حرية، فالرقيق والحر في هذا على حد سواء، فيؤاخذ ويلزمه ما يلزم الحر.
وأما المشبَه -وهي الزوجة- فيقول لها: أنتِ.
أو: زوجتي فلانة، أو: نسائي، أو: امرأتي، ونحو ذلك مما يدل على المنكوحة، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخولٍ بها.
فكل زوجة عقد عليها الإنسان فإنه يصح ظهاره منها إذا كان العقد صحيحاً، ولا يشترط دخوله بها، فلو عقد عليها الساعة ثم قال مباشرة: هي عليّ كظهر أمي.
أو: زوجتي عليّ كظهر أمي وقع الظهار، ولا يشترط الدخول، فهذا بالنسبة للمنكوحة حقيقة.
وأما من في حكم المنكوحة والزوجة فهي المطلقة طلاقاً رجعياً، فلو أن امرأة طلقها طلاقاً رجعياً فقال: هي عليّ كظهر أمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: فلانة مني كظهر أمي ونحو ذلك وقع الظهار.
ويستوي أن يشبه المرأة كلها أو بعضها، فيقول: أنتِ، أو: بدنك، أو: ذاتك، أو: جسمك، أو: كلك، أو يذكر عضواً من الأعضاء المتصلة، على تفصيل سنذكره إن شاء الله.
وأما المشبه به -وهي كما ذكرنا المرأة المحرمة عليه، ومن أهل العلم من يقول: حرمة مؤبدة- فيختص بثلاثة أنواع: الأول: المحرمات من جهة النسب.
الثاني: المحرمات من جهة المصاهرة.
الثالث: المحرمات من جهة الرضاع.
وقد فصلنا هذه الثلاث المحرمات، وبينّا أدلة الكتاب والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله على التحريم بهن على التفصيل في مسائل النكاح.
فأي واحدة يختارها من المحرمات على التأبيد من جهة النسب السبع يقع بها الظهار، كما لو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي، أو: بنتي، أو: أختي، أو: بنت أخي، أو: بنت أختي، أو: عمتي، أو: خالتي، فهؤلاء كلهن من المحرمات حرمة مؤبدة.
وكذلك المحرمات من جهة المصاهرة، كما لو قال لها: أنتِ عليّ، أو أنتِ مني كأمك، أو: أنتِ عليّ كظهر أمك.
فإن أم الزوجة محرمة حرمة مؤبدة بالشرط المذكور في القرآن، فلو خاطبها بذكر أمها أو ذكر بنتها فقال لها: أنتِ عليّ كبنتك فإن هذا أيضاً يدخل في المحرمات؛ لأنها محرمة من جهة سبب المصاهرة.
كذلك أيضاً أن يقول لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كفلانة التي هي زوجة أبي؛ لأنها محرمة إلى الأبد لقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]، أو يذكر زوجة ابنه فيقول: أنتِ عليّ كزوجة ابني، أو: أنتِ عليّ كفلانة ويقصد زوجة ابن من أبنائه وإن نزل، فهذا كله يشمله الظهار، وفي الرضاع مثل النسب.
والتشبيه هنا قد يقع صريحاً أو كناية، فيسأل عن قصده، فالصريح أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
والكناية أن يأتي بلفظ محتمل لقصد الظهار وعدمه.
وعند بعض العلماء إذا قال لها: (أنتِ كأمي) ولم يذكر الظهر أنهذا اللفظ محتمل؛ لأنه يحتمل: أنتِ كأمي محرمة.
أو: أنتِ كأمي مكرمة.
فيريد أن يكرمها ويجلها فيقول لها: أنتِ كأمي، أو ما أنتِ مني إلا كأمي؛ تكريماً لها وإجلالاً.
أو يذكر جزء المحرمة، فيقول: أنتِ كعين أمي، أو: كرأس أمي، أو: كصدر أمي، فهذه المواضع -العين والصدر والرأس- مما يحتمل التكريم ويحتمل الظهار، فإذا تلفظ بلفظ الظهار وقع الظهار، فإما أن تكون صيغته صريحة، وإما أن تكون صيغته كناية متضمنة الدلالة على الظهار، فإن كان شيئاً صريحاً أخذنا به وحكمنا به ظهاراً، وإن كان شيئاً محتملاً سألناه عن قصده؛ لأن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، والصريح لا ينزل غيره منزلته إلا إذا كان محتملاً.
(314/3)
________________________________________
سبب نزول آيات الظهار
الظهار كان في الجاهلية، وجاء الإسلام فبيّن حكمه وما يترتب على التلفظ به، وكان أهل الجاهلية إذا تلفظوا بالظهار يعتبرونه طلاقاً، وصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك رواية مرفوعة -ذكرها الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله- أن خولة رضي الله عنها لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه واشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله طلاقاً.
فمذهب بعض العلماء أنه كان في الجاهلية طلاقاً، وحكى الإمام الشافعي رحمه الله عن بعض أئمة السلف وأهل العلم أنهم كانوا يقولون: كان الطلاق في الجاهلية بثلاثة أشياء: بالطلاق المعروف، وبالظهار، وبالإيلاء، فكانت العرب إذا تلفظت بالطلاق أو بالظهار أو بالإيلاء عدت ذلك كله طلاقاً، فجاء الإسلام وهذب الأحكام، فجعل الطلاق طلاقاً، وجعل الظهار موجباً للكفارة، وجعل الإيلاء على التفصيل الذي تقدم معنا.
واختلف العلماء في ظهار أهل الجاهلية، فقال بعضهم: كانوا في الجاهلية إذا تلفظ أحدهم بالظهار يعتبرونه طلاقاً محرماً للمرأة إلى الأبد، فكان من عظيم الظلم للنساء، فتبقى المرأة لا هي زوجة ولا هي مطلقة تبين منه حتى ينكحها غيره من الناس، فتصبح معلقة محرومة من الأزواج ومحرومة من زوجها، محرومة من زوجها بالظهار، ومحرومة من الأزواج بالطلاق المؤبد فتحرم على غيره حرمة مؤبدة.
وقال بعض العلماء: إنها حرمة مثل حرمة الطلاق.
وعلى كل حال كان هذا اللفظ موجوداً في الجاهلية، وشاء الله عز وجل أن وقع الظهار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في حادثة مشهورة هي حادثة أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الرجل كان من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد شهد جميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أهل بدر الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وكان من أهل بيعة الشجرة الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) وهو صحابي له مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه.
وقد عمِّر حتى توفي رضي الله عنه في خلافة عثمان في أواخر خلافته رضي الله عنه وأرضاه، وتوفي بالشام ببيت المقدس بالرملة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه.
فهذا الصحابي الجليل كان به ضعف وكانت فيه شدة، وفي يوم من الأيام راجعته زوجته في أمر من الأمور فحصل الغضب منه فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فظاهر منها، فخرج إلى أصحابه وجلس في النادي مع قومه، ثم رجع، فلما رجع إليها أراد منها ما يريد الرجل من امرأته -أي: أن يستمتع بها- فمنعته، وامتنعت من أن تمكنه من نفسها.
وكانت حاله وحالها على فقر رضي الله عنهما وأرضاهما، فانطلقت إلى بعض جيرانها وأخذت ثوباً منهم، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منكسرة القلب حزينة مما أصابها من قول زوجها -وكان ابن عم لها- فذكرت شكواها، وبينت أنها أمضت حياتها وعاشرته على أحسن ما تكون العشرة، فنثرت له ما في بطنها، ومكنته من نفسها حتى رق عظمها وشاب رأسها، فظاهر منها رضي الله عنه، فاشتكت إلى الله عز وجل.
قال بعض العلماء: حصلت المجادلة بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها، ثم نزل الوحي.
وقيل: إن المجادلة أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل بينه وبينها بعض المراجعة.
وثبت في الحديث الصحيح من رواية أحمد في المسند أنها ما انتهت من كلامها إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في هذه الحادثة العظيمة تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، إني والله لفي طرف البيت ما بيني وبينها إلا ستر رقيق يخفى عليّ بعض كلامها وسمعها الله من فوق سبع سموات.
سبحانه وتعالى.
ولذلك قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة:1] و (قد) تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون شك فيه ولا مرية، ولا يؤتى بها إلا في الأمر الثابت الذي لا إشكال فيه.
وأتى بلفظ الجلالة الظاهر، وما قال: قد سمعت بل قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
يقول بعض العلماء: من بديع دلالات القرآن أن ينفي الأشياء المحتملة التي ليست بحقيقة؛ لأنه لما قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] قد يظن ظان أنه سمع قولها ولم يسمع قول غيرها، فقال الله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، فأثبت لنفسه هذه الصفة التي تليق بجلاله وكماله، فوالله ما وقعت حبة في ظلمة إلا علمها الله، وما من نملة ولا أصغر من ذلك على صفحة حجر أملس في ليلة ظلماء إلا سمع الله صوتها وعلم مكانها وأجرى رزقها، لا يعجزه شيء جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره.
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] فيه دليل على أن الشكوى إلى الله أمرها عظيم؛ لأن هذه المرأة قالت: إلى الله أشكو أوساً، وإلى الله أشكو أمري، فذكرت أنها تشتكي إلى الله جل وعلا، والله إليه منتهى كل شكوى.
وفي هذا دليل على أن من اشتكى إلى الله فقد جعل أمره عند من تنتهي إليه الشكوى سبحانه وتعالى، وهو سامع كل شكوى، لذلك كان يقول الأئمة: إلى الله المشتكى، أي أنه هو نهاية كل شكوى سبحانه.
(314/4)
________________________________________
تأملات في آيات الظهار
يقول تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2].
آيات عظيمة ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها قبل بيان الحكم في حقيقة الشيء الذي يتكلم عنه، وانظر إلى جمال أسلوب القرآن وجلاله وكماله، وصدق الله إذ يقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فأول ما جاءت الآيات جاءت بحكاية الحال، وحكاية الحال تورث الشغف، وتورث المحبة والتلهف لمعرفة الحكم.
ولذلك يستحب العلماء عند إعطاء الأحكام التمهيد لها؛ لأن ذلك يورث الإنسان المحبة، ويورث السامع الشوق لمعرفة الأحكام، فذلك أتم وأكمل في شرع الله عز وجل.
ولذلك ما جاء الحكم مباشرة، وإنما جاء بحكاية القصة، وأنت تجد في القرآن كل شيء حتى مبادئ كتابة الرسائل كقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31].
وقد ذكر بعض العلماء أن الأئمة وأهل العلم في فنون الرسائل استنبطوا كثيراً من علوم الرسائل من القرآن، ومن ذلك القصة، فإن أهم شيء في القصة هو ما يكون فيها من المعاناة، فكون القرآن يأتي بمعاناة الظهار قبل بيان حكمها وبيان ما حدث ووقع، حتى إنك حينما تسمع صدر الآية تحس بمعاناة قريبة من معاناة تلك المرأة وتحس أنه أمر عظيم، ثم تكون التهيئة لقبول الحكم.
وفيه دليل على عظم أمر الظهار وخطورته وشدة حرمته؛ لأن الله مهد له بهذه الأشياء التي تنفر وتقبح، وتجعل النفوس لا تستسيغه ولا تقبله، فلما جاء الحكم قال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2]، فأول ما كان أن بين الله منزلة هذا القول أنه ظلم وزور وكذب وجور فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2].
وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول لغيره من الرجال والنساء وصفاً في الأبوة والأمومة إلا إذا كان حقيقياً.
ومن هنا كره بعض العلماء أن يقول الرجل لغيره: (يا أبتي).
واختلفوا في قول الرجل لغيره: (يا والد)؛ لأنها تحتمل أن تكون وصفاً له، فكل شخص له أولاد فهو والد، فهو يقول له: (يا والد) من باب التكريم، قالوا: لا بأس بها ولا حرج، ولكن يشدد فيه بعض العلماء؛ لقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] وآباؤهم ما هم إلا الذين ولدوهم.
فقالوا: من هنا يمتنع أن يقول الإنسان هذه المقالة تشريفاً وتكريماً للوالدين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينزل منزلة الوالدين.
ومن هنا حرم بعض العلماء كلمة: (فداك أبي وأمي) أن تقال إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم رخص فيها لأئمة العلم، وكل هذا من باب تعظيم الشرع لوصف الأبوة والأمومة، وإن كان الحكم عاماً.
فقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] أي: ما أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم.
فهو أسلوب حصر وقصر، وهذا يدل على أن الظهار قول خرج عن الأصل، فقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2]، وفيه تأكيد، وصيغة التأكيد (إِنَّهُمْ) واللام في (لَيَقُولُونَ) والقول معناه أنه صدر من إنسان تلفظ به، فجمع الله بين كونه منكراً وزوراً، وفيه فوائد: الفائدة الأولى: كونه منكراً من جهة الإنشاء، وكونه زوراً من جهة الخبر؛ لأن قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي يشتمل على أمرين: تحريم ما أحل الله، والإخبار بأنها كالأم.
فالأول من جهة الإنشاء؛ حيث إن الله عز وجل ما جعل الزوجة أماً، وإنما جعل الزوجة حلالاً محللة مباحة، فهو نقلها من الحل إلى الحرمة، ووقع في المنكر؛ لأنه لا يتفق مع شرع الله عز وجل، وزور لأنه من جهة الخبر قال لها: أنتِ كأمي، أو: كأختي، أو: كبنتي، فهي ليست أماً له وليست بنتاً له حقيقة، فكان كذباً في الخبر ومنكراً في الإنشاء، فجمع الله بين الوصفين {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2].
الفائدة الثانية: أخذ العلماء من هذه الآية تحريم هذا القول وهو محل إجماع.
الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: مظاهرة الرجل لامرأته كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك وصف الله أنه منكر وزور، وترتيب العقوبة الشديدة التي جعلها الله في قتل الأنفس، وجعلها في جماع نهار رمضان، ولم يجعلها إلا في الكبائر، فقالوا: هذا يدل على أن الظهار كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم انظر إلى سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2] ولطفه بعباده وحلمه على خلقه، كيف وهو الودود الرحيم سبحانه وتعالى، والجواد الكريم الذي لن تنفعه طاعة الطائعين ولن تضره معصية العاصين.
وانظر إلى التأكيد، فما قال: إن الله عفو، بل قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، وهذا يدل على سعة رحمته سبحانه وتعالى.
ثم بيّن الحكم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
فأوجب الله سبحانه وتعالى الكفارة، وبيّن ما يترتب على الظهار -وهذا ما سنفصله إن شاء الله- من وجوب عتق الرقبة، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم فإنه يطعم ستين مسكيناً.
ولما نزلت الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأمره بعتق الرقبة، فقالت: لا يجد يا رسول الله، ولا يملك إلا نفسه.
فأمرها أن تأمره أن يصوم شهرين فأخبرته أنه شيخ ضعيف لا يستطيع الصوم ولا يطيقه، فأمرها أن تأمره بإطعام ستين مسكيناً فقالت: من أين له أن يجد ذلك؟ ثم قالت: يا رسول الله إن عندي عرقاً من تمر -والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، أي: فيه ما يقارب سبعة آصع ونصف- فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا أعينه بعرق آخر، واستوصي بابن عمك خيراً).
فقد كان من خيار الصحابة، فكانت الكلمة الأخيرة أن جزاها خيراً بمعونتها له على الكفارة ثم قال لها: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فدل على كرم خلقه صلى الله عليه وسلم ووصيته بالأزواج.
وكذلك وصيته للزوجات بالصبر، وأن المرأة تحتسب عند الله سبحانه وتعالى الثواب، وأن الله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، ولا يضيع لمن أحسن أجره، فقال عليه الصلاة والسلام هذه الوصية، وهي وصية لكل امرأة صالحة ترجو لقاء الله عز وجل ابتليت بزوج أساء إليها أن تحتمل هذه الإساءة، وأن تستوصي به خيراً؛ لأن الزوج حينما يكون من القرابة حقه عظيم، والزوجة حينما تكون من القرابة حقها عظيم، فلذلك قال: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فهي وصية لكل زوج وكل زوجة قريبة أن يتقيا الله عز وجل في القرابة وفي الرحم.
وقد أجمع العلماء على حرمة الظهار كما ذكرنا، وأنه من كبائر الذنوب في قول طائفة من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك.
فقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالظهار، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله أن كتاب الطلاق وكتاب الإيلاء وكتاب الظهار بينهما اشتراك من جهة التحريم، فالطلاق فيه تحريم للزوجة على مراتبه المعروفة، والإيلاء نوع تحريم؛ لأنه مؤقت بزمان، والظهار نوع من التحريم؛ لأنه يصف المرأة بأنها كالمحرمة، فناسب بعد انتهائه من بيان حكم الإيلاء أن يذكر حكم الظهار.
ومن دقة المصنف -وهذا منهج العلماء- أن قدم كتاب الإيلاء على كتاب الظهار؛ لأن كتاب الإيلاء ألصق بالطلاق من الظهار؛ فإن الظهار ليس بالطلاق، لكنهم قالوا: لما كان في الجاهلية طلاقاً وفيه شبه بالإيلاء من جهة التحريم ناسب أن يذكر بعده.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(314/5)
________________________________________
الأسئلة
(314/6)
________________________________________
حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح
السؤال
ما حكم الدخول بالمرأة التي عقد عليها قبل إعلان النكاح؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: من حيث الحكم الشرعي المرأة حلال للزوج إذا عقد عليها عقداً شرعياً صحيحاً، لكن هناك أمور مرتبطة بالعرف لا نحرم بها ما أحل الله ولا نحلل بها ما حرم الله، ولكن نقول: أمور تترتب عليها أضرار ومخاطر ينبغي المحافظة عليها والتحفظ فيها.
فالزوجة إذا اتفقت مع زوجها على أن يدخل بها دون علم أهلها ربما دخل عليها بصفة سرية، أو كان يختلي بها في بيتها، فإذا توفي هذا الزوج، وكان قد جامعها أو أصابها وهي بكر فمن الذي يصدق أن الزوج أتاها؟ ومن الذي يثبت أنه قد دخل بها؟ فهذه أمور خطيرة جداً ينبغي أن يتريث فيها.
ولو أن امرأة عقد عليها الزوج، وحصل بينها وبين زوجها جماع قبل الدخول العلني، وشاء الله أن تحدث مشاكل بين الأسرتين فقالوا: لا يدخل عليها ولا يأتيها.
وخاف الزوج أن يخبر أباه بهذا الأمر، أو حدثت أمور خطيرة بين أهل الزوجين.
فما استطاع أن يبين الحقيقة، ثم ظهرت المرأة حاملاً، فمن الذي ينفي عنها التهمة؟ ومن الذي يثبت أن هذا نسب صحيح؟ فهذه أمور فيها مخاطرة، وأمور مضرة ينبغي التريث فيها من ناحية شرعية وعرفية وأدبية، فقد يكون الشيء مباحاً للإنسان لكنه أدباً وأخلاقاً غير مباح.
فهناك أمور ينبغي الحياء فيها ومراعاة الذمة، فأبو المرأة له حق عندي أني لا أدخل على بنته حتى يأذن لي، والله يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، فهذا طعن في حق الوالد وحق الوالدة؛ لأنه جرى العرف أنه لا بد من استئذان أهل الزوجة بالدخول.
فتواطؤ الزوجين وخروج الزوجة مع زوجها، وغير ذلك من الأمور التي فيها نوع من التوسع بين أهل الزوجين ينبغي قفل بابها، خاصة عند فساد الزمان، وخاصة إذا وجد من الشباب والأحداث من لا يبالي بحدود الله عز وجل، ولا يبالي بإنكار ما كان منه من إتيان زوجته وحملها منه.
إن حصل بينهما شيء واتهمت بسببه.
بل قد حدثت حوادث كان الرجل فيها يستخدم هذه الطريقة للإضرار بالزوجة، فتكون بكراً فيعبث بها ويستغلها، فيفتض بكارتها ثم يهددها بما شاء، فليس هناك دليل يثبت دخوله بها، فهذه أمور خطيرة ليست من الحكمة ولا من العقل.
وهنا أنبه على أنه ينبغي على الزوج أن يكون متفهماً لوضع أهل الزوجة، فالوالد والوالدة حينما يحرصان على المحافظة على البنت ومراقبة الزوج عند دخوله بطريقة معقولة فهذا أمر ليس فيه غضاضة وليس فيه منع؛ لأنه يخشى من أمور لا تحمد عقباها.
فعلى كل حال لا بد وأن توضع الأمور في نصابها، وأن يتقي الله كلا الزوجين وأهل الزوجين، فإذا كان الدخول على وجه تضمن فيه الحقوق وتصان، ولا يحدث منه ضرر فهذا مما أذن الله عز وجل به، فالزوجة حلال لزوجها، لكن إذا كان التساهل في مثل هذه الأمور يترتب عليه أضرار على أهل الزوجة والزوجة فالأصل منع ذلك.
ومن الحوادث التي وقعت أن امرأة كانت أكبر أخواتها، وشاء الله عز وجل أن ترتبط بزوج، وكان -نسأل الله السلامة والعافية- فيه استهتار.
فدخل بها وحصل الجماع وافتضها وهي بكر، ثم بعد ذلك حصلت مشاكل بين أهله وأهلها، واستحيا أن يخبر أباه، وحنق في نفسه على أمها، وجعل الانتقام من الأم عن طريق البنت، وتوسلت البنت إليه ورجته وسألته، وما استطاعت أن تكشف الأمر لأهلها إلا بعد أن ظهر الحمل بها.
ولما ظهر الحمل بها اتهمها أهلها بالفاحشة، فقالت: إنه ولده! فقال: أنتِ ما تكلمت من قبل! قالت: ما كنت أعلم أن هناك حملاً.
واتهمت البنت، واتهمت في أهلها حتى إن أخواتها أُسيء إليهن ولم يزوجن من بعدها، وحصل للبيت وللأسرة ما حصل، وبعد مرور سبع سنوات جاء ذلك الزوج المستهتر يسأل نادماً عن حكم ما فعله.
فالشاهد أن هذه أمور لا يتساهل فيها، خاصة في هذا الزمان.
ولا بأس أن يأتي الرجل بأدب فيجلس مع زوجته ويسلم عليها، وأنبه على أنه لا تنبغي المبالغة في مثل هذه الأمور، خاصة أن بعض الأزواج والزوجات يبالغون في إطالة الجلوس والكلام والحديث، وهذه أمور ينبغي أن ترتبط بالآداب وبالأخلاق وبالحياء وبالخجل.
فالإنسان إذا أتى يسلم على زوجه، ويجلس معها، ويباسطها في وقت يستطيع أن يتحكم فيه، كقبل الصلاة بوقت، حيث يستطيع أن يجد له عذراً، أما أن يأتي ويجلس من بعد العشاء إلى ساعات فلا، حتى إن بعضهم شكى لي أن الزوج العاقد يجلس معها إلى بزوغ الفجر، فهذه أمور لا تنبغي، وقد يحصل منها تضايق أهل الزوجة وإخوانها وقرابتها.
فهذه أمور ينبغي أن يتحفظ فيها، خاصة الأزواج، فإنهم ينبهون على أن الزوجة ولو كانت حلالاً، إلا أن هناك أموراً مرتبطة بالعرف، وهناك أموراً أدبية جاءت بها مكارم الأخلاق التي تدعو إليها الشريعة وتحبذ فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وإن بعض الأزواج ليستحي أن يجلس مع والد زوجته في بعض المجالس؛ حتى لا يُحرج في بعض الكلام أو بعض الحديث.
وكذلك تجد بعضهم يذوب خجلاً ولا يستطيع أن يأتي يقابل أخاها أو قريبها، ولا شك أن الأمر بين الإفراط والتفريط، فلا يمتنع الإنسان كلية ولا يبالغ، فالوسط والعدل هو المأمور به شرعاً، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل.
والله تعالى أعلم.
(314/7)
________________________________________
حكم مظاهرة الرجل لامرأته ومملوكته
السؤال
ظهار الرجل من أمته ومملوكته هل يأخذ حكم ظهار الحرة؟
الجواب
الأمة لا ظهار منها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3]، ويقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فجعل محل الظهار النساء، والأمة ليست من النساء، فيقال: (نساء الرجل) لزوجاته، ولا يقال: (نساء الرجل) لإمائه، فالأمة لا توصف بكونها من النساء، إنما النساء في هذا الوصف للزوجات.
وعلى كل حال فالإجماع منعقد على أن الأمة لا يظاهر منها، وهناك خلاف بين العلماء في أم الولد؛ لأنها شبيهة بالحرة وفيها شبه بالأمة، ولكن الأصل يقتضي أنها كالأمة ولا يقع الظهار عليها.
والله تعالى أعلم.
(314/8)
________________________________________
حكم تقييد السلام على القبور بالدخول عليها فقط دون المرور بها
السؤال
هل السلام على أهل القبور مقيد بزيارة، أم يكون ولو بالمرور بجوارها بالسيارة ونحوها؟
الجواب
السلام على الأموات جائز حتى ولو لم تمر بالقبر، فأنت تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وما مررت بقبره.
والسلام دعاء بالسلامة، لكن كونك تذهب إلى القبر وتقف على القبر فهذا أكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الزيادة في القربة، ولما فيه من الاتعاظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها).
أما لو مر بالمقبرة فالذي أعرفه من كلام العلماء والأئمة -وهذه دواوين العلماء كلها موجودة- أن من مر بالمقابر يسلم عليها، ولا يوجد أحد من العلماء يفرق بين أن تدخل المقبرة وبين أن تمر بها، بل المقابر القديمة ما كانت مبينة، وما كان عليها حيطان، بل كان الإنسان يمر عليها مروراً.
فهذا أمر واضح جداً في كتب العلماء، وتجد في كثير منها: ويستحب لمن زار القبر أو مر به أن يقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين).
لأن المراد به الترحم والدعاء للأموات، وهذا مما رحم الله عز وجل به عباده، فجعل للأموات نصيباً عند الأحياء أن يذكروهم من بعد موتهم، وهذا من فضل الأخوة في الإسلام ومن بركاتها، وما أكثر بركات الدين وأعظمها، فإن أخوة الدنيا تنتهي بانتهاء الدنيا، ولكن أخوة الدين لا تنتهي أبداً حتى في الجنة، كما قال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، فهي الأخوة التامة الدائمة؛ لأنها مستمدة من كمال الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، والمبني على الكمال كمال.
فهي الأخوة الكاملة الباقية، فإذا مات قريب الإنسان، أو من يعرفه، أو من لا يعرفه من عموم المسلمين، فمر على مقابرهم وسلم عليهم وترحم عليهم وسأل الله لهم العافية فهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدين دين رحمة.
ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، والرحمة كما تكون للأحياء تكون للأموات؛ فإنك إن وقفت على القبر وترحمت على صاحبه قد لا تستطيع أن تدرك مقدار الخير الذي أسديته لهذا الميت من إخوانك المسلمين، فلا يعلم ذلك إلا الله وحده لا شريك له علام الغيوب.
وقد تقف على معذب وتسترحم له فيرحمه ربه، وقد تقف على من ضيق عليه قبره فيوسع عليه بدعائك له بالرحمة، وقد تقف على مذنب يعذب بذنب فتسأل الله له المغفرة فيقبل الله شفاعتك فيشفعك فيه، والمسلم لا يذكر الأموات إلا ويسأل الله لهم الرحمة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل المظلم ليزور أهل القبور، كما في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة قالت: (افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، فقام في آخر الليل فتبعته، حتى أتى بقيع الغرقد ووقف ملياً ... ) الحديث، أي: وقف وقوفاً طويلاً ورفع كفيه يدعو كما في الرواية الصحيحة.
ولذلك فرق العلماء بين الدعاء للميت بعد دفنه وزيارة القبور، فعند زيارتها يشرع أن يرفع كفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع كفيه، ولكن بعد دفنه مباشرة ما ثبت عنه، بل قال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت) ولم يرفع.
فالشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جوف الليل المظلم، ووقف على القبور وترحم على أهلها ودعا لهم، وفي الحديث الصحيح في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد -أي: تنظفه- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بشأنها قال: (هلا آذنتموني!) ثم انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها فصلى ودعا لها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم).
فأهل القبور يحتاجون من إخوانهم المسلمين أن يذكروهم بخير وأن يدعوا لهم، خاصة الأقرباء والوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات، والمسلم إذا دخل المقبرة وفيها قريب له فلا بأس أن يقف على قبره ويستغفر له ويترحم عليه ويسأل الله له العافية.
وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله يميل إلى تحسينه وثبوته والعمل به- أنه إذا زار الميت يأتيه من قبل وجهه.
وهذا يدل على أنه إذا كان له فيها قريب فالأفضل والأكمل أن ينزل وأن يسلم عليه، وأن يقف على نفس قبره، وأن يدعو له وأن يترحم عليه؛ لأن هذا فيه خير كثير للميت، وفيه خير كثير للحي؛ لأن الحي يكتب له الأجر، وحسنة المؤمن على أخيه المؤمن مكتوبة وثوابها مرفوع عند الله سبحانه وتعالى، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله عز وجل.
وقد كانت الأمة في سالف زمانها مرحومة، فتجد الأحياء لا ينسون الأموات من صالح دعواتهم، ولا يذكرونهم إلا بخير ويترحمون عليهم، ولا يمر على الولد يوم إلا وقد ذكر والديه بدعوة وسؤال ورحمة، فالذي ينبغي أن المؤمن لا ينسى إخوانه المسلمين.
ومن العبر التي يحكيها العلماء كما ذكر أبو نعيم في الحلية بسنده أن مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي الجليل رحمه الله برحمته الواسعة كان ينزل البصرة ويصلي فيها الجمعة، وكانت له ضيعة -بستان خارج البصرة-، فإذا جاء يوم الجمعة ينزل ليلة الجمعة ويصلي ثم يرجع إلى ضيعته، وكان إذا دخل البصرة يمر بالمقبرة على طريقة، فكان يقف ويترحم على أهلها، ثم يمضي إلى منزله، ثم يصلي ويخرج.
فشاء الله أنه في جمعة من الجمع كانت ليلة مطيرة ولم يقف المطر فنام رحمه الله، فرأى كأن أمماً كثيرة تأتيه وتقول: إن الله يفرج عنا من الجمعة إلى الجمعة بدعائك.
وهذا أمر له أصل في الكتاب والسنة، فالمسلم إذا شفع لأخيه المسلم وترحم عليه فالله ينفعه بذلك؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10].
فهذا يدل على أن من السنة ومن الهدي أن يذكر المسلم إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، وأن يترحم عليهم، فينبغي على المسلم ألا ينسى إخوانه المسلمين، فلا نزهد في الدعاء للأموات.
أما أن نمنعه أن يدعو ويترحم على إخوانه المسلمين وهو مار على القبور إلا أن ينزل فلا دليل على ذلك، والنصوص كلها مطبقة على الترحم على المسلمين والدعاء لهم وسؤال الله عز وجل لهم الرحمة، ولا فرق بين كونه راكباً وماشياً.
فإذا كان لا بد أن ينزل فلا يقال: يدخل المقبرة، أو: يقف على بابها.
ثم إذا وقف في المقبرة يقف في أولها، أو وسطها، أو آخرها، ولا يشدد في هذه المسائل.
فلو كان الأمر متعيناً لفصله الشرع ولبينه، والفقه أن تعلم مقصود الشرع، ونحن عندنا في فتاوى السلف والأئمة رحمهم الله أنه لا فرق بين من مر ومن وقف، وأنه يشرع الدعاء للأموات وأن تقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ولهذا تدرك أن حرمة المسلم حياً كحرمته ميتاً.
فالقول بأنه لو مررت على أخيك المسلم فلا يجوز لك أن تسلم عليه إلا إذا نزلت، لا يصح، وما أحد قال هذا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في سنن ابن ماجة -وصححه غير واحد-: (كسر عظم المؤمن ميتاً ككسره حياً)، أي: في الإثم، فجعل الحرمة للحي والميت -كما يقول العلماء- واحدة.
فإذا ثبت أن هذا الحي إذا مررت عليه تسلم عليه سواء أصافحته ونزلت، أم مررت مروراً كما جاء في حديث أنس: (أن النبي لما مر على النسوة أشار إليهن بكفه وسلم).
فهذا يدل على أنه لا بأس، ولا فرق بين المار والنازل، ولا شك أن النزول والاتعاظ والرؤية أعظم أثراً وأكثر فائدة؛ لأن كونه ينزل ويقف على القبر ويترحم على أموات المسلمين أعظم؛ لأنه زيارة، والزيارة أعظم أجراً لأنها مأمور بها في قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها).
فالأفضل والأعظم أجراً والأكثر عظة أن الإنسان إذا وقف على قبر الميت وكان عنده قلب حي أن تزداد حياة قلبه بهذه العظة، فوالله إنه لمن غرائب ما يقع أنني أدخل في بعض الأحيان بقيع الغرقد، وأعرف قبور بعض الناس الذين لهم عمائر وبنايات بجوار البقيع فأنظر إلى قصره وأنظر إلى قبره وأتعظ عظة عظيمة.
وروي أن هارون الرشيد رحمه الله مر على رجل كان حكيماً فقال له: عظني.
قال: يا أمير المؤمنين! بماذا أعظك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم.
أي: بماذا أعظك! إن جئت وجدت الشخص يشيد دنياه ويعمرها ثم فجأة يخرج منها.
فالقبر فيه عظة عظيمة ويكسر القلب، ويورث الخشوع، ويذهب الكبر والقسوة والغفلة، والمتأمل في القبور وهذه الدور المتقاربة يجد بينها كما بين السماء والأرض، فكم من قبر بجوار قبر بينه وبين أخيه ومن بجواره كما بين السماء والأرض.
فقبور تجدها في ظلمة مظلمة وكهوف معتمة، لكنها ملئت على أهلها أنواراً من الله جل وعلا، وقبور تمر عليها حولها الناس يسرحون ويمرحون وحولها الضياء والفرح والسرور قد ملئت على أهلها جحيماً وسعيراً.
فلا يعلم ما في القبور إلا الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب أن العبد الصالح إذا سئل وفتن في قبره، فسلمه الله من فتنته، وثبت الله قوله، وسدد كلامه فسح له في قبره مد البصر.
سبحان الله فالقبور قد تكون كلها قبور صالحين، وكل يمد له مد البصر بأمر الله جل وعلا، وبقدرة الله جل وعلا، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، لا يعجزه سبحانه وتعالى شيء، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا في قبورنا، وأن يلطف بنا إنه ولينا.
والله تعالى أعلم.
(314/9)
________________________________________
الفرق بين قول الشيخ: (في رواية) وقوله: (في لفظ)
السؤال
يقال عن الحديث أحياناً: (في رواية)، وتارة (في لفظ)، فهل هناك فرق بين الاصطلاحين؟
الجواب
اللفظ يكون مع اتحاد الرواية، كما يخرج البخاري -مثلاً- حديثاً بلفظين مع اتحاد الرواية، ويختلف في اللفظ الرواة، وأما الرواية فتكون عن صحابي آخر كرواية عن أبي هريرة وجابر، فهذه رواية أبي هريرة، وهذه رواية جابر.
وقد تقول -مثلاً-: متفق عليه، ولـ مسلم.
أي: قد ينفرد مسلم بلفظ ولم يتفقا عليه، فهذه كلها مصطلحات يقصد منها بيان أنواع الرواية، وأنواع التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم.
(314/10)
________________________________________
إذا رضعت البنت من جدتها أم أبيها
السؤال
رجل له ابنة، فأرضعت أمه هذه البنت، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
هذه البنت صارت أختاً له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، فتصير أختاً له من الرضاعة إذا أرضعتها أمه، وإذا أرضعتها جدته أم أبيه تصبح عمة له من الرضاعة وبنتاً له من النسب، وهذا من الأمور الغريبة التي كثيراً ما تقع في مسألة صغار السن وكبار السن، ففي بعض الأسر تعمر الجدة حتى ترضع بنات أبنائها، أو أبناء أبنائها ونحو ذلك، وفي هذه الحالة يرتفع الرضيع إلى درجة فوق الدرجة التي هو فيها.
وبعض الأحيان العكس، فقد يرضع من بنت بنت ويكون -مثلاً- عماً، فينزل إلى درجة من جهة الرضاعة إلى أسفل، أي: في النسبة، فيقول لأخيه: يا عمي.
ويعتبر أخاه عماً له من جهة الرضاعة، ويكون أخاً له من جهة النسب.
وكذلك لو أن أخاه أرضعته بنت بنت أخت، فحينئذٍ ينزل من مستواه الأصلي، ويصير خالاً لهم، ويصير خالاً لأمه في بعض الأحيان.
فالرضاعة لها أحوال عجيبة جداً من جهة رفع الإنسان ومن جهة وضعه، حتى كانوا يذكرون هذا في طرائف العرب القديمة، فالرجل يكون معه ابنه فيقول لأبيه من باب المداعبة: اسكت فإني عمك.
وهذا قد يكون في بعض الأحيان من العقوق؛ لأنهم يمنعون من هذه الألفاظ خاصة مع الوالدين، فمن الطرائف التي تحدث أنه انتقل بالرضاعة إلى درجة يصل فيها فوق الوالد وفوق والدته.
وعلى كل حال هذا أمر شرعه الله عز وجل، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).
والله تعالى أعلم.
(314/11)
________________________________________
حكم دفع المبلغ المتفق عليه لمن اشترى أرضاً نسيئة ثم ارتفع ثمنها
السؤال
مجموعة من الإخوة مشتركون في أرض، فأرادوا بيعها، فرغب أحد الإخوة بشرائها، فوافق الجميع دون تحديد للأجل الذي يدفع فيه المال، ثم بعد سنوات ارتفع سعر الأرض، فما صحة هذا البيع، وبأي سعر يتم البيع؟
الجواب
إذا اتفق البائع والمشتري على السلعة وحددا قيمة السلعة فالبيع صحيح، ومسألة الدين هل يشترط فيه التأجيل أو لا يشترط تتعلق بمسألة قبض الثمن، فإذا قال: آخذ منك هذه العمارة بمائة ألف إلى ميسرة، يعني: إلى أن ييسر الله عز وجل عليّ فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وأطلق الأجل.
وأما قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282]، فهذا من جهة الديون المؤجلة؛ لأنها هي التي يحدث فيها النزاع والخصومة.
وأما الديون غير المؤجلة -وهي المرسلة والمقيدة بأوصاف- فهذه على حسب ما يتفق عليه الطرفان، وعلى كل حال فإنه يصح هذا البيع.
أما هل يدفع الثمن المتفق عليه قبل عشر سنوات أو الثمن الحالي، فإجماع العلماء على أنه ليس له إلا الثمن المتفق عليه، وأنه إذا جاء يطالب بزيادة وأفتى أحد بذلك فقد أفتاه بالربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه، وهكذا في الديون، فمن استدان ريالاً واحداً قبل مائة سنة وجاء ورثته يريدون أن يقضوا دينه لا يقضون إلا ريالاً واحداً، فهذا شرع الله عز وجل.
وفقه المسألة أنه لو استدنت منه مائة ريال قبل خمسين سنة، فالمائة ريال إذا أعطاك إياها تعتبر في الشريعة من باب الرفق، ومعنى كونه من الرفق أي: من باب الإحسان، فليس أحد فرض على صاحب المال أن يدين، فلست أنت الذي فرضت عليه أن يعطيك المال حتى تتضح الصورة.
