عثرت بيروت على ليلتها وحجبت بها وجهها. فإذا كانت تظاهرات الأمس لم توقظها، فإنه ذلك هو الدليل على أنها تنام ماشية. ففي تقاليد الأسلاف، علينا أن لا نزعج مُرَوْبِصاً، حتى وإن كان يسعى إلى حتفه.
تخيّلتها مختلفة، عربية ومعتزة بعروبتها. فكنت مخطئاَ. فهي ليست إلا مدينة يتعذر تحديد معالمها، إنها أقرب إلى استيهاماتها منها إلى تاريخها، مخاتلة ومتقلبة، مخيِّبة للأمل كمزحة باردة. فإذا كان أولياؤها القدّيسون قد تنكروا لها، وسلّموها هكذا إلى صدمة الحروب وهشاشة المستقبل، فلربّما حصل ذلك بسبب عنادها وإرادتها في التشبّه بمدن الأعداء. عاشت الكابوس، في حجمه الطبيعي – فيما نفعها؟... فكلما زاد تأملي لها، كلما قلّت قدرتي على متابعتها. إذ إنّ في مرحها توجد وقاحة لا تستقيم. إن هذه المدينة تكذب مثلما تتنفس. إن مظهرها المتأثر ليس إلا فخاً للسذَّج والهيبة التي تسنَد إليها لا تتناسب مع مزاجها؛ كما لو أننا غطينا ذبولاً شنيعاً بالحرير الناعم. فلكل يوم حزنه، توقِّع بلا اقتناع. بالأمس، صرخت غضبها عبر شوارعها ذات الواجهات المحصَّنة. وهذا المساء، ستُمتِّع نفسها. من جديد، ستكون لياليها ناجحة بامتياز. ها قد بدأت الأضواء ومصابيح النيون تعرض مشاهدها. في تزعْرُج المصابيح، تحسب السيارات الفاخرة نفسها دقات عبقرية. إنه السبت، وهي تستعد في هذه الليلة لفقس بيضها. فالناس سينفجرون إلى غاية الفجر، في مبالغة تجعلهم في منأى عن أجراس الأحد.
وصلت إلى بيروت منذ ثلاثة أسابيع، أكثر من عام بعد اغتيال الوزير الأول رفيق الحريري حيث أدركت سوء نيتها بمجرّد أن حطني التاكسي على الرصيف. لم يكن حدادها إلا واجهة، وذاكرتها مصفاة قديمة متعفنة؛ لهذا كرهتها منذ البداية.
في الصباح، انتابني اشمئزاز أصمّ حينما تعرَّفت على ضوضاء سوقها. في المساء، اختمر بداخلي الغضب نفسه حينما جاء المحتفلون يبتهجون داخل سياراتهم المشكلة تشكيلاً غريباً، وأطلقوا العنان لذبذبات أجهزة السْتيريو. ماذا يريدون أن يثبتوا؟ بأنهم يحتفلون برغم الاعتداءات؟ بأن الحياة مستمرة برغم الورطات؟
لا أفهم شيئا لهرجهم ومرجهم؟
إنني بدوي، ولدت بكَفْر كرَم، وهي قرية نائية في وسط صحراء العراق؛ إنها كتومة إلى حدّ أنها غالبا ما تذوب في السراب ولا تظهر إلا عند الغروب. إن المدن الكبيرة تثير في نفسي دائماً ريباً عميقاً. ولكن تقلبات بيروت تدوّخني. هنا، كلما وضعنا أصبعاً على شيء ما، كلما ضعفت ثقتنا بأننا حقاً نلمس شيئاً بعينه. بيروت قضية مسفسفة؛ تضحيتها مصطنعة، دموعها دموع تماسيح – أمقتها من كل قواي، بسبب قفزات الكبرياء التي ليست جريئة بما فيه الكفاية ولا تواصل لديها في الأفكار، بسبب وضع أستها بين كرسيين، تارة عربية حينما تكون الصناديق فارغة، وتارة غربية حينما تكون المؤامرات عمليات مربحة. إن ما تقدسه في الصباح، تتنكر له في المساء؛ إن ما تطالب به في الساحة العمومية، تتبرأ منه في الشاطئ، وتسعى إلى حتفها مثل هاربة ساخطة تظن أنها ستجد بعيداً ما هو موجود عند قدميها...
- من المفروض أنك في الخارج، تنشِّط ساقيك وذهنك.
كان الدكتور جلال واقفاً خلفي، أنفه يكاد يلامس رقبتي.
منذ متى كان يراقبني وأنا أناجي نفسي؟ لم أنتبه لوصوله، لقد أغاظني أن أجده جاثماً فوق أفكاري مثل سباع الطير.
أدرك الانزعاج الذي أثاره في نفسي، فأراني الشارع بذقنه.
- إنها أمسية رائعة. الجوّ جميل، المقاهي معبأة، الشوارع غاصة بالناس. كان من المفروض أن تمتّع نفسك عوض البقاء هنا لاجترار همومك.
- ليست لديّ هموم.
- ماذا تفعل هنا إذن؟
- لا أحبّ الحشود، وأمقت هذه المدينة.
رمى الدكتور رأسه إلى الخلف، كما أنه وقع تحت تأثير لكمة. قطّب حاجبيه.
- إنك تخطئ تحديد عدوّك، أيها الشاب. لا يمكن أن نكره بيروت.
- أنا، أمقتها.
إنك على خطأ. إنها مدينة تألمت كثيراً. لامست العمق. لقد نجت بأعجوبة. الآن، تستعيد عافيتها، رويداً رويداً. لا تزال دائخة ومحمومة، ولكنها تتشبث. أنا، أجدها رائعة. منذ وقت قصير، لا أحد كان يراهن من أجلها... على ماذا يمكن أن نلومها؟ ما هي الأشياء التي لا تعجبك فيها؟
- كل شيء.
- أمر مبهم.
- ليس بالنسبة لي. لا أحب هذه المدينة، وكفى.
لم يلح الدكتور:
- هل تسلِّيك هذه... مارْكة فاخرة؟
مدّ لي علبة سجائره.
- لا أدخّن.
اقترح عليَّ قنّينة:
- بيرةّ ؟
- لا أشرب.
حطّ الدكتور جلال القنينة على طاولة صغيرة من السَوْخر، واتكأ على الدربزين، كتفه يلاصق كتفي. كادت أنفاسه المخمورة تخنقني. لا أتذكر أنني رأيته صاحياً. في الخامسة والخمسين، إنه على شفى حفرة من الحطام، لونه بنفسجي والفم غائر، محفور في زوايا الشفتين. هذا المساء، يرتدي بذلة رياضية بألوان الفريق الوطني اللبناني، السترة منفتحة على قميص داخلي، لونه بلون الدم ، بينما شريط حذائه الرياضي يبدو منحلاً وليس مربوطاً كفاية. فبدا كأنه قام للتو من السرير بعد قيلولة جيدة. لقد كانت حركاته ناعسة، وعيناه، اليقظتان والمتّقدتان عادة، لا تكادان تظهران وسط الأجفان المنتفخة.
بحركة يد ضجرة، أسقط شعره على وسط جمجمته ليموّه صلعه.
- أزعجك؟
- ...
- شعرت بقليل من الضجر في غرفتي. لا يحدث شيء أبداً في هذا الفندق، لا وليمة، لا زواج. كأنه مأوى المحتضرين.
رفع القنينة إلى شفتيه وابتلع جرعة طويلة. ارتعدت في حلقه جوزة العنق، التي يملكها بارزة. وقد لاحظت، لأوّل مرة، وجود أثر خبيث يقطع رقبته، من طرف إلى آخر.
تفطّن إلى تقطيب حاجبيّ. توقف عن الشرب، مسح فمه بظهر يده؛ ثمّ التفت، هازاً رأسه، نحو الشارع الذي كان عرضة لابتلاع شرس من قبل الأضواء الهائجة.
- حاولت شنق نفسي، منذ سنوات طويلة، حكى لي وهو ينحني على الدرابزين.
- بحبل من القنّب. كان عمري حوالى ثماني عشرة سنة...
ابتلع جرعة أخرى، ثم واصل:
- كنت حينها قد فاجأت أمي مع رجل.
أربكتني كلماته، ولكن بصره كان مسدداً نحوي. أعترف أن الدكتور جلال كان يباغتني باستمرار. تجاوزتني صراحته؛ لم أتعوّد على مثل هذا الاعترافات. في كَفْر كرَم، إن مثل هذا الإفشاء قاتل لا محالة. لم أسمع أبداً شخصاً يتحدث عن أمه بهذه الكيفية، وقد أربكني الابتذال الذي ينشر بواسطته الدكتور جلال أوساخه. فأضاف:
- إنها من الأمور التي تحدث.
- أنا موافق، قلت للانتقال إلى موضوع آخر.
- أنت موافق مع من؟
بقيت حائراً. أجهل ماذا يدور في رأسه، ويقلقني أن أكون مفتقراً إلى الحجج.
تراجع الدكتور جلال عن الجدل. لسنا من طينة واحدة، أحياناً حينما يتحدّث مع أناس من وضعي، ينتابه شعور بأنه يخاطب جداراً. ومع ذلك، فالعزلة تثقل كاهله، وحديث صغير مهما كان تافهاً، قد يجنِّبه الغرق في غيبوبة كحولية. فحينما لا يتحدث الدكتور جلال، فإنه يفرط في الشراب. إن سكراته هادئة، ولكنه يرتاب من العوالم التي رسا عليها. لم يتمكن من طمأنة نفسه برغم ترداده أنه بين أيدٍ آمنة. أليست هذه الأيدي هي نفسها التي تطلق الرصاص في الظلام، تذبح وتخنق، تخفي متفجرات تحت مقاعد الأشخاص غير المرغوب فيهم؟ صحيح أنه لم تحدث غارات عقابية منذ أن وصل إلى بيروت، ولكن في سجِّل مستقبليه مجازر رهيبة. إن ما يقرأه في عيونهم لا يخطئ: إنهم الموت زاحفاً. عثرة عابرة، إفشاء سرّ، ولا يجد حتى الوقت الكافي لإدراك ما يحدث له. منذ أسبوعين فقط، وُجِد عِماد، الفتى المُكلّف بالاهتمام بي، يتخبط في برازه وسط ساحة عمومية. بالنسبة للشرطة، إن عماد مات بسبب جرعة مخدرات قاتلة. وهذا أفضل. أصدقاؤه، الذين أجهزوا عليه محقنة معدية، لم يحضروا جنازة دفنه؛ تصرفوا كأنهم لا يعرفونه، لا من آدم ولا من حواء. منذ تلك الحادثة، أصبح الدكـتور جلال ينظر مرتين تحت سريره قبل أن يندس تحت الغطاء. قال:
- كنت تتحدّث وحدك، قبل قليل.
- يحدث لي أن أفعل.
- وعمّا كنت تتحدث؟
- ... لا أتذكر.
هزّ رأسه ثم عاد إلى تأمل المدينة. إننا في شرفة على سطح الفندق، في آخر طابق، داخل نوع من القبّة الزجاجية، تشرف على شارع الحي الرئيسي. توجد فيها بعض الكراسي من السوْخر، وطاولتان منخفضتان، وسرير في زاوية تسهر عليه رفوف مثقلة بالكتب وكرّاسات الإشهار. قال لي:
- لا تثقل كاهلك بالأسئلة.
- لم أعد أطرح على نفسي أي سؤال.
- حينما ننعزل، نطرح دوماً أسئلة على أنفسنا.
- أما أنا فلا.
درّس الدكتور جلال طويلاً في الجامعات الأوربية. كان يظهر باستمرار على شاشات القنوات التلفزيونية ينتقد "الانحراف الإجرامي" لإخوته في الدين. فلا الفتاوى الصادرة بحقّه، ولا محاولات اختطافه، تمكنت من ردع عنفوان حدّته. كان على وشك أن يصبح قائد رتل المتهجمين على الجهاد المسلح. ثمّ، وبلا أدنى تحذير، وجد نفسه في الصفوف الأولى لإمامة الأصولية. أصيب بخيبة أمل عميقة من لدن زملائه الغربيين، وقد لاحظ أنهم يغلِّبون دوماً وضعه كمهاجر عربي حقير على وضعه كمثقف متمرس، فكتب مرافعة قاسية حول العنصرية الفكرية السائدة في أوساط المدارس الفكرية الغربية، وباشر بتحليقات عجيبة للتقرب من الدوائر الإسلاموية. في البداية، اتُّهم على أنه جاسوس مزدوج، ثمّ أعيد له الاعتبار وكلّفته الإمامة بعمل الدعاية لها. وها هو اليوم يجوب البلدان العربية والإسلامية لتسخير موهبته في الخطابة وذكائه الخارق لصالح تعليمات الجهاديين. قال لي مقترحا:
- يوجد ماخور غير بعيد من هنا. ماذا لو زرت إحدى فتياته؟
ذُهِلت.
- ليس ماخوراً حقيقياً، لا يشبه المواخير الأخرى. الزبائن يعدُّون على الأصابع، من نوع الطبقة الراقية... عند السيدة رشَق، أناس متميزون. نشرب ونتبادل سجائر الحشيش، بلا إفراط، أنت تدرك قصدي طبعا. ثمّ نفترق، لا من رأى ولا من سمع. أما الفتيات، فإنهن جميلات ومبتكرات، مهنيات حقيقيات. فإذا كانت نفسيتك ليست على ما يرام لسبب أو آخر، فسيعملن على تشغيلها في لمح البصر.
- ليست لي.
- لماذا تقول هذا؟ في سنك، لم أكن أترك إستاً يبرد.
أربكني ابتذاله.
صعب عليّ قبول فظاظة بهذا الوسخ صادرة عن عالم في مستواه.
يكبرني الدكتور جلال بحوالي ثلاثين سنة. في قريتي، ومنذ الأيام الخوالي، لا يمكننا تخيّل مثل هذه المحادثة أمام من هو أكبر منك. مرّة واحدة في بغداد، وأنا أتجوّل مع عمّ شاب، تلفظ أحد بشتيمة عند مرورنا بقربه – لو انفتحت الأرض تحت قدمي في تلك اللحظة، لما ترددت من الاختفاء بها.
- أأنت مستعد للذهاب؟...
- لا.
تأسف الدكتور جلال لأجلي. انحنى على درابزين من الحديد المطرّق، وبنقرة خفيفة، أرسل عقب سيجارته يتهاوى إلى الأسفل. تابعنا سقوط النقطة الحمراء وهي تتدحرج من طابق إلى آخر، إلى أن تشتَّتت إلى شرارات متعددة على الأرض.
- هل تظن أنهم سيلتحقون بنا يوما، سألته لأغير الموضوع.
- من هم؟
- مفكرّونا.
رمقني الدكتور جلال بنظرة مائلة:
- أنت بكر، أليس كذلك؟... أحدثك عن ماخور ليس بعيداً من هنا...
- وأنا أحدثك عن مفكرينا، يا دكتور، أجبته بصرامة كي أوقفه عند حدّه.
أدرك أن اقتراحه الوقح يزعجني. قلت ملحّاً:
- هل سيلتحقون بصفوفنا؟
- هل هذا مهم؟
- بالنسبة لي، نعم... إن المفكرين يمنحون معنى لكل شيء. سيحدِّثون غيرَنا عنا. وسيكون لكفاحنا ذاكرة.
- ألا يكفيك ما قاسيته؟
- لست بحاجة إلى النظر خلفي كي أتقدّم. إن رعب الأمس يدفعني إلى الأمام. ولكن الحرب لا تتوقف عند هذا الحد.
حاولت القراءة في عينيه لأتأكد إن كان يتبعني. نظر الدكتور إلى حانوت في الأسفل، واكتفى بالموافقة بحركة من ذقنه.
- في بغداد، استمعت إلى كثير من الأحاديث والخطب. كانت تزعزع أحشائي حنقاً مثل جَمل أصابه السعار. كانت لديّ رغبة وحيدة: أن أفجّر الكرة الأرضية كاملة، من القطب الشمالي إلى جنوبه... وحينما تحمل أنت لواء حقدي باتجاه الغرب، أنت العلاّمة، سيتحوّل غضبي إلى مفخرة. أتوقف عن طرح الأسئلة. وتأتيني أنت بجميع الأجوبة.
- ما نوع الأسئلة؟ استعلم رافعاً رأسه.
- يوجد ركام من الأسئلة تخترق ذهنك حينما لا يتسنى لك الاختيار. ليس الخونة هم الذين يسقطون بالضرورة. أحياناً، يحدث خلل ما، وتخطئ رصاصاتنا الهدف.
- إنها الحرب، يا فتى.
- أعرف. ولكن الحرب لا تفسّر كل شيء.
- لا شيء بحاجة إلى تفسير. تقتل، ثمّ تموت. هكذا تجري الأمور منذ العهد الحجري.
سكتنا. كل واحد ينظر إلى المدينة من جهته.
- شيء جميل لو يلتحق مفكرونا بنضالنا. هل تعتقد أن الأمر ممكن؟
- ليس بالحشود، هذا ما أخشاه، قال بعد تنهد، ولكن عدداً منهم سيلتحق، بلا شك. لا شيء يمكن أن ننتظره من الغرب. وسينتهي الأمر بمفكرينا إلى إدراك ذلك يوماً. الغرب لا يحب إلا نفسه. لا يفكر إلا في نفسه. وإذا مدّ لنا يد المساعدة، فلكي يستخدمنا كطعم، لا غير. يتلاعب بنا، يؤلّب بعضنا ضد البعض الآخر، وحينما تنتهي اللعبة، يرمينا في أدراجه السرية وينسانا.
تسارع تنفس الدكتور. أشعل سيجارة جديدة. ارتعدت يده، وتجعّد وجهه، في لحظة خاطفة تحت ضوء القدّاحة، كما المنديل.
- ومع ذلك، كنتَ على شاشات كل القنوات التلفزيونية...
- نعم، ولكن على كم منصة فائزة؟ قال مغمغماً. أبداً لن يعترف الغرب بأفضالنا. بالنسبة إليه، العرب لا يحسنون إلا الضرب في الكرة أو الصراخ في مكبر صوت. وكلّما أثبتنا له العكس إلا وارتفع إنكاره لنا. وإذا حدث، مرة وبالصدفة، أن أجبرت هذه المدارس الآرية أن تقوم بحركة باتجاه هؤلاء "العرب القذرين المدجَّنين"، ستختار أسوءهم لإثارة غيرة أحسنهم. عرفت هذه الوضعية عن قرب. أعرف ماذا يعني ذلك.
أضاءت جمرة عقب سيجارته الشرفة. كما أنه يريد استهلاك سيجارة كاملة في نفحة واحدة.
تشبثت بشفتيه. إن قدحه شبيه بوساوسي، يدعّم أفكاري الثابتة، وينفخ في روحي طاقة ذهنية رائعة.
- وقبلنا، تعلمه آخرون على حسابهم، واصل مغتمّاً. عند التحاقهم بأوربا، فكروا أنهم عثروا على وطن لعلمهم وعلى أرض خصبة لطموحاتهم. ومع ذلك، كانوا يدركون أنهم ليسوا مرغوبين، ولكنهم صبروا أكثر مما يستطيعون التحمل، مدفوعين بشيء من السذاجة. ولأنهم اعتنقوا القيم الغربية، فإنهم صدّقوا كل ما يهمس في آذانهم من مفاهيم نبيلة: حرية التعبير، حقوق الإنسان، المساواة، العدالة... كلمات كبيرة وفارغة مثل الآفاق المسدودة. ليس كل ما يلمع ذهب. كم من عباقرتنا نجحوا؟ أغلبهم مات غيظا. أنا متأكد أنهم لا يزالون يؤنِّبون ضمائرهم حتى وهم في القبور. بالرغم من أن الأمر فاضح بأنهم يناضلون من أجل بصلات عفنة. أبداً، لن يسمح أقرانهم الغربيون بصعودهم إلى دفّة الاعتراف العلمي. إذ إن العنصرية الحقيقية كانت دوماً فكرية. فالتمييز العنصري يبدأ بمجرد أن يُفتَح كتاب لنا، حيث قضى كبارُنا بالأمس دهراً لإدراك هذا الأمر؛ وقت تصحيح الرمي، كانوا خارج جدول الأعمال. هذا لن يحدث لنا. إننا ملقحون. من لا يملك لا يعطي، يقول مثل من عندنا. إن الغرب ليس إلا أكذوبة حامضة، انحرافاً مقطراً بعناية، نشيد جنية البحر للذين غرقت هويتهم. يقول عن نفسه أرض استقبال وترحيب؛ في الحقيقة، ليس إلا نقطة سقوط حيث لن نخرج منها سالمين أبداً...
- هل تظن بأن لا خيار لنا.
- كليّاً. لم يعد التعايش ممكناً. إنهم لا يحبوننا، ونحن لم نعد نحتمل عجرفتهم. على كل واحد منا أن يعيش في جهته، مديراً ظهره كلية للآخر. ولكن، قبل أن ننشئ الجدار الكبير، علينا أن نكبّدهم خسارة فادحة انتقاماً من الشر الذي سلطوه علينا. لهذا من الضروري أن يعرفوا أن التخاذل ليس من شيمنا، ولكنها حماقتهم.
- ومن سيكون الغالب؟
- ذلك الذي ليس له ما يفقده.
رمى عقب سيجارته أرضاً وسحقه كما أنه يهشم رأس حية. من جديد، أحرجتني حَدَقتا عينيه المتفجرتان.
- أتمنى أنك ستذيقهم الأمرين، لهؤلاء الأنذال.
صمتت. من المفروض أن الدكتور يجهل سبب إقامتي في بيروت. لا أحد ينبغي معرفة السبب. أنا نفسي، أجهل ما ينبغي أن أنجزه. أعرف فقط أن الأمر يتعلق بـأكبر عملية لم يقم بها أحد في أرض العدو، ألف مرة أكثر صداماً من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر...
أدرك أنه بصدد جرِّي نحو حقل خطير لي وله معاً، دعك القنينة في قبضة يده، ثمّ لفظها في مزبلة.
- سيتأزّم الوضع على نطاق واسع، قال مغمغماً. لا أريد تفويت فرصة الحضور بأي ثمن.
حيّاني وانصرف.
بقيت وحدي، فأعطيت ظهري للمدينة وتذكرت كفْر كرَم... كفْر كرَم قرية بائسة وقبيحة لا أستبدلها بألف احتفال. كان مكاناً هادئاً، في عمق الصحراء. لا يشوّه طبيعته أي مصباح، ولا يزعج خدرته أي ضجيج. منذ أجيال لا تعد ولا تحصى، عشنا منعزلين خلف أسوارنا المصنوعة من طين وقش، بعيدين عن العالم وبهائمه المقزّزة، مكتفين بما وضع الله في صحوننا، حامدين إياه على المولود الجديد الذي يرزقنا به وكذا على القريب الذي يأخذه منا. كنا فقراء، متواضعين، ولكننا كنا هانئين. إلى غاية اليوم الذي اغتصِبت فيه ألفتنا، ونبِشت فيه مقدساتنا، وجرجِرت كرامتنا في الوحل والدم... إلى غاية اليوم الذي، في حدائق بابل، جاء أنذال مدجَّجون بالمتفجرات والأغلال ليعلِّموا الشعراء أن يكونوا رجالاً أحراراً...
كَفْر كَرَم
1.
كل صباح، تأتيني أختي التوأم بَهِيَة بفطوري إلى غاية غرفتي. تدفع الباب صائحة: "انهض، يا من بالداخل، ستخمر مثل العجينة." تحطّ الصينية فوق المائدة عند قدم السرير، تفتح النافذة وتعود لتقرص أصابع رجليّ. حركتها صارمة، تتباين بوضوح مع عذوبة صوتها. ولأنها كانت تكبرني ببضع دقائق، كانت تعتبرني رضيعها، ولم تتفطن إلى أنني قد كبرت.
إنها فتاة نحيفة، حريصة على النظام والنظافة إلى حدّ الهوس تقريبا. حينما كنت صغيرا، كانت هي التي تلبسني ثيابي وتقودني إلى المدرسة. وبما أننا لم نكن في قسم واحد، كنت أجدها دوما أثناء الراحة في ساحة المدرسة تراقبني من بعيد، والويل لي إن قمت بعمل يجلب "العار للعائلة". بعد ذلك، وحينما بدأ الزغب يخط ملامح وجه الفتى الهزيل والبثير الذي كنته، سهرت بصفة شخصية لكبح أزمة مراهقتي، توبّخني في كل مرّة أرفع فيها صوتي أمام أخواتي الأخريات، أو أعبّر عن استيائي من طبق أكل أعتبره غير كاف لنموي. لم أكن ذا طبع شَكِس، ومع ذلك، كانت تجد فظاظة غير مقبولة في كيفية التفاوض حول بلوغي. أحيانا، تعيدها أمي إلى مكانها، بضجر ظاهر؛ تتعقّل بَهية مدّة أسبوع أو اثنين، ثم تنقضّ عليّ عند أوّل زلة.
أبدا، لم أتمرّد ضد تهجماتها المفرطة. بالعكس، كان ذلك يسليني في أغلب الأحيان.
- سترتدي سروالك الأبيض وقميصك ذات المربعات، أمرتني وهي تشير إلى الملابس المطوية على طاولة الفورميكا التي كنت أستخدمها مكتبا أيضا. غسلتها وكويتها مساء أمس. عليك أن تفكر في شراء زوج حذاء آخر، أضافت وهي تدفع بطرف قدمها نعليّ المتعطنين. إن حذاءك هذا بلا عقب تقريبا زيادة إلى أن رائحة كريهة تفوح منه.
أدخلت يدها في صدارها وأخرجت منه أوراقا نقدية.
- يوجد هنا ما يكفي من النقود كي لا تكتفي بصنادل مبتذلة. فكّر أيضا في شراء العطر. لأن الرائحة الكريهة التي تنبعث منك ستجعلنا نستغني عن مبيد الصراصير.
وقبل أن أجد الوقت للاتكاء على مرفقي، حطّت النقود على وسادتي وانسحبت.
لم تكن أختي تشتغل. أُجبِرت على مغادرة الثانوية في السادسة عشر من عمرها، بعد أن خطبها شاب من العائلة، ولكن هذا الأخير توفى بالسلّ قبل ستّة أشهر من الزواج، فبقيت تذبل في البيت منتظرة خطيب آخر. ولم يسعد الحظ أخواتي الأخريات اللائي يكبرننا سنا. تزّوجت عائشة، أختي الكبرى، بمربي دواجن. وتقطن في قرية مجاورة في منزل كبير تتقاسمه مع عائلة زوجها. كان التعايش يتدهور من فصل إلى فصل إلى غاية اليوم الذي لم تعد تتحمّل فيه تنكيد بعضهن وتعسف البعض الآخر، فأخذت أطفالها الأربعة وعادت إلى حضن الأسرة. اعتقدنا أن زوجها سيأتي بعد أيام لاسترجاعها؛ ولكنه لم يفعل، ولم يقم حتى بمبادرة لرؤية أولاده أيام الأعياد. أختها الصغرى، عفاف، في الثلاثة والثلاثين من العمر ولا تملك شعرة واحدة على رأسها. خلال طفولتها، أصيبت بمرض أفقدها شعرها. قدّر أبي أنه من الحكمة أن لا يبعثها إلى المدرسة، خوفا من أن تتحوّل إلى أضحوكة لدى التلاميذ. فعاشت عفاف منزوية في غرفة، كما المعوقة، ترقّع الثياب القديمة. مع الوقت، أصبحت تخيط فساتين تتكفّل أمي ببيعها هنا وهناك. وبعدما فقد أبي عمله جراء حادث، تولت عفاف إعالة العائلة؛ في تلك الفترة، لم يكن يسمع على بعد أميال من منزلنا إلا لدوران محرك آلة خياطتها. أما بالنسبة لفرح، صاحبة الواحد والثلاثين من العمر، فكانت الوحيدة التي تمكنت من مواصلة دراستها الجامعية، رغم استهجان القبيلة التي لا ترى بعين الرضا أن تعيش فتاة بعيدة عن أهلها، وبالتالي أقرب إلى الغواية. صمدت فرح وتحصلت على شهاداتها بتفوق. أراد عمّي الأكبر، فلاح ورع وودود، أن يأخذها زوجة لأحد أبنائه؛ رفضت فرح الطلب بحزم وفضلت العمل في المستشفى. أثار موقفها غيظ القبيلة، فقاطعنا الابن المهان بالجملة، متبوعا بأبيه ثمّ أمه. اليوم، تشتغل فرح في عيادة خاصة ببغداد وتتقاضى أجرة محترمة. إن النقود التي تضعها أختي التوأم على وسادتي من حين لآخر، هي نقودها.
في كفر كرم، توقف الشبان في مثل سني عن إظهار علامات الفزع حينما تدس لهم خلسة أخت أو أم نقودا في اليد. في البداية، انزعجوا قليلا، وكي ينقذوا ماء الوجه، وعدوا بتسديد دينهم في أقرب فرصة ممكنة. كانوا جميعا يحلمون بعمل يسمح لهم برفع رؤوسهم. ولكن الأزمنة كانت صعبة؛ لقد تمكنت الحروب وبعدها الحصار الدولي من إركاع البلد، وكان الشبان عندنا أتقياء ولا يغامرون للذهاب إلى المدن الكبرى حيث تنعدم فيها بركة الأسلاف، ويعمل الشيطان على تلويث الأرواح بسرعة الساحر...
في كفر كرم، لا نأكل من هذا الخبز. نفضل الموت على الإغراق في الرذيلة أو امتهان السرقة. مهما علا صوت السراب، فإن صوت الأجداد يطغى عليه دوما – إننا شرفاء بالطبيعة.
التحقت بجامعة بغداد شهورا قبل الاحتلال الأمريكي للعراق. كنت منتشيا للغاية. إن وضعي كطالب يعيد لأبي فخره. هو الأمي، حفار الآبار التعيس، أب لطبيبة ودكتور لاحق في الآداب. أليس هذا انتقاما من جميع خيبات الأمل؟ أعطيت العهد لنفسي أن أكون عند حسن ظنه. هل حدث أن أحزنته مرة واحدة في حياتي؟ كنت أريد النجاح من أجله، لأراه يسترجع ثقته بنفسه، أن أقرأ في عينيه اللتين دمّرهما الغبار ما يخفيه وجهه: سعادة جني ما زرع – بذرة سليمة الجسم والروح لا تنتظر إلا الانتشاء. وفيما كان الآباء الآخرون يتسرعون إلى ربط ذريتهم إلى الأعباء القاسية القاحلة التي كانت شقاءهم وشقاء أسلافهم، كان أبي يشدّ حزامه ويدخّر لأواصل دراستي. لم يكن أكيدا، لا بالنسبة لي ولا له، أن تكلَّل الدراسة بنجاح اجتماعي، ولكنه كان مقتنعا أن فقيرا متعلما أقل شفقة من فقير أمي، لا حول له. أكيد أن الشخص الذي يحسن قراءة رسائله الخاصة وملء الاستمارات، سيتمكن من الحفاظ على جزء غير يسير من كرامته.
لم أتردّد عن حمل النظارات عندما عتبت أوّل مرة رحاب الجامعة رغم أن الطبيعة وهبت لي نظرة صقر. بهذه الطريقة استطعت أن ألفت إليّ أنظار نوال، فأضحت تحمر كعود الصليب كلما صادفتها عند خروجنا من الأقسام. حتى وإن لم أتجرأ على الاقتراب منها إلا أن أدنى ابتساماتها تكفي لسعادتي. وحينما تلألأت سماء بغداد بأسهم نيران غريبة كنت أشيّد لها آفاقا رائعة. ارتفعت صفارات الإنذار في صمت الليل؛ طفقت العمارات تتحوّل إلى دخان، وبين عشية وضحاها، ذابت الغزليات الأكثر جنونا وسط الدموع والدماء. احترقت كراريسي وكتاباتي الرومانسية في الجحيم، وسلّمت الجامعة للمخربين والأحلام لحفّاري القبور؛ دخلت إلى كفر كرم، متهلِّسا، حائرا، ولم أضع قدماي في بغداد ثانية.
عند أهلي، ليس عندي ما أشتكي منه. لم أكن متطلبا؛ يكفيني الشيء القليل. كنت أسكن في السطوح، داخل غرفة غسل الثياب أعيد ترتيبها. أثاثي عبارة عن صناديق قديمة، وسريري مصنوع من لوحات خشبية التقطت هنا وهناك. وكنت سعيدا بالعالم الصغير الذي أقمته حول أُلفَتي. لم أكن أملك جهاز التلفيزيون بعد، ولكنني حظيت بجهاز راديو مُخَنْخِن كان يدفئ عزلتي.
في الطابق الأوّل، من جهة الفناء، يشغل والدي غرفة بشرفة؛ من جهة الحديقة، في عمق البهو، تتقاسم أخواتي قاعتين كبيرتين مكدّسة بأثاث وملابس رثّة ولوحات دينية جلبت من الأسواق المتجوّلة، يظهر بعضها خطوطا متاهية، والبعض الآخر يصوّر سيدنا عليّ ينقض انقضاضا على العفاريت أو يقطّع أعداءه إربا إربا، وسيفه البتار، ذو الشفرتين، ينزل على رؤوس الكفار كما الزوبعة العاصفة. وتوجد أمثال هذه اللوحات داخل الغرف، وفي الرواق، وفوق الأبواب. لم تعلّق لأغراض التزيين، وإنما لفضائلها الطلسمية؛ إنها تقي من العين والحسد. في أحد الأيام، أسقطت واحدة بضربة كرة مفاجئة. كانت لوحة جميلة بآيات قرآنية مطرزة بخيط أصفر على عمق أسود. تهشّمت مثل مرآة. كادت أمّي تصعق صعقا. أراها الآن، يد على الصدر والعينان جاحظتان، أكثر شحوبا من كتلة طبشور –سبع سنوات من الشقاء قد لا تنزف دمها بمثل تلك العناية.
في الطابق الأرضي، يوجد المطبخ مقابل غرفة ضيقة بها ورشة أختي عفاف، وقاعتان متداخلتان للضيوف، وقاعة استقبال ضخمة بباب ينفتح على بستان خضر وفواكه.
بمجرّد أن أنهيت ترتيب أدواتي، نزلت أسلّم على والدتي، امرأة قوية، صاحبة نظرة صريحة، لم تثنِ عزيمتها الأعباء المنزلية الشاقة ولا كرّ الفصول. قبلة على خدها تمنحني جرعة قوية من طاقتها. كنا نتفاهم بالأصبع والعين.
كان والدي يجلس في الفناء جلسة ناسِك، تحت ظل شجرة عصية التصنيف. بعد صلاة الفجر التي يؤديها حتما في المسجد، يعود إلى الساحة يحرك كريات سبحته، اليد المعاقة في تجويف عباءته –لقد فقد استعمال ذراعه في انهيار بئر كان ينظفها... شاخ والدي فجأة منذ تلك الحادثة. ترهّلت هيبة ربّ البيت التي كانت ترفعه فوق الجميع، ولم تعد نظرته ترمي أبعد من مقلاع. سابقا، كان يحدث له أن ينضم إلى مجموعة أقارب ليتبادل معهم تقييمه حول مستجدات الأحداث. ولكن الاغتياب تغلب على التصحيح، فانسحب. في الصباح، بعد خروجه من المسجد، وقبل أن يستيقظ الزقاق كلية، يستقر عند أسفل شجرته، وفنجان القهوة في متناول يده السليمة، ويسترق السمع إلى الضوضاء المحيطة به كما لو أنه يأمل في فكّ دلالاتها. كان والدي رجلا طيبا، بدويا من فقراء القوم لا يأكل دوما إلى حدّ الشبع، إلا أنه أبي ويبقى بالنسبة لي في المكانة التي تفرضها عليّ التقاليد والأعراف. ورغم ذلك، فكلما رأيته عند قدم تلك الشجرة، لا أتمالك نفسي من الشعور بالشفقة على شخصه. صحيح أنه كان وقورا وشهما، ولكن بؤسه ينسف كل المظهر اللائق الذي يجهد نفسه للحفاظ عليه. أعتقد أنه لم يشفَ أبدا من فقدان استعمال ذراعه، ويكاد يدمره الشعور الدفين بأنه أصبح عالة على بناته.
لا أتذكر أنني كنت قريبا منه أو أنني احتميت بصدره يوما؛ ومع ذلك، كنت مقتنعا بأنه سوف لن يدفعني إذا بادرت بالخطوة الأولى. المشكل: كيف السبيل إلى مثل هذه المجازفة؟ ثابت كالصنم، لا يظهر والدي شيئا من عواطفه... وأنا طفل، كنت أخاله شبحا؛ أسمعه عند الأفجار يشدّ رزمة أمتعته استعدادا للذهاب إلى الورشة؛ وقبل أن ألتحق به، يكون قد خرج ولا يعود إلا بعد أن يكون ظلام الليل قد خيّم كلية. أجهل إن كان أبا طيبا. بسبب التحفظ أو الفقر المدقع، لم يكن يهدي لنا ألعابا، ويبدو أنه لم يكن يبالي لا بصراخنا الصاخب ولا بخمودنا المباغت. أتساءل إن كان قادرا على الحب، إن لم يحوّله وضعه كوالد لنا إلى تمثال ملح. في كفر كرم، يلتزم الآباء بالحفاظ على مسافة بينهم وبين ذريتهم، مقتنعين أن الألفة تضرّ بسلطتهم. كم مرّة اعتقدت أنني ألمح بريقا بعيدا في نظرة أبي الصارمة. مباشرة بعد ذلك، يسترجع هيبته ويتنحنح كي أتملص بعيدا عنه.
في تلك الصبيحة، وتحت شجرته، تنحنح أبي عندما قبلت رأسه باحتفالية فاضحة ولم يسحب يده عندما مسكتها لتقبيلها. فهمت أنه لن ينزعج إذا جالسته بعضا من الوقت. نتبادل أطراف الحديث، ولكن ماذا نقول؟ لم نتمكن حتى من مواجهة نظرتينا. حدث أن جلست إلى جانبه مدة ساعتين، ولم ينطق أحدنا ببنت شفة. اكتفى بتحريك كريات سبحته؛ ولم أتوقف عن دعك طرف الحصير. لو لم تأتِ أمي لتكلفني بشغل، لبقينا على تلك الحال إلى سقوط الليل.
- أنا ذاهب في دورة صغيرة. هل أنت بحاجة إلى شيء؟
أجاب بالنفي بحركة من رأسه.
وجدت الفرصة سانحة لمغادرته.
كانت كفر كرم دائما قرية منظّمة: لم نكن بحاجة إلى السفر بعيدا كي نلبي حاجاتنا الأساسية. كانت لدينا ساحتنا للأسلحة؛ حلباتنا الخاصة باللعب –في الغالب إنها حقول مهملة؛ مسجدنا حيث ينبغي الاستيقاظ باكرا يوم الجمعة كي نجد مكانا في الصفوف الأولى؛ محلاتنا؛ مقهيان –السفير الذي يرتاده الشباب، والهلال؛ مكانيكي من الطراز الأوّل قادر على تصليح أي محرك بشرط أن يكون من نوع ديزل؛ حداد يشتغل أيضا كسباك عند الحاجة؛ قالع ضرس، وبائع أعشاب طبية ومجبّر في ساعاته الشاغرة؛ حلاق بمظهر هرقل الأسواق الموسمية، هادئ وشارد الذهن، ولحلاقة جمجمة يقضي وقتا أطول مما يقضيه سكِّير في إدخال خيط في خرم الإبرة؛ مصوِّر أظلم من مخبره، وساعي بريد. لدينا أيضا صاحب مطعم شعبي؛ وبما أنه لم يعد أحد من الحُجّاج يتوقف عندنا، تحوّل إلى إسكافي.
بالنسبة للكثير، فإن قريتنا ليست سوى مجموعة سكنية ممدة في عرض الطريق، مثل بهيمة ميتة – لا يكاد المسافر يراها حتى تختفي عن الأنظار، ومع ذلك كنا فخورين بها. كنا دوما نرتاب من الأجانب. طالما أنهم يقومون بدورات كبيرة لتفادي المرور علينا، كنا سالمين معافين، وإن كانت الرياح الرملية تجبرهم أحيانا على اللجوء إلى قريتنا للاحتماء، فكنا نقوم بواجب الضيافة وفقا لتوصيات رسولنا الكريم دون أن نحاول إبقاءهم أكثر حينما يبدأون في جمع أمتعتهم. إن ما يأتينا من الغير يعيد إلى أذهاننا ذكريات سيّئة...
تربط علاقة قرابة دموية أغلبَ سكان كفر كرم. أما الباقي فإنه موجود هنا منذ أجيال عديدة. صحيح أن لنا خصوماتنا الصغيرة ولكنها لا تتدهور إلى حدّ الصدام العنيف. حينما تسوء الأحوال، يتدخل الشيوخ لتهدئة الأعصاب. وإذا قدّر المهانون أن الإهانة لا تغتفر، يتوقفون عن تبادل الكلام وتطوى القضية. من جهة أخرى، نحبذ اللقاءات في الساحة العمومية أو داخل المسجد، كما نهوى جرّ نعالنا في أزقتنا المغبرة أو التمدد تحت الشمس عند أسفل جدراننا المصنوعة من الطين الممزوج بالقش والتي تشوهها في بعض الأماكن لوحات من آجور البرباين المثلّم العاري. قريتنا لست جنة الريحان، ولكن –الضيق في الذهنيات وليس في القلوب- كنا نحسن استغلال أدنى نكتة كي نطلق العنان للضحك والقهقهات ونغترف من أبصارنا ما نواجه به نوائب الدهر.
يبقى كاظم، من بين جميع أولاد الأعمام والأخوال، أحسن أصدقائي. في الصباح، حينما أخرج من دارنا، تقودني قدماي مباشرة إليه. أجِده بشكل دائم في زاوية أزقة الجزار، خلف حائط صغير، مؤخرته لاصقة على صخرة كبيرة وذقنه بتجويف يده، يحاول جاهدا أن ينسجم مع مقعده التعيس. إنه أيأس شخص عرفته. بمجرد وصولي قربه، يخرج علبة سجائر ويمدها لي. يعرف أنني لا أدخن، ورغم ذلك، لا يتردد عن تكرار هذه الحركة دوما ليستقبلني بها. مع طول الوقت، ومن باب اللباقة، انتهى بي الأمر إلى قبول عرضه ووضع سيجارة في فمي. مباشرة، يقدّم لي قدّاحة ويسترسل في ضحك كتوم بعدما تجعلني النفحات الأولى أسعل بقوة. ثمّ، ينطوي على نفسه، العين سارحة، الوجه مغلق. كل شيء يتعبه؛ السهرات مع الأصدقاء كما السهرات الجنائزية. كانت المناقشات معه تتأزّم بسرعة، أحيانا، تنتهي بغضب عبثي، لا يعرف سرّه إلا هو.
- ينبغي أن أشتري زوجا جديدا من الأحذية.
ألقى نظرة خاطفة على حذائي ثمّ عاد إلى تأمل الأفق.
حاولت إيجاد حقل للتفاهم، فكرة للتحليل؛ لم يبدِ اهتماما.
كان كاظم ضارب عود موهوب. يكسب قوته بالمشاركة في حفلات الزواج. كان ينوي تشكيل فرقة موسيقية حينما فتّت القدر مشاريعه إلى مسحوق تذروه الريح بعيدا. زوجته الأولى، فتاة من القرية، ماتت في المستشفى جراء التهاب رئة بسيط. في ذلك العهد، كان مشروع الأمم المتحدة "الغذاء مقابل البترول" يتعثر وكانت الأدوية الأساسية تنقص كثيرا، حتى في السوق السوداء. تألّم كاظم كثيرا من فقد زوجته المبكر. أجبره أبوه على الزواج ثانية آملا في تخفيف خزنه. ثمانية عشر شهرا بعد الزواج، أثكله مرض التهاب السحايا ثانية. بعد ذلك، فقد كاظم إيمانه.
كنت من الأشخاص القلائل الذين يخالطونه دون تعكير صفو مزاجه.
اقتربت منه وجلست القرفصاء.
مقابلا لنا، تقع المداومة القديمة للحزب، والتي دشِّنت في احتفالية صاخبة قبل ثلاثين سنة، قبل أن تسقط في النسيان بسبب غياب الاعتقاد الأيديولوجي. خلف البناية المقفلة، تحاول نخلتان سقيمتان أن تنقذا ماء الوجه. بدا لي أنهما كانتا هنا منذ الأزمنة الغابرة، الشبح مبروم بشكل يثير الضحك، أغصانها متدلية وجافة. لا أحد يكترث بوجودها، باستثناء الكلاب التي تقترب من الجذع، ترفع القدم وتسقيه، أو بعض الطيور المسافرة الباحثة عن مِجْثَم شاغر. كانتا تحيّرانني وأنا طفل. لا أفهم لماذا لا تستغلان ظلام الليل لتختفيان إلى الأبد. روى لنا درويش جوّال أن النخلتين، في الحقيقة، كانتا ثمرة هلوسة جماعية تاريخية، نسي السراب أن يحملهما معه عند تبخّره.
- هل سمعت الراديو هذا الصباح؟ يبدو أن الإيطاليين بصدد حزم أمتعتهم.
- سيعطي لنا قدما جميلة، قال مغمغما.
- في رأيي...
- ألم تذهب لشراء زوج حذاء جديد؟
رفعت ذراعيّ إلى مستوى صدري علامة الاستسلام.
- الحق معك. عليّ أن أذهب لتنشيط ساقيّ.
أخيرا، رضي أن يلتفت نحوي:
- لا تنزعج من موقفي هذا. إن هذه الحكايات تسكرني.
- أفهم.
- لا تلمني. أقضي أيامي مضجرا، وليالي ساهرا آرقا.
وقفت.
في اللحظة التي وصلت فيها إلى طرف الجدار الصغير، قال لي:
- أظن أن لديّ زوج حذاء. مُر بالبيت هذه الظهيرة. إذا كان بمقاسك، فإنه لك.
- موافق... سلام.
ها قد تجاهلني.
2.
في الساحة المحوّلة إلى ملعب كرة القدم، كان قطيع من الأطفال يضرب على كرة بالية في هرْج ومرْج، الهجمات فوضوية، والاختلالات مذهلة. إنهم أشبه بسرب عصافير مشعّثة تتخاصم حول حبة ذرّة صفراء. فجأة، تمكن طفل قصير القامة من انتشال نفسه من العراك وركض وحيدا كالكبير نحو مرمى الخصم. راوغ منافسا، تجاوز الثاني، مال إلى خط التماس وأعطى الكرة لرفيق له منعزلا في المقدمة، ولكن هذا الأخير، المندفع كالصاروخ، أخطأ الرمي بحمق، قبل أن يجرجر مؤخرته على الحصى. بلا أدنى تردد، هجم طفل ثخين، كان مقرفصا عند أسفل الجدار، على الكرة، خطفها وفرّ هاربا بسرعة. ذهل اللاعبون في البداية قبل أن يفهموا بأن المتطفل سرق منهم الكرة، فانطلقوا، دفعة واحدة، في مطاردته، واصفين إياه بكل أنواع الطيور. قال الحداد الجالس مع خادمه عند عتبة ورشته.
- لم يقبلوه لاعبا بينهم، بالضرورة، يفسد العرس.
شاهدْنا نحن الثلاثة الطفلَ الثخين يختفي خلف مجموعة منازل، والآخرين يقتفون أثره – الحداد بابتسامة لطيفة؛ وخادمه شارد الذهن. سألني الحداد:
- هل استمعت إلى آخر الأخبار؟ يبدو أن الإيطاليين يستعدون للرحيل.
- لم يحددوا الموعد بعد.
- المهم أنهم يحزمون أمتعتهم.
ثم استغرق في تحليل طويل ألحقه بعد ذلك بنظريات تقريبية حول تجديد البلد، الحرية، إلخ. وكان مساعده، نحيف أسود وجاف مثل مسمار، يستمع إليه بانقياد مؤثر لملاكم مدوّخ، يردّ، بين جولتين، بإيماءة رأس لنصائح مدربه بينما يتيه بصره في ذهول غائم.
كان الحدّاد شخصا ودودا. حينما يستنجد بخدماته في أوقات مستحيلة، لتصليح تسرب ماء خفيف في الخزان أو تشقق تافه في الإسقالة، لا يرفض أبدا. كان صاحب قامة فارعة معظمة، بذراعين ملطخين بكدمات زرقاء ووجه أشبه بشفرة موسى. تتلألأ عيناه ببريق معدني أشبه بالشرارات التي تنبعث من طرف نافثة النار التي يستخدمها في عمله. يتظاهر المازحون بحمل قناع لحّام كي يواجهون نظره. في الحقيقة، يملك عينين متلفتين ودامعتين، ومنذ وقت قصير، بدأ بصره يتضبّب. أب لنصف دزينة من الأطفال، كان يأتي إلى ورشته للهروب من الفوضى العارمة السائدة في بيته أكثر مما يأتي للعمل. كان ابنه البكر، سليمان، الذي يقاربني في السن، مختّلا عقليا؛ يستطيع المكوث في زاوية بلا حراك لمدة أيام كاملة، ثمّ، ودون أدنى تردد، تُوخِزه أزمته ويبدأ في الركض، فيركض إلى غاية الإغماء. لا أحد يعرف كيف تأتيه تلك النوبة العصبية. سليمان لا يتكلم، ولا يشتكي، ولا يعتدي على أحد؛ يعيش متخندقا في عالمه، ويجهل كلية عالمنا. بضربة مباغتة، يطلق صراخا، دائما نفسه، ويندفع عبر الصحراء دون أن يلتفت وراءه. في البداية، كنا نشاهده مندفعا وسط اللهيب، متبوعا بأبيه. مع الأيام، أدركنا أن تلك السباقات اللامتناهية قد تهلك قلبه، ومع طول الوقت، سيتعرض حتما إلى سُداد قد يؤدي بحياته إلى الهلاك. في القرية، انتظم الجميع بحيث يسهل إيقافه بمجرد إعطاء الإنذار. وحينما نتمكن من القبض عليه، فإن سليمان لا يتخبط ولا يبدي أية مقاومة؛ يستسلم للأشخاص الذين يقيدونه ويعيدونه إلى البيت، فمه مفتوح على ضحك رنّان، عيناه جاحظتان.
- كيف حال الابن؟
- مثل الصنم، ردّ قائلا. لم يتحرّك منذ أسابيع. نخاله قد شفي نهائيا... وأبوك؟
- دائما عند أسفل شجرته... ينبغي أن أشتري حذاء جديدا. هل هناك من يذهب إلى المدينة اليوم؟
حكّ الحدّاد قمة جمجمته.
- بدا لي أنني شاهدت شاحنة في الطريق، منذ ساعة تقريبا، ولكنني لست متأكدا إن كانت ستتوجه إلى المدينة. يجب الانتظار إلى ما بعد الصلاة. ثمّ إن السفر أصبح معقدا مع كل نقاط المراقبة والإزعاج الذي يسببه العساكر... هل رأيت مع الإسكافي؟
- إن حذائي غير قابل للترقيع. أنا بحاجة إلى حذاء جديد.
- إن الإسكافي لا يملك النعال والصمغ فقط...
- سلعته تجاوزتها الموضة. أنا بحاجة إلى نوع حديث، لين وجميل.
- أتظن أن هذا ينسجم مع حالة طرقاتنا؟
- هذا ليس سببا كي نعزف عن الجديد... سأكون سعيد الحظ لو وجدت شخصا يحملني إلى المدينة. أريد شراء قميص جميل أيضا.
- في رأيي، إنك ستنتظر طويلا. طاكسي خالد معطّل، والحافلة لم تعد تمر من هنا منذ أن كادت طائرة مروحية أن تدمرها في الطريق منذ حوالي شهر.
استرجع الأطفال كرتهم؛ رجعوا بخطوات منتصرة. لاحظ الحدّاد:
- لم يذهب بعيدا مفسد العرس.
- إن سمنته لا تسمح له بالذهاب بعيدا.
عاد الفريقان إلى الانتشار ثانية في الملعب، كل فريق في جهته، واستأنفت المقابلة من لحظة توقفها. مباشرة، ارتفعت الصيحات، فاضطر كلب هرم إلى الانسحاب.
وبما أنني كنت بلا شغل، اتخذت مكانا على قطعة أجور وتابعت المباراة باهتمام.
في نهاية المقابلة، انتبهت إلى أن الحدّاد ومساعده قد اختفيا، وأن الورشة مغلقة. الآن، قلّت حرارة الشمس. نهضت واتجهت عبر الزقاق المؤدي إلى المسجد.
كان محل الحلاقة غاصا بالناس. إنه الموعد الأسبوعي المألوف لشيوخ كفر كرم، يوم الجمعة بعد الصلاة، يأتون لمشاهدة أحدهم يسلّم رأسه لمقص الحلاق، شخص ضخم الجثة، ملفوف بمئزر الجزّارين. سابقا، كانت النقاشات عقيمة، تدور على نفسها. ذلك لأن رجال صدام ساهرون. بسبب كلمة واحدة لا يستسيغونها، تهجّر العائلة بأكملها؛ فكانت مدافن الجثث والمقاصل تنبت في كل مكان. ولكن، منذ أن فوجئ الطاغوت في مخبئ جرذ وسجن بمخبئ آخر، انحلت الألسنة، واكتشف بطَّالو كفر كرم أنهم يملكون فصاحة مذهلة... هذا الصباح، عند الحلاق، اجتمع حكماء القرية – وإذا كان بعض الشبان يقفون بالقرب منهم، فلأن النقاش يعد بالكثير. تعرفت على جابِر، الملقب بـ"الدوك"، سبعيني متذمّر دوما، درّس الفلسفة لمدة عشريتين في ثانوية بالبصرة قبل أن يسجن ويقضي ثلاث سنوات في زنازن البعثيين بسبب مسألة اشتقاق لغوي غامض. وعند خروجه من غياهب السجن، منع من التدريس على كامل التراب العراقي، زيادة إلى المراقبة الشديدة التي سلطّتها عليه المخابرات. فهم الدوك جابر أن حياته على شفى حفرة من الهاوية، فالتحق بمسقط رأسه والتزم الصمت إلى غاية تفكيك تماثيل الرئيس الطاغية في الساحات العمومية. كان يبدو في جلابيته الزرقاء النظيفة مهيبا، مما يمنح له مظهرا كهنوتيا. إلى جانبه، جلس باشر الصقر، منكمشا على مقعد، يتحدث دون انقطاع؛ إنه قاطع طرق سابق طاف المنطقة على رأس عصابة مخيفة قبل أن يلجأ إلى كفر كرم، بغنيمته كوسيلة للتملّق. لم يكن من أفراد القبيلة، ولكن القدماء فضلوا منحه الضيافة عوض تعرضهم لغاراته. في الجهة المقابلة، وسط عصبتهم الصامتة، يجلس الأخوة عصام، شيخان سقيمان ولكنهما خطيران، يحاولان تحطيم حجج هؤلاء وأولئك؛ إنهما يمارسان مبدأ المناقضة بشراسة، ومستعدان للتخلي عن أفكارهما التي دافعا عنها بالأمس إذا اعتنقها حليف غير مرغوب فيه. ثمّ، وقورا في زاويته، منعزلا كي يظهر أكثر، يجلس العميد على كرسيه المصنوع من السَوْخر، والذي يحمله له مناصروه أينما حلّ، السبحة المهيبة في اليد، وفي الأخرى غليون نرجيلته. إنه لا يتدخل أبدا في النقاش ويترك لنفسه الكلمة الأخيرة؛ لا يتحمل أن تسرق منه كلمة الختام. قال عصام 2، مُشهدا محيطه القريب على صواب رأيه:
- على كل، لقد خلّصونا من صدام.
قال الصقر مغمغما:
- لم نطلب منهم شيئا.
قال عصام 1:
- ومن يستطيع فعله؟
قال أخوه:
- هذا صحيح. من كان بإمكانه أن يبصق على الأرض دون أن يعرِّض نفسه لرعود السماء، دون أن يوَّقف في الحين بحجة إهانة الرئيس ويشنق في أعلى رافعة؟
قال الصقر بازدراء:
- إذا نجح صدام في إذلالنا، فبسبب خياناتنا الكبيرة والصغيرة. إن الشعوب ليس لها إلا الملوك التي تستحقها.
قال شيخ مرتجف على يمينه:
- لست موافقا معك.
- أنت لا يمكنك أن تتّفق حتى مع نفسك.
- لماذا تقول هذا الكلام؟
- لأنها الحقيقة. أنت دائما مع البعض اليوم، ومع غيرهم نهار الغد. لم أسمعك تدافع عن موقف واحد خلال يومين متتاليين. الحقيقة أنك بلا رأي. تركب القطار المنطلق، ثمّ حينما يظهر آخر، ترمي بنفسك داخله دون أن تتحرى لمعرفة وجهته.
تخندق الشيخ المرتجف خلف سحنة مستاءة، الوجه داكن. قال له الصقر بنبرة تصالحية:
- لا أقول هذا الكلام لإهانتك، يا صديقي. ألوم نفسي حد الموت لو خدشت كرامتك. ولكنني لا أتركك تعلق عيوبنا على مشجب صدام. كان وحشا، نعم، ولكنه وحش من صلبنا، من دمنا، وقد ساهمنا جميعا في تدعيم عظمته الجنونية. ولا أفضل أبدا كفارا جاءوا من طرف الدنيا ليدوسوا بأقدامهم علينا على واحد منا، مهما كان سيئا. إن جنود الأمريكان ليسوا إلا أوغادا، حيوانات متوحشة تقود المجنزرات أمام الثكالى والأيتام ولا يترددون لحظة في رمي قنابلهم الفتاكة على مستشفياتنا. أنظر ماذا فعلوا ببلادنا: صيّروه جحيما.
قال عصام 2:
- أما صدام فقد حوّله إلى مدفن للجثث.
- ليس صدام، وإنما جبننا. لو أظهرنا حدا أدنى من الشجاعة والتضامن، أبدا لم يكن هذا الكلب ليذهب أبعد مما ذهب إليه في ممارسة طغيانه علينا.
قال الرجل الذي كان تحت مجزّ الحلاق موجها كلامه إلى الصقر عبر المرآة:
- أنت على حق. تركناه حرّ اليدين، فأفرط في الاستبداد. ومع ذلك، لن تتمكن من تغيير رأيي: لقد خلصنا الأمريكان من غول كان سيبتلعنا جميعا، أحياء، الواحد وراء الثاني.
قال الصقر معاندا:
- لماذا يوجد الأمريكان هنا، في رأيك؟ أبسبب الرحمة المسيحية؟ إنهم رجال أعمال، يعاملوننا كأسواق. بالأمس، كان النفط مقابل الغداء. اليوم، إنه النفط مقابل صدام. وما موقعنا في كل هذا؟ خردة. لو كان لدى الأمريكان ذرة طيبة، لما عاملوا السود واللاتينوس كسكان الكهوف. فعوض قطع الدهور والمحيطات لتقديم الدعم لعرب تعساء مخصيين، من الأجدر بهم كنس أمام أبوابهم والاهتمام بالهنود الحمر الذين يتفتتون داخل محمياتهم، بعيدا عن الفضوليين، أشبه بالمصابين بأمراض مخجلة.
- بالتأكيد، أقرّ الشيخ المرتجف. تصوّر: جنود الأمريكان يعفرون وجوههم بالرمال على بعد آلاف الكيلومترات من ذويهم من أجل الرحمة المسيحية؟ هذا ليس من شيمهم.
أخيرا، نطق الدوك جابر:
- هل يمكنني قول كلمة؟
خيّم على الصالون صمت احترام. حينما يتخذ الدوك جابر الكلمة، إنها دوما لحظة تبجيل. إن أستاذ الفلسفة السابق، الذي رفعته سجون صدام إلى مصف الأبطال، لا يتكلم كثيرا، ولكن تدخلاته تعيد أشياء كثيرة إلى مكانها الحقيقي. كلامه مفخّم، جمله صائبة، وحججه لا ترد. أضاف بنبرة وقورة:
- هل يمكنني أن أَطْرَح سؤالا؟ لماذا يستبسل بوش في الهجوم على بلدنا؟
حلّق السؤال فوق رؤوس الحاضرين دون أن يجد عشّا؛ ظنوا أن السؤال مفخّخ، فلا أحد يرغب أن يتحوّل إلى أضحوكة الجميع.
سعل الدوك جابر في قبضته، متأكدا بكسب الاهتمام الكلي له دون غيره. لاحقت عيناه الكشّافتان النظرات المترددة، فلم يعثر على واحدة؛ حينئذ، رضي بشرح عمق تفكيره:
- كي يخلِّصنا من مستبد، كان بالأمس خادمهم الذليل، فأصبح اليوم يشوِّه سمعتهم؟... لأن تضحياتنا أدخلت الشفقة في قلوب كواسر واشنطن؟... إذا آمنتم لحظة بهذه القصص الخرافية، فإنكم غارقون في سبات عميق. إن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف شيئين يقلقان بجد مشاريعها التوسعية: 1) إن بلدنا على وشك امتلاك سلاح يضمن له السيادة الكلية: السلاح النووي. مع النظام العالمي الجديد، وحدها الأمم التي تتوفر على الترسانة النووية تستقل بسيادتها، وليست الأمم الأخرى ألا أماكن أزمات محتملة، مخازن غلال مناسبة للقوى العظمى. المالية العالمية تسيّر العالم، والسلم بالنسبة إليها ما هو إلا بطالة تقنية. سؤال حيوي... 2) إن العراق كان يملك قوة عسكرية يمكن أن يواجه بها إسرائيل. وإركاع العراق يعني السماح لإسرائيل بالهيمنة الكلية على المنطقة. إنهما السببان الحقيقيان اللذان أديا بأمريكا إلى احتلال بلدنا. صدام، ما هو إلا ذر الرماد على العيون. إذا كان طغيانه يمنح شرعية للعدوان الأمريكي في نظر الرأي العام العالمي، فإنه ليس إلا تمويها شيطانيا يتمثل في خداع الناس لإخفاء الأساس: منع بلد عربي امتلاك الوسائل الإستراتيجية للدفاع عن بلده، وبالتالي ضمان سيادته ووحدة ترابه، والسماح لإسرائيل بفرض هيمنتها نهائيا على الشرق الأوسط.
كانت حجج الدوك جابر دامغة، فابتلع الحاضرون ألسنتهم.
سعد الدوك لهذا الانتصار، فتلذّذ لحظة للتأثير الذي تركه صواب تدخله، فتنحنح بشيء من الغرور، مقتنعا أنه أغلق أفواه الجميع، ثمّ نهض قائلا:
- سادتي، أترك لكم الوقت لتأمل أقوالي، آملا أن أجدكم نهار الغد متبصرين أكثر.
وبعد ذلك، ملّس جلابيته بجلال وغادر الصالون بتعاظم مبالغ فيه.
أخيرا انتبه الحلاق إلى الصمت المخيّم حوله، هو الذي لا يعير، في العادة، اهتماما لحديث هؤلاء وأولئك؛ قطّب حاجبا، ثمّ عاد إلى جزّ زبونه بتكاسل جَسْئي يقضم باقة حشيش، دون أن يشغل ذهنه بأي سؤال.
الآن وقد انسحب الدوك جابر، اتجهت الأنظار نحو العميد. تحرّك هذا الأخير في كرسيه السَوْخري، مطّ شفتيه وقال:
- يمكن رؤية الأشياء من هذه الزاوية أيضا.
سكت لحظة قبل أن يضيف:
- في حقيقة الأمر، إننا لا نجني إلا ما زرعناه: ثمار أحناثنا. لقد أخلفنا الوعد وأفلسنا. سابقا، كنا أنفسنا، عربا بشهامتنا وأفضالنا، مع القليل الكافي من الغرور لتأجيج حماسنا. وعوض تحسين صورتنا مع مرور الزمن، تقهقرنا.
- وما هي أخطاؤنا؟ سأل الصقر بريب.
- الإيمان... فقدناه، ومعه فقدنا وجهنا.
- على حسب علمي، مساجدنا عامرة دوما.
- نعم، ولكن أنظر إلى حال المؤمنين؟ أناس يذهبون إلى الصلاة بشكل آلي، ثمّ يعودون إلى الأوهام، بعد انقضاء الفرائض. ليس هذا هو الإيمان.
مدّ له مناصر كأس ماء.
شرب العميد بعض الجرعات؛ رنّ صوت الابتلاع في الصالون كما سقوط الأحجار داخل بئر.
- منذ حوالي خمسين سنة، حينما كنت أقود قافلة عمّي بالأردن، على رأس مائة من الجمال والنوق، توقفت في قرية قرب عمّان. كان وقت الصلاة. مع مجموعة من رجالنا، توجهت إلى المسجد وباشرنا إقامة الوضوء في ساحة صغيرة مبلّطة. اقترب منا الإمام، شخص مهيب يرتدي جلابية لامعة، وقال لنا: "ماذا تفعلون هنا يا شباب؟ قلنا له: نتوضأ لأداء الصلاة. فقال: هل تعتقدون أن قِرَبكم تكفي لتطهيركم؟ قلت له: ينبغي الاغتسال جيدا قبل الشروع في الصلاة. حينذاك، أخرج من جيبه تينة جميلة وطرية، نظفها بعناية داخل إناء ماء؛ ثمّ فتحها أمام أعيننا. كانت التينة الجميلة تعج بالديدان. ختم الإمام كلمه: يا شباب، لا يتعلق الأمر بغسل الجسد، وإنّما بتطهير الروح. إذا كنتم متعفنين من الداخل، لا تكفي الأنهار والبحار لتطهيركم."
هزّ جميع الحاضرين في صالون الحلاق رؤوسهم بالموافقة.
- لا ينبغي أن نحمّل غيرنا وزرا ارتكبناه بأيدينا. إذا كان الأمريكان احتلوا بلدنا، فذلك بسببنا. بعد أن فقدنا الإيمان، فقدنا معه معالمنا ومعنى الشرف. لقد...
- هنيئا لك...
صاح الحلاق محرّكا مشطه فوق رقبة زبونه القرمزية.
تجمّد الناس في الصالون، مستائين.
واصل الحلاق تحريك مشطه بيد مرحة، بعيدا جدا عن إدراكه أنه شوّش على العميد المبجّل وأثار سخط أولئك الذين كانوا يشربون من ينابيع شفتيه.
لملم الزبون نظاراته القديمة الملصقة بأطراف من الخيوط والأسلاك، سوّاها على أنفه المنتفخ وتأمل نفسه في المرآة المقابلة. فجأة، تحوّلت ابتسامته إلى تكشيرة.
- ما هذا؟ إنك جَزَزْتني كالنعجة.
أجابه الحلاق ببرودة أعصاب:
- لم يكن على رأسك إلا شعيرات قليلة.
- ربّما، ولكنك بالغت. لم يبق إلا القليل كي تقلع لي قشرة الرأس.
- كان عليك أن توقفني.
- كيف؟ بلا نظارات، لا أرى شيئا.
ارتسمت على وجه الحلاق برطمة حيرة.
- آسف. فعلت ما أقدر عليه.
