الكتاب: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
المؤلف: شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قِزْأُوغلي بن عبد الله المعروف بـ «سبط ابن الجوزي» (581 - 654 هـ)
تحقيق وتعليق: [بأول كل جزء تفصيل أسماء محققيه]
محمد بركات، كامل محمد الخراط، عمار ريحاوي، محمد رضوان عرقسوسي، أنور طالب، فادي المغربي، رضوان مامو، محمد معتز كريم الدين، زاهر إسحاق، محمد أنس الخن، إبراهيم الزيبق
الناشر: دار الرسالة العالمية، دمشق - سوريا
الطبعة: الأولى، 1434 هـ - 2013 م
عدد الأجزاء: 23 (الأخير فهارس)
أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
قريش بأجمعها، فأخبرهم الخبر وركب وركبوا معه، وقالوا: إن تسنَّمت جبلًا تسنمناه معك، وإن خُضْتَ البحر خضناه، ثم خرج إلى أعلى مكة وأسفلها فلم يجد شيئًا. فأتى إلى الكعبة، وطاف أسبوعًا، ثم قال: [من الرجز]
يا ربِّ اُرْدُدْ ولدي محمدًا ... رُدَّهْ إليَّ واتَّخِذْ عندي يدا
فسمع مناديًا من السماء: أيها الناس، إن لمحمد ربًا لا يضيعه. فقال عبد المطلب: وأين هو؟ قال: بوادي تهامة عند شجرة اليمن، فخرج عبد المطلب ولقيه ورقة بن نوفل، وسارا جميعًا إلى ذلك المكان، وإذا به تحت الشجرة، فاحتمله عبد المطلب على قَرَبوس سَرْجِه، وعاد به إلى مكة، فذلك قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7] على أحد الأقوال (1).
وأما حليمة، فإنها أسلمت وأسلم زوجها، وقدمت مكة بعد ما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة - رضي الله عنها-، فشكت إليه جَدْبَ البلاد، فكلم خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرًا، ثم قدمت عليه بعد النبوة فأسلمت.
قال الواقدي: لما قدمت عليه، قال: أمي أمي، وبسط لها رداءه فجلست عليه (2).
* * *
السنة السادسة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها توفيت والدته - صلى الله عليه وسلم -.
قال الزهريّ: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست سنين، خرجت به أمه إلى المدينة إلى أخواله من بني عَديِّ بن النجار، فنزلت دار النابغة (3) الجعدي التي مات فيها أبوه،
__________
(1) تفسير الثعلبي 10/ 226 - 228، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 142 - 143، وقد أخرج القصة مختصرة، ابن سعد في "الطبقات" 1/ 91 - 92، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 93 - 94، وابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 269. وانظر "سمط النجوم العوالي" 1/ 267.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 93.
(3) كذا هي في الأصول الخطية، وضبطها صاحب "السيرة الشامية" 1/ 400: التابعة بالتاء، وعند الطبري 2/ 246 بالروايتين، وانظر المنتظم 2/ 272، والوفا 114.
(3/52)
________________________________________
فأقامت عندهم شهرًا، واختلف قوم من اليهود إلى الدار ورأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعلوا يقولون: هذا نَبيُّ هذه الأمة، وهذه دار هجرته. ولما رجعت به إلى مكة؛ توفيت بالأبواء، فقبرها هناك، وكانت معها أم أيمن فرجعت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة. ولما مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبواء في عمرة الحديبية؟ زار قبرها (1).
* * *
السنة السابعة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها كَفِله جده عبد المطلب بعد وفاة أمه آمنة.
قال الزهريّ: إن عبد المطلب ضمَّه إليه، ورقَّ عليه رِقَةً لم يَرقَّها على أولاده، فكان لا يفارقه، ويدخل عليه، ويجلس على فراشه عند الكعبة، فإذا نهاه أحد يقول: دعوا ابني، فإنه ليُؤنِسُ مُلْكًا. وما كان أحد يجلس على فراش عبد المطلب من ولده إجلالًا له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم مكة قوم من القافة من بني مُدْلج، فلما نظروا إليه، قالوا لعبد المطلب: احتفظ بهذا الغلام، فإنا لم نجد قدمًا أشبه بالقدم الذي في المقام من قدميه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به، وقال عبد المطلب لأم أيمن: احتفظي بابني، فإن اليهود تزعم أنه نبي هذه الأمة (2).
* * *
السنة الثامنة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها توفي عبد المطلب.
ولما احتُضِرَ عبد المطلب، أوصى به إلى أبي طالب، فقبضه وضمه إليه وأحبه حبًّا شديدًا، وقدَّمه على أولاده، وكان لا يفارقه، وكان عيال أبي طالب إذا لم يأكل معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشبعوا، وإذا أكل معهم شبعوا، فيقول له أبو طالب: إنك لمبارك (3).
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 95، و"المنتظم" 2/ 272.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 96 - 97، و"المنتظم" 2/ 274.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 98، و"المنتظم" 2/ 283.
(3/53)
________________________________________
وكان شقيقَ عبد الله.
وقال الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - في "الأنساب": إن عبد المطلب أوصى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي طالب، وقال له (1): [من الرجز]
أوصيكَ يا عبدَ منافٍ بَعْدي
بمفْرَدٍ بعدَ أبيه فَرْدِ
فارقَه وهْو ضجيعُ المَهْدِ
فكنتُ كالأُمِّ له في الوَجْدِ
تُدنيه من أَحْشَائها والكِبْد
فأنت من أَرْجى بنيَّ عِنْدي
لرفع ضيم أو لشدِّ عَقْدِ
وقيل: إن الزبير بن عبد المطلب وأبا طالب اقترعا عليه، فطارت القرعة للزُّبير، وكان الزُّبير أيضًا شقيقَ عبد الله، ويحتمل أن الاثنين كفلاه؛ لأن الزبير كان وصي عبد المطلب.
فصل وفيها توفي:
أنوشروان
كسرى العادل، وولي بعده ولده هُرمز، وكان في أول مُلكه عادلًا مُحسنًا إلى الرعية، كان إذا سافر نادى مناديه: من تعرّض لزرع ضمن قيمته، إلا أنه أساء السيرة في آخر أمره، فتغيرت قلوب الرعية عليه، فقتلوه (2).
حاتِم
ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي (3) وبه يضرب المثل في الجود، قال
__________
(1) التبيين 109، وانظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 13، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 22.
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 172، و "المنتظم" 2/ 289، و"الكامل"1/ 469.
(3) "تاريخ اليعقوبي" 1/ 264، و"تاريخ دمشق" 11/ 357، و "المنتظم" 2/ 285، و"البداية والنهاية" 2/ 197.
(3/54)
________________________________________
الشاعر (1): [الطويل]
على حالةٍ لو أن في القوم حاتمًا ... على جُوده ما جاد بالماءِ حاتمُ
وكنيته: أبو عدي (2). وأم حاتم: عِنَبةُ بنت عفيف بن لحي، وابنه عدي من الصحابة.
قال الواقدي: كان حاتم سيد الأجواد، فاضلًا، عاقلًا، فصيحًا، شاعرًا، يقري الأضياف ويبالغ في إكرامهم، وأخباره مشهورة.
قال عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، ويُطْعمُ الطعام، ويعتق الرقاب، فهل له في ذلك من أجر؟ فقال: "إن أباك التمس أمرًا فأدركه" (3).
قال سماك بن حرب: هو حُسْنُ الذكر (4).
وقال الشعبي: خلَّف حاتمًا أبوه في إبله، وهو في إبله، فمر به جماعة من الشعراء فيهم: عَبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذُّبياني، يريدون النعمان بنَ المنذر، فقالوا لحاتم: هل من قِرىً ولم يعرفهم؟ فقال: تسألوني عن قرىً وأنتم تَرَوْنَ الإبل والغنم، انزلوا فنزلوا. فنحر لكل واحد منهم جزورًا، وسألهم عن أسمائهم؟ فأخبروه، ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه فقال: ما فعلت؟ فقال: طوقتك مسجد الدهر وحسن الذكر تطويق الحمامة، فقال أبوه: فإذًا لا أُساكنك. فقال حاتم: فإذًا لا أبالي. ورحل عنه، فقال حاتم: [من الطويل]
وإنِّي لعفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغنى ... تَروكٌ لشَكْلٍ لا يُوافقُه شَكْلِي
ولي نِيَّةٌ في الجود والبذلِ لم يكن ... لِيألفَها فيما مَضَى أحدٌ قَبْلي
وما ضرَّني أَن سار سَعْدٌ (5) بأهله ... وخلَّفَني في الدارِ ليسَ معي أهلي
وما مِن كريمٍ عَاله الدَّهر مرَّةً ... فيَذكُرها إلَّا تزيَّد في البَذْلِ
وما مِن بخيلٍ عَاله الدَّهر مرَّةً ... فيَذكُرها إلَّا تزيَّد في البُخْلِ
__________
(1) هو للفرزدق والبيت في ديوانه ص 297.
(2) ويكنى أيضًا أبا سفَّانة، وهي ابنته، انظر "المنتظم" 2/ 285.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (18262).
(4) انظر "مسند أحمد" (18263).
(5) في النسخ: "عبد" والمثبت من الديوان 76، والمنتظم.
(3/55)
________________________________________
وقال الشعبي: مر حاتم في مسير له ببني عَنَزَةَ وفيهم أسير، فاستغاث به، فقال له حاتم: لقد أسأتَ إليَّ حيث نَوَّهْتَ باسمي، وليس معي ما يفديك، ولستُ ببلاد قومي، ولكن طِب نَفْسًا، وجاء إلى الذي أسره فاشتراه منه بمئة ناقة، وفك القيد من رجليه وجعله في رجل نفسه، وقال: اذهب إلى أهلي، وأعطاه أمارة إليهم بالتسليم، ومضى الرجل، وأقام حاتم في قيوده حتى عاد الرجل بالإبل، وأطلق حاتم (1).
وقال الشعبي: سأل رجل حاتمًا: هل في العرب أكرم منك؟ فقال: كل العرب أكرم مني، نزلتُ على غلامٍ يتيم، وكان له مئة شاة، فذبح لي شاة، فقلت: ما أطيب مخها أو دماغها. فلم يزل يأتيني بدماغ دماغٍ حتى ذبح المئة، فأصبح ولا شيء له، قيل له: فما صنعت مع الغلام؟ قال: وما عساني أن أبلغ شكره، والله لو خرجت معه من جميع مالي ما جازيته، كان لي مئة من الإبل سودُ الحدَق، دفعتها إليه (2).
ولما احتضر حاتم قال لابنه عدي: يا بني، والله ما خنت جارة لي لريبة، ولا ائتُمنت على أمانة إلا أدَّيتها, ولا بَدَا مني إلى أحد مكروه قط، ولا قصدني قاصد فخيبتُه.
ودفن حاتم على جبل يقال له: عوارض.
فصل
وأجواد الجاهلية ثلاثة (3): حاتم، وهَرِم بن سِنان، وكعب بن مامة.
فأما هَرِم، فكان أبوه سنان سيِّدَ غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا مت؛ فشقوا بطني، فإن فيها سيد غطفان. فلما ماتت، شقوا بطنها واستخرجوا سنانًا، فولد هَرِمًا. وفي هرم يقول زهير: [من البسيط]
متى تلاقِ على عِلاته هَرِمًا ... تلق الندى منه في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
وفيه وفي إخوته يقول زهير -وقيل: إنها لغيره-: [من البسيط]
__________
(1) انظر "المنتظم" 2/ 285، والعقد الفريد 1/ 287.
(2) انظر "البداية والنهاية" 2/ 200 - 201.
(3) انظر خبرهم في "العقد" 1/ 287.
(3/56)
________________________________________
قَومٌ أبُوهم سنانٌ حين تَنْسِبُهم ... طَابُوا وطَابَ منَ الأَولادِ ما وَلَدُوا
لو كانَ يَقْعُد فوقَ الشَّمسِ مِن كَرَمٍ ... قومٌ بأوَّلهم أومجدِهم قَعَدُوا
محسَّدون على ما كان من نِعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ما له حُسدوا
وفي هَرِمٍ يقول زهير وفي أهل بيته، ويصف ما فيه من أبيات: [من البسيط]
حَتى دَفعْنَ إلى حُلْوٍ شمائلُه ... كالغيث يَنبت في آثاره الوَرَقُ
من أهل بيتٍ بَرى ذو العرش فَضلَهم ... يُبنى لهم في جنانِ الخُلْدِ مُرْتَفَقُ
المطعمين إذا ما أَزْمَةٌ أَزِمَت ... والطيِّبين ثيابًا كما عَرِقوا
كأنَّ آخرهم في المجد أولهم ... إن الشمائلَ والأخلاقَ تَتَّفِقُ
إن فوخروا فَخَروا أو طوعنوا طَعَنوا ... أو نوضلوا نَضَلوا أو سوبقوا سَبَقوا
وفيه يقول زهير أيضًا: [من الطويل]
وأبيضَ فيَّاضٍ يداه غَمامةٌ ... على مُعْتَفيه ما تُغِبُّ نَوافِلُهُ
تراه إذا ما جئتَه مُتَهلِّلًا ... كأنك تُعطيه الذي أنت سائلُهْ
أخذه أبو تمام فقال: [من الطويل]
ولو لم يكن في كفِّه غيرُ نفسِه ... لجاد بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ
وقال زهير منها: [من الطويل]
أخو ثقة لا يُذهِبُ الخمرُ ماله ... ولكنه قد يُذهِب المال نائِلُهْ
أخذه أبو نواس فقال: [من الطويل]
فتى لا تَلوكُ الخَمْرُ شَحْمَةَ مالِه ... ولكن أيادٍ عُوَّدٌ وبَوادِ
وأما كعب بن مامة الإيادي، فإنه رافق رجلًا من بني سعد في مفازة ومعهما ماءٌ يسير فعطشا، فآثر كعبُ بنُ مامة السعديَّ ومات عطشًا، ونجا السعديُّ. وهذا أبلغ ما يوصف من الجود؛ لأنَّ حاتمًا وغيره آثروا بالمال، وكعب آثر بالروح.
وفي كعب وحاتم (1) يقول أبو تمام الطائي: [من الكامل]
كعبٌ وحاتمٌ اللذان تقاسما ... خُطَط العُلى من طارفٍ وتَليدِ
__________
(1) في (خ) و (ك): كعب بن حاتم، وهو خطأ.
(3/57)
________________________________________
هذا الذي خلَفَ السَّحابَ ومات ذا ... في المَجْد مِيَتَة خِضْرِمٍ صِنديدِ
إن لم يكن فيها الشَّهيدَ فقومُه ... لا يَسمحون له بألف شهيد (1)
عبد المطلب بن هاشم بن عبد منامه
واسمه: شَيبَة، وقيل: عامر، وكنيته: أبو الحارث، وأمه: سلمى بنت زيد بن عمرو بن أُسَيد بن حزام بن خداش بن جندب بن عدي (2) بن النجار، وكانت قبل هاشم عند أُحيحة بن الجُلاح الأوسي، فمات عنها وترك ولدين منها وهما: عمرو ومَعْبد، فَزَوَّجها أبوها من هاشم بن عبد مناف.
قال الواقدي: خرج هاشم في تجارة إلى الشام، فمر بالمدينة، فنزل سوق النَّبَط فباعوا واشتروا، فنظر هاشم إلى امرأة حازمة جَلْدَة تبيع وتشتري، فسأل عنها فقيل: هي سلمى كانت تحت أحيحة، وكانت لا تتزوج حتى تشترط على الزوج أن يكون الأمر بيدها، متى اشتهت فارقت، وذلك لشرفها، فخطبها هاشم وعرفت شرفه، فتزوَّجَتْه، فأولم عليها، ودعا رجالًا من الخزرج فأطعمهم، وأقام أيامًا فعلقت بعبد المطلب، وسار إلى غزة، فمات بها، ورجع أبو رُهم بن عبد العزى العامري وأصحابه إلى المدينة بِتَرِكَتِه (3).
وقال البلاذُري: إنما تزوجها هاشم وشرط عليه أبوها أنها لا تلد إلا في أهلها، فرجع بها من المدينة إلى مكة، فلما دنت ولادتها، خرج بها إلى المدينة إلى منزل أبيها ومضى إلى الشام، وتوفي بغزة فولدت عبد المطلب (4) وسمته: شيبة (5).
__________
(1) العقد الفريد 1/ 291 - 293.
(2) كذا هي في النسخ، وفي "نسب قريش" ص 15، و"أنساب الأشراف" 1/ 74: عمرو بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي، وانظر الطبري 2/ 247.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 60.
(4) في النسخ: "عبد الملك"، والمثبت من "أنساب الأشراف" 1/ 74 وغيره.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 74.
(3/58)
________________________________________
ذكر تسميته بعبد المطلب:
قال هشام: أقام عبد المطلب في أخواله مُكرَّمًا، فبينا هو يناضل الصبيان ويقول: أنا ابن هاشم، فسمعه رجل من قريش فقدم مكة، فقال للمطلب: إني مررت بدور بني قَيْلَةَ، فرأيت غلامًا يعتزي إلى أخيك، وما ينبغي تركُ مثله في الغُرْبَةِ. فرحل إلى المدينة في طلبه، فلما رآه عوفه ففاضت عيناه، وضمه إليه، وأنشد يقول: [من البسيط]
عرفتُ شيبةَ والنَّجارُ قد جَعَلَت ... أبناؤها حَوْله بالنَّبْلِ تَنْتَضِلُ
عَرفْتُ أجلادَه فينا وشيمَته ... فَفاضَ منِّي عليه وابلٌ هَطِلُ
فركب المطلب، فلما قدم يثرب أردفه على راحلته، فقال: يا عم ذلك إلى الوالدة، فجاء إلى أمه وسألها أن ترسل به معه، فامتنعت، فقال لها: إنه يمضي إلى مُلْك أبيه وإلى حرم الله، فأذنت له فقدم به مكة، فقال الناس: هذا عبد المطلب؟ فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم. وروي غير ذلك (1).
ولما قدم المطلب بشيبة مكة، أقام عنده حتَّى ترعوع، فسلَّم إليه ملك هاشم من أمر البيت، والرِّفادة، والسقاية، وأمرَ الحجيجِ، وغير ذلك (2).
وكان المطلب شريفًا مُطاعًا، وكانت قريش تسميه: الفيَّاض لسخائه، وهو عَقَد الحلف بين النجاشي وبين قريش، فلما أدرك عبد المطلب، خرج المطلب إلى اليمن تاجرًا، فتوفي بمكان يقال له: رَدْمان (3)، فولي شيبة مكانه، وكان للمطلب من الولد: الحارث، وهاشم، ومَخرَمَة، وعبَّاد، وأُنيس، وأبو عمرو، وأبو رُهم الأكبر، وأبو عمر (4)، ومحصن، وعلقمة، وبناتٌ.
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 63 - 64، و"أنساب الأشراف" 1/ 74 - 75، و"تاريخ الطبري" 2/ 247 - 248 و"المنتظم" 2/ 206 - 207.
(2) انظر "السيرة" 1/ 131، و"الطبقات الكبرى" 1/ 64، و"المنتظم" 2/ 207.
(3) في النسخ: "رمدان" والمثبت من "الطبقات" 1/ 64، وانظر "معجم البلدان" 3/ 40.
(4) في "ك": "أبو عمران"، وانظر "نسب قريش" ص 92.
(3/59)
________________________________________
ذكر وثوب نَوْفل بن عبد مناف على أخيه شيبة (1):
ولما مات المطلب، وثب نوفل على أركاحٍ (2) لشيبةَ فغصبه إياها، فسأل عبد المطلب رجالًا من قومه النُّصرةَ على عمه فأبوا، وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى المدينة إلى أخواله من بني النجار يذكر ما فعل به عمه نوفل، وقال: [من السريع]
من مُبلغٌ قومي على بُعدِهم ... أنيَ منهم وابنُهُمْ والخميسْ
بأنَّ عمي نوفلًا قد أبَى ... إلَّا التي يُغضي عليها الخسيسْ
وقال هشام بن الكلبي: إنه كتب أبياتًا منها: [من البسيط]
يا طُول لَيْلي لأحزاني وأَشْغالي ... هَل منْ رسولٍ إلى النَّجار أَخْوالي
يُنبي عَديًّا ودينارًا ومازِنَها ... ومالِكًا عِصْمةَ الجيرانِ عن حالي
قد كنتُ فيهم وَما أَخْشَى ظُلامةَ ذي ... ظُلْم، عزيزًا مَنِيعًا ناعمَ البالِ
حتَّى ارتحلْتُ إلى قَوْمي وأَزْعَجَني ... لذَاكَ مُطَّلِبٌ عمي بتَرْحالي
فغاب مُطَّلِبٌ في قَعْرِ مُظْلِمةٍ ... ثم انبرى نَوْفَلٌ يعدو على مالي
أَأنْ رَأَى رجلًا غَابَتْ عمومتُه ... وَغَاب أَخوالُه عنه بلا والِ
أَخْنَى عليه ولم يحفظ له رَحِمًا ... ما أمنع المرءَ بين العمِّ والخالِ
فاستَنْفِروا وامنعوا ضَيْمَ ابن أختكمُ ... لا تَخذُلوه فما أنتم بخُذَّال
فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي (3) النجاري على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبًا حتَّى نزل مكة ونزل الأبطح، فتلقاه عبد المطلب وقال له: المنزل يا خال، فقال: لا والله حتَّى ألقى نوفلًا، فقال: تركته في الحِجْر جالسًا في مشايخ قريش، فأقبل أبو سعد حتَّى وقف عليهم، فقام نوفل قائمًا وقال: يا أبا سعد أنعم صباحًا، فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحًا، وسلَّ سيفه وقال: ورب هذه البَنِيَّةِ لئن لم تردَّنَّ على ابن أختي أركاحه لأملأن منك هذا السيف، فقال: قد رددتها عليه، فأشهد عليه
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 248 - 251، و"أنساب الأشراف" 1/ 79 - 80.
(2) الأركاح: الساحات والأفنية.
(3) في تاريح الطبري 2/ 249: أبو أسعد بن عدس.
(3/60)
________________________________________
مشايخ قريش، ثم نزل على شيبة وأقام عنده ثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة، فقال عبد المطلب:
ويأبى مازن وبنو عَدِيّ ... ودينارُ بن تيْم اللهِ ضَيْمي
بهم رَدَّ الإله علي رُكْحي ... وكانوا في انتسابٍ دون قومي
ذكرُ الحِلْفِ الذي جرى بين نوفل وبين عبد شمس على بني هاشم
وحالفت بنو هاشم خزاعة علي بني عبد شمس وبني نوفل، وكان ذلك سببًا لفتح مكة لما نذكر، ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب، قالوا: نحن ولدناه كما ولده بنو النجار، فنحن أولى بنصرته. ومعنى هذا: أن عبد مناف جد عبد المطلب، أمُّه حُبَّى بنت حُلَيل بن حُبْشِية سيد خزاعة، فقالوا لعبد المطلب: هلم فلنتحالف. فدخلوا دار الندوة، وتحالفوا، وتعاقدوا، وكتبوا بينهم كتابًا كتبه لهم أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، ولم يحضره أحد من بني نوفل ولا من بني عبد شمس، وعلقوه في الكعبة، وصورته: باسمك اللهمَّ، هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة، ما بلَّ بحر صوفة، وما أشرقت الشمس على ثبير، وحنَّ بفلاةٍ بعير، وما أقام الأَخشبان، واعتمر بمكة إنسان. وتزوج عبد المطلب يومئذ لُبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر، فولدت له: أبا لهب، وتزوج ممنعة بنت عمرو بن مالك بن نوفل (1)، فولدت أي: الغَيداق.
حديث الاستسقاء بعبد المطلب (2):
قال مخرمة بن نوفل: عن أمه رُقَيقَةَ بنت [أبي] صَيْفي -وكانت امرأة عبد المطلب- قالت: تتابعتت على قريش سنون، أقحلتِ الضَّرْعَ، وأدقَّت العظم، فبينا أنا نائمة بالهمِّ -أو مهمومة- إذا بهاتف يصرخ بصوت صَحِلٍ (3) يقول: يا معاشر قريش، إن هذا النبي
__________
(1) وفي أنساب الأشراف 1/ 83: مؤمّل.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 70 - 71، و"أنساب الأشراف" 1/ 94 - 95، و"دلائل النبوة" 2/ 15، و"المنتظم" 2/ 275: والسيرة الشامية 2/ 178.
(3) الصوت الصحيل: الَّذي فيه بحة.
(3/61)
________________________________________
المبعوث فيكم، قد أظلتكم أيامه، وهذا إِبَّانُ نُجومه، فحيَّ هلا بالحيا (1) والخِصْب، ألا فانظروا رجلًا منكم وسيطًا، عُظامًا، جُسامًا، أبيضَ بضًّا (2)، أَوْطَفَ (3) الأهدابِ، سَهْل الخَدَّين، أَشمَّ العِرْنين (4)، له فخر يَكْظم عليه (5)، وسُنَّةٌ تَهْدي إليه، فليخلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء، وليمسُّوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن، ثم ليرتقوا أبا قُبَيس، فليستسق الرجل، ولْيُؤَمِّنِ القَومُ، فغِثْتُم ما شئتم.
قالت رُقَيْقَةُ: فأصبحتُ والله مَذعورة، قد اقشعرَّ جلدي، ووَلِهَ عقلي، واقتَصَصْتُ رؤياي، فوالحرمة والحرم ما بقي أبطحي إلا وقال: هذا لِشيبة الحمد، وتتامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فَشَنُّوا، ومَسُّوا، واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطبَّقوا جانبيه فما يبلغ سعيهم مهله، حتَّى إذا استووا بذروة الجبل، قام عبد المطلب ومعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غلامٌ قد أيفع أو كَرَب، فقال: اللهمَّ سادَّ الخَلَّةِ، وكاشفَ الكُرْبَةِ، أنت تعلم غير مُعَلَّم، ومسؤول غير مبخَّل، وهذه عِبِدَّاؤك وإماؤك بعَذِراتِ (6) حَرَمك يشكون إليك سَنَتهم، أذهبتِ الخُفَّ والظِّلفَ، اللهمَّ فأمطر علينا غَيثًا مُغيثًا مُغْدِقًا مَرِيعًا، فَوَالكعبة ما راموا حتَّى تفجرت السماء بمائها، واكتظ الوادي بثَجيجه فلسمعت [شيخان] قريش وجلتها: عبدُ الله بن جُدعان (7)، وحَرْب بن أميَّة، وهاشم بن المُغيرة المخزومي، يقولون لعبد المطلب: هنيئًا لك أبا البطحاء، أي: عاش بك أهل البطحاء.
وفي ذلك تقول رقيقة بنت أبي صيفي: [من البسيط]
بشَيبةِ الحمْدِ أسْقَى الله بَلْدتَنا ... لمَّا فَقَدنا الحَيَا واجْلَوَّذ المَطَرُ
مُبَارَك الأمرِ يُستَسْقى الغَمامُ به .... ما في الأَنَامِ له عِدْل ولا خَطَرُ
__________
(1) الحيا: الغيث.
(2) البضاضة: رقة اللون وصفاؤه الَّذي يؤثر فيه أدنى شيء.
(3) الوَطَف: طول شعر العين مع سعتها.
(4) العرنين: الأنف.
(5) يكظم عليه: لا يبديه ولا يظهره.
(6) العذرات: جمع عَذِرة، وهي فناء الدار.
(7) في (خ) بدل هذه العبارة: فجاءت إليه قريش يهنئون: عبد الله بن جدعان.
(3/62)
________________________________________
مَنًّا مِنَ الله بالميمونِ طائرُهُ ... وخيرُ من بُشِّرت يومًا به مُضَرُ
ولما سقى الله الناس، لم تصل الحياة إلى بلاد قيس ومضر، فاجتمعوا إلى زعمائهم وقالوا: قد أصبحنا في جدب وجهد، وقد سقى الله الناس بعبد المطلب، وإنه استسقى فسقي، وشفع فشُفِّع، فاقصدوه لعله يسأل الله فيكم. فقدموا مكة، ودخل خطباؤهم وساداتهم عليه فَحيَّوه بالسلام فقال: أَفْلحت الوجوه. وقام خطيبهم وقال: نحن ذو رحمك الواشجات، وقد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى من شفَّعك، وأجرى الغمام لك ومعك، فقال عبد المطلب: سمعًا وطاعة يا أقربَ القَرابات، موعدكم عرفات. ثم أصبح غاديًا إليها، وخرج الناس معه وولده ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلام، فَنُصِبَ لعبد المطلب كرسيٌّ أو سريرٌ، فجلس عليه، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، ثم قال عبد المطلب ورفع يديه ثم قال: اللهمَّ رب البرق الخاطف والرعد القاصف، رَبَّ الأرباب، ومُلَيِّنَ الصِّعاب، هذه قيس ومضر من خير البشر، قد شعثت رؤوسُها، وحدبت ظهورها، يشكون إليك شدة الهُزال، وذهاب النفوس والأموال، اللهمَّ فأسحَّ لهم سحابًا خوّارة، وسماءً خَرّارة، لتضحك أرضهم، فيزول ضُرهم. قال: فما استتم كلامه حتَّى نشأت سحابةٌ دَكْناءُ لها دَويٌّ، وقصدت نحو بلادهم، فقال عبد المطلب: يا معاشر قيس ومضر، انصرفوا فقد سُقيتم. فرجعوا وقد سقوا.
قصة عبد المطلب مع ابن ذي يزن (1):
قال محمد بن السائب الكلبي: لما ملك سيف بن ذي يزن اليمن، وأباد عنها الحبشة، وفد عليه أشراف العرب للتهنئة، وكان من أشرافها خمسة: عبد المطلب بن هاشم، وأميَّة بن عبد شمس، وعبد الله بن جُدعان، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف بن زهرة (2)، وكان ابن ذي يزن بغُمْدان وهو قصره بصنعاء، فلما علم بهم جلس لهم على سريره -وكان من الذهب-، ولبس ثياب الملك، ووضع على رأسه التاج،
__________
(1) انظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 12، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 149، و"تاريخ دمشق" 1/ 357، و"المنتظم " 2/ 276، و"البداية والنهاية" 2/ 305.
(2) في النسخ: "زهيرة" والصواب ما أثبتناه، انظر "نسب قريش" ص 261.
(3/63)
________________________________________
وتضمَّخ بالغالية، وجعل بين يديه (1) سيفًا مسلولًا، واستدعى بهم، فدخلوا عليه وملوك حمير عن يمينه وشماله، ووضع الكرسي فاستأذنه عبد المطلب في الكلام وقام قائمًا، فقال له سيف: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم. فقال عبد المطلب:
أما بعد، فإن الله أحلَّك أيها الملك محلًّا رفيعًا، باذخًا شامخًا منيعًا، وأنبتك نباتًا طابت أُرومتُه، وعَزَّت جُرْثومته، وثبت أصله، وبسق فَرْعُه بأكرم معدن وأطيب موطن، فإنك -أبيت اللَّعن- رأس العرب الَّذي تنقاد إليه، وعمودها الَّذي تَعتَمدُ عليه، وسائسها الَّذي يقوم بأمرها، ومعقلها الَّذي تلتجئ إلى ذُراه، سلفك لنا خير سلف، وأنت لنا منهم خير الخلف، ولن يجهل من تقدم سلفه، ولم يهلك من أنت خلفه. أيها الملك، نحن أهل بيت الله وسُكَّان حرمه وسَدَنَةُ كعبته، أشخصنا إليك الَّذي أبهجنا من كَشْفِ الكَرْبِ الَّذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المَرْزئة (2).
فقال له ابن ذي يزن: من أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. فقال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فقال: ادنه، فدنا منه، فأقبل عليه وقال: مرحبًا وأهلًا، وناقة ورحلًا، ومستناخًا سهلًا، ومُلْكًا رِبَحْلا (3)، يعطى عطاءً جزلًا، قد سمع الملِك مقالتك، وعرف قرابَتَك، أنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحِباءُ إذا ظعنتم، أنتم قريش الأباطِح، أهل الشرف والفضل، والسناء والمجد، وأنت يا عبد المطلب ربيع الأنام وسيد الأقوام.
ثم أنزلهم دار الضيافة، وأجرى عليهم الإنزال، فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب من بينهم خاصة، فأتاه فأجلسه معه على سريره، وقال له: يا ابن هاشم إني مفض إليك من سري ما لو كان غيرك لم أبح به، ولكني رأيتك أهلًا له وموضِعَه، فليكن عندك مطويًّا حتَّى ينفذ الله أمره، ثم قال: إني لأجد في الكتاب الناطق، والعلم الصادق الَّذي اخترناه لأنفسنا واحْتَجنَّاهُ (4) دون
__________
(1) في (خ): "عينيه".
(2) المرزئة: جمع رُزْء، وهو المصيبة بفقد الأعزة. "اللسان": (رزأ).
(3) الربحل: العظيم الشأن.
(4) احتجن الشيء: احتوى عليه "اللسان": (حجن).
(3/64)
________________________________________
غيرنا، خبرًا عظيمًا وخَطْبًا جسيمًا فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، هو لك خاصة، ولقومك عامة.
فقال: أيها الملك، لقد أُبْتُ بخير ما آب به [وافد] (1) فخبِّر، ولولا هيبة الملك لسألته من كشف بشارته إياي ما أَزداد به سرورًا، فقال: نبيٌّ هذا حينه الَّذي يولد فيه، اسمه محمد وأحمد، خَدَلَّجُ الساقين، أكحل العينين، في عينيه علامة، وبين كتفيه شامة بيضاء (2)، كأَنَّ وجهه فلقة قمر، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارًا واللهُ باعِثُه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا يُعِزُّ بهم أولياءَه، وَيَخْذِل بهم أعداءَه، يضربون دونه الناسَ عن عرض، ويفتح الله بهم كرائم الأرض، يكسر به الأوثان، ويُعْبد الرحمن، ويُدْحَضُ به الشيطان، وتخمد النيران، قولُه فصل، وحكمه عَدل، فقال له عبد المطلب: عَزَّ جَدُّكَ، وعلا كَعْبُك، وطال عُمُرُك، أفصح لي إفصاحًا، وأوضح لي إيضاحًا.
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحُجُب، والعلامات على النُّصب، إنك لجده يا عبد المطلب من غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدًا، ثم رفع رأسه، فقال له الملك: ثلَجَ صدرُك، وعلا أمرُك، وبلغت أمَلَك في عَقِبِك، هل أحسست مما قلتُ شيئًا؟ قال: نعم، كان لي ولد كُنْتُ عليه شفيقًا، وبه رفيقًا، زوجته كريمة من كرائم قومي اسمها آمنة بنت وَهْب، فجاءت بغلام فيه كلُّ ما ذكَرَ الملك. فقال له: فاحتفظ به من اليهود فإنهم أعداؤه ولن يجعل الله لهم عليه سبيلًا، والله مُظهِرُ دعوته، وناصر شريعته، فأَغِضَّ على ما قلت لك، واستره دون هؤلاء الرهط الذين معك، فلست آمن أن تدخلهم النفاسة في أن تكون لك الرياسة، فينصبوا لك الحبائل، ويغتالوا لك الغوائل، وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا علمي أن الموت مجتاحي قبل مخرجه، لسرت إليه بخيلي ورجلي، وصيَّرت يثرب دار ملكي حيث يكون فيها خبره، فأكون وزيره وصاحبه، ومشيره وظهيره على من عاداه وعانده وناوأه، فإنَّا نجد في العلم المصون والسر المكنون، أن يثرب دار مُلكه، وبها استحكام أمره، وتربتها موضع قبره، ولولا الذمامة بعد الزعامة،
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من المصادر.
(2) في (ك): "أبيض بض".
(3/65)
________________________________________
وصغر سنه، لأظهرت أمره وأَوْطأتُ العرب كعبه.
ثم أمر لكل واحد من القوم بمئتي بعير وعشرة أعبُد وعشرة إماء، وعشرة أرطال فضة، وخمسة أرطال ذهب، وكِرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا كان في رأس الحول، فأتني بخبره وما يحدث من أمره. فتوفي الملك قبل رأس الحَوْل، وكان عبد المطلب يقول لأصحابه: لا تغبطوني بعطاء الملك وجزيله، ولكن اغبطوني بما أسرَّه إلي، فيقولون: وما الَّذي أسرَّه إليك؟ فيقول: ما شاء الله ويسكت. وكان كلما رأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - مخايل ما قال له الملك، يقول: أنا أبو الحارث، ما رميت غَرضًا إلا أصبته.
وكانت هذه الوفادة ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين.
وقال ابن سعد: أول من خضب بالسواد من قريش: عبد المطلب، كان قد سافر إلى اليمن، فنزل على رجل من حِميَر -وكان قد شاب- فعلَّمه الخضاب، فلما قدم مكة، كأنَّ شعره من حَلَك الغراب، فقالت له زوجته نُتَيْلَة بنت جَناب بن كُلَيب أم العباس: يا شيبة (1)، ما أحسن هذا لو دام، فقال عبد المطلب: [من الطويل]
لو دَامَ لي هذا السَّواد حمِدتُه ... وكانَ بَديلًا مِن شَبابٍ قدِ انصَرَمْ
تمتَّعتُ منه والحياةُ قَصِيرةٌ ... ولا بُدَّ من مَوْتٍ يُواتي ومِنْ هَرَمْ
وماذا الَّذي يُجدِي على المَرْءِ خفضه ... ونعمتُه يومًا إذا عَرْشُه انهَدَمْ
ثم خضب أهل مكة بالسواد.
وقال ابن إسحاق: كان عبد المطلب من سادات قريش جسيمًا وسيمًا محافظًا على العهود والأمانات، متخلِّقًا بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويعظم الظلم، ويقمع الظالمين، ويقوم بالحجيج، ويُطعم في الأزمان، ويكثر الصدقة والطواف، إذا أهلَّ رمضان دخل غار حراء يتعبد فيه طول الشهر، ورأى رجلًا يضرب رجلًا وليس له ناصر، فقال: يوشك أن يكون لنا دار أخرى، وقال: إن كان للقطيع راعٍ، فسيقتصُّ للجَمَّاءِ من القَرْناء، وإن لم يكن فالمصيبة بفقده أعظم. وكان يطعم حتَّى الوحوش
__________
(1) في (خ): شبيب، وفي (ك): شيب، والمثبت من "الطبقات الكبرى" 1/ 67 - 68.
(3/66)
________________________________________
والطيور في رؤوس الجبال، وفيه يقول أبو طالب: [من الطويل]
ونطعمُ حتَّى يأكل الطيرُ فَضْلَنا ... إذا جُعِلت أيدي المُفيضين تُرْعِد
ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله، وسن سننًا كثيرة نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، فمنها: الوفاء بالنذر، ومئة من الإبل في الدية، ولا تنكح ذات محرم، ولا تؤتَى البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا والحد عليه، ولم يشرب الخمر، وسن أن لا يطوف بالبيت عُرْيان، ولا ينفقون في الحج إلا من طَيِّب أموالهم، وإضافة الضيف، وتعظيم الأشهر الحرم إلى غير ذلك (1).
ودخل دَغْفَل النَّسابةُ على معاوية بن أبي سفيان، وكان من المُعَمَّرِين، فقال له: من رأيت من عِلْيَة قريش؟ فقال: عبد المطلب وأمية بن عبد شمس، فقال: صفهما، فقال: كان عبد المطلب أبيض بضًّا مديد القامة، حسن الوجه، شديد العارضة، في جبينه نور النبوة، وعِزُّ المُلْك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أُسْدُ غاب، قال: فَصِف لي أميَّة؟ فقال: رأيته شيخًا قصيرًا أعمى، نحيف الجسم، يقوده عبده ذكوان، فقال معاوية: مَهْ، ذلك ابنه عمرو؟ فقال دَغْفَل: هذا شيء أحدثتموه أنتم، فأما الَّذي رأيت أنا فقد أخبرتك.
ذكر وفاة عبد المطلب:
توفي في السنة الثامنة من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتذكر يوم وفاته؟ قال: "نعم، كانَ ذَلكَ وأَنا ابنُ ثمانِ سِنينَ" (2).
وقال مَخرَمة بن نوفل الزهري: توفي عبد المطلب وقد قاربتُ عشرين سنة، وإن أمي رُقَيقَةُ بنت أبي صيفي لتقول لي: شق ثوبك على خالك، فمن تستبقيه بعده. ونظرت إلى نساء بني عبد مناف قد جززن شعورهن (3).
__________
(1) انظر "تاريخ اليعقوبي" 2/ 10.
(2) أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 51، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 97.
(3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 96.
(3/67)
________________________________________
واختلفوا في سنه على أقوال:
أحدها: أنَّه عاش ثمانين سنة (1)، والثاني: مئة وعشر سنين وعشرة أشهر.
والثالث: مئة وعشرين سنة.
ودفن بالحجون عند جده قصي.
وروي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُبعَثُ جدِّي عبدُ المطَّلب في زيِّ الملوكِ وأُبَّهةِ الأشرافِ" (2).
ذكر أولاده:
كان لعبد المطلب ثلاثة عشر ذكرًا، وقيل: هم اثنا عشر، وقيل: أحد عشر، وقيل: عشرة، وست بنات. فالذكور: الحارث كان أكبر ولده، وبه كان يُكْنى، توفي في حياة أبيه في السنة التي نحر فيها أبوه الإبل عن عبد الله، وأمه صفية بنت جُنْدَب بن عامر بن صَعْصَعة، ولم يدرك الإسلام، وأسلم من أولاده نوفل، وربيعة، وأبو سفيان، وعبد الله.
وقُثَم بن عبد المطلب شقيق الحارث، مات صغيرًا في حياة أبيه قبل مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، فَوَجِدَ عليه أبوه وَجْدًا شديدًا، فلما ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماه عبد المطلب قُثَمًا لحبه لِقُثَمٍ، فأخبرته آمنة أنَّه قيل لها: سميه محمدًا، فسماه محمدًا.
والزبيرُ بن عبد المطلب، كان شقيق عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أشد قريش شكيمةً، ورئيس بني هاشم وبني المطلب في حروب الفجار وغيرها شريفًا شاعرًا، وأوصى إليه عبد المطلب ولم يدرك الإسلام، وكان له من الولد: عبد الله، أسلم وصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاهد في سبيل الله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويقول: ابن عمي وحِبِّي. واستشهد بأجنادين. وحَجْل بن الزبير (3)، واسمه: المغيرة، دَرَج،
__________
(1) في "الطبقات الكبرى" 1/ 97، و"المنتظم" 2/ 282: اثنتين وثمانين.
(2) ذكره اليعقوبي في تاريخه 2/ 14.
(3) هكذا جاء عندنا في النسخ، وهو كذلك عند الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" 2/ 807، وابن ماكولا في "الإكمال" 2/ 50، وابن حجر في "التبصير" 1/ 244، و "نزهة الألباب" 1/ 196، ولم يرد عند ابن =
(3/68)
________________________________________
وضُباعة، ومُرَّة، وقُرَّة، وأم الحكم، وصَفية، وعاتكة.
وحمزةُ بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، أمه: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زُهرة أخت آمنة أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والعباسُ بن عبد المطلب: كنيته: أبو الفضل، وأمه، نُتَيْلُةُ بنت جَنَاب الكلبية.
وأما أبو طالب بن عبد المطلب فاسمه: عبد مناف وهو شقيق عبد الله بن عبد المطلب.
وأما أبو لهب فاسمه عبد العزى، وكنيته أبو لهب لجمال وجهه، أمه: لبنى بنت هاجر من عبد مناف بن ضاطِر خزاعية، مات عقيب يوم بدر بيسير.
وكان له من الولد: عتبة، وبه كان يكنى، ومعتِّب أسلم هو وعتبة يوم الفتح، فسرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما، ودعا لهما، ومشيا إلى جانبه وهو بينهما، وقال: "الحمدُ لله الَّذي أَيَّدني بِكُما" (1). وشهدا الطائف وحنينًا مسلمين، وفُقئت عين معتِّب يومئذ، وأقاما بمكة مسلمين، وعُتيبة أكله السبع بالشام كافرًا (2) في سنة اثنتي عشرة من النبوة. ومن أولاد عتبة: العباس بن الفضل بن عتبة الشاعر، وكان لمعتِّب ابنٌ اسمه: مسلم، يُشَبَّه برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد معه وقعة حنين.
ودُرَّةُ بنت أبي لهب، وغرة بنت أبي لهب، وخالدة بنت أبي لهب.
وحَجْل، وكان ابن عبد المطلب، واسمه: المغيرة وهو شقيق حمزة - صلى الله عليه وسلم - يُكْنى
__________
= الكلبي في "جمهرة الأنساب" 1/ 16، ومصعب في "نسب قريش" ص 17، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 103 إلا حجل بن عبد المطلب، واسمه المغيرة. ولكن ذكر صاحب كتاب "الإيناس بعلم الأنساب" أن للزبير ولدًا اسمه حجل فقال: ومن قول الزبير:
تذكرتُ ما شفني إنما ... يهيج ما شفه الذاكر
ويمنعه النوم حتَّى يقال ... به سقم باطن ظاهر
فلو أن حجلًا وأعمامه ... شهود وقرة والطاهر
حجل وقرة والطاهر، بنو الزبير، وقد كان له أخ يقال له: حجل أيضًا. اهـ. والله أعلم.
(1) لم نقف عليه في حق عتبة ومعتِّب، وإنما هو في حق أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما-، كما أخرجه الحاكم 3/ 74، وضعفه الذهبي في "التخليص" والحافظ في "الإصابة" 4/ 5.
(2) انظر "نسب قريش" ص 89.
(3/69)
________________________________________
أبا قُرَّةَ، وكان حَجْلٌ أصغر من المقوِّمِ بسنة فاستكمل عمره.
وضِرار بن عبد المطلب شقيق العباس، وكنيته: أبو عمرو (1)، وكان من فتيان قريش، وكان أسنَّ من العباس بسبع سنين، ومات ضرار في أيامِ أُوْحِيَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان شاعرًا، ولم يتزوج ولم يولد له.
والمُقَوِّم بن عبد المطلب شقيق حمزة - رضي الله عنه -، وكنيته: أبو بكر، مات عبد المطلب وهو ابن خمس عشرة سنة. ومات المقوِّم قبل المبعث بثلاث سنين، وقيل: بست سنين، وكان له بنات: هند، وأروى، وأم عمرو (2)، وفاختة.
والغَيْداق بن عبد المطلب، واسمه: مصعب، وقيل: نوفل، وكان أجود قريش، وأمه: ممنّعة (3) بنت عمرو بن مالك الخزاعي، وأخوه لأمه: عوف بن عبد عوف الزهري والد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -.
وأم حكيم وهي البيضاء وقُبَّة الدِّيباج (4)، كانت في الجاهلية عند كُرَيز بن ربيعة بن حبيب (5) بن عبد شمس، فولدت له: عامرًا، وطلحة، وأم طلحة، وأروى.
فتزوج أروى عَفَّانُ بن أبي العاص بن أمية، فولدت له: عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -، ثم خلف عليها عُقبة بن أبي مُعَيْط، فولدت له: الوليد بن عقبة وخالدًا وأمَّ كلثوم، ولم تُسلم أم حكيم، وكانت توأمة عبد الله، ووُلدا في بطن واحد، أَمَّ عبد الله أولًا، ثم ولدت بعده، وعاشت ابنتُها أروى أم عثمان - رضي الله عنه - إلى خلافة ابنها، وتوفيت فصلى عليها، ثم انصرف عن قبرها وهو يقول: اللهمَّ اغفر لأمي.
ماتت أم حكيم بعد المبعث ولها سبعون سنة، وهي القائلة: إني لحَصَانٌ فما أُكَلَّم، وصَناعٌ فما أُعَلَّم (6).
__________
(1) في (خ): "أبو عمر".
(2) في (خ): "أم عمر".
(3) في (ك): "ممتعه"، والمثبت من (خ)، و"الطبقات الكبرى" 1/ 74، و"أنساب الأشراف" 1/ 103.
(4) انظر "الكامل" للمبرد 2/ 916، ونسب قريش 17، وطبقات ابن سعد 1/ 73 و 10/ 45، وأنساب الأشراف 100، والمعارف 118، والتبيين 173.
(5) في النسخ: "جندب"، والصواب ما أثبتناه" انظر "نسب قريش" ص 79 و 147، و"أنساب الأشراف" 1/ 100.
(6) انظر "تاريخ دمشق" 39/ 7.
(3/70)
________________________________________
وبرَّةُ بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأَسد بن هلال المخزومي، فولدت له أَبا سلَمة، وبَرَّةُ شقيقةُ عبد الله.
وعاتكةُ بنت عبد المطلب شقيقة عبد الله، وكانت عند أَبي أُمية بن المغيرة المخزومي، فولدت له عبد الله، أسلم وله صُحبةٌ، وزهيرًا وقريبة. وعاتكةُ هذه هي صاحبةُ المنام قُبيل يوم بدر، واختلف في إسلامها.
وصفية بنت عبد المطلب - رضي الله عنهما -، شقيقة حمزة - رضي الله عنه -، أَسلمت وهاجرت وهي أمُّ الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه -، وروَت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأروى بنت عبد المطلب، اختلف في إسلامها.
وأُمَيمةَ بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رِئاب حليفِ بني أُميَّةَ، فولدت له عبد الله وأَبا أحمد، وعبيد الله وزينب وحَمنة (1).
فأما عبد الله فَقُتِل يوم أُحدٍ شهيدًا، وشهد بَدْرًا، وأما أبو أحمد فكان شاعرًا وكان أعمى، واسمه: عَبْد، وأما عبيد الله فأسلم ثم تنصَّر بالحبشة، فمات كافرًا. وأما زينب فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما حَمْنَةُ فَحَدَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قذف عائشة - رضي الله عنها -.
* * *
السنة التاسعة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها خرج أبو طالب إلى الشام في تجارة، وأوصى أولادَه برسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل إلى بُصرى نظر في أمر اليهود فخاف عليه منهم، فرجع إلى مكة (2).
* * *
__________
(1) وزاد في "نسب قريش" ص 19: حبيبة بنت جحش.
(2) كذا، وفي المنتظم 2/ 289 أن أبا طالب خرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بصرى وهو ابن تسع ولم أقف على من أورد سياق المصنف.
(3/71)
________________________________________
السنة العاشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها كانت الفجارات، وكانت الدائرة فيها لقريش على قيس، وإنما سميت هذه الحروب فِجارًا، لأنها كانت في الأشهر الحرم. قال أبو عبيدة: لأنهم فجروا فيها فاستباحوا الأموال والنفوس. قال خداش بن زهير: [من الطويل]
فلا تُوعِدُوني بالفِجَار فإنَّه ... أَحَلَّ ببَطْحاء الحجازِ المحارِما
وقال هشام بن محمد: كان الفجار الأول: بين كنانة وهوازن، والثاني: بين قريش وكنانة، والثالث: بين نصر بن معاوية وبين كنانة، والرابع: بين قريش وهوازن.
الفجار الأول: وسببه أن بدر بن معشر الكناني كان منيعًا، ورد سوق عُكاظ، وكان له مجلس يجلس فيه ويفتخر، ويشمخ على الناس ويقول: [من الرجز]
نحن بنو مُدرِكةَ بن خِنْدِفِ
مَنْ يطْعَنوا في عَيْنِه لم يطرفِ
ومن يكونوا قومَه يُغَطْرفِ
كأنَّهم لُجَّةُ بَحْرٍ مُسْدِفِ (1)
وكان يمد رجله وكان [يقول: أنا] (2) أعزُّ العَربِ، فمن ادَّعى أنَّه أعز مني فليضربها، فوثب عليه رجل من هوازن -وقيل: من بني نصر بن معاوية- يقال له: الأُحيمر بن مازن، فضربه بالسيف على ركبته، فجرحه جرحًا يسيرًا -وقيل: إنه أَنْدَرَها، والأول أصح- ثم قال:
خذها إليك أيها المُخَنْدِف
نحن بنو دهمان ذو التَّغَطْرُف
نحنُ ضربْنَا ركبَةَ المعجْرِفِ
إذ مدَّها في أَشْهُرِ المعرَّفِ (3)
__________
(1) مسدف: مظلم.
(2) ما بين معقوفتين زيادة من "العقد الفريد" 5/ 251.
(3) جعله ابن الجوزي في "المنتظم" 2/ 290 من كلام رجل آخر من هوازن.
(3/72)
________________________________________
ونشبت الحربُ، ثم نظروا فإذا الخطب يسير فكفوا.
الفجار الثاني: اجتمع شباب من كِنانة في سوق عُكاظ، وفيه امرأة من بني عامر وَسيمةٌ جَسيمة، جالسة وعليها دِرْعُها، فسألوها أن تُسْفِرَ عن وَجْهِها فأبت، فجاء أحدهم من خلفها فحل طرف درعها ولشده إلى ما فوق عَجُزِها بشوكة، فلما قامت ارتفع درعها، فبدت عورتها فضحكوا، وقالوا: منعتينا النظر إلى وجهك، وَجُدْتِ لنا بالنظر إلى دُبْرِك. فنادت: يا آل عامر، فأجابوها. ونادى الشباب: يا آل كِنانة. وتثاوَر الحيَّانِ واقتتلوا، ووقعت بينهم دماءٌ كثيرة، فتوسطها حرب بن أمية، وأرضى بني عامر من مُثْلَةِ صاحبتهم.
الفجار الثالث: وسببه أن رجلًا من بني كِنانة كان له على رجل من بني نَصْر بن معاوية دَين، فوافى النَّصْري الكناني، فطالبه به وذكر قومَه بسوء، وسمعه رجل من بني كنانة، فقام إليه فضربه فقتله، وثار الحيان واقتتلوا، ثم حمل الدين عبد الله بن جُدْعان من ماله واتَّفقوا.
الفجار الرابع: وكان أَعظَمَها، وكان الَّذي أهاجه: أنَّ النعمان بن المنذر اللخمي ملكُ الحيرة كان يبعث (1) في كل سنة إلى سوق عكاظ بِلَطيمة -وهي التي تحمل الطيب وَبَزَّ التجار- في جوار رجل شريف من أشراف العرب يُجيرها له، فتباع ويشترى له بها من أَدَم الطائف، وما يحتاج إليه، وكانت سوق عكاظ تقوم في كل يوم من ذي القعدة إلى انسلاخ المحرم، وقيل: أول يوم من ذي الحِجة، يتسوَّقون بحضور الحج، ثم يحجون وينفصلون، وعكاظ بين نخلة والطائف، وكانوا إذا اجتمعوا أَمِن بعضهم بعضًا.
فلما جهز النعمان اللطيمة وعنده جماعة من العرب فيهم: البَرَّاضُ بن قيس أحد بني بكر بن عبد مناف بن كنانة، والرَّحَّال، وهو عروة [بن عتبة] بن جعفر بن كلاب، فقال البَرَّاض: أجيرها على بني كنانة؟ فقال النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتِهامة، فقال الرَّحَّال -وهو يومئذ رجل من بني هوازن (2): أنا أجيرها لك. فقال
__________
(1) في النسخ: "يُبعث إليه" والمثبت من العقد 5/ 253 وما سبق فيه، وما سيرد بين معكوفين منه.
(2) في النسخ: "كنانة" والمثبت من العقد الفريد.
(3/73)
________________________________________
البَرَّاض: أَعَلى بني كنانة تُجيرها؟ قال عروة: نعم، وعلى أهل الشِّيح والقَيْصوم. ونال من البَرَّاض، وقال: أجيرها على الناس كلهم، فدفعها إليه النعمان وخرج بها الرَّحَّال، وتبعه البَرَّاض والرَّحَّال لا يخشى منه ولا مِن غيره شيئًا، فسار حتَّى نزل جانب فَدَك بأرض يقال لها: أُوَارة (1)، فشرب الخمر وغنَّته القَينات وسَكِر، فنام، وجاءه البَرَّاض فاستيقظ فحمل عليه، فقال الرَّحَّال: ناشدتك الله لا تقتلني فقد كانت منِّي زلَّة وهفوة، فلم يلتفت إليه وقتله، واستاق اللَّطيمة نحو خيبر وقال: [من الرجز]
قَدْ كانَتِ الغَفْلةُ منِّي ضَلَّه
هلَّا على غيري جَعَلْتَ الزَّلَّه
فسوفَ أعلو بالحسام القُلَّه
وتبعه المُساور بن مالك الغَطَفاني وأسد بن خُثَيْم الغَنَوي، ولم يعلم بهما البَرَّاض حتَّى دخل خيبر فرآهما، فقال: من أنتما؟ فانتسبا له، فقال: وما شأنكما بهذه الأرض التي ليست لكما بأرض؟ قالا: ومن أنت؟ قال: أنا من أهل خيبر. قالا: هل لك عِلْمٌ بالبَرَّاض؟ قال: نعم، دخل علينا طريدًا، فلم يأوه أَحدٌ منا، قالا: فدُلَّنا عليه. فقال: هو نائم خلف هذا الجدار، فنزلا وعقلا راحلتيهما، ودخلا فدخل وراءهما فقتلهما وأخذ راحلتيهما وسلاحهما، ثم إن البَرَّاض لقي بشر بن أبي خازم الأَسَدي الشاعر فأخبره الخبر، وقال: أخبر عبد الله بن جُدعان وقريشًا، ومُرْهم يوافوا سوق عكاظ، وخبر قيس بن عيلان خبر البَرَّاض، وما فعل الرَّحَّال، فثاروا وأجمعوا، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، ودريد بن الصِّمة، ومسعود بن مغيث الثقفي أبو عروة، وكانت رايتهم بيد أبي براء، وهو المقدَّمُ عليهم، وخرجت قريش وعليهم عبد الله بن جُدْعان، وهشام بن المغيرة، وحرب بن أمية، وعتبة بن ربيعة، وانضافت إليهم كِنانة، وأسد، وخزيمة، والأحابيش، والقارة، وعُضَل، وعلى الجميع عبد الله بن جُدْعان، ولما اجتمعوا طلبوا قريشًا، فدخلوا الحرم ونادى حرب بن أمية -وقيل: رجل من بني عامر يقال له: الأدرم بن شعيب-: يا معاشر قريش، موعدكم هذا المكان من قابل،
__________
(1) في النسخ: "امرى"؟ !
(3/74)
________________________________________
فقال خداش بن زهير: [من البسيط]
يا شدَّةً ما شدَدْنا غيرَ كاذبةٍ ... على سَخينةَ لولا اللَّيلُ والحَرَمُ
لمَّا رأوْا خيلنا تُزْجي أَعِنَّتَها ... آسادُ غِيلٍ حَمى أشبالها الأَجَمُ
وأقامت قريش تتأهب سنةً حتَّى التقوا في العام القابل، وقيل: التقوا في هذا العام، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت الدائرة في أول النهار على قريش فقتلتهم قيس قتلًا ذريعًا، ثم كانت الدائرة في آخر النهار على قيس فقتلت منهم قريش مقتلة عظيمة، وحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر النهار مع عمومته، ورمى فيه بسْهُم وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْتُ أُنَبِّل فيه لأَعْمامي -أي: أُناولُهم النَّبْلَ- وما أُحبُّ أنِّي لم أَحْضُر". ولما حجز بينهم الليل، باتوا على راياتهم، فلما أصبحوا نادى عُتبة بن ربيعة -وهو يومئذ شابٌّ لم يبلغ ثلاثين سنة-: الصُّلْح أَصْلَح. فأجابوا وعدوا القَتلَى، ووَدَتْ قريشٌ قتلى قيس، ووضعت الحرب أوزارها.
وقال أبو عبيدة: أَبت بنو كلاب أن تقتل البَرَّاض بالرَّحَّال، لأنَّ البَرَّاض كان خليعًا في كنانة، وكان الرَّحَّال سيد هوازن، فأرادوا أن يقتلوا به سيدًا من قريش (1).
وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عشر سنين، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: عشرون سنة، والأول أصح.
* * *
السنة الثانية عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامًا من فوق رأسه (2).
* * *
__________
(1) "السيرة" لابن هشام 1/ 168، و"الطبقات الكبرى" 1/ 104، و"الكامل" 1/ 589، و"المنتظم" 2/ 296.
(2) انظر "المنتظم" 2/ 291.
(3/75)
________________________________________
السنة الثالثة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها خرج أبو طالب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل: عشرون سنة، والأول أصح، فنزل الركبُ ببُصرى، وبها راهب يقال له: بَحِيرَى في صومعة له، وكان ذا علم بالنصرانية، [ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها -فيما يزعمون- يتوارثونه كابرًا عن كابر] (1)، وكان كثيرًا ما يمرُّ به الركب فلا يُكلِّمُهم حتَّى إذا كان في ذلك العام نزلوا مَنْزِلًا قريبًا من الصومعة كانوا ينزلونه، فصنع لهم طعامًا ودعاهم إليه، وإنما حمله على ذلك، أنهم حين طلعوا رأى غمامة تُظِلُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون القوم، ولمَّا نزلوا نزلوا تحت ظلِّ شجرة، فنظر إلى الغمامةِ قد أظلت تلك الشجرةَ فاخضلَّت أغصانها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون القوم، ولما رأى ذلك بَحِيرى نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام، فحضر وأرسل إلى القوم يقول: يا معاشر قريش، أحب أن تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم صغير ولا كبير، ولا حُرٌّ ولا عبد، فإن هذا شيء تكرموني به. فقال رجل منهم: إن لك لشأنًا يا بَحِيرى، ما كنت تصنع بنا قبل هذا اليوم مثل هذا؟ فقال: إني أحب أن أكرمكم فلكم حق، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لِصِغَرِ سنِّه، فنظر بَحِيرى إلى الغمامة فلم يرها على رأس أحد من القوم وهي على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألم أقل لا يتخلَّفَنَّ أحد عن طعامي؟ فقالوا: ما تخلف أحد إلا غلام صغير وهو أوسطنا نسبًا، وهو ابن أخي هذا الرجل -يعنون أبا طالب-، فقال أبو طالب (2): والله إنه لَلُؤمٌ أن يتخلف عنا محمد. فقام الحارث فاحتضنه وأقبل به حتَّى أجلسه بين القوم، والغمامة على رأسه وبَحِيرى يلاحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى جسده فيجد ما يجد عنده من الصفة، فلما تفرقوا قام إليه الراهب، فقال: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضتُ شيئًا كبِغْضَتي لها، قال: فبالله أخبرني؟ قال: سلني؟ فسأله عن أشياء حتَّى عن نومه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره، فوافق ما عنده. فكشف عن ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فقبَّله. وجعلت قريش
__________
(1) جاء في النسخ: "وكان ذا علم بالنصرانية صاغرًا عن كابر، وفيها كتب يدرسونها" والمثبت من "سيرة ابن هشام" 1/ 165، والمنتظم 2/ 292، وانظر طبقات ابن سعد 1/ 128.
(2) في "سيرة ابن هشام" أن القائل رجل من قريش، وعند ابن سعد أنَّه: الحارث بن عبد المطلب.
(3/76)
________________________________________
تقول: إن لمحمدًا عند هذا الراهب قَدْرًا، وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب، فقال بَحِيرَى لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو ابنك، وما ينبغي أن يكون أبوه حيًّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: ما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حامل به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: هلكت قريبًا، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه من اليهود. والله لئن عرفوا منه ما أَعرفُ ليَبْغُنَّه عَنَتًا (1)، وإنه كائن لابن أَخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا، ونرويه عن أكابرنا. فلما فرغوا من التجارة عاد به أبو طالبٍ سريعًا إلى مكة.
وكانت رجال من اليهودِ قد رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا صفته في التوراةِ فأرادوا أَن يغتالوه، فذكروا ذلك لبَحِيرى فنهاهم عنه أَشدَّ النَّهي وقال: قد وجدتم صِفَتَه في التوراة، وأنه كائن لا محالةَ فلا سبيل لكم عليه، فتركوه، فما خرج به بعدها في سَفَرٍ خَوفًا عليه (2).
* * *
السنة الرابعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها تحرّكت قيس لحربِ قريش، فخرج إليها عبد الله بن جُدعان وشِيخان قريش، فذكَّروهم الله فرجعوا (3).
* * *
السنة الخامسة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قُس بن ساعدة الإيادي في سوقِ عكاظ.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قدم وَفْدُ عبد قيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: "ما فَعَل قُسٌّ"؟ قالوا: هلك. قال: "ما أَنْسَاه على جملٍ أَوْرقَ يَخطُبُ بسوقِ عُكاظٍ ويَقُول: أيُّها
__________
(1) في (خ): "والله لئن عرفوا منه ما أعرف لتبعته حيث كان وقتلوه".
(2) انظر "سيرة" ابن هشام 1/ 165، و"الطبقات الكبرى" 1/ 128، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 26، و"المنتظم" 2/ 292.
(3) هو حرب الفجار الأخير وقد تقدم ذكره قريبًا، انظر "المنتظم" 2/ 296.
(3/77)
________________________________________
النَّاسُ، اجتَمِعوا واسْتَمِعوا وَعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلُّ ما هو آتٍ آت، إنَّ في السماءِ لخبرا، وإنَّ في الأرضِ لعِبَرا، مهادٌ موضوعٌ، وسَقْفٌ مَرفوعٌ، ونجومٌ تَمورُ، وبحارٌ لا تَغُورُ، أَقسم قُسٌّ قسمًا حقًّا أن لله تعالى دينًا هو أَحبُّ إليه من دينكم الَّذي أَنتم عليه، مالي أرى النَّاس يذهبونَ فلا يَرجعونَ، أَرَضُوا فأقاموا، أَم تُرِكوا فنامُوا؟ " ثم قال: "أيكم يَروي شعرَه؟ "، فأنشدوه: [من مجزوء الكامل]
في الذَّاهبين الأولينَ ... من القرونِ لنا بصائرْ
لما رأيتُ مواردًا ... للموتِ ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابرُ والأصاغِر
لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالةَ ... حيث صار القوم صائر (1)
* * *
السنة السادسة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
شَعَّثَت الملوك على هُرْمز بن أَنُو شروان واتفقوا على قصده (2).
* * *
السنة السابعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها وصل ملك الترك ويقال له: شابةُ إلى هَراة في أربع مئة ألف فارس يريد المدائن لقتال هُرْمُز، وقصده ملك الروم في مئة ألف فارس ووصل إلى الضواحي، وقصده ملك الخزر وباب الأبواب في ست مئة ألف، وقصده من العرب رجلان: عباس الأحول، وعمرو الأزرق في جموع العرب والقبائل، ونزلا على شاطئ
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12561)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 102، وابن الجوزي في "الموضوعات" (424) وقال ابن الجوزي: وهذا الحديث من جميع جهاته باطل، قال أبو الفتح الأزدي: هو حديث موضوع لا أصل له. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 418 وقال: وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، وهو كذاب. وانظر "اللآلي المصنوعة" 1/ 184.
(2) انظر "المنتظم" 2/ 301.
(3/78)
________________________________________
الفرات، وشنَّا الغارات على السواد، وأرسل ملك الترك يقول لهرمز: أصلِح لي القناطر والجسور لا أُغير عليك. فعزَّ على هُرْمُز ذلك، وبعث إليه بَهْرام جوبين مرزبان الري سَرِيَّةً في اثني عشر الفًا، وأقام هُرْمُز بالمدائن في سبعين ألفًا على عزم المسير لقتال [ملك] التُّرك وبنيه بأرض هراة، والتقى القوم، فرماه بَهْرام بسهم فذبحه، وانهزمت الترك، وغنم بَهْرام أموال ملك الترك وخزائنه، وأخذ ابنه أسيرًا، فبعث به إلى هُرْمُز، وبعث معه بالجواهر والأموال بحيث إنها كانت على ألف بعير، ثم وقع بين هُرْمُز وبَهْرام بسبب هذه الأموال (1).
* * *
السنة الثامنة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
عاد أَبْرُويز إلى المدائن من عند قيصر، وكان قد خرج مستصرخًا به على بَهْرام فأنجده، فهرب بَهْرام من المدائن إلى الترك فقتل هناك.
* * *
السنة التاسعة عشرة من مولده - صلى الله عليه وسلم -
هلك هُرْمُز بن أَنُوشروان بعد خَلْعِه وسَمْلِه، وولي ابنه أَبْرُويز مكانه. ومعنى أَبْرُويز: المُظَفَّر (2).
* * *
السنة العشرون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها كان حلف الفُضُول، وحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الزبير بن بكار: كان مبدأ الحِلْف في جُرْهم، نزل منهم ثلاثة رجال: فضل، وفضالة، ومفضل، فلذلك سمي حلفَ الفُضول، ثم جَدَّدَتْه قريش.
__________
(1) تاريخ الطبري 2/ 174، والمنتظم 2/ 301 - 33، مع خلاف في سبب الخلاف بين هرمز وبهرام.
(2) انظر "المنتظم" 2/ 303 - 304.
(3/79)
________________________________________
وقال ابن إسحاق: إنما سماه حلف الفضول الأحلاف والأحابيش (1)، لأنهم ما سرهم وقوعه، وقالوا: هذا فضول ما نوافق عليه.
وقال الواقدي: كانت قريش تتظالم في الحرم، فقام عبد الله بن جُدعان والزبير بن عبد المطلب، فدعا كل واحد إلى التناصر والتعاون، والأخذ من الظالم للمظلوم، فأجابوهما إلى ذلك، فتحالفوا وتعاقدوا، والذي جمعهم الزبير بن عبد المطلب، ثم أكدوه في دار عبد الله بن جُدعان.
وفي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب (2):
حَلَفْتُ لنَعْقِدَنْ حِلْفًا عليهم ... وإنْ كنَّا جميعًا أهل دارِ
وَيَعلمُ مَنْ حَوالي البَيت أنَّا ... أُباةُ الضَّيم نَهْجُر كلَّ عارِ
وقال وهب: باع قيس السُّلَمي متاعًا من عمرو بن أمية بن عبد شمس بمكة فمطله، فصعد على أبي قُبيس ونادى:
يال قُصيٍّ كيفَ في هذا الحَرَمْ
وحُرْمةِ البَيتِ وأَحْلافِ الكَرَمْ
أُظلمُ لا يُمنَعُ منِّي مَن ظَلَمْ
فقام العباس وأبو سفيان بن حرب فردوا عليه ماله، وتحالفا على رد المظالم (3).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَد شَهِدتُ حِلْفًا في دارِ ابن جُدْعانَ، ما أُحِبُّ أَنَّ لي به حُمْر النَّعَم، ولو دُعِيتُ إلى مِثلِه لأجبتُ" (4).
ولم يتجدد من الحوادث في السنة الحادية والعشرين من مولده - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر سنة أربع وعشرين ما يذكر.
__________
(1) جاء في "المنتظم" 2/ 310 - 311: "المطيبين"، وانظر "الاكتفاء" 1/ 89.
(2) انظر "أخبار مكة" للفاكهي (133)، و"البداية والنهاية" 2/ 270 - 271.
(3) انظر "أخبار مكة" للفاكهي (129)، و"تاريخ اليعقوبي" 2/ 17، و"المنتظم" 2/ 309.
(4) أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (129) مع القصة، وأخرج الحديث أحمد في "مسنده" (1655)، والبزار في "مسنده" (1024) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(3/80)
________________________________________
السنة الخامسة والعشرون مولده - صلى الله عليه وسلم - (1)
قالت نَفيسةُ بنت مُنْية أخت يعلى بن مُنْية: لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عِيْر قومك قد حضر خروجُها، وهذه خديجة بنت خُويلد تبعث رجالًا من قومك، فلو أتيتها فتعرضت لها، لأسرعت إليك.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه إياه، فبعثت إليه وقالت: أنا أعطيك ضِعْفَيْ ما أعطي رجلًا من قومك، فقال له أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك.
فخرج مع مَيسرةَ غلامِ خديجة - رضي الله عنها - فقدما بُصرى من الشام، فنزلا في ظل شجرة هناك، فرآه نَسْطُور الراهب، فدعا مَيسرَة فقال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبيٌّ، ثم قال لمَيسرة: أفي عيني صاحبك حُمْرة؟ قال: نعم. فقال: لا تفارقه، فهو نبيٌّ، وهو آخر الأنبياء (2). ثم إنَّه باع ما كان معه من المتاع، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ في سلعة، فقال له الرجل: احْلِف باللَّات والعزى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما حلفتُ بهما قط، وإنِّي لأَمرُّ بِهما، فأعرض عنهما. فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبيٌّ نجده في كتبنا منعوتًا. وكان ميسرة إذا اشتد الحرُّ رأى مَلكين يُظلَّان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس، فصار كأنه عبد له، وألقى الله عليه حبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم باعوا وربحوا ضِعفَيْ ما كانوا يربحونه، وعادوا إلى مكة، واتفق دخولهم إليها في وقت الهاجرة، وخديجة - رضي الله عنها - في عِلِّيةٍ لها، فرأت مَلَكَين يظلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بعيره، فأرته نساءها فعجبن، ودخل عليها مَيسرَة فأخبرها بما ربحوا، وحدثها بما رأى وبما قال نَسْطُور الراهب، فسرت بذلك، وأضعفت له ما كانت سَمَّته له (3).
__________
(1) جاء العنوان في (ح): "ذكر تزويجه - صلى الله عليه وسلم - خديجة - رضي الله عنها -".
(2) هكذا هي العبارة في النسخ، وفي "الطبقات" 1/ 108: "أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء.
(3) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 171، و"الطبقات الكبرى" 1/ 107 - 109، و"المنتظم" 2/ 313 - 314، و"الاكتفاء" 1/ 195، وقال الذهبي في "السيرة" 1/ 62: هو حديث منكر.
(3/81)
________________________________________
ذكر تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بخديجة - رضي الله عنها - (1):
قالت نَفِيسَةُ بنت مُنْيَةَ: كانت خديجة بنت خُويلد بن أَسد بن عبد العزى بن قصي امرأةً حازمةً جَلْدةً شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخَير، وهي أوسطُ قريش نسبًا، وأعظمهم شَرَفًا وأكثرهم مالًا، وكل قومها حريصٌ على نكاحها لو قدروا على ذلك، وبذلوا لها الأموال، فلم تُجِب.
قالت نَفِيسةُ: فأرسلتني خديجة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الشام دسيسًا، فقلت له: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي شيء أتزوج به. قلت: فإن كفيتُكَ ذلك، ودُعِيتَ إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، أتجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ فقلت: علي. قال: فأنا أفعل ذلك، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه: أنِ ائتِ في ساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها منه فحضر، وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمومته فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة (2).
وذكر ابن إسحاق: أنَّ حمزة - رضي الله عنه - هو الَّذي خطب خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمها عمرو (3).
وذكر بعض العلماء: أن أبا طالب حضر العَقْد ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر، فخطب وقال: الحمد لله الَّذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرعِ إسماعيل، وضِئْضِئ مَعَدٍّ، وعُنصر مُضر، وجعلنا حَضَنَةَ بيته، وسُوَّاسَ حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكَّام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به، وإن كان في المال قُلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد مَن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنتَ خُويلدٍ، وبَذَل لها من الصداق ما آجله وعاجله من ماله، وهو والله له بعد هذا نبأ عظيم، وخطب جليل. فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
__________
(1) جاء في (خ): "السنة الخامسة والعشرون من مولده - صلى الله عليه وسلم - ". وما أثبتنا في هذا العنوان والذي قبله من (ك)، وهو موافق لما في "المنتظم" 2/ 313، وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 107 - 109.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 109، و"المنتظم" 2/ 314 - 315.
(3) "سيرة ابن هشام" 1/ 174، و"أنساب الأشراف" 1/ 111.
(4) انظر "المنتظم" 2/ 315.
(3/82)
________________________________________
وقال ابن سعد: إن أبا طالب ذكر ثلاثين بكرة، واثنتي عشرة أوقية.
ولم يتجدد من سنة ست وعشرين إلى سنة إحدى وثلاثين ما يستطرف.
* * *
السنة الثانية والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها قتلت الروم ملكها موريق لظلمه وفساده، وكان له ولد اسمه: موق (1)، فهرب إلى كسرى مستصرخًا به، فأنجده كسرى أبرويز بثلاثة من مرازبته: ريمون (2)، وشاهين، وفُرُّخان، فساروا في جيوش عظيمة.
فأما ريمون فدوَّخ بلاد الشام، ونزل على القدس فطلب من الأساقفة صليب الصَّلَبوت، وهدَّدهم -وكانوا قد دفنوه في تابوت من ذهب في مَبْقَلة- فخافوا منه القتل (3)، فاستخرجوه وناولوه إليه، فبعث به إلى كسرى (4).
وأما فُرُّخان فإنه سار حتَّى أناخ على خليج القُسْطَنْطينية، فدوّخ البلاد، وقتل وسبى، فلم يستقم لابن موريق أمر، لأن الروم ملكوا عليهم رجلًا صالحًا يقال له: هِرَقْل. فلما رأى ما الرومُ فيه، سأل الله أن ينقذهم من الفرس، فرأى في المنام رجلًا ضخمًا في عنقه سلسلة، وآخر يقوده ويقول: هذا كسرى قد دفعناه إليك. فخرج بالجيوش، فانهزم بين يديه فُرُّخان وجنود فارس، وسار حتَّى أناخ على مدائن كسرى، فحصر كسرى فيها، ودوخ البلاد فقتل وسبى، ولم يكن لكسرى به طاقة، فأقام مدة وعاد إلى الروم سالمًا غانمًا.
ولم يتجدد في السنة الثالثة والرابعة والثلاثين ما نذكره.
