نعم، أنا إنسان قميء، شديد القماءة، اشعر باللذة حين أراقب عذاب الآخرين ودمارهم، لذة من نوع خاص، يختلط فيها الفرح المبهم مع الحزن الغامض، وتتجول في أرجائها مشاعر من الغبطة والحبور، مع مشاعر من الكمد المدفون.
هل واجهتم يوما نفسا تمتلئ بالحقد؟ تمور بالحسد؟ لا أظن ذلك، لان مفهوم الحقد والقماءة، يحتاج إلى تدقيق في الحدث المكون للنفس، المشكل للمشاعر، وانتم بطبعكم تعرفون فقط المسميات الناتجة عن فعل أو ردة فعل، لكنكم اعجز كثيرا من فهم المكونات والمشكلات القادمة من تأثيرات الخارج والداخل.
كان ذلك منذ زمن بعيد، بعيد جدا، يغور في الزمان والمكان، حدث فجأة، دون توقع، ودون إشارة مسبقة، في مكان مجهول، تتوافق فيه المتناقضات، ويقترب المجهول من المعلوم، نحو نقطة تكاد تكون بداية الاندماج والتلاحم، لكنها تفترق في اللحظة الحاسمة، الخاطفة التي لا تكاد تبين أو تلحظ، في تلك اللحظة، كان الموت يزحف بهمة عالية نحو جسد جريح، مطروح في مكان معزول من المكان المجهول، على فاصل بين ارض تتوزع بين منحنيات الحياة والموت، لتكتمل صورة التناقض اكتمالا يشبه البدر في تجلياته المؤججة.
كنت أشاهده وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بصعوبة بالغة، تتشابه مع الانفاس المحطمة في الصحراء من العطش المستبد بجوهر الحلق والروح، والماء امامه، على بعد خطوات فقط، لكن العطش المتمكن من كل اجزاء الجسم الناحل الساقط المجفف والمتشقق، يضع المسافة بين الماء وبين الحياة على مرمى الموت المصبوغ بالحياة، بالنماء، بالتورد، تغريه في ذلك الأماني المنبثقة من رائحة الرمل المحترق تحت أشعة شمس الصحراء الموغلة بتعذيب الأرض وتلويح الافاق، فالأرض رغم قسوتها، رغم فحيحها، تبقى الحلقة الواصلة بين الروح وبين البقاء، ولان الإنسان لا يعرف ذاكرة منزوعة من الأرض، فانه يبقى يغذي امله الكسيح بالتواصل مع مكوناتها رغم دفقات الموت المتسارعة في اعضائه، في محاولة منه لتقليص المسافة الفاصلة بين الموت وبين الماء الذي يُشَد بالعينين الهاطلة دموع اللحظة الأخيرة، تلك الدموع التي تشارك بإفراغ الجسد من آخر قطرات يمكن ان تؤجل لحظة النهاية إلى اجل غير معلوم، لكنها تتساقط بين اللوعة والرجاء، بين الهروب من الفناء القادم إلى خلاص يستقر بمنظر المياه القابعة على بعد يسير من الجسد المغلول نحو التمحور بنقطة البقاء بين الموت والحياة، وكأن اللحظات الأخيرة التي لا بد ان تقوده إلى السماء، تشارك بشده نحو مشهد ارضي لا رجاء فيه ولا امل، كي تكون النهاية موسومة بعذاب متدفق إلى كل مسارب الذات ومداخلها، ليكون الرحيل موسوما بألم يغل العينين الجاحظتين إلى بؤرة الوجع الذي سيرافق الجثة إلى القبر.
كنت ارقبه بانتباه شديد وهو يبحث داخل الحياة عن بريق أمل، ويبحث بأعماقي عن مساعده، عن خطوة إنقاذ، لكنني لم اتحرك، فهذا المشهد الخرافي، الخارج من اعماق اللحظات الأخيرة بأسطورية العجز عن الوصول إلى منبع الحياة، الموجود على بعد خطوات فقط، هو مشهد خاص، لا يتكرر، ولا يتسنى للإنسان ان يراه أكثر من مرة في الحياة، بل كثير من الخلق مات دون ان يتمتع بمثل هذا المشهد الذي يحمل خصوصية الروح المترنحة بين الموت والحياة، فالموت كائن مستبد يزحف بأطرافها، بتؤدة، ليشارك الرسم العنيف لمعاني العينين الموغلة باقتحام عالم لا نكاد نعرفه، بل نحن لا نعرفه ابدا، انه عالم خاص يستطيع ان يعيشه هو فقط، وخاصة حين يحاول الزحف من اجل الوصول إلى الماء، فتتامر كل اعضائه عليه، ليبقى مكانه، في النقطة المعلقة بين الفناء والبعث، لكنه يشعر بصورة ما، بعاطفة ما، ان جسده تحرك من مكانه، خطا خطوة نحو الامام، فينبثق شعاع غريب من العينين، لم يكن موجودا قبل لحظات، فيه نشوة الحياة، وشبق الوجود، يشعر بالقوة، بالمتانة، يزحف قليلا، لكن الماء يبدو بصورة ما انه يتحرك إلى الامام، فكلما زحف قليلا، كلما تقدم الماء إلى موضع بعيد عنه، تكبو النظرات، تنكسر، ينخسف المحيا، تنتابه هلوسات الصدى والسراب، يخرق عقله خاطر سريع بانه لم يزحف، وان النقطة التي عليها جسده، تملك قدرة جذب هائلة، تمنعه من الوصول إلى الماء، يشعر بالموت وطرقاته تتقدم، يتهدل جسده حتى يبدو كخرقة تتناوبها الرياح، لكنه يبقى معلقا نظراته نحو الماء، نحو الحياة، والألم يعتصر ملامحه ويطحن اماله.
لم أكن بعيد عن قدرة انتشاله من الموت، بل وكنت قادرا على انتشاله من عذاب لوعة الموت الماثلة بين عينيه، كنت – وبادراك يقيني – على خطوه من القدرة المظفرة الكافية لانتشال مشاعر الألم والخضوع والذل والرعب والانهيار المنبثقة من كل بريق مرسل من رحم الموت الذي بدأ يحكم سيطرته على جسده وروحه، كنت على خطوة واحدة لنقله إلى الحياة، إلى الاطمئنان، إلى السكينة، إلى الوضوح والمعلوم.
لكني وبإصرار مركز، ممنهج، بطريقة انبثقت بداخلي، تركته بين أنياب الموت، الموت البطيء، الملتف حول جسده، وحول روحه.
كنت اشعر بنوع غريب من أنواع اللذة، لذة لا أستطيع شرحها أو سرد تفصيلاتها، لكنها انبثقت من داخلي، لتنتشر وتستحكم في كل مشاعري، وسرت في ذاتي سريان الحياة بأرض غمرها الهمي وملأ تشققاتها وجفافها، كانت لذة من نوع غريب، لم اعهده في ذاتي من قبل، فانا أمام اللحظات الأخيرة التي يحتدم الموت فيها مع الحياة، وانا بنظره الفاصل بين هذين الحدين المتناقضين، نظراته كلها كانت تستجديني، تحزم المها ولوعتها ووجعها وانهيارها وتوجهها نحوي، كحزمة من ضوء في ليل احلك من سواد اللحظة التي يقبع فيها، لكنها كانت تنكسر بفعل الحرارة وضوء الشمس لتسقط في منتصف الطريق، هو شعر بالانكسار الذي حاق بالحزمة، فارسل شهقاته ووجبات قلبه، كانت تصلني، تتصل بشهقاتي ووجباتي، لكنني كنت اسيرا لشعور اللذة، المنبثق من داخلي، انبثاق المجهول بأعماق الصحراء الممتدة إلى ما لا نهاية، كنت أيضا اُنمي قماءتي، احشدها، لتتواطأ مع شعور اللذة، كيما ابقى على مشارف تلك اللحظات المحمومة بين الموت المستبد والحياة التي تقف على خطوات.
ولوهلة شعرت بهبوط الإنسان، اختفاءه من بين الضلوع، أحسست بألم عابر، متدفق، لوهلة، أو هنيهة.
كنت أفكر بكل ذلك، وهو يزحف نحو الموت، والألم واللوعة والانهيار، كلها تتكدس وتتمحور ببؤبؤ عينه اليمنى، شعرت بالقماءة، بالنتانة، لكن اللذة عادت لتتركز بداخلي من جديد.
كان يحفر الأرض بأصابعه المنهكة، يحاول بكل ما تبقى فيه من أمل في النجاة أن يزحف نحوي، لو تعلمون معنى الأمل المتبقي بلحظات الحياة الأخيرة، لو تعلمون؟ لكنتم أكثر قدرة على لمس الموت الزاحف بين الجنبات، ولكنتم قادرين على لمس الحياة التي تحاول خنق الموت.
ولأدركتم – وببساطة شديدة – كيف تنمو القماءة بالمَشَاهِدْ، كيف تتبلور وتتشكل، لتحيط بأسوار الروح والوجود، وكيف يتكتل العفن ويتجمع، كبؤر مفتوحة؟
زحف خطوة، حمل ذاته المغروسة بالموت، بقدرة لا توصف، لا تحاط، ومن عينيه كان يزحف بريق رجاء، استغاثة، زحف قليلا، أحس بالنشوة، فروحه المغادرة، رأت باقتراب الجسد نوعا من الخلاص، من العودة للوجود، للحياة، لكنه فقد كل شيء، فقده مره واحده، واندفعت الدنيا من البريق الذي كان يتمحور بين ناظريه، حين سحبت قدمي للخلف، تشبث بالتراب، بأصابعه، بشعر جسده، بمساماته، واندفع اللوم من أحداقه.
كيف يستطيع إنسان يهوي نحو الموت، أن يمتلك نظرة لوم؟
تعمق الألم به، وتجذر الموت، انسحبت قليلا للوراء، إمعانا بإيلامه، بتعذيبه، باستخراج الموت من ذاته لينتصب أمام عينيه، ليفقد كل أمل بالعودة.
تقدمت قليلا نحوه، بتؤدة حلزون ممعن في البطء، دققت في عينيه، تساوت لحظات الموت مع الحياة، انبثق أمل غريب، من بين سراب النجاة ومعين الموت، كل الأشياء وكل التكوينات بدأت بالظهور الفوري، غرائب ممتزجة بخيال الأساطير، طرواده، طرواده كلها بدت واضحة في بؤبؤ عينيه، الصحارى والمحيطات اجتمعت ببريق الرجاء النامي مع كل حركة عدم مرهونة بالقدم.
كنت أمعن مع سبق إصرار وترصد بحشو الأمل في لهيب الموت المتأجج بين جنبات الحياة الذاوية ببطء لتنقل خطوات لا تتقدم ولا تتأخر، لماذا؟ وهل هناك لماذا؟ أليست القماءة نوعا من أنواع الوجود؟ الشعور بالتفوق لحظة الإحساس بالقوة الكامنة، أليس هذا نوعا من جنون ترفده الحياة برافد الوجود؟ ثم ماذا كان سيفعل لو كان مكاني؟ اعرف بأنكم ستجيبون بأنه كان سينقذ الحياة من الموت، أو على اقل تقدير، انه كان سيحاول ذلك.
كيف لكم أن تجزموا بهذا؟ كيف تضعون أنفسكم كمن يعلم الغيب الذي لن يستعاد، هو سيموت، وسأتركه يموت انتقاما من اعتقادكم بأنه كان سيحاول أن يفصل بين الموت والحياة، أو انه سيحاول ذلك، هل رأيتم كيف تنبت القماءة والنتانة من نفوسكم لتنغرس بنفسي، وكيف أنكم باعتقادكم هذا كنتم مشاركين في نقله من الحياة إلى الموت؟ انتم تستغربون ذلك، لأنكم لم تتعودوا على الاعتراف بما تملكون من نوازع تقود نحو القماءة والنتانة، أما أنا فاني اعترف بذلك، دون أي حاجة لاعترافكم.
في تلك اللحظات المشحونة بألم الموت والاستهجان، كنت اشعر بذاتي تنمو، تكبر، تتخللها مفاتيح السعادة والحبور، كيف لا، وأنا املك بخطوة واحده انتزاعه من الألم والرعب واللوم والاستهجان، وأنا، أنا من بيدي أن يدفعه نحو الشعور بالحياة، نحو الإحساس بالنجاة، أنا، وأنا فقط، من يستطيع أن يجعله على اقل تقدير أن يشعر، بإمكانية العودة للوجود، ولو للحظات.
ولماذا علي أن افعل ذلك؟ لماذا علي أن أوقف حفر أصابعه بالتراب، وأوقف دفع قدميه اللتين انتشر بهما الموت.
حين خرجت الجنازة، كانت بسيطة، بل لم يكن هناك ما يسمى بالجنازة، وإنما أردت أن اكذب عليكم ولو لوهلة قصيرة، فشعور اللذة بالكذب عليكم يتشابه مع شعور اللذة التي انتابتني وأنا أشاهد الحياة وهي تزحف خارج جسده.
ولا اعرف لماذا حين انظر إليكم وأنا اكتب هذه السطور، والمح وجوهكم من بين الكلمات والفواصل، اشعر بنفس اللذة التي داهمتني وأنا ارقب عذاب الموت بعينيه.
نعم، أنا اشعر باللذة لأني استطعت أن اكذب عليكم ببضع كلمات، وأستطيع أن أتخيل وببساطه عمق اللهفة التي ارتسمت على محياكم، وانتشرت بخلايا دماغكم حين أردتم الاسترسال بمعرفة تفاصيل الجنازة، وأستطيع أن أشاهد الانكسار والخيبة اللتين رافقتا ملامحكم وانتم تكتشفون بالسطر التالي الكذبة التي انطلت عليكم لهنيهات.
هل أصبتم بالغضب؟ رائع هذا.
هل شعرتم بالخيبة والانكسار والانحسار؟ هذا اشد روعة وإثارة.
أتعلمون لماذا؟
لان القماءة تحتاج إلى غذاء، إلى روح تبعث في جسدها، والحقد يحتاج إلى وقود متواصل، ليكبر وينمو بالأعماق، تماما كاللبلاب الذي ينتشر ويتوزع على أغصان الغابة وأشجارها، ليصبح هو المكون الوحيد للموت بتغطيته أشعة الشمس عن تلك الأشجار وتلك الأغصان.
ستتهمونني بالجنون، وربما بالغباء، وربما بالهبل، لكنكم ستقتلوني فقط حين تشعرون بالشفقة علي، أو بالتعاطف مع حالتي النفسية.
ها أنا أسلمكم مفتاح وجودي وعدمي، أعرفكم على طريقة خلاصكم مني، وأمنحكم الفرصة الأخيرة لتستطيعوا الانتقال من لحظة الانشداه إلى لحظة الفعل، وهي فرصة قصيرة العمر، لن تدوم طويلا، لذا عليكم التفاعل معها بسرعة البرق والرعد، لان اللحظات القادمة تحمل مضادا قويا ضد داء شفقتكم وتعاطفكم، الفرصة للخلاص مني لا تتكرر، اغتنموها خيرا لكم من الاسترسال بقراءة بقية السطور، ان العظمة تكمن بقدرة السيطرة التامة على نوازع النفس في اللحظة الحاسمة، وهي التي تقود إلى تحقيق النتائج التي يعتمد عليها، اما ترك الذات تستلم للسطور، لما في القادم من تفاصيل وأحداث، فهذا ضعف قاتل، يسلب منكم القدرة ويحولها إلى عاطفة تتحول وتتقلب مع الكلمات والسطور، وبهذا تسلمون أنفسكم كما سلم هو روحه، صحيح أنني أمنحكم مفتاح الخلاص مني، من قماءتي، ولكني أيضا أجعلكم تلهثون خلق القادم، خلق الكلمات والسطور التي ستشكل حدثا لا يمكنكم تركه أو الابتعاد عنه، لهذا فانا اشعر بالأمان، بالطمأنينة، لأنني وانا اسلمكم مفتاح وجودي، اعرف تماما كيف استخدم مفتاح خيبتكم وهزيمتكم، وهذا ما يدفعني للشعور بالتفوق عليكم، وعلى كل ما تملكون من قدرات وامكانات.
المضاد دخل جسدي، تبرعم ونمى وكبر وتجذر، كان عليكم أن تتركوا الصفحات والأسطر، وتعلنوا شفقتكم وتعاطفكم معي، حتى يمتد داءكم إلى روحي وقلبي، لكنكم بقيتم أكثر أنانية وضعفا من ترك الحروف والكلمات، كنتم أكثر عجزا من ممارسة الفعل، وقبعتم خلف رغبة جامحة بالتواصل مع القصة، لماذا؟ وقد سلمتكم مفتاح وجودي وعدمي، التصقتم بالعجز والأنانية؟
سأمنحكم فرصة أخرى، يوما ما، لملاحقة وجودي وكياني، وسأعطيكم وعن طيب حقد وضغينة، مفتاح وجودي وعدمي، ولكن يبقى الفعل منوطا بكم، بقدرتكم على الانسلاخ من بين الكلمات والسطور، لتستخدموا المفتاح، ولكن الفاصل الزمني بين منحي المفتاح لكم، وبين ضرورة استخدامه ستكون اشد قصرا مما مضى، وأنا بخبرة الدهاء والمكر، أمنحكم ما أنا على يقين مطلق ومتناه بأنكم لن تستطيعوا استخدامه أو معالجة أمره.
وأمارس كل ذلك لأخلق وقودا دافعا ومتجددا للحقد والضغينة والقماءة التي تكاد تذبل كلما شعرت باقترابي من تكوينكم المجهول والغامض.
في الحقيقة أنا أسوقكم سوقا إلى موارد تكويني، لأستطيع أن استل من بين جنباتكم ما احتاج من وقود، ولا يهمني أبدا حجم الضمور والتلاشي الذي سيلتصق بكم، فوجودكم وعدمكم لا يعنياني بأي صورة من الصور.
كثير من النقاد، وانتبهوا الآن جيدا لما سأقول، فليس من عادتي تكرار القول، ولا من عادتي الاهتمام بمدى نضجكم لفهم ما سأقول، وإنما بدافع من فرحة الألم الخارج من عيونكم، أحببت أن أنبهكم لما سأقول.
كثير من النقاد سيقف أمام هذه القصة، سيحاولون الغوص بالمفهوم والدلالات، بالمغازي والمعاني، بالبناء الهيكلي للقصة، باللفظ المختار في هذا الموقع أو ذاك الوصف، وسيخرجون بعد جهد طويل، بصفحات تغص بالتحليل، ربما ساقرأها، وربما لا أستطيع ذلك، الأمر منوط باستخدامكم للمفتاح القادم، والذي سأمنحكم إياه بلحظة حاسمة من لحظات وجودي، فان استخدمتموه جيدا، فلن أستطيع أن اقرأ ما كتب عني وعن القصة، وان أخفقتم، وهذا ما اعرف وما أثق به، سأقرأ الكثير الكثير من النقد، وربما بدافع من الحقد والضغينة، أقوم بالرد على بعض ما اقرأ.
سيقول بعض النقاد، بان العمق الكامن بالفكرة، تجاوز حدود الكلمات، وانطلق ليعانق النفس الإنسانية ويتوغل بمكنوناتها، بطريقة تدني وتبعد، تقصي وتقرب، وان الكاتب استطاع أن يأخذنا برحلة ضياع فيها من الوضوح والشفافية ما يجعلنا نشعر بان الضياع والمجهول والغامض مكونات نستطيع ارتيادها بثقة تؤصل معرفتنا بما هو واقع خلف الحدود والسدود.
وسيقول بعض آخر، بان الكاتب حار بين الفكرة وبين الكلمة، فكانت الإسقاطات القادمة كوميض من ضوء مجهول، تتوهج وتخمد، تماما كاقتراب الفكرة من لحظة الميلاد، وابتعادها عن عنق الرحم.
وسيقول بعض آخر، بان الكاتب لم يملك شيئا ليقول، لذلك وقع في مأزق اللافكرة واللاقصة واللاهدف.
الجميع على حق، أتدرون لماذا؟ لأني اعرف يقينا ما أريد من الفكرة، واعرف وبيقين متصاعد، الدلالات المرسومة بين الحروف والكلمات.
ولأني أيضا أتوهم باني عرفت ما أريد حقا، اعتقد بان ما يقال هو الصحيح.
ولأني لا اعرف ما أريد، يكون الأمر هنا قد انتهى.
أتريدون الحقيقة، كانت هناك جنازة، ضخمة تمتد من أول الشارع إلى آخره، وكنت أنا احد السائرين بها، خطوات الناس كانت سريعة إلى حد لا يصدق، وكأنهم يودون الخلاص من الجثة بأسرع ما يمكن، بعض الناس قال: بان سرعة الخطى تدل على نقاء روح الميت، والبعض قال: إن سرعة الجنازة تدل على حجم العذاب الهائل الذي ينتظر الميت، والبعض كان موزعا بين النقاء وبين العذاب، لكن الخطى تثاقلت فجأة، ووصل إلى يميني رجل كان يحمل النعش، تأفف بشدة، واشتكى من ثقل الجثة غير المعهود، وود لو يستطيع أن يجلل الجثة بالنقمة والغضب.
على يساري تماما، كان رجل آخر يحمل بالنعش، أبدى تعجبه من خفة الجثة، وعلق كأن التابوت بلا جثة، نظرت بوجهيهما، حاولت الغوص بتفاصيل النفس المخبأة خلف الألفاظ، ولكني عجزت.
احد المشاركين بالجنازة، رآني، قال: يقتل القتيل ويمشي بجنازته، نظرت إليه وابتسمت، أشاح بوجهه عني، لكني اقتربت منه وهمست بأذنه، سأمشي بجنازتك خلال أيام، فانا أشاهد جثتك المطروحة على كومة من نفايات المدينة، وسيسبك من يغسلك، وكل من سيشارك بغسلك، وستكون لعنة على ذاتك مذ لحظة الوفاة وحتى تنزل القبر.
حتى الدود الحقير، سيأكلك كرها، حتى لا تمتد لعنتك إلى تراب القبر، أو جذور النبات المزروع بالمقبرة.
نظر إلي وهو يدفن الرعب النافر من عينيه، ود لو يسمع ما يدور بصدري، تنبه إلى خطورة القول من البريق الملتهب الصاعد من العينين، لكن صوت الناس وهي تكبر وتهلل نقله إلى موضع آخر.
