عندما عثرت علي هذه البردية التي تحوي أحداث روايتنا بطريق الصدفة ، ترددت كثيراً قبل أن أتخذ قرار ترجمتها وذلك لعدة أسباب من أهمها أنها لم تكن بحالة جيدة ، فهناك أجزاء كثيرة ممزقة أو ممسوحة أو مشوهة ، بالإضافة إلي أن الجزء الأخير منها والذي يتضمن نهاية القصة كان ممزقاً جداً بحيث لا يمكن قراءته مما يتطلب من المترجم أن يتدخل أحياناً بالتعديل وأحياناً بالإضافة ، الأمر الذي نراه مخلاً بشكل ما بالعمل الأصلي وبروحه الفني ، ولكي يحافظ المترجم علي أكبر قدر ممكن من روح القصة عليه أن يقرأ ويستوعب الكثير والكثير من النصوص التي تتناول الفترة التاريخية التي دارت فيها الأحداث ، سواء كانت نصوصاً أثرية أو التعليقات التي سجلها المؤرخون ، أو ما كتبه فلاسفة التاريخ حول الإطار التاريخي للأحداث ، وهي عملية شاقة وعسيرة وتحتاج لساعات طويلة داخل المكتبات خاصة في هذه الأيام التي لا تترك للإنسان فرصة لالتقاط أنفاسه ..
ولما عقدت العزم علي القيام بهذه المهمة تحت إلحاح بعض الأصدقاء المهتمين بالأدب المصري القديم فقد وجب التنويه إلي بعض الملاحظات الهامة والتي تتعلق بشخصيات الرواية ، فهي أولاً شخصيات حقيقية عاشت بالفعل في ذلك الزمن ،كما أن الأحداث الواردة فيها هي أحداث حقيقية أيضاً حدثت في نهاية الأسرة الرابعة وبداية الأسرة الخامسة وامتدت حتى معظم فترة حكم الأسرة السادسة والتي أدت بعد ذلك مباشرة إلي ما يسمي بعصر الإضمحلال الأول.. وكذلك فإنني عندما كنت أضطر للتدخل – نتيجة لسوء حالة البردية – فإن ذلك كان يتم بحذر شديد ، وبأقل قدر ممكن ووفق السياق العام للقصة، فإن كنت قد وفقت فهو فضل من الله ، وإن لم يكن ، فقد بذلت ما بوسعي ويكفيني شرف المحاولة وأرجو قبول اعتذاري وأسفي ..
وكما أشرت من قبل فإن الجزء الأخير والذي يتضمن نهاية القصة كان مدمراً تماماً ولذا اعتمدت علي كتب التاريخ في تسجيل نهاية القصة ومن ثم فلم تكن هناك أية حلقات مفقودة فيها ..
-1-
ظهر الضيق والتأفف علي وجه الملك" شبسسكاف" عندما أخبره الحاجب أن كبير كهنة رع يريد لقاءه .. قال في نفسه " ماذا يريد هذا الرجل ؟ ألا يشبع أبداً ؟! " أشار بيده للحاجب أن يدخله ، فهو في الحقيقة لا يستطيع أن يفعل غير ذلك ، خرج الحاجب مسرعاً ، مال الملك علي كبير وزراءه قائلاً :
- لن يستريح هؤلاء الكهنة حتى يحصلوا علي العرش نفسه ..
- ليس هذا خطؤك يا مولاي ، إنه خطأ الملوك الذين سبقوك وسمحوا لهم بهذا التدخل في شئون القصر ، إنهم ما كانوا يجرؤن علي السير في الشوارع أيام الملك العظيم" خنوم خوفوي" ..
وانقطع الهمس إثر دخول كبير الكهنة" نب حبت رع" بكبرياء وخيلاء أثار في الملك الرغبة في الإطاحة برأسه لكنه ابتلع غيظه ورسم ابتسامة باهتة علي وجهه ، تقدم الكاهن ببطء في اتجاه العرش وانحني انحناءه خفيفة أمام الملك قائلاً :
- التحية للملك العظيم .. ملك الأرضين .. حفظه الإله المعظم رع ورعاه ..
- وحفظتك الآلهة يا كبير كهنة رع .. تفضل بالجلوس..
تراجع كبير الكهنة خطوات وهو رافع رأسه ، واتجه ليأخذ مكانه بين حاشية الملك وجلس صامتاً فيما واصل الملك حديثه الذي انقطع بدخول الكاهن معبراً عن أمله في إرسال بعثة للقيام بالحفائر واستخراج الصخور من أسوان في أسرع وقت ممكن ، وكان كبير كهنة رع يرمقه وهو يتحدث وعلي شفتيه ظل ابتسامة ساخرة وكأنه يقول له .." لن تعيش حتى تري أي من آمالك تتحقق ! " ..
كان الجهد والإعياء باديان علي وجه الملك ، ولا يدري أحد إن كان هذا بسبب السن المتقدم أم بفعل الأحداث التي تجري من حوله ، أو كلاهما معاً .. فهو قد تولي العرش وسنه يقترب من الخمسين ، وجاء توليه الحكم في فترة اضطرابات عنيفة ، اختلط فيها الخلاف بين أفراد الأسرة الملكية وصراعهم علي العرش مع المحاولات المستمرة من كهنة الشمس للسيطرة علي القصر والتحكم في الملوك ، حتى أن من لا يأتي علي هواهم ، يدبرون المؤامرات لإقصائه عن العرش ، وكان" شبسسكاف" يشعر أنه غير قادر علي فعل شيء ، فالموارد المتاحة لديه قليلة بعد أن أنفق جده العظيم "خنوم خوفوي" الكثير في بناء مقبرته الضخمة ، وحذا خلفاؤه" خفرع ومنكاورع" حذوه حتى أصبحت الخزينة خاوية أو تكاد .. وزاد الطين بله هؤلاء
الكهنة الذين يرغبون في تحويل ما تبقي من موارد البلاد لبناء وتجميل معابدهم بعد أن تزايد نفوذهم وقويت شوكتهم في مقابل الضعف والوهن الذي أصاب كهنة بتـــاح ..
أدرك الملك أن كبير الكهنة يريد أن ينفرد به – وهذا دأبه دائماً كلما أراد شيئاً لنفسه أو لمعبد من معابده – فأشار للحاشية بالانصراف ، نظر إلي الكاهن نظرة تساؤل دون أن يبدأه بالكلام ، رسم الكاهن ابتسامة علي شفتيه واقترب من الملك هامساً بالرغم من عدم وجود أحد وقال ..
- لقد أمرت منذ الأمس بإقامة الصلوات للإله العظيم رع – باعث الضياء وواهب الحياة – كي يهب الملكة المبجلة ولداً ذكراً يكون ولياً لعرشكم بعد عمر طويل وسعيد لجلالتكم ..
- باركتكم الآلهة يا كبير الكهنة .. وأشكر لك اهتمامك وأقدره ..
وقبل أن يستطرد الكاهن في الكلام والمطالب رأي الملك أن يبدأ الهجوم بموضوع يعلم أنه يثير حساسية الكاهن فباغته قائلاً ..
- نما إلي علمي أن كهنة بتاح غاضبون ، وأنهم يرون أن معابد الشمس قد استأثرت باهتمامنا دون معابد بتاح ، وأنا أخشى أن يؤدي غضبهم وتذمرهم إلي عواقب وخيمة يمكن أن تؤثر علي الأمن والهدوء في البلاد .. فما رأي كبير كهنة رع .. ؟ كيف يمكن أن نرضيهم ؟
- هذا أمر يسير يا مولاي ، ولا أظن أنه يصل إلي حد تهديد الأمن ، ومع ذلك فقد فكرنا في هذا الأمر ، فنحن لا نرضي بإغضاب أحد ، خاصة الإله بتاح الذي نحترمه ونبجله، ولهذا الأمر جئتك اليوم يا مولاي .. لقد رأينا أن نعطيهم منصباً هاماً يكون فيه رضاهم ..
بلغ الغيظ والغضب بالملك حداً كبيراً بسبب لهجة الكاهن الذي يتحدث وكأنه هو الملك ، يعطي ويمنع حسب مزاجه ورغبته ، وعلي الجانب الآخر فطن إلي حكمة هذا الحل ورآه هو الحل الوحيد الممكن لهذه المشكلة العويصة ، ولكن .. أي منصب يمكن أن يرضي كهنة بتاح ! صحيح أنهم أقل عدداً من كهنة رع ، وصحيح أنهم أضعف شوكة ، لكن لا يمكن تجاهلهم كلية ، سدد الملك نظرة حادة إلي وجه الكاهن وهاله ما به من تجاعيد تنبئ بعمره الذي طال أكثر مما يود الإنسان وقال بلهجة
غامضة لا يستطيع أحد أن يجزم بما تحمله إن كان سخرية ، أو استهزاء بمحدثه ، أو تعبير عن حقد خاص يكنه لهذا الرجل ..
- أرجو ألاّ يكون هذا المنصب هو العرش نفسه !
لم يتمالك الكاهن نفسه من الضحك ، والملك يرقب فمه المفتوح الخالي من الأسنان والوجه الذي يذكره بالجثة المحنطة ..
- لا..لا..لا .. لا أري أن غضبهم يمكن أن يصل إلي هذا الحد يا مولاي .. وليظل العرش مباركاً بك وبنسلك المقدس ..
وكف تماماً عن الضحك ، واتخذ وجهه هيئة جادة ، ومال علي الملك قائلاً ..
- يكفيهم يا مولاي الملك المعظم منصب الوزارة والقضاء ..
صاح الملك وقد فاجأته جرأة الاقتراح ..
- ماذا !؟ ماذا تقول ؟ الوزارة والقضاء !؟ ألا تعلم أيها الكاهن أن هذا المنصب قاصر علي ولي العهد.. وهذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا .. ؟
لم يهتز الكاهن ولم يطرف له جفن ، هو يعلم جيداً أنه اقتراح جريء ، وأنه تغيير لناموس قديم راسخ ، لكنه كان علي يقين أيضاً من أنه إجراء ضروري ، وأن كهنة بتاح لن يرضوا بأقل من ذلك، بل ويعلم كذلك بعدم قدرة الملك علي الرفض رغم هلعه الواضح ، ورأي أن يخفف عن الملك قليلاً ، فأعاد إلي وجهه ابتسامته الباهتة وهمس قائلاً ..
- مولاي.. لا ضير من أن نغير بعض الأوضاع المستقرة منذ سنين طويلة ، فالعالم نفسه يتغير كل حين ، خاصة إذا كان هذا التغيير ضرورياً لأمن البلاد واستقرارها ، كما أنه يا مولاي لا ينقص من هيبة العرش وقداسته ، بل إنه سيبدو كهبة من الملك لرعاياه وعطية يجب أن يشكر عليها ويحمد ..
أخذ الملك يهز رأسه لأعلي وأسفل دون أن يرد أو يتكلم وبدا أنه استغرق في تفكير عميق يوازن بين ما عرض عليه وما يمكنه أن يفعل إزاء هذا الأمر، ولم ينتبه لوقوف الكاهن الأكبر طالباً الإذن بالانصراف وهو يكرر دعواته للآلهة أن تساعد الملكة وتهبها ابناً قوياً يرث عرشاَ عظيماً ..