فإذا رضي أن يعطيك مائة ريال وقال لك: خذها إلى أن ييسر الله لك، ولم ييسر الله إلا بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، أو بعد ثلاثين سنة فمعنى ذلك أنه متحمل لارتفاع قيمتها ورخصها، ولذلك لو أن هذه المائة أصبحت تساوي عشرات أضعافها لطالبك بالمائة ولم يطالبك بقيمتها.
وليس في هذه المسألة إلا شذوذ عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وقول بعض أهل الرأي، فيقولون: إنه إذا أعطاه ديناً في القديم يقدر في وقت القضاء، وهذا يميل إليه بعض المعاصرين، حتى إن بعضهم ناقشناهم فوجدناهم يتعصبون للرأي أكثر من الأصل؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وهذا في الديون.
فبيّن أن العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض في الديون وقرضاتها أنه يعطى نفس الدين دون زيادة ودون نقص.
والسبب في هذا أنه رضي بغنمه وغرمه، أي: هو راضٍ لو ارتفع السعر أو نقص، فهذا أمر مسلم به؛ لأنه أعطاه المال على أنه يأخذه منه كالوديعة، فلا يتحمل أحد الغلاء ولا الرخص، ولا يعطى إلا عين ماله.
والفتوى بأنه يقدر ويُنظر كم قيمته، لو فتح بابها لكان كل دين يحتاج إلى دراسة؛ لأنه ما من يوم إلا ويختلف سعر المال عن أمسه وعن غده، وهذا باب لو جيء لتمريره فالشريعة أغلقته، وقالت: الأصل في هذا المال أنه أعطي معاوضة بدون مكافأة وبدون بخس.
بمعنى أنك لما أعطيته المائة أعطيتها على سبيل الرفق بأخيك، فأنت أعطيت مائة وتأخذ المائة، فلم تعطها مرابحة حتى تطلب عوضها إذا خسر، ولم تقايض فيها بالعوض حيث تستطيع أن تأخذ قيمتها ومثل قيمتها، فليس لك إلا رأس مالك، وهذا الذي ندين الله به، وهذا الذي عليه فتاوى أهل العلم سلفاً وخلفاً، فأصحاب الديون لا يستحقون إلا ديونهم.
لكن بقيت مسألة وهي: لو أني استلفت من شخص عشرة ريالات قبل خمس سنوات أو عشر سنوات، وأصبحت لا تساوي شيئاً فالسنة المكافأة على الدين.
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، ثم جاء الرجل يريد حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أده.
فقال: يا رسول الله! لا أجد إلا خيار الرباعين -يعني: لا أجد إلا سناً أفضل من السن الذي أعطاه- فقال عليه الصلاة والسلام: أعطه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءاً).
فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الشريعة فتحت باب المكافأة، كمن استدان خمسة آلاف ريال، ثم وسع الله عليه وبسط له في الرزق فأرجعها وزاد مكافأة عليها ساعة أو قلماً أو ألف ريال ليس على سبيل الاشتراط.
وأصح قولي العلماء أنه تجوز الزيادة حتى ولو كانت من نفس الذهب والفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس أحسنهم قضاءً).
فلا فرق بين القضاء بالذهب والفضة وغيرها، وهذا الذي تطمئن إليه نفسي، وهو أنه تشرع المكافأة عند الدين ولو كانت من الذهب والفضة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأ سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) قوله: (سمحاً إذا قضى) أي: عنده سماحة، فيطيل لك في الأجل سماحة منه، وبعضهم إذا استدان قضى قبل حلول الأجل سماحة منه أيضاً، كما أنه أحسن إليك تحسن إليه، قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فكما أحسن الله إليك بتوسعة حالك تحسن إليه فتبادر.
ومن هذا الإحسان أنه إذا أعطاك خمسة آلاف تعطيه ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف زيادة عليها، لكن بشرط ألا يكون ذلك على سبيل الاشتراط؛ فإنه تجوز الزيادة بدون شرط؛ لأن الشريعة عممت في حسن القضاء.
والله تعالى أعلم.
(314/12)
________________________________________
حكم استحضار النية في صلاة الاستخارة
السؤال
الذي يريد أن يصلي صلاة الاستخارة هل ينوي لها ركعتين خاصة بها، أم أنه يمكن ينويها في النوافل كسنن الرواتب؟
الجواب
صلاة الاستخارة لا تشترط لها النية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، وقوله: (ركعتين من غير الفريضة) عام، ولذلك قال بعض العلماء: لو صلى راتبة، أو سنة الوضوء، وبعدها بدا له أن يستخير في أمر فدعا فإنه يشرع له أن يدعو في التشهد، ويشرع له أن يدعو بعد السلام.
والأفضل والأكمل أن يكون دعاؤه بعد التشهد وقبل تسليمه.
الشاهد أنه لا تشترط لصلاة الاستخارة ركعتين مستقلتين.
والله تعالى أعلم.
(314/13)
________________________________________
حكم من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً إذا وافق صومه يوم جمعة أو وافق فطره يوم إثنين أو خميس
السؤال
من كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فهل يفطر إذا وافق فطره إثنين أو خميس؟ وهل يصوم إذا وافق صومه يوم جمعة؟
الجواب
الفضل العام عند بعض العلماء مقدم على الفضل الخاص؛ لأنه تفضيل من الوجوه كلها، وورود الفضل الخاص لا يستلزم أنه أفضل من العام.
من أمثلة ذلك: تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر مع أنه قال لـ سعد بن أبي وقاص: (فداك أبي وأمي) فجعل له الفداء بالأب والأم، وجعل المناصب الخاصة لبعض الصحابة، لكنها فضائل خاصة لا تقتضي التفضيل على الفضل العام الوارد في الشرع.
فالفضل العام في الصوم الذي هو المرتبة العليا صوم يوم وإفطار يوم، قال بعض العلماء: إذا التزمه يستمر عليه، ويبقى العارض الذي لا يتكرر إلا في السنة مرة، مثل يوم عاشوراء ومثل صيام ست من شوال، قالوا: إنه إذا قصدت بعينها يصومها بعينها.
لكن بعض العلماء يقول: لا يستثنى إلا يوم عرفة وعاشوراء اللذين ورد الفضل فيهما، أما الست من شوال فإنها تدخل تحت صوم يوم وإفطار يوم، لكن لابد وأن ينويها.
فالشاهد أن بعض العلماء يقول: إذا صام يوماً وأفطر يوماً لا يحتاج إلى أن يصوم الإثنين والخميس؛ لأن الفضل العام مقدم على الفضل الخاص، والفضل العام جاء بترتيب معين وهو صوم يوم وإفطار يوم، وبعض العلماء يقول: لا تعارض بين العام والخاص، كما أنه يشرع له أن يصوم يوم عاشوراء للسبب المعين، أي: السبب الخاص الوارد.
فيرى أن هذا لا يقدح في صوم يوم وإفطار يوم، فيرون أنه يصوم الإثنين والخميس ويبقى على ترتيبه في صوم يوم وإفطار يوم؛ لأنه لسبب وموجب.
وعلى كل حال كلا القولين له وجه، ونحن إذا قلنا: كلا القولين له وجه ففي بعض الأحيان نقول هذا لعدم وجود مرجح ما، وبعض الأحيان نقول: لكلا القولين وجهه من باب التنبيه على أنه لا ينكر على من فعل هذا، ولا ينكر على من فعل هذا، ولا نقصد أن الحق متعد؛ لأن الحق لا يتعدد، فالحق واحد، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، ولم يخالف في هذه المسألة إلا العنبري من أئمة الأصول وقوله شاذ؛ لأنه قال: إن الحق متعدد.
ويحكى عن بعض أئمة الأصول لكن الصحيح أن الحق لا يتعدد.
والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فبيّن سبحانه وتعالى أن الحق واحد، وأما الاجتهاد الأول فقال عنه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فبيّن أن الأمر فيه صواب وفيه خطأ، وهذا من حيث الأصل.
وقد دلت السنة على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر واحد)، فبيّن أن الاجتهاد إما صواب وإما خطأ، فلا يتعدد الحق.
وحينما نقول: لا ينكر على هذا ولا على هذا.
فمرادنا أن بعض طلاب العلم إذا ترجح عنده قول استهجن قول غيره وتعصب لشيخه -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يبلغ به الغرور أنه لا يعتقد عالماً يصيب السنة إلا شيخه، وهذا لا يجوز في المسائل الفرعية التي اختلف فيها الأئمة الأربعة، فتجده أبداً لا يلتفت إلى مذهب غير مذهب الحنابلة، أو مذهب المالكية، أو مذهب الشافعية، أو مذهب الحنفية، وهذا هو التعصب المذموم الممقوت.
وقد ينهى عن التعصب ويقع في تعصب أسوأ منه، فتجد الحنفي أو الشافعي إذا خالفه غيره يقول: له دليله.
لكن هذا إذا خالفه غيره قال عنه: عدو للسنة.
فهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فالمسائل الفرعية التي وردت فيها نصوص محتملة لا ينكر فيها ما دام أن هناك أئمة من السلف قالوا فيها، فإن جاء شخص وقبض بعد الركوع، والآخر يرى أن القبض بعد الركوع بدعة فلا يأت يقول للذي قبض بعد الركوع: أنت مبتدع.
ولا يأت يقول للذي يترك القبض: أنت تارك للسنة.
فهذه مسائل فرعية اختلف فيها الصحابة والأئمة، وأجمع السلف ودواوين العلماء وأهل العلم -كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والحافظ ابن حجر، والإمام الحافظ ابن عبد البر من قبلهم، وكذلك العلماء رحمهم الله في مسألة الخلاف الفرعي على أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها فرعياً، فكل له دليله وكل له قوله، فلا يعتدى على الإنسان، ولا يعاتب الشخص إذا أخذ بقول يخالف قولي ما دام أن عنده سنة ودليلاً، أورأى أن هذا الحديث حسن، وأنا أرى أنه ضعيف، أو شيخي يرى أنه ضعيف، فلا آتي وأقول له: يا أخي! أنت تتمسك بالأحاديث الضعيفة.
إن كان له شيخ يرجع إليه في الأسانيد، فكما أن شيخي يمكن أن يصيب ويخطأ كذلك شيخه يمكن أن يصيب ويخطأ، وكما أن شيخي يمكن أن يصيب الصواب ويمكن أن يخطأ الصواب.
كذلك أيضاً شيخه يمكن أن يصيب الصواب، وهذا أمر محتمل، والشريعة ما جاءت به محتملاً إلا لحكمة يعلمها الله عز وجل.
ومن هنا شملت الشريعة الإسلامية بهذا الخلاف كثيراً من المسائل والنوازل والمشكلات المعاصرة، ولولا الله ثم هذا الخلاف وهذه التفريعات والتفصيلات ما تفطنت الأذهان، ولا حصلت المناقشات، ولا ضبطت الأصول، ولا فرعت الفروع، ولا عرفت القواعد، ولا عرفت الأمهات إلا بفضل الله ثم بهذا الخلاف.
وتجد كل عالم يقول بقول وله دليل من كتاب الله من آية تحتمل أو حديث يحتمل، فلا ينكر على من أخذ بدليل وحجة ما دام أن قوله ليس بشاذ، وليس بقول بدعة وحدث، فنحن نرى أن ما اختلف فيه أئمة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان واحتملته النصوص لا إنكار فيه، وهذا الذي نعرفه من كلام العلماء والأئمة.
ومما ذكر أن من الواجب على العالم النصيحة للأمة في مسألة الخلاف، ومن النصيحة للأمة أنه في بعض الأحيان تتضح السنة ويخالفها دليل ضعيف، فيبين وجه ضعفه، وينبغي أن يتربى طلاب العلم على المناقشة للأدلة نفسها، ويتعودون على التأصيل للمسائل بأدلتها.
فاقرأ في دواوين العلماء، لتجد في كتب العلماء كل الخلاف الموجود فيها، وتجد عفة الألسن، فلا يخطئون إلا الأدلة، واقرأ في بدائع الصنائع وغيره، فستجدهم يقولون: ولا يجوز عندنا كذا وكذا، وعند الشافعية رحمهم الله يجوز، ودليله كذا وجوابه كذا، فما قامت الدنيا وما قعدت، ولا قال للشافعي: مخالف للسنة.
والعجيب أن تجد شخصاً يستدل بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وكأنه يقول: السنة عندي فقط.
وهذا ليس من النصيحة للأمة؛ لأني إذا عودت طلابي ذلك علمتهم التعصب لي، وعودتهم أن يعتقدوا ألا حق إلا فيما أقوله، وهذا لم يكن عليه العلماء رحمهم الله.
واقرأ كتب العلماء في المسائل الفرعية، فإذا كان هناك أدلة محتملة من الكتاب والسنة يوسع فيها ما وسع الله؛ لأنه الله وسعنا، كالذي ورد بدلالة محتملة، وما ورد بدلالة نصية صريحة، فالشيء الذي ورد بدلالة نصية صريحة.
إذا أتى شخص يشذ، أو يخالف، أو يأتي بآراء أو بأهواء يصادم بها النصوص يرد عليه قوله كائناً من كان.
لكن أن تأتي في المسائل المختلف فيها قديماً بين العلماء والسلف والأئمة، وتبدع المخالف فلا، والصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا، كما قال شيخ الإسلام: كانوا يختلفون فيترحم بعضهم على بعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، ويترضى بعضهم على بعض.
فالأصل أن تجعل مناقشاتك للأدلة، ومن هنا تربي طلاب علم يحفظون للسلف مكانتهم، ويحفظون للخلف مكانتهم، وتجدهم يحفظون للعلماء رحمهم الله مكانتهم، أما إذا جاء العالم أو الشيخ في قراءته للفقه وقراءته للأحاديث والأدلة يوهم طلاب العلم أنه هو وحده الذي يفهم، وهو وحده الذي يعرف السنة، فلا ينبغي هذا.
فهذا ليس من النصيحة، إنما النصيحة أن تبين لهم أنك تقول قولاً محتملاً للصواب والخطأ، وإن كان الصواب في قولك أقوى، فتعذر غيرك الذي خالفك لدليل وحجة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألا يجعل الحق ملتبساً علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.
(314/14)
________________________________________
رفع اليدين بعد الانصراف من الصلاة للدعاء
السؤال
ما حكم رفع اليدين بعد انقضاء الصلاة مباشرة للدعاء؟
الجواب
رفع اليدين في الدعاء إذا كان في المواضع المخصوصة والعبادات المخصوصة يُمنع منه إلا في حدود ما ورد في الشرع، فما يفعله بعض الناس عند انتهائه من الأذكار، أو عند انتهائه من السلام يرفع يديه ويدعو، أو الإمام يفعله والمأمومون يؤمِّنون -كما يُفعل في كثير من المواضع وبعض البلدان- هذا كله من الحدث.
وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله من المتأخرين الذين اطلعوا على هذا العمل على أنه بدعة وحدث؛ لأنه شعار خاص في عبادة مخصوصة.
ولذلك تجد من يعتاد هذه الأمور إذا صلى في مسجد، وصلى به إمام ولم يرفع يديه أنكر عليه؛ لأنه صار يعتقد ذلك عبادة، حتى إن العوام يعتقدون أنه من الشرع والدين، وهذا من الحدث.
ولكن لو أن إنساناً فرغ من الأذكار الشرعية الواردة، وكانت عنده كربة أو نكبة أو فاجعة أو ضيق ففعل أحياناً دون أن يجعلها عادة وسنة له، فهذا رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله.
أما الشخص الذي يجعله إلفاً وعادة وداوم على ذلك فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إنما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ الأذكار التي تلي الصلاة، ثم قال: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ... ) إلى آخر الحديث، ولم يرفع يديه عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه ليس من السنة، خاصة أنه إذا كان يدعو بصوت والمأمومون يؤمِّنون على دعائه فهذا من الحدث والبدعة، نسأل الله السلامة والعافية.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة.
والله تعالى أعلم.
(314/15)
________________________________________
حكم المغالاة في المهور لزيادة مكانة المرأة ورفع قدرها
السؤال
يظن بعض الآباء أن المغالاة في مهر ابنته يزيد من مكانتها، ويشعر بقدرها ولو كان على حساب إرهاق الزوج، فما القول في ذلك؟
الجواب
المغالاة في المهور تمحق بركة الزواج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء أيسرهن مئونة)، فدل على أن البركة والخير في الزواج ألا تكون فيه كلفة، وألا يحمل الزوج ما لا يطيقه، ولذلك نهى عمر رضي الله عنه عن المغالاة في المهور وقال: لو كان مكرمة لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته.
فالسنة ألا يغالي الرجل في مهر ابنته، وأن يطلب العدل والمعروف، وكلما يسر كان ذلك أعظم لأجره، لكن إذا احتاجت البنت المهر، واحتاج والد البنت المهر لكلفة زواجها وأمور محتمة عليه لا بد من وجودها فلا بأس أن يكون أمراً نسبياً متفقاً مع العرف، فيطلب مهر ابنته بالعرف، فإذا كان العرف درج على أن البكر ثلاثين ألفاً وأن الثيب خمسة عشر أو عشرين ألفاً فلا مانع أن يزوجها حتى ولو بخمسة وعشرين ألفاً، أو بعشرين ألفاً.
ثم هناك أمور نسبية، وهي أنه ينظر في حال الزوج، فإذا كان الزوج غنياً ثرياً مليئاً أخذ منه المعروف الذي هو الثلاثين، وإذا كان الزوج ليس عنده مئونة ولا مال فزوجه بخمسة آلاف أو عشرة آلاف، وفاعل هذا لا شك أن الله سيبارك له في الزواج الذي يقع لابنته، وهذا معلوم ومعهود وسنة من الله عز وجل، ولا تتبدل سنة الله ولا تتغير.
والذي ينبغي على الآباء أن يرحموا بناتهم وأن يرحموا الأزواج؛ فإن الزوج إذا تحمل أمور الزواج بالدين أول ما يقع الضرر على البنت؛ لأنه ربما طلقها، وربما ضيق عليها حتى تفتدي منه ويحصل الخلع، ولربما ساءت أخلاقه؛ لأنه يحس كأنه اشتراها.
لكن الوالد الذي يخفف في المهر إذا جاءت البنت تخطئ أو تسيء أو تتجاوز بعض الأمور التي لا ينبغي مجاوزتها تجد الزوج يستحيي أن يشكوها إلى والدها؛ لأن المعروف كثر عنده وأخرس لسانه، فجعل عينه غاضه عن كل خطأ وعيب في البنت، وجعل لسانه أخرس لا يستطيع أن يتكلم؛ لأن الكريم يُكسر بالمعروف.
لكن إذا بالغ في المهر فالخطأ اليسير كبير، والزلة اليسيرة كبيرة، فهذه كلها أمور يجعلها الله عز وجل مسددات، فاليسر سبب في اليسر، والتعسير سبب في التعسير، فمن ضار ضار الله به، ومن عسّر عسّر الله عليه.
والذي ينبغي أن يلتفت إليه هو كثرة العوانس في بيوت المسلمين، فكم من نساء ينتظرن من يتزوجهن، وكم من شباب لا يستطيعون الإقبال على الزواج للتكاليف الموجودة في الزواج.
فعلى الآباء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرحم من يرحم، وقلّ أن تجد إنساناً يرحم في الحقوق وفي الأمور التي يليها مثل بناته وأخواته إذا زوجهن، ويساعد الزوج في زواجه، ويقف في المواقف الحميدة الكريمة إلا بارك الله له في ماله ورزقه، وبارك في هذا الزواج الذي جرى على يده، وجعل عواقبه كلها خيراً وبركة.
فعلى المسلم أن يأخذ بهذه السنة التي كان عليها سلفنا الصالح تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير في أمور الزواج.
كذلك أيضاً ينبغي إلغاء الأمور التي فيها ضرر على الزوج من اشتراط الكلفات والأمور التي لا تحمد عقباها وقل أن يعظم نفعها، فالشخص إذا أراد أن يتزوج عليه أن يقتصر على دعوة القرابة وبعض من يعرفه، وليس هناك داعٍ للتوسع في أمور الزواج وللبذخ فيها.
فليت الآباء والأمهات والأزواج والزوجات يتقون الله عز وجل في أنفسهم ويتعقلون كثيراً في هذه الأمور التي لا تعود على الناس بالخير، وما هي إلا مظاهر فانية، ووالله مهما فعل فإنه لا يسلم، ومن العجيب الذي ذكره بعض الإخوان أنه قال: حضرت زواجاً قد تكلف صاحبه وكان ثرياً غنياً، وكان مظهر جعل زواجه من أجمل وأحسن وأكمل ما يكون عليه الزواج، قال: فحضرت مع بعض أقربائه.
فإذا بهم يسبون هذا الغني الثري ويقولون: قبحه الله! فعل وفعل وفعل وفعل.
فأصبحت المباهاة سبباً في الذلة، لقد طلب الكرامة في معصية الله فأهانه الله، وطلب العزة بمعصية الله فأذله الله عز وجل.
قال: ثم حضرت زواجاً بعد ذلك مقتصداً ميسراً مخففاً لا كلفة فيه، فكان أن قالوا: فعل الله بأهل الزوج والزوجة.
أي: ما أطعم الضيوف وما فعل الذي أرادوه.
فما أحد يسلم من الناس، لا الذي أعطاهم وأشبع بطونهم، ولا الذي أخذ بالقصد.
فإذا كان الشخص في الزواج دعا العشرات ولم يزد على عدد معين، وجاءته أمة من الناس فهل العتب عليه، أو على هذا الطفيلي الذي جاء بدون دعوى?! وعلى كل حال فهناك تجاوز من الناس خاصة في هذا الزمان، والذي أحب أن أقوله هو أني أتمنى من الخطباء والأئمة وطلاب العلم أن يقرعوا قلوب الناس في هذا الأمر وأوصيهم بذلك، والأجر في هذا عظيم إذا ذكروهم، وأن يذكروا كل ظالم كم في بيته من بناته اللاتي لم يتزوجن، وليذكروا كل والد أن يسأل نفسه كم من بنت جاوزت العشرين، بل الخمسة والعشرين، بل الثلاثين ولم تنكح بعد.
فليسأل نفسه وليبحث عن الأسباب، والعيب أن نرى أخطاءنا موجودة ونسكت عنها، فهناك أسباب موجودة، وعلينا أن ننبه الناس، وأن نكثر من هذه الخطب التي تُبيّن للناس هذا الخطأ الفادح؛ فإن كثرة الفواحش والمنكرات هي بسبب كثرة المطلقات والمرملات والعوانس من الأبكار اللاتي لا يحصى عددهن، وقد ذكر لي أن في بعض المدن مالا يقل عن أربعين ألف بنت عانس، والسبب في هذا تكاليف المهر التي ذكرناها، وهي عامل كبير جداً أثرت على كثير من الناس.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يلطف بنا في العاقبة والمآل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(314/16)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [2]
مما قد يقع فيه العبد المسلم الظهار، وهو أمر خطير، ولابد أن يدرك المسلم مدى عظم هذا الأمر عند الله، وأدلة حرمته من الكتاب والسنة، ومقاصد الشرع من تحريم هذا الأمر، وما يلتحق به من الأحكام التي ينبغي معرفتها.
(315/1)
________________________________________
أدلة تحريم الظهار من الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار] تقدم معنا بيان بعض المقدمات المتعلقة بكتاب الظِهار، وبينّا حقيقة الظِهار وأركان الظِهار، ونبهنا على بعض المسائل المتعلقة بتلك المقدمات.
ثم شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الظِهار، فقال: [وهو محرم].
أجمع العلماء رحمهم الله على أنه محرم، والأصل في تحريمه كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، كما أن دليل العقل يدل على تحريمه.
فأما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى بيّن أن الظِهار منكر من القول وزور، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، والمنكر والزور محرمان، فلما وصف الله عز وجل هذا القول بهذا الوصف أشعَر بالتحريم، وبيّن أنه غير جائز شرعاً، فعند علماء الأصول أنه إذا ورد الذم للشيء في الكتاب أو السنة فإن هذا يدل على حرمته، خاصة إذا كان الذم قوياً مرتقياً إلى درجات الكراهة التحريمية.
والذم ينقسم إلى قسمين: الذم الشرعي، والذم الطبعي.
فهنا ذم شرعي؛ لأن الوصف بكونه منكراً وزوراً مذموم شرعاً، فدل على أنه محرم، وهذا أولاً.
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى بيّن وجوب الكفارة على من قال الظِهار وأراد أن يعود، فإيجاب الكفارة على الظِهار دال على حرمته، كما أن إيجاب الكفارة على الجماع في نهار رمضان دال على حرمته، وإيجاب الكفارة على القتل الخطأ دال على حرمته في الأصل، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، فدل على أنه شيء في الأصل محرم، فالمقصود أن الآيات الكريمة دلت على حرمة الظِهار من هذه الوجوه، ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:2]، فبيّن أنه يعفو ويغفر، فدل على أن هناك موجباً للإساءة والذنب الذي يترتب عليه العفو والمغفرة.
فلما ختم آية الظِهار في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] بهذين الوصفين -العفو والمغفرة- دل على أن الظِهار موجب للذنب والإساءة من قائله.
أما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أوس رضي الله عنه وأرضاه ظِهاره لامرأته، وأوجب عليه التكفير، وهذا يدل أيضاً على ما دل عليه دليل الكتاب من حرمة الظهار.
كذلك أيضاً أجمع العلماء على أن الظِهار محرم.
وأما دليل العقل فلأن الشريعة قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك أن الزوجة إذا امتنع زوجها منها وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فإن هذه مفسدة عظيمة؛ لأنها تحرم الرجل على امرأته، وتحرم المرأة على زوجها.
وحينئذٍ يتعرض الرجل للحرام وتتعرض المرأة للحرام، ولا شك أن أصول الشريعة دالة على دفع الضرر، وهذا من أعظم الضرر، ثم إن الشريعة أقامت النكاح على الإمساك بالمعروف، فأصول الشريعة دالة على أن الزواج والنكاح ينبني على العشرة بالمعروف، فيمسك المسلم زوجته بالمعروف، وليس من المعروف أن يجعلها بمثابة الأم وهي ليست بأم له، فيمتنع من عشرتها، ويمتنع من الإحسان إليها والقيام بحقوقها، بناءً على هذا اللفظ.
فدليل العقل أن الظهار يتضمن الضرر والإساءة، وذلك موجب للوصف بالتحريم؛ لأن كل ما فيه ضرر على المسلم والإساءة إلى المسلم فإنه محرم شرعاً، والسبب في كون ما يوجب الإساءة والأذية والضرر محرماً أن فيه اعتداءً، والله عز وجل يقول: {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهذا اعتداء؛ لأن الزوج اعتدى على زوجته.
ومن هنا جاءت امرأة أوس وشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: نثرت له ما في بطني، ولما رق عظمي وضعف بدني ظاهر مني، إلى الله أشكوه.
فهذا يدل على أنه فيه ضرراً وإساءة، والشريعة جاءت لدفع الضرر والإساءة والاعتداء على الغير.
فمن هذا كله نخلص إلى القول بإن الظِهار محرم.
وهذه الحرمة من أعظم أنواع الحرمات، أي أنه محرم لأنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن المحرمات فيها ما هو صغير وفيها ما هو كبير، فالظِهار من كبائر الذنوب، وكبائر الذنوب تنقسم إلى: كبائر متعلقة بالاعتقاد.
وكبائر متعلقة بالقول.
وكبائر متعلقة بالعمل.
فالظِهار من الكبائر المتعلقة بالأقوال، ويشارك غيره من الكبائر القولية، أي أنه ليس بذنب معتاد، أما الدليل على كونه كبيرة فعند طائفة من العلماء رحمهم الله أنه إذا ترتبت الكفارة المغلظة على فعل دل ذلك على حرمته في الأصل، وأنه من الكبائر.
ومن هنا أوجب الله عز وجل على من جامع في نهار رمضان كفارة، واعتبر ذلك من كبائر الذنوب من حيث الأصل؛ لما فيه من الاعتداء إذا تعمد جماع امرأته في نهار رمضان، ومن هنا يقول بعض العلماء: إن ورود العقوبة على فعل الشيء -سواء أكانت بدنية أم مالية- تدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب.
ومن هنا قالوا: إن شرب الخمر كبيرة، وإن الزنا كبيرة؛ لأن فيها عقوبة شرعية مقدرة، والكفارات نوع من العقوبة؛ لأنها عقوبة في البدن وعقوبة بالمال، وعقوبتها بالمال أن فيها تكفيراً للرقبة، وفيها إطعام ستين مسكيناً، وهذه عقوبة مالية؛ لأن الرقبة مال، فيحتاج أن يشتري رقبة ليعتقها، ويشتري طعاماً ليطعم ستين مسكيناً، وفيها عقوبة بدنية؛ لأنه يصوم شهرين متتابعين.
وعلى هذا لا يشك أحد أن مثل هذا القول الذي عوقب عليه بهذه العقوبة في أنه يصل إلى حد الكبائر، ولو كان من صغائر الذنوب لما ترتب عليه الكفارة؛ لأن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من صغائر الذنوب، وأمرها أيسر من الكبائر ولو أن الكل ذنب وخطيئة.
قوله رحمه الله: [وهو محرم] الضمير عائد إلى الظِهار، وابتدأ المصنف رحمه الله كتاب الظِهار ببيان حكمه لأن أول ما يحتاجه طالب العلم في الشيء معرفة مقدمات تخص ذلك الشيء، وبعد ذلك معرفة موقف الشرع منه، فهل هو جائز أم لا؟ وإذا كان جائزاً فهل يلزم به الشرع أو لا يلزم؟ وإذا ألزم به فهل هو في مقام الواجبات أو المستحبات؟ وإذا كان غير جائز شرعاً فهل هو محرم أو مكروه؟ وهل حرمته مغلظة أو غير مغلظة؟ فقال رحمه الله: [وهو محرم].
(315/2)
________________________________________
كيفية وقوع الظهار وتحققه
قال رحمه الله تعالى: [فمن شبه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً بقوله لها: أنت علي، أو معي، أو: مني كطهر أمي، أو كيد أختي، أو وجه حماتي ونحوه، أو: أنت علي حرام، أو: كالميتة والدم فهو مظاهر].
قوله: (فمن شبه زوجته أو بعضها) يقال: هذا يشبه هذا: إذا كان مثيلاً له واشترك معه في شيء أو أشياء، تقول: محمد يشبه البحر: إذا كان كريماً غزيراً كثير الخير، كما أن البحر يكثر خيره، أو غزيراً في علمه كما أن البحر يكثر نفعه.
وكذلك تقول: علي كالأسد، أي: في الشجاعة والقوة ونحو ذلك، فالتشبيه عند العلماء: هو الدلالة على أن شيئين اشتركا في أمر أو أمور، وبناءً على ذلك لا بد من وجود التشبيه في الظهار.
وقد بينا من قبل أن التشبيه يحتاج إلى أربعة أركان: مشبِّه ومشبَّه، ومشبه به، ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهه.
فهنا المشبِّه هو الزوج، فالزوج إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فهو المشبه، فلو قال أجنبي قلنا ليس بظهار، كذلك لو قال من يستمتع بالمرأة على غير وجه الزوجية، كالسيد مع أمته فإنه ليس بظهار.
والمشبَّه هو الزوجة التي في عصمة الزوج، والزوجة زوجتان: زوجة حقيقية وزوجة حكمية.
ومشبه به وهي الأم أو من في حكمها من المحرمات بالنسب أو السبب أو الرضاع كما سيأتي.
ووجه الشبه أو الصيغة المتضمنة للمشابهة هي اللفظ الدال على الظهار، فهذه هي أركان التشبيه الأربعة.
قال رحمه الله: [فمن شبه زوجته] سواء أكانت زوجة حقيقية أم زوجة حكمية، والزوجة الحقيقية: هي كل امرأة عقد عليها الرجل عقداً شرعياً صحيحاً.
فالمرأة إذا عقد عليها صح الظِهار منها، فلو عقد عليها وبعد العقد مباشرة قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهار.
فلا يشترط أن يكون قد دخل بها، بل مجرد العقد كافٍ، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فبيّن أن المشبَّه هي المرأة التي من نساء المشبِِّه، وكل امرأة عقد عليها الإنسان فهي من نسائه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فوصف المرأة بكونها من نساء الرجل مدخولاً بها أو غير مدخول بها.
والحكمية هي الزوجة المطلقة إذا كان طلاقها طلاقاً رجعياً وكانت في العدة، فإنها أثناء العدة إذا ظاهر منها فإنه يحكم بوقوع الظِهار وبصحته.
وقوله: [فمن شبه زوجته] أي: من شبه كل زوجته، كأن يقول لها: أنتِ، أو يقول: فلانة -سواء أكانت حاضرة في المجلس أم كانت غائبة- مني كظهر أمي.
أو: زوجتي مني كظهر أمي.
وهي غير حاضرة في المجلس، أو يخاطبها كفاحاً فيقول لها في وجهها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فهذا بالنسبة لمن شبه زوجته كلها، وفي حكم ذلك من يقول: كلك.
أو: جسمك، أو: جسدك، واختلف في قوله روحك، واختار جمع من العلماء أنه ظهار؛ لأن التعذيب بالروح يراد وليس المراد به استقرار الروح، والروح ليست منفصلة عن الجسد.
فهذه كلها ألفاظ بمعنى واحدٍ، فمن شبه زوجته، أي: شبه كل الزوجة، بقوله لها: أنتِ، أو: فلانة، أو: زوجتي فلانة، أو: أنتِ كلكِ، أو: جسدكِ، أو: جسمكِ، أو: ذاتكِ، أو: روحكِ، أو: نفسكِ فكل هذا آخذ حكم قوله: أنتِ.
قوله: [أو بعضها] أي: بعض الزوجة، كقوله لها: رأسكِ.
صدركِ.
يدكِ.
ظهركِ، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله.
والصحيح أن اختيار الجزء للتعبير بالظِهار كاختيار الكل على تفصيل: فإما أن يكون دالاً على ذلك بدون وجود احتمال، وأما أن يكون دالاً على ذلك بالنية، فلو قال لها: رأسكِ.
وقصد الإكرام فليس بظهار، ولو قال لها: رأسكِ.
وقصد الظِهار فظهار.
لكن حينما يعبر -مثلاً- بالفرج أو بأعضاء يحرم النظر إليها في أعضاء من جسدها يكون في حكم الكل، مثل قوله: يدكِ.
فلو قال لها: يدكِ عليّ كظهر أمي.
أو: ظهركِ عليّ كظهر أمي فظهار.
والدليل على ذلك أن الله عبر باليد عن الكل، فقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، والتباب متعلق بكل أبي لهب وليس بيده وحدها، وقال تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، فذكر الجزء وأراد الكل، فلا يوجد زوج يقول لامرأته: يدك علي كظهر أمي، ويقصد اليد استقلالاً، لكن بعض العلماء يقول: يسري في الظِهار ما يسري في الطلاق، وقد تقدم معنا تفصيل هذه المسألة، وذكر أقوال العلماء فيها والأدلة.
وأما هل يسند التحريم للجزء أو لا يسند فمذهب بعض العلماء -وهو الذي اخترناه- أنه يسند التحريم للجزء ويسري على الكل ثم يفصل، فإذا قال لها: يدكِ طالق، أو يديكِ عليّ كيد أمي، أو كظهر أمي، أو كأمي، فبعض العلماء يرى أنه إن قال ذلك تصبح المرأة كلها محرمة من بداية اللفظ، يعني أن الجزء معبر به عن الكل.
وبعض العلماء يقول: لا يتعلق التحريم مباشرة، وإنما تحرم اليد ثم يسري إلى جميع البدن؛ لأن اليد متصلة بالبدن.
وقد بينا فائدة هذا الخلاف في الطلاق، وهي أنه لو قال لها: يدكِ طالق فإن المذهب الأول يقول: تطلق مباشرة، والمذهب الثاني يقول: لو قال لها: يدكِ طالق إن دخلت الدار.
وقبل دخولها للدار قطعت يدها فلا طلاق، لأنهم يرون أنه أول شيء يقع باليد ثم يسري، فلو قطعت اليد التي علق الطلاق بها فإنه لا يسري؛ لأن الطلاق لم يصادف محلاً يتعلق به حتى يحكم بالسريان.
ومسألة الظِهار تتفرع على مسألة الطلاق، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها، والخلاصة أن نقول: إن شبه الكل فقال: (أنتِ)، أو شبه بعضاً من أعضائها المتصلة كقوله: يدكِ رجلكِ بطنكِ فرجكِ رأسكِ، ونحو ذلك فالكل سواء، فاختيار الجزء للتعبير بالظهار كاختيار الكل، أما لو كانت منفصلة فسيأتي الكلام عنها.
(315/3)
________________________________________
النساء المعتبر التشبيه بهن في الظهار
قال المصنف رحمه الله: [ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً] النساء اللاتي يحرمن على الإنسان ينقسمن إلى محرمات على التأبيد ومحرمات على التأقيت، والمحرمات على التأبيد هن المحرمات من النسب والسبب والرضاع، وقد تحرم المرأة على التأبيد لعارض مختص مثل مسألة الملاعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع اللعان فرق بينهما فراقاً إلى الأبد، فلا يجتمعان أبداً، ولذلك قال الزهري رحمه الله: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبداً.
والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله: مالي! قال: إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها).
فالمفارقة بين الملاعن والملاعنة فرقة أبدية، لكن هذا التحريم الأبدي لا يوجب المحرمية.
وأما بالنسبة للمحرمات فهن من جهة النسب والسبب، فأما من جهة النسب فسبع، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وأما من جهة السبب فأربع، وهن أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن، والمحرمات من جهة الرضاع هن جهة اللاتي يحرمن من جهة النسب.
فهؤلاء المحرمات تحريمهن مؤبد، وفي الرضاع والنسب جمهور العلماء -ما عدا الظاهرية والشافعية في قول عندهم على تفصيل- متفقون على أن هذا التحريم تحريم مؤبد.
وهؤلاء السبع النسوة المحرمات بالنسب إذا شبه زوجته بواحدة منهن فإنه يقع الظهار، لكن الظاهرية يخصون الظِهار بالأم، والجمهور على أن غير الأم والأم سواء بالنسبة للمحرمات.
فلو ظاهر من زوجته فشبهها بمحرمة من المحرمات من النسب فعند جمهور العلماء لو قال: أنتِ عليّ كبنتي، أو: كأختي، أو: كخالتي، أو: كعمتي، أو: كبنت أخي كبنت أختي فإنها محرمة ظهاراً، هذا من حيث الأصل عندهم.
لكن بالنسبة للمحرمات من جهة السبب فبعض العلماء لا يرى أن تشبيه الزوجة بالمحرمات من جهة السبب يوجب الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كزوجة أبي، أو: كزوجة ابني، أو: كحليلة ولدي، أو: كفلانة وهي زوجة أبيه أو زوجة ولده فإنه لا يقع عندهم الظهار.
والصحيح مذهب الجمهور أنه يقع الظِهار بالسبب كما يقع بالنسب.