الجنازة كانت كبيرة، تضاهي جنازة احد الأغنياء المنافقين، أو جنازة ملك من ملوك العرب، وربما جنازة رئيس أو سلطان أو أمير أو حاكم، لكم أن تختاروا من جميع هذه المسميات مسمى، تحبون وتستعذبون، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أبدا، أنني انتقلت إلى وجوه الناس في الجنازة، والى ألفاظهم وهمهماتهم، كلهم كانوا يسيرون نحو هدف.
نقل الجثة المنهكة المعفرة بالعناء واللوم والانشداه، نحو قبر عميق، تتكوم فيه الظلمة والعتمة، تكوم الجنين وسط الرحم المنزوع من ذاكرة الإنسان، ربما لأنه رحم امرأة سوداء حطمها الجوع والعطش، ونفاها المجهول والغامض إلى مناطق لا يستطيع اكتشافها إلا إنسان قميء مثلي.
الرجل الذي أنهك النعش كتفه، كان يحمل نوعا من القماءة، لا يمت لقماءتي بصلة، فانا وقفت أمام إنسان يحاول أن يتخلص من الموت، أن يهرب من براثن الفناء، وكنت حقا قادرا على انتشاله من هذا الإحساس المتراكم الساقط فوق بعضه كطبقات من ظلام موغل في السواد والعتمة، ربما لدقائق، أو أيام، وربما سنين طويلة، ولكن، الم يكن ذلك خيانة للموت القادم من مساحات مجهولة، وهو متهلل الأسارير، يحلم بغذاء مقذوف فوق الرمال بلا حول ولا قوة، الخيار كان اشد صعوبة مما تتصورون، أضف إلى ذلك شعور القماءة والنتانة المتكونة بشكل تصاعدي داخل ذاتي.
ماذا علي أن افعل، اعترض الموت واقف مع الحياة؟
أم اعترض مجهول ذاتي المتصاعد بنمو الغابة ومجهول الصحارى؟
أأقف مع الحياة؟
ولماذا علي أن اختار بين كل ذلك، فالرجل الذي قال " يقتل القتيل ويمشي في جنازته " امتلأ رعبا وهلعا، حين أخبرته بأنه سيكون جثة معزولة فوق كومه من النفايات العفنة، ابتعد عني وكأن مسا من نار الجنون والصرع اقتحم تكوينه الداخلي، تماما كالبركان المتفجر للحظات من بين أنياب الصخر وطبقات الأرض.
البركان يظل يضغط على ذاته، على تكوينه وبؤرته، ليستجمع كل قوته وعظمته، فيشق الأرض ويندفع، تماما كالموت الذي كان يتقدم نحو الجثة المسجاة على النعش المحمول.
ظل يقترب قليلا قليلا، يتجول بين ضلوع الرجل، وينسحب في حبات الرمل، وفي تكوين اللحظة، كنت اشعر بخفقاته وأنينه، بشهيقه وزفيره، وكنت استشعر القماءة وهي تراقب المشهد، والنتانة وهي تلتحم في ذات النواة المكونة للأشياء، وكنت أنا موزعا بين الشيء واللاشيء، بين المجهول والمعلوم، رغم أن المعلوم ليس له أي وجود في تلك اللحظات.
الرجل صعق حين سمع ما قلت، وأكاد اجزم يقينا، بأنه استجمع بطريقة مذهلة تشبه سرعة الصوت والضوء، جثته المكومة على نفايات قذرة، تشبه ذاته وتكوينه، ولا تختلف عن ذات وتكوين الكثير ممن يسيرون في الجنازة وهم يفكرون بصعوبة العودة للمدينة مشيا على الأقدام.
جزء ممن يسير بالجنازة كان يحمل هم العودة إلى المدينة مشيا على الأقدام، وكان يتحدث بأسلوب المقهور العاجز عن تبديل طريقة العودة، وكان الأسى على تلك العودة، تحت سياط الشمس اللاهبه للجسد، يقطر سوء وقماءة، لا تتشابه أبدا مع مكون القماءة الذي اعرفه.
تقدمت من الرجل مرة أخرى، وهمست له بفحيح الشمس ولزوجة العرق الهاطل، سيكون نعشك اشد قدما من هذا النعش، لان هذا النعش الجميل المنمنم سيكون من نصيب ميت آخر، ستصدمه سيارة نقل الموتى، على باب مقهى مزدحم، ووسط نداءات سوق الخضار الملاصق للرصيف الذي تتكوم فوقه بسطات الأحذية والنثريات.
أصبح على حافة البكاء، حاول أن يبتعد عني، لكن انهيار الشيء بداخله دفعه للبقاء القسري بجانبي، لم يكن يملك من الإرادة والشجاعة ما يؤهله لان يتجاهل كلامي، وأنا بما املك من خبرة الخبث، كنت اعرف أن صدى جملي لن يفارق دماغه بأي شكل من الأشكال.
تحركت القماءة الممزوجة بالخبث، شعرت باللذة تتفاقم وتتعاظم بذاتي، فانا قبل ساعات، وقفت مدافعا عن الموت وتركت الجسد المسجى بالتابوت ينال من الألم والأمل عذابا لا يوصف، ثم تركته يموت، تماما كأي دودة حقيرة يسحقها المتقزز بقدمه.
وها أنذا وببراعة لا توصف ازرع شعور الموت وهاجس الفناء بشخص يسير مع الميت إلى حيث تنتهي الأجساد وتتلاشى.
المعادلة لا تتسق ولا تنتظم، فصوت الزغاريد القادمة من عرس على تقاطع الطريق المؤدي إلى المقبرة، أصابني بشعور الغثيان المرافق للتقيؤ، حتى الأكتاف التي كانت تحمل الجثة، تراخت قليلا على صوت الموسيقى الصاخبة الضاربة للأجواء.
وفجأة صمتت الموسيقى، وأقفلت حناجر الزغاريد وكأنها غُطِسَتْ بحنظل وشيح، وبدأت أسراب البوم والغربان تحلق فوق مساحات المشهد، لم يكن أمام الموسيقى سوى الانزلاق نحو الصمت، نحو الخضوع للجنازة التي كانت بدايتها تشق الشارع الصاعد نحو المقبرة، هنا، يمكننا ملازمة الموت الذي يستطيع ان يسحق ملامح الحياة بمن هم يخفقون بالروح، فالجنازة شكلا ومضمونا تقود إلى فكرة الموت، الفناء، التحلل، المجهول، الغامض، ونحن كبشر نخاف مثل هذه المفردات وما تحمل من أحاسيس تنبت فينا عندما تلتصق بجنازة أو بجثة مكومة هنا وهناك، لأننا وفجأة، نهبط إلى الشعور الخفي الذي يلازم الموت، المجهول الذي لم نحاول ملامسته أو اقتحامه في يوم من الأيام، وإنما تركناه يعشش في أفكارنا، في هواجسنا، حتى تحول إلى كائن مرعب، نحسه فننهار أمام قوة تأثيره، لكننا لا نراه، أو حتى لم نفكر يوما بعقد صداقة تقودنا للتقدم نحو تكوينه بفرحة واندفاع، لأننا ما زلنا نحمل الطين على انه المكون الأساسي لشخصيتنا ووجودنا، ولم نفكر بالروح التي منحت الطين الحياة والتشكل بالصورة التي نحيا عليها.
ربما، بل وأنا اعتقد بشكل جازم، بان من كانوا في الحفلة، فكروا بطريقة متناقضة، منهم من تمنى زوال صورة الجنازة بسرعة حتى يتخلص من شعور الفناء، ويعود إلى شعور الطين، ومنهم من تلوت نفسه ألما على الميت وأهله، ومنهم من لم يهتم بأي فكرة، بل ظل صامتا وواقفا احتراما للموت كما عودته التقاليد، لكن بين هؤلاء جميعا، من شعر برجفة مفاجئة قذفته باتون الخوف والرعب، فانسل من بين الجميع وهو يكدس ذاته بين الالم والرعب والهول من الساعة التي سيكون محمولا بهذه الطريقة فوق الاكتاف نحو المرفأ الاخير، حيث لا موسيقى، ولا بشر، فقط عتمة شديدة الدموس، وعالم مجهول لا يستطيع البشر الاقتراب منه أو معرفة تفاصيله، لكنه بالتأكيد لن يكون النهاية، لن يكون الفناء، والا لانقلبت معادلة الحياة، وقوانين العدالة، إذن، ما هو شكل الحياة بعد ان يغادر الناس المقبرة؟
لفتحه الفكرة بقوة ضارية، وبدل الانسلال نحو المدينة، حول قدميه، وتبع الجنازة، لم يكن هو الوحيد الذي سلخ الطرب والنشوة من ذاته، وجاء ليرقب اللحظة التي يهال التراب فيها على الجثة، لتغلق صفحة من معلوم، وتفتح صفحات من مجهول.
اقتربت من الرجل مرة أخرى وهمست له، أترى أسراب الشؤم فوق المساحة التي نسير عليها؟ هي تستعد لموتك القادم، تحمل رسالة الفناء الزاحف من المجهول إليك عبر مساحات صوتها الذي اصمت الحناجر.
نظر إلي وقد تمكن الرعب من التجوال في كل مفاصله، الموت ليس بالكلمة التي يمكن الفكاك من براثنها، وخاصة إذا التحمت بالنفس والروح بلحظات سيطرة الموت على الموقف والحدث الرافد للحظات المتكومة برحم مجهول ما نعرف عن مجهول القبر ووحشته.
الحفرة الصغيرة، التي يسجى بها الجسد، لا تؤثر بمخيلة المجنون والمصروع، ولا تؤثر حتى بمخيلة الطفل، لكنها تبدأ بالنمو والتركز كلما بدأ الوعي بالنمو والنهوض، وهي عند الجميع مجهولة، قد يحاول البعض إيجاد طقوس وفلسفات تحاول أن تضعه على حافة معلوم، لكنها في النهاية، حفرة تغص بالظلام الهابط من العقل قبل أن تلتحم بظلمة التراب المهال جوفها.
اقتربت من الرجل من جديد، قلت له:- أتعلم بان الدود يستطيع التهام الجثة خلال ثلاثة أيام، حسب حجمها ووزنها طبعا، ولو فتحت القبر، لتعانقت الرائحة مع كم كبير من الحرارة، فالدود – حين تنزل إليه – وهو الآن بانتظارك – يقوم بإفراز كميات من الحرارة حتى تفسد الجثة وتتفسخ، ليتمكن من هضم اللحم بسهولة وسرعة، الدود يعرف ما يريد حقا منك، ويعرف كيف يمتصك حتى النهاية، الفراعنة ربما أدركوا ذلك بصورة ما، فقادهم الرعب إلى ابتكار التحنيط المبكر، ولو دققت قليلا في المعادلة الفرعونية، لعرفت بان ملوكهم ضحوا بأجساد الشعب من اجل حفظ أجسادهم، وانتزعوا العرق والنصب والجهد والأمل من أرواح الناس من اجل إنشاء مقابر، ظنوا أنها ستنقلهم إلى حياة أخرى.
وانتم تشاركون اليوم باحتقار الملايين ممن سقطوا في تلك الحفر تنفيذا لرغبة الملوك الذين عاشوا يفكرون فقط – بالخوف والهلع والرعب – من فكرة الفناء.
الأهرام – المقابر – من عجائب الدنيا، لماذا؟ لان القماءة والنتانة والعفن المركزة فيكم، منذ عصور المجهول، تتغذى على الإعجاب بالجماد، الجماد الذي روًى الظلم، وفتح مساحات الألم للملايين التي كانت تقضي تحت وهج الشمس ولفحها، فوق فحيح الصحراء وسمها، خوفو وخفرع ومنقرع حثالة من حثالات الظلم، وعلومهم كلها كانت نابعة من جبنهم الذي تحول إلى سطوة فوق رقاب الناس التي كانت تتساقط فوق الرمال بلا حول أو قوة.
أنا اعترفت منذ البداية باني قميء، وأنني لسبب مجهول أتمتع بعذابات الناس وهي تغادر الجسد لتتمحور في العيون، اعترفت بذلك عن رغبة مني واختيار، ولكن هل تتساوى قماءتي مع قماءتكم حقا، لا اعتقد ذلك، وأنا هنا اشد صدقا منكم، لأنني وببساطه مطلقه اعترف بان القماءة جزء من تكويني، لكنكم حولتم عذابات الناس وآلامهم إلى مفخرة وعجيبة من عجائب الكون.
نظرات الرجل كانت تغوص في الموت، وكنت أنا اشعر بذلك، بل والمسه بنظراتي المركزة وسط الرعب المتحمور في عينيه، صفار شديد اقتحم تقاسيم وجهه وسحنته لكنه – وهذا ما يبدو بوضوح شديد – كان عاجزا تماما عن الابتعاد عني ولو خطوة واحدة، شيء ما كان يشده نحوي، تماما كالجثة المحمولة إلى مثواها الأخير، حيث الدود بدأ يستعد للخروج منها لالتهامها، الفرق الوحيد أن صاحب الجثة كان يقترب من الموت دون أمل في الحياة، إلا الأمل الذي يبزغ من حركة قدمي وهي تتقدم نحوه إمعانا بتعذيبه، أما هذا فانه كان بشعور ما، يحس بالموت والحياة بنفس المقدار، وكان يتوزع بين الألم والأمل، وما كان ينقله إلى الموت كلامي المغرق بالتشاؤم والسواد.
دخلت الجثة المقبرة، بعد طريق مليء بالتناقضات، الوحشة والرهبة تجلل المكان، والشمس المتدلية كبركان مثقوب، تشارك في تلويح النفوس والأفكار، الأعشاب مصلية، والحراذين تنتشر بين شقوق القبور المتصدعة، وشجيرات موزعة هنا وهناك تنازع الوجود والشمس، وسكان المقابر يلوذون بصمت عميق، موغل بالصمت والمجهول، ترى لو نبشنا الآن بعض القبور، بصورة عشوائية، هل تستطيع الجثث أن تدافع عن نفسها؟
توزع الناس، منهم من انشغل بقراءة الفاتحة على قبر قريب أو عزيز، ومنهم من التجأ إلى سور المقبرة أو ظل شجرة جرداء ليشعل دخينة، ومنهم من بدأ بنبش سيرة الميت والاستهزاء من وجوده السابق على صفحة الحياة، ومنهم من كان يتأفف من ورطته في الجنازة.
بدأ التراب يهال بعد أن أغلق اللحد، اقتربت من الرجل، وهمست بأذنه، هنا ستكون أنت قريبا، وسيهال التراب على جسدك كما يهال الآن، ولكني لن آتي أبدا لأراك وأنت تغادر الأرض إلى جوفها.
وفجأة بدأت القماءة تنزل إلى مستوى خطير في ذاتي، وترافق هبوط مستواها مع سؤال بدأ يلح علي بقسوة، لماذا لم تحاول إنقاذه؟ وما قيمة القماءة قياسا بقيمة الروح والنفس؟
لا اعرف كيف تلاقت عيناي بعيني أخ الميت، فهو رجل طويل القامة، منتصب الصدر، في خديه كسوف واضح، وشحوب موصول بنظرة تتمايل وتتراقص بين المجهول والحيرة، انفه طويل مستدق، معقوف نحو الأسفل بشكل علامة ذكاء كما يقول البعض، يرتدي ملابس تميل نحو السواد، تتناسب وتتناسق مع لحيته الغزيرة الضاجة بالسواد.
لم تكن علاقته بالميت علاقة وطيدة، وحتى أنها لم تصل إلى علاقة المودة، كانا منفصلان في كل شيء، ومختلفان في كل شيء.
حتى التقاسيم، لم تتمكن الوراثة من المزج بينهما، ولو بصورة بعيدة، هذا فارع الطول، أما الميت فكان ينزل إلى القصر بشكل تدريجي، حتى ليخيل إليك أحيانا انه يتقزم يوما خلف يوم، ضعيف البنية، وان بدا ذو شكيمة قوية، فيه غضب لا يوصف، فهو ملتهب كبركان متقد، ممتلئا بحيوية مفرطة، وما يميزه بوضوح غير مشوب بشيء، انه يملك نظرة تستطيع اختراق الجدران والجبال.
أخوه، كان رغم كل الصفات الجسدية التي تقود إلى قوة يجب أن تتساوق مع ذلك الجسد الرحب، كان يبدو ساهما، وكانت عضلاته المفتولة البضة اللامعة تخضع إلى عجز غير معروف، نظرته تحمل انكسارا جليا، كفارس مهزوم، موبوء بالهزيمة.
اليوم، تبدلت النظرة الموجهة نحوي، بدت قوية، تشع عزيمة وتفيض متانة، ولوهلة شعرت بأنها ستقود نظراتي نحو هزيمة مخزية، لذلك تراخت مشاعر القماءة وتضاءلت، وكان عليه وعلي، أن نصمد أمام التحدي، فإما أن يتلاشى شعور القماءة من ذاتي، وبذلك ينخسف وجودي ويتلاشى، وإما أن تصعقه قماءتي، فيعود ذلك الفارس المهزوم الموبوء والغارق بالهزيمة.
ترى، هل عرف كيف عذبت أخاه قبل الموت؟ وحتى لو عرف، ماذا بإمكانه أن يفعل الآن؟ نحن الاثنان في المقبرة، أمام الموت، وفي حضور المجهول، وهيبة الصمت، نتحدى بعضنا بالعيون، نجلد اللهب المتساقط من الشمس بأفكار ونوازع تتقاسمها قماءتي مع ما لا اعلم من كنه ذاته في هذه اللحظة.
أمهما كانت امرأة طيبة، مفرطة بالطيبة، تحمل من الأرض والظل والندى الكثير، لديها بسمة محشوة بالبراءة والعفوية، وحين تحدق بوجهها تشعر بشيء غامض، تنتشي، تزدهر، تحس بالانبعاث، لم تشاهد في يوم من الأيام تذرف دمعا، لكنها كانت تعتصر الألم والدموع بقلبها النابض بالمأساة والهول، حتى لحظة وداع ابنها قبل خروجه إلى المقبرة لم تسقط دمعة واحدة.
كانت شاحبة كورقة شجر أسقطها الخريف، قابلة للتكسر والتشظي، أدارت وجهها بين الجميع، تفحصت الوجوه، وحين التقت عيناها بعيني، أحسست بانفجار الكون كله، ضجيج هائل غطى المكان، لف الوجود، كانت على وشك أن تنتزع قماءتي من ذاتي، لكنها، وبلحظة أسرع من لحظات الوجود، أشاحت ببصرها عني.
لو استمرت لحظة واحدة، لكانت الجنازة مزدوجة، لكنت أنا وابنها نسير بنفس الركب نحو المقبرة.
لكنها تراجعت، بتوقيت لا تعرف كل علوم الدنيا حسابه، قبلت جبهة الجثة، لم تذرف دمعة، وخرجت إلى ساحة البيت، لتشاهد النعش وهو يغادر المكان إلى غير رجعة.
بين نظرة الأخ والأم، اختلاف جذري، فهذا يستمر بالتحدي، لكنه لا يملك أبدا مقوما للانتصار، وأنا بدأت قماءتي تتصاعد، تتكثف، تتوالد، تترتب، وإذا ما أمعنت النظر فيه، وهذا أكيد، سأقوده إلى حفرة مجاوره لحفرة أخيه.
هاجمتني طيبة الأم، ردتني إلى مناطق خالية من القدرة على الاستمرار، وحولتني بطريقة ما إلى شخص يمكن له أن يطرف بعينيه، يمكن أن يتنازل عن التحديق المجذر بالنفس والعقل في آن، ترجرجت القماءة واهتزت، بدأت تجول بالصدر كنار حارقة لاسعة، حالة الانهيار والتساقط بدأت تغزو ذاتي، بطريقة ملفتة للقماءة ذاتها، راحت الأفكار تتشابك وتتصارع، تلتحم وتتناقض، الحفرة القادمة لن تكون حفرة الرجل أو الأخ، بل ستكون حفرتي، على القماءة أن تتحرك بأسلوب جديد، مغاير تماما للعهد السابق، عليها أن تخوض معركة الوجود أو اللاوجود، معركة البقاء أو الفناء.
المعركة ليست معركتي وحدي، وأنا الآن أدرك باني إنسان غير قميء كما أخبرتكم وكما كنت اعتقد، المسالة لا يمكن فهمها أو شرحها بأي طريقة من الطرق، أو بأي أسلوب من الأساليب، هي اكبر من قدراتي وقدراتكم، أو هكذا نظن، وربما نحن أردنا وعشقنا مثل هذا الظن، فالقماءة التي احملها أنا – أو هكذا كنت أظن – تولدت من واقع يغص ويمتلئ بما هو مسكون فينا، فينا جميعا، نعم هذا هو الصحيح، وهكذا تجري الأمور.
مالي اصدع رأسكم بما لا تفهمون ولا أدرك، فانتم لا زلتم تعتقدون أن الميت حمل جراحه من معركة، وانه كان بطلا بصورة من الصور، وهذا غير صحيح، فهو كان قميئا إلى حد لا يمكن تصوره، تماما كأصحاب الأهرامات، الذين حاولوا أن يحفظوا أجسادهم للانتقال إلى حياة أخرى، دون أن يفكروا للحظة بأجساد العمال والفقراء الذين تلوحت قلوبهم وأرواحهم تحت وهج شمس تصلي الأفئدة والأرواح، دون أن يفكروا لماذا كانوا هم أحق بالبقاء من أولئك الذين عذبتهم الشمس وعذبتهم رياح الصحراء الباردة.
لو كنت حيا يومها، لحملت الفأس وغرزتها برؤوس الملوك، الذين كانوا يظنون أن قماءتهم ونتانتهم أغلى وأقيم من عذاب الناس المفارقة تحت لسع السياط والعبودية.
وهذا ما فعلته تماما مع الميت، حين كان يستجدي الحياة من حركة قدمي، لم أكن بحاجة لفأس لأزرعه برأسه، كل ما كنت بحاجة إليه أن اترك قدمي تتقدم وتتأخر، وكنت إذ ذاك أدرك معنى العجز والرعب والهلع القادمة كلها من خطوات الموت، لكنه لم يكن يدرك ذلك حين مارس جريمته، وذبح من ذبح بدم ابرد من دماء الانجليز، الفرق بالعينين هائل، لا يمكن حصره بكلمات أو عبارات، ولكن يمكن إدراكه بالتصور المراقب للاختلاف والتوزع بين شخصيتين لا يمكن الجمع بينهما في إنسان واحد.