* * *
__________
(1) في "المنتظم" 2/ 317: "فوقا"، وفي الطبري 2/ 181: قوفا.
(2) في الطبري و"المنتظم": "رميوزان".
(3) في (خ): "فخافوا على أنفسهم منه".
(4) وجاء بعدها في "المنتظم": وأما القائد الآخر، وكان يقال له: شاهين، فسار حتَّى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتح مدينة الإسكندرية.
(3/83)
________________________________________
السنة الخامسة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها هدمت قريش الكعبة. قال علماء السير: كان أمر البيت بعد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - إلى ولده نَبْت، ولم يكثر ولد إسماعيل عليه السلام فغلبت جُرْهُم على البيت، فأول من وليه منهم: مُضاض الجرهمي الَّذي يقول ولد ولده عمرو بن الحارث بن مُضاض: [من الطويل]
كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا
البيت المشهور، فلم يزل البيت في أيديهم حتَّى استحلُّوا حرمته، وأكلوا ما يُهْدى إليه، وظلموا من دخل مكة، ولم يقنعوا بهذا حتَّى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانًا، دخل البيت فزنى فيه، وكان رجل من جُرهم يقال له: إسافٌ، ونائلةُ زنيا في الكعبة، فَمُسِخا حجرين، وسلط الله الرُّعاف والنمل على جُرهم فأفناهم.
ثم وليت خُزاعة البيت بعد جُرهم، إلا أنَّه كان إلى قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة تجيزهم صوفة (1). والثانية: الإفاضة من جَمْع غَداة يوم النحر إلى منى، وكان ذلك إلى [بني] (2) زيد بن عَدْوان وكان آخر مَن وَلي ذلك منهم: أبو سَيَّارة، واسمه: عُمَيلة (3) بن الأعزل. والثالثة: نَسيءُ الأشهر الحرم، وكان ذلك إلى القَلَمَّسِ واسمه: حُذَيفة بن فُقيم من ولد كنانة، ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة جُنادة بن عوف في آخر الأمر.
وجاء الإسلام، وكانت الكعبة رَضَمةً فوق القامة، وكان كنز الكعبة في بئر في جوفها، وكان في حيطانها صور الأنبياء - عليهم السلام - بأنواع الأصباغ، وصورة إبراهيم - عليه السلام - وفي يده الأزلام يستقسم بها (4)، وإسماعيل - عليه السلام - إلى جانبه فرس يجيز الناس، وصورة أولاده إلى عدنان وسيرة كل واحد، وكانت ستين صورة، فَسَرق كَنْزَ الكعبة دُوَيكٌ مولى
__________
(1) الصوفة: كل من ولي شيئًا من عمل البيت.
(2) ما بين معكوفين من تاريخ الطبري 2/ 286، والمنتظم 2/ 323.
(3) في النسخ: "عمير" والمثبت من المصادر، وانظر "الإصابة" 4/ 97 - 98.
(4) أخرج البخاري (3352) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط".
(3/84)
________________________________________
بني مُلَيحٍ، فقطعت قريش يده، ولم تكن الكعبة مُسقَّفة، فعزموا على تسقيفها، وكان فيها حَيَّةٌ تأوي إلى البئر التي يُطرح فيها ما يُهدى إلى الكعبة، وكانت تخرج من البئر فتمتد على جدار الكعبة، فإذا قصدها أحد فتحت فاها وطلبته فانهزم، فامتنعوا من رفع جدار الكعبة وتسقيفها، فبعث الله طائرًا فاختطف الحية ومضى، فقالت قريش: إن الله قد رضي عنا وقَبِلَ ما قد عزمنا عليه لأنه كفانا أمر الحية (1).
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان السيل يأتي مكة فيدخل الكعبة فانصدعت، فخافوا أن تنهدم، وكان باب البيت موضوعًا لاصقًا بالأرض، فأقبلت سفينة في البحر فيها روم، ورأسهم رجل يقال له: باقوم، فألقتها الريح إلى الشُّعيبة، وكانت مرمى السفن قَبْلَ جُدَّة فتحطمت، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فابتاعوا خشبها، وكلموا باقومَ أن يَقْدُمَ مكة معهم فقدم، وقال: هذه السفينة بعث بها قيصر إلى الحبشة في بحر القُلزُمِ ليبنيَ بها هناك كنيسة (2).
وأجمعوا على هدم الكعبة، فقام أبو وهب بن عَمْرو المخزومي فأخذ حجرًا من الكعبة، فوثب من يده حتَّى رجع إلى مكانه فقال: يا معشر قريش، لا تُدْخِلوا في بنائها من كسبكم إلا طَيِّبًا، ولا يكون فيه مهر بَغْيٍّ ولا ربا ولا مظلمة.
وهاب الناس هدمها، فأخذ الوليد بن المغيرة المِعْوَل، وصعد عليها وقال: اللهمَّ لم تُرَعْ (3) فَما نُريدُ إلَّا الخَيرَ، ثم هدم ناحية منها فتربَّص الناس وقالوا: ننتظر هذه الليلة فإن نزل بالوليد أمر وإلا هدمناها، فأصبح الوليد غاديًا إليها وقريش معه، فنزعوا منها حجرًا فتحركت مكة بأسرها، ثم هدموا فظهر في الأساس حجار خضر، كأنَّهما أسْنِمة البُخْت، ثم شرعوا في جمع الحجارة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم، وكانوا يرفعون أُزُرَهم على عواتقهم ويحملون الحجارة على رؤوسهم، ففعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليط
__________
(1) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 178 - 179.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 120، و"أخبار مكة" للفاكهي (199)، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 157، و"المنتظم" 2/ 325.
(3) ترع: بمثناة فوقية فراء مفتوحة، أي: لم تفزع، أي: الكعبة. ويروى: "نَزغ" بفتح النون وكسر الزاي وبالغين المعجمة أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه. "السيرة الشامية" 2/ 235.
(3/85)
________________________________________
به -أي: انكب على وجهه-، ونودي: عورتَك، فكان ذلك أَوَّلَ ما نودي به من النبوة، فقال له أبو طالب: اجعل إزارك على رأسك. فقال: ما أصابني ما أصابني إلا في تعرِّيَّ. فما رُئيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عورة، ثم اقترعوا على بناء البيت بعد هدمه، فوقع لبني عبد مناف وبني زهرة ما بين الركن الأسود إلى ركن الحجر، وجه البيت، ووقع لبني أسد بن عبد العُزى وبني عبد الدار ما بين ركن الحِجْر إلى ركن الحِجْر الآخر، ووقع لبني تيم [ومخزوم] (1) ما بين ركن الحِجْر إلى الركن اليماني. ووقع لبني سَهْم وبني جُمَح ما بين الركن اليماني إلى الحجر الأسود. فلما بلغوا موضع الركن، اختصمت القبائل كل قبيلة تريد أن ترفعه، وشرعوا في القتال وأقاموا أيامًا على ذلك، وكان أبو أمية بن المغيرة أسنَّ قريش يومئذ فقال: اجعلوا بينكم أوَّلَ داخل من باب المسجد، فرضوا. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أول داخل، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا به، فقال لهم: هلموا ثوبًا، فجاؤوا به فوضعوا [الركن] فيه، وقال: ليأخذ كلُّ سَيِّدِ قبيلة بناحية منه فليرفعوه جميعًا، ففعلوا حتَّى إذا بلغوا به موضعه أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه مكانه.
وقال الواقدي: كان في ربع بني عبد مناف: عتبة بن ربيعة، وفي الربع الثاني: أبو زمعة، وفي الثالث: أبو حذيفة بن المغيرة، وفي الرابع: قيس بن عدي، فلما بلغوا خمسة عشر ذراعًا، سقفوه على ستة أعمدة، فذهب رجل من أهل نجد ليناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرًا يشد به الركن، فقال: لا (2) ونحّاه. وناول العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجرًا فشد به الركن، فغضب النجدي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَه ليسَ يبني مَعَنا في هذا البيت إلا رجل منَّا". وكان ذلك أول تحكيمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النجدي: قد حكموا أصغرهم سنًّا، واللات والعزى ليكونن له شأن وليفوتنهم سبقًا. وقيل: إن النجدي كان إبليس تصوّر بصورة رجل من أهل نجد، وبه يُضرب المثل، فيقال: الشيخ النجدي، وأخرجوا الحِجْر من البيت لقلة نفقتهم (3).
__________
(1) ما بين معقوفين زيادة من المصادر.
(2) في النسخ: "كذا" ولعلها محرفة عن: "كلا" والمثبت من المصادر.
(3) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 178 - 184، و"الطبقات الكبرى" 1/ 120 - 122، و"المنتظم" 2/ 320 - 327.
(3/86)
________________________________________
قالت عائشة - رضي الله عنها -: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ قَومَك استَقْصَروا مِن بُنْيانِ البَيتِ، ولَوْلا حَدَاثة عَهدِهم بالشِّركِ لأَعَدتُ فيه ما تَركوا منه، وَجَعَلْتُ له بَابَين مَوضُوعَين في الأَرضِ، وبَابًا شَرقيًّا وبَابًا غَربيًّا، فإنْ بَدَا لقَومِك أنْ يَبنُوهُ، فَهلُمِّي أُريكِ ما تَرَكُوه منه، فأرَاهَا قَريبًا من سَبعةِ أَذرُعٍ في الحِجْر" ثُم قال: "أَتَدرِينَ لمَ رَفَع قومُك البَابَ"؟ قلتُ: لا. قال: "تَعزُّزًا أنْ لا يَدخُلَها إلا مَن أَرادُوا، وكانَ الرَّجُل إذا كَرِهوا أنْ يَدخُلَ تَركُوه حتَّى إذا كادَ أن يَدخُلَ دَفَعوه فَسَقط (1) ".
ولما تمَّ بناؤها، كساها الزُّعَماءُ أرديتهم، وكانت من الوصائل (2)، وأعادوا الصور إلى ما كانت عليه، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتَّى كساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحِبَرات في حجة الوداع.
وفي هذه السنة: ولدت فاطمة - رضي الله عنها -.
فصل وفيها توفي
زيد بن عمرو بن نُفَيل
قال هشام بن محمد، عن أبيه: خرج زيد بن عمرو وورقة بن نوفل إلى الشام يسألان عن الدين الصحيح، فالتقيا راهبًا، فسألاه، فقال لهما: بعد قليل يبعث نبي من مكة، فرجعا فأقاما. فأما ورقة فقال: أنا ثابت على نصرانيتي حتَّى يظهر هذا الدين. وأما زيد فقال: أنا أعبد رب هذا البيت حتَّى يظهر هذا الدين.
وكانت صفية بنت الحَضْرمي امرأة زيد، كلما عزم زيد على الخروج إلى الشام، آذنت الخَطَّاب فمنعه، فخرج إلى الشام وطاف الجزيرة والمَوْصِل، ثم عاد إلى البلقاء فلقي راهبًا انتهى إليه عِلْمُ النصرانية، فسأله عن الحَنَفيَّة، فقال له: إنك لتسأل عن دين ما أنت عليه وقد درس، وقد أظلك خروج نبي يبعث بأرض مكة التي خرجت منها، فارجع إلى بلادك التي خرجت منها فإنه مبعوث الآن وهذا زمانه. فخرج سريعًا يريد مكة، حتَّى إذا كان بأرض لَخْم عَدَوْا عليه فقتلوه (3).
__________
(1) أخرجه ابن سعد 1/ 122، وأصله عند البخاري (1586)، ومسلم (1333) (403).
(2) انظر "أخبار مكة" للأزرقي 1/ 172.
(3) ساق الخبر بتمامه ابن عساكر في "تاريخه" 9/ 498، وابن كثير في "البداية والنهاية" 2/ 221 - 222، =
(3/87)
________________________________________
وقال هشام: قتل زيد بن عمرو بالبلقاء بمكان يقال له: مَيفَعةُ، وقيل: مات بمكة في أصل حراء (1).
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا اللَّيث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيَّب، عن نافع، عن ابن عمر قال: لقيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن عمرو بن نُفيل والد سعيد بن زيد بأسفل بَلْدَح، وذلك قبل أن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، فقدَّم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُفرةً فيها لحم، فأبى زيد أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما يذكر اسم الله عليه (2).
وأخرج البخاري: عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: رأيت زيد بن عمرو قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: والله يا معاشر قريش، ما منكم على دين إبراهيم غيري، قالت: وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مؤنتها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت فدعها (3).
وقال ابن المسيب: توفي ابن عمرو وقريش تبني الكعبة قبل المبعث بخمس سنين، ولقد نزل به الموت وإنه ليقول: أنا على دين إبراهيم، وأسلم ابنه سعيد، وهو من العشرة، قال: وسأل سعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه؟ فقال: "غَفَر الله له ورَحِمَه، فإنَّه ماتَ على دِينِ إبراهيمَ" فكان المسلمون يستغفرون له (4).
وقال ابن سعد: حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر بن ربيعة، قال: قال زيد بن عمرو: أنا منتظر نبيًّا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب ما بقي غيره، وما أراني أدركه، وأنا أومن به، وأشهد أنَّه نبي، وإن طالت بك يا عامر مدة ورأيته فأَقْرِئه مِنِّي السلام، وسأخبرك بنعته: ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكَثِّ الشعر ولا بقليله، وليس
__________
= وانظر "السيرة" لابن هشام 1/ 204، و"الطبقات الكبرى" 1/ 136، وأخرجه البخاري (3827)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 124.
(1) انظر "تاريخ دمشق" 19/ 516.
(2) هذا الحديث بهذا الإسناد ليس في شيء من الكتب الستة، انظر تحفة الأشراف 6/ 96 - 99، وأخرجه البخاري (3826) عن محمد بن أبي بكر، عن فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، به.
(3) أخرجه البخاري (3828).
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 353 - 354، وابن عساكر في "تاريخه" 19/ 512.
(3/88)
________________________________________
تفارق عينيه حمرة، وخاتَمُ النبوة بين كتفيه، واسمه محمد وأحمد، وهذه البلدة مولده، وبها مبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به فيهاجر إلى يثرب، فيظهر الله أمره، وإياك أن تخدع، فإني طفت البلاد كُلَّها أطلب الدين، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك. قال: فلما نُبّئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بقول زيد، وأقرأته منه السلام، فترحَّم عليه وقال: "رَأَيتُه في الجنَّة يَسْحبُ ذُيولًا" (1).
وخرجت سنة ست وثلاثين، وسبع وثلاثين ولم يتجدد فيها من الحوادث شيء.
* * *
السنة الثامنة والثلاثون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
فيها رأى الضوء، وسمع الصوت.
قال ابن مسعود: أقام بمكة ثلاث سنين يسمع الصوت ولا يدري ما هو، ويرى الضوء، وأقام ثلاث عشرة سنة يوحى إليه -يعني بمكة- (2).
* * *
السنة الأربعون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها قتل كسرى أَبَرْويزُ النُّعمانَ بنَ المنذر. قال الواقدي: قتل قبل المبعث بتسعة أشهر (3).
وفيها كان يوم ذي قار، وكان لبني شيبان على كسرى، وهو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم. وفي حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وبي نُصِرُوا" (4).
__________
(1) "الطبقات الكبير" 1/ 135 - 136 و 3/ 352 عن الواقدي، عن علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر. ولم نقف فيه على الإسناد الَّذي ذكر المصنف، وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (2419)، والطبري 2/ 295، وابن عساكر في "تاريخه" 19/ 504، وابن الجوزي في المنتظم 2/ 328 من طريق ابن سعد.
(2) أخرجه مسلم (2353) (123) من حديث ابن عباس، ولم نقف عليه من حديث ابن مسعود.
(3) انظر "المنتظم" 2/ 332.
(4) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 63 من حديث الأخرم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطبراني في "الكبير" (5520) من حديث سعيد بن العاص مطولًا.
(3/89)
________________________________________
ويسمى: يوم قُراقر، ويوم الجُبابات، ويوم ذي العُجْرُم، ويوم بَطحاء، ويوم الحِنْو.
وكلها أماكن حول ذي قار، وقد ذكرتها الشعراء في أشعارها (1).
قال الجوهري (2): ويوم ذي قار يوم لبني شيبان، وكان أبرويز أغزاهم جيشًا، فظفرت بنو شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم.
وسبب يوم ذي قار: أن النعمان بن المنذر لما قصد باب كسرى، أودع حلقته وكانت عشرة آلاف شِكَّةٍ (3) وابنتيه حُرَقَة وهندًا، وزوجته المُتَجرِّدة عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني، فبعث كسرى إلى هانئ يطلب شِكَّةَ النعمان، وما أودع عنده، فامتنع هانئ من تسليمها وقال: هي عندي أمانة ووديعة، والحر لا يضيع أمانته، فغضب كسرى وقطع الفرات، ودعا إياس بن قَبيصة الطائي، وكان قد أقطعه ثمانين قرية على شاطئ الفرات، وملَّكه على الحيرة، فشاوره في أمر هانئ، قال: إن أطعتني فلا تُخبرنَّ أحدًا لأي شيء قَطَعْتَ الفراتَ لئلا تَقِلَّ حرمتك عند الناس، ولكن ارجع إلى المدائن وابعث إليهم حَلْبَة (4) من العَجَم، فيها بعض القبائل من العرب التي تليهم من أعدائهم فيواقعونهم، فقال كسرى: قد بلغني أنهم أخوالك، وأَنك لا تألوهم نصحًا، فقال: هذا رأي، ورأي الملك أفضل. فاستشار النعمانَ بنَ زُرعة التَّغلبي، وكان قد قدم عليه، فقال: الرأي أن تتركهم على ما هم عليه، وتظهر الإضراب عن ذكرهم، فإذا جاء القَيظُ دَنَوْا من بلادك، واجتمعوا على ماء يقال له ذو قار، يتساقطون عليه تساقط الفراش في النار، فإذا نزلوا عليه فدونك وإياهم، ففعل أبرويز ما قال التغلبي، فلما نزلوا بذي قار أرسل إليهم أبرويز مع النعمان بن زرعة هذا يُخَيِّرهم بين ثلاث: إما أن يُسلموا الحَلْقَةَ، وإما أن يخرجوا من هذه الديار، وإما أن يأذنوا بالحرب، فقال هانئ للنعمان: لولا أنك رسول ما أبْتَ إلى قومك، انصرف.
فلما انصرف، أشار هانئ بن قبيصة على بكر بركوب الفلاة، وقال: لا طاقة لكم بكسرى، ولم يُرَ لِهانئٍ سَقْطَةٌ قبلها، فقال حنظلة بن ثعلبة العِجْليُّ: إن ركبنا الفلاة متنا عطشًا، وإن أعطينا بأيدينا قَتَلَ مقاتلتَنا وسبى ذرارينا، وما أرى غير الحرب. فنزلوا بذي
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 256، و"العقدة" 5/ 262.
(2) في الصحاح (قور).
(3) الشِّكَّة: السلاح.
(4) رسمت في النسخ: "حسله" وما أثبتناه من الأغاني 24/ 61، وفي "المنتظم" 2/ 335: قبيلة.
(3/90)
________________________________________
قار، ورؤساء بكر يومئذ ثلاثة نفر: هانئ بن قبيصة الشيباني، ويزيد بن مُسْهِر الشيباني، وحنظلة بن ثعلبة العِجْلي، ولم يشهدهم أحد من بني حنيفة ولا غيرهم، وجهز إليهم كسرى إياس بن قَبيصة الطائي، وكان قد ملَّكه بعد ما قتل النعمان بن المنذر على العرب، فسار في طيئ، واللَّهازم، وسائر العرب.
وكتب كسرى إلى قيس بن مسعود بن ذي الجَدَّين، وأمره أن يوافي إياس بن قَبيصة، فوافاه في جمع عظيم، وانضم إليهم ألف من إياد، وألف من بَهراء، عليهم خالد البَهراني، وجهَّز كسرى الهرمزان في ألفين من العجم والأساورة، فدخلوا البرية وإياس بن قبيصة في المقدمة، ولما علم القوم، أرسل يزيد بن مُسْهر الشيباني إلى هانئ بن قبيصة: أن ابعث إلينا بحلقة النعمان فانثرها في بني شيبان، وكانت عشرة آلاف، فقال هانئ: وكيف أصنع بأمانتي؟ فقال يزيد: إنَّكم إن هلكتم، فسيأخذون الحلقة وغيرها، وإن ظهرتم فما أقدركم على استردادها من قومكم، فنثرها هانئ في بني شيبان، ودنا إياس والأعاجم من بني شيبان، فقال حنظلة بن ثعلبة: يا معاشر بكر، إن نُشّاب الأعاجم يُفَرِّقكم، فبادروهم باللقاء وعاجلوهم بالقتال، ونادى هانئ: يا قومِ، هالكٌ معذور خير من ناجٍ مغرور، والصبر من أسباب الظَّفَر، والمنية خير من الدَّنيَّة، واستقبال الموت في عِزٍّ خير من استدباره في ذلٍّ، والجِدَّ الجِدَّ فما من الموت بدّ، ثم ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته وولده، فقالوا: طب نفسًا، فنحن نمشي إلى الموت، وكان على الميمنة يزيد بن مُسْهِر الشيباني، وعلى الميسرة حنظلة بن ثعلبة العِجْلي، وهانئ بن قبيصة في القلب، وكان على ميمنة الأعاجم الهرمزان، وعلى الميسرة عسكر السواد في مقدم من الأساورة، وفي القلب إياس بن قبيصة الطائي في العرب، والتقى الجمعان فكان يومًا لم يُرَ في الجاهلية مثلُه. ثبتت العرب على نُشَّاب العجم، وقطعت بنو شيبان أكمام أقبيتها من المناكب ليتمكنوا من ضرب السيوف، وأعطى الله النَّصر لبني شيبان، فانهزمت الفرس، وأَتبعهم بنو شيبان حتَّى دخلوا في السواد، واستدلوا عليهم قتلًا، وأُسر عامةُ الفرس، ونجا الهرمزان وَحْدَه وإياس بن قبيصة على فرس يقال لها: الحمامة، وغنموا أموالهم وخيولهم وسلاحهم، وكان أولَ من قدم على كسرى إياسُ بن قبيصة، وكان كسرى لا يخبره أحد بهزيمة جيش إلا نزع أكتافه، فلما أتاه إياس قال له: ما الخبر؟ قال: هزمنا بكرًا، وقتلنا رجالهم، فأعجب به وأعطاه مالًا وكسوة، فاستأذن إياس في الانصراف إلى عين تمر وقال: أخي مريض. فلهذا
(3/91)
________________________________________
سارَعْتُ، فأذن له، ثم سار كسرى من المدائن، فنزل الخَوَرْنَقَ والسَّدير ينتظر الغنائم والأسارى، ثم ركب إلى ظاهر الخورنق يتنسَّمُ الأخبار، فأتاه رجل فسأل: هل دخل على كسرى أحد؟ قالوا: نعم، فظن أنَّه قد أخبره الخبر لأنه لم يكن أحد يجترئ أن يخبر كسرى بمثل ذلك، فأخبر كسرى فنزع كتفيه.
وقد أكثرت الشعراء في يوم ذي قار، قال جرير: [من البسيط]
مِنّا فوارسُ ذي بَهْدى (1) وذي نَجَبٍ ... والمُعْلَمونَ صَباحًا يوم ذي قار
وقال العُدَيل بن الفَرْخ العِجْلي (2): [من البسيط]
ما أَوْقَدَ الناسُ من نار لمَكْرُمةٍ ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يَعُدُّون من يوم سَمِعْتَ به ... للناس أعظمَ من يومٍ بذي قار
جئنا بأسلابِهمْ والخيلُ عابسةٌ ... لَمّا استلبنا لكسرى كل إسوار
وقد قال بعضهم. إن يوم ذي قار كان في سنة سبع من الهجرة، والأول أصح.
وفيها: ظهرت أمارات النبوة قبل أن يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو طالب: وكنت بذي المَجَاز ومعي ابن أخي -يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدركني العطش، فشكوت إليه، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: اشرب يا عم، فشربت (3).
وقالت بَرَّةَ: لما ابتدأه الله بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتَّى لا يَرَى بيتًا، ويُفْضي إلى الشِّعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فكان يلتفت يمينًا وشمالًا فلا يرى أحدًا (4).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن.
انفرد بإخراجه مسلم (5).
* * *
__________
(1) في (خ) و (ك) وأصول العقد الفريد 5/ 265: ذي نهد، والمثبت من مطبوع العقد وديوانه 235.
(2) الأبيات في "الشعر والشعراء" 1/ 414، و"العقد" 5/ 266.
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 127.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 132، والحاكم 4/ 70.
(5) أخرجه مسلم (2277) من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.
(3/92)
________________________________________
السنة الحادية والأربعون من مولده - صلى الله عليه وسلم -
وفيها: اختصه الله برسالته وبعثه إلى كافة خليقته، ولم يزل منذ منذ شبَّ يكلؤه الله ويحرسه من أَقْذاءِ الجاهلية ومعايبها لما يريده الله من كرامته.
واتفقوا على أنَّه بعث في أيام كسرى أبرويز في يوم الاثنين.
واختلفوا أي الأثانين على أقوال:
أحدها: لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، ظهر له جبريل بالرسالة، قاله جمهور الصحابة. عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وأبي بن كعب، في آخرين.
والثاني: لثماني عشرة ليلة خلت من ربيع.
والثالث: لسبع وعشرين خلت من رجب.
والرابع: لأربع وعشرين خلت من رمضان. وقال مجاهد: سبع وعشرين خلت منه.
والقول الأول أشهر، وعليه العمل عند أهل العلم.
فصل في مبادئ الوحي:
قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أولُ ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرُّؤيا الصادقة -أو الصالحة- في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل (1) فَلَقِ الصُّبحِ، ثم حُبِّبَ إليه الخَلاء، فكان يأتي غار حراء فيتحنَّثُ فيه -والتحنُّثُ هو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة - رضي الله عنها - ويتزود حتَّى جاء -أو فَجَأَهُ- الحق في غار حراء، فجاءه الملك فقال. اقرأ. فقال: "ما أَنَا بقارِئٍ" قال: "فأخذني فَغَطَّني الثَّانية والثَّالثة حتَّى بَلَغ منِّي الجَهْدُ، ثم أَرسَلَني
__________
(1) من هنا بدأ سقط في (ك) ينتهي بعد صفحتين.
(3/93)
________________________________________
وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} حتى بلغ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، قالت: فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده - للبخاري: بوادره (1) - فدخل على خديجة فقال: "زَمِّلوني زَمِّلوني" فزمَّلُوه حتَّى ذهب عنه الرَّوْع، فأخبر خديجةَ بالخبر، وقال لها: "لَقَد خَشيتُ على نَفْسِي" فقالت له: كلا، أبْشِر، فوالله لا يخزيك -أو لا يحزنك- الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَصْدُقُ الحديث، وَتُكْسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.
ثم انطلَقَت به خديجة إلى وَرَقة بن نَوْفَل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، وهو ابن عمها أخي أبيها. وكان امرءًا تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب من الإنجيل بالعربي أو بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ. فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر، أو خبر بما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الَّذي أُنزل على موسى، يا ليتني أكون حيًّا إذ يخرجُك قومك. فقال: "أوَ مُخْرجيَّ هم"؟ قال: نعم، ولم يأت رجل قط بمثل ما أتيت به إلا عُودي، وإن يدركْني يومك حيًّا، أنصرْك نصرًا مُؤزَّرًا.
ثم لم يلبث ورقة أن مات، وفتر الوحي فَتْرَة حزن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارًا حتَّى كاد يتردَّى من شواهق الجبال، فكان كلما أَوْفى بِذِرْوَةِ جبل لكي يُلقِيَ نَفْسه منه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمدُ إنك لرسول الله حقًّا. فيسكن لذلك، وتقوى نفسه ويرجع، فإن طالت عليه الفترة عاد لمثل ذلك، فيتبدى له جبريل فيقول له مثل ذلك. أخرجاه في "الصحيحين" (2).
ولورقة في ذلك أشعار كثيرة منها: [من الطويل]
فإن ابن عبد الله أحمدَ مُرسَلٌ ... إلى كل من ضُمَّت عليه الأباطحُ
وظني به أن سوف يُبْعث مرسلًا ... كما أُرسلَ العَبْدان هودٌ وصالحُ
وموسى وإبراهيم حتَّى يُرى له ... هنالك منشور من الذكر فائحُ
فإن أَبْقَ حتَّى يدرك الناسُ دهرَه ... فإني به مُسْتَبْشِرُ القلبِ فارحُ
__________
(1) البخاري (4953).
(2) أحمد في "مسنده" (25959)، والبخاري (3)، ومسلم (160) (253).
(3/94)
________________________________________
وقال (1): [من الطويل]
إن يك حقًّا يا خديجة فاعلمي ... حديثُك إيانا فأحمدُ مرسلُ
وجبريلُ يأتيه وميكالُ مَعْهُما ... من اللهِ وَحْيٌ يشرح الصَّدْرَ مُنزَلُ
يفوز به من فاز يومًا بصِدْقِه ... ويَشْقى به العاني الغَويُّ المُضَلَّلُ
فريقان منهم فِرقةٌ في جِنانه ... وأُخرى بنيران الجحيم تُذلَّلُ
فسبحان من تجري الرياحُ بأمره ... ومن هو في الأيامِ ما شاء يفعلُ
ومَنْ عرشه فوق السماوات كلها ... وأحكامه في خلقه لا تبَدَّلُ
فصل في السابقين إلى الإسلام (2):
اتفقوا على أن أول من أسلم من النساء: خديجة - رضي الله عنها -. واختلفوا فيما عداها على أقوال:
أحدها: أنَّه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
[قال أحمد: ] حدثنا يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثنا يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عَفِيف الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرءًا تاجرًا، فقدمت الموسم فأتيت العباس بن عبد المطلب وهو بمِنى لأبتاع منه بعض التجارة، وكان تاجرًا. فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خِباء قريب منه فَنَظر إلى الشمس، ثم قام يصلي، ثم خرجت امرأة من ذلك الخِباء فقامت تصلّي خلفه، ثم خرج من ذلك الخباء غلام حين راهَق الحُلُمَ فقام يصلي خلفه، قال: فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: محمد (3) بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. قلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة. قلت: فمن هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن أخي. قلت: فما هذا الذي يصنع؟ قلت: يصلِّي ويزعم أنَّه نبيٌّ، ولم يتابعه على أمره إلا امرأته وابن عمه، وهو يزعم أنَّه ستُفتح عليه كنوز كسرى وقيصر، وايم الله، ما أعلم على وجه الأرض كلها أحد على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
__________
(1) الشعر هذا وسابقه في سيرة ابن إسحاق برواية يونس بن بكير 115 - 123.
(2) انظر "المنتظم": 2/ 358.
(3) هنا ينتهي السقط في (ك).
(3/95)
________________________________________
فكان عَفِيف -وهو ابن عم الأشعث بن قيس- يقول: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ لكنت ثالثًا أو رابعًا. ثم أسلم وحسن إسلامه (1).
وقال جابر: بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وصلى [علي] يوم الثلاثاء (2).
وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حَبَّة العُرَني قال: رأيت عليًّا كرم الله وجهه ضحك على المنبر حتَّى بدت نواجذه، ولم أره ضحك أكثر منه. فقيل له في ذلك، فقال: ظهر علينا أبي أبو طالب وأنا مع النبي - رضي الله عنه - ببطن نَخْلَة نصلِّي، فقال: ماذا تَصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله - رضي الله عنه - إلى الإسلام. فقال: لا والله لا تعلوني استي أبدًا. فذلك الَّذي أضحكني. ثم قال علي - رضي الله عنه -: اللهمَّ إني لا أَعرف عبدًا من هذه الأمة عَبَدَكَ قبلي غيرَ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، لقد صلَّيت قبل أن يصلِّي الناس بسبعِ سنينَ (3).
والثاني: علي، وخديجة، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم -.
والثالث: أبو بكر - رضي الله عنه - وبلال.
وفي حديث عمرو بن عَبَسة الَّذي أخرجه مسلم: أنَّه لما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، قال: فمن معك على هذا؟ قال: حُرٌّ وعَبدٌ، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال (4).
وقد وفَّق بعض العلماء بين هذه الأقوال، فقال: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر، ومن الفتيان: علي، ومن الموالي: زيد، ومن النساء: خديجة - رضي الله عنهم -.
ثم أسلم على يد أبي بكر - رضي الله عنه - بعد إسلامه جماعة، منهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبيد الله - رضي الله عنهم - (5).
وفيها تغيَّرت أحوالُ كسرى أبرويز بن هرمز بن أنو شروان.
قال علماء السير: كانت دجلة تجري قديمًا في أرض جُوخا، فأَعْوَرت وتفرَّقت،
__________
(1) مسند أحمد (1787)، وما بين معقوفتين زيادة من "المنتظم" 2/ 359.
(2) أخرجه الطبري 2/ 310 وما بين معكوفين منه، وأخرجه الترمذي (3728) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (776).
(4) أخرجه مسلم (832).
(5) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 232.
(3/96)
________________________________________
فأنفق عليها أبرويز أموالًا عظيمة، وأسكرها مرارًا، والماء يقلع السَّكْر، وكان عنده ثلاث مئةٍ من الحزاةِ -وهم: السحرة، والكهنة، والمنجمون- فجمعهم كسرى، وكان فيهم رجل من العرب يقال له: السَّائب، يعتافُ اعتيافَ العَربِ فلا يخطئ، وكان بعث به بَاذَان إليه من اليمن، وكان لأبرويز طاق في الإيوان يضع فيه تاجه، فلما كانت الليلة التي بعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انفصم الطاق، وانقطع السكْرُ، فانخرقت دجلة فأصبح كسرى حزينًا، ودعا القوم فقال لهم: انفصم طاق تاج ملكي، وانخرق الماء عن بلادي "شاه بِشكَسْت" أَي: انكسر الملك، فانظروا.
فنظروا، فأظلمت الدنيا عليهم وتحيَّروا، فلم ينتفع كاهن بكهانته، ولا ساحر بسحره، ولا منجم بنجومه، فقام السَّائب عنهم، وبات على رابية يَرْمُقُ نجوم الحجاز، فرأى في موضع قدميه روضة خضراء، فقال: لئن صَدَق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ ملكه المشرق والمغرب، تخصب الأرض في زمانه، واجتمعت الحُزاةُ وقالوا: والله ما حال بينكم وبين علومكم إلا أمر سماوي، وإنه لنبيٌّ بُعِثَ يَسلب كسرى ملكَه، ولئن أخبرتم كسرى بذلك، ليأتين على آخركم، فاتَّفِقُوا على أمر تدفعوا به عنكم. فقالوا له: قد نظرنا، فإذا وَضْعُ الطاق والسكر كان في طالع النحوس، ونحن نبصر لك طالعًا سعيدًا تعيد فيه الطاق والسكر.
وعيَّنوا له وقتًا، فشرع في السَّكْر على دجلة، وغرم عليه أموالًا عظيمة، فلما فرغوا منه فرش عليه الفُرُشَ، وأحضر الأساورة والمرازبة والأشراف والأعيان، وجميع من في مملكته، ثم جلس على السَّكر وأخذ في اللعب والشرب، فبينما هم على ذلك انقطع السَّكر نصفين، وغَرِق جميع من كان عليه، واستخرجوا كسرى في آخر نفس، فقتل من الحُزاةِ مئة رجل، فقال الباقون: أخطأنا كما أخطأ مَنْ قبلنا، ونحن نحسب حسابًا صحيحًا، فقال: افعلوا، وحسبوا وأمروه بوضع السَّكر فوضعه، وجلس عليه فانقطع نصفين وأصابه أعظم من الأول، فقال لهم: والله لئن لم تصدقوني لأرمينكم تحت أرجل الفيلة، كم تُلَفِّقونَ عليَّ؟ فقالوا: نحن نصدقك، إنا نظرنا في علومنا فرأينا أنَّه قد ظهر نبيٌّ، وأظهر له السَّائب ما رأى، فلها عنهم وعن دجلة، وذلك قبل أن يأتيه
(3/97)
________________________________________
كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال الحسن البصري: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، ما حجة الله على كسرى فيك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعث الله إليه ملكًا، فأخرج يده من سور جدار بيته تتلألأ نورًا، فلما رآها فزع، فقال له: يا أبرويز، لا تُرَع فإن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا، فاتبعه تسلم لك دنياك وآخرتك، فقال: سأنظر في ذلك (2).
وقال الواقدي: بعث الله إليه ملكًا وقت الهاجرة وهو في بيت لا يدخل عليه أحد، فلم يَرُعْه إلا وهو قائم على رأسه، وفي يده عصا، فقال له: يا أبرويز، أسلم وإلا كسرت هذه العصا على رأسك، فقال: بِهِل بِهِل -أي اصبر-، ثم انصرف عنه، فدعا حجابه وحراسه، وقال: من أين دخل هذا؟ قالوا: ما رأيناه. ثم جاءه بعد سنة، فقال له كذلك. ثم انصرف وجاءه في السنة الثالثة، فكسر العصا على رأسه. فكان ذلك سببًا لقتله، فقتله ابنه شيرويه (3).
وفي رواية: نام كسرى يومًا فرأى في منامه كأنه رُمي به إلى السماوات، وأوقف بين يدي الله تعالى، وإذا رجل عليه إزار ورداء، والله تعالى يقول له: "يا أبرويز، سلم مفاتيح خزائن الأرض إلى هذا". فسلمها إليه، ثم أراد أن يستردها فأيقظه بعض حجابه لأمر دَهَمه.
قال حاتم بن عطاء: والذي حكى المنام: خالد بن وَيْدَة، وكان مجوسيًّا فأسلم، والرجل الَّذي كان عليه الإزار والرداء: محمد - صلى الله عليه وسلم - (4).
* * *
__________
(1) انظر "المنتظم" 2/ 360 - 362، وتاريخ الطبري 2/ 188، و"السيرة الشامية" 1/ 428.
(2) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 190، وانظر "المنتظم" 2/ 362.
(3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 191.
(4) انظر "المنتظم" 2/ 363 - 364، والوفا (238).
(3/98)
________________________________________
السنة الرابعة من النبوّة
وفيها نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214].
قال علماء السير: وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة ثلاث سنين مستخفيًا يدعو إلى الله سرًّا في الجبال والأودية والشِّعاب (1)، ولما دعا إلى الله تعالى، استجاب له مَنْ شاء الله من الأحداث وَضَعفَةِ الناس والنِّساءِ، وكَثُرَ من آمن به، وكفَّار قريش غير مكترثين بأمره ولا بما يقول. وكان إذا مر على مجالسهم، أشاروا عليه وقالوا: إن غلام عبد المطلب لَيُكَلَّمُ من السماء. فكان على ذلك حتَّى عاب آلهتهم، وسفَّه آباءهم الذين ماتوا على الكفر. فشنَّفوا (2) له عند ذلك، وعادوه، وحسدوه (3).
وقام بنصرته عمُّه أبو طالب أحسن قيام، ومنعهم من التعرض له.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزل قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى علا المَروَةَ، ثم قال: يا آل فهر، فجاءَتْه قريش وفيها أبو لهب فقال: هذه فهر عندك فقل. فقال: يا آل غالب. فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر. فقال: يا آل لؤي بن غالب. فرجع بنو الأدرم. فقال: يا آال كعب بن لؤي. فرجع بنو عامر بن لؤي. فقال: يا آل مرة بن كعب. فرجع بنو عدي بن كعب، وبنو سَهْمٍ، وبنو جُمَح، أبناء عمرو بن هُصَيص بن كعب، ثم قال: يا آل كلاب بن مرَّة. فرجع بنو مخزوم وبنو تميم بن مرة. فقال: يا آل قُصي. فرجع بنو زهرة بن كلاب. فقال: يا آل عبد مناف. فرجع بنو عبد الدار بن قصي، وبنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، فناداه أبو لهب: هذه بنو عبد مناف عندك فقل. فقال: "إنَّ اللهَ قد أَمَرني أَنْ أُنْذِرَ عَشيرتي الأَقْرَبين، وأنتم الأَقرَبُون من قُريشٍ، وإنِّي لا أملك لَكُم مِنَ الله حَظًّا، ولا مِنَ الآخِرَة نصيبًا، وإلَّا أن تَقُولوا: لا إلَه إلَّا اللهُ، فأشْهَدُ لَكُم بها عندَ اللهِ، وتَدينُ لَكُم بها
__________
(1) في (خ) و (ك): والشعوب، والمثبت أقرب للصواب.
(2) في النسخ: "فسيفوا" والمثبت من "الطبقات الكبرى"، ومعنى شنفوا له: أبغضوه.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 169.
(3/99)
________________________________________
العَرَبُ والعَجَمُ". فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} السورة (1).
وقال عبد الله بن كعب بن مالك: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة في كل موسم يتبع الحاج في منازلهم بعُكاظٍ، ومَجَنَّة، وذي المَجاز، يدعوهم إلى الله وأن يمنعوه حتَّى يبلِّغ رسالات ربه، ولهم الجنّة فلا يجد أحدًا ينصره ولا يجيبه. وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تطيعوه فإنه كذّاب صابئ. فيردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبح مردٍّ ويقولون: أُسْرَتُك وعشيرَتُك أعلم بكَ حيث لم يمنعوك (2).
وفي رواية طارق المحاربي: ورأيت خلفه رجلًا قد أدمى عقبيه بالحجارة وكعبيه، قال طارق: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب. قلت: والذي خلفه؟ قالوا: عمه أبو لهب (3).
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنتُ بَين شَرِّ جارَينِ: أبي لَهَبٍ وعُقبَةَ بنِ أبي مُعَيْط، إنْ كانَ لَيَأتيانِ بالفُروثِ فَيَطرَحانِها على بابي، فَأَخرجُ فأقُولُ: يا بَنِي عبد مَنافٍ، أيُّ جِوَارٍ هذا؟ ثُم أُلقِيها في الطَّريق" (4).
وفيها: ضَرب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - رجلًا من المشركين فشجه. وسببه: أنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجتمعون في الشِّعاب والأودية فيصلُّون، فبينا سعد - رضي الله عنه - في جماعة من المسلمين يصلُّون إذ رآهم رجل من الكبار ومعه جماعة من قريش، فسبُّوهم وعابوهم، فضرب سعد - رضي الله عنه - رجلًا منهم فأسال دمه، فكان أول دم أُهريق في الإسلام (5).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المسجد وحوله المستضعفون من أصحابه مثل: عمار
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 55 - 56، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 136، وأخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208) مختصرًا.
(2) كذا في النسختين (خ) و (ك)، وفي "الطبقات" 1/ 184: يتبعوك، وهو الصواب، وأورده ابن هشام في "السيرة" عن ربيعة بن عباد 2/ 50.
(3) أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6562).
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 171، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 149.
(5) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 318، و"المنتظم" 2/ 367.
(3/100)
________________________________________
ابن ياسر، وخَبَّاب بن الأَرَتِّ، وصهيب بن سنان، وبلال بن رباح، وعامر بن فُهَيرة، وأشباههم. فإذا مرت بهم قريش استهزؤوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه قد منَّ الله عليهم من بيننا. فأنزل الله تعالى: {أَلَيسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} (1) [الأنعام: 53].
وقال هشام: أول من أظهر الإسلام بمكة: أبو بكر - صلى الله عليه وسلم - وبلال وعمار وصهيب وخبَّاب - رضي الله عنهم-، فأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الباقون فلم يكن لهم عشائر يمنعونهم، فعذبوا عذابًا شديدًا، وفيهم نزل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 41، 42]، كانوا يُلْبِسونهم أدراع الحديد، ويصهرونهم في الشمس في وقتِ الهاجرة (2).
فَقَد أبو طالب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لفتيان بني هاشم: خذوا سلاحكم، وكونوا على مكاناتكم حتَّى أرجع. وخرج إلى الجبل ونادى: يا محمدُ. وإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي في أسفل مكة، فقال له: ما لك يا عم؟ فقال: ظننْت أنك قد اغتلت، فكدت أن تجرِّمني فأقتل قومي اليوم. وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الإسلام، فقال: أريد آية. فقال: ترى تلك الشجرة؟ فقال: نعم. فقال: أدعو ربي أن يأتيك بها؟ قال: فافعَل، فدعا الله، فأقبلت تهتز بإذن الله تعالى، فقال لها: ارجعي بإذن الله. فرجعت. فقال: يا ابن أخي، لهذا يقولى قومُك بأنك ساحر. فانطلق به أبو طالب إلى مجالس قريش وقال: اليوم أؤيسهم منك، ووقف عليهم وقاق: قد كنت أُراكم قتلتم ابن أخي، ورب البيت الحرام والبلد الحرام لو فعلتم ذلك؛ لقتل كل واحد من هؤلاء الفتيان جليسه، ثم قال: أخرجوا أشفاركم، فأخرجوها. فلما رأت قريش ذلك يئسوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
ولما اشتد الأمر وعلمت قريش أن أبا طالب لا يُسْلمه إليهم ولا يخذلُه، مَشَوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة -وكان من أجمل فتيان قريش وأَسْراهم- فقالوا له: يا أبا طالب، هذا أنْهَدُ فتى في قريش وأجمله، فخذه واتخذه ولدًا وسلّم إلينا محمدًا، فإنه قد
__________
(1) انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 29، و"حلية الأولياء" 2/ 24 - 25، و"الاكتفاء" 1/ 374.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 214، و"المنتظم" 4/ 298.
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 172 نحوه، أما انصياع الشجرة لأمره - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد بذلك عدة أحاديث، انظرها في "دلائل النبوة" 6/ 7، و"سبل الهدى والرشاد" 10/ 117.
(3/101)
________________________________________
خالف دينك ودين آبائك، وفرَّق جماعتنا، وإنما هو رجل برجل، فقال أبو طالب: ويحكم، لبئس والله ما سمتموني، أتعطوني ولدكم أَغْذوه لكم، وأعطيكم ولدي تقتلونه، والله ما أنصفتموني، فرقوا بين النوق وفصلانها، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها، دفعته إليكم (1)، ثم قال (2):
واللهِ لن يصلوا إليكَ بجَمْعِهمِ ... حتَّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينا
فاصدعْ بأمرِكَ ما عليكَ غضاضةٌ ... وَابْشِر وقَرَّ بذاكَ منك عُيونا
وعَرضتَ دينًا لا مَحَالة أنَّه ... من خير أديانِ البريَّة دينا
لولا الملامةُ أو حِذارُ مذمَّةٍ ... لَوَجَدْتني سَمْحًا بذاك ظنينا
فصل وفيها توفي
أَكْثَم بن صَيْفي (3)
من تميم، حكيمُ العرب، كان من بطن يقال لهم: بنو شُرَيف بن جُرْوَةَ، أدرك مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى قومه باتِّباعِه، وعاش مئتي سنة، وقيل: مئة وتسعين سنة، واسودَّ شعره، ونبتت أضراسه، وعاد شابًّا، ولا يُعرف في العرب أعجوبة مثله، وكان حكيمًا فصيحًا لبيبًا فاضلًا سيدًا في بني تميم، وهو القائل: [من الطويل]
وإن امرَأً قد عاشَ تِسعين حجَّةً ... إلى مِئة لم يسأمِ العيشَ جاهِلُ
ولما بلغه خَبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عزم على قصده، فمنعه بنو تميم، وقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فابعث إليه. فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ابنه حُبَيش بن أكثم: باسمك اللهمَّ، من العبد أكْثَم إلى العبد. أما بعد: فأخبرنا من أنت، وبم جئت؟ وقد بلغنا عنك خبر، فإن كنت أريت، فأرنا، وإن كنت عُلِّمْتَ، فعلِّمنا، وأشركنا معك في خير والسلام.
__________
(1) انظر القصة دون الشعر في "السيرة" لابن هشام 1/ 240 - 241، و"أنساب الأشراف" 1/ 266 - 267، و"المنتظم" 2/ 369.
(2) انظر الأبيات في "تاريخ اليعقوبي" 2/ 31، و"البداية والنهاية" 3/ 41، ولم نقف على سياق للقصة يجمع الشعر مع الحادثة.
(3) انظر "المعارف" ص 299، و"المنتظم" 2/ 375، و"الإصابة" 1/ 110.
(3/102)
________________________________________
فكتب إليه: "من محمد رسول الله إلى أكثم. أما أنا فمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، عبدُ الله ورسوله. وأما الَّذي جئت به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وإن الله أمرني أن أقول: لا إله إلا الله، ولتعلمَنَّ نبأه بعد حين، والسلام".
فلما قرأ كتابه، قال: نسب وسيط، وأراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسًا، ولا تكونوا أَذنابًا.
ثم جمع أَكْثَم بني تميم، وقال: لا يحضرني سفيه، فإن السفيه واهي الرأي وإن كان قوي البدن، ولا خير فيمن كان كذلك، وإن بتمام العقل تتم الأمور، ثم أمرهم بالإسلام، واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقام مالكُ بنُ نُويرةَ اليربوعي وهو يقول: إن هذا الشيخ قد خَرِفَ، إنه ليدعو إلى الفناء والتعرض للبلاء، فإن أجبتموه فَرَّق جمعكم، وذَلَّل عِزَّكم، وأظهر أضغانكم. وسمعه أَكْثَم فقال: دعوا كلام هذا الأحمق، فويل للشجي من الخَليِّ، إن الحَقَّ إذا قام دمغ الباطل.
وخرج أَكْثَم إلى مكة يريد لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان ببعض الطريق عمد ابنه حُبيش إلى الرواحل فنحرها، وإلى المَزادة فشقها، ثم هرب. فمات أَكْثَم بالعَطَش، ولما أيقن بالموت، أوصى من معه باتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهدهم على نفسه أنَّه مسلم.
روي عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه نزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].
ومن كلام أَكْثَم: أوصيكم بتقوى الله، وصلة الأرحام، وإياكم ونكاح الحمقى. وإنَّ العُدْمَ عُدْمُ العقل، لا عُدْم المال. وإنَّ مقتل الرجل بين فكَّيه، وإنَّ قولَ الحق لا يدع لقائِله صديقًا. ومن صَحِبَ الدُّنيا رأى الهوان، وفي طلب المعالي يكون العز، ومن قنع بما هو فيه قَرَّت عينُه. والتغافُلُ من أَخلاق الكرام، والمَنُّ يُذْهِبُ الصَّنيعةَ. ومن ظلم يتيمًا ظلم أولاده، ومن سل سيف البغي أُغْمِدَ في رأسه.
وقال لبنيه: يا بني، ذَلِّلوا أخلاقكم للطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا على خُلُقٍ تذمونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتَحلَّوْا بالجود تلبسكم المحبة، ولا تلبسوا البخل فتتعجلوا الفقر.
(3/103)
________________________________________
وصَيْفي بن تميم، كنيته أبو أَكْثَم، عاش مئتي سنة وستًّا وخمسين سنة.
وحَنظلة الكاتب هو ابن أخي أَكْثَم، لأنه حَنظلة بن ربيعة بن صَيفي، وكان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعاش إلى أيام معاوية.
وَرَقة بن نوفل
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي، ابن عم خديجة - رضي الله عنها-، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع كلامه، وانصرف عنه، قال ورقة لخديجة - رضي الله عنها -: قدوس قدوس، والله لئن صدَقْتِني فإنه نَبي هذه الأمة، ولقد جاءه النَّاموس الأكبر الَّذي كان يأتي موسى وعيسى، فقولي له: ليثبت. فرجعت خديجة - رضي الله عنها-، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسُرِّي عنه بعض ما كان فيه من الغم (1).
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة، فقال: "رَأَيتُه في المَنَام وعَلَيه ثيَابٌ بيضٌ" (2).
ومن شعره (3): [من البسيط]
يا للرجال وصَرْف الدَّهْر والقَدَرِ ... فما لِشيءٍ قضاه الله من غِيَرِ
جَاءت خديجةُ تَدعُوني لأُخْبِرها ... وما لنا بخفيِّ الغَيبِ من خَبَرِ
بأنَّ أحمدَ يأتيهِ فيُخْبِرُه ... جبريلُ أنَّك مبعوثٌ إلى البَشَرِ
فقال حين أتانا منطقًا عجبًا (4) ... تَقِفُّ منه أعالي الشعْر والبَشَرِ
إني رأيت أمينَ الله واجَهَني ... في صورةٍ كَمُلَت من أَهْيَبِ الصُّوَرِ
فقلتُ ظني وما أدري يُصَدِّقُني ... أن سَوفَ يُبعثُ يتلو مُنْزَل السُّوَرِ
واختلفوا على أيِّ دين مات على أقوال: أحدها: على النصرانية، والثاني: مُوَحِّدًا على دين عيسى وموسى -عليهما السلام-، والثالث: على الإسلام. وورقة آخر من مات في الفترة، ودفن بالحَجون.
__________
(1) انظر "سيرة ابن هشام" 1/ 222.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24367) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(3) انظر الأبيات في "السيرة" لابن إسحاق ص 104، و"أخبار مكة" للفاكهي 4/ 89، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 150.
(4) في النسخ: "فقلت حين أتانا معطفًا عجبًا" والمثبت من المصادر.
(3/104)
________________________________________
السنة الخامسة من النبوة
فيها أَمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَصْحابَه بالهجرة إلى الحبشة لمَّا اشتد بهم أذى الكفار.
ذكر الهجرة الأولى (1):
قال الزهري: لما ظهر الإسلام وكثر المسلمون، ثار جماعة من الكفار إلى من آمن من قبائلهم وعشائرهم، فعذبوهم وسجنوهم، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقوا في الأرض. فقالوا: إلى أين؟ فأشار إلى الحبشة بيده، وقال: إن بها رَجُلًا لا تُظْلَمُ الناس عنده، فتَحرَّزُوا عنده حتَّى يأتي الله بالفرج. فخرجوا متفرقين، وستر قومٌ إسلامَهم، وكانت الحبشة متجَرَ قريش، فخرج منهم اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة متسللين سرًّا من قريش، وكان مخرجهم في رجب، منهم الماشي والراكب، فوافقوا سفينتين للتجارة في الشُّعَيبة (2)، فركبوا فيها، وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم.
ذكر أساميهم (3):
حاطب بن عمرو بن عبد شمس، الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، سهيل بن بيضاء، عامر بن ربيعة ومعه امرأته بنت أبي حَثْمَة، عبد الله بن مسعود، أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، ومعه امرأته أم سلمة -رضي الله عنها-، عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، وقيل: إنه لم يهاجر الأولى، وعثمان - رضي الله عنه -، ومعه زوجته رقيَّة - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عثمان بن
__________
(1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 1/ 172، وانظر "السيرة" لابن هشام 1/ 280، و"تاريخ الطبري" 2/ 329، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 285، و"المنتظم" 2/ 374، و"الكامل" 2/ 76، و"السيرة" للذهبي 1/ 146، و"البداية والنهاية" 3/ 46، و"سبل الهدى والرشاد" 2/ 485.
(2) في (ك): "الشعشة" وفي (ح): "الشعشعة" والمثبت من "طبقات" ابن سعد 3/ 173، و"سبل الهدى" 2/ 486.
(3) انظر "السيرة لابن هشام" 1/ 280 - 286، و"الطبقات الكبرى" 1/ 173 - 174، و"المنتظم" 2/ 375، وانظر تتمة أسمائهم هناك.
(3/105)
________________________________________
مَظْعون، مصعب بن عمير، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ولد له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة من امرأته سهلة بنت سُهيل بن عمرو، أبو سَبْرة بن أبي رُهْم. فأقاموا في الحبشة شهر شعبان ورمضان، ورجعوا في شوال.
ذكر سبب رجوعهم
قال المطلب بن عبد الله: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه كفافة، فجلس خاليًا وتمنى أن لا يُنَزَّلَ عليه شيء ينفرهم عنه، وقارب قومه ودنا منهم، ودنوا منه، فجلس يومًا في بعض أنديتهم، فنزلت سورة النجم، فقرأها حتَّى بلغ {أَفَرَأَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20]؛ ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدِّث به نفسه ويتمناه من مقاربة أهله وقومه، لأنه كان قد شق عليه مباعدتهم إياه، فتمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصًا منه على إيمانهم، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فَرِحوا، ومضى في قراءة السورة كلها، وسجد وسجد معه المسلمون والمشركون، فلم يبق في المسجد إلا من سجد لسجوده إلا الوليد بن المغيرة وأبو أُحَيْحةَ سعيد بن العاص فإنهما أخذا حَفْنَةً من الحصباء فرفعاها إلى جبينهما وسجدا عليه، وكانا شيخين كبيرين لا يستطيعان السجود، وتفرقت قريش، وقد سرهم ذلك، وقالوا: ذكر محمد آلهتنا بخير، فأحسن الثناء عليها، وقد علمنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذ قد جعل لها محمد نصيبًا، فنحن معه. فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءه جبريل - عليه السلام - فلما بلغ إلى قوله: تلك الغرانيق العلى، قال: ما أتيتك بهاتين الكلمتين - وفي قول ابن إسحاق: قال: لقد قلت عن الله ما لم أقل، وتلوت عن الله ما لم أتل به عن الله - فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا عظيمًا، وندم على ما جرى. فأنزل الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} [الحج: 52] الآيات (1)، ولما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بعد أن وقع ذكر الغرانيق في فم كل كافر،
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 174.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (12450) عن ابن عباس، وأخرجه -أيضًا- الطبراني (8316) عن عروة =
(3/106)
________________________________________
عادوا إلى أشَرِّ مما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم، وكان قد سمع من هاجر إلى الحبشة بأن قريشًا قد صافَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجعوا إلى مكة، فلما قربوا منها، بلغَهم ما جرى فوقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل منهم في جوار رجل من قريش.
فدخل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في جوار أبي أُحَيحةَ سعيد بن العاص بن أمية، فكان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طرفي النهار آمنًا.
ودخل أبو حذيفة بن عتبة في جوار أبيه.
ودخل مصعب بن عمير في جوار النَّضر بن الحارث بن كَلَدَةَ، ويقال: في جوار أبي عزيز بن عمير أخيه، ودخل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في جوار زَمْعَة بن الأسود.
ودخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، ثم رد عليه جواره ورضي بجوار الله لَمَّا رأى ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء، قال: والله إن غُدوي ورواحي آمنًا في جوار رجل من المشركين، وأصحابي يلقون من البلاء ما لا يصيبني مثله لنقصٌ كثير في نفسي، ذمة الله أعز وأمنع. ودخل سهيل بن بيضاء في جوار رجل من عشيرته من بني فهر، وقيل: دخل مستخفيًا بغير جوار حتَّى هاجر الثانية.
ودخل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في جوار الأسود بن عبد يغوث، وقيل: دخل بغير جوار.
وعبد الله بن مسعود فدخل بغير جوار، والأشهر أنَّه ما دخل مكة ورجع إلى الحبشة.
فصل في الهجرة الثانية إلى الحبشة:
قالت أم سلمة - رضي الله عنها -: لما قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحبشة في الهجرة [الأولى إلى مكة]، اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم، ولقوا منهم أذىً شديدًا، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة إلى الحبشة مرة ثانية، فقال له عثمان بن
__________
= مرسلًا. وأخرجه البيهقي في "الدلائل" 2/ 285 بسنده إلى موسى بن عقبة في كتابه "المغازي" مرسلًا، وانظر كلام القاضي عياض على هذه القصة في "الشفا" 2/ 750، وقال ابن كثير في "تفسيره" 3/ 230 ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، ولكنها من طرق مرسلة، لم أرها مسندة من وجه صحيح.
(3/107)
________________________________________
عفان - رضي الله عنه -: يا رسول الله، فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة إلى الحبشة ولست معنا -يعني ما حكمها-؟ فقال: أنتم مهاجرون إلى الله وإليَّ (1). فخرج منهم خلق كثير واختلفوا فيهم، فقال ابن سعد: كانوا ثلاثةً وثمانين رجلًا وثمانيَ نسوة (2). وقيل: وإحدي عشرة امرأة. وقال الهيثم: كانوا مئة وثمانية، وقيل: وعشرة منهم عشر نسوة.
فصل في ذكر من ولد بالحبشة من المسلمين:
قال علماء السير: ولد بها: عبد الله، وعون، ومحمد -وفي رواية: ومعين-، أولاد جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - من أسماءَ بنت عُمَيس (3).
وسعيد، وآمنة ابنا خالد بن سعيد بن العاص. وعبد الله بن المطلب (4). ومحمد بن حاطب. ومحمد بن أبي حذيفة. وزينب بنت أبي سلمة (5). وموسى، وعائشة، وزينب أولاد الحارث بن خالد التيمي.
هؤلاء سوى من خرج بهم أهلوهم من مكة صغارًا، أقاموا بالحبشة من سنة خمس من النبوة إلى سنة سبع من الهجرة، فلما بلغهم مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلًا وثماني نسوة يريدون مكة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وشهد منهم بدرًا أربعة وعشرون.
فلما كان في سنة سبع من الهجرة كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وأن يبعث إليه بجعفر ومن معه -أو عنده- من المسلمين إلى المدينة، وأن يزوجه أم حبيبة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - محاصر خيبر، فأسلم النجاشي، وزَوَّجه أم حبيبة، وجهز إليه جعفرًا وأصحابه - رضي الله عنهم - (6).
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 176.
(2) جاء في "الطبقات" 1/ 176 - 177: وكان عدة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا، ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع غرائب.
(3) انظر "نسب قريش" ص 80، "وطبقات" ابن سعد 4/ 31، وليس فيها ذكر لمعين.
(4) هو المطلب بن أزهر.
(5) في (ك): "سلمى" وفي (خ): "مطحى"، والمثبت من المنتظم 2/ 377، وانظر "الإصابة" 4/ 317.
(6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 177، وانظر نص كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند البيهقي في "الدلائل" 2/ 308، =
(3/108)
________________________________________
فصل في صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أذى الكفار:
لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ومنعه الله بعمه أبي طالب، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم عليه، قذفوه بأنواع العيوب، فقالوا: ساحر، كاهن، شاعر، كذاب، مجنون، وبالغوا في أذاه. فرد الله تعالى عليهم وكذَّبَهم، وأنزل في ذلك آيات (1).
قال ابن مسعود: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل بن هشام وأصحاب له جلوس، وقد نُحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلَى جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم وأخذه، فألقاه على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، واستضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر إليه، ولو كانت في منعة، طرحته عن ظهره، وهو ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جُوَيرية فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تَسُبُّهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، رفع يديه فدعا عليهم -وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا-، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بقُرَيشٍ" ثلاثًا. فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بأبي جَهْل، وعُتْبَة وشَيبَة ابْنَي رَبِيعَة، والوَليدِ بن عُتْبَة، وأميَّةَ بنِ خَلَف، وعُقْبَة بن أبي مُعَيط. وذكر السابع: عُمارة بنِ الوَليد" (2).
والسَّلى: الوعاء الذي يكون فيه الولدُ إذا وضع من الناقة. فأما في الجزور فما في بطنه. وأشقى القوم: عقبة بن أبي معيط.
__________
= وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 80 - 81: هكذا ذكره البيهقي بعد قصة الهجرة وفي ذكره هاهنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ قبيل الفتح، ويؤيده ما أخرجه مسلم (1774) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن ذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 473 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرًا.
(1) انظر "المنتظم" 2/ 378.
(2) أخرجه البخاري (520)، ومسلم (1794).
(3/109)
________________________________________
فوالذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيت الذي سَمّى صَرعى، ثم سُحِبوا إلى قليب بدر قد غَيَّرتهم الشمس، وكان يومًا حارًا (1).
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فلقيه أبو البَخْتَري فأنكر وجهه، فسأله عن حاله فأخبره، وكان بيده سوط، فأتى أبا جهل فعلاه به، فسار بنو مخزوم وبنو أسد بن عبد العزى، فقال أبو جهل: ويلكم، كفوا فإنما يريد محمدٌ أن يوقع بينكم العداوة (2).
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعقبة بن أبي معيط: يا ابن أبان، ما أنت بمقصر عمّا أرى؟ فقال عقبة: لا، حتى تدع ما أنت عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لتنتهين أو لتحلَّنَّ بك قارعة.
قال أبو جهل: والله لئن رأيت محمدًا يصلي لَأَطَأَنَّ رقبته. فبلغه أنه يصلي، فجاءه وقال: ألم أنهك عن الصلاة؟ فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتنهرني وأنا أعز أهل البطحاء؟ فقال له العباس -وكان قريبًا منه-: كذبت. فنزل قوله تعالى: {أَرَأَيتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (3) [العلق: 9، 10].
قال عبد الله بن عَمرو: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة، إذ أقبل عُقْبَةُ بن أبي مُعَيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه -. فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (4) [غافر: 28] وفي رواية: أقبلوا على أبي بكر فجعلوا شعره خُصلًا وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، وفي ضمنه: كيف تسلط عدوك على وليك (5)؟ .
وقال ابن عباس: اجتمع القوم في الحِجْر، فتعاهدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) مسلم (1794) (110).
(2) أخرجه البزار في "مسنده" (1853)، والطبراني في "الأوسط" (766) من حديث ابن مسعود - صلى الله عليه وسلم -.
(3) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول" ص 493 - 494 من حديث ابن عباس، وأخرجه مسلم (2797) من حديث أبي هريرة بغير هذا السياق.
(4) أخرجه البخاري (4815).
(5) لم نقف عليها.
(3/110)
________________________________________
فجاءت فاطمة ابنته تبكي حتى دخلت عليه فأخبرته، فقام وتوضأ ودخل المسجد، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم، وقال: شاهت الوجوه. فما أصابت رجلًا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا (1).
وكان أبو إِهاب بن عزيز التميمي قد عزم على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم به طُلَيب، فضربه بلَحْي جملٍ فشجه، فأُخبرت أمُّه أروى بنت عبد المطلب، فقالت: نِعْمَ ما فعل طُلَيب، محمد ابن خاله. فهو أولى به وأحق من دافع عنه، ثم قالت (2):
إن طليبًا نَصر ابنَ خالِه
آسَاه في ذي دَمِه ومَالِه
وأسلم طليب في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهاجر إلى الحبشة، ولما أسلم دخل على أمه أروى، فقال: يا أماه، أسلمت لله رب العالميق، واتبعت محمدًا. فقالت: إن أحق من وازرت وعاضدت ابن خالك، والله لو كنا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه. فقال لها: ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك حمزة؟ فقالت: أَنْظر ما تصنع أخواتي، أكون واحدة منهن (3).
ذكر أسامي الذين أظهروا العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أبو لهب عمه، أبو جهل، الأسود بن عبد يَغُوث، عُقْبة بن أبي مُعَيط، الحكم بن أبي العاص، الحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغَيْطلة، شيبة وعتبة ابنا ربيعة، أبو سفيان بن حرب، الوليد بن المغيرة، أُبي وأمية ابنا خلف، العاص بن وائل السَّهمي، النَّضْر بن الحارث، العاص بن هشام، وهؤلاء كانوا جيرانه، وكانوا أشد الناس عليه (4).
وأما من قريش فخلق كثير.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2762).
(2) انظر "أنساب الأشراف" ص 257، و"تاريخ ابن عساكر" 25/ 142.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 114.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 170.
(3/111)
________________________________________
وفيها استتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتسمى الدار: دار الخَيزُرَان (1).
وفيها: بعثت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي بهدايا يطلبون منه أن يسلِّم إليهم من عنده من المسلمين المهاجرين.
فصل وفيها استشهدت
سُمَيَّةُ بنت خُبَّاط (2)
أم عمار بن ياسر، مولاة أبي حُذيفة بن المغيرة، أسلمت بمكةَ قديمًا، وكانت مِمَّن يُعذَّب في الله لترجع عن دينها، فما رجعت. وهي أول شهيدة في الإسلام، مر بها أبو جهل بن هشام وهي تعذب في الله تعالى، فطعنها في قُبُلِها بحربة فماتت (3).
* * *
__________
(1) انظر "أخبار مكة" للفاكهي 3/ 330، و"المنتظم" 2/ 380، وعرفت بهذا الاسم عندما وهبها المهدي لامرأته الخيزران أم هارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، كما سيذكره المصنف سنة 55 في ترجمة الأرقم، وانظر "المنتظم" 5/ 280، و"البداية والنهاية" 8/ 74.
(2) ضبطها السمعاني في "الأنساب" 2/ 316 بفتح الخاء وتشديد الباء، وضبطها ابن حجر في "الإصابة" 4/ 334 بضم الخاء وفتح الباء المشددة.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 251، و"المنتظم" 2/ 384.
(3/112)
________________________________________
السنة السادسة من النبوة
وفيها أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وقيل: في سنة خمس من النبوة، وقيل: في السنة الثانية من النبوة، وكان إسلام عمر - رضي الله عنه - بعد حمزة- رضي الله عنه - بيوم، وقيل: ثلاثة (1).
ذكر إسلام حمزة - رضي الله عنه -:
قال محمد بن كعب القرظي: قال أبو جهل وعدي بن الحمراء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ حمزة - رضي الله عنه - فقام ودخل المسجد، فضرب رأس أبي جهل بالقوس فشجه فَوَضَحه، وأسلم فعَزَّ به المسلمون وذلك بعد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم (2).
وقال ابن إسحاق: أبو جهل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس عند الصفا فآذاه وقال منه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل المسجد، وجلس في ظل الكعبة، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعان في مَسكَنٍ لها على الصَّفا تسمع ذلك، وأقبل حمزة - رضي الله عنه - من القَنَصِ متوشحًا قوسه، وكان يسمى: أعزَّ قريش وأشدها شَكِيمة، فقالت له مولاة ابن جدعان: يا أبا عُمارة، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل آنفًا؟ وجده ها هنا خاليًا فسبَّه، وشتمه، وبالغ في أذاه، ولم يُكَلّمه ابن أخيك. فغضب حمزة - رضي الله عنه - ودخل المسجد وأبو جهل جالس في نادي قومه عند الكعبة، فقال: يا مصفِّر استِه، أتشتِم ابن أخي وأنا على دينه، أقول بما يقول؟ ثم ضربه بالقوس فشجه فَوَضَحه، فقام رجال من بني مخزوم، وثار بنو هاشم، فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارةَ، فإني سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا. ودخل حمزة دار الخَيزُران فتلقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أما آن لَكَ يا عم" فأسلم، فعلمت قريش حينئذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزَّ، وأنه سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (3).
__________
(1) انظر "المنتظم" 2/ 384.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 8.
(3) "السيرة" 1/ 260.
(3/113)
________________________________________
ذكر إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْلهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحَبِّ الرَّجلَينِ إليكَ: بعُمَرَ بن الخطَّابِ، أو بأبي جَهْلِ بنِ هِشامٍ". فكان أحبهما إليه: عمر (1).
وقال عمر - رضي الله عنه -: خرجت أتعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فافتتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قلت: والله هذا شاعر كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمِينَ (43)} [الحاقة: 40 - 43] فوقر الإسلام في قلبي وأسلمت (2).
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قلت لعمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -: لم سُميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزةُ قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام فقلت: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نَسَمةٌ أحبُّ إلي من نَسَمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألت عنه؟ فقالوا: هو في دار ابن الأرقم. فأتيت الدارَ، وحمزةُ في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت، فضربت الباب، فاجتمع القوم، فقال لهم حمزة: ما بالكم؟ فقالوا: عمر بن الخطاب. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بمجامع ثيابي ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي، فقال: "مَا أنتَ بمُنْتَهٍ يا عُمَرُ"؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله، أَلَسْنَا على الحقِّ إن مِتنا، كان حيينا؛ قال: "بَلَى". قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن فأخرجناه في صفين، حمزة في صف، وأنا في صف له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، فلما نظرت إلينا قريش، أصابتهم كآبة لم تصبهم مثلها قط، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الفاروق (3).
وقال الزهريّ: لما أسلم عمر، نزل جبريل فقال: يا محمد، استبشر أهل السماء بإسلام عمر (4).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (5696).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (107).
(3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 40، وانظر "صفة الصفوة" 1/ 273.
(4) انظر "صفة الصفوة" 1/ 274، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (6883) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3/114)
________________________________________
وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر (1).
وقال صهيب: لما أسلم عمر، جلسنا حول البيت حِلَقًا فطفنا وانتصفنا ممن أغلظ علينا (2).
واختلفوا، بَعْدَ كَم أسلم؟ والمشهور أنه أسلم بعد تسعة وثلاثين، وقد عدهم الهيثم بن عدي، فقال: خديجة، علي، زيد بن حارثة، أبو بكر، بلال، عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، طلحة، سعد، سعيد، أبو عبيدة، الزبير، حمزة، عبيدة بن الحارث، خبَّاب، عمار، جعفر، مصعب بن عمير، ابن مسعود، عيَّاش بن أبي ربيعة، عثمان بن مظعون، أبو سلمة بن عبد الأسد، المقداد، طُلَيب، صهيب، عامر بن فُهَيرة، عمرو بن عَبَسة، نُعيم بن النَّحام، حاطب بن الحارث، خالد بن سعيد، خالد بن البُكير، عبد الله بن جحش، أبو أحمد بن جحش (3)، عامر بن البُكير، عتبة بن غَزوان، الأَرْقم، واقد بن عبد الله، عامر بن ربيعة، السَّائب بن عثمان بن مظعون، وتمم الله الأربعين: بعمر.
قال المصنف -رحمه الله-: والعجب من هذا، وقد هاجر إلى الحبشة نيف وثمانون بالاتفاق، ونيف ومئة على الخلاف، وهم إنما هاجروا في سنة أربع من النبوة، وعمر إنما أسلم في سنة ست منها، فقد ازدادوا. فما وجه قولهم: أتم الله به الأربعين؟ اللهمَّ إلا أن يكون أسلم في سنة اثنتين من النبوة على ما قيل (4).
* * *
السنة السابعة من النبوة
وفيها كانت وقعة بُعاث، وهو يوم الأوس والخزرج، وكان أبو أُسيد بن حُضَير رئيس الأوس في ذلك اليوم (5).
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 250.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 249.
(3) هو أخو أم المؤمنين زينب، واسمه عبد.
(4) ولعل الصواب أن عمر أسلم بين الهجرتين فكان عدد المهاجرين في الأولى أربعين رجلًا وعشر نسوة. ثم حصلت الزيادة بعد إسلام عمر انظر "السيرة الشامية" 2/ 493، و "الطبقات الكبرى" 3/ 249، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 222.
(5) انظر "المنتظم" 2/ 385.
(3/115)
________________________________________
السنة الثامنة من النبوة
وفيها كتبت قريش الصحيفة بينها وبين بني هاشم.
واختلفوا في سببه على أقوال:
أحدها: أنه لما أسلم حمزة وعمر - رضي الله عنهما - شق ذلك على كفار قريش، واتفقوا على أن يكتبوا كتابًا يتعاهدون فيه ويتعاقدون، أنهآلا ينكحون إلى بني هاشم وبني المطلب، ولا يبايعونهم ولا يكلمونهم.
والثاني: أنه لما بلغ قريشًا فعل النجاشي بجعفر وأصحابه، وإكرامه إياهم، وردّه عَمرًا وصاحبه خائِبَينِ، شق ذلك عليهم، وكتبوا الصحيفة.
والثالث: أنه لما فَشا الإسلام في القبائل، كتبوا الصحيفة، والذي كتبها منصور بن عكرمة بن [عامر بن] هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فشلَّت يده، وقيل: كتبها بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار (1) فيبست يده حين كتبها، وبقيت أيامًا عند أم الجُلاسِ خالة أبي جهل، وهي التي يقال لها: الحنظلية، وقيل: بل كانت عند أسماء بنت مُخَرِّبة أم أبي جهل، ثم أخذها المطعم بن عدي فأقامت عنده أيامًا، ثم علقوها في الكعبة، ولما رأت بنو هاشم ذلك انحازوا إلى الشِّعب المعروف بِشِعْب بني هاشم بمكة، ودخل معهم بنو المطلب، ولم يتخلف عنهم سوى أبي لهب، فأقاموا إلى السنة العاشرة من النبوة (2).
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: حصرونا في الشِّعب، وقطعوا عنا الميرةَ والمادة حتى كان صبياننا يتضاغَوْن جوعًا، يُسْمَعُ ذلك من وراء الشعب حتى مات منا قوم.
وحكى الطبري: أن أبا جهل بن هشام لقي حكيمَ بن حزام ومعه غلام يحمل حِنْطةَ، وما كان يُحمل إليهم شيءٌ إلا سرّا من قريش، وكان حكيم يريد بالطعام عمته
__________
(1) وهو كذلك في "نسب قريش" ص 254، و"جمهرة النسب" ص 66.
(2) انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 3، و"الطبقات الكبرى" 1/ 177.
(3/116)
________________________________________
خديجة - رضي الله عنهما - وهي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ ! والله لا أبوح حتى أفضحك بمكة. فجاء أبو البَختَري فقال له: خل عن هذا الرجل، فأبى أبو جهل. فضربه أبو البختري بِلَخي جمل فشج أبا جهل، ووطئه وطئًا شديدًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوى ذلك، ويدعو إلى الله سرًّا وجهرًا، وليلًا ونهارًا، والوحي يأتيه من الله ولم ينقطع عنه في الشعب.
وفيها: قُبَيْلَ دخولهم الشِّعب وصل الخبر بغلبة فارس على الروم.
