نحن نسرق الموتى وهذه هي مهنتنا!
لا.. لا نسرق كنوزهم كما كانوا يفعلون مع الفراعنة.. لا أحد يأخذ شيئًا في كفنه هذه الأيام إلا لو كان أحمق أو يريد حرمان أقاربه مما أخذ.. لكن على أية حالة أنا لم أقصد أننا نسرق ما معهم..
بل نسرقهم هم..
نسرق جثث الأموات..
نعم.. يمكنك أن تمتعض وأن تتظاهر بأنك صُدِمت مما نفعله وكأنك لم تسمع عن مهنتنا هذه من قبل.. كأن كل الجثث التي تمتلئ بها مشارح كليات الطب نبتت من فراغ أو كأنهم يولدون موتى في مختلف المراحل العمرية، فقط ليتعلم طلبة الطب التشريح على أجسادهم..
عزيزي.. يجب أن تكون مدينًا لنا بالفضل!
لولانا لما وجد الطلبة ما يتعلمون عليه، ليغدوا أطباء قادرين على علاجِك أنت لو أصابك مرضٌ ما طيلة الفترة التي تقضيها حيًا.. فقط بعد أن تموت نأخذ نحن جثتك التي ساعدنا في توفير الصحة والعلاج لها؛ لنبيعها لطلبة جدد سيتعلمون عليها ليساعدوا أحياء آخرين..
أي أننا -في الواقع- نقدّم لكم خدمة جليلة لا نطلب عليها شكرًا ولا إحسانا.. فقط بعض المال مقابل الجثة التي نتجشم عناء إحضارها إليك دون أسئلة أو جدال..
من حقك أن تكرهنا أو تحتقرنا فنحن لا نُبالي بهذه التُّرهات، لكن تذكَّر في كل مرة تذهب فيها للطبيب لكي يعالجك أو يعالج من تحب من مرض ما، أننا نحن من ساعدناه على علاجك، وأنه لولا الجثث التي انتزعناها من قبورها، لهلكت أنت بمرضك لا محالة.. بل دعني أسألك بصورة مباشرة أكثر:
لو كنت أبًا ورأيت طفلك يحتضر من مرض ما علاجه في قبر أحدهم.. داخل جثته بالتحديد..
هل كنت ستترد في إحضارها له؟.. هل ستقف جوار فراش ابنك تردد عليه مواعظ حُرمة الميت وتدنيس القبور؟؟.. هيا كُن صريحًا مع نفسك واعترف..
ما الفارق بيننا إذن؟.. نحن فقط أكثر صراحة منك!
على الأقل نحن نعترف أننا نفعل هذا من أجل المال أيضًا، وهذا في حد ذاته يجب أن يطمئنك.. أنت تعرف أن هناك من يسرقون جثث الموتى لبيعها لطلبة الطب، أفضل بكثير من أن تعرف أن هناك من يسرقها فحسب..
تخيّل أن تقرأ في الصحف عن لصوص يسرقون أجساد الموتى بلا مبرر.. تخيل كم الشائعات التي ستولد والتي سيرددها الكل كالببغاوات.. سيقولون إنهم يأكلون جثث الموتى ويمارسون الجنس معها ويصنعون منها علب طعام من النوعية التي يفضلها أطفالك وأنه مخطط إسرائيلي لتلويث نهر النيل.. بل سيأتي من يقول بأنها الأطباق الطائرة.. الفضائيون يسرقون جثثنا لفحصها تمهيدًا لغزو الأرض!!
مرة أخرى نحن نزيح عنك هذا كله ونجيب على سؤالك ونوفر لك الراحة والأمان.. نحن -فقط- نسرق الجثث لنبيعها لنحصل على المال الذي نستحقه لا أكثر .
مهنتنا يا عزيزي ليست هيِّنة بل على العكس تمامًا، فنبش القبور يحتاج لخبرة واحترافية تمامًا كأي مهنة من المهن.. دعك من مخاطر عملنا التي لا تنتهي..
نحن نكون هناك منذ البداية.. وقت الدفن بالتحديد..
تجدهم ينزلون الميت إلى قبره فتجدنا ممن يحيطون بقبره ويرددون الأدعية وعبارات المواساة، فلا يسأل أيٌّ من أقارب الميت السؤال المنطقي.. من نحن؟
لا أحد يسأل هذا السؤال لأنه –وببساطة- نحن نسعد حين نعرف أن قريبنا الذي مات كان محبوبًا وأن هناك عددا لا بأس به تجشموا عناء توديعه إلى الأبد.. حتى في الموت تنتصر أهمية الشعبية والشهرة على أي شيء آخر..
نحن نمنحكم هذه الرفاهية وحين ترحلون تاركين فقيدكم، نظل في مكاننا ننتظر أن نصير بمفردنا في صبر لا حد له.. من المهم ألاّ يشعر بنا أحد وإلا فهي نهايتنا نحن..
يأتي الليل ومعه الهدوء والعزلة، فنتحرك بسرعة وتنظيم.. نحفر القبر بحذر كيلا نصيب الجثة، ثم نخرجها ليتولّى بعضنا مهمة نقلها إلى حيث سيتم إعدادها لما هو قادم.. وفي ذات الوقت يعكف جزء منا على إعادة القبر إلى صورته الأولى، وهو مجهود ذو فائدة مزدوجة، فنحن بهذا نبعد الشبهات عنا بحيث لا يعرف أحد ما حدث أصلاً.. وفي ذات الوقت نحن نمنحك وهمًا تحتاجه بأن قريبك لا يزال في قبره لو أردت زيارته في أي وقت..
الجثة يتم نقلها إلى غرفة أُعِدَّت خصيصًا لاستقبال الجثث، ولا يمكنني أن أخبرك بمكانك هنا سامحنا.. فقط اعرف أننا نجيد التعامل معها بالصورة التي تستحقها وأكثر.. نعيد تنظيفها ونحدد عمر الجثة وحجمها ووزنها، ثم نقوم بصنع ملف خاص بها ليسهُل علينا الوصول لها عند الحاجة ومرة أخرى لا تقلق.. نحن نجيد تخزين الجثث لتظل طازجة عند الحاجة لبيعها..
يمكنني هنا أن أكون قاسيًا وأن أحكي لك عن مراحل إفراغ الجثة من الدماء وحقنها بالفورمالين وبعض الخطوات (التشريحية) المبدئية التي تمر بها جثة من تُحب قبل بيعها، لكن لا ضرورة لهذا كله.. فقط اعرف أننا محترفون وأننا نجيد ما نفعله إجادة تامة..
بعد الانتهاء من الإعداد تأتي مرحلة التسعير.. أي منح كل جثة السعر الذي سيتم بيعها به، وهي مرحلة شديدة الأهمية وأهم قاعدة فيها هي أن السعر الذي يتم تحديده غير قابل للجدل أو المساومة على الإطلاق.. قد لا تصدق هذا، لكن هناك من يساومون في سعر الجثة التي يريدون شراءها كأنهم يبتاعون نوعًا من الفاكهة..
السعر يختلف باختلاف المرحلة العمرية لكل جثة ووفقًا لحالتها ونوعها.. جثة الأنثى أغلى من الذكر -حتى في هذا يتفوقون علينا!، وجثة الشاب أغلى من جثة العجوز، وجثث الأطفال تباع بأسعار خاصة لنُدرتها، ولو كانت الوفاة بسبب حادث أو جريمة فإن هذا يقلل من سعر الجثة وفقًا لدرجة الضرر الذي تعرضت له الجثة، وفي المقابل لو كانت الوفاة لمرض نادر.. حينها نكون كمن عثروا على قبر ملك فرعوني!