لكنها رغم استحالتها، تتحول إلى حقيقة، ناطقة، يمكن سماع همساتها وصراخها الأبدي عبر العيون وعبر الصمت الساكن في النفس والروح، سكون الغموض الذي يجلل الصحارى والمحيطات، يمكن للإنسان أن يعرف كيف يتحول من طاقة قادرة على تدمير الكون، إلى كتلة من الخوف والرعب والهلع والجبن، إلى عينين تضخان التوسل والاستجداء من حركة قدم تنتعل حذاء باليا تملأه الثقوب ويغطيه العفن.
انتم كما النقاد، تبحثون عن الكلمات، عن الرصف والتنضيد للجمل، لكنكم ما زلتم لا تعرفون تماما ما أريد، ولا زلتم داخل ضمائركم تهزءون من هذا التبعثر غير المتصل وغير الممنطق، لكن الحقيقة التي لا تقبل الشك مطلقا، إن كثيرا منكم يعرف بالإحساس معنى القماءة والنتانة، يستشعرها بشكل قوي، لكنه يطردها بأوهام التفاؤل والأمل، بأوهام يصطنعها الشعور، ويبنيها الإحساس، الشعور القائم على العجز، والإحساس المؤسس على الكساح المخلوق من العقل والضمير.
سيقول قائل: ما الفرق بينك وبين القاتل الميت؟ نعم هو سؤال يستحق أن يطرح، ولكن هل علي أن أجد له أجابه؟ وهذا سؤال يستحق أن يبقى بعقولكم قبل أن تطرحوا سؤالكم، ومع ذلك فهناك فرق عظيم بيني وبينه، وبيني وبين أولئك القتلة المنتصبة قبورهم وسط صحراء مصر، وهو فرق واضح، أنني لم اخطط لجريمة بحياتي، ولا اعرف كيف يتم التخطيط لها، كل ما حدث، أنني وجدت جسدا مطروحا فوق الأرض، ينزف من كل المسامات موتا محققا، موتا كان قد أذاقه لأناس ببرودة تفوق برودة الانجليز حين يذبحون ويدمرون، برودة تنحني لها برودة القطبين، وجدته مطروحا، الموت يتمسك بكل ما فيه، يسحبه نحو هاويته العاجة بالدموس، وأنا كنت على خطوات بسيطة، أستطيع أن امنحه أملا بلحظات حياة.
ولكني لم افعل، وقفت قريبا منه، لأراقب الخوف والهلع النابت من عينيه وهو يدور بين الألم واليأس والأمل والنجاة، وهذا حق من حقوقي، ولولا هذا الحق لما كنت الآن اكتب هذه القصة، التي تلتهم عيونكم ومشاعركم، وتوزعكم بين انفعالات وتراكمات لا يمكن أبدا حصرها أو عدها.
وكانت قدماي، وكذلك حذائي المثقب العفن، يشاركان بطريقة رائعة في رسم معالم العيون الموزعة بين الموت المحقق والنجاة القادمة من حذاء يمكنه لو تقدم أن يغير مستقبل نفس كاملة، مستقبل نفس عاشت فوق الأرض والوجود، ونبضت مع الثواني والهنيهات نبضات لا يمكن للكون أن ينساها.
أتحملون الشفقة على الميت؟ لقد مات، انتهى دوره في الحياة، تلاشى من الوجود، تبخر، وانتهى إلى اللاشيء، غاص في عالم جديد، نسمع عنه، لكننا لم نختبره أبدا، هل أشفقتم على ضحاياه؟ أولئك الذين انتزعوا من الحياة بقرار صغير من عقله؟
الحقيقة انه لم يقتل أحدا أبدا، ومن يدري؟ فربما كان قاتلا رائعا، ينهي حياة الناس بلحظة نشوة أو لحظة غضب، فهو تميز بالغضب الشديد لأتفه الأمور، كان يثور كثور محموم إذا مرت ذبابة قرب انفه ووجهه، ليس هذا هو المهم، المهم هو الشيء الذي لا نعلمه، ولا نود أن نعلمه.
انتهى الدفن، رصت الحجارة على حواف القبر، وقبل أن يبدأ العزاء، لمحت الرجل الذي كنت ازرع فكرة الموت بعقله يقف بجانبي، يحاول بصورة ما أن يجعلني اشعر بوجوده، حدقت فيه، فوجدته شاحبا تماما، مصفرا ومهشما كأرواق الشجر المتناثر بصورة عشوائية على ارض المقبرة.
تبسمت له ابتسامه صفراء خبيثة، كنت بحاجة لرفع نسبة القماءة بذاتي، كي أستطيع أن أتنفس، وكي ابعد طيبة الأم من ذاكرتي إلى زمن غير موجود بمساحة الذاكرة، شعرت بحاجته للبقاء بجانبي، أصبحت محوره الذي لا يمكنه الابتعاد عنه، اقتربت من أذنه، همست، أتعلم بان الجنازة القادمة ربما لن تكون جنازتك، بل وبكل تأكيد أنها لن تكون كذلك، ولكن، عليك ألا تثق بكلامي مطلقا، لأنك تعرف باني أخبرتك قبل وقت ما، بأنها ستكون جنازتك التي لن أشارك فيها، الآن قررت أن أشارك فيها بكل ما املك من طاقة القماءة والنتانة والعفن، وسأشفي غليلي الذي لا يشفى أبدا من منظر جسدك المطروح فوق النعش القديم المتشقق، كما القبور المتشققة الآن.
تدحرجت الشمس لتسقط في عينيه، شعرت برأسه يغلي، نظرت جانبا، كانت هناك حفرة لقبر لم يكتمل، رسمت بخيالي، وبسرعة متناهية، معالم الحفرة، وتقاسيم تكوينه، تطابقت الأشياء والمكونات والتقاسم كلها تطابق التشابه والمحاكاة، راودتني فكرة سريعة، أنا حقا يمكن أن أقوده إلى تلك الحفرة لو تماديت قليلا، بل أصبحت على يقين باني أحث روحه للخروج من الجسد.
قلت لكم باني سأمنحكم مفتاح الخلاص مني مرة أخرى، هذا وعد قطعته القماءة على تكوينها وجوهرها، ونبهتكم، بان الفترة الزمنية للخلاص مني، ستكون اقل زمنا من الفترة السابقة، وحذرتكم من إفلاتها، أو الانغماس في السطور التالية، حتى لا تضيع الفرصة عليكم ضياعا لا تملكون بعده قدرة الخلاص مني أو من ذاتي، وأنا الآن أخبركم، كرما، بان هذا الأمر يقترب، لذلك عليكم التركيز بفحوى السطور والكلمات أكثر، حتى لا تفلت اللحظة الحاسمة من بين أيديكم.
الرجل ما زال بجانبي، ينازع اللحظات والهول والرعب الذي أسكنته بداخله، صعوبة التقاط النفس تقود إلى الموت أحيانا، لكنه كان يجاهد للموازنة بين قدرته على التنفس، وبين تشبثه في الحياة.
قال لي:- أتدري ما هو الموت؟ ونظر نحو الأفق المفتوح، ثم أكمل: الموت ذاته لا يخيف، لكن أن تشعر به يتسرب بين أطرافك، في دمك، أن تعرف انك مغادر الدنيا، وأنت بكامل قواك العقلية، خلال لحظات قليلة، ربما لا تتعدى الهنيهات، أن تعرف ذلك، وأنت فوق الوجود، دون التعرض لرصاصة سريعة تخترق الرأس لتوقف الدماغ عن العمل، أو يخطئك صاروخ كان بإمكانه أن يوزع شظايا شظاياك على الأفق المفتوح أمامك، أن تعرف انك خلال لحظات ستفارق الوجود، ويكون بإمكانك ومقدورك – وهذا ما لا تستطيعه – أن تخترق الماضي كله، لتلمه وتجمعه في ذاكرة قصيرة العمر، ممتدة التصور والخيال، قادرة وبصورة ما، على استدعاء لحظات العمر كله، بكل ما فيها من أحداث وشخصيات، من الم وأمل، من دموع وقهقهة، ثم تشعر , وبلحظة مخطوفة من تلك اللحظات، انك لن تستطيع أن تكمل وداع المشهد القادم من نهايات التصور والاستدعاء.
وبلحظة، كنت أنت تعتقد أنها اللحظة القادرة على إتمام اللوحة، لتسدل الستارة بصورة منتظمة، تأتي اللحظة التي تسبق الستارة، لتوقف كل شيء، والى الأبد.
هذه اللحظة، التي لا يستطيع العالم فهمها أو إدراكها، حسابها أو ضبطها، هذه اللحظة هي الموت.
وأنت، أنت بإيحاءتك تقودني إلى تلك اللحظة، لكن الفرق بين ما قلت وما أنا فيه، أنني أصبحت موزعا بين لحظة استدعاء المشهد بكل ما فيه، وبين العجز عن استدعاءه بسبب تفكيري بالموت والحياة في نفس الآن.
أستطيع أن أؤكد لك، وبوعي مطلق، بان اللحظة التي تختطف الروح قبل إنزال الستارة، أهون بكثير من اللحظة التي تمنعني من تكوين المشهد حين اقفز بذاتي وروحي بين الموت والحياة.
أنت اشد قسوة وعنفا من الموت ذاته، الموت البطيء، أو الموت القادم على مراحل، يمنحك على اقل تقدير أملا غير مؤطر بلحظة النهاية، لذلك تسترسل في محاولة تكوين مشهد الحياة، وأنت تملك أملا بأنك ستستطيع أن تنهي المشهد، ثم تموت.
لكن حين تقف الروح كفاصل بين الحياة أو الموت، فأنت تبدأ في تكوين المشهد النهائي، وقبل أن تتم القسم الأول منه، تأتي الحياة، أو لنقل الشعور بالحياة، يأتي ليهدم ما أسست من المشهد، ثم تحاول إعادة البناء من جديد، فيتهدم، وتحاول فيتهدم.
قلت:- أنت مذهل حقا، إلى حد انك تستطيع الآن التحكم بقماءتي، تستطيع أن تجعلها تختفي، أو تتلاشى، وما يوحي به كلامك، انك دخلت الموت يوما، بطريقة ما، ثم خرجت منه، فأنت تتحدث عن فاصل لا يمكن إدراكه خارج التجربة.
قال:- أنت اضعف مما كنت أتصور، ظننت بادئ الأمر انك ستقودني حقا إلى الموت، حتى أن فكرة غريبة خطرت ببالي وأنا أقف هنا، أترى تلك الحفرة التي لم تكتمل؟ خطر ببالي وأنا مستغرق في التفكير بالموت، إنها تشبهني تماما، حتى ظننت أن لها وجها وفما ويدا، وأنها توأم جسدي المنتصب على الأرض، وللحظة شعرت بأنها ستضمني إليها، لان التوائم لا تحب أن تفترق، ولكن حين دققت جيدا، عرفت بأنها لا تشبهني بشيء، كنت إذ ذاك مدفوعا بشعور فوار بالحياة، واكتشفت أخيرا بأنها توأمك أنت، فلا فرق أبدا بين كل ما فيك وما فيها.
التشابه لا يكون فقط بين الجنس وذاته، وهذه معضلة لم يتنبه العالم لها من قبل، لأنها تتكون خارج لحظات الحياة العادية، تتشكل في مخاض عسير لا ينذر بولادة طبيعية أو قيصرية، بل يزداد إمعانا في تكوين الجنين داخل الرحم، منذ مرحلة التكوين الأولى، إلى مراحل التكون المتتالية، لذلك لم تستطع أنت وغيرك أن تحددوا ملامح الجنين فالشاب فالعجوز المتصل بالرحم.
انتم تعرفون لحظات الميلاد العادية، وتبدأ معرفتكم فقط في اللحظة التي يشق الجنين طريقه إلى الكون بصراخ الرفض ودموع الحزن على مفارقة ظلمات ثلاث، وكلما نما وازداد بكاءه وألمه ورفضه للوجود، حنينا وشوقا لتلك الظلمات، كلما تماديتم بادعائكم أنكم تعرفون تفاصيل الملامح التي يحملها من أبيه وأمه.
لكنكم لا تدركون بأنه يحيا وهو يغذ الخطى من اجل العودة إلى تلك الظلمات، وان التشابه الحقيقي إنما يقوم بينه وبين الأشخاص والأشياء واللحظات والأيام، التشابه بينه وبين حركة الزمن المتلولبة في كنه الأشياء، هي اشد اقترابا ووضوحا، بل اشد نقاء وصفاء من تشابه الملامح مع الأشخاص.
قبل لحظات قلت لك بان القبر المحفور هنا أوحى لي أولا بالشبه القائم بيني وبينه، لكن الزمن حين تحرك، وأدار اللحظات بطريقته، نقلني إلى الاقتراب منك، وأنا اعترف، وهذا أمر معقد، باني كنت اقترب رغبة بسماع مفردة الموت من فمك، لأنك وببساطة تامة استطعت أن تربكني، ونحن نسير خلف الموت المسكون بالنعش، ولكني أيضا، وبدافع من فضول كنت اشعر بحاجتي للالتصاق بك، لا اعلم تماما لماذا؟ ولكني كنت مزروعا بكم من غموض مبهم.
المهم، مع استدارة الزمن، كانت الشمس قد حزمت أشعتها فوق القبر غير المكتمل، في تلك اللحظة، غزتني فكرة الجنين الرافض للخروج من الرحم منذ تكون الخلق، وبشكل متواز مع هذا الشعور، تفحصت تفاصيل وجهك وجسدك، بنفس القدرة التي تمكنني من رؤية الجنين القابع في الرحم منذ أزمان طويلة.
فماذا شاهدت؟ شاهدت مسامات القبر وهي تتحرك بشكل غير مرئي لتستقر في جوف مساماتك، وكذلك الملامح والتقاسيم، كل شيء كان يخرج من القبر ليتوحد في كل شيء فيك.
وكذلك كان يحدث مع مكوناتك، هي الأخرى كانت تنسحب لتتوحد مع مكونات القبر.
مالي أرى الشحوب يقتحمك؟ الم تكن قبل قليل تزرع نظراتك بنظرات أخ الميت؟ وكأنك تود أن تقوده نحو القبر؟ لقد كنت أرقبك من بعيد، بنظرات الجنين الذي اعرفه ولا تعرفه أنت أو غيرك، واستطعت أن أرى انك اضطررت لإنزال نظراتك نحو حذائك، قل لي، كيف شعرت وأنت تحاول أن تضع حذاءك بين معادلة الموت والحياة؟ هل شعرت بالنشوة والانتعاش؟
ربما، ولكني أظن انك كنت تغذي شعورا عارما بالتشفي، بصناعة النصر من حذاء ممزق مثقب، لتخفي بذلك عجزا مؤصلا في ذاتك، فالجبان اشد رعبا ووحشية حين يمتلك قوة لم تكن بين جنبيه في يوم من الأيام، لأنه يتحول إلى شخصيين ينتميان إلى مكونات متناقضة متضاربة، مكونات الجبن والسيطرة، وهما أمران عسيران على النفس والعقل والسيطرة والتحكم، خاصة في لحظة الشعور بتدفق الوهم بان حاملهما تحول من مكون الجبن إلى مكون القدرة والسيطرة.
أنت كنت كذلك لحظة كان الجريح يتوسل جبنك بشجاعته التي تعرف عنه قبل الوصول إلى الإحساس باقتراب الموت منه، فتحولت بشعور من وهم مغذى بالوهم، إلى الشعور بقدرتك على انتشاله من رعب الموت وهوله، لكنك كنت في تلك اللحظات، ودون أن تدري، اشد جبنا من التحرك نحو جسد جريح، ليس انتقاما مما صنع، وليس رغبة في تعذيبه، وإنما انتماء للمكون الأصلي في ذاتك.
قلت:- أنت تهذي، فانا كنت الوحيد القادر فعلا على منحه نوعا من الطمأنينة لو أردت، ولكني رفضت ذلك، وقررت أن اتركه يتوزع بين شعور الموت والحياة، وتماديت بان جعلت قدمي وحذائي يشاركان في صنع الحدث، لأخبره وقبل وفاته، بان الحذاء قادر على تقرير مشاعره وأحاسيسه، وتخطئ أنت إن حاولت أن تنفي ذلك، وهنا تستطيع استخدام نظريتك بتشابه الأشياء والأزمان مع الملامح والتقاسيم، بل وتستطيع أن تجزم بان اللحظات والثواني الأخيرة من حياة الميت كانت هي التي تشكل ملامحه وتقاسيمه، وحتى أنفاسه الأخيرة.
قال:- الفرق بين أن تكون قادرا على الاعتراف بما تملك من مكونات، وبين محاولتك جعل المكونات أشياء يمكن تبريرها، لتغطي عجزا ملاصقا لكل ما تملك من حواس ومشاعر، هو ذات الفرق الذي أخبرتك عنه بنظرية تشابه الأشياء والأزمان.
لنقل وعلى سبيل المثال، أنني استطعت الآن أن أنقلك إلى مساحة جغرافية لم تعرفها في حياتك، أي إلى موطن يختلف عن موطن طفولتك وشبابك، وهناك التقيتك كانسان لم تعرفه إلا في تلك الأرض الجديدة، عن ماذا ستحدثني؟
عن الشوارع والجدران، عن الأرصفة والأزقة، عن مفاصل الأرض التي تقتحمها النباتات والحشائش، وستستفيض بشرحك ووصفك للمكان الذي غادرت، استفاضة شوق وحنين، بل وستزعم عن قناعة وإيمان، بان ارض الطفولة والمنشأ هي الأرض الحقيقية، وما خلاها ليس سوى وهم مغلف باسم المكان ورائحة الزمان.
في تلك اللحظات ستحاول وبكل ما تملك من طاقة، أن تستخرج الحياة والحركة والانبعاث من جوف أرصفة وجدران مرسومة بالمخيلة، لتضعها كحقيقة فوق الوصف وفوق الحروف، ودون إرادة منك ستتحول كل الحروف إلى فيض من مشاعر قادرة على النماء والاخضرار، وسيدخل الزمن عبر لحظات الذكرى، الزمن الذي انقضى في تلك اللحظات التي مرت فوق ارض عرفتها، ولكنك لم تعرفها حق المعرفة إلا حين انتزعت منها.
أترى الآن كيف تتشابه الأشياء والأزمنة مع حركات النفس الخافقة؟ وكيف تكون للجدران وجوه وأطراف وأحاسيس ومشاعر، وكيف تتحول الأرصفة والشوارع إلى كائنات تستطيع تنسم الروح والحياة، تماما كأي كائن يخفق بالحياة ويضج بالوجود؟
وهذا تحديدا ما قادني للتحديق بالقبر المفتوح، ومن ثم مقارنة ملامح القبر بملامحك، وأنا لا اشك مطلقا – وهذا للفراسة فقط – بان نفس الفكرة خطرت ببالك أيضا، مع فارق بسيط، انك رأيت ملامح القبر تتشابه مع ملامحي أنا، لكنك لم تفطن، ولم يدر بخلدك أبدا، بان ملامح القبر إنما تحمل رائحتك ونبضك، قبل أن تحمل ملامح الآخرين.
ذلك ناتج عن تكوين متأصل في ذاتك، عن تكوين الجبن الذي منعك من التقدم نحو الجسد الجريح المطروح فوق رمال كانت تمتص الروح وتشرب الدماء النازفة.
ستحاول أن تخلق تبريرات كثيرة، ولكنك لن تستطيع الخلاص أبدا من فكرة الموت، القماءة والموت لا يلتقيان أبدا، لأنهما مكونان مختلفان عن بعضهما، وان بدا لك انك تستطيع الجمع بينهما.
الموت يأتي بلحظة ما، ليوقف حركة الجسد بانتزاع الروح منه، يأتي بطريقة غامضة، مجهولة، لينتزع، وبطريقة غاية بالغموض والغرابة، ما نعرف لفظا بأنه الروح، ولكن دون أن نعرف ما هي ماهية الروح، يأتي ويغادر، تاركا خلفه دموع وأنات وحسرات، تتصاعد بسرعة، لتعود وتختفي بسرعة، ليس هناك تفسير لهذه الحالة، فالرصاصة والصاروخ والغاز والكهرباء والغرق والحرق، هي مظاهر للموت، لكنها لا تشكل حقيقته، إنما حقيقة الموت تكمن في جحوظ العينين الغارقتين برؤية الموت في لحظة فاصلة بين الزفرة الأخيرة وبين الاستسلام له إلى ما لا نهاية.
تلك اللحظة، التي يشهق الإنسان فيها شهقته الأخيرة، هي امتداد اللحظات التي قضاها فوق الوجود، لأنه الوحيد القادر على تصور ما بها من أزمان تغص بالذكريات والتواريخ التي تحاول الالتحام مع بعضها، فتحترق وتتلاشى مع الشهقة التي تحول الحياة بكل ما فيها من صخب، إلى سكون اشد هولا من سكون القبر ذاته.
أنت تحاول الآن أن توحي لذاتك بأنك كنت قادرا على انتشاله من الشعور بالوقوع في حفرة الموت، هذا شيء يتشابه تماما مع كثير من الناس الذين بلحظة ما يشعرون بأنهم قادرين على تنفيذ شيء في حياتهم، ولكن المشكلة أنهم لا يعرفون أنهم غير قادرين، بل يسترسلوا وبإيحاء نابع من مكمن مجهول، بأنهم يملكون من الذكاء والقدرة ما يمكنهم من تحقيق أشياء يظنون أنها ضمن امكاناتهم وقدراتهم.
سأحدثك عن ذلك بنوع من الإسهاب، وليقل النقاد ما شاءوا، فذلك أمر لا يعنيني كثيرا، المهم أن اصل إلى مرحلة الاقتناع باني استطعت أن أقول ما أشاء، دون خوف من ناقد، ودون التأثر أصلا بما سيقول، لان الناقد يبحث في الخفايا عن شيء لا يعرفه أحيانا، بل يحاول معرفته، وحين يعجز عن اكتشاف ما أراد الكاتب أن يُضمن القصة، يبدأ بخلق استنتاجات وتحليلات، يؤطرها بأسلوب متدفق التدقيق والتفكيك، للفقرة التي قادت الكاتب نحو تلك الفكرة المنبثقة من الأحداث التي استطاع أن يرتبها بشكل متقن، ومن ثم يسترسل في إنشاء فكر جديد مستخلص من الرواية أو القصة، وحين ينتهي يعلن أمام نفسه، قدرته انه استطاع أن يكتشف ما جال بخاطر الكاتب من تأملات، وما تنازع نفسه من احساسات.