في تلك اللحظة، انتبه الرجلان إلى أن الجوّ داخل القاعة ليس على ما يرام. استدارا وتلقيا بفظاظة نظرات الحاضرين الغاضبة. سأل الحلاق بصوت خفيض:
- ماذا حدث؟
قال رجل بنبرة لائمة:
- كان العميد يعلمّنا، وأنتما لا تسمعان وتتخاصمان حول ضربات مقص بائسة. هذا غير مقبول على الإطلاق.
أدرك الحلاق وزبونه مدى فظاظة سلوكهما، فوضع كل واحد يده على فمه، على طريقة طفل ضبط متلبسا بتلفيظ البذاءات، وانكمشا صامتين.
انسل الشبان الذين كانوا يستمعون عند المدخل على رؤوس أقدامهم. في كفر كرم، حينما يختصم الكبار، ما على المراهقين والعُزّاب إلا الانسحاب فورا. احتراما وخجلا. كانت مناسبة سانحة للتوجه نحو الإسكافي، حيث يقبع محله على بعد مائة متر. على جانب بناية شنيعة، كامنة خلف واجهات قبيحة إلى حدّ أنك تظن أن العفاريت هي التي بنتها.
كانت الشمس تدق الأرض دقا وتجرح العيون. بين كوخين، رأيت ابن عمي كاظم جاثما في المكان الذي تركته فيه، منكمشا على صخرته الكبيرة؛ حيَّيْته بحركة يد لم يلتفت إليها، ثمّ واصلت طريقي.
كان دكان الإسكافي مغلقا؛ على كل حال، إن النعال التي يقترحها لا تليق إلا بالشيوخ، وإذا كان بعضها يتعفن منذ أمد بعيد داخل علبها الكرتونية، فليس بسبب نقص النقود.
أمام سياج البناية الحديدي الكبير، المدهون بلون بني منفّر، كان عُمَر العريف يتسلى مع كلب. بمجرد أن رآني، وجّه ضربة قدم إلى مؤخرة الحيوان الذي ابتعد في عواء حاد وأشار إلي بالاقتراب، قائلا:
- أراهن أنك تبحث عن السِفاح، وجئت تحوم في هذه الضاحية، لعلك تجد نعجة تائهة، أليس كذلك؟
كان عمر إزعاجا متنقلا. في القرية، لا يحبذ الشبان فظاظة أقواله ولا تلميحاته المنحرفة؛ يتجنبه الجميع كما الطاعون. إن مروره بالجيش أفسده. منذ خمس سنوات تلت، غادر القرية ليخدم طباخا في صفوف كتيبة، وعاد غداة احتلال القوات الأمريكية لبغداد دون أن يشرح لنا ما حدث له بالضبط. في إحدى الليالي، كانت وحدته في حالة استنفار قصوى، البندقية باتجاه العدو، على أهبة إطلاق النار؛ في الصباح، لا أحد بقي في مركزه، هرب الجميع، الضباط قبل غيرهم. عاد عمر إلى مسقط رأسه مطأطأ الرأس. لم يهضم انهزام كتيبته، غارقا عاره وحزنه في خمر مغشوش. ربّما جاءت بذاءته من هنا؛ لم يعد يشعر باحترام لشخصه، فكان يتلذّذ بإزعاج أقربائه وأصدقائه. قلت مذكرا:
- يوجد أشخاص شرفاء من هذه الناحية.
- هل نطقت كفرا؟
- من فضلك...
شرّع ذراعيه.
- نعم، نعم... ألم يعد بإمكان أحد أن يمزح قليلا الآن.
كان عمر يكبرني بإحدى عشر سنة. تجنّد في الجيش بعد فشل في علاقة حب –الجميلة التي هام بها، خطبها شخص آخر. لم يكن يعرف شيئا عن الخطوبة؛ وهي كذلك. حينما تجرأ ليكلّف خالته بالذهاب لطلب يد ملهمته، تلقى صاعقة على رأسه. لم يسترجع عافيته بعد. قال متذمرا:
- إنني أختنق في غار الجرذان هذا. ضرَبْت على كل الأبواب، ولم أجد أحدا يريد النزول إلى المدينة. أتساءل لماذا يفضلون المكوث مسجونين في أكواخهم العفنة عوض إمتاع أنفسهم بدورة صغيرة على شارع، محلاته مكيفة الهواء، وشرفاته مزدانة بالزهور. ماذا يوجد هنا، غير الكلاب الضالة والعظايا؟ على الأقل، حينما تكون في المدينة، وتجلس إلى شرفة، ترى مرور السيارات، والفتيات الفاتنات؛ تشعر بأنك موجود فعلا، بأنك تعيش... ليس هذا إحساسي وأنا في كفر كرم. لدي شعور بأنني أحترق إربا إربا، أقسم لك. أختنق، أموت... ملعون أبوها... حتى طاكسي خالد معطّل، والحافلة لم تعد تمر من هنا منذ أسابيع.
كان عمر مكوّما على قدميه القصيرتين مثل رزمة ثياب. يرتدي قميصا باليا ذات مربعات، ضيقا جدا ولا يمنع تدفق كرشه الضخمة على ركبتيه. سرواله الملطخ بالشحم الأسود غير لائق المنظر هو أيضا. ملابس عمر ملطخة دوما بتلك البقع السوداء. لو يحدث أن يغير ملابسه داخل غرفة عمليات، وتكون الملابس مستخرجة للتو من أغلفتها الأصلية، إلا وجد الوسيلة لتلويثها بالشحم الأسود في الدقائق القليلة اللاحقة- كأنما تنزف من جسمه. سألني:
- أين تذهب؟
- إلى المقهى.
- كي ترى الأشقياء يلعبون الورق، كما بالأمس، والأسبوع الماضي، وغدا، وبعد عشرين سنة؟ سأبقى بلا رأس... ماذا فعلت، في حياة سابقة، كي يعاد بعثي في قفر عفن مثل كفر كرم؟
- إنها قريتنا، عمر، وطننا الأصلي.
- أي وطن هذا؟ الغربان نفسها تتجنب التوقف عنده.
أدخل كرشه الضخمة كي يولج طرف قميص تحت الحزام، استنشق بقوة وقال متنهدا:
- على كل حال، ليس لدينا خيار. موافق على المقهى.
رجعنا القهقري باتجاه الساحة. كان عمر يشتطّ غضبا. كلما مررنا بقرب سيارة قديمة مركونة بمحاذاة منزل إلا وصاح بتذمر:
- لماذا يشتري هؤلاء الحمير السيارات ليتركوها تتصدأ على عتبة أكواخهم؟
ابتلع غيظه لحظة ثمّ استأنف الانقضاض، مشيرا بذقنه إلى كاظم الجالس عند أسفل الجدار في الجهة المقابلة للزنقة:
- وكاظم؟ كيف يعمل كي يبقى جالسا في زاويته طوال اليوم؟ لو يستمر على هذه الحالة طويلا، سيدفع أوراقه ويركض عاريا في زقاق هذه البلدة اللعينة.
- يحب الجلوس بمفرده، هذا كل ما في الأمر.
- عرفت شخصا في الكتيبة كان يتصرف بهذه الطريقة، كان دوما ينكمش في زاوية من قاعة النوم، لا تراه أبدا في النادي، ولا حول طاولة يثرثر مع الأصدقاء. وجدناه ذات صباح في دورة المياه، معلقا في السقف.
- سوف لن يحدث لكاظم شيء من هذا القبيل، قلت وأنا أحس بارتعاش يسري في ظهري.
- على ماذا تريد أن نراهن؟
ماجد، أحد أقربائي، يسيّر مقهى "السفير"، شخص سقيم وحزين، يذبل داخل لباس عمالي أزرق اللون، قميء إلى حدّ أننا نجزم أنه قدّ من غطاء خيمة. كان يقف خلف المصرف القديم، أشبه بتمثال فاشل، وقبعة عسكرية بالية مغروزة إلى حدّ الأذنين. لا يأتي زبائنه إلا من أجل اللعب بالورق، فلا يجهد نفسه في تشغيل الآلات ويكتفي بجلب تَرْمُس مليء بالشاي الأحمر من البيت، وفي الغالب يجبر على استهلاك الشاي بمفرده. يرتاد مقهاه شبان بطالون، مفلسون، ينقضون عليه منذ الصباح الباكر ولا يغادرونه إلا مع غروب الشمس، ولا يحرك أحدهم يده باتجاه الجيب المثقوب حتما. فكّر ماجد مرارا في غلق المحل، ولكن ماذا سيفعل بعد؟ في كفر كرم، يتجاوز الحرمان الحد المقبول؛ يتشبث كل واحد بحرفته كي لا يجرفه اليأس جرفا لا ينهض من بعده أبدا.
حينما رأى ماجد وصول عمر، ارتسمت على محيّاه علامات الاستياء. فقال مغمغما:
- أهلا وسهلا بالخراب.
ألقى عمر نظرة تقزّز على الشبان المحلقين بالطاولات هنا وهناك. قال وهو يحك مؤخرته:
- كأننا في ثكنة، يوم حظر الخروج.
تعرّف على التوأمين، حسن وحسين، واقفين في عمق القاعة قرب النافذة، يتابعان مقابلة لعب الورق تجمع بين: ياسين، حفيد الدوك جابر، فتى غامض وغضوب؛ صلاح، صهر الحداد؛ عادل، فتى قوي البنية ولكن فيه شيء من الغباء؛ ورابعهم بلال، ابن الحلاق.
اقترب عمر من اللاعبين، حيّ أثناء مروره التوأمين قبل أن يخيّم خلف عادل.
تحرك عادل، منزعجا:
- إنك تظللني يا عريف؟
- الظل يوجد في رأسك المليء بالتبن، يا عزيزي.
قال ياسين دون أن تفارق عيناه أوراق اللعب:
- ابتعد عنه. لا تلهينا من فضلك.
قهقه عمر بازدراء، والتزم الصمت.
كان اللاعبون الأربعة يتابعون لعبهم بتركيز كبير.
وبعد عملية حسابية ذهنية طويلة، تنحنح بلال قائلا:
- الدور لك، عادل.
تأكد عادل ثانية من لعبه، شفتاه مضمومتان إلى الأمام. أخذ كل وقته، مترددا. قال صالح قلقا:
- هيا، تحرّك؟
ردّ عادل محتجا:
- أووه، أتركني أفكر.
تدخّل عمر قائلا:
- كف عن الهَصّ. آخر غرام من المخ الذي بقي لك، أهدرته هذه الصبيحة عند جلدك لعمَيْرة.
تهاطل وابل من الرصاص على المسَلَّى الوسخ...
انسلّ الشبان الذين كانوا قرب الباب؛ أما الآخرون فلم يعرفوا أين يخبئون رؤوسهم.
أدرك عمر ضخامة حمقه؛ ابتلع ريقه منتظرا تلقي الرعد على جمجمته.
حول الطاولة، تجمّد اللاعبون، وأبقوا رقابهم منحنية على أوراقهم. وحده ياسين حطّ أوراقه بهدوء على الطاولة، ثمّ رفع نحو العريف السابق عينين ابيضا من الاستياء:
- أجهل أين تريد الوصول بكلامك البذيء، عمر، ولكنك هنا، تجاوزت كل حدود اللياقة. هنا، في قريتنا، الشبان مثل الشيوخ يحترمون بعضهم البعض. إنك تربيت في وسطنا، وتعرف معنى هذا الكلام.
- لم أقل شيئا...
قال ياسين بصوت هادئ يتناقض مع الغضب المتفجر في عينيه:
- اخرس... تغلق فمك التنن وتجذب طرّادة الماء فوقه. لست في نادي العسكر وإنما في كفر كرم. هنا كلنا إخوة، أبناء العم والخال، أقرباء وجيران، ونراقب جيدا تصرفاتنا وأقوالنا... كرّرت لك مائة مرة، عمر. لا داعي للبذاءات؛ يرحم والديك، لا تنغص علينا هذه اللحظات الهانئة برطانة ثكنتك القذرة...
- لم أقصد إزعاج أحد، ليست إلا مزحة خفيفة.
- أنظر حولك، عمر. هل وجدتنا نمزح؟ قل لي، هل وجدتنا نمزح؟
كانت حوزته ترتعد داخل العنق المتوتر للعريف السابق.
أشار ياسين نحوه أصبعا محذرا:
- ابتداء من اليوم، أمنعك، أكرر جيدا، أمنعك من التلفظ بشتيمة واحدة، بكلمة واحدة منحرفة؛ أتسمعني يا عمر، يا ابن عمي فاضل وخالتي آمنة...
قاطعه عمر كي ينقذ ماء الوجه أكثر من رغبته في إعادته إلى مكانه:
- هدِّئ من روعك، ياسين، إنني أكبرك بست سنين ولا أسمح لك بأن تخاطبني بهذه اللهجة.
- هل أنت قادر على فرض ما تقول؟
تبادل الرجلان النظرات المتحدية، المناخير ترتعد.
كان عمر أوّل من خفض بصره.
- لم تسقط السماء.
قال مغمغما، ثمّ انشغل بإدخال قميصه تحت حزامه بحركة فظة.
مباشرة، دار على عقبيه واتجه نحو الخروج. وعند العتبة، انفجر قائلا:
- أتريدون أن أقول لكم؟...
قاطعه ياسين:
- طهّر فمك أوّلا.
حرّك عمر رأسه واختفى عن الأنظار.
بعد ذهاب عمر، تصاعد القلق في المقهى. خرج التوأمان أوّلا، كل واحد في اتجاه. وبما أن مباراة الورق قد تشوّشت، فلا أحد رغب في استئنافها. وقف ياسين بدوره وخرج، متبوعا بعادل. لم يبق لي إلا الالتحاق بالبيت.
انزويت في غرفتي، حاولت سماع الراديو كي أبعد الضيق الذي انتابني منذ حادثة السفير. كنت حزينا بشكل مضاعف، من أجل عمر أولا ومن أجل ياسين ثانيا. صحيح أن عمر يحتاج إلى من يوقفه عند حدّه، ولكن صرامة ياسين أربكتني أيضا –بقدر ما أحس بالشفقة على الهارب من الجيش، أحاول من جهة أخرى إيجاد الأعذار لابن عمه ياسين. في حقيقة الأمر، إذا كانت علاقاتنا تتسمّم، فبسبب الأخبار التي تأتينا من فلوجة وبغداد والموصل والبصرة، في حين نحن نقتات على بعد سنوات ضوئية من المأساة التي تدمّر بلدنا. منذ انطلاق المواجهات العدوانية، وبرغم مئات الاعتداءات وقوافل الأموات، لم تحلق طائرة مروحية واحدة على منطقتنا؛ ولا عكّرت دورية عسكرية هدوء قريتنا. إن هذا الشعور الذي يقصينا نوعا ما من التاريخ يتحرك بداخلنا، من الصمت إلى الانتظار، ويتحوّل إلى حالة من تأنيب الضمير. إذا كان الشيوخ يتظاهرون بالتأقلم، فإن الشباب يعيشون الوضع بشكل سيء.
لم يتمكن الراديو من تسليتي، تمددت على السرير ووضعت الوسادة على وجهي. كانت الحرارة الخانقة تؤجج ارتباكي. لم أكن أعرف ماذا أفعل. كانت زقاق القرية تتعبني، وغرفتي الضيقة تخنقني؛ كنت أذوب في اليأس والضيق...
في المساء، حركت ريح طفيفة الستائر. أخرجت كرسيا حديديا وجلست عند باب غرفتي. على بعد كيلومترين أو ثلاثة من القرية، كانت بساتين هيْثم تتحدى حصار الصخور؛ المربع الأخضر الوحيد على بعد أميال من المنطقة، يتلألأ وقاحة في ارتدادات النهار. مالت الشمس نحو المغيب، معفّرة بالغبار. قريبا، سيشتعل الأفق من طرف إلى آخر، مبرزا تموّج التلال البعيدة. على الهضبة الجافة التي تركض نحو الجنوب إلى حد الاختناق، يذكّر الطريق الترابي بمجرى نهر جفّ معينه. عادت مجموعة أطفال من البساتين بخفي حنين، الخطوات مائلة؛ ظاهريا، يبدو أن مغامرة المغيرين الصغار قد فشلت.
- وصل طرد باسمك، أخبرتني أختي التوأم بهية، وهي تضع كيسا بلاستيكيا عند قدميّ... سأحضر لك عشاءك بعد نصف ساعة. يمكنك أن تصبر قليلا؟
- بسهولة.
نفضت الغبار من على طوق قميصي.
- ألم تذهب إلى المدينة؟
- لم أجد أحدا يوصلني.
- حاول أن تكون أكثر إقناعا نهار الغد.
- أعدك... هذا الطرد، ماذا يحوي؟
- أتى به أخ كاظم الأصغر منذ لحظات.
دخلت إلى الغرفة كي تتأكد بأن كل شيء على ما يرام ثم رجعت إلى فرانها.
فتحت الكيس البلاستكي، أخرجت كرتونا مغلفا بلصقة مشمعة. بداخله، اكتشفت زوج حذاء جديد رائع أسود اللون، وورقة صغيرة كتب عليها: لبست الحذاء مرتين، مساء زواجي الأول والثاني. إنه لك. بلا حقد. كاظم.
3.
كانت قرية كفر كرم تتخبط مع كرّ الأيام، رهينة فراغها.
عند الحلاق، في المقهى، عند أسفل الجدار، يجتر الناس الأضاليل نفسها. نتحدّث كثيرا؛ ولا نفعل شيئا. كانت النقمة تدور على بعضها، لا تثير الفضول كما في السابق؛ تتهاوى الحجج تحت رحمة الأمزجة وتتواصل المشاورات عبر خطابات مطنبة مدوّخة. شيئا فشيئا، لم يعد أحد يسمع أحدا. ومع ذلك، نحسّ بأن شيئا غير مألوف بدأ يتشكّل. إذا كان احترام التراتب لم يهتز عند الشيوخ، فإنه عند الشباب يباشر انعطافا غريبا. منذ تأديب ياسين لعُمر، العريف السابق، تشقّق حق البكورة. صحيح أن الأغلبية ساخطة على ما وقع في السفير، ولكن، أقلية من الرؤوس الخشنة والمتمردين الصغار تستلهم منها دعائم قوتها.
باستثناء هذه الحادثة التي تظاهر الشيوخ بجهلها – ذلك أن الحادثة انتشر خبرها في أرجاء القرية دون أن ترمى في الساحة العمومية، كانت الأمور تتبع جريانها في إغفاءة مؤثرة. واصل النهار في الظهور متى يحلو له، ويغيب على حسب مزاجه. بقينا مندسّين في سعادتنا الصغيرة الصماء، نحدّق في الأفق كالبُلهاء، أو نقضم أظافرنا بلا هدف. كأنما كنا نعيش في كوكب آخر، منقطعين عن المآسي التي تدمّر بلدنا. تتعارف أصباحنا بضوضائها المبتذلة، وأماسينا بنومها غير المغري، ولا يعرف البعض جدوى الأحلام حينما تكون الأفاق عارية. منذ زمن طويل، كانت أسوار أزقتنا تبقينا سجناء ظلمتها. عرفنا أبشع أنواع الحكم وبقينا أحياء نرزق، كما قطيع الغنم بعد مرور الوباء. أحيانا، حينما يطرد طاغوت طاغوتا آخر، ينزل عندنا الجلاوزة الجدد ليصيدوا الأعداء. يتمنون القبض على بعض الأوباش، يقدِّمونهم قربانا في ساحتنا، طامعين أن يعيدوا إلى الصف المتمردين المحتملين. بسرعة، يخيب أملهم ويلتحقون بعرائنهم، سالمين، ولكنهم سعداء بأن لا يضعوا أقدامهم ثانية في هذا الخلاء الملعون حيث صعب عليهم التفريق بين الأحياء والأشباح الذين يرافقونهم.
ولكن، مثلما يقول المثل الشائع، إذا غلقت بابك في وجه صراخ جارك، سيصلك من النافذة. لا أحد في مأمن عن نوائب الدهر. الأيام دوال، يوم لك، ويوم عليك. مهما أحجمنا عن ذكر الشقاء، مهما أقنعنا أنفسنا بأنه لا يمس إلا الغير، وأنه يكفي أن نبقى مختبئين في جحورنا كي نتجنبه، فإن كل هذا التحفظ قد يثير ريبه، وحتما سنراه، ذات صباح، ينقض علينا بحوافره الخشنة مستعلما عمّا يحدث... وحدث ما كان سيحدث. نزل الشقاء عندنا فجأة، بلا زينة ولا طبول، مختلسا تقريبا، ومخفيا لعبه. كنت أتناول كأس شاي في ورشة الحدّاد حينما دخلت بنته الصغرى تصرخ:
- سليمان... سليمان...
قال الحدّاد:
- هل هرب من جديد؟
أجابت البنت الصغرى بين شهيقين:
- لقد قطّع يده في السياج الحديدي... إنه بدون أصابع...
تخطّى الحدّاد المائدة الفاصلة بيننا، أسقط الإبريق الموضوع فوقها، وركض نحو منزله. تسارع خادمه للالتحاق به، مشيرا إليّ كي أتبعه. ارتفعت صيحات النساء في آخر طرف الزقاق. تجمّع حشد من الأطفال أمام سياج الفناء الكبير، المفتوح على مصراعيه. أمسك سليمان يده المضرّجة ضد صدره ويضحك بصمت، مبهوتا بسيلان الدم.
أمر الحداد زوجته بالكف عن الصراخ والبحث عن قماش نظيف. توقفت الصيحات بغتة.
قال الخادم وهو يشير إلى قطعتي اللحم على عتبة الباب:
- ها هي الأصابع...
بهدوء مدهش، انحنى الحداد وجمع الأصبعين المقطوعين، مسحهما ووضعهما في منديل خبأه في جيبه. ثمّ التفت إلى جرح ابنه. قال:
- يجب نقله إلى المستوصف حالا، وإلا سيفرغ من دمه.
التفت نحوي:
- أنا بحاجة إلى سيارة.
وافقته بإيماءة من الرأس، وانطلقت نحو منزل خالد، سائق الطاكسي. فاجأته داخل الفناء، يصلح لعبة ابنه. قلت بصوت لاهث:
- نحن بحاجة إليك. سليمان قطّع أصابعه، ويجب نقله إلى المستوصف حالا.
- آسف جدا... أنتظر ضيوفا عند الظهيرة.
- الأمر مستعجل. سليمان يفقد كثيرا من الدم.
- لا أستطيع إيصالكم. إذا أردت، خذ السيارة، إنها في المستودع. لا أستطيع مرافقتكم؛ عند الظهيرة، سيأتي خطّاب لطلب يد ابنتي.
- موافق، أعطيني المفاتيح.
أهمل لعبة طفله ودعاني إلى مرافقته إلى المستودع حيث كانت فورد قديمة مهلهلة تبرك على فراملها.
- أتعرف السياقة؟
- طبعا...
- ساعدني على إخراج هذه العربة إلى الزقاق.
فتح مصراعي المستودع، صفَّر باتجاه الأطفال المشمَّسين قرب الجدار ليقدّموا له يد المساعدة. قال شارحا:
- إن المُشغِّل لا يستجيب إلا بشق الأنفس. اجلس خلف المقود، سندفع السيارة.
احتل الأطفال المرأب صائحين، فرحين بأن يُستَنْجد بهم. أنزلت الفرامل، حرّكت مقبض السرعة وسلّمت السيارة لابتهاج الأطفال. بعد حوالي خمسين مترا، التحقت الفورد بسرعة مقبولة؛ أرخيت دواسة الوصل وأطلق المحرك هديرا مدويا بعد اهتزازات قوية. خلفي، أطلق الأطفال صيحة فرح أشبه بتلك التي يطلقونها عند عودة الضوء بعد انقطاع طويل للكهرباء.
حينما أوقفت السيارة قرب فناء الحداد، كانت يد سليمان مضمّدة بمنديل ومِضْغَطة حول المعصم؛ لا يرشح وجهه أي علامات للوجع. وجدت ذلك غريبا، لأنني لا أتصوّر أن يبقى شخص بلا إحساس حينما تقطّع أصابعه.
أجلس الحداد ابنه في المقعد الخلفي واتخذ مكانه إلى جانبه. وصلت زوجته راكضة، شعثاء الشعر، تتصبّب عرقا، أشبه بمجنونة تائهة؛ مدّت لزوجها كمية من الأوراق، مثلمة الزوايا، ملفوفة بخيط مطاطي.
- إنه دفتره الصحي. أكيد أنهم سيطلبونه منك.
- طيّب، الآن ارجعي إلى البيت، وتصرَّفي بتعقل. لم تسقط السماء.
غادرنا القرية وسط تطاير الغبار، يطاردنا الأطفال صائحين. رافقتنا ضوضاؤهم طويلا وسط الصحراء.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا والشمس تنثر السهل بواحات زائفة. في السماء القائظة، ترفرف الطيور مسرعة. يمتد الطريق الترابي عبر خط مستقيم، شاحبا ومدوّخا، يخط الهضبة الصخرية من طرف إلى آخر، بشكل يكاد يكون غريبا. كانت الفورد القديمة تقفز في الحفرات، تحرن في بعض الأماكن، وتمنح إحساسا بأنها لا تطيع إلا لاندفاعها الخاص. في المقعد الخلفي، يضمّ الحداد ابنه إلى صدره كي يمنعه من ارتطام رأسه إلى البوابة. لم يقل شيئا، تركني أقود السيارة حسب استطاعتي.
قطعنا حقلا مهملا، ثمّ محطة ضخ شاغرة، وبعد ذلك لا شيء. يمدّد الأفق عريه إلى ما لانهاية. حولنا، ومهما امتدت أبصارنا، لم نشاهد لا كوخا، ولا آلة، ولا بصيص حياة. يقع المستوصف على بعد حوالي سبعين كيلومترا باتجاه الغرب، في قرية حديثة العهد بالبناء، طرقها معبدة. يوجد بها مركز للشرطة وثانوية يتجنبها أهل قريتنا لأسباب لم أدرك كنهها. سألني الحدّاد:
- هل تظن أن البنزين كاف؟
- لا أعرف. كل إشارات لوحة القيادة معطلة.
- حيّرتني قضية البنزين منذ البداية, لم نصادف أي سيارة في طريقنا. إذا تعطلنا، سنهلك حتما.
قلت له:
- إن الله لن يتخلَّ عنا.
بعد نصف ساعة، رأينا غيمة ضخمة من الدخان الأسود تتصاعد بعيدا. كان الطريق الوطني على بعد دورات قليلة فقط، والدخان يقلقنا. أخيرا، ظهر عند منعطف هضبة. كانت شاحنة تحترق، نائمة على جنبها وسط القارعة، حجرة السائق على الساقية والصهريج منقلب؛ نيران عملاقة تلتهمه بنهم رهيب. نصحني الحداد قائلا:
- توقف. أكيد أنه هجوم قام به الفدائيون، وسوف لن يتأخّر العساكر عن الوصول. ارجع إلى غاية المحوّل الفرعي واسلك الطريق القديم. لا أريد الوقوع وسط اشتباك الطرفين.
قمت بدورة، وبعد دقائق، وصلت إلى الطريق القديم. حدّقت الضواحي جيدا، أترقّب الدعم العسكري. على بعد مئات الأمتار من جهة الأسفل، موازاة مع مسارنا، كان الطريق الوطني يتلألأ تحت الشمس، مذكرا بقناة سقي، مستقيمة وفارغة فراغا مهولا. بعد قليل، أضحت غيمة الدخان أشبه بخيط رمادي ذابل، مقيدا في روعه. من حين لآخر، يطلّ الحداد من النافذة ليرى إن كانت طائرة مروحية تحوم في الأفق. كنا علامة الحياة الوحيدة في الضواحي ويمكن لخطأ أن يحدث بسهولة. كان الحداد قلقا؛ يزيد وجهه اكفهرارا.
أما أنا فكنت بالأحرى هادئا؛ أتوجه إلى القرية المجاورة مع جريح داخل السيارة.
امتدّ الطريق الترابي عبر دورة طويلة لتجنب حفرة، وصعد تلّة وعرة، ثمّ هبوطا مسكرا، وأخيرا استقام بعد كيلومترات قليلة. من جديد، رأينا الطريق الوطني، مستقيما وفارغا، مربكا. هذه المرة، اتجه طريقنا الترابي نحوها مباشرة إلى حدّ التداخل. تغيّر صوت العجلات بمجرد لمسها الإسفلت، وكفّ المحرك من التجشؤ بفظاظة. لاحظ الحدّاد حائرا:
- إننا على بعد عشر دقائق من القرية، ولا أثر لسيارة واحدة في الأفق. إنه شيء غريب.
لم أجد الوقت الكافي لإجابته. بغتة، انتصبت نقطة حراسة تسد لنا الطريق، بأمشاط حديدية عبر كامل القارعة. تحتل مدرعتان الجهة السفلى، الرشاش مستعد لإطلاق النار. مقابل لها، بني مركز للمراقبة، فوق كومة تراب وأحجار، يتخندق خلف أكياس من الرمل وبراميل. قال الحدّد:
- حافظ على هدوئك.
أحرق نفَسه تجويف عنقي. قلت مطمئنا:
- أنا هادئ. ليس لدينا ما يخيف، معنا مريض. سوف لن يخلقوا لنا مشاكل.
- أين العساكر؟
- إنهم مندسون خلف أكياس الرمل والبراميل. أرى خوذتين. أعتقد أنهم يراقبوننا بالمنظار.
- أوّلا، قلّل من السرعة، ثمّ تقدّم ببطء. افْعَل ما يقولونه لك بالضبط.
- لا تقلق نفسك، ستسير الأمور على أحسن حال.
كان عسكري عراقي أوّل من غادر مخبأه ليشير إلينا بالتوقف على مستوى لوحة إشارة المرور موضوعة وسط القارعة. نفذت الأمر.
قال بلهجة آمرة:
- وقِّف المحرك... ضع يديك على المقود... لا تفتح الباب ولا تنزل إلا إذا أمرناك بذلك. هل سمعت؟
- نعم سمعت. أضع يديّ على المقود ولا أتحرك إلا بإذن.
- طيِّب... كم عددكم؟
- ثلاثة. نحن...
- أجب فقط على الأسئلة التي أطرحها عليك. ولا داعي للحركات الفظة؛ لا داعي للحركة أصلا، هل فهمت؟ من أين جئتم وأين تذهبون ولماذا؟
- جئنا من كفر كرم ونتوجه إلى المستوصف. معنا جريح، قطّع أصابعه في حادث. إنه مختل عقليا.
مرّر العسكري العراقي رشاشه باتجاهي، اليد على الزناد وأخمص البندقية تحت خده؛ بعد ذلك، وجّهه نحو الحداد وابنه. اقترب من السيارة عسكريان أمريكيان بدورهما، يقظان، أسلحتهما مستعدة لتحويلنا إلى غربال بمجرد رعشة. حافظت على هدوئي، مبقيا يديّ على المقود. خلفي، كان تنفس الحداد يلهث. قلت مغمغما:
- راقب ابنك. يجب أن يبقى دون حركة.
- اخرس... صرخ عسكري أمريكي انبثق بغتة على يساري، فوهة رشاشه مصوبة نحو صدغي. ماذا قلت لصديقك؟
- قلت له أن...
صرخ بالإنجليزية:
- أغلق فمك. اخرس، اسحق...
إنه أسود ضخم الجثة، متشبث ببندقيته الرشاش، عيناه أبيضان من الغيظ وأطراف شفتيه تغلي بالزبد. كان ضخما إلى حدّ أدهشني. كانت أوامره تنطلق مثل أوابل من الرصاص، تشلني. تساءل الحدّد:
- لماذا يصرخ؟ سيخيف سيلمان.
نبح العسكري العراقي، ربما كان هنا ليقوم بوظيفة الترجمة:
- أغلقوا أفواهكم... عند المراقبة، ممنوع الكلام، ممنوع مناقشة الأوامر، ممنوع الاحتجاج.
صرخ كمن يردّد درسا حفظه:
- نسكت وننفذ الأوامر بالحرف. مفهوم؟... أنت أيها السائق، ضع يدك اليمنى فوق المقود وافتح الباب ببطء باليد اليُسْرى. ثمّ ضَعْ يديك فوق رأسك وانزل بهدوء.
فجأة، ظهر عسكريان آخران خلف الفورد، مسرّجَين كحصانين أصيلين، نظارات رملية سميكة على الخوذة والصدارة الواقية الرصاص مسننة. يقتربان خطوة، خطوة، وسلاحهما مصوب باتجاهنا. يصرخ العسكري الأسود إلى حدّ تمزيق حنجرته. بمجرد أن وضعت قدما على الأرض، أقلعني من السيارة وأجبرني على الجثو. تركته يهزني على هواه. تراجع إلى الوراء، ثمّ أمر الحداد بالنزول، الرشاش موجه نحو المقعد الخلفي.
- من فضلكم لا تصرخوا. ابني مريض، متخلف عقليا، لو تخيفونه...
لم يفهم العسكري الأسود شيئا مما كان الحداد يحاول شرحه له؛ بدا مغتاظا أن يحدَّث بلغة لا يفقه منها كلمة واحدة، وهذا يضاعف من سعاره. كانت صرخاته تصدعني، تفجر بداخلي مجموعة من الوخزات الموجعة على مستوى المفاصل: اِخْرَس وإلا فجَّرتك... اليدان فوق الرأس... حولنا، لم يكن العساكر يفقدون أدنى تحركاتنا، غامضين، صامتين، البعض منهم يتخندق خلف النظارات الشمسية التي تمنح لهم هيئة مخيفة، فيما كان البعض الآخر يتبادل النظرات المشفرة لمزيد من الضغط. ذهلت للعدد الهائل من فوهات البنادق التي تحاصرنا؛ كأنها منافذ تفتح على جهنم؛ بدت لي أكبر بكثير من فوهة بركان، مستعدة لردمنا تحت سيل جارف من الحمأة والدماء. بقيت مذهولا، مسمرا على الأرض، حوزة العنق عالقة بحنجرتي. نزل الحدّاد بدوره، اليدان فوق الرأس. كان يرتعد مثل ورقة خريفية. حاول التحدث مع العسكري العراقي؛ ضغط عسكري بحذائه الخشن على أعلى ربْلة ساقه، فأجبره على وضع ركبة على الأرض. في اللحظة التي انتقل فيها العسكري الأسود إلى الاهتمام بالمسافر الثالث، لاحظ الدم على يد وقميص سليمان... يا إلهي، إنه يبول الدم، صرخ وهو يقفز إلى الخلف. هذا الحقير مجروح... كان سليمان مرعوبا. يبحث عن أبيه... الأيدي فوق الرأس، الأيدي فوق الرأس، صرخ العسكري مزبدا. إنه مريض عقليا، قال الحدّاد مستنجدا بالعسكري العراقي. تحرّك سليمان على المقعد وخرج من السيارة، مرتبكا. كانت عيناه الجاحظتان تحوِّمان وسط وجهه المنزوف. كان العسكري يصرخ أوامره كما في لحظة هجوم على العدو. كل صرخة تزيدني رعبا وانكماشا. لا يُسمَع إلا صوته، وقد غطى بمفرده على ضوضاء الأرض كلها. بغتة، أطلق سليمان صرخة مدوية، عظيمة، تُعرَف من بين ألف ضجيج صاخب. إنها صرخة غريبة، شلّت حركة العسكري الأمريكي. لم يجد الحداد الوقت الكافي ليلقي بجسده على ابنه، كي يشدّه، يمنعه من الفرار. فركض سليمان كالسهم، في اتجاه مستقيم، بسرعة أذهلت العسكري وجمّدت حركاته. أتركوه يبتعد، صرخ رقيب. ربما يكون معبئا بالمتفجرات... الآن، كل البنادق مصوّبة باتجاه الهارب. لا تطلقوا النار، قال الحداد متوسلا، إنه مريض عقليا. أعادها بالانجليزية... سليمان يركض بكل ما أوتي من قوة، فقار الظهر متصلب، يداه متدليتان، الجسد مائل نحو اليسار بشكل مثير للسخرية. من خلال طريقة جريه وحدها، ندرك أنه ليس في حالة طبيعية. ولكن، في ظروف الحرب، يمنح الشك الأفضلية لارتكاب الحماقة على حساب التحكم في النفس وبرودة الأعصاب؛ وهذا يسمى الدفاع الشرعي عن النفس... هزتني الطلقة الأولى من الرأس إلى القدمين، كما تفعل الشحنة الكهربائية. غمرني الطوفان بعد ذلك. تابعت، مذهولا، غارقا في ضبابية صاعقة، انبثاق كميات من الغبار من ظهر سليمان، محددا أماكن الإصابات. كانت كل رصاصة تخترق جسد الهارب تمزق أحشائي. التهمني تنمل شديد، بدأ بالساقين قبل أن يندفع نحو بطني. واصل سليمان الركض، كأن الرصاصات لم تخيّط ظهره. إلى جانبي، يصرخ الحداد كالمجنون، وجهه مغطى بالدموع... مايْك... نبح الرقيب، إن هذا القذر يحمل صدارة واقية الرصاص. سدّد الرأس... من فوق المَحْرس، حطّ مايْك عينا على نظارة بندقيته، سوّى السدادة، أوقف تنفسه وضغط برفق على الزناد. أصاب دريئته من الطلقة الأولى. انفجر رأس سليمان مثل بطيخة، فتوقّف عن ركضه المفكّك. شدّ الحداد صدغيه بيديه، مهلوسا، فمه مفتوح على صراخ معلق؛ نظر إلى جسد ابنه يتعثر بعيدا، ويسقط عموديا، الفخذان على الساقين، ثمّ الصدر على الفخذين، ثمّ الرأس المهشّم على الركبتين. خيّم على السهل صمت مَقْبري. ارتفع بطني كارتداد موج؛ دمرت حمأة متوهّجة حنجرتي واندفعت عبر فمي إلى الهواء الطلق. تحجّب النهار... وبعد ذلك غرقت في العدم.
استعدت وعيي، رويدا رويدا، مع صفير حاد في أذنيّ. كان وجهي ملتصقا على الأرض، وسط بركة من القيء. جسمي مشلول. كنت منكمشا على نفسي قرب عجلة فورد الأمامية، يدايّ مقيدتان إلى الخلف. رأيت الحداد يحرك دفتر ابنه الصحي تحت أنف العسكري العراقي الذي بدا محرجا. كان العسكريون الآخرون ينظرون إليه في صمت، البندقية في وضعية الراحة، ثمّ بعد ذلك مباشرة أغمي عليّ من جديد.
حينما استرجعت قليلا من قدراتي الإدراكية، كانت الشمس في ذروتها. رمضاء تنطق الصخر. نزعوا لي القيد ووضعوني في ظل المحرسة. في المكان الذي ركنتها فيه، كانت سيارة الفورد تذكر دجاجا مشعّث الريش، الأبواب الأربعة مفتوحة للريح، الصندوق الخلفي إلى الأعلى؛ عجلة التبديل ومجموعة أدوات تتراكم جانبا. لم يثمر التفتيش على شيء مشبوه؛ لم يكتشفوا قطعة سلاح ناري، ولا خنجرا، ولا حتى صندوق دواء.
سيارة إسعاف تنتظر، متوقفة قرب المحرسة، مطبوعة بهلال أحمر على الجانبين، أبوابها مفتوحة على حاملة عليها جثة سليمان. كان هذا الأخير مغطى بإزار قصير يظهر قدميه البائسين؛ فقدت اليمنى حذاءها وتشهر أصابع ممزقة، ملطَّخة بالدم والغبار.
كان ضابط عراقي يتحدّث مع الحداد، بعيدا نوعا ما عن العساكر الأمريكيين، فيما كان ضابط أمريكي، وصل توا عبر سيارة جيب، يستمع إلى تقرير الرقيب. الظاهر أن الجميع أدرك الخطأ البشع المرتكب في حق سليمان، دون أن يجعلوا منه قضية تستحق العناية. إن الحوادث من هذا النوع مألوفة في العراق. في الفوضى العارمة، يحاول كل واحد إبعاد التهمة عن نفسه. الخطأ من طبيعة البشر، والقدر وحده المسئول الأول والأخير.
مدّ لي العسكري الأسود مَطَرته؛ لا أعرف إن كان ذلك للشرب أو للغسل؛ رفضت طلبه بيد محمومة. رغم ما كان يتظاهر به من التأسف لما حدث، فإن تغيره بدا غير منسجم مع طبعه. إن الغليظ الفظ يبقى كذلك ولو مع الابتسامة؛ من خلال النظر، تكشف الروح عن طبيعتها الحقيقية.
جاء ممرضان عربيان لمواساتي؛ أقعى الرجلان بقربي وربتا على كتفيّ. رنّت يداهما بداخلي كضربات هراوة. رغبت أن يتركانني على حالي؛ كل شهادة تعاطف تعيدني إلى منابع أوجاعي. من حين لآخر، يلحقني تنهد؛ أحرك السماء والأرض لكبحه. كنت ممزقا بين رغبة التخلص من عفاريتي أو حضنها. انتابني وهن عصي التصديق؛ لم أكن اسمع إلا لتنفسي الذي يفرغني، في صدغيّ، في خفقات دمي الذي يضبط إيقاع صدى الطلقات النارية.
أراد الحدّاد استرجاع جثة ابنه؛ أفهمه رئيس الشرطة أن هناك إجراءات إدارية ينبغي احترامها. بما أن الأمر يتعلق بحادث مؤسف، يتطلب عليهم القيام بمجموعة من الإجراءات الشكلية قبل تسليم الجثة لأصحابها. سيوضع جثمان سليمان داخل غرفة حفظ الجثث؛ ولا يرجع إلى ذويه إلا بعد استكمال التحقيق.
أرجعتنا سيارة شرطة إلى القرية. لم أكن أعي جيدا بكل ما يحدث لي. كنت غارقا في نوع من الفقاعة المتملصة، تارة معلقة في الفراغ، تارة تفتتني مثل غيمة دخان. أتذكر فقط الصرخة المدوية المرعبة التي أطلقتها أم سليمان بعد عودة الحداد إلى بيته. مباشرة، اجتمع السكان، مذهولين، غير مصدقين لما حدث. كان الشيوخ يضربون بأيديهم، تعبيرا عن هول الكارثة التي نزلت على قريتهم؛ أما الشبان فكان الغيظ يتلألأ في عيونهم. وصلت إلى بيتنا في حالة يرثى لها. بمجرد أن عتّبت الباب الخارجي حتى انتفض والدي الذي كان غافيا تحت شجرته. أدرك أن كارثة قد وقعت. لم تجد أمي الشجاعة لتسألني عما وقع. اكتفت بوضع يديها على خديها. ركضت أخواتي الأخريات، الذرية ملتصقة بالفساتين. في الخارج، ارتفعت الصيحات الأولى، هنا وهناك، مأتمية، غاصة بالغيظ والغضب. ساندتني أختي التوأم، بهية، من الذراع وساعدتني للالتحاق بغرفتي في السطح. مدّدتني عل الفراش، وبعد لحظات أتت بدَلو ماء، خلّصتني من قميصي الملوث بالقيء وباشرت بغسل ما فوق الحزام من جسدي. لحظتها، انتشر الخبر في القرية، فأسرعت عائلتي لتقديم التعازي ومواساة عائلة الحداد. انتظرت بهية أن أتسلل تحت الغطاء لأخلد إلى النوم قبل أن تنسل هي الأخرى.
نمت...
في الغد، رجعت بهية، فتحت النوافذ وقدّمت لي ملابس نظيفة. أخبرتني أن عقيدا أمريكيا، مرفقا بالسلطات العسكرية العراقية، جاء لتقديم التعازي لعائلة المتوفى. استقبله العميد في بيته، ولكن داخل الفناء، ليوضح له أنه ليس ضيفا مرغوبا فيه. لم يصدق حكاية الحادث، ولم يقبل كذلك أن يطلق النار على متخلف عقليا، أي على شخص بريء وطاهر، أقرب إلى الله من القديسين. أرادت فرق تليفزيونية تغطية الحدث، واقترحت إنجاز تحقيق حول الحداد واستجوابه كي يقدّم شهادته حول ما حدث. هنا أيضا، أظهر العميد صرامة وحزما، لا جدال حولهما، فرفض رفضا قاطعا أن يعكّر الأجانب حداد قريته.
4.
ثلاثة أيام بعد الحادثة، بعث العميد شخصيا شاحنة صغيرة لتأتي بجثمان سليمان من غرفة حفظ الجثث بالمستوصف. كانت لحظات رهيبة. أبدا، لم يعرف سكان قرية كفر كرم جوّا مماثلا. اشترط العميد أن تجري مراسيم الجنازة في عزّة نفس وبين الأهل والأقارب فقط. ولم يرخّص بالحضور إلى المقبرة إلا لوفد من الشيوخ، من قبيلة مجاورة حليفة. بعد الانتهاء من مراسيم الجنازة، عاد كل واحد إلى منزله يفكّر بعمق في اللعنة التي خطفت من كفر كرم أطهر أبنائها، ذاك الذي كانوا يتبركون به ويعتبرونه النجمة التي تنير لهم الطريق في الليالي الحالكة. في المساء، اجتمع الشيوخ والشبان عند الحدّاد ورتلوا القرآن طويلا، في هجوع الليل. ولكن ياسين وجماعته، الذين أعلنوا صراحة سخطهم، لم يقتفوا أثر أهل القرية؛ بل فضلوا الذهاب إلى منزل السيّد، ابن باشِر الصقر، فتى غامض، لا يثرثر كثيرا، وتقول بعض الألسنة أنه قريب من الحركة الأصولية، بل وأنه قد خالط مدرسة بيشاور في عهد الطالبان. كان رجلا قوي البنية، في الثلاثين من العمر، بوجه زهدي أمرد، مع خُصلة شعر صغيرة على الشفة السفلى، وحينما تضاف إلى شامة تزين خدّه، تزيد محياه هيبة ووقارا. يعيش في بغداد، ولا يلتحق بكفر كرم إلا بالمناسبات. وصل بالأمس فقط لحضور جنازة سليمان... عند منتصف الليل، التحق به مجموعة فتيان آرقين. استقبلهم السيّد بحفاوة واحترام كبيرين وأجلسهم في القاعة الفسيحة مزينة بالسجاد والوسائد. وفيما كان الجميع يغرف من داخل السلال الغاصة بالفول السوداني والفستق، ويرتشف الشاي، لم يكن ياسين يهدأ في مكان. نخال عفريتا قد سكنه. لم يتوقف بصره المتفاقم من مطاردة الرقاب المنخفضة وإثارة أصحابها. وبما أن لا أحد اكترث بتصرفاته، استدار فجأة نحو أعز أصدقائه، صلاح، صهر الحداد، وقال له بازدراء:
- رأيتك تبكي في المقبرة.
اعترف صلاح، غير مدرك لقصد صديقه:
- صحيح...
- لماذا؟
- لماذا ماذا؟
- لماذا كنت تبكي؟
قطّب صلاح حاجبيه:
- حسب رأيك، لماذا يبكي الناس؟... كنت حزينا، فبكيت. بكيت لأن موت سليمان هزّ كياني. هل في البكاء ما يعيب، حينما نبكي شخصا أحببناه؟
قال ياسين:
- هذا فهمته جيدا. ولكن لماذا الدموع؟
أحس صلاح أن الأمور تفلت من مداركه.
- لا أفهم شيئا من سؤالك.
ردّ ياسين:
- إن موت سليمان قطّع قلبي. ولكنني لم أذرف دمعة واحدة. لا أتصوّر كيف تعرّض نفسك للبهدلة بهذه الكيفية. بكيت مثل امرأة، وهذا غير مقبول بتاتا.
إن كلمة "امرأة" حرّكت غيظ صلاح. ضغط على فكيه بقوة ألمته. ثمّ قال لرئيس جماعته:
- الرجال يبكون أيضا. الرسول، وما أدراك ما الرسول، بكى في لحظة ضعف.
انفجر ياسين قائلا:
- حجة واهية. ما كان عليك أن تتصرف مثل امرأة.
ضاغط عمدا على آخر لفظة.
وقف صلاح بقفزة واحدة، مستنكرا. تأمّل ياسين طويلا بنظرة مجروحة قبل أن يجمع صندله ويخرج في الدجى.
في القاعة الكبيرة حيث تحاشر حوالي عشرون فردا، كانت النظرات تتقاذف في جميع الاتجاهات. لم يفهم أحد دواعي ياسين، ما العقرب الذي لدغه كي يتصرف بهذه الطريقة السافلة اتجاه صهر الحداد. خيّم الانزعاج على القاعة. بعد صمت طويل، تنحنح السيّد، صاحب الدار. بصفته المضيف، كان عليه أن يحسم الأمر.
ألقى على ياسين نظرة حادة:
- حينما كنت طفلا، روى لي أبي حكاية، لم أفهم كنهها حينذاك. في ذلك العمر، لم أكن أعرف أن للقصص عِبَر. إنها قصة صاحب القبضة القوية، مصري كان يستبد على سكان حيّ شعبي من أحياء القاهرة. عملاق خرج توا من كهوف الأزمنة الغابرة، يملك شاربا يذكر بقرني كبش، قاس مع الغير مثلما هو قاس مع نفسه. لم أعد أتذكر اسمه، ولكنني احتفظت بصورته مثلما وصفها لي والدي. عنتر الأحياء الشعبية، سريع التدخل في الساحة الملوثة باللصوص والحمالين. حينما يختصم جاران، يستنجدان بحكمه. وكانت قراراته لا ترد. وكان صاحب القبضة القوية سليط اللسان، متعجرفا، غضوبا ومتطلِّب؛ وبما أن لا أحد احتج على سلطته، نصّب نفسه ملك الفقراء والمعوزين ويصرخ في كل مكان أن لا أحد يستطيع مواجهة نظرته. ولم تنزل أقواله في أذن أطرش. في إحدى الأمسيات، استدعاه رئيس الشرطة. لا أحد عرف ما وقع بالضبط في تلك الليلة. نهار الغد، عاد إلى بيته في هيئة لم يألفها الناس، مطأطأ الرأس وعيناه تتملصان. لم يكن يحمل على جسمه أثرا للضرب أو الجروح، ولكن على كتفيه الساقطتين علامة أكيدة لعار مشين. غلق على نفسه بداخل كوخه إلى أن بدأ أهل الحي يشتكون من رائحة نتنة قوية. حينما كسّروا الباب، وجدوا صاحب القبضة القوية ممددا على فراشه، ميتا منذ عدة أيام. بعد ذلك، روى شرطي أن صاحب القبضة القوية، حينما وجد نفسه أمام رئيس الشرطة، وقبل أن يتهمه هذا الأخير بأي خرق للقانون، ارتمى بقرب قدميه يطلب منه العفو. لم ينهض أبدا من ذلك الإذلال.
قال ياسين، مترصدا التلميحات الممكنة:
- وماذا بعد؟
ارتسمت على وجه السيد ابتسامة ساخرة:
- أوقف أبي الحكاية.
غمغم ياسين، واعٍ بحدود مداركه حينما يتعلق الأمر بفك التلميحات:
- ليس إلا هذرا.
- هذا ما فكرت فيه في البداية. ولكن مع الوقت، حاولت إيجاد عبرة لهذا الحكاية.
- هل يمكنني معرفتها؟
- لا. إنها عبرتي أنا. وعليك بإيجاد عبرتك بمفردك.
وبعد هذا، وقف السيّد والتحق بغرفته الموجودة بالطابق العلوي.
فهم الضيوف أن السهرة قد انتهت. جمعوا صنادلهم وغادروا المنزل. لم يبق داخل الغرفة إلا ياسين و"حرسه الخاص".
كان ياسين غاضبا؛ شعر بإهانة أمام رجاله. لا يمكن مغادرة المنزل دون معرفة القصد من الحكاية. بحركة من الرأس، أمر رجاله بالانسحاب وصعد يطرق باب السيّد.
- لم أفهم قصدك.
قال السيّد عند مدخل الغرفة:
- صلاح أيضا لم يفهم قصدك.
– كنت كالساذج أمام حكايتك التافهة. أراهن بأنك اخترعتها وليس من ورائها أي عبرة، بل حماقة فقط.
- أنت الذي تراكم الحماقات، يا ياسين. تتصرّف تماما مثل صاحب القبضة القوية القاهري...
- في هذه الحالة، أنرني بمصباحك الوهّاج وإلا أضرمت النار في كوخك حالا. أمقت أن ينظر إليّ من علٍ، ولا أسمح لأحد، هل تسمع، لا أسمح لأحد، أن يحوّلني إلى سخرية. ربما ليس لديّ الكثير من العلم، ولكنني أملك من الكبرياء ما يكفي ويزيد.
لم يظهر السيّد أنه تأثر بتهديدات ياسين. بالعكس، كانت ابتسامته ترتفع كلما زاد غضب ياسين. قال له في صوت رتيب:
- إن من يتغذى بجبن الغير يخصب جبنه الخاص؛ آجلا أو عاجلا، سيقضم أحشاءه، ثمّ روحه. منذ فترة، أصبحت تتصرّف كطاغية. تزحزح ترتيب الأشياء، ولا تحترم العرف القبلي؛ تنتفض ضد من هم أكبر منك، تنكّد على أقاربك، تتلذّذ بإهانتهم جهرا؛ ترفع صوتك من أجل نعم أو لا، بحيث أصبحنا في القرية لا نسمع إلا صوتك.
- لماذا تريدني أن أكون لطيفا مع هؤلاء الحثالة؟
- تتصرّف مثلهم تماما. إن كانوا هم ينظرون إلى سرّتهم، فأنت تنظر إلى عضلاتك. لا فرق بينك وبينهم. في كفر كرم، لا أحد يزايد عن الآخر في شيء.
- أمنعك من تشبيهي بهؤلاء الحمقى. أنا لست جبانا.
- برهِن على عنتريتك... اذهب، ماذا تنتظر، ما يمنعك من المرور إلى الفعل؟ منذ سنوات والعراقيون يقاتلون العدو. مدننا تتفتت يوميا بسبب السيارات المفخخة والكمائن والقنابل. السجون غاصة بإخواننا، ومقابرنا قد اتخمت. وأنت، تتعَنْتَر علينا في قريتك الضائعة؛ تصرخ غيظك وسخطك فوق سطوح المنازل، وبعدما تفرغ سمك، تلتحق بمنزلك وتنطفئ. ما أسهله من تصرف... إذا كنت تفكر حقا فيما تقول، ضمّ الفعل إلى القول، وانقض على هؤلاء الأمريكيين القذرين. وإلا، ضع قدميك في إناء ماء بارد ولا تنبس ببنت شفة.
حسب أختي التوأم، بهية – سمعت القصة من فم أخت السيد التي تابعت المواجهة بين الرجلين باستراق السمع من خلف الباب- فإن ياسين قد انسحب خلسة دون أن يضيف أدنى كلمة.
الجثة بين الذراعين، غرقت قرية كفر كرم في أعذارها الزائفة. إن موت سليمان قد أربكها. ولا تعرف كيف تتصرف إزاءه. تعود آخر مشاركتها في رفع السلاح إلى الحرب مع إيران منذ جيل؛ عاد ثمانية من أبنائها من الجبهة داخل التوابيت الملحمة لم يسمح لهم حتى بفتحها. ماذا دفنوا حينها؟ لوحات خشبية، أقرباؤهم أم جزء من شرفهم؟ يختلف الوضع مع سليمان. إنه حادث مأساوي ومبتذل، ولم يتمكن السكان من اتخاذ قرارهم بعد. هل يعتبر سليمان شهيدا أم شخصا بائسا وجد في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب أيضا؟... نادى الشيوخ إلى التعقل. كل بشر معرض للموت، هكذا قالوا. كان العقيد الأمريكي صادقا في تأسفه. خطأه الوحيد: لم يكن ليقترح على الحداد تعويضا ماليا. في كفر كرم، لا نتحدث عن المال لشخص لا يزال في حالة حداد. لا يمكن لأي تعويض أن يخفف من حزن أب منهار فوق قبر ابنه – لولا تدخل الدوك جابر، كان يمكن لمسألة التعويض أن تتحول إلى مواجهة عنيفة.
مرت الأسابيع، وشيئا فشيئا، استرجعت القرية روحها البدائية وسلوكاتها اليومية المألوفة. حدث ما حدث. صحيح أن الموت العنيف لشخص مختل عقليا يثير من السخط أكثر مما يثير من الحزن. للأسف الشديد، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. من باب القسط، إن الله لا يحب قديسيه؛ الشيطان وحده يعتني بمعينيه.
باعتباره مؤمنا طيبا، انحاز الحداد إلى جانب القدر والمكتوب. رأيناه في صباح أحد الأيام يفتح أقفال باب الورشة ويشعل حِملاجه.
كما استأنفت المناقشات عند الحلاق، وعاد الشبان إلى مقهى السفير يرجمون الوقت بضربات الدومينو حينما يتعبون من ألعاب الورق. لم يبق السيد، ابن باشير الصقر، وقتا طويلا بيننا. كانت أعماله في بغداد تناديه بعجالة. ما نوع هذه الأعمال؟ لا أحد على علم بها. مع ذلك، ترك مروره في كفر كرم بصماته على الأذهان؛ إن أقواله الصريحة قد أغرت الشبان، وفرضت هيبته الاحترام عند الكبار والصغار. ستلتقي طرقنا فيما بعد. هو الذي أظهر لي مكانتي الحقيقية، وأراني لنفسي؛ درّبني على القوانين الأساسية لحرب العصابات وفتح لي أبواب التضحية الكبرى على مصراعيها.
بعد ذهاب السيد، عاد ياسين وعصابته إلى احتلال الساحة من جديد، متجهمين، عدوانيين، السبب الذي جعل عمر العريف لا يجرجر قدميه في الأزقة. منذ حادثة المقهى، أصبح العريف ظل نفسه، يقضي معظم أوقاته منعزلا داخل كوخه. وحينما يكون مضطرا إلى الخروج، يعبر القرية بسرعة الريح كي يفرغ خجله بعيدا عن التحرشات ولا يدخل إلا عند سقوط الليل، غالبا، يتعتعه السكر. لقد فاجأه الأطفال في أحيان كثيرة يحتسي الخمر في عمق المقبرة أو غارقا في غيبوبة كحولية، ذراعاه في شكل صليب، قميصه مفتوح على بطنه المنتفخ...
بعد ذلك، وبلا أدنى صخب، اختفى عن الأنظار.
بعد دفن سليمان مكثت بالبيت؛ لم أحضر مراسيم الجنازة. كانت ذكريات الحادثة يؤرق مضجعي. بمجرد أن أغرق في النوم، تنقض عليّ صراخات العسكري الأمريكي. حلمت بسليمان وهو يركض بسرعة، قامته صلبة، ذراعاه يتدليان، وجسمه يميل تارة إلى اليمين وتارة إلى الشمال. ومن ظهره، تفور ينابيع صغيرة متعددة. وكنت دوما أستيقظ في اللحظة التي تتفجر جمجمته، أصرخ بصوت مبحوح. وأجد بهية جالسة بقربي، يبللني بضمادات تستخرجها من إناء مملوء بالماء. أسمعها تقول: "لا شيء. إنه كابوس، أنا هنا."
زارني قريبي كاظم في ظهيرة. قرّر أخيرا الانفصال عن جداره. جلب لي مسجلات أوديو. في المرة الأولى، كان منزعجا. بدا كأنه يستغل الموقف. سألني إن كان زوج الحذاء الذي أهداني إياه على مقاسي، ليدخل ألفة على الجوّ. أجبته أنه لا يزال في علبته.
- أتعرف بأنه جديد؟
- أعرف ذلك. وأعرف أيضا ماذا يمثل بالنسبة لك. لقد أثرت هذه الهدية في نفسي كثيرا، أشكرك.
نصحني بعدم المكوث طويلا في الغرفة إذا أردت تجاوز الأزمة. كانت بهية مع رأيه. كان عليّ التغلب على الصدمة واستئناف حياتي العادية. أما أنا، فلم أكن أرغب في الخروج؛ خفت أن يطلب مني رواية ما وقع في نقطة المراقبة في تفاصيلها المؤلمة، وكانت هذه الفكرة ترعبني، كمن يحرك خنجرا داخل جرح. لم يوافقني كاظم. قال بأن عليّ أن أجيب على تساؤلات الفضوليين.
واصل زياراته لي، وكنا نقضي الساعات في الحديث عن كل صغيرة وكبيرة. بفضله، تشجعت في إحدى الأمسيات وخرجت من عريني. في منتصف الطريق بين كفر كرم وبساتين حيثم، تنحدر الهضبة فجأة، ويفرق شقّ واسع السهل على مدى كيلومترات، والمجرى تتخلله كومات من الصلصال الرملي والأجمات الشوكية. في ذلك المكان، كانت الريح تكشف عن موهبة آلة الباريتون الموسيقية.
كان الجوّ جميلا، وبرغم حجاب غبار معلق في الأفق، حضرنا غروب شمس رائع.
مدّ لي كاظم سماعات مسجله النقال. تعرفت على صوت فيروز، ملكة الطرب اللبناني. قال كمن يكشف سرا:
- هل تعرف بأنني عدت إلى عودي؟
- إنه خبر ممتاز؟
- في هذه الأيام، أشتغل على نغم جديد. سأسمعك إياه حينما أنتهي منه.
- أغنية عشق؟
- كل الأغاني العربية أغاني غزل وعشق. أتعرف، لو يستطيع الغرب فهم الموسيقى العربية، لو يستطيع فقط سماعنا ونحن نغني، إدراك خفقات قلوبنا عبر نغم القيثارة، وروحنا عبر عزف الكمان –لو يستطيع، لحظة الاستخبار فقط، التوغل إلى صوت صباح فخري، أو وديع الصافي، أو النفس الخالد لعبد الوهاب، والنداء الفاتر لأصمهان، والمناجاة العظيمة لأمّ كلثوم؛ لم يستطع الالتحام مع عالمنا، أظن بأنه سيتخلى عن تقنياته المتطورة وأقماره الصناعية وأسلحته الفتاكة، ليتبعنا إلى آخر طرف من فننا...
كنت أشعر براحة برفقة كاظم. يحسن إيجاد الكلمات المهدئة، ويساعدني صوته الملهم على رفع رأسي. كنت سعيدا برؤيته يستعيد حياته من جديد. إنه فتى رائع؛ لا يستحق هدر طاقته عند أسفل جدار. اعترف لي قائلا:
- كنت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام. منذ شهور وشهور، ورأسي أشبه بمرمدة؛ رماده يسوّد رؤيتي للأشياء، ينطلق من منخري ومن أذنيّ. لم أكن أرى مخرجا للنفق الذي أغرق في ظلامه. إن موت سليمان بعث حياتي من جديد. هكذا قال مصفقا أصابعه. انفتحت عينايّ، لا أريد الانتهاء قبل أن أعيش. إلى غاية اليوم، كنت أكتفي بتلقي الحياة فقط. مثل سليمان، لم أكن أفهم كثيرا فيما يحدث لي. لهذا، لا أريد أن تنتهي حياتي مثله. إن أول سؤال تبادر إلى ذهني عندما وصلني خبر موته هو: ماذا؟ مات سليمان؟ لماذا؟ هل عاش فعلا؟ إنها الحقيقة يا ابن العمّ. كان هذا الشقي في مثل سنك. كنا نراه يوميا في الأزقة، تائها في عوالمه الخاصة. أحيانا يركض خلف رؤاه. ومع ذلك، وبعد أن خطفه الموت، أتساءل حقا إن وجد فعلا... وعند عودتي من المقبرة، وفيما كنت أتوجه بطريقة آلية نحو جداري، تفاجأت وأنا أتجه نحو البيت. صعدت إلى غرفتي، فتحت الصندوق المرصّع بالنحاس كالتوابيت في عمق زاوية، أخرجت العود من غلافه و... أؤكد لك بأنني بدأت العزف في لحني الجديد قبل حتى أن أسوى الخيوط. كنت مسحورا، تدفعني قوة غريبة.
- إنني أتأجج رغبة لسماعك.
- لم يبق منه إلا بعض التصحيحات البسيطة.
- وما اسم لحنك؟
ثبت بصره في عينيّ.
- إنني متطير يا ابن العم. لا أريد الحديث عن أشياء لم أتم إنجازها بعد. ولكن، بالنسبة لك، سأقوم باستثناء اليوم، بشرط أن تحفظ السرّ لنفسك.
- وعد حرّ.
بدأت عيناه تلمعان في الظلمة حينما سرّني:
- أسميته أجراس بغداد.
- هل تقصد أجراس الجنيات أم صفارات الإنذار؟
- على كل واحد أن يفهمه على هواه.
5.
في كفر كرم، استأنفت الحياة مجراها، فارغة مثل الصوم.
حينما لا نملك شيئا، نتظاهر بأننا أغنياء. إنها مسألة ذهنيات.
إن الرجال ليسوا إلا مهارات خفية، عذابات طويلة، يقومون غريزيا بدور سيزيف، إنهم عاطفيون وبلداء؛ من طبيعتهم التحمّل إلى غاية الموت.
تمر الأيام، شبيهة بقافلة أشباح. تنبثق عند الفجر من اللامكان، بلا أبهة ولا أناقة، وتختفي في المساء، خلسة، تخطفها العتمة. ومع ذلك، لا يزال الأطفال يولدون، والموت يسهر على توازن الأشياء. في عمر يناهز الثالثة والسبعين، رزق جارنا بالطفل السابع عشر، وانطفأ عمي الكبير في فراش الموت، محاطا بذويه. إنها سُنّة الحياة. ما تذروه رياح الصحراء، تلمّه الذاكرة؛ ما تمسحه العواصف الرملية، نعيد رسمه بأيدينا.
وافق خالد، صاحب الطاكسي، على إعطاء ابنته لأهل هيثم، ملاّك البساتين التي تقع على مقربة من قريتنا. إنها بادرة أولى. صرخ بعضهم يا للفضيحة. في العادة، يختار أهل هيثم، مرفهون ولكنهم متحفظون، عرائسهم من المدينة، عند العائلات المتحضرة، اللائي يعرفن كيفية الجلوس على الطاولة واستقبال الضيوف. أما أن يلتفتوا بغتة إلينا، فيه ما يربك أكثر من واحد... اعتُبرت هذه العودة إلى الأصل بشرة خير. منذ الوقت الذي كانوا يديرون وجوههم عنّا، فلا يمكننا أن نتذمّر حينما هام أحد شبانهم بعذراء من عندنا. على كل حال، يستحق حفل زواج، سواء كان فقيرا أم لا، أن نحضره. في نهاية المطاف، سيقوم هذا الحدث السعيد بالانتقام لنا من واقع يومي مُقْرِف، مكرر، يقتل من الضجر...