لن ألومك لو شعرت بالامتعاض من هذا النظام، لكنني لست واضعُه ولا مَن معي، بل مَن سبقونا هم الذي تركوا لنا كل شيء بقوانينه.. مهنتنا كأي مهنة قديمة الأزل وتوّرث من جيل لجيل، ومن بعدنا سيأتي آخرون ليواصلوا نشر الصحة والسعادة للأحياء..
أنت الآن تعرف من نحن وما تعرفه يكفيك..
ما حدث لنا هو المهم..
وهذا ما سأحكيه..
(2)
نحن نتعامل مع وسطاء يسهلون عملية بيع الجثث، ولهذا مزية وعيب في آن واحد، فهو وإن كان يسهّل علينا الحصول على مشترين، إلا أنه وفي الوقت ذاته يزيد عددنا وبالتالي فرص الخطأ، فانكشاف أمرنا فالذهاب إلى سجون لن نخرج منها إلا جثثًا تستعد لأن تُسرَق تمهيدًا لأن تخدم البشرية على موائد التشريح..
لكن وبما أننا لم نضع هذا النظام، فلا مفر أمامنا إلا من اتباعه.. الوسطاء يحصلون على نسبة لا بأس بها، وأفضل وسيط نتعامل معه هو الحاج (متولي) الذي لم يحصل على لقب حاج إلا لعباءتِه التي يرتديها على كل ملابسه، وللسبحة التي يداعبها في أنامله وهو يتفحص كل جثة نحضرها نحن، قبل أن تتم عملية البيع.. الواقع أن أي شخص قادر على الحصول على لقب (حاج) لو ارتدى عباءة أو لو أطلق لحيته لفترة طويلة!
يتعامل الحاج متولي مع عمال مشارح كليات الطب -الذين يحصلون على نسبتهم أيضًا- وتعامله معهم يمتد لعشر سنوات حتى الآن، أي أن الثقة متبادلة ولا وجود للخلاف إلا نادرًا.. بالتالي تجد أننا نمنحه مكانة خاصة من بين كل الوسطاء الذين نتعامل معهم..
الرجل –وبمفرده- يسهّل لنا بيع أكثر من ألفي جثة مع مطلع كل عام دراسي!
يأتي لنا الحاج (متولي) إلى حيث يتم إعداد الجثث، ليتفحص غنائمنا وليقرر.. جثة هذا الرجل ستذهب إلى كلية طب (...).. وجثة هذا الشاب وهذه المرأة ستنطلق إلى كلية طب (...).. الهياكل العظمية مطلوبة من الجميع، ولو كنت من طلبة كلية الطب سستفهم ما أعنيه..
كمن ينتقي طعامه من بوفيه مفتوح ينتقي الحاج (متولي) جثثه، ثم وفي النهاية يجري بعض الاتصالات التي تدر دخلاً مرضيًا على الجميع، وفي بعض الأحيان يخبرنا بما يحتاج له لنجهزه له للمرة المقبلة.. أكثروا من جثث النساء.. لن نحتاج لأطفال هذه الأيام.. من فقدوا أطرافهم قبل الوفاة مرهقين في بيعهم فتجنبوهم.. وهكذا..
لم نكن نجادله في شيء طالما كل شيء معروف ومحسوب سلفًا.. ننبش القبور.. نخرج الجثث ونبيعها.. يوصلها الحاج (متولي) لمشارح كليات الطب ليدرس عليها الطلبة.. قد يرق قلب بعضهم ليدفنوا الجثث في النهاية لنخرجهم نحن من جديد!
منظومة في غاية الجمال والدقة وإن بدت روتينية للبعض أو مقززة للبعض الآخر..
فقط حين أتانا الحاج (متولي) بمطلبه الغريب منذ شهرين، اختلت هذه المنظومة تمامًا وبدأ الكابوس الذي لم نعرف أننا مقدمين عليه إلا منذ قليل..
ما الذي حدث؟.. لنبدأ بمطلب الحاج (متولي) الغريب لتفهم..
" أحتاج لجثث كثيرة.. أريدها كما هي دون إعداد.."
هكذا قال الحاج (متولي) وهكذا تبادلنا نحن نظرات الدهشة والاستغراب..
لا إعداد؟!
إعداد الجثة حتمي وإلا ستبدأ في التحلل والتعفن وكل المراحل التي لا نحب التحدث عنها رغم ثقتنا بأننا سنمر بها في يوم ما.. ثم إنه يطلب جثثًا كثيرة وهذا ليس (الموسم) كما يقولون..
هكذا سألناه فبدت عليه صرامة لم نعهدها فيه، وهو يجيب:
لا أسئلة.. هل ستوفرون لي ما أحتاجه.. أم؟؟
لكننا لم نكن أغبياء لنخسر وسيطًا كالحاج (متولي)، فأجبناه بالموافقة وإن قررنا أن نلح عليه بالسؤال لاحقًا لنفهم.. جثث كثيرة بدون إعداد؟.. بالطبع يجب أن نفهم..
كنا قد (أعددنا) بعض الجثث بالفعل، فعرضناها عليه ليرفضها رفضًا قاطعًا، وهو يردد:
لا إعداد.. أريدها كما هي.. طازجة..
وهذا يعني أن أمامنا عملاً لننجزه..
فقط لنأمل أن تكون نسبة الوفيات لهذا الشهر مرضية.. سامحنا.. لكن مصائب قوم عندنا فوائد!
هكذا انتشرنا بين القبور وهكذا قضينا أيامنا نذرف الدموع في الجنازات، وليالينا في نبش القبور وسرقة الموتى..
كنا نشعر بالتوتر هذه المرة، لأننا لم نكن نفهم..
يمكنك أن ترتكب جريمة تفهم دوافعها..
ستعرف أنها جريمة لا شك فيها، وربما شعرت بنوع من الذنب، لكنك ستفعلها لو كان المقابل مُجزيا ما فيه الكفاية.. لكن أن تفعلها دون أن تفهم لماذا؟
الحاج (متولي) أخبرنا أن المقابل هذه المرة سيكون أكثر مما اعتدنا عليه، لكنه لم يكن مجزيًا ما فيه الكفاية لنتجاهل حيرتنا، فعدنا نسأله ليرق قلبه قليلاً وليخبرنا السبب:
هذه المرة نحن لا نبيع لكليات الطب.. بل لأشخاص..
أشخاص يريدون جثثًا؟.. لماذا؟؟
يقولون إنهم يحتاجونها في أبحاث.. أخبروني أنهم سيدفعون أكثر لو كانت الجثث طازجة..
لكن.. من هم هؤلاء الأشخاص بالضبط؟
لا تشغلوا بالكم بهذا وأحضروا لي ما طلبته فحسب..
لكن..
لن أكررها.. يمكنني الحصول على ما أريد من مكان آخر وأنتم تعرفون هذا..
وهذا ما كنا نعرفه فصمتنا..
سنواصل دون أن نفهم أو لنحاول نحن اختراع القصة التي ترضينا.. يمكنك أن تخترع أي قصة لتخرس بها حيرتك، وكل ما عليك هو أن ترددها بما فيه الكفاية لتصدقها!