قلت لك ذلك، لأني جلست يوما مع احد الكتاب، الذين استطاعوا أن يمزقوا معادلة الظلام والليل بالسهر المتواصل والمضني بين الصفحات والحروف، حتى ذاع صيته وانتشر اسمه، وحين التقيته، كانت فكرة الناقد تلح علي بطريقة ثورية، تضغط بما تملك من مد شعبي على أوتار قلبي المتضخم بداء النفس البشرية، وتتفجر في دماغي بطريقة تقود نحو الألم المتواصل والموصول بالقلق والكآبة، فسألته بطريقة مراوغة لا تخلو من مكر الثعلب، عن رأيه بما كتب النقاد عنه عبر رحلته الطويلة مع الحروف والكلمات.
وكأني أصبت فيه مقتلا، استدار ليواجهني مواجهة الخصم للخصم، وعلى وجهه تنعقد سحابة من نذر مجهولة، رقصت وجنتاه وارتعشت شفتاه، ووخز بريق عينيه ملامح اللحظة، كشوكة حادة صلبة تنغرس في رحم ما زال يخرج الجنين من ذاته.
ثم ابتسم، وسألني عن معنى ما أريد، فقلت له ما قلت لك سابقا، ضحك، وقال:- سأصدقك القول، إن الفكرة التي راودتك، لطالما راودتني، ولكن بأسلوب آخر، أنت تتوقع أن الناقد يحاول استخراج المعنى والإحساس من السطور، وانتبه، أنا قلت السطور، ولم اقل الأفكار، يحاول ذلك بأكثر من أسلوب، وأكثر من طريقة، لكنه حين يزدحم بالأحاسيس التي تحملها السطور، يتحول دون أن يدري، إلى جزء من النص، بل يدخل الرواية بانتقائه الشخصية التي يريد، ومن هنا ينقسم بذاته إلى نصفين، فهو ناقد جاء يحمل مبضع النقد، وهو أيضا ركنا من أركان الأحداث والشخصيات التي تنتمي إلى العمل.
وهنا، في هذه اللحظة التي لا يشعر هو بانقسامه، يبدأ باستخراج الأحاسيس التي ازدحمت بذاته، بطريقة الناقد والقاص في نفس الآن، فمبضعه قد تثلم وأصبح حافيا، وما ازدحمت به ذاته أصبح في الحقيقة جزء من تكوينه النفسي والذهني، وان تشارك مع الكاتب في الرؤى والأحاسيس.
ومن هنا ينطلق يشرح ويسرد، يحلل ويفكك، يستخرج ويستنبط، وهو مسوق بكل التفاعلات الذاتية، والتفاعلات الخارجية، وحين ينتهي وينظر إلى ما كتب، يشعر بالرضا المطلق، والقناعة المرسخة، بما أنتج من نقد رصين تمكن من جلاء نفس الكاتب وفكرة.
الطامة الكبرى، انه ليس هناك من يستطيع أن يقنع الناقد بعدئذ انه حين دخل متجردا من الذاتية، لم يخرج إلا وهو مجللا بذاتية أخرى، لأنه يعتقد ودون إرادة مبرمجة لذلك، بأنه إنما شرح أفكار الكاتب وليس أفكارا اختطلت بأفكار الكاتب.
وحين كنت اقرأ ما يكتب عني من نقد، كنت أصاب بالدهشة، وأحيانا بالصدمة، لان الشرح المستفيض للأفكار التي انتزعها الناقد فلان من الرواية، والناقد فلان من الرواية ذاتها، ولكن بأسلوب مختلف، كل هذا كان يضعني على حد الحيرة والتأمل، إلى حد أنني كنت اسأل نفسي، أحقا فكرت أنا بكل ما قاله النقاد عني بعد عناء طويل، وعلى مئات الصفحات.
كنت اعرف يقينا باني لم اقصد ذلك، حتى انه لم يخطر لي على بال وأنا اكتب الرواية، ربما هناك أفكار كانت تأتي تهاجمني، تستفزني من اجل صياغتها، لكنها أفكار موصولة بمشاعر، بأحاسيس، بحياة متدفقة فياضة، كانت تشتبك مع مجهول ذاتي ومعلومة، مع غامض إحساسي ووضوحه، كنت اشعر لحظتها باني حامل بنهاية لحظات حملها، وان طلقات الولادة تتسارع، ولكن دون أن تصل إلى دفع الجنين خارج الرحم، عندها كنت اشعر بالتعب والعذاب، حتى يتجدول العرق وينهمر، كان مخاضا يتبعه مخاض، وعذابا يتبعه عذاب، وحين كنت اشعر بسائل الرحم يشق طريقه للخارج، كانت الكلمات تخرج، بقوة ضاربة على بياض الورق، بطريقة متسارعة متلاحقة، وكنت لحظتئذ أحاول أن اكتب بسرعة متناهية، حتى لا يفلت إحساس أو يختفي شعور، وكنت أحاول حصار الأفكار داخل الجمجمة حصارا لا يمكن لظالم أو مستبد أن يمارسه في التاريخ القادم، ولا اعرف مستبدا استطاع أن يمارسه سابقا.
والغريب، أن الفكرة التي كنت ابدأ بتدوينها، كانت تنقسم وتتكاثر، بطريقة سريعة ومجهولة، من المستحيل علي التوقف من اجل معرفة طريقة انقسامها وتكاثرها، فكانت هي الأخرى تمارس نحوي نحوا من قهر واستبداد، كنت اشعر بألمه وعذابه ووجعه، ولكني بطريقة مجهولة كنت اشعر بروعته وعذوبته، وكأنه نوع من سحر رائق ينساب في الروح فيثقلها ويشقيها، ويمنحها سرا من وجود لا يمكن احتماله، ولا يمكن التفريط بلذة ألمه وعذابه.
وحين كنت انتهي وابدأ بالقراءة، كنت ادخل دوامة مشاعر جديدة، لم تكن هي نفس دوامة ما شرحت لك في الكلمات السابقة، لذلك كنت انغمس بنوع جديد من الإحساس يسحبني نحو حالة جديدة، قد تتقاطع في الكثير مع المرحلة الأولى، لكنها بكل تأكيد، ليست نسخة كاملة من الأولى.
لذلك كنت اعرف يقينا، بان ما أردت قوله، قد انكمش أمام الكم الذي قلته وأنا تحت تأثير استبداد الفكرة والإحساس، وهذا ما يجعلني اعترف وببساطة، باني ليس كاتب الرواية كلها، وإنما حالة الاستبداد والاستغراق والذوبان والانصهار، كانت هي الكاتب الثاني، وهو في الحقيقة المطلقة الكاتب المؤثر والمبدع.
ولو أردت أن أسهل الأمر عليك، فسأستخدم بعض المفردات التي نتداولها دون أن ندرك محتواها إلا بالتصور، لأنها عصية على العلم والتجريد، فالمرحلة الأولى هي مرحلة الوعي المؤطر لفكرة تجول بخاطري، فكرة قد تكون سامية وخلاقة، لكنها مبتورة، لان طلقات الولادة المتسارعة لا تستطيع أن تدفعها نحو الحياة، ولكن حين يستبد بي الشعور ويحاصرني الإحساس، وتثقل الجمجمة، ينهض اللاوعي من مكانه بطريقة خفية، ليشارك بتخليصي من الاستبداد، فيأتي الانقسام والتكاثر، ليحاصر اللاوعي ذاته، وهنا يختلط كل شيء، ليصبح رهنا بإرادة خفية تقودك نحو ولادة عسيرة مشبعة بالوجع، لكنها رغم ذلك تملك سحرا من لذة لا يمكن وصفها أو التنازل عنها، وهنا يكمن الفرق بين الم المرأة التي تجاهد لدفع جنينها من اجل التخلص من الألم، ولذة الراوي الذي يحاول احتجاز الألم والوجع من أجل أن يستطيع تشكيل أجنة متفرقة الآباء، ولكن في مهد واحد، هو الرواية أو القصة.
الناقد يمر بحالة مصغرة إلى حد كبير من كل هذا، لذلك فهو يكتب عن إحساس نبت في ذاته، الكاتب استطاع أن يجره فقط إلى الالتحام بتلك الأجنة، لكنه لم يمنحه مراحل المخاض كلها.
وحين كنت اقرأ النقد، كنت اعرف بان الكثير مما قيل لا صلة له على اقل تقدير بمرحلة اللاوعي، وان لامس بعضا من لحظات الوعي، ولكني كنت أنا أيضا أقاد إلى مشاعر الناقد، فأتخيل وبيقين مطلق بان الناقد استطاع أن ينقل ما عجزت أنا عن نقله، ولكني باللحظات الأخيرة، كنت اعرف يقينا، باني والناقد ما زلنا نبحث عن شيء قاله اللاوعي الساكن بأعماقنا، ففشلنا.
قال كل ذلك ونظر إلي، كان يبحث في قسمات وجهي عن انفعال، أو ردة فعل أحدثتها الكلمات بذاتي، كنت حقا قد وصلت مرحلة التشتت والتناثر، وربما مرحلة الألم والوجع التي وصفها الكاتب سابقا، ولكني كنت على كل حال، عاجزا عن إبداء الرأي أو التعليق، وربما أحسست بان أي كلمة سأقولها، ستفقد كل شيء معناه.
" 2 "
الشمس ما زالت ترسل أشعتها، لكن الناس الذين تقاطروا مع الجنازة كانوا قد غادروا، والقبر كان صامتا، صمتا واضحا، ترى هل انهال الثعبان الأقرع فوق جثة الميت، يوسعها لسعا ويحقنها سما؟ أم أن فتحة من جهنم برزت إلى عيني الميت؟ وربما كان القبر روضا من الجنة؟
لماذا فكرت أول ما فكرت بالثعبان وجهنم؟ ولماذا أخرت التفكير بالروض إلى مرحلة متأخرة في الوعي، بيني وبين الميت الآن، فاصل عظيم، محجوب بقوة لا يمكن تخيلها أو إدراكها، علما بان المسافة التي تفصلني عنه لا تتعدى خطوات قليلة، الفرق بيني وبينه يمتد إلى خارج الوعي والإدراك، مع انه كان قبل ساعات فوق الأرض ينزف، وأنا ارقبه وهو يستجديني ويتوسلني المساعدة، وكان الحذاء فاصلا قويا بين أمنيته بالحياة وبين هلعه من الموت.
بل قبل دقائق، دقائق فقط، كان جسده مسجى فوق الأرض، يستعد للهبوط ببطنها، كان شيئا مدركا، محسوسا، ملموسا، لكنه وبدقائق قليلة انتقل إلى فاصل لا ندركه ولا نعرف عنه شيئا.
قيل أن الديناصورات عاشت الاف السنين فوق الأرض، كانت قوية وعملاقة، حتى أنها وصلت إلى مرحلة لم تجد شيئا تأكله، بسبب شهيتها المفرطة، ومعدتها الهائلة، فاندفعت تأكل نفسها، تلتهم ذاتها، تماما كالنار التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، وبرغم قوتها وضخامتها، وقدرتها على الفتك، تلاشت، اندثرت، كما يتلاشى شعاع شمس في لحظة لا يمكن استعادتها من الوجود، ولو اجتمعت كل علوم الكون في محاولة لاسترجاعها.
بعض العلماء قالوا بان عقولها كانت صغيرة جدا، فهي تملك قدرة التدمير المعزولة عن الوعي، ولكن التماسيح أيضا لا تملك من العقل إلا جزء ضئيل جدا، لكنها استطاعت البقاء والثبات، وظلت حتى يومنا هذا تناضل وتقاتل من اجل البقاء والاستمرارية.
والإنسان يملك من العقل والوعي ما مكنه أن يعرف تفاصيل حياة الديناصورات المنقرضه، لكنه رغم ذلك يملك قدرة على التدمير والابادة تفوق قدرة المنقرضات على ذلك، فما قيمة العقل إذا؟ البقاء والاستمرارية، الجرذان قادرة على ذلك، أو بصورة اصح المجهريات التي اكتشفت وهي تعيش في الكهوف منذ الاف السنين، تلك المجهريات التي استطاعت أن توقف حياتها وتجمدها مئات الاف السنين، لتبعث ذاتها فور خروجها إلى الشمس والدفء، أكثر حكمة من المنقرضات الضخمة، وأكثر وعيا من إنسان لا يملك أن يعيش أكثر من سنوات لا تصل القرن الواحد.
هل تستطيع أن تفهم الآن معنى القماءة؟ لا أظن ذلك، لأنك لا تود أن تفهم كيف تتسرب الأشياء من أيدينا، من أيدي الوجود والطبيعة، دون أن نملك خيارا في تحديد مسارها أو اندثارها.
وهذا ما فعلته أنا تماما مع الجريح، تركته يصارع من اجل البقاء، من اجل الحياة، هذا حق منحته اياه الحياة والروح، بل وزودته به منذ الصغر، فتعلم أن يقاوم الأشياء والناس والأحداث، لذلك وصل إلى العمر الذي وصل إليه، ولو تدخلت أنا محاولا إنقاذه، فهذا يعني على اقل تقدير، أنني اسلبه حقا مكنه من الوصول إلى لحظة جرحه في شوط الحياة، وأنا تركته وحيدا، يمارس حقه في الدفاع عن روحه، حتى لا اتهم أمام الروح باني تدخلت لأسلبه جزء من تكوينه.
لنفترض أنني ساعدته، وخرج في تلك اللحظات مما هو فيه ليكمل شوطه في الحياة، فهل سيكون ذات الشخص؟ لا أظن ذلك، فهو سيكون بشكل ما مدينا لي، وسأكون أنا على علم مطلق باني سلبت منه عن سبق إصرار طبيعة الدفاع عن النفس من اجل البقاء، وهذا يعني انه سيكون ناقصا مشوها، أكثر مما أظن أنا ويظن هو.
ثم أننا نعرف بان النهاية مكتوبة بلوح ابدي " وهذا ما أومن به إيمانا قطعيا لا يقبل الشك "، فلو كان له حياة، أو حتى هنيهات من حياة، لوجدتني وبقوة خفية، متحركا بشكل ما إلى نجدته رغما عن قماءتي التي اعترفت بها سابقا، لكنها الأشياء، تتحرك خلفنا وحولنا وفوقنا وتحتنا، بغموض مغرق في الإبهام، لتجعلنا جزء من تكوينها الخفي، وان رفضنا نحن ذلك، أو ادعينا أننا أحرارا إلى حد الاختيار والانتقاء.
ما زلت ومنذ عهد الطفولة، اذكر قصة هابيل وقابيل، حين اختلفت بهما الآراء، فقتل احدهما الآخر، الأرض كانت لا زالت طاهرة من الجريمة، من الغل والحقد والحسد، لم تعرف أي شيء عن معنى الدماء المسفوحة، بل ولم يتم حتى لحظتها موت طبيعي، كانت الجريمة هي الأسبق إلى الوجود، كما كانت المعصية، لا نعرف تحديدا وتفصيلا كيف مارت نفس القاتل بالأحاسيس، ولا نعرف كيف تلاطمت أمواج الاندفاع إلى حد تنفيذ أول جريمة على الأرض من مجموعة مكونات مذهلة، تعصف بالعقل وتنحر الوعي.
القاتل والمقتول كانا اخوين، والدهما نبي مرسل " عليه الصلاة والسلام، خلق في السماوات، وعاش في الجنة، أخرجت من ذاته أمنا حواء، فعصيا أمر ربهما، فاستحقا العقاب، هبطا إلى الأرض العذراء النقية الخالية من الدماء، أنجبا، وربيا، فكانت الجريمة الأولى والموت الأول، دما يسفح من أخ.
وفي لحظة ذهول وحيرة، ظل الجسد هو القضية المستعصية في ذهن القاتل ووجدانه، ماذا سيفعل بجسد قد فرغ من الدم والروح؟ كان الحل ابعد ما يكون بتصور القاتل، تدخلت الحياة، فأرسل الله جل شانه غرابين، اقتتلا فقتل احدهما الآخر، ثم هبط نحو الأرض يحفرها، ليغطي جثة القتيل، تنبه الإنسان لجهله، فبكى، وتحسر، فانزل جثة القتيل إلى الأرض، توارى أول جسد تحت الثرى.
وبدأت مسيرة الإنسان، مغموسة بالدم، لكنها أنجزت من خلال الدم قدرة جديدة على وجه الأرض، إخفاء الجسد الفارغ من الروح تحت التراب.
نحن الآن، وبعد ملايين السنين، ما زلنا نذكر القصة، نحفظها عن ظهر قلب، لكننا لم نفكر مرة واحدة بكم المشاعر والأحاسيس المختطلة التي عاثت في نفس القاتل وأوصلته إلى تسطير أول حالة وفاة بالدم المسفوح.
ولو حاولنا ذلك، فما الذي سيضمن لنا بان محاولتنا وما نتج عنها من تحليل يقود نحو الحقيقة؟ وكيف لنا أن نتصور طبيعة العقل والحركة النفسية التي تمتع بها أولئك الذين كانوا أول من خطوا فوق البسيطة؟ هذا ليس مستحيلا، بل هو المستحيل بعينه، وان حاولنا أن نصل لكل ذلك، فليس لأننا نسعى خلف الحقيقة، بل لأننا نسعى إلى إرضاء ذاتنا الغاصة بتناقضات تخلق تناقضات، لأننا بحاجة إلى تصور أننا عرفنا ما نود أن نعرف.
هناك في تصوري، فرق كبير بين ما نعرف، وما ندعي أننا نعرف، وبين الأمرين تكمن مساحة ضخمة من الترهات والخرافات، التي نخلقها ونجعلها حقائق، بل ونحارب بكل ما نملك من طاقات من اجل تثبيت فكرة أننا نعرف، وليس من اجل تثبيت ما نعرف حقا.
ولنأخذ الجريمة مثلا لذلك، فبعض المجرمين يملكون نوعا من حواس خاصة، وتقاليد خاصة، بل ومفاهيم لمعنى اللذة والعذاب تكاد تقترب من لذة الكاتب التي سبق ذكرها، لكن لذة الكاتب خيالية، فيها من العذاب والوجع ما ينهك الروح ويطرح الجبال، لكنها تظل محصورة بالصدر وفوق الورق، صحيح أنها تنتقل من الورق وتتمدد لتصل إلى صدور القراء والنقاد، فتحدث فيهم ما تحدث، لكنها بانتقالها تظل على مساريها، الصدور والورق.
لكن القاتل، الذي يجلس في ساعات الصفاء، وأمامه كوب من القهوة، وعلبة دخائن، وهدوء نفس واطمئنان سريرة، يجلس ليفكر ويخطط كيف سيذبح إنسانا من الوريد إلى الوريد، ثم ينهض ليغط بنوم عميق، وحين يصحو، يتناول وجبة إفطار دسمة، ثم يدخن بعض دخائن، ويخرج فيجد ضحيته تحيا بين الناس باندفاع الحياة، وشهوة الوجود، وتختلط بأحداقها الصور والأحداث والأشياء، بفرح وحزن متلازمان، فما هي إلا لحظات، حتى يغوص السكين بعمق كل تلك الرؤى والمكونات، لتقف مسيرة أعوام طويلة على نصل السكين الغارق بالدماء.
لا احد يعرف على الإطلاق أين اختفت اللحظات التي كانت ترافق وجود القتيل، تلك اللحظات التي كانت تتشكل في رحم الوجود الذي لا نستطيع استشفافه أبدا.
ربما كانت السنة القادمة تشكل زواج القتيل، في مدينة أو قرية نائية على طرف الكون، وربما كانت حفلته بصورة ما ستتم لظروف يعرفها القدر في مقابر الفراعنة، أو فوق راس أبا الهول، وربما، لا احد يستطيع أن يعرف، كانت ستتم في مقبرة يحيا بها فقراء مصر، حيث يتوالدون ويتناسلون بين الجثث وعلى رفات الموت أيضا.
بل ربما كان هو بذاته سيقود طائرة عسكرية محملة بالقذائف ليفرغها فوق بغداد أو الفلوجة، لينتزع حياة المئات، وليوقف زحف زمن خاص بكل من سقطوا جراء قصفه لهم.
لو عاش وقصف بغداد لتمنينا سحقه بكعاب نساء مهترئة، ولو رأيناه بطلا، لصفقنا للوجود الذي منحه فسحة من الزمن ليفعل ما فعل.
ولكنه ذهب، وبقي القاتل، يشم نسيم الأرض، ويجوب الشوارع والأرصفة بحثا عن ضحية أخرى، لكنه وهذا جزء من قانون الوجود، يقع بأيدي الشرطة، فيسأل عن سبب الجريمة، وحين يجيب، تسجل الدولة والقضاء ما قال، وتحيله إما للموت، أو السجن.
ولكن السؤال العسير، لماذا قتل؟ ما يكفي القانون، هو مادة للاستخدام في تقرير العقوبة، ولكن مالا يمكن فهمه، الطبيعة الذهنية والنفسية التي قادته لارتكاب الجريمة تحت مبررات وذرائع مادية.
لو قلنا له، بأنك حين ارتكبت الجريمة، فانك لم توقف حياة القتيل فقط، بل أوقفت لحظات من زمن تخصه، كانت تتكون خلف ستار المستقبل لتحدد بعض الأحداث في الحياة، وانك مارست جريمتك بحق الهواء الذي كان سيتنفسه، وبحق البرتقال الذي سيأكله، وبحق الماء الذي سيشربه، وبحق الأشجار التي سيقع نظره عليها، أي انك مارست إعداما لملايين ملايين التفاصيل الصغيرة التي كانت تتعلق بوجود القتيل.
فماذا تتوقع بأنه سيقول؟
سيعتبرك مجنونا، لا تملك من مقومات الوعي أي شيء، وربما يتمنى بلحظة ما، وقبل إعدامه، أن يمنح فرصة ليذبحك بتؤدة حتى يشعر بعمق عذابك، وبعمق لذته انه أدى واجبا لتخليصك من الجنون.
أنا حقا لا اعرف إن كان هذا نوعا من الجنون أم لا، لكنه هاجس ظل يراودني دائما عندما كنت في المخيم التقط الموتى وهم مثقبين بالرصاص، أو مفتتين بفعل القذائف، كنت التقطهم كرها لا طوعا، فمنزلي يقع على الطريق المتصلة بالمدينة، المؤدية للمشفى بأقرب مسافة، وحين كنت أشاهدهم، كنت اخزن بذاتي، وربما الأصح أن ذاتي كانت تخزن بأعماقي تساؤلات واستفسارات، وحين كنت أشاهد أبناءهم وزوجاتهم، كانت الجثث تعود لتلتصق ببصري وبصيرتي، وكانت الرؤى والأحلام تمتزج بصورة مربكة متوترة في مخزون الذاكرة الذي ينهض أحيانا ليجلدني بتساؤلات غريبة.