أما الرضاع فمن العلماء من أطلق وهو مذهب الجمهور، ومنهم من فصل وقسم الرضاع إلى رضاع طارئ ورضاع أصلي، فقالوا: إذا كانت المرأة المحرمة من جهة الرضاع تحريمها منذ ولادته فهذا رضاع موجب للتحريم أصلاً، مثالهُ: لو أن أمه أرضعت امرأة فصارت بنتها من الرضاع، وبعد سنتين أو ثلاث من الرضاع ولدته أمه، فإن هذه الأخت من الرضاع محرم له منذ ولادته، وهذا رضاع أصلي.
أما لو طرأ الرضاع وولد وهي أجنبية، أو ولدت بعد ولادته ثم رضعت من أمه فهذا التحريم من الرضاع ليس في الأصل، فلو شبه بها لا يقتضي التحريم.
والسبب في هذا أن الشافعية رحمهم الله الذين عندهم هذا التفصيل يرون أن النص جاء بالأم، والأم فيها وصف تحريم مؤبد.
ولذلك فرق عندهم بين الشيء الطارئ وبين الشيء المؤبد، والصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن المحرمات من جهة النسب أو السبب أو الرضاع، إذا شبه بهن الزوجة يوجب الظهار.
والدليل على ذلك واضح؛ لأن المرأة حكم بكونها محرمة على الرجل، وشبهها بامرأة محرمة بغض النظر عن كونها من قبل كانت حلالاً له أو في المستقبل على الوجه الثاني الذي سيأتينا إن شاء الله في التحريم المؤقت، فالأصل عندنا أن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فجعل المسألة قائمة على التحريم، وقائمة على الامتناع من الزوجة، وتنزيلها منزلة من تحرم عليه ولا يحل له نكاحها كل هذا من المنكر ومن قول الزور، وهو موجود في تشبيه الزوجة بالأخت من الرضاعة، أو بالبنت من الرضاعة، أو بالعمة من الرضاعة، وغيرهنَّ من المحرمات اللاتي ذكرن.
وبناءً على ذلك فالصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن كل امرأة تحرم بنسب أو سبب أو رضاع تدخل في الظِهار، وأن الأمر ليس فيه التفصيل الذي ذكروه؛ لأن الموجب للتحريم موجود في الكل، فيكون الحكم ووجه الاشتراك بين الأم وغيرها موجود في النسب والسبب والرضاع.
أما المحرمات من جهة التأقيت فكأخت الزوجة، وكعمة الزوجة وخالة الزوجة؛ لأن الله حرم أن نجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: المحرمة مؤقتاً إذا شبه زوجته بها فلا ظهار، أي: لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كأختك قالوا: لا ظهار.
والصحيح والأقوى الذي تطمئن إليه النفس من حيث الأصول أنه ظهار؛ لأن المعنى موجود فيه، فهو يشبهها بها في حال حرمتها عليه، فيقول: أنتِ عليّ كأختك.
وأختها محرمة عليه، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أختك.
فهذا كله يعتبر في حكم الظهار.
(315/4)
________________________________________
حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها
للعلماء وجهان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة:2] وذلك في لفظ الظِهار، وهو قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهل المراد بالظهر هنا الحقيقة وهو العضو المعروف من الكاهل إلى العجز، أم أن المراد به الظهر المركوب؛ لأن العرب تعبر بالظهر عن المركوب.
ولذلك لما سأل رسول الله المرأة فقال لها: (ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! ما معنا ظهر -أي: ما عندي ظهر- ليس لنا إلا ناضح قد حج عليه أبو فلان) الحديث، وفيه: فقال لها: (فإذا كان رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة في رمضان كحجة معي).
ومما يدل على أن الظهر المراد به المركوب، قوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر مركوب بنفقته)، فالظهر المراد به المركوب والناقة التي تركب، فيعبر به ليكنى به عن الشيء المركوب.
فإذا قيل: إن الظهر المراد به المركوب فالمراد به الجماع وإتيان المرأة؛ لأن الرجل يجامع زوجته، فكأنه حرم جماعها، فهو يقول لها: جماعك عليّ حرام كجماع أمي، أو: جماعك عليّ حرام، كجماع من سمى ممن تحرم عليه.
الوجه الثاني يقول: إنما المراد به الظهر نفسه حقيقة، والعرب عبرت بالظهر وهو مجمع الإنسان؛ لأن حركة الإنسان كلها موقوفة على هذا الظهر، وقيام الإنسان كله بهذا الظهر، فهو يشبه شيئاً بشيء، يعني الذات بالذات.
وعلى كلا الوجهين لو قلنا: إن المراد به الظهر فمعنى ذلك أن الظِهار حكم الله بكونه ظهاراً مع أنه تشبيه بالجزء.
ولذلك من العجيب أن بعض الظاهرية رحمهم الله رحمة واسعة -وهذا ليس من النقص لهم، فلا يظن أحد أننا ننتقص هؤلاء الأئمة والعلماء- قالوا: لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي لا يقع الظهار، وإذا قال: أنتِ عليّ كظهر أمي يقع الظهار.
وقولهم مرجوح، لكن لا ينقص من مكانتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وهذه الأمور التي تقع من بعض الفقهاء ينبغي أن يعلم أنها من الغيرة على النص والالتزام بظاهر النص والتقيد بالشرع، ولو أنه في بعض الأحيان يزاد في ذلك ويتجاوز به عن حده.
لكن انظر إلى مدى الاهتمام بالفقه الإسلامي، وكيف بلغ من التقيد بالنصوص؛ حيث إن الظاهرية يتقيدون بالنص كما ورد، حتى إن بعضهم قال في مسألة البول: لو بال في إناء وصبه لما شمله التحريم كالبول مباشرة.
وصحيح أن هذا كله من الجمود على الظاهر، لكن المقصود هنا أن نقول: إنه إذا حذف الظهر أو أبقاه فالحكم واحد.
والدليل على هذا أن الشريعة تعبر بشيء وتنبه على أن ما هو أعلى منه من باب أولى أن يدخل تحت النص؛ لأنه إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فمن باب أولى إذا قال لها: أنتِ عليّ كأمي.
فإذا كان الظهر وحده أوجب التحريم فمن باب أولى إذا ذكر الكل.
وعلى كل حال فكل المحرمة أو بعضها يوجب الظِهار، لكن ليس كل أجزاء المرأة المحرمة عند العلماء رحمهم الله يقع التحريم بالتشبيه به، فالحنفية خصوا الأعضاء التي يحرم النظر إليها، فلو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهر الأم يحرم النظر إليه، ويحرم أن ينظر إلى فرجها أو فخذيها أو بطنها، فهذه هي الأشياء التي عندهم فيها الظهار.
لكن لو قال لها: أنتِ عليّ كيد أمي قالوا: لا يقع الظهار؛ لأن اليد يجوز النظر إليها وليست بمحرمة، ويجوز أن يصافحها وأن يمس يدها، فقالوا: هذا لا يقتضي التحريم.
وهذا اجتهادٌ منهم رحمهم الله، فهم نظروا إلى أن الظِهار فيه لفظ الظهر، وأعملوا المعنى ونقحوا مناط النص، فنظروا إلى أن الظهر يحرم النظر إليه ويحرم الاستمتاع به، وجمعوا أوصافاً موجودة في هذه الأربع دون غيرها وقالوا: الحكم مختص بهذه الأربع دون غيرها، فلو قال لها: أنتِ عليّ كرأس أمي لا ظهار ولو نوى به الظِهار، فلا يقع عندهم ظهاراً.
ومذهب المالكية رحمهم الله من أوسع المذاهب في مسألة الظِهار، فعندهم لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كريق أمي.
أو قال لها: كلي، أو: اشربي ناوياً به الظِهار وقع الظِهار؛ لأنهم يوسعون في ذلك، كما هو أيضاً عندهم في مسائل الطلاق، وفائدة معرفة الأقوال الفقهية والخلافات معرفة مسالك العلماء رحمهم الله في الأبواب.
فالمالكية رحمهم الله يشددون في التحريم في الطلاق وفي الظِهار، وقد تقدم معنا بيان مسائل عديدة، وبينا أدلتهم في ذلك، ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله فصلوا، فقال الشافعية في تفصيلهم: إما أن يذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال، أو يذكر عضواً لا يعبر به عن ذلك، فإن ذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال سألناه عن نيته، فإن قال لها: أنتِ عليّ كعين أمي، أنتِ عندي كرأس أمي، قالوا: نسأله هل قصدت الظِهار؟ فإن قال: قصدت الظِهار ليكون ظهاراً، وإن قال: لم أقصد ظهاراً، وإنما قصدت إعزازها وإكرامها وأنها عندي بمنزلة أعز شيء من الناس وأغلاهم عندي وهو أمي، وأعز شيء في الإنسان رأسه، فقلت لها: أنتِ كرأس أمي فحينئذٍ لا ظهار.
وهذا القول صحيح وأميل إليه، فإذا ذكر أعضاء يقصد بها التشريف والتكريم كالرأس والصدر، وقصد من هذا إكرامها فليس بظهار، وإن قصد الظهار فهو ظهار.
ثم أيضاً فصلوا مع الحنابلة في مسألة الأعضاء المتصلة والمنفصلة، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الطلاق إذا أسند الطلاق إلى عضو متصل أو إلى عضو منفصل، فإذا كان في الأجزاء المنفصلة فإنه ليس بظهار، وإن كان في الأجزاء المتصلة فإنه ظهار على التفصيل الذي ذكرناه.
وأجزاء الإنسان منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل أو في حكم المنفصل، وما في حكم المنفصل متردد بين المنفصل والمتصل، ورجح أنه في حكم المنفصل، فالدمع والريق واللعاب كله في حكم المنفصل، فلو قال لها: أنتِ كريق أمي ليس بظهار؛ لأنه ليس بعضو متصل، ولم يقع التشبيه بالوارد فيه النص من كل وجه، ولذلك لا يقتضي التحريم من كل وجه.
فالأعضاء التي اختلف فيها هل هي متصلة أم منفصلة هي كالشعر والظفر، وقد ذكر هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس (القواعد الفقهية)، وذكر شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل.
وهذه المسألة تتفرع عليها ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الفقه، ومنها هذه المسألة، فإن قلنا: إن الشعر في حكم المتصل فإن قال لها: أنتِ عليّ كشعر أمي، أو شعركِ مني كشعر أمي، أو شعركِ عندي كشعر أمي فظهار.
وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل فليس بظهار، وإن قال لها: شعرك طالق فليس بطلاق إن كان منفصلاً، وهو طلاق إن كان في حكم المتصل.
ففصل العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والصحيح أن الشعر والعظم والظفر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل.
قوله: [بنسب أو رضاع].
بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وهن السبع اللاتي سمى الله عز وجل، والرضاع مثلهن، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وفي حكمه التحريم بالرضاع من جهة المصاهرة.
قوله: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل] (من) بيانية، فسواء أذكر الظهر وهو الأصل، أم البطن أم عضواً آخر كاليد، لكن بشرط أن يكون غير منفصل، فالشعر ينفصل لأنه يقص فينفصل، فلو قال لها: أنتِ عندي كشعر أمي فشعر أمه منه ما يتساقط، فليس ذلك موجباً للتحريم من كل وجه.
(315/5)
________________________________________
الألفاظ الدالة على الظهار
قوله: [بقوله لها: أنتِ عليّ أو معي أو مني كظهر أمي].
قول المظاهر: أنتِ عليّ، أو: معي، أو: مني، أو: عندي، أو: لي كل هذا يعتبر دالاً على الظِهار.
وكذلك قوله: أنتِ كأمي دون قوله: عندي، ولا: معي، ولا لي، فسواء أذكر هذه الصفة أم لم يذكرها فالحكم واحد ويقع الظهار.
قوله: [أو كيد أختي] الأصل أن يذكر الظهر، وما لا ينفصل يكون حكمه كحكم الظهر.
قوله: [أو وجه حماتي].
الأم هي الأصل، وتمثيله بالأخت والحماة فيه نوع من التسلسل في الأفكار عند الفقهاء رحمهم الله في المتون الفقهية، وهذا يزيد طالب العلم فائدة، ويزيده علماً وبصيرة إذا أراد أن يخطب، أو يفتي، أو يوجه، أو يعلم، والعلماء بعض الأحيان يذكرون أشياء عجيبة، لكن يقصدون مغزىً ومعنى، وهذا نبهنا عليه أكثر من مرة.
فقوله: [ظهر أمي] المراد بذلك القاعدة المتفق عليها والمجمع عليها، وهي أنه إذا قال: كظهر أمي فهو ظهار.
ثم قال: [كيد أختي] فخالف في العضو الذي هو الظهر فاختار اليد، وخالف في الذات التي هي الأخت، فهذا مثال للمحرمة من جهة النسب من غير الأمهات.
فجمع لك بين الأمرين، فتفهم منه أنه لا يشترط أن يذكر الظهر، وأنه يمكن أن يذكر بدلاً عنه أي عضو بشرط أن يكون متصلاً، وكذلك أيضاً لا يشترط أن يكون الظِهار منحصراً في الأم، ولذلك قال: [كيد أختي].
وقوله: [أو وجه حماتي] لو قال: كيد حماتي ربما شك شاك أن العضو ينفصل في اليد، لكن قال: [كوجه] فانتقل إلى الوجه، والحماة: هي أم الزوجة، والأحماء: هم أقارب الزوجة.
فقوله: (كوجه حماتي) استفدنا منه أنه لا يشترط العضو في المشبه به، ثانياً: التشبيه بالمحرمة من جهة السبب، وهنا استدرك بعض المتأخرين رحمة الله عليهم على المصنف فقالوا: كان الذي ينبغي أن يقول: بنسب أو سبب، أو رضاعة، فيذكر السبب.
والحقيقة أنه لو ذكر السبب كان أفضل في الإشارة إلى المحرمات من جهة المصاهرة، لكن لما قال: [وجه حماتي] كان هذا بديعاً منه في الدلالة على أنه يرى أن المحرمات من جهة المصاهرة كالمحرمات من جهة النسب والرضاع.
وبعض العلماء ربما يذكر في المتن قسيمين يدخل بينهما ثالث ولا ينبه على الثالث من باب الذوق في الألفاظ، فالعلماء رحمهم الله كانت عقولهم فذة في صياغة الكلام، لكن فرق بين أن تصاغ هذه المتون لقوم يعقلون يعرفون هذه النكت والأفكار، وبين من يتهجم أو يأتي يستدرك ويلاحظ، فيقول: هذا خطأ، وهذا كذا.
إلخ، وهذا ليس إلا نوعاً من اللطائف البديعة.
فيذكر النسب ويذكر الرضاع والقسيم الثالث داخل بينهما من جهة السببية، وبعض الأحيان إذا ذكروا الرضاع مع النسب ينبهون على أن السببية تابعة له، خاصة في مسائل النكاح، لكن كما قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10].
فهؤلاء العلماء رحمهم الله يُحذَّر من الاستدراك عليهم والتعقيب عليهم، خاصة إذا اشتمل الاستدراك على التهجين لرأيهم، نسأل الله السلامة والعافية، بل كانوا رحمهم الله على دقة، وأحياناً يتركون الأمور الظاهرة والأمور الخفية لأجل مخاطبة العلماء؛ لأن هذه الكتب غالباً ما كان يقرؤها إلا العلماء.
ولذلك تجد العالم لما يأتي إلى تلك المتون يجد أمراً معتاداً، وطالب العلم المتمكن يجد أمراً يعمل فيه فكره أكثر، فيتعود على الدقة.
ومن الفوائد التي أوصي بها طالب العلم، وأوصي بها كل شخص يتحرى الحق والصواب أنه من المجرب أنك إذا قرأت تآليف العلماء -وأقصد العلماء الأئمة الجهابذة خاصة أئمة السلف- وكان عندك اعتقاد في قرارة قلبك بعلمه وفضله ودقته وتركيبه للمسائل، ووجدت شيئاً في ظاهره الخطأ ستتعب في تحصيل السبب وكشف الأمر الذي من أجله أغفل هذا الأمر الذي لا ينبغي إغفاله، أو ترك ذكر هذا الشيء الذي ينبغي ذكره، فما إن تعمل فكرك وأنت عندك هذا الشعور إلا تفتح لك من العلم والفهم ما الله به عليم.
وهذا شيء نحن جربناه ووجدناه، والعكس، فلن تجد شخصاً -والعياذ بالله- لا يقدر أهل العلم، ولا ينظر إليهم بما هم أهله، خاصة أئمة السلف، إلا وجدته سريع التخطئة، عجلاً في الفهم، قاصراً في الإدراك، بعيداً عن مستوى الأذكياء؛ لأنه لا يفهم العالم إلا عالم، ولا يعرف الفضل إلا أهله، وهذا من أراد أن يجربه في نفسه، أو في من يتعقب غيره أو ينتقد غيره سيجده جلياً.
ومن أغرب ما ذكر لي أن شخصاً كنت أعرفه -نسأل الله السلامة والعافية- من بعض طلاب العلم، كان بعض مشايخنا يحذره كثيراً، وكان كثير الجرأة على تخطئة العلماء رحمهم الله وتتبع عثراتهم.
فذات يوم كان يقرأ في كتاب (الإمامة) فقرأ قوله: (فإن استووا في القراءة فأطولهم ذكْراً -أي: لله عز وجل- فصحفها وقال: فأطولهم ذكَراً، وأخذ يشنع على من قال هذا فنحن نقول هنا: لما ذكر المصنف النسب وذكر الرضاع فالقسيم الثالث لهما وهو السببية داخل في التحريم، فلو أنه شبهها بهن فالمعنى موجود في المحرمات من جهة السبب كالمحرمات من جهة النسب.
وقوله: (ونحوه).
نحو الشيء مثله، أو شبيهه، المراد: نحوه في الجانبين في الأعضاء، وفي التحريم، فنحوه في الأعضاء كاليد والرأس والرجل والظهر وغيرها من الأعضاء المتصلة، ونحوه في المحرمات كالأخت والعمة والخالة وغيرها.
(315/6)
________________________________________
حكم قول: أنتِ عليّ حرام أو كالميتة والدم
قوله: [أو أنتِ عليّ حرام].
هذه الكلمة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهذه المسألة فيها ما لا يقل عن عشرة أقوال لأهل العلم رحمهم الله، وكان يحكي بعض العلماء أن هذه المسألة بلغت عشرين قولاً من كلام السلف والخلف رحمهم الله، وهي قول الرجل لامرأته: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ مني حرام.
أو: أنتِ لي حرام.
وبعضهم يلحق بها: أنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ محرمة، وعليّ الحرام منكِ، ونحو ذلك.
فهذه الألفاظ اخُتلف فيها، فبعض العلماء يقول: توجب الطلاق.
ثم اختلفوا على أقوال: فمنهم من يقول: تقع ثلاث تطليقات.
ويروى هذا عن بعض السلف منهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من يقول: طلقة بائنة.
ومنهم من يقول: طلقتان، ومنهم من يقول: طلقة إن نوى فيها.
ثم قال آخرون: إنه ليس بطلاق، وإنما هو لغو لا شيء على قائله وبه قالت الظاهرية وغيرهم.
ومنهم من يقول: إنه يمين يوجب الكفارة.
وهذا مأثور عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيره.
ومنهم من يقول: إنه إذا قال لها: أنتِ عليّ حرام فظهار، ويروى عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل.
والحقيقة أن هذه المسألة ذكرنا الأقوال فيها والأدلة والمناقشة والردود في باب الطلاق، والصحيح في هذه المسألة أن هذا الكلام ليس بظهار مطلقاً، وإنما العبرة بالنية، فإن قال: أنتِ عليّ حرام قاصداً الطلاق فطلاق، ثم ينظر في قصده إن قصد الطلقة فطلقة، وإن قصد الطلقتين فطلقتين والثلاث فثلاث، إلا أن فيه وجهاً أن الطلقة تكون بائنة كطلقة الفسخ.
وأما إذا قال: قصدت الظِهار فإنه ظهار، وإذا قال: لم أقصد شيئاً فالأشبه والأفضل أنه يكفر كفارة يمين خروجاً من الخلاف، وهناك وجه بأنه لا شيء عليه؛ لأن الله لم يحرمها؛ لأنه إذا قال: أنتِ عليّ حرام لم يوافق الأصل الشرعي، فليست بحرام حقيقة ولا شرعاً.
فهذا ما يقال في قوله: أنتِ عليّ حرام، ويستوي في هذا: أنتِ حرام، وأنتِ الحرام، وحرمتكِ، وأنتِ عليّ أو مني أو معي.
قال: [أو كالميتة والدم].
قوله: [أو كالميتة] إذا قال لها: أنتِ عليّ كالميتة، فهذه ألحقوها بقوله: أنتِ عليّ حرام، والحنابلة قياساً يرون قوله: أنتِ الحرام ظهاراً، وعندهم قول الصحابي حجة، فلما أفتى عثمان بأنه ظهار قالوا: إن هذا يدل على أن لفظ التحريم في الأصل يقتضي الظِهار، فإذا ذكر محرماً كالميتة والخنزير والخمر فشبهها به يكون في حكم الظِهار.
ومنهم من يقصر على الميتة.
لكن الصحيح ما ذكرناه، فإذا قال لها: أنتِ كالميتة يسأل عن نيته.
وعند المالكية رحمهم الله إذا قال لها: أنتِ كالميتة فإنه طلاق بالثلاث فتحرم عليه.
وهذا قول قوي جداً، وهو أنها تكون محرمة عليه بالثلاث، بخلاف قوله: أنتِ عليّ حرام، أما أنتِ عليّ حرام فتدخل في الاحتمالات؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، لكن إذا قال لها: أنتِ كالميتة، فهذا الوجه في تشبيهه إذا قصد به الظِهار فظهار، وإذا قصد به الطلاق فطلاق، لكنه أشبه ما يكون أن يقع ثلاثاً.
لكن لو قال لامرأته: أنتِ عليّ كالميتة فهنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن القاضي يعزره ويؤدبه، فإذا رأى تأديبه بالسجن سجنه، أو بالضرب ضربه، أو بالتوبيخ وبخه، فلابد أن يزجره؛ لأن هذا مما يوجب التعزير عند العلماء رحمهم الله.
قوله: [والدم] كذلك لو قال لها: أنتِ عليّ كالدم.
قوله: [فهو مظاهر] أي: كل ما تقدم يحكم بكونه مظاهراً.
(315/7)
________________________________________
حكم قول الزوجة لزوجها: أنتَ عليَّ كظهر أبي
قال رحمه الله تعالى: [وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته] في هذه الجملة سيبين المصنف رحمه الله أن الظِهار لا يصح إلا من الزوج، فلا يصح من الزوجة أن تظاهر من زوجها بأن تجعله في مقام أبيها أو أخيها أو ابنها، أو نحو ذلك ممن هم من القرابة، وعلى هذا جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، واستدلوا بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3].
فدلت هذه الآية الكريمة على أن الظِهار إنما يقع من الزوج لزوجته، ولهذا لو قالت المرأة لزوجها: أنتَ عليّ كأبي، أو أنتَ عليّ كأخي، أو نحو ذلك فليس بظهار.
قوله: (وعليها كفارته).
اختلف العلماء رحمهم الله في الواجب عليها، فجمهور الأئمة على أن المرأة لو خاطبت زوجها وقالت له: أنتَ عليّ كأبي قاصدة الظِهار، فإنه لغو ولا شيء عليها، فلا كفارة يمين ولا كفارة ظهار، وإنما قالت منكراً من القول وزوراً مما لا يعتد به ولا يشتغل به، ولكن لا شك أنها قالت أمراً يحرم عليها قوله، فتستغفر الله وتتوب إليه.
وذهب طائفة من العلماء إلى أنها لو قالت لزوجها: أنت عليّ كأبي، فإنها تكفر كفارة اليمين، كما قاله الإمام الأوزاعي الفقيه الشامي المشهور.
وقال بعض العلماء: بل تكفر كفارة الظهار.
والصحيح القول الأول: أنه لا كفارة عليها؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على ثبوت كفارة الظِهار في الظِهار المعتبر، وهذا ليس بظهار، وثبوت كفارة اليمين في اليمين المعتبرة، وهذا ليس بيمين، وبناءً على ذلك فإنه لا يصح إلحاقها بالزوج في إيجاب الكفارة عليها.
ولذلك لو قال رجلٌ لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي لزمته الكفارة بالعود -أي: بالجماع- ولم تلزمه لمجرد القول، فما دام أنهم يقولون: إن الظِهار لا يقع فمعنى ذلك أنها تعود إلى زوجها، ولذلك يقوى القول بأنه لا تجب عليها الكفارة أصلاً، وأن هذا لغو، ولا شيء عليها إلا الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.
وهذا إذا لم تقصد بقولها: أنت عليّ كأبي التكريم؛ لأنها ربما قالت لزوجها وبعلها -من باب الإكرام-: أنتَ عليّ كأبي.
أو أرادت أن تعزه وتجله فتقول له: أنت في مقام أخي، أو: أنت عليّ كأخي، ولا تقصد بذلك تحريماً.
(315/8)
________________________________________
الأسئلة
(315/9)
________________________________________
حكم قول الزوج: أنت علي حرام كحرمة مكة
السؤال
قول الرجل لامرأته: أنتِ حرام عليّ كحرمة مكة، هذا يكون طلاقاً أو ظهاراً؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالتحريم ذكرنا فيه الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وهنا شبه تحريمها بمحرم؛ لأن مكة لها حرمة، وأصل الحرام مأخوذ من: حرم الشيء يحرم حرمة فهو حرام، والحرام هو الممنوع؛ لأن مكة لها حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس) وقال -كما في الصحيحين-: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض).
فهذا يدل على أن لها حرمة، وتشبيه الزوجة بأنها محرمة عليه وممنوعة منه كالممنوع من مكة مما حرم الله عز وجل لا يختلى خلاها ولا يقطع شوكها ولا يسفك بها الدم، هذا وجه شبه واضح من جهة التحريم، فالمعنى فيه كما لو شبهها ببقية المحرمات.
وأما هل هو ظهار؟ أم طلاق فهذا يفصل فيه على ما تقدم من خلاف العلماء رحمهم الله في مسألة التحريم، وهو أنه يسأل عن نيته إن قصد به الطلاق فهو طلاق؛ لأنها تحرم عليه وتمنع منه كما حرم أي شيء من المحرمات، فإذا قصد به الطلاق فهو طلاق، وإن قصد به الظهار فهو ظهار؛ لأن المعنى موجود، وإن قصد به اللغو فقال: خرج مني هذا اللفظ ولا أقصد معناه فلغو، لكنه يعزر.
والله تعالى أعلم.
(315/10)
________________________________________
حكم ثقب إذن المرأة لتعليق الذهب
السؤال
ما حكم ثقب الأذن للنساء لتعليق الذهب وغيره؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، لكن جمهور العلماء وجماهير أئمة السلف والخلف على جواز ثقب أذن المرأة من أجل وضع الحلي، والذين قالوا: إنه لا يجوز؛ قالوا لأنه مثله وتعذيب للصبية، وتعذيب للإنسان نفسه إذا كان كبيراً ولأن الزينة مرتبة كمالات، وتعذيب البدن لا يجوز إلا في الضروريات والحاجيات.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من جواز ثقب أذن الصبية، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن أم زرع أنها قالت: (وأناس من حُلِيِّ أذني) وهذا لا يكون إلا بالقرط المعلق في الأذن، وفي الصحيحين من حديث بلال رضي الله عنه: (فجعلن يلقين من حليهن وأقراطهن)، والقرط لا يثبت في الإذن إلا بالوخز والحفر، فهذا الدليل يدل على مشروعية وجواز ثقب أذن الصبية، ولا بأس في ذلك ولا حرج فيه.
والله تعالى أعلم.
(315/11)
________________________________________
حكم إنزال الجنين في الشهر الأول لعذر
السؤال
إذا حملت المرأة في الشهر الأول وأرادت أن تسقط حملها لأنها مريضة، هل يجوز لها القيام بذلك؟
الجواب
في إسقاط الجنين قبل الأربعة الأشهر الجمهور على أنه لا يجوز؛ إعمالاً للأصل، ومن العلماء رحمهم الله من رخص بجواز إسقاط الأجنة قبل الأشهر الأربعة، ومن حيث الأصول الشرعية لا شك أنه لا يجوز التعرض للأجنة إلا بدليل شرعي واضح.
وحديث ابن مسعود: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) يدل على أنه خلق، والجمع هذا جزء من الخلق، ولا يجوز التعرض للخلق، والشريعة لا تجيز للأطباء أن يتدخلوا في أبدان الناس إلا في جانبين: الجانب الأول: الطب الوقائي.
والجانب الثاني: الطب العلاجي والدوائي.
وغير هذين الجانبين لا يجوز للطبيب أن يتدخل في بدن الإنسان، ولذلك نقول: قالوا في تعريف الطب المشروع: حفظ الصحة حاصلةً واستبدادها زائلة بإذن الله عز وجل، فقولهم: (حفظها حاصلة): هذا الطب الوقائي، فالطبيب يعطي المريض إرشادات ونصائح تحافظ على صحته ولا يبتلى بمرض، فهذا من حفظ الصحة حاصلة.
وقولهم: (واستبدادها بإذن الله زائلة) كمريض أصابه المرض يعالج، وغير هذين الجانبين عبث، وتدخل في خلق الله عز وجل، واعتداء على حدود الله ومحارمه.
فلا يجوز للأطباء أن يقدموا على شيء يخرج عن هذين الهدفين، وما خرج عن هذين الهدفين يعتبر تدخلاً في خلق الله عز وجل مثل العبث في الجينات الوراثية، ومثل تغيير صفات الجنين قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف:54] هذا أسلوب حصر وقصر، أي: ليس لأحد أن يتدخل في الخلق، فالخِلقة للخالق، فهو الذي يصور، وهو الذي يدبر سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
فإذا جاء الطبيب يريد أن يتدخل في الخلقة جاءته اللعنة، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة والمتفلجة، وهي المرأة لا تستطيع تفلج أسنانها إلا بطبيب يحسن ذلك، فلعن الله المرأة التي تفعل، ولعن الله من يقوم بذلك الفعل، الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة، كلهن مغيرات للخلقة، ثم قال في: (المغيرات خلق الله).
والطبيب يحافظ على الصحة في الأبدان، ويدفع عنها بإذن الله؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله)، وأمر إنزال الجنين خرج عن هذا فليس بطب بل هو عبث ومجاوزة للحدود الشرعية، فالخلق إذا تخلق في بطن الأم نقول: فيه تفصيل، ولو كان يعرف الجنين بليلة واحدة، فلا نستطيع أن نقول: افعل أو لا تفعل إلا بنص شرعي، فهذه أبدان لها حرمات، وهذه أمور لا يجوز التسرع فيها؛ لأنها خلقة الله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى كما في الحديث: (فليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة) تعظيماً منه سبحانه وتعالى لما يفعله المصورون، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)؛ لأنه تدخل في الخلقة، ولو بالمشاكلة، فحينما يرسم تمثالاً، أو يرسم صورة تأتيه اللعنة ويعذب (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
فإذا كان هذا في مشاكلة الخلقة فكيف بالذي يتصرف بالخلقة نفسها، فهذه أمور لا تجوز، وهناك أمور ينبغي أن يسلم بها تسليماً، فنقول لهم: افعلوا كل شيء فيه مصلحة أو دفع مضرة، فإذا جئتم في أمر خارج عن هذا فليس من اختصاصكم.
فإن قال: نريد أن نتصرف في هذا الجنين، أو: نريد أن نسقطه نقول: أعطونا المبررات، كما لو كان خوفاً على الأم فعلاً وقرر ذلك الأطباء، ويسمى هذا النوع من الحل الحل المنتدب والمهاجر والقانوني.
فإن حملت فتخلق الجنين في القناة، وغلب على الظن أنه سينفجر ويقتل الأم ويموت، فلا الجنين باقٍ ولا الأم باقية، فلهذا المعنى يمكن أن يتدخل الطبيب ويسقط الجنين، فلا يتدخل إلا لحفظ النفس المحرمة، ومحافظة على الروح، وهذا له مبرور.
فهذا إجراء وقائي وداخل تحت الطب الوقائي، لكن أن يقال: ثبت ومن خلال الجينات والمعادلات أن هذا الجنين مشوه، فإن هذا ليس من اختصاصك، فالكون له رب، والخلق له رب يدبره ويصرفه، فلست أنت الذي تستدرك على الله عز وجل، وكم من مشوه في الخلقة فاق الكامل بصيرة وعلماً وخبرة، فـ عطاء بن أبي رباح إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم كان أشل أفطس مولى رحمه الله برحمته الواسعة، فالذي يأخذ ويعطي هو الله، وهذه أمور لها حكم ولها أسرار، فترى شخصاً مشلولاً فإذا رأيته تذكرت نعمة الله عليك، فهذه أمور لها حكم ترفع درجات المبتلى، وينبه غير المبتلى.
وهي أسرار وحكم إلهية ليست من اختصاص الأطباء، والأطباء لهم علم معين محدود لكن هناك أمور إلهية وأمور عقدية، وأمور لها تبعات، ولها أسرار وحكم، ولا يستطيع أحد أن يقف عليها.
ولذلك ينبغي أن يتقيد بهذا الأصل، وأقول من ناحية شرعية: إنه ينبغي على الإنسان أن يعلم أنه لا يحل لأحد أن يتصرف في خلقة الله عز وجل إلا بدليل شرعي، فإذا وجد الدليل الشرعي سار وفقاً له، فإن قالوا: لا ينفخ الروح فيه إلا بعد مائة وعشرين يوماً فهل نفخ الروح شرط في جواز إسقاط الأجنة، بحيث يجوز إسقاطها قبل؟! فأين المسوغ الشرعي للتصرف؟ وفي بعض الأحيان تجرى بعض العمليات بالكشف عن العورة، أو بالإيلاج في العورة، أو بالنظر إلى العورة، فأين الأدلة التي تعطي هذه المبررات؟! حتى إن بعض الأطباء يفتي بالجواز، دون النظر في حقيقة الإسقاط وطريقته والمحاذير الموجودة فيه، فهل كل امرأة جاءت تشتكي من أنها تتألم أو تجد بعض المتاعب في حملها نعطيها حبوباً لمنع الحمل أو نسقط أجنتها؟ فهذا كله مخالف للأصول الشرعية.
الأصول الشرعية والضوابط الشرعية ينبغي للأطباء والعلماء أن يتقيدوا بها، وإسقاط الأجنة ليس أمره من السهولة بمكان، وعلى كل عالم أن يذكر الناس بنعمة الله في الولد، أو يذكره بالعقيم الذي لا ينجب، وأن يذكر المرأة بالعقيم التي لا تنجب، وأن المسألة فيها أجور وحسنات، فالحمل كره والوضع كره، فلا يوجد حمل مبني على الراحة والطمأنينة.
ولماذا جعل الله فضل الأم على الأب مضاعفاً؟ ولماذا جعل الله طاعتها من البر والحق؟ وجعل لها رفعة الدرجة حتى جعل النفساء التي تموت في نفاسها شهيدة، فأعلى درجتها ومكانتها لهذه الأمور، وهذه أمور قدرها الله عز وجل لا يتدخل الإنسان فيها طبيباً ولا غيره، حتى الأصول الشرعية العامة تمنع، فعندما يتأمل أي إنسان عنده ذرة من الفقه أن مقصود الشرع تكثير نسل وسواد الأمة يعلم أن هذا مصان.
حتى النكاح ما وجد إلا من أجل كثرة الأمة، فكيف يقال: يجوز أن تسقط؟ وبكل سهولة تأخذ المرأة حبوب منع الحمل، وتأخذ ما يسقط الأجنة، وتعمل العمليات التي تسقط الأجنة، وكل هذا بناء على أن الجنين لم يكتمل خلقه إلا بعد مائة وعشرين يوماً.
مع أن حديث ابن مسعود فيه اختلاف في اللفظ، ويحتمل أن النفخ يكون في الأربعين يوماً.
وهذا أمر ينبغي أن يدرك، حتى إن بعض الأطباء يستشكل هذا، وعلى كل حال فالذي أريد أن أنبه عليه ألا يتوسع في الفتاوى، وأن تدرس بعمق، وأوصي طلاب العلم -خاصة في هذا الزمن- بعدم قبول أي فتوى طبية تصدر دون أن يكون الذي أفتى بها قد جلس مع الأطباء، ودرس وعرف المصلحة أو المفسدة من تلك الفتوى.
وأنا أحببت أن أنبه على هذا لأهمية الأمر، ووالله ثم والله إنه لأمر يحزن أن تجد المسلمين يتناقصون وأعداء الإسلام يكثرون، ففي بلاد الكفر لا يمكن أن تصرف حبوب منع الحمل إلا بوصفات طبية، وتحت إشراف الأطباء، ونحن على عكس ذلك، وهم لا يريدون من المسلمين أن يكثروا.
والمرأة تجدها تشتكي تقول: إنها قد كان منها حمل قبل ذلك.
ولا تنظر إلى أمها التي حملت أربعة عشر ولداً، ومن النساء من أنجبت عشرين ولداً، وأنجبت وهي ترعى الغنم في الصحراء والقفار، وما ازدادت الأمة إلا عزة ومنعة وكرامة، لكن هذه أمور ينبغي أن تدرس بعناية، وعلى من يفتي فيها أن يكون عنده إلمام ونضج تام بالأمور الشرعية.
فالخلقة خلقة الله، والمسألة عقدية يرد فيها اللعن.
فالشاهد من هذا كله مدى خطورة الأمر؛ لأنه متعلق بالاعتقاد.
والقضية الأخيرة التي أنبه عليها أنه قل أن تجد أحداً يسأل في مسائل إسقاط الأجنة من النساء أو الرجال إلا وجدت عنده خللاً في الاعتقاد، إلا من كان له مبرر شرعي.
فامرأة لا تريد الولد، وفي الظاهر تقول: الأولاد أتعبوني هي امرأة تنظر إلى المادة وتنظر إلى المال، فينبغي للفقيه أن يدرك وأن يكون بعيد النظر، فهذه ليست مبررات، وكل امرأة تعلم أن هناك تعباً وعناءً، لكن المسألة راجعة إلى فساد الاعتقاد.
ولذلك كان بعض مشايخنا يقول: يرد الشرع باللعن على الواشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجة بالحسن المغيرة لخلق الله عز وجل؟ قال: لما تأملت وجدت الأمر يرجع إلى الاعتقاد؛ لأن التي نمصت شعر حاجبها، أو شعر وجهها، أو التي تفلجت بحسن كأنها لم ترض بخلقة الله عز وجل لها بهذا الشكل، ولذلك جاء في آخر الحديث: (المغيرات خلق الله)، فجعل الأمر راجعاً إلى محبة تغيير الخلقة.
فعلى كل حال علينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نعلم علم اليقين أن ما نقول عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك سنحاسب عنه، وأن المسائل الاجتهادية والأمور التي تنبني على الرأي ينبغي أن تفهم، وأن يكون هناك تصور كامل للوقائع والنوازل، وألا تستغل الفتاوى، وأن يكون هناك علم وبصيرة عند تناول المسائل، خاصة المستجد منها.