ولتكن قصتنا أن هناك أشخاصا (صالحين) يريدون بعض الجثث لتجربة أدوية جديدة عليها، مما سيعود بالخير على أشخاص آخرين (صالحين) ونحن سنمدهم بهذه الجثث لأنهم يدفعون جيدًا ولأننا (صالحين) مثلهم نوّد خدمة البشرية بما نفعله..
رددها أنت أيضًا بما فيه الكفاية وستجد أن تصديقها ليس عسيرًا كما كنت تظن..
هكذا عشنا في حالة سعادة صناعية لشهر كامل، قبل أن يقرر الحاج (متولي) أن يختفي فجأة ليترك لنا أكوامًا من الجثث التي لم يتم إعدادها، والتي توشك على التحلل!
نعم.. نحن نذكر أن هذا هو ما حدث أولاً..
اختفى الحاج (متولي) ثم بدأت باقي تفاصيل الكابوس تطفو إلى السطح.. الكابوس الذي كان موجودًا منذ البداية، لكننا لم نشعر به إلا متأخرًا..
متأخرًا جدًا..
(3)
كان اختفاء الحاج (متولي) غير مبرر ولا مفهوم..
آخر مرة رأيناه فيها حين جاء ليتسلم آخر شحنة من الجثث التي حصلنا عليها؛ لينقدنا ثمنها وليخبرنا أنه لا يزال في حاجة للمزيد, مهشمًا أي قناعة كانت لدينا تجاه القصة التي ألفناها عمّن يشترون هذه الجثث.. لشهر كامل ونحن نحصل على الجثث ونبيعها بلا انقطاع محاولين تجاهل حقيقة أننا لا نبيع لإحدى الكليات التي تحوي مئات الطلبة, ولا أننا لسنا في بداية العام الدراسي حيث يزداد الطلب كما هو معتاد.. لشهر كامل ونحن نقنع أنفسنا أن هؤلاء السادة الذين يشترون الجثث يمارسون أنشطة علمية بحتة وأنهم يفضلون الخصوصية لأن الأبحاث العلمية عادة ما تكون سرية وإلا سرقت كالجثث..
لكن.. لكن..
لكن أي أبحاث هذه التي تحتاج لهذا الكم من جثث الموتى؟!
حتى الآن أخذوا منا ما يتعدى السبعين جثة, وفي حياتنا لم نقرأ أو نسمع عن أبحاث تحتاج لكل هذا العدد من الموتى.. لكنهم لا يتوقفون عن الطلب أو الدفع, لذا نستمر نحن إلا أن يعلنوا أنهم حصلوا على كفايتهم وإن كنا بدأنا نشك في أن هذا اليوم لن يأتي أبدًا..
كل هذا من الممكن احتماله طالما الحاج (متولي) هو همزة الوصل بيننا وبين هؤلاء الغامضين الذين يهوون جمع الجثث فيما يبدو.. لكن وباختفاء الحاج (متولي) المفاجيء تغير كل شيء..
الرجل كان بيننا منذ أقل من يوم بعباءته وسبحته ولقبه الذي لا يستحقه, يخبرنا أنه بحاجة إلى المزيد, ثم وفي صباح اليوم التالي فوجئنا بمن أتى من منزله يسأل عنه معلنًا أنه لم يعد إلى منزله قط..
في البداية تعتقد أن هناك شيئًا ما خطأ وتقنع نفسك أنه لم يختف تمامًا, بل هو منشغل بأمر ما وسيعود منه قريبًا.. سيعود منه بعد فترة.. يبدو أنه منشغل بالفعل ويبدو أنه أمر طارئ الذي يستلزم كل هذا الاختفاء..
هاتفه لا يرد.. سيارته لا أثر لها.. منزله لا يزال ينتظره, لكنه لا يعود..
مع الوقت نستوعب أن هذه هي الحقيقة.. الحاج (متولي) اختفى!
يمكننا أن نلجأ إلى الشرطة لو أردنا المشاكل التي لا مبرر لها ولا نهاية, لذا لا يوجد أمامنا إلا أن نبحث عنه بأنفسنا وهذا ما فعلناه, لنتفق على شيء واحد في النهاية..
الحاج (متولي) اختفى بلا أثر وبلا أمل في العثور عليه..
لم يكن حادثًا؛ فجسده لم يظهر في المستشفيات وجثته لم تظهر في المقابل ونحن واثقون من هذا.. لم يكن اختطافًا فلم يتصل أحد.. دعك من أنه لا يوجد من يوّد اختطاف كهل مزعج كالحاج (متولي).. لم يهرب.. لم يسافر.. لم يحترق أو يسقط عليه نيزك..
فقط.. اختفى!
كانت الجثث التي جمعناها له بدأت تتحلل في ذلك المخزن وهذا حقها بالمناسبة.. نحن لم نعدّها بناء على طلب الحاج, وهي لن تتفهم مطلبه بل ستمارس حقّها الكئيب حتى تتصاعد رائحتها للدرجة التي أجبرتنا على نسيان الحاج (متولي) والتفرغ لهذه المشكلة..
يجب أن ندفن هذه الجثث على الفور وإلا ستجذب رائحة الموت هذه كل الأعين علينا.. وبالنسبة لنا يشبه هذا أن ندفن أموالنا في الأرض لنحرم أنفسنا منها إلى الأبد!
لكن للأسف لا يوجد أمامنا حل آخر..
دفنا الجثث.. بحثنا مرة أخيرة.. تقبلنا الحقيقة المريرة في النهاية وهي أننا خسرنا الحاج (متولي) وعملاءه الغامضين الذين يشترون الجثث بأعلى سعر..
كان اختفاء الحاج (متولي) كارثة, لكننا نتعامل مع الموت كل يوم, ونعرف أنه لا كارثة بلا حل أو نهاية..
أخبرناك سابقًا أنه من أهم الوسطاء الذين نتعامل معه, لكنه ليس الوسيط الوحيد.. سيستمر العمل ولو كان أبطأ أو أسخف أو أقل ربحًا.. فقط سيكون علينا أن نعتاد العمل على فترات متقطعة وبمقابل أقل, بعدما كنا اعتدنا على العمل المتواصل والأرباح المتراكمة..
هذا سهل.. هذا ممكن..
هذا ما ظنناه في البداية!
* * *
بعد أسبوع واحد لا أكثر لم نبع خلاله سوى جثتين فحسب, لم نطق الاحتمال أكثر وقررنا البحث عن الحاج (متولي) في كل مكان.. إما أن نعثر عليه أو على جثته..
ضع نفسك مكاننا -أعرف أن هذا عسير, لكن حاول!- نحن اعتدنا على بيع ثلاثين جثة على الأقل شهريًا لنحصل على ثمن خمسين بأسعار كليات الطب, مما منحنا النشاط والحماس والمال الوفير, ثم يختفي (متولي) اللعين لنخسر مورد رزقنا دون ذنب جنيناه..
حاولنا العودة للسابق فلم نطق.. العمل أبطأ.. الطلب أقل.. الأرباح تنكمش.. حتى الجثث أصبحنا نخرجها فنجدها تبتسم ساخرة مما يحدث لنا!