كيف يمكن لبشر أن يقتل وبدم بارد وأعصاب باردة متجلدة أبا أو أخا أو أما، دون يطرف له جفن، أو يرف له رمش؟
لكن القاتل كان يمارس حياته بهدوء وسكينة، يجامع زوجته لينجب ولدا جديدا، يعلمه عن البطولة التي مارسها وهو يقصف مخيم اعزل بالصواريخ والقذائف، كيف يتحول إلى قاتل؟
حتى البطولة تلوث بمنطق القاتل، تحول إلى وسام شرف يعلقه القاتل بفخر على صدره، ليورثه إلى أولاده من بعده.
هزني الرجل، حدقت فيه بقوة، لكنها قوة الحيرة والتشتت، فقبل ساعات، كنت أفكر أن ادفعه للموت بما املك من قماءة، وقد أوصلته إلى حد الرعب، لكنه عاد ليسيطر على مكامن ذاتي بطريقة غريبة، ولا اعلم كيف استطعت أن اجمع بين وجوده بلحظات وجودي، وبالقماءة التي خلت أنها ستنهار تحت ضغطه.
القبر غير المكتمل، ما زال ينتظر جثة، صحيح أن أرضه صخرية قاسية، وهذا تحديدا ما دفع الحفار أن ينتقل إلى موضع آخر أكثر ليونة وسهولة، لكن الحفارات القوية التي ابتكرها العقل البشري، قادرة وبدقائق معدودة أن تحول الصخر إلى فتات، فلمن سيكون ذاك القبر آنذاك، لي وللقماءة التي احمل؟ أم له هو الموسوم برعب الفناء والتلاشي والانصهار؟
قال: - بماذا تفكر؟
قلت:- بالجريمة.
قال: - أي جريمة؟
قلت: - وهل يهم تحديد الجريمة؟ ألا تظن بان المقبرة تقودك للتفكير بالموت، الجريمة أيضا تتصل بالموت، لكنها تحمل خصائص مثيرة للعقل، فهي تتغلغل في أعماقنا بطريقة ما، حتى ليدفعك منظر ميت مقطع إلى هجران النوم ليال طويلة، بل وتزدحم الكوابيس القادمة من خيال شديد التأثير والغرابة، يتوزع بين قدرة القاتل على تنفيذ فعلته تحت مسمى ما، وبين جثة تثير فيك نوعا من التقزز والشفقة في نفس الآن، حتى تصل إلى مرحلة يختلط عليك فهم الواقع الذي يستبد بكيانك، فتنقسم بذاتك بين مؤنب لها بسبب شعور التقزز، وبين مستفز لشعور الشفقة، وهنا تكون الجريمة قد نالت منك، قد انتقلت لتتحكم بلحظات حياتك القادمة بين نوم وصحو.
لكنك توغل في جلد ذاتك، من حيث لا تدري وأنت تنهض مفزوعا من كابوس مبهم مختلط الأشكال والألوان، وحين تهم بتناول الطعام، يعاودك شعور التقزز الذي حاولت التخلص بتأنيب الضمير، فتترك طعامك، لتشارك بقمع معدتك وشهيتك، أنا اعلم بأنك لم تخطط لارتكاب هذا الإثم بحق شهيتك ومعدتك، ولكنك تبقى على هذا الحال فترة من زمن، إلى لحظة تغطي غريزة الجوع على كل شيء، فتندفع وبغير وعي أيضا، للجم الغريزة النابتة كشوك في كيانك.
هل تصدق باني أفكر أحيانا بان الحيوان المفترس أكثر رأفة من القاتل؟
ليس مهما كثيرا أن نصل الإنسان بالحيوان، فهناك الكثير ممن سيصابوا بالغضب الشديد من مجرد المقارنة، علما بأننا نتشابه في سلوكيات كثيرة مع الحيوان، وأحيانا نذهل من صفات تم اكتشافها بطباع الحيوان، إلى درجة أننا نتمنى بيننا وبين أنفسنا أن نملك تلك الطباع، وهذا يقود إلى شعورنا أحيانا بالضعف حتى أمام الحيوان.
إن هذا التمني لهو دليل أكيد على أن بداخلنا نوازع حيوانية، لكننا لا نود الاعتراف بذلك، لأننا أصلا لا نود الاعتراف بشيء مما نملك.
أتدري؟ كنت قبل فترة أفكر بمقابر الفراعنة، ومرت مشاهد العبودية أمامي بسرعة متناهية، يومها تمنيت لو كنت موجودا، لأغرس الفأس براس الفرعون، بل وربما كنت سأسحقه بطريقة غريبة تخفيه من ذاكرة التاريخ، وهذا يتطلب مني ببساطة أن اهدم الأهرام وأحولها إلى ركام ومن ثم إلى غبار.
لكنني الآن أغير رأيي، فلو كنت موجودا، لأمسكت بالفئوس وزرعتها برءوس العبيد، لأنهم من صنعوا الفرعون، وهم من عاشوا يحملون فكرة تأليه ضعفهم وعبوديتهم بشخص الفرعون، وهو بدوره، لم يفعل شيئا إلا تنفيذ رغبتهم، فكان إلها لضعفهم، الذي تحول إلى عبودية غاصت بجوف الرمال وتلاشت، فلم يبق منها، إلا رائحة العبودية التي سطرتها الأهرام كمعلم تحول إلى عجيبة.
الحيوانات ترفض ذلك، فالحشرة الصغيرة، التي تقع في شباك العناكب، تظل تناضل للخروج حتى اللحظة الأخيرة التي يسري سم العنكبوت بروحها، عندها فقط يستسلم الجسد لمفترسه، لكنه قبل ذلك، يظل كابوسا ممضا لواقع الصورة التي يراها المفترس.
ونحن اليوم، نقف أمام مقابر آلهة الضعف والعبودية، وكأننا أحفاد الذين رضخوا للافتراس دون أن يسري السم بما يملكون من قدرة على البقاء.
ما هو الفرق بين قماءتي وبين قماءة مئات ألاف الذين مروا تحت أقدام الفرعون؟ ولماذا تبدو قماءتي غريبة، ولا تبدو قماءتهم اشد غرابة؟
هل علي أن ابني أهراما من القماءة لفرعون الحاضر لأبدو كما لو أن قماءتي نوعا من البطولة؟
- ماذا تريد من كل ذلك؟
- مماذا؟
- من كل ما ذكرت.
- لا اعرف؟
- أليس من الغريب انك تملك كل هذه القماءة التي تحاول أن تنصب على التاريخ كله، ثم تقول لا اعرف؟
- أتذكر لحظة كنا في منزل الميت، وكانت أمه تودعه الوداع الأخير، عندها اخترقت رؤيتها ما بداخلي من لذة ممزوجة بالعذاب، وحتى أكون أكثر تحديدا، كانت مشاعري مبهمة، متناقضة، متضاربة، إلى حد أنها تكاتفت مع الغموض والمجهول، بطريقة الانصهار والذوبان والتوحد، لذلك كنت اشعر بثقل يقودني نحو نوع من لذة مجهولة، ونحو وجع مجهول، ولم أكن في تلك اللحظة قادرا على استدعاء الألم أو الفرح بشكل واضح، فكانت القماءة تنخفض بذاتي، إلى حد أحسست بأنها ستتلاشى، وعندها سأكون مجاورا بنعش آخر لنعش الميت، لكن الأم، وباللحظة الحاسمة أوقفت نظرتها نحوي.
أنا لا اعرف لماذا فعلت ذلك؟ لكني على يقين يصل إلى حد المطلق، أنها تركتني لأواصل الحياة مع نوع غريب من الشعور، أنت الآن جزء منه، والدليل على ذلك، أنني قبل وقت قصير كنت قادرا على إيصالك إلى مرحلة الموت، حتى انه لم يبد أي فرق بين انخساف لونك، وبين الانخساف المستبد بالمقبرة، وحتى أنني وصلت إلى قناعة، بان القبر المفتوح، إنما ينتظر جسدك للعودة إليه.
ثم تحولت أنت نحوي، فزرعت في شعور يكاد يلامس خلايا اليقين بان القبر المفتوح هو قبري أنا، وهنا، تحولت أنا وأنت إلى تبادل الأدوار، لكن الفرق الكامن بيننا، أنني لا زلت اعترف بقماءتي الشديدة، ولا زلت أنت تحيا حياة عبيد الأهرام.
- وكيف استطعت أن تجزم بأننا هكذا؟ بل كيف استطعت أن تنسب القماءة إلى ذاتك، وتنفيها عنا نحن؟
- أنا اعترف بها بكل ما املك من عزيمة.
- ونحن لا نعترف بها بكل ما نملك من عزيمة، لأننا لا نعتقد بوجودها بأعماقنا، وربما لأننا لم نصل إلى مرحلة اكتشافها.
- اكتشاف القماءة لا يحتاج إلى أدوات خاصة، كل ما يحتاجه مرآة، تستطيع أن تجعلك تقف أمام ذاتك، دون الحاجة للالتفاف أو الدوران، لكن الأمر العصي على المرايا كلها، اكتشاف عدم القماءة، ولنسميه بأي اسم نشاء، كالحرية مثلا، الوفاء إن شئت، أو الإخلاص، ويمكننا إن تمادينا في استعراض مفردات اللغة أن نجمع الكثير من الألفاظ التي تدل على معان نعرفها بالتصور، بالسليقة، ولكننا نجهلها بالممارسة والفعل.
- كيف ذلك؟
- حين كنت طفلا، كنت أشاهد في مدينتنا مجموعة من الرجال، كانوا يجلسون على قارعة طريق هنا وهناك، يحملون إرهاق الزمن على وجوههم وفي أعماق عيونهم، تراهم فتظن أنهم قد ولدوا من رحم الحزن والأسى، يضعون أمامهم صندوقا صغير، فيه علب مستديرة من الطلاء، وبعض قطع قماش مخملي، ويجلسون بانتظار الأحذية لتوضع على قدم صناعية تتوسط الصندوق وتتوسط رؤيتهم، ويبدأون العمل، لا اعرف إن كانوا يعملون بنوع من الإخلاص أو بنوع من الاحتراف القادم من العادة، بين الأمرين يكمن فرق عظيم، لكنهم لم يكونوا يسمحون للمشاهد بمعرفة نوع الشعور الذي يرافق العمل، وكأنهم يضعون فوق ملامحهم ستارا سميكا من القدرة على التضليل.
ورغم ذلك الستار الشديد الكثافة، كنت أستطيع أن اكتشف التمزق الذي يتحكم بداخلهم، حتى يصل إلى حد الإدماء الثقيل، الأصباغ كانت تتسلل إلى أعماقهم، إلى رئاتهم وأرواحهم، وتظل رائحتها ساكنة فيهم حتى بعد أن يغسلوا أيديهم، لكن من بين كل هذا كانت تقفز المهانة التي يشعرون بها، وكذلك البؤس واليأس، في هذه اللحظة بالذات، كانت الستارة تتهتك، لتفضح الألم والوجع والذل الذي يكبل تلك الخطوط التي أرساها الزمن والشقاء على الوجوه.
على مسافة ليست بعيدة، كان أولاد هؤلاء الرجال يجلسون في المقهى، يشعلون الدخائن، أو يسحبوا أنفاسا من النراجيل، يلعبون الورق، يضحكون ويقهقهون، ملابسهم تنافس الأناقة، وشعورهم تدل على اعتناء مبالغ فيه، وحتى السوالف المرسلة إلى مستوى أسفل الأنف، كانت تشير هي الأخرى إلى الوقت الذي قضاه هؤلاء من اجل تشذيبها وتجميلها.
وكنت بطريقة يائسة مختنقة أحاول المزج بين البؤس والشقاء والمهانة التي تسكن الآباء، وبين الضحك والقهقهة والسوالف والأناقة، بحثا عن توافق أو التقاء يجمع الاختلاف والتناقض، لكن العجز والقهر كانا يتمكنان مني تماما، عندئذ، كنت اشعر بنوع من النقمة، ترتبط بالقماءة، وتعود نحو الفرعون وعماله، فأحس أن فتاتا من تصارع الغموض والتمني والحلم يستبد بي، ولكن دون أن أحرك ساكن.
وفي أحيان كثيرة، كان الأبناء حين خروجهم من المقهى يلتفون من شارع آخر، حتى لا تتصادف نظراتهم مع نظرات والدهم، كانوا يتحاشونه كما يتحاشى الإنسان وباء أو طاعون، لكن الآباء يظلوا فوق الرصيف ينتظرون الأحذية القادمة لتتوسط بؤرة نظراتهم وكرامتهم وعزتهم.
بأعماقي كنت اشعر بوجعهم، بانهيار ذاتهم نحو هاوية الذل القادم من العوز، وكنت انظر إلى وجوه الناس الذين يضعون أقدامهم أمام هؤلاء الرجال، وأحاول أن ابحث فيها عن شيء يتصل بالإنسان، بالحرية، بالرحمة، عندئذ كانت تتشكل القماءة بذاتي كقوة دافعة، تنهض كمكون حتمي لا يمكن فصله عن أنفاسي المتعلقة بالروح، وكنت اشعر بفرحة غامرة تتسلل إلى كياني، تغزوه بقوة عارمة، تستطيع أن تثقب جبل وان تخمد بركان، الفرحة تمتزج بالقماءة، تندمج فيها، بطريقة غريبة، لا يمكن للعقل أو العلم التوصل إلى مكوناتها ونواتها المتجددة، شعور الفرحة هذا الممتزج بالقماءة المتمكنة من الروح والأنفاس فيه غرابة شديدة، فالتقاء النقيضين، المتضادين، في نواة واحدة يقود إلى الجنون المتصاعد، إلى الانفلات من حقائق الوجود، تماما كما تخرج الروح من الجسد في لحظة انشداه الوجود وتمزقه وتفتته.
لكن رغم كل هذا، كنت اشعر بألفة غريبة بين المتناقض والمتضاد، ألفة لا يمكن لمسها أو فهمها، أو حتى الاستدلال على منشأها، لكنها تبدو واضحة وهي تتغلغل بالنفس والأشياء والأحداث والمكونات، ألفة تلف الناس من أخمص القدمين وحتى قمة الرأس.
هذا كلام غريب، اعلم ذلك، لكن الوصل بين المتضاد، يحتاج إلى جهد كبير للمعرفة، المعرفه المكتسبة من مراحل الحياة ذاتها، التي تمدك بأحداث بسيطة، لا تلفت الانتباه عند الناس العاديين، الذين لا يكلفون أنفسهم محاولة فهم الأشياء والمكونات التي تحيط بهم، بل يعيشون بمفهوم السليقة، بمفهوم العادة، الذي يلتحم مع مفهوم الغباء الشديد، بل مع مفهوم الحماقة، فهم لا يسعون أبدا لمعرفة التفاصيل، لمعرفة الأحكام التي تنتج عن السلوك، وهم السواد الأعظم من المجتمع، وحين تصطدم بهم، وتحاول أن تشعرهم بقيمة الوجود، بقيمة التفاصيل، تفاجأ بالبسمة الصفراء، المتكونة من قيح وصديد حماقتهم وهي تسيل استغرابا من حماقتك وقلة عقلك وأنت تتابع التفاصيل.
عندها تدرك تماما، وبعين ثاقبة، معنى امتزاج الجنون بالعقل، ومعنى انهيار الحماقة إلى درك لا يمكن بلوغه أو وصفه، هل ستكون مندهشا لو قلت لك: بان الحماقة لا يمكن بلوغها بالذكاء؟ وان الإنسان العادي أكثر سعادة من الإنسان القادر على فهم الأسباب والمعاني والدلالات. نعم، فالإنسان العادي، لا يستطيع أبدا تصور انتقال الفرد من حالة الوفاء إلى حالة الغدر، ولا يذهله أبدا انقلاب النفس بين ليلة وضحاها، بل يأخذ الأمور بمنحى طبيعي، لا يمكن استغرابه أو استهجانه.
هناك فرق واضح بين الإنسان الذي يحاول المعرفه، وبين الآخر، فرق هائل، يبدو على الملامح التي تتكون من تفاصيل النفس المتوترة والمتأججة على مرجل التجربة التي تلاحق التفاصيل، لتعرف كيف ومن أين بدأت، ولماذا انهار جدار الوفاء بلحظة واحدة وتحول إلى سور عملاق من الغدر والخيانة والكراهية، وحين يمسك الإنسان بأحد الأسباب، التي قادت إلى مثل ذلك الانقلاب، يصاب بذهول يقوده من جديد إلى دائرة من التفاهة والانحطاط التي تلف النفس الإنسانية، النفس العصية على الخروج من ديجور العتمة التي يهواها الإنسان، وينغمس فيها، حتى يتحول إلى قطعة غريبة من التقزز والغثيان.
هنا، وحين تشاهد الإنسان وهو يزحف نحو نعل، نعل مهترىء، كي يهرب من الموت، نحو الحياة، تتنامى قوة القماءة، تتضخم، تكبر وتمتد لتصبح غابة شديدة التكاتف والالتفاف على بعضها، وقبل أن تخرج الروح من الجسد الزاحف نحو النعل، ينخرط شعور غريب من الفرح بالمشهد، فتتكون لذة، من نوع خاص، تدفعك للشعور بالنشوة، التي تخترق المشهد كله لتقودك نحو مخرج الديجور الذي تقبع فيه النفس.
في تلك اللحظة، يظهر الغامض الواقع بين الإنسان العادي، وبين الإنسان الآخر، فالأول لا يستطيع امتلاك النشوة البارزة والنامية في نواة القماءة، لكن الآخر يتميز بقدرته على ذلك، والاهم بإمكاناته التي تقوده لفهم النشوة تلك، وان لم يستطع الإفصاح عنها بطريقة متقنة، تتلاءم مع إمكانات الشخص العادي.
من هنا تحديدا، يمكننا أن نبدأ رسم الخطوط الفاصلة بين ما نعرف من متضاد، فالنقطة الواقعة في الجسم اللولبي الممطوط والمتداخل من جهة اليمين، يمكن أن نجعلها تلتصق تماما بالنقطة الواقعة بالأعلى، ويمكن وصل النقطة العلوية بالنقطة السفلى، وهكذا، حتى نصل إلى ارتباطات العقل الباحث عن لحظة حماقة أو غباء، من اجل الحصول على فترة من الراحة، من الهدوء، تجعله ينتمي إلى هذا العالم، إلى المكون الرئيس للوجود، إلى الإنسان.
لكن عملية الوصل تفلت من بين حدود الدماغ، لتعيش حالة من الفوضى العارمة، لان الموت يبقى هو العلامة التي تطارد الوجود، بطريقة مختلفة عن الواقع الذي نعرف، ولو أردت أن أوضح لك ما اعني تماما، فعلي الآن أن أخبرك أن فراستي وحاستي السادسة، تقول وبيقين مطلق بأنك ستكون فوق دكة غسل الموتى خلال أيام، قد لا تصدق ذلك الآن، ولكن التحام القماءة مع المتاقض والمتضاد، قد شكلا بصيرة ثاقبة، نافذة في ذاتي، استقبلت من مجهول القادم جثتك وهي تستقبل المياه التي تفتت ما عليك من قذارة غير مرئية، من عفن متكالب، متأصل، والحقيقة التي لا تقبل الشك أو المراء، أنني لمست نظرتك المسكونة بالهلع، بالرعب، بالانحطاط الصارخ، حين اقترب الموت منك، كنت أكثر خسة، وأكثر دناءة من الرجل الذي كان يزحف نحو الحذاء طلبا للنجاة.
اكتشاف ذلك، لم يتطلب الكثير من الجهد، وأنا أتحداك الآن، أن تنظر في المرآة، لتخبرني، عن مدى ما تملك من قماءة رفضت الاعتراف بها قبل لحظات.
أنت في الحقيقة، لا تفرق عن باقي الناس، أما أنا، فاحمل فرقا واضحا، يمكن لمسه ببريق العين، وخفق الإحساس، أنا اعترف بما املك من قماءة، بفخر يقترب إلى مرحلة الزهو، واعترف بالدناءة، بلذة المنتصر المظفر، أما أنت، أو بالأصح انتم، فإنكم تحاولون عبثا إخفاء ما بكم من خسة وقماءة تصل إلى حد الانحطاط، عن أنفسكم، بل وتحاولون أن تدهنوا ذواتكم بزيوت تحمل روائح جذابة، أتدري لماذا؟ فقط لأنكم لا تدركون أن الموت ليس بالقبر فقط، ليس بغياب الجسد، بل الموت الأشد إيلاما، بالبقاء فوق الأرض لان الموت ما زال يؤجل استقبالكم، حتى يحمي ذاته من فناء قد تنقلوه إلى مكوناته.
- ما الذي تعنيه بالموت الحي؟
- حسنا، أنت تريد تسميته بهذا الاسم، أنا لا اعترض على ذلك، رغم علمي بان الاعتراض له مبرراته، لكن الاصل ان ننتقل أنا وانت إلى الاهرام مرة اخرى، لننظر إلى الامر من الزاوية التي كان من المفروض ان ينظر من خلالها عبيد الفرعون، وهي الزاوية الوحيدة التي كان بإمكانها ان ترفع العبيد من قعر القماءة الحقيقية إلى ذروة الحقيقة، وان تلتهم قماءة الفراعنة وانانيتهم وغرورهم، لتحولهم إلى شواهد يمكن للتاريخ المقبل ان يقبلها كعلامة خارقة للكون والوجود الذي كان يحيط بهم.
سآخذ خوفو مثلا، وعليك ان تقيس ذلك على من تبقى من فراعنة، فخوفو باني الهرم الاكبر، أو بصورة اصح القبر الاكبر، لان الفكرة من بناء الاهرامات لم تكن من اجل فتح عمراني أو حضاري، بل كانت من اجل شعور ترسب بأعماق الذات، وبدأ ينمو ويتشكل، يتجذر ويتمدد، وهو الشعور بالخوف من الفناء، بالهرب من فكرة الموت، التي لا يمكن الهرب منها أو الوصول إلى مراتب الخلود فيها، وهذا ما جعل الفرعون يصف نفسه بصفة الالوهية، ليكون اكبر من الرضوخ إلى ما يحيق بالإنسان من فناء لازم، وحين تفتحت مداركه قليلا، نظر إلى الشمس، فحولها إلى اله يشاركه في الحكم، أو يتصل به بطريقة ما، ولم يكن اختيار الشمس ضربا من ذكاء خالص، ولا ضربا من غباء مطلق، بل هو بين الاثنين، لان الشمس تعاكس تماما ظلمة القبر، فهي تشير إلى الافاق المفتوحة وغير المحدودة، عكس حجم القبر وظلمته، وحين شعر الفرعون بان هذه الفكرة تلاصق كيانه، قرر بلحظة من زمن قاتل، ان يمنح ذاته حقا بابتكار الافكار التي تتصل بهذا التفكير، لم يكن ذلك سهلا، حتى انه لم يخطر للفرعون ولو للحظة بغباء وانحطاط الفكرة التي تفتق ذهنه عنها، بل تمادى في الاسترسال للاستسلام إلى ما يمكن ان يتبع الحماقة المتشكلة بأعماقه من خطوات تتواصل مع البقاء وتتجانب الفناء.