تابعته عينا الملك حتى اختفي ، وتمني في نفسه ألاّ يري سحنته مرة أخري، وقرر أن يذهب إلي مخدعه ليستريح، لكنه فوجئ بأنه غير قادر علي النهوض بمفرده ..
-2-
دخلت الوصيفة" محيت" مندفعة علي الملكة "عنخ تاوى" وهي في غاية الانزعاج والرعب يبدو علي وجهها والكلمات تتدافع في فمها فلا تكاد تبين ، لكن الملكة التي كانت تعيش حالة من القلق والخوف قدرت أن ثمة كارثة توشك أن تقع ، وأن هذه الكارثة لابد وأنها تتعلق بحملها الذي تحمله وتوشك أن تضعه خلال أيام أو ربما تكون ساعات قليلة، فغاص قلبها بين جنبيها وجحظت عيناها ولم تقو حتى علي السؤال عما حدث أو علي وشك الحدوث ..
كانت" محيت" أكثر من وصيفة بالنسبة للملكة حتى أنها كانت تصفها أمام المقربين لها بالصديقة المُحِبَّة ، فهما متقاربتان في السن ، ارتوي جسداهما معاً من ثدي واحد هو ثدي أم" محيت" التي تعمل مرضعة بالقصر ، وعاشتا طفولتهما معاً تلهوان سويا في حديقة القصر، وتتسابقان في طرقاته الترابية الناعمة ، وتسبحان في بحيرة القصر، بل وأحياناً كانتا تأكلان معاً تنفيذاً لرغبة "عنخ تاوي "، ولما كبرت "عنخ تاوي" تزوجت من "شبسسكاف" الذي كانت تحبه رغم فارق السن بينهما ورغم أنه كان عازفاً عن العرش ، كما تزوجت محيت من أحد ضباط حرس" شبسسكاف بتدبير من "عنخ تاوي" حتى تظل بجانبها دائماً ..
- سـ.. سيدتي ..سيدتي "عنخ تاوي ".. إنهم .. إنهم يزمعون قتله .. إن.. إن جاء ولد يا سيدتي .. إن جاء المولود ولداً فسيقتلونه يا سيدتي .. يا إلهي ..ماذا نفعل آه .. تذكرت .. لا يوجد غيره يمكن أن يساعدنا .. نعم .. سوف أذهب إليه ولو كان في أقصي الجنوب .. سوف أذهب إليه ..
وانطلقت المرأة دون أن تسمع رداً أو حتى تستأذن سيدتها التي مدت ذراعيها في اتجاهها ودموعها تسيل دون انقطاع وهي ترجوها بصوت واهن ..
- لا تتركيني وحدي يا" مجيت ".. لا تتركيني ..
لكن" محيت" كانت قد انطلقت كالسهم لا تلوي علي شيء بحثاً عن زوجها الضابط فاصطدمت بكتلة من الحرس خارجة من قاعة العرش وبينهم شخص يبدو مريضاً أو ميتاً لم تهتم ، تفرست في الجمع أمامها فلمحت زوجها ، انطلقت إليه وجذبته بشدة من ملابسه ، نظر إليها شذراً وكاد أن يلكمها ، لكنها صرخت به :
- أنقذنا .. أنقذنا يا" منتو" .. أنقذ الملكة يا" منتو" ..
- ما بك يا امرأة ؟ ألا ترين ما نحن فيه .. ماذا تريدين ..؟
- أقول لك إن الملكة في خطر داهم .. ولابد أن ننقذها في الحال..
- الملكة !؟ يا للعجب .. الملك والملكة ! في ساعة واحدة ..! يا للآلهة القاسية ..
- ماذا تعني بالملك والملكة ؟ هل هذا هو الملك ؟ هل مات..؟
سألته صارخة وهي تجره بشدة في اتجاه مخدع الملكة وتواصل كلامها وقد خفضت من صوتها خشية أن يسمعها أحد من الخدم ..
- إنهم يتآمرون علي قتل الطفل إذا كان ولداً .. وعلينا أن نجد طريقة لإنقاذه ، فربما يأتي ولد بالفعل .. هل كنت تقول أن الملك مات ؟ يا له من يوم ! يموت يوم ولادة ابنه .. !؟ يا له من يوم .. يجب أن تجد طريقة لإنقاذ المولود.. يجب
كانا تقريباً يركضان بين الدهاليز والطرقات ، ومنتو لا يعرف ماذا يراد منه بالضبط لذا توقف فجأة والتفت إلي امرأته قائلاً ..
- كفي عن الثرثرة والكلام ، لقد فهمت ما تريدين ، اذهبي أنت وامكثي بجانب الملكة وسوف أوافيكم بعد أن أدبر أمري .. هل فهمت ؟
وانطلقت" محيت" مسرعة إلي مخدع الملكة وهي تكلم نفسها " سوف يجد طريقة لإنقاذ المولود ، إن منتو شجاع وحسن التصرف ، نعم سيجد طريقة ، إنه زوجي وأنا أعرفه جيداً .. يا له من يوم حزين .. الملك يموت في يوم كهذا ! يموت دون أن يري ولده ! .. هذا إن كان ولدا.. وربما يكون المولود بنتاً كسابقتيها .. ربما .. لكن قلبي يقول لي أنه سيكون ولدا " ، وهنا كانت قد وصلت إلي مخدع الملكة التي كانت حالتها قد ساءت إلي حد كبير ، فطمأنتها وأكدت لها أنها ستكون بخير وأمان ولن يصيبها مكروه ، وتحولت نظرات اللوم في عيني الملكة إلي نظرات امتنان وشكر وعرفان وهدأت نفسها قليلاً ، تنهدت الملكة طويلاً ونظرت إلي محيت متسائلة عن أخبار الملك ولماذا لم يطل عليها منذ صباح اليوم ، وعندئذٍ تلعثمت محيت ولم تعرف بم ترد .. هل تنقل لها ما شاهدته منذ قليل ؟ أم تتركها الآن ثم تخبرها في الوقت المناسب ؟ وحسمت رأيها بسرعة فردت قائلة..
- يا مولاتي .. إن الملك مشغول جداً اليوم كما يبدو .. لكن دعينا نفكر ماذا سنفعل لإنقاذ المولود .. إن قلبي يحدثني يا مولاتي بأنه سيكون ولداً .. أنا علي يقين من هذا .. ومولاتي .. بم تشعر ؟
توجعت الملكة قائلة..
- أشعر بأنني سوف ألد اليوم أو الساعة ، هذا الحمل يا محيت لم أعهده من قبل ، الألم لا يطاق يا" محيت "، ليس كالمرات السابقة ..
حاولت" محيت" أن تغتصب ابتسامة رغم ما بها من أحزان لتخفف عنها وتضاحكت
- ألم أقل لك يا مولاتي ، هذا لأنه ولد ، إن حمل الأولاد يختلف عن حمل البنات ، هذا ما قاله الأقدمون ، وتعلمناه عن أمهاتنا وجداتنا ..
وظلت تحاول التسرية عنها ، فأخذت تستعيد معها ذكريات الأيام الخالية الجميلة ، وبين الحين والحين تخرج لتلقي نظرة في الخارج ، فهي تنتظر عودة" منتو" من ناحية ومن ناحية أخري تطمئن حتى لا يصل الملكة خبر مرض أو موت الملك ، وأخيراًً وصل " منتو" كما وعد ، انتظر حتى واتته الفرصة فتسلل إلي مخدع الملكة، طرق الباب برفق ، فخرجت له محيت بلهفة ولم يدع لها فرصة للكلام والثرثرة فقد ألقي إليها بتعليمات محددة وبسرعة ، أمرها بأن تخرج بالملكة من باب القصر الخلفي مع حلول الليل إلي بيته الواقع علي شاطئ النهر وشدد عليها بألا يراهما أحد وتقيما هناك حتى تلد الملكة ريثما يبحث عن أسرة تأوي المولود حتى تستقر الأمور، وقبل أن تهم بالكلام مد يده فسد فمها قائلاً بحزم ..
- نفذي ما أمرتك به بحذافيره وإلاّ ........
وتركها وانطلق مسرعاً إلي حيث كان الطبيب ومساعدوه يحاولون إنقاذ حياة الملك حتى لا يشعر أحد بغيابه فيشك في الأمر .
كان الليل قد بدأ يرخي سدوله علي القصر الحزين وما إن شاع خبر مرض الملك الشديد وعدم قدرته علي الحركة حتى ساد هرج ومرج واختلطت الأصوات ولم يعد أحد يدري ماذا سوف يحدث ، وكانت الفرصة مهيأة" لمحيت" كي تهرب من القصر بأمان ودون أن يحس بها أحد ، ولكي لا تسأل الملكة عن شيء أخذت تحثها علي الإسراع قبل أن ينتبه إليهما أحد من الخدم أو الحراس، ووصلتا ‘إلي البيت بسلام وإمعاناً في التخفي لم تشأ "محيت" أن توقد المشعل ، وأخذت الملكة التي بدأت حالتها تسوء إلي حجرة مريحة فأضجعتها علي الفراش وراحت تعد لها شيئاً من الطعام ، ثم
انصرفت لإعداد ما يلزم استعداداً للوضع الذي بات متوقعاً الليلة أو علي أكثر تقدير في اليوم التالي ..
وفي الفجر سمعت" محيت" طرقاً خفيفاً علي الباب فاتجهت إليه بحذر ، نظرت من كوة ضيقة فأبصرت زوجها" منتو" ، فتحت الباب بهدوء فدخل ، ولما طالعت وجهه وأبصرت مظاهر الإعياء والإجهاد عليه شهقت شهقة مكتومة ، وقبل أن تتفوه بكلمة بادرها قائلاً ..
- اسمعيني جيداً .. لقد جئت فقط لأطمئن عليكما فليس لدي وقت ، لقد مات الملك والأحوال في غاية الإضطراب ولا أحد يعلم ماذا سيحدث ، ولقد أحسنت صنعاً بإبعاد الملكة .. كيف حالها الآن..؟
- لقد وضعت منذ حوالي ساعة ، وضعت ولداً جميلاً كالقمر، وقوياً كالثور وحالتها مطمئنة للغاية ، لكنها قلقة علي الملك وأنا لم أخبرها بموته أو مرضه فلم أكن أعلم شيئاً علي وجه اليقين ..
- لا بأس ، يمكنك الآن أن تخبريها ، فلن يظل الأمر سراً بعد الآن ، سوف أعود الآن إلي القصر حتى لا يشعر أحد بشيء ، يجب أن تظل الملكة بعيدة عن الأنظار لعدة أيام فقد بدأ البعض يسألون عنها بعد أن اكتشفوا اختفائها لكن لحسن الحظ لم يكن السؤال ملحاً ، فلتبقي هنا حتى تسترد عافيتها ، وأكون أنا قد تدبرت أمري ..
واستدار لينصرف فأمسكت محيت به من ثيابه قائلة..
- ألن تأكل شيئاً .. أنت بالتأكيد لم تذق طعاماً منذ الأمس ..