الحل؟.. بسيط.. ليذهب الحاج (متولي) إلى الجحيم لو شاء, لكننا سنصل لهؤلاء المشترين الذين لا يتوقفون عن طلب الجثث ودفع ثمنها بأي ثمن..
كيف؟.. تلك هي المشكلة..
تلك هي المشكلة التي يبدو أنه لا حل لها, لولا أن أتى ذلك اليوم الذي جاء فيه حل المشكلة بنفسه إلينا..
وياليته ما فعل
كنا نهم بإعداد جثة تلك الفتاة, حين فوجئنا بذلك الرجل يتجه إلى مقرنا بخطوات هادئة بطيئة كأنه يمنحنا فرصة كافية لاستيعاب أن غريبًا عرف الطريق إلى مقرنا السري..
لكن وقبل أن نولي الأدبار فوجئنا به يعلن أنه من طرف الحاج (متولي) فأسرعنا إليه ذاهلين..
كان الرجل أشيب الرأس ذا قامة طويلة نحيفة, مما يعني أنه لو مات لن نحصل مقابل جسده على الكثير.. وكنا نحن أصغر سنًا وأكثر عددًا, لكننا شعرنا بالرهبة حين خرج صوته الخفيض يقول:
أنا هنا لأحصل على الجثث..
كأنه ملاك الموت وقد جاء ليطالب بما هو حقه.. بادرناه بعشرات الأسئلة عن الحاج (متولي) وأين هو ومن هو وكيف عرف الطريق إلى هنا وإن كان هو الذي يبتاع الجثث طيلة الوقت وأسئلة أخرى كثيرة لا تهم, لأنه لم يجب على أي منها..
فقط ردد بصوته الخفيض المهيب:
أنا هنا لأحصل على الجثث..
ثم أخرج من جيبه رزمة أوراق مالية ألقى بها إلينا, فانتفضنا ذاهلين..
هذا المبلغ يكفي لشرائنا نحن أحياء لو أراد!
هذا المبلغ يكفي لننبش له قبور العاصمة كلها.. يكفي لأن نقتل لنحصل له على المزيد من الجثث.. هذا المبلغ يعني أن الحاج (متولي) كان يسرقنا!!
الوغد اللعين كان يدفع أكثر مما اعتدنا عليه, لكن هذه الرزمة وحدها أكثر بكثير مما جمعناه طيلة الفترة الماضية.. سيكون من حسن حظ الكلب (متولي) أن نعثر على جثته بدلاً من أن يسقط في أيدينا حيًا..
أريدها بلا إعداد..
قالها الأشيب بصوته الأشبه بالفحيح فلم نعترض.. توقعنا هذا ومع هذا المبلغ لم يعد هناك مجال للحيرة أو التساؤلات.. سنحصل له على الجثث التي أرادها..
لكن.. كيف سنوصلها لك؟.. نعني.. أين؟؟
سألناه فألقى لنا بورقة عليها عنوان مخزن قديم نعرفه.. رسالة واضحة.. ضعوا الجثث هنا ونحن سنتصرف..
ثم إنه لم يترك لنا المجال للزيد من الأسئلة.. ترك المال والعنوان ورحل..
و الآن اسمح لنا أن نتركك قليلاً فأمامنا عمل لننجزه..
(((4)
مرت عدة أشهر من السعادة والرخاء..
لم نعد نتعامل مع كليات الطب؛ فأسعارهم لم تعد تعنينا في شيء.. لم نعد نشغل بالنا بقضية نشر الصحة والتعليم, وقررنا التفرغ لجمع المال, ولقد كان مال عملائنا الجدد وفيرًا لا ينضب..
ثم إنهم كانوا يشترون أي جثة نعثر عليها وبأعلى سعر سواء كانت لرجل أو امرأة مهما كان عمرها أو حالة الجثة.. فقط يريدونها طازجة بلا إعداد..
لعدة أشهر شعرنا بمزيج من السعادة والراحة والثقة, وبدأت أمارات النعمة تظهر علينا بوضوح, حتى أننا أصبحنا لا نعمل بأنفسنا بل نستأجر عمالاً ينفذون العمل الشاق بدلاً عنا, كأننا كبار تجار الموتى!.. أيام تَمُر وعددنا يتزايد وآثارنا تظهر واضحة على أغلب قبور المدينة, وكل شيء يسير بنعومة وسلاسة, ليشعر بعضنا بذلك القلق المميز لكل الأيام الهانئة..
أنت تعرف هذا الشعور.. حين يسير كل شيء وفقًا لما تريد, وحين تحصل على ما تتمناه وتحقق ما تصبو إليه.. هذا لا يحدث على أرض الواقع إلا في حالة واحدة.. لو كانت كارثة موشكة على الحدوث قريبًا!.. هدوء ما قبل العاصفة كما يسمونه.. لا تحاول أن تتجاهل هذا الإحساس أبدًا لو شعرت به, فالحياة لا تمنح إلا لتأخذ ولا ترضى عنك إلا لتثور فجأة, وحين تفعل.. ترد لك الصاع بألف..
لقد انتشر هذا الإحساس بيننا فتبع الشعور بالقلق.. نحن نثق أن شيء ما موشك على الحدوث لكننا لا نعرف متى ولا أين؟
لكن بعد عدة أيام من الحذر عرفنا..
وياليتنا لم نفعل!
نحن لم نعد ننبش القبور بأنفسنا, لكننا نتابع كل المراحل التالية من تنظيف الجثة وتخزينها المؤقت, ثم شحنها إلى المخزن الذي طلب عملاؤنا منا أن نترك الجثث فيه.. بهذا نتابع سير العمل عن كثب, وبهذا نحتفظ وحدنا بسر موقع المخزن الذي نترك فيه الجثث في النهاية وهو سر يجب الحفاظ عليه وإلا طارت أعناق كثيرة.
وحين تمارس مهنتنا هذه لفترة تتحول كل الجثث بالنسبة لك إلى (جثث وحسب) وهي مزية نشكر الله عليها دومًا!
في البداية كنا نرى الجثة فنشعر أن هذا الصبي مات قبل أوانه.. أن هذه الفتاة كانت جميلة وأن جمالها سيذوى إلى الأبد..
أن هذا العجوز يحمل ابتسامة راضية على وجهه.. كنا نشعر بهذا ثم نجد أنفسنا مطالبين بالعمل على الجثة لإعدادها لنشعر بالذنب والاشمئزاز..
لكن مع الوقت تغلبت المهنة علينا وتحولت الجثث إلى (مُنتَج) نتعامل معه ونبيعه لنربح منه.. لم يعد هناك عجوز مطمئن بل هو جثة سعرها كذا.. لم تعد هنا فتاة جميلة, فالجميلة والقبيحة تتساويان في الموت وفي سعر البيع.. وهكذا..
فقط في بعض الأحيان تستوقفنا بعض الجثث لغرابتها, وكانت جثة هذا الرجل الموشوم غريبة حقًا..
أسميناه الموشوم لأن الوشوم كانت تغطي صدره وظهره وذراعيه, على نحو يندر أن ترى مثيلاً له في الموتى أو الأحياء..
كان ضخم الجثة وكانت عضلاته التي لم تتآكل بعد تعلن أنه لم يكن خصمًا سهلاً في حياته.. لكن الأمر الغريب والذي توقفنا عنده طويلاً هو أنه كان بلا عينين!