كل هذا كان تفكيرا فرديا، نابعا من حجم الجبن الهائل الذي يتمتع به الفرعون، لكنه رغم ادراكه له، لم يبح به إلى الرعية، بل تعالى عن ذلك، ووصم نفسه بصفات تنأى به عنهم، وتحولهم تابعين لشعور الجبن والخوف الذي يمسك بتلابيبه، محاولا بذلك خلق نوع من المعادلة التي تخفي جبنه وخوفه وعجزه بفرض سيطرة كاملة تصل إلى حدود المطلق في اذلال الناس وجعلهم وقودا لفكرة عاجزة لفرعون عاجز.
بحسابات بسيطة، اراد ان ينجو من قوة الديدان وتأثيرها على جسده، ربما ظن في ذاته، ودون ان يفصح لاحد ما، بان الموت لا يتعلق بالروح، بل بالجسد، فان نجا الجسد من قوة الديدان وقوة غزوها، فانه سيكون من الخالدين، لكنه من اجل اللحظة التي يمكن الانطلاق فيها نحو الخلود، عليه ان يكون محميا من غوائل العبيد ذاتهم، ومن غدر المخلصين له في الحياة، ففكر، ورأى بالتحنيط الخطوة الاولى التي من شانها ان تهزم الديدان، كان جل همه، كفرعون واله ان يفكر بمحاربة الديدان، كل هذا المستوى من العظمة ومن الالوهية سقط في شباك الخوف والرعب من قدرة الديدان وسطوتها، فكان ولفترة طويلة من عمره، يمارس سطوته على العبيد، وهو يخضع لسطوة الديدان المتمكنة من ذاته ومن تفكيره ومن ابداعه.
وحين انتهى من سطوة الديدان، كان يبحث عن طريقة لإخفاء جسده بعيدا عن العبيد، لأنه يعلم بقرارة ذاته ان الجبن الذي يتحكم به، لا بد وان ينكشف بصورة ما يوما من الايام، لذا، ظل خائفا من قدرة العبيد على النيل من جسده، فيكون بذلك قد خسر انتصاره على الديدان.
من اجل هذا، كان بناء الهرم، بصورته المعقدة والمذهلة، المشكلة هذا الفن وهذه الروعة، بنيت فقط من اجل ان تخفي جبن الفرعون وهزيمته، لم تكن بأصلها نوعا من التحدي لمعايير الزمن من اجل امة أو حضارة، بل نقشا يحمل صفات الملوك المهزومين المزروعين بالرعب والخوف والهلع، الملوك الذين سحقوا مئات الالاف من اجل نزوة خوف وشعور رعب واحساس هزيمة.
ومع كل هذا، فان جثة الفرعون التي نجت من الدود، لم تنج من لصوص المقابر، الذين ادركوا بحسهم الواعي ان الفرعون لم يكن يوما من الايام يستحق التقديس أو الاحترام الذي يضمن بقاءه في القبر من اجل الانتقال إلى عالم الخلود، وربما بلحظة ما ارادوا الانتقام من جثته التي سحقت الالاف تحت لهيب الشمس وضغط العبودية وثقل الصخور.
المهم، ان الاهرام بكل ما فيها من قوة ومن منعة ومن عظمة، بقيت، لا لتحمي تلك الجثث من الضياع الابدي، بل لتكشف لنا قيمة الإنسان الحقيقية، خوفو لم يستطع ان يبقي جسده ليكون شاهدا على خوفه وجبنه، لكن الهرم بقي شاهدا على التجاء الخوف والجبن إلى حجارته، وحين وصلنا إلى الكشف عنهم، لم ندرك حتى هذه اللحظة الفرق بين العمران المذهل الذي يؤسس على الحضارة، وبين العمران الذي يؤسس على العبودية والقتل والتضحية بمئات الالاف من اجل شخص هوسته فكرة الخوف، فانحرفت به عن مسار الانسان، لتحوله إلى الة من الطغيان والقتل والسلخ.
العبيد انفسهم، استسلموا للفكرة، فركعوا وسجدوا، كانت قواهم الروحية والجسدية والذهنية، مسخرة لإرادة مشلولة بالخوف ومغلولة بالجبن، هم اختاروا الخضوع المطلق للموت والفناء، حتى انه لم يخطر ببالهم ان يتساءلوا عن حقهم بحماية اجسادهم من الديدان، ولم يتساءلوا عن حقهم بامتلاك مقابر مثل مقابر فراعنتهم، وكأنهم كانوا يسلمون بأحقية الفراعنة بسلوك ممر الخلود، دون ان يكون لهم أي حق الا بعبور ممرات الفناء.
انا لا استطيع ان افهم مثل هذا الامر أو اتصوره، حقبة كاملة من التاريخ رضخت للعبودية، انحنت لهوس مجنون ومعتوه تحكم بمجموعة لجأت للهروب من الجبن والهزيمة، ونحن اليوم وبعد الاف السنين، نمجدها ونعظمها، وكأن ما يعنينا مما وجدنا واكتشفنا الحجارة التي قطعت ونقلت لتكون المقابر لثلة ممن سحقوا شعوبهم من اجل رغبة جامحة بنفوسهم.
ما الذي يفرق بين عبوديتنا وبين عبودية من بنوا الاهرام، بل كيف لنا مطالبتهم بالتمرد في عصرهم مع اننا حين التقينا بالحجارة المرصوصة وقفنا فاغرين افواهنا أمام تلك "العظمة التي لا تضاهيها عظمة ".
نعم نحن راينا الشكل الخارجي للعظمة، من خلال الحجارة والتماثيل، لكننا لم نحاول باي شكل من الاشكال استنطاق الحجارة، لم نبذل جهدا بسيطا في محاورة التماثيل، حتى اننا لم نبحث في الصحراء وبين ذرات رمالها، في النيل وبين موجاته الخالدة، عن جثث أولئك الذين قضوا تحت السياط والشمس والقهر والعذاب والاضطهاد من اجل ان تكون تلك الحجارة نزوة لمارق أو معتوه في التاريخ.
هي القماءة مرة اخرى، النتانة التي لا تود أنت ومن مثلك الاعتراف بوجودها بين جنباتكم، لكنني اعترف بها بشكل واضح وصريح، لأنني انتمي اليكم، إلى مشاعركم، رغم الاختلاف الواضح بين ما ارى في الاهرام وما ترون انتم، وهذا هو الاختلاف الحقيقي بين قماءتي وبين قماءتكم، فانا ابحث عما خلف الحجارة، حتى حين وصلت الاهرام اول مرة بحياتي، لم اشعر بالذهول والاعجاب، لم اشعر بالفخر والاعتزاز، بل شعرت بالإهانة التي تواكب الذات وتجللها، كنت استخرج الجثث من ذاكرة الرمال، ومن ذاكرة الصخور، كانوا يصرخون، يأنون، يشدون التاريخ نحو هاوية الجريمة، يحاولون من البرزخ ان يصرخوا بكل طاقتهم ليسمعونا، كانوا يحاولون القول، انهم نادمين على كل قطرة عرق نزفوها تحت الشمس من اجل اعلاء المقابر، ولكنهم حين كانوا يروا اعجابنا وذهولنا، كانوا ينخسفون بين ذرات الرمل ومسامات الحجارة، وهم يتلوعون الما وقهرا علينا، كانوا أكثر احباطا من لحظات عبوديتهم السابقة، لانهم يرون الزمن يمتد بتنصيب الفرعون فوق هامة الصحراء التي صنعوها هم دون ان يكون له أي جهد في صناعتها.
هي الحقيقة التي لا يمكن للزمن اخفائها، لانها نصبت فوق الرمال بقوة وبطش، لا لتكون شاهدا على عظمة القوة والبطش، بل لتكون اكبر من ان يتم احتواءها بهذا المفهوم الضيق، لان الأشياء تخفي دائما تحت الدلالة المراد منها دلائل اخرى، يصنعها المجهول واللاوعي، اللذان يملكان قوة التأثير بما يمكن ان يصنع الوعي والمعلوم، وهذا ما دفعني للنظر إلى الاهرام بهذه الطريقة، التي كان الغامض يهيأها لمراحل غير المراحل التي اراد الفرعون ان تكون، وما يدريك، ربما كان هناك احد العمال الذين ادركوا ما يجول بخاطر الفرعون من جبن وخوف، لكنه لم يستطع البوح للجميع في تلك المرحلة، فترك لنا خفقاته التي امتدت الاف الاعوام لتتصل بخفقاتي اليوم، وانا اقف لأرثي حال من بنوا تلك المقابر، وحال الامم التي تبعتها وهي ترى الجانب المادي للمنظر، دون ان تحاول الوصول إلى تلك الخفقات التي كانت تقفز من صدر إلى صدر ومن قلب إلى قلب في جوف الصحراء التي شوت الاجساد على رغبة جامحة لفرد واحد.
- انت لا تود الاعتراف حتى بعظمة الاهرامات، رغم ان جميع الامم جاءت من اطراف الكون لترى المعجزة الخالدة التي انشئت على ارض الصحراء في مصر.
- نعم أنا لا أود الاعتراف باي عظمة مدعاة للأهرام، فانا لا يعنيني من قدم من اطراف الكون وهو يحمل تخما من جنون موصول بفراغ متمكن من الروح والانسانية، ليصل إلى الصحراء فينظر إلى حجم الحجارة أو علو الاعمدة، ليصرخ مستغربا ومندهشا من تطاولها في الافق رغم مرور السنوات الطويلة، لكنه لا يحاول البحث أو السؤال عن الهدف والدافع من تلك الحجارة والاعمدة.
- وما الذي يدفعه ويدفعنا للبحث عن هذا؟
- لان العمل منوط بهدفه.
- هذا ليس قانونا بالحياة.
- بل هو القانون الذي خلقت الأرض من اجله، وهو القانون الذي يسيطر على تكوين كل الكائنات التي نعرف ولا نعرف، حتى الغابة التي نحاول نحن ان نقذفها بمسميات لا تتناسب مع معطياتها، ولا تتوافق مع تركيبتها، وانما هي اسماء اردنا نحن تحديدها للقسوة والجريمة والقتل والافتراس التي يلف الغابة، وكأنها فقط وجدت من اجل ان تكون هكذا، لكنها في الحقيقة هي أكثر ادراكا منا منذ العصور الاولى للحياة في ايجاد التعادل الطبيعي للبقاء والاستمرارية، وما يثبت ذلك انها لم تشكو قبل تدخلنا فيها من خطر الانقراض والتلاشي، لكننا في اليوم الذي دخلناها ونحن نعتقد بقوتنا وقدرتنا، وبسطوتنا كما الفرعون فعل، بدأت هي تذوي وتضعف بخطى نحو التلاشي والانقراض.
انت لم تقرأ التاريخ بعين المتفحص الذي يبحث عن المخفي وما يستتر خلف هامات الغيوم والضباب، لكنك كغيرك، رأيت الاحجار التي تزن الاطنان، والاعمدة التي تتطاول وترتفع، فكان همكم جميعا الوصول للطريقة التي تم فيها رفع الاحجار ونصب تلك الاعمدة رغم شح الامكانات، وكأن المسألة التي تهم العالم منذ بدء العمل إلى يومنا هذا هو الطريقة التي ابدعها أولئك الناس، وهذا حق من حقوقكم، لكن أيا منكم لم يبحث في التفاصيل الانسانية التي تملكت الافراد واستبدت بهم اثناء العمل، لم يتمكن احد منكم ان يقف ليهز تلك الحجارة من اجل اسقاط أنات الناس ووجعهم، قهرهم المكظوم بغيظ اودى بحياتهم فوق رمال كانت تسلخ جلودهم، وتمتحن كرامتهم وعزتهم، ربما تقول أنت وغيرك: انهم يستحقون ذلك، لانهم كانوا يملكون قدرة الرفض والثورة، وهذا فيه شيء كبير من الصحة، لهذا قلت لك سابقا بانني لو استعطت فصل الزمن واعادته لزرعت الفؤوس برؤوس العبيد، وليس برؤوس الفراعنة، لكننا في الحقيقة نمارس ذلا اكبر من ذلهم، وعبودية اعظم من عبوديتهم، هم كانوا واقعين تحت رحمة السياط والموت والجوع والتشريد لو رفضوا اتمام العمل، ومنهم من كان واقعا تحت تأثير الاعتقاد الجازم بضرورة تسليم ذاته كلها إلى من هو اعلى منه شانا واكبر قيمة، وساعدت المعتقدات التي كانت سائدة بترسيخ مثل هذا الاعتقاد وتدعيمه، من خلال رسم صورة الاله للفرعون المستبد.
اما نحن، فقد جئنا بعد الاف السنين، حيث لا فرعون من تلك الحقبة ولا سطوة دين أو معتقد، ماذا فعلنا؟ انهمكنا بتكوين الدهشة، تفصيلها، حسب مقتضيات العصر ومفردات الحاضر، فانشأنا بداخلنا عبودية تتصل بتلك المراحل التاريخية، وقفنا نقتفي اثار الاستبداد وتحويله إلى عظمة، واستبحنا الم العمال فحولناه إلى جهد حضاري اشرف عليه الفرعون، وزدنا ذلك بنسبته إلى جهد الفرعون وعبقريته، دون ان نعطي البناة الذين تساقطوا بمئات الالاف أي قيمة غير قيمة العبودية.
مع انهم بلحظة ما، وهذا ما تحفظه لنا الاحجار ذاتها، ادركوا بان الفرعون شيء من الخيال المصاغ من هباء، حين كان الفرعون القادم يهدم تاريخ من سبقه أو يحوره ويضيف عليه كي يبدو انجازا خاصا به، وهذا ما يدل وبطريقة حاسمة على ما قلت سابقا، بان الفرعون كان مكونا فقط من الجبن والهزيمة والانانية، لأنه لم يستطع وهو يحيا ان يرى عظمة من سبقه تقف شاهدا على فترته الزمنية، صحيح ان هناك الكثير من الاثار التي بقيت لتجسد مجموعة من الفراعنة، لكن هناك أيضا من نثر جهد من سبقه.
حتى العمال انفسهم، مارسوا اللصوصية بطريقة النقمة، فخرجوا من عبوديتهم واستولوا على المدافن، جزء كبير من ذلك الارث تم تمزيقه ونثره غضبا وسخطا، وجزء آخر تم طمسه، فلا زالت معاولهم وازاميل نقمتهم شاهدة على تشويه الكثير من الشخصيات التي طمست ولم يعد بالإمكان استردادها.
تلك هي القماءة التي تتشابه مع قماءتي، وتختلف كثيرا عن مفهوم القماءة التي تستبد بكم، وهي القماءة التي جعلتني انظر اليك من زاوية الموت، الموت الذي يقود إلى الفناء أو الموت الذي اردت تسميته بالموت الحي.
لو كان هناك دليل مادي بيد الشرطة واجهزة الامن على أنني تركت الرجل يزحف حتى لفظ انفاسه الأخيرة، لكنت الان اقبع في ظلمات السجون، وربما تطور الامر لنقل اوراقي إلى هيئة الاعدام، لكن جنوني الذي تعرفون، أو بصورة اصح اعتقادكم بجنوني وهوسي هو ما ينقذني من براثن اجهزتكم الامنية، التي لا تختلف عن اجهزة الفرعون وزبانيته.
الامور لا تختلف كثيرا عن الماضي، بل هي اشد سوء من الماضي، رغم ان الزمن المنقضي بكل تلاقحاته واندغاماته، وجد ليكون امتدادا لحاضر أكثر اشراقا مما سبق، وهذا ما لم يحصل ابدا، انظر حولك لترى الحضارات الشاهقة المعاصرة كم دفنت من الناس تحت اقدامها، لتعرف الفرق بين ما يمكن ان نتعلم وما لا يمكن ان نتعلم، فالفرعون الذي خلف الفرعون الذي سبقه، كان من المفروض ان يأتي محملا بتباشير التغيير والاصلاح، كي يكون قادرا على إبقاء ما مضى كشاهد فقط على عقم المراحل السابقة، لكنه اتى وهو يحمل نفس اللقب ونفس الروح التي سبقته، مضافا إليها التجربة المكتسبة في صنع المقابر من لحوم وافئدة الناس، فكان التلاحق صورة انضج مما سبقتها، وهكذا، حتى اصبحنا في العصر الحاضر، نملك الحياة لكن دون الخوف من زحف الدود فينا، لأننا تجاوزنا مرحلة الخلود التي اصبح التاريخ كله شاهدا على انها لم تحصل ولن تحصل، فتتبعنا مسارات الحياة، حسبنا مستوى العمر الذي يمكن ان نعيش، واخضعنا موارد ملايين السنين لرغبة فرد أو مجموعة، صحيح انها لا تحمل لقب الفرعون، لكنها في النهاية كانت قادرة على التعايش مع الالقاب الجديدة، والتي وان كانت لا ترتفع إلى مستوى ذلك اللقب، لكنها بالحقيقة كرست زينتها الذاتية من جوع ملايين الناس الذين يتساقطون جوعا في العالم الذي لا حول له ولا قوة، واضافت القدرات المبتكرة القادرة على الفتك بملايين البشر الذين يرفضون الاندغام والانصهار ببوتقة عبودية الحاضر.
" 3 "
المقبرة تلتهب، والناس الذين كانوا على انتظار الخلاص من الدفن، اصبحوا يتململون، منهم من هاجت خواطره للظل، ومنهم من ترك لعبة النرد حتى يعود، ومنهم من كان يحلم بقيلولة تريحه من عناء الحر وعناء العرق الملتصق بالملابس، وكأن الميت لم يكن قبل قليل ينقلهم من عالم الوعي المركز في الدنيا إلى عالم مهيب، مغلف برهبة الغموض والمجهول، لكن الشخص الذي اخبرته بانه سيكون فوق دكة الغسل بعد ايام، كان قد عاد لحطام ذاته.
بدا وهو ينتظر بعيدا عني وكأنه دخل مرحلة الانتقال من الدنيا إلى الاخرة، كانت نظراته الحادة وهي تسدد نحوي، تبدو كصل متعب من الفريسة التي احتوتها معدته، فاذا ما اضفنا الحرارة التي كانت تسقط من بؤرة الشمس ككومات من نار ملتهبة، اكتملت الصورة التي توحي بتمزقه من عدم قدرته على تحريك ذاته للأمام، ولو قدر لشخص ان يدفعه منبها لسقط على الصخرة التي امامه ليتشظى دماغه.
لكنني كنت مشغولا بشيء اخر، فكرة الموت، التي ما ان تلامس الدماغ حتى تستقر فيه، وكأنها كائن يملك براثن حادة وصلبة، فلا تكاد تتلاشى حتى تنبز من جديد، لتتمسك بموقعها الذي يتوسط الدماغ دون أي رحمة.
لكنها رغم قوتها وتأثيرها، تنساب من الدماغ لتبتعد من جديد وكأنها لم تكن قبل لحظات تشد النفس نحو الظلمة والكمد والاكتئاب، هذا شيء غريب ومحير، لكنه في النهاية يتراوح بين البقاء في الذات والخروج منها، بطريقة لا يمكن توثيقها أو الوثوق منها، وهذا ما دفعني في تلك اللحظات إلى التفرس بالقبر غير المكتمل، وبوجوه الناس، كنت ابحث بدافع خفي عن الوصول إلى حقيقة ما يمكن ان يكون، لان القبر المفتوح وبلا شك سيكون ملاذا لشخص ما، ربما هو الان بين الحشد، وربما يقف بعيدا حيث الموسيقى التي كانت تصدح وتوقفت فور رؤية الجنازة، وهذا ما يدفع للاعتقاد بان الفرح ليس المكون الرئيسي لشخصيتنا، فالموت رغم انه حدث غير محسوس أو مدرك تماما الا من خلال الجثث التي تأتي لتقبع تحت التراب، فان له سطوة قادرة على خنق الفرح واغتياله، ربما للحظات قصيرة، وعند اخرين للحظات طويلة، المهم ان سطوته قادرة على نزع الناس من حالة الفرح إلى حالة الحزن، أو على اقل تقدير إلى حالة الوجوم.
كل هذه الافكار كانت تتكور بتسارع مخيف في ذاتي وانا ارقب وجوه الناس باحثا منقبا عن صاحب القبر المفتوح، وفجأة اقتحمت مخيلتي صورة اخرى، غير قابلة للزوال من تأثير نبضها المتدفق بكياني، تلك اللحظة التي شاهدت فيها لأول مرة في حياتي رجلا فوق دكة الغسل، فانا بطبيعتي لا اقيم أي علاقة ودية مع الموت، وكلما اقترب من موقع اكون فيه، ادير ظهري دون النظر للوراء حتى لا يكون هناك ادنى علاقة معه، لكن، في ذلك اليوم، ترافقت مجموعة من الاحداث وصلتني بالموت وحركاته.
كنت قريبا من الشارع، على رصيف اعتدت الوقوف عليه لأدقق بوجوه المارة، وكانت هذه من عاداتي السيئة، التي تعذبني وترهقني، لأنها تصلني بتقاسيم الوجوه وما خلفها من اضطرابات وتفاعلات، لم أكن اعرف يومها لماذا امارس هذا الامر، كانت مجرد عادة لا اساس لها في دعائم المستقبل، هكذا ظننت وايقنت، إلى ان وقفت يوما أمام مجموعة من الاوراق البيضاء، وامسكت بالقلم من اجل الخربشة فقط، وهذه كانت أيضا من بعض عاداتي، لكنني وقفت فترة طويلة دون ان تتحرك يدي نحو الورق، كنت ساهما في اللاشيء، في العدم، إلا أن منظر الورقة وهي نقية ناصعة بدأ يغزو اعماقي بطريقة لا تتوافق مع السابق، لان يدي لم تكن قادرة على الوصول اليها، وكان المسافة الفاصلة بين اليد وبينها ممتدة إلى ما لا نهاية.