جذب ثيابه من بين يديها وانطلق دون أن يرد..
-3-
كانت" حنوت- سن" زوجة" مري إن بتاح" الذي يعمل حارساً في مخازن الحبوب الملكية مستغرقة في النوم كعادتها في مثل هذا الوقت من الليل ، وكان من عادة زوجها " مري" أن يتسلل في هدوء عند عودته من العمل في الفجر ويغير ملابسه وينام دون أن يزعجها ، لكنه في هذا اليوم لم يكف عن الصياح منذ دخل ..
- قومي يا" حنوت- سن "..انهضي يا عزيزتي .. ليس هذا وقت النوم.. قومي وانظري ماذا أرسلت الآلهة إلينا ..
هي لا تزال بين النوم واليقظة ، يخيل إليها أنها تسمع بكاء طفل رضيع خمنت أنه من عند الجيران ، ولم تعي بعد لماذا يصيح مري ، ولماذا يوقظها اليوم علي غير عادته بدأت تقترب من الصحو الكامل فنهضت جالسة في فراشها الأرضي ، فركت عينيها وأجالت بصرها في أرجاء الغرفة ، ما زالت معتمة ولم تتحقق من شيء بعد ، قالت بصوت يغلفه الوسن ..
- ماذا بك اليوم يا "مري"..؟ لماذا توقظني في هذا الوقت ..؟
جاءها صوته من خارج الغرفة مرحاً سعيداً وهو يهدهد الرضيع ويترنم له مغنياً يحاول أن يجعله يكف عن البكاء..
- قومي يا عزيزتي وانظري لهذا الوجه الجميل ، انظري..
كان قد دخل الغرفة وقرب منها الطفل وهو يصرخ باكياً ، نظرت إليه بدهشة بالغة ومدت يديها تتناوله منه برفق وتضمه إلي صدرها بحنان ، نقلت بصرها بينهما أكثر من مرة ، تساءلت وهي لا تزال غير واعية لما يحدث..
- من أين أتيت به يا" مري"..؟ ابن من هذا..؟
- ليس ابن أحد.. لقد وجدته الآن أمام باب بيتنا ، يبدو أن الآلهة هي التي أرسلته إلينا لأنها تعلم كم أنت طيبة وحنون ، إنه ابنك أنت يا" حنوت سن ".. نعم ، ابننا الذي أرسلته لنا الآلهة ليؤنس وحدتنا ، ويملأ بيتنا بالبهجة والسرور .. كم هي طيبة وكريمة تلك الآلهة !
استيقظت كل حواسها الآن ، عندما سمعت كلمة " ابنك يا حنوت سن " لم تتمالك نفسها فاغرورقت عيناها ، وراحت تتأمل وجهه البريء ، وتتمعن في قسماته الجميلة مالت عليه وطبعت علي جبينه قبلة طويلة ضمنتها كل مخزون الحنان بين جوانحها
والمحبوس منذ سنوات بلا طفل يحرك فيها مشاعر الأمومة .. نظرت إلي زوجها بعينين تترقرق فيهما دموع صافية وسألته كأنها تحدث نفسها ..
- أفي حلم أنا يا" مري" ..؟! أم هي الحقيقة ..؟
وأمام بكاء الرضيع المتواصل لم تشعر بنفسها إلاّ وهي تخرج ثديها وتضعه في فمه فالتقمه بنهم الجائع وراح يمتصه وقد كف عن البكاء .. شعرت المرأة الشابة بشعور غريب أكد لها أنها ليست في حلم وأن ما يحدث ليس وهماً ، بل حقيقة ملموسة .
جلس "مري إن بتاح" سعيداً يتأمل زوجته المحبوبة وهي تداعب الطفل وتناغيه وبلا شعور منه راحت يده تعبث بلفة الملابس التي وجدها بجانب الطفل , وإذا بصوت رنين بين الملابس ، أمعن النظر وفتش الصرة ، فوجئ ببعض القطع الذهبية تلمع بين يديه ، صاح بزوجته ..
- انظري يا "حنوت- سن" ماذا وجدت أيضاً ..؟ إنها قطع ذهبية .. إنها ثروة ..ألم أقل لك إنه هبة من عند الآلهة ..
لم تأبه" حنوت- سن" بما وجد مري ، كانت قد انحنت علي الطفل لا تكف عن تأمل وجهه تلثمه وتضع خدها علي حده ، وتتحسس بشرته الناعمة ، ثم تعود تقبل فمه وجبينه ، ولما عاود البكاء ، رفعت رأسها فجأة وقالت ..
- "مري" .. إنه جائع .. وليس في ثديي لبن .. ماذا سنطعمه ؟
أسقط في يده ، فهو لا يعلم ماذا يأكل الصغار في هذا السن ، ونسي فرحته بما وجد وأخذ يفكر " ماذا يفعل؟ " .. انتشلته" حنوت- سن" من دوامة التفكير صائحة بفرح ..
- آه .. تذكرت .. أليس لدينا عنزة تُرْضِع ؟ اذهب واحلبها الآن وهات بعضاً من لبنها ، إنه خير غذاء للرضع .
أسرع "مري إن بتاح" إلي الفناء حيث عنزته الوحيدة ممددة وحولها بعض الدجاج ، هش الدجاج وأقعي علي ركبتيه وبيده إناء فخاري صغير، وأخذ يحلب فيه اللبن حتى ملأه وأسرع به إلي زوجته ، تناولته وراحت تسقي الرضيع بملعقة خشبية صغيرة وهي تغني له ، بينما عاد "مري" يحكي لها عما وجد في لفة الملابس من قطع ذهبية كثيرة جعلتهما أغنياء منذ الليلة وأنهما يجب أن يشتريا بيتاً في حي أفضل من هذا الحي الفقير المليء بالذباب والقاذورات ، حياً يليق بهذا الطفل الجميل الذي وهبتهما الآلهة ، وأطلقا عليه اسم " إيب خنسو " .
كانت هناك أربع عيون لشبحين يراقبان ما يحدث، وعند هذا الحد من الأحداث ،وقبل أن يبدأ إله الشمس في نشر أشعته الذهبية علي المدينة البيضاء ، التقت العيون الأربعة وشبح ابتسامة رضي علي وجهيهما ، واتخذ الشبحان طريقهما إلي شاطئ النهر حيث قاربهما المربوط بجذع شجرة ، وبعد قليل كان القارب يمخر عباب النهر بنعومة وهدوء تاركاً خلفه ذلك الحي الفقير، في طريقه إلي حي الأثرياء شرق المدينة ، تمتم أحدهما قائلاً :
- لقد أحسنت الاختيار يا "منتو".. سيكون الطفل بأمان هناك ..
* * *
استغرقت ترجمة هذا الجزء وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً بسبب سوء حالة البردية وخاصة في نهايته، ولم أشأ أن أضيف شيئاً من عندي، ويبدو أن هذا الجزء كان يحوي بعض التفاصيل عن حياة الطفل والتي تدور في الغالب عن انتقال "مري-إن-بتاح" وزوجته "حنوت- سن" من الحي الذي كانا يقيمان به إلي حي أكثر نظافة ورقياً، وعن الترقيات التي لم يكن الرجل نفسه يتوقعها، حتى أصبح كاتباً عاماًً لمخازن الحبوب الملكية، وهي علي العموم تفاصيل غير جوهرية في صلب القصة، ومن حسن الحظ أن الجزء التالي كان بحالة جيدة إلي حدٍ كبير ..
-4-
جلس الأولاد الثلاثة" با- حور" ابن الجندي الذي مات في الحرب ضد الأعداء في الجنوب ، و"جسر" ابن المزارع الطيب" كا بتاح "، و"إيب- خنسو" ابن الموظف المحترم" مري إن بتاح" الذي أصبح كاتباً في مخازن الحبوب الملكية ، جلسوا كعادتهم في مكانهم المفضل علي شاطئ النهر تحت ظل شجرة الصفصاف يتبادلون الحديث بعد أن تعبوا من الركض واللعب طوال الظهيرة .. أمسك "با- حور" بغصن طويل جاف واستل سكيناً يحتفظ به دائماً في حزامه وأخذ يهذبه ليجعل منه رمحاً كما يقول ، وبينما هو منهمك في عمله اقترح علي صاحبيه أن يخرجوا في الغد إلي الصحراء ليقضوا يومهم هناك يلعبون ويصطادون الحيوانات الصغيرة والطيور .. أسرع جسر بالموافقة علي الفكرة ، وتباطأ "إيب- خنسو" في الرد ، ولما استحثه" با- حور" ، وافق بشرط أن يستأذن والديه أولاً .. علق " با- حور" قائلاً ..
- لقد كبرت يا" إيبو" ، وآن لك أن تتصرف كالرجال ..
- وهل يجب أن يعصي الرجال آبائهم .. ؟
سرح" با- حور" في الفضاء الممتد أمامه وقال :
- لا .. لو كان أبي حياً ، ما عصيته أبداً ..
أضاف محدثاً نفسه " ولن تهدأ روحي حتى أثأر له بيدي هاتين .." ، سادت فترة من الصمت احتراماً لمشاعر" با- حور" الذي لم يكن يترك فرصة ليؤكد أنه لن يترك ثأر أبيه وأنه لابد من أن ينتقم له ، كان كلما تأمل تلك اللوحة التي تصور أربع سفن مشحونة بالأسري الفينيقيين وحولهم البحارة المصريون ، تنقبض ملامح وجهه ، ويخرج الشرر من عينيه ، ويظل يتفرس في وجوه البحارة عله يلمح والده بينهم ، يجز علي أسنانه ويقول في نفسه " لتهدأ روحك يا أبي فقد حققت النصر ، لكني لن أترك هؤلاء الخنازير حتى أبيدهم جميعا .." كان هذا هو هدف حياته الأول .. أن ينتقم لأبيه ولذلك فقد رسم لنفسه طريقه منذ البداية ، سيكون ضابطاً في الجيش ، فحرص علي تعلم القراءة والكتابة مع صديقيه في المعبد حتى يبلغ سن الإلتحاق بالجيش ، وعبثاً حاول" إيب- خنسو" مراراً أن يثنيه عن عزمه ليكون كاهناً مثله ومثل جسر ، لكن دون جدوى ، بل إنه كان يقابل تلك الفكرة أحياناً بالسخرية قائلاً إن هذا ليس عملاً حقيقياً، فالعمل الحقيقي في نظره هو الذي يمارسه الإنسان بيديه ..
وفي الحقيقة كان الولد مهيئاً لهذا العمل الذي اختاره فقد كان معتدل القوام ، فارع الجسد ، قوي البنية ، مفتول العضلات ، واسع الصدر ، عريض الكتفين بحيث إذا تأملته لا يمكن أن تتخيله غير جندي ..
أما "جِسِر" و"إيب- خنسو" فقد اختارا الكهنوت طريقاً لهما ، ولما كانت عبادة الشمس قد انتشرت وأخذ نجم الإله رع في الصعود فضّلا أن يلتحقا بمعبد الإله رع ، وحسب النظام المتبع تبدأ الدراسة بتعلم القراءة والكتابة أولاً ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة التعليم الديني وتدريس الطقوس والفلسفة والفلك والحساب وغيرها ..