لا.. لا جروح تعني أنه فقدهما أو أن أحدهم نزع عينيه جراحيًا -ربما لسرقة القرنية- بل إن الأمر يبدو وكأنه ولد بلا عينين أصلاً.. تتساءل إذن.. لو كان هذا الرجل قد قضى حياته أعمى لا يبصر, فلماذا الوشوم ولماذا العضلات التي تشي بحياة عنيفة قاسية؟.. تساءل كما تشاء فلن تجيبك الجثة!
أمر يثير الحيرة حقًا ولقد توقفنا عنده لفترة قبل أن نقرر أن نتجاهله لنواصل عملنا.. مرة أخرى أذكرك أن جثة هذا الرجل بالنسبة لنا هي مجرد منتج نبيعه.. لا يهمنا شيء عن حياته ولا كيف قضاها ولا إلى أين ستخلد روحه..
كأي جثة تم تنظيفها.. شحنها.. وضعها في المخزن ليستقبلها عملاؤنا الكرام الذي يدفعون بسخاء..
كأي جثة غريبة علقت في أذهاننا لفترة ثم نسيناها تمامًا حتى.. حتى..
حتى رأيناها مرة أخرى!
نحن ننبش القبور في الليالي, لذا تجدنا طيلة النهار إما نائمين أو نأكل..
أغلبنا لم يتزوج بعد وهذه من آثار العمل في مهنتنا.. كثرة رؤية الجثث تقتل الرغبة, فما بالك بسرقتها؟..
المهم أن أغلبنا لم يتزوج بعد, وأن المطاعم هي سبيلنا الوحيد للحصول على أي شيء شهي..
لو رأيتنا في ساعات النهار, ستجدنا نجتمع في أحد المطاعم نأكل في صمت فلن تشعر بنا ولن تشك فينا أبدًا.. سادة مهذبون يتناولون طعامهم ويدفعون الحساب ليرحلوا في هدوء..
سادة مهذبون ومتأنقون حتى لو كان التأنق لإخفاء رائحة الجثث التي نقضي معها ليالينا!
أغلب وجباتنا نحصل عليها من ذات المطعم إلا لو تغلّب علينا الملل, حينها ننطلق في جولات طويلة لنبحث عن مكان جديد يروق لنا كلنا.. والمطعم الذي نفضله يقع في وسط العاصمة في منطقة شديدة الازدحام والصخب ولا بد أنك مررت عليه في أحد الأيام ورأيتنا لكنك لا تذكر..
نجلس دومًا عند تلك الطاولة الضخمة قرب واجهة المطعم الزجاجية, ونتناول كلنا ذات الصنف في هدوء كأننا نؤدي واجب العزاء.. إنها طاولتنا المفضلة لأنها تتيح لنا الفرصة لرؤية الأحياء وهم في حياتهم الطبيعية..
نرى ذلك الرجل ذا البذلة يصيح آمرًا في هاتفه المحمول, فنتخيل كيف سيكون في قبره حين نخرجه.. نرى تلك الفتاة تعرض للعالم مساحيق التجميل التي تخفي ملامحها, فنبتسم ونحن نحاول رسم هذه الملامح دون مساحيق في مخيلتنا..
نرى ذلك الرجل الضخم الموشوم عاري الجذع يجري عابرًا الطريق, فيتوقف الطعام في حلوقنا وننتفض ذاهلين!!
بعد دقيقة من الذهول الصامت, نتبادل نظرة (هل هو حقًا؟) ليجيب أحدنا علينا:
- لقد.. لقد كان بلا عينين..
(5)
رجل ضخم موشوم بلا عينين, هل يمكن أن تكون مجرد مصادفة؟!
بالطبع هي مصادفة, فما الخيارات الأخرى التي نملكها؟؟..
هل تريد أن تخبرني أن الجثة عادت إلى الحياة؟!
كف عن السخف!
الموتى لا يعودون إلى الحياة, ونحن أكثر من نعرف هذا, فأنت لم تعش معهم كما عشنا نحن..
ربما -وفي بعض الأحيان لا أكثر- تحركت جثة بعد أن استخرجناها, لكن من علّمونا هذه المهنة أخبرونا أن هذا طبيعي.. إنها العضلات تضمر أو هواء يخرج أو هو الجسم يلتهم نفسه.. لهذا كانت بعض الجثث تتأوه أو تفتح أعينها أو تقبض على أيدينا, وهي أشياء لو رأيتها أنت لمُتَّ هلعًا..
مرة وحيدة استخرجنا جثة وعادت إلى الحياة.. إلى وعيها لو شئنا الدقة, وهذه المرة لا تُنسَى فلم يمر علينا سواها, ولا نتمنى أن يمر..
كانت جثة عجوز يبدو أن المرض امتص جسده فلم يترك لنا إلا عظامه, وكنا قد حضرنا جنازته لنعرف أنه مات مصابًا بالسرطان بعد صراع طويل لا نتمنى أن يخوضه أحد منا.. المهم أننا استخرجنا الجثة دون أن نعقد آمالاً عظيمة في الحصول على سعر لائق لها, لكنها الأمانة في العمل لا أكثر!.. أخرجنا العجوز وأرسلناه إلى حيث سيتم إعداده, ثم تركناه هناك لدقائق لا أكثر, وعدنا لنجده قد اختفى!
بحثنا عنه ذاهلين, فوجدناه يجوب الأرض حول مقرنا ذاهلاً لا يصدق ما يحدث من حوله, وقبل أن نفقد عقولنا لفرط ذعرنا, استنتج أحدنا تفسير ما حدث.. تشخيص وفاة خاطيء!
حدث بالفعل كما يقولون, ولو راجعت الأخبار والتاريخ لوجدت أن هذه الحادثة تكررت كثيرًا.. يدفنون شخصًا ما حيًا بعد أن ظنوا أنه مات, ليجدوا آثارا على قبره لاحقًا تشي بأنه كان يحاول الخروج.. مجرد آثار لا تعني إلا أنه مات بالفعل الآن وأن الطبيب الذي أعلن وفاته يستحق أن يكون مكانه, وهذا أكثر ما يستفزنا نحن..
أن نجد أطباء على هذه الدرجة من البلاهة بعد كل ما نفعله من أجلهم!
ليلتها هام العجوز قليلاً في الأرض, دون أن يجرؤ أحدنا على اعتراض طريقه, ثم هوى أخيرًا, لنتأكد بأنفسنا من وفاته هذه المرة.. وحين فعلنا, تحول العجوز إلى (مُنتَج) كباقي المنتجات التي نعدها للبيع ونكسب منها رزقنا..
هذه هي المرة الوحيدة التي نذكر فيها أن ميتًا عاد -مؤقتًا- إلى حياته.. فهل الموشوم الأعمى يكرر ما حدث؟؟.. مستحيل!
أولاً: مرّت عدة أيام على وفاته ودفنه..
ثانيًا: نحن قمنا بفحصه وتنظيفه قبل تخزينه ونحن لا نخطئ كالأطباء الحمقى..
ثالثًا: وهذا هو الأهم أننا نذكر جيدًا سبب وفاة هذا الموشوم..
لقد كان هناك ثقب رصاصة في مؤخرة رأسه!.. أي وباختصار شديد.. هذا الموشوم من المستحيل تمامًا أن يعود إلى الحياة.. مستحيل..
مستحيل.. مستحيل..
ما الحل الذي يتبقى إذن؟..