قال علماء السير: عزم كسرى على غزو الروم، فاستشار امرأة عاقلة من فارس كانت تلد الملوك، فقالت: هذا فَرُّخان، أحذر من صقر، وأروغ من ثعلب، وأنفذ من سنان، وهذا أخوه شهريار أحلم أهل زمانه، فقال: بها أريد إلا الحلم. فقدَّم شهريار على الجيوش، فأوغل في بلاد الروم قتلًا وأسرًا، وهدم الحصون، وقطع الأشجار، وعاد إلى الشام، فأرسل إليه قيصر رجلًا من بطارقته يقال له: يُحنس، فالتقيا بأَذْرِعات وبصرى، وهي أَننى أرض الشام إلى أرض العرب فغلبت فارسُ الروم، وبلغ الخبر إلى كسرى، ثم إلى مكة فشقَّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وكان يكره ظهور الفرس، لأنهم مجوس لا كتاب لهم، والروم لهم كتاب. وفرح كفار قريش بذلك، لأنَّهم عبدة الأوثان مثل الفرس، وقالوا للمسلمين: قد ظهر إخواننا، فلو قاتلناكم لظهرنا عليكم. فأنزل الله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 1 - 3] الآيات، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الكفار وهو يقول لهم: فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، لا تفوحوا فوالله لتظهرَنَّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فقام إليه أُبيُّ بن خَلَف الجُمَحي، فقال: كذبت يا أبا الفضيل. فقال له أبو بكر - رضي الله عنه -: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: اجعل بيننا أجلًا أُناحِبُك عليه -والمناحبة: المراهنة-، على عشر قلائصَ منِّي وعشر منك، فإن ظهرت الروم على فارس، غَرِمت. ففعلا ذلك، وجعلا الرهن ثلاث سنين، وذلك قبل تحريم القمار.
وأخبر أبو بكر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما هكذا ذُكِرَتْ، إنَّما البِضْعُ: ما بينَ الثَّلاثِ إلى التِّسعِ. فَزايِده في الخَطر، ومادَّه في الأجَل" فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - فلقي أُبيًّا، فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا. فقال: تعال أزايدك وأمادَّك في
(3/117)
________________________________________
الأجل فنجعلها مئة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت. فلما خشي أُبى أن يخرج أبو بكر - رضي الله عنه - من مكة، فقال: أقم لي كفيلًا. فكفله ابنه عبد الله - رضي الله عنهما-، فلما أراد أُبي أن يخرج إلى أُحُد، أتاه عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما-، فقال له: أقم لي كفيلًا. فأعطاه، ثم رجع أُبي مجروحًا، فمات من جراحته بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرحه، ثم ظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس تسع سنين من مناحبتهما، وهذا قول عامة المفسرين (1).
وقال أبو سعيد الخدري: إنما ظهرت الروم على فارس يوم بدر (2).
وقال الشعبي: إنما كان صاحب قمار الكفار بمكة أبي بن خلف، وصاحب قمار المسلمين أبو بكر - رضي الله عنه -، وذلك قبل تحريم القمار، فلم تمض تلك المدة حتى غلبت الرومُ فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن، وعَمَروا روميَّةَ، فقمر أبو بكر - رضي الله عنه - أُبتا، وأخذ مال الخطر من ورثة أُبي، فجاء به رسولَ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّق به" (3)
ذكر السبب في ظهور الروم على فارس:
ذكر علماء السير: أن شَهريار لما هزم الروم على أذرعات، سار خلفهم فأناخ على خليج القُسطنطينية، وكان أخوه فَرُّخان في جملة الجيش، فسكر يومًا، فقال: رأيت في المنام كأني جالس على سرير كسرى. وبلغ كسرى، فكتب إلى شهريار: ابعث إليَّ رأس فرخان. فكتم ذلك على أخيه، وكتب إلى كسرى: إذا قتلت فرخان، فمن للنكاية في العدو، ومن للحرب. فكتب إليه كسرى: إن في رجال فارس خَلَفًا عنه، فعجِّلْ عليَّ برأسه. فكتب إليه شهريار: إنك لا تجد مثله، فلا تعجل على قتله. فغضب كسرى ولم يجبه، وكتب كتابًا إلى الجيش: إني قد نزعت عنكم شهريار، ووليت عليكم فرخان، ثم دفع إلى الرسول صحيفة صغيرة إلى فرخان يأمره بقتل أخيه شهريار، وقال: إذا
__________
(1) ساق القصة ابن كثير في "تفسيره" 3/ 424 - 425، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 185، و"دلائل النبوة"2/ 330، و"المنتظم" 2/ 319 و 387.
(2) أخرجه الترمذي (2935).
(3) أورده السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 480، وعزاه إلى أبي يعلى وابن أو حاتم وابن مردويه.
(3/118)
________________________________________
جلس فرخان على السرير، وأطاعه الجند، فناوله إياها. فلما قرأ كتاب كسرى على الجيش، قال شهريار: سمعًا وطاعة، ونزل عن السرير، وسلم الأمر إلى فرخان، فدفع إليه الرسول الصحيفة، فقال: علي بشهريار، فجاء فأمر بقتله فقال له: يا أخي، لا تعجل، ودعا بسفطٍ وأخرج منه ثلاث صحائف من كسرى إليه بقتل فرخان، ثم قال: قد راجعت فيك مرارًا ولم أقتلك، وأردت أن تقتلني بكتاب واحد. فنزل فرخان من السرير، وسلم الملك إليه.
وكتب شهريار إلى قيصر: إن لي حاجة لا تُقِلُّها البُرُدُ، ولا تحملها الصحف، فالقني في خمسين فارسًا. وخرج شهريار في خمسين فارسًا وضُرِبَت لهما قُبَّةٌ، فدخلاها وبينهما تَرجُمان، فقال شهريار: إن الذي أخرب مدائنك، وسبى رعيتك، ودوخ بلادك، أنا وأخي، كان الخبيث كسرى حسدنا، وأغرى بيننا، وعرَّفه الخبر، ونحن نقاتله معك، ونملَكُك داره وملكه، فَسِر معنا. فقال: أصبتما، ثم أشار كل واحد منهما إلى صاحبه بأن السر متى جاوز اثنين شاع.
فقتلا التَّرجُمان، وساروا جميعًا نحو المدائن يخربون أرض فارس ويقتلون. ومات كسرى، وأُديلت الروم على فارس، وجاء الخبر يوم الحديبية إلى رسول الله - رضي الله عنه -، ففرح ومن معه، فذلك قوله سبحانه وتعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} الآيات (1).
وقرأ أبو عمرو، وأبو سعيد الخدري، والحسن، وعيسى بن عمر: "غلَبَتِ الروم" بفتح الغَين، و"سَيَغْلُبون" بضم اللام (2) وفتح الياء.
قالوا: نزلت هذه الآية حين أخبر الله نبيه - رضي الله عنه - عن غلبة الرومِ فارسَ، وأن المسلمين يغلبونهم في بضع سنين، وعند انقضاء هذه المدة، أخذ المسلمون في التأهب لجهاد الروم، وكان أبوالدرداء يقول: سيأتي قوم يقرأون: "غَلَبت الروم" بالفتح، وإنما هي: {غُلِبَتِ} بالضم، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} يعني من قبل دولة الروم على فارس، ومن بعدها (3).
__________
(1) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 182 فما بعدها، و"المنتظم" 2/ 319 - 320.
(2) في (ك): "الباء"، وانظر تفسير الطبري 18/ 446، والبحر المحيط 7/ 161.
(3) جاء بعدها في (خ): "يعني من قبل ذلك".
(3/119)
________________________________________
قال يحيى بن أبي عمرو السِّيباني، قال رسول الله - رضي الله عنه -: "فارسُ نَطْحةٌ أو نَطْحتَان، ثم لا فارسَ بعدَها أَبَدًا، والرُّومُ ذاتُ القرونِ، كلَّما ذَهب قَرْن خَلَفَه قَرْن هيهاتَ هيهاتَ إلى آخر الأبد" (1).
وفيها: قدم ضِماد الأَزْدي مكة. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قدم ضماد مكة، وكان من أَزْدِ شَنوءة، وكان يرقي من الريح، فسمع سفهاء قريش يقولون: إن محمدًا لمجنون، فقال: لو أني لقيت هذا الرجل فلعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فلقيته. فقلت: يا محمد، إني أرقي من الريح والله يشفي على يدي من يشاء، فهل لك؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمدُ لله نَحمدُه ونَستَعينُه، مَن يَهْدي اللهُ فلا مُضِل له، ومَن يضلل فلا هاديَ لَه، أَشْهدُ أنْ لا إلَه إلَّا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسُوله، أما بعدُ". فقال له ضِماد: أعد علي ما قلت -أو أعد علي كلماتك هؤلاء- فأعادهن عليه ثلاثًا. فقال ضماد: لقد سمعت كلام الكهان والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعَلى قَومِكَ"؟ فقال: وعلى قومي. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك سرية، فمرت بقوم ضِماد، فقال صاحب الجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجل: أصبت منهم إِداوة. فقال: اردُدها، فإن هؤلاء قوم ضِماد (2).
ولما دخلت السنة التاسعة من النبوة، مرض أبو طالب وهم في الشعب.
* * *
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 298، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1346)، وهو مرسل بين السيباني والنبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن محيريز.
(2) أخرجه مسلم (868).
(3/120)
________________________________________
السنة العاشرة من النبوة
فيها خرج بنو هاشم من الشِّعب، واختلفوا في سبب خروجهم على أقوال:
أحدها: أن هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لؤي، وكان أَوْصَلَ قُريش لبني هاشم حين كانوا في الشعب، كان يأتي بالبعير قد أَوْقَره طعامًا في الليل، فإذا جاء إلى الشِّعب، خلع خِطامه وضَربه على جنبيه، فيدخل الشعب، وعلمت به قريش فنهته فلم ينته، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه فإنه رجل وَصل رحمه، أما والله لو فعلنا ما فعل لكان أجمل بنا.
فمشى هشام إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وكانت أمه: عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وتلبس الثياب، [وأَخْوالك حيث قد علمتَ لا يُبايَعون]، ولا يناكحون، أما تستحي؟ فقال: ويحك، ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر، لقمت في نقضها. فقال: قد وجدته، قال: ومن هو؟ قال: أنا. قال: فابغنا ثالثًا. قال: أبو البَخْتَري بن هشام، قال: ابغنا رابعًا، قال زَمعَة بن الأسود: قال: فابغنا خامسًا، قال المُطْعِم بن عدي: قال: فاجتمعوا عند الحجُون، وتعاهدوا على القيام بنقض الصحيفة، قال زهير: أنا أبدأ بها، فجاوزوا إلى الكعبة وقريش مُحدِقة، فطاف زهير بالبيت سبعًا، ثم نادى: يا أهل مكة، إنَّا نأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، والله لا أقعد حتى نشق هذه الصحيفةَ القاطعة، فقال له أبو جهل: كذبت لا تُشَقُّ والله. فقال زَمْعَة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا حين كُتِبت. وقال أبو البَخْتَري: صدق زَمعَة، لا نرضى ما كتب فيها، فقال المُطْعِم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. فقال هشام بن عمرو: نتبرَّأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.
فقال أبو جهل: هذا أمر قُضي بليلٍ وتُشوورَ فيه. وقام المُطْعِم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأَرَضة قد أكلت ما فيها من الظلم، ولم يبق إلا "باسمك اللهم" (1).
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 17 - 18، و"تاريخ الطبري" 2/ 341، و"المنتظم" 3/ 4 - 5، وما بين معكوفين منها.
(3/121)
________________________________________
فقال أبو طالب (1): [من الطويل]
جزى الله رَهْطًا بالحَجون تَبايَعوا ... على مَلأٍ يهدي لحَزْم ويرشِدُ
أعان عليها كلُّ صقر كأنَّه ... إِذا ما مشى في رَفْرفِ الدِّرعِ أخرَدُ
قُعودًا لدى جنب الحَجون كأنَّهم ... مَقاولةٌ بل هم أَعزُّ وأمجَدُ
قال: وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح.
والثاني: أن الله بعث الأَرَضَةَ فأكلت ما في الصحيفة من الجَوْر والظلم، وأبقت ما فيها من قوله: "باسمك اللهمَّ"، فأخبر رسول الله - رضي الله عنه - أبا طالب، فقال: أحقًّا ما تقول يا ابن أخي؟ فقال: نعم، أخبرني بذلك ربي. فأخبر أبو طالب أخوته وقال: والله ما كذبني قط. قالوا: فما ترى؟ قال: أرى أن نخرج إلى قريش فنخبرهم بذلك قبل أن يصلهم الخبر. فخرجوا من الشعب، فدخلوا المسجد، فلما رأتهم قريش، أنكروا ذلك، فناداهم أبو طالب: إِنَّا قد جئناكم في أمر، فأجيبوا عنه، قالوا: وما هو؟ قال: أَخبرني ابن أخي، ولم يكذبني قط: أن الأَرَضَة قد أكلت ما فيها من الظلم والجور وقطيعة الرحم، ولم تتعرض لما كان من اسم الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقًا، فكفوا عنا، وإن كان كاذبًا، دفعناه إليكم. فقالوا قد أنصفت، وجاؤوا بالصحيفة فلما فتحوها، وجدوا الأمر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسُقط في أيديهم، ونكَّسوا رؤوسهم. فقال لهم أبو طالب: هل تبَيَّن لكم ظلمكم وجَوْرُكم؟ فلم يجبه أحد، وانصرفوا. فلم يتعرض أحد بعدها لبني هاشم (2).
والثالث: أن المُطْعِم بن عدي شرب ليلة فانتشى، فقال: من مثلي؟ فقال له عدي بن قيس التميمي أو عتبة بن ربيعة: إن كنت كما تقول، فما بالُ بني عمك يموتون في الشِّعب جوعًا؟ فقام، فلبس سِلاحه، ولبس معه أبو البَخْتَري، وزهير بن أبي أمية، وهشام بن عمرو، ومَنْ سَمَّيْنا، وجاءوا إلى الشعب، وصاحوا بهم: اخرجوا على رغم
__________
(1) الأبيات في "السيرة" 2/ 20، من ضمن أبيات.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 178 - 179، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 312، و"المنتظم" 3/ 3 - 4.
(3/122)
________________________________________
قريش، فقال أبو طالب: إنا نخاف. فقال المطعم (1): لا خوف عليكم بعد اليوم.
فخرجوا.
وأقاموا في الشعب ثلاث سنين، وقيل: سنتين وأشهرًا.
وفيها: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يلتمس من ثقيف النُّصرة والمَنَعةَ له من قومه.
قال جُبير بن مُطعم: لما توفي أبو طالب، تناولت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى الطائف في آخر شوال من هذه السنة، ومعه زيد بن حارثة (2).
قال البلاذري: خرج لثلاث بقين من شوال سنة عشر من النبوة، وعاد إلى مكة يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين ليلة خلت من ذي القعدة (3).
وقيل: أقام عشرة أيام (4). والأول أصح.
قال الواقدي: لم يَدَعْ أحدًا من أشرافهم إلا كلَّمه، فلم يجبه أحد منهم، وخافوا على أَحداثهم منه، فقالوا له: اخرج عنا. وأغْرَوْا به سُفهاءهم، فرَمَوْهُ بالحجارة حتى أَدْمَوْه، وزيد بن حارثة - رضي الله عنه - يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجًا كثيرة (5).
وقال كعب الأحبار (6): اجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطائف بسادات ثقيف وهم ثلاثة أخوة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أولاد عمرو بن عُمَير الثقفي، فدعاهم إلى الله تعالى، والقيام معه على إظهار الإسلام ومن خالفه من قومه، فقال له عبد يَاليل: هو يمرُطُ ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال مسعود: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال له حبيب: إن كنت رسولًا كما تزعم، فلأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك، وإن كنت
__________
(1) في النسخ: أبو المطعم. انظر "أنساب الأشراف" 1/ 272.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180، و"المنتظم" 3/ 12.
(3) أنساب الأشراف" 1/ 273.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180، و"المنتظم" 3/ 12.
(5) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 180.
(6) هكذا جاء في النسخ، والصواب: "محمد بن كعب القرظي" كما في المصادر.
(3/123)
________________________________________
كاذبًا على الله، فما ينبغي أن أكلمك.
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد يئس من خير ثقيف، وأغْرَوا به عبيدَهم وصبيانَهم يسبُّونه ويصيحون عليه حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة وأخيه شيبة ابني ربيعة وهما فيه، فعمد إلى ظل حُبْلَةٍ، فجلس في ظلها وشيبة وعتبة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء ثقيف، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللَّهم إِنِّي أَشْكُو إليكَ ضعفي وقِلَّة حِيلَتي وهوَاني على النَّاس، [يا أرحم الرَّاحِمين، أنتَ ربُّ المُستَضعفين، وأنت ربِّي، فإلى مَن تكِلُني، [إلى بَعيد يَتَجَهَّمني أم إلى عدوٍّ ملّكته أَمري] فإنْ لَم يَكُن منكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي [ولكن عافيتك هي أوسع لي]، أعوذ بنور وجهكَ الذي أشرقَت له السماواتُ، وأضاءت به الظلماتُ، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أَنْ يَنْزلَ بي غَضَبُك، أو يَحِل عليّ سَخَطُك، [لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك] وهو - صلى الله عليه وسلم - يبكي، فلما رأى ابنا ربيعة ذلك، تحركت له رَحِمُهما، فَدَعَوا غلامًا لهما يقال له: عَدَّاس، نصرانيًّا، فقالا: خذ قِطْفًا من العنب فضعه في طبق، واذهب به إلى ذلك القاعد، فضَعه بين يديه، ففعل ذلك عَدّاس، فمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وقال: "بسمِ الله". وسمعه عدَّاس، فنظر إليه وقالا: والله إن هذا كلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن أنت، وما دينُك؟ " قال: نصراني، من أهل نينوى. قال: "من قَريةِ العَبدِ الصَّالح يُونُس بنِ مَتَّى" قال: نعم وما يدريك ما يونس؟ فقال: "ذاك أخي، كان نبيًّا، وأنا نبيٌّ". فأكبَّ عدَّاسٌ يقبِّل يديه ورجليه، فقال عتبة لأخيه شيبة: أفسد عليك غلامك. فلما جاءهما، قالا له: ويحك، ما هذا؟ فقال: والله ما في الأرض رجل خير من هذا، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا الله أو نبي. فقالا: ويلك، لا يصرفك عن دينك، فدينك خير من دينه (1).
قالت عائشة - رضي الله عنها -: قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 47 - 48، و"تاريخ الطبري" 2/ 344، و"المنتظم "3/ 13 - 15، وما بين معقوفتين زيادة من المصادر.
(3/124)
________________________________________
فقال: "يوم عَرَضت نَفسِي على عبدِ يالِيل بنِ عبد كلَال عند العَقَبة، فلَم يُجبني إلى ما أردتُ، فانطَلَقتُ وأنا مَهْمومٌ على وَجْهي، فلَم أسْتَفِق إلَّا وأَنَا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رَأسِي وإذا بسَحَابةٍ قد أَظَلَّتني وفيها جبريلُ، فَنَادانِي: يا محمدُ، إنَّ الله قد سَمِع قولَ قَومِكَ لك، وما رَدُّوا علَيك، وقد بَعَثَ إليكَ مَلَك الجِبالِ لتَأمُره بما شِئْتَ فيهم. قال: فَسَلَّم عليَّ، وقال لي: إنْ شِئْتَ أطبقتُ عليهمُ الأَخْشَبَيين. فقلت: بَل أرجو أن يَخرجَ مِن أصلابِهم مَن يعبدُ الله وَحدَه، ولا يُشرِكُ به شَيئًا". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، أقام بنخلةَ أيَّامًا، فمر به نفر من الجن وهو يصلي الفجر، فوقفوا فاستمعوا لقراءته، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، وأنزل الله سورة الجن (2).
وأول من تعوَّذ بالعرب من الجن قوم من اليمن، ثم بنو حنيفة، وفشا ذلك في العرب، كان إذا أمسى قوم في بريّة، يقولون: نَعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سُفهاء قومه، فيبيتون في أمن وجِوار.
[عن كَردَم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي] في حاجة وذلك في أول ما ذُكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فجاء ذئب فأخذ شاة أو حَمَلًا من الغنم، فوثب الراعي وقال: يا راعي الوادي، جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سِرحان، أرسله. فأتى الحَمَلُ يشتد حتى دخل الغنم، ولم يُصِبْهُ شيء (3).
ذكر رجوع رسول لله - صلى الله عليه وسلم -:
لما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الدخول إلى مكة، قال له زيد بن حارثة - رضي الله عنه -: كيف تدخل على القوم بغير جوار، وقد أخرجوك، فأرسِل إلى من شئت فادخل في جواره. فمر به رجل من أهل مكة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت مُبلِّغ عني رسالة؟ قال:
__________
(1) صحيح البخاري (3231)، وصحيح مسلم (1795).
(2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 49.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 19 / (430)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 129 وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. وما بين معكوفتين زيادة من معجم الطبراني.
(3/125)
________________________________________
نعم. قال: اِئت الأخنس بن شَريق، فقل له: يقول لك محمد بن عبد الله: هل أنت مُجيري حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي؟ فأتى الأَخْنس فأخبره، فقال له: قل له: إن الحليف لا يجير على الصريح. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره. فقال له: اِئْت سهيل بن عمرو، فقل له كذلك، فأتاه فقال سُهيل: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فقال: فائت المُطعم بن عدي، فأتاه، فقال: قل له قد أجرته، فليدخل. وأصبح المُطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه وقومه، ودخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع؟ فقال: بل مجير. فقال: أجرنا من أجرت. ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، ومعه زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، فطاف بالبيت، وصلى ركعتين، واستلم الركن، ونادى المطعم: يا معاشر قريش، قد أجرتُ محمدًا. ثم طاف حوله هو وقومه وأهله حتى دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -[وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -] يرى ذلك للمطعم بن عدي وقومه، وأقام في جوار المطعم يبلغ رسالات ربه (1).
* * *
وفيها: تزوج رسول الله - رضي الله عنه - بعائشة وسودة - رضي الله عنهما - بعد وفاة خديجة - رضي الله عنهما -.
قال أبو سلمة: لما هَلكت خديجة، جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مَظْعون - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ فقال: "مَن"؟ قالت: إن شئت بكرًا، وإن شئت ثيبًا. قال: "فَمَنِ البِكْرُ"؟ قالت: بنت أبي بكر، أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فَسَوْدة بنت زَمعَة آمنت بك، واتَّبعتك على ما تقول. قال: "فَاذهبي فَاذْكُريهما عَليَّ". قالت: فدخلت بيت أبي بكر، فقلت: يا أم رُومان، ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: أرسلني إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة. فقالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر فأخبرته، فقال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه؟ قالت: فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هو أخي في الإسلامِ، وابنته تحلُّ لي". قالت: فأخبرت أبا بكر، فقال: انتظريني، وخرج -وكان المطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، وما وعد أبو بكر أحدًا فأخلفه- فدخل على
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 181، و"تاريخ الطبري" 2/ 347، و"المنتظم" 3/ 15. وما بين معقوفين زيادة يقتضيها السياق، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 273.
(3/126)
________________________________________
المطعم وعنده امرأته أم الفتى، فقالت له: يا ابن أبي قحافة، لعلك مُصبئٌ صاحبنا ومُدخِلُه في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك. فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أبقول هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذاك. فخرج من عنده وقد أذهب الله من نفسه عِدَتَهُ التي وعده بها، وقال لخولة: ادع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعته. فزوجها منه وعائشة - رضي الله عنهما - يومئذ بنت ست سنين.
ثم خرجت خولةُ، فدخلت على سَوْدَةَ، فقالت لها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبك، فقالت: ادخلي على أبي -وكان شيخًا كبيرًا- فاذكري له ذلك، فدخلت عليه فحيَّته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ قالوا: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنُك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. فقال: كفؤ كريم، فما قالت صاحبتُكِ؟ قالت: قد أجابت إلى ذلك. فقال: ادعيها إلي، فدعتها. فقال: يا بنية أتحبين ما قالت خولة؟ قالت: نعم قال: فاذهبي، فادعيه لي. قالت: فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فزوجه إياها.
قالت خولة. وكان أخوها عبد الله بن زَمعَة حاجًّا، فقدم فحثا التراب على رأسه، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه أحثي التراب على رأسي أن تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة (1).
وفيها: قدم مكة سويد بن الصامت، وكانوا يسمونه: الكامل، لشرفه وحسبه وفضله. وهو القائل [من الطويل]
أَلا رُبَّ من يُدعى صديقًا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
يسرُّك باديه وتَحتَ أَديمه ... نميمةُ غِشٍّ تبتري عَقِبَ الظهر
تُبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... وتُبْديهِ بالبغضاءِ والنظر الشَّزرِ
فَرِشْني بخير طالما قد بَرَيتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري (2)
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (25769).
(2) فَرِشْني: قوِّني، بريتني: أضعفتني.
(3/127)
________________________________________
فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاه إلى الله. قال سويد: لعل الذي معك مثلُ الذي معي. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما الذي معك -وكان فصيحًا-؟ فقال: معي مجلَّةُ لقمان -يعني حكمته-، وعرضها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلام حسن ولكن معي أفضل منه، قال: وما هو؟ قال: قرآن أنزله الله عليَّ، هُدى ونورٌ، وقرأ عليه منه، ودعاه إلى الله، فلم يبعد عنه، وقال: إن هذا لحسن. ثم انصرف إلى المدينة، فقتلته الخزرج في هذه السنة، وقيل: في يوم بُعاث (1).
وفيها: قدم قيس بن مالك الهمداني مكة، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما جئت لأؤمن بك ولأَنْصُرَك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَرحَبًا بكَ، أَتَأخُذوني بما فِيَّ يا مَعاشِرَ همدان؟ " قال: نعم. قال: "فَاذْهب إلى قَوْمِك، فإنْ فَعَلُوا، فَارجِع إليَّ". فذهب قيس إلى قومه وأخبرهم الخبر، فأسلموا وقالوا: اذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفه ذلك، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، قد أسلموا وأمروني أن آخذك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعم وافدُ القومِ قَيسٌ، وَفَّيتَ وفَّى الله لك" ومسح على ناصيته وكتب له عهده على همدان (2).
فصل وفيها توفيت
خديجة بنت خويلد
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب - رضي الله عنهما - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تُدعى في الجاهلية: الطاهرة، وسيدة نساء قريش، وتكنى: أم هند، وأمها: فاطمة بنت زائدة بن الأصم، وأم فاطمة: هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن سعد، وأم هالة: العَرِقة وهي قلابة بنت سعيد بن تميم بن لؤي بن غالب، وأمها: عاتكة بنت عبد العزى بن قصي، وأم عاتكة: الخُطَيَّا وهي رَيطَةُ بنت كعب بن سعد بن تميم بن مُرَّة، وأمها: نائلة بنت حُذافة بن جُمَح.
نبذة من فضائلها:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحترمها ويكرمها ويوادها، ويشاورها في أموره كلها، وكانت
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 52 - 53، و"تاريخ اليعقوبي" 2/ 37، و"تاريخ الطبري" 2/ 351.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 293 - 294.
(3/128)
________________________________________
وزيرة صدوق (1)، صاحبة عزم.
سئل الزهريّ: أنفقت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفًا؟ فقال: وأربعين ألفًا وكررها.
وقال علي - عليه السلام -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَيرُ نِسائِها مَريَمُ بنتُ عِمرانَ، وخَيرُ نِسائِها خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيلِد". متفق عليه (2). أراد بالأول: نساء بني إسرائيل، وبالثاني: نساء هذه الأمة.
وفي المتفق عليه: عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله ابن أبي أوفى: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَشَّر خديجة ببيت في الجنة؟ قال: نعم، بَشَّرها ببيت في الجنة من قَصَب لا صَخَب فيه ولا نَصَب (3).
وفي المتفق عليه من حديث عائشة - رضي الله عنهما - قالت: ما غرتُ من أحدٍ من نِسَاءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ما غِرتُ من خَديجَةَ، وما رأيتُها قطُّ، وتَزَوجني بعد مَوْتِها بثلاثِ سِنينَ، ولقد كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذكرها، وربما ذَبَح الشَّاة فَقَطعَها أعضاءً، ثم يَبْعَثُ بها إلى صَدَائقِ خَدِيجَةَ، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: "إنَّها كانت وكانت وكان في منها وَلدٌ" (4).
وفي المتفق عليه: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يومًا: خُدَيِّجة -بالتصغير- فَزَجَرني وقال: "إنِّي رُزِقْت حُبَّها" فَأَذْكَرتني الغَيرةُ، فقلت: وهل كانت إلا عجوزًا قد أَخْلفَ الله لك خيرًا منها، فغَضِبَ حتى اهْتَزَّ مقدَّمُ شَعرِه، وقال: "والله ما أَخْلف في خيرًا منها، لَقَد آمَنَتْ بي إِذْ كَفَر النَّاسُ، وصدَّقَتني إِذْ كَذَّبني الناسن، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء". قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها أبدًا (5).
__________
(1) في (خ): "وكانت صدوقة".
(2) صحيح البخاري (3432)، وصحيح مسلم (2430).
(3) صحيح البخاري (3819)، وصحيح مسلم (2433).
(4) صحيح البخاري (3818)، وصحيح مسلم (2435).
(5) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني رزقت حبها" أخرجه مسلم (2435) (75) ولم يخرجه البخاري، وقول عائشة: وهل كانت =
(3/129)
________________________________________
وفي المتفق عليه: عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: استأذَنَت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا هالةُ أختُ خديجةَ، فارتاع لذلك، وقال: "اللهمَّ هالة بنت خُوَيلِد" قالت: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز حَمراءِ الشِّدقَين، هَلَكت في الدَّهر، فزجرني (1). وذكر بمعنى ما تقدم.
ذكر وفاتها رضي الله عنها:
اتفقوا على أنها توفيت في هذه السنة بعد وفاة أبي طالب.
قال الواقدي: عاشت بعده ثلاثة أيام.
وقال ابن إسحاق: شهرًا وخمسة أيام.
وقال الهيثم: خمسة وخمسين يومًا، ولما توفيت كان لها خمس وستون سنة.
وقال البخاري: ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرتها، ولم تكن سُنَّت الجنازة يومئذ، ولا فرضت الصلوات الخمس، ودفنت بالحَجُون (2).
ذكر أولادها:
وهما قسمان من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم: هند وهالة.
وقال بعضهم: هما ذَكَران، وقال بعضهم: ذكر وأنثى، وهي: هند، وكانت تسمى ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تقول: أنا أكرم الناس أبًا وأمًا وأختًا وأخًا، وأبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمي خديجة، وأختي فاطمة، وأخي القاسم.
أما أولادها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاسم وبه كان يكنى، مات قبل النبوة، وحزن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عبد الله، ولقبه الطاهر، ثم الطيب، وقيل: إنهما ولدا بعد
__________
= إلا عجوزًا .. أخرجه البخاري ومسلم كما سيأتي في تخريج الحديث الآتي، وأخرج أحمد في "مسنده" (24864) عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق قد أبدلك الله بها خيرًا منها .. وذكر تمام الحديث، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3223).
(1) صحيح البخاري (3821)، وصحيح مسلم (2437).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 19، و"مستدرك الحاكم" 3/ 182.
(3/130)
________________________________________
النبوة، وقيل: المُطَيَّب والمُطهَّر.
وكانت تعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة.
والحاصل: أن في القاسم وعبد الله اتفاقًا، وفي الباقي خلاف (1).
فأما الإناث: فزينب، ورُقيّة، وأم كُلثوم، وفاطمة عليهن السلام.
وقد روت خديجة - رضي الله عنها الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيها توفي
أبو طالب
قال ابن المسيب عن أبيه: لما احتضر أبو طالب، أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عند رأسه عبد الله بن أبي أمية، وأبا جهل بن هشام، فقال: "يا عَمِّ، قُل كلمةً أشهدُ لك بها عند الله غدًا، قل لا إله إلا اللهُ". فقال له عبد الله وأبو جهل: يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردد عليه، وهما يرددان عليه، حتى كان آخر كلمة قالها: أنا على ملَّة عبد المطلب ومات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك، فاستغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته وجعل المسلمون يستغفرون لموتاهم، حتى نزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (2) [التوبة: 113].
وقال الواقدي: دعا أبو طالب بني عبد مناف، وبني المطلب، وبني هاشم عند وفاته، وقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من ابن أخي محمد، فاتبعوه، وأعينوه ترشدوا. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَأمُرُهم بها، وتَدَعُها أَنتَ يَا عَمِّ"؛ فقال: يا ابن أخي، أما
__________
(1) قال ابن حجر في "الفتح" 7/ 172: المتفق عليه من أولاده منها القاسم وبه كان يكنى، مات صغيرًا قبل المبعث أو بعده، وبناته الأربع: زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة، وقيل: كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة. وعبد الله ولد بعد المبعث فكان يقال له: الطاهر والطيب، ويقال: هما أخوان له، وماتت الذكور صغارًا باتفاق.
(2) أخرجه البخاري (1360).
(3/131)
________________________________________
إنك لو سألتنيها وأنا صحيح لتابعتك على ما تقول، ولكن أكره أن يقال: جزع عند الموت، فترى قريش أني أخذتُها جَزَعًا، ورَددتُها في صحتي. وفيه نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (1) [القصص: 56].
وقال الشيخ موفق الدين - رضي الله عنه - في "الأنساب": قد كان أبو طالب يقر بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء ذلك في أشعار له منها قوله: [من الطويل]
ألا أبْلِغا عنِّي على ذات بيننا ... لؤيًّا وخُصَّا من لؤي بني كَعْبِ
بأنَّا وَجَدنا في الكتاب محمدًا ... نبيًّا كموسى خُطَّ في أول الكُتْب
وأنَّ عليه في العِبَادِ محبَّةً ... ولا خير ممن خصَّه الله بالحُبّ
ومنها قوله أيضًا: [من الطويل]
تعلَّم خيار الناس أن محمدًا ... وزير لموسى والمسيح بن مريمِ
أتى بالهُدى مِثلَ الذي أَتيا به ... فكلٌّ بأمرِ الله يَهدي ويعصِمُ
وأنَّكمُ تَتلُونَه في كتابكم ... بصدقِ حديث لا حديث المُترجَمِ
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... فإن طريقَ الحق ليس بمُظْلِمِ
ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار (2).
وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث: قال العباس: يا رسول الله، عمك أبو طالب قد كان يكلؤك ويحوطك، فقال: "غَفَر اللهُ له وَرَحِمَه" فقال العباس: وإنك لترجو له، فقال: "إي والله، إني لَأرْجُو له كلَّ الخير من ربِّي" (3).
قال علي - عليه السلام -: لما توفي أبو طالب، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن عمك قد مات، فقال: "اذْهَب فَوَارِه، ولا تُحْدِثْ حَدَثًا حتى تَأْتِيني". ففعلت، وأتيته فدعا لي بدعوات ما يسرني بها حُمْر النعم (4).
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 101.
(2) "التبيين في أنساب القرشيين"، ص 110 - 111، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 4.
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 103، وأحمد في "مسنده" (1789).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (807)، وابن سعد 1/ 102.
(3/132)
________________________________________
وقال ابن عباس: عارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازَة أبي طالب، فلما مرت به، بكى وقال: "وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يا عمِّ، وجَزَاك اللهُ خيرًا" (1).
وقال ابن إسحاق: رثاه علي - عليه السلام - بأبيات منها (2): [من الطويل]
أَرِقْتُ لطيرٍ آخِرَ الليلِ غرَّدا ... يذكِّرني شَجْوًا عظيمًا مجدَّدا
أبا طالبٍ مَأوى الصَّعاليك ذا النَّدى ... جوادٌ إذا ما أَصدر الناسُ أَوردا
فأمسَتْ قُريش يفرحون بموته ... ولستُ أَرى حَيًّا يكون مُخَلَّدا
أرادوا أمورًا زيَّنتها حُلومُهم ... ستُورِدُهم يومًا من الغَيّ مَورِدا
يُرَجُّون تكذيبَ النبي وقتلَه ... وأَن نفتَري قِدمًا عليه ونَجْحدا
كَذَبتُم وبيتِ الله حتى نُذِيقَكم ... صدورَ العَوالي والحسامَ المهنَّدا
فإمَّا تُبيدونا وإما نُبيدُكم ... وإمَّا تَروْا سِلْمَ العشيرةِ أرشدا
وإلَّا فإن الحيَّ دون محمدٍ ... وأسرتِه خيرِ البريّةِ مَحْتِدا
قال الواقدي: أقام أبو طالب من سنة ثمان من مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السنة العاشرة من النبوة، ثلاثًا وأربعين سنة يحوطه، ويقوم بأمره، ويذبُّ عنه، ويلطف به، ويمنعه من الكفار (3).
وقال عروة: ما زالوا كافِّين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات أبو طالب -يعني قريشًا- (4).
وقال الواقدي: أصاب أبا طالب يوم الفِجار سهم في قدمه، فكان يَخْمَعُ منه.
ذكر أولاده:
المشهور أنه كان له أربعة ذكور وأُنْثَيان.
فالذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي - رضي الله عنه -، وبين كل واحد وواحد عشر
__________
(1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" 1/ 260، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 349، وقال الذهبي في "الميزان" 1/ 45: هذا خبر منكر.
(2) الشعر في "تاريخ دمشق" 66/ 344.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 99.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 103.
(3/133)
________________________________________
سنين، فطالب أسَنُّهم، ثم عقيل، ثم جعفر - رضي الله عنه -، ثم علي - عليه السلام - وهو أصغرهم.
فأما طالب: فكنيته أبو زيد، وكان أبو طالب يُكْنى به، وكان عالمًا بالأنساب (1) من قريش والعرب، عارفًا بأيام الجاهلية، أخرجه المشركون يوم بدر لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكرهًا، فقال: [من الرجز]
لا هم إمّا يَغْزُوَنَّ طالِبْ ... في مِقْنَب من هذه المَقَانِبْ
فليكن المغلوبَ غيرَ الغَالِب ... ولْيَكن المَسْلُوبَ غيرَ السَّالِبْ
فلما انهزم الكفار يوم بدر، طُلب طالبٌ فلم يوجد في القتلى، ولا في الأسرى، ولا رجع إلى مكة، ولا يُدرى ما أصابه، وليس له عقب (2).
وأما عقيل فأخرج أيضًا يوم بدر وأُسر، ولم يكن له مال، ففداه العباس، ثم رجع إلى مكة، فأقام بها إلى سنة ثمانٍ من الهجرة، ثم هاجر إلى المدينة، فشهد غزاةَ مؤتةَ مع أخيه جعفر - رضي الله عنه -، وأصاب في ذلك الوجه خاتمًا من ذهب عليه تماثيل، فنفَّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه (3). وهو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تَرَكَ لنا عَقيل مِن مَنزِلٍ" (4).
وكان طالب وعقيل قد ورثا أبا طالب، ولم يرثْه جعفر وعلي - رضي الله عنهما - (5).
وتوفي عقيل سنة خمسين من الهجرة، وسنذكره.
وأما جعفر وعلي - رضي الله عنهما - فسنذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما البنات: فالمشهور ابنتان: أم هانئ وجُمانَة، واسم أم هانئ: هند، وقيل: ريطة. وفاختة، وقيل: جَعْدة، وهرب زوجها هُبيرة بن أبي وهب المخزومي يوم الفتح إلى نَجران، وكانت قد أجارته، وأجاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في "الطبقات الكبرى" أن عقيل بن أبي طالب هو العالم بالنسب، وكنيته أبو يزيد، انظر "نسب القرشيين" ص 110 - 111، ولم نقف على كنية لطالب هذا.
(2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 191، و"الطبقات الكبرى" 1/ 99 - 100.
(3) انظر الطبقات الكبرى 4/ 40.
(4) أخرجه البخاري (3058)، ومسلم (1351) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.
(5) أخرجه مسلم بعد (1351).
(3/134)
________________________________________
قال وقد بلغه إسلام أم هانئ يوم الفتح (1):
أشاقَتْكَ هندٌ أَم أَتَاكَ سُؤالُها ... كَذاكَ النَّوَى أسبابُها وَانْتِقالُها
وَقَد أَرَّقتْ في رَأسِ حِصنٍ ممنَّعٍ ... بنَجْران يَسْرِي بعدَ نْومٍ خَيالُها
فإن كُنتِ قد تابعتِ دين محمَّدٍ ... وقَطَّعَتِ الأرحامُ منك حبالها
فكُوني على أعلى سَحُوقٍ بهَضْبةٍ ... مُلمْلَمَةٍ حمراءَ يَبْسٍ بِلالُها
وأما جُمَانة فتزوجها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فولدت له جعفرًا، وهاجرت إلى المدينة، وأطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر ثلاثين وَسْقًا من تمر (2)، وتوفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكل أولاد أبي طالب من فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف (3).
وذكر الواقدي: أنه كان لأبي طالب ابنة أخرى اسمها: ريطَة، ويقال لها: أم طالب (4).
وذكر الواقدي: وبلغنا أنه كان لأبي طالب ابن اسمه: طليق، واسم أمه وعْلة (5).
وقد روى أبو طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا أخرجه الشيخ جمال الدين بن الجوزي في "جامع الأسانيد"، ورفعه إلى محمد بن الحنفية، عن عروة بن عمرو الثقفي قال: سمعت أبا طالب يقول: سمعت ابن أخي الأمين يقول: "اُشكُر ترزقْ، ولا تكفر فتعذَّبْ" (6).
* * *
__________
(1) الأبيات في السيرة 2/ 420، ونسب قريش 344.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 48.
(3) انظر التبيين ص 111.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 48، و"الإصابة" 4/ 310.
(5) جاء في (خ): "طلق، وقيل اسمه وعلة"! وانظر "الطبقات الكبرى" 1/ 100. وفيه: "عله" بدل "وعله".
(6) أورده السخاوي في "فتح المغيث" 2/ 133، وقال: لا يصح.
(3/135)
________________________________________
السنة الحادية عشرة من النبوة
قال علماء السِّيَر: لما توفي أبو طالب وخديجة - رضي الله عنهما-، اجتمع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبتان، فلزم بيته وقَلَّلَ الخُروج، وطمعت قريش فيه ونالت منه، فرقَّ عليه أبو لهب فجاءه فقال: يا ابن أخي، لا بأس عليك، امض لما أُمِرت به، واصنع ما كنت تصنعُ وأبو طالبٍ حيٌّ، فواللّات والعُزَّى لن يوصل إليك وأنا في الحياة. ثم إن ابن الغَيْطَلةِ سبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنال منه أبو لهب، فصاح: يا معاشر قريش، قد صبأ أبو لهب. فقال: ما صبأتُ، ولكن أمنَعُ ابن أخي من أن يُضامَ. وأقام على ذلك مدة، فجاءه عقبة وأبو جهل (1) وجماعة من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَلِ ابن أخيك أين مستقر أبيك، فسأله؟ فقال: مع قومه. فقالوا: إنه يقول: في النار. فشق ذلك على أبي لهب، ورجع إلى عداوته (2).
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل يدعوهم إلى الله تعالى ومعه أبو بكر، وعلي - رضي الله عنهما -.
قال ابن إسحاق: أتى بني حنيفة في منازلهم، فعرض عليهم نفسه، ودعاهم إلى الله تعالى، فلم يرد عليه أحد من العرب أقبح من ردهم، وقال له رجل منهم: ما يؤوب بك قوم إلى دارهم إلا آبو بشرِّ مآبٍ. وقال له رجل من كَلْب: ما أحسن ما تدعو إليه إلا أنَّ قومك باعدوك، فلو صالحت قومك لاتبعتك العرب.
قصة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - مع الغلام الشيباني:
قال علي - عليه السلام -: لما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرضَ نفسَه على القبائل، خرجتُ أنا وأبو بكر معه، فَدُفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر وكان مقدَّمًا في كل خير، فسلَّم عليهم، وكان رجلًا نسَّابةً فقال: من القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأي ربيعة؟ قالوا: من ذُهل الأكبر. قال أبو بكر: من هامتها أو من لهازِمها؟ قالوا: من
__________
(1) في "النسخ": "أبو لهب" والمثبت من "الطبقات الكبرى".
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 179 - 180.
(3/136)
________________________________________
هامتها العظمى، قال: أفيكم عوف الذي يقال له: عليك بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفيكم بسطامُ بنُ قيس مُنْتَهى الأَحياء، ومعدن السخاء؟ قالوا: لا. قال: أفيكُم جَسَّاس بن مرة حامي الذِّمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا (1). قال: أفيكم أخوال الملوك من كِندة؟ قالوا: لا. قال: فأصهار الملوك من لَخْم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذُهْلٍ الأكبر، أنتم من ذُهْلٍ الأصغر. قال: فقام إليه غلام من بني شيبان، يقال له: ذُهَلٍ.
ودَغْفَل بن حنظلة بن زيد من بني بكر بن وائل شيباني، اختلفوا في صحبته، وروى عنه الحسن البصري، ومحمد بن سيرين. واستقدمه معاويةُ فأمره أن يعلِّم ابنه يزيد. قال الحسن البصري: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وستين سنة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وقد أدركه. قال الأصمعي: دخل دَغْفَل على معاوية فقال له: أيُّ بيت قالت العرب أفخر؟ قال: قول الشاعر (2): [من الطويل]
لَهم هِمَمٌ لا مُنْتَهى لِكِبارِهَا ... وهمَّتُه الصُّغْرَى أَجلُّ من الدَّهرِ
له راحةٌ لو أنَّ مِعْشَار جُودِها ... على البَرِّ كان البَرُّ أَنْدَى مَن البَحرِ
فقال له: أحسنت. وعاش دغفل حتى قتل يوم دولاب من فارس في قتال الخوارج.
فقال دغفل: [من الرجز]
نأتي على سائلنا فنسأَلُه
والعبءُ لا نعرفه أو نحمِلُه
يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك، ونحن نسائلك فأخبرنا: ممن أنت؟ فقال أبو بكر: من قريش. قال: بَخٍ بَخٍ، أهل الشرف والرياسة. فمن أي قريش؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت الرامي من الهدف، أمنكم قصي الذي جمع الله به القبائل من فهر؟ قال: لا. قال: أمنكم عمرو العلى الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا. قال: أمنكم شيبةُ الحمْد الذي أسقى الله به البلاد، وأحيا به العباد؟ قال: لا. قال: فمن
__________
(1) في المصادر زيادة: "فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا".
(2) هو لبكر بن النطَّاح والبيتان في "الكامل في الأدب" 2/ 1032.
(3/137)
________________________________________
أهل الدار والندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة، أو الرفادة، أو السقاية، أو الإفاضة؟ قال: لا. قال: فأنت إذًا من زمعات قريش؟ قال: فجذب أبو بكر زمام ناقته وعاد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبًا. فأنشد الغلام: [من الرجز]
صَادَف دَرُّ السَّيل سَيلًا يَدْفَعُه
يَهِيضُه حينًا وحينًا يَصْدَعُه
قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال علي - رضي الله عنه -: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت على باقعة (1)؟ قال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكَّلٌ بالمنطق.
قال علي - رضي الله عنه -: فدُفِعْنا إلى مجلس عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم عليهم فردوا، فقال: من القوم؟ قالوا: من شَيبان بن ثَعلبة. فقال: يا رسول الله، هؤلاء غُرَرُ الناسِ ليس وراءهم من فوقهم شيء، منهم: مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، ثم قال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنّا لنزيد على ألف، ولن يُغلبَ ألفٌ عن قِلَّةٍ. قال: فكيف المَنَعة فيكم؟ قال: علينا الجُهْد، ولكل يوم حد. قال: فكيف الحرب فيكم؟ قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللِّقاح، والنصر من الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، ثم أشاروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لعله أخو قريش؟ فقال: نعم. قال: فإلام يدعو؟ قال: فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر قائم يُظِلُّه بثَوْبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدعوكم إلى شَهادةِ أن لا إله إلا الله وأني رسُولُ الله، وأن تنصُروني وتأوُوني، فإنَّ قُريشًا قَد ظاهرَت على أمرِ الله، وكَذَّبت رسولَه" ثم قرأ: {قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالْوَالِدَينِ} [الأنعام: 151] الآية. قال مفروق: والله ما سمعت أجمل من هذا الكلام. فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] الآية. فقال مَفْروق: ليس هذا من كلام أهل الأرض، ولكن دَعَوْتَ إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن
__________
(1) أي: داهية.
(3/138)
________________________________________
الأعمال، ولقد أَفِكَ قوم كذبوك وظاهروا عليك، وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب رأينا (1)، فقال هانئ: سوف ننظر في هذا الأمر. وقال المثنى بن حارثة، صاحب حزمهم (2): قد سمعنا ما قلت يا أخا قريش، ولكن نحن نُزولُ حَدِّ اليمامة -أي مستنقع الماء-، فما كان منها مما يلي كسرى، فذنب صاحبها غير مغفور، وعذره غير مقبول، وقد أخذ كسرى علينا العهود أن لا نأوي مُحْدِثًا، ولا نُخدِث حدثًا، والذي تدعو إليه تكرهه الملوك، فإن شئت آويناك ونصرناك على من يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أسأتم الردَّ إذًا، إنَّ دِينَ الله لن يَنْصُره إلَّا مَن أحاطَه مِن جميعِ جَوَانِبِه، أرأيتم إن لَم تَلْبَثوا إلا قليلًا حتى يُورِثَكُمُ الله أرْضَهم ودِيارَهُم وأَمْوالهم ويُفرِشَكُم نِساءَهُم، أَفَتُسبحون الله وتُقدِّسُونَه". فقال النعمان بن شريك: اللهمَّ لك ذاك. ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. قال: فما برحنا حتى بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) في المصادر الآتية: "ديننا".
(2) كذا جاءت هذه الكلمة في النسخ، ولعلها "حربهم" ففي "المنتظم" 3/ 21 - 25 و"الدلائل" 2/ 422 - 427: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
(3/139)
________________________________________
السنة الثانية عشرة من النبوة وفيها كان المعراج
وقد اختلفت الروايات في أحاديث المعراج بما ورد في "المسند" (1) و"الصحيحين" (2)، وغير ذلك.
وقد ذكر الثعلبي ذلك (3) وأطال فيه، وذكر سِدرَة المنتهى، وأنه غشيها نور من نور الله، وغشيتها ملائكة كأنهم جَراد من ذَهب، فتحوَّلت حتى ما يستطيع أحد أن ينعتها، وأن جبريل انتهى به إلى حجاب من فراش الذهب، وأن ملكًا أخرج يده من الحجاب فاحتمله، وتخلَّف جبريل، فقال له: "إلى أَين"؟ فقال: هذا منتهى الخلائق، وإنما أُذِنَ لي في الدنو من الحجاب إجلالًا لك.
ثم دُلِّي له رَفْرَف أخضر يغلب ضَوْؤُه ضَوْءَ الشمس، وأنه وُضِعَ عليه، وحُمِلَ إلى العرش، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما رأيت العرش، اتضع عندي كل شيء، فقربني الله وأدناني إلى سند العرش، ووقعت على لساني قطرة من العرش فما ذاق الذائقون أحلى منها، فأنبأني الله نبأ الأولين والآخرين، وأطلق الله لساني بعد ما كَلَّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات، فقال الله: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال الله: يا محمد، هل تعلم فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك، وبكل شيء، وأنت علام الغيوب، فقال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فالدرجات: إسباغ الوضوء في السَّبرات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الحسنات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجد بالليل والناس نيام.
__________
(1) أخرجه أحمد في "المسند" (12505) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، و (7835) من حديث مالك بن صعصعة.
(2) أخرجه البخاري (3207)، ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه -، وأخرجه مسلم (162) من حديث أنس - رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه -.
(3) في تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء.
(3/140)
________________________________________
ثم ألهمني أن قلت: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] الآية، لا نفرق بين أحد من رسله كما فرقت اليهود والنصارى. قال: فماذا قالوا؟ قلت: قالوا: سمعنا وعصينا، والمؤمنون قالوا: سمعنا وأطعنا. قال: صدقت، فسل تعطه؟ فقلت: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال: رفعت عنك وعن أمتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. قلت: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني اليهود. قال: لك ذلك ولأمتك. قلت: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: فعلت. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} قال: قد فعلت.
ثم فرض علي خمسين صلاة كل يوم، فلما عهد إليَّ بعهده؛ تركني عنده ما شاء، ثم قال: ارجع إلى قومك، فبلغهم عني، فحملني على الرفرف الأخضر إلى أن انتهيت إلى سدرة المنتهى، وجبريل - عليه السلام - عندها، فقال لي: يا محمد، أنت خير خلق الله، حباك الله بما لم يَحْبُ به أحدًا من خلقه، وبَلَغْتَ مكانًا ما وصل إليه سواك من أهل السماوات وأهل الأرض.
وفيه: أنه انطلق به إلى الجنة، فأراه إياها، ووصف من قصورها وحورها وولدانها وما فيها، وأراه شجرة طوبى ووصفها، ثم أراه السلاسل والنار وما فيها، ثم إنه على موسى - عليه السلام -، وردده في الصلوات، وأنه عاد إلى الله تعالى، وسأله حتى أبقى خمسًا. وذكر أنه عاد إلى مكة (1).
وقال ابن عباس: وفقَدَت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة، وتفرق بنو عبد مناف في طلبه، وخرج العباس - رضي الله عنه - حتى بلغ ذا طُوى، وجعل يصرخ: يا محمد، يا محمد. فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لبيك لبيك". فقال: يا ابن أخي، عَنَيتَ قومك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: "كنت بالبيت المقدس". قال: من ليلتك هذه؟ قال: "نعم". قال: فما أصابك إِلّا خَيرٌ؟ قال: "نعم".
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة، عَرَفْتُ أن الناس لا يصدقوني، فضقت بأمري ذرعًا، وقعدت معتزلًا حزينًا
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 182 - 183.
(3/141)
________________________________________
مهمومًا، فمرّ بي أبو جهل فجلس إليّ كالمستهزئ بي، فقال: هل كان شيء؟ قلت: نعم، أسري بي إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قلت: نعم، قال ابن عباس: فلم ير أبو جهل أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، قال: أرأيت لو دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني به، قال: نعم، فصاح أبو جهل: يا معشر قريش هلموا، فانفضت إليه المجالس، فجاؤوا فجلسوا إليهما، فقال له: حدِّث قومك بما حدثتني به، فقال: "نعم، أسري بي الليلة من ها هنا إلى البيت المقدس" قالوا: وأصبحت بين أظهرنا، قال: "نعم" قال: فَهُمْ بين مصفق، وواضع يده على رأسه متعجبًا، ثم قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى؟ قال: نعم، فجيء بالمسجد فوضع دون دار عقيل، فنعتُّه لهم، وفيهم من قد سافَر إليه، فقالوا: أما النعت فقد أصاب والله في وصفه (1).
قالوا: فأخبرنا عن عِيرنا، هل لقيت منها شيء؟ قال: نعم، مررت على عير بني فلان بالرَّوْحاءِ، وقد أضلوا بعيرًا لهم، وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح وفيه ماء فعطشت، فشربت منه، فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ وذكر لهم أشياء تحقَّقَ عندهم صدقُه فيها. فقالوا: هذا سحر مبين (2).
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لما أصبح الناس يتحدثون بحديث الإسراء إلى بيت المقدس، سعى رجال من الكفار إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أوقد قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: صدق. قالوا: أَتُصدِّقُه أنه مضى إلى الشام في ليلة ثم عاد قبل أن نصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوه ورواحه. قالت: فلذلك سمي الصديق (3).
__________
(1) إلى هنا الخبر عند أحمد في "مسنده" (2819)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 363 من حديث ابن عباس.
(2) أخرجه أبو يعلى في "معجمه" (10)، والمقدسي في "فضائل بيت المقدس" (52) من حديث أم هانئ، مطولًا بالقصتين معًا، وكأن المصنف رحمه الله جمع بين الخبرين.
(3) أخرجه الحاكم 3/ 62، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 361، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ ووافقه الذهبي.
(3/142)
________________________________________
وحكى هشام بن محمد، عن أبيه قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به، فلما كان بذي طُوى، قال: يا جبريل، إن قومي لا يصدقوني. قال: يصدقك أبو بكر، وهو الصديق - رضي الله عنه - (1).
فصول تتعلق بالمعراج
منها: أن مذهب عامة الصحابة، والتابعين، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين: أن الله عزَّ وجلَّ عرج بنبيه - صلى الله عليه وسلم - جَسدِه وروحِه. وحكي عن معاوية بن أبي سفيان: أنه إنما عرج بروحِه دون جسده (2). وقال الواقدي: كان الإسراء بجسده إلى بيت المقدس، وإلى السماء بروحه.
وذكر السهيلي (3) في "شرح السيرة": واحتج ابن إسحاق لمعاوية بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، وفي حديث أنس (4) وأم هانئ: "فاستيقظتُ وأنا في المسجد الحرام" (5).
وقالت عائشة - رضي الله عنهما -: أسري بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم على فراشه، وما فقدت جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6).
وجه ما روي أنه عرج بروحه إلى البيت المقدس، وروحه إلى السماء قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] جعلَ الإسراء إلى القدسِ غايةً لمعراجه ومن هناك عرج بروحه.
ووجه قول الأولين قولُه تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا} الآية، ذكر الجُملةَ، ولو كان منامًا لقال بروحه، لأنه لو كان منامًا لم تكن معجزة، ولا أنكرته
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 183 من حديث أم هانئ، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7173) من حديث أبي هريرة.
(2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 34.
(3) في (خ): "الثعلبي".
(4) أخرجه البخاري (7517) من حديث أنس، ولم نقف عليه من حديث أم هانئ.
(5) "الروض الأنف" 2/ 191.
(6) أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار" (مسند علي) ص 447، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 34.
(3/143)
________________________________________
قريش. وقد دلت عليه الأحاديث الصحاح، وإجماع العلماء مثل: الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وجابر، وأنس، وأبي هريرة، وحذيفة، وابن مسعود، ومالك بن صعصعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وعائشة، وأم هانئ، في آخرين. ومن التابعين خلق يطول ذكرهم لم يُذكر مخالف إلا ما روي عن معاوية.
وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، فقد روى عكرمة، وأبو صالح، والوالِبي، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه بني أمية ينزون على منبره نَزْوَ القِرَدة، فساءه ذلك، فأنزل الله هذه الآية. فلا تعلق لها بالمعراج (1).
وأما قول عائشة - رضي الله عنهما -: ما فقدت جَسَدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأين كانت عائشة في زمن المعراج، فإنها كانت بنت ست سنين بإجماع العلماء، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل بها إلا في المدينة بعد ثلاث سنين من المعراج، فلا تثبت الرواية.
وقوله: جعل الإسراء إلى بيت المقدس غاية، فلا ينبغي أن يكون إلى غيره، وقد ثبت بالنصوص الصحاح: أن ذلك كان يقظة لا منامًا.
وذكر القاضي عياض في كتاب "الشفا" (2): أن مذاهب المسلمين والمذهب الحق: أن الله عرج بنبينا بجسده - صلى الله عليه وسلم - وبروحه جملة.
فإن قيل: فلِمَ قال: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا} ولم يقل: نهارًا.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الليل أستر للأحوال لئلا يصير فتنة كما صار عيسى - عليه السلام -.
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (6461) والحاكم 4/ 480، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1168) و (1169) من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن الجوزي: حديث لا أصل له.
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 244 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير مصعب بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة.
(2) "الشفا" 1/ 248.
(3/144)
________________________________________
وقال أبو يزيد البسطامي: الليل ميدان المحبين، يجري فيه من الانبساط ما لا يجري بالنهار.
وقال بعض أهل المعاني: لما كان الذهاب من مكة إلى البيت المقدس في ليلة والرجوع منه إلى مكة، مما تأباه عقول قوم سبح الله نفسه عند ذلك، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا}، وكذا لما كان مجيء الليل وإقبال النهار خرقًا للعادة، سبح الحق نفسه، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17] في نظائر كثيرة، فالحق سبحانه ما سبح نفسه إلا عند كل عظيم.
فإن قيل: فما الحكمة في إسرائه من مكة إلى القدس ولم يسر به من مكة إلى السماء؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: إنما أسري به إلى القدس ليستأنس، فيتدرج به إلى صعود السماء.
والثاني: لأن الأنبياء - عليهم السلام - جُمِعوا له هناك، فصلى بهم، وفي ضمن ذلك نسخ شرعهم بشرعه.
والثالث: لأنه على الأماكن التي كلم الله عليها موسى وشاهدها، ثم عرج به إلى السَّماوات، وزيد على ذلك النظر ليظهر له التفاوت (1).
ومنها (2): أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه، وهو قول من سمَّيْنا من العلماء في الليلة الماضية. وروي عن عائشة - رضي الله عنهما-، أنها أنكرت ذلك، وقالت: إنما رآه بعيني قلبه.
قال مسروق: سألتُ عائشة: هل رأى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ربه بعيني رأسه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، من حدَّثك بهذا فقد كذب، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الآية.
ولما قال مسروق لعائشة - رضي الله عنهما -: هل رأى ربه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط، وقرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]؟ قالت عائشة - رضي الله عنهما -: إلى أين تَذْهب؟ بل إنما رأى جبريل في صورته (3).
__________
(1) لم يذكر المصنف الوجه الثاني لحكمه الإسراء به ليلًا.
(2) أي من الفصول المتعلقة بالمعراج.
(3) أخرجه البخاري (4855)، ومسلم (177)، والترمذي (3278).
(3/145)
________________________________________
والصحيح: قول عامة الصحابة.
قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ ربي تبَارك وتَعالى" (1). ولو رآه بعيني قلبه، لم يكن له مزية على آحاد أمته، فإن عامة المؤمنين يرون الله تعالى بقلوبهم دائمًا.
وحكى النَّقَّاش، عن الإمام أحمد بن حنبل - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنا أقول: رأى ربه بعيني رأسه، رآه، رآه، رآه، ... حتى انقطع نفس الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - (2).
وحكى القاضي عياض، عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: رآه ببصره وعيني رأسه، قال: وكل آية أوتيها نبي من الأنبياء فقد أوتيها نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وخُصَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - من بينهم بتفضيل الرؤية (3).
وما روي عن عائشة - رضي الله عنهما-، فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه رأي منها، لا رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولمَّا قيل للإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: بماذا ترد قول عائشة؟ فقال: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ رَبِّي".
والثاني: أنها لم تكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن المعراج.
والثالث: أنها نفت، والعمل على الإثبات، وقد أثبتَ الروايةَ أعيانُ الصحابة، وقولهم مقدَّمٌ على رأيها، خصوصًا وقد رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد قال القاضي عياض: رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، وليس في العقل ما يحيلُها، ولهذا سألها موسى - عليه السلام -، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله تعالى (4).
قال المصنف -رحمه الله-: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى ربه في دار الدنيا، وإنما راه في الدار الآخرة، لأن {قَابَ قَوْسَينِ} [النجم: 9] ليس من حساب الدنيا، وخصوصًا وقد خرق
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (2580).
(2) في (خ) تكرر الحديث السابق بسنده فلعله سبق قلم من الناسخ. وانظر الخبر في "الشفا" 1/ 260.
(3) "الشفا" 1/ 261.
(4) "الشفا" 1/ 261.
(3/146)
________________________________________
سبعين حجابًا من النور بعد أن جاوز سدرة المنتهى، فثبتت الرؤية.
وسئل أبو العباس بن عطاء، قال: كيف أصف لكم مقامًا انقطع عنه جبريل، والملائكة المقربون، ولم يبق إلا محمد وربه تعالى؟ وفي تلك الليلة ارتفعت الوسائط، ألا ترى إلى قوله لجبريل - عليه السلام - لمّا زجَّه في النور: يا جبريل، ها هنا يفارق الخليل خليله؟ فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت.
* * *
واختلفوا في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18] على أقوال:
أحدها: ما شاهد عند قاب قوسين.
والثاني: الرفرف الأخضر الذي سد الأفق.
والثالث: جبريل - عليه السلام - في صورته التي خلقه الله عليها (1).
والرابع: الجنة والنار، وما رأى من الملائكة - عليه السلام -.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزل قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}، جاء عتيبة بن أبي لهب، فوقف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تَفَل عليه وسبَّه. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوجه إحدى بناته، فطلَّقها عتيبة في ذلك اليوم، ولم يكن دخل بها. فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللَّهمَّ سَلِّط عليه كلبًا من كِلابِكَ". وبلغ أبا لهب، فقال: ما كان أغنى عتيبة عن دعوة محمد - رضي الله عنه -.
ثم إن أبا لهب خرج إلى الشام في تجارة ومعه عتيبة، فنزل الزرقاء، فاطلَعَ راهب من صومعته وقال: يا قوم، احفظوا رحالكم، فهذه أرض مَسْبَعَة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا حمالهم، وفرشوا لعتيبة في أعلاها، ونام القوم حوله، وجاء الأسد فجعل يتشمم القوم حتى وصل إلى عتيبة وشمه، ثم ضرب بيده، فأخذ يَافوخه، وانتبه القوم وقد أكله، فعاد أبو
__________
(1) انظر تفسير الثعلبي 6/ 15.
(3/147)
________________________________________
لهب إلى مكة حزينًا، وهو يقول: استجيب لمحمد في ابني. وكان كُنيةُ عُتيبةَ: أبا واسع، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (1): [من السريع]
سائل بني الأَشعرِ إن جئتَهم ... ما كان أَنباءُ أَبي واسعِ
لا وسَّع الله له قبره ... وضيَّق الله على القاطعِ
رمى رسولَ الله من بينهم ... دون قريش رميةَ القاذع
فاستوجب الدعوة منه بما ... بَيَّن للناظر والسامع
أن قيَّض الله له كلبه ... يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه ويسْط أصحابه ... وقد عَلَتْهم سِنَةُ الهاجِعِ
فالتقم الرأسَ بيافوخه ... يفعل فِعلَ القَرِمِ الجائعِ
ثم علا بعد بأنيابه ... معفَّرًا وسْط دمٍ ناقعِ
قد كان هذا لكم عبرةً ... للسيّد المتبوع والتابع
من يرجع الآن إلى أهله ... فلستَ يا عتبةُ بالراجعِ
قال البلاذُري: وجعل عتيبة يقول وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس، ومات (2).
واختلف الناس في المدة التي كانت بين المعراج والهجرة على أقوال:
أحدها: سنة. والثاني: ستة أشهر. والثالث: ثمانية أشهر. والرابع: سنة ونصف.
وعلى ذلك يُبنى خلافهم في أي شهر كان، والله أعلم.
* * *
__________
(1) أخرجه الحاكم 2/ 539 والبيهقي في "الدلائل" 2/ 338 من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الحافظ في "الفتح" 4/ 39: حديث حسن.
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" 38/ 302 من حديث هبار بن الأسود.
وأخرجه الدولابي في "الذرية الطاهرة" ص 58، وأبو نعيم في "الدلائل" 1/ 220 من حديث محمد بن كعب القرظي وعثمان بن عروة بن الزبير. والأبيات في ديوانه ص 153.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 149.
(3/148)
________________________________________
وفي هذه السنة لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الأوس والخزرج، فآمنوا به.
قال الواقدي: قدم جماعة منهما إلى الحج، فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، فدعاهم إلى الله، فآمنوا.
قال ابن إسحاق: قدم أبو الحَيْسر بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلف من قريش على قومهم من الخزرج، لِما كان بينهم من الحرب، فسمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم، وقال لهم: "هل لَكُم إلى خَيبر مما جِئتُم له"؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: "تَعبدونَ الله وتُوحِّدونَه" وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان حدثًا عاقلًا: أي قوم، والله إن هذا لخير مما جئتم له. فأخذ أبو الحَيْسَر حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا من هذا، فلعمري لقد جئنا إلى غيره. فصمت إياس، فقال أبو الحيسر: جئنا نطلب حلف قريش على أعدائنا، فنرجعُ وقريشٌ أعداؤنا، وقام عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجعوا إلى المدينة. وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج.
كذا وقعت هذه الرواية: أن وقعة بُعاث كانت في هذه السنة، وقد تقدم أنها كانت قبلها، والله أعلم.
فيقال: إن إياس بن معاذ أول من أسلم، ومات يوم بعاث مسلمًا لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان عند موته يكبِّر ويهلل (1).
واختلفوا في أول الأنصار إسلامًا، على أقوال:
أحدها: إياس بن معاذ، قاله ابن إسحاق.
والثاني: أسعد بن زُرارة، وذَكْوان بن عبد قيس، قدما مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة، فلما اجتمعا به -وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يصلي في المسجد-، فأشار إليه عتبة، وقال: لقد شغلنا هذا المصلي عن كل شيء، يزعم أنه رسول الله، وكان أسعد بن زرارة وأبو الهيثم بن التَّيِّهان يتكلمان في التوحيد بيثرب، ويسمعان من أحبار اليهود
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 53 - 54، و"الطبقات الكبرى" 3/ 404، والطبراني في "الكبير" (805) والحاكم 3/ 180، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 420 - 421. وقال الحافظ في "الإصابة" 1/ 91: رواه جماعة عن ابن إسحاق هكذا، وهو من صحيح حديثه. وبعاث يقال بالعين وبالغين.
(3/149)
________________________________________
أنه قد بعث نبي يدعو إلى الله تعالى، فقال ذكوان لأسعد لما سمع قول عتبة: دونك، هذا دينُك، فقاما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليهما القرآن، فأسلما وعادا إلى المدينة، فلقي أسعدُ أبا الهيثم بن التيهان فأخبره بإسلامه، فقال: وأنا أشهد أنه رسول الله، وأسلم. قاله الواقدي (1).
والثالث: رافع بن مالك الزُّرَقي، ومعاذ بن عفراء، خرجا إلى مكة مُعْتَمِرَيْنِ، فَذُكِرَ لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتياه، فقرأ عليهما القرآن فأسلما، ثم عادا إلى المدينة. فأول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زُرَيق. قاله ابن الكلبي (2).
ذكر نسب الأنصار:
قال الزبير بن بكار: الأنصار من اليمن وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبيد الله بن الأَسْد (3) بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان (4).
والأوس والخزرج ابنا قَيلة، وهي أمهما نسبا إليها، وهما ابنا حارثة -وهو العنقاء- ابن عمرو -وهو مُزَيقياء- ابن عامر -وهو ماء السماء- ابن حارثة -وهو الغِطْريف- ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأَزْد -واسمه: دَرّا (5) - ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كَهْلان [بن سبأ] (6) -واسمه: عامر وسمي: سبأ، لأنه أول من سَبى السبيَ، وكان يدعى عبد شمس من حسنه- ابن (7) يَشْجُب بن يعْرُب-وهو المُرْعَف (8) - ابن يَقْطُن، وهو قَحْطان وإلى قَحْطان جماع اليمن، فمن نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم - عليه السلام - قال: قحطان بن الهمَيْسَع بن تيمن بن نَبْت بن إسماعيل - عليه السلام -. قال ابن سعد:
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 185 - 186.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 186.
(3) الأَزد ويقال: الأَسد بوزن العقل، وهو الأفصح، إلا أن الأول أكثر: "الإيناس بعلم الأنساب" ص 57.
(4) انظر "سيرة" ابن هشام 1/ 10.
(5) في "النسخ": "ذر"، والتصويب من "الطبقات" 3/ 388، و"سبل الهدى والرشاد" 3/ 251.
(6) ما بين حاصرتين زيادة من "الطبقات".
(7) في "النسخ": "واسمه يشجب" والمثبت من الطبقات.
(8) في "النسخ": "بن المرعف" والتصويب من "الطبقات" و"الإكمال" 7/ 238.
(3/150)
________________________________________
هكذا كان ينسبه هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه. قال: وعليه عامة الأنساب أنَّ قَحْطان من ولد إسماعيل - عليه السلام -، ومن نسبه إلى غيره يقول: قحطان بن فَالَغ بن عابِر بن [شالخَ بن] (1) أَرْفَخْشذ بن سام بن نوح - عليه السلام -.
قال ابن سعد: وأم الأوس والخزرج قَيْلَة بنت كاهل بن عُذْرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وكان حَضَن سعدًا عبدٌ حبشي، يسمى: هُذيمًا فغلب عليه، فيقال: سعد بن هُذيم.
ذكر أولاد الأوس بن حارثة:
مالك بن أوس، ومنه تفرقت القبائلُ كلُّها وبطونها، فولد مالك: عَمْرًا وهو النَّبِيت، ومنه بنو عبد الأشهل، وبنو ظَفَر -واسم ظَفَر: كعب- وبنو حارثة بن الحارث. فهذه النَّبيت من الأوس (2).
وقال الجوهري: والنبيت حي من اليمن (3)، ومنهم عمرو بن عوف، وجَحْجَبى وقبائل شتى (4).
ذكر أولاد الخزرج بن حارثة:
وهم خمسة نفر: جُشَم وعوف وهما الخرطومان، والحارث وعمرو، وكعب، بنو الخزرج.
فأما جُشَم، فكان منيعًا وبه يضرب المثل:
إن سَرك العِزُّ فجخجخ بجُشم (5)
أي: لُذبه.
ومن جشم: بنو تَزيد منهم سَلِمَةُ وبطونُها.
__________
(1) ما بين معكوفتين زيادة من "الطبقات".
(2) انظر "المعارف" ص 110.
(3) "الصحاح" (نبت).
(4) كذا، وفي المعارف 110: وعوف بن مالك، ومنهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء ومنهم جَحْجَبى.
(5) هو رجز للأغلب العجلي، وهو في المعارف 109 وسلف في القبائل والعمائر من الجزء الثاني.
(3/151)
________________________________________
ومن جُشم أيضًا: بنو بَياضة.
وأما عوف بن الخزرج، فمنهم: بنو الحُبلى. رهط عبد الله بن أُبَي بن سَلول.
ومنهم القَواقل، وكان يقال للرجل إذا استجار بيثرب: قَوْقِل وقد أَمِنْتَ (1)، واسم القَوقل: غَنْم بن عوف بن عمرو بن الخزرج، وقيل: عمرو بن عوف، ومنهم: بنو سالم.
وأما عمرو بن الخزرج، فمنهم: بنو النجار، واسم النجار: تيم اللَّات بن ثعلبة، وإنما سمي النجار، لأنه نجر رجلًا بقَدُوم فقتله.
وأما كعب بن الخزرج، فهم بطون بني ساعدة رهط سعد بن عبادة. فهذا أصل نسب الأوس والخزرج (2).
ذكر العقبة الأولى:
لما أراد الله إظهارَ دينه وإعزازَ نبيِّه وإنجازَ موعده، لقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالموسم جماعةٌ من الأنصار.
واختلفوا فيهم على قولين:
أحدهما: أنهم كانوا اثني عشر رجلًا، عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس.
فمن الخزرج: أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان بن عبد قيس، وعُبادة بن الصامت، وعَبّاس بن عُبادة، وعقبة بن عامر، وقُطبَةُ بن عامر، وعوف ومعاذ (3) ابنا عَفْراء وهي أمهما، -وأبوهما: مالك بن رفاعة، وقيل: الحارث بن رفاعة- ويزيد بن ثعلبة. فهؤلاء العشرة من الخزرج.
__________
(1) قال ابن دريد في "الاشتقاق" ص 456: القَوْقَلَة: التغلغل في الشيء، والدخول فيه. وقال ابن هشام في "السيرة" 2/ 57: وإنما قيل لهم: القواقل، لأنهم كانوا إذا استجار بهم الرجل دفعوا له سهمًا وقالوا له: قوقل به بيثرب حيث شئت. وقال: القوقلة: ضرب من المشي.
(2) انظر "المعارف" ص 109.
(3) في "النسخ": "معوذ" والصواب: معاذ كما في "السيرة" لابن هشام، و"الطبقات الكبرى" وانظر "الإصابة" 3/ 428.
(3/152)
________________________________________
وأما من الأوس: فعُويم بن ساعدة، وأبو الهيثم بن التيهان (1)، قاله الواقدي.
والثاني: أنهم كانوا ستة، ذكره ابن إسحاق، وقال: لما أراد الله إظهار الإسلام، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموسم، فصادف جماعة من الأنصار، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الإسلام، فقال بعضهم لبعض: ويحكم، هذا والله النبي المبعوث الذي وعدكم به اليهود، فلا يسبقْكم إليه أحد، فأجابوه. وكانوا ستة: أسعد بن زُرارة، وعوف بن مالك، وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وقُطبة بن عامر بن حَديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رِئاب (2).
وقال الواقدي: الثابت عندنا، أنه لم يسلم أحد قبل هؤلاء، وواعدوه على أن يأتوا العام القابل، وبايعوه على الإيمان بالله ولوازِمه، ولم يبايعوه على الحرب لأعدائه.
وقال عبادة بن الصامت: بايعناه عند العقبة، بيعة النساء (3). يعني من غير ذكر الحرب والنَّضر.
وحكى الواقدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبايعكم على أن تمنعوا ظهري حتى أُبَلِّغَ رسالاتِ ربي". قالوا: يا رسول الله، نحن أعداءٌ مُتباغِضون، وإنما كانت وقعة بعاث عام أول، فإن تَقْدُمْ علينا ونحن على ذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع، فدَعنا نرجع إلى أهالينا وعشائرنا لعل الله أن يصلح ذاتَ بَينِنا، وموعدك العام القابل، فبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئًا.