ورغم الاختلاف الواضح بين طبائع الأولاد وظروف نشأتهم إلاّ أن حبل الصداقة الذي جمعهم كان قوياً متيناً ، ولا يتأثر بتلك المشاحنات التي تنشب بينهم في بعض الأحيان ، وخاصة بين الإثنين معاً وبين" با- حور" حيث أنه كان حاد المزاج ، سريع الانفعال ، معتز بشخصيته ، مؤمن بنفسه وقدراته إلي حد بعيد ، لكن لا يستطيع أحد أن يدعي أنه لم يكن طيب القلب، نقي السريرة، سليم الطوية ، فقط كان إذا دار الحديث عن الآلهة والإيمان والعقيدة ، لا يشارك فيه ، فإذا ما استفزه أحد – وكان هذا الأحد بالتحديد هو" جسر" غالباً – ثار وهاج وصرخ فيهم ..
- أيها الحمقى .. إنكم تضيعون حياتكم سدي .. ليست الآلهة إلاّ لعبة في يد الكهنة يسلبون بها أقوات الناس ، ويتحكمون بها في رقابهم ..
ويتضاحك الرفاق ، فتهدأ ثورته علي الفور ، ينظر إلي "جسر" بغضب مصطنع ويقول له مهدداً : " سوف أضطر إلي قتلك يوماً .. أيها الخبيث .." ويزداد الضحك والبهجة حتى يتفرقون في النهاية كلٌ إلي بيته ..
ونهضوا ليذهب كلٌ إلي بيته فقد أزف الوقت ، وبدأت الشمس تميل نحو الغروب ، "با- حور" وقد انتهي من إعداد رمحه استوقفهم حتى يجربه ، أمسك به من وسطه وشد قبضته عليه ، وأخذ عدة خطوات للخلف ، ثني جذعه للوراء ثم استجمع قوته وأطلقه في اتجاه شجرة الصفصاف فاستقر الرمح في جذعها ، صفق الصديقان لبراعته الفائقة ، سار بفخر إلي الشجرة ونزعه وعاد به وهو سعيد ، علق جسر قائلاً هكذا يمكننا أن نصطاد أسداً في الغد ..
نظر إليه باحور باحثاً عن أي آثار للسخرية في وجهه فلم يجد ، أيقن أنه جاد فاطمئن ورضي ، وواصلوا مسيرهم إلي منازلهم ..
في اليوم التالي ، وفي الصباح الباكر ، قبل أن تشتد حرارة الشمس ، حملوا ما يحتاجون إليه من متاع وطعام واتخذوا طريقهم إلي مشارف المدينة قاصدين الصحراء ، ضربت نسمات الصباح الرطبة وجوههم فبعثت في نفوسهم النشاط والحيوية والأمل في قضاء يوم ممتع، وأسرعت حركتهم أكثر، وفي الطريق اعترض طريقهم ضابط كبير الشأن كما يبدو من هيئته ، أطال " با- حور" النظر إليه معجباً بملابسه والقلادة الذهبية التي تزين صدره وهو يحلم باليوم الذي يرتدي فيه هذا الزي ويتزين صدره بالنياشين والأوسمة .. استوقفهم الضابط سائلاً إياهم عن وجهتهم ، توقف الركب الصغير.. و تصدي" با- حور" للرد قائلاً بشجاعة وهو يشدد قبضته علي رمحه ويرفعه بيده ..
- نحن ذاهبون إلي الصحراء لنقضي اليوم هناك في الصيد والقنص..
أجال الضابط النظر فيهم واستقرت نظراته أكثر علي" إيب- خنسو" ، سألهم ..
- ذاهبون إلي الصحراء !؟ وحدكم؟ ألا تخافون الوحوش ؟
رد" با- حور" بسرعة ..
- لا.. نحن لا نخاف .. إن معي رمحي ، ومعي سكين أيضاً ..
وجه الضابط سؤاله إلي" إيب- خنسو" ..
- وأنت أيها الشاب ، ماذا معك لتحمي به نفسك ..؟
أشار" إيب- خنسو" إلي قلبه قائلاً ..
- معي هذا .. قلبي العامر بالإيمان ..
كادت ضحكة أن تفلت من" با- حور" ، لكنه كتمها فقد رأي أن الضحك في مثل هذا الموقف غير مناسب علي الإطلاق ، لكنه لم يسكت ورد علي الضابط قائلاً ..
- أنا أحميه بحياتي يا سيدي ..
قال " با- حور" ( سيدي) بطريقة تشبه طريقة الجنود في الرد علي من هم أعلي منهم رتبة جعلت الضابط يتبسم رغماً عنه ، تنحي عن طريقهم ليواصلوا سيرهم ، وظل يتابعهم بنظراته لمسافة طويلة ثم تبعهم دون أن يشعروا ..
وكان بالفعل يوماً ممتعاً، قضوا وقتهم منذ الصباح في الركض واللعب، وأظهر "با- حور" الكثير من مهاراته في القفز من التلال المرتفعة ، والزحف علي الرمال ،
والإستخفاء ، وتقليد أصوات الحيوانات لدرجة أفزعت "جسر" عندما اختفي عن الأنظار وأخذ يقلد صوت الذئب وحسبه" جسر" ذئباً حقيقياً ، ومضي الوقت الجميل سريعاً ، وانقضت الظهيرة ، وشعروا بالجوع ، فجلسوا يتناولون طعامهم وهو يتضاحكون ، ويتخاطفون الطعام من بعضهم ، وبينما هم في لهوهم إذا بشيء يمرق بالقرب منهم ، كان أول من لمحه جسر ، قال بفزع ..
- يبدو أنه ذئب ..
قال" إيب- خنسو" محاولاً طمأنته ..
- لا..لا.. هذا ليس ذئب .. يبدو أنه ظبي صغير ..
انفرجت أسارير" با- حور" وقال بفرح ..
- إن كان ظبياً .. فأبشروا بأكلة دسمة ..
نظر إليه صاحباه بدهشة وفي صوت واحد قالا ..
- ماذا تعني .. ؟
- ليس عليكما إلاّ المساعدة ، سأطارده من هذه الجهة ، وما عليكما إلاً الصياح إن جاء من ناحيتكما..
وانطلق خلف الظبي رافعاً رمحه بيد وبالأخرى سكينه ، ومر الوقت وهم في طراد عنيف ، يظهر" با- حور" لصاحبيه لحظة خاطفة ثم يختفي ، وأخيراً شاهد الشابين باحور ينقض علي الظبي كالأسد ويقبض عليه بكلتا يديه ، حاول الظبي أن يتخلص من الذراعين القويين دون جدوى .. صرخ " با- حور" في صاحبيه ..
- ليعطني أحدكما حبلاً ..
أسرع "جسر" إلي حقيبة المتاع فأخرج حبلاً ناوله إياه وابتعد، وراح" با- حور" يقيد الظبي الذي استسلم تماماً ، وصاح ..
- ها قد ربطته ، اقتربا ولا تخافا ، إنه لا يعض ..
واقترب" جسر" و"إيب- خنسو" منه وهما لا يدريان ما ينوي فعله ، كان الظبي ينزف من أثر ضربة أو ضربتين من رمح "با- حور" الذي ألقاه علي جانبه وأمسك بسكينه وبدأ يذبحه ، وما إن شاهد" إيب- خنسو" منظر الظبي والدم يندفع من رقبته حتى دارت به الأرض وسقط طريحاً ، توقفت يد "با- حور" حين سمع صرخة جسر..
- إيبوووووو
ترك" با- حور" ما بيده وخف إلي الطريح وهزه بعنف ، أسرع إلي حقيبة المتاع واختطف قربة الماء ، وأخذ يرش وجه الشاب ويناديه بصوت عال، وما من مجيب،ظهر الخوف والفزع وهما لا يدريان ماذا يفعلان ، همس "جسر" متسائلاً..
- هل مات ؟ هل مات يا" با- حور" ..؟
نهره" با- حور" وأمره بالسكوت فسكت وجلس علي الأرض يندب صديقه دون أن يخرج صوته من حلقه ، أقعي با حور بجانبه وألصق أذنه بصدره ، شعر بتنفسه بطيئاً فاطمأن قليلاً وقبل أن يرفع رأسه أحس بظل طويل أمامه ، رفع رأسه ليجد الضابط الذي اعترض طريقهم في الصباح ..
- ماذا حدث ؟
تسائل الضابط وهو يزيح" با- حور" عن صدر الشاب ويجس نبضه ، أدرك أنه مجرد إغماء بسيط وأخذ يدلك له صدره ففتح عينيه ، وبدأ في النهوض ، وهنا عادت الدماء تجري في وجوه صديقيه ، وتهللت أساريرهما ، انكب" جسر" علي يد الضابط يقبلها شاكراً ، وانحني" با- حور" له ممتناً ..
تهيئوا للعودة جميعاً ، وحرص الضابط علي ألاّ تقع عين" إيب- خنسو" علي الظبي المذبوح ، سار الضابط معهم حتى اقتربوا من المدينة مع غروب الشمس ، شمل "إيب- خنسو" بنظرة أخيرة قبل أن يفارقهم ثم اتخذ طريقه بعد أن ودعهم ، تبعه" با- حور" عدة خطوات وناداه ..
- سيدي الضابط العظيم .. ما اسمك يا سيدي..؟
- اسمي .. اسمي" منتــــو"...
-5-
جاء اليوم الذي يجب أن يدخل فيه" إيب- خنسو" المعبد بعد أن اكتمل عامه الثاني عشر، وبهذا تكون الليلة هي آخر لياليه بين أحضان أبويه ، ولمدة عام كامل لن يعود إلي البيت أو الحي ، "حنوت- سن" تتابعه بنظراتها والدموع تترقرق فيهما ، لكنها تحاول إخفائها ما استطاعت ، والمشاعر تختلط بداخلها ما بين الحزن لبعده والحرص علي مستقبله ، والرغبة في أن يعلو شأنه وتسمو مكانته ، لكنها كلما تذكرت أن البيت سيخلو من حركته وعبثه وضحكاته وضجته ، أحست بالألم يعتصر قلبها ، ولا تستطيع أن تحجب دموعها ، و"مري إن بتاح" يراقبها وهو صامت ولا يجد الفرصة للكلام ليزيح عن صدره الهم الثقيل الذي يرزح فوقه ..
تنهدت "حنوت- سن" وهي تتساءل ..
- ألن نراه حقاً طوال العام ..؟
أسرع مري بالرد ، وكأنه وجد طوق نجاة ..
- لا.. يا" حنوت- سن" .. سترينه بالتأكيد ، سوف آخذك معي إلي المعبد كل أسبوع لنزوره هناك ، فهذا مسموح به ، فيما عدا الشهور الثلاثة الأولي فقط بعدها يمكننا أن نزوره كلما شئنا .. أليس الأمر كذلك يا "إيب- خنسو" ..؟
لم يكن "إيب- خنسو" متابعاً للحديث ، يبدو أن مشاعره هو الآخر كانت مضطربة ومتضاربة ما بين فرحته بقرب تحقيق أمله ، وما بين فراق والديه وأصحابه ، ولما لم يرد اضطر والده أن يعيد عليه السؤال ، أجاب بالإيجاب وهو شبه غائب عما حوله ، أطال النظر إلي أمه ثم اندفع إلي حضنها ، تلقته بين ذراعيها وانهالت دموعها حتى بللت وجهه ، مسح "مري" دمعة غافلته ، ثم تحامل علي نفسه وخرج إلي الشرفة وجلس يحدق في اللاشيء ..