نعم.. إنه موشوم آخر -بالمصادفة- بلا أعين أيضًا -بالمصادفة, وضخم الجثة -بالمصادفة، مرّ أمامنا في ذلك اليوم ليعبث بعقولنا لا أكثر..
نعم.. القصة ستنتهي عند هذا الحد ولن نضع فيها المزيد من الوقت, وسنعود لعملنا المربح الذي يكفي ربحه لإخراس أسئلتنا و.. و..
ولكننا رأيناه بعد ذلك..
فقط حين رأيناه أخيرًا أدركنا أن خلافنا قد يتأجل قليلاً, لنفهم ما الذي يفعله أولاً..
فهناك وعلى أحد القبور, ربض الحاج (متولي) على ركبتيه, وقد أخذ يحفر القبر بأظافره, وقد حمل وجهه وعيناه نظرة جامدة مخيفة!
لم يبد عليه أنه شعر بنا أو اهتم.. لم يبد عليه الخوف أو البرد أو التعب أو حتى الهدوء.. لم يبد عليه أي شيء كأنه فقد مشاعره أو عاد من اختفائه بدونها.. فقط أخذ يحفر بأظافر دامية ذلك القبر كأنه يحفر قبره هو..
نادينا عليه فلم يُجِب بل واصل الحفر؛ لتتحول دهشتنا إلى خوف لم نشعر بمثله من قبل.. إن الإجابة تنبت في أعماقنا, لكننا نتظاهر بأنها ليست كذلك.. نتظاهر أننا لا نشعر بها, تمامًا كالحاج (متولي) الذي بدأ في إخراج الجثة من القبر دون أن يشعر بنا على الإطلاق..
ببساطة انتزعها من قبرها, ثم حملها على كتفه ووقف بها ليبدأ في رحلة الابتعاد عنّا, وهنا لم يعد بإمكاننا الصمت أو التجاهل..
انقضضنا عليه لننتزع الجثة من على كتفه, ولنحاول انتزاعه هو من حالته العجيبة هذه, لكنه ظل يحدق فينا بعينين لا تريان.. لم يقاومنا ولم يحاول حتى أن يعترض أو ينطق.. نظر إلى جثته التي أخذناها منه, ثم تركنا ليعود إلى القبور..
على سطح قبر آخر ربض, وبأصابع فقدت أظافرها بدأ يحفر من جديد!
يمكنك أن تتخيل نفسك مكاننا وأن تخبرنا بما ستفعله حينها.. يمكنك الآن وأنت آمن في دارك أن تفكر وتحلل وتستنتج وتجرّب, فلا خطر عليك ولا أنت منَّا أو عشت حياتنا.. يمكنك أن تتعقل.. أن تتريث وأن تراجع نفسك..
نحن لم نحظ بهذه الرفاهية.. نحن شعرنا بالذعر ليلتها, فانقضضنا مرة أخرى على الحاج (متولي)..
ودفنّاه حيًا!!
(6)
نحن لسنا وحوشًا صدقني, لكننا أدركنا أن من رأيناه في تلك الليلة لم يكن الحاج (متولي)..
نحن لا نبالغ ومن يمتهنون مهنتنا, يعرفون أن الموت هو أقصى درجات المبالغة فلا داعيَ لها.. نحن فقط نعرف أنَّ من رأيناه في هذه الليلة المشئومة, لم يكن الحاج (متولي) بأي صورة من الصور.. إنه فقط يبدو مثله.. نسخة طبق الأصل منه لا أكثر..
تريد أدلة؟.. كأننا مطالبون بإرضائك!..
الحاج (متولي) لم يكن بهذا الطول أبدًا, ولم يملك في حياته القوة الجسدية الكافية لينبش قبرًا بيديه العاريتين ولا لحمل جثة لا يقدر على حملها إلا ثلاثة منّا.. والأهم من هذا كله..
الحاج (متولي) لم يحمل جسده كل هذا الكم من الحروق التي رأيناها عليه تلك الليلة.. حروق كافية لإبراز عظامه!
لماذا دفناه حيًا؟.. لأننا حين حاولنا إيقافه مرة ثانية, بدأ يصرخ بصوت لم نسمعه يخرج من حلق آدمي قط..
صوت كفيل بإيقاظ الموتى وجلب الأحياء ليقبضوا علينا..
هكذا تجد أن الخيار كان إما هو أو نحن..
كان القبر الذي نبشه أمامنا.. كنا على وشك أن نفقد عقولنا.. الأحداث تجري بسرعة لو أمكنك أن تتخيلها.. فقط تكفينا قناعتنا بأنه لم يكن الحاج (متولي) الذي استقر في القبر ليلتها..
الذي رأيناه في تلك الليلة كان -وببساطة- شيء ما يشبه الحاج (متولي) أو.. أو..
أو يحرّكه..
الواقع أننا نحتاج لبعض الوقت لنفكر ولنحاول أن نفهم..
أرجوك.. اعذرنا وسنعود لك قريبًا!
بعد يوم كامل من النقاش المستمر, توصَّلنا إلى أقرب تفسير يصلح لهذا كله..
لكن خروج الحاج (متولي) من قبره أثبت لنا خطأ هذا التفسير!!
إنه ليس الحاج (متولي) وكل ما حدث أثبت لنا هذه الحقيقة.. إنه جسده -أو جثته- لكنه ليس هو على الإطلاق..
شيء ما يتحكم في جسد الحاج (متولي) الذي مات مرتين حتى الآن, ومن الواضح أن المرة الأولى لها علاقة بتلك الحروق التي رأيناها على جسده..
المرة الثانية كان حين دفنَّاه, لكنها لم تُبقِه في قبره طويلاً, فلم يكد يوم يمر حتى فوجئنا به يخرج من قبره, كما يحدث في أفلام الرعب التي نشاهدها لنضحك.. لكننا هذه المرة لم نبتسم حتى.. انتفضت قلوبنا رعبًا ونحن نرى الحاج (يخرج) من تحت التراب حاملاً جثة جديدة كانت في قبر مجاور له!
مرة أخرى يستبد بنا الذعر, ومرة أخرى نكاد ننقضُّ عليه لنعيده حيث كان, لولا أن اقترح أحدنا أن نتركه لنرى ماذا سيفعل..
خيار خطير فعلاً, لكنَّ إجابة هذا السؤال تستحق المخاطرة..
هكذا تركناه يحمل جثته ويرحل, لنتتبعه مستترين بالظلام والحذر, محاولين تجاهل أن خطواته أسرع بكثير من خطوات أي شخص عرفناه في حياتنا.. لا أحد يتحرك بهذه الخفة والسرعة..
مرت ساعة كاملة قضيناها في تلك المطاردة, لنجد أنفسنا في النهاية في آخر مكان تخيلنا أن نصل إليه.. عند المخزن الذي نترك فيه الجثث!
هناك توقف الحاج (متولي) لحظة, قبل أن يشير بيده للقفل على باب المخزن, لينفتح القفل مستسلمًا لإشارة الحاج, الذي دخل المخزن ليغيب فيه لحظة, قبل أن يخرج منه تاركًا الجثة التي كان يحملها..
و أمام أعينا الذاهلة عاد أدراجه في اتجاه المقابر قرب مقرنا..
حينها.. حينها فقط..
أدركنا أننا مقدمين على أيام سوداء بلا نهاية!