وبلحظة مسحوبة من السهوم، بدأت الحروف تتكون فوق الورقة بشكل منتظم، فوق السطور، كانت المفردات تتلوها فواصل ونقاط وعلامات تعجب، وفي نفس اللحظة كنت اشعر بوجع شديد في صدري، يضرب عظام القفص الصدري، لكنه الم غير معهود، لم ينتابني من قبل، ربما شعرت بشيء مشابه وانا اتفحص وجوه المارة، لكنه لم يكن ذات الوجع الذي يعتصرني كإسفنجة مشبعة بحوض من سائل نفاذ، وحين وقفت، ودققت بما صدر مني، لمسته بيدي، كنت ابحث عن احساس مادي، كم تمنيت يومها لو كان ناتئا ليلامس الجسد فينقل الاحساس المثقل بالمجهول إلى صورة واضحة في الدماغ، لكن محاولاتي كلها باءت بالهزيمة المنكرة، وظل الاحساس بالمجهول يطوق ما صدر مني كقوة غاشمة مرعبة.
رفعت راسي، احسست بثقله، حتى دخل روعي أنني لا املك القدرة على رفعه بالدرجة الكافية، فنظرت إلى الورقة من جديد، كانت جزء من تكوين مختلط، فيه مني الكثير، لكن فيه أيضا من الرصيف ومن الوجوه والتقاسيم التي كنت اراقبها الكثير ايضا، وفيه من الغبار ومن زخات المطر ومن سياط الشمس ومن السهول والسهوب، وفيه من الماضي أكثر مما فيه من الحاضر، حتى الحاضر وجدته مرسوم بأحرف الماضي، وكانه نسيج من حلقات كانت قبل ازمان طويلة.
عندها روادتني الخواطر، ودغدغت الوجع رؤى من شيء خرج ليكون بداية اتصال بين ما كان مجهولا وبيني، في تلك اللحظات كنت غرا بسيطا، فنهضت الاحلام من مهاجع الطفولة، وكان السؤال: هل أستطيع الكتابة يوما ما عن اشياء واشياء؟ اجابت الاحلام بالإيجاب، وقفت بين السؤال والجواب، ودققت في ذاتي، هل يمكن لطفل غر ان يكتشف بلحظة مفاجئة انه سيكون قادرا على الكتابة؟
ظل السؤال معلقا فترة من الزمن، شاركت بتوزيعي على لهيب من اتون بركان متفجر، ذهبت إلى مكتبة البلدية في المدينة، تفرست في الكتب، دققت بطريقة غريبة في وجوه الكتاب الموجودين على اغلفة كتبهم، تركتها وخرجت إلى المكتبات في المدينة، وهناك وقفت كالممسوس أمام الكتب والصور من جديد، لكن التوزع ظل يشدني نحوه دون الوصول إلى اجابة.
ومرت أيام طويله، وقفت فيها على ذات الرصيف، وجبت المقاهي التي اعشق وجودها ورائحتها، خضت بين الناس بطريقة لا تعرف الخجل أو الحياء، كنت مدفوعا بقوة غريبة للوصول إلى نقطة توازن تنقلني من التشتت والتوزع إلى الثبات، لكن الامور كانت تتكدس بذاتي، شعرت بالوجع يتعاظم حتى بدت سحنتي صفراء ملفتة للنظر، جفل والدي من رؤيتي اغوص بالنحول واجانف الطعام والفرح، لكنهما لم يستطيعا فعل شيء، وعرفا بحاستهما أنني ممسوس من الكتب، لكنهما لم يفصحا، عرفت ذلك منهما وهما يتهامسان، وكانا يظنان اني خارج البيت، فخفت أكثر مما كنت خائف.
لجأت إلى مسجد المخيم الذي اعشقه بطريقة لا تضاهيها في العشق طريقة اخرى، امسكت بالمصحف، وكنت مفتونا بسورة الواقعة وسورة " ق "، وكان لهذا الحرف من السورة تأثير لم يسبق ان احسسته من قبل، هو حرف، تتلوه حروف، تتكون كجمل، ترسم الرعب في قلوبنا إلى حد الانخلاع، وتضخ طمأنينة تكاد تجعلنا نطفو فوق السحاب، كانت التلاطمات شديدة، فعقلي الصغير لم يكن قادرا على فرز الامور بطريقة منتظمة، وحين عدت للبيت بعد صلاة العشاء، شعرت بشيء من الراحة، وكان الاهم، هو الشعور بانزياح حمل شديد عن كاهلي، فاضحت حركتي خفيفة، وشحوبي امتزج بشيء من التورد، وحين شاهدني والداي كانت نظرتهم المدهوشة بالرضا علامة من علامات الراحة المقابلة لكل ما مر بي وانا في المسجد.
دخلت الغرفة وامسكت بالقلم وبدأت السطور تكتظ، يومها عرفت يقينا بان وقفتي على الرصيف أو جلوسي على المقهى أو خوضي بين الناس، لم يكن يتشابه مع منهم من جيلي ومن سني، ومرت الخاطرة براسي بقوة حنونه، ان اواصل الوقوف حتى استطيع تخزين الكثير للمستقبل.
وحين فردت الاوراق من جديد، وقرأت، عرفت بصورة مطلقة اليقين باحساس صبياني، أنني اقف لأرى بفراسة الراوي وليس بفراسة اخرى، وهذا ما ساندته الذاكرة التي حباني الله بها، الذاكرة التي تستطيع ان تحفظ تفاصيل للأحداث لم يكن غيري ممن اعرف امتلك مثلها، حتى ان بعض الحادثات التي مرت السنين عليها، واعدتها على الجيل الذي عاصرها، قسم منهم تذكر خيالات غير واضحة منها، والقسم الاخر نفى معرفته بها اصلا.
قلت لك أنني يومها كنت اقف كعادتي على الرصيف، ولم يكن يدور بخلدي ابدا أنني سألتقي أنا والموت رغما عني، ولو عرفت لكنت ادرت ظهري للرصيف ولليوم كله، وقفتي تمنحني فرصة مشاهدة الناس على الشارع، ورؤية زقاق متصل بالشارع، حيث منزل زميل لي، وبلمحة رأيت اخت زميلي تخرج من منزلها بصورة سريعة فيها غرابة، لا تعرف ماذا تفعل، لكن صراخها وصل الي والى من بالشارع، اندفعت كما الناس نحوها، ولأنها اعتادت رؤيتي عندهم فان توجهها كان نحوي مباشرة، امسكت بيدي وهي تصرخ: ابي، ابي، دخلت المنزل كان قد لفظ انفاسه الأخيرة، وحين مددت يدي نحو جسده شعرت ببرودة الموت وقوته التي سيطرت على الجسد كله.
في تلك اللحظة، تلاشت فراسة الراوي، تحولت إلى حركات مذهولة، تصادمت مع الموت عن طريق شخص كنت اعرفه جيدا، صافحته وحدثته أكثر من مرة، قوة الموت وسيطرته تحكمت بكل نوازعي، حتى ظننت أنني لن استطيع التحرك، لكن حركة الناس والجيران التي بدأت تعلو وتتضخم، الصراخ والعويل، كل هذا انتشلني من المأزق بشكل سريع، رغم أنني بقيت بصورة ما مشدود إلى الجو الذي تحول من عادي إلى مأتم سريع، وهذا ما اشرت لك به سابقا، حين اغتالت الجنازة صداح الموسيقى وحولته إلى وجوم مستبد.
زميلي كان في سفر إلى الاردن، وهذا ما اوقع على عاتقي بصورة واضحة متابعة اجراءات الدفن، جاء الطبيب وتأكد من الوفاة، وبدأ الجيران بمتابعة تفاصيل القبر والكفن، كانت الاحداث سريعة، فالناس رغم اختلافها بكل شيء في لحظات الحياة، الا انها تنحني للتوافق مع معطيات الموت، وهذا أمر بقدر اثارته للدهشة فانه يستحق التأمل والدراسة في خضوع النوازع كلها لإرادة الموت وملحقاته، وحين وصل غاسل الجثث، وهو زميل لي ايضا، كان علي الدخول معه إلى الغرفة لمساعدته بعملية الغسل.
لو سألني يومها ان كنت أود الدخول ام لا؟ لأجبت بنعم ولا في نفس الوقت، ولكانت النعم مساوية بحجمها وقدرها للا، لأني كنت ارفض المصادمة مع الموت باي شكل من الاشكال، ولأنني كنت املك فضول الفراسة التي عادت لتحتل كياني كله.
دخلت معه إلى الغرفة، حدقت في وجهه، كان عاديا، صافيا، لا تشوبه أي شائبة، ولا يبدو على محياه انه يدرك وقوفه أمام الموت، ربما هي العادة، لكنه أيضا كان يتمتع بنوع من خشوع خاص، يتناسب مع الموقف، وكانه من حيث لا يدري يحس بما أنا فيه.
اسمه كمال سالم، اسود البشرة، رائع المحيا، البسمة لا تغادر شفتيه ابدا، وكأن بينه وبينها عهدا ان تبقى مرتسمة طوال حياته، فيه نقاء الفطرة، وروعة الطيبة، مكافح بكل ما تحمل الكلمة من معنى يثقل نواتها، يعرف كيف يوزع الخير على من حوله، ويعرف كيف يستل الضحكة من جوف الحزن المكدس بالمآسي، لكنه لم يكن يعرف موعد موته كغيره من الناس، ولم أكن اتوقع مطلقا بان الاشهر القادمة ستضعه على وسادة الموت، دون ان تتمكن دكة الغسل من احتواء جثته، ربما هذا من المتناقضات التي وزعت العقل بين وجوده كغاسل للجثث وبين قفزه من ان يكون جثة قابلة للغسل، كانت الشهادة بانتظاره، وكان الدفن بالدماء النازفة المتدفقة أكثر هيبة لجثته التي استطاعت الفرار من الانكشاف على غاسل، وسأكون شاهدا على بسمته التي ظلت معلقة بين شفتيه حتى وهو ينزل القبر إلى مثواه الاخير.
عملية الغسل بدأت، ولا يمكنني حتى هذا اليوم ايجاد وصف دقيق للعملية، فمرة كنت اراها تتشابه مع حمام طفل، لكنني كنت اتراجع، لان الصراخ المرافق للحمام والحركة، والاهم الفرحة الغامرة التي ترتسم على محيا الام وهي تغسل الطفل، ثم النشوة والخفة التي تسكن حركات الطفل وتميزها، كل هذا كان ينأى بالصورة عن التوافق، فاتجهت نحو مقارنتها بحمام انسان عاجز ومشلول، لكن بين هذه العملية وتلك فروق عظيمة، فالعاجز رغم بروز الالم الشنيع من بين عينيه إلى حد الموت، الا انه الم حي، يتحرك ويتجول في نفسه وفي نفس مغسله، هي لحظات محشوة بالتوتر والقلق المطابق للرغبة في الخلاص من اسر العجز والشلل، والتوق العنيد للانتقال إلى مرحلة النهاية، مرحلة الموت التي تريح من كل هذا الشعور المغلول نحو القهر والبقاء في عقدة الانهيار المتواصل الذي لا فكاك منه باي طريقه من الطرق.
لكن الموت، حين يقتحم الجسد، ويحوله إلى جثة هامدة لا حياة فيها، يدخل في تكوينات الذات وفي روعها احساسا مرافقا للنهاية، للزوال، للاندثار، والاهم العجز المطلق إلى ما لا نهاية، وهذا ما بدا واضحا من سير عملية الغسل، فكمال كان يحرك الجثة نحو اليمين ونحو الشمال، وهو متحفز بطريقة غريبة تنبئ عن اصرار في محاولة السيطرة على الجثة لتبقى بالوضع الذي يودها ان تكون عليه، كان يدعو بقوة وبطريقة لم تكن معهوده بدعائه وهو في المسجد أو الشارع، كان يدرك انه يقف في حضرة الموت، أمام سطوته وقوته الجبارة، لم يكن يبدي خوفه، لكنني لمسته من نبرات صوته المتحولة، ومن حركات يديه التي تعاملت مع الجثة باحترام وهيبة، صحيح انه لم يرتعش مثلي، ولم يقف شعر بدنه كإبر من فولاذ، وحتى لم اسمع صوت سقوط معدته بين قدميه، كما حصل معي، ومع كل هذا الستار العنيف، دخلت اعماقه، تجولت فيها، فأحسست بطريقة غير معهودة معنى سكون الرعب في الاعماق دون ان تشارك الجوارح بتحمل قليلا من العبء.
قد يكون الإنسان قادرا على تحويل مسارات النفس إلى جهات غير التي يعيشها في لحظته، لكنه لا يمكن ان يصل إلى التحويل المنشود الذي يخرجه من تلك اللحظة المستبدة بقوة خفية في مراكز النفس وبؤرها، وهذا ما اكده وجه كمال بوضوح، لم يكن وجهي أو ذاتي مقياسا يمكن الاعتماد عليه، لأنني كما قلت سابقا كنت ادير ظهري للموت حين اراه يدنو من منطقة ما أو شخص ما، حتى لقاءاتي به، كانت خارجة عن ارادتي وعن رغباتي، اما هو، فقد كانت علاقته مع الموت وطيدة إلى حد الملامسة الدائمة، لم يكن بعيدا عنه في لحظات الاختيار أو الكره، بل كان الموت في أي جزء من المخيم يعني الاتصال به، لأنه آخر من يلامس الجثة ليفرغها من صلاتها الأخيرة بالكون والوجود، فهو من يقع على عاتقه تخليصها وللمرة الأخيرة من اتصال الرياح والغبار والعرق والرائحة الدنيوية بذراتها ومسماتها، لهذا كنت اتوقع تلبد مشاعره واستقرارها عند نقطة تنهي اثر الموت المتحرك بنفسه التي عهدت اللحظات الأخيرة للكثير من الجثث.
كنت اتفرس في ملامحه، ابحث فيها عن ظل الموت، عن أي اثر للنهاية التي تشير إلى وقت انتقاله، كل محاولاتي ردت إلى اعماقي، لم اتبين في أي ملمح من ملامحه أو أي قسمة من قسماته ما يقود إلى نهايته القريبة، بل جل ما لمست هو التبدل الواضح في صوت الدعاء الذي كان يخرج من بين شفتيه.
انتهى الغسل، ولف الكفن، بعد ان وزعت الحناء وبعض الطيب على الجثة، وقبل ان تعقد العقدة النهائية للكفن، وجهت نظري نحو الجثة الغارقة بالموت المكتسح كل تركيبها، فوقعت في حيرة مضنية، اهذه هي النهاية؟ استسلام مطلق للعجز والشلل الكامل؟ ما قيمة الإنسان إذا؟ واين ذهب المحرك الحقيقي للجسد وما احتوى من مشاعر ونزوات ورغبات واحاسيس ومشاعر؟ اين اختفت العوالم الكاملة الفسيحة التي كانت تجعل النفس تتلظى غيظا وقهرا ورعبا؟ واين كل مشاعر الفرح والسعادة والحبور والانطلاق؟
لحظة واحدة، جاءت من الزمن الذي لم يكن متوقعا في اللحظة ذاتها، وخلع الحياة والبقاء من الوجود الذي كان، وفيه كانت كل تلك العوالم.
فتح باب الغرفة، دخل الرجال الذين يحوقلون ويبسملون ويتعوذون، رفعت الجثة ووضعت في التابوت، واخرجت للوداع الاخير، بحثت عن كمال، كان بعيدا، يستعد للخروج من المنزل، اقتربت منه، وسالته: اين تنوي الذهاب؟ اجاب: للاغتسال حتى استطيع اللحاق بصلاة الجنازة ومن ثم المشاركة بالخطوات حتى المقبرة.
الاغتسال، لكنه اغتسال الحي من الميت، ولماذا عليه الاغتسال؟ قد لا يكون هذا حكما شرعيا، وهذا ما اظنه، لكنه الخوف من اثار الموت التي علقت بالنفس فهزتها، وربما كانت ملامسة الجثة ظلت تشكل هاجسا ببقاء الموت بين المسامات، بين الجلد وبين الهواء، وإلا، فما معنى الاغتسال المباشر بعد غسل الجثة.
الوداع لا يخلو من هزات الوجع وضربات الحزن وصفعات اليتم، فالصراخ المكلوم المخنوق الذي يكاد يمسك بالحلق فيسد طريق التنفس، يدل وبوضوح على عمق الفهم اللاواعي لمعنى الخروج الاخير من البيت، وهذا ما ينطبق على الجثة ذاتها، يقال انها تعرف برحلتها القصيرة بين البيت والمسجد والمقبرة، وانها تنازع الروح العودة للجسد، وان الروح تنازع للعودة إلى الجسد الذي سكنت، لكن النهاية تحول بين امنيات الجسد وتطلعات الروح، ويبقى الامر حتى نهاية وضع التراب في القبر، وعودة الناس إلى مشاغلهم، عندها، تحاول الجثة النهوض للحاق بالناس، خوفا ورعبا من بقائها وحيدة، بين انياب الظلمة والمجهول، لكنها النهاية التي تحكم قبضتها على تلك المرحلة.
كل هذه الهواجس كانت تقتحم ذاتي وانا انظر نحو الرجل الذي اخذ شكله يتحول إلى طلل متقادم، القماءة نزلت إلى مستوى يشكل خطرا على بقائي ووجودي، حتى ظننت لوهلة بانني لن اغادر المقبرة مع من غادروا، وانني والطلل حكم علينا بالبقاء معا حتى لا يفقد احدنا الشعور بالاتصال بالآخر، لكنه ظل مكانه لا يتحرك، لا يتقدم، وكنت احس بتحولي إلى وتد مغروس بالمكان الذي اقف عليه، الشمس ما زالت تشعل الافق بحممها الملتهبة، والاعشاب الموزعة هنا وهناك تحت رحمة القيظ تشكو بقوة حين سقوط قدم متحرك عليها، فهي لا تهس كعادتها، بل تتحطم بقوة خلتها ارتطام الكون ببعضه، كل شيء هنا يتحكم بالنهاية، يوزع المشاعر على السنة اللهب المرسلة من الشمس والنفس في نفس الآن، حتى الدماغ، فقد شاركت المقبرة والجنازة التي اكتسحت الذاكرة بجعله يغلي إلى درجة الاعتقاد بان طاسة الراس المحيطة به ستتناثر إلى ذرات لا ترى ولا يمكن جمعها.
بصعوبة تكاد تلامس وجه المستحيل تقدمت منه، كنت ارثي له ولذاتي، وفي نفس الوقت كنت بحاجة إلى تغذية القماءة التي تمنحني القدرة على التواصل مع مكوناته، وحين وصلته فححت فحيحا لم تعرفه افعى من قبل، غاص في التقادم إلى حد الرعب، لم يكن طللا كما اعتقدت، بل بقايا من طلل غطته رمال الصحراء لمئات الاف الاعوام، وحين انحسر الغطاء، بدت الحقيقة التي لعب الزمن بتكويناتها إلى حد لم تعد واضحة أو معروفة، لكنه ظل متمسكا بشيء من مجهول حين رفع راسه لينظر الي من جديد، عيناه كانتا صافيتان تماما، وكأنهما ليسا جزء من بقايا الطلل.
- انا وانت نقف على حافة واحدة، ربما شيئا من قماءتك دخل تكويني، فأصبحت بحاجة مربكة وغير مدركة للاتصال بك، كنت قد قررت وانت في لحظات سهومك ترك المقبرة والفرار منك ومن تأثيرك الذي يقود نحو انواع من الجنون المربك، وحين وصلت إلى نهاية المقبرة وبداية بوابة الخروج شعرت بالعجز عن المسير، وكأن قوة خفية طاردتني لتبقيني هنا، حاولت بكل قوة وعيي وادراكي التنصل من تلك القوة، بالضحك بيني وبين ذاتي، بالابتسام، بالبكاء أو محاولة البكاء، بما املك من قوة ومن عجز، وبما املك من انهيار وتفتح، لكن التأثير الملتصق بذاتي منك ظل يغلني نحو البقاء والانتظار، فسددت نظري نحوك، رايتك تتآكل، تتهالك، شعرت بانك تفقد الكثير من قدراتك، لكنني لم املك اللحظة المناسبة للتحرر منك، وهذا ما دفعني للاعتقاد انك بحاجة لي أكثر من حاجتي لك، عندها غصت في نوع من قهر مبهم، فانا ومن كل قلبي لا أود مساعدتك، ولا أود ان اتحقق من حاجتك لي مقدار خردله، ومع هذا بقيت موزعا بين ما اريد وبين العجز حتى وصلتني.