ومن الأمور التي ينبغي للفقيه والعالم أن يدركها أنه كلما أكثر من الجلوس مع الأطباء تكشفت له أمور لم تكن له بالحسبان، وقد تجد أقوالاً متناقضة، فتجد الأول يقول لك: هذه عملية بسيطة، وما فيها شيء، ونسبة النجاح فيها (90%)، وتجد الثاني يقول لك: هذه عملية خطرة، ونسبة النجاح فيها (30%).
فتجد التضارب الذي تستطيع أن تصل به إلى الحق في الأمر، وتكون أنصح للأمة وأتقى في فتاويك وفي أقوالك، وأنا أوصي بذلك طلاب العلم؛ لأن بعض الناس أصبح يتس
(315/12)
________________________________________
حكم قضاء الوتر وقت الضحى واندراج الضحى في القضاء
السؤال
رجل فاته الوتر من الليل ثم قضاه بعد طلوع الشمس -أي: في وقت الضحى- فهل يقوم قضاؤه هذا مقام صلاة الضحى أم لا؟
الجواب
النوافل تنقسم إلى قسمين: نوافل مقصودة، ونوافل غير مقصودة.
فالنوافل المقصودة التي يتحقق مقصود الشرع في الاندراج فيها يحكم فيها بالاندراج، والنوافل التي لا يتحقق بها مقصود الشرع في الاندراج لا يحكم فيها بالاندراج.
فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك ... ) الحديث، فلو صلى الضحى، أو صلى راتبة الظهر القبلية أو البعدية، وبعدها استخار يصح؛ لأنه قال: (فليركع ركعتين من غير الفريضة).
وقال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين)، فلو دخل وصلى راتبة الظهر القبلية أجزأت عنه؛ لأن مقصود الشرع ألا يجلس حتى يصلي، لكن إذا كان مقصود الشرع الراتبة بعينها -أي: للنافلة بعينها- فبالاندراج لا يحصل مقصود الشرع، فلا يحكم بالاندراج.
ومن ذلك: مسألة الوتر، فإن الوتر إذا قضي في النهار يشفع، فيضيف ركعة واحدة ويصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها- صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة.
فدل على أن قضاء الوتر في النهار يكون شفعاً، فإذا صلى الوتر فالصلاة ليلية في الأصل وليست بنهارية، ومقصود الشرع في كلا الصلاتين معتبر، فلليل صلاته وللنهار صلاته، وحينئذٍ لا يحكم بالاندراج، فيصلي الضحى بركعتين خاصتين على الأقل، وإن شاء أن يزيد بأربع، أو ست، أو ثمان إلى اثنا عشر فإنه أفضل وأكمل، وأما للاندراج فإنه لا يتحقق في مسألة قضاء الوتر.
والله تعالى أعلم.
(315/13)
________________________________________
حكم إعطاء الزكاة في شراء بضاعة لمن لديه بقالة بها بضاعة قليلة حتى يتحسن دخله
السؤال
أخي معاشه لا يكفيه هو وعائلته، وعنده بقالة بها بضاعة قليلة، فهل يجوز أن أعطيه من زكاة المال لكي يشتري بضاعة للمحل فيتحسن دخله ومعاشه؟
الجواب
لا يجوز صرف الزكاة لأخيك إلا إذا أصابه النقص في نفقته على ولده، فتعطيه المال من باب استخدامه في الإعانة ثم هو وشأنه إن أراد أن يصرفه في الدكان، أو أراد أن يصرفه في تجارة، لكن لا تشتر أنت له البضاعة، ولا تقل له: خذ هذا المال واشتر به بضاعة.
فإذا كان الأخ عنده -مثلاً- مال، أو سيارة يستخدمها أجرة، ودخله في اليوم -مثلاً- ثلاثون ريالاً، وهو مع أسرته يحتاج إلى خمسين ريال، فالعجز عنده يصل إلى العشرين، ففي هذه الحالة تعطيه زكاة تغطي هذا العجز، وكونه يملك هذا الشيء لا يمنع أن يكون من أهل الزكاة؛ لأن الله تعالى يقول: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف:79]، فأثبت أنهم مساكين مع أنهم يملكون سفينة.
وهذا يدل على أن الأمر يتأثر بالعرف، فإذا جرى العرف أنه يكون في حدود المسكنة فهو مسكين، فإذا كان لا يكفيه دخل الدكان تعطيه من الزكاة على أنه سد لعوزه وعجزه، والفرق بين كونك تعطيه على أنه سد لمسكنة أو فقر وكونك تعطيه من أجل الدكان أنه ربما كان الدكان يحتاج لإصلاحه إلى خمسة آلاف ريال، وهو في عجزه يحتاج إلى ألفين، فحينئذٍ واجب أن تعطيه الألفين ولا تعطيه الثلاثة الآلاف الزائدة، وإذا أعطيته الثلاثة الآلاف وجب عليك قضاؤها؛ لأنها ليست بزكاة.
فهذا إذا كان عنده عجز، لكن إذا كان يريد أن يشتري بضاعة هناك حل آخر، وهو أنه يمكن أن يتحمل ليشتري هذه البضاعة ويستدين بالدين، فإذا وقع في الدين وكان هذا في حدود ما يصرح به دون زيادة فإنه في هذه الحالة يجوز أن تسدد من دينه على قدر حاجته وسد عوزه، وهذا من باب سهم الغارمين، فتعطيه سداداً لدينه من جهة الغرم؛ لأن الغرم إذا كان لسبب شرعي ليس فيه سفه أو حرمة فإنه يجوز صرف الزكاة سداداً للدين فيه.
والله تعالى أعلم.
(315/14)
________________________________________
كيفية الجمع بين إنكار المنكر وستر المسلم
السؤال
كيف نميز بين إنكار المنكر وستر المسلم؟
الجواب
يمكن أن تنكر المنكر وتستر، فإذا رأيت عاصياً ارتكب معصية وأطلعك الله على معصيته.
جئته وقلت له: يا فلان اتق الله! فهذا الذي تفعله لا يجوز، ولا يرضي الله عز وجل، فخف من الله سبحانه وتعالى.
فتأمره وتنهاه، ثم تستره، فلا تذهب تقول للناس: فعل فلان.
وهنا أنبه -كما يذكر بعض العلماء رحمهم الله- أنه كم من مذنب شقي الصالح بذنبه، فتجده مذنباً لكنه في قرارة قلبه نادم، ويتألم على هذا الذنب، ويتمنى أن الله يعافيه، ويبكي كلما أصاب الذنب، ويسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه، وآخر يشمت به، ويكشف ستر الله عز وجل عليه، ويجلس في المجالس يتحدث عنه إما تصريحاً وإما تلميحاً، حتى -والعياذ بالله- يأخذ من حسناته على قدر ظلمه له حتى يشقى والعياذ بالله.
فهذا من الشقاء؛ لأنه -والعياذ بالله- يتحمل السيئات بشماتته بالمذنب، فهذه مصيبة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية، فيخسر من حسناته، ولربما فنيت حسناته بالكلام في الناس، كما قالوا: رب قائم صائم حسناته إلى غيره، نسأل الله السلامة والعافية، وكل هذا بآفات اللسان التي يطلقها الإنسان في عورات المسلمين دون رادع وخوف.
وأعظم ما يكون كشف الستر إذا كان في الأمانات، فلو جاء شخص وبث له سراً من أسراره فإن تكلم بذلك وأخبر به فقد خان وضيع الأمانة، ووزره عظيم، وبعض أئمة المساجد والخطباء يأتيه المذنب ويتكلم معه، فيذهب يقول: فلان يفعل.
وهذا من أعظم الذنوب، ومن أعظم الخيانة للأمة.
وحدث للوالد رحمة الله عليه حادثة ذات مرة أنه كان معه شخص يستفتيه في مسألة، وكنت صغير السن، فسألته عن بعض ما استفتاه، فقال لي: يا بني! والله لو ضربت مني هذه ما أخبرتك، فهذه أسرار وعيوب الناس.
فوالله ما نشأت من الصغر إلا وأنا أستشعر هذه الكلمة، وقلّ أن يأتي أحد عنده مشكلة زوجية، أو أمر خاص إلا تذكرت قوله: لو تضرب مني هذه ما أفشيت منها سراً.
فهذا أمر عظيم جداً، فالذي يكتب للقاضي عليه أن يتقي الله، وأي شخص يبتلى بمسئولية أمام الناس فتأتيه أسرارهم فلا يهتكها، ولو كانوا عصاة، ولو كان مجرمين فلا تتكلم فيهم وتهتك ستر الله عز وجل عليهم.
ولذلك لما تنتشر الأخبار بالسيئات يدمر المجتمع، ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إنكم تسمعون عن الرجل زلة فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام.
فالله ستيّر، ويحب الستر من عباده، وهو الذي ستر المذنب وأمده بعفوه وعافيته، وهو قادر أن يخسف به الأرض التي هو عليها.
فالمقصود أن الإنسان دائماً يحرص أن ينكر المنكر وأن يستر أخاه المسلم، ولذلك لما جاء ماعز واعترف بأنه زنا -وقد حرضه قومه على ذلك حتى جاء- قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (هلا سترته بثوبك).
فالله يحب الستر على عباده وأمر بالستر، فالإنسان يمكنه أن ينكر المنكر ويستر أخاه المسلم، حتى لو أنك جلست مع أخيك لحظة ورأيت فيه عيباً في كلامه، أو ملاحظة عليه في شيء فلا يجوز لك أن تخون هذه الأمانة، وإذا استأثر بك ودخلت عليه في غرفته وسكنه، ورأيت أموراً خاصة، فهذه كلها أسرار، وما قام الدين إلا على التعظيم لحرمات الله عز وجل، وقد وصف الله أهل الجنة بأنهم حافظون لحدود الله عز وجل فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس.
ومما يعينك على أنك تستر الناس أن تنزل نفسك منزلة هذا الرجل، أو أن تنزل المرأة نفسها منزلة هذه المرأة، فما الذي تحب منها، وما الذي تنتظر منها؟ ولذلك أحب الله الستر، ومن حبه سبحانه للستر أنه يستر من ستر عباده، وأعان من سترهم.
حتى إن الشخص يستر فيأتيه الشيطان يقول له: تكلم، وقل كذا، فيأتيه الشيطان يأزه لأجل هذا، فالله يمده بعونه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فالله يعينك في مدة عونك لأخيك، فمن عونك لأخيك أنه كلما رأيت أمراً فيه خير لأخيك المسلم وجب عليك أن تفعله، والشيطان يمنعك من فعله ويأتيك بمبررات، حتى إن الشيطان في بعض الأحيان يسول للإنسان المعصية باسم الطاعة، وهذا أمر -نسأل الله السلامة والعافية- يزين فيه سوء العمل ويجعله حسناً.
فعلى كل إنسان أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الستر يحبه الله عز وجل، وكم من قضايا نعرفها والله ما صلحت أحوال أهلها إلا بفضل الله ثم بالستر، وكم من بيوت استقامت، وكم من أسر حفظت، حتى إن رجلاً كان مبتلى -والعياذ بالله- بشرب الخمر، وشاء الله عز وجل أن يقع في يد رجل صالح وكان من أسرة طيبة، فكاد أن يفضح، فقام هذا الرجل الصالح وستره قبل أن تبلغ الحدود إلى السلطان، فقام وستره ونصحه وذكره بالله عز وجل، ثم رده إلى بيته وهو في حال السكر، ولما أصبح الرجل وعلم بالحقيقة جاء إليه وبكى عنده، وعاهد الله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، واهتدى وصلح حاله، وهذا بفضل الستر عليه.
وكل العلماء متفقون مجمعون على أن الرجل لو رأى رجلاً يزني بامرأة في ستر الله عز وجل فالأفضل والأكمل ستره ما لم يكن فاجراً ينشر الفاحشة، أو امرأة -والعياذ بالله- تقود إلى بيتها وتفتح بيتها للدعارة، أو نحو ذلك من المعاصي التي ينتشر خطرها كالمخدرات ونحوها، فهذه لا تستر، ولا يجوز الستر عليها، ولا التستر على أهلها.
فنحن نتكلم عن شخص وقع في معصية وذنب فيما بينه وبين الله، من شرب خمر، أو زنا، أو نحو ذلك فابتلي بهذا الشيء، فهو يحتاج إلى ستر، ويحتاج إلى أن تهيئ له الأسباب، فالله يحب الستر، ولا تغتر بالطاعة وأنت تنعم في نعم الله عز وجل فرحاً بما أعطاك الله عز وجل، وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وتحس أن أخاك يقوده الشيطان ويأزه إلى الباطل أزاً، فتمد له يداً أمينة صالحة تنقذه فيها لعل الله عز وجل أن يحجبك بهذا العمل عن النار.
إن العبد ليعمل العمل من طاعة الله عز وجل يكون سبباً في دخوله للجنة، وربما يحبه الله بسبب هذا العمل ويكون سبباً في دخوله الجنة، ومن أفضل الأعمال وأحبها عند الله -كما قرره أئمة الإسلام رحمهم الله- الأعمال التي يتعدى نفعها إلى الآخرين.
ولذلك جعل الله فضل العلم على العبادة عظيماً؛ لأنه متعد إلى الآخرين ونفعه ديني، ولذلك صرف الله النار عن عبد قاضى الناس وأعطى الناس ديناً، فكان يرحمهم إذا أراد السداد، فتعدى نفعه إلى غيره، فكفاه الله عز وجل ما أهمه، وغفر له ذنبه، وقال: (يا ملائكتي نحن أحق بالعفو من عبدي، تجاوزوا عن عبدي).
فالإنسان إذا أحسن إلى الناس فالله سبحانه وتعالى لا ينسى المعروف، وقد قيل: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان فتأسر قلوب الناس بالمحبة لك، فإن كنت إماماً أحبوك، وإن كنت واعظاً رضوا بك، وإن كنت موجهاً قبلوك، وكل هذا بفضل الله عز وجل؛ لأنه ما يستر إلا من سكنت الرحمة في قلبه، وهل الإسلام إلا دين الرحمة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فـ ماعز جاء يقول: (يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني -كما في صحيح مسلم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ارجع فاستغفر الله ثم تب إليه) وأربع مرات يصرفه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دين الرحمة ودين الستر، فعلى المسلم أن يحرص على هذه الأعمال الصالحة الطيبة المباركة، ولا يزال العبد بخير ما نوى الخير وفعله لإخوانه المسلمين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ونسأله بعزته وجلاله أن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(315/15)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [3]
جماهير السلف والخلف من الأئمة رحمهم الله على أن الظهار لا يصح إلا من الزوج، فإذا وقع ظهار من الزوجة تجاه زوجها فإنه لا يقع ولا تترتب عليه كفارة، وإنما عليها الندم والاستغفار.
وقد نص العلماء رحمهم الله على حرمة أن يطأ المظاهر زوجته قبل أن يخرج الكفارة، واختلفوا في دواعيه ومقدماته، كما أن الراجح في الظهار أنه يصح من كل زوجة ولا يدخل في ذلك الإماء.
(316/1)
________________________________________
تابع أحكام الظهار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
(316/2)
________________________________________
وقوع الظهار من كل زوجة
فيقول المصنف رحمه الله: [ويصح من كل زوجة] أي: يصح الظِهار إذا كان متعلقاً بالزوجة.
وقوله: [من كل زوجة] (كل) من ألفاظ العموم، فيشمل الزوجة الصغيرة والكبيرة، ويشمل الزوجة التي قد دُخل بها، أو عقد عليها ولم يدخل بها.
كذلك أيضاً يشمل الزوجة الطاهرة والحائض، فيشمل كل من يصدق عليها وصف الزوجة؛ لدليل العموم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فأثبت أن الظِهار متعلق بالنساء.
والذي يفهم من هذه العبارة أنه لا يصح الظِهار من أجنبية، فلو قال لامرأة أجنبية ليست بزوجة: أنتِ عليّ كأمي، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه ليس بظهار، لكن كونه يخاطب امرأة أجنبية بهذا الخطاب فإنها لو اشتكت إلى القاضي فإنه من حق القاضي أن يُعزِره ويؤدبه لهذا الخطاب.
كذلك أيضاً في قوله: [من كل زوجة] نفهم منه أنه لا يصح الظِهار إذا كانت أمة مملوكة، فلو قال لأمة من إمائه: أنتِ عليّ كظهر أمي لا يقع الظهار، ولا تحرم بهذا القول؛ لأن الله عز وجل خص الظِهار بالنساء بقوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، والمرأة المملوكة ليست من النساء، وإنما هي من ملك اليمين، ولذلك فرق الله عز وجل بين النساء وبين ملك اليمين كما في آية النور في قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.
} [النور:31]، وآية الأحزاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
} [الأحزاب:50]، ففرق بين النساء وملك اليمين، فلما قال تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دل على أن ملك اليمين غير النساء.
والأصل يقتضي أن مملوكة اليمين -وهي الأمة- لا تأخذ حكم الزوجة من كل وجه، ولذلك لا يتعلق بها الظهار، فإذا لم يتعلق بها الظِهار لا يتعلق بها الطلاق.
فصح دليل النظر والأثر على أن الظِهار لا يتعلق بالإماء، ويستوي في الإماء أن تكون أم ولد أو غيرها؛ فإن المرأة إذا كانت موطوءة بملك اليمين فلا توصف بالزوجية، ولا تأخذ حكم الزوجية.
وبناءً على ذلك يختص الظِهار بالمرأة التي عقد عليها عقداً شرعياً، سواءٌ أو قع الدخول أم لم يقع.
وما سبق تقريره قد ظهر من أقوال بعض العلماء خلافه، فهناك من العلماء من أثبت الظِهار من الأجنبية، وهذا مروي عن بعض السلف وبعض الأئمة، وحفظ ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وكلك أيضاً للأمة، فبعض العلماء يفرق فيقول: إذا كان عنده إماء وقال: أنتن عليّ كظهر أمي لننظر في من كانت منهن يطؤها فإنه يلحق بها الظِهار، والتي لا يطؤها لا يلحق بها الظهار.
ومنهم من فرق في الإماء بين أم الولد وغيرها، وهذا كله مرجوح؛ لأن الآية نصت على أن الظِهار متعلق بالزوجات، وبناءً على ذلك لا يتعلق بغير الزوجات.
ويبقى السؤال لو قال لها: أمركِ بيدك.
ففي الطلاق قلنا لو قال لها: أمركِ بيدكِ فقالت: طلقت نفسي فحينئذٍ يقع الطلاق، لكن لو قال لها: أمركِ بيدك فقالت: أنتَ عليّ كظهر أبي فهل يقع الظهار؟ نقول: لا؛ لأن الآية نصت على أن هذا الحكم خاص بالرجال، ولا يدخله الاستنابة والتفويض كالحال في الطلاق.
(316/3)
________________________________________
ما يصح من أنواع الظهار
قال رحمه الله تعالى: [فصل: ويصح الظِهار معجلاً ومعلقاً بشرط].
شرع رحمه الله في صيغة الظهار، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي فإما أن يعجل وينجز، وإما أن يعلق.
فالحالة الأولى: أن يكون الظهار منجزاً، فإذا أنجز يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقد أنجز ولم يعلق ظِهاره على شيء، فيقع الظهار.
والدليل ظاهر الكتاب وظاهر السنة، فالأصل في الظِهار أنه يقع منجزاً، والإجماع منعقد على أن صيغة الظِهار المنجزة والمعجلة واقعة إذا صدرت مستوفية للشروط المعتبرة.
والحالة الثانية: أن يكون الظِهار معلقاً، والتعليق بشرط كأن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت.
أو: أنتِ عليّ كظهر أمي إن كلمت فلانة أو ذهبت إلى كذا، فهذا كله معلق بشرط، فإذا وقع الشرط وقع الظهار، فلو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي إن خرجت من البيت فخرجتْ وقع الظهار، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك يقع الظِهار معلقاً، فإذا وقع الشرط حكم بثبوت الظِهار، وجرت الأحكام المعتبرة عليه.
قال رحمه الله: [فإذا وجد صار مظاهراً].
قوله: [فإذا وجد] يعني الشرط، وقوله: [صار] أي: الزوج، وقوله: [مظاهراً] لأنه فيما بينه وبين الله علق ظهاره على وجود شيء، ووجد ذلك الشيء، فلزمه ما التزمه فيما بينه وبين الله، وقد تقدم معنا بيان الأدلة على ثبوت الطلاق معلقاً، فكما أن الطلاق يقع معلقاً كذلك الظِهار يقع معلقاً.
قال رحمه الله: [ومطلقاً ومؤقتاً].
أي: ويصح الظِهار مطلقاً ومؤقتاً، يعني التقسيم في قوله: [معجلاً ومعلقاً بشرط] فالمطلق أن يقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهذا مطلق، فلم يقل: في الليل، ولا: في النهار، ولا: في اليوم، ولا: غداً، فما علق ولا قيد.
وقوله: [ويصح مقيداً ومعلقاً] كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر.
أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الأسبوع، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم.
فإذا جاء مقيداً -وهو المعلق بوقت معين- نقول له: إن امتنعت من قربانها وإتيانها طيلة هذا الوقت فلا شيء عليك، فكما أنه لم يقع وطء، ولا عزم على الوطء، فحينئذٍ إذا مضى الشهر حلت له وارتفع الظهار؛ لأنه جعل كونها محرمة عليه كحرمة الأم مؤقتاً بوقت معين، وهذا الوقت المعين المحدد يتقيد به الحكم الشرعي بالظِهار، فبيّن رحمه الله أن الظِهار المقيد بوقت أو بزمان يتقيد بذلك الزمان، فإن مضى هذا الزمان كاملاً وانتهى فإنه ينتهي الظِهار بانتهائه.
لكن لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر جمادى الأولى، أو: أنتِ عليّ كظهر أمي شهر رمضان، وأراد في رمضان أن يجامعها، وأن يعود إليها أو يمسها فإنه حينئذٍ تلزمه الكفارة، ما دام أنه قيّد الظِهار بشهر رمضان وأراد أن يعود وحصل منه العود في رمضان، لكن لو أنه سكن وصبر حتى انتهى رمضان يرتفع الحكم وتعود حلالاً له؛ لأنه جعل ظهاره مقيداً بزمان فيفوت بفواته.
قال رحمه الله: [فإن وطأ فيه كفّر].
قوله: [فإن وطأ فيه] يعني في الزمان الذي علق به أو قيد.
وقوله: [كفّر] أي: لزمته كفارة الظهار؛ لأنه سيأتي أن كفارة الظِهار لا تلزم إلا بالعود؛ لأن الله تعالى جعل العود شرطاً في وجوب الكفارة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فجعل لزوم الرقبة ووجوبها على الزوج مقيداً بالعود، وهذا هو شرط الكفارة، وسيأتي إن شاء الله بيانه.
وإذا ثبت هذا أنه شرط الكفارة فحينئذٍ لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهر، أو أنتِ عليّ كظهر أمي هذه الساعة، أو هذا اليوم، ومضى اليوم كاملاً دون عود فلا كفارة.
قال رحمه الله: [وإن فرغ الوقت زال الظهار].
قوله: [وإن فرغ الوقت] أي: الذي علق وقيد به، وقوله: [زال الظِهار] أي: رجعت حلالاً له، ولا تلزمه كفارة.
(316/4)
________________________________________
ما يحرم على المظاهر من زوجته قبل التكفير
قال رحمه الله: [ويحرم قبل أن يكفّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها].
يحرم على الزوج إذا ظاهر من زوجته أن يطأها قبل أن يكفر بنص القرآن: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، فألزم الله الكفارة قبل حصول المسيس، وهو كناية عن الجماع.
وقال بعض العلماء: يدخل في حكم الوطء مقدمات الوطء، ومن أهل العلم من خص الحكم بالوطء نفسه، والخلاف في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] هل المراد بقوله تعالى: {أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] الجماع أم لا؟ لأن الله عبر بالمس عن الجماع فقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] فيعبر بالمسيس عن الجماع.
ولذلك قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره للقرآن: (إن الله يكني).
وإذا ثبت هذا فمذهب طائفة من العلماء أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] المراد به: من قبل أن يقع الجماع.
وحينئذٍ لم يحرموا مقدمات الجماع، فيحلون للرجل المظاهر من زوجته أن يستمتع بالتقبيل والمباشرة فيما دون الفرج، وقالوا: لا حرج عليه ولا بأس.
والذين منعوا قالوا: إن قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] يراد به الوطء وفي حكم الوطء مقدماته؛ لأن ما منع من الوطء، يمنع من مقدماته كالإحرام؛ فإن الإحرام كما يمنع الوطء يمنع من مقدماته من المباشرة ونحوها، وكذلك الاعتكاف يمنع من الوطء ويمنع من مقدمات الوطء بالنسبة للصائم.
فإذا ثبت هذا قالوا: إن الحكم يبقى على الجماع ومقدمات الجماع، فلا يجوز له أن يستمتع بالمرأة بما يدعوه إلى وطئها، والآية محتملة.
إلا أن بعض العلماء رجح القول الذي اختاره المصنف من جهة قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فقال: إنه قصد التحريم، بدليل أنه لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي كان ظهاراً، والأم لا يجوز تقبيلها، ولا يجوز الاستمتاع بها مما دون الفرج، وقد وصفها بهذا الوصف، فحرمها تحريماً يشمل الجماع ويشمل مقدماته، فرد الأولون وقالوا: هذا حجة لنا لا حجة علينا؛ لأنه ما سمي ظهاراً إلا لقوله: أنتِ عليّ كظهر، والظهر كني به عن الركوب والجماع، فبناءً على ذلك يختص بالجماع.
وكلا القولين له وجهه، ومن قال بالدواعي يستدل بأن الشرع يحرم الوطء -كما ذكرنا- ويقصد من تحريمه تحريم كل ما يدعو إليه، ولأن ما يدعو إلى الشيء يغري بالشيء، وما يدعو سيوقع في الشيء.
وبناءً على ذلك قالوا: نحرم عليه الوطء ودواعيه، كما اختاره المصنف رحمه الله.
(316/5)
________________________________________
وقت ثبوت الكفارة في ذمة المظاهر
قال رحمه الله: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود].
هذه الجملة من فوائدها أن الرجل لو ظاهر من امرأته ثم توفي قبل أن يجامعها فلا كفارة عليه، ولا يلزم إخراج الكفارة من تركته والتكفير عنه، لكن لو أنه ظاهر منها ثم جامعها ثم توفي بعد جماعها لزمته الكفارة ووجبت عليه، وهذا معنى قوله: [في الذمة]، فتلزمه في ذمته أثناء حياته وبعد مماته، وهذا مخرج على القاعدة المعروفة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم)، وقد ذكرها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام، ومنها هذه المسألة، فالشخص لو فعل وارتكب ما يوجب التكفير ثم توفي مباشرة ثبتت في ذمته، ونُزِّلت ذمة الميت منزلة ذمة الحي، ووجب إخراج الكفارة من ماله وتركته.
فلا تلزم بالذمة إلا بالجماع، فلو أنه لم يجامع لم يتحقق العود.
قال رحمه الله: [ويلزمه إخراجها قبله عند العزم عليه].
إذا أراد الرجل أن يعود في ظهاره، وأراد أن يطأ المرأة فلا يجوز له أن يطأها حتى يقع منه التكفير، وبناءً على ذلك قالوا: إذا وجد العزم -أي: عزم على جماعها وإتيانها- يكفر وهذا مبني على حديث الترمذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمظاهر: (ولا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يكفر قبل أن يجامع، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل أن يقع الجماع.
(316/6)
________________________________________
حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة
قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره].
بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظِهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظِهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظِهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظِهار، خلافاً لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهباً للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية.
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل.
فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة.
فلو أنه قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنتِ عليّ كظهر أمي.
أنتِ عليّ كظهر أمي.
فكرر ثلاثاً في مجلس واحد، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك عليّ كظهر أمي.
ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي عليّ كظهر أمي.
فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكداً أو مخبراً أو مؤسساً، كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي.
أنتِ عليّ كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظِهار فكرره ثلاثاً أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيداً في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي تأكيداً لما قاله لها في الخلوة.
وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواءٌ أكان مؤكداً أم كان مؤسساً أم كان مخبراً، وهذه صورة.
والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات)، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة.
وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية.
وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء.
فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير.
قوله: [من واحدة] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة.
وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة].
لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي.
فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن.
وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن عليّ كظهر أمي.
وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة.
فجعله ظهاراً واحداً.
وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.
وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن عليّ كظهر أمي فإنه يتعدد الظِهار بتعدد المحل.
وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظِهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخولٍ بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولاً بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية.
فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها.
وبناءً على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول.
وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها.
قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات] هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها.
فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعاً: أنتن عليّ كظهر أمي، ويخاطبهن جميعاً بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها.
(316/7)
________________________________________
الأسئلة
(316/8)
________________________________________
حكم من طلق زوجته بعد ظهار منها ثم مراجعة لها
السؤال
إذا ظاهر الزوج من زوجته، ثم طلقها طلقة واحدة، ثم راجعها بعد انتهاء عدتها بمهر جديد هل يعتد بالظِهار في هذه الحالة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فالذي اختاره طائفة من العلماء أن طلاقها وخروجها من العصمة لا يهدم الظهار، وكذلك أيضاً دخول الطلاق ولو كان موجباً للبينونة، ولو أنها نكحت بعده فإنه يبقى ظِهاره لها، فلو عادت إليه يعود الظِهار، ولا تحل له إلا بعد أن يكفر؛ لأنه قد تعلقت ذمته بذلك الظِهار وثبت له حكمه شرعاً، فلزمه التكفير قبل الجماع.
والله تعالى أعلم.
(316/9)
________________________________________
حكم الفصل بين لفظ الظهار والتعليق
السؤال
لو قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي، وأضاف بعد فترة يسيرة قوله: هذا الشهر أو هذا اليوم، فهل الظِهار يتقيد الظهار حينئذٍ؟
الجواب
هذه المسألة فصلّنا في أحكامها، وهي مسألة التعليق في الطلاق، وبينّا أن التعليق عند العلماء إذا حكموا بصحته يشترطون أن تكون عنده نية قبل أن يذكر التعليق، فلو كان عند ابتدائه بالظِهار لم يكن في نيته التقييد، وإنما قصد ظهاراً تاماً، فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي.
ثم بدا له أن يعلق فقال: اليوم.
أو: الشهر لم يصح؛ لأنهم اشترطوا أن تكون نيته للتعليق قبل وقوع الظِهار منه، أما إذا وقع الظِهار فقد وقع منه مطلقاً بدون تعليق.
وبناءً على ذلك لا بد وأن يكون ناوياً للتعليق، وأن يكون التعليق متصلاً باللفظ، فيقول لها: أنتِ عليّ كظهر أمي هذا الشهرَ، أنتِ عليّ كظهر أمي هذا اليوم فإن حصل إخلال بهذين الشرطين لم يقع تعليقه معتبراً.
والله تعالى أعلم.
(316/10)
________________________________________
حكم ظهار الزوجة من زوجها إذا أسند الأمر إليها
السؤال
لو قال الزوج لزوجته: الأمر إليكِ فقالت: أنا عليك كظهر أمكِ، فهل يقع الظهار؟
الجواب
إذا أسند إليها الأمر فظاهرت فإنه لا يقع الظِهار منها؛ لظاهر الآية الكريمة.
والله تعالى أعلم.
(316/11)
________________________________________
حكم زكاة الحلي
السؤال
هل ذهب الهدية عليه زكاة، وبعضه قد لا يلبس إلا مرة؟
الجواب
الذهب فيه الزكاة إذا كان حلياً أو غير حلي، والدليل على ذلك عموم النصوص، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم نص يدل على استثناء الذهب الملبوس للحلي من الأصول الدالة على وجوب الزكاة، وأما حديث: (ليس في الحلي زكاة) فهذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية وهو ضعيف الرواية، والعمل على عدم ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن الحلي -سواءٌ وكان ملبوساً أم غير ملبوس، لبس أكثر الحول أم بعض الحول -الزكاة واجبة فيه؛ لأن عموم النصوص دالٌ على ذلك، وسواءٌ أكان هدية أم اشترته المرأة بنفسها، فلو أنها أُهدي إليها ذهب، وكان هذا الذهب الذي أهدي إليها قد بلغ النصاب فإنها تعتبر حول هذا الذهب من يوم القبض؛ لأن الهدية لا تملك إلا بالقبض، فإذا حكم بدخوله إلى ملكها حكم بوجوب الزكاة عليها، فتستقبل حولاً كاملاً، فإذا مر الحول وهو عندها فإنه يجب عليها أن تزكيه إذا كان بالغاً النصاب.
والله تعالى أعلم.
(316/12)
________________________________________
حكم صلاة المرأة الفريضة والمؤذن يؤذن
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تصلي الفريضة والمؤذن يؤذن، أم تنتظر حتى ينتهي الأذان؟
الجواب
يجوز لها ذلك؛ لأنه إذا دخل الوقت جازت الصلاة، لكن الأفضل والأكمل والسنة أنها تُردد مع المؤذن حتى تحل لها الشفاعة حينما تسأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة، وهذه هي السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة فقد حلت له شفاعتي)، فأي مؤمنة تفرط في هذا الفضل العظيم؟ وأي مؤمن يفرط في هذا الفضل العظيم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام الذي وعده، وأن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه تامة كاملة إلى يوم الدين.
والله تعالى أعلم.
(316/13)
________________________________________
كيفية التوفيق بين سد الفرجة في الصف والوقوف مع رجل منفرد خلف الصف
السؤال
إذا وجدت فرجة في الصف الأخير، ووجدت رجلاً واقفاً في صف لوحده، فهل أسد الفرجة التي في الصف، أو أقف مع الرجل المنفرد؟
الجواب
لاشك أنك إذا وقفت مع أخيك صححت صلاته؛ لأن صلاة المنفرد لا تصح خلف الصف، فتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود هذا الرجل لما تركت آخر الصف.
وبعض العلماء يقول: يجب عليك أن تدخل في الصف؛ لأنك مأمور بإتمام الصفوف، وحينئذٍ تنافس أخاك فتستبق إلى الفرجة وتمنعه من أن يسبقك إليها؛ لأنه إذا سبقك إليها كنت أنت الذي تتعرض صلاتك للبطلان؛ لأنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف.
وبعض العلماء يقول: من حقك أن تتخلف من أجل أن تصحح صلاة أخيك، وتنوي في قرارة قلبك أنه لولا وجود أخيك -كما ذكرنا- لسددت هذه الفرجة، ثم تنتظر حتى إذا جاء أحد معه تتقدم وتسد هذه الفرجة.
وبعض العلماء يقول في الشخص الذي يأتي ولا يجد أحداً: يجذب من الصف واحداً ليصلي معه وهي رواية عند الحاكم في المستدرك حسنها بعض العلماء، والحقيقة أن في تحسينها نظراً؛ لأن الضعف فيها قوي.
فكثير من العلماء رحمهم الله يرى أن الصلاة صحيحة للمنفرد خلف الصف فيمنعون من الجذب؛ لأنهم لا يرون أنها باطلة، لكن الذي ينبغي أن ينظر في المسألة على قول من يقول بالبطلان.
فإذا كان الشخص الداخل يعتقد بطلان صلاة المنفرد في الصف فإنه مضطر ومحتاج لتصحيح صلاته.
فحينئذٍ كونه يجذب فلا شك -من ناحية الأصول- أن له وجهاً، ولأن المحذور في سد الفرج أن يكون الشخص ممتنعاً منها مع القدرة دون وجود عذر، وهنا قد يوجد عذر وهو وتصحيح صلاة المصلي، فقالوا: إن هذا لا يعتبر انتهاكاً للحدود وانتهاكاً للمحارم كما لو امتنع من سد هذه الفرجة مع الاختيار، وإنما كان مضطراً إلى ذلك تصحيحاً لصلاة غيره.
وعلى كل حال فمن جذب لا ينكر عليه، وأرى أن هذا له وجه، ولا بأس به ولا حرج عليه، وكون الشخص يبقى دون الصف منفرداً ولا يجذب أحداً ويصلي لا شك أن هذا من حيث الأصول أقوى، لكن صلاته ستبطل.
وينبغي أن ننتبه لأمر، وهو أن بعض العلماء يقول: إن الناس ينظرون إلى بعض الأحكام أن فيها شدة، والأمر على عكس من ذلك، وفيها الرفق والأجر؛ لأنه إذا صلى صلاة تامة دون الصف فإنها لا يعتد بها صلاة حكماً، لكن الله يأجره الصلاة مرتين.
وليس هناك مصل تصح منه الصلاة مرتين إلا إذا كان هناك عذر شرعي في التكرار، وهذا له نظائر، ولذلك من يحكم عليه ببطلان الصلاة يكتب له الأجر مرتين؛ لأنه في هذه الحالة دخل المسجد وألزم شرعاً بالدخول مع الجماعة، وحكم ببطلانها عبادة، ولذلك لا تعقل علة بطلان صلاة المنفرد خلف الصف.
وفي هذا حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه في السنن وعند أحمد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وهو دون الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل الصلاة؛ فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، ومذهب الإمام أحمد وطائفة من أهل الحديث كـ إسحاق وغيره رحمة الله عليهم أن المنفرد لا تصح صلاته خلف الصف إذا كان رجلاً.
وبناءً على ذلك قالوا: لظاهر هذا الحديث يحكم ببطلان الصلاة من ناحية الإلزام الشرعي.
أي أن صلاته يجب عليه أن يعيدها، لكن كونه قد قام بالصلاة وصلاها وركع وسجد وقرأ كتاب الله عز وجل فهذا العمل الذي أقامه مأمور به شرعاً؛ لأنه إذا دخل المسجد فالواجب عليه أن يدخل مع الجماعة، فهو صلى بأمر شرعي، وصلى صلاة شرعية وأداها على وجهها المعتبر، وهذا عمل يثاب عليه ثواب من عمل، لكن لا تعتبر صلاة حكمية، أي: لا تبرأ وتسقط الذمة بها، فيلزم بإعادتها.
ولذلك يقولون: الأمر بإعادة الصلاة تعبديَّ.
أي: لا يعقل معناه، فلو أنه كان أحدث قلنا: بسبب الحدث.
ولو أنه ترك واجباً قادراً عليه عامداً متعمداً.
قلنا: لترك الواجبات، فتبطل صلاته فلا أجر ولا ثواب؛ لأنه تسبب في إخلالها وإفسادها، لكن الفساد هنا ليس بيده وليس منه، وإنما هو بحكم شرعي.
ولذلك يقولون: يكتب له أجر العمل لقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران:195]، فهو قد قام بعمل شرعي فيثاب ثواب العامل، لكنها لا تصح صلاة شرعية، بمعنى أن ذمته لا تبرأ، فيلزم بإعادتها مرة ثانية، ويكون له أجر العمل مرتين.
وهذا على القول الذي يقول: إن الصلاة لا تصح خلف الصف للمنفرد.
وبناءً على ذلك يحق له أن يجذب تصحيحاً لصلاته؛ لأنه مأمور أن يتعاطى الأسباب لتصحيح الصلاة.
ثم إذا جذب يستحب بعض العلماء أن يكون الجذب من أطراف الصف؛ لأنه إذا جذب من طرف الصف يكون أخف من الجذب من وسط الصف.