هذه المرة دفنا الحاج (متولي) ثم صببنا بعض الأسمنت على جثته, لنضمن أنه لن يعود لينافسنا في عملنا مرة أخرى!
وعند النقطة الأخيرة توقفنا طويلاً طويلاً, ثم أيقنا في النهاية أننا نحمل كلنا ذات الشعور في أعماقنا..
ما حدث له علاقة بالمشترين الغامضين..
الحاج (متولي) كان يجمع الجثث لهم, ولابد أنه في مقابر ما يحفر الموشوم الأعمى الآن بأظافره ليمدهم بالمزيد من الجثث.. هذا يفسر الجثث الإضافية التي عثرنا عليها في المخزن والتي نثق أننا لسنا المسئولين عنها..
الصورة تتضح رغمًا عنا وإجابات أسئلة تظهر, لتلد لنا أسئلة جديدة..
ما يحدث له علاقة بهؤلاء الذين يدفعون كثيرًا ليحصلوا على الجثث.. نحن نتثق في هذا, لكن ما هي العلاقة بالضبط؟؟
هل يعيد هؤلاء المشترون الموتى إلى الحياة ليجمعوا لهم المزيد من الجثث؟
كيف؟؟
ولماذا؟!
ما هو السبيل لنعرف إجابات هذه الأسئلة, فنحن لن نسألهم ولن ننتظر منهم أن يجيبوا أسئلتنا بصدق؟
ما هو الحل إذن؟؟
توصلنا إلى الحل أخيرًا ولهذا ترانا نرقد وسط الموتى!
نعم.. نحن الآن في ذلك المخزن الذي نترك فيه الجثث, نرقد وسطها نتظاهر بأننا منهم ومثلهم, لكننا لنا قلوب تنبض خوفًا وترقب..
وسط الموتى نرقد في انتظار أن يأخذونا من هنا.. أن يأتي المشترون وأن ينقلونا إلى حيث نقلوا الجثث السابقة..
حينها سنعرف ما الذي يحدث بالضبط.. سنرى بأنفسنا ونحن لا نثق إلا بأنفسنا..
لكن.. هل سننجو لنخبرك؟
(7)
نحن لم نحب هذا الخيار ولم نرضَ به إلا لأننا لم نملك سواه..
أحدنا اقترحه ونحن ناقشناه طويلاً, ثم صوّتنا على أنه الخيار الوحيد الذي نملكه, ثم نفذناه صاغرين.. لهذا اتّجهنا إلى مخزن الموتى, ثم رقدنا وسطهم متظاهرين أننا منهم, منتظرين أن يأتي المشترون الغامضون..
المفترض وفقًا لصاحب الاقتراح أنهم سيأتون وسينقلون الجثث -ونحن وسطها- إلى حيث يعيدونهم إلى الحياة, وهناك سنَفهم كل شيء.. سنفهم من هم المشترون ولماذا يبتاعون كل هذه الجثث!. ومن أين يأتون بكل هذا المال وكيف يُعيدون الموتى للحياة ولماذا؟..
ما الذي سيحدث بعدها؟
لا يهم!.. المهم أننا سنعرف أخيرًا سرّ ما حدث لنا طيلة الفترة الماضية, ولو متنا بعدها فسنموت وعلى أوجهنا ابتسامة رضا..
لكن التظاهر بالموت شيء والرقود وسط الموتى شيء آخر!
نحن لا نشمئز من الموتى بالصورة التي قد تشمئز أنت بها, ولا نشعر بذات الرهبة التي كنا نشعر بها في بداية عملنا, لكن فكرة أن ترقد وسطهم تظل منفرة فوق قدرتك على التخيّل.. افترض أنك تاجر أسماك.. هل تتقبل فكرة أن تنزع ملابسك لترقد في حوض مليء بالأسماك؟
أرأيت؟.. الفارق هنا أنهم ليسوا أسماكًا بل جثث ذات وجوه تشبهنا وتشبهك, وبعضها بأعين مفتوحة ترمقنا في صمت يجثم على الصدور..
ثم إن الرائحة هنا لا تُطاق..
الجثث التي لا يتم إعدادها والتي ترقد في مخزن سيء التهوية, تعاقبنا برائحتها الكريهة والتي لا نتصوّر أن جثثنا ستصدر مثلها حين نموت.. أضف إلى هذا الظلام والصمت ولوعة الانتظار؛ لتجد أن عقارب الساعة قد أصابها الخبال, وأصبحت اللحظة تمرّ كل ربع ساعة!
نحن لم نفكّر حينها أنهم قد لا يأتون الليلة..
ما عشناه في الأيام الماضية, دفعنا لتنفيذ أول اقتراح قد يؤدي لنتيجة, دون أن يتوقف أحدنا ليسأل.. لكن, ما الذي سيحدث لو لم يأتِ المشترون الغامضون ليلتها؟؟
هل سنقضي الليل بطوله ننتظر على أمل قد لا يتحقق, لنغادر المكان عائدين إلى منازلنا إلى حيث سنستحم ثم ننتظر اللحظة المناسبة لنعود هنا, ولنرقد وسط الموتى ثانية؟؟
وماذا لو أتى المشترون حين نرحل؟.. سيضيع انتظارنا هباءً, لكن..
هل سنبقى هنا نتظاهر بالموت, لتمر علينا الأيام دون أن نمارس ولو حقًا واحدًا من حقوق الأحياء؟؟
هل نقسّم أنفسنا على ورديات؟.. المشكلة أنه كلما قلّ عددنا ضعفت قوتنا, ونحن لم نحافظ على كوننا (نحن) إلا باتفاقنا وبقائنا معًا مهما كانت الظروف, ثم حتى لو قررنا التضحية, فكيف سيبلغنا من سيكون هنا بما سيحدث لو أخذه المشترون الغامضون معهم؟؟
أعرف أنك تتذاكى الآن وتتساءل: ولماذا لم تراقبوا المكان من الخارج أيها الحمقى؟!..
لكننا لا نريد أن نعرف إلى أين تذهب الجثث, بل نريد أن نعرف ما الذي يحدث لها؟
لذا أرجوك ارحمنا من ذكائك .... و.... مهلاً..
إنهم هنا!
المشترون.. لقد وصلوا..
الخطوات تعالت من الخارج فسمعناها كلنا وتبادلنا النظرات الصامتة, قبل أن نغلق أعيننا مستعدين لحمل لقب (موتى), إلى أن يتم نقلنا من هنا.. فقط لم نقاوم أن نختلس النظر لحظات أطول؛ لنرى باب المخزن وهو يُفتح ليدخل ذلك الأشيب الذي يمنحنا المال مقابل جثثنا الطازجة, لكنه كان بمفرده..
بمفرده تمامًا..
لا عمّال ليساعدوه على حمل الجثث ولا عربات لنقلها ولا حتى أكلة لحوم بشر ليساعدوه على إنها هذه الوليمة الضخمة!
شعرنا بالدهشة حتى خشينا أن تطغي رائحة دهشتنا على رائحة الجثث, لكن أغلبنا شهق في ذهول حين تحدَّث الأشيب في هدوء ليقول:- لا داعٍ للسذاجة.. أنا أعرف أنكم هنا..
قالها على الرغم من أننا أخفينا أنفسنا جيدًا وسط الجثث, بل إنه واصل قائلاً:
- أنتم هنا لتعرفوا الحقيقة.. أليس كذلك؟
كأنه واحد منا!
ترددنا قليلاً ثم بدأنا نعلن عن أنفسنا بأن اعتدلنا مزيحين الموتى عن أجسادنا, لنواجه الأشيب الذي ابتسم قائلاً:
- سأجيب على سؤالكم لو أجبتم على سؤالي..
وصمت لحظة قبل أن يردف:
- لماذا لم تُنفقوا الأموال التي منحتها لكم؟
ألقى بسؤاله فشعرنا كلنا بسخافته التي لا تُنكر..
ما علاقة أمواله بما يحدث هنا؟.. وهل هناك علاقة بين عودة الموتى إلى الحياة وبين قدرتنا الإنفاقية؟..
ولماذا يُحاول أن يضيع الأشيب وقتنا بهذا السؤال؟!
إن الرد بسيط وهو..
- نحن لم ننفق من ماله شيئًا..
منحناه الرد فاتسعت ابتسامته..
نعم.. على الرغم من كل المبالغ التي حصلنا عليها من طريقه, نحن لم ننفق من أمواله قرشًا واحدًا, بل احتفظنا بها كما يحدث لكل من يحصلون على مبلغ كبير فجأة..
مرة واحدة لا تضع وقتك في الاختلاف معنا, فهذا ما ستفعله أنت لو حصلت على المال.. ولو كنت لا تصدقني فيمكنك المرور على البنوك لترى بنفسك, كل من يكنزون أموالهم في حسابات وشهادات وصناديق توفير, لا يمسّونها إلا ليضيفوا لها المزيد..
إنها اللعنة الشهيرة.. المال يصيبك بحمّى جمع المال, لهذا تجد المليونير يحلم بأن يغدو مليارديرًا, بينما الفقير يحلم بمكان جاف لينام فيه وحسب!
نحن أصابتنا ذات اللعنة, فاحتفظنا بمال الأشيب كله ولم نحاول الإنفاق منه ولا مرة واحدة, على الرغم من أنه أصبح مصدر دخلنا الوحيد, وكأننا فقدنا الحاجة لكل ما كنا ننفق عليه نقودنا سابقًا..
لكن.. كيف؟!
كيف فعلناها؟.. كيف احتفظنا بالمال طيلة هذه الفترة دون أن تمسّه أيدينا؟!
هنا أجابنا الأشيب كأنه يقرأ أفكارنا:
- لأنه لم يكن هناك مال..
قالها فانتفضنا هذه المرة, وأحطنا به نسدد له أعيننا الذاهلة المستنكرة, فأردف:
- سؤال آخر.. لماذا ظلت الجثث التي جمعتونها هنا دون أن تنقص ولو جثة واحدة؟
مرة أخرى ننتفض, لكننا هذه المرة أخذنا نتلفّت حولنا لنجد أنه صادق فيما يقول..
الجثث كلها هنا!
كل الجثث التي جمعناها منذ أن أتى إلينا الحاج (متولي) بعرضه وإلى آخر مرة, موجودة هنا دون أن تنقص!!.. بل إننا الآن نحدق ذاهلين في جثة الموشوم الأعمى التي أخفت عوامل التحلل الكثير من معالمها لكنها هي جثته!!
ما الذي يعنيه هذا؟؟
كيف ظلّت الجثث هنا؟!.. ولماذا يبتاع الأشيب جثث لا يحتاجها بأموال لا ننفقها إلا لو.. رباه لا!.. إلا لو.. لا لا!.. إلا لو.. مستحيل!..
لكن الأشيب هزّ رأسه مؤيدًا ليعلنها:
- إلا لو لم يكن هناك مشترون يبتاعون الجثث ليعيدوها إلى الحياة.. إلا لو كان هذا كله غير حقيقي..
- ألم تلاحظوا أن المخزن لم يدخله سواكم؟.. ألم تتذكروا بعد اليوم الذي ابتعتوه فيه؟.. ألم تنتبهوا أنكم كنتم الوحيدون الذين رأوا الموتى يعودون إلى الحياة؟
- كل هذا غير حقيقي وكل هذا لا وجود له إلا في عقولكم.. حتى أنا لا وجود لي..
قالها وصمت ليتركنا نحاول استيعاب هذا كله, فلم نستطِع..
كل هذا غير حقيقي!
ما الذي يحدث هنا بالضبط؟.. هل جننا؟!
كيف؟.. متى؟.. لماذا؟
- أنتم تعرفون أنكم لن تخرجوا من هنا.. أليس كذلك؟
هنا كانت شهقاتنا شهقات رعب لا ذهول!!
أمّا الأشيب فأشار إلى باب المخزن مردفًا:
- هذا المخزن لا يُفتح إلا من الخارج.. تمامًا كما أردتم..
فلم نصدقه, وأسرعنا إلى باب المخزن نحاول أن نفتحه دون جدوى..
حاولنا فتحه.. تهشيمه.. صرخنا على أمل أن يسمع صراخنا أي شخص قادر على نجدتنا.. حاولنا مجددًا.. وكل هذا بلا فائدة..
فقط في النهاية ابتسم الأشيب ليقول:
- أعتقد أنكم ستتذكرون كل شيء قبل النهاية..
ثم وببساطة تلاشى ليتركنا حبيسي هذا المخزن, لا يشاركنا وحدتنا فيه إلا أكوام الجثث التي لا تبالي بنا..
سنتذكر قبل النهاية؟
أحقًا سنفعل؟!
نحن مرّت علينا بضعة أيام ونحن هنا..
أغلبنا مات من العطش والجوع والرائحة, لينضم إلى الفريق الفائز.. فريق الجثث التي ترمقنا في انتظار..
نحن -من بقى منا حيًا- تذكّرنا الآن ما حدث.. تذكّرنا تلك الرائحة التي كانت تنبعث من الجثث لحظة خروجها من القبر والتي تساءلنا عن سرها طويلاً!..
تلك الرائحة التي تعرّضنا لها عشرات المرات.. مئات المرات.. آلاف المرات..
تلك الرائحة التي ذهبت بعقولنا..
لابد أنه وراء كل ما حدث أو أنه التفسير الذي سنردده حتى لحظة النهاية.. الرائحة أصابتنا بالجنون فابتعنا هذا المخزن وتخلّينا عن كل شيء عن المشترين الغامضين وعن الأشيب وعن الأموال الوفيرة وعن الجثث التي تعود إلى الحياة, حتى انتهى بنا الأمر هنا..
هنا حيث نحتضر ببطء وسط سلعتنا التي تاجرنا بها طويلاً.. إنهم الموتى وقد انتقموا منا, وهاهم يرمقوننا الآن مبتسمين بسخرية, ينتظرون أن نلحق بهم إلى حيث لن يختلف مصيرنا كثيرًا عن مصيرهم..
سنموت مهما قاومنا وستتصاعد رائحتنا مع رائحتهم إلى الدرجة التي ستجذب مَن يفتح هذا المخزن؛ ليجد مفاجأة عمره في انتظاره..
سيُحققون طويلاً وسيبنون نظريات لا حصر لها, ثم سيدفنونا في النهاية؛ ليأتي من ينبش قبورنا, ليبيع عظامنا لمن سيدفع الثمن..
نحن نعرف نهايتنا ونحن الآن ننتظرها في بطء..
ونحن نعرف أننا نستحقها تمامًا..
تمت بحمد الله