طرأ جديد في مقهى السفير. تزيّن بجهاز تلفاز وهوائي من نوع برابول –هدية من السيد، ابن باشِر الصقر، "كي لا يفقد شباب كفر كرم الاتصال بواقع بلدهم المأساوي". بين عشية وضحاها، تحوّل المقهى التعيس إلى قاعة طعام لعساكر غير مستقرين. كاد ماجد القهواجي أن يقلع شعره من الغضب. إن تجارته تلهث؛ وإذا بدأ الزبائن يأتون حاملين صاندويتشاتهم الأشعبية وأمتعتهم، فقد حان فعلا وقت رمي المنشفة. لم يكن الزبائن ليشعروا بالحرج. منذ الفجر، وقبل حتى أن يغتسلوا، يأتون مسرعين، يطرقون بابه كي يفتح لهم المقهى؛ كأنهم يخيمون في الأزقة. وبعد إشغال الجهاز، ينتقلون من قناة إلى أخرى لمعرفة أخبار العالم، ثمّ يستقرون على قناة الجزيرة ولا يتحركون. عند منتصف النهار، يكون المقهى غاصا بالشباب الهائج. ترتفع التعليقات والشتائم إلى أوجها. كلما أظهرت الكاميرات جزءا من المأساة الوطنية، تهزّ الحيّ احتجاجات صاخبة ونداءات انتقام. يصرخون ضد أنصار الحرب الوقائية، يصفقون على أعداء أمريكا، يصفرون على النواب الذين يصفونهم بالانتهازيين وعملاء بوش... في مقدمة الصفوف، كان ياسين وجماعته، يجلسون كضيوف شرف. يجدون أماكنهم شاغرة حتى في حالة وصولهم متأخرين. خلفهم، صفان أو ثلاثة صفوف من المؤيدين. في عمق القاعة، حثالة القوم. لم يكن يعرف صاحب المقهى أين يوجه أنظاره. خداه في تجويفي يديه وترمس الشاي مهمل على المصرف، يتابع ماجد بعين ذابلة قطيع البطالين وهم يتلفون أثاثه في هرج ومرج مذهلين.
في الأيام الأولى، كنا، كاظم وأنا، نذهب إلى السفير. مما يجعلنا ندخل تغييرا في رتابة أيامنا. أحيانا، بمجرد إطلاق ملاحظة ساخرة، تنفجر القاعة بالقهقهات الصاخبة، وليس أحسن من تفكير معوج لنسترجع هدوءنا. عندما أشاهد جميع هؤلاء الأشقياء بنظراتهم الفارغة يتمايلون تحت أثر الضحك المدوي، لأن أحدهم نطق بحماقة، أدركت أنه علاج ذو فعالية عظيمة. ولكن المزاح إذا طال، قد يتحوّل إلى إزعاج، وينقلب ضد متسبّبه. إن المهرجين الذين يستغلون أية فرصة لإضحاك الحضور، بدأوا يقلقون. ومثلما كان منتظرا، تدخل ياسين لإعادة عقارب الساعة إلى مكانها.
سقط الليل منذ مدّة، وكنا نتابع الأخبار في قناة الجزيرة. أخذنا مقدّم النشرة إلى جهة فلّوجة حيث تحدث معارك ضارية بين القوات العراقية، المدعمة بالقوات الأمريكية، وبين المقاومة الشعبية. أقسمت المدينة المحاصَرة أن تلفظ أنفاسها عوض حط السلاح والاستسلام. كانت تقاتل بعناد شرس، رغم الخراب والنيران الملتهبة. تحدثت الأخبار عن مئات القتلى، غالبيتهم من النساء والرجال. داخل المقهى، صمت جنائزي يسحق القلوب. كنا شاهدين عاجزين على مجزرة رهيبة؛ من جهة، عساكر مدججون بالسلاح، مدعمون بالدبابات، والطائرات المروحية، ومن جهة أخرى، شعب أعزل، مسلّم إلى نفسه، واقع كرهينة بين أيدي عصابة من "المتمردين" الجائعين، بأسمال رثّة، يهربون عند كل مواجهة، مسلحين بالبنادق وقواذف القذائف تآكلت من الصدأ... حينذاك، صرخ شاب ملتح:
- إن هؤلاء الأمريكان الكفرة لن يدخلوا الجنة. سيُسقِط الله السماء على رؤوسهم. سوف لن يغادر أحدُهم العراق سالما. يمكنهم مواصلة التعجرف، ستكون نهايتهم كمثل جيوش المشركين التي أرادت تدمير مكة، أرسل الله عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.
- تُرَّهات...
تصلب الملتحي، مرتجفا، ثمّ التفت نحو "الكافر".
- ماذا قلت؟
- كما سمعت.
كان الملتحي مذهولا. ترتعد تقاسيم وجهه غضبا.
- قلت تُرّهات؟
- نعم، تُرّهات. هذا ما قلته بالضبط: تُرّهات. لا حرف زيادة ولا حرف نقصان: تُرّ-ها-ت. هل ثمة مشكل؟
أعطى جميع الحاضرين ظهورهم إلى التلفاز ليروا أين يريد الفتيان أن يصلا. قال الملتحي بصوت مختنق:
- هل تدرك خطورة قولك، يا مالك؟
- الظاهر أن الذي نطق بالحماقات هو أنت يا هارون.
سرت غمغمة في القاعة.
كان ياسين وجماعته يتابعون باهتمام ما يدور في عمق القاعة. بدا هارون الملتحي على وشك السقوط في سكتة دماغية من فرط وقاحة مالك التي تجاوزت كل الحدود. قال مستغربا:
- كنت أتحدث عن الطير الأبابيل، ألا تعرف الآية القرآنية؟
ردّ مالك بعناد:
- لا أرى علاقة مع ما يحدث في فلُّوجة. إن ما أراه على هذه الشاشة، هي مدينة محاصرة، المسلمون تحت الأنقاض، الناجون منهم تحت رحمة قذيفة أو صاروخ، وحولهم، أوغاد بلا رحمة ولا شفقة، يرفسون أرضنا، بلدنا. وأنت تحدثنا عن الطير الأبابيل. ألا تقدّر سخرية أقوالك؟
قال هارون متوسلا:
- اخرَس. إن الشيطان هو الذي يوسوس لك.
قهقه مالك بازدراء:
- إنها الطامة الكبرى. كلما وقعت في مشكلة إلا وحمَّلت المسئولية للشيطان. استيقظ يا هارون. إن الطير الأبابيل اندثرت مع الديناصورات. نحن في فجر الألفية الثالثة، وهؤلاء الأوغاد الذين جاءوا من بعيد يمرغون أنوفنا يوميا في الوحل. إن العراق محتل، يا سيدي. أنظر قليلا إلى التلفزيون. ماذا يحكي لك التلفزيون؟ ماذا ترى هنا، أمام عينيك، فيما تحك شعيرات لحيتك؟ الكفار يستعبدون المسلمين، يذلون أخيارهم، يزجون بأبطالهم في أقفاص المجانين حيث تتسلى العاهرات /العسكريات بجذب أذانهم وخصيهم والوقوف أمام الكاميرات لأخذ صور تذكارية تخلدهن... ماذا ينتظر ربّك كي ينتقم منهم؟ منذ الوقت الذي يستفزونه في عقر معابده المقدسة وفي قلوب مؤمنيه. لماذا لا يحرك أدنى أصبع في وقت يقَنْبِل فيه هؤلاء القذرة أسواقنا وحفلاتنا، يجهزون على ناسنا كما الكلاب في كل دورة شارع؟ أين هي طير الأبابيل التي تجعل جيش العدو الزاحف فوق ظهور الفيلة على الأرض المقدسة عصفا مأكولا؟ أنا عائد من بغداد، يا هارون، يا عزيزي. لا أحدثك عن التفاصيل. إننا معزولون في هذا العالم. لا ينبغي الاعتماد إلا على أنفسنا. سوف لن يأتينا أي دعم من السماء، لا تمد لنا أية معجزة يد العون... إن الله مشغول بأمور أخرى. في الليل، حينما أكتم نفسي في عمق سريري، لا أسمع تنفسه. الليل، كل الليل، ملك لهم. وفي النهار، حينما أرفع عينيّ نحو السماء لأستنجد به، لا أرى إلا طائراتهم المروحية –طيرهم الأبابيل- التي تردمنا تحت قنابلها الحارقة.
- لا شك في ذلك: لقد بعت روحك للشيطان.
- لن يقبلها وإن منحتها له في طبق من ذهب.
- أستغفر الله.
- هذا كل ما تستطيع فعله... حاليا، يلوّث العساكر الأمريكان مساجدنا، يدمرون مقدساتنا ويضعون صلواتنا داخل قارورات كما الذباب. ماذا يلزم لربّك كي يخرج من سباته؟
صرخ ياسين:
- وماذا كنت تنتظر يا أحمق؟
توجهت كل الأنظار نحو ياسين. وضع هذا الأخير يديه على وركيه وحملق في المجدّف بازدراء.
- وماذا كنت تنتظر يا عنتر؟ أن يأتي ربّك على فرس أبيض، شاهرا سيفه، ليقاتل هؤلاء اللقطاء؟ نحن طيوره الأبابيل، نحن غضبه، نحن سيوفه البتارة...
كان كلامه بمثابة انفجار داخل المقهى. سمعنا فقط بعض الحشرجات الخانقة. حاول مالك مواجهة نظرة ياسين، ولكنه لم يتمكن من كبح ارتعاش وجنتيه.
ضرب ياسين صدره بظهر يده وقال بنبرة خانقة:
- نحن غضب الله، نحن الطير الأبابيل... نحن رعوده المدوية وضرباته القاصمة. وسنقطع رقاب هؤلاء الأوغاد؛ سنزحف على جثثهم، نسحقهم إلى أن يخرج البراز من أفواههم، إلى أن يتفجر بولهم من مؤخراتهم... مفهوم؟ هل فهمت؟ هل فهمت أين يكمن غضب الله، يا أحمق؟ إنه هنا، إنه بداخلنا. سنرمي بهؤلاء العفاريت في قاع جهنم، الواحد وراء الثاني، عن بَكرة أبيهم. إنها الحقيقة كما الشمس الصاعدة من الشرق...
عبر ياسين القاعة فيما كان الحاضرون يفسحون له الممر. كانت عيناه تلتهم المجدّف. يذكر نفَسه بنفَس الثعبان الأسطوري الزاحف نحو ضحيته.
وقف أمام مالك، الوجه مقابل الوجه، قلّص حدقتي عينيه كي يؤجج نار بصره:
- لو أسمعك مرة أخرى تشك ثانية واحدة في نصرنا على هؤلاء الكلاب المسعورة، أقسم أمام الله والفتيان الدائرين بنا أنني سأقلع قلبك بيدي العاريتين.
أمسكني كاظم من طرف القميص، وبحركة من الرأس، أشار إليّ بمتابعته إلى الخارج. قال لي:
- الجوّ مكهرب.
- أحرق ياسين أعصابه. عشرة قمصان جبرية لا تشل حركته.
مدّ لي كاظم علبة سيجارته.
- لا، شكرا.
- بل عليك بأخذ واحدة، قال ملحا. ستخفف عنك قليلا.
تنازلت عند رغبته، فأدركت أن يدي ترتعش. قلت معترفا:
- أربكني كلامه.
قدّم لي كاظم نار قدّاحته قبل أن يشعل سيجارته. مال برأسه إلى الوراء ونفث دخانه في النسيم. قال:
- ياسين شخص تافه. على حسب معرفتي، لا شيء يمنعه من القفز بداخل حافلة والذهاب للاقتتال في بغداد. مع طول الأيام، سيصاب دوره المسرحي بالملل، وربما سخلق له بعض المشاكل... هيا، أدعوك إلى بيتي.
- فكرة جيدة؟
يسكن كاظم في منزل صغير مبني بالحجر، عند والديه، عجوزين واهنين، يقع خلف المسجد. صعدنا إلى غرفته في الطابق الأوّل. الغرفة واسعة ومضيئة. يوجد سرير بمكانين، محاطا بالسجاد، مسجل الستيريو من صنع طيوان يظهر قزما وسط مكبرين للصوت ضخمين، خزانة مزينة بمرآة بيضوية الشكل، وكرسي محشو.
في زاوية بقرب الباب، يقبع عود، جاثم على جزّة كبش بصوف ناصع كالثلج. العود... ملك الجوق الموسيقي الشرقي، هذا الذي رفع مستعمليه الموهوبين إلى مرتبة الآلهة وحوّل بعض المقاهي المريبة إلى قصور الأولَمْب. أعرف التاريخ العجيب لهذا العود، الذي صنعه جدّ كاظم شخصيا، موسيقار موهوب أسعد القاهريين في الأربعينيات، قبل أن تكتسح شهرته ملاهي بيروت، عمّان والأردن، ويصبح أسطورة حيّة من المشرق إلى المغرب. أنطق جد كاظم خيوط عوده أمام الأمراء والسلاطين، الرؤساء والطواغيت، وسحر النساء والأطفال، العشاق والعاشقات. يحكى أنه تسبب في خلافات زوجية عديدة في الأوساط العربية الغنية. زد على ذلك، أن رقيبا غيورا هو الذي قتله بخمس رصاصات بداخل مطعم، في الإسكندرية، حينما كان يعزف على عوده فوق المنصة، تحت الأضواء المخملية لنادي كليوباترة، أشهر نادٍ في ذلك العهد، في نهاية الخمسينيات...
مقابل العود، وفوق طاولة النوم، يوجد إطار منقوش يعرض صورة فاتن، زوجة كاظم الأولى، كأنما تقوم بمحاولة دائمة لمنافسة الآلة الموسيقية الرائعة في التأثير على زوجها. قال كاظم وهو يعلق سترته في مسمار:
- كانت جميلة، أليس كذلك؟
قلت صادقا:
- نعم، كانت جميلة.
- لم يتغير هذا الإطار من مكانه. زوجتي الثانية تركته مثلما وجدته. أكيد أنه كان يزعجها، ولكنها بدت متفهمة. مرة واحدة، في الأسبوع الأول من زواجنا، مدّت يدها لتديره. لم تجرؤ على التعري أمام تلك النظرة العظيمة الموجهة نحوها. ثم، رويدا رويدا، تعلمت التعايش مع... شاي أم قهوة؟
- شاي.
- دقيقة، سأنزل لإحضاره.
هبط الدرج بخطوات سريعة.
اقتربْت من الإطار. العروس تبتسم، عيناها أكبر من الحفل خلفها. كان وجهها المشع يغطي على جميع المصابيح القريبة. أتذكر، أيام مراهقتها، حينما كانت تخرج مع أمها لقضاء بعض الحاجات من المحلات، كنا نتسارع خلف المنازل لنشاهدها تمر. كانت رائعة فعلا.
عاد كاظم بصينية بين يديه. حط الإبريق على الخزانة وباشر في سكب الشاي الساخن بداخل الكأسين. فاجأني بقوله:
- أحببتها من النظرة الأولى. (في كفر كرم، لا يبوح الناس عادة بهذه الأشياء). كان عمري سبع سنوات. في تلك السن المبكرة، أدركت أننا خلقنا لبعضنا البعض.
دفع كأسا باتجاهي، عيناه تفيضان باعترافات رائعة. كان فوق غيمة، الابتسامة واسعة، الحاجبان مقطبان.
- في كل مرة أسمع نغمات العود، أفكر فيها. أظن أنني أردت تعلم الموسيقى فقط لأتمكن من الشدو بجمالها وحبي لها. كانت فتاة رائعة، سخية، خجولة ومتواضعة. حينما كانت إلى جانبي، لم أكن أشعر بحاجة إلى شيء آخر. كانت أكثر مما كنت أتمناه.
هددت دمعة بالسقوط على هدبه؛ استدار فجأة وتظاهر بتسوية غطاء الإبريق. ثمّ قال:
- طيّب، لو نستمع إلى قليل من الموسيقى.
- إنها فكرة جيدة، وافقته بسرور.
بحث بداخل درج وأخرج كاسيت أوديو، فأولجها داخل آلة الستيريو.
- اسمع هذه الرائعة...
من جديد، كانت فيروز، أميرة الطرب العربي، تغني خالدتها ناولني الناي.
تمدّد كاظم على سريره، ربّع قدميه، وكأس الشاي في يده، وقال متحمسا:
- اسمع العجب العجاب... الملائكة نفسها لا تضاهيها. ليست الجنية هي التي تغني، بل إنه اللحن الكوني يتلذذ في خلوده...
اتكأ على مرفقه كي يتفحصني. استرق السمع بتركيز كبير، في حالة إذهال:
- أتدرك هذا العجب العجاب؟ لو قدّر لي أن أضع صوتا على يوم البعث، سأختار دون تردد صوت فيروز. إن سماعها مثلما أفعل الآن، والتمتع بصوتها في أدنى ارتعاشاته، يعني أنك تريد في الآن نفسه أن تعيش ألف عام وتموت فورا...
استمعنا إلى الأغنية حتى نهايتها، كل واحد منا يسبح في كونه الخاص، أشبه بطفلين ضائعين في أحلامهما. لا ضوضاء الأزقة ولا صراخ الأطفال كان يصلنا. كنا نحلق بعيدا عن كفر كرم، عن ياسين ومغالاته، وسط نفحات اللحن الموسيقي الأخاذ. كانت الشمس تغرقنا بخيراتها، تغطينا بالذهب. من إطارها، كانت المرحومة تبتسم لنا. في لحظة، خلت أنني أراها تتحرّك تحت التابوت.
أبرم كاظم سيجارة ومصها بتلذذ. كان يضحك بصمت، أحيانا يرافق إيقاع نفَس المغنية الخالد، بحركة يد ذابلة. وعند مقطع، طفق يغني هو أيضا، بصدر خافق؛ يملك صوتا رائعا.
- متى تُسمعني أجراس بغداد؟
رفع حاجبا وأشار إلي بأصبع:
- أنت عنيد فعلا؟
- لقد وعدتني.
تمدّد على مرفق وقال:
- سأسمعك إياها في الوقت المناسب.
عند انتهاء الكاسيت، أدخل أخرى، ثم أخرى، أغاني قديمة لعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، مرورا بهيام يونس، نجاة، ومشاهير خالدة أخرى من الطرب العربي.
فاجأنا الليل منتشيَين بسجائر الحشيش والأغاني.
اتضح أن جهاز التلفاز الذي أهداه السيّد إلى بطالي كفر كرم هدية مسمّمة. لم يجلب للقرية إلا الضوضاء والخصومات. عائلات كثيرة تملك جهاز التلفاز. ولكن في البيت العائلي، مع الأب على عرشه والابن البكر على يمينه، يحتفظ الجميع بتعليقاتهم لأنفسهم. في المقهى، يحدث العكس تماما. يمكن الاحتجاج والمناقشة الصاخبة وتغيير الموقف حسب الأمزجة. لقد ضرب السيد في الصميم. للحقد عدوى مثل الضحك تماما، انحرفت النقاشات، معمقة الهوة بين أولئك الذين يأتون إلى السفير كي يتسلوا وبين أولئك الذين يأتون لـ"يتعلموا"، وقد فرض هؤلاء نظرتهم للأمور. فبدأنا نتابع جميعا، خطوة بعد أخرى، المأساة الوطنية. نتألّم للحصار المفروض على فلوجة والبصرة، والهجومات الدموية على المدن الأخرى. ترعب الاعتداءات لحظة ثمّ يتحمس لها الجميع غالبا. نصفق على الكمائن الناجحة، ونتأسف على المواجهات التي تقضي على المقاومين. ابتهج الكل عند سماع خبر القبض على صدام، ولكن الصورة حركت الحس القومي: الرئيس يقبض في جحر مثل الجرذ، لا يكاد يعرف بلحيته الشبيهة بلحية متشرد ونظرته الباهتة، معروضة بافتخار وبلا أدنى شفقة لكاميرات العالم، كان بمثابة أكبر إذلال للعراقيين في عين ياسين. إنه وحش، قال البعض مذكرا. نعم، ولكنه وحش من صلبنا، قال ياسين؛ بإذلاله بهذه الطريقة، يرمي الأمريكان الخزي على العرب أجمعين.
لم نكن نعرف من أي طرف نقبض على الأحداث، ما هو الاعتداء الذي يعتبر بطولة، والاعتداء الذي يعتبر جبنا. إن ما نهجوه اليوم، قد نمدحه نهار الغد. تتصادم الآراء والمواقف في مزايدات عجيبة، وأصبح من المألوف أن يستعين المتخاصمون بقبضات اليد.
تتدهور الوضعية، ويرفض الشيوخ التدخل جهرا – يفضل كل واحد توبيخ ابنه سرا، في البيت. تعيش قرية كفر كرم أعمق سوء تفاهم في تاريخها. كان الصمت والخضوع المتراكمين عبر السنوات والأنظمة المستبدة يطفوان إلى السطح، كما الجثث المدفونة في وحل النهر، حينما تتعب من التعفن في عمق المياه العكرة، وتصعد إلى السطح تصدم الأحياء...
فجأة، اختفى ياسين وجماعته – الإخوة التوأم حسن وحسين، صلاح صهر الحداد، عادل وبلال ابن الحلاق- واسترجعت القرية هدوءها النسبي.
ثلاثة أسابيع بعد ذلك، أحرقت محطة الضخ المهملة التي كانت تتفتت على بعد عشرين كيلومترا من كفر كرم من قبل مجهولين. انتشر خبر مفاده أن دورية من الشرطة العراقية قد تعرّضت لاعتداء خلّف عددا من القتلى في صفوفها، وتدمير سيارتين وبنادق استولى عليها المتمردون. تكلفت الإشاعة برفع الاعتداء إلى مصف البطولة، وفي الأزقة، بدأ الناس يتحدثون عن جماعات سرية، يشاهدون تنقلاتها ليلا هنا وهناك، دائما عبارة عن أشباح بعيدة، عصية التعرف، كي يسمح باقترابها والقبض عليها. خيّم جوّ حاد من التأزم، جعل السكان في يقظة دائمة. كل يوم، كنا ننتظر الأخبار الآتية من "الجبهة"، التي ألقت بظلالها على المنطقة.
في إحدى الأمسيات، ولأول مرة منذ احتلال البلد من قبل القوات الأمريكية وحلفائها، حلقت طائرة هيليكوبتر عسكرية على المنطقة لثلاث مرات متتالية. لم يعد هناك مجال للشك: شيء خطير يحدث في الضواحي.
في القرية، يتوقع الجميع الأسوأ.
عشرة أيام، عشرون... شهر... لا شيء في الأفق، لا قافلة شاحنات ولا حركات مريبة.
وبما أن لا غارة عضلية استهدفت القرية، تنفس السكان الصعداء؛ استأنف الشيوخ أحاديثهم عند الحلاق، والشباب صخبهم في السفير، واسترجعت الصحراء عريها الكاسح وسطحها اللامتناهي.
بدا كما لو أن كل شيء عاد إلى وضعه المألوف.
6.
كان خالد، سائق الطاكسي، في أبهى حلته. على وجهه نظارات شمسية رخيصة، شعره المدهون إلى الخلف، يتبختر عبر الزقاق ويرمي بنظرات قلقة على ساعته اليدوية. برغم القيظ، كان يرتدي بذلة من ثلاثة قطع عرفت مجدها في حياة سابقة. تنحدر رباطة عنق على بطنه، بلونها الأصفر الفاقع المخطط بالبني، تذكر بمهرجي السيرك. من حين لآخر، يخرج مشطا صغيرا من جيبه الداخلي ويمرره على شاربه.
نظر إلى السطح حيث يقوم ابنه، صاحب الرابع عشرة سنة، بالمراقبة، وقال:
- هل وصلوا؟
أجابه الطفل، ويده على عينيه رغم أن الشمس في ظهره.
- ليس بعد.
- ماذا يفعلون؟ أتمنى أن لا يكونوا قد غيروا رأيهم.
اتكأ الطفل على أصابع قدميه مواصلا التحديق بعيدا ليظهر لأبيه حرصه الشديد في المراقبة.
تأخرت أسرة الهيثم كثيرا. ساعة كاملة من التأخر ولم يظهر أي غبار وسط بساتينهم. كانت قافلة كفر كرم التي سترافق موكب العروس جاهزة. خمس سيارات نظيفة ومزينة بالشرائط الملونة تنتظر في الزقاق المحاذي للبيت، أبوابها مفتوحة بسبب الحرارة الملتهبة. يحرسها رجل، ينهر بفظاظة الأطفال المحلقين بها.
للمرة الألف، يفحص خالد ساعته. نفذ صبره، فصعد إلى السطح يلتحق بابنه.
لم تدعُ أسرة الهيثم ضيوفا كثر من كفر كرم. لقد فرضوا قائمة قليلة العدد لأشخاص مختارين بعناية، على رأسها طبعا العميد ونساؤه، يليه الدوك جابر وعائلته، باشِر الصقر وبناته، زائد خمس أو ست عائلات من الأعيان. لم يحظَ أبي بشرف الدعوة. عمل حفارا للآبار عند بني هيثم لمدة ثلاثين سنة –لقد قام بحفر جميع آبار بساتينهم، ووضع المضخات والمرشات الدائرية وخط مجموعة كبيرة من السواقي-، ورغم ذلك بقي في عيون مستخدميه القدماء مجرّد عامل غريب. لم تهضم أمي هذا الإجحاف، ولكن الشيخ، من تحت شجرته، لم يكترث للأمر. على كل، ليس لديه ما يضع على ظهره من ثياب لائقة كي يذهب إلى الحفل.
يزحف المساء على القرية. تكلّلت السماء بآلاف النجوم. وعد القيظ بأنه سيحكم قبضته على الجو إلى آخر ساعات الليل. كنا، كاظم وأنا، فوق سطح منزلنا، جالسين على كرسيين رثين حول إبريق شاي. كنا ننظر إلى الوجهة نفسها التي تستقطب أنظار الجيران: بساتين بني هيثم.
لم تقرر أية سيارة الالتحاق بالطريق الترابي القادم نحو كفر كرم والذي تعبره، من حين لآخر، زوابع غبار أيقظتها الريح.
كانت أختي بهية تأتي بانتظام لتتأكد إن لم نكن بحاجة إلى خدماتها. وجدتها قلقة نوعا ما، ولاحظت أنها تصعد أكثر فأكثر لترانا، لتجلب لنا بعض الحلويات، وتملأ كؤوسنا. حيرني سلوكها وتابعت نظرتها؛ كانت عين أختي على كاظم. احمرت بغتة حينما فاجأتها تبتسم له عبر الزجاج.
أخيرا، وصل الموكب، ودخلت القرية في ابتهاج لا نظير له، من زغاريد ومنبهات السيارات. كان الزقاق غاصا بالأطفال المشاغبين؛ اضطر الرجال إلى التوسل يمينا وشمالا كي يفسحوا ممرا وسط الحشد للمرسيدس الموردة. لم يبخل بني الهيثم في إظهار بذخهم؛ كانت السيارات العشر المرسلة لأخذ العروس كلها من النوع الفاخر ومزينة بإفراط؛ نخالها أشجار نوال بعيدانها المتعددة الألوان، والكريات والشرائط الطويلة. يرتدي جميع السواق بذلة سوداء وقميصا أبيض تعلوه عقدة فراشة. جيء بمصوّر من المدينة كي يخلّد الحدث، الكاميرا على الكتف، يطارده حشد من الأطفال أينما حلّ. تلألأت أضواء الفلاش كيفما اتفق.
بطلقات الرصاص، حيّت بندقية خروج العروس التي كانت رائعة في فستانها الأبيض. خيّم هياج مبتهج على الساحة حينما قامت قافلة السيارات بدورة خفيفة باتجاه المسجد، قبل أن تلتحق بطريق الخروج من القرية. ركض الأطفال خلف السيارات، صائحين بملء حناجرهم، فرافقوا عروسهم البكر إلى غاية طرف القرية، وهم لا يتوانون عن ركل الكلاب الضالة عندما تعترض طريقهم.
كنا، كاظم وأنا، واقفين بقرب جدار السطح المنخفض. نتابع ابتعاد الوفد، هو سجين ذكرياته، وأنا مسرور ومذهول في آن واحد. بعيدا، ومع الظلام الزاحف، كان بإمكاننا مشاهدة أضواء الحفل، بين كتل البساتين السوداء. سألت كاظم:
- هل تعرف العروس؟
- ليست معرفة حقيقية. صادفتها منذ خمس أو ست سنين عند صديق موسيقي. لم تقدّم لي، ولكنني وجدتها متواضعة. مختلفة تماما عن أبيها. أظن بأنها ستكون زوجة مناسبة.
- إنها أمنيتي أيضا. خالد رجل طيب وابنته أحلى. هل تعرف أنني كنت حاطا عيني عليها؟
- لا أريد أن أعرف. من الآن فصاعدا، فهي ملك لرجل آخر، وعليك أن تمحو كل هذه الأشياء من ذهنك.
- مجرد كلام عابر.
- وَلَوْ... مجرد التفكير يعتبر حراما.
من جدبد، التحقت بنا بهية، بعينين متقدتين. قالت برعشة في الحلق:
- تتعشى معنا، كاظم؟
- لا، شكرا. تركت الوالدة متعبة قليلا.
قلت بنبرة قاطعة:
- ستتعشى معنا الليلة. الساعة تقترب من التاسعة، ومن غير اللائق أن تفارقنا في اللحظة التي نستعد فيها للأكل.
مطّ كاظم شفتيه، مترددا.
راقبت بهية جوابه وهي تعذب أصابع يديها. أخيرا، نطق مستسلما:
- موافق. مرّ وقت طويل لم أذق فيه طبخ خالتي.
قالت بهية بزهو ملحوظ يشع على وجهها:
- عشاء اليوم، طبخته بنفسي.
وأسرعت نحو الدرج، مزهوة كما الطفلة بيوم العيد.
لم ننتهِ بعد من الأكل حينما تواصل إلى سمعنا دوي انفجار بعيد. غادرنا كاظم وأنا الطاولة لنتقصّى عما حدث. ظهر الجيران فوق سطوح منازلهم، متبوعين بأفراد بقية العائلة. في الزقاق، سأل صوت عمّا حدث. باستثناء تلك الأضواء الصغيرة خلف البساتين، بدت الهضبة هادئة. صرخ شخص في ظلمة الليل.
- إنها طائرة، رأيتها تسقط.
سمعت صوت وقع أحذية راكضة تقترب عبر الزقاق ثمّ تبتعد باتجاه الساحة. طفق الجيران يغادرون سطوحهم، مسرعين، باحثين عن الأخبار. خرج السكان من ديارهم وتجمعوا هنا وهناك. في ظلمة الليل، شكلت ظلالهم بلبلة مقلقة. أظن أنه ارتطام، قال صوت. لقد رأى إبراهيم طائرة مشتعلة تسقط أرضا. امتلأت الساحة العمومية بالفضوليين. وقفت النساء عند عتبات بيوتهن، وهن لا يفتأن يسألن المارين عمّا حدث. سقطت طائرة، ولكن بعيدا من هنا، قال صوت يريد اطمئنانهن...
فجأة، انبثق مصباحا سيارة خارج البساتين وتقدّما مسرعَين نحو القرية بسرعة جنونية. قال لي كاظم وهو يشاهد السيارة المجنونة تتمايل في الطريق الترابي:
- إن هذا لشيء سيء، هذا شيء سيء للغاية.
أسرع نحو الدرج.
كادت السيارة تنحرف وهي تقفز في الطريق الفرعي المتجه نحو كفر كرم. وصلنا صوت منبهها، متقطعا ولكنه مقلق. الآن، وصل المصباحان إلى المنازل الأولى، وكانت ضربات المنبه تدفع بالناس دفعا نحو الجدران. قطعت السيارات ملعب كرة القدم، وتوقفت بغتة بقرب المسجد، وقد اضطرت إلى التزلج على أمتار عديدة قبل أن تتوقف نهائيا وسط غيمة من الغبار. قفز السائق أرضا فيما جرى الناس نحوه. كان وجهه مفككا وعيناه ابيضتا من الرعب. أشار بيده إلى البساتين وغمغم كلاما مبهما.
جاءت سيارة أخرى خلفه؛ صاح السائق، دون أن يكلف نسفه بالخروج من سيارته:
- اركبوا بسرعة. نحن بحاجة إلى مساعدة، عند بني هيثم. سقط صاروخ على الحفل.
هنا، أدرك الناس خطورة الموقف، فطفقوا يركضون في جميع الاتجاهات. دفعني كاظم بداخل السيارة الثانية وقفز إلى جانبي في المقعد الخلفي. تراكم ثلاث شبان حولنا، فيما استقر اثنان في المقعد الأمامي. صرخ السائق للحشد المذهول:
- أسرعوا... أسرعوا... إذا لم تجدوا سيارات، اذهبوا على أرجلكم. يوجد ناس كثّر تحت الأنقاض. أحملوا معكم ما تستطيعون حمله، معاول، أغطية، أفرشة، علب الدواء... لا تتأخروا. أتوسل إليكم، أسرعوا...
أدار سيارته في المكان نفسه وتدحرج نحو البساتين. سأله أحد المسافرين:
- هل أنت متأكد أنه صاروخ؟
أجاب السائق الذي لا يزال تحت وقع الصدمة:
- لا أعرف... لا أعرف شيئا. كان الضيوف يتسلون، فجأة، طارت الكراسي والطاولات في زوبعة. مصيبة سقطت علينا لا ندري من أين. لا تشبه شيئا نعرفه. أجساد مهشمة... صراخ... عويل؛ عويل وأجساد ساقطة. إذا لم يكن صاروخا، فإنها صاعقة من السماء...
انتابني صداع. لم أفهم ماذا كنت أفعل بداخل السيارة المتدحرجة بسرعة جنونية وسط الليل، لم أفهم لماذا، أنا الذي لم أشفَ بعد من حادثة مرعبة، قتل فيها سليمان المسكين. تصبب العرق على ظهري، ملأ جبيني. نظرت إلى السائق، وإلى الرجال الجالسين حولي وأمامي، إلى كاظم الذي يعض شفتيه، ولم أتوصل إلى إقناع نفسي كيف تمكنت من متابعتهم. أين تذهب أيها الشقي؟ صاح صوت بداخلي. لا أعرف إن كان جسدي هو الذي ينتفض أم أن الاهتزازات هي التي تتقاذفه. كنت ساخطا على نفسي، مشلولا، أتشبث بالخوف الذي يختمر كالعجينة بداخلي. أين تركض هكذا، أيها الأحمق؟ وكلما اقتربنا من البساتين، يكبر الخوف بداخلي، يتضخم، فيما كان الذهول يشل جسدي وذهني.
كانت البساتين تغرق في ظلمة سيئة. قطعناها كما نقطع إقليما ملعونا. كان منزل عائلة هيثم سليمة. وقفت أشباح على العتبة، يتكئ البعض على الجدران، فيما انهار آخرون أرضا، يشدّون رؤوسهم بأيديهم. يقع مكان الحادث المأساوي بعيدا قليلا، في حديقة، حيث كانت بناية كبيرة، أكيد أنها قاعة الحفلات، تحترق في قلب كومة من الخراب المدخن. لفظت قوة الانفجار المقاعد والأجساد على بعد ثلاثين مترا. يتيه الأحياء، بأسمالهم الرثة، أيديهم نحو الأمام، أشبه بالمكفوفين. كانت بعض الأجساد ممددة على حافة درب، مشوّهة، مفحّمة. تضيء السيارات مكان المجزرة بمصابيحها، فيما كان أشباح يتخبطون وسط الخراب. ثمّ، تواصل إلى أذني العويل والصراخ، النداءات والأصوات التي تملأ المعمورة رعبا. نساء يبحثن عن أولادهن في الفوضى العارمة؛ ويزيد ارتفاع عويلهن كلما طال الصمت. ركع رجل ملطخ بالدماء، يبكي فوق جثمان قريب.
قطعني الغثيان في اللحظة التي وضعت قدما على الأرض؛ فسقطت على ركبتي وتقيأت كل ما بأحشائي؛ حاول كاظم أن يساعدني على الوقوف؛ ولكنه غادرني بسرعة وركض باتجاه رهط من الرجال كانوا منشغلين بإسعاف الجرحى. تكومت عند جذع شجرة، أحطت ركبتي بذراعيّ وسرحت في تأمل الهذيان. وصلت سيارات أخرى من كفر كرم معبأة بالمتطوعين والمعاول والحزم. كانت الفوضى تضيف لعملية الإنقاذ هيجانا جنونيا. يرفع الرجال بأيد عارية الروافد الخشبية المشتعلة، جوانب الجدران المهدمة، باحثين عن إشارة حياة. جرّ أحدهم محتضرا إلى غاية مكاني. خاطبه متوسلا: ابق يقظا، لا تنَم. وبما أن الجريح يغرق في النوم، بدأ الرجل يصفعه كي يمنعه من فقد الوعي. اقترب رجل، انحنى على الجسد. هيا معي، لا يمكنك أن تفعل له شيئا. واصل الآخر صفع الجريح، بقوة أكبر... قلت لك لا تنم، ابق يقظا... كيف لا ينام؟ قال له الرجل. ألا ترى أنه قد مات.
وقفت كالمتسرنم وركضت نحو الأتّون.
أجهل كم قضيت من الوقت وأنا أتقلب وأحدّق حولي. وحينما عدت إلى نفسي، كانت يدايّ ملطّخة بالدماء ومنتفخة، والأصابع مقطعة في المفاصل؛ كنت أشعر بألم حاد أسقطني على ركبتي، الصدر ملوّث بالدخان وروائح الجثث المحترقة.
طلع النهار على الخراب.
داخل القاعة المدمّرة، كان وشاح من الدخان يتصاعد نحو السماء، أشبه بصلاة محترقة. الجوّ ثقيل ومفعم بروائح مرعبة. في جناح جانبي من الحديقة، رُصِفت جثث الأموات- عددها سبعة عشر، أغلبها من النساء والأطفال-، مغطية بإزار. هنا وهناك، يرتفع أنين الجرحى، محاطين بالممرضين والأهل. وصلت سيارات الإسعاف منذ فترة صغيرة، واحتار النقالون من أين يبدأون. قلّت الفوضى ولكن الحمّى ترتفع كلما أدرِك هول المأساة. من حين لآخر، تطلق امرأة صرخة، ومن جديد، يستأنف الصراخ والعويل. أما الرجال، فكانوا يدورون في المكان، مبهوتين، تائهين. وصلت سيارات الشرطة الأولى. كانت عراقية. مباشرة، التف حولها الناجون، غاضبين. تدهور الوضع، وانطلقت رصاصات باتجاه أعوان الشرطة الذين صعدوا إلى سياراتهم وغادروا المكان. عادوا بعد ساعتين، مدعمين بشاحنتين من العساكر. طلب ضابط، ضخم الجثة، التحدث مع ممثل من عائلة هيثم. رماه مجهول بحصاة. أطلق العساكر رصاصات تحذيرية لتهدئة العقول. في تلك اللحظة، احتلت فرق تلفزيونية أجنبية المكان. أراهم أب فقد أفرادا من أسرته المجزرة وهو يصرخ: "أنظروا، لا يوجد إلا النساء والأطفال. كنا نحتفل بعرس زواج. أين الإرهابيون؟" أمسك مصورا من الذراع ليريه الجثث الملقاة على الحشيش، فواصل: "الإرهابيون، إنهم القذرة الذين قنبلونا بالصاروخ..."
غادَرْت البساتين وعدت راجلا إلى كفر كرم كما ندخل وسط الضباب، اليدان مضمدتان، القميص ممزق والسروال ملطخ بالدم.
7.
كنت شخصا عاطفيا، سريع التأثر؛ ينهكني حزن الغير. يستحيل أن أمرّ بقرب شقاء دون أن آخذه معي. وأنا طفل، عادة ما كنت أبكي وحدي بداخل غرفتي، أغلق الباب جيدا، خوفا من أن تفاجئني أختي التوأم –بنْت- غارقا في دموعي. يقال بأنها أقوى منى، أقل بكاءً. لم أكن أحقد عليها. كان الوضع هكذا وكفى. شخص من خزف. عادة ما حذرتني أمي: ينبغي عليك أن تتصلب، أن تتعامل مع شقاء الغير بصبر وتجلد؛ إن الشقاء ليس جيدا لك ولا لأصحابه. أنت في وضعية مزرية، لا تحسَد عليها، فكيف تنشغل بشقاء الآخرين..." بلا جدوى. لا يولد الإنسان فظا، الحياة تصيّره كذلك؛ لا يولد الإنسان حكيما، الحياة تعلمه الحكمة. أنا، ولدت في البؤس والبؤس علمني القسمة. كل ألم يحتمي بألمي، يصير ملكي. أما بالنسبة للباقي، يوجد حكم في السماء؛ يعود أليه إدخال، على العالم، التصحيحات التي يراها ضرورية، مثلما يملك حرية عدم تحريك أدنى أصبع.
في المدرسة، كان رفاقي في القسم يعتبرونني جبانا. مهما استفزوني، لم أكن أردّ على الضربات أبدا. حتى في الحالة التي لا أمنح للخصم خدّي الثاني، فإنني أبقي يديّ بداخل جيوبي. مع الطول، سئم الأطفال من جمودي وتركوني لحالي. في حقيقة الأمر، لم أكن جبانا؛ كنت أكره العنف. حينما أحضر مشادّات داخل ساحة المدرسة، أدخل رأسي وسط كتفي وأستعد لتلقي السماء على الرأس... ربّما هذا ما حدث لي عند أسرة هيثم: سقطت السماء على رأسي. قلت مع نفسي أن القوة الشيطانية التي دمّرت العرس، وحوّلت زغاريد الفرح إلى صراخ احتضار مرعب، سوف لن تغادرني أبدا. أقدارنا لاصقة، يوحدها الألم إلى أن تفصلها نوائب الدهر. كان صوت يكرر، ضاربا على صدغي، بأن الموت الذي يعفن البساتين يعفن روحي معها، وبأنني كنت، أنا أيضا، ضمن قافلة الأموات...
إذا كانت الصدفة قرّرت أن آتي إلى بساتين هيثم –أي في أراضي الأثرياء الذين لا يكترثون بوجودنا- لأرى بأم عيني فظاظة الوجود الكلي، لأقيس بالمليمتر هشاشة قناعاتنا، لأستسلم جسدا وروحا لرخاوة مكتسباتنا، فلأنه، في مكان ما، حان الوقت كي أستيقظ لنفسي.
لا نصلح فرننا في أرض ملتهبة دون أن نحرق الأصابع أو الأرجل.
أنا الذي لم أتذكر أنني حقدت على شخص في حياتي، أجد نفسي مستعدا للعض، وإن كانت اليد التي تواسيني... إلا أنني أكبح هذه الرغبة الكاسرة. كنت ساخطا، مريضا، مغطى بالشوك من الرأس إلى أخمص القدمين. كنت شجرة ميموزا تائهة في اليمبوس، المسيح في أوّج عذابه، وكان دربي الصليبي يدور على نفسه لأنني لا أفهم. إن ما حدث عند بني هيثم لا تفسير له. لا نمر من الفرح إلى القرح في لمح البصر. الحياة ليست لعبة ساحر، وإن كانت أحيانا لا يشدّها إلا خيط ضئيل. لا يأتي الموت بالجملة، ومع رقصة فرح؛ لا، إن ما حدث لبني هيثم لا يشبه شيئا...
في المساء، تحدّثت الأخبار عن طائرة آلية أمريكية، اكتشفت إشارات غريبة على مستوى قاعة الحفل. لم يحددوا نوع الإشارات. اكتفوا بالقول أن تنقلات إرهابيين اكتشفت بالمنطقة قبل أيام، القول الذي نفاه السكان جملة وتفصيلا. حاولت القيادة الأمريكية أن تبرر اعتداءها باقتراح حجج أمنية أخرى، ولكنها سئمت من سخرية أقوالها، فانتهى بها الأمر إلى الاعتراف بالخطأ وتقديم تعازيها وتأسفها لعائلات الضحايا.
انتهت القضية هنا.
حدث إضافي يطوف حول العالم قبل أن تنسيه أحداث أخرى أكثر حمقا.
ولكن، في كفر كرم، أعلن الغضب الحرب: طلب ستة شبان من المؤمنين أن يدعوا لهم بالرحمة والمغفرة. لقد أقسموا الثأر لأمواتهم، وسوف لن يعودوا إلى الديار إلا بعد أن يبعثوا آخر عسكري أمريكي إلى بلاده في تابوت مشمع... وبعد العناق الحار، خرج المقاتلون واختفوا في الظلام الدامس.
بعد أسابيع قليلة، قُتل محافظ الشرطة بداخل سيارته الوظيفية. في اليوم نفسه، دمرت شاحنة عسكرية من طرف قنبلة يدوية الصنع.
وبكت كفر كرم شهداءها الأوائل – ستة رجال دفعة واحدة، فاجأتهم دورية عسكرية في وقت كانوا يستعدون للهجوم على نقطة مراقبة.
في القرية، بلغ الضغط حدودا جنونية. يوميا، كان الشبان يختفون. لم أعد أخرج إلى الزقاق. لم أكن أتحمل نظرة الشيوخ اللائمة، ولا ابتسامات الازدراء التي ترتسم على وجوه المراهقين والتي تذكرني بموقف رفاقي في المدرسة زمن كانوا ينعتونني بالجبان. اندهش الجميع من بقائي في البيت، فيما التحق أقراني بصفوف المقاومة؟ لزمت البيت العائلي، واحتميت بالكتب ومسجلات الأوديو التي بعثها لي كاظم. صحيح أنني كنت ساخطا، ناقما على قوات التحالف، ولكنني لم أتصوّر نفسي أطلق النار على المتسكعين هنا وهناك. لم تكن الحرب شيمتي. لم أوجد لممارسة العنف –اعتقدت أنني سأصبر على تحملها ألف سنة ولا أسلطها على غيري يوما واحدا.
في ليلة حالكة، من جديد، سقطت السماء على رأسي. أولا، فكرت في صاروخ حينما انفجر باب منزلنا في دوي أصم. ردمتني زوبعة من الشتائم والأضواء الكاشفة البراقة. لم أجد الوقت الكافي لمد يدي نحو قفل الكهرباء. اغتصب ألفتي رهط من العسكريين الأمريكان. ابق نائما... لا تتحرك وإلا فجرت رأسك... قف... ابق نائما... قف...الأيدي فوق الرأس... لا تتحرك... شلّتني مصابيح يدوية على السرير، وأرعبتني فوهات البنادق المصوّبة نارها باتجاهي. لا تتحرك وإلا فجّرت مخك... صراخ مخيف، مرعب، شيطاني، مدمّر. يقطعك إربا إربا، يجعلك غريبا عن نفسك... أقلعتني أذرع من سريري ورمتني عبر الغرفة؛ أوقفني آخرون وسحقوني ضد الجدار. الأيدي خلف الظهر. ماذا فعلت؟ ماذا يحدث؟ كسر العساكر خزانتي، رموا بالأدراج أرضا، بعثروا أدواتي بأقدامهم. تحطم مذياعي القديم تحت الحذاء العسكري الخشن. ماذا يحدث؟ أين أخفيت الأسلحة يا قذر؟ لا أملك أسلحة. لا توجد أسلحة هنا. هذا ما سوف نراه، يا قذر. ألحقوا هذا الحقير بالآخرين. مسَكني عسكري من الرقبة، ووجّه لي آخر ضربة في أسفل البطن. لقفتني عاصفة هوجاء، قذفتني من لجّ إلا آخر؛ عشت كابوسا مرعبا وأنا واقف كالمتسرنم تتقاذفه العفاريت القاصمة. بدا لي أنهم يجرونني على أرضية السطح، ثمّ يدفعونني على درجات السلم؛ لم أعِ جيدا إن كنت أتدحرج على قدمي أو أزحف على بطني. ضوضاء مماثل يحدث في الطابق الأول. كان صراخ الأطفال، أبناء أخواتي، يزيد الجوّ جلبة. سمعت أختي بهية تحتج قبل أن تصمت فجأة، ربما أخرستها ضربة أخمص البندقية أو ركلة... تجمّعت أخواتي في عمق البهو، محاطة بذريتها النصف عارية، الشاحبة. ضمت عائشة، البكر، أولادها بذراعيها. كانت ترتعد كورقة خريف، ولم تدرك أن نهديها يفيضان عاريين من فوق صدارها. على يمينها، تمايلت عفاف الخياطة، أصابعها تتشبث بقميصها. أيقظها المغتصبون فجأة من نومها فنسيت شعرها المستعار على طاولة النوم؛ كان رأسها الأصلع يتلألأ تحت المصباح المعلق في السقف، في حالة يرثى لها، كما الجَدَعة؛ كان الخجل ظاهرا على حركاتها، وهي تحاول إدخال رأسها بداخل كتفيها كأنها تبحث عن مخبأ في جسمها. صمدت بهية، بطفل في ذراعيها. كانت تتحدى، بصمت، البندقية المصوبة نحوها، شعرها مشعث، تقاسيم وجهها مجعدة، وخيط من الدم يتقاطر على رقبتها...
أحسست بدوخة. بحثَت يدي عن متكأ، بلا جدوى.
انفجرت شتائم أخرى من عمق البهو، يندى لها الجبين. قذفت أمي خارج غرفتها؛ وقفت وأسرعت لتقديم العون لزوجها المعوق. أتركوه، إنه مريض. أخرج العساكر الشيخ. لم أره أبدا في تلك الهيئة. بسرواله الداخلي الرث الذي يصل إلى ركبتيه وتريكو ممزق في الأطراف، تجاوز شقاؤه كل الحدود. صورة البؤس في أوجها، الإهانة في فظاظتها المطلقة. كان يتوسّل: أتركوني أرتدي ثيابي. أولادي هنا. هذا ليس من شيم الرجال. ملأ صوته المرتعد البهو حزنا لا يطاق. حاولت أمي المشي أمامه، لتصدّ عريه عن أعيننا. كانت عيناها تتوسل إلينا، تتضرّع إلينا كي ندير أعيننا. لم أستطع استدارة بصري. أذهلني المنظر الزاحف أمام عيني. لم أر الأوغاد الذين يحيطونه. لم أكن أرى إلا تلك الأم التائهة، وذلك الأب الهزيل بسرواله الداخلي الرث، وذراعيه المتدليين، ونظرته المنكوبة التي تتمايل تحت الهجمات. في حركة يائسة، دار على عقبيه وحاول الالتحاق بغرفته، وارتداء جلابيته. فانطلقت الضربة... أخمص البندقية أم قبضة اليد، ما الفرق؟ انطلقت الضربة، فتحدّد المصير. سقط أبي على ظهره، التريكو الممزق في الأطراف على وجهه، البطن شديد النحول، مدعوك، رمادي اللون كما بطن سمكة ميتة... ورأيت، فيما كان شرف العائلة يسقط أرضا، رأيت ما لا ينبغي أن أراه أبدا، ما لا يليق لابن بار، محترم، لبدوي أصيل، أن يراه أبدا –ذلك الشيء الرخو، المقرف، المهان؛ ذلك الإقليم الممنوع، المسكوت عنه، العار: قضيب أبي يتدحرج جانبا، والخصيتان فوق ثقب مؤخرته... الطامة الكبرى. بعد ذلك، لا يوجد شيء، فراغ مهول، سقوط لانهائي، العدم... فقدت جميع الأساطير القبلية، جميع خرافات العالم، جميع نجوم السماء بريقها. يمكن للشمس أن تواصل طلوعها، أبدا، لن أميّز النهار عن الليل... لا يمكن للغربي أن يفهم، أن يقدّر حجم الكارثة. بالنسبة لي، إن رؤية العضو التناسلي لوالدي، يعني اختصار وجودي كاملا، وقيمي ووساوسي، عزتي وخصوصيتي، إلى وميض إباحي فظ –كانت أبواب جهنم ستكون أقل رحمة بي... انتهيت. انتهى كل شيء. غير قابل للاسترداد. لا رجعة إلى الوراء أبدا. لقد امتطيت سارية العار، وسقطت في هاوية عالم مواز حيث يستحيل الصعود ثانية إلى السطح. فوجدت نفسي أمقت هذه الأذرع العاجزة التي لا تعرف كيف ترد الصاع صاعين، ولا حتى تحريك ذلك السروال الرث لإخفاء ذلك الذراع المضحك، نصف الشفاف، القميء الذي يرمز إلى عجزي الخاص؛ أمقت عينيّ اللتين رفضتا الاستدارة، مطالبة بالعمى؛ أمقت صراخ أمي الذي يقصيني. أنظر إلى أبي، وأبي ينظر إلي. يكون قد قرأ في عينيّ الازدراء لكل تلك الأشياء التي شكلت لبّ حياتي، والشفقة التي أشعر بها بغتة اتجاه ذلك الشخص الذي كنت أحترمه فوق الجميع، برغم كل شيء. أنظر إليه كأنني فوق علو جرف ملعون في ليلة عاصفة، وهو ينظر إلي من عمق الخزي؛ في تلك اللحظة بالذات، كنا نعرف أننا نتبادل النظرات لآخر مرة في حياتنا... و في تلك اللحظة بالذات، في وقت لم أقدر على أي تحرك، أدركت أن لا شيء يبقى مثل سابق عهده، بأنني لا أنظر إلى الأمور بالكيفية نفسها، بأن البهيمة البشعة قد زأرت بعمق أحشائي، وبأنني، عاجلا أو آجلا، ومهما حدث ، ومهما سيحدث، حُكم عليّ أن أثأر للعار الذي أصابني في محيط من الدماء، إلى أن تصير مياه الأنهار والبحار أكثر حمرة من الخدش الذي تركه الأوغاد على رقبة أختي بهية، بأن عيون أمي، وسحنة أبي، والجمر الذي يشتعل بأحشائي يدربني على تحمل الجحيم الذي ينتظرني...
لا أتذكر ما حدث بعد ذلك. لم أكترث للأمر. كما الغريق، تركت نفسي تساق على حسب تيار الأمواج. لم يعد هناك شيء يمكن إنقاذه. لم يعد زعيق العساكر يصلني. كما لم تعد بنادقهم وسحنهم تخيفني. يمكنهم قلب الدنيا رأسا على عقب، تأجيج نار البراكين، إبداء أصوات أكبر من الرعد؛ لن يمسني شيء. كنت أراهم يتخبّطون خلف زجاج كوة، في عالم مصغر من الظلال والصمت.
فتشوا المنزل تفتيشا دقيقا. لم يجدوا سلاحا، ولا حتى طرف خنجر صدئ.
دفعتني أذرع إلى الزقاق حيث قرفص أطفال، أيديهم على رؤوسهم.
كاظم، كان هنا أيضا. ذراعه دامية.
فجّرت تهديدات العسكريين بإطلاق النار صراخا وعويلا في المنازل المجاورة.
تفحَّصَنا عساكر عراقيون، يحملون في أيديهم قوائم أسماء بصور مطبوعة على الأوراق. رفع أحدهم ذقني ومرر مصباحه اليدوي على وجهي، تأكّد من بطاقاته ثمّ انتقل إلى الشاب الواقف بجانبي. هناك في زاوية غير بعيدة عنا، وسط العساكر الأمريكيين الهائجين، ينتظر متهمون لحظة إركابهم في الشاحنة؛ كانوا منبطحين بكامل أجسادهم وسط الغبار، أيديهم مقيّدة والرأس بداخل كيس.
حلقت طائرتان مروحيتان فوق القرية، تمسحنا بمصابيحها الكاشفة. كان دوران المراوح يحمل شيئا من نهاية العالم.
طلع النهار. قادنا العساكر خلف المسجد حيث أقيمت خيمة. استنطقونا منفصلين، الواحد وراء الآخر. أظهر لي عساكر عراقيون صورا؛ على بعضها، وجوه جثث أخذت بغرف حفظ الموتى أو في أماكن الاقتتال. تعرفت على مالك، "مجدّف" ذاك اليوم في مقهى السفير؛ كانت عيناه مفتوحتين والفم كذلك، دم يسيل من أنفه ويتجمع عند الذقن. تعرفت أيضا على جار بعيد، منكمش عند أسفل مصباح عمومي، فكه مكسر.
طلب مني الضابط أن أفصح عن اسم سلالتي الكامل؛ سجل كاتبه أقوالي على دفتر، ثمّ أطلقوا سراحي.
كان كاظم ينتظرني عند زاوية الزقاق. جرح قبيح يحرث ذراعه، ابتداء من الكتف إلى غاية المعصم. قميصه ملطخ بالعرق والدم. روى لي أن العساكر الأمريكيين كسروا عود جده بضربة قدم –عود عجيب، لا يقدّر بثمن؛ تراث قبلي، بل وطني. لم أكن أسمعه إلا لماما. كان كاظم منهارا. الدموع حجبت بصره. كان صوته الرتيب يثير الازدراء في نفسي.
بقينا قرب الجدار مدة دقائق طويلة، شاردَين، متمايلين، نشدّ الرأس بأيدٍ راجفة. كانت السماء تنقشع ببطء، فيما طفقت الشمس في الأفق تقدّم نفسها قربانا لنيرانها الملتهبة. بدأ الأطفال الأوائل يحدثون ضجيجا خلف الأسيجة؛ قريبا، سينقضون على الساحة العمومية والملاعب المهملة. أعلن هدير المحركات انسحاب العساكر. غادر الشيوخ منازلهم وأسْرعوا الخطى للالتحاق بالمسجد. يذهبون لتقصي الأخبار؛ من تمّ توقيفه ومن نجا؟ ارتفع نحب نساء عند عتبات الديار، يبكون رجالهن الموقوفين، أو ينادين على ذريتهن. رويدا رويدا، فيما كان اليأس يمتد من كوخ إلى آخر، والدموع تتفتت فوق السطوح، امتلأت كفر كرم بضغينة كافية لتجرفها كما تفعل زوبعة صاعقة. قلت لكاظم:
- يجب أن أذهب من هنا.
تفحّصني كاظم، فزعا.
- أين تريد أن تذهب؟
- إلى بغداد.
- ماذا ستفعل هناك؟
- في الحياة، توجد أشياء أخرى غير الموسيقى.
هزّ رأسه وتأمل أقوالي.
لم أكن أحمل على جسدي سوى تريكو داخلي بالي وسروال منامة قديم. كنت حافي القدمين أيضا.
- كاظم، هل بمقدورك أن تقدم لي خدمة؟
- أي نوع؟
- أنا بحاجة إلى استرجاع أشيائي الخاصة من البيت؟
- أين المشكل؟
- المشكل أنني لا أستطيع الرجوع إلى البيت.
قطّب حاجبيه:
- ولماذا؟
- هكذا وكفى. هل تريد الذهاب إلى البيت وتأتيني بملابسي؟ ستعرف بهية ماذا ستضع في الجراب. قل لها بأنني ذاهب على بغداد، عند أختنا فرح.
- لا أفهم. ماذا حدث؟ لماذا لا تريد الرجوع إلى البيت؟
- من فضلك، كاظم. افعل ما أطلبه منك ولا تزيد للطين بلّة.
أدرك كاظم أن شيئا خطيرا قد وقع. ربّما ذهب ذهنه إلى حدوث اغتصاب. صرخت:
- هل تريد حقا أن تعرف ماذا حدث؟ هل تريد فعلا أن تعرف؟
- لا داعي، لقد فهمت.
- لا، لم تفهم شيئا.
ارتجفت وجنتاه حينما صوّب أصبعه نحوي:
- حذار، أنا أكبر منك. لا أسمح لك بأن تخاطبني بهذه النبرة.
- أخشى أن لا أحد في العالم يملك سلطة عليّ الآن.
واجهت نظرته بقوة وقلت:
- بل أسوأ، إني لا أبالي بما سيحدث لي ابتداء من هذه الدقيقة، من هذه الثانية... هل ستأتيني بأشيائي الخاصة، أم أنني سأذهب مثلما أنا عليه. أقسم لك أنني قادر على القفز في أول حافلة وعلى جسمي فقط هذا القميص البالي والمنامة الرثة. لا شيء أصبح يهمني الآن، لا السخرية ولا النكث...
- استيقظ، ماذا دهاك؟
حاول كاظم أن يشدّ معصميّ.
دفعته. قال لي وهو يتنفس ببطء كي يسترجع هدوءه:
- اسمع، سأقول لك ماذا ستفعل. ستذهب معي إلى البيت...
- أريد مغادرة كفر كرم.
- من فضلك، اسمع، اسمع... أعرف بأنك...
- بأنني ماذا، كاظم؟ أنت لا تعرف شيئا مما حدث. شيء لا يمكنك أن تتصوره أبدا.
- موافق، ولكن لنذهب إلى غرفتي أولا. هناك ستفكر على مهلك، وإن اقتنعت فعلا بالذهاب، سأرافقك شخصيا إلى غاية المدينة المجاورة.
قلت بصوت رنان:
- من فضلك يا ابن العم. اذهب وآتيني بملابسي وبعصا الحجاج. أريد أن أقول كلمتين للربّ الكريم.
فهِم كاظم أن حالتي لا تسمح لي بسماع أي شيء. قال:
- لا بأس. انتظرني، سآتيك بأشيائك.
- أنتظرك خلف المقبرة.
- لماذا ليس هنا؟
- كاظم، إنك تطرح أسئلة كثيرة، وأنا أشعر بدوخة في الرأس.
طلب مني أن أمسك أعصابي وابتعد دون أن يلتفت وراءه.
عاد كاظم في الوقت الذي أنهيت فيه رجم أجمة هزيلة.
فبعد أن مشيت قليلا في المقبرة، جلست على كومة تراب وبدأت أقلع الأحجار حولي وأرميها ضد وبيل الأغصان المعفر بالغبار وبأكياس البلاستيك.
في كل مرّة ينزل ذراعي إلى الأسفل، ينطلق صوت "حانه" من حنجرتي. كما لو كنت أصارع الجبال، أو أطرد أسراب نذُر الشؤم التي تتكدّس في ذهني، وأغرق يدي في ذكريات الأمس لأقلع قلبه.
أينما طاف بصري، إلا وتراءى له ذلك الشيء البشع الذي لمحته أمس في البهو.
هزّني غثيان عاصف لمرتين على التوالي، مجبرا إياي على الجثو على ركبتي كي أفرغ ما بداخل أحشائي. كان جسدي يتمايل على عقبيّ، تدكّه رَجَفات قاصمة؛ أفتح فمي، ولا أردّ شيئا، سوى حشرجة بهيمة شرسة.
في تلك الحرارة الصباحية، كانت روائح عفنة تعبق بالمكان. ربما جيفة في ذروة التعفن. لم أنزعج. لم أتوقف من قلع الأحجار ورميها ضد الأجمة؛ كانت أصابعي مخدوشة.
خلفي، كانت القرية تستيقظ غير مصدقة ما حدث لها ليلة البارحة؛ كان السخط يفيض هنا وهناك – أب يوبّخ ابنه، طفل صغير ينتفض ضد أخيه الكبير. لا أتعرف على نفسي داخل هذا الغضب. كنت أريد شيئا أكبر من حزني، أوسع من خزيي.
تسلل كاظم بين القبور المنتفخة بكدمات مربع المفقودين. من بعيد، أظهر لي الجراب. تتبعه بهية، الرأس مغطى بمنديل موصلي. ترتدي فستانها الأسود، فستانَ الوداع. قالت بوجه قدّ في قطعة شمع:
- كنا نظن أن العساكر أخذوك معهم.
على كل حال، لم تأتِ لإقناعي بعدم الذهاب. ليس من طبيعتها. كانت تفهم محفزاتي، ويبدو ظاهريا أنها توافق عليها بالجملة، بلا تحفظ ولا ندم. بهية بنت قبيلتها. حتى وإن كان الشرف في قبيلة الأسلاف يخص الرجال وحدهم، كانت تحسن التعرف عليه والمطالبة به.
أمسكت الجراب بفظاظة وبدأت أفتش ما بداخله. لم تغب فظاظة حركتي عن أختي. لم تستنكرها:
- وضعت لك قميصين، سروالين، جوارب، عدّة الغسل...
- ونقودي؟
أخرجت من حضنها رزمة صغيرة، مطوية بعناية ومربوطة بخيط، مدتها لكاظم الذي سلمها لي فورا. قلت لأختي:
- نقودي فقط. لا أريد دينارا واحدا زيادة.
- لا يوجد بها إلا مدخراتك، أضمن لك... وضعت لك قبعة أيضا. ثمّ أضافت وهي تكبح شهيقا يكاد يخنق صوتها.
- بسبَب الشمس.
- طيّب. الآن، التفتوا كي أغيّر ملابسي.
ارتديت سروالي ذا الخطوط الصغيرة، وقميصي ذا المربعات، والحذاء الذي أهداه لي كاظم.
- نسيتِ حزامي.
قالت بهية فورا:
- إنه في الجيب الخارجي. مع مصباحك اليدوي.
- شكرا.
انتهيت من ارتداء ملابسي، ثمّ، دون أدنى نظرة لأختي وابن خالتي، أمسكت جرابي وتدحرجت عبر الدرب باتجاه الطريق. لا تلتفت إلى الوراء، يصرخ صوت بداخلي. أنت الآن في مكان بعيد. لا يوجد شيء يصلح لك في هذا القفار. لا تلتفت خلفك. ولكنني التفت... ورأيت أختي واقفة بقرب كوة التراب، شبحية في فستانها الذي تهزه الريح، وابن عمي، يداه على وركيه، ذقنه داخل الرقبة. عدت أدراجي. احتمَتْ أختي بجسدي. سالت دموعها على خديّ. شعرت بجسدها الهزيل يرتعد وهي تضمني بشدّة. قالت بصوت مؤثر:
- من فضلك... اعتني بنفسك. الله معك.
فتح لي كاظم ذراعيه. ارتمينا، الواحد في حضن الثاني. دام عناقنا دهرا. سألني بصوت مختنق:
- هل أنتَ متأكد أنك لا تريد أن أرافقك إلى غاية المدينة المجاورة؟
- لا تكلف نفسك يا ابن العم. أعرف الطريق.
حييتهما بيدي وأسرعت الخطى للالتحاق بالطريق.
لم ألتفت ورائي هذه المرّة.
بغداد
8.
مشيت إلى غاية مفترق الطرق الواقع على بعد عشرة كيلومترات من القرية. من حين لآخر، ألتفت ورائي آملا في رؤية سيارة قادمة؛ لا غيمة غبار ترتفع في الطريق الترابي. كنت وحيدا، منقطعا عن العالم، وسط الصحراء. الشمس تشمّر عن سواعدها. سيكون اليوم قائظا.
عند المفترق، تنتصب محطّة الباص، إنها في وضعية خربة. سابقا، كانت تتوقف بها الحافلة المارة على كفر كرم. الآن، يبدو أن المكان قد أهمله البشر والبهائم. تشقق السقف المصنوع من صفيح الحديد المتموج، وتتدلى قطعه الصدئة فوق المقعد. جلست في الظل وانتظرت ساعتين كاملتين – لا حركة في الأفق.
واصلت المشي إلى غاية طريق فرعي تستخدمه عادة شاحنات التبريد التي تموّل المناطق المعزولة المجاورة بالخضر والفواكه. منذ الحصار، تناقصت تنقلاتهم بشكل ملحوظ، ولكن يحدث أن يمر تاجر جوّال من هنا. كان مشيا سريعا مضنيا، والحرارة المرتفعة تسحقني.
رأيت لطختين سوداوين على أكمة تشرف على الطريق الفرعي. اقتربت وتعرّفت على فتيين في العشرين من العمر تقريبا. كان يجلسان القرفصاء تحت الشمس، جامدين وصامتين. قذفني أصغرهما بنظرة يقظة؛ أما الثاني فكان يخط دوائر على الغبار بطرف غصن. يرتديان نوعا واحدا من السروال الرياضي، بلون أبيض بدأ يفقد نصاعة بياضه، وقميصين مدعوكين ومتسخين. يقبع جراب كبير عند أقدامهما، أشبه بفريسة صريعة.