وبناءً على ذلك يقولون: إنه يجذب من الطرف.
واختار بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن يكون جذبه من وراء الإمام، فيأتي من منتصف الصف ويجذب؛ لأنه إذا جذب من وراء الإمام وجاء شخص آخر سيتقدم هذا، وسيكون إكمال الصفوف من وراء الإمام توسيطاً للإمام، وهي مسألة من جهة المتسحبات، وليس فيها إلزام أن يكون من وراء الإمام أو من طرف الصف، لكنهم يستحبون دائماً أن يكون ابتداء الصفوف من وراء الإمام، ويتحرى أول من دخل في الصف بعد تمامه أن يكون وراء الإمام حتى يكون توسيطاً له.
والله تعالى أعلم.
(316/14)
________________________________________
حكم قراءة القرآن بغير العربية
السؤال
هل تجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؟
الجواب
لا يجوز قراءة القرآن بغير اللغة العربية؛ لأن الله وصف القرآن بأنه بلسان العرب، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:194 - 195].
فلا بد أن تكون القراءة بلسان عربي، ولا يجوز لأحد أن يقرأ القرآن بغير اللسان العربي، وأما ترجمة معاني القرآن فلا تجوز القراءة بها؛ لأن بعضهم يأخذ هذه الترجمة ويقرأها على أنها قرآن يتعبد الله به، وهذا خطأ وينبغي التنبيه عليه.
ولذلك في قرون الإسلام الأولى ما كانت توجد هذه الترجمات، ولا كانوا يترجمون معاني القرآن، وإنما كانوا يحرصون على كل من دخل الإسلام أن يعلموه اللغة العربية، حتى سادت اللغة العربية وانتشرت لغة القرآن، وأصبحت هي اللغة الأم لأهل الإسلام، وهي اللغة التي يرجع إليها بين المسلمين، وهي اللغة التي يعتزون بها.
فكانت لها مقاصد شرعية عظيمة في جمع المسلمين وتآلفهم وقوتهم؛ لأن اللغة لها تأثير على الشعوب والأمم كما لا يخفى، وهذا معروف في التاريخ، وحتى في طبائع البشر والأمم والشعوب، لكن من ناحية قراءة القرآن لا تجوز قراءته إلا باللسان العربي.
وأما نقل المعاني فلا بأس به؛ لأنه لا يمكن أبداً لأي لسان أن يأتي بالإعجاز الموجود في اللغة العربية، مثلاً قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة:223] كيف تترجمه؟ وإذا ترجمته فكيف تدخل المعاني والأسرار العربية في الترجمة؟ لأن في كلمات وألفاظ القرآن معانٍ ونكت ولطائف لغوية لا يمكن أبداً أن تظهر مع الترجمة، وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] كيف يمكن ترجمته إلى لغة غير اللغة العربية؟ وهذا من فضل الله عز وجل، وليس هذا من باب الافتخار باللسان أو نحوه، وإنما هذا من بيان فضل الله عز وجل الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى وضعها في هذه اللغة وهذا اللسان، فلا يستطيع أي لسان أن يأتي بالمعاني التي يتضمنها هذا اللسان والدلائل التي فيه.
ولذلك لما ترجمت معاني القرآن وقع إحراج في نفس الترجمة، فإلى الآن لا تستطيع أن تجد ترجمة تستطيع أن تؤدي المعنى المقصود؛ لأن اللسان العربي يرمي بالكلمة الواحدة في بعض الأحيان إلى عدة معان.
كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، القرء: هو الحيض، وهو الطهر، فيحتمل الحيض ويحتمل الطهر، ولو قلت بالطهر فله وجه، ولو قلت بالحيض فله وجه، فكيف تترجمها؟ فإن جئت تترجمها بالحيض خالفك أنها تحتمل الطهر، وإذا جئت تترجمها بالطهر خالفك أنها تحتمل الحيض.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17]، فالعرب تقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية دخوله، وتقول: عسعس الليل وتقصد من ذلك بداية خروجه ودخول النهار، فتقصد به دخول ظلمة الليل وعند انتهاء الليل، وهذا ما يسمى بالمشترك.
فإذا كان قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] مشتركاً -وإن كان في الآية قرينة تدل على ترجيح أحد الوجهين- فما هي اللغة التي تحتوي هذه الأسرار والمعاني؟! وصدق الله حيث قال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف:52]، فأتى بـ (قد) التي تفيد التحقيق وثبوت الشيء دون مرية، واللام المؤكدة (وَلَقَدْ)، ثم التعبير بالعظمة وفي قوله تعالى: (جِئْنَاهُمْ)، ففصله سبحانه وتعالى الذي أحسن كل شيء وأتمه وأكمله جملة وتفصيلاً سبحانه، فهو يقص الحق وهو خير الفاصلين.
فهناك أسرار في هذا اللسان العربي لا يمكن أبداً لأي لغة أو لسان أن يحتملها، وخذ قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، فالذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون ولي المرأة، ويحتمل أن يكون الزوج، وإن جئت تريد ترجمتها فعلى أي معنى ستترجمها؟ وعلى أي وجه من هذه الأوجه؟ فعلى كل حال أسرار اللغة موجودة في القرآن، والآية الواحدة يجتمع عليها العلماء فيجدون فيها من النكت واللطائف ما لا يمكن أن يحصى كثرة.
وانظر إلى آية الوضوء، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ.
} [المائدة:6]، فهذه الآية اجتمع عليها علماء الفنون، في اللغة واللسان، والقراءات، والفقه، وعلوم الحديث فاستنبطوا منها ألف مسألة.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: اجتمع علماؤنا لكي يحصلوا الألف مسألة فما وصلوا إلا إلى ثمانمائة مسألة.
وثمانمائة مسألة خير كثير في هذا اللسان البديع الغريب، وهذه قدرة من الله سبحانه وتعالى.
بل إن الألسنة سوف تحار عندما تقرأ قوله تعالى: (الر) كيف تترجمها؟ وكيف تستطيع أن تدخل المعاني التي تراد من هذه الحروف فيها؟ ثم كيف تجعله يقرأ وهناك حروف في اللسان العربي ما هي موجودة في غيرها من اللغات والألسنة؟! مع العلم أن النقل بالمعنى اختاره بعض العلماء، كما قيل: والنقل بالمعنى على المنصورِ ورأي الأربعة والجمهور فيجيزون نقل القرآن بالمعنى، أي: ترجمة معنى القرآن، ولذلك لا يقال: ترجمة القرآن وينبغي إذا كتبت هذه التراجم أن يكتب عليها أنه لا يجوز للمسلم أن يقرأ هذه الترجمة معتقداً أنها قرآن، ولا يجوز الاستشهاد بها أيضاً على أنها من القرآن، وإنما يقال: إن هناك آية تدل على كذا.
لأنه لا يجوز نقل القرآن بالمعنى، فلا يجوز أن يقال: قال الله تعالى فيما معناه.
مثلما يقال في الحديث القدسي، إنما تأتي -إذا قلت: قال الله تعالى- بمنطوق الآية ونصها دون تغيير ولا تبديل.
فالواجب على هذا أن يقتصر على اللسان العربي عند قراءة القرآن؛ لأن العلماء أجمعوا واتفقوا على تحريم الترجمة الحرفية لكتاب الله عز وجل.
والله تعالى أعلم.
(316/15)
________________________________________
حكم تغيير مكان الصلاة بعد الفجر لمن أراد أن يجلس حتى شروق الشمس فينال الأجر المعلوم
السؤال
من وفق للجلوس حتى شروق الشمس، هل له عند صلاة الركعتين أن يتقدم إلى سترة أم يشترط في الركعتين أن تكونا في نفس المكان؟
الجواب
لا شك أن الأفضل والأكمل أن تكونا في نفس المكان، وأما السترة فالقول الصحيح وجوبها، ومعنى ذلك أنه إذا تقدم تحصيلاً لهذا الواجب وامتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسترة فإنه يصدق عليه أنه صلى ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم قعد في مصلاه يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين).
ومن العلماء من يقول بالاستصحاب؛ لأنه يقول: (قعد في مصلاه) أي: صلى ركعتين في مصلاه، فيستصحب حكم الأصل، والأصل أنه في مصلاه، وكأن مقصود الشرع أن يصلي في نفس المكان.
ومن أهل العلم من قال: إنَّ العبرة بالركعتين أن تقع بعد طلوع الشمس، وأن يكون هذا الزمان الذي هو ما بين صلاته للفجر وطلوع الشمس مستغرقاً بذكر الله عز وجل، سواءٌ أصلى في نفس المكان أم غيره، بل قالوا: حتى لو أحدث وصلاها في البيت شمله الفضل؛ لأن المراد أن يصلي ركعتين بعد الزمان، ولا شك أن الأكمل والأفضل أن الإنسان يبقى في مصلاه، وأن يصلي في نفس المكان الذي هو فيه.
والله تعالى أعلم.
(316/16)
________________________________________
مضاعفة صلاة النافلة في الحرم النبوي
السؤال
هل صلاة النافلة في الحرم النبوي تساوي ألف صلاة مثل صلاة الفرض؟
الجواب
أصح قولي العلماء أن المضاعفة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى تشمل الفرائض والنوافل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة) و (صلاة) نكرة، والقاعدة في الأصول: (أن النكرة تفيد العموم).
أما الذين قالوا بالتفريق بين الفريضة والنافلة فدليلهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان أنه لما صلى الليلة الأولى ثم كثروا عليه في الليلة الثانية وامتنع من الخروج في الثالثة قال: (إنه لم يخفَ عليّ مكانكم بالأمس، ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، ثم قال: (صلوا في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قالوا: إن هذا يدل على أن النافلة الأفضل أن تكون في البيت.
وهذا مرجوح، والصحيح أن قوله: (فإن خير صلاة المرء ... ) لا يعارض قوله: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)؛ لأن الخيرية من جهة الإخلاص، ومن جهة إرادة وجه الله عز وجل، ومن جهة مباركة المنزل، وليس لها علاقة بالمضاعفة؛ لأن القاعدة (لا يحكم بتعارض النصين إلا إذا اتحدا دلالة وثبوتاً)، والدلالة هنا مختلفة؛ لأن مورد النصين مختلف.
فحديث يقول: (صلاة في مسجدي بألف صلاة)، وحديث يقول: (فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، وما قال: إنها بألفين، أو: بثلاثة، فما تعلقت بمضاعفة الأجر، وإنما تعلقت بالخيرية، والخيرية ترجع إلى الإخلاص، وترجع إلى أنه إذا صلى في بيته كان أخشع وأرضى لله عز وجل؛ لأنه لا يراه أحد، ولا يصلي لأحد، ولا يغتر به أحد، ثم إن الصلاة تبارك له في بيته.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته، فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيراً) ومنع عليه الصلاة والسلام من أن تكون البيوت قبوراً، فهذه خيرية منفصلة، خيرية أخرى غير الخيرية المتعلقة بمضاعفة الصلاة.
ولا يمكن أن نعارض بين النصوص مع اختلاف وجهاتها ومواردها، وإنما يحكم بالتعارض عند اتحاد المورد، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بأن المضاعفة تشمل الفرائض والنوافل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة)، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء.
والله تعالى أعلم.
(316/17)
________________________________________
الاستعجال في الوضوء
السؤال
إذا أقيمت الصلاة فتوضأت بسرعة شديدة، فهل وضوئي صحيح؟
الجواب
إذا توضأت وضوءاً شرعياً تاماً كاملاً فهو وضوء صحيح، لكن مسألة الإسراع في الوضوء لا شك أنها جائزة، فيجوز للشخص في الحالات الضرورية أن يستعجل.
ولذلك ثبت عن أسامة رضي الله عنه أنه ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام لما دفع من عرفات إلى مزدلفة أنه توضأ وضوءاً خفيفاً، وخفة الوضوء تشمل الوقت وتشمل الحال؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يسبغ الوضوء ويتأنى في وضوئه.
لكنه لما كان وراءه مائة ألف نفس وكلهم ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام تعجل، ومن حكمة الشريعة أن العبد الصالح يكون في صلاحه، لكن إذا رأى ما هو آكد وأهم قدمه وتعجل، فمثلاً: والدك يحتاجك في شيء، وأنت تريد أن تتوضأ وضوءاً لنافلة، أو تحب أن تكون على طهارة فلا شك أن بر الوالد آكد من الوضوء، فتخفف في وضوئك حتى تدرك فضيلة الوضوء وفضيلة بر الوالدين، أو فضيلة الصلاة.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا دخل الرجل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) قالوا: لأن العلم أفضل من العبادة.
وهذا يدل على فضل العلم؛ لأنه عندما يجلس ينصت للخطبة يصيب علماً، والعلم أفضل من العبادة، وعندما يصلي يصلي لنفسه، لكن ربما يصيب علماً ينتفع به وينفع به غيره، ويصلح ويصلح به غيره، ويهتدي ويهدي به غيره بإذن الله عز وجل.
ومن هنا إذا دخل -مثلاً- المحاضر، أو دخل الشيخ لدرسه وأراد أن يصلي تحية المسجد أو نافلة فالأولى أن يتجوز فيها؛ لأن هناك ما هو أفضل وأكمل وأعظم أجراً وهو نفع الناس؛ لأن العلم أفضل وأعظم، فإذا أردت أن تتوضأ وضوءاً خفيفاً، أو تستعجل في الوضوء فتنبه لإتمام أعضاء الوضوء.
فالمهم أن تكون الأعضاء التي أمرك الله بغسلها أو أمرك بالمسح عليها قد نالت حقها وحظها من ذلك الوضوء الذي أمرت به، فإن فعلت ذلك بسرعة أو بأناة فالأمر في ذلك سيان، إلا أن الأناة أمكن وأكثر ضبطاً.
والله تعالى أعلم.
(316/18)
________________________________________
حكم إعجاب المرء بنفسه عند اطلاع الناس على صالح عمله
السؤال
ذكر الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6] أن من عمل عملاً لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياءً، فما توضيح ذلك؟
الجواب
هذا كلام صحيح ومعتبر؛ لأن الرياء يكون في ابتداء العمل، فيعمل من أجل أن يراه الناس، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142]، فهو ابتداءً قبل التلبس بالفعل، وأثناء الفعل؛ لكن بعد الفراغ من الفعل تبقى مسألة التشوف والطلب والتحدث، فالأكمل ألا يتحدث بطاعته، وألا يطلع أحداً على طاعته.
وتبقى مسألة خفاء العمل، وخفاء العمل لا علاقة له بالعمل نفسه؛ لأنه إذا صلى وقام بطاعته على أتم الوجوه وأكملها فقد أصاب الموعود عليه شرعاً لكن تبقى مسألة حبوط العمل بعد ثبوته، والحبوط قد يكون بغير الرياء، فقد يحبط عمل الإنسان -والعياذ بالله- بسبب ذنب.
فرفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون -والعياذ بالله- سبباً في حبوط العمل، ونسأل الله السلامة والعافية، وقد يحبط عمل الإنسان بعقوق والديه؛ لأن الله يحكم ولا معقب لحكمه، فيغضب على عبده فيحبط عمله، إلا أن هناك أموراً بيَّن أنها من أسباب حبوط العمل والعياذ بالله.
وقد يكون العمل صالحاً صحيحاً، لكن إن اطلع الناس على عمله فأعجب باطلاعهم فإننا ننظر في ذلك، فإذا كان يحب ذلك ويقصده ولم يتيسر له أثناء العمل، وكان يحب حصول ذلك له فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- يعمل للناس، فيكون قادحاً في إخلاصه وإرادته وجه الله عز وجل، ومؤثراً في عمله.
ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يتحرون في الأعمال الصالحة الصواب والسنة، فلا يعملون أي عمل إلا إذا كان عندهم حجة ودليل، ويخافون من الأعمال أن تكون على غير نهج الكتاب والسنة؛ لأن أهم شيء الصواب في العمل حيث يكون موافقاً للكتاب وهدي السنة.
وبعد الصواب تأتي الآثار الطيبة والعواقب الحميدة؛ لأن الله لا ينظر إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلا إذا كان صواباً، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، ولا يحكم للعمل بالصلاح إلا إذا كان على وفق الكتاب وثبت بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان السلف الصالح يحملون هم الصواب أولاً، ثم يحملون هم الإعانة على الصواب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أسألك العزيمة على الرشد)، فكم من صواب تعلمته، وكم من حق دُللت عليه وأُرشدت إليه، ولكن ما أعنت عليه، فقيام الليل من منا يجهل فضله وعظيم أجره لكن من منا يقوم وصيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس وغيرها من الأعمال الصالحة من منا يعمل بها؟ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله المعونة على الرشد، ولذلك قال الله عن أهل الكهف: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
وبعد أن يوفق للصواب ويعان على القيام بالعمل، يحمل هم الإخلاص فيه، فلا يفعل ولا يقول شيئاً إلا لأجل الله عز وجل، وأبغض شيء إليه أن أحداً يطلع على ما بينه وبين الله عز وجل؛ لأنه يعرف لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى، وفضل المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أن أكمل العمل وأطيبه ما كان خالصاً لله عز وجل، ولا شيء أعظم في جلب الإخلاص من إخفاء الأعمال وسترها.
ولذلك كان السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في هذا، حتى ذكر الإمام الحسن البصري رحمه الله أن الرجل ربما جمع القرآن في قلبه عشرين سنة لا يشعر به أحد.
ولربما تجد الرجل من أصلح الناس وأكثرهم عبادة وقياماً، ولا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك، حتى لربما يسافر معه غيره وإذا به يترك قيام الليل أمامه حتى لا يشعر أحد بما بينه وبين الله عز وجل.
وهذه مرتبة لا يعطيها الله إلا لخاصة أحبابه وأصفيائه الذين يريد لهم إرادة وجه، وذاقوا لذة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى.
فإذا وفق للإخلاص حمل هم القبول، ويعمل للقبول أسبابه التي منها ألا يعلم أحد عمله، فأبغض شيء إليه أن يطلع غيره على عمله، حتى إنه يضيق صدره ويحزن ويتألم إذا اطلع أحد على حسنة أخفاها فيما بينه وبين الله عز وجل.
ومما ذكر عن بعض الصالحين -وهؤلاء هم الأولياء الذين يُضرب بهم المثل، ولم يكن الأولياء بجر السبح، ولا بإطالة الأكمام والعمائم، وإنما كانوا أولياء لله بحق- أنه قال: صليت في المسجد الحرام صلاة الاستسقاء، فلم يفت الناس، حتى إذا انتصف النهار -وإني لجالس بالمسجد مضطجع- فإذا برجل مولى أسود دخل المسجد، فركع وسجد، وكان يظنني نائماً، فسمعته يقول في سجوده: اللهم إن بعبادك وبلادك وبهائمك من الجهد والبلاء ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أغث العباد والبلاد.
اللهم أغث العباد والبلاد.
اللهم أغث العباد والبلاد.
فلما تشهد إذا بالسحابة تنتصف السماء ويمطر الناس، قال: فعظم عندي الرجل، فتبعته، فدخل إلى أشبه ما يكون بالرباط فتبعته، فلما جلس واستقر سلمت عليه وقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: وما شأنك بي؟ قلت: إنه لم يخف عليّ مكانك بالمسجد.
قال: أو قد اطلعت على ذلك؟ قال: نعم.
قال: أمهلني وأنظرني، فصلى وسجد، وقال: اللهم انكشف ما بيني وبينك، فاقبضني إليك غير مفتون.
قال: والله ما رفعته إلا ميتاً.
فكانوا يخافون من ظهور أعمالهم حتى كان من أمرهم ما ذكر، وأويس القرني رحمه الله لما اكتشف أمره غاب عن الناس، وبسبب أنك تخفي ما بينك وبين الله من الأسرار والأعمال الصالحة يورثك الله بذلك حب العباد، ويضع لك بذلك القبول في السماء وفي الأرض.
ولذلك كانوا يقولون: إن العبد يستوجب من الله محبة خلقه على قدر ما بينه وبين الله من الخوف، وكان الإمام مالك رحمه الله مهاباً، فإذا جلس لا يستطيع أحد أن يتكلم في المجلس، وإذا سأله السائل لا يستطيع أن يعيد سؤاله مما ألقى الله عليه من الهيبة، كما قيل: يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان يقول محمد بن الحسن: جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد -ثلاثة خلفاء من المحيط إلى المحيط سادوا الدنيا- فوالله ما هبتهم كهيبتي لما جلست بين يدي مالك.
يقول سحنون رحمه الله: ولا نظن ذلك إلا بشيء بين مالك وبين الله، فإنك تعامل؟ تعامل ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فماذا تريد منه اطلاع الناس على صلاتك وزكاتك؟ وماذا تريد عند الناس؟ لو أن الناس مدحوك اليوم ذموك غداً، وكم من عبد تقي نقي أخوف ما عنده وأكره أن يشعر الناس به؛ لأنه يعلم أنه لا أمن له إلا عند الله، ولا عز له إلا من الله، ولا كرامة له إلا من الله، فماذا نريد عند الناس؟ قال تعالى: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].
فأبغض شيء إليه أن يأتي أحد من الناس يثني عليه أو يظن به خيراً؛ لأنه يريد الشيء بينه وبين الله، فالذي للآخرة للآخرة، والذي للدنيا للدنيا، وأمور العبادة والطاعة ينبغي للإنسان دائماً أن يخفيها فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يطلع عليها أحداً، والمحروم من حرم، فإذا أراد الله أن يخذل عبده -نسأل الله السلامة والعافية- صرف قلبه إلى الدنيا، وتنصرف شعب القلب إلى الدنيا، حتى إن طالب العلم تنصرف شعب قلبه بمدح الناس له والثناء عليه والإشادة به، وبموقفه في الملأ ومحبته للاستشراف ومحبته للظهور، وهي والله قاصمة الظهر والعياذ بالله.
فتؤخذ شعب القلب شعبة شعبة للدنيا لا للآخرة، وتؤخذ لغير الله لا لله، فتؤخذ شعبة شعبة، وتنقض كالبيت يهدم لبنة لبنة، حتى يمسي ويصبح وليس في قلبه مثقال ذرة -والعياذ بالله- من الإيمان، وعندها لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
وعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يمقته الله مقتاً فتجمع القلوب على كراهيته، والنفوس على النفور منه، ولو كان أعبد الناس لساناً، ولو كان أصبحهم وجهاً وأحياهم منطقاً فإن الله يمقته.
فالعبد يعامل الله لا يعامل أحداً سواه، وكم من إنسان أحب الناس فمدحوه، واستدرجه الله عز وجل، واجتمعت له القلوب، واجتمع له الناس، فجاء يوم ذم فيه بمذمة واحدة فانتشرت في الناس، فسبوه كما مدحوه، ووضعوه كما رفعوه، وأذلوه كما أعزوه، وأهانوه كما أكرموه، فتمنى أنه لم يعرفه أحد.
فلا يلتفت الإنسان إلى الناس، وسلامة العبد فيما بينه وبين الله أن يفر من الله إلى الله لا إلى الناس، وأن يفر إلى الخالق لا إلى المخلوق، فلا يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه كما قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13].
فالله يناديك ويدعوك أن تكون معه، أن تكون له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فتعبده بالإخلاص وتعمل الطاعة لله، فتتعلم وتتصدق وتركع وتسجد وتصلي لله وحده.
فالواجب على المسلم دائماً أن يوطن نفسه لإرادة وجه الله، وما أطيب العيش ولن يطيب إلا بالله، وما أطيب الحياة وما أسعدها ولا يمكن أن تكون سعيدة طيبة إلا بالله، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فمضى: (وهو مؤمن) موحد مخلص يريد وجه الله سبحانه وتعالى، أي: والله لنحيينه حياة طيبة، وإذا وعد الله بالحياة الطيبة فإن الله لا يخلف الميعاد، ولا شك أن العبد إذا بلغ هذه المرتبة التي يقول فيها لله، ويعمل فيها لله، ويتمنى فيها أن عمله فيما بينه وبين الله لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد، ولا يحس به أحد أدرك هذا الأجر، وإني لأعرف علماء كانوا قوامين بالليل صوامين النهار، حتى إن الواحد منهم إذا أصبح تجده مع الناس لبساطته وتواضعه، ولا تشعر أنه ذاك العابد الصالح، وكله من الخفاء.
وتجد الواحد منهم يجلس في خلوته فيبكي ويتفطر قلبه من خ
(316/19)
________________________________________
حكم الدعاء في صلاة الوتر بغير العربية
السؤال
هل يجوز الدعاء في صلاة الوتر بغير اللغة العربية؟
الجواب
الدعاء في الصلاة فيه وجهان للعلماء رحمهم الله، فبعض العلماء يقول: إنه لا يجوز إلا بالعربية، ومنهم من يقول: يجوز أن يدعو بغير العربية.
والصحيح أن الدعاء ما كان منه توقيفي كالأذكار من التحيات ونحوها، والتمجيد الذي ورد به النص بعينه، كالتكبيرات والتسميع ونحوه فهذا يتقيد فيه باللغة العربية، وأما الأدعية فإنه يجوز أن تكون باللسان العربي، وبغير اللسان العربي إلا أنه ينبغي للشخص ألا يدعو بغير اللسان العربي، إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية.
والله تعالى أعلم.
(316/20)
________________________________________
كيفية الجمع بين العلم وبين التوسعة على النفس والأهل
السؤال
من توفيق الله للعبد أن يشغله بطاعته عند فراغه وإجازته، خاصة بالانكباب على العلم وتحصيله، ولكن تواجه طالب العلم مشكلة، وهي أن الأهل والأبناء يريدون منه ما يريدون من التوسعة أو كثرة الأسفار، فكيف يوفق في هذا الأمر؟
الجواب
لاشك أن من أعظم نعم الله عز وجل على طالب العلم أن يسيطر على بيته، وأن يهيئ له أسرة تعينه على طلب العلم، فيجمع بين مرضاة الله سبحانه وتعالى في طلبه للعلم ومرضاته سبحانه وتعالى في إدخال السرور على الأهل والتوسعة عليهم، شريطة ألا يتوسع في هذا الأمر على حساب ما هو آكد وأهم.
فطالب العلم يرتب وضعه، فإذا كانت هناك إجازة صرفها لما هو أهم، خاصة أن الأمة الآن محتاجة إلى طلاب العلم، وفرضية طلب العلم في هذا الزمان آكد من غيره؛ لأنه كلما تأخر الزمان كلما اشتدت الحاجة، وانقراض العلماء وضعفهم وحصول المشاغل لبعضهم يحتم المسئولية أكثر على طلاب العلم، فيجعل الواجب عليهم آكد.
فلا شك أن طلاب العلم معنيون بهذا، ويجب عليهم أن يشتغلوا بطلب العلم، وألا يفرطوا في أي وقت يستطيعون أن يستنفذوه في طلب العلم، والاقتراب من العلماء، والحرص على الدروس المؤقتة أو غير المؤقتة، وعدم التفريط فيها.
وكان الوالد رحمه الله إذا قلت له: أستأذنك من أجل أن أذهب لغرض يقول لي: يا بني! لا أستطيع أن آذن لك وألقى الله سبحانه وتعالى بإذني لك أن تترك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي لا أغضب عليك؛ لأني أعرفك أنك تحفظ، وأنت عندك عذر، ولكن بيني وبين الله لا أتحمل المسئولية.
وطالب العلم إذا طلب العلم عند شيخ عنده مكنه من درس خاص أو عام فهو مسئول أمام الله عز وجل عن كل ثانية، فضلاً عن دقيقة أو عن ساعة، وستسأل عنها أمام الله عز وجل، وكل درس يهيأ لك تتخلف عنه ستحاسب عنه بين يدي الله عز وجل.
وقد يوجد طالب علم ربما يكون هو الوحيد في قريته أو حيه أو حارته يتفرغ لقراءة العقيدة أو الحديث أو الفقه، وفي الساعة التي ينام أو يغيب أو يتأخر فيها عن مجلس العلم ربما تطرح مسألة، وتنزل هذه المسألة بقومه وجماعته فلا يفتيهم، فيقف بين يدي الله مسئولاً عنها.
فهذه مسئولية وليس بالأمر السهل، وهذا شيء جعل الله عز وجل فيه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فهذا الأمر يجعل طالب العلم في رحمة الله عز وجل.
فأوصي أهل طالب العلم من زوجة وابن وبنت وأخ وأخت وأب وأم أن يعينوا طالب العلم على مسئوليته، وأن يعينوه على القيام بأمانته، وألا يفرط في أي مجلس من مجالس العلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وكنا نجلس المجلس مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم ممن نعرفهم فنأخذ من سمته ما يعيننا على طاعة الله عز وجل قبل أن يتكلم.
وهذه أشياء فيها البركة والخير وفيها النفع، فمن جاء من أهل العلم أو من طلاب العلم يريد أن يطلب العلم ويلتصق بصفوة خلق الله عز وجل حملة الكتاب والسنة فقد أعطي شيئاً لا نظير له.
ودعك من الدنيا، وما تسمع وما ترى من لهوها فزائل حائل، وانظر إلى أعز الناس في الدنيا من التجار والأغنياء يذهبون إذا ذهبت تجارتهم، ويذهبون بانتهاء أعمالهم، ولكن أهل العلم أبداً لا يذهبون، فهم وباقون في نفوس الناس وقلوبهم، باقون في أعمالهم وعباداتهم؛ لأنه لا يصلي ولا يعمل إلا إذا تعلم على يدي هؤلاء العلماء.
فهم أمناء الله على الوحي، وهذه المنزلة الكريمة عليك أن تهيئ نفسك لها؛ لتنال من فضل الله العظيم الذي ليس هناك فضل بعد النبوة أفضل منه، وهو مقام العلم والعمل.
فعلى طالب العلم أن يستشعر أنه لا يمكن أن يفرط في هذه المسئولية وهذه الأمانة على حساب أي شيء كائناً ما كان.
ومن العجيب والغريب إن ملاذ الدنيا وشهواتها وملهياتها -ولا نقول هذا تزكية لأنفسنا، ولا نزكي أنفسنا على الله، لكن نقولها تمجيداً للرب سبحانه وتعالى، وبياناً لعظيم وفائه وكرمه- عرضت علينا لتحول بيننا وبين شيء من العلم، فتركناها لله فوجدنا من الله في حسن الخلف والعوض ما لم يخطر لنا على بال.
وهذا شيء نشهد به لله عز وجل، في أمورنا الخاصة، وفي أمورنا مع عامة الناس، وفي أمورنا المالية، وفي الأمور الاجتماعية، فما كان طالب العلم يظن أنه إذا ضحى لهذا العلم أن الله سيخلفه أبداً.
ولكن قال الله: إني معكم.
فأنت معك أشرف شيء وأعظم شيء، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيا لها من نعمة عظيمة، لكن طالب العلم بحق الذي يقرأ العلم قبل مجلس العلم، ويقرأه في مجلس العلم، ويرجع إلى بيته فينكب على العلم يقرأه قائماً وقاعداً، ويتفكر فيه جالساً وراقداً، يجد كيف يفي الله عز وجل له، فإذا وفى لله كاملاً وفى الله له كاملاً.
فنقول: إذا اعترضت طالب العلم الأمور التي تتعلق بالأهل والأصحاب والأحباب وغيرها من الملهيات فعليه أن يحاول قدر المستطاع أن يصرفها بالتي هي أحسن، وبطريقة لا تشوش عليه؛ لأن الأهل لهم حق، والصديق له حق، والرفيق له حق.
لكن إذا أمكنك جعل الأهل يذهبون إلى نزهة مع أكبر الأولاد فأعطهم مجالاً ليذهبوا وتتفرغ أنت لطلب العلم، أو تذهب معهم ساعة أو ساعتين ثم ترجع، أو تذهب معهم وترتب أوقاتاً لا تتعارض مع أوقات تحصيلك ولا أوقات مراجعتك، فتنظم نفسك تنظيماً صحيحاً وترتب نفسك ترتيباً كاملاً، ولكن إياك وأي شهوة أو لذة أو سكرة من سكرات هذه الدنيا تأتيك فتنصرف عن العلم من أجلها، فهي ليست أعز من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن يكون عندك هذا الشعور.
وإذا استغنى العبد عن ربه فإنه حينئذٍ يكون كما قال تعالى: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن:6]، وكما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] نسأل الله العافية، فيزيغ الإنسان عن الكمالات وعن المراتب العلى حينما يعتقد أن شيئاً أفضل مما عند الله عز وجل.
ولا أعتقد في قرارة قلبي أن أحداً أعز من طلاب العلم في بيت من بيوت الله إلا أحداً يعمل عملاً صالحاً أفضل مما هم فيه، فلا أشرف من العلم ولا أفضل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ... )، فالملائكة تتنزل، وانظر إلى شرف العلم وفضله، فإنه إذا كان يوم الجمعة جلست الملائكة على الأبواب وكتبوا المصلين والسابقين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس الخطيب) -أي: جلس على المنبر- طووا الصحف وأنصتوا للخطبة)، وما قال: انصرفوا.
فانظر إلى شرف العلم وفضله عندهم، فالعلم مقامه كبير ومنزلته عظيمة، ويبارك الله به في وقتك ويبارك به في عمرك، وتكفى ما أهمك، وهذا الفضل لا يدانيه السرور مع الأصحاب.
ومما أعرفه أ، بعض طلاب العلم كان في أثناء طلبه للعلم يأتيه الأصحاب بأنواع الشهوات والملهيات، وكان أبي رحمه الله يثبته على طلب العلم، ويقول له: يا بني اصبر، وسيأتي اليوم الذي تحب أن تراه.
وذهبت الأيام وتتابعت، فذاق أولئك من ملذات الدنيا وشهواتها وملهياتها، ثم لم يمت حتى رآهم يأتونه يسألونه عن العلم.
فأولئك الذين كانوا في عزهم وكرامتهم، وكانوا في نعمة ورغد من العيش يرجعون إليه، فما تركت شيئاً لهذا العلم إلا أبدلك الله خيراً منه وأفضل منه وأكثر بركة، ولو كنت مرقع الثياب حافي القدم فأنت أغنى الناس بالعلم.
فلا تفرط في هذا العلم لأي شيء، لكن لا يمنع أنك تجعل لأهلك وقتاً.
فالتوسعة على الأهل أمر مطلوب؛ لأن الأهل إذا ارتاحوا مكنه ذلك من العلم وفرغ قلبه أكثر؛ لإنه أعطاهم حظهم من الدنيا وسرورها ولذاتها.
فالواجب على طالب العلم أن يرتب وقته، ويدخل السرور على أهله وولده ويلاطفهم، وأي شيء فيه إحسان إلى الولد فإنه مكتوب أجره، وهذا من رحمة الوالد بولده، حتى إن القبلة من الوالد لولده يؤجر عليها إذا قصد بها وجه الله وقصد بها رحمة.
فعلى كل حال نوصي طلاب العلم أن يحسنوا إلى أهليهم وزوجاتهم، لكن بشرط ألا يكون على حساب العلم، وألا يتوسع أكثر من اللازم، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والمحن، وعلى كل امرأة وزوجة أن تصبر وتحتسب إذا رزقها الله طالب علم يفرغ لحمل هذه الأمانة والقيام بهذه الرسالة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في أوقاتنا وأعمارنا، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(316/21)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [4]
الكفارات هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتختلف بحسب اختلاف موجباتها، وتعتبر كفارة الظهار من الكفارات المغلظة التي نص عليها الكتاب والسنة، وزادها العلماء توضيحاً وتفصيلاً وجعلوا لها شروطاً وضوابط حتى لا يتساهل الناس في أدائها ومراعاة حق الله المتعلق بها.
(317/1)
________________________________________
كفارة الظهار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً].
شرع المصنف رحمه الله في بيان الأثر المترتب على وجود الظهار من وجوب الكفارة على الزوج إذا أراد أن يعود، وقد بينا أنه لا يحل للزوج أن يطأ زوجته حتى يُكفِّر، وذلك بنص كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم.
ونظراً لذلك يرِد
السؤال
ما هي الكفارة المترتبة على الظهار؟ فبيَّن الله تبارك وتعالى هذه الكفارة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الكفارة وبعض مسائلها.
قال رحمه الله: [وكفارته عتق رقبة].
الضمير في: [وكفارته] عائد إلى الظهار، والكفارة: مأخوذة من الكفْر، وأصل الكَفْر في لغة العرب: الستر والتغطية، يقال: كَفَر الشيء: إذا ستره وغطاه عن الأنظار، ومنه سُمِّي المزارع كافراً؛ لأنه يكفُر البذر، بمعنى أنه إذا أراد الزراعة فإنه ينثر البذر ثم يغطيه عن الطير، فسمي كافراً من هذا الوجه.
قال الشاعر: في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غمامُها ..
..
.
أي: سَتَرَ النجومَ الغمامُ.
وسُمِّي الكافر كافراً؛ لأنه كفر نعمة الله عليه فجحدها، فكأنه غطى ما أنعم الله به عليه، وادعى أنه ليس لله عليه نعمة، نسأل الله السلامة والعافية.
(317/2)
________________________________________
كفارة الظهار من الكفارات المغلظة
والكفارات: هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتأتي على أنواع وأحوال مختلفة، فتختلف بحسب اختلاف موجباتها، ولذلك تنقسم الكفارات إلى كفارات مغلظة وكفارات مخففة.
وكفارة الظهار تعتبر عند العلماء رحمهم الله من الكفارات المغلظة، وهي الكفارات العظيمة التي أوجب الشرع فيها ما لا يوجبه في غيرها تعظيماً للذنب أو للخطيئة أو التقصير الذي ارتكبه المكلف، وهذا النوع -وهو الكفارة المغلظة- منه ما يتعلق بالقتل، وهو -كما سيأتينا إن شاء الله- قتل الخطأ إجماعاً، واختُلف في قتل العمد، وكذلك أيضاً كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك كفارة الظهار.
والكفارة المخففة من أمثلتها: كفارة اليمين، والنذر، وكفارة الفدية في الحج ونحوها، والكفارة تارة ينص عليها الكتاب وتبينها السنة وتُفصلها، وتارة تأتي في السنة ولا ينص عليها الكتاب.
فالكفارة التي نص عليها الكتاب وفصلتها السنة وبينتها منها: كفارة الظهار، وكفارة الفدية في الحج؛ فإن الشارع سبحانه نص عليها في كتابه، وجاءت السنة ببيانها، قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فهذا أصل للكفارة، فمن اكتسب محظوراً بحلق الشعر أو نتفه، أو غطى رأسه، أو لبس المخيط فعليه الكفارة، ثم فصلتها السنة، فالله عز وجل قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، لكن لم يفصل كم يوماً يصومه المفتدي، وكذلك أيضاً النُسك الذي يذبحه لم يبين أنه من الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الإطعام لم يبين قدره، فجاءت السنة بالبيان، فهذا نوع من الكفارات.
النوع الثاني: ما بينته السنة ولم يرد في القرآن نص عليه، وإنما ورد في القرآن بيان حرمة الفعل الذي يوجب الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، فقد نهى عنه القرآن ثم جاءت السنة وبينت ما هو الواجب، وبينت الكفارة اللازمة على المجامع في نهار رمضان، فليس في القرآن نص على إيجاب الكفارة على المجامع في نهار رمضان.