قال عبادة: ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، فإن وفوا بذلك فلهم الجنة، كان غَشَوْا شيئًا فَأمرهم إلى الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذَّبهم، ثم انصرفوا إلى المدينة، وبعث معهم مصعب بن عمير يُقرئهم القُرآن ويُفقِّهُهُم في الدين، وفشا الإسلام في المدينة، فلم يبق فيها دار إلا وفيها ذكر لرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان مصعب قد نزل على أسعد بن زرارة، وكان يسمى المُقْرئ، فقال سعد بن معاذ لأُسَيد بن حُضَير: ائت أسعد بن زرارة فأخّره عنا، فقد بلغني أنه جاء بهذا الرجل الغريب معه يُسَفِّه سفهاءنا،
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 56 - 57، و"الطبقات الكبرى" 1/ 187، و"المنتظم" 3/ 32 - 33.
(2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 54 - 55.
(3) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 57، و"الطبقات الكبرى" 1/ 187، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 436.
(3/153)
________________________________________
فذهب أسيد بن حُضَير إلى أسعد، فقال له: ما لنا وما لك قد أتيتنا بهذا الرجل الغريب يُسَفِّه ضعفاءَنا. فقال: أَوَتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته تركته. فقال: أنصفت.
فجلس فقرأ عليه مصعب القرآن، وعرض عليه الإسلام، فقال أسيد: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين؟ قال: نتطهرُ، ونُطَهِّرُ ثيابنا، ونشهد شهادة الحق، ففعل ذلك. وخرج فأخبر سعد بن معاذ فجاء إليهم، فدعاه مصعب إلى الإسلام فأسلم، وجاء حتى وقف على بني عبد الأشهل فقال: أَيُّ رجل تعلمون أنا؟ قالوا: خيرنا وأفضلنا. فقال: إن كلامَ رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا، وتؤمنوا بالله، وتصدقوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فوالله ما أمسى في ذلك اليوم رجل وامرأة من بني عبد الأشهل حتى أسلموا (1).
قال ابن إسحاق: لما فشا الإسلام في المدينة وكثر المسلمون، عاد مصعب بن عمير إلى مكة وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسُرَّ بذلك، وكان رجوع مصعب إلى مكة قبل العقبة الثانية (2).
* * *
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 58 - 60، و"دلائل النبوة" 2/ 431 - 432.
(2) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 61.
(3/154)
________________________________________
السنة الثالثة عشرة من النبوة
وفيها خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموسم على ميعاد الأوس والخرج، فلقيه جماعة، فواعدهم العقبة من أوسط أيام التشريق.
قال ابن إسحاق: حدثني معبد بن كعب بن مالك بن أبي بن كعب أخو بني سلمة، أن أخاه عبد الله بن كعب حدثه، أن أباه كعب بن مالك حدثه، وكان ممن شهد العقبة، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة، فلما فرغنا من الحج، خرجنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر بن عبد الله، وهو مشرك، وكنا نكاتمه الأمر ومن معنا من المشركين، فقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن يكون حظّنا الجنة وحظك النار فقال: وما ذاك؟ فأخبرناه الخبر وعرضنا عليه الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما مضى ثُلُثُ الليل خرجنا من رحالنا نتسلل تسلل القطا مُسْتَخفين، وكان معنا ابن أُبَيٍّ في الرّحال، ولا يعلم بما نحن فيه، وأمَرَهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُنبِّهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبًا، فاجتمعوا عند الشعب ليلة النَّفْر الأول أوسط أيام التشريق -وفي رواية: فوافَوْه في الشعب الأيمن إذا انحدرْتَ مِن منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم-، وقد سبقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو على دين قومه، وإنما أراد أن يستوثق لابن أخيه، فتكلم العباس وقال: يا معاشر الخزرج -وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار الخزرج، سواء كان خزرجيًّا أو أوسيًّا-، إن محمدًا ابن أخي، وقد علمتم مكانته منا، وهو مِنَّا حيثُ قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على ديننا أو على مثل رأينا، وهو في عِزٍّ ومَنَعَةٍ في بلده، وقد أَبى إلّا الانقطاع إليكم، واللِّحاقَ بكم، فإن كنتم تَفُون له بما وعدتموه أو دعوتموه إليه، فمانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم له، وإن كنتم خاذلوه بعد الخروج معكم، ومسلموه إلى أعدائه، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده وأهله.
(3/155)
________________________________________
فتكلم البراء بن معرور وقال: يا رسول الله، خذ لربك ولنفسك ما أحببت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُبايِعُكُم على أن تَمنعُوني ممَّا تَمنَعُون منه أَبناءَكُم ونُفوسكُم ونساءَكُم". فقال البراء -وقد أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرَنا، فبايعْ يا رسول الله، فنحن أهل الحرب والحَلْقَة ورثناها كابرًا عن كابر، فاعترضه أبو الهيثم بن التيهان حليفُ بني عبد الأشهل، وقال: إن بيننا وبين الناس حِبالًا، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنا، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "لا والله، بلِ الدَّمَ الدَّمَ، والهدمَ الهدمَ، أُحاربُ من حارَبتُم، وأُسَالِمُ مَن سَالمتُم". فاعترضهم العباس بن عُبادة بن نَضْلَة الأنصاري وقال: يا معشر الخزرج، أتدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم إنما تبايعونه على حرب الأحمر والأبيض والأسود من الناس، فإن كنتم إن أنهكتكم مصيبة، ترجعون عنه وتسلمونه، فمن الآن وهو والله [إن فعلتم] خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه من قتل الأشراف، وهلاك الأموال، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. فقالوا بأجمعهم: بل نأخذه على ما ذكرت، ثم قال: يا رسول الله، فما لنا إن وفينا؟ فقال: "لكُمُ الجَنَّة". فقال: ابسط يدك، فبايعوه (1).
قال ابن عباس: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية، فقالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل (2).
وأول من بايعه: أسعد بن زرارة، وقيل: البراء بن مَعرور، وقيل: أبو الهيثم بن التيهان، ثم أكثر اللَّغَطُ، فقال العباس: على رسْلكم، فإن علينا عيونًا، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نَقِّبوا اثني عشر نقيبًا يكونوا كُفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم -وفي رواية: أن موسى اتخذ من قومه اثني عشر نقيبًا فلا يجدنَّ أحدُكم في نفسه أن يُؤخَذَ غيره- فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سَلِمة: البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حَرَام أبا جابر، ونقيب بني ساعدة: سَعْد بن عبادة والمنذرَ
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 61 - 67، و"الطبقات الكبرى" 1/ 188، وهي العقبة الآخرة.
(2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 14/ 499 من حديث عبد الله بن رواحة، وانظر "أسباب النزول" للواحدي ص 263، وفي نقف عليه من حديث ابن عباس.
(3/156)
________________________________________
ابنَ عمرو، ونقيبُ بني زريق: رافع بن مالك بن العَجْلان، ونقيبُ بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع، ونقيبُ القواقل: عبادة بن الصامت، ونقيبُ الأوس: أُسَيد بن حُضَير وأبو الهيثم بن التَّيهان، ونقيب بني عوف: سعد بن خيثمة (1).
قال مقاتل: وإنما قصدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضبطهم بالنقباء كما فعل موسى - عليه السلام - ببني إسرائيل في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيبًا وَقَال اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] الآية.
ولما بايع القوم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سُمِع قط: يا أهْلَ الأخاشب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه، فإنهم قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ندعو الله يا أزَبَّ العقبة (2)، ما تقول؟ والله لأَتَفرَّغَنَّ لك" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارفَضوا إلى رِحَالِكُم". فقال له العباس بن عُبادة بن نَضلة: يا رسول الله، إن شئت مِلْنا بأسيافنا على أهل منى -وكانوا مئة رجل-، وإنما لقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - منهم سبعون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حاجة لي بذلك، ارجعوا". فانصرفوا إلى رحالهم.
ولما أصبح القوم غدا عليهم جلَّةُ قريش وأشرافُهم وقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. وانبعث رجال من الأنصار -لم يحضروا البيعة- يحلفون لقريش بالله ما كان من هذا شيء، والذين شهدوا العقبة ينظر بعضهم إلى بعض، وقال عبد الله بن أُبَيِّ بن سلول- وكان في الرحال ولم يشهد البيعة-: ما كان لقومي أن يَفْتاتوا عليَّ بمثل هذا حتى يُؤامِروني، وإن هذا الأمر جَسيمٌ.
ثم تفرقوا، ولما انفصلت الأنصار عن منى، تقدم البراء بن معرور إلى بطن يَأجَج وتلاحق به أصحابه المسلمون، وصح عند قريش الحديث، فخرجوا في طلبهم، فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بالحاجر وكلاهما نقيبان، فأما المنذر فإنه
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 65، و"الطبقات الكبرى" 1/ 189، و"دلائل النبوة" 2/ 442 - 449.
(2) في النسخ: "الكعبة" والمثبت من المصادر، انظر الحاشية السابقة.
(3/157)
________________________________________
أَعجَز القومَ ومضى، وأما سعد فقالوا له: أنت على دين محمد؟ قال: نعم. فربطوا يديه إلى عنقه بِنِسْع رَخله، وعادوا به إلى مكة يضربونه ويسحبونه بشعره، وكان ذا جُمَّةٍ، فقال له رجل: ويحك، أما بينك وبين أحد جوار؟ قال: بلى كنت أجير لجبير بن مُطْعم والحارث بن أمية بن عبد شمس، قال: فاهتف باسمهما، فصاح بهما عند الكعبة فجاءا فخلَّصاه، ولَكَم سعدًا سهيلُ بن عمرو لكمةً شديدة، وكان الذي أسر سعدًا ضرار بن الخطاب الفِهْري، وكان أشدَّ الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: [من الطويل]
تَداركتُ سعدًا عَنْوةً فأسَرتُه ... وكان شِفائي لو تَداركتُ مُنْذِرا
ولو نِلْتُه طُلَّتْ دماءُ جراحِه ... أحقُّ دماءٍ أن تُطَلَّ وتُهْدرا (1)
فأجابه حسان بن ثابت (2): [من الطويل]
فخرتَ بسعدِ الخير حين أسرتَه ... وقلتَ شِفائي لو تداركتُ منذِرا
وإن امرءًا يَهْدي القصائدَ نحونا ... كمستبضعٍ تمرًا إلى أهل خيبرا
فلا تك كالشاةِ التي كان حَتْفُها ... بحفر ذراعيها فلم ترض مَحْفَرا
ولما خلص سعد، لحق بالأنصار وكانوا قد عزموا على أن يَكُرُّوا على أهل مكة، فتوجهوا إلى المدينة (3).
وبين العقبة والهجرة ثلاثة أشهر.
* * *
وفيها: أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالهجرة إلى المدينة.
قالت عائشة - رضي الله عنهما -: لما حَدَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منى وقد انصرف الأنصار من عنده، وطابت نفسه بأن جعل الله له قوة ومنعة وقومًا هم أهل حرب ونجدة، وجعلَ البلاءُ يشتد على مَن بمكة من المسلمين لِما علم أهل مكة من شدة بأس الخزرج، فضيَّقوا
__________
(1) البيتان في "السيرة" لابن هشام 2/ 69 - 70، ورواية الشطر الأخير عنده: وكان حريًّا أن يهان ويهدرا، وهما في "أنساب الأشراف" 1/ 295 كما عند المصنف.
(2) الأبيات في "أنساب الأشراف" 1/ 295، والسيرة 1/ 451.
(3) "السيرة" لابن هشام 2/ 68 - 70، و"الطبقات الكبرى" 1/ 190، و"مسند أحمد" (15798)، و"تاريخ الطبري" 2/ 367 - 368 و"المنتظم" 3/ 42.
(3/158)
________________________________________
عليهم، وعبثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه قبل ذلك، فشكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه واستأذنوه، فقال: "إنه لم يُؤْذَن لي في ذلك بَعْدُ"، ثم إنه خرج عليهم بعد ذلك، فقال: "قد أُريتُ دَار هِجرَتِكُم وهي سَبْخَةٌ ذاتُ نَخْل بين لابَتَين و [لو] كانت السراة أرض نَخْل وسَبَخ لقلت: هي هي" ثم مكث أيامًا وخرج إليهم مسرورًا وقال: "قد أُرِيتُ دارَ هِجرَتِكُم، وهي يَثْرِبُ، فَمن أرادَ الخُروجَ فَليَخرج" فجعل القوم يتجهزون ويترافقون ويتسللون ويتواسَوْن ويخفون خروجهم (1).
وأول من قدم المدينة بعد مصعب بن عمير من فقراء المهاجرين: ابن أم مَكتوم (2)، وأبو سلمة بن عبد الأسد بعده، وقيل: أول من قدم مهاجرًا: أبو سلمة قبل العقبة الأولى بسنة، وكان قد هاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة وهاجر منها إلى المدينة (3).
وكانت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - أولَ امرأة وردت المدينة، وقيل: أولُ ظَعينة قدمت المدينة: ليلى بنت أبي حَثْمة بن عدي زوجة عامر بن ربيعة العنزي (4).
ولما قدموا المدينة على الأنصار آوَوْهم وواسَوْهم، وسالمٌ مولى أبي حُذيفة يؤم بهم في قباء، ثم قدم المدينة: بلالٌ وسَعْد وعُمَرُ وعمار - رضي الله عنه -.
وتتابع الناس فلم يبق بمكة من بني أسد بن خزيمة أحد حتى أغلقت أبوابهم، وأبواب بني البُكَير، وأبواب بني مَظعون.
وقدم جماعة من الأنصار الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة البيعة الثانيةَ إلى مكة، ثم هاجروا منها إلى المدينة، فهم مهاجرون أنصاريون منهم: ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب، والعباس بن عبادة، وزياد بن لبيد.
وخرج من مكة [مَنْ فيها] من المسلمين، ولم يبق فيها سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 192، وهو عند البخاري (2297).
(2) أخرج البخاري (3925) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانوا يقرؤون الناس.
(3) "سيرة" ابن هشام 2/ 80. وجمع ابن حجر في الفتح 7/ 677 بين القولين: بأن أبا سلمة خرج لقصد الإقامة بالمدينة بل فرارًا من المشركين، بخلاف مصعب بن عمير فإنه خرج إليها للإقامة بها وتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلكُلٍّ أولية من جهة.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 192، و"الأوائل" لابن أبي عاصم ص 73.
(3/159)
________________________________________
بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - (1). فهاجر عمر - رضي الله عنه - قبلهم في قول البعض.
وقد روى الهيثم بن عدي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: ما علمت أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا غير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فإنه تقلد سيفه، وتنكَّبَ قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، ومضى نحو البيت والملأ من قريش بفناء الكعبة، فطاف بها سبعًا، ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين، ودار على المجالس والحِلَقِ واحدًا واحدًا يقول: شاهت الوجوه لا يُرْغِمُ الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يوتم ولده، أو يرمّل زوجته، أو تثكله أمه، فليلحقني ببطحاء مكة، أو بوادي مكة، فإني مهاجر إلى الله ورسوله. ثم خرج فركب فرسه، وحمل سلاحه، فما جسر أحدٌ أن يتبعه ثم مضى إلى المدينة (2).
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أن يُؤْذَنَ له في الهجرة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذنه في الهجرة، وهو يقول له: "لا تَعجَلْ لعلَّ الله أن يَجعلَ لك صاحبًا"، فطمع أبو بكر أن يكونه (3).
* * *
__________
(1) انظر "سيرة" ابن هشام 2/ 77 - 79، و"الطبقات الكبرى" 1/ 193، وليس فيها ذكر عمر.
(2) انظر "تاريخ ابن عساكر" 44/ 51 - 52.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (462) من حديث هشام بن العاص بن وائل السهمي. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 62 وقال: وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقي، ضعفه أبو حاتم. وله شاهد عند البخاري (2297) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(3/160)
________________________________________
السنة الرابعة عشرة من النبوة
وفيها: اجتمعت قريش في دار الندوة يتشاورون في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوفًا أن يلحق بالمدينة، فيقوى عليهم.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: تشاورت قريش بمكة ليلةً على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأطْلَعَ الله نبيَّهُ على ذلك، فبات علي - عليه السلام - على فراشه، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا - عليه السلام - يحسبونه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأَوْه رد الله مكرهم وقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. فاقتصُّوا أثره. وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} الآية [الأنفال: 30] (1).
ذكر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار:
قال الطبري في "التاريخ": إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - عليه السلام - في تلك الليلة لما خرج إلى الغار: إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني قد توجهت إلى غار ثور، فليلحق بي، وأرْسِلْ إليَّ بطعام، واستأجِرْ لي دليلًا يدلُّني على طريق المدينة، واشتر لي راحلة، ثم مضى وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه حتى خرج (2).
وقال الواقدي: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة وهم مجتمعون على بابه، فأخذ كفًّا من تراب وقال: شاهت الوجوه، ثم مر عليهم وهو يقرأ سورة يس حتى بلغ قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْ بَينِ أَيدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَينَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} [يس: 9]، فلم يبصره أحد، ومر رجل عليهم فقال: ما يقعدكم ها هنا؟ قالوا: ننتظر محمدًا، فقال: لقد خِبْتُم وخَسِرْتم، قد مرَّ عليكم وضرب بالتراب وجوهكم، وحثاه على رؤوسكم، قالوا: والله ما أبصرناه. وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم،
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 89، و "الطبقات الكبرى" 1/ 193، و"أنساب الأشراف" 1/ 300، و"دلائل النبوة" 2/ 469، و"المنتظم" 3/ 45.
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 372.
(3/161)
________________________________________
وعلي - عليه السلام - نائم في فراشه، فلما رأوه قالوا: والله لقد صَدَقَنا الرجلُ الذي حدَّثنا (1).
والذين كانوا ينتظرونه: أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعُقبة بن أبي مُعَيط، والنَّضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، وزَمْعَة بن الأسود، وأبو لهب، وطعيمة بن عدي، وأُبي بن خلف في آخرين (2).
قال الطبري: ضربوا علي بن أبي طالب وحبسوه ساعة، وأطلقوه، قال: وكان أبو بكر قد أتى عليًّا - رضي الله عنهما - فسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره أنه لحق بغار ثور، فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - مسرعًا حتى لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَرْسَ أبي بكر - رضي الله عنه - فحسبه من الكفار فأسرع المشي فانقطع قَبالُ نَعْلِه، ففلق إبهامَه حجر فسال الدم، فخاف أبو بكر - رضي الله عنه - أن يشق عليه فرفع صوته، فعرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه، فانطلقا ورِجْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستنُّ دمًا حتى انتهيا إلى الغار مع الصبح فدخلاه (3).
وقال ابن إسحاق: جاء أبو بكر - رضي الله عنه - إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصاح: يا نبي الله، يحسب أنه على الفراش، فقال له علي - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدْرِكْه. فانطلق حتى لحقه، وبات الكفار يرمون عليًّا - رضي الله عنه - بالحجارة وهو يتضوّرُ قد لف رأسه في الثوب إلى الفجر (4).
قال الثعلبي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلَّف عليًّا - رضي الله عنه - بمكة لقضاءِ ديونه وردِّ الودائع التي كانت عنده.
ذكر دخولهما إلى الغار:
قال أنس: لما كان ليلة الغار، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، دعني أدخل قبلك، فإن كان ثمَّ حَيّةٌ أو شيءٌ كانت بي قبلك، قال: "ادخُل". فدخل وجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يلتمس بيديه، فكلما رأى جُحْرًا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر واحد، فوضع عَقِبَهُ فيه، قال: ادخل يا رسول الله فدخل، فلما أصبح قال: "أينَ ثوبُك يا أبا بكرٍ؟ " فأخبره بالذي صنع، فرفع رسول الله
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 91 - 92، و "الطبقات الكبرى" 1/ 194 - 195، و"المنتظم" 3/ 48 - 49.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 195، و"المنتظم" 3/ 49.
(3) "تاريخ الطبري" 2/ 374.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (3061) ضمن حديث طويل.
(3/162)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللَّهم اجعَلْ أبا بَكرٍ في دَرَجتي يومَ القِيامَةِ"، فأوحى الله إليه: إن الله قد استجاب لك (1).
وقال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: حدثنا عفَّان (2)، حدثنا همَّام، حدثنا ثابت، عن أنس: أن أبا بكر - رضي الله عنه - حدثه: قال: قلت: يا رسول الله -ونحن في الغار-، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". متفق عليه (3).
قال ابن عباس: وأنزل الله تعالى: {إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الآية [التوبة: 40].
ومعنى الآية: أن الله هو المتولي لنصره حين كان أولياؤه قليلًا وأعداؤه كثيرًا، فإن قيل: فما معنى قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]؟ قلنا: لأن أبا بكر - رضي الله عنه - حزن إشفاقًا عَلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: يا رسول الله، إني إن قُتِلْتُ فمثلي كثير، وإن قُتِلْتَ أنت هَلكَتِ الأمةُ. فكان حزنه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نفسه (4).
وقال ابن عباس: عاتب الله أهل الأرض بهذه الآية إلا أبا بكر (5) - رضي الله عنه -. والهاء في قوله: {سَكِينَتَهُ} (6) عائدة إلى أبي بكر - رضي الله عنه -.
لأن الإزعاج والخوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان من أبي بكر - رضي الله عنه - وحده، فرد السكينة إليه ولو أرادهما، لقال: (عليهما) بخلاف الهاء في قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] حيث يرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن التأييد بالملائكة لا يصلح إلا له وحده.
وذكر وهب بن منبه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هاجر من بيت أبي بكر - رضي الله عنه -، أحاطت قريش بالبيت، فخرج من خَوْخَةٍ في ظهر الدار. والأول أصح.
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 33، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 53.
(2) في النسخ: "عثمان"، والمثبت من أحمد.
(3) أحمد في "مسنده" (11)، والبخاري (3653)، ومسلم (2381).
(4) انظر "تفسير" البغوي 2/ 293.
(5) أورده الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" 2/ 154 عن الحسن - رضي الله عنه -، والبغوي في "تفسيره" 2/ 293، وابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 439 عن الشعبي. وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 482.
(6) كذا في النسختين، وفي زاد المسير 3/ 440: وفي هاء عليه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر.
(3/163)
________________________________________
وقال الواقدي: جاءت قريش إلى باب الغار -وقد نسجت عليه العنكبوت، وأمر الله شجرة فنبتت في وجه الباب، وجاءت حمامتان فعششتا على الباب- ومعهم القائف فنظر إلى الأقدام وقال: هذا قدم ابن أبي قحافة، وهذا الآخر أعرفه إلا أنه قدم يشبه القدم الذي في المقام -يعني مقام إبراهيم - عليه السلام -، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، فانْصَرَفوا.
وقال ابن سعد: جاءت قريش إلى باب الغار، فرأت العنكبوت قد نسجت عليه، فقال بعضهم لبعض: لو كان ها هنا أحد ما نسجت هذه العنكبوت. وقال بعضهم: هذه العنكبوت هنا قبل أن يولد محمد. وأقبل فتيان قريش من كل بطن قد شهروا سيوفهم، فرأوا الحمامتين فقالوا لأصحابهم: ليس هنا أحد. وسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمَّتَ عليهن، فانحدرت إلى حرم الله، وحرَّم الله صيدهن (1).
وقال ابن إسحاق: ضربت الملائكة وجوه الكفار، فعادوا.
وقال البلاذري: بعثت قريش قائفين يقصان الأثر، أحدهما: كُرْزُ بن علقمة الخزاعي، ومعهما أُبَيُّ بن خلف، فقال القائفان: إلى هنا انتهى الأثر. وقال أمية بن خلف: والله إني لأرى هذا النسج ها هنا قبل أن يخلق محمد، وبال حتى جرى بوله بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي بكر - رضي الله عنه -، ونادت قريش: من جاء بمحمد وبابن أبي قحافة، فله مائتا بعير أو دِيَتهما (2).
وفي الغار يقول أبو بكر - رضي الله عنه - (3): [من البسيط]
قال النبي -ولم أجزع- يُثَبِّتُني ... ونحن في سُدَف من ظُلمة الغارِ
لا تخش شيئًا فإنَّ الله ثالثُنا ... وقد تكفَّل لي منه بإظهارِ
وإنَّما كيد مَن تُخشى بَوادره ... كيد الشَّياطين قد كادت لكفارِ
والله مُهلكهم طُرًّا بما صنعوا ... وجاعلُ المنتهى منهم إلى النَّارِ
* * *
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 195، والتسميت: ذكر الله تعالى على الشيء.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 302.
(3) أورد هذه الأبيات في قصيدة مطولة الفاكهي في "أخبار مكة" 4/ 84، وابن عساكر 30/ 86 من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق.
(3/164)
________________________________________
فصل في سني هجرته - صلى الله عليه وسلم -
واختلفوا في مدة إقامتهما في الغار، على أقوال:
أحدها: ثلاثة أيام وخرجا ليلة الخميس غرة ربيع الأول (1).
والثاني: أنهما خرجا ليلة الاثنين لأربع ليالٍ خَلَوْنَ من ربيع الأول (2).
والثالث: خرجا وقد بقي في صفر ثلاثُ لَيالٍ (3).
وكان عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - يتردد إليهما، وعامر بن فُهَيرة يرعى غنمهما، ويأتيهما باللبن.
أحاديث الهجرة:
قال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا اللَّيث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرَّ علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طَرَفَيِ النهارِ بُكْرةً وعَشِيًّا، فلما ابْتليَ المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِماد، لقيه ابن الدَّغِنَه (4)، وهو سيدُ القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يُخْرَجُ، إنك تَكْسِبُ المَعدوم، وتصِلُ الرَّحِمَ، وتحمل الكَلَّ، وتَقْري الضَّيفَ، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جارٌ، فارجع فاعبد ربك، فرجع وارتحل معه ابن الدَّغِنَةَ، فطاف في أشراف قريش وقال لهم: إن مثل أبي بكر لا يُخْرج، إنه يكْسِب المعدومَ -وذكر بمعنى ما تقدم من
__________
(1) انظر "المنتظم" 3/ 53.
(2) "الطبقات الكبرى" 1/ 199.
(3) انظر "الوفا" ص 238.
(4) الدغنة: بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون. "فتح الباري" 7/ 639.
(3/165)
________________________________________
وصفه-، قال: فأنفذت قريش جوارَ ابن الدَّغِنَةِ، وأمَّنوا أبا بكر، وقالوا: ليعبد ربه في داره، وليصلِّ فيها، ويقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يَستَعْلِنْ به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فأقام أبو بكر يعبد ربه كذلك، ثم بدا له فابتنى مسجدًا بفناء داره، فكان يصلي فيه، فيتقصّف (1) عليه نِساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه، وينظرون إليه، وكان رجلًا بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشرافَ قريش، وأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة فقدم عليهم، فقالوا: كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، والآن فقد أعلن، وإنا نخشى منه أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن اقتصر على عبادة ربه في داره وإلا فسله أن يرد إليك ذِمَّتَكَ، فإنا لا نُقِرُّهُ على ذلك. فذكر ابن الدَّغِنَة ذلك لأبي بكر، وقال: إما أن تقتصر على ما عاهدنا عليه القوم، واما أن تُرْجعَ إليَّ ذِمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أَني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني أردُّ إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي.
قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: "إنِّي أُريتُ دارَ هِجْرتِكُم سَبْخَة ذاتِ نَخلٍ بينَ لابَتَينِ". فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامَّةُ من كان بالحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبلَ المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على رِسلكَ، فإنِّي أَرجُو أنْ يُؤذَنَ لي" فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أترجو ذلك؟ قال: "نَعَم". فحبس أبو بكر - رضي الله عنه - نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلف راحلتين كانتا عنده ورقَ السَّمُرِ أربعة أشهر.
قالت: فبينا نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال له أبو بكر: يا رسول الله، ما جاء بك في هذه الساعة إلا أمر، فقال: "أَخرِجْ مَنْ عِندَك" فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: إنما هم أهلك -وفي رواية: ليس علينا عين، إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء (2) - فقال: "قد أُذِنَ لي في الخُروجِ" فقال أبو بكر: الصحبة -أَو الصحابة- يا رسول الله؟ قال: "نَعَم".
__________
(1) أي: يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض.
(2) أخرجها أحمد في "مسنده" (25774).
(3/166)
________________________________________
قال: فخذ إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بالثمن".
قالت: فجهزناهما أحثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفرة في جِراب، وقطعت أسماء بنت أبي بكر قِطْعةً من نطاقها، فربطت به فم الجِراب، فبذلك سميت: ذات النِّطاقين، ثم لحق أبو بكر ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بغارٍ في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثَقِفٌ لَقِنٌ (1)، يدَّلجُ من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يُكتادانِ به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك إذا اختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فُهَيرَة مولى أبي بكر مِنْحَةً من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعةٌ من العِشاء، فيبيتان في رِسْلٍ [وهو لبن مِنحتهما ورَضيفهما] حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلًا من بني الدّيل من بني عبد بن عدي هاديًا خِرّيتًا [والخريت الماهر بالهداية] قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، لكنهما أمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فأتاهما صُبْحَ ثلاثٍ، فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الدِّيلي، فأخذ بهم على طريق الساحل.
قال الزهري: فحدثني -أو أخبرني- عبد الرحمن بن مالك المُدْلجي وهو ابن أخي سراقة بن جُعْشم الكناني ثم المدلجي، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جُعْشُم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دِيَةَ كلِّ رجل منهما لمن قتله أو أسره، قال: فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدْلج، وأقبل رجل منهم فقال: ياسراقة، إني قد رأيت آنفًا أسْودَةً بالساحل، أُراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم. قال: فقلت له: ليسوا هم، ولكنك رأيتَ فلانًا وفلانًا، انطلَقوا بأَعْيُنِنا، ثم لبثت في المجلس (2)، وقمت فدخلت الخِباء، وأمرت جاريتي أن تُخرج فرسي من وراء الأَكَمَةِ، وأخذتُ رُمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزُجِّه (3) الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، ورفعتها
__________
(1) الثقف: الحاذق، اللقن: السريع الفهم.
(2) في "النسخ": "بالمسجد"، والمثبت من صحيح البخاري.
(3) الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(3/167)
________________________________________
تُقَرِّبُ بي حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي فخررتُ عنها، وقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام [فاستقسمت بها، أضرُّهم أم لا؟ فيخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام (1)] تقرِّب بي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ لا يلتفت، وأبو بكر - رضي الله عنه - يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، ولم تكد تُخرج يدَيها، فلما استوت قائمة إذا لِأَثرِ يديها عُثَانٌ (2) ساطع في السماء مثلُ الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم الأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتُهم أخبارَ ما يريدُ الناس بهم، وعَرَضتُ عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني شيئًا، إلا أنهم قد قالوا: أخفِ عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان؟ فأمر عامر بن فهيرة، فكتب لي رُقعةً من أَدَم، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ الزبير في ركب من المسلمين كانوا تِجارًا بالشام أو قافلين من الشام، فكسا الزبيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابَ بياضٍ، قال: وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يَغْدون كل غداة إلى الحَرَّةِ ينتظرونه حتى يَرُدَّهم حَرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أَطالوا الانتظار، فلما أَوَوْا إلى بيوتهم، أوفى رجل من اليهود على أُطُمٍ من آطام المدينة، لأمر ينظر إليه، فبصُرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مُبَيِّضين يزولُ بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته: يا معاشر العرب، قد أظلكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحرَّةِ، فعدل بهم ذات اليمين، فنزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتًا، فطَفِقَ من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحَيِّي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - حتى ظَلَّلَ
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة من صحيح البخاري.
(2) العثان: الدخان من غير نار.
(3/168)
________________________________________
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك (1).
حديث الرَّحْل:
قال البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله، فاشترى منه رَحْلًا بثلاثة عشرة درهمًا، وقال له: ابعث معي ابنك يحمله إلى منزلي. قال: لا، حتى تحدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم، أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمرُّ فيه أحد، حتى وقعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تَأْتِ عليه الشمس بَعْدُ، فنزلنا عندها فسوَّيتُ بيدي مكانًا ينام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، وبسطت عليه فروة، ثم قلت: نَم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، هل أرى أحدًا من الطَّلَبِ، وإذا براعٍ يُقْبل نحو الصخرةِ بغنمهِ يريد منها الذيَ أردنا، فقلت له: يا غلام، لمن أنت؟ فقال: لرجل من أهل المدينة من قريش. فقلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم. فاعتقل شاة، فقلت: انفض الضرع من القذا والشَّعر والتراب، ففعل، قال: ومعي إداوة أَرتوي فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب منها ويتوضأ، فحلب لي كُثْبةً من لبن في قَعْبٍ، فصببت عليه من الماء حتى برد أسفله، وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكرهت أن أُوقِظَه من نومه، فوقفت حتى استيقظ من نومه، فقلت: اشرب يا رسول الله من هذا اللبن فشرب حتى رضيت، وقال: "ألم يأن الرحيل؟ " قلت: بلى. فارتحلنا بعد الزوال، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد إلا سراقة بن مالك بن جُعْشُم، ونحن في جَلَد من الأرض، فقلت: يا رسول الله، أُتينا؛ هذا الطلب قد لحقنا، فقال: "لا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنا". حتى إذا دنا منا، وكان بيننا وبينه قِيدُ رمح أو رمحين أو ثلاثة وهو على فرس فبكيت، فقال: "ما يُبكيكَ؟ " فقلتُ: ما أبكي على نفسي بل عليك يا رسول الله. فقال: "اللَّهمَّ اكفِناهُ". فارتطمت قوائم فرسه إلى إبطها، ثم ثبتت فساخت في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله لي أن ينجيني مما أنا فيه، والله لأُعَمِّيَنَّ على مَنْ وَرائي من الطَّلَبِ وهذه كنانتي، فخذ منها سهمًا
__________
(1) صحيح البخاري (3905).
(3/169)
________________________________________
فإنك ستمر بإبلي، وغنمي، وغلماني في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَاجَةَ لي فِيها" ودعا له. فانطلق ورجع إلى أصحابه فلا يلقى أحدًا إلا رده، قال: وقدمنا المدينة ليلًا.
قال الحُمَيدي: فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْزِلُ علي بني النَّجارِ أَخوالِ عبدِ المطَّلبِ أُكْرِمُهم بذلِكَ" وصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطريق، وعلى الأجاجير (1) ينادون: يا محمد يا رسول الله (2).
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سلك بهم عبد الله بن أُرَيقِط الليثيُّ من الغار على السواحل وقت السحر ليلة الاثنين، فقالوا يَوْمَ الثلاثاء بقُدَيدٍ، ثم أخذَ أَسْفلَ من عُسْفان، ثم سلك الخرّارَ، ثم مر على ثنية المَرَةِ، ثم على المَدْلَجةِ والرَّوْحاءِ، ثم على العَرْجِ، ثم على بطن رِئْم، ثم إلى المدينة (3).
ذكر لقائه - صلى الله عليه وسلم - بُرَيدةَ بن الحُصَيبِ الأسلمي:
قد ذكرنا أن قريشًا جعلت لمن يَردُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر مئتي بعير، وبلغ بُرَيدةَ فركب في سبعين فارسًا من بني أسلم، فلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطريق فقال له: من أنت؟ فقال: بريدة -وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الفَأْل- فالتفت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وقال: برد أمرنا، ثم قال: فممن أنت؟ قال: من أسلم. قال: سلمنا، ثم قال: من بني من؟ قال: من بني سهم، قال: خرج سهمنا. فأوقع الله في قلب بُرَيدَةَ الإسلام فأسلم ومن كان معه، ثم قال: يا رسول الله، لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، وحلَّ بُرَيدَةُ عِمامَته وشدَّها في رمح، ومشى بها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: يا رسول الله، انزل علي؟ فقال: ناقتي مأمورة. فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو أسلم طائعين غير مكرهين (4).
__________
(1) الأجاجير: جمع إجَّار، وهو السطح.
(2) أخرجه البخاري (3615)، ومسلم 4/ 2309 - 2311، وأحمد (3)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 484 - 483، وبعضهم أتم من بعض في السياق، وانظر "الجمع بين الصحيحين" (3).
(3) لم نقف عليه من حديث ابن عباس. وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 97 - 98، و"الطبقات الكبرى" 1/ 199 - 200.
(4) القصة في "أسد الغابة" 1/ 209، و"المنتظم" 3/ 56 - 57.
(3/170)
________________________________________
حديث أم مَعْبَد (1):
قال أبو معبد الخُزاعي: لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر - رضي الله عنه -، وعامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جَلدة بَرْزَة تقعد بفناء الخيمة، ثم تُسْقي وتطعم، فسألوها تمرًا ولحمًا يشترون منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وإذا القوم مُرْمِلون مُسْنِتون (2)، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزْناكم القِرى، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشاة في كِسْرِ الخيمة (3)، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت: شاة خلَّفها الجَهْدُ عن الغَنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حَلَبًا. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاة، ومسح على ضرعها، وذكر اسم الله عليها وقال: اللهمَّ بارك لها في شاتها. قال: فتفاجَّت ودرَّت واجترَّت، ودعا بإناء يُرْبِضُ (4) الرَّهْطَ، فحلب فيه ثجًّا (5) حتى غلبه الثُّمالُ (6)، وسقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رَوَوْا، وشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخرهم، وقال: "سَاقي القَوْم آَخِرُهم شُربًا" فشربوا عَلَلًا بعد نَهَلٍ (7) حتى أراضوا، ثم حلب فيه ثانيًا عَوْدًا على بَدْءٍ، فغادره عندها، ثم ارتحلوا، فقلَّ ما لبث زوجها أبو معبد أن جاء يسوق أَعْنُزًا حُيَّلًا (8) عِجافًا هَزْلى، فلما رأى اللبن عَجِبَ، فقال: من أين لكم هذا، والشاة عازب (9) ولا حَلوبةَ في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كَيتَ وكَيتَ، فقال: إني والله لأراه صاحب قريش الذي يطلبونه، ثم قال: صفيه لي يا أم معبد،
__________
(1) واسمها عاتكة بنت خالد. انظر "الإصابة" 4/ 497.
(2) مرملون: نفد زادهم. مسنتون: أجدبوا، أي: أصابهم القحط.
(3) كسر الخيمة: أي جانبها.
(4) يربض: أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا.
(5) ثجًّا: أي: لبنًا سائلًا كثيرًا.
(6) الثمال: الرغوة.
(7) العلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول.
(8) جمع حائل وهي التي لم تحمل.
(9) الشاة العازب: البعيدة المرعى.
(3/171)
________________________________________
فوصفته. فقال: هو والله صاحب قريش الذي ذُكِرَ لنا من أمره ما ذكِر، ولو كنت وافيته لالتمست أن أَصْحَبَهُ، ولأَفْعَلَنَّ إن وجدت إلى ذلك سبيلًا، قال: وأصبح صوتٌ عاليًا بمكة بين السماء والأرض يقول ولا يرون شخصه: [من الطويل]
جَزَى الله ربُّ النَّاس خَيرَ جزائه ... رفيقين قالا خَيمَتَي أمّ مَعْبَدِ
هما نَزَلا بالبِرِّ وارتَحلا بهِ ... فأَفلَحَ مَن أمسى رفيقَ مُحَمَّدِ
فيال قُصيٍّ ما زَوَى اللهُ عنكمُ ... به من فَعال لا تجازى وسُوْدَدِ
سَلُوا أُختَكمْ عن شَاتِها وإنائها ... فإنَّكم إن تَسْألوا الشَّاة تشهدِ
دعاها بشاة حائلٍ فتحلَّبَتْ ... له بصريحٍ ضَرَّةُ الشاة مُزْبِدِ (1)
فغادره رهنًا لديها بحالب ... تَدِرُّ بها في مَصْدَرٍ ثمَّ مَورِدِ (2)
فأصبح الناس قد فقدوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه حسان بن ثابت (3): [من الطويل]
لقد خاب قوم زال عنهم نبيُّهم ... وقدِّسَ من يسري إليه ويَغْتدي
ترحَّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحلَّ على قَوْمٍ بنُورٍ مُجَدَّدِ
وهل يستوي ضُلَّالُ قوم تسكَّعوا ... عمًى وهُداةٌ يهتدون بمهتدِ
نبيٌّ يرى ما لا يرى النَّاسُ حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مَشْهدِ
وإن قال في يوم مقالةَ غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غدِ
ليَهْنِ أبا بكر سعادةُ جَدِّه ... بصحبته من يُسْعدِ الله يَسْعَدِ
ويَهْنِ بني سَعد مكانُ فتاتهم ... ومقعدُها للمسلمين بمَرْصَدِ
قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: مكثنا بمكة ثلاث ليال لا ندري أين توجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنَّى بأبيات غناء العرب، نسمع صوته ولا نرى شخصه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
__________
(1) الصريح: اللبن الخالص. والضرة: أصل الضرع. ومزبد: علاه زبد.
(2) مصدر ثم مورد: أي يحلبها مرة بعد أخرى.
(3) الأبيات في ديوانه ص 52، وأخرج القصة ابن سعد في "الطبقات" 1/ 196 - 198، وهي مروية أيضًا عن أم معبد وغيرها انظر "سبل الهدى والرشاد" 3/ 346.
(3/172)
________________________________________
جزى الله رب الناس خير جزائه ... الأبيات، فلما سمعنا صوتَه، علمنا أين توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقال الواقدي: قالت أم معبد: طلع علينا أربعة على راحلتين، فنزلوا بي، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة أريد أن أذبحها له، فإذا هي ذات در فأَدنيتُها منه فلمس ضَرْعَها وقال: لا تذبحيها. وأَخَذْتُ أُخرى غيرها، فذبحتُها وطبختها لهم، فأكل هو وأصحابه منها، وملأت سُفرتهم، وبقي عندي لحمها أو أكثره، وبقيت الشاة التي لمس ضَرعها عندنا حتى كان عام الرَّمادة في عهد عمر - رضي الله عنه -، فكنا نحلبها صبوحًا وغبوقًا، وما في الأرض قليل ولا كثير. وعام الرمادة كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة (2).
ذكر ما جرى بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -:
قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: جاء في تلك الليلة أبو جهل ومعه نفر من قريش، فوقفوا على الباب وصاحوا، فخرجت إليهم، فقال أبو جهل: أين أبوك؟ قلت: لا أدري. فرفع يده فلطم خدي لطمة طرح منها قُرطي، وذكر كلامًا فاحشًا (3).
وقالت أسماء: لما خرج أبو بكر - رضي الله عنه - احتمل ماله كلَّه، وكان ستة آلاف درهم، فدخل عَليَّ جَدِّي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت. كلا قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا، فوضعتها في كُوَّة البيت، وقلت: ضع يدك على المال، فوضعها وقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. قالت: ووالله ما ترك لنا شيئًا، وإنما أردت أن أُسَكِّنَ الشيخ (4).
وقال الطبري: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، سمعت قريش قائلًا في الليل على أبي قُبَيس يقول: [من الطويل]
فإن يُسْلمِ السَّعْدانِ يُضحي مُحمدٌ ... بمكَّةَ لا يخشى خلاف المخالف
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 95 - 96، و"طبقات ابن سعد".
(2) "الطبقات الكبرى" 10/ 273 - 274.
(3) "السيرة" لابن هشام 2/ 95.
(4) "السيرة" لابن هشام 2/ 96.
(3/173)
________________________________________
فلما أصبحوا، قالوا: من السَّعدان؟ فقال أبو سفيان: سعد بن بكر، وسعد بن تميم، فلما كانت الليلةُ القابلة، سمعوه يقول: [من الطويل]:
فيا سَعْدُ سَعْدَ الأَوْسِ كن أنت ناصرًا ... ويا سَعْدُ سَعْدَ الخزرجين الغطارفِ
أجيبا إلى داعي الهُدى وتمنَّيا ... على اللهِ في الفِردَوسِ مُنْيَةَ عارِفِ
فإنَّ ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى ... جِنانٌ من الفردَوسِ ذاتُ رَفارفِ
فقال أبو سفيان: هذان والله سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ (1).
ذكر قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة:
قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وولد يوم الاثنين، ووضع (2) الحجر في الكعبة يوم الاثنين، ونُبِّئَ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
ولما وصل إلى المدينة عدل ذات اليمين، فنزل في بني عمرو بن عوف بقُباء.
قال الواقدي: نزل على كلثوم بن الهِدْمِ أخي بني عمرو بن عوف (3).
وقال الهيثم: نزل على سعد بن خيثمة بن الحارث بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، لأنه كان عَزَبًا ومنزله يسمى منزل العُزاب.
ورُويَ: أنه إنما نزل على كلثوم، وكان يتحدث مع أصحابه في منزل سعد (4).
وروي أنه نزل على أخوال عبد المطلب ليكرمهم بذلك (5).
فيحتمل أنه نزل عليهم ليلة، ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف.
ونزل أبو بكر - رضي الله عنه - على حُبَيب بن إساف، ولما انتقل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قُباء، نزل
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 380 - 381.
(2) كذا هي في النسخ، وجاء الخبر في "تاريخ الطبري" 2/ 393، و"المنتظم" 3/ 63 عن ابن عباس، وفيه: ورفع الحجر.
(3) "الطبقات الكبرى" 1/ 200، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 99، و"المنتظم" 3/ 63.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 200، و"أنساب الأشراف" 1/ 305 - 306.
(5) أخرجه مسلم 4/ 2311.
(3/174)
________________________________________
أبو بكر - رضي الله عنه - على خارجة بن زيد الخزرجي بالسُّنْح وهو مكان بأعلى المدينة (1).
قال عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس ينظرون إلى وجهه، فلما رأيتُه عرفتُ أنه ليس بكذابٍ، فكان مما حَفظتُ من كلامه: "أيُّها الناسُ، أَفشُوا السَّلامَ، وصِلُوا الأرحَامَ، وأَطْعِمُوا الطَّعامَ، وصَلُّوا باللَّيلِ والناسُ نيامٌ، تدخُلُوا الجنَّةَ بسلامٍ" (2).
ثم قدم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه المدينة فنزل على كلثوم بن الهِدْم (3).
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ثلاثًا (4)، وقيل: بضع عشرة ليلة.
وقال ابن إسحاق: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عمرو بن عوف يوم الجمعة سادس وعشرين ربيع الأول، فمر على بني سالم، فجمَّع بهم وخطب، وهي أول جمعة صلَّاها بالمدينة، وذلك الموضع يعرف بوادي رانوناء. وكان معه مئة من المهاجرين (5).
ثم مرت ناقته فبركت في بني النجار على باب دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل عليه وأقام عنده سبعة أشهر، وقيل: شهرًا، والأول أصح.
وأول قَصْعَةٍ أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوب، قصعة من ثريد فيها خبز وسمن أهدتها له أم زيد بن ثابت، فدعا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت قصعة سعد بن عبادة فيها ثريد وعراق، ثم تناوبت الأنصار القِصاعَ كل ليلة (6).
وقال الواقدي: لما ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني سالم إلى المدينة، مَرَّ بجَوَار من الأنصار فَقُلْن:
نحن جَوارٍ من بني النَّجار ... يا حبَّذا محمدٌ من جارِ
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 99.
(2) أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وأحمد في "مسنده" (23784).
(3) انظر "سيرة" ابن هشام 2/ 99.
(4) كذا جاء في نسخنا، والصواب ما جاء في "السيرة" لابن هشام 2/ 99، و"المنتظم" 3/ 65: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها.
(5) "السيرة" لابن هشام 2/ 100، وانظر "المنتظم" 3/ 65، و"الطبقات الكبرى" 1/ 203.
(6) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 203 - 204، والعراق: العظم.
(3/175)
________________________________________
فقال لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله يعلمُ أنِّي أُحبكنَّ" (1).
وكان بالمدينة حَبَشٌ يلعبون بالحراب، فلعبوا بين يديه - صلى الله عليه وسلم -. وما فرح الأنصارُ فرحهم بشيء كفرحهم بقُدومه.
ولما نزل ببني سالم يومَ الجمعة، فخطب وقال: "الحمدُ لله أحمدُه، وأستعينُه وأُومن به، وأعادي مَنْ يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهُدى ودين الحق ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون، من يُطِعِ اللهَ فقد رشد، ومن عصاه، فقد غَوَى"، وأوصاهم بتقوى الله وإصلاح ذات البين. ثم قال في آخر خطبته: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] الآية (2).
ولما ركب ناقته من بني سالم أرخى زِمامَها، فجعلت لا تمر بدارٍ من دور الأنصار إلا دعاه أهلُها: هَلُمّ يا رسول الله إلى العدد والعُدَد والمَنَعَةِ. فيقولُ: "خلُّوا زِمامها فإنها مأمورة" حتى انتهى إلى موضع المسجد اليوم، فبركت عنده وهو مِرْبَدٌ لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو بن عبادة (3)، وهما في حِجرِ مُعاذ بن عَفراء، وقيل: في حجر أسعد بن زرارة.
ولما بَرَكتْ به لم ينزل عنها، فقامت وسارت غيرَ بعيد، ثم عادت إلى مبركها الأوَّلِ فبركت فيه، ووضعت جِرانَها على الأرض، فنزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فخرج أبو أيوب فاحتمل رحلَه، فنزل عليه وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المرء مع رَحْلِهِ" (4). وجاء أسعدُ بن زُرارة فأخذ بناقته، فكانت عنده (5).
وفي رواية: فأسَّسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء المسجدَ الذي أُسّسَ على التقوى، ثم سار إلى المدينة.
__________
(1) وأخرجه البيهقي في "الدلائل" 2/ 508، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 64 من حديث أنس.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 394 - 395، و"المنتظم"3/ 66.
(3) في المصادر: عباد.
(4) الخبر في "تاريخ الطبري" 2/ 396، و"المنتظم" 3/ 67.
(5) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 203.
(3/176)
________________________________________
ذكر بناء مسجده ومساكنه - صلى الله عليه وسلم -
قالت عائشة - رضي الله عنها - في تمام الحديث المتقدم تُعَظِّمُهُ (1): فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضعَ عشرة ليلةً، وأسس المسجدَ الذي أسِّسَ على التقوى، وصلَّى فيه، ثم ركب راحلته، وسار يمشي الناسُ معه، حتى بَرَكَتْ عندَ المسجدِ اليوم، وهو يُصلي فيه يومئذ رجال مِن المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهل وسُهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بنِ زرارة، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا إن شاءَ اللهُ المنزل". ثم دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغُلامين، فساومهما بالمربد ليتخذَه منزلًا ومسجدًا، فقالا: بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله. ثم بناه مسجدًا، وطَفِقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللَّبِنَ في بنيانه ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجرة
قال البلاذري: وهذا لامرأةٍ من الأنصار، وتمامه (2):
وعافِهم من حرِّ نارٍ ساعرة
فإنها لكافرٍ وكافرة
وقال هشام بن محمد: كان المسجد جدارًا مجدَّرًا من غير سقف، وله قبلة إلى بيت المقدس، وكان فيه غَرْقَد ونخيل، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُطِع، وكان فيه قبورُ الجاهلية، فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فنُبشت، ثم أسس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فجعلَ طولَه مما يلي القِبلةَ إلى مؤخره مئة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك، فهو مربع، وجعل عرض أساسه ثلاثة أَذْرُع من حجارة، وبنوا عليها باللَّبِنِ، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا يقال له: باب الرحمة، وهو الذي يُدْعى باب عاتكة، وبابًا يدخل منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يلي دار عثمان - رضي الله عنه -، وبابًا في مؤخره، وجعل ارتفاع الجدار قامةً وبسطةً، وسقفه بجذوع النخل والجريد، وبعضه من النخل الذي كان فيه، فقيل له: ألا تسقفه
__________
(1) كذا في (خ، ك)، ولعلها: المتقدم بعضه، وأخرجه ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 68 من رواية عائشة، وأخرجه البخاري (3906) مطولًا من حديث سراقة بن جعشم - رضي الله عنه -.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 313.
(3/177)
________________________________________
بخشب السَّاج، فقال: "عَرِيشٌ كعَريشِ مُوسى - عليه السلام - " ثم بنى إلى جانبه بيوتًا وسقفها بجذوع النخل، فلما فَرَغَ مِن البناء جعل باب عائشة شارعًا في المسجد، وجعل سودة بنت زَمْعة في البيت الذي يليه (1).
وفي المتفق عليه: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تُشدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسجِدِ الحَرَامِ، ومَسجِدي، والمَسجِدِ الأَقْصى" (2). "فصلاةٌ في مسجدي أَفْضَلُ مِن ألفِ صلاةٍ مما سواه إلا المسجدَ الحرام" (3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: حزَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بَينَ لابَتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدتُ الظباءَ ما بينَ لابتيها ما ذَعَرْتُها، وجَعَلَ حَولَ المدينةِ حمى اثني عشر ميلًا (4).
ذكر مقامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة:
وأقام بمكة ثلاث عشرةَ سنة -يعني بعد النبوة-، وهو الأصح، وقيل: عشر سنين، وقيل: خمس عشرة سنة. وهاجر في أول السنة الرابعة عشرة.
وفيها: بَعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة: زيد بن حارثة وأبا رافع مولياه ليُحضرا أهله، ودفع إليهما بعيرين وخمس مئة درهم اقترضها من أبي بكر - رضي الله عنه -، فحَملا إلى المدينة: فاطمة وأُمَّ كُلثوم عليهم السلام ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت رقية - رضي الله عنه - قد هاجرت مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وحبس أبو العاص بن الربيع زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده، وحمل زيد معه أيضًا ابنه أسامةَ - رضي الله عنه - إلى المدينة، وخرج عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - بأم رومان وعائشة - رضي الله عنها - إلى المدينة، وخرج عبد الله ومعهم طلحة بن عُبَيد الله - رضي الله عنه - (5).
وبلغ أبا أحمد بن جحش الأسدي الأعمى، أن أبا سفيان بن حرب باع دورهم من
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 205 - 206.
(2) جمع المؤلف هنا بين حديثين في سياق واحد، وقد فرق بينهما الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (2194)، وانظر البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(3) أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394)، وانظر الجمع بين الصحيحين (2476).
(4) أخرجه البخاري (1873)، ومسلم (1372) (472) واللفظ له.
(5) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204، و"تاريخ الطبري" 2/ 400، و"المنتظم" 3/ 70.
(3/178)
________________________________________
عمرو بن علقمة العامري بأربع مئة دينار، وقضى بثمنها دينًا كان عليه (1).
ذكر وباء المدينة:
قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي وَبِيَّةٌ، فمرض أبو بكر - رضي الله عنه - فكان إذا أخذته الحُمَّى، يقول: [من الرجز]
كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله
وكان بلال إذا أخذته الحُمى يقول: [من الطويل]
ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إِذْخِرٌ وجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يومًا مِياهَ مَجِنَّةٍ ... وهَلْ يَبْدُوَن لي شَامَةٌ وطَفيلُ
اللهمَّ العن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من مكة، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لقوا، قال: "اللَّهمَّ حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبّنا مكَّةَ أو أشدَّ، اللَّهمَّ صحِّحها وبارِكْ لنا في صَاعِها ومُدِّها، وانقل حُمَّاها إلى الجُحفَة". قالت: فكان المولود يولد بالجُحفةِ، فما يبلغ الحُلم حتى تصرعه الحمى. متفق عليه (2).
ذكر أول امرأة بايعته - صلى الله عليه وسلم -:
أول امرأة بايعت سول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة: ليلى بنت الخَطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظَفَر، تزوجها في الجاهلية مسعود بن أوس، فولدت له: عُمَيرة وعَمْرَةَ، وتوفي عنها، ووهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم استقاله بنو ظَفَر فأَقالهم، وفارقها. وكانت غيورًا، وكان يقال لها: أُكْلَةُ الأسد، وقد ذكرت في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي لم يدخل بِهِنَّ (3).
وفيها: بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة - رضي الله عنها - بالسُّنحِ في منزل أبي بكر - رضي الله عنه -، وكانت بنت تسع سنين، وقيل: ست سنين، والأول أصح. ودخل بها في ذي القعدة، وقيل: في
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 104.
(2) أخرجه البخاري (1889)، ومسلم (1376)، وأحمد في "مسنده" (26240).
(3) "الطبقات الكبرى" 10/ 318.
(3/179)
________________________________________
رمضان، وقيل: في شوال، وهو الأصح.
وفي مسلم: أنها كانت تستحب أن تدخل نساءها في شوال، فقيل لها في ذلك، فقالت: وهل تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شوال، وهل دخل بي إلا في شوال، وأي نسائه كان عنده أحظى مني؟ (1)
قال أبو عاصم: إنما كره الناس أن يدخلوا النساء في شوال لطاعون وقع فيه في الجاهلية (2)، فخالفتهم عائشة - رضي الله عنها - في ذلك، وأدخلت نساءها في شوال.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزَّق شعري فوفى جُمَيمَةً، فأتتني أمي أم رُومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخَتْ بي فأَتَيتُها، والله ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأَنْهَجُ حتى سكن بعض نَفَسِي، ثم أَخَذَتْ شيئًا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نِسْوَة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلمتني إليهن، فأَصْلَحْنَ شأني فلم يَرُعْني إلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين، فقلت: هه هه، وكنت ألعب بالبنات مع الجواري، فيدخل علي فينقمعن منه صواحبي، فيخرج فيُسَرِّبهنَّ إليَّ أو عليَّ. متفق عليه (3).
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألعب بالبنات، فقال: "ما هذه"؟ قلت: خيل سليمان - عليه السلام -، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وفيها: زيدَ في صلاة الحضر ركعتين، فصارت أربعًا أربعًا وذلك بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر في ربيع الآخر (5).
وفيها: ولد النعمان بن بشير، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة (6).
__________
(1) صحيح مسلم (1423).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 61.
(3) أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422).
(4) أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات 8/ 62، وأخرجه مطولًا أبو داود (4932).
(5) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 400.
(6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 401.
(3/180)
________________________________________
وفيها: نزل أهلُ الصُّفَّةِ المسجدَ ومن جاء مهاجرًا، وكان أهل الصفة ناسًا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينزلون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ يَظَلُّون فيه، وليس لهم مأوى غيره، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم في الليل إذا تعشى فيفرقهم في أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه حتى جاء الله بالغِنى، وفيهم نزل: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 273]، ولم يكن لهم بالمدينة عشائر، فحَنَّنَ الله الناس ليتصدقوا عليهم (1).
ومنهم واثِلَة بن الأسْقَع أبو قِرصَافة، ونُبَيْط بن شُرَيط الأشجعي (2)، وطلحة بن عمرو الليثي.
قال وائلة: كنت من أصحاب الصُّفة، وما منا إنسان يجد ثوبًا تامًّا، قد جعل الغبار والعرق في جلودنًا طرقًا (3). وكنا عشر سنين (4).
منهم: عَبَّاد بن خالد الغفاري، وربيعة بن كعب الأسلمي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجَرْهَد بن رِزاح الأسلمي (5)، ويعيش بن قيس بن طِهْفَة الغفاري (6) في آخرين.
وفيها: أعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانًا ليُصلِّي فيه على الجنائز. قال الواقدي: فهم إلى اليوم يصلون فيه على الجنائز (7).
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 1/ 219.
(2) لم نقف على ذكره في أهل الصفة، وهو معدود من صغار الصحابة، انظر "الاستيعاب" بهامش الإصابة 3/ 564، و"تقريب التهذيب" ص 491.
(3) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (1203)، والبيهقي في "الشعب" (10321).
(4) كذا وردت هذه العبارة في النسختين، ولعلها قطعة من حديث واثلة الذي أخرجه أحمد (16006)، والبيهقي في الشعب (5921) قال: كنت من أصحاب الصفة ... فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ... ثم قال: انطلق ادع لي عشرة من أصحابك أنت عاشرهم ....
(5) هو جرهد بن خويلد بن بجرة بن عبد ياليل بن زرعة بن رزاح، انظر "الإصابة" 1/ 231.
(6) جاء في النسخ: يعيش بن طلحة الغفاري، والمثبت من طبقات ابن سعد 1/ 220 وهذا ليس من أصحاب الصفة، بل كان أبوه من أهل الصفة، كما صرح يعيش بذلك في حديث أبي داود (5040) قال: كان أبي من أصحاب الصفة، وكما في طبقات ابن سعد، وانظر "الإصابة" 2/ 235.
(7) جاء في "الطبقات الكبرى" 1/ 220 - 221: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة إذا =
(3/181)
________________________________________
وفيها: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار واختلفوا في عددهم على أقوال:
أحدها: أنهم كانوا تسعين رجلًا، خسمة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار (1).
قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حالف بين المهاجرين والأنصار (2).
[وكان ذلك] قبل وقعة بدر على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الموتِ دون ذوي الأرحام، وهم تسعون رجلًا، خمسة وأربعون من المهاجرين وخمسة وأربعون من الأنصار، فلما كانت غَزاةُ بدر، وأنزل الله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] نسخت آية المواريث المؤاخاة، ورجع كل إنسان إلى نسبه، وورث أولو الأرحام، وبقيت المؤاخاة فيما دون الميراث (3). ومعنى حالف أي: آخى.
والثاني: أنهم كانوا ثلاث مئة.
والثالث: مئتين.
والرابع: مئة، خمسون من هؤلاء، وخمسون من هؤلاء.
وفيها: أسلم عبد الله بن سَلَام بن الحارث (4) أبو يوسف، قال عبد الله بن سلام:
__________
= حفر منا الميت أتيناه فأخبرناه، فحضره واستغفر له، حتى إذا قبض انصرف ومن معه، وربما قعد حتى يدفن، وربما طال ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حبسه، فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نؤذن النبي بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشقة عليه ولا حبس، قال: ففعلنا ذلك، فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت، فيأتيه فيصلي عليه ويستغفر له. فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت، فكنا على ذلك أيضًا حينًا، ثم قالوا: والله لو أنا لم نشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيصلي عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه، ففعلنا ذلك.
قال الواقدي: فمن هناك سمي ذلك الموضع موضع الجنائز، لأن الجنائز حملت إليه .. وانظر "أخبار المدينة" لابن شبة 1/ 7 - 8.
(1) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204 - 205.
(2) أخرجه البخاري (7340)، ومسلم (2529).
(3) انظر "الطبقات الكبرى"1/ 204 - 205، وما بين حاصرتين زيادة منه.
(4) في النسخ "الحصين" والمثبت من مصادر ترجمته، ويقال: كان اسمه الحصين فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر "الطبقات الكبرى" 5/ 377.
(3/182)
________________________________________
تعلَّمتُ التوراة من أبي، وعرفتُ تأويلها، فوقفني على صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماتِه فيها. وقال: إن كان من ولد هارون اتبعته، ومات قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فبينا أنا في عِذْقٍ أَجْني رُطَبًا، صاح صائح من بني النَّضير: قدم صاحب العرب اليوم. فكبرتُ تكبيرةً عالية، وعمتي عجوز تحت العِذْق، فقالت: أي حبيب، والله لو كان القادم موسى - عليه السلام - ما زِدْت على ما صَنَعْتَ. فقلت: هو أخو موسى - عليه السلام - ونبيٌّ مثله، ثم نَزَلْت وأَتَيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرفتُه بالصّفة، وحدَّثتُه حديث أبي، وأسلمت، ثم أَسلَمَتْ عمتي (1).
وأسلم مُخَيريق اليهودي (2)، وفيه نزل قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} الآية [الأحقاف: 10].
وفيها: أسلم أبو قيس صِرْمةُ بن أبي أنس النجاري (3).
وفيها: رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الأذان في منامه.
قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه: لما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب بالنَّاقوس يجمع الناس للصلاة وهو كاره لموافقة النصارى، طاف بي من الليل طائف وأنا نائم، رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله، فقلت له: يا عبد الله، ألا تبيع النَّاقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت. ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبرُ الله أكبر، الله أكبرُ الله أكبرُ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح، الله أكبرُ الله أكبر لا إله إلا الله. ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبرُ الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاةُ قد قامت الصلاةُ، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحتُ أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت، فقال: "رُؤيا حَق إن شَاءَ اللهُ تعالى" ثم
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 118، ولم نقف على هذا السياق في أي من المصادر.
(2) انظر "الإصابة" 3/ 393.
(3) انظر الخبر في السيرة 2/ 112.
(3/183)
________________________________________
أمر بالتأذين، فكان بلال يؤذن بذلك ويدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم، فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، مرتين. قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر (1).
فالتأذين ثبت بحديث عبد الله بن زيد بإجماع الأمة، لا يُعرَفُ بينهم خلافٌ، إلا ما روي عن محمد بن الحنفية فإنه كان ينكر هذا، ويقول: أتعمدون إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم الدين، فتثبتونه بمنامٍ كلّا، وإنما أخبرني أبي علي - عليه السلام - أنه ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وجمع له الأنبياء هناك، قام جبريل فأذَّن وأقام، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بهم، ثم أعاد جبريل الأذان في السماء، فسمعه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الأرض، فالأذان ثبت بقول جبريل - عليه السلام - لا بمنام يحتمل الصدق والكذب، وقد يكون أضغاث أحلام.
والجواب: لو ثبت الأذان بقول جبريل - عليه السلام - لما احتاجوا إلى المشورة، والمعراج كان قبل الهجرة، فلو تقدم فيه توقيف لما أشار البعض بالناقوس وغيره (2).
وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة رضوان الله عليه لواءً أبيض بيده، وهو أول لواءٍ عُقِدَ بيده، وكان يحمله أبو مرثد كنَّاز بن الحصين الغَنَوي حليف حمزة، وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مُهاجَرِه، وبعث معه ثلاثين رجلًا من المهاجرين، ولم يبعث معه أحدًا من الأنصار لأنهم شرطوا عليه أن يمنعوه في دارهم لا خارجًا، وخرج حمزة - رضي الله عنه - يعترض لِعير قريش، لقي أبا جهل -لعنه الله- وهو في ثلاث مئة، واصطفوا للقتال، فحال بينهم مَجْدي (3) بن عمرو الجُهَني، وكان حليفًا في قريش للفريقين، ومشى بينهم فلم يَجْر قتال، وعاد حمزة إلى المدينة ومضى أبو جهل إلى مكة (4).
وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن المطلب لواءً في شوال، وأَمَره أن
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (16477).
(2) انظر "السيرة الشامية" 3/ 523.
(3) جاء في "دلائل النبوة": مخشي.
(4) الخبر في "السيرة" لابن هشام 2/ 174، و"الطبقات الكبرى"2/ 6، و"تاريخ الطبري" 2/ 402، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 8 - 9، و"المنتظم" 3/ 80.
(3/184)
________________________________________
يسير إلى بطن رابغ على رأس ثمانية أشهر من مُهاجَرِه في ستين رجلًا من المهاجرين، وكان حامل اللواء مِسطَحَ بنَ أُثَاثةَ، فالتقى بأبي سفيان بن حرب على ماءٍ يقال له: أحياء، وأبو سفيان في مئتي راكب من قريش، وكان مع عبيدة سعد بن أبي وقاص، فرمى يومئذ في الكفار، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وترامَوْا بالنَّبْل، ثم انصرف الفريقان ولم يَجْر بينهم مُسايَفةٌ، وفر إلى المسلمين المقداد وعتبة بن غزوان، وكانا قد أسلما، وإنما خرجا ليتوصلا إلى المسلمين بالمشركين (1).
وقال ابن إسحاق: كانت هذه السرية في السنة الثانية، وكان على المسلمين مِكرَز بنُ حفص، وعلى الكفار أبو جهل (2).
وفيها: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسَعدِ بن أبي وقاص لواء أبيض، وأرسله إلى الخَرَّار، وكان حاملُه المقداد بنَ عمرو، وبعث معه عشرين رجلًا من المهاجرين، وكانوا رجَّالةً يعترض عِير قريش، وعهد إليه أن لا يجاوز الخرّار، وهو واد بين الجحفة ومكة، ففاتَتْهم العير إلى مكة، فعادوا إلى المدينة (3).
وفيها: فرض القتال، ونزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية [الحج: 39] (4).
وفيها: كانت قصة فاطمة بنت النعمان مع تابعها من الجن.
قال علي بن الحسين - عليه السلام -: كانت امرأة من بني النجار، يقال لها: فاطمة بنت النعمان لها تابع من الجن، فكان يأتيها، فأتاها يومًا حين هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانقضَّ
__________
(1) "السيرة" لابن هشام 2/ 171، و"الطبقات الكبرى" 2/ 6 - 7، و"تاريخ الطبري" 2/ 402، و"دلائل النبوة" 3/ 10، و"المنتظم" 3/ 80 - 81.
(2) كذا، والذي في السيرة 1/ 592: أنه كان على الكفار عكرمة بن أبي جهل، وقيل: مكرز بن حفص، وانظر طبقات ابن سعد 2/ 7.
(3) هذه رواية الواقدي في "المغازي" 1/ 11، وعنه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 7، والطبري في "تاريخه" 2/ 403. ورواية ابن إسحاق أنهم كانوا ثمانية رهط من الهاجرين، انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 178.
(4) لم نقف على من عين السنة التي فرض فيها القتال إلا ما ذكر المقدسي في "البدء والتاريخ" 4/ 180 فقال: وكانت سنة الهجرة عشرة سنين: السنة الأولى سنة الهجرة، والثانية سنة الأمر بالقتال. وانظر كلام الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه "السيرة النبوية" 2/ 75 - 76.
(3/185)
________________________________________
على الحائط، فقالت: ما لك لم تأت كما كنت تأتي؟ فقال لها: قد جاء نَبيٌّ يحرم الزنا والخمر (1).
وقيل: إن المختار (2) وزيادًا (3) ولدا في هذه السنة (4).
فصل في ذكر من توفي من الأعيان
أسعد بن زُرارَة (5)
ابن عُدَس بن عُبيد بن ثعلبة بن غَنْم بن النجار، وأمه سعاد بنت رافع خزرجية.
وأسعد من الطبقة الأولى من الأنصار، وكنيته: أبو أمامة، وهو أحد النقباء الاثني عشر، حضر العقبتين مع الأنصار، وكانت وفاته بالذَّبْحةِ قبل أن يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بناء مسجده، ودفن بالبقيع، وله صحبة ورؤية، وليس له رواية.
البراء بن مَعْرور (6)
ابن صخر بن سنان بن عُبَيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، أحدُ النقباء الاثني عشر، وأمه: الرَّباب بنت النعمان ابن امرئ القيس من الأوس.
والبراء من الطبقة الأولى من الخزرج شهد العقبتين، وكانت وفاته في صفر قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو أول من مات من النقباء، ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صلى على قبره وترحَّمَ عليه، وقال: "اللهمَّ ارض عنه وقد فَعَلْت" وهو أول من أوصى
__________
(1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 1/ 140، و"المنتظم" 3/ 81 - 82.
(2) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب مات سنة 67 هـ وسيذكره المصنف فيها.
(3) هو زياد بن عبيد الثقفي الملقب بزياد لأبي أبيه، مات سنة 53 هـ وسيذكره المصنف فيها.
(4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 402.
(5) انظر ترجمته في: "السيرة" لابن هشام 2/ 110، و"الطبقات الكبرى" 5/ 562، و"تاريخ الطبري" 2/ 397، و"المنتظم" 3/ 82، و"الكامل" 2/ 110، و"أسد الغابة" 1/ 86، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 299، و"الإصابة"1/ 34.
(6) طبقات ابن سعد 3/ 571، والمنتظم 3/ 83، وأسد الغابة 1/ 207، وسير أعلام النبلاء 1/ 267، والإصابة 1/ 144.
(3/186)
________________________________________
بثلث ماله، وأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان له من الولد: بِشْر، ومبشِّر، وهند، وسُلافةُ، والرَّباب، أسلموا وبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
جُنْدع بن ضمرة الجُنْدَعي (1)
واختلفوا في اسمه، وكان قد مرض بمكة، فقال لبنيه: أخرجوني منها. قالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، وهو يريد الهجرة، فلما بلغ أضاة بني غِفار مات، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية (2).
كلثوم بن الهِدْم (3)
ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف الأنصاري الذي نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بقباء، وهو من الطبقة الأولى من الأوس.
كان رجلًا صالحًا كبيرًا شريفًا، أسلم قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وحسن إسلامه، ونزل عليه جماعة من الصحابة (4). وقيل: إنه توفي في السنة الثانية.
وفيها: -يعني في السنة الأولى من الهجرة- توفي من رؤساء الكفار:
الأسود بن عبد يَغوث
ابن وهب بن عبد مناف، وكان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يومًا إلى البرِّيَّة، فعطش، فاسودَّ وجهُه، فأتى داره فلم يعرفوه، وأغلقوا في وجهه الباب، فمات عطشًا (5).
وقيل: أخذ جبريل - عليه السلام - في عنقه، فحنى ظهره حتى احقوقب، فقال رسول الله
__________
(1) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 5/ 119، و"الإصابة" 1/ 251. وذكره ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 176 ضمن وفيات السنة الثالثة.
(2) الخبر في الطبقات الكبرى" 5/ 119 - 120.
(3) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 3/ 574، و"المنتظم" 3/ 83، و"أسد الغابة" 4/ 495، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 242، و"الإصابة" 3/ 305.
(4) الخبر في "الطبقات الكبرى" 3/ 574.
(5) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 150، و"الكامل" 2/ 71، وعندهما: أصابته السموم فاسود وجهه.
(3/187)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم -: خالي خالي. فقال جبريل - عليه السلام -: دعه دعه. فهلك (1). وفيه نزل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] ودفن بالحجون.
العاص بن وائل السهمي
أبو عمرو، وكان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرج من مكة يريد الطائف على حماره، وكان له به مال، فربض به الحمار على شِبْرِقة، فأصابت رجله شوكة، فانتفخت وصارَ مثل عنق البعير فهلك منها، وهو ابن خمس وثمانين سنة (2).
الوليد بن المغيرة
ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو عبد شمس، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسمي نفسه: الوحيدَ والعِدْلَ، أي: أنه وحيد قومه ولا يعادله أحد، وفيه نزل قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] الآيات (3).
وقال الوليد لسعيد بن العاص: يا أبا أُحيحة، هلا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم مثلك أو مثل عروة بن مسعود الثقفي، فقال له سعيد: أو مثلك يا أبا عبد شمس، فنزل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} (4) [الزخرف: 31].
وطئ الوليد سهمًا فخدشه، فتممه جبريل، فهلك وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون (5).
ولما احتضر جلس عند رأسه أبو جهل، فجزع جزعًا شديدًا، فقال له أبو جهل: يا عم، فيم جزعك وأنت سيد قريش، وقد عُمِّرت طويلًا، ولك المفاخر والمآثر، وأنت
__________
(1) أخرجه البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 150، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 104 وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(2) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 158، و"الكامل"2/ 72.
(3) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 151 - 152، و"المنتظم" 3/ 84، و"الكامل"2/ 71.
(4) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 153.
(5) الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 153، و"الكامل" 2/ 72، والنص عندهما: وكان مرَّ برجل من خزاعة يريش نبلًا فوطئ على سهم منها فخدشه، ثم أومأ جبريل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه.
(3/188)
________________________________________
أول من خلع نعليه عند دخول الكعبة، وقطعْتَ في السَّرِقة، وقضيت في الخُنثى من حيث يبول؟ وعَدَّدَ مآثره. فقال: والله ما بي جزع من الموت، وإنما أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، وكان أبو سفيان جالسًا عند رأسه، فقال: يا عم، لا تجزع فأنا ضامن لك أنه لا يظهر بمكة أبدًا، ومات (1).
وفي هذه السنة صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه (2).
عن سلمة بن الأكوع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلًا من أسلم أن يؤذن في الناس يوم عاشوراء: "من كان صائمًا فليتم صومه ومن كان آكلًا فلا يأكل وليتم صومه". أخرجاه في "الصحيحين" (3).
* * *
__________
(1) انظر "المنتظم" 3/ 84، و "السيرة" لابن هشام 2/ 40، و"دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 316.
(2) قال ابن حجر في "الفتح" 4/ 772: كان الأمر بصيام عاشوراء أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية فرض لشهر رمضان.
(3) أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135).
(3/189)
________________________________________
السنة الثانية من الهجرة
وفيها تزوج علي - عليه السلام - فاطمةَ - رضي الله عنها - في صفر (1). وقيل: في رجب، وقيل: في رمضان، ودخل بها في ذي الحجة، وقيل: مَرْجِعَهُ من بدر (2).
ذكر خطبتها:
قال ابن سعد: حدثنا مسلم (3) بن إبراهيم، حدثنا المنذر بن ثعلبة، حدثني عِلْباءُ بن أحمر اليَشْكري، أن أبا بكر - رضي الله عنه - ذكر فاطمة، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أَنتظِرُ بها القَضَاء" فذكر أبو بكر ذلك لعمر فقال: ردَّك. ثم خطبها عمر - رضي الله عنه - فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فأخبر عمر أبا بكر، فقال: ردَّك يا عمر. ثم إنَّ أهلَ علي قالوا: اخطبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أَبَعْدَ أبي بكر وعُمَرَ؟ فذكروا له قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطبها فزوَّجه إياها، فباع عليٌّ بعيرًا ومتاعًا بأربع مئة درهم وثمانين درهمًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعل ثلثين في الطيب وثلثًا في المتاع".
وقد اختلفت الرواية في كيفية الخطبة:
فذكر ابن سعد أيضًا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما تَصْدُقها"؟ فقال: ما عندي شيء. فقال: "أينَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ"؟ قال: عندي، قال: "فأَصْدِقْها إيَّاها" (4).