اتخذت مكانا على مرتفع رملي وتظاهرت بربط خيوط حذائي. ينتابني شعور غريب كلما رفعت بصري باتجاه الغريبَيْن. أقلقتني حركة أصغرهما وهو يميل، من حين لآخر، على رفيقه ليهمس له كلاما في الأذن. يهز صاحبه رأسه دون أن يتوقف عن تحريك غصنه. مرة واحدة، رمقني بعين أزعجتني. بعد حوالي عشرين دقيقة، وقف أصغر الرجلين بغتة واتجه ناحيتي. تفحصني بعينين تفوران دما وأحسست بنفَسه الحارق يسوط وجهي. مرّ بقربي وراح يبول على أجمة جافة.
تظاهرت بالنظر إلى ساعتي واستأنفت طريقي مسرعا. تتأجج بداخلي رغبة جامحة بالالتفات ورائي؛ ولكنني تماسكت. بعد أن ابتعدت مسافة كافية، تأكدت إن كانا يتبعانني. من جديد، رأيتهما على الأكمة الترابية، مقرفصَين فوق الجراب، أشبه بكاسرين يسهران جيفتهما.
كيلومترات قليلة بعد ذلك، لحقتني شاحنة صغيرة. انحرفت على جانب الطريق وحركت ذراعي. كادت الشاحنة تصدمني ومرّت في هدير حديدي وصمامات مترهلة. بداخل كابينة السائق، تعرّفت على الشخصين اللذين التقيت بهما قبل قليل. ينظران أمامهما باستقامة.
عند منتصف النهار، كنت مرهقا. يتبخر العرق على ثيابي. لمحت شجرة تتشبث بصعوبة فوق حدبة، الوحيدة على بعد أميال، فاتجهت نحوها. كانت أغصانها الشوكية العارية تخط الأرض بظل هزيل. استوليت عليه كجمل يرتمي على بركة ماء.
ضاعف الجوع والعطش من تعبي. نزعت حذائي وتمددت تحت الشجرة في وضعية تسمح لي بمتابعة الطريق. مرت ساعات طويلة قبل أن ألمح، بعيدا، شبح شاحنة. بدت مثل نقطة رمادية تتسلل وسط ارتدادات أشعة الشمس، ولكنني تعرفت عليها بفضل البريق الذي تعكسه من حين لآخر. فورا، لبست حذائي وركضت نحو قارعة الطريق. وكم كانت خيبتي عظيمة حينما غيّرت النقطة اتجاهها وتبخرت في الأفق.
أشارت ساعتي إلى الرابعة. تقع أقرب قرية على بعد أربعين كيلومترا باتجاه الجنوب. للوصول إليها، كان عليّ التخلي عن الطريق المعبّد ولم أكن أريد الإطالة في المكان. عدت إلى الشجرة وانتظرت.
بدأت الشمس تميل نحو المغيب حينما ظهرت نقطة أخرى حيوية في الأفق. قررت أنه من الأجدر علي الانتظار للتأكد من اقترابها فعلا باتجاهي قبل مغادرة مخبأي. كانت شاحنة مهترئة بجناحين مقتلعين. اقتربت فعلا من مكاني. أسرعت لإيقافها متمتما دعوات خاشعة كي لا تتركني وسط هذا الخلاء. أنقصت الشاحنة من سرعتها. سمعت صرير فراملها كما لو أنها ستلفظ أنفاسها فورا.
كان السائق رجلا قصير القامة هزيل الجسم، بوجه أشبه بورق معجّن، وبذراعين ضامرين. يحمل صناديق فارغة وأفرشة نوم بالية.
- أنا ذاهب إلى بغداد، قلت له وأنا أتسلق على مرقاة الشاحنة.
- إنك على بعد دهر من بغداد يا فتى، قال بعد أن تفحصني مليا. من أين خرجت، أنت؟
- من كفر كرم.
- آه، القفر اللعين... أتوقف في باصيل. ليس هو الطريق المستقيم نحو بغداد ولكن هناك توجد سيارات عابرة.
- يناسبني المكان.
تأملني السائق بحذر.
- هل يمكنني إلقاء نظرة على ما يحويه جرابك؟
مددت له جرابي عبر فتحة الزجاج. مدده على المقعد الجانبي وتأكد بعناية من محتواه.
- طيّب، مر من الجانب الآخر.
شكرته وأسرعت لأدور حول الشاحنة، من الجهة الأمامية. انحنى ليفتح لي الباب الذي كان مقبض القفل الخارجي غائبا عن النداء. جلست على مقعد الميت، أو بالأحرى ما تبقى منه.
انطلق السائق في فوضى الصرير الحديدي.
- أليس عندك قليل من الماء؟
- خلفك مباشرة، توجد قِرْبة. إذا كنت جائعا، عندي نصف صاندوتش داخل علبة القفازات.
تركني أروي عطشي وآكل في راحة. حجاب من الحزن يظلم وجهه الضامر.
- لا تؤاخذني إن فتشت أمتعتك. لا أريد مشاكل. يوجد أشخاص مسلحون بكثرة يجرّون أذيالهم عبر الطرقات...
لم أقل شيئا.
قطعنا كيلومترات عديدة صامتين.
- أنت لست من النوع الثرثار، قل لي يا... قال السائق الذي طمع ربما في شيء من الرفقة البَهِجة.
- لا.
هزّ كتفيه ونسيني.
التحقنا بالطريق المعبد، صادفنا بعض الشاحنات التي تجري مسرعة في الاتجاه المعاكس، بعض سيارات الأجرة النادرة، من نوع طويوطا مهترئة، مدهونة باللونين البرتقالي والأبيض، معبأة بالمسافرين. كان السائق ينقر على المقود، شارد الذهن. ريح السباق تبرم خصلة شعره الشائب على جبهته.
عند نقطة مراقبة، أجبرنا العساكر على مغادرة الطريق المعبد وسلك طريق ترابي خطّ حديثا بالبيلدوزير. كان الطريق محفَّراً، مع منعرجات ضيقة إلى حدّ يستحيل أن تزيد السرعة عن العشر كيلومترات في الساعة. كانت الشاحنة تتمايل بداخل الحفرات وكادت تتكسر شفرات المعاليق. لم يمر إلا وقت قصير حتى التحقنا بالسيارات المحوّلَة قبلنا. توقفت شاحنة صغيرة على الجانب المنحدر، غطاء المحرك مشرع للريح؛ نزل المسافرون، نساء باللحاف الأسود وأطفال، وتحلقوا حول السائق المنحني على المحرك في محاولة لإصلاحه. لم يتوقف أحد لتقديم يد العون.
- أتظن أن شيئا خطيرا حدث في الطريق الوطني؟
- لو وقع أي مكروه لما تركونا نواصل السير في هناء، قال السائق. لكانوا فتّشونا تفتيشا دقيقا وتركونا نتقلى تحت الشمس، وربّما قضينا الليل في الخلاء. يتعلق الأمر بلا شك بقافلة عسكرية. لتفادي ارتماء الانتحاريين على شاحناتهم، يحوّلون الجميع على الطريق الترابي، بما في ذلك سيارات الإسعاف.
- هل الدورة طويلة؟
- ليس كثيرا. سنصل إلى باصيل قبل غروب الشمس.
- أتمنى أن أجد سيارة باتجاه بغداد.
- سيارة بالليل؟... إننا في حالة طوارئ، ولا يزال ساري المفعول. بمجرد غروب الشمس، على جميع العراقيين دفن أنفسهم داخل الديار. أظن أن أوراقك معك؟
- نعم.
مرّر ذراعه على فمه وقال:
- إنه في صالحك.
ولجنا طريقا ترابيا قديما، أوسع ومسطحا. انطلقت السيارات مسرعة كي تستعيد ما تأخر من الوقت. أثارت زوبعة غبار خلفها وابتعدت عنا بسرعة.
- ها هي الفرقة التي كنت أموّلها بالمواد الغذائية سابقا، قال السائق مشيرا بذقنه إلى مخيم عسكري في أعلى الهضبة.
كانت الثكنة مشرّعة للريح، جدرانها خربة؛ يمكننا مشاهدة البنايات الجاهزة التي نهب اللصوص أبوابها ونوافذها. أما الجناح المركزي الذي يكون قد أحمى القيادة والإدارة، فكأنه تعرض لزلزال مهول. السقوف ليست إلا ركاما من الأعمدة النخرة. تحمل الواجهات المبقورة لدغات الصواريخ، مهدمة الملاجئ. شلال من الأوراق، تسرّبت من المكاتب لترتمي على السياج الحديدي خلف المرائب. آلات مقنبلة تعرض هياكلها على ساحة التوقف، فيما كان خزان ماء مركب على إسقالة حديدية يسحق برج المراقبة المفحّم، ربما يكون صاروخ قد قطّع أسفله. على واجهة ما كان يشكل ثكنة حديثة، لوحة عليها صورة صدام حسين منتفخ الخدين، بابتسامة آكلي اللحوم، تفتتت تحت غضبة شظايا القذائف.
- يبدو أن جنودنا لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد العدو. هربوا مثل الأرانب قبل وصول القوات الأمريكية. عار لا يمحى من جبين الجيش العراقي.
تأملت كَوْم الخراب على الهضبة التي طفق الرمل يغزوها بحنق. خرج كلب من المَحْرَس بقرب مدخل الثكنة الرئيسي، أسمر اللون، ضامر، تمدّد قليلا، ثمّ اختفى وراء ركام من الأنقاض، فمه يشمّ الأرض.
باصيل قرية منحصرة بين صخرين ضخمين أملسين من فرط احتكاكهما بالزوابع الرملية. تتقوقع في عمق تجويف، يذكر بالحمّام في أيام القيظ. كانت أكواخها الواطية تتشبث في يأس بجوانب التلال، مفصولة عن بعضها البعض بشبكة ملتوية من الأزقة المثَعْبَنة لا يتسع عرضها إلا للعربات اليدوية أو تلك التي تجرها البغال والحمير. يقطعها الشارع الرئيسي، وقد قُدَّ في مجرى واد اختفى منذ العهد الحجري، بضربة ريح عاتية. تشير الرايات السوداء المعلقة على السقوف أن السكان من أهل الشيعة، تصرّف يظهرون من خلاله أنهم منفصلون عن تصرفات أهل السنة وكي ينظموا إلى جانب متملقي النظام الجديد.
منذ أن نصبت نقاط المراقبة عبر كامل الطريق الوطني، أصبحت حركة مرور السيارات ثقيلة جدا، تحوّل ما كان نزهة خفيفة إلى مغامرة لا نهاية لها. فتحوّلت باصيل إلى مأوى اضطراري وإجباري لمستعملي السيارات. وتباعا للوضع الجديد، نبتت المطاعم بجميع الأشكال كالفقاقيع، معلنة عن نفسها في الليل على بعد كيلومترات عديدة. عند الأسفل، كانت القرية غارقة في الظلام. لا يوجد مصباح واحد لإنارة الأزقة.
تزاحمت خمسون شاحنة تقريبا، يحمل معظمها خزانات الوقود، في ساحة توقف عند مدخل القرية. انزوت عائلة جانبا، قرب شاحنتها، تتناول عشاءها. أطفال ينامون هنا وهناك، ملفوفين في أفرشة. على جناح منفصل، أشعل السواق النار وتحلقوا حولها يرتشفون الشاي ويثرثرون؛ تشابكت ظلالهم في رقصة زواحف.
تمكّن مضيفي من الانزلاق وسط السيارات المتوقفة كيفما اتفق ورصف شاحنته بقرب مطعم أشبه بملجأ لصوص. توجد طاولات وكراسي منتشرة في ساحة صغيرة، احتلها رهط من المسافرين بوجوه باهتة. وسط الضوضاء، يمكن سماع راديو كاسيت يلفظ أغاني النيل القديمة.
دعاني السائق إلى مرافقته إلى مطعم مجاور، قابع تحت تجميع من أغطية سميكة وجريد النخل المنخول. كانت القاعة غاصة بأشخاص ملتحين ومغبّرين، تكوّموا حول طاولات عارية. كان بعضهم جالسا على الأرض، لم يمنح لهم الجوع قوة انتظار شغور كرسي. انكبّ كل هذا الجمع من الغرقى على صحونهم، الأصابع تقطر مرقا والفكاك مرتجة؛ قرويون وسواق أتعبتهم الطرقات ونقاط المراقبة، يحاولون استرجاع قواهم لمواجهة محن الغد. جميعهم يذكرونني بوالدي لأنهم يحملون في وجوههم علامة لا تخطئ: خاتم المغلوبين.
تركني مضيفي عند عتبة الباب وتخطى بعض الزبائن ليقترب من المصرف حيث يوجد شخص ضخم الجثة، بجلابية، يستقبل الطلبات، يقبض النقود ويوبّخ خدامه في آن واحد. ألقيت نظرة بداخل القاعة آمِلا أن أعثر على شخص أعرفه. لم أتعرف على أحد.
عاد سائقي بسحنة ذابلة.
- اسمح لي، يجب أن أغادرك، الآن. إن زبوني لن يصل قبل مساء الغد. ينبغي أن تدبر أمرك بدوني.
كنت نائما تحت شجرة عندما أيقظني هدير المحركات. لم يكن النهار قد طلع بعد، حينما بدأ السواق مناوراتهم العصبية كي يخرجوا الشاحنات من الموقف. انطلقت القافلة الأولى، منحدرة عبر الطريق الذي يطوف بالقرية. ركضت من شاحنة إلى أخرى، بحثا عن سائق كريم. لم يقبل أحَد أن يأخذني معه.
ينتابني إحساس بالكبت والسخط ويضغط على صدري كلما غادرت شاحنة الساحة بدوني. كان يأسي يقترب من الفزع عندما تبين لي أن ثلاث سيارات فقط لا تزال رابضة بالموقف؛ شاحنة عائلية من نوع "فورغون" رفض محركها الانطلاق، وسيارتان مهترئتان فارغتان؛ يكون أصحابها منشغلين في مطعم، يتناولون فطور الصباح. انتظرت رجوعهم، يعصر الخوف بطني.
- اسمع أنت أبو جاسم، قال رجل واقف قرب مدخل مطعم حقير. ماذا تفعل قرب سيارتي؟ ابتعد عنها فورا وإلا أقلعت عينيك؟
بيده، أشار لي بالابتعاد. أكيد أنه حسبني لصا. اتجهت نحوه، جرابي على ظهري. وضع قبضتيه على وركيه ونظر إلي بازدراء وأنا أقترب منه.
- لا يمكن أن نشرب قهوة بلا إزعاج؟
كان طويل القامة، نحيفا، بوجه نحاسي. يرتدي سروال كتان نظيفا وسترة بمربعات مفتوحة على تريكو صوفي أخضر اللون. ساعة يد كبيرة بسوار مذهب تعصر معصمه. بتلك النظرة المتعالية وابتسامة الوغد، كان وجهه أشبه بوجه شرطي. قلت:
- إنني ذاهب إلى بغداد.
- لا شأن لي بك. لا تقترب من سيارتي، فهمت؟
أدار لي ظهره والتحق بطاولة قريبة من العتبة.
التحقت بالدرب الحجري الذي يطوف حول القرية، اتّخذت لنفسي مكانا عند أسفل شجرة وجلست.
مرت السيارة الأولى، وكانت معبأة بالمسافرين والأمتعة إلى حدّ لم أجرؤ على متابعتها ببصري وهي ترزح تحت ثقلها متجهة نحو الشمال.
أما الشاحنة الصغيرة التي رفض محركها الانطلاق قبل قليل، فكادت تجرفني معها وهي تتدحرج عبر الدرب، ترتعد في صرير حديدي.
طلعت الشمس خلف الهضبة، ثقيلة، مهددة. في الأسفل، نحو القرية، بدأ الناس يخرجون من أكواخهم الترابية.
أظهرت سيارة خَطْمَها. وقفت ومددت يدي، شاهرا إبهامي. تجاوَزتني السيارة، تدحرجت مائة مترا تقريبا؛ وفي الوقت الذي كنت أستعد للعودة إلى الجلوس، توقفت. لم أعرف إن كان توقفها من أجلي أم بسبب عطب ميكانيكي. ضغَط السائق على المنبّه، ثم أخرج يده من البوابة مشيرا إلي بالإسراع. أمسكت جرابي وبدأت أجري كمن يريد الإمساك بحظ حياته.
إنه رجل المقهى، ذاك الذي حسبني لصا.
- خمسون ورقة وأحطك في الهِلاح، اقترح عليّ بلا مقدمة وقبل أن أتوقف عن الجري.
- موافق، قلت لاهثا، يغمرني سرور لا يوصف بمغادرة معسكر باصيل.
- هل يمكنني أن أعرف ما بداخل جرابك؟
- بعض الملابس وأشيائي الخاصة، سيدي، قلت وأنا أفرغ محتوى الجراب على غطاء المحرك.
تفحصني الرجل، مجمّدا بسمته الهازئة. رفعت قميصي لأظهر له أنني لا أخفي شيئا تحت الحزام. هزّ رأسه، ثمّ، بحركة من الذقن، دعاني إلى الركوب.
- من أين قدمت؟
- من كفر كرم.
- لم أسمع عنها أبدا... ناولني سجائري، إنها في صندوق القفازات.
نفذت الأمر بخفة.
أشعل قدّاحته ولفظ الدخان من منخريه. وبعد أن تفرّس ملامحي، انطلق.
بعد نصف ساعة من السفر، كان خلالها تائها في أفكاره، تذكرني:
- لماذا لا تقل شيئا؟
- طبعي هكذا.
أشعل سيجارة أخرى وعاود الهجوم ثانية:
- في أيامنا هذه، إن الذين يتكلمون أقل يفعلون أكثر... أنت ذاهب إلى بغداد لتنظم إلى المقاومة؟
- أنا ذاهب عند أختي... لماذا هذا السؤال بالذات؟
أدار المرآة الارتدادية باتجاهي.
- أنظر إلى المرآة، تأمل وجهك يا صاحبي. إنك أشبه بقنبلة على وشك الانفجار.
تفرّست وجهي بداخل المرآة ولم أر إلا عينين حارقتين في وجه معذب. كرّرت قائلا:
- أنا ذاهب عند أختي.
أعاد المرآة الارتدادية إلى مكانها بحركة آلية وهزّ كتفيه.
- شغلك... لا يهمّني...
ثمّ، تجاهلني.
بعد ساعة من الغبار والحُفَر، وصلنا إلى الطريق الوطني. سررت للعودة إلى الإسفلت كي أتخلّص من الهزات التي رجّت عمودي الفقري. حافلات وشاحنات ضخمة تتسابق في سرعة جنونية. صادفتنا ثلاث سيارات شرطة؛ بدت سحن راكبيها مرتخية. عبرنا منطقة سكنية غاصة بالمتسوقين، شارع مليء بالمحلات والسلع المعروضة على الرصيف. شرطي بالبذلة الرسمية، القبعة مائلة إلى الخلف، القميص مبلل بالعرق في الظهر وتحت الإبطين، يحاول تنظيم الازدحام الشديد. وسط القرية، أجبرنا تجمهر على إنقاص السرعة؛ إنه سوق جوّال يحاصره الحشد. تتسلّل النساء الملحفات بالأسود وسط الرفوف، اليد جريئة ولكن القفة غالبا ما تكون فارغة. تنبعث روائح حادة من الخضر والفواكه المعروضة تحت الحرارة المرتفعة، فريسة لأسراب الذباب الزاحف عليها، وتبعث في نفسي الغثيان. في طرف الساحة، عند موقف للحافلات، شاهدنا ازدحاما شرسا حول باص مهترئ؛ ورغم ضربات الحزام التي كان يمطرها قابض التذاكر على المسافرين، بشكل عشوائي، لم يتمكن من صدّ هجومهم. قال سائقي متنهدا:
- أرأيت هذا القطيع؟
لم أوافقه ولكنني لم أعلق.
بعد حوالي خمسين كيلومترا، اتسع الطريق. من مسلكين، انتقل إلى ثلاثة، ورغم ذلك امتلأ بالسيارات. في بعض الأماكن، كنا نتقدّم ببطء شديد بسبب نقاط المراقبة. عند منتصف النهار، لم نقطع نصف المسافة بعد. من حين لآخر، نصادف هيكل شاحنة محترقة، دفعت جانبا نحو المنخفض لتحرير الطريق، ولم تبق سوى لطخات سوداء تشير إلى المكان الذي تمّ فيه حرق أو تفجير المركبات. يتناثر على طول حافة القارعة حطام الزجاج المكسور والعجلات المشققة وقطع الحديد. عند دورة، وقعنا على بقايا مدرعة أمريكية منقلبة في ساقية، ربما يكون قد فجرها صاروخ لأن المكان مناسب للكمائن.
اقترح عليّ السائق أن نتوقف لأكل لقمة. اختار محطة بنزين. بعد أن ملأ خزان سيارته، دعاني إلى فترة راحة وانتعاش في نوع من الكشك المحوّل إلى محل أكل وشرب. قدّم لنا النادل قارورتين من الليموناد غير البارد جيدا وقطع لحم مشوي –البروشات- مشكوك في صلاحتها، بداخل صاندويتش يقطر مرقا، أوقف شهيتي. أردت دفع ثمن ما أكلته، ولكن السائق رفض بحركة يد. استرحنا مدة نصف ساعة تقريبا، ثم استأنفنا السير.
وضع السائق نظارات شمسية وساق كأنه وحيد في العالم. انكمشت في مقعدي، وتركت نفسي يهدهدها شخير المحرك...
حينما استيقظت من غفوتي، كانت السيارات متوقفة. فوضى عارمة تخيّم عند مفترق قريب، تحت شمس قاصمة. لقد غادر الناس سياراتهم، يجترون سخطهم على القارعة.
- ماذا حدث؟
- يحدث أننا سوف نبقى هنا إلى الصبح.
حلقت فوقنا طائرة مروحية قبل أن تدور بغتة في هدير مرعب. دارت فوق هضبة، بعيدا، وتموقعت في طيران ثابت. فجأة، أطلق زوج صاروخ شق الهواء في صفير حاد. رأينا باقتين من النار والغبار ترتفعان فوق قمّة تل. فجأة، تدحرجت رعشة على الطريق وأسرع الناس إلى الالتحاق بسياراتهم. فقد بعضهم الصبر وأداروا مركباتهم للرجوع، مما أحدث ردود فعل مماثلة؛ في أقل من عشر دقائق، تقلص عدد السيارات إلى النصف.
تابع سائقي بعين ساخرة الهلع الذي استولى على المسافرين واستغل انسحابهم ليتقدّم بمئات الأمتار.
- لا يوجد خطر، قال لي مطَمْئنا. ستقوم الهيلكوبتر باصطياد الطريدة. ستُخرج هذه الطلقات المسلَّحين من جحورهم. ضربات تمويهية، ليس إلا. لو كان الأمر فيه خطورة، لرافقتها هيلكوبتر ثانية لحمايتها... كنت "خادم الرمال" لمدة ثمانية أشهر. أعرف جيدا حيل الأمريكيين.
فجأة، انتفض:
- كنت مترجما عند القوات الأمريكية. "خادم الرمال"، تسمية تطلق علينا، نحن معاوني الأمريكان... على كل حال، لا مجال للعودة إلى الوراء. ليست مدينة الهلاح إلا على بعد مائة كيلومتر فقط، ولا أريد قضاء ليلة أخرى في الخلاء. إذا خفت، يمكنك النزول.
- لست خائفا.
بعد ساعة، عاد المرور إلى طبيعته. عند وصولنا إلى نقطة المراقبة، فهمنا شيئا ما الأسباب التي أحدثت الفوضى. كانت هناك جثتان ممدتان على كوم من التراب، مخيّطتان بالرصاص؛ تحملان سروالا رياضيا أبيض اللون ملطخا بالدماء وقميصا متسخا. إنهما الرجلان اللذان صادفتهما بالأمس بالقرب من كفر كرم، يترقبان سيارة، مقرفصين على مرتفع ترابي، وجراب ضخم عند أقدامهما. قال السائق مغمغما:
- خطأ إضافي. إن "البويز" يطلقون النار أولا، ويتأكدون بعد ذلك. واحد من الأسباب التي دفعتني إلى الاستقالة.
كانت عيناي لاصقتَين بالمرآة الارتدادية، ترفضان الانفصال عن الجثتين. واصل السائق قائلا:
- ثمانية أشهر، مثلما قلت لك؛ ثمانية أشهر وأنا أتحمل عجرفتهم واستهزاءهم المختل. "البويز"، ما هم إلا إشهار هوليوودي. إنهم أشبه بقطيع ذئاب جائعة تطلق على زريبة غنم. رأيتهم يطلقون النار على الأطفال وعلى الشيوخ، كما لو أنهم يتدربون على الرمي على أهداف كرتونية...
- رأيت هذا أيضا.
- لا أظن يا صغيري أنك رأيت شيئا. بما أن عقلك سليم، يعني أنك لم تر شيئا. أنا، أصِبْت بصدمة لا يتصورها عقل. أقضي لياليّ غارقا في كوابيس لا تنتهي. كنت مترجما لدى فيلق الجيش النظامي. إن عساكره خرفان مقارنة بـالمارينز. ولقد أخذت حقي كاملا. زيادة على أنهم كانوا يسخرون مني باستمرار، يعاملونني كالخراء. بالنسبة إليهم، لم أكن إلا خائنا لأمته. بقيت ثمانية أشهر كي أنتبه لوضعي. ذات مساء، قابلت النقيب لأخبره بأنني قرّرت الرجوع إلى داري. طلب مني إن كان هناك ما يزعجني. أجبته: كل شيء. في حقيقة الأمر، لم أكن أريد التشبّه بأولئك الكوبوي المدمدمين البلداء. حتى وأنا منهزم، فقيمتي أكبر.
أشار إلينا رجال شرطة وعساكر بحركات عالية كي نسرع أكثر. توقفوا عن المراقبة والتفتيش، وانشغلوا بفك الاختناق عن الطريق. زاد السائق في السرعة. قال مغمغما:
- يحسبوننا متخلفين عقليا؛ نحن العرب، أمة العجب العجاب. لقد أعطينا البشرية الشيء الكثير، علمناهم كيف يجلسون على مائدة الأكل، كيف يطبخون، علمناهم الحساب والطب. ماذا احتفظ من تراثنا، هؤلاء الأوغاد، مجانين الحداثة؟
قافلة من الجمال تخطّ كثبانا رميا عند الغروب... رجل ثخين بجلابية حريرية بيضاء وكوفية يطقطق الملايين في كازينوهات الكوت دازور؟ كليشيهات، صور كاريكاتور...
أشعل سيجارة وتجاهلني إلى غاية وصولنا إلى الهلاح، منزعجا ربما من اعترافاته. أوصلني مباشرة إلى محطة الحافلات، متسرعا ليتخلص مني، ومدّ لي يده:
- مع السلامة، يا صغيري.
أخرجت رزمة أوراقي النقدية من جيب سروالي الخلفي كي أدفع ثمن السفر. سألني بغرابة:
- ماذا تفعل؟
- الخمسون ورقة، ثمن الرحلة.
دفع نقودي بظهر يده، الحركة نفسها التي صدّني بها في محطة البنزين.
- احتفظ بنقودك لنفسك، يا شقي. وانسَ ما قلته لك. أحيانا، أحكي حماقات لا أساس لها من الصحة تحت تأثير الكوابيس المرعبة التي نغصت نومي. أنت لم ترني أبدا، موافق؟
- موافق.
- مع السلامة إذا.
ساعدني على إنزال جرابي، دار دورة سريعة في المكان نفسه وغادر المحطة، دون حركة وداع.
9.
تتدحرج الحافلة زافرة. عربة قديمة، تتمايل وتطلق مفرقعات، تعبق بروائح المازوت والمطاط المفرط السخونة؛ يوحي مظهره بأنه سيبرك وسط القارعة في أية لحظة. يجرجر أذياله، أشبه بحيوان جريح على وشك لفظ النفس الأخير. يعتصر قلبي كلما قلل من سرعته. هل سيغدر بنا وسط الصحراء؟ تأخرنا كثيرا تحت الشمس الحارقة في تعطيل وانثقاب عجلتين. وعجلة التبديل بدورها كانت ملساء وغير صالحة لاستعمال طويل.
أجهد السائق عضلاته في عملية الاستبدال؛ عندما أعاد الرافعة إلى مكانها تمايل وكاد يسقط. لم أنزع عينيّ عنه. بدا لي في حالة غير طبيعية، بيده الملفوفة في ضمادة بسبب عجلة عنيدة؛ خشيت أن ينهار على المقود. من حين لآخر، يتناول قارورة ماء ويشرب منها طويلا دون الاهتمام بالطريق، ثمّ يأخذ منديلا معلقا في ظهر مقعده ويمسح به العرق. الظاهر أنه في الخمسين من العمر، ولكنني أعطيه عشر سنوات زيادة، بعينيه المغروزتين في جمجمة بيضوية الشكل، والشيب الذي غزا شعره، والصلع الزاحف في وسط الرأس. لم يتوقف عن شتم السائقين الذي يصادفهم.
خيّم الصمت داخل الحافلة. جهاز التبريد لا يشتغل، والحرارة خانقة. النوافذ كلها مفتوحة، والمسافرون منهارون في مقاعدهم. أغلبهم نائمون؛ والباقي يتابعون المناظر المتعاقبة أمام أعينهم الذابلة، الغائبة. خلفي بثلاث صفوف، كان شاب بجبهته المغضّنة يتصارع لتشغيل راديو جيبي، يكنس المحطات الإذاعية بعناد، محدثا تشوشا مزعجا أشبه بصوت القلي. عندما يلتقط أغنية، يرافقها دقيقة، ثمّ، من جديد يسافر باحثا عن برامج أخرى. أقلقني لعبه.
بالأمس، عندما حطّني سائقي المترجم في محطة الهلاح، قيل لي بأن حافلة باتجاه بغداد قد أقلعت قبل دقائق. أجبِرت على انتظار الحافلة المقبلة، المعلن عنها بعد أربع ساعات. وصلت في موعدها ولكن عدد المسافرين كان قليلا. شرح لنا السائق أن حافلته لن تنطلق بأقل من أربعين مسافر، لأن الرحلة في هذه الحالة لن تغطي حتى المصاريف. انتظرنا ودعونا الله أن يصل آخرون قبل الليل. كان السائق يطوف حول حافلته ويصيح بصوت مخنوق: "بغداد... بغداد... بغداد..." أحيانا، يتوجه نحو أشخاص معبئين بالأمتعة ويطلب منهم إن كانوا متوجهين نحو بغداد. عندما يشيرون إليه بالرفض بهز الرأس أو بحركة من اليد، ينقض على آخرين. عند اقتراب الليل، دعانا إلى استرجاع أمتعتنا من داخل مستودع الحافلة. ارتفعت بعض الاحتجاجات، وبعد ذلك تجمع الكل على الرصيف لمشاهدة الحافلة وهي ترجع إلى المرأب. عاد القاطنون بالمدينة إلى ديارهم. أما العابرون مثلي، فقد التحقوا بملاجئ الحافلات لقضاء الليل. وأي ليل؟ حاول لصوص تجريد نائم من أمتعته. كان الضحية مسلحا بهراوة غليظة، فأخافهم بها. انسحب المعتدون المرة الأولى، ثمّ أعادوا الغارة ثانية بعدد أكبر، ولا أدنى أثر لرجال الشرطة. فكنا شاهدين على ضرب مبرح. بقينا على هامش حلبة الاعتداء، متخندقين خلف جرابنا وحقائبنا، ولا أحد منا تجرأ على تقديم يد العون للضحية. دافع الرجل المسكين عن نفسه بشهامة. ردّ الصاع صاعين. ولكن في نهاية المطاف، تغلب عليه اللصوص، أسقطوه أرضا، تهجموا عليه بتوحش لا نظير له، وعندما جردوه من أمتعته، أخذوه معهم. كانت الساعة حوالي الثالثة صباحا، ومنذ ذلك الوقت لم يغمض لنا جفن.
نقطة مراقبة عسكرية أخرى. سلسلة طويلة من السيارات تتقدّم بطيئة، مائلة نحو اليمين. في وسط القارعة، وضعت إشارات المرور، وكذا بعض الأحجار الضخمة لتحديد الحد الفاصل بين المسلكين. كان العساكر عراقيين. يراقبون جميع المسافرين، يفتشون صناديق السيارات الخلفية، الحقائب، الجراب، بل ويلمسون حتى أجساد الأشخاص الذين يثيرون شكوكهم. صعدوا داخل حافلتنا، طلبوا وثائق ثبوت الهوية، وقارنوا بعض الوجوه بصور المبحوث عنهم التي يحملونها معهم. قال عريف آمرا:
- أنتما، اهبطا بسرعة.
وقف فتيان وغادرا الحافلة، خاضعَين. باشر عسكري بتفتيشهما، ثمّ أمرهما بإحضار أمتعتهما ومتابعته إلى غاية مخيّم منصب في الرمال على بعد عشرين مترا. قال العريف للسائق:
- جيد، يمكنك أن تذهب.
اضطربت الحافلة. نظرنا جميعا باتجاه الرجلين الواقفين قرب الخيمة. لا يبدو القلق ظاهرا على محياهما. دفعهما العريف بداخل الخيمة فاختفيا عن أبصارنا.
أخيرا، ظهرت البنايات المجاورة لبغداد، ملفوفة في حجاب أمغر. مرّت العاصفة الرملية من هنا، وكان الهواء مثقلا بالغبار. هذا أحسن، فكّرت. لم أكن أريد إيجاد مدينة مشوّهة، وسخة ومسلّمة إلى عفاريتها. لقد أحببت بغداد كثيرا، سابقا. سابقا؟ بدا لي أن عهدي بها يعود إلى قرون خلت. كانت بغداد مدينة جميلة، بشوارعها الواسعة، وأزقتها الغنية، اللامعة بواجهاتها وشرفاتها المشمسة. بالنسبة لقروي مثلي، كانت حقا الشانزيليزي مثلما أتخيّلها من عمق ثقب الجرذ الذي يحويني في كفر كرم. أبهرتني أضواء النيون، وتزيين المحلات، فكنت أقضي جزءا كبيرا من لياليّ أجوب الشوارع التي تنعشها نسمة نهر دجْلة. عند رؤيتي لكل أولئك الناس يتجولون عبر الشوارع، وتلك الفتيات الرائعات يتواركن على المُستَشْرفات، ينتابني إحساس أنني قمت بأروع سفر تسمح لي به حياتي الفقيرة. كانت جيوبي فارغة. في المقابل، لي عينان أتفرّس بهما إلى حدّ الدوخة وأنف أضخ بملء منخريه الروائح العبقة لأعجب مدينة في الشرق الأوسط، تلك التي يرويها نهر دجْلة بخيراته، جارا في منعرجاته عجب أساطيرها وقصصها الغزلية. صحيح أن ظل الرئيس يشوّه أضواءها، ولكنه لا يصلني. كنت طالبا شابا مبهورا، يخطط بذهنه المشاريع الرائعة. أنبهِر بكل جمال تلمّح لي به بغداد: كيف لا نقع تحت إغراء مدينة الحوريات دون أن نصبح من ديكورها؟ ويزيد كاظم في تأجيج حبي لها بقوله: ما تراه ليس إلا غيضا من فيض، كان عليك أن تزورها قبل الحصار لترى العجب العجاب...
إذا كانت بغداد قد واصلت العيش برغم الحصار الأممي، هكذا لتسخر من الغرب وإتجاره بالنفوذ، فإنها سوف لن تصمد بالتأكيد للإهانة التي سلطها عليها أبناؤها.
وجئت بدوري أقطِّر فوقها مرارتي وغيظي.
أجهل الطريقة التي أسلكها، ومع ذلك كنت متأكدا أنني سأسقِط عليها ضربة وسخة. هكذا منذ العهود الخوالي. إن البَدو، ومهما كانوا فقراء، لا يتسامحون قيد أنملة مع الشرف. تُغسَل الإهانة بالدماء، الغسول الوحيد المسموح به للحفاظ على عزّة النفس وكرامتها. كنت الطفل الوحيد في عائلتي. وأبي عاجز، فتعود إليّ إذا مهمة الأخذ بالثأر، حتى وإن تركت حياتي. إن كرامة الإنسان غير قابلة للمساومة. إذا فقدها الشخص، لا تكفي أكفان العالم بأسره لحجب وجهه، ولن يستقبل أي قبر جثته دون أن يتوجع ويئن.
كان شرّ ما يؤجج روحي، وسأعمل، أنا أيضا، على تشويه بيديّ الجدران التي لامستها، وسأبصق على الواجهات الزجاجية التي سويت هيئتي فيها واعتنيت بصورتي في نصاعتها، وسأرمي بقسطي من الجثث داخل نهر دجلة المقدّس، آكل اللحوم الأدمية رغما عنه، الولهان سابقا بالعذارى الرائعة التي تمنح قربانا للآلهة، المتخم اليوم بغير المرغوب فيهم حيث تلوث جثثهم المتعفنة مياهه الفاضلة...
عبرت الحافلة جسرا يقطع عرض النهر. لا أريد النظر إلى الساحات العمومية التي أتخيلها خربة ولا إلى الناس المزدحمين على الأرصفة التي، بدءاً، لم أعد أحبها. كيف يمكنني أن أحب بعد الذي شاهدته في كفر كرم؟ كيف أراني قادرا على التعاطف مع غرباء بعد أن ألغيت التعاطف مع نفسي؟ هل لا أزال أنا؟ إذا كان الجواب نعم، فمن أنا؟... لم يعد يهمني أن أعرف. لا يكتسي الأمر أي أهمية بالنسبة لي الآن. تقطعت الحبال التي كانت تربطني ببر الأمان، سقطت أقنعة الطابوهات، وعلى أنقاضها نبت عالم من السحرة العفاريت واللعنات. إن ما يخيف في هذه القصة تلك السهولة التي أمر بواسطتها من عالم إلى آخر دون شعور بالاغتراب. يا لها من سهولة مذهلة.؟ نمت طفلا ودودا ومنشرحا واستيقظت بداخل لحم غضب لا تطفئه مياه المحيطات. أحمل ضغينتي كطبيعة ثانية؛ كانت درعي الواقي وقميص عثمان المدمى، دكّتي ومحرقتي؛ كانت كل ما تبقى لي في هذه الحياة المزيفة الظالمة، الجحودة القاسية.
لم آت إلى بغداد للبحث عن ذكرياتي السعيدة بها، بل لمحوها إلى الأبد. بيني وبين بغداد، انقضى زمن البراءة المزهرة. لم يعد لنا شيء نقوله لبعضنا البعض. نتشابه مثل قطرتي ماء؛ فقدنا روحينا ونستعد لقطف أرواح الغير.
توقفت الحافلة على مستوى نوع من ساحة المعجزات. احتلها قطيع من الأطفال بأسمال رثة ونظرات ماكرة وأيدي متجولة. إنهم أطفال الشوارع، متوحشون يقتاتون من المزابل، لفظتهم دور اليتامى ومراكز إعادة التربية المفلسة إلى زقاق المدينة بأعداد هائلة. إنها ظاهرة حديثة العهد لم تكن موجودة سابقا. بمجرد أن وضع المسافرون الأوائل أقدامهم على الأرض حتى ارتفع صوت: اللصوص... اللصوص... اقترب حشد أطفال من صندوق حفظ الأمتعة وطفقوا يخطفون الحقائب. قبل أن يدرك المسافرون الذين دوَّختهم الرحلة المضنية ما يحدث تدقيقا، كان هؤلاء يركضون في الطرف المقابل من القارعة، غنائمهم على الأكتاف.
أسرعت الخطى للابتعاد، متأبطا جرابي، أشدّه بقوة ذراعيّ.
تقع عيادة "طوبة" الطبية على بعد أميال من محطة الحافلات. قرّرت الذهاب إليها راجلا، كي أعيد الحيوية إلى جسدي المشلول من طول الجلوس. بالمدخل، ساحة صغيرة ركنت بها سيارات هنا وهناك، أحيطت بأشجار نخيل مجروحة. تغيرت الأزمنة وكذلك العيادة؛ لم تكن إلا شبحا باهتا لصورتها السابقة، بنوافذها الزائغة وواجهتها الداكنة.
صعدت أدراج المدخل حيث كان في صرحها العلوي عون أمن ينظف أسنانه بعود كبريت. قلت له:
- أريد رؤية الدكتورة فرح.
- أريني موعدك.
- أنا أخوها.
طلب مني أن أنتظر عند صرح المدخل ودخل غرفة ليتحدث مع موظف الاستقبالات. تفحصني هذا الأخير عبر زجاج النافذة بنظرة مريبة قبل أن يتناول سماعة الهاتف. بقي في الخط دقائق طويلة قبل أن أراه يهز رأسه، ثمّ يحدث العون الذي عاد ليأخذني معه إلى قاعة انتظار بأرائك ممزقة.
جاءت فرح بعد حوالي ربع ساعة، ترتدي مئزرها الأبيض، وسماعة الطبيب على صدرها. كانت متألقة، مزينة بعناية، مع شيء من الإفراط في تحمير شفتيها. استقبلتني بلا ابتهاج، كأننا كنا نلتقي يوميا. ربما كان هذا الفتور بسبب عملها المرهق الذي لا يترك لها وقتا للراحة. صحيح أنها هَزُلت. كانت قبلتها مختلسة وحركات تحيتها بطيئة. سألتني:
- متى وصلت؟
- منذ ساعة تقريبا.
- هتفت لي بهية أول أمس لتخبرني بسفرك.
- ضيعنا وقتا طويلا في الطريق. مع كل الحواجز العسكرية والانحرافات المجبرة...
- وهل كنت مجبرا على المجيء؟ قالت بنبرة فيها توبيخ واضح.
لم أفهم قصدها بسرعة، ولكن ثبات نظرتها ساعدتني على الإدراك الشفاف. إن فتور الاستقبال ليس بسبب التعب، وليس بسبب عملها؛ لم تكن أختي مسرورة لرؤيتي.
- هل أكلت؟
- لا.
- لديّ ثلاثة مرضى ينتظرون العلاج. سأقودك إلى غرفة. خذ حماما ساخنا أولا، ستزيل الروائح القوية المنبعثة منك، وبعد ذلك، ستجلب لك ممرضة شيئا من الأكل. إذا تأخرت، تمدَّد على السرير وخذ راحتك إلى غاية عودتي...
أمسكت بجرابي وتبعتها عبر رواق طويل، ثم باتجاه الطابق العلوي حيث أدخلتني غرفة مؤثثة بسرير وطاولة نوم. يوجد جهاز تليفزيون على مِرْفع حائطي، وحمام خلف ستار بلاستيكي. قالت:
- الصابون وغسول الشعر بداخل الخزانة، والمناشف كذلك. الماء بالتقسيط، لا تتركه يسيل بلا فائدة.
تفحصت ساعتها.
- يجب علي أن أسرع.
انسحبت بخفة.
بقيت مدة وجيزة أتأمل المكان الذي نزلت به، متسائلا إن لم أكن قد أخطأت الطريق. صحيح أن فرح كانت دوما متحفظة وبعيدة عنا نوعا ما. إنها متمردة ومكافحة، الفتاة الوحيدة بكفر كرم التي تجرأت على اختراق قوانين القبيلة وفعل بحياتها ما أرادت أن تفعله. أكيد أن جرأتها ووقاحتها قد طبعت مزاجها، لتصبح أكثر عدوانية وأقل تسامحا، ولكن استقبالها الفاتر أربكني. يعود لقاؤنا السابق إلى سنتين. جاءت إلى كفر كرم في زيارة عائلية لم تدم طويلا، ولكنها لم تنظر إليّ من علٍ في أية لحظة. صحيح أنه من النادر أن نراها تضحك، ولكن أن تستقبل أخاها بهذا الفتور شيء محير فعلا...
تخلصت من ثيابي المغبرة بخفة، وغطست تحت رشاش الدش وبدأت أدلك جسدي بالصابون من الرأس إلى أخمص القدمين. عند خروجي من تحت الماء، شعرت أنني أجدّد بشرتي. ارتديت ثيابا نظيفة وتمددت على المَطْرح الإسفنجي المغطى بقماش مشمَّع. أحضرت لي ممرضة طبقا من الأكل. أكلت بفظاظة وغفوت مباشرة.
حينما عادت فرح كان النهار يوشك على الغروب. بدت أكثر ارتخاء. جلست بنصف مؤخرتها على حافة السرير وشبكت يديها البيضاوين فوق ركبتها.
- مررت قبل قليل ولكنك كنت تغط في نوم عميق، لم أرد إزعاجك.
- لم أذق طعم النوم مدة يومين وليلتين.
حكّت صدغها، حائرة.
- لقد اخترت أسوأ وقت للمجيء. إن بغداد أخطر مكان على وجه المعمورة اليوم.
بدت نظرتها، الثابتة قبل قليل، تتملص. سألتها:
- هل يزعجك حضوري؟
وقفت وأشعلت مصباح السقف. حركة تافهة، ذلك أن الغرفة كانت مضيئة بشكل جيد. التفتت إليّ بغتة وقالت:
- ماذا جئت تبحث في بغداد؟
من جديد، عادت إليها تلك النبرة الموبخة التي تؤجج شكوكي.
لم أكن قريبا يوما من أختي فرح. كانت تكبرني سنا، وغادرت البيت العائلي مبكرا؛ لذلك بقيت علاقتنا سطحية. حتى في الوقت الذي كنت فيه طالبا في بغداد، لم نكن نلتقي إلا لماما. الآن وهي تجلس أمامي، أدركت أنها ليست إلا أجنبية. بل أسوأ، إنني لا أحبها.
- في بغداد، لا يوجد إلا الخراب.
قالت ومررت لسانها على شفتيها.
- تجاوزنا الأمر داخل العيادة. يوميا، نتلقى المرضى والجرحى والمشوهين بالعشرات. اعترف أغلب الأطباء بالإخفاق. وبما أن الأجرة تأتي شهرا وتغيب شهورا، فلم يبقَ منا إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليدين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أخرجت ظرفا من جيبها ومدّته لي.
- ما هذا؟
- قليلا من النقود. ابحث عن فندق لأيام معدودة، الوقت الكافي لأدبّر لك غرفة للسكن.
لم أصدق أذنيّ.
دفعت الظرف جانبا.
- هل أفهم أن شقتك السابقة لم تعد ملكا لك.
- إنها ملكي دائما، ولكنني لا أستطيع إيواءك.
- لماذا؟
- لا أستطيع.
- كيف ذلك؟ لا أفهم ما تقصدين. عندنا، نتدبر الأمر كي...
- لست في كفر كرم، قالت. إنني في بغداد.
- أنا أخوك. لا يمكنك غلق الباب في وجه أخيك.
- متأسفة.
تفحصتها. رفضت النظر إليّ. لا أعرفها. لا تشبه الصورة التي احتفظتها لها. ملامح وجهها كانت غريبة عليّ أيضا؛ إنها شخص آخر.
- إنك تخجلين مني، أليس كذلك؟ قطعت الصلة مع أصولك؛ أصبحت فتاة من المدينة، متحضّرة، وأنا، القروي الذي جاء يشوّه الديكور؟ السيدة طبيبة. تعيش وحدها في شقة راقية حيث لم يعد بإمكانها استقبال أفراد عائلتها خوفا من سخرية جيرانها...
- لا أستطيع إيواءك لأنني أعيش مع شخص، أوقفتني بنبرة حادة.
انهار شلال من الجليد على رأسي.
- تعيشين مع رجل؟ كيف ذلك؟ هل تزوجت دون علم العائلة؟
- لست متزوجة.
قفزت على ساقيّ.
- تعيشين مع رجل؟ تعيشين في الحرام؟
رفعت نحوي نظرة جافة.
- ماذا يعني الحرام بالنسبة إليك أيها الأخ الصغير؟
- ليس لديك الحق، وكفى... ممنوع من، من... هل أصبحت مجنونة؟ لديك عائلة. هل فكرت في عائلتك؟ في شرفها؟ في عرضك أنت؟ أنت، لا يمكنك العيش في الحرام، أنت بالذات...
- لا أعيش في الحرام، أعيش حياتي وكفى.
- ألا تؤمنين بالله؟
- أؤمن بما أفعل، وهذا يكفيني.
10.
تهت بالمدينة إلى حد لم يعد بمقدوري وضع قدم أمام أخرى. لم أرد التفكير في شيء، ولا رؤية شيء، ولا سماع شيء أيضا. كان الناس يطوفون حولي؛ تجاهلتهم. كم مرّة لفظني منبه سيارة فوق الرصيف؟ أخرج رأسي قليلا من الضباب الكثيف الذي يلفني، ثمّ أغرق بداخله ثانية، كأن شيئا لم يكن. شعرت بالراحة في العتمة، بعيدا عن همومي، لا يصلني صدى الأسئلة المقلقة، وحيدا بداخل غضبي الذي يحفر مجراه في شراييني، لأذوب مع ألياف كياني. كانت فرح من التاريخ القديم. طردتها من ذهني بمجرد أن غادرتها. ليست إلا سَقُوبَة، فاجرة،؛ ليس لها أدنى مكان في حياتي. في تقاليد السلف، حينما ينحرف فرد منها، تنفيه القبيلة. ولكن حينما يكون المنحرف امرأة، يكون الرفض أسرع وأقسى.
صادفني الليل ممددا على مقعد، في ساحة منكوبة، مجاورة لمحطة غسل السيارات وتشحيمها، حيث تتعفن حولها كائنات من كل حدب وصوب، طردتها الملائكة والعفاريت، ورست هنا كما حيتان البالين التي لم تعد غياهب المحيطات تناديها – لُمَّة من المتشردين المتعتعين بالسكر، المدفونين تحت خرقهم، أطفال يستنشقون غراء الإسكافي المخدر، نساء مخلوعات يتسوّلن عند جذع الأشجار، رضعهن في أحضانهن... لم يكن الحي هكذا سابقا. لم يكن راقيا، ولكنه هادئ ونظيف، بمحلاته المضيئة وطوّافيه المسرورين. الآن، الحي ملوّث باليتامى الجائعين، ذئاب آدمية مغطاة بأسمال رثة وقشور جروح، لا تتراجع أمام أي شيء لتسود.
أحتضن جرابي وأراقب قطيع جراميز تحوم حول مقعدي.
- ماذا تريد؟ قلت لطفل متسخ جاء يجلس قربي.
طفل لا يتجاوز عمره العشر سنوات، بوجه مجروح ومناخير سائلة. يتلوى الشعر فوق جبهته كما عش ثعبان على رأس المَيدوز. له عينان مخيفتان وابتسامة ماكرة في زاوية الفم. يرتدي قميصا يصل إلى الركبتين وسروالا ممزقا، وكان حافي القدمين. تعبق أصابع رجليه المتلفة والسوداء من فرط الوسخ برائحة جيفة.
- لي الحق في الجلوس، أستريح؟ عوى متحديا بصري. إنه مقعد عمومي، ليس ملكك.
يتجاوز مقبض سكين فتحة جيبه.
على بعد بضعة أمتار، تظاهر ثلاثة أطفال بالعناية بخصلة حشيش. في حقيقة الأمر، كانوا يراقبوننا خلسة، منتظرين إشارة من زميلهم كي يقتربوا.
وقفت وابتعدت. أطلق طفل المقعد شتيمة بذيئة باتجاهي وأراني أسفل بطنه. تفحصني زملاؤه مقهقهين. لا يتجاوز أكبرهم الست عشرة سنة، ولكن رائحة الموت تنبعث منهم وتعطر المكان على بعد أميال.
أسرعت الخطى.
على بعد أزقة قليلة، مرقت أشباح وسط الظلام وانقضت عليّ. تحت وقع المفاجأة، ارتميت نحو جدار. تشبثت أيادي عديدة بجرابي وحاولت قلعه من قبضتي. دافعت عن نفسي بركلة مست ساقا وانزويت تحت عتبة باب. ضاعف العفاريت الضاربون من شراستهم. أحسست بأحزمة الجراب تتشقق، فبدأت أمطرهم بضربات عشوائية. بعد صراع مرير، أرخى المعتدون قبضتهم وانسحبوا هاربين. عندما مروا تحت مصباح، تعرفت على الجراميز الأربعة الذين صادفتهم قبل قليل.
أقعيت على الرصيف، شادا رأسي بكلتا يديّ، وتنفست الصعداء بملء صدري كي استعيد أنفاسي.
- أهذه مدينة بحق؟ سمعت نفسي أقول في تنهيد شاق.
عندما وقفت، بدا لي كأن الجراب أصبح خفيفا. بالفعل، كان هناك شقّ عند الجانب، وقد اختفى نصف أمتعتي. وضعت يدي على جيبي سروالي الخلفي، وسررت لوجود نقودي في مكانها. في تلك اللحظة، بدأت أركض نحو وسط المدينة، وكلما قابلت شبحا في طريقي إلا وقفزت جانبا.
تعشيت عند مطعم شواء، جالسا في طاولة منزوية، بعيدا عن الباب أو النوافذ، عين على البروشات وأخرى على الزبائن الداخلين والخارجين كما في مدخل سوق. كانت الرؤوس جميعها مريبة عندي، وكل نظرة ترمقني تشنج عضلاتي. شعرت بالضيق وسط هؤلاء الأشخاص ذوي الوجوه السيئة الحلاقة، الذين يثيرون في نفسي الشكوك والرعب معا. لا يشبهون في شيء أهل قريتي، إلا ما تعلق بالهيئة البشرية التي لا تخفف ولو قليلا من مظاهر الأوغاد التي يتحلون بها. يثير كل شيء فيهم عدوانيتي الخفية. أحسست فعلا أنني أغامر في أرض العدو – بل أسوأ، في حقل قنابل، وأنتظر في كل لحظة أن يتمزق جسدي إربا إربا.
- هدئ نفسك، قال لي النادل وهو يضع صحن الفريت أمامي. منذ دقيقة وأنا أمدّ لك الصحن، وأنت تنظر إليّ دون أن تراني. ماذا دهاك؟ هل نجوت من حملة تفتيش أم خرجت سالما من عملية تفجير؟
أشار إليّ بطرف العين ومضى يهتم بزبون جديد.
بعد أن أكلت البروشيت والفريت، طلبت أخرى، ثمّ أخرى. جوع نهم يبتلع كل ما يصل بطني، فكلما زدت أكلا، كلما كبر الجوع. أفرغت قارورة ليموناد ذات لتر، وطاس ماء، وسلتين من الخبز وأكثر من عشرين وحدة بروشات بالفريت. أخافتني هذه الشراهة المفاجئة.
طلبت الحساب لأوقفها. عند الدفع، قلت لصاحب المطعم:
- هل يوجد فندق في الضواحي؟
قطّب حاجبا، ورمقني بنظرة جانبية.
- يوجد مسجد في طرف الشارع، خلف السكوار. على يسارك، عند الخروج. يأوي المسافرين ليلا. هناك على الأقل، يمكن لك أن تنام على أذنيك هانئا.
- أريد قضاء الليل في فندق.
- الظاهر أنك لست من هنا. كل الفنادق مراقبة. وقد أغلقت معظم الفنادق تحت تهديد الشرطة ومداهماتها الليلية... اذهب إلى المسجد. المداهمات هناك نادرة، زيادة إلى أن المبيت مجاني.
- في مكانك، هذا ما سأفعله، قال النادل وهو ينزلق خلفي.
لملمت جرابي وخرجت نحو الزقاق المظلم.
في الواقع، كان المسجد عبارة عن مستودع حوّل إلى قاعة صلاة في الطابق الأرضي لعمارة من طابقين، محصورة بين بناية وبزار مغلق. كان مصباح عمومي يضيء الزقاق إضاءة خفيفة، ومن الجهتين، محلات بواجهات مغلقة بأسيجة حديدية. من البداية، لم يعجبني المكان. إنه مأوى قطاع الطرق. كانت الساعة الحادية عشر ليلا، وباستثناء قطط ضالة تحرك أكوام المزابل على الأرصفة، لا أثر لكائنات حية. أُفْرِغت قاعة الصلاة، وجُمع المتشردون في قاعة أخرى أكبر تسع لحوالي خمسين شخصا. كانت الأرضية مغطاة بأفرشة بالية. ترسل ثريا ضوءها الخافت على الكتل المتقوقعة هنا وهناك. كان هناك حوالي عشرون بائسا يحتلون المكان، راقدين بألبستهم، بعضهم فاغرين أفواههم، البعض الثاني في وضعية أجنة؛ روائح أقدام وأسمال.
اخترت التمدد في زاوية بقرب شيخ. وضعت الجراب بمثابة وسادة، تأملت السقف وانتظرت.
أطفئت الثريا. انطلق شخير، تضاعف ثمّ تباعد. استمعت إلى دمي يخفق في صدغيّ، وتنفسي يتسارع؛ من بطني، تندفع هجومات من الغثيان وتنتهي في تجشئ مخنوق. مرة واحدة، سقطت صورة والدي بثقلها على رأسي، قاصمة؛ مباشرة، طردتها من ذهني. كنت في وضعية سيئة، لا تسمح لي بإضافة حمل ذكريات مقلقة.
رأيت في المنام أن قطيعا من الكلاب تطاردني عبر غابة معتمة، غاصة بالعواء والأغصان المُبَرْثنة. كنت عاري الجسم، السيقان والأذرع تقطر دما، والشعر يلتصق بذَرْق الطير. فجأة، شقّت هاوية الدغل. كنت بصدد الارتماء داخل المنحدر المظلم حينما أيقظني أذان الفجر.
في القاعة، غادر أغلب النائمين أماكنهم. العجوز أيضا ذهب هو الآخر. لم يبق إلا أربعة بؤساء ممددين على أفرشتهم. أما جرابي، فلا أثر له. وضعت يدي على جيب سروالي الخلفي؛ اختفت نقودي.
جلست على الرصيف، الذقن بين يديّ، أنظر رجال الشرطة ببذلهم الرسمية يراقبون السيارات. يطلبون وثائق السواق، يتأكدون من هوية المسافرين المرافقين لهم، أحيانا ينزلون الجميع ويباشرون التفتيش الدقيق. تفتح الصناديق الخلفية للسيارات، وكذا أغطية المحركات؛ ينظر الأعوان تحت الهيكل. بالأمس، في المكان نفسه، تحوّل توقيف سيارة إسعاف إلى مأساة. حاول الطبيب أن يشرح أن الأمر يتعلق بحالة إسعاف مستعجلة. لم يصدقه رجال الشرطة. فقد الطبيب أعصابه، فضربه شرطي بقبضة يد على الوجه. اختلط الحابل بالنابل. انطلقت الضربات من الجهتين، واجهت الشتائم التهديدات. أخيرا، أخرج الشرطي مسدسه وأطلق رصاصة على ساق الطبيب.
الحي غاص بالمشردين والمعوزين. قبل يومين من حادث سيارة الإسعاف، قُتل رجل في المكان نفسه الذي نصبت فيه الشرطة حاجزها. كان في الخمسين من العمر. خرج من محل مقابل، يحتضن بين ذراعيه كيس مشتريات. كان يستعد لركوب سيارته، حينما توقفت دراجة نارية على مستواه. ثلاث رصاصات، وسقط الرجل أرضا، الرأس على كيسه.
في المكان نفسه، قبل ثلاثة أيام، قُتِل نائب شاب. كان على متن سيارته حينما التحقت به دراجة نارية. وابل من الرصاص، والزجاج الأمامي تحوّل إلى شبكة عنكبوت. دارت السيارة على نفسها، صعدت فوق الرصيف، دهمت راجلة قبل أن ترتطم ضد عمود كهربائي. أسرع القاتل المقنع بكاغولة سوداء بفتح بوابة السيارة. أنزل النائب الشاب إلى الخارج، مدّ جسمه على الرصيف وخيّطه بالرصاص. بعد ذلك، ودون تسرّع، ركب دراجته النارية ثانية واختفى في هدير مدوي.
احتلت الشرطة المكان لتفادي وقوع مثل تلك الجرائم. ولكن بغداد كانت مصفاتا حقيقية. يأتيها الماء من جميع الجوانب. أصبحت الاعتداءات حوادث يومية. لا تُسدّ ثغرة حتى تفتح ثغرات أخرى أكثر اتساعا. ليست مدينة؛ كانت ساحة قتال، ميدانا للتدريب على الرمي، مجزرة ضخمة. غادرت مدينة أنيقة، وعند عودتي، عثرت على أفعى متجعدة، تتشبث ضد شقوقها. أسابيع قليلة قبل قنبلة الحلفاء للمدينة، آمن الناس بأن المعجزة لا تزال ممكنة. في كل مدن العالم، في روما كما في طوكيو، في مدريد وفي باريس، في القاهرة وفي برلين، تظاهرت الشعوب بالحشود – ملايين الغرباء يتوجهون نحو وسط مدنهم كي يقولوا لا للحرب. من استمع إلى أصواتهم الرافضة لاحتلال بغداد؟
انفتحت علبة باندور، وخرجت البهيمة المفترسة من عقالها. لا شيء يبدو قادرا على ترويضها. تتعفن بغداد. لزمن طويل، تشكلت داخل عجين الاستبداد، ها هي اليوم تتخلى عن حبال معذبيها لتسلم نفسها لتيار الانجراف، منبهرة بغضبها الانتحاري ودوخة اللاعقاب. انهار الطاغوت، فوجدت صمتها المجبر سالما، وجبنها ناقما، وألمها عظيما، وراحت تعوذ من شرّ عفاريتها بقوة الولادة العسيرة. لم تتمكن يوما من تليين قلوب جلاديها، فلم ترَ كيف تشفق على نفسها الآن في وقت رفعت فيه كل المحظورات. تحاول إرواء عطشها في ينابيع جراحها، في المكان الذي تركت فيه بردعة الخزي أثرها: ضغينتها. أثملتها أوجاعها والتقزز الذي تثيره، فأرادت أن تصبح تجسيدا لكل ما لا تطيقه، بم في ذلك الصورة التي تتخيلها عن نفسها والتي ترفضها جملة وتفصيلا؛ وها هي تسقي مكونات شهادتها الخاصة من داخل يأسها الأكثر تعفنا.
إن هذه المدينة لمجنونة حقا.
وبما أن قمصان المجانين لا تليق بها، فضلت أحزمة المتفجرات والرايات التي قدّت في الأكفان.
أسبوعان... مرّ أسبوعان وأنا أتدحرج وسط الأنقاض، بلا مال ولا معالم. أنام في أي مكان، أتغذى بأي شيء، يرتعد جسمي مع وقع الانفجارات. خِلْت نفسي في جبهة القتال، مع كل هذه الأسلاك الشائكة التي تحدّد المناطق المحمية، وهذه المتاريس المرتجلة، والحواجز المضادة للدبابات التي تتفجر ضدها سيارات الانتحاريين، وأبراج المراقبة الجاثمة فوق جدران البنايات، والأمشاط الحديدية الموضوعة على عرض الطرقات، وهؤلاء الناس المسرنمين الذين لا يعرفون عند أي قديس يحتمون، والذين، كلما وقع اعتداء، يهرولون إلى مكان الحادث كالذباب على قطرة دم.
كنت متعبا، منهارا، ساخطا ومتقززا في آن واحد. كل يوم يمر، يزيد في اختمار قرفي وغضبي. كانت بغداد تحقن جنونها في جسدي بجرعات متواصلة. رغبت في الانقضاض عليها كالصاعقة المباغتة.
هذا الصباح، عندما توقفت قبالة واجهة زجاجية، لم أتعرف على نفسي. كان شعري كبيرا ومجعدا، وجهي مدعوكا صيرته عيناي الجاحظتان مخيفا، وفمي مشققا؛ كانت ملابسي يرثى لها؛ لقد أصبحت متشردا.
- لا تبق هنا، صرخ شرطي باتجاهي.
بقيت شاردا لمدة قبل أن أدرك بأنه يوجه كلامه إليّ.
بحركة يد مزدرية، أشار لي بإخلاء المكان.
- هيا، هيا، طِر من هنا...
لم أعرف كم ساعة قضيتها جالسا على الرصيف، مقابل نقطة المراقبة. وقفت، مدوّخا من فرط الجوع الذي يعصر أحشائي. امتدت يدي باحثة عن متكئ، فلم تلق إلا الفراغ. ابتعدت بخطى متمايلة.
مشيت ومشيت طويلا... كما لو أنني أتقدّم وسط عالم مواز. تبتعد الشوارع أمامي، أشبه بأفواه عمالقة. أترنح وسط الحشد، النظرة مرتبكة، السيقان فاشلة. من حين لآخر، يدفعني ذراع منزعج. أستقيم في وقفتي وأستأنف المشي بلا هدف مقصود.
على جسر، أحاط تجمع بشري سيارة محترقة. شققت الحشد بسهولة كاسر الجليد للبحر المجمد.
أمواج النهر ترتطم على الضفتين، غير آبهة بصراخ المعذبين. ريح رملية تسوط وجهي. لم أكن أعرف ماذا أفعل بظلي، ولا بأقدامي.
- ياه...
لم ألتفت. لم تكن لدي القوة اللازمة للالتفات؛ حركة خاطئة وأسقط أرضا. بدا لي أن السبيل الوحيد للوقوف على قدمي هو المشي، الرأس مستقيم، وبالأخص تفادي الشرود.
ارتفع منبه سيارة مدويا، مرة، وأخرى... ثمّ لحقني وقع أقدام، ومسكتني يد من الكتف.
- هل أنت أطرش أم ماذا؟
اعترض شخص سمين طريقي. لم أتعرف عليه بسرعة، بسبب بصري الزائغ. فتح ذراعيه، محررا بطنه المنتفخة التي فاضت على ركبتيه. كانت ابتسامته بمثابة جلفة.
- أطرش وأعمى؟ ألم تعرفني؟
كأن واحة انبثقت من هذياني. ارتعد جسدي كله. لا أتذكر أنني عرفت قبل هذه اللحظة سعادة أكبر، إنقاذا أعظم. إن الرجل الذي يبتسم لي يعيدني إلى الأرض، يحييني من جديد. أصبح منقذي الوحيد، ملجأي الأوحد. إنه العريف عمر.
- مفاجأة سارة، أليس كذلك؟ صاح مزهوا. أنظر إلى صديقك كيف أصبح جميلا، قال وهو يدور على نفسه. ما رأيك، نجم بالتمام والكمال؟
لمس مقدم ستره، سرواله مستقيم...
- لا ذرة من الشحم الأسود، نظافة ساطعة، صاح قائلا. أطهر من سمك نهر دجلة. أتتذكر، كفر كرم؟ كانت ملابسي دوما ملطخة بقطرة زيت أو شحم أسود. منذ أن وصلت بغداد، تغيّر كل شيء.
انهار حماسه فجأة. أدرك توا أنني في حالة صحية سيئة، أنني لا أقدر حتى على الوقوف على قدميّ، وأنني على وشط الإغماء.
- إلهي، من أين خرجت؟
نظرت إليه مثلما يتشبّث بغصن غريق جرفته المياه، وقلت له:
- إنني جائع.
11.
أخذني عمر إلى مطعم شعبي. لم يتلفظ ببنت شفة خلال انغماسي في الأكل. أدرك أنني لست في حالة تسمح لي بسماع أي شيء. كنت منحنيا على صحني كما على مصيري الخاص. لم أكن أرى إلا الفريت اللينة التي أبتلعها بالحفنات، والخبز الذي أمزقه بشراسة. بدا لي أنني كنت أبتلع بلا مضغ. كان حلقي غاصا باللقم المتدحرجة بلا انقطاع، أصابعي مزيّتة، وذقني يقطر. يرمقني بعض الزبائن الجالسين حول طاولة قريبة بازدراء. لم يديروا عيونهم إلا بعد أن هدّدهم عمر بتقطيب الحاجبين.