كان قرص الشمس قد بدأ يميل نحو الغروب استعداداً لرحلته الليلية خلال العالم السفلي، و"مري" يتابعه ويتأمل بعض السحب الداكنة التي تحوطه وتتشكل بأشكال مختلفة، فهي تارة تأخذ شكل الجمل، وتارة تأخذ شكل طائر ضخم، وتارة بلا شكل معروف ، راح يستعرض أيام عمره التي خلت ، ويفتش فيها عن السعيد والتعيس، فلا يجد أسعد من ذلك اليوم الذي وجد فيه الطفل في السفط المجدول من سعف النخيل وكلما تخيل حياته وحنوت سن بدون هذا الولد لا يجد لها أي معني، وتأكد
لديه أنه لا يمكن أن يكون غير هدية وهبة من الآلهة الطيبة .. لم يشعر بالوقت الذي مر إذ فوجئ بيدٍ تربت علي كتفه برفق ، تنبه ليجد أمامه" حنوت- سن" و"إيب خنسو" يطلبان منه أن يعود للداخل بعد أن حل الليل وبدأت البرودة تسري في الهواء ، نهض بوهن انزعجت له "حنوت- سن" ، فسألته بحنان ..
- ما بك يا "مري" ..؟ هل أنت مريض..؟
لم يشأ "مري" أن يبعث في الجو كآبة أكثر من ذلك ، فتصنع الغضب قائلاً ..
- مريض !؟ أنا..؟ لا .. لست مريضاً يا امرأة .. إن أمامي أكثر من عشرين سنة أعيشها ، فهل ستبقين معي أم ..... ؟
- أم ماذا يا رجل ؟ هل جننت ؟ أتريد أن تتزوج بعد هذا العمر الطويل ؟
- ومن ذكر الزواج يا امرأة ؟ إني أقصد .. أقصد زواج "إيب- خنسو" .. لا زواجي أنا ...إلاّ إذا رغبت أنت في ذلك ، أنا أحذرك ، إن تركتني وحدي فسأضطر إلي ذلك رغماً عني ..
- سأكون سعيدة جداً بذلك يا" مري" .. هذا إن وجدت من ترضي بك زوجاً ..
تعالت ضحكات "إيب- خنسو" كعادته كلما ثارت هذه الزوابع اللطيفة بين العجوزين فبعثت في جو البيت شيئاً من المرح الذي غاب عنه منذ عدة أيام بسبب قرب رحيل "إيب- خنسو" ، وبينما هم علي هذه الحال ، دخلت "حنوت- سن" لتعد طعام العشاء" أفضل من اللغو مع عجوز" كما قالت قبل أن تدخل سمعوا طرقاً علي الباب ، فاتجه "إيب- خنسو" إليه مسرعاً وهو يقول ..
- لابد أنه " با- حور" .. أعرف أنه هو ..
ودخل " با- حور" وهو يزيح "إيب- خنسو" من طريقه ، و يكمل كلامه ..
- آه .. ألم أقل لكم .. لا شك أنه اشتم رائحة الطعام ، فجاء علي الفور ، زاعماً أنه جاء يودعني ، أليس كذلك أيها الضابط العظيم ..؟
- لا.. ليس كذلك أيها الكاهن الصغير، لقد جئت لأودع الأم الطيبة "حنوت- سن" والأب العزيز قبل أن أذهب إلي التدريب العسكري في فرقة الحـرس الملكي تحت قيادة الضابط"منتو" أنت تعرفه، ألا تذكره، ذلك الضابط الذي..
- آه.. أذكره،أذكره، لكن فرقة الحرس الملكي !؟ ظننتك ستلتحق بفرقة من فرق المعابد الكبيرة أو فرقة بيت المال أو فرق الأقاليم ..
عادت "حنوت- سن" بالطعام ، حياها " با- حور" بلطف كعادته ، ردت تحيته بامتنان وسعادة وعلق " إيب- خنسو" ..
- يا أمي .. إنه يقدم التحية للطعام ، لا "لحنوت- سن" ، الأم الطيبة ..
تدخل الأب حتى لا يمتد الجدال وتطول المشاكسة بين الشابين ، وإن كان يحب ذلك ويعتبرها دليلاً علي متانة العلاقة بينهما ، لكن الليلة لها ظروف مختلفة ، فهو سيحرم من تلك المشاكسات لمدة طويلة ، وأسرع إلي الطعام داعياً الجميع إليه ..
انتهوا من تناول العشاء بسرعة ، ولم يكن أحد منهم جاداً في الأكل ، فالمشاعر متأججة ، وكلٌ يحاول إخفائها عن الآخر ، وأخيراً حانت ساعة الفراق بين الصديقين ونهض " با- حور" لينصرف ، سلم علي "حنوت- سن" وقبل يدها فقبلت رأسه وهي لا تفتر عن الدعاء له ولولدها ، وسلم علي "مري" وعانقه ، ثم تقدم ناحية "إيب- خنسو" الذي تقدم هو الآخر والتقيا في عناق طويل وجسدهما يهتزان من شدة التأثر مما دفع بالدموع إلي عيني العجوزين ، وانطلق " با- حور" للخارج وهو يمسح دمعة فرت من عينيه ..
-6-
كانت الأيام الأولي" لإيب- خنسو" في المعبد شديدة القسوة علي نفسه ، بدأت بالاغتسال وقص الشعر والصيام ، وارتداء الخشن من الثياب ، وقلة عدد ساعات النوم ، لمدة أسبوع كامل .. ولم يكن يهون عليه الأمر قليلاً إلاّ وجود" جسر" معه في نفس المكان ، وإن كان انفرادهما ببعض قليل بسبب الواجبات الثقيلة التي تفرض علي الجميع من غسل ومسح أرضيات الحجرات الداخلية الخاصة بكبار الكهنة ، وكذلك قدس الأقداس ومكتبة المعبد ، أو الواجبات المفروضة عليهم في تعلم القراءة والكتابة ونسخ العديد من أوراق البردي ، أو حفظ الأناشيد والتراتيل والأدعية وغيرها ،وقد تحمل الشابان هذه الفترة بصبر وجلد حتى انتهت علي خير وجه ..
بعد ذلك أخذت بقية الأيام حكم العادة فلم تعد هناك معاناة غير بُعْد الأهل والصحاب ، وغياب " با- حور" عنهما ، وبدأ " إيب- خنسو" و"جسر" الدراسة الجادة للكهنوت ولقي هذا النوع من الدراسة هوي في نفس "إيب- خنسو" أكثر من صديقه وبقية رفاقه ، واستهوته تلك النصوص التي تتحدث عن كيفية خَلْق العَالَم وعن الآلهة المختلفة والعالم الآخر والثواب والعقاب ومحاكمات الموتى ، فكان كثير الأسئلة والاستفسار حتى أن بعض الكهنة كان يضيق به وخاصة الكاهن "كا- رع " الذي كان ينهره في بعض الأحيان ويصفه بالغبي ..
ومضت الأيام علي وتيرة واحدة ، ليس هناك جديد إلاّ القليل النادر من الأحداث والأخبار التي تتناثر هنا وهناك بين الكهنة الصغار عما يحدث في القصر من قلق واضطرابات وما آلت إليه أحوال البلاد من ضعف وتفكك وهو ما لم يكن "إيب-خنسو " يتوقف عنده كثيراً ولا يلق إليه بالاً فقد استغرقته الدراسة وسيطرت عليه أفكار جديدة عليه وتغير حاله بشكل ظاهر وقد لاحظ "جسر" هذا التغير فأرجعه إلي إحساسه بالوحدة وبعده عن أبويه ، كما لاحظت "حنوت- سن " ذلك أيضاً في زياراتها له وهالها ما وجدته عليه من ضعفٍ وهزال،فكانت تحرص كلما زارته علي تزويده بطعامها الذي تعود عليه ..
كان "إيب- خنسو" كلما وضع رأسه علي وسادته ليلاً بعد يوم عمل شاق ، لا يأتيه النوم مباشرة كما يحدث مع زملاءه في تلك الحجرة الرطبة ، فيظل ساهراً وعينيه معلقتان بالسقف يصل إلي سمعه صوت غطيط الرفاق من حوله ، وأزيز الحشرات خارج الحجرة ، وطنين في رأسه تسببه تلك الأفكار والتصورات الغريبة
عن العالم والآلهة ، والبعث والحساب ، ويقارن ما بين ما يراه وبين ما يدرسه ، فيجد الفروق كثيرة وواضحة ، ثمة خطأ هناك ولكن أين ، لا يدري .. لماذا يغضب الكهنة كلما سأل عن طبيعة الإله ، لماذا يصرون علي أن يصبّوا في رؤوسنا تعاليم جامدة لا تقبل الجدل ، كيف يمكن للإنسان أن يكون ظالماً ولا يحاسب لمجرد وضع نصوص خاصة في تابوته ، هل هذا هو عدل الآلهة !؟ ما هي الحقيقة إذن ..؟ من رع ؟ ومن بتاح ؟ ، وعند هذا الحد كان يتوقف خشية الوقوع في الخطيئة فينقلب علي جانبه الآخر ويحاول أن يغمض عينيه وينام لكن دون جدوى، انتابه شعور بالسأم وكراهية الحياة وعدم جدواها وظل علي هذه الحال حتى ذلك اليوم الذي كُلِف فيه بتنظيف مكتبة المعبد ، وهناك بدأت الأمور تتغير بعض الشيء ، رأي أشياء بدت له كأنها بصيص نور يضيء في الأفق البعيد ، كانت المكتبة تقع في أقصي المبني بالقرب من قدس الأقداس ، ولم يكن الدخول إليها متاحاً لأي زائر ولا حتى لأي كاهن ، وذات يوم ، كان "إيب- خنسو" ضمن تلاميذ ثلاثة كُلِّفوا بتنظيف المكتبة تحت إشراف أحد الكهنة ، وما إن ولجوا من الباب حتى قابلتهم رائحة عطنة حيث أنها قلما تفتح وهي عبارة عن حجرة كبيرة مستطيلة الشكل بنيت حوائطها علي هيئة رفوف وخزائن بعضها مغلق بأبواب خشبية، وليس لها نوافذ لكنها تستمد ضوئها الضعيف من خلال كوي صغيرة بأعلى الحائط ، ورصت لفائف البردي داخل الرفوف بلا ترتيب ولا تنسيق وتراكم عليها الغبار حتى كاد يغطيها تماماً، استرعي المكان انتباه "إيب- خنسو" وأثار فضوله إلي حدٍ كبير، ولفت نظره أكثر تشديد الكاهن عليهم بألاّ ينظر أحد في الأوراق ، ودهش التلاميذ لهذا التحذير وإن كان كل همهم الإنتهاء من العمل في هذا المكان المقبض ألاّ أن "إيب- خنسو" شذ عن رفاقه فصمم علي أن يستجلى الأمر وانتهز غفلة من الكاهن وفتح إحدى اللفائف وبسرعة طالع بعض سطورها المكتوبة بالخط الكهنوتي ، وخيل إليه في تلك اللحظة أنه وجد ما كان يبحث عنه وأنه يمكن أن يجد في هذه المكتبة إجابة لكل تساؤلاته وما يشغل باله ويسكن قلقه ، لكن أنّي له ذلك ، لن يرضي أحد أن يعطيه الفرصة ، وما من سبيل غير الحيلة ..