- عرفت ذلك من نظرة واحدة، كنت اذ ذاك منهمكا في استرجاع عملية غسل الميت، وكانت القماءة تتناقص بشكل مذهل كلما غصت بتلك التفاصيل، حتى شعرت ان نهايتي تقترب، ومثلك، لم املك القوة الكافية للخروج من حالة التأمل التي استعمرت كل كياني، كان علي ان اوزع جزء من ذاتي عليك، لان استخراج ما تبقى بك من طاقة يمكن ان يدفعني نحو التوازن لاسترداد قماءتي، ويبقيك في مكانك، حتى استطيع الدخول برحلتك القادمة والتي ارتبطت بالقبر المفتوح، فانا لا زلت أرى التشابه بينك وبينه، ولكن، أتدري؟ ربما هي نوع من الأوهام التي تبنى من العجز والخوف، فانا لم استطع اكتشاف ملامح الموت أو حتى ظلاله في وجه كمال وهو يلتصق بجثة، خانتني قدرتي وفراستي، وما يثبت هذه الخيبة، هو موت كمال بعد اشهر من عملية غسل الميت، وهذا يصبح عصيا على الاستيعاب والتفسير، لأنني كنت وكمال نقف في حضرة الموت، وكان الموت ذاته قد قطع مسافة طويلة من السنين وهو ينتظر لحظة كمال، وحين كنا معا، كانت المسافة لملامسته أصبحت قصيرة جدا، أي انها كانت تلف بعضا من تفاصيل كمال، ولم أتبين ذلك، بل لم ألحظه أو حتى ينتابني احساس كان من الممكن ان ينتاب أي شخص، حيث يتساءل ولو استغرابا ودهشة، متى سيكون كمال فوق دكة الغسل؟ ومن سيغسله؟
- قد يكون هذا دليلا واضحا على عجزك، وعلى طريقة عرضك للأمور، فأنت ادعيت انك كنت قادرا على انتشال الجريح من لحظات انهياره أثناء تقدم الموت، لكنك لم تفعل، لأنك – وهذا حسب قولك – اردت ان تكون خارج المعادلة، معادلة صراع الموت مع الحياة، حتى تترك له القدرة على الاختيار، ولكن، وقوفك في حضرة الموت المهيمنة على كل شيء وقت الغسل، لم تسعفك في اكتشاف لحظات الموت على تقاسيم الغاسل، وهذا يمكن ان يفسر وبوضوح عن عجزك الكامل بمعنى الموت، فلحظة الغسل لم تكن هي الوحيدة القادرة على دفع الإنسان للانصهار في رعب الموقف، كانت هناك صيحات النساء التي تصم الاذان، صرخات مثلومة، معذبة، منقوعة بحلق يكاد يطير من مكانه، من شدة الأسى الموصولة بالرعب الكامن داخل الاوتار التي تكاد من قوة الصدمة ان تفقد قدرتها بتزويد الصرخات بالصوت، وكانت هناك دموع صامتة، ترج المكان وتحرق العيون، والحوقلة التي تذيب العظام، والبسملة التي تشعل اوار الانغماس بالمشهد المتراص، والاستعاذة التي تكشف وتعري ضعف الناس أمام السطوة الحاضرة، وكان هناك النعش والجثة والناس، وفي الذاكرة المسجد والصلاة والمقبرة واللحد، كانت النهاية تحاصر كل الأشياء وكل التفاصيل، الدود الممزق للجثة، والظلمة المتناهية التي ستلف الإنسان بعجز يقوده للاستسلام للمجهول، كل هذه كانت حاضرة، قائمة، في النفس والعقل، لكنك كانسان، لم تستطع ان تحتوي كل تلك التفاصيل في تلك اللحظة، وهذا ما جعلك تقف بعيدا عن ادراك خطوات الموت وسرعة سيره، وانا لا استطيع ان ادعي ابدا بان كل هذه الأشياء والصور كانت حاضرة في ذهني وأنا أسير في الجنازة، بل هي بدأت الآن، عندما بدأت الحديث معك عن تلك اللحظات، وأنا في حالة اندهاش مروع بسبب قدرتي على اكتشافها بعد فوات اللحظات التي من شانها ان تدعم كل ذلك، صدقني ان هناك حاجزا خفيا غير مستوعب، يقف بين الإنسان والنهاية، حتى كل هذه المشاهد، بكل ما فيها من زخم وتلاطم وتنوع، ليس بإمكانها ان تحكم سيطرتها علينا طوال الوقت، لأننا فور انتقالنا الان من المقبرة، سنصطدم بالحياة، بكل ما فيها من رغبات وآمال، وسننسى لحظة الالتقاء بالموت، نسيانا يقترب من التمام، وسنخوض كل شيء قادم، بإرادة البقاء الذي لا يقترب منه الفناء.
- لا، لن تستطيع الفكاك مما ترسمه الايام القادمة لك، ربما اكون قد فقدت قدرتي مع كمال، لسبب لا اعرفه، لكن معك انت، فالأمر مختلف تماما، أنت تقترب من نهايتك، ودكة الغسل تنتظرك، وكذلك التابوت الذي اخبرتك عنه، وهذا ما تحاول استبعاده باستدعاء الجمل التي قلتها قبل قليل، أنا لا انكر ابدا انها جزء من صميم الحقيقة، لكنها لم تكن تدور بخلدك لأنها كذلك، بل هي اتت من اللاوعي الذي يرفض ان تكون نهايته مع نهايتك، رغم كرهه للسكن الذي تقدمه له، ورغم معرفته بالمسافة التي تفصله عنك، لكنه ككل شيء مربوط بغيره، يحاول ابقاء هذا الغير على مساحة الوجود، يتنفس، ينبض، لان اللحظة التي تتوقف فيها الانفاس ويتلاشى النبض، هي التي ستحكم بالزوال، وهذا ما لم تدركه جيدا، لأنك بطريقة مراوغة فيها دمج من جهل وبراءة اردت ان تصيب نقطة لا يختلف عليها الناس، ومن هنا تضمن زوال الهواجس والوساوس التي استعمرت كل ذرة فيك استعمارا لا فكاك أو خلاص منه، وحين انطلقت لتخبرني بذلك، كنت تشكل درعا متينا يفصل بيني وبينك، لكنك الان تعاني انهيار الدرع، وتعرف يقينا باني الاحق حتى انفاسك المكبوتة، وانني متمكن ليس من زحزحة الوعي، بل واصطياد اللاوعي الذي يحاول التآمر معك للخلاص مني، بل الخلاص من رعب الفكرة التي اصبحت الان جزء من ذاتك بطريقة الالتحام والاندماج التي تتخلل كل المسامات وكل الرجفات والشهقات.
- دعني اسألك سؤالا واحدا، وارجو ان تكون صادقا في الإجابة، ما الذي يدفعك إلى تعذيبي؟ إلى نقلي من مساحات الهدوء والسكينة، إلى التوتر والغليان؟ هذا أمر لا استطيع فهمه!
- الامر ليس كما تتصور أنت، فانا لا اسعى إلى تعذيبك بالمعنى الذي تدرك، والمدرك من قبل الناس، حتى ربما أنني لا استطيع ممارسة التعذيب نحوك أو نحو نمله، وهذا مناقض لما قلت عن نفسي من قبل، في بداية الرواية، وهذا أمر طبيعي، لأنني أود ان اشرح لك شيئا يشارك في تعذيبك، هو في داخلك، بأعماق تركيبتك، بل هو المكون الرئيسي للشخصية الانسانية، التي تحمل بذاتها بذور انهيارها وتفككها بشكل دائم، وهذا ما نختلف فيه عن الحيوان حتى الان، ربما يتقدم العلم إلى درجة اكتشاف المعاني التي تستتر خلف الكلمات والمفردات في ثنايا النفس الحيوانية، فنكون بذلك متساوين مع الحيوان بهذه النقطة كما تساوينا معه ببعض الغرائز، حتى أنني لا اعرف في اللغة تسمية واضحة تدل على الحالة التي انوي شرحها لك كي تعلم على اقل تقدير بانني لست من يقوم بزرع الآفات كلها بذاتك، ولنرى أنا وانت كيف ستواجه اعماقك بعدئذ.
حين اخبرتك بانك ستموت، ونحن في بداية الطريق إلى الجنازة، لم أكن اتوجه إلى دماغك مباشرة، ولم أكن قادرا على قول ذلك بغير اللحظة التي قلت ذلك فيها، لان القول المجرد يطرق الاذن وينتقل إلى الدماغ، فاذا كانت الاعصاب مشدودة نحو زاوية أخرى أو هدف آخر يستقر في عمق الرؤية، ويتابع العقل ذلك الهدف أو تلك الزاوية، فان جملتي ستكون تقريبا خاوية من الحشد التأثيري الذي يمنحها القوة والمتانة كي تخترق كل العقل وكل المشاعر، وبهذا ستكون فقط شيئا يسيرا من الكل الموزع على الذات المبعثرة عنا في لهاث غير موصول أو مترابط، وهذا ما سينثرها بين الاجزاء لتكون اجزاء صغيرة لا تكاد ترى، وبالتالي ستتلاشى وتندثر، وستفوز أنت براحة أو تعب يحكم بهما المشهد المتشعب المشظى.
لكن، في لحظة وقوع النفس والعقل باسر المشهد الموحد، الذي تضخه كل التفاصيل المشاركة بتكوينه ليصبح هو المشهد المسيطر والمتحكم في الذات، فان لحظة اصطيادك أو اصطياد أي شخص تكون مهمة سهلة، وهنا اكون أنا العنصر المساعد للأشياء والتكوينات والمشاعر والاحاسيس التي تنتظر من يحركها لتستطيع الصعود من مكامنها إلى القلب والعقل، لترضخهما بطريقة قسرية مؤلمة إلى حالة جديدة تكون كل تلك الأشياء هي المحرك والباعث لما سميته أنت بالعذاب، والذي اتهمتني بتأجيجه فيك، وهذا ما يسعدني بالطبع، لأنك تقدم اعترافا بانني قادر على تحريك ذلك الكم الهائل من التفاصيل الصغيرة لتكون نوعا من عذاب يبدو انه قد تمكن من كل فيك، ولأنها بطريقة ما تشعرني بقدرتي على تزويد القماءة التي بدأت اشك بصدق تسميتها بهذا الاسم، بدرجات عالية من مخزون طويل الامد، وكذلك تقودني إلى ادراك كم الجهل والعقم الذي يدعيه الإنسان حين يتحدث عن القوة والقدرة النفسية التي يمتلك، حتى أنني اشعر بتحول كبير في ادعاء معرفة الإنسان كما كنت اظن سابقا، لان الاكتشافات المتتالية التي تتبدل من فرد إلى فرد، وتتحول تحولا كاملا، تشي بضرورة التسليم ولا أود القول المطلق، لان هناك من لا يحب التعميم من باب انتمائه إلى الوسطية أو بصورة ادق العقلانية الواعية، بل اقول التسليم الكامل بان الإنسان اكبر لغز عرفه البشر منذ بدء الحياة إلى يومنا هذا، ويدعم كل هذا الجنون المستبد بثورة العلم الذي يحاول ان يسبر اغوار الإنسان الخفية في محاولة للوصول إلى مفهوم رياضي يقضي بقول الاحساس كذا إذا اجتمع بالإحساس كذا يكون الناتج الاحساس النهائي كذا، لكنهم حتى اليوم لم يصلوا إلى قول قاطع يمكن الاعتماد عليه في فهم خوافي الذات رغم ادعائهم بانهم وصلوا إلى مجموعة من الاكتشافات التي يحاولون جعلها تدعم ما يريدون منا ان نصدقه، وهم لجأوا بالتمويه على فشلهم على نفس الطريقة التي لجأت إليها كي اسمع منك الاعتراف الذي قدمت منذ قليل.
هم قالوا: بان الإنسان يمر بمجموعة من الظروف التي تتشابك وتدعم بعضها، وهي ظروف سوداوية بصورة ما، قريبة إلى الحزن والاسى والتعب، مما ينتج حالة تسمى بالكآبة، وكذلك القلق، أو التوتر، أو الارتكاس، وجميعها حالات موجودة داخل الإنسان ولا يمكن مقاومتها الا باسلوب العلاج الحديث الموزع بين ادوية تسيطر على الاعصاب وتجعلها خامدة نائمة وكأنها محجوزة بقارورة من زجاج معتم، وبالتواصل مع طبيب للحديث معه والبوح بكل ما يستبد بالنفس من اتعاب واثقال مرهقة.
لكنهم لم يقولوا ابدا بان اصول التقلبات النفسية باقية ما بقي الخلق، وانها ان سميت اليوم باسم الكآبة، فإنها سميت فيما سبق بأسماء كثيرة، فالأطلال التي مزقت الشعراء وجعلتهم يكتبون قصائد علقت على غرة التاريخ العالمي، كانوا يمرون بمجموعة من المشاعر الضخمة والمتعددة، البسوها باسم الحنين والاشتياق والشوق واللوعة والحنين، وكذلك الفقراء، كانت مشاعر الجوع تنبت مجموعة من المشاعر المتفرعة والمتفرقة المتصالبة والمتوازية، تجعل الإنسان يغوص بأعماقها حتى القاع، مما ينتج انسانا لا صلة له بالمولود الذي ولد قبل اعوام طويلة، هو مريض؟ نعم. لكنه المرض الذي نعرف، والداء الذي تكون من أيام وشهور وسنين، تكدست فيها الملايين من المشاعر التي لا يمكن فرزها أو احصائها، وبذلك يكون الامر مستحيلا على العقل ان يصل إلى كل تلك المكونات لفرزها وتنقيتها وتنظيفها، مما يجعل بقاءها حتى بعد غياب العنصر المكون لها امرا حتميا ولازما من لوازم امتداده حتى بعد نزول الجثة التي كانت تحمل كل المكونات إلى القبر.
وانا استندت إلى نقلك من حالة العادي إلى حالة الشعور بالموت، إلى نفس القاعدة، فانت كنت موجود بجنازة، الكل فيها يشارك بطريقة محسوسة وغير محسوسة بتوطيد الخوف ومنابته في النفوس، حتى التشهد في هذه اللحظات يكون أكثر تأثيرا وقوة، وكذلك التكبير والحوقلة، فاذا ما اضفنا دموع الاقارب أو شهقاتهم وتأوهاتهم، وحديث العبر التي يجب استخلاصها من المشهد، وكذلك الشك بقيمة الإنسان والتأكيد على ضعفه وتفككه، مع الشمس اللاهبة التي تشوي الوجوه والاجساد، وتذكر بطريقة ما بعذاب جهنم وقوة النار التي تتحكم بها، ثم صمت موسيقي الفرح وانهزامها أمام التابوت، فالمقبرة بكل ما فيها من وحشة رغم وقوعها بين حارات وبيوت كثيرة، والقبر واللحد، والناس التي تفرقت هنا وهناك حول القبور، وذكريات الناس الذين ماتوا قبل اعوام، كل هذا كان مشاركا ومساعدا لي في استنهاض شعور الموت لزرعه بأعماقك بسهولة شديدة، أي أنني كنت فقط الشرارة التي اوقدت النار التي التهمت الغابات الممتدة ملايين الاميال، كنت أنت أيضا تقف على حافة السقوط بما زرعت فيك، وكنت مولعا بصورة ما إلى الاستناد على مفرداتي وجملي كي تدعي ببساطة أنني من ولَد العذاب بداخلك.
لماذا يحصل هذا ببساطة؟ لأننا حقا لا نملك من أمر اعماقنا شيئا، ولو ملكنا من ذلك شيء يسير لاستطعنا تخطي امور كثيرة، ولبلغنا مبالغ من الاتزان والهدوء مكنتنا من سبر اغوار ذواتنا بصورة حقيقية، لكننا مهما حاولنا، لن نصل إلى ذلك ابدا، لان اغوارنا اقوى منا بكثير، واعمق من ان تكون قدراتنا قادرة أو جاهزة للغوص فيها، نحن بصورة ما لا نعرف انفسنا، لا نملكها، لكننا نكابر بقوة سلبية من اجل الاقتناع باننا نسيطر على العوالم المفتوحة والممتدة بداخلنا، كي نرضخ ذواتنا إلى مفهوم الخداع الكبير، الذي يمكننا من مواصلة الحياة بالصورة التي نريد ونتمنى، لكننا ابدا لم نقف يوما أمام مفردة الغموض المكتنف والمغلف لكل شيء فينا من اجل مواجهة الغموض ومحاولة خوض معركة مستمرة من اجل اكتشافه.
وحتى حين ادعينا كبشر اننا نواجه المجهول، واننا نضع النظريات والقوانين المرتكزة على الازمان التي سبقتنا، كنا نتجه بطريقة ماكرة إلى تثبيت الغموض بجلب تعريفات جديدة براقة ولامعة، لكنها خالية من الفعل والتأثير بمجريات الوصل بين الماضي والحاضر الموصولين بالمستقبل، على سبيل المثال، نحن وقفنا أمام تاريخ السابقين المملوء بالدماء والجريمة والجثث والقتل والتنكيل، المكتظ بالظلم الذي دخل إلى سويداء الأشياء قبل ان يصل إلى نواة النفوس، فأخذنا الحدث بشكل مجرد، بعيدا عن النفس التي كانت توقد تلك المجريات والاحداث المتوترة والمتقلبة، ناقشنا الاطماع التي استبدت بالنفوس فقادت إلى تلك الآلام، لكننا لم نعرف بصورة حقيقية وواعية معنى الاطماع التي تحصد ملايين ملايين الارواح، وتستبيح كل المشاعر المرافقة لرحيل الارواح عن مكان وجودها، عن افراد عائلاتها، لم ننبش المشاعر التي قتلت وقصلت وخوزقت تلك الرؤوس والاجساد التي مُزقت وتدحرجت، بل الامر والادهى اننا واصلنا بطريقة أكثر رعبا وأكثر حقدا ممارسة الجريمة نحو الاجساد والمشاعر باسلوب مثير للتقزز والهوان أكثر ممن سبقونا، وهذا ما يدعوني للاعتقاد الجازم والمطلق إلى زاوية واحدة من التفكير والتأمل، زاوية الغرق بالجهل بقيمة الإنسان وما يتبعه من تفرعات هائلة لا يمكن للعلم أو التقدم ان يحيط تفاصيلها وتكويناتها باي شكل من الاشكال.
ربما لا استطيع التوسع بالشرح إلى حد الصاقك بما اشعر واحس، لعجز نقل التصور والرؤى التي تتمحور بأعماقي وبعيني إلى حد اشعالي على شواطئ مغرقة بموج لاسع، هو العجز، القادم من العجز المتمكن بكل شيء بيني وبين نفسي، فانا اليوم احب فلانا، دون أي دافع يدفعني نحو التعمق بأسباب الحب المتفتح بذاتي، وفي ذات اللحظة اكره فلانا دون فهم دوافع كراهيتي، وما هي سوى ايام، حتى تنقلب الامور، بصورة مثيره للرعب، للإرهاق الممزوج بالعرق الساقط كمطر لا يرحم، وحين كنت احاول الخروج من حالة من تلك الحالات، لقذفها بعيدا عن تكويني، كانت تتمسك ببقائها واستمراريتها، وكأنها المتحكم المطلق بكل ما في من تحولات، هو الصراع، الصراع العنيف بين بداية ونهاية، تتوقف كل منهما في منطقة الوسط، فهذه تشدني نحو الاسفل، وتلك تشدني نحو الاعلى، وانا بين الحالتين كالمصلوب على جدار من ابر فولاذية، تتجه للغوص بجسدي، لكنها تعجز بسبب تحرك الجسد بعيدا عنها، لكن ليس إلى حد النجاة من راسها المدبب، ولك ان تتصور كم العذاب الذي الاقيه من الشد المتناقض ومن الابر التي لا تنغرز ولا تخرج، هو التأرجح الحارق بين الالم المستبد ومحاولة القفز فوقه، لكن المحاولات كلها تبقى مغلولة، تماما كالثور المغلول إلى وتد بحبل من حديد، والسكين تمر فوق رقبته بهدوء، تخدشه ولا تقتله.
هي اللحظة الأخيرة، التي اخبرتكم فيها بانها ستأتي، وانها مفتاح نهايتي، وحذرتكم بانها ستكون اقصر من اللحظة الاولى، وقلت بانها الفرصة التي لا تعوض، عليكم استغلالها، استثمارها، بسرعة لا تمنحني ابدا قدرة المواصلة، لكنكم لم تتنبهوا، أنني بدأت احدثكم من حيث لا ادري عن عجزي، بطريقة المشفق على نفسه، السطور السابقة كانت تحمل نهايتي لو تنبهتم، لو نزعتم أنفسكم من فضول الاستمرار من اجل معرفة النهاية، أو بصورة ادق البقية الباقية من الرواية، لكن الفضول كان أكثر قدرة على التحكم بكل ما فيكم، حتى فوت الفرصة عليكم للخلاص مني، هي لحظة واحدة، كانت قادرة على دفعكم للشفقة علي، عندها كانت القماءة ستتلاشى، تذوب، وكنت سأتلاشى واذوب معها. لكن المضاد دخل اوردتي، سرى بها، اصبح مكونا لازما من مكوناتها، وبهذا تكون الفرصة قد فاتت عليكم، والى الابد، أنا اعلم باني سانتهي، لكن ليس بالشفقة منكم، بل بشيء اخر، وهذا لوحده يكفيني ان اقول باني سجلت نصرا ابديا عليكم جميعا، ولو كنت مكانكم لفكرت كثيرا قبل التبسم أو تحريك عضلات الوجه، لان القماءة التي بداخلي استطاعت ان تربطكم بالسطور والصفحات إلى حد افقادكم القدرة في الدفاع عن أنفسكم، اليس هذا نوعا من الانتصارات التي قلما يتم تحقيقها في هذا الزمن؟
ربما استطعت الان ان تفهم، حين خاطبتك وانتقلت لمخاطبة القراء في نفس الفقرة التي كنت اخاطبك فيها، بانني لم أود تعذيبك، بل استخدامك كطعم يحمل رائحة فواحة، تغري انوف القراء بالانغماس والتمرغ في نص حالتك النفسية، المعبأة بالموت الساقط من كل الاتجاهات، حتى لا يتنبهوا للحظة الاقتناص التي كان عليهم ادراكها والتعامل معها، ومع كل هذا، لا زلت ارى الامتقاع يسيطر على وجهك الملوح بالانفعالات الموارة، وكأني بالموت يزحف فيك، من اعماق القدمين صعودا إلى أم راسك، لا تخف ابدا، ولا ترتجف، اتدري لماذا؟ فقط لأنك لا تستطيع مواجهة الموت أو الخلاص منه، وهذا ما يجب ان يمنحك القدرة على خوضه والالتحام فيه دون أي رعدة أو رجفة، اعلم بانه كلام لا يليق بمحتضر، وان لحظات النزع المسيطرة على دماغك هي اللحظات المتحكمة بكل الاتي والحاضر والماضي، ككتلة منصهرة دائمة الاتقاد والغليان، حيث من المستحيل علينا معرفة مكوناتها وطبيعة تقلبها، لكنها النهاية، بكل ما فيها من حمحمة تكاد تقرض الصلد وتفتت الجلاميد، بكل ما فيها من رعب جاثم على التكوينات المتمازجة المندمجة، بل هي الأشياء المكتملة النضوج والنماء.
قميء انا، هكذا تقول بداخلك المغلول إلى الحفرة التي رايتها، والتي قلت بانها تشبهك تماما، خاصة بعدما ادركت بصورة ما، كيف اقتحمت عذابك والمك وسخرته لخداع القارئ حتى لا يستطيع اكتشاف اللحظة التي ستمكنه من التخلص مني، هذا صحيح، لكن القماءة الاكبر، ان تعتقد انه ليس من حقي استخدام كل الادوات من أجل الذود عن تلك اللحظة التي سترسم نهايتي، وستجعلني اتشابه مع تلك الحفرة في المقبرة، اذن هي القماءة، التي تتوزع بيني وبينك، لكنها عندي غذاء وعندك داء، عندي ارتداد إلى عصر عنترة العبسي الذي حمل القماءة على حد سيفه حتى يحصل على مكانته بين من كانوا اقل منه شانا وقوة، ليحول قماءتهم إلى نحورهم وصدورهم، فيكتب عزته ديوانا من الشعر وملحمة من الاساطير التي دارت مع دورات رمحه وحوافر خيله، وعندك عودة إلى عصر الفرعون وعبيده.
كنت أود الاسترسال معك، لكن علي الوصول للبيت بأقصى سرعة، فانا بحاجة إلى الاغتسال من اجل ان اكون جاهزا للسير في جنازتك كما وعدتك.