عندما اتّخمت، قادني عمر إلى محل ليشتري لي الملابس, ثمّ، حطّني في حمام عمومي. عند خروجي، أحسست أنني أفضل بكثير. قال عمر بشيء من الحرج:
- أقدّر أنك بلا مأوى.
- نعم.
حكّ ذقنه مفكرا. قلت بنبرة شاكة:
- لست مجبرا.
- لا تحْمِل هما، يا ابن العم. أنت الآن تحت رعايتي. المشكل أنني لست وحدي، أتقاسم غرفتي مع شريك.
- لا تقلق نفسك. سأتدبّر أمري.
- لا أقول لك هذا الكلام لصدك عني. إنني أفكر في مشكلتك بصوت مرتفع. لا يمكن أن أتركك تائها بلا مأوى. إن بغداد لا ترحم المتشردين.
- لا أريد إزعاجك. يكفي ما فعلته لي.
بحركة من ظهر يده، طلب مني أن أتركه يفكر. كنا في الشارع، أنا واقف على الرصيف، وهو متكئ على شاحنته الصغيرة، مشبكا ذراعيه، ذقنه على سبابته، وكرشه المنتفخة كما الحاجز بيننا. قال فجأة:
- المسألة بسيطة. سأقول لشريكي أن يتدبّر أمره إلى حين إيجاد حل لك. إنه إنسان طيب. ثم إن له عائلة بالمدينة.
- هل أنت متأكّد أنني لا أزعجك؟
قام بحركة مباغتة بالوركين كي يستقيم وفتح لي البوابة.
- ارْكَب يا ابن العم. الضيق في القلوب وليس في البيوت. ربّك حلال لكل المشاكل.
بما أنني تلكّأت بعض الثواني، أخذني من الكتف ودفعني على المقعد.
يسكن عمر في الطابق الأول من عمارة بسلمان بارك، حي في الضاحية الجنوبية الشرقية من المدينة. عمارة وسخة، يوصل إليها زقاق ملوّث بالأطفال. هدّ الخراب مقدم الدرج، وتكاد الأبواب تنفصل عن أقفالها. عند صرح الدرج، تنبعث روائح قيء نتنة، علب البريد مكسرة، بعضها يتدلى، كأن يدا حاقدة اقتلعتها من الجدار. ظلمة مريبة تلقي بظلالها السوداء على سلالم الدرج المشققة. قال عمر محذرا:
- لا توجد مصابيح. بسبب اللصوص. نعوّض المصباح اليوم، يُسرق في الدقائق الموالية.
عند صرح الباب، تعلب طفلتان صغيرتان، الوجهان معفران بالأوساخ.
- أمهما مختلة، همس لي عمر. تتركهما طوال النهار ولا تكترث بتاتا بمعرفة ماذا تفعلان. أحيانا، يلتقطهما المارة في القارعة. والأم تنزعج عندما تنصَح بالاعتناء بطفلتيها. إننا في عالم المعتوهين.
فتح الباب، ثمّ انسحب جانبا ليفسح لي المجال للدخول. كانت الغرفة صغيرة، ومؤثثة بتقطير كما مغارة الكهوف. على الأرض، مطْرَح ذات المكانين، وإلى جانبه صندوق خشبي عليه جهاز تليفزيون صغير، وبقرب الجدار كرسي من نوع طابوري. مقابل النافذة المطلة على الساحة خزانة بقفل. وكفى. قد تمنح زنزانة لسجينها رفاهية أكثر مما تمنحه غرفة عمر لضيوفها. صاح العريف في حركة مسرحية:
- ها هي مملكتي. بداخل الخزانة الحائطية، ستجد الأغطية والأفرشة، علب المصبرات والحلويات. لا يوجد مطبخ، وإذا حاصرك البول، عليك بإفراغه داخل هذا الحوض.
بإبهامه، أشار إلى الزاوية الصغيرة.
- الماء بالتقطير. مرّة في الأسبوع، ولا يصل إلا بشق الأنفس. إذا كنت غائبا أو سارحا في أمر ما، ستنتظر التوزيع المقبل. لا فائدة من الاحتجاج. زيادة على المشاكل، منفعته الوحيدة تأجيج عطشك وإثارة أعصابك... لي جيريكانان داخل المرحاض، ماء صالح للشرب... ماء الحنفية رائحته كريهة.
نزع القفل، سحب السلسلة الصغيرة ليظهر لي ما تحتويه الخزانة.
- تصرَّف كأنك في بيتك... ينبغي علي أن أسرع إذا أردت أن لا أُفصَل. سأعود بعد ثلاث أو أربع ساعات. سأحضِر معي الأكل وسنتحدث عن ذكرياتنا الجميلة، إلى أن نحسب السراب واحة حقيقية.
قبل أن يغادر الغرفة، نصحني بغلق الباب جيدا وأن لا أنام إلا بعين واحدة.
عندما عاد عمر، كانت الشمس على وشك الغروب.
جلس على الطابوري ونظر إليّ أتمدّد على المطرح المزدوج. قال:
- لقد نمت أربع وعشرين ساعة دون انقطاع.
- إنك تمزح...
- أؤكد لك أن هذا ما حصل فعلا. حاولت إيقاظك هذا الصباح، ولكنك لم تتحرك. عدت عند الظهيرة، وكنت دائما غارقا في نوم عميق. حتى القنبلة التي انفجرت هذا الصباح في الحي لم تصل إلى وعيك.
- هل حدثت عملية تفجيرية؟
- نحن في بغداد يا ابن العم. حينما لا تنفجر قنبلة، تعوضها قارورة غاز. هذه المرة، كان حادثا. هناك أموات ولكنني لم أدقّق في العدد. سأستدرك غلطتي في المرة المقبلة.
كنت كالساعة المعطلة، ولكنني فرح بوجودي تحت سقف، وعمر إلى جانبي. لقد هدّني الأسبوعان من التشرد المتسارع. لم يكن بمقدوري الصمود أكثر. سألني عمر وهو يتفحّص أظافره:
- هل يمكنني معرفة السبب الذي جيء بك على بغداد؟
أجبته بلا تردّد:
- الثأر من إهانة.
رفع عينيه نحوي. كان بصره حزينا.
- في أيامنا هذه، نأتي إلى بغداد للثأر من إهانة حصلت في مكان آخر، هذا يعني أننا نخطئ كلية في تحديد الهدف... ماذا وقع في كفر كرم؟
- الأمريكان؟
- ماذا فعل لك الأمريكان؟
- لا يمكن أن أروي لك التفاصيل.
هزّ رأسه. ثمّ قال لي وهو يهم بالوقوف:
- أفهم... سنتمشى قليلا. بعد ذلك، سنأكل شيئا في مطعم ما. يحلو الحديث عندما تكون البطن مملوءة...
رفسنا أرصفة الحي طولا وعرضا، نتحدث عن انشغالاتنا العادية، مؤجلين الخوض في لبّ الموضوع إلى أجل لاحق. كان عمر حائرا. تجعّد خبيث يشق جبهته. ذقنه في تجويف عنقه واليدان خلف الظهر، يجرّ ذيله كما لو أن حملا ثقيلا يرهق كاهله. لم يتوقف عن ركل علب المصبرات التي يصادفها في طريقه. يسقط المساء بطيئا على المدينة الحبلى بالهذيانات. من حين لآخر، تتجاوزنا سيارات الشرطة، صفاراتها صارخة؛ ثمّ تستأنف الجلبة المألوفة للأحياء الشعبية نشاطها، لا تكاد تُسمع بسبب تفاهتها.
تناولنا عشاءنا في مطعم صغير يقع في زاوية الساحة. يعرف عمر صاحبه. وجدنا داخله زبونين؛ رجل بهيئة داندي، بنظاراته الشمسية، وبدلته الداكنة؛ وسائق شاحنة معفّر بالغبار، لا يغادر بصره شاحنته المركونة قرب الرصيف المقابل، على بعد أمتار من قطيع أطفال مشردين. سألني عمر:
- منذ كم يوم وأنت ببغداد؟
- حوالي عشرين يوما، بالتقريب.
- أين كنت تنام؟
- في الساحات العمومية، على ضفاف نهر دجلة، بداخل المساجد. على حسب الظروف. كنت أقضي الليل في المكان الذي تخونني فيه قدماي.
- كيف دارت بك الدنيا، ونزلت بك إلى هذا الحضيض الأسفل؟ لو رأيت وجهك البارحة... تعرفت عليك من بعيد، ولكنني عندما اقتربت منك، دخلني الشك. كأن عاهرة سفلسية بالت عليك حينما كنت تلحس قعرها.
عثرت على عريف كفر كرم بشحمه وبذاءاته. الغريب في الأمر أن بذاءته لم تعد تضجرني كما في السابق. قلت له موضحا:
- جئت بنية إيجاد مأوى عند أختي الطبيبة في الأيام الأولى. ولكن ذلك لم يكن ممكنا. كان لديّ قليل من النقود، ما يسمح لي بالعيش شهرا وأزيد. إلى ذلك الوقت، فكرت بأن بغداد ستمنح لي فرصة للعمل. في الليلة الأولى، نمت بداخل مسجد. في صباح غد، اختفت أمتعتي ونقودي. أما الباقي، فواضح كالشمس...
ثمّ قلت لأغير مجرى الحديث:
- قل لي، كيف تصرف شريكك؟
- إنه شخص طيب. يقدّر الموقف.
- أقسم لك أنني سأتدبر أمري قريبا.
- لا تحْمِل هما يا ابن العم. لا تشغل ذهنك بهذه المسألة. ربّك حلال لجميع المشاكل. أنا متأكد أنك كنت ستتصرَّف معي بالطريقة نفسها لو كنت مكانك. ثمّ لا تنسى أننا أهل بدو وشهامة وكرم. لا علاقة لنا بسكان المدن...
ضمّ يديه على فمه وحطّ عليّ نظرة حادة التركيز:
- اشرح لي الآن قصة انتقامك؟ ماذا تريد أن تفعل بالضبط؟
- ليست لدي أدنى فكرة...
نفخ خديه وحرّر تنهيدة زافرة. عادت يده اليمنى فوق الطاولة، أمسكت بمغرفة وبدأت تحرّك الحساء البارد في عمق الصحن. كان عمر يخمن ما يدور برأسي. كثيرون هم القرويون الذين جاءوا إلى بغداد من كل أرجاء البلد لتدعيم صفوف المقاومة. كل صباح، تدفق الحافلات المئات منهم في محطات المسافرين. تعددت محفزاتهم ولكن هدفهم واحد. يفجر العيون بشفافيته.
- لا يحق لي الاعتراض على اختيارك، يا ابن العم. لا أحد يمسك بالحقيقة. شخصيا، أجهل إن كنت في الطريق الصحيح أم لا. لذلك، ليست عندي دروس أسديها لك. أهنت في عرضك، أنت الوحيد الذي يملك حرية إقرار ما ستفعله.
يتخلل نبرةَ صوته كثير من الزيف. قلت مذكراً:
- يتعلق الأمر بالشرف، يا عمر.
- لا أريد مناقشتك في هذه النقطة. ولكن، عليك أن تعرف جيدا أين ستحط قدميك. المقاومة، أنت تشاهد ما تفعله كل يوم. آلاف العراقيين سقطوا قتلى تحت أيديها. مقابل كم أمريكي؟ إذا كانت هذه المعادلة لا تهمك، هذا شأنك. ولكنني شخصيا لست موافقا.
طلب قهوتين لربح الوقت واستجماع حججه، وبعد ذلك واصل:
- لمزيد من الصراحة معك، أقول لك بأنني جئت إلى بغداد لأدمّر الدار وما يحوي. لم أهضم أبدا إهانة ياسين لي في المقهى. لقد ذلني، ومنذ ذلك اليوم، أشعر بالاختناق كلما فكرت في الأمر، يعني مرات عديدة في اليوم. كأنني أصبحت مصابا بالربو.
أضجره استحضار حادثة كفر كرم. أخرج منديلا من جيبه ومسح جبينه ورقبته. قال معترفا:
- أنا متأكد أن تلك الإهانة ستلتصق بحلقي إلى أن تغسَل في بركة دم. لا مجال للشك في هذه النقطة بالذات: عاجلا أم آجلا، سيدفع ياسين الثمن بحياته...
حطّ النادل فنجاني القهوة بجانب صحوننا. انتظر عمر انسحابه ليواصل المسح بالمنديل. ارتجت كتفاه الممتلئتان. قال:
- خجلت لما وقع لي في كفر كرم، بمقهى السفير. حاولت النسيان بالسكر، بلا جدوى. فقرّرت السفر بعيدا لعلني أتخلص من مطاردة الإهانة. كنت متخما بالحنق والسخط. أردت إضرام النار في المعمورة كلها. كل شيء أضعه في فمي يتحول طعمه إلى دم، كل ما أتنفس يعبق برائحة حرق الأموات. تطالب يدايّ بفولاذ مغالق البنادق، وأقسم لك أنني أشعر باستسلام الزناد عندما أحرك سبابتي. بداخل الحافلة التي سافرت بي نحو بغداد، لم تكن عيناي تريان إلا الخنادق التي أراني أحفرها في الصحراء، والمخابئ ومراكز القيادة. كنت أفكر تماما كجندي الهندسة العسكرية، أفهمت؟... وحدث أن وصلت إلى بغداد في ذلك اليوم الذي حدث فيه ازدحام رهيب على الجسر نتيجة بلاغ كاذب والذي أودى بحياة حوالي ألف شخص. حينما شاهدت ذلك يا ابن العم، حينما رأيت كل تلك الجثث العائمة، والممددة أرضا، كل تلك الجبال من الأحذية في المكان الذي شاهد الازدحام الرهيب، حينما رأيت وجوه أولئك الأطفال المزرّقة بعيونهم النصف مغمضة، حينما شاهدت كل ذلك الخراب الذي تسبب فيه عراقيون لقتل عراقيين مثلهم، قلت مع نفسي حينها، هذه ليست حربي أنا. وقعت القطيعة فجأة، يا ابن العم.
أخذ الفنجان إلى فمه وشرب جرعة ودعاني لتقليده. كان وجهه يرتعد، وتذكّر منخاراه بسمكة تختنق. قال:
- جئت خصيصا لألتحق بصفوف الفدائيين. ليس برأسي شيء آخر. حتى قضية ياسين كنت قد أرجأتها إلى وقت لاحق. سأفض خلافي معه في الوقت المناسب. قبل ذلك، كان لي خلافات مع العسكري الهارب الذي كنته. كان عليّ أن أعثر على الأسلحة التي أهملتها في الميدان عند اقتراب العدو، لأستحق البلد الذي لم أحسن الدفاع عنه في وقت يفترض أنني سأموت من أجله... أصابنا العمى الأخرس... كيف نخوض حربا ضد شعبنا، ضد أنفسنا، فقط للتعبير عن سخطنا ضد العالم؟
انتظر ردّ فعلي الذي لم يأتِ، حشّ بأصابعه داخل شعره بسحنة يائسة. حيّره صمتي. فهم أنني لا أقاسم عواطفه، بأنني كنت متخندقا في معسكري لا أحيد عنه قيد أنملة. هكذا كنا نحن البدو. حينما نصمت، يعني أن كل شيء قد قيل، ولا توجد إضافة من أي نوع كان. كان يستحضر الخراب الذي وقع فوق الجسر، أما أنا فلا أرى شيئا، ولا حتى والدي الساقط على الأرض. كنت في مرحلة ما بعد الصدمة، ما بعد الإهانة؛ كنت داخل واجبي الذي يفرض عليّ القيام بالثأر، واجبي المقدس وحقي المطلق. أنا شخصيا أجهل ماذا يمثل هذا الحق أو هذا الواجب، وكيف يتشكل في ذهني؛ أعرف فقط أن التزاما قائما ولا سبيل إلى التخلي عنه يجندني. لم أشعر بالقلق ولا بالحماس الفياض؛ كنت في بعد آخر حيث المعالم الوحيدة التي بحوزتي هي اليقين بأنني سأذهب إلى طرف العهد الذي عقده أسلافي بالدم والألم منذ أن وضعوا الشرف فوق حياتهم.
- هل تسمعني، يا ابن العم؟
- نعم، نعم.
- إن تصرفات الفدائيين تحط من قيمتنا عند أمم العالم... إننا عراقيون، يا ابن العم. وراءنا إحدى عشر ألف سنة من التاريخ. نحن الذين علّمنا البشرية كيف تحلم.
أفرغ فنجانه بجرعة أخيرة ومرر ظهر يده على شفتيه.
- لا أحاول التأثير عليك.
- أنت تعرف جيدا بأن هذا مستحيل.
سقط الليل. تتسلل ريح ساخنة عبر الجدران. تلبّدت السماء بالغبار. على منبسط، يلعب أطفال مباراة في كرة القدم، غير منزعجين بالظلام الزاحف. يمشي عمر إلى جانبي. تخدش قدماه الأرضية، ثقيلة، سارحة. حينما وصلنا تحت مصباح عمومي، توقف ليتفرس وجهي.
- هل تعتقد أنني أتدخل في شؤونك الخاصة، يا ابن العم؟
- لا.
- لم أحاول التأثير عليك. أنا لا أعمل لصالح أحد.
- لم أشك في الأمر لحظة.
بدوري، تفرست سحنته:
- للحياة قوانين، بدونها لا تكون البشرية إلا غابة وحوش، يا عمر. صحيح أنها لا تليق بنا جميعا، وليست أبدية، كما أنها ليست دائما عقلانية، ولكنها تسمح لنا على الأقل بالحفاظ على توجهنا... أتعرف ماذا أريد أن أفعله في اللحظة التي أحدثك فيها؟ أريد أن أكون في بيتنا في كفر كرم، بداخل غرفتي في السطح، أسمع الراديو الأغن، وأحلم بطرف خبز وماء منعش. ولكنني لا أملك جهاز الراديو، ولا أستطيع الرجوع إلى بيتي دون أن أموت من الخزي قبل حتى أن أجتاز العتبة.
12.
يشتغل عمر مسلِّما للبضائع عند تاجر أثاث، مساعد أول سابق تعرف عليه في الجيش. التقى المجندان السابقان صدفة عند نجار. كان عمر حديث الوصول إلى بغداد. بحث عن رفاق وحدته، ولكن العناوين تغيرت كلها؛ الكثير منهم غيّر مسكنه أو اختفى نهائيا. كان عمر يقترح خدماته على النجار عندما دخل المساعد الأول ليوصي بصناعة عدد من الطاولات والكراسي. ارتمى الرجلان في حضن بعضهما. بعد العناق والأسئلة المألوفة، أخبر عمر بوضعه لرئيسه السابق. لم يكن المساعد الأول ينام على كنز، وليس لديه إمكانيات توظيف جديدة، ولكن عقلية التضامن والرفقة القديمة سادت على الاعتبارات التجارية، هكذا، تمّ توظيف العريف الهارب في الحين. أسند له مستخدمه الشاحنة الصغيرة الزرقاء التي كان يقودها، معتنيا بها بإفراط ظاهر ودبّر له غرفة سلمان بارك. كانت أجرة عمر زهيدة، تتأخر أحيانا لأسابيع، ولكن المساعد الأول لا يغشّ. أدرك عمر منذ البداية أنه سيعمل من أجل بصلات نتنة، ومع ذلك، يملك سقفا يأويه بعد ساعات العمل، ويجنبه التسوّل. مقارنة بما يراه حوله من بؤس وتشرد، لا يملك إلا حمد القديسين وبركة ذويه.
أخذني عمر عند مستخدمه لعله يجد لي عملا. حذرني بأن المحاولة عبارة عن ضربة سيف في الماء. لقد تدهورت الأوضاع، ولم يعد الناس الأكثر غنى قادرين إلا على ضمان الحد الأدنى لعائلاتهم. للناس أولويات أخرى، استعجالات أخرى، كي يفكروا في شراء خزانة جديدة أو تعويض أثاثهم القديم. استقبلني المساعد الأول الجاثم في العلى كالطير الطويل الساق بحفاوة كبيرة. قدّمني عمر باعتباري ابن عمه ومدحني بخصال ليست لي بالضرورة. وافق المساعد الأول وقطّب حاجبيه إعجابا، الابتسامة معلقة. حينما وصل عمر إلى ذكر سبب حضوري إلى المستودع، انمحت ابتسامة المساعد الأول. بلا أدنى كلمة، انسحب خلف باب جانبي وعاد بسجل مدّده تحت عيوننا. تتمدّد صفوف الكتابة الزرقاء إلى ما نهاية، فيما لا تتبعها صفوف الكتابة الحمراء. كانت مداخيل الأموال شبه منعدمة، أما الفصل الخاص بالطلبات، المسطر بالأخضر، كان أقصر من بيان رسمي.
- أنا متأسف جدا، اعترف لنا. إنها أيام جدب ومسغبة.
لم يلح عمر.
اتصل ببعض معارفه بالهاتف النقال، جرجرني من طرف المدينة إلى آخر؛ لم يعدنا أي مستخدم بتقديم يد العون. تأثر عمر كثيرا، ومن جهتي أحسست أنني أصبحت حملا لا يطاق. في اليوم الخامس، حينما رأيت أن جميع الأبواب موصدة بالقفل المتين، قرّرت أن لا أزعجه ثانية.
عيّرني عمر بالأحمق:
- ستبقى عندي إلى أن تتمكن من الطيران بجناحيك. ماذا سيقوله ذوونا إن عرفوا أنني تركتك بلا مساعدة؟ إنهم لا يطيقون لغتي القذرة ولا سمعة السكير التي تلاحقني، سوف لن أمنح لهم فرصة أخرى لينزعوا عني صفة الرجولة نهائيا. لي عيوب كثيرة، هذا ظاهر وأكيد؛ سوف لن أرى الجنة، هذا شبه أكيد أيضا – ولكن لي كرامتي، يا ابن العم، وأحافظ عليها.
في ظهيرة، بينما كنا، عمر وأنا، نثرثر في زاوية من الغرفة، دقّ شاب طرقات خفيفة على الباب. كان فتى أجفل، هزيل المنكبين، بوجه طفلة وعينين شفافتين كالبلّور. يبدو في مثل سني، حوالي العشرين. يرتدي قميصا استوائيا مفتوحا على الصدر الوردي، وسروال جينز ضيّق وحذاء جديدا مخدوشا على الجانبين. بدا منزعجا من وجودي، وكانت النظرة الملحة التي ثبتها على العريف تقصيني تلقائيا.
تسارع عمر إلى تقديمنا. يبدو أنه تفاجأ بحضوره هو الآخر؛ ارتعد صوته بشكل غريب حينما قال لي:
- يا ابن العم، أقدّم لك شريكي هاني.
مدّ لي هاني يدا هشّة ذابت في يدي تقريبا، ثمّ، ودون أدنى نظرة إليّ، أشار لعمر كي يتبعه إلى الخارج. أغلقا الباب خلفهما. دقائق قليلة بعد ذلك، عاد عمر ليقول لي أنه وشريكه يحتاجان إلى الغرفة وقتا قصيرا للتداول حول مشكل طارئ، وطلب مني أن أنتظره في مقهى الزقاق القريب. قلت:
- فرصة سانحة، بدأت أشعر بالضجر داخل الغرفة.
رافقني عمر إلى غاية أسفل الدرج ليتأكد أنني لم آخذ المسألة من زاوية سلبية.
- أطلب ما شئت، الدفع على حسابي.
كانت عيناه تشعان بنشوة غريبة. قلت له:
- إنني أشمّ أخبارا سارة.
- احّم... تنحنح متلعثما. من يعرف؟ لا تمطر السماء عواصف رملية فقط.
وضعت يدي على صدغي في تحية عسكرية والتحقت بالمقهى القريب. لحقني عمر ساعة بعد ذلك. يبدو راضيا بصفقته مع شريكه.
زارنا هاني مرارا. وفي كل مرّة، يطلب مني عمر أن أنتظره في المقهى. رغم تكرار اللقاءات، تحفظ شريك عمر عن تعميق التعارف معي، بل صرح في مساء أن صبره نفذ، وحان الوقت ليسترجع حياته المألوفة؛ يريد العودة إلى الغرفة. حاول عمر إقناعه بالتريث. ولكن هاني عنيد. اعترف أنه لم يكن مرتاحا عند العائلة التي تأويه وأنه ملّ من نفاقها في وقت يستطيع تجاوز ذلك. كان هاني مصمما. يصدّ انغلاق وجهه وثبات عينيه كل محاولة للتفاوض. قلت لعمر:
- الحق معه. هذه الغرفة مأواه الطبيعي. وقد كان صبورا بما فيه الكفاية.
كان بصر هاني مثبتا على شريكه. لم يرَ حتى اليد التي مددتها له لتوديعه.
وقف عمر بيني وبين الفتى الهشّ، وقال بنبرة يأس:
- طيّب، تريد العودة؟ لك ذلك. ولكن هذا الشخص ابن عمي، ولا أطرده مهما كلفني من ثمن. إذا لم أجد له مأوى هذا المساء، سأقضي معه الليلة على مقعد بالساحة العمومية. وهكذا كل الليالي، إلى أن يعثر على سرير آمن.
حاولت الاحتجاج. دفعني عمر نحو الخروج وصفق الباب خلفنا.
أولا، ذهب عمر عند شخص من معارفه لينظر إن كان بإمكانه أن يأويني ليلتين أو ثلاث، ولكنه لم يتفق معه؛ بعد ذلك، لجأ إلى مستخدمه. اقترح عليّ هذا الأخير النوم في المستودع. قبل عمر المبدأ، كحل مؤقت، مواصلا طرق أبواب أخرى محتملة. حينما تأكّد أنها موصدة بأقفال متينة، عدنا إلى المستودع، نتظاهر بهيئة حارسَين ليليَين.
بعد أسبوع، لاحظت أن عمر كان أقل حيوية وثرثرة من سابق عهده. انغلق على نفسه ولم يعد يعير اهتماما لما أقوله له. كان شقيا. إن هشاشة وضعنا حفرت خديه وحطّت ثُفْلها في عمق بصره. أحسست بذنب لأنني كنت المتسبّب في فقدانه شهية الحياة. ذات صباح سألني:
- ما رأيك في السيّد، ابن الصقر؟
- لا شيء بالتحديد. لماذا؟
- لم أتمكن من تصنيف هذا الرجل. أجهل خفاياه، ولكنه يملك حانوتا للأدوات الكهرومنزلية في وسط المدينة. ما رأيك لو ذهبت إليك لتنظر إلى أي حد يمسكنه أن يساعدك؟
- طبعا، ممكن. وما يقلقك في هذه القضية؟
- لا أريد أن تظن أنني أحاول التخلص منك.
- سألوم نفسي إن ظننت.
رتبت على قبضة يده لطمأنته.
- سنذهب لرؤيته، يا عمر، وفورا.
امتطينا الشاحنة الصغيرة وانقضضنا مباشرة على وسط المدينة. اضطرَرْنا إلى التراجع بسبب اعتداء خصّ محافظة شرطة الحي، طفنا بجزء كبير من المدينة كي نصل إلى شارع كبير غاص بالحركة. يقع محل السيّد في زاوية بجوار صيدلية، في امتداد مع ساحة سليمة. ركن عمر شاحنته على بعد مائة متر من المحل. لم يكن مرتاحا. قال لي:
- طيّب، الحظ معنا. إن السيّد خلف مصرفه. لسنا مجبرين على الإطالة في هذه المنطقة... اذهب وكلمه في الحين. تظاهر بأنك مررت من هنا صدفة وأنك تعرفت عليه عبر زجاج الواجهة. أكيد أنه سيسألك عن شغلك في بغداد. قل له الحقيقة، بأنك تجر بؤسك في الشوارع منذ أسابيع، وأنك لا تعرف أين تذهب، ولم يبق لك الكثير من المال. حينذاك، إما أنه يمد لك يد العون أم يتحجج بعراقيل ومشاكل ليصرفك بعيدا عنه. إذا دبّر لك مأوى، لا داعي للعودة إلى المستودع. ليس في القريب العاجل على كل حال. اترك أسبوعا يمر أو أسبوعان. لا أريد أن يعرف السيّد أين أبيت ولا ماذا أفعل. وسأكون لك شاكرا لو التزمت بعدم ذكر اسمي بحضوره أبدا. أنا عائد إلى المستودع. إذا لم تعد هذا المساء، سأعرف بأنك تدبّرت أمرك مع السيّد.
بعجالة، دفعني نحو الرصيف، أراني إبهامه وتسلل بسرعة بين السيارات التي تتزَعْرَج وسط المارة.
كان السيّد يجلس بقرب مِهْواة كهربائية، هديرها لا يكاد يسمع، منهمكا على سجّل يخطّ عليه الحروف والأعداد. يرتدي قميصا، مشمّر الكمين. رفع نظاراته إلى أعلى جبهته وغضّن عينيه حينما لاحظ شبحا مترددا على عتبة المحل. مضت ثوان قبل أن يعثر على صورتي في ذاكرته لأننا لم نكن صديقين بالمعنى الدقيق للكلمة. خفق قلبي بقوة. ولكن وجه السيّد، ابن الصقر، أضيء فجأة وارتسمت عليه ابتسامة عريضة. فصاح فاتحا ذراعيه ليستقبلني:
- شيء لا يصدّق.
ضمني طويلا إلى صدره.
- ماذا تفعل في بغداد؟
رويت له تقريبا كل ما أوصاني به عمر. استمع إلي السيّد باهتمام، بوجه لم تتغير ملامحه. صعُب عليّ معرفة إن كان شقائي قد أثّر فيه أم لا. عندما رفع يده ليقاطعني، ظننت أنه سيطردني. ولكنه أثلج صدري عندما وضعها على كتفي وقال بنبرة واثقة أن همومي، ابتداء من تلك اللحظة، هي همومه أيضا، وإذا رغبت، يمكنني العمل في محله والسكن في الطابق العلوي، في غرفة صغيرة، ولكنها مريحة.
- هنا، أبيع أجهزة التلفاز، والهوائيات المقعرة، وأدوات كهرومنزلية متعددة... المطلوب منك أن تسجّل الواردات والصادرات فقط. إذا كانت ذاكرتي جيدة، فأنت كنت طالب في الجامعة؟
- سنة أولى آداب.
- على بركة الله. إن مسك دفاتر المحاسبة مسألة نزاهة. وإذا كنت فتى نزيها، الباقي ليس إلا مسألة وقت، ستتعلّم الصنعة مع الأيام. سترى، لا نطلب منك الصعود إلى قمة برج بابل... أقولها لك صاقدا، إنني مسرور جدا باستقبالك في مملكتي الصغيرة.
قادني إلى الطابق الأعلى ليريني غرفتي. كان يحتلها حارس ليلي، سرّ كثيرا بنقله إلى مهمات أخرى، ليتمكن من الالتحاق ببيته بعد غلق المحل. أعجبني المكان. يوجد به سرير بسيط، تلفيزيون، طاولة وخزانة لوضع أمتعتي. أعطى لي السيّد تسبيقا ماليا كي أستطيع شراء بعض لوازم الغسل والحلاقة وألبسة وأخذ حمام حقيقي. كما دعاني إلى عشاء في مطعم فاخر.
نمت تلك الليلة كالسلطان.
في صباح الغد، على الساعة الثامنة والنصف، رفعت ستار المحل الحديدي. كان المستخدمون الأوائل – إنهم ثلاثة- ينتظرون على الرصيف. التحق بنا السيّد بعد دقائق معدودة وقدّمنا لبعضنا البعض. لم يظهر المستخدمون أي حماس حينما صافحوني. كانوا شبابا من المدينة، متحفظين وشكاكين. كان رشيد، أكبرهم قامة، يشتغل في القاعة الخلفية التي لا يحق لأي واحد أن يدخلها. تمثلت مهمته في استقبال السلع والسهر على تسليمها. أمّا أسنهم، عَمْر، فكان هو النقال أو المسلِّم. أما إسماعيل، المهندس في الإلكترونيك، فيهتم بخدمات ما بعد البيع.
كان مكتب السيّد مكتبا للاستقبال أيضا. يشرف على الواجهة الزجاجية، ويسلّم بقية القاعة لعرض السلع. على طول الجدران، ترتفع رفوف حديدية. كانت المساحة كلها معبأة بأجهزة تلفيزيون من صنع أسيوي، بأحجام متعددة، وهوائيات مقعرة، مرفقة بجميع ملحقاتها المتطورة. كما يوجد بها أجهزة كهربائية مطبخية، متعددة الأغراض، لتحضير القهوة والشوي والرحي. خلافا لمحل تاجر الأثاث، فإن محل السيّد يقع بشارع تجاري مهم، ولا يفرغ أبدا. يتزاحم الزبائن طول النهار. صحيح أن الأغلبية تتجول بغرض إشباع رغبة النظر، ولكن، على العموم، كانت المبيعات مرضية.
قضيت أياما هانئة، إلى غاية الساعة التي أخبرني فيها السيّد أن "أصدقاء أعزاء" ينتظرونني في غرفتي بالطابق العلوي. كنت راجعا من مطعم مجاور. سبقني السيّد. فتح الباب فرأيت ياسين والأخوين التوأمين حسن وحسين، جالسين على سريري. ارتعد شيء ما بداخل كياني. ابتهج التوأمان لرؤيتي. ارتميا عليّ وأشبعاني قبلا وعناقا، وهما يقهقهان. أما ياسين، فلم يقف. بقي جامدا في جلسته على السرير، ظهره مستقيم أشبه بثعبان الصلّ. تنحنح ليفهم الأخوين بأن يكفّا عن التهريج وحطّ عليّ تلك النظرة التي لم يتمكن أحد في كفر كرم من مواجهتها. قال:
- مرّ دهر قبل أن تتفطن لنفسك.
لم أفهم قصده من الوهلة الأولى.
اتكأ الأخوان على الجدار وتركاني وحيدا وسط الغرفة، أواجه ياسين. قال:
- هل أنت بخير؟
- الحمد لله، لا أشتكي من شيء.
- أما أنا، فأشفق عليك.
تحرّك قليلا ليحرّر جانبا من سترته كان قد جلس عليه. لقد تغيّر ياسين. كنت سأعطيه عشر سنوات زائدة. شهور قليلة كانت كافية لتتصلّب قسمات وجهه. بقيت نظرته دائما مهددة، ولكن زاويتي شفتيه انحفرتا كما لو أن التكشيرة التي تسحقهما دمرتهما بالكامل.
قرّرت أن لا أتركه يبهرني.
- هل يمكنني معرفة ما يثير شفقتك؟
هزّ رأسه.
- وتظن أنك لست مثيرا للشفقة؟
- إن أذنيّ صاغية.
- إنه يسمعني... أخيرا، انفتحت أذنا عزيزنا، ابن حفار الآبار. بما سنغسلك الآن يا ترى؟
تفرّسني مليا.
- أتساءل كيف تشتغل الأمور في رأسك، يا شقي. هل أنت صمّ بُكم عمي كي لا ترى ما يجري حولك؟ إن البلد في حرب ضروس وملايين الحمقى يتصرفون كأن شيئا لم يحدث. حينما تنفجر الشوارع، يهرولون للاختفاء في منازلهم ويصدون خلفهم الأبواب والنوافذ، معتقدين أنها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. غير أن الدنيا لا تجري وفق هذا المنطق. عاجلا أو آجلا، ستنسف الحرب مخابئهم، ستفاجئهم في مضاجعهم... كرّرت هذا ألف مرة في كفر كرم؟ قلت لكم، إذا لم نذهب إلى النار، ستأتي النار إلينا. من سمعني؟ قل يا حَسن، من سمعني؟
- لا أحد، ردّ حَسن.
- هل انتظرت النار، أنتَ؟
- لا يا ياسين، قال حسن.
- هل انتظرت أن يأتي أولاد الكلب ليُخرِجوك من مضجعك وسط الليل، لتستيقظ لنفسك؟
- لا، قال حسن.
- وأنتَ يا حُسَين، هل انتظرت أن يجرجرك أولاد الكلب ويمرغوا أنفك في الوحل كي ترفع رأسك؟
- لا، قال حسين.
تفحصّني ياسين من جديد.
- أنا لم أنتظر أن يدوسوا على شرفي كي أنتفض. ماذا كان ينقصني في كفر كرم؟ بما كنت أشتكي؟ كان من السهل عليّ غلق الباب والنوافذ وصدّ أذني. ولكنني كنت أعرف، باليقين الذي لا يقبل النقض، أن النار آتية لا محالة لتلتهم بيوتنا الواحد وراء الآخر. لذلك، حملت السلاح كي لا أنتهي نهاية سليمان. مسألة حياة أو موت؟ إنها مسألة منطق، لا غير. هذا البلد بلدي. يحاول أوغاد نزعه مني. ماذا أفعل؟ ماذا أفعل، حسب رأيك؟ هل تعتقد أنني سأنتظر أن يقتحم هؤلاء الأوباش بيتي ويغتصبون أمي أو أخي أمام عيني، وتحت سقفي؟
خفض حسن وحسين رأسيهما.
تنفس ياسين ببطء، ثمّ قال مخففا حدّة نظرته:
- أعرف ماذا وقع في بيتكم.
قطّبت حاجبيّ. أضاف قائلا:
- أي نعم والله... إن ما يمثل قبرا للرجال، يُعَد بستانا لزوجاتهم. تجهل النساء ماذا تعني كلمة سرّ.
خفضت رأسي.
اتكأ على الجدار، شبّك ذراعيه على صدره وتفحصني بصمت. أقلقتني عيناه. وضع ركبة على أخرى وحطّ يديه من فوق.
- إنني أتفهّم جيدا ماذا يعني أن يرى رجل أباه المبجّل ملقى على الأرض، خصيتاه للريح، وضعية مشينة يتسبّب فيها ابن كلب، جاء من أقاصي الدنيا ليحتل بلده.
توقفت حوزة عنقي في حلقي. لا أطيق أن ينشر غسيلي الوسخ في الساحة العمومية. قرأ ياسين في قسمات وجهي ما كنت أصرخ به في داخلي. لم يكترث للأمر. أشار بحركة من ذقنه إلى التوأمين، ثم إلى السيّد، وواصل:
- نحن هنا جميعا، أنا والآخرون، والمتسوّلون المتشردون في الشوارع، نعرف جيدا ماذا تعنى هذه الإهانة... أما العسكري الأمريكي، فلا. لا يقدّر سعة الإهانة. بل لا يعرف حتى معنى الإهانة. هناك في بلدهم، يُرسل الوالدان إلى مراكز الشيخوخة، وينسون هناك كخرق بالية؛ يصفون أمّهم بالعجوز الشمطاء وأباهم بالأحمق... ماذا يمكن أن ننتظر مِن أشخاص كهؤلاء؟
يخنقني الغضب.
انتبه ياسين إلى ذلك؛ استأنف قائلا:
- ماذا ننتظر من ابن عاق، يُرسِل إلى ملجأ الاحتضار الأم التي حملته في بطنها، تألمت عند ولادته، سهرت على تربيته ليالِ وليالٍ، مثلما تسهر النجمة على الراعي؟... أتنتظر من هؤلاء أن يحترموا أمهاتنا؟ أن يقبلوا رؤوس شيوخنا؟
ضاعف صمت السيّد والتوأمين من سخطي. انتابني إحساس أنهم نصبوا لي كمينا ولمتهم على ذلك. أن يتدخل ياسين فيما لا يعنيه، مسألة نعرفها جيدا، فهي التي صنعت شهرته، ولكن أن يشارك الآخرون في المؤامرة دون أن يتلطخوا تماما، فذلك هيّج حنقي.
أدرك السيّد أنني على وشك الانفجار. قال:
- إن هؤلاء الناس لا يحترمون كبارهم ولا حتى صغارهم. هذا ما يريد ياسين أن يشرحه لك. ليس في نيته توبيخك. إنه يحكي لك فقط. إن ما حدث في كفر كرم يؤسفنا جميعا، تأكّد من ذلك. كنت أجهل هذه الحادثة إلى غاية الصبح. وحينما أخبروني بالواقعة، غضبت غضبا شديدا. الحق مع ياسين. إن الأمريكان ذهبوا أبعد مما يتصوره الإنسان.
- قل لي صراحة، قال ياسين في ضجر ظاهر من تدخل السيّد، ماذا كنت تنتظر من الأمريكيين؟ أن يحوّلوا أنظارهم عن عجوز معوق ومرعوب؟
أدار يده في اتجاه عقارب الساعة:
- لماذا؟
فقدت القدرة على الكلام.
استغل السيّد الفرصة ليقول مجددا:
- لماذا تريد أن يديروا وجوههم في وقت تعودوا فيه على مباغتة أعزّ أصدقائهم يضاجع نساءهم ولا يحركون ساكنا؟ إنهم فقدوا الحياء منذ زمن بعيد. أما الشرف؟ فقد زوروا رموزه. ليسوا إلا لقطاء مسعورين، يدمرون القيّم كما تدمر ثيران أطلقت وسط محل الأواني الخزفية. جاؤوا من عالم ظالم وقاسٍ، بلا إنسانية وبلا أخلاق، حيث يتغذى القوي بلحم المنهزمين، حيث العنف والحقد يلخصان تاريخهم، حيث الماكيافيلية تعجن وتبرر مبادراتهم وطموحاتهم. ما عساهم يفهمون في عالمنا نحن، الذي يحمل أروع الصفحات في الحضارة البشرية، حيث لم تلوّث القيم الأساسية للإنسان، ولا يزال الرجل يساوي لسانه، يفي بالوعد، ويحافظ على الأمانة، ولم تتغيّر معالمه القديمة بقيد أنملة؟
- لا شيء تقريبا، قال ياسين الذي وقف واقترب مني، أنف مقابل الأنف. لا شيء تقريبا يا أخينا.
قال السيّد:
- يجهلون تقاليدنا، أحلامنا وصلواتنا. يجهلون بالأخص أسلافنا، وأن ذاكرتنا سليمة لم تشوّه وأن اختياراتنا هي الصائبة. ماذا يعرفون عن بلاد الرافدين، عن العراق العجيب الذي يدوسونه بأقدامهم العفنة؟ عن برج بابل، والحدائق المعلقة، وهارون الرشيد، وألف ليلة وليلة؟ لا شيء تقريبا. لا ينظرون أبدا إلى هذه الجهة من التاريخ، يعتبرون بلدنا بحيرة كبيرة من النفط سيغترفون منها إلى آخر قطرة من دمائنا. إنهم ليسوا داخل التاريخ؛ إنهم داخل الكنز، داخل الربح المادي، داخل الاستغلال. ليسوا إلا مرتزقة في خدمة اللوبي المالي العالمي. اختزلوا جميع القيّم في حفنة دولارات، وكل الفضائل في الربح السريع. إنهم نهابون مخيفون، هذه هي صفاتهم الحقيقية. سيدوسون جسد المسيح ليملأوا جيوبهم, وحينما يعارضهم أحد، يخرجون أسلحتهم الثقيلة ويقنبلون مقدساتنا، يرجمون آثارنا، ويمسحون أوساخهم بكتبنا القديمة.
دفعني ياسين باتجاه النافذة وصرخ في وجهي:
- أنظر إليهم، ألقِ نظرة عبر الزجاج وسترى من هم حقيقة: آلات.
- وهذه الآلات ستدمَّر عن آخرها في بغداد، قال السيّد. انطلقت في شوارعنا أكبر مواجهة في التاريخ، صدام الكون: بابِلون ضد ديزناي لاند، برج بابل ضد مملكة ناطحات الساحاب، الحدائق المعلقة ضد غولدن غايت بريدج، شهرزاد ضد ما باكير، سندباد ضد تَرْمِيناطور...
كنت مخدوعا، مخدوعا إلى العمق. بدا لي أنني وسط مسخرة، وسط تدريب مسرحي، محاط بممثلين رديئين، حفظوا نصهم على ظهر قلب، دون أن يقدروا على تأديته بالموهبة اللازمة، ورغم ذلك... ورغم ذلك... ورغم ذلك، بدا لي أنه الكلام الذي كنت أوّد سماعه تدقيقا، وأن أقوالهم هي التي تنقصني وأن فراغها يملأ رأسي بالصداع والأرق. لم يكن يهمني إن كان السيّد صادقا أو أن ياسين يخرج الكلمات من أحشائه، وأنها ملك له حقا؛ إن اليقين الوحيد الذي يملأني هو أن المسخرة تناسبني، أنها مقاسي الذي كنت أبحث عنه، أن السرّ الذي كنت أجتره وحدي منذ أسابيع أضحى مقسما بيننا، أن غضبي لم يعد وحيدا، أنها تعيد لي لبّ عزمي. تعبت في تحديد هذه الخيمياء، التي لو سمعتها في ظروف أخرى لضحكت بملء شدقي، ولكنني كنت خفيفا كمن أزال حملا ثقيلا من على صدره. إن ياسين، هذا النذل، قد استخرج شوكة عصية من القدم. عرف كيف يمس موقع الجرح، كيف يحرك في نفسي كل تلك القاذورات التي تجرعتها تلك الليلة التي سقطت فيها السماء على رأسي. جئت إلى بغداد للثأر من إهانة. أجهل كيفية التصرف. من الآن فصاعدا، لم يعد السؤال يطرح.
هكذا، حينما قرّر ياسين أخيرا فتح ذراعيه لي، كأنه يفتح لي الطريق الوحيد الذي يقودني إلى أعزّ ما كنت أبحث عنه: شرف عائلتي.
13.
لم يعد ياسين وحارساه المقربان، حسن وحسين، إلى المحل ثانية. دعانا السيّد جميعا للعشاء عنده في البيت، احتفالا بلقائنا وترسيخا لقسمنا؛ بعد الأكل، ودّعنا الرفقاء الثلاثة واختفوا عن الأنظار.
استأنفت عملي كحارس ليلي، المتمثل في فتح المحل للمستخدمين وغلقه بعد ذهابهم. مرت أسابيع. رفض زملائي في العمل أن يتبنوا حضوري. يقولون لي صباح الخير عند وصولهم، ومساء الخير عند ذهابهم، ولا شيء بين الوقتين. أضجرتني لامبالاتهم اتجاهي. رغم أنني حاولت استمالة ثقتهم؛ مع طول الوقت، بدأت بدوري أتجاهلهم. لا يزال عندي الكافي من العزّة كي أمنع نفسي من الابتسام بسذاجة لأناس لا يردّونها عليّ.
أتناول أكلي بالساحة، في مطعم، نظافته مشكوك فيها. اتفق السيّد مع مسيّر المطعم كي يفتح لي دفترا ويبعث الفاتورة إلى المحل في نهاية كل شهر. كان المسيّر رجلا قصير القامة، بسمرة داكنة، خفيف الظل ومنشرح السريرة. مع مرور الأيام، تمتَّنت صداقتنا. فأسرّ لي أن المطعم ملك للسيّد، كما يملك أيضا كشكا للجرائد، ومحلين للمواد الغذائية وآخر للأحذية على الشارع الكبير، وآخر للهواتف النقالة، وورشة للتصوير.
يمنح لي السيّد أجرة محترمة في نهاية الأسبوع. أشتري ألبسة وبعض الاحتياجات الصغيرة، وأضع الباقي في حقيبة يد صغيرة خصيصا لأختي بهية؛ كنت أنوي أن أرسل لها كل ما ادخرته من نقود.
بدأت وضعيتي تستقر دون صعوبات تذكر. صنعت لنفسي رتابة على مقاسي. بعد غلق المحل، أخرج لأتجول قليلا في وسط المدينة. أحب المشي. يوميا، توجد أشياء مسلية في بغداد. يردّ تبادل إطلاق النار على الاعتداءات، الغارات على الكمائن، الضرب بالعصي على مسيرات الاحتجاج. بدأ الناس يتعودون شيئا فشيئا. لا يكاد يسترجع مكان أنفاسه من انفجار عنيف أو من اغتيال نافذ، إلا ويحتله الحشد، غير مبال بالخطر. المكتوب... الصبر... كنت أصل، مرات عديدة، إلى مكان الحادث دقائق قصيرة بعد عملية التنفيذ، وأبقى هناك أتفحص الرعب إلى غاية وصول الإنقاذ والجيش. أنظر إلى الممرضين المسعفين يجمعون أشلاء الجثث الآدمية، المتناثرة على الأرصفة، ورجال المطافئ يفرغون العمارة المنسوفة من سكانها، ورجال الشرطة يستنطقون الحاضرين. أضع يديّ في جيوبي وأنسى نفسي خلال ساعات. أتدرّب على تمارين الغضب. كنت أتساءل، فيما كان أقرباء الضحايا يرفعون أيديهم إلى السماء ويصرخون أوجاعهم، إن كان بإمكاني أن أذيق للآخرين مثل هذه الأوجاع، فلاحظت أن هذه الأسئلة لا تصدمني. ألتحق بغرفتي بخطوات هادئة. لم تطارد كوابيس الشوارع ليالي أبدا.
ذات مرة، في حوالي الساعة الثانية صباحا، أيقظتني أصوات خافتة. أشعلت النور في الطابق العلوي ثم في الطابق الأرضي لأتأكد من عدم تسلّل لصّ إلى المحل أثناء نومي. لا يوجد أحد بالمحل ولا يبدو أن سلعة ما قد سرقت. الجلبة صادرة من الغرفة الخلفية، وبابها مقلق من الداخل. إنه جناح التصليح والصيانة، إقليم ممنوع على الأشخاص غير المرخصين. ولم يكن يسمح لي بالدخول إليه. بقيت إذا في القاعة التجارية إلى غاية ذهاب الدخلاء. في الغد، أخبرت السيّد بما حدث. شرح لي أن المهندس يضطر أحيانا إلى العمل ليلا لإرضاء زبناء مستعجلين، وذكرني أن ورشة الصيانة خارجة عن مجال عملي. وقد أحسست في نبرة صوته تحذيرا حاسما.
في ظهيرة يوم جمعة، وفيما كنت أتسكع وسط التائهين على ضفاف نهر دجلة، اعترض العريف عُمَر طريقي. لقد مرت أسابيع دون أن ألتقي به. كان يرتدي البذلة نفسها، وقد ذبلت، ونظارات شمسية تثير الضحك، ولاحظت لطخات من الشحم الأسود في مقدمة قميصه التي تكاد تمزّقها كرشه المنتفخة. قال بلوم ظاهر:
- هل أنت خاصمتني أم ماذا؟ كل يوم أسأل عنك في المستودع ويقول لي المساعد الأول بأنك لم تمر. هل تلومني على شيء لا أعرفه؟
- عمّا ألومك يا عمر وأنت تصرفت معي كالأخ تماما.
- إذا، لماذا هذه المقاطعة؟
- أنا لم أقاطعك. إنني منشغل بعملي الجديد، هذا كل ما في الأمر.
حاوَل أن يقرأ في عينيّ إن كنت أخفي عنه شيئا. بدا قلقا.
- إنني قلق عليك، قال معترفا. لا يمكنك أن تقدّر كم ندمت لأنني رميتك في أحضان السيّد. كلما فكرت في الأمر، أريد قلع شعري.
- أنت مخطئ. إنني في علاقة جيدة مع السيّد.
- سألوم نفسي لو غامر بك السيّد في قضايا مريبة... قضايا... قضايا الدم.
تلعثم كثيرا وابتلع ريقه مرارا قبل أن يتلفظ بمكنون خوفه. كانت نظاراته السوداء تحفي وجهه، ولكن تقاسيم هذا الأخير فضحت ارتكابه. كان عمر في ضيق شديد، يؤرق تأنيب الضمير مضجعه. ترك لحيته تغطي خدوده تكفيرا للذنب.
- لم آتِ إلى بغداد بحثا عن الرزق يا عمر. أظن أننا تحدثنا عن هذا الموضوع. ولا داعي للخوض فيه ثانية.
لم تطمئنه إجابتي بل أغضبته. راح يحشّ شعره بأصابع يديه، منزعجا أكثر فأكثر. قلت له:
- تعالى، يا عمر، نتناول أكلا خفيفا. الدفع على حسابي.
- لست جائعا. لأكون صريحا معك، فقدت شهيتي منذ أن سلّمتك للسيّد.
- من فضلك... أوّل مرة أدعوك...
- عليّ أن أذهب بسرعة. لا أريد أن يراني أحد معك. إن سكة أصحابك وسكتي لا تلتقيان.
- أنا حرّ، أرى من أريد.
- ربما. أما أنا فلا.
دَعَك أصابع يديه بعصبية، ثمّ، وبعد أن تفحّص المكان بحذر، قال:
- حدّثت صديقا في الجيش عن وضعك. إنه مستعد لاستقبالك عنده لمدّة من الزمن. إنه ملازم أول سابق، شخص طيب للغاية. إنه يحضّر لإنشاء مؤسسة تجارية ويحتاج إلى رجل ثقة.
- أنا في المكان الذي يناسبني تماما.
- هل أنت واثق مما تقول؟
- بكل تأكيد.
هزّ رأسه، يكاد اليأس يخنقه. قال مادا يده:
- طيّب، إذا كنت تعرف ماذا تريد أن تفعل بحياتك، لم يبق لي أي كلام معك. ولكن في المقابل، إذا حدث وغيّرت رأيك، أنت تعرف أين ستجدني. يمكنك الاعتماد على ابن عمك عُمر.
- شكرا يا عُمر.
أدخل ذقنه في عنقه وابتعد.
بعد خطوات قليلة، توقف وعاد أدراجه نحوي. كانت وجنتاه ترتعدان بشكل ظاهر. قال هامسا:
- شيء آخر يا ابن العم. إذا قررت القتال، قاتل بنظافة. قاتل من أجل بلدك، وليس ضد العالم بأسره. ميِّز بين الأمور جيدا، فرِّق بين الخير والشر. لا تقتل بطريقة عمياء، لا تطلق النار على أي كان. يسقط من الأبرياء أكثر من الأوغاد. أعدني؟
- ...
- أترى؟ إنك انحرفت قبل حتى أن تطلق رصاصة واحدة. العالم ليس عدوا لنا. تذكَّر الشعوب التي وقفت تضامنا معنا، رافضة الحرب الوقائية، هؤلاء الملايين من الناس الذين ساروا في مظاهرات عارمة، في مدريد، روما، باريس، طوكيو، في أمريكا الجنوبية، في آسيا. كانوا كلهم في صفنا ولا يزالون. كانوا أكثر من الذين ساندونا في الوطن العربي, لا تنس هذا. كل الأمم ضحية شراهة حفنة من الشركات العالمية. ومن الظلم أن نضع الجميع في سلة واحدة. إن اختطاف الصحفيين واغتيال أعضاء المنظمات غير الحكومية الذين جاءوا لمساعدتنا، عمل إجرامي، يتناقض مع تقاليدنا المضيافة. إذا أردت الانتقام من إهانة، لا تهن شخصا بريئا. إذا أردت الحفاظ على شرفك، لا تلوّث شرف قومك. لا تستسلم للجنون الزاحف. سأُشْنِق نفسي إن رأيتك في تسجيل لا تفرق بين فعل بطولي للدفاع عن الوطن وبين اغتيال تعسفي...
مسح أنفه بظهر يده، هزّ رأسه مرة أخرى، أدخل عنقه وسط كتفيه، وقال:
- كن على يقين بأنني سأُشْنق نفسي، يا ابن العم. ابتداء من هذه اللحظة، تأكد أن كل ما تفعله يعنيني بشكل مباشر.
أسرع خطاه كي يذوب وسط الحشد التائه المتسكع على طول النهر.
شهران بعد مقابلتي مع عُمر، لم تتغيّر تصرفاتي قيد أنملة. أستيقظ على الساعة السادسة صباحا، أرفع الستار الحديدي بعد ساعتين، أسجل على الدفتر الواردات والصادرات، وأغلق المحل في نهاية الظهيرة. بعد خروج المستخدمين، أنزوي مع السيّد لمراجعة حساب المبيعات وجرد قائمة المشتريات. وبعد حصر مداخيل اليوم وتوقعات نهار الغد، يسلّم لي السيّد المفاتيح ويأخذ معه الحقيبة اليدوية المعبأة بالأوراق النقدية. بدأت أشعر بثقل الرتابة، وطفق عالمي يتقلّص شيئا فشيئا. لم أعد أنزل إلى المدينة، ولا أتردّد على المقاهي. كانت تنقلاتي محدودة بموقعين لا يبعدان عن بعضهما البعض إلا بحوالي مائة متر: المطعم والمحل. أتعشى باكرا، أشتري الليموناد والحلويات عند بقال قريب وأعود إلى غرفتي. أقضي جل وقتي أمام التليفزيون، أتنقل من قناة إلى أخرى، غير قادر على التركيز على حصة أو فيلم. لقد ضاعف هذا الوضع من قرفي، وشوّه طبعي. أصبحت شكاكا أكثر، ينفد صبري بسرعة، وانتابتني عدوانية لا أعرفها، بدأت تطبع أقوالي وتصرفاتي. لم أعد أتحمّل تجاهل زملائي لي ولا أفوّت فرصة إلا وأظهرت لهم ذلك. حينما لا يردّ أحدهم على ابتسامتي، أغمغم "يا لك من أحمق" بحيث يسمعني ويفهم مقالي، وإذا تجرأ على تقطيب حاجبيه، أواجهه ساخرا. بقي الوضع في هذا الحد، ولم يشبع جوعي.
ذات مساء، كنت ضجرا وسألت السيّد عما ينتظر ليبعثني إلى النار. أجابني بنبرة أوجعتني: "كل شيء في وقته". أحسست أنني حبة خردل، لا أساوي شيئا. ولكنني أقسمت مع نفسي أنني سأريهم كفاءتي الحقيقية يوما. أما الآن، إن المبادرة ليست في معسكري، فاكتفيت باجترار كبتي والتحضير، كي أأثث ليالي الآرقة، لمشاريع انتقام رهيبة.
ثمّ تدحرجت الأيام والأحداث متشابكة.
ذات مساء، كنت على وشك إنزال الستار الحديدي، بعد خروج آخر زبون، حينما أشار إليّ رجلان بالسماح لهما بالدخول. كان العاملان، عَمْر ورشيد، يهيئان أنفسهما للمغادرة، فوقفا واجمَين. أعاد السيّد تركيب نظاراته؛ وحينما تعرّف على هوية الرجلين، وقف من خلف مكتبه، أخرج ظرفا من الدرج، وبحرك خفيفة، حطّها على الطاولة. تبادل الرجلان النظرات وشبكا ذراعيهما على الصدر. كان أكبرهما في الخمسين من العمر، بوجه شاحب يرتكز على عنق مشحّم كمزراب الكنائس. يملك أثر حرق بشع على الخدّ الأيمن، يجبر امتداده هدبه على التغضن قليلا. كان وغدا حقيقيا، بنظرة خبيثة وابتسامة ساخرة. يرتدي سترة جلدية، بالية المرفقين، مفتوحة على تريكو أخضر تتناثر فوقه قشرة الشعر. أما الآخر، فكان في الثلاثين، يكشر عن أنياب ذئبية عبر ابتسامة ملوّثة. إن هيئته تفضح طبيعة الوصولي المستعجل لحرق المراحل، المتأكد أن رتبته في سلك الأمن تملك سلطة سحرية. كان سرواله، من نوع الجنيز، نظيفا، معقوفا عند الوتدين، فوق حذاء رثّ من نوع الموكاسان. يتفرس رشيد الجاثم على سلم الإسكابو. قال الشرطي المسن:
- صباح الخير يا أميري الطيب.
قال السيّد وهو يدق بأصبع فوق الظرف:
- صباح الخير أيها النقيب، الأمانة في انتظارك.
- كنت في مهمة، في المدة الأخيرة.
اقترب النقيب من الطاولة، ببطء، تناول الظرف، لمسه بأصبعين وقال مغمغما:
- ما له تضاءل؟
- الحساب بالتمام والكمال.
ارتسمت تكشيرة مريبة على وجه النقيب.
- أنتَ تعرف مشاكلي العائلية، يا السيّد. أعيل قبيلة بأكملها، ولم نتلقَ أجرتنا منذ ستة أشهر.
أشار إلى زميله بإبهامه:
- زميلي غارق في الوحل، هو أيضا. يريد أن يتزوّج، وليس من السهل العثور على غرفة نوم بثمن رخيص.
مطّ السيّد شفتيه قبل أن يدخل يده في الدرج ثانية ليخرج بعض الأوراق النقدية الإضافية، خطفها النقيب بحركة ساحر السيرك.
- إنك أمير طيّب، يا السيّد. سيعوضك الله على سخائك معنا.
- إننا في ظرف صعب أيها النقيب، يجب أن نتعاون.
حكّ النقيب خده المجروح، تظاهر بالحيرة، ثمّ ألقى نظرة إلى زميله كي يستمد منه القوة اللازمة لفَقْس الجرح:
- الحقيقة أننا لم نأتِ من أجل الظرف. زميلي وأنا بصدد إنشاء شركة صغيرة، فقلت يمكن أن يهمك الأمر وتمد لنا يد العون.
جلس السيّد ومسك فمه بين الإبهام والسبابة.
اتخذ النقيب المقعد المقابل وشبّك ساقيه.
- سنفتح وكالة صغيرة للسفر.
- في بغداد؟ أتظن أن بلدنا لا يزال مقصدا للمسافرين؟
- لدي أقارب في عمّان. نصحوني بالاستثمار هناك. لقد اشتغلت سنوات طويلة، وأقول لك صراحة أنني لا أرى أي مستقبل في هذا البلد. إننا على وشك الدخول في حرب فيتنام ثانية، ولا أرغب في ترك جلدي فيها. لي ثلاث رصاصات في الجسد، وكادت محرقة المولوطوف تشوّه وجهي. لذلك، قرّرت ردّ إشارتي إلى أصحابها والسفر إلى الأردن للارتزاق. قضيتي رابحة مائة بالمائة. وشرعية. إذا أردت، ندخلك معنا شريكا.
- شكرا، تكفيني مصاعب تجارتي.
- قف. إن تجارتك على أحسن ما يرام.
- ليس مثلما تتصوّر.
وضع النقيب سيجارة بين شفتيه وأشعلها بقدّاحة رخيصة. نفث الدخان في وجه السيّد الذي اكتفى بتحويل وجهه قليلا. قال الشرطي:
- خسارة، إنها فرصة سانحة تتركها تنزلق من بين يديك، يا صديقي. حقا، لا ترغب في الشراكة معنا؟
- لا، شكرا.
- لا عليك. لنمر الآن إلى هدف زيارتنا؟
- إنني في الاستماع.
- هل تثق في؟
- تكلّم؟
- منذ أن بدأت أرعى أعمالك، هل حاولت يوما خداعك؟
- لا.
- هل أظهرت شراهة زائدة؟
- لا.
- لو طلبت منك أن تقدّم لي كمية من المال لإنشاء وكالتي، هل تظن أنني لن أسدّد لك ديني؟
كان السيّد ينتظر هذا الاقتراح. ابتسم وفتح ذراعيه:
- أنت رجل صادق يا أبو اسْماعيل. سأمدّك الملايين وعينايّ مغمضتان، ولكنني مكبل بالديون والتجارة كاسدة هذه الأيام.
سحق النقيب سيجارته غير المستهلكة على زجاج المكتب، وقال:
- قلها لغيري يا السيّد، أنت تتمرغ على الذهب, ماذا تظن أنني أفعل طوال اليوم؟ أجلس على طاولة في المقهى المقابل وأسجل نشاط شاحناتك الكثيفة. أنت تبيع أكثر مما تستقبل. لنهار اليوم فقط، أضاف وهو يخرج كناشا صغيرا من جيب سترته الداخلي، بعت ثلاجتين كبيرتين، أربع غسالات، أربع تليفزيونات وخرج عدد من الزبائن يتأبطون علبا متعددة الأحجام. اليوم يوم الاثنين، وبهذا الريتم الذي تبيع به سلعك، بإمكانك إنشاء بنكك الخاص.
- أنت تتجسّس عليّ، يا أبو اسْماعيل؟
- أنا حارسك الأمين وراعيك المخلص، يا السيّد. أسهر على مناوراتك المريبة. هل أزعجتك مصالح الضرائب؟ هل جاء أعوان شرطة آخرون يبتزون منك نقودا أو سلعا؟ أنتَ مرتاح وبعيد عن أعين المراقبة الأمنية. أعرف أن فواتيرك مزوّرة كما تصريحاتك الشرفية وأسهر أن لا يحاسبك أحد عنها. وأنت ترمي لي بالفتات وتظن أنك تغطِّيني بالحرير. أنا لست متسوِّلا يا السيّد.
وقف فجأة ومشى مباشرة نحو المستودع. لم يجد السيّد الوقت الكافي للالتحاق به. تسلل النقيب إلى القاعة الخلفية وأظهر بحركة واسعة من يده العلب المتعددة، المتراصفة فوق بعضها البعض، التي تغطي ثلاثة أرباع القاعة.
- أراهن أن كل هذه السلع لم تمر أبدا عبر مراكز الجمارك.
- في بغداد، يشتغل الجميع في السوق السوداء.
كان السيّد يتصبّب عرقا. الغضب ساطع على قسمات وجهه، ولكنه تمكن من كظم غيظه. بينما ارتسمت علامات الرضا على سحنتي الشرطيين، لأنهما يتصوران أن بحوزتهما الورقة الرابحة. يعرفان ماذا يريدان وكيف يستوليان عليه. إن قبض الرشوة هي المهمة الأولى لجميع موظفي الدولة، وبالأخص في صفوف الأمن؛ ممارسة قديمة موروثة من النظام البائد، ولا زالت تمارس منذ الاحتلال، بأكثر شراسة، تدعمها الفوضى والإفقار الزاحف المخيمان في البلد، حيث أصبحت الاختطافات الوسخة، والرشوة، واختلاس الأموال العمومية والابتزاز ظواهر يومية. قال النقيب إلى زميله:
- كم تظن يوجد هنا من أموال؟
- ما يسمح بشراء جزيرة في عرض المحيط الهادي.
- هل تظن أننا نطلب المحال، أيها المفتش؟
- فقط ما يكفي كي لا نموت جوعا.
مسح السيّد عرقه بمنديل. اقترب عَمْر ورشيد من عتبة مدخل المستودع، ووقفا خلف الشرطيين، مترقبين أدنى إشارة من السيّد. قال السيّد للنقيب بشيء من التلعثم:
- لنعد إلى المكتب... سنرى ما يمكن أن نفعله بخصوص إنشاء وكالتكم.
قال النقيب، محركا ذراعيه:
- هذا قول حكيم. حذار... إن تعلق الأمر بكمية الظرف السابق، فلا داعي لإزعاجنا.
قال السيّد، مستعجلا بمغادرة المستودع:
- لا، لا... لنعد إلى المكتب.
قطّب النقيب حاجبيه.
- كأنك تريد أن تخفي عنّا شيئا، يا السيّد. لماذا تصرّ على إخراجنا من هنا؟ ماذا يوجد بهذا المستودع، زيادة على ما نراه؟
- لا شيء، أؤكد لك. حان وقت إغلاق المحل، ولي موعد مع شخص في الطرف الآخر من المدينة.