فهذا نوع من الكفارات المغلظة وبينته السنة ولم يبينه القرآن، وهذا مما يدل على أن السنة تأتي بأمر زائد عما في القرآن، خلافاً لمن يقول: إن السنة -فقط- بيان لمجمل القرآن وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك مما ذكروه، وعلى كل حال فكفارة الظهار بينها الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في قصة المظاهر من امرأة.
(317/3)
________________________________________
عتق الرقبة عن الظهار
قال المصنف رحمه الله: [كفارته عتق رقبة].
سيأتي -إن شاء الله- أن هذه الرقبة التي تجب على المظاهر ينبغي أن تتوفر فيها الشروط المعتبرة للحكم بصحتها أو بإجزائها في العتق، والأصل في إيجاب العتق على المظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3]،فقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة فالتحرير للرقبة المراد به أنه يفكها من قيد العبودية فيعتقها لله عز وجل.
وكفارة الظهار ترتيبية، والكفارات منها ما هو مرتب ومنها ما هو مخير فيه، فتارة يأمرك الشرع بكفارة ويجعلك مُخيراً تختار فيها إحدى ثلاث خصال، أو إحدى خصلتين أو أكثر، وتارة يُلزمك ويقول لك: كفر بكذا، فإن عجزت فبكذا، وإن عجزت فبكذا.
وتارة يجمع بين الأمرين.
فالكفارة التخييرية مثل كفارة الفدية، كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
والكفارة المرتبة مثل كفارة الظهار، فهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهي مرتبة لا يُجزئ فيها الثاني مع القدرة على الأول، ولا يجزئ الثالث مع القدرة على الثاني.
وأما الذي جمع التخيير والترتيب فكفارة اليمين، فإن الله تعالى أوجب فيها عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهذا تخيير، فإن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أن أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، ثم بعد ذلك قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89]، فجاء بالترتيب عقب التخيير، فالتخيير في الثلاث الخصال الأُوَل، ثم جاء الترتيب عقب ذلك.
فهنا الكفارة -كفارة الظهار- مرتبة، فهي من النوع الذي أوجبه الشرع على وجه الترتيب، وبناء على ذلك لابد من تحصيل هذا الشرط، أعني أنه لا ينتقل إلى خصلة ما دام أن الشرع قد اشترط غيرها، حتى يتحقق شرط جواز الانتقال إلى غيرها.
والرقبة في الكفارة يشترط ملكيتها، ثم السلامة من العيوب، وسيأتي تفصيل هذين الشرطين المعتبرين للحكم بصحة العتق.
ولما قال [عتق رقبة] فهم منه أنه لا يصح عتق ما لا يوصف بكونه رقبة، والذي لا يوصف لا يُستحق عتقه، كما لو أعتق جنين أمة، لأن الجنين في بطن الأمة صحيح أنه ملك للسيد، ولكن لا يوصف بكونه رقبة إلا إذا خرج حياً، فحينئذ يصح، وأما قبل ذلك فلو أعتقه لم يصح.
وللعلماء قول آخر، فقالوا: إنه لو كان جنيناً في بطن أمه فإنه قد يكون معيباً عيباً يوجب بطلان عتقه.
كما سيأتي إن شاء الله في العيوب المؤثرة.
(317/4)
________________________________________
صيام شهرين متتابعين عن الظهار
قال رحمه الله: [فإن لم يجد صام شهرين متتابعين].
أي: فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين وهذا الترتيب هو الذي ذكرناه، فإذا كان قادراً على عتق الرقبة، فإنه لا يصح أن يصوم أو ينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين متتابعين، وعتق الرقبة يستقر بالملكية والمالك إما أن يكون مالكاً للرقبة، أو يكون في حكم المالك، وفي حكم المالك من عنده قدرة أن يشتري الرقبة ويعتقها، فإن كان عاجزاً أو كانت الرقبة غير موجودة -كما سيأتي إن شاء الله- فإنه ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، فجعل الله عز وجل شرط الانتقال إلى الخصلة الثانية في كفارة الظهار -وهي الصيام- إذا كان المظاهر غير قادر على الرقبة -أي: غير واجد لها-، وهذا يدل على أن صيام الشهرين المتتابعين يجب في حق المظاهر إذا كان عاجزاً عن الرقبة -كما ذكرنا-، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وظاهر السنة يدل عليه، كما في قصة المظاهر في حديث خولة رضي الله عنها وأرضاها، وقد سبق بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُعتق الرقبة، فلما أخبره أنه لا يجدها أمره بصيام شهرين متتابعين.
وصيامه الشهرين المتتابعين إما أن يبدأ فيه من أول الشهر، فحينئذ يعتد بالشهر القمري ناقصاً أو كاملاً، فلو أنه ابتدأ في أول شهر محرم وكان شهر محرم ناقصاً أجزأه، فممكن -بناءً على هذا- أن يصوم تسعة وخمسين يوماً ويجزئه، ويمكن أن يصوم ثمانية وخمسين يوماً إذا صام من أول الشهر، وهذا إنما يكون إذا ثبت بالرؤية أن الشهر ناقص، وهي السنة، وهذا يدل على أن ترائي الهلال أمر مطلوب من المسلمين، وأنه ينبغي عليهم أن يحيوا هذه السنة؛ لأنها تترتب عليها أحكام شرعية كثيرة، وأما العمل بالحساب الفلكي فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمهم الله جميعاً، فمذهبهم أنه لا يعتد بالحساب الفلكي في إثبات الشهر وخروجه، وأن العبرة بالرؤية إن رؤي الهلال، وإلا حكم بتمام الشهر، كما سبق بيان هذه المسألة وتفصيل القول فيها في مسائل رؤية هلال رمضان.
فإذا ابتدأ من أول الشهر اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإذا ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوماً متتابعة، فينتقل إلى حساب الشهرين المتتابعين بالعدد على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أي: يجوز أن يبدأ بمنتصف الشهر، ويجوز أن يبدأ من أثناء الشهر، وأنه لا يشترط أن يبدأ من أول الشهر.
(317/5)
________________________________________
إطعام ستين مسكيناً عن الظهار
قوله رحمه الله: [فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً].
أي: فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين فإنه يجب عليه أن يُطعم ستين مسكيناً؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [المجادلة:4]، فبين سبحانه وتعالى أنه يجب على المظاهر إن عجز، أو لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين أن يُطعم ستين مسكيناً، وتقدم معنا بيان إطعام ستين مسكيناً، ووصف المسكين وضابطه في كتاب الزكاة، وصفة الإطعام، وستأتي الإشارة إلى بعض المسائل المتعلقة بالإطعام، فهنا المصنف يذكر الكفارة إجمالاً، وسيأتي إن شاء الله بتفصيل أحكامها، كما هي عادة العلماء رحمهم الله، حيث يجملون ثم بعد ذلك يفصلون.
(317/6)
________________________________________
الشروط المتعلقة بمن أراد عتق الرقبة
(317/7)
________________________________________
اشتراط التملك في الرقبة
قال رحمه الله: [ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها].
قوله: [ولا تلزم] أي: لا يجب على المظاهر أن يُعتق الرقبة إلا إذا كان مالكاً لها، كأن يكون اشترى رقبة صغيرة كانت أو كبيرة، ذكراً كانت أو أنثى، فإنه حينئذٍ انتقلت ملكيتها إليه، فيلزمه أن يعتق هذه الرقبة، ولا نلزمه بالعتق إلا إذا كانت الرقبة ملكاً له، أو كان قادرا ًعلى شرائها.
فهما أمران إذا تحقق أحدهما عُمل به، فإما أن تكون الرقبة عنده وفي ملكيته، كأن يملكها بإرث، أو يملكها بشراء، أو يملكها بهبة صحيحة، كأن يقول له أخوه: وهبتُك جاريتي فلانة، فقال: قبلت.
أو قال: وهبتك عبدي فلاناً.
فقال: قبلته.
فدخل في ملكه، ثم قال: هو حر لله عز وجل.
وقصد بذلك عتقه كفارة عن الظهار.
قوله: [أو أمكنه ذلك بثمن مثلها] أي: يمكنه أن يشتري الرقبة، أو أن يدخلها بشرائها بثمن مثلها والرقاب إذا بيعت فإما أن تُباع بثمن المثل، وإما أن تباع فيبالغ في قيمتها ويزاد عن قيمتها، ومراد المصنف هنا أننا نُلزم المظاهر أن يشتري الرقبة بمثل ثمنها، لكن إذا وجد رقبة واحدة وطلب صاحب الرقبة فيها مائة ألف، والرقبة تُباع بعشرة آلاف ريال، فحينئذٍ ليس هذا بثمن المثل، فلو أنه لم يجد إلا هذه الرقبة فإننا لا نظلمه بها؛ لأنها فوق ثمن المثل، وفيها إجحاف به، وينتقل إلى عوضها إذا لم يجد بديلاً عن هذه الرقبة بثمن المثل.
(317/8)
________________________________________
اشتراط الكفاية وشراء الرقبة بما فضل عن الحاجة
قوله رحمه الله: [فاضلاً عن كفايته دائماً وكفاية من يمونه].
قوله: [فاضلاً] أي: هذا المال أو الثمن الذي يشتري به المظاهر الرقبة لابد أن يكون زائداً عن حاجته الضرورية التي يحتاجها من طعام وشراب، وكذلك أيضاً مئونة من تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد.
مثاله: لو كان عنده عشرة آلاف ريال، وظاهر من امرأته، وقيمة الرقبة ستة آلاف ريال، والأربعة آلاف ريال تكفيه لمئونته ومئونة أولاده وذريته ومن تلزمه نفقتهم، فحينئذٍ يجب عليه شراء الرقبة.
لكن لو كانت قيمة الرقبة خمسة آلاف ريال، والنفقة التي تجب عليه لأولاده وذريته وأهله ولنفسه تصل إلى ستة آلاف ريال، فحينئذٍ أصبح عنده عجز فلا يُلزم، فلابد أن تكون قيمة الرقبة زائدة عن مئونته ومئونة من تلزمه مئونتهم من أولاده وأهله، وتقدمت معنا هذه المسألة في الزكاة، وكذلك في زكاة الفطر، وذكرنا مسألة الزائد عن النفقة المحتاج إليها، وكلام العلماء رحمهم الله في ذلك.
قال رحمه الله: [وعما يحتاجه من مسكن].
قوله: [وعما يحتاجه] خرج به الذي لا يحتاجه، فلو كان الشخص عنده مسكن وظاهر من امرأته، وقلنا له: اشتر الرقبة فوجدنا أن الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ومسكنه يحتاج إليه له ولأولاده فإنا نقول له: لا يلزم أن تبيع المسكن؛ لأن المسكن محتاج إليه، ولذلك لا يلزم ببيع مسكنه، إلا إذا كان مسكنه فيه زيادة، كأن يستطيع أن يبيع هذه العمارة التي قيمتها -مثلاً- عشرة آلاف ريال، والرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، ويستطيع أن يشتري سكناً يختص به بخمسة آلاف ريال، فنقول له: بع السكن الذي بعشرة آلاف ريال، واشتر الرقبة بخمسة آلاف ريال، واشتر السكن الذي يناسبك بخمسة آلاف ريال، وهذا إذا كان عنده زيادة وفضل في السكن، لكن إذا كان السكن على قدره وقدر أولاده، ولا يستطيع -إذا باع السكن- أن يجد قيمة الرقبة فاضلةً عن سكن يجده له ولأولاده يليق بمثله فإنه لا يلزم بالبيع.
قوله: [وخادم].
إذا كان يحتاج للخادم مثل الشيخ الكبير، والزمن، والمقعد، والمريض، والمشلول، ففي هذه الحالة لو كانت أجرة الخادم يستطيع أن يسقطها ثم يشتري بها رقبة نقول له: لا يلزمك ذلك، إلا إذا كنت مستغنياً عن هذا الخادم، فلو كان الخادم على سبيل الكمال فإنه حينئذ يلزمه أن يصرفه ويشتري بأجرته الرقبة.
كذلك أيضاً -على القول بأن الخادم تقدر نفقته على ما ذكره المصنف رحمه الله- لو كان الشخص الذي ظاهر عنده سكن وعنده خادم، والخادم له أجرة شهرية، والمال الذي عنده هو عشرة آلاف ريال، منها خمسة آلاف ريال على طعامه وشرابه وأجرة خادمه، ويمكن -لو صرف الخادم- أن يبقى شيء، فنقول: لو كان الخادم ضرورياً فلا يصرفه ولا تقدر له نفقة، وأما إذا كان غير ضروري فإنه يحتسب الفضل، أي: يُلغي قيمة الخادم من نفقته ومئونته، ويضمها إلى قيمة الرقبة.
قوله: [ومركوب].
أي: إذا احتاج إلى المركوب، مثل الشخص الذي معه عمل ويذهب ويأتي على مركوب، لكن إذا كان لا يحتاج إلى المركوب، ويستطيع أن يعيش بدون المركوب ويقضي حوائجه -مثل أصحاب القرى وأصحاب البادية، حيث يسهل عليهم التنقل في أماكن قريبة- وكان عنده مركوب فاضل عن حاجته، فحينئذٍ يقال: إن هذا المركوب لا يحتسب بالنفقة الضرورية، لكن لو كان يحتاج إلى هذا المركوب كبير سن، أو من عنده عمل لابد له فيه من المركوب، فالمركوب في هذه الحالة يتعين.
وكل هذا الكلام الذي ذكره المصنف رحمه الله استثناء من أصل قرره العلماء رحمهم الله، وحكى الإجماع عليه الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، وغيره، وهو أن الواجب إنفاقه في شراء الرقبة ما فضل عن الحاجة والمئونة اللازمة، فلما قالوا: بالإجماع لا نلزمه إلا بما فضل عن حاجته الضرورية يرد
السؤال
ما هي الأمور الضرورية؟ وما هي الأمور التكميلية الزائدة عن الحاجية والضرورية؟
و
الجواب
ان من ذلك مئونة لازمة في طعامه وشرابه، ومئونة لازمة في لباسه، ومئونة لازمة في مركوبه، ومئونة لازمة في خدمه، هذه كلها ذكر المصنف بعضها، وسيذكر بقيتها كلها مندرجة تحت قوله: المئونة اللازمة، والمئونة اللازمة: هي التي يحتاجها الإنسان.
وهذه المسألة أيضاً لا يستفاد منها في الظهار فحسب، بل يستفاد منها حتى في مسائل أخرى، فقد تجب الزكاة على شخص، وقد يجب الحق على شخص، فحينئذٍ ينظر في المئونة اللازمة، وينظر فيما هو غير لازم -أي: زائد عن المئونة اللازمة- حتى نلزمه ببيعه ورد الحقوق إلى أصحابها، وقد تقدم معنا هذا في باب التفليس، وذكرنا كيف يبيع القاضي على المفلس الأشياء التي ليست بضرورية، ولا يحتاجها الشخص لنفسه ولمن تلزمه مئونته.
قوله: [وعرض بذلة].
كالفراش والأواني، فلو أن شخصاً ظاهر من امرأته، وقال: الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنا ليس عندي نقود، وليس عندي رقبة، وأريد أن أنتقل إلى صيام شهرين متتابعين فقل له: هل عندك مسكن؟ فإن قال: عندي مسكن على قدري.
وقدر حاجة أولادي ومن يلزمني إيواؤهم فهذا ليس فيه إشكال.
فإذا فتش عن متاعه في المسكن فوجد أنه قد فرش سكنه بالكماليات، مع أن هذه الكماليات يمكن بيع جزء منها تتوفر منه قيمة الرقبة، كما لو كان بيته يمكن أن يؤثث بألفين فأثثه بعشرة آلاف ريال نقول له: بع الأثاث واستفضل منه قيمة الرقبة، ثم اشتر أثاثاً على قدر حالك؛ لأنه لا يمكن في شريعة الله عز وجل أن يلزمه حق لله عز وجل -الرقبة-، ويجلس غنياً قادراً تحت ستار التكميليات التي ليست بحاجيات ولا ضروريات، ويضيع حق الله عز وجل.
ومن هنا قرر العلماء مثل هذه المسائل في كتاب الظهار، وفي الخصومات، فلو خاصم شخص شخصاً في حقه وقال: ما عندي شيء فإننا ننظر إلى الشيء الضروري حتى نقول: ما عنده شيء، أما أن تجده ثرياً في ملبسه ومركبه، ثم يماطل في حقوق الناس، أو في حق الله عز وجل ككفارة الظهار، ويقول: هذا لازم لي في مئونتي فإننا نقول: لا.
إنما يأخذ ما فضل عن حاجتك الضرورية، والزائد عن ذلك يجب صرفه للوفاء بحقوق الله، وبحقوق الآخرين.
قوله: [وثياب تجمل] أي: الشيء الذي يتجمل به بالمعروف، لكن هذا يحتاج إلى نظر، وليس على كل حال، وهذه المسائل كلها يرجع فيها إلى المفتي، والذي يستطيع أن يقدر حاجته من الثياب بالمعروف؛ لأنها محتكم فيها إلى أعراف الناس.
فالمرأة -مثلاً- تتجمل بثياب، فلو فرضنا أنها تلبس ثياباً قيمتها عشرة آلاف ريال، ويمكنها أن تشتري ثياباً بألفين، فقالت: ما عندي شيء، فإنه تجب عليها الرقبة، ولو قالت: ما عندي إلا هذا الثوب -الذي هو الفستان الذي تلبسه-، والفستان بعشرة آلاف ريال، فلا يقول لها المفتي مباشرة: انتقلي إلى صيام شهرين متتابعين ولا يجزيها ذلك، ما دام أن قيمة الثوب فيها زيادة عن الحاجة الضرورية، وإنما يقال لها: بيعيه ثم اشتري قدر الكفاية، والزائد من ذلك قيمة للرقبة التي هي حق الله عز وجل، فحينئذٍ لا يرخص لها.
وانظر إلى دقة العلماء والأئمة والمفتين، فإنهم لا يقبلون من الناس دعواهم هكذا، وهذا في الحقيقة هو الفرق بين فقه المتأخرين والمتقدمين الذين يحتاطون في حقوق الله عز وجل، مع أن حقوق الله فيها الكثير من الأمور المبنية على المسامحة، لكنهم يدققون ويشددون في المسائل، وكل ذلك تضييقاً للتلاعب بحقوق الله عز وجل؛ لأن عتق الرقبة حق لله في كفارة الظهار.
قوله: [ومال يقوم كسبه بمئونته] مثال هذا: لو كان عنده مزرعة، وهذه المزرعة فيها قوته وقوت أولاده، وعليه رقبة كفارة ظهار، فقلنا له: أعتق الرقبة، قال: ما أجد.
قلنا: عندك مزرعة.
قال: المزرعة هذه قوتي وقوت أولادي.
فما عنده سيولة، وما عنده إلا هذه المزرعة، ولا يستطيع أن يستغني عن المزرعة ببيعها وشراء غيرها مما يدر عليه قوته وقوت أولاده، فنقول: المزرعة تبقى، لكن هناك في المزرعة أشياء يتوقف القوت والمئونة عليها، مثل مكينة الزراعة التي قد تكون قيمتها كبيرة، فلا نلزمه ببيعها؛ لأنها لو بيعت لما استطاع أن يأمن بقاء المزرعة حتى يجد مئونة من تلزمه نفقته من أهله وولده.
وهذا راجع إلى أن لازم الشيء كالشيء، فإذا كان الشيء أذنت الشريعة أنه يخرج من حد الإلزام بعتق الرقبة -كما مر معنا- فهذا الشيء الذي يحتاجه للمئونة لا يحكم فيه ولا يلزم ببيعه، ولا يلزم بالتصرف فيه، فإذا كانت هذه الأشياء يحتاج إليها للمئونة فكل ما يحتاجه لبقاء ما يقوم بنفقته ونفقة أولاده لا يلزم ببيعه والتصرف فيه.
قوله: [وكتب علم].
هذا محل نظر؛ لأن كتب العلم تباع، وإذا كانت تكفي لشراء الرقبة فلا رخصة في بقائها، بل يبيعها ويلزم ببيعها؛ لأن كتب العلم لها بديل عن طريق سؤال العلماء واستفتائهم، فلو فرضنا أن عنده مكتبة علم قيمتها عشرة آلاف ريال ولزمته الرقبة، والرقبة قيمتها خمسة آلاف، أو ستة آلاف، فنقول له: بع المكتبة، واشتر الرقبة وأعتقها.
قوله: [ووفاء دين].
كذلك أيضاً إذا كان عليه دين، فإذا وجبت عليه كفارة الظهار وقلنا له: أعتق رقبة فقال: عندي عشرة آلاف ريال، وفلان من الناس له دين عليّ عشرة آلاف ريال، أو فلان من الناس له دين عليّ ثمانية آلاف ريال، والرقبة قيمتها أربعة آلاف ريال، فتبقى ألفان، فإذا كان عليه دين لا يمكن معه شراء الرقبة، فإنه في هذه الحالة تسقط عنه الرقبة وهذا مبني على القاعدة: (إذا ازدحم حق الله وحق المخلوقين قُدم حق المخلوقين على حق الله عز وجل)؛ لأن الله يسامح بحقه، والمخلوق لا يسامح، وهذا له شواهد كثيرة في الكتاب والسنة كما تقدم معنا غير مرة، ويعمل على هذا الأصل في أبواب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج، وبيّنا كلام العلماء رحمهم الله في هذه القاعدة.
(317/9)
________________________________________
الشروط المتعلقة بالرقبة المعتقة في الكفارة
(317/10)
________________________________________
اشتراط الإيمان في الرقبة
قال رحمه الله: [ولا يُجزي في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة].
من أعتق الرقبة فإنه يُشترط لصحة العتق في إجزاء الكفارات الواجبة أن تكون مؤمنة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، فاشترط الله عز وجل في تحرير الرقبة الإيمان، والقاعدة: (المطلق محمول على المقيد)، وكتاب الله يفسر بعضه بعضاً، ومن هنا قال جمهور العلماء رحمهم الله من المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة: يجب في الرقبة التي تعتق في الظهار أن تكون مؤمنة، والإطلاق في آية المجادلة مقيد بما ورد في آية النساء من اشتراط الإيمان في الرقبة.
فهذا دليلهم من الكتاب.
أما دليلهم من السنة على اشتراط كونها مؤمنة فحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه، عند أبي داود والترمذي -وهو حديث صحيح-: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني صككت جارية صكةً ندمت عليها، وأحب أن أعتقها -يعني أنه ضربها ولطمها على وجهها، فندم على ذلك، فأحب أن يعتقها-.
فقال عليه الصلاة والسلام: ائتني بها، فلما جيء بالجارية قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، فجملة: (فإنها مؤمنة) جملة تعليلية، ويستخدمها عليه الصلاة والسلام كثيراً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب؛ فإنه يبعث يوم القيامة من الملبين) أي: أمرتكم بهذا الأمر؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، أي: السبب في منعكم من هذا أنه في حكم المحرم؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما في الإناء؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، أي: ما أمرتكم بغسلها ثلاثاً إلا لمكان احتمال النجاسة؛ لقوله: (فإن أحدكم لا يدري أن باتت يده).
فهذه جملة تُنبه على العلة في أمره بالعتق (أعتقها؛ فإنها مؤمنة) أي: ما أمرتك بعتقها إلا لأنها مؤمنة، فكان مفهوم ذلك أنها لو لم تكن مؤمنة لما أمرتك بعتقها.
ويستنبط من هذا أن الكافر لا يعتق، وهذا صحيح؛ لأن الكافر ضرب الرق عليه؛ لأنه لما كفر بالله وحارب دين الله عز وجل، جعله الله في مقام البهيمة بل أضل كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ففضل الله الآدمي على الحيوان بالعقل، فإذا كفر نعمة الله عز وجل عليه بالعقل، وكفر بالله عز وجل نزل عن الآدمية إلى البهيمة، فيباع ويشترى؛ لأنه كافر.
ولذلك لا يختص الرق بطائفة، ولا يختص بلون، ولا يختص بجنس، وإنما هو في كل من كفر بالله عز وجل وألحد كائناً من كان؛ لأن الحكم فيه عام، والعلة فيه مبنية على الكفر، وإلا فكيف تقاتل الشريعة من كفر بالله عز وجل وتضرب عليه الرق، ثم بعد ذلك بكل سهولة يعتق، ويصير حراً كافراً دون أن يُسلم، فهذا لا يتفق مع الشرع أبداً، ولذلك لما أراد معاوية أن يعتقها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها)، فلما جيء بها اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم، وامتحنها هل هي مؤمنة أو غير مؤمنة، وهذا يدل على أنه لا يمكن أن الشرع يقول: اضربوا الرق عليه بالكفر، ثم يقول: أعتقوهم وهم كفار، فهذا أشبه بفوات المقاصد التي من أجلها ضرب الرق.
ولذلك قالوا: من الناس من يسلم بالسنان، ومنهم من يسلم بالحجة والبرهان، ومنهم من يسلم بالنعمة والإحسان، فالكافر حينما يجابه المسلمين ويرى قوة الإسلام قد لا يكفيه ذلك لسلم، فإذا عاش بين المسلمين ورأى أخلاقهم، ورأى فضل الإحسان، ورأى الأدب دعاه ذلك إلى الإسلام، ولذلك ضُرب عليه الرق حتى يكون وسيلة لإسلامه وإيمانه، وهذا كله تنزيل من حكيم حميد، فما من أمر شرعه الله إلا وتجد وراءه من الحكم الشيء الكثير.
فإذا كان الكافر يُعتق على كفره فات المقصود من ضرب الرق عليه، لذلك فإن مذهب جمهور العلماء -وهو أصح القولين في هذه المسألة- أن الكافر لا يُعتق، وأنه لا تجزئ الرقبة الكافرة في الكفارات عموماً، فلا يجزئ في كفارة اليمين إلا مؤمنة، فلو أعتق عبده الكافر فإنه لا يُجزيه عن كفارة يمينه، ولا يجزئ في كفارة الظهار، ولا كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا كفارة القتل إلا أن تكون مؤمنة، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله.
فإذا كان الرقيق مؤمناً، فلا إشكال، سواءٌ أكان ذكراً أم أنثى، لكن الإشكال لو أنه أراد أن يُعتق في كفارة قتل صبياً صغيراً، وهذا يقع، فيأتي شخص يريد أن يُعتق في كفارة قتل فلا يجد إلا طفلاً، فهل يجزيه ذلك؟
و
الجواب
ينظر في والد الطفل، فقيل: إنه يتبع خير الوالدين ديناً، فإن كان أحدهما مسلماً أبوه أو أمه لحقه، وحُكم بأنه مسلم.
وهذا مبني على القاعدة التي ذكرها العلماء، وأشار إليها الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام، تقول القاعدة: (التقدير تنزيل المعدوم بمنزلة الموجود، والموجود بمنزلة المعدوم)، فالتقدير في الشريعة أما أن تنزل المعدوم بمنزلة الموجود أو تنزل الموجود بمنزلة المعدوم.
فالصبي لم يشهد ألا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، ولكن يعامل معاملة أحسن والديه ديناً من باب التقدير، فيقدر فيه الإسلام، كأطفال المسلمين قدر فيهم الإسلام مع أنهم لم يسلموا، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، فمن دقة العلماء جعلوا الأولاد تبعاً للوالدين؛ لأنه قال: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه)، وهذا مسلك دقيق مبني على أن الغالب أن الوالدين سيجران الولد إلى دينهما، وإذا كان الوالدان مختلفين في الدين نُظر إلى خيرهما؛ لأن الولد إذا اختلف والداه نظر إلى أيهما أقرب ديناً، فهذا حاصل ما ذكر في هذه المسألة، فإذا كان صبياً دون البلوغ فإنه يحكم بكونه تبعاً لخير والديه ديناً.
(317/11)
________________________________________
اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة
قال رحمه الله: [سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً].
أي: يشترط في الرقبة أن تكون سليمة من العيب الذي يضر بالعمل ضرراً بيناً، والعيب في لغة العرب: النقص، يقال: عابه: إذا انتقصه.
وقد تقدم معنا في البيوع في خيار العيب أن العيب: نقصان المالية في الشيء نقصاناً مؤثراً، والعيب في الرقاب ينقسم إلى قسمين: عيب النفس، وعيب الذات.
فعيب النفس: أن يكون به مرض يؤثر في أخلاقه ويؤثر في نفسه، وجسده كامل وذاتُه كاملة، مثل الجنون -أعاذنا الله وإياكم-، فهذا عيب ونقص، وكذلك أيضاً يكون العيب متعلقاً بالذات، كالعرج ونقص الخلقة بعمل أو غير ذلك كالشلل ونحوه مما يؤثر في الذاكرة، وسنفصل -إن شاء الله تعالى- في مسائل شرط السلامة من العيوب في رقبة الكفارة الواجبة في الظهار.
(317/12)
________________________________________
الأسئلة
(317/13)
________________________________________
حكم من تلفظ بالظهار هازلاً
السؤال
ما الحكم لو تلفظ بالظهار هازلاً؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أن الظهار يأخذ حكم الأصل؛ لأن الأصل في الهازل ألا يؤاخذ بقوله، فلا يوجب ثبوت حكم.
ومن أهل العلم من قاسه على الطلاق، وقال: من هزل بالظهار كمن هزل بالطلاق.
وهذا المذهب أحوط، وأبرأ للذمة، وأسلم للإنسان أن يحتاط لدينه ويستبرئ.
أما الأصل فيقتضي أن الهازل لا يؤاخذ على هزله، وأن المزح لا يأخذ حكم الجد.
ولذلك نقول: إن الأصل رجحان مذهب من يقول: إنه لا يعامل معاملة المطلق، فمن ظاهَرَ هازلاً وما قصد الظهار لا يقع ظهارُه، وإذا أحب أن يحتاط ويخرج من الخلاف فهذا أفضل.
أما من حيث الدليل ونحن قلنا: الأصل، فالأصل أن الهزل لا يأخذ حكم الجد، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، فلو كان الهزل يأخذ حكم الجد لما قال: (ثلاث)، ولما خص الحكم بالطلاق والنكاح، ولذلك لما قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) دل أنه ما عدا الثلاث، لا يأخذ حكم الثلاث وإلا كان قال: أربع، أو: خمس، ولذلك اختص الحكم بما ورد، فإذا جاءت المسألة ترد إلى الأصل، فهل الهازل يقصد إيقاع الشيء أو لا يقصده؟ والجواب: يقصده، وليس في نيته ذلك، وليس بمتعمد إيقاع ذلك، ولذلك قال تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، فهو لم يقصد الظهار ولم يرده، وإنما أراد أن يهزل مع امرأته ويعبث معها، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، لكن مع ذلك نقول: الاحتياط أفضل.
ومذهب الاحتياط يسمى فقه الفتوى والجواب، وهو أنه إذا كان الشيء لا عقوبة فيه وترجح القول بعدم عقوبته، وسمعه عوام الناس أو سمعه الناس فربما تساهلوا فيه وتلاعبوا به، فإنهم ينذرون منه تخويفاً من انتهاك حدود الله عز وجل والاستخفاف بها، فما ينبغي لأحد أن يهزل بالظهار، ولا أن يهزل بالأشياء الشرعية التي عظمها الله عز وجل، ولذلك وصف الله الظهار بأنه منكر من القول وزور، ولا ينبغي للهازل أن يتلفظ بالظهار، كما ينبغي للمسلم دائماً أن يحفظ حدود الله، وأن يتقي الله فيما يقوله.
والله تعالى أعلم.
(317/14)
________________________________________
حكم إعتاق الرقبة إذا كانت من ذوي الأرحام
السؤال
لو كانت الرقبة التي يريد أن يعتقها قريبة له كالوالد والأخ والعم، فهل تقع كفارته؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمن أهل العلم من قال: لا يُجزئ أن يعتق ذا الرحم المحرم، كما في حديث السنن، ومن أهل العلم من قال: إنه لا يُجزئ أن يعتق الوالدين، وكذلك أيضاً الفروع والإخوة.
فخص الحكم بالأصول وفروع الأصول القريبة التي هي الإخوة وغيرها من الفروع القريبة.
ويتأتى هذا فيما لو كان ولده كافراً ثم أُسر في الحرب ثم بيع، أي: ضرب عليه الرق، ثم بيع، ثم اشترى ولده، فتأتي هذه المسألة على هذه الصورة، أو يكون والده كافراً فيؤسر، ثم يضرب عليه الرق فيشتريه.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه)، وورد في الصحيحين أيضاً: (لا يُجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه).
فهم يقولون: إن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه، فيقتضي ذلك أن الأصل أن من ملك ذا رحم فلا يسمى رقبة؛ لأنه يعتق عليه بمجرد ملكه له، فهو إذا أعتق في كفارة الظهار حاز فضلاً لنفسه بالتخلص من عتقها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يذهب الجمهور إلى هذا، والمالكية يذهبون إلى القول الثاني.
والحقيقة أن قوله: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) هو من حديث سمرة، وفيه كلام عند العلماء رحمهم الله، ولكن على القول بتحسينه يقوي قول من قال: إن ملكية ذا الرحم تمنع من إجزاء الرقبة في عتق الظهار وغيره مما تجب فيه الرقبة.
والله تعالى أعلم.
(317/15)
________________________________________
أجر من عفا عن القاتل
السؤال
هل من عفا عن القاتل يكون له أجر عاتق الرقبة؟
الجواب
من عفا عن القاتل له أجر، وهذا الأجر مغيب، ولم يرد نصٌ بتفسيره ولا ببيانه ولا قياسه على غيره، فالواجب على المسلم أن يقف عند هذا الموقف الذي حده الشرع، وهو أن نؤمن بأن الله يثيبه، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ومن ابتغى الأجر من الله، فقد تولى كريماً لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى، فنِعم العطية ونِعم المتحمل سبحانه وتعالى لهذا الفضل العظيم الذي سيبذله على عبده؛ لأن الناس يختلفون، من قُتل أبوه وعفا ليس كمن قُتل ولده، ومن قُتل أبوه وهو يتيم يحتاج إلى حنانه وبره وإحسانه، ليس كمن قُتل أبوه وهو كبير عاقل رشيد، هذه الأمور كلها يعلمها الله سبحانه وتعالى ويقدرها بأقدارها ويجزل ثوابها، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] سبحانه وتعالى، فهذه الأمور لا يدخل في تفصيلها.
فإن يُقال: إن من أعتق الرقبة كمن عفا عن القتل.
أو: من عفا عن القتل كمن أعتق الرقبة فهذا لا يدخل فيه القياس؛ لأن هذه الأمور ليست مجالاً للقياس، وهذه أمور غيبية يقف المسلم فيها عند الحد الذي حده الشرع، فيؤمن إيماناً جازماً كاملاً بأنه لا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا عفا المسلم عن أخيه المسلم لله ولوجه الله تولى الله ثوابه.
أما ما هو الجزاء، وما هو الثواب فهذا أمر يتوقف فيه؛ للأصل الذي ذكرناه.
والله تعالى أعلم.
(317/16)
________________________________________
الاستدلال بحديث الجارية على إثبات علو الله عز وجل
السؤال
هل يستدل بحديث الجارية على ثبوت علو الله تعالى، وذلك في قول الجارية: في السماء؟
الجواب
هذا دليل للمذهب الحق في إثبات الفوقية لله عز وجل، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، فأثبت سبحانه وتعالى لنفسه الفوقية والعلو سبحانه وتعالى، وتجد بعض المذاهب تقول: الله ليس فوق ولا تحت ولا هنا ولا هناك، -نسأل الله السلامة والعافية، فيردون هذه النصوص، ويتكلفون في إبطالها، حتى قال بعض أئمة العلم ودواوين العلم في ردهم لهذا القول الضعيف المصادم للنصوص: إن البهيمة إذا أصابها الكرب رمت ببصرها إلى السماء.
حتى البهيمة أثبتت لله عز وجل هذه الصفة.
والله سبحانه وتعالى أثبت أن إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فهي نصوص واضحة كالشمس، لا تحتاج إلى تأويل، ولا تحتاج إلى تعطيل، ولا تحتاج إلى تمثيل، فيؤمن بها المسلم كما جاءت وكما نزلت.
ولذلك استدل العلماء والأئمة بقولها: (في السماء) على إثبات صفة العلو؛ لأن العرب تنص على أن السماء تطلق على العلو، وهو إثبات صفة العلو لله عز وجل، وهو العلي العظيم.
فالمذهب الحق إثبات صفة الفوقية لله عز وجل؛ لثبوت نصوص الكتاب والسنة بذلك، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة: (اللهم هل بلغت.
اللهم فاشهد، اللهم فاشهد)، فكان يرفع أصبعه إلى السماء، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا خطب خطبة الجمعة وأراد أن يدعو أشار بأصبعه إلى السماء) فهذه هي السنة، وهذا يدل على أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل، ولا يقبل تأويلها أو تعطيلها أو صرفها عن ظاهرها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)، فهذه نصوص واضحة لا تحتاج إلى تأويل، بل تثبت أنه في العلو سبحانه وتعالى، والتنبيه بالضد يدل على ضده، فعلى كل حال أسفرت أدلة الكتاب والسنة على إثبات الصفة لله عز وجل، وأن المذهب الحق أن الله له هذه الصفة بدون تأويل ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه.
والله تعالى أعلم.
(317/17)
________________________________________
حكم الوضوء واستقبال القبلة عند سجود التلاوة
السؤال
هل يشترط لسجود التلاوة استقبال القبلة والوضوء؟
الجواب
السجود لا يكون إلا للقبلة؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه قال: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) يعني الكعبة، فأثبت أنه لا تستقبل إلا القبلة، ولا نجيز لأحد أن يسجد لغير القبلة، سواءٌ أكان في صلاة أم غيرها، إلا إذا دل الدليل على جواز ذلك، كما في صلاة النافلة في السفر على الدابة حيث ما توجهت به، وأما ما عدا ذلك من القياسات والآراء فمذهبه ضعيف؛ لأنه مصادم للأصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، فينبغي استقبال القبلة عند السجود، سواءٌ أكان سجود تلاوة أم سجود شكر أم سجود سهو، أم سجود صلاة، فكل ذلك سجود، وآخذ حكم الأصل من الإلزام باستقبال للقبلة، وهذا أصل شرعي عمل به جمهور العلماء رحمهم الله، أما أن يكون الشخص يتلو القرآن فلا تدري إلا وهو ساجد إلى جهة الشرق أو جهة الغرب والقبلة منحرفة عنه فربما ظُن أنه يسجد للسارية أو يسجد لغير الله عز وجل، خاصة إذا كان في مسجد يمكن فيه أن يسجد للقبلة، لكنه ينحرف عن القبلة ويسجد إلى غيرها، فهذا أمر لا شك في خطئه وعدم صوابه، والمذهب الحق أنه يجب استقبال القبلة.
أما الطهارة واشتراطها للسجود فالصحيح أن سجود التلاوة وسجود الشكر لا يشترط لهما الطهارة، والدليل على ذلك أن اشتراط الطهارة شرط زائد عن استقبال القبلة، وإنما تشترط الطهارة للصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة)، فهذا الأصل، وسجود التلاوة ليس بصلاة من كل وجه، وسجود الشكر كذلك ليس بصلاة من كل وجه، فلا يلزم أن يكون متوضئاً.