في الليل باح لجسر بما يدور في خلده ، وكانت دهشته بالغة حين استهان جسر بالأمر وأكد له بأن هذا أمر سهل ، أحس بأنه يعيش في المكان ولا يعرف ما يدور حوله ، سأل جسر بلهفة ..
- كيف .. كيف يكون هذا أمر سهل ؟ لو رأيت مدي خوف الكاهن من أن تلتقط أعيننا كلمة من هذه الأوراق ،ما قلت هذا الكلام ..
قال "جسر" بثقة ..
- دع الأمر لي ، وأنا سوف أجد طريقة تمكنك مما تريد ، لكن ما أهمية هذه الأوراق لك ؟ ألا يكفيك ما نكلف به من واجبات ؟
- لا تسألني الآن عن شيء .. فأنا لا أعرف بعد ما أريد .. لكنني أثق أن هذه الكتب ستفتح لي آفاق بعيدة للمعرفة .. هل ستساعدني حقاً ؟
- بالطبع يا صديقي .. أمهلني فقط عدة أيام ..
وبرّ "جِسِر " بوعده بعد عدة أيام إذ فوجئ " إيب- خنسو" بالكاهن نفسه يطلب منه تنظيف المكتبة ، وغمز له أن يفعل ذلك دون أن يراه أحد وحدد له الموعد في وقت راحة الكهنة ، سُرّ "إيب- خنسو" كثيراً وانكب علي الكتب ينهل منها ما استطاع وعلي قدر الوقت المسموح له به ..
عندما دخل المعبد للمرة الأولي ، كان متحمساً ومتلهفاً علي العلم والمعرفة ، ولما عاش حياة المعبد أحس بالإحباط وخيبة الأمل ، لم يكن هذا ما تصوره عن الكهنوت والحياة النقية الصافية ، ولما دخل المكتبة ، عاد إليه الأمل مرة أخري ، واكتشف أن معظم هؤلاء الكهنة ما هم إلاّ أدوات ودمي في أيدي الكبار ، يحركونهم لتحقيق مآربهم وأطماعهم ، وأنهم لا يبغون من الناس تقواهم وإيمانهم بقدر ما يبغون أموالهم ومتاعهم ، وأنهم يرهبونهم أكثر مما يُرغّبُونهم ، فلماذا يحدث هذا ؟ ما هي الحقيقة ؟
كان يظن أنه بقراءة هذه الكتب سوف يحقق لنفسه الهدوء والسكينة ، فلم تزده غير القلق والحيرة ، وأصبح يغرق بالساعات في التأمل ويشرد فكره فلا يكاد يدري ما يدور من حوله حتى جاء ذلك اليوم الذي كان يتمشى فيه داخل فناء الأعمدة ينظر إلي نقوش الحائط ولا يراها وإذا بصوت رقيق يسأله عن رسم يصور حيواناً برأس يشبه رأس ابن آوي يفترس آدمياً فرد دون أن ينظر إلي السائل ..
- هذه " سخمت" ، تفترس الأرواح الشريرة بعد .....
وهنا التقت العيون فسكتت الشفاه، هو باغتته المفاجأة فراح يتأمل وجهها بجرأة غير مألوفة لديه، شجعه عليها إحساسه بأنه لم ير جمالاً هادئاً بهذا الوصف من قبل، ويقينه بأن هذه الفتاة لن تمر بحياته مر السحاب..خيل إليه أن كل من بالمعبد يسمع دقات قلبه، أفاق علي صوتها يغرد سائلاً ..
- ما اسمك أيها الكاهن ..؟
- اسـ... اسمي ..."إيب- خنسو" ..
أصبح للحياة مذاق آخر ، أحس بأنه كان يعيش بلا قلب ولا إحساس ،" هل هذا هو الحب ..؟ " سأل نفسه وأجاب .. " لابد أنه هو.." ولكن من هذه الفتاة ؟ لماذا تظهر في حياتي هذه الأيام بالذات ..؟ ربما أرسلتها الآلهة كنسمة رطبة لروحي المجدبة ربما .. وربما تكون مصدراً آخر لعذابي .. ربما ..من يدري ..
وتعددت بعد ذلك لقاءات الشاب والفتاة ، وباح لها بمكنون قلبه وباحت له ، اعترفت له أنها كانت تراقبه منذ مدة طويلة واعتذر لها بأنه كان مشغولاً فلم يلاحظ شيئا مما حوله ، وعبر لها عن ندمه لضياع هذه الأيام من عمره .. وذات مرة سألها عرضاً عن سبب حضورها للمعبد ، ردت ببساطة ..
- إن أبي كاهن في هذا المعبد..
- أحقاً .. من هو ..؟
- الكاهن " كا- رع " ..
أسقط في يده وظهرت خيبة أمله علي وجهه ، أحس بأن الدنيا لا تقبل عليه شبراً إلاّ لتدبر عنه ذراعا ، لاحظت الفتاة تغير حاله فسألته ..
- ما بك يا " إيب- خنسو " ، هل يغضبك أن يكون أبي كاهن ..؟
- لا .. ما يخيفني أن يكون هو الكاهن " كا- رع " ..
- ماذا تعني ..؟
- إن الكاهن " كا- رع " لا يحبني ، أقصد ...لن يسعده أن ..... إنه يراني غير أهل للكهانة ، فكيف يراني زوجاً لابنته ..
-7-
اليوم أُعلن في الحي نبأ زواج الشاب " جسر كا بتاح " والفتاة الجميلة " مريت " ابنة الكاهن " كا- رع " ..
ولم يفاجأ " إبب – خنسو " عندما سمع الخبر , لكنه شعر أن جبلا من الصخر هوى في صدره وجثم على قلبه فاسودت الدنيا في عينيه ووقف صامتا لا يدري ماذا يفعل , ترك نفسه تماما لهواجسه وأفكاره .. و تسائل في دهشة .. " لماذا ؟ "
لقد كان يحب ميريت حبا صادقا ملك عليه دنياه .. وكان واثقا من حبها له .. لكنه أيضا كان واثقا من رأى أبيها الكاهن" كارع " الذي لم يكن يستريح له كثيرا .. ولا ينسى ذلك اليوم الذي نعته فيه بالملحد عندما احتدت المناقشة بينهما حول طبيعة الإله ..يومها .. نعته بالملحد , وسدد عينيه في وجه الشاب قائلا بحدة ..
- " إبب- خنسو" .. أنت لا مستقبل لك في المعبد .. ويحسن بك أن تبحث لك عن عمل آخر ..
فهل كان يتوقع" إبب- خنسو" أن يوافق الكاهن على زواجه من ابنته .. ؟ لم يكن هذا ممكنا بأي حال من الأحوال .. ولكن .. "ميريت" نفسها .. التي تحبه أكثر من أي شيء في الوجود كما كانت تقول له.. كيف ترضى بغيره .. كيف ترضى أن تمنح نفسها لشخص آخر .. ومن هو ..؟ "جسر" !؟ .. صديقه منذ الطفولة ورفيق حياته حتى هذا اليوم .. في الشارع طفلين يلهوان معا .. وفي المعبد صبيين يتعلمان معا القراءة والكتابة , وداخل المعبد يتلقيان أولى دروسهما في عالم الكهنة .. "جسر" !! .. لماذا "جسر" بالذات ..؟ "هل يعني الكاهن أن يجعل فشلي ماثلا أمامي طوال الوقت ؟ لكن "جسر" – وأنا على يقين من هذا –لا يعرف ما بيني وبين "ميريت" .. كم يتفنن الرجل في تعذيبي "..
أحس الشاب ببرودة تسري في جسده , ورعشة تجتاح كيانه ، وأخذ يسير مهرولا على غير هدى .. لابد له من أن يتحرك حتى لا يسقط ميتا، لم يعد يطيق الضجة التي تثيرها أصوات الباعة من حوله , ولا صراخ الصبية الذين يتراكضون بجواره , كان يريد أن ينفرد بنفسه , لن يسمح لأحد بأن يعزيه أو يسري عنه , فلا أحد يعلم كم يعذبه أن يسمع كلمات عزاء بلا معنى , تمتم بصوت غير مسموع ..
- أين أنت اليوم يا با- حور .. آه لو تعلم كم أحتاج إليك الآن ..
أسرعت خطواته أكثر من ذي قبل – كان كمن يفر من خطر يلاحقه من خلفه – حتى أنه كاد أن يصطدم بامرأة ترتدي ثوباً أسود يغطي جسدها كله تقريباً فيما عدا نصف وجهها العلوي الذي برزت منه عينان سوداوان واسعتان ، ازداد اتساعهما عندما أبصرت الشاب المندفع ، بدا أنها تعرفه ، أما هو فلم يلتفت إليها .. بعد أن تجاوزها الشاب ظلت واقفة فيما يشبه الذهول تتابعه للحظات ثم انطلقت في أثره ، بعد أن غطت ما هو ظاهر من وجهها أما هو فلم يعد يمكنه أن يواصل المسير .. فقد اعترضه النهر .. كيف وصل إلى هنا بهذه السرعة ؟ لا يدري .. طاف بذهنه خاطر سريع .. لم لا يلقي بنفسه في أحضان النهر ليستريح ؟ هو نفسه لا يدري لِِمِ لمْ يفعل..؟ أفاق على شخص يخاطبه بصوت عال ..
- هل تريد العبور يا سيدي ..؟
يبدو أن الرجل كان قد كررها من قبل أكثر من مرة , لذلك فقد رفع صوته كثيرا حتى يسمعه الشاب الغارق في تأملاته.. ودون أن يرد .. أو يخرج صوته من حلقه أومأ موافقا وانحدر إلى القارب الذي كان يبعد خطوات قليلة عن الشاطئ .. خاض في الوحل حتى استقر على ظهر القارب فيما كان النوتي يحل رباط قاربه بسرعة وفرح .. وانطلق يجدف بالشاب في اتجاه الضفة الأخرى وهو يترنم بأغنية حزينة وجدت لها صدى في نفس "إبب- خنسو" , فانحدرت دمعة من عينيه , سارع يمسحها بكفه وهو يدير رأسه جهة الغروب حتى لا يراه النوتي ..
كان قرص الشمس يتخلل كتلة من السحاب الداكن فتشتعل أطرافها بلون ناري .. تابع هذا المشهد حتى انسلخت الشمس من كتلة السحاب وتحررت منه تماما فأغمض عينيه ..
- سيدي .. سيدي .. لقد وصلنا ..
أفاق على صوت النوتي , تأمل وجهه قليلا وسأله ..