- هل أنت متأكد؟
- ماذا تريدني أن أخفي يا أبو اسْماعيل؟ كل سلعتي موجودة هنا، بداخل مغلفاتها.
غضّن النقيب هدبه الأيمن. هل شكّ في شيء ويريد إحراج السيّد وامتحانه؟ اقترب من جبال علب الكرتون، بحث هنا وهناك، والتفت فجأة ليرى إن كان السيّد يكتم أنفاسه أم لا. أثارت صلابة عَمْر ورشيد شكوكه أكثر. انحنى ليرى ما تحت ركام التليفزيونات ومختلف العلب، لاحظ بابا جانبيا في زاوية واتجه نحوه:
- ماذا يوجد خلف هذا الباب؟
- إنها ورشة الصيانة والتصليح. الباب مغلق بالمفتاح. لقد خرج المهندس منذ حوالي ساعة.
- هل يمكن أن ألقي نظرة؟
- إنها مغلقة من الداخل. المهندس يدخل إليها من الجهة الأخرى.
فجأة، في الوقت الذي همّ النقيب بالتراجع، ارتفعت جلبة خلف الباب، مما أحدث ذعرا لدي السيّد ومستخدميه. قطّب النقيب حاجبا، مزهوا بضبط محدثه متلبسا بالخطأ.
- ظننته قد خرج، أؤكد لك أيها النقيب.
طرق النقيب على الباب.
- افتح، أبو جاسم، وإلا كسرت الباب.
ارتفع صوت المهندس من الداخل:
- دقيقة، أنهي تصليح خيط وأفتح.
سمعنا صريرا، ثمّ احتكاك معادن؛ دار مفتاح بداخل القفل وانفتح الباب أخيرا على المهندس بتريكو داخلي وسروال رياضي. رأى النقيب طاولة تتناثر فوقها أسلاك معدنية، مسامير صغيرة، مفك البراغي، أواني دهان وغراء وأدوات لِحام حول جهاز تليفزيون معطل، أعيد غطاؤه بسرعة فسقط، كاشفا شبكة من الأسلاك المتعددة الألوان بداخل العلبة. غضّن النقيب هدبه الأيمن من جديد. في الوقت الذي اكتشف القنبلة النصف مخفية بداخل الجهاز، في مكان الأنبوب الكاتودي، تقلّص حلقه، واسْودّ وجهه ضربة واحدة حينما حطّ المهندس ماسورة المسدس على رقبته.
لم يفهم المفتش ما يحدث بداخل الورشة، لأنه كان واقفا جانبا. ولكن الصمْت الذي خيّم فجأة على القاعة أثار شكوكه، فاتجهت يده تلقائيا لحزامه. ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى سلاحه. مسكه عَمْر من الخلف، وضع يده على فمه، وبالأخرى، غرز بعمق خنجرا تحت الإبط. اتسعت عينا المفتش، غير مصدّق ما يحدث له، ارتعد من الرأس إلى القدمين، وترك نفسه يسقط على الأرض ببطء.
أحسّ النقيب برعشة تسري عبر كامل جسمه. لم يحرّك ساكنا، لا برفع الأيدي علامة الاستسلام، ولا بحركة دفاع عن النفس.
- لن أقول شيئا، يا السيّد.
- وحدهم الأموات يحافظون على السرّ، أيها النقيب. أنا آسف، يا أبو اسْماعيل.
- أتوسل إليك. عندي ستة أطفال...
- كان عليك أن تفكر فيهم قبل اليوم.
- من فضلك يا السيّد، أنقذ حياتي. أقسم لك أنني لا أفشي سرّك. وإذا أردت، خذني في فريقك. سأكون أذنيك وعينيك. لم أصفق أبدا للأمريكان. أكرههم. أنا شرطي، أبو اسْماعيل مثل ما تقول، ولكن يمكن لك أن تتأكّد، لم أتعدَّ أبدا على مقاوم. إنني معكم بكل جوارحي... يا السيّد، صحيح ما كنت أقوله لك قبل قليل؛ أفكر جديا في مغادرة البلد. لا تقتلني من فضلك، عندي ستة أطفال، أكبرهم لا يتجاوز خمس عشرة سنة.
- إنك تتجسّس عليّ؟
- لا، أقسم لك أن لا. أعماني الطمع، أردت مالا كي أطير من هنا.
- في هذه الحالة، لماذا لم تأتِ بمفردك؟
- إنه زميلي في العمل.
- لا أتكلم عن الأحمق الذي يرافقك، ولكن عن الرجال الذين ينتظرونك في الخارج، في الشارع.
- لا أحد ينتظرني في الخارج، أقسم لك...
خيّم صمت رهيب. رفع النقيب عينيه؛ حينما رأى ابتسامة رضا ترتسم على شفتي السيّد، أدرك حمق الخطأ الذي ارتكبه. كان عليه أن يتحايل قليلا، أن يوهم بأنه لم يأتِ بمفرده. حظ تعيس.
أمرني السيّد بإسدال الستار الحديدي كلية. نفذت الأمر بسرعة. عند عودتي إلى المستودع، كان النقيب على ركبتيه، يداه مقيدتان خلف ظهره. لقد بلل ملابسه من شدّة الرعب ويبكي كما الطفل. سألني السيّد:
- هل ألقيت نظرة إلى الشارع؟
- لم ألاحظ حركة غير عادية.
- طيب.
أدخل السيّد رأس النقيب في كيس أغلفة من نوع البلاستيك، وبمساعدة رشيد، طرحه أرضا. تخبّط الضابط بفظاظة. امتلأ الكيس بالبخار. شدّ السيد جيدا فم الكيس حول رقبة النقيب. نقص الهواء بسرعة وبدأ السجين يتلوى ويتخبّط بقوة. انتاب جسده تشنجات فظة، متقاربة أولا، ثمّ تباعدت، قبل أن يضعف دفعها؛ ثم توقفت بغتة بعد آخر صكة. واصل السيّد ورشيد الضغط على جسد النقيب بثقلهما ولم يتوقفا إلا بعد جمود الجثة كلية.
- خلصوني من هاتين الجيفتين، قال السيّد آمرا عَمْر ورشيد. أما أنت، قال ملتفتا نحوي، نظّف هذا الدم قبل أن يجف.
14.
كلّف السيّد عَمْر ورشيد بإخفاء الجثتين. اقترح المهندس أن نطلب فدية من عائلات الشرطيين لإيهامها بحدوث اختطاف وتمويه البحث. ردّ له السيّد "هذه مشكلتك" قبل أن يأمرني بمتابعته. استقلنا سيارته المرسيدس السوداء وقطعنا المدينة للذهاب إلى الطرف الآخر من نهر دَجْلة. كان السيّد يقود بهدوء. وضع قرصا من الموسيقى الشرقية في جهاز الراديو ورفع الصوت. أراحتني، قليلا، برودته الطبيعية.
كنت دوما أخشى لحظة اجتياز العتبة؛ الآن وهي ورائي، لا أشعر بعاطفة خاصة. كنت شاهدا على الجريمة بعدم الاكتراث نفسه الذي رافقني وأنا أتأمل ضحايا العمليات التفجيرية في شوارع بغداد. لم أعد ذاك الفتى الهشّ الذي كنته في كفر كرم. استبدلته بشخص آخر. ذهلت للسهولة التي نجتاز بها عالما إلى آخر وندمت على تضييعي لوقت طويل كنت أخشى فيه هذا المرور. كان بعيدا جدا ذاك الفتى الجبان الذي يفرغ أحشاءه عند رؤية الدماء ويرتبك هلعا بمجرد سماعه دوي تبادل إطلاق النار؛ بعيدة جدا، تلك الخرقة التي أغمي عليها خلال الخطأ الذي أودى بحياة سليمان. ولدت من جديد في جلد شخص آخر، مدرّب، أعصابه باردة، قاسي القلب. لم تعد يداي ترتعشان. خفقات قلبي عادية. في المرآة الارتدادية على يميني، لا تفشي قسمات وجهي أي تعبير للارتباك؛ كان وجهي قناعا من الشمع، غامضا، منيعا.
قادني السيّد إلى عمارة صغيرة، فاخرة، في حيٍّ راقٍ. كان الحرّاس يرفعون الحاجز بمجرد تعرّفهم على سيارته المرسيدس. يبدو أن الحراس يكنون للسيّد احتراما كبيرا. ركن سيارته في مرأب وجرّني إلى شقة فاخرة. ليست تلك التي تعشينا فيها، ياسين، التوأمان وأنا. يدير المكان شيخ كتوم وخدوم يشتغل ناقلا للرسائل والطرود أيضا. نصحني السيّد بأخذ حمام والالتحاق به بعد ذلك في الصالون، ذي النوافذ المزينة بستائر حريرية. نزعت ثيابي وانزلقت داخل حوض الاستحمام الذي تسقيه حنفية كرومية كما إبريق الشاي. كان الماء ساخنا. عطّرني بخاره بسرعة.
قدّم لنا الشيخ العشاء في صالون صغير يتلألأ بالأواني الفضية. كان السيّد يرتدي قميصَ نومٍ أحمر رماني، زاده هيبة. تعشينا بصمت. لم نسمع إلا صليل المغارف الذي تشوّش عليه رنات الهاتف النقال من حين لآخر. كان السيّد في كل مرّة ينظر إلى مِرقم هاتفه قبل أن يقرر إن كان سيجيب أم لا. هتف المهندس بدوره حول الجثتين. استمع إليه بنحنحات متقاطعة؛ حينما ردّ غطاء نقّاله، رفع أخيرا عينيه نحوي وفهمت أن رشيد وعَمْر قد أديا مهمتهما على أحسن ما يرام.
جلب لنا الشيخ سلّة من الفواكه. لم يتوقف السيّد عن تفحصي بصمت. ربّما كان ينتظر أن أبادره بالحديث. فلم أرَ أي مناقشة يمكنها أن تجمعنا. إن السيّد شخص كتوم، بل ويبدو لي متعاليا. له طريقة يسيّر بها مستخدميه لا تعجبني. يطاع طاعة عمياء، وحينما يفصل في قضية، فلا تقبل النقض. في المقابل، كانت سلطته تطمئنني. مع شخص في مستوى هيبته، لا أقلق نفسي بطرح الأسئلة؛ كان يفكر في كل صغيرة وكبيرة، ويبدو مستعدا لمواجهة أي طارئ قد يحدث بغتة.
قادني العجوز إلى غرفة وأراني جرسا فوق طاولة النوم، للاستعمال لو احتجت إلى خدماته ليلا. تأكّد بدقة أن كل شيء منظم في مكانه وانسحب على طرف قدميه.
تسللت تحت الغطاء وأطفأت النور.
جاء السيّد ليرى إن كنت بحاجة إلى شيء ما. دون أن يشعل النور. وقف في عتبة الباب، يد على المقبض. سألني:
- لا بأس؟
- في أحسن ما يرام.
هزّ رأسه، جذب الباب إلى النصف ثمّ فتحه من جديد. وقبل أن ينسحب، قال:
- أعجبتني كثيرا برودة أعصابك، في المستودع.
في الغد، عدت إلى المحل وإلى غرفتي الصغيرة في الطابق العلوي. استأنفت التجارة سيرها. لم يأتِ أحد يسأل إن كنا قد رأينا ضابطي شرطة في الضواحي. بعد أيام قليلة، ظهرت صورة النقيب ومفتشه على الصفحة الأولى من جريدة تعلن عن اختطافهما وعن قيمة الفدية المطلوبة ليطلق المختطفون سراحهما.
لم يعد رشيد وعَمر يبقيانني على الهامش ولا يصفقون الباب في وجهي. من الآن فصاعدا، أصبحت واحدا منهم. واصل المهندس تحضير قنابله بداخل الأنبوب الكاتودي. صحيح أنه لا يستخدم إلا جهازا واحدا من عشرة، والنقالون ليسوا كلهم نقالي الموت. لاحظت فقط أن حاملي الطرود المفخخة هم دائما الأشخاص أنفسهم، ثلاثة شبان يرتدون بذل مصلّحين؛ يأتون بداخل شاحنات صغيرة من نوع "فورغونات"، على جوانبها رسم ماركة، كبير الحجم، أزرق اللون، مرفقا بعبارة " نقل وتسليم"، بالعربية والإنجليزية. يركنون عربتهم خلف المستودع، يمضون على أوراق الاستلام ويذهبون.
اختفى السيّد لمدة أسبوع. حينما عاد، أخبرته برغبتي في الالتحاق بياسين وجماعته. أرهقني الضجر، وكانت روائح بغداد العفنة تلوّث أفكاري. طلب مني السيّد أن أصبر. وكي يساعدني السيّد على ملء لياليّ، جلب لي تسجيلات الـ(دي في دي) كتب عليها بقلم حبر أسود أسماء مدن، بغداد، البصرة، موصل، صفوان، إلخ...، متبوعة بتاريخ ورقم. إنها تسجيلات مأخوذة عن تحقيقات تليفزيونية أو عن كاميرات هواة، تظهر تجاوزات قوات التحالف: حصار فلوجة، الضرب الوحشي الذي سلطه العساكر الإنجليز على أطفال عراقيين تمّ القبض عليهم خلال مظاهرات شعبية، الإعدام النافذ الذي مارسه عسكري أمريكي على مدني مجروح في قلب مسجد، طيارة مروحية أمريكية تطلق النار على قرويين تعطلت شاحنتهم ليلا وسط حقل؛ باختصار، تلك الأفلام التي تظهر إذلال العراقيين، وتجاوزات عساكر الحلفاء التي انتشرت وكثرت إلى حدّ لم تعد تثير السخط مثل السابق. شاهدت مجموع التسجيلات دون ارتباك. كأنها تملأ كياني بجميع الأعذار الممكنة والمتخيلة لتفجير العالم دون رحمة. ربّما هذا ما قصد إليه السيّد؛ أن يملأ عينيّ، ويخزّن في لاوعيي أكبر كمية ممكنة من الغضب والسخط، ستغلف تصرفاتي، في الوقت المناسب، بالابتهاج والشرعية. لم أكن مغفلا؛ قدّرت أن لي قسطي المتخم من الحقد ولم يكن ضروريا أن يضاف إليها شيئا. كنت بدويا، ولا يمكن لبدوي أن يتصالح مع إهانة قبل أن تسيل الدماء. ربّما غابت عن السيّد هذه القاعدة الثابتة التي اخترقت العصور والأجيال؛ ربما أبعدته حياته الحضرية وسفرياته الغريبة عن روح كفر كرم البدائية.
قابلت العريف عُمَر. قضى يوما كاملا يتسكّع في الأماكن المشبوهة. دعاني إلى أكل خفيف، قبلت الدعوة بشرط أن لا يطرح للنقاش الموضوعات التي تخاصمنا بسببها. أظهر تفاهما أثناء الأكل، ثمّ، فجأة أجهش بالبكاء. حياءً، لم أسأله عن سبب حزنه. هو الذي بادر بإفراغ جعبته. روى لي المشاجرات الصغيرة مع شريكه هاني. قرّر هذا الأخير مغادرة البلد باتجاه لبنان، وعمر لم يكن موافقا. وعند سؤالي عمّا يحزنه في هذا الفراق، أجاب بأن هاني عزيز عليه وأنه سوف لن يعرف طعم الحياة بعد ذهابه. افترقنا عند ضفة دجلة، هو متعتع بالسكر، وأنا يجرفني القرف لفكرة العودة إلى غرفتي وأحزانها.
في المحل، أضحت الرتابة ثقيلة كالسُخْرة. تمر الأسابيع عليّ كما قطيع الثيران. أختنق. يمزقني الضجر إربا إربا. لم تعد تستهويني الأماكن التي تقع فيها العمليات التفجيرية مثل السابق، وصفارات بغداد لا تحرك في نفسي ساكنا. أصابني هزال ظاهر، فقدت شهية الأكل، الأرق يقض مضجعي، ورأسي في غليان دائم. مرات عديدة، وأنا أقف أمام واجهة زجاجية، أباغت نفسي أهذي بحركات ظاهرة. أحسست أن خيط حكايتي الخاصة قد أفلت من أصابعي، وأنني أذوب رويدا رويدا في غيظي الساخط. نفد صبري، فذهبت عند السيّد لأقول له أنني مستعد للقتال وأنه ليس بحاجة إلى كل ذلك السيرك كي يغريني.
كان في مكتبه الصغير يملأ استمارات. بعد أن نظر مليا إلى قلمه، حطّه على حزمة من الأوراق، رفع نظاراته إلى أعلى جمجمته ثمّ أدار مقعده ليواجهني.
- لست بصدد إغرائك يا ابن بلدتي. أنتظر التعليمات التي تخصك. أظن بأن لنا شيئا خاصا بك، شيئا رائعا، غير أننا في مرحلة الإعداد لها.
- سئمت من الانتظار.
- أنت مخطئ. إننا في حرب ولسنا عند مدخل ملعب. إذا نفد صبرك الآن، لا يمكنك التحكم في أعصابك في الوقت الذي سنحتاج إليك. عد إلى شغلك وتعلّم كيف تتجاوز كربك.
- لست مكروبا.
- بل إن الكرب ظاهر على وجهك.
وبعد ذلك، صرفني.
صباح الأربعاء، انفجرت شاحنة في طرف الشارع، ودمّرت عمارتين. تناثرت حوالي مائة جثة مشوّهة على الأرض. أحدث الانفجار حفرة من مترين وخرّبت معظم الواجهات المجاورة. أبدا، لم أرَ السيّد في مثل تلك الحالة. شدّ رأسه بيديه وتمايل على الرصيف، يتأمل الأنقاض. فهمت أن الأمور لم تجرِ مثلما خطّط لها، لأن الحيّ، ومنذ اندلاع الحرب بقي على هامش الصراعات.
أسدل رشيد وعَمر ستار المخزن، وأخذني السيّد فورا إلى الجهة الأخرى من نهر دجلة. خلال الطريق، هتف مرارا إلى "شركاء" له ودعاهم إلى الالتقاء به عاجلا عند رقم 2. كان يستعمل لغة مشفرة أشبه بحوار عادٍ بين تاجرين. وصلنا إلى حيٍّ في ضاحية المدينة، تنتصب فيه عمارات خربة حيث تتراكم الدهماء، عرضة للفقر وويلات الحرب، وبعد ذلك، دخلنا إلى ساحة منزل حيث توقفت سيارتان توّا. رافقنا أصحابها، رجلان ببذلة أنيقة، إلى داخل المنزل. التحق بنا ياسين بعد دقائق قليلة. لم يكن السيّد ينتظر إلا وصوله كي يفتتح الجلسة. دام الاجتماع حوالي ربع ساعة. دار النقاش أساسا حول الانفجار الذي وقع في الشارع. تبادل الرجال النظرات الحائرة، عاجزين عن تقديم أي تفسير لها. لم يعرفوا من المدبّرين. أدركت أن ياسين والرجلين الحاضرين كانوا رؤساء الفرق التي تشتغل في الأحياء المجاورة للشارع وأن الانفجار باغتهم. استنتج السيّد أن مجموعة أخرى، خارجة عن سلطتهم، مجهولة وربما منشقة، تحاول التدخل في ناحيتهم، ومن الضروري كشف هوية أصحابها لمنعهم من تشويش خططهم، وبالتالي، تكسير التقطيع العملي المعمول به حاليا. رفعت الجلسة. ذهب الضيفان الأولان، ثمّ السيّد، الذي سلّمني لياسين إلى غاية "إشعار جديد".
لم يكن ياسين مسرورا بأخذي معه في مجموعته، خاصة الآن، في وقت طفق غرباء يحومون في أزقته. اكتفى بأخذي إلى مخبئ يقع شمال بغداد؛ غار جرذان ضيق لا يتسع إلا لسرير منضّد وخزانة قزمة. يسكنه شاب هزيل، بوجه كشفرة موسى ينبثق منه أنف معقوف يخفف من قبحه شارب رقيق أشقر. كان نائما حينما دخلنا عليه. شرح له ياسين بأن عليه إيوائي مدة يومين أو ثلاثة. هزّ الشاب رأسه موافقا. عند مغادرة ياسين، دعاني إلى أخذ مكاني في السرير السفلي. ثمّ سألني:
- هل تطاردك الشرطة؟
- لا.
- هل أنت وافد جديد؟
- لا.
استنتج أنني لا أريد فتح باب المناقشة معه، فسكت.
بقينا جالسين الواحد بجنب الآخر إلى غاية منتصف النهار. كنت ساخطا ضد ياسين، وضد ما يحدث لي. انتابني إحساس أنني بضاعة رخيصة تقذف من مكان إلى آخر. قال الشاب:
- طيّب، سأخرج لشراء صندويتشات. دجاج أم شوَرْمة خروف؟
- مثلما تريد.
ارتدى سترة وخرج. سمعت وقع خطواته في سلالم الدرج، ثمّ لا شيء. استرقت السمع. لا جلبة ولا صوت. كأن العمارة كانت مهجورة. اقتربت من النافذة، فرأيت الشاب يسرع الخطى في الساحة. ترسل شمس محجبة أضواءها نحو الحي. رغبت في فتح النافذة وإفراغ أحشائي.
جلب لي الشاب صندويتشا بالدجاج ملفوفا في ورق جريدة. قضمت منه مرتين ثمّ وضعته على الخزانة، البطن متقلّص. قال:
- اسمي عبيد.
- ماذا أفعل هنا؟
- لا أعرف. أنا نفسي، لست هنا إلا منذ أسبوع فقط. قبل ذلك، كنت أسكن وسط المدينة. أشتغل هناك. نجوت بأعجوبة من مداهمة الشرطة. لذلك، أنتظر أن أحوَّل إلى ناحية أخرى، أو مدينة أخرى... وأنت؟
تظاهرت أنني لم أسمع السؤال.
في المساء، سررت برؤية حُسَيْن، أحد التوأمين، يداهم غرفتنا. جاء يخبر عبيد أن سيارة ستأتي صباح الغد لأخذه. قفز عبيد إلى السقف من شدّة الفرح.
- وأنا؟
أهدى لي حسين ابتسامة عريضة.
- أنت، ترافقني فورا.
يقود حسين سيارة صغيرة مرهقة. كان سائقا رديئا، ولم يتوقف عن الاصطدام بالأرصفة. يقود بشكل سيء إلى حدّ أن الناس كانوا يبتعدون غريزيا عند مروره. وهو يقهقه، مبتهجا بالفزع الذي يحدثه والأشياء التي يسقطها. فكّرت أنه مخمور أو مخدَّر. لا هذا ولا ذاك؛ لا يحسن السياقة، ورخصته كانت مزّورة كما وثائق السيارة. سألته:
- ألا تخاف من شرطة المرور؟
- لماذا؟ لم أصدم أحدا.
تنفست الصعداء حينما خرجنا سالمين من الأحياء الشعبية. كان حسين يقهقه من أجل لا شيء تقريبا. لم أعرفه على هذه الحالة في كفر كرم. صحيح أنه كان ودودا، ولكن رأسه خشن نوعا ما.
أوقف حسين عربته عند مدخل حيّ، يبدو أن طلقات الصواريخ قد خرّبته تخريبا لا رجعة فيه. بدت الأكواخ مهجورة. لم أدرك أن السكان كانوا مختفين بجحورهم إلا بعد اجتياز خط العبور. بعد ذلك، فهمت أنها إشارات بوجود الفدائيين. تفاديا لجلب أنظار العساكر والشرطة، يؤمَر الناس بالتزام التحفظ وعدم الإكثار من الحركة.
صعدنا زقاقا نتنا إلى غاية منزل غريب الشكل بثلاثة طوابق. فتح البابَ حَسن، التوأم الثاني، وغريب آخر. قدّمني حسين إلى الغريب. اسمه ليز وكان سيّد الدار، في حوالي الثلاثين من العمر، شاحب كأنه خرج توّا من حجرة العمليات. مررنا مباشرة إلى الطاولة. كان الأكل ثريا، ولكنني لم أشرّفه. سقط الليل في تجشئ قنبلة بعيدة. تفحص حسين ساعته اليدوية وقال: "وداعا، مروان، سنلتقي في الجنة إن شاء الله". كان مروان الانتحاري الذي فجّر نفسه في تلك القنبلة.
ثمّ دار حسن نحوي:
- لا يمكنك أن تعرف كم أنا مسرور بحضورك يا ابن العم.
- أنتم ثلاثة فقط في جماعة ياسين؟
- أترى بأن عددنا قليل؟
- أين الآخرون؟
انفجر حسين بالضحك.
ضربه أخوه ضربة خفيفة على الركبة كي يهدأ.
- ماذا تعني بلفظة "الآخرون"؟
- بقية جماعة كفر كرم: عادل العبقري، صلاح صهر الحداد وبلال ابن الحلاق.
قال حسن:
- صلاح يوجد الآن مع ياسين. الظاهر أن جماعة من المنشقين يحاولون منافستنا في ناحيتنا... أما عادل... فقد مات. كان من المفروض أن يفجّر نفسه في مركز تجنيد للشرطة. لم أوافق على إسناده مثل تلك العملية. لم يكن عادل رصينا تماما. قال ياسين أنه قادر على إنجاز تلك العملية. وضعنا له حزاما من المتفجرات وشرحنا له كيفية اشتغالها. حينما وصل إلى المركز، نسي كيفية استخدام نظام التفجير. رغم أن المسألة في غاية البساطة. كان عليه أن يضغط على الزر فقط. ارتبك وفقد صوابه. حينئذ، نزع سترته، وبدأ يخبط على حزام المتفجرات. رأى المجندون ماذا يحمل في الحزام، ففروا هاربين. ولم يبق في الساحة إلا عادل يتخبط مع نظام التفجير. طبعا، أطلقت الشرطة عليه النار وانفجر عادل دون أن يجرح أحدا.
غرق حسين في قهقهة وهو يتمايل:
- لا يوجد إلا عادل الذي ينهي حياته على هذه الطريقة.
- وبلال؟
- لا أحد يعرف أين اختفى. كان من المفروض أن يوصل مسئولا من المقاومة إلى غاية كيركوك. انتظر المسئول في مكان الموعد ولم يحضر بلال أبدا. لا نعرف ماذا وقع له... بحثنا في المستشفيات، في غرف حفظ الجثث، في كل مكان، عند الشرطة، في الثكنات، حيث يوجد أفراد من جماعتنا، لا شيء... ولا أثر للسيارة أيضا.
بقيت أسبوعا عند ليز. أتحمل ضحكات حسين البليدة. لم يكن حسين سليم العقل. شيء ما تعطّل في مخه. لا يستنجد به أخوه إلا لأشغال ثانوية. باقي الوقت، ينكمش فوق الأريكة ويشاهد التليفزيون إلى غاية إرساله لشراء الأكل أو نقل شخص ما.
مرّة واحدة، أذن لي ياسين بتدعيم حسان وليز. تمثلت مهمتنا في نقل رهينة من بغداد إلى تعاونية فلاحية. ذهبنا نهارا. يعرف ليز كل المختصرات التي تتفادى مراكز المراقبة. الرهينة أوربية، عضو في منظمة غير حكومية، اختطفت بداخل المستوصف حيث تشتغل طبيبة. كانت مسجونة في قبو فيللا، بقرب محافظة للشرطة. نقلناها دون عقبة، على ذقن رجال الشرطة، وسلّمناها لجماعة أخرى مختفية في مزرعة، على بعد عشرين كيلومترا جنوب المدينة.
قدّرت أنني سأحظى، بعد هذا العمل الناجح، بثقة أكثر، وسأكلّف، بالتالي، بإنجاز مهمة أخرى. خاب أملي. مرت ثلاثة أسابيع دون أن يوجه لي ياسين أي إشارة مشجّعة. يأتي لزيارتنا من حين لآخر، يتحدث طويلا مع حسن وليز؛ أحيانا يقاسمنا الأكل؛ وبعد ذلك، يمر صلاح، صهر الحداد، لأخذه، ويتركني على جوعي.
15.
نمت نوما مضطربا. أظن أنني حلمت بكفر كرم، ولكنني لست متأكدا. تبخّرت الصور بمجرد أن فتحت عيني. كان رأسي يغلي بصور ضبابية، ثابتة على شاشة تعبق برائحة الحريق، فنهضت مع عطر قريتي يزْكم أنفي.
من نومي العميق وبلا أصداء، لم أحتفظ إلا بوجع حاد يعصر مفاصلي. لم أكن مسرورا بالتعرّف على الغرفة التي أذبل بداخلها منذ أسابيع منتظرا لا أعرف ماذا. بدا لي أنني أصغر الدمى الروسية، والغرفة الأخت التي جاءت قبلي مباشرة، والمنزل بمثابة الأخت الكبرى وهكذا دواليك، إلى غاية الحي النتن باعتباره الغطاء الفوقي. كنت بداخل جسمي كما الجرذ بداخل فخ. يركض ذهني في جميع الجهات دون أن يعثر على مهرب. هل هذا ما يسمى برُهاب الاحتجاز ؟... كنت بحاجة إلى الخروج من جلدي، إلى الانفجار مثل قنبلة، أن أصلح لشيء ما، على غرار الشقاء.
تمايلت إلى غاية غرفة الحمام. كانت المنشفة، المعلقة في مسمار، سوداء من الوسخ. لم يحظَ الزجاج بتنظيف منذ عهود. تعبق من المكان روائح بول آسنة؛ أثارت في نفسي الغثيان.
على الحوض الملوّث، تقبع قطعة صابون معجّنة بجانب أنبوب معجون أسنان لم يستعمل. عكست لي المرآة وجه شاب معفّر على شفى حفرة من الانهيار العصبي. رأيت نفسي كما لو أنني رأيت غريبا.
لا يوجد الماء بالحنفية. نزلت إلى الطابق الأرضي. كان حسين يتابع فيلما من الرسومات المتحركة، منكمشا بداخل أريكته. يقهقه وهو يقضم حبات لوز يلتقطها من صحن أمامه. على الشاشة، مجموعة من القطط المتوحشة، جاءت توّا من مزابلها، تتهجم على قطّ صغير مرعوب. تلذّذ حسين بالخوف الذي يجسّده الحيوان الصغير، التائه في دغل الضواحي. سألته:
- أين الآخرون؟
- ليس من مهمتي معرفة أين يذهبون، ردّ مغمغما. كان من المفروض أن يرجعوا قبل سقوط الليل، ولكنهم لم يعودوا.
- لم يتصل أحدهم بالهاتف؟
- لا أحد.
- هل تظن أن مكروها قد أصابهم؟
- لو أن شرّا أصاب أخي التوأم، لكنت أحسست به.
- ربّما يجب الاتصال بياسين لمعرفة ما وقع؟
- ممنوع. ياسين هو الذي يتصل دائما.
ألقيت نظرة خفيفة عبر النافذة. في الخارج، الأزقة غارقة في شمس صباحية دافئة. قريبا، سيخرج الناس من جحورهم وسيحتل الأطفال الفضاء كما الجراد.
لامس حسين جهاز التحكم عن بعد، فتتابعت على الشاشة قنوات عديدة. لم تعجبه أي حصة. ودون أن يطفئ التليفزيون، تحرّك في مقعده. فاجأني بقوله:
- هل يمكن أن أطرح عليك سؤالا يا ابن العم؟
- طبعا.
- صحيح؟ وستجيبني بلا لف ولا دوران؟
- لما لا؟
ألقى رأسه إلى الخلف، مقهقها بتلك القهقهة التي تزعجني والتي بدأت أمقتها. كان ضحكا عبثيا، ينطلق في أي وقت، وبدون سبب معلوم. يملأ سمعي ليلا ونهارا، لأن حسين لا ينام أبدا. كان قابعا في أريكته من الصباح إلى المساء، جهاز التحكم عن بعد كما عصا موسى، يغيّر العالم واللغة كل خمس دقائق.
- ستجيبني بصراحة؟
- أحاول.
تلألأت عيناه بكيفية غريبة، فأشفقت عليه.
- هل تظن أنني... مجنون؟
اختنق حلقه عند آخر كلمة. بدا لي شقيا إلى حدّ أربكتني حالته.
- لماذا تقول هذا الكلام؟
- هذه ليست إجابة يا ابن العم؟
حاولت الالتفات ولكن عينيه حالتا دون ذلك.
- لا أظن أنك... مجنون؟
- كاذب. في جهنم، ستعلّق من اللسان فوق نار ملتهبة... أنتَ كما الآخرين، يا ابن العم. تقول شيئا وتعنى نقيضه تماما. ولكن لا تنخدع، أنا لست مجنونا. لي رأسي كله، وجميع الأدوات المرفقة...أعرف الحساب على أصابعي، وأعرف قراءة ما يخفيه الناس عني في عيونهم. صحيح أنني لا أستطيع كبح ضحكي، ولكن هذا لا يجعل مني مجنونا. أضحك لأنني... لأنني... لا أعرف بالتدقيق لماذا. إنها من الأشياء التي لا تفسير لها. أصِبْت بالفيروس يوم رأيت عادل العبقري يتخبط لأنه لم يتمكن من الضغط على الزر الذي يفجر القنبلة التي يحملها على حزامه. كنت غير بعيد عنه، أراقبه حينما كان يختلط بالمرشحين للتجنيد في ساحة مركز الشرطة. حينها، ارتبكت. وحينما تمزّق جسمه تحت رصاصات الشرطة، فكأنني تمزقت معه... عادل صديق الطفولة، كنت أحبّه كثيرا. كبر في ساحة منزلنا. ثمّ، وبعد الحداد، كلما تذكرت صورته وهو يتخبط مع الحزام، إلا وانفجرت بالضحك. كانت حركاته ساخرة، مختلة... ولكن هذا لا يجعل مني مجنونا. أعرف الحساب على أصابعي، وأميّز الخيط الأبيض من الأسود.
- لم أقل أبدا بأنك مجنون، يا حسين.
- الآخرون أيضا. إلا أنهم يعتقدون أنني مجنون. أتظن بأنني لم أفهم؟ سابقا، يبعثونني إلى النار دون تردّد. كمائن، اختطافات، اغتيالات، كنت دائما على رأس القائمة... الآن، يكلفونني بشراء المؤن، أو جلب شخص في عربتي الهرمة. وحينما أتطوّع لعملية كبيرة، يقولون لي لا داعي، بأن الحساب قد اكتمل، وأنني أحرس الجوانب. ما معنى حراسة الجوانب؟
- أنا أيضا، لم أكلّف بعد بأية مهمة كبرى.
- أنت محظوظ، يا ابن العم. لأنني سأعبّر لك صراحة عن موقفي. قضيتنا عادلة، ولكننا لا نحسن الدفاع عنها. إذا كنت أضحك من حين لآخر، ربما لهذا السبب.
- هنا، تقول حماقات يا حسين.
- أين ستقودنا هذه الحرب؟ هل ترى لها حلا؟
- أسكت، يا حسين.
- إنها الحقيقة. ما يحدث لا معنى له. مجازر، ثمّ مجازر، ثمّ مجازر. في الليل والنهار. في الشوارع، في الساحات العمومية، في المساجد. لا نميّز بين الناس، جميعهم في النار.
- أنت تهذي...
- أتعرف كيف مات، عدنان ابن الخباز؟ يُحكى أنه رمى بنفسه في نقطة مراقبة. كذب. بهتان. ضجر من كل هذه المجازر. كان دائما منكبا على قتل العباد وتفجير العمارات، والأسواق والمدنيين. وفي صبيحة، قام بتفجير حافلة مدرسية، وبقيت جثة طفل معلّقة في أعلى شجرة. حينما وصلت فرق الإنقاذ، وضعوا الأموات والجرحى في سيارات الإسعاف وأخذوهم إلى المستشفى. ولم يكتشف المارة جثة الطفل المعلقة إلا بعد يومين، صدفة، بسبب الروائح العفنة المنطلقة من الشجرة. وفي ذلك اليوم، كان عدنان مارا من هناك بالصدفة. فرأى المتطوعين ينزلون جثة الطفل من غصنها. لا أقول لك ما حدث. اهتزّ عدنان اهتزازا عنيفا. لقد انقلب من النقيض إلى النقيض. لم يعد المقاتل الذي عرفناه. ذات مساء، أحاط نفسه بحزام من أرغفة الخبز، ليوهم بأنها عيدان ديناميت وذهب يهدّد العسكريين في مراكز حراستهم. فتح بغتة معطفه ليظهر سرجه، فحوّلته رصاصات العسكريين إلى غربال. سحقوه سحقا. القنابل لم تنفجر، فواصل الحراس إطلاق الرصاص. أفرغوا بنادقهم وبنادق زملائهم. بحيث لم يميزوا بعد ذلك قطع اللحم بقطع أرغفة الخبز... هذه هي الحقيقة، يا ابن العم. عدنان لم يمت مقاتلا، وإنما ذهب إلى الموت متطوعا، بلا سلاح، وبلا صيحة المقاتل؛ ببساطة، إنه انتحر.
لم يكن ممكنا أن أبقى لحظة واحدة برفقة حسين. وضعت فنجان القهوة على طاولة ووقفت مستعدا للخروج.
لم يتحرك حسين من أريكته. قال:
- أنت لم تقتل أحدا بعد، يا ابن العم. اهرب بجلدك... ضع أشرعتك باتجاه أفق مغاير وسرّ دون أن تلتفت خلفك. كنت سأفعل الشيء نفسه لولا فيلق من الأشباح تشدني من أذيال معطفي.
تفحصته كما لو أنني أردت إذابته بالنظر.
- أظن أن ياسين لم يخطئ، يا حسين. لم تعد تصلح إلا للمهمات الثانوية.
وأسرعت بصفق الباب ورائي.
خرجت أتجوّل طول نهر دجلة. أعطيت ظهري للمدينة. بصري معلق في النهر كي أنسى العمارات على الضفة المقابلة. كانت كفر كرم تملأ جوارحي. استذكرت الملعب ذا الأرضية المرملة حيث يتصارع الأطفال حول الكرة، والنخلتين السقيمتين، المسجد، الحلاق وهو يجز الجماجم بأشكالها المدوّرة الشبيهة باللفت الذي نعطيه علفا للحيوانات، المقهيين اللذين يتجاهل واحدهما الثاني بفظاظة، وشائح الغبار المحلقة على طول الدرب الفضي، ثمّ الحفرة التي كان كاظم يسمعني فيها أغاني فيروز، والآفاق الأكثر مواتا من الفصول... حاولت التراجع، العودة إلى القرية؛ رفضت ذكرياتي الانصياع إلى رغباتي الدفينة. اضطرب فيلم الذكريات، توقفت الصور واختفت تحت لطخة دكناء ثخينة، ومن جديد لفّتني بغداد، بشوارعها المستنزفة، وساحاتها الغاصة بالأشباح، وأشجارها الرثة وضوضائها الصاخبة. كانت الشمس تدقّ بفظاظة، تبدو قريبة على مرمى حجر، بحيث يمكن لمسها بسهولة. قطعت جزءا كبيرا من المدينة شارد الذهن، غارقا في هواجسي، ولم أتذكر قط الأزقة التي مررت بها، ولا ما رأيته وسمعته طوال ترحالي. لم أتوقف من المشي الأعمى منذ أن غادرت حسين.
لم يكن النهر كافيا لغرق أفكاري، فاستأنفت المشي. دون أن أعرف مقصدي. كنت في بغداد مثل فكرة ثابتة وتائهة في ضوضاء العدم. تحاصرها الأشباح الدوّارة من جميع الجهات. حبّة رمل بداخل زوبعة.
لا أحب هذه المدينة. لا تمثل شيئا بالنسبة لي. ولا تعني شيئا. أعبرها كما أفعل مع إقليم ملعون؛ تتحملني كما تفعل مع جسم غريب. كنا شقاءين متنافرين، عالمين متوازيين، يمشيان جنبا إلى جنب دون أن يلتقيا أبدا.
على يساري، فوق ممر حديدي، جذبت شاحنة معطّلة فضول بعض الأطفال. على بعد عشرات الأمتار، بجوار ملعب خفتت صيحاته، خرجت شاحنات أمريكية من معسكر قريب. ظهرت لي كفر كرم في هدير الموكب. من منزلنا الذي تغطيه عتمة شفافة، لا أميّز إلا الشجرة العصية التحديد حيث لم يعد يجلس عند جذعها أحد. لا أحد في الفناء أيضا. كان المنزل فارغا، بلا روح ولا أشباح. بحثت عن أخواتي، عن أمي... لا أحد. باستثناء أثر الجرح على رقبة بهية، لا وجه ولا شبح يتسلل خفية. بدا لي كأن هذه الوجوه العزيزة عليّ سابقا، تمّ نفيها من ذكرياتي. شيء ما تحطّم في ذاكرتي، ودفن تحت الأنقاض كل أثر لأفراد عائلتي...
أفزعني شخير شاحنة ورماني فوق الرصيف. صرخ السائق باتجاهي:
- استيقظ أيها الأحمق. أين حسبت نفسك؟ في فناء أمك؟
توقف بعض المارة، مستعدين لجمع الفضوليين حولهم. الغريب في بغداد أن أدنى حادث يتسبب في حشد مهول. انتظرت أن يواصل السائق طريقه كي أعبُر القارعة.
تحترق قدماي بداخل حذائي.
ساعات طويلة وأنا أمشي بلا هدف.
جلست في شرفة مقهى وطلبت قارورة صودا. لم آكل طوال النهار، ولكنني لم أحس بالجوع. كنت متعبا فقط. بغتة، صاح شخص في ظهري:
- غير معقول؟
يا لها من سعادة... يا له من فرج حينما تعرفت على العريف عُمَر. كان مقحما بداخل عفريتة جديدة، بطنه فائض.
- ماذا تفعل هنا؟
- أشرب صودا.
- الصودا موجود في جميع المقاهي. لماذا هذا المقهى بالضبط؟
- تطرح أسئلة كثيرة، يا عُمَر، وأنا رأسي ليس عندي.
شرّع ذراعيه ليقبلني. تدافعت شفتاه بإلحاح ضد خديّ. كان مسرورا جدا لرؤيتي. جذب كرسيا وترك جسده ينهار فوقه وهو يمسح عرق جبهته بمنديل. قال لاهثا:
- أسيل مثل تينة يانعة. إن لقاءك أثلج صدري، يا ابن العم. حقيقة.
- أنا أيضا.
صاح على النادل وطلب صودا.
- هيه، ماذا تحكي، يا ابن العم؟
- كيف حال هاني؟
- آه... إنه غريب الأطوار. لا تعرف من أي كُمّ تمسكه.
- هل لا يزال متمسكا بفكرة الرحيل؟
- لا يمكن أن يعثر على طريقه في الطبيعة. إنه حضري متجذّر. بمجرد الابتعاد عن عمارته، يصيح طالبا النجدة. أتعرف أنه كان يساومني؟ يريد أن يعرف إن كنت متعلقا به أم لا... وأنتَ؟
- ألا تزال دائما مع المساعد الأول السابق؟
- أين تريدني أن أذهب؟ هو على الأقل، حينما تدير لي الدنيا ظهرها، يقدّم لي سُلْفة أقتات بها إلى أن يفرجها ربّك. إنه إنسان طيب... لم تقل لي ماذا تفعل في هذه الناحية؟
- لا شيء. لم أتوقف عن الدوران.
- أرى... لست بحاجة إلى القول مرة أخرى أنني تحت الخدمة إذا احتجت إلى مساعدة، مهما كان نوعها. إذا أردت العودة لتعمل معنا، أهلا وسهلا بك في أي وقت. سنتآزر ونتضامن.
- ألا تفكر في زيارة كفر كرم؟ عندي كمية من المال أريد إرسالها إلى العائلة.
- ليس في القريب العاجل... لماذا لا تعود، أنت، إلى القرية، إذا رأيت بأن لا يوجد شيء مفيد لك في بغداد؟
يحاول عمر اختباري. يتأجج فضولا لمعرفة ما إذا كان سيثير معي تلك الموضوعات التي اختلفنا حولها. إن ما قرأه في عيوني جعله يتراجع عن الخوض فيها. رفع يديه وقال بلهجة تصالح:
- إنه مجرد سؤال خطر ببالي.
أشارت ساعتي إلى الثالثة والربع زوالا. قلت:
- يجب عليّ أن أدخل.
- بعيد؟
- مسافة طويلة نوعا ما.
- يمكنني أن أحطك، إذا أردت؟ شاحنتي قريبة من هنا.
- لا أريد إزعاجك.
- لا إزعاج ولا هم يحزنون، يا ابن العم. لقد سلّمت خزانة في زقاق قريب، وليس لدي ما أفعله الآن.
- أحذرك بأن المسافة طويلة، وستضطر عند العودة إلى القيام بدورة كبيرة.
- في خزان الشاحنة ما يكفي من البنزين.
صبّ في جوفه جرعة من الصودا وأشار إلى النادل قائلا:
- سجّل ثمن المشروبات على حسابي، يا سعد.
ورغم ذلك، اتجهت نحو النادل ملحا على الدفع، ولكن هذا الأخير رفض نقودي وسجّل الحساب على ورقة صغيرة مضيفا اسم عُمر.
بدأ المساء يخيّم بظلاله على المدينة. كانت آخر ارتدادات الشمس تلطخ أعالي العمارات. همدت ضوضاء الشوارع. كان النهار شاقا؛ ثلاثة اعتداءات في وسط المدينة واشتباك بالرصاص حول كنيسة.
كنا في منزل ليز. اجتمع ياسين، صلاح، حسن وصاحب الدار في غرفة بالطابق العلوي. أكيد أنهم يخططون لغارة مقبلة. لم نُدْعَ حسين وأنا. كان حسين يتظاهر بعدم الاكتراث، ولكن في العمق، أتصوّره قد تأثر لهذا التهميش أيما تأثر. كنت ساخطا، ومثله، أجتر غيظي في صمت.
تواصل إلى مسمعنا صرير الباب؛ ثمّ نتف من الأصوات تشير إلى نهاية المشاورة. كان صلاح أول من نزل. تغيّر كثيرا. بدا لي عملاقا، برأس حارس كباري وقبضات مشعرة مغلقة دوما، كما لو أنه يخنق ثعبانا. كل شيء فيه يغلي. بدا أشبه ببركان على وشك الانفجار. لا يتكلم إلا نادرا، ولا يدلي برأيه أبدا، كما يحافظ على مسافة بينه وبين الآخرين. كان سمعه لصيقا بياسين الذي لا يبتعد عنه قيد أنملة. حينما التقينا أول مرة، لم يكلف نفسه حتى بتحيَّتي.
مكث ياسين، حسن وليز فترة من الزمن يثرثران في أعلى سلالم الدرج قبل الالتحاق بنا. لا تعبّر وجوههم لا عن ضغط تأزم ولا عن حماس فياض. جلسوا على السرير المقابل، مواجهين إيانا. التقط حسين جهاز التحكم عن بعد على مضض وأطفأ الشاشة الصغيرة. قال ياسين:
- إنك أهلكت محرك سيارتك؟
- لم يقل لي أحد أن عليّ أن أضع الزيت بداخله.
- عندك علامة حمراء منبهة على لوحة القيادة.
- نعم، رأيت مصباحا صغيرا أحمر يضوي ولكنني لم أفهم لماذا.
- كان عليك أن تسأل حسن.
- حسن يتصرف كأنني غير موجود معه.
قال الأخ التوأم:
- ماذا تقول؟
باشر حسين حركة من يده ثمّ سحب نفسه من على الأريكة.
قال ياسين بنيرة آمرة، يذكره بسلطته:
- إنني أكلمك...
- لست أطرش، البول يعصرني.
ارتعد صلاح من الرأس إلى القدمين. لم يعجبه تصرف حسين قط. لو كان الأمر بيده، للقي عقابه في الحين. لا يتسامح صلاح مع من يتمرد على قائد المجموعة. تنحنح بصوت مرتفع وشبّك ذراعيه على صدره، يشدّ فكيه بقوة.
ألقى ياسين نظرة استفسارية إلى حسن. فتح هذا الأخير ذراعيه، علامة العجز، ثمّ اقتفى أثر أخيه نحو المرحاض. سمعناه يوبّخ أخيه بصوت خفيض.
اقترح علينا ليز كؤوس شاي. ردّ ياسين:
- ليس لدي الوقت.
ألح صاحب الدار:
- لا نأخذ من وقتك أكثر من دقيقة.
- في هذا الحالة، بقي لك ثمانية وخمسون ثانية.
اتجه ليز مسرعا نحو المطبخ.
رنّ هاتف ياسين النقال. وضعه في أذنه واستمع؛ تشنّج وجهه. وقف فجأة، اقترب من النافذة، الظهر لاصق بالجدار، ثمّ، بحذر شديد، رفع جزءا من الستار. قال في هاتفه النقال:
- إنني أراهم. ماذا يفعلون هنا؟... لا أحد في الحي يعرف ماذا نفعل هنا. هل أنت متأكّد أنهم يقصدوننا؟ ( بيد أخرى، أمر صلاح ليرى من الطابق العلوي ماذا يحدث في الزقاق. تسلق صلاح سلالم الدرج بخفة قط. واصل ياسين الحديث في هاتفه النقال.) على حسب علمي، لم يحدث تخريب في الناحية.
عاد حسن من المرحاض، وأدرك فورا أن شيئا مريبا قد وقع. تسلل إلى الجانب المقابل من النافذة، وبدوره، أزاح الستار ببطء. هلع لما رآه واندفع إلى الوراء. أطلق شتيمة وركض باتجاه بندقيته الرشاش المخبأة بداخل خزانة، منبها ليز الذي كان منشغلا بتحضير الشاي.
عاد صلاح وقورا، كأن شيئا لم يحدث. قال وهو يخرج مسدسا كبيرا من تحت حزامه:
- يوجد على الأقل عشرون شرطيا حول البناية.
تفحّص ياسين السقف المقابل، اشرأب عنقه كي يشاهد السطوح المجاورة. قال دائما في هاتفه النقال:
- أين أنت بالضبط؟... جيد. باغتهم من الخلف، لنتمكن من فتح ثغرة وسطهم... من زقاق المرأب، أنت متأكّد؟ كم عددهم؟ طيب نتصرّف وفق هذه الخطّة. سلِّيهم من جهتك، وأهتم بالباقي.
أغلق غطاء هاتفه النقال وقال:
- أظن أن خبيثا وشى بنا. رجال الشرطة يحتلون السطوح في الشمال، والشرق والجنوب. سيقدّم لنا جوّاد ورجاله يد العون كي نخرج من هنا. سنخرج من جهة المرأب. سيكون أمامنا ثلاثة أو أربعة خونة.
قال ليز هلعا.
- أؤكد لك، ياسين، ليس لدينا مندسون في الحي.
- سنتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد. دبّر رأسك كي ننسحب من هنا بلا خسائر كبيرة.
ذهب ليز ليحضر قاذفة القذائف السوفييتية. في اللحظة التي وصل فيها وسط الصالون، طارت شظايا الزجاج، وسقط ليز أرضا، مصعوقا. إن الرصاصة التي أطلقت من السطح المقابل كسّرت فكه الأعلى. طفق الدم يسيل من وجهه ويتجمع على الأرضية المبلطة. مباشرة، انهار شلال من الرصاص داخل القاعة مفجرا الأواني المنزلية، مغربلا الجدران، ومحدثا زوبعة من الغبار والشظايا المتعددة حولنا. ارتمينا على الأرض، ثمّ زحفنا باتجاه محميات مفترضة. أطلق صلاح النار على النافذة، دون تسديد؛ أفرغ رشاشه وهو يطلق صيحات متوحشة. أما ياسين، فبدا أكثر هدوءا، أقعى في المكان الذي كان يتواجد يه. تأمل جسد ليز المدمى، مفكرا في الخطة التي ستخرجه من هذه المصيدة. اختبأ حسين في البهو، حزام سرواله لا يزال مفتوحا. حينما انتبه إلى جسد ليز الملقى على البلاط، انفجر بالضحك.
قفز صلاح على قاذفة القذائف، عبأها بالرصاص، وبرأسه، أمرنا بمغادرة الصالون. غطى حسن ياسين الذي جرى يختفي في الرواق. توقف دوي الرصاص فجأة، وفي ذلك الصمت الجنائزي، لم تصل إلى مسامعنا إلا صيحات نساء وأطفال مخنوقة. استغل حسن فرصة الهدوء ليدفعني أمامه.
من جديد، استأنفت طقطقات الرصاص أكثر غزارة. هذه المرة، لم تستهدفنا. شرح لنا ياسين أن جواد ورجاله يحاولون جلب انتباه رجال الشرطة باتجاههم، وأنها الإشارة للخروج من الخلف. وجّه صلاح قاذفة القذائف نحو سطح وأطلق النار. أرعد دوي رهيب أذنيّ، فيما كان دخان كثيف وحارق يغطي القاعة. صرخ صلاح باتجاهنا:
- أهربوا.... إنني أحميكم.
ركضت خلف الآخرين، مذعورا، مبهوتا. طلقات الرصاص تتفجر مدوية. أسمع أزيزها حولي، تصفر في أذنيّ. انحنيت كلية، يداي على صدغي، بدا لي أنني أعبر الجدران، كالشبح. اجتزت فتحة خربة ووقعت على ركام قاذورات. كان حسين يركض أمامي، مقهقها. أمسك به أخوه وأجْبَره على متابعته عبر زقاق ضيق. انطلقت رصاصات أمامنا. انفجرت قذيفة وراءنا. صرخ شخص، مسته الشظايا. طاردتني صيحاته طويلا. شدّدت على أسناني وركضت، ركضت، كما لم أركض أبدا في حياتي...
16.
كان ياسين محتقنا بالسعار. بداخل المخبإ الذي لجأنا إليه بعد أن تخلصنا بأعجوبة من حصار الشرطة، لم نكن نسمع إلا صوته. يضرب بقبضته على الأثاث، ويركل بقدميه الأبواب. كان حسن ينظر إلى الأرضية وذراعاه مشبكان على صدره. أما أخوه التوأم فاندس في عمق الرواق، جالسا على الأرض، رأسه بين ركبتيه ويداه خلف رقبته. غاب صلاح عن الحضور، الأمر الذي ضاعف من حنق وسخط ياسين. إنه متعوّد على الوقوع في الكمائن، ولكن الذي غاضه هو ترك أوفى رجاله خلفه... زفر قائلا:
- يجب أن أعرف من الخبيث الذي بلّغ عنا. أريده حالا، أريد رأسه في أقرب الآجال.
ألقى نظرة على هاتفه النقال.
- لماذا لم يتصل صلاح؟
زاد القلق والغضب من توتر ياسين وبدأ يفقد برودة أعصابه. حينما لا يمطرنا ببصاقه المزبد، يكسّر كل شيء في طريقه. بمجرد ولوجنا إلى ملجئنا الجديد، طفق الهيكل يهتزّ، معلنا عن الانهيار. كرّر ثانية:
- لا وجود لمندس في الناحية. كان ليز متأكدا من هذا الأمر. بقينا هناك شهورا، ولم نرَ شبح شرطي أبدا. لا يمكن أن يكون إلا أحدكما، أنتَ (أشار إلي بالأصبع) أو حُسَين، ارتكبتما حماقة ما.
- لم أرتكب أي حماقة، غمغم حسين. ثمّ، كف عن اتهامي بالجنون.
هذا ما كان ينتظره ياسين الذي أضجره صمتنا. انقضّ على التوأم، أمسكه من طوق قميصه وأقلعه من الأرض.
- لا تكلمني بهذه اللهجة، أفهمت؟
ترك حسين ذراعيه يتدليان على طول جسمه علامة الاستسلام، ولكنه رفع رأسه ليظهر لقائده أنه لا يخشاه.
دفعه ياسين بفظاظة ونظر إليه وهو يتدحرج ضد الجدار ويعود إلى وضعه الأصلي. حينما استدار نحوي، أحسست بعينيه الوقادتين تخترقان جسدي من طرف إلى آخر.
- وأنتَ؟ أمتأكد أنك لم ترتكب حماقة أثارت شكوك شخص تبعك إلى غاية المخبإ؟
كنت لا أزال دائخا. يرنّ دوي الطلقات النارية وصراخ القتلى في رأسي. لم أصدّق أننا خرجنا سالمين، بعد كل ذلك الوابل من الرصاص وذاك الجري الجنوني عبر الأزقة، عرضة للقنص وشظايا القنابل. لم أكن أحسّ بساقي اللتين أقف عليهما، منهكا، مفككا، مذهولا. لم أكن بحاجة إلى اختبار إضافي. حطّ ياسين عليّ عينيه كما الساطور.
- أليست لك علاقة مع غريب؟ أم أنك تلفظت بكلام زائد أمام شخص لا تعرفه جيدا؟
- لا أعرف أحدا.
- لا أحد؟... إذاً كيف تفسّر القذارة التي سقطت علينا بغتة، دون أن نتفطن لها؟ مرت شهور ونحن مرتاحون بذاك المنزل. إما أنك لم تتخذ حذرك أو أنك سيّء الحظ. رجالنا مدرّبون. يتأكدون جيدا من المكان الذي يحطّون فيه أقدامهم. أنتَ الوحيد الذي لم يندمج كلية في حلقتنا. من تخالط خارج أفراد جماعتنا؟ أين تتجه حينما تغادر المخبأ؟ ماذا تفعل بوقتك؟...
تدفّقت عليّ أسئلته، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تترك لي الوقت الكافي لأتلفظ بكلمة أو أسترجع أنفاسي. لم تتمكن يداي من صدّها ولا احتوائها. يحاول ياسين أن يخرجني عن طوري. كنت الحلقة الضعيفة، وكان لزاما عليه أن يجد كبْش المحرقة. هكذا تجري الأمور دوما؛ حينما لا نجد تفسيرا لشقائنا، نخترع له مذنبا. تلفظت بِلاءات متتابعة، حاولت المقاومة، الدفاع عن النفس، عدم الاستسلام للتهديدات، ولكنني، فجأة، دون وعي مني، وجدت نفسي أصرخ اسم العريف عُمَر. ربما بسبب الكلل الواهن، أو الضجر الطافح، أو طريقة للتخلص من نظرة ياسين المتفجرة بالازدراء. وقت أدركت حمقي، كانت الرصاصة قد خرجت واستقرت بأذن ياسين. كنت سأعطي روحي للشيطان كي أسترد كلماتي، ولكن وجه ياسين كان قد تحوّل إلى احمرار جمر.
- ماذا؟ العريف عمر؟
- ألتقي به من حين لآخر، هذا كل ما في الأمر.
- يعرف أين تسكن؟
- لا. مرّة واحدة، أوصلني بشاحنته إلى غاية الساحة القريبة. ولكنه لم يرافقني إلى غاية المنزل. افترقنا على مستوى محطة البنزين.
تمنيت لو لفظ ياسين هذه الحكاية بحركة يد لينتقل إلى حسن. أخطأت التقدير.
- هل أنا في كابوس أم ماذا؟ قدْتَ ذاك السكّير إلى غاية مخبئنا؟
- وجدني أمشي في الطريق ورضي مشكورا بإيصالي إلى غاية المحطة. لا يمكن لعُمر أن يدرك أين أتوجه بالتدقيق. ثمّ، إنه عُمر. ليس أي شخص. أبدا لن يقبل بالإبلاغ عنا.
- هل يعرف أنك معنا؟
- ماذا دهاك، ياسين؟ لا تتكلم بجدّ.
- هل كان يعرف؟
- نعم...
- أحمق... أبله... تجرأت بقيادة ذاك الجبان إلى غاية...
- لا علاقة له بما جرى لنا.
- ما أدراك؟ بغداد، البلد بأكمله، يعج بالوشاة وبالخونة.
- انتظر ياسين، انتظر. أنت تخطئ طريقك...
- اِخْرس، اغْلَق. لا تتفوه بكلمة. ولا كلمة، فهمت. أين يختبئ هذا المخصي؟
أدركت لحظتها أنني ارتكبت خطأ فادحا، وأن ياسين لن يتردّد على قتلي إن لم أحاول ترقيع ما تسببت في تكسيره. في الليلة نفسها، أجبرني على قيادته إلى غاية مسكن عُمَر. أثناء الطريق، حينما رأيته مرتخيا قليلا، توسّلت إليه بالتعقل وبالتأكّد أولا. أحسست بضجر ينخر أحشائي؛ لم أعرف ماذا أفعل بالضبط. هدّني الندم والخوف بأن أتسبّب في سوء فهم رهيب. وعَدني ياسين بأنه إن تأكّد من براءة عُمر، سوف لن يمسه بسوء.
كان حسن يقود السيارة، وخنجر جزّار مخفي تحت سترته الجلدية. إن صلابة رقبته أرعدت أوصالي. تفحص ياسين، الجالس على مقعد الميت، أظافره، وجهه مغلَق. انكمشت في المقعد الخلفي، يداي نديتان، أحشائي تعتصر، وفخذاي مضمومتان كي أكبح رغبة جامحة في التبول.
تفادينا الحواجز الأمنية والشوارع الكبرى كي نتسلل إلى غاية الحي الفقير الذي أقمت به أياما. ارتسمت العمارة المقصودة وسط الظلام، شبيهة بمعلم مشئوم؛ لا نافذة مضيئة، ولا شبح يتحرك حولها. تكون الساعة حوالي الثالثة صباحا. ركننا السيارة في فناء صغير متدهور، ثمّ، وبعد نظرة فاحصة في الضواحي، تسللنا إلى العمارة. كان المفتاح الذي أعطاني إياه العريف لا يزال معي. نزعه ياسين من يدي قبل أن يولجه داخل القفل. فتح الباب بهدوء، بحث باللمس عن قفل الإنارة، وأشعل المصباح. كان عمر نائما على مطرح، عاريا كالدودة، ساقه فوق خصر هاني الذي كان جسمه الشفاف عاريا هو أيضا. أربكنا المشهد من أول وهلة. بسرعة، استرجع ياسين حزمه. وقف بصرامة على قدميه، يداه على وركيه، متأملا بصمت الجسدين العاريين الممددين عند قدميه.
- تفرّجوا على هذه المسخرة... كنت أعرف عمر السكير؛ والآن، أرى أمامي عمر اللوّاط، يضاجع الغلمان. عش ترى.
كان صوته يطفح بالازدراء إلى حدّ أن ريقي جفّ. كان العشيقان يغطان في نوم عميق، وسط قارورات الخمر الفارغة والصحون المتسخة. رائحة قوية تعبق الغرفة. مدّ حسن طرف حذائه ليوقظ عمر. تحرك هذا الأخير بثقل، تجشأ وعاد إلى شخيره. قال لي ياسين آمرا:
- اذهب وانتظرنا داخل السيارة.
كنت أصغره بحوالي خمس سنوات فقط، ويقدّر أنني لست ناضجا لرؤية مشهد مخل بالحياء، وبالأخص في حضوره. قلت مذكرا:
- لقد وعدتني أنك لن تمسه بسوء إن كان لا دخل له في القضية.
- اِفْعل ما أطلبه منك.
أطعت.
دقائق بعد ذلك، التحق ياسين وحسن بالسيارة. بما أنني لم أسمع صراخا ولا دوي رصاص، فكّرت أن المواجهة مرّت بسلام. ثمّ رأيت حسن يمسح يديه الملطختين بالدماء تحت إبطه، ففهمت. قال ياسين بعد أن اتخذ مكانه في المقدمة.
- إنه هو... لقد اعترف.
- إنكما لم تمكثا أقل من خمس دقائق. كيف حدث أن اعترف لكما بهذه السرعة؟
- قل له يا حسن.
ضغط حسن على دوّاسة السرعة وانطلقت السيارة. حينما وصلنا إلى المفترق، التفت نحوي وقال:
- إنه الواشي، ليس لدينا أدنى شك، يا ابن العم. لا تقلق ولا تحمل همّا. لم يتردّد هذا القذر ثانية واحدة حينما وجدنا واقفين عند رأسه. بصق علينا وقال: "اِذهبوا إلى الجحيم".
- هل عرف لماذا كنتم هنا؟
- أدرك السبب بمجرد أن فتح عينيه. لقد قهقه ساخرا... إنها مسائل واضحة ليست حتى بحاجة إلى كلمات. صدقني، يا ابن العم، ليس إلا قذرا وسخا، خنزير وخائن. لن يضرّ أحدا بعد اليوم.
أردت معرفة المزيد، ماذا قال العريف عمر تدقيقا، ماذا حدث لصديقه هاني. استدار ياسين كلية نحوي وصرخ:
- هل تريد تقريرا مفصلا ورسميا أم ماذا؟ حينما نكون في حرب لا نشغل أذهاننا بالتفاصيل. إذا أحسست أنك لست مستعدا، يمكنك الانسحاب فورا. لم يرَك ولم يسمع عنك أحد.
إلهي، كم كرهته في تلك اللحظة. كما لم أتصوّر نفسي قادرا أبدا. من جهته، أدرك كل الكره الذي استولى على جوارحي، لأنّ نظرته التي نصّبت نفسها متعالية، عصية الاختراق، اهتزت أمام نظري. في تلك اللحظة، أدركت أن ياسين أصبح عدويّ اللدود، وأنه، في أوّل فرصة سانحة، سوف يجهز عليّ بلا رحمة ولا شفقة.
عند منتصف النهار، في حين كنا جالسين، سارحين، في مخبئنا الجديد، رنّ هاتف ياسين. إنه صلاح. لقد نجا بجلده. وبأعجوبة. وفقا للتحقيق الذي رأيناه في التليفزيون حول الهجوم، لم يبق من منزل ليز إلا الأنقاض. خَرّت البناية تحت أثر الرصاص من العيار الثقيل، وقد التهمت النار جزءا كبيرا منها. حسب شهادة السكان، دامت المواجهة المسلحة طوال السهرة، وقد ضاعف وصول الإمداد العسكري إلى مكان المواجهة من الفوضى العارمة التي تسبب فيها انقطاع التيار الكهربائي والهلع الذي استولى على الجيران، وقد أصيب بعضهم بالرصاصات الضائعة وشظايا القنابل اليدوية.
استعاد ياسين ألوانه الطبيعية. كاد يجهش بكاءً حينما تعرف على صوت صلاح، ملازمه الوفي. ولكنه استعاد التحكم في أعصابه. وبّخ الناجي، لائما إياه على صمته؛ بعد ذلك، رضي بسماع تبريراته دون أن يوقفه. هزّ رأسه، مرّر أصبعه تحت طوق قميصه، فيما كنا نتابع حركاته بصمت. أخيرا، رفع ذقنه وقال في جهازه النقال:
- لا يمكنك أن تأتي به إلى هنا؟... اسأل جوّاد، إنه يعرف كيفية نقل الطرود...
أقفل المكالمة، ثمّ، دون أن يكلمنا، ولج إلى الغرفة المجاورة وصفق الباب في وجوهنا.
وصل "الطرد" في المساء، في صندوق سيارة يقودها ضابط شرطة بالبذلة الرسمية، شخص طويل القامة بجبهة عريضة، سبق أن رأيته مرة أو مرتين في مخزن السيّد. كان يشتري منا أجهزة تليفزيون. حينما يزورنا، كان دوما بلباس مدني. إنه هو، جوّاد –اسم حرب-، وكنت على بعد ألف ميل من التفكير بأنه يحتل وظيفة نائب المحافظ في مركز شرطة الناحية.
شرح لنا أنه لاحظ انطلاق فرقته للقيام بعملية طارئة عند عودته من مهمة عادية.
- حينما أخبرتني المداومة بعنوان التدخل، لم أصدق أذني. إن المحافظ يقصد مخبأكم. أراد القيام بالعملية بمفرده كي يسجل نقاطا على منافسيه.