وروى عبد الكريم (5) بن سَليط، عن بريدة، عن أبيه، قال: أتى علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلَّم عليه. فقال: "ما جَاءَ بكَ"؟ فقال: أخطب فاطمة. فقال:
__________
(1) انظر "المنتظم" 3/ 84.
(2) جاء في "الطبقات الكبرى" 10/ 23 قال: تزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجب بعد مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من بدر.
(3) في النسخ: "مسلمة" والمثبت من "الطبقات" 10/ 20.
(4) "الطبقات الكبرى" 10/ 21.
(5) في النسخ: "عبد العزيز" والمثبت من "الطبقات" 10/ 21، وانظر "تهذيب الكمال" 18/ 250.
(3/190)
________________________________________
"مَرْحَبًا وأَهْلًا". ولم يزده على ذلك، فخرج علي إلى نفر من الأنصار، فقالوا: ما قال لك؟ فأخبرهم، فقالوا: قد أعطاك الأهل والمَرْحب، ثم زوجه بعد ذلك.
قال ابن سعد: ولما خطبها علي - رضي الله عنه -، دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خدرها، وقال: إن عليًّا يطلب فاطمة (1).
فصار ذلك أصلًا في كلِّ بِكْر تُستأمر.
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يزوج أحدًا من بناته، جلس إلى خدرها وقال: "إن فُلانًا يَذكرُ فُلانةَ". فيسميها ويسمي الرجل الذي ذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر، فإذا نقرته لم يزوجها (2).
وفيها: كانت غزاة الأَبواء (3) في شهر ربيع الأول، وهي أول غزاةٍ غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. واستخلف على المدينة سعْدَ بنَ عُبادةَ، وحمل لواءه حمزةُ بن عبد المطلب وكان أبيض، وخرج في المهاجرين لا غير يتعرَّض لِعير قريش، فأقام بالأبواء ووَدَّان خَمْسَ عَشرة ليلة، ووادعَ مَخْشيَّ بن عَمْرو سيّدَ بني ضمرة، أن لا يغزوهم ولا يغزونه، ولا يعينون عليه أحدًا، وكتب بينه وبينهم كتابًا، ثم عاد إلى المدينة ولم يلق كيدًا.
وفيها: كانت غزاة بُواط (4) في ربيع الأول أيضًا، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في المهاجرين، وكانوا مئتين يتعرض أيضًا لعير قريش، وكان فيها أمية بن خلف الجمحي في مئة رجل من قريش، وفيها ألفان وخمس مئة بعير، وحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، وكان أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم رجع ولم يلق كيدًا.
وفيها: كانت غزاة سَفَوان (5) في آخر ربيع الأول مَرْجِعَه من بُواط، وسَفَوان وادٍ
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 10/ 20.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (24494).
(3) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 170، و"المغازي" 1/ 11، و"الطبقات الكبرى" 2/ 7، و"تاريخ الطبري" 2/ 407، و"المنتظم " 3/ 88 وهي غزوة وَدَّان.
(4) بواط: بضم الباء وفتحها. وانظر الخبر في "السيرة" 2/ 176، و"المغازي" 1/ 12، و"الطبقات الكبرى" 2/ 8، و"تاريخ الطبري" 2/ 407, و"المنتظم" 3/ 89.
(5) وهي غزوة بدر الأولى, انظر الخبر في "السيرة" 2/ 178، و"المغازي" 1/ 12، و"الطبقات الكبرى" 2/ 8، و"تاريخ الطبري" 2/ 407، و"المنتظم" 3/ 89 - 90.
(3/191)
________________________________________
بالحجاز، وكان كُرْز بن جابر الفهري قد أغار على سَرْح المدينة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه في المهاجرين، وحمل علي - عليه السلام - لواءه، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، ومضى حتى بلغ سَفَوان، وفاته كُرْزٌ فرجع إلى المدينة.
وفيها: كانت غزاة ذات العُشَيرة (1)، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في جمادى الآخرة في مئة وخمسين راكبًا من المهاجرين، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، فبلغ ذات العُشَيرَةِ يتعرض لعير قريش ففاتته إلى الشام، وهذه العير لما رجعت من الشام خرج يعترضها، فكانت وقعة بدر في رمضان، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ووادع مُدْلجًا (2) فأكرموه، وأحسنوا ضيافته.
وفي هذه الغزاة كنّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبا تراب (3).
وفيها: كانت سرية عبد الله بن جحش (4) إلى نخلة، في جمادى الآخرة (5)، وكانوا اثني عشر، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: ثمانية، وقيل: تسعة، وهم: عبد الله بن جَحْش، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وعُكَّاشةُ بن مِحْصَن، وأبو حذيفة بن عتبة، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة (6)، وواقد بن عبد الله، وكان كل اثنين يعتقبان بعيرًا، وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرصدوا عير قريش بنخلة.
قال عروة بن الزبير: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعبد الله بن جحش كتابًا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه ويمضي لما أمره به، ولا يستكرهنَّ أحدًا من
__________
(1) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 176، و"المغازي" 1/ 12 - 13، و"الطبقات الكبرى" 2/ 9، و"تاريخ الطبري" 2/ 408، و"المنتظم" 3/ 90. ويقال لها: العسيرة، بالسين المهملة.
(2) في النسخ: "مذحجًا"، والمثبت من المصادر.
(3) انظر "الطبقات الكبرى"2/ 9.
(4) انظر "السيرة" 2/ 178، و"المغازي" 1/ 13، و"الطبقات الكبرى" 2/ 9، و"تاريخ الطبري" 2/ 410، و"المنتظم" 3/ 91.
(5) ولعل الصواب أنها كانت في رجب كما في "المصادر"، وانظر "دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 17.
(6) جاء في "السيرة": عامر بن ربيعة. ويؤيده ما أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3479) و"الإصابة" 2/ 537 عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية نخلة ...
(3/192)
________________________________________
أصحابه، فسار يومين ثم نظر في الكتاب، وإذا فيه: "أما بعد: فإذا نظرت في كتابي هذا، فَسِرْ حتى تنزل بطن نخلة بين مكة والطائف، فترصدَ بها عير قريش، وتعلمَ أخبارهم لنا".
قال ابن إسحاق: فلما قرأه استرجع، ثم قال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه، وقال: من رغب منكم في الشهادة، فلينطلق معي، ومن كرهها فليرجع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أستكره أحدًا. فساروا معه ولم يتخلف منهم أحد، فسلك الحجاز، حتى إذا كانوا بمَعْدِنٍ فَوْق الفُرْعِ أَضلَّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غَزْوان بعيرهما، فتخلَّفا في طلبه، ومضى عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلةَ، ومرت عير قريش تحمل زبيبًا، وأَدَمًا، وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، فلما رآهم القوم هابوهم، وكانوا قد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكُّاشةُ وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمِنوا وقالوا: عُمّارٌ لا بأس عليكم منه. وكان ذلك آخر يوم من جمادى الآخرة، فتشاوروا في أمرهم وقالوا: والله لئن تركتم هذه الليلة ليدخلن الحرم فيمتنعون منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، لأن بعضهم ظن أنه أول يوم من رجب. ثم عزموا على قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عَمْرَو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كَيْسان، وأفلت نوفلٌ إلى مكة، واستاقوا العير والأسيرين إلى المدينة، وهي أول غنيمة قسمت في الإسلام، وأول لواء جرى تحته قتال، فلما قدموا المدينة وقَّفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر العير والأسيرين، وقال: "ما أمرتكُم بالقِتَال في الشَّهر الحرام". ولم يأخذ منه شيئًا، وسُقِط في أيدي القوم: عبد الله وأصحابِه ولامهم المسلمون، وقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، فسفك الدماءَ وأخذ المال وأسر الرجال، وتفاءلت اليهود بذلك، وقالت: واقد: وقدت الحرب، وعمرو: عمرت، والحضرمي: حضرت، وضاق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجلس عبد الله ومن كان معه في بيوتهم، وضاق بهم ذرعًا، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] الآية، فكانت تسليةً لعبد الله وأصحابه, وفرَّج الله عنهم، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين، وقيل: حبسهما حتى قسَّمهما مع غنائم بدر، وبعثت قريش في فداء الأسيرين، فقال رسول الله
(3/193)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم -: حتى يقدم صاحبانا سعد وعُتبة. فأقاما حتى قدما، ففاداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل شهيدًا ببئر معونة.
وفي هذه السنة: سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وهو أول من تسمى بها.
وفي هذه السنة: تحولت القبلة إلى الكعبة في شعبان، وقيل: في يوم الاثنين النصف من رجب.
عن ابن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الفجر، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها -وكانت وجوههم إلى الشام- فاستداروا إلى الكعبة. متفق عليه (1).
وكانت صلاته إلى البيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وقيل: ثمانية عشر شهرًا، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: تسعة أشهر.
وفيها: جدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد قُباء لمّا صُرِفت القبلة إلى الكعبة.
عن سهل بن سعد قال: لما صرفت القبلة إلى الكعبة، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء، فقدَّم جدار المسجد إلى موضعه اليوم، وأسَّسه بيده، ونقل الحجارة ونقل معه أصحابه لبنائه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه كل سبت ماشيًا، قال سهل: وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن صلَّى في مسجدِ قُباءَ، كان له أجرُ عُمرةٍ" (2).
وقال ابن عباس: لو كان في طرف من أطراف الأرض، لضربنا إليه أكباد الإبل، وكان يأتيه كل خميس ويقول: هو المسجد الذي أسس على التقوى (3).
وفيها: نزلت فريضة رمضان في شعبان (4).
وفيها: كانت غزاة بدر الكبرى (5) في سابع عشر رمضان، وقيل: في تاسع عشره،
__________
(1) أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 210، وأخرجه العقيلي في الضعفاء 1/ 220 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
(3) "الطبقات الكبرى" 1/ 210 عن عمر - رضي الله عنه -.
(4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 417.
(5) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 182، و"المغازي" 1/ 19، و"الطبقات الكبرى" 2/ 10، و"تاريخ الطبري" 2/ 421، و"المنتظم" 3/ 97.
(3/194)
________________________________________
وبدر اسم ماء، وقيل: بئر لرجل يدعى بدرًا، وهو عن يمين طريق مكة بين مكة والمدينة.
والسبب في هذه الغزاة، أن أبا سفيان بن حرب كان خرج إلى الشام في عير فيها أموال قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بسببها ففاتته -كما ذكرنا-، ثم بلغه خبر عَوْدِها من الشام، فخرج يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وقيل: أبو لُبابة (1) بن عبد المنذر، وأُخبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في العير من الأموال وبقلّةِ عددهم، فخرج معه جماعة من الأنصار لم يكن غزا بهم قبل ذلك، وإنما خرجوا طمعًا في الأموال، ولا يُحَدِّثون أنفسهم بكثير قتال، وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عسكره ببئر أبي عِنبَة وهي على ميل من المدينة، وبعث طلحة بن عُبَيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يتحسسان خَبَر العير.
قال ابن سعد: جميع من شهد بدرًا من المهاجرين الأولين من قريش وحلفائهم ومواليهم في عدد ابن إسحاق: ثلاثة وثمانون، وفي عدد الواقدي: خمسة وثمانون (2).
وجميع من شهدها من الأوس ضرب له بسهمه وأجره في عدد موسى بن عقبة والواقدي: ثلاثة وستون، وفي عدد ابن إسحاق وأبي معشر: أحد وستون (3).
وجميع من شهدها من الخزرج في عدد الواقدي: مئة وخمسة وسبعون، وفي عدد ابن إسحاق مئة وسبعون، قال: فجميع من شهدها من المهاجرين والأنصار، ومن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهم وأَجْر في عدد ابن إسحاق: ثلاثمئة وأربعة عشر، وفي عدد أبي معشر والواقدي: ثلاث مئة وثلاثة عشر، وفي عدد موسى بن عقبة: ثلاث مئة وستة عشر (4).
قال المصنف رحمه الله: وهذا الذي ذكر ابن سعد في المجمع على هؤلاء لا في المختلف فيه.
__________
(1) في النسخ: "أسامة" والمثبت من المصادر.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 387، وانظر "السيرة" لابن هشام 2/ 237.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 448.
(4) "الطبقات الكبرى" 3/ 555.
(3/195)
________________________________________
فصل في فَضْل أهل بدر:
قال رفاعة بن رافع الزُّرَقي: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما تَعدُّون أهل بدر فيكم؟ فقال: "مِن أَفْضَلِ المُسلِمينَ" أو كلمة نحوها، فقال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري (1).
وفي المتفق عليه من حديث علي - عليه السلام -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة حاطب: "وَما يُدرِيكَ لعلَّ الله اطَّلَع على أهلِ بدرٍ، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُم فقَد غَفَرتُ لَكُم" (2).
وقال قيس بن أبي حازم: كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف، وقال عمر: لأُفَضِّلَنَّهم في العطاء على مَنْ بَعْدَهم (3).
عدنا إلى أول الغزاة
وأقبل أبو سفيان من الشام في سبعين راكبًا من قبائل قريش كانوا تِجارًا، فيهم: مَخْرَمة بن نوفل الزهري وعمرو بن العاص ووجوه قريش، في ألف بعير، فأقبلوا على الساحل يريدون مكة، ورحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بئر أبي عِنبَة يريد العير بعد أن عرض أصحابه فَردَّ مَن استصغره، وكان فيمن رد عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأسامة بن زيد، ورافع بن خَديج، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعمير بن أبي وقاص، فبكى، فرده إلى بدر، فقتل في ذلك اليوم، ولم يكن في ظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يحارب، وإنما قَصد العير، ولما خرج من المدينة خلَّف عُثمانَ بن عفان على ابنته رُقيَّةَ يُمَرِّضُها حتى توفيت، وخلَّف أبا لبابة أميرًا على المدينة، ورَدَّ الحارث بن حاطب إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم.
قال البلاذري: وأبطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناس من الصحابة ظنًّا منهم أنه لا يحارب، منهم: سعد بن عبادة، وقيل: إنه لُسع، ورافعُ بنُ مالك، وعبدُ الله بن أُنَيس، وكعب بن مالك، والعباس بن عُبادة بن نَضْلة، وأُسَيد بن حُضَير (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (3992).
(2) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494).
(3) أخرجه البخاري (4022).
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 337.
(3/196)
________________________________________
ذكر ما كان مع المسلمين من الإبل والخيل:
كان معهم سبعون بعيرًا يتعاقبُ البعيرَ النفرُ، وكان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وزيد بن حارث - رضي الله عنهما - بعير، وبين حمزة ومَرْثَد بن أبي مَرْثَد وأبي كبشة وأَنسةَ موليا (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعير، وبين عبيدة بن الحارث والطُّفَيل والحُصين بن الحارث بعير، وبين أبي بكر وعمرو بن عوف بعير (2).
وكان معهم ثلاثة أفراس: فرس المقداد بن عمرو، وفرسٌ لِمَرْثَد الغنوي، وفرس الزبير بن العوام.
ذكر الرجل الذي تبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه:
قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فلما كان بحرَّة الوَبَرة أدركه رجل قد كان يُذكر له جُرْأةٌ ونَجْدَةٌ، فلما رآه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحوا به، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جئت لأتبعَك وأُصيبَ معك. فقال له: "أَتُؤْمِنُ بالله ورَسُولِه "؟ قال: لا. قال: "فارجِع، فَلَن أَستَعِينَ بمُشْرِكٍ" ثم تبعه ثانيًا وثالثًا، وهو يقول له ذلك، ثم أسلم الرجل وتبع النبي - صلى الله عليه وسلم -. انفرد بإخراجه مسلم (3).
قال ابن سعد: اسم هذا الرجل: خُبَيبُ بن يَسَّاف الخزرجي، وكان قد خرج مُنْجدًا لقومه، وطالبًا للغنيمة، وأسلم وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل رجلًا من الكفار، وضربه الكافر فشجه، ثم مات. وتزوج خبيب ابنته بعد ذلك، وكانت الضربة في وجهه، فكانت المرأة تقول: لا عدمتُ رجلًا وشَّحَك بهذا الوشاح، فيقول: لا عدمتِ رجلًا أعجل بروح أبيك إلى النار (4).
ذكر مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر:
ولما رحل إلى بدر، بعث العيون، فمنهم: بَسْبَس بن عمرو الأنصاري، وعدي بن
__________
(1) في النسختين (ك، خ): مولوي، والمثبت من المصادر.
(2) انظر: "السيرة" لابن هشام 2/ 186، و"أنساب الأشراف" 1/ 339، و"السيرة الشامية" 4/ 39.
(3) أخرجه مسلم (1817).
(4) انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 495.
(3/197)
________________________________________
أبي الزَّغْباء على المقدمة، وجعل على الساقةِ قيسَ بنَ أبي صعصعة، وأمر بمن بعثه في المقدمة أن يلحقوا بالمشركين عيونًا لهم (1).
ولما ورد أبو سفيان بدرًا وكان خائفًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقي في طريقه ببدر مَجْدِي بن عمرو، فقال له: هل أَحْسَست من عيون محمد أحدًا، فوالله ما بمكة قرشي ولا قرشية إلا وقد بعث بها معنا، فقال له: والله ما أدري ولا رأيت ما أنكره إلا راكبين أتيا هذا المكان، وأشار إلى مناخ بسبس وعدي، فقام أبو سفيان إلى مُناخهما، فأخذ من بعر بعيرهما، ففتّه فإذا فيه نوى، فقال: هذه علائف يثرب، هذه عيون محمد، ثم ضرب وجه العير فساحَل بها إلى مكة، واستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغِفاري وبعثه إلى مكة نذيرًا لقريش يَسْتَنْفِرهم لأجل أموالهم (2).
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال، كأَن راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: يا آل غُدَر، يا آل فُجَر، انفروا إلى مصارعكم بعد ثلاث، فاجتمعوا إليه، فدخل المسجد والناس خلفه، فبينما هم على ذلك حوله إذ مَثُل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ بأعلى صوته كذلك، ثم مَثُل به بعيره على أبي قُبَيسٍ، فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل، ارفضَّت، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار من دورها إلا دخل فيه منها فَلْقَةٌ، فحدثت عاتكة أخاها العباس بذلك، فقال: اكتميها. ثم لقي العباس الوليد بن عتبة، وكان صديقًا له فحدَّثه الحديث، واستكتمه إياه، فذكره الوليد لأبيه، وفشا الحديث. قال العباس: فلقيني أبو جهل، فقال: يا أبا الفَضْل، متى ظهرت فيكم هذه النبيّةُ؟ قلت: وما ذاك؟ قال: منام عاتكة، فأنكره، فقال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبَّأ رجالكم حتى تنبأت نساؤكم، وقد زعمت عاتكة أنه قال: انفروا إلى مصارعكم بعد ثلاث. ونحن نتربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن ما قالت حقًّا فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن شيء من ذلك كتبنا عليكم كتابًا أنكم أكذب بيت في العرب، قال: ثم مضى العباس، قال: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد
__________
(1) انظر "السيرة" لابن هشام 2/ 187، و"المنتظم" 3/ 98.
(2) انظر "السيرة" 2/ 190، و"الطبقات الكبرى"2/ 12، و"تاريخ الطبري" 2/ 427.
(3/198)
________________________________________
المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرَةٌ لما سمعت، قال العباس: فلما سمعت قولهن، قلت: والله لأَتعرضنَّ له، فإن عاد لأوقِعَنَّ به، فلما كان اليوم الثالث من رؤيا عاتكة تعرضت له وأنا مغضب، أرى أن قد فاتني منه أمرٌ أُحِبُّ أن أُدرِكَه منه، فدخلت المسجد وإذا به جالس فيه، فمشيت نحوه عساه يعود فأوقع به، إذ خرج عدو الله من باب المسجد يشتد، فقلت: ما له لعنه الله، أكلُّ هذا فَرَقًا من أن أشاتمه، وإذا به قد سمع ما لم أسمع، وهو صوت ضَمْضَم بن عمرو الغفاري وهو قائم على بعيره يصرخ ببطن الوادي، قد شق ثيابه، وجَدَع أنف بعيره وهو ينادي: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، وما أظنكم تدركونها، الغوث الغوث، فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
قال ابن إسحاق: فخرجوا سراعًا معهم القَيناتُ بالدُّفوف يقولون: أيظن محمد أنها عير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك.
وكانوا بين رجلين: إما خارجٌ وإما باعثٌ مكانه رجلًا، ولم يبق من رجالات قريش وأشرافهم أحد إلا أن أبا لهب قد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكان أمية بن خلف شيخًا كبيرًا ثقيلًا فأزمع القعود، ثم عُيِّر فخرج، وقال عتبة لأخيه شيبة، وقد كره الخروج: إنَّ ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- رجل مشؤوم وليس يمسه من محمد قرابة ولا رَحِمٌ مثلَ ما يَمَسُّنا، فقال له شيبة: إن لم نخرج صار علينا سُبّةً، فامض بنا يا أبا الوليد مع قومنا، ولما اجتمعت قريش على المسير، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من العداوة وقالوا: نخشى أن يأتوا من خلفنا، فتوقفوا عن الخروج، فتبدَّى لهم إبليس في صورة سُراقَةَ بن مالك بن جُعْشُم المُدْلجي، وكان من أشراف كنانة فقال لقريش: أنا جار لكم من كنانة وبكر، فقال لهم أبو جهل: هذا سيد كنانة وقد أجاركم ومن خلفكم فشجَّ (1) القومُ فخرجوا (2).
__________
(1) كذا في النسخ، ولم نقف على هذه اللفظة فيما بين أيدينا من المصادر.
(2) انظر "السيرة" 2/ 182 - 186، و"تاريخ الطبري" 2/ 428 - 431، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 28، و"المنتظم" 3/ 98 - 100.
(3/199)
________________________________________
ولما نزلت قريشٌ الجُحْفَةَ، قال جُهَيْم بنَ الصلْتِ بن مَخْرَمة بن المطلب: رأيت فيما بين النائم واليقظان رجلًا أقبل على فرسه ومعه بعير، فقال: قُتل شيبة، قُتل عُتبة، قتل فلان وفلان، حتى عدد رجالًا قتلوا في ذلك اليوم، قال: ورأيته ضرب بعيره في لبَّته، ثم أرسله في العسكر، فلم يبق خباء من الأخبية إلا أصابه نَضْح من دمه، فأخبر الناسَ بما رأى، فقال أبو جهل: هذا نبي آخر، ستعلم غدًا إذا التقينا مَن المقتولُ.
وأرسل أبو سفيان من مكة إلى قريش: قد أحرز الله عِيركم وأموالكم فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، وكان الأَخْنَسُ بن شَريق حليفُ بني زهرة قد خرج بهم، ثم أَفْكَرَ، فقال: يا بني زُهْرةَ، قد أنجى الله أموالكم ولا تسمعوا قول هذا المائق، واعصبوا جُبْنَها بي، ثم رجع وكانوا مئة (1).
وفيه يقول ابن أبي الزَّغباء (2): [من الرجز]
أَقِم لها صُدورَها يا بَسْبَسُ
إنَّ مطايا القوم لا تُحَبَّسُ
وحَمْلُها على الطريق أكيسُ
قد صنع الله وفرَّ الأَخْنَسُ
ولما رجع الأخنس لقيه أبو سفيان بمَرِّ الظَّهْران، فقال: لم رجعتم، لا في العير ولا في النفير، فذهبت مثلًا. فقال له الأخنس: أنت بعثت إلى قريش لترجع، وأبلغه ما قال أبو جهل، فقال له أبو سفيان: واقَوْماه، هذا من عمل عمرو بن هشام يعني أبا جهل، ثم لحق أبو سفيان ببدر، فقاتل مع الكفار قتالًا شديدًا، وجُرِحَ جِراحاتٍ كثيرةً، وهرب إلى مكة ماشيًا (3).
ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان.
ونزلت قريش العُدْوَة القصوى من الوادي خلف الكثيب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعُدْوَة
__________
(1) انظر "السيرة" 2/ 190، و"المنتظم" 3/ 102.
(2) البيتان في "السيرة" 2/ 207، و"المغازي" 1/ 45.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 13.
(3/200)
________________________________________
الدُّنيا، فأرسل الله مطرًا عظيمًا، فأصاب المسلمينَ ما لبَّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من السير، وأصاب الكفار منه ما منعهم من المسير. فبادرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل بأدنى وادٍ من بدر، فقال الحُباب بن المنذر: يا رسول الله، أمنزلك هذا أنزلك الله إياه، أم رأيٌ رأيته في الحرب؟ فقال: "بَلْ رَأيٌ رَأَيتُه" فقال: انهض فليس لك هذا بمنزل، فانزل أدنى ماء من القوم، ثم غَوِّر باقي المياه والقُلُبِ، وابنِ على الماء حوضًا واملأه، ثم قاتل القوم فَنشرب ولا يشربون، فنزل جبريل - عليه السلام - فقال: الرأي ما رأى حُباب، فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل ما قال (1).
ولما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماء، قال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا من الجريد تكون فيه، واجعل ركائبك عندك، ثم نلقى عدونا، فإن أَظْفَرنا الله عليهم، فذلك الذي أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك ولحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك قوم ما نحن بأشد حبًّا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى عدوًا ما تخلَّفوا عنك، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبني له العريش، فكان فيه هو وأبو بكر (2).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرهم بالإفطار، فأفطر البعض وامتنع البعض، فأمر مناديه، فنادى: يا معاشر العصاةِ، أفطروا. فأفطروا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفطرًا (3).
وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة ألوية، فكان لواؤه الأعظم وهو لواء المهاجرين بيد مصعب بن عمير، ولواء الخزرج بيد الحُباب بن المنذر، ولواء الأوس بيد سعد بن معاذ.
وكان مع المشركين ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير، ولواء مع النَّضرِ بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة. وكان المشركون في تسع مئة وخمسين رجلًا من المقاتلة، وكان معهم مئة فرس، وأقبلت قريش، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ إنَّ هذه قريش قد أَقبَلَت بُخيَلائِها وحدِّها وحديدها تحادُّك وتكذِّب رسُولَك، اللَّهمَّ نَصرَكَ" (4).
__________
(1) "المغازي" 1/ 53 - 54، وانظر "السيرة" 2/ 192، و"الطبقات الكبرى" 2/ 14.
(2) "السيرة" 2/ 192، و"الطبقات الكبرى" 2/ 14، و"أنساب الأشراف" 1/ 344.
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 343.
(4) "السيرة" 2/ 192.
(3/201)
________________________________________
ثم استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، فقام أبو بكر فأحسن القول، وقام عمر فأحسن القول، وقام المقداد وقال: يا رسول الله، امض لما أمرك به ربك، فنحن لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق نبيًّا، لو ضربت بطونها إلى بَرْكِ الغِماد لجالدنا معك حتى تبلغه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا ودعا له به.
[ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشِيرُوا عليَّ أيُّها النَّاسُ" (1)] وإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أشيروا علي، الأَنْصارَ، لأنهم لما بايعوه ليلة العقبة قالوا: نحن بُرآء من ذِمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءَنا. فخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينصروه خارج المدينة، ففطن سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، لعلك تريدنا، يعني الأنصار؟ قال: "أَجَل". قال: قد آمنا بك، وصَدَّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك العهود على السمع والطاعة، فامض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق نبيًّا لو اعترضت البحر فخضته لخضناه، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، ونحن صُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبشِرُوا فإنَّ الله قد وَعَدني إحدى الطَّائفتَين" (2).
فبينما هم كذلك إذ وردت رَوايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي بهم علم، ولكن هذا عتبة، وشيبة، وأمية بن خلف، وأبو جهل، فإذا قال لهم ذلك ضربوه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فيقول: نعم أُخبركم، هذا أبو سفيان، فإذا تركوه يقول: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا عتبة، وشيبة، وأمية في الناس، فيضربونه. فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، انصرف من صلاته وقال: والذي نفسي بيده إنكم لتضربونَه إذا صدقكم، وتتركونه إذا كذبكم، لقد صدق والله، إنها لقريش (3).
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة من "السيرة" 2/ 188.
(2) "السيرة" 2/ 188.
(3) أخرجه مسلم (1779) من حديث أنس - رضي الله عنه -، وانظر "تاريخ الطبري"2/ 422 - 423 وإلى هنا انتهى سياق الطبري وما بعده من ابن هشام.
(3/202)
________________________________________
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغلامين -وهما أسلم وعريض-: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا العَقَنْقَلِ الذي ترى بالعُدْوَةِ القصوى. فقال لهما: فكم الجمع؟ قالا: كثير. قال: فكم عدتهم؟ قالا: لا ندري. قال: فكم ينحرون كل يوم؟ قالا: تسع جزائر ويومًا عشرًا. فقال: القوم ما بين التسع مئة إلى الألف، وكانوا كذلك. قال: ومن فيهم من الأشراف؟ قالا: عتبة وشيبة وأبو البَختري، وحكيم بن حِزام، وطُعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزَمْعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد وُدّ في آخرين، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها (1).
وكان المطعمون في غزاة بدر: عتبة، وشيبةَ، والعباسَ بنَ عبد المطلب، وحكيمَ بن حِزام، وزمعةَ بن الأسود، والمطلبَ بن أسد، وأبا البَخْتري، والعاص بن هشام، ونوفل بن خويلد بن أسد بن العدوية (2).
وقيل: كانوا عشرة.
وبَعثَ القوم عُميرَ بن وهب الجُمَحي ليحزر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء فجال بفرسه في العسكر، ثم رجع إليهم وقال: هم ثلاث مئة رجل يزيدون أو ينقصون شيئًا، ومعهم سبعون بعيرًا وفرسان، ثم قال: أمهلوني حتى أنظر هل لهم كمين؟ فجال بفرسه في الوادي، ثم عاد وقال: لم أر شيئًا ولكن رأيت الولايا (3) تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ليس لهم معاقل ولا منعة إلا سيوفهم، أما ترونهم خُرسًا لا يتكلمون يتلمّظون تَلمُّظَ الأفاعي، فوالله لا يقتل منهم رجل حتى يَقْتُلَ منكم رجلًا أو رجالًا، فإذا قتلوا منا مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فَرُوا رأيكم.
فمشى حَكيم بن حِزام في الناس، فقال لعتبة بن ربيعة: يا أبا الوليد، أنت كبير
__________
(1) "السيرة" 2/ 189.
(2) في "المحبر" ص 161 - 162 المطعمون: أبو جهل، وأمية، وسهيل، وشيبة، وعتبة، ومنبه، ونُبيه، والعباس، وأبو البختري.
(3) جمع ولية: وهي البرذعة التي تكون تحت الرحل. وعند ابن هشام: "البلايا" جمع بلية: وهي الناقة التي تربط على قبر الميت، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.
(3/203)
________________________________________
قريش وسيدها، فهل لك أن لا تزال تُذكر بخيرٍ آخِرَ الدهر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي، وما أصاب محمد من تلك العير ببطن نخلة، فإنكم لا تطلبون من محمد غير هذا الدم، قال عتبة: قد فعلت وأنت شاهد عليَّ بذلك، ووافقه أخوه شيبة ثم جلس عتبة على جمله وسار في المشركين من قريش يقول: يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل، واعصِبُوا هذا الأَمر بي، وأنا أتحمل الدية وثمن العير، وقال لحكيم: اذهب إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- وقل له: هل لك أن ترجع إلى قومك مع ابنك؟ قال حكيم: فجئت إليه وهو في جماعة، وعامر بن الحضرمي يقول: قد فسخت عقدي من بني عبد شمس، وجعلته في بني مخزوم، فأبلغته ما قال عتبة، فقال: ما وجد رسولًا غيرك، ثم طلع على عتبة والشرُّ في وجهه وقال: انتفخ سحرك؟ فقال له عتبة: ستعلم. فسلَّ أبو جهل سيفه وضرب به متن فرسه، وكان إيماء بن رَحَضةَ حاضرًا، فقال لأبي جهل: بئس الفأل هذا (1).
وقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" بمعناه فقال: خرج عتبة بن ربيعة على جمل أحمر وهو يقول لأصحابه: يا قوم، والله إني لأرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قومِ اعصبوها اليوم برأسي وقد علمتم نصحي وقولوا: جَبُن عتبة بن ربيعة، فقال له أبو جهل -لعنه الله في الدارين-: لو قال غيرك هذا لأَعْضَضْتُه بَظْر أمه، قد ملأت رئتك جوفَك رُعْبًا. فقال له عتبة: يا مُصَفِّرَ استه، ستعلم أينا الجبان (2).
ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتبة فقال: إن يكن في القوم من يأمر بخير، فعسى صاحبُ الجملِ الأحمر، فقال له حمزة: هو عتبة بن ربيعة (3).
وقال خفاف بن إيماء بن رَحَضَةَ: ما كان شيءٌ أَحبَّ إلى أبي من إصلاح بين الناس، ولما سُقْتُ الجزائِرَ -يعني التي بعثها أبوه إلى قريش، وكان بعث إليهم عشر جزائر- لحقني أبي، فقبلوها ووزعوها، فمر أبي على عُتبة بن ربيعة وهو سيدُ الناس
__________
(1) الخبر في المصادر التالية: "السيرة" 2/ 193 - 194، "المغازي" 1/ 60، و"الطبقات الكبرى" 2/ 15، و"تاريخ الطبري" 2/ 442 - 443. وانتفخ سحره: عدا طوره وجاوز قدره.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (948) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (37834)، وأحمد (948) من حديث علي - رضي الله عنه -.
(3/204)
________________________________________
يومئذ، فقال له: يا أبا الوليد، ما هذا المسيرُ؟ قال: لا أدري والله، غُلِبْتُ. قال: فأنت سيدُ العشيرة، فما يمنعُك أن تَرْجِعَ بالناس، وتحملَ دمَ حليفك، وتحمِل العِيرَ التي أصابوا بنخلةَ، فتوزِّعَها على قومك، والله ما تطلبون قِبَل محمدٍ إلا هذا، والله ما تقتلون إلا أنفسكم (1).
ثم بعث أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي وقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فانْشُد مقتل أخيك، فقام عامر واكتشف وصاح: واعمراه واعمراه، وثار الناس، ونشِبت الحرب (2).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هيّأ أصحابه، وعبّأهم بعد صلاة الفجر، وقال علي - عليه السلام -: ما منا رجل ليلة بدر إلا نام إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه مازال متوشحًا بسيفه تلك الليلة يصلي ويدعو إلى الصبح (3).
وبعث إلى قريش عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: ارجعوا فَلأَن يَليَ هذا الأمرَ مِني غيرُكم، أحب إلي من أن تلوه مني وأَليَه من غيركم أَحبُّ إلي من أن أَلِيَه منكم. فقال حكيم بن حزام: قد عرض عليكم النَّصَف (4) فاقبلوه، والله لا تنصرون بعد أن عرضه عليكم، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن أمكننا الله منه، ولا نطلب أثرًا بعد عين، ولا يعترض لعيرنا بعدها أبدًا (5).
وأول قتال جرى يوم بدر، أن الأسود بن عبد الأسد المخزومي قال: عاهدت الله لأَشربن من حوضهم، ولأَهدمنَّه. وهجم عليهم، فحمل عليه حمزة - رضي الله عنه - فضربه بالسيف في رأسه، فوقع على ظهره فلم يزل يحبو حتى اقتحم الحوض يريد أن يَبَرَّ في يمينه، فقتله حمزة (6).
__________
(1) "المغازي" 1/ 60.
(2) "السيرة" 2/ 194.
(3) أخرجه أحمد في "مسنده" (1023)، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 427، و"المنتظم" 3/ 105.
(4) في (خ): "النصح".
(5) "المغازي" 1/ 61.
(6) "السيرة" 2/ 194، و"تاريخ الطبري" 2/ 445، و"المنتظم" 3/ 107.
(3/205)
________________________________________
وأقبل نفر من الكفار فأوردوا حوضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم حكيم بن حزام على فرس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوهم". فما شرب منه أحد إلا قتل أو أسر إلا حكيم بن حزام، فإنه هرب إلى مكة على فرس يقال له: الوجيه، ثم أسلم بعد ذلك. وكان إذا حلف يقول: لا والذي نجَّاني يوم بدر (1).
ثم خرج عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، فدعَوْا إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقال لهم عتبة: من أنتم؟ قالوا: نحن من الأنصار. فقال عتبة: لا حاجة لي فيكم، ونادى: يا محمد، أخْرِج إلينا أَكْفاءَنا من قومنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا يا بَنِي هاشِم فَقَاتِلُوا بحَقِّكم الذي بَعَث الله بِه نَبِيَّكم، إذ جاء القومُ بِباطِلِهم ليُطْفِئُوا نُورَ اللهِ، قُم يا حَمزةُ، قم يا علي، قمْ يا عُبيدة بنَ الحارث" فقاموا. وكان على رؤوسهم البيض، فلم يعرفوهم، فقالوا: تكلموا. فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة: وأنا أسد الحَلْفاء -يعني الأجَمة-، ثم قال: ومن معك؟ قال: ابن أخي علي وعبيدة بن الحارث، فقال: أكفاء كرام، ثم قال عتبة لابنه الوليد: تقدم يا وليد. فقتل حمزةُ شيبةَ، وقتل عليٌّ الوليدَ بن عتبة، واختلف عبيدة وعتبة ضربتين أثبت كل واحد منهما صاحبه، وكرّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وكان ذُباب سيف (2) عتبة قد أصاب ساق عبيدة، فاحتملاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدم يسيل من عضلة ساقه، فقال: يا رسول الله! ألستُ شهيدًا؟ قال: بلى والله. فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيًّا، لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول: [من الطويل]
كذبتُم وبَيتِ اللهِ نَخْذُلُ أحمدا ... ولمّا نُطاعِنْ دونه ونُنَاضِل
ونُسلمُه حتى نُصَرَّعَ حولَه ... ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ (3)
ثم حُمِلَ عبيدة فمات بالصفراء (4).
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 441، وانظر "السيرة" 2/ 193.
(2) ذباب السيف: حده.
(3) الخبر في "المغازي" 1/ 68 - 70.
(4) انظر "السيرة" 2/ 251، و"الطبقات الكبرى" 3/ 49، و"المنتظم" 3/ 140، والصفراء: واد كثير النخل قرب المدينة.
(3/206)
________________________________________
ثم تزاحف الناسُ ودنا بعضهم من بعض، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كَثَبَكم القومُ فانضَحُوهُمْ بالنَّبْلِ" (1). ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العريش يناشد ربه بما وعده من النصر.
وفي أَفْراد البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وهو في قبة له: "اللَّهمَّ إنِّي أَنْشُدكَ عَهْدَكَ وَوَعدَكَ، اللَّهمَّ إنَّك إنْ تَشَأ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ" فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله، لقد ألححت على ربك. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الدرع يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] (2) والقتال يعمل بين الفريقين. ثم خفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة، ثم انتبه، فقال: "يَا أَبَا بَكر، أَتاكَ النَّصرُ، هذا جِبريلُ آخذٌ بعِنَانِ فَرَسه يقودُه على ثنَاياه النَّقْعِ" (3).
ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العريش، قام سعد بن معاذ على باب البيت ومعه نفر من الأنصار بأيديهم السيوف يحرسون، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش، وجعل يحرض الناس على القتال، ويعطي القاتل سَلَبَ المقتول.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، وإلى المشركين وهم ألف وزيادة، فاستقبل القبلة ومدَّ يَدَيهِ وعليه إزاره ورداؤه، وقال: "اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني" يكررها، ثم قال: "اللهمَّ إن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض أبدًا". قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، والتزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاكَ مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] الآية، فأمده الله بالملائكة (4).
ولما اشتد القتال، هبت ريح شديدة لم ير مثلها قط، ثم ذهبت وجاءت أخرى، فكان جبريل في الأولى في ألف من الملائكة فوقف في الميمنة، وجاء ميكائيل في الثانية في ألف فوقف في الميسرة، وجاء إسرافيل في ثلاثةِ آلاف [فوقف] في القلب مع
__________
(1) أخرجه البخاري (2900) من حديث أبي أسيد، وانظر الخبر في "السيرة" 2/ 195.
(2) أخرجه البخاري (2915).
(3) "السيرة" 2/ 196.
(4) أخرجه مسلم (1763).
(3/207)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقيل: إنما وقف جبريل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأصح.
ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، وفيما سواه يشهدون القتال ولا يقاتلون، بل يكونون مددًا وعددًا (2). ورئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثار المشركين مصلتًا للسيف وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45].
وأخذ كفًّا من حصى أو تراب، ورمى به في وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا وقع في عينه من ذلك شيء، وانهزموا. فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية (3).
وعن أبي طلحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر يوم بدر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فقذفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم، أقام بالعَرْصَةِ ثلاث ليال، فلما كان اليوم الرابع من بدر أمر براحلته فَشُدَّ عليها رحله، ثم مشى واتَّبعه أصحابه، فجاء فوقف على شفير الرَّكي وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلانَ بن فلان، أَيَسرُّكم أنَّكم أَطَعتُم الله ورَسُولَه، فإنَّا قد وَجَدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حَقًّا، فَهَل وجَدْتُم ما وَعَدَكم ربُّكم حَقًّا"؟ فقال له عمر بن الخطاب: ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها، فقال: "والذي نَفسِي بيده ما أَنتُم بأَسْمَعَ لما أَقُولُ منهم" (4).
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرينا مصرع القوم، فيقول: "هذا مَصْرَعُ فلانٍ غدًا إنْ شَاء اللهُ تعالى، هذا مَصْرعُ فُلانٍ". فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حددها لهم، فَجُعِلوا في بئر بعضهم فوق بعض (5).
ولما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القَليب قال: "يا أَهْلَ القَلِيبِ، بئسَ واللهِ العشيرة
__________
(1) أخرجه أبو يعلى (489)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 69.
(2) أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 99، والطبراني في "الأوسط" (9125) من حديث بن عباس - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (3128) من حديث حكيم بن حزام، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 84: إسناده حسن.
(4) أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875).
(5) أخرجه مسلم (2873).
(3/208)
________________________________________
كنتُم لابنِ عمِّكُم؛ كذَّبتُموني وصدَّقني النَّاس، وأَخرجتُموني وآواني النَّاس، وقَتلتُموني ونَصَرني النَّاس (1) ". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا وكلمني في هؤلاء، لتركتهم له" (2).
ولمَّا سُحِبَ عتبة إلى القليب، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وجه ابنه أبي حذيفة وقد تغير وهو كئيب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال: لا والله، ولكن كنت أرى في أبي رأيًا وحلمًا، فكنت أرجو أن يهديه الله بذلك إلى الإسلام، فلما رأَيته مات على الكفر، حزنت عليه لأن ذلك لم ينفعه. فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير (3)، فقال أبو بكر: لقد كان كارهًا للخروج، ولكن حمله الحَينُ ومصارع السوء.
ذكر من استشهد يوم بدر من المسلمين (4):
عاقل بن البُكَير، من كنانة حليف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأول من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار ابن أبي الأرقم، قتله مالك بن زهير الجُشَمي.
عُبيدة بن الحارث بن المطلب (5) بن عبد مناف أبو الحارث، وأمه سُخَيلَةُ بنت خُزاعي، ثقفية، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر وجُرِحَ في ساقه، جرحه شيبة (6) بن ربيعة، ومات بالصفراء، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وكفَّنه في ثوبه، وصلى عليه ونزل في قبره، وكان له ثلاثة وستون سنة، وكان له من الولد معاوية، وعوف، ومنقذ، والحارث، وإبراهيم، ومحمد، وخديجة، وريطة، وسُخيلة، وصفية، لأمهات أولاد شتى.
__________
(1) "السيرة" 2/ 204، و"تاريخ الطبري" 2/ 457.
(2) أخرجه البخاري (3139) من حديث جبير بن مطعم.
(3) "السيرة" 2/ 205 و"تاريخ الطبري" 2/ 457، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7088).
(4) من هنا تبدأ نسخة أحمد الثالث ورمزنا لها بـ (أ).
(5) في النسخ: "عبد المطلب" والمثبت هو الصواب، انظر "السيرة" 2/ 251، و"نسب قريش" ص 93، و"جمهرة النسب" ص 60.
(6) كذا جاء في النسخ وعند الواقدي 1/ 145، والصواب: عتبة كما في "السيرة" 2/ 251.
(3/209)
________________________________________
عُمير بن أبي وقاص بن وهيب بن عبد مناف بن زُهرة (1) بن كلاب أخو سعد بن أبي وقاص، أمه حَمْنَةُ بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، جعل عمير يتوارى مخافة أن يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستصغره فيرده، فلما عُرِضَ عليه رده فبكى، فأجازه. قال أخوه سعد: فلقد كنت أعقد له سيفه من صغره، قتله عمرو بن عبدِ وُدٍّ، وهو ابن ست عشرة سنة.
ذو الشمالين عُمير بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، من الطبقة الأولى من المهاجرين، قتله زهير بن معاوية الجشمي وهو ابن بضع وثلاثين سنة.
وأما صفوان بن بيضاء، فأبوه: وهب بن ربيعة من بني فهر، وأمه: دَعْدُ بنت جَحْدَم فهرية، والبيضاء لقب لها، وصفوان من الطبقة الأولى من المهاجرين. وعامة الرواة على أن طُعَيمة قتله ببدر، إلا الواقدي والزهري (2).
قال الواقدي: عاش إلى سنة ثمان وثلاثين. وقال الزهري: مات بطاعون عمواس.
وأما أنَسة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو من المهاجرين الأولين، واستشهد ببدر، قاله الواقدي (3). وقال البلاذري: وشهد أُحدًا ومات في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - (4).
واستشهد من الأنصار:
حارثة بن سراقة بن النعمان (5)، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه: جعدة وقيل: الرُّبَيِّع بنت النَّضْر، وقيل: بنت عبد المطلب. أسلمت وبايعت، رماه حِبّان بن العَرِقة بسهم، فأصاب حَنْجَرته فذبحه، وقيل: جاءه سَهْمٌ غَرْبٌ فقتله.
__________
(1) في النسخ: "زهيرة"، وانظر "نسب قريش" ص 257.
(2) انظر طبقات ابن سعد 3/ 385.
(3) "المغازي" 1/ 146.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 349.
(5) خلط المصنف رحمه الله هنا بين ترجمتين لصحابيين شهدا بدرًا أحدهما من شهداء بدر والآخر عُمِّر بعدها، الأول وهو المترجم: حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي، وأمه الرُّبَيع بنت النضر، وهي عمة أنس بن مالك وقتل شهيدًا ببدر. انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 473.
الثاني: حارثة بن النعمان بن نفع، وأمه جعدة بنت عبيد بن ثعلبة، وشهد حارثة بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 452.
(3/210)
________________________________________
وعن أنس قال: جاءت الرُّبَيِّع بنت النَّضر وهي أم حارثة بن سراقة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله، ألا تحدثني عن حارثة -وكان قتل يوم بدر جاءه سهم غَرْبٌ-، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -."يا أم حارثة، إنها ليست بجنة واحدة ولكنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". انفرد بإخراجه البخاري (1).
رافع بن المعلى، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله عكرمة بن أبي جهل.
سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النَّحَّاط، أبو مسعود، من الطبقة الأولى من الأنصار وهو أحد النقباء الاثني عشر، وأمه: هند بنت أوس، شهد العقبة مع السبعين، ولما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى بدر، قال له خيثمة: آثِرني بالخروج، فإنه لا بد لأحدنا أن يقيم فأبى سعد، وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك بها، وإني لأرجو الشهادة في هذا الوجه، فاستهما فخرج سهم سعد، فقتل ببدر، قتله عمرو بن عبدِ وُدٍّ، وقيل: قتله طُعيمة بن عدي (2).
عُمير بن الحُمام بن الجموح من الطبقة الأولى من الأنصار.
وفي الحديث: فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فدنا المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى جَنَّة عَرضُها السَّماوات والأرض". قال عمير بن الحمام: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم". فقال: بخٍ بخٍ يا رسول الله، فقال: "ما يَحمِلُك على قَوْلِك بخٍ بخٍ "؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قَرْنِه فجعل يأكل منهن، ويقول: لئنْ أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بما كان معه من التمر، ثم قاتَلَ حتى قُتِلَ (3).
عوف ومعوِّذ ابنا عفراء. قد ذكرنا في ترجمة أبي جهل: أن معوّذًا أَثْبَتَ أبا جهل، ثم قتله (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (2809).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 447.
(3) أخرجه مسلم (1901) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(4) طبقات ابن سعد 3/ 456 - 457.
(3/211)
________________________________________
مُبَشِّر بن عبد المنذر من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله أبو ثور.
يزيد بن الحارث بن قيس، وأمه فُسْحُم من بني القين، قضاعية، ويزيد من الطبقة الأولى من الأَنْصار، قتله نوفل بن معاوية (1).
وذكر الواقدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قتلى بدر، ودفنهم في مصارعهم بدمائهم على حالهم - رضي الله عنهم - (2).
ذكر أعيان من قتل يوم بدر من الكفار
قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين. فنذكر أعيانهم:
أُمية بن خَلَف الجُمَحيّ، كان أشدَّ الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
عن ابن مسعود أنه حدث عن سعد بن معاذ وكان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا أتى مكة نزل على أمية، فقدم سعد مكة معتمرًا فنزل على أمية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة لعلي أطوف بالبيت فيها، فخرجا نصف الليل فلقيهما أبو جهل، فقال لأمية: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: سعد بن معاذ. فقال أبو جهل: ألا أراك تطوف بالبيت آمنا وقد آويتم الصُّباةَ، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان، لما عُدتَ إلى أهلك سالمًا، فرفع سعد صوته على أبي جهل وقال: والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، قال: وما هو؟ قال: طريقك على المدينة. فقال له أمية: يا سعد، لا ترفع صوتك على أبي جهل، فإنه سيد أهل هذا الوادي. فقال له سعد: دع عنك هذا يا أمية، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه قاتلك". فقال أمية: والله ما كذب محمد قط، ثم قال: أبمكة؟ قال سعد: لا أدري.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3/ 195.
(2) انظر "المغازي" 1/ 146.
(3/212)
________________________________________
ففزع أمية ورجع إلى أهله، فقال لها: يا أم صفوان، ألم تَرَي إلى ما قال سعد، وأخبرها بما قال، وقال: والله لا أخرج من مكة أبدًا. فلما كانت يوم بدر، لا زال به أبو جهل حتى أخرجه، وقال له: يا أبا صفوان، إنك متى ما رأى الناس قد تخلَّفْتَ وأنت سيد أهل هذا الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به حتى قال: أما إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة، ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني للخروج، فقالت: أنسيت قوْلَ أخيك اليثربي؟ فقال: لا، ما أكون معهم إلا قريبًا، فخرج معهم فقتل ببدر (1)، قتله خُبَيْبُ بن يَساف، واتفقوا على أن بلالًا - رضي الله عنه - كان سبب قتله.
قال عبد الرحمن بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتابًا على أن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته (2) بالمدينة، فلما ذكرت عبد الرحمن، قال: لا أعرف عبد الرحمن، كاتِبْني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو، فلما كان يوم بدر خرجت لأُحْرِزه فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلِس من مجالس الأنصار، وقال: يا معاشر الأنصار، هذا أمية بن خلف لا نجوت إن نجا. فخرج مع فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا، خلَّفت لهم ابنه لأَشْغَلَهم به فقتلوه، ثم لحقونا -وكان أمية رجلًا ثقيلًا-، فقلت له: انزل، فنزل، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخلَّلوه بالسيوف حتى قتلوه من تحتي، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، فكان عبد الرحمن يريهم ذلك الأثر في قدمه (3).
قال الواقدي: فلما سقط أمية على ظهره، أقبل الحُباب بن المنذر فأدخل سيفه فقطع أنف أمية، وجاء إليه خُبيب بن يساف فضربه حتى قتله، وكان أمية قد ضرب يد خُبيب حتى قطعها من المنكب، فأعادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتحمت، ثم تزوج خُبيب بن يَساف بعد ذلك ابنة أبي بن خلف، فقالت: لا يَشْلل الله يدًا فعلت بك هذا، فيقول حبيب: والله لقد أوردته شَعُوب (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (3950).
(2) الصاغيةُ: كلَّ من ألمَّ بالرجل من أهله. لسان العرب: (صغا).
(3) أخرجه البخاري (2301).
(4) "المغازي" 1/ 83، والشعوب: الموت.
(3/213)
________________________________________
وأخذ خُبَيْبٌ درعه وسَلَبه، واعترض الحُباب عليُّ بن أمية، فقطع رجله، فصاح صوتًا لم يُسْمَعْ بمثله جزعًا، ثم قتله عمار بن ياسر (1)، وقيل: معاذ بن رفاعة.
وقيل لأم صفوان بن أمية: انظري إلى الحُباب بن المنذر هو الذي قتل أمية، فقالت أم صفوان: دعونا من ذكر من قُتِلَ على الشرك، قد أهان الله عليًّا بضربة الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه (2).
وقال صفوان لقدامة بن مَظْعون بعدما أسلم صفوان: أنت المُشْلي بأَبي الناسَ يوم بدر، قال قُدامة: والله ما فَعَلْتُ، ولو فَعَلْتُ ما اعتذرت من قتل مشرك، ولكن رأيت فتيةً من الأنصار منهم: معمر بن حبيب بن عبد الحارث يرفع سيفه ويضعه، يقول صفوان: أبو قرد، وكان معمر رجلًا دميمًا، وبلغ ذلك الحارث بن حاطب، فدخل على أم صفوان وهي كريمة (3) بنت حبيب، فأخبرها بمقالة صفوان وقال: ما يدعنا من الأذى في الجاهلية والإسلام، فقالت أم صفوان: ويحك يا صفوان تنتقص معمر بن حبيب، والله لا أقبل لك صلةً وكرامة سنة، فقال صفوان: يا أماه، والله لا أعودُ، تكلَّمتُ بكلمةٍ لم أُلْقِ لها بالًا (4).
الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ممن أعان على نقضِ الصحيفة، وفيه نزل قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: "مَن لقيَ الحارثَ فلا يقتلْه وليَدَعْه لأَيتامِ بني نَوفَلٍ" (5). فلقيه خُبيب بن يَساف، ولم يعلم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله كافرًا (6).
__________
(1) "المغازي"1/ 84.
(2) "المغازي" 1/ 85.
(3) هكذا سماها الواقدي، والذي في "الطبقات الكبرى" 6/ 109، و"نسب قريش" ص 388، و"الإصابة" 2/ 187 أن اسمها: صفية.
(4) "المغازي" 1/ 84 - 85.
(5) أورده البلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 350، وأورده الواقدي في "المغازي" 1/ 81 قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل، وقال: "ائسروه ولا تقتلوه" وكان كارهًا للخروج إلى بدر، فلقيه خبيب بن يساف فقتله ولا يعرفه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لو وجدته قبل أن تقتله لتركته لنسائه".
(6) انظر الخبر في "أنساب الأشراف" 1/ 350.
(3/214)
________________________________________
حنظلة بن أبي سفيان، وأمه: هند بنت عتبة، قتله علي (1)، وقيل: حمزة عَلَيهِ السَّلام (2).
شَيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو هاشم، وأمه: هند بنت المُضَرِّب من بني لؤي، وكان أسنَّ من أخيه عتبة بثلاث سنين، وكان يضع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يؤذيه من غير مباشرة منه، وكان له ابنة يقال لها: رملة، تزوجها عثمان - رضي الله عنه - وهاجرت معه.
طُعَيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وكان ممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبالغ في شتمه وتكذيبه، وأسر يوم بدر فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة - رضي الله عنه - فقتله.
العاص بن هشام بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أبو البَخْتَريّ، كان ممن أعان على نقض الصحيفة، وكان قليل الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "مَن لَقِيَ أَبَا البَخْتَري فلا يَقْتُلْه". فلقيه المُجذَّر بن زياد البلوي، فقال له: استأسر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن لا تقتل، فقال: معي رفيقٌ، جنادةُ بن مُلَيحَة، فإن استبقيتموه وإلا فلا حاجة لي في الحياة بعده، فأُعَيَّرَ بخذلانه، فقتله المُجَذَّر، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: والله لقد اجتهدت على أن لا أقتله، فقاتلني قتلته (3). ويقال: إن الذي قتل [أبا] البختري عمير بن عامر المزني.
العاص بن هشام بن المغيرة خال عمر بن الخطاب، قتله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
عاصم بن أبي عوف، أقبل يوم بدر كأنه ذئب وهو يقول: يا معاشر قريش، عليكم بالقاطع المفرِّق للجماعة الآتي بما لا يُعْرَف، محمَّدٍ، لا نجوتُ إن نجا، فاعترضه أبو دُجانة، فاختلفا ضربتين، فقتله أبو دجانة ووقف بسَلَبه، فمر به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو على تلك الحال، وقال: دع سَلَبَهُ حتى نُجهضَ العدو، وأنا أشهد لك به، وجاء مَعْبَد بن وهب فضرب أبا دجانة ضربة برك فيها كما يبرك البعير، ثم انتهض وأقبل على مَعْبَد فضربه ضربات، فلم يصنع سيفه شيئًا، فبرك عليه وذبحه بسيفه (4).
__________
(1) "المغازي" 1/ 147.
(2) وقيل زيد بن حارثة انظر "السيرة" 2/ 251.
(3) انظر الخبر في "السيرة" 2/ 197، و"المغازي" 1/ 80.
(4) "المغازي" 1/ 86.
(3/215)
________________________________________
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو الوليد، وقيل: أبو هاشم، وأمه: هند بنت المضرِّب أمُّ شيبة، لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: يا محمد، إن كنت تريد الشرف شرَّفناك وملّكناك، وإن كنت تريد المال موّلناك. فقال: "اسمَع يا أَبا الوَليدِ" وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1)} السجدة، فقال عتبة: هذا كلام ما سمعت بمثله، ثم التفت إلى قريش وقال: خَلُّوا بينه وبين العرب فليس بتارك أمره (1).
وكان عتبة سيدًا شريفًا شاعرًا، يسمى: ريحانة قريش، وكان يقال له: السيد المُمْلِق، ولم يعرف له من الرفث سوى قوله لأبي جهل: يا مُصَفِّر استه، ولحمزة - رضي الله عنه -: أنا سيد الحَلْفاء -يعني الأَجمة- وكان يتوهم أنه النبي المبعوث، وفيه نزل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31] في أحد الأقوال.
وعتبة هو الذي أصلح بين كنانة وقيس بعد حروب أَفنتهم، نادى يوم عكاظ: يا معاشر قريش، إن أبعدكم إلينا قريب، فهلموا إلى الصلح وصلة الأرحام. فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. قالوا: فما تعطونا؟ قال: إني أعرض عليكم أن نُعطيَ دية من أصيب منكم، ونعفو عمَّن أصيب منا، فما كان لنا عندكم من فضل فهو لكم، وما كان لكم من فضل أديناه إليكم. قالوا: نريد رهنًا بذلك، فأخرج إليهم خمسين غلامًا من قريش فيهم حكيم بن حزام، وقال: هؤلاء الغِلْمَةُ أَعزُّ مَن فينا، فإن وفينا وإلا أخذتم قَوَدَكُم، فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم رقّوا ورغبوا في العفو، قال حكيم بن حزام: فأطلقونا عشية، وقالوا: الحقوا بأهلكم فقد اصطلح الناس (2).
وقتل عتبة وله سبعون سنة، وقيل: إنّه جاوز المئة سنة.
ومن أولاد عتبة: أبو حذيفة، وأبو هاشم واسمه: شيبة، وقيل: هُشيم، وهو أخو أبي حذيفة لأبيه، وأخو مُصعب بن عُمير لأمه، أمهما: خُناس بنت مالك عامرية
__________
(1) انظر " السيرة" 1/ 261 - 262.
(2) هو حرب الفجار الرابع، انظر "المنمق" ص 164 - 180، و"تاريخ دمشق" 38/ 240.
(3/216)
________________________________________
قرشية، أسلم أبو هاشم يوم الفتح، وسكن الشام، وكان من فضلاء الصحابة، وكان أبو هريرة يقول إذا ذكره: ذاك الرجل الصالح، ومات في أيام عثمان. - رضي الله عنه -، ولما مرض دخل عليه معاوية يعوده فبكى، فقال: يا خالي ما يبكيك، أوجع أم حِرص على الدنيا؟ فقال: لا والله لا لهذا ولا لهذا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليَّ فقال: "يا أَبَا هاشمٍ، لعلَّك أن تدركك الأَموَالُ، وإنَّما يَكفِيكَ من الدُّنيا مَركَبٌ وخادِمٌ" (1). وأراني قد جمعت حولي (2).
وكان لعتبةَ من البنات هند أم معاوية نذكرها في سنة أربع عشرة، وأم أبان تزوجها طلحة - رضي الله عنه -، وسنذكرها. واتفق لأم أبان ما لم يتفق لغيرها، كان لها أربعة أخوة وعمَّان شهدوا بدرًا: فأخوان وعم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوان وعم مع المشركين.
أما الأخوان المسلمان: فأبو حذيفة ومصعب بن عمير، والعم المسلم: مَعْمَرُ بن الحارث.
والأخوان المشركان: الوليد بن عتبة وأبو عَزيز، والعم المشرك: شيبة بن ربيعة (3).
وفاطمة بنت عتبة تزوجها عَقِيلُ بن أبي طالب، وكان إذا دخل عليها تقول: أين عتبة وشيبة؟ فيقول: إذا دخلت النار فانظري عن يسارك تجديهما، فشكته إلى عثمان - رضي الله عنه -، ثم اصطلحا (4).
عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، وكان يكنى أبا الحكم، فكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل، وقال: "من كنى أبا جهل أبا الحكم، فقد أخطأ خطيئةً يستغفر الله منها، ولكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل" (5). وأمه أسماء بنت مُخَرِّبة بن جندل بن أُبَيْر بن نَهْشل بن دارِم، وأم أسماء عناق بنت الجان من تغلب بن وائل، وأم عناق يقال لها: الشَّموس.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (22496)، والنسائي في "الكبرى" (9811)، وفي "المجتبى" (5372).
(2) انظر القصة في "تاريخ دمشق" 67/ 292.
(3) انظر "المحبر" ص 400 - 401.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 226.
(5) لم نقف عليه بهذا السياق، وأخرج شطره الثاني عبد الرزاق في "تفسيره" 3/ 384 من حديث قتادة مرسلًا، وانظر "سبل الهدى والرشاد" 40/ 79 - 80.
(3/217)
________________________________________
ذكر مقتله:
قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: إني لواقف يوم بدر في الصف نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار، حديثةٍ أسنانُهما، تمنيت أني كنت بين أَضْلعَ مِنْهُما، فغمزني أحدهما وقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يَسُبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سوادَه حتى يموتَ الأَعْجَلُ منا، فغمزني الآخر وقال مثل ذلك. فعجبت، فلم أَنشَبْ حتى نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: هذا صاحبُكما الذي تسألان عنه، فاستقبلهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال: "أَيُّكما قَتَلَه"؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. قال: "فَهَل مَسحْتُما سَيفَكُما"؟ قالا: لا. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السيفين وقال: "كِلاكُما قَتَلَه". ثم قضى لهما بسَلَبهِ، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. أخرجاه في "الصحيحين" (1).
قال معاذ بن عَمْرو بن الجموح: ضربت أبا جهل ضربةً أَطَنَّت قدمَه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلد من جنبي، وقاتلت عامة نهاري وأنا أسحبها من خلفي، فلما آذتني جعلت رجلي عليها ثم تمطيت حتى طرحتها. وعاش معاذ إلى أيام عثمان - رضي الله عنه - (2).
وقال البلاذري: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت الحرب أوزارها أن يلتمس أبو جهل في القتلى، وقال: "اللهمَّ لا يعجزك".
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: وجدته مرميًا في القتلى على آخر رمق، فوضعت رجلي على عُنُقِه وقلت: الحمد لله الذي أخزاك. فقال: إنما يخزي الله ابنَ أمّ عبد، رُوَيْعينا بالأمسِ، لمن الدائرةُ؟ قلت: لله ولرسوله، فاقتلع البيضة عن قفاه. فقلت: إني قاتلك. فقاك: يا رويعي الغنم، لَسْتَ بأولِ عبدٍ قتل سيده. أما إنَّ أشدَّ [شيءٍ] عليّ لقتلُك إياي،
__________
(1) أخرجه البخاري (3141)، ومسلم (1752).
(2) "السيرة" 2/ 201، و "تاريخ الطبري" 2/ 454، و"المنتظم" 3/ 116. وأطنت: أطارت.
(3/218)
________________________________________
وأن لا يكون وَلِي قتلي رجل من الأحْلاف، فقتلتُه وجئت برأسه وسلاحه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله إنَّ ذلِكَ لأَحبُّ إليَّ مِن حُمْر النَّعَم" (1).
ورأى بجسده خُضْرةً، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: "ذاك أثر ضرب الملائكة". وكان أبو سلمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَوَجِدَ في نفسه، فأقبل على ابن مسعود فقال: أنت قتلته؟ قال: الله قتله. قال: فأنت وَلِيتَ قتله؟ قال: نعم. فقال: لو شاء أن يجعلك في كمِّه، لفعل. فقال ابن مسعود: فقد والله قتلته وجرَّدتُه. فقال أبو سلمة: فما علامته؟ قال: شامة سوداء في فخذه اليمنى. فقال: جرّدته ولم يُجرَّدْ قُرَشي غيره، فقال: لم يكن في قريش أعدى عدوًا لله ورسوله منه، وما أَعْتَذِرُ من شيء صنعته به. فسكت أبو سلمة، ثم استغفر الله بعد ذلك من كلامه في أبي جهل (2).
قال الواقدي: قتل أبو جهل وهو ابن سبعين سنة، وكان يقال له: دَعيُّ بني شَجْع، ولم تثبت نسبته.
وفيه يقول حسان (3): [من الطويل]
ألا لَعَن الرحمنُ قومًا يحثُّهم ... دَعِيُّ بني شَجْع لحرب محمَّدِ
مشومٌ لَعِينٌ قد تَبَيَّنَ جهلُه ... قليلُ الحياءِ أمرُه غيرُ مُرْشِدِ
فأنزل رَبِّي نَصرَه لرسولِه ... وأيَّده بالعِزِّ في كلِّ مَشْهَدِ
ذكر أولاده:
عكرمة، وأبو علقمة، واسمه: زُرارة قتل باليمن، وأبو حاجب واسمه: تميم، ولم يعقبْ منهم أحد. ومن البنات: دُرَّة (4)، وهي التي عزم عليٌّ على نكاحها، وعزَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركها. وجويرية أسلمت يوم الفتح، تزوجها عبد الرحمن بن عتّاب بن أَسِيد، فقُتِل عنها يوم الجمل.
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 352. وما بين معكوفين منه.
(2) "المغازي" 1/ 90 - 91.
(3) أنساب الأشراف 1/ 361.
(4) لأبي جهل أربع بنات: صخرة، الحنفاء، أسماء، جويرية، وليس لديه بنت اسمها درة، وإنما درة هذه ابنة أبي لهب، والتي خطبها علي بن أبي طالب هي جويرية، انظر "الإصابة" 4/ 65، والحديث في البخاري (3110)، ومسلم (2449) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -.
(3/219)
________________________________________
فصل: وعفراءُ بنت عُبَيْد (1) بن ثعلبة بن غَنْم الأنصارية، كانت عند الحارث بن رفاعة فولدت له معاذًا ومعوِّذًا، ثم طلَّقها، فقدِمت مكة فتزوجها بكير بن ياليل، فولدت له خالدًا وإياسًا وعاقلًا وعامرًا، ثم رجعت إلى المدينة، فراجعها الحارث، فولدت له عوفًا، وكلهم شهدوا بدرًا، فشهد لها ببدر سبعة بنين مسلِمين - رضي الله عنهم - (2).
مُنَبِّهٌ ونُبَيْهٌ ابنا الحجاج السَّهْمي، كانا من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان يدعو عليهما.
فأما منبه فقتله علي - رضي الله عنه -، وقيل: أبو اليَسَرِ الأنصاري، وقيل: أبو أسيد الساعدي.
وأما نُبَيه فقتله علي - رضي الله عنه - بغير خلاف، وكان ذو الفقار لنُبيه، وقيل: لمنبّه، فأخذه علي وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنفَّله.
أَبو ذات الكَرِش، واسمه: عبيدة بن سعيد بن العاص. قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: لقيته يوم بدر وهو مُدَجَّجٌ لا يرى منه إلا عيناه، فقال: أنا أبو ذات الكَرِشِ، فحملت عليه فطعنته بالعَنَزَةِ في عينه، فمات (3).
* * *
ذكر أعيان المشهورين من المشركين:
وقد قتل منهم سبعون، منهم:
الحارث بن الأسود بن المطلب، قتله علي - رضي الله عنه - (4).
__________
(1) في النسخ: عبد الله. والمثبت من "الطبقات الكبرى" 10/ 412، و"المحبر" ص 399.
(2) انظر "المحبر" ص 399.
(3) "المغازي" 1/ 85.
(4) لم نقف على هذا الرجل، ولعله الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، قتله عمار بن ياسر. انظر "السيرة" 2/ 252، و"الكامل في التاريخ"، وجاء في "المغازي"1/ 148: الحارث بن ربيعة بن الأسود قتله علي، والله أعلم.
(3/220)
________________________________________
وجابر (1) بن السائب وأخوه عويمر (2)، قتلهما علي - رضي الله عنه -.
ورفاعة بن أبي رفاعة، قتله سعد بن الربيع.
وزيد بن مليص بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله علي - رضي الله عنه -، وقيل: بلال (3).
والسائب بن صيفي بن عابد (4)، قتله الزبير.
والسائب بن أبي رفاعة، قتله عبد الرحمن بن عوف.
وعبد الله بن أبي رفاعة، قتله علي - رضي الله عنه -.
وعاصم بن أبي عوف، قتله أبو دُجانةَ (5).
وعَقيل بن الأسود بن المطلب، اشترك في قتله حمزة وعلي - رضي الله عنهما -.
وزمعة بن الأسود، قتله أبو دجانة (6).
وعمير بن أبي عمير، قتله سالم مولى أبي حذيفة.
وعمير بن عثمان بن عَمَّار (7) بن عمرو التيمي، قتله علي، وقيل: صهيب (8).
وقُتِلَ أبو قيس بن الفاكِه، قتله حمزة، وقيل: الحباب بن المنذر (9).
__________
(1) هكذا جاء في النسخ و"أنساب الأشراف" 1/ 353، والصواب: حاجر، ويقال: حاجب. انظر "السيرة" 2/ 255، و"المغازي" 1/ 151.
(2) قاتله هو النعمان بن مالك القوقلي. انظر "السيرة" 2/ 250، و"المغازي" 1/ 151. وما ذكر المصنف هو قول الكلبي كما في "أنساب الأشراف" 1/ 353.
(3) وقيل المقداد بن عمرو. انظر "السيرة" 2/ 253، "المغازي" 1/ 149.
(4) ذكره ابن إسحاق في "السيرة" 2/ 254، والواقدي 1/ 151 في قتلى المشركين يوم بدر، وهو معدود في الصحابة، انظر "الطبقات الكبرى" 6/ 93 - 94، و"الإصابة" 2/ 10.
(5) جاء في "السيرة" 2/ 255: قتله أبو اليَسر.
(6) جاء في "السيرة" 2/ 252: قتله ثابت بن الجذع.
(7) لا وجود لهذا الاسم في نسب عمير بن عثمان. انظر "نسب قريش" ص 280، و"السيرة" ص 2/ 253.
(8) جاء في "السيرة" 2/ 253، و"المغازي" 1/ 149: عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، قتله علي بن أبي طالب، ويقال: عبد الرحمن بن عوف. وعثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قتله صهيب بن سنان.
(9) في "السيرة" 2/ 254: قتله علي بن أبي طالب، ويقال: عمار بن ياسر.
(3/221)
________________________________________
ابن عدي، وكنيته: أبو العاص (1)، قتله علي - رضي الله عنه -. وقيل: الحباب بن المنذر.
ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة قتله علي - رضي الله عنه -.
ومَعبَد (2) بن وهب، قتله أبو دجانة.
ومعاوية بن عبد قيس، قتله عُكَّاشة.
ونوفل بن أسد بن عبد العزى (3)، قتله علي - رضي الله عنه -.
وعن الزهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "اللَّهمَّ اكْفِني نَوفَلَ بن خُويلِدٍ". وكان أول ما التقى الصفان، يصيح بصوت رفيع: يا معاشر قريش، اليوم يوم الرِّفعة والعلاء، فلما انكشفت قريش قال: يا معاشر الأنصار، ما حاجتكم إلى دمائنا. فأسره جبَّار بن صخر فهو يسوقه، إذ رأى عليًّا - رضي الله عنه - مقبلًا نحوه، فقال: يا أخا الأنصار، مَنْ هذا؟ واللّات والعزى إنه ليريدني. فقال: هذا علي بن أبي طالب. فصمد له علي - رضي الله عنه - فقتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن له عِلْمٌ بنَوفَلِ بن خُويلِدٍ"؟ فقال علي: أنا قتلته. فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "الحمدُ لله الذِي أَجَابَ دَعوَتي فيه" (4).
وبلغ النجاشيَّ مقتلُ قريش ببدر، فخرج في ثوبين أبيضين، وجلس على الأرض، ثم دعا جعفرًا وأصحابه وقال: أيكم يعرف بدرًا، فأخبروه. فقال النجاشي: أنا عارف بها، قد رَعَيتُ الغنم في جوانبها، هي من الساحل على بعض نهار، ولكني أردت أن أتثبت منكم، قد نصر الله رسوله ببدر وأحمد الله على ذلك. فقال له بطارقته: قد رأيناك صنعت اليوم شيئًا لم تكن صنعته، لبست ثوبين أبيضين، وجلست على الأرض، فقال: إني من قوم إذا أحدث الله فيهم نعمة، ازدادوا بها تواضعًا، وفي رواية: إن عيسى عَلَيهِ السَّلام كان إذا أُحْدِثَ له من الله نعمة، ازداد تواضعًا (5).
__________
(1) هو أبو العاص بن قيس بن عدي، قتله علي، ويقال: أبو دجانة. "المغازي" 1/ 152، و"أنساب الأشراف" 1/ 354.
(2) في النسخ: "معد".
(3) هو نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. انظر "السيرة"2/ 709، و"المغازي" 1/ 149، و"نسب قريش" ص 229 - 230.
(4) "المغازي" 1/ 91 - 92.
(5) "المغازي" 1/ 120 - 121.
(3/222)
________________________________________
وعن أنس: لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر، جاءه جبريل عَلَيهِ السَّلام على فرس أنثى حمراء، وعليه درع وبيده رمح، فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، فهل رضيت؟ قال: نعم. فانصرف جبريل عَلَيهِ السَّلام (1).
وقال ابن عباس: أول من قدم مكة بمصاب قريش، الحَيْسُمانُ بن عبد الله الخزاعي، وهو ينادي بالويل والثبور، فقيل له: ما وراءك؟ فقال: قتل عتبة، قتل شيبة، قتل أمية، قتل الوليد، قتل أبو جهل، قتل فلان وفلان. وجعل يَعُدُّهم، وكان صفوان بن أمية في الحِجْر، فقال: إن يَعْقِلْ هذا، فسلوه عني؟ فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: هو قاعد في الحِجْر، ولقد رأيت والله أباه وأخاه حين قتلا (2).
وكانت هند بنت عتبة تقول: لو أعلم أن الحزن يذهبه البكاء لبكيت، وقالت: [من مجزوء الكامل]
للهِ عَينا من رأى ... هُلْكًا كَهُلْكِ رجاليَهْ
يا رُبَّ باكٍ لي غدًا ... في النَّائباتِ وباكيَهْ (3)
كم غادَرُوا يومَ القَليـ ... ــــبِ غداةَ تلك الواعِيَهْ (4)
مِن كلِّ ليثٍ في المُحو ... لِ إذا الكواكب جاريهْ (5)
قد كنتُ أحذَرُ ما جَرَى ... فاليومَ حُقَّ حِذاريهْ
يا رُبَّ قائلةٍ غدًا ... يا ويحَ أمِّ معاويهْ
وكان الأسود بن المطلب من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلَّمه يومًا كلامًا شقَّ عليه، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمى والثُّكْلِ، فأعماه الله وأثكله.
وكان خرج يومًا إلى ظاهر مكة يستقبل بعض بنيه، وقد قدم من الشام، فجلس في ظل شجرة، فجاءه جبريل عَلَيهِ السَّلام، فجعل يضرب وجهه وعينيه بشوك حتى عمي، فشغل
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 24 من حديث عطية بن قيس، وانظر "المغازي" 1/ 113.
(2) انظر "السيرة" 1/ 646.
(3) في النسخ، و"أنساب الأشراف" 1/ 171: "النائحات"، والمثبت من "السيرة" 2/ 282.
(4) الواعية: الصيحة.
(5) رواية "السيرة" و"الأنساب":
من كل غيث في السنيـ ... ـــــــــــن إذا الكواكب خاويه
(3/223)
________________________________________
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما كان يوم بدر، قتل بنوه الثلاثة فكان يقول: دعوت على محمد أن يكون طريدًا في غير قومه وبلده، فاستجيب، ودعا عليّ بالعمى والثكل فاستجيب له (1).
ومات الأسود في السنة الثالثة من الهجرة والمشركون يتجهزون إلى أُحد، وعاش مئة سنة.
ولما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاقِرَ الناقة، قال: "كان عزيزًا في قومه كأبي زَمْعَةَ الأسود بن المُطَّلِب في قومه" (2).
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البشائر إلى المدينة: عبدَ الله بنَ رَواحة إلى أهل العالية، وزيدَ بن حارثة إلى أهل السافلة.
قال أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: قدم أبي إلى المدينة وقد سَوَّينا التراب على رُقَيَّةَ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خلَّفه عليها يُمَرِّضُها. قال أسامة: فأتيت أبي وهو قائم بالمُصَلّى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل شيبة، قتل عتبة، قتل فلان وفلان. فقلت: يا أبت، بالله حقًّا ما تقول؟ فقال: إِي والله يا بني (3).
واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الغنائم عبد الله بن كعب المازني، وقيل: عبد الله بن قيس، ثم ارتحل - صلى الله عليه وسلم - قافلًا إلى المدينة، ونزل على كثيب فقسم الغنائم بين المسلمين على السواء (4).
وكان الكفار قد جاؤوا بمئة فرس، فنجَوْا منها بسبعين وحصل في أيدي المسلمين ثلاثون وسبع مئة بعير، وأسلحة ودروع وسيوف كثيرة، وتنفَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذا الفَقار وجَمَلَ أبي جهل، وكان مَهْريًا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو عليه ويضرب في لقاحه (5).
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 171.
(2) أخرجه البخاري (3377)، ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة، وانظر "أنساب الأشراف"1/ 173.
(3) "السيرة" 2/ 207.
(4) انظر "السيرة" 2/ 207، و"المغازي" 1/ 100. وقيل: استعمل عليها خباب بن الأرت كما في "المغازي".
(5) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 17، و"تاريخ الطبري" 2/ 478 - 479.
(3/224)
________________________________________
وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، فقتلت سعيد بن العاص بن أمية، وأخذت سيفه وكان يسمى: ذا الكتيفة، فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفا صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: "لَيسَ هذا لي ولا لَك، فَاذْهَب فَاطْرَحهُ في القَبَضِ". فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قَتْل أخي وأَخْذِ سَلَبي، وقلت: عسى يُعطى هذا لمن لا يُبْلي بلائي، فما جازوت قليلًا حتى جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخفت أن يكون نزل فيَّ شيء، وأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ... } [الأنفال: 1]، الآية، فلما انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لي: "يا سَعْدُ، إنَّك سَأَلتَنِي السَّيفَ، ولَيسَ لِي، وقد صَارَ الآن لِي، فَاذْهَبْ وخُذْهُ"، فأخذته (1).
وكان قد تخلف عن بدر ثلاثة من المهاجرين، وخمسة من الأنصار لعذر، فضرب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهامهم وأجورهم.
فمنهم: عثمان بن عفان -رضوان الله عليه- خلَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنته رقية - رضي الله عنهما - يُمَرِّضُها.
وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعثهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجسسان العير وخبر قريش ففاتهم ذلك، وقدما المدينة يوم وقعة بدر.
ومن الأنصار: عاصم بن عدي بن العجلان، خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على أهل العالية لشيء بلغه عنهم.
والحارث بن حاطب العَمْري، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردَّه من الرَّوْحاء إلى بني عمرو بن عوف. والحارث بن الصمة، وخَوّات بن جبير خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فردهما إلى المدينة.
وأبو لبابة بن عبد المنذر خلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، ولا خلاف في هؤلاء الثمانية (2).
__________
(1) أخرجه أبو داود (2740)، والترمذي (3079)، والنسائي في "الكبرى" (11196)، وأحمد في "مسنده" (1567).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 11.
(3/225)
________________________________________
ولما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّوْحاءَ التقاه المسلمون يهنؤونه بالفتح والظَّفَرِ، فقال [سلمة بن] سلامة بن وَقْش -وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر-: وهل لقينا إلا عجائز صُلْعًا كالبُدْن المُعَقَّلة، فنحرناها نحرًا، فبماذا يهنئون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا يَا ابن أَخِي، لا تَقُل كَذا، أُولئِكَ المَلأُ مِن قُريشٍ -يعني السادة الأشراف- لَو رَأَيتَهُم لَهِبْتَهم، ولو أَمرُوكَ لأَطعْتَهم، ولو رَأَيتَ فِعَالك مع فِعالِهم لاحتقرته (1)، ولبئس القوم كانوا على ذلك لنبيِّهم" (2).
وعند انفصال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بدر قاصدًا إلى المدينة، قَتَلَ عُقْبةَ بنَ أبي مُعَيط، والنَّضْرَ بنَ الحارث، واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وكان أبو عمرو يُسمّى ذَكْوان، وكان عبدًا، فاستخلفه أمية وكنّاه أبا عمرو، فخلف على امرأة أبيه وهي بنت أبان أم الأعياص (3).
وقال هشام بن الكلبي: خرج أمية إلى الشام، فأقام به عشر سنين، فوقع على أَمَةٍ يهودية من أهل صفورية لرجل من لخم، يقال لها: الثريا، وكان لها زوج يهودي، فحملت منه بذكوان وهي على فراش اليهودي، فاستلحقه (4) أمية، ثم قدم به مكة وكنّاه أبا عمرو.
وكان عقبة يكنى: أبا الوليد، وكان هو والنضر أشدَّ عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جميع قريش، فأسره يوم بدر عبد الله بن سلمة بن العَجْلاني، فأخذه وأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقتله، فقال: يا ويلتي علام أقتل من بين هؤلاء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِعَدَاوتِك الله ورَسولَه" (5). فقال: يا محمد، ناشدتك الله والرحم، فقال: "وأيُّ رَحِم بيني وبينَكَ، وهَل أَنتَ إلَّا عِلْجٌ مِن أَهلِ صَفُّورِيَّةَ".
__________
(1) في النسخ: لاختصرته، والمثبت من "المغازي" 1/ 116.
(2) وانظر الخبر مختصرًا في "السيرة" 2/ 207 - 208، وأخرجه مختصرًا الحاكم في "المستدرك" 3/ 418، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 147.
(3) هي آمنة بنت أبان، والأعياص هم: العاص، وأبا العاص، والعيص بنو أمية الأكبر "جمهرة النسب" ص 38.
(4) في النسخ: "فاستخلفه" والمثبت من المعارف 319.
(5) "المغازي" 1/ 114، وانظر مقتل عقبة في "السيرة" 2/ 208.
(3/226)
________________________________________
وقال الواقدي: كان عقبة يقول بمكة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجر بالمدينة: [من البسيط]
يا راكبَ النَّاقةِ القَصْوَاءِ هاجرَنا ... عمّا قليلٍ تراني راكبَ الفَرَسِ
أَعِلُّ رُمحيَ فيكم ثم أَنْهَلُه ... والسيفُ يأخذُ منكم كل مُلتبسِ
وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اللهمَّ كُبَّه لمَنْخِره واصْرَعْه" (1).
وحكى البلاذري: أنه لما حضر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "والله لأقتُلَنَّك". فقال: يا محمد، مَن للصبية، قال: "النار". فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتقتله من بين قريش؟ قال: "نعم، لقد وطئ على عُنقي يومًا وأنا ساجد، فما رفع رجله حتى ظننت أن عينيَّ قد سقطتا، وجاء يومًا بسلا جَزور فألقاه على رأسي" الذي قتله ثابت بن أبي الأفلح، ضرب عنقه ثم صلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام (2).
النَّضرُ بن الحارث بن علقمة بن كَلَدةَ بن هاشم بن عبد مناف بن قصي (3)، أبو فائد.
كان أشد الناس عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أنت الذي تزعم أنه يوحى إليك، وأنك ستوقع بقريش عن قريب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، وَأَنْتَ مِنهُم" ثم قرأ: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (4) [الأعراف: 185].
قال البلاذري: والذي أسره يوم بدر المقداد بن الأسود، فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء أمر عليًّا بقتله (5).
قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال: إنه كان يؤذي الله ورسوله ويقولُ ما قال. اللهمَّ أَغْنِ المقداد من فضلك، ولما جيء به إلى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا، قال لرجل: والله إن محمدًا قاتلي، قال: ومن أين علمت؟ قال: لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت، ثم قال لمصعب بن عمير: أنت أَقْرَبُ مَنْ ها هنا وأمسُّ بي رحمًا من
__________
(1) "المغازي" 1/ 82.
(2) "أنساب الأشراف" 1/ 170، 349.
(3) هذا النسب غير صحيح، فالنضر هو ابن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب. وأما هاشم فهو أخو كلدة. انظر "نسب قريش" ص 254 - 255، و"جمهرة أنساب العرب" ص 126.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 160.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 161.
(3/227)
________________________________________
القوم، فكلِّم صاحبك فيَّ عسى أن يجعلني كواحدٍ من أصحابي. فقال: إنك قلت كذا وفعلت كذا. فقال: يا مصعب ليس هذا بحين عتاب، فوالله لو أسرتك قريش لدافعت عنك، فقال مصعب: إن الإسلام قطع بيننا وبينكم العهود، فقتله علي -رضوان الله عليه- بالأُثَيل (1)، فقالت أخته قُتَيلَةُ (2): [من الكامل]
يَا راكِبًا إنَّ الأُثَيلَ مَظِنَّةٌ ... مِن صُبْحِ خامسةٍ وأَنتَ مُوَفَّقُ
أَبْلِغ بها مَيتًا هناك تحيةً ... ما إنْ تَزالُ بها الرَّكائِبُ تَخْفِقُ
منِّي إليه وعَبْرةً مسفوحةً ... جَادَت لسَافِحها وأخرى تخنُقُ
هل يسمعنِّي النَّضْرُ إن نادَيتُه ... أَم كيفَ يَسمَعُ ميِّتٌ أو يَنطقُ
قولا لأحمدَ أَنت ضِنْءُ كَريمةٍ ... لنجيبةٍ والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ (3)
ما كان ضَرَّك لو مَنَنْتَ وربَّما ... مَنَّ الفتى وهو المغِيظُ المُحْنَقُ
والنَّضُر أَقربُ مَنْ قَتَلْتَ قَرابةً ... وأَحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظلَّت سُيوفُ بني أبيه تَنوشُه ... لله أَرحامٌ هناك تَشَقَّقُ (4)
قَسْرًا يقاد إلى المنية متعبًا ... رَسْفَ المُقَيَّد وَهْوعانٍ موثَقُ (5)
فَيُقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه هذا الشعر قال: "لو سمعتُه قبل قتله لما قتلتُه" (6).
وسبق رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الأسرى إلى المدينة بيوم، وقال للذين معهم: "استوصوا بهم خيرًا" (7)، واستعمل عليهم شُقْران مولاه (8).
__________
(1) "المغازي" 1/ 106 - 107، وانظر "أنساب الأشراف"1/ 161.
(2) جعل المصنف قتيلة أخت النضر بن الحارث تبعًا لابن إسحاق كما في "السيرة" 2/ 285، والصواب أنها ابنته، قال السهيلي في "الروض" 2/ 119: الصحيح أنها بنت النضر لا أخته، كذلك قال الزبير وغيره. انظر "نسب قريش"ص 255، و"الإصابة" 4/ 389.
(3) الضنء: الأصل. والمعرق: الكريم.
(4) تنوشه: تتناوله.
(5) الرسف: المشي الثقيل، والعاني: الأسير.
(6) "السيرة" 2/ 285.
(7) أخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (977)، وفي "الصغير" (409) من حديث أبي عزير بن عمير أخي مصعب بن عمير. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 86، وقال: إسناده حسن.
(8) "المغازي" 1/ 116.
(3/228)
________________________________________
قال الواقدي: كانوا تسعة وأربعين رجلًا (1).
وروى مسلم، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنهم أسروا سبعين (2).
فنذكر أعيانهم: الأسود بن عامر، الحارث بن أبي وَجْزةَ، خالد بن الأعلم العُقيلي، سهيل بن عمرو، العباس بن عبد المطلب، عبد الله بن أُبيِّ بن خلف، عثمان بن عبد الله بن المغيرة، عثمان بن عبد شمس، المطلب بن حَنْطَب، الوليد بن الوليد بن المغيرة، أبو العاص بن الربيع، أبو عَزيز بن عمير، أبو عَزَّةَ الشاعر، أبو ثور.
واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأسرى، فأشار أبو بكر - رضي الله عنه - بالفداء، وأشار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقتلهم (3).
ففدى كلَّ واحد بأربعة آلاف درهم (4)، وقيل: بأربعين أوقية، وبعضهم بأقل (5).
ذكر ما جرى في الأسارى:
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَقُولونَ في هَؤُلاءِ"؟ فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك، استبقهم واستَأْن بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فِدية تكون لنا قوة.
وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، ما أرى ما رآه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنَ عليًّا من عَقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّنَني من فلان -نسيبًا كان لعمر- فأضرب عنقه، وتمكِّن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا للمشركين هوادة، هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم.
وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أَضرِم عليهم نارًا. فقال له العباس: قُطِعَتْ رَحِمُك.
__________
(1) "المغازي" 1/ 115.
(2) صحيح مسلم (1763).
(3) أخرجه مسلم (1763) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(4) "السيرة" 2/ 220.
(5) "الطبقات الكبرى" 2/ 20.
(3/229)
________________________________________
فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، فقام فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة. ثم خرج عليهم، فقال: "إنَّ الله لَيُلَيِّنُ قُلوبَ رجالٍ فيه حتى تكونَ أَلينَ من اللَّبَنِ، وإنَّ الله لَيُشدِّدُ قلوبَ رجالٍ فيه حتى تكونَ أشدَّ من الحجارَةِ، وإن مثَلَك يا أبا بَكرٍ، مَثَل إبراهيمَ عَلَيهِ السَّلَام قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ومَثَلك يا أبا بكرٍ، مَثَل عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} قال: [المائدة: 118] الآية. ومَثَلك يا عمرُ، مَثَل نوحٍ عَلَيهِ السَّلَام إذ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ومَثَلك يا عُمر، كمَثَل موسَى عَلَيهِ السَّلَام {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: [يونس: 88] الآية". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنتُمُ اليومَ عَالةٌ، فلا يُفلِتنَّ أحدٌ إلا بِفِداءٍ أو ضَربِ عُنُقٍ".
قال ابن مسعود: فقلت: إلا سهيل بن بيضاء، فإني رأيته أو سمعته يذكر الإسلام. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيتني في يوم أخْوَفَ من أن يقع عَليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا سُهيلَ بن بَيضَاءَ" وأنزل الله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية، إلى قوله: {عَظِيمٌ} (1) [الأنفال: 68].
وقد أكثر الشعراء في غزاة بدر، قال أمية بن أبي الصلت (2): [من مجزوء الكامل]
هَلَّا بَكَيتَ على الكِرَا ... مِ بني الكِرامِ أُولي المَمَادِحْ
كَبُكا الحَمامِ على فُرُو ... عِ الأَيكِ بالصبح الجوانح (3)
يبكين حَرَّى مُستكِيـ ... ناتٍ يَرُحْنَ مع الرَّوائح
أمثالُهنَّ الباكِيَا ... تُ المُعْولاتُ مع النوائح
ماذا بِبَدْر والعَقَنْـ ... ــــقَلِ من مَرازبةٍ جَحاجح
القائلين الفاعليـ ... ن الآمرين بكل صالح
فلقد تنكَّر بطن مكّةَ ... فَهْيَ مُوحِشَةُ الأَباطح
لله دَرُّهم فكم ... من أيِّم فيهم وناكح
__________
(1) أخرجه الطبري في "تاريخه" 2/ 476 - 477، وهو مروي عن عدد من الصحابة بروايات مختلفة انظرها في "السيرة الشامية" 4/ 91.
(2) الأبيات في "السيرة" 2/ 272 - 277.
(3) كذا في النسخ، وفي "السيرة": "في الغصن".
(3/230)
________________________________________
وقال كعب بن مالك (1): [من الوافر]
وَرَدناهُ وفينَا البَدرُ يَجلُو ... دُجَى الظَّلماءِ عنَّا والغطاءِ (2)
رسُولُ اللهِ يَقْدُمُنا بِأَمرٍ ... من الرَّحمنِ يَحكُمُ بالقَضاءِ
فَلا تَعجَلْ أَبَا سفيانَ وارْقُبْ ... جِيادَ الخَيلِ تَطلُعُ مِن كَدَاءِ
بنَصرِ اللهِ، روحُ القُدسِ فينا ... وميكالٌ فيا طِيبَ المَلاءِ
وقال شداد بن الأسود الليثي (3): [من الوافر]
تُحيِّي بالسَّلامةِ أُمُّ بكرٍ ... وهَل لي بعدَ رهطي مِن سَلامِ
ذَريني أصطبح بكرًا فإنِّي ... رأيتُ الموتَ نَقَّب عن هِشامِ
ونَقَّب عن أخيكِ وكانَ حُرًّا ... مِن الفِتيانِ شربُه المدامِ (4)
ونَقَّب عن أبيكِ أبي يزيدٍ ... أخي الفتيان والشَّرْبِ الكرامِ
ووَدَّ بنو المغيرةِ لو فَدَوْه ... بألفٍ من رجال أو سوامِ
وماذا بالقَليبِ قَليبِ بَدرٍ ... مِنَ الرَّغَبات والنِّعَم الجِسامِ
ألا مَنْ مبْلغُ الأقوامِ عنِّي ... بأنِّي تاركٌ شَهرَ الصِّيامِ
ومنها:
إذا ما الرَّأس فارق منكبَيه ... فأبعدَ ما يكونُ من القيامِ
وفي هذه السنةِ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر، وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال، وأن تُخرجَ عن الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، قبل أن يغدو إلى المصلى (5).
__________
(1) الأبيات في "السيرة" 2/ 272.
(2) رواية "السيرة": وردناه بنور الله يجلو.
(3) رواية "السيرة" 2/ 274 - 275 مخالفة تمامًا لما عند المصنف، ولم نقف على هذه القصيدة بتمامها بهذه الرواية، وانظر "أنساب الأشراف" 1/ 361.
(4) هذا البيت ليس في (أ)، وقد ورد في النسختين (خ، ك) هكذا، ولم نقف على من ذكره.
(5) أخرج البخاري (1503)، ومسلم (984) عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 418.
(3/231)
________________________________________
وفيها: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، وصلى بالناس صلاة العيد، وهي أول خَرْجةٍ خَرَجها، وحمل بلال بين يديه العَنَزَة التي بعثها له النجاشي مع الزبير، وكانت تُحملُ بعد ذلك بين يدي الخلفاء (1).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي العيد بغير أذان ولا إقامة (2)، ويخطب بعد الصلاة (3). حتى قام بنو أمية فجددوا للعيد أذانًا وإقامة، وخطبوا قبل الصلاة.
وفيها: ولد عبد الله بن الزبير بن العوام في شوال بعد الهجرة بعشرين شهرًا، وهو أول مولود ولد للمهاجرين بالمدينة، فكبَّر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكذيبًا ليهود، لأنها كانت تقول: قد سحرناهم فلا يولد لهم عندنا مولود (4).
وفيها: كانت قصة عُمير بن وهب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال (5).
وفيها: سرية عمير بن عدي إلى عصماء بنت مروان اليهودي، وكانت تعيب على المسلمين، وتهجوهم، وتؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمير بن عدي الخطمي لما بلغه قولها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ على بدر: علي لله نَذْر إن [رددتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (6) إلى المدينة لأقتلنَّها. فجاءها وهي تُرْضِعُ صبيًّا لها، فجسَّه بيده، ونحّاه وقتلها، وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فالتفت إلى من حوله، وقال لهم: إذا أَحببتم أن تنظروا إلى رجل نَصَر الله ورسولَه بالغيب، فانظروا إلى عمير. فقال عمر بن الخطاب: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقل الأعمى ولكنه البصير". وقال له قومه: أنت قتلتها؟ قال: نعم، والله لو قلتم كلكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أقتلكم كلكم أو أموت. فيومئذ ظهر الإسلام في بني خَطْمة، وكان
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 217، و"تاريخ الطبري" 2/ 418، و"المنتظم" 3/ 96.
(2) أخرجه مسلم (887) من حديث جابر بن سمرة.
(3) أخرج البخاري (963)، ومسلم (888) عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة.
(4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 400 - 401.
(5) وهي قصة إسلامه. انظرها في "السيرة" 2/ 220.
(6) ما بين حاصرتين من "المغازي" وجاءت العبارة في النسخ: عليَّ لله نذر إن رجعت إلى المدينة. وهو خطأ لأن عميرًا لم يخرج إلى بدر لأنه كان ضريرًا.
(3/232)
________________________________________
منهم رجالٌ يخفونه (1).
وفي شوال كانت سرية سالم بن عمير إلى أبي عَفَك اليهودي، وكان شيخًا كبيرًا من بني عمرو بن عوف، عاش عشرين ومئة سنة، فكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرّض عليه ولم يسلم، فاستأذن سالمٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فاغتاله فقتله، وسالم من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وأحدًا، والمشاهد كلها (2).
وفيها: كانت غزاة بني قَينُقاع من اليهود في شوال (3).
وفيها: كانت غزاة السَّويق في ذي الحجة، وكان أبو سفيان لما رجع من بدر آلى أن لا يَمَسَّ طيبًا، ولا يغتسل من جنابة، ولا ينام عَلى وسادةٍ حتى يغزوَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج من مكة في مئتي راكب من قريش، ولما وصل إلى المدينة، نزل بصَدْر قَناةٍ على بَريدٍ من المدينة، ثم أتى في الليل على بني النَّضير، فضرب باب حُيَي بن أخْطَب فلم يفتح له وخافه على نفسه، وأتى باب سلّام بن مِشْكم وكان سيد بني النَّضير، ففتح له وقَراه وأصحابه الخمر، وأتى أبو سفيان طرفًا من أطراف المدينة، فحرق بعض نخيلها، وقَتَلَ حليفًا للأنصار اسمه معبد. ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في مئتين وخمسين من المهاجرين، واستخلف أبا لُبابةَ، وخاف أبو سفيان وأصحابُه أن يدركوهم، فطرحوا ما كان معهم من الزاد وانهزموا، وكان عامة أزوادهم السويقَ فغنمه المسلمون، وفاته أبو سفيان، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن يكون لنا في هذه الغزاة أجر؟ قال: "نعم". فسميت غزاة السويق (4).
وفيها: كانت غزاة قرقرة (5).
وفيها: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاقِلَ الدِّيةِ، وجعلها في حمائل سيفه (6).
__________
(1) "المغازي" 1/ 172 - 173، وانظر "السيرة" 4/ 209.
(2) "المغازي" 1/ 174، وانظر" السيرة" 4/ 208.
(3) "المغازي" 1/ 176، وانظر "السيرة" 3/ 5.
(4) "السيرة" 3/ 3، و"المغازي" 1/ 181.
(5) "السيرة" 3/ 3، و"المغازي"1/ 182.
(6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 486.
(3/233)
________________________________________
وفيها: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد، وضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه، والآخر عن أُمَّته، ممن يقر بالشهادتين (1).
وفيها: بنى علي بفاطمة - رضي الله عنها - في آخر ذي الحَجة، قال بُرَيدَة: لما خطب عليٌّ فاطمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بُدَّ للعُرسِ مِن وَلِيمةٍ"، فقال سعد: عليَّ كبش، وقال فلان: عليّ كذا وكذا من ذرة (2).
وقال علي - صلى الله عليه وسلم -: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها غيرُ جلدِ كَبْشٍ ننامُ عليه في الليل، ونعلفُ عليه الناضحَ في النهار، وما لي ولها خادم غيرها (3).
ولقد أُهْدِيَت إليَّ في بردتين ومعها مرفقة من أَدَم حشْوُها ليفٌ، وقِرْبَةٌ ومُنْخُل، ورَحا وجراب وجَرَّتان (4).
وقال علي رضوان الله عليه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة البناء بفاطمة: "لا تُحدِثنَّ حَدَثًا حتَّى آتِيَكُما". قال: فأتانا فجلس عند رؤوسنا، ودعا بإناء فدعا فيه بالبركة ورشَّه علينا، قال: فقلت: يا رسول الله، أيما أحب إليك أنا أم هي؟ قال: "هِيَ أَحَبُّ إِليَّ مِنكَ، وأَنتَ أَعزُّ عليَّ مِنها" (5).
وقال علي - رضي الله عنه -: لما أهديت إليَّ فاطمة لم تجد عندي إلا وسادة ورملًا مبسوطًا وجرَّة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقامت في مِرْطِها تتصبَّبُ عَرَقًا من الحياء، فنضح علينا من الماءِ، وقال: "أَمَا إنِّي لم أُنْكِحْكِ إلَّا أَحبَّ أَهلي إليَّ، وأَعَزَّهم عليَّ" (6).
وعن أبي جعفر قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، نزل على أبي أيوب، فلما تزوج عليٌّ فاطمة - رضي الله عنهما - قال له: اطلب لك منزلًا، فطلب فوجده بعيدًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلًا،
__________
(1) انظر "المنتظم" 3/ 137.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (23035).
(3) أخرجه هناد في "الزهد" (753)، وابن عساكر في "تاريخه" 42/ 376.
(4) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 25.
(5) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (1076)، وابن عساكر في "تاريخه" 42/ 124.
(6) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9781)، وأحمد في "فضائل الصحابة" (958)، والطبراني في "الكبير" 24 / (365) من حديث أسماء بنت عميس، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 210، وقال: رجاله رجال الصحيح.
(3/234)
________________________________________
فبنى بها فيه، فجاءهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إني أريد أن أحولكما إلي". فقال: كلِّم حارثة بن النعمان؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد حوَّلَ حارثةُ حتى لقد استحييت منه". فبلغ حارثة، فتحوَّل من منزله وجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، قد بلغني أنك تريد أن تحوِّل فاطمة إليك، وهذه منازلي لله ولوسوله، فحولها إلى منزل حارثة (1).
وقال عطاء بن السائب عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوجه فاطمة، بعث معها خميلة ووسادة من أدم حَشْوُها ليف، ورحاتَين وسِقاء وجرَّتين. فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سَنَوْت (2) حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء اللهُ أباك بِسَبْيٍ فاذهبي فاستخدميه. فقالت: والله أنا طحنت حتى مَجَلَتْ (3) يداي. فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما جَاءَ بكِ يا بُنيَّة؟ " فقالت: جئت لأُسلِّمَ عليك. واستحيتْ أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلتِ؟ فقالت: استحييت. فأتياه جميعًا فسألاه، فقال: "واللهِ لا أُعطِيكُما وأَدَعُ أهلَ الصفَّةِ تُطوَى بُطونُهم لا أجدُ ما أُنفِقُ عَلِيهم، ولكِن أَبيعُهم وأُنفِق عليهم أَثمَانَهُم". ثم أتاهما في منزلهما، فقال: "أَلا أُعلِّمكُما وأُخبِركُما بخيرٍ ممَّا سأَلتُماني"؟ قالا: بلى. قال: "كلماتٌ علَّمني إياهنَّ جبريل عَلَيهِ السَّلَام، تسبِّحانِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عشرًا، وتَحمدانِ عَشْرًا، وتُكبِّران عَشْرًا، وإذا أَوَيتُما إلى فِراشِكُما، فسَبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمَدَا ثلاثًا وثلاثينَ، وكَبِّرا أربعًا وثلاثينَ". قال علي: فوالله ما تركتهنَّ منذ علمني إياهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة صفين (4).
* * *
فصل وفيها توفي
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 23.
(2) سنوت: سقيت.
(3) مجلت: نفطت من العمل.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 10/ 25 - 26، وأحمد في "مسنده" (838)، وهو عند البخاري (3113)، ومسلم (2727) مختصرًا.
(3/235)
________________________________________
خُنَيسُ بن حذافة (1)
ابن قيس بن عدي [بن سعد] بن سهم [بن عمرو] بن هُصَيص، أبو حُذافة السَّهْمّي، وأمه: ضعيفة بنت حِذْيَم من بني سهم (2)، أسلم قديمًا، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، مرض ببدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومات مَقْدَمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر، وكان تحته حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -[فخلف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك (3).
رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)
تزوجها عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قالت أمه أم جميل بنت حرب: قد هجانا محمد، وعزمت على ابنها عتبة أن يطلق رقية، وعزم عليه أبوه أيضًا أن يطلقها ففعل]. فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان - رضي الله عنه -، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرتين، ثم هاجرت معه إلى المدينة، وكانت قد أسقطت من عثمان - رضي الله عنه - سقطًا، ثم ولدت بعد ذلك ولدًا سماه: عبد الله، واكتنى به في الإسلام وعاش إلى سنة أربع، وبكت النساء على رقية - رضي الله عنهما - , فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجعل يضربهن بسوطه، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يده، وقال: "ابكين وإياكن ونَعيقَ الشيطان، فإنه مهما يكن من القلب والعين، فإنه من الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان". وقعدت فاطمة - رضي الله عنها - تبكي على شفير، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح دمعها بطرف ثوبه رحمة لها (5).
__________
(1) انظر ترجمته: في "الطبقات الكبرى" 3/ 364، و"المنتظم" 3/ 185، و"البداية والنهاية" 3/ 318، و"الإصابة" 1/ 456. وترجم له ابن الجوزي في وفيات السنة الثالثة، وكذا ابن الأثير في "الكامل" 2/ 148.
وقال ابن حجر: شهد بدرًا وأصابته جراحة يوم أحد فمات منها.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 364، وما بين حاصرتين زيادة منه، ومن "نسب قريش" ص 400 - 402.
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 508.
(4) انظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" 10/ 36، و"أنساب الأشراف" 1/ 485 - 486، و"المنتظم" 3/ 138، و"الإصابة" 4/ 304 وما بين حاصرتين منها.
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 10/ 37، وأحمد في "مسنده" (3103) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال ابن سعد: الثبت عندنا من جميع الرواية أن رقية توفيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ولم يشهد دفنها، ولعل هذا الحديث في غيرها من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - اللاتي شهد دفنهن، فإن كان في رقية وكان ثبتًا فلعله أتى قبرها بعد قدومه المدينة، وبكاء النساء عليها بعد ذلك. وقال الذهبي في "الميزان" 3/ 128 - 129: هذا حديث منكر، وفيه شهود فاطمة الدفن، ولا يصح.
وأخرجه أحمد في "مسنده" (2127) وفيه أنها زينب.
(3/236)
________________________________________
ومن رؤساء الكفار: أمية بن أبي الصلت (1) ربيعة بن وهب بن عِلاج الثقفي، وقيل: أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن ثقيف، وأُمُّ أمية رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف، وكنيته: أبو عثمان، وقيل: أبو الحكم، وكان شاعرًا فصيحًا، وكان قد تنبأ في الجاهلية في أول زمانه، وكان على الإيمان، ثم زاغ عنه.
وقال علماء السير: كان أمية قد قرأ الكتب القديمة، وكان يتَّجر إلى الشام، ويجتمع بأهل الكتابين، فأخبروه بخروج نبيٍّ من العرب في آخر الزمان يرغب عن عبادة الأوثان، وكان يُؤَمِّلُ أن يكون هو، فلما بلغه خروجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسده، واغتاظ منه، وتأسف أن يكون ذلك في غَيره (2).
وحكى ابن إسحاق، عن أبي سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية تاجرَين إلى الشام في جماعة من قريش، فكان كلما نزلنا منزلًا أخرج سِفْرًا فيقرؤه علينا، فنزلنا يومًا بقرية فيها نصارى فأكرموه وأهدوا له، وذهبوا به إلى كنيستهم، ثم عاد وسط النهار فنزع ثوبه، ولبس ثوبين أسودين، ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى تسأله عما بدا لك؟ فقلت: لا إرب لي فيه، أخاف أن يحدثني بشيء فيفسد علي قلبي.
قال: فمضى، ثم جاء بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ثم تقلب على الفراش إلى الصباح، فوالله ما نام حتى أصبح حزينًا كئيبًا لا يكلمنا ولا نكلمه، فسرنا ليلتين وهو على حاله من الهم والغم، فقلت له: ما رأيت بمثل الذي رجعت به عن صاحبك، قال: لِمُنقَلَبي. فقلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله لأموتنَّ، ثم قال: لأبعثن ثم لأحاسبن [قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي، قال: على ماذا، قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب. قال: فضحك، ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن] وليدخلن قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار. فقلت: ففي أيِّها أنت؟ فقال: لا أدري. قلت:
__________
(1) انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" 459، و"الأغاني" 4/ 120، و"المنتظم " 3/ 142، و"البداية والنهاية" 2/ 220، و "الإصابة" 1/ 129. وقال ابن حجر: والمعروف أنه مات في التاسعة، وصح أنه عاش حتى رثى أهل بدر.
(2) انظر "المعارف " ص 60، و"المنتظم" 3/ 142.
(3/237)
________________________________________
فهل أخبرك صاحبك بهذا؟ فقال: إن صاحبي لا يعلم بذلك.
وسِرنا إلى دمشق فبعنا متاعنا، ثم رجعنا فمررنا بذلك المكان، فذهب إلى النصراني وجاء كئيبًا على حاله، فسرنا يومين وهو ساكت باهت. فقال: يا صخر، إني سائلك فأجبني، قلت: سل؟ فقال: أخبرني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: نعم، ويصل الرحم وكريم الطرفين، ليس فينا قرشي أشرفُ منه. قال: فقد أخبرني هذا العالم، أن النبي الذي يخرج في هذا الزمان، رجل من أهل البيت الذي يحجه الناس، وقد كنت أرجو أن أكون أنا ذلك الرجل، فأصابني ما رأيت.
قال أبو سفيان: فظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمية في اليمن، قد ذهب بتجارة ثم قدم الطائفَ، فخرجتُ فنزلتُ عليه، فقلت: أتذكر حديث النصراني يا أبا عثمان؟ قال: وكيف؟ قلت: قد ظهر ما قال، قال: ومن ذاك؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: فتصبَّبَ عَرَقًا، ثم أتى مكة فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: ما هذا الذي تقول؟ قال: "فما الذي تقول أنت"؟ فقام فخطب، وأنشد شعرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى آخر السورة. فبهت، وقام يجر رجليه، فتبعته قريش، وقالت له: ما تقول؟ قال: أشهد أنه على الحق، قالوا: فهل تتبعه؟ قال: أنظر في أمري، وقال أبياتًا منها: [من الوافر]
إله محمَّدٍ حقًّا إلهي ... وديني دينُه غير انتحالِ
قال أبو سفيان: لما عدنا من الشام، مضى أمية إلى الطائف ودخل مكة، وكان معي بضائع للناس، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضاعة، فجاء الناس يهنؤني بالسلامة ويسألوني عن بضائعهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم علي وهنأني بالسلامة، ولم يسألني عن بضاعته، فلما قام، قلت لهند: والله إن هذا الفتى ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها إلا هو. فقالت هند: وما علمت شأنه؟ ففزعت وقلت: وما شأنه؟ قالت: زعم أنه رسول الله، فذكرت قول النصراني فوجمت، وخرجت إلى الطائف، وأخبرت أمية، فقال: لئن ظهر وأنا حي لأُبْلِيَنَّ الله في نُصرته عذرًا، فمضيت إلى اليمن وعدت إلى الطائف، فقلت له: أين أنت من محمد؟ فقال: ما كنت لأصدق شيئًا من غير ثقيف أبدًا، وفي رواية: قلت له: ما يمنعك منه؟ قال: هو على الحق، ويمنعني
(3/238)
________________________________________
الحياء من نُسَيَّاتِ الطائف، كنت أحدثهن أنني هو، ثم أصير تبعًا لغلام من بني عبد مناف (1).
ذكر وفاته:
قال سعيد بن المسيب: قدمت الفارعة أخت أمية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة، وكانت ذاتَ جمالٍ وعقل وأدب. فقال لها: "هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا"؟ قالت: نعم، وأعجب منه ما رأيت. قال: "وما رأيتِ"؟ قالت: قدم من سفر فدخل علي، فنام على السرير، إذِ انشق سقف البيت، ونزل منه طائران أبيضان، فوقع أحدهما على بطنه، ونقر صدره فاستخرج منه قلبه، فقال له الطائر الآخر: وَعَى، فقال: وعى، قال: أَفقَبلَ؟ قال: أبي، قالت: فردّا قلبه وطارا، فأتبعه أمية بصره، وقال: لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا مال يغنيني، ولا عشيرة تحميني، لا بَريءٌ فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر. ثم عادا فشقا قلبه، وهو يقول كذلك، فعلاه مرارًا. ثم قال: [من الرجز]
إن تغفِر اللهمَّ تغفر جَمَّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمّا
ثم طارا من سقف البيت، فالتأم كما كان، واستوى أمية جالسًا. فقلت له: يا أخي، هل تجد شيئًا؟ قال: حرارة في صدري، ثم مسح يده على صدره وقال: [من الخفيف]
إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عظيمٌ ... شَابَ فيه الصَّغيرُ شَيبًا طَويلًا
كلُّ عيشٍ وإن تطاوَلَ يومًا ... صائرٌ أمرُهُ إلى أنْ يَزُولا
فاجعَلِ المَوتَ بين عينَيكَ واحذَرْ ... غَولَة الدَّهر إنَّ للدَّهرِ غولا
ليتَني كنتُ قبل ما قد بَدا لي ... في رؤوسِ الجبالِ أرعى الوُعُولا
قالت: ثم خرج من عندي، فمات بين بيتي وبيته (2).
__________
(1) الخبر في "تاريخ دمشق" 9/ 257، و"المنتظم" 3/ 142 - 146. وما بين حاصرتين زيادة من "تاريخ دمشق".
(2) "تاريخ دمشق" 9/ 282 - 283.
(3/239)
________________________________________
وقال هشام: كان أمية قد آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالشام، فقدم الحجاز ليأخذ ماله من الطائف ويهاجر، فلما نزل بدرًا قيل له: إلى أين يا أبا عثمان؟ فقال: إلى الطائف، آخذ مالي وأعود إلى المدينة أتبع محمدًا. فقيل: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وعتبة ابنا خالك، وفيه فلان وفلان ابنا عمك، وعَدّوا له أقاربه. فجدَع أنف ناقته، وهَلَبَ ذَنَبَها، وشقَّ ثيابه وبكى، فقال: [من مجزوء الكامل]
ماذا ببدرِ والعَقَنْـ ... ــــــقَلِ من مَرازبةِ جَحاجِحْ
الأبيات المتقدمة، ثم عاد إلى الطائف فمات به (1).
وقال ابن السِّكِّيت: بينا أمية يشرب الخمر مع رُفْقَةٍ له، إذ سمع نَعيقَ غُراب نعق ثلاثة أصوات وطار، فقال أمية: هل تدرون ما قال: قالوا: لا. قال: إنه يقول: تشرب الكأس الثالث وتموت. فشربه فمات (2).
ومن شعره يمدح عبد الله بن جُدْعان التيمي (3): [من الوافر]
أأذكُرُ حاجَتي أَم قد كفاني ... حَياؤُكَ إنَّ شِيمَتَكَ الحياءُ
وعِلمُكَ بالحقوقِ وأَنتَ فرعٌ ... لك الحَسَبُ المهذَّبُ والسَّناءُ
إذا أَثنَى عليك المرءُ يومًا ... كَفاه من تَعَرُّضِه الثَّناءُ
خليلٌ لا يغيِّرهُ صَباحٌ ... عن الخُلُقِ الكريمِ ولا مساءُ
تباري الرِّيحَ مَكرُمةً بَناها ... بنو تَيمٍ وأنتَ لها سماءُ (4)
وقال أمية (5): [من الكامل]
لا يَنكُتون الأرضَ عند سُؤالهم ... لتَطلُّب العلَّات بالعيدانِ
بل يُسفِرونَ وجوهَهم فَتَرى لها ... عندَ السُّؤالِ تَهلُّلَ الألوانِ
__________
(1) "تاريخ دمشق" 9/ 286، و"المنتظم" 3/ 146.
(2) "تاريخ دمشق" 9/ 285، و"المنتظم" 3/ 149.
(3) الأبيات في "ديوانه" ص 17.
(4) هكذا في نسختنا وجاء البيت في الديوان ص 19:
فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تَيم وأنت لها سماء
(5) الأبيات في "ديوانه" ص 193 برواية أخرى.
(3/240)
________________________________________
وإذا المُقِلُّ أقامَ بين رِحَالِهم ... رَدُّوه ربَّ صَواهل وقِيانِ
وإذا دُعوا يومًا لخطبِ مُلِمَّةٍ ... سَدُّوا شُعاعَ الشَّمسِ بالفُرسانِ
زهير بن أبي أمية (1)، أخو أم سلمة - رضي الله عنه -، كان من المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه أعان على نقض الصحيفة، وأمه: عاتكة بنت عبد المطلب. قيل: إنه خرج إلى بدر مع الكفار، فسقط عن بعيره فمات. وقيل: إنه أسر يوم بدر، فأطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما وصل إلى مكة مات. وقيل: إنه شخص إلى اليمن فمات به كافرًا. وقيل: مات بالشام. وقيل: مات في السنة الثالثة بعد وقعة أحد، جاءه سهم فقتله.
سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أُحَيحةَ (2)، كان من وُجوه قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ به، يقول: إن محمدًا لَيُكَلَّم من السماء. فقال له النضر بن الحارث: بلغني أنك تحسن القول في محمد، وكيف تفعل هذا وهو يسب آلهتنا، ويزعم أن آباءنا في النار. فأظهر سعيدٌ عداوةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذمَّه، وكان ذا شرف بمكة، إذا اعتمَّ لم يعتمَّ أحد بمكة إعظامًا له، ويقال له: ذا التاج، وتوفي بالطائف. ورُئي قبره مشرفًا، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لعن الله صاحبَ هذا القبرِ، فلقد كان يحادُّ الله ورسوله. فقال ابناه عمرو وأبان -وكانا قد أسلما-: لعن الله أبا قحافة، فإنه لا يقري الضيف، ولا يدفع الضيم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا الأَمواتَ، فإنَّ سبَّهم يُؤْذِي الأَحياءَ، فإذا سَبَبْتُم فَعُمُّوا" (3).
وكان لسعيد عدة أولاد، منهم: أُحَيحَة قُتل يوم الفِجار. وعبيدة (4) قتله علي - رضي الله عنه - يوم بدر كافرًا، وخالد وعمرو وأبان والعاص وسعيد والحكم (5)، وسنذكرهم إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر ترجمته: في "الكامل" 2/ 70، و"الإصابة" 1/ 552.
(2) انظر ترجمته: في "تاريخ دمشق" 21/ 105، و"المنتظم" 3/ 155، و"الإصابة" 2/ 126.
(3) أخرج شطره الأول الترمذي (1982)، وأحمد (18209) من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، وأما قوله: "فإذا سببتم فعموا" فلم نقف عليه.
(4) في "السيرة" 2/ 252، و"نسب قريش" ص 174: عبيدة قتله الزبير بن العوام، والعاص قتله علي بن أبي طالب.
(5) سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. "نسب قريش" ص 174، و"جمهرة أنساب العرب" ص 80.
(3/241)
________________________________________
أبو لهب عبد العُزَّى عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت وفاته بعد غزاة بدر بسبعة أيام (1)، ومات بالعَدَسةِ، وبقي ثلاثًا مطروحًا في بيته حتى أنتن، وكانت قريش تتقي العَدَسة كما تتقي الطاعون.
فقال رجل لابنيه عتبةَ ومعتِّب: ألا تَدْفِنا أباكما، فإنه قد أَنتن؟ فقالا: نخشى هذه القرحة. قال: فانْطَلِقا وأنا معكمًا إليه. فما غسلوه إلا من بعيد، فقذفوا عليه الماء، وقد تفسخ وبقي كالزق، فأدرجوه في كساء ورموه في حفرة بأعلى مكة (2).
وكان شديدَ الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أكابر المستهزئين به، ودعا عليه مرارًا.
ومرَّ حمزة - رضي الله عنه - يومًا بأبي جهل (3) ومعه مِكْتَلٌ فيه قَذَرٌ وهو يطرحه على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه حمزة وطرحه على رأس أبي لهب، فجعل ينفضه ويقول: صابئ أحمق (4).
وأولاده: عُتَيبَةُ وهو الذي أكله الأسد بالشام، وعتبة ومُعَتِّب، أسلما وشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، ودُرَّة بنت أبي لهب، أسلمت وبايعت.
المُطْعِم بن عَدي (5) أبو وهب، كان من رؤساء الكفار، وكان قليل الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل - صلى الله عليه وسلم - مكة في جواره، وكان يقوم بأمر بني هاشم حتى خرجوا من الشعب.
وكانت وفاته في صفر قبل غزاة بدر بستة أشهر، ودفن بالحَجون وهو ابن بضع وسبعين سنة (6)، وأقيم عليه النَّوْحُ سنة.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان المطعم حيًّا لوهبت له هؤلاء السبي" (7).
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 149.
(2) "الطبقات الكبرى" 4/ 68، "تاريخ الطبري"2/ 462، و"تاريخ دمشق"4/ 254. والعدسة: هي بثرة تشبه العدسة، تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل صاحبها غالبًا.
(3) كذا في النسخ، والصواب: أبو لهب.
(4) انظر "أنساب الأشراف" 1/ 149.
(5) انظر ترجمته: "أنساب الأشراف" 1/ 176، و"المنتظم" 3/ 155.
(6) في "أنساب الأشراف" و"المنتظم": "سبعين سنة".
(7) ذكره بهذا اللفظ ابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 155، وأخرجه البخاري (3139) من حديث جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له".
(3/242)
________________________________________
السنة الثالثة من الهجرة
فيها: كانت غزاة ذي أَمَرّ (1).
وسببها: أن جمعًا من بني ثعلبة بن سعد من غطفان، وبني محارب بن خَصَفة، جمعهم دُعْثُور بن الحارث المحاربي، وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُهم، فخرج في أربع مئة وخمسين رجلًا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضوان الله عليه، فلما بلغ إلى ذي القَصَّة لقي بها رجلًا من بني ثعلبة، فقال له المسلمون: أين تريد؟ فقال: يثرب لأنظر لنفسي. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر المشركين، ولما سمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تفرقوا في الجبال واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فأقبل دُعْثُور ومعه سيفه فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله" فدفع جبريل - عليه السلام - في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا دُعْثُور مَن يمنعُكَ منِّي اليومَ"؟ فقال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - سيفَه ومضى إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا وفيه نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيكُمْ أَيدِيَهُمْ} الآية [المائدة: 11].
وقيل: كانت قصة دُعْثور في سنة خمس من الهجرة.
وفيها: كانت غزاة بني سُلَيْم بن منصور (2).
__________
(1) انظر "السيرة" 3/ 4، "المغازي" 1/ 193، و"الطبقات الكبرى" 2/ 31، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 167، و"البداية والنهاية" 4/ 2.
(2) انظر "السيرة" 3/ 3، و"المغازي" 1/ 196، و"الطبقات الكبرى" 2/ 32، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" 3/ 172، و"المنتظم " 3/ 159، و"البداية والنهاية" 4/ 3.
وهي غزوة الفُرُع من بُحران، وسببها أنه بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعًا كثيرًا من بني سليم بن منصور فخرج في ثلاث مئة رجل من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يظهر وجهًا للسير، حتى إذا كان دون نجران بليلة لقي رجلًا من بني سليم فأخبرهم أن القوم افترقوا فحبسه مع رجل، وسار حتى ورد نجران وليس بها أحد، فأقام أيامًا، ثم رجع ولم يلق كيدًا، وأرسل الرجل.
(3/243)
________________________________________
وفيها: كانت غزاة وَدَّان (1).
وفيها: كانت سرية زيد بن حارثة إلى القَرَدَة (2) -اسم ماء بنجدٍ - في جمادى الآخرة، وهي أول غَزاةٍ خرج فيها زيد بن حارثة، وكان في العِير أبو سفيان بن حرب، وقد استأجر فُرات بن حَيَّان من بكر بن وائل يدلُّهم على الطريق إلى العراق، فوافاهم زَيدٌ وَهُمْ على ذلك الماء، فاستاق العير، وهرب أبو سفيان والرجال، وأسرَ زيدٌ صفوانَ بن أمية وفُراتَ بن حَيَّان، فهرب صفوان، وأطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فُراتًا دليلَهم، وكان الخُمْسُ عشرين ألفًا، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأربعة أخماس بين السرية.
وفيها: ولد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - (3).
[عن علي - رضي الله عنه - قال: ] لما وُلد الحسن سميته: حَرْبًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَرُوني ابنِي، ما سمَّيتَ ابني"؟ قلت: حربًا. قال: "لا، بَل هو حَسَن". فلما ولد الحسين سميته: حربًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أَرُوني ابني ما سمَّيتَه"؟ قلت: حربًا. قال: "لا، بَل هو حُسَين". فلما ولد الثالث سميته: حربًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرُوني ابني ما سمَّيتُموه"؟ فقلت: حربًا. فقال: "بل مُحَسِّن"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمَّيتُهم بأسماءِ ولدِ هارونَ: شَبَّر وشَبِير ومُشَبِّر (4).
وذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في "الفضائل": عن علي كرم الله وجهه قال: لما ولد الحسن سميته باسم عمي حمزة، ولما ولد الحسين سميته باسم أخي جعفر، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أبا تُراب، إنَّ الله أَمَرني أنْ أُغَيِّر اسمَ هذينِ الغُلامَينِ" (5). فسماهما حسنًا وحسينًا.
وعقَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين بشاتين (6).
__________
(1) وهي غزوة الأبواء نفسها، تقدم ذكرها ضمن حوادث السنة الثانية، وهي أولى غزواته - صلى الله عليه وسلم -.
(2) انظر "السيرة" 3/ 7، و"المغازي" 1/ 197، و"الطبقات الكبرى" 2/ 32، و"تاريخ الطبري" 2/ 492، و"المنتظم" 3/ 160، و"البداية والنهاية"4/ 5.
(3) انظر "تاريخ الطبري"2/ 537، و"المنتظم" 3/ 161.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (769) وما بين حاصرتين زيادة منه.
(5) "فضائل الصحابة" (1219)، وهو في "المسند" (1370).
(6) أخرجه أبو داود (2841)، والنسائي (4230)، وفي "الكبرى" (4531) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، وأخرجه أحمد (23001) من حديث بريدة - رضي الله عنه -.
(3/244)
________________________________________
ووزنت فاطمة عليها السلام شعرهما لمّا حلقته، وتصدقت بوزنه ذهبًا (1)، وقيل: فضة، وبلغ وزنُ شعرهما درهمًا (2)، وذلك في اليوم السابع.
وفي هذه السنة عَلَقت فاطمة - رضي الله عنها - بالحسين بعد ولادتها الحسن - رضي الله عنه - بخمسين ليلة، ويقال: إن الحسن - رضي الله عنه - ولد لستة أشهر (3).
وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفصة بنت عمر - رضي الله عنه - في رمضان، وقيل: في شعبان (4).
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تأيَّمت حفصةُ من خُنيَس بن حُذافة، قال عمر: فَلَقِيتُ عثمانَ، فقلت له: إن شئت أنكحتُكَ حفصة، فقال: سأنظرُ في ذلك. فلبثتُ ليالي، فلقيَني وقال. ما أريد أن أتزوجَ الآن، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر، فقلت له: إن شئت أنكحتُكَ حفصةَ، فلم يرجع إليَّ بشيء، فكنت أوْجَدَ عليه مني على عثمانَ، فلبثتُ ليالي فخَطَبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتُه إيَّاها، فلقيني أبو بكر فقال: لعلَّك وَجدتَ عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئًا؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليك شيئًا حين عرضتها عليَّ، إلّا أنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكُرها، ولم أكُنْ لأُفشي سرَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركَها لنكحتُها. انفرد بإخراجه البخاري (5).
وقد رواه البلاذري وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "ألا أدلك على خَتَنٍ خيرٍ لك من عثمان، وأدلُّ عثمانَ على ختنٍ خيرٍ له منك"؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: "زَوِّجْني ابنتك حفصة، وأزوِّجُ عثمان ابنتي أم كلثوم" (6) وأمُّ حفصة زينب بنت مظعون.
وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت خُزَيمة بن الحارث العامرية الهلالية. وكانت
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (27183)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (53) من حديث أبي رافع - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... احلقي رأسه ثم تصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين". وجاء عند ابن أبي الدنيا: "من الورق أو الذهب". وأخرجه البيهقي 9/ 299 من حديث محمد بن علي بن حسين.
(2) أخرجه البيهقي 9/ 304 من حديث أبي رافع.
(3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 537، و"المنتظم" 3/ 174.
(4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 499، و"المنتظم " 3/ 160.
(5) أخرجه البخاري (4005).
(6) "أنساب الأشراف" 1/ 509.
(3/245)
________________________________________
في الجاهلية تسمى: أم المساكين، لإطعامها إياهم وحُبِّها لهم (1).
وفيها: كانت سرية محمد بن مسلمة الأنصاري (2) إلى كعب بن الأَشْرَف اليهودي في رمضان، وقيل: في ربيع الأول.
وكان كعب بن الأشرف من طيء، ثم أحد بني نبهان حليف بني النَّضير، وكانت أُمُّه منهم، واسمها: عقيلة بنت أبي العقيق، وكان أبوه قد أصاب دمًا في قومه، فأتى المدينة فنزلها.
ولما جرى ببدر ما جرى قال: ويحكم أحق هذا، أو أن محمدًا قتل أشراف العرب وملوكها؟ والله لئن كان هذا حقًّا، لبطن الأرض خير من ظهرها، فخرج (3) حتى قدم مكة، فنزل على المُطَّلب بن أبي وَداعة السهمي (4)، وعنده عاتكة بنت أَسِيد بن أبي العيص بن أمية، فأكرمه المطلب، فجعل ينوح ويبكي على قتلى بدر، ويحرِّض الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينشد الأشعار، فمن ذلك (5): [من الكامل]
طَحَنَتْ رحى بدر لِمَهْلكِ أهلهِ ... ولِمِثْلِ بدر تَسْتَهِلُّ وتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سَراةُ الناس حول حياضه ... لا تبعدوا إن المُلوك تُصرَّعُ
ليزور يثربَ بالجموعِ وإنّما ... يحمي على النسب الكريمُ الأورعُ
وشبَّب بأم الفضل زوجة العباس وبغيرها، ثم رجع إلى منزله بظاهر المدينة، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: "من لكعب بن الأشرف"؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا له يا رسول الله (6).
قال جابر بن عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف، فقد آذى الله ورسوله"؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: "نَعَم". قال: فأذن لي فَلْأَقُل.
__________
(1) انظر "المنتظم" 3/ 161.
(2) انظر "السيرة" 3/ 7، و"المغازي" 1/ 184، و"الطبقات الكبرى" 2/ 28، و"تاريخ الطبري" 2/ 487، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 187، و"البداية والنهاية" 4/ 5.
(3) في (ك): حتى خرج، وليس في (أ، خ)، والمثبت من طبقات ابن سعد.
(4) في النسخ: "التميمي"، والمثبت من"السيرة"، وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 163 - 164.
(5) الأبيات في "السيرة" 3/ 8، وما بين حاصرتين زيادة منه.
(6) "السيرة" 3/ 8.
(3/246)
________________________________________
قال: "قُل". فأتاه وذكر ما بينهم وقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنَّانا، فلما سمعه قال: والله لتملُّنَّه. فقال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يؤول إليه أمره، وقد أردت أن تسلفني سلفًا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما شئت، قال: ترهنني نساءكم، قال: أجملَ رجل في العرب، كيف نرهنك نساءنا؟ قال: فأولادكم، قال: يُسَبُّ ابن أحدنا، فيقال: رُهِنَ في وَسْق من طعام أو وَسْقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة -يعني السلاح- قال: نعم.
وواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس، وأبي عبس جبر (1)، وعباد بن بشر، قال: فجاؤوه فدعوه ليلًا، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: إني لأسمع صوتًا كأنه صوت دم، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، وإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب.
وقال محمد: إني إذا جاء سأمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمسكت منه فدونكم، قال: فنزل وهو متوشِّح. فقالوا له: نجد منك ريح الطيب. قال: نعم، تحتي فلانةُ أعطرُ نساء العرب. فقال محمد: أتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم. فتناول شم، ثم عاد فشم، فلما استمكن منه، قال: دونكم. فقتلوه، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَروه. متفق عليه (2).
وقال محمد بن مسلمة: ولما قتلنا ابن الأشرف، وأصبح الناس وشاع قتله، خافت يهود منا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ظَفِرتُم به مِن اليَهودِ فاقتُلوهُ" (3). فوثب مُحَيِّصةُ بن مسعود -وكان قد أسلم- على رجل من اليهود يقال له: [ابن] سُنَينة فقتله، وكان يبايعهم ويلابسهم، فقال حُوَيِّصة أخو محيّصة -ولم يكن أسلم-: يا عدو الله قتلته، أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
وجعل حُوَيِّصة يضرب أخاه مُحَيِّصةَ، فقال له مُحَيِّصةَ: والله لو أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلك لقتلتك. فقال حُوَيِّصةُ: والله إن دِينًا بلغ بك أن تقتل أخاك لدينُ حَقٍّ وأسلم. فكان ذلك أوَّلَ إسلام حُوَيِّصة (4).
__________
(1) في النسخ: "وأبي عبس بن جبير بن عسل" والمثبت من "الصحيحين".
(2) أخرجه البخاري (4037)، ومسلم (1801).
(3) أخرجه أبو داود (3002) من حديث محيصة.
(4) "السيرة" 3/ 12 - 13.
(3/247)
________________________________________
وفيها: كان مقتل أَبي رافِع اليهودي (1)، واسمه سلام، وكان يسكن خيبر، قال عبد الله بن كعب بن مالك: كان مما صنع الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن هذين الحيين يعني الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين؛ لا تصنع الأوس شيئًا إلّا قالت الخَزْرج: والله لا ندعهم يذهبون بالفضل علينا، فلا ينتهون حتى يفعلوا مثله، فلما قَتَلتِ الأوس كعب بن الأشرف استأذن الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبي رافع ليعادلوا به كعبًا، فأذن لهم في قتله وقال: "لا تَقتُلُوا امرَأَةً ولا وَليدًا" فخرجوا حتى قدِموا خيبر فقتلوه، ونَذِرَتْ بهم امرأة فأرادوا قتلها، فذكروا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركوها، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت: [من الكامل]
لله درُّ عِصابَةٍ لاقَيتَهُم ... يابنَ الحُقَيق وأنت يابن الأَشْرفِ
يَسْرُونَ بالبِيضِ الخِفاف إليكم ... شُزُرًا كأُسْد في عَرينٍ مُغْرف (2)
حتى أَتَوْكم في مَحَلِّ بلادكم ... فسقوكمُ حتفًا ببيضٍ ذُفَّفِ (3)
مُستَبصرين لِنَصرِ دِينِ نبيِّهم ... مُسَتضعفينَ لكلِّ أمرٍ مُجحِفِ (4)
وقال البراء بن عازب: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار، وأَمَّرَ عليهم عبد الله بن عَتِيك، وكان أبو رافع يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بِسَرْحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإنِّي مُنطلق ومتلطف للبواب لعلي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنَع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عَبْدَ الله، إن كنت تريد تدخل فادخل فإني أُريدُ أن أُغلِقَ الباب، قال:
__________
(1) "السيرة" 3/ 170، و"المغازي" 1/ 391، و"الطبقات الكبرى" 2/ 87، و"تاريخ الطبري" 2/ 493، و"المنتظم" 2/ 261، واسمه سلام بن أبي الحقيق، اختلف في سنة قتله فعند المصنف والطبري مقتله في هذه السنة، وعند الواقدي في سنة أربع، وعند ابن هشام في سنة خمس بعد غزوة الخندق، وعند ابن سعد وابن الجوزي في سنة ست، وانظر الاختلاف في "تاريخ الطبري" 2/ 493 - 499.
(2) بالبيض الخفاف: السيوف، مغرف: ملتف الشجر.
(3) ذفف جمع ذفيف: وهو السريع الخفيف.
(4) في (ك): "مستنصرين لدين نبيهم". وفي المصادر: "مستبشرين" والمثبت من (أ) و (خ)، ومجحف: الذي يذهب بالنفوس والأموال.
(3/248)
________________________________________
فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت فأخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمَر عنده، وكان في عَلاليّ له، فلما ذهب عنه أهل سَمَره صعدتُ إليه، فجعلتُ كلما فتحتُ بابًا أغلقت عليَّ من داخل؛ قلت: إنِ القَومُ نَذِروا بي لم أخلُص إلى قتله، فانتهيتُ إليه وهو في بيت مظلم وَسْط عيالِه لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبو رافع، فقال: من هذا؟ فأهويتُ نحو الصوت، فأضربه ضربةً بالسيف وأنا دَهِشٌ، فَما أغنت عنه شيئًا، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت عليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لِأمِّكَ الويل، رجل في البيت ضربني بالسيف قَبْلُ، قال: فأَضْرِبُه ولم أقتله، ثم وضعت ضَبيبَ (1) السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أنِّي قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهيت إلى دَرَجةٍ له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت رجلي أو ساقي، فعصبتها بعصابة، ثم انطلقتُ، وجلست على الباب وقلت: لا أخرج الليلة حتى أسمعَ أو أعلمَ أقتلتُه أم لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور ينعاه، فقال: أنعي أبا رافعٍ تاجرَ أهل الحجاز، قال: فانطلقتُ إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء، قُتِلَ عَدوُّ الله، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثته الحديث، فقال: "ابْسُطْ رِجلَكَ"، فبسطُتها، فمسح عليها فكأنها لم أشكها قط. انفرد بإخراجه البخاري.
* * *
وفيها: حُرِّمَتِ الخمرةُ، روى مجاهد، عن ابن عباس قال: قالت الصحابة: يا رسول الله، أَفْتِنا في الخمرِ والميسر، فإنهما مُذْهِبان للعقل سالبان للمال، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ} (2) [البقرة: 219] الآية.
وقال ابن عباس: أنزل الله في الخمر أربعَ آيات بمكة، قوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، فكان المسلمون يومئذ يشربونها وهي حلال, لهم، ثم نزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ} الآية، فقال رسول الله
__________
(1) في النسخ: "حلبة"، والمثبت من البخاري (4039).
(2) "أسباب النزول" ص 64، وتفسير الثعلبي 2/ 141.
(3/249)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم تقدم في تحريم الخمر"، فتركها قوم لقوله {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقالوا: لا حاجة لنا إلى الإثم، وشربها آخرون وتأولوا قوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وأقاموا على ذلك مُدَّة (1).
واختلفوا في سبب تحريمها على أقوال:
أحدها: قصة حمزة رضوان الله عليه، قال علي - عليه السلام -: كانت لي شارف من الغُنْم من نصيبي يوم بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عارني (2) شارفًا من الخُمْس، فلما أردت أن أبني بفاطمة، واعَدْتُ رجلًا صوَّاغًا من بني قينُقاع يرتحل معي، فنأتي بإذخِر فنَبيعه من الصواغين أستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعًا من الحبال، وشارفاي مُناخان إلى جانب حُجْرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد جُبَّت أسنمتهما وبُقِرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهن، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: عمك حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شَرْب من الأنصار، غَنته قَينة:
ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النِّواءِ
فوثب حمزة إلى السيف ففعل بهما ما فعل، أوْ ما رأيت، قال علي - رضي الله عنه -: فانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده زيد بن حارثة فقلت: ألا ترى يا رسول الله ما فعل عمك حمزةُ بشارفيَّ، وأخبرته الخبر، فقام ولبس رداءه، ثم انطلق يمشي، واتّبعته أنا وزيد حتى جاء إلى البيت الذي فيه حمزةُ، فاستأذن فإذا هُم شَرْبٌ، فطفِقَ يلومُ حمزةَ على فعله، وإذا حمزةُ ثَمِلٌ محمرَّة عيناه فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصعَّد النظر إلى رُكبتيه ثم إلى سُرَّته ثم إلى وجهه أو في وجهه، وقال: وهل أنتم إلا عَبيدٌ لأَبي، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ثمل، فنكص على عقبيه القهقرى، وخرج وخرجنا معه وذلك قبل تحريم الخمر. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
قال ابن عباس: فكانت هذه القصَّةُ سببًا لتحريم الخمر. قال: وأصبح حمزةُ فغدا
__________
(1) أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 436 من حديث الربيع. وانظر تفسير الثعلبي 2/ 143.
(2) هكذا جاء في النسخ، وفي "الصحيحين": "أعطاني".
(3) أخرجه البخاري (4003)، ومسلم (1979).
(3/250)
________________________________________
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرُ إليه، فقال له: "مَهْ يا عمُّ، فإنِّي سألتُ الله فَعفَا عَنكَ".
وذكر الأبيات الثعلبي (1) وغيره: [من الوافر]
ألا يا حمزُ للشُّرُفِ النِّواءِ ... وهُنَّ معقَّلات بالفِناءَ
ضَعِ السِّكين في اللَّباتِ منها ... فَضَرِّجْهُنَّ، حمزةُ بالدِّماءِ
وعجِّل من أطايبها طبيخًا ... لشَرْبك من قَديرٍ أو شِواءِ
فأنتَ أبو عُمارَةٍ المُرَجَّى ... لكشفِ الضرِّ عنا والبلاءِ
والثاني: أن عبد الرحمن بنَ عوفٍ - رضي الله عنه - صنع دعوةً ودعا إليها جماعةً من الصحابةِ وسقاهم الخمرَ فسكروا، وحضر وقتُ الصلاةِ فقدَّموا بعضهم يصلِّي فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] إلى آخر السورة بحذف "لا" فأنزل الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (2) [النساء: 43].
فَحُرِّم السُّكرُ في أوقاتِ الصلاةِ. فقال عمر: إن ربّنا ليقاربُ في تحريم الخمر وما أراه إلا سيحرِّمها، فتركها قوم وشربها آخرون في غير وقت الصلاة. فأقاموا على هذا الحال إلى سنةِ ثلاثٍ من الهجرةِ، فشربها رجل فسكر وجعل ينوح على قتلى بدرٍ ويبكي وينشد: [من الوافر]
تُحيِّي بالسلامةِ أُمُّ بكرٍ ... وهل لي بعد رهطك من سلام
الأبيات المتقدمة.
وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء يسعى يجرُّ رداءه، حتى انتهى إلى الرجل، ورفع شيئًا كان بيده ليضربه، فقال الرجل: أعوذ بالله من سُخْط الله وسُخْط رسوله، والله لا أطعمُها أَبدًا، ونزل تحريمُها.
والثالث: أن عِتْبان بن مالك الأنصاري صنع دعوةً، ودعا رجالًا من المهاجرين والأنصار فيهم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكان قد شوى لهم رأسَ جَزور، فأكلوا منه،
__________
(1) في تفسيره 2/ 143 مع القصة.
(2) أخرجه الترمذي (3026) وأبو داود (3671) من حديث علي بن أبي طالب وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3/251)
________________________________________
وشربوا الخمر، وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد - رضي الله عنه - قصيدة فيها هجو الأنصار، وفخر بقومه، فضربه رجل من الأنصار بلَحْيِ جمل فشجه، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه، فقال عمر - رضي الله عنه -: اللهمَّ بين لنا رأيك في الخمر بيانًا شافيًا. فأنزل الله تحريم الخمر في المائدة إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 95] فقال عمر - رضي الله عنه -: انتهينا يا رب (1).
وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّها النَّاسُ، إنَّ الله يُعرِّضُ بالخَمرِ، ولعَلَّه يُنْزلُ فيها أَمرًا، فَمَن كان عِندَه شَيءٌ [فليبِعْهُ ولينتفع به"، قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حرَّم الخمرَ، فمن أدركتهُ هذه الآيةُ وعنده منها شيءٌ]، . فلا يَبِعْهُ ولا يَشْرَبهُ". قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طُرقَ المدينة فسفكوها. انفرد بإخراجه مسلم (2).
وفي المتفق عليه: عن أنس قال: نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن الخَمر قد حُرِّمت. قال: فجرت في سِكَك المدينة، فقال بعضهم: قد قتل قوم وهي في بطونهم. فأنزل الله تعالى: {لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية (3).
وأخرج مسلم عن ابن عباس: أن رجلًا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ عَلِمتَ أنَّ الله حَرَّمها"؟ قال: لا. فسارَّ الرجل إنسانًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بمَ سارَرْتَه"؟ فقال: أمرته ببيعها، قال: "إنَّ الذِي حرَّمَ شُربَها حرَّم ثَمَنها". ففتح الرجل المزادةَ حتى ذهب ما فيها (4).
وقال أنس: لقد حُرِّمتِ الخَمرْةُ، ولم يكن للعرب شراب أعجب إليهم منها، وما حرم عليهم شيءٌ أشدُّ منها. قال: فأخرجنا الحِباب إلى الطريق، فصببنا ما فيها، فمنا من كسر حُبَّه، ومنا من غسله بالماء والطين. ولقد غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حينًا كلما أمطرت، استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحها (5).
__________
(1) تفسير الثعلبي 2/ 142 - 143 (وعنه نقل ما تقدم)، وذكره الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار" 1/ 131 وقال: غريب بهذا اللفظ، وذكره الثعلبي هكذا من غير إسناد.
(2) مسلم (1578) وما بين حاصرتين منه.
(3) البخاري (2464)، ومسلم (1980).
(4) أخرجه مسلم (1579).
(5) تفسير الثعلبي 2/ 143.
(3/252)
________________________________________
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا ثم لم يَتُب مِنها، حُرِمَها في الآخِرَة، إلَّا أَن يتوبَ". أخرجاه في "الصحيحين" (1).
فصل
وقد حرَّم شربَ الخمر في الجاهلية جماعةٌ منهم: حرب بن أمية، والزِّبرِقان بن بدر، وأبو أُحيحَةَ سعيد بن العاص، وأكثم بن صيفي، وشيبة بن ربيعة، وعبد الله بن جُدْعان، وعبد المطلب، وولده أبو طالب، وعامر بن الظَّرِب، وأمية بن خَلَف، وعثمان بن مَظْعون، والعباس بن مِرداس، وأبو مرداس، وصفوان بن أمية، والوليد بن المغيرة، وورَقَة بن نَوْفَل، وهشام بن المغيرة، ومِقْيَسُ بن صُبابة، وقيس بن عاصم.
سكر قيس ليلة فراود ابنته على نفسها، فتغيبت عنه، فلما أصبح قالت له زوجته منفوسة بنت زيد الفوارس: أنت السيد الحليم منذ الليلة، فقال: ولم؟ فأخبرته، فآلى أن لا يشربها أبدًا، وقال: [من الوافر]
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها ... معايبُ تَفْضَح الرجل الحليما
فلا واللهِ أشربُها صحيحًا ... ولا أشفي بها أحدًا سقيما
وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في خلق كثير يطول ذكرهم (2).
* * *
وفيها: كانت غزاة أحد (3) في منتصف شوال يوم السبت، وقيل: لتسع خلون منه.
وسببها أبو سفيان، فإنه لما أصيب كفار قريش ببدر، جمعهم وفيهم: عبد الله بن زمعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم. فقال لهم: قد أصيب آباؤكم
__________
(1) أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003).
(2) انظر "المحبر" ص 237، و "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 332.
(3) انظر "السيرة" 3/ 14، و"المغازي" 1/ 199، و"الطبقات الكبرى" 2/ 33، و"أنساب الأشراف"1/ 368، و"تاريخ الطبري" 2/ 499، و"المنتظم" 3/ 161، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 201، و"البداية والنهاية" 4/ 9.
(3/253)
________________________________________
وأبناؤكم وأهلكم وإخوانكم وخياركم يومَ بدر، فأعينوني بأرباح هذه البضائع، فكان خمسين ألف دينار، وقيل: لم يأخذوا من المال ولا من العير شيئًا، وتجهزوا بالجميع (1). وانضم إليهم الأحابيش، وقبائل كِنانةَ، وأهل تِهامةَ، وخرج أبو عَزَّةَ الشاعر معهم يسير في قبائل كنانة يحرضهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج عمرو بن العاص وهُبَيرة بن أبي وهب المخزومي إلى قبائل العرب يستنجدونهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا جبير بن مُطْعِمٍ غلامَه وحشيًّا، فقال له: إن قتلتَ حمزة فأنت حر. وكانت له حربةٌ يقذف بها فقلَّ أن يخطئ.
وخرجت قريش بحدها وحديدها ومن تبعها من الأحابيش والقبائل، وخرجوا بالظُّعن التماسًا للحفيظة ولئلا يفروا، فخرج أبو سفيان ومعه هند بنت عُتبة، وأُميم بنت سعد الكنانية (2)، وعكرمة بن أبي جهل، ومعه أم حكيم بنت الحارث بن هشام، والحارث بن هشام، ومعه فاطمة بنت الوليد، وصفوان بن أمية، ومعه امرأتاه بَرْزَة بنت مسعود الثقفية، والبَغُوم بنت المُعَدَّل الكنانية، وعمرو بن العاص، ومعه امرأته رَيطةُ بنت مُنبِّه بن الحجاج، وطلحة بن أبي طلحة، ومعه زوجته سُلافة بنت سعد أَوْسِيَّة، والحارث بن سفيان بن عبد الأسد، ومعه امرأته رملة بنت طارق كنانية، وكنانة بن عدي (3) بن ربيعة، ومعه امرأته أم حكيم بنت طارق، وسفيان بن عُريف، وامرأته قُتَيلَة بنت عمرو بن هلال، وخرجت خُناسُ بنت مالك بن المُضرِّب مع ابنها أبي عَزِيز بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، وخرجت عمرةُ بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهي التي رفعت لواء الكفار يوم أحد حين قتل بنو عبد الدار.
وخرج بهم أبو سفيان وهو قائدهم، وبيده زمام أمورهم، وخرج معهم أبو عامر الراهب في سبعين فارسًا من الأوس، وساروا بالقَيْنَات والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، وكانوا في ثلاثة آلاف من قريش والقبائل، وكان معهم سبع مئة دارع، ومئتا
__________
(1) وقيل: مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ... "السيرة" 3/ 14.
(2) في "أنساب الأشراف" 1/ 369: أميمة بنت سعيد بن وهب بن أشيم الكنانية امرأته. ولم نقف عليها عند أحد غيره.
(3) في النسخ: "علي" والمثبت من "جمهرة أنساب العرب" ص 78، و"الإصابة" 3/ 307.
(3/254)
________________________________________
فارس، وثلاثةُ آلاف بعير.
وكان وحشي يمشي بالحربة في أوائلهم، فتماشيه هند بنت عتبة وتباسطه وتقول: إيهِ أبا دَسْمَةَ اشف اشف.
وكتب العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره بعدَّتهم وبما معهم، وبما قد عزموا عليه، وكانوا قد راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من الغُرْم يوم بدر، ولم يساعدهم بشيء. وبَعث بكتابه مع رجل من بني غِفار، فوافى المدينة، فدفع الكتاب إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه عليه أُبي بن كعب وقال له: اكتم ما فيه.
وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلَ سعدِ بن الربيع فأخبره بما فيه واستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا أم لكِ، وما أنت وذاك، فقالت: قد سمعتُ ما قال، فاسترجع سعد وأتى بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره، وقال: أخاف أن يفشو الحديث، فقال: "خَلِّ عنها" (1).
وسار المشركون يَطوون المنازل حتى نزلوا ذا الحُلَيفَة، فَرَعَوْا زرع المدينة، وأفسدوا نخيلها، وباتوا، ثم أصبحوا فنزلوا شَفير الوادي مما يلي المدينة.
وبات وجوه الأنصار سعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبادة، وأسيد بن الحُضَير، يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعهم الأشراف من الأوس والخزرج، وعليهم السلاح إلى الصباح، ولما نزل القوم خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "رَأيتُ في مَنامِي بَقَرًا تُذبَحُ، فأَوَّلْتُها حَرْبًا يُنْحَرُ فيها أَصحابي، ورَأيتُ سَيفي ذا الفَقار قد انفَصَم، ورأيتني مُرْدِفًا كبشَ الكتيبةِ، وكأنِّي أُدخِل يدي في حِصنٍ حَصينَةٍ، فأوَّلْتُها المدينةَ، وأوَّلْت ما في سَيفي هزيمة أصحابي، وقَتْل رجل مِن أَهلِ بيتي، فإنْ رَأيتُم أَن نُقيمَ بالمدينَةِ ونَدَعَهُم حيثُ نزلوا، فإنْ أَقامُوا أَقامُوا بشرٍّ، وإن دَخَلوا عَلينا قَاتلْنَاهم فيها".
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره الخروج من المدينة، فقال رجل من المسلمين ممن أكرمهم الله يوم أحد بالشهادة: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هؤلاء الأَكْلُبِ لا يروا أَنّا جَبُنّا عنهم.
__________
(1) "أنساب الأشراف" 1/ 370 - 371.
(3/255)
________________________________________
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، ولم يَدْعُه قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله، لا نخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوٍّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا عدوٌّ إلا أصبنا منه، فَذَرْهُم، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن دخلوها علينا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين.
فلما فصل عنه عبد الله بن أُبيّ، اجتمع إليه جماعة من الأنصار وقالوا: يا رسول الله، لا تحرِمْنا الشهادة.
فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ومات في ذلك اليوم مالك بن عمرو من بني النجار، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل بيته وخرج وقد لبس لأمته وحمل السلاح، فندمَ الذين كلّموه وسُقِطَ في أيديهم، وقالوا: استكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوحي ينزل عليه، بئس ما صنعنا. فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: افعل ما بدا لك، فقال: "لا يَنبَغي لنبيٍّ أَن يَلبَسَ لأمَتَه فيَضَعَها حتَّى يُقاتِل" (1).
فخرج بعدما صلى الجمعة، فبات بالشَّيخَين، وهما أُطمانِ في طرف المدينة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج في ألف من أصحابه، واستعمل على حرسه تلك الليلة محمد بن مسلمة الأنصاري في خمسين رجلًا، ولما بات بالشَّيخينِ سمع كتيبةً لها زَجَلٌ، فقال: ما هذا؟ فقالوا: حلفاء عبد الله بن أُبَيّ من اليهود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْتَنصِروا بالكُفَّارِ على أَهْلِ الشِّركِ" (2)، ثم قال: "مَن يَخرجْ بِنا على القَومِ مِن كَثَب"؟ أي: من قريب، فقال أبو خيثمة (3) بن الحارث: أنا. فتقدم بين يديه في حرة بني بياضة، فلعب فرس بذنبه فأصاب سيفًا فاستله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يحب الفأل ويكره الطيرة: "يا صَاحِبَ الفَرَس، شِمْ سَيفَكَ فإنِّي لأرى السُّيوف اليوم لتُسَلُّ" (4).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (14787) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. وانظر "المغازي" 1/ 214، و"تاريخ الطبري" 2/ 503.
(2) "المغازي" 1/ 215 - 216، و"الطبقات الكبرى"2/ 36.
(3) ويقال: أبو حثمة، ويقال: أبو حتمة، وانظر "الإصابة" 4/ 42، و"السيرة الشامية" 4/ 279.
(4) ولفظه عند الواقدي 1/ 218، والطبري 2/ 506: "يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها". وشم سيفك: اغمده.
(3/256)
________________________________________
ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بشِعبٍ من أُحُد في عُدْوَة الوادي، وجعل ظهره إلى أُحد، وانخزل عبد الله بن أبي في ثلاث مئة ونَيِّفٍ -ثلثِ المسلمين- ورجع وهو يهدُرُ كالفَنيقِ (1) ويقول: أطاع الأحداث ومَن لا رأي له وعصاني، سيعلم، ثم قال: على ماذا نقتلُ أنفسَنا، ارجعوا أيها الناس. فرجع معه قومه أهل النفاق، وتبعه عبد الله بن عمرو بن حَرَام يناشده الله، ويقول: قاتلوا عن حَوْزَتكم، فما رجع، فقال له: أَبْعَدَكَ الله يا عدوَّ الله ومن معكم، الله يغني عنكم، فقال ابن أبي: لو نعلم قتالًا لاتَّبعناكم.
ولما رأت بنو سُلَيْم وبنو حارثة عبد الله بن أبي قد انخزل، همُّوا بالانصراف معه، وكانوا جناحَي العسكر، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} الآية [آل عمران: 122]، ثم عصمهما الله تعالى (2).
وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية، وكان لواء المهاجرين الأعظم يومئذ بيد مصعب بن عمير، ولواء الأوس بيد أسيد بن حضير، ولواء الخزرج بيد سعد بن عبادة، وقيل: بيد الحُباب بن المنذر (3).
وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسه، ولم يكن معه سوى فرسين أحدهما له، والأخرى لأبي بُرْدَة بن نِيار، وتَعبَّأَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعُ مئة دارع، ثم تنكَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوسه، وأخذ بيده القناة وبين يديه مئة دارع، وأمّر عبد الله بن جبير على الرماة ورتب معه خمسين رجلًا من الرماة، وقال له: "انْضَح عنَّا الخيلَ بالنَّبْل، لا يَأتُونا مِن خَلفِنا، واثبُت مَكانَكَ سَواء كانت لنا أو علينا لا نُؤتى مِن قِبَلكِ، وأقم بأصل عَينَينِ (4)، فإنَّا لا نَزَال عَالِينَ ما ثَبَتُّم في مَكانِكُم ولم تفارقوا المَركز (5) ".
وأقبلت قريش وعلى ميمنتها خالد بن الوليد في الخيل، وقيل: صفوان بن أمية،
__________
(1) الفَنيق: الفحل المكرمُ من الإبل الذي لا يُركَب ولا يُهان لكرامته عليهم. اللسان: (فنق).
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 504، والمغازي 1/ 219، والطبقات 2/ 37.
(3) "أنساب الأشراف" 1/ 374.
(4) عينين: هضبة جبل أحد.
(5) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وانظر "السيرة" 3/ 18، و"تاريخ الطبري"2/ 507.
(3/257)
________________________________________
وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وأبو سفيان في القلب، والظعائن والقينات تبتدرهن هند بنت عتبة في أوائل الصفوف وبيدها دُفٌّ وهي تقول:
نحنُ بناتُ طارق (1)
نَمشِي على النَّمارق
إن تُقبلوا نُعانِق
أو تُدبروا نُفارِق
فراقَ غيرِ وَامِق (2)
ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول هند، قال: "اللَّهم بِكَ أَصُولُ وأجُولُ، وفيكَ أُقاتِلُ، وأَنتَ حَسبي ونِعمَ الوكِيلُ" (3). وكانت هند ترتجز وتقول:
إيهِ بَني عَبدِ الدَّار
إيهِ حُماةَ الأَدبار
بكلِّ سَيفٍ بتَّار (4)
فرآها أبو دُجانةَ فحمل عليها لِيقتُلَها، ثم كف عنها فلامه الأنصار، فقال: أكرمتُ سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها - وكان قد أعطاه سيفه في ذلك اليوم (5).
وأولُ من أنشب الحرب أبو عامرِ الراهب، وكان يقول لقريش: متى التقينا لم يَختلفْ عليَّ منهم اثنان، فتقدم أبو عامر في الأحابيش وعُبْدان مكة، فنادى: يا معاشر الأوس، أنا أبو عامر الراهب. فقالوا: لا مرحبًا بك ولا أهلا، ولا أنعم الله بك يا
__________
(1) يقال: هي بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي. انظر "الروض الأنف"2/ 129 - 130، و"السيرة الشامية"4/ 384.
(2) وامق: فراق غير محب.
(3) أورده البلاذري في "أنساب الأشراف"1/ 375 - 376. وأخرج شطره الأول البزار في "مسنده" (804) من حديث علي، ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا قال: "اللهمَّ بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل".
(4) رواية "السيرة" 3/ 20: ضربا بكل بتَّار.
(5) "تاريخ الطبري" 2/ 511.
(3/258)
________________________________________
فاسقُ، ورمَوْه بالحجارةِ، فانهزم وهو يقول: لقد أصاب قومي بعدي شر (1).
ونادى أبو سفيان: يا معاشر الأوس والخزرج، خَلُّوا بيننا وبين ابن عمنا، وننصرفْ عنكم. فشتموه أقبح شتم ولعنوه، فتأخر.
ونادى طلحةُ بنُ أبي طَلْحَةَ حاملُ اللواء: هلْ مِن مبارزٍ؟ فبرز إليه علي - رضي الله عنه - فقتله، فكبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وقالوا: هذا كبشُ الكتيبةِ (2).
وقال هشام: برز طلحةُ بن أبي طلحة وقال: يا أصحابَ محمد، إنكم تزعُمون أَن الله يُعَجِّلُنا بسيوفكم إلى النار، ويُعجِّلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يُعْجِّلُني بسيفه إلى النار أو أعجله بسيفي إلى الجنة. فبرز إليه علي - رضي الله عنه - فضربه، فأبانَ رِجْلَه ووقع إلى الأرض، فبدت عورته، فقال: يا ابن عم، أَنْشُدُك الله والرَّحِمَ، فرجع عنه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مَنَعك أن تُجهزَ عليه؟ " فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: "اقتله"، فقتله (3).
فأخذ اللواء عثمان بن أبي طلحة أبو شيبة، وهو يقول: [من الرجز]
إنَّ على أهل اللواء حقًّا ... أن تُخْضَبَ الصَّعْدَةُ أو تَنْدَقّا
فحمل عليه حمزة - رضي الله عنه - فضربه بالسيف على كاهله، فقطع يده وكَتِفَه. فقتله، ثم رجع وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج.
فأخذ اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم فقتله، فأخذ اللواء مُسافِع بن طلحة فرماه عاصم بسهم فقتله، فأخذ اللواء كِلاب بن طلحة، فقتله الزبير بن العوام، فأخذه الخلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عُبَيد الله.
فهؤلاء أربعة لِصُلْبِ طلحة قُتِلوا في ساعةٍ واحدة، وقُتِل أبوهم طلحة، وأخوه عثمان بن طلحة قبلهم وهم بنو عبد الدار، وأم بني طلحة سُلافة بنت سعد أوسِيَّةٌ.
ثم أخذ لواءَ المشركين شُريح بنُ قارِظ فقُتِل، ثم أخذه صُؤاب غلامُ أبي طلحة وهو
__________
(1) "السيرة" 3/ 19، و"المغازي" 1/ 223.
(2) "المغازي" 1/ 225 - 226.
(3) انظر "السيرة" 3/ 23 - 24، و"المغازي" 1/ 225 - 226، و"تاريخ الطبري" 2/ 509 - 510.
(3/259)
________________________________________
آخِرُ مَنْ أخذه، قطعت يده، فأخذه بصدره واعتنقه فقتله قُزْمان، وهو يقول: اللهمَّ هل أَعذَرْت (1)، فقال حسان بن ثابت (2): [من الوافر]
فَخَرتُم باللِّواءِ وشَرُّ فَخْرٍ ... لواءٌ حين رُدَّ إلى صُؤابِ
جَعَلتُم فَخرَكُم فيه لِعَبْدٍ ... والأَمِ من يَطا عَفَر الترابِ
ووقع لواءُ المشركين ولم يأخُذْه أَحدٌ، فجاءت عَمْرَةُ بنتُ عَلْقَمة الحارثية فأخذته فلاذوا بها، ولما قُتل أصحابُ الألوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "احْمِل عليهم".
فحمل فبَدَّد شَملَهم، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي (3).
وسببُ قتلِ بني عبد الدار على اللواء: أن أبا سُفيانَ قال لهم يومَ أحد: يا بني عبد الدار، إنكم وَليتُم أَمرَ اللواء يَوْمَ بدر، فأصابنا ما أصابنا، وإنما يُؤتى الناس من قِبَلِ راياتهم، فإذا زالت زالوا، فإما أن تَكْفُونا أمر اللواء أَوْ تُخَلُّوا بيننا وبينه، فغضبوا وتواعدوه وهَمُّوا به، وقالوا: ستعلمُ إذا التقينا كيف نصنع؟ وكان قصدُ أبي سفيان أن يُقتَّلوا، فَقُتِلوا جميعًا (4).
ولما قتل أصحاب اللواء، انهزم الكفار لا يَلْوُون على شيء، ونساؤهم يَدْعون بالويل والثُّبور، وأَنزلَ الله نصرَه (5).
واختلف أصحاب عبد الله بن جُبير أميرِ الرماة، فقال بعضهم: نَنْتَهبُ الغنائمَ، وقال آخرون: لا نترك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانطلق عامتُهم إلى العسكر طلبًا للنهب، فلما رأى خالد بن الوليد قِلَّةَ الرماة، واشتغال المسلمين بالنهب، صاح في خيل المشركين، ثم حمل ومعه عِكْرمةُ بن أبي جهل وضِرارُ بن الخطاب بن مِرْداس الفهري من خَلْفِهم، فقتلوا أميرَ الرماة عبدَ الله بنَ جُبيرٍ وأصحابَه، فانتقضت صفوف المسلمين ووقعت الهزيمة (6).
__________
(1) "المغازي" 1/ 226 - 228، و"الطبقات" 2/ 38 - 39.
(2) البيتان في "السيرة" 3/ 27.
(3) "تاريخ الطبري" 2/ 514.
(4) "تاريخ الطبري" 2/ 512.
(5) "المغازي" 1/ 229، و"الطبقات" 2/ 39.
(6) "المغازي" 1/ 232، و"الطبقات" 2/ 39.
(3/260)
________________________________________
ولم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى اثني عشر رجلًا (1): أبو بكر، وعمر، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبَيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، ومن الأنصار: الحُباب بن المنذر، وأبو دُجانة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأَقْلح، والحارث بن الصِّمة، وقيل: وأُسَيد بن حُضَير، وسَعْد بن معاذ، وسهل بن حُنَيف، وبايعه على الموت ثمانية فلم يُقتل منهم أحدٌ: علي، وطلحةُ، والزبيرُ، وأبو دُجانة، وعاصمُ بن ثابت، والحُبابُ بن المنذر، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصِّمة (2). وأنزل الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153].
قال البراءُ: فأصابوا منا سبعين (3).
ورأى عبد الله بن قَمِيئَةَ الهذلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فضربه بحجَرٍ، فشَجَّ وجههَ فوضَحه، ونادى: قتلتُ محمدًا، فقال له أبو سفيان بن حرب: إذًا نُسوِّركَ كما تفعل الأعاجم، وسمعه خالد بن الوليد، فقال: كذب ابن قَميئَةَ، أنا رأيت محمدًا في نفر من أصحابه مُصْعِدين في الجبل (4).
ولما ضرب ابنُ قَميئَةَ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخلت حلقتا المِغْفَرِ في وَجْنَتَيهِ، فانتزعهما أبو عبيدة بنُ الجرّاح - رضي الله عنه - فسقطت ثَنِيَّتاه، فلم يُرَ قَط أثرمُ كان أحسنَ فَمًا منه (5).
ولما رمى ابن قَميئَةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: خذها وأنا ابن قَميئَة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْمأَكَ اللهُ". فسلَّط الله عليه بعد الوقعة كبشًا فنطحه حتى قتله (6).
ورمى حِبّانُ بنُ العَرِقَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهم، وقال: خُذْها وأنا ابنُ العَرِقَةِ، فقال
__________
(1) البخاري (3039) من حديث البراء، وفي "المغازي" للواقدي، و"الطبقات": أربعة عشر رجلًا.
(2) "المغازي" 1/ 240.
(3) البخاري (3039).
(4) انظر "المغازي" 1/ 236 - 237.
(5) "المغازي" 1/ 247، والحاكم 3/ 29 من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7596) من حديث أبي أمامة، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 117: وفيه حفص بن عمر العبدري وهو ضعيف، وانظر "المغازي" 1/ 246.
(3/261)
________________________________________
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَرَّقَ الله وجهك في النار" (1).
ورماه عتبةُ بن أبي وقاص فشجَّ وجهه وجبينه وكسر رَباعِيَتَه، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اللهمَّ لا يحلْ عليه حَوْلٌ" (2). فمات كافرًا مِنْ وَجَعٍ أَزْمَنَهُ.
وقال البلاذُري: كان عبد الله بن شهاب الزُّهري، وعتبة بن أبي وقاص، وعبد الله بن الأدرمي (3)، وأبي بن خلف، وعبد الله بن حميد بن زهير، قد تعاقدوا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما ابن شهاب فأصاب جبهته، وأما عتبة فرماه بأربعة أحجار فكسر رَباعِيَته اليُمنى وشق شَفته العليا، وأما ابن قميئَة فكَلَمَ وَجْنَتيه وغَيَّب حَلَقَ المِغْفَر فيها، وعلاه بالسيف فلم يعمل فيه، وسقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَجُحِشَت ركبتاه، وأما أُبَيُّ بنُ خَلفٍ فشدَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحربة، فأعانه الله عليه فقتله، وأما عبد الله بن حميد فشد عليه أبو دجانة فضربه بالسيف (4). وأما ابن شهاب فنهشته أفعى عند عوده إلى مكة فمات.
وقال سهل بن سَعْد: جُرحَ وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكُسِرت رَباعِيَتُه اليمنى، وهُشِّمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة - رضي الله عنها - تغسل الدم عن وجهه، وعلي رضوان الله عليه يسكب عليها، فلما رأت أن الماء يزيدُ الدمَ كثرةً، أخذت قطعة حصير، فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجُرح، فاستمسك الدم. أخرجاه في "الصحيحين" (5).
__________
(1) هكذا جاء سياق الحديث في نسخنا، والصواب أن حبان بن العرقة إنما رمى سعد بن معاذ في أكحله، وكان ذلك في يوم الخندق كما أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة رماه في الأكحل.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" 22 / (1091) من حديث الزبير بن بكار في معرض حديثه عن خديجة - رضي الله عنها - قال: وحبان بن عبد الله أخو هالة لأبيها وأمها هو الذي رمى سعد بن معاذ يوم الخندق فقال: خذها وأنا ابن العرقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عرق الله وجهك في النار" فجعل هذا الدعاء من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظر "المغازي" 1/ 469.
وأخرجه ابن هشام في "السيرة" 3/ 135 - 136 من حديث عائشة، والحاكم 3/ 227 من حديث عبد الله بن كعب بن مالك قال: فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار. فجعلا الدعاء من كلام سعد. والله أعلم.
(2) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9649) من حديث مقسم، وانظر "السيرة" 3/ 28.
(3) هو ابن قميئة.
(4) "أنساب الأشراف" 1/ 378.
(5) أخرجه البخاري (2911)، ومسلم (1790).
(3/262)
________________________________________
وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُت الدم عن وجهه ويقول: "كيفَ يُفلحُ قَومٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهم، وهو يَدعوهُم إلى الله تعالى". فأنزل الله تعالى: {لَيسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ} [آل عمران: 128] (1).
وجعلت فاطمة - رضي الله عنها - تعتنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبكي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن ينالوا منا مثلها أبدًا" (2).
وفشا في الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قُتِل، واختلط المسلمون، وصاروا يقاتلون على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضًا، ونادى الكفار بشعارهم: يا لَهُبَل، يا لَلْعُزّى، وقتلوا في المسلمين، وافترق المسلمون فِرقًا (3)، فقال بعضهم: ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أبي، وقال بعضُهُم: ليت لنا رسولًا إلى أبي سفيان بن حرب، يأخذ لنا منه أمانًا، وقال المنافقون: ارجِعوا إلى الدين الأول، وصاح فيهم أنس بن النَّضر: ويحكم إن كان محمدٌ قد قتل، فَرَبُّ محمدٍ لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قاتل حتى قُتل رضوان الله عليه (4).
وتحامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصعد على صخرة وجعل يدعو الناس إليه. قال كعب بن مالك: فأنا أول من عرفه، عرفته بعينيه وهما يُزْهِران تحت المِغْفَر، فناديت: يا معاشر المسلمين، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إلي أَنِ اسْكُتْ (5).
وفَوَّقَ رجلٌ سَهْمًا وأراد أن يرميه به. فقال: "أنا رسول الله" وانحازت إليه طائفةٌ من المسلمين فلامهم على الفرار، فقالوا: سمعنا أنك قد قتلت فَرَعَبَتْ قلوبنا فولَّينا مُدبرين (6).
__________
(1) أخرجه مسلم (1791) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 41.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 39.
(4) "تاريخ الطبري" 2/ 520، وانظر "السيرة" 3/ 30.
(5) "السيرة" 3/ 31.
(6) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 520.
(3/263)
________________________________________
وقال ابن إسحاق: اجتمع إليه ثلاثون رجلًا فحموه، وكشفوا الكفار عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص بالنبل حتى انكسرت سِيَةُ قَوْسِه، وأصيبت يدُ طَلْحَة بن عبيد الله؛ وقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصار أشلَّ، وكان الذي رماه مالك بن زهير الجشمي، وكان قَصْدُه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتقاه طلحة - رضي الله عنه - بيده، فأصاب السهم خِنْصَرَه فَشُلَّ، فقال: حَسِّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَو قال بِسمِ الله ولَم يَقُلْ حِسِّ دَخَل الجنَّة والنَّاسُ يَنظُرونَ إليه" (1).
وَنَثَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كِنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وأُمي". وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: كان رجل من المشركين قد أحرق قلوب المسلمين، فرميته بسهم فأصبت جنبه، فوقع فبدت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
وقال أنس: لما كان يوم أحد انهزم المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة مُجَوِّبٌ عليه بحَجَفَتِه، وكان أبو طلحة راميًا شديد النزع، وقد كَسَر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر ومعه الجعبة من النبل، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انْثُرها لأَبي طَلحَةَ"، ويُشْرِفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا يصيبك سهمٌ من سهامهم، نَحري دون نحرك.
قال: ولقد رأيت عائشة وأمَّ سُلَيم لمشمِّراتٍ أرى خَدَمَ سوقهن، ينقلان القِرَبَ على مُتونِهن يُفْرِغانها في أفواه القوم، ولقد وقع سيف أبي طلحة من يده مرتين أو ثلاثًا، يعني لما يلقى من النعاس. متفق عليه (3).
وقال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد الخَوْفُ علينا يوم أحد، أرسل الله علينا النوم، وإني لأسمع قول مُعَتِّبٍ والنعاس يغشاني، فما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، فحفظتها منه (4).
__________
(1) أخرجه الحاكم 3/ 416 من حديث طلحة بن عبيد الله، وانظر "المغازي" 1/ 254، و"تاريخ الطبري" 2/ 520. وسية القوس: ما عطف من طرفيها.
(2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 20/ 307 من حديث سعد.
(3) أخرجه البخاري (3811)، ومسلم (1811). ومجوب عليه: مترس عنه ليقيه السلاح، والخدم: الخلخال.
(4) أخرجه الطبري في "تفسيره" 4/ 180، والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 273.
(3/264)
________________________________________
وقال أبو طلحة: رفعتُ رأسي يوم أحد، فجعلتُ ما أرى أحدًا إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس، وكان يقع السيف من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النعاس فآخذه (1).
وقال أنس: أُفْرِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رُهِقوا قال: "مَن يَردُّهُم عَنَّا ولَه الجنَّةُ، أو هوَ رَفِيقِي في الجنَّةِ". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ دونه، فلم يزل كذلك حتى قتل سبعة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَنْصَفْنا أَصْحَابَنَا" (2).
وأُصيبت عينُ قَتادةَ بنِ النعمان فوقعت على وَجْنَته، فردَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فعادت أحسن ما كانت (3).
وتقدم مُصعَبُ بنُ عُمَير وبيده لواء المهاجرين، فقاتل حتى قتل. فأخذ اللواء علي - رضي الله عنه -، وقاتل حمزة رضوان الله عليه قتالًا شديدًا، ومرَّ به سباع بن عبد العُزَّى الغبشاني، فقال له حمزة: هلم يا ابنَ مُقَطِّعَةِ البُظور، وكانت أمه خَتَّانةً بمكة، فقتله حمزة. قال وحشي: فنظرت إلى حمزة وهو يَهُذُّ الناس هَذًّا بسيفه كأنه جَملٌ أَوْرَقُ، فرميتُه بالحَرْبة، فوقعت في ثُنَّتِه حتى خرجت من بين رجليه، فأخذتها وتَنَحَّيتُ (4).
وقيل: كان حمزة يجول في القوم فعثر فوقع على وجهه، فزرقه وحشيّ بحربته فقتله (5).
ورُمي أبو رُهْم الغِفاري بسهم في نحره، فتفل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرئ، فكان يسمى المنحُور (6).
وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لقد حَرَصْتُ على قتل أخي عُتبة بن أبي وقاص،
__________
(1) أخرج شطره الأول الترمذي (3007)، وانظر "تفسير الطبري" 4/ 177.
(2) أخرجه مسلم (1789).
(3) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1549).
(4) "السيرة" 3/ 21.
(5) "المغازي" 1/ 285.
(6) "المغازي" 1/ 243.
(3/265)
________________________________________
فراغ مني رَوَغان الثعلب، ولقد علمته والله عاقًّا لوالديه، سيِّئ الخلُق (1).
وكانت أم أيمن حاضنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسقي المسلمين الماء في نِسوة من الأنصار، فرماها حِبّان بن العَرِقة بسهم فأصاب ذيلها، فاستغرب ضحكًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص: "ارمِهِ" فرماه فوقع ابن العَرِقة مستلقيًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استقادَ لها سعد أجاب الله دعوتك وسدد رميتك (2) ". فكان سعد مجاب الدعوة راميًا.
وصعدت قريش على الجبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ لا يعلونا". فأقبل عمر بن الخطاب في رهط من المهاجرين فأنزلوهم، ونهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صخرة ليعلوها، فلم يستطع فجلس تحته طلحة بن عُبَيد الله، فنهض فاستوى عليها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوْجَبَ طَلحَةُ" (3).
وجاءت هند بنت عُتبة ومعها نساء المشركين، فجعلْنَ يَجْدَعْنَ الآذان والأنوف، واتخذت هند من ذلك قِلادةٌ ومعاضِدَ، وبقرت بطن حمزة رضوان الله عليه، وأخرجت كَبِده فمضغَتْها فلم تستطع ولفظتها، وأعطت وحشيًّا ما كان عليها من القلائد وقُرطَها، ووعدتُه إذا قدمت مكة بعشرة دنانير (4).
وقال البلاذري: ناولها وحشي كبد حمزة، فجعلتها في فمها ثم رمتها، وقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، وقدمت مكة بجميع ذلك، ثم علت صخرة وقالت (5): [من الرجز]
نحن جَزيناهُم بِيَومِ بَدرِ
والحربُ بعد الحرب ذاتُ سُعْرِ
ما كان بعدَ عِترتي من صَبْرِ
__________
(1) "السيرة" 3/ 32.
(2) "المغازي"1/ 241.
(3) "السيرة" 3/ 32 - 33.
(4) انظر "السيرة" 3/ 36.
(5) "أنساب الأشراف" 1/ 381، ونصه: فقتله وأخذ كبده، فأتي بها هند بنت عتبة، فمضغتها ثم لفظتها، وجاءت فمثلت به، واتخذت مما قطعت منه مَسْكَين ومعضدتين وخدمتين. ولم يذكر الشعر، وانظر "السيرة" 3/ 36.
(3/266)
________________________________________
أَبِي وعمِّي وأَخي وبِكْري
شفيتَ وحشيُّ غليلَ صدري
شفيتَ قلبي وقضيت نَذْري
وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قولُها، فقال: "إن الله حرَّمَ لحمَ حَمزةَ على النار" (1).
قال ابن إسحاق: وهذه شديدةٌ على هند المسكينة (2).
ولما فقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزةَ - رضي الله عنه -، قال للحارث بن الصمة الأنصاري: "ألا تعلمُ لي عِلْمَ عمي". فطاف فوجده بين القتلى، فكره أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسهل بن حُنَيف: "ألا تعلم لي عِلْمَ عمي"، ثم قال لعمار بن ياسر كذلك، فأخبره بقتله فبكى (3).
ولمّا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نزل بأصحابه من جَدْع الأنوف والآذان، وقطع المذاكير، قال: "لئن أَدالنَا الله عليهم لنُمَثِّلنَّ بهم مُثْلَةً لم يمثِّلْها أحد من العرب قط" (4).
وقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه، ثم قال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافةَ؟ قالها ثلاثًا، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ قالها ثلاثًا، فرجع إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما ملك عمر بن الخطاب نفسه، فقال: كذبتَ يا عدو الله، إن الذين عددتَ لأحياءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك. فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سِجال، إنكم ستجدون في القوم مثْلَةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اُعْلُ هُبَل، اُعل هُبَل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُجيبُوهُ؟ " قالوا: وما نقول؟ قال: "قُولوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلّ". فقال: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تُجيبُوهُ؟ " قالوا: وما نقول؟ قال: "قولوا: الله
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 70/ 175.
(2) هذا القول ليس لابن إسحاق وإنما هو لمحمد بن سيرين كما في "الطبقات الكبرى" 3/ 11، و"تاريخ دمشق" 70/ 175.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 472.
(4) انظر "السيرة" 3/ 39.
(3/267)
________________________________________
مَولانَا ولا مَولَى لَكُم" (1).
وقال أنس: لما كان يوم أحد حاصَ أهل المدينة حَيصَة، وقالوا: قتل محمد. وكثرت الصوارخُ في نواحي المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار، فمرت على ابنها وأخيها وزوجها، فلم تلتفت إليهم حتى جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذت بناحية ثوبه وجعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي بمن عَطِبَ إذا سَلِمْتَ، كلُّ مصيبةٍ بعدك جَلَل (2).
وكان عامة الناس قد حملوا موتاهم إلى المدينة، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا قتلاكم إلى مضاجعهم" (3). فأدرك مناديه رجلًا واحدًا لم يدفن وهو: شمّاس بن عثمان المخزومي، فرده إلى مضجعه (4).
ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم وهو يوم السبت، فصلى بالناس المغرب. واستقبلته حَمْنةُ بنت جحش، فنعى إليها أخاها عبد الله بن جحش، فاستغفرت له، ثم نعى إليها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى إليها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَزوجُ المرأة منها بمكان" (5).
وشَمِتَ المنافقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبدُ الله بن أبي (6).
ولما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته، ناول فاطمةَ - رضي الله عنها - سيفه وقال: "اغسلي عنه الدم يا
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 44.
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7499)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 115 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه عمد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
أما قوله: كل مصيبة بعدك جلل، فهو من حديث سعد بن أبي وقاص كما في "السيرة" 3/ 43.
(3) أخرجه أبو داود (3165)، والترمذي (1717)، والنسائي (2004)، وأحمد في "مسنده" (14169) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
(4) انظر الخبر في "المغازي" 1/ 312، و"الطبقات الكبرى" 2/ 41.
(5) "السيرة" 3/ 42.
(6) "الطبقات الكبرى" 2/ 41.
(3/268)
________________________________________
بنية، فلقد صدقني اليوم" (1).
وانهزم جماعة يوم أحد منهم: ثعلبة بن حاطب، والحارث بن حاطب، وخارجة بن عامر، وسَوَاد بن غَزيَّة، وسعد بن عثمان، وأوس بن قَيظي، وعقبة بن عمار، وعثمان بن عفان في آخرين (2). وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الآية.
ذكر شهداء أحد
قال ابن عباس: قتل من المسلمين يوم أحد سبعون. وقال ابن إسحاق: خمسةٌ وستون. وقال ابن سعد: سبعة وستون. وزاد غيرهم ونقص فيهم.
الأَغرُّ بن ثعلبة: أنصاري اشترك في قتله جماعةٌ، ودفن هو وخارجة بن زيد في قبر واحد.
أنس بن النَّضر بن ضَمْضَم بن زيد الأنصاري من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه هند بنت زيد نجارية.
قال أنس بن مالك: غاب عمي أنس عن بدر، فقال: غبتُ عن أول غزاةٍ غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لئن أشهدني الله قتالًا لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ. فلما انهزم الناس يومَ أُحد، قال: اللهمَّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين-، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين- ثم تقدم بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ فقال له: إلى أين؟ فقال: إني لأجد ريح الجنة قِبَل أُحُد. ومضى فقتل، فما عُرِفَ حتى عرفته أخته، وبه بضع وثمانون جراحةً بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
أُنَيس بن قَتادة بن ربيعة الأنصاري.
أوس بن أرقم بن زيد بن النعمان، خزرجي.
__________
(1) "السيرة" 3/ 43، وأخرجه الحاكم 3/ 27 من حديث ابن عباس.
(2) "المغازي" 1/ 277 - 278.
(3) أخرجه البخاري (4048)، ومسلم (1903).
(3/269)
________________________________________
أوس بن المنذر الأنصاري.
إياس بن أوس بن عتيك، أوسي، قتله ضرار بن الخطاب وكان ضرار يقول: زَوَّجت عشرةً من أصحاب محمد يوم أحد بالحور العين، وكان فارسَ قريش وشاعرها، والتقى في ذلك اليوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضربه بالقناة، ثم رفعها عنه وقال: ما كنت لأقتلك يا ابن الخطاب (1)، ثم منَّ الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه.
ثابت بنُ الدَّحْداح بن نُعَيم الأنصاري من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الأولى أو الثانية من الأنصار، وكنيته: أبو الدَّحْداح. قال يوم أحد والمسلمون متفرقون: يا معاشر الأنصار، ألا إن كان محمد قد قتل فَرَبُّ محمدٍ حيٌّ لا يموت، قاتلوا عن دينكم. فنهض إليه نفر من الأنصار وقد وقفت له كتيبة خشناء فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، فجعل يحمل عليهم يمينًا وشمالًا، فحمل عليه خالد بن الوليد [بالرمح] فأنفذه فسقط ميتًا ومن كان معه (2).
وقيل: إنه جُرح يوم أحد، وبرئ من جِراحته، ومات على فراشه من جرح كان أصابه، ثم انتقض عليه مَرْجِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية. ولم يكن لثابت غير ابن أخته وهو أبو لُبابة بن عبد المنذر، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراثه (3).
وهذا ثابت الذي أقرض ربَّه حائطه. قال زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)} [البقرة: 245] الآية، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، فداك أبي وأمي إن الله يستقرض منا وهو غني عن القرض؟ قال: "نعم، يريد أن يُدخلكم به الجنة". قال: فإني قد أقرضتُ لربي عزَّ وجلَّ قرضًا تضمن لي به الجنة؟ قال: "نعم، مَن تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة". قال: وزوجتي أم الدحداح معي؟ قال: "نعم". قال: وصبيتي الدحداحة معي؟ قال: "نعم". قال: ناولني يدك. فناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 6/ 135 - 136.
(2) "المغازي" 1/ 281، و"الطبقات الكبرى" 4/ 297 - 298.
(3) "الطبقات الكبرى" 4/ 298.
(3/270)
________________________________________
أملك غيرهما، وقد جعلتهما قرضًا لله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعل إحداهما لله والأخرى معيشة لك". قال: فإني أشهدك أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ست مئة نخلة. قال: "إذًا يجزيك الله به الجنة".
قال: فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أمَّ الدَّحْداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور حول النخل، فأخْبَرها، فقالت: ربح بيعُك، بارك الله لك فيما اشتريتَ وبعت، وأقبلت إلى صبيانها تُخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كم من عَذْقٍ رَدَاحٍ في الجنة لأبي الدَّحْداح" (1).
ثابت بن عمرو بن زيد، من بني غَنْم من الطبقة الأولى، ولا يُدْرى من قتله، ولا عقب له.
ثابت بن وَقْش بن زُغبةَ، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار.
ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عُبيد بن أمية، وهو الذي نزل فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] وقصته متأخرة عن أحد (2).
ثعلبة بن سعد بن مالك، من الطبقة الثانية من الخزرج، عم أبي أسيد (3) الساعدي.
ثقيف بن فروة، من الطبقة الثانية من الخزرج.
الحارث بن أنس الأشهلي، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، واستشهد يوم أحد.
الحارث بن ثابت بن عبد الله، من الطبقة الثانية من الأنصار.
الحارث بن أوس بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وكان في جملة من قَتَلَ كعبَ بن الأشرف، واستشهد وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة.
__________
(1) تفسير الثعلبي 2/ 207 - 208.
(2) ثعلبة بن حاطب المذكور هنا استشهد في أحد، أما صاحب القصة التي ذكر المصنف، فهو: ثعلبة بن أبي حاطب، وتوفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، فهما رجلان. انظر "الإصابة" 1/ 198. وانظر قصته في "أسباب النزول" للواحدي ص 252 - 253.
(3) هكذا في النسخ، وفي "الطبقات الكبرى" 4/ 367: "عم أبي حميد".
(3/271)
________________________________________
الحُباب بن قَيظي، من بني عبد الأشهل، قتله ضرار الفهري.
حَبيب بن زيد بن تميم، من بني بَياضة.
حُسَيل بن جابر بن ربيعة بن عمرو بن جِرْوةَ العبسي -وهو اليمان أبو حُذَيفة (1) - قُتِلَ يومَ أُحدٍ غلطًا.
قال عروة: لمّا اختلط المسلمون يوم أحد وجالوا تلك الجولة، التقتْ سيوف المسلمين على حُسَيل ولم يعرفوه، فجعل ابنه حذيفة يقول: أبي أبي، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ما صنعتم قتلتم أبي؟ فزاد قدر حذيفة وارتفع بقوله (2).
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو يعلى، وقيل: أبو عُمارة - رضي الله عنه -، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمه: هالة بنت وُهَيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين.
وكانت أمه تقول: والله ما حملته وُضْعًا، ولا وضعته يَتْنًا، ولا أرضعته غَيلًا، ولا أنمته على مَأقةٍ.
وكان حمزة رضوان الله عليه رضيعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: أَسنَّ منه بثلاث سنين.
وكان بيده يوم أحد سيفان يجاهد بهما في سبيل الله ويقول: أنا أسد الله وأسد رسوله (3). فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والذِي نَفسِي بيَده إنَّه لمَكتُوبٌ في السَّماءِ كذلِكَ" (4).
وأوصى حمزة - رضي الله عنه - يوم أحد إلى زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهما، فلما حضر القتال أكَّدَ الوصية (5).
__________
(1) في طبقات ابن سعد 4/ 249: وجروة هو اليمان، ومن ولده حذيفة.
(2) "الطبقات الكبرى" 4/ 250.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 11.
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (2952)، والحاكم 3/ 219 من حديث أبي لبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عند الله في السماء السابعة: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله.
(5) انظر "المنتظم" 3/ 179.
(3/272)
________________________________________
وعن عثمان بن أبي عمار: أن حمزة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريه جبريل، فقال: "إنَّك لَن تَستَطِيعَ". قال: بلى. فأراه إياه في الكعبة، ورجلاه مثل الزبرجد الأخضر، فخر حمزة مغشيًّا عليه (1).
ولما قتل حمزة - رضي الله عنه -، ومثَّلت به هند، مر به أبو سفيان بن حرب فجعل يضرب في شدقه بالرمح [ويقول]: ذُقْ عُقَقُ، فرآه الحُلَيسُ بن زَبّان سيدُ الأحابيش، فصاح: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون، قد صار لحمًا، فقال له أبو سفيان: اكتمها علي فإنها كانت زَلَّةً (2).
واشترك معاوية بن المغيرة بن أبي وقاص (3) بن أمية، وهند بنت عتبة في المُثْلةِ بحمزة رضوان الله عليه، وكان حمزة صائمًا في يوم أحد، فقتل على حاله وأَذِنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لصفيةَ رضوان الله عليها أن تشاهد أخاها حمزة فشاهدته، وقالت: قد مثلوا بأخي وذلك قليل في ذات الله، والله لأصبرَنَّ ولأحتسبَنَّ. ثم صلَّت عليه واستغفرت له.
وقال أبو هريرة: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة فنظر إلى شيء لم يَرَ مثلَه قط، ولا كان أوجع لقلبه منه وقد مثَّلوا به، فقال: "يَرحَمُكَ اللهُ، فَلَقد كُنتَ فِيما عَلِمتُ وَصولًا للرَّحمِ، فعَّالًا للخيراتِ، ولولا حُزنُ مَنْ بَعْدَك عَليك أو تكونَ سُنَّةً من بعدِك لسرَّني أَن أدَعَك حتى تُحشَرَ مِن بُطون السِّباعِ وحَواصِل الطَّير، أَمَا والله لأُمثِّلن بسَبعِينَ منهم مَكَانَكَ". فنزل جبريل بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إلى آخرها، فصبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمسك عما أراد. وفي رواية: فكفَّر عن يمينه، ونهى عن المُثْلة (4).
وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة، وكبر سبعين تكبيرة (5).
ولما حُفر لحمزة نزل في قبره أبو بكر وعمر وعلي والزبير - رضي الله عنهم-، وجلس رسول الله
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 11.
(2) "السيرة" 3/ 37.
(3) هكذا هو في النسخ، والصواب: بن أبي العاصي. انظر "جمهرة أنساب العرب" ص 110.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 12، والطبراني في "الكبير" (2937)، والحاكم 3/ 218.
(5) "الطبقات الكبرى" 3/ 14.
(3/273)
________________________________________
- صلى الله عليه وسلم - على شَفير القبر وقال: "لقد رأيت الملائكة غسلت حمزة" (1).
وأمر أن يُوضَعَ على قدميه الحَرْمَلُ، ودفن حمزة وعبد الله بن جحش في قبر واحد (2).
وقتل حمزة رضوان الله عليه وهو ابن تسعٍ وخمسين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة.
وبكت نساء الأنصار على قتلاهن، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذرفت عيناه، وقال: "لكن حمزة لا بواكيَ له". فسمعه سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، فرجعا إلى نسائهما فساقاهُنَّ إلى باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالا: ابكين حمزة، فبكينه، فدعا لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرهن بالانصراف (3).
ولما رجع الكفار عن أحد، هرب معاوية بن المغيرة على وجهه فدخل المدينة، ثم أتى باب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكان ابن عمه فضربه، فقالت أم كلثوم عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنت؟ فقال: أين عثمان؟ فقالت: ليس هو ها هنا. فقال: أَرْسلي إليه فله عندي ثمن بعير كنتُ اشتريتُه منه. وجاء عثمان فنظر إلى معاوية فقال: أهلَكْتَني وأهلكتَ نفسك. فقال: يا ابن عم، لم يكن أحد أمسَّ بي رحمًا منك فأجرني، فأدخله عثمان منزله وصيره ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ مُعاويةَ بالمدِينَةِ، فَاطْلُبُوهُ". فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم عليها السلام بأنه في ذاك المكان الذي هو فيه، فأخرجوه وأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقتله. فقال عثمان: والذي بعثك بالحق ما جئتُ إلا لآخذ له أمانًا، فهَبْه لي، فوهبه له وأجَّله ثلاثًا، وأقسم إن وجده بعدها قتله، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأَسد، وأقام معاوية ثلاثًا يستعلم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأتي بها قريشًا، فلما كان في
__________
(1) "الطبقات الكبرى" 3/ 9.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 9.
(3) ذكره بهذا اللفظ الطبري في "تاريخه" 2/ 532، وأخرجه أحمد في "مسنده" (5666) من حديث ابن عمر ولم يذكر سعدًا ولا أسيدًا وزاد فيه: "يا ويحهن! أنتن ها هنا تبكين حتى الآن؟ ! مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم".
(3/274)
________________________________________
اليوم الرابع عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وقال: "إنَّ مُعاويةَ بالمدينةِ، فاقْتُلوهُ". فتبعه علي وزيد بن حارثة وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم - فقتلوه بالجَمَّاء (1)، وكان قد هرب. وقيل: أدركوه على ثمانية أميال من المدينة فرموه بالنبل حتى قتلوه. وقيل: إنما تبعه علي رضوان الله عليه فقتله، وليس لمعاوية عَقِب إلا عائشة بنت معاوية تزوجها مروان بن الحكم، فولدت له عبد الملك بن مروان (2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لحسان بن ثابت: يا ابن الفُرَيعةِ، لو سَمِعْتَ هندًا يوم قتل حمزة وهي قائمة على صخرة ترتجز وتذكر ما صنعت بحمزة، وقد بقرت بطنَه، فلو رأيتَ أَشَرَها وهي تقول:
شفيتَ وَحشيُّ غليلَ صدري. . . الأبيات.
فقال حسان بن ثابت يهجوها (3): [من الكامل]
أشِرَت لَكاعِ وكان عادتَها ... لؤمٌ إذ أَشِرَتْ مع الكُفْرِ (4)
أَخَرَجْتِ مُرقِصَةً إلى أُحدٍ ... في القَومِ مُقْتِبةً على بَكْرِ
أخرجتِ ثائرةً مُبادِرةً ... بأبيك وابنك يوم ذي بَدْرِ (5)
وبعمّك المستوهِ ذي رَدَعٍ ... وأخيكِ منعفرين في قَبْرِ (6)
ونَسيتِ فَاحِشةً أتيتِ بِها ... يا هندُ وَيحكِ سُبَّة الذِّكر
زَعَم الولائِدُ أنَّها وَلَدتْ ... وَلَدًا صَغيرًا كانَ مِن عَهْرِ
لَعَن الإلهُ وزَوجَها معها ... هند هَنودِ عظيمةَ الوزْرِ
ذكر أولاد حمزة - رضي الله عنهم -:
كان له أربعة: يعلى، وعامر وعُمارة، وأُمامة.
__________
(1) في النسخ: "الحمى" والمثبت من المصادر.
(2) انظر الخبر في "المغازي" 1/ 332 - 333، و"أنساب الأشراف" 1/ 400 - 401.
(3) انظر الخبر في "السيرة" 3/ 37، و"تاريخ الطبري" 2/ 525 - 526.
(4) لكاع: اللئيمة.
(5) في النسخ: "أفرحت ثائرة" والمثبت من "تاريخ الطبري" ورواية الديوان 384: "أقبلت زائرة".
(6) جاء في هامش النسخ: المستوه: الكبير الاست.
(3/275)
________________________________________
فأما يعلى وعامر فأمهما بنت الملة بن مالك، أنصارية أوسية، وعامر دَرَج.
وكان لحمزة ولد اسمه بكر من بنت الملة.
وأما عمارة فأمه خولة بنت قيس بن قَهْد أنصارية، وأما أمامة فأمها أسماء (1) بنت عُمَيس.
وزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامةَ بنت حمزة سَلَمةَ بن أبي سلمة، وقال: هل جُزيت أبا سلمة (2)؟ فهلك قبل أن يصل إليها. وقيل: أصابه خبل فلم يجتمعا، وكان أخوه عمر أسن منه فتزوج أمامة.
وهي التي عُرِضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّها ابنةُ أَخِي مِنَ الرَّضاعَةِ" (3).
وقال الشيخ موفق الدين رحمه الله تعالى في "الأنساب" عن مصعب الزبيري: أنه كان لحمزة خمسة أولاد لصلبه: يعلى وعمارة وأمامة وأم الفضل وفاطمة، وماتوا من غير أن يُعْقِبوا (4).
وروى علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه بحلة مُسَيَّرة، وقال: "شَقِّقها خُمُرًا بينَ الفَوَاطِم". قال: فشققها بينهن، فأعطيت خمارًا لفاطمة بنت أسد -يعني أمه-، وخمارًا لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة (5).
ولحمزة رضوان الله عليه رواية.
وقال جابر بن عبد الله: لما أراد معاوية بن أبي سفيان أن يُجْرِيَ العَينَ التي تأخذ من أحد إلى المدينة، كتب إلى عامله بذلك، فكتب إليه: إنا لا نستطيع أن نُجريَها إلا على قبور الشهداء. فكتب إليه: انبشوهم. قال جابر: فرأيتهم يُحْملون على أعناق الرجال كأنهم قوم نيام، وأصابت المسحاةُ طرف رجل حمزة فانبعثت دمًا (6).
__________
(1) الصواب: سلمى كما في "الطبقات" 3/ 8، و"الإصابة" 4/ 332.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 8 وفيه: هل جزيت سلمة.
(3) أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447) من حديث ابن عباس.
(4) التبيين 147.
(5) أخرجه مسلم مختصرًا (2071) (18)، والطبراني في "الكبير" 24 / (887).
(6) "الطبقات الكبرى" 3/ 10.
(3/276)
________________________________________
حنظلة بن أبي عامر الراهب، واسم أبي عامر: عبد عمرو بن صَيفي بن النعمان بن مالك بن أُميَّة بن ضُبيعة، وكان أبو عامر يقول: أنا على دين الحنيفية ودين النبي المبعوث. فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا محمد، أنت تخلط الحنيفية بغيرها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبت"، فقال أبو عامر: ما كذبت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمات الله الكاذب منا طريدًا وحيدًا"، فقال: آمين، ثم حمله الحسدُ على أن خرج إلى مكة، وأقام عند الكفار وشهد أحدًا معهم، ثم رجع إلى مكة فأقام بها إلى عام الفتح، ثم خرج هاربًا إلى قيصر فمات بالشام طريدًا وحيدًا، واختصم في ميراثه عند قيصر علقمةُ بن عُلاثة وكنانة بن عبد ياليل، فقضى به قيصر لكنانة لأنه من أهل المَدَرِ، ولم يحكم به لعلقمة لأنه من أهل الوَبَر (1).
وكان ابنه حنظلة من خيار المسلمين، مُباينًا لأبيه، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين شَمَّاس بن عثمان المخزومي، وحنظلة من الطبقة الثانية من الأنصار، واستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه فنهاه عن ذلك، وأوصاه به خيرًا.
وكان حنظلةُ قد تزوّج جميلةَ بنت عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول، فأُدخِلت عليه في الليلةِ التي كان صُبْحُها يومَ أُحد، وكان قد استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المبيت عندها، فلما أَصبح غدا يُريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحدٍ وكان قد أَجنب منها، فأرسلت زوجته إلى أَربعةٍ من قومها فأشهدتهم عليه أنه دخل بها، فقيل لها في ذلك فقالت: رأيتُ كأنَّ السماءَ فُرجت له، ثم دخل فيها وأطبقت عليه فقلت: هذه الشهادة، وعَلِقَت منه تلك الليلة بعبد الله بن حنظلة.
وأخذ حنظلةُ سلاحه، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوّي الصفوفَ، فقاتل معه، فاعترض أَبو سفيان حنظلةَ، فضرب حنظلةُ عُرقوبَ فرس أبي سفيان فوقع، وصاح بقريشٍ وقد استعلاه حنظلةُ، فرآه شدّاد بن الأسود بن شَعُوب (2)، فحمل عليه فقتله، فقال أبو سفيان: حنظلة بحنظلة، يعني ابنه.
__________
(1) الخبر في "الطبقات الكبرى" 4/ 290، و"المنتظم" 3/ 184.
(2) هكذا في النسخ، والصواب أن اسمه: الأسود بن شعوب كما في المصادر و"جمهرة أنساب العرب" ص 182.
(3/277)
________________________________________
ومرَّ به أبوه فرآه قتيلًا، فوقف عليه وقال: يا بُنيَّ قد كنتُ أحذِّرُك مثلَ هذا المصرعِ ولقد كنتَ بارًّا بأبيك، شريفَ الخُلقِ في حياتك، وإن مماتك لمع سَراة أصحابك وأشرافهم؛ لأنه كان مقتولًا إلى جانب حمزةَ وعبد الله بن جحش، وصاح أبو عامر: يا معاشر قريش، لا تمثِّلوا بابني (1)، وفي ذلك يقول أبو سفيان بن حرب (2): [من الطويل]
ولو شئت نجَّتني كُمَيتٌ طِمرَّةٌ ... ولم أَحملِ النعماءَ لابن شَعُوبِ (3)
أُقاتِلُهم وأَدَّعي يال غالبٍ ... وأَدفَعُهم عنِّي بركنِ صليبِ (4)
فبكِّي ولا تَرْعَي مقالةَ عاذلٍ ... ولا تَسأمي من عَبْرةٍ ونَحيبِ
وسَلَّى الذي قد كانَ في النَّفسِ أنَّني ... قَتلتُ مِن النجَّارِ كلَّ نَجيبِ
فأجابه حسان بن ثابت (5): [من الطويل]
ألَم يقتلوا عَمرًا وعُتبةَ وابنَهُ ... وشَيبةَ والحَجَّاجَ وابنَ حَبيبِ
ذكرتَ القُروم الصِّيدَ من آل هاشمٍ ... ولستَ لقولٍ قُلْتَه بمُصيبِ
ولمّا قُتل حنظلة يوم أُحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما شَأنُ حَنظَلةَ؟ فإنِّي رَأَيتُ المَلائِكَةَ تُغَسِّله بينَ السَّماءِ والأَرضِ بماءِ المُزْنِ في صُحفِ الفِضَّة". قال أبو أُسَيد الساعدي: فذهبنا ننظرُ إليه فإذا رأسُه يقطر ماءً، فرجعتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فأرسل إلى امرأته فسألها فقالت: إنه جامع، فلمَّا سمع الهَيعَةَ أعجله الأمر عن الغسل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلذلِكَ غَسَّلتهُ المَلائِكةُ" (6).
قال ابن سعد: فولده يقال لهم: بنو الغَسيل.
خارجة بن زيد بن أبي زهير، أبو زيد الخزرجي الذي نزل عليه أبو بكر الصديق
__________
(1) "المغازي" 1/ 273 - 274، و"الطبقات الكبرى" 4/ 291 - 292.
(2) الأبيات في "السيرة" 3/ 25.
(3) الطمرة: الفرس السريعة الوثب.
(4) الصليب: الشديد.
(5) البيتان في "السيرة" 3/ 26.
(6) الخبر في "السيرة" 3/ 25، و"المغازي" 1/ 274، و"الطبقات الكبرى" 4/ 292. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7025) من حديث عبد الله بن الزبير.
(3/278)
________________________________________
رضوان الله عليه لما هاجر إلى المدينة، وتزوج ابنته، وخارجة من الطبقة الأولى من الأنصار. وأمه السيدة بنت عامر أوسيةٌ، شهد العقبة الثانية وبدرًا، وأخذته الرماح يوم أحد، وكانت بضعةَ عَشَر رمحًا، فمر به مالك بن الدُّخْشم، فوأى الجراحات قد أنفذت مقاتله، فقال: يا خارجة، أما علمتَ أن محمدًا قد قتل، فقال خارجة: فإن الله حي لا يموت، فقاتل عن دينك، فقد بلَّغ محمدٌ رسالاتِ ربه (1).
ومر به صفوان بن أمية فَعَرفه، فقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر، فمثَّل به وقال: الآن شَفيتُ نفسي، قتلتُ الأماثل من أصحاب محمد، قتلتُ ابن قَوْقَل، وأوس بن الأرقم، وخارجة (2).
ودُفِن خارجةُ وسعد بن الربيع في قبر واحد (3)، وقيل: هو والأغرُّ بن ثَعلبة.
وكان لخارجة من الولد زيدٌ، تكلّم في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (4)، وحبيبةُ تزوجها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فولدت له أم كلثوم، وأُمُّ حبيبةَ بنت خارجة هُزَيلَةُ بنتُ عِنَبةَ خزرجية، وهي أم سعد بن الربيع (5).
خَلَّاد بن عمرو بن الجَمُوح الأنصاري قتِل مع أبيه.
خَيثَمةُ بن الحارث بن مالك الأوسي، وهو أبو (6) سعد، من الطبقة الثانية من
__________
(1) "المغازي" 1/ 280.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 486.
(3) "المغازي" 1/ 268.
(4) هكذا جاءت العبارة في نسخنا، وصواب العبارة: وكان لخارجة من الولد زيد بن خارجة، وهو الذي سمع منه الكلام بعد موته في زمن عثمان بن عفان كما في "الطبقات"، وقصته:
أنه لما سجي بثوبه سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم ثم قال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق، أبو بكر الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول، صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت ثنتان أتت بالفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس؟ !
ذكر القصة: ابن شبة في "تاريخ المدينة" (1927)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (14)، والبيهقي في "الدلائل" وصحح إسناده، وابن كثير في "البداية والنهاية" 6/ 156، والصفدي في "الوافي بالوفيات" 15/ 27.
(5) "الطبقات الكبرى" 3/ 486.
(6) في النسخ: "ابن" والمثبت من "الطبقات" 4/ 314.
(3/279)
________________________________________
الأنصار، وأمه من بني جُشَم بن معاوية، وهو القائل يوم بدر لابنه سعد: آثرني بالخروج، فقال سعد: لو كان غَيرَ الشهادة لآثرتك بها، فقتل سعد ببدر شهيدًا، وقتل خيثمة بأحد شهيدًا، قتله هُبَيرة بن وهب المخزومي، وخيثمة أحد النقباء الاثني عشر (1).
ذَكوان بن عبد قيس بن خَلْدَةَ، أبو السَّبُع، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه من أَشجع، شهد ذكوان العَقَبتين، ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأقام معه حتى هاجر إلى المدينة، فكان مهاجرًا أنصاريًّا، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أحد، قتله [أبو] الحكم بن شريق، فرآه علي - عليه السلام - فحمل على [أبي] الحكم فضربه فقطع رجله، ثم ذفَّف عليه فقتله (2).
رافع بن مالك بن العَجْلان، من بني زُريق، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه مارية (3) بنت العَجْلان خزرجية، وهو أول من لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة هو ومعاذ بن عَفراء، فأسلما وشهدا العقبة مع السبعين، ولم يشهد بدرًا، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (4).
رافع بن يزيد بن كُرْز بن سكن بن زَعوراء، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه عقرب بنت معاذ بن النعمان بن امرئ القيس من بني عبد الأشهل، أُخت سعد بن معاذ، شهد رافع بدرًا وأحدًا، وقُتِلَ في ذلك اليوم شهيدًا، وكان له من الولد أسيد قتل يوم الحرَّةِ، وعبد الرحمن، وأمهما عقرب بنت سلامة بن وَقْش بن زُغبة (5).
رفاعة بن [وقش بن] زُغبة بن زعوراء، قتله خالد بن الوليد (6).
رفاعة بن عمرو بن زيد أبو الوليد، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع
__________
(1) هكذا جاء في النسخ، والصواب أن ابنه سعد بن خيثمة كان أحد النقباء الاثني عشر. انظر "السيرة" 2/ 65.
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 548، وما بين معقوفين زيادة منه.
(3) هكذا جاء في النسخ، وجاء في في "الطبقات": "ماوية".
(4) "الطبقات الكبرى" 3/ 573 - 574، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من الأنصار.
(5) "الطبقات الكبرى" 3/ 407 - 408.
(6) "الطبقات الكبرى" 4/ 240، وما بين معقوفين زيادة منه.
(3/280)
________________________________________
السبعين وبدرًا، وأمه أم رفاعة بنت قيس بن مالك.
زياد بن السَّكَنِ بن رافع أشهلي، وقيل: هو عمارة بن زياد (1).
سُبَيْع بن حاطِب بن قيس بن هَيْشةَ من الطبقة الثانية من الأنصار، قتله ضرار بن الخطاب (2).
سعد بن خَوْلي بن سبرة من قضاعة، من الطبقة الأولى من الأنصار.
سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس الخزرجي، وأمه هُزَيلةُ بنت عِنَبَة، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو أحد النقباء الاثني عشر. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، وهو الذي انطلق بعبد الرحمن بن عوف إلى بيته، وقال: أُقاسِمُكَ مالي ونسائي.
شهد سعد العقبة مع السبعين وبدرًا، ولما كان يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَأتيني بخَبَرِ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ؟ " فقال رجل: أنا، فانطلق، فرآه بين القتلى، فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآتيه بخبرك، فقال: اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام، وأخبره أني قد طُعِنْتُ اثنتي عشرة طعنة أنفذت مَقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عُذْر لهم إن قُتِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواحد منهم حي (3). ثم تشهد ومات، ودفن سعد بن الربيع وخارجة بن زيد في قبر واحد، ولما أجرى معاوية الماء إلى المدينة، أُخرجا من قبريهما طريين (4).
قال جابر: قتل سعد يوم أحد وترك ابنتين وامرأة وأخًا، فاحتوى أخوه على ماله، فأتت امرأته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن سعدًا قُتِل بين يديك شهيدًا، وترك هاتين الابنتين، وإنهما لا ينكحان إلا بمال وجمال، وقد ذهب عمهما بالمال، ولا جمال، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبي حتى يقضي الله فيك قضاءه"، فذهبت وأقامت حينًا، ثم جاءت فبكت وشكت فنزل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] إلى آخرها. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا سعد، وقال له: "أعط ابنتي سعدٍ الثلثين
__________
(1) اختلف في اسمه، انظر "الإصابة" 1/ 557.
(2) "المغازي" 1/ 302، وفيه سبيق، وانظر الخلاف في اسمه في "الإصابة" 2/ 15.
(3) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 465، وابن سعد في "الطبقات" 3/ 485، عن يحيى بن سعيد مرسلًا.
(4) في النسخ: "طيرين" والصواب ما أثبتناه، انظر "الطبقات" 3/ 485.
(3/281)
________________________________________
وأمَّهما الثُّمُنَ وما بقي فهو لك" (1).
ولم يورث الحمل، وورثه بعد ذلك، وولدت امرأة سعد بنتًا وهي امرأة زيد بن ثابت، فلما كانت خلافة عمر قال لها: تكلمي في ميراثك من أبيك [إن كنت] تحبين ذلك، فإن أمير المؤمنين قد ورث الحمل اليوم، فقالت: ما كنت لأطلب من أختي شيئًا (2).
قال الزبيري: فهو أول ميراث قسم في الإسلام.
سعد بن سويد بن عُبيد، من الطبقة الثانية من الخزرج.
سلمة بن ثابت بن وقش بن زُغبة، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه ليلى بنت اليَمان أخت حُذيفة، شهد بدرًا، وقتله أبو سفيان، وقُتل أيضًا أبوه ثابت وعمه رفاعة شهيدين.
سُلَيْم بن الحارث، وأمه السُّميراء ابنة قيس، نجارية، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار.
سُلَيم بن عمرو بن حديدة، أنصاري.
سهل بن رومي بن وَقْش، أوسي، من الطبقة الأولى من الأنصار، وهو ابن عم كعب بن مالك، شهد بدرًا (3).
سهل بن عدي بن زيد، وأمه أُميمة بنت قَيظي، من الطبقة الثانية من الأنصار من بني عبد الأشهل.
سهل بن قيس بن أبي كعب، وأمه نائلة بنت سَلامة بن وَقْش، من الطبقة الأولى من المهاجرين، شهد بدرًا (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود (2892)، والترمذي (2092)، وابن ماجه (2720)، وأحمد في "مسنده" (14798).
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 10/ 337 - 338، وما بين معقوفين زيادة منه.
(3) قوله: وهو ابن عم كعب. . . إلخ، هكذا جاءت هذه العبارة هاهنا في جميع النسخ، وهي مقحمة هاهنا، لأن سهل بن رومي لم يذكر أحد من العلماء أنه حضر بدرًا، ثم هو ليس ابن عم كعب بن مالك، وإنما ابن عمه هو سهل بن قيس بن أبي كعب الآتي ذكره عند المصنف، وانظر "الطبقات الكبرى" 4/ 242 - 243، و"الإصابة" 2/ 87.
(4) هو ابن عم كعب بن مالك كما تقدم، وانظر "الطبقات" 3/ 538.
(3/282)
________________________________________
شمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سويد بن هَرَميّ بن عامر بن مخزوم، من الطبقة الأولى من المهاجرين، كان يسمى: ابن ساقي العَسَل، لأن جده هرمي كان يسقي العسل بمكة، وكنية شماس: أبو المقدام، وقيل: اسمه عثمان وشماس لقب له. وأمه صفية بنت ربيعة بن عبد شمس، أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، وكانت معه امرأته أم حبيب بنت يربوع بن عَنْكَثة، ولما هاجر إلى المدينة نزل على مُبشِّر بن المنذر، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حنظلة بن أبي عامر.
شهد شماس بدرًا، وقاتل يوم أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفداه بنفسه، وجُرِح جِراحاتٍ كثيرة، وحمل إلى منزل أم سلمة وبه رَمَقٌ لأنه كان ابنَ عمها، فلما مات أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برده إلى أحد فحمل فدفن هناك، قتله أبي بن خلف وهو ابن أربع وثلاثين سنة.
صيفي بن قيظي بن عمرو، من بني عبد الأشهل، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه: أم الحُباب بنت التَّيِّهان، واسمها: الصعبة ولم يشهد بدرًا، وقتله ضرار الفهري، وضرار قتل أيضًا أخاه لأبيه وأمه الحُباب (1) بن قيظي.
ضمرة الجهني (2).
عامر بن أمية بن زيد بن وقش (3)، من الطبقة الأولى من الأنصار.
عامر بن قيس بن نجاري (4).
عامر بن مُخَلَّد بن الحارث، وأمه عمارة بنت خنساء، من بني غَنْم، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا.
__________
(1) في النسخ: "الحارث" والمثبت من "الطبقات الكبرى" 4/ 243 - 244، و"الإصابة" 1/ 302.
(2) هو ضمرة بن عمرو بن كعب، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار. انظر "الطبقات" 3/ 519، و"الإصابة" 2/ 212.
(3) ليس في نسبه وقش، ونسبه: عامر بن أمية بن زيد بن الحَسْحاس بن مالك. انظر "الطبقات" 3/ 475، و"جمهرة أنساب العرب" ص 350.
(4) ذكره ابن الجوزي في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 439 فيمن استشهد بأحد، ولم نقف عليه عند غيره، انظر "السيرة" 3/ 60، و"المغازي" 1/ 306.
(3/283)
________________________________________
عبَّاد (1) بن سهل بن مخرمة من بني النجار، من الطبقة الثانية من الأنصار، قتله صفوان بن أمية الجُمَحيّ.
عُبادة بن الخَشْخَاش (2).
العباس بن عُبادة بن نَضْلة بن مالك بن العجلان، من الطبقة الأولى من الأنصار، من بني ساعدة، وأمه: عُميرة بنت ثعلبة خزرجية، وكان خطيبًا، شهد العَقَبتين وعاد إلى مكة، وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أنصاريًّا مهاجريًّا، وهو من القَواقِلة، قتله صفوان بن أمية، وافتخر بقتله لأنه كان عظيمًا، وقيل: شاركه فيه سفيان بن عبد شمس السلمي والد أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين.
والعباس من الستة الذين لقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة أول الأمر فأسلموا.
عبد الله بن ثعلبة، خزرجي من ولد طريف، وأخوه قيس بن ثعلبة (3).
عبد الله بن جحش بن رِئاب بن يَعْمَر الأسدي أبو محمد، وأمه: أميمة بنت عبد المطلب.
وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ورجع إلى مكة، وهاجر إلى المدينة. وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
وسمع رجلٌ عبدَ الله بنَ جحش يقول قبل يوم أحد بيوم: اللهمَّ إنا ملاقو هؤلاء غدًا، وإني أقسم عليك لما يقتلوني، ويبقروا بطني، ويجدعوني، فإذا قلتَ لي: لم فعلوا بك هذا؟ قلتُ: فيك ومن أجلك. قال: فلما التقوْا، فعلوا به ذلك، فقال الرجل
__________
(1) في النسخ: "عبادة" والمثبت من "الطبقات" 4/ 243، و"الإصابة" 2/ 265.
(2) هو عبدة بن الحساس كما سيأتي.
(3) ذكرهما الواقدي في "المغازي" 1/ 302، ولم نجد لهما ذكرًا عند غيره هكذا، ولعل المصنف جعل قيسًا أخًا لثعلبة من سياق "المغازي". ونص "المغازي" هو: ومن بني طريف: عبد الله بن ثعلبة، وقيس بن ثعلبة، وطريف، وضمرة حليفان لهم من جهينة. ولعل الصواب ما ذكره ابن هشام في "السيرة" 3/ 61: ومن بني طريف رهط سعد بن عبادة: عبد الله بن عمرو بن وهب بت ثعلبة بن وقش بن ثعلبة بن طريف، وضمرة حليف لهم من بني جهينة رجلان. والظاهر أن قيسًا الذي ذكره المصنف مصحف عن وقش، والله أعلم. انظر "الطبقات" 4/ 369، و"الإصابة" 2/ 354.
(3/284)
________________________________________
الذي سمعه: أمَّا هذا فقد استُجيب له، وأعطاه الله ما سأل في الدنيا، ونرجو أن يعطى ما سأل في الأخرى، وقتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، ودفن مع خاله حمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل بضع وأربعون سنة.
عبد الله بن جُبَير بن النعمان بن امرئ القيس، أخو خَوَّات صاحب ذات النِّحيين (1)، وأمه من بني عبد الدار (2) وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العَقَبة مع السبعين وبدرًا، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرماة.
عبد الله بن سلمة العجلاني، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله عبد الله بن الزِّبَعْرى.
عبد الله بن عمرو بن حَرَام بن ثعلبة، أبو جابر، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه الرَّباب بنت قيس أنصارية، شهد العقبة مع السبعين، وكان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا.
قال جابر: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَبْكِيهِ -أو لا تَبْكِيه- مَا زَالتِ الملائِكَةُ تُظلُّه بأجنِحتِها حَتَّى رَفَعتُمُوه". أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وللبخاري عن جابر قال: قال لي أبي من الليل: يابني إني مقتول غدًا، وإنَّ عَلَيَّ دَينًا فاقضه، واستوص بأَخَواتِك خيرًا، قال: فلما أصبحنا كان أول قتيل (4).
وأخرجه الحميدي، وفيه: ما أراني غدًا إلا مقتولًا، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك إلا نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فدفنَّا معه آخر في القبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بَعْدَ ستة أشهر، فإذا هو كما وضعته غير أذنه، فجعلته في قبر على حدة (5).
__________
(1) النحي: هو ظرف السمن، وسيذكر قصتها المصنف في سنة 45، وسلفت في الأمثال من الجزء الثاني.
(2) "الطبقات 3/ 440: من بني عبد الله غطَفَان.
(3) أخرجه البخاري (1244)، ومسلم (2471) (130).
(4) أخرجه البخاري (1351).
(5) "الجمع بين الصحيحين" (1585).
(3/285)
________________________________________
وقال جابر: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا جابر، أعلمت أن الله أحيا أباك؟ فقال له: تمنَّ. فقال: أُرَدُّ إلى الدنب فأُقْتَلَ مرة أخرى. فقال: إني قضيت أنهم لا يرجعون" (1).
وقال جابر: صُرِخَ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة ليِّنَةً أجسادُهم تنثني أطرافهم (2).
عبد الله بن عمرو بن وهب، من الطبقة الثانية من الأنصار من بني ساعدة (3).
عبد الله بن نَضْلة بن مالك العجلاني أنصاري.
عبد الله بن الهُبَيْب وأخوه عبد الرحمن، من بني بكر بن عبد مناة من المهاجرين.
عَبْدَة بن الحَسْحاس (4) بن عمرو، شهد بدرًا، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار.
عُبيد بن التَّيِّهان أخو أبي الهيثم، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد العقبة مع السبعين وبدرًا، قتله عكرمة بن أبي جهل، وولده عبيد الله بن عبيد قتل يوم اليمامة.
عتبة بن الربيع بن رافع، من بني ثعلبة، أنصاري.
عمرو بن ثابت بن وَقْش بن زُغبة، وأمه ليلى بنت اليمان أُختُ حذيفةَ، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة، وذلك لأنه كان شاكًّا في الإسلام إلى يوم أحد، فوقع في قلبه الإسلام، فأخذ سيفه وخرج فقاتل حتى أُلقي في القتلى وبه رمق، فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: آمنت بالله وبرسوله، ومات على أيديهم، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، فقال: "هوَ مِن أَهْلِ الجنَّةِ" (5).
عمرو بن الجَموح بن زيد بن حَرام الأنصاري، أبو معاذ، من بني سَلِمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: "قُومُوا إلى جنَّةٍ عَرْضُها السَّمَاوات والأَرضُ". فقام عمرو وكان أعرج فقال: والله لأَطأنَّ بعرجتي في الجنة (6). ثم قاتل حتى قتل.
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (14881).
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 522.
(3) هو عبد الله بن ثعلبة المتقدم.
(4) هو عبادة بن الخشخاش ويقال له أيضًا: عبَّاد، وتقدم عند المصنف باسم عبادة بن الخشخاش. انظر "الإصابة" 2/ 268.
(5) ذكره ابن سعد في "الطبقات" 4/ 241.
(6) ذكره ابن سعد 4/ 374.
(3/286)
________________________________________
قال أبو طلحة. نظرت إلى عمرو حين انكشفت الناس، ثم ثابوا وهو في الرعيل الأول، وهو يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة، ورأيتُ ابنه خَلّادًا يعدو في أَثره، فقتلا جميعًا.
ودفن عمرو وعبد الله بن عمرو بن حَرَام في قبر واحد، فأخرب السيل قبريهما، فحُفِرَ القبر ليعبرَ عنهما (1) فإذا بهما لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس. وكان أحدهما قد جُرح فوضع يده على جُرحه، ودفن كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت فعادت كما كانت، وكان بين حفر القبر وبوم أحد سِتٌّ وأربعونَ سنةً.
عمرو بن قيس بن زيد بن غَنْم، من الطبقة الأولى من الأنصار، قتله نوفل بن معاوية الدِّئلي.
عمرو بن قيس بن مالك أبو حرام النجاري، من الطبقة الثانية من الأنصار، وأمه: النَّجود بنت الأسود.
عمرو بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أبو عثمان، من الطبقة الأولى من بني عبد الأشهل من القواقلةِ، وأمه: كَبْشَةُ بنتُ رافع، وهي أم سعد بن معاذ، وآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عُمير بن أبي وقاص، قتله ضِرار الفِهْري وله ثلاثون سنة.
عمرو بن مُطَرِّف بن عمرو، وقيل: ابن علقمة، أنصاري.
عمارة بن زياد.
عنترة مولى سليم بن عمرو.
قُرَّة بن عُقبة بن قُرَّة، من حلفاء بني عبد الأشهل.
قَوْقَل بن عبد الله (2).
قيس بن عمرو بن قيس النجاري، من الطبقة الأولى من الأنصار.
قيس بن مُخَلَّد بن ثعلبة، أنصاري من الطبقة الأولى من بي النجار، شهد بدرًا.
__________
(1) جاءت العبارة في "الطبقات" 4/ 377: فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا.
(2) هكذا جاء في النسخ: "قوقل"، ولم نقف له على ذكر بين الصحابة.
(3/287)
________________________________________
كيسان مولى الأنصار، وقيل: مولى بني مازن، والأصح أنهما اثنان (1).
مالك بن ثعلبة بن دعد الخزرجي (2).
مالك بن خلف بن عوف، من الطبقة الثانية من المهاجرين من بني دارِم، وكان هو وأخوه النعمان بن خلف طليعتين للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقتلا، قتل النعمانَ صَفوانُ بن أُمية.
مالك بن سنان بن ثعلبة أبو أبي سعيد الخدري، ومالك من الطبقة الثانية من الخزرج، وهو الذي شرب من دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لمّا نزعوا المِغْفَر عن وجهه، ولم يزل مالك يدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حمل عليه غُراب بن سفيان الكِناني، فأنفذه. ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد، تلقاه أبو سعيد فعزّاه في أبيه.
مالك بن عمرو بن ثابت بن كُلْفة بن ثعلبة بن عمرو بن عوف.
مالك بن نُمَيلة وهي أمه، وأبوه ثابت المزني. ومالك من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وذكره ابن سعد في شهداء أحد (3).
المجذَّر بن ذياد بن عمرو البَلَويّ، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، وذكره ابن سعد في شهداء أحد (4)، قُتل يوم أحد غِيلةً، وكان قد قَتَلَ سويد بن الصامت في الجاهلية، وسببه: أن حُضَيرَ الكتائب استزارَ عدة من بني عمرو، منهم سويد بن الصامت، وخوّات بن جبير، وأبو لبابة بن عبد المنذر، والمجذَّر، فأقاموا عنده ثلاثًا ثم انصرفوا، وكان سويد بن الصامت قد ثَمِلَ من الخمر، فجلس يبول، وكان الشرُّ بين الأوس والخزرج مستعرًا، فقتله المجذَّر، وذلك الذي أهاج وقعة بُعاث (5).
__________
(1) انظر "الإصابة" 3/ 310.
(2) لم نجد له ذكرًا بين الصحابة، ولعله هو: النعمان بن مالك بن ثعلبة بن دعد، وسيأتي عند المصنف بعد قليل. انظر "الطبقات" 3/ 507، و"الإصابة" 3/ 565.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 436.
(4) "الطبقات الكبرى" 3/ 512.
(5) أنساب الأشراف 1/ 145، والمغازي 1/ 303.
(3/288)
________________________________________
وكان لسويد ابنٌ يقال له: الحارث، فلمّا انقضت وقعة بُعاث وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أسلم الحارث والمجذَّر، وشهد المجذَّر بدرًا، والحارث يطلب غِرَّته ليقتله بأبيه، فلم يَقْدِر على قتله، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه وهو لا يعلم فقتله، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حمراءِ الأَسَد، أخبره جبريل - عليه السلام -، وقال: إنما قتله غِيلَةً، فاقتُلْه به. فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء، وكان يومًا حارًا، وكان لا يأتي قباء إلا يوم السبت والاثنين، فجعلوا ينكرون مجيئه في غير هذين اليومين، واجتمع الناس وطلع الحارث بن سويد في مِلْحفةٍ مُوَرَّسةٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعُوَيمر بن ساعدة: "قدِّمه إلى باب المسجد فاضرب عُنقه، فقد أخبرني جبريل أنه قتل المجذَّر غِيلةً" فقدمه عويمر دقتله (1).
مصعب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله القرشي، ويسمى مصعبَ الخير، وفتى مكة شبابًا وجمالًا، وأمه: خُناس بنت مالك بن لؤي.
وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكتم إسلامه، وكان يختلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرًّا من أبيه وقومه، وكان أبواه يحبانه، فرآه عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر أباه فحبسه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى الحبشة، وكان من أنعم الناس عيشًا، وأعطرِهم بمكَّةَ قبل أن يسلم، فلما أسلم زهد في الدنيا فتخشَّفَ جلده.
وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد البيعة الأولى فكان يُقْرِئُهم القرآن، ويفقههم في الدين، حتى أسلم على يده خلق كثير، ثم قدم مكة مع السبعين فأقام بها قليلًا، ثم قدم المدينة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا، وهو أول من قدمها، وأول من جمّع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: أول من جمع أَسعد بن زرارة.
وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصعب بن عُمير مقبلًا وعليه إهابُ كبشٍ قد تنطَّق به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُروا إلى هَذا الرَّجلِ الذي قد
__________
(1) أخرجه الواقدي في "المغازي" 1/ 305، ومن طريقه البيهقي في "السنن" 8/ 57. وانظر "المنتظم " 3/ 177 - 178.
(3/289)
________________________________________
نَوَّر اللهُ قَلبَهُ، لَقد رَأَيتُه بينَ أَبَوين يَغذُوانِهِ بأَطيبِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فَدَعاه حُبُّ اللهِ ورَسولِه إلى مَا تَرونَ". فنكس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤوسهم رحمةً له، وليس عندهم ما يُغيِّرونَ به عليه (1).
وقال محمد بن شرحبيل: حمل مصعبُ بن عمير اللواءَ يومَ أُحُدٍ، فلما جال المسلمون، ثبت مصعب، فأقبل ابن قَميئة فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى عليه فضربها فقطعها، فحنى على اللواء وضمه بِعَضُدَيه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه (2).
وكان مصعب رقيقَ البَشَرةِ، ليس بالطويل ولا بالقصير، وقُتِلَ وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئًا.
وقال عبد الله بن الفضل: قُتل مصعب فأخذ اللواء مَلَكٌ في صورة مصعب، [فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له في آخر النهار: تقدم يا مصعب] فالتفت إليه الملك وقال: لستُ بمصعب، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ملك أُيِّد به (3).
ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد، مرَّ على مصعب فرآه مقتولًا على طريقه، فقرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} (4) [الأحزاب: 23] الآية.
وقال خبَّاب: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عُمير، قتل يوم أحد فلم نجد شيئًا نُكَفِّنُه فيه إلا نَمِرَةً كُنّا إذا غطينا بها رأسَه بدت رجلاه، وإذا غَطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي بها رأسَه، ونجعل الإذْخِرَ على رجليه، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها. أخرجاه في "الصحيحين" (5).
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 108، والبيهقي في "الشعب" (6189).
(2) "الطبقات الكبرى" 3/ 112.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 112، وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) "الطبقات" 3/ 112 - 113.
(5) أخرجه البخاري (4047)، ومسلم (940). ويهدبها: يجتنيها.
(3/290)
________________________________________
وكان مصعب من جِلَّةِ الصحابة وسُبَّاقِهم إلى الإسلام والهجرة، وهاجر قديمًا، وهاجر إلى الحبشة في أول من هاجر إليها، وشهد بدرًا. ولم يشهد بدرًا من بني عبد الدار غيره، وكانت له ابنة اسمها زينب وأمها: حَمْنة بنت جحش.
مَعْبَد بن مَخْرمة بن قِلْع بن حَرِيش، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، قتله صفوان بن أمية.
المغيرة بن الحارث بن هشام أبو سفيان، مختلف في صحبته (1).
النعمان بن مالك بن ثعلبة بن عمرو، خزرجي، قتله صفوان بن أمية.
النعمان بن عمرو (2) من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمُّه السُّمَيراء بنت قيس أنصارية، شهد بدرًا.
نوفل بن عبد الله بن نَضْلة، من الطبقة الأولى من الأنصار، شهد بدرًا، قتله سفيان بن عُويف.
وهب بن قابوس المزني، قُتِلَ ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، قدما من جبل مُزينة بغَنمٍ لهما إلى المدينة فوجداها خالية، فقالا: أين الناس، فقيل: بأحد، فتشهدا وخرجا مسلمين، وقالا: لا نَسألُ أثرًا بعد عين، فقاتلا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتلا، فمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللَّهم إنِّي قد رَضِيتُ عنهما، فَارْضَ عنهُما". ولم يزل واقفًا على قدميه مع ما به من ألم الجراح حتى دفنهما معًا. فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أَحب مَوتةٍ إليَّ أموتها موتةُ المُزَنيَّيْن (3).
يزيد بن حاطب (4) أبو حَيَّة من بني ظَفَر، من الطبقة الثانية من الأنصار، وكان أبوه منافقًا.
__________
(1) قال ابن حجر في "الإصابة" 3/ 528: سقط بين المغيرة والحارث عبد الرحمن، كذلك ذكره البخاري في "تاريخه"، وعبد الرحمن بن الحارث له رؤية، وهو والد أبي بكر أحد فقهاء المدينة، والمغيرة هذا أخوه، وكان مولده في خلافة معاوية، ولم يدرك العصر النبوي قطعًا.
(2) في "الطبقات" 3/ 481، و"الإصابة" 3/ 562 اسمه: النعمان بن عبد عمرو.
(3) "المغازي" 1/ 274 - 275، و"الطبقات" 4/ 232.
(4) ويقال: زيد بن حاطب، انظر "الإصابة" 1/ 564.
(3/291)
________________________________________
يزيد بن السَّكَن بن رافع بن امرئ القيس، من الطبقة الثانية من بني عبد الأشهل، وقتل معه ولده عامر بن يزيد.
يسار مولى الهيثم بن التَّيهان.
أبو أيمن مولى عمرو بن الجَموح.
أبو النعمان (1).
أبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، من الطبقة الثانية من الأنصار نجاري، طعنه خالد بن الوليد فأنفذه، وقال: أنا أبو سليمان.
أبو سفيان بن قيس (2) بن زيد، من الطبقة الثانية من الأنصار.
فهؤلاء شهداء أحد على اختلافهم. وقال الواقدي: قتل يومَ أحد أربعةٌ من المهاجرين: حمزة، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان.
وقيل: وسعد مولى عتبة، وباقي القوم من الأنصار - رضي الله عنهم - أجمعين (3).
وقد شهد أحدًا منافق ويهودي.
فأما المنافق: فقُزْمان بن الحارث من بني عَبس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى أحد عيَّره النساء، فقلن له: ويحك يا قُزْمان، خرج الناس وبَقيتَ أنت، فخرج شاكٍ في سلاحه، فخرق الصفوف حتى قَتَل من الكفار تسعةً، ونادى: يا معاشر الأوس والخزرج، قاتلوا على الأحساب، ويحمل ويقول: أنا الغلام الظَّفَري، فارْتُثَّ فَمَرَّ به قَتادةُ بنُ النعمان فقال: هنيئًا لك الشهادة. فقال: يا ابن عم، والله ما قاتلت على دينٍ بل على الأحساب والحُرَم، واشتد به ألمُ الجِراحة فقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لَيؤيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر" (4).
__________
(1) في "تلقيح فهوم أهل الأثر" ص 320: أبو النعمان بن عبد عمرو، وتقدم عند المصنف أنه النعمان بن عبد عمرو. والله أعلم.
(2) هو أبو سفيان بن الحارث بن قيس "الطبقات" 4/ 293.
(3) "المغازي" 1/ 300.
(4) "المغازي" 1/ 263، و"الطبقات " 4/ 269 - 270. وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح" 7/ 473.
(3/292)
________________________________________
وأما اليهودي: فمُخَيريق بن مُحَيْريز، وكان يوم أحد يوم السبت فلم يلتفت، وأخذ سلاحه وقال: لا سبت، ثم قال: إن أُصِبت فمالي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يصنع فيه ما شاء. ثم جاء إلى أحد فقاتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مخيريق خيرُ يهود" (1).
وقتل من المشركين نيف وعشرون، منهم حملة اللواء، وأُبي بن خَلَف الجُمَحي، وأبو عَزَّة الشاعر.
ترجمة أُبَيّ: كان يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول له: عندي فرس أعلفها كل يوم فَرْقَ ذُرَة أقتلك عليها. فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أقْتُلُك إنْ شَاءَ اللهُ تعالى". فلما كان يوم أحد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقصده وقال: لا نجوتُ إن نَجوْتَ. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحَربةَ فَخَدَشه في عنقه، فتَدهدى عن فرسه يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، لو كانت هذه بربيعة ومضر لقتلتهم، فقال له أصحابه: لا بأس عليك، إنما هو خَدْش، فقال: أليس قد قال ابنُ أبي كَبْشة. أنا قاتلك؟ والله لو بصَق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني، فمات بسَرِفٍ (2). فقال حسان بن ثابت (3): [من الوافر]
لقد وَرِثَ الضلالةَ عن أبيه ... أُبَيٌّ حين بارزَه الرسولُ
أَتُقْسِمُ حين تلقاه بأحْدٍ ... وتُوعِدُه وأنت به جَهولُ
وقد قَتَلَتْ بنو النجار منكم ... أميَّة إذ يضيق به السَّبيلُ
وأما أبو عَزَّة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد منَّ عليه يوم بدر، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من أحد، أُخذ أبو عزة أسيرًا ولم يُؤْسَر غيره، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بقتله، فقال: عَفوَك يا محمد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُؤمِنُ لا يُلْدَغُ مِن جُحْرٍ مَرَّتينِ، قد عَفَوتُ عنكَ وهَجَوتَني وأَصحابِي، واللهِ لا أَدَعُكَ تَمسَحُ على لحيتكَ بمكَّةَ وتَقولُ: خَدَعتُ مُحمَّدًا وأَصحابَه" فضرب عاصم عنقه (4).
__________
(1) "السيرة" 3/ 34.
(2) "السيرة" 3/ 31، و"تاريخ الطبري" 2/ 519 - 520.
(3) الأبيات في "الديوان" ص 296، وانظر "السيرة" 3/ 32.
(4) "السيرة" 3/ 46، و"المنتظم" 3/ 173، وقوله: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين" أخرجه البخاري =
(3/293)
________________________________________
وأنزل الله في قصة أحد آيات من القرآن منها:
قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] الآيات، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] الآية. ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ} [آل عمران: 143]، الآية، ومنها قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] الآية، ومنها قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] الآية، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] الآية، ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا} [آل عمران: 156] الآية، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية.
ولما انصرف أبو سفيان بالمشركين عن أحد طالبًا مكة، نادى: موعدكم بدرٌ من قابِلٍ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: نَعَم".
ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وقال لعلي - عليه السلام -: "اتْبَعهُم فانْظُر مَاذَا يَصنَعُونَ؟ فإنِ امتَطَوا الإبِلَ وأَجْنَبوا الخَيلَ فإنَّهم يُريدُون مكَّةَ، وإن رَكِبُوا الخَيلَ وسَاقُوا الإِبِلَ، فإنَّهم يُريدُونَ المدِينَةَ، والذي نَفسِي بِيَده لَئن سَارُوا إليها لأُناجِزَنَّهم فيها".
فقال علي رضوان الله عليه: فخرجت في آثارهم، فأجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وساروا نحو مكة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لي: "أَيُّ ذلك كانَ فأَخْفِه حتَّى تَأتَيَني"، قال: فلما رأيتهم قاصدين مكة، أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة الفرح حيث انصرفوا عن المدينة (1).
__________
= (6133)، ومسلم (2998) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(1) "السيرة" 3/ 38، و"تاريخ الطبري" 2/ 527 - 528.
(3/294)
________________________________________
وفيها كانت غزاة حمراء الأسد (1)، وهي عن المدينة بعشرة أميال.
وسببها: أن أبا سفيان لما انصرف من أحد وبلغ الرَّوْحاء، تلاوم هو وأصحابه فقالوا: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعِب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق غير الشريد تركتموهم، ارجعوا إليهم فاستَأصِلوهم (2).
وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يُرْعِبَهم ويُرِيَهم من نفسه ومن المسلمين قُوةً، فندب أصحابه إلى الخروج إليهم.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من أحدٍ تلك الليلة، بات على بابه وجوهُ الأنصار يحرسونه، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما أصبح نادى مناديه: لا يخرجنَّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فانتدب الناس على ما بهم من ألم الجراح، وكلَّمه جابر بن عبد الله: يا رسول الله، لم أشهد الحرب معك بالأمس فأذن لي في الخروج معك؟ فأذن له، ولم يخرج معه أحد ممن لم يشهد القتال يوم أحد غيره (3).
وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسه وهو مُوْثَقٌ بالجراحات ومعه سبعون رجلًا من أعيان المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وابن عوف وأبو عبيدة وابن مسعود - رضي الله عنهم-، وغيرهم، وحمل لواءه علي، وقيل: أبو بكر، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وسار حتى بلغ حمراء الأسد وهي على طريق العَقيق متياسرةً عن ذي الحُلَيفةِ، فوجد القومَ على عزم الرجوع وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم ثلاثةً طليعة لهم فقتلوهم، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل بحمراء الأسد فدفن القتلى، وأوقد المسلمون في تلك الليلة خمس مئة نار حتى يُرى ضوؤها من مكان بعيد (4).
__________
(1) انظر "السيرة" 3/ 44، و"المغازي" 1/ 334، و"الطبقات الكبرى" 2/ 45، و"أنساب الأشراف" 1/ 402، و"تاريخ الطبري" 2/ 534، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 312، و"المنتظم" 3/ 172، و"البداية والنهاية" 4/ 48.
(2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (11017) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 45.
(4) "الطبقات الكبرى" 2/ 46.
(3/295)
________________________________________
ومرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه بمَعْبَدٍ الخزاعي، وكانت خزاعة مسلمُهم وكافِرُهُم عَيْبَة (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتهامة لا يخفون عنه شيئًا، ومَعْبَد يومئذ مشرك، فقال له: يا محمد، لقد عزَّ علينا ما أصابك، ولوَدِدْنا أن الله كفاك فيهم فما تأمرنا؟ قال: "تُخَذِّل عنَّا" (2). فسار حتى لحق بأبي سفيان فوجده على عَزْم الرجوع إلى حمراء الأسد، فقال له: ما وراءك يا مَعْبَدُ؟ قال: محمد قد خرج في جمع عظيم ما رأيت مثله، وقد اجتمع إليه من كان تخلف عنه بالأمس، وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحَنَقِ شيء لم أر مثله قط. فقال: ويحك ما تقول؟ فقال: ما أظنك ترتحل حتى ترى الخيل أو نواصيها، ولقد حملني ما رأيت على أن قلت: [من البسيط]
كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأَصوَاتِ رَاحِلَتي ... إذْ سَالتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأَبابِيلِ
تَرْدِي بأُسْدٍ كِرامٍ سَادَةٍ فُضُلٍ ... عندَ اللِّقاءِ ولا خُرْقٍ معازيلِ
من جَيشِ أحمدَ لا شيءٌ يماثِله ... وليسَ يُوصَفُ ما أَبديتُ بالقِيلِ
وقلتُ: وَيحَ ابن حربٍ من لقائِكم ... إذا أَتيتُم بجيشٍ غيرِ مَخذُولِ
فانثنى عزم أبي سفيان وعاد إلى مكة (3).
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراءِ الأَسَد يوم الأحد سادس عشر شوال، وغاب عن المدينة خمسَ ليال، ولقي أبا عزَّة الشاعر فقتله على ما ذكرنا. وأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] الآية.
وفي "الصحيحين": عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت لعروة بن الزبير: يا ابن أختي، كان والله أبوك وأبو بكر الصديق من {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية (4).
ولقي أبو سفيان ركبًا من بني القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: المدينة نَمتار منها. فقال: هل أنتم مُبلِّغون محمدًا رسالة، وأُحَمِّلُ لكم إبلَكُم زبيبًا بعكاظ غدًا إذا
__________
(1) العيبة: موضع السر.
(2) هذا الحديث لم يرد في أي من المصادر في هذه الغزوة، وإنما قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - لنعيم بن مسعود في غزوة الخندق كما في "السيرة" 3/ 137.
(3) انظر "السيرة" 3/ 44 - 45، و"تاريخ الطبري" 2/ 535 - 536.
(4) البخاري (4077)، ومسلم (2418).
(3/296)
________________________________________
وافيتموها؟ قالوا: نعم. فقال: إذا لقيتموه فأخبروه أنا عائدون إليه لنستأصله وأصحابه.
ثم سار إلى مكة ومر ذلك الركب بحمراء الأسد فبلغوا الرسالة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكيلُ" (1).
فصل وفيها توفي
عثمان بن مَظْعون (2)
وأمه سُخيلة، وعثمان من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا.
قال يزيد بن رومان: انطلق عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، [وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد] وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم.
وهاجر عثمان إلى الحبشة الهجرتين، وحرَّم الخَمْرَ في الجاهلية وقال: لا أشرب شيئًا يُذهب عقلي، ويُضْحِكُ بي من هو أدنى مني، ويحملني أن أُنْكحَ كريمتي من لا أريد. فنزل تحريم الخمر في سورة المائدة (3).
وعثمان خال حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -.
عن ابن شهاب: أن عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَليسَ لك فيَّ أُسوةٌ حَسَنةٌ، فأَنا أَصومُ وأُفطِرُ، وآكُلُ، وآتِي النِّساءَ، إنَّ خِصَاءَ أُمَّتي الصَّومُ، لَيسَ منِّي من خَصَى واختَصَى" (4).
ومات عثمان - رضي الله عنه - في شعبان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: في سنة اثنتين، وهو أول من دُفِنَ بالبقيع من المهاجرين، وقبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَدَّه لما مات، وسماه السلف الصالح، وكان زاهدًا مشغولًا بالتعبد.
__________
(1) "السيرة" 3/ 45.
(2) انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 3/ 365، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 153، و"الإصابة" 2/ 464.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 365، وما بين معقوفين زيادة منه.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 366.
(3/297)
________________________________________
وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان حين مات فأكبَّ عليه، ثم رفع رأسه وهو يشهق فعرفوا أنه يبكي، ثم قال: "اذهَبْ عنَا أَبا السَّائبِ، فَقَد خَرجتَ منها ولم تَلتَبِس منها بِشَيءٍ" (1).
وقالت عائشةُ رضوان الله عليها: قبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدَّ عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: فرأيت دموعه تسيل على خد عثمان بن مظعون (2).
وقالت أم العلاء: اقتُسمَ المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون، فمرَّضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه، دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: رحمك الله أبا السائب، فشهادتي عليك أن الله أكرمك. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُدرِيكِ أنَّ الله أَكْرَمهُ؟ " فقالت: لا أدري. فقال: "أَمَّا عُثمان فقد جاءَهُ اليَقينُ، والله إنِّي لأَرجُو له الخَيْرَ، وَواللهِ ما أَدرِي وأَنَا رسُولُ اللهِ ما يُفعَلُ بي" فَواللهِ لا أُزَكي بَعدَه أحدًا، فأحزنني ذلك، قالت: فنمت فرأيت لعثمان عينًا تجري، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "ذَلِكَ عَمَلُهُ" (3).
وعن ابن عباس قال: لما مات عثمان، قالت امرأته: هنيئًا لك الجنة. فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة غضبان، قال: "وما يُدرِيكِ؟ " قالت: صاحبك. فقال: "إنِّي لَرَسُول اللهِ ومَا أَدرِي ما يُفعَلُ بي ولا بِهِ". فاشتد ذلك على المسلمين حتى ماتت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "الْحَقِي بِسَلَفِنا عُثمانَ بنَ مَظْعُونَ" (4).
ذكر أولاد عثمان:
كان له من الولد: عبد الله (5)، والسائب، وأمهما خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة، سُلَميّة.
فأما السائب: فهاجر إلى الحبشة المرة الثانية مع أبيه، ثم قدم مكة وهاجر إلى
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 105.
(2) "الطبقات" 3/ 368.
(3) أخرجه البخاري (2687).
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (2127).
(5) هكذا ورد في النسخ، والصواب: "عبد الرحمن" كما في "نسب قريش" ص 394، و"الطبقات" 3/ 365.
(3/298)
________________________________________
المدينة، وكان من الرماة المذكورين، أصابه سهم يوم اليمامة في خلافة أبي بكر فمات وهو ابن بضع وثلاثين سنة (1)، وولد ولأبيه ثلاثون سنةً.
وقال ابن سعد: كان لعثمان ابنة يقال لها: زينب، تزوجها عبد الله بن عمر بعد وفاة أبيها، زوجه إياها عمها قدامة، فأرغبهم المغيرة بن شعبة في الصَّداق، فقالت أم الجارية: لا تُجيزي، فكرهت الجارية النكاح، وأعلمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هي وأمها، فنكحها المغيرةُ بن شعبة (2).
أسند عثمانُ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) توفي في سنة اثنتي عشرة، وسيذكره المصنف هناك، وانظر "الطبقات" 3/ 372.
(2) "الطبقات" 10/ 255.
(3/299)
________________________________________
السنة الرابعة من الهجرة
فيها: كانت سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي إلى قَطَنٍ (1)، جبلٍ بالحجاز ناحية قُدَيْد (2)، في هلال المحرَّم في مئة وخمسين رجلًا يقصد طُليحة وسَلَمة ابني خويلد، وكانا قد جمعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهربا، فساق أبو سلمة نَعَمَها وشاءهما إلى المدينة.
وفيها: كانت سرية عبدِ الله بن أُنَيس (3)، في المحرم إلى سفيان بن خلف (4) الهذلي، وكان ينزلُ بطنَ عُرَنَةَ، وكان قد جمع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله بن أُنَيس: فقلت: يا رسول الله، صفه لي. فوصفه فأخذت سيفي وقصدته، فلما جئته، قال: مَنِ الرجلُ؟ قلت: من خُزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك. فاستحلى حديثي حتى إذا تفرق عنه أصحابه نام، فقتلته فجئت برأسه أحمله، فدخلت غارًا في جبل وجاءت عنكبوت فنسجت على بابه، وجاء الطلب فوجدوا العنكبوت قد سدت على الباب فرجعوا، وجئت برأسه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أَفلَحَ وجهُكَ". ودفع إلي عصاة، وقال: "تخصَّر بهذه في الجنة" (5).
وفيها: كانت قصة بئر معونة (6)، قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر مُلاعِب
__________
(1) انظر "المغازي" 1/ 340، و"الطبقات الكبرى" 2/ 46، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 319 - 320، و"المنتظم" 3/ 197، و"البداية والنهاية" 4/ 61.
(2) هكذا ورد في النسخ: "قديد" والصواب: "فيد" كما في "الطبقات" 2/ 46، و"معجم البلدان" 4/ 375.
(3) انظر "السيرة" 2/ 619، و"المغازي" 2/ 531، و"الطبقات الكبرى" 2/ 47، و"تاريخ الطبري" 3/ 156، و"المنتظم" 3/ 197، و"البداية والنهاية" 4/ 104.
اختلف في تاريخ هذه السرية: فذكرها المصنف في هذه السنة تبعًا لابن سعد، وذكرها الطبري في السنة العاشرة، وقال ابن حبيب في "المحبر" ص 119: إنها في سنة خمس، والله أعلم.
(4) هكذا وردت في النسخ، والصواب؛ "خالد" كما في المصادر.
(5) أخرجه ابن سعد في "الطبقات "2/ 47 - 48 وأحمد في "مسنده" (16047).
(6) انظر "السيرة" 2/ 183، و"المغازي" 1/ 346، و"الطبقات الكبرى" 2/ 48، و"تاريخ الطبري" 2/ 545، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 338، و"المنتظم" 3/ 198، و"البداية والنهاية" 4/ 71.
(3/300)
________________________________________
الأَسِنَّة -وكان سيد بني عامر بن صعصعة- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ في صفَرٍ على رأس أربعة أشهر من أُحد، وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية، فأبى أن يقبلها وقال له: "يا أَبا بَرَاء، لا أقبلُ هديَّةَ مُشرِكٍ، فإن أردْتَ أن أقبَلَ هديَّتَكَ فأَسْلِم". ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما لَه فيه، وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن، فلم يسلم ولم يُبعده عن الإسلام، وقال: يا محمد، إن الله أمرك بهذا الذي تدعو إليه، والله إنه لحسن جميل، فلو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، وإلى قومي تدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَخشَى عليهم أَهلَ نَجدٍ". فقال أبو براء: أنا لهم جار إن تعرَّض لهم أحد.
فبعث لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنذر بن عمرو بن لَوْذان أخا بني ساعدة في سبعين رجلًا من خيار المسلمين من القُرّاء، فساروا حتى نزلوا بئر مَعُونة -وهي أرض بني عامر وحرَّة بني سُلَيم- فقال بعضهم لبعض: أيكم يُبَلِّغُ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ هذا الماء؟ فقال حَرامُ بنُ مِلْحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل، فلما أتاه بالكتاب لم ينظر فيه عامر، فقال حَرَام: يا أهل بئر معونة، إني رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل من كَسْرِ البيت برمحٍ فضرب به جنبه، فخرج من الجانب الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربِّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبَوْا أن يُنْجِدوه، وقالوا: أبو براء قد عقد لهم عقدًا وجوارًا فلا نَخفِرُ ذمَّتَه، فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عُصَيَّةَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، فأجابوه وأحاطوا بالقوم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سَرْحِ المسلمين عمرو بن أمية الضَّمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فَلم يُنَبِّههما على مصاب أصحابهما إلا الطير يحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، والخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو. ثم قاتل القوم حتى قتل، وأُخِذَ عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجزَّ ناصيته وأعتقه عن رقبة، وزعم أنها كانت عن أمه، فقدم عمرو
(3/301)
________________________________________
ابن أمية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر فقال: "هَذا مِن عَمَلِ أبي بَرَاءٍ، والله لقد كُنتُ كارِهًا لهذا مُتَخوِّفًا". وبلغ أبا براء فشق عليه إخفارُ عامرٍ إياه وما أصاب أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسببه وجواره (1).
فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي براء على عامر بن الطفيل (2): [من الوافر]
بني أُمِّ البَنين أَلَم يَرُعْكُم ... وأَنْتُم مِن ذَوائبِ أَهلِ نَجدِ
تَهكُّمُ عامرٍ بأَبي براءٍ ... ليُخفِرَه وما خَطأٌ كَعَمْدِ
أَبُوكَ أَبو الحُرُوبِ أَبو براءٍ ... وخالُكَ ماجِدٌ حَكَمُ بن سعدِ
وقال كعب بن مالك (3): [من الوافر]
لَقَد طارَتْ شَعاعًا كلَّ وَجهٍ ... خِفارةُ ما أَجَازَ أَبو بَراءِ
بَني أُمِّ البنين أَما سَمعتُم ... دُعاءَ المستَغيثِ معَ المساءِ
وتنويه الصَّريخِ بلَى ولكنْ ... عَرَفتُم أَنَّه صَدقُ اللِّقاءِ
قال: فلما بلغ ربيعةَ بنَ أبي بَراءٍ قولُ حسانَ وكعبٍ، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فخرَّ عن فرسه فقال: هذا عمل أبي براء، إن مت فدمي لعمي لا يُتَّبعُ به، وإن أعش فسارى فيه رأيي (4).
وقال أنس بن مالك: فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرآنًا: (بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) ثم نسخت بعد ما قرأناها زمانًا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الآية (5). هذا كلام الثعلبي.
ولما أطلقوا عمرو بن أمية الضمري، خرج قاصدًا إلى المدينة، حتى إذا كان بالقَرْقَرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر فنزلا تحت شجرة وناما وكان معهما عَقْدٌ وجِوارٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم به عمرو، وكان قد سألهما: من أنتما؟ فقالا:
__________
(1) النقل عن "السيرة" 2/ 183 - 184.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 548، والسيرة 2/ 187.
(3) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 548 - 549.
(4) "تاريخ الطبري" 2/ 549.
(5) أخرجه البخاري (2814)، ومسلم (677) ولم يذكر الآية الناسخة، وانظر "تاريخ الطبري" 2/ 550.
(3/302)
________________________________________
من بني عامر. فلما ناما قتلهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأرًا ممن قتل أصحابه، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فودى الرجلين الذين قتلهما عمرو.
ذكر أعيان شهداء بئر معونة:
أمير السرية: المنذر بن عمرو بن لَوْذان من الطبقة الأولى من الخزرج، وأمه هند بنت المنذر من بني سَلِمَةَ، وكان يكتب في الجاهلية بالعربية، شهد العقبة مع السبعين، وهو أحد النقباء الاثني عشر، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين طُلَيب بن عُمَير، وشهد المنذر بدرًا وأحدًا، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرُه، قال: "مَشَى إلى الموتِ فاعتَنَقَه وهو يَعرفُهُ" (1).
عامر بن فُهَيرة مولى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وهو أخو عائشة - رضي الله عنها - لأمها أم رومان، وكنيته أبو عمرو، واشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان يعذَّب في الله بمكة، من المستضعفين، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين، أسلم قديمًا قبل أن يدخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم، وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يرعى الغنم لمّا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وشهد بدرًا وأحدًا، وقتل ببئر معونة وهو ابن أربعين سنة.
وقال عروة: كان عامر بن الطفيل يقول: من منهم الرجل الذي لما قتل رأيته قد رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟ قالوا: عامر بن فهيرة (2).
وطعنه جَبَّار بن سُلمى فأنفذه، فقال: فزت ورب الكعبة. فقال جبار: فما معنى هذا؟ قالوا: الجنة، فأسلم جَبَّار.
وقال الزهري: بلغني أنهم التمسوا جسده فلم يقدروا عليه، فيرون الملائكة دفنته (3).
الحكم بن كَيْسان مولى بني مخزوم، من الطبقة الأولى من المهاجرين (4)، أسر في
__________
(1) "الطبقات" 3/ 514.
(2) أخرجه البخاري (4093).
(3) "الطبقات" 3/ 211 - 212.
(4) عده ابن سعد في الطبقة الثانية من المهاجرين، "الطبقات" 4/ 128.
(3/303)
________________________________________
العير التي أخذها عبد الله بن جحش بنخلة، فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم وحسن إسلامه.
وهب بن سعد بن أبي سَرْح أخو عبد الله، من الطبقة الأولى من المهاجرين، وأمهما مُهانة بنت جابر من الأشعريين، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سُويد بن عمرو، فقتلا جميعًا ببئر معونة (1).
حَرام بن مِلْحان النجَّاري من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه مُلَيكةُ بنت مالك نجارية، هو خال أنس بن مالك، وقتل معه في ذلك اليوم أخوه سليم بن مِلْحان، شهد حَرامٌ العقبة مع السبعين وبدرًا وأحدًا.
خالد بن ثابت بن النعمان، من الطبقة الثانية من الأنصار، ظَفَري شهد أحدًا.
الحارث بن الصِّمة بن عمرو أبو سعد، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه تُماضِر بنت عمرو بن قيس عَيلان، وهو الذي كُسِرَ بالرَّوْحاءِ لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فضَربَ له بسهمه وأجره، وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت يوم أحد، وقَتَلَ يومَ أحدٍ عِتبانَ بنَ المغيرة المخزومي (2)، وأخذ سلبه ولم يُسْلَبْ سواه، وللحارث عقب بالمدينة وبغداد، وقتل ولده سعيد بن الحارث مع علي - عليه السلام - بصفين (3).
عبد الله بن قيس بن صِرْمة الأنصاري، من الطبقة الثانية من بني النجار، وأمه زينب بنت قيس، شهد أُحدًا.
سعد بن عمرو بن ثَقْف، من الطبقةِ الثانية من الأنصار، شهد أُحدًا ولم يُعْقِب.
الضحَّاك بن عبد عمرو بن مسعود، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه السُّميراء بنت قيس أشهلية، شهد بدرًا وأحدًا.
قُطبة بن عبد عمرو بن مسعود أخو الضحاك لأبويه، شهد أحدًا.
__________
(1) جاء في "الطبقات" 3/ 377، و"الإصابة" 3/ 642، أنهما قتلا يوم مؤتة، وعد ابن هشام وهب بن سعد في شهداء مؤتة. "السيرة" 2/ 388.
(2) هكذا هو في النسخ، وفي "الطبقات" 3/ 471: عثمان بن عبد الله بن المغيرة.
(3) "الطبقات الكبرى" 3/ 471.
(3/304)
________________________________________
مسعود بن سعد بن قيس، من الطبقة الثانية من بني زُريق من الأنصار، شهد أحدًا (1).
معاذ بن ماعِص بن قيس بن خَلْدة من بني زُريق، من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه من أشجع، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سالم مولى أبي حذيفة.
وفيها: كانت سرية مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوي إلى الرَّجِيع (2)، وكانت في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من مهاجرته - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو هريرة: قدم رَهْطٌ من عَضَلٍ والقارةِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أُحد، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا وخيرًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يُفَقِّهونا في الدين، ويُعلِّمونا القرآنَ والشرائعَ، فبعث معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرًا ستةً من أصحابه: مَرْثَد الغَنَوي حليفَ حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البُكَير حليف بني عدي بن كعب، وعاصمَ بنَ ثابت بن أبي الأَقْلح أخا بني عمرو بن عوف، وخبَيْبَ بنَ عدي أخا بني جَحْجَبى بن كُلْفة بن عمرو بن زيد (3) بن عوف، وزيدَ بن الدَّثِنَة أخا بني بَيَاضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليفًا لبني ظَفر، ويقال: ومُعتِّب بن عبيد، وأمَّر عليهم مَرثد بن أبي مَرثد.
فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهُذَيل بناحية الحجاز بين أرض بني عامر وحَرَّةِ بني سُليم- غَدروا بهم واستصرخوا عليهم هُذيلًا، فلم يَرُعهم إلا وقد غشيهم القوم بالسيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم فقالوا: إنا لا نريد قتالكم، ولكن نريد أن نصيب بكم من أهل مكة شيئًا، ولكم علينا عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
فأما مَرْثَدُ بن أبي مَرْثَد، وخالدُ بن البُكير، وعاصمُ بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبلُ من مشركٍ عهدًا. وقاتلوهم حتى قُتلِوا جميعًا.
وأما زيدُ بنُ الدَّثِنَة، وخُبَيبُ بن عدي، وعبدُ الله بن طارق فرغبوا في الحياة وأعطَوْا
__________
(1) وشهد بدرًا أيضًا، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى "الطبقات" 3/ 551.
(2) "السيرة" 2/ 169، و"المغازي" 1/ 354، و"الطبقات الكبري" 2/ 51، و"تاريخ الطبري" 2/ 538، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 323، و"المنتظم" 3/ 200، و"البداية والنهاية" 4/ 62.
(3) ليس في نسبه "زيد" وانظر "جمهرة أنساب العرب" ص 330.
(3/305)
________________________________________
بأيديهم. فأُسِروا، فلما وصلوا إلى مَرِّ الظَّهْران، انتزع عبد الله بن طارق يده من القِران، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه بمرِّ الظهران، وقدموا بخُبَيبٍ وزيدٍ إلى مكة فباعوهما، فأما خُبيب فابتاعه حُجَيرُ بن أبي إهاب التميمي أخو الحارث بن عامر لأمه ليقتله الحارث بن نوفل، وكان خُبيب قتل عامرًا يوم بدر فقتله به، وأما زيد بن الدَّثِنة فقتله صفوان بن أمية (1).
ذكر ترجمة عاصم:
واسم أبي الأَقلح قَيْسُ بن عِصْمَة بن مالك من بني ضُبيعة، وكُنيَةُ عاصمِ: أبو سليمان، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار، وأمه الشَّموس بنت أبي عامر الراهب، وأمها عُميرة بنت الحارث، شهد عاصم بدرًا وأحدًا، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لما انهزم الناس عنه، وبايعه على الموت، وكان من الرماة المذكورين، وقتَلَ يومَ أحدٍ أصحابَ اللواء مُسافعًا والحارث، وكانت سُلافةُ بنت سعد أُمُّهما نَذَرَتْ أن تشربَ الخمر في قِحْفِ عاصم، وجعلت لمن جاء برأسه مئة ناقة، فلما قال المشركون: إنا لا نريد قتلكم، قال عاصم: أما أنا فلا أقبل جوار مشرك. وجعل يقاتلهم حتى فني نَبْلُه، ثم طاعنهم حتى انكسر رمحه، فقال: اللهمَّ إني سميت دينك أول النهار، فاحم لحمي آخره، فجرح رجلًا وقتل واحدًا وقتلوه، وأرادوا أن يَحزوا رأسه، فبعث الله الدَّبْرَ فحمته، ثم بعث الله سيلًا في الليل فحمله، وكان قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك تنجسًا منه. فلهذا أكرمه الله باحتمال السيل إياه، فكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول: عجبًا لحفظ الله العبد في حياته وبعد مماته.
وكان لعاصم ولد اسمه محمد، وأمه هند بنت مالك، ومن ولد محمدٍ الأحوصُ الشاعرُ، وهو عبد الله بن محمد بن عاصم (2).
خالد بن البُكَير بن عبدِ يَاليل بن كِنانة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل في هذا اليوم، وله أربع وثلاثون سنة.
__________
(1) "السيرة" 2/ 169 - 171.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 428.
(3/306)
________________________________________
خُبَيْب بن عدي الأنصاري من بني عمرو بن عوف، من الطبقة الأولى من الخزرج، لما أُسر على ما تقدم، وقدم مكة ابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث عندهم أسيرًا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستَحِدَّ بها فأعارته، فدرج لها ابنٌ صَغيرٌ وهي غافِلَةٌ عنه حتى أتاه، فأخذه فوضعه على فخذه والموسى بيده، ففزعت المرأة فَزْعةً عرفها خُبيب وقالت: أصاب الرجلُ واللهِ ثأرَه. فقال خُبيب: أتحسبين أَني أقتله؟ قالت: نعم. فقال: ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، ليس الغَدْرُ من شأنِنا. وكانت المرأة تقول: والله ما رأيت أسيرًا قط مثلَ خُبَيب، لقد رأيته يومًا يأكل قِطْفًا من عنب في يده، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لرزق الله ساقه الله إليه، وإنه لمُوْثَقٌ في الحديد. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم: دعوني أصلي ركعتين. فتركوه، فركع ركعتين وقال: والله لولا يحسبوا أن ما بي جَزَعٌ من الموت لزدت ثم قال: [من الطويل]
ولستُ أُبالي حين أُقْتَلُ مُسلِمًا ... على أي جَنْبٍ كان في الله مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ ... يُباركْ على أَوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثم قال: اللهمَّ أحصهم عددًا، واقتلهم بدَدًا، ولا تبق منهم أحدًا. فقام إليه عقبة بن الحارث وكنيته أبو سِرْوَعةَ فقتله، وكان خُبَيْبٌ هو الذي سنَّ الصلاة لكل مسلم قُتِلَ صَبْرًا. وأَخبرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه يومَ أُصيبوا خَبَرهم (1).
ثم أسلم أبو سِرْوعة بعد ذلك وحسن إسلامه.
وقال سعيد بن عاصم: شهدت مصرعَ خُبيب، وقد بَضَعَت قريشٌ لحمَه وحملوه على جِذْع، وقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، وأن محمدًا شِيكَ بشوكة، ثم نادى: وامحمداه، فقتلوه - صلى الله عليه وسلم - (2).
وعن جعفر بن أمية، عن أبيه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدي عينًا إلى قريش، فجئت إلى خشبة خُبَيْب وأنا أتخوف العيون فَرَقِيتُ فيها، وحَلَلتُ خُبيبًا فوقع إلى الأرض، فانتبذت غير بعيد، ثم التفتُّ فلم أر خبيبًا وكأنما ابتلعته الأرض، فلم ير
__________
(1) أخرجه البخاري (3989) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 246.
(3/307)
________________________________________
لخُبَيْبٍ أثرٌ حتى الساعة (1)
زيد بن الدَّثِنة بن معاوية، من الطبقة الثانية من الأنصار شهد أحدًا، واشتراه في هذه السرية صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فأخرجه إلى التنعيم، ثم قام إليه نِسطاس غلامُ صفوان فقتله - رضي الله عنه - (2).
* * *
وفيها كانت سرية عمرو بن أمية الضَّمْري إلى مكة ليقتل أبا سفيان في ربيع الأول (3).
* * *
وفيها كان إجلاءُ بني النَّضِير (4)، في ربيع الأول، وهم حيٌّ من يهود خَيبر، دخلوا في العرب وهم على نسبهم إلى هارون - عليه السلام -، وسبب إجلائهم: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صالحته اليهود على أن لا يقاتلوه ولا يظاهروا عليه، فلما ظهرَ يومَ بدرٍ على الكفار قالت النضير: هذا هو النبي المبعوث الذي لا تُردُّ له راية، فلما جرى يومَ أحد ما جرى ارتابوا، ونافقوا، وأظهروا العداوةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان هذا نَبيًّا ما جرى عليه ما جرى، وأجمعوا على الفتك به، فبعثوا إليه أنِ اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حَبْرًا حتى نلتقي بمكان كذا، وهو نَصَفٌ بيننا وبينك، فيسمعوا منك، فإن آمنوا آمنا كلّنا.
فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرجوا هم في ثلاثين حَبْرًا، فلما
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (17252) من حديث عمرو بن أمية الضمري.
(2) "السيرة" 2/ 172.
(3) "السيرة" 2/ 633، و"الطبقات الكبرى" 2/ 90، و"تاريخ الطبري" 2/ 542، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 333، و"المنتظم" 3/ 265، و"البداية والنهاية" 4/ 69. وذكرها ابن الجوزي وابن كثير في حوادث السنة السادسة.
(4) "السيرة" 2/ 190، و"المغازي" 1/ 363، و"الطبقات الكبرى" 2/ 53، و"تاريخ الطبري" 2/ 550، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 176 و 354، وتفسير الثعلبي 6/ 138 - 139 و"المنتظم" 3/ 203، و"البداية والنهاية" 4/ 74.
(3/308)
________________________________________
أصحروا قالوا: كيف نخلُصُ إليه ومعه ثلاثون من أصحابه، وكل واحدٍ منهم يحب أن يموتَ قبله، فأرسلوا إليه: اخرُجْ في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا، فإن الكثرة تمنع السماع، فخرجوا في ثلاثة نفر، وخرج في ثلاثة، وكانوا قد اشتملوا على الخناجر المسمومة ليقتلوه، فأرسلت امرأة من اليهود إلى أخيها وكان مسلمًا من الأنصار، فأخبرته بما عزموا عليه، فسبقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساره بذلك، فرجع من الطريق، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم (1).
وقال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن عامر بن الطُّفَيل بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم قتلتم رجلين لهما منكم جِوارٌ وعَهْد، فابعث إلينا بِدِيَتِهما - يريد اللَّذَيْنِ قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْري عند مرجعه من بئر مَعونة - فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء، ثم مال إلى بني النَّضير يستعين بهم في دِيَة الرجلين - وكان بين بني عامر وبني النَّضير حِلفٌ وعَقْد -، وكان معه أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن الحضير - رضي الله عنهم -، فلما استعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببني النضير قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك بما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا على مثل هذه الحالة - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا إلى جانب دار من بيوتهم -، فقالوا: مَن يعلو هذا الجدار فيرمي عليه صخرة فيقتله ونستريح منه، فانتدب لذلك عمرو بن جِحَاشٍ، فقال سلَّام بن مِشْكَم: لا تفعلوا فوالله ليُخْبرَنَّ بما قد عزمتم عليه، وأخذ عمرو الصخرة وعلا على الجدار، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الخَبرُ من السماء، فقام من مكانه، وعاد إلى المدينة وأخبر أصحابه بما عزموا عليه، وتهيأ لحربهم، وكانت منازلهم بناحيةِ الغَرْسِ وما والاها، مقبرة بني خَطْمةَ اليوم، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم يوم السبت في ربيع الأول، وحمل لواءه علي - رضي الله عنه -، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مَكتوم وسار في المهاجرين والأنصار، فتحصَّنوا بالحصون، ورَمَوه بالنَّبْل والحجارة، فقاتلهم، وقطع نخلهم وحَرَّق، ثم أرسل إليهم محمَّد بن مسلمة يقول: قد نقضتم العهد، وهممتم بالغدر، فأخرجوا من بلادي ولا تساكنوني أبدًا.
فلما بلّغ محمد الرسالة قالوا: يا محمَّد، ما ظننا أن يجيئنا بمثل هذه الرسالة رجل
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9733)، وأبو داود (3004)، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 176.
(3/309)
________________________________________
من الأوس، فقال محمَّد: محا الإِسلام العهود وغيَّر القُلوبَ، فقالوا: نعم نتحمَّل إلى غير هذه البلاد.
فأرسل إليهم عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول: لا تخرجوا فإنَّ معي من العرب ومن قومي ألفين، وأنا واصلٌ إليكم وداخل معكم حصونكم، وقُرَيْظة داخلون معي.
وبلغ ذلك كعب بن أسيد صاحب عهد بني قريظة، فقال: لا والله لا ينقض العهد رجل من قريظة وأنا حي، فقال سلام بن مِشْكَم لحُيَيّ بن أخطب: يا حُيي، اِقْبل ما قال محمَّد، فأبى عليه وقال: لا ندع ديارنا وأموالنا، فاصنع ما بدا لك، فرجع محمَّد بن مسلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبر المسلمون، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، وقيل: ست ليال، ثم خذلهم حُلفاؤهم بنو غطفان وعبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فيئسوا من النصر، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه الصُّلح على حَقْن دمائهم وله الحَلْقَةُ والمالُ، وأن يُسَيِّرهم إلى أذْرِعاتِ الشامِ، ويجعلَ لكل ثلاثةٍ منهم بعيرًا (1).
وقال الزهري: إنما صالحهم على ما أقلَّتِ الإبل من شيء إلا الحَلْقة، فخرج رؤساؤهم إلى خيبر وهم: حيي وجُدَيٌّ وأبو ياسر ومالك بنو الأخطب، وسلاّم بن مِشْكَم، وكنانة بن الربيع، وسلام بن أبي الحُقَيْق، فأقاموا بخيبر، وتوجه الباقون إلى أذرعات الشام (2).
قال ابن إسحاق: وكانت أموال بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها في المهاجرين الأولين دون الأنصار إلَّا سهلَ بنَ حُنَيْف، وأبا دُجانة سِماكَ بنَ خَرَشَة، والحارثَ بن الصَّمة، فإنهم شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرًا وفاقة، فأعطاهم منها, ولم يُسلم من بني النضير سوى يامينِ بنِ عُمَيْر بن كعب وأبي سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما (3).
وكان في أموال بني النضير خمسون دِرعًا، وخمسون بيضة، وثلاث مئة وأربعون
__________
(1) "المغازي" 1/ 364 - 375.
(2) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 554.
(3) "السيرة" 2/ 192، و"تاريخ الطبري" 2/ 554 - 555.
(3/310)
________________________________________
سيفًا، ولم يخمِّسها ولم يقسمها، وكانت حُبْسًا لنوائبه، ونفقة أهله سنة، وما فَضَلَ جعله في سبيل الله (1).
قال ابن الكلبي: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها تبرعًا أبا بكر بئر حجر، وعمر بئر جرم، والزبير البُويرة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي حَزْنًا (2). وحَزنَ المنافقون وابنُ أُبي عليهم حُزْنًا كثيرًا.
قال عكرمة: ولما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وجدهم يبكون وينوحون على سيدهم كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمَّد، واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية؟ قال: "نعم أنتم قومٌ غُدُر فُجُر". فقالوا: ذَرْنا نبكي شَجْوَنا، ثم ائتمر بأمرك، فقال: "اخرجوا من جواري"، فقالوا: الموت أهون علينا من فراق أوطاننا وأموالنا، وتَنادَوا بالحرب، ودربوا الأزقة وحصَّنوها، وقاتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صالحوه ونزلوا على حكمه كما ذكرنا.
وأنزل الله تعالى سورة الحشر بأسرها في بني النَّضير.
غزاة بدر الصغرى للموعد (3)
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في شعبان، وقيل: في شوال، لموعد أبي سفيان في ألف وخمس مئة من المسلمين، وعشرة أفراس، وسلاحٍ كثيرٍ وعدة. وخرج أبو سفيان من مكة في ألفين ومعه خمسون فرسًا، فبلغ عُسْفان، وقيل: مَجَنَّة، وقيل: مَرَّ الظهران.
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدر ينتظر أبا سفيان، فمر به مَخْشيُّ بن عمرو الضَّمري، فقال
__________
(1) "المغازي" 1/ 377 - 378.
(2) النص في "الطبقات" 2/ 55: فكان ممن أعطى ممن سُمي لنا من المهاجرين أبو بكر الصديق بئر حجر، وعمر بن الخطاب بئر جرم، وعبد الرحمن بن عوف سوالة، وصهيب بن سنان الضراطة، والزبير بن العوام وأبو سلمة بن عبد الأسد البويلة، وسهل بن حنيف وأبو دجانة مالًا يقال له مال ابن خرشة. وانظر "المغازي" 1/ 379 - 380، وليس فيه ذكر عبد الله بن عبد الله بن أبي.
(3) "السيرة" 2/ 209، و"المغازي" 1/ 384، و"الطبقات الكبرى" 2/ 55، و"أنساب الأشراف" 1/ 404، و"تاريخ الطبري" 2/ 559، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 384، و"المنتظم" 3/ 204، و"البداية والنهاية" 4/ 87.
(3/311)
________________________________________
له: يا محمَّد، أجئت للقاء قريش؟ قال: "نَعَم، وإن شِئتَ يا أخَا ضَمْرةَ رَدَدْنا إليك ما كانَ بينَنَا وبينَكَ، ثم جَالدْناكَ حتى يَحكُمَ اللهُ بينَنا وبينَكَ" فقال: لا والله يا محمَّد ما لي بذلك من حاجة (1).
وقال الواقدي: كانت هذه الغزاة في ذي القعدة، وكان نُعيم بن مسعود قد اعتمر، فلما قدم مكة للعمرة، قال له أبو سفيان: من أين؟ قال: من يثرب قال: هل رأيت لمحمد حركة؟ قال: نعم تركته على تعبئة لغزوكم، وذلك قبل أن يسلم نُعَيْم. فقال له أبو سفيان: ونحن قاصدوه. ثم خرج إلى مَرِّ الظهران، وقال لنعيم: هل لك في عشر قلائص يضمنها لك عني سُهيل بن عمرو، وترجعَ إلى يثرب فتُثَبَّطَهم عنا، فإن هذا عامُ جَدْبٍ ولا يُصْلِحُنا إلا عامٌ غَيْداق - أي: خصيب - فرجع نُعيم إلى المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عزم الخروج، فجعل يُثَبِّط الناس: ألم يُجْرَحْ محمدٌ في نفسه؟ ألم يُقْتَل أصحابُه، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد، لخرجت بنفسي".
ثم خرج وخرج معه المسلمون، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وحمل لواءه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وخرج التجار بتجاراتهم، وكان بدر سوقًا يقام في كل سنة، ولما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، وبلغ أبا سفيان، ألقى الله في قلبه الرعب وقال: كانوا يوم أُحد شِرْذِمةً يسيرة وقد جاؤونا بالحد والحديد. فرجع إلى مكة (2)، وأنزل الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] الآية، وأنزل الله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآية.
وفيها: ولد الحسين بن علي - رضي الله عنه - (3)، لخمس ليال خَلَوْنَ من شعبان، وكان بين عُلوقِ فاطمةَ - عليها السلام - بالحسين - عليه السلام - ومولد الحسن - عليه السلام - خَمسون يومًا، وأذَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أُذُنِه وعَقَّ عنه، كما فعل بالحسن - عليه السلام -.
__________
(1) "السيرة" 2/ 210.
(2) "المغازي" 1/ 385 - 388.
(3) انظر "الطبقات" 6/ 399، و"تاريخ الطبري" 2/ 555، و"المنتظم" 3/ 204، و"البداية والنهاية" 4/ 90.
(3/312)
________________________________________
قالت أم الفضل: قلت: يا رسولَ الله، رأيتُ في منامي كأن في حِجْري عضوًا من أعضائك، قال: "تَلِدُ فاطمةُ إنْ شَاءَ اللهُ غُلامًا فَتَكفلينَهُ"، فولدت حسينًا، فدفعته إليها، فأرضعته بلبن قُثَمٍ. قالت: فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - أَزورُه، فأخذه فوضعه في حِجْره، فبال فأصاب إزاره، فقلت بيدي بين كتفيه، فقال: "أَوجَعْتِ ابْني أَصلَحَكِ اللهُ". فقلتُ: أَعطِني إزارك أغسِلْه، فقال: "إنَّما يُغسَلُ بَولُ الجارِيَة ويُصبُّ على بَولِ الغُلامِ". ثم دعا بماء فحدره عليه حَدْرًا (1).
وفيها: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة - رضي الله عنها - (2)، واسمها هند بنت أبي أمية، ودخل بها في شوال، ولما انقضت عِدَّتُها، بعث إليها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: مرحبًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبرسوله، أَخْبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَني امرأةٌ غَيْرى وأَني مُصْبِيَةٌ، وأَنه ليس أحدٌ من أوليائي شاهدًا، فبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما قولك: إنك مُصْبِية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى، فسأدعو الله أن يذهب غَيْرتك، وأما الأولياء، فليس منهم أحد شاهد أو غائب إلا سيرضى بي" فقال (3): يا عمر، قم فزوِّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزوَّجه. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إنِّي لم أَنقُصكِ عمَّا أَعطَيتُ فُلانةً" - وكان قد أعطى فلانة، جَرَّتينِ تضعُ فيهما حاجتها، ورَحًى، ووِسادةَّ مَن أَدَمٍ حشوها لِيفٌ - ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
وقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَا مِن مُسلِمٍ تُصيبهُ مُصيبَةٌ، فيقولُ ما أَمَرَ اللهُ به: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهمَّ أجُرْني في مُصيبَتِي واخلُفْ لي خَيرًا مِنها، إلا أَخلَفَ اللهُ عليه خَيرًا منها، وآجَرَه في مُصيبَتِهِ". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمينَ خيرٌ من أبي سلمةَ، أَوَّلُ بيت هاجَرَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إني قلْتُها، فأَخلَفَ الله لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (5).
__________
(1) أخرجه أحمد في "مسنده" (26875).
(2) "تاريخ الطبري" 2/ 561، و"المنتظم" 3/ 206، و"البداية والنهاية" 4/ 90.
(3) في "المسند": قلت.
(4) أخرجه أحمد في "مسنده" (26669).
(5) صحيح مسلم (918).
(3/313)
________________________________________
وفيها: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود (1)، وقال: "إنِّي لا آمنُهُم على كِتَابي" (2). فتعلمه زيد في خمس عشرة ليلة.
وفيها: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهوديَّيْن في ذي القعدة.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلًا وامرأةً منهم زنيا، فقال: "مَا تَجِدونَ في التَّوراةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ" قالوا: نفضحُهم ويُجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتُم إنَّ فيها الرَّجم، فأَتَوْا بالتَّوراةِ فَنشروها، فَوَضع أحدُهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال ابن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمَّد، فأمر بهما فرُجما، قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأةِ يقيها الحجارة. أخرجاه في "الصحيحين" (3).
وفيها: كانت قصة طُعمة بن أُبَيْرِق (4).
فصل وفيها توفيت
زينب بنت خُزَيْمة
ابن الحارث بن عبد الله الهلالية أخت ميمونة لأمها، في ربيع الآخر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في رمضان سنة ثلاث، وصلى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودُفِنت في البقيع، ولم يمت عنده - صلى الله عليه وسلم - من نسائه رضي الله عنهن إلا خديجةُ رضوان الله عليها، وزينب (5) - رضي الله عنها -.
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 561، و"المنتظم" 3/ 206.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (21618) من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري (3635)، ومسلم (1699).
(4) انظر "المنتظم" 3/ 206، وقصته أنه سرق درعًا لعبادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب , ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف: مالي بها علم، فنظروا في أثر الدقيق فانتهوا إلى منزل اليهودي، فقالوا له، فقال: دفعها إلى طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنجادل عن صاحبنا، فهم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزل قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وانظر "أسباب النزول" للواحدي ص 172 - 173.
(5) "الطبقات الكبرى" 10/ 111، "تاريخ الطبري" 2/ 545، و"المنتظم" 3/ 210، و"البداية والنهاية" 4/ 90، و"الإصابة" 4/ 315.
(3/314)
________________________________________
أبو سلمة
عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمه: بَرَّةُ بنت عبد المطلب بن هاشم عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من الطبقة الأولى من المهاجرين.
أسلم قديمًا قبل أن يدخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، ومعه زوجته أم سلمة - رضي الله عنها -، ثم قدم مكة وهاجر إلى المدينة، وهو أول من هاجر إليها، قدمها لعشر خَلَوْنَ من المحرم، وقَدِمَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول.
وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن خَيْثمةَ، وشهد أبو سلمة بدرًا وأحدًا، وجُرح يوم أُحد، رماه أبو أُسامةَ الجُشَمي بسهم في عَضُدِه، فأقام شهرًا يداويه حتى برئ.
ثم بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى بني أسد بقَطَنٍ - جبلٍ لهم - في المحرم، فغاب بضع عشرة ليلة، ثم قدم المدينة، فانتقض جرحه فمات في جمادى الآخرة، فأغمضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال عند موته: اللهمَّ اخلفني في أهلي بخير (1). فخَلَفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وصارت أمُّ سلمة - رضي الله عنها - أمَّ المؤمنين، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَبيبَ أولاده.
وأخرج مسلم عن أم سلمة قالت: دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شَقَّ بصرُه، فأَغمَضَه، ثم قال: "إنَّ الرُّوحَ إذا قُبضَ تَبعَهُ البَصَرُ" فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: "لا تَدعوا على أَنفُسِكُم إلَّا بخَيْرٍ، فإنَّ الملائِكَةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقُولونَ"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ اغْفِرْ لأَبي سَلَمةَ، وارْفَعْ دَرَجتَه في المَهْدِيينَ، واخْلُفْه في عَقِبِه في الغابِرينَ، واغْفرْ لنَا وله يا رَبَّ العَالَمِينَ، وافْسَحْ له في قَبرِهِ ونَوِّر له فيه" (3).
وكان لأبي سلمة من الولد: عمر، وزينب، ودُرَّة، وأم كلثوم، وسلمة.
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 3/ 220، و"المنتظم" 3/ 211، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 150، و"البداية والنهاية" 4/ 89، و"الإصابة" 2/ 335.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26669) ضمن حديث طويل.
(3) صحيح مسلم (920).
(3/315)
________________________________________
عبد الله بن عثمان
ابن عفان (1) رضوان الله عليه من رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نقره ديك في عينه فمات وهو ابن ست سنين، وصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل عثمان - رضي الله عنه - في قبره.
فاطمة بنت أسد (2)
ابن هاشم بن عبد مناف، والدة علي - عليه السلام -، وأمها: فاطمة بنت هَرِم بن رواحة، من ولد عامر بن لؤي، وتلقب: بحُبّى، وأمها: خديجة (3) بنت وهب بن ثعلبة من بني فهر، وأمها: فاطمة بنت عبد بن معبد بن عمرو بن بَغيض (4) بن عامر بن لؤي، وأمها: سلمة (5) بنت عامر بن ربيعة بن هلال، من فهر، وأمها: عاتكة بنت أبي همهمة من فهر، وأمها: تماضر بنت أبي عمرو بن عبد مناف، وأمها: حبيبة، وهي: أمة الله بنت عبد يا ليل ثقفية، وأمها: حُبَّى بنت الحارث بن النابغة من هوازن.
وفاطمة بنت أسد أول امرأة هاشمية تزوجت هاشميًا، وأول من بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء بعد خديجة، وأول هاشمية ولدت خليفة هاشميًا.
وقال بريدة: سمعت فاطمةُ بنت أسد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُحشَرُ النَّاس يومَ القِيامةِ عُراةً"، فقالت: واسوأتاه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّي أَسأَلُ الله أَن يَبعَثَكِ كاسِيَةً".
قال: وسمعته يذكر ضَغطةَ القبر، فقالت: واضعفاه، فقال: "إنِّي أَسأَلُ الله أَنْ يَكفِيَكِ ذَاكَ".
وكانت صالحة تنقل الماء إلى بيت فاطمة - عليها السلام -، وتذهب للحاجة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيلُ في بيتها, ولما توفيت ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) "تاريخ الطبري" 2/ 555، و"المنتظم" 3/ 210، و"البداية والنهاية" 4/ 89، و"الإصابة" 3/ 62.
(2) "الطبقات الكبرى" 10/ 51 و 211، و"المنتظم" 3/ 213، و "سير أعلام النبلاء" 2/ 118، و"الإصابة" 4/ 380.
(3) في المحبر 16: جدية.
(4) في المحبر 16: فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص.
(5) في المحبر: سلمى.
(3/316)
________________________________________
قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقال له أصحابه: ما رأيناك صنعتَ بأحد مثل ما صنعتَ بهذه؟ فقال: "إنَّه لم يَكُن بعدَ أبي طالبٍ أَحدٌ أبرَّ بي منها، وإِنَّما أَلْبَستُها قَميصِي لِتُكسَى مِن حُلَلِ الجنَّةِ، وإنَّما اضطَجَعتُ مَعَها لِيُهوِّنَ اللهُ عليها ضَغْطَةَ القَبرِ" (1).
ودفنت بالبقيع إلى جانب رُقية - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6935) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 257 وقال: وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وقال الذهبي في "السير" 2/ 118: غريب.
(3/317)
________________________________________
السنة الخامسة من الهجرة
فيها كانت غزاةُ ذات الرِّقاع على خلاف في ذلك (1)، غزا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - نَجدًا يريد بني مُحارب وغَطَفان، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (2)، وتقارب الناس للقتال، ولم يَجْرِ بينهم حرب، وغاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة خمس عشرة.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزاة ونحن ستةُ نفر بيننا بعير نَعْتَقِبُه، قال: فَنَقِبَت أقدامُنا، وسقطت أظفاري، فكنا نَلُفُّ الخِرَق على أقدامنا وأرجلنا، فَسُمّيت غزاةَ ذاتِ الرقاع لما كنا به نَعْصب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك وقال: وما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يفشي شيئًا من عمله (3). لأن عمل السر أفضل من عمل العلانية.
قال المصنف رحمه الله: هذا الحديث يدل على أن غزاة ذات الرقاع كانت بعد خيبر, لأن أبا موسى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر.
وكذا روى ابن إسحاق القصة عن أبي هريرة، وأبو هريرة إنما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر (4).
__________
(1) اختلف في زمنها، فمن ذكرها في سنة أربع ابن هشام في "السيرة" 2/ 203، والطبري في "تاريخه" 2/ 555، والذهبي في "السيرة" 1/ 457، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 83.
وذكر الواقدي في "المغازي" 1/ 395، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 57، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 405، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 214 أنها في سنة خمس.
وذكر البخاري في باب غزوة ذات الرقاع قبل (4125) أنها بعد خيبر.
(2) ويقال: أبا ذر الغفاري "السيرة" 2/ 203.
(3) أخرجه البخاري (4128)، ومسلم (1816).
(4) انظر "تاريخ الطبري" 2/ 556. وقال البيهقي في "الدلائل" 3/ 372: وروينا عن الواقدي في الغزوة التي غزاها محاربًا وبني ثعلبة أنها سميت ذات الرقاع لأنه جبل كان فيه بقع حمرة وسواد وبياض، فإن كان الواقدي حفظ ذلك فيشبه أن تكون الغزوة التي شهدها أبو موسى وأبو هريرة وعبد الله بن عمر غير هذه والله أعلم. وانظر "فتح الباري" 7/ 417.
(3/318)
________________________________________
وفي هذه الغزاة صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، وفي هذه الغزاة نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية.
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجد، فلما قَفل ومعه الناس أدركتهم القَيلُولة في وادٍ كثير العِضَاهِ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة وعلَّقَ سيفَه بغُصْنٍ من أغصانها، وتفرق الناس يَستظلون بالشجر، قال: فنمنا نومةً، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، فجئناه وعنده أعرابي، فقال: "إنَّ هذا أَتَاني وأَنَا نَائمٌ فاخْتَرَطَ سَيفِي، وهو قَائمٌ على رَأسي والسَّيفُ بيدِهِ صَلتًا، قال: مَن يَمنَعُكَ منَّي؟ قلت: الله، فَشَامَ السَّيفَ". أي: أعاده إلى جفنه، قال جابر: فلم يَعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبه (1).
وفيه: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف من يد الرجل، وقال: "مَن يَمنَعُك منَّي"؟ فقال الرجل: كُن خَيْرَ آخذٍ، فقال: "أَتَشهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلا اللهُ، وأَنَّي رسولُ اللهِ". قال: لا، ولكن أُعاهِدُك على أن لا أُقاتِلَك، ولا أكونَ مع من يقاتلُك فخلّى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس (2).
وفيها: كانت غزاةُ دُومَةِ الجَنْدَل (3)، وهي أرض فيها زرع ونخل وعيون، ولها مدينة وحصنٌ منيعٌ يدعى ماردًا، ويقال في المثل: تمرَّد ماردٌ وعزَّ الأَبلق (4).
وهي أول غزاة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام، خرج إليها على رأس تسعة وأربعين شهرًا من مُهاجَرِه، واستخلف على المدينة سِباعَ بنَ عُرْفُطةَ الغِفاري، وكان قد بلغه أن بها جمعًا من الأعراب، فكان يَكمُن نهارًا ويسير ليلاً، ومعه دليل من بني [عُذرة يقال له: ] (5) مذكور، فهجم عليهم فهربوا، فأخذ رِجالًا، منهم فأسلم بعضهم، ورجع إلى
__________
(1) أخرجه البخاري (2913)، ومسلم (843).
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (14929) وفيه صلاة الخوف، وقد جمع المصنف هنا بين حديثين.
(3) انظر "السيرة" 2/ 213، و"المغازي" 1/ 402، "الطبقات الكبرى" 2/ 58، و"أنساب الأشراف" 1/ 406، و"تاريخ الطبري" 2/ 564، و"دلائل النبوة" للبيهقي 3/ 389، و"المنتظم" 3/ 215، و"البداية والنهاية" 4/ 93.
(4) والأبلق حصن للسموءل بن عادياء قصدته الزباء هو وماردًا فلم تقدر عليهما فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهب مثلًا. "مجمع الأمثال" 1/ 126.
(5) ما بين معقوفين زيادة من "الطبقات" 2/ 59.
(3/319)
________________________________________
المدينة ولم يلق كَيدًا.
وفي هذه الغزاة وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُيَيْنةَ بنَ حِصْن الفَزاري على أن يكفَّ عنه ويرعى بتَغْلَمَيْن إلى المَراضِ من أرض الحجاز، وذلك لأن بلادَ عُيَيْنة أجدبت، وأخصبت تغلَمَيْنِ والمَراضُ لسحابةٍ وقعت فيها، فوادعه على أن يرعى هناك.
وفيها: قدم وفد مُزَيْنَة (1) في رجب في أربع مئة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم الهجرة في دارهم، وقال: "أَنتُم مُهاجِرُونَ حيثُ ما كُنتُم" (2). فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم.
وأجدبت مكة في هذه السنة، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالًا فقبلوه (3).
وفيها: كانت غزاة المُرَيْسِيع (4)، ويقال لها: غزاة بني المُصطَلِق، في شعبان، وكان الحارث بن أبي ضِرار سيدُ بني المصطلق قد جمع لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُرَيْدة بنَ الحُصَيْبِ الأسلمي ليَعْلم له خبر القوم، فأتاهم فلقي الحارث، ورجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبَره، فخرج من المدينة لليلتين خلتا من شعبان في المهاجرين والأنصار وكثيرٍ من المنافقين فيهم عبد الله بن أبي، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة (5) وكان معه ثلاثون فرسًا، وبلغ الحارثَ فخاف، وتفرق عنه من كان معه من الأعراب.
وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُريسيع ومعه عائشة وأم سلمة - رضي الله عنها -، وكان تحته فرسُه
__________
(1) انظر "الطبقات الكبرى" 1/ 252، و"المنتظم" 3/ 217، و"البداية والنهاية" 5/ 41.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 252 وورد الحديث في قصة أخرى عن سلمة بن الأكوع قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ابدوا يا أسلم، فتنسموا الرياح، واسكنوا الشعاب" فقالوا: إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا قال: "أنتم مهاجرون حيث كنتم". أخرجه أحمد (16553).
(3) انظر "المنتظم" 3/ 216.
(4) اختلف في زمن هذه الغزوة، فذكرها الواقدي في "المغازي" 1/ 404، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 59، والبلاذري في "أنساب الأشراف" 1/ 407، وابن الجوزي في "المنتظم" 3/ 218 في السنة الخامسة، ورجحه في "الفتح" 7/ 430.
وذكرها ابن إسحاق "السيرة" 2/ 289، والطبري في "تاريخه" 2/ 604، وابن كثير في "البداية والنهاية" 4/ 156 في سنة ست، وانظر "فتح الباري" 7/ 430.
(5) ويقال: استعمل عليها أبا ذر الغفاري، انظر "السيرة" 2/ 289.
(3/320)
________________________________________
لِزاز، ودفع رايةَ المهاجرين إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، ورايةَ الأنصار إلى سعد بن عُبادة، وثبت الحارث في قومه واصطفُّوا للقتال، وترامَوْا بالنبل ساعة، ثم حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانهزم الحارث، وقُتِلَ من أصحابه عَشرةٌ، وسبى المسلمون مئتي أهل بيت من الرجال والنساء والذُّرَّيَّة، وأخذوا من الإبل ألفي بعير، ومن الشاة خمسة آلاف.
قال ابن عمر: أغار عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم غارُّون، فقتل وسبى وقدم بالسبي إلى المدينة، وكان في السَّبي جُوَيْرية بنت الحارث سيد القوم (1)، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شَمَّاس وابن عمه فكاتباها على تِسْعِ أواقٍ.
قالت عائشة: وكانت امرأةً حُلْوةً لا يكاد أحد أن يراها إلا أخذت بنفسه، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي إذ دخلت عليه جُويرية تسأله عن كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتُها فكرهتُ دخولَها عليه، وعرفت أنه سيرى منها الذي رأيتُ، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيدِ القوم، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ، فوقعتُ في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عمه فكاتباني فأعنيّ في كتابتي، فقال: "أَوَ خَيْرٌ من ذلك"؟ قالت: وما هو؟ قال: "أُؤدِّي عنكِ كِتَابتَكِ وأَتَزوَّجُكِ". قالت: نعم. قال: "قَد فَعَلتُ".
وخرج الخَبرُ إلى الناس، فقالوا: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْتَرَقُّون. فأعتق الناس ما كان بأيديهم من نساء بني المصطلق، فبلغ عتقهم مئة بيت بتزويجه إياها، قالت عائشة: فلا أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها (2)، وجعل عِتقَها صَداقَها.
وكان اسمها بَرَّة فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجويرية (3).
وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ. وسبب ذلك:
ازدحم الناس على الماء، ومع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جَهْجاه الغِفاري يقود فرس
__________
(1) أخرجه البخاري (2541)، ومسلم (1730)، وانظر "الطبقات الكبرى" 2/ 60.
(2) أخرجه أحمد في "مسنده" (26365).
(3) أخرجه مسلم (2140) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3/321)
________________________________________
عمر، فزحمه رجل من الأنصار يقال له: سِنان الجُهَني حليف الخزرج، فاقتتلا على الماء، فصرخ الجهني: يا معاشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معاشر المهاجرين، فأعانه رجل من المهاجرين يقال له: جُعال وكان فقيرًا، فقال له عبد الله بن أُبي بن سَلول: وإنك لهناك؟ ! فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ ! واشتد لسان جُعال على ابن أُبي، فغضب ابن أبي وقال: والذي يُحلَف به لأُرِيَنَّك غير هذا، وعند عبد الله رهط من قومه منهم: زيد بن أرقم وكان غلامًا حَدَثًا، وقال ابن أبي: أَوَقد فعلوها، قد نافرونا في بلادنا وكاثرونا، والله ما مَثَلُنا ومَثَلُهم إلا كما قال القائل: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أما والله، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وعنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاده فضلًا وَشرفًا وعزة وتعظيمًا.
ثم أقبل على قومه وقال: ما فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جُعالٍ وذويه فضلَ طعامكم يركبوا رقابكم، ولأَوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم، فلا تنفقوها عليهم حتى ينفضوا مِنْ حَوْلِ محمَّد. فقال له زيد بن أرقم: أنت والله الذليلُ الحقيرُ القليل المُبْغَضُ إلى قومك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عِزًّ من الرحمن ومودةٍ من المؤمنين، والله لا أحبك أبدًا، فقال له عبد الله: اسكت، فإنما كُنْتُ أَلْعَبُ.
وجاء زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، وذلك بعد فراغه من الغزو وعنده عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عُنُقَ هذا المنافق، فقال: "إذًا تَرعُفُ له آنُفٌ كَثيرةٌ بيثرب"، فقال له عمر: فإن كرهتَ يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن معاذ أو محمَّد بن مَسْلَمةَ فليقتلوه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتُريدُ يا عمرُ، أَن يَتَحدَّثَ النَّاسُ أنَّ محمدًا يَقتُلُ أَصحابَهُ، ولَكِنْ أذَّنْ بالرَّحيلِ" وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها، فارتحل الناس وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي فأتاه، فقال له: "أَنتَ صاحِبُ الكلامِ الذي بلغَني عَنكَ"؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئًا من ذلك، ولقد كذب زيدٌ.
وكان عبد الله شريفًا في قومه عظيمًا، فقال مَن حضر من الأنصار: يا رسول الله، شيخُنا وكبيرُنا، تُصَدَّقُ كلامَ غُلامٍ من غِلْمان الأنصار؟ ! عسى أن يكون هذا الغلامُ
(3/322)
________________________________________
وَهِمَ في الحديث، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذَّبوه، وقال له عمر - وكان زيد معه -: ما أردتَ إلا أن كَذَّبك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ، ومَقَتوك.
وكان زيدٌ يسايرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستحيى بعد ذلك أن يدنوَ منه، فلما استقل سائرًا لقيه أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ فسلَّم عليه، وقال: يا رسول الله، لقد رُحتَ في ساعة مُنكَرة ما كنتَ تروح فيها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ ما بَلغَكَ ما قالَ صاحبُكُم ابنُ أُبَيٍّ؟ ". قال: وما قال؟ قال: "زَعَم أَنَّه إذا رَجَع إلى المَدينَةِ يُخرِجُ الأَعَزُّ منها الأَذَلَّ". فقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شِئتَ، هو والله الذليلُ وأنت الأعزُّ، ثم قال: يا رسول الله، اِرْفِقْ بهِ، فوالله لقد جاء اللهُ بِك، وإن قومه ليَنْظِمون له الخَرز لِيُتَوِّجوه، فهو يرى أنك سلبته ملكًا (1).
وبلغ عبدَ الله بنَ عبدِ الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتلَ عبدِ الله بن أُبَيّ لِما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني لأحملَ إليك رأسه، فواللهِ لقد عَلِمَتِ الخزرجُ ما كان بها رجلٌ أَبرُّ بوالديه مني، وإني أخشى أن تأمر غيري فيقتلَه، فلا تطيبُ نفسي أن انظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار، وكان عبد الله بن عبد الله رجلًا مؤمنًا صَالحًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرَفَّقْ به، وأَحْسِنْ صُحبتَهُ ونحن كذلك ما بقي معنا" (2).
وسار بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَهم ذلك حتى آذتهم الشمسُ، فنزل، فما هو إلا أن وجدوا مسَّ الأرضِ وقعوا نِيامًا، وإنما فعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ليشغَلَ الناسَ عن الحديث الذي جرى من ابن أبي.
ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النَّقيع يقال لها: بَقعاء، فهاجت ريح شديدة فآذتهم وتخوَّفوا منها، وضلَّت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَخافُوا الرِّيحَ، فإنَّما هَاجَت لِمَوتِ عَظيمٍ من الكفَّار بالمدينة"، فقيل: من هو؟ قال: "رِفاعة بن التابوت"، فقال رجل من المنافقين: يزعمُ أنه يعلم الغيب ولا يعلمُ مكانَ ناقته، فأتاه جبريل - عليه السلام - فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) "السيرة" 2/ 290 - 292.
(2) "السيرة" 2/ 293.
(3/323)
________________________________________
أصحابَه، وقال: "ما أَعلَمُ الغَيبَ ولكِنَّ الله أخْبَرني أنَّ النَّاقَةَ في شِعْبِ كَذا وكَذا، قد تَعلَّقَ زِمامُها بشَجَرةٍ". فذهبوا إلى الشعب فوجدوها كذلك.
ولما قَدِموا المدينة وجدوا رِفاعةَ بنَ التابوت - وكان من عظماء اليهود وكَهْفَ المنافقين - قد مات في ذلك اليوم (1).
ولما قَرُبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وجاء عبد الله بن أبي ليدخُلَها جاء ابنه عبد الله فأَناخَ على مجامع طريق المدينة وصاح بأبيه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ فقال: لا والله لا تدخُلُها أبدًا إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَيُعْلَمَنَّ اليومَ منِ الأعزُّ مِنَ الأذلِّ. فجاء عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه ما صنع به ابنُه، فأرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنه يقول: "خَلِّ عنه". فقال: أَمّا إذا جاء أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَم، فدخل (2).
فقال زيد بن أرقم: فجلستُ في بيتي والله أعلم ما بي من الهمِّ والحُزن والحَياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فأنزل الله تعالى في تصديق زيد وتكذيب ابن أبي سورة المنافقين، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد وقال: "يَا زَيدُ، إنَّ اللهَ قد صَدقكَ وأَوْفى بأُذُنِكَ" (3).
ولما نزلت هذه الآياتُ، قيل لعبد الله: يا أبا حُباب، قد أنزل الله فيك آياتٍ شِدادًا، فاذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفرْ لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أُؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أُعطيَ زكاةَ مالي فأعطيتُ، وما بقي إلا أن أسجدَ لمحمد. وأنزل الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} (4) [المنافقون: 5].
وجعل قومُ عبد الله يلومونه ويوبَّخونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضوان الله عليه: "وكيف ترى؟ أما والله لو قتلته يوم أشرتَ بقتله لَرعُفَت له أُنوفٌ لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلته". فقال عمر: إن رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَعظَمُ بركةً من رأيي.
__________
(1) "السيرة" 2/ 292.
(2) انظر "الطبقات الكبرى" 2/ 61.
(3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري (4900) بلفظ: "إن الله قد صدقك يا زيد".
(4) انظر "أسباب النزول" للواحدي ص 461.
(3/324)
________________________________________