والله تعالى أعلم.
(317/18)
________________________________________
حكم إعادة المأمومين للصلاة إذا صلى بهم إمام وهو غير طاهر
السؤال
إمام صلى بالناس وهو على غير طهارة، فهل يلزم المأموم أن يعيد الصلاة، أم تقتصر الإعادة على الإمام فقط؟
الجواب
أصح الأقوال في هذه المسألة مذهب الجمهور، فقول الجمهور رحمهم الله أنه تصح صلاة من وراء الإمام، ويجب على الإمام أن يعيد الصلاة، والدليل على ذلك ما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، أي: إن أخطأو ولم يعلموا، وكان الخطأ مؤثراً في الصلاة كشرط الطهارة ولم يعلم من وراء الإمام به فعليه خطؤه ولكم صلاتكم تامة صحيحة، فهذا يدل على أن الإمام إذا صلى ولم يخبر المأمومين، أو إذا صلى ونسيَ أنه محدث ثم بعد الصلاة تذكر فإن صلاة المأمومين صحيحة، ولا تجب عليهم الإعادة.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المأمومين أن يعيدوا، والحقيقة أن القول الذي يقول بعدم الإعادة أقوى من حيث السنة، خاصة أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف -والجرف في غربي المدينة يبعد عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب أربعة أميال، وهو الموضع الذي ينزل فيه الدجال كما في الحديث الصحيح: (أن منزله بسبخة من أرض جرف)، وهي خارج حدود الحرم-، فنزل في مزرعته، فلما جلس على الساقية نظر إلى فخذه فرأى آثار المني، فقال رضي الله عنه وأرضاه: ما أراني إلا أجنبت فصليت وما اغتسلت.
فاحتلم فاستيقظ وهو لا يدري أنه جنب، فصلى ولم يأمر أحداً بإعادة الصلاة، ومعلوم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس مأمورون باتباع سنته وهديه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك القول الصحيح في هذه المسألة أن الإعادة لا تجب على المأمومين.
لكن إذا علم المأموم أن إمامه محدث، أو رأى على إمامه نجاسة فإنه يجب عليه أن يفارقه عند العلم، فإن علم قبل الصلاة فلا يجوز له أن يأتم به، فإن ائتم به بطلت صلاته، وهكذا لو أحدث الإمام أثناء الصلاة وسمع المأموم حدثه، كأن يخرج منه الريح -مثلاً-، فإنه يستخلف مكانه، فإذا لم يستخلف، ينوي المؤتم مفارقته ويتم لنفسه، فلو اقتدى به بعد علمه بحدثه ركناً واحداً بطلت صلاته بالإجماع، كما حكاه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم.
والله تعالى أعلم.
(317/19)
________________________________________
ضابط المشتبه في قوله عليه الصلاة والسلام: (وبينهما أمور مشتبهات)
السؤال
ما هو ضابط المشتبه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمور مشتبهات)؟
الجواب
هذه المسألة حار فيها العلماء رحمهم الله، واختلفوا في حد المشتبه، ولا يوجد له قاعدة معينة أو ضابط معين.
والفتوى ليست كلمات تقال لا يسأل ولا يحاسب عنها الإنسان، فكم من مسائل جثا بسببها السلف ودواوين العلم على ركبهم، فتمنوا أن أمهاتهم لم تلدهم قبل أن يقولوا فيها بشيء، فالإنسان يتقي الله عز وجل، فالشيخ الأمين رحمة الله عليه سئل عن مسألة في البيوع فقال: لا أعلم.
لا أدري.
الله أعلم.
فكرر عليه السائل أكثر من مرة، وقيل له: إذا لم تفتِ أنت فمن يفتي؟! وكان رحمه الله من أعلم الناس في زمانه، وفي بعض الأحيان يحرج السائل المفتي، وقد يكون عوناً للشيطان عليه، فيقول له: ما أحدٌ يفتي غيرك، وأنت شيخنا، وأنت وأنت.
وربما جره من حيث لا يشعر، وينبغي للإنسان أن يشفق على من يسأل، فجثا الشيخ الأمين على ركبتيه ورفع يده إلى السماء وقال: يا فلان لا تحملني ما لا أطيق، يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق.
يا فلان! لا تحملني ما لا أطيق.
فالمسائل ووضع الضوابط والقيود أمور يتساهل فيها المتأخرون، ويخاف منها المتقدمون الورعون الصالحون.
فالضوابط تحتاج منك أن تدرس جميع المسائل المشتبهة في مسائل العبادات والمعاملات في الفقه فقط، أما العقيدة ففيها أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس، منها ما أحل الله عز وجل أن يقوله الإنسان مما يعتقده، ومنها مما حرم الله عز وجل عليه أن يعتقده، وهناك أمور مختلطة ينبغي للإنسان التورع فيها، وأن يبتعد عنها، حتى في المسائل التي تتعلق بالعبادات والمعاملات، فعند أخذ المشتبهات في الطهارة وحدها يمكن أن يحار العقل في وضع ضوابط لها، أما فهمها ومعرفتها فالحمد لله عز وجل، فالله عز وجل ما قبض رسوله عليه الصلاة والسلام إليه إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء.
فعلم المتشابهات ليس له ضابط أو قاعدة محددة، لكن هناك أمر يعين على فهم المتشابه، وهو أن المتشابه أمر فيه شَبَه من الحل يقتضي جوازه، وشَبَه من الحرمة يقتضي منعه، وحينئذٍ يتردد نظر الفقيه في إلحاقه بأقواهما شبهاً ليجزم بحله أو يجزم بحرمته، أو يقف موقف السلامة عند استواء الأمرين، فيقول فيه: الله أعلم.
هذا فيه شبه من الحل وشبه من الحرمة.
فمثلاً: أحل الله لنا نكاح المرأة غير المسماة في المحرمات، فقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23]، ثم قال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، أي: من غير ما سميت لكم.
فهذا يقتضي حل النساء من غير ما سمى الله عز وجل، فالنص يقتضي أنه لو أن رجلاً -والعياذ بالله- زنا بامرأة، فأنجبت هذه المرأة بنتاً فهي بنت من الزنا، وإذا جئنا ننظر فإن البنت الحلال التي يجوز له أن يصافحها ويجلس معها ويختلي بها ويسافر ولا يحل له نكاحها هي بنت النسب، وهي من مائه ومن لحمه ودمه ومن فراشه، فهذه هي الحلال البينة التي لا إشكال فيها ولا شبهة.
ولو جئنا إلى المحرمة، وهي التي لا تحل للرجل إلا بعد أن ينكحها، ويكون له وجه من حلها بملك يمين أو نحوه، وكونه زنا بها فالزنا حرام، ولا يقتضي أنها تأخذ حكم الحلال، فالبنت من الزنا هل نحكم بكونها بنتاً من صلبه فلا يجوز له أن يتزوجها، أو نحكم بأنها أجنبية عنه ونجيز له ذلك؟ كذلك لو أن والده زنا بامرأة، فجاء يريد أن ينكح بنت هذه الزانية -والعياذ بالله-، وهي أخته من الزنا، فهل نقول بحلها؛ لأنها ليست من ذوات النسب، وليست مما سمى الله عز وجل من المحرمات؟ لأنه تعالى قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، والبنت من الزنا ليست بالبنت من النسب، وليست من المحرمات بالمصاهرة، وليست محرمة من الرضاعة، وليس فيها نص يقتضي تحريمها، فإذاً هي مما وراء ذلك.
وإذا جئنا ننظر في المعنى الذي من أجله حرمت الشريعة نكاح البنت ولم تجز للرجل أن ينكح بنته أو أخته وجدناه موجوداً في هذه البنت، فهي من صلبه ومائه ومن فراش وطئه، والذي فيها فقط هو الوصف الشرعي وعدمه، فاقتضى الأول حلها، واقتضى الثاني حرمتها، فصارت مشتبهاً، تشبه الحلال من وجه تشبه الحرام من وجه.
فمثل هذا يأتي فيه الإنسان ويقول: لا أفتي بحله ولا أفتي بحرمته.
وحينئذٍ يلقى الله سبحانه وتعالى لم يعتقد حرمة يحرم بها شيئاً لم يحرمه الله، ولم يعتقد حلاً؛ لأنه شيء لم يرد النص بتحليله جزماً، فصار المشتبه يقتضي مثل هذا الحكم، وهذا قد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قضية عبد بن زمعة حينما وطئ أخو سعد رضي الله عنه جارية زمعة وولدت، فكان فيه شبه من أخي سعد رضي الله عنه وأرضاه، وقال أخوه قبل أن يموت: إن الذي أنجبته ولدي وابني، فإذا أنا مت فتعهد به.
فعهد به إليه قبل موته، فلما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد: إنه ابن أخي عهد إليّ به قبل موته.
وقال عبد بن زمعة رضي الله عنه: يا رسول الله! إنه على فراش أبي، والأصل أنها وليدة لوالدي، وتأخذ حكم الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
فاستدل بالأصل، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لك يا عبد بن زمعة، واحتجبي منه يا سودة)، فانظر كيف عمل بالشبهين.
وكذلك أيضاً في قضية المرأة التي ادعت أنها أرضعت، فقال الزوج: (يا رسول الله! إنها لم ترضعني، فقال: كيف وقد قيل؟)، فأمره بفراقها مغلقاً الشبهة ودافعاً لها.
لكن الذي ينبغي على المسلم دائماً أن يرد الأمر إلى العلماء، وأن يسأل من عنده علم، فربما كان الأمر مشتبهاً، عند عالم بيناً عند عالم آخر، وربما كان ملتبساً على أحد، والله تعالى يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقد أخبر تعالى عن خيرة خلقه وصفوته من عباده وهم رسله، فقال تعالى في قضية داود وسليمان: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
فقد يكون الشيء مشتبهاً عند عالم بيناً عند غيره، وهذه نعم من الله تعالى يفتح بها على العلماء، ويفرق بين العلماء، حتى إن الخلاف في شريعتنا أظهر الله وكشف به العلماء الراسخين في العلم، فظهرت قوتهم في استنباط الأحكام من النصوص، وقوتهم في إحقاق الحق وبيان الأرجح والأقوى والأقرب إلى أصول الشريعة، وهذا كله راجع إلى فضل الله عز وجل وحده لا شريك له الذي يؤتي الحكمة من يشاء.
نسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.
(317/20)
________________________________________
عدة المطلقة بعد مرور سنة على فراق زوجها لها
السؤال
امرأة طلقها زوجها بعد سنة من فراقها، فهل لها عدة، أم تكتفي بمدة الفراق؟
الجواب
الواجب عليها أن تعتد بعد الطلاق، ولا تعتبر بمدة الفراق؛ فإن الله تعالى جعل العدة مرتبة على وجود الطلاق، وبناءً على ذلك لا يمكن أن يحكم بالعدة قبل وقوع الطلاق، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
والله تعالى أعلم.
(317/21)
________________________________________
نصيحة لطالب علم كثير النسيان
السؤال
لا أعرف كيف أقرأ كتب أهل العلم؛ إذ أنسى أول الكتاب إذا وصلت إلى آخره، ولا أعرف كيفية الضبط، فما المنهجية في ذلك؟
الجواب
القواعد والمنهجية مسائل كبيرة، فطلب النصائح والتوجيهات ممكن، لكن المنهجية أمر صعب جداً.
وعلى كل حال من أخلص لله فتح الله عز وجل عليه من فضله.
أولاً: لا يقرأ الإنسان في كتاب يختص بعلم حتى يحصل قواعده بالتلقي المباشر، وأنبه أن العلم لا يؤخذ عن طريق الكتب، ولا تؤخذ السنة إلا من أفواه الرجال، وأما كون كل شخص يأخذ كتاباً ويأخذ علماً، ويستقل بنفسه في دراسته وفهمه فمن السهل أن ينسى، وأن يفهم فهماً خاطئاً فيضل.
ومعلوم أنه كلما تأخر جيل عن الذي بعده نقص اتباعهم لهديه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجيل الأول تلقى الوحي مباشرة فشاهد مشاهد التنزيل، وجلس مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ منه مباشرة، وهذا أكثر بركة، وأكثر فهماً وأكثر ضبطاً, وأكثر تحقيقاً، وكلما تأخرت الأمم كلما ضعف العلم، ومن هنا فُرق بين القرن الذي يليه عليه الصلاة والسلام والقرن الذي بعده حتى تقوم الساعة، فالتلقي لابد أن يكون من أفواه العلماء ومن أفواه الرجال، كما كان حال السلف رحمهم الله والأئمة.
ثانياً: الكتاب الذي تريد أن تقرأه لابد أن تراعي فيه أموراً.
أولاً: ينبغي على طالب العلم ألا يقرأ كتاباً حتى يقرأ مقدمته، وتعرف ما الذي في المقدمة.
ثانياً: لا تقرأ إلا بين يدي عالم، فتضن وتشح بنفسك وبوقتك عن أن تهدره عند من لا يقدره قدره من أنصاف المتعلمين والمجهولين، فلا تأخذ العلم إلا ممن يعرف، وإياك والجلوس عند من لا يعرف العلماء، ومن لا يعرفه العلماء، ولذلك تجد هذا الزخم الموجود في المكتبة الإسلامية إلى درجة أنه أصبح يضايق كتب السلف وأئمة العلم حتى في المسائل الواضحة، وكأن كتب العلماء والأئمة المتقدمين لا تُشفي عليلاً ولا تروى عليلاً، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، فلا تقرأ إلا كتب من يوثق بعلمه، وكثير من الآفات تأتي بسبب هذا، ولربما تجد الشخص يؤلف في مسألة كبيرة وهو يجهل مقدمات العلوم، وهذا هو الذي -نسأل الله السلامة والعافية- ابتليت به الأمة.
خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، فتصدر للتدريس والكتابة من ليس بأهل لذلك إلا من رحم الله عز وجل.
فلا يُقرأ لكل أحد، ولا تؤخذ كتباً لأناس مجهولين لا يعرف من هم، خاصة في أمور العقيدة، وفي المسائل المهمة التي تتصل بعقيدة الإنسان، أو بعبادته فيما بينه وبين الله، وهذا لا يتساهل فيه، ونحن نشدد في هذا، والله يشهد أننا لا نريد إلا النصيحة لله ولكتابه ولدينه وشرعه، ولا نقصد بذلك شخصاً، ولا نقصد طائفة ولا جماعة، لا نقصد إلا من تصدّر لشيء ليس له بأهل.
وهناك أمر آخر، وهو أن أي مسألة تُريد أن تقرأ فيها فلا يخلو الأمر إما أن تكون قديمة بحث عنها فيها السلف ودواوين العلم وكتبوا فيها، وإما أن تكون مسألة نازلة جديدة.
فإذا كانت المسألة قديمة بحثها أئمة السلف ودواوين العلم فالله الله في سلف الأمة، فأنت في غناء عمن بعدهم؛ لأن الذين من بعدهم إما أن يكرروا لما قالوه، وإما أن يأتوا بشيء من عندهم، فما علمت فإنه يكفيك، واقتد بالأولين، وهذه نصيحتي لكل طالب علم.
فخذ أي كتاب من كتب العلماء المتقدمين، وخذ التفسير -على سبيل المثال- واقرأ في تفسير آيات الصبر، واقرأها بقلب خاشع وبنفس حاضرة، وتدبر الكلام الذي يقال لك فستجده كلاماً ليس فيه أكثر من دلالة الآيات والنصوص، وصحيح أنه ليس فيه جرأة على القول على الله عز وجل، وليس فيه كلام معسول ولا كلامٌ منمق، لكنه كلامٌ عليه نور العلم لا يعرفه إلا من عرف العلم، وتجد العالم والله أصدق لساناً وأوضح بياناً، وأقوى حجةً وبرهاناً, وما كان يعجزهم أن يأتوا بالكلمات المعسولة والخطب الطنانة والعبارات المنمقة، لكنه الورع الذي سببه التقوى.
فما الذي جعل بعض المتأخرين يأخذ الرسائل وهو بإمكانه أن يرجع إلى دواوين العلم وإلى العلماء الأولين، بل الأولى أن يُعَودَ شبابنا وصغارنا على الالتصاق بسلف الأمة، وأن يقرؤوا ويداوموا النظر في كتب المتقدمين حتى ينتهلوا مما انتهل منه العلماء الأولون ليجدوا بركة ذلك العلم الذي أثرت عليه دلائل الإخلاص وإرادة وجه الله عز وجل.
لكن حينما يقرأ للمتأخر ويلتصق بالمتأخر تجده بعد ذلك -إذا كان خطيباً، أو كان واعظاً- لا يستطيع أن يخطب خطبة في موضوع، أو يتكلم أو يحاضر في محاضرة، إلا إذا كان فيها رسالة معاصرة، قالوا: لأن كلام الأولين معقد، وكلام المتأخرين سهل والحقيقة أن قول الأولين ولكنه ألفاظ موزونة رصينة، وكتبت هذه الكتب والعلماء متواجدون متظافرون، فكان كل واحد منهم يخاف النقد، وكانت كل كلمة وجملة محسوبة، وكنا نقرأ في بعض الكتب فنحاول في بعض الأحيان أن نأتي ببديل عنها من الكلام المعسول، ليستقيم الكلام فلا نستطيع.
وقال لي الوالد رحمة الله عليه مرة أنصحك.
أو: أناشدك الله ألا تجد علماً عند السلف وعند الأئمة المتقدمين وعند المتأخرين شيء منه إلا رجعت إلى علم المتقدمين.
وأدركت -والله- فضل نصيحته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجزيه عني وعن الإسلام والمسلمين كل خير، والله وجدت بركتها وخيرها حتى في الفتاوى، ما أجمل أن ترجع فيها إلى كتب السلف والمتقدمين، ولا تخف من الناس، وإنما عليك أن تلقي العبارات، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، ولا تنتظر من الناس مدحاً أو جزاءً أو شكوراً، ولا تبحث عن رسالة لعلمك أن عباراتها منمقة، أو كتاب عباراته سهلة وأنت تجد علماً معروفاً عن عالم معروف يخاف الله ويتقيه ويزكيه من أئمة العلم ودواوين العلم وتترك هذا من أجل ما تجده عند الناس من العجب بعبارتك أو بكلماتك، ولكنك تجد -إذا رجعت إلى كتب الأولين- من القبول من الله والمحبة والتوفيق ما لم يخطر لك على بال، وهذا الشيء نشهد لله به، فعلم المتقدمين أبرك وأكثر خيراً، وليس معنى ذلك أن المتأخرين ليس عندهم شيء، ولكنها الحقوق.
ليس هناك عاقل حكيم يُسأل عن عين زاكية نظيفة نقية لا تشوبها الشوائب، تجري على الأرض يعرف منبعها ويعرف فرعها فيقول: خذ من الفرع واترك الأصل.
فقد اجتمعت العقول على أنها تدل على الأصول، ومن ذهب إلى الأصل وأخذ منه كان أصفى علماً وأنقى وأبعد عن الشوائب، فنحن نوصي بهذا، ونوصي بكتب السلف ما أمكن.
أما طريقة القراءة فباختصار: أولاً: لا تقرأ إلا بعد أن تعرف منهج العالم -كما ذكرنا- الذي هو منهج الباحث، وكان العلماء رحمهم الله يعتنون ببيان منهجهم في كتبهم، فإذا قرأت المقدمة وعرفت منهج العالم فاسأل عما أشكل عليك، ولا تبدأ قراءة الكتاب إلا بعد أن تعرف ما مقصوده، خاصة إذا كان له مصطلحات خاصة، أو يَعتبر مفاهيمَ معينةً.
وبعد أن تقرأ المقدمة وتفهم منهج العالم وطريقته في تناول المسائل والعبارات تقسِّم الكتاب بتقسيمه، فهناك ما يسمى الأصل، وهناك ما يُبنى على الأصل من الفروع، فإذا جئت إلى مسألة تتعلق بحكم شرعي فهناك ما يُسمى بالأركان والشروط تتحقق بها ماهية الشيء، وبعد الأركان والشروط تأتي الأحكام المترتبة على وجودها، وهي ما يسميها العلماء بالأثر، ثم تأتي مباحث يسميها العلماء بالطوارئ والنوازل.
فإذا جئت تقرأ في مباحث الأحكام والأركان والشروط تعرف المقدمات.
فلا تقرأ إلا وقد عرفت المقدمة، وعرفت مصطلحات من تقرأ كتابه، وكونك تقرأ الكتاب فينسيك آخرُه أولَه فما أدري، هل العيب في القارئ، أو -والعياذ بالله- مُحِقَت بركة الكتاب المقروء، فليس فيه بركة، وإما أن يجتمع الأمران، فإما أن يكون القارئ -والعياذ بالله- عنده ذنوب أطفأت نور العلم، وأظلمت القلب فلم يفقه ولم يفهم، وإما أن يكون العيب في الكتاب -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذلك تجد بعض الكتب لما تقرأها تبقى، وبعض الكتب تقرأها، ثم إذا انتهى الإنسان من حاجته في اختبار أو غيره ذهب علمها -نسأل الله السلامة والعافية-، فهذا راجع إلى نفس تأليف الكتب ووضعها، وكان السلف رحمهم الله يخافون من التأليف، ولا يؤلفون إلا إذا سئلوا.
وإما أن يكون مجموع الأمرين: عيب في القارئ، وعيب في واضع الكتاب.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(317/22)
________________________________________
شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [5]
من أعظم الشروط اللازم توافرها في الرقبة لإخراجها في كفارة الظهار سلامة الرقبة من العيوب، وهذه العيوب تناولها الفقهاء بكثير من الأحكام والمسائل، من أهمها: ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، وحكم ذهاب العضو أو بعضه من الرقبة، وحكم المريض الميئوس منه، وأم الولد في الإعتاق، وهل يصح إعتاق العبد الأحمق، أو المدبر، أو المرهون، أو الجاني، أو ولد الزنا، أو الأم الحامل مع حملها؟
(318/1)
________________________________________
العيوب المؤثرة في الرقاب في كفارة الظهار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تقدم معنا أن الرقبة التي أوجب الله عتقها في الكفارات لابد أن تكون مشتملةً على بعض الصفات التي يُحكم بإجزائها وبراءة الذمة في عتقها، وبين رحمه الله في هذه الجملة أنه يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وبينا دليل هذا الشرط، وأن أصح قولي العلماء رحمهم الله هو حمل المطلق على المقيد، فنحمل المطلق في كفارة الظهار على المقيد في كفارة القتل، ولذلك أوجبوا الإيمان في الرقبة التي يعتقها المظاهر.
يقول والمصنف رحمه الله: [ولا يجزئ في الكفارات]، وهذه عادة العلماء رحمهم الله، فهم يذكرون المسائل المتماثلة التي يشبه بعضها بعضاً في المظان، فبيَّن أنه يشترط في الرقاب التي يجب عتقها أن تكون مؤمنة، فلو أعتق رقبة كافرة فإنه لا يجزئه، لا في كفارة القتل، ولا في كفارة الظهار، ولا في كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا في كفارة اليمين، أي: في الكفارات التي تجزئ فيها الرقبة.
ثم الشرط الثاني الذي يجب توفره لإجزاء الرقبة وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها: أن تكون سالمةً من العيوب، وبينا حقيقة العيب، وأن أصله في اللغة النقص، يقال: عاب فلان فلاناً إذا انتقصه بشيء مما يعد منقصة.
والعيب ينقسم إلى قسمين في الرقاب، عيب في الجسد، وعيب في النفس والروح.
فعيب الجسد: النقص في الخلقة الذي يضر ضرراً بيناً.
وعيب الروح: متعلق بالأخلاق، كأن يكون فاقداً للعقل، أو يكون عصبياً إلى درجة لا يتحكم في نفسه في حالات الغضب، أو يكون يصاب بالصرع والإغماء، فهذا فيه نقص في الروح.
(318/2)
________________________________________
ضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقاب
تقدم معنا في كتاب البيوع ذكر العيوب المؤثرة في الرقاب، وضابط العيب المؤثر وغير المؤثر في الرقبة، إلا أنه هنا إذا كان النقص في الرقبة يكون النقص في الأعضاء، كقطع عضو كيد أو رجل، أو ذهاب حاسة كذهاب البصر ونحوه، فهذا إذا وجد في الرقبة فإنها لا تجزئ في العتق، فلو كان عنده عبد أو مملوك أعمى وأعتقه كفارة الظهار، أو كفارة لقتل، أو كفارة لجماع في نهار رمضان لا يجزئه، وهكذا لو كان أقطع اليد، أو أقطع الرجل، أو مشلولاً شللاً تاماً، أو شللاً جزئياً لبعض الأعضاء.
ثم استأنف رحمه الله فقال: [يضر بالعمل ضرراً بيناً]، وهذا يسمى عند العلماء بالضابط، وهو هنا أن يكون العيب مضراً بالعمل ضرراً بيناً، فالعيب يضر ويمنع الإنسان من العمل.
والسبب في وضع هذا الضابط أن الرقبة إذا كانت لا تستطيع العمل فمعنى ذلك أن الشخص إذا أعتقها يتخلص من تبعة الإنفاق عليها؛ لأنها إذا كانت عاطلة لا تعمل، مثل رقيق مشلول -مثلاً- فهو كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [النحل:76] أي: كل على سيده فسيده إذا وجبت عليه الرقبة بانتهاكه حرمةً من حرمات الله كقتل نفس محرمة، أو ظهار، أو جماع في نهار رمضان، فأصبح هنا من الخير له أن يعتق هذه الرقبة، وأصبح العتق في هذه الحالة تخلصاً من التبعة، فبدلاً من أن تكون زجراً له أصبحت نعمة عليه، وهذا خلاف مقصود الشرع في أن يتحمل الغرم الذي يؤثر فيه حتى يردعه عن انتهاك حرمات الله، ولذلك أوجب الله الكفارة من عتق الرقاب، والإطعام، ونحوهما من الكفارات التي تكف الإنسان في بعض الأحيان عن انتهاك حرمات الله، حتى يكون ذلك أبلغ في زجره.
(318/3)
________________________________________
أقوال أهل العلم في الرقبة المعيبة
إذا ثبت ما سبق فالعلماء على قولين: فمن أهل العلم من قال: إذا وجد العيب المؤثر لا يجزئ عتق الرقبة.
فلو أعتق الأعمى -كما ذكرنا- فالجمهور من العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وطائفة من أهل الحديث رحمة الله عليهم كلهم يقولون: إن من أعتق الرقبة التي فيها عيب مؤثر فذلك العتق لا يجزئه.
وقال بعض العلماء: إنه إذا أعتق الرقبة التي فيها عيب -ولو كان مؤثراً كالعمى والشلل- فإنه يجزئه.
وقال: حتى ولو أعتق عبداً مشلولاً شللاً كاملاً يجزئه.
وهذا مذهب الظاهرية رحمة الله عليهم وطائفة.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الرقبة يشترط في صحة إجزائها وبراءة الذمة من الكفارة بعتقها أن تكون سالمة من العيوب؛ لأن مقصود الشرع في إعتاق الرقبة الرفق والإحسان إليها، وزجر ذلك المرتكب لحرمات الله عز وجل بوجوب الكفارة عليه، وحينئذٍ لو قلنا بعتق هؤلاء خالفنا مقصود الشرع، فأصبح رفقاً به من تبعة الإنفاق على تلك الرقبة، لذلك نقول: الله عز وجل أمر بعتق الرقبة، والأصل أن تكون الرقبة على الصفة المعتبرة، ودليل ذلك أننا وجدنا الشرع يسقط بالعيب عن الإنسان الواجبات، بل حتى في المستحبات كما في الأضحية -على القول باستحباتها-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجزئ في الضحايا: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقي)، وهي التي لا مخ فيها.
فإذا كان في المستحبات لا تجزئ فكيف في الواجبات التي ألزم بها، وهذا حي وهذا حي، فالرقبة من الحيوان وكذلك الأضحية من الحيوان، فكوننا نقول في الرقبة: إن الإنسان حيوان فهذا من الوصف بالحياة، وهذا الوصف يطعن فيه بعض المتأخرين، وليس طعنهم بصحيح، فالإنسان حيوان، ووصفه بهذه الصفة من جهة الحياة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، يعني: الحياة الحقيقة؛ فإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
فالمراد بهذا أن نقول: إنه امتنع أن يجزئ المعيب في الأضحية على القول بوجوبها، فكما لا يجزئ المعيب في الأضحية لا يجزئ المعيب في الرقاب، من جانب أن هذا ثبت فيه حق الله عز وجل، وإما إذا قلنا: إن الأضحية ليست بواجبة فنقول: إذا كان العيب مؤثراً في الأضحية وليست بواجبة ففي باب الرقاب الواجبة من باب الأولى، فهذا من جهة الأدلة التي تدل على أنه لا يجزئ ما كان معيباً من الرقاب في الكفارات كلها، وهنا ذكر المصنف شرطين لجميع الرقاب: الإيمان، والسلامة من العيب.
قوله: [كالعمى].
هو ذهاب البصر، والعمى يكون حسياً ويكون معنوياً، وأشد العمى عمى البصيرة -نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجنبنا الله من عمى البصائر-، ولذلك قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، والمقصود هنا العمى الحسي وهو ذهاب البصر.
قوله: [والشلل].
هو المرض المعروف، ويعجز الإنسان بسببه عن تحريك العضو، سواء أكان يداً أم رجلاً، فلو كان الرقيق أشل اليد أو الرجل فإنه لا يجزئ، فلو سألك سائل وقال: قتلت نفساً خطأ، وكفرت بعتق عبد مشلول اليد تقول: لا يجزئ.
فلا بد أن يكون سالماً من الشلل.
قوله: [أو أقطع اليد أو أقطع الرجل].
أقطع الرجل معناه أنه لا يمشي؛ لأن القطع مثل الشلل، بل هو أشد من الشلل، والمشلول قد يأذن الله له بالشفاء ويبرأ.
قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام].
يلاحظ هنا أنه تدرج، وهذا أمر نجده عند علماء السلف، فبعد أن ذكر فقدان العضو كاملاً ذكر فقدان بعضه، فذكر العمى مثالاً على ذهاب العضو كاملاً، فإذا ذهب البصر كاملاً من العينين فإنه لا يبصر بهما، ثم قال: (والشلل)، والشلل يكون لبعض الأعضاء دون بعضها، فالأول ذهاب للعضو كاملاً، والثاني يقع في العضو فيذهبه كله، مثلاً في اليد يسمى مشلول اليدين أو القدمين، وقد يقع لأحدهما، أي: يد واحدة أو رجل واحدة، فهناك ذهاب كلي لبعض الأعضاء.
وبعد أن انتهى من العمى والشلل شرع في ذكر ذهاب جزء من العضو فذكر أقطع الأصابع، فإن أقطع الأصابع لم تذهب يده نفسها كاملة، ولكن ذهب بعض اليد، ثم اليد في الأصل تطلق ويراد بها اليد الكاملة من أطراف الأصابع إلى مفصل الكف الذي هو مفصل العضو مع الساعد، وتطلق اليد ويراد بها من أطراف الأصابع إلى المنكب.
لأنه قد يقول قائل: سلمت بأن الإضرار بالحاسة كاملة لا يجزئ بسببه عتق الرقبة، فما الحكم إذا ذهب بعض العضو، كقطع الأصابع أو بعض الأصابع؟ فهذه المسألة فيها وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: إن العضو موجود في الظاهر مفقود في الحقيقة، يعني: إذا قطع بعض أصابعه، -القطع الذي يرونه مؤثراً- يقولون: اليد موجودة، ولكن ذهاب بعض الأصابع التي هي منها تذهب فائدة اليد.
فأصبح الذي نريد أن نقرره هنا أن السبب الذي من أجله حكم العلماء بأن ذهاب بعض العضو مؤثراً أنهم قالوا: إذا ذهبت المنفعة فحينئذٍ: من قطعت بعض أصابعه قطعاً مؤثراً فإن منفعة يديه تزول، وكأن يده قد قطعت؛ لأنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يمسك الأشياء باليد على الوجه الذي يكون في من كانت له أصابع.
فعندنا ثلاث حالات: الأولى: إذا ذهبت الحاسة كاملة، وهذا لا إشكال فيه، أو ذهب العضو كاملاً كقطع اليد أو الرجل أو شلل أصابها، وأما الحالة الثالثة -وهي محل الإشكال- فهي إذا قطع بعض العضو، فهل هذا القطع ينزل العضو منزلة المعدوم أم لا؟ وهذه المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: إن قطع بعض الأصابع يؤثر، كما اختاره المصنف رحمه الله، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، أما القول الثاني فهو أنه لا يؤثر.
قوله: [أو أقطع الأصبع الوسطى].
إذا كان أقطع الوسطى لا يرتفق باليد، فلو حمل ماءً أو شيئاً لا يرتفق بها.
وقوله: [أو السبابة] هي التي تلي الإبهام؛ لأنه يشار بها عند السب.
قوله: [أو الإبهام] هذه الثلاثة المتتالية يقول المصنف: إن ذهابها مؤثر ومضر.
قوله: [أو الأنملة من الإبهام].
لأن الإبهام فيه أنملتان، والأنملة العليا لو قطعت ذهبت منفعة الإبهام، فتدرج أيضاً من العضو إلى جزء العضو، وهذا خاص بالإبهام فقط، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، لكن الذي تميل إليه النفس هو ما اختاره بعض العلماء أن ذهاب بعض الأصابع ليس كذهاب الكل، إلا إذا ذهب أكثرها، كثلاث أصابع من الكف، فإنها تذهب المنفعة، سواء أذهب الأصبعان اللذان يليان الإبهام أم ذهب ما بعدهما.
قوله: [أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة] أي: لابد أن يذهبا معاً، فلو قطع الخنصر دون البنصر لم يؤثر، وهكذا العكس، لكن يشترط أن يكونا من يد واحدة، فلو قطع الخنصر من يد والبنصر من الأخرى فإنه لا يؤثر في الرقبة.
(318/4)
________________________________________
الرقاب التي لا يجزئ إعتاقها في الكفارات
قال رحمه الله: [ولا يجزيء مريض ميئوس منه ونحوه].
أي: ولا يجزئ في عتق الرقبة مريض ميئوس من مرضه، وقد تقدم معنا في أحكام مرض الموت المرض الميئوس منه، وذكرنا جملة من مسائله وبعض الأمور المتعلقة به، وبعض التطبيقات في زماننا، يقولون: لأنه إذا كان الرقيق ميئوساً منه فعتقه تخلص منه، ففي هذه الحالة كلها مخالفة لمقصود الشرع من العتق.
وهذا صحيح.
ومثل المريض الهرِم أو الزَمِن الذي سقط وأعيا، مع أنه لو أعتقه والحالة كما ذكر فمعنى ذلك أنه يهلكه؛ لأنه حينما يكون مملوكاً له يقوم على نفقته والإحسان إليه وتعهده، لكنه إذا أعتقه فإنه يضره بذلك العتق.
قوله: [ولا أم ولد].
أي: ولا يجزئ عتق أم الولد، وأم الولد: هي التي وطئها سيدها فأنجبت منه، فهي أم ولد تعتق بعد وفاته؛ لأن الولد لا يملك أمه، والولد سيرث من أبيه، فشبه إجماع أنها تعتق بوفاة السيد، فقالوا: إنه لا يجزئ عتقها؛ لأنه إذا أعتقها تخلص منها وهي معتقة عليه، فحينئذٍ لا يتحقق مقصود الشرع من عتق الرقبة في الكفارة، فقالوا: لا يجزئ عتق أم الولد من هذا الوجه.
وهذا تقدم معنا في كتاب البيع في حكم بيع أمهات الأولاد، وتكلمنا على هذه المسألة بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وبينا خلاف السلف والأئمة رحمهم الله في مسألة بيع أمهات الأولاد، ومن العلماء من يفصل في هذا على أنها ليست مملوكة من كل وجه في التصرفات، فبناء على ذلك لا يصح عتقها في الكفارات الواجبة ولا يصح بيعها، والمسألة مشهورة، وتقدم بيانها في كتاب البيوع.
(318/5)
________________________________________
ما يجزئ من الرقاب في كفارة الظهار
قال رحمه الله تعالى: [ويجزئ المدبر].
أي: ويجزئ عتق المدبر، والمدبر هو العبد الذي أعتقه سيده عن دبر، بمعنى: علق عتقه على موته، فقال: إذا أنا مت فعبدي فلان حر.
فهذا التدبير ثابت بالنص، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله من السلف والخلف على صحة التدبير وجوازه، وإذا ثبت هذا فإنه لو قال: عبدي فلان حر بعد موتي -أي: أعتقه عن دبر- فهل يجزئ في الكفارة الواجبة أم لا؟ فيه وجهان: الوجه الأول: قال بعض العلماء: لو أعتقه عن دبر فله الحق في الرجوع ما لم يمت، وبعضهم يقول: من أعتق عبده عن دبر فليس له حق في الرجوع.
فعلى القول بأن المدبر يستحق سيده الرجوع يصح عتقه في الكفارات الواجبة؛ لأنه حينما أعتقه في الكفارات الواجبة كان نوعاً من الرجوع؛ لأن الرجوع نوعان: الرجوع الحقيقي، والرجوع الحكمي، فهو حينما قال: عبدي فلان حر بعد موتي ثم جاء في كفارة الظهار وأعتقه دل على أنه لا يريد أن يعتقه بعد موته، بدليل أنه بادر بعتقه، وهذا القول هو أصح القولين، فمن حق السيد أن يرجع عن عتق عبده قبل موته، ويقوي هذا ما ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق مملوكه عن دبر، وكانت به حاجة، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وباعه وسد حاجته، فهذا يدل على أنه لو كان التدبير لا يملك فيه الرجوع لما صح بيعهم؛ لأنهم أصبحوا معلقين كأم الولد، وهذا القول -أي: القول بصحة رجوع السيد عن عتقه للمدبر- هو أقوى القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب.
قوله: [وولد الزنا].
ولد الزنا يعتق، وصورة المسألة أن تكون عنده أمة، وتغتصب ويزنى بها فتلد، فهذا الولد للفراش، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش)، ويكون ملكاً لمالك أمه؛ لأن الولد يتبع أمه رقاً وحرية، ففي هذه الحالة إذا ملكه وصارت عليه كفارة ظهار أو قتل وقال: فلان حر فإنه يصح عتقه ويجزيه وإن كان ولد زنا.
والدليل على أنه يصح عتقه ويجزيه أمره سبحانه وتعالى بعتق رقبة، وهذا عام يشمل ولد الزنا وغيره؛ لأن الله لم يشترط أن يكون من نكاح صحيح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أوس رضي الله عنه وأرضاه حينما ظاهر من امرأته: (أتجد رقبة؟)، وقال لـ سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه حينما جامع في نهار رمضان وهو صائم: (أعتق رقبة)، ولم يشترط ألا تكون على فراش الزنا أو غيره.
قوله: [والأحمق].