قال ياسين بنبرة لوم:
- كان من واجبك أن تخبرنا فورا.
- لم أكن متأكدا مائة بالمائة. إن مخبأكم من أضمن المخابئ في بغداد. لم أكن أرى كيف يمكن الوصول إليه، مع جميع الأجراس التي نصبتها حوله. كانوا سيُخبرونني. وكي أتأكد بنفسي، انتقلت على عين المكان، وهناك فهمت.
رفع غطاء صندوق السيارة المتوقفة في المرأب. بداخله، كان رجل ممدد في وضعية انكماش، يكاد يختنق. كان ملفوفا بلفاف لصقة التغليف، على فمه كمامة وعلى وجهه أثر الضرب القوي.
- هو الذي بلّغ عنكم. كان حاضرا في مكان الهجوم، مع محافظ الشرطة، ليريه مكان اختبائكم بالضبط.
حرّك ياسين رأسه آسفا.
أدخل صلاح ذراعيه العاضلين بعمق الصندوق وأخرج السجين بفظاظة. رماه أرضا وأبعده عن السيارة بالركلات.
انحنى ياسين أمام الغريب ونزع له الكمامة:
- لو تصرخ، سأفقأ عينيك وأرمي لسانك للجرذان.
بدا الرجل في الأربعين من العمر. كان هزيلا، بوجه دنفي وصدغين رماديين. كان يتلوى في لفافه كما الدودة. قال حُسين:
- إنني رأيت هذا الوجه.
قال الضابط متبخترا، أصابعه تتشبث بحزامه.
- كان جارا لكم. يقطن في المنزل المجاور لمحل بيع المواد الغذائية، ذلك الذي له واجهة مغطاة بنباتات متسلقة.
وقف ياسين. سأل الغريب.
- لماذا؟ لماذا بلّغت عنا؟ إننا نقاتل من أجلك.
أجاب الواشي بازدراء:
- لم أطلب منكم شيئا. أفضل الموت ولا ينقذني حثالة أمثالكم...
رفسه صلاح بضربة قدم على جانبه. تدحرج الواشي على نفسه، اختنق تنفسه. انتظر أن يستعيد أنفاسه كي يواصل:
- تحسبون أنفسكم فدائيين. لستم إلا مجرمين، وحوش وقتلة أطفال ونساء. لا أخاف منكم. افْعَلوا بي ما بدا لكم، لا تنزعوا من رأسي أنكم عبارة عن كلاب مسعورة، مجانين، لا دين لكم، ولا قانون... أكرهكم.
بصق علينا الواحد وراء الآخر.
ذهل ياسين. تساءل:
- هل هذا الشخص سليم العقل؟
قال ضابط الشرطة:
- بكل تأكيد. إنه معلم في مدرسة ابتدائية.
أمسك ياسين ذقنه بين الإبهام والسبابة في لحظة حيرة وتفكير.
- كيف توصل إلى معرفة طبيعة نشاطنا؟ نحن غرباء عن المدينة، وسوابقنا العدلية بيضاء... كيف عرف من نحن؟
قال الواشي، مشيرا إلى رأس صلاح:
- أتعرف على هذا الوجه القميء من بين آلاف الوجوه للقردة أمثالكم... يا ابن الكلب، يا لقيط، يا ابن القحبة...
همّ صلاح بالانقضاض عليه؛ أثناه ياسين. واصل الواشي الذي اشتطّ غضبا:
- كنت حاضرا عندما قتلت النقابي محمّد صبحي. كنت بداخل السيارة التي تنتظره عند أسفل العمارة. ورأيتك تطلق النار في ظهره عندما كان خارجا. في الظهر. خدعته أيها الجبان، يا قاتل، يا لقيط. لو كنت حرّ اليدين لأكلت لحمك نيّئا. لا تصلح إلا لإطلاق النار في الظهر والفرار كالأرنب. وبعد ذلك، تتبجح بأنك البطل المغوار وتقود السيارات مزهوا كالرجل. أفضل ترك العراق للكلاب والحثالة، ولا يدافع عنها الجبناء أمثالك. لستم إلا حثالة، مجانين، معــ...
ركله ياسين على الوجه، مقاطعا إياه.
- هل فهمت شيئا لهذيانه، يا جوّاد؟
مطّ ضابط الشرطة شفتيه وقال:
- محمد صُبْحي النقابي أخوه. لقد تعرّف هذا القذر على صلاح حينما رآه يدخل المخبأ. وجرى فورا يخبر المحافظ.
قدّم ياسين شفتيه في تكشيرة مريبة. وقال في لهجة آمرا:
- أعيدوا له الكمامة، وخذوه بعيدا من هنا. أريد أن يشوى على نار هادئة، أن يحترق إربا إربا، أن يتعفّن قبل أن يلفظ آخر نفسه.
أسرع صلاح وحسن لتنفيذ الأوامر.
أعادوا "الطرد" إلى صندوق السيارة وخرجوا من المرأب، المصابيح مطفأة، وضابط الشرطة يتقدمهم بسيارة صلاح كمرشد.
أغلق حسين السياج.
بقي ياسين شارد الذهن، مغروسا في المكان الذي استنطق فيه السجين. ثنى رقبته وخفض كتفيه. كنت خلفه مباشرة، على وشك الانقضاض عليه.
كان عليّ أن أبحث في عمق أعماقي كي أستعيد هدوء أعصابي وأقول له:
- أرأيت؟ ليس لعُمَر أي ضلع في الوشاية.
كأنني فتحت فوهة بركان. اهتزّ ياسين من الرأس إلى أخمص القدمين، دار كلية نحوي، وهددني بأصبع قاطع كشفرة موسى، وقال بنبرة شلت كياني:
- كلمة واحدة، لفظة صغيرة فقط، وأذبحك بأسناني.
بعد هذا، أبعدني بحركة من يده وعاد إلى الغرفة يتصارع مع الأثاث.
خرجت في الليل.
كانت ليلة بليدة، بسمائها التي تناست النجوم وروائح ركام الجثث؛ ليلة وعت بأنها قد سقطت إلى الحضيض، وبقيت في مكانها، تمضغ الظلام. تحت أضواء الشوارع الباهتة، وفيما كان حظر التجول ينشر مجساته عبر أزقة المدينة، كنت أقيس مدى فظاظة الكائنات والأشياء. لفظت بغداد صلواتها. وأنا، لا أتعرف على نفسي في صلواتي. كنت ألامس الجدران كما الشبح الصيني، على شفى حفرة من الانهيار الكلي... ولكن أي ذنب اقترفت؟... ماذا فعلت يا إلهي؟.. ماذا سأفعل كي يغفر لي عُمَر؟...
17.
أصبح النوم مطهري. بمجرد أن أغفو قليلا حتى أجد نفسي هاربا، عبر أروقة متاهية متتابعة، من شبح سلف يطاردني. كان في كل مكان. إلى غاية نفَسي اللاهث... أستيقظ بغتة، هلعا، أتصبب عرقا من الرأس إلى القدمين، ذراعاي نحو الأمام. كان دائما هنا. في ضياء الفجر. في صمت الليل. يشرف على سريري. أشدّ صدغيّ بيديّ وأنكمش إلى أن أختفي بداخل الإزار... ولكن أي ذنب اقترفت؟ يلحقني هذا السؤال الرهيب، ينقض عليّ أثناء السباق، كما البأز على الحُبارى. أصبح شبح عمر حيوان رفقتي، حزني المتنقل، نشوتي وجنوني. يكفي أن أغلق جفوني كي يملأ ذهني، أفتحها كي يغطي على بقية العالم. لا يوجد في الكون إلا هو وأنا. كنا الكون بأسره.
توسّلت إليه، دعوته ليبتعد عني ولو دقيقة، بلا جدوى؛ يقابلني صامتا، حائرا، يبدو حقيقيا إلى حدّ يمكنني لمسه بذراعي.
مرّ أسبوع، وكانت هواجسي تزيد تدهورا، تتغذى من مخاوفي، تستلهم من وهني كي تمنح لنفسها الجرأة اللازمة لتعيد الكرّة، تتزاحم متدافعة، بلا راحة ولا توقف...
أشعر بنفسي أنزلق تدريجيا في انهيار عصبي.
أردت الموت.
ذهبت عند السيّد لأخبره برغبتي في وضع حدّ نهائي لحالتي المزرية. كنت متطوعا لاعتداء انتحاري. إنه أثبت طريق، وأقصره أيضا. كانت هذه الفكرة تراودني قبل حتى أن يقع الخطأ الذي أدى إلى إعدام العريف. أصبحت فكرتي القارة. لم أكن خائفا. لا شيء يشدّني إلى هذه الدنيا. كما أنني لا أرى ميزة إضافية يتمتع بها الانتحاريون عني. نسمع عن أخبارهم، صباحا، حينما يفجرون أنفسهم في الشوارع والساحات العمومية، ومساء ضد الثكنات العسكرية. يذهبون إلى الموت كما إلى الحفل، في نيران مبهرة. أجابني ياسين:
- قف في الطابور مثل الآخرين... وانتظر دورك.
لم يعد التيار يمر بيني وبين ياسين. لا يشمّني؛ وأنا أمْقته مثل دم الأسنان. كان دوما ورائي، يوقفني حينما أحاول التدخل، يبعدني حينما أريد تقديم المساعدة. وكانت خصوماتنا تنغص حياة أفراد جماعتنا؛ كانت الجريمة لا تشدّ إلا إلى شعرة. حاول تحطيمي، إدخالي الصف والإذعان الذليل لأوامره. لم أكن صاحب رأس خشن، ولا أحتج ضد سلطته ولا ضد هيبته؛ أمقته، وهو يعتبر الازدراء الذي يثيره في نفسي تمرّدا ضد شخصه.
انتهى السيّد إلى إدراك الخطورة. إن التعايش مع ياسين قد لا تحمد عواقبه، قد يضع الفرقة كلها في خطر. فسمح لي بالعودة إلى المحل، والتحقت مسرعا بغرفتي الضيقة في الطابق الأوّل. التحق بي شبح العريف عمر؛ امتلكني لوحده، ومع ذلك أفضل مراوداته على رؤية ياسين وحدها.
كان اليوم أربعاء. عدت من المطعم القريب بعد غلق المخزن. كانت الشمس تتخبّط في ألوانها الملتهبة خلف عمارات المدينة. وجدت السيّد يراقبني عند العتبة. تتلألأ عيناه في عمق الظلام الشفاف. بدا لي متهيجا.
صعد معي إلى الغرفة ومسكني من الكتفين:
- اليوم، تلقيت أروع خبر في حياتي...
بوجه مشع، ضمني إلى صدره، وأطلق العنان لسعادته الفائضة.
- رائع يا ابن العم، رائع.
دعاني إلى الجلوس على السرير، حاول ضبط اندفاعه الفياض؛ بعد ذلك، أسرّ لي:
- سبق أن حدثتك عن مهمة. أردت أن تسجل اسمك في تاريخ الجهاد الإسلامي، وقلت لك أنني بصدد تحضير شيء لك، ولكنني كنت أنتظر التأكد من بعض التفاصيل... ها قد حدثت المعجزة. تلقيت اليوم الخبر اليقين، منذ ساعة تقريبا. إن هذه المهمة المقدسة أصبحت الآن ممكنة الإنجاز. هل أنت مستعد لتكون بطلها الهمام؟
- وكيف لا أكون...
- يتعلق الأمر بأكبر مهمة عبر جميع العصور. المهمة النهائية. تلك التي ستجبر الغرب الكافر على الاستسلام دون قيد ولا شرط، وسنعتلي نهائيا الصفوف الأولى في مرتبة الأمم... هل أنت على يقين بأنك قادر على...؟
- أنا مستعد، يا السيّد. حياتي في رقبتك.
- لا يتعلق الأمر بحياتك وحدها. آلاف الناس يموتون يوميا، وحياتي ليست ملكي أنا أيضا. إنها مهمة أساسية. تتطلب تجنيدا لا يقبل أدنى تهاون.
- هل أنت لا زلت تشك في استعدادي المطلق؟
- لو كان الأمر كذلك، لما كنت هنا أمامك أحدثك عنها.
- أين المشكلة، إذا؟
- أنت حرّ في رفضها. لا أريد أن أضْغط عليك.
- لا يضغط عليّ أحد. أنا متطوع. وبلا شروط.
- أثمّن إصرارك، يا ابن العم. اطمئن، ثقتي فيك بلا حدود. أراقبك منذ اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى المحل. كلما أرفع عينيّ نحوك، أشعر بقدرة عجيبة على التحليق؛ وأحلق... كان الاختيار شاقا. ولا ينقصنا المرشحون. ولكن يهمني أن يكون منفذ المهمة من مسقط رأسي، من كفر كرم المنسية، لنذَكِّر التاريخ بوجودها.
أخذني بين ذراعيه وقبّل جبهتي.
لقد رفعني إلى مَصف الأشخاص المقدّسين.
في تلك الليلة، رأيت العريف عمر في المنام. ولكنني لم أهرب منه.
عاد السيّد مرة أخرى لجسّ نبضي. أراد أن يتأكّد أنني لم أتسرّع في اتخاذ قرار الموافقة.
في الليلة السابقة لانطلاق التحضيرات، قال لي:
- أترك لك ثلاثة أيام تفكّر فيها جيدا. وبعد ذلك، نقطع الحبال.
- إنني فكّرت بما فيه الكفاية. الآن، أريد الفعل.
أسكنني السيّد في شقة صغيرة فاخرة تشرف عل نهر دَجْلة. كان ينتظرني مصوّر. بعد حصة التصوير، مررت عند حلاق ليقص شعري، ثم إلى الحمام. وبما أنني سأغادر بغداد في الأسبوع الموالي، ذهبت إلى البريد لأبعث إلى أختي بهية النقود التي تمكنت من ادخارها.
غادرت بغداد يوم جمعة، بعد الصلاة. كنت على متن شاحنة بهائم، يقودها شيخ قروي معمّم. إذا سئلت في حاجز عسكري، فأنا حفيده وراعي غنمه. كانت وثائقي الجديدة سليمة، مزورة اعتمادا على وثائق قديمة، كي لا تثير الشكوك. اسمي مدون على السجل التجاري. اخترقنا مختلف الحواجز بلا عقبات، ووصلنا مدينة الرمادي قبل سقوط الليل. كان السيّد ينتظرنا في مزرعة، على بعد عشرين كيلومترا غرب المدينة. تأكّد أن كل شيء على ما يرام، تعشى معنا وأخبرنا بمسار المرحلة المقبلة قبل أن ينسحب. في الغد، استأنفنا السفر نحو قرية صغيرة تقع على الجهة الشرقية من الشامية حيث قادني سائق جديد على متن شاحنة صغيرة. قضينا الليلة في تجمع سكاني، وغادرناه عند الفجر باتجاه رُتْبَة، غير بعيد عن الحدود الأردنية. سبقنا السيّد؛ استقبلنا في فناء مستوصف. دعاني طبيب بمئزر بالٍ إلى الاغتسال والإقامة في غرفة من غرف المرضى. تأجّل سفرنا ثلاث مرات بسبب إعادة انتشار وحدات الجيش في المنطقة. في اليوم الرابع، وتحت غطاء عاصفة رملية، اتجهنا السائق وأنا نحو الأردن. كانت الرؤية شبه منعدمة، ولكن السائق سلك الدروب الملتوية مغمض العينين. بعد ساعات طويلة من الاهتزاز والاختناق، توقفنا عند تلعة عارية، حيث كانت الريح تزأر بلا توقف. اختفينا في مغارة بعد أن دفعنا الشاحنة تحت غطاء طبيعي، أكلنا مما حملناه معنا، ثم صعد السائق، رجل قصير القامة، ضامر وكتوم، إلى قمة مرتفعة. رأيته يخرج هاتفه النقال ويخبر عن موقعه بواسطة جهاز التوجه البحري.
عند عودته، أسرّ لي:
- هذا المساء، لا أنام في الخلاء.
كانت المرة الوحيدة التي كلمني فيها.
ثمّ اتجه إلى المغارة وتمدّد، كأنه غير موجود البتة.
هدأت العاصفة، وتباعدت اندفاعاتها؛ صفرت الريح في عمق التجاويف؛ بعد ذلك، وكلما انبثقت المناظر من ضباب الصحراء الأمغر، إلا وضعفت قوتها، وفجأة، دون إنذار مسبق، انطفأ صفيرها.
احتقنت الشمس عند لمسها الأرض، راسمة التلال الجرداء التي سنّنت الأفق. بغتة، كأنهما انبثق من العدم، سلك بغّاليان مجرى التلعة الموصل إلى مغارتنا. فيما بعد، عرفت أنهما من قدماء مهربي السلع، تحوّلا إلى تجارة الأسلحة، وأنهما يقدمان يد العون، من حين لآخر، بصفتهما مرشدين، للمتطوعين الآتين من بعيد لتدعيم صفوف المقاومة العراقية. هنأهما السائق على حضورهما في الموعد المحدد، استفسر عن الوضعية الميدانية السائدة في الناحية، وسلّمني إليهما. ودون أن يودعني، امتطى شاحنته وانطلق مسرعا.
كان الغريبان طويلين ونحيفين، الوجه مدثّر في كوفية مغبرة. يلبسان سراويل وأحذية رياضية، وصدريات صوفية سميكة. قال لي أحدهما، مطَمْئنا:
- ستجري الأمور على أحسن وجه.
ثمّ مدّ لي صدرية صوفية وطاقية.
- الليالي باردة في هذه المنطقة.
ساعدني الرجلان على الركوب فوق ظهر بغلة وانطلقت الرحلة. سقط الليل. استيقظت الريح مزمجرة، باردة، مهيجة. تبادل المرشدان الركوب على البغلة الثانية. تفرّعت أمامنا دروب المعز، متلألئة تحت ضوء القمر. تدحرجنا عبر منحدرات وعرة، تسلقنا دروبا ملتوية، ولم نكن نتوقف إلا لاستراق السمع وتفحّص الأماكن المظلمة. جرت رحلة العبور كما توقعها المرشدان. توقفنا لفترة وجيزة في تجويف عقيق كي نتناول غذاء ونستريح قليلا. التهمت شرائح عديدة من اللحم المجفف وأفرغت قربة من ماء الينبوع. نصحني رفيقاي بعدم الإسراع في الأكل والاستراحة قدر الإمكان. أحاطاني بعناية خاصة، وهما لم يتوقفا عن السؤال إن كنت قادرا على مواصلة السفر، إن أردت النزول من على ظهر البغلة والمشي قليلا. كنت دوما أحثهم على مواصلة الرحلة وعدم الانشغال بحالي.
اجتزنا الحدود الأردنية حوالي الساعة الرابعة صباحا. قبل قليل، التقت فرقتان من حرس الحدود، واحدة على متن سيارة 4×4 العسكرية، والأخرى راجلة. كان مركز المراقبة جاثما على قمة تلّة، يُعرف بمَرْقبها وهوائيّه، اللذين يضيئهما مصباح. تابع مرشداي حركات التبديل بواسطة منظار الليزر. وحينما التحقت زمرة الاستطلاع بمعسكرها، مسكنا بغالنا من عنانها وانزلقنا عبر مجرى واد. بعد كيلومترات قليلة، وجدنا شاحنة فورغونات صغيرة، معبأة بالأواني البلاستيكية، تنتظرنا. السائق رجل بلباس تقليدي، رأسه ملفوف بداخل كوفية بدوية. هنأ المرشدين، سطّر لهما على الرمل مسارا آمنا للعودة إلى العراق. أخبرهما بأن طيارات "الدرون" المراقبة تحوم على الحدود وفصل لهما كيفية التملص من رداراتها؛ ثمّ شرح لهما كيفية استدارة وحدة جيش التحالف الجديدة التي استقرت حديثا خلف خط الحدود مباشرة. طرح عليه المرشدان أسئلة ذات طابع عملي، ثمّ، وبعد التأكد من جميع التفاصيل، عادا أدراجهما راضيين، ولم ينسيا توديعنا بتحية سلام وحظ سعيد. قال لي الغريب:
- الآن، يمكن لك الارتخاء. ابتداء من هذه اللحظة، سيكون السفر في غاية السهولة. أنت بيْن أحسن وأضمن الأيدي.
كان رجلا قصير القامة، أسمر اللون، الرأس أضخم من الكتفين، حينما تراه يعطيك إحساسا بأنه يتمايل في مكانه. ينفتح فمه الأهدل على صفين من الأسنان الذهبية التي بدأت تتلألأ مع ضياء الصبح. يسوق كالأحمق، غير مبال بالحفر ولا بضربات الفرامل المباغتة التي يحدثها خبط عشواء، تكاد تلفظني ضد الزجاج الأمامي.
ظهر السيّد في المساء، في منزل مرشدي الجديد. ضمني إلى صدره طويلا.
- مرحلتان فقط، ويمكنك الاستراحة.
في الغد، بعد فطور صباح مغذي، رافقني إلى قرية حدودية، على متن سيارة فاخرة. وهناك، سلّمني لشاكر وعماد، شابين بهيئة طلبة، وقال لي:
- من الجهة الأخرى، توجد سوريا، ثمّ، مباشرة، يقابلك لبنان. سنلتقي بعد يومين في بيروت.
بيروت
18.
توشك إقامتي في بيروت على نهايتها. إنني أنتظر منذ ثلاثة أسابيع. أعدّ الساعات على أصابعي. أقف إزاء نافذة غرفتي، وأتأمل الشارع المهجور. يطقطق المطر على الزجاج. على الرصيف الذي تكنسه الريح، ينفث متشرّد في راحتي يديه كي يدفئهما. يترقب محسنا يجود عليه بصدقة. إنه هنا منذ فترة ولم أرَ أحداً يضع قطعة نقود في يده. ماذا ينتظر من أيامه المقبلة؟ ينزّ الماء من نعليه، ولفافات ساقيه مبللة إلى آخرها؛ إن السحنة التي ترتسم على محياه مثيرة للسخرية. إن العيش كما الكلاب، أقرب من حياة القطط الضالة، منها إلى حياة الصعاليك، لَهِي الوقاحة بعينها. إن هذا الشخص لا يشرفه حتى امتلاك ظل، يشركها مع انحطاطه. على كل حال، إنه يفتقر إليها. معزول في بؤسه كما الدودة في فاكهة متعفنة، وقد نسي أنه مات وانتهى أمره. لا أشعر بأدنى شفقة اتجاهه. إذا كان القدر قد أسقطه إلى الحضيض الأسفل، فلكي يجسد رمزا. ما هو؟ ذلك الذي يتمثل في مساعدتي على اكتساب وعي بغباوة الحياة الذي لا يطاق. أكيد أن الأمل يراود هذا الرجل. ولكن ما فحواه؟ أن تمطر السماء عليه ذهبا وفضة؟ أن ينتبه شخص مار لوضعيته المزرية؟ أن يُشفق عليه؟ ما أحمقه؟ هل توجد حياة بعد الشفقة؟... لم يكن كاظم صائبا تمام الصواب. ليس العالم هو الذي سقط في الدرك الأسفل؛ إن البشر هم الذين يرضون القبوع في السفالة. جئت إلى بيروت لأنني أرفض أن أكون شبيه هذه الخرقة الآدمية. أعيش رجلا أو أموت شهيدا. لا يوجد بديل ثالث لمن أراد أن يعيش حرّا. لا أتصور نفسي في جلد مغلوب. منذ تلك الليلة التي انقضّ فيها العساكر الأمريكان على منزلنا، مزعزعين نظام الأشياء وقيّم الأسلاف، إنني أنتظر... أنتظر لحظة استرجاع كرامتي المهدورة، التي بدونها ليس إلا لوثة. أعتبر نفسي في لحظة الكل أو اللاشيء. إن ما جرّبته وعشته وتكبّدته قبل تلك الليلة لا يدخل في الحساب. لقد توقفت الصورة في تلك الليلة المشئومة. بالنسبة لي، الأرض برمتها توَقّفت عن الدوران. لست في لبنان، لست في فندق؛ إنني في غيبوبة. أن أُبعَث ثانية إلى الحياة أو أتعفن، ذاك شيء يخصني وحدي.
سهر السيّد شخصيا كي لا ينقصني شيء. أسكنني في أغلى شقة بالفندق ووضع تحت تصرفي عماد وشاكر، شابين ودودين، يتصرفان معي باحترام لا نظير له، يترقبان أدنى حركة تصدر مني، في استعداد تام، ليلا ونهارا، لتلبية حاجياتي، مهما كان طابعها مبالغا فيه. أمنع نفسي من التعالي والعجرفة. بقيت الفتى نفسه الذي كنته في كفر كرم، متواضعا وقنوعا. رغم أنني أدرك الأهمية القصوى التي أصبح شخصي يمثلها، فلم أتخلَّ عن التصرفات التي صقلتني في البساطة والاستقامة. رغبتي الوحيدة، طلبت أن يسحبوا من شقتي جهاز التليفزيون والراديو واللوحات المعلقة على الجدران؛ أن يبقوا على الحد الأدنى، أي الأثاث وبعض قارورات المياه المعدنية في الثلاجة. لو كان الأمر بيدي، لاخترت مغارة في الصحراء كي أتخلص من مغريات الحياة التافهة التي يتهافت عليها المنحرفون من البشر. كنت أريد أن أكون محور الانجذاب الوحيد، معلمي الوحيد، أن أقضي بقية إقامتي اللبنانية للتحضير الذهني كي أكون في مستوى المهمة التي كلفني إياها أهلي.
لم أعد أشعر بالخوف وأنا وحدي وسط الظلام.
أتدرّب سلفا على عفونة روائح القبور.
أنا مستعد.
روّضت أفكاري، رصّفت تساؤلاتي. أمسك ذهني بقبضة من حديد. إن أوجاعي وتردداتي وفراغاتي ليست إلا تاريخا أكل الدهر عليه وشرب. أنا سيّد ما يدور في رأسي. لا شيء يتملص مني، لا شيء يقاومني. إن الدكتور جلال قد خلّص طريقي من الأعشاب الضارة، وسدّ ثغراتي. إن مخاوفي القديمة، أستحضرها بنفسي الآن، أفتشها الواحدة وراء الأخرى. تبخّرت تلك اللطخة الداكنة التي كانت تخفي جزءا من ذكرياتي، في بغداد. أستطيع العودة إلى كفر كرم مرفوع الرأس، متى شئت، أدفع أي باب، أزور أي فناء، أفاجئ أي شخص في عقر داره. تعود إليّ أمي، أخواتي، أقربائي، أبناء الأعمام والأخوال، الواحد وراء الآخر. دون أن يسبّبوا لي أدنى حرج ولا ضيق. غرفتي مسكونة بالأشباح والغائبين. يتقاسم العريف عمر سريري؛ يعبر سليمان غرفتي كعصفة ريح؛ يطوف حولي المحتفلون المُضحَّى بهم في بساتين أهل هيثم. أبي أيضا يوجد هنا. يسجد عند قدميّ، الخصيتان للريح. لا أدير وجهي، لا أحجب بصري. وحينما رمته ضربة البندقية وطرحته أرضا، لم أساعده على النهوض. بقيت واقفا؛ تمنعني صلابة أبي الهول من الانحناء، حتى وإن كان على والدي.
بعد أيام قليلة، سيأتي دور العالم ليسجد لي.
إنها أكبر مهمة ثورية لم يشهدها العالم منذ أن تعلّم الإنسان رفع رأسه.
واختاروني أنا لأكون بطلها الهمام.
يا له من انتقام على القدر.
أبدا، لم تظهر لي ممارسة الموت أكثر حماسا، أكثر كونيا.
في المساء، عندما أتمدّد مقابل النافذة، أتذكر الحماقات التي دمغت حياتي، وجميعها تدعّم التزامي. أجهل ما سأفعله تدقيقا، ما هي طبيعة مهمتي – شيء سيقلّص انفجارات 11 سبتمبر إلى ضوضاء فناء مدرسة. يقين مطلق: لن أتراجع.
طرق على الباب.
إنه الدكتور جلال.
لا يزال معلبا في البذلة الرياضية التي كان يرتديها بالأمس، ولم يكلف نفسه عناء ربط خيوط حذائه.
إنها المرة الأولى التي يعتّب فيها باب شقتي. انتشر نفَسه المخمور بأرجاء القاعة.
- كنت متضايقا في غرفتي، قال لي. هل يزعجك إن جالستك لحظة؟
- لا، أبدا.
- شكرا.
ترنّح إلى غاية الأريكة، وهو يحك مؤخرته، ظفره على الجلد. رائحته نتنة. أراهن أنه لم يأخذ حماما منذ أيام عديدة.
أطلق نظرة إعجاب على الشقة.
- واوو... هل أنت ابن أمير؟
- كان أبي حفار آبار.
- أما أبي، فكان لا شيء.
أدرك حمق ردّه، لفظه بحركة يدٍ، ثمّ، شبّك ساقيه، ارتكز على ظهر الأريكة وتفحّص السقف.
- لم أغمض جفني طوال الليل، قال شاكيا. في المدّة الأخيرة، استحال عليّ النوم.
- لأنك تشتغل كثيرا.
حرّك ذقنه:
- إنك على صواب. أرهقتني هذه المحاضرات.
وصلني خبر الدكتور جلال وأنا في الثانوية. بالسوء طبعا. سبق لي أن قرأت كتابا أو كتابين من مؤلفاته، بالأخص " لماذا المسلمون غاضبون؟" دراسة حول الأصولية الجهادية، الكتاب الذي أثار حينها سخط رجال الدين. كان محل جدل في أوساط المثقفين العرب، والكثير منهم ناقمون عليه. كانت نظرياته حول خلل وتفكك الفكر الإسلامي المعاصر مرافعات حقيقية، رفضها الأئمة جملة وتفصيلا، ذاهبين إلى حدّ تكفيره، وتكفير قرائه. لم يكن الدكتور جلال، عند العامة، سوى مهرج في خدمة الدول الغربية المعادية للإسلام، عموما، وللعرب، خصوصا. أنا أيضا، كنت أمقته، ألومه على ثقافته المفرطة والمشهدية للأفكار الواردة، وعلى ازدرائه لذويه. كان يمثل، عندي، نوع الخبثاء الأكثر تنفيرا، الذين يتناسلون كالجرذان في الدوائر الإعلامية والجامعية الأوربية، مستعدين لبيع أرواحهم ليروا صورهم على صفحات الجرائد، ليُتَحدث عنهم، ولم أرفض الفتاوى التي حكمت عليهم بالموت، أملا في وضع حدّ لهذياناتهم النارية التي ينشرونها في الصحافة الغربية ويفصلونها على قنوات التلفيزيون بحماس مهين.
لذلك، تلقيت خبر ردّته باندهاش كبير. وأعترف أنني شعرت وقتها بنوع من الاطمئنان.
أوّل مرة شاهدت فيه الدكتور جلال، بلحمه وشحمه، كان في اليوم الثاني من وصولي إلى بيروت. ألحّ السيّد كي أحضر محاضرته: "إنه رائع".
حدث ذلك في قاعة حفلات، غير بعيد عن الجامعة. غصّت القاعة بالحاضرين، مئات الأشخاص واقفون حول صفوف الكراسي التي تمّ الاستيلاء عليها ساعات طويلة قبل مداخلة الدكتور. طلبة، نساء، فتيات، أرباب أسر، موظفون، يتراكمون داخل قاعة المحاضرات الكبرى. تذكِّر ضوضاؤهم ببركان على وشك الانفجار. حينما ظهر الدكتور على المنصة محاطا بحراس من المليشيات، هزّت التصفيقات الجدران وأرعشت زجاج النوافذ. ألقى علينا درسا أكاديميا عن الهيمنة الامبريالية وحملات التضليل الإعلامي التي كانت سببا في تشويه صورة المسلمين.
في ذلك اليوم، أحببت الرجل.
صحيح أنني لا أستريح لهيئته الخارجية، وأنه يجرّ قدميه، ولا يعتني بملبسه، بل ويثير الاشمئزاز بسحنته المعفّرة بأثر السكر وتراخيه المضجر، ولكنه حينما يأخذ الكلمة –يا إلهي-، حينما يلوي مكبر الصوت، رافعا بصره نحو المستمعين، يرفع المنبر إلى مصف الأولَمب. يعرف أحسن من غيره كيف يعبر عن مآسينا، وعن الإهانات التي نتلقاها، والضرورة القصوى لنا لننتفض ضد صمتنا. اليوم نحن خدّام الغرب، غدا سيصبح أولادنا عبيدا له، قال مزمجرا. وتنفجر القاعة بالتصفيق. تسقط بالجملة في هذيان رعاشي. لو تسلى مازح في تلك اللحظات بالصراخ "الهجوم على العدو"، كانت جميع السفارات الغربية ستتحول حتما إلى رماد، في الدقائق الموالية. للدكتور جلال، قدرة عجيبة على تجنيد الناس، وإن كانوا مقعدين. إن دقة أقواله وفعالية براهينه سعادة قصوى. لا يضاهيه إمام، ولا يستطيع منافسته أي خطيب، ولا يقدر أحد مثله تحويل همسة إلى صراخ. إنه مسلوخ حيوي، بذكاء خارق؛ إنه داعية بهيبة نادرة.
"إن البنطغون قادر على إيقاع إبليس نفسه في ألاعيبه الخاصة، قال جلال في نهاية محاضرته، ردّا على ملاحظة طالب. إن هؤلاء الناس يعتقدون أن بإمكانهم الهيمنة المطلقة على العالم، وأن معرفتهم تفوق معرفة الله تعالى... لقد خططوا للحرب على العراق منذ سنوات طويلة. وما أحداث 11 سبتمبر إلا ذريعة، الذريعة السانحة التي كانوا ينتظرونها. وتعود فكرة تدمير العراق إلى اللحظة التي وضع فيها صدام حسين الحجر الأساس لمصنعه النووي. لم يقصدوا الإطاحة بالطاغية ولا نهب البترول وإنما تدمير العبقرية العراقية. ومع ذلك، ليس ممنوعا إلحاق النفعي بالممتع: إركاع البلد وضخّ نُسْغه. يهوى الأمريكيون ضرب عصفورين بحجر واحد. مع العراق، قصدوا الجريمة الكاملة. وجدوا أفضل: أن يحولوا دافع الجريمة إلى ضمان للاعقاب... بمعنى آخر: لماذا الهجوم على العراق؟ لأنه متهم بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. كيف يتمّ الهجوم عليه إذاً بلا أضرار كبيرة؟ التأكد من عدم امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل. أليس هذا قمة العبقرية التركيبية؟ أما الباقي فقد جاء تباعا. كما سيلان الريق. تلاعب الأمريكيون بالمعمورة بتخويفها. ثمّ، ليضمنوا أقل الأضرار لقواتهم العسكرية، أجبروا خبراء الأمم المتحدة على القيام بالعمل القذر في مكانهم، وبلا تكاليف. وعندما تأكدوا من عدم وجود أدنى قنبلة نووية في العراق، أرسلوا أرمادا من الجيش على شعب سبق أن بلدوه طوال سنوات بالحصار الاقتصادي والضغط النفسي. وأغلقت الحلقة.
لديّ إهانة تنتظر أن تغسَل في الدم؛ بالنسبة للبدوي، إنها تكتسي قداسة لا تقل عن قداسة الصلاة عند المؤمن. ومع الدكتور جلال، لقِّحت الإهانة بالقضية.
- هل أنت مريض؟ سألني مشيرا إلى كمية الأدوية على طاولة النوم.
فوجئت بالملاحظة.
لم أتصوّر أن أستقبله يوما في شقتي، لذلك لم أتخذ أي إجراءات وقائية.
سخطت على نفسي. لماذا تركت تلك الأدوية في متناول اليد، في حين كان من المفروض عليّ أن أخفيها داخل صندوقها في غرفة الحمام؟ برغم تعليمات السيّد الصارمة بأن لا أثق في أحد، ولا أترك أي شيء للصدفة.
تحت وقع الحيرة، تحرّك الدكتور جلال ليقف ويقترب من العلب المتراكمة على طاولة النوم.
- ما هذا؟ أدوية تكفي لمعالجة قبيلة بأكملها.
- أعاني من مشاكل صحية عويصة، قلت ببلادة.
- مشاكل عويصة حقا، حسب ما أرى. ماذا يؤلمك حتى تجبر على ابتلاع كل هذه الأدوية؟
- لا أرغب التحدث عنها.
أخذ الدكتور جلال بعض العلب، قلّبها بين أصابعه، قرأ بجهر أسماء الأدوية كما يقرأ خربشات غير واضحة، ثمّ قرأ بصمت بطاقة أو اثنتين. قطّب حاجبيه، تناول قارورات مختلفة، تأملها، حرّك الأقراص الموجودة بداخلها.
- هل أجريت عملية تلقيح ؟
- نعم، هذا هو بالضبط، قلت له. لقد أنقذني استنتاجه.
- كِلى أم كبد؟
- من فضلك، لا أرغب الخوض في هذا الموضوع.
تنفست الصعداء وأنا أراه يعيد القارورات إلى أماكنها ويجلس على الأريكة.
- على كل حال، تبدو في صحة جيّدة.
- ذلك أنني أتبع تعليمات الطبيب بصرامة كبيرة. إنها أدوية ستلازمني مدى الحياة.
- أعرف.
سألته كي أغيّر مجرى الحديث.
- هل يمكن أن أتطفل عليك بسؤال محرج نوعا ما؟
- حول تصرفات أمي؟
- لن أسمح لنفسي أبدا.
- لقد رويت في كتاب حول سيرتي الذاتية انحرافاتها بالتفصيل الممل. كانت عاهرة. مثلما يوجد في كل مكان. كان أبي على علم، ولكنه غضّ البصر. كنت أحتقره أكثر من احتقاري لها.
أحسست بالحرج.
- ما هو سؤالك... المحرج؟
- أتصوّر أنه طرح عليك مئات المرات؟
- تفضّل؟...
- كيف حدث انتقالك من مهاجم على الجهاديين إلى ناطق باسمهم؟
انفجر ضحكا، ارتخت أسارير وجهه. ظاهريا، يبدو أن الامتحان لا يضجره. وضع يديه خلق رقبته، تمدّد بفظاظة؛ ثمّ، وبعد أن مرّر لسانه على شفتيه، ارتسمت، فجأة، صرامة على وجهه؛ فقال:
- إنها أشياء تسقط عليك في الوقت الذي لم تكن تنتظرها قط. كما الوحي تماما. فجأة، تتضح الرؤية، وتتخذ التفاصيل الصغرى التي لم تكن تعرها أدنى اهتمام حجما خارقا... كنت بداخل فقاعة. ربما كان الحقد الذي أكنه لأمي هو الذي أعماني إلى حدّ أنني أصبحت أمقت كل شيء يربطني بها، بما في ذلك دمي، وطني، عائلتي... في حقيقة الأمر، لم أكن سوى عبيد الغربيين. اكتشفوا ثغراتي. كانت التشريفات والالتماسات التي يمطرونها عليّ بمثابة الحبال التي يزيدني قيدا وانسياقا خلفهم. كانت جميع القنوات التليفزيونية تطالب بحضوري في بلاطوهاتها. بمجرد انفجار قنبلة في أي مكان، تعثر مكبرات الصوت والأضواء الكاشفة على أثري، أينما كنت. كان خطابي يتجاوب مع ما ينتظره الغرب. يمتِّنه في قناعاته. أقول ما يريد الغربيون سماعه، ما كان يفترض أن يقولوه بأنفسهم، ولم أكن هناك إلا لأجنبهم تلك السخرة، والقلاقل المرفقة لها. بمعنى ما، كنت قفازهم... ثمّ، في يوم، وصلت إلى أمستردام. أسابيع قليلة، بعد اغتيال المخرج السينمائي الهولندي من قبل مسلم جراء الفيلم الوثائقي المجدّف الذي يظهر امرأة عارية وعلى جسدها آيات قرآنية. ربّما تابعت أخبار تلك القصة؟
- نوعا ما.
رسم الدكتور جلال برطمة على شفتيه ثم واصل:
- في العادة، داخل الجامعات التي ألقي فيها محاضراتي، كانت القاعات تغص بالحاضرين... في ذلك اليوم، لاحظت مقاعد كثيرة شاغرة. إن الناس الذين انتقلوا، جاؤوا ليروا عن قرب البهيمة البشعة. يحملون الحقد على وجوههم. لم أكن الدكتور جلال، حليفهم، ذلك الذي يدافع عن قيمهم والفكرة التي يتصورونها عن الديمقراطية. كل هذا في المزبلة. في عيونهم، لم أكن إلا عربيا، صورة طبق الأصل للعربي قاتل السينمائي. تغيّروا جذريا، هم رواد الحداثة، الأوربيون الأكثر تسامحا، الأكثر تفتحا. وها هم يشهرون ميلهم العنصري كشعار مجد وانتصار. بالنسبة إليهم، من الآن فصاعدا، جميع العرب إرهابيون، وأنا؟... أنا، الدكتور جلال، عدو الأصوليين اللدود، أنا الراضخ تحت الفتاوى التي تبيح إراقة دمي، أنا الذي بعت روحي من أجلهم؟... أنا، في نظرهم، لست سوى خائنا لأمته، ما يجعلني ممقوتا على مستويين: عربي وخائن... هناك، أدركت حقيقتي، كأن وحيا نزل عليّ. فهمت إلى أي حدّ كنت مغفلا، وبالأخص عرفت أين توجد مكانتي الحقيقية. لذلك، حزمت أمتعتي والتحقت بأهلي.
بعد أن أفرغ جعبته، تخندق وراء سحنة داكنة. أدركت أنني وضعت أصبعي على وتر حساس للغاية، وتساءلت إن لم أكن، بفضولي، قد حركت الموسى في جرح قد يرغب في اندماله.
19.
بعد ذهاب الدكتور جلال، الذي غفا أثناء ذلك على الأريكة، أسرعت لإخفاء أدويتي. إنني غاضب. أين كان رأسي؟ كان أي أحمق سيندهش من كميات القارورات والأقراص المتراكمة على طاولة النوم. هل يشك الدكتور جلال في شيء ما؟ لماذا جاء إلى غرفتي، دون سابق إنذار؟ ليس من عاداته أن يذهب عند الآخرين؟ باستثناء فترات سكره بمفرده في الحانة، لا يصادفه أحد في أروقة الفندق. عابس، متحفظ، لا يرد على ابتسامة ولا على تحية. يتجنبه عمال الفندق، لأنه قد ينفجر غضبا لأتفه الأسباب. من جهة أخرى، وعلى حسب علمي، فهو يجهل هدف إقامتي في بيروت. جاء إلى بيروت لإلقاء المحاضرات؛ جئت لأسباب تبقى سرية. لماذا التحق بي مساء أمس، على السطح، هو الذي يمقت الرفقة؟
إنني أثير حيرته، ليس في ذلك شك؟
أتناول مجموعة من الأدوية، وصفها لي طبيب مختص بعد أن أخضعني إلى مجموعة من الفحوص الطبية ليحدّد المواد التي تثير حساسية في جسمي ويحضِّرني لمقاومة ظواهر الرفض المحتملة. بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى بيروت، فحصني عدّة أطباء، وخضع دمي لتحاليل متنوعة وجسدي لفحوص عميقة، مارا من جهاز سكانر إلى مخطاط القلب. بعد اتضاح أنني سليم الجسد والذهن، قدموني إلى الأستاذ غاني، الوحيد المؤهل باتخاذ القرار النهائي، أي إن كنت صالحا للمهمة أم لا. كان شيخا ضامرا، جافا كما الهراوة، على جمجمته هالة من ألياف شعر شائب. شرح لي السيّد أن الأستاذ غاني كان مختصا في علم الفيروسات، ولكنه يهتم أيضا بتخصصات علمية أخرى؛ عالم من الطراز الأوّل، أقرب إلى الساحر، سبق له أن اشتغل في أشهر معاهد البحث الأمريكية، قبل أن يُفصَل بسبب عروبته ودينه.
إلى غاية الأمس، جرت الأمور على أحسن ما يرام. يوميا، يأتي شاكر ليأخذني إلى عيادة طبية خاصة، تقع شمال المدينة. ينتظرني داخل السيارة إلى غاية إنهاء الفحوص؛ بعد ذلك، يعيدني إلى الفندق. دون أن يطرح أسئلة.
أربكني تطفّل الدكتور جلال.
منذ أن خرج، لم أكف عن استذكار لقاءاتنا القليلة. أين تكمن فجوتي؟ في أية لحظة أيقظت فضوله؟ هل أخطأ أحد حولي؟ ماذا تعني عبارة " أتمنى أنك ستذيقهم الأمرين، لهؤلاء الأوغاد"؟ من سمح له بأن يحدثني بهذه الكيفية؟
وجدني شاكر أعيد اجترار هذه الحكاية. مباشرة، نغزه قلقي.
- شيء ما ينغص راحتك؟ سألني وهو يغلق الباب وراءه.
إنني ممدّد على الأريكة، ظهري مقابل النافذة. توقف المطر عن السقوط. في الشارع، أسمع أزيز السيارات على القارعة المعبأة بالماء. تتكثّف غيوم نحاسية في السماء، على استعداد لدفق شلالها على المدينة.
استولى شاكر على كرسي وجلس عليه مفرشحا. إنه فتى في الثلاثين من العمر، جميل وبشوش، بشعر طويل ملموم إلى الخلف، على شكل ثنّة بسيطة. يقارب طوله مترا وثمانين، عريض المنكبين، بذقن ممتدٍّ. ينطلق بريق معدني من عينيه الزرقاوين، نظرته سارحة، فقط عينان زرقاوان موضوعان في مكان ما كأن رأسه يوجد بعيدا عنه. دخل إلى قلبي في اللحظة التي شدّ بيدي حينما سلّمني السيّد إليه وإلى عماد، على الحدود السورية، ليدخلني سريا إلى لبنان. صحيح أنه لا يتحدث كثيرا، ولكنه يعرف كيف يجعل حضوره مميّزا. يمكننا الجلوس جنبا إلى جنب والنظر إلى شيء واحد دون أن نتبادل كلمة واحدة. ومع ذلك، لاحظت شيئا قد تغيّر فيه. منذ أن عثِر على جسد صديقه عماد في ساحة عمومية، ميتا بتخمة أفيون، فقد شاكر بشاشته. قبل ذلك، كان يتقّد حيوية. لا نجد الوقت لحطّ السماعة حتى تسمعه يدق على الباب. يتخبّط لأداء عمله بحيوية وتفانٍ لا نظير لهما. تعثر الشرطة على جسد أقرب زميل له، فتظلم الدنيا حوله. بين عشية وضحاها، يفقد شاكر شهية الحياة.
لم أتعرّف على عماد عن قرب. باستثناء رحلة العبور التي قضيناها معا، انطلاقا من الأردن، لم يبقَ معي مدة طويلة. كان يأتي مع شاكر إلى الفندق لمرافقتي، هذا كل ما في الأمر. إنه فتى خجول، يلتصق دوما بظل زميله. لا يبدو أنه كان يتناول المخدرات. حينما حكوا لي كيف وجدوه، ممددا على مقعد عمومي، الفم مزرق، مباشرة شككت في جريمة إعدام مقنّعة. وافقني شاكر الرأي، غير أنه كتمه لنفسه. مرّة واحدة، سألته عن رأيه حول موت عماد؛ انطفأ بصره الأزرق. منذ تلك الفترة، تجنبنا الحديث عن الموضوع.
- قلاقل؟
- لا، ليست قلاقل بالمعنى الحقيقي، قلت.
- تبدو مكدرا للغاية؟
- كم الساعة الآن؟
تفحّص ساعته وأخبرني بأن أمامنا عشرين دقيقة قبل الموعد. نهضت وذهبت إلى غرفة الحمام لأغتسل. أنعشني الماء البارد. مكثت دقائق طويلة منحنيا على الحوض، أبلل وجهي ورقبتي.
عندما رفعت رأسي، تفاجأت بشاكر يراقبني في المرآة. أسند كتفه إلى الجدار، أحنى رأسه جانبا وشبّك ذراعيه على صدره. يشاهدني وأنا أمرِّر أصابعي المبللة على شعري، وفي عينيه بريق منطفئ.
- إذا كنت تشعر بتعب، يمكن تأجيل الموعد، قال.
- لا بأس...
قدّم شفتيه، مرتابا.
- أنت العارف... وصل السيّد هذا الصباح، ويسرّه كثيرا أن يراك.
- لم أره منذ حوالي أسبوعين، لاحظت.
- عاد إلى العراق... الوضع يتدهور هناك، أضاف وهو يمدّ لي المنشفة.
لففتها حول رقبتي ومسحت.
- مرّ الدكتور جلال عندي هذه الظهيرة، قلت.
رفع شاكر حاجبا.
- آه...؟
- بالأمس أيضا، صعد إلى شرفة السطح وتحدثنا قليلا.
- وماذا بعد؟
- إني حائر.
- هل قال لك أشياء مريبة؟
واجهته.
- ما نوع الأشخاص، هذا الدكتور.
- لا أعرف. لا يدخل في دائرة اهتماماتي. نصيحة لوجه الله، لا تشغل بالك بتوافه الأمور.
عدت إلى الغرفة أنتعل حذائي وألبس سترتي، لأخبره أنني جاهز.
- أذهب لجلب السيارة، قال. انتظرني أمام مدخل الفندق.
تحرّك سياج العيادة المنزلق في صرير. نزع شاكر نظارته الشمسية قبل أن يدفع بسيارة 4×4 على حصير الحصى للفناء الداخلي. ركنها بين سيارتين للإسعاف وأطفأ المحرك. قال:
- أنتظرك هنا.
- طيّب، قلت وأنا أنزل من السيارة.
غمز لي بطرف العين وانحنى ليغلق البوابة.
تسلقت درجات مدخل واسع من الغرانيت. اعترض سبيلي ممرض في بهو العيادة وقادني إلى مكتب الأستاذ غاني، في الطابق الأوّل. كان السيّد حاضرا، جالسا على الأريكة، أصابع يديه تتشبث بركبتيه. حينما رآني أضاءته ابتسامته. فوقف وفتح لي ذراعيه. احتمينا الواحد في حضن الآخر. بدا لي السيّد نحيفا للغاية. لم تبق تحت بذلته إلا العظام.
انتظر الأستاذ أن ننهي عناقنا الحار قبل أن يقترح علينا المقعدين اللذين يقابلانه. كان عصبيا؛ لم يتوقف عن طرق مرفقة الورق بقلم رصاص. أخبرني قائلا:
- نتائج التحاليل جيدة. إن العلاج الذي وصفته لك كان فعّالا. أنت الآن جاهز لأداء المهمة.
لم يفارقني السيّد بعينيه. حطّ الأستاذ قلمه، تشبث بمكتبه كي يرفع ذقنه ونظر إليّ مباشرة في العينين.
- ليست مهمة عادية ولا مألوفة، قال لي.
لم أحوّل بصري.
- يتعلق الأمر بمهمة فريدة من نوعها، أضاف الأستاذ، مرتبكا قليلا من صلابتي وصمتي. لم يترك لنا الغرب الخيار. عاد السيّد من بغداد. الوضع مخيف. العراقيون ينفجرون تحت الضغط. إنهم على شفى حفرة من الحرب الأهلية. لذلك، علينا أن نتدخل سريعا لنجنّب المنطقة السقوط في انهيار لا تنهض بعده أبدا.
- بدأ أهل الشيعة والسنّة يتقاتلون، أضاف السيّد. مئات القتلى، وذهنية الثأر والانتقام تزحف بوتيرة جنونية.
- أظن أنكما تزيدان في تضييع الوقت، قلت بثبات. قولا لي ماذا تنتظران مني وأنا أطبّق.
تجمّد قلم الأستاذ في يده. تبادل الرجلان نظرات حذرة.
كان الأستاذ أوّل من كسّر الصمت، القلم دائما معلق في الفراغ. قال:
- لا يتعلق الأمر بمهمة عادية. إن السلاح الذي نكلفك به فعّال وغير قابل للاكتشاف. لا يوجد جهاز سكانر يسمح باكتشافه، ولا المراقبة الجسدية. يمكنك حمله أينما ذهبت. حتى إذا بدا لك أن تمشي عاري الجسم. لا يرى العدو إلا الريح.
- أنا في الاستماع.
لمس القلم مرفقة الورق، صعد قليلا ثمّ انحط على رزمة أوراق ولم يتحرك.
اندست يدا السيّد بين فخذيه. ثقل رصاصي أخرسنا جميعا. استمر الصمت دقيقة أو أكثر، عصيّ الاحتمال. يصلنا أزيز بعيد، ربما لطابعة أو لمكيّف هواء. من جديد، تناول الأستاذ قلمه، أداره وقلبه بين أصابع يديه. يعرف اللحظة حاسمة، لذلك يهابها. بعد أن ابتلع ريقه، وتنحنح، انكمش حول قبضتيه، وقال بغتة:
- يتعلق الأمر بفيروس.
لم أتحرك. لم أفهم. لا أرى علاقة مع المهمة. عبرت لفظة فيروس ذهني، مثل كلمة مجهولة. بدا لي أنني أعرفها ولكنني نسيتها، فأحاول تذكرها. ماذا تعني بالضبط؟ فيروس... فيروس... أين سمعت هذه الكلمة التي جاءت تحوم في ذهني دون أن أتمكن من تحديد دلالتها؟ ثمّ، عادت الفحوص والأشعة والأدوية إلى أمكنتها، وبدأت معالم كلمة فيروس تتحدّد، تسلّم لي سرها شيئا فشيئا –ميكروب، زكام، مرض، وباء، علاج، مستشفى؛ تدفقت بذهني كل أنواع الصور الجاهزة، تداخلت قبل أن تنتظم... ومع ذلك، لا أرى العلاقة.
إلى جانبي، كان السيّد يتمدّد كما القوس. شرح لي الأستاذ:
- فيروس ثوري. أخذ مني سنوات عديدة قبل أن أتمكن من إعداده. صُرِفَت أموال ضخمة في هذا المشروع. ضحى رجال بحياتهم من أجل أن يصبح ممكنا.
ماذا يحكي؟
- فيروس، كرّر الأستاذ.
- إنني سمعت. ما هو المشكل؟
- المشكل الوحيد هو أنت. هل أنت مستعد أم لا؟
- لن أتراجع أبدا.
- الفيروس، ستحمله أنت.
صعب عليّ الفهم. شيء ما في أقواله يتملص. لا أستوعبه. أظن أن ذهني انغلق عن الفهم.
أضاف الأستاذ:
- أجرينا كل تلك الفحوص والتحاليل وأعطيناك كل تلك الأدوية للتأكد إن كان جسمك قابلا لاستيعاب الفيروس. وقد استجاب جسمك بشكل جيد.
عندئذ، أمسكت بطرف الخيط. فجأة، اتضح كل شيء في ذهني. يتعلق الأمر بفيروس. تتمثل مهمتي في حمل الفيروس. هذا هو، حضّروني جسديا لحمل فيروس. الفيروس. سلاحي الفتاك، قنبلتي، جهازي الانتحاري...
حاول السيّد الإمساك بيدي؛ تملصت.
- يبدو أنك تفاجأت، قال الأستاذ.
- نعم. ولكن ليس أكثر.
- هل يوجد مشكل؟ قال السيّد.
- لا يوجد أدنى مشكل، قلت بنبرة قاطعة.
- إننا... حاول الطبيب المختص في علم الفيروسات استئناف شرحه.
- أؤكد لك يا أستاذ أنه لا يوجد أي مشكل. فيروس أو قنبلة، ماذا سيتغيّر؟ لست بحاجة إلى أن تشرح لي السبب، قل لي فقط متى وكيف. لست أفضل ولا أقل شجاعة من العراقيين الذين يموتون يوميا في بلدي. عندما قبلت مرافقة السيّد، طلّقت الحياة بالثلاث. أنا الآن ميّت ينتظر قبرا لائقا به.
- لم أشك لحظة في عزمك، قال السيّد بارتعاش في صوته.
- في هذه الحالة، لماذا لا نمرّ مباشرة إلى الأشياء العملية؟ متى سأتلقى هذا الـ...، متى سيكون لي شرف التضحية من أجل بلدي؟
- الموعد بعد خمسة أيام، قال السيّد.
- لماذا ليس اليوم؟
- نخضع لترتيبات مضبوطة.
- طيّب. لن أغادر الفندق. يمكنكم أن تأتوا لأخذي متى شئتم. من الأفضل أن يكون في أقرب وقت ممكن. أنا مستعجل لاسترجاع روحي.
طلب السيّد من شاكر أن يتركنا وحيدين، ودعاني لأركب في سيارته. قطعنا نصف شوارع المدينة دون أن ينطق أحدنا بكلمة. أشعر به يبحث عن كلماته ولا يجدها. في لحظة، ضجر من الصمت، مدّ يده للمذياع قبل أن يسحبها. استأنف المطر سقوطه. كانت العمارات تستقبل القطرات باستسلام كلي. تذكرني كآبتها بالمتشرّد الذي كنت أراقبه بالأمس، من نافذة فندقي.
مررنا بمحاذاة حيّ، بناياته بالية. إن خراب الحرب يدوم طويلا. تحاول ورشات تدارك الأمر؛ تبتلع جوانب المدينة، بالرافعات والمدرعات الزاحفة، كما الكلاب الشرسة، في هجومها على الأنقاض. في مفترق طرق، كان سائقان يتبادلان التهم، يصرخان: تصادمت سيارتاهما. تناثرت قطع الزجاج على الإسفلت. لم يتوقف السيّد عند النور الأحمر وكاد يصطدم بسيارة انبثقت فجأة من زقاق فرعي. تدفقت علينا المنبهات من جميع الجهات. لم يسمعها السيّد. كان تائها في همومه.
أخذنا طريق الكورنيش. البحر مضطرب. كما لو أن غضبا مهولا غامضا يستعد بدوره للهجوم على اليابسة. سفن راسية في عمق المياه تنتظر الدخول إلى الميناء؛ في الاكفهرار السائد، تذكر بالسفن الأشباح.
مشينا أكثر من أربعين كيلومترا قبل أن يستيقظ السيّد من سباته. انتبه إلى أنه أخطأ الطريق، مدّ عنقه ليتعرف على المكان، اصطف فجأة إلى اليمين وانتظر أن يعيد شيئا من الترتيب في ذهنه.
- كلفناك بمهمة جدّ حساسة، قال. إنها مهمة خطيرة. إذا لم أكشف لك شيئا، عن الفيروس، قبل هذا اليوم، فلأن لا أحد ينبغي له أن يعرف شيئا عن طبيعة المهمة. اعتقدت صادقا أن مجيئك إلى العيادة مرارا قد يمنحك فكرة ما عنها. هل تفهمني؟ ليس لأنني أردت وضعك أمام الأمر الواقع. إلى حدّ هذه اللحظة، لم نصل إلى نقطة اللارجوع. أتوسّل إليك، لا تعتقد أنني أمارس عليك ضغطا، أو استغلال نفوذ ما. إذا رأيت أنك لست مستعدا، أو أن هذه المهمة لا تناسبك، يمكنك الانسحاب فورا ولا أحد يحاسبك أو يلومك على شيء. أريد فقط أن تعرف أن المرشح القادم سيمر عبر الطريق نفسه الذي مررت به أنت. سوف لن يعرف شيئا إلى غاية آخر لحظة. من أجل أمننا جميعا، ومن أجل نجاح المهمة.
- هل أنت خائف أنني لن أكون في المستوى؟
- لا... صرخ قبل أن يتماسك. ابيضت مفاصل أصابعه حول المقود. اسمح لي، لم أكن أريد رفع صوتي في وجهك. ذهني مشوّش، إنني مرتبك. ألوم نفسي إن شعرتَ أنت أنك خُدِعت، أو وقعت في فخّ. حذرتك في بغداد، أكّدت لك أن هذه المهمة لا تشبه أية مهمة أخرى. لم يكن في مقدوري أن أقول لك أكثر. هل تفهمني؟
- الآن، نعم.
أخرج منديله وبدأ يمسح زاويتي فمه وتحت أذنيه.
- هل تلومني؟
- أبدا، يا السيّد. فاجأتني حكاية هذا الفيروس، ولكنها لا تبطل التزامي. إن البدوي لا يتراجع عن وعوده أبدا. كلمته كما الرصاصة. عندما تخرج، لا تعرف العودة إلى الوراء أبدا. سأحمل هذا الفيروس. باسم قومي، وباسم بلدي.
- لا أنام منذ أن سلمتك إلى الأستاذ غاني. لا يتعلق الأمر بك. أنا متيقن أنك ستذهب إلى أقصى حدّ ممكن. ولكن المسألة في غاية... الأهمية. لا يمكنك قياس حجم هذه العملية. إنها آخر رصاصتنا، أتفهم؟ بعدها، سيولد عصر جديد، ولن ينظر إلينا الغرب بالازدراء القديم... لا أخاف من الموت. ما يقضّ مضجعي، أن لا يغّير موتي شيئا من وضعيتنا. أن لا تفيد تضحية شهدائنا في شيء من الأشياء التي نخطط لها. ستكون أقذر حماقة نرتكبها في حياتنا. بالنسبة لي، ليست الحياة إلا رهانا مجنونا؛ طريقة الموت وحدها تنقذ ماء الوجه. لا أريد لأطفالي أن يتألموا. لو أخذ آباؤنا زمام الأمور بأيديهم في الوقت المناسب، لما كنا أشقياء إلى هذا الحدّ. المؤسف، أنهم انتظروا قدوم المعجزة عوض البحث عنها، ونحن اليوم مجبورون على إعطاء دفع للقدر.
التفت إليّ. كان وجهه شاحبا، وعيناه تتلألآن بدموع غاضبة.
- لو ترى بغداد، كيف صارت، بمزاراتها المخربة، وحروب مساجدها، ومجازر الإخوة الأعداء. فاضت المياه من جميع الجهات. ننادي إلى التهدئة فلا يسمعنا أحد. صحيح أننا مع صدام كنا رهائن. ولكن، يا إلهي، نحن اليوم وحوش مفترسون. امتلأت مقابرنا عن آخرها، انفجرت صلواتنا مع مآذننا. كيف وصلنا إلى هذا العمى المدمر؟... إذا فارقني النوم، فلأنني أنتظر، ننتظر جميعا، منك، كل شيء، الحل المطلق. أنت آخر منقذنا، آخر رصاصة نطلقها. إذا نجحت، سنعيد العقارب إلى أماكنها، وسيصفر المنبه أخيرا من أجلنا. أجهل إن كان الأستاذ قد شرح لك فحوى الفيروس؟
- ليس بحاجة إلى الشرح.
- ورغم ذلك، يجب عليه أن يفعل. يجب أن تعرف ماذا تعني تضحيتك بالنسبة لشعبنا ولجميع شعوب الأرض المقهورة. أنت نهاية الهيمنة الامبريالية، قاهر أثرياء العالم، بعث العدل...
هذه المرة، أنا الذي أمسكته من قبضة يده.
- من فضلك يا السيّد، لا تشك في قدراتي. هذا يقتلني.
- لا أشك فيك أبدا.
- إذا، لا تقل شيئا. أترك الأمور تجري وفق مخططها. لست بحاجة إلى مرافق. أعرف العثور على طريقي بمفردي.
- أحاول فقط أن أشرح لك كم تضحيتك...
- لا داعي. ثمّ، أنت تعرف ذهنية أهل كفر كرم. لا نتحدث أبدا عن مشروع، إذا أردنا حقا أن ننجزه يوما. تحتاج الأماني إلى الكتمان كي تفرخ. أرجوك، فلنصمت... أريد أن أذهب إلى النهاية. بكل ثقة. هل تفهمني؟
هزّ السيّد رأسه:
- أنت على حق. من يؤمن بنفسه لا ينتظر إيمان الغير.
- هذا هو، يا السيّد، هذا هو.
باشر إرجاع السيارة إلى الخلف، إلى غاية طريق مغطى بالحصى، دار دورة كاملة ليعود إلى بيروت.
قضيت جزءا كبيرا من الليل على سطح الفندق، منحنيا على الدَرْبَزين المشرف على الشارع، متمنيا أن يلتحق بي الدكتور جلال. شعرت بنفسي وحيدا. أحاول استجماع قواي. أنا بحاجة إلى غضب جلال كي أملأ الفراغات. ولكن جلال اختفى عن الأنظار. ذهبت مرتين، أدق على بابه. لم يكن في غرفته. ولا في الحانة. من مرقبي المؤقت، أترقب السيارات التي تتوقف قرب الرصيف، باحثا عن الشبح المترنح. أناس يدخلون ويخرجون من الفندق؛ تصلني أصواتهم في مقاطع صوتية مضخمة قبل أن تذوب في ضوضاء الليل. هلال يزين السماء، أبيض اللون، قاطع كما المنجل. في الأعلى، تنثر عقود النجوم لآلئها. الجوّ بارد؛ ينتشر البخار حول تنهداتي. كنت مندسا في سترتي، وأنفث على يديّ المجمدتين، عيناي أكبر من رأسي. منذ حديثي مع السيّد، لم أعد أفكر في شيء. إن السُمّين الذي يحوم في ذهني، منذ أن عبرته لفظة فيروس، لا ينتظر إلا إشارة مني كي يتشجّع. لا أريد أن أمنح له فرصة زرع البلبلة في روحي. هذا السُمّين هو الماكر اللعين. إنه الحفرة في طريقي. إنه وهني، خسارتي؛ أقسمت أمام جميع القديسين والأسلاف أنني سوف لن أضع ركبتي أرضا. لذلك فأنا أنظر؛ أنظر إلى الشارع الغاص بالمتروبصين، السيارات المارة بسرعة، الأضواء المتسلية على مداخل العمارات، الزبائن الذين يحاصرون المحلات؛ أنظر، عيناي أوسع من التساؤلات، عيناي أكبر من رأسي. وهذه المدينة البارعة في الإغراء. .. بالأمس فقط، كان كفن عظيم يدثرها كلية، سلب لها أضواءها وأصداءها، اختزل مبالغاتها السابقة إلى الحصر البائس للورقة البيضاء، المكوّنة من البرودة والحيرة، الفشل الذريع والشكوك... هل نسيت تضحيتها إلى حدّ أنها لم تشعر بالتعاطف مع حداد أقربائها؟ بيروت هي بيروت، لا تتغير. برغم شبح الحرب الأهلية الذي يحوم حول ولائمها، تتصرف كأن شيئا لم يكن. وأولئك الناس الهائجين على الأرصفة، الشبيهون ببنات وردان داخل مجاري المياه القذرة، أين يركضون؟ ما هي الأحلام التي ستصالحهم مع نومهم؟ ما نوع الفجر، في الأيام المقبلة؟... لا، لا أنتهي مثلهم. لا أريد حتى أن أشبههم.
الثانية صباحا.
لا يوجد شخص في الشارع. أسدِلت ستائر المحلات، واختفت آخر الأشباح. سوف لن يأتِ جلال. هل أنا فعلا بحاجة إليه.