- أيها النوتي الطيب .. لماذا قطعت أغنيتك؟
- سيدي .. لقد انتهيت منها ولم أقطعها .. أنت الذي تبدو .... معذرة .... ليس لي الحق في ..... هل ستنزل يا سيدي .. أم تريد العودة؟
نهض واقفا .. نقد النوتي قطعة فضية فتقبلها وقد تهللت أساريره وهو يتمتم بكلمات الشكر والدعاء .. قفز الشاب إلى الشاطيء
واتخذ طريقه صاعدا , لكنه قبل أن ينطلق سمع صوت النوتي يناديه ثانية :
- سيدي .. سيدي .. لقد سقط منك هذا .. التفت الشاب وتأمل اليد الممدودة إليه بجعران صغير , لكنه لم يتحرك في اتجاه الرجل , وخرج صوته بصعوبة ..
- احتفظ به أيها النوتي الطيب علّه يجلب لك الحظ السعيد فهو لم ينفع معي ..
استدار ومضى بخطى سريعة بينما كانت عينا النوتي تتابعه بدهشة وعجب ..
امتد الفضاء أمامه بلا نهاية يحدها البصر ، علي يساره ترتفع مقابر الأجداد في شموخ ، تنعكس أشعة الشمس علي جدرانها المصقولة اللامعة فتبدو مضيئة .. في المقبرة الكبيرة يستقر جسد الملك خوفو داخل تابوته الصخري في هدوء وسكينة .. وبجواره مقبرتي الملك" خا- إف رع" والملك "من- كاو- رع" وحولهم تتناثر مقابر الأشراف وكبار رجال الدولة وحكام الأقاليم ، كل هؤلاء الذين كانوا يملأون الدنيا حياة وحركة ، كلهم هنا الآن ، يرقدون في صمت وسكون ، " عليك اللعنة أيها الكاهن" كا رع" .. ماذا تريد من هذه الدنيا..؟ إنك لن تحصد منها إلا ما زرعت .. لماذا تزرع الشر..؟ تري ..؟ ماذا تخبئ لي ولابنتك .. و" لجسر" وحتى للإله نفسه..؟ أحس أنه يدبر شيئا في الخفاء.. لكن .. ما هو ؟ لا يدري ولا أحد يدري .. عليك اللعنة مرة أخري أيها الرجل " .
لم يتوقف عن المسير بالرغم من شعوره بالتعب والإرهاق ، ولم يفكر فيما يمكن أن يسببه غيابه لوالديه من قلق وعذاب .. لم يكن يفكر في شئ علي الإطلاق كان وجهها فقط هو الذي يتراءي له جميلاً هادئاً يسأل في حياء عن ذلك المخلوق البشع الذي يفترس الخطاة من البشر في تلك اللوحة علي جدران فناء المعبد، وهو يرد بكلام محفوظ سلفاً دون أن يري ساءله .. ولما رآه، تغير كل شيء، كل شيء .. لا زال يذكر كلماتها وهمساتها، بل وتعبيرات وجهها، لكم تمني ساعتها أن يتوقف الزمن ولا يتحرك أبداً.. لكن الزمن لا يتوقف، يمضي غير عابئ بشيء ولا بأحد ..
مال قرص الشمس نحو الغروب ، وبدا الشفق بلونه الأحمر الداكن ، وتعددت الألوان المنعكسة علي جدران المقابر، وفوجئ الشاب بوجه ضخم يحدق فيه وعلي شفتيه شبح ابتسامة غامضة .. اهتز كيانه كله للحظة .. تسمر في مكانه وحدق في ذلك الوجه الغريب "آه..ماذا جري لي .. " حبيبات العرق علي وجهه بدأت تسيل علي عينيه ، وتحجب عنه الرؤية ، استسلم للإرهاق والتعب فتهاوي جالساً علي صخرة قريبة .. كان قد ابتعد كثيراً والظلام يوشك أن يحل ، وهو وحيد والمكان موحش ومقبض ، وذلك الوجه الحجري الذي يحدق فيه بابتسامته الغامضة " يجب أن أعود.. يجب .." لكنه لم يتحرك ، مسح عينيه وهو يحاول أن يركز في ذلك الوجه الذي يشعر بأنه ليس غريباً عنه .. " آه .. إنه أنت .. " كان وجه الملك "خا إف رع" الرابض هناك عند السفح أسفل المقبرة ، بجسده الأسدي الضخم لكن .. لماذا كان قريباً منه إلي هذا الحد ؟ لماذا يحدق فيه ؟ هل يسخر منه ؟ أم تراه يشفق عليه ؟ " لابد أنه الإرهاق والتعب .. نعم ".. جلس ممسكاً برأسه بين يديه غارقاً في الصمت والحزن والسكون ..
- أدخل يا بني ..
خيل إليه أنه سمع صوتاً ، تلفت حواليه بجزع وأرهف أذنيه .. لا شئ .. كيف ؟ هو علي يقين من أنه سمع صوتاً .. وها هو الفضاء الرحيب من حوله لا يجيبه بغير الصمت .. " هل فقدت الوعي .. أم تراني أهذي.. "
- أدخل يا بني ..
لا .. لا يمكن أن يكون هذياناً .. هذا صوت حقيقي ، هب واقفاً وأخذ يتلفت حواليه بعصبية .. ما من أحد في الجوار .. من أين يأتيه الصوت إذن .. ؟ .
عزم علي العودة .. مسح بعينيه المكان للمرة الأخيرة .. وتهيأ للمسير ، وفجأة جاءه الصوت قريباً هذه المرة ..
- لماذا لا تدخل يا ولدي .. ؟
بوغت الشاب عندما وجد أمامه رجلاً عجوزاً ، كأنه خرج من تحت الأرض ، أو هبط عليه من السماء .. كان الرجل يحدق فيه بعينين ضيقتين حادتين ويشير بيديه إلي المكان الذي يريده أن يتفضل فيه .. التفت الشاب حيث يشير الرجل فوجد ما يشبه فوهة كهف ..
أخذ " إيب- خنسو" ينقل بصره ما بين فوهة الكهف والرجل الماثل أمامه ، كان الأمر غريباً عليه تماماً حتى أنه نسي همومه ، ونسي تعبه الذي هد جسده منذ عبر إلي البر الغربي .. كان الرجل قصير القامة ، نحيل الجسم ، ينسدل شعره الكثيف علي كتفيه، ولحيته البيضاء تقترب من صدره ، أسمر الوجه ، ضيق العينين ، عريض الجبهة، يرتدي ثوباً من قماش رخيص خشن .
- أدخل يا بني .. لا تخف .. أنت هنا في أمان ، أنت هنا بين الموتى ، وهم أكثر أماناً من الأحياء ..
قال الرجل وقد ارتسمت علي وجهه ابتسامة جذابة لا يدري لماذا أوحت إليه بالأمان، لكن قلب "إيب- خنسو" ما زال يخفق بشدة من هول الموقف فلم يحر جواباً ولم يتحرك من مكانه .. ازدادت ابتسامة الرجل حتى بانت أسنانه كاملة رغم كبر سنه، وامتدت يده لتمسك بيد الشاب فجفل قليلاً .. ضحك الرجل وقال..
- مم تخاف يا ولدي .. أنا لست من لصوص المقابر ، ولا من قطاع الطريق ..
- من أنت .. ؟
- أنا رجل عجوز كما تري ، أنتظر ساعتي المحتومة كي أرقد بسلام بين هؤلاء القوم
تردد " إيب- خنسو" ، وأخذ يتقدم خطوة ويتأخر أخري والرجل يستحثه حتى حزم أمره فتبع الرجل إلي داخل الكهف ..
-8-
كان الظلام حالكاً داخل الكهف ، كما كان السقف واطئاً مما اضطر" ايب- خنسو" أن يحني رأسه وهو يسير مستنداً بيديه علي الجدران بينما يصل إلي أذنيه صوت خطوات العجوز ثابتة واثقة ، بعد قليل وجد الشاب ذلك السرداب الضيق يتسع فجأة ليجد نفسه في شبه حجرة مربعة واسعة في نهايتها ضوء ضعيف ، ولمح ما يشبه الباب في أحد أركانها وبضعة مصاطب طينية أسفل الجدران التي كانت خالية تماماً من النقوش والزخارف، مما جعله يجزم بأن هذا المكان لابد وأن يكون مقبرة لم تكتمل أو أنها أهملت بعد البدء في إنشائها .. توقف ونظر إلي العجوز مستفسراً .
- هل هذه مقبرة ..؟
- نعم .. لكنها لم تستقبل أمواتاً بعد..
جلس العجوز علي مصطبة طينية ودعا الشاب إلي الجلوس ، فجلس علي مصطبة
- مقابلة وهو ما زال يتأمل المكان ، أشار إلي الباب في ركن الحجرة متسائلاً .. إلي أين يؤدي هذا الباب ..؟
- هذا ليس باباً حقيقياً .. إنه باب وهمي لتضليل لصوص المقابر ، الناس يخشون السرقة في الدنيا .. وفي الآخرة ..
وأضاف العجوز ضاحكاً ..
- ولكن شتان بين ما يسرق في الدنيا وما يسرق في الآخرة .. ما اسمك أيها الشاب وما حــكايتك؟لا أقصد التطفل،وأنت لست مضطراً للكلام علي الإطـلاق
- ليس هناك الكثير مما يقال .. كل ما في الأمر أنني كنت أشعر بالضيق الشديد،ولم أكن أريد أن أرى أحداً أو يراني أحد ، فأتيت إلي هنا دون وعي أو اختيار، ولم أشعر بمضي الوقت حتى ظهرت أنت .. هل تعيش هنا ؟
- نعم .. أعيش هنا منذ اعتزلت العالم .. أو تستطيع أن تقول منذ لفظني العالم ..
كان الشاب قد بدأ يستريح للرجل ، وللمكان ، وأخذت نفسه تهدأ وذهنه يصفو ، وراح يتأمل الحجرة ثانية واكتشف أن بالحائط المقابل له طاقة مستطيلة تمتلئ بلفائف بردى وخمن أنها تحوى بعض الكتب ، كما لاحظ وجود بقايا كسرات خبز علي مصطبة مجاورة .. تنهد وعاد يتابع حديثه مع العجوز..
- لا أفهم ما تعني ..
- لا عليك .. ستعرف كل شيء في حينه .. ولكن قل لي : ماذا تعمل ؟
- أنا .. كنت أعد نفسي كي أكون كاهناً ..
- كاهن .! هذا شيء عظيم وعمل جيد،و لمن من الآلهة ستكون كاهناً ..؟
- للإله رع .. إله الشمس العظيم .. واهب النور والضياء،وباعث الحياة ..
- ولماذا لا تكون كاهناً " لبتاح" أو " حتحور" أو" باستت" أو" خنوم" أو "سوبك" أو غيرهم..
فوجئ الشاب وداخلته الريبة إذ أحس برنة سخرية في سؤال الرجل ولم يحر جواباً
وأخذ يقلب الأمور في ذهنه ويسأل نفسه " من عساه يكون هذا الرجل .. ألا يؤمن بالآلهة !؟ " .. لاحظ العجوز حالة الشاب فأشفق عليه ورسم ابتسامة خفيفة علي شفتيه وهو يرمقه بحنوّ وقال معتذراً ..