أي: إذا كان به حمق لأن الحمق لا يمنع العمل ولا يضر به من كل وجه، وهناك منافع في الأعمال التي يقوم بها، وهذا العيب راجع إلى النفس، لكن في البيع ذكرنا أن الحمق وسوء الأخلاق وسوء الطبع يعتبر عيباً موجباً للخيار، وبينا أن الخيار يثبت إذا كان المبيع رقيقاً مملوكاً شديد الحمق ولم يُبَيِّن ذلك لمشتريه، والحمق نوع من الغفلة وذهاب التمييز في الأشياء، والأحمق ناقص الكمال، فيقولون: إن هذا لا يؤثر تأثيراً مضراً بالرقبة، أي: لو كان عنده رقيق أحمق فلا بأس أن يكون كفارة في الظهار.
ويقولون في الأحمق: لا تصاحب أحمقاً؛ فإنه يضرك حيث تظن أنه ينفعك.
فالأحمق عنده قصور في فهم الأشياء واستيعابها والتصرف تصرفاً سليماً يضع فيه الأشياء في مواضعها، فتجده كثيراً ما يأتي بالمشاكل والأضرار على من يملكه، فالرقبة إذا كان فيها حمق صح عتقها؛ لأن هذا لا يضر بالعمل ضرراً بيناً، وهو نقص في الكمال.
لكن الأحمق لو زجرته وأخذته بالقوة يستقيم، فهو عيب لكنه يمكن تداركه، وذكرنا في البيوع أن بعض العيوب تؤثر وبعضها لا تؤثر؛ لأنه يمكن تلافي الضرر الموجود، فالأحمق ليس كالأعمى أو المشلول، فالحمق عيب -كما قلنا- راجع إلى النفوس، وأيضاً لو أعتقه فإن هذا لا يمنعه من عتقه؛ لأن الرقبة ليس بها عيب يضر من ناحية بدنية ولا من ناحية نفسية؛ لأن الحمق نوع من الغفلة تذهب إذا ابتلي بشيء واستضر به مرة أو مرتين ففي الثالثة يتوب، وهذا معروف، فالحمق صفة عارضة، وبعض الأحيان مع شدة الخوف وشدة الأذى والضرر يستقيم أمره، فالناس يختلفون، ومن هنا قالوا: إنه ربما يكون العيب في حق قوم ولا يكون عيباً في حق آخرين، فإذا كان الرقيق أحمقاً فإنه يجزئ عتقه في كفارة الظهار.
قوله: [والمرهون].
أي: يصح عتق المرهون والسبب في ذلك أنه تعارض عندنا حق العتق وحق صاحب الدين، فإذا قال: أعتقت عبدي فلاناً كفارة من ظهار أو قتل فإن العتق قد نفذ ومضى، والعتق أشد من حق الآدمي في الرهن؛ لأن استحقاق صاحب الدين الرهن لعارض قد يزول كما لو سدد المدين، ومن هنا يصحح العلماء العتق، وقد بينا ما الذي يجب في حالة إعتاقه للعبد المرهون، وبينا أنه يطالب بمثله، وقد قلنا هذه المسألة في كتاب الرهن، وبينا أن عتقه لا يخرج المدائن عن المطالبة ببديل عنه يقوم مقامه.
فإذا تعارض ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه قدم الذي لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه، وتوضيح المسألة أنه إذا ارتكب أمراً يوجب عليه الرقبة، وقال: إن عبدي فلاناً حر، وقصد أن يكون كفارة لظهاره، أو لجماعه في نهار رمضان، وكان مرهوناً، فإن فوات يد الرهن على الرقيق يمكن تعويضها بمال آخر يقوم مقامه، لكن العتق لا يمكن تعويضه، ولذلك في كثير من المسائل إذا أعتق مضى عليه؛ لدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح)، فالعتق أمره عظيم في الشرع، ولذلك لو قال لعبده -وهو يمزح-: أنت حر، م قال: ما قصدت أنه حر نقول: لزمك العتق؛ لأن جده جد وهزله جد.
فهذا يدل على أن العتق أقوى من الرهن، فحينئذٍ إذا أعتق رقبة مرهونة فإنه يصحح العتق، ويلزم بضمان الرهن.
قوله: [والجاني].
الجاني: مأخوذ من الجناية.
والعبد إذا جنى فالجناية تكون في رقبته، فلو أنه أعتقه لا يخلصه من الجناية، سواء أكانت قصاصاً أم مالاً، فيتحمل مسئولية ذلك ويصح العتق، وهذا لا يؤثر، فدخول الضمان بالجناية لا يمنع صحة العتق وإجزائه.
قوله: [والأمة الحامل ولو استثني حملها].
أي: ويصح عتق الأمة الحامل ولو استثنى حملها، وصورة المسألة: إذا ظاهر ووجبت عليه كفارة وعنده أمة حامل، فأعتقها كفارة لظهاره واستثنى فقال: هي حرة إلا جنينها، فقال بعض العلماء: يبطل عتقها.
ويراه من الأمور التي لا تصح في عتق الكفارات، وأنه يجب عليه أن يستبدل، فإما أن يعتق الكل أو يترك الكل، وليس عندهم استثناء في هذه الحالة.
ومن أهل العلم من قال: يصح عتقها، ويصح الاستثناء، ومنهم من قال: يصح عتقها ويبطل الاستثناء، فهذه أوجه عند العلماء رحمهم الله فيها، والأقوى أنه لو استثنى الجنين وقال: هي حرة إلا جنينها فإنه يقوى القول بصحة العتق وإجزائه، والاستثناء معتبر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لك على ربك ما اشترطتي)، فهذا اشترط واستثنى، وقياسه على البيع فيه علة ليست موجودة في الظهار، فنصححه في عتق الظهار، ولا نصححه في البيع.
(318/6)
________________________________________
الأسئلة
(318/7)
________________________________________
إعتاق العبد المدبر
السؤال
هل المدبر يعتق فوراً عند وفاة سيده، أم ينظر هل يجاوز الثلث أم لا؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فهذه المسألة مفرعة على الحديث الذي تقدم معنا وبيناه، وذكرنا أن مسألة الثلث مؤثرة في الأموال، لكن المدبر خارج عن هذا، فمن أعتق عن دبر؛ فإنه يلزم الورثة بعتق مورثهم عند وفاة المورث، فعند وفاته يحكم بحريته، وتسري عليه أحكام الحر سواء بسواء.
والله تعالى أعلم.
(318/8)
________________________________________
حكم إقامة الحد على الحر لكونه ارتكب جناية في فترة رقه
السؤال
العبد المملوك لو ارتكب جناية ثم أعتق هل يقام عليه الحد بصفته الماضية أم الحالية؟
الجواب
هذه مسألة لها نظائر، ففي بعض الأحيان الشريعة تنظر إلى حاله وقت الجناية لا إلى حاله وقت الاستيفاء والقصاص، وفي بعض الأحيان يكون الحكم بحال الشخص عند القصاص أو عند إقامة الحد عليه، ولها نظائر كثيرة، منها: لو أنه زنا -والعياذ بالله- ثم جن ففي هذه الحالة سقط عنه؛ لأنه أصبح غير مكلف، وإن كان في الأصل أنه زنى، وهذا يوجب عليه أن يقام عليه الحد، لكنه بجنونه منع من استيفائه.
ومنها ما لو كان -مثلاً- في أول الحال -أعني حال الجناية- ثم انتقل إلى صفة لا يؤاخذ بها عند إرادة القصاص منه.
وكذلك لها نظائر في الحقوق الأخرى، كالحقوق المالية، والحقوق الشخصية الاعتبارية، فيختلف حال الإنسان من حالة إلى حالة، وهل ينظر إلى الابتداء أو إلى المآل؟ وفي مسألتنا عند الاستيفاء لا شك أنه يقوى -وسيأتينا إن شاء الله في كتاب الجنايات- النظر إلى حاله عند تنفيذ الحكم عليه فيؤاخذ ويلزم به.
والله تعالى أعلم.
(318/9)
________________________________________
حكم إعتاق العبد إذا كان معيباً في غير موضع الضرر كمشلول الرجلين لمن حرفته بيده
السؤال
العبد إذا كانت منفعته توجد في غير موضع الضرر، كأقطع الرجل لمن حرفته بيده هل يجزئ في الكفارة؟
الجواب
لا يصح ذلك العبد أن يكون كفارة للمظاهر وغيره، وأحياناً قد يكون المشلول من أشد خلق الله عز وجل ذكاءً، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يأخذ شيئاً -خاصة من المؤمن- إلا عوضه خيراً منه، فليست القضية أنه يمكن التعويض، وإنما النظر إلى الحال، فاليد إذا ذهبت أثرت، بغض النظر عن كونه يستطيع أن يفعل باليد الثانية ما لا يفعله صاحب اليدين، وهذا موجود، وبعض الناس يكون أقطع اليسرى ولكن يده اليمنى السليمة يفعل بها ما لا يفعله صاحب اليدين، وبعض الناس يكون به عيب في عضو وهو معوض في عضو آخر بأشياء أفضل، وهذا لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى الشخص من حيث هو، فأي ضرر يتعلق بعضو -بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له- فإن هذا في الأصل العام والقاعدة العامة أنه يمنع، فأقطع اليد منع من منفعة يده المقطوعة، وأقطع الرجل منع من منفعة رجله المقطوعة، فحينئذٍ يحكم بكونه ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له، وهذا كله لا يلتفت إليه، وإنما قد يلتفت إليه في التعويضات، وفي الأروش، وفي مسائل الجنايات.
وهنا مسألة أخرى، فلو أنه -والعياذ بالله- أتلف عين الأعور -وهي عين واحدة- يثبت عليه أداء دية كاملة؛ لأن منفعتها في الأصل منفعة العينين، فهذه أمور مستثناة لا علاقة لها بمسألتنا، وإنما مسألتنا في النظر الغالب أن ذهاب العضو كاملاً، أو الجزء -على التفصيل الذي ذكرناه- مؤثر ومضر بالعمل ضرراً بيناً، بغض النظر عن كونه له بديل أو لا بديل له.
وقد تجد الرجل فيه آفة في عضو واحد تعطله عن الأعمال، فلا يستطيع أن يقدم أو يؤخر من أموره شيئاً، والعكس، فقد تجد شخصاً عنده أربع آفات في أربعة مواضع، ومع ذلك يفعل أشياء قد لا يستطيعها من كملت أعضاؤه، فهذه أمور لا يلتفت إليها، وإنما يلتفت إلى النظر الغالب، والشريعة تنظر إلى الغالب، ولذلك حينما حكمت الشريعة بجواز الفطر في السفر؛ فلأن الغالب في السفر المشقة، لكن لا يمنع أن تسافر في طائرة وأنت مستريح، ولا يمنع أن يسافر الغني الثري وهو في راحة واستجمام، أو يسافر الشخص المتعود على الأسفار ولا يجد تعباً، أو يسافر الشخص الذي هو في قوة وجلد وعنده صحة وعافية لا يتضرر بمشقة السفر، فهذه كلها أمور مستثناة وأمور نادرة، والشريعة لا تلتفت إليها.
وكذلك -أيضاً-: تحرم الشريعة لمس المرأة الأجنبية ومصافحتها، وقد تجد في الرجل من الإيمان بالله وخوف الله عز وجل ما لا يلتفت معه إلى امرأة حتى ولو صافحها، فلا يجد شهوة ولا يلتفت إليها، لكن هذا لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تنظر إلى الأفراد، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام كلام في هذه المسألة قرره عند كلامه على مسألة الظنون المرجوحة، وبعض العلماء يسمونها المرجوحة أو الفاسدة أو الموهومة، وهي التي تأتي على الأحوال النادرة والقليلة، وإنما جعلت الشريعة الحكم للغالب، ففي هذه الحالة إذا كان مقطوع اليد فإنه في الأصل تعطلت مصالح ذلك العضو، بغض النظر عن كونه في بعض الأحيان يعوض، أو يفعل ما لا يستطيع أن يفعله من عنده العضو كاملاً.
(318/10)
________________________________________
حكم انقطاع الصفوف في الصلاة وعدم اتصال خارج المسجد بداخله
السؤال
ما حكم انقطاع الصفوف في الصلاة، حيث إن يوم الجمعة يصلي بعض الناس خارج المسجد، والصفوف غير متصلة؟
الجواب
السنة إتمام الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول)، فالواجب على المصلين أن يتموا الصفوف الأول فالأول، سواء أكان داخل المسجد أم خارجه، ومن قصر في إتمام الصف الذي أمامه فإنه يأثم ويتحمل وزره في عدم إتمام الصف الذي يجب عليه إتمامه، سواء أكان ذلك داخل المساجد أم خارجها، وعلى طلاب العلم أن ينصحوا الناس، وأن يعلموهم، وأن يوجهوهم، وأن يعذروا إلى الله ببيان هذه السنة لهم.
والله تعالى أعلم.
(318/11)
________________________________________
حكم زيادة ركعة في الصلاة سهواً
السؤال
صليت صلاة العشاء.
فأشكل علي كم بقي علي من الركعات، فزدت ركعة، وبعد الصلاة تأكدت من أني صليت خمس ركعات، فماذا علي؟
الجواب
تسجد سجدتين بعد السلام؛ لأن القاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه)، وقد بان لك أنك أخطأت فزدت في صلاتك، فأنت معذور بهذه الزيادة؛ لأنك بنيتها على ظن صحيح؛ لأن الأصل شرعاً أنك تبني على الأقل؛ لحديث أبي سعيد الخدري: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة)، وكذلك حديث ابن عباس في صحيح مسلم: (إذا صلى أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن أثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم).
فأنت في هذه الصورة لك حالتان: الحالة الأولى: ألا تستيقن، أو لم ينكشف لك الحال قبل السلام، فإذا لم ينكشف لك الحال قبل السلام فتسجد سجدتين قبل السلام، وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاتان السجدتان تسميان سجدتي الشك، فأنت لا تدري هل أنت زائد في صلاتك، أو صلاتك تامة، ففي هذه الحالة تسجد سجدتين في حالة الشك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان الذي صلاه أربعاً فالسجدتان ترغيم للشيطان، وإن كان الذي صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانها)، ففي هذه الحالة إذا لم تعرف قبل السلام وسجدت السجدتين فإنك لا تسجد بعد السلام، ولو تبين لك أنت زدت، أما إذا تبين قبل السلام أنك زدت فتسلم ثم تسجد بعد سلامك؛ لأنك تحققت من الزيادة في صلاتك، والله تعالى أعلم.
(318/12)
________________________________________
إذا كانت المرأة حائضاً ومرت من الميقات ولم تحرم
السؤال
أنا من بلاد الشام سافرت إلى الرياض فمكثت فيها بضعة أيام، ثم أتيت مكة محرماً، أنا وزوجتي، وكانت حائضاً، ثم عندما تطهرت ذهبنا إلى التنعيم وأحرمنا من هناك، وهل هذا جائز، أم علينا الرجوع إلى ميقات أهل الرياض؟
الجواب
يلزمكم الرجوع إلى ميقات الرياض، وكان من السنة أنك إذا مررت ومعك الأهل في حال العذر أن يغتسل الأهل في الميقات، ثم يحرمون بعد الاغتسال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس رضي الله عنها -وهي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما نفست بـ محمد بن أبي بكر الصديق في البيداء- أن تغتسل وتهل، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (مرها فلتغتسل ثم لتهل)، فمن جاء ومعه نسوة إلى الميقات وهن معذورات يحرم ويلبي، ويحرم النسوة ويلبين، ثم يمضين ولا يفعلن العمرة حتى يطهرن، فإذا تطهرن فإنهن يقمن بأداء العمرة.
وأما إذا جئتِ ودخلتِ مكة وجلست فيها، وبعد ذلك أردتِ بعد أن طهرت أن تأتي بالعمرة، فإنه يجب عليكِ الخروج إلى الميقات؛ لأنكِ مررت بالميقات أولاً ناوية العمرة، وقد أمر الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل من مر بهذه المواقيت وعنده نية العمرة أو الحج أن يحرم منها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)، فأنت كان يجب عليك أن تذهبي إلى ميقاتك، أما وقد أحرمت من التنعيم فإن التنعيم ميقاتك إذا أنشأت النية من مكة، أما وقد أنشأت النية خارج مكة فيلزمك الإحرام من موضعك الذي أنشأت فيه، وعليك دم، وعلى الزوج أيضاً دم، وإن كان معكم رفقة آخرون فإنه يجب عليهم الدم إذا فعلوا كفعلكم.
والله تعالى أعلم.
(318/13)
________________________________________
حكم ترك بعض الصلوات عمداً بسبب المرض
السؤال
مرض شخص في رمضان، فأجرى عملية استلزمت إفطاره خمسة أيام، وترك الصلاة في هذه الأيام الخمسة بأمر الأطباء، فهل عليه قضاؤها مثل قضاء الصيام؟
الجواب
الأطباء ليس لهم علاقة بالشرع، فكيف أصبحت الصلوات تترك بأقوال الأطباء؟! فالأطباء يتكلمون في الأمور الشرعية، ولهم الحق أن ينصحوا المريض في الركوع والسجود، فيقولون: لا تحنِ.
لا تفعل.
في أمور تضر به، أما أن يقولوا له: اترك الصلاة فهذا ليس من حقهم أبداً، وليس من شأنهم، فعلى المسلم أن ينزل المسائل الشرعية على أهل العلم، وأن يأخذ من الأطباء الثقات ما اتفقوا عليه، أو غلب على ظنونهم أنه يجب على المريض أن يفعله أو يتركه.
وبناءً على ذلك فإنه إذا تعذر عليك في حال العملية الجراحية، أو كنت بحالة لا تستطيع معها القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود فينبغي أن تصلي على فراشك، وعلى أي حالة كنت، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وقد جاء عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه ما يجده من البواسير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فتصلي على حالتك، ولست بمعذور في ترك الصلاة.
وبناء على ذلك يجب عليك قضاء هذه الصلوات كاملة، ويأثم مَن أخذ العلم الشرعي من غير أهله، حتى ولو من أنصاف المتعلمين، أو ممن هم ليسوا بأهل للفتوى، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسأل ويستفتي، ولا أن يأخذ حكماً شرعياً إلا ممن يوثق بعلمه ودينه وأمانته، وهذا شيء نعذر إلى الله منه، وهذا الذي نجده في زماننا من تكالب الناس على الفتوى وسهولة القول على الله بدون علم -نسأل الله السلامة والعافية- أمر منكر عظيم، وتنقض به عرى الإسلام عروة عروة، فالعلم له أهله، والوحي له من المؤتمنين عليه من الأنبياء وورثة الأنبياء من العلماء العاملين والأئمة المهتدين المهديين الذين هداهم الله وهدى بهم، فلا يجوز لمسلم أن يقدم على أي أمر من أمور عبادته أو معاملته بناء على كلام الناس، ولو كان أرفع الناس كلاماً، إنما يتخذ من يثق بدينه وعلمه وأمانته حجة بينه وبين الله عز وجل، فإذا وقف بين يدي الله وقال له: لم أحللت هذا ولم حرمته؟ قال: أفتاني فلان أنه حلال، وأفتاني فلان أنه حرام، وعندها يكون فلان أهلاً للحجة بين يدي الله.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله.
فمن أحب أن يقف بين يدي الله وحجته العلماء الذين أمر أن يرجع إليهم فليفعل، ومن أراد أن يكون حجته من لا عذر له بين يدي الله عز وجل فليفعل، فإنما هي النار فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يخشى الله سبحانه وتعالى، وأن يراقب الله عز وجل في هذه الأمور، وألا يتساهل فيها، خاصة في المجالس.
ومن الغش أن يكون معك أولادك، أو معك إخوانك -خاصة إذا كنت من طلاب العلم-، وتأتي إلى شخص تعلم أنه ليس أهلاً للفتوى فتسأله، ومن سأل شخصاً لا يوثق بعلمه وجاء أحد واغتر بسؤاله فإنه يحمل وزر نفسه ووزر من سأله، حتى قال العلماء رحمهم الله: من سأل جاهلاً وهو يعلم بجهله، أو يعلم أنه ليس بأهل للسؤال فأفتى بدون علم فعليه مثل وزره؛ لأنه هو الذي أعانه على ذلك، فلا يجوز تكثير سواد الجهال، ولا يجوز إنزال المسائل إلا بالعلماء الذين يوثق بدينهم وعلمهم وأمانتهم.
ولو أن الناس أنزلوا الفتاوى بأهلها وبمن يوثق بدينه وعلمه لارتاح الناس في كثير من الأمور، ولاستقام أمر الأمة، ولكن إلى الله المشتكى، قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ولايتنا واهتداءنا بالأئمة الهداة المهتدين الذين جعلهم الله هداة مهتدين يقومون بالحق وبه يعملون.
والله تعالى أعلم.
(318/14)
________________________________________
تفسير قول الصحابي: (أجعل لك صلاتي كلها)
السؤال
قول الصحابي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها)، هل معناه ترك الدعاء مطلقاً، وجعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدل الدعاء؟
الجواب
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أحب الله هذا النبي الكريم محبة جليلة كريمة، أحبه الله فجعله رحمة للعالمين، وأحبه فجعله سيد الأولين والآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وأحبه فصلى عليه من فوق سبع سماوات، وأمر بالصلاة والسلام عليه المؤمنين والمؤمنات، وصلى على من صلى عليه عشر مرات، وأحبه الله وشرفه وكرمه، وقد أقسم أنه بالليل والنهار، وبالعشى والإبكار فقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام ما بلغه أحد، وهذا المقام ما بلغه نبي مرسل قبله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أجل النعم، ولذلك فتح له فتحاً مبيناً، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم نعمته عليه وهداه صراطاً مستقيماً، فهو مقام أعطاه الله عز وجل هذا النبي الكريم ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة، وانظر كيف أن الخلائق تحشر فيجعل الله عز وجل له ذلك المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، فيسجد فيقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولعظيم حقه على الأمة أمر الله الأمة بالصلاة والسلام عليه تشريفاً له وتكريماً، فصلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فمحبته كثرة الصلاة والسلام عليه عليه الصلاة والسلام، وكان بعض السلف إذا ذكر الحديث تغرورق عيناه من الدمع وهو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: فضل الله أهل الحديث بكثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذه من أجل القربات وأحب الطاعات، وللأسف أنها تركت عند كثير من أهل السنة إلا من رحم الله، بل أحياناً تجد الشخص إذا سمع شخصاً يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وضع عليه علامة استفهام، مع أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل القربات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، فتأمل ماذا يكون في العشر مرات التي يصلي بها، ثم انظر كيف فضله الله وشرفه، فما جعل الشخص يصلي عليه مباشرة، ولكن جعلك تدعو الله وتسأل الله أن يصلي عليه، وتقول: اللهم صل عليه، وهذا فضل من الله شرف به هذا النبي الكريم، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (ما أرى ربك إلا يسعى فيما يرضيك).
وهذه كلمة عظيمة جداً، فقد عاشت معه عليه السلام ورأت أحواله، ورأت كيف يكرمه ربه ويشرفه، ففي عام الحزن ينكسر قلبه صلوات الله وسلامه عليه فيجبر الله كسره، ويعظم أمره، فيسري به ليلة من الليالي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويفضله على الأنبياء، ويقدمه على الأصفياء الأتقياء، ثم يرفعه إلى أطباق السماوات السبع الأولى إلى سدرة المنتهى، قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:16 - 18] وأي مقام أرفع من مقام أعطاه له الله سبحانه وتعالى!! وأي مقام أعلى من مقام بلغه عليه الصلاة والسلام من حب ربه له، والمحبة التي وضعها بين عباده سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم.
فحقه كبير، فعلينا أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، وخاصة يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: (فأكثروا علي من الصلاة فيه)، وكان بعض العلماء يقول: إن على الإنسان أن يستحيي؛ لأن الحديث يقول: (فإن صلاتكم معروضة علي)، فالإنسان ينظر إلى صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الإنسان يوم الجمعة قد لا يصلي عليه إلا نزراً قليلاً، فالإنسان يتفكر ويتدبر ويتشرف بالإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي من أجل القربات وأحبها إلى الله.
وحديث كعب رضي الله عنه هذا من أقوى الدلائل -وحسنه غير واحد من العلماء- على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد المكثرين من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنالهم بركة ذلك، وهذا أمر لمسناه ووجدناه، فما وجدنا محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم صادق المحبة مكثراً للصلاة والسلام عليه إلا وجدنا أشرح صدراً، وأثبت جناناً وقلباً، وأشرق وجهاً ونوراً، فتجد عليه نور الطاعة والخير؛ لأنها من أجل الطاعات بعد القرآن، وبعد قول: (لا إله إلا الله)، وليس هناك أشرف ولا أفضل بعد القرآن والباقيات الصالحات من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي قربة للعبد ووسيلة له بين يدي الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهي عمل صالح وقربة إلى الله عز وجل، وطلاب العلم ينبغي عليهم أن يكثروا من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد وفق، ويحبه الله عز وجل؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه الخصلة العظيمة الكريمة الشريفة -وهي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- فيها وفاء لحقه عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم الذي حمل هم وغم الأمة كلها، ويشهد الله من فوق سبع سماوات أنه كان حريصاً عليها، حيث قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو عزيز عليه عنتكم، ويشهد الله له بفضله.
وانظر إلى رحمته عليه الصلاة والسلام حينما اغتم يوماً من الأيام واهتم؛ لأن الله كشف له ما يكون لأمته من الفتن التي تكون في آخر الزمان فأهمه وأغمه، فاشتكى ذلك إلى الله، فأرسل الله إليه جبريل -والله أعلم بما قال وما يقول- فقال: (أقرئ محمداً مني السلام، وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك أبداً)، فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وهو يقول سبحانه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:1 - 5]، فهو مقام عظيم لمن ملأ الله قلبه شفقة على هذه الأمة، فرحم هذه الأمة كباراً وصغاراً، وشباباً وشيباً وأطفالاً، ورحم الصغير حتى كان إذا صلى فسمع بكاءه خفف الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الصغير إذا امتطى ظهره فكان لا يزعجه وهو على ظهره، ورحم الصغير وهو يمر عليه ويسلم تواضعاً منه وكرماً صلوات الله وسلامه عليه، ورحم الكبير، ورحم النساء، ورحم الرجال، وذلك كله بفضل الله وحده لا شريك له.
فالذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتأمل آيات القرآن والأحاديث الصحيحة التي فُضل بها عليه الصلاة والسلام على غيره من الأنبياء، وفُضل بها على غيره من ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه يعرف حينما يقول: (اللهم صل على محمد) من هو هذا النبي الكريم الذي يصلي عليه، فتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تستشعر منزلته ومكانته، ولا تترك هذه السنن لمن لا يحسن التعامل مع هذه النصوص، ولذلك هجر بعض طلاب العلم ذلك -أصلحهم الله- حتى استغله من يغلو ومن يجهل، بل ينبغي على أهل السنة أن يكونوا أحرص على ذلك، فقد كان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا طيب مجلسه، وكان إذا جاءه الناس يقرعون بابه تسأل الخادمة والأمة: أتريدون الفتوى والفقه؟ فإن قالوا: نريد الفتوى والفقه خرج إليهم، أو جلس لهم وأفتاهم، فإذا قالوا: نريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيب وتوضأ وجلس على أريكة لا يجلس عليها إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً وإكراماً لهذا الحديث.
وخرج ذات يوم فسأله أحد طلابه عن حديث فقال: ما كنت أظنك بهذه المنزلة أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تمشي! إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيريد أن يحدث على أجمل وأطيب الحالات توقيراً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب علينا محبته عليه الصلاة والسلام محبة صادقة في قلوبنا، ومحبة صادقة في أقوالنا وأفعالنا تدعونا إلى الاتباع، فالمحبة شيء والاتباع شيء آخر، فإن المحبة تعين على الاتباع، فهناك فرق بين المحبة والاتباع، لكن المحبة الصادقة أن تتبع، أما نقول: المحبة هي الاتباع من كل وجه فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم -أي: لم يحصل منه الاتباع الكامل- فقال له: أنت مع من أحببت)، فأثبت المحبة، والمحبة شعور في القلب، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحبونه حباً أعز من أنفسهم التي بين جنوبهم، وهذا أمر فطري جبلي، وهو أن يكون عند الإنسان شعور هذا النبي الكريم، وأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلال، ومن ذلك أن نكثر الصلاة والسلام عليه.
ومعنى الحديث أن يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله، أي: يصبح يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويختار هذا الذكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، فيجعل له صلاته كلها، فمن المعروف أن الشرع خير المسلم بين الأذكار والطاعات، فمن اختار الصلاة على النبي صلى
(318/15)
________________________________________
حكم من حلف على شيء أن لا يفعله ثم فعله ناسياً
السؤال
إذا حلف شخص على عدم فعل أمر معين ثم فعله ناسياً فهل عليه كفارة؟
الجواب
اختلف العلماء في هذه المسألة، فمن أهل العلم من يقول: إن الناسي غير مكلف، فإذا حلف على شيء لا يفعله، أو على شيء أن يفعله، ثم نسي فلم يفعل أو فعل فإنه لا كفارة عليه.
لأنهم يرون أنه غير مكلف، فحينئذٍ لا يعتبر منه ذلك التقصير إخلالاً.
ومن أهل العلم من قال: إن النسيان يسقط الإثم ويسقط الحرج، ولكنه لا يسقط الضمان، فيجب عليه أن يكفر.
وهذا القول أحوط، والقول الأول أقوى من حيث الأصل.
والله تعالى أعلم.
(318/16)
________________________________________
حكم الإنفاق على الزوجة حال نشوزها
السؤال
إذا خرجت المرأة من بيتها مع أولادها إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها وعلمه طالبة الطلاق، والزوج لا يرغب في تطليقها فهل يلزمه الإنفاق عليها وعلى الأولاد فترة مكوثها ببيت أهلها؟
الجواب
هذا السؤال فيه تفصيل، وفيه أمور: الأمر الأول: على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم أن حق الزوج عظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزوج للمرأة جنة وناراً، فهو جنة إذا اتقت الله، ونارٌ إذا اعتدت حدود الله عز وجل.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن تعلم أنه لا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه، فإذا أذن لها بالخروج خرجت، وإذا لم يأذن تبقى في بيت الزوجية.
وإذا حدثت مشاكل فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يمكنها أن تبقى في البيت مع وجود هذه المشاكل حتى يأتي وليها ويتفاهم مع الزوج، فلا يحل لها أن تخرج.
والحالة الثانية: أن يكون بقاؤها فيه خطر، كأن يكون زوجها مبتلى بالسكر، أو مبتلى بأشياء يخشى معها أن يقتلها أو يفعل بها أمراً يضرها أو يضر أولادها، وهذه حالات استثنائية، ويجوز لها أن تخرج من بيت الزوجية ولو لم يأذن لها الزوج.
أما أن تخرج كلما حدثت مشكلة وتذهب إلى أبيها أو أمها فلا، وهذا ليس من حقها، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا يجوز للأب ولا للأم ولا للقريب أن يعينها على هذا المنكر، والمرأة لا يجوز لها الخروج من بيت زوجها إلا بإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فالأصل أن النساء عليهن السمع والطاعة للزوج في الخروج، فإذا حدثت المشاكل فالله جعل لكل شيء قدراً، وجعل للمشاكل طرقاً تحل بها، أما أن تذهب وتركب رأسها وتجلس عند أبيها وأمها بسبب مشكلة ما، فلا.
وليس من العدل ولا من الإنصاف أن الزوج يدفع المهر، ويتكفل ببيت وبأسرة، ثم تأتي المرأة عند أمور معينة لتخرج من البيت، ولذلك أجاز الله عز وجل له أخذ ما أنفقه على زوجته -المهر- إذا شاءت أن تخالعه إذا لم يكن هناك موجب للطلاق.
أما إذا ظلمها الزوج وآذاها وأضر بها فهذا على أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الضرر مما يمكن الصبر عليه، فتحتسب الثواب، وترجو عند الله حسن العاقبة والمآب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن استعانت بربها جبر كسرها وعوضها خيراً مما ذهب عنها، فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها من سوء في خلقه وسب وشتم فإن الله عز وجل لا يضيع أجر الصابرين، والله مع الصابرين، فالله معها ويؤيدها ويثبتها ويكفر خطيئاتها بهذا البلاء، ويرفع درجتها، فهذه نعمة عظيمة للمرأة المؤمنة، فتمضي عليها الأيام تلو الأيام، وتغيب عليها شمس اليوم وهي تؤذى في الله عز وجل، وتهان وتذل وهي صابرة لوجه الله عز وجل، فعندها يعظم أجرها وتحسن العاقبة لها، فكم من امرأة أذلها زوجها فأعزها الله في نفسها وأولادها، وجعل الله لها الخلف، فالأمور بالعواقب، فكم من امرأة بكت في أول حياتها وشقيت وتأذت وتضررت من زوجها فأقر الله عينها في آخر عمرها بذريتها، فتوفي عنها زوجها وبقي لها أولادها كخير ولد لوالدته، فعوض الله صبرها وجبر كسرها وأحسن العاقبة لها.
ومن قرأ في أخبار الناس وأحوالهم يجد ذلك جلياً، فهذا شيء نشهد به لله عز وجل، فلا أحد أحسن وفاءً ولا أكرم من الله سبحانه وتعالى، وكم من امرأة تقدم لزوجها وتضحي لبعلها فلا تجد لساناً شاكراً، ولا تجد قلباً معترفاً بالجميل، ولكن الله سبحانه وتعالى يحسن لها الخلف في دينها ودنياها وآخرتها.
فإذا كانت المشاكل يمكن الصبر عليها فلا بأس أن تتحمل والله معها، وكل أمة تؤمن بالله واليوم الآخر تعلم علم اليقين أن الدار الدنيا دار هم وغم وكرب، لا سرور فيها للمؤمن إلا بطاعة الله عز وجل، وتأمل في الحياة كلها، وانظر عن يمينك وشمالك، ومن أمامك وخلفك، ومن فوقك وتحتك، وابحث عن شيء يسرك، فلن تجد إلا ذكر الله وما والاه.
والدنيا ما سميت دنيا إلا لدناءتها، وما سميت دنيا إلا لكفران الحق فيها، فالحق باطل والباطل حق، والخير شر والشر خير، وكل هذا من دناءة الدنيا، وهي سجن المؤمن، ولتعلم المرأة علم اليقين أنها حيثما ذهبت وولت ستبتلى من الله عز وجل، فإذا سلمت من بيت زوجها وخرجت من بيت الزوجية يسلط عليها إخوانها وأخواتها يؤذونها في بيت أبيها، وإن سلمت من إخوانها وأخواتها لم تسلم من كلام الناس، ولم تسلم من قرابة زوجها، ولم تسلم من صويحباتها، فعليها أن تتأمل، وأن تنظر أين الثواب العظيم وأين الجزاء الكبير، فتصبر وتحتسب، وهذا إذا أمكنها الصبر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأما كيف نصير فالمرأة تعطى قوة من الله بالتصبر، ففرق بين الصبر والتصبر، فالتصبر فوق الصبر؛ لأن الصابر قد ألف سجية الصبر واعتادها ودأبها، لكن التصبر والتحمل والضغط على النفس هذا هو الذي يعلو به الإنسان إلى الكمالات، وهذا التصبر يحتاج إلى معاملة مع الله عز وجل، وأن يكون قلبك مع الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا بالصبر.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من يتصبر يصبره الله)، فالمرأة إذا أرادت أن تصبر على زوجها جاء الشيطان وقال لها: كيف تصبرين وقد قال؟ وكيف تصبرين وقد فعل؟ وكيف تصبرين وقد حصل؟ فتتصبر وتقول: الله يهديه.
وهذا من أجمل وأكمل ما يكون من المرأة المسلمة، فتقابل الإساءة بالإحسان، وتقابل الذنب بالصفح والغفران، وتدعو لزوجها وتدعو لبعلها، فإذا بالشيطان ينخنس، وإذا بذاك البيت المملوء بالمشاكل يعود أنواراً وخيراً وبركة على أمة الله المؤمنة لصبرها وفضل الله عز وجل عليها.
فهي أمة تجدها لله قانتة صابرة، تضايق وتؤذى وتضطهد وهي جالسة في بيتها، ومع ذلك قل أن تجدها تشتكي لأبيها أو أمها أو أخيها؛ لأن قلبها مع الله، وكل يوم تؤذى بصنوف البلاء، وإذا بها تعطى درجة في كل يوم خيراً مما كانت فيه بالأمس، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فهذا وعد من الله عز وجل.
فإن كانت المشاكل مما يسع الصبر عليها فلا تخرج.
الحالة الثانية: إذا كانت المشاكل مما لا يمكن الصبر عليها، وكانت قد بلغت حدوداً لا تستطيع المرأة أن تتحملها، أو بلغت حدوداً فيها إضرار بأولادها وذريتها فالله عز وجل يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130]، فالله عز وجل يعد بحسن الخلف إذا فارقت زوجها إذا كان الأمر وصل إلى درجة يشرع فيها طلب الطلاق.
فبعد أن تستنفد جميع الوسائل الشرعية لإصلاح الزوج وإصلاح بيت الزوجية تستخير الله عز وجل، فلا تطلب الطلاق حتى تستخير ربها: هل الخيرة أن تطلب الطلاق أو لا تطلبه فإن كان انشرح صدرها واطمأن قلبها فتُقْدِم عليه، وقبلما تستخير، وقبلما تسأل الله عز وجل الخيرة عليها أن ترجع إلى العقلاء من العلماء والفضلاء، فتستشير من تثق بدينه وأمانته من أهل العلم، وكذلك من أهل العقل والحجا فتسألهم، حتى النساء من صويحباتها، فإذا استبان أنه لا بد من الفراق، وأن المصلحة في الفراق، واستخارت وانشرح صدرها تواجه زوجها به إن كانت المواجهة تحقق المصلحة وتدر المفسدة، وإن كانت المواجهة تحدث مشاكل، أو تحدث ضرراً، ولربما تتفاقم الأمور أكثر فحينئذٍ تنظر إلى الأعقل والأرشد والأقوى، فتنظر إلى قوي أمين من قرابتها، فإن لم تجد قوياً أميناً من والديها، ولم تجد قوياً أميناً من إخوانها وقرابتها تنظر إلى القوي الأمين في عشيرتها وجماعتها، وتنزل الأمر به، وإخوانها وقرابتها عليهم أن يعينوها، وأن يتقوا الله عز وجل في ذلك إذا رأوا أن الحق معها، ثم تطلب الطلاق.
وهذا هو الأمثل، فتخرج من بيت الزوجية بالطريقة الشرعية.
أما أن تخرج قبل الطلاق وتجلس في بيت أبيها فكيف ستعتد عدة الطلاق؟ وكيف ستقوم بالأمور التي أوجب الله عز وجل على المطلقة أن تقوم بها من بقائها في بيت الزوجية؟! فعلى النساء أن يتقين الله عز وجل، وأن يأخذن بهذا الأصل الشرعي، فلا يطلب الطلاق إلا من ضرورة، والأصل أن تصبر المؤمنة وأن تتحمل، وإذا طلبت الطلاق بمسوغ شرعي فإنه لا بأس عليها ولا حرج.
أما لو أن المرأة ظلمت وجارت وخرجت من بيت الزوجية فتعدت حدود الله عز وجل وتعالت على زوجها وطلبت الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غيرما بأس فالجنة عليها حرام)، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أمر عظيم، وعلى المرأة أن تتقي الله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا من جميع أمورنا فرجاً ومخرجاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(318/17)
________________________________________