التحقت بغرفتي، أرتعد بردا، ولكنني أقوى. أنعشني الجوّ البارد. إن السمين الذي حام في ذهني تخلى عن عناده. تسللت تحت الغطاء وأطفأت النور. إنني مريح في الظلام. أمواتي وأحيائي بجانبي. فيروس أم قنبلة، ماذا سيغيّر في الأمر، حينما نشدّ الإهانة بيد، والقضية باليد الأخرى؟ لن أتناول القرص المنوّم. عدت إلى ذاتي. كل شيء على ما يرام. الحياة ليست إلا رهانا مجنونا؛ طريقة الموت وحدها تنقذ ماء الوجه. هكذا تولد الأساطير.
20.
تقدّم إلى الاستقبال رجل في متوسط العمر. طويل القامة، نحيف، وسحنته شاحبة شحوب النسّاك. يرتدي معطفا رماديا قديما فوق بذلة داكنة، ينتعل أحذية جلدية بالية، ولكنها ملمعة حديثا. بنظاراته القشرية السميكة وربطة عنقه التي عرفت أياما أقل حزنا، يذكّر بهيئة معلّم في أواخر رحلته المهنية، فاضلا ومؤثرا. الجريدة تحت الإبط، ذقنه إلى الأمام، اتكأ على جرس فوق المصرف وانتظر هادئا قدوم عامل يهتم به.
- نعم سيّدي؟
- مساء الخير. قل للدكتور جلال أن محمد سِين يطلبه.
التفت عامل الاستقبال نحو الأدراج خلفه، لم يرَ المفتاح رقم 36؛ يكذب:
- إن الدكتور جلال ليس في غرفته، سيّدي.
- رأيته يدخل الفندق قبل دقيقتين، ألحّ الرجل قائلا. صحيح أنه كثير الأشغال، ويحتاج إلى الراحة، ولكنني صديق قديم له، وسينزعج إن عرف أنني بحثت عنه، ولم يخبَر بالأمر.
ألقى العامل نظرة خاطفة فوق كتف الزائر – كنت جالسا في صالون الاستقبال، أحتسي شايا. ثمّ، وبعد أن حكّ خلف أذنه، أخذ سماعة الهاتف:
- سأرى إن كان موجودا بالحانة... ذكرني باسمك سيّدي...
- محمد سِين، روائي.
شكّل عامل الاستقبال رقما، جذب على عقدة فراشته ليحرّر رقبته وعضّ شفته السفلى حينما رفعت السماعة في الطرف الآخر.
- هنا الاستقبال سيّدي. هل يوجد الدكتور جلال في الحانة؟... يطلبه شخص باسم محمد سِين... طيّب سيدي، شكرا.
حطّ عامل الاستقبال السماعة وطلب من الروائي أن ينتظر.
انبثق الدكتور جلال من الدرج المؤدي إلى الغرف، فاتح الذراعين، الابتسامة إلى حدّ الأذنين. "الله، يا بابا... واش ما الريح جابك يا حبيبي؟ واوو... الكاتب العظيم محمد سِين يتذكرني." تعانق الرجلان بحرارة، قبلا بعضهما البعض، مسرورين بلقائهما؛ قضيا وقتا طويلا يتأملان بعضهما البعض ويربّتان على الكتف.
- يا لها من مفاجأة سارة، صاح الدكتور. منذ متى وأنت في بيروت؟
- أسبوع بأكمله. المعهد الفرنسي هو الذي دعاني.
- رائع. أتمنى أن يطيلوا إقامتك. يفرحني كثيرا.
- يجب أن أعود إلى باريس يوم الأحد.
- أمامنا يومان كاملان. تبدو في صحة جيّدة. تعالى، هيا معي إلى السطح لنرى غروب الشمس. منظر رائع على أضواء المدينة.
اختفيا عبر سلالم الدرج.
جلس الرجلان بداخل القبّة الزجاجية على سطح الفندق. أسمعهما يضحكان ويتبادلان الكفّ على الأكتاف، أتسلل خلسة خلف الصفيحة الخشبية وأراقبهما.
تخلّص محمد سِين من معطفه وحطّه بجانبه، على متّكأ الأريكة.
- أتشرب كأسا؟ اقترح عليه جلال.
- لا، شكرا.
- يا للزمن الخبيث... مرّ دهر بأكمله. أين اختفيت؟
- امتهنت الرحالة.
- قرأت آخر كتابك. أعجوبة خالصة.
- شكرا.
ترك الدكتور نفسه ينهار على مقعده ووضع ساقا على ساق. تفرّس الروائي مبتسما، يبدو مسرورا بلقائه.
سند الروائي مرفقيه على ركبتيه، ضاما يديه على طريقة راهب بوذي وحط برفق ذقنه على رؤوس أصابعه. تبخّر حماسه.
- لماذا هذه الكآبة على وجهك، يا حبيبي؟ لديك مشاكل؟
- واحد... هو أنت.
ارتمى الدكتور إلى الخلف في قهقهة قصيرة وجافة. مباشرة، استعاد وقاره، كما لو أنه استوعب لحظتها معنى أقوال محدثه.
- هل لديك مشكل معي؟
رفع الروائي رقبته؛ تشبثت يداه بركبتيه.
- سأكون صريحا ومباشرا معك يا جلال. استمعت إلى مداخلتك، أول أمس. لم أصدّق أذنيّ إلى الآن.
- لماذا لم تأتِ لمقابلتي بعد المحاضرة؟
- كيف الوصول إليك، مع الحشد المحلق حولك؟.. حقيقة، لم أعد أعرفك. كنت حائرا إلى حدّ أنني آخر من غادر القاعة. كنت على قفاي، حقيقة. كما لو أنني تلقيت قرميدة على الجمجمة.
انمحت ابتسامة جلال. ارتسم على قسمات وجهه تعبير قاسٍ. أصبح داكنا، وتقلّصت جبهته. لمدّة، انشغل بحكّ أسفل شفته السفلى، متمنيا العثور على كلمة قادرة على إحداث ثغرة في الجدار الشفاف الذي انتصب فجأة بينه وبين الروائي.
بعد تقطيب حاجبيه، قال، بصوت مفكك:
- إلى هذا الحدّ، يا محمد؟...
- لا أزال تحت وقع الصدمة، إذا أردت أن تعرف الحقيقة.
- وأتصوّر أنك جئت توبِّخني يا أستاذي العزيز... طيّب، خذ حريتك...
رفع الروائي معطفه، قلّبه بعصبية، أخرج علبة سجائر. عندما قدّم واحدة للدكتور، دفعها هذا الأخير بيد جافة. انتبه الكاتب إلى فظاظة الحركة.
تخندق الدكتور خلف تكشيرة تعبق بخيبة أمل قصوى. تقلصت قسمات وجهه وامتلأت نظرته بعدوانية باردة.
بحث الكاتب عن قدّاحته، لم يتمكن من العثور عليها؛ وبما أن جلال لم يعِنه، تخلى عن فكرة التدخين.
- إنني أنتظر، قال الدكتور جلال بصوت جهوري.
وافق الكاتب بحركة من الرأس. ردّ سيجارته داخل علبتها، ثم العلبة في جيب المعطف الذي حطّه على المتّكإ. كأنما يريد ربح الوقت، أو أنه يعيد ترتيب أفكاره لأنه مطالب بالشرح.
تنفس بصخب ثمّ قال بغتة:
- كيف تمكنت من تغيير أفكارك، رأسا على عقب، بين عشية وضحاها؟
ارتعد الدكتور. تشنجت عضلات وجهه. بدا كما لو أنه لم يكن ينتظر مواجهة بهذه الخشونة... بعد صمت طويل أبقى فيه عينيه جامدتين، أجاب:
- لم أغيّر أفكاري، يا محمد. كل ما في الأمر أنني انتبهت إلى أنها كانت واقفة على رأسها، فأرجعتها إلى موضعها الطبيعي.
- كانت واقفة على قدميها، جلال.
- هذا ما كنت أعتقده. اتضح لي فيما بعد أنني كنت مخطئا.
- لأنهم رفضوا منحك شعار الأكاديميات الثلاث؟
- هل تظن أنني لا أستحقه؟
- بكل جدارة. غير أن عدم الحصول عليه ليس نهاية العالم.
- كانت نهاية أحلامي. الدليل، تغيّر كل شيء، منذ ذلك التاريخ.
- ماذا تغيّر؟
- توزيع الأوراق. من الآن فصاعدا، نحن نوزع الأوراق ومعها النقاط الجيدة. بل أفضل: نحن نفرض قوانين اللعبة.
- أي لعبة يا جلال؟ لعبة التخريب والمجازر؟... لا أحد يتسلى بها، على العكس تماما... لقد قفزت من القطار وهو يمشي. كنت جيدا، سابقا.
- كخادم عربي؟
- لم تكن خادما عربيا. كنت مثقفا متنورا. أتدرك أن ضمير العالم، اليوم، هم نحن. أنا وأنت وكل تلك العقول اليتيمة، المرفوضة من قبل ذويها، والمحتقرة من تلك العقول الملفوفة بقشرة الجمود. صحيح أننا أقلية، ولكننا فرضنا وجودنا. نحن الوحيدين القادرين على تغيير الوضع، أنت وأنا. الغرب خارج السباق. تجاوزته الأحداث. المعركة الحقيقية تجري بين النخب المسلمة، أي بيننا وشيوخ السلفية.
- بين الجنس الآري والجنس العاري.
- إنك على خطإ. وتعرف ذلك جيدا. اليوم، الحلبة في عقر دارنا. إن المسلمين مع من يحمل صوتهم إلى أبعد حدّ ممكن. لا يهمهم إن كان إرهابيا أو فنانا، مخادعا أو عادلا، عالما مغمورا أو عبقريا. إنهم بحاجة إلى أسطورة، إلى معبود. شخص يمكن أن يمثلهم، أن يقرأهم في تعقيداتهم، أن يدافع عنهم على طريقته. بالقلم أم بالقنبلة، غير مهم بالنسبة إليهم. ونحن الذين سنختار نوع الأسلحة، جلال، نحن: أنت وأنا.
- لقد اخترت أسلحتي. ولا يوجد غيرها.
- أنت لا تفكر مليا فيما تقول.
- بل فكّرت وانتهى.
- لا. أفكارك مقلوبة.
- أمنعك...
- موافق، قاطعه. لست هنا لتأجيج جروحك. ولكنني لأقول لك هذا: لدينا مسئولية ثقيلة على الأكتاف، جلال. الأمر خاضع لنا، لك ولي. إن انتصارنا هو إنقاذ للعالم بأسره. وهزيمتنا هي الفوضى والدمار. نملك بأيدينا سلاحا عجيبا: ثقافتنا المزدوجة. تسمح لنا بمعرفة وجهي العملة في آن واحد، أين الضرر وأين العقل، أين تكمن الثغرة عند البعض، ولماذا يوجد الحاجز عبد البعض لآخر. إن الغرب غارق في الشك. بدأت نظرياته التي كان يفرضها كحقائق مطلقة تتفتّت في ريح الاحتجاجات. عاش طويلا تهدهده أوهامه، ها هو يفقد معالمه. ومن ثمة، حالة الاحتضار الذي وصل إليه حوار الطرش بين شبه الحداثة وشبه البربرية.
- الغرب ليس حداثيا؛ إنه ثري. "البرابرة" ليسوا متوحشين، إنهم فقراء، ولا يملكون وسائل حداثتهم.
- أوافقك في هذا التصنيف. وهنا نتدخل لإعادة الأمور إلى نصابها، لتذليل العقبات، إعادة تسوية الأنظار، إلغاء القوالب الجاهزة المزيفة للحقيقة، أصل هذا الخطأ الرهيب. إننا الوسط العادل، جلال، توازن الأشياء.
- ترّهات... هذا ما كنت أعتقده، أنا أيضا. كي أقاوم الامبريالية الفكرية التي تتعالى عليّ، أنا، العالم النحرير، كنت أكرّر تماما ما تقوله لي الآن. ولكنني كنت أغازل نفسي، أكذب عليها. لم أكن أصلح إلا للمخاطرة بجلدي على بلاطوهات التليفزيونات بالتهجم على قومي، تقاليدي، ديني، أقربائي ومقدساتي. استخدموني. كما الجذوة، لإضرام النار. لست إلا جذوة. أنا شفرة بحدين. أنهكوني من جهة، وبقيت لي الجهة الأخرى كي أسلخهم بها. لا تعتقد أن المسألة تتعلق بشعار الأكاديميات الثلاث. ليست إلا خيبة وسط الخيبات الأخرى. الحقيقة في مكان آخر. الغرب مصاب بمرض الشيخوخة. حنينه الامبريالي يمنعه من الاعتراف بأن العالم قد تغيّر. يشيخ بشكل سيء، أصبح مرتابا مضجرا. لا يمكن حتى أن تعقِّله. لذلك، وجب علينا إماتته... لا نبني فوق البناء القديم. نهدّم كل شيء ونبدأ الحفر من الأساس.
- بماذا؟ بالمتفجرات، الطرود المفخّخة، الانقضاضات المشهدية. إن المخرّب لا يبني، يدمّر...ينبغي علينا التحمّل، يا جلال، أن نقبل خداع ومظالم الذين نتخذهم حلفاء لنا، أن نكظم غيظنا. يتعلق الأمر بمستقبل البشرية. ما قيمة خيبات آمالنا أمام التهديد الذي يخيم على العالم؟ لم يكونوا عادلين معك، لا أناقضك في هذه النقطة...
- ومعك أيضا، أذكرك.
- هل هي الحجة المقبولة كي نعيد مصير الأمم إلى غطرسة حفنة من الصليبيين المتطرفين؟
- في نظري، إن هذه الحفنة من الحمقى تجسّد كل الغرور الذي يظهره الغرب اتجاهنا.
- أنسيت أتباعك، زملاءك، آلاف الطلبة الأوربيين الذين كوّنتهم والذين يواصلون نشر تعليمك. هذا هو المهم، جلال. إلى الجحيم الاعتراف، إذا كان الذين يمنحونه لك لا يصلونك إلى الوتد. حينما يظهر عبقري في هذا العالم، نتعرّف عليه إذا تحالف كل الحمقى ضده، هكذا يقول جوناتان سويفت. دوما، كان الوضع هكذا... انتصارك، هي المعرفة التي تتركها لغيرك، الأذهان التي تنيرها. لا يمكن أن تدير ظهرك لِكَم هائل من الفرح والرضا، ولا تحتفظ إلا بحسد مجموعة من الاندفاعيين المتعصبين.
- للأسف، محمد، إنك لن تفهم أبدا. أنت لطيف للغاية، وساذج إلى حدّ اليأس. أنا لا أنتقم؛ أطالب الاعتراف بعبقريتي، بسلامة وجودي، بحقي لأن أكون كبيرا وجميلا، ومكرسا. لم أعد أتحمل قبول التهميش، وغض الطرف عن سنوات النبْذ، والاستبداد الفكري، والتمييز العنصري والانغلاق... أنا أستاذ مبرز...
- كنت أستاذا مبرزا، يا جلال. لم تعد شيئا، الآن. باختيارك لكرسي على منبر الظلاميين، تؤكّد لطلبتك القدماء وللذين جرحوك، بأنك، في نهاية المطاف، لا تساوي شيئا ذا بال.
- هم أيضا لا يساوون شيئا في نظري. من الآن فصاعدا، لم تعد صالحة قيمة التبادل التي فرضوها عليّ. أنا أمثل وحدة قياسي الخاصة. بورصتي الخاصة. قاموسي الخاص. قرّرت إعادة النظر في كل شيء، منذ البداية، أعيد تعريف كل المصطلحات. سأفرض حقائقي لي. انتهى زمن المجاملات الزاحفة. لإعادة تقويم العالم، ينبغي التخلص أولا من الذين يحنون ظهورهم. انتهى زمن الخوذة الاستعمارية. نملك وسائل تمردنا. توقفنا عن أن نكون سذجا فنخدع بسهولة، نصرخ بأعلى أصواتنا، فوق جميع الرؤوس، جهارا نهارا، بأن الغرب ليس إلا أكذوبة ضخمة. أكذوبة مهذّبة. الخطأ في كل أناقته. قررت رفع فستانه المزيّن والتأكد إن كان ما بالداخل يتلألأ كما الحواف الخارجية... صدّقني، يا محمد. الغرب، حصان هرم وخاسر. منذ الزمن الذي يهدهدنا بأغانيه كي يخدعنا في غفوتنا. إلى متى سيدوم هذا الوضع؟ اليوم نقول كفى: يجب أن يعيد النظر في أوراقه. انتهى ذاك العهد الذي يتسلى فيه لتحديد العالم حسب هواه. يسمي الرجل الحرّ متوحشا، ويفكّك ويشكّل الأساطير حسب ما يحلو له، مختزلا إبداعنا في فولكلور الأسواق، ورافعا دراويشنا إلى مصف الآلهة. اليوم، استرجعت الشعوب المقهورة استعمال لسانها. وستفصح عن مطالبها جهارا نهارا. وهذا ما تقوله قوانيننا بالضبط.
ضرب الكاتب بيديهّ.
- إنك تهذي يا جلال. عد إلى صوابك قليلا. مكانتك ليست بين أولئك الذين يقتلون، يسفكون الدماء، يرهبون. وأنت أعرَف بهذا من غيرك. أعرف بأنك تعرف. استمعْت إليك أول أمس. محاضرتك يرثى لها، ولم أدرك، في أية لحظة من تدخلك الطويل، ولو خيطا رقيقا من الصدق الذي كان يميّزك سابقا حيث كنت تناضل من أجل انتصار الاعتدال على الغضب، كي تُلغَى من الذهنيات العنف والإرهاب والشقاء...
- كفى، انفجر الدكتور قائلا، وهو يتمدّد كما الزُنْبُرَك. إذا كان يسليك أن تُقاد كالدّابة من قبل من لا يساوون شيئا، هذا شأنك. ولكن لا تأتي لتقول لي أن الخراء الذي تقتات منه وليمة. إنني أعرف تمييز رائحة المراحيض، يا حبيبي. ملاطفتك الزائدة نتنة. يخنقني الغثيان من حماقتك. رغم أن كل شيء واضح وضوح الشمس. الغرب لا يحبنا. لا يحبك أنت أيضا. لا يحملك في قلبه لأنه، ببساطة، لا يملك قلبا، ولا يرفع من شأنك أبدا لأنه يزدريك. تريد أن تبقى دوما متملقا دنيئا، عربيا ذليلا، قُوَيرا محظوظا؛ تريد مواصلة انتظار شيء منهم، يعجزون على إعطائه لك. موافق. أنت صبور عنيد، تنتظر معجزة. من يدري؟ يمكن لعظم أن يسقط من كيس مزبلتهم. ولكن لا تأتي تدوّخني بنظرياتك الخاصة بماسحي الأحذية، يا وْلاد. أعرف جيدا أين أذهب وماذا أريد.
رفع محمد سين ذراعيه علامة الاستسلام، أخذ معطفه ووقف.
أسرعت بالانسحاب.
سمعت جلال يوبّخ الكاتب في سلالم الدرج.
- أمنح لهم القمر في صينية من فضة. فلا يرون إلا غائط الذباب على الصينية. كيف تريد لهم أن يقضموا القمر؟ أنت كتبت هذا الكلام.
- لا تحاول أن تجرني في هذه السكة، جلال.
- لماذا كل هذه المرارة في معاينتك للفشل، يا سيّد محمد سِين؟ لماذا وجب عليك أن تتألم بسبب سخائك؟ لأنهم يرفضون الاعتراف بقيمتك الحقيقية. يصفون بلاغتك بـ"التفخيم"، ويختزلون قدحك الرائع إلى "جرأة أسلوبية" متهورة. إنني أكافح ضد هذا الظلم، أتمرّد ضد هذه النظرة الاختزالية التي يقيِّمون بها عظمتنا. يجب على هؤلاء الناس أن يدركوا مدى الضرر الذي سلّطوه علينا، أن يفهموا أنهم سيجبرون على التعامل مع أسوئنا إن هم ثابروا على ازدراء أفاضلنا. هذا هو الوضع في بساطته.
- إن عالم المثقفين هو نفسه في كل مكان، مريب ومخادع مثل أي مهلكة. طبقة لصوص كاملة العضوية، بلا رحمة ولا شفقة، ولا قانون شرف. لا يفلت من شرها أحد، لا من أهلها ولا من غيرهم... إذا كان هذا سيرضيك، فأنا منبوذ ومرفوض عند أهلي أكثر من أي مكان آخر في العالم. قيل بأن لا نبي في بلده. وأنا أعوّض النقطة بفاصلة وأضيف: ولا أحد سيّد عند الغير. لا أحد نبي في بلده ولا أحد سيّد عند الغير. إن نجاتي آتية من هذا الإدراك: لا أريد أن أكون لا نبيا ولا سيدا. لست إلا روائيا يحاول جلب قليل من سخائه لمن يريدون تقبله.
- إذا كان يسليك أن تكتفي بالفتات.
- هذا ما أريده بالضبط، جلال. أفضل التسلية انطلاقا من لا شيء، عوضّ أن أخطئ في كل شيء. يثريني حزني لأنه لا يُفقر أحدا. لا يوجد البؤس إلا عند الذي اختار زرع الشقاء في وقت يتطلب منه أن يزرع الحياة. بين ليل شقائي وحداد أصدقائي، أختار الظلام الذي يساعدني على الحلم.
التحق بي الرجلان في البهو، عند أسفل البناية. تظاهرت أنني أخرج من المرحاض. كانا منشغلين بخصامهما بحيث مرا قربي، يطنان، يرتجان، يتأججان، دون أن ينتبها لوجودي.
- إن مؤخرتك على كرسيين، يا محمد. وضعية غير مريحة، بالمرّة. نحن في قلب صدام الحضارات. من واجبك اختيار معسكرك.
- أنا معسكري الخاص.
- مغرور أنت، يا محمد. لا أحد يمكن أن يكون معسكرا لوحده، لا يزيد إلا عزل نفسه.
- إن الذي يمشي باتجاه النور، لا يكون معزولا أبدا.
- أي نور؟ نور إيكار أم نور فراشات الليل؟
- نور ضميري. لا يحجبه أي ظل.
توقف جلال فجأة، ونظر إلى الروائي يبتعد. حينما دفع هذا الأخير مصراعي الباب المشرف على صالة الاستقبال، همّ الدكتور بالانطلاق لالتحاق به، ولكنه تراجع عن قراره، وترك يديه تسقطان على فخذيه:
- لست إلا في المرحلة الشرجية من اكتساب الوعي، يا محمد. عالم جديد يزحف راعدا، وأنت كالصمّ الأعمى، لا ترى ولا تسمع. لا يعطون لك شيئا، لا شيء، أفهمت؟ صرخ بملء شدقيه. حتى الفتات التي يتصدقون بها عليك اليوم، ستضطر إلى المطالبة بها يوما... لا شيء، أقول لك، لا شيء، وبعده لا شيء، أبدا لا شيء.
انغلق المصراعان في صرير. سمعت وقع خطوات الكاتب المتثاقلة تضعف، ثمّ تتلاشى، امتصتها موكيت بهو الاستقبال.
شدّ الدكتور جلال رأسه بيديه وغمغم شتيمة غير مفهومة.
- أتريد أن أفجّر مخه؟ قلت.
صعقني بنظرة شرهة.
- اخرس أنت، ردّ بغضب. لا يوجد غير هذا في الحياة.
21.
لم يخرج الدكتور جلال سالما من محادثته مع الكاتب. نادرا ما يستيقظ قبل منتصف النهار، وأسمعه في الليل يذرع الغرفة ذهابا وإيابا. حسب شاكر، فإنه قد ألغى المحاضرة التي كان سيلقيها في جامعة بيروت، كما ألغى مواعيده مع الصحافة ولم يقترب من المخطوط الذي كان بصدد إدخال التصحيحات الأخيرة عليه.
لم أصدّق أن يتعثر باحث علاّمة في مثل مقامه الرفيع أمام مخربش ذليل. إن الدكتور جلال قادر على رفع خرقة إلى مقام راية حرب. أربكني أن تنهار المعرفة أمام كاتب مبتذل من الدرجة الدنيا.
هذا الصباح، وجدته مكوّما مثل حزمة حطب داخل أريكة. ظهره مقابل مكتب الاستقبال. تحتضر سيجارته رويدا رويدا تحت عود من الرماد. عيناه مثبتتان على جهاز التليفزيون المنطفئ، ساقاه مشرعتان، يداه متدليتان من جهتي المتكأين، تذكر هيئته بهيئة ملاكم مدوّخ على كرسيه.
لم يرفع عينيه اتجاهي.
على الطاولة، ترافق قارورات بيرة فارغة كأس ويسكي. المنفضة غاصة بأعقاب السجائر.
غادرت صالون الاستقبال باتجاه المطعم، في عمق البهو، طلبت شريحة لحم مشوي، فْريتْ وسلاطة. لم يظهر الدكتور. انتظرته، عيناي لاصقتان في مصراعي الباب. بردت قهوتي. جاء النادل لإفراغ وتنظيف الطاولة وأخذ رقم غرفتي. بقي مصراعا باب الدخول إلى المطعم مغلقين.
عدت إلى الصالون. لا يزال الدكتور في مكانه، هذه المرة، أسند قذاله إلى ظهر المقعد، عيناه باتجاه السقف. لم أتجرّأ على الاقتراب منه. ولم أجد بداخلي رغبة الصعود إلى غرفتي. فخرجت إلى الشارع وتهت في الزحام.
- أين كنت؟ ناداني شاكر، مصفقا بيديه بقوة، حينما رآني أجتاز الباب.
كان داخل شقتي، مسمرا على الأريكة، أبيض كما الشمعة.
- بحثت عنك في كل مكان.
- نسيت نفسي في الشارع.
- لماذا لم تهتف؟ كاد القلق يُفقِد لي أعصابي. لو تأخرت قليلا، كنت سأُعلِن حالة الطوارئ بحثا عنك. لقد اتفقنا أن نلتقي هنا على الساعة الخامسة.
- قلت لك أنني نسيت نفسي، فكيف أتذكر موعدنا.
كظم شاكر غيظه كي لا ينقض عليّ. أرهبته برودتي، وأجّجت لامبالاتي سعاره. رفع يديه، حاول تهدئة نفسه. بعد ذلك، أخذ حافظة أوراق كرتونية كانت مرمية عند قدميه ومدّها لي.
- تذاكر الطائرة، جواز السفر والوثائق الجامعية. ستسافر بعد غد إلى لندن، على الساعة السادسة وعشر دقائق بعد الزوال.
وضعت الحافظة على طاولة السرير، دون فتحها.
- ماذا أصابك؟ سألني.
- لماذا تطرح عليّ دائما السؤال نفسه؟
- أنا هنا من أجل هذا.
- هل اشتكيت لك من شيء؟
اتكأ شاكر بيديه على فخذيه، انتصب واقفا. بدا لي أنه في حالة سيئة؛ عيناه حمراوان كما لو أنه لم يذق طعم النوم منذ البارحة.
- الظاهر أننا تعبنا نحن الاثنان، قال لي بضجر. حاول أن تستريح. سأمر عليك غدا صباحا، على الساعة الثامنة. طبعا سنذهب إلى العيادة. يجب عليك أن تكون صائما.
أراد إضافة شيء ما، ولكنه لم يرَ ضرورة لذلك.
- هل يمكنني الانسحاب؟
- طبعا، قلت له.
حرّك ذقنه، ألقى آخر نظرة على الحافظة الكرتونية، ثمّ خرج. لم أسمعه يبتعد في الرواق. يكون لابدا خلف الباب، يحكّ ذقنه ويتساءل عن شيء أجهله.
تمددت على السرير، مررت يديّ خلف رقبتي وتأملت الثُريّا فوقي. انتظرت أن يذهب شاكر. بدأت أعرفه؛ حينما يغيب عنه شيء، لا يستطيع أخذ أي قرار حتى يتأكد من نفسه. أخيرا، سمعته يبتعد. جلست ثانية على السرير، تناولت الحافظة الكرتونية. تحتوي على جواز سفر، تذاكر طائرة للخطوط الجوية البريطانية، بطاقة طالب، بطاقة بنكية، مائتي ليرة، ووثائق جامعية.
إن القرص الذي يساعدني على النوم، عادة، لم يؤثر مفعوله في. بقيت يقظا كما لو أنني شربت إبريق قهوة. نمت بملابسي، خيوط أحذيتي معقودة، أتفحص السقف الذي تلطخه أشعة مصباح خارجي بلمعان دامٍ. في الخارج، انخفضت حركة المرور. سيارات نادرة تمرّ في أزيز خافت، كأنها تنكّد على الصمت الذي استولى على المدينة.
في الغرفة المجاورة، يسهر الدكتور جلال، هو أيضا. أسمعه يدور على بعضه. تدهورت حالته.
أتساءل لماذا لم أحدِّث شاكر عن مرور الكاتب.
وصل شاكر في الموعد المحدد. انتظر في صالون شقتي حتى أخرج من الحمام. ارتديت ثيابي وتبعته إلى غاية السيارة، المركونة قرب بزار. رغم النسمة الباردة، كانت السماء صافية. تنعكس أشعة الشمس على النوافذ، أبتر من شفرة حلاقة.
لم يدخل شاكر إلى فناء العيادة الداخلي. دار على البناية وسلك ممرا يؤدي إلى طابق سفلي. بعد أن أوقف السيارة في مرأب تحتأرضي، انتهجنا درجا جانبيا. استقبلنا الأستاذ غاني والسيّد عند مدخل قاعة كبيرة تشبه مخبرا. لاحظت أن الأبواب المؤدية إلى القسم العلوي من العيادة مصفّحة ومغلقة بأقفال. في نهاية رواق مزين بمصابيح سقفية، غرفة مكسوة كلها بالخزف، تتلألأ بآلاف الأنوار. فتحة زجاجية تفصلها إلى قسمين. من الجهة الأخرى للزجاج، أرى شبه عيادة لطب الأسنان، بأريكة ممددة تحت ضوء كاشف متطور. وحولها رفوف حديدية غاصة بعلب مغلفة بالكروم.
طلب الأستاذ من شاكر أن ينسحب.
تجنب السيّد النظر إليّ. تظاهر بالاهتمام بالأستاذ. يبدو عليهما كثير من القلق. أنا أيضا، أعصابي مرهقة. أشعر بدبيب نمل في ساقيّ. ترن خفقات قلبي في صدغيّ كضربات هراوة. انتابني غثيان.
- ستجري الأمور على أحسن وجه، قال الأستاذ مطمئنا، وهو يشير لي إلى مقعد.
جلس السيّد إلى جانبي؛ بهذه الطريقة، لا يكون مجبرا على الالتفات. احمرت يداه من فرط الدعك.
بقي الأستاذ واقفا. يداه بداخل جيوب مئزره، أعلن أن ساعة الحقيقة قد حانت.
- بعد قليل، سنباشر الحَقْن، قال بصوت يخنقه التأثّر. أُصِرّ على أن أشرح لك كيف ستجري العملية. من الناحية الفيزيولوجية، جسدك قابل لاستقبال... الجسم الخارجي. في البداية، ستكون هناك آثار ثانوية، بلا ضرر كبير. ربّما، دوخة في الساعات الأولى، وكذا شيء من الغثيان، ثمّ تعود الأشياء إلى طبيعتها. أصرّ على طمأنتك فورا. لقد أجرينا تجارب على متطوعين، قبل اليوم. أدخلنا تعديلات متدرجة، بحسب التعقيدات الملاحظة. إن التلقيح الذي ستحقن به نجاحه مضمون مائة بالمائة. من هذه الناحية، اطمئن... بعد الحقن، سنبقيك تحت المراقبة طوال اليوم. إجراءات أمنية، لا غير. حينما تغادر المركز، ستكون في حالة فيزيائية جيدة. انتهت الأدوية التي وصفتها لك. لم تعد تلزمك. استبدلتها بنوعين من الأقراص، تتناولها ثلاث مرات في اليوم لمدة أسبوع كامل... ستسافر غدا إلى لندن. هناك، سيرافقك طبيب. خلال الأسبوع الأوّل، ستجري الأمور بشكل طبيعي. إن مدّة الحمل لا تسبب لك آثارا قوية غير مرغوب فيها. تتنوع من عشرة إلى خمس عشرة يوما. ستنطلق الأعراض الأولى بحمى قوية وتشنجات. سيكون الطبيب بجانبك. ثمّ، يتلوّن بولك تدريجيا بالأحمر. ابتداء من تلك اللحظة، ستكون العدوى فعّالة. لن يبقَ لك إلا الذهاب إلى الأماكن العمومية، الميترو، محطات المسافرين، الملاعب، والمساحات الكبرى كي تعدي أكبر عدد من الناس. بالأخص محطات المسافرين، كي تتسع رقعة الوباء إلى المناطق الأخرى من المملكة... ستنتشر العدوى بسرعة صاعقة. سينقل الناس الذين تعديهم الجرثومة إلى الغير في أقل من ستّ ساعات قبل أن يلفظوا أنفاسهم. سيذهب تفكير الأطباء هناك إلى الزكام الإسباني، ولكن الوباء سيفتك بعدد كبير من السكان قبل أن يتفطنوا أن الوباء لا علاقة له به. نحن الوحيدين الذين نعرف كيف ننقذ الباقي. ولدينا شروطنا قبل التدخل... فيروسنا محصّن لا يُهزَم. طفرة جنينية صاعقة. ثورة كبيرة. إنه سلاحنا الفتاك... سيشرح لك الطبيب في لندن ما تريد معرفته. يمكنك الاستئناس به. إنه أقرب مساعدي في هذه العملية... سيكون أمامك من ثلاثة إلى خمسة أيام كي تجوب الأماكن العمومية الأكثر زحمة بالناس.
أخرج السيّد منديلا وراح يمسح جبهته وصدغيه. إنه على شفى حفرة من الإغماء.
- أنا مستعد، يا أستاذ.
لم أتعرّف على صوتي.
انتابني إحساس بأنني أنزلق بداخل حالة نفسية ثانوية.
أدعو الله أن يعينني على القيام والمشي إلى غاية المدخل المشرف على العيادة خلف الفتحة الزجاجية دون أن أنهار. تشوّش نظري مدّة دقائق. عليّ أن أبحث في عمق أحشائي كي أعثر على شيء من الهواء. ثمّ تماسكت، وبحركة مندفعة من خصري، انتصبت واقفا. لا يزال التنمّل يدب في ساقيّ، وطولي يترنّح، ولكن الأرض لا تنسحب تحت قدميّ. ارتدى الأستاذ بزّة فضية، تغطيه من الرأس إلى القدمين، مع قناع على الوجع وقفازات؛ ساعدني السيّد على ارتداء بزّتي، ثمّ بقي ينظر إلينا ونحن نعتّب المدخل للمرور إلى الجهة الأخرى من الفتحة الزجاجية.
تمددت على الأريكة التي بدأت تتحرك مباشرة لترتفع في صفير آلي. فتح الأستاذ صندوقا صغيرا من الألمنيوم، أخرج حقنة مستقبلية. أغمضت عينيّ. أمسكت تنفسي. حينما انغرزت الحقنة في لحمي، تسارعت كل خلايا جسمي نحو مكان اللدغة، في حركة واحدة جماعية؛ بدا لي أن شقّا في بحيرة جامدة يمتصني نحو الأعماق السحيقة.
دعاني السيّد إلى العشاء في مطعم غير بعيد عن الفندق. عشاء وداع، مع ما يستتبع ذلك، بالنسبة إليه، من حرج ورعونة. كأنما فقد استعمال الكلام. لم يتمكن من التفوه بكلمة، ولا أن ينظر إليّ في العينين.
لن يرافقني غدا إلى المطار. وشاكر كذلك. ستأتي سيارة طاكسي لتأخذني على الساعة الرابعة زوالا.
بقيت يوما كاملا في الطابق الأرضي للعيادة. كان الأستاذ غاني يأتي من حين لآخر ليفحصني. وكان انبساط أساريره يتضاعف مع تكرار الزيارات. أُصِبت بدوختين بعد نوم بلا عمق ولا صدى مدة أربع ساعات متواصلة. عند استيقاظي، شعرت بعطش غريق. قدّموا لي حساء وخضروات طازجة لم أتمكن من إنهائها. لم أشعر بألم؛ كنت أشبه بالسكران، بفم دبق وطنين متواصل في الأذنين. عندما، خرجت من السرير، ترنّحت مرات عديدة؛ ثمّ، شيئا فشيئا، تمكنت من تنسيق حركاتي والمشي بشكل لائق.
لم يعد الأستاذ لتوديعي.
بعد تسريح شاكر، بقي السيّد بجانبي بقية الظهيرة. سلكنا طريق المرأب لمغادرة العيادة على متن سيارة كراء. سقط الليل، ومدّت المدينة أضواءها إلى غاية التلال المجاورة؛ كانت شوارعها تغلي كما شراييني.
اخترنا طاولة في عمق القاعة تجنبا للإزعاج. المطعم غاص بالزبائن. عائلات يحيطها أطفال، أزواج بأصابع متشابكة، جماعات من الأصدقاء المقهقهين، ورجال أعمال بنظرات متملصة. يتخبط عمال المطعم على جميع الجبهات، يحمل البعض صواني مملوءة على راحة اليد، في توازن محكم، يسجل البعض الآخر الطلبات على كناشات صغيرة، بمجاملات مبالغ فيها. على طاولة قريبة من باب الدخول، يجلس كائن غريب، الفمّ مفتوح على مصراعيه، يقهقه في هدير مزعج. يبدو أن المرأة التي تقاسم عشاءه غير مرتاحة تماما؛ التفتت نحو جيرانها وابتسمت بطرف شفتيها، كما لو أنها تطلب منهم الاعتذار عمّا بدر من صديقها.
قرأ السيّد بطاقة الأطباق، وأعاد قراءتها، مترددا. أظن أنه ندم على دعوتي. سألته:
- هل عدت إلى كفر كرم؟
ارتعد، تظاهر بعدم السماع.
أعدت سؤالي. ارتخى نوعا ما، لأنه حطّ، أخيرا، البطاقة التي استعملها كشباك حاجز بيننا ورفع عينيه نحوي.
- لا، لم أعد إلى كفر كرم. لم تمنح لي بغداد فترة راحة ولو قصيرة. لكنني بقيت دائما في اتصال مع أهلنا هناك. يهتفون لي باستمرار، يخبرونني بما يحدث في المنطقة. عند آخر خبر، علمت أن الجيش قد أقام معسكرا في بساتين الهيثم.
- بعثت قليلا من النقود إلى أختي التوأم. أجهل إن تلقته.
- وصلت الحوالة البريدية... تكلمت بالهاتف مع كاظم منذ حوالي أسبوعين. أراد التحدث معك. قلت له أنني أجهل مكان وجودك. حينذاك، مرّر لي بهية. أرادت أن تشكرك وتترصد أخبارك. وعدتها بالبحث عنك.
- إنها لا تعرف أين أوجد؟
- لا أحد في العراق يعرف. سأعود إلى بغداد بعد غد. سأذهب لرؤية عائلتك. أعدك بأنه لن ينقصها شيء.
- شكرا.
لم نجد شيئا نضيفه.
تعشينا في صمت، كل واحد منا غارق في أفكاره.
أوصلني السيّد إلى الفندق. قبل أن أنزل من السيارة، التفت نحوه. ارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة بحيث لم أجرؤ على مصافحته. افترقنا دون عناق ولا سلام، كما تفترق ساقيتان عند أعلى الصخرة.
22.
في مكتب الاستقبال، وجدت كلمة لي. رسالة مغلقة بشريط لاصق شفاف. لا شيء على الظرف. بداخله، بطاقة مزيّنة برسم تجريدي. خلفها، سطر كُتِب بخطّ سميك: أنا فخور بمعرفتك. إمضاء: شاكر.
أولجت الرسالة بداخل الجيب الداخلي لسترتي.
في الصالون، تتجمع عائلة كثيرة العدد حول منضدة صغيرة. يتشاجر الأطفال، وهم يقفزون فوق المقاعد. تحاول الأمّ، بلا جدوى، تهدئتهم، فيما كان الأب يتلوى من الضحك، وهاتفه النقال لاصق ضد أذنه. غير بعيد عنهم، يغرق الدكتور جلال في كأسه، يرعبه ضجيج الأطفال.
صعدت إلى غرفتي. علي السرير، جراب قشيب من الجلد الأسود. بداخله، سروالان جديدان، ملابس داخلية، جوارب، قميصان، صدرية صوف خشنة، سترة، زوج حذاء بداخل كيس، حقيبة صغيرة بها لوازم الغسل، أربعة كتب من الأدب الأنكلوسكسوني. وبحزام الجراب، مسّكت ورقة صغيرة. إنها أمتعتك. ستشتري الباقي في عين المكان. بلا إمضاء.
دخل الدكتور جلال دون أن يدق على الباب. كان ثملا وتشبث على مقبض الباب كي لا يسقط.
- هل أنت مسافر؟
- كنت سأودِّعك نهار الغد.
- لا أعتقد.
ترنّح، حاول مرتين حتى يتمكن من غلق الباب، ثمّ اتكأ عليه. كان أشبه بالمتشرد، نصف القميص فوق الحزام، أزراره مفككة، فتحة السروال مشرعة. لطخة ترابية تبقع الجانب الأيسر من سرواله؛ ربّما نتيجة سقوط في الشارع. تقاسيم وجهه منقلبة، بجفون منتفخة فوق نظرة شاردة ومناخير متملصة.
مسح فمه بمعصمه؛ فم رخو، عاجز عن النطق بكلمتين دون أن يسيل ريقه.
- هكذا إذاً، تنسحب على أطراف قدميك كما السارق؟ أنتظر منذ ساعات طويلة في الصالون كي لا تمرق مني. وأنت، تمرّ بلا حتى أن تحيّيني.
- يجب أن أرتّب أدواتي...
- تطردني؟
- ليس هذا قصدي. أريد أن أكون بمفردي. لي حقائب تنتظر الترتيب، وأشياء أخرى كثيرة أنظمها.
غضّن عينيه، شفتاه مضمومتان نحو الأمام، تمايل، ثمّ، تنفس بصخب، وفجأة، انتصب بكل ما تبقى له من قوة، وقال:
- طُزْ.
كان منهوك القوى، فكادت صرخته أن تسقطه. تسارعت يده للإمساك بمقبض الباب.
- هل يمكنك أن تقول لي أين جرجرت جثتك من الصباح إلى المساء؟
- ذهبت لزيارة بعض الأقارب.
- هراء... أعرف أين اختفيت، يا حبيبي. أتريد أن أقول لك أين قضيت يومك؟... كنت في عيادة... ينبغي أن نقول وكر المجانين. دار المهابَل... من أوصلك إلى عالم المعتوهين هذا؟
بقيت مبهوتا. مشلولا.
- أتظن أنني لم أفهم؟... لقاح؟ يا لك من أبله؟ لا تملك أثرا على الجسد كما لا تملك ذكاء في جمجمتك المختلة... يا ربّ السموات والأرض... أتدرك جيدا ماذا فعلوا بك، في تلك العيادة القذرة؟ ينبغي أن تكون بلا مخّ كي تسلّم نفسك للأستاذ غاني. مخبول الرأس إلى العمق، الأستاذ غاني. أعرفه جيدا. ليس بمقدوره أن يشرّح فأرا دون أن يجرح أصبعه.
لا يمكنه أن يعرف، كرّرت مع نفسي. لا أحد يعرف. إنه مخادع. يريد أن يوقعني في الفخّ.
- عمّا تتكلم؟ قلت، متظاهرا بالاندهاش. أي عيادة؟ من أستاذك هذا؟... كنت عند أقربائي.
- يا للأحمق المسكين... أتظن أنني أراوغك؟ إن الذي ضيّع مخّه حقيقة هو الأستاذ غاني. أجهل ما حقّن لك، ولكنني متأكّد أنه لا خير فيه بالمرة. (شدّ رأسه بيديه). يا إلهي... أين نحن؟ في فيلم لسبيلبرغ؟ سمعت أخبارا عن ممارسات هذا المعتوه على مساجين الحرب عند الطالبان. ولكن هنا، قد تجاوز كل الحدود.
- أخرج من هنا...
- غير ممكن. شيء خطير، ما تنوي القيام به. شيء خطير، خطير للغاية. شيء غريب، لا يتصوَّر، لا يصدَّق. أعرف بأن العملية لن تنجح. فيروس الخراء سيلتهمك أنت وحدك، وفقط. ومع ذلك، لست مطمئنا. تصوّر لو نجح هذا المعتوه حقا؟ أتدرك حجم الكارثة؟ لا يتعلق الأمر باعتداءات، بقنابل صغيرة هنا، بغارات هناك؛ إنه الوباء الفتاك، شيء فظيع، نهاية العالم. سيعدّ الأموات بمئات الآلاف، بالملايين. وإذا تعلق الأمر فعلا بفيروس ثوري، فتاك، من سيوقفه؟ وبماذا، وكيف؟ شيء لا يصدّق، وغير مقبول بجميع المقاييس.
- قلت بأن الغرب...
- لسنا على هذا المستوى، يا معتوه. قلت حماقات كثيرة في حياتي، ولكنني لن أترك هذا الأمر يمر بسلام. لكل حرب حدود وضوابط. غير أننا هنا، في هذه الحالة، اخترقنا كل المعايير. ماذا ننتظر من نهاية العالم؟ ماذا سيبقى من العالم، غير نتانة الجثث والفوضى العارمة؟ الربّ نفسه، سيقلع شعره إلى أن يتقاطر المخ على الوجه...
صوّب نحوي أصبعه:
- كف عن هذه الترّهات. نوقف كل شيء، نقول قف. لا تذهب إلى أي مكان. والقذارة التي تحملها بداخلك، أيضا، لن تذهب إلى أي مكان. إعطاء الدروس للغرب مسألة، وتفجير الكرة الأرضية بأكملها مسألة أخرى، مغايرة تماما. لا ألعب. سيتوقف اللعب. ستسلّم نفسك للشرطة. وفورا. مع قليل من الحظ، ستعالَج. وإلا، ستموت وحدك، وإلى الجحيم. يا معتوه...
مباشرة، جاء شاكر. لاهثا. كما لو أن قطيعا من العفاريت يلتصق بذيوله. عندما دخل شقتي واكتشف الدكتور جلال مفكك المفاصل على الموكيت، وبركة دم بمثابة هالة، وضع يده على فمه وأطلق شتيمة. وعندما رآني منهارا على الأريكة، ركع بقرب الجسد الممدّد وتأكّد إن كان لا يزال يتنفس. تباطأت يده على رقبة الدكتور. تقلّصت جبهته. على مهل، سحب ذراعه ووقف. انشق صوته حينما قال:
- اذهب إلى الغرفة المجاورة. لم يعد المشكل يخصّك.
لم أتمكن من اجتثاث جسدي من الأريكة. أمسكني شاكر من الكتفين وجرّني داخل الصالون. ساعدني على الجلوس على السرير، حاول أن ينزع من قبضتي المنفضة الملطّخة بالدمّ المخثر، التي أشدّها بيد متجمّدة.
- أعطيني ما بيدك. انتهى كل شيء الآن.
لم أفهم ماذا تفعل المنفضة في يدي، ولماذا مفاصل أصابعي مخدوشة. ثمّ، فجأة، انقشع الضباب عن ذهني، كأنه كان غائبا عن جسدي والتحق به توّا؛ رعشة باردة عبرت جسدي من الرأس إلى القدمين, أصعق من رعد.
تمكن شاكر من إرخاء قبضتي ونزع المنفضة التي أولجها في جيب معطفه. سمعته، داخل الغرفة، يتصل هاتفيا مع أحد.
وقفت لأرى الحالة التي وضعت فيها الدكتور. سدّ شاكر طريقي وقادني، بلا فظاظة ولكن بصرامة، إلى الصالون.
بعد حوالي عشرين دقيقة، دخل إلى الشقة ممرضان يحملان نقّالة، انحنيا لحظات على جسد الدكتور، وضعا له قناع الأكسيجين، حطّاه على النقالة وحملاه. من النافذة، رأيتهما يدفعان حملهما بداخل سيارة الإسعاف، يغلقان الأبواب وينطلقان، صفارات الإنذار في أوجها.
نظف شاكر الدم على الموكيت.
يجلس الآن على طرف السرير، الذقن بداخل راحتي يديه؛ يحدّق في المكان الذي كان فيه الدكتور ممددا، دون أن يراه.
- الإصابة خطيرة؟
- سيستعيد عافيته، قال دون قناعة.
- أتظن بأن إدارة المستشفى ستخلق لي مشاكل؟
- الممرضان من عيادتنا. أخذوه هناك. لا تشغل نفسك بهذه المشكلة.
- كان على علم بكل شيء، يا شاكر. الفيروس، العيادة، الدكتور غاني. كيف كان هذا ممكنا؟
- كل شيء ممكن في الحياة.
- من المفروض أن لا أحد يعرف السرّ.
رفع شاكر رأسه. فقدت عيناه بريقهما.
- هذه ليست مشكلتك. الدكتور بين أيدينا. سنعرف كيف نكشف الخيط الذي سرّب الخبر. فكّر فقط في سفرك. هل لديك جميع الوثائق؟
- نعم.
- هل أنت بحاجة إلي؟
- لا.
- هل تريد أن أبقي بعض الوقت معك؟
- لا.
- أنت متأكّد؟
- متأكّد.
وقف وخرج إلى البهو.
قال: إنني في الحانة، في حالة ما إذا... أغلق الباب. بلا كلمة وداع، بلا إشارة باتجاهي.
أخبرني عامل مكتب الاستقبال أن الطاكسي وصل. أمسكت جرابي، ألقيت نظرة بداخل الغرفة، الصالون، النافذة المضيئة بالشمس. ماذا تركت؟ ماذا أخذت؟ هل ستتبعني أشباحي، هل ستعرف ذكرياتي كيف تدبّر أمرها دوني؟ خفضت رأسي ومشيت عبر الرواق. زوج وبنتاهما يضعون أمتعتهم بداخل المصعد. لم تتمكن المرأة من تحريك حقيبة ضخمة؛ راقبها زوجها بازدراء دون أن يفكر في مساعدتها. اتجهت عبر سلالم الدرج.
كان عامل الاستقبال منشغلا بتسجيل شابين. ارتحت لكوني لن أجبر على توديعه. قطعت البهو العريض بخطوات سريعة. كان الطاكسي متوقفا أمام الفندق. قفزت بداخل المقعد الخلفي، جرابي بجانبي. تفرّسني السائق في المرآة الارتدادية. إنه فتى ثخين، ملفوف في تي شُرْت عريض أبيض اللون. يتدلى شعره الطويل على ظهره، أسود ومجعّد. لا أعرف لماذا، ولكنني وجدته مضحكا بنظاراته الشمسية.
- إلى المطار.
هزّ رأسه وأمسك بوتد السرعة. أراد لحركته شيئا من المرح، تدحرجت السيارة بلطف. تسلل بين حافلة وشاحنة تسليم واختلط بحركة المرور. الجوّ حار بالنسبة لشهر أفريل. لقد غسلت الأمطار الماضية أرضية الطرق المدخنة. تنعكس أشعة الشمس على هياكل السيارات كما الرصاصات.
عند نور أحمر، أشعل السائق سيجارة وزاد في صوت المذياع. فيروز تغني حيبتك. قذفني صوتها عبر السنين والحدود. كما الحجر النيزكي، أقع في الحفرة، قرب قريتي، حيث كان كاظم يسمعني أغنياته المفضلة. كاظم؟ رأيت نفسي بداخل بيته، أتأمل صورة زوجته الأولى. جنيات بغداد... في آخر المطاف، لن أعرف من هي؟ كان عليّ أن ألحّ أكثر. كان سينتهي به المطاف إلى إسماعي موسيقاها، وربما كنت أدركت خفقات عبقريته.
- هل يمكن أن تقلل من الصوت قليلا؟
قطّب السائق حاجبيه.
- إنها فيروز.
- من فضلك...
انزعج، ربّما أحس بالرعب. ارتعدت رقبته المشحمة ككومة جيلاتين.
- إذا رغبت، أطفأت المذياع.
- هذا يلائمني.
أطفأ. بدا ضجرا ولكنه تأقلم.
أحاول أن لا أفكر فيما وقع بالأمس، فلاحظت أنني لم أتمكن من التخلص من هواجسي. رنّت صيحات جلال عبر خلايا جمجمتي، أكثر صراخا من أفعى مجروحة. حوَّلت نظري باتجاه الحشد المتسكع على الأرصفة، واجهات المحلات، السيارات التي تتسابق فيما بينها، وفي كل مكان، لا أرى إلا هو، حركته الرعناء، لسانه الثقيل، ولكن أقواله قاصمة، لا ترد. انخفضت حركة المرور بطريق المطار. أخفض الزجاج كي يتسرّب الدخان الذي يلفظه السائق. ساطت الريح وجهي دون أن تنعشني. أحس بغليان في صدغيّ، وباضطراب في بطني. لم أغمض جفوني طوال الليل. لم أذق طعاما، أيضا. بقيت لابِدا في غرفتي، أجتر الساعات وأقاوم رغبة إدخال رأسي في الحوض لأفرغ ما بأحشائي.
انقض المسافرون على أكشاك التسجيل. يخنّ صوت أنثوي في مكبرات الصوت. يتعانق الناس، يفترقون، يلتقون، يبحثون عن بعضهم وسط الازدحام الشديد. خيّل إليّ أن جميع الناس يستعدون لمغادرة لبنان. وقفت في الطابور أنتظر دوري. شعرت بالعطش، وبأوجاع خبيثة في ساقيّ. طلبت مني فتاة أن أمدّها جواز السفر وتذاكر الطائرة. قالت لي شيئا لم أفهم فحواه. هل لديك أمتعة؟ لماذا تطلب مني إن كان لديّ أمتعة؟
مالت نحو جرابي. هل ستبقيه معك؟ ماذا يعني كل هذا؟ لفّت بطاقة حول حزام الجراب. أشارت إلى رقم على بطاقة الركوب، وإلى التوقيت، ثمّ مدّت ذراعها باتجاه المكان الذي يتعانق فيه الناس قبل أن يفترقوا. أخذت جرابي واتجهت نحو الأكشاك الأخرى. دعاني عون بزي رسمي إلى حطّ جرابي على سجاد متدحرج. من الجانب الآخر للزجاج، تراقب امرأة شاشة. اختفى جرابي بداخل صندوق كبير أسود. مدّ لي العون صينية وطلب مني أن أحطّ عليها كل الأشياء المعدنية التي بحوزتي. نفذت الأمر. قطع النقود أيضا. عبرت الباب المغنطيسي. أوقفني رجل، فتشني بعناية ثمّ حرّرني. استرجعت جرابي، ساعتي، حزامي وقطع نقودي والتحقت بالباب المشار إلى رقمه في بطاقة ركوبي. لا يوجد أحد بالمصرف. جلست على مقعد قرب الفتحة الزجاجية ورحت أتأمل نشاط الطائرات الكثيف على أرضية توقفها. على مدرج الإقلاع، تهبط الطائرات وتحلق أخرى، تباعا. إنني قلق. إنها المرة الأولى التي أضع فيها قدميّ داخل مطار.
أظن أنني غفوت.
تشير ساعتي إلى الخامسة وأربعين دقيقة. لا توجد مقاعد شاغرة حولي. فتاتان منهمكتان خلف المصرف، تحت شاشة مضيئة. قرأت رقم رحلتي، كلمة لندن، مطبوعة بشعار الخطوط الجوية البريطانية. إلى يميني، على المقعد، أخرجت عجوز هاتفها النقال من حقيبتها اليدوية، تتأكد من وجود رسائل به، ثمّ أعادته إلى الحقيبة. بعد حوالي دقيقتين، أخرجته ثانية لتتفحص مربّعه المضيء. إنها قلقة، تنتظر مكالمة لم تأتِ. في الجهة المقابلة، بنظرة ودودة، يحضّن أب مرتقب زوجته الحامل حيث يجذب بطنها قماش فستانها. يتعامل معها بعناية فائقة، يترقب أدنى حركاتها ليظهر لها كم هو سعيد. عيناه تبتهجان. يحلق فوق غيمة. بمحاذاة آلة توزيع، وقف زوج من جنس أوربي، يتعانقان، خصلات شعرهما على الوجه. الفتى طويل القامة، يرتدي تي شُرْت برتقالي اللون لامعا وسروال جينز ضيقا. الفتاة، شقراء كسنبلة قمح جافة، تشرئب على أطراف حذاءيها كي تصل شفتي حبيبها. عناقهما حماسي، جميل وسخي. ماذا يشعر العاشقان عندما يتبادلان القبلة على الفم؟ لم أقبل فتاة على الفم، أبدا. لا أتذكر أنني لمست يد قريبة من القريبات، أو اقتربت من حبيبة إلى حدّ اللمس. في كفر كرم، كنت أحلم بالفتيات عن بعد، مختفيا، خجولا من ضعفي. في الجامعة، عرفت نوال، سمراء بعينين عسليتين. كنا نتبادل تحية اللقاء بطرف الأهداب، ونفترق بحركة من طرف العين. أظن أننا كنا نشعر بشيء ما، اتجاه بعضنا البعض. ولكن، لم نجد الجرأة المناسبة، في أية لحظة، كي نعرف فحواه بالضبط. كانت في قسم آخر. كنا نختلس المناسبات كي نلتقي في الرواق. يدوم خسوفنا لحظة المرور. ابتسامة واحدة، وإن كانت خجولة مترددة، تكفي لسعادتنا. نمتلئ بها طوال الدروس. ثمّ، في المساء، يأتي الوالد أو الأخ الأكبر ينتظر سرابي أمام أبواب الجامعة، يخطفه مني إلى غاية الغد. جاءت الحرب وأعطت له الضربة القاضية.
أعلن مكبر الصوت عن وقت ركوب المسافرين باتجاه لندن. تهيّجت الأعصاب حولي. مباشرة، تشكّل طابوران حول المصرف. لم تقف المرأة الجالسة على يميني. للمرة الألف، أخرجت هاتفها النقال وحدّقت في المربّع بعين حزينة.
كانت آخر من يمر إلى الجهة الأخرى، في حالة يأس قصوى. راقبت فتاة جواز سفرها، مدّت لها قطعة تذكرة. التفتت لآخر مرة، قبل أن تختفي بداخل رواق.
بقيت وحدي في قاعة الانتظار.
تبادل رجل والفتاتان بعض الكلمات المازحة، ذلك أن ضحكة خفيفة فلتت من الفتاتين. توارى الرجل خلف باب زجاجي، ثمّ عاد بعد دقائق. وصل متأخر يجري، مع صرير حزين لحقيبة بعجلات صغيرة يجرها خلفه. تلعثم باعتذارات. ابتسمت له الفتاتان وأشارت له إلى البهو الذي التحق به مسرعا.
تفحص الرجل ساعته، منزعجا نوعا ما. انحنت زميلته على مكبر صوت وأعلنت آخر نداء لمسافر نسي نفسه في مكان ما. إنها تطالبني أنا. كرّرت النداء كل خمس دقائق. أخيرا، هزّت كتفيها، رتبت وثائقها خلف المصرف وجرت تلتحق بزميليها اللذين تقدماها في الرواق.
تدحرجت طائرتي إلى وسط أرضية التوقف. ثمّ، رأيتها تدور ببطء لتلتحق بدرب الإقلاع.
انطفأت الشاشة المثبتة فوق المصرف.
سقط الليل منذ فترة. جاء مسافرون آخرون يرافقونني في الصالة قبل أن يختفوا عبر الرواق. الآن، أعلن عن رحلة أخرى، احتلت المقاعد من جديد.
- أنت ذاهب إلى باريس؟ سألني شخص قصير القامة، متحمّس، جلس توا بجانبي.
- نعم؟
- هل هذه قاعة الرحلة نحو باريس؟
- بعم، طمأنه شخص آخر.
أقلعت طائرة الأرْبيس نحو باريس، مهيبة، حصينة. نعست الصالات الكبرى. أغلب المقصورات فارغة. في جناح، ينتظر حوالي ستون مسافرا، في خشوع راهب.
اقترب عون أمن، شاهرا في يده جهاز هاتف لاسلكي. طاف في الضواحي أكثر من مرة، حيّره حضوري. وقف أمامي، وسألني إن كنت في حالة جيدة.
- فوّت طائرتي.
- هذا ما كنت أظن. نحو أي اتجاه؟
- لندن.
- لا توجد رحلة أخرى إلى لندن هذا المساء. أرِني التذاكر... الخطوط الجوية البريطانية... في هذه الساعة، كل المكاتب مغلقة. لا أستطيع أن أفعل لك شيئا. عليك أن تعود صباح الغد لتتفاهم مع الشركة المعنية. أحذرك بأنهم يتعاملون بصرامة كبيرة. لا أعتقد أنهم سيقبلون صلاحة تذاكرك لرحلة أخرى... أتعرف أين تذهب؟ ممنوع قضاء الليل هنا. على كل حال، أنت مضطر للعودة إلى الشركة، ومكاتبها من الجهة الأخرى من المنطقة الحرّة. هيا، اتبعني.
اتجهت نحو الخروج، رأسي مفرغ. استسلمت لخطواتي. لا خيار لي. لم يبق لي ما أفعله في المطار. الأروقة غارقة في الصمت. يدفع عون سلسلة من العربات الحمّالة أمامه. يجوب الآخر بمناشفه على الأرضية. لا تزال بعض الظلال تحتل الزوايا. المقاهي والمحلات مغلقة. يجب أن أغادر المكان.
توقفت سيارة على مستواي في حين كنت تائها في همومي. انفتحت بوابة. إنه شاكر... إركب... ارتميت على المقعد القاتل. دار شاكر حول موقف يكاد يكون فارغا، توقف عند إشارة قف، قبل أن يندفع في الطريق المسطر بالمصابيح المضيئة. مشينا مدة دهر دون أن نتبادل نظرة ولا كلمة. لم يتجه شاكر نحو بيروت. سلك طريقا خارجيا. كان تنفسه المضغوط ينظم إيقاع هدير المحرك.
- كنت متأكدا أنك ستتراجع في آخر لحظة، قال بنبرة دون رنة.
لا يوجد اللوم في كلامه، فقط ابتهاج بعيد، كمن يدرك أنه لم يخطئ.
- حينما سمعت اسمك في مكبر الصوت، فهمت.
فجأة، ضرب بقبضته على المقود:
- لماذا يا إلهي؟ لماذا تركتنا نقوم بكل هذه التحضيرات كي تتراجع في آخر لحظة؟
هدأ قليلا، ارتخت قبضته؛ انتبه أنه يمشي بسرعة مفرطة، رفع قدمه من دواسة السرعة. في الأسفل، تذكِّر المدينة بعلبة مفتوحة على جواهرها.
- ماذا حدث؟
- لا أعرف.
- كيف لا تعرف؟
- كنت قرب باب الركوب، رأيت المسافرين يصعدون نحو الطائرة ولم أتبعهم.
- لماذا؟
- قلت لك: لا أعرف.
فكّر شاكر لحظة قبل أن يقول بعصبية:
- إنه جنون.
عندما وصلنا إلى أعلى الهضبة، طلبت منه أن يتوقف. أردت تأمل أضواء المدينة.
اصطف شاكر جانبا. اعتقد أنني سأفرغ أحشائي، دعاني ألا ألوّث أرضية السيارة. قلت له أنني أنزل لأشمّ قليلا من الهواء. غريزيا، وضع يده على حزامه، أمسك بمقبض مسدسه:
- لا تكن غبيا، قال محذرا. سوف لن أتردّد عن قتلك كالكلب.
- أين تريدني أن أذهب، وبأحشائي الفيروس القذر؟
بحثت في الظلام عن مكان للجلوس، عثرت على صخرة، احتللتها. أرعشتني النسمة. أسناني تصطك، ولحم ذراعيّ يقشعر. بعيدا، في الأفق، تشق السفن العتمة، أشبه بحباحب جرفها الفيضان. تمتطي ضوضاء البحر هبوب الأمواج وتملأ صمت ليلة مضطربة. في الأسفل، تعدّ بيروت كنوزها تحت قمر طافح، انتحت جانبا كي تتملص من غارات الأمواج.
انحنى شاكر بقربي، سلاحه بين ساقيه.
- اتصلت بالجماعة. سيلتحقون بنا في الضيعة، غير بعيد من هنا. الجماعة ليست راضية، ليست راضية على الإطلاق.
انكمشت بداخل سترتي بحثا عن الدفء.
- لن أتحرّك من هنا، قلت.
- لا تجبرني على جرّك من القدمين.
- افعل ما شئت، شاكر. أما أنا، فلن أتحرّك من هنا.
- طيّب. سأخبرهم عن موقعنا.
أخرج هاتفه النقال واتصل بـالجماعة. يبدو أن الجماعة ساخطة. بقي شاكر هادئا؛ شرح لهم أنني أرفض متابعته رفضا قاطعا.
أغلق النقّال، أعلن أنهم آتون، سيصلون هنا قريبا.
تكوّرت على فخذيّ، ذقني بين ركبتيّ، وسرحت أتأمل المدينة. أظلم بصري؛ تمرّدت دموعي. انتابني حزن. ما هو؟ لا أستطيع تحديده. تداخلت همومي مع ذكرياتي. تدفقت في رأسي أطوار حياتي كلها؛ كفر كرم، أهلي، أمواتي وأحيائي، الأشخاص الذين ينقصون، وأولئك الذين يسكنون كياني... ومع ذلك، من جميع ذكرياتي، أحدثها هي الأوضح. تلك المرأة في المطار، التي تتفقّد هاتفها النقال؛ ذلك الأب المرتقب الذي لم يعرف لنفسه استقرارا من كثرة الفرح؛ وذاك الزوج الأوربي الشاب وهما يتبادلان القبل... يستحقون أن يعيشوا ألف سنة. ليس من حقي الاحتجاج على عشقهم العلني، ولا التعكير على أحلامهم، ولا تعنيف ترقبهم. ماذا فعلت بمصيري، أنا؟ عندي واحد وعشرون سنة، واليقين أنني ضيّعت حياتيي واحد وعشرين مرة.
- لا أحد أجبرك على القبول، غمغم شاكر. ما هو الشيء الذي غيّر رأيك؟
لا أجيبه.
بلا فائدة.
مرّت الدقائق. أشعر بجسدي يجمد. خلف ظهري، يذرع شاكر الأرضية ذهابا وإيابا؛ تصفق ذيول معطفه في الريح. توقف فجأة وصرخ:
- ها هم وصلوا.
خرجت أربعة مصابيح من الطريق لتعرّج عبر الدرب الذي يوصل إلينا.
وضد كل انتظار، انحطّت يد شاكر على كتفي، متعاطفة.
- أتأسف أن يصل الوضع إلى هذا الحدّ.
تتقدّم السيارات شيئا فشيئا، فتزيد أصابعه ضغطا على لحمي إلى حدّ الوجع.
- سأبوح لك بسرّ، أيها الفتى الشهم. اتركه لنفسك. أكره الغرب كرها لا يتصوّر. ولكن، عند التفكير، حسنا فعلت عندما لم تركب الطائرة. ليست فكرة جيّدة.
انتشر صرير العجلات على الحصى المحيط بالصخرة. سمعت صفق أبواب وخطى تقترب.
قلت لشاكر:
- ليعجّلوا بالنهاية. لا ألومكم. على كل حال، أنا لا ألوم أحدا.
ثمّ، ركزت جوارحي على أضواء هذه المدينة التي لم أتمكن من اكتشافها وسط غضب البشر.