- لا أقصد شيئاً مما يدور بذهنك، لكني أريد أن أقول : ألست معي في أن هناك آلهة كثيرة ، بل أكثر مما ينبغي ؟ وأن الناس لا يحتاجون إلي كل هذه الآلهة وهذه المعابد التي توقف لها الأوقاف وتنفق عليها الأموال حتى تمتلأ خزائنها وتفيض علي الكهنة لا علي العباد !؟
ظل الشاب علي صمته فهذا الكلام جديد عليه تماماً ، لم يطرق مسامعه، ولم يَِرِد علي ذهنه من قبل ومع ذلك فهو كلام جدير بالنظر والتأمل،وأدرك العجوز أن الشاب قد بدأ يفكر وينشغل بالأمر بشكل صحيح فسُرّ بذلك ورأي أن يغير مسار الحديث ، لكن الشاب فاجأه بسؤال مباغت قائلاً ..
- وأنت .. من تعبد من تلك الآلهة الكثيرة ..؟
تبسم العجوز وامتدت يده تعبث بلحيته الكثة ، حدق في وجه الشاب قليلاً ثم أطرق طويلاً والشاب يرمقه منتظراً الرد ، وأخيراً رفع رأسه وقال .. " أنت شاب ذكي وما أريد أن أثقل عليك فالتعب بادٍ علي وجهك ، فما رأيك أن تستريح الليلة ثم نستكمل حديثنا فيما بعد "..
- لا..لا .. ليس بي حاجة إلي النوم أو الراحة .. ولن أستريح حتى توضح لي ماذا تعني ..هل تعني أنك لا تؤمن بالآلهة ؟
فطن العجوز إلي ما اعترى الشاب من انزعاج وهلع ، وسرّه ذلك وإن لم يظهره فأراد أن يطمئنه قائلاً .
- لم أعن ذلك أبداً ، فالإنسان لا يمكنه الحياة بدون الإيمان بشيء .. إنما أعني أن كل هذه الآلهة يمكن أن تكون إلهاً واحداً يجمع كل الصفات في ذاته ، أي أن يكون إلهاً قوياً قادراً تتعدد صفاته وأسمائه و لكن لا تتعدد طبيعته هل تفهمني ؟
- إننا مثلاً نقدس البقرة ، لكن هذا لا يمنعنا من أن نذبح البقر ونأكل لحمه ولا يمنعنا من استخدام البقر في الحقول طوال النهار في الزرع والحصاد.. نحن نقدس بعض صفات البقر لكننا لا نقدس البقر ذاته، وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الآلهة الأخرى ..
- انظر يا بني .. ماذا تري لو أننا جمعنا كل الصفات الطيبة في البقرة والتمساح والكبش والصقر وابن آوي والقطة وغيرها في ذات واحدة ، ذات لا تدركها العيون ولكن تدركها القلوب ، ذاتٍ لا شكل محدد لها ولا تحتاج للتجسيد في صورة محسوسة .. ألا يكون هذا أقرب للإله الحق ؟! الإله الذي يَخلق ولا يُِخلَق .. والذي يَري ولا يُري ..
استغرق الشاب في تفكير عميق ،بدا كمن تلقي صدمة شديدة هزت كيانه وزلزلت بنيانه ، عاد بذاكرته إلي الوراء ، إلي ذلك اليوم الذي نعته فيه الكاهن كا رع غاضباً بالملحد ، لقد كان يقترب في رأيه في ذلك اليوم من هذا الكلام الذي يسمعه الآن وإن لم يكن مدركاً له تماماً بهذا الوضوح الذي يراه .. والآن فقط أدرك سر ثورة الكاهن العنيفة عليه .. الآن فقط أدرك أن للكهنة دور آخر غير العبادة وخدمة العباد، وأن لهم أغراضاً أخري غير التقوى والإيمان والأخلاق وكل ما يحاولون ترويجه بين الناس عن العالم الآخر وما يجري فيه وما ينتظرهم من نعيم أو جحيم.. هل يمكن أن يكون كل هذا وهم كبير نجح الكهنة في فرضه علي الناس ! ومن هذا الرجل الماثل أمامي الآن ! أيكون نبياً ..؟ أيكون إلهاً متخفياً..؟ أيكون خيالاً كذلك الوجه الحجري الذي كان يطاردني منذ قليل ؟ أم أن كل ما يحدث لي وهم أو كابوس يجثم علي صدري ..؟ أين الحقيقة ..!؟ أين الحق ..؟
خرجت كلماته الأخيرة في شبه صرخة مكتومة ، كان الشاب قد نهض فجأة وأخذ يدور حول نفسه ، ويضرب الجدران بقبضته وهو يصيح " أين الحق .. أين الحقيقة " واصطدمت يده بتلك اللفائف المكومة في الطاقة فأمسك بها بين يديه ووجه سؤاله للعجوز الجالس بهدوء تام ..
- أين الحقيقة ..؟ أين الحق..؟ ما هو الحق ، وما هو الباطل ؟ أين الحقيقة ؟ أهي في هذه الأوراق .. أهي كامنة هنا ..؟ قل لي أرجوك .. إنك لا تدري ماذا فعلت بي .. إنك لا تدري ما أحس به الآن ، إنني .. إنني ......
ولم يكمل ، فقد انهار وسقط علي الأرض ممدداً وهو يتلوى كأن به مساً من الجنون والأوراق بين يديه يهذي بكلمات غير مفهومة ، وبينما كان الشاب يتلوى انحسر ثوبه عن كتفه الأيمن ، وما إن وقعت عينا العجوز علي الكتف العاري إذا به يتجمد للحظة ويمد يده ليكشف بقية الكتف وظل يتأمله طويلاً ، انفرجت أساريره وارتسمت علي وجهه ابتسامة عريضة وهو يتمتم ..
- إنه هو .. إنه هو.. هذا ما ظننته منذ البداية .. منذ وقعت عليه عيناي وأنا أحس أنه هو، حمداً لك يا إلهي .. حمداً لك، إذن لقد آن الأوان.. آن لي أن أستريح..
تناول الرجل قربة ماء وأخذ يرش وجه الشاب برفق ، ويدلّك له يده وصدره وهو يتلو الأدعية والصلوات بصوت خافت حتى بدأ يفيق ويعود لوعيه شيئاً فشيئاً ، ساعده علي أن يتكئ بظهره علي المصطبة ، وقدم إليه قربة الماء فراح يجرع منها حتى ارتوي وأحس بالراحة قليلاً ، أخذ يقلب عينيه حواليه وكأنه يري المكان للمرة الأولي حدق في وجه الرجل قائلاً ..
- من أنت ..؟
ابتسم العجوز وقال :
- أنا من ينتظرك منذ زمن طويل ، هكذا تقول الرؤيا ، شاب بصفاتك وسمتك يأتي يوماً ما ليحمل الرسالة التي ناء بها كتفي زمنا ..
- أنا ..؟ تنتظرني أنا ! إنني لا أعرفك ، وأنت لا تعرفني ، فكيف كنت تنتظرني ، وأي رسالة هذه ؟ وكيف عرفت أني المقصود ؟ من أنت..؟
- كانوا يدعونني الحكيم " إيبـور" ..
صاح الشاب بدهشة وفرح ..
- أهو أنت ..؟ أحقاً أنت الحكيم" إيبور" ؟! لقد ظننتك .... معذرة ، لست أدري ماذا أقول .. لكنني أشعر أني سعيد الحظ إذ رأيتك و..
هز العجوز رأسه وابتسم راضياً إذ تأكد ظنه وتخمينه بأنه يحادث الشخص المنتظر..
- ها أنت ذا تعرفني كما عرفتك ، هل تري فيما حدث اليوم مجرد صدفة ؟ أم تراه تدبير إله قادر ؟ أم يكون ذلك تصديقاً للرؤيا ؟
- عما تتحدث ؟ أي رؤيا ؟ أنا لا أعرف شيئاً عن هذا الأمر ..
- لا تتعجل .. ستعرف كل شيء في حينه .. لكنك لم تقل لي، كيف عرفت اسمي؟
ولم كنت تظن أني قد مت..؟
- عندما كنت أدرس بالمعبد تصادف أن دخلت خزانة الكتب يوماً لأنظفها حسب الأوامر، وتملكني الفضول واستغرقت في قراءة بعضها فوجدت اسمك ، وقرأت تعاليمك ، بل وحفظت الكثير منها وتعجبت ، لماذا تخبأ هذه الذخائر عن الناس وتُخْفَي كُلّية هكذا وكأن هناك حرص شديد علي ألاّ يعلم بها أحد ، ولم أكمل إذ أن الكاهن المكلف بالإشراف علينا رآني وكاد يجن هلعاً عندما اكتشف الأمر وهددني بالفصل فوراً من المعبد لو علم أحد بما اقترفت، بل وبما هو أشد من الفصل، فما معني هذا ؟ لماذا انزعج الكاهن إلي هذا الحد ؟ .
- لأنك اقتربت من معرفة الحقيقة .. هناك بعض الأمور التي يخشى الكهنة أن يعرفها الناس وإلاّ فماذا يبقي لهم .. ؟ وكيف يتسنى لهم السيطرة علي عقول الناس ؟ وهذا الأمر يتساوى فيه كهنة كل الآلهة ..
- ولكن ما هي الحقيقة .. وما هذه الرؤيا التي ذكرت .. ما معناها ؟
- انظر.. هناك يا ولدي فئة من الناس يختارهم الإله ، قدر لهم أن يحملوا الرسالة ويحافظوا عليها ، وهؤلاء يتعارفون دون لقاء ، ويلتقون دون موعد ، وما الرؤيا التي ذكرت إلا وسيلة للتعارف ، وعلامة لقرب اللقاء ، ولو سألت نفسك عن سبب لقائنا اليوم لما وجدت إجابة واضحة بينة ، قم الآن فاسترح قليلاً ، أوشك الفجر أن يبزغ ولابد من أن تعود إلي بيتك قبل طلوع الشمس .. قم يا "نوسر" ..لقد وضعت قدمك علي الطريق ، وهو طريق طويل صعب ..
- ماذا قلت ؟ من" نوسر" هذا ..؟
- أليس هذا أسمك ؟
- كلا .. إن اسمي" إيب- خنسو" .. هكذا أسماني أبي ..
- لا.. لا.. هذا يبدو اسماً مستعاراً .. وعليك أن تبحث عن نفسك أولاً .. هيا .. قم استرح الآن ولا تجادل في شيء ، فقد تعبت أنا أيضاً وليس لدي المزيد .. هناك ما يجب أن تتوصل إليه بنفسك ..هناك الكثير الذي يجب عليك أن تعرفه ، وهناك الكثير الذي يجب عليك أن تتحمله .. لا تظن أن الأمر سهل يسير، إنه طريق وعر ومحفوف بالمخاطر والأهوال ، والإله لا يختار إلاّ من يستحق ، ومن يستحق هو الذي يصبر ويتحمل الشدائد ، أما أنا فقد آن لي أن أستريح ، سنلتقي ