الكتاب: أبكار الأفكار في أصول الدين
المؤلف: علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي (المتوفى: 631 هـ)
تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي
عدد الأجزاء: 5
الناشر: دار الكتب والوثائق القومية - القاهرة
الطبعة: الثانية / 1424 هـ -2004 م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
ملاحظة: [هذا الكتاب من كتب المستودع بموقع المكتبة الشاملة]
الثالث: أن دائرة القطب من الرحى، أقل أجزاء من دائرة طوقها، فلو كانت من أجزاء متناهية. فعند فرض تحرك الرحى. إما أن يكون كلما قطع جزء من دائرة الطوق جزءا من المسافة، قطع جزء من دائرة القطب جزءا من أجزاء المسافة، أو أنقص.
فإن كان الأول: لزم أن يكون الجزء من دائرة القطب، قد قطع مسافة دائرية، والجزء من دائرة الطوق لم يأت إلّا على بعضها؛ إذ هى أكثر أجزاء؛ وهو خلف.
وإن قيل بالثانى: فقد لزم التجزي؛ وليس قطع الجزء من دائرة القطب لمسافة دائرته بالطفرات بحيث يحصل فى حد من المسافة بعد حصوله فى حد من غير محاذاة، أو مماسة؛ لما بينهما من الحدود المتوسطة لما يأتى فى إبطاله، ولا بسبب سكون جزء دائرة القطب، وحركة الجزء من دائرة/ الطوق. وتفكك أجزاء الرحى بعضها من بعض بحركة البعض وسكون البعض كما ظن قوم، وإلّا لاختلف ذلك باختلاف الجسم الدائر من الصلابة واللين، فى صعوبة التفكك، وسهولته ولا اختلفت الخطوط المفروضة، والعلامات المرسومة على الجسم الدائر؛ وهو خلاف المحسوس.
الرابع: أنا لو فرضنا جزءا دائرا بين دائرتين: فإما أن يكون كلما قطع جزء من دائرة الطوق وحاذاه؛ قطع جزء من دائرة القطب، أو أقل.
فإن كان الأول: لزم أن يكون قد حاذى جميع أجزاء دائرة القطب، ولم يحاذ من دائرة الطوق إلا بعضها.
وإن كان الثانى: فقد لزم التجزي.
الخامس: أن وضع جزء على ملتقى جزءين ممكن؛ فإنا لو فرضنا خطين متوازيين، تحاذت أطرافهما؛ وكل واحد أربعة أجزاء، وفرضنا على طرف أحدهما جزء، وفرضنا على طرف الآخر جزءا فى مقابلته، وفرضناهما متحركين على السوية، وكل واحد يطلب الطرف الآخر [من بعده؛ فلا بد لها من ثلاثة أحوال مجاوره، ومحاذاة، وانفصال] «1». فإذا تحاذيا:
فإما أن يتحاذيا على جزء واحد من الخطين، أو على ملتقى جزءين.
________________
(1) ساقط من أ.
(3/68)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان أحدهما قد قطع أكثر من الآخر؛ وهو ممتنع على خلاف فرض التساوى.
وإن كان الثانى: فقد تصور وضع جزء على ملتقى جزءين.
وعند ذلك: فإما أن يقال بأنه حاذاهما، أو أحدهما، أو بعض كل واحد منهما.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كان الواحد مساويا للإثنين؛ وهو محال.
ولا جائز أن يقال بالثانى: إذ هو خلاف الفرض.
فلم يبق إلا الثالث؛ ويلزم منه التجزي.
السادس: أن الظل الحادث عند طلوع الشمس، إذا كان فى اتجاهها حائل؛ فلا شك أن ما يحدث منه من الزيادة والنقصان، إنما هو على حسب ستر الشمس، ومطرح شعاعها من الأرض.
وعند ذلك: فكلما قطعت الشمس جزءا من الفلك: إما أن يقطع الظل الكائن على الأرض جزءا مثله [أو أزيد «1»] أو أنقص.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كانت مسافة قطع الشمس مثل مسافة قطع الظل؛ وهو مشاهد البطلان.
والقسم الثانى: فأظهر فى الفساد من الأول.
وإن كان الثالث: فقد لزم التجزي.
السابع: أنا لو فرضنا خشبة، وأحد طرفيها على الأرض، والآخر على شيء مرتفع على الاستقامة بحيث/ يحدث من قيامه على الأرض زاوية قائمة، ومسافة بعدى الزاوية من نقطتها إلى طرفى الخشبة على السواء، ثم فرضنا جذبها من أسفل: فإما أن يكون كلما قطع طرفها [الأعلى جزءا قطع طرفها] «2» الأسفل جزءا من الأرض، أو أزيد، أو أنقص.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) ساقط من أ.
(3/69)
________________________________________
القول بالأول، والثانى: محال؛ إذ هو خلاف الحس، والعيان.
وإن قطعت أنقص: فقد لزم التجزي.
الثامن: أنا لو فرضنا سطحا مربعا، قائم الزوايا من أربعة خطوط، كل واحد من أربعة أجزاء، فأجزاء قطره لا تزيد على أربعة، وهى أول الأول، وثانى الثانى، وثالث الثالث، ورابع الرابع.
وعند ذلك: فإما أن يكون بين أجزاء القطر [فرجات، أو لا. فإن لم يكن بينها فرجات. كان بعد القطر] «1» مساويا، لبعد الضلع؛ وهو محال.
وإن كان بينها فرجات: فهى «11» // فى ثلاثة. فرجة بين الأول والثانى، وفرجة بين الثانى والثالث، وفرجة بين الثالث والرابع.
وإذ ذاك: فإما أن تكون كل فرجة مساوية لجوهر فرد، أو أكبر، أو أصغر.
لا جائز أن تكون مساوية: وإلا كان بعد القطر مساويا لبعد الضلعين من المربع؛ إذ هو كائن من مقدار سبعة أجزاء، وبعد الضلعين كذلك فإن جزء الزاوية من الضلعين واحد، ومعدود مع كل واحد منهما.
ولا جائز أن تكون كل فرجة أكبر من جوهر فرد: وإلا كان بعد الضلعين أقصر من بعد القطر؛ وهو محال.
فلم يبق إلا أن يكون أصغر؛ ويلزم منه التجزي.
التاسع: أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة، ليس بسبب تخلل السكنات؛ كما يأتى تحقيقه.
وعند ذلك: فلو فرضنا أن السريع قطع فى زمان مفروض جزءا غير متجزئ، وفرضنا حركة البطء فى مثل ذلك الزمان: فإما أن يقطع مثل ما قطع السريع، أو أزيد، أو أنقص.
________________
(1) ساقط من أ.
(11) // أول ل 11/ أ.
(3/70)
________________________________________
[الأول] «1» والثانى: محال، فلم يبق إلا الثالث، ويلزم منه «2» التجزي.
العاشر: أنا لو فرضنا سفينة طولها خمسون ذراعا وفى مؤخرتها رجل. فإذا فرضنا حركة السفينة خمسين ذراعا، وفرضنا حركة الرجل فى مؤخرها إلى جهة مقدمها بمثل حركة السفينة، فإنا نعلم أن السفينة إذا انتهت إلى مقرها؛ فينتهى الرجل بحركته إلى ذلك المقر الّذي انتهى رأس السفينة إليه؛ فتكون قد قطعت السفينة خمسين ذراعا، والرجل مائة ذراع؛ وهى مسافة طول السفينة، والمسافة التى قطعتها السفينة.
وعند ذلك: فإما أن يكون/ كلما قطع الرجل بحركته جزءا قطعت السفينة مثله، أو أزيد، أو أنقص.
لا جائز أن تقطع مثله؛ وإلا لقطعت السفينة مائة ذراع؛ وهو خلاف الفرض؛ وبه يبطل قطعها لأكثر منه.
فلم يبق إلا أن يكون كلما قطع الرجل بحركته جزءا، قطعت السفينة أقل منه، ويلزم منه التجزي.
الحادى عشر: أنا لو فرضنا بئرا فى وسطه خشبة، وفيها حبل مشدود، وطرفه الآخر منته إلى أسفل البئر، وفيه دلو مشدود.
وفرضنا حبلا أرسل من أعلى البئر إلى حد الخشبة، وفى طرفه الأسفل كلّاب «3».
فإذا وضع الكلّاب فى طرف الحبل المشدود فى الخشبة، ثم جذبه؛ فإنه بانتهاء الكلّاب إلى رأس البئر يكون انتهاء الدلو إليه على ما هو المشاهد.
وعند ذلك: فلا يخلو: إما أن يكون كلما قطع الدلو فى صعوده جزءا من مسافة البئر، قطع الكلاب فى صعوده جزءا، أو أزيد، أو أنقص.
لا جائز أن يقطع مثله. وإلّا كان إذا انتهى الكلاب إلى رأس البئر، ينتهى الدلو إلى وسط البئر؛ وهو محال.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) (منه) ساقط من ب.
(3) (الكلاب): المهماز: وهو الحديدة التى على خفّ الرائض يهمز بها جنب الفرس. و- حديدة معوجة الرّأس ينشل بها الشّيء أو يعلق. [و هو المقصود هنا] (المعجم الوسيط- باب الكاف).
(3/71)
________________________________________
وبه يبطل القسم الثانى؛ فلم يبق إلّا الثالث؛ ويلزم منه التجزي.
الثانى عشر: أنه لو انتهى الجسم إلى أجزاء لا تتجزأ وهما؛ فكل واحد إما كرى، أو مضلع.
فإن كان كريا: فإذا ضممنا بعضها إلى بعض، فلا بد وأن يبقى بينها فرج.
وهى إما أن تكون أكبر من الأجزاء المفروضة، أو مساويه لها، أو أصغر منها.
فإن كانت أكبر: فيمكن أن تملأ بأجزاء أخر إلى أن تصير مساوية أو أصغر.
فإن كانت مساوية: فالجزء من الزاوية منها أصغر من جزء الضلع؛ فتكون متجزئة، وما سواها يجب أن يكون متجزئا.
وإن كانت أصغر: فقد لزم التجزي.
وإن كان شكل كل واحد من الأجزاء مضلعا؛ فلا يخفى أن ما يلى منه الزاوية؛ أصغر مما يلى الضلع؛ فيكون متجزئا.
الثالث عشر: أنا لو فرضنا خطا مؤلفا من جزءين، وفرضنا على أحد الجزءين جزءا آخر حدث من ذلك زاوية قائمة.
فوترها إن كان من جزءين؛ فوتر الزاوية القائمة مساو لأحد ضلعيها. وإن كان ثلاثة؛ فوترها مساو لضلعيها؛ وهو محال.
فلم يبق إلّا أن يكون أكثر من جزءين، وأقل من ثلاثة ويلزمه التجزي.
الرابع عشر: أنه ما من جزء يفرض إلا وهو ذو جهات؛ فإن كان ما منه إلى كل جهة، هو ما منه إلى الجهة الأخرى؛ فهو محال. وإن كان غيره؛ فقد لزم التجزي.
الخامس عشر: أنا لو فرضنا سطحا من جواهر/ فردة عقلا؛ فإنه يصير أحد وجهيه مضيئا باشراق النير عليه دون الآخر؛ والمضيء منه غير ما ليس بمضيء؛ فيكون متجزئا فى العمق.
السادس عشر: أنا لو فرضنا خطا مؤلفا من أجزاء ثلاثة، وفرضنا مسامتة كل واحد من طرفيه جزءا: فإما أن يكون بين الجزءين المفروضين مسافة يمكن أن يتحرك فيها كل واحد من الجزءين إلى الآخر، أو لا يكون.
(3/72)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالثانى: وإلا كانا متماسين، ويلزم أن يكون الخط المؤلف منهما مساويا للخط الأول المفروض، ضرورة فرض مسامتهما «11» // بطرفيه؛ وهو خلف. فاذن الحركة عليها جائزة. فإذا تحركا معا: فإما أن يلتقيا على الوسط، أو على أحد الطرفين.
فإن كان الالتقاء على أحد الطرفين: لم يتحرك أحدهما؛ وهو خلاف الفرض.
وإن التقيا على الوسط: فقد لزم التجزى؛ لكن لقائل أن يقول على هذه الشبهة أنه وإن أمكن فرض تحرك كل واحد من الجزءين على انفراده.
فلا نسلم جواز تحركهما معا؛ وهو منع لا جواب عنه.
وأما الباقى: فإشكالات مشكلة، وإلزامات معضلة يحار العاقل المنصف فى الانفصال عنها، وفى جهة حلها؛ وغايته لزوم التعارض بينها، وبين أدلة أهل الحق، ووجوب الوقف فى هذه المسألة تأسيا بجماعة من فضلاء المتكلمين- وعسى أن يكون عند غيرى غير هذا «1».
________________
(11) // أول ل 11/ أ.
(1) راجع ما سبق فى هامش ل 10/ ب، وفى هامش ل 14/ أ.
(3/73)
________________________________________
الفصل الثانى فى أن الجوهر الفرد لا شكل له «1»
وقبل الخوض فى النفى والإثبات، لا بد من تحقيق معنى الشكل فنقول: الشكل هو ما يحيط به حد واحد، أو حدود مختلفة:
فالأول: هو الكرى «2». والثانى: هو المضلّع
والمراد بالحدّ: نهاية الشيء، ومقطعه.
وإذا عرف ذلك:
فقد اتفق المتكلمون: على أن الجوهر الفرد لا شكل له، وإن كان له قدر وحظ من المساحة.
واختلفوا فى أنه هل يشبه بعض الأشكال، أم لا؟
فمنهم من قال بأنه يشبه بعض الأشكال؛ لكن من هؤلاء من قال: بأنه يشبه الكرى دون المضلع؛ لأن أجزاء المضلع مختلفة، والمشابه للمختلف يكون أيضا مختلفا، وما كان مختلف الأجزاء؛ فهو متجزئ، والجوهر الفرد ليس متجزئا.
ومنهم من قال: [يشبه] «3» المربع؛ لأنه قد يتركب من الجواهر الفردة خط مستقيم، والكرى لا يتأتى منه ذلك إلّا بفرج.
ومنهم من قال: إنه يشبه المثلث؛ إذ هو أبسط الأشكال المضلعة
ومنهم من قال- وهو اختيار القاضى أبى بكر «4» فى قول- إنه لا يشبه شكلا من الأشكال؛ لأن ما يشبه الشكل، لا بد وأن يكون شكلا، والجوهر الفرد ليس له شكل،
________________
(1) انظر الشامل للإمام الجوينى ص 158، 159. وأصول الدين للبغدادى ص 35 وما بعدها ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 505 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 182 وشرح المواقف للجرجانى 6/ 290 وما بعدها.
(2) الكرة: هى جسم يحيط به سطح واحد، فى وسطه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء (كتاب التعريفات للجرجانى ص 210).
(3) ساقط من أ.
(4) انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 159.
(3/74)
________________________________________
وإنما هو جزء من ذى شكل بتقدير تأليفه/ مع غيره وبتقدير التأليف؛ فجميع الأشكال ممكنة للمركب منه.
وإذا كان تفريع هذه الأقوال على القول بأن الجوهر لا شكل له، فلا يخفى أن ما ذكره القاضى «1» أسدّ وأولى.
غير أن فيما وقع عليه اتفاق المتكلمين، من نفى الشكل عن الجوهر الفرد نظر؛ فإنه إذا كان الشكل هو ما يحيط به حدّ واحد، أو حدود على ما قيل والحد هو النهاية؛ فلا يخفى أن الجوهر الفرد له نهاية، وحد محيط به وذلك الحدّ: إما أن يكون واحدا، أو متعددا.
فإن كان الأول: فهو كريّ.
وإن كان الثانى: فهو مضلع. اللهم إلا أن يكون إطلاق اسم الشكل عندهم على ما يحيط به حد، أو حدود من المركبات.
فالجوهر الفرد على هذا لا يكون مشكلا؛ إذ هو غير مركب، ولا يلزم من الشكل حالة التركيب، وجوده للجوهر الفرد حالة الإفراد بخلاف سائر الأعراض؛ فإن كل ما قام بالجوهر الفرد من الأعراض حالة التركيب؛ فإنه يجوز قيامه به حالة الإفراد: كالأكوان، والألوان، والطعوم، والروائح، والحياة، والعلوم، والقدر. وغير ذلك من الأعراض. ما عدا المماسة باتفاق أصحابنا.
________________
(1) فى كتابه: (نقض النقض) انظر المصدر السابق.
(3/75)
________________________________________
النوع الثالث: فى الجسم وأحكامه. ويشتمل على ثلاثة عشر فصلا:
الفصل الأول «1»: فى تحقيق معنى الجسم.
الفصل الثانى: فى أن أبعاد الأجسام متناهية.
الفصل الثالث: فى تجانس الأجسام.
الفصل الرابع: فيما يجب للأجسام من الصفات، وما لا يجب.
الفصل الخامس: فى إبطال قول الفلاسفة أنه ما من جسم إلا وفيه مبدأ حركة طبيعية، ومناقضتهم فى ذلك.
الفصل السادس: فى إبطال ما قيل من أن الأفلاك غير قابلة للحركة المستقيمة والفساد. وأنها ليست ثقيلة، ولا خفيفة، ولا حارة ولا باردة، ولا رطبة، ولا يابسة، وأنها بسيطة كرية لا تقبل الخرق، والشق.
الفصل السابع: فى إبطال قول الفلاسفة أن الافلاك ذوات أنفس، وأنها متحركة بالإرادة النفسية.
الفصل الثامن: فى إبطال قول الفلاسفة فى طبائع الكواكب، وأنوارها، ومحو القمر، والمجرة، ومناقضتهم فى ذلك.
الفصل التاسع: فى أقوال الفلاسفة فى العناصر، ومناقضتهم فيها.
الفصل العاشر: فى أقوال الفلاسفة فى كون العناصر، وفسادها، واستحالتها ومناقضتهم فى ذلك.
الفصل الحادى عشر: فى أقوال الفلاسفة فى مزاج العناصر، وامتزاجها، ومناقضتهم فيها.
الفصل الثانى عشر: فيما قيل فى وحدة الأرض وسكونها، ومناقضات الفلاسفة فى ذلك.
________________
(1) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفصول.
(3/77)
________________________________________
الفصل الثالث عشر «1»: فى مناقضات الفلاسفة فى الدلالة على امتناع وجود عالم آخر وراء هذا العالم.
________________
(1) ورد فى نسخة (أ) أحد عشر فصلا. وما ذكرته ورد فى نسخة ب ومطابق للواقع.
(3/78)
________________________________________
الفصل الأول: فى تحقيق معنى الجسم «1»
وقبل الخوض فى تحقيق تفصيل العبارات فى معنى الجسم؛ لا بد من تحقيق معنى الجسم لغة.
[تعريف الجسم]
فنقول: الجسم فى اللغة: منبئ عن التركيب، والتأليف؛ ويدل عليه ما ظهر واشتهر «11» // فى العرف اللسانى عند ما إذا راموا تفضيل شخص على شخص فى التأليف، وكثرة الأجزاء قالوا: فلان أجسم من فلان. إذا كان أكثر منه ضخامة، وعبالة، وتأليف أجزاء، ولا يقصدون بذلك التفضيل فى العلم، والقدرة، ولا فى شيء من الصفات العرضية عدا التأليف؛ بدليل الاستقراء. حتى أن من كان أعلم من غيره، أو أقدر، أو أكثر فعلا، وحركة، أو غير ذلك لا يقال إنه أجسم من ذلك الغير.
وإذا كانت لفظة أجسم دالة على المفاضلة فى التأليف، والتركيب، وكانت مأخوذة من الجسم «2»؛ فأصل ذلك اللفظ يدل على أصل ذلك المعنى الّذي وقع به الاشتراك بين الفاضل، والمفضول؛ وهو التأليف، والتركيب؛ فاسم الجسم على هذا يكون موضوعا لأصل التأليف، والتركيب.
وهذا كما أن لفظة أعلم لما كانت موضوعة للمفاضلة، وكانت مأخوذة من العلم؛ كان لفظ العلم الّذي هو أصل الأعلم؛ دالا على أصل ما دل عليه الأعلم.
فإن قيل: ما ذكرتموه مبنى على صحة قولهم: أجسم لغة. وقد سئل ابن دريد «3» عن لفظة أجسم فقال: لا أعرفه، فدلّ ذلك على أنه ليس من وضع اللغة.
________________
(1) لتوضيح آراء المتكلمين فى الجسم بالتفصيل راجع مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 4 - 8 فقد وضح فيه آراء المتكلمين فى الجسم، وذكر أنهم اختلفوا فى الجسم ما هو على اثنتى عشرة مقالة.
وانظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 401 وأصول الدين للبغدادى ص 38 وما بعدها والمواقف لعضد الدين الإيجى ص 183 - 199 وشرح المواقف للجرجانى 6/ 293 - 305 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 239. وشرح مطالع الأنظار على طوالع الأنوار ص 109.
(2) (و كانت مأخوذة من الجسم) ساقط من ب.
(11) // أول ل 11/ ب من النسخة ب.
(3) ابن دريد: (223 - 321 ه) (838 - 933 م).
محمد بن الحسن بن دريد الأزدى، من أزد عمان من قحطان، أبو بكر ولد بالبصرة. ومن كتبه (الاشتقاق)، (و الجمهرة). توفى ببغداد سنة 321 ه. [وفيات الأعيان 1/ 497، طبقات الشافعية 2/ 145].
(3/79)
________________________________________
وإن سلم ورود ذلك لغة؛ غير أن لفظ أفعل قد يرد على غير جهة المبالغة، والتفضيل، ومنه قوله تعالى: وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «1»: أى هين.
ومنه قولهم: اللّه أكبر، وليس المراد به المفاضلة؛ بل معناه الله الكبير. وإليه الإشارة بقول القائل
قبحتم يا آل زيد نفرا ... ألأم قوم أصغرا وأكبرا
والمراد به الصغير، والكبير؛ لا المفاضلة.
وإن سلم أن لفظة أفعل للتفضيل، والمبالغة؛ ولكن لا نسلم أن لفظة أجسم، للتفضيل فى التأليف، وكثرة الأجزاء.
ويدل عليه أنه لو كان كما ذكرتموه؛ لصح أن يقال فيما كان أكثر تأليفا/ «2» وتركيبا من الجمادات «2» بالنسبة إلى غيره؛ أنه أجسم منه حسب ما يقال فى الحيوانات، ولا يقال للجبل إنه أجسم من الخردلة.
ثم وان سلّم صحة ورود ذلك فى الجمادات؛ ولكن لا نسلم صحة وروده للمفاضلة فى كثرة التأليف، بل للتفضيل فى عظم الشكل والضخامة؛ وإن كانت أجزاء الأضخم أقل من أجسام ما هو دونه فى الضخامة، وتأليفه أقل.
ولهذا يصح أن يقال للخشبة الطويلة المعرّضة التى هى أعظم فى نظر العين من قطعة من الرصاص؛ أنها أجسم من تلك القطعة، وإن كانت أجزاء الخشبة، وتأليفها أقل.
ولا يقال: إن تلك القطعة أجسم، وان كانت أجزاؤها، وتأليفها أكثر.
قلنا: أما السؤال الأول: فهو خلاف الشائع الذائع من الوضع، وعدم معرفة ابن دريد بذلك- إن صح-[لا يدل على إبطاله؛ فإن عدم العلم بالشيء «3»] لا يدل على عدمه فى نفسه، ويدل على صحة هذا الإطلاق أيضا، ما أشتهر من قول العرب أجسم الرجل جسامة؛ كما قالوا أبدن بدانة.
________________
(1) سورة الروم 30/ 27.
(2) (و تركيبا من الجمادات) ساقط من ب.
(3) ساقط من أ.
(3/80)
________________________________________
ثم وإن سلم صحة القدح فى الأجسم جدلا؛ فلا نزاع فى صحة قولهم فلان جسيم؛ والمراد به المبالغة فى التأليف، وكثرة الأجزاء.
وأما السؤال الثانى: فمندفع أيضا. فإنا لا ندعى أن لفظة أفعل للمبالغة مطلقا؛ بل إذا وردت مقترنة بمن، وما ذكرناه كذلك بخلاف ما ذكروه من صور الاستشهاد، [و بتقدير أن لا تكون للمبالغة؛ فلا تخرج عن كونها دالة على أصل التأليف] «1».
وأما السؤال الثالث: فإنما يلزم أن لو وجب طرد أصول الاشتقاقات؛ وليس كذلك.
ولهذا فإن اسم القارورة: مشتق للزجاجة المخصوصة من قرار المائعات فيها؛ وما لزم طرد ذلك فى الشربة، والجرة، وغير ذلك مما تقر فيه المائعات.
ثم وإن كان ذلك واجبا فى الأصل؛ غير أنه قد يتخصص اللفظ بعرف الاستعمال ببعض مسمياته لغة: كما فى إطلاق اسم الدابة؛ فإنه فى اللغة لكل ما يدب، وإن كان مخصوصا بعرف الاستعمال، بذوات الأربع؛ دون غيرها.
وأما السؤال الرابع: فإنما يلزم أن لو كان المطلق لتلك معتقدا أن تأليف الخشبة أقل، وليس كذلك؛ بل إطلاق ذلك إنما يصح نظرا إلى اعتقاد أن تأليف الخشبة أكثر؛ وهذا صحيح بالنظر الى مقصود اللغة، وإن كان المطلق مخطئا فى ظنه.
كيف وأنه إذا قيل بأن الثقل راجع إلى غرض من الأغراض؛ فلا يبعد أن يكون تأليف الخشبة وأجزاؤها أكثر؛ وإن كانت أخف مما قيل إنه أجسم منه.
وإذا عرف موضوع/ لفظ الجسم لغة؛ فقد اختلف الناس فى تحديد الجسم، ومعناه.
[الآراء فيه]
فقال الصالحى من المعتزلة «2»: الجسم هو القائم بنفسه؛ وهو منتقض بالجوهر الفرد وبالله- تعالى؛ فإنه قائم بنفسه، وليس بجسم، مع أنه مخالف لوضع اللغة؛ لما تحقق من أن مدلول الجسم، هو التأليف؛ ولا تأليف فى الجوهر الفرد، ولا فى الله- تعالى.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) الصالحى من المعتزلة: من مرجئة القدرية. راجع عنه ما مر فى الجزء الأول هامش ل 89/ أ وأما عن رأيه: فانظر مقالات الإسلاميين 2/ 4 وما بعدها.
(3/81)
________________________________________
وإن قال بإطلاق اسم الجسم على الله- تعالى- لفظا مع موافقته على انتفاء المعنى؛ فهو ممتنع، لما سبق فى إبطال «11» // التشبيه «1».
وقال بعض الكرامية «2» الجسم هو الموجود؛ ويبطل بالجوهر الفرد أيضا وبالعرض؛ فإنه موجود؛ وليس بجسم.
وقال هشام «3»: الجسم هو الشيء، وينتقد أيضا بالجوهر الفرد، وبالعرض، فإنه شيء، وليس بجسم.
ويدل على أن العرض شيء قوله تعالى: وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ «4» وأراد به تحريفهم، وتبديلهم، والتحريف، والتبديل من أفعال العباد، وأفعال العباد أعراض.
وينتقض أيضا بالله- تعالى-؛ فإنه شيء بالاتفاق، وليس جسما بالمعنى اللغوى. وإن اطلق عليه اسم الجسم لفظا لا معنى؛ فهو باطل لما سبق «5» واتفقت الفلاسفة على أن الجسم هو الّذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة متقاطعة، على حد واحد، تقاطعا قائما.
والمراد من التقاطع القائم، أن يحدث من تقاطع كل بعدين منهما زاوية قائمة.
والزاوية القائمة: هى التى تحدث من قيام بعد على بعد؛ ليس ميله إلى إحدى الجهتين أكثر من الأخرى «6».
قالوا: إذا كان معنى الجسم هذا؛ فهو لا محالة قابل للانقسام والانفصال.
فالقابل للانفصال منه: إما أن يكون هو نفس البعد المفروض فيه، أو شيء آخر.
لا جائز أن يكون هو نفس البعد المفروض: إذ هو مع انفصاله لا يكون بعدا، من حيث أن البعد اسم للمتصل، والجسم مع فرض الانفصال يكون مفارقا للبعد المفروض فيه، ولا يخرج عن كونه جسما؛ لما تقرر فى حدّ الجسم.
________________
(11) // أول ل 12/ أ.
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 143/ ب وما بعدها.
(2) انظر الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 401. فقد ذكر رأى الكرامية بالتفصيل. وانظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل وما بعدها.
(3) هو هشام بن الحكم راجع ترجمته فيما مر فى الجزء الأول فى هامش ل 72/ ب أما عن رأيه فانظر مقالات الإسلاميين 2/ 6 والملل والنحل 1/ 184، 185.
(4) سورة القمر 54/ 52.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع- المسألة الثانية: فى أن البارى- تعالى- ليس بجسم ل 143/ ب وما بعدها.
(6) قارن بما ورد فى (المبين فى شرح معنى ألفاظ الحكماء والمتكلمين) ص 111 لسيف الدين الآمدي.
(3/82)
________________________________________
وإن كان الانفصال للبعد مع اتصاله، فمحال أن يكون المتصل من حيث هو متصل منفصلا، فإذا لا بد وأن يكون قبول الجسم للاتصال والانفصال، إنما هو خارج عن نفس البعد المفروض.
قالوا: وذلك القابل هو المادة، وذلك البعد الّذي لا يفارق الجسم/ ولا تختلف به الأجسام فيما بينها؛ هو الصورة الجسمية؛ فالجسم مركب من المادة والصورة الجسمية؛ وليس هو نفس البعد كما ذهب إليه ديمقريطس «1» لما حققناه.
قالوا: وليس يتصور تجرد مادة الجسم عن صورته، ولا الصورة عن المادة فى الوجود؛ فاستدلوا عليه بأمرين:
الأول: أنه لو تصور تجرد إحداهما عن الأخرى، فما فرض منهما موجودا مجردا عن الآخر، كانت المادة، أو الصورة.
فإما أن يكون مع فرضه كذلك متحدا، أو متكثرا، وأى الأمرين قدّر؛ فهو له لذاته؛ ضرورة فرضه مجردا عن كل شيء؛ فلا يتصور عليه غيره، والوحدة والتكثر عليهما ممكن؛ فلا تجرد.
الثانى: أنه لو تصور خلو كل واحدة عن الأخرى، لم يخل: إما أن تكون متحيّزة، أو غير متحيّزة.
فإن كانت متحيّزة؛ فإن كانت المادة: فيلزم أن يكون لها بعد ضرورة مطابقتها لبعد الحيّز، وقد قيل: إن المادة لا بعد لها؛ بل هى مجردة عن البعد؛ وهو خلف.
وان كانت هى الصورة؛ فيلزم قبولها للانفصال؛ ضرورة مطابقتها للحيّز المنفصل؛ وهو محال لما سبق.
________________
(1) ديمقريطيس: وقيل (ديموكريت) ولد فى (أبدير) إحدى المدن الإغريقية حوالى سنة 460 ق. م. ولما ترعرع قام بأسفار كثيرة، ومن أشهر رحلاته رحلته إلى مصر التى استغرقت خمسة أعوام.
أما عن حياته، ومؤلفاته، ومذهبه فارجع إلى (الفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ص 108 - 117، والملل والنحل للشهرستانى 2/ 100، 101).
(3/83)
________________________________________
وإن كانت غير متحيزة: فعند اتصال إحداهما بالأخرى، فالمركب منهما لا فى حيز؛ ضرورة كونه فى حيث مبدأيه، وحيث هما لا فى حيّز؛ فالجسم لا فى حيز، وهو محال؛ فلا تجرد لإحداهما عن الأخرى.
قالوا: وليس حلول الصورة فى المادة، حلول العرض فى الموضوع؛ إذ الموضوع هو المتقوم ذاته، المقوم لما يحل فيه؛ وهو مستغن عما يحل فيه؛ وما فيه غير مستغن عنه؛ ولا كذلك المادة بالنسبة إلى الصورة.
فإن المادة غير مستغنية عن الصورة، ولا متقومة فى الوجود دونها؛ لما تحقق قبل، وربما زعم بعض حذاقهم مع هذا أن الصورة علة لوجود المادة؛ محتجا على ذلك بقوله:
إنه إذا ثبت التلازم بين المادة والصورة فى الوجود؛ فإما أن يكون ذلك لتضايف بينهما، أو لا يكون كذلك.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ هما غير متضايفين؛ إذ المتضايفان ما لا يعقل كل واحد منهما فى معناه، إلا مع تعقل الآخر: كالأبوّة، والبنوة، والمادة، والصورة ليس كذلك.
وإن كان الثانى: فذلك التعلق، والتلازم. إما أن يكون هو ما بين العلة والمعلول، أو ما بين الشيئين المتكافئين فى الوجود من غير أن يكون أحدهما علة للآخر/ ولا معلولا له.
فإن كان من القسم الثانى فلا يخلو: إما أن يكون ارتفاعهما مستندا إلى ثالث، أو أن رفع أحدهما يوجب رفع ثالث؛ فوجب برفعه رفع الثانى منهما، أو لا يكون شيئا من ذلك؛ فهو محال. وإن كان ذلك برفع ثالث، فكل ما يوجب رفعه رفع غيره؛ فهو علة له فى وجوده.
وعند ذلك: فإما أن يكون كل واحد «11» // من هذين المتكافئين علة متوسطة بين الثانى والثالث فيهما؛ وهو محال.
وإما أن تكون الواسطة أحدهما بعينه؛ وهو داخل فى قسم العلة والمعلول. وكذلك إن قدّر أن رفع أحدهما، أوجب رفع ثالث موجب لرفع الثانى منهما؛ إذ علة العلة؛ علة.
وإن كان أحد الأمرين علة للآخر، والآخر معلولا؛ وهو القسم الأول: فإما أن تكون المادة هى علة للصورة، أو الصورة علة للمادة.
________________
(11) // أول ل 12/ ب.
(3/84)
________________________________________
لا جائز أن تكون المادة هى علة للصورة؛ إذ هى المستعدة لقبول الصورة؛ والقابل غير الفاعل «1».
وأيضا: فإنها لو كانت علة لوجود الصورة: فإما أن تكون علة لها حالة كونها موجودة بالقوة، أو بالفعل.
الأول: محال، وإلّا كان العدم علة للوجود؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى: فهو دور ممتنع؛ لأنها على ما تقدم لا وجود لها بالفعل دون الصورة.
وأيضا فإن المادة غير مختلفة [و الصورة مختلفة «2»] والعلة القريبة من المختلف؛ لا بدّ وأن تكون مختلفة؛ فلم يبق إلّا أن تكون الصورة هى علة للمادة.
قالوا: وإذا تحقق معنى الجسم، وما منه تركبه؛ فهو منقسم إلى ذى نفس، وإلى ما ليس له نفس.
وما ليس له نفس: كالجمادات من العناصر، والمعدنيات، ونحوه.
وأما ذو النفس: فمنقسم إلى نام، وغير نام.
وغير النامى: كالأفلاك.
والنامى: فإما حساس، أو غير حساس.
وغير الحساس: كالنبات.
والحساس: فهو الحيوان. والحيوان منقسم إلى ناطق كالإنسان.
وإلى غير ناطق: كالفرس، والحمار، ونحوه.
وما تحت كل واحد من هذه الأنواع:
فإما كليات: هى أصناف: كالشّاب، والشيخ.
________________
(1) الفاعل: ما أسند إليه الفعل، أو ما يشبهه على وجهة قيامه به: أى على جهة قيام الفعل بالفاعل؛ ليخرج عنه مفعول ما لم يسم فاعله.
والفاعل المختار هو الّذي يصح أن يصدر عنه الفعل مع قصد وإرادة.
[التعريفات للجرجانى ص 187].
(2) ساقط من أ.
(3/85)
________________________________________
أو شخصيات لا نهاية لها لإمكانها: كهذا الرجل، وهذا الفرس؛ وكل ما يقع فى امتداد الإشارة إليه.
هذا ما قالوه فى أمر الجسم، ومبدئه؛ وهو باطل.
أما قولهم: الجسم هو الّذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة الى آخره، فهو منتقض على أصولهم بالجسم التعليمى «1»؛ فإنه/ بحال يمكن فيه فرض امتدادات متقاطعة على ما ذكروه؛ وليس بجسم طبيعى؛ بل هو عرض من مقولة الكم «2».
ثم إنه يوجب أن لا يكون الخط مع كونه مؤلفا جسم؛ لعدم تقاطع الأبعاد الثلاثة عليه؛ وهو خلاف وضع اللغة على ما تقدم.
وإن سلمنا صحة ما ذكروه من الحدّ، وأن الجسم قابل للانقسام والانفصال ولكن قولهم القابل للانفصال: إما نفس البعد المفروض فيه، أو غيره.
قلنا: ما المانع أن يكون القابل لذلك هو نفس البعد المفروض فيه.
قولهم: لأن البعد مع انفصاله يخرج عن كونه بعدا؛ مسلم.
قولهم: والجسم مع الانفصال لا يكون مفارقا للبعد؛ لا نسلم.
فإنه لا معنى للبعد عندنا غير اتصال الجواهر الفردة. وعند الانفصال يبطل البعد، ويخرج الجسم عن كونه جسما، على ما حققناه؛ من أن الجسم هو المؤلف «3» لا غير.
وإذا بطل التأليف؛ فقد بطل الجسم.
وعلى هذا: فقد بطل ما ذكروه من المادة، والصورة.
________________
(1) الجسم التعليمى: هو الّذي يقبل الانقسام. طولا وعرضا، وعمقا ونهايته السطح، وهو نهاية الجسم الطبيعى، ويسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه فى العلوم التعليمية أى الرياضية الباحثة عن أحوال الكمّ المتصل، والمنفصل، منسوبة إلى التعليم، والرياضة؛ فإنهم كانوا يبتدئون بها فى تعاليمهم، ورياضتهم لنفوس الصبيان؛ لأنها أسهل إدراكا.
(التعريفات للجرجانى ص 86، 87).
(2) المقولات التى تقع فيها الحركة أربع: الأولى: الكمّ. ووقوع الحركة فيه على أربعة أوجه: الأول: التخلخل، والثانى: التّكاثف، والثالث: النّموّ والرابع: الذّبول. (التعريفات للجرجانى ص 256).
(3) انظر المبين للآمدى ص 110 فقد عرف الجسم فقال: «و أما الجسم: فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا).
(3/86)
________________________________________
وإن سلمنا جدلا تركب الجسم من المادة، والصورة كما ذكروه.
ولكن لا نسلم امتناع تجرد كل واحدة من المادة، والصورة عن الأخرى فى الوجود.
قولهم: فى الدّلالة الأولى: لو قدر تجرّد إحداهما عن الأخرى.
إمّا أن تكون متحدة، أو متكثّرة؛ مسلّم؛ ولكن ما المانع من القول بإحداهما.
قولهم: ويلزم أن يكون ذلك ثابتا لذاتها؛ ممنوع.
وما المانع أن يكون ذلك لها بفعل الفاعل المختار؛ كما قررناه. وإن سلم أنه ليس بفعل الفاعل المختار؛ ولكن ما المانع أن يكون ذلك لها باعتبار أمر خارج عن ذاتها؛ ولا سبيل إلى نفيه إلّا بالبحث، والسبر؛ وهو غير يقينى «1».
وإن سلم أن ذلك لها لذاتها؛ ولكن ما المانع من أن يكون ذلك من مقتضيات ذاتها مشروطا بالانفراد، والتجرد. ومع الاجتماع فقد فات الشّرط؛ ويلزم من عدم الشرط، عدم المشروط.
وقولهم: فى الدلالة الثانية: لو تجرد كل واحد من الأمرين عن الآخر فى الوجود:
فإما أن يكون متحيزا، أو غير متحيّز.
قلنا: فى حالة الانضمام، والاجتماع: إما أن يكون كل واحد منهما متحيّزا، أو غير متحيز.
فإن كان متحيزا: فالمحال اللازم عن تحيزّ مما حاله تجرد كل واحد من الآخر لازم حالة الانضمام.
وإن كان غير متحيّز: فالمركّب منهما أيضا يلزم أن لا يكون متحيزا؛ لما ذكروه.
وما هو الجواب عما ذكروه/ حالة الاجتماع؛ هو بعينه جواب حالة الانفراد.
كيف وأنه لا يلزم من كون كل واحد منهما بتقدير تجرده عن الآخر غير متحيز، امتناع التحيّز على الهيئة الاجتماعية منهما؛ فإن الحكم على الأفراد؛ لا يلزم أن يكون حكما على الجملة. وكذلك بالعكس؛ لما عرف مرارا.
________________
(1) راجع ما مر عن البحث والسبر فى القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل السابع- الدليل الثالث ل 39/ ب.
(3/87)
________________________________________
وإن سلمنا امتناع تجرد كلّ واحد من الأمرين على الآخر فى الوجود؛ ولكن لم قالوا بأن حلول الصور فى المادة؛ ليس كحلول العرض فى موضوعه. وما ذكروه إنما يصح أن لو كان الجوهر مستغنيا فى وجوده عن حلول الأعراض به؛ وهو غير مسلم على ما سبق بيانه «1».
وعند ذلك: فلا فرق بين الصورة فى حلولها بالمادّة، وبين حلول الأعراض فى الجواهر. «11» //
وإن سلمنا: أن حلول الصورة فى المادة؛ ليس كحلول الأعراض فى الجواهر؛ ولكن لا نسلم أن الصورة علة لوجود المادة.
وما ذكروه فى التقرير؛ فهو باطل؛ إذ لا مانع أن يكونا من قبيل المتكافئين فى الوجود؛ وأن وجودهما، وارتفاعهما ليس إلّا بأمر خارج.
ولا يلزم أن يكون أحدهما علة للآخر؛ لا بجهة القرب، ولا بجهة البعد، ولا مانع من وجود معلولين عن علة واحدة، فاعلة بالاختيار؛ كما قررناه فيما تقدم «2».
وإن سلمنا: امتناع كون الموجب لذلك موجبا بالاختيار؛ ولكن لا نسلم امتناع كونه موجبا بالذات.
وإن سلمنا: أنه لا بد وأن يكون أحدهما علة للآخر؛ ولكن لا نسلم إمكان كون الصورة علة للمادة؛ إذ الصورة مفتقرة فى وجودها إلى المادة؛ لكونها صفة لها، والصفة المفتقرة إلي الموصوف؛ فلو كانت الصورة علة للمادة؛ لكانت المادة مفتقرة فى وجودها إلى الصورة؛ ويلزم منه توقف كل واحد من الأمرين على الآخر فى وجوده؛ وهو دور ممتنع.
وإن سلمنا: إمكان كون الصورة علة للمادة؛ فما المانع من كون المادة علة للصورة؟.
قوله: لأن المادة قابلة، والقابل لا يكون فاعلا؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «3».
________________
(1) راجع ما سبق فى النوع الأول- الفصل السابع: فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض، وتعليل قبوله لها ل 8/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 13/ أ من النسخة ب.
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- الأصل الثانى ل 211/ ب وما بعدها.
(3) راجع ما تقدم ل 19/ أ.
(3/88)
________________________________________
قوله: إما أن يكون علة لوجود الصورة حالة كونها بالقوة، أو الفعل فهو أيضا لازم عليه فى كون الصورة علة للمادة؛ وما هو الجواب ثم؛ هو الجواب هاهنا.
قوله: المادة غير مختلفة. والصورة مختلفة؛ لا نسلم أن الصّور الجسمية مختلفة. وإن اختلفت صور أنواع الجسم.
وإن سلمنا اختلاف الصّور؛ ولكن لا نسلم أن/ العلة القريبة من المعلولات المختلفة يجب أن تكون مختلفة؛ وبيانه ما سبق فى مراتب العلل والمعلولات.
وما ذكروه من كون الأفلاك والنباتات ذوات أنفس؛ فسيأتى إبطاله فى موضعه «1».
وأما المعتزلة فإنهم قالوا: الجسم هو الطويل، العريض، العميق «2».
ثم اختلفوا فى أقل ما يتركب [منه الجسم.
فذهب النظام «3»: إلى أنه ما من جسم إلا وهو مركب «4»] من جواهر فردة لا نهاية لها بالفعل.
وذهب الجبائى «5»، وأتباعه: إلى أن أقل ما يتركب منه الجسم ثمانية أجزاء أربعة على أربعة، وأن هذا أقل ما يتكون عنه الطول، والعرض، والعمق.
وذهب أبو الهذيل العلاف «6»: إلى أن أقل ما يتركب منه الجسم الطويل العريض العميق ستة أجزاء ثلاثة عل ثلاثة.
وما ذكروه غير سديد.
أما ما ذكروه من الحدّ: فيوجب أن لا يكون ما لم يجتمع فيه الطول والعرض والعمق جسما مع كونه مؤلفا؛ وهو خلاف الموضع كما سبق تحقيقه «7».
________________
(1) انظر ما سيأتى فى النوع الثالث- الفصل السابع: فى إبطال قول الفلاسفة أن الأفلاك ذوات أنفس، وأنها متحركة بالإرادة النفسية ل 32/ أ وما بعدها.
(2) هذا القول نسبه الإمام الأشعرى إلى النّظّام فقال: «و قال النّظّام: الجسم هو الطويل، العريض، العميق، وليس لأجزائه عدد يوقف عليه، وإنه لا نصف إلا وله نصف، ولا جزء إلا وله جزء» [مقالات الإسلاميين 2/ 6].
(3) انظر المصدر السابق.
(4) ساقط من أ.
(5) انظر مقالات الإسلاميين 2/ 5.
(6) راجع مقالات الإسلاميين 2/ 5.
(7) راجع ما سبق ل 17/ أ.
(3/89)
________________________________________
وإن قالوا: نحن لا نطلق اسم الجسم على غير ما ذكرناه؛ مع تسليمهم وجود الجسم لغة فيما ليس كذلك؛ فلا نزاع معهم فى غير التسمية.
وإن سلمنا صحة ما ذكروه فى الحد جدلا؛ غير أن ما ذكره النظام ممتنع؛ وبيانه من وجهين:
الأول: هو أن النظام وإن قال بأنه ما من جسم إلّا وفيه جواهر فردة لا نهاية لها بالفعل؛ فهو معترف بأن فيها المتناهى: كالعشرة والمائة، ونحوها من مراتب الأعداد.
وعند ذلك: فأى عدد متناه اقتطعناه من تلك الأجزاء المتناهية وألفناها كان منها جسم لا محالة؛ وأجزاؤه متناهية العدد؛ وفيه إبطال ما ذكر.
ثم يلزم من تناهى أجزاء هذا الجسم تناهى أجزاء ما أخذ منه.
وبيان الملازمة: أن لكل واحد منهما حجما متناهيا. والحجم ما أخذ لا محالة نسبة إلى حجم ما أخذ منه؛ ويلزم من ذلك أن تكون نسبة أجزاء الأصغر إلى أجزاء الأكبر كنسبة ما بين الحجمين؛ لأن زيادة الحجم إنما هى على حسب زيادة الأجزاء؛ والنسبة بين الحجمين نسبة متناه إلى متناه.
الثانى: أن الزيادة بين الأحجام. إنما هى على حسب زيادة أجزائها؛ ولهذا فإنا لو فرضنا ذا حجم مخصوص، واقتطعنا منه قطعة صغيرة؛ فإن حجمه بعد قطعه يكون أصغر منه قبل قطعه؛ وليس ذلك إلا لنقص أجزائه.
وكذلك فإنا لو زدنا عليه شيئا؛ فإن حجمه بعد الزيادة يكون أكبر منه قبل الزيادة؛ وليست/ الزيادة والنقصان فيه؛ إلا بسبب زيادة الأجزاء ونقصها.
وإذا كانت زيادة الحجم على حسب زيادة الأجزاء؛ فلو كانت الأجزاء لا نهاية لها بالفعل؛ لكان بعد كل جسم لا نهاية له بالفعل؛ ويلزم من ذلك أن كل متحرك ابتدأ بحركة لقطع مسافة أى جسم كان من مبدئه أن لا يصل إلى منتهاه؛ لأن ما بين يديه من الأجزاء التى يروم قطعها لا نهاية لأعدادها فعلا؛ وقطع ما لا نهاية له بالفعل بالحركة غير متصور؛ وذلك كله محال.
(3/90)
________________________________________
ولعسر هذه الإشكالات، ارتكب النظام ما هو أقبح من مقاله الأول، وأظهر فى مجاحدة العقل؛ وذلك أنه قال: المتحرك لا يقطع جميع المسافة؛ بل يقطع البعض، ويطفر من جزء إلى جزء فى حال حركته من غير أن يقابل ما بين الجزءين؛ واحتج على ذلك بما ذكرناه فى تحرك الجسم بالقوة من مسلك المتحرك فى السفينة، ومسلك البئر، وقال: لا شك «11» // بأن المتحرك فى السفينة تحرك خمسين ذراعا بمقدار طول السفينة؛ وقد قطع مائة ذراع، وليس ذلك إلا بسبب الطفرة «1».
وكذلك المانح للدلو، قد منح خمسين ذراعا؛ وهو طول الحبل المرسل من أعلى البئر؛ والدلو قد قطع مائة ذراع فى طول البئر؛ وليس ذلك إلا بسبب الطفرة.
وطريق الرد عليه أن يقال: إنه حالة الطفرة: إما أن يكون قد حاذى المطفور عنه، أو لم يحاذه. لا جائز أن يقال بعدم المحاذاة والمقابلة؛ فإنه لو فرض القاطع للمسافة وبيده خشبة وهى تخط على المسافة خطا على ممره؛ فإن الخط يكون متصلا غير منقطع؛ ولو لم يكن قد قابله وحاذاه؛ لما كان الخط متصلا؛ فلم يبق إلا المحاذاة؛ وهو المطلوب.
وأما المتحرك فى السفينة؛ فحركته مائة ذراع؛ لكن منها خمسين بالذات؛ وهى حركته من أول السفينة إلى آخرها، وخمسين بالعرض؛ وهى حركته بحركة السفينة.
ولهذا فإنه لو قدر واقفا، فى مؤخر السفينة مع حركة السفينة؛ فإن السفينة إذا انتهت إلى مقرها؛ كانت قد قطعت خمسين ذراعا والواقف فيها خمسين ذراعا؛ فلذلك كان قاطعا للمائة الذراع، ومحاذيا لها.
وأما حركة الدلو [إنما كانت مائة ذراع] «2» وحركة المانح خمسين ذراعا بسبب سرعة حركة الدلو بالنسبة إلى حركة المانح كما فى حركة الجزء من دائرة طوق الرحا بالنسبة إلى حركة الجزء من دائرة القطب منها.
________________
(11) // أول ل 13/ ب من النسخة ب.
(1) الطفرة: القول بالطفرة من مبتدعات النظام قال الشهرستانى: «و أحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف. أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال: تقطع بعضها بالمشي، وبعضها بالطفرة، وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر، طوله خمسون ذرعا وعليه دلو معلق، وحبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق، فيجرّ به الحبل المتوسط، فإنّ الدّلو يصل إلى رأس البئر، وقد قطع مائة ذراع. بحبل طوله خمسون ذراعا فى زمان واحد. وليس ذلك إلا أنّ بعض القطع بالطفرة» وقد ردّ عليه الشهرستانى فقال: «و لم يعلم أنّ الطفرة قطع مسافة أيضا موازية لمسافة؛ فالالزام لا يندفع عنه. وإنما الفرق بين المشى والطفرة يرجع إلى سرعة الزّمان وبطئه».
[راجع الملل والنحل للشهرستانى 1/ 55، 56 وانظر مقالات الإسلاميين 2/ 19].
(2) ساقط من أ.
(3/91)
________________________________________
فإن جزء دائرة الطوق فى حركته يخطف البصر بخلاف الجزء من دائرة القطب/ وإن كان السبب المحرك لهما واحدا.
وأما قول الجبائى: إن أقل ما يتركب منه الجسم ثمانية أجزاء تفريعا على القول بأن الجسم هو الطويل، العريض، العميق؛ فمردود بقول أبى الهذيل.
وقول أبى الهذيل أيضا مردود بإمكان وجود الطويل، العريض، العميق من أربعة أجزاء ثلاثة وواحد على ملتقاها؛ وهذا هو المسمى بالمكعب.
وأما أصحابنا فإنهم قالوا: جريا على ما حققناه من الوضع اللغوى فى اطلاق [اسم الجسم] «1». الجسم هو المؤلف، ثم اختلفوا: [فمنهم من قال أصل الأجسام ما تألف من جوهرين] «2».
ومنهم من قال «3»: إذا تألّف جوهران فهما جسمان؛ لأنّ كلّ واحد منهما قام به تأليف مع الآخر، غير تأليف الآخر معه؛ إذ التأليف عرض، والعرض الواحد لا يقوم بمحلين؛ فيكون كل واحد منهما مؤلّفا؛ إذ المؤلف ما قام به التأليف.
وإذا كان مؤلفا كان كل واحد منهما جسما، نظرا إلى أن الجسم هو المؤتلف كما تحقق قبل.
وهذا هو اختيار القاضى وجماعة المحققين من أصحابنا؛ وهو الحق نظرا إلى الأصل الممهد من قبل.
وبالجملة: فالنزاع فى إطلاق اسم الجسم على المعانى السابق ذكرها والاختلاف فيها؛ راجع إلى النزاع فى التسمية. والأولى منها ما كان موافقا للوضع اللغوى.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) ساقط من أ.
(3) القائل هو: القاضى الباقلانى انظر التمهيد ص 41.
(3/92)
________________________________________
الفصل الثانى فى أن أبعاد الأجسام متناهية «1»
وإذ بينا وجوب النهاية فى أجزاء الأجسام؛ وجب أن نبين وجوب النهاية فى أبعادها.
وقبل الخوض فى الحجاج نفيا، وإثباتا؛ لا بد من بيان مفهوم النهاية ولا نهاية واختلاف اعتباراته؛ وتحقيق محل النزاع من ذلك؛ ليكون التوارد بالنفى والإثبات على محزّ واحد فنقول:
أما النهاية: فإنها قد تقال على حد الشيء وطرفه. وهو ما لو فرض الفارض الوقوف عنده، لم يجد بعده شيئا آخر؛ من ذى الطرف: كالنقطة للخط والخط للسطح؛ والسطح للجسم «2».
وأما لا نهاية: فقد يقال على ما له النهاية، بالمعنى الّذي أوضحناه باعتبار تعذر الوصول إليه بالحركة، والانتقال.
إما لعدم القدرة على ذلك الامتداد الكائن بين السماء والأرض.
وإما لما يلحق المتحرك فى ذلك من العسر، والمشقة: كالمسافات المتباعدة بين البلدان التى لا تنال إلا بشق الأنفس، ولا نهاية بهذا الاعتبار فمجازى، وليس بحقيقى.
وقد يقال لا نهاية، على/ ما لم يكن له الطبيعة القابلة للنهاية كما يقال: لا نهاية لذات الله تعالى.
وقد يقال لا نهاية، على ما طبيعته قابلة للنهاية، ولا نهاية له اعتبار أمر خارج؛ لكن منه ما يمكن وقوع النهاية فيه: كالفعل بفرض الفارض، ومنه ما ليس كذلك.
فالأول: كالسطح المحيط بالكرة، والخط المحيط بالدائرة؛ فإنه إن قيل لا نهاية لهما؛ فليس إلا باعتبار أنّه ليس فيهما مقطع بالفعل. وإلا فما من نقطة تفرض فى الخط
________________
(1) انظر المواقف للإيجي ص 253 المقصد السابع. وشرح المواقف للجرجانى 7/ 243 - 250. المقصد السابع:
الأبعاد متناهية سواء كانت فى ملاء أو خلاء.
(2) عرف الآمدي الخط والسطح فقال: «فأما الخط: فعبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهة واحدة فقط».
وأما السطح: فعبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهتين متقاطعتين فقط» [المبين للآمدى ص 110، 111].
(3/93)
________________________________________
المحيط بالدائرة، أو فى السطح المحيط بالكرة إلا وهو صالح أن يجعل بداية ونهاية، على حسب اعتبار المعتبر، وفرض الفارض. وقبل فرض الفارض هو بالقوة لا بالفعل.
وأما الثانى: فكما يقال لا نهاية على كل ما فرض الوقوف عند حدّ منه بفرض، أو حسّ كان بعده شيء خارج عنه هو منه، والمبحوث عنه هاهنا إنما هو النهاية «1»، ولا نهاية بهذا الاعتبار الأخير.
وإذ تلخص محل «11» // النزاع؛ فقد أختلف الناس فى تناهى أبعاد الأجسام [و الّذي عليه اتفاق أهل الشرائع، وأكثر العقلاء القول بتناهى أبعاد الأجسام] «2» خلافا لبعض الأوائل «3».
وقد اعتمد أهل الحق على مسالك.
المسلك الأول:
أنهم قالوا: لو فرض بعد لا نهاية له: إما من جميع جهاته، أو من بعضها. فلنا أن نفرض حدا: كنقطة من خط؛ ولنفرض خروج بعدين منه ذاهبين إلى غير النهاية.
وعند ذلك فلنا أن نقطع بالتوهم من أحد البعدين المفروضين جزء من جهة الحد المفروض ثم، ولنطبق بين الطرفين المتناهيين، وهما طرفا البعد الناقص والبعد الزائد.
وعند ذلك: فإما أن يذهب إلى غير النهاية، أو يقصر [الناقص عن الزائد فى الطرف الغير متناهى.
فإن كان الأول: لزم أن يكون «4»] الناقص مساويا للزائد؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فقد تناهى، ويلزم أن تكون له طرف، ويلزم منه تناهى البعد الأطول؛ إذ هو زائد عليه بقدر متناه. وكل شيء زاد على المتناهى بمقدار «5» متناه، فهو متناهى.
________________
(1) وقد عرف الآمدي النهاية فقال: «و أما النهاية: فعبارة عما لو فرض الفارض الوقوف عنده؛ لم يجد بعده شيئا آخر من ذى الطرف: كالنقطة للخط والخط للسطح، والآن للزمان. فإن وجد ذلك؛ فلا يخفى أنه معنى لا نهاية» [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 98].
(11) // أول ل 14/ أ من النسخة ب.
(2) ساقط من أ.
(3) المقصود بهم الفلاسفة الهنود قال صاحب المواقف: «المقصد السابع: الأبعاد متناهية سواء كانت فى ملاء أو خلاء إن جاز خلافا للهند لوجوه:» [المواقف للإيجي ص 253].
(4) ساقط من أ.
(5) (بمقدار) ساقط من ب.
(3/94)
________________________________________
وربما قرروا ذلك من جهة أخرى مع قطع النظر عن تطابق الطرفين المتناهيين بأن قيل ما فرض اقتطاع الجزء منه: إما أن يكون مساويا للبعد الآخر، أو أنقص منه.
الأول: محال وإلا كان الناقص مساويا للزائد. وإن كان أنقص منه: فالآخر زائد عليه بأمر متناه وهو مقدار الجزء الّذي فرض قطعه، ولا بد وأن تكون لتلك الزيادة نسبة إلى كل واحد من البعدين بجهة من جهات النسب، ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما معدودا بأمثال تلك الزيادة عدّا متناهيا/ وكل ما عدّ بأمثال المتناهى عدّا متناهيا؛ فهو متناه؛ وفيه نظر.
إذ لقائل أن يقول: ما ذكرتموه إنما يصح أن لو أمكن فرض الانطباق بين الطرفين «1» المتناهيين بتقدير اقتطاع الجزء من أحدهما، وهو غير مسلم؛ لأن الانطباق بين الطرفين إما أن يكون بتحريك الأقصر لحمله بالحركة الانتقالية حتى يطابق طرفه المتناهى للطرف المتناهى من الأطول، وإما بحركة النمو «2» والتخلخل، وإما بأن يوجد بالتوهم من الناقص مقدارا معلوما، ومثله من الزائد ثم كذلك إلى غير النهاية، وإما بمعنى آخر.
فإن كان الأول: فقد خلا مكان الطرف الّذي لا نهاية له منه بجر الطرف المتناهى، ولزم أن يكون له طرف ونهاية من الجهة التى قيل هو غير متناه فيها؛ وهو مستحيل فى ما لا نهاية له.
وإن كان الثانى: فهو غير مفيد؛ لتماثلهما وعدم النقصان فى أحدهما.
وإن كان الثالث: فإنما تلزم المساواة بينهما فى التعدية من جهة عدم النهاية أن لو لزم من المساواة بينهما فى أن لا نهاية لأعداد المقادير المفروضة المساواة فى عددها؛ وهو غير مسلم.
ولهذا فإن أعداد عقود العشرات مساوية لأعداد عقود المئات [فى أن لا نهاية لها إمكانا، وإن كانت أعداد العشرات أكثر من أعداد المئات] «3» وكذلك على رأى المتكلم، فإن أعداد معلومات الله تعالى مساوية، لمقدوراته فى لا نهاية.
________________
(1) عرف الآمدي الطرف فقال: «و أما الطرف: فعبارة عما يقع انتهاء الاستحالة فيه، أو فى ما قام به عليه» [المبين للآمدى ص 98].
(2) النمو: عرف الآمدي النّمو فقال: «و أما النمو: فعبارة عن زيادة أقطار الجسم بما يرد عليه من الغذاء ويستحيل شبيها» [المبين للآمدى 101].
(3) ساقط من أ.
(3/95)
________________________________________
وإن كانت أعداد المعلومات أكثر من أعداد المقدورات إذ العلم متعلق بكل ممكن ومستحيل «1»؛ والقدرة غير متعلقة بغير الممكن «2».
وإن كان الرابع: فلا بد من تصويره وإقامة الدليل عليه.
وما قيل: من أنه لا بد وأن يكون للزيادة نسبة إلى كل واحد من البعدين لجهة من جهات النسب، فغير ضرورى، والنظرى لا بد من بيانه، وذلك لأن الخصم قد لا يسلم أنه لا بد، وأن يكون بين ما ليسا متناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين؛ لأن النسبة إذا كانت على ما قيل: أن يكون الشيء معدودا بأمثال المتناهى عدا متناهيا؛ وذلك فيما ليس له نهاية محال.
المسلك الثانى:
أنه لو كانت أبعاد الجسم لا نهاية لها، فلنا أن نفرض خطا ممتدا فى جانب العالم لا نهاية له؛ بحيث لو خرج من نقطة مفروضة خط آخر غير متناه إلى غير جهة الخط المفروض أولا ثم فرض دائرا إلى مسامتته؛ فلا بد وأن يسامته ويحاذيه بنقطة، وينفصل عنه بأخرى؛ وما من/ نقطة تفرض المحاذاة عندها، إلا ولا بد وأن تحاذيه قبلها عند نقطة أخرى، إلى غير النهاية. وما لا يمكن محاذاته، ومسامته إلا بعد فرض محاذات ما لا يتناهى؛ فمحاذاته محال؛ فلا محاذاة، ولا انفصال؛ وهو خلاف الفرض الممكن.
وهذا المحال لم يلزم من فرض البعدين، وفرض حركة أحدهما دورا لإمكانه، فلم يبق إلا أن يكون لازما من فرض أبعاد غير متناهية، فيكون محالا.
وهو أيضا ضعيف: إذ لقائل أن يقول: المحال إنما لزم من بعض المقدمات المذكورة، وهو فرض دوران ما لا يتناهى، وانتقاله بالحركة؛ وذلك هو المحال، وإنما كان محالا؛ لأن البعد المتناهى من أحد طرفيه إذا قدر قرار طرفه المتناهى، ودوران الطرف الّذي لا نهاية له؛ فلا بد وأن ينتقل من مكانه إلى مكان غيره، بحيث يكون ما انتقل منه، وإليه بعدان خارجان من النقطة المفروضة «11» // كساقى مثلث.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 72/ ب وما بعدها. المسألة الرابعة: فى إثبات صفة العلم لله تعالى.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 58/ ب وما بعدها. المسألة الثانية: فى إثبات صفة القدرة لله تعالى.
(11) // أول ل 14/ ب من النسخة ب.
(3/96)
________________________________________
وإذا كانا بالفرض غير متناهيين؛ فلا بد وأن يكون بينهما- على ما يأتى- انفراج غير متناهى؛ فلو قدّر حركة أحدهما إلى الآخر [أو حركة من أحدهما «1» إلى الآخر] للزم أن يقطع بالحركة ما لا نهاية له، فى زمن متناه؛ وذلك محال.
المسلك الثالث:
أنه لو قدر بعد غير متناهى؛ لأمكن تشطيره إلى أشطار كل واحد منها غير متناهى، ويلزم منه تضعيف ما لا نهاية له؛ وهو محال؛ وهو فاسد أيضا.
فإنه إنما يلزم تضعيف ما لا يتناهى، بتشطير ما لا يتناهى أن لو كان كل واحد من شطريه غير متناه من كلا طرفيه. وإذا كان متناهيا منه جهة تشطيره غير متناهى من الجهة الأخرى؛ فالإحالة فيه غير مسلمة.
المسلك الرابع:
وهو مناسب لأصول الفلاسفة وهو أنهم قالوا: لو قدر جسم لا نهاية له فما من جزء يفرض منه إلا ويجب أن يكون ساكنا فى كل مكان، ومتحركا إلى كل مكان.
إذ كل مكان يقدّر؛ فهو طبيعى «2» له؛ ومحال أن يكون الشيء ساكنا، ومتحركا معا؛ وهو غير سديد أيضا. إذ هو مبنى على أن كل جسم؛ فلا بد له من مكان طبيعى، وسيأتى إبطاله «3»، وبتقدير التسليم، فما ذكروه لازم عليهم فى الجسم المتناهى.
فإنه إذا كان فى مكانه الطبيعى لكله. فإنه ما من جزء يفرض منه إلا ونسبته إلى جميع أجزاء مكان كله نسبة واحدة؛ وهو طبيعى له.
فكان يجب أن يكون كل واحد من أجزائه، ساكنا فى كل أجزاء مكان كله، ومتحركا إلى كل واحد منها؛ وهو أيضا محال.
ولو كان ذلك حقا؛ لما وجد/ جسم لا متناهيا ولا غير متناهى إلا وأجزاؤه ساكنة فى كل جزء من أجزاء مكانه ومتحركا إليها، وهو محال.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) عرف الآمدي الطبع والطبيعة فقال: «و أما الطبع والطبيعة: فعبارة عما يوجد فى الأجسام من القوى التى هى مبادي حركاتها من غير إرادة: سواء كان ما يصدر عنها من الفعل على نهج واحد: كالقوة المحركة للحجر فى هبوطه. أو مختلفا: كالقوة المحركة للنبات فى تكوينه ونشوء فروعه.
وربما قيلت الطبيعة: على ما كان من الصفات الأولية لكل شيء: كالحرارة بالنسبة إلى النار. وعلى أغلب الكيفيات المتضادة فى الأشياء الممتزجة».
[المبين للآمدى ص 94].
(3) انظر ما سيأتى فى الفصل الخامس ل 30/ أ وما بعدها.
(3/97)
________________________________________
فما هو الاعتذار عنه فى الأجسام المتناهية يكون الاعتذار عن الجسم الّذي لا نهاية له.
المسلك الخامس:
فيما ذكره الفلاسفة أيضا أنهم قالوا: لو كان الجسم لا نهاية لبعده؛ لما تصوّر عليه ولا على جزئه حركة طبيعية؛ واللازم ممتنع.
أما أنه لا يتصور عليه الحركة؛ فلأن الحركة: إما مكانية، أو وضعية. لا جائز أن تكون مكانية؛ بحيث تستبدل بحركته مكانا بمكان.
أما إذا كان غير متناه من جميع الجهات؛ فلأنه لا يخلو منه مكان. وأما إذا كان متناهيا من جهة دون جهة؛ فانتقاله لا بد وأن يكون من الجهة التى هو غير متناه فيها إلى الجهة التى هو متناه بالنسبة إليها؛ فإنه لا حركة له إلى جهة هو فيها.
وعند ذلك: فإما أن يخلو منه مكانه، أو لا يخلو منه مكانه.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا فقد صارت الجهة الغير متناهية متناهية.
وإن كان الثانى: فليست الحركة مكانية؛ بل إما أن يتخلخل أو ينمو، وليس الكلام فيه.
وأما الوضعية: فهى الحركة الدورية على حركة نفسه، فلأنه لا يخلو إذا تحرك: إما أن تتم الدورة، أو لا تتم. فإن تمت الدورة؛ لزم ما قيل من تلاقى الخطين. وهما المفروض غير متناه خاليا من العالم، والخطّ الدائر عليه.
وإن لم تتم الدورة؛ فلا يخلو. إما أن يكون تتميمها مستحيلا، أو ممكنا. فإن كان مستحيلا: كان الجزء منه أن يتحرك قوسا ولا يكون له أن يتحرك قوسا أخرى؛ وذلك مع اتحاد حقيقة المتحرك، وتشابه الأقواس والأحوال كلها مستحيل.
وإن كان ممكنا أمكن فرضه؛ ويلزم منه المحال المتقدم. وأما أنه لا حركة لأجزائه طبعا، فلأنه لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من جهة دون جهة.
فإن كان الأول: فليس لأجزائه موضع مطلوب بالحركة «1»، هو مخالف لمبدإ الحركة.
________________
(1) الحركة: عرف الآمدي الحركة فقال: «و أما الحركة فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة؛ لا من كل وجه؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان، والاستحالة من كيفية إلى كيفية» [المبين للآمدى ص 95].
(3/98)
________________________________________
وإن كان الثانى: فلا بد وأن يكون لحركته مكان يطلبه بالطبع وما يطلبه للجزء، ويجب أن يكون هو ما يطلبه الكل، والكلّ لا يطلب مكانا؛ أو لا مكان له بالطبع، لا مجانسا لأى سطح شبيه بسطحه فى «1» طبيعته «1»، ولا غير مجانس، أى أن يكون سطحا غير شبيه بسطحه فى طبيعته.
وأيضا/ فإنّ ذلك الجزء لا يطلب مكانا غير مكان الكل وحيز الكل متشابه؛ فيكون سكونه فى أى موضع اتفق منه ولا حيزا خارجا عن حيز الكل.
اللهم إلا أن يجعل الكل متناهيا من جهة؛ فيجب أن يكون حيّز الكل هو مطلوب الجزء؛ أو نفس الكل لتصل به.
فإن كان الأول: فلا حيّز للكل؛ إذ الحيّز إما بعد أو محيط البعد وهو محال كما سبق «2». والمحيط محال، فإن ما لا يتناهى لا محيط له.
وإن كان الثانى: فيجب أن تكون حركات الأجزاء كلها إلى جهة واحدة، لطلب الاتصال بالكل، والحال فى الأجسام الطبيعية، غير هذا على ما يشهد به الحسّ.
وإذا لم تتصور الحركة الطبيعية لا على الكل ولا على الجزء فى جسم لا يتناهى.
فنحن نعلم أن الأجسام فى عالمنا هذا قد تتحرك بالطّبع إلى جهات مختلفة؛ وهو مشاهد بالحسّ فلا هى ولا ما هى جزء منه غير متناه؛ وهو أيضا مع تطويله مدخول.
إذ لقائل أن يقول: ما ذكرتموه فمبنى على أن الجسم لا بد له من حيّز طبيعى «3» [و هو باطل بما سيأتى] «4»
وإن سلمنا أن الجسم لا بد له من حيز طبيعى]. ونسلم أنه ممتنع على ما لا تتناهى «11» // الحركة الانتقالية، والحركة الوضعية؛ ولكن لا نسلم امتناع ذلك على أجزائه اللهم إلا أن يفرض ذلك الجسم المتصل الّذي لا نهاية له متشابها، وعلى طبيعة واحدة، وإلا فمع فرض اختلاف طبائع الأجزاء المتصلة التى يكون من مجموعها بعد لا يتناهى، فغير ممتنع أن يكون المكان الطبيعى لكل واحد منها، غير مكان الآخر على ما نشاهده من ترتيب الأجسام العنصرية فى عالمنا هذا المحسّ لنا.
________________
(1) (فى طبيعته) ساقط من ب.
(2) راجع ما سبق ل 2/ ب وما بعدها.
(3) ساقط من أ.
(4) انظر ما سيأتى ل 30/ أ.
(11) // أول ل 15/ أ من النسخة ب.
(3/99)
________________________________________
وعند ذلك: فلا تمتنع الحركات المختلفة عليها عند كون كل واحد منها مما يلى غير الملائم له طلبا للملائم، ولا سيما إذا فرض الجسم متناهيا من بعض الجهات دون البعض.
الأقرب مما قيل فى هذا الباب، وإن كان قد ضعفه قوم من الأفاضل فهو أن يقال:
لو كانت الأبعاد غير متناهية؛ فلنا أن نفرض خطين خارجين من نقطة ما مفروضة كما فى مثلث، إلى غير النهاية.
وعند ذلك: فلا بدّ وأن تكون زيادة الانفراج بينهما على حسب زيادة طوليهما.
ولهذا فإنا نجد ما قرب من نقطة الزاوية المفروضة من الأبعاد الانفراجية الواقعة بين الضلعين الخارجين من النقطة المفروضة أقصر مما بعد عنها، وليس ذلك إلا لأن زيادة الانفراج على حسب «1» زيادة طول الأبعاد «2» نحو زيادة طول الأضلاع المفروضة. فإذا فرضت الأضلاع لا نهاية لها؛ فيجب أن يتوهم بينها انفراج لا يتناهى فى الجملة؛/ ضرورة أن زيادة الانفراج على حسب زيادة طول الأبعاد.
فإن قال من ضعف هذا المسلك: إنه ما من حد يفرض من الضلعين إلا وهما متناهيان بالنسبة إليه. وكذلك إلى غير النهاية.
وكذلك ما يتوهم من كل انفراج يقدر بينهما.
قلنا: فيلزم امتناع توهم كون كل واحد من الضلعين غير متناه فى الجملة؛ بضرورة ما قيل، وقد قيل بأنهما غير متناهيين.
فإذا لم يمتنع توهم كون البعدين، غير متناهيين فى الجملة مع ما قيل «3» بأنهما غير متناهيين «3». بأن ما من حد يفرض فيهما إلا وهما متناهيان بالنسبة إليه. وكذلك يجب أن يتوهم من غير امتناع وجوب انفراج بين الضلعين لا نهاية له فى الجملة؛ لضرورة أنهما غير متناهيين.
وأن زيادة الانفراج على حسب زيادة طول البعدين؛ وهو فلا يخرج عما بين الضلعين المفروضين. وما لا يتناهى؛ فلا ينحصر بين حاصرين. وإذا كان اللازم ممتنعا؛ فالملزوم مثله.
________________
(1) فى ب (نحو).
(2) فى (الأضلاع).
(3) (بأنهما غير متناهيين) ساقط من ب.
(3/100)
________________________________________
«1» والمعتمد لنا هاهنا: الطريقة المشهورة «2» لنا، التى أنشأناها، ورتبناها ولم نجدها، ولا ما يقاربها، لأحد من المتقدمين، ولا فضلاء المتأخرين سهلة المدرك، عسيرة المعرك، تشهد بصحتها الفطر السليمة، والأذهان المستقيمة، وذلك أن يقال: لو فرض بعد لا نهاية له من جميع جهاته فلنا أن نفرض بعدا غير متناه من جهتيه، وليكن بعد ب ح، ب د، ز ج ولنفرض فيه حدا مفروضا معينا، وليكن ذلك الحد حدّ حدّد له.
وعند ذلك: فما يليه من الجانبين إلى غير النهاية وهما بعد ب د وبعد د ج إما أن يتفاوتا بحيث لو قدر انطباق طرف أحدهما على الآخر من نقطة د لتقاصر الناقص عن الزائد، أو تساويا. بحيث لا يتقاصر أحدهما عن الآخر بتقدير الانطباق.
فإن كان الأول: فيلزم أن يكون الناقص له طرف، ونهاية من الجهة التى لا نهاية فيها. وما له طرف، ونهاية؛ فلا يكون غير متناه. وقد قيل إنه غير متناه؛ وذلك محال.
وإن كان الثانى: فلنا أن نفرض حدا آخر بين د وج وليكن حد د فالبعدان الآخران منه إلى الجهتين المختلفتين إلى غير النهاية. إما أن تتفاوتا، أو تتساويا.
فإن قيل: بالتفاوت: فهو أيضا محال لما سبق.
وإن قيل بالتساوى. فيلزم أن يكون بعد ب د أنقص من بعد د ح ضرورة أنه مهما أضيف إليه من بعد مساو لبعد د ج وهو خلف إذا كان بعد ب د مساويا لبعد أ د أن يكون بعد ب د مساويا لبعد ب د ز وهو أيضا محال؛ إذ الناقص لا يساوى الزائد.
وهذه المحالات إنما لزمت من فرض بعد لا يتناهى، فالقول به محال «3».
فإن قيل: هذا استدلال على إبطال أمر ضروري؛ فلا يسمع؛ وذلك لأنه لا يتصور فى الذّهن انقطاع البعد حيث ينتهى إلى حدّ ليس وراءه حدّ آخر ولا يقف عليه عقل؛ بل كل عاقل يجد من نفسه أن ما من حد يفرض الوقوف عنده إلا ووراءه حدّ آخر، إلى غير النهاية.
________________
(1) من أول «و المعتمد لنا هاهنا ..... إلى قوله: فالقول به محال» ساقط من ب.
(2) هذه الطريقة من إنشاء الآمدي وابداعه.
(3) نهاية السقط الموجود فى ب.
(3/101)
________________________________________
وإن سلم أنه نظرى؛ لكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيضه؛ وذلك أنا لو قدرنا شخصا وقف فى طرف العالم الّذي قلتم بتناهيه، ورمى سهما فإما أن يصح نفوذه خارجا عن الحد المفروض الانتهاء عنده، أو لا يصح ذلك.
فإن كان الأول: فقد لزم البعد. وعلى هذا أبدا.
وإن كان الثانى: فإما أن يكون وراء العالم مانع يمنع من النفوذ، أو لا يكون.
فإن قدر المانع؛ فثم ملاء وليس لا شيء وراء العالم.
وإن لم يكن ثم مانع، فالقول بعدم تصور النفوذ ممتنع.
وإن نفذ؛ فقد لزم البعد. والبعد إما جسم، أو عرض. والعرض لا يقوم بنفسه؛ فلا بد وأن يقوم بموضوع هو الجسم.
قلنا: القول بعدم النهاية ليس ضروريا؛ ليلزم ما ذكرتموه، بل غايته ارتياد الأوهام إلى ذلك، وحكم الوهم «1» لا يقضى به على حكم العقل بل العقل حاكم ببطلان أحكام الأوهام، وقاض بفسادها، وإن كانت الأوهام ربما أثرت فى حس بعض العوام تأثيرا يقوى على حكم العقل عنده، كمن يحكم على البارى تعالى بكونه جسما «2»، مشار إليه، وإلى جهته اتباعا لوهمه، وتركا لمقتضى عقله، بناء على ما رآه شاهدا، وكمن ينفر عن العسل إذا شبه بالعذرة، أو عن المبيت فى بيت فيه ميت، خيفة تحركه مع قطعه بأن ما ينفر عنه عسل، وأن الميت لا حركة له، ولكن ذلك غير معول عليه فى المحسوسات، والقضايا العقليات.
وأما عدم نفوذ السهم فيما وراء العالم، إنما كان لعدم القابل، وذلك لا يدل على أن وراء العالم شيء؛ فإن عدم القابل ليس بشيء.
________________
(1) الوهم: عرف الآمدي الوهميات فقال: «و أما الوهميات فما أوجب التصديق بها قوة الوهم. إلا أن ما كان منها فى غير المحسوس؛ فكاذب؛ كالحكم بأن كل موجود مشار إلى جهته أخذا من المحسوس» [المبين للآمدى ص 92].
(2) الجسم: عرفه الآمدي فقال: «و أما الجسم: فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا» [المبين للآمدى ص 110].
(3/102)
________________________________________
الفصل الثالث: فى تجانس الأجسام «1»
وقد اتفقت الأشاعرة، وأكثر المعتزلة على أن الأجسام متجانسة؛ بناء على أصلهم:
أن الجسم هو/ «2» الجوهر المؤلف، أو الجواهر المؤتلفة.
وأن الجواهر متجانسة، وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف، فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة «3».
وذهب النظام، والنجار من «4» المعتزلة: إلى أن الأجسام مختلفة بناء على أصليهما فى أن الجواهر التى منها تركب الأجسام مختلفة؛ لتركبها من الأعراض «11» // المختلفة، وقد حققنا كل واحد من الأصلين ونبهنا على ما فيه «5»
وأما الفلاسفة: فإنهم قالوا: الجسم البسيط المشترك بين جميع الأجسام العلوية، والسفلية واحد فى الحقيقة، والنوعية، لا اختلاف فيه؛ بناء على أصلهم أن الجسم: هو الّذي يمكن أن نفرض فيه أبعادا ثلاثة متقاطعة، على حدّ واحد تقاطعا قائما؛ كما سلف «6».
وهذا مما تشترك فيه الأجسام العلوية، والسفلية من غير اختلاف، وإنما الاختلاف فى أنواعه العلوية، والسفلية؛ فإن الأجسام العلوية: وهى أجسام السماوات مخالفة بطبائعها، وصورها الجوهرية للأجسام العنصرية، البسيطة التى فى مقعر فلك القمر وهى: النار، والهواء، والماء، والتراب. وكذلك بالعكس.
قالوا: ويدل على ذلك أن أجسام السماوات لا يتصور عليها الكون، والفساد، ولا الحركة المستقيمة. بخلاف العناصر؛ فإنها قابلة لذلك على ما سيأتى تقريره فيما بعد «7».
ولو كانت متماثلة؛ لجاز على كل واحد منها ما يجوز على الآخر.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا:
انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 153 وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص 52 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 252 وشرح المواقف للجرجانى 7/ 240 وما بعدها.
(2) الجوهر: عرفه الآمدي بقوله: «و أما الجوهر: فعلى أصول الحكماء: ما وجوده لا فى موضوع. والمراد بالموضوع:
المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه» [المبين للآمدى ص 109].
(3) راجع ما سبق فى النوع الأول: فى أحكاك الجواهر مطلقا. الفصل الرابع: فى أن الجواهر متجانسة غير متجددة ل 5/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما فى الفصل الثالث: فى أن الجوهر غير مركب من الأعراض ل 4/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 15/ ب من النسخة ب.
(5) انظر المصدرين السابقين 2، 3.
(6) راجع ما سبق فى الفصل الأول ل 18/ أ.
(7) انظر ما سيأتى فى الفصل السادس ل 31/ أ وما بعدها.
(3/103)
________________________________________
وكذلك العناصر أيضا مختلفة فى أنواعها، وصورها الجوهرية، لا فى الجسمية المشتركة، ويدل عليه أن العناصر مختلفة الكيفيات؛ لأن العنصر إما حارّ «1»، أو بارد «2».
فإن كان حارا؛ فإما يابس، أو رطب «3». فإن كان يابسا: فهو النار. وإن كان رطبا؛ فهو الهواء «4».
وأما إن كان باردا: فإما رطب، أو يابس: فإن كان رطبا: فهو الماء، وإن كان يابسا:
فهو التراب «5».
قالوا: وهذا الاختلاف بين العناصر، لا بدّ وأن يكون لاختلاف طبائعها، وإلا لما اختلفت كيفياتها. وليست طبائعها التى بها الاختلاف، عائدة إلى هذه الكيفيات لثلاثة أوجه:
الأول: أنه لو كان كذلك؛ لكان الماء إذا سخن بالنار يخرج عن طبيعته المائية، ويصير هواء؛ لحرارته، ورطوبته.
وأن الأرض إذا سخنت بالنار؛ فتخرج عن طبيعة الأرض، وتصير نار، لحرارتها، ويبوستها مع بقاء الأرضية؛ وهو محال.
الثانى: هو أن الماء إذا سخن بالنار، وكذا التراب إذا ترك زمانا، عاد باردا مع/ علمنا بانتفاء البرودة الأصلية عنه فى حالة حرارته بالكلية. فلو كانت طبيعته هى الكيفية الزائلة عند وجود الحرارة الحادثة؛ لما عادت إليه، لزوال الطبيعة عنه، فحيث عادت إليه؛ علم أن الطبيعة التى له، المقتضية لبرده ورطوبته؛ غير زائلة.
________________
(1) عرف الآمدي الحرارة فقال: «و أما الحرارة: فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات، ويجمع بين المتشاكلات» (المبين للآمدى ص 99).
(2) عرف الآمدي البرودة فقال: «و أما البرودة: فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات، ويفرق المتشاكلات» [المبين للآمدى ص 99].
(3) عرف الآمدي الرطوبة فقال: «و أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره، وكذا تركه. وأما اليبوسة: فمقابلة للرطوبة»
[المبين للآمدى ص 99، 100].
(4) عرف الآمدي النار والهواء فقال: «و أما النار: فعبارة عن جرم بسيط حارّ يابس.
وأما الهواء: فعبارة عن جرم بسيط حار رطب». [المبين للآمدى ص 99].
(5) عرف الآمدي الماء والتراب فقال: «و أما الماء: فعبارة عن جرم بسيط بارد رطب. وأما التراب: فعبارة عن جرم بسيط بارد يابس».
[المبين للآمدى ص 99].
(3/104)
________________________________________
الثالث: أن هذه الكيفيات مما تشتد، وتضعف، وما قامت به لا يوصف بالشدة، والضعف. وإذا ثبت أن طبائع العناصر، غير هذه الكيفيات، وهذه الكيفيات؛ فعارضة، لاحقة بالعناصر، فيجب أن تكون هذه الطبائع صورا جوهرية، لا عرضية. فإنه ما من عرض يقدر من الأعراض أنه هو الطبيعة، إلا ويمكن فرض الاشتراك فيه مع اختلاف الطبيعة، أو فرض التقارب فيه مع اتحادها.
وأيضا: فإنه لما كان وجود الجسم المطلق غير متصور دون طبيعة تخصصه، وجب أن تكون تلك الطبيعة صورة جوهرية، لا عرضية. يتوقف وجود الجسم عليها، وإلا كان الجوهر يتوقف وجوده على العرض؛ وهو محال.
فإذن طبائع العناصر التى بها الاختلاف فيما بينها صورا جوهرية، لا عرضية «1».
قالوا: وكذلك المركبات الكائنة من العناصر: كالنباتية «2»، والحيوانية «3» والمعدنية، [فمختلفة] «4» وليس اختلافها بالعوارض. فإنه ما من عرض يقدر إلا ويمكن فرض الاشتراك فيه، بين هذه الأنواع مع اختلاف طبائعها؛ فإذن أنواع الأجسام مختلفة، لا متجانسة.
هذا ما ذكروه: وأما نحن فنقول:
أما قولهم: إن أنواع الأجسام مختلفة، بالصور الجوهرية. ممنوع. وما المانع أن تكون متحدة بالجسمية، مختلفة بالأمور العرضية.
قولهم: أجسام السموات، مخالفة لأجسام العناصر، الطبيعية الجوهرية.
________________
(1) قال الشريف الجرجانى فى تعريف الصورة: «الصورة: صورة الشيء هى ما يؤخذ منه عند حذف المشخصات، ويقال: صورة الشيء: ما به يحصل الشيء بالفعل.
والصورة الجسمية: هى جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه، قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم فى بادئ النظر. أو هى الجوهر الممتد فى الأبعاد كلها، المدرك فى بادئ النظر بالحس.
والصورة النوعية: هى جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه» [كتاب التعريفات للجرجانى ص 154].
(2) النبات: جسيم مركب له صورة نوعية، أثرها المتيقن الشامل لأنواعها التنمية والتغذية، مع حفظ التركيب.
والنبات كمال أول لجسم طبيعى آلى من جهة ما يتولد ويزيد ويغتذى. [التعريفات للجرجانى ص 267].
(3) الحيوان: الجسم النامى الحساس المتحرك. [التعريفات للجرجانى ص 106].
(4) ساقط من أ.
(3/105)
________________________________________
لا نسلم قولهم؛ لأن أجسام السماوات لا يتصور عليها الكون والفساد والحركة المستقيمة؛ بخلاف العناصر.
لا نسلم أن أجسام السموات كما ذكروه، وما يذكرونه على ذلك؛ فسيأتى أيضا إبطاله «1».
وإن سلمنا ذلك جدلا؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على اختلاف طبائعها، وصورها الجوهرية.
قولهم: لو تماثلت، واتحدت نوعا؛ لجاز على كل واحد، ما جاز على الآخر.
قلنا: وما المانع من أن يكون ذلك مع اتحاد «11» // النوع بسبب اختلاف العوارض دون الصور الجوهرية.
فلن قالوا: يمتنع أن يكون ذلك بسبب اختلاف العوارض/ مع اتحاد النوعية؛ لأن ما اختص بكل واحد من المتماثلين من الأعراض:
إما أن يكون ذلك لازما لذاته، أو للازم ذاته.
فإن كان الأول: لزم الاشتراك بينهما فى ذلك العارض؛ ضرورة اتحاد المستلزم، ويمتنع معه الافتراق.
وإن كان الثانى: فالكلام فى ذلك اللازم: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو لم يكن المخصص لكل واحد منهما ما يخصص به فاعلا مختارا. وإلا فبتقدير أن يكون فاعلا مختارا؛ فقد اندفع ما ذكروه من لزوم الاشتراك، والتسلسل؛ فلم قالوا بامتناعه؟ كيف وقد بينا أنه لا مؤثر لشيء ما من الآثار غير الله- تعالى- وأنه فاعل مختار كما سبق «2».
وإن سلمنا أن المخصص ليس فاعلا مختارا، غير أن ما ذكروه فى الاختصاص بالعوارض، مع اتحاد الطبيعة النوعية، لازم عليهم فى اختصاص أحد الجسمين بالطبيعة، والصورة الجوهرية دون غيره مع اتحادهما فى معنى الجسمية.
________________
(1) انظر ما سيأتى ل 31/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 16/ أ.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(3/106)
________________________________________
فإن لقائل أن يقول: إذا سلمتم أن مسمى الجسم المشترك واحد فى جميع الأجسام باختصاص بعضها بطبيعة جوهرية، لا وجود لها فى الجسم الآخر، مع اتحاد حقيقة الجسم المشترك: إما أن يكون لذاته، أو للازم ذاته.
فإن كان الأول: وجب الاشتراك فى تلك الطبيعة؛ ضرورة اتحاد المستلزم.
وإن كان الثانى: فالكلام فى ذلك اللازم، كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
فما هو الجواب فى الاختصاص بالطبيعة «1»؛ هو الجواب فى الاختصاص بالعوارض «2» ثم يلزمهم امتناع التعدد فى أشخاص كل نوع من أنواع الإنسان وغيره، فإن طبيعة [النوع] «3» فى جميع أشخاصه واحدة عندهم. والتمايز بين الأشخاص، إنما هو بالعوارض.
وعند ذلك: فلقائل أن يقول: امتياز كل واحد من أشخاص النوع بما أختص به:
إما أن يكون لذاته، وطبيعته، أو للازم ذاته.
فإن كان الأول: لزم الاشتراك فى ذلك العارض؛ ضرورة اتحاد المستلزم.
وإن كان الثانى: فقد لزمه التسلسل، واتحد الجواب فى محل النزاع، وصورة الإلزام.
وقولهم: إن العناصر أيضا مختلفة الأنواع؛ ممنوع.
قولهم:/ العناصر مختلفة الكيفيات «4»؛ مسلم؛ ولكن لا بد من التنبيه على زللهم فيما ذكروه من الكيفيات، وذلك أنهم قالوا: الحار اليابس هو النار، وقد رسموا اليبس بأنه قوة بها يعسر قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره. والرطوبة فى مقابلته.
وإنما يستقيم مع ذلك جعل النار يابسة بهذا الاعتبار وجعل الماء رطبا مع علمنا بأن النار ألطف الأجسام وأقلها للانحصار والتشكل بشكل غيرها.
________________
(1) الطبيعة: عبارة عن القوة السارية فى الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعى. [التعريفات للجرجانى ص 159].
(2) العوارض جمع عرض. والعرض ما يعرض فى الجوهر، مثل الألوان والطعوم، والذوق واللمس وغيرها مما يستحيل بقاؤه بعد وجوده [التعريفات للجرجانى ص 170].
(3) ساقط من أ.
(4) عرف الآمدي الكيف فقال: «و أما الكيف: فعبارة عن هيئة قارة للجوهر لا يوجب تعقلها تعقل أمر خارج عنها وعن حاملها، ولا يوجب قسمة ولا نسبة فى أجزائها وأجزاء حاملها.
وهى منقسمة إلى:-
(3/107)
________________________________________
ثم وإن سلمنا صحة ما ذكروه فى الكيفيات الملموسة؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على اختلاف صور جوهرية للعناصر. وما المانع من أن يكون اختلاف العناصر فى هذه الكيفيات بسبب اختلافها فى أمور عرضية غير هذه الكيفيات.
قولهم: ما من عرض يقدر، إلا ويمكن فرض الاشتراك فيه، مع اختلاف هذه العناصر؛ غير مسلم؛ ولا يلزم من امتناع الاختلاف بينها، فى بعض الأعراض، ذلك فى كل عرض يقدّر؛ ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى الدلالة عليه.
وإن رجعوا إلى امتناع اختصاص البعض بعارض مع اتحاد النوع؛ لما ذكروه؛ عاد ما ذكرناه.
قولهم: إن وجود الجسم «1» المطلق غير متصور دون ما يخصصه؛ فوجب أن يكون ما توقف عليه صورة جوهرية؛ لما قرّروه.
قلنا: فيلزم على ما ذكرتموه أن يكون الاختلاف بين أشخاص كل نوع من أنواع الجسم بالصور الجوهرية لا بالعوارض؛ لامتناع وجود طبيعة النوع فى الوجود العينى مشخصا، دون ما يخصصه، ويميزه عن باقى الأشخاص ولم تقولوا به؛ إذ النوع عندهم مقول على كثيرين مختلفين بالأعراض فى جواب ما هى
ولو كان ما وجد من أشخاصه فى الأعيان مختلفة بالصور الجوهرية؛ لما كان المقول عليها نوعا لها؛ وهو خلاف مذهبهم على ما عرف فى المواضع اللائقة به.
وعلى هذا: فلا يخفى وجه الكلام عليهم فى اختلاف المركبات الحيوانية، والنباتية، والمعدنية، وغيرها.
________________- أما هو مختص بالكميات: كالشكل، والانحناء، والاستقامة، ونحو ذلك.
ب- وإلى الفعليات، والانفعاليات: كحرارة النار، وحمرة الخجل، وصفرة الوجل.
ج- وإلى القوة واللاقوة: كقوة الصّحاح والمرض.
د- وإلى الحال والملكة: فأما الحال: فكما نخجل ونوجل. وأما الملكة: فكالصحة للصحاح، ونحو ذلك.
[المبين للآمدى ص 112].
(1) الجسم: (عند الحكماء) جوهر قابل للأبعاد الثلاثة. وقيل الجسم: هو المركب المؤتلف من الجوهر.
والجسم التعليمى: هو الّذي يقبل الانقسام طولا وعرضا وعمقا. ونهايته السطح، وهو نهاية الجسم الطبيعى، ويسمى جسما تعليميا؛ إذ يبحث عنه فى العلوم التعليمية: أى الرياضية: الباحثة عن أحوال الكم المتصل والمنفصل منسوبة إلى التعليم والرياضة؛ فإنهم كانوا يبتدئون بها فى تعاليمهم ورياضتهم لنفوس الصبيان؛ لأنها أسهل إدراكا» [التعريفات للجرجانى ص 86، 87].
(3/108)
________________________________________
الفصل الرابع فيما يجب للأجسام من الصفات، وما لا يجب
وإذ بينا أن كل جسم؛ فلا بد وأن يكون متناهيا «1»؛ فكل ما لا يخلو عنه الجسم المتناهى «11» // من الصفات بتقدير عدم الأسباب الخارجة/؛ فهى من الصفات الواجبة لنفسه، والجسم المتناهى لو قدر عدم جميع الأسباب الخارجة عنه؛ فلا يخلو عن شكل: أى عن حدّ يحيط به؛ فيكون كريا «2»، أو حدود؛ فيكون مضلعا. وعن وضع: أى أن تكون لأجزائه نسبة بعضها إلى بعض؛ وعن حيز «3»، وهو إما مكان، أو بتقدير مكان.
وأن يكون قائما بنفسه. وقابلا للأعراض؛ ضرورة كونه جوهرا كما سبق «4».
وأما آحاد الأشكال، والأوضاع على سبيل التعيين؛ فليس من الصفات الواجبة له.
فإنه ما من واحد يفرض منها إلا ويجوز بتقدير عدمه مع بقاء الجسم بحاله، وما هذا شأنه؛ فلا يكون من الصفات الواجبة للجسم ولا يكون أيضا ثابتا لطبيعة الجسم؛ لما بيناه فى الرد على الطبائعيين «5»؛ بل كل ما يكون من ذلك فإنما هو للجسم من الفاعل المختار «6».
وقالت الفلاسفة: لا بد لكل جسم من شكل طبيعى وحيز طبيعى، وكيفية طبيعية «7» تكون له، وإن زال عنه قسرا.
فعند زوال السبب القاسر يعود إلى مقتضى طبعه من الشكل، والحيز، والكيفية؛ لكن ما كان من الأجسام بسيطا؛ فشكله الطبيعى له كرى؛ إذ القوة الواحدة فى البسيط لا يفعل غير المتشابه، ولا متشابه من الأشكال غير الكريّ، وما كان منها مركبا معتدلا فشكله الطبيعى، لا يكون إلا مضلعا، وإلا فشكله شكل الغالب من بسائطه.
________________
(1) راجع ما سبق فى الفصل الثانى ل 21/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 16/ ب من النسخة ب.
(2) الكرة: هى جسم يحيط به سطح واحد، فى وسطه نقطة، جميع الخطوط الخارجة منها إليه سواء». [التعريفات للجرجانى ص 210].
(3) عن الحيز: راجع ما مر فى النوع الأول- الفصل الثانى: فى معنى الحيز والمتحيز، والتحيز ل 2/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى النوع الأول- الفصل الأول: فى حقيقة الجوهر ومعناه ل 2/ أ.
(5) راجع ما مر فى القاعدة الرابعة: من الجزء الأول- الفرع الثالث: فى الرد على الطبائعيين ل 220/ ب وما بعدها.
(6) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى ل 211/ ب وما بعدها.
(7) وقد رد الآمدي على الفلاسفة بالتفصيل فى الفصل الخامس: فى إبطال قول الفلاسفة إنه ما من جسم إلا وفيه مبدأ حركة طبيعية ومناقضتهم فى ذلك. ل 30/ أ وما بعدها.
(3/109)
________________________________________
وأما الحيز الطبيعى «1» للبسائط من الأجسام فما كان منها علويا: كالسماوات؛ فحيزها الطبيعى من حد فلك «2» القمر إلى آخر العالم، وما كان منها سفليا: كالعناصر، فقد اختلفوا فيه: فمنهم من قال: إن الحيز الطبيعى لها بأجمعها إنما هو مركز العالم، وأنها بأجمعها ثقيلة تطلب بطبائعها أقصى جهة السفل غير أنه لما كان بعضها أثقل من بعض سقط الثقيل لما هو أخف منه إلى فوق قسرا، ولذلك كان التراب أسفل الكل؛ إذ هو أثقلها، ويليه الماء، ويلى الماء، الهواء، والهواء، النار، إذ النّار أخف من الهواء، والهواء من الماء، والماء من الأرض.
ومنهم من قال: إن ما نشاهده من حركة كل واحد إلى حيّز من الأحياز إنما هو لطبيعته، لا أنه مقسور على حركته إليه، وأن الأرض والماء/ ثقيلان.
إلا أن الأرض أثقل من الماء.
ولهذا كان الحيز الطبيعى للأرض هو المركز، والحيز الطبيعى للماء ما فوق الأرض، وتحت الهواء.
وأما الهواء، والنار، فهما الخفيفان؛ إلا أن النار أخف من الهواء، ولذلك كان الحيز الطبيعى للنار فوق الكل.
والحيز الطبيعى للهواء: تحت النار، وفوق الماء، وما تركب منهما فحيزه الطبيعى حيز الغالب منهما، وإن تساوت؛ فحيز المتوسط منهما.
وربما قال بعض الأوائل منهم: إن حركة الثقيل وهى الأرض، وهويه إلى الوسط، وسكونه فيه ليس لطبعه؛ بل لالتفاف الحركات السماوية به والدفع المتشابه من كل جهة، كما يفرض لحفنة من تراب إذا وضعت فى قنينة، وأديرت على قطبين بحركة شديدة، أن تصير فى الوسط، ثم يليه الماء ثم الهواء، ثم النار.
________________
(1) الحيز الطبيعى: ما يقتضي الجسم بطبعه الحصول فيه.
والحيز عند المتكلمين: هو الفراغ المتوهم الّذي يشغله شيء ممتد: كالجسم، أو غير ممتد: كالجوهر الفرد.
وعند الحكماء: هو السطح الباطن من الحاوى المماس للسطح الظاهرى من المحوى». [التعريفات للجرجانى ص 105، 106].
(2) عرف الآمدي الفلك فقال: «و أما الفلك: فعبارة عن جرم كرى الشكل غير قابل للكون والفساد محيط بما فى عالم الكون والفساد. وأما على رأى الإسلاميين: فعبارة عن جرم كرى محيط بالعناصر». [المبين للآمدى ص 99].
(3/110)
________________________________________
ومنهم من قال بأن سكون الأرض فى الوسط، وعدم حركتها عنه؛ ليس بالطبع، ولا للدفع؛ بل بجذب الفلك له من جميع الجهات جذبا متساويا على نحو جذب المغناطيس للحديد؛ فلا تكون جهة أولى بالحركة من جهة ولهم اختلافات أخرى وخبط كثير، لا يليق استقصاؤه هاهنا، أومأنا إليها، وإلى إبطالها فى دقائق الحقائق «1».
وأما الكيفيات: فإنهم قالوا: ما كان من البسائط من الأجسام: كالعناصر؛ فلا بد لكل عنصر من كيفيتين تكون له بمقتضى طبعه: كالحرارة، واليبوسة للنار. والحرارة، والرطوبة للهواء، والبرودة والرطوبة للماء. والبرودة واليبوسة للأرض. بحيث يعود إليه بعد زوالها عنه قسرا. وأحالوا أن يكون شيء من هذه الكيفيات لبسائط الأفلاك؛ لأن ذلك مما يلازمه، الثقل أو الخفة. والثّقل والخفة من لوازم الحركة المستقيمة، والحركة المستقيمة غير متصورة على الأفلاك عندهم كما يأتى شرحه وإبطاله «2». هذا تفصيل مذاهبهم.
وأما نحن فنقول: من التفت إلى ما حققناه من وجود الفاعل المختار، وأنه لا مؤثر سواه «3»، والتفت إلى ما قررناه فى الفصل المتقدم «4»؛ علم بطلان جميع ما ذكروه، وبتقدير التسليم- جدلا- عدم الفاعل المختار، فلا بد من مناقضتهم فيما ذكروه.
أما قولهم: ما كان من بسائط الأجسام؛ فلا يكون شكله الطبيعى إلا كريّا؛ ممنوع قولهم لأن القوة/ الواحدة فى بسيط واحد، لا يفعل إلا المتشابه.
إنما يستقيم أن «11» // لو بينوا امتناع قيام قوتين مختلفتين ببسيط واحد؛ وما المانع منه؟
فلهذا قالوا: إن صور العناصر قابلة للكون والفساد مع بساطتها. وإنما تكون قابلة للكون بقوة قابلة للكون؛ ولذلك إنما تكون قابلة للفساد؛ بقوة قابلة للفساد.
________________
(1) هو أهم كتب الآمدي الفلسفية. انظر عنه ما مر فى المقدمة.
(2) انظر ما سيأتى فى الفصل السادس: فى إبطال ما قيل إن الأفلاك غير قابلة للحركة المستقيمة والفساد. وأنها ليست ثقيلة، ولا خفيفة ولا حارة ولا باردة، ولا رطبة ولا يابسة، وأنها بسيطة، كرية، لا تقبل الخرق والشق ل 31/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى الفصل الثالث ل 25/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 17/ أ من النسخة ب.
(3/111)
________________________________________
إذ لو لم يكن فيها قوة قبول الكون، والفساد «1»؛ لما كانت ولما فسدت. وبتقدير اجتماع قوتى القبول للكون والفساد فى البسيط الواحد [فلا يمتنع اجتماع قوتين فاعلتين فى البسيط الواحد «2»] ولو سئلوا عن الفرق؛ لم يجدوا إليه سبيلا.
ولئن قالوا: القوّة القابلة للكون، هى القوة القابلة للفساد؛ فلا تعدد.
قلنا: فيلزمهم على هذا أن يقولوا: بجواز فساد الأنفس الإنسانية «3».
فإنهم إنما أحالوا ذلك على أن الأنفس الإنسانية لو قبلت الفساد؛ لكان فيها قوة قبول الفساد، وقد كان فيها قوة قبول الكون. والبسيط الواحد لا يجتمع فيه قوتان.
وذلك لا يتصور مع القول بأنّ القوة القابلة للكون هى القوة القابلة للفساد ثم إن كانت القوة القابلة للكون هى القوة القابلة للفساد.
قلنا: إما أن يكون ذلك ممكنا، أو لا يكون ممكنا.
فإن كان الأول: فما المانع من فساد الأنفس الإنسانية.
وإن كان الثانى: فليمتنع القول بكون الصور الجوهرية وفسادها.
وإن سلمنا أن البسيط لا تقوم به إلا قوة واحدة؛ فما المانع من فعلها؛ لما ليس متشابها.
وما ذكروه: إنما يستقيم أن لو أمتنع تعليل الأمور المختلفة بعلة واحدة؛ وهو غير مسلم «4». ثم لو كان الشكل الطبيعى للبسيط كريّا؛ لكان الشكل الطبيعى للأرض البسيطة
________________
(1) الكون والفساد: عرف الآمدي الكون والفساد فى كتابه المبين ص 100، 101 فقال أما الكون: فعبارة عن خروج شيء ما من العدم إلى الوجود دفعة واحدة لا يسيرا يسيرا.
وأما الفساد: فعبارة عن خروج شيء ما من الوجود إلى العدم دفعة واحدة لا يسيرا يسيرا.».
(2) ساقط من أ.
(3) عرف الآمدي النفس فقال: «و أما النفس: فعبارة عن كمال لكل جسم طبيعى من شأنه أن يفعل أفعال الحياة.
وهذا رسم النفس على وجه تشترك فيه النفس الفلكية والنباتية والحيوانية والإنسانية إن قلنا: إن ما لكل واحد من الأفلاك من الحركة تتم لا بمعاضدة غيره من الأفلاك له، وإلا فالأنفس الفلكية خارجة عنه.
وإذ ذاك ينحصر الرسم المذكور فى النمو والتغذى والولادة؛ فإن قيد بالإدراك والحركة الإرادية؛ كان رسما للنفس الإنسانية.» [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 101، 102].
(4) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل السادس: فى أن العلة الواحدة هل توجب حكمين مختلفين، أم لا؟ ل 123/ أ وما بعدها.
(3/112)
________________________________________
كريّا. ولو كان كذلك؛ لوجب عند تسلمها بقسر قاسر أن يعود شكلها كريّا بتقدير زوال القاسر؛ وليس الأمر كذلك فى الأرض.
فلئن قالوا: إنما لم يعد الشكل الكريّ؛ لأنّ اليبس الّذي هو من مقتضى طبع الأرض حافظ لهيئة كل جزء من أجزاء الشكل الّذي اقتضته طبيعة الأرض على حاله، فلو عاد الشكل الكريّ؛ لكان على خلاف مقتضى اليبس الّذي هو مقتضى الطبيعة؛ فيكون على خلاف مقتضى الطبيعة؛ وهو ممتنع.
فنقول: وكما أن الطبيعة مقتضية لليبس المقتضى لحفظ الأجزاء الشكلية على هيآتها؛/ فهى أيضا مقتضية للشكل الكريّ، وليس العمل بأحد الأمرين أولى من الآخر.
وإن سلمنا أن الشكل الطبيعى للبسيط لا يكون إلا كريّا؛ ولكن لا نسلم أن الأفلاك بسيطة، ولا العناصر على ما يأتى تحقيقه «1» حتى يلزم أن يكون الشكل الكريّ لها طبيعيا.
قولهم: وما كان منهما مركبا معتدلا؛ فشكله الطبيعى له مضلع؛ فهو ممنوع. وما المانع من كونه كريا؟
فلئن قالوا: إلا أن الطبائع المختلفة لا تقتضى إلا المختلف؛ فهو ممنوع. وما المانع من صدور المتماثلات عن المختلفات «2».
ولهذا: فلأنه لو كان المركب من عناصر أربعة معتدلة قلنا: بأنه لا يصدر عن طبائعها غير المضلع، فالمضلع لا بد له من أضلاع، وزوايا. وقد تكون الأضلاع منه متماثلة، وقد تكون مختلفة، وكذلك الزوايا. وبتقدير تماثل الأضلاع، وتماثل الزوايا، فأقل ما تكون أضلاع المضلع ثلاثة، وكذلك زواياه فإن أبسط الأشكال المضلعة، إنما هو المثلث، والمختلف منها إنما هو الزوايا مع الأضلاع.
وعند ذلك: فإما أن تكون الأضلاع المتماثلة مقتضى طبيعة واحدة، وكذلك الزوايا، أو أن كل ضلع مقتضى طبيعة، وكل زاوية مقتضى طبيعة.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الفصل السادس ل 31/ أ وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى فى الأصل الثالث: فيما توصف به الجواهر والأعراض. الفصلين الثانى والثالث ل 69/ ب وما بعدها.
(3/113)
________________________________________
فإن كان الأول: فيلزم منه اعمال طبيعتين، وتعطيل الطبيعتين الأخريين؛ وليس ذلك أولى من العكس.
وإن كان الثانى: فقد صدرت المتماثلات عن المختلفات،
وقولهم: إن الحيّز الطبيعى للعلويات من فلك «1» القمر إلى آخر العالم.
فنقول: الحيّز الطبيعى للجسم، لا معنى له عندهم إلا ما لو قدّر زوال الجسم عنه قسرا؛ لكان فى طباعه مبدأ ميل إليه. ولو لم يكن كذلك؛ لما كان طبيعيا له.
فإذا فى الأفلاك مبدأ ميل إلى أحيازها بتقدير زوالها عنه قسرا، والميل إلى الحيّز الطبيعى بتقدير الزوال عنه قسرا؛ لا يكون إلا بحركة مستقيمة. إذ هى أقرب إلى مطلوبه.
والحركة المستقيمة على الأفلاك عندهم محال؛ لما سيأتى «2». فلا يعقل الحيّز الطبيعى لها.
كيف وأنهم لو سئلوا عن اختصاص كل فلك بحيزه- طبعا مع اعترافهم بأنّ الأفلاك لا توصف بالحرارة والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، ولا بثقل ولا خفة- لم يجدوا إلى تحقيق ذلك سبيلا.
ولو قيل: ما المانع من كون كل فلك فى حيزه بمقتضى إرادته النفسانية؛ إذ الأفلاك عندهم/ ذوات أنفس مريدة، وأنها ليست فيها بمقتضى الطبع؛ لم يجدوا إلى دفعه مسلكا «3».
وأما العناصر فمن قال منهم إن كل واحد منها له حيّز طبيعى، وأن حيّز الأرض المركز، وحيز النار فوق الكل، والماء بين «11» // الأرض، والهواء، والهواء بين الماء، والنار؛ فمعارض باحتمال قول الآخرين أن كل واحد منها ثقيل يطلب بطبعه جهة المركز. غير أن ما كان منها أثقل يزحم الأخف، ويرسب، وما كان منها أخف؛ فيطفو فوق الثقيل؛ لمزاحمته له «4».
________________
(1) عرف الآمدي الفلك فقال: «و أما الفلك: فعبارة عن جرم كرى الشكل غير قابل للكون والفساد يحيط بما فى عالم الكون والفساد. وأما على رأى الإسلاميين: فعبارة عن جرم كرى محيط بالعناصر.» [المبين للآمدى ص 99].
(2) انظر ما سيأتى ل 31/ أ وما بعدها.
(3) انظر ما سيأتى فى الفصل السابع: فى إبطال قول الفلاسفة إن الأفلاك ذوات أنفس، وأنها متحركة بالإرادة النفسية ل 32/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 17/ ب من النسخة ب.
(4) انظر ما سيأتى: ل 30/ أ وما بعدها.
(3/114)
________________________________________
فإن قالوا: لو كان كذلك؛ لكان ما عظم من الزقوق المنفوخة أمنع لمزاحمة الماء لها مما صغر؛ وكان طفو الأصغر، أسرع من طفو الأكبر، والأمر بالعكس؛ فهو معارض باحتمال كثرة المزاحمة من الماء المقسور عن حيزه.
وأما قول من قال منهم: إنها بأجمعها ثقيلة تطلب بطبعها جهة السّفل؛ فهو معارض باحتمال أن كلها خفيفة تطلب أقصى جهة فوق؛ غير أنه لما كان البعض أخف من البعض، سبق الأخف طافيا فوق الكل، ورسب ما هو دونه فى الخفة.
وأما المذهب الثالث: القائل باندفاع الأرض إلى المركز بالحركة الفلكية القاسرة، فباطلة من أربعة أوجه:
الأول: أنه لو كان كما ذكروه؛ لكان اندفاع المدرة «1» الصغيرة، أسرع من اندفاع الأثقال العظيمة، لضعف مقاومتها.
الثانى: أنه لو كان كذلك، لكانت حركة المندفع كلما بعدت عن الفلك المحرك لها أبطأ؛ وليس كذلك.
الثالث: أنه لو كان كما ذكروه؛ لما اختص ذلك بالثقيل دون غيره.
الرابع: أنه كان يلزم أن تكون الأرض متحركة دورا فى الوسط؛ لحركة التراب فيما ذكروه من المثال؛ وليس كذلك.
وأما المذهب الرابع: فباطل أيضا؛ فإنه لو كان كما ذكروه؛ لما أختص ذلك بالأرض دون غيرها، ولكانت المدرة إذا رميت نحو السماء، أو السهم أن لا يعود قهقرا نحو الأرض؛ لقربه من بعض جهات الفلك دون البعض.
وأما ما ذكروه من اختصاص طبائع العناصر بالكيفيات المذكورة.
فلقائل أن يقول: لا نسلم أن النار يابسة؛ على ما قررناه فيما تقدم.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن لا نسلم أن هذه الكيفيات من مقتضى طباع العناصر.
وذلك أنا قد نشاهد الهواء، والماء، والتراب تارة باردا، وتارة/ حارا بطبعه
________________
(1) المدر: جمع (مدرة) مثل قصب وقصبة وهو التّراب المتلبد قال الأزهرى (المدر) قطع الطين وبعضهم يقول الطين العلك الّذي لا يخالطه رمل [المصباح المنير- كتاب الميم 2/ 566].
(3/115)
________________________________________
وليس القول بكون أحد الأمرين طبيعيا، أولى من الآخر.
فلئن قالوا: دليل كون الهواء حارا بطبعه وكون الماء، والتراب باردا بطبعيهما، وأنه لو برد الهواء بسبب مبرد، أو سخن الماء أو التراب بسبب مسخن، ثم زال القاسر عاد الهواء حارا، والماء والتراب باردا؛ وذلك دليل كونه طبيعيا له.
قلنا: وما المانع أن يكون ذلك العائد أيضا بسبب أوجب عوده من استيلاء ما يوجب التسخين أو التبريد. وعدم وجدانه لا يدل على عدمه فى نفسه.
كيف: وأنهم قد قضوا ببساطة كل عنصر من العناصر وطبيعة البسيط لا تكون إلا واحدة.
وقد قضوا بأن الطبيعة الواحدة فى البسيط الواحد لا تقتضى إلا المتشابه دون الأمور المختلفة. ولا يخفى أن الحرارة مع الرطوبة أو اليبوسة، وكذلك البرودة مع الرطوبة، أو اليبوسة من المختلفات، فكيف كانت ثابتة فى البسيط الواحد بمقتضى طبيعة واحدة فى كل واحد من العناصر.
ومن أراد الإمعان فى معرفة مناقضاتهم، وظهور فضائحهم؛ فعليه بمراجعة دقائق الحقائق «1».
________________
(1) دقائق الحقائق أهم كتب الآمدي الفلسفية انظر عنه ما مر فى المقدمة.
(3/116)
________________________________________
الفصل الخامس فى إبطال قول الفلاسفة أنه ما من جسم إلا وفيه مبدأ حركة طبيعية، ومناقضتهم فى ذلك.
فنقول: قالت: الفلاسفة أنه لا بد لكل جسم من حيز طبيعى بناء على أصلهم المتقدم «1».
وعند ذلك: فإما أن يصح عليه الانتقال عنه قسرا، أو لا يصح.
فإن صحّ: فلا بد وأن تكون فيه قوة معدة لطلب ذلك الحيّز، والعود إليه، وإلا لما كان طبيعيا له. وتلك القوة لا بد وأن تكون زائدة على نفس الجسم، وإلا لاشتركت جميع الأجسام فى اقتضاء ذلك الحيز لذواتها.
قالوا: وبتقدير أن تكون بعض الأجسام فى حيزه الطبيعى، وليس فيه مبدأ ميل إليه؛ فالميل مشاهد محس فى بعض الأجسام، وهو ما يحس به من مقاومة بعض الاجسام، ومدافعته عند إرادة تحريكه إلى خلاف جهة حيّزه الطبيعى، وعلى قدر الزيادة فى الممانعة والنقصان، يجب أن تكون الزيادة، والنقصان فى قوة الميل واحدة.
وعند ذلك فلنا أن نحرّكها بحركة قسرية مستوية فى مسافة واحدة إلى منتهى معين، مخالف لجهة حيّزها.
ويلزم من ذلك أن يكون/ قطع ذى الميل للمسافة فى زمن أطول من زمن ما لا ميل له لوجود المعاوق فيه، وعدمه فى الآخر، وبتقدير أن كون ما له الميل قد قطع المسافة فى يوم وما لا ميل له، قد قطعها فى نصف يوم فلنا «11» // أن نفرض ذا ميل آخر، قوة الميل فيه على النصف من ذى الميل الأول تحرك فى تلك المسافة بمثل الحركتين السابقتين.
ويلزم من ذلك أن يقطع المسافة فى نصف الزمان الّذي قطعها ذو الميل الأقوى؛ لأن المعاوق فيه على النصف من المعاوق فى ذى الميل الأقوى، ويلزم من ذلك أن يكون ما له الميل الأضعف قد قطع المسافة فى مثل زمان ما لا ميل له، ومحال أن يساوى ما لا ميل له، ما له ميل.
________________
(1) راجع ما مر ل 17/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 18/ أ من النسخة ب.
(3/117)
________________________________________
هذا كله إن كان الجسم قابلا للانتقال عن حيّزه قسرا، وإن لم يكن قابلا لذلك؛ فلا بد وأن يكون بسيطا؛ فإنه لو كان مركبا؛ لكانت بساطته قابلة للحركة إلى حيّز المركب وإلا لما تركب منها.
ويلزم أن تكون قابلة للانتقال إلى أحيازها؛ ويلزم من ذلك أن يكون المركب قابلا للانتقال عن حيّزه؛ وهو خلاف الفرض؛ فلم يبق إلا أن يكون بسيطا، والطبيعة الواحدة فى المادة الواحدة لا تقتضى من الأشكال غير المتشابه الأجزاء وليس ذلك غير الكرى؛ فشكله الطبيعى كرى فلا بد له من وضع سبب لقسمة أجزائه إلى حاوية، أو محوية.
وإذا كانت أجزاؤه متشابهة، متماثلة، ضرورة اتحاد الطبيعة؛ فليس اختصاص بعض الأجزاء بما اختص به، أولى من الآخر؛ بل الواجب أن ما جاز على أحد المثلين؛ فهو جائز على الآخر، وذلك لا يكون إلا بغرض الحركة، والانتقال من وضع إلى وضع؛ فله مبدأ ميل، وليس ذلك مستقيما؛ بل دورى.
فإذن كل جسم لا بد فيه من مبدأ ميل طبيعى لحركة مستقيمة أو وضعية، ولا يجتمعان.
وطريق الرد عليهم:
أن يقال: أصل ما ذكرتموه مبنى على أن كل جسم لا بد له من حيز طبيعى؛ وقد أبطلناه فى الفصل الّذي قبله «1» وبتقدير التسليم جدلا لا نسلم أنه لا بد وأن يكون اقتضاء الجسم للحيز بقوة زائدة على ذاته.
قولهم: يلزم أن تكون الأجسام كلها مشتركة فى حيّز واحد، مسلم؛ ولكن لا نسلم إحالة ذلك على ما تقدم.
قولهم: الميل مشاهد/ فى بعض الأجسام على ما قرروه؛ لا نسلم ذلك.
وما نحس من المدافعة، والثقل إنما هو عائد إلى عدم خلق القدرة على دفع ذلك الجسم وتحريكه، لا أنه عائد إلى أمر فى الجسم.
وإن سلمنا ذلك، ولكن لم قالوا بلزوم طرد ذلك فى كل جسم.
________________
(1) راجع ما مر فى الفصل السابق ل 27/ ب وما بعدها.
(3/118)
________________________________________
وأما ما ذكروه فى الدلالة على ذلك: فإنما يستقيم أن لو كان ذو الميل الأضعف يقطع المسافة فى نصف زمان الميل الأقوى؛ وليس كذلك؛ بل إنما يقطعها فى ثلاثة أرباع زمانه، فإنا لو رفعنا العائق وهما لقطعناها فى نصف يوم.
فإذا فرض العائق فى أحدهما على النصف من العائق فى الآخر. فإذا كان العائق الأقوى قد أثر فى زيادة نصف يوم.
فالعائق الأقوى الّذي هو على نصفه يجب أن يكون مؤثرا فى نصف ذلك النصف؛ وهو ربع اليوم.
فإذن ما لا ميل له يكون قد قطع المسافة فى نصف يوم، وذو الميل الأقوى فى يوم، وذو الميل الأضعف فى ثلاثة أرباع يوم، ولا مساواة.
قولهم: وإن لم يكن قابلا للانتقال عن حيّزه؛ فلا بد وأن يكون بسيطا؛ مسلم.
قولهم: والطبيعة الواحدة فى المادة الواحدة لا تقتضى غير الكرىّ قد أبطلناه فى الفصل المتقدم «1».
وإن سلم أنه لا بد وأن يكون كريا؛ ولكن لم قالوا إنه لا بد فيه من مبدأ ميل.
قولهم: ليس بقاؤه على وضع أولى من غيره مسلم؛ ولكن إنما يلزم عليه الانتقال لتبدل الأوضاع إن لم يكن متخصصا ببعضها بتخصيص الفاعل المختار؛ ولا سبيل الى نفيه على ما حققناه «2».
ثم لو كان ذلك مستندا إلى قوة طبيعية؛ للزم أن تكون الحركة الدورية طبيعية؛ وهو محال؛ لأن المتحرك بالطبع لا بد وأن يكون على أصلهم متحركا عما لا يلائم إلى ما يلائم.
والمتحرك فى الوضع ما من وضع يقدّر هربه منه، إلا وهو طالب له. وما من وضع يقدر طلبه له، إلا وهو هارب عنه، ولم يقولوا به.
________________
(1) انظر ما مر فى الفصل المتقدم ل 27/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211 وما بعدها.
(3/119)
________________________________________
الفصل السادس فى إبطال ما قيل إن الأفلاك غير قابلة للحركة المستقيمة والفساد. وأنها ليست ثقيلة، ولا خفيفة، ولا حارة، ولا باردة، ولا رطبة، ولا يابسة. وأنها بسيطة، كرّيّة، لا تقبل الخرق والشق «1».
نقول: زعمت الفلاسفة أن كل جسم متناه فله نهايات، ونهاياته هى الجهات المحددة له. وهى مختلفة نوعا لفوق، وأسفل، وخلف، وقدام، ويمن، ويسار.
غير أن الحقيقى/ فيها الّذي لا يختلف إنما هى جهة فوق، وهى ما تلى جهة المحيط بالعالم. وجهة أسفل: وهى ما تلى جهة المركز منه وما عدا ذلك من الجهات فمختلف باختلاف وضع الجسم بحيث يصير ما كان يمينا يسارا، وبالعكس.
وكذلك فى جهة خلف، وقدّام. وهذه «11» // الجهات فواقعة فى امتداد الإشارة إليها؛ فلا تكون عدمية، ولا معقولة مخفية؛ فهى إذن وجودية ولا بد وأن يكون المحدد لها جسما، وإلا لتعذّرت الإشارة إليها وإذا كان المحدّد للجهات جسما، فيمتنع أن يكون متشابها. وإلا لما كانت الجهات المتحددة به متقابلة، وهى متقابلة، وتقابلها إنما هو بسبب النسبة إلى المحيط والمركز.
فإذن المحيط بالعالم المحدد لجهة فوق جسم ممتنع عليه الحركة المستقيمة لأن حيزه وإن كان طبيعيا له؛ فلا بد وأن يطلبه بطبعه بتقدير زواله عنه. قسرا، وذلك يستدعى أن يكون حيّزه إما غير متحدّد، أو متحدّدا دونه.
وقد قيل: إنه متحدد بدونه؛ وهو محال. وإن لم يكن حيزه طبيعيا له، أمكن أن لا يكون فيه؛ فلا تكون الجهة المفروضة متحدّدة، أو متحددة بغيره؛ وهو خلاف الفرض.
________________
(1) انظر المواقف للإيجي ص 200 وما بعدها القسم الأول: فى الأفلاك. وشرح المواقف للجرجانى 7/ 78 - 140 القسم الأول: فى الأفلاك وفيه مقاصد ستة: ففيهما معلومات مهمة وتوضيحات لا يستغنى عنها.
والقسم الثانى: فى الكواكب المضيئة.
وانظر شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 327 - 358 القسم الأول: فى البسائط الفلكية. وفيه مباحث أربعة.
وانظر شرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 128 - 133.
(11) // أول ل 18/ ب من النسخة ب.
(3/120)
________________________________________
فإذن المحدّد غير قابل للحركة المستقيمة، ويلزم من ذلك أن يكون بسيطا، لا مركبا من أجسام مختلفة الطبائع، وإلا لأمكن عليه التحلل والانفكاك، وخرجت الجهة عن أن تكون متحدّدة؛ ويلزم من ذلك أن يكون شكله الطبيعى له، كريّا، لأن الطبيعة الواحدة فى المادة الواحدة، لا تقتضى من الأشكال غير الكرى؛ كما تقدم.
ويلزم من ذلك أن لا يكون قابلا لغير شكله الطبيعى، وإلا لقبل التحدد، والحركة المستقيمة ولا يوصف بثقل، ولا خفة، وإلا كان فى طباعه الميل إلى حيّزة، إما هبوطا، أو صعودا بتقدير زواله عنه قسرا.
ولا يوصف بحرارة، ولا برودة: إذ الحرارة ملازمة للخفة، لزوما معاكسا، [و البرودة ملازمة للثقل لزوما معاكسا] «1»
ولا برطوبة: إذ الرطوبة عبارة عن قوة يسهل بها قبول الجسم الّذي قامت به الانقسام بسهولة.
ولا بيبوسة: إذ هى عبارة عن قوة يعسر معها قبول الانقسام فيما هو قابل له، وإلا كان قابلا للحركة المستقيمة، ولأن كل واحدة منهما؛ فلا بد وأن يلازمها الثقل، أو الخفة، وقد قيل بامتناعه، وأنه لا يقبل الخرق، والشق. وإلا كان فى طباع أجزائه، قبول الحركة المستقيمة.
ولا الكون بعد العدم، والفساد بعد/ الوجود وإلا كان حيزه متحددا دونه، أو غير متحدد، ولا يقبل التخلخل والتكاثف، والنمو، والذبول، وكل ما يفضى إلى قبول الحركة المستقيمة، ثم طرد هذه الأحكام فى جميع الأفلاك «2»
وطريق الرد عليهم أن يقال:
وإن سلمنا أن المحيط بالعالم وهو المحدد لجهة فوق جسم؛ ولكن لا نسلم امتناع قبوله الحركة المستقيمة، وإلا كان ذلك؛ لكونه جسما أو للازم كونه جسما؛ ولزم مثله فى جميع الأجسام.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) عرف الجرجانى الفلك بأنه جسم كريّ يحيط به سطحان: ظاهرى وباطنى، وهما متوازيان مركزهما واحد.
[التعريفات ص 191].
(3/121)
________________________________________
وما ذكروه إنما يمتنع أن لو لم يكن ثم فاعل مختار يخلق عند حركة المحيط عن حيّزه، أو عند عدمه محيطا آخر يقع فى امتداد الإشارة إليه «1».
وإن سلمنا امتناع وجود غيره. غير أنا لا نسلم بتقدير عدم المحدّد للجهة، وانتقاله عنها، إمكان الإشارة إليها؛ لأن الإشارة تكون إلى العدم؛ وهو محال.
وعلى هذا: فقد بطل كل ما بنوه على ذلك من الأحكام ثم يلزم على ما ذكروه أن يكون المحدد لجهة السفل أيضا على ما ذكروه فى المحدد، ولم يقولوا به.
وإن سلمنا ذلك كله فى المحدد غير أنا لا نسلم ذلك فى باقى الأفلاك؛ فإن امتناع الحركة المستقيمة، وامتناع الكون والفساد، على المحيط، وغير ذلك من الأحكام، إنما كان لازما ضرورة كون المحيط محددا للجهة، وذلك غير متحقق فى باقى الأفلاك فلا يستقيم الإلحاق من غير دليل. وهم فلم يذكروا عليه دليلا.
ثم كيف السبيل إلى القول بكون الأفلاك بسيطة، لا تركب فيها مع مشاهدة اختلاف أجزائها فى الاشفاف، والنور.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل 211/ ب وما بعدها.
(3/122)
________________________________________
الفصل السابع فى إبطال قول الفلاسفة إن الأفلاك ذوات أنفس، وأنها متحركة بالإرادة النفسية «1»
قالوا: الحس شاهد بحركة الكواكب النيرة شروقا، وغروبا، وليست متحركة بأنفسها، ومفارقة لأماكنها من أفلاكها، وإلا لما حفظت ما هى عليه من الأحوال، والتناسب من القرب والبعد من القطب؛ فإذا هى متحركة بحركة أفلاكها.
وأيضا: فإنها لو لم تكن متحركة بحركة أفلاكها؛ لكانت متحركة إما بأنفسها، أو بحركة السفليات.
فإن كان الأول: فإما أن تكون متحركة بالطبع، أو الإرادة.
الأول: ممتنع؛ لما علم أن الحركة الدورية، لا تكون طبيعية.
والثانى: فلا بد لها من حيز طبيعى/؛ لما عرف أن كل جسم فلا بد له من حيز طبيعى. وهو إما حيّز الأفلاك، أو السفليات.
فإن كان «11» // حيّزا للأفلاك: فلا بد وأن تكون مشاركة للأفلاك فى طبيعتها، وإلا كان الحيّز الواحد لمختلفين بالطبيعة؛ وهو ممتنع؛ لما فيه من اتحاد المعلول، واختلاف العلة.
ويلزم من حركتها بأنفسها أن يكون ذلك لغرض ومطلوب، وإلا كانت الحركة عبثا.
ويجب أن يكون ذلك أيضا مقصودا للأفلاك فى حركتها ضرورة اتحاد الطبيعة؛ فيكون للأفلاك مبدأ ميل إلى الحركة الدورية؛ وحركات الكواكب بأنفسها مع كونها متصلة بالأفلاك ومركوزة فيها [يوجب خرق الأفلاك؛ فتكون الأفلاك قابلة للحركة
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثانى: فى الرد على الفلاسفة الإلهيين ل 218/ أ وما بعدها.
والفرع الثالث: فى الرد على الطبيعيين ل 220/ ب وما بعدها.
والفرع الرابع: فى الرد على الصابئة ل 221/ أ وما بعدها.
والفرع الخامس: فى الرد على المنجمين وأرباب الأحكام ل 223/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 19/ أ من النسخة ب.
(3/123)
________________________________________
المستقيمة فيكون فيها مبدأ ميل إليها؛ فلا يكون فيها] «1» مبدأ ميل إلى الحركة الدورية.
وقد قيل به، وهو محال. وإن كان حيزها هو حيز السفليات؛ فيجب أن تكون مشاركة لذلك السفلى فى طبيعته؛ ضرورة اتحاد الحيز الطبيعى له كما سبق «2».
ويلزم من ذلك أن يكون فى طباعها مبدأ ميل إلى الحركة المستقيمة كالسفلى؛ فلا يكون فيها مبدأ ميل إلى الحركة الدورية، وقد قيل بكونها متحركة دورا بأنفسها، وإن كانت متحركة بحركة السفليات؛ فهو ممتنع.
إذ السفليات قابلة للحركة المستقيمة، فلا يكون فى طباعها مبدأ حركة دورية؛ لأن الطبيعة الواحدة لا توجب أمرين مختلفين؛ فلم يبق إلا أن تكون متحركة بحركة أفلاكها. فإذن الأفلاك متحركة دورا، وحركة الأفلاك دورا ليست طبيعية؛ لما علم.
ولا قسرية: إذ القاسر لا بد وأن يكون محركا لما يحركه على خلاف مقتضى طبعه، وما من وضع يقدر عليه الفلك، إلا وليس هو أولى من غيره من الأوضاع؛ فلا يكون فى طبعه الوقوف على وضع دون وضع؛ فلا تحقق للحركة القسرية فيه.
وإذا بطل أن تكون متحركة بالطبع والقسر، تعين أن تكون متحركة بالإرادة النفسانية، فإذن الأفلاك ذوات أنفس.
وطريق الرد عليهم أن يقال:
أولا: لا نسلم أن الأفلاك متحركة.
ولا نسلم أن الكواكب متحركة بحركات الأفلاك.
قولهم: لو لم تكن متحركة بحركات الأفلاك؛ لما حفظت ما هى عليه من النظام، والتناسب.
إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن الفاعل لذلك مختارا؛ وهو الله- تعالى- وبتقدير أن تكون متحركة بأنفسها فما المانع أن يكون كل كوكب فى دائرة لائقة/ بحركته وبطئه وسرعته بحيث يتلاقى على التناسب الّذي بينهما من غير اختلال كما فى حركات الأفلاك عندهم.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر ما سبق ل 30/ أ وما بعدها.
(3/124)
________________________________________
قولهم: لو لم تكن متحركة بحركة الأفلاك؛ لكانت متحركة إما بأنفسها، أو بحركة السفليات.
لا نسلم الحصر، وما المانع أن يكون المحرك لها هو الله- تعالى- فإنا بينّا أنه لا فاعل سواه «1».
وإن سلمنا أنها متحركة بأنفسها؛ ولكن لا نسلم أنه لا بدلها من حيز طبيعى على ما تقدم «2».
وإن سلمنا أنه لا بد لها من حيز طبيعى؛ فما المانع من أن يكون هو حيز الأفلاك، أو السفليات.
قولهم: لا بد من اتحاد الطبيعة. ممنوع.
وما المانع من اشتراك طبيعتين فى اقتضاء حيز واحد على ما سبق «3». وبتقدير اتحاد الطبيعة؛ فلا نسلم امتناع قيام مبدأين للحركة المستقيمة، والمستديرة فى بسيط واحد كما حققنا فى اجتماع قوة قبول الكون والفساد فى صور العناصر عندهم.
ثم وإن سلمنا أنها متحركة بحركات الأفلاك؛ ولكن لا نسلم أنها متحركة بالإرادة النفسانية «4».
وما المانع أن تكون متحركة بتحريك الله تعالى لها كما حققناه «5».
قولهم: لو كانت متحركة بالغير؛ لكانت مقسورة، والقسر عليها ممتنع على ما قرروه.
فنقول: وإن سلمنا امتناع القسر بالتفسير الّذي ذكروه؛ فلا يمتنع أن تكون حركتها من الغير، وإن لم يكن ذلك على خلاف طبعها بتقدير أن لا تكون هى المتحركة بنفسها.
ثم وإن سلمنا أن أفلاك الكواكب متحركة بالإرادة النفسية؛ غير أن ما ذكروه لا يطرد فى المحيط؛ إذ لا كوكب فيه ليستدل بحركته على حركته.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل 211/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما مر ل 30/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر ل 27/ أ وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 218/ أ وما بعدها.
(5) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 211/ ب وما بعدها.
(3/125)
________________________________________
الفصل الثامن فى إبطال أقوال الفلاسفة فى طبائع الكواكب وأنوارها، ومحو القمر والمجرة ومناقضتهم فى ذلك «1».
قالوا: قد ثبت أن الأفلاك غير قابلة للخرق، وأن الكواكب مركوزة فيها متحركة بحركتها، فيجب أن تكون الكواكب بسيطة لا تركيب فيها، وأن لا يتصور عليها الانحلال ومفارقة أحيازها من أفلاكها؛ فيلزم الخرق على الأفلاك؛ وهو ممتنع ويلزم، أن تكون أشكالها كرية لما علم.
قالوا: وأما أنوارها فلا شك أن الشمس نيرة بنفسها والقمر مستنير منها. ولذلك يظهر فيه الهلالية، وتزيد النور، وتنقصه/ بسبب بعده وقربه من الشمس، وهو أسود فى نفسه على ما نشاهد حالة الخسوف.
وأما باقى الكواكب. فمنهم من قال إنها نيرة بأنفسها كالشمس «11» // ولهذا لا يلحقها الهلالية، والتزييد، والتنقيص.
ومنهم من قال: إنها مستنيرة من الشمس. وإنما لم يظهر فيها الهلالية، والتزييد والتنقيص؛ لأنها فوق الشمس بخلاف القمر.
وأما محو القمر: وهو الأثر الموجود فيه.
فمنهم من قال: إنه خيال لا حقيقة له.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي ففيها توضيحات مهمة ومنها: المواقف للإيجي ص 209 - 215. وشرح المواقف للجرجانى 7/ 116 - 140.
ففيهما معلومات مهمة عن طبائع الكواكب وأنوارها، ومحو القمر، والمجرة.
وهى بإيجاز: القسم الثانى: فى الكواكب وكلها شفافه مضيئة إلا القمر، فإنه يستمد نوره من الشمس وفيه مقاصد:
المقصد الأول: فى الهلال والبدر المقصد الثانى: فى خسوف القمر.
المقصد الثالث: فى كسوف الشمس المقصد الرابع: فى محو القمر.
المقصد الخامس: فى المجرة.
وانظر شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 327 - 358 ففيه معلومات واضحة ومفيدة ومحددة.
وانظر شرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 128 - 133 ففيه معلومات مختصرة ومركزة ومفيدة.
(11) // أول ل 19/ ب من النسخة ب.
(3/126)
________________________________________
ومنهم من قال: إنه شبح ما ينطبع فيه من السفليات من الأرض، والجبال وغيرها.
ومنهم من قال ذلك الأثر هو السواد الكائن فى القمر فى الجانب الّذي لا يلى الشمس.
ومنهم من قال ذلك بسبب سحق النار له.
ومنهم من قال: إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان؛ فله عينان وحاجبان، وأنف.
ومنهم من قال: هو جزء من القمر مخالف فى لونه لباقى أجزائه، فى قبول الاستنارة من الشمس.
ومنهم من قال: إنه أجسام سماوية، مخالفة فى لونها، لون القمر، قريبة من القمر.
حافظة بطباعها وضعا واحدا من القمر هى فيما بينه، وبين المركز.
وأما المجرة: «1»
فمنهم من قال، هو احتراق حدث من الشمس فى تلك الدائرة فى بعض الأزمان.
ومنهم من قال: إنها دوامة حادثة عن البخار الفضائى، دائمة المدد.
ومنهم من قال: ما قيل من القولين الآخرين، فى محو القمر.
وطريق الرد عليهم أن يقال:
أما ما ذكروه فى بيان بساطة الكواكب فى كونها كرية فقد أبطلناه فيما تقدم «2».
ثم كيف يمكن دعوى البساطة فى الكواكب مع إنارتها، وكثافتها، ومخالفتها للأفلاك فى أنوارها. ولو كانت بسيطة؛ لكانت شفافة غير نيرة على أصولهم كما فى أجرام الأفلاك الحاملة لها.
وأما ما ذكروه فى كون الشمس نيرة بنفسها. فما المانع من كونها غير نيرة بنفسها؛ بل سواد الجرم، والله- تعالى- يخلق فيها النور فى أوقات مشاهدتنا لها، أو أن تكون
________________
(1) انظر المقصد الخامس: اختلاف العلماء فى المجرة 7/ 140 شرح المواقف للجرجانى.
(2) راجع ما تقدم ل 31/ أ.
(3/127)
________________________________________
مستنيرة من كوكب آخر فوقها هو مستور عنا ببعض الأجرام المظلمة السماوية، كما يحدث للشمس فى حالة الكسوف.
وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها؛ فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها، وما المانع من كون الرب تعالى- يخلق فيه النور فى وقت دون وقت، أو أن يكون مع كونه مركوزا فى فلكه دائرا على مركز نفسه، وأحد وجهيه نيرا والآخر مظلما، كما/ كان بعض أجزاء الفلك شفافا، وبعضها نيرا، وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه؛ فيكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس هو الّذي يلينا. وتكون الزيادة، والنقصان فيما يظهر لنا من الوجه النير على حسب بعده، وقربه من الشمس؛ فلا يكون مستنيرا من الشمس.
وأما ما ذكروه فى باقى الكواكب.
أما القول الأول: فمدخول مما قيل فى القول الثانى. والقول الثانى فمدخول باحتمال ما قيل فى القول الأول، ولا دليل على إبطال كل واحد منهما وتعيين الآخر.
وأما ما ذكروه فى محو القمر فباطل:
أما القول الأول: فإنه خيال لا حقيقة له؛ فلأنه لو كان كذلك؛ لاختلف الناظرون فيه.
وأما الثانى: فلأنه لو كان كذلك؛ لاختلف أيضا باختلاف أحوال القمر فى بعده، وقربه، وانحرافه عن الشيء المنطبع فيه، ولكان يجب أن يكون ما يتخيل فيه على شكل كرى؛ لأن ما يوجد من الاختلاف فى الأرض، والجبال؛ فهو كالتضريس ويمحق على البعد.
وأما القول الثالث: فلأنه لو كان كذلك؛ لما رؤى متفرقا.
وأما القول الرابع: فإنما يصح أن لو كان القمر مماسا للنار، وكان قابلا للسحق وليس كذلك على أصلهم.
وأما القول الخامس: فمع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة؛ لأن فائدة الحاجبين عندهم رد الطرف عن العين، وفائدة الأنف للشم. والفم لدخول الغداء فيه. وليس للقمر ذلك.
(3/128)
________________________________________
وأما القولان الأخيران: وإن كانا أقرب مما تقدم؛ فكل واحد منهما مقابل للآخر فى الاحتمال.
وأما ما قيل فى المجرة:
أما القول الأول: فإنما يصح أن لو كانت الشمس موصوفة فى نفسها بالحرارة، والاحتراق لما تماسه، وأن يكون الفلك قابلا للتأثير، وليس كذلك على أصولهم.
وأما القول الثانى: فباطل أيضا. وإلّا لاختلف وضعها على طول الزمان ولا اختلفت فى الصيف والشتاء لقلة المدد فى أحدهما، وكثرته فى الآخر.
وأما القولان الأخيران: فقد عرف ما فيهما- والمقصود من ذكر هذه الاختلافات وابداء ما ذكروه من الخرافات/ التنبيه على خبطهم، وذكر هذيانهم حتى يتحقق العاقل الفطن أن لا ثبت لهم فيما يقولونه، ولا معلول لهم فما يعتمدونه غير خيالات فاسدة لا أصل لها، وتمويهات باردة لا معول عليها؛ يظهر فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى تفطن، ويعتبر البعض بالبعض.
(3/129)
________________________________________
الفصل التاسع فى أقوال الفلاسفة فى العناصر ومناقضتهم فيها «1»
وقد اتفقوا على تغيير العناصر بعضها إلى بعض؛ لكن اختلفوا: فمنهم من قال أصل العناصر واحد. ثم أختلف هؤلاء:
فمنهم من قال: أصل العناصر هو النار؛ لشدة بساطتها، واختصاصها بالحرارة المفرطة المدبرة «11» // للكائنات، وتغييرها إلى باقى العناصر بتكاثفها وكلما ازداد التكاثف انتقلت من عنصر إلى ما تحته، إلى أن تنتهى إلى الأرض
ومنهم من قال: أصلها هو الهواء لرطوبته، ومطاوعته للانفعال، وتغييره إلى النار بشدة الحرارة، وإلى ما تحته بزيادة التكاثف.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة راجع من كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي.
المواقف للإيجي ص 215 - 224 وشرح المواقف للجرجانى 7/ 141 - 164.
القسم الثالث: فى العناصر: وفيه مقاصد ثلاثة عشر:
المقصد الأول: قول الحكماء فى أقسام العناصر ص 141
المقصد الثانى: فى إثبات كروية الأرض ص 145
المقصد الثالث: الماء كروى لوجوده على الأرض ص 147
المقصد الرابع: موقع الأرض من الكواكب ص 148
المقصد الخامس: مقدار الحس بين الأرض والأفلاك ص 149
المقصد السادس: الأرض ساكنة أم هاوية ص 152
المقصد السابع: المدارات اليومية للأرض ص 154
المقصد الثامن: مدى تأثير الشمس على الأرض ص 158
المقصد التاسع: التأثير الخارجى على الأرض ص 159
المقصد العاشر: سبب تكوين الجبال ص 160
المقصد الحادى عشر: العناصر الأربعة تقبل الاختلاط ص 161
المقصد الثانى عشر: العناصر الأربعة والمركبات ص 162
المقصد الثالث عشر: طبقات العناصر وتعريفها ص 164 وانظر شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 358 - 368 القسم الثانى: فى البسائط العنصرية وفيه ثلاثة مباحث. المبحث الأول: تقسيم العناصر إلى أربعة ص 358.
المبحث الثانى: كل من الأربعة ينقلب إلى المجاور. ص 362.
المبحث الثالث: فى النار وعوامل توهجها ص 363.
وانظر شرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 133 وما بعدها.
(11) // أول ل 20/ أ من النسخة ب.
(3/130)
________________________________________
ومنهم من قال: هو الماء؛ لرطوبته، وتغييره إلى ما فوقه بزيادة التخلخل وإلى ما تحته بزيادة التكاثف.
ومنهم من قال: هو الأرض؛ لاستقرار الكائنات عليها وتحركها إليها وتغييرها إلى ما فوقها بزيادة التخلخل.
ومنهم من قال: هو البخار؛ لتوسطه بين الأجسام وتغييره إلى الهواء والنار بزيادة التخلخل، وإلى الماء، والأرض بزيادة التكاثف.
ومنهم «1» من «1» قال: التركيب فى الكائنات يستدعى التعدد فيما منه التركيب.
ثم اختلف هؤلاء.
فمنهم من قال: أصل العناصر اثنان: لكن منهم من قال: ذلك هو النار والأرض لمبالغة أحدهما فى الثقل، والآخر فى الخفة.
والهواء نار مغيرة، ومثقلة بالبخار المائى والأرض زاد تخلخلها، وخفتها بما خالطها من الأجزاء النارية.
ومنهم من قال: ذلك هو الأرض، والماء؛ لافتقار الكائنات إلى الرطب لقبول الانفعال، واليابس للحفظ.
والهواء بخار مائى، والنار هواء محترق.
ومنهم من قال: ذلك هو الأرض، والهواء؛ لحجة من تقدّمهم. والماء هواء اشتد تكاثفه. والنار هواء اشتدت حرارته.
ومنهم من قال: أصل العناصر ثلاثة: وهى النار، والهواء، والأرض.
أما الأرض، والهواء: فلاحتياج الكائنات إليهما. فى قبول التشكيل وحفظه، والنار فلما فيها من الحرارة المدبرة، والماء هواء يتكاثف.
ومنهم من قال: أصل العناصر أربعة: وهى النار،/ والهواء والماء، والأرض.
ومنهم من زاد وقال: إن أصول المركبات جواهر صلبة غير متجزئة لا نهاية لها.
________________
(1) (من قال) ساقط من ب.
(3/131)
________________________________________
ومنهم من قال: أصول المركبات هى السّطوح؛ لأن التركيب إنما يكون بالالتقاء والتماس. وأول ما يكون ذلك بين السطوح المستقيمة لئلا تفضى إلى الخلاء فى المركبات. ولا كل سطوح مستقيم؛ بل ما هو الأبسط منها؛ وهو المثلث.
واعلم أن هذه الأقاويل كلها مبنية على إمكان وقوع الاختلاف بين الأجسام بالصور، والطبائع الجوهرية؛ وقد أبطلناه فيما تقدم «1» وبتقدير التسليم فهى أقوال متعارضة، ودعاوى متقاومة ليس فيها ما يفيد للناظر أصلا لظن؛ فضلا عن اليقين.
وظهور فسادها يغنى عن إبطالها. على أنا نقول:
أما قول من زعم أن أصل العناصر: هو النار لبساطتها، وشدة حرارتها «2»؛ فليس هو أولى من الأرض التى عند المركز؛ فإنها عندهم فى غاية البساطة، وشدة البرد. وكما أن الكائنات مفتقرة إلى الحرارة، فهى مفتقرة إلى البرودة «3».
وأما قول من قال: هو الهواء لرطوبته «4»؛ فليس أولى من الأرض ليبوستها. وكما أن الحاجة داعية إلى الرطوبة؛ للانفعال؛ فداعية إلى اليبس «5» للحفظ.
وأما قول من قال: هى الأرض: فإنما يلزم تعليله، أن لو كان كل كائن أرضى؛ وليس كذلك.
وأما قول من قال: هو البخار لتوسطه بين الأجسام المتخلخلة، والمتكاثفة؛ فليس أولى من الهواء؛ لتوسطه بين الأجسام الحارة، والباردة.
وأما قول من قال: أصل العناصر: هو النار، والأرض؛ لمبالغة أحدهما فى الخفة، والآخر فى الثقل؛ فليس أولى من الماء، والنار؛ لمبالغة أحدهما فى الحرارة، والآخر فى البرودة؛ بل أولى لكون ما وقعت المبالغة فيه فيهما هو أوائل، للكيفيات الملموسة، بخلاف الثقل والخفة.
________________
(1) راجع ما تقدم فى الفصل الثالث: فى تجانس الأجسام ل 25/ ب وما بعدها.
(2) عرف الآمدي الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة فقال أما الحرارة فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات، ويجمع بين المتشاكلات.
وأما البرودة: فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات».
«و أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره وكذا تركه».
«و أما اليبوسة: فمقابلة للرطوبة».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 99، 100].
(3) عرف الآمدي الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة فقال أما الحرارة فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات، ويجمع بين المتشاكلات.
وأما البرودة: فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات».
«و أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره وكذا تركه».
«و أما اليبوسة: فمقابلة للرطوبة».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 99، 100].
(4) عرف الآمدي الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة فقال أما الحرارة فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات، ويجمع بين المتشاكلات.
وأما البرودة: فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات».
«و أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره وكذا تركه».
«و أما اليبوسة: فمقابلة للرطوبة».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 99، 100].
(5) عرف الآمدي الحرارة، والبرودة، والرطوبة واليبوسة فقال أما الحرارة فهى ما كان من الكيفيات يفرق بين المختلفات، ويجمع بين المتشاكلات.
وأما البرودة: فما كان من الكيفيات يجمع بين غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات».
«و أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات مما يسهل قبول الجسم للانحصار والتشكل بشكل غيره وكذا تركه».
«و أما اليبوسة: فمقابلة للرطوبة».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 99، 100].
(3/132)
________________________________________
وأما القول بأن الأصل هو الأرض، والماء؛ فهو موجب لسقوط اعتبار الحرارة مع كثرة الاحتياج إليها.
والقول بأنه الأرض، والهواء؛ فموجب أن لا تكون النار مركبة منهما؛ لأن حرارة المركب، لا تزيد على حر بسيطه؛ لأن ماله من الكيفيات؛ إنمّا هو من بسائطه؛ وهو خلاف الشاهد.
والقول بأن الأصل هو النار، والهواء، والأرض موجب أن لا يكون برد الماء المركب منها يزيد على برد عنصره، وهو الأرض،/ لما علم، وليس كذلك عندهم، ولا فى الشاهد.
والقول بأنها أربعة: يوجب المغايرة بين الهواء والنار. والنّار إن كانت يابسة؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.
وإن كانت رطبة: فهى طبيعة الهواء غير أنها هواء اشتدّت حرارته كما زعم من تقدم.
والقول بأنها غير متناهية؛ فذلك مما يوجب القول بتناهى الأبعاد؛ وقد أبطلناه «1».
والقول بأنها السطوح: فما ذكروه من التعليل يوجب أن تكون أصول العناصر النقط من الخطوط. فإن أول الملاقاة بها، ثم بالخطوط، ثم بالسطوح.
________________
(1) راجع ما مر فى الفصل الثانى: فى أن أبعاد الأجسام متناهية ل 21/ ب وما بعدها.
(3/133)
________________________________________
الفصل العاشر فى أقوال الفلاسفة فى كون العناصر وفسادها، واستحالتها، ومناقضتهم فى ذلك
وقبل الخوض فى تفصيل المذاهب، والرد، والإبطال لا بد من تحصيل مفهوم الكون، والفساد، والاستحالة على أصولهم.
أما الكون «1»: فهو استبدال حال الشيء من العدم إلى الوجود دفعة واحدة، والاستبدال من الوجود إلى «11» // العدم دفعة واحدة هو الفساد «2»
وأما الاستحالة «3»: فتبدل حالة مادّة بأخرى يسيرا لا دفعة واحدة: كالتسخين بعد البرد، أو التبرد بعد السخونة.
وإذا عرف ذلك فقد اختلفوا:
فمنهم من قال: العناصر لا تكون، ولا تفسد، ولا تستحيل. وما يرى من ذلك؛ ليس كونا، واستحالة، بل ظهور كامن؛ أو كمون ظاهر.
وذلك أنه ليس فى العناصر ما هو بسيط مطلقا، وإن كان الغالب فيه ما سمى باسمه.
فاذا تفرقت أجزاء الغالب بسبب من الأسباب، أو اتصل بالمغلوب ما هو من نوعه بسبب من الأسباب؛ ظهر ما كان مغلوبا، وخفى ما كان غالبا؛ فظن أنه كون، لما كان مغلوبا، وفساد لما كان غالبا، واستحالة، وليس كذلك.
ومنهم من قال: بالكون، دون الاستحالة.
ومنهم من قال بالعكس.
________________
(1) الكون: اسم لما حدث دفعة (و ليس تدريجا) كانقلاب الماء هواء، فإن الصورة الهوائية كانت ماء بالقوة؛ فخرجت منها إلى الفعل دفعة فإذا كان على التدريج؛ فهو الحركة.
وقيل الكون: حصول الصورة فى المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها.
وعند أهل التحقيق: الكون عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم، لا من حيث أنه حق. وإن كان مرادفا للوجود المطلق العام عند أهل النظر وهو بمعنى المكون عندهم. [التعريفات للجرجانى ص 214].
(11) // أول ل 20/ ب.
(2) الفساد: زوال الصورة عن المادة بعد أن كانت حاصلة [التعريفات للجرجانى ص 189].
(3) الاستحالة: حركة فى الكيف. كتسخن الماء وتبرده، مع بقاء صورته النوعية. [التعريفات ص 27].
(3/134)
________________________________________
ومنهم من قال بالأمرين.
ووجه المناقضة لهم أن يقال:
أما القول بالكمون، والظهور «1» على ما ذكروه؛ فيوجب صغر حجم الماء إذا سخن بسبب تفرق أجزاء البارد عنه. إذا كبر حجمه أو استحق بسبب اتصال أجزاء الحار الغالب.
فإن قيل: العالم يصغر حجمه عند تفرق أجزاء الغالب عنه لتخلخل أجزائه، أو لتحقق الخلاء فى آحاد الأجزاء المتفرقة.
وإنما لم يكثر حجمه عند اتّصال الغير به للتكاثف.
قلنا: فالقول بالتخلخل «2»، والتكاثف اعتراف بالاستحالة، ولم يقولوا به والقول بالخلاء أيضا ما لم يقولوا به.
وأما القول بالكون، دون الاستحالة؛ فمبنى على اختلاف العناصر فى الصّور الجوهرية القابلة للكون؛ وقد أبطلناه «3».
وبتقدير تسليم اختلاف العناصر بالصور الجوهرية فالكون عندهم هو الخروج من العدم إلى الوجود دفعة لا سير يسيرا؛ وهو ممتنع.
وذلك لأن الكون: إما أن يقع لا فى زمان، أو فى زمان.
فإن كان الأول: فهو محال.
وإن كان الثانى: فالزمان عندهم متحرى إلى غير النهاية. وأجزاؤه على التقصى، والتحدد. فالواقع فيه يكون مطابقا له؛ فلا يكون واقعا دفعة واحدة، بل سيرا يسيرا.
وما هو كذلك لا يكون كونا، وفسادا.
________________
(1) الكمون والظهور: وافق النظام الفلاسفة فى القول بالكمون والظهور. فمن مذهب النظام أن الله- تعالى- خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هى عليه الآن: معادن، ونباتا، وحيوانا، وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده؛ غير أن الله- تعالى أكمن بعضها فى بعض فالتقدم والتأخر إنما يقع فى ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها.
وهذه مقالة أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة [الملل والنحل للشهرستانى 1/ 56].
(2) التخلخل: هو ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج، وهو ضد التكاثف. والتكاثف: هو انتقاص أجزاء المركب من غير انفصال شيء [التعريفات للجرجانى ص 63، 73].
(3) راجع ما مر ل 28/ أ وما بعدها.
(3/135)
________________________________________
وأما إنكار الاستحالة. فمبنى على الظهور، والكمون؛ وقد أبطلناه «1».
وأما القول بالاستحالة دون الكون، والفساد. فإما أن يراد به استحالة الصور الجوهرية، أو الكيفيات العرضية دون الصور الجوهرية.
فإن كان الأول: فيلزم أن تكون الصور الجوهرية قابلة للشدة والضعف، فإن ما ليس كذلك لا يقع بغيره، سيرا يسيرا. وإلا كان حاله بعد وقوع الاستحالة كهو قبلها، وهو محال.
والجوهر عندهم غير قابل للشدة، والضعف.
وإن كان الثانى: فباطل أيضا. فإنا على ما يأتى عن قرب نشاهد انقلاب كل واحد من العناصر إلى الآخر.
ولو لم يكن ذلك كونا، وفسادا. وإلا لما وقعت التفرقة من العناصر مع بقاء صورها الجوهرية، على ما هى عليه، وذلك محال.
وأما القول بالكون، والفساد، لصورها الجوهرية والاستحالة لكيفياتها العرضية، وإن كان أشبه الأقوال عندهم؛ وعليه اعتماد المحصلين منهم؛ وربما احتجوا على كل واحد من الطرفين.
أما الطرف الأول، وهو القول بالكون، والفساد؛ فقالوا: يدل عليه ما نشاهده فى بعض البلاد الباردة من تكاثف الهواء، وانعقاده بالبرد مطرا من غير تصاعد أبخره.
وكذلك انعقاد الماء فى الكوز النحاس، أو الزجاج، إذا دفن فى الجمد.
قالوا: فليس ذلك بسبب الرشح. وإلا كان رشح الماء الحار للطافية أولى.
ويدل عليه أيضا: انعقاد قطرات الماء على ظاهر الكوز المحشو/ بالجمد وليس ذلك بسبب انجذاب قطرات مائية منبثة فى الهواء؛ فإنها لا تتحرك كيف اتفق.
وأيضا: فإن الهواء يصير نارا بالحركة الشديدة النفخية، والماء بخارا.
________________
(1) راجع ما مر فى أول الفصل.
(3/136)
________________________________________
والبخار هواء عند تسخينه. وقد ينعقد الماء حجرا، وتصير النّار هواء عند تصاعدها.
وإلا لأحرقت ما لاقاها، ولا يكون ذلك لها سيرا يسيرا؛ بل دفعة واحدة؛ لكون صورها جواهر. وأن الجواهر غير قابلة للشدة والضعف؛ إذ لا جوهر أشد فى جوهريته من جوهر آخر، ولا أضعف.
وأما الطرف الثانى: وهو الاستحالة فقد احتجوا عليه بما نشاهده من تبدل الكيفيات الملموسة على العناصر: كتبدل برد الماء بالحرارة، وليس ذلك لمخالطة أجزاء نارية له؛ لما سبق.
ثم لو كان كذلك؛ لكان تسخين الماء فى أوانى الحديد والنحاس، أبطأ؛ لقوة ممانعتهما الناشئ فيهما؛ وللزم منه أن لا تحدث الحرارة بسبب الحركة؛ لعدم النارية.
قالوا: وليس ذلك مما يقع دفعة واحدة؛ بل سيرا يسيرا على ما شهد به الحس، وذلك هو الاستحالة.
فطريق الرد عليهم فى الكون، والفساد ما ذكرناه أولا فى الرد على القائلين بالكون والفساد دون الاستحالة.
وما ذكروه من انعقاد الهواء مطرا؛ فلا نسلم أنه كون وفساد؛ بل الرب- تعالى- يخلق المطر مع بقاء الهواء بحاله، أو مع أعلام له.
وإن سلم انعقاد الهواء مطرا؛ فلا نسلم أنه كون وفساد؛ بل زوال عرض، وحدوث عرض. والجواهر الهوائية، والمائية بحالها كما بينّاه من قبل.
وعلى هذا: فقد خرج الجواب عن جميع ما ذكروه من جميع الاستشهادات.
(3/137)
________________________________________
الفصل الحادى عشر فى أقوال الفلاسفة فى مزاج العناصر، وامتزاجها، ومناقضتهم فيها «1»
قالوا، والعناصر قد تتحرك إلى الجهات المختلفة بأسباب سماوية وأرضية، وربما حصل بسبب ذلك بين أجزائها اختلاط، وعلى حسب التفاوت فى تصغير أجزائها، وكبرها، يكون كون الامعان فى اختلاط أجزائها.
وعند ذلك: فإما أن لا يحصل بين أجزائها تفاعل، أو يحصل بحيث يفعل البعض منها فى البعض، وينفعل عنه.
فإن كان الأول: فيسمى ذلك الاجتماع اختلاطا فقط.
وإن كان الثانى: فإما أن/ يؤدى التفاعل بين أجزائها بسبب ذلك الاختلاط إلى حد يحيل البعض إلى البعض إلى نوعه لقهره له، واستيلائه عليه، أو يقف الأمر فى التفاعل على حد يوجد كيفية متشابهة.
فإن كان الأول: فهو الكون: فى نوع الغالب، والفساد: فى نوع المغلوب.
وإن كان الثانى: فذلك الاختلاط المستلزم للتفاعل سمى امتزاجا، والكيفية الحاصلة عنه: تسمى مزاجا، ثم ذلك المزاج إما أن يكون مع تساوى الكيفيات، أو مع تفاوتها.
فإن كان الأول: فهو المزاج المعتدل.
وإن كان الثانى: فهو المزاج الخارج عن الاعتدال.
فإن كان ذلك مع غلبه واحد من الكيفيات على تقابلها واعتدال الباقى؛ فهو المزاج الخارج المفرد.
وإن كان مع غلبة اثنين على مقابلهما؛ فهو المزاج الخارج المركب.
وعلى هذا: فما كان من الممتزجات يتحرك رأسيا تحت الماء؛
________________
(1) عرف الآمدي المزاج والامتزاج فى كتابه المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 101 فقال:
«أما المزاج: فعبارة عن كيفية حادثة عن تفاعل بين كيفيات العناصر بعضها عن بعض باجتماعها وتماسها.
وأما الامتزاج: فعبارة عن اجتماع عناصر متفاعلة الكيفيات».
(3/138)
________________________________________
فلغلبة أرضيته، وتحت الهواء وفوق الأرض، فلغلبة مائيته، وتحت النار وفوق الماء، فلغلبة هوائه.
قالوا: وقد تتبع المزاج فى بعض الممتزجات صور وكيفيات.
أما الصور: فهى الصّور الخاصة بأنواع الممتزجات الحافظة للصفات النوعية فى الأشخاص المختلفة، حتى يكون الخلف منها مشابها للسلف مع تطاول الزمان، واختلاف الصفات الشخصية؛ فتلك الصور مع ما يستدل عليها بالقوى الفعالة الطبيعية:
كمبدإ هبوط الحجر، والقوى النباتية: كمبدإ حركة النبات فى تفريقه وتفريعه.
والقوى الحيوانية: كمبدإ حركة الحيوان فى ذهابه، وإيابه؛ لكن اختلفوا فى المزاج المستلزم لحدوث الصور الجوهرية النوعية هل للعناصر الممتزجة مما يخلع صورها، ويتحد هيولاها لا نسبة صورة أخرى وهو الصور النوعية، أم لا؟
فاختار ذلك قوم، ونفاه الأكثرون
وأما الكيفيات التابعة للمزاج.
قالوا: فهى ما نشاهدها فى الممتزجات من الطعم والرائحة، واللون، وغيرها.
إذ هى غير ثابتة للبسائط من العناصر، وما وجد من تلك العناصر؛ فلا يكون إلا فيما فيه نوع تركيب.
فإنه قلما يخلو عنصر ما من تركيب، وإن كان هو الغالب على ما خالطه.
وطريق الرد عليهم أن يقال: ما ذكرتموه من التفاعل بين العناصر فرع اختلاف العناصر فى طبائعها، وليس كذلك على ما تقدم «1».
وإن سلمنا اختلاف طبائع العناصر، وصورها؛ ولكن لا نسلم تصور فعل البعض فى البعض/ وانفعاله عنه.
فإنا قد قلنا: إنه لا فاعل، ولا مؤثر غير الله- تعالى «2».
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثالث: فى الرد على الطبيعيين ل 220/ ب.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الجزء الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(3/139)
________________________________________
وإن سلمنا وجود مؤثر غير الله- تعالى- جدلا؛ ولكن لا نسلم تأثير العناصر بعضها فى بعض، ولا شيء من الأجسام فى شيء من الأجسام؛ وذلك لأن الاتفاق من العقلاء واقع على امتناع علية الجسم فى الجسم إذا كان منفصلا عنه.
والامتزاج لا معنى له غير التماس، والتماس لا معنى له غير وجود الجسمين فى حيّزين لا يفصلهما ثالث.
فمن ادّعى وجود التأثير مع المماسة يحتاج إلى الدليل والفرق بيّن من حالة المماسة وعدمها، فيما يرجع إلى التأثير. كيف وأن تأثير كل عنصر فى إبطال كيفية العنصر الآخر. إما أن يكون بعموم جسميته، أو بخصوص صورته وطبيعته أو بكيفيته، أو بالمجموع، أو بمعنى آخر.
فإن كان الأول: فهو ممتنع. وإلا كان كل واحد منهما مؤثرا فى إبطال كيفية نفسه بعموم جسمه؛ ضرورة المساواة؛ وهو محال
وإن كان الثانى: فتأثير كل واحد فى إبطال كيفية الآخر مع أنها مقتضى طبعها المنفعل يلزم منه أن يكون تأثير طبيعة كل واحد منهما أقوى من تأثير طبيعة كل واحد منهما؛ وهو محال.
وذلك لأنه إذا كانت كيفية كل واحد منهما مقتضى طبعه، فإذا كانت طبيعة الآخر مؤثرة فى إبطال كيفيته؛ فقد ترجح اقتضاء طبيعة الفاعل على اقتضاء طبيعة المنفعل، وكذلك بالعكس.
وإن كان «11» // الثالث: فتأثير كيفية كل واحد منهما فى إبطال كيفية الأخر، أو ضعفها يستدعى بقاء قوة الكيفية المؤثرة عند تأثيرها فى ضعف المنفعلة، وإلا لا امتنع تأثيرها فيها، وكذلك فى تأثير الأخرى فيها؛ ويلزم من ذلك أن تكون كل واحدة باقية على قوتها بعد ضعف الأخرى؛ وهو محال.
ويلزم من إبطال كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إبطال القسم الرابع.
وإن كان الخامس: فلا بد من تصويره والدّلالة عليه.
________________
(11) // أول ل 20/ ب من النسخة ب.
(3/140)
________________________________________
وإن سلمنا إمكان تأثير كل واحد من العناصر فى ضعف كيفية الآخر؛ ولكن لا نسلم تصور حصول المزاج عن هذا التفاعل؛ وذلك لأن المزاج كيفية حادثة من تفاعل كيفيات العناصر كما ذكروه. وهو إما أن يكون قائما بكل واحد من العنصرين، أو بهما.
لا جائز أن يقال بالأول:/ فإن كل واحد من العناصر، لا يوصف بمزاج، إنما المزاج صفة للمتزج من العناصر على أصلهم.
ولا جائز أن يقال بالثانى: وإلا كان العرض الواحد قائما بمحلين؛ وهو ممتنع.
وإن سلمنا تصور وجود المزاج؛ فلا نسلم تصور وجود الصّور الجوهرية النوعية التابعة للمزاج؛ لأنه لا يخلو: إما أن يقال بأن العناصر عند الامتزاج تخلع صورها وتتحد هيولاها مكتسبة لصورة أخرى، أو لا يقال بذلك
فإن كان الأول: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لو بطلت صور العناصر بالامتزاج: فإما أن يبطل كل واحد بذاته، أو بالآخر، أو بأمر خارج.
فإن كان الأول: فهو محال؛ وإلا لما زال باطلا.
وإن كان الثانى: لزم أن يكون كل واحد متأخرا عن الآخر فى الوجود، ومتقدما فى العدم؛ وهو محال.
وإن كان الثالث: فإما أن يستقل ذلك الخارج بالإبطال، أو لا يستقل دون الامتزاج.
فإن كان الأول: فلا حاجة إلى الامتزاج؛ وهو خلاف أصلهم.
وإن كان الثانى: فكل واحد له مدخل فى إبطال صورة الآخر، والمحال السابق لازم بعينه.
الثانى: أنه كان يلزم أن لا يكون تأثير النار فى شيء من المركبات مختلفا بتميز البعض منه إلى متحيز لا ثبات له، وإلى ثابت أرضى؛ ضرورة تشابه أجزائه وهو خلاف أصلهم، وما هو المحسوس.
وأما إن قيل: إن العناصر لا تخلع صورها؛ بل هى باقية بحالها. فكل واحد من العناصر عند الامتزاج: إما أن يكون قد داخل الآخر، أو هو فى حيّزة مماسا للآخر فى حيزه.
(3/141)
________________________________________
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما سبق فى إبطال التداخل «1».
وإن كان الثانى: فالصورة النوعية للمركب الجزئى إما واحدة، أو متعددة فالقول بالتعدد مع الاتحاد بالشخصية ممتنع. وإلا كانت صورة النوع المركب فى الشخص منه متعددة؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فتلك الصورة: إما أن تكون لكل واحد من العناصر الممتزجة، أو لجملتها.
الأول: محال إذ كل واحد واحد من العناصر لا يوصف بالصورة النوعية المركبة؛ لعدم التركيب فيه.
وإن كان الثانى: فيلزم منه أن يكون الواحد صفة للمتعدد؛ وهو محال.
وأما «2» ما ذكروه من الكيفيات التابعة للمزاج؛ فمبنية على أنها غير ثابتة لمفردات العناصر؛ وهو غير مسلم على ما سبق «2».
________________
(1) راجع ما مر فى الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل ل 6/ ب.
(2) من أول «و أما ما ذكروه من الكيفيات ....... إلى قوله: على ما سبق». ساقط من ب.
(3/142)
________________________________________
الفصل الثانى/ عشر فيما قيل فى وحدة الأرض وسكونها ومناقضات الفلاسفة فى ذلك «1»
وقد اختلف قدماء الحكماء
فمنهم من قال: الأرضون متعدّدة، وأنها لا تزال متحركة، لكن منهم من قال: إنها متحركة أبدا كيف اتفق حتى أنهم قالوا: ما يحدث من الخسوفات والكسوفات؛ إنما هو بسبب توسط بعض تلك الأرضين بيننا وبين ذلك النير.
ومنهم من قال: إنها لا تزال متحركة فى الهبوط الى غير النهاية.
ومنهم من قال: إنها لا تزال متحركة حركة وضعية دائرة على مركز نفسها.
وزعموا أن ما نراه من شروق الكواكب، وغروبها. إنما هو بسبب حركة الأرض دورا، وإلا فالأفلاك وكواكبها ساكنة غير متحركة عندهم.
ومنهم من قال بوجوب اتحاد الأرض، وسكونها وهذا هو المذهب المشهور، وعليه اعتماد فضلاء الفلاسفة، وخواصهم. وقد استدلوا على امتناع التعدد فى الأرض بأن
قالوا: لو تعددت الأرضون؛ لم تخل: إما أن تكون مختلفة الطبيعة، أو متحدة.
فإن كان الأول: فالاشتراك ليس فى غير اسم الأرض؛ لا فى معنى الأرض.
وإن كان الثانى: فلا بد لكل واحدة من حيّز طبيعى لها، فإن كان الحيز الطبيعى لكل واحدة ما هى فيه، فيجب أن يكون حيّز كل واحدة حيّز الكل ضرورة اتحاد الطبيعة، وذلك محال. وإلا كانت الطبيعة الواحدة لها أحياز طبيعية؛ وهو ممتنع.
وإن كان حيّز الكل واحدا لا تعدد فيه؛ فمدافعة ما ليس فيه عنه لا يكون إلا قسرا.
وليس بعض الأراضى قاسرا للبعض؛ إذ لا أولية لاتحاد الطبيعة وما عدا الأرض من العناصر لا يقوى على دفع الأرض «11» // وقسرها عن حيزها؛ إذ هو أخف منها.
وإذا بطل لازم التعدد؛ بطل التعدد
________________
(1) انظر المواقف للإيجي ص 256 وشرحها للجرجانى 7/ 250، 251.
(11) // أول ل 21/ أ.
(3/143)
________________________________________
قالوا: وإذا كانت متحددة؛ فيمتنع أن تكون متحركة لوجهين:
الأول: أنه قد ثبت أن المحيط لا بدّ وأن يكون متبدل الأوضاع. وتبدل أوضاعه ليس بسبب نسبة أجزائه إلى ما هو خارج عنه؛ إذ ليس وراءه شيء؛ ضرورة تناهى أبعاد العالم كما سبق «1».
فلم يبق إلا أن يكون ذلك بسبب نسبته إلى محويّه، ويجب أن يكون المحوى ساكنا، وإلا لما كانت أوضاع المحيط متبدلة.
الثانى: أنها لو/ كانت متحركة إما أن تكون كيف اتفق صعودا، وهبوطا، أو أنها متحركة إلى جهة واحدة دائما، أو متحركة دورا على مركز نفسها.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ الجسم لا بد له من حيز طبيعى، وتحركه عنه لا يكون إلا قسرا، وليس شيء من العناصر مما يقوى على تحريك الأرض عن حيزها؛ كما سبق.
وإن كان الثانى: لزم منه أن تكون الأبعاد غير متناهية؛ وهو باطل؛ لما سبق «2».
وإن كان الثالث: فهو باطل من وجهين:
الأول: أنه يلزم من ذلك أن تكون الحصاة إذا ألقيت من شاهق أن لا تنزل على عمود؛ بل منحرفة.
الثانى: أنه يلزم منه أن يكون بعد مسقط السهم إذا رمى إلى جهة حركة الأرض؛ أقرب من بعد مسقطه إذا رمى إلى خلاف جهة حركتها؛ وهو خلاف المحسوس.
وطريق مناقضتهم أن يقال: ما ذكرتموه فى امتناع تعدد الأرض إنما يصح ... أن لو قيل: بأن كل جسم فلا بد له من حيز طبيعى؛ وقد أبطلناه «3».
وإن سلم ذلك؛ ولكن ما المانع أن يكون مدفوعا عنه بقسر الفاعل المختار؛ لا بقسر عنصر آخر له عنه «4».
________________
(1) راجع ما سبق ل 21/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الفصل الثانى: فى أن أبعاد الأجسام متناهية ل 21/ ب وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى الفصل الخامس: فى إبطال قول الفلاسفة إنه ما من جسم إلا وفيه مبدأ حركة طبيعية، ومناقضهم فى ذلك ل 30/ أ.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى ل 211/ ب وما بعدها.
(3/144)
________________________________________
وإن سلم امتناع التعدد فما المانع من أن تكون متحركة حركة وضعية.
قولهم: لا بد من تبدل وضع المحيط، ممنوع على ما تقدم.
وإن سلمنا أنه لا بد من تبدل وضع المحيط؛ فذلك إنما يمتنع أن لو كانت الأرض متحركة حركة مطابقة لحركة المحيط، وما المانع أن تكون متحركة إلى خلاف جهة حركة المحيط، أو أبطأ منه، أو أسرع وإن كانت إلى جهة حركة المحيط.
وعند ذلك فوضع المحيط يكول متبدلا.
كيف وأن تبدل وضع المحيط كما يمكن لحركته وسكون ما هو فى مقعره؛ فيمكن مع سكونه وحركة ما فيه؛ وليس أحدهما أولى من الآخر.
وما ذكروه فى الوجه الثانى: فمندفع إذ أمكن أن تكون حركة الأرض دورا فى غاية البطء بحيث لا يظهر التفاوت فى الحس فيما ذكروه من رمى الحصاة والسهم.
فقد وضح مما ذكرناه أنه لا أصل لما اعتمدوه، ولا معوّل على ما انتحلوه.
(3/145)
________________________________________
الفصل الثالث عشر فى مناقضات الفلاسفة فى الدلالة على امتناع وجود عالم آخر وراء هذا العالم «1»
قالت الفلاسفة لو قدر وراء كرة العالم الذي نحن فيه كرة عالم آخر: فإما أن يكون بين الكرتين خلاء، أو ملاء.
لا جائز أن يقال: بالأول؛ لما يأتى فى بيان امتناع وجود الخلاء «2»
وإن كان/ الثانى فلا بد وأن يكون الكل محاطا بمحدد واحد للجهة الفوقية؛ لما سبق تحقيقه فى الأجسام المتناهية؛ ولا بد له من مركز؛ وهو نقطة ملتقى العالمين، أو ما بينهما.
وعند ذلك: فإن كان كل جسم من الأجسام الموجودة تحت المحيط فى حيزه الطبيعى؛ فيلزم أن يكون كل واحد منهما له حيزان طبيعيان تحت محدد واحد، وهو محال؛ لما تقدم «3».
وإن لم يكن طبيعيا: فهو مقسور عن مكانه الطبيعى له وليس شيء من الأجسام يقوى على قسر الأرض عن حركتها إلى الوسط؛ إذ هى الثقيل المطلق كما سبق «4».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر المواقف للإيجي ص 256: المقصد الثامن: قال الحكماء: الخ وانظر شرح المواقف للجرجانى 7/ 250. المقصد الثامن: جواز وجود عالم آخر. جوز المتكلمون وجود عالم آخر مماثل لهذا العالم؛ لأن الأمور المتماثلة تتشارك فى الأحكام. وإليه الإشارة فى الكلام المجيد أَ ولَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81].
(2) الخلاء: هو البعد المفطور عند أفلاطون؛ والفضاء الموهوم عند المتكلمين: أى الفضاء الّذي يثبته الوهم، ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر: كالفضاء المشغول بالماء، أو الهواء فى داخل الكوز. فهذا الفراغ الموهوم هو الّذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم، وأن يكون ظرفا له عندهم.
وبهذا الاعتبار يجعلونه حيزا للجسم، وباعتبار فراغه عن شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء.
فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام؛ فيكون لا شيئا محضا؛ لأن الفراغ الموهوم؛ ليس بموجود فى الخارج؛ بل هو أمر موهوم عندهم؛ إذ لو وجد؛ لكان بعد مفطورا؛ وهم لا يقولون به.
والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء. والمتكلمون إلى إمكانه.
[التعريفات للجرجانى ص 112، 113].
(3) راجع ما مر ل 30/ أ.
(4) راجع ما مر ل 38/ ب.
(3/146)
________________________________________
فيمتنع أن تكون الأرض فى حيّز غيرها، أو غيرها فى حيزها.
وهذه المحالات إنما لزمت من تعدد العالم؛ فلا تعدد.
ووجه مناقضتهم أن يقال: ما المانع من تقدير الخلاء بين الكرتين.
وما يذكرونه فى الدلالة على إحالة الخلاء، فسيأتى الكلام عليه «1».
وإن سلمنا امتناع الخلاء؛ فما المانع أن يكون بينهما ملاء؟
قولهم: لا بد للكل من محيط واحد مسلم.
وما ذكروه. فهو مبنى على أن كل جسم [فلا بد له من حيز طبيعى؛ وهو باطل، بما قدمناه «2».
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن ما المانع من كون كل واحد «3»] مقسورا عن مكانه الطبيعى بفعل فاعل مختار؛ لا أن يكون بعض الأجسام مقسورا بالبعض؛ كما سلف «4».
________________
(1) راجع ما سيأتى ل 52/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما تقدم ل 30/ أ.
(3) ساقط من أ.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 211/ ب الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه.
(3/147)
________________________________________
الأصل الثانى: فى الأعراض وأحكامها. ويشتمل على سبعة فروع:
الفرع الأول «1»: فى إثبات الأعراض.
الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه.
الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض.
الفرع الرابع: فى تحدّد الأعراض، واستحالة بقائها.
[و ابطال القول بالكمون والظهور واستحالة انتقالها] «2» الفرع الخامس: فى الأكوان، وما يتعلق بها.
الفرع السادس: فى الزمان.
الفرع السابع: فى الاعتمادات وأحكامها.
________________
(1) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفروع.
(2) ساقط من أ.
(3/149)
________________________________________
الفرع الأول: فى إثبات الأعراض «1»
وقبل الخوض فى الحجاج لا بد من تحصيل مفهوم العرض، وتحقيق معناه إذ الاصطلاحات فيه مختلفة.
أما فى اصطلاح أهل اللغة: فالعرض عندهم عبارة عن كل أمر نظرى «11» // ويكون زواله عن قرب، ومنه تسميتهم الأمراض الغير لازمة أعراضا، وإليه الإشارة بقوله- تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «2» سمى الدنيا عرضا لسرعة زوالها [و انتقالها] «3» وقوله- تعالى- حكاية عن عاد فى تسميتهم السحاب الّذي أظلهم عارضا حيث ظنوا زواله عن قرب كغيره من السحب فقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا «4».
وأما فى اصطلاح النظار:
فقد قالت الفلاسفة: العرض «5» هو الموجود فى موضوع. وقد بينا/ فيما تقدم أنهم أرادوا بالموضوع المحل المتقوم ذاتا، المقوّم لما حل فيه؛ احترازا عن قيام الصورة الجوهرية بالمادة؛ إذ المادة عندهم ليست موضوعا للصورة، بل محلا لها.
وعند هذا: إما أن يريدوا بقولهم: الموضوع هو المحل المتقوم ذاته أنه لا يفتقر فى وجوده إلى شيء أصلا، أو أنه لا يفتقر فى وجوده إلى محل يقوم فيه، أو أنه لا يفتقر إلى ما حل فيه، أو معنى آخر.
فإن كان الأول: فهو باطل، فإن الجوهر موضوع للعرض عندهم. ومع هذا فإنه يفتقر إلى السبب الفاعل ضرورة كونه ممكنا.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة: راجع مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى من ص 46 - 51.
وانظر: الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 166 وما بعدها. القول فى إثبات العرض.
والتمهيد للإمام الباقلانى ص 42 - 44، وأصول الدين للبغدادى ص 36 - 38.
والمواقف للإيجي ص 96 - 99 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 8 وما بعدها.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 8 وما بعدها. ومن كتب المعتزلة: انظر شرح الأصول الخمسة ص 92 وما بعدها.
(11) // أول ل 21/ ب.
(2) سورة الأنفال 8/ 67.
(3) ساقط من أ.
(4) سورة الأحقاف 46/ 24.
(5) قال الآمدي: «و أما العرض: فعبارة عن الموجود فى موضوع». (المبين ص 110).
«و أما موضوع العرض: فهو عبارة عن المحل المقوم بذاته لما يحل فيه. وسواء كان ذلك المحل جوهرا: كالجسم بالنسبة إلى الحركة، أو عرضا: كالحركة بالنسبة إلى السرعة والبطء» (المبين ص 75، 76).
(3/151)
________________________________________
وإن أرادوا بذلك أنه لا يفتقر إلى محل يقومه؛ فهو أيضا باطل على أصلهم، فإن الخشونة، والملاسة صفة عرضية. وموضوعها سطح الجسم عندهم، والسطح على أصولهم عرض؛ إذ هو نوع من الكمّ. وكذلك السرعة، والبطء. صفة عرضية؛ وهى صفة للحركة عندهم؛ والحركة عرض.
وإن كان الثانى: فهو أيضا باطل؛ فإن الجسم عندهم موضوع للكم؛ وهو الأبعاد العرضية، ومع ذلك لا وجود للجسم دون الأبعاد التى هى الكمية.
كيف وأنا قد بينا اتصاف ذات الرب- تعالى- بما يجب له من الصفات «1» التى بينّاها؛ وذاته متقومة بذاته غير مفتقرة إلى ما يقومها؛ وهى مقومة لما قام بها من الصفات. بمعنى أنه لا وجود لصفاتها، دون قيامها بها؛ وليست صفات الربّ عرضا.
وإن كان الثالث: فلا بد من تصويره والدّلالة عليه.
وأما المعتزلة: فإنهم قالوا بناء على أصلهم أن ذوات الأعراض ثابتة فى العدم غير قائمة بالجواهر، وإنما يقوم بها فى حالة وجودها.
والعرض هو الّذي يقوم بالجوهر حال وجوده؛ وهو فاسد؛ إذ هو مبنى على أن الوجود زائد على ذات الموجود، وهو باطل على ما يأتى فى مسألة المعدوم «2». ثم هو منتقض على أصولهم بفناء الجوهر؛ فإنه عرض؛ وهو غير قائم بالجوهر «3».
وينتقض أيضا على أصول بعض البصريين «4» القائلين بإرادة قائمة لا فى محل؛ فإنها عرض؛ وليست قائمة بالجوهر. وينتقض على أصل أبى الهذيل «5» حيث أنه قال بوجود [بعض] «6» أنواع كلام الله- تعالى- لا فى محل مع كونه عرضا.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى: فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود. ل 53/ ب- 122/ أ.
(2) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى: فى المعدوم وأحكامه ل 106/ ب وما بعدها.
(3) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين ص 167.
(4) قارن بما ورد فى الشامل ص 167.
(5) قارن بما ورد فى الشامل ص 167.
(6) ساقط من أ.
(3/152)
________________________________________
وأما أصحابنا: فمنهم من قال: العرض ما كان صفة لغيره وينتقض بالصفات السلبية؛ فإنها صفة لغيرها، وليست جواهر، ولا أعراضا؛/ إذ الأعراض والجواهر، أمور موجودة، والسلوب غير موجودة، وينتقض بصفات الرب- تعالى
فإن قيل: صفات الربّ- تعالى- غير قائمة بغيرها؛ فإن ذاته وإن لم تكن هى نفس صفاته، ولا صفاته نفس ذاته؛ فليست الذات غير صفاته، ولا صفاته غير ذاته.
فنقول: وإن لم نقل بالمغايرة بين ذات الرب- تعالى- وصفاته؛ فليس معناه إلا أنه لا انفكاك لذات الرب- تعالى- عن صفاته ولا لصفاته عن ذاته على ما سبق تحقيقه «1».
وعلى هذا فيلزم أن يكون الجوهر بهذا الاعتبار غير مغاير لتحيزه، ولا تحيزه مغاير له؛ ضرورة عدم الانفكاك بين الجوهر، والتحيّز على أصول أصحابنا، والمعتزلة أيضا.
ويلزم من ذلك أن لا يكون التحيز للجوهر عرضا؛ لعدم تحقق حدّ العرض فيه؛ إذ ليس هو صفة لغيره.
ومنهم من قال: العرض هو القائم بغيره: وهو إن أراد بكونه قائما بغيره أنه صفة لغيره؛ فهو الحد المتقدم وإن أراد به الموجود فى غيره: فيرد عليه صفات الربّ- تعالى ووجوه تقريره ما تقدم «2»
والمختار أن يقال: العرض هو الموجود، الّذي لا يتصور بقاؤه زمانين وفيه احتراز عن الأعدام؛ إذ هى غير موجودة. وعن الموجودات من الجواهر، وذات الربّ- تعالى- وصفاته؛ لكونها باقية مع موافقته للاشعار اللغوى، وهو مطابق لمعتقد أصحابنا فى الأعراض فى كونها غير باقية على ما سيأتى تحقيقه «3»
ولو قلت: العرض هو الموجود القائم بالجوهر، فهو أيضا حسن؛ لكونه جامعا مانعا؛ لخروج الإعدام منه، وخروج الجواهر؛ إذ هى غير قائمة بالجواهر، وخروج ذات الربّ- تعالى عنه وصفاته؛ فإنها ليست موجودة فى الجوهر.
وإذا عرف المفهوم من لفظ العرض.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى ل 54/ أ.
(2) راجع ما تقدم فى القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى- المسألة الأولى ل 54/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سيأتى ل 44/ ب وما بعدها.
(3/153)
________________________________________
فنقول: اتفق الجمهور من العقلاء على إثبات الأعراض خلافا لابن كيسان الأصم «1»
فإنه «11» // قال: العالم كله جواهر.
والمعتمد فى ذلك أن يقال: نحن نشاهد الجسم مختصا بمكان بعد مكان مشاهدة لا ينكرها إلا فاقد الحس أو العقل، فاختصاص الجسم بالمكان بعد المكان:
إما أن يكون هو نفس ذلك الجسم، أو المكان الّذي هو فيه أو شيء آخر.
لا جائز أن يكون هو نفس ذلك الجسم؛ لوجوه أربعة:
الأول: هو أن ذلك الجسم نفسه لا يختلف، واختصاصه/ بالأمكنة مختلف؛ والمتحد غير المختلف.
الثانى: أن ذلك الجسم قد يدوم، واختصاصه بالمكان المعين قد لا يدوم؛ والدائم غير ما ليس بدائم.
الثالث: هو أنا قد نعقل الجسم، ونجهل اختصاصه بالمكان؛ والمعقول غير المجهول.
الرابع: هو أن الجسم يوصف بكونه مختصا بالمكان، والصفة غير الموصوف.
ولا جائز أن يكون هو نفس المكان للوجوه الأربعة ولا يخفى توجيهها؛ فلم يبق إلا أن يكون شيئا آخر زائدا؛ وذلك الزائد هو الجسم.
فالمكان: إما أن يكون وجودا، أو عدما، أو لا عدم، ولا وجود.
لا جائز أن يكون عدما؛ لأن نقيض اختصاص الجسم بالمكان، لا اختصاص بالمكان، ولا اختصاص بالمكان عدم؛ لأنه لو لم يكن عدما؛ لكان ثبوتا. ولو كان ثبوتا؛ لما وصف المعدوم الممتنع به؛ لما فيه من اتصاف العدم المحض بالصفة الثبوتية؛ وهو محال.
________________
(1) ابن كيسان الأصم (299 ه- 912 م) هو محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الحسن، المعروف بابن كيسان نحوى، لغوى مشارك فى بعض العلوم (تاريخ بغداد 1/ 335، معجم المؤلفين 8/ 311).
(11) // أول ل 22/ أ من النسخة ب.
(3/154)
________________________________________
وإذا كان لا اختصاص عدما. فالاختصاص بالمكان ثبوت.
ولا جائز أن يكون لا عدما، ولا وجودا.
إذ هو مبنى على القول: بالأحوال، وسيأتى إبطالها «1» فلم يبق إلا أن يكون الاختصاص بالمكان وجوديا.
وإذا كان وجوديا: فإما أن يكون متحيّزا بذاته، أو غير متحيّز.
فإن كان الأول: فهو جوهر فإنا لا نعنى بالجوهر غير الموجود المتحيز بذاته.
وعند ذلك: فإما أن يكون فى حيز الجسم مع الجسم، أو فى غيره.
فإن كان فى حيز الجسم؛ فهو عين التداخل بين الجواهر؛ وقد أبطلناه «2».
وإن كان فى غير حيز الجسم؛ فهو جوهر مباين للجسم، والجوهر المباين للجسم فى حيّزه لا يكون صفة للجسم، واختصاص الجسم بالمكان صفة للجسم؛ فلا يكون جوهرا مباينا له.
وإن لم يكن متحيّزا بذاته: فإما أن يكون قائما بالجسم، أو غير قائم به.
لا جائز أن يكون غير قائم به؛ وإلا لما كان صفة له.
وإن كان قائما به: فهو المعنى بالعرض؛ وهو المطلوب.
وقد يمكن طرد هذه الدّلالة فى سائر الأعراض؛ وذلك أن يقال: قد نشاهد الجسم متحركا بعد أن كان ساكنا، وأسود بعد أن كان أبيض. وحارا بعد أن كان باردا، وحلوا بعد أن كان حامضا، وبالعكس. وليس ما نجده من التفرقة فى هذه الأمور عائد إلى غلط الحس، كما ظن قوم من الأوائل، وإلا لأمكن دعوى ذلك فى كل محس؛ وهو مكابرة للضرورة. ولا إلى نفس الجسم؛ ولا هو عدم؛ ولا هو ليس بعدم ولا وجود، ولا/ هو جوهر؛ لما تقدم تقريره «3»؛ فلم يبق إلا أن يكون عرضا.
________________
(1) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث: الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الثانى- النوع الأول: فى أحكام الجواهر مطلقا، الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل ل 6/ ب وما بعدها.
(3) راجع ما تقدم فى أول الفرع ل 39/ ب وما بعدها.
(3/155)
________________________________________
وأيضا: فإن العاقل قد يجد من نفسه أنه قادر على شيء دون غيره، ومريد لشيء، وكائن لشيء، وعالم بشيء، وجاهل بشيء، «1» وآمر بشيء «1»، وناه عن شيء.
ومتكلما تارة، وساكنا تارة، وسامعا تارة، وغير سامع تارة. وشام تارة، وغير شامّ أخرى.
إلى غير ذلك من الآلام واللذات، والغموم، والأفراح وجدانا لا يتمارى فيه. وليس ذلك هو نفس ذاته، ولا نفس ذات المقدور، والمراد، والمعلوم، ولا هو عدم، ولا جوهر؛ لما تقدم «2»؛ فكان عرضا.
وهذه دلائل قطعية لا ريب فيها لعاقل. وربما زاد الأصحاب ونقصوا فى العبارات، والدلائل فى هذا الباب.
وحاصل الكل غير خارج عما ذكرناه. الّا أنا زدناه تحريرا وتقريرا وحذفنا عنه الحشو المستغنى عنه؛ فليعرف ذلك على وجهه؛ وليعلم أن ما ذكرناه من الطريق فى إثبات الأعراض غير مستمر على أصول المعتزلة حيث أنهم أثبتوا أحوالها غير معللة، ككون العالم عالما والقادر قادرا؛ بلا علم ولا قدرة.
فإذا قيل لهم: لم لا يجوز أن تكون هذه الأمور الزائدة والصفات المذكورة عائدة إلى الصفات الحالية غير معللة؛ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا، ومع ذلك فالأحوال عندهم ليست من الأعراض فى شيء.
ولهذا قالوا: الأعراض ثابتة فى القدم دون الأحوال.
________________
(1) (أمر بشيء) ساقط من ب.
(2) راجع ما تقدم فى أول الفرع ل 40/ أ وما بعدها.
(3/156)
________________________________________
الفرع الثانى فى استحالة قيام العرض بنفسه «1»
وقد اتفق جمهور العقلاء القائلين بوجود الأعراض على استحالة قيام العرض بنفسه؛ خلافا لشذوذ لا يعبأ بهم.
وقد اعتمد بعض الأصحاب «2» فى ذلك على مسلك ضعيف وهو أن قالوا «2»:
لو قام العرض بنفسه؛ لقبل العرض.
وبيان الملازمة: هو أن الجوهر قابل للأعراض. والمصحح قابلا لها إنما هو قيامه بنفسه؛ فإنا إذا سبرنا أوصاف الجوهر؛ لم نجد منها ما يقتضي ذلك غير القيام «11» // بالنفس، ويلزم من ذلك أن كل ما كان قائما بنفسه أن يكون قابلا للعرض؛ ضرورة وجود مصحح للقبول فى حقه. فلو كان العرض قائما بنفسه؛ لكان قابلا للعرض؛ وقبول العرض للعرض محال؛ كما يأتى تقريره عن قرب «3».
وهذا المحال إنما لزم/ من قيام العرض بنفسه؛ فيكون محالا.
ولقائل أن يقول: من قال بأن الأعراض تقوم بأنفسها؛ لا يسلم قبول الجواهر لها- فإن قبول الجوهر للعرض فرع امتناع قيام العرض بنفسه، فإذن قد توقف امتناع قيام العرض بنفسه على كون الجوهر قابلا للعرض، وقبول الجوهر للعرض، فرع امتناع قيام العرض بنفسه؛ فيكون دورا.
وإن سلمنا قبول الجوهر للعرض؛ فلا نسلم أن المصحح لذلك قيامه بنفسه، والبحث والسبر وإن كان مغلبا على الظن؛ فغير يقينى على ما سبق «4».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالنسبة لهذا الفرع راجع ما يلى:
الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 203 وما بعدها فصل: فى إثبات استحالة قيام العرض بنفسه. وأصول الدين للبغدادى ص 36 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 100، وشرح المواقف للجرجانى 5/ 28.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 15. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 71 وما بعدها.
(2) (فى ذلك على مسلك ضعيف وهو أن قالوا ساقط من ب.
(11) // أول ل 22/ ب من النسخة ب.
(3) انظر ما سيأتى فى بقية هذا الفرع.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى: فى الدليل- الفصل السابع- الدليل الثالث:
ل 39/ ب.
(3/157)
________________________________________
وإن سلمنا كون البحث والسبر حجة؛ ولكن ما المانع من كون المصحح لقبول الجوهر العرض كونه متحيزا بنفسه. والعرض وإن قيل بقيامه بنفسه؛ فليس متحيزا عند القائل به.
وإن سلمنا امتناع كون المصحح التحيز، ولكن يلزم على سياق ما قيل أن يكون البارى- تعالى- قابلا للأعراض؛ ضرورة قيامه بنفسه؛ ولم يقل به أحد من أصحابنا «1»
والمعتمد «2» فى ذلك أن يقال «2»: لو قام العرض بنفسه؛ لكان العلم قائما بنفسه؛ لكونه عرضا.
وعند ذلك: فإما أن يكون مما يصح أن يعلم به، أو لا يصح.
لا جائز أن يقال بالثانى: وإلا لخرج العلم عن حقيقته؛ إذ أخص صفة نفس العلم أن يعلم به.
فلم يبق إلّا الأوّل.
وعند ذلك: فإما أن يكون العالم به جوهرا، أو عرضا آخر، أو نفسه.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ العرض القائم بنفسه، لا اختصاص له بجوهر دون جوهر.
وعند ذلك: فإما أن تكون كل الجواهر عالمة به، أو بعضا دون البعض.
الأول ممتنع: وإلا لاشترك الناس كلهم فيما يعلمه الواحد بذلك العلم؛ بل جميع الجواهر؛ وهو محال ظاهر الإحالة.
والثانى أيضا ممتنع لعدم الأولوية، وبما ذكرناه فى امتناع كون العالم به جوهرا يمتنع أن يكون العالم عرضا آخر؛ وبه إبطال القسم الثانى.
وإن كان العالم به نفسه، يلزم أن يكون العالم عالما لنفسه لا بعلم زائد عليه؛ وذلك مما يجر إلى أن يكون الأسود أسود لذاته، والأبيض أبيض لذاته، من غير صفة زائدة
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع- المسألة الثالثة: فى أنه- تعالى- ليس بعرض ل 145/ ب.
(2) الموجود فى ب (المسلك الثانى: أنه).
(3/158)
________________________________________
على ذات الموصوف، وكذلك فى جميع الأعراض، وفيه إبطال وجود الأعراض «1»، وإبطال وجود الأعراض؛ إبطال لقيام العرض بنفسه من حيث أن قيام العرض بنفسه فرع وجوده فى نفسه؛ وذلك متناقض من القائل/ به، وهذه المحالات إنما لزمت من قيام العرض بنفسه، فالقول به محال.
قالوا: وهذه الدلالة مما لا تستقيم على أصول المعتزلة؛ حيث قضوا بثبوت الأعراض فى القدم قائمة بأنفسها؛ مع اعترافهم بمماثلتها للموجود منها، وما جاز على أحد المثلين جاز على الأخر، ولا يستقيم أيضا على مذهب من أثبت منهم وجود إرادة عرضية حادثة لا فى محل، وجعل البارى- تعالى- بها مريدا مع استوائها فى النسبة إليه، [و الى غيره] «2» كما تقدم تحقيقه فى مسألة الإرادة «3» [و لقائل أن يقول: ما المانع أن يكون العلم قائما بنفسه، والعالم به بعض الجواهر.
القول بعدم الأولوية مبنى على القول بتماثل الجواهر، وقد عرف ما فيه.
وإن سلم التماثل فى الجواهر، وعدم الأولوية، فما المانع أن يكون العالم به بعض متحركا الاعراض. ولا يمكن أن يقال فيه بعدم الأولوية. كما قيل فى الجواهر؛ لكون الأعراض مختلفة.
وإن سلم أن العالم بالعلم كنفسه فما المانع منه.
وما ذكروه فى الامتناع فقياس تمثيلى غير مفيد لليقين «4».
والحق فى ذلك أن يقال: لو قام العرض بنفسه؛ لكان المتحرّك بحركة لا تقوم به والأسود أسود بسواد لا يقوم به، وكذا الأبيض؛ وهو باطل بالضرورة] «5».
________________
(1) راجع ما سبق فى الفرع الأول: فى إثبات الأعراض ل 39/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من أ.
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى- المسألة الثالثة: فى إثبات صفة الإرادة ل 64/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة ل 39/ أ.
(5) ساقط من أ [من أول قوله: «و لقائل أن يقول ....... وهو باطل بالضرورة].
(3/159)
________________________________________
الفرع الثالث فى امتناع قيام العرض بالعرض «1»
أجمع أكثر العقلاء على امتناع قيام العرض بالعرض؛ خلافا للفلاسفة.
فإنهم قالوا به، وزعموا أن سطح الجسم عرض، وتقوم به الخشونة والملاسة؛ وهما عرضان.
وكذلك الحركة عرض، وتقوم بها السرعة، والبطء؛ إذ هما صفة الحركة؛ وهما عرضان.
وقد أحتج الأصحاب بمسالك.
الأول: أنهم قالوا: لو جاز قيام العرض بالعرض؛ لجاز قيام العلم بالعلم؛ لكونه عرضا. وقيام العلم بالعلم، محال؛ لثلاثة أوجه:
الأول: أنه لو قام العلم بالعلم؛ لجاز أن يقوم به جهل؛ لأن سبيل قيام أحدهما به، كسبيل قيام الآخر به. وما يقبل العلم والجهل، لا يخلو من أحدهما، كما سبق بيانه فى امتناع تعرّي الجواهر عن الأعراض «2» «11» // ثم الكلام فى العلم القائم بالعلم؛ كالكلام فى العلم الأول، ويلزم منه التسلسل، ووجود حوادث لا نهاية لها؛ وهو محال.
الوجه الثانى: أنه لو قام العلم بالعلم؛ فقد وجد كل واحد منهما بحيث وجود الآخر، وليس أحدهما بأن يكون محلا للآخر، والآخر حالا فيه، أولى من العكس؛ لتساويهما فى صفات النفس بخلاف قيامه بالجوهر.
الثالث: أنه لو قام أحدهما بالآخر، لكان كل واحد منهما بحيث الآخر وعند ذلك. فإما أن يكون كل واحد منهما عالما بالثانى.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى ما يلى: الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص 197 فصل: فى إثبات استحالة قيام العرض بالعرض. وانظر المواقف للإيجي ص 100، 101 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 33 - 38 وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 21 - 23.
(2) راجع ما مر فى النوع الأول- الفصل السابع: فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض، وتعليل قبوله بها. ل 8/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 23/ أ.
(3/160)
________________________________________
وإما أن لا يكون ولا واحدا منهما عالما بالثانى، وإما أن يكون أحدهما عالما بالثانى من غير عكس.
وكل واحد من هذه اللوازم ممتنع؛ فالملزوم ممتنع
أما الأول: فلأنه يلزم من كون كل واحد منهما عالما بالآخر أن يكون كل واحد منهما قائما بالآخر؛ لأن العالم من قام به العلم؛ وذلك محال.
وأما الثانى: فلأنه لو جاز قيام العلم بشيء، ولا يكون عالما به؛ لجاز ذلك فى كل من قام به العلم؛ وهو محال/
وأما الثالث: فلعدم الأولوية كما سبق.
ولقائل أن يقول على الوجه الأول: لا نسلم أنه يلزم من قبول العلم للعلم قبوله للجهل؛ ولا نسلم أن سبيل قيام أحدهما به كسبيل قيام الآخر به؛ وليس ذلك ضروريا، والنظرى لا بدّ له من دليل.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن لا نسلم أن كل ما يقبل العلم والجهل، لا يخلو من أحدهما وتقريره ما سبق فى امتناع تعرّي الجواهر عن الأعراض «1».
وإن سلمنا ذلك ولكن إذا كان القابل جوهرا، أو عرضا: الأول: مسلم، والثانى:
ممنوع، ولا بد للتمثيل من دليل، ولا دليل.
وأما الوجهان الأخيران: فهما فى غاية الجودة، والوضوح؛ ولكن غاية ما يلزم من ذلك، امتناع قيام العلم بالعلم، ولا يلزم من ذلك امتناع قيام العرض بالعرض مطلقا، ولعل القائل بذلك إنما يجوزه فى بعض الأعراض دون البعض، وهى ما كان من الأعراض المختلفة التى ليست متضادة.
المسلك الثانى: ويخص امتناع قيام الأكوان بالاعراض. وهو أنهم قالوا:
الكون «2» غير خارج عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وكل ذلك غير متصور فى غير المتحيز.
________________
(1) راجع ما مر فى المصدر السابق ل 8/ ب وما بعدها.
(2) الكون: عبارة عن خروج شيء ما من العدم إلى الوجود دفعة واحدة لا يسيرا يسيرا (المبين ص 100، 101).
والأكوان يمتنع قيامها بالأعراض.
(3/161)
________________________________________
والأعراض ليست متحيزة؛ فلا يتصور قيام الأكوان بها، وبيانه أن الحركة لا معنى لها إلا شغل مكان، وتفريغ آخر، والسكون لا معنى له إلا شغل المكان أكبر من زمان.
والاجتماع لا معنى له: غير حصول جوهرين فى حيزين لا يفصلهما ثالث.
والافتراق: لا معنى له: غير حصول جوهرين فى حيّزين يفصلهما ثالث.
وكل ذلك لا يتصور فى غير الجواهر المتحيزة، والأعراض غير متحيزة؛ فلا تكون قابلة للأكوان.
ولقائل «1» أن يقول:- تفسير الأكوان بما ذكروا إن تعذر قيامهما بالعرض.
فليس فى ذلك ما يدلّ على امتناع قيام العرض بالعرض مطلقا كما سبق فى المسلك الأول «1».
[و لقائل أن يقول:- الأكوان وإن كانت لا تقوم إلا بمتحيز لكن بشرط أن يكون متحيزا بنفسه، أو مطلقا.
الأول ممنوع والثانى: مسلم، والأعراض متحيزة؛ فكانت قابلة للأكوان وإن كانت متحيزة بنفسها لغيرها.
وعلى هذا: فما ذكروه فى معنى الحركة والسكون، لا ينافى قيام الحركة، والسكون بالعرض.
وما ذكروه فى معنى الاجتماع، والافتراق؛ فغير مسلم؛ بل الاجتماع عبارة عن حصول شيئين فى حيزين لا يفصلهما ثالث.
والافتراق فى مقابلته، وهو أعم مما ذكروه] «2».
فالأسدّ فى هذا الباب الوافى بالغرض.
أن يقال: لو قام العرض بالعرض، الّذي قام به العرض لا يخلو: إما أن يكون قائما بنفسه، أو بغيره: لا جائز أن يقال بالأول؛ لما سبق فى الفرع الّذي قبله «3».
________________
(1) من أول قوله: «و لقائل أن يقول: ....... إلى قوله: فى المسلك الأول» ساقط من ب.
(2) ساقط من أ.
(3) راجع ما مر فى الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه ل 41/ ب وما بعدها.
(3/162)
________________________________________
وإن كان الثانى:- فما قام به أيضا إما عرض، أو جوهر.
فإن كان عرضا: فالكلام فيه كالكلام فى الأول/؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان جوهرا: فقيامه به لا معنى له غير وجوده بحيث الجوهر، وقيام العرض الأول به لا معنى له غير قيامه بحيثه، وحيثه ليس هو غير حيث الجوهر الّذي قام به.
فإذن العرضان بحيث الجوهر، ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر وإن كان أحدهما مشروطا فى قيامه بالجوهر، بقيام الآخر بالجوهر كما قيل فى الحركة، والبطء، والسرعة، وكل ما يتخيل فيه قيام العرض بالعرض.
(3/163)
________________________________________
الفرع الرابع فى تجدد الأعراض، واستحالة بقائها «1» وإبطال القول بالكمون والظهور، وإحالة انتقالها
[الآراء فيه]
مذهب أهل الحق من الأشاعرة: أن الأعراض جملتها غير باقية؛ بل هى على التقضى، والتجدد وأن الله- تعالى- قادر على خلق كل واحد من آحادها فى أى وقت شاء من غير تخصيص بوقت دون وقت، وأن ما خلقه منها فى وقت كان يمكن خلقه بعد ذلك «11» // الوقت، أو قبله. ووافقهم على ذلك النظام، والكعبى من المعتزلة.
وأما الفلاسفة: فإنهم قالوا: ببقاء جميع الأعراض بدون الأزمنة، والحركات.
وذهب الجبائى «2»، وابنه، وأبو الهذيل «3»: إلى بقاء الألوان، والطعوم والروائح دون العلوم، والإرادات، والأصوات، وأنواع الكلام. ولهم فى الحركات والسكون، خلاف كما سنشرحه فى الأكوان «4».
وزعموا أن ما لا يبقى من الأعراض؛ لا بد وأن يكون وجوده مختصا بالوقت الّذي وجد فيه، ولا يسوغ فى العقل تجويز خلقه بعد ذلك الوقت، ولا قبله.
وقد احتج الأصحاب بمسالك.
[المسلك] الأول:
أنهم قالوا لو بقيت الأعراض؛ لبقيت ببقاء، والبقاء عرض ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض؛ وهو ممتنع كما سبق «5» وهو ضعيف؛ لما سبق من بيان كون الباقى باقيا بنفسه من غير بقاء يقوم به.
________________
(1) راجع فى هذا المبحث مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 46 - 51. فقد ذكر آراء العلماء بالتفصيل فى هذا الموضوع. وانظر الشامل للجوينى ص 186 وما بعدها. وانظر أصول الدين للبغدادى ص 50 - 52 والمواقف للإيجي ص 101 وشرح المواقف 5/ 38 وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 23 وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 73.
(11) // أول ل 23/ ب.
(2) راجع رأى الجبائى فى مقالات الإسلاميين 2/ 47.
(3) راجع رأى أبى الهذيل فى مقالات الإسلاميين 2/ 47.
(4) انظر ما سيأتى فى الفرع الخامس: فى الأكوان وما يتعلق بها. ل 48/ أ وما بعدها.
(5) راجع ما مر فى الفرع الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض.
وانظر ما مر فى الجزء الأول: فى صفة البقاء ل 118/ أ وما بعدها.
(3/164)
________________________________________
المسلك الثانى:
أنهم قالوا اتفق المحصلون على أن الجوهر إذا قام به بياض أن الرب- تعالى- قادر على خلق مثله فيه فى الحالة الثانية من وجوده.
فلو بقى الأول لاستحال اتحاد مثله؛ لاستحالة اجتماع المثلين فى محل واحد كما يأتى «1»؛ وهو ضعيف أيضا.
إذ لقائل أن يقول: الرب- تعالى- قادر على خلق مثله فى الحالة الثانية من وجوده بتقدير عدمه، أو لا بتقدير عدمه. الأول مسلم، والثانى: محال على زعمهم امتناع/ اجتماع المثلين.
ولا يلزم من جواز عدمه فى الحالة الثانية من وجوده؛ امتناع بقائه بدليل الجوهر فإنه باق بموافقة منكم وإن جاز عليه العدم [فى الحالة الثانية من وجوده] «2».
المسلك الثالث:
قالوا وقع الاتفاق منا، ومن المعتزلة على امتناع بقاء الأصوات والإرادات، فنقيس محل النزاع على محل الاجتماع بواسطة السبر، والتقسيم.
وأنه ما من وجه [يمكن] «3» أن يدل به فى محل الاجتماع على امتناع البقاء إلا وهو مطرد فى باقى الأعراض؛ وهو ضعيف أيضا.
فإن حاصله راجع إلى التمثيل والجمع من الأصل والفرع، بواسطة السبر والتقسيم، وقد أبطلناه فيما تقدم «4».
وربما أورد أبو هاشم فى معرض الفرق ما ليس بفارق. وذلك أن قال: إنما استحال بقاء الصوت؛ لأن استماع الصوت مع بقائه لازم، وسماع الصوت، بتقدير سكوت الصوت ممتنع.
وأما الإرادة: فإنما استحال بقاؤها؛ لأنها لو بقيت؛ لبقيت مع حصول المراد.
ويلزم من ذلك أن تكون إرادة لا مراد لها، وهو ممتنع.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى هذا الجزء الأصل الثالث فيما توصف به الجواهر والأعراض- الفصل الثانى: فى تحقيق معنى التماثل والمثلين ل 72/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل السابع: فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها- الدليل الثالث: ل 39/ ب.
(3/165)
________________________________________
أما الأول: فلأنه وإن كان لا بقاء للصوت بتقدير عدم وسكوت الصوت. فما المانع من كون الصوت الممتد. قبل السكوت باقيا، وأنه شيء واحد، غير متجدد.
فلأن قالوا: لأنه ما من وقت يفرض من أوقات مد الصوت فيها إلا ويمكن فيه فرض قطع ذلك الصوت؛ فكان متجددا فنقول: وما المانع من قول مثل ذلك فى الألوان، والطعوم، وكل ما قيل ببقائه، وهذا مما لا مخلص منه.
وأما الثانى: فمما لا يستقيم على مذهب أبى هاشم خصوصا، وعلى مذهب المعتزلة عموما.
أما الأول: فلأن من مذهب أبى هاشم، إمكان وجود علم لا معلوم له.
ولو قيل: ما الفرق بين الإرادة، والعلم حتى جوزت وجود علم لا معلوم له، ومنعت من ذلك فى الإرادة؛ لم يجد إليه سبيلا.
وأما الثانى: فلأن من مذهب المعتزلة إمكان بقاء القدرة بعد وجود المقدور، وامتناع تعلقها به.
ولو قيل لهم: ما الفرق بين الإرادة، والقدرة حتى جاز وجود القدرة بعد انقطاع تعلقها بالمقدور، وامتنع ذلك فى الإرادة؛ لم يجدوا إلى دفعه غير قولهم بأن القدرة لا تخصص بمقدور واحد.
فلا يلزم من انقطاعها/ عن بعض المقدورات؛ انقطاع تعلقها بما بعده.
ولذلك قيل: ببقائها بخلاف الإرادة؛ وهو فاسد.
أما أولا: فلأنه مبنى على فاسد أصولهم فى جواز تعلق القدرة بمقدورين؛ وقد أبطلناه «1».
وأما ثانيا: فلأنه لو قيل لهم ما الفرق بين الإرادة، والقدرة حتى قيل بجواز تعلق القدرة بمقدورين، وبامتناعه فى الإرادة؛ لم يجدوا إليه سبيلا.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع السابع- الفصل الرابع: فى امتناع تعلق القدرة الحادثة بمقدورين ل 235/ أو ما بعدها.
(3/166)
________________________________________
والّذي عليه اعتماد الأئمة هاهنا.
أنهم قالوا: لو أمكن بقاء العرض فى الزمن الثانى من وجوده؛ لما تصور عليه العدم فيه، وكذلك فى الّذي يليه ... واللازم ممتنع بالإجماع، وبشهادة الحس، وبيان الملازمة أنه لو تصور عليه العدم مع إمكان بقائه:
فإما أن يكون بمقتضى الإعدام، أو لا يكون كذلك.
فإن كان بمقتضى الإعدام.
فإما أن يكون المقتضى له ذات العرض، أو غير ذاته.
لا جائز أن يقال «11» // بالأول: وإلا كان ممتنع الوجود فى ذلك الوقت الّذي عدم فيه لذاته، وخرج عن أن يكون بقاؤه فيه جائزا؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فذلك الغير إما وجود، أو عدم، أو لا موجود ولا معدوم
فإن كان وجوديا: فإما أن يكون ضدّا، أو لا يكون ضدّا.
فإن كان ضدّا: فإما أن يكون وجوده مقاربا لوجود العرض، أو حادثا فى الزمان التالى من وجوده.
فإن كان الأول: فهو ممتنع. وإلا لما وجد ذلك العرض أبدا، أو لما كان ذلك الضد ضدّا؛ ضرورة اجتماعهما؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فهو ممتنع لوجهين:
الأول: أنه أوجد الضد فى الزمن الثانى من وجود العرض. فإما أن يوجد والعرض موجود، أو معدوم. أو لا موجود، ولا معدوم.
فإن كان الأول: لزم منه اجتماع الضّدين؛ وهو محال. أو أن يكون ما فرض ضدّا ليس بضد؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فوجود الضّد لم يكن هو المعدم للعرض؛ لكونه معدوما قبل وجوده.
________________
(11) // أول ل 24/ أ. من النسخة ب.
(3/167)
________________________________________
وإن كان الثالث: فهو مبنى على القول بالأحوال، وسيأتى إبطاله «1».
كيف وأنه إذا لم يكن العرض موجودا؛ فوجود الضد لا يكون هو الدافع للوجود؛ لارتفاعه قبله.
الوجه الثانى: أنه إذا فرض التضادين الجانبين، فليس القول بعدم ما كان موجودا لطرو ما طرى أولى من امتناع وجود الطارئ بوجود الباقى.
هذا إن كان ضدّا/ وإن لم يكن ضدّا؛ فهو فاعل للعدم؛ وهو محال؛ لأن العدم نفى محض، وليس بشيء «2». وما ليس بشيء «2» لا يكون فعلا للفاعل [و ذلك لأن فعل الفاعل لا بد وأن يكون شيئا ثابتا لأن نقيض الفعل لا فعل، ولا فعل عدم محض، لصحة اتصاف الممتنع به] «3».
فإنه «4» لا فرق بين قول القائل فعل ما ليس بشيء، وبين قوله: لم يفعل شيئا «4» وأما إن كان ذلك الغير عدما بحيث يلزم عدم العرض منه؛ فهو ممتنع؛ لأنه لا بد وأن يكون موجبا للعدم بذاته، لا بالاختبار؛ لاستحالته فى الاعدام.
وعند ذلك: فإما أن يكون ذلك العدم مقارنا لوجود العرض، أو طارئا عليه.
فإن كان الأول: فهو محال. وإلا لما وجد العرض ابتداء، أو لما كان ذلك العدم مقتضيا لقدم العرض؛ وهو خلاف الفرض.
وإن كان طارئا: فإما أن يطرأ والعرض موجود، أو معدوم، أو لا موجود، ولا معدوم.
فإن كان الأول: فقد اجتمع ذلك العدم، ووجود العرض؛ فلا يكون العدم مقتضيا لعدم العرض.
وإن كان الثانى، أو الثالث: فبطلانه بما سبق فى الضد وإن كان ذلك الغير لا موجودا، ولا معدوما؛ فهو باطل؛ لما ذكرناه قبل.
________________
(1) انظر ما سيأتى فى هذا الجزء- الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ.
(2) (و ما ليس بشيء) ساقط من ب.
(3) ساقط من أ.
(4) من أول قوله: «فإنه لا فرق ..... إلى قوله: لم يفعل شيئا» ساقط من ب.
(3/168)
________________________________________
وإن لم يكن عدم العرض فى الزمن الثانى مع جواز وجوده فيه بمقتض اقتضى العدم؛ فيلزم منه ترجح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح؛ وهو محال؛ لما سبق تقريره فى إثبات واجب الوجود «1».
فهذه هى الطريقة المعتمدة للأئمة فى هذه المسألة وإن زادت عباراتهم ونقصت فيها؛ فمآل الكل راجع إلى مقصد واحد غير أنا زدناها تحريرا، وتقريرا؛ لا يخفى على المتأمل العارف بقواعد الأصول وجهته.
[اعتراضات الخصوم]
فإن قيل: سلمنا الحصر فيما ذكرتموه من الأقسام؛ ولكن ما المانع أن يكون العدم ضدّا؟
وما ذكرتموه فى الوجه الأول من الأقسام؛ فلا نسلم الحصر فيها إذ أمكن أن يقال بوجود قسم رابع، وهو أن يكون وجود الضد وعدم العرض المضادّ له معا لا أنه وجد، والعرض موجود ليقال باجتماع الضدين ولا أنه وجد والعرض كان معدوما، ليقال لا تأثير لوجوده فيه، ولا أنه غير موجود ولا معدوم؛ ليقال بابطاله.
وأما ما ذكرتموه فى الوجه الثانى فما المانع أن يكون الطارئ أقوى من السابق، وعند ذلك: فيكون أولى باعدام السابق.
ثم دليل كونه أقوى أنه فى أول زمان حدوثه، وأقرب إلى السبب المقتضى/ له من العرض السابق.
ولهذا كانت كل صناعة محكمة قريبة من السّبب الموجب لها؛ أقوى منها فى دوامها وبعدها عن سببها.
وإن سلمنا امتناع كونه ضدّا فما المانع من كونه فاعلا مختارا. [و ما ذكرتموه فى تقريره؛ فقد سبق جوابه] «2».
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود بذاته، وبيان حقيقته ووجوده ل 41/ أ وما بعدها.
(2) ساقط من أ. [راجع ما مر فى الجزء الأول ل 211/ ب وما بعدها.
(3/169)
________________________________________
قولكم «1» لأنه لا فرق بين قول القائل ما فعل شيئا، وبين قوله فعل ما ليس بشيء.
لا نسلم عدم الفرق؛ إذ الأول يرجع إلى أنه لم يؤثر أثرا.
والثانى يرجع لأنه أثر أثرا عدميا. وفرق بين التأثير ومعنى كون العدم أثرا له. أنه لو لاه لما كان ذلك العدم. لا بمعنى أن أثره ذات وشيء «1».
سلمنا امتناع كون العدم وجوديا؛ ولكن ما المانع من كونه عدميا بأن يكون قد فقد شرط وجوده.
وما ذكرتموه فى إحالة كونه طارئا؛ فالكلام عليه كما تقدم فى الكلام على الضدّ «2».
سلمنا امتناع كونه عدميا؛ ولكن ما ذكرتموه منتقض بإمكان عدم الجوهر مع بقائه، ولزوم جميع ما ذكرتموه من الأقسام.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع بقاء العرض؛ ولكنه معارض بما يدل على نقيضه، وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: هو أنا كما نشاهد الجواهر والأجسام باقية مستمرة نشاهد الألوان «11» // والطعوم فلو جاز أن يقال: بتجدد الألوان مع هذه المشاهدة؛ لأمكن مثله فى الجواهر والأجسام، كما قاله النظام «3»؛ وهو محال.
الثانى: هو أنكم جوّزتم إعادة الأعراض، وفيه وجود العرض فى وقتين يفصلهما زمان عدم. وما الفارق بين وجوده فى وقتين ليس بينهما زمان عدم. وبين أن يكون بينهما زمان عدم.
الثالث: أنه إذا قام بياض بمحل؛ فالإجماع منا، ومنكم على جواز خلق مثله فى ذلك المحل فى الوقت الثانى.
________________
(1) من أول: «قولكم: لأنه لا فرق ... إلى قوله: ذات وشيء» ساقط من ب.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 239/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 24/ ب من النسخة ب.
(3) وضح الشهرستانى تناقض النظام فقال: «قال (النظام) إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت، ووافق هشام بن الحكم فى قوله: إن الألوان والطعوم والروائح أجسام. فتارة يقضى بكون الأجسام أعراضا، وتارة يقضى بكون الأعراض أجساما لا غير. (الملل والنحل للشهرستانى 1/ 56). وقارن بما ورد فى شرح المواقف 5/ 46 وما بعدها.
(3/170)
________________________________________
وإذا جاز وجود مثله فى الوقت الثانى، فما المانع من وجوده هو فى الوقت الثانى، مع أن ما ثبت لأحد المثلين، جاز ثبوته للمثل الآخر.
[الرد عليهم]
والجواب: أما الوجه الأول: وإن عظّمه من عظمه من الأئمة، فالسؤال الوارد عليه صعب جدا؛ ولم أجده لأحد غيرى.
وأقصى ما يمكن أن يقال فى جوابه: أنه إذا كان عدم العرض مستندا إلى وجود الضّد؛ فهو أثر له، وأثر الشيء، يجب أن يكون مرتبا على وجود ذلك الشيء؛ والمرتب على وجود الشيء يجب أن يكون متأخرا عن وجود ذلك الشيء، لا أن يكون معه. وإلا فليس/ جعل أحد المعنيين أثرا للآخر أولى من العكس؛ وذلك معلوم بالضرورة.
قولهم: ما المانع أن يكون الطارئ أقوى من السابق.
قلنا: لأن التمانع بين الضدين إنما كان بسبب تضادهما. ولو لا ذلك لما امتنع الجمع بينهما [لا لسبب أن كل واحد علة لعدم الآخر «1»] والتضاد المتحقق بين شيئين يمتنع أن يكون بينهما على التفاوت؛ بل مضادة أحد الضدين للآخر، كمضادة الآخر له؛ وهو معلوم ضرورة.
وما ذكروه فى لزوم الترجيح فأمر لو استعمل فى الظنيات كان ضعيفا مع أنه معارض بإمكان كون الباقى أقوى؛ لعدم افتقاره فى حالة بقائه إلى المؤثر، ومشابهته بالقديم فى ذلك؛ بخلاف الحادث فى أول زمان حدوثه.
فلئن قالوا: وإن امتنع أن يكون أحد الضّدين أقوى من الضّد الآخر، فما المانع من أن يكون اجتماع سوادين مثلا أقوى من بياض واحد. ويكون المانع من بقاء البياض السابق مجموع السوادين، كما قاله بعض المعتزلة.
قلنا: هذا ممتنع لثلاثة أوجه:-
الأول: أنه إنما يصح أن لو أمكن اجتماع السوادين مع تماثلهما؛ وهو ممنوع كما سيأتى «2».
________________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر ما سيأتى فى هذا الجزء- الأصل الثالث- الفصل السادس: فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان.
ل 79/ أ وما بعدها.
(3/171)
________________________________________
الثانى: أنه يلزم منه أنه إذا وجد فى المحل بياض، ثم عدم بسوادين أن يكون إعدام السوادين فى المحل كل سواد منهما ببياضين؛ فيكون أربعة، ومن عدم هذه الأربعة أن تكون ثمانية من السواد، وهلم جرا حتى ينتهى الحال إلى أن يكون فى المحل الواحد فى آخر الأمر ألف سواد أو ألف بياض مع ما نشاهده من البياض، والسّواد فى المحل أولا، وآخرا لا يختلف؛ وذلك محال.
الثالث: هو أن ما ذكروه منتقض عليهم بالحركة والسّكون، فإن السكون ينتهى بحركة واحدة عندهم، ولا يفتقر إلى اجتماع حركتين.
ولو قيل لهم: ما الفرق؟ لم يجدوا إليه سبيلا.
قولهم: ما المانع من كونه فاعلا مختارا.
قلنا: لما ذكرناه وما ذكروه عليه من «1» المنع فباطل.
فلنعنى بقولنا: لا فرق بين كون الشيء ما أثر وبين كونه أثر عدما؛ لاستوائها فى امتناع تحقق الأثر.
فإن العدم لا يصلح أن يكون أثرا.
وبيانه أن الأثر نقيض لا أثر، ولا أثر عدم محض؛ لاتصاف العدم الممتنع به، فالأثر يكون موجودا.
فما لا يكون وجودا، لا يكون أثرا «1».
قولهم: ما المانع من كونه عدميا؟
قلنا: لما/ ذكرناه وما ذكروه عليه فى جوابه ما تقدم، وما ذكروه من النقض بعدم الجوهر؛ فمندفع.
________________
(1) من أول «من المنع .... إلى قوله: لا يكون أثرا» ساقط من ب.
(3/172)
________________________________________
فإن طريق عدم الجوهر عندنا إنما هو بأن لا يخلق الله- تعالى- الأعراض القائمة التى لا عروّ له عنها، وذلك غير متصور مثله: فى الأعراض إذ العرض [لا يقوم بالعرض «1»] كما سبق تحقيقه «2». وما ذكروه من المعارضة الأولى
وقولهم: إنا نشاهد استمرار السّواد، والبياض.
قلنا: ذلك لا يدل على اتحاد المشاهد؛ لجواز أن تكون أمثالا متعاقبة من غير تخلل فاصل.
كما نشاهده من الماء الدافق من أنبوب كأنه شيئا متصلا لا انقطاع له؛ وهو من أمثال متحددة.
وقولهم: لو أمكن أن يقال ذلك فى الألوان؛ لأمكن أن يقال مثله فى الأجسام.
قلنا: هذا تمثيل من غير دليل؛ فلا يقبل،
وليس مستند قولنا ببقاء الجواهر ما نشاهده من الاستمرار؛ ليلزم ما ذكروه من الإلزام؛ بل «3» العلم ببقاء الأجسام ضرورى وما كان ضروريا؛ فلا يكون قابلا للتشكيل «3».
وما ذكروه من الوجه الثانى فعنه جوابان:
الأول: منع إعادة الأعراض على قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى.
الثانى: وإن سلمنا إعادة الأعراض؛ ولكن لم قالوا: إنه يلزم من وجود العرض الواحد فى وقتين يفصلهما عدم وجوده فى وقتين متماثلين من غير دليل جامع، مع أن الأول ليس بقاء، والثانى بقاء. وما المانع أن يكون توسّط العدم بين الوقتين شرطا فى الوجود فى الزمن الثانى، أو أن عدمه مانع.
وما ذكروه من الوجه الثالث؛ فدعوى مجردة من غير دليل.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما مر فى هذا الجزء- الأصل الثانى- الفصل الثالث: فى استحالة قيام العرض بالعرض. ل 42/ ب وما بعدها.
(3) من أول (بل العلم ببقاء الأجسام ضرورى، وما كان ضروريا؛ فلا يكون قابلا للتشكيل) ساقط من ب.
(3/173)
________________________________________
ولم قالوا: بأنه إذا جاز أن يخلق الله- تعالى من وجود البياض مثله أمكن استمرار وجود البياض «11» // الأول إلى ذلك الزمان. وما المانع أن يكون العرض لذاته يمتنع بقاؤه، وإن لم يمتنع حدوثه.
كيف وأن ما ذكروه منتقض بالإجماع منا، ومنهم ومن كل محصل بالأصوات، والإرادات.
وإن جاز أن يخلق الله- تعالى- فى الزمن الثانى من وجود الصوت «1» صوتا مماثلا له، وكذلك فى الإرادة «2».
ومع ذلك ما لزم منه جواز بقاء الصوت، والإرادة.
[الرد على القائلين بالكمون والظهور]
وإذا ثبت امتناع بقاء الأعراض؛ فيمتنع القول بكمونها تارة، وظهورها أخرى «3».
أما أولا: فلأن المفهوم من الكمون ليس غير الاستتار والتغطى، فإن أريد ذلك؛ فلا يخفى أنه غير متصوّر فى الأعراض القائمة بالجواهر الفردة؛ لعدم تجريها على ما سبق/ وإن أريد غير ذلك؛ فلا بد من تصويره، والدلالة عليه.
وأما ثانيا: فلأن العرض الظاهر:
إما أن يكون هو عين ما كان كامنا، أو غيره
فإن كان الأول: فلا يخفى أن حالة كمونه؛ مغايرة لحالة ظهوره ويلزم من ذلك بقاء العرض؛ وهو ممتنع على ما تقدم «4».
وإن كان غيره: فالظاهر غير الكامن؛ والكامن غير الظاهر.
وأما ثالثا: فهو أن القول بكمون أحد الضّدين، وظهور الآخر بتقدير قيامهما بالجوهر الواحد، يوجب قيام الضدين بالمحل الواحد.
________________
(11) // أول ل 25/ أ. من النسخة ب.
(1) الصوت: كيفية قائمة بالهواء يحملها إلى الصماخ [التعريفات ص 154].
(2) وأما الإرادة: فعبارة عن معنى يوجب تخصيص الحادث بزمان دون زمان. (المبين ص 120).
(3) يمتنع القول بكمون الأعراض وظهورها من باب أولى؛ لأن بقاء الأعراض مستحيل. والقول بالكمون والظهور قال به النظام من المعتزلة. وقد أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، وأكثر ميله أبدا إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم، دون الإلهيين. (الملل والنحل للشهرستانى 1/ 56).
(4) راجع ما سبق فى الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(3/174)
________________________________________
وأن يكون الجوهر الفرد قد قام به السّواد والبياض معا، والحركة غير المكان، والسكون فيه، وهو ممتنع.
وعلى ما قرّرناه أيضا من امتناع بقاء الأعراض يمتنع القول بانتقالها.
فإنه قبل انتقال العرض إلى محلة الّذي حصل فيه بالانتقال [إما أن يكون موجودا، أو لم يكن موجودا؛ فإن كان موجودا] «1».
فإما أن يكون قائما بنفسه، أو بمحل آخر.
الأول: محال لما سبق «2».
وإن كان قائما بغيره: فلا يخفى أن زمان حصوله فى المحل [الّذي كان فيه غير زمان حصوله فى المحل] «3». الّذي انتقل إليه، وإلا لكان العرض الواحد قائما فى محلين، وحاصلا فيهما فى زمان واحد؛ وهو ممتنع.
وذلك يوجب بقاء العرض زمانين؛ وهو ممتنع على ما سبق «4».
________________
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما مر فى الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه ل 41/ ب وما بعدها.
(3) ساقط من أ.
(4) راجع ما مر ل 44/ ب وما بعدها.
(3/175)
________________________________________
الفرع الخامس فى الأكوان وما يتعلق بها. ويشتمل على عشرة فصول:
الفصل الأول «1»: فى تحقيق معنى الكون، والكائنية.
الفصل الثانى: فى بيان وجود المكان.
الفصل الثالث: فى تحقيق معنى المكان.
الفصل الرابع: فى أن المكان هل يخلو عن المالى له، أم لا؟
الفصل الخامس: فى تحقيق معنى الحركة، والسكون.
الفصل السادس: فيما اختلف فى كونه متحركا، وبيان الحق فيه.
الفصل السابع: فى تحقيق معنى الاجتماع، والافتراق، والمماسة، والتأليف.
الفصل الثامن: فى بقية أحكام الاجتماع، والافتراق. خاصة على أصول أصحابه.
الفصل التاسع: فى اختلاف الأكوان، وتماثلها، وتضادها.
الفصل العاشر: فى اختلافات بين المعتزلة فى أحكام الأكوان متفرعة على أصولهم، ومناقضتهم فيها.
________________
(1) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفروع.
(3/177)
________________________________________
الفصل الأول فى تحقيق معنى الكون والكائنية
وقد أختلف فى ذلك؛ والّذي عليه اتفاق معظم أصحابنا «1»: أن اسم الكون مختص بما أوجب اختصاص الجوهر بمكان، أو بتقدير مكان؛ وهو غير خارج عن الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، ولهم فى المماسة خلاف على ما سيأتى «2».
وأن اسم الكائنية: مختص بنفس اختصاص/ الجوهر بمكان أو بتقدير مكان:
فالكون هو الموجب لاختصاص الجوهر بالحيّز.
والكائنية: نفس الاختصاص بالحيّز. وهو المكان، أو تقدير المكان؛ وهو جائز على وفق الوضع اللغوى.
ومنه قول العرب: كان زيد فى الدار، وهو كائن فيها. والمراد به اختصاصه بها، وحصوله فيها.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق، ومتبعوه: إلى أن كل عرض أختص بمحل: فهو كائن فيه؛ لأنه لا بد له من كون يخصصه بمحله، كما فى اختصاص الجواهر بأماكنها.
لكنّه قال: كون كل عرض، هو نفسه؛ لا زائد عليه، حذرا من قيام المعنى بالمعنى؛ بخلاف أكوان الجواهر؛ فإنها زائدة عليها.
وذهب بعض متأخرى المعتزلة: وقد قيل إنه ابن الجبائى «3» إلى أن الكون الموجب لاختصاص الجوهر بحيّز دون حيّز؛ مغاير للحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق.
محتجا على ذلك بأنا لو فرضنا أن الله- تعالى- خلق جوهرا فردا، ولم يخلق معه جوهرا آخر؛ فإنه فى أول زمان حدوثه؛ له كون وليس بمتحرك؛ لأن الحركة إنما تكون بالانتقال من مكان إلى مكان؛ وهو غير منتقل.
________________
(1) انظر الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 188 وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى فى الفصل السابع ل 55/ أ وما بعدها.
(3) المقصود به: أبو هاشم راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 11/ ب.
(3/179)
________________________________________
ولا هو ساكن: لأن السكون، لا يكون إلا بحصول الجوهر فى مكان واحد أكثر من زمان، والجوهر فى أول زمان حدوثه؛ ليس كذلك
ولا ثم اجتماع، وافتراق؛ لأن ذلك لا يكون إلا بين جوهرين؛ وهو خلاف الفرض.
فقد ثبت أن الكون مغاير للحركة، والسكون، والاجتماع والافتراق.
وفى هذه المذاهب نظر.
أما مذهب الأصحاب: فمبنى على أن اختصاص الجوهر ببعض الأحياز، دون البعض؛ يستدعى مخصصا، وأن ذلك المخصص هو الكون مع موافقتهم على جواز تخصيص بعض الأعراض ببعض الجواهر مع اتحاده وتماثل الجواهر من غير كون يخصصه.
وعند ذلك: فإما أن يقال بأنه «11» // لا مخصص له بذلك الجوهر غير ذاته كما صار إليه بعضهم، أو أن المخصص له ليس بكون؛ بل فاعلا مختارا؛ كما صار إليه بعضهم أيضا.
وعلى هذا فلو قيل: ما المانع أن يكون اختصاص الجوهر ببعض الأحياز، دون البعض لذاته، أو بفعل فاعل مختار كما قالوه فى العرض، لم يجدوا إلى الفرق سبيلا.
كيف وأن اختصاص الجوهر بالحيّز لا معنى له غير حصوله فيه- والحركة، فلا معنى لها غير الحصول فى/ الحيّز بعد أن كان فى غيره. والسكون فلا معنى له غير الحصول فى الحيز إما مشترطا فيه اللبث، أو غير مشترط على ما يأتى.
والاجتماع: لا معنى له غير حصول الجوهرين فى حيزين؛ لا يفصلهما ثالث.
والافتراق: لا معنى له غير حصول جوهرين فى حيّزين؛ يفصلهما ثالث.
فإذن هذه الاختصاصات المختلفة، والحصولات المتغايرة هى نفس ما ذكروه من الأكوان؛ وليست غيرها.
وربما قيل فى إبطال تعليل اختصاص الجوهر بحيزه بالكون: أن الكون عرض قائم بالجوهر، ولا معنى لقيام العرض بالجوهر، إلا أنه موجود فى الحيّز تبعا لوجود محله فيه؛
________________
(11) // أول ل 25/ ب. من النسخة ب.
(3/180)
________________________________________
فلو كان حصول ذلك الجوهر فى حيّزه معللا بعرض قائم به؛ لكان حصول ذلك الجوهر فى ذلك الحيّز؛ تبعا لقيام ذلك المعنى به نظرا إلى أن المعلول تبع للعلة؛ وهو دور ممتنع.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن العرض وإن كان فى الحيّز تبعا لمحله فيه؛ فحصول الجوهر فى ذلك الحيز ليس تبعا لحصول ذلك العرض فى ذلك الحيز؛ ليلزم الدور؛ بل تبعا له من جهة كونه علة مخصصة له بذلك الحيز.
ومع اختلاف جهة التوقف؛ فلا دور.
وأما مذهب الأستاذ أبى إسحاق: فإنما يصح أن لو امتنع أن يكون المخصص للعرض بمحله فاعلا مختارا؛ كما ذهب إليه الأصحاب، والقول بامتناعه غير ضرورى والنظرى؛ فلا بد له من دليل؛ ولا دليل.
كيف وأنه لو جاز أن يكون المخصص للعرض بمحله ذاته وأن المغايرة بين المتخصص، والمخصص غير مشترطة. فما المانع أن يكون اختصاص الجوهر ببعض الأحياز أيضا لذاته؛ لا لكون زائد عليه.
ولو قيل له: ما الفرق لم يجد إليه سبيلا.
وأما المذهب الثالث: القائل بأن الكون وراء الحركة والسكون، والاجتماع، والافتراق؛ فإنما يصح أن لو استدعى حصول الجوهر فى المكان أو بتقدير المكان كونا يخصصه به
وما المانع أن يكون المخصص له بذلك فاعلا مختارا؛ كما سبق «1».
وإن سلم أنه لا بد فيه من كون يخصصه بالمكان، أو تقدير المكان، فلم قال: إنه خارج عن الحركة، والسكون، والاجتماع والافتراق؛ مع أن العلم به غير ضرورى، ولا دلّ عليه دليل والجوهر المفروض فى أول زمان حدوثه،
فقد قال القاضى فيه إنه وإن لم تتحقق فيه الحركة، والاجتماع والافتراق؛ ففيه كون هو السكون.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- المسألة الثالثة ل 64/ ب وما بعدها.
(3/181)
________________________________________
قال: وليس السكون مما يشترط فيه اللبث؛/ وإلا لما تصور وجود السكون أصلا؛ إذ السكون عرض، والعرض غير باق على ما سلف «1»؛ وما لا بقاء له؛ فاللبث فيه ممتنع.
بل الموجود فى الزمن الثانى؛ إنما هو كون غير الكون فى الزمن الأول.
وإذا كان الثانى سكونا؛ فالأول مثله.
فيجب أن يكون سكونا، ولا يمكن أن نجعل المجموع هو الكون المعبر عنه بالسكون؛ وإلا لما كان السكون معنى واحدا؛ بل متعدّدا ولم يقل به أحد من المحصلين؛ وهو متجه.
وقد قال: الأستاذ أبو إسحاق فى الجواب ما يؤول إلى جواب القاضى أيضا
وهو أن كون الجوهر فى أول زمان حدوثه سكون فى حكم الحركة ..
أما أنه سكون؛ فلما سبق.
وأما أنه فى حكم الحركة: فمن جهة أنه غير مسبوق بكون آخر مثله فى ذلك الحيّز كما فى الحركة.
ثم وإن سلم أن كون الجوهر المفروض فى أول زمان حدوثه خارج عن الحركة، والسكون؛ فلا يلزم مثله فى الحالة الثانية، وإلا فلو لزمت التسوية بين الحالتين؛ لامتنع القول بوجود الحركة، والسكون فى الحالة الثانية كما فى الأولى؛ وهو محال.
والحق فى ذلك أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن فى نفسه، والقطع به غير واقع.
وإن كان الأشبه إنما هو مذهب الأصحاب بالنسبة إلى مذهب أبى هاشم؛ لما فيه من التعليل الظاهر المعقول دون ما ليس ظاهرا، ولا معقولا.
هذا ما عندى فى هذا الباب؛ وعسى أن يكون عند غيرى خلافه.
وإذا ثبت أن الأكوان لا تحقق لها إلا بالنسبة إلى اختصاص الجوهر بالمكان، أو تقدير المكان؛ فلا بد من تحقيق وجود المكان، ومعناه.
________________
(1) راجع ما مر فى الفرع الرابع ل 44/ ب وما بعدها.
(3/182)
________________________________________
الفصل الثانى فى بيان وجود المكان «1»
أجمع العقلاء على وجود المكان؛ خلافا لطائفة من قدماء الفلاسفة فإنهم أنكروا وجود المكان، وانكارهم يقارب جحد الضرورة وما هو المستقر فى الأذهان والعقول من الحكم بأن كذا فى مكان كذا ويدل عليه أمران:
الأول: أنا قد نشاهد بعض الأجسام فى بعض الأوانى وزواله عنه، وتعاقب آخر له فيه.
ونعلم ضرورة أن الجسم الثانى قد حل فى مكان الأول حالا فيه، وليس ذلك المحل من ذاتيات أحد الجسمين، ولا عرضياته اللازمة، وإلا لما تصور فيه الاستبدال
/ فإذن هو أمر خارج؛ وهو المعنى بالمكان «2».
الثانى: هو أنا قد نشاهد حركة الجسم، وانتقاله من جهة إلى جهة أخرى، وذلك لا يتصور إلا بالانتقال من شيء إلى شيء وليس ما عنه الانتقال، وإليه من الصفات الذاتية والعرضية اللازمة.
إذ لا انتقال عنها؛ فما عنه الانتقال وإليه؛ هو المعنى بالمكان.
فإن قيل: الحركة «3» والانتقال لا تتوقف على المكان لوجهين:
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا:
انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 116.
والشامل فى أصول الدين للجوينى ص 444 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 113 - 120 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 115 - 162.
المقصد التاسع: المكان وهو من الكم المتصل.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 52 - 64 المبحث الثالث: فى المكان.
وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 81 - 85 المبحث الخامس: فى المكان.
(2) المكان: عرفه الآمدي فقال: «و أما المكان: فعبارة عن السطح الباطن من الجرم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجرم المحوى. كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء الموضوع فيه».
[المبين للآمدى ص 96].
(3) الحركة: عرف الآمدي الحركة فقال: «و أما الحركة: فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة؛ لا من كل وجه؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان، والاستحالة من كيفية إلى كيفية».
«و أما السكون: فعبارة عن عدم الحركة فيما من شأنه أن تكون فيه تلك الحركة» [المبين للآمدى ص 95].
(3/183)
________________________________________
الأول: أنه لا معنى للحركة والانتقال، غير الاستبدال بالقرب، والبعد عن الشيء.
فلو كان ذلك مما يوجب المكان للجسم؛ لأوجبه للنقطة؛ لتحقق هذا الاستبدال بالنسبة إليها.
والنقطة فلا مكان لها لوجهين:
الأول: أنها أمر عدمى؛ إذ هى قبل الخطّ وانتهاؤه.
والمعنى العدمى؛ لا يكون فى مكان.
الثانى: أنها لو كان لها مكان؛ لكان مساويا لها، والمساوى للنقطة نقطة، وليس جعل إحداهما مكانا للأخرى بأولى من العكس.
الوجه الثانى: فى بيان أن الحركة لا تتوقف على المكان؛ لأنها لو توقفت على المكان؛ لكان المكان علّة لها، ولو كان علة لها: فإما أن يكون علّة فاعلية، أو صورية، أو قابلية، أو غائية.
فإن كان الأول: فإما فاعل بالطبع، أو الإرادة:
الأول: محال، وإلا فالفاعل: إما ما عنه الحركة، أو إليه.
فإن كان ما عنه الحركة؛ فهو محال.
وإلا لما يتصور السكون فيه.
وإن كان ما إليه الحركة؛ فهو محال. وإلا لما تصور الانتقال عنه.
وإن كان فاعلا بالإرادة: فهو محال. والمكان غير مريد.
وإن كان علة صورية: فهو محال،
إذ ليس المكان صورة للحركة، وإلا لما تصورت الحركة عنه.
وليس علة قابلية: إذ القابل للحركة؛ إنّما هو المتحرك.
وليس علة غائية: لأنه موجود قبل الوصول إلى التمام؛ والغاية إنما توجد عند الوصول إلى التمام.
(3/184)
________________________________________
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجود المكان، إلا أنه معارض بما يدل على عدمه.
وبيانه أنه لا يخلو: إما أن يكون المفهوم من المكان عدما، أو وجودا.
فإن كان عدما: امتنع أن يضاف الجوهر الموجود بأنه فيه.
وإن كان وجودا: فإما أن يكون جوهرا، أو عرضا.
فإن كان جوهرا: فإما معقول، أو محسوس.
لا جائز أن يكون من الجواهر المعقولة؛
إذ لا إشارة إليها، ولا وضع لها. وما هذا شانه؛ فلا يوصف بأنه متصل بالجسم المحسوس، ولا منفصل عنه.
والمكان عند القائل/ متصف باتصاله بالجسم المتمكن فيه تارة وبانفصاله عنه تارة.
ولا جائز أن يكون جوهرا محسوسا: لأنه إما أن يكون جسما، أو لا يكون جسما
لا جائز أن يكون جسما؛ وإلا لاستدعى مكانا آخر. ومكانه إما المتمكن فيه، أو غيره.
فإن كان الأول: فهو دور.
وإن كان الثانى: فهو تسلسل ممتنع.
ولا جائز أن لا يكون جسما: فإن الجوهر المحسوس إما أن يكون مركبا أو غير مركب.
لا جائز أن يكون غير مركب: إذ هو مطابق للجسم المركب، والمطابق للمركب لا يكون الا مركبا.
وإن كان مركبا: فهو الجسم، ويعود القسم الّذي قبله.
وإن كان عرضا: فلا بد له من موضوع يقوم به، ويحل فيه، ولو حلّ المكان فى محل لاشتق له منه اسم، وعاد إليه منه حكم وقيل له متمكن كما يقال لموضوع السواد مسودا، وموضوع البياض مبيضا؛ ويلزم من ذلك أن يكون المكان عرضا قائما بالمتمكن.
(3/185)
________________________________________
ولو كان كذلك؛ لكان المكان ملازما للمتمكن فى حركته، وسكونه؛ ضرورة كونه متقوما به. ولما تصور حركة المتمكن عن المكان، ولا إليه.
وقد قيل: بأن المكان هو ما تقع الحركة عنه، وإليه.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجود المكان؛ فهو محال.
والجواب: قولهم: لا معنى للحركة والانتقال غير الاستدلال بالقرب، والبعد.
قلنا: مطلقا أو من حاصر يحصر المتنقل.
الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
وعلى هذا: فلا يلزم أن تكون النقطة بالتفسير المذكور مكانا؛ إذ لا حاصر لها؛ لكونها عدمية.
وقولهم: لو توقفت الحركة على المكان؛ لكان المكان علة لها؛ غير مسلم، وما المانع أن يكون ملازما لها؛ واللازم أعم من كونه علة، ولا يلزم من وجود الأعم، وجود الأخص.
وما ذكروه من المعارضة؛ فباطل أيضا؛ فإنه ما المانع أن يكون المكان جسما «1».
قولهم: يلزم أن يكون له مكان آخر ممنوع؛ بل اللازم للجسم: إما المكان، أو تقدير المكان، ولا تسلسل.
وإن سلمنا: امتناع كونه جسما، فما المانع من كونه عرضا «2».
قولهم: لو كان عرضا؛ لكان موضوعه متمكنا، ليس كذلك؛ فإن مصدر المتمكن ليس هو المكان؛ بل التمكن؛ وهو غير المكان. وموضوع المكان على هذا لا يقال له متمكن؛ ضرورة قيام المكان به.
وعلى هذا: فقد اندفع ما ذكروه من الإشكال.
________________
(1) الجسم: فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا. [المبين للآمدى ص 110].
(2) العرض: عبارة عن الموجود فى موضوع. [المبين للآمدى ص 110].
(3/186)
________________________________________
الفصل الثالث فى تحقيق معنى المكان «1»
وقد اختلف الناس فيه:
فمنهم من قال: هو ما يستقر/ الشيء عليه: كمقعد الإنسان من الأرض وموضوع قيامه، واضطجاعه.
وأما الفلاسفة فمختلفون:
فقال أفلاطون «2»: مكان الجسم هيولاه. فإن المكان ما كان قابلا لتعاقب الأجسام عليه. وأول قابل للتعاقب ليس غير الهيولى «3».
ومنهم من قال: مكان الجسم صورته «4»؛ إذ المكان حاو للمتمكن، والصورة فأول حاو ومتجدد.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا:
انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 130. والملل والنحل للشهرستانى 2/ 206 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 113 - 120 المقصد التاسع: فى المكان.
وشرح المواقف للجرجانى 5/ 115 وما بعدها.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 52 - 64 المبحث الثالث: فى المكان.
وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 81 - 85 المبحث الخامس: فى المكان.
(2) أفلاطون: ولد (أفلاطون) فى أثينا، أو فى (إيجين) فى سنة 428 قبل المسيح عليه السلام. واسم أبيه أرسطن بن أرطوقيس.
وهو من أسرة عريقة: فنسبه من جهة أبيه يتصل ب (كودروس) آخر ملوك أثينا، ومن جهة أمه يرجع إلى (سولون) أحد الحكماء السبعة. ولما بلغ العشرين من عمره تتلمذ على يد (سقراط).
ومن أشهر تلاميذه: المعلم الأول (أرسطو).
وله ما يقرب من خمسة وعشرين مؤلفا: من أشهرها: الجمهورية. وتقع من عشرة أجزاء. والسياسة، ومحاوراته وتوفى سنة 327 قبل الميلاد.
(راجع: إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص 17، وطبقات الأطباء ص 25، والفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ص 186 وما بعدها).
(3) الهيولى: لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة. وفى الاصطلاح هى جوهر فى الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية. [التعريفات للجرجانى ص 287].
(4) الصورة: صورة الشيء هى ما يؤخذ منه عند حذف المشخصات، ويقال صورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل.
والصورة الجسمية: هى جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه، قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم فى بادئ النظر، أو هى الجوهر الممتد فى الأبعاد كلها، المدرك فى بادئ النظر بالحس.
والصورة النوعية: هى جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه [التعريفات للجرجانى ص 154].
(3/187)
________________________________________
ومنهم من قال مكان الجسم هى الأبعاد التى من غاياته.
ومنهم من قال: المكان هو السطح الباطن للجسم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى عليه: كالسطح الباطن من الكون المماس للسطح الظاهر من الماء الّذي هو فيه؛ وهو عرض.
ومنهم من قال: المكان هو الخلاء، وفى هذه المذاهب نظر.
أما المذهب الأول: فإنه يوجب أن لا يكون السهم النافذ فى الهواء الطائر فيما بين السماء والأرض. وكذلك الحجر المتحرك بالقسر إلى جهة فوق فى مكان إذ ليس له فى تلك الحالة موضع يستقر عليه؛ وهو ممتنع.
فإنا نشاهده متحركا، متنقلا، والحركة لا بد وأن تكون عن شيء، إلى شيء وما عنه الانتقال وإليه؛ هو المكان كما سبق فى الفصل الّذي قبله «1».
ولهذا يصح أن يقال: إنه متنقل من مكان إلى مكان.
وأما المذهب الثانى، والثالث: وهما القائلان بأن مكان الجسم هيولاه أو صورته فمبنى على أن الجسم مركب من الهيولى والصورة، وقد أبطلناه «2».
وإن سلم أن الجسم مركب من الهيولى والصورة؛ فيمتنع أن يكون كل واحد منهما مكانا للجسم؛ وبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كل واحد منهما جزء من الجسم؛ والشيء لا يكون فى جزئه.
الثانى: أن الجزء من الكل داخل فى مكان الكل، فلو كان الجزء هو مكانا للكل؛ لكان الشيء الواحد مكانا لنفسه، ومتمكنا فيه؛ وهو محال.
الثالث: أنه يمكن أن يقال بانتقال الجسم عن مكانه وإن كانت المادة والصورة من الجسم بحالهما، وليس يلزم من الاشتراك المكان والهيولى فى إمكان التعاقب عليهما أن يكون هيولى الجسم مكانا، وإلا لامتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد.
________________
(1) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل 49/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما مر ل 18/ ب وما بعدها. الفصل الأول: فى تحقيق معنى الجسم.
(3/188)
________________________________________
ولا يلزم من اشتراك المكان والصورة فى أن كل واحد منهما حاو أن تكون صورة الجسم مكانا؛ لما حققناه فى الهيولى «1».
كيف وأن المكان ليس مطلق حاو؛ بل ما كان حاويا منفصلا عن المحوى؛ وليست الصورة كذلك.
وأما المذهب الخامس: القائل بأن المكان هو الأبعاد التى بين غايات الجسم فمردود/ من جهة أن المكان مما يصح الانتقال عنه، وإليه والأبعاد التى هى غايات الجسم ليس كذلك؛ إذ هى ملازمة للجسم غير مفارقة له.
كيف وأنا لا نسلم أن تلك الأبعاد خارجة عن الجواهر المتصلة التى هى طرف الجسم، وهى جزء منه؛ وجزء الشيء لا يكون مكانا للشىء على ما تقدم.
وعلى هذا: فقد بطل المذهب الخامس أيضا.
وأما المذهب السادس: القائل بأن المكان هو الخلاء فالنظر فيه يتوقف على تحقيق الخلاء «2» وبيان معناه.
والخلاء: قد يطلق بمعنى عدم الملاء، فيكون عدما صرفا؛ كما حققناه فيما وراء كرة العالم.
وعلى هذا: فلا يكون الخلاء بهذا الاعتبار مكانا للجسم؛ إذ المكان ما يمكن الإشارة إليه؛ فإنه يصح أن يقال: الجسم فى هذا المكان، والعدم المحض لا إشارة إليه.
ولأن المكان مما يصح أن يوصف الجسم بأنه فيه، وأنه منتقل عنه وإليه؛ وذلك غير متصور فى العدم المحض.
كيف وأن الخلاء بهذا الاعتبار ما لم يعرف قائلا قال بكونه مكانا للجسم.
وقد يطلق الخلاء ويراد به البعد القائم لا فى محل من شأنه أن تتعاقب عليه الأجسام وتملأه، والخلاء بهذا الاعتبار مختلف فى إثباته، وفى كونه مكانا.
________________
(1) راجع ما مر فى النوع الثالث: فى الجسم وأحكامه. الفصل الأول: فى تحقيق معنى الجسم ل 16/ ب وما بعدها.
(2) عرف الآمدي الخلاء فقال: «و أما الخلاء: فعبارة عن بعد قائم لا فى مادة من شأنه أن يملأه الجرم.
(3/189)
________________________________________
وقد احتج القائل. أما على إثباته: فإنا لو فرضنا عدم الملاء فيما بين السماء والأرض، ورفعناه عن الذهن؛ فإنا لا نشك فى أن بين السماء، والأرض بعدا لو فرضت فيه الأجسام؛ لملأته ويمكن نفوذه: كالسهم وغيره.
وأما على كونه مكانا للأجسام؛ فمن وجهين:
الأول: أنه إذا لم يكن الجسم متحركا عن مكانه؛ فهو ساكن فيه. فلو لم يكن مكان الجسم هو الأبعاد بالتفسير المذكور؛ بل السطح الحاوى، أو الجسم المحيط؛ لكان الجسم المستقر فى قعر الماء الجارى، والواقف فى الهواء السيال لتبدل المحيط به وتجدده مما يمنع عليه أن يكون متحركا لوقوفه، وأن يكون ساكنا مع تبدل مكانه؛ وذلك محال بخلاف ما إذا كان المكان هو الأبعاد المذكورة.
الثانى: أنه لو لم يكن المكان هو الخلاء بالتفسير المذكور؛ لكان لكل جسم مكان؛ ضرورة تناهى الأجسام.
وأما النافي لذلك؛ فإنه قال: البعد المفروض: إما أن يكون وجوديا، أو عدميا.
فإن كان وجوديا: فإما أن يكون غير متناه، أو متناه.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما تقدم فى تناهى الأبعاد «1».
وإن كان متناهيا: فإما أن يكون قائما بنفسه، أو لا يكون/ قائما بنفسه.
فإن كان قائما بنفسه: فهو جوهر. وإن لم يسم باسم الجوهر.
وهو إما أن يكون محسوسا، أو غير محسوس.
فإن كان محسوسا: فهو متجزئ؛ ضرورة مطابقته للجسم المتجزئ وهو المعنى بالجسم. فإن لم يسم باسم الجسم؛ فيكون المكان بهذا الاعتبار جسم لا غيره.
وإن لم يكن محسوسا؛ بل معقولا محضا: فلا يكون واقعا فى امتداد الإشارة إليه؛ ولا يصح اتصاف الجسم المحسوس بكونه فيه، ومتصلا به ومنفصلا عنه؛ وليس المكان كذلك؛ على ما سبق «2».
________________
(1) راجع ما سبق فى النوع الثالث- الفصل الثانى: فى أن أبعاد الأجسام متناهية ل 21/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق ل 49/ ب وما بعدها.
(3/190)
________________________________________
وإن لم يكن قائما بنفسه: فهو عرض، والعرض فلا بد له من موضوع يقوّمه؛ وقد قيل إن الخلاء ليس كذلك.
وإن كان عدميا: فالعدم لا يكون مكانا للجسم؛ لما حققناه فيما إذا كان معقولا محضا.
ثم اعترض على ما قيل من الحجة الأولى، وعلى الحجة الثانية أنها إنما تلزم أن لو كان لكل جسم مكانا، وليس كذلك.
وعلى هذا: فالأشبه بالمكان أنه السطح على ما قال به الفلاسفة أو ما هو اللائق بأصول أصحابنا: أن المكان إنما هو الجواهر المجتمعة المحيطة بالجوهر، أو الجسم المحاط به.
وإن كنت لم أجد فى ذلك عنهم نصا، لا فى هذا ولا غيره، فيما يرجع إلى معنى المكان، ولعل غيرى أطلع عليه.
(3/191)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن المكان هل يخلو عن المالى له أم لا؟ «1»
اتفق أصحابنا، وجماعة من المتكلمين، وبعض قدماء الفلاسفة: على جواز خلو المكان عن المالى له.
وذهب المتأخرون من الفلاسفة، والجم الغفير منهم، وجماعة من المتكلمين:
إلى إمكان ذلك حتى زعم بعض الكرّاميّة «2» أنه لو ارتفعت الوسائط فيما بين السماء والأرض؛ لاصطك جرم السماء والأرض، متحركا كل واحد إلى الآخر.
احتج من قال بالجواز: بحجج:
الأول: أنه لو امتنع خلو المكان عن الملاء؛ للزم منه امتناع حركات الأجسام فى العالم فيما بين السماء والأرض؛ وهو خلاف المشاهد المحسوس.
وبيان الملزوم: أنه يلزم من تحرّك الجسم: إما مداخلته لما يليه من الأجسام، أو مدافعته.
والأول: محال لما سبق «3».
والثانى: يلزم منه: إما أن ينتقل المدفوع إلى مكان الدافع، أو إلى مكان غيره.
فإن كان الأول: فلا يتصور انتقال الأول إلى مكان الثانى حتى يخلو منه. ولا يتصور انتقال الثانى عن مكانه؛ وهو دور.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى:
الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 508، 509.
والمواقف للإيجي ص 113 - 120 المقصد التاسع: فى المكان.
وشرح المواقف للجرجانى 5/ 115 - 162 المقصد التاسع: المكان وهو من الكم المتصل.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 52 - 64 المبحث الثالث: فى المكان.
وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 81 - 85 المبحث الخامس: فى المكان.
(2) راجع عنهم ما مر فى الجزء الأول هامش ل 65/ أ.
وأما عن آرائهم فانظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة.
(3) راجع ما مر فى النوع الأول- الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل ل 6/ ب.
(3/192)
________________________________________
وإن كان الثانى: لزم أن يحرك ما يليه لما يليه، وهلمّ جرا إلى أن يتصل تحرك الأجسام بكرة الثوابت؛ وهذا أيضا محال خلاف المشاهد.
الثانية: أن النمو لا/ يكون إلا بدخول الخط بين أجزاء الثانى ولا دخول له فى غير الخلاء.
الثالثة: أنا نشاهد الجسم متخلخلا بعد التكاثف، ومتكاثفا بعد التخلخل من غير زيادة فى أجزائه، ولا نقص؛ وليس ذلك إلا بسبب الخلاء، وتباعد أجزائه، وانضمامها.
الرابعة: أنا لو فرضنا سطحين مستويين انطبق أحدهما على الآخر بتمامه. ثم فرضنا ارتفاع أحدهما عن الآخر دفعة؛ فهو ممكن ويلزم من ذلك حصول الخلاء «1» فى وسط ذينك السطحين إلى أن يتصل الملاء من الطرفين إلى الوسط.
وربما احتجوا باستبصارات أخرى منها:
أن الإناء المملوء رمادا يمتنع معه فيه ملوه ماء. وكذلك الدّن المملوء شرابا إذا أخذ ما فيه، ووضع فى زقّ وسعهما ولو لا الخلاء؛ لما كان كذلك.
وأما النفاة فقد احتجوا بحجج أيضا:
الأولى: أنه لو تصوّر الخلاء فلو فرض أن متحركا تحرك لقطع مسافة فى الخلاء وبمثل تلك الحركة؛ لقطع مثل تلك المسافة فى ملاء فإن قطعه لمسافة الخلاء يكون أسرع من قطعه لمسافة الملاء وفى زمان أقل من زمان الملاء؛ ضرورة المعاوق له فى الملاء وعدمه فى الخلاء.
وعند ذلك: فلو فرض ملاء أرق من الملاء الأول نسبته فى الممانعة إليه كالنسبة الواقعة بين زمن المتحرك فى الخلاء والمتحرك فى الملاء الأول؛ فيلزم أن يكون قطع المتحرك للمسافة فى الملاء الأرق بمثل الحركتين السابقتين عاملا لقطع المتحرك فى الخلاء؛ ضرورة التساوى فى النسبة. ومحال أن يتساوى، ما له معاوق، بما ليس له معاوق. وهذا المحال: إنما لزم من الخلاء؛ فلا خلاء.
________________
(1) عرف الآمدي الخلاء فقال: «و أما الخلاء فعبارة عن بعد قائم لا فى مادة من شأنه أن يملأه الجرم» [المبين للآمدى ص 96].
(3/193)
________________________________________
الحجة الثانية: قالوا: إنا نشاهد وقوف ذوات التجاويف على المادة بسبب تعلق الهواء.
بقعرها ونتوء اللحم الممصوص بالقارورة. وكذلك السحارة المملوءة ماء إذا سدّ رأسها لا ينزل منها الماء؛ بخلاف ما إذا فتح رأسها.
وكذلك نشاهد بقبقة الكوز الضيق الرأس؛ إذا صب منه الماء؛ لدخول الهواء فيه؛ ليكون بدل ما ينزل من الماء؛ وليس ذلك الّا بسبب امتناع الخلاء.
وفى حجج المذهبين نظر:
أما الحجة الأولى: على جواز الخلاء، فلقائل أن يقول: ما المانع من الحركة من غير مداخلة، ولا مدافعة؛ وذلك بأن يعدم اللّه- تعالى- ما يلى الجسم المتحرك من الأجسام حالة حركته شيئا، فشيئا ويخلق ما يملأ حيزه المتفرغ منه حالة خلوه منه شيئا فشيئا، إلى حيّز سكونه.
وأما حجّة/ النمو «1» فلقائل أن يقول: ما المانع أن يكون النمو زيادة أبعاد الجسم ل 53/ أ الثانى: بأن يخلق الله- تعالى- زيادة أخرى فى أقطار الجسم شبيهة به عند الأكل، والشرب، بحكم جرى العادة من غير خلو بين أجزاء المغتدى وبتقدير أن تكون الزيادة، والنمو من أجزاء المغذى فما المانع من مدافعتها لأجزاء الثانى إلى غير أحيازها، وحصول أجزاء المغذى فى أحيازها، ولا يلزم منه المدافعة لما يلى أجزاء الثانى من الأجسام عن أماكنها؛ لما سبق فى الحجة الأولى «2».
وأما حجة التكاثف والتخلخل «3»: فلقائل أن يقول: ما المانع أن يكون التخلخل بخلق الله- تعالى- أجزاء زائدة فيه. والتكاثف باعدام بعض أجزائه؛ لا أنه بسبب الخلاء.
وأما حجة السطحين: فما المانع أن يخلق الله- تعالى- مع ارتفاع أحدهما عن الآخر بينهما المالى لما بينهما؛ لا بأن يكون واحدا من الطرفين.
________________
(1) عرف الآمدي النمو فقال: «و أما النمو فعبارة عن زيادة أقطار الجسم بما يرد عليه من الغذاء ويستحيل شبيها به» (المبين للآمدى ص 101).
(2) راجع ما مر ل 52/ أ وما بعدها.
(3) التكاثف: هو انتقاص أجزاء المركب من غير انفصال شيء.
وأما التخلخل: فهو ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج وهو ضد التكاثف. [التعريفات ص 63، 73].
(3/194)
________________________________________
وأما حجة الرماد دون الشراب فغير صحيحة؛ فإنها خلاف ما دل عليه الاعتبار.
وبتقدير الصحة؛ فلا مانع أن يكون الرّب- تعالى- قد أعدم بعض أجزاء الرماد، أو الشراب حتى صار غيره فى مكانه.
وأما الحجة الأولى على امتناع الخلاء فمبنية على أن المتحرك فى الخلاء. إذا قطع المسافة فى نصف يوم مثلا، والمتحرك فى الملاء الأكثف قطعها فى يوم مثلا. وكان الملاء الأرق فى المانعة على النصف من الملاء الأكثف أنه يجب أن يكون المتحرك فى الملاء الأرق قد قطع المسافة فى نصف يوم؛ ضرورة أن المانع فيه على النصف منه فى الملاء الأكثف، وليس كذلك؛ بل إنما يقطعها عند التقدير فى ثلاثة أرباع يوم.
وذلك أنا لو قدرنا عدم المانع فى الملاء الأرق؛ لكان قطعه للمسافة فى نصف يوم.
ولم يظهر تأثير المانع فى الملاء الأكثف إلا فى زيادة نصف يوم.
فإذا كان المانع فى الملاء الأرق على النصف منه فى الملاء الأكثف، فيظهر مما نعته فى نصف ما أثرت فيه ممانعة الأكثف؛ وذلك ربع يوم.
وعلى هذا فلا مساواة بين المتحرك فى الخلاء، والملاء الأرق.
وأما باقى الحجج فضعيفة؛ إذ لا مانع أن يقال:
ذلك كله إنما هو بفعل فاعل مختار «1» بحكم جرى العادة كما فى الشبع عند الأكل والرى عند الشرب للماء أما أن يكون ذلك لامتناع/ الخلاء فلا.
وعلى هذا فالمسألة من الطرفين غير يقينية عندى، ومن ظهر له اليقين؛ فعليه باعتقاده.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(3/195)
________________________________________
الفصل الخامس فى تحقيق معنى الحركة والسكون «1»
وقد اختلف فيهما: والّذي عليه إجماع الفلاسفة أن الحركة معنى وجودى وعبروا عنها بأنها استبدال حالة قارة فى المحل بأخرى يسيرا يسيرا، لا دفعة واحدة، وأنها قد تكون فى المكان؛ كالحركة من مكان إلى مكان، وفى الكيف: كالتسود والتبيض، وفى الكم: كالنمو أو الذبول، والتكاثف، والتخلخل ونحو ذلك.
وأما السكون: فعبارة عن عدم الحركة، فيما من شأنه أن يكون قابلا للحركة، حتى أن ما لا يكون قابلا للحركة وإن لم يكن متحركا: كالإله- تعالى؛ فإنه لا يكون ساكنا.
وما ذكروه فى رسم الحركة؛ فغير صحيح.
فإنا لو فرضنا مكانين لا يفصلهما ثالث، وفرضنا جوهرا تحرك من أحدهما إلى الآخر: فإما أن يقال بأن تلك الحركة متجددة، أو غير متجددة.
فإن قيل بالتجدد: فكل جزء منها؛ فلا بد وأن يقطع جزءا، أو مكانا غير ما يقطعه الآخر؛ ويلزم من ذلك أن يكون بين المكانين المفروضين، أمكنة أخرى؛ وهو خلاف الفرض.
وإن قيل بعدم التجدد: فلم يصح ما ذكروه فى حدّ الحركة من الاستبدال يسيرا يسيرا.
وأما ما ذكروه فى تفسير السكون؛ فسيأتى إبطاله فيما بعد «2».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا:
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 21، 22، 23، وشرح الأصول الخمسة ص 96. والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 190، 191.
والمواقف للإيجي ص 167 وما بعدها، وشرح المواقف للجرجانى 6/ 198 وما بعدها. وقد عرّف الآمدي الحركة والسكون فقال: «أما الحركة فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة؛ لا من كل وجه؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان والاستحالة من كيفية إلى كيفية. وأما السكون: فعبارة عن عدم الحركة فيما من شأنه أن تكون فيه تلك الحركة (المبين للآمدى ص 95).
(2) انظر ما سيأتى 59/ أ وما بعدها.
(3/196)
________________________________________
وأما ما يتعلق بالحركة والسكون من التفاصيل، والأحكام على أصولهم؛ فقد استقصيناه فى دقائق الحقائق «1»، وغيره من كتبنا، وحققنا ما فيه؛ فعليك بمراجعته.
وأما أصحابنا وأكثر العقلاء: فقد اتفقوا على أن اسم الحركة والسكون، لا يطلق على غير الحصول فى المكان، والخروج عنه.
ثم اتفق القائلون بالأكوان على أن الجوهر إذا كان فى مكان، وخرج منه ودخل فى مكان آخر. أن الخروج من الأول، هو عين الدخول فى الثانى، والدخول فى الثانى عين الخروج من الأول، لا أنه غيره.
واتفقوا على أن الخروج من الأول، والدخول فى الثانى حركة. وأن السكون الثانى فى الزمان الثانى: إما فى المكان الأول، أو المكان الثانى سكون واختلفوا فى الكون الأول، فى أول زمان حدوث الجوهر، وفى السكون الأول فى المكان الثانى، وهو الدخول فيه؛ هل هو سكون، أم لا؟
فذهب المتحدثون من أصحابنا وغيرهم: إلى أنه سكون، ووصفوه بالحركة والسكون معا، وقالوا: الخروج/ عن الأول، والدخول فى الثانى حركة عن الأول إلى الثانى، وسكون فى الثانى.
وبنوا على هذا الأصل صحة القول بأن كل حركة سكون؛ لأن كل حركة لا بد وأن تكون دخولا فى مكان. وليس كل سكون حركة؛ وذلك كالكون الثانى فى المكان الأول أو الثانى.
وذهب آخرون من أصحابنا وغيرهم: إلى أن الكون الأول فى المكان الثانى، لا يكون سكونا؛ لكن من هؤلاء من اعترف مع ذلك بالتماثل بين الكون الأول والثانى، فى المكان الثانى.
ومنهم من قال بالاختلاف.
احتج من قال بكونه سكونا: بأنه لا نزاع فى أن الكون الثانى، فى الزمن الثانى سكون؛ فالكون الأول أوجب اختصاص الجوهر بالمكان الثانى، حسب ايجاب الكون الثانى له.
________________
(1) أهم كتب الآمدي الفلسفية انظر عنه ما مر فى المقدمة.
(3/197)
________________________________________
ووجه اختصاصه به فى الحالة الثانية، كما فى الكون الثانى والثالث، فلو أمكن تقدير فرق بين الكون الأول والثانى مع الاتحاد فى ايجاب تخصيص الجوهر بذلك المكان؛ لأمكن مثله فى الثانى، والثالث؛ وهو محال.
وإن قيل: بالتماثل؛ فيلزم من كون الثانى سكونا. أن يكون الأول سكونا؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للآخر.
ومن لم يسمه مع ذلك سكونا؛ فلا نزاع معه فى غير التسمية.
وأعلم أن القول بهذا المذهب، والتمسك بهذا المسلك، وإن سنده الأئمة من أصحابنا: كالقاضى، والإمام أبى المعالى، وغيرهما؛ ففيه نظر؛ إذ لقائل أن يقول: وان سلمنا أن الكون الثانى سكون؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم أن يكون الكون الأول سكونا.
وما ذكرتموه من الاشتراك بينهما مما لا يوجب التماثل بينهما؛ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات، والمتماثلات فى واحد.
كيف وأن الكون الأول، هو عين الخروج من المكان الأول، وهو أيضا حركة بالاتفاق منا، ومنكم.
والكون الثانى ليس حركة، ولا هو خروج عن المكان الأول ولو تماثلا؛ لجاز أن يثبت لكل واحد منهما، ما يثبت للآخر.
فهذا اشكال مشكل، ولعل عند غيرى جوابه.
وربما قيل فى إبطال هذا المسلك طرق أخرى، لا بد من الإشارة إليها، والتنبيه على جوابها.
الأول: أنهم قالوا: الحركة مضادة للسكون، كمضادة السواد للبياض فلو جاز أن يكون الكون الأول فى المكان الثانى سكونا مع كونه حركة؛ لاجتمع المتضادات، أو لما كانا ضدين. وكل واحد/ من الأمرين محال.
والثانى: أنه لو جاز أن يكون الكون الأول سكونا، فالسهم الدافع الحركة إذا لم يوجد منه فى كل مكان إلا كون واحد. فلو كان كل واحد من الأكوان المفروضة سكونا، لزم أن يكون السهم فى حالة حركته ساكنا؛ وهو محال.
(3/198)
________________________________________
والجواب عن الأول: أن المضادة بين الحركة والسكون، ليست مطلقا حتى تكون الحركة كالمكان مضادة للسكون فيه؛ بل عين الحركة إلى المكان هو عين السكون فيه.
وإنما التضاد بين الحركة عن المكان، والسكون فيه، ولا جرم لا يجتمعان.
الثانى: أن كل كون من الأكوان المفروضة، وإن كان سكونا فى المكان الّذي إليه الحركة؛ فلا يمتنع أن يكون حركة؛ لما قررناه. وإن كانت الحركة عند كل واحد لا تكون سكونا فيه.
وعلى هذا: فمدار المذهبين على المماثلة بين الكون الأول والثانى وعدم المماثلة.
ولا يخفى أن القول بالاختلاف لما ذكرناه فى الإشكال أشبه، وعليك بتخليص الحق من ذلك.
(3/199)
________________________________________
الفصل السادس فيما اختلف فى كونه متحركا وبيان الحق فيه «1»
وقد اختلف فى ذلك فى صور.
الصورة الأولى «2»: أنه إذا تحرك الجسم من مكان إلى مكان، فقد اتفقوا على تحرك الجواهر الظاهرة منه، لمفارقتها أحيازها.
واختلفوا فى الجوهر المتوسط الباطن منه. هل هو متحرك أم لا؟
فقال بعضهم: إنه متحرك؛ لأنه لو لم يكن متحركا؛ لكان ساكنا ولا واسطة فيما هو قابل للحركة، والسكون، بين الحركة والسكون.
ولو كان ساكنا مع حركة باقى الأجزاء؛ لحصل الانفكاك، والانفصال؛ وهو خلاف المحسوس؛ ولأن الحيز المحيط بكلية الجسم حيز له أيضا.
وإن لم يكن مماسا له؛ إذ هو حيز حيزه، والداخل فى الداخل داخل.
فإذن هو داخل فى حيز حيزه؛ فيكون متحيزا به أيضا. وقد خرج عنه إلى غيره لا محالة؛ فيكون متحركا عنه.
وقال بعضهم: إنه غير متحرك نظرا إلى أن حيزه إنما هو الجواهر المحيطة به؛ وهو غير مفارق لها، ولا منفصل عنها.
ثم اختلف هؤلاء فى المستقر فى السفينة المتحركة:
فمنهم من قال: إنه ليس. بمتحرك. كما فى الجوهر الباطن من الجسم المتحرك.
ومنهم من قال: إنه متحرك. وفرق بينه، وبين الجوهر الباطن من الجسم المتحرك من حيث أن الجوهر لم يفارق المحيطة به بخلاف راكب السفينة، فإنه مفارق للجواهر الهوائية المحيطة به، وخارق لها، وخارج منها من شيء إلى شيء، وعلى هذا/ فالحجر المستقر فى قعر الماء السيال؛ لتبدل أحيازه عليه؛ يكون متحركا.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة قارن بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 453 - 455 فصل مشتمل على اختلافات فى أحكام الحركات راجعة إلى الألقاب والعبارات.
(2) قارن ما أورده الآمدي فى الصورة الأولى بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل ص 454، 455.
(3/200)
________________________________________
والحق أن الاختلاف فى حركة الجوهر الباطن من الجسم المتحرك، آئل إلى الخلاف فى التسمية؛ فإن من منع من كونه متحركا كما يعنى به، أنه غير مفارق للجواهر المحيطة به، ولا يمنع من تبدل الحيّز المحيط به بجملة الجسم عليه.
ومن قال إنه متحرك لم يعن عنه، غير تبدّل الحيّز المحيط بكل الجسم عليه ولا يمنع من كونه غير متحرك بمعنى أنه غير مفارق للجواهر المحيطة به؛ ولاحظ لذلك فى المعنى.
الصورة الثانية: قال الأستاذ أبو إسحاق «1»: إذا كان الجوهر مستقرا فى مكانه، وتحرك عليه جوهر آخر من جهة إلى جهة، بحيث تبدّلت محاذاته له؛ فالجوهر المستقر فى مكانه، يكون متحركا. والتزم على ذلك أنه لو تبدلت عليه المحاذات من جهة إلى جهة بأن تحرك عليه جوهران أحدهما من جهة يمينه، والآخر بالعكس؛ أنه يكون متحركا يمنة، ويسرة فى حالة واحده.
وزعم أن الحركة منها ما يزول بها الشيء المتحرك عن حيّزه، وبهذا الاعتبار لا يكون الجوهر متحركا يمنة، ويسرة معا.
ومنها ما لا يزول بها المتحرك؛ بل يزول بها عنه غيره.
والحركة بهذا الاعتبار لا يمتنع فيها ذلك.
وخالفه فى ذلك الجماعة وشددوا فى الإنكار عليه، ولا معنى لإنكارهم تسمية ما عنه حركة إذا لم يعن بكونه متحركا، أنه خارج من حيّزه وداخل فى حيّز؛ بل غايته أنه أطلق اسم الحركة على اختلاف المحاذيات، كما أطلق الأصحاب اسم السكون على الحركة، ولا معنى للنزاع فى التسمية.
________________
(1) هو الأستاذ أبو إسحاق: إبراهيم بن محمد بن مهران الأسفرايينى- انظر عنه ما مر فى الجزء الأول هامش ل 5/ أ.
أما عن رأيه الّذي نقله عنه الآمدي؛ فقارن بما أورده إمام الحرمين الجوينى فى الشامل ص 453، 454.
(3/201)
________________________________________
الفصل السابع: فى تحقيق معنى الاجتماع، والافتراق، والمماسة، والتأليف «1»
وقد اتفق القائلون بالأكوان على أنه لو خلق الله- تعالى- جوهرا فردا فى حيّز من الأحياز؛ فلا بد وأن يقوم به كون يخصصه بذلك الحيّز على ما سبق «2».
ثم اتفقوا على جواز خلق اللّه- تعالى- ستة من الجواهر محيطة بذلك الجوهر من فوقه، وأسفله، ويمينه، وشماله، وخلفه، وقدامه، إلا ما نقل عن بعض المتكلمين أنه منع من ذلك. ولم يجوز ملاقاة الجوهر الفرد، لأكثر من جوهر واحد؛ حذرا من القول بتجزؤ الجوهر الفرد؛ وهو مكابرة للمحسوس، ومنع من تأليف الجسم الطويل، العريض، العميق؛ وهو محال.
واتفقوا على المجاورة، والتأليف بين الجوهر المفروض، والجوهر المحيط به/ ثم اختلفوا بعد ذلك.
فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى «3»، والمعتزلة: إلى أن المجاورة؛ وهى وقوع الجوهرين فى حيزين لا يفصلهما ثالث؛ زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيزه حالة انفراده.
وأن التأليف والمماسة زائدة على المجاورة، ومغايرة لها؛ وهو حادث عقيبها. وأن المباينة: وهى وقوع الجوهرين فى حيزين يفصلهما ثالث؛ ضد المجاورة.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر: الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 455 وما بعدها. ومن المفيد ذكر معانى هذه الألفاظ.
الاجتماع: تقارب أجسام بعضها من بعض [التعريفات ص 20].
الافتراق: كون الجوهرين فى حيزين، بحيث يمكن التفاصل بينهما. [التعريفات ص 42].
أما التماس: فعبارة عن تلاقى الذوات بأطرافها على وجه لا يكون بينهما بعد أصلا. [المبين للآمدى ص 97].
التأليف: هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدم والتأخر أم لا، فعلى هذا يكون التأليف أهم من الترتيب. [التعريفات ص 59].
(2) راجع ما سبق فى الفصل الأول: فى تحقيق معنى الكون والكائنية ل 48/ أ وما بعدها.
(3) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 455.
(3/202)
________________________________________
وأن المجاورة شرط للتأليف، والمماسة؛ وأن التأليف، والمماسة: ينتفى بالمباينة المضادة لشرط التأليف. ويمكن أن يكون ذلك لمضادة المباينة للتأليف وشرط على أصل الشيخ أبى الحسن «1». غير أن الشيخ أبا الحسن زعم أن المجاورة القائمة بالجوهر الفرد وأن تعدّد المجاور له واحدة، والتأليف القائم به متعدد بتعدد المؤتلف معه «11» // حتى أنه قال: الجوهر الفرد إذا أحاط به ستة من الجواهر؛ فقد قام به ست تأليفات، ومماسات، ومجاورة واحدة، وأن المماسات الست تغنى عن مكون سابع، يكون مخصصا له بحيزه، على ما حكاه عنه القاضى أبو بكر «2».
وأما المعتزلة: فإنهم قالوا: إذا تحققت المجاورة بين الجوهرين، وكان أحدهما رطبا، والآخر يابسا، ولّدت المجاورة بينهما تأليفا، واحدا قائما بهما.
وإن تألف مع ستة من الجواهر؛ فقد اختلفوا فيه:
فمنهم من قال يقوم بالجواهر السبعة تأليف واحد. وقالوا إذا لم يبعد قيام تأليف واحد بجوهرين؛ لم يبعد قيامه بأكثر من ذلك.
ومنهم من قال: إذا تألف جوهر مع ستة جواهر يقوم بالجملة ست تأليفات، واتفقوا على امتناع قيام سبع تأليفات بالجملة، حذرا من انفراد كل جزء بتأليف.
ثم أبطلوا قول من جوز قيام تأليف واحد بسبعة جواهر بأن قالوا: المباينة بين الجواهر وإن لم تكن مضادة للتأليف؛ فهى مضادة لشرط التأليف؛ وهى المجاورة.
وعند ذلك: فلو قدّرنا مباينة بعض الجواهر السبعة للباقى؛ فيلزم منه زوال تأليفه معها؛ ضرورة فوات شرط التأليف؛ وهو المجاورة.
فلو كان التأليف القائم بالجميع واحدا؛ لبطل ببطلان تأليف الواحد منها؛ إذ التأليف الواحد يستحيل أن يبطل من وجه دون وجه.
________________
(1) قارن ما نقله الآمدي هنا عن رأى الأشعرى بما نقله عنه الجوينى فى الشامل ص 455 وما بعدها.
(11) // أول ل 29/ أ.
(2) قارن بما نقله الجوينى فى الشامل ص 456.
(3/203)
________________________________________
وذهب الأستاذ أبو إسحاق: إلى أن المماسة والتأليف بين/ الجواهر [هو نفس «1» المجاورة بينها من غير مغايرة، وأن المجاورة، والمماسة القائمة بالجوهر متعددة بتعدد] «1» المجاور المماس له. وأن المباينة ضد المماسة والتأليف حقيقة؛ إذ هى ضد المجاورة بالاتفاق. والمجاورة هى عين المماسة، والتأليف على أصله «2».
وذهب القاضى أبو بكر «3»: إلى أن الجوهر إذا اختص بحيّزه، وتتابعت عليه الأكوان فى ذلك الحيّز الواحد، فهو عند انضمام جوهر آخر إليه على ما كان عليه قبل الانضمام؛ لم يتغير حكمه، وصفته. غير أن الكون الموجود له قبل الانضمام؛ يسمى سكونا، والكون المتجدد له بعد الانضمام- وإن كان مماثلا للكون الأول- يسمى اجتماعا، وتأليفا، ومجاورة، ومماسّة.
والكون المتجدد له بعد مفارقة ذلك الجوهر له؛ يسمى مباينة.
فالكون واحد، وإن تبدلت التسميات عليه، والأكوان المختلفة على أصله ليس غير الأكوان الموجبة لاختصاص الجوهر بالأحياز المختلفة.
فهذا ما أوردناه من حكاية المذاهب على سبيل الايجاز والاختصار، ولا بد من تتبع ما فيها على ما هو المألوف من عادتنا، والتنبيه على ما هو الأولى فيها.
فنقول: أما معتقد الشيخ أبى الحسن: أن المجاورة زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيّزه، وأن المماسة زائدة على المجاورة.
فلقائل أن يقول: وما المانع أن يكون ما للجوهر من الكون غير مختلف.
وإنما الاختلاف عائد إلى التسميات كما ذكره القاضى أبو بكر، والّذي يدل على ذلك: أن حالة الجوهر، وهو مستقر فى حيزه حالة الانفراد إما أن يقال بتغيرها حالة انضمام جوهر آخر إليه، أو لا يقال بتغيرها.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) قارن ما أورده الآمدي هنا بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 458، 459 وما بعدهما ..
(3) انظر الشامل فى أصول الدين ص 455 - 466 فقد نقل رأى القاضى وبقية الأئمة. كما نقل رأى المعتزلة وناقشهم بالتفصيل.
(3/204)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: حيث أنه لم يتجدد غير انضمام جوهر آخر إليه. والجوهر أو ما قام بالجوهر، لا يكون مؤثرا فى حكم جوهر آخر؛ لعدم قيامه به. وحكم الجوهر يمتنع أن يكون مستفادا له من غير ما قام به كما سيأتى.
وسواء كان مباينا له، أو غير مباين. ولا سيما على أصله حيث أنه ذهب إلى أن حكم العلم لا يتعدى إلى الجملة التى محل العلم منها، وأن البنية المخصوصة ليست شرطا لقيام العرض بمحله.
ولو جاز أن يكون الجوهر، أو ما قام به مؤثرا فى حكم جوهر آخر؛ لما امتنع القول باشتراط البنية المخصوصة فى بعض الأعراض؛ كالإدراكات وغيرها، كما تقوله المعتزلة
وإن كان الثانى: ففيه تسليم المطلوب. وما يجده من التفرقة بين حالة كون الجوهر مستقرا فى حيّزه، وحالة/ ضم جوهر آخر إليه؛ فإنه هو عائد إلى اختلاف كونيهما، وليس فى ذلك ما يدل على عرض زائد على كونهما، وإلا كان ما نجده من التفرقة بين حالة تباعد أحد الجوهرين، وقربه من الآخر يوجب كون القرب عرضا زائدا كما فى المماسة؛ وهو خلاف أصل الشيخ.
وإن سلمنا أن المماسة والمجاورة زائدة على الكون الموجب لتخصيص الجوهر بحيّزه. ولكن ما المانع من كون المماسة عين المجاورة، كما قاله الاستاذ أبو اسحاق، وليس ذلك ممتنعا؛ فإنه لا يمكن تقدير كل واحد منهما دون الآخر، ولم يدل الدّليل على المغايرة؛ فاحتمل أن يكون ذلك لاتحاد المعنى.
وبمثل هذا خبرنا إلى أن الأمر بالشيء، نهى عن أضداده، وأن النّهي عن الشيء أمر بأحد أضداده.
وإن سلمنا أن المماسة غير المجاورة؛ ولكن ما المانع أن تكون المجاورة متعدّدة؛ لتعدد المماسة؛ فإنه إذا أحاط بالجوهر ستة جواهر، فكما هو مماس لكل واحد منها؛ فهو مجاور لكل واحد منها.
وعند ذلك: فلا يخفى أن التفرقة من غير «11» // دليل تحكم.
________________
(11) // أول ل 29/ ب من النسخة ب.
(3/205)
________________________________________
وإن سلمنا صحة التفرقة؛ ولكنه يمتنع أن يقال بوقوع الاكتفاء بالمماسات عن الكون السابع المخصص للجوهر بحيّزه كما قاله الشيخ أبو الحسن.
وذلك لأن الجوهر، قبل انضمام الجواهر الستة إليه؛ كان مفتقرا إلى تخصيصه بحيّزه إلى كون يخصصه به؛ وهو بعد الانضمام متخصص به، فكان مفتقرا إلى كون يخصّصه به.
ومن مذهب الشيخ أبى الحسن أن المماسّات مخالفة للكون المتخصص بالحيز حالة الانفراد بالحكم الّذي يوجبه عرض لا يوجبه خلافه.
ولهذا امتنع أن تكون القدرة، والإرادة، والعلم كل واحد منها يفيد حكم الآخر لمخالفته له.
حتى أن القدرة لا توجب كون محلها عالما، ولا مريدا؛ وكذلك العلم لا يوجب كون محله قادرا ولا مريدا.
وأما معتقد المعتزلة: أن التأليف زائد على المجاورة. والمجاورة زائدة على الكون المخصص للجوهر بحيّزه؛ فباطل بما أوردناه من الإشكال الأول والثانى، على معتقد الشيخ أبى الحسن.
والّذي يخص المعتزلة فى قولهم بتولّد التأليف عن المجاورة، وجواز قيام التأليف الواحد بجوهرين أمران:
الأول: إبطال القول بالتولد على ما أسلفناه «1».
والثانى: إبطال قيام التأليف الواحد بجوهرين، وبيانه: أنه لو جاز قيام التأليف الواحد بجوهرين:
فإما أن يقوم بكل واحد منهما عن ما/ قام بالآخر، أو غيره.
فإن كان الأول: لزم تعدد المتحد، واتحاد المتعدد؛ وهو محال.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ل 272/ ب وما بعدها.
(3/206)
________________________________________
ولو جاز ذلك؛ لجاز قيام العلم الواحد بمحلين، والقدرة الواحدة بمحلين، والجوهر الواحد بحيّزين، إلى غير ذلك؛ والكل محال.
وإن كان الثانى: فلم يكن ما قام بهما واحدا؛ إذ الواحد لا تعدّد فيه ولا تبعيض؛ وهو خلاف الفرض، وما نجده فى بعض الأجسام من صعوبة فكّ بعض أجزائه عن بعض؛ فليس ذلك لاتحاد التأليف كما ظنوه؛ بل إنما ذلك لعدم خلق القدرة عليه بحكم جرى العادة.
هذا إن كان قائما بمحل القدرة، وإلا فلعدم تعلّق القدرة به.
وإن سلمنا إمكان قيام التأليف الواحد بجوهرين، غير أن التأليف عندهم من الأعراض الباقية، وهو متولد من المجاورة، والمباينة ضد عندهم للمجاورة دون التأليف.
ومن أصلهم أنه لا يلزم من انتفاء السبب المولد، انتفاء المسبب.
وعند ذلك فإن قالوا: بوجود التأليف مع انتفاء المجاورة بالمباينة فقد ارتكبوا محالا، وإن قالوا بلزوم انتفاء التأليف عند انتفاء المجاورة بالمباينة؛ فقد نقضوا أصلهم.
وأما مذهب الأستاذ أبى إسحاق وإن كان أقرب مما تقدم؛ لكن يلزم عليه ما ألزمناه من الإشكال الأول على مذهب الشيخ أبى الحسن.
فإذن الأقرب إلى أصول أصحابنا فى تقرير امتناع اشتراط البنية المخصوصة فى عرض من الأعراض ما ذكره القاضى أبو بكر؛ فعليك بتفهمه، وتحقيقه «1».
________________
(1) بعد أن ناقش الآمدي آراء أئمة المذاهب: الشيخ الأشعرى، والأستاذ أبى إسحاق والقاضى الباقلانى. والمعتزلة رفض ما ذهب إليه المعتزلة وناقش الشيخ والأستاذ وأيد ما ذهب إليه القاضى وقال: فعليك بتفهمه وتحقيقه.
(3/207)
________________________________________
الفصل الثامن فى بقية أحكام الاجتماع والافتراق خاصة على أصول أصحابنا «1»
فمنها: أن الجوهر الفرد إذا كان مستقرا فى حيزه، ولم ينضم إليه جوهر آخر: فقد قال الأستاذ أبو إسحاق فيه ست مباينات مضادة للست مجاورات.
وإن انضم إليه جوهر واحد فيه خمس مباينات مضادة لخمس مجاورات، ومجاورة واحدة مضادّة لمباينة واحدة. وعلى هذا النحو فى الزيادة والنقصان وما باينه من الجواهر؛ فغير معينة بخلاف ما يماسه؛ فإنه لا يكون الا معينا. هذا كله فيما لم يحصل فيه المماسة أولا.
وأما ما حصلت فيه المباينة بعد المماسة؛ فقد قال فى قول: إن المباينة الطارئة للجواهر المعينة التى كانت مماسة له.
وقال فى قول آخر: إنه مباين بست مباينات لستة جواهر غير معينة وهذا تفريع منه على أن المماسة،/ والمباينة من الأعراض الزائدة على نفس الكون المخصص للجوهر بحيزه، وأن المماسة متعدّدة، وقد عرف ما فيه.
ومنها: أنه لو وجد جوهران فى حيّزين بينهما أحياز ثم وجد جوهر آخر منضما إلى أحد الجوهرين؛ فهو لا محالة قريب من المنضم إليه، وبعيد من الآخر.
فقال الأصحاب: عين قرب المتوسّط من أحد الجوهرين هو عين بعده من الآخر.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: القرب غير البعد؛ لأنه لو كان القرب من أحد الجوهرين، هو عين البعد من الجوهر الآخر؛ فيلزم منه أنه لو قدّر انضمام الجوهر البعيد إلى القريب، وانتقاله إليه أن يبطل البعد بينهما بمضادة القرب له.
ويلزم من إبطال بعده من أحد الجوهرين، إبطال قربه من الآخر؛ ضرورة الاتّحاد؛ وهو محال «2».
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين ص 457 وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 459.
(3/208)
________________________________________
وما ذكره الاستاذ فمبنى على أنّ البعد هو المباينة، والقرب هو المجاورة، وأن كلّ جوهر فرد، ففيه ست مباينات لستة جواهر «11» // فإذا جاور جوهرا؛ فقد زالت عنه مباينة واحدة، وبقى خمس مباينات على ما عرف من أصله.
والحق ما ذكره الأصحاب من القول بالاتحاد؛ فإنه مبنى على أنّ الكون القائم بالجوهر لا يختلف.
وإنما المختلف التسميات على ما حققناه من مذهب القاضى.
فمعنى قولهم: القرب غير البعد: أى الكون الموصوف بالقرب، غير الكون الموصوف بالبعد.
ولا يلزم من إبطال إحدى التسميتين إبطال المسمى، والتسمية الأخرى.
ومنها: أن الجوهر الفرد إذا ماس جوهرا آخر «1». فهل يقال إنه ماسّه من جهة وباينه من باقى الجهات؟.
قال بعض المتكلمين به، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق وغيره من أئمتنا؛ وهو الحقّ؛ فإن المباينة بين الشيئين من جهة تستدعى إمكان المجاورة بينهما من تلك الجهة، ومجاورة الجوهر لجوهر من جهتين محال. فلا يقال إنه إذا جاوره من إحدى الجهتين، أنه مباين له من الجهة الأخرى.
ومنها: أنه يجوز تقدير الافتراق؛ والمباينة فى جملة جواهر العالم حتى لا يوجد منها ما هو مجتمع مع غيره بتقدير تبدّدها، وزوال تركيبها. ولا يجوز تقديرها مجتمعة حتى لا يكون منها ما هو مفارق؛ فإنها بتقدير تركبها واجتماعها، فالصفحة العليا منها لم تحط به الجواهر من كل الجهات؛ فكل جوهر منها مفارق من بعض جهاته «2».
ومنها: أن الجوهر الفرد لا يتصور أن يكون مباينا لجملة جواهر العالم؛ لأن المباينة تستدعى إمكان المجاورة «3».
________________
(11) // أول ل 30/ أ من النسخة ب.
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 460.
(2) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 460، 461.
(3) قارن بما ورد فى الشامل ص 461.
(3/209)
________________________________________
والجوهر الفرد؛ فلا يتصور أن يكون مجاورا لأكثر من ستة جواهر فلا يتصور أن يكون مباينا لأكثر من ستة جواهر إما معينة، أو غير معينة على اختلاف الأقوال فيه.
[و ذلك لأن المباينة إنما تكون بتوسط الأحياز المحيطة بالجوهر الفرد بينه وبين باقى الجواهر، وما يحيط به من الأحياز لا يزيد على ستة أحياز؛ فلا يكون مباينا لأكثر من ستة جواهر] «1».
________________
(1) ساقط من أ.
(3/210)
________________________________________
الفصل التاسع فى اختلاف الأكوان وتماثلها، وتضادها
وأعلم أن من لم يثبت المماسة، كونا دائما بالجوهر [مغايرا للكون المخصّص للجوهر بحيزه «1»]: كالقاضى أبى بكر ومن نصر مذهبه؛ أطلق القول بتضاد كل لونين «2».
وذلك لأن كل كونين: إما أن يوجبا تخصيص الجوهر بحيّز واحد، أو أن كل واحد منهما يوجب التخصيص بحيّز غير الحيّز الآخر
فإن كان الأول: فهما متماثلان، والمتماثلان ضدّان؛ ولا يتصور اجتماعهما، بل وجودهما فى الجوهر لا يكون إلا بجهة التعاقب عليه، كما إذا كان مستقرا فى حيز أكثر من زمان؛ فالكون المتجدّد فى الزمان الثانى؛ يكون مثلا للكون الموجود فى الزمان الأول؛ لقيام كل واحد منهما مقام الآخر فى تخصيص الجوهر بذلك الحيّز.
وإن كان الثانى: فقد اختلف المتكلمون فيه.
فمنهم من قال: بتماثلهما؛ لتماثل الحيّزين.
ومنهم من قال: باختلافهما؛ لاستحالة قيام أحدهما مقام الآخر؛ وهو الحق.
وعلى كل تقدير؛ فهما ضدان «3» لا يجتمعان.
فإنهما لو اجتمعا فى جوهر واحد: فإما أن يثبت تخصيص كل واحد منهما، أو تخصيص أحدهما دون الآخر، أو لا يثبت تخصيص واحد منهما.
فإن كان الأول: لزم كون الجوهر الواحد فى حيّزين معا. وهو محال.
وإن كان الثانى: فليس أحدهما أولى من الآخر.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 462.
(3) الضدان: صفتان وجوديتان يتعاقبان فى موضع واحد، يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض، والفرق بين الضدين والنقيضين: أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان: كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان؛ ولكن يرتفعان:
كالسواد والبياض. [التعريفات للجرجانى ص 155].
(3/211)
________________________________________
كيف وأن ما لم يثبت تخصيصه؛ يلزم خروجه عن صفة نفسه، فإنه لا معنى للكون غير المخصص؛ وذلك محال.
وإن كان الثالث: فيلزم منه خروج الجوهر عن أن يكون مختصا بالحيّز؛ وهو محال.
ومع ذلك يلزم منه خروج كل واحد من الكونين عن الكونية؛ وهو ممتنع.
وأما من جوّز قيام المماسات بالجوهر الواحد، وجعلها أكوانا: كالشيخ أبى الحسن، والأستاذ أبى إسحاق.
لم يطلق القول بتضاد كل كونين؛ لأن المماسات عنده أكوان، وليست أضدادا؛ لاجتماعها فهى أكوان مختلفة، غير متضادة، ولا متماثلة.
والحق هو الأول؛ لما سبق تحقيقه.
(3/212)
________________________________________
الفصل العاشر فى اختلافات بين المعتزلة فى أحكام الأكوان متفرّعة على أصولهم، ومناقضتهم فيها «1»
الاختلاف/ الأول:
اختلفوا فى بقاء الحركة؛ مع اتفاقهم على بقاء الأعراض.
فذهب الجبائى، وأكثر المعتزلة «2»: إلى أن الحركة غير باقية؛ محتجين على ذلك بأن الحركة عبارة عن الكون فى الحيّز بعد أن كان فى غيره.
والكون فى الحيّز الثانى بتقدير بقاء الجوهر فيه غير باق؛ بل المتجدد فيه كون الآخر هو السّكون. والسّكون لا يكون هو نفس الحركة؛ بل ضدها، والحركة لا توجد مع ضدها.
ولأن الكون الأول فى الحيّز الثانى؛ موجب للخروج من الحيّز الأول. والكون الثانى ليس كذلك؛ فهما غيران.
وذهب أبو هاشم «3»: إلى القول ببقاء الحركة، وأن الكون الأول فى الحيّز الثانى هو الحركة؛ وهو بعينه الكون فى الزمن الثانى الّذي هو السكون.
ولقائل أن يقول: أما ما ذكره الجبائى: فى تفسير الحركة؛ فمسلم؛ ولكن لم «11» // قال بامتناع بقائها؟
________________
(1) انظر الشامل فى أصول الدين للإمام الجوينى ص 479 - 489.
ص 479 فصل: مشتمل على اختلاف المعتزلة فى أحكام الأكوان.
ص 486 فصل: من بقية أحكام الأكوان.
وانظر المواقف للإيجي ص 166 المقصد السابع: فى اختلافات للمعتزلة بناء على أصولهم.
(2) قارن بما ورد فى الشامل ص 479 فقد ذكر رأى الجبائى وأكثر المعتزلة بالتفصيل. وانظر المواقف للإيجي ص 166 ليتضح مدى تأثره بالآمدي.
(3) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 479 فقد ذكر رأى أبى هاشم فى بقاء الحركة بالتفصيل.
وانظر المواقف للإيجي ص 166 ليتضح مدى التأثر والتأثير. فإمام الحرمين متقدم على الآمدي، والإيجى متأخر عنه.
(11) // أول ل 30/ ب.
(3/213)
________________________________________
قوله: الكون فى الزمن الثانى سكون؛ مسلم.
ولكن ما المانع أن يكون الكون الواحد حركة، وسكونا.
قوله: لأنهما ضدان.
قلنا: التضاد إنما هو بين الحركة عن الحيّز، والسكون فيه؛ لا بين الحركة إلى الحيز، والسكون فيه؛ على ما تقدم
قوله: الكون الأول فى الحيز الثانى موجب للخروج عن الحيّز الأول، بخلاف الكون الثانى.
إنما يصح هذا الكلام أن لو كان الدخول فى الحيّز الثانى؛ غير الخروج من الحيز الأول.
وليس كذلك؛ بل الدّخول فى الحيّز الثانى؛ هو عين الخروج من الحيّز الأول؛ على ما تقدم تحقيقه.
وعلى هذا فلا يقال: إن الشيء يكون موجبا لنفسه.
فإن قيل: وإن تعدّدت هذه العبارة
فلا يخفى أن الكون الأول فى الحيّز الثانى؛ هو عين الخروج من الأول؛ بخلاف الكون الثانى.
فنقول: هذا إنما يصح أيضا أن لو ثبت تعدد الكونين؛ وإلا فعلى تقدير أن يكون الكون الثانى؛ هو عين الأول.
فإذا كان الأول: هو عين الخروج من الحيّز الأول؛
فكذلك الكون فى الزمن الثانى.
وأما مذهب أبى هاشم: فابطاله بما قدمناه [من بيان استحالة بقاء الأعراض] «1».
________________
(1) فى أ (من استحالة الأعراض) راجع ما تقدم فى الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(3/214)
________________________________________
الاختلاف الثانى
ذهب أبو هاشم، وأكثر المعتزلة: إلى بقاء السكون من غير تفصيل «1».
وذهب الجبائى «2»، ومن نصر مذهبه: إلى بقاء السكون؛ إلا فى صورتين.
الأولى: ما إذا هوى جسم ثقيل بما فيه من الاعتمادات؛ فأمسكه اللّه تعالى فى الجو، ولم يكن تحته ما/ يقله؛ فلا بد من تجدد السكون فيه.
وإنما قال ذلك؛ لأن من أصله أن الطّارئ الحادث، أقوى من الباقى؛ فلو كان السكون باقيا، لهوى الثقيل بالاعتمادات الطارئة الحادثة.
الصورة الثانية: السكون المقدور للحىّ.
فإنه قال: لا بد من تجدده؛ فإنه لو بقى، وأمر الحى بالحركة ولم يتحرك؛ فهو مأثوم بالاجماع.
والإثم لا يكون على عدم الفعل على أصلهم، والسكون المضاد للحركة إذا كان باقيا متجددا [فليس بمقدور؛ فلا يكون مألوفا؛ وهو خلاف الاجماع؛ وهذا خلاف ما إذا كان السكون متجددا] «3».
ولقائل أن يقول: أما ما صار إليه أبو هاشم من بقاء السكون مطلقا. فمع بطلانه بما ذكرناه من استحالة بقاء الأعراض؛ فهو محجوج بما ذكره الجبائى فى تحقيق الصورة الثانية، ولا محيص له عنه بناء على مقتضى أصولهم من ربط الثواب والعقاب، بالأفعال المقدورة.
ومن أمر بالحركة، ولم يفعلها مع بقاء السكون؛ فما فعل شيئا وإلا فليس بضد من أضداد الحركة؛ فلا يكون مأثوما ولو جاز ذلك مع عدم الفعل المقدور؛ لما امتنع ذلك فى الفعل المكتسب على ما يراه الأشعرى، ولم يقل به أحد منهم.
ولما التزم أبو هاشم التأثيم فى هذه الصورة على عدم الفعل؛ لقبوه بالذمى
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 480. والمواقف للإيجي ص 166.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 480. وانظر المواقف للإيجي ص 166 فقد لخص ما ذكره الآمدي هنا.
(3) ساقط من أ.
(3/215)
________________________________________
وأما ما صار إليه الجبائى: من التفصيل: فباطل أيضا
أما الصورة الأول: فلأنه لا مانع مع إمكان بقاء السكون، أن يخلق الله- تعالى- فى الجسم الثقيل الهاوى؛ سكونا باقيا يكون به لبثه فى الهواء كلبثه بالسكنات المتجددة.
وما ذكره فى التقرير؛ فقد سبق إبطاله
وأما ما ذكره من الصورة الثانية.
فإنها وإن كانت لازمة على أبى هاشم، وغيره من المعتزلة القائلين ببقاء السكون كما ذكرناه؛ فغير لازمة على أصولنا؛ لما عرف فى التعديل والتجوير «1».
الاختلاف الثالث: «2»
ذهب الجبائى إلى أن الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس محتجا على ذلك بأن من نظر إلى الجوهر، أو لمسه، وهو مغمض العينين؛ فهو ساكن، أو متحرك فإنه يدرك التفرقة بين الحالتين ضرورة.
وخالفه أبو هاشم «3» فى ذلك. واحتج على نصرة مذهبه بأن قال: لا معنى للحركة غير الكون فى الحيّز، بعد أن كان فى غيره؛ وذلك هو السّكون بعينه؛ كما تقدم من مذهبه ولو كان ذلك مدركا [لكان مدركا] «4» بخصوصيته من حيث أن الإدراك عندهم لا يتعلق بمطلق الوجود؛ بل بخصوصية الشيء المدرك، وخصوصية الكون.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الأول: فى التعديل والتجوير ل 174/ ب وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 483 قال: «و مما اختلفا فيه إدراك الأكوان: فذهب الجبائى إلى أن الحركة مدركة بحاسة البصر واللمس، والسكون مدرك أيضا عنده بالحاستين».
وانظر المواقف للإيجي ص 166 فقد قال: «قال الجبائى: الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس؛ فإن من نظر إلى الجوهر أو لمسه مغمضا لعينيه وهو ساكن أو متحرك أدرك التفرقة بين الحالتين. ومنعه أبو هاشم: بأن الكون لو كان مدركا؛ لكان مدركا بخصوصيته الخ».
وقد نقلت هذه النصوص من الشامل والمواقف لأوضح مدى التأثير والتأثر؛ فقد تأثر الآمدي بالجوينى وأثر فى الإيجى.
(3) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 483 قال: «و أبى أبو هاشم ذلك أشد الإباء ومنع تعلق الإدراك بالأكون».
(4) ساقط من أ.
(3/216)
________________________________________
/ الأول: اختلفوا فى بقاء الحركة مع اتفاقهم على بقاء الأعراض.
فذهب الجبائى، وأكثر المعتزلة: إلى أن الحركة غير باقية محتجين على ذلك بأن الحركة عبارة عن الكون فى الحيّز بعد أن كان فى غيره.
والكون فى الحيّز الثانى بتقدير بقاء الجوهرية غير باق؛ بل المتجدّد فيه كون آخر هو السكون، والسكون لا يكون هو نفس الحركة؛ بل ضدّها، والحركة لا توجد مع ضدها، ولأن الكون الأول فى الحيّز الثانى موجب للخروج من الحيّز الأول، والكون الثانى ليس كذلك؛ فهما غيران.
وذهب أبو هاشم إلى القول ببقاء الحركة وأن الكون «1» الأول فى الأحياز المعينة غير مدركة.
ولهذا فإن راكب السفينة إذا كانت سهلة الجرى على الماء غير مضطربة، لا يدرك التفرقة بين خصوصيات أكوانه فى الأحياز الهوائية المحيطة به المسدلة عليه؛ وهو خارق لها، بل ربما ظن كونه ساكنا غير متحرك عن حيّزه من الهواء المحيط به.
وكذلك أيضا فإن من كان فى الجو هاويا، وأحيازه مسدلة عليه، فلو غلبته عيناه وهو فى حيّزه، وأنتقل منه إلى غيره حالة نومه، ثم استيقظ، وهو فى حيّزه؛ فإنه لا يدرك اختلافا فى حالتيه مع القطع «11» // باختلاف الكونين المخصّصين له بالحيّزين.
ولو كان ذلك مدركا؛ لأدركه كالورق وهو متلون بلون، ثم استيقظ وهو متلون بغيره؛ فإنه يدركه.
ولقائل أن يقول على حجة الجبائى:
ما المانع على أصلك أن يكون ما يجده الناظر من التفرقة راجع إلى انحراف الشعاع الخارج من العين، وميله عن جهة اتصاله بسبب تزحزح الجوهر عن حيّزه، فإنه لا يبعد على أصلك أن تختلف أحوال الشيء المدرك باختلاف أحوال الشعاع.
________________
(1) من أول: «الأول: اختلفوا فى بقاء الحركة مع اتفاقهم على بقاء الأعراض ...... إلى قوله: ببقاء الحركة وأن الكون» ساقط من ب.
(11) // أول ل 31/ أ.
(3/217)
________________________________________
ولهذا فإن من سدّد شعاعه فى جهة نظره؛ فإنه يرى الشيء على ما هو عليه.
ولو ميل الشعاع إلى مؤخر أمامه؛ فإنه يرى الشيء الواحد شيئين، وإن كان الشيء المدرك لا اختلاف فيه أو أن يكون ما يجده من التفرقة بالنظر واللمس، راجعا إلى اختلاف محاذيات الجوهر المدرك بالنظر واللمس، وهذا قادح على أصول المعتزلة، ولا محيص عنه.
وأما حجة أبى هاشم: وإن كانت لازمة على أبيه؛ فغير لازمة على أصولنا؛ لجواز أن يدرك المدرك أمرين؛ ولا يدرك التفرقة بينهما.
الاختلاف الرابع:
ذهب الحبائى «1»: إلى أن الكون فى حالة عدمه يتصف بالحركة والسكون؛ لأنه أخص وصف/ الكون ذلك، وأخص وصف الشيء؛ يلزمه وجودا، أو عدما.
وخالفه أبو هاشم فى ذلك: وقال: الحركة لا معنى لها إلا كون الجوهر فى مكان؛ بعد أن كان فى غيره.
وذلك لا يتحقق دون قيام الكون بمحله؛ وذلك لا يكون إلا فى حالة الوجود.
وإذا تقرر ذلك فى الحركة؛ لزم مثله فى السكون؛ لأن كل حركة سكون كما تقدم «2».
وأعلم أن هذه التفاريع؛ مبنية على كون المعدوم شيئا، وبطلانها بطلانه؛ كما يأتى «3»:
ثم لقائل أن يقول: مع تسليم كون المعدوم الممكن شيئا.
أما على ما ذهب إليه الجبائى؛ ما المانع أن يكون اتصاف الكون بالحركة، والسكون مشروطا بالوجود، كما قلت فى تحيّز الجوهر.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 485 فقد ذكر رأى الجبائى بالتفصيل فقال: «و مما اختلفا فيه: أن الحركة والسكون فى العدم هل يتصفان بصفة الحركة وسمة السكون: فالذى صار إليه الجبائى إطلاق القول بذلك طردا لقياسه فى تجنيس جملة الأعراض فى العدم، ومنع أبو هاشم ذلك الخ».
(2) راجع ما مر فى الفصل الخامس: فى تحقيق معنى الحركة والسكون ل 53/ ب وما بعدها.
(3) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى- الفصل الرابع: فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة فى حالة العدم أم لا؟
ل 108/ ب وما بعدها.
(3/218)
________________________________________
ولو قيل له: ما الفرق بين البابين؛ لم يجد إليه سبيلا.
وأما على ما ذهب إليه أبو هاشم «1».
فإنه لو قيل: إذا كانت الحركة والسكون من أخص وصف الكون؛ كما أن قيام الجوهر بنفسه من أخصّ وصف الجوهر؛
فما الفرق بين الأمرين، حتى أنك أوجبت كون الجوهر قائما بنفسه فى العدم، ولم توجب اتصاف الكون بالحركة والسكون فى حالة العدم ولم ألحقت الحركة والسكون، بالتحيّز للجوهر دون قيامه بنفسه، واستغنائه عن محلّ يقوم به، لم يجد إلى دفعه سبيلا.
الاختلاف الخامس: «2»
ذهب الجبائى إلى أن التأليف يدرك بحاسة البصر واللمس، محتجا على ذلك بما ندركه من التفرقة بين الأشكال المختلفة باللمس، والبصر، وتمييز بعضها عن بعض، وليس ذلك إلا بالنظر إلى التأليفات المختلفة؛ فدل على أنها مدركة باللمس، والبصر.
وذهب أبو هاشم فى آخر أقواله: إلى مخالفة أبيه فى ذلك؛ محتجا عليه بأنه لو أدرك اللامس والمبصر، تأليف الصفحة العليا من الجسم؛ لأدرك تأليف الصفحة التى تحتها؛ ضرورة قيام تأليف واحد لكل حيّزين من الصفحتين؛ فلو رأى قيامه بالصفحة العليا؛ لرأى قائما بالصفحة التى تحتها؛ ضرورة اتحاده، والحجتان مدخولتان.
أما حجة الجبائى: فلقائل أن يقول: وما المانع من أن يكون ما ندركه من التفرقة عائدا إلى اختلاف أجزاء الجوهر المرئى، أو إلى اختلاف المجاورات المولدة للتأليف؛ لا إلى نفس التأليف؛ ولا محيص عنه.
وأما حجة أبى هاشم: فلقائل أن يقول عليها:
إذا جوزت قيام تأليف واحد بجوهرين،
فما المانع من انقسامه إدراكا بحيث يكون مدركا من جهة قيامه بأحد الجوهرين؛ دون الآخر.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 485، 486.
(2) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 483، 484. وانظر المواقف للإيجي ص 167 وشرح المواقف للجرجانى 6/ 196.
(3/219)
________________________________________
وإن سلّم امتناع إدراك التأليف/ الواحد من وجه دون وجه؛ ولكن لا نسلم أن تأليف جواهر الصفحة العليا مع جواهر الصفحة السفلى مدركة؛
بل المدرك إنما هو تأليف جواهر الصفحة العليا بعضها مع بعض، كل واحد مع الّذي يليه من جوانبه من الصفحة العليا، وتأليف كل واحد مع الآخر مرئى من كلا الطرفين؛ ولا محيص عنه.
الاختلاف السادس: «1»
ذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يشترط فى تولّد التأليف عن المجاورة رطوبة أحد المتجاورين، ويبوسة الآخر، ومنهم من شرط ذلك.
واحتج من قال بعدم الاشتراط بثلاث حجج:
الحجة الأولى: أنه لو كانت الرطوبة، واليبوسة شرطا فى ابتداء التأليف؛ لكانت شرطا فى دوامه: كالمجاورة، وليس كذلك بدليل الصخور الصّم، واليواقيت ونحوها.
الحجة الثانية: أنه لو اشترطت الرطوبة، واليبوسة فى تأليف أحد الجوهرين بالآخر؛ لكانت صفة كل واحد من الجوهرين مؤثره فى الثانى مع أنها لا تتعداه؟؟، وهو محال.
الحجة الثالثة: أن من أصل المعتزلة أن كل عرض «11» // لا يتعدى حكمه إلى غير محله.
فالتنبيه المخصوص غير مشترط فيه: كالسواد، والبياض، ونحوه. وكل عرض يتعدى حكمه إلى الجملة التى محله منها: كالعلم، والقدرة، ونحوه؛ فلا بد له من البيّنة المخصوصة.
وحكم التأليف لا يتعدى محله؛ فإن التأليف الواحد قائم بالجوهرين وحكمه ثابت لهما.
________________
(1) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص 167 فقد قال: «ذهب أكثر المعتزلة إلى أن مجاورة الرطب واليابس وإن ولدت التأليف فليست شرطا له .. الخ».
(11) // أول ل 31/ ب من النسخة ب.
(3/220)
________________________________________
فلو اشترط فى التأليف الرطوبة، واليبوسة، والبيّنة المخصوصة؛ لكان على خلاف هذا الأصل:
وأمّا من قال بالاشتراط: فقد احتج بأن التأليف المتولد عن المجاورة مما يصعب فكه، وتحويره.
والمجاورة من غير رطوبة، ولا يبوسة مما لا يتحقق معها هذا التأليف ويتحقق مع الرطوبة، واليبوسة؛ فقد دار التأليف معها وجودا وعدما؛ فكانت شرطا فيه.
وهذا تفريع منهم على أن التأليف، غير المجاورة، وأنه متولد عن المجاورة؛ وهو فاسد على ما سبق.
وبتقدير تسليم ذلك جدلا؛ فما ذكروه من الحجج مدخوله.
أما الحجة الأولى: للنافين
فلقائل أن يقول: وما المانع أن يكون ذلك شرطا فى الابتداء دون الدوام؛ كما فى القدرة مع المقدور؛ فإنه يشترط/ تعلقها به عندكم قبل وجوده من ابتداء وجوده، وأنه يشترط ذلك فى دوامه.
وأما الحجة الثانية: فهى باطلة بالمجاورة.
فإنها مشترطة فى التأليف عندهم؛
ومع هذا فإن المجاورة القائمة بكل واحد من الجوهرين لا تتعداه إلى مجاوره.
وأما الحجة الثالثة: فيلزمهم عليها سائر الأعراض، التى شرطوا فيها البيّنة المخصوصة.
قولهم: إنما شرطوا ذلك فيما يثبت حكمه للجملة التى محله منها؛ فمبنى على فاسد أصولهم، فى جواز تعدى حكم العرض إلى غير محله؛ وهو محال كما يأتى.
وإن سلم جواز ذلك؛ ولكن ما المانع من اشتراط ذلك أيضا فى بعض الأعراض التى لا يتعدى حكمها محلها كما فى التأليف «1».
________________
(1) التأليف: والتأليف هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد. سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدم والتأخر أم لا. فعلى هذا يكون التأليف أهم من الترتيب. [التعريفات للجرجانى ص 59].
(3/221)
________________________________________
ويكون ذلك مستثنى من الأعراض التى [لا يتعدى حكمها محلها كما استثنيتم الأكوان من الأعراض التى] «1» لا يشترط فيها الحياة وحيث قلتم: بكونها موجبة للأحوال؛ دون غيرها من الأعراض التى لا يشترط فيها الحياة.
وأيضا: فإنه كما امتنع قيام سواد واحد بمحلين.
وجاز ذلك فى التأليف الواحد؛ فلا يمتنع اشتراط الرّطوبة، أو اليبوسة فى التأليف وإن لم يشترط ذلك فى غيره من الأعراض التى لا يتعدى حكمها محلها.
وأما حجة القائلين بالاشتراط، وإن كانت لازمة على أصول المعتزلة.
غير أن لقائل أن يقول! ما المانع من أن يكون سبب صعوبة التفكيك لا «1» من الرطوبة «2» واليبوسة؛ بل لعدم خلق الله تعالى القدرة على ذلك فى بعض الأجسام؛ بحكم جرى العادة، أو بأن يخلق الله- تعالى- فى أجزاء الأجسام أكوانا تخصّصها؛ لجهاتها أكثر ممّا يحاوله العبد بقدرته؛ فلا يوجد فعل العبد لذلك أبدا، ولهذا فإنه لو تجاذب رجلان بينهما حبلا؛ وكان أحدهما أشد من الآخر، وانجذب الحبل من جهته، وصار غالبا لاعتمادات الأضعف مع أنهّا لو انفردت؛ لاستقلت بجذب الحبل، أو أن التفاوت فى ذلك بسبب اختلاف أجناس التأليفات كما قاله الجبائى.
الاختلاف السابع «3»:
ذهب الجبائى: إلى أن التأليفات مختلفة باختلاف أشكال المؤتلف بها وباختلاف جهاته.
وقال أبو هاشم. التأليفات كلها متجانسة.
احتج الجبائى: بأن النّاظر يدرك التفرقة بين أشكال الأجسام واختلافها؛ ضرورة كما يدرك اختلاف الألوان، والطعوم، والأراييح
________________
(1) ساقط من أ.
(2) (لا من الرطوبة) ساقط من ب.
(3) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 484. وانظر المواقف للإيجي ص 167. وشرح المواقف للجرجانى 6/ 197.
(3/222)
________________________________________
وليس ذلك إلا باختلاف التأليف؛ فإنه لو قدر التساوى فى تأليفاتها، والتشابه فيها، لما اختلفت أشكالها.
واحتج أبو هاشم: على التجانس بأن أخصّ صفة نفس/ التأليف، قيامه بمحلين؛ وذلك مشترك فيه بين جميع التأليفات؛ فكانت متجانسة؛ وهذه الحجج مدخولة:
أما حجة الجبائى: فما ذكرناه على حجته فى كون التأليف مدركا باللمس، والبصر؛ فلا يخفى وجهه.
وأما حجة أبى هاشم: فمبنية على قيام التأليف الواحد بمحلين؛ وهو باطل بما سبق وإن سلمنا ذلك جدلا؛ فلا مانع أن تكون التأليفات، مختلفة وقد اشتركت فى عارض واحد، لازم لها.
وإنما ثبت كون ذلك أخصّ وصف التأليف أن لو لم تكن التأليفات مختلفة، وامتناع كونها مختلفة؛ يتوقف على كون ما ذكره من أخصّ وصف التأليف؛ وهو دور.
الاختلاف الثامن: «1»
ذهب الجبائى: إلى أن التأليف يجوز وقوعه مباشرا بالقدرة، ويجوز وقوعه متولدا عن المجاورة.
وخالفه أبو هاشم فى ذلك. وقال: لا يجوز وقوع التأليف إلا متولدا؛ لأن شرط المباشر بالقدرة جواز وقوعه «11» // بدون ما تولده وليس التأليف كذلك؛ لاستحالة وقوعه دون المجاورة المولدة له.
وما ذكره أبو هاشم؛ فهو لازم على أبيه؛ لما عرفناه فى أصل التّولّد من اتّفاق المعتزلة على أن المتولّد من السبب لا يكون إلا مباشرا بالقدرة الحادثة، دون توسط السبب. غير أنه فاسد على أصولنا؛ لما حققناه فى التولّد، وبيناه ومن إبطال كل ما تمسكوا به من الحجج فيه «2».
________________
(1) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص 167. وشرح المواقف للجرجانى 6/ 197.
(11) // أول ل 32/ أ.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ل 272/ ب وما بعدها.
(3/223)
________________________________________
الفرع السادس: فى الزمان «1»
[الآراء فيه]
وقد اختلف الناس فيه.
فمنهم من قال: إنه لا وجود له أصلا «2».
ومنهم من قال: إنه موجود «3».
ثم اختلف القائلون بالوجود:
فمنهم من قال: إنه لا وجود له: فى غير الأذهان، ومنهم من قال: إنه موجود فى الأعيان.
ثم اختلف القائلون بوجوده فى الأعيان:
فمنهم من قال: إنه جوهر «4»، ومنهم من قال: إنه عرض،
ومنهم من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض.
فأما القائلون بكونه جوهرا:
فمنهم من قال: إنه متجدد غير باق.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب المتقدمين على الآمدي:
انظر: مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 130، 131. والملل والنحل للشهرستانى 2/ 205.
ومن كتب المتأخرين عن الآمدي:
انظر: المواقف للإيجي ص 108 - 112 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 80 - 115.
وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 38 - 52 المبحث الثانى: فى الزمان.
وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 87 المبحث الرابع: فى الزمان.
وقد عرف الآمدي الزمان فقال: «و أما الزمان: فعبارة عما به تقدير الحركات.
وأما الآن: فعبارة عن نهاية الزمان. وإن شئت قلت: هو ما يتصل به الماضى بالمستقبل». [المبين للآمدى ص 96].
(2) هم المتكلمون: قال الإيجى والجرجانى: «المقصد السابع: إنكار المتكلمين للزمن (أنهم) أعنى المتكلمين كما أنكروا العدد والمقدار الّذي هو الكم المتصل القار أنكروا أيضا الزمان الّذي هو الكم المتصل غير القار ... الخ.
[المواقف للآيجى ص 108 - 112 وشرحها للجرجانى 5/ 80 - 115].
(3) القائلون بوجود الزمان هو الفلاسفة.
وقد تحدث التفتازانى عن هذا الموضوع بالتفصيل فى شرح المقاصد 2/ 38 - 52 فذكر أدلة الفلاسفة على وجود الزمان، ثم تحدث عن اختلاف المتكلمين والفلاسفة فى حقيقة الزمان، ثم تحدث عن نقض أدلة الفلاسفة، ثم قال: وذهب القدماء إلى أنه جوهر مستقل».
(4) القائلون بأن الزمان جوهر مستقل هم قدماء الفلاسفة. فمنهم من زعم أنه واجب الوجود، ومنهم من اعترف بإمكانه: وإليه ذهب أفلاطون وأتباعه [شرح المقاصد للتفتازانى 2/ 51، 52].
(3/224)
________________________________________
ومنهم من قال: إنه باق غير متجدد؛ وهو جرم الفلك.
وأما القائلون: بكونه عرضا.
فمنهم من قال: الزمان نسبة لموجود، لم يزل، ولا يزال؛ إلى ما ليس بأزلى ويزول.
ومنهم من قال: إنه مقارنة موجود لموجود.
ومنهم من قال: إنه حركة الفلك.
ومنهم من قال: إنه مقدار الحركة الفلكية.
وإذا أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل؛ فلا بد من تحقيق الحق، وإبطال الباطل منه؛ فنقول:
أما القائلون بوجود/ الزمان؛ فقد زعموا أن العلم بوجود الزمان ضرورى وذلك لما استقر فى الأذهان، وترسّخ فى النفوس من الزمان، وتقسيم العقلاء له إلى أعوام، وأشهر، وأيام، وساعات، ودقائق إلى غير ذلك مما لا يمكن معه منع وجود الزمان.
قالوا: وإذا ثبت أنه موجود؛ فبيان أن وجوده فى الأعيان؛ هو أن موجودات الأعيان تضاف إليه بأنها فيه. ولو لم يكن وجوده، وجودا عينيا؛ لما كان الموجود العينى فيه.
قالوا: وإذا ثبت أن وجوده عينى.
قال أفاضل الفلاسفة: هو مقدار الحركة الدوريّة الفلكية لا غير.
وبيان ذلك: أنّا لو فرضنا حركتين، متساويتين فى السرعة والبطء، وهما متفاوتتان فى الأخذ، متساويتان فى القطع؛ فإنا نعلم أن بين ابتداء كل واحدة منهما، وانتهائها إمكان قطع مسافة، وأن ما بين ابتداء الحركة الأولى، وانتهائها من إمكان قطع المسافة لديه مما بين ابتداء الحركة الثانية، وانتهائها
ولهذا تفاوتا فى قطع المسافة حتى كانت المسافة المقطوعة بالحركة الأولى أزيد من مسافة الثانية منهما.
فإذن هذه الإمكانات الواقعة بين ابتداء الحركات، وانتهائها مما يدخلها التقدير، والتجربة.
(3/225)
________________________________________
فإنه يمكن تجزئتها، وتقدير بعضها ببعض؛ فهى من المقادير وليست من غير المقادير المتصلة؛ لمطابقتها للحركات المتصلة، وما طابق المتصل متصل.
ثم قالوا: وهذه الإمكانات المتصلة، التى بين ابتداء الحركات، وانتهائها: إما أن تكون هى نفس الحركة، أو المتحرك، أو المحرك لها، أو المسافة، أو ما هو مقدار لأحد هذه الأمور، أو الحالة فيها.
لا جائز أن تكون هى نفس الحركة لوجوه أربعة:
الأوّل:- هو أنا إذا فرضنا وقوع حركة من الحركات؛ فالإمكان الّذي بين ابتدائها، وانتهائها متّحد لا يختلف. وما يمكن أن تقع فيه من الحركات المختلفة بالسرعة، والبطء متفاوتة ولذلك كانت متفاوتة فى قطع المسافة.
الثّاني:- أن ما مثل هذا الإمكان، قد يقدر فرض توهمه مع عدم توهم وقوع الحركات، ولو كان هو نفس الحركة؛ لكان متناقضا.
الثالث:- أن هذه الإمكانات لا توصف بالسرعة والبطء، بخلاف الحركات؛ فلا تكون هى نفس الحركة، وإلّا كان متصفا بما لا يكون متصفا به؛ وهو محال.
الرابع:- هو أن هذا الإمكان، قد يكون متحدا، وما يطابقه من الحركات متعددا؛ والمتحد غير المتعدد.
وعلى هذا:/ فقد بطل أن يكون الزمان مسببا من الحركات. ولا يلزم من كونه على التقضى، والتجدد، ومن كون الحركات كذلك؛ أن يكون هو الحركة.
فإنه لا مانع من اشتراك شيئين مختلفين، فى عارض واحد.
ولا جائز أن يكون هو المحرّك، ولا المتحرك، ولا المسافة ولا شيء «11» // من الأجسام، لأن ما من جسم يفرض من الأجسام، إلّا ويمكن فرضه باقيا؛ مع تجدد هذه الإمكانات، وتعاقبها؛ والمتجدد غير ما ليس بمتجدد.
فإن قيل: كل جسم فهو موجود فى الزمان، وما يشاهد فيه وجود جميع الأجسام ليس غير الفلك؛ فكان هو الزمان؛ فهو خطأ؛
________________
(11) // أول ل 32/ ب.
(3/226)
________________________________________
لأنه ليس كل جسم فى الفلك؛ فإن الفلك من جملة الأجسام، وليس هو فى نفسه وبتقدير أن يكون كل جسم فى الفلك، وكل جسم فى الزمان؛
فليس فى إثبات هذه الصفة لها ما يوجب الاتحاد بينهما، ولا الاختلاف فإنه على نمط الشكل الثانى من موجبتين؛ وهو غير منتج «1».
فإذن لا بد وأن يكون مقدارا لأحد هذه الأمور، أو الحالة فيها؛ وليس هو مقدار المحرك، ولا المتحرك؛ وإلا كان ما هو متفاوت كغيره، وفى مقداره مفاوتا له فى قطع المسافة ولا هو مقدار المسافة.
وإلا لما تفاوتت الحركة السريعة، [و البطيئة] «2» مع اتحاد المسافة فى هذا الإمكان، وهو محال.
كيف وأن هذا الإمكان مما يمكن فرض توهمه مع عدم توهم كل ما يفرض من هذه الأمور، وكذا كل ما يفرض لها من الأحوال؛ فلا يكون شيئا منها لما تحقق قبل.
ولأن هذه الإمكانات على التقضى، والتجدد، وكل ما يفرض من هذه الأمور؛ فباقية غير متجددة؛ والمتجدد غير ما ليس بمتجدد.
ولا جائز أن يكون هو نفس ما يقع به التفاوت بين الحركات من السرعة، والبطء «3».
فإنه مما يقع الاختلاف فيه، مع تساوى الحركات المفروضة فى السرعة والبطء المتفاوتة للأخذ أو القطع.
فإذن هو ليس إلا مقدار الحركة، وهى ما تطابقه الحركة، وتقع فيه؛ وهو مساو لها فى الوجود، وهو على التقضى، والتجدّد.
________________
(1) لأن شرط إنتاج الشكل الثانى: اختلاف مقدمتيه فى الإيجاب والسلب.
انظر ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل الخامس: فى أصناف صور الدليل وتنوع تأليفه. الشكل الثانى ل 35/ ب.
(2) ساقط من أ.
(3) عرف الآمدي السرعة والبطء فقال: «أما السرعة فعبارة عن اشتداد الحركة فى نفسها.
وأما البطء: فهو عبارة عن ضعفها. وربما ظن أن البطء: عبارة عن تخلل السكنات، والسرعة: عبارة عن تقللها» [المبين للآمدى ص 95، 96].
(3/227)
________________________________________
وبين كل جزءين منه آن، وهو نهاية الزمان، ومقطعه، وهو ما يتصل به الماضى بالحال.
وليس بجوهر؛ لأنه لو كان جوهرا: لم يخل: إما أن يكون من الجواهر المحسوسة، أو لا «1» من المحسوسة «1»:
فإن كان الثانى: خرج عن أن يكون فيه الجوهر المحسوس، والزمان؛ ففيه الجواهر المحسوسة.
وإن كان محسوسا: فلا بد وأن يكون فى زمان.
فإن كان/ فى نفسه؛ فهو محال.
وإن كان فى غيره: لزم التسلسل.
فقد ثبت أن الزمان عرض، ومن جملة الأعراض مقدار، ومن المقادير متصل، ومع اتصاله فعلى التقضى والتجدد؛ فهو أحد أنواع الكم، وبطل كل ما قيل من المذاهب فيه.
وأعلم أن هذا هو أشبه ما قيل فى الزمان؛ ومع هذا ففيه نظر.
إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن المفهوم من الزمان، أمر وجودى.
وما ذكرتموه من دعوى الضرورة لها. إما أن تدعو العلم الضرورى بوجود مفهوم الزمان، أو بمفهوم الزمان.
فإن كان الأول: فهو غير مسلم.
وإن كان الثانى: فهو مسلم؛ ولكن لا يلزم أن يكون وجوديا؛ فإن العلم بالمفهوم أمر أعم من العلم بكونه وجوديا.
ثم الدليل على أنه غير وجودى من وجهين:
الأول: أنه لو كان موجودا: فهو إما واجب، وإما ممكن.
لا جائز أن يكون واجبا: وإلا لما كانت أبعاضه على التقضى والتجدد.
وإن كان ممكنا: فإما جوهر، أو عرض؛ لما سبق من الحصر.
________________
(1) (من المحسوسة) ساقط من ب.
(3/228)
________________________________________
لا جائز أن يكون جوهرا: لما ذكرتموه.
ولا جائز أن يكون عرضا:
وإلا فلا بد له من موضوع؛ وذلك الموضوع، لا بد وأن يكون جوهرا، أو قائما بالجوهر وذلك إما محسوس أو غير محسوس.
فإن لم يكن محسوسا: استحال أن يقوم به الزمان الّذي هو طرف المحسوسات.
وإن كان محسوسا: فجميع الجواهر المحسوسة فى الزمان، ونسبة الزمان لها نسبة واحدة.
وعند ذلك: فإما أن يكون قائما بكلها، أو ببعضها:
الأول: محال؛ لأن الزمان الحاضر متحد؛ وقيام المتحد بالمتعدد محال.
وإن كان الثانى: فليس قيامه بالبعض مع اتحاد النسبة أولى من البعض.
الثانى: ويخص مذهب الفلاسفة: أنه لو كان الزمان موجودا: فإما أن يكون منقسما، أو غير منقسم.
فإن كان منقسما: فإما أن يوجد لجميع أجزائه معا، أو أنه لا يوجد منه فى الحاضر إلا البعض.
الأول: محال وإلا كان الماضى منه مع الحاضر؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى: فذلك البعض: إما أن يكون منقسما، أو غير منقسم.
فإن كان الأول: عاد التقسيم؛ وهو تسلسل ممتنع.
«11» // وإن كان الثانى: فهو محال على أصلهم؛ لأن الزمان مطابق بأجزائه لأجزاء الحركة، والحركة مطابقة بأجزائها لأجزاء المسافة، وأجزاء المسافة عندهم متجزئة عقلا إلى غير النهاية.
والمطابق لما طابق المتجزئ؛ لا بد وأن يكون متجزئ. وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجود الزمان؛ فلا/ وجوده له.
________________
(11) // أول ل 33/ أ من النسخة ب.
(3/229)
________________________________________
وعلى هذا: فلا بعد فى قول القائل: إن الزمان، وما يقدره المقدر ويفرضه الفارض من مقارنة موجود لموجود، وما هو بعينه من العوارض، وهو ما يعبر عنه بقولهم: كان كذا فى وقت طلوع الشمس، أو غروبها: أى أنه قارن وجوده لطلوعها، أو غروبها.
وإن سلمنا أنه موجود؛ لكن ما المانع أن يكون وجوده فى الأذهان لا فى الأعيان.
قولكم: إن موجودات الأعيان تضاف إليه؛ بأنها فيه.
قلنا: بمعنى أنه صفة لها، ومقارن لوجودها، أو بمعنى أنه طرف لها.
الأول: مسلم؛ ولكن لا يلزم من مقارنته للموجودات العينية، ولا من كونه صفة لها أن يكون وجوديا.
فإنه لا امتناع فى مقارنة الموجودات بالصفات العدمية، واتصافها بها.
والثانى: ممنوع، ولا يلزم من إضافتها إلى الزمان؛ نفى أن يكون الزمان طرفا لها؛ ولهذا فإنه يصح قول القائل: زيد فى الراحة والخصب، وإن لم يكن ذلك طرفا له.
وإن سلمنا أنه موجود عينى؛ فلا نسلم أنه مقدار الحركة. وما ذكرتموه من الإمكانات التى بين ابتداء الحركات، وانتهائها؛ فلا نسلم أنه أمر وجودى؛ بل عدمى:
فإن حاصله يرجع إلى مكان قطع المسافة بالحركة؛ والإمكان فوصف عدمى على ما سبق تقريره.
قولهم: إنه يمكن تقدير بعضه ببعض؛ غير مسلم.
قولهم: إن ما بين ابتداء الحركة السابقة، وانتهائها من الإمكان أكثر مما بين ابتداء الثانية، وانتهائها.
ليس كذلك؛ بل التفاوت بالزيادة والنقصان، إنما هو عائد إلى المسافة التى يمكن قطعها بالحركة؛ إن كانت المسافة متفاوتة، أو إلى سرعة الحركة، وبطئها؛ إن كانت المسافة متحدة.
وعلى هذا: فلا نسلم أنه يمكن فرض التفاوت مع قطع النظر عن التفاوت فى المسافة، والبطء، والسرعة؛ ليصح ما ذكروه.
(3/230)
________________________________________
الفرع السابع فى الثقل، والخفة، والاعتمادات، وأحكامها ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول «1»: فى تحقيق معنى الثقل والخفة
الفصل الثانى: فى تحقيق معنى الاعتماد.
الفصل الثالث: فى اختلافات بين المعتزلة فى أحكام الاعتمادات، ومناقضتهم فيها.
________________
(1) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفصول.
(3/231)
________________________________________
الفصل الأول فى تحقيق معنى الثقل والخفة «1»
أما أصحابنا فقد اختلفوا
فمنهم من قال: الثقل ليس عرضا زائدا على نفس الجواهر؛ بل ثقل الجوهر لنفسه وذاته.
وأن كل جوهر ثقيل، ولا يتصور/ التفاوت بين الجواهر الفردة فى الثقل.
وأن ما يجده من التفاوت فى الثقل بين الأجسام المركبة؛ فعائدة إلى كثرة أجزاء الثقيل، وقلتها فى الخفيف، وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق فى أكثر أقواله.
ومنهم من صار إلى أن الثقل والخفة من الأعراض الزائدة على نفس الجوهر:
كالقاضى أبى «2» بكر، ومن نصر مذهبه؛ وهو مذهب المعتزلة والفلاسفة، وهو الأظهر، وحجّته أنا لو ملأنا إناء معينا ماء وضبطنا وزنه ثم فرغنا الاناء، وملأناه زئبقا. فإما أن نجد زيادة الزئبق على الماء فى الثقل بأضعاف كثيرة ربما تزيد على عشرين مرة مع تساوى أجزائها عددا؛ ضرورة اتحاد الحاصر لهما ولو تساوت أعداد الجواهر فى الثقل؛ لما كان كذلك.
فعلم أن الثقل والخفة من الأعراض الزائدة على نفس الجوهر.
فإن قيل: ما نجده من التفاوت بين الماء والزئبق فى الثقل والخفة، إنما هو راجع إلى كثرة أجزاء الزئبق، وقلتها فى الماء؛ بسبب انضمام أجزاء الزئبق وتراصها، وتخلخل «3» أجزاء الماء وانفراج بعضها عن بعض؛ ويدل على ذلك: أنه لو وجد الماء؛ فإنه ينحط عن فم الإناء بسبب اكتنازه وتضام أجزائه بعضها إلى بعض.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا:
انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام الأشعرى 2/ 105، 106 والشامل في أصول الدين للجوينى ص 490 وما بعدها.
وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 87، 88.
(2) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 490.
(3) التخلخل: ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج وهو ضد التكاتف [التعريفات للجرجانى ص 63].
(3/233)
________________________________________
ولهذا فإنا لو ملأنا الإناء ماء مرتين؛ لم نجد بين الماءين تفاوتا؛ لما وقع التساوى بينهما فى التخلخل، والاكتناز؛ وكذلك لو ملأناه زئبقا مرتين.
قلنا: هذا بيان منكم على إمكان الخلاء، وهو ممنوع على ما سبق تحقيقه «1» وإن سلمنا إمكان تحقق الخلاء؛ ولكن ما المانع أن يكون نقصان الماء عن فم الإناء بالجمد؛ لنقصان بعض أجزائه. إما باعدام الله- تعالى- لها، أو بسبب اختطاف الهواء لها.
فإن قيل: لو كان ذلك بسبب نقصان بعض أجزائه؛ لظهر ذلك فى التفاوت فى الوزن، وليس كذلك؛ فإن وزن الماء لا يزيد على وزنه بعد جموده.
قلنا: ولو كان التفاوت بين الأجسام فى الثقل والخفة، بسبب التخلخل، والانفراج، فنحن نعلم أن الإناء المفروض إذا «11» // ملأناه زئبقا وملأناه بعد ذلك ماء، أن ثقل الزئبق يزيد على الماء بأضعاف ربما زادت على عشرين مرة.
ولو كان ذلك لكثرة الأجزاء فى الزئبق، واكتنازها، وقلتها فى الماء بسبب الانفراجات التى بينها؛ للزم أن تكون أجزاء الزئبق أكثر من أجزاء الماء بعشرين ضعفا «2» وعلى حسب زيادة أجزاء الزئبق تكون زيادة الفرج فى الماء على أجزائه/؛ ويلزم من ذلك أن تكون الفرج بين أجزاء الماء تزيد على أجزاء الماء بعشرين ضعفا «2»، أو أزيد.
ولو كان كذلك، للزم أن نرى الأحياز التى لا ماء فيها فى الإناء المفروض ملأه ماء أكثر من الأحياز المشغولة بالأجزاء المائية؛ وهو محال؛ لكونه خلاف الحس، والشاهد.
________________
(1) راجع ما سبق فى الفرع الخامس- الفصل الرابع ل 52/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 33/ ب من النسخة ب.
(2) من أول (و على حسب زيادة أجزاء الزئبق ... بعشرين ضعفا) ساقط من ب.
(3/234)
________________________________________
الفصل الثانى فى تحقيق معنى الاعتماد «1»
وقد اختلف المتكلمون فيه:
فذهب بعض أصحابنا: إلى نفيه كالأستاذ أبى إسحاق، وغيره «2».
وذهب القاضى أبو بكر، وكثير من أصحابنا، والمعتزلة إلى إثباته «3».
وذلك هو ما يحس به فى كل جسم من المدافعة، والممانعة، والميل إلى الجهات المختلفة. فإن من حمل حجرا ثقيلا؛ فإنه بجد من نفسه من الحجر ميلا إلى جهة السفل.
وكذلك أيضا لو تجاذب اثنان حبلا؛ فإن كل واحد يجد من نفسه ميلا من الآخر مقاوما لميله إلى خلاف جهة جذبه، وعلى حسب التساوى فى الاعتمادين، أو الترجيح لأحدهما، يكون التقاوم بينهما، حتى لا ينجذب الحبل إلى جهة أحدهما أو الغلبة لأحدهما حتى يتحقق الانجذاب فى جهته، دون جهة الآخر.
وهذا أمر محسوس لكل عاقل؛ لا سبيل إلى جحده، ومناكرته، ولو ساغ إنكاره مع كونه محسوسا، لساغ إنكار ما يحس به من حرارة الجسم وبرودته، وسواده وبياضه إلى غير ذلك من الأعراض المحسوسة؛ وهو محال.
وهذا هو الحق، وعليه الاعتماد، وإذا تحقق معنى الاعتماد، وثبت أنه عرض زائد على الجسم فما من جسم إلا وله ست جهات.
وعلى هذا فيمكن أن يكون له بحسب كل جهة اعتماد؛ فتكون الاعتمادات ستا [و عند هذا اتفق أصحابنا القائلون بالاعتمادات، أن الاعتمادات] «4» لا تخصص
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص 493 - 506.
والمواقف للإيجي ص 125 وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى 5/ 192 وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى 2/ 78 وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 493 والمواقف للإيجي ص 125.
(3) انظر الشامل للجوينى ص 493، والمواقف للإيجي، ص 125.
(4) ساقط من أ.
(3/235)
________________________________________
الأجسام بجهاتها، وأحيازها، بل المخصص لها بذلك؛ إنما هو الأكوان: والاعتمادات؛ فزائدة على الأكوان.
ويدل على ذلك أن الأكوان لا تخرج عن الحركة والسكون، والاجتماع، والافتراق كما سبق «1».
وليس ما نحس به من الاعتمادات شيئا من ذلك.
وعلى هذا فلا يلزم اختلاف الاعتمادات بسبب اختلاف الأحياز؛ لعدم تأثيرها فيها.
ثم اختلفوا، فمنهم من قال: الاعتماد فى كل جهة غير الاعتماد فى الجهة الأخرى، وأنها متضادة، ولا يتصور قيام اعتمادين لجسم واحد بالنسبة إلى جهتين، حتى يكون الجوهر الواحد ثقيلا خفيفا معا.
ولا بالنسبة إلى جهة واحدة؛ إذ هما متماثلان. والمثلان ضدان أيضا على ما سيأتى «2».
وعلى هذا: فالاعتماد أعم من الثقل والخفة؛ فكل ثقل وخفة، اعتماد؛ وليس كل اعتماد ثقلا، وخفة.
ومنهم من/ قال: الاعتماد فى كل جسم واحد؛ وأن اختلفت أسماؤه بالثقل، والخفة بالنسبة إلى العلو، والسفل وغيره من الجهات.
وأن التعدد إنما هو التسمية دون المسمى؛ فالاعتماد بالنسبة إلى جهة السفل يسمى ثقلا.
وبالنسبة إلى جهة العلو يسمى خفة.
وعلى هذا يجوز اجتماع الاعتمادات الست فى جسم واحد من غير تضاد؛ وهو اختيار القاضى أبى بكر «3».
________________
(1) راجع ما سبق ل 48/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سيأتى فى الأصل الثالث- الفصل السادس: فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان ل 79/ أ وما بعدها.
(3) انظر الشامل للجوينى ص 493 وما بعدها.
(3/236)
________________________________________
وهذا هو الأشبه بأصول أصحابنا القائلين بالاعتمادات؛ فإنا لو قلنا بتضاد الاعتمادات مع تعددها؛ لما اجتمعت، وقد اجتمعت.
وبيانه من وجهين: الأول: أن من جذب حجرا ثقيلا إلى جهة العلو؛ فإنه يحس فيه اعتمادا وميلا إلى جهة السفل. ولو دافعه غيره إلى جهة السفل؛ فإنه يحس منه اعتمادا إلى جهة فوق، وميلا مغالبا له إليها.
الثانى: أنه لو تجاذب اثنان حبلا كل واحد إلى جهته على التقاوم؛ فإن كل واحد يحس فى الحبل اعتمادا فى خلاف جهته.
ولو كانت الاعتمادات متعددة، متضادة لما كان كذلك. هذا ما ذكره الأصحاب.
وأما نحن فنقول: لو قال قائل إن الاعتمادات متعددة، مختلفة من غير تضاد؛ لما كان ذلك ممتنعا؛ ولس القول بذلك مع الإحساس فى كل جهة باعتماد ما يعد من القول باتحاد الاعتماد، وعود الاختلاف إلى التسميات مع الاحساس باعتماد فى الجهات المتقابلة؛ كما حققناه.
وأما المعتزلة: فلهم في الاعتمادات تفاصيل، واختلافات مبنية على أصولهم، لا بد من إفرادها بفصل، ومناقضتهم فيها.
(3/237)
________________________________________
الفصل الثالث فى اختلافات بين المعتزلة فى الاعتمادات ومناقضتهم فيها «1»
الاختلاف الأول: فى تضاد الاعتمادات.
وقد اتفقت المعتزلة على أن الاعتمادات منقسمة: إلى اعتمادات لازمة طبيعية وهى اعتماد الثقيل فى جهة السفل. والخفيف فى جهة العلو.
وإلى اعتمادات مجتلبة: وهى اعتماد الثقيل «11» // فى جهة العلو عند ما إذا رمى إلى جهة فوق، أو سحب، واعتماد الخفيف فى جهة السفل عند ما إذا حرك إليها، أو إلى غير ذلك من الجهات.
وعند هذا اختلفوا:
فقال الجبائى «2»، ومن نصر مذهبه: الاعتمادات كلها متضادة.
وقال أبو هاشم «2»: التضاد بين الاعتمادات اللازمة، والمجتلبة وهل تتضاد الاعتمادات اللازمة بعضها مع بعض، وكذلك الاعتمادات المجتلبة؛ فقد اختلف قوله فيها.
فتارة/ قال بالتضاد، وتارة بعدمه.
واحتج الجبائى بأن قال: الحركات فى الجهتين متضادتان؛ فكذلك الاعتماد في الجهتين.
واحتج أبو هاشم على امتناع التضاد بين الحركات [اللازمة المجتلبة بما ذكرناه من جذب الحبل إلى فوق، وعلى امتناع التضاد بين الحركات «3»] المجتلبة بما ذكرناه من صورة الحبل المجذوب من طرفيه؛ وتقريره بما سبق «4».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر:
الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 494 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 128 وما بعدها، وشرح المواقف للجرجانى 5/ 217 - 232.
(11) // أول ل 34/ أ.
(2) عن رأى الجبائى وابنه فى تضاد الاعتمادات قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 494 وهو متقدم على الآمدي، وبما ورد فى المواقف وشرحها، شرح المواقف 5/ 217 وما بعدها وهو متأخر عن الآمدي. ليتضح لنا مدى التأثر والتأثير؛ فأبكار الأفكار- بحق- قد حوى آراء المتقدمين واعتمد عليه معظم من أتى بعده من المتأخرين.
(3) ساقط من (أ).
(4) راجع ما سبق ل 64/ ب
(3/238)
________________________________________
هذا وأما نحن فنقول: ما ذكروه فى انقسام الاعتمادات [فمبنى على فاسد أصولهم بالاقتضاء الطبيعى؛ وقد أبطلناه؛ بل الاعتمادات «1»] كلها أعراض متجددة بخلق الله- تعالى-.
وأما حجة الجبائى: فحاصلها يرجع إلى دعوى المماثلة بين الحركات، والاعتمادات من غير دليل؛ فكانت فاسدة.
كيف وأنه لو قال قائل: إن الحركة موجبة لتخصيص الجوهر بالحيز على ما سبق «2» فلو اجتمع فى الجوهر الواحد حركتان من جهتين مختلفتين لكانت كل واحدة مخصصة له بتلك الجهة، ويلزم منه أن يكون الجوهر الواحد فى حالة واحدة؛ فى حيزين معا؛ وهو محال.
وعند ذلك: فإن لم نبين أن الاعتمادات كالحركات فى هذا المعنى فلا يلزم التضاد؛ كما لزم فى الحركات؛ والبيان لذلك مما لا سبيل إليه. وأما ما ذكره أبو هاشم من الحجج؛ فهى لازمة على أصول المعتزلة، وعلى كل من قال بتضاد الاعتمادات.
الاختلاف الثانى: فى بقاء الاعتمادات «3»:
مذهب الجبائى، ومن تابعه: أن الاعتمادات غير باقية من غير تفصيل.
وقال أبو هاشم: ما كان منها لازما؛ فهو باق، وما كان منها مجتلبا؛ فهو غير باق.
احتج الجبائى بحجتين:
الأولى: أنه قال لو بقى الاعتماد اللازم فى جهة السفل؛ لبقى الاعتماد المجتلب فيها؛ وذلك عند ما إذا تحامل إنسان على حجر ثقيل فى جهة السفل؛ فأوجب فيه اعتمادا سفليا مجتلبا؛ لأن الاعتماد المجتلب فيها مشارك للاعتماد اللازم فى أخص أوصافه؛ وهو كونه اعتمادا فى جهة السفل، والمشاركة في أخص وصف النفس عند أبى هاشم القائل بالتفصيل موجبه للاشتراك فيما عداه.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع ما سبق 53/ ب وما بعدها.
(3) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 497 وهو متقدم على الأبكار، وبما ورد فى شرح المواقف 5/ 219 وما بعدها وهو متأخر عنه ومتأثر به.
(3/239)
________________________________________
الحجة الثانية: أنه قال: ما دل الدليل على استحالة بقائه من أجناس الأعراض:
كالأصوات، وغيرها، لم يفرق فيه بين ما هو مقدور لنا، أو غير مقدور لنا؛ فكذلك فى الاعتمادات.
واحتج أبو هاشم بحجتين أيضا:
الأولى: أنه قال الدليل الدال على بقاء الألوان، والطعوم؛ كونها مشاهدة بالاستمرار والاتصال؛ وهو بعينه متحقق فى الاعتمادات اللازمة.
الثانية: أنه قال: الثقيل إذا اجتلبت فيه اعتمادات علوية؛ فإنا نعلم/ رجوعه هاويا، ولو لم تكن الاعتمادات السفلية باقية؛ لما عاد هاويا.
وهذه الحجج وإن كانت مبنية على أصولهم الفاسدة؛ فلا بد من التنبيه على فسادها.
أما الحجة الأولى للجبائى: فحاصلها يرجع إلى التمثيل بين الاعتماد اللازم والمجتلب من غير دليل.
قوله: إن المجتلب مشارك للازم فى أخص أوصافه؛ ممنوع.
وما المانع من أن يقال أخص أوصاف اللازم؛ كونه اعتمادا سفليا لازما وبتقدير المشاركة له فى أخص أوصافه؛ لا يلزم الاشتراك فى كل صفة، وإلا لما وقع التمايز بين متماثلين أصلا.
وبتقدير التسليم لذلك؛ فحاصله يرجع إلى تخطئة الخصم فى أحد قوليه؛ ضرورة تصويبه فى القول الآخر.
وعند تعذر الجمع، فليست التخطئة فى أحد القولين، والتصويب فى القول الآخر؛ أولى من العكس.
وعلى هذا: فلو قال: أخطأت فى قولى باستحالة بقاء المجتلب، لخرج الدليل المذكور عن أن يكون صحيحا.
وأما الحجة الثانية: فحاصلها أيضا راجع إلى التمثيل، والجمع بين صورتين مما ثبت لإحداهما من غير دليل جامع؛ فلا يقبل.
(3/240)
________________________________________
وأما الحجة الأولى لأبى هاشم: فهى مبنية على فاسد أصولهم فى بقاء الألوان، والطعوم، وقد أبطلناه.
كيف وأنها لازمة على أبى هاشم فى الاعتمادات المختلفة؛ إذ هى مشاهدة للاستمرار؛ كمشاهدة اللازمة.
وأما الحجة الثانية: فمبنية أيضا على أن عود الحجر هاويا إلى جهة السفل، إنما هو بالاعتماد السفلى، وليس كذلك؛ بل إنما ذلك بخلق الله- تعالى- للحركة السفلية من غير تأثير للاعتماد السفلى فيها، وبتقدير تسليم توقف الحركة السفلية على الاعتماد السفلى.
فما المانع من تجدده فى كل وقت بخلق الله- تعالى- له كسائر الأعراض. وعند ذلك: فما وجدت الحركة السفلية عنده من الاعتماد السفلى؛ لا يلزم أن يكون باقيا «11» //.
الاختلاف الثالث «1»:
فى اشتراط الرطوبة، واليبوسة فى الاعتمادات والّذي ذهب إليه أبو هاشم: أنه اشترط فى الاعتماد اللازم الرطوبة «2» إذا كان سفليا، واليبوسة إذا كان علويا؛ دون الاعتمادات المجتلبة وخالفه الجبائى فى ذلك؛ ولم يشترط الرطوبة؛ واليبوسة فى شيء من الاعتمادات؛ وهو الحق.
احتج أبو هاشم بأنه ما من شيء من ذوات الاعتمادات اللازمة السفلية من الأحجار وغيرها، إذا أوقدت عليها النار مدة؛ لا بد وأن تتكلس، أو تذوب؛ والتكلسى/ يدل على تفرق ما كان فيه من الرطوبة.
والإذابة دليل الرطوبة السابقة حالة الجمود، كالجليد المذاب بالنار، وغيرها؛ وهذه الحجة مدخولة من وجوه:
________________
(11) // أول 34/ ب من النسخة ب.
(1) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 499 وهو متقدم على الأبكار، وبما ورد فى شرح المواقف للجرجانى 5/ 221 وهو متأخر عن الأبكار ومتأثر به إلى حد بعيد.
(2) عرف الآمدي الرطوبة واليبوسة فقال: «أما الرطوبة: فما كان من الكيفيات بما يسهل قبول الجسم للانحصار، والتشكل بشكل غيره وكذا تركه. وأما اليبوسة فمقابلة للرطوبة» [المبين للآمدى ص 99، 100].
(3/241)
________________________________________
الأول: أن لقائل أن يقول: لا نسلم أن كل سفلى إذا أوقدت عليه النار؛ لا بد وأن يتكلس أو يذوب بدليل اليواقيت.
وإن سلمنا ذلك؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على سابقة الرطوبة. أما فى التكلس:
فلا نسلم أنه لا يكون إلا بتفريق الرطوبة، بل بإزالة التأليف، والانفصال بعد الاتصال بما يخلقه الله- تعالى- من الأكوان ويعدمه.
وأما الإذابة: فقد قال الاستاذ أبو اسحاق وغيره؛ لا نسلم أن المذاب بعد الإذابة رطب؛ بل هو باق على نفسه وليس إنكار الرطوبة مع الميعان أبعد من دعوى الرطوبة فى الأحجار المحمى عليها.
فلئن قيل: لا معنى للرطوبة غير معنى إذا قام بالجسم؛ سهل به قبول ذلك الجسم للتشكل بشكل غيره؛ والحجر بعد إذابته كذلك.
قلنا: فيلزم على هذا أن لا تكون الأحجار الصم المحسوسة الصلابة رطبة؛ إذ ليست على هذه المثابة، [و أن لا تكون النار يابسة، ولا الهواء؛ وهو خلاف مذهبهم] «1».
وإن سلمنا أن الحجر بعد الإذابة رطب؛ ولكن ما المانع من أن تكون الرطوبة قد أحدثها الله- تعالى- بحكم جرى العادة؛ فلا يكون فى ذلك دليلا على كونها مائعة وإن سلمنا ذلك؛ ولكن ما ذكروه غير مطرد فى الأحجار المتكلسة التى أوقدت عليها النار مددا متطاولة؛ حتى فرقت رطوبتها باعترافه بأنها من ذوات الاعتمادات السفلية اللازمة بدلالة الحس، ولا رطوبة فيها بموافقة منه.
كيف وأنه قد ناقض أصله فى التأليف، حيث أنه قال: لا تشترط الرطوبة فى التأليف؛ لأنه لا يتعدى حكمه محله، والاعتماد السفلى اللازم كذلك؛ فالقول باشتراط الرطوبة، والفرق؛ تحكم لا حاصل له. على «2» أنه لو قيل له ما الفرق بين الاعتماد السفلى اللازم، وبين المجتلب حتى شرطت الرطوبة فى اللازم دون المجتلب؛ لم يجد إليه سبيلا «2».
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) من أول قوله: على أنه لو قيل ...... إلى قوله: سبيلا ساقط من ب.
(3/242)
________________________________________
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكر على اشتراط الرطوبة فى الاعتماد اللازم السفلى [فلم يدل على اشتراط اليبوسة فى الاعتماد اللازم] «1» العلوى.
الاختلاف الرابع «2»:
فى سبب طفو الخشبة على الماء، ورسوب الحديد فيه؛ وقد اختلف الجبائى وابنه فى ذلك.
فقال الجبائى: سبب طفو الخشبة: تخلخل أجزائها، وتعلق الهواء الصاعد بها.
وسبب رسوب الحديد وغيره: اندماج أجزائه، وعدم تشبث الهواء به.
وقال أبو هاشم: بل سبب ذلك إنما هو ثقل أحد الأمرين، وخفة الآخر/ فى نفسه؛ ولا أثر للهواء فى ذلك.
ويلزم على الجبائى رسوب الذهب فى الزئبق، وطفو الفضة عليه مع عدم تخلخل أجزاء الفضة، وجرف الهواء لها.
ثم إن الهواء عنده صاعد بطبعه، والخشب راسب بطبعه، فكان يلزم من ذلك أن لا يمتنع رسوب الخشبة بانفصال الهواء عنها صاعدا.
ويلزم على أبى هاشم ما لو أخذت قطعة حديد، أو غيره، ووضعت على الماء؛ فإنها تغوص فيه، ولو رفعت وطويت أجنابها: كالطبق، ووضعت على وجه الماء؛ فإنها لا ترسب مع التساوى فى الثقل والخفة.
وكذلك لو وضعنا خشبة وزنها ألف رطل مثلا على الماء؛ فإنها لا ترسب فيه؛ ولو ألقينا عليه وزن حبة من حديد أو غيره، فإنه يرسب فيه؛ مع أن الطافى أثقل من الراسب، بأضعاف مضاعفة.
وعلى هذا، فالحق ما ذهب إليه أهل الحق من أن الطفو: إنما هو بسبب كون يخلقه الله موجب لتخصيصه بحيزه.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 501 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 222 وما بعدها.
(3/243)
________________________________________
والرسوب بسبب حركات خلقها الله- تعالى- فى الراسب، ومباينات فى أجزاء الماء بحكم جرى العادة؛ كما يخلق الرى عقيب الشرب [و الشبع] «1» عقيب الأكل، ونحوه.
الاختلاف الخامس «2»:
الاختلاف فى اعتماد الهواء: فالذى صار إليه الجبائى: أن اعتماد الهواء؛ لازم علوى.
وصار أبو هاشم إلى أنه: ليس له اعتماد لازم، لا علوى ولا سفلى، وإن وجد له اعتماد؛ فلا يكون إلا مجتلبا بسبب محرك، ويلزم على الجبائى أنه لو كان الهواء متصعدا، لما طفت الخشبة على الماء؛ لانفصال الهواء عنها صاعدا؛ إذ لا سبب لطفوها عنده؛ غير تشبث الهواء بها.
ويلزم على «11» // أبى هاشم ما لو وضع الزق «3» المنفوخ الممتلئ هواء فى الماء، وقسر راسيا؛ ثم حل وكاؤه؛ فإن الهواء يشق الماء، ويفرق أجزاؤه صاعدا؛ بل ولو تخلى القاسر عن الزق فى قعر الماء؛ لتحرك صاعدا حاملا للأشياء الثقيلة من قعر الماء بتقدير تعلقها به.
وليس ذلك إلا بسبب ما فيه من الهواء.
والحق فى ذلك أن الهواء إن تحرك أو سكن، إنما هو بسبب خلق الله تعالى فيه الحركة، أو السكون؛ كما ذهب إليه أهل الحق؛ وليس ذلك طبيعيا له.
الاختلاف السادس «4»:
فى أن الاعتماد هل يولد شيئا، أم لا؟ والّذي صار إليه الجبائى أن الاعتماد لا يولد شيئا؛ لا حركة ولا سكونا، بل المولد للحركة والسكون؛ إنما هو الحركة.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 502 وشرح المواقف للجرجانى 5/ 226.
(11) // أول ل 35/ أ من النسخة ب.
(3) الزّقّ: وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف للشراب وغيره جمع: أزقاق، وزقاق. [المعجم الوسيط باب الزاى].
(4) قارن بما ورد في الشامل للجوينى ص 503 وهو متقدم على الأبكار، وشرح المواقف للجرجانى 5/ 227 وما بعدها.
(3/244)
________________________________________
وقال أبو/ هاشم: الحركة والسكون، لا يتولدان من غير الاعتماد.
وقال أبو إسحاق بن عياش من البصريين «1»: الاعتماد يولد الحركة والسكون، والحركة أيضا؛ تولد الحركة.
احتج الجبائى بأن قال: إذا رمى الرامى حجرا؛ فإنه لا تتحرك فيه ما لم تتحرك يد الرامى فى جهة دفع الحجر.
وعند ذلك فلو جاز أن لا تكون حركة يده مولدة لحركة الحجر مع اطراد العادة بتعقب حركة الحجر لحركة اليد؛ لجاز أن لا يكون النظر مولدا للعلم بالمنظور فيه مع تعقبه له.
واحتج أبو هاشم بحجتين.
الحجة الأولى: أنه قال: لو فرضنا خشبة، يمكن نصبها قائمة على رأسها منفردة؛ فنصبت مدعومة من ورائها بعماد؛ بحيث لو اعتمد عليها معتمد في جهة العمود؛ لما تحركت. ولو زال عنها العمود؛ فإنها تتحرك فى الحالة الثانية، من وجود الاعتماد وزوال العمود على التعاقب.
وإن لم يتحرك المعتمد في جهة زوالها؛ فدل أن الحركة تولدت من الاعتماد لا غير.
الحجة الثانية: أن المعتمد على الحجر بيده؛ لا تتحرك يده إلا بعد حركة الحجر فإنه ما لم يندفع الحجر عن حيزه؛ فيمتنع انتقال يد المعتمد إلى حيز الحيز؛ لاستحالة التداخل.
فإذن حركة يد المعتمد تكون متأخرة عن حركة الحجر، والاعتماد يكون متقدما؛ وما عنه التولد، وهو السبب؛ لا بد وأن يكون متقدما على المسبب؛ فكان ما عنه تولد حركة الحجر، نفس الاعتماد المتقدم، لا نفس الحركة المتأخرة.
وما هو حجة المذهبين، هو حجة ابن عياش، في القول بتولد الحركة عن الاعتماد ومن الحركة.
________________
(1) أبو إسحاق بن عياش: إبراهيم بن عياش البصرى، من أساتذة القاضى عبد الجبار، ورع، زاهد، كانت له مجالس علمية يحضرها أهل بغداد. من الطبقة العاشرة من المعتزلة.
(3/245)
________________________________________
واعلم أن هذا الاختلاف فيما بينهم؛ متفرع على القول بالتولد، ونحن فقد أبطلناه «1»، غير أنا نسلم لهم صحة التولد جدلا.
ونناقضهم فى حججهم بأصولهم فنقول:
أما حجة الجبائى: فلقائل أن يقول: وكما أن حركة الحجر متعقبة لحركة يد الرامى عادة؛ فهى متعقبة لاعتماد يده عادة؛ وليس القول مع ذلك بتولد حركة الحجر؛ عن حركة يد الرامى؛ أولى من القول بتولدها عن اعتماد يده.
فإن قال الجبائى: إضافة التولد إلى الحركة لازم؛ ضرورة استقلالها بالتولد منها من غير اعتماد بخلاف الاعتماد؛ فإنه لم يثبت استقلاله بتولد الحركة منه فى صورة من الصور.
وبيانه: أن من حرك/ يده؛ فحركة يده؛ مقدورة مباشرة بالقدرة غير متولدة من شيء.
ويلزم من حركة يده، حركة ما عليها من الشعر، والأظفار؛ والشعور، والأظفار، لا حياة فيها؛ فلا يتعدى إليها حكم القدرة.
وإذا لم تكن متحركة بالقدرة مباشرة؛ لزم أن تكون متولدة من الحركة المباشرة بالقدرة.
فلقائل أن يقول: وإن سلمنا جدلا على أصلكم؛ أنه لا حياة فى الشعور، والأظفار وأنها غير مباشرة بالقدرة؛ ولكن لا يلزم أن تكون متولدة من الحركة المقدورة؛ بل أمكن أن تكون متولدة من اعتماد اليد، ومدافعتها، لما عليها من الشعور، والأظفار بسبب اتصالها.
وإن سلمنا استقلال الحركة بالتولد منها فى هذه الصورة؛ فالاعتماد أيضا قد استقل بتولد الحركة عل أصل الجبائى حيث قال:
الحجر المرتفع؛ لا أستبعد له مكثا فى منتهاه؛ ثم الهوى بعد ذلك.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ل 272/ ب وما بعدها.
(3/246)
________________________________________
والموجود حالة المكث؛ ليس هو الحركة؛ بل الاعتماد.
فحركة الهوى على هذا يجب أن تكون عنده متولدة من الاعتماد.
وأما الحجة الأولى لأبى هاشم: فلقائل أن يقول: لا أسلم زوال الخشبة وحركتها، عند زوال العمود بدون حركة المعتمد الدافع لها.
وأما الحجة الثانية: فلقائل أن يقول: لا أسلم أن حركة يد المعتمد لا تكون إلا بعد حركة الحجر؛ بل حركة الحجر مترتبة على حركة يد المعتمد؛ ولهذا يصح أن يقال:
تحركت يده؛ فتحرك الحجر، ولا يحسن أن يقال تحرك الحجر؛ فتحركت يده.
وإذا بطلت حجة المذهبين؛ فقد بطل مذهب ابن عياش على ما لا يخفى.
الاختلاف السابع «1»:
اختلف الجبائى، وابنه فى الحجر المقسور إلى جهة «11» // العلو إذا عاد هاويا إلى أسفل.
فقال الجبائى: بناء على أصله فى أن الحركة لا تتولد من غير الحركة: إن حركته هاويا، متولدة من حركته الصاعدة.
وقال أبو هاشم: بناء على أصله أن تولد الحركة إنما يكون عن الاعتماد، أن تولد حركته هاويا من الاعتماد اللازم السفلى.
وهذا الاختلاف أيضا بينهم مفرع على القول بالتولد؛ وقد أبطلناه، وأبطلنا حجة كل واحد منهما على معتمده «2».
ولا بد من مناقضتهما فى خصوص ما نحن فيه.
أما الجبائى: فيلزمه من القول بإمكان تولد حركة الهوى من الحركة صعودا؛ هوى الحجر عند ابتداء الحركة الصاعدة متولدا منها، وأن لا ينتهى الحجر المقسور بالحركة إلي أكثر من منتهى الحركة الأولى.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 505 وهو متقدم على الأبكار، وشرح المواقف للجرجانى 5/ 229 وما بعدها.
(11) // أول ل 35/ ب من النسخة ب.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الأصل الثانى، الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ل 272/ ب وما بعدها.
(3/247)
________________________________________
فإنه ليس تولد/ الحركة السفلى من الحركة الأخيرة الصاعدة؛ أولى من الأولى؛ وهو خلاف الحس.
وأيضا: فإن كل حركة من الحركات المتعاقبة صعودا متولدة مما قبلها على أصله.
ويلزم من ذلك أن يتولد عن كل حركة صاعدة حركة صاعدة إلى غير النهاية، فالقول بأنه لا يتولد عن الحركة الأخيرة، إلا حركة هاوية دون غيرها: تحكم لا دليل عليه.
وأما أبو هاشم: فيلزمه فى تولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم، ما لزم لابيه فى القول بتولدها عن الحركة صعودا؛ فإنه إذا كان تولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم؛ فهل لا تولدت عنه فى ابتداء حركته صعودا.
وأيضا: فإن الاعتمادات المتعاقبة المجتلبة فى جهة العلو كل واحد منها متولد عما قبله.
وعند ذلك فلو قيل: ما المانع من تولد كل اعتماد عن اعتماد قبله مهما وجد الحجر المرمى منفذا فى الهواء.
ولم اختص الاعتماد الأخير منها بعدم التولد منه دون ما قبله؛ لم يجد إلى دفعه سبيلا.
فإن قيل: إنما لم تتولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم السفلى فى ابتداء الحركة صعودا؛ لكونه معلوما بقوة الاعتماد المجتلب.
وإنما انقطع التولد عن الاعتماد المجتلب فى جهة العلو؛ لضعفه في آخر الأمر بمدافعة الهواء الراكد له، ومقاومته له حالة نفوذه فيه، بحيث يضعف عن الاعتماد اللازم السفلى، ويقوى عليه؛ فيتولد عنه الحركة السفلية.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو امتنع الخلاء فى مسافة الحركة صعودا، وإلا فبتقدير الخلاء، فلا ممانع ولا مقاوم.
وإن سلمنا امتناع الخلاء، ولكن إنما يلزم ما ذكرتموه أن لو كان الهواء راكدا ومتحركا إلى جهة السفل، وإلا بتقدير كونه أيضا متحركا إلى جهة العلو موافقا فى اعتماده للاعتمادات المجتلبة؛ فلا ممانعة أيضا، ولا مدافعة.
(3/248)
________________________________________
فإن قيل: وإن لم يكن ذلك بسبب مدافعة الهواء، إلا أن ما يتولد عن كل واحد من الاعتمادات المجتلبة، تكون أضعف مما تولدت منه.
ولهذا: فإنا نحس بضعف آخر الاعتمادات المجتلبة بالنسبة إلى أولها إلى أن تمحق أو يترجح عليها الاعتماد اللازم بتولد الحركة السفلية عنه.
قلنا: إذا كان كل اعتماد تولد عن اعتماد يكون أضعف مما يتولد/ عنه؛ فما المانع أن تكون الاعتمادات اللازمة أيضا غير باقية؛ بل متجددة، وبعضها متولد من البعض.
وعلى هذا: فإن كان أول الاعتمادات المجتلبة مترجحا على باقى الحجر المتحرك صعودا من الاعتماد اللازم السفلى، فيجب أن يكون ما يتولد عنه أيضا راجحا على ما يتولد عن الاعتماد اللازم؛ وهلم جرا.
وعند ذلك: فلا يتحقق ضعف الاعتماد المجتلب بالنسبة إلى الاعتماد اللازم.
وإن قيل: إن الاعتماد اللازم باق غير متجدد، كتجدد الاعتماد المجتلب؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «1».
الاختلاف الثامن «2»:
قال أكثر المعتزلة: إنه يمتنع أن يكون بين وصول الحجر المرفوع فى جهة العلو إلى منتهاه وبين هويه: زمان سكون، محتجين على ذلك بأنه لا موجود فى الحجر غير الاعتماد اللازم، والاعتماد المجتلب وأحدهما يولد الحركة الفوقية، والآخر الحركة السفلية.
وليس فيهما ما يتولد منه السكون؛ فلا سكون.
وقال الجبائى: لا أستبعد ذلك.
وربما احتج من نصر مذهبه بأن الاعتمادات المجتلبة فى جهة العلو، إذا غلبت الاعتماد اللازم فى جهة السفل، تولد منها الحركة العلوية، ولا تزال كذلك إلى أن
________________
(1) راجع ما تقدم ل 66/ أ.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 506 وهو متقدم على الأبكار، وشرح المواقف للجرجانى 5/ 231 وهو متأخر عنه ومتأثر به.
(3/249)
________________________________________
تساوى الاعتمادات المجتلبة اللازمة، ثم تضعف عنها؛ فيعود الحجر هاويا؛ ففى حالة رجحان المجتلبة، يكون تولد الحركة العلوية، وبعد رجحان الاعتماد اللازم، يكون تولد الحركة السفلية، وفيما بين ذلك. يجب القول بالسكون؛ لاستحالة تولد الحركة العلوية عن الاعتماد المجتلب؛ والحركة السفلية عن الاعتماد اللازم؛ ضرورة المساواة.
وهذا الاختلاف وإن كان مبنيا على فاسد أصولهم فى القول بالتولد؛ فقد «11» // أبطلناه «1»، غير أنه لا بد من مناقضة حججهم على ما تقتضيه أصولهم فنقول:
أما حجة النفاة: فلقائل أن يقول:
وإن سلم أنه لا موجود يمكن التولد منه غير الاعتماد من اللازم والمجتلب، ولكن ما المانع عند المساواة بينهما من تولد السكون عن أحدهما: إما اللازم، أو المجتلب.
وإذا كان أحدهما مترجحا، كان المتولد عنه الحركة. وأما حجة الجبائى- وإن كانت لازمة للنفاة من المعتزلة- غير أنه يلزم من ذلك أن يكون السكون متولدا من أحد الاعتمادين المتساويين؛ وهو على خلاف أصله فى امتناع التولد عن الاعتماد على ما سبق «2».
________________
(11) // أول ل 36/ أ.
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع الثامن: فى الرد على القائلين بالتولد ل 272/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى أول الفصل الثالث ل 65/ أ وما بعدها.
(3/250)
________________________________________
الأصل الثالث فيما توصف به الجواهر والأعراض ويشتمل على ثمانية فصول:
الفصل الأول «1»: فى أقسام الصفات.
الفصل الثانى: فى تحقيق معنى التماثل والمثلين وإثبات ذلك على منكريه
الفصل الثالث: فى تحقيق معنى الخلافين.
الفصل الرابع: فى أنه هل يتصور الاختلاف بين الشيئين مع اشتراكهما فى أخص صفة النفس.
الفصل الخامس: فى تحقيق معنى المتضادين.
الفصل السادس: فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان.
الفصل السابع: فى تحقيق معنى الغيرين.
الفصل الثامن: فى تحقيق معنى المتقدم والمتأخر معا.
________________
(1) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفصول، أما فى النسخة (أ) فقد أورد الفصول بدون ترتيب أو ترقيم. وقد صححتها بناء على ما ورد فى ترتيب الفصول بالتفصيل، وبما ورد فى نسخة (ب).
(3/251)
________________________________________
الفصل الأول فى أقسام الصفات
مذهب أهل الحق:
أن الصفة الثبوتية تنقسم إلى صفة نفسية ومعنوية.
أما الصفة النفسية «1»: فعبارات الأصحاب فيها مختلفة، بناء على اختلافهم فى الأحوال «2».
فمن مال إلى نفى الأحوال- وهم الأكثرون- وهو الأصح على ما يأتى.
قالوا: الصفة النفسية: عبارة عن كل صفة ثبوتية راجعة إلى نفس الذات، لا إلى معنى زائد عليها.
ومنهم من قال: صفة النفس: كل صفة دل الوصف بها على الذات دون معنى زائد عليها. ومآل العبارتين، واحد؛ ويدخل فيها كون الجوهر جوهرا وذاتا، وشيئا وموجودا.
ولا يدخل فيها كونه حادثا، وقابلا للأعراض، ومتحيزا.
أما كونه متحيزا: فلأنا بينا أنه لا معنى له غير وجوده فى المكان، أو تقدير المكان «3».
ولا يخفى أن ذلك صفة زائدة على ذات الجوهر ملازمة له؛ لا أنها نفسه وذاته.
وأما كونه حادثا: فلا معنى له غير كون وجوده مسبوقا بالعدم؛ وذلك أيضا صفة زائدة على ذات الجوهر، لا أنها نفسه، وكذلك كونه قابلا للأعراض.
________________
(1) سماها الآمدي بالصفة غير المعللة: وعرفها بقوله: «و أما الصفة غير المعللة» فلا يفتقر الحكم بها على الذات إلى قيام صفة أخرى بالذات: كالعلم والقدرة ونحوهما، وقد يعبر عنها بالصفات النفسية» [المبين للآمدى ص 121].
(2) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 113/ ب وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى النوع الأول: فى أحكام الجواهر مطلقا. الفصل الثانى: فى معنى الحيز، والمتحيز، والتحيز ل 2/ ب وما بعدها.
(3/253)
________________________________________
ومن مال إلى القول بالأحوال؛ كالقاضى أبى بكر وغيره، فعنده صفات النفس أحوال زائدة على وجود النفس ملازمة لها، وأولى العبارات بهذا المذهب ما ذكره بعض الأصحاب. من أن الصفة النفسية عبارة عن: كل صفة ثبوتية زائدة على الذات لا يصح توهم انتفائها مع بقاء الذات الموصوفة بها؛ وذلك كما ذكر من الأمثلة.
فإن كون الجوهر جوهرا وشيئا وذاتا، ومتحيزا، وقابلا للأعراض، وحادثا بأحوال زائدة على وجود الجوهر عند القاضى، وغيره من القائلين بالأحوال، ولا يتصور توهم انتفائها مع بقاء ذات الجوهر.
وأما الصفة المعنوية: فعبارة عن كل صفة ثبوتية دل الوصف بها على معنى زائد على الذات [و تصديقا للذات دونها «1»] ثم اختلف أصحابنا.
فمن قال:/ بالأحوال قسم الصفة المعنوية إلى معللة كالعالمية والقادرية ونحوهما، وإلى غير معللة: كالعلم، والقدرة، ونحوه.
ومن أنكر الأحوال: أنكر الصفات المعللة، ولم يجعل كون العالم عالما، والقادر قادرا زائدا على قيام العلم، والقدرة بذاته.
وأما المعتزلة:
فإنهم قسموا الصفات إلى نفسية، ومعنوية، وإلى صفة حاصلة بالفاعل وليست نفسية ولا معنوية، وإلى صفة تابعة للحدوث، وليست حاصلة بفعل الفاعل، ولا هى نفسية ولا معنوية.
أما الصفة النفسية: فهم فيها مختلفون.
والّذي صار إليه الجبائى: أن صفة النفس أخص وصف النفس، وهو ما يقع به تماثل المثلين، واختلاف المختلفين: ككون السواد سوادا، والبياض بياضا، ولم يجعل كونه لونا صفة نفسية ولم يجوز اجتماع صفتى نفس فى شيء واحد.
وقال أكثرهم: صفة النفس هى الصفة اللازمة للنفس؛ وجوزوا على ذلك اجتماع صفتى نفس فى ذات واحدة؛ لإمكان تعدد الصفات اللازمة للنفس؛ ككون السواد سوادا، ولونا، وعرضا، وشيئا، ويدخل فيه كون الرب تعالى عالما، وقادرا؛ لكونه لازما
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/254)
________________________________________
لنفسه. واتفقوا: على أن صفة النفس: هى التى يشترك فيها الموجود والمعدوم، وتكون ثابتة للشىء فى حالة وجوده، وفى حالة عدمه.
كما ذكروه من الأمثلة.
وأما الصفة المعنوية: فقد اختلفت عباراتهم فيها أيضا.
فمنهم من قال: الصفة المعنوية: كل صفة معللة بمعنى زائد على الموصوف ككون العالم عالما، وكون القادر قادرا فى الشاهد.
ومنهم من قال: الصفة المعنوية كل صفة زائدة جائزة، وأما الصفة الحاصلة بالفاعل، وليست نفسية، ولا معنوية، فهى الحدوث عندهم.
وإنما «11» // قالوا الحدوث ليس صفة نفسية، لأن المعدوم الممكن عندهم يتصف بكونه نفسا مع انتفاء صفة الحدوث عنه، وليس صفة معنوية؛ إذ هو غير معلل.
وأما الصفات التابعة للحدوث: فهى ما لا تحقق لها فى حالة العدم، ولا يتصف بها الممكن المعدوم إلا بعد وجوده؛ وكلها متفقة فى امتناع استنادها إلى فعل فاعل، وقدرة قادر، وهى منقسمة، فمنها: ما هو واجب الحصول مع الوجوب، والحدوث.
ومنها: ما لا يجب حصوله عند الحدوث كتحيز الجوهر، وقبوله للأعراض، وحلول الأعراض فى المحل، وتضادها، وإيجاب العلة معلولها، وتقبيح القبيح.
وأما ما لا يجب حصوله/ عند الحدوث.
فمنه ما هو تابع للإدارة: وذلك ككون الأمر أمرا.
فإن قول القائل لغيره: افعل، قد يوجد، ولا يكون أمرا على ما تحقق قبل، وإنما يصير أمرا بالإرادة.
وككون الفعل تعظيما، وإهانة، وطاعة، ومعصية.
فإنه قد يوجد الفعل، ولا يوصف بشيء من ذلك دون القصد والإرادة، وأما حسن
________________
(11) // أول ل 36/ ب من النسخة ب.
(3/255)
________________________________________
الحسن: فمنهم من جعله من الصفات التابعة للحدوث وجوبا كالقبح.
ومنهم من جعله تابعا للإرادة، والقصد.
ومنه ما اختلفوا فى كونه تابعا للعلم أو الإرادة: كإحكام الفعل، وإتقانه، فمنهم من قال: إنه تابع للعلم دون غيره محتجا على ذلك. بأن من تدرب بصنعة، وحصل له بها ملكة؛ فقد يوجد منه في بعض الأحيان من تلك الصناعة ما هو على غاية الحكمة، والإتقان، من غير قصد وإرادة؛ وهو دليل استقلال العلم به.
ومنهم من قال إن المؤثر فى إحكام الفعل؛ إنما هو الإرادة مشروطا بكون العالم عالما به، واتفقوا على أن ما يؤثر فيه العلم لا فرق فيه بين العلم الضرورى، وغير الضرورى.
واختلفوا فيما تؤثر فيه الإرادة.
فمنهم من قال: المؤثر من الإرادات ما كان مقدورا مخترعا للمريد دون ما كان منها ضروريا، بخلاف العلم.
ومنهم من لم يفرق بين الإرادتين، كما لم يفرق بين العلمين؛ وهو اختيار أبى هاشم.
وإذ أتينا على تفاصيل مذاهبهم فى الصفات، واستقصائها على أحسن ترتيب؛
فلا بد من تتبعها على ما هو المألوف من عادتنا.
فنقول: أما أولا: فهو أن ما ذكروه من نسبة الصفات؛ فمبنى على فساد أصولهم أن المعدوم الممكن شيء وذات، وأن الوجود زائد عليه وسنتبين إبطاله فيا بعده «1».
ونبين أن المعدوم ليس بشيء، وأن كل صفات الإثبات لا تحقق لها إلا مع الوجود، وأنه ليس منها ما يكون متقدما عليه. هذا من جهة الجملة، وأما من جهة التفصيل فنقول:
________________
(1) راجع ما سيأتى فى الباب الثانى: فى المعدوم وأحكامه- الفصل الرابع ل 108/ ب وما بعدها.
(3/256)
________________________________________
أما قول الجبائى: فقد أكثر الأصحاب فى الرد عليه. بما لست قانعا به. والّذي نراه أن يقال: قوله: الصفة النفسية هى أخص وصف النفس، وما يقع به الاختلاف بين الذوات، إن أراد به ما يدل بالوصف به على نفس الذات، لا على معنى زائد عليها؛ فهو ما قاله أصحابنا.
وإن أراد به ما يدل الوصف به على معنى زائد على الذات، خاص بها دون غيرها وبه يقع الافتراق بين تلك الذوات، وغيرها.
وهو حال على ما هو مذهب؛ فهو مبنى علي القول بالأحوال؛ وسيأتى/ إبطاله «1».
وأما من قال منهم الصفة النفسية: ما كانت ملازمة للنفس؛ فقد وافقوا على أن صفة النفس لا تكون معللة.
ويلزمهم من ذلك أن تكون عالمية الرب تعالى وقادريته، ومريديته ليست من الصفات النفسية مع كونها ملازمة لذات الله تعالى، ضرورة أنها معللة بالعلم، والقدرة والإرادة، كما بيناه فى الصفات «2»، وعلى ما يأتى تحقيقه فى العلل، والمعلولات «3».
وأما قول من قال: الصفة المعنوية: كل صفة معللة بمعنى زائد على الموصوف بها.
فيلزمهم أن تكون عالمية الرب تعالى- صفة معنوية، وأن لا تكون العالمية فى الشاهد صفة معنوية، لما بيناه فى الصفات من امتناع تحقق الفرق بين العالمية شاهدا، وغائبا «4».
فإن ما هو اللازم لإحدى العالميتين، يكون لازما للأخرى.
وعند ذلك: فإن كانت العالمية فى الشاهد معللة؛ لزم مثله فى الغائب؛ وخرجت العالمية فى الغائب عن أن تكون صفة نفسية.
________________
(1) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث: فيما ليس بموجود ولا معدوم- الأصل الأول فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر من فى الجزء الأول- النوع الثانى: فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود ل 53/ ب وما بعدها.
(3) راجع ما سيأتى فى الباب الثانى- الأصل الثانى: فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل 117/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 72/ ب وما بعدها.
(3/257)
________________________________________
وإن كانت العالمية فى الغائب غير معللة؛ لزم مثله «11» // فى الشاهد، وخرجت العالمية فى الشاهد عن أن تكون معنوية، وكل واحد من الأمرين مخالف لأصولهم.
وأما قول من قال: الصفة المعنوية: كل صفة جائزة؛ فهو منقوض عليهم بالحدوث فإنه من الصفات الجائزة للجواهر، والأعراض، وليس هو من الصفات المعنوية عندهم.
وإن قالوا: المراد بالصفة الجائزة، ما كانت معللة؛ فهو عود إلى العبارة الأولى، وقد عرف ما فيها.
وأما ما ذكروه فى الصفة الحاصلة بالفاعل؛ وليست نفسية، ولا معنوية؛ فهو مبنى على كون الوجود زائدا على الذات المتصفة، بالوجود وأن المعدوم الممكن نفس، وذات؛ وسيأتى إبطاله «1».
وأما ما ذكروه من الصفات التابعة للحدوث.
أما ما قيل بوجوب ثبوته تابعا للحدوث، فهو حال لا ثبوت له قبل الحدوث.
وعند ذلك؛ فلا يخلوا إما أن يفرع على القول بثبوت الأحوال، أو نفيها فإن فرعنا على القول بنفى الأحوال، وهو الصحيح على ما يأتى «2».
فلا ثبوت لشيء من هذه الصفات التى قيل بوجوب اتباعها للحدوث، أو أن يكون من الصفات الوجودية، وكل موجود حادث؛ فلا بد له من فاعل بالاتفاق منا، ومن الخصوم؛ ولم يقولوا بكل واحد من القسمين. وإن فرعنا على القول بثبوت الأحوال؛ فقد تردد قول القاضى فيها.
فقال تارة: كقول المعتزلة: إنها غير مقدورة، بل مانعة/ للحدوث متمسكا فى ذلك بما عساه أن يكون مأخذ للمعتزلة فيه؛ على ما يأتى شرحه، وإبطاله
وقال تارة: إنها وإن كانت أحوالا: فهى وما لازمته من الوجود بالفاعل حتى أنه قال: إن كون العالم عالما، وكون القادر قادرا، فى الشاهد، وإن كان معللا بالعلم، والقدرة؛ فهو وعلته بالفاعل.
________________
(11) // أول ل 37/ أ من النسخة ب.
(1) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى- الفصل الرابع ل 108/ ب وما بعدها.
(2) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(3/258)
________________________________________
وليس معنى كون العلم علة للعالمية، أن العلم مقتض للعالمية: كاقتضاء القدرة مقدورها؛ بل معناه أن العالمية ملازمة في حدوثها لحدوث العلم لا غير؛ وهذا هو الحق وعليه التعويل إذا فرعنا على القول بالأحوال ويدل على ذلك. أن هذه الصفات صفات إثباتية متجددة بعد أن لم تكن.
وعند ذلك: فلا يخلو إما أن تكون واجبة لذاتها، أو ممكنة لذاتها.
لا جائز أن تكون واجبة الثبوت لذاتها لوجهين:
الأول: أنها لو كانت واجبة الثبوت لذاتها، لما زالت ثابتة وقد قيل إنه لا ثبوت لها قبل الحدوث.
الثانى: أنها لو كانت واجبة الثبوت لذاتها؛ لما كانت صفة للغير على ما عرف غير مرة.
وإن كانت ممكنة الثبوت لذاتها: فكل ما هو ممكن أن يكون؛ فهو ممكن أن لا يكون.
وما هذا شأنه؛ فلا بد له من مرجح لثبوته على نفيه، وإلا لتحقق أحد الجائزين من غير مرجح؛ وهو محال كما سبق «1».
وإذا لم يكن بد من المرجح؛ فقد بينا أنه لا مؤثر إلا الله تعالى «2».
ولا مثبت سواه؛ فيلزم أن تكون مستندة إليه كاستناد الحدوث إليه؛ هذا بالنظر إلى الدلالة.
وأما الإلزام: فهو أن الحدوث حال متجددة.
وما ذكروه من الصفات أحوال متجددة.
ولو قيل لهم ما الفرق بين الحدوث، وباقى صفات الأحوال اللازمة للحدوث، حتى كان الحدوث بفعل الفاعل، دون غيره، لم يجدوا إليه سبيلا.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول ل 41/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى: فى أنه لا خالق إلا الله- تعالى- ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل 211/ ب وما بعدها.
(3/259)
________________________________________
فإن قيل: الحدوث إنما افتقر إلى الفاعل؛ لأنه جائز أن يكون، وجائز أن لا يكون؛ بخلاف ما ذكرناه من الصفات.
فإنها مع فرض الحدوث ليست جائزة أن تكون، وجائزة أن لا تكون؛ بل واجبة الوقوع مع الحدوث؛ فلا يلزم من افتقار الحدوث إلى الفاعل؛ افتقارها إليه.
قلنا: فيلزمكم من تسليم كون الحدوث مستندا إلى الفاعل؛ لكونه جائزا؛ أن يكون وقوع الكلام مقيدا، ومصروفا إلى بعض جهات الإفادة وكذلك صرف الفعل إلى بعض جهاته من التعظيم، والإهانة، والطاعة والمعصية مستندا إلى/ الفاعل؛ لكونه جائزا بالاتفاق منهم؛ ولم يقولوا به. ثم قد بينا أن ما ذكروه من الصفات أيضا جائزة؛ فيلزم استنادها إلى الفاعل.
قولهم: إنها واجبة الوقوع مع الحدوث.
قلنا: الحدوث وما ذكروه من الصفات متلازمان وجودا، وعدما؛ فإنه كما أنه يلزم من الحدوث ما ذكروه من الصفات، ومن عدمه عدمها.
فكذلك يلزم تحقق الحدوث عند فرض تحققها وعدمه، عند فرض عدمها.
وعند ذلك: فليس القول بكون الحدوث جائزا، واستناده إلى الفاعل وجعل باقى الصفات واجبة التبعية؛ أولى من العكس.
وإن سلمنا أن الحدوث جائز، وباقى الصفات المذكورة واجبة.
فلم قلتم بأنه لا يعلل ما كان من الأحكام واجبا، وإنما «11» // يعلل منها ما كان جائزا؟
وعلى هذا: فكون العالم عالما فى الشاهد عند قيام العلم به: إما أن يكون واجبا، أو جائزا
فإن قلتم: إنه واجب؛ فيلزم أن لا يعلل طردا لأصلكم فى هذا الباب؛ وقد قيل إنه معلل؛ فلا يكون واجبا.
وإن كان جائزا: فيلزم استناده إلى الفاعل؛ ضرورة كونه جائزا كما قلتم فى الحدوث.
________________
(11) // أول ل 37/ ب.
(3/260)
________________________________________
إذا التفرقة من غير دليل؛ تحكم لا حاصل له.
فإن قيل: يلزم من حصول الحال بالفاعل محال؛ وما لزم عنه المحال؛ فهو محال؛ وبيان لزوم المحال من وجهين:
الأول: أنه لو أحدث الله- تعالى- شيئا، فعند حدوثه: إما أن يكون عالما بحدوثه أو غير عالم بحدوثه.
الثانى: محال وإلا كان البارى تعالى- جاهلا بحدوث الحوادث؛ وهو محال وإن كان عالما بحدوثه: فإما أن يكون عالما بحدوثه قبل وقت حدوثه كما قالت السالمية «1»: أنه- تعالى- كان عالما فى الأزل بأن العالم موجود قبل وقت وجوده لو لم يكن.
الأول: محال فإنه يلزم من كون الرب- تعالى- عالما بحدوث ما ليس بحادث أن يكون أيضا جاهلا؛ لكونه عالما بالشيء على خلاف ما هو عليه.
ويلزم من ذلك أن تكون عالميته بكونه حادثا متجددة، بتجدد الحدوث.
وعند ذلك: إما أن يقال بحصولها بالفاعل، أو لا يقال به.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا كانت عالمية الرب- تعالى- مخلوقة له؛ وهو محال باتفاق المسلمين.
والثانى: يوجب أن لا تكون الأحوال حاصلة بالفاعل؛ وهو خلاف الفرض.
أو أن يقال: بحصول بعض الأحوال بالفاعل دون البعض؛ وهو تحكم لا حاصل له؛/ وهو أيضا محال.
الوجه الثانى:
فى بيان لزوم المحال: أنه إذا جاز وقوع الأحوال بالفاعل، أمكن أن يكون كون المتحرك متحركا حاصل بالفاعل، ولا حاجة إلى الحركة وذلك يجر إلى إبطال القول بالأعراض، وإبطال الأعراض؛ يجر إلى إبطال القول بحدوث العالم؛ وهو محال.
________________
(1) السالمية: سبق الحديث عن هذه الفرقة فى هامش ل 123/ أ من الجزء الأول.
(3/261)
________________________________________
وهذه المحالات: إنما لزمت من كون الأحوال حاصلة بالفاعل؛ فيكون محالا.
قلنا: أما الإشكال الأول: فمندفع لوجهين:
الأول: أنا بينا فيما تقدم من الصفات أن علم الله- تعالى- قديم «1» أزلى «1» وأنه متعلق بالمعلومات المتجددة المختلفة من غير تجدد فيه، ولا اختلاف؛ وعالمية الرب- تعالى- حكم لعلمه.
فكما لم يلزم ذلك فى علمه؛ لم يلزم فى عالميته.
الثانى: أن ما ذكروه لازم عليهم حيث قالوا: إن القدرة لا تؤثر فى الذوات؛ إذ هى قديمة فى حالة العدم. وإنما تؤثر فى الوجود والوجود عندهم صفة حال؛ إذ لا ثبوت له قبل الحدوث.
وعند ذلك: فما هو جواب لهم فى حصول الوجود بالفاعل مع كونه حالا؛ فهو جواب لنا.
وأما الإشكال الثانى: ففيه جوابان أيضا.
الأول: أن ما ذكروه؛ إنما يلزم أن لو قيل الفاعل يؤثر فى الحال مطلقا، وليس كذلك، بل إنما يؤثر فى الحال دون الذات عند تأثيره فى إثبات الرابطة التى هى علة لها؛ ولا يمتنع أن يكون تأثير الفاعل فيها مشروطا بتأثيره فى الذات؛ لاستحالة ثبوت الحال، دون الذات التى هى علة لها.
الثانى: أنه يلزمهم ما ألزمناه، عليهم فى الإشكال الأول.
________________
(1) (قديم أزلى) ساقط من ب.
(3/262)
________________________________________
الفصل الثانى فى تحقيق معنى التماثل والمثلين، وإثبات ذلك على منكريه «1»
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى امتناع تحقق التماثل بين شيئين أصلا محتجا على ذلك بأن كل شيئين: إما أن يتفقا من كل وجه، أو يفترقا من كل وجه، أو يتفقا من وجه، ويفترقا من وجه.
فإن كان الأول: فلا تعدد، ولا تمايز.
وإن كان الثانى والثالث: فلا مماثلة؛ لأن المماثلة مع التباين محال، وخالفه فى ذلك جماعة العقلاء من الأشاعرة، والمعتزلة، وغيرهم من الطوائف، ثم اختلف القائلون بالتماثل فى العبارات الدالة على معنى المثلين.
أما أصحابنا: فالمثلان عندهم: عبارة عن كل موجودين مشتركين فى الصفات النفسية.
ومن لوازم الاشتراك فى الصفات النفسية بين كل شيئين مشاركة كل واحد منهما للآخر فيما يجب له، ويجوز عليه، ويمتنع ولا جرم قال: بعض الأصحاب «2»: المثلان كل شيئين يسد أحدهما مسد الآخر فيما/ يجب، ويجوز من الصفات.
وقال آخر: المثلان هما الموجودان اللذان يجب لأحدهما ما يجب للآخر، ويجوز عليه ما يجوز عليه، ويمتنع عليه، ما يمتنع عليه «3» وعلى هذا: فمن قال من أصحابنا بعود الصفات النفسية إلى نفس الذات لا إلى معنى زائد عليها على ما عرف.
قال: التماثل بين الذوات لأنفسها «11» // وذواتها؛ غير معلل بأمر زائد عليها.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا.
انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 292 وما بعدها، والمواقف للإيجي ص 82 وشرح المواقف للجرجانى 4/ 80 وما بعدها.
(2) هو إمام الحرمين الجوينى. انظر الشامل ص 292.
(3) انظر المصدر السابق.
(11) // أول ل 38/ أ من النسخة ب.
(3/263)
________________________________________
ومن قال بعود الصفات النفسية إلى الأحوال اللازمة: كالقاضى «1» أبى بكر، فقد تردد فى التماثل: هل هو حال زائد على ما للذوات من الأحوال اللازمة من صفات الأجناس، أم لا؟
فقال تارة: إنه غير زائد عليها؛ لأنه لو كان زائدا عليها: فإما أن يكون ثابتا للواحد من الذوات بتقدير أن لا يخلق غيره، أو لا يكون ثابتا له إلا بتقدير خلق غيره من الذوات المشاركة فى الصفات النفسية.
الأول: محال؛ فإن الشيء لا يماثل نفسه، وإنما يماثل غيره، ولا غير.
والثانى: يلزم منه خلو الذات عن الحال الثابت لها من غير معنى؛ وهو خلاف المتفق عليه.
وقال تارة: إنه لا يمتنع كونه زائدا عليها، ويكون ثابتا لكل واحد من آحاد الذوات بتقدير انفراده.
وإن لم يتم تماثلها إلا بتقدير وجود ما يشاركه فى صفاته النفسية [فإنا وإن أعدنا التماثل إلى الصفات النفسية «2»]؛ فلا بد من تقرير هذا المعنى فيه.
فإن ما ليس من الصفات النفسية لا يختلف، كان ذلك مفردا، أو مع غيره، ومع ذلك فإنه لا يطلق عليه التماثل بتقدير انفراده بالنظر إلى ما له من الصفات النفسية؛ دون وجود ما يشاركه فيها.
وإذا أمكن ذلك بتقدير عود التماثل إلى الصفات النفسية؛ أمكن مثله بتقدير أن يكون التماثل زائدا عليها.
وعلى هذا قال: إن أعدنا التماثل إلى صفات الأجناس امتنع تعليله؛ لأن صفات الأجناس: ككون الجوهر جوهرا والسواد سواد، غير معلل بالاتفاق؛ وعلى ما سيأتى تحقيقه فيما بعد «3». وإن أعدنا التماثل إلى أمر زائد، على صفات الأجناس، ففى تعليله تردد هذا:
________________
(1) انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 293.
(2) ساقط من (أ).
(3) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل الثامن- فيما يعلل وما يعلل ل 125/ ب وما بعدها.
(3/264)
________________________________________
وأما نحن فنقول: الأشبه بالتفريع على القول بالأحوال، أن لا يكون التماثل زائدا على صفات الأجناس.
فإن إثبات ما لم يدل الدليل عليه، ولا العلم به ضرورى؛ ممتنع، وبتقدير أن يكون زائدا على صفات الأجناس؛ فالأشبه أن يكون معللا بها وإذا عرف معنى التماثل، وأنه اشتراك الموجودين فى الصفات النفسية؛ فليس من ضرورة ذلك الاشتراك فى كل ما يعرض من/ الصفات الخارجة عنها. [و على كلا التفسيرين «1»] فقد بطل معتمد المنكرين للتماثل.
وإذ أتينا على ما أردناه من تحقيق مذهب أهل الحق فى التماثل؛ فلا بد من الإشارة إلى أقوال المعتزلة فى ذلك، والتتبع لها؛ وقد اختلفت عباراتهم فيه:
فقال ابن الجبائى «2»، وأكثر المعتزلة: المثلان هما المجتمعان فى أخص أوصاف النفس، وأجمع هؤلاء على أن الاجتماع فى الأخص، موجب للاجتماع فى سائر صفات النفس، التى ثبتت لا لمعنى.
وقال الجبائى: المثلان هما المستويان فى صفة النفس.
وقال النجار: المثلان هما المجتمعان فى صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالتالى وهذه الأقوال كلها مدخولة.
أما قول من قال: المثلان هما المجتمعان فى أخص أوصاف النفس، فهو باطل من أربعة أوجه.
الأول: أنه مبنى على القول بالأحوال، وأن النفس لها صفات خاصة، وعامة حالية وسيأتى ابطاله «3».
الثانى: وإن سلمنا ذلك جدلا، غير أنه يلزم مما ذكروه؛ تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة، وهو محال.
________________
(1) فى (أ) (و على هذا).
(2) المقصود به أبو هاشم انظر عنه ما مر فى هامش ل/ 11 ب من الجزء الأول.
(3) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(3/265)
________________________________________
وبيان اللزوم: هو أن حكم التماثل بين المتماثلات، واحد من حيث هو تماثل؛ فقد يوجد ذلك بين السوادين، كما يوجد بين البياضين. وإذا جاز تماثل البياضين؛ لاستوائهما فى أخص وصف البياض وتماثل السوادين، لاشتراكهما فى أخص وصف السواد؛ فلا يخفى أن أخص وصف السواد، مخالف لأخص وصف البياض؛ وبه وقع الاختلاف بين السواد، والبياض.
ويلزم من ذلك أن يكون التماثل بين البياضين، وبين السوادين مع اتحاد مفهومه معللا بخصوص وصف السواد، وخصوص وصف البياض مع اختلافهما فيه، وتعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة؛ وهو محال «1».
وإلا لجاز أن يكون حكم العالمية؛ معللا بالعلم تارة، وبالقدرة تارة؛ وهو خلاف المعقول، وحكم العالم من حيث هو عالم، وإن لم يختلف عندنا شاهدا ولا غائبا بناء على قولنا بالأحوال؛ فهو معلل بالعلم والعلم من حيث هو علم لا يختلف شاهدا ولا غائبا؛ وإن اختلفا فى جهة العرضية، والحدوث. وغير ذلك؛ فكانت علة الحكم فى الشاهد، والغائب واحدة؛ بخلاف ما ذكروه.
فإن قيل: والتماثل بين السوادين، وبين البياضين، وإن كان واحدا إلا أنه معلل فى البياضين، والسوادين، بالاشتراك فى أخص وصفيهما، وأخص وصف السواد من حيث هو أخص وصف؛ لا يخالف أخص وصف البياض/ من حيث هو «11» // أخص وصف وإن اختلفا من جهة السوادية، والبياضية؛ فتعليل التماثل فى الكل؛ يكون أيضا بعلة واحدة.
قلنا: فاخص وصف النفس: إما أن يكون زائدا فى البياض، والسواد على مفهوم كون السواد سوادا، ومفهوم كون البياض بياضا، أو لا يكون زائدا عليه.
فإن كان الأول: فهو باطل من وجهين:
________________
(1) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل السابع: فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين، ولا بعلة مركبه من أوصاف ل 125/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 38/ ب من النسخة ب.
(3/266)
________________________________________
الأول: أن كون السواد سوادا، وكون البياض بياضا. صفة حالية «1» عند هذا القائل وكونه أخص وصف لو كان صفة زائدة عليه؛ لكان حالا. ويلزم منه قيام الحال بالحال؛ وهو محال.
الثانى: أنه لو كان صفة زائدة، على كون السواد سواد، والبياض بياضا: فإما أن يكون أخص وصف له، أو أعم.
لا جائز أن يكون أعم؛ إذ الأعم لا يوجب كون ما اتصف به أخص، وإن كان أخص؛ فكونه أخص أيضا. صفة زائدة عليه، والكلام فى هذه الصفة الزائدة» كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: وهو أن لا يكون صفة زائدة على كون السواد سوادا، وكون البياض بياضا؛ فقد لزم المحذور؛ وهو تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة «2».
الوجه الثالث:
هو أن الاشتراك فى أخص وصف النفس: إما أن يوجب الاشتراك فى الأعم، أو لا يوجب.
فإن كان الأول: فالكلام عليه من وجهين.
الأول: أنه يلزم منه أن لا يقع الاشتراك فى الوصف الأعم بين المختلفات؛ لأنه لو وقع الاشتراك بين المختلفات فى الأعم، فإما أن يكون لموجب، أو لا للموجب.
فإن كان الأول: فلا بد وأن يكون غيرها أوجه من الاشتراك فى الوصف الأخص، وفيه تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة؛ وهو محال كما سبق «3».
وإن كان الثانى: فهو أيضا محال؛ لما تقدم فى الصفات العامة «4».
________________
(1) عرف الآمدي الصفة الحالية فقال: «و أما الصفة الحالية، ويعبر عنها بالصفة المعللة: فما كانت فى الحكم بها على الذات تفتقر إلى قيام صفة أخرى بالذات، ككون العالم عالما والقادر قادرا».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص 120].
(2) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل لسابع ل 125/ أ وما بعدها.
(3) المصدر السابق.
(4) راجع ما تقدم فى الفصل الأول ل 65/ أ وما بعدها.
(3/267)
________________________________________
الثانى: أنه إذا كان الاشتراك فى الأخص موجبا للاشتراك فى الأعم؛ فالتماثل لا يتم بدون الاشتراك فى جميع صفات النفس ولا معنى لتخصيص ذلك، بالاشتراك فى الأخص دون غيره وهذا هو مذهبنا.
وإن كان الثانى: وهو أن لا يكون موجبا للاشتراك فى الأعم؛ فهو خلاف أصولهم.
الرابع: أنه لو كان تماثل المثلين، معللا بالاشتراك فى أخص وصف النفس؛ فالتماثل بين السوادين، أو البياضين: إما أن يكون واجبا لهما، أو جائزا.
فإن كان الأول: فهو ممتنع على أصلهم؛ إذ من أصلهم امتناع تعليل الواجب.
/ ولهذا قالوا بأن عالمية الرب- تعالى- لما كانت واجبة له؛ امتنع أن تكون معللة بالعلم «1».
ولو أمكن التعليل بغير الوجوب «2» فما المانع من تعليل عالمية الرب تعالي مع وجوبها.
ولا يخفى أن الفرق تحكم غير معقول.
وإن كان الثانى: لزم جواز تماثل السوادين تارة، واختلافهما تارة؛ وهو ظاهر الإحالة.
وقد أورد الأستاذ أبو إسحاق «3» اعتراضين آخرين لا بد من سردهما، والتنبيه علي ما فيهما.
الأول أنه قال: الإرادات كلها تشترك فى معنى الإرادة من حيث هى إرادة- واختلافها؛ إنما يكون بالنظر إلى متعلقاتها من الحركة والسكون، وغيره.
فالإرادة المتعلقة بالسكون من حيث هى متعلقة بالسكون مخالفة للإرادة المتعلقة بالحركة من حيث هى متعلقة بالحركة- فأخص وصف هذه تعلقها بالحركة، وهذه بالسكون؛ والقدرة المتعلقة بالحركة مشاركة للإرادة المتعلقة بها فى التعلق بالحركة.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى- المسألة الرابعة ل 72/ ب وما بعدها.
(2) فى ب (و لو لم يكن التعليل مع الوجوب.
(3) انظر عنه ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الأولى هامش ل 5/ أ.
(3/268)
________________________________________
وكذلك فى السكون [فقد شاركت القدرة المتعلقة بالحركة أو السكون] «1» للإرادة المتعلقة بالحركة أو السكون في أخص وصفهما؛ وهما مختلفان.
الثانى: أنه قال: لو كان التماثل هو الاشتراك فى أخص وصف النفس، لما عرف تماثل المثلين، من جهل أخص وصف النفس الّذي هو علة التماثل؛ وليس كذلك؛ فإنا نعلم من حال كل عاقل؛ أنه يعلم تماثل البياضين، وتماثل السوادين، وإن كان حاصلا بأخص وصف نفس كل واحد منهما؛ وهما ضعيفان.
أما الأول: فلقائل أن يقول: لا نسلم أن أخص وصف الإرادة المتعلقة بالحركة أو السكون تعلقها بالحركة، أو السكون مطلقا، بل أخص وصفها تعلقها بتخصصه بحالة دون حالة، أو زمان دون زمان؛ وأخص وصف القدرة المتعلقة به، كونها مخصصة لوجوده دون عدمه، كما سبق تحقيقه فى الصفات «2».
ولا يخفى اختلاف الأمرين.
وأما الثانى: فمع التفريع على القول بالأحوال.
إنما يلزم ما ذكر أن لو لم تتوقف معرفة الحكم على علته؛ وهو غير مسلم؛ بل معرفة العلة إنما يتوصل إليها عند الجهل بها من حكمها. وأما إن كان ذلك «11» // منه مع التفريع على القول بنفى الأحوال؛ فلا علة ولا معلول عنده.
فكيف يصح القول بأن من لم يعلم العلة لا يعلم حكمها.
وأما قول الجبائى: المثلان هما المشتركان فى صفة النفس. إن أراد بصفة النفس ما يدل الوصف به على الذات لا على معنى زائد عليها؛ فهو القول/ المختار على أصلنا.
وإن أراد به ما يدل الوصف به؛ على معنى زائد على الذات، فإن أراد به جميع أوصاف النفس؛ فهو قول القاضى من أصحابنا، وهو مبنى على القول بالأحوال؛ وسيأتى إبطالها «3».
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- لقسم الأول- النوع الثانى- المسألة الثالثة: فى إثبات صفة الإرادة ل 64/ ب وما بعدها.
(11) // أول 39/ أ.
(3) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(3/269)
________________________________________
وإن أراد أخص وصف النفس، كما ذهب إليه ابنه؛ فيلزمه ما لزمه.
وأما قول النجار «1»: المتماثلان هما المشتركان فى صفة من صفات الإثبات إذ لم يكن أحدهما بالثانى.
إما أن يريد به أن الشيئين إذا اشتركا فى الصفة الإثباتية فهما متماثلان مطلقا من كل وجه، كما قاله أرباب الخصوص؛ وهما متماثلان فيما وقع الاشتراك به لا غير.
فإن كان الأول: فهو منتقض بالسواد والبياض، فإنهما قد اشتركا فى صفة من صفات الإثبات: كالعرضية، والكونية، والحدوث وليس أحدهما من الثانى؛ وهما غير متماثلين من كل وجه؛ بل هما مختلفان.
وإن كان الثانى: فيلزمه جواز التماثل بين الشيئين من وجه دون وجه، وقد وافق على أن الرب تعالى- مشارك لبعض الحوادث فى بعض الصفات الإثباتية: كالعالمية، والقادرية.
ولم يجوز مع ذلك القول بكون الرب- تعالى- مماثلا للحوادث أصلا، ولا من وجهة ما.
وعلى هذا: فلو قيل له: ما المانع أن يكون الرب- تعالى- مماثلا للحوادث من جهة دون جهة، لم يجد إلى دفعه سبيلا.
________________
(1) انظر رأى النجار والرد عليه فى الشامل للجوينى ص 293 وما بعدها.
(3/270)
________________________________________
الفصل الثالث فى تحقيق معنى الخلافين «1»
وقد اختلفت عبارات أصحابنا فى معنى الخلافين، تفريعا على القول بالأحوال، ونفيها.
فمن قال: بالأحوال.
قال: المختلفان كل شيئين اختص كل واحد منهما عن الآخر ببعض صفات النفس الحالية دون البعض؛ [لأن الاختلاف على هذا التفسير لا يكون إلا بين الذوات] «2» وإنما «3» كان كذلك؛ لأن الاختلاف لا يكون بين الموجودات، وذلك أن الاختلاف صفة إثبات، فلا يكون لما ليس بثابت.
وبيانه أن نقيض الاختلاف؛ لا اختلاف، ولا اختلاف عدم محض؛ لصحة اتصاف العدم المحض به.
ولو كان صفة ثبوتية: لامتنع أن يكون صفة العدم المحض.
وعلى هذا: فالتماثل، والتضاد، والتغاير، صفة ثبوتية أيضا لمثل هذا البيان «3».
وعلى القول بالأحوال فالوجود يكون مشتركا بين جميع الموجودات. والوجود صفة نفسية؛ لكل ذات على أصولنا.
ولا يتصور اختصاص بعض الذوات به دون البعض. وعلى هذا: فيكفى فى الاختلاف اختصاص أحد الموجودين عن الثانى ببعض صفات النفس الحالية.
ولا يتصور أن يكون أحدهما/ مختصا عن الآخر بجميع صفات النفس.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر: الشامل في أصول الدين للجوينى ص 292 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 82 وما بعدها، وشرح المواقف للجرجانى 4/ 86 وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) من أول قوله: «و إنما كان كذلك .... إلى قوله: هذا البيان» ساقط من ب.
(3/271)
________________________________________
وذلك كالاختلاف بين الجوهر، والعرض، والسواد، والبياض. فإن الجوهر قد اختص عن العرض بكونه جوهرا، وقابلا للأعراض ومتحيزا، والعرض عن الجوهر بكونه عرضا، وقائما بالمحل، فإن اشتركا فى الوجود والحدوث، وكل ذلك من الصفات النفسية.
وكذلك السواد مختص عن البياض بكونه سوادا، [و البياض عن السواد بكونه بياضا، وهما من الصفات النفسية، وإن اشتركا فى غير ذلك من الصفات النفسية] «1» كالعرضية، والقيام بالمحل والوجود، والحدوث.
وهل يصح إطلاق التماثل على المختلفين باعتبار ما اشتركا فيه من بعض صفات النفس: كالوجود، وغيره.
فالمنقول عن القاضى، والقلانسى «2» من أصحابنا: أنه لا مانع من ذلك فى الحوادث لفظا ومعنى، إذا لم يرد به التماثل فى غير ما وقع به الاشتراك؛ ولهذا قال القلانسى كل مشتركين فى الحدوث؛ فهما متماثلان فى صفة الحدوث.
وعلى هذا: فمن قال بأن البارى- تعالى- مماثل لغيره فى الوجود؛ فهو غير ممتنع معنى، وإن كان ذلك ممتنعا سمعا؛ لعدم ورود السمع به.
وأما من قال بنفى الأحوال.
قال: المختلفان كل موجودين اختص أحدهما عن الثانى بما يدل الوصف به على نفسه، وذاته، دون معنى زائد.
وعلى هذا: فلا يتصور على هذا الأصل اشتراك المختلفين فى بعض الصفات النفسية «3»، دون البعض «3» أصلا.
إذ الصفة النفسية على هذا عائدة إلى نفس الذات، لا إلى صفة زائدة عليها، وذات كل واحد من المختلفين، لا تحقق لها فى الآخر.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) القلانسى: أحمد بن عبد الله بن خالد. المتوفى سنة 335 ه سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 124/ أ.
انظر الشامل للجوينى ص 293 حيث قال: «و حكى الأستاذ أبو بكر عن القلانسى ... الخ».
(3) (دون البعض) ساقط من ب.
(3/272)
________________________________________
فلا يكون الاختلاف بين المختلفين معللا بصفة زائدة على ذاتيهما؛ بخلاف ما إذا كان الاختلاف بالأحوال الزائدة على ذات المختلفين.
فإن قيل: فهل يجوز على هذين الأصلين إطلاق القول بأن الله- تعالى- مخالف لخلقه، وأن ما له من الصفات مختلفة، أم لا؟
قلنا: أما إطلاق كون الرب- تعالى- مخالفا لخلقه، وخلاف خلقه؛ فمتفق عليه عند أصحابنا، وأكثر المتكلمين.
فلا مانع منه نظرا إلى «11» // المعنى، ولا بالنظر إلى اللفظ؛ إذ الإطلاق بذلك فى كل عصر شائع، ذائع من غير نكير؛ فكان ذلك مجمعا عليه.
ومن المعتزلة: من منع من إطلاق ذلك، كالصيمرى «1»، وأبى الهذيل «2» محتجين على ذلك بأنه لو كان الرب- تعالى مخالفا لخلقه؛ لكان ذلك من أسمائه ولكفر منكره؛ وهو خلاف الإجماع؛ وهو غير صواب.
إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن كل ما يعتقد أنه من صفاته- تعالى- يكون معدودا من أسمائه «3».
وإن سلم ذلك؛ فلا نسلم/ أن كل ما كان معدودا من أسمائه يكفر منكره؛ على ما سيأتى تحقيقه فيما بعد «4».
وأما الصفات: فقد اختلف أصحابنا فيها.
فمنهم من قال: ليست متماثلة، ولا مختلفة؛ لأن التماثل والاختلاف، بين الشيئين، يستدعى المغايرة بينهما.
وصفات الرب- تعالى- غير متغايرة؛ على ما سبق في الصفات «5» وعلى هذا الأصل، يجب أخذ الغيرية قيدا فى حد المثلين، والخلافين.
________________
(11) // أول ل 39/ ب من النسخة ب.
(1) الصيمرى: عباد بن سليمان الصيمرى المتوفى سنة 250 ه سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 64/ ب.
(2) أبو الهذيل العلاف: سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 72/ ب
(3) انظر ما سبق فى الجزء الأول- النوع السابع: فى أسماء الله الحسنى ل 292/ أ وما بعدها.
(4) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل 240/ ب وما بعدها.
(5) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 54/ أ وما بعدها.
(3/273)
________________________________________
وقال القاضى أبو بكر: بالاختلاف نظرا إلى ما اختصت به كل صفة من الصفات النفسية من غير التفات إلي وصف الغيرية.
والحق فى ذلك أن من أنكر الاختلاف؛ لا ينكر اختصاص كل صفة من صفات الرب- تعالى- بما لا ثبوت له فى باقى الصفات من الصفات النفسية. ومن أثبت الاختلاف لا ينكر انتفاء الغيرية عن صفات الرب- تعالى- بالتفسير السابق ذكره، غير أن كل واحد منهما. يقول: أنا لا أعنى بالخلافين إلا ما ذكرته، ولا منازعة فى الاصطلاحات بل المتبع فى ذلك إنما هو ورود السمع [فما ورد السمع] «1» بإطلاقه أطلق، وإلا فلا.
وإذا عرف ما نعنى، بمعنى التماثل، والاختلاف فلا يخفى أن البياضين متماثلان، وأن السواد، والبياض مختلفان، نظرا إلى ما ذكرناه من المعنى.
ولا مانع من إطلاق ذلك لغة.
فإن من قال: البياضان متماثلان، والبياض، والسواد مختلفان؛ لم ينكر عليه أحد من أهل اللسان، وبه يظهر فساد قول من قال من المتكلمين، إن التماثل، والاختلاف؛ لا يكون إلا فى الجواهر بما قام فيها من الأعراض التى فى حكم التماثل: كبياضين، أو الاختلاف كسواد، وبياض مثلا؛ وأن الأعراض لا تكون متماثلة، ولا مختلفة؛ لعدم قيام العرض بالعرض.
والّذي يؤكد بطلان مذهبه أنه إذا كان البياضان: كالسواد مع البياض فيما يرجع إلى سلب التماثل، والاختلاف عنهما؛ فيلزم أن لا يختلف حكم الجوهرين سواء قام بهما بياضان أو بأحدهما بياض، وبالآخر سواد، وهو محال.
فإن قيل: البياضان وإن لم يكونا متماثلين؛ فهما فى حكم المماثلة، والسواد، والبياض، وإن لم يكونا مختلفين؛ فهما فى حكم المخالفة، فافترقا.
قلنا: إما أن يراد بحكم المماثلة والمخالفة، وجود خاصية المماثلة، والمخالفة من الاشتراك فى الصفات النفسية، والاختلاف فيها، أو الافتراق فإن كان الأول: فهو المطلوب، ولا حرج فى العبارة.
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/274)
________________________________________
وإن كان الثانى: فلا بد من/ تصويره، والدلالة عليه، ولا يقتنع بمجرد العبارة الخلية عن المعنى.
وقد سلك الأصحاب فى الرد على هذا المذهب «1» طريقين آخرين:
الأول: أنه لو كان تماثل الجواهر، واختلافها بما قام بها من الأعراض التى هى فى حكم المماثلة، والاختلاف، للزم منه أن يقضى بالتماثل، والاختلاف على الجوهرين معا عند ما إذا اتصفا بالبياض، وأحدهما بالحركة والآخر بالسكون، وهو محال.
الثانى: أنه يلزم منه أن يكون الجوهر الواحد مماثلا لنفسه أو مخالفا لنفسه، عند ما إذا تعاقب عليه بياضان، أو بياض وسواد، فى وقتين مختلفين؛ وهما ضعيفان.
أما الأول: فلأنه لا يمتنع بالتفريع على المذهب المذكور أن يقال بالتماثل بين الجوهرين من وجه، والاختلاف من وجه.
وأما الثانى: فمن جهة أن التماثل، والاختلاف، وإن كانا على مذهب هذا القائل بالأعراض غير أنه مشروط بالتغاير؛ ولا مغايرة بين الشيء، ونفسه.
وإذا عرف معنى المثلين، والخلافين.
فاعلم أن من قال المثلان: كل موجودين اشتركا فى جميع الصفات النفسية والخلافان: ما اختص كل واحد عن الآخر ببعض الصفات النفسية؛ فلا يتصور عنده أن يقال بتماثل الشيئين من وجه، واختلافهما من وجه، إذ التماثل يوجب الاشتراك فى جميع الصفات النفسية، والاختلاف مانع منه؛ وهو متناقض محال.
ومن قال: بأن كل شيئين اشتركا في أى صفة كانت من صفات الإثبات لم يمنع أن يقال: باختلاف الشيئين من وجه، وتماثلهما من وجه؛ بناء على ما وقعت به المشاركة بينهما، والاختلاف.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 295 وما بعدها.
(3/275)
________________________________________
الفصل الرابع «11» // فى أنه هل يتصور الاختلاف بين الشيئين مع اشتراكهما فى أخص صفة النفس «1»؟
نقول اختلف المتكلمون فى ذلك:
فاختار القاضي أبو بكر، وجماعة من أصحابنا، وجميع المعتزلة المنع من ذلك.
ومنهم من جوزه: وهو قول القاضى أيضا.
احتج النافون: بأنه لو جاز ذلك؛ لجاز اشتراك السوادين في أخص وصفيهما؛ وهو كون كل واحد منهما سوادا؛ مع اختصاص أحدهما بصفة نفسية لا ثبوت لها فى الآخر؛ بأن يكون أحدهما سوادا حلاوة، والآخر سوادا ليس بحلاوة؛ وذلك يجر إلى كون العرض الواحد سوادا حلاوة؛ وهو محال وبيان الإحالة:
أما على القول: بنفى الأحوال؛ فظاهر/.
إذ السواد والحلاوة وجودان، وذاتان؛ وليس لهما حال زائدة عليهما ويستحيل فى العقل أن يكون الموجود الواحد له وجودان، والذات الواحدة ذاتان.
وأما على القول: بإثبات الأحوال.
فقد احتج الأصحاب عليه بمسالك:
________________
(11) // أول ل 40/ أ من النسخة ب.
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر: الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 307 وما بعدها، فقد تحدث عن هذا الموضوع بذكر مذهب أهل الحق كما ناقش المعتزلة بالتفصيل: قال: «و نحن الآن نذكر مذهب أهل الحق، ثم ننعطف على ذكر مذاهب المخالفين» قال:
«إذا قال قائل: ما حقيقة صفة النفس عندكم؟
قلنا صفة النفس عندنا: كل صفة إثبات راجعة إلى ذات لا لمعنى زائد عليها، وهذا الحد سديد مطرد، منبئ عن الغرض والمقصد؛ فيدخل تحت هذا، كون الجوهر جوهرا، وتحيزه، وكونه شيئا وذاتا، وقبوله للأعراض، ووجوده وحدوثه، وكذلك القول فى جملة صفات الأجناس» [الشامل للجوينى ص 308].
(3/276)
________________________________________
[المسلك] الأول:
أنه لو جاز أن يكون العرض الواحد سوادا علما؛ لكان من حيث هو علم مشروطا بالحياة، ومن حيث هو سواد غير مشروط بالحياة؛ وذلك فى العرض الواحد محال؛ وهو ضعيف لانتقاضه بالعلم، فإنه مشروط بالحياة من حيث هو علم.
وإن لم يكن مشروطا بها من حيث هو عرض.
وما هو الجواب عنه هاهنا، به يكون الجواب فى محل النزاع.
المسلك الثانى:
أنه لو جاز أن يكون سوادا حلاوة وسوادا ليس بحلاوة؛ لم يخل: إما أن يكونا مثلين «1»، أو خلافين «2».
لا جائز أن يقال بالأول: لأن المماثلة: إنما تتم بالاشتراك فى جميع صفات النفس؛ وذلك غير محقق فيما نحن فيه، وإن كانا خلافين؛ فإما متضادان، أو غير متضادين.
لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لتضادا فى كل صفة اختلفا فيها: كالسواد والبياض؛ وليس كذلك فيما نحن فيه.
وإن كان الثانى: لم يمتنع اجتماعهما.
وعند ذلك: فلو طرأ على محلهما بياض، فلا شك فى كونه مضادا للسواد الّذي ليس بحلاوة، والسواد الّذي هو حلاوة، إن لم يضاده أمكن أن يجتمعا؛ وهو محال.
وإن ضاده من حيث هو سواد؛ وجب أن لا يضاده من حيث هو حلاوة؛ ويلزم من ذلك أن يكون العرض الواحد مضادا لشيء، وغير مضاد له، وهو ممتنع.
وهذه المحالات؛ إنما لزمت من القول بكون السواد حلاوة؛ فيكون محالا؛ وهو أيضا ضعيف من وجهين:
________________
(1) راجع ما مر ل 72/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما مر ل 75/ أ وما بعدها.
(3/277)
________________________________________
الأول: أن لقائل أن يقول: المثلان ضدان على أصولكم وعند ذلك فلا مانع أن يقال: بتضاد السوادين المفروضين من جهة [ما تماثلا فيه لا من جهة «1»] ما اختلفا فيه.
وعلى هذا: فلا يلزم التضاد بينهما فى كل ما وقع به الاختلاف بينهما.
الثانى: وإن سلم الاختلاف بينهما من غير تضاد؛ ولكن ما المانع منه؟
والقول: بأنه يفضى ذلك إلى أن يكون البياض مضادا له من حيث هو سواد؛ ولا يكون مضادا له من حيث هو حلاوة؛ فليس يمتنع، وأنه إذا لم يمتنع عدم مضادة البياض للسواد من حيث هو عرض، وحادث، وموجود.
وإن كان مضادا له من حيث هو سواد؛ فلا يمتنع أن يكون البياض مضادا للسواد من حيث هو سواد/؛ ولا يكون مضادا له من حيث هو حلاوة.
المسلك الثالث:
أنه لو جاز أن يكون السواد حلاوة؛ لأمكن أن يكون أيضا علما، وقدرة وإرادة، وأن يجتمع فى العرض الواحد خصائص جميع الأعراض المختلفة مع اتحاده؛ وهو ممتنع لثلاثة أوجه:
الأول: أن ما قام به من المحل يجب أن يكون عالما قادرا أسود، وفيه تعليل الأحكام المختلفة بعلة واحدة «2».
ولو جاز ذلك؛ لجاز أن يكون العلم موجبا للقادرية، والمريدية، وهو ممتنع.
الثانى: أنا إذا علمنا كون المحل أسود، ثم علمنا كونه عالما، وقادرا، ومريدا فإنه يدل على أمر زائد على ما دل عليه ما علمناه منه أولا من كونه أسود؛ وذلك معلوم بالضرورة.
فلو جاز أن يكون السواد هو العلم، والقدرة؛ لبطلت دلالة ما علمناه من كونه عالما وقادرا على أمر زائد على ما دل عليه كونه أسود؛ ويلزم منه نفى الأعراض، وإبطال طريق التوصل إليها من أحكامها.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل السادس: فى أن العلة الواحدة هل توجب حكمين مختلفين أم لا؟ ل 123/ أ.
(3/278)
________________________________________
وكل كلام في تفاصيل الأعراض؛ إذا جر إلى نفى أصل الأعراض؛ كان متناقضا «1».
الثالث: أنه يلزم من ذلك امتناع التمييز بين الأعراض وما جر إلى نفى ما هو معلوم بالضرورة؛ فهو «11» // محال؛ وهو ضعيف أيضا.
إذ لقائل أن يقول:
أما الأول: فإنما يلزم أن لو لم يكن للعرض الواحد أحوال متعددة موجبة لتلك الأحكام المختلفة، وليس كذلك على ما هو أصل الخصم هاهنا.
وأما الثانى: فإنّا وإن سلمنا دلالة العالم على أمر زائد على ما دل عليه الأسود؛ لكن من جهة أن العالم يدل على عرض أخص وصفه كونه عالما، والأسود يدل على عرض أخص وصفه كونه سوادا، وكونه عالما وكونه سوادا، أحوال زائدة على نفس العرض المتصف بها؛ وليس فيما ذكرتموه دلالة على امتناع اتحاد العرض مع اتصافه بهاتين الحالتين؛ وهو محل النزاع.
وعلى هذا: فلا مانع من كون العرض الواحد سوادا حلاوة وبما قررناه هاهنا يكون دفع الثالث أيضا من حيث أن التمييز حاصل بالنظر إلى تمييز الأحوال؛ وإن اتحد العرض المتصف بها.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب، غير أنه يلزم عليكم إشكال مشكل وذلك أن أخص وصف الحياة فى حقنا، كونها حياة، وأخص وصف الحياة فى حق القديم؛ كونها حياة، والحياتان مشتركتان فى هذه الصفة الخاصة، وهما مختلفتان.
وعلى هذا: فالواجب إنما هو سلوك مسلك القائلين بنفى الأحوال على ما تقرر قبل «2».
________________
(1) راجع ما مر فى الأصل الثانى: فى الأعراض وأحكامها- الفرع الأول: فى إثبات الأعراض ل 39/ ب.
(11) // أول ل 40/ ب من النسخة ب.
(2) راجع ما مر فى أول الفصل أول ل 77/ أ.
(3/279)
________________________________________
الفصل الخامس فى تحقيق معنى المتضادين «1»
وقد اختلفت عبارات الناس فيه
فقالت الفلاسفة: الضدان كل ذاتان متعاقبتان على موضوع واحد؛ ويستحيل اجتماعهما فيه؛ وبينهما غاية الخلاف، والبعد.
فقولهم: ذاتان: احتراز عن العدم، والوجود. والاعدام بعضها مع بعض.
وقولهم: متعاقبتان على موضوع احتراز عن الجواهر؛ إذ هى غير متضادة؛ لعدم دخولها فى الموضوع؛ وقد عرف معنى الموضوع عندهم، فيما تقدم «2».
وقولهم: واحد احتراز عن المتعاقبات على الموضوعات المتعددة.
وقولهم: ويستحيل اجتماعهما فيه. احتراز عن الأعراض المختلفة التى ليست متضادة: كالسواد، والحلاوة مثلا.
وقولهم: وبينهما غاية الخلاف، والبعد. احتراز عن الوسائط مع الأطراف:
كالسواد، والبياض مع الحمرة، والوسائط بعضها مع بعض: كالحمرة، والصفرة، ونحو ذلك.
فإنها غير متضادة عندهم؛ فإنها وإن كانت من الذوات المتعاقبة على موضوع واحد، ويستحيل اجتماعها فيه؛ فليس بينهما غاية الخلاف. والبعد.
بل ذلك إنما هو للأطراف: كالسواد، والبياض مثلا؛ فهما ضدان.
وأما أصحابنا: فالضدان «3» عندهم أعم من الضدين بهذا الاعتبار، والعبارة عن ذلك
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة: انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى 2/ 62 أ والشامل فى أصول الدين للجوينى ص 450.
والمواقف للإيجي ص 82 وشرح المواقف للجرجانى 4/ 71 وما بعدها.
(2) راجع ما تقدم فى المقدمة ل 300/ ب من الجزء الأول.
(3) عرف الجرجانى الضدان فقال: «الضدان: صفتان وجوديتان يتعاقبان فى موضع واحد، يستحيل اجتماعهما:
كالسواد والبياض، والفرق بين الضدين والنقيضين. أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان: كالعدم والوجود والضدين لا يجتمعان؛ ولكن يرتفعان: كالسواد والبياض [التعريفات ص 155].
(3/280)
________________________________________
أن يقال: الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما فى محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة.
فقولنا: معينان: احتراز عن الوجود، والعدم والأعدام بعضها مع بعض، والجواهر بعضها مع بعض، والجواهر مع الأعراض والقديم مع الحادث؛ فإنها غير متضادة.
وقولنا: ويستحيل اجتماعهما: احتراز عن الأعراض المختلفة التى ليست متضادة؛ كما ذكرناه فى مثال السواد مع الحلاوة.
وقولنا: فى محل واحد؛ لأن التضاد لا تحقق له عندنا دون قيام المعنيين بمحل واحد؛ وفيه احتراز عن مذهب أكثر المعتزلة حيث أنهم لم يشترطوا فى التضاد قيام المعنيين بمحل واحد؛ بل قالوا: إن العلم بالسواد مثلا إذا قام بجزء من القلب فإنه يضاد الجهل بالسواد، وإن قام بجزء آخر من ذلك القلب؛ لأنهما لو اجتمعا لوصفت الجملة بأنها عالمة بالسواد، وجاهلة به فى حالة واحدة؛ وهو محال. بناء على أصلهم أن الصفات التى من شرطها الحياة إذا قامت ببعض الجملة يثبت حكمها للجملة [بل زادوا على ذلك ولم يشترطوا فى بعض المتضادات، قيامها بالمحل أصلا حيث أنهم قالوا:
الإرادة الربانية فى محل] «1» مضادة للكراهية الربانية لا فى محل، نظرا/ إلى امتناع اجتماع حكميهما لله- تعالى- هو كونه مريدا لشيء واحد، وكارها له.
ونحن سنتبين امتناع تعدى حكم الصفة عن محلها الّذي هى قائمة به، وقد أبطلنا القول: بقيام إرادة لا فى محل فى مسائل الصفات «2».
كيف وأنه لو قيل لهم من أصلكم أنه يستحيل الجمع بين الموت والحياة؛ مع عدم التضاد.
فما المانع لو سلم لكم امتناع الجمع بين العلم بالسواد، والجهل به فى جزءين من القلب.
أن يكون ذلك لا بجهة التضاد؛ بل بضرورة امتناع اجتماع «11» // الحكمين كما قاله بعض المتأخرين منهم؛ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع ما مر من الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى ل 65/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 41/ أ من النسخة ب.
(3/281)
________________________________________
وقولنا: لذاتيهما: احتراز عن علم الإنسان بسكونه، مع حركته؛ فإنهما وإن تعذر اجتماعهما؛ فليسا متضادين؛ لأن امتناع الجمع بينهما، لم يكن لذاتيهما؛ بل بواسطة؛ وذلك لأن العلم بالسكون يلزمه السكون، وإلا كان العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه، وهو ممتنع. والسكون مضاد [للحركة؛ لاستحالة الجمع بينهما لذاتيهما؛ فكان امتناع الجمع بين العلم بالسكون ونفس «1»] الحركة بواسطة مضادة السكون اللازم للعلم به للحركة.
فلم يكن امتناع الجمع بين العلم بالسكون، والحركة لذاتيهما؛ بل بواسطة؛ فلا يكونان متضادين، وسواء اتحد محل العلم بالسكون والحركة أو اختلف: كعلم الواحد منا بسكون غيره، وحركة ذلك الغير؛ فإنهما لا يجتمعان؛ لما ذكرناه. وإن اختلف محلهما.
وعلى هذا: فلا تضاد بين العجز، والحركة الاختيارية.
فإنّ تعذر الجمع بينهما ليس لذاتيهما، بل بواسطة مضادة العجز للقدرة وامتناع وجود الحركة الاختيارية؛ لعدم القدرة عليها.
فلم يكونا متضادين، وعليك بالتنبيه لكل ما يرد من هذا القبيل.
فإن قيل: فالموت عند معظم أصحابكم، وعلى ما قررتموه فى أضداد العلوم؛ مضاد للعلم، وعلى ما قررتموه فى تحقيق التضاد من استحالة الجمع بين المعنيين لذاتيهما؛ فيمتنع أن يكون الموت ضدا للعلم.
فإنه لا مانع من أن يقال: بأن امتناع الجمع بين الموت، والعلم لا لذاتيهما؛ بل لفوات شرط العلم بالموت؛ وهو الحياة كما قاله المعتزلة، وبعض أصحابكم.
قلنا: لو امتنع التضاد بين الموت، والعلم بناء على ما ذكروه؛ لامتنع بذلك أيضا التضاد مطلقا؛ وهو خلاف اجماع العقلاء؛ وذلك لأنه ما من شيئين يقدر التضاد بينهما إلا ويمكن أن يقال: لا تضاد بينهما، وامتناع وجود أحدهما مع الآخر، لم يكن لتضادهما، بل لفوات شرطه.
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/282)
________________________________________
وهو عدم الآخر، ولا يلزم من كون الموت ضدا للعلم والقدرة، التضاد بين العلم، والقدرة؛ كما لزم التضاد بين الحمرة والصفرة/ عند مضادتهما للسواد، والبياض؛ إذ هو تمثيل من غير جامع مؤثر.
ثم إن كان المورد له معتزليا؛ فيلزمه أن يقول بمضادة البياض للبياض المماثل له؛ لمضادتهما. باعترافه للسواد، وما هو جوابه هاهنا هو جوابنا فيما نحن فيه، وهو قولنا من جهة واحدة؛ احترازا عن القرب، والبعد، والصغر، والكبر والطول، والقصر، ونحو ذلك بالنسبة إلى شيئين.
فإنهما لا يتضادان، وإن كانا فى محل واحد، إلا بالنسبة إلى شيء واحد.
وعلى ما حققناه فى معنى التضاد؛ فيمتنع أن يكون الفعل من حيث هو فعل؛ ضدا لشيء؛ لأن ذلك الشيء المضاد للفعل: إما أن يكون فعلا، أو لا يكون فعلا. فإن كان فعلا: فإما أن يكون مضادا له من جهة كونه فعلا، أو لا من جهة كونه فعلا.
فإن كان الأول: فهو محال، وإلا لما اجتمع عرضان مختلفان فى محل واحد من حيث هما فعلان؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فكل ثابت ليس بفعل غير خارج عن ذات الله تعالى- وصفاته، وهى غير مضادة للأفعال، وإلا لما تصور وجود الأفعال معها؛ وهو محال.
وعلى هذا أيضا: فكل ما لا يرجع إلى صفات أجناس الموجودات؛ لا يكون موجبا للتضاد: كالأمور المستندة إلى موافقة الشرع، ومخالفته، وإلى الإضافات، والاعتبارات: ككون الفعل ظلما وجورا، وحراما وحلالا وحسنا، وقبيحا، إلى غير ذلك.
(3/283)
________________________________________
الفصل السادس فى أن كل عرضين متماثلين ضدان «1»
مذهب الشيخ أبى الحسن، ومتابعيه: أن كل عرضين متماثلين كسوادين، وبياضين، ونحو ذلك؛ فهما ضدان، يمتنع اجتماعهما في محل واحد.
وأجمعت المعتزلة على خلافه إلا ما نقل عن بعضهم
أنه قال: بامتناع اجتماع حركتين متماثلتين بمحل واحد.
وقد استدل الأصحاب بمسالك.
المسلك الأول:
لو جاز قيام الأعراض المتماثلة، بمحل واحد؛ لأمكن قيام سوادين متماثلين بمحل واحد.
ولا شك أن وجود السوادين فى المحل؛ يوجب كونه أسود. فعند وجود سواد آخر فيه: فإما أن يوجب له حكما، أو لا يوجب له حكما.
فإن كان الأول: فإما أن يكون ذلك الحكم هو ما أوجبه السواد الأول، أو غيره.
لا جائز أن يكون هو ما أوجبه السواد الأول؛ لأن إيجاب ما أوجب، وتحصيل ما حصل محال.
ثم لو جاز ذلك؛ لجاز وقوع مقدور «2» بقدرتين «11» // وهو خلاف الإجماع منا ومنهم.
وإن كان غيره؛ فهو ممتنع لوجهين:
الأول:/ أنه لو جاز قيام حالين متماثلين بمحل واحد، بناء على شيئين متماثلين؛ لجاز أن يقوم بالذات الواحدة وجودان بناء على قدرتين متماثلتين؛ لأن الوجود عندهم حال؛ ولم يقولوا به.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى المراجع التالية:
الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 451 وما بعدها، والمواقف للإيجي ص 83 وشرح المواقف للجرجانى 4/ 80 وما بعدها.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 243/ ب
(11) // أول ل 41/ ب من النسخة ب.
(3/284)
________________________________________
الثانى: أن ما قام به علم بشيء، فإنه يعلم من نفسه كونه عالما به؛ فلو قام به علم آخر بذلك الشيء مماثل للعلم الأول، وأوجب له عالمية أخرى؛ لكان الشخص عالما بعالميته الثانية، فإنه من المستحيل أن يكون الإنسان عالما، ولا يعلم كونه عالما. وإن كان الثانى: وهو أن لا يوجب لمحله حكما، فهو ممتنع؛ إذ يلزم منه تخلف الحكم مع وجود علته وسنبين أن العلة لا بد وأن تكون مطردة منعكسة «1».
وعلى هذا: إن قلنا: بأن كل صفة توجب لمحلها حكما؛ فقد اطردت الدلالة فى جميع الأعراض المتماثلة.
وإن خصصنا ذلك ببعض الصفات: كصفات الحى، والأكوان، كما قالت المعتزلة: طردنا هذه الدلالة فيها دون غيرها، هذا كله إذا قلنا بالأحوال، وإلا فحاصل المسلك يرجع إلى الإلزام.
المسلك الثانى:
أن من قام بنفسه علم نظرى بشيء: فإما أن يقال بجواز قيام علم آخر نظرى به؛ فذلك الشيء مماثل للعلم الأول أو لا يقال بجوازه.
فإن كان الأول: فيلزم منه صحة القول بالنظر فى تحصيل العلم بما هو معلوم؛ وذلك محال باتفاق العقلاء.
وإن كان الثانى: فقد قيل: بامتناع اجتماع المتماثلين فى المحل الواحد «2» وتحصيل العلم بما هو معلوم «2»؛ وهو المطلوب؛ وهو قوى جدا.
[فإن قيل: وإن امتنع الجمع بين هذين العلمين؛ فليس ذلك لذاتيهما؛ بل لاستحالة طلب تحصيل الحاصل؛ فلا يكون كذلك؛ لما ذكرتموه.
قلنا: المقصود إنما هو بيان امتناع الجمع بين المثلين، وإن لم يسم ذلك تضادا] «3».
________________
(1) انظر ما سيأتى في الباب الثالث- الأصل الثانى- الفصل الرابع: فى أن العلة العقلية لا بد وأن تكون مطردة منعكسة ل 121/ ب وما بعدها.
(2) (و تحصيل العلم بما هو معلوم) ساقط من ب.
(3) ساقط من أ.
(3/285)
________________________________________
المسلك الثالث:
أنهم قالوا: لو جاز قيام عرضين متماثلين فى المحل الواحد؛ لكان المحل إذا قام به سواد واحد، قابلا لسواد آخر؛ فكل عرض يقبله المحل، لا يخلو عنه، أو عن ضده فبتقدير عدم السواد الثانى، وجب أن لا يخلو المحل عن ضده، وضد السواد المفروض عدمه؛ وهو أيضا ضد السواد المفروض وجوده ويلزم من ذلك اجتماع السواد، وضده فى محل واحد؛ وهو محال، غير أن هذا المسلك مبنى على القول بأن المحل إذا قبل حكما لا يعرى عنه، أو عن ضده، وقد أومأنا إلى إبطاله فى امتناع عرو الجواهر عن الأعراض «1».
وإن سلم ذلك غير أن المسلم امتناع/ خلو ذلك المحل عن جنس ذلك العرض، أو عن ضده، لا عن ذلك العرض.
والمحل غير خال عن جنسه؛ وهو السواد الآخر.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على امتناع قيام المتماثلين بمحل واحد؛ فهو معارض بما يدل على نقيضه.
وهو أنا قد نشاهد الجسم يغمص فى الصبغ؛ فيعلوه كدرة «2» ثم كهبة «3»، ثم سواد حالك وليس ذلك غير تضاعيف أجزاء السواد.
والجواب: أنا نمنع أن الكدرة، والكهبة سواد، بل هى ألوان أجزاء مضادة للسواد، ولا يتصور بقاء الأول منها مع وجود الثانى.
________________
(1) راجع ما مر فى الأصل الأول- النوع الأول- الفصل السابع: فى امتناع تعري الجوهر عن الأعراض وتعليل قبوله لها ل 8/ ب.
(2) (الكدرة): اللون ينحو نحو السواد [المعجم الوسيط باب الكاف].
(3) الكهبة): الدهمة، أو غبرة مشربة سوادا.
(3/286)
________________________________________
الفصل السابع فى تحقيق معنى الغيرين «1»
والعبارة الجامعة المانعة لذلك على أصول أصحابنا.
قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى فى آخر قوليه «2»، الغيران كل موجودين تصح مفارقة أحدهما للآخر بالعدم أو الحيز «3» وإنما قيد الحد بالموجودين: لأن المتغاير صفة إثبات على ما تقدم فى الخلافين؛ فلا تكون صفة العدم «3».
وإنما ردد المفارقة بين العدم والحيز، ولم يوجب المعية بينهما، ولم يقتصر على أحدهما؛ لأنه لو أوجب المعية بينهما؛ لما وقعت المغايرة مع انتفاء أحدهما، وثبوت الآخر.
وليس كذلك؛ فإن الأعراض المختلفة، والمتماثلة متغايرة؛ وهى غير متفرقة بالحيز، بعدم تحيزها. ولو اقتصر على أحدهما فى التحديد؛ لم يكن الرسم جامعا.
ولهذا فإنه لو اقتصر على المفارقة بالعدم وقال كما قاله أولا الغيران: كل موجودين يصح عدم أحدهما مع وجود الآخر، للزمه السؤال المشهور الوارد عليه فى هذه العبارة، وهو أن لا تعلم المغايرة بين الأجسام بتقدير اعتقاد قدمها؛ لاستحالة عدم القديم؛ وليس كذلك؛ بل المغايرة معلومة، ولو قدر امتناع العدم عليها.
ولو اقتصر على القول: بأن الغيرين كل موجودين يصح مفارقة أحدهما للآخر فى الحيز، لامتنع التغاير بين الأعراض؛ لعدم تحيزها؛ وليس كذلك.
وعلى هذا: بنى الأصحاب امتناع التغاير بين ذات القديم، وصفاته والصفات القديمة بعضها بالنسبة إلى بعض؛ لكونهما وجوديان يمتنع مفارقة البعض «11» // منهما للبعض، لا بالعدم ضرورة قدمها، واستحالة عدم القديم.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا: انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 332 وما بعدها، القول فى حقيقة الغيرين.
والمواقف للإيجي ص 80، 81، وشرح المواقف للجرجانى 4/ 51 وما بعدها.
(2) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين ص 332 وما بعدها.
(3) من أوال «و إنما قيد .... إلى قوله: صفة العدم» ساقط من ب.
(11) // أول ل 42/ أ من النسخة ب.
(3/287)
________________________________________
ولا بالتحيز- إذ هى غير غير متحيزة وربما زيد فى الترديد الزمان، ولا حاجة إليه وعلى هذا:/ فالغيران أعم من المثلين، والخلافين، متضادين أو غير متضادين.
فإن قيل: ما ذكرتموه منقوض، ومعارض.
أما النقض: فمن ثلاثة أوجه:
الأول: النقض على أصلكم بالقدرة الحادثة مع مقدورها، فإنهما غيران، وليس أحدهما مفارقا للآخر لا فى العدم؛ لضرورة وجوب اقترانهما، ولا فى الوجود فى الحيز؛ لعدم تحيزهما؛ إذ هما عرضان.
الثانى: أنه ينتقض بالأعراض المتلازمة: كالأبوة، والبنوة، والعلية، والمعلولية وكذلك أجناس الأعراض التى لا خلو للجوهر عنها؛ فإنها متغايرة فإن لم تصح مفارقة بعضها لبعض لا فى العدم، لتلازمهما، ولا فى الحيز؛ لعدم تحيزهما.
الثالث: أنه إذا اعتبر فى الغيرية جواز المفارقة بالعدم، أو الحيز فيلزم أن لا يكون البارى- تعالى- مغايرا للحوادث.
وإن كانت الحوادث مغايرة له؛ لاستحالة مفارقته لها بالعدم ضرورة وجوب وجوده وقدمه ولا بالحيز لاستحالة تحيزه.
وأما المعارضة؛ فبحدود أخرى اختلفت فيها عبارات المعتزلة: منها: أن الغيرين هما الشيئان.
ومنها: أنهما الشيئان اللذان يجوز العمل بأحدهما، مع الجهل بالآخر.
ومنها: الغيران ما صحت فيه عبارة التثنية «1».
ومنها: أنهما اللذان، واللتان قامت بهما الغيرية؛ وليس ما ذكرتموه أولى مما ذكرناه.
والجواب عن النقض الأول: أن ما قدر مقدورا بالقدرة الحادثة؛ لا يمتنع عندنا فرض وقوعه، لا مقدورا بها؛ بل بغيرها مع عدمها، وغيره مقدورا بها مع عدمه.
________________
(1) هذا القول لأبى هاشم الجبائى، قال الجوينى فى الشامل ص 333 «و قال أبو هاشم فى بعض مقالاته: الغيران:
كل ما صحت فيه عبارة التثنية».
(3/288)
________________________________________
وعن النقض الثانى: أما الأمور المتضايفة: كالأبوة، والبنوة والعلية، والمعلولية، ونحوها.
فليست عندنا أمورا وجودية؛ بل وهمية على ما سبق تقريره والمتغايران وجوديان.
وأما الأعراض الملازمة للجوهر: فما من عرض منها وجد مع غيره إلا ويجوز تقدير وجوده مع عدم ذلك الغير، ووجود غيره.
وعن الثالث: أنا لم نشترط فى الغيرين جواز مفارقة كل واحد منهما للآخر بعدمه، أو لحيزه؛ ليلزم ما قيل «1».
وعن المعارضة:
أما القول بأن الغيرين «2» هما الشيئان: فلا يخفى أن كل واحد من الغيرين يصح أن يقال له غير.
فلو كان مفهوم الغيرين الشيئين؛ لكان مفهوم كل واحد من الغيرين هو الشيء؛ وليس كذلك.
وبيانه: أن كل واحد من الغيرين يصح أن يقال له إنه غير الآخر ولا يصح أن يقال لكل واحد من الشيئين أنه شيء للآخر وفيه دقة/ فليتأمل، وليقتنع به عما طول به بعض الأصحاب، وهو مدخول لا تثبت له.
وأما القول: بأن العرض «2» ما صحت فيه عبارة التثنية؛ فباطل بالاعدام المضافة.
فإنه يصح فيها عبارة التثنية، والجمع فيقال: عدمان وإعدام، وليست متغايرة بالإجماع منا، ومنهم لعدم شيئيتها.
وأما القول: بأن الغيرين هما اللذان، واللتان قامت بهما الغيرية فمبنى على القول:
بالأحوال؛ وهو محال على ما يأتى «3».
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل ص 333 وما بعدها.
(2) من أول «هما الشيئان ... إلى قوله: بأن العرض» ساقط من ب.
(3) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(3/289)
________________________________________
وأما القول: بأن الغيرين هما الشيئان اللذان يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر؛ فباطل بالمتضايفين الحقيقيين؛ فإنهما «1» غيران «1»؛ ولا يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.
وبالجملة: فالنزاع فى الغيرين، والخلافين، والمثلين، والضدين من حيث أن كل واحد من الخصمين يفسر اللفظ المتنازع فيه. بمعنى غير معنى الآخر، بل إلى الاصطلاح اللفظى، ولا حظ له من المعنى، ولا هو من الأمور القطعية والقضايا اليقينية.
________________
(1) (فانهما غيران) ساقط من ب.
(3/290)
________________________________________
الفصل الثامن فى معنى المتقدم والمتأخر ومعا «1»
أما المتقدم: فقد قالت الفلاسفة: لا يخرج عن خمسة أقسام «2» وهى:
المتقدم بالذات، والمتقدم بالطبع، والمتقدم بالشرف والمتقدم بالرتبة، والمتقدم بالزمان.
أما المتقدم بالذات:
وهو المتقدم بالعلية «3»: فهو إما فاعل، أو مادة، أو صورة، أو غاية.
أما الفاعل: فهو ما وجود غيره مستفاد من وجوده؛ ووجوده غير مستفاد من ذلك الغير.
وهو إما أن يكون فاعلا لذاته، أو لصفة زائدة على ذاته.
فإن كان الأول: فيسمى الفاعل بالطبع.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى:
الملل والنحل للشهرستانى 2/ 179 المسألة الرابعة: فى المتقدم والمتأخر. والمواقف للإيجي ص 179. وشرح المواقف للجرجانى 6/ 278 - 284 وشرح مطالع الانظار للأصفهانى ص 108.
(2) وقد جمعها بعض العلماء في بيتين من الشعر فقال:
وخمسة أنواع التقدم يا فتى ... أقربها بيت من الشعر واعترف
تقدم طبع والزمان وعلة ... ورتبة أيضا والتقدم بالشرف
[توضيح حاشية الباجورى على السلم فى المنطق تحقيق الدكتور أحمد المهدى ص 25].
(3) وقد عرف الآمدي المتقدم بالعلية فقال: «أما المتقدم بالعلية: فعبارة عما وجود غيره مستفاد من وجوده، ووجوده غير مستفاد من ذلك الغير ولكنه لا يكون إلا معه فى الوجود: كحركة اليد بالنسبة إلى حركة الخاتم». ثم عرف العلة فقال: «و أما العلة: فقد تطلق ويراد بها العلة الفاعلية، أو العلة المادية أو العلة الصورية، أو العلة الغائية.
فأما العلة الفاعلية: فعبارة عما وجود غيره مستفاد من وجوده ووجوده غير مستفاد من وجود ذلك الغير: كالنجار بالنسبة إلى السرير، وأما العلة المادية: فقد عرفناها من قبل؛ وهى كالخشب بالنسبة إلى السرير فإن كانت لم تقترن بها الصورة الممكنة لها؛ سميت إذ ذاك موضوعا. وأما الصورة: فقد بيناها من قبل؛ وهى بمنزلة شكل السرير بالنسبة إلى السرير» [المبين فى شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 116 - 118].
(3/291)
________________________________________
وهو منقسم إلى ما لا يتصور تأخر معلوله عنه فى «1» الوجود «1». وإلى ما يتصور فالأول: كما فى حركة اليد مع حركة الخاتم؛ فإنهما وإن وجدا معا؛ فنعلم أن حركة الخاتم، مستفادة من حركة اليد.
ولهذا يصح أن يقال: تحركت اليد؛ فتحرك الخاتم، ولا يقال تحرك الخاتم؛ فتحركت اليد.
ولأن المبدأ المحرك إنما هو فى اليد. لا فى الخاتم، وحركة اليد فى مكانها، وإن كان موقوفا على حركة الخاتم عن مكانها؛ لاستحالة التداخل «2» بين الأجسام.
فليس مما يوجب جعل حركة الخاتم، علة لحركة اليد، لما علم أن مبدأ الحركة؛ إنما هو فى اليد؛ فهو تحرك اليد والخاتم معا فى الوجود؛ لكن اليد أولا بالذات، والخاتم بواسطة حركة اليد.
«11» // فحركة اليد علة متوسطة، بين المبدأ المحرك، وبين حركة الخاتم.
وأما الثانى: فإنما يكون عند ما إذا كان المعلول ماديا. والمادة غير متهيئة بعد لقبوله.
وذلك كما فى الصور الجوهرية، والنفوس الإنسانية، الصادرة عن العقل الفعال الموجود مع جرم فلك القمر عند/ تهيؤ المادة لقبوله، ووجود الشرائط وانتفاء الموانع؛ فلا بد من صدور معلوله عنه.
وأما إن كان فاعلا لصفة زائدة على ذاته؛ فهو الفاعل بالقدرة والاختيار، وهذا الفاعل مما لا يمتنع تأخر معلوله عنه. وإن قدر عدم التوقف على أمر خارج عنه وذلك كالبناء بالنسبة للحائط، والنجار بالنسبة إلى السرير، ونحوه.
وأما المادى: فكالخشب بالنسبة إلى السرير.
والصورى: فكشكل السرير بالنسبة إليه وأما الغاية فكالانتفاع بالسرير.
________________
(1) (فى الوجود) ساقط من ب.
(2) راجع ما مر ل 6/ ب الفصل الخامس: فى أن الجواهر لا تتداخل.
(11) // أول ل 42/ ب.
(3/292)
________________________________________
فإنه وإن كان متأخرا عن السرير فى الوجود العينى؛ فلا بد وأن يكون متقدما بالذات فى الوجود العقلى.
وأما المتقدم بالطبع «1»:
فهو ما لا يتم وجود غيره دون وجوده، ووجوده غير متوقف على ذلك الغير، ولا هو علة لذلك الغير بأحد الأقسام السابقة، وبه يفارق القسم الأول: وذلك كالواحد بالنسبة إلى الاثنين ونحوه.
وأما المتقدم بالشرف «2»:
فهو ما تقدمه على غيره لاختصاصه
إما بأصل وفضيلة، لا وجود لها فى ذلك الغير: كتقدم الإنسان بالنطق على غيره من الحيوانات العجماوات.
أو بزيادة فى تلك الفضيلة: كتقدم الأعلم، على العالم، ونحوه.
وأما المتقدم بالرتبة «3»:
فهو ما كان أقرب إلى مبدأ محدود من غيره.
إما عقلا: كتقدم النوع على الشخص بالنسبة إلى الجنس
وإما حسيا: كتقدم الإمام على من خلفه من المأمومين بالنسبة إلى المحراب.
________________
(1) التقدم الطبعى: هو كون الشيء الّذي لا يمكن أن يوجد آخرا إلا وهو موجود، وقد يمكن أن يوجد هو، ولا يكون الشيء الآخر موجودا، وأن لا يكون المتقدم علة للمتأخر.
فالمحتاج إليه إن استقل بتحصيل المحتاج كان متقدما عليه تقدما بالعلة، كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح، وإن لم يستقل بذلك كان متقدما عليه تقدما بالطبع، كتقدم الواحد على الاثنين، فإن الاثنين يتوقف على الواحد، ولا يكون الواحد مؤثرا فيه [كتاب التعريفات للجرجانى ص 71].
(2) وقد عرفه الآمدي فقال: «و أما المتقدم بالشرف: فهو اختصاص أحد الشيئين على الآخر بكمال لا وجود له فيه:
كتقدم النبي صلى الله عليه وسلم- على العالم. (المبين ص 117).
(3) وقد عرفه الآمدي فقال: «و أما المتقدم بالرتبة: فعبارة عما كان أقرب إلى مبدأ محدود من غيره: كتقدم الإمام على المأموم بالنسبة إلى المحراب. وعلى هذا تكون أقسام المتأخر ومعا».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص 117].
(3/293)
________________________________________
وأما المتقدم بالزمان «1»:
فهو ما كان زمانه قبل زمان غيره: كتقدم موسى على عيسى ونحوه، فهذه أقسام المتقدم، وعلى نحوه أقسام المتأخر، ومعا.
[«2» وكل رتبة من هذه الرتب] فما كان منها أصلا لا يتصور أن يكون مع ولا بعد من تلك الرتبة بالنسبة إلى شيء واحد فما كان متقدما بالذات على غيره؛ لا يكون مع ذلك الغير بالذات، ولا متأخرا عنه.
وعلى هذا فى جميع الأقسام.
ولا يمتنع اجتماعها، أو اجتماع جملة منها فى شيء واحد بالنسبة إلى شيء واحد: كالبناء بالنسبة للحائط.
فإنه متقدم عليه بالعلية، والزمان، والشرف، والرتبة بالنسبة إلى العلة الأولى.
وقد يتفق أن ما كان متقدما على شيء، متأخرا عنه بالنظر إلى جهة أخرى بأن يكون مثلا متقدما على شيء بالشرف، وهو متأخر عنه بالرتبة وعلى «3» هذا النحو «3».
وربما أثبتوا الحصر فى الأقسام الخمسة بقولهم:
ما وصف بكونه متقدما: إما أن يتوقف وجود المتأخر عليه، أو لا يتوقف.
فإن توقف وجود المتأخر عليه/ فالمتقدم إما أن يكون علة للمتأخر، أو لا يكون علة له.
فإن كان الأول: فهو المتقدم بالعلية.
وإن كان الثانى: فهو المتقدم بالطبع.
وإن كان المتأخر لا يتوقف وجوده، على وجود المتقدم. فتقدم المتقدم: إما أن يكون بالنظر إلى كمال له، أو لا.
فإن كان الأول: فهو المتقدم بالشرف.
________________
(1) وقد عرفه الآمدي فقال: وأما المتقدم بالزمان: فما بينه وبين غيره فى الوجود إمكان قطع مسافة: وهو قبلى:
كتقدم موسى على عيسى- عليهما السلام- (المبين ص 117).
(2) ساقط من أ.
(3) (و على هذا النحو) ساقط من ب.
(3/294)
________________________________________
وإن كان الثانى: فإما أن يكون تقدمه بالنظر إلي مبدأ محدود، أو لا؟
فإن كان الأول: فهو المتقدم بالرتبة.
وإن كان الثانى: فهو المتقدم بالزمان.
هذا ما قالوه.
وأما نحن فنقول: لا ننازع فيما ذكروه من الحصر، والقسمة إلى اخرها وإنما ننازع فى تفسير القسم الأخير بالمتقدم بالزمان فقط؛ فإنه يدخل فيه تقدم الزمان على الزمان: كتقدم الزمن الماضى على الزمن الحالى.
وليس تقدم الماضى منه على الحال بالعلية.
إذ الماضى معدوم مع الحاضر، والمعدوم لا يكون علة للموجود، ولا بالطبع فإن الحاضر غير متوقف فى وجوده على وجود الماضى.
ولهذا: فإنا لو قدرنا وجود الزمن الحاضر غير مسبوق بزمن سابق؛ لم يكن ذلك ممتنعا بالنظر إلى وجود الحاضر.
ولا بالشرف: إذ الأزمنة متشابهة، وليس البعض منها أكمل من البعض.
ولا بالرتبة: ولهذا فإنا لو فرضنا عدم مبدأ آخر يكون للزمن الماضى أقرب إليه من الزمن الحالى؛ لما خرج عن أن يكون متقدما على الزمن الحالى.
ولا بالزمان؛ لأن المتقدم بالزمان «11» // ما كان وجوده فى الزمان أقدم من زمان وجود غيره.
فلو كان الزمان متقدما بالزمان؛ لكان الزمان فى زمان، وهو محال لوجهين.
الأول: أن الأزمنة متشابهة، وليس جعل أحد الزمنين فى الآخر، أولى من العكس.
الثانى: هو أن الزمان الّذي فيه الزمان: إما أن يكون فى زمان، أو لا يكون فى زمان.
________________
(11) // أول ل 43/ أ من النسخة ب.
(3/295)
________________________________________
فإن كان الأول «1»: لزم التسلسل، أو الدور؛ وهو محال.
وإن لم يكن فى زمان: فليس أحد الزمانين بأن يكون فى زمان دون الآخر؛ أولى من العكس؛ ضرورة التشابه، واتحاد النوع كيف وفيه تسليم المطلوب؟
فإذن الزمان متقدم على الزمان؛ لا بأحد الأقسام الخمسة؛ فهو قسم سادس وهو المتقدم بالوجود، وليس مع بالوجود. وعليك بمراعاة هذا التقسيم واعتباره؛ فإنه أصل عظيم، وعليه مدار أكثر الكلام فى حدوث العالم، كما ستعرفه بعد «2».
ثم إن سلمنا الحصر فيما ذكروه جدلا؛ ولكن لا نسلم أن المتقدم بالعلية يمكن أن يكون طبيعيا؛ على ما أسلفناه «3».
وإن سلمنا إمكان كونه طبيعيا؛ فلا نسلم إمكان وجود المعلول مع وجوده؛/ فإن وجود المعلول مترتب على وجود العلة، والمترتب وجوده على وجود غيره، يجب أن يكون متأخرا عنه فى الوجود.
ولهذا يصح أن يقال: وجدت العلة؛ فوجد المعلول والفاء فى اللغة للترتيب؛ لا للمعية.
وأما حركة الخاتم: وإن كانت موجودة مع حركة اليد؛ فلا نسلم أن حركة اليد علة لها؛ بل هما معلولان لعلة خارجة عنهما، وإن تلازما فى الوجود: إما عادة: كملازمة الحرارة بالنار. أو اشتراطا: كملازمة الحياة للعلم، ونحوه.
________________
(1) فى ب (فى زمان).
(2) انظر ما سيأتى فى الأصل الرابع: فى حدوث العالم ل 82/ ب.
(3) راجع ما مر فى أول الفصل ل 81/ أ وما بعدها.
(3/296)
________________________________________
الأصل الرابع فى حدوث العالم «1»
وقبل الخوض فى الحجاج، نفيا وإثباتا.
لا بد من تحقيق معنى العالم، والقديم، والحادث؛ ليكون التوارد بالنفى والإثبات، على محز واحد، ولأن قول القائل: العالم قديم، أو محدث، قضية تصديقية يتوقف الحكم بها على تصور مفرداتها.
ومفرداتها غير خارجة عن العالم، والقديم، والحادث، فوجب أن تكون متصورة أولا.
أما العالم: فإنه وإن أطلق على جملة من المخلوقات كما يقال: العالم العلوى، والعالم السفلى، وعالم الحيوانات، وعالم الجمادات ونحوه.
ففى مصطلح المتكلمين: إنما يراد به كل موجود غير الله- تعالى- لا كل واحد واحد، بل الكل جملة.
وعلى هذا: فالمعدومات، والأحوال، والصفات الوجودية للرب- تعالى- غير داخلة فيه.
أما المعدومات «2»، والأحوال «3»: فلكونها غير موجودة.
وأما الصفات الوجودية للرب- تعالى- فلأنها ليست غير الله- تعالى- على ما تقدم «4».
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة: انظر التمهيد للإمام الباقلانى ص 44 والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص 105 وما بعدها، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 5 وما بعدها، وأصول الدين للبغدادى الأصل الثانى: فى بيان حدوث العالم ص 33 وما بعدها ومن كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 113 وما بعدها.
(2) عن المعدومات: انظر ما سيأتى فى الباب الثانى: فى المعدوم وأحكامه ل 106/ ب وما بعدها.
(3) وعن الأحوال: انظر ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال 114/ أ وما بعدها.
(4) وأما الصفات الوجودية للرب- تعالى- فانظر ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى ل 53/ ب وما بعدها.
(3/297)
________________________________________
والمعدومات الممكنة، وإن كانت عند المعتزلة ذوات ثابتة فى القدم، فى حالة العدم.
فليست عندهم من العالم، وإلا كان العالم قديما؛ ولم يقولوا به. ومن جعل الأحوال المتجددة من العالم؛ لزمه أن يقول فى رسم العالم: كل ثابت متجدد.
فإنه يدخل فيه مع الموجودات، الأحوال؛ لعموم الثبوت للكل، ويخرج عنه الذوات الثابتة فى العدم؛ على رأى المعتزلة؛ إذ هى غير متجددة.
وإذا عرف معنى العالم فى المصطلح؛ فقد بينا أقسامه من الجواهر والأعراض على الرأى الإسلامى، والفلسفى فى القسم الثانى من الكتاب، ونبهنا على ما فيها من المزيف، والمختار «1».
وأما القديم فقد اختلف المتكلمون فيه: فذهب معمر «2»، وعباد الصيمرى «3»، إلى أن القديم من أسماء الإضافة، وكذلك الحادث «4».
وأنه لا يعقل القديم إلا بالنسبة إلى الحادث، ولا الحادث إلا بالنسبة إلى القديم.
حتى أن البارى- تعالى- لا يوصف بكونه قديما قبل حدوث/ الحوادث ولا المصحح للوجود يوصف بكونه حادثا، إلا بالنسبة إلى سبق القديم عليه؛ وهو باطل.
فإنا إذا فرضنا موجودا طالت مدته، وقطعنا النظر عن حادث آخر؛ وجد بعد العدم؛ فالقول: بتوقف قدمه، على حدوث الحادث: إما بمعنى أنه لا دوام لمدته دون حدوث الحادث، أو بمعنى أنه لا يطلق عليه اسم القديم لغة، دون حدوث الحادث.
فإن كان الأول: فهو خلاف المعقول، والمحسوس.
________________
(1) راجع ما مر فى آخر الجزء الأول- القسم الثانى- فى الموجود الممكن الوجود ل 300/ أ وما بعدها.
(2) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 182/ ب.
(3) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل 64/ ب.
(4) عرف الآمدي القديم والحادث فقال: «أما القديم: فقد يطلق على ما لا علة لوجوده: كالبارى- تعالى- وعلى ما لا أول لوجوده، وإن كان مفتقرا إلى علة: كالعالم على أصل الحكيم».
وأما الحادث: فقد يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة وإن كان غير مسبوق بالعدم: كالعالم. وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم فعلى هذا: العالم إن سمى عندهم قديما؛ فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم وإن سمى حادثا:
فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة فى وجوده.
(المبين للآمدى 118. 119).
(3/298)
________________________________________
وإن كان الثانى: فلا بد من نقله بطريقة عن أهل اللغة؛ «11» // وهو غير مسلم.
ولو ساغ ذلك من غير نقل؛ لما امتنع القول: بأن الحى مضايف، للميت، والعالم مضايف للجاهل، ونحوه، وليس كذلك. كيف: والنقل على خلاف ذلك؟
ولهذا يصح أن يقال: لغة لما عتق، وطالت مدته؛ قديما وإن قطع النظر عن غيره.
ومنه قولهم: دار قديمة، وبناء قديم: إذا كان عتيقا طويل المدة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «1» وقوله تعالى: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «2».
وذهب الجبائى: ومتبعوه إلى أن القديم: هو الإله- تعالى- وأن القدم أخص وصف الإله- تعالى- وأن حقيقة الإله قدمه «3».
ولا يتصور أن يكون غيره قديما، وإلا كان إلها؛ وهو محال. وهذا أيضا باطل من خمسة أوجه.
الأول: ما أسلفناه فى الصفات «4».
الثانى: هو أن الإله تعالى ذات، ووجود بالإجماع، وبما دل عليه الدليل، فيما سبق «5». والقدم؛ فراجع إلى سلب الأولية.
فيمتنع أن يكون هو نفس حقيقة الإله تعالى.
الثالث: أنه لو كانت الإلهية هى نفس القدم، لتجارت اللفظتان مجرى واحد فى الإضافة، وحسن أن يقال: قديم الخلق. كما يقال له الخلق؛ وهو محال.
[و يمكن أن يقال: إنما لم يتفقا فى الإضافة نظرا إلى لفظيهما، لا إلى معنييهما] «6».
________________
(11) // أول ل 41/ ب من النسخة ب.
(1) سورة يس 36/ 39.
(2) سورة الأحقاف 46/ 11.
(3) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص 128، 129.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأولى- القاعدة الرابعة- النوع الثانى: فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود ل 54/ أ وما بعدها.
(5) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ووجوده ل 41/ أ وما بعدها.
(6) ساقط من (أ).
(3/299)
________________________________________
الرابع: أنه لو كان مدلول اسم الإله، والقديم واحدا؛ لكان من اعتقد كون العالم قديما؛ معتقدا كونه إلها؛ وهو محال.
الخامس: أنه لو كان القدم أخص وصف الإله- تعالى- للزم على أصلهم أن يكون القديم مخالفا للحادث بأخص وصفه؛ وهو القدم.
ولا بد وأن يكون الحادث مخالفا له أيضا؛ لأن ما خالف شيئا؛ فذلك الشيء مخالف له أيضا.
ويلزم من ذلك أن يكون الحادث، مخالفا للقديم بحدوثه كما كان القديم مخالفا للحادث بقدمه، ويلزم أن يكون الحدوث أخص وصف للحادث، كما كان القدم أخص وصف القديم.
ويلزم من ذلك تماثل جميع الحوادث؛ ضرورة اشتراكها فى الوصف الأخص وهو الحدوث؛ وهو/ محال.
وهذا المحال إنما لزم من القول بأن القدم أخص وصف الإله- تعالى؛ فهو محال.
ولا يمكن أن يقال بأن مخالفة الجوهر الحادث للقديم يقال بكونه جوهرا؛ لا حادثا؛ لأنه يلزم منه أن من اعتقد قدم بعض الجواهر، وحدوث البعض أن لا يحكم بالاختلاف بين القديم، والحادث منها، ضرورة التماثل فى الجوهرية؛ وهو محال.
ولا الاختلاف بين الإله- تعالى- والجوهر القديم؛ ضرورة اشتراكهما في أخص وصف الإله- تعالى.
وذهبت الفلاسفة، وبعض قدماء أصحابنا: إلى أن القديم هو الموجود الّذي لا أول لوجوده؛ وهو مدخول من وجهين: الأول: أن القديم «1» قد يطلق حقيقة على الوجود والعدم، فإن الحوادث الموجودة فى وقتنا هذا معدومة فى الأزل وعدمها قديم أزلى.
وإذا كان كذلك فالقول: بأن القديم هو الموجود الّذي لا أول له؛ لا يكون جامعا.
الثانى: وإن كان القديم مختصا بالوجود، إلا أنه أيضا غير جامع. فإن القديم قد يطلق أيضا على ما عتق، وطالت مدته بطريق المبالغة بدليل ما ذكروه من الإطلاقات، والنصوص والأصل فى الإطلاق الحقيقة.
________________
(1) عرف الآمدي القديم فقال: «و أما القديم: فقد يطلق على ما لا علة لوجوده؛ كالبارى- تعالى.
وعلى ما لا أول لوجوده؛ وإن كان مفتقرا إلى علة: كالعالم على أصل الحكيم» [المبين للآمدى ص 119].
(3/300)
________________________________________
إلا أن يدل الدليل على إرادة التجوز، والأصل عدمه؛ فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل، وإذا كان حقيقة فيجب أن يكون حد القديم جامعا لما لا أول لوجوده، وما لوجوده أول [و لذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعرى: القديم هو المتقدم فى الوجود على شرط المبالغة- وهو وإن كان أعم من الّذي قبله لتناوله ما لا أول لوجوده، وما لوجوده أول] «1»، إلا أنه غير جامع بالنظر إلى العدم القديم بما أسلفناه.
فالأولى أن يقال: القديم هو ما «2» تقدم تحقيقه، وتقادم فى نفسه «2» فإنه يعم الوجود، والعدم، وما لا أول لوجوده، وما لوجوده أول.
وأما الحادث «3»: فقد اختلفت عبارات الناس فيه أيضا فقال بعض المتكلمين:
الحادث: هو الّذي كان بعد أن لم يكن، وقال آخر: هو ما لم يكن ثم كان. وقال آخر:
هو الموجود بعد العدم.
ويرد على هذه العبارات إشكالات:
الأول: ما أورده ابن الراوندى «4»، وهو أن «11» // قال: هذه العبارات تتضمن ترتيب شيء بعد شيء. والقائل بها لا يخلو: إما أن يكون قائلا: بأن المعدوم الممكن شيء، أو ليس بشيء.
فإن كان الأول: فقد أوجب حدوث الحادث، بعد نفسه، والشى لا يكون بعد نفسه.
وإن كان الثانى فهو عدم صرف، ونفى محض، وما هو بهذه المثابة لا يتحقق ترتيب شيء عليه.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) من أول قوله: «ما تقدم تحقيقه .. إلى قوله: في نفسه» ساقط من ب.
(3) عرف الآمدي الحادث في كتابه المبين ص 119 فقال: و «و أما الحادث: فقد يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة، وإن كان غير مسبوق بالعدم: كالعالم، وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم. فعلى هذا: العالم إن سمى عندهم قديما: فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم، وإن سمى حادثا: فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة فى وجوده».
(4) ابن الراوندى: سبقت ترجمته فى هامش ل 231/ أ من الجزء الأول.
(11) // أول ل 44/ أ من النسخة ب.
(3/301)
________________________________________
ولا فرق بين قول القائل: الحادث: ما كان بعد ما لم يكن، وبين قوله: بعد لا شيء.
الثانى: وربما أورده بعض متفلسفة الإسلام وقال/ هذه العبارات مشعرة بتقدم العدم على الوجود، وقد بان فيما تقدم «1» أن أقسام التقدم خمسة وهى: التقدم بالعلية، والطبع والشرف، والرتبة، والزمان وليس تقدم العدم على الوجود بالعلية.
إذ العدم لا يكون علة للوجود؛ ولأن العلة لا بد وأن تكون مع المعلول، وعدم الشيء لا يكون مع وجوده.
ولا بالشرف: وإلا كان عدم الشيء أشرف من وجوده؛ وهو محال.
ولا بالرتبة: فإنا لو قطعنا النظر عن مبدأ محدود يكون العدم أقدم من الوجود بالنسبة إليه، لما خرج عن كونه متقدما.
ولأنه لا شيء أسبق من العدم القديم حتى يكون أقرب إليه من الوجود.
فلم يبق إلا التقدم بالطبع، والزمان.
فإن كان الأول: فتفسير حدوث العالم بتقدم العدم عليه بالطبع؛ مسلم.
فإن العالم ممكن الوجود بذاته، [و ممكن الوجود بذاته] «2»؛ لا يكون مستحقا للوجود من ذاته؛ بل من غيره.
بخلاف العدم. وما يكون مستحقا بالذات، يكون أقدم بالطبع مما هو مستحق بالغير.
ولا يلزم من ذلك أن يكون متحققا بالفعل.
وإن كان الثانى: وهو التقدم بالزمان؛ فقد بينا «3» أن المتقدم بالزمان ما كان فى زمان متقدم، على زمان المتأخر.
ويلزم من ذلك أن يكون زمان العدم السابق أزليا؛ ضرورة كون العدم أزليا.
ويلزم من قدم الزمان، قدم الحركة؛ إذ هو من عوارضها.
________________
(1) راجع ما مر ل 81/ أ وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع ما مر ل 81/ ب.
(3/302)
________________________________________
ومن قدم الحركة؛ قدم الجسم؛ إذ هى من عوارضه؛ وذلك يجر إلى قدم العالم؛ ولم يقولوا به.
والجواب عن الأول: أنا لا نسلم أن الترتيب المشار إليه يستدعى إثبات شيئين معلومين.
ولا يخفى أن العدم السابق معلوم. كما أن الوجود اللاحق معلوم.
وعن الثانى من وجهين:
الأول: منع الحصر فى الأقسام الخمسة على ما تقدم «1».
والثانى: وإن سلمنا الانحصار جدلا.
فما المانع من كونه متقدما بالطبع، وأن يكون الحادث من حيث هو حادث، لا يتم دون سبق العدم.
وإن لم يكن العدم علة له كما فى الواحد مع الاثنين، كما سبق تحقيقه «2».
والقول: بأن الممكن مستحق العدم بذاته غلط من قائله؛ فإن ما هو ممكن الوجود؛ هو بعينه ممكن العدم.
وكما لا يستحق الوجود بذاته، وإلا كان واجبا لذاته؛ وخرج عن أن يكون ممكنا.
فكذلك فى طرف العدم، وإلا كان ممتنع الوجود بذاته وخرج عن أن يكون ممكنا.
كيف: وأن ما ذكروه من الإشكال؛ فهو لازم عليهم حيث قالوا: إن الحادث يطلق باعتبارين.
أحدهما: الوجود المسبوق بالعدم.
والثانى: الوجود المفتقر إلى/ غيره، فما ذكروه لازم على التفسير الأول بعينه، وعند اتحاد الإلزام، فالجواب أيضا يكون متحدا.
وقال بعض المتكلمين:
________________
(1) راجع ما مر ل 81/ ب، 82/ أ.
(2) راجع ما مر ل 81 ب.
(3/303)
________________________________________
الحادث: هو الموجود الّذي له أول.
وقال ابن الراوندى «1»: أول الحادث إما أن يكون هو نفس الوجود، أو غيره.
فإن كان الأول: لزم أن يكون الشيء أول نفسه؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فذلك الأول أيضا حادث؛ ضرورة كونه صفة للحادث، والكلام فيه: كالكلام فى الأول؛ ويلزم منه وجود حوادث لا أول لها تنتهى إليه.
وجوابه أن يقال: المراد من كون الحادث له أول أن وجوده مسبوق بوجود الأولى كما قال: الشيخ أبو الحسن الأشعرى.
وعلى هذا؛ فلا تسلسل.
ويمكن أن يقال: معنى الأولية أنه ليس بأزلى والتسلسل أيضا لا يكون لازما.
وعلى هذا: فلو قيل الحادث هو الموجود الّذي ليس بأزلى؛ لكان أولى وأدل على الغرض، وأنفى لما قيل من التشكيكات.
فإن قيل: مسمى الحادث: إما أن يكون هو نفس مسمى الوجود، أو زائد عليه.
فإن كان الأول: فهو محال لوجهين:
الأول: أنه يلزم منه أن يكون كل موجود حادثا، وليس كذلك.
الثانى: أنه يلزم منه أن من علم «11» // كون الشيء موجودا، أن يعلم كونه حادثا؛ ضرورة اتحاد المعنى؛ وهو خلاف الموجود من أنفسنا.
وإن كان زائدا عليه: فإما أن يكون وجودا، أو عدما.
فإن كان وجودا: فإما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما: إذ هو صفة لما ليس بقديم. وإن كان حادثا: فالكلام فيه:
كالكلام فى الأول، وذلك يجر إلى حوادث لا أول لما تنتهى إليه.
وإن كان عدما: فهو محال.
________________
(1) سبقت ترجمته فى هامش ل 231/ أ من الجزء الأول.
(11) // أول ل 44/ ب.
(3/304)
________________________________________
فإن نقيض الحادث؛ لا حادث. ولا حادث؛ وصف عدمى؛ لصحة اتصاف العدم القديم به.
وإذا كان لا حادث عدما: كان الحادث وجودا، وهذه المحالات: إنما لزمت من فرض كون الشيء حادثا؛ فيكون محالا.
قلنا: نحن لا نشك فى وجود أمور بعد أن لم تكن: كالحركات والسكنات لأنواع الحيوانات، والجمادات، وما يتكلم به الإنسان من آحاد الحروف، والكلمات، وما ينشئه أرباب الحرف، والصناعات.
وما قيل: فتشكيك على البديهيات؛ فلا يقبل. كيف: وأن مثل هذا لازم فى القديم أيضا.
إذ لقائل أن يقول مسمى القديم: إما أن يكون هو نفس مسمى وجوده، أو زائد عليه.
فإن كان الأول فهو محال؛ لما سبق «1».
وإن كان الثانى: فإما وجود، أو عدم.
فإن كان وجودا: فإما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون حادثا: وإلا «2» كان المتصف به أولى أن يكون حادثا «2».
فإن كان قديما: لزم/ التسلسل؛ لما سبق فى الحادث.
وإن كان عدما: فهو محال؛ لأن نقيضه، لا قديم. ولا قديم عدم؛ لاتصاف العدم المتجدد به، ويلزم من ذلك أن يكون الموجود الواحد، لا قديما، ولا حادثا؛ وهو محال بالبديهة، وما لزم عنه المحال؛ فلا يكون مقبولا.
وإذا عرف معنى القديم، والحادث؛ فلا يمتنع وصف العالم عندنا بكونه حادثا باعتبار كونه مسبوقا بالعدم، وقديما باعتبار تقادمه، وطول زمانه [يمتنع وصف العالم] «3» من غير مناقضة.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى- المسألة الأولى ل 54/ أ وما بعدها.
(2) من أول «و إلا كان .... إلى قوله: حادثا» ساقط من ب.
(3) ساقط من (أ).
(3/305)
________________________________________
وإذا قلنا: العالم قديم؛ بهذا الاعتبار لا يناقضه.
قولنا: العالم غير قديم بمعنى أنه ليس بأزلى.
وعلى هذا: فلا بد من تحقيق محل النزاع، ومورد الخلاف فى هذه الأصل، وهو أن العالم حادث، أو قديم [بمعنى أن وجوده مسبوق بالعدم، أو غير مسبوق به.
وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق محل النزاع] «1» فنقول: مذهب أهل الحق من المتشرعين: أن كل موجود سوى الواجب بذاته؛ فوجوده بعد العدم، وكائن بعد ما لم يكن، وأن الله- تعالى- كان ولا كائن، وأن ما أبدعه لم يكن معه.
ووافقهم على ذلك جماعة من الحكماء المتقدمين، والأساطين السبعة من أهل ملطية، وساميا، وأثينة «2».
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) الأساطين السبعة هم:
1 - تاليس الملطى: (624 ق. م- 550 ق. م. تقريبا). وهو أول من تفلسف فى ملطية. قال: إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته، وإنما يدرك من جهة آثاره. (انظر: الملل والنحل 2/ 61 - 64 والفلسفة الإغريقية د. محمد غلاب 1/ 33 - 40 فقد خالف الشهرستانى فيما ذهب إليه).
2 - انكساغورس (611 ق. م.- 547 ق. م. تقريبا). وهو أيضا من أهل ملطية. كان تلميذا لتاليس ورأى رأيه فى الوحدانية، ولكنه خالفه من المبدأ الأول. (انظر الملل والنحل للشهرستانى 2/ 64 - 66).
3 - انكسيمانس: (588 ق. م- 524 ق. م تقريبا) وقيل: [أناكسيمين] وهو من الملطيين المعروف بالحكمة.
قال: إن البارى- تعالى- أزلى لا أول له ولا أخر (الملل والنحل للشهرستانى 2/ 66 - 68 وانظر أيضا الفلسفة الإغريقية د، غلاب، فقد خالفه فيما ذهب إليه (1/ 47 - 51)
4 - أنباذقليس (495 ق. م.- 435 ق. م) وقيل: أمبيدوكل، ولد فى جزيرة (صقلية) وتأثر بمبادئ (فيثاغورس) [انظر عنه: الملل والنحل 2/ 68 - 73 وانظر الفلسفة الإغريقية د. محمد غلاب ص 95 - 106 فقد خالف الشهرستانى فيما ذهب إليه].
5 - فيثاغورس: ولد بين سنتى 580، 570 ق. م. [نسبت إليه المدرسة الفيثاغورية] هو من أهل ساميا (و هى جزيرة ساموس). [انظر عنه الملل والنحل 2/ 74 - 83: وانظر الفلسفة الإغريقية. د. غلاب ص 52 - 66 فقد نقد الشهرستانى وخالفه فى معظم أقواله].
6 - سقراط: [470 ق. م ولد فى أثينا سنة 470 ق. م، ثم أعدم بعد أن بلغ السبعين من عمره [انظر الملل والنحل 2/ 83 - 88 وانظر الفلسفة الإغريقية ص 145 - 171. فقد نقد الشهرستانى وخالفه فى معظم آرائه].
7 - أفلاطون (يرجع أنه ولد بين سنتى 429 - 427 ق. م.) انظر ترجمته فيما سبق فى ه ل 52/ أ- الفصل الثالث: فى تحقيق معنى المكان. وانظر عن آرائه: [الملل والنحل للشهرستانى 2/ 88 - 95 والفلسفة اليونانية د. محمد غلاب 1/ 186 - 297 فقد وفى الموضوع حقه كما أثنى على الشهرستانى وقال عنه «قد فهم مذهب أفلاطون) على أصله وأدرك من خفاياه وأسراره ما لا يزال كثير من الباحثين يعتقدون أنه نتيجة البحوث العلمية الحديثة، وفخر العصور الحاضرة، وما هم فى ذلك إلا واهمون إذ قد سبق الشهرستانى المحدثين بعدة قرون إلى فهم آراء (أفلاطون) [الفلسفة الإغريقية ص 292].
(3/306)
________________________________________
وإن كان لهم اختلاف فى المعلول الأول لواجب الوجود، وكيفية صدور الكائنات عنه، وفى أصول الموجودات المركبة، وكميتها، وكيفيتها وقد أومأنا إليه فى كتابنا الموسوم بدقائق الحقائق «1»، ورموز الكنوز «2»
وذهبت «3» الدهرية: إلى القول بوجوب وجود ما وجد عن الواجب بذاته مع وجوده، وإن قيل له حادث: فليس إلا بمعنى أن وجوب وجوده بغيره، وأن له مبدأ يستند إليه، ويتقدم عليه تقدما بالذات على نحو تقدم حركة اليد على حركة الخاتم.
ثم اختلف هؤلاء فيما وجب عن الواجب بذاته فذهب أرسطاطاليس «4»، ومن نصر مذهبه من اليونانيين، وفلاسفة الإسلاميين كأبي نصر الفارابى «5»، وأبى عبد الله الحسين ابن سينا «6». إلى أن الواجب عن الواجب بذاته عقل مجرد عن المادة وعلائقها.
وبتوسطه وجدت الأجرام العلوية، ونفوسها، والعقول التى هى مبادئها منتهية إلى الجسم المشترك بين العناصر، التى فى مقعر فلك القمر، الصادر عن العقل الفعال لنفوسنا.
وأما ما وراء ذلك من الكائنات المتجددة: كالنفوس الإنسانية، والصور الجوهرية للأجسام العنصرية، وغير ذلك من الحركات، والأمور العرضية المتوقفة على الاتصالات الكوكبية، المستندة إلى الإرادات النفسية للأجرام الفلكية.
________________
(1) دقائق الحقائق: وهو فى الفلسفة ويقع فى ثلاث مجلدات، وهو من أهم كتب الآمدي الفلسفية، وأقدمها تأليفا فكثيرا ما يحيل عليه فى كتابه أبكار الأفكار [أنظر عن هذا الكتاب ص 94 - 98 من دراستى عن الآمدي، رسالة دكتواره سنة 1974].
(2) رموز الكنوز: وهو فى الفلسفة كما ذكر تلميذه ابن أبى أصيبعة وهو يقع فى مجلد واحد [انظر عن هذا الكتاب المصدر السابق ص 93، 94].
(3) ساقط من ب.
(4) أرسطاطاليس: ولد فى مدينة اسطاخيرا سنة 384 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وتتلمذ على يد (أفلاطون).
ولقب بالمعلم الأول وكان له تأثير كبير فى العالم، وترجمت مؤلفاته إلى معظم لغات العالم، ومن أشهر مؤلفاته:
الطبيعة، والكون والفساد والأخلاق. ومن أشهر تلاميذه الاسكندر الأكبر المقدونى من أشهر الفاتحين، ولأرسطو تأثير هائل فى فلاسفة الإسلام وفى فلاسفة أوربا بعد ذلك، وتوفى سنة 322 ق. م.
[انظر أخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى 27، والفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب 2/ 80].
(5) الفارابى: [260 ه- 339 ه/ 874 م- 950 م] محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرفان (الفارابى) ويلقب بالمعلم الثانى (أبو نصر) حكيم، رياضى، طبيب، موسيقى. عارف بكثير من اللغات. ولد فى فاراب، وسافر إلى حران ومصر ودمشق فسكنها وتوفى بها سنة 339 ه له مؤلفات كثيرة: من أهمها: آراء أهل المدينة الفاضلة، إحصاء العلوم، وتحصيل السعادة [الفهرست لابن النديم 1/ 263 وعيون الأنباء لابن أبى أصيبعة 2/ 134 وما بعدها وفيات الأعيان 2/ 100 وما بعدها].
(6) ابن سيناء: سبقت ترجمته فى هامش ل 72/ ب من الجزء الأول.
(3/307)
________________________________________
فإنه وإن كان كل واحد منها حادثا، غير أنها لا أول لها تنتهى إليه؛ بل هى لا/ تتناهى لا شدة ولا عدة، وما من «11» // كائن إلا وقبله كائن آخر، إلى ما لا يتناهى، على ما أوضحناه من تفصيل مذهبهم، وتحقيق معتقدهم، فى ترتيب العلل، والمعلولات وضبط مذهبهم فيما يتناهى، وما لا يتناهى.
وزعموا: أن العالم، وما فيه من الأجرام العلوية، والسفلية ولواحقها؛ لم يزل على هذه الهيئة والتدبير من الأزل وكذلك لا يزال.
وذهب بعض قدماء الفلاسفة: إلى أن أصل العالم، وجوهره قديم وأحال وجود كائنات متعاقبة غير متناهية وهؤلاء اختلفوا:
فمنهم من قال: أصل العالم أجزاء جسمانية، كرية، مثبتة فى أبعاد خلائية، غير متناهية، وجدت عن واجب الوجود، إما بواسطة، أو غير واسطة، وأنها لم تزل متحركة، ضرورة تشابه أجزاء الخلاء. وأنه ليس القول بسكونها فى بعض أجزائه، دون البعض أولى من العكس.
فاتفق أن تصادمت؛ فحصل منها كرات الأفلاك على الأشكال المخصوصة، ولزم أن تكون متحركة ضرورة كريتها، وأنه ليس القول ببقائها على بعض الأوضاع؛ لتشابه أجزائها وأوضاعها؛ أولى من البعض.
فاتفق أن ما قرب منها مما فى مقعرها إن سخن بسبب حركتها غاية السخونة؛ فكان منه ألطف الأجسام العنصرية: وهو النار «1» ثم ما يليه دونه فى اللطافة: وهو الهواء، ثم ما يليه، فدونه فى اللطافة: وهو الماء، وما بعد عنها غاية البعد، وهو التراب ففى غاية الغلظ، والكثافة. وعن هذه العناصر الأربعة تكون أنواع المركبات.
ومنهم من قال كان أصل العالم وهو هيولاه فى حكم الموجود الواحد لا انقسام فيه.
________________
(11) // أول ل 45/ أ من النسخة ب.
(1) عرف الآمدي النار والهواء والماء والتراب فقال: وأما النار: فعبارة عن جرم بسيط حار يابس».
وأما الهواء: فعبارة عن جرم بسيط حار رطب.
وأما الماء: فعبارة عن جرم بسيط بارد رطب.
وأما التراب: فعبارة عن جرم بسيط بارد يابس».
[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 99].
(3/308)
________________________________________
وكان عاريا عن الأعراض المتجددة، المتعاقبة. ثم انقسم وتجزأ، وتركب، وتشكل، ثم قامت به الأعراض.
ومن الدهرية: من زعم أن أصل العالم النور. والظلمة، وهم الثنوية «1».
وقد استقصينا مذاهبهم، وبينا اختلافهم، واضطراب عقائدهم بما فيه مقنع، وكفاية؛ فلا حاجة لإعادته. ومن الحكماء من توقف فى القدم، والحدوث:
كجالينوس «2»، ومن نصر مذهبه.
وإذ أتينا على ما أردناه من شرح المذاهب؛ فلا بد من البحث عن مطرح نظر الفريقين، والكشف عن معتمد معتقد الطائفتين.
وليكن البداء بتقديم النظر فى طرق أهل الحق أولا، وإبطال شبه أهل الضلال، والانفصال عنها ثانيا.
وقد «3» احتج الأصحاب بمسالك:
المسلك الأول «4»: أنهم قالوا: العالم ممكن الوجود بذاته،
وكل ما/ هو ممكن الوجود بذاته؛ فهو محدث؛ فالعالم محدث.
وبيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه:
الأول:
أنه لا يخلو: إما أن يكون واجبا لذاته، أو ممتنعا لذاته، أو ممكنا لذاته.
لا جائز أن يكون ممتنعا لذاته: وإلا لما وجد؛ وهو موجود
ولا جائز أن يكون واجبا لذاته: لوجهين:
________________
(1) راجع عنهم ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس الأصل الثانى- الفرع السادس: فى الرد على الثنوية والمجوس ل 225/ أ وما بعدها.
(2) انظر ترجمته فيما مر هامش ل 104/ أ.
(3) نقل ابن تيمية قول الآمدي «و قد احتج الأصحاب بمسالك ... الخ» في كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 247) وعلق عليه وناقشه.
(4) وقد نقله ابن تيمية وناقشة وسماه مسلك الإمكان فقال: «الأول: مسلك الإمكان، وأنه ممكن وكل ممكن محدث» [درء التعارض 3/ 448].
(3/309)
________________________________________
الأول: أن أجزاءه متغيرة عيانا، وواجب الوجود لذاته؛ لا يتغير بحال، فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.
الثانى: أنه لو كان واجبا لذاته: فهو لا محالة مركب، ومؤلف.
وعند ذلك: فإما أن يكون كل واحد من مفرداته واجبا، أو كل واحد ممكنا، أو البعض واجبا، والبعض ممكنا.
لا جائز أن يقال بالأول: والإلزام منه التعدد فى مسمى واجب الوجود لذاته؛ وهو ممتنع على ما سبق فى الوحدانية «1».
وإن كان الثانى: فما أجزاؤه ممكنة، أولى أن يكون ممكنا.
وإن كان الثالث: فما بعض أجزائه ممكن؛ لا يكون واجبا لذاته كيف وأنه لو كان بعض أجزائه واجبا، والإله- تعالى- واجب؛ للزم منه اجتماع واجبين؛ وهو محال.
الوجه الثانى: فى بيان الإمكان: أن وجود العالم يزيد علي ماهيته [و بيان ما تقدم فى إثبات واجب الوجود «2».
وإذا كان وجوده زائد على ماهيته] «3» فإما أن يكون واجبا، أو جائزا.
لا جائز أن يكون واجبا: إذ هو صفة لماهية العالم، والصفة مفتقرة إلى الموصوف؛ وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.
[الثالث: هو أن أجسام «4» العالم مؤلفة مركبة؛ لما سبق بيانه فى الأجسام، وكل ما كان مؤلفا، ومركبا؛ فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره؛ لا يكون واجبا لذاته.
فالأجسام ممكنة لذواتها، والأعراض قائمة بالأجسام، ومفتقرة إليها، والمفتقر إلى الممكن؛ أولى أن يكون ممكنا، والعالم غير خارج عن الأجسام، والأعراض؛ فكان ممكنا «5»].
________________
(1) انظر الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول: النوع الخامس: فى وحدانية الله- تعالى ل 166/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 41/ أ وما بعدها.
(3) ساقط من (أ).
(4) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء التعارض 4/ 247) من أول قول الآمدي «أجسام العالم مؤلفة إلى قوله: أولى أن يكون ممكنا» ثم علق عليه وناقشه.
(5) ساقط من (أ).
(3/310)
________________________________________
وأما «11» // بيان المقدمة الثانية، فهو أن كل ممكن مفتقر إلى المرجح لأحد طرفيه على الآخر؛ لما تقدم فى إثبات واجب الوجود «1».
فالعالم مفتقر إلى المرجح، وإذا كان مفتقرا إلى المرجح، لزم أن يكون حادثا لوجهين:
الأول: أن ذلك المرجح: إما أن يكون مرجحا له بذاته، أو بالقدرة والاختيار.
لا جائز أن يكون مرجحا له بذاته: لثلاثة أوجه:
الأول: هو أن الوجود لا اختلاف فيه بين الذوات الموجودة؛ بل هو من الواجب، والجائز بمعنى واحد؛ كما تقدم تحقيقه.
وعند ذلك: فليس القول بترجيح وجود العالم، بما ترجح به أولى من العكس.
الثانى: أن الجائزات بأسرها متماثلة، من حيث هى جائزة وهى فلم تكن مفتقرة إلى المرجح إلا من حيث اشتركت فى صفة الإمكان.
والواجب بالذات، لا يخصص مثلا عن مثل: لأن نسبته إلى جميع المتماثلات؛ نسبة واحدة.
الثالث: أن الموجب بذاته مهما لم يكن بينه، وبين ما أوجبه مناسبة، وتعلق لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الآخر أصلا، ولا يخفى أن البارى- تعالى- متفرد بحقيقته غير مناسب لشيء من/ الجائزات فلا يكون بذاته موجدا لشيء منها.
فلم يبق إلا أن يكون مرجحا له بالقدرة والاختيار، وإذا كان كذلك: فلا بد وأن يكون قاصدا للإيجاد، والقصد إلى إيجاد الشيء، إما أن يكون فى حال دوام وجوده، أو فى حال حدوثه، أو قبل حدوثه.
لا جائز أن يقال بالأول: لما فيه من قصد تحصيل الحاصل، وإيجاد الموجود؛ وهو محال.
وإن كان الثانى، والثالث: فقد لزم الحدوث.
________________
(11) // أول ل 45/ ب.
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ووجوده ل 41/ أ وما بعدها.
(3/311)
________________________________________
الوجه الثانى: فى بيان أن ما افتقر إلى المرجح لا يكون إلا حادثا، وإن لم يكن المرجح مختارا. وهو أن احتياج الممكن إلى المرجح، إما أن يكون أيضا فى حال وجوده، أو فى حال عدمه.
فإن كان فى حال وجوده: فإما فى حالة دوامه، أو فى ابتداء وجوده.
لا جائز أن يكون ذلك فى حال دوامه؛ لما تقدم، فلم يبق إلا القسمان الآخران، ويلزم منه الحدوث، وفى هذا المسلك نظرا؛ إذ لقائل أن يقول: ما المانع من القول بالوجوب.
قولهم: إن أجزاء العالم [متغيره عيانا. إنما يصح أن لو كانت جميع أجزاء العالم] «1» مشاهدة بالعيان. وما المانع من وجود أجزاء غير مشاهدة: كما يقوله الخصوم من العقول، والنفوس الفلكية؛ على ما سبق تعريفه «2».
ولا يخفى أن الدلالة على انتفاء ذلك صعب جدا، وبتقدير انتفاء هذه الأجزاء فلا نسلم أن جملة أجزاء العالم مشاهدة بالعيان حتى لا يخرج منها شيء من العالم العلوى، والسفلى.
وعلى هذا: فجاز أن يكون حكم ما لم نشاهد على خلاف ما شوهد، وبتقدير التسليم بمشاهدة الكل عيانا- فالمتغير عيانا كل واحدة من الأجزاء، أو البعض دون البعض.
الأول: ممنوع ولا سبيل إلى دعواه مهما نشاهد من بقاء أجرام الأفلاك وبعض أعراضها: كأشكالها، وأنوار كواكبها، إلى غير ذلك.
والثانى مسلم.
وعلى هذا: فما هو دليل الإمكان، غير عام لجملة أجزاء العالم.
قولهم «3»: إن العالم مركب. مسلم.
ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟
وما ذكروه من الدلالة؛ فقد بينا ضعفها فى مسألة الوحدانية «4».
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع ما سبق ل 32/ أ وما بعدها.
(3) من أول «قولهم: إن العالم مركب إلى قوله: «فى مسألة الوحدانية» نقله ابن تيمية فى (درء التعارض 4/ 247، 248) ثم علق عليه وناقشه بالتفصيل.
(4) راجع ما سبق فى الجزء الأول: النوع الخامس: فى وحدانية الله- تعالى- ل 166/ أ وما بعدها.
(3/312)
________________________________________
قولهم: إن وجود العالم زائد على ماهيته، فقد سبق الوجه فى إبطال كل ما قيل من الدلالة عليه.
قولهم: إن أجسام العالم مؤلفة. مسلم.
قولهم: وكل مؤلف فهو مفتقر إلى أجزائه. لا نسلم أن الجسم يزيد على الأجزاء المجتمعة؛ بل هو نفسها؛ فلا يكون الجسم مفتقرا إلى نفسه، وبتقدير كون الجسم غير أجزائه التى منها تركيبه فغايته أن يكون الجسم غير واجب لذاته، ولا يلزم من ذلك إمكان أجزائه.
وعلى/ هذا: فلا يكون دليل الإمكان عاما لكل أجزاء العالم.
سلمنا أن أجزاء جميع العالم ممكنة وأن كل ممكن مفتقر إلى المرجح.
ولكن لا نسلم أن كل مفتقر إلى المرجح يكون حادثا.
قولهم: المرجح إما أن يكون مرجحا بذاته، أو بالقدرة، والاختيار. ما المانع أن يكون مرجحا بذاته.
قولهم: الوجود فى الواجب، والجائز بمعنى واحد وقد أبطلناه فيما تقدم «1».
قولهم: إن الجائزات «11» // متساوية بالنسبة إلى الموجب بالذات. دعوى مجردة.
وما المانع أن تكون الممكنات مع اختلاف حقائقها مختلفة النسبة بالنسبة إلى اقتضاء الموجب لها بالذات وإن تساوت فى الإمكان حتى أن يكون مقتضيا بذاته للبعض دون البعض، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى دفعه.
قولهم: لا بد وأن تكون بين الموجب بذاته، وما أوجبه مناسبة، وتعلق إن أرادوا به أن يكون لحالة يلزم من وجود أحدهما، وجود الآخر عنه؛ فذلك مما لا نزاع فيه.
وإنما الشأن فى بيان أنه لم يثبت ذلك للعالم بالنسبة إلى موجده؛ ولا سبيل إليه.
وإن أريد بالمناسبة المساواة، والمشابهة فى الذات أو صفة من صفاتها، فهو ممنوع.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول- المسألة الرابعة ل 53/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 46/ أ من النسخة ب.
(3/313)
________________________________________
كيف: وأنه لو كان المرجح إنما يرجح لمعلوله باعتبار ما وقعت به المساواة بينهما.
لم يكن جعل أحدهما مرجحا للآخر؛ أولى من العكس.
إن قدر أنه لا بد من المساواة بينهما في أمر من الأمور فقولهم: إن البارى- تعالى- غير مشارك لشيء من الجائزات في أمر ما؛ مناقض لما قرر فى الوجه الأول. من وجوب الاشتراك بين الواجب، والجائز، فى معنى الوجود ولا مدلوله.
وإن سلمنا: أنه موجد بالقدرة، والاختيار؛ ولكن لا نسلم لزوم الحدوث، وما ذكروه من تقريره، إنما يلزم أن لو انحصرت الأقسام فيما ذكروه.
وما المانع أن يقال بقسم آخر وهو أن يكون قصده له مقارنا لوجوده، مع قدمه، ولا بد من إبطال هذا القسم، لصحة الدلالة على الحدوث. ولم يتعرضوا له.
وبهذا يبطل قولهم إن افتقار الممكن إلى المرجح، لا يكون إلا فى حالة حدوثه، أو عدمه.
والّذي يدل على إمكان ما ذكرناه من القسم هو أن عدم العالم قبل حدوثه قديم أزلى، وإلا كان العالم موجودا قبل عدمه، ولو كان موجودا قبل عدمه فإما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان قديما: فهو ما يقوله الخصوم.
كيف، وأنه لو كان قديما؛ لما عدم على أصول أهل الحق؛ وقد فرض عدمه.
وإن كان حادثا: فالكلام فى العدم السابق عليه كالكلام فى الأول وهو تسلسل ممتنع. فلم يبق إلا يكون عدمه السابق عليه أزليا.
وإذا كان عدمه أزليا: فإما أن يكون واجبا لذاته، أو ممكنا لذاته. لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لما تصور دفعه، وزواله؛ لأن الواجب لذاته لا يزول.
ولو أمكن ذلك فى العدم الواجب؛ لأمكن فى الوجود الواجب؛ ضرورة عدم الفرق؛ وهو محال، وإذا كان جائزا: فلا بد من مرجح؛ ضرورة إمكانه، وجوازه وسواء كان المرجح مرجحا بذاته، أو بالاختيار، ويلزم من ذلك إبطال القول بأن المفتقر إلى المرجح؛ لا بد وأن يكون حادثا؛ إذ الأزلى ليس بحادث؛ وهذا مما لا جواب عنه.
وقد أورد بعض الأصحاب على القول بأن المفتقر إلى المرجح لا بد وأن يكون حادثا إشكالات مشكلة، لا بد من الإشارة إليها، وإلى جهة دفعها تكثيرا للفائدة.
(3/314)
________________________________________
الإشكال الأول: قولكم إن القصد لا يتعلق بالمقصود فى حالة دوامة، ليس كذلك، فإن كل أحد يجد من نفسه وجدانا ضروريا أنه يريد دوام الشيء وبقائه على وجوده ولا معنى لبقائه غير حصوله فى الزمن الثانى، وليس ذلك زائدا على نفس الباقى، وإلا لكان ذلك الزائد حاصلا فى ذلك الزمان، والكلام فى حصوله كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
فثبت أن القصد قد تعلق بالشيء حال بقائه.
وقولكم: بأن الاحتياج إلى المؤثر لا يكون فى حال بقائه ينتقض بالعلة، والمعلول:
كالعلم مع العالمية، وبالشرط مع المشروط؛ كالحياة مع العلم، ونحوه.
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه: غير أنه معارض بما يدل على أن الاحتياج إلى المؤثر لا يشترط فيه أن يكون فى حالة العدم أو الحدوث.
وبيانه من وجوه:
الأول: أن الحادث حال بقائه إما أن يكون واجبا لذاته، أو ممكنا.
لا جائز أن يكون واجبا: وإلا لما تصور عليه العدم.
فلم يبق إلا أن يكون ممكنا: والممكن لا بد له من مؤثر؛ فالشيء حالة بقائه يفتقر إلى المؤثر.
الثانى: أن عدم الشيء ينافى وجوده؛ وما يكون منافيا لوجود الشيء؛ لا يكون شرطا فى احتياج ذلك لشيء إلى «11» // المؤثر ولا يكون الفعل فعلا، ولا الفاعل فاعلا.
الثالث: أنه لا معنى للحدوث غير كون وجود الشيء مسبوقا بالعدم، [و كونه مسبوقا بالعدم] «1» صفة له. وصفة الشيء مفتقرة إلى ذلك الشيء ومتأخرة إما بالذات، أو الوجود، ووجود ذلك الشيء مفتقر إلى تأثير المؤثر فيه؛ فتأثير المؤثر فيه يكون متقدما عليه، وتأثير المؤثر فيه يتوقف على احتياج ذلك الأثر/ إليه فلو افتقر احتياج الأثر إلى المؤثر إلى كونه مسبوقا بالعدم، لكان المتقدم على الشيء بمرات؛ متأخرا عنه بمرات؛ وهو محال.
________________
(11) // أول ل 46/ ب من النسخة ب.
(1) ساقط من (أ).
(3/315)
________________________________________
الرابع: هو أن الممكن لا بد، وأن ينتهى في الحاجة، إلى واجب الوجود. فواجب الوجود إن توقف تأثيره، على تجدد أمر لم يكن؛ فالكلام فى ذلك المتجدد: كالكلام فى الأول، وهو تسلسل.
وإن لم يتوقف: فيلزم من قدمه؛ قدم أثره، وخرج الاحتياج إلى المؤثر، عن أن يكون مشروطا بالحدوث، أو العدم.
الخامس: أنا لو تصورنا محدثا حدث لذاته؛ لخرج عن أن يكون مفتقرا إلى مؤثر؛ لأن ما ثبت للذات؛ لا يكون ثابتا بأمر خارج.
ولو تصورنا قديما نسبة الوجود، والعدم إليه على السوية، قطعنا بافتقاره إلى المرجح؛ فثبت أن احتياج الأثر إلى المؤثر، غير مشروط بالعدم، أو الحدوث.
السادس: هو أن الحادث له وجود حاصل، وعدم سابق. وكونه مسبوقا بذلك العدم، وليس المحتاج إلى المؤثر، هو العدم السابق؛ لما سبق أن الأثر لا يكون عدما، ولا كونه مسبوقا بالعدم، فإن ذلك من الصفات الواجبة للحادث؛ فلا يكون مفتقرا إلى المؤثر؛ فلم يبق إلا الوجود.
وليس المحتاج هو مطلق وجود. وإلا لكان وجود واجب الوجود؛ محتاجا إلى المؤثر فلم يبق إلا أن يكون المحتاج إلى المؤثر الوجود الممكن.
وخرج الحدوث عن أن يكون مشترطا فى الاحتياج إلى المؤثر.
السابع: هو أن كون الأربعة زوجا؛ والخمسة فردا، من الصفات اللازمة لها. وهى ممكنة فى أنفسها، ضرورة كونها صفة لغيرها وليست معلولة لخارج عن ماهية الأربعة والخمسة [و إلا لأمكن لفرض عدم الزوجية للأربعة، مع فرض وجود الأربعة عند فرض عدم العلة الموجبة للزوجية. وكذلك الفرد للخمسة، وهو محال.
وإذا كانت الزوجية، والفردية معلولة بالأربعة، والخمسة] «1» فلا يخفى. مع ملازمتها لها، إمكان تأثير المؤثر فى الأثر مع دوامه، بدوامه.
الثامن: هو أن صفات الرب- تعالى- من علمه، وقدرته قديمة. فإن كانت واجبة، فقد بطل ما ذكرتموه فى تقرير الإمكان، من امتناع وجود واجبين.
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/316)
________________________________________
وإن كانت ممكنة: فيلزم أن يكون لها مؤثر، ومع ذلك ليست حادثة.
والجواب: أما قوله: بأن الواحد منا قد يريد بقاء الشيء: إن أراد به نفس الباقى، فممنوع؛ لما فيه من إرادة تحصيل الحاصل.
وإن أراد به البقاء؛ فالبقاء، عند القائل به عرض متجدد؛ وهو زائد على نفس الباقى؛ وليس باقيا.
قوله: لا معنى للبقاء غير حصول الباقى فى الزمن الثانى؛ باطل بذات الله- تعالى- فإنها باقية.
وإذا قيل: إن الباقى باق ببقاء؛ فليس بقاؤها نفس حصولها فى الزمن الثانى.
وإلا كان/ وجود الرب- تعالى- زمانيا؛ وليس كذلك.
وإن سلمنا: أنه لا معنى للبقاء، غير حصول الشيء فى الزمن الثانى.
ولكن لا نسلم أنه غير زائد على نفس الباقى.
قوله: لو كان زائدا؛ لكان له أيضا حصول فى الزمان.
قلنا: حصول فى الزمان هو نفس [ذلك الحصول] «1» أو حصول زائد عليه.
الأول: مسلم. والثانى: ممنوع؛ وعلى هذا؛ فلا تسلسل.
وأما النقض بالعلم، والعالمية: فمبنى على القول بالأحوال؛ وسيأتى إبطاله «2».
وأما النقض بالشرط، والمشروط: فغير متجه؛ إذ الشرط غير مؤثر فى وجود المشروط، لا ابتداء، ولا دواما، والكلام إنما وقع فى الاحتياج إلى المؤثر.
قوله: إن الباقى حال بقائه مفتقر إلى المؤثر، لكونه ممكنا.
قلنا: الباقى وإن كان ممكنا في حال بقائه؛ فهو مفتقر إلى المؤثر فى وجوده، ووجوده الثانى فى حال بقائه عين الوجود الأول، وقد أثرت فيه العلة أولا، فلا تكون مؤثرة فيه ثانيا.
قوله عدم لشيء ينافى وجود الشيء.
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع ما سيأتى ل 114/ أ وما بعدها.
(3/317)
________________________________________
قلنا: العدم السابق، أو العدم المقارن، الأول: ممنوع، والثانى: مسلم.
وعند ذلك: فلا يمتنع أن «11» // يكون شرطا فى الاحتياج.
قوله: بأن كون الوجود مسبوقا بالعدم صفة للوجود؛ فلا يتوقف عليه الاحتياج إلى المؤثر.
فإنما يلزم أن لو قلنا: بأن شرط الاحتياج: إنما هو العدم المتقدم، وليس ذلك صفة للوجود، لا نفس كونه مسبوقا بالعدم؛ وفرق بين الأمرين.
قوله: إن الممكن لا بد أن ينتهى فى الحاجة إلى واجب الوجود، مسلم.
قوله: إن لم يتوقف تأثيره فيه على شيء؛ فيلزم قدم أثره من قدمه.
إنما يلزم أن لو لم يكن التأثير بالقدرة، والإرادة؛ كما سبق فى الصفات «1».
قوله: لو تصورنا محدثا حدث لذاته؛ لخرج عن أن يكون مفتقرا إلى المؤثر.
فإنما يلزم امتناع اشتراط الحدوث فى الاحتياج إلى التأثير أن لو لم يكن فرض هذا التصور مع الاستحالة فى نفس الأمر. [و أما إذا كان مع الاستحالة فى نفس الأمر] «2» فلا يمتنع اشتراط الحدوث فى الاحتياج إلى المؤثر فى نفس الأمر. وهذا كما لو قال القائل:
لو تصورنا اجتماع الضدين لخرج اجتماع الضدين عن أن يكون ممتنعا.
وما لزم من ذلك خروج اجتماعهما عن الامتناع في نفس الأمر لما «3» كان فرض تصور الاجتماع مع الإحالة فى نفس الأمر «3»؛ وفيه دقة فليتأمل.
قوله: الحادث له وجود حاصل، وعدم سابق، إلى آخره إنما يلزم أن لو قلنا: إن العدم/ أو كون الوجود مسبوقا بالعدم أثر للمؤثر؛ وليس كذلك؛ بل الوجود المشروط بالعدم السابق، ولا منافاة بين كونه شرطا فى الحدوث، وبين كونه ليس أثرا للمؤثر.
وما قيل: من الزوجية: للأربعة، والفردية: للخمسة؛ فإنما يلزم أيضا أن، لو كانت علة الزوجية، والفردية نفس ماهية الأربعة، والخمسة؛ وليس كذلك؛
________________
(11) // أول ل 47/ أ.
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 58/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) من أول: «لما كان ... إلى قوله: فى نفس الأمر» ساقط من ب.
(3/318)
________________________________________
بل المؤثر المرجح لها؛ هو المرجح لموضوعها؛ وإن كان موضوعها شرطا فى وجودها.
وعند ذلك: فلا يلزم أن يكون المؤثر فيها مقارنا لها وما ذكره من الإلزام بصفات الرب- تعالى-، فإنما يلزم من أثبت الصفات الوجودية الزائدة على ذات الرب- تعالى.
ولعل المستدل فى حدوث العالم بهذه الطريقة غير قائل بها؛ فلا يكون الإلزام لازما عليه.
وبتقدير أن يكون المستدل بها أشعريا قائلا بالصفات الزائدة الوجودية؛ فإنما يلزمه ذلك؛ أن لو تعين امتناع وجود واجبين فى إثبات إمكان العالم؛ وليس كذلك علي ما تقدم.
وبتقدير تعينه طريقا فى إثبات الإمكان، فلا يخفى أن من مذهبه حدوث كل ممكن، وثبوت الصفات الوجودية للرب تعالى.
وإذا تعذر الجمع بين هذين [الأمرين] «1»؛ فليس تخطئته فى أحدهما ضرورة تصويبه في الآخر أولى من العكس؛ بل له أن يقول: أخطأت فى إثبات الصفات، وأصبت فى حدوث الممكنات.
المسلك الثانى «2»: هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها.
وكل ما كان كذلك؛ فهو محدث؛ فالعالم محدث.
أما المقدمة الأولى: فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين:
الأول: أنهم قالوا: كل جسم من أجسام العالم؛ فهو متناه، وكل متناه فله شكل معين، ومقدار معين، وحيز معين.
أما المقدمة الأولى: فلما سبق تقريره.
وأما المقدمة الثانية: فلأن كل جسم متناه فلا بد له من مقدار معين، وأن يحيط به
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) هذا المسلك سماه ابن تيمية «مسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص» وبدأ النقل بقوله: قال الآمدي: المسلك الثان: ثم نقله بتمامه في كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 351 - 354) ثم علق عليه وناقشه ابتداء من ص 354.
(3/319)
________________________________________
حد واحد: كالكرى، أو حدود: كالمضلّع وهو المعنى بالشكل وأن يكون فى حيز بحيث يمكن أن يشار إليه: بأنه هاهنا، أو هاهنا؛ وهذا كله معلوم بالضرورة، وكل ما له شكل، ومقدار، وحيز معين؛ فلا بد له من مخصص يخصصه به.
وبرهانه: أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة، أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر، أو أصغر مما هو عليه، أو شكل غير شكله، وحيز غير حيزه. إما متيامنا عنه، أو متياسرا.
فإذا كان كذلك: فلا بد/ له من مخصص يخصصه بما تخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص، وهو محال.
الطريق الثانى: أن جواهر العالم: إما أن تكون مجتمعة، أو مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معا؛ أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو البعض مجتمعا، والبعض مفترقا.
لا جائز أن يقال بالاجتماع، والافتراق معا، ولا أنها غير مجتمعة، ولا مفترقة معا؛ إذ هو ظاهر الإحالة؛ فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخرى.
وأى قسم قدر منها، أمكن فى العقل فرض الأجسام على خلافه؛ فيكون ذلك جائزا لها ولا بد لها من مخصص يخصصها «11» //؛ لما تقدم فى الطريق الأول.
وأما بيان المقدمة الثانية: وهى أن كل مفتقر إلى المخصص محدث؛ فهو أن المخصص لا بد وأن يكون فاعلا مختارا، وأن يكون ما يخصصه حادثا؛ لما سبق فى المسلك الأول:
وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر، والأجسام لا تخلوا عن الحادث؛ فتكون حادثة، وإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر، والأجسام حادثة، فالأعراض كلها حادثة؛ ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر، والأجسام، والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض؛ فيكون حادثا؛ وهو ضعيف أيضا.
إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى: وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية: وهى أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر فى تقريرها باطل؛ بما سبق فى المسلك الأول.
________________
(11) // أول ل 47/ ب.
(3/320)
________________________________________
وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات؛ فلا يلزم أن تكون الأجسام، والجواهر حادثة، لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهى إليه «1».
المسلك الثالث «2»: فى بيان حدوث العالم:
أنه لو كان الجسم أزليا؛ لكان فى الأزل حاصلا فى حيز معين: أى بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه هاهنا، دون هاهنا؛ وهو معلوم بالضرورة ولو كان حصوله فى الحيز المعين أزليا؛ لما تصور زواله عنه؛ لأن الأزلى لا يزول على ما يأتى تقريره.
ولو كان كذلك: لامتنع عليه الحركة. والحركة غير ممتنعة على الجسم لوجهين:
الأول: أن كل جسم يفرض: إما أن يكون مركبا، أو بسيطا وعلى كل تقدير فلا بد فيه من جزء بسيط متحد الطبيعة؛ وذلك الجزء له جانبان ضرورة، وكل واحد من الجانبين مساو في طبيعته للآخر، وإلا كان مركبا، وهو/ خلاف الفرض.
ويلزم من ذلك أن يصح على كل واحد من الجانبين، ما يصح على الآخر من الملاقاة وإنما يتصور ذلك بالحركة حتى يصير ما كان ملاقيا له من جهة اليمنة، ملاقيا له من جهة اليسرة.
فإذن الحركة جائزة على كل جسم.
الوجه الثانى: أن الأجسام منقسمة: إلى علوية، وسفلية والخصم فقد أوجب الحركة على العلوية، وجوزها على السفلية وعلى كل واحد من التقديرين: فالحركة غير ممتنعة على الجسم.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 351 - 354).
(2) سماه ابن يتيمة مسلك الحيز المعين فقال: «الثالث: مسلك الحيز. المعين» [درء التعارض 3/ 448].
(3/321)
________________________________________
فقد بان أن لازم القول بأزلية الجسم منتف؛ فلا أزلية؛ وفيه نظر أيضا.
فإن الأول ليس هو عبارة عن زمان مخصوص، ووقت مقدر؛ حتى يقال بحصول الجسم فى الحيز فيه. بل الأزل لا معنى له، غير كون الشيء لا أول له.
والأزلى على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه.
فقول القائل: الجسم فى الأزل موصوف بكذا: أى فى حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه؛ إلا وهو موصوف بالأزلية، وأى وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه، وهو فى حيز معين؛ لم يلزم أن يكون حصوله فى ذلك الحيز المعين أزليا؛ لأن نسبة حصوله فى ذلك الحيز المعين: كنسبة حصوله فى ذلك الوقت المعين، وما لزم من كون الجسم الأزلى لا يخلو عن وقت معين، أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا؛ فكذلك الحصول فى الحيز المعين. وفيه دقة مع ظهوره.
سلمنا أن حصول الجسم الأزلى فى الحيز المعين؛ لا بد وأن يكون أزليا.
قولهم: لو كان أزليا لما زال.
لا نسلم امكان الزوال عنه. وما ذكر فى الوجه الأول؛ فباطل؛ إذ الجزء المفروض:
إما أن يكون قابلا للتجزي، أو غير قابل له. فإن كان قابلا للتجزي: فلا يلزم أن ما صح على أحد أجزائه أن يصح على الجزء الآخر؛ لجواز أن يكونا مختلفين، وإن لم يكن متجزئ: فالقول: بأن منه ما هو مماس لشيء، ومنه ما ليس مماسا له موجب للتجزئة، وهو خلاف الفرض. ثم وبتقدير أن لا يكون متجزئ، أمكن حصول الملاقاة بكل جانب منه، لا بالحركة عن حيزه؛ بل بالحركة الدورية على مركز نفسه.
وأما الإلزام بالوجه الثانى: على اعتراف الخصم: فعير صحيح؛ لما سبق فى المسلك الأول «1».
________________
(1) راجع ما مر ل 86/ أ وما بعدها.
(3/322)
________________________________________
المسلك الرابع «1»: [لبعض المتأخرين أنه لو كان الجسم قديما .. ]
لبعض المتأخرين
أنه لو كان الجسم قديما؛ لكان قدمه إما عين كونه جسما، أو زائدا على كونه جسما؛ والقسمان باطلان:
فالقول: بقدم الجسم يكون باطلا. أما أن القدم ليس هو نفس الجسم؛ فلأنه يتصور العلم/. «11» // بالجسم مع الجهل بقدمه، والمعلوم غير ما ليس بمعلوم، وأما أنه غير زائد على الجسم: فلأنه لو كان زائدا: فإما قديم، أو حادث ولا جائز أن يكون قديما، وإلا فقدمه أيضا زائد عليه؛ ويلزم التسلسل.
ولا جائز أن يكون حادثا: وإلا كان قدم القديم له أول. ويلزم أن يكون الموصوف به له أول، والقديم لا أول له؛ وذلك محال.
وهو ضعيف جدا لوجهين:
الأول: أنه ما المانع أن يكون قدمه زائدا عليه؟
قوله: إما أن يكون قديما، أو حادثا. ما المانع أن يكون قديما؟
قوله: يلزم أن يكون أيضا قدمه زائدا عليه. ممنوع، وما المانع من كون القديم قديما بقدم هو نفسه؛ لا زائدا عليه بخلاف الجسم، إذ ليس هو قدم حتى يكون كونه قديما بقدم هو نفسه.
الثانى: أن ما ذكروه فى امتناع كونه قديما بعينه؛ لازم أيضا فى امتناع كونه حادثا وهو أن يقال: لو كان الجسم حادثا: إما أن يكون هو نفس الجسم، أو زائدا عليه.
والأول: محال؛ لما سبق:
________________
(1) وهذا المسلك للإمام الرازى. وقد سماه ابن تيمية مسلك القدم فقال: «الرابع: مسلك القدم: أنه قديم» [درء التعارض 3/ 448].
(11) // أول ل 48/ أ.
(3/323)
________________________________________
والثانى أيضا محال: لأن حدوثه: إما أن يكون هو «1» نفس الجسم أو زائدا عليه «1» قديما، أو حادثا.
لا جائز أن يكون حادثا: وإلا فحدوثه زائد عليه؛ وهو تسلسل.
ولا جائز أن يكون قديما: وإلا كان حدوث الحادث، لا أول له، ويلزم أن يكون الموصوف به لا أول له. وقد كان له أول؛ وهو محال.
فإن قيل: فى الفرق: إن الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل فى الحال، والقدم السابق.
ولا يعد العلم بالوجود الحاصل، والجهل بالعدم السابق بخلاف القديم، فإنه لا معنى له: إلا نفس وجوده؛ فهو خطأ ظاهر، فإنه كما أن الحادث: هو الوجود الحاصل، والعدم السابق.
فالقديم هو الوجود الحاصل، وسلب الأولية.
ولا يخفى أن سلب الأولية: زائد على نفس الوجود؛ ولهذا يصح العلم بالوجود، مع الجهل بسلب الأولية عنه.
أما أن يكون المفهوم من القدم، هو نفس الوجود؛ فلا.
المسلك الخامس: [لبعض الفضلاء أن العالم ممكن الوجود بذاته .. ]
لبعض الفضلاء
أن العالم ممكن الوجود بذاته، وكل ممكن الوجود بذاته حادث؛ فالعالم حادث بيان المقدمة الأولى: ما سبق في المسلك الأول «2».
وأما المقدمة الثانية: فبيانها من وجهين:
الأول: أن الممكن لا بد له من مرجح لوجوده على عدمه؛ لما تقدم فالعالم مفتقر فى وجوده إلى المرجح، وإذا كان مفتقرا إلى المرجح؛ فلا بد وأن يكون/ وجود المرجح متقدما على وجوده.
________________
(1) قوله: (هو نفس الجسم أو زائدا عليه) ساقط من ب.
(2) راجع ما سبق ل 86/ أ وما بعدها.
(3/324)
________________________________________
إذ المفيد لوجود الشيء يستحيل أن يقارن وجوده؛ لوجود المستفيد من حيث هما كذلك.
وإذا لم يكن مقارنا له فى الوجود؛ وهو معه بالوجود، وليس هو معه بالزمان، ولا المكان؛ وإلا كان وجود المفيد للزمان، والمكان، زمانيا ومكانيا؛ وهو محال.
ولا بالفضيلة، والشرف: وإلا كان الناقص المفتقر إلى غيره فى وجوده مساويا في الفضيلة؛ لما وجوده لذاته غير مفتقر إلى غيره.
ولا بالطبع: وإلا كان وجوده مقارنا لوجوده، وقد فرض متقدما فإذن قد انتفت المعية لجميع الأقسام السابقة المذكورة وثبت أن البارى- تعالى- كان ولم يكن معه شيء، وأن كل ما وجوده عن وجوده؛ فلا يكون إلا عن سبق عدم عليه.
الوجه الثانى: أنه إذا كان العالم ممكنا باعتبار ذات: فهو إنما يستحق الوجود له باعتبار غيره، ولو لا ذلك الغير؛ لكان مستحقا للعدم باعتبار ذاته، فالوجود له عرضى مأخوذ من الغير، والعدم له ذاتى مأخوذ من ذاته، وما هو ذاتى للشىء: يكون سابقا على ما هو عرضى بالنسبة إليه.
فالعالم إذن فى وجود مسبوق بموجود هو واجب الوجود بذاته، وبعدم هو ثابت لذاته؛ وما له أول، والعدم سابق على وجوده سبقا ذاتيا، لا يكون وجوده مع وجود ما لا أول لوجوده، ولا عدم يسبقه؛ وفيه نظر أيضا.
أما ما قيل فى تقرير المقدمة الأولى: فقد سبق ما فيه المسلك الأول «1».
وأما ما قيل من الوجه الأول فى تقرير المقدمة الثانية: من أن المفيد لا بد وأن يتقدم وجوده على وجود المستفيد، فدعوى مجردة، ومصادرة على المطلوب من غير دليل.
إذ قد عرف من مذهب الخصم: إمكان المعية بالوجود بين العلة والمعلول، ووجوب تقدمها بالذات، والعلية، والفضيلة.
وعند ذلك: فله أن يقول: لا أسلم أنه لا بد من تقدم وجود المفيد، على وجود المستفيد وامتناع المعية بينهما فى الوجود، وليس ذلك من البديهيات؛ فلا بد له من دليل.
________________
(1) راجع ما سبق ل 86/ أ وما بعدها.
(3/325)
________________________________________
وإن اكتفى فى ذلك بمجرد دعوى «11» // الضرورة: فقد لا تؤمن المقابلة بمثله في طرف النقيض.
فإن قيل: دليل وجوب التقدم فى الوجود: صحة قول القائل: وجدت العلة؛ فوجد المعلول، ولو كانا معيتين فى الوجود؛ لما حسن هذا الترتيب.
فللخصم أن يقول: ما نحن فيه قضية عقلية، وما به/ الاستدلال فأمر عرفى، وضعى.
فلا يصلح للدلالة على الأمر العقلى. وإن صح ذلك، ولزم الترتيب بين الوجودين:
فإنما هو بالذات: بمعنى أن وجود المعلول مستفاد من وجود العلة، ومترتب عليه لا بمعنى أن وجود المعلول متأخر عن وجود العلة على وجه يسبقه العدم مع وجود العلة.
ثم وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على سبق العدم على وجود المعلول؛ فهو معارض بما يدل على أنه غير واجب، ولا لازم.
وبيانه: ما ذكرناه فى المسلك الأول: من وجوب المعية بين العدم الأزلى وعلته «1».
فإن قيل: العدم الأزلى وإن كان [ممكنا، وله مرجح؛ فالمرجح له] «2»: إنما هو عدم علة الوجود؛ لأن علته أمر وجودى.
فللخصم أن يقول: وإن كان المرجح إنما هو عدم علة الوجود؛ فلا يخفى أن نسبته فى كونه مرجحا إلى ما رجحه: كنسبة علة الوجود فى كونها مرجحة إلى ما رجحته.
والمرجح للوجود إنما قيل بوجوب تقدمه؛ ضرورة كونه مرجحا، ولا فرق بين الطرفين فى هذا المعنى؛ فما ثبت لأحدهما؛ وجب أن يكون ثابتا للآخر.
وأما ما قيل: من الوجه الثانى: فقد أبطلناه فى أول المسألة «3».
________________
(11) // أول ل 48/ ب.
(1) راجع ما مر ل 86/ أ وما بعدها.
(2) فى أ (له مرجح له)
(3) راجع ما مر ل 90/ أ.
(3/326)
________________________________________
المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا «1» فى الدلالة على إثبات حدوث الأجسام
وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية؛ لكانت فى الأزل:
إما أن تكون متحركة، أو ساكنة: والقسمان باطلان.
فالقول: بأزلية الأجسام باطل. أما بيان الحصر فى القسمين: فهو أن الأجسام متحيزة، وكل متحيز؛ فلا بد وأن يكون مختصا بحيز معين بمعنى: أنه لا بد وأن يكون:
بحيث يصح أن يشار إليه، بأنه هاهنا. أو هناك.
وعند ذلك: فلا يخلوا فى الأزل: إما أن يكون باقيا فى حيز واحد، أو لا يكون كذلك، بل يكون منتقلا من حيز، إلى حيز.
فإن كان الأول: فهو الساكن.
وإن كان الثانى: فهو المتحرك.
وأما بيان امتناع كون الجسم فى الأزل متحركا وجوه:
الأول: أن الحركة عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة؛ وذلك يوجب كون الانتقال مسبوقا بحصول الحالة المنتقل عنها.
فإذن حقيقة الحركة تستدعى المسبوقية بالغير؛ وذلك ينافى الأزلية.
الوجه الثانى: فى الدلالة أنا إذا فرضنا أن كل دورة من دورات الفلك كانت مسبوقة بدورة أخرى إلى غير النهاية؛ فتكون كل واحدة من تلك الدورات؛ مسبوقة بعدم لا أول له [فتلك العدمات بجملتها مجتمعة في الأزل، والترتيب إنما هو فى الوجودات، لا فى العدمات «2»].
________________
(1) هو الإمام الرازى كما ذكر ذلك ابن تيمية حيث وضح أن الرازى أخذه عن المعتزلة (درء التعارض 4/ 273. وقد نقل ابن تيمية هذا المسلك فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 31. 32) قال: فأما المسلك: الأول الّذي ذكره الرازى فقال الآمدي: المسلك السادس: لبعض المتأخرين من أصحابنا فى الدلالة على إثبات حدوث الأجسام ... إلخ» ثم رد عليه من وجهه نظره. ثم كرر ابن تيمية مناقشة هذا المسلك فى المجلد الرابع ص 273 وما بعدها، واعترض عليه بعد أن نقل من كلام الآمدي نقولا متعددة سأشير إليها فى الهوامش.
(2) ساقط من (أ).
(3/327)
________________________________________
وعند ذلك/: فإما أن يحصل مع مجموع تلك العدمات الحاصلة في الأزل شيء من الوجودات، أو لم يحصل.
والأول: باطل، وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فمجموع الموجودات لها أول، ومسبوقة بالعدم؛ وهو المطلوب.
وباقى الوجوه: فى الدلالة ما ذكرناها فى امتناع حوادث غير متناهية فى إثبات واجب الوجود، وقد عرفت؛ فلا حاجة إلى إعادتها «1».
وأما بيان امتناع كون الأجسام ساكنة فى الأزل؛ فهو أن السكون أمر وجودى، ودليله: أنا نرى الجسم الواحد يصير ساكنا بعد أن كان متحركا، وبالعكس وبتبدل هاتين الحالتين على الذات مع بقاء الذات، يقتضي كون إحدى الحالتين أمرا وجوديا.
وإذا كانت إحداهما أمرا وجوديا؛ لزم أن تكون كل واحدة منها. وجودية. وبيان ذلك:
أن الحركة عبارة: عن الحصول فى الحيز، بعد أن كان فى حيز آخر.
والسكون عبارة: عن الحصول فى الحيز، بعد أن كان فى نفس ذلك الحيز.
فالحركة، والسكون متساويان، فى تمام الماهية وإنما الاختلاف بينهما، فى كون الحركة مسبوقة بحالة أخرى، وكون السكون ليس كذلك، وكون الشيء مسبوقا بغيره، وصف عرضى، والأوصاف العرضية. لا تقدح فى اتحاد الماهية.
وإذا ثبت اتحاد الحركة، والسكون فى الماهية، وثبت أن أحدهما أمر وجودى؛ لزم أن يكون الآخر كذلك.
وإذا ثبت أن السكون أمر وجودى فلو كان أزليا؛ لامتنع زواله؛ واللازم ممتنع.
بيان الملازمة:
أنه لو كان أزليا: فإما أن يكون واجبا لذاته، أو ممكنا لذاته. فإن كان الأول: لزم امتناع زواله.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود بذاته، وبيان حقيقته ووجوده ل 41/ أ وما بعدها.
(3/328)
________________________________________
وإن كان الثانى: فالمؤثر في وجوده: إما أن يكون فاعلا مختارا، أو موجبا بالذات.
الأول: محال؛ لأن الفاعل المختار: إنما يفعل بالقصد، والقصد إلى إيجاد الشيء، لا يكون، إلا فى حال حدوثه «11» // أو عدمه كما سبق تقريره في المسلك الأول «1»؛ فلا يكون أزليا.
وإن كان موجبا بالذات: فإما أن يكون ممكنا لذاته، أو واجبا لذاته.
فإن كان الأول: فالكلام فيه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: فإما أن لا يتوقف تأثيره في ذلك القديم على شرط، أو يتوقف.
فإن كان الأول: لزم من وجوب وجوده؛ وجوب وجود معلوله، ويلزم من ذلك، امتناع العدم على ذلك المعلول القديم، ضرورة وجوب وجوده بعلته الواجبة.
/ وإن كان الثانى: فذلك الشرط لا بد أن يكون موجبا بالذات. وواجبا بالذات؛ وإلا عاد المحال المذكور.
وعند ذلك: فيلزم من امتناع التغيير على العلة، وعلى شرط العلة؛ امتناع التغيير على المعلول.
فقد ثبت أن السكون لو كان أزليا؛ لما زال.
وبيان امتناع اللازم:
وذلك لأن كل ساكن يمكن أن يتحرك عن مكانه. وبتقدير حركته يبطل سكونه.
وبيان ذلك: بما سبق من الوجهين، فى المسلك الأول «2». فقد ثبت: أنه لو كان الجسم أزليا؛ لكان فى الأزل: إما ساكنا، وإما متحركا، وثبت بطلان كل واحد من اللازمين؛ فلا يكون الجسم أزليا.
________________
(11) // أول ل 49/ أ.
(1) راجع ما سبق ل 86/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سبق ل 86/ أ وما بعدها.
(3/329)
________________________________________
«1» وفيه وفى تقريره نظر؛ وذلك أن لقائل. أن يقول: إما أن تكون الحركة: عبارة عن الحصول فى الحيز بعد الحصول فى حيز آخر والسكون: عبارة عن الحصول فى الحيز بعد أن كان فى ذلك الحيز، أو لا تكون كذلك.
فإن كان الأول: فقد بطل الحصر بالجسم فى أول زمان حدوثه، فإنه ليس متحركا؛ لعدم حصوله فى الحيز بعد أن كان فى حيز آخر.
وليس ساكنا: لعدم حصوله فى الحيز بعد أن كان فيه. وإن كان الثانى: فقد بطل ما ذكره فى تقرير كون السكون أمرا وجوديا؛ ولا مخلص عنه.
فإن قيل: الكلام إنما هو فى الجسم في الزمن الثانى. والجسم فى الزمن الثانى، ليس يخلوا عن الحركة، أو السكون بالتفسير المذكور، فهو ظاهر الإحالة.
فإنه إذا كان الكلام فى الجسم: إنما هو فى الزمن الثانى من وجود الجسم.
فالزمن الثانى: ليس هو حالة الأزلية.
وعند ذلك: فلا يلزم أن يكون الجسم أزليا لا يخلوا عن الحركة، أو السكون.
وإن سلمنا الحصر:
فلم قلتم: بامتناع كون الحركة أزلية؟
وما ذكروه من الوجه الأول فى الدلالة؛ فإنما يلزم أن لو قيل: بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية، وليس كذلك.
بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها.
وعند ذلك: فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير، وبين كون جملة آحادها أزلية: بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية.
وما ذكروه فى الوجه الثانى: فباطل أيضا.
فإن كل واحدة من الحركات الدورية، وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له.
________________
(1) نقل ابن تيمية رأى الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 32 - 34) من أول قول الآمدي ردا على مسلك الرازى «و فيه وفى تقريره نظر ... وفيه دقة فليتأمل» ثم علق على كلام الآمدي قائلا: قلت .. الخ.
(3/330)
________________________________________
فمعنى اجتماع بداية الأعدام السابقة على كل واحدة واحدة من الحركات فى الأزل، أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية.
ومع ذلك فالعدم/ السابق على كل حركة، وإن كان لا بداية له؛ فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة، لا نهاية لها على جهة التعاقب، وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق.
وعلى هذا: يكون الكلام فى العدم السابق على كل حركة حركة.
وعلى هذا: فحصول شيء من الوجودات الأزلية، مع هذه الأعدام أزلا على هذا النحو؛ لا يكون ممتعا، إذ ليس فيه مقارنة السابق للمسبوق، على ما عرف، وفيه دقة؛ فليتأمل «1».
وأما الوجوه الأخرى: فقد عرفت ما فيها فيما تقدم فى إثبات واجب الوجود «2».
وربما قيل فى إبطال القول: بامتناع وجود الحركة أزلا هو أن الحركة: لو امتنع وجودها أزلا:
فإما أن يكون ذلك الامتناع لذاتها، أو لأمر خارج.
فإن كان الأول: لزم أن لا يزول ذلك الامتناع، وأن لا توجد الحركة أصلا؛ لأن ما بالذات لا يزول؛ وهو محال.
وإن كان الثانى: فذلك الخارج: إما أن يكون واجبا لذاته، أو لا يكون واجبا لذاته.
فإن كان واجبا لذاته: وجب أن لا يزول أيضا، وأن لا يزول امتناع وجود الحركة.
وإن كان الثانى: فلا بد وأن ينتهى إلى واجب الوجود لذاته قطعا للتسلسل، ويلزم من دوامه، دوام معلوله، وهلم جرا. ويلزم من ذلك امتناع وجود الحركة أبدا؛ وهو محال.
وهذه المحالات: إنما لزمت من القول بالامتناع؛ فلا امتناع للحركة أزلا.
________________
(1) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي ويمثل فى كتاب (درء تعارض العقل والنقل من ج 4 ص 32 - 34). ثم علق عليه وناقشه بالتفصيل فى ص 34 وما بعدها.
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود ل 41/ أ وما بعدها.
(3/331)
________________________________________
وجوابه: أن يقال: لا يلزم من امتناع الوجود الأزلى على الحركة لذاتها امتناع الوجود الّذي ليس بأزلى.
فإذن ما هو غير الممتنع غير زائل: وهو الوجود الأزلى. وما هو الجائز؛ لم يكن ممتنعا.
سلمنا امتناع أزلية الحركة؛ ولكن ما المانع من كون السكون أزليا.
قوله: السكون أمر وجودى؛ لا نسلم.
قوله: إن الجسم قد يتحرك بعد السكون، وكذلك بالعكس، وتبدل إحدى الحالتين بالأخرى يوجب أن يكون أحدهما أمرا «11» // وجوديا؛ ممنوع.
فإن الحالتين المتعاقبتين: قد تكونان وجوديتين: كالسواد، والبياض، وقد تكون:
إحداهما وجودية، دون الأخرى: كوصف المحل تارة بأنه: أسود، وتارة بكونه لا أسود.
وقد يكونان عدميين فإن المحل: إذا كان متصفا بالسواد؛ فهو غير متصف بغيره من الألوان. وإذا كان متصفا بغيره من الألوان؛ فهو غير أسود وهما عدميان متعاقبان.
فكما يتعاقب عليه الوجوديان/ يتعاقب عليه العدميان.
فإن قيل: الحالة السابقة إن كانت أمرا وجوديا؛ فهو المطلوب وإن كانت عدمية:
فالحالة الثانية؛ رافعة لها. ورفع العدم وجود؛ وهو معلوم بالضرورة؛ وهو المطلوب.
قلنا: فكون المحل ليس بأسود، عند كونه أبيض، وكونه ليس أبيض، عند كونه أسود:
إما أن يكون كل واحد من السلبين؛ هو عين الوجود الآخر بأن يكون ليس بأسود:
هو كونه أبيض، وكونه ليس أبيض: هو كونه أسود، أو هما متغايران.
الأول محال: بالضرورة وإلا كان كل واحد من البياض، والسواد؛ هو عدم الآخر وسلبه؛ وهو ممتنع ضرورة.
وإن كان الثانى: فقد تعاقبت الأعدام؛ ولم يلزم أن يكون سلب العدم السابق؛ هو عين الوجود اللاحق [كهذان لرفع العدم. وإن كان وجودا، فهو غير الرافع.
________________
(11) // أول ل 49/ ب من النسخة ب.
(3/332)
________________________________________
وعلى هذا: فلا يلزم أن تكون الحالة الرافعة وجودية] «1»، وقد أورد صاحب الطريقة على ما ذكر نقوضا أخرى، ولم يجب عنها تفصيلا لا بد من الإشارة إليها، وإلى أجوبتها تكميلا للفائدة.
الأول منها: أنه قال: الحوادث ممتنعة الوجود فى الأزل عند أهل الحق وقد انقلبت جائزة الحدوث فى لا يزال فقد تبدل الامتناع بالإمكان؛ والامتناع ليس وصفا وجوديا، وإلا كان المتصف به وهو الممتنع ثبوتا؛ وهو محال.
والإمكان ليس وصفا ثبوتيا: أيضا؛ لأنه لو كان أمرا ثبوتيا: فإما واجب لذاته، أو ممكن. لا جائز أن يقال بالأول: وإلا لما كان صفة لغيره، ولا جائز أن يقال بالثانى:
وإلا كان ممكنا بإمكان زائد عليه والكلام فى ذلك الإمكان: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
الثانى: وهو إن قيل: حصول الحادث المعين، لا يصدق على الرب- تعالى- أنه عالم بوجوده؛ بل هو غير عالم بوجوده. وبعد الوجود يصدق عليه أنه عالم بوجوده، والحالة السابقة: عدمية والحالة الثانية: عدمية؛ لأنها لو كانت مع تجددها أمرا ثبوتيا؛ لكان الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو محال عندكم.
الثالث: أن الجسم قبل حلول العرض المعين فيه؛ لم يكن محلا لذلك العرض.
ثم بعد حصول ذلك العرض فيه صار محلا له. وكونه ليس محلا حالة عدمية والحالة الثانية: وهى كونه محلا: حالة عدمية.
لأنها لو كانت ثبوتية؛ وهى صفة زائدة على الذات الموصوفة بها؛ لكانت صفة عرضية أيضا.
والكلام في كون المحل محلا لها: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
والجواب: عن الأول:/ منع انقلاب الممتنع جائزا، إذ الممتنع إنما هو الوجود الأزلى؛ ولم يزل ممتنعا، والجائز إنما هو الوجود الحادث؛ ولم يزل جائزا.
وإن سلمنا انقلاب الممتنع جائزا؛ فلا نسلم أن الإمكان وصف عدمى.
قوله: لو كان أمرا وجوديا: وكان ممكنا؛ لكان ممكنا بإمكان.
قلنا: بإمكان هو نفسه، أو بإمكان زائد عليه.
الأول: مسلم والثانى: ممنوع؛ وعلى هذا: فلا تسلسل.
________________
(1) ساقط من (أ).
(3/333)
________________________________________
وعن الثانى: منع تجدد العالمية؛ بل عالمية الرب- تعالى- قديمة أزلية. غير أنها تسمى قبل حصول الحادث المعين: عالمية بأن سيوجد، وبعد الحصول: عالمية بالموجود. فالاختلاف ليس فى نفس العالمية؛ بل فى الاسم بسبب تجدد الحادث
وعن الثالث: منع كون المحل محلا صفة عدمية.
قوله: لو كان صفة ثبوتية: فيجب أن يكون كونه محلا لها أيضا صفة عرضية؛ وهو تسلسل.
فنقول: إنما يلزم التسلسل: أن لو كان ذلك بمحلية زائدة عليها، وهو ممنوع، على ما عرف فى الإمكان.
وإن سلمنا أنه لا بد من كون إحدى الحالتين ثبوتية: ولكن لا نسلم لزوم كون الحالتين ثبوتية؛ وما المانع من كون الحركة ثبوتية والسكون عدميا.
قوله: لأن السكون مساو للحركة فى تمام ماهيتها لو كان كذلك؛ لكان السكون، وهو الحصول فى الحيز فى الزمن، الثانى حركة؛ وهو محال.
وإن سلمنا: أن السكون أمر ثبوتى؛ ولكن ما المانع من زواله؟ وما المانع من كون الموجب له بالذات مشروطا بشرط عدمى أزلى.
وإذا كان كذلك: فالعدم الأزلى غير ممتنع الزوال، وإلا لما زال العدم الأزلى السابق على وجود العالم، وعند زوال الشرط «11» // يلزم منه؛ زوال المشروط.
فإن قيل: تأثير العلة فى معلولها، أمر ثبوتى: فلو كان متوقفا على أمر عدمى؛ لكان العدم علة للوجود؛ وهو محال.
فنقول: لا نسلم أنه يلزم من توقف تأثير العلة فى معلولها على الأمر العدمى، أن يكون ذلك العدم علة للتأثير.
فإن ما يتوقف عليه الشيء أعم من كون الموقوف عليه علة مؤثرة.
ولهذا: فإن تأثير العلة فى اتحاد السواد فى المحل، متوقف على عدم البياض فيه؛ لاستحالة الجمع بينهما.
________________
(11) // أول ل 50/ أ من النسخة ب.
(3/334)
________________________________________
وعدم البياض: لا يقال: أنه علة مؤثرة، فى وجود السواد.
وإن سلمنا: امتناع الزوال على الأزلى؛ ولكن لا نسلم، إمكان الزوال على كل جسم عن حيزه.
وما ذكره من الوجهين، فقد سبق إبطالهما فى المسلك الأول «1».
المسلك السابع المسلك المشهور للأصحاب، وعليه الاعتماد «2»
هو أنا نقول: العالم مؤلف من أجزاء حادثة؛ والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث.
وبيان المقدمة الأولى: هو أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض، والجواهر والأعراض حادثة؛ فأجزاء العالم حادثة.
________________
(1) راجع ما مر فى المسلك الأول ل 86/ أ وما بعدها.
(2) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 450 - 451 هذا المسلك وعلق عليه وناقشه.
وقد قدم لهذا المسلك فقال «و ذكر (الآمدي) أنه المسلك المشهور للأشعرية والرازى ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك؛ لأنه مبنى على أن الأعراض ممتنعة البقاء، وقدح الآمدي فى الطرق التى اعتمد عليها الرازى».
(درء تعارض العقل والنقل 3/ 450).
وفى ص 448 قال ابن تيمية: «قلت: وهذا الّذي اعتمده الآمدي فى هذه المسألة فإنه ذكر فى حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها:
الأول: مسلك الإمكان، وأنه ممكن، وكل ممكن محدث.
والثانى: مسلك الاختصاص.
الثالث: مسلك الحيز المعين.
الرابع: مسلك القدم: أنه قديم.
والخامس: مسلك الإمكان؛ لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى.
والسادس: مسلك الحركة والسكون الّذي قدمه الرازى.
وقد تقدم ما اعترض به هو والأرموى وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها.
(درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/ 448، 449).
أما كتب الأصحاب التي اعتمد عليها الآمدي: فانظر التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة للإمام الباقلانى ص 44، والشامل لإمام الحرمين الجوينى. ونهاية الأقدام للشهرستانى. وأصول الدين للبغدادى ص 59، 60.
(3/335)
________________________________________
وبيان المقدمة الأولى: ما سبق فى حصر الموجود الممكن «1».
وبيان المقدمة الثانية، أما أن الأعراض حادثة؛ فلأنا بينا أن الأعراض ممتنعة البقاء، وكل ممتنع البقاء؛ فهو حادث مسبوق بعدم نفسه، فكل واحد من الأعراض حادث؛ مسبوق بعدم نفسه.
وعند ذلك: فإما أن تكون متعاقبة فى وجودها، إلى غير النهاية أو هى منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر.
الأول: محال: لما بيناه من امتناع حوادث لا أول لها تنتهى إليه فى إثبات واجب الوجود «2»؛ فلم يبق إلا القسم الثانى: وهو أن تكون جملتها متناهية، ومسبوقة بالعدم؛ فتكون حادثة.
وأما أن الجواهر حادثة: فلأنا بينا فيما تقدم: امتناع عرو الجواهر عن الأعراض «3».
وإذا كانت الأعراض التى لا عرو للجواهر عنها حادثة، ومسبوقة بالعدم؛ فالجواهر كذلك؛ لأن ما لا يعرى عما له أول، وهو حادث؛ فله أول؛ وهو حادث، وإلا فلو كان قديما؛ للزم منه:
إما عروه عن العرض فى حال قدمه، وإما أن تكون الأعراض لا أول لها، وكل واحد من الأمرين محال، لما تقدم «4».
وأما بيان المقدمة الثانية:
من أصل الدليل: فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة، ولها أول تنتهى إليه: فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها؛ تكون حادثة مسبوقة بالعدم؛ وهو معلوم بالضرورة «5».
وإذا ثبتت المقدمتان؛ لزم أن يكون العالم حادثا مسبوقا بالعدم ضرورة.
________________
(1) راجع ما مر من المسلك الأول ل 86/ أ وما بعدها
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته، ووجوده ل 41/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما مر فى النوع الأول- الفصل السابع: فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض، وتعليل قبوله لها. ل 8/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى الأصل الثانى- الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض، واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(5) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل 3/ 450، 451) ثم علق عليه «فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الّذي ارتضاه» ثم ناقشه بالتفصيل فى ص 451 وما بعدها.
(3/336)
________________________________________
فإن قيل: وإن سلمنا صحة إفضاء النظر إلى العلم «1» مع ما سبق عليه من الإشكالات المشكلة، والإلزامات الملزمة.
ولكن لا نسلم صحة هذا النوع من النظر: لا بالنظر إلى صورته، ولا بالنظر إلى معناه.
أما بالنظر إلى صورته: فمن خمسة أوجه:
الأول: هو أن قولكم: العالم مؤلف من أجزاء حادثة؛ والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث. إما أن يكون المراد به: أن حقيقة الموضوع فى كل واحدة من المقدمتين، هى حقيقة المحمول عليه، أو أنه موصوف به، أو غير ذلك.
فإن كان الأول: وهو أن المفهوم من قولنا: العالم هو نفس المفهوم/ من قولنا: مؤلف من أجزاء حادثة.
والمفهوم من قولنا: والمؤلف من الأجزاء الحادثة، هو نفس المفهوم من قولنا:
حادث، فلا حمل، ولا وضع في غير الألفاظ المترادفة، ويرجع حاصل المقدمتين إلى معنى واحد مفرد؛ ولا إنتاج عنه.
وإن كان الثانى: فحاصل النظم يرجع إلى القول: بأن العالم موصوف بأنه مؤلف من أجزاء حادثة. والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث.
وعند ذلك: فما هو المحمول فى المقدمة الأولى. إنما هو مجموع قولنا: موصوف بأنه مؤلف من أجزاء حادثة والموضوع فى القضية الثانية بعضه وهو القول: والمؤلف من الأجزاء الحادثة؛ فلا يكون الحد الأوسط بينهما مشتركا فلا إنتاج.
وإن كان الثالث: فهو غير متصور فى النفس؛ فلا بد من تصوره والدلالة عليه.
الثانى: قولكم: والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث.
إما أن يريدوا به بعض المؤلفات من الأجزاء الحادثة، أو كل مؤلف من أجزاء حادثة؛ بحيث يدخل فيه العالم.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثانية- الفصل الثالث: فى أن النظر الصحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه ل 18/ ب وما بعدها.
(3/337)
________________________________________
فإن كان الأول: فلا إنتاج «11» // لجواز أن يكون ذلك البعض غير البعض المحكوم به على العالم.
وإن كان الثانى: فقد صادرتم على المطلوب «1».
الثالث: أن ما مثل هذا النظم وإن كان صادق المقدمات غير منتج لصورته؛ وإلا لاطّرد؛ وهو غير مطرد.
ولهذا فإنه لو قال القائل: زيد إنسان، والإنسان نوع؛ فإنه لا ينتج زيد نوع، وكذلك لو قال: زيد حيوان، والحيوان جنس. لا ينتج زيد جنس، وكذلك أيضا لو قال: الإنسان وحده ناطق، والناطق حيوان؛ فإنه مع صدق المقدمتين [لا ينتج الإنسان وحده حيوان، وهو كاذب.
الرابع: أنه لا يخلو: إما أن يتوقف الإنتاج من مثل هذا النظم على العقل ارتباط إحدى المقدمتين] «2» بالأخرى، ودخول الصغرى تحت الكبرى، أو لا يتوقف.
فإن كان الأول: فالارتباط بين المقدمتين مقدمة ثالثة؛ والكلام فى ارتباطها بالمقدمتين الأخريين أيضا: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: فالإنتاج غير لازم فى الذهن. ولهذا: فإن من علم أن هذه بغلة، وعلم أن كل بغلة لا تلد؛ فإنه إذا غفل عن الارتباط بين المقدمتين، لا يمتنع عليه توهم ما يراه من البغلة المنتفخة البطن حبلى؛ وهو مقابل للنتيجة فى نفس الأمر.
الخامس: قولكم: والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث إما أن يراد به أن المؤلف من الأجزاء التى كل واحد منها حادث؛ فهو حادث، أو المؤلف الّذي جملة أجزائه حادثة؛ فهو حادث.
فإن كان الأول: فلا يخفى كذب القضية؛ فإن/ الحكم الثابت لكل واحد من آحاد الجملة؛ غير لازم الثبوت للجملة؛ لما تقدم تحقيقه غير مرة.
________________
(11) // أول ل 50/ ب من النسخة ب.
(1) المصادرة: المصادرة على المطلوب هى التى تجعل النتيجة جزء القياس أو يلزم النتيجة من جزء القياس، كقولنا الإنسان بشر، وكل بشر ضحاك، ينتج أن الإنسان ضحاك، فالكبرى هاهنا والمطلوب شيء واحد، إذ البشر والإنسان مترادفان، وهو اتحاد المفهوم؛ فتكون الكبرى والنتيجة شيئا واحدا. [كتاب التعريفات للجرجانى ص 245].
(2) ساقط من (أ).
(3/338)
________________________________________
وإن كان الثانى: فلا يخفى أن جملة الأجزاء؛ هى نفس المؤلف.
وعند ذلك: فيرجع حاصل القضية إلى أن المؤلف الحادث حادث؛ وهو تهافت ساقط.
وأما بالنظر إلى المعنى:
فمنه ما يتعلق بالبحث عن محل النزاع من القدم، والحدوث، ومنه ما يتعلق:
بتصحيح المقدمات، وتقريرها من حصر العالم فى الجواهر، والأعراض. وحدوث الأعراض، وانتهائها إلى، أول وقيامها بأنفسها. وامتناع عرو الجواهر عنها، إلى غير ذلك من الأمور التى لا تتم دلالة الدليل المذكور دونها.
وكل ذلك؛ فقد سبق وجه إبطاله، وما يرد عليه من الاعتراضات المتعددة، والإلزامات المتكثرة في كل موضع على حسبه بحيث كفينا مئونة إفرادها هاهنا؛ فعلى الناظر بالالتفات إليها، والتنبيه عليها.
[شبه الخصوم]
وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على حدوث العالم؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.
وبيانه من أربعة عشر وجها «1»:
الوجه الأول «2»:
أنه لو كان العالم حادثا، وموجودا بعد العدم: فإما أن يكون قبل وجوده واجب الوجود لذاته، أو ممتنع الوجود، أو الممكن الوجود.
لا جائز أن يكون واجب الوجود لذاته: وإلا لما تصور عليه العدم؛ فإنه لا معنى لواجب الوجود لذاته. إلا ما لو فرض معدوما عرض عنه المحال لذاته، وقد قيل: إنه كان معدوما.
________________
(1) حصر الآمدي شبه الخصوم القائلين بقدم العالم فى الشبه التالية وعرضها بأمانة كما ذكروها: «و بيانه من أربعة عشر وجها ابتداء من ل 95/ ب إلى ل 98/ ب. ثم قال: «فهذه خلاصة ما يمكن أن تجد من الشبه المشبهة أوردناها بأحسن تحرير وتقرير- ثم بين أنه تغاضى عن ذكر بعض الشبه لعدم قيمتها فقال: «و أما ما وراء ذلك مما أورده (برقلس) وغيره بأمور لا حاصل لها يمكن معرفة فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى حظ من الفطانة آثرنا الأعراض عن ذكرها، وتسويد الأوراق بها شحا على الزمان بتضييعه فى ذكر ما لا يفيد».
ثم أجاب عن هذه الشبه بالتفصيل ابتداء من نهاية ل 98/ ب إلى ل 103/ أ وأبطلها بحججه الدامغة وبراهينه الساطعة.
(2) الشبهة الأولى للخصوم القائلين بقدم العالم والمنكرين لحدوثه، وانظر الرد على هذه الشبهة فيما يأتى ل 99/ ب.
(3/339)
________________________________________
ولا جائز أن يكون ممتنع الوجود لذاته: وإلا لما تصور عليه الوجود؛ إذ لا معنى لممتنع الوجود لذاته، إلا ما لو فرض موجودا؛ عرض عنه المحال لذاته؛ وقد قيل: إنه موجود؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا لذاته، وإذا كان ممكنا لذاته: فإما أن يفتقر فى وجوده إلى مرجح، أو لا يفتقر.
لا جائز أن يقال: بأنه لا يفتقر إلى المرجح؛ لما سبق فى إثبات واجب الوجود «1».
وإن افتقر فى وجوده إلى المرجح: فالمرجح: إما أن يكون حادثا، أو قديما.
فإن كان حادثا: فالكلام فيه: كالكلام فى الأول.
وعند ذلك: فإما أن يقال بأن كل حادث، يفتقر إلى حادث أو يقال: بالانتهاء إلى مرجح قديم؛ لا أول له.
فإن كان الأول: لزم التسلسل، أو الدور؛ وهو ممتنع.
وإن كان الثانى وهو أن مصدر جميع الحوادث موجود، قديم لا أول له؛ فذلك القديم المرجح للحادث:
إما أن يكون مرجحا لوجود الحادث لذاته، أو بالقدرة، والإرادة./ فإن كان مرجحا بذاته: فإما أن يكون عند حدوث الحادث: كهو قبله، أو أنه تجدد له أمر لم يكن؛ ويكون حدوث ذلك الحادث متوقفا عليه.
فإن كان الأول: لزم استمرار العالم على العدم، أو أن يكون وجوده ملازما لوجود علته القديمة؛ فيكون قديما؛ ضرورة عدم الفرق بين حالة حدوث الحادث، وحالة عدمه. والأول: محال مخالف للمشاهدة.
«11» // والثانى: هو المطلوب. وإن تجدد له أمر لم يكن: فالكلام فى تجدد ذلك الأمر كالكلام فى الأول؛ ويلزم منه التسلسل، أو الدور؛ وهو ممتنع.
وإن كان المرجح مرجحا بالقدرة، والإرادة؛ فهو ممتنع؛ لأربعة أوجه:
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود ل 41/ أ وما بعدها.
(11) // أول ل 51/ أ من النسخة ب.
(3/340)
________________________________________
الأول: أنه إما أن يكون تخصيصه للحادث بوقت حدوثه متوقفا على تجدد أمر لم يكن، أو لا يكون متوقفا عليه.
فإن كان الأول: لزم التسلسل أو الدور.
وإن كان الثانى: فتخصيصه للحادث بوقت حدوثه، دون ما قبله وما بعده، يكون لا بمخصص، وليس أحد الأوقات بالحدوث أولى من البعض الآخر؛ ضرورة التساوى؛ وهو ممتنع.
الثانى: أنه لو كان مختارا: فإما أن يكون موجدا للعالم؛ لغرض، أو «1» لا لغرض «1» فإن كان لا لغرض فكل مختار فعل فعلا لا لغرض؛ فهو سفيه عابث؛ والرب منزه عنه.
وإن كان لغرض: فلا بد وأن يكون حصول ذلك الغرض، له من الفعل، أولى من عدمه، وإلا لما كان غرضا، ويلزم من ذلك أن يكون الرب- تعالى- مستكملا بإيجاد العالم، وناقصا، قبل إيجاده؛ وهو محال.
الثالث: أنه لا يخلو عند القصد والغرض الداعى: إما أن يكون الرب- تعالى- مخيرا بين الفعل، والترك، أو لا يكون مخيرا.
فإن كان الأول: فترك الفعل؛ ليس عدما محضا؛ لأن العدم المحض، ليس من فعل المختار.
والتخيير: إنما يكون بين فعلين. لا بين الفعل، وما ليس بفعل، فإذن ترك الفعل:
فعل؛ وهو التلبس بضد من أضداده؛ على ما سبق «2».
فترك الإيجاد فى الأزل. يكون فعلا لضد العالم، والعالم لا ضد له. وبتقدير أن يكون له ضد: فضده أزلى. والوجود الأزلى، لا يزول وحدوث العالم، مع بقاء ضده؛ يكون ممتنعا.
وإن لم يكن مخيرا. كان مجبورا، مقهورا. وخرج عن كونه مختارا؛ وهو أيضا محال «3».
________________
(1) (أولا لغرض) ساقط من ب.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع السابع، الفصل الحادى والعشرون: فى الترك وتحقيق معناه. ل 257/ أ.
(3) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثالث: فى أنه لا مخصص للجائزات إلا الله- تعالى- وأنه مريد لكل كائن، وغير مريد لما لم يكن ل 281/ ب وما بعدها.
(3/341)
________________________________________
الرابع: أنه لو كان موجدا للعالم بالاختيار: فلا بد له من القصد إلى إيجاده؛ ومن ضرورة قصده إلى إيجاده؛ أن يكون عالما بعدمه؛ فبعد وجوده إن/ بقى عالما بعدمه؛ كان جاهلا. وإن لم يبق عالما بعدمه لزم منه التغيير فى صفات الرب- تعالى- وكل واحد من الأمرين؛ محال على الله- تعالى-، وهذه المحالات: إنما لزمت من القول بكونه مختارا؛ فلا يكون مختارا «1».
الثانى «2»:
أنه لو كان العالم حادثا، موجودا، بعد العدم؛ فكل موجود بعد ما لم يكن؛ لا بد له من زمان، ومادة، يتقدمان عليه، أما دليل تقدم الزمان؛ فهو أن ما وجد بعد العدم: إما أن يكون له قبل كان فيه معدوما، أو لم يكن.
فإن كان الأول: فذلك القبل، إما أن يكون وجودا، أو عدما. لا جائز أن يكون عدما فإنه لا فرق بين قول القائل: لا قبل له، وبين قوله: إن قبله عدم.
ولأنه لا يكون عدم أى شيء اتفق، وإلا كان بعد قبل؛ وهو محال. فلم يبق إلا أن يكون مفسرا، بأنه لم يكن؛ وفيه تفسير القبل بما أضيف إليه؛ بأنه لم يكن فيه.
ويرجع حاصل القول: أن له قبلا، لم يكن فيه موجودا مع صدقه، وصحة معناه إلى أنه لم يكن موجودا.
[فما لم يكن موجودا] «3»، أو أن قبله لا فى قبله، وهو متهافت وعليك بتفهمه.
فلم يبق إلا أن يكون موجودا، وليس هو مع ولا بعد؛ فقد تقضى ومضى، وهو قابل للتقدير، والزيادة، والنقصان؛ فهو كم والماضى منه متصل بالحال، والحال بالمستقبل؛ وهو مطابق للحركات المتصلة؛ فهو من الكميات المتصلة؛ وهو المعنى بالزمان «4» ثم ما من قبل، إلا وله قبل آخر على هذا إلى ما لا يتناهى. فإذن الزمان قديم، وإن لم يكن له قبل، كان فيه معدوما؛ فهو قديم لا أول له؛ وهو المطلوب.
________________
(1) هذه الشبهة رد عليها الآمدي بالتفصيل فيما يلى ل 99/ ب وما بعدها.
(2) الشبهة الثانية من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم والمنكرين لحدوثه. وانظر الرد عليها فيما يأتى ل 100/ ب.
(3) ساقط من (أ).
(4) وقد عرف الآمدي الزمان فقال: «و أما الزمان: فعبارة عما به تقدير الحركات.
وأما الآن: فعبارة عن نهاية الزمان. وإن شئت قلت: هو ما يتصل به الماضى بالمستقبل» [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص 96].
(3/342)
________________________________________
وأما دليل تقدم المادة: فمن وجهين:
الأول: أنه إذا ثبت تقدم الزمان، فإما أن يكون الزمان قائما بنفسه، أو بغيره «1».
فإن كان قائما بنفسه: مع الاستحالة؛ فهو جوهر؛ وقد ثبت أنه لا أول له، وهو دليل قدم الجوهر.
وإن كان قائما بغيره؛ فذلك الموضوع هو المعنى بالمادة المتقدمة.
الثانى: هو أن كل ما وجوده مسبوق بعدمه؛ فإن كان وجوده متقدم على وجوده؛ لما سبق.
وليس معنى كونه ممكنا، كونه مقدورا عليه، وإلا كان قول القائل: هذا الشيء مقدور؛ لأنه ممكن، وهذا الشيء غير مقدور: لأنه غير ممكن، تعليل الشيء بنفسه.
وكأنه قال: إنما كان هذا الشيء مقدورا؛ لأنه مقدور. وإنما كان هذا الشيء غير مقدور؛ لأنه غير مقدور؛ وهو متهافت؛ فله معنى آخر وهو: إما وجودى، أو عدمى:
لا جائز «11» // أن يكون عدميا: فإن نقيض الإمكان؛ لا إمكان، ولا إمكان عدم/؛ لأنه يصح اتصاف الممتنع به والعدم المحض؛ لا يكون موصوفا بالوجود. ويلزم منه أن يكون الإمكان وجوديا، وإذا كان وجوديا؛ فليس قوامه بنفسه. وإلا لما كان صفة لغيره؛ فلا بد له من موضوع؛ وذلك هو المعنى بالمادة.
الثالث «2»:
أنه لو كان العالم حادثا، لم يخل: إما أن لا يكون بينه، وبين الرب- تعالى- مدة، أو يكون بينهما مدة. فإن كان الأول: فيلزم منه. مقارنة، وجود العالم؛ لوجود الرب- تعالى.
ويلزم من ذلك: إما حدوث الرب، لحدوث العالم، وإما قدم العالم لقدم الرب- تعالى؛ وكل واحد من الأمرين، خلاف الفرض.
وإن كان الثانى: فإما أن تكون المدة متناهية، أو غير متناهية، فإن كانت متناهية:
لزم أن يكون، وجود الرب- تعالى- متناهيا؛ وهو ممتنع. وإن كانت غير متناهية: فقد لزم قدم الزمان، وإذا أمكن وجود مدة؛ لا تتناهى، أمكن وجود مدد لا تتناهى.
________________
(1) راجع ما مر فى الفرع السادس: فى الزمان ل 61/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 51/ ب من النسخة ب.
(2) الشبهة الثالثة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم. وقد رد عليها الآمدي فيما يلى ل 101/ أ.
(3/343)
________________________________________
الرابع «1»:
أن الجود، صفة كمال، وعدمه، صفة نقص.
فلو كان العالم قديما: لكان الرب- تعالى- فى الأزل جوادا. ولو كان [حادثا: لما كان] «2» الرب تعالى: فى الأزل جوادا؛ لعدم صدور العالم عنه؛ وهو محال.
الخامس «3»:
هو أن البارى- تعالى- صانع العالم [و كونه صانع العالم «4»] صفة زائدة على ذات الرب- تعالى- وذات العالم.
ولذلك، يمكن تعقل كل واحدة، من الذاتين: مع الجهل، بكون الرب تعالى- صانعا للعالم. والمعلوم غير المجهول.
وإذا كان زائدا على الذاتين: فإما أن يكون وجوديا، أو عدميا.
لا جائز أن يقال بالثانى: لأن نقيض كونه صانعا، ليس بصانع وليس بصانع عدم؛ لاتصاف الممتنع به؛ فكونه صانعا: وصف وجودى.
وإذا كان وجوديا: فإما حادث، أو قديم:
لا جائز أن يقال بالأول: إذ الكلام فى حدوثه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وأيضا: فإنه صفة للرب- تعالى- ويلزم من ذلك أن تكون ذات الرب- تعالى- محلا للحوادث؛ وهو ممتنع.
وإن كان قديما؛ لزم من كونه صانعا للعالم أزلا وجود المصنوع؛ ضرورة التضايف بينهما، وامتناع تحقق كل واحد من المتضايفين دون الآخر.
السادس «5»:
هو أن العالم ممكن الوجود، على ما تقدم، وإمكان وجوده صفة له، لا لغيره.
وإذا كان إمكانه صفة له؛ فليس إمكان العالم؛ وصفا عدميا على ما سبق. فهو وصف وجودى، وإذا كان وجوديا: فإما أن يكون حادثا، أو قديما:
________________
(1) الشبهة الرابعة من شبه الخصوم- وقد رد على هذه الشبهة الإمام سيف الدين فيما يلى ل 101/ ب.
(2) ساقط من (أ).
(3) الشبهة الخامسة من شبه الخصوم. وقد رد عليها الآمدي فيما يلى ل 101/ ب.
(4) ساقط من (ب).
(5) الشبهة السادسة من شبه المخالفين، وقد ورد عليها الآمدي فيما يلى ل 102/ أ.
(3/344)
________________________________________
لا جائز أن يكون حادثا؛ وإلا كان الإمكان، ممكنا أيضا؛ ولزم أن يكون له إمكان آخر.
/ والكلام فيه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع؛ فلم يبق إلا أن يكون قديما ويلزم من قدمه، قدم العالم؛ ضرورة استحالة وجود الصفة؛ دون الموصوف.
السابع «1»:
أنه لو كان العالم حادثا، مسبوقا بالعدم، والبارى- تعالى- يكون موصوفا بأنه قبل العالم، والقبلية ليست من الصفات الثابتة لذات الرب- تعالى؛ لذاته، وإلا لوصف بها قبل خلق العالم وليس كذلك؛ فلا بد لها من شيء يكون متصفا بها لذاته، وكل ما يوصف بالقبلية والبعدية يكون بواسطته؛ وليس ذلك غير الزمان. فإذا كانت صفة القبلية قديمة؛ كان الزمان قديما؛ وهو من العالم.
الثامن «2»:
أنه لو كان العالم حادثا: فإما أن يصح قول القائل: كان العالم معدوما فى الأزل، أو لا يصح.
فإن كان الأول: فالمفهوم من الأزل: إما أن يكون وجوديا، أو عدميا. لا جائز أن يكون عدميا: وإلا كان حاصل القول: العالم معدوم فى العدم؛ وهو محال.
وإن كان وجوديا: فقولنا كان يدل على أمر قد تقضى، ومضى، وذلك هو المعنى بالزمان.
وإن كان الثانى: فيلزم من كذبه، صدق قول القائل: ليس معدوما فى الأزل؛ وسلب العدم، ثبوت؛ فيكون العالم ثابتا أزلا.
التاسع «3»:
أنه لو كان العالم محدثا؛ فحدوثه وصف زائد على ذاته؛ ويدل عليه أمور ثلاثة: الأول: أنه يمكن أن يعلم ذات العالم، ويجهل حدوثه والمعلوم غير المجهول.
الثانى: أنه يوصف به: فيقال: العالم حادث، والصفة غير الموصوف.
________________
(1) الشبهة السابعة من شبه الخصوم. وقد رد عليها الإمام سيف الدين فيما يلى ل 102/ أ.
(2) الشبهة الثامنة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم. وقد ورد عليها الإمام سيف الدين فيما يلى ل 102/ أ.
(3) الشبهة التاسعة للقائلين بقدم العالم، وقد ورد عليها المصنف فيما يلى ل 102/ ب.
(3/345)
________________________________________
الثالث: أن العالم فى ابتداء وجوده: يصح أن يقال: إنه حدث الآن، ولا يصح عليه ذلك فى حال بقائه؛ مع استمرار ذاته.
وإذا كان حدوثه زائدا على ذاته: فإما أن يكون وجودا «11» // أو عدما.
لا جائز أن يكون عدميا لأن نقيض الحدوث؛ لا حدوث، ولا حدوث وصف عدمى؛ لاتصاف العدم القديم به.
ولا جائز أن يكون وجوديا: وإلا فهو إما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون قديما: وإلا كان حدوث الحادث قبل وقت حدوثه؛ وهو محال.
ولا جائز أن يكون حادثا: وإلا كان حادثا؛ بحدوث آخر؛ ولزم التسلسل.
وهذه المحالات: إنما لزمت من القول بحدوث العالم؛ فلا حدوث.
العاشر «1»:
لو كان العالم محدثا؛ فحدوثه: إما أن يكون مساويا له، من كل وجه، أو مخالفا له من كل/ وجه، أو مماثلا له من وجه، دون وجه.
فإن كان الأول: فهو حادث، والكلام فيه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن كان الثانى: فالحدوث ليس بموجود، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه؛ وهو خلاف الفرض.
وإذا لم يكن موجودا؛ امتنع أن يكون موجبا للموجود كما سبق.
وإن كان الثالث: فمن جهة ما هو مماثل للحادث؛ يجب أن يكون حادثا. والكلام فيه أيضا: كالأول؛ وهو تسلسل محال.
وهذه المحالات: إنما لزمت من القول بحدوث العالم؛ فلا حدوث.
________________
(11) // أول ل 52/ أ من النسخة ب.
(1) نقل ابن تيمية ف كتابه (درء تعارض العقل والنقل 4/ 167) هذا الوجه العاشر وهو حجة من حجج القائلين بالقدم ثم ذكر جواب الآمدي عنها ص 167، 168 وهى فى الأبكار في ل 102/ ب ثم علق على كلامه وناقشه بالتفصيل ص 168 وما بعدها وهذه الشبهة العاشرة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم وقد رد عليها وفندها بالتفصيل وأبطلها الإمام الآمدي فيما يلى ل 102/ ب
(3/346)
________________________________________
الحادى عشر «3»:
أنا لم نشاهد إنسانا إلا من إنسان، ولا بيضة إلا من دجاجة، ولا دجاجة إلا من بيضة، فلو كان العالم حادثا؛ لكان الأمر على خلاف ما شاهدناه، واطردت به العادة.
ولو جاز ذلك؛ لجاز مخالفة جميع القضايا العادية: لتجويز أن يكون بين يدى إنسان سليم البصر: جبل شامخ، ولا حائل بينهما؛ وهو لا يراه، ويراه من هو دونه فى قوة الإبصار.
وكتجويز من يراه، ويعرفه أنه غير من يعرفه، وأن المتكلم لنا بالكلمة الثانية؛ غير المتكلم لنا بالكلمة الأولى، وكتجويز الخارج من بيته وفيه، أهله، وماله عند العود إليه؛ أنه ليس ذلك بيته، ولا الأهل أهله، ولا المال ماله؛ لجواز عدم ذلك كله، وخلق الله- تعالى- لغيره.
بل أبلغ من ذلك تجويز وجود العلم والقدرة، بالمحل دون وصفه بالحياة؛ فإنه لا مستند لاشتراط الحياة فى هذه الأوصاف؛ غير اطراد العادة ولا يخفى ما يلزم من ذلك من الخلل، وإبطال إرسال الرسل المستندة صدقهم إلى المعجزات الدالة على صدقهم بحكم جرى العادة «1».
الثانى عشر «2»:
لو كان العالم حادثا؛ لكان الزمان حادثا؛ لكونه من العالم، ولو كان الزمان حادثا، لما تميز وقت حدوث العالم عن وقت عدمه.
ويلزم من ذلك امتناع وجوده؛ سواء أ كان الموجب له بالذات، أو الاختيار.
أما الأول: فلأنه إذا لم يكن الزمان قديما، ولا الأوقات المختلفة موجودة؛ فليس تخصيصه للعالم بالحدوث، فى وقت حدوثه دون ما قبل؛ وما بعد، أولى من العكس؛ ضرورة التشابه.
وأما الثانى: فلأن المختار إنما يوجد بالقصد، وإذا لم تكن الأوقات المتميزة
________________
(3) الشبهة الحادية عشرة من شبه الخصوم، وقد رد عليها المصنف فيما يلى ل 102/ ب.
(1) انظر ما سيأتى من القاعدة الخامسة- الأصل الثانى- الفصل الثالث: فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول.
ل 132/ ب. وما بعدها.
(2) الشبهة الثانية عشرة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم وقد رد المصنف عليها فى ل 102/ ب.
(3/347)
________________________________________
موجودة بالقصد إلى التخصيص بحالة الوجود دون حالة العدم، لا يتصور لعدم التمييز.
الثالث عشر «1».
أنه لو كان العالم حادثا؛ لما كان حادثا، وبيان الملازمة: أنه لو/ كان حادثا لكان معدوما فى الأزل، وعدمه فى «2» الأزل: إما أن يكون لعدم السبب المقتضى لوجوده فى الأزل، أو لمعارض منع وجوده.
فإن كان الأول: فيلزم امتناع وجوده حادثا؛ لأنه لو حدث؛ لكان إما مع عدم المقتضى لوجوده؛ وهو محال. وإما لوجود مقتضى حادث، والكلام فيه: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل محال.
وإن كان لمعارض؛ فذلك المعارض، لا بد وأن يكون أزليا وإلا لما امتنع وجوده؛ ضرورة وجود سببه، وعدم المعارض فى الأزل.
وإذا كان المعارض أزليا:
فإما أن يكون واجبا لذاته [أو ممكنا لذاته «3»].
فإن كان واجبا لذاته: وسواء كان وجودا، أو عدما؛ فإنه يمتنع زواله، ويلزم من دوامه، دوام المنع من وجود العالم
وإن كان ممكنا لذاته: فالإمكان صفة وجودية؛ لما تقدم. والصفة الوجودية: لا تكون إلا لموجود؛ فالمعارض موجود ممكن أزلى فيكون من العالم.
فلا يكون مسمى العالم حادثا؛ إذ العالم: كل موجود سوى الله تعالى على ما سبق.
وأيضا: فإنه إذا كان ممكنا؛ فالموجب له: إما بالذات، أو الاختيار.
لا جائز أن يكون موجبا بالاختيار: لأن المختار لا يفعل بغير القصد، والقصد لا يكون إلا مشروطا بالحدوث: كما تقدم فالمعارض لا يكون أزليا؛ وهو خلاف الفرض.
________________
(1) الشبهة الثالثة عشرة من شبه القائلين بقدم العالم وقد رد عليها الإمام الآمدي فيما يلى ل 103/ أ.
(2) ساقط من (ب).
(3) ساقط من (أ).
(3/348)
________________________________________
وإن كان موجبا بالذات: فيلزم من دوامه، دوام موجبه؛ وهو المعارض، ويلزم من دوام المعارض؛ امتناع حدوث العالم.
الرابع عشر «1»:
لو كان العالم حادثا: فإما أن يكون الرب- تعالى- تاركا له فى الأزل، [أو لا يكون «2»].
فإن «11» // كان الأول: فالترك عبارة عن موجود مقدور مضاد للمتروك على ما تقدم تحقيقه «3» ويلزم من ذلك: امتناع وجود العالم فيما لا يزال؛ لأن ضده موجود أزلى والموجود الأزلى لا يزول.
وإن كان الثانى: فالعالم قديم؛ وهو المطلوب. فهذه هى خلاصة ما يمكن أن تجد من الشبه المشبهة، أوردناها بأحسن تحرير، وتقرير.
وأما ما وراء ذلك مما أورده برقلس «4»، وغيره بأمور لا حاصل لها يمكن معرفة فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى حظ من الفطانة آثرنا الإعراض عن ذكرها، وتسويد الأوراق بها شحا على الزمان بتضييعه في ذكر ما لا يفيد «5»:
والجواب:
قولهم: حقيقة الموضوع فى كل مقدمة، إما أن تكون هى نفس المحمول فيها، أو هو موصوف به.
قلنا:/ بل موصوف به.
________________
(1) الشبهة الرابعة عشرة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فيما يلى 103/ أ.
(2) ساقط من (أ).
(11) // أول ل 52/ ب من النسخة ب.
(3) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الجزء الأول- القسم الأول- النوع السادس- الفرع السابع- الفصل الحادى والعشرون: فى الترك وتحقيق معناه ل 257/ أ.
(4) برقلس: ولد بالقسطنطينية سنة 412 م. وتلقى تعليمه فى الإسكندرية ثم فى أثينا، حيث صار زعيم المدرسة الفلسفية بها، وهو من القائلين بقدم العالم، ويعتبر برقلس آخر وأشهر ممثلى الأفلاطونية الجديدة. توفى سنة 485 م وقد ذكر الشهرستانى شبه برقلس فى قدم العالم. ورد عليها فى كتاب خاص (الملل والنحل للشهرستانى 2/ 149 وما بعدها). وقد ترجم له ابن النديم فى الفهرست ص 252 وذكر مصنفاته. كما نشر له الدكتور عبد الرحمن بدوى رسالة فى قدم العالم فى كتابه «الأفلاطونية المحدثة عند العرب ونشر فى القاهرة سنة 1955 م.
(5) وقد نقل الشهرستانى فى كتابه نهاية الأقدام ص 45 وما بعدها بعض الشبه التى أوردها برقلس ورد عليها بالتفصيل ص 46 وما بعدها.
(3/349)
________________________________________
قولهم: الحد الأوسط لا يكون بجملته مشتركا؛ ليس كذلك؛ فإن المراد من قولنا:
والمؤلف من الأجزاء الحادثة: أى الموصوف بالمؤلف من الأجزاء الحادثة.
وعند ذلك: فالحد الأوسط يكون بجملته متكررا.
قولهم: فى الوجه الثانى: إن أردتم بقولكم: والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث: كل مؤلف بحيث يدخل فيه العالم؛ فقد صادرتم على المطلوب؛ ليس كذلك.
فإن المصادرة على المطلوب: إنما تكون بأن يوجد المطلوب الخفى مقدمة فى قياسه؛ وما نحن فيه؛ ليس كذلك. فإن المؤلف من الأجزاء الحادثة. وإن كان العالم موصوفا به.
فالحكم على العالم بالحدوث فى المقدمة الثانية؛ ليس مطلقا؛ حتى يكون مصادرة على المطلوب.
بل من جهة كونه موصوفا بالتأليف؛ وليس ذلك هو المطلوب؛ بل المطلوب لازم عنه؛ وهو كون العالم حادثا. ولهذا كان القول: بأن العالم حادث غير بين. والقول: بأن المؤلف حادث بين.
ولا يبعد أن يكون الحكم على الشيء من غير واسطة؛ غير بين وعلى ما هو لازم، بين لذلك الشيء بينا، ويكون ما ليس بينا لازما عن البين.
قولهم: فى الوجه الثالث: الإنتاج غير لازم، عن نفس الصورة المذكورة؛ ليس كذلك.
و [قول القائل «1»]: الإنسان نوع إن لم يرد به كل ما يسمى إنسانا؛ فالقضية الكبرى تكون جزئية. ولا إنتاج؛ لعدم الاشتراك فى الحد الأوسط؛ على ما سبق «2».
وإن أراد به كل إنسان: حتى الأشخاص فالقضية تكون ظاهرة الكذب.
فعدم الإنتاج دائر بين أن لا يكون الحد الأوسط مشتركا، وبين أن تكون المقدمة
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) راجع ما مر فى القاعدة الثالث- الباب الأول- الفصل الخامس: فى أصناف صور الدليل، وتنوع تأليفه ل 35/ ب وما بعدها.
(3/350)
________________________________________
الكبرى كاذبة، ولا إنتاج مع أحد الأمرين، وكذلك الحكم فى القول زيد حيوان، والحيوان جنس.
وأما المثال الثالث: فالنتيجة فيه لازمة وهى: الإنسان حيوان وحده ليس جزء من موضوع المقدمة الأولى حتى تكون النتيجة الإنسان وحده حيوان، بل خارج عنه حتى أنه لو جعل وحده جزء من موضوع المقدمة الأولى كانت القضية كاذبة. وسواء كانت مهملة، أو محصورة. ولهذا: فإنه لو قال القائل: بعض الناس وحده ناطق، أو كل إنسان أى كل واحد، واحد؛ وحده ناطق: كان الكذب فيها ظاهرا؛ فكان عدم الإنتاج كقولنا:
الإنسان وحده حيوان لازما عن كذب المقدمة الأولى؛ لا عن فساد الصورة القياسية «1».
قولهم: فى الوجه/ الرابع:
إما أن يتوقف الإنتاج على ارتباط إحدى المقدمتين بالأخرى، أو لا يتوقف.
قلنا: مهما حصرت المقدمتان فى الذهن؛ فالإنتاج لازم ضرورة من غير ضرورة، ومن غير توقف على أمر خارج.
وعلى هذا فلا نسلم تصور الغفلة عن النتيجة بحكم جرى العادة مع حضور المقدمتين فى الذهن فيما ذكروه من مثال البغلة المنتفخة البطن.
وما ذكروه فى الوجه الخامس من التقسيم: فالمراد إنما هو القسم الأول وهو أن كل مؤلف من أجزاء كل واحد منها حادث، ولها أول. ولا يخفى: أن ما كان مركبا من أجزاء متناهية، ولها أول أنه يكون متناهيا؛ وهو معلوم بالضرورة.
وإنما لا يلزم الحكم بالتناهى على الجملة: أن لو كان كل واحد من آحاد أجزائها حادثا، وليس لها أول تنتهى إليه كما يقوله الخصوم فى جملة الحركات، والأزمنة المتعاقبة؛ وليس كذلك فيما نحن فيه؛ فإنا قد بينا: امتناع تعاقب الحوادث إلى غير النهاية.
وأما ما يختص بالمعنى، وتقرير المقدمات، وما يرد عليها من الاعتراضات والإشكالات، وتحقيق الانفصال عن كل واحد منها؛ فقد سبق بالاستقصاء المفصل،
________________
(1) راجع ما مر فى القاعدة الثالثة- الباب الثانى- الفصل الثالث: فى أقسام مقدمات الدليل ل 33/ ب. والفصل الخامس: فى أصناف صور الدليل، وتنوع تأليفه ل 35/ أ وما بعدها.
(3/351)
________________________________________
المحصل فى كل موضع على ما يليق به فعلى الناظر الالتفات إليه.
ولم يبق غير الانفصال، عن شبه أهل الضلال.
أما الشبهة الأولى «1»:
فباطلة من جهة أن «11» // الحس، والعيان، والبرهان شاهد بوجود حوادث كائنة بعد ما لم تكن.
وما ذكروه من الشبهة يلزم منه امتناع وجود الحوادث. والقول بامتناع وجود الحوادث؛ ممتنع. وكل دليل لزم عنه الممتنع، فهو باطل فى نفسه.
وبيان الملازمة: هو أن ما ذكروه من الترديد، والتقسيم فى حدوث العالم بعينه؛ لازم فى حدوث كل حادث. وكل ما هو جواب لهم [فى حدوث الحوادث بعينه، يكون جوابا «2»] فى القول بحدوث العالم بجملته، ثم ما المانع أن يكون الحدوث مستندا إلى فاعل مختار «3».
قولهم: إما أن يكون تخصيص الفاعل المختار للعالم بوقت حدوثه، متوقفا علي تجدد أمر أو لا يكون متوقفا عليه.
قلنا: ما المانع أن لا يكون متوقفا على تجدد أمر.
قولهم: لأنه لا يكون اختصاصه بوقت حدوثه، دون ما تقدم أو تأخر أولى من العكس.
إنما يصح ذلك أن لو كان المخصص له موجبا بذاته. أما إذا كان مخصصا:
بالإرادة، والاختيار؛ فلا على ما تقدم تحقيقه فى مسائل/ الصفات «4».
فإن قيل: إذا كان المخصص لحدوث العالم بوقت حدوثه إنما هو الإرادة القديمة؛
________________
(1) الرد على الشبهة الأولى الواردة فى ل 95/ ب وخلاصتها: «أنه لو كان العالم حادثا، وموجودا بعد العدم: فإما أن يكون قبل وجوده: واجب الوجود لذاته، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود .. ».
(11) // أول 53/ أ.
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 211/ ب وما بعدها.
(4) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى: فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود. ل 54/ أ وما بعدها.
(3/352)
________________________________________
فلا يخلوا: إما أن تكون صالحة لتخصيص حدوثه بغير ذلك الوقت، أو لا تكون صالحة لغيره.
فإن كان الأول: فنسبتها إلى جميع الأوقات نسبة واحدة. وعند ذلك: فتخصيص البعض دون البعض: إما أن يتوقف على مرجح، أو لا يتوقف عليه.
فإن توقف على المرجح: فالكلام فى ذلك المرجح: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وإن لم يتوقف على المرجح: لزم منه ترجيح أحد الجائزين دون مرجح؛ وهو محال كما تقدم «1».
وإن كان الثانى: وهو أنها غير صالحة للتخصيص إلا بذلك الوقت المفروض؛ فيلزمه محالان:
الأول: أن الكلام مفروض فيما إذا كان المخصص قديما؛ وهو غير متوقف على تجدد أمر لم يكن.
وإذا قيل: بأن تخصيص الإرادة للحدوث لا يتم دون ذلك الوقت المعين؛ فذلك الوقت متجدد؛ وهو خلاف الفرض. كيف: وأن الكلام فى تجدد ذلك الوقت: كالكلام فيما هو متوقف عليه؛ وهو تسلسل ممتنع.
المحال الثانى: أنه يلزم منه خروج المخصص، عن كونه فاعلا مختارا؛ ضرورة انحصار وقت الحدوث فى حقه؛ فهو خلاف الفرض أيضا.
وأيضا: فإنه: إما أن لا يكون تعلق إرادة الله- تعالى- بحدوث العالم مشروطا بوقت معين، أو يكون مشروطا به. فإن كان الأول: فالبارى- تعالى- يكون مريدا لحدوث العالم؛ غير مشروط بوقت.
[و الإرادة «2»] أزلية: فيلزم وجود المراد أزلا.
وإن كان الثانى: فإن كان ذلك الوقت أزليا؛ لزم أزلية وجود العالم. وإن كان حادثا:
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة ل 41/ أ وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3/353)
________________________________________
فالكلام فى تعلق الإرادة بذلك الوقت الحادث كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل محال.
قلنا: أما الإشكال الأول: فالمختار؛ إنما هو القسم الأول منه.
قولهم: فتخصيص بعض الأوقات بالحدوث، دون البعض: إما أن يتوقف على مرجح، أو لا يتوقف.
فنقول: المرجح لأحد الجائزين دون الآخر: إنما هو نفس الإرادة؛ لا أمر خارج عنها، ولا يقال: لم كانت الإرادة تتعلق بأحد الجائزين وتخصيصه دون الآخر مع أن نسبتها إلى الكل نسبة واحدة؛ لما تقدم فى إبطاله فى الصفات «1».
وأما الإشكال الثانى:
فالمختار منه أيضا: إنما هو القسم الثانى وهو أن تعلق الإرادة بحدوث العالم غير مشروط بوقت معين لأن الوقت من العالم.
فلو قلنا: إن تعلق الإرادة بالعالم مشروطة/ بوقت معين مع كون الوقت من العالم؛ لزم أن يكون تعلق الإرادة بحدوث الوقت، مشروطا بوقت؛ [و هو محال. ولا يلزم من ذلك أزلية العالم لأزلية الإرادة؛ فإنها وأن لم يكن تعلقها بالعالم مشروطا بوقت] «2» معين؛ فهى معلقة بحدوثه، على الوجه الّذي حدث عليه من غير تقدم، ولا تأخر، والإشكال مشكل، وفى جوابه دقة؛ فليتأمل.
قولهم: لو كان الموجد مختارا: إما أن يكون: موجدا له لغرض، أم لا.
عنه جوابان: الأول: لا لغرض، ولا يلزم منه السفه فى حقه؛ لما تقدم تحقيقه فى:
التعديل، والتجوير «3».
الثانى: وإن كان لغرض: فإنما يلزم أن يكون مستكملا بفعله: أن لو عاد الغرض إليه، وليس كذلك على ما تقدم تحقيقه أيضا. «4»
________________
(1) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الثانى- المسألة الثالثة: فى إثبات صفة الإرادة ل 64/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من (أ).
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع السادس- الأصل الأول- المسألة الثالثة ل 186/ أ وما بعدها.
(4) ساقط من (أ).
(3/354)
________________________________________
قولهم: فى الوجه الثالث: لا يخلو: إما أن يكون الرب- تعالى- «11» // مختارا فى إيجاد العالم، أو غير مختار.
قلنا: بل هو مختار.
قولهم: التخيير لا يكون بين الفعل، وما ليس بفعل، لا نسلم؛ بل التخيير قد يكون بين الفعل، وعدمه، وقد يكون بين الأفعال ولا معنى لكونه مختارا عندنا؛ إلا هذا.
قولهم: لو كان قاصدا لإيجاد العالم؛ لكان عالما بعدمه إلى آخر ما ذكروه؛ فقد سبق جوابه فى مسألة إثبات العلم لله- تعالى «1».
وأما الشبهة الثانية «2»:
فلا نسلم أن كل موجود بعد العدم لا بد له من تقدم زمان، ومادة عليه «3».
قولهم: لا بد له من قبل؛ مسلم؛ ولكن لا نسلم أن معنى القبلية أمر وجودى، بل معنى قبليته: أنه لم يكن؛ فكان؛ وهو أمر سلبى، ومعنى عدمى. ويدل على كونه عدميا: أنه يصح اتصاف العدم السابق به: فيقال عدمه قبل وجوده.
ولو كانت القبلية صفة وجودية؛ لما كانت صفة للعدم.
قولهم: لا فرق بين قول القائل: لا قبل له، وبين قوله القبلية أمر عدمى؛ ليس كذلك. فإن المفهوم: من القبلية: إذا كان عدما.
فقول القائل: لا قبل له، يكون سلبا للمفهوم العدمى، وسلب السلب: يتضمن الإثبات. وفرق بين العدم المحض، وبين ما هو متضمن الإثبات.
قولهم: يصح أن يقال: له قبل هو فيه معدوم، وتفسير القبلية/ بالمعنى المذكور يفضى إلى التهافت فى الكلام.
________________
(11) // أول ل 53/ ب من النسخة ب.
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى- المسألة الرابعة: فى إثبات صفة العلم لله- تعالى- ل 72/ ب وما بعدها.
(2) الرد على الشبهة الثانية من شبه الخصوم الواردة فى ل 96/ ب وخلاصتها «أنه لو كان العالم حادثا موجودا بعد العدم؛ فكل موجود بعد ما لم يكن لا بد له من زمان ومادة يتقدمان عليه».
(3) من أول قوله: قولهم لو كان قاصدا لإيجاد العالم ... إلى لا بد له من تقدم زمان ومادة عليه» مكرر فى النسخة (أ).
(3/355)
________________________________________
قلنا: إذا كانت القبلية عبارة عما ذكرناه. فقول القائل: الحادث له قبل كان فيه معدوما: إن أراد به القبلية: بالاعتبار المذكور؛ لا يكون صحيحا؛ ولا نسلم صحة إطلاقه.
وإن أراد به: تقدير مدة فى وهمه وفرضه من غير تحقيق؛ فلا منازعة فى العبارة.
ولا يلزم من كون العدم متقدما على الوجود الحادث؛ أن يكون تقدمه بالزمان؛ فإن التقدم أعم من التقدم بالزمان كما سبق «1» ولا يلزم من الأعم الأخص.
وعلى هذا: فقد بطل القول بسبق وجود المادة تفريعا علي وجود الزمان.
وما ذكروه من بيان وجود المادة فى الوجه الثانى؛ فمبنى على أن الإمكان أمر وجودى؛ وقد أبطلناه؛ فيما تقدم وبتقدير أن يكون صفة وجودية فحاصله يرجع إلى أن الرب- تعالى- قادر على إحداثه.
قولهم: لو كان كذلك؛ لزم منه تعليل الشيء بنفسه.
قلنا: الممكن هو المقدور على ما ذكرناه. غير أن من لوازمه: أنه لو فرض موجودا؛ لا يلزم عنه لذاته محال والتعليل: إنما هو: هذا اللازم.
ولا تخفى المغايرة بين الأمرين، وتعليل أحد المتغايرين بالآخر، لا يكون تعليلا للشىء بنفسه؛ فلا يكون متهافتا. وإطلاق اسم الإمكان على اللازم: إنما كان بطريق التجوز والاستعارة؛ ضرورة الملازمة، ولا بعد فيه؛ وفيه دقة؛ فليتأمل.
وأما الشبهة الثالثة «2»:
فإن أرادوا بلفظ المدة الزمان: فالتقسيم إذن إنما يصح فيما هو قابل للتقدم، والتأخر، والمعية بالزمان. وأما ما ليس بقابل لذلك؛ فلا. والبارى- تعالى- ليس قابلا
________________
(1) راجع ما مر ل 81/ ب وما بعدها.
(2) الرد على الشبهة الثالثة للخصوم الواردة فى ل 97/ أ وخلاصتها «لو كان العالم حادثا؛ لم يخل: إما أن لا يكون بينه، وبين الرب- تعالى- مدة، أو يكون بينهما مدة. فإن كان الأول؛ فيلزم منه مقارنة، وجود العالم لوجود الرب- تعالى .. إلخ».
(3/356)
________________________________________
للتقدم بالزمان؛ لكون وجوده غير زمانى على ما تقدم «1». وكذلك ليس متقدما بالمكان؛ لأن وجوده ليس وجودا مكانيا «2».
فإذا قيل: إنه متقدم بالزمان؛ كان محالا كما إذا قيل إنه متقدم بالمكان.
وعند ذلك: فلا يلزم من نفى المدة الزمانية، بين البارى- تعالى- وبين العالم، ومن نفى تقدم البارى، على العالم بالزمان، المعية بينه- تعالى-، وبين العالم.
كما لا يلزم من القول بنفى المكان، والتقدم به على العالم؛ المعية بينهما.
ولو لزم من نفى تقدم أحد الشيئين على الآخر، بالزمان المعية بينهما؛ للزم أن يكون الزمان الماضى مع الحالى، والحالى مع المستقبل؛ لاستحالة تقدم الزمان، على الزمان بالزمان كما تقدم تعريفه «3».
كيف: وأنه إذا أريد بالمدة الزمان: كان التقسيم خطأ؛ إذا الزمان من/ العالم، والكلام أيضا واقع فيه.
فإذا قيل: إما أن يكون بين البارى- تعالى- وبين العالم زمان، أو ليس بينهما زمان. كان حاصله يرجع إلى أنه: إما أن يكون بين الزمان، وبين البارى- تعالى زمان. أو ليس بينهما زمان؛ وهو محال، إذ الزمان الّذي وقع الخلاف فيه؛ لا يكون متقدما على نفسه بحيث يفرض أن بين البارى- تعالى- وبين نفسه؛ هذا كله إن أريد بالمدة الزمان.
وإن أريد بها معنى تقديرى وهمى: وهو ما يقدره المقدر مع نفسه، وتصوره فى وهمه من المدة التى لا نهاية لها كما يقدره الوهم من أبعاد لا نهاية لها فذلك مما لا حقيقة له، ولا وجود؛ وإنما هو من تقديرات الأوهام الكاذبة.
ولا يخفى أن إثبات المدة بهذا الاعتبار غير موجب لقدم الزمان، ولا نفيها موجب للمعية بين البارى «11» // تعالى، والعالم.
________________
(1) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الرابع- المسألة السادسة: فى أن وجود الرب- تعالى- ليس فى زمان ل 155/ أ.
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الرابع- المسألة الخامسة: فى أن الله- تعالى- ليس فى جهة ولا مكان ل 150/ أ.
(3) راجع ما تقدم ل 81/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 54/ أ.
(3/357)
________________________________________
وأما الشبهة الرابعة «1»:
فحاصل لفظ الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية، وهو كن الرب- تعالى- موجدا، وفاعلا لا لغرض يعود عليه من جلب نفع، أو دفع ضر.
وعلى هذا: فلا نسلم أن صفات الأفعال من كمالاته- تعالى- وليس ذلك من الضروريات؛ فلا بد له من دليل.
كيف: وأنه لو كان ذلك من الكمالات؛ لقد كان كمال واجب الوجود متوقفا على وجود معلوله عنه.
ومحال أن يستفيد الأشرف كما له من معلوله «2»؛ كما قرروه فى كونه موجدا بالإرادة «3».
وإن سلمنا: أنه كمال؛ فإنما يكون عدمه فى الأزل نقصا أن لو كان وجود العالم فى الأزل ممكنا، وهو غير مسلم؛ وهو على نحو قوله فى نفى النقص عنه؛ لعدم إيجاده للكائنات الفاسدات: كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية؛ لتعذر وجودها به أزلا من غير توسط، ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود أزلا أن لا يكون ممكن الحدوث، لما حققناه قبل.
وأما الشبهة الخامسة «4»:
فربما أجاب عنها بعضهم بأن كون الرب- تعالى- صانعا ومؤثرا؛ ليس صفة زائدة على ذاته- تعالى- وإلا كانت مفتقرة إلى ذاته، وكانت ممكنة مفتقرة إلى مؤثرية أخرى؛ ولزم التسلسل. ويلزم عليه صفات الرب- تعالى- من العلم، والقدرة، والإرادة وغيرها، فإنها مفتقرة إلى ذاته- تعالى-، ضرورة كونها صفات لها وهى غير مفتقرة إلى مؤثر، ولا هى معلولة لشيء أصلا. كيف: وأنه لو كان المفهوم من كون الرب- تعالى- مؤثرا
________________
(1) الرد على الشبهة الرابعة من شبه المخالفين الواردة فى ل 97/ أ وخلاصتها «أن الجود صفة كمال، وعدمه صفة نقص .... إلخ».
(2) راجع ما مر فى ل 82/ أ.
(3) راجع ما مر فى الجزء الأول ل 287/ ب القول فى أن كل كائن فمراد لله- تعالى- وما ليس بكائن غير مراد الكون.
(4) الرد على الشبهة الخامسة من شبه الخصوم الواردة فى ل 97/ أ وخلاصتها «هو أن البارى- تعالى- صانع العالم.
وكونه صانع العالم صفة زائدة على ذات الرب- تعالى- وذات العالم ... إلخ».
(3/358)
________________________________________
وصانعا غير زائد/ على ذاته؛ لما تصور العلم بذاته، والجهل بكونه مؤثرا؛ وهو مكابرة للبديهية.
فالحق أن يقال: كون الرب- تعالى صانعا، ومؤثرا، وإن كان المفهوم منه، يزيد على المفهوم من ذاته ووجوده، غير أنا لا نسلم أن معناه يزيد على كون العالم، صدر عنه مخصصا بقدرته، وإرادته فى وقت حدوثه. وإذا لم يكن المفهوم من كونه صانعا ومؤثرا، يزيد على حدوث العالم عنه مخصصا بقدرته، وإرادته.
فحدوث العالم عنه: ليس صفة قائمة لذاته، حتى تكون ذاته محلا للحوادث، ولا حدوث العالم عنه، يزيد على حدوث العالم؛ ليلزم التسلسل كما قيل.
وأما الشبهة السادسة «1»:
فمبنية على كون الإمكان صفة وجودية، وفد بينا إبطاله فيما تقدم.
وبتقدير أن تكون صفة وجودية؛ فلا نسلم أن مفهومه يزيد على كون الرب- تعالى- قادرا على إيجاد العالم؛ على ما سبق تحقيقه.
وإن سلمنا: أن الإمكان صفة للعالم؛ فما المانع من كونه حادثا. [قولهم: لو كان حادثا «2»] لكان ممكنا بإمكان؛ ولزم التسلسل.
قلنا: ولو كان قديما؛ لكان أيضا ممكنا؛ لأنه لو لم يكن ممكنا؛ لكان مع فرض وجوده، واجبا لذاته. ولو كان واجبا لذاته: لما كان صفة لغيره؛ وللزم وجود واجبين لذاتيهما وهما الرب- تعالى- والإمكان؛ ولم يقولوا به.
وبتقدير كونه قديما ممكنا: يلزم أن يكون ممكنا بإمكان؛ وما هو عذرهم فى إمكان القديم؛ هو العذر فى الإمكان الحادث. ثم يلزم على ما ذكروه، امتناع وجود الحوادث؛ لأن ما من حادث يفرض، إلا وهو ممكن لذاته، وإمكان صفة له فلو كان إمكانه حادثا؛ لكان ممكنا بإمكان آخر فلزم أن يكون إمكانه قديما. ويلزم من قدم إمكانه؛ قدم ذلك الحادث؛ لاستحالة وجود الصفة دون الموصوف؛ فما هو عذرهم فى حدوث الحوادث، يكون بعينه عذرا في حدوث العالم.
________________
(1) الرد على الشبهة السادسة من شبه الخصوم الواردة فى ل 97/ أ وخلاصتها «هو أن العالم ممكن الوجود على ما تقدم، وإمكان وجوده صفة له لا لغيره .... إلخ».
(2) ساقط من أ.
(3/359)
________________________________________
وأما الشبهة السابعة «1»:
فمبنية على أن القبلية والبعدية من أسماء الزمان، وليس كذلك؛ بل لا معنى لكون الرب- تعالى- موصوفا بأنه قبل العالم: إلا أنه كان ولا شيء سواه.
ومعنى كون العالم بعد، أنه لم يكن مع الرب، ثم كان وإلا فلو كان الرب- تعالى- قبل العالم بالزمان. فالزمان من العالم، ويلزم أن يكون متقدما على الزمان بالزمان؛ وهو محال.
وأيضا: فإن وجود الرب- تعالى- ليس وجودا زمانيا على ما تقدم «2» فلا يكون قبل بالزمان.
كما أنه لما لم يكن وجوده، وجودا مكانيا؛ لم يكن قبل بالمكان «3».
وأما الشبهة الثامنة «4»:
فإن أرادوا بقولهم:
إن العالم كان معدوما فى الأزل: أنه لم يكن وجوده، وجودا أزليا أى: غير مسبوق/ بالعدم؛ فهو مسلم.
ولا يلزم من ذلك قدم الزمان، وإن أرادوا غيره؛ فهو غير مسلم. كيف: وأن بتقدير حدوث العالم [إذا قيل «5»: بأن العالم] كان معدوما فى الأزل لو أريد بالأزل الّذي هو فيه معدوم الزمان؛ فلا يخفى أن الزمان من العالم.
________________
(1) الرد على الشبهة السابعة من شبه الخصوم الواردة في ل 97/ ب وخلاصتها «لو كان العالم حادثا مسبوقا بالعدم، والبارى- تعالى- يكون موصوفا بأنه قبل العالم .... إلخ».
(2) راجع ما تقدم فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الرابع- المسألة السادسة: فى أن وجود الرب- تعالى- ليس فى زمان. ل 155/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ل 150/ أ وما بعدها.
(4) الرد على الشبهة الثامنة من شبه الخصوم الواردة فى ل 97/ ب وخلاصتها: «لو كان العالم حادثا- فإما أن يصح قول القائل: كان العالم معدوما فى الأزل» أو لا يصح .. إلخ».
(5) ساقط من (أ).
(3/360)
________________________________________
فإذا قيل: إن العالم معدوم فى الأزل، والأزل زمان [كان حاصله أن الزمان «1»] معدوم مع وجود الزمان؛ وهو محال.
وأما الشبهة التاسعة «2»:
فمقابلة بمثلها فى جانب القدم. وهو أن يقال: فلو كان العالم قديما: فقدمه زائد على ذاته.
لما ذكروه من الوجهين الأولين في الحدوث، وإذا كان زائدا على ذاته: فإما «11» // أن يكون وجودا، أو عدما.
لا جائز أن يكون عدما: لأن نقيض العدم، لا عدم. ولا عدم وصف عدمى؛ لاتصاف الأعدام المتجددة به والعدم وصف وجودى: وهو إما قديم، أو حادث.
لا جائز أن يكون حادثا: وإلا كان ما لا أول له. له أول؛ وذلك محال. وإن كان قديما: بما لزم أن يكون قديما بقدم آخر؛ فهو تسلسل ممتنع.
وكل ما هو عذر فى قدمه؛ فهو عذر فى حدوثه.
وأما الشبهة العاشرة «3»:
فالمختار من أقسامها: إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحادث [من وجه أن يكون مماثلا «4» للحادث] من جهة كونه حادثا؛ بل لا مانع من الاختلاف بينهما فى صفة القدم والحدوث، وإن تماثلا بأمر آخر. وهذا كما أن السواد، والبياض مختلفان من وجه دون وجه «5»؛ لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا فى العرضية، واللونية، والحدوث، واستحالة تماثلهما من كل وجه، وإلا كان
________________
(1) ساقط من (أ).
(2) الرد على الشبهة التاسعة من شبه الخصوم الواردة فى ل 97/ ب وخلاصتها: «أنه لو كان العالم محدثا؛ فحدوثه وصف زائد على ذاته ويدل عليه أمور ثلاثة ... إلخ».
(11) // أول 54/ ب من النسخة ب.
(3) الرد على الشبهة العاشرة من شبه القائلين بقدم العالم والواردة فى ل 97/ ب وخلاصتها: «لو كان العالم محدثا؛ فحدوثه: إما أن يكون مساويا له من كل وجه، أو مخالفا له من كل وجه ... إلخ».
(4) ساقط من (أ).
(5) ساقط من (ب).
(3/361)
________________________________________
السواد بياضا، ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه، أن يكون مماثلا له فى صفة البياضية.
وأما الشبهة الحادية عشرة «1»:
وإن سلمنا أن القول بحدوث العالم فيه مخالفة للعادة من وجود إنسان؛ لا من إنسان. وبيضة لا من دجاجة، أو دجاجة لا من بيضة، إلا أنه قد قام الدليل العقلى القاطع عليه ولم يقم على مخالفة غير ذلك من العادات المستشهد بها، حتى أنه لو قام الدليل القاطع على مخالفتها؛ لخالفناها، واعتقدنا نقائضها.
وأما الشبهة الثانية عشرة «2»:
فيلزمهم عليها أجزاء الزمان؛ فإن كل واحد منهما حادث، حتى أن الماضى منه لا يوجد مع الحاضر، والمستقبل، ولا الحاضر منه مع المستقبل.
وليس لحدوث كل جزء من أجزاء الزمان، وقت متميز عن وقت الجزء الآخر، وإلا كان الزمان فى زمان. والكلام فى ذلك الزمان كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
/ ومع ذلك فلا يمتنع حدوث كل واحد منها؛ فما هو جوابهم فى حدوث آحاد أجزاء الزمان: هو الجواب فى حدوث العالم، مع عدم قدم الزمان.
وأما الشبهة الثالثة عشرة «3»:
فيلزمهم عليها امتناع وجود الحوادث أصلا فإن كل ما ذكروه فى امتناع حدوث العالم بتقدير عدمه أزلا؛ فهو جار فى كل حادث حدث، وكان معدوما أزلا من غير اختلاف؛ وذلك يجر إلى امتناع حدوث الحوادث؛ وهو خلاف الحس والشاهد؛ فكل ما هو عذر عن حدوث الحوادث؛ فهو عذر فى حدوث العالم.
________________
(1) الرد على الشبهة الحادية عشرة من شبه الخصوم والتى أوردها الآمدي فى ل 98/ أ وخلاصتها: «أنا لم نشاهد إنسانا إلا من إنسان، ولا بيضة إلا من دجاجة، ولا دجاجة إلا من بيضة ... إلخ».
(2) الرد على الشبهة الثانية عشرة من شبه الخصوم القائلين بقدم العالم والواردة فى ل 98/ أ وخلاصتها: «لو كان العالم حادثا؛ لكان الزمان حادثا؛ لكونه من العالم ... إلخ».
(3) الرد على الشبهة الثالثة عشرة من شبه الخصوم والواردة فى ل 98/ ب وخلاصتها: «أنه لو كان العالم حادثا؛ لما كان حادثا وبيان الملازمة ... إلخ».
(3/362)
________________________________________
وأما الشبهة الرابعة عشرة «1»:
أنه تارك الفعل العالم فى الأزل؛ لكن لا بمعنى أنه فاعل وجود ضده؛ بل بمعنى أنه لم يفعل، ولا وازع عنه من جهة اللغة كما حققناه فى فصل الترك «2».
________________
(1) الرد على الشبهة الرابعة عشرة من شبه المخالفين القائلين بقدم العالم والواردة فى ل 98/ ب وخلاصتها: لو كان العالم حادثا: فإما أن يكون الرب- تعالى- تاركا له فى الأزل، أو لا يكون ... إلخ.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع السادس- الأصل الثانى- الفرع السابع- الفصل الحادى والعشرون: فى الترك وتحقيق معناه. ل 257/ أ.
(3/363)
________________________________________
الأصل الخامس فى فناء الجواهر والإعراض «1»
وقد اختلف فى ذلك:
فذهبت الفلاسفة:
إلى أنّ أجسام السموات، ونفوسها، والعقول التى هى مبادي لها، والجسم المشترك بين العناصر والنفوس الإنسانية لا يتصور عليها الفناء والعدم.
وأما الأزمنة والحركات الدورية الفلكية: فإن آحاد أشخاصها وإن تصور عليها الفناء والعدم؛ فلا يتصور الفناء والعدم على جملتها: بمعنى أنه ما من زمان وحركة، إلا وبعده زمان وحركة.
وذهب الجاحظ، وابن الراوندى، وجماعة من الكرامية: إلى أن ما وجد من الجواهر لا يتصور عدمه مطلقا. وأن الله- تعالى- لو أراد إعدامه؛ لم يكن ذلك ممكنا له.
والّذي عليه اتفاق أهل الحق من الاسلاميين وغيرهم: القضاء بصحة فناء العالم جواهره، وأعراضه.
ثم اختلفوا فى طريق وقوع الفناء، وفى معرفة صحته:
أما طريق الفناء: أما فناء الأعراض، وعدمها: فعند أصحابنا بذواتها؛ لاستحالة بقائها على ما تقدم «2».
وأما المعتزلة:
فذهب البصريون منهم: إلى أن فناء الأعراض النامية بعدم محالها وهى الجواهر.
وفناء ما ليس باقيا بنفسه.
________________
(1) اهتم الإمام الأشعرى بهذا المبحث فى كتابه مقالات الإسلامين الجزء الثانى ص 46 وما بعدها. وذكر بالتفصيل مقالات الإسلاميين واختلافهم فى فقرات عدة.
ففى الفقرة 28 - هل تبقى الأعراض؟ تحدث على الآراء فيها بالتفصيل 2/ 46 - 48.
وفى الفقرة 29 - هل تفنى الأعراض؟ ذكر اختلاف العلماء فيها ص 48.
وفى الفقرة 30 - هل للأعراض بقاء؟ ذكر اختلاف العلماء فيها بإيجاز.
وفى الفقرة 31 - قولهم فى فناء الأعراض؟ ذكر اختلاف العلماء فيها بإيجاز.
ولمزيد من البحث والدراسة: انظر فى هذا المبحث: أصول الدين للبغدادى ص 50 - 52.
وشرح المواقف للجرجانى 5/ 38 - 55.
(2) راجع ما سبق فى الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض، واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(3/364)
________________________________________
وأما فناء الجواهر: فمنهم من قال: إنه باعدام معدم.
ثم اختلف هؤلاء.
فذهب أبو القاضى أبو بكر فى أحد قوليه؛ والجاحظ.
إلى أن إعدامها بقدرة الرب- تعالى-
وذهب أبو الهذيل «1» وغيره: إلى أن فناء الجواهر بقول الله- تعالى- له افن فيفنى:
كما أن حدوثه وتكوينه بقوله كُنْ فَيَكُونُ «2»
ومنهم من قال: فناء الجواهر إنما يكون بحدوث ضد الجواهر وعبروا عن ذلك الضد بالفناء.
وزعموا أن ذلك الفناء عرض غير متصور البقاء، وإلا لافتقر فى/ عدمه إلى ضد آخر؛ وهو تسلسل ممتنع.
وهذا هو مذهب أكثر المعتزلة: ثم اختلفوا:
فمنهم من زعم أن الله تعالى بخلق فى كل جوهر فناء يقتضي عدم ذلك الجوهر فى الزمان الثانى من وجوده؛ لاستحالة قيام العرض بنفسه
ومنهم من زعم: أن الله- تعالى- يخلق الفناء المضاد للجوهر لا فى محل.
ثم اختلف هؤلاء.
فذهب أبو هاشم «11» // وعبد الجبار من المعتزلة «3»:
إلى أن ذلك الفناء واحد، وأنه ضد لجميع الجواهر متى وجد؛ عدمت جميع الجواهر
وأنه لا يتصور عدم بعض الجواهر مع وجود ذلك الفناء دون البعض؛ بل إما أن تنعدم جميعها معا، أو تبقى معا.
________________
(1) انظر مقالات الإسلاميين 2/ 53 وما بعدها قولهم: فى البقاء والفناء فقد تحدث عن آراء المعتزلة بالتفصيل.
(2) سورة يس 36/ 82.
(11) // أول ل 55/ أ من النسخة ب.
(3) انظر آراء المعتزلة فى الفناء فى مقالات الإسلاميين للأشعرى 2/ 53 - 56.
(3/365)
________________________________________
وذهب الجبائى: إلى أن الفناء الواحد لا يكفى فى عدم جميع الجواهر؛ بل لا بد وأن يخلق الله- تعالى- لكل جوهر فناء يخصه «1».
ومن المتكلمين من قال:
فناء الجواهر: إنما يكون بفوات شرط من شروط بقائه
ثم اختلف هؤلاء:
فمنهم من قال- تفريعا على أن الجواهر باقية ببقاء- أن طريق فناء الجواهر: إنما يكون بقطع بقائها؛ وذلك بأن لا يخلقه الله- تعالى- لها.
لكن منهم من قال: بأن بقاء كل جوهر قائم به، وهذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى.
ومنهم من قال: بأن كل جوهر باق ببقاء قائم، لا فى محل وهذا هو مذهب بشر المريسى «2» من المعتزلة.
ومنهم من قال: طريق فناء الجواهر: إنما يكون بقطع الأعراض التى لا خلو للجواهر عنها بأن لا يخلقها الله- تعالى- لها؛ فتنعدم ضرورة استحالة خلوها عنها
وهذا هو مذهب القاضى أبى بكر فى قول آخر.
وأما معرفة صحة الفناء فقد قال المتأخرون من المعتزلة: كأبي هاشم وأتباعه، أنه لا طريق إلى معرفة ذلك غير السمع.
وذهب الباقون من القائلين بالفناء: إلى جواز معرفة ذلك عقلا.
وإذ أتينا على شرح المذاهب، وتفصيلها. فلا بد من إبطال المذاهب الواهية منها، وما هو المختار.
________________
(1) انظر المصدر السابق.
(2) بشر المريسى: ... - 218 ه- ... - 833 م.
بشر بن غياث بن أبى كريمة عبد الرحمن المريسى، أبو عبد الرحمن. فقيه معتزلى عارف بالفلسفة، يرمى بالزندقة. وهو شيخ الطائفة (المريسية) القائلة بالإرجاء؛ كما قال برأى جهم، وأوذى فى دولة الرشيد. وهو من أهل بغداد، وعاش ما يقرب من سبعين عاما وتوفى سنة 218 ه وللدارمى كتاب فى الرد على المريسى.
كما ناظره الإمام الشافعى وأبطل مذهبه.
[وفيات الأعيان 1/ 91 وتاريخ بغداد 7/ 56 ولسان الميزان 2/ 29].
(3/366)
________________________________________
[الرد على الفلاسفة ومن وافقهم]
أما طريق الرد على الفلاسفة، والجاحظ، وكل من أنكر جواز فناء العالم [أو شيء منه «1»] أن يقال:
قد ثبت أن العالم، وكل جزء من أجزائه، ممكن الوجود لذاته وكل ما هو ممكن الوجود لذاته؛ فهو لذاته قابل للوجود، والعدم بحيث لو فرض موجودا بعد العدم، أو معدوما، بعد الوجود؛ لم يعرض عنه المحال لذاته.
فإنه لو عرض عنه المحال من فرض وجوده؛ لكان قسما ممتنعا لذاته.
ولو كان كذلك، لما وجد ولا بغيره. ولو عرض المحال عنه من فرض عدمه؛ لكان واجبا لذاته. ولو كان كذلك؛ لما تصور عليه العدم.
وقد كان العالم/ معدوما قبل وجوده على ما تقرر فى مسألة حدوث العالم «2».
فإذن قد ثبت جواز الفناء على العالم، وأجزائه عقلا.
فإن قيل: العالم وإن كان ممكن الوجود، والعدم لذاته؛ غير أن امتناع قيامه باعتبار غيره.
وبيانه: أن كل ما كان من العالم موجودا باقيا، لو عدم:
فإما أن يكون عدمه فى وقت عدمه؛ واجبا لذاته، أو جائزا لذاته.
لا جائز أن يكون واجبا لذاته:
فإنا لو فرضناه موجودا وقت عدمه بدلا من عدمه، لم يعرض عنه لذاته المحال.
وما هذا شأنه لا يكون عدمه واجبا لذاته.
وإن كان جائزا لذاته: فإما أن يفتقر عدمه إلى مقتض للعدم؛ أو لا يفتقر، فإن افتقر إلى مقتض للعدم؛ [فذلك المقتضى: إما أن يكون وجوديا أو عدميا.
وعلى كل تقدير. فالعدم ممتنع؛ لما سبق فى مسألة بقاء العرض.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) راجع ما سبق فى الأصل الرابع: فى حدوث العالم ل 82/ ب وما بعدها.
(3/367)
________________________________________
وإن لم يفتقر إلى مقتض للعدم «1»] فيلزم منه ترجيح أحد الجائزين من غير مرجح؛ وهو ممتنع؛ لما سبق فى مسألة إثبات واجب الوجود «2».
وأيضا: فإنه ثبت بما بيّنّاه فى مسألة حدوث العالم «3» أنّ وجود العالم لا بد وأن يستند إلى علة واجبة الوجود لذاتها غير قابلة للتغير، فلو تغير معلولها؛ للزم تغيرها؛ وهو محال.
وأيضا: فإن كل ما عدم بعد وجوده؛ فلا بد وأن يكون عدمه ممكنا فى حالة عدمه
والإمكان صفة وجودية، ولا بد له من محل يقوم به، ويكون وجوديا؛ وذلك المحل هو الهيولى «4»
فإذن الهيولى أبديّة غير منقطعة
وأيضا: فإن كل ما عدم بعد وجوده:
فإما أن يكون له بعد هو فيه معدوم، أو لا بعد له.
فإن كان الأول: فذلك البعد هو الزمان؛ وتقريره على ما تقدم فى القبل
فإذن الزمان لا يكون منقطعا.
وإن لم يكن بعد؛ فهو أبدى
وأيضا: فإنّا بينا فيما تقدم «5»، امتناع العدم على الأفلاك، وسنبين امتناع العدم على الأنفس الإنسانية «6».
قلنا: أما قولهم: إن الفناء ممتنع باعتبار أمر خارج ممنوع.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود ل 41/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سبق فى الأصل الرابع: فى حدوث العالم. ل 82/ ب وما بعدها.
(4) الهيولى: لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة. وفى الاصطلاح هى جوهر فى الجسم، قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال، محل للصورتين الجسمية والنوعية. (التعريفات للجرجانى ص 287)
(5) راجع ما سبق فى النوع الثالث- الفرع السادس ل 31/ أ.
(6) انظر ما سيأتى فى القاعدة السادسة ل 206/ أ وما بعدها.
(3/368)
________________________________________
قولهم: عدمه إما واجب، أو جائز.
قلنا: بل جائز.
وما ذكروه من الأقسام: فالمختار فى جوابها:
أما فى الأعراض: فهو أن يقال: بانعدامها لذاتها فى الزمن الثانى من وجودها؛ ضرورة استحالة بقائها «11» // كما سبق «1».
وأما فى الجواهر: فالحق فى جوابها لا يخرج عن أحد قولى: القاضى أبى بكر، وقد حققناهما؛ فيما تقدم «2».
كيف: وأن ما ذكروه لازم على الفلاسفة، فى اعترافهم بعدم الجواهر الصورية العنصرية مع بقائهما.
وكذلك فى اعترافهم بعدم الأعراض الباقية. فما هو جوابهم فى هذه الصور؛ هو جوابنا فى محل النزاع.
قولهم: لو تغير/ معلول واجب الوجود؛ للزم تغيّره إنما يلزم ذلك أن لو لم يكن تغير المعلول مستندا إلى القصد، والاختيار، أو إلى عدم خلق الأعراض التى لا بقاء للجواهر إلا بها؛ وليس كذلك. على ما قررناه من مذهبنا «3».
قولهم: إن الإمكان صفة وجودية؛ ممنوع على ما سبق.
[و قولهم: إن البعدية زمان كالقبلية ممنوع. وتقريره ما سبق «4»] فى القبلية، وما ذكروه فى امتناع فناء الأفلاك؛ فقد أبطلناه «5» وسيأتى إبطال ما يذكرونه فى امتناع عدم الأنفس الإنسانية «6».
________________
(11) // أول ل 55/ ب من النسخة ب.
(1) راجع ما سبق فى الأعراض وأحكامها- الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق ل 103/ أ وما بعدها.
(3) راجع ما سبق فى أول الأصل الخامس ل 103/ أ وما بعدها.
(4) ساقط من أ.
(5) راجع ما سبق فى النوع الثالث- الفصل السادس ل 31/ أ.
(6) انظر ما سيأتى فى القاعدة السادسة ل 206/ أ وما بعدها.
(3/369)
________________________________________
وأما الرد على البصريين فى قولهم:
إن فناء الإعراض الباقية بعدم محالها؛ وهى الجواهر فمن جهة أن ذلك مبنى على القول ببقاء الأعراض؛ وقد أبطلناه فيما تقدم «1»
وبتقدير بقاء الأعراض؛ فليس القول بأن عدمها بعدم محالها ضرورة توقفها على وجود محلها، أولى من القول بعدم محالها لعدمها؛ ضرورة استحالة عرو الجواهر عنها كما تقدم؛ ولا مخلص عنه.
وأما طريق الرد على أبى الهذيل فى قوله:
إن طريق فناء الجواهر إنما هو قوله- تعالى- للجوهر افن فما هو طريق الرد على من قال بأن الوجود بقوله كن؛ وقد سبق «2»
وأما الرد على من قال: بأن عدم الجواهر بخلق ضدها: وهو الفناء؛ فهو أن يقال:
أما المذهب الأول: القائل: بأن الله- تعالى- يخلق فى كل جوهر فناء، يقتضي عدمه فى الزمن الثانى من وجوده فلا يخلو. إما أن يقال: بأن ذلك الفناء يكون موجودا حالة عدم الجوهر، أو غير موجود.
الأول: محال؛ لأنه لا وجود له إلا فى الجوهر. والجوهر حالة عدمه غير موجود، ولا يتصور وجود الفناء الّذي لا وجود له إلا فيه مع عدمه.
وأيضا: فإنّه لو كان ضدا للجوهر؛ [الّذي اقتضى عدمه؛ لما تصور قيامه بالجوهر] «3»؛ لاستحالة اجتماع الضدين.
وإن كان غير موجود: لزم منه تأثير العدم فى الوجود؛ وهو محال.
وأما المذهب الثانى القائل:
بأن الفناء المضاد للجوهر قائم لا فى محل. فإما أن يكون جوهرا أو عرضا.
فإن كان جوهرا؛ فيلزم أن يكون باقيا، ويكون مفتقرا فى عدمه إلى فناء آخر؛ وهو تسلسل ممتنع.
________________
(1) راجع ما سبق فى الأصل الثانى: فى الأعراض وأحكامها- الفصل الرابع: فى تجدد الأعراض، واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق ل 103/ أ.
(3) ساقط من «أ».
(3/370)
________________________________________
كيف: وأنه لا قائل بكونه جوهرا.
وإن كان عرضا: فيمتنع قيامه بنفسه، كما تقدم تعريفه.
وإن سلمنا أنه عرض قائم لا فى محل.
ولكن لم قالوا: إن الجواهر لها ضد، فإن العلم بذلك غير ضرورى والنظرى لا بد له من وجود دليل.
وإن سلمنا: أن الجواهر لها ضد؛ ولكن لم قالوا إن الفناء ضد لها؟
فإن قيل: إنما قلنا: بأن الجواهر لها ضد؛ لأنا وجدنا الحوادث منقسمة إلى جواهر وأعراض/ ثم لكل عرض ضد، فليكن للجواهر ضدا.
وإنما قلنا: إن العناصر للجواهر؛ لأن بقاء الجواهر، وعدمها متفق عليه.
ولا طريق إلى عدم الباقى إلا بضد عدمه؛ وذلك هو ما سميناه بالفناء
قلنا: أما الأول: فلا نسلم أن كل عرض له ضد؛ فإن الاعتمادات عندنا، وعند أكثر المعتزلة أعراض، ولا ضد لها.
وبتقدير أن يكون لكل عرض ضد.
فلم قالوا: إنه إذا كان للأعراض أضداد، يلزم أن تكون الجواهر كذلك، وهذه مطالبة، لا مخلص لهم عنها.
كيف: وأنه لو ثبت لكل واحد من قسمى الحوادث، ما ثبت للآخر؛ لأمكن أن يقال:
فيلزم من كون الأعراض منقسمة على أصلهم إلى باق، وغير باق، [انقسام الجواهر إلى باق، وغير باق «1»]؛ وهو محال.
ويلزم من كون الجواهر باقية؛ أن تكون الأعراض كلها باقية؛ ولم يقولوا به.
وأما الثانى: فباطل أيضا.
فإن دعوى الإجماع على بقاء الجواهر، وعدمها مع مخالفة النظام فى بقاء الجواهر، ومخالفة الجاحظ، وابن الراوندى فى عدمها؛ ممتنع.
________________
(1) ساقط من «أ».
(3/371)
________________________________________
وبتقدير التسليم لذلك؛ فلا نسلم أنه لا طريق إلى عدم الجواهر إلا بالفناء؛ على ما عرف من أصلنا.
كيف: وأن القول بأنه لا طريق إلى عدم الجواهر إلا بوجود ضدها؛ باطل بما أسلفناه فى استحالة بقاء الأعراض «1».
وإن سلمنا: إمكان عدم الجواهر بالفناء. ولكن «11» // لا يخلوا: إما أن يكون واحدا كما قاله: أبو هاشم وعبد الجبار، أو متعددا: كما قاله الجبائى.
فإن كان الأول: فما المانع من عدم بعض الجواهر به دون البعض.
فلأن قالوا: لأن الفناء إذا كان قائما لا فى محل، فنسبته إلى جميع الجواهر نسبة واحدة
فإذا اقتضى ذلك عدم البعض منها، اقتضى عدم الباقى؛ ضرورة الاستواء فى النسبة، وعدم الأولوية.
قلنا: فيلزم أن تقولوا: بأن الإرادة الثانية عندكم لا فى محل يجب أن يكون كل موجود مرادا بها؛ ضرورة تساوى نسبتها إلى كل موجود، ومع ذلك قلتم: إنها على صفة توجب اختصاص حكمها بالقديم تعالى دون غيره.
وكل ما يذكرونه فى وجوب الاختصاص بالقديم- تعالى- فقد أبطلناه فى الصفات «2».
وإن كان الثانى: وهو مذهب الجبائى: فكل واحد من آحاد الفناء إذا كان قائما لا فى محل؛ فنسبته إلى جميع الجواهر نسبة واحدة.
وعند ذلك فليس القول:
بجعل كل واحد منها فناء لبعض الجواهر بعينه، أولى من غيره.
________________
(1) راجع ما سبق فى الأصل الثانى- الفرع الرابع: فى تجدد الأعراض واستحالة بقائها ل 44/ ب وما بعدها.
(11) // أول ل 56/ أ من النسخة ب.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- النوع الثانى المسألة الأولى: فى إثبات الصفات ل 54/ ب وما بعدها.
(3/372)
________________________________________
وأما الرد على من قال بأن طريق فناء الجواهر؛ قطع بقائها؛ فمبنى على أن الباقى باق ببقاء وقد/ أبطلناه «1».
والّذي يخص القائل ببقاء قائم لا فى محل: أنه عرض والعرض يستحيل قيامه بنفسه، كما تقدم «2»؛ فالحق وما عليه اختيار الأئمة المحصلين من أصحابنا.
أن فناء الأعراض؛ بذواتها كما سلف «3».
وأما فناء الجواهر:
فإما بإعدام الله- تعالى- لها، أو بعدم خلق الأعراض التى لا عرو للجواهر عنها.
وأما الرد على أبى هاشم: فى قوله بأن طريق معرفة صحة الفناء؛ إنما هو بالسمع فيما أسلفناه فى تحقيق الجواز العقلى
ثم ما ذكره غير صحيح على أصله؛ فإنه إذا كانت الجواهر باقية. ولا طريق فى العقل لعدمها غير الفناء المضاد على أصله؛ وقد بطل ذلك بما حققناه من الأدلة العقلية
وقد تقرر عدمها على أصله عقلا وما هذا شأنه؛ فيمتنع التمسك بالسمع على خلافه؛ بل إنما يتصور التمسك بالسمع فى ذلك على أصولنا حيث أنّا قضينا بإمكان ذلك عقلا.
وإذا ثبت جواز فناء العالم، وأجزائه عقلا؛ فالوقوع غير لازم من الجواز العقلى، ولا دليل العقل يدل عليه.
وهل للسمع دلالة عليه؟
اختلفوا فيه:
وقد احتج القائل به: بالنص والإجماع.
أما النص:
فقوله- تعالى- كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «4» وقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «5» وقوله هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ «6»
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 211/ ب وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الأصل الثانى- الفرع الثانى: فى استحالة قيام العرض بنفسه ل 41/ ب.
(3) راجع ما سبق فى الفرع الرابع ل 44/ ب وما بعدها.
(4) سورة الرحمن 55/ 26.
(5) سورة القصص 28/ 88.
(6) سورة الحديد 57/ 3.
(3/373)
________________________________________
وكونه أولا بمعنى: أنه كان، ولا كائن؛ فليكن معنى الآخر: بقاؤه مع عدم كل موجود سواه.
وقوله- تعالى-: وهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «1» الضمير فى يعيده عائد إلى الخلق، والإعادة تستدعى سابقة الفناء
وقوله- تعالى- كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «2» قضى بأن الإعادة كابتداء الخلق، وابتداء الخلق بالوجود بعد العدم فالإعادة يجب أن تكون كذلك؛ ضرورة التسوية؛ وذلك يستدعى سابقة العدم.
وأما الإجماع:
فهو أن الأمة فى كل عصر من الخلف السلف مجمعة على أن كل مخلوق سيعدم.
اعترض النافي لذلك بأن قال: أما قوله- تعالى- كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «3» فقد قال المفسرون: المراد به أن كل حي ميت؛ ولا يلزم من ذلك فناء الجواهر وعدمها فى نفسها.
وإن سلمنا: دلالة الآية على الفناء والعدم؛ لكن على فناء كل شيء، أو ما على الأرض.
الأول: ممنوع. والثانى مسلّم.
فلا تكون الآية وافية بالدلالة على فناء كل موجود سوى الله- تعالى-
بل لو قيل: إنها تدل على بقاء الأرض، وبقاء كل ما ليس على الأرض:
كالأفلاك، وغيرها نظرا إلى فائدة التخصيص بالذكر؛ لكان متجها.
وأما قوله- تعالى- كُلُّ/ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «4» فقد قال أهل التفسير أيضا.
المراد به: أن كل حي ميت. إلا وجهه: أى نفسه: فإنه حي دائم لا يموت.
والهلاك: قد يطلق بمعنى: الموت. ومنه يقال للميت هالك والأصل فى الإطلاق الحقيقة.
وعلى هذا: فلا دلالة للآية على عدم الجواهر، وفنائها
________________
(1) سورة الروم 30/ 27.
(2) سورة الأنبياء 21/ 104.
(3) سورة الرحمن 55/ 26.
(4) سورة القصص 28/ 88.
(3/374)
________________________________________
وإن سلمنا: امتناع حمل الهلاك على الموت، غير أنه أمكن أن يكون المراد به خروج كل شيء عن الانتفاع المخصوص به وذلك يتصور بانفكاك التركيب والتأليف
ومنه يقال: هلك فلان، وهلك كذا: إذا تفرقت أجزاؤه وتأليفه
وإن لم تنعدم أجزاؤه؛ والأصل فى الاطلاق الحقيقة.
وإن سلمنا: أن المراد بالهلاك: العدم؛ ولكن إنما يلزم من ذلك عدم كل شيء أن لو كان قوله: كل شيء للعموم؛ وليس كذلك على ما عرف من أصلنا
بل حمل مثل ذلك على العموم. إنما يكون بالقرائن؛ ولا نسلم وجودها «11» // وبتقدير القرينة: فالتعميم أيضا ممتنع؛ وإلا لزم من ذلك: فناء الجنة، وأهلها، وثواب المؤمنين وعقاب الكافرين؛ وهو خلاف قاعدة الدين، ومذهب المسلمين.
وأما قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ «1» فغايته الدلالة على كونه آخرا: وهو مطلق.
وقد أمكن العمل به فى كونه آخر الأحياء؛ فلا يبقى حجة فيما عداه.
ولو لا قيام الدليل العقلى على حدوث كل موجود سوى الله- تعالى- لما كان قوله:
هو الأول: محمولا على السبق بالوجود؛ أولى من غيره وقوله- تعالى- وهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «2» فالضمير وإن كان عائدا إلى الخلق، غير أن الخلق قد يطلق بمعنى:
الإيجاد بعد العدم وقد يطلق بمعنى: الإحياء، وتأليف الأجزاء بعد التفرق.
ومنه قوله- تعالى- خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «3» وقوله- تعالى- وبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ «4» وليس المراد به غير الاحياء، وتأليف الأجزاء.
وعند ذلك: فليس عود الضمير إلى الخلق بمعنى الإيجاد؛ أولى من عوده إليه بالمعنى الآخر.
وعلى هذا: فلا تكون الآية دالة على سابقة العدم.
________________
(11) // أول ل 56/ ب من النسخة ب.
(1) سورة الحديد 57/ 3.
(2) سورة الروم 30/ 27.
(3) سورة فاطر 35/ 11.
(4) سورة السجدة 32/ 7.
(3/375)
________________________________________
وعلى هذا: يخرج الجواب عن الآية الأخيرة أيضا.
وأما الإجماع: على أن كل مخلوق سينعدم، فغير مسلم؛ بل المسلم الإجماع على أن كل حي ميت، وأن كل مجتمع مفترق.
ثم وإن سلّم دلالة ما قيل على عدم كل موجود مخلوق؛ فهو معارض بما روى عنه- صلّى اللّه عليه وسلم- أنه قال: حكاية عن ربه- تعالى- أنه إذا أراد حشر الخلائق، ونشرهم قال: «أيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة تجمعى»
والاجتماع يستدعى سابقة التفرق. والاجتماع،/ والتفرق إنما هو من صفات الموجودات؛ لا من صفات المعدومات
وإذ أتينا على بيان الموجود، وأقسامه، وأحكامه؛ فلنسرع فى بيان المعدوم وأحكامه
(3/376)
________________________________________
الباب الثانى فى المعدوم، وأحكامه ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول «1»: فى انقسام المعدوم إلى واجب، وممكن.
الفصل الثانى: فى أن المعدوم هل هو معلوم، أم لا؟.
الفصل الثالث: فى تحقيق معنى الشيء، واختلاف الناس فيه.
الفصل الرابع: فى أن المعدوم هل هو شيء وذاته ثابتة فى حالة العدم، أم لا؟
________________
(1) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أ ب ج للدلالة على ترتيب الفصول.
وقد حدثت اختلافات فى النسخة «أ» وما اعتمدته هنا نقلته من عناوين الفصول.
(3/377)
________________________________________
الفصل الأول فى انقسام المعدوم إلى واجب، وممكن «1».
والمعدوم: إما أن يكون بحيث لو فرض موجودا؛ عرض عنه المحال لذاته، أو لا يكون كذلك.
فالأول: هو الممتنع الوجود؛ الضرورى العدم:
وهو كالجمع بين الضدين؛ وبين النفى، والإثبات من جهة واحدة وككون الجوهر الواحد فى مكانين فى آن واحد، ونحو ذلك.
والثانى: هو المعدوم الممكن: وذلك كالعالم قبل حدوثه وكالأشياء المعدومة فى وقتنا هذا، مما يتوقع وجوده فى التالى من المحال من الكائنات، والأمور المتجددات كالحركات، والسكنات، وأصناف الشرور والخيرات.
وربما ذهب بعض الجهال، ومن لا يؤبه له، إلى المنع من هذه القسمة. وزعم أن كل معدوم ممكن، ومتصور الوقوع فى نفسه؛ تمسكا منه بشبه لا حاصل لها منها:
أن الجمع بين الضدين، والنفى، والإثبات وكون الواحد أكثر من الاثنين، وكون الجسم الواحد فى آن واحد فى مكانين إلى غير ذلك، مما حكم باحالة وقوعه، وامتناع وجوده لذاته.
إما أن يكون معقولا، ومتصورا فى النفس، أو لا يكون كذلك. فإن لم يكن معقولا، ولا متصورا فى النفس.
فلا يخفى أن الحكم بنفى ما ليس بمعقول متعذر كالحكم بوجوده. وإن كان معقولا ومتصورا فى النفس؛ فهو ممكن فى نفسه. وإلا كان تصوره وتعقله جهلا، على خلاف ما هو عليه.
________________
(1) الواجب عبارة عما يلزم من فرض عدمه المحال؛ فإن كان لذاته: فهو الواجب لذاته، وإن كان لغيره: فهو الواجب باعتبار غيره.
وأما الممكن: فى الاصطلاح: فهو عبارة عما لو فرض موجودا أو معدوما: لم يلزم عنه- لذاته- محال، ولا يتم ترجيح أحد الأمرين له إلا بمرجح من خارج.
وفى المصطلح العامى: عبارة عما ليس بممتنع الوجود؛ وهو أعم من الواجب لذاته، والممكن لذاته [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء، والمتكلمين ص 79، 80 لسيف الدين الآمدي. ت الدكتور حسن الشافعى].
(3/379)
________________________________________
ومنها: أن حكم العقل بإحالة الجمع بين الضدين والنفى والإثبات قضية تصديقية.
والحكم بالقضايا التصديقية؛ حكم يثبت بين مفردات، فيستدعى ذلك تصور المفردات؛ وإلا كان حكم العقل بالنسبة من مفردين غير متصورين خطأ.
وأحد تصورات القضايا المذكورة الجمع بين الضدين، والجمع بين النفى والإثبات فكون [الواحد أكثر من الاثنين] «1» متصورا فى نفسه. وخرج عن كونه ممتنعا لذاته.
وجوابه من وجهين: إجمالا، وتفصيلا:
أما الإجمال: فهو أن هذا قدح فى البديهيات؛ فلا يكون مقبولا. وأما التفصيل:
ويعم الشبهتين.
/ فإن حاصلهما يرجع إلى حرف واحد، وهو القول بلزوم تصور ما بقى من الجمع بين الضدين، والنفى والإثبات، والكون فى مكانين فى آن واحد وكون الواحد أكثر من الاثنين إلى غير ذلك؛ وهو أن نقول: المقضى بنفيه من الجمع بين الضدين، والنفى والإثبات؛ هو الجمع المتصور بين المختلفات التى لا تضاد بينها «11» // ولا تقابل: كالسواد مع الحلاوة وكذلك المنفى عن المكانين: إنما هو الكون الممكن المتصور بالنسبة إلى المكان الواحد. وكذلك الكثرة المنفية عن الواحد بالنسبة إلى الاثنين: إنما هى الكثرة الممكنة ككثرة الاثنين، وما زاد عليهما بالنسبة إلى الواحد.
فلم يكن ما قضينا بإحالة وجوده فى الصور المفروضة غير متصور، ولا معقول.
وعلى هذا: فلا يخفى الكلام فى كل ما يرد من هذا القبيل.
________________
(1) ساقط من «أ».
(11) // أول ل 57/ أ من النسخة ب.
(3/380)
________________________________________
الفصل الثانى فى أن المعدوم هل هو معلوم، أم لا «1»؟
اتفق أكثر العقلاء على أن المعدوم معلوم خلافا لبعض شذوذ المبتدعة فى قوله: إن المعدوم غير معلوم.
وفصل أبو هاشم، ومتبعوه بين المعدوم الممكن، والمستحيل. فقال: المعدوم الممكن: معلوم. والمعدوم المستحيل: ليس بمعلوم؛ مع اعترافه بتعلق العلم به.
وزعم أن العلم المتعلق بالمستحيل؛ علم لا معلوم له.
وقد احتج المثبتون بأن قالوا: المعدوم: إما أن يقال بجواز تعلق العلم به. أو لا يقال بجوازه. لا جائز أن يقال بالثانى لوجوه ثلاثة:
الأول: أنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بأن النفى والإثبات لا يجتمعان فى شيء واحد من جهة واحدة.
ولو لم يكن العلم متعلقا بكل واحد من المفردين؛ لاستحال القضاء بالنسبة التصديقية بينهما. وأحد المفردين النفى؛ فكان العلم متعلقا به.
الثانى: أنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بأنه ليس بين أيدينا جبل شاهق، ولا بحر زاخر، وأن الشمس فى الليل غير طالعة، وأنه لا ألم لنا ولا جوع، ولا غم، ولا عناء، إلى غير ذلك بتقدير عدم كل واحد منها؛ وذلك مع عدم تعلق العلم به محال.
الثالث: هو أنه قبل حدوث الحادث: إما أن يقال بأن الله- تعالى- لم يكن عالما بعدمه قبل حدوثه، أو يقال إنه كان عالما به.
لا جائز أن يقال بالأول: إذ هو كفر صراح.
وإن قيل بالثانى: فهو المطلوب.
وإن قيل بتعلق العلم بالمعدوم: فإما أن يقال: بأن المعدوم من جهة ما تعلق به العلم غير معلوم: كما قاله أبو هاشم فى المعدوم المستحيل الوجود، أو أنه معلوم.
________________
(1) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 137 وما بعدها.
والمواقف للإيجي ص 53 وشرحها للجرجانى 2/ 184 وما بعدها.
وشرح المقاصد للتفتازانى 1/ 192 وما بعدها.
(3/381)
________________________________________
لا جائز أن يقال بالأول: فإنه لا معنى لكون المعلوم معلوما؛ غير تعلق العلم به.
فالقول بكونه غير معلوم مع الاعتراف بتعلق العلم به موافقة على/ المعنى، ونزاع فى العبارة؛ ولا حاصل له.
فلم يبق إلا أن يكون معلوما؛ وهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه وإن دل على كون المعدوم معلوما؛ فهو معارض بما يدل على أنه غير معلوم؛ وهو أنه غير معلوم.
وهو أنه لو كان المعدوم معلوما: فإما أن يكون متميزا فى التعقل عن الموجود، أو لا يكون متميزا عنه.
فإن كان الأول: فالتمييز صفة ثبوتية؛ لأن نقيض التمييز لا تمييز ولا تمييز عدم؛ فالتمييز ثبوت؛ ويلزم من ذلك أن يكون المعدوم ثبوتيا؛ ضرورة اتصافه بالصفة الثبوتية؛ وكون المعدوم ثبوتيا محال كما يأتى.
وإن كان الثانى: فهو غير معلوم.
قلنا: المعدوم متميز عن الموجود فى نفس الأمر سواء كان معلوما، أو لم يكن معلوما.
ويدل عليه: أنه لو لم يكن متميزا عنه فى نفس الأمر؛ للزم أن من علم بالوجود، أن يكون عالما بالعدم؛ ضرورة عدم التمايز بينهما؛ وهو محال.
قولهم:
التمييز صفة ثبوتية، لا نسلم ذلك بل تمييز المعلوم عن غيره تارة يكون بأمر عدمى، وتارة بأمر ثبوتى.
وعلى هذا: فالتمييز إن كان وجوديا؛ كان سلبه عدميا، وإن كان بأمر عدمى: كان سلبه ثبوتيا؛ لأن سلب السلب إثبات.
(3/382)
________________________________________
الفصل الثالث فى تحقيق معنى الشيء، واختلاف الناس فيه «1»
مذهب أهل الحق من الأشاعرة:
أن لفظ الشيء: عبارة عن الموجود لا غير؛ فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء. ووافقهم على ذلك الكعبى من المعتزلة.
وذهب الجاحظ والبصريون من المعتزلة:
إلى أن الشيء هو المعلوم والتزموا على ذلك كون المعدوم الممكن شيئا وحقيقة.
وذهب أبو العباس الناشئ «2».
إلى أن الشيء هو القديم. وإن اطلق اسم الشيء على الحادث؛ فلا يكون حقيقة؛ بل تجوّزا.
وذهبت الجهمية: إلى أن الشيء: هو الحادث، دون القديم.
وذهب هشام بن الحكم: إلى أن الشيء: هو الجسم ولا شيء فى الحقيقة سواه.
وذهب أبو الحسين البصرى، والنصيبى «3» من معتزلة البصريين:
إلى أن الشيء حقيقة فى الموجود مجاز فى المعدوم الممكن.
واعلم أن النزاع هاهنا نفيا، وإثباتا؛ إنما هو فى الإطلاق اللفظى دون المعنى.
وعلى هذا: فما كان على وفق اللغة واللغة شاهدة له؛ فهو الحق.
وما «4» كان على «4» خلاف اللغة: فمردود ولا مجال للعقل فى إثبات اللغات.
وعند هذا: فلا بد من تحقيق مذهب أهل الحق أولا، والانعطاف على إبطال مذهب الخصوم ثانيا.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى المواقف للإيجي ص 53 - 57 وشرح المواقف للجرجانى 2/ 189 - 219 فقد استفاد المؤلف والشارح من الآمدي، ووضحا أقواله بشرحها والتعليق عليها.
(2) أبو العباس الناشئ: هو على بن عبد الله بن وصيف البغدادى المعروف بالناشئ الأصغر. متكلم شاعر. له تصانيف منها كتاب فى الإمامة وشعر مدون فى أهل البيت توفى ببغداد سنة 366 ه [روضات الجنات للخوانسارى ص 480، معجم المؤلفين 7/ 142].
(3) النصيبى: هو أبو إسحاق النصيبى. من معتزلة البصرة (انظر عنه الوافى بالوفيات 3/ 7).
(4) (و ما كان على) ساقط من ب.
(3/383)
________________________________________
فنقول: أما إطلاق لفظ الشيء/ بإزاء الموجود «11» // فعلى وفق اللغة واصطلاح «1» أهل اللسان «1» وسواء كان الموجود قديما، أو حادثا.
ولهذا فإنا وجدنا اصطلاح أهل اللسان فى كل عصر وأوان، متناطقين بلفظ الشيء بإزاء الموجود.
وأنه لو قال قائل الموجود شيء لم ينكر عليه منكر من أهل اللغة والأصل فى الإطلاق الحقيقة. ثم لو كان ذلك مجازا لصح نفيه
ونسلم أنه لو قال القائل: الموجود ليس بشيء لبادر إلى الإنكار عليه كل من شد طرفا من العربية، وكان عارفا باصطلاح أهل اللسان حتى العوام.
ومن لم يتوغل فى العربية. توغل الأئمة من أهل اللغة من غير فرق بين أن يكون الموجود قديما، أو حادثا، أو جسما، أو عرضا؛ فمن ادعى الفرق بين القديم والحادث، أو الجسم والعرض حتى أنه جعل ذلك حقيقة فى البعض، دون البعض مع تحقق الوجود فى الكل؛ فلا بد له من دليل نقلى عن أهل الوضع، أو الشرع يدل على التفرقة، لتعذر استفادة ذلك من العقل، ولا سبيل إليه.
ويخص القائل: بأن الشيء هو الجسم: صحة إطلاق الشيء على ما ليس بجسم، ويدل عليه قوله- تعالى- لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا «2» وأراد به ادعاؤهم لله- تعالى- ولدا.
وقوله- تعالى- وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ «3» وأراد به تبديلهم وتحريفهم.
وأما من زعم أن الشيء هو المعلوم: فيلزمه تسمية المعدوم المستحيل الوجود شيئا؛ ضرورة كونه معلوما؛ على ما تقرر فى الفصل المتقدم «4».
ومن أطلق اسم الشيء على المعدوم حقيقة، أو تجوزا فلا بد له من مستند.
والمستند فى ذلك إنما هو النقل دون العقل على ما تقدم. والأصل عدمه؛ فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه.
________________
(11) // أول ل 57/ ب.
(1) (و اصطلاح أهل اللسان) ساقط من ب.
(2) سورة مريم 19/ 89.
(3) سورة القمر 54/ 52.
(4) راجع ما سبق ل 107/ أ.
(3/384)
________________________________________
كيف: وأنه على خلاف المألوف المعروف من أهل اللغة فى قولهم: المعلوم:
ينقسم إلى شيء، وإلى ما ليس بشيء.
ولو استوى الموجود والمعدوم فى إطلاق لفظ الشيء؛ لما صحت هذه القسمة؛ لاستحالة وجود واسطة بين الموجود والمعدوم على ما يأتى فى إبطال الأحوال «1».
ولا يمكن أن يقال: إنما صحت القسمة بالنظر إلى المعدوم المستحيل الوجود «2»؛ فإنه ليس بشيء بالاتفاق.
وعند هذا: فلا يمتنع إطلاق لفظ الشيء على الموجود والمعدوم الممكن، وما ليس بشيء على المعدوم المستحيل الوجود «2».
لأن المعدوم الممكن إن قيل إنه شيء فى نفس الأمر حقيقة؛ فسيأتى إبطاله عن قرب «3». وإن/ قيل بتسميته شيئا تجوزا واستعارة، مع كونه ليس شيئا حقيقة؛ فالأصل عدم التجوز والإطلاق إلا أن يدل الدليل عليه، والأصل عدمه؛ فعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: دليل صحة إطلاق اسم الشيء على المعدوم الممكن قوله- تعالى- إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ «4» وقوله- تعالى- ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «5» سمى زلزلة الساعة والفعل قبل وقوعهما شيئا.
وذلك لا يخرج عن الحقيقة أو التجوز.
قلنا: أما تسمية زلزلة الساعة شيئا: إنما كان بتقدير وقوعها؛ وهذا على رأى من لا يعترف من البصريين بكون الحركة ثابتة فى العدم أولى من جهة أن الزلزلة حركة على ما لا يخفى.
ومعنى قوله- تعالى- ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «6» أى فاعل غدا شيئا.
________________
(1) انظر ما سيأتى من الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال. ل 114/ أ وما بعدها.
(2) من أول قوله: (فإنه ليس بشيء بالاتفاق ... وما ليس بشيء على المعدوم المستحيل الوجود) مكرر فى النسخة «أ».
(3) انظر ما سيأتى ل 108/ ب وما بعدها.
(4) سورة الحج 22/ 1.
(5) سورة الكهف 18/ 23.
(6) سورة الكهف 18/ 23.
(3/385)
________________________________________
ثم هذه الظواهر معارضة بما يدل على أن المعدوم ليس بشيء وهو قوله تعالى وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً «1» وقوله تعالى واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» فإنه يدل على أن المعدوم ليس بشيء؛ لأنه لو كان شيئا؛ لكان الرب تعالى قادرا عليه.
وشيئية المعدوم عندهم غير مقدورة؛ بل واجبة لازمة لنفس المعدوم وذاته أيضا.
فإن شيئية المعدوم: إما أن تكون حادثة، أو قديمة.
لا جائز أن تكون حادثة: فإنه معدوم قبل حدوث شيئيته، وأحوال المعدوم متشابهة.
فالقول بكونه شيئا فى بعض أحواله دون البعض؛ تحكم لا حاصل له.
كيف: وأن ذلك خلاف أصلهم. وإن كانت شيئيته قديمة؛ فالقديم ليس بمقدور؛ على ما تقدم ذكره.
ولا يخفى ما فيه من ترك العمل بالظاهر، وليس العمل بأحد الظاهرين أولى من الآخر.
________________
(1) سورة مريم 19/ 9.
(2) سورة المائدة 5/ جزء من الآيات 17، 19، 40.
(3/386)
________________________________________
الفصل الرابع فى أن المعدوم هل هو شيء وذات ثابتة فى العدم، أم لا؟ «1»
وإذ بينا انقسام المعدوم إلى ممتنع الوجود لذاته، وممكن الوجود لذاته.
فقد اتفق العقلاء قاطبة: على أن المعدوم الممتنع ليس بشيء فى نفسه، ولا يطلق عليه الشيء لفظا.
وأما المعدوم الممكن: فقد اختلفوا فيه:
[الآراء المختلفة]
فذهب أهل الحق من الأشاعرة: إلى أنه ليس بشيء فى ذاته، ولا له حقيقة ثابتة حالة عدمه، كما فى المعدوم الممتنع الوجود.
وأنه لا حقيقة له وراء وجوده؛ بل وجوده ذاته «11» // وذاته وجوده ووافقهم على ذلك جماعة من المعتزلة، كالنصيبى «2» من البصريين. والكعبى، ومتبعوه من البغداديين.
وأبى الحسين البصرى، وغيرهم.
وذهب/ جماعة من البصريين: كالجبائى، وابنه، والشحام «3»، وأتباعهم إلى أن المعدوم الممكن فى حالة عدمه شيء، وذات ثابتة وحقيقة مقررة، وأنه موصوف بخصائص النفس: ككونه جوهرا وعرضا وسوادا وبياضا، أو لونا، أو طعما، أو رائحة، إلى غير ذلك من خصائص الأجناس: كوصفه بها حالة الوجود.
ثم اختلف هؤلاء:
فذهب الجبائى، وابنه وجماعة منهم: إلى أنه لا يوصف المعدوم فى حالة عدمه إن كان جوهرا بقبوله للأعراض ولا بالتحيز، ولا بقيامه بالجوهر إن كان عرضا.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا:
انظر الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص 124 - 139 فقد تحدث عن هذا بالتفصيل وأيد المذهب الحق، وهو مذهب الأشاعرة ومن وافقهم ورد على مخالفيهم بالتفصيل. ومن المتأثرين بالآمدي انظر من كتبهم:
المواقف لعضد الدين الإيجى ص 53 - 57 وشرح المواقف للشريف الجرجانى 2/ 189 - 219 وشرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى 1/ 68 وما بعدها.
(11) // أول ل 58/ أ.
(2) النصيبى: هو أبو إسحاق النصيبى. من معتزلة البصرة (انظر عنه ما سبق فى هامش ل 107/ ب).
(3) الشحام: هو أبو يعقوب يوسف بن عبد الله إسحاق الشحام، من أصحاب أبى الهذيل العلاف، انتهت إليه رئاسة المعتزلة فى البلدة فى وقته (طبقات المعتزلة ص 72).
(3/387)
________________________________________
ومنهم من أثبت الكون فى العدم، ولم يصفه بكونه حركة.
وذهب الشحام، ومتبعوه إلى أن الجواهر فى العدم قابلة للأعراض، وأن الأعراض قائمة بالجواهر فى الأكوان.
وزعم أن الجواهر فى العدم مجتمعة، ومتركبة على هيآتها وصفاتها؛ وهى موجودة «1».
وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل؛ فلا بد من تقرير مسالك أهل الحق أولا، وتتبع ما فيها، وما هو المختار منها، والانفصال عن شبه الخصوم ثانيا.
وقد تمسك الأصحاب بمسالك ضعيفة:
[المسلك] الأول:
أنه لو كانت الذوات ثابتة فى العدم؛ فذات الجوهر أو السواد مثلا: إذا قطعنا النظر عن جميع الأسباب الخارجة؛ فلا بد وأن تكون متحدة، أو متكثرة. وأى الأمرين قدر فهو ثابت لها لذاتها؛ والوحدة والكثرة عليها محال.
وهذه المحالات: إنما لزمت من فرض الذوات ثابتة فى العدم؛ فلا ثبوت لها فيه.
وبيان امتناع كل واحد من الأمرين:
أما أنها لا تكون متحدة لذاتها؛ [لأنها لو كانت متحدة لذاتها] «2»؛ لما تصور عليها التكثر فى حالة الوجود.
لأن ما ثبت للذات: إما أن يكون لازما للذات، أو غير لازم لها.
فإن كان لازما لها: امتنع بقاء الملزوم مع انتفاء لازمه.
وإن لم يكن لازما للذات: كانت الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها، وذلك هو الطريق المعروف للمحسوسات، فلو جاز ذلك فى المعدوم؛ لأمكن أن يكون ما نشاهده فى تبدل الصفات عليه من الأجسام المحسوسة معدوما؛ وهو محال.
وأما أنها لا تكون متكثرة فى حالة العدم؛ فمن وجهين:
________________
(1) أول من أحدث هذا القول الشحّام، ثم تابعه معتزلة البصرة (الشامل لإمام الحرمين ص 124).
(2) ساقط من «أ».
(3/388)
________________________________________
الأول: أنها لو كانت متكثرة: فإما أن تكون متمايزة، أو غير متمايزة، ولا جائز أن يقال: إنها لا تكون متمايزة؛ وإلا لما وقع الفرق بين الواحد والكثير.
وإن كانت متمايزة:/ فلا بد من أمر يقع به التمايز بينهما؛ وهو إما أن يكون من لوازم الذوات، أو غير لازم.
فإن كان الأول: فلا امتياز؛ لأن ما كان لازما للذات؛ يجب أن يكون لازما لكل فرد منها؛ ضرورة تحقق ملزومه.
وإن كان الثانى: استدعى مخصصا يخصص كل واحد من الأفراد بما يتميز به عن غيره
ولا يتصور أن يخصصه المخصص بذلك المميز دون تميزه فى نفسه فلو توقف تميزه على ذلك الوصف؛ لكان دورا ممتنعا.
ولأنه يلزم أن تكون الذات المعدومة موردا لتعاقب الصفات عليها؛ وهو محال؛ لما تقدم «1».
الوجه الثانى: فى بيان امتناع التكثر
أنها لو كانت الذوات متكثرة فى حالة العدم لم يخل: إما أن تكون متناهية، أو غير متناهية.
لا جائز أن يقال بالأول: ضرورة الاتفاق على أن الجائزات غير متناهية.
وعند ذلك: فليس القول بثبوت بعضها، دون بعض؛ أولى من العكس. وإذا كانت غير متناهية: فعددها قبل خروج شيء منها إلى الوجود يكون أكثر مما بقى منها بعد ما خرج منها إلى الوجود؛ وإلا كان الشيء مع غيره: كهو لا مع غيره؛ وهو محال.
وما خرج منها إلى الوجود؛ فمتناه؛ فالتفاوت بين الجملتين المعدومتين بأمر متناه؛ فكل واحد من الجملتين متناهية؛ على ما سبق تقريره فى إثبات واجب الوجود «2».
ولقائل أن يقول: ما المانع من أن تكون متحدة فى حالة العدم، والقول: بأن ذلك إما أن يكون ذلك لازما للذات، أو غير لازم لها.
________________
(1) راجع ما سبق ل 107/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود ل 41/ أ وما بعدها.
(3/389)
________________________________________
فنقول: ما المانع أن يكون لازما لها مشروطا بالعدم. وعند ذلك: فلا يلزم من نفيه عند فوات الشرط، وهو العدم فوات الذات، ولا أن تكون الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها.
وإن سلم كون الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها؛ فما المانع منه؟
والقول بأن ذلك هو الطريق المعرف للوجود دعوى مجردة، وليس ذلك من الضروريات والنظرى؛ فلا بد له من دليل، ولا دليل عليه غير السبر والتقسيم؛ وهو غير مفيد لليقين «1»
وإن سلم «11» // امتناع الاتحاد؛ فما المانع من التكثر؟ وما ذكر فى الوجه الأول؛ فهو بعينه لازم فى الذوات الموجودة مع تكثرها وكل ما هو جواب فى الذوات الموجودة فهو جواب فى الذوات الثابتة فى العدم؛ ولا مخلص منه.
والقول: بأنه يلزم أن تكون الذوات حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها؛ وهو محال؛ فقد أبطلناه فيما تقدم «2»
وما ذكر من الوجه الثانى: فقد أبطلناه فيما/ تقدم أيضا فى ما سبق إثبات واجب الوجود «3».
المسلك الثانى:
أنه لو كانت الذوات متحققة، ومتقررة خارج الذهن فى حالة العدم؛ لكانت موجودة فى حالة العدم.
ومحال أن يكون العدم موجودا. ولأنه يلزم منه القول بعدم وجود العالم؛ وهو محال على ما سبق «4»
وبيان الملازمة: أنه لو كانت الماهيات متقررة حالة العدم، فتقررها وتحققها زائد على ماهيتها.
ولهذا فإنا لو قلنا: السواد كان مفهومه تصورا.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة ل 39/ أ.
(11) // أول ل 58/ ب من النسخة ب.
(2) راجع ما سبق ل 107/ أ.
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 41/ أ وما بعدها.
(4) راجع ما سبق ل 107/ ب.
(3/390)
________________________________________
وإذا قلنا: السواد متحقق ومتقرر: كان مفهومه تصديقا. ولا يخفى الافتراق بين المفهومين.
ولو لا أن المفهوم من تقرر الذات يزيد على المفهوم من نفس الذات؛ لما حصل هذا الفرق
وإذا كان تقرر الذات، وتحققها خارج الذهن زائدا على الذات؛ فلا معنى للوجود إلا هذا.
ولهذا: فإنا إذا رأينا جسما، أو عرضا؛ علمنا وجوده علما ضروريا وما علمناه منه؛ لا يزيد على حصوله وثبوته.
ولو كان وجود ما أثبتوه من الصفة الزائدة الحالية؛ لم يكن تصورها والتصديق بنسبتها إلى الذات ضروريا؛ بل مكتسبا وهو محال.
وهذا المسلك ضعيف أيضا.
إذ لقائل أن يقول: لا نسلم أن تقرر الذات وتحققها فى العدم يزيد على نفس الذوات.
وما ذكرتموه من الفرق بين التصور، والتصديق «1» فى قولنا: السواد والسواد ثابت:
إنما هو بحسب اللفظ؛ دون المعنى.
وإن سلمنا جدلا مع الإحالة: أن ثبوت الذات زائد على نفس الذات؛ فلا نسلم أن الثبوت هو الوجود؛ بل الثبوت أعم من الوجود؛ فكل وجود ثبوت؛ وليس كل ثبوت وجودا.
قولكم: بأن المدرك بالضرورة من الأجسام، والألوان الموجودة؛ إنما هو ثبوتها، وحصولها.
لا نسلم ذلك؛ بل المدرك بالضرورة إنما هو الوجود.
________________
(1) أما التصور: فعبارة عن حصول صورة مفردة ما فى العقل: كالجوهر والعرض، ونحوه.
وأما التصديق: فعبارة عن حكم العقل بنسبة بين مفردين إيجابا أو سلبا، على وجه يكون مفيدا: كالحكم بحدوث العالم ووجود الصانع، ونحوه. [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص 69].
(3/391)
________________________________________
قولكم: لو كان كذلك لكان تصور الوجود والتصديق بنسبته كسبيا.
لا نسلم ذلك، فإن تصور الوجود والحكم على الذات بكونها موجودة؛ ليس كسبيا؛ بل الكسبى كون الوجود زائدا على الذات، أو غير زائد عليها؛ ولا منافاة بين الأمرين.
المسلك الثالث:
أن الذوات الثابتة فى العدم ممكنة لذواتها، وكل ممكن محدث فالماهيات المفروضة محدثة مسبوقة بالعدم الصرف؛ وهو المطلوب.
وبيان أنها ممكنة لذواتها: هو أنها لو لم تكن ممكنة؛ لكانت واجبة التقرر لذواتها فى الخارج وممتنعة الزوال، ولو كانت كذلك؛ لكانت واجبة الوجود، إذ لا معنى لواجب الوجود إلا ما كان تقرره/ واجبا لذاته؛ فيلزم التعدد فى واجب الوجود؛ وهو محال على ما سبق «1». فلم يبق إلا أن تكون ممكنة.
وأما أن كل ممكن محدث: فعلى ما تقرر فى حدوث العالم؛ وهو فاسد أيضا؛ فإن لقائل أن يقول: لا نسلم أن الذوات ممكنة الثبوت فى حالة العدم؛ بل هى واجبة الثبوت لنفسها، وذاتها.
ولا يلزم من ذلك أن تكون واجبة الوجود لذاتها إلا أن نبين أن المفهوم من الثبوت هو نفس المفهوم من الوجود. وإلا فعلى تقدير أن يكون المفهوم من الثبوت أعم من الوجود كما يقوله الخصم؛ فلا.
فإنه لا يلزم من الأعم الأخص ومجرد الدعوى فى ذلك غير كافية.
وإن سلمنا جدلا- مع الاستحالة- وجوب وجودها فلا نسلم امتناع وجود واجبين.
وما قيل فى ذلك فقد أبطلناه فيما تقدم «2».
المسلك الرابع:
أنه لو كانت ذات الجوهر ثابتة فى العدم لكانت متحيزة، وتحيز المعدوم محال «3».
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول ل 41/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى المصدر السابق.
(3) راجع ما سبق ل 3/ أ وما بعدها.
(3/392)
________________________________________
وبيان الملازمة:
أنه لو لم تكن ذات الجوهر فى العدم متحيزة؛ لكان التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر، وحالة فيها، [بتقدير الوجود] «1»؛ وذلك محال. لأن المختص بالجهة الحجمية، وذات الجوهر غير مختصة بالجهة؛ وحلول ما يكون مختصا بالجهة فيما لا يكون مختصا بالجهة محال. وأما أن تحيز المعدوم محال: فمعلوم بالضرورة؛ وهو أيضا من النمط الأول.
إذ لقائل أن يقول: لا نسلم لزوم التحيز لذات الجوهر فى حالة العدم.
وقولكم: لو لم تكن كذلك؛ لكان «11» // التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر مسلم ولكن ما المانع منه؟
قولكم: بأن الحجمية مختصة بالجهة لا نسلم ذلك؛ بل المختص بالجهة بتقدير الوجود: إنما هو ذات الجوهر مشروطا بالوجود ومع عدم الوجود؛ فلا تحيز لفوات شرط التحيز.
وعلى هذا: فلا يلزم منه حلول المختص بالجهة فيما لا اختصاص له بالجهة؛ ولا مخلص منه.
المسلك الخامس:
هو أن القول: بكون الذوات ثابتة فى العدم، يلزم منه كون المنفى ثابتا وهو محال؛ وما لزم عنه المحال؛ فهو محال.
بيان المقدمة الأولى:
هو أن العدم صفة نفى لا محالة.
إذ هو عبارة عن لا وجود ولا وجود نفى للوجود؛ والمتصف بصفة النفى يكون منفيا؛ كما أن المتصف بصفة الإثبات؛ يكون ثابتا، والذوات فى العدم متصفة بصفة العدم، والعدم صفة نفى؛ فتكون منفية؛ فلو كانت ثابتة لكان المنفى ثابتا.
وأما أن ذلك محال: فلأنه تقرر فى أوائل العقول أن المنفى والثابت، متقابلان تقابل التناقض/ وكذلك النفى والإثبات وهو ضعيف أيضا.
________________
(1) ساقط من أ.
(11) // أول ل 59/ أ. من النسخة ب.
(3/393)
________________________________________
فإنه وإن كان موصوفا بالعدم والعدم صفة نفى فلا يلزم أن ما اتصف بصفة نفى أن يكون منفيا.
وأما المتصف بصفة الإثبات: إنما كان ثابتا لاستحالة قيام الثابت بالمنفى
والمعتمد من ذلك، مسالك:
المسلك الأول:
أنه لو كانت الذوات ثابتة فى العدم فعند وجودها وحدوثها: إما أن يتجدد لها أمر لم يكن لها [فى حال عدمها] «1» أو لم يتجدد.
فإن كان الأول: فهو إما جوهر أو عرض أو حال زائدة عنهما. لا جائز أن يكون جوهرا ولا عرضا: إذ قد فرضت ذواتهما ثابتة حالة العدم فى الأزل.
ولا فرق فى ذلك بين جوهر وجوهر ولا بين عرض وعرض. وإن كان حالا زائدة عليهما؛ فهو مبنى على القول بالأحوال؛ وسيأتى ابطاله «2».
وإن كان الثانى: فلا فرق بين حالة الوجود وحالة العدم؛ وهو محال.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول: بكون الذوات ثابتة فى حال العدم؛ فلا ثبوت لها.
المسلك الثانى:
وهو المسلك المشهور للأصحاب هو أن القول: بكون الذوات ثابتة فى العدم مما يمنع كون الرب- تعالى- موجدا ومخترعا؛ وهو كفر.
وبيان الملازمة:
هو أن قادرية الرب- تعالى- أو قدرته «3» لا بد وأن تكون مؤثرة فى مقدوره المخترع له.
وعند ذلك: فإما أن تكون مؤثرة فى ذات الجوهر والعرض أو فى صفة حالية زائدة على نفس ذات الجوهر، والعرض.
الأول: محال؛ لأن الذوات واجبة الثبوت حالة العدم إلا عندهم.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث- الأصل الأول: فى الأحوال ل 114/ أ وما بعدها.
(3) ورد فى نسخة ب بعد قوله: «هو أن قادرية الرب- تعالى- أو قدرته»
(و هذه الطريقة مما ألهمنى الله إليها ولم أجدها لأحد غيرى).
(3/394)
________________________________________
والثانى أيضا محال؛ لأن القائل منهم بذلك إما أن يكون قائلا بنفى الأحوال، أو هو قائل بها.
فإن كان قائلا بنفى الأحوال: فتأثير القدرة فى الحال؛ ولا حال محال.
وإن كان قائلا بثبوت الأحوال: كأبي هاشم، ومن نصر مذهبه؛ فهو معترف بأن الحال ليست معلومة ولا مجهولة ولا مقدورة ولا معجوز عنها. وإذا بطل تأثير القدرة أو القادرية فى الذات وفى حال زائدة على الذات؛ فقد بطل الاختراع والحدوث وهو محال.
المسلك الثالث:
أنه لو كانت ذات السواد والبياض ثابتة فى العدم فإما أن تكون بذاتها مستغنية عن محل تقوم به، أو هى غير مستغنية.
فإن كان الأول: كما قاله البصريون من المعتزلة؛ فيلزم أن تكون أيضا بذاتها مستغنية عن المحل حالة الوجود؛ ضرورة اتحاد الذات. وأن ما ثبت للذات لذاتها؛ يكون ملازما لها.
ويلزم من ذلك امتناع الفرق بين الجواهر والأعراض؛ وهو محال.
وإن كان الثانى/ وهو أن تكون مفتقرة إلى المحل لذاتها كما قاله الشحام «1» من المعتزلة.
فلو فرضنا سوادا وبياضا متعاقبين على محل واحد فى طرف الوجود. فإما أن يكونا قبل وجودهما قائمين بذلك المحل، أو بغيره أو أحدهما قائم به، والآخر قائم بغيره.
لا جائز أن يقال: بالثانى والثالث
وإلا لزم الانتقال عليهما [أو على أحدهما] «2» عند فرض حلولهما فى المحل المفروض؛ والانتقال على الأعراض محال: كما سبق «3».
فلم يبق إلا القسم الأول:
وهو أن يكونا قائمين به بصفة الاجتماع فيه فى حالة العدم ولو كان كذلك لما
________________
(1) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 124.
(2) ساقط من أ.
(3) راجع ما سبق ل 44/ ب وما بعدها.
(3/395)
________________________________________
امتنع الاجتماع بينهما فيه فى حالة الوجود؛ لأن استحالة الجمع بينهما فيه حالة الوجود:
إما أن تكون لما به الاتفاق بينهما؛ وهو الوجود أو ما به الافتراق. [و ما به الافتراق] «1»: إما الذات أو وجود أحدهما وذات الآخر.
لا جائز أن يقال بأن التضاد باعتبار ما به الاشتراك من الوجود، أو هو قضية واحدة فيهما.
ولا جائز أن يكون التضاد بين ذات أحدهما، ووجود الآخر وإلا لاستحال اجتماع ذات «11» // السواد ووجوده فى نفسه وكذلك ذات البياض ووجوده فى نفسه.
لأن الوجود فى البياض والسواد عندهم بمعنى واحد لا اختلاف بينهما فيه.
فإذا كانت ذات السواد مضادة لوجود البياض وذات البياض مضادة لوجود السواد؛ كانت ذات السواد مضادة لوجوده فى نفسه؛ لمضادتها له فى البياض.
وذات البياض مضادة لمضادتها له فى السواد ضرورة الاتحاد فى المعنى.
ولا جائز أن يكون باعتبار ذاتيهما؛ إذ قد فرضتا غير متضادتين لذاتيهما حالة العدم.
وعلى هذا فيمتنع أن يكون التضاد لما به الاتفاق والافتراق معا.
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بثبوت الذوات فى العدم؛ فلا ثبوت لها فيه.
وللخصوم عشر شبه.
الشبهة الأولى:
أنهم قالوا: قد بينا فيما تقدم فى تحقيق وجود واجب الوجود «2» أن الوجود زائد على نفس الذات المتصفة بالوجود، وحدوث الممكنات هو نفس وجودها؛ فحدوثها زائد على ذواتها. فلو كانت ذواتها حادثة ولها أوّل؛ لكانت حادثة أيضا بحدوث زائد عليها،
________________
(1) ساقط من أ.
(11) // أول ل 59/ ب. من النسخة ب.
(2) راجع ما مر فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول: النوع الأول: فى إثبات واجب الوجود ل 41/ أ وما بعدها.
(3/396)
________________________________________
والكلام فيها كالكلام فى الأوّل؛ وهو تسلسل ممتنع. فلم يبق إلا أن تكون أزلية الثبوت فى حالة العدم وهو المطلوب.
الشبهة الثانية:
أن العلم متعلق بالمعدومات المتمايزة على ما سبق فى الفصل الثانى من هذا الباب «1».
والتمايز بين المعدومات يستدعى تقرير ماهياتها وذواتها فى العدم، وبيانه من وجهين:
الأوّل: أنه يصح الحكم على كل واحد من المعدومات بأنه متميز عن الباقى، وهو حكم/ إيجابى والحكم الإيجابي يستدعى تقرر ذات المحكوم عليه.
الثانى: أنها إذا كانت متمايزة فلا بد أن تكون أمورا ثابتة، أو البعض ثابت والبعض منفى؛ لاستحالة وقوع التمايز فى المنفيات المحضة، والاعدام الصرفة.
وعلى هذا: فإن كان القسم الأول؛ فهو المطلوب.
وإن كان القسم الثانى: فقد سلم أن ذات بعض المعدومات ثابتة، ويلزم منه ثبوت الباقى؛ لاستحالة الفرق بين معدم ومعدوم من الجائزات.
الشبهة الثالثة:
هو أن المعدومات الممكنة متصفة بصفة الإمكان قبل حدوثها، والإمكان صفة ثبوتية فكان المتصف به ثبوتيا، وتقرير الأمرين كما تقدم فى مسألة حدوث العالم «2».
الشبهة الرابعة:
أن المعدومات منقسمة: إلى ممتنع وغير ممتنع؛ ونقيض الممتنع ليس ممتنعا.
والممتنع نفى محض فنقيضه يجب أن يكون ثبوتيا؛ وذلك يعم الواجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته.
________________
(1) راجع ما سبق فى الفصل الثانى: فى أن المعدوم هل هو معلوم، أم لا؟ ل 107/ أ.
(2) راجع ما سبق فى الأصل الرابع: فى حدوث العالم. ل 82/ ب وما بعدها.
(3/397)
________________________________________
الشبهة الخامسة:
أنه لو كانت الذوات الممكنة متجددة لكانت مفتقرة إلى مرجح يرجحها؛ ولو كان كذلك لخرجت ذات الجوهر وحقيقته، وذات السواد وحقيقته عن كونه جوهرا وسوادا عند فرض عدم ذلك المرجح. والقول بخروج الجوهر والسواد عن حقيقته محال؛ لأن الحكم الخبرى يستدعى اجتماع المحكوم به، والمحكوم عليه فى الذهن واجتماع المحكوم عليه، وهو الجوهر مع الحكم عليه، وهو بطلان الجوهر وخروجه عن حقيقته محال؛ وما لزم عنه المحال؛ فهو محال.
فإذن ذوات الممكنات غير متجددة بل أزلية حالة العدم.
الشبهة السادسة:
أنه لو لم تكن الذوات ثابتة فى حالة العدم، متميزة فى العدم لم يتصور من الفاعل إيجادها، ولا القصد إلى إحداثها. وإلا لكان القصد إلى إيجاد ما لا يعرف عينه، وهو غير معين فى نفسه. ولعله يقع جوهرا أو عرضا؛ وهو محال.
الشبهة السابعة:
أن المعدوم الممكن فى الأزل: إما أن لا يكون غير الله تعالى، أو يكون غير الله تعالى.
فإن كان الأول: لزم أن يكون هو الله- تعالى- وهو محال.
وإن كان الثانى: لزم أن يكون شيئا لأن التغاير لا يكون إلا بين شيئين على ما سبق فى تحقيق معنى المتغايرين «1»؛ وهو المطلوب.
الشبهة الثامنة:
أن المعدوم معلوم؛ فلو جاز أن يكون معلوما وليس بشيء؛ لجاز أن يكون مدركا وليس بشيء؛ إذ الإدراك عندكم نوع من العلم؛ وذلك محال.
الشبهة التاسعة:
وهو أن/ الصفات تنقسم إلى الواجبة والجائزة؛ كما سبق تحقيقه «2»
________________
(1) راجع ما سبق ل 80/ أ وما بعدها.
(2) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 53/ ب وما بعدها.
(3/398)
________________________________________
وكون الجوهر جوهرا، والسواد سوادا من الصفات «11» // النفسية الواجبة، وكل ما كان واجب الثبوت لا يكون مفتقرا فى إثباته إلى قادر، ولا فعل فاعل؛ وما كان كذلك لا يتوقف ثبوته على الحدوث المقدور.
الشبهة العاشرة:
التمسك بقوله- تعالى- إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ «1» وقوله- تعالى- ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2»
ووجه الاحتجاج به
أنه سمى زلزلة الساعة والفعل قبل وقوعها شيئا، والأصل فى الإطلاق الحقيقة.
والجواب عن الشبهة الأولى:
لا نسلم أن الوجود والحدوث زائد على ذات الموجود.
وما ذكروه فى الدلالة عليه؛ فقد أبطلناه أيضا فى موضعه «3».
وإن سلمنا: جدلا أن الحدوث زائد على ذات الحادث؛ فلا نسلم أزلية ذاته.
قولهم: لو كانت الذات حادثة لزم التسلسل.
قلنا: متى إذا كانت حادثة بحدوث [هو نفس ذلك الحدوث الأول أو بحدوث آخر. الأول ممنوع، والثانى مسلم.
فلم قالوا: إنها تكون حادثة بحدوث] «4» غير ذلك الحدوث. ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى بيانه.
وعن الشبهة الثانية:
لا نسلم أن تعلق العلم بالمعدومات المتمايزة؛ يوجب تقرر ذواتها وثبوتها فى العدم.
________________
(11) // أول ل 60/ أ من النسخة ب.
(1) سورة الحج 12/ 1.
(2) سورة الكهف 18/ 23 - 24.
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل 41/ أ وما بعدها.
(4) ساقط من «أ».
(3/399)
________________________________________
وما ذكروه من الوجه الأول؛ فهو باطل من أربعة أوجه:
الأول: هو أنا نحكم على الممتنع الوجود بأنه متميز عن الممكن الوجود؛ وهو حكم إيجابى.
وما لزم منه ثبوت ذات الممتنع باتفاق العقلاء.
الثانى: أنا نحكم على الوجود، بأنه متميز عن عدمه ونعقله كذلك
وليس الوجود من حيث هو وجود ذات متقررة قبل الحدوث باتفاق منّا ومنهم.
[الثالث] «1» هو أن الإضافات التابعة لحدوث الجوهر والعرض: ككون الجوهر فى هذا المكان دون هذا المكان وكونه علة ومعلولا، وكون العرض فى هذا المحل دون هذا المحل؛ أمور معلومة التمايز قبل الحدوث، ومحكوم على كل واحد منها أنه متميز عن الآخر؛ وليس لها ذوات متقررة حالة العدم بالاتفاق أيضا.
الرابع: وهو لازم على من اعترف منهم بأن ما للجواهر من التركيبات المختلفة فى أنواع الحيوانات، والنباتات والجمادات وغير ذلك من الهيئات الواقعة بعد الحدوث؛ ليس لها ذوات ثابتة فى حالة العدم مع أنها معلومة ومتمايزة، ومحكوم على كل واحد منها أنه متميز عن الآخر قبل الحدوث.
وما ذكروه من الوجه الثانى؛ فباطل من وجهين:
الأول: أن ما ذكروه/ إنما يلزم فى المعدومات المطلقة، وأما المعدومات المضافة فلا.
الثانى: أن ما ذكروه باطل بالمعدومات الممتنعة الوجود: كالجمع بين الضدين وكون الواحد أكثر من الاثنين، وكون الواحد فى آن واحد فى مكانين إلى غير ذلك؛ فإنها متمايزة فى العقل، وفى نفس الأمر ضرورة.
وما لزم أن يكون لها، ولا لبعضها ثبوت أصلا، وكذلك الإضافة التابعة لحدوث الجوهر كما بيناه قبل، وكذلك التركيبات، واختلاف الهيئات متمايزة؛ وليست ولا بعضها ثابتا قبل الحدوث.
________________
(1) ساقط من «أ».
(3/400)
________________________________________
وعن الشبهة الثالثة:
لا نسلم أن الإمكان صفة للحادث، وإن سلمنا كونه صفة للحادث؛ فلا نسلم أنه صفة ثبوتية؛ على ما تقرر فيما تقدم.
وعن الشبهة الرابعة:
أن الحدوث والوجود ممكن قبل وقوعه. وما لزم منه أن يكون قبل وقوعه ثبوتيا
وكذلك صفة العدم الممكن؛ ممكنة؛ وليست ثبوتية بالإجماع؛ فما هو الجواب فى الحدوث، والعدم الممكن؛ هو جواب لنا فى محل النزاع.
وعن الشبهة الخامسة.
من وجهين:
الأول: أنا لا ننكر كون الماهيات معلولة؛ إذ الوجود معلول بالاتفاق والوجود عندنا نفس الذات، فإذا كان الموجود معلولا؛ كانت الذات معلولة.
وعلى هذا: فلا يمنع خروج الجوهر عن كونه جوهرا. [عند فرض عدم علته؛ لكن لا بمعنى أنه فى حال كونه جوهرا خرج عن كونه جوهرا] «1»؛ بل بمعنى أنه لم يتحقق الجوهر عند فرض عدم علته.
الثانى: أن ما ذكروه لازم عليهم أيضا؛ فإنهم قالوا: بأن الذوات غير معلولة ولا قادرية القادر متعلقة بها، لعدم ثبوتها
فلا بد وأن يكون متعلق القادرية؛ أمرا زائدا على الذات؛ ضرورة افتقار الحادث إلى المرجح كما سبق تعريفه «2».
وذلك إما الوجود أو غيره. أو إلى شيء قدر تعلق القادرية به فيلزم بتقدير عدم التعلق خروجه عن حقيقته.
وما هو الجواب لهم عن هذا الإلزام على ما هو متعلق القادرية عندهم؛ يكون جوابا لنا عن كون الذات معلولة ومقدورة.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) راجع ما سبق ل 82/ ب وما بعدها.
(3/401)
________________________________________
وعن الشبهة السادسة:
أن القصد إلى الإيجاد يستدعى ثبوت المقصود فى نفسه، أو أن يكون متصورا فى نفس القاصد، ومعلوما له، الأول: ممنوع. والثانى: مسلم.
وعن الشبهة السابعة:
من وجهين:
الأول: أن الغير «11» // لا يخلو: إما أن يشترط فيه أن يكون شيئا وذاتا، أو لا يشترط فيه ذلك.
فإن كان الأول: فالمختار أنه ليس غيرا لعدم تثبته، وإلا لزم أن يكون هو الله- تعالى- على/ هذا التقدير.
وإن كان الثانى: فالمختار أنه غير الله، ولكن لا يلزم منه أن يكون شيئا. وهذا من أحسن وجوه النظر؛ فليعلم.
الوجه الثانى أن ما ذكروه ينتقض بصور منها:
أن المعدوم المستحيل الوجود ليس بشيء، ولا هو الله- تعالى- مع صحة قول القائل:
لا يخلو: إما أن يكون هو غير الله- تعالى- أو ليس هو غير الله- تعالى-؛
فإن كان الأول: لزم أن يكون شيئا.
وإن كان الثانى: لزم أن يكون هو الله- تعالى.
ومنها: المستحيل مع الممكن. ومنها: العدم الممكن بالنسبة إلى مقابله من الوجود؛ فإن المستحيل؛ ليس هو نفس الممكن؛ ولا هو شيء. وكذلك العدم؛ ليس هو نفس الوجود. ولا هو شيء وفى صور النقض من هذا الجنس متسع؛ فكل ما هو جواب فى هذه الصور؛ فهو جواب فيما نحن فيه.
وعن الشبهة الثامنة:
من وجهين:
الأول: أنّ ما ذكروه تمثيل من غير جامع؛ فلا يقبل ولو امتنع فى ذلك بمجرد
________________
(11) // أول ل 60/ ب من النسخة ب.
(3/402)
________________________________________
الاسترسال بالدعوى؛ لما عرى عن مقابلة ما ذكروه بمثله: وهو أن يقال: ولو جاز أن تكون الذوات فى العدم شيئا؛ فهى غير مدركة، ولو جاز أن تكون شيئا؛ ولا يكون مدركا؛ لجاز أن يكون شيئا، ولا يكون معلوما.
الثانى: أنه ينتقض بالمعدوم المستحيل الوجود؛ فإنه معلوم، وليس بشيء، ولا مدرك بالاتفاق.
وعن الشبهة التاسعة:
من وجهين:
الأول: هو أن كون الجوهر جوهرا، والسواد سوادا؛ لا يزيد عندنا على نفس الجوهر والسواد؛ بل هو هو.
فإذا كان الجوهر والسواد، معلولا؛ كانت صفة معلولة، ومعنى كون الجوهر جوهرا، والسواد سوادا صفة واجبة أنه لا تثبت ذاته إلا جوهرا.
وكذلك فى السواد وغيره؛
وذلك لا يوجب الاستغناء عن الفاعل.
الثانى: أنه ينتقض بكون الحادث حادثا.
فإنه صفة نفسية واجبة له؛ وهو غير مستغن عن الفاعل.
وعن الشبهة العاشرة:
ما سبق فى الفصل الّذي قبل هذا الفصل «1»، ولله الحمد على نعمه.
________________
(1) راجع ما سبق فى الفصل الثالث ل 107/ ب.
(3/403)
________________________________________
الباب الثالث: فيما ليس بموجود، ولا معدوم ويشتمل على أصلين:
الأصل الأول: فى الأحوال.
الأصل الثانى: فى العلل، والمعلولات، وأحكامها.
(3/405)
________________________________________
الأصل الأول: فى الأحوال «1»
وقد اختلف المتكلمون فى نفيها، وإثباتها.
فالذى عليه اتفاق أكثر الأئمة من أصحابنا، وقدماء المعتزلة: القول بنفى الأحوال.
وأثبتها أبو هاشم، ومن تابعه من متأخرى المعتزلة، والإمام أبو المعالى «2» وجماعة من أصحابنا.
وأما القاضى أبى بكر «3»: فقد تردد قوله فى نفيها، وإثباتها:
فقال تارة: بالنفى، وتارة/ بالإثبات.
وقبل الخوض فى الحجاج لا بد من تحقيق معنى الحال، وبيان أقسامها؛ ليكون التوارد بالنفى، والإثبات على محز واحد، ثم تعريف الحال بما ذا، قال إمام الحرمين ليس إلا بذكر أقسامها، ومراتبها. لا بالحد، والرسم؛ إذ الحد، والرسم. لا بد وأن يكون متناولا لجميع مجارى الأحوال وأقسامها، باعتبار معنى واحد. وإلا فهو أخص منها.
والحد، والرسم يجب أن يكون مساويا للمحدود لا أخص منه، ولا أعم؛ وذلك يفضى إلى ثبوت الحال للحال من جهة أن الحد لا يتناولها إلا وقد اشتركت كلها فى معنى واحد. وكل ما وقع به الاشتراك، أو الافتراق بين المعانى؛ فهو حال زائد عليها؛ وفيه نظر.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة انظر:
التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة للباقلانى ص 153 - 160.
الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 629 - 645.
ونهاية الأقدام للشهرستانى ص 131 وما بعدها وغاية المرام للآمدى ص 27 - 37.
ومن المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر المواقف للإيجي- المقصد السابع ص 57 - 59 وشرح المواقف للشريف الجرجانى 3/ 3 - 17.
وشرح المقاصد للتفتازانى 1/ 63 وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار على طوالع الأنوار ص 45 - 47.
(2) انظر الشامل فى أصول الدين ص 629 وما بعدها.
(3) انظر الشامل ص 629 فقد ذكر إمام الحرمين: «و ردد القاضى جوابه فى نفى الحال وإثباتها، ولم أر له فيما عثرت عليه من مصنفاته قطعا بأحد المذهبين»
وانظر أيضا التمهيد للباقلانى ص 153 وما بعدها.
(3/407)
________________________________________
فإن هذا القائل: إما أن يفرق بين ما به تتفق الذوات وتفترق، وبين ما به تتفق الأحوال، وتفترق على ما هو مذهب القائل بالأحوال؛ فإن عنده الذوات هى التى تتفق، وتفترق بالأحوال.
أما اتفاق الأحوال، وافتراقها ليس إلا بذواتها كما يأتى «1»، أو أنه لا يعترف بالفرق.
بل نقول كل ما يقع به الاتفاق، والافتراق؛ فهو حال. فإن اعترف بالفرق؛ فلا اتجاه لما ذكره. وإن لم يعترف بالفرق: فالأحوال لا بد لها من اتفاق، وافتراق؛ فإنها مع اتفاقها وانقسامها إلى معللة وغير معللة «2» كما يأتى: متفقة فى معنى الحالية.
فاذا كان اتفاقها، وافتراقها؛ لا يكون إلا بأمور زائدة عليها والاتفاق، والافتراق بالأمور الزائدة يكون حالا؛ فقد اعترف بإثبات الحال للحال من غير تحديد، ولا رسم.
كيف وأن ما فرّ منه فى التحديد من ثبوت الحال للحال؛ لازم له فى التعريف بالقسمة؛ فليس ما أبطله بأولى مما عينه؛ وذلك لأن من ضرورة القسمة وقوع ما به الانقسام، وإلا فلا تمييز ولا قسمة.
وكل ما يقع به الانقسام، والافتراق؛ فهو محال، ولا محيص له عنه.
وعند هذا فنقول: الحال عند القائل بها عبارة عن كل صفة «11» // إثباتية لموجود غير متصفة بأنها موجودة، ولا معدومة.
فقولنا: صفة إثباتية: احتراز عن الصفات السلبية.
وقولنا: لموجود: احتراز من كون الجوهر جوهرا، وكون العرض عرضا؛ فإن بين الصفات الإثباتية للجوهر، والعرض فى حال عدمه عند المعتزلة وليس بحال؛ لأنه ليس صفة إثباتية لموجود.
________________
(1) انظر ما سيأتى ل 115/ ب وما بعدها.
(2) من المفيد فى هذا المقام نقل ما ذكره الآمدي فى كتابه (المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين) لأهميته فى شرح هذا الموضوع «أما الصفة الحالية: ويعبر عنها بالصفة المعللة فما كانت فى الحكم بها على الذات تفتقر إلى قيام صفة أخرى بالذات: ككون العالم عالما، والقادر قادرا.
وأما الصفة غير المعللة: فلا يفتقر الحكم بها على الذات إلى قيام صفة أخرى بالذات كالعلم والقدرة ونحوهما.
وقد يعبر عنها بالصفات النفسية.
وأما الأحوال: فعبارة عن صفات إثباتية غير متصفة بالوجود، ولا بالعدم. وقد يمكن أن يعبر عنها بما به الاتفاق والافتراق بين الذوات (المبين للآمدى ص 120، 121).
(11) // أول ل 61/ أ. من النسخة ب.
(3/408)
________________________________________
وقولنا: لا توصف بكونها موجودة، ولا معدومة: احتراز من الصفات الوجودية:
كالعلم، والقدرة، والسواد،/ والبياض، ونحوه. ويدخل فيه صفة الوجود؛ فإنه عند من جعله زائدا على الذات حال؛ لأنه لا يوصف بكونه موجودا، ولا معدوما.
وأما أقسام الحال: فهى تنقسم إلى معللة، وغير معللة.
أما المعللة فهى كل حال ثبتت للذات لمعنى قام بالذات: ككون العالم عالما، والقادر قادرا، ونحوه؛ فإنه معلل بقيام العلم، والقدرة بذاته.
وقد اتفق أبو هاشم، ومن تابعة: على القول بالأحوال من المعتزلة، وأصحابنا على أن الحياة وكل صفة يشترط فى قيامها بمحلها الحياة، وكذلك الأكوان أنها توجب لمحلها أحوالا معللة بها.
وأما ما عدا ذلك من الصفات التى ليست بحياة، ولا يشترط فى قيامها بمحلها الحياة، ولا هى أكوان: كالسواد، والبياض، وغير ذلك من الأعراض؛ فقد قال أبو هاشم: إنها لا توجب لما قامت به من المحال حالا زائدة.
ومستنده فى الفرق: أن الأكوان وما من شرطه الحياة من الصفات، وكذلك نفس الحياة؛ إنما يتوصل إلى معرفته من معرفة كون ما قام به عالما، وقادرا، وحيّا، ومتحركا، إلى غير ذلك.
ولا كذلك فى السّواد، والبياض، ونحوه من الصفات العرضية، فإنه مشاهد مرئى؛ فلا يفتقر فى الاستدلال عليه بكون ما قام به أسود، أو أبيض؛ فلهذا جعل علّة ثم، ولم يجعل علة هاهنا. والمحقق يعلم أن التوصل إلى معرفة وجود العلة من حكمها؛ إنما هو فرع معرفة كونها علة للحكم، وكون الحكم معلولا لها؛ فلو دفعنا جعل الوصف علة على دلائل حكمها عليه؛ لكان دورا ممتنعا.
كيف: وأن الحركة. قد تكون عندهم طبيعية: وليس من شرطها: الحياة. وقد تكون إرادية: من شرطها: الحياة. ولا محالة أن نسبة الحركة الطبيعية إلى كون المحل متحركا: كنسبة الحركة الإرادية إلى كون المحل متحركا فيما يرجع إلى المعرفة والخفاء.
(3/409)
________________________________________
ومع هذا فقد نقل بعض أصحابنا عنهم: أنهم جعلوا الحركة الإرادية علة كون المحل متحركا بخلاف الحركة الطبيعية.
ومع صحة هذا النقل؛ فالفرق يكون تحكما. فإذن قد بان أنه لا وجه للفرق بين عرض، وعرض؛ وإليه ذهب القائلون بالأحوال من أصحابنا، وإن كان القاضى أبو بكر قد تردد فيه.
هذا: وأما الحال غير المعللة: فهى كل حال ثبتت للذات غير معللة. بمعنى قام بالذات: كالوجود عند القائل بكونه زائدا على الذات، وكالصفات التابعة للوجود: ككون الجوهر/ متحيزا، متحركا، ونحوه.
وقد اتفق القائلون بالأحوال: على أنها ليست موجودة، ولا معدومة.
وتردد قول أبى هاشم: فى كونها شيئا مع اتفاق أصحابنا على أنها لا توصف بأنها شيء، ولا بأنها ليست شيئا.
واختلفوا فى كونها معلومة، مقدورة، مرادة، مذكورة، مخبرا عنها.
فذهب أبو هاشم، ومن تابعه من المعتزلة: إلى أنها غير معلومة على حيالها؛ لأن المعدوم على أصله شيء. والشيء ما كان موجودا، أو بعرضية الوجود
والحال ليست كذلك، وليست مجهولة؛ لأن الجهل عندهم من جنس العلم كما سبق تحقيقه، فما لا يكون معلوما؛ لا يكون مجهولا.
ولا هى مقدورة، ولا مرادة، ولا مذكورة، ولا مدلولة، ولا مخبرا عنها على حيالها؛ بل الذات هى المعلومة، المقدورة، المرادة، المذكورة، المدلولة المخبر عنها على حالتها.
وأما القائلون بالأحوال من أصحابنا: فإنهم قالوا: بكونها معلومة، مقدورة إلى غير ذلك من الصفات على حيالها.
والّذي أراه: أن حاصل الخلاف هاهنا لا يؤول إلى غير العبارة فإن أبا هاشم: وإن قال بأن الحال ليست معلومة؛ لكونها ليست بشيء على ما علم من مذهبه: أن الشيء هو
(3/410)
________________________________________
المعلوم؛ فلا يمنع من تعلق العلم بها؛ وإن كان تعلق العلم بها لا ينفك عن العلم بالذات؛ فانّه لا يظن ببعض العوام أنه يقول «11» // اعلم الذات على حالة، ولا تعلق للعلم بتلك الحالة؛ فما ظنك بمن هو أحذق العقلاء، وأدقهم نظرا فى غوامض المعقولات.
ومن قال من أصحابنا إنها معلومة: فمعناه أن العلم يتعلق بها ولا يعنى بكونها معلومة إلا هذا. وأبو هاشم غير مانع من تعلق العلم بها.
ومعنى قوله معلومة على حيالها: انّها معلوم ثان زائد على المعلوم من الذات لا بمعنى أنها معلومة مع قطع النظر عن الذات. فإنه كيف يظن بعاقل أنه يقول أعقل ما لا تحقق له دون الذات مع قطع النظر عن الذات.
وكذلك الكلام فى كونها مقدورة، ومرادة، ومذكورة، ومدلولة، ومخبرا عنها.
وإذ أتينا على تحقيق المذاهب بالتفصيل؛ فلنشرع فى طرق أهل الحق من النفاة وتقريرها أولا، وإبطال طرق المثبتين، وما يثبتونه ثانيا.
وقد تمسك أهل الحق من النفاة بمسلكين:
المسلك الأول:
هو أن الأحوال إما أن تكون موجودة [أو لا تكون موجودة «1»]؛ إذ ليس بين النفى، والإثبات واسطة.
فإن كانت موجودة: فقد خرجت عن أن تكون حالا؛ إذ الحال عند القائل بها غير موصوفة/ بالوجود. ثم إذا كانت موجودة؛ فما هو المتجدد منها
إما أن يكون جوهرا، أو عرضا؛ ضرورة أن كل موجود متجدّد لا يخرج عن كونه جوهرا، أو عرضا بالاتفاق. وعلى ما سبق تعريفه فى أقسام الموجود «2» الممكن والجوهر والعرض؛ ليس بحال.
وإن لم تكن موجودة: فهى معدومة؛ فإنه لا معنى للمعدوم إلا ما ليس بموجود وإذا كانت معدومة؛ فقد خرجت عن أن تكون حالا لوجهين:
________________
(11) // أول ل 61/ ب. من النسخة ب.
(1) ساقط من أ.
(2) راجع ما سبق فى القسم الثانى: فى الموجود الممكن الوجود ل 300/ ب وما بعدها.
(3/411)
________________________________________
الأول: أن الحال عند القائل بها، غير موصوفة بالعدم.
الثانى: أنها إذا كانت معدومة؛ فقد بينا فى مسألة المعدوم أن كل معدوم منفى، وليس بثابت «1»، فالأحوال منفية غير ثابتة، فلا تكون حالا؛ لأن الأحوال عند القائل بها: صفات ثابتة، غير متصفة بالنفى على ما عرف؛ وهذا المسلك فى غاية القوة، لا غبار عليه.
المسلك الثانى:
هو أنه لو كان التماثل، والاختلاف بين الذوات لا يكون إلا بالأحوال الزائدة عليها.
والأحوال: إما أن تكون فى أنفسها متماثلة من كل وجه، أو مختلفة من كل وجه، أو متماثلة من وجه، ومختلفة من وجه. أو متماثلة، ومختلفة معا من كل وجه. أو لا متماثلة، ولا مختلفة لا من وجه، ولا من كل وجه.
لا جائز أن تكون متماثلة ومختلفة معا من كل وجه؛ إذ هو ظاهر الإحالة.
ولا جائز أن تكون لا متماثلة، ولا مختلفة؛ فإن ما لا يكون مختلفا؛ لا يكون موجبا للاختلاف.
وقد قيل: بأن الاختلاف بين الذوات لا يكون إلا بالأحوال.
وما لا يكون متماثلا؛ لا يكون موجبا للتماثل.
وقد قيل: إن التماثل بين الذوات، لا يكون إلا بالأحوال.
ولا جائز أن تكون متماثلة من كل وجه، وإلا لما وقع بها الاختلاف بين الذوات.
ولا جائز أن تكون مختلفة من كل وجه: وإلا لما وقع بها التماثل بين الذوات.
وقد قيل: إن التماثل، والاختلاف بين الذوات؛ لا يكون إلا بالأحوال.
كيف: وأنها لو كانت الأحوال متماثلة، أو مختلفة، فإما أن يكون ذلك لها لذواتها، وإما بوصف زائد عليها.
فإن كان الأول: فما المانع أن تكون الذوات مختلفة، أو متماثلة لذواتها؛ لا لزائد عليها.
________________
(1) راجع ما سبق فى الباب الثانى- الفصل الرابع. ل 108/ ب وما بعدها.
(3/412)
________________________________________
وإن كان الثانى: لزم ثبوت الحال للحال. والكلام فى الحال الثانية: كالكلام فى الأول؛ وهو تسلسل ممتنع.
وبهذا يبطل القول بكونها متماثلة من وجه، ومختلفة من وجه.
وهذا المسلك أيضا فى غاية الحسن، والسداد.
وأما المثبتون: فقد تمسكوا بمسالك:
المسلك/ الأول:
أنهم قالوا:
[اتفق العقلاء على صحة التعليل بالعلل، وجعلها طريقا إلى إثبات الصفات] «1» [فاذا] «2» قلنا: العلم علة كون العالم عالما؛ فالمعلول الموجب بالعلة: إما أن يكون هو الذات التى قام بها العلم، وإما أن يكون ذلك هو تسمية الذات عالمة، وإما أن يكون هو الحال.
لا جائز أن يقال بالأول: فإن الذات غير معلّلة بالعلم.
ولا جائز أن يقال بالثانى لثلاثة أوجه:
الأول: أن التسمية من باب الوضع والاصطلاح اللغوى. ويجوز أن تقع، وأن لا تقع.
وبتقدير الوقوع أن تتبدل «11» // وتختلف. ومعلولات العلل العقلية: لا يمكن فرض عدمها مع وجود عللها، ولا فرض تبدلها.
الثانى: أن التسمية من جملة الأقوال، والأقوال من الذوات، والذوات غير معللة كما يأتى «3»
الثالث: هو أن شرط المعلول أن يكون قائما. بمحل العلة والتسمية. وقد تكون قائمة بغير من قام به العلم؛ فلم يبق إلا أن يكون المعلل؛ هو الحال؛ وهو المطلوب.
________________
(1) ساقط من أ.
(2) فى «أ» (أما إذا).
(11) // أول ل 62/ أ. من النسخة ب.
(3) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى- الفصل الثانى: فيما يعلل وما لا يعلل ل 125/ ب وما بعدها.
(3/413)
________________________________________
وهذا فى غاية الضعف؛ وذلك لأن القول بصحة التعليل، وجعل العلم علة كون العالم عالما؛ إنما هو فرع القول بالأحوال.
وإلا فمن نفى الأحوال؛ فلا علة عنده ولا معلول، ولا معنى لكون العالم عالما عنده؛ غير أنه قام به العلم لا غير. ولا يلزم من إبطال إثبات الصفات بهذا الطريق؛ إبطال كل طريق. اللهم إلا أن يبين أنه لا طريق إلى إثبات الصفات إلا هذا الطريق؛ ولا سبيل إليه إلا بالبحث، والسبر مع عدم الاطلاع عليه وهو غير يقينى «1».
المسلك الثانى:
أنهم قالوا: الجوهر متحيز بالاتفاق. وتحيزه زائد على وجوده.
ويدل عليه أمران:
الأول: أنه قد يعلم وجود الجوهر من جهل تحيزه؛ والمعلوم مغاير للمجهول.
الثانى: أن العلم بوجود الجوهر بتقدير الوجود ضرورى، والعلم بالتحيز نظرى؛ والمعلوم بالضرورة غير المعلوم بالنظر، والاستدلال
وإذا كان التحيز زائدا على وجود الجوهر: فإما أن يكون نفيا، أو ثبوتا.
لا جائز أن يكون [نفيا] «2» إذ هو على خلاف الاتفاق، ولأن نقيض التحيز لا تحيز.
ولا تحيز صفة للممتنع الوجود؛ فلا يكون صفة ثبوتية؛ وإلا قامت الصفة الثبوتية بالعدم المحض؛ وهو محال.
فلم يبق إلا أن يكون التحيز الزائد على وجود الجوهر صفة ثبوتية؛ وهو المعنى بالحال.
وهذا المسلك أيضا ضعيف. إذ لقائل أن يقول: وإن سلمنا أن تحيزّ الجوهر [صفة زائدة على نفس وجود الجوهر. وأنه صفة ثبوتية؛ ولكن لا نسلم أنه صفة حالية؛ بل يبقى مع كونه] «3» صفة ثبوتية، صفة وجودية تابعة لنفس الجوهر ولازمة له.
وإنما يتم كونه صفة حالية: أن لو بين أنه مع ثبوته غير وجودى من جهة أن/ الأحوال غير متصفة بالوجود، ولا سبيل إليه.
________________
(1) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الثالثة ل 39/ أ.
(2) ساقط من «أ».
(3) ساقط من «أ».
(3/414)
________________________________________
المسلك الثالث:
أنهم قالوا: المختلفان: إما أن يختلفا بوجوديهما، أو بحال زائدة عليهما.
فإن كان الأول: فهو محال؛ لما سبق «1» فى بيان وجوب الاشتراك [على الموجودات فى صفة الوجود، ولأن الوجود لا معنى له، إلا الثبوت، والثبوت مشترك بين المختلفات.
وما به الاشتراك] «2» لا يكون، هو ما به الاختلاف.
وإن كان الثانى: فهو المطلوب؛ وهو من النمط الّذي قبله فى الفساد لوجهين:
الأول: أنه قد علم من مذهب القائل بنفى الأحوال. أن الوجود نفس الذات غير زائد عليها. والذوات مختلفة بذواتها؛ فيكون الاختلاف بين المختلفات بنفس الوجود وما ذكر فى بيان الاشتراك فى معنى الوجود؛ وقد أبطلناه فيما تقدم «3»
وعلى هذا: فثبوت الحقيقة أيضا غير خارج عن نفس الحقيقة.
الثانى: وإن سلمنا أن الوجود زائد على نفس الذات، وأنه مشترك بين جميع الذوات؛ فما المانع أن يكون الاختلاف بين «4» المختلفات «4» لذواتها لا للوجود، ولا لصفة حالية زائدة عليها؛ وهذه مطالبة لا مخلص منها.
المسلك الرابع:
أنهم قالوا: العالم بعلم، أو لا كونه عالما قبل نظره فى إثبات الأعراض.
وعند ذلك: فلا يخلو إما أن تكون معلومة ذاته، أو علمه، أو كونه عالما، أو لا معلوم له.
لا جائز أن تكون معلومة ذاته فقط؛ فإن كونه عالما زائد على ذاته ولهذا يصحّ العلم بالذات مع الجهل بكونها عالمة. والمعلوم غير المجهول.
________________
(1) راجع ما سبق فى الأصل الثالث- الفصل الرابع ل 76/ ب وما بعدها.
(2) ساقط من «أ».
(3) راجع ما سبق فى الجزء الأول- القاعدة الرابعة- الباب الأول- القسم الأول- النوع الأول- المسألة الرابعة ل 53/ أ وما بعدها.
(4) (بين المختلفات) ساقط من ب.
(3/415)
________________________________________
ولا جائز أن تكون معلومة نفس العلم القائم بذاته: إذ الكلام مفروض فيمن لم ينظر فى إثبات الأعراض التى العلم منها.
ولا جائز أن يقال إنه لا معلوم له مع كونه عالما؛ لما سبق فى الرد على أبى هاشم؛ فلم يبق الّا أن تكون معلومة كونه عالما؛ وهو زائد على العلم ومحله؛ وهو المطلوب؛ وهو أيضا باطل؛
إذ للخصم أن يقول: لا أسلم تصور علمه بكونه عالما مع جهله بالعلم وعدم النظر فيه بناء على [أصله] «1» أن العالم من قام به العلم.
ولا يتصور فهم الحقيقة دون فهم ما لا تتم الحقيقة إلا به.
وعلى هذا: فلا يمتنع أن يكون «11» // معلومه؛ هو نفس قيام العلم به لا نفس الذات، ولا نفس العلم فقط؛ وليس ذلك من الأحوال فى شيء إلا أن يبين كونه ثابتا؛ ليس بموجود، ولا معدوم، ولا سبيل إليه.
المسلك الخامس:
أنهم قالوا: لا يخفى اتفاق السواد، والبياض فى اللونية، وافتراقهما فى السوادية، والبياضية. وما به وقع الاتفاق غير ما به الافتراق؛ وإلا كانا شيئا واحدا؛ فإذن هما غيران؛ وهو/ المطلوب؛ [و هو «2» باطل] أيضا.
أما قولهم: إن السواد، والبياض قد اشتركا فى اللّونية: فإما أن يراد به الاشتراك فى تسميه اللّونية: أى أنه يطلق على كل واحد أنه لون لفظا، أو مسماهما.
فإن كان الأول: فهو خلاف مذهب القائل بالأحوال؛ ومع ذلك: فإن التسميات لا تكون صفات للذوات. والأحوال من صفات الذوات.
وإن كان الثانى: فمسمّى اللونية لا محالة ينقسم إلى كلى: أى صالح أن يشترك فى معناه كثيرون، وإلى مشخّص ليس له صلاحية أن يشترك فيه كثيرون.
فالأول: كاللونية المأخوذة فى الأذهان، وتلك لا تحقق لها فى الأعيان.
والثانى: كهذا اللون، وهذا اللون.
________________
(1) ساقط من أ.
(11) // أول ل 62/ ب من النسخة ب.
(2) ساقط من «أ».
(3/416)
________________________________________
وعلى هذا: فإن أريد اللونية المشخصة: فإما أن يقال: إن ما ثبت للسواد من اللونية بعينها ثابتة للبياض، أو أن ما تخصص بكل واحد منها غير الآخر.
لا جائز أن يقال بالأول: والإلزام منه اتحاد المتعدد [و تعدد المتحد] «1»؛ وهو محال.
وإن قيل بالثانى: فإنما يلزم أن يكون حالا للسواد، والبياض، أن لو كان زائدا على مفهوم السواد والبياض؛ وهو غير مسلم؛ بل هو داخل فى مفهوميهما، ومقوم لحقيقتهما.
ولهذا: فإن من أراد تعقل معنى السواد، والبياض؛ لم يمكنه ذلك قبل فهم معنى اللونية أولا.
وما يكون مقوما للموجود وداخلا فى حقيقته كيف يكون حالا زائدة عليه: وكيف يكون لا موجودا، ولا معدوما؛ وهو مقوم للموجود.
وإن أريد به اللونية الكلية المطلقة؛ فتلك لا يتصور أن تكون صفة للتشخيص من الذوات. ولا معنى للاشتراك فيها غير أن ما حصل من معنى اللونية فى الذهن مطابق لما هو حاصل من معنى أى شخص كان من أشخاص الألوان بالحدّ والحقيقة والحال لا تخرج عن كونها صفة للذات الموجودة.
كيف وأن المعنى الكلى من اللون لا يصح أن يقال إنه غير موجود ولا معدوم؛ بل هو موجود فى الأذهان، ومعدوم فى الأعيان.
وأما الكلام على ما به الافتراق: وهو السوادية، والبياضية؛ فهو أن يقال ما به وقع الافتراق بين السواد، والبياض، [إما أن يكون هو مجرد التسمية] «2» وهو قول القائل:
سوادية، وبياضية: كما ذهب إليه بعض نفاة الأحوال، أو مدلول التسمية.
لا جائز أن يقال بالأول: لما ذكرناه فى اللونية. وإن كان الثانى: فإنما يلزم أن يكون ذلك حالا أن لو كان صفة زائدة على ذات السّواد أو البياض؛ وهو غير مسلم.
فإنه لا معنى للسوادية، والبياضية عند القائل بنفى الأحوال غير نفس السواد، والبياض؛ فلا يكون حالا زائدة عليهما.
________________
(1) ساقط من «أ».
(2) ساقط من «أ».
(3/417)
________________________________________
المسلك السادس:
أن القول بنفى/ الأحوال يلزم منه إبطال القول بالحدّ والبرهان وأن لا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول؛ وهو محال.
وما لزم عنه المحال؛ فهو محال.
وبيان ذلك: هو أن البرهان لا بدّ وأن يتناول جميع أشخاص العين «1» الكلى المبرهن عليه وكذلك الحد لا بد وأن يتناول جميع أشخاص «1» المحدود وذلك لا يكون إلا بمعنى مشترك متحد بين الكل، ولا يتحقق ذلك مع القول بنفى الأحوال؛ وهو باطل أيضا.
فإن إبطال الحدّ والبرهان بناء على إبطال الأحوال فرع القول بأن ما به الاشتراك بين الذوات [لا يكون إلا بالحال؛ وهو محل النزاع؛ بل الاشتراك عند القائل بنفى الأحوال بين الذوات] «2»، إنما هو بذواتها، وصفات أنفسها ومع القول بالصفات النفسية الوجودية العامة؛ فلا يمتنع القول بالحدّ ولا البرهان.
وإذ أتينا على حجج القائلين بإثبات الأحوال ونفيها، بالاستقصاء المحصل المفصّل منبهين على ما فيها من المزيف والمختار؛ فلا بدّ من الإشارة إلى تحقيق العلل والمعلولات، وأحكامها.
فإن ذلك من توابع القول بالأحوال، وفروعها. ولقد كان إبطال الأصل مغنيا عن النّظر فى الفرع التابع؛ لكنه ربما دعت حاجة بعض الناس إلى معرفتها عند ظنه صحة القول بالأحوال؛ فاستخرنا الله- تعالى- فى تعريفه ذلك مبالغة فى تكميل الفائدة.
________________
(1) من أول قوله: «العين الكلى ... إلى قوله: جميع أشخاص» ساقط من ب.
(2) ساقط من «أ».
(3/418)
________________________________________
الأصل الثانى فى تحقيق معنى العلل والمعلولات وأحكامها ويشتمل على تسعة فصول «1»:
الفصل الأول: فى حقيقة العلّة، والمعلول.
الفصل الثانى: فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية.
الفصل الثالث: فى أن شرط العلة: أن لا تكون خارجة عن المحل الّذي أوجبت له الحكم؛ بل قائمة به.
الفصل الرابع: فى أن العلة العقلية: لا بد وأن تكون مطردة، منعكسة.
الفصل الخامس: فى أنه لا يجوز أن يكون ايجاب «11» // العلة العقلية لمعلولها مشروطا بشرط معين فى نظر النّاظر.
الفصل السادس: فى أن العلّة الواحدة؛ هل توجب حكمين مختلفين، أم لا؟
الفصل السابع: فى أن الحكم الواحد، لا يثبت بعلّتين مختلفتين، ولا بعلة مركّبة من أوصاف.
الفصل الثامن: فما يعلل، وما لا يعلل.
الفصل التاسع: فى الفرق بين العلة، والشّرط.
________________
(1) ورد فى نسخة «أ» تسعة فصول: ولكن المكتوب بالفعل فى الإجمال ستة فقط الأول، والثانى إلخ أما النسخة «ب» فوردت الفصول بالحروف الهجائية أ. ب. ج. د إلى آخره وما أوردته فى الأصل مطابق للواقع، ولما ورد فى النسخة ب بعد تصحيحها.
(11) // أول ل 63/ أ، من النسخة ب.
(3/419)
________________________________________
الفصل الأول فى حقيقة العلة والمعلول «1»
أما العلة: فقد اختلف القائلون بالأحوال فى معناها:
فمنهم من قال: العلة ما أوجبت معلولها عقيبها على الاتصال إذا لم يمنع منه مانع «2»؛ وهو فاسد من جهة أنه عرف العلة بالمعلول؛ وهو مشتق منها؛ فيكون أخفى منها؛ وتعريف الأظهر بالأخفى ممتنع.
وأيضا: فإن العلة فى أول زمان/ وجودها: إن أوجبت معلولها؛ فلا معنى للتعقب.
وإن لم توجبه إلا فى الوقت الثانى من وجودها؛ فيلزم منه أن يكون العلم بالشيء قد قام بالشخص فى الزمن الأول؛ وهو غير عالم؛ وذلك محال؛ وبه يبطل القول بالممانعة أيضا، وكذلك فى كل علة مع معلولها.
ومنهم من قال: العلة ما كان المعتل به معللا؛ وهو قوله: كان كذا لأجل كذا؛ وهو أيضا فاسد؛ لأنه عرف العلة بالمعتل، والمعلل؛ وهما أخفى من العلة «3».
كيف: وفيه ردّ العلة إلى القول. والقول غير موجب لقيام حكم العلم بمحله؛ على ما لا يخفى.
ومنهم من قال: العلة هى ما تغير حكم محلها، أو تنقله من حال إلى حال «4»، ويبطل بالسّواد الحادث بحدوث الجسم [و العلم الحادث بحدوث الجسم] «5» فى أول زمان وجود الجسم؛ فإنه [علة كونه] «6» عالما وأسود. وإن لم يكن معتبرا بحكم المحل؛ إذ لا حكم له قبل ذلك؛ لكونه معدوما.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر من كتب السابقين:
الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص 646 - 650 ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر المواقف للإيجي ص 92 وشرح المواقف للجرجانى 4/ 184 - 188 وشرح المقاصد 1/ 338 وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص 68 وما بعدها.
(2) هذا التعريف للكعبى، وهو تعريف فاسد كما حكم عليه الآمدي انظر الشامل للجوينى ص 646.
(3) هذا التعريف اختاره ابن الراوندى. انظر الشامل للجوينى ص 646.
(4) هذا التعريف نسبه إمام الحرمين الجوينى لمعظم المعتزلة انظر الشامل فى أصول الدين ص 646.
(5) ساقط من «أ».
(6) ساقط من «أ».
(3/421)
________________________________________
ومنهم من قال: العلّة هى التى يتجدد الحكم بتجدّدها؛ وهو باطل، بما بيّنا من العلم القديم؛ فإنه موجب كون البارى- تعالى- عالما؛ وهو علة له من غير تجدد.
ومنهم من قال: العلة هى المؤثرة فى الحكم. وظاهر لفظ التأثير يستدعى سابقة وجود الحكم. حتى تؤثر العلّة فيه؛ فيكون الحكم سابقا على تأثير العلة فيه؛ وهو ممتنع.
وقال الأستاذ أبو بكر: «1»
العلة: هى التى توجب استحقاق حكم المحل، وتسميته به وهو إن فسّر الحكم بالتّسمية.
فالتسمية راجعة إلى اللغة والوضع؛ وقيام الأعراض بمحالها؛ غير موجب لاستحقاق الوضع.
وإن فسّرها بالمعنى الحالى، فهو غير قائل بالأحوال [إلا أن يكون ذاكرا ذلك على مذهب القائل بها] «2».
وقد قيل فى ذلك عبارات أخرى غير وافية بالغرض إلا بنوع تكلّف؛ فلذلك آثرنا الإعراض عنها
والأقرب فى ذلك ما ذكره القاضى أبو بكر:
من أن العلة هى: الصفة الموجبة لمن قامت به حكما «3».
فقوله: الصفة: تميز العلة عن الذوات القائمة بأنفسها: كالجواهر؛ فإنها لا تكون عللا للأحوال الإحكامية:
وهى عامة للصفات القديمة: كالعلم، والقدرة لله- تعالى، ونحوه
والصفات الحادثة: كعلم الواحد منّا، وقدرته، وسواده، وبياضه، ونحوه
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 646.
(2) ساقط من «أ».
(3) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 646. فقد قال: «و الصحيح فى حقيقة العلة ما ارتضاه القاضى- رضى اللّه عنه- حيث قال: العلة هى الصفة الموجبة لمن قامت به حكما».
(3/422)
________________________________________
وقوله: الموجبة: بمعنى ملازمة الحكم لها لزوما يصدق معه قول القائل: وجد العلم؛ فوجدت العالمية، ولا عكس.
وقوله: لمن قامت به حكما: لبيان أن حكم الصفة لا يتعدى محل الصفة؛ وسيأتى تحقيقه وذلك كالعالمية، والقادرية الثابتة للذات التى قام بها العلم والقدرة.
وعلى هذا: فالعلم، والقدرة، والإرادة/ ونحو ذلك لا توجب حكما، ولا حالا للمعلوم، والمقدور، والمراد؛ إذ هو غير قائم به.
ولو كان موجبا لذلك؛ لكان المعدوم الممتنع الوجود إذا تعلق به العلم: متصفا بالصفة الثبوتية؛ وهو محال.
وأما المعلول «1»: فكل قول قيل: فى العلة فيمكن أن يوجد من مقتضاه قول: فى المعلول، وهو أن يقال:
المعلول: ما أوجبته العلة عقيبها؛ إذا لم يمنع منه مانع، أو المعتل المعلل بالعلة، أو ما كان من الأحكام متغيرا بالعلة، ومنتقلا من حال إلى حال. وكذا إلى آخر الحدود المذكورة.
وعلى مقتضى قول القاضى: المعلول: هو الحكم الواجب بالصفة القائمة بمحله.
________________
(1) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص 650.
(3/423)
________________________________________
الفصل الثانى فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية «1»
نقول: اتفق القائلون بالأحوال
على أن العلّة لا بد وأن تكون وجودية؛ غير أن طرقهم فى الدّلالة على ذلك مختلفة فلا بد من الإشارة إليها، وتتبع ما فيها، وما هو المختار فى ذلك.
وقد تمسك الأصحاب فى ذلك بمسالك:
المسلك الأول:
أنهم قالوا: لو جاز وجود تقدير علة معدومة؛ للزم منه محال؛ وبيان ذلك:
أنا إذا قلنا: العالم: عالم بعلم معدوم. جاز أن نقول: الجاهل: جاهل بجهل معدوم، إذ لا مزية لأحدهما عن الآخر
ويلزم من ذلك أن يكون الشخص الواحد عالما، وجاهلا بشيء واحد من جهة واحدة؛ وذلك محال.
وهذا المحال: إنما يلزم من القول: بأن العلة يجوز أن تكون معدومة؛ فيكون القول به محالا.
وهذا «11» // المسلك فى غاية الضعف.
لأن قول القائل:
لو جاز تقدير علة معدومة؛ للزم عنه محال.
إما أن يريد به: أن ما قدر كونه علة معدوم: أى لا تحقق له؛ فاللازم عن ذلك امتناع ثبوت الحكم المعلل به؛ وليس ذلك محالا.
________________
(1) لمزيد من البحث والدراسة:
انظر: الشامل فى أصول الدين للجوينى ص 651 وما بعدها والمواقف للإيجي ص 93؛ وشرح المواقف للجرجانى 4/ 195 - 198.
وشرح المقاصد للتفتازانى ج 1 ص 341 وما بعدها.
(11) // أول ل 63/ ب. من النسخة ب.
(3/424)
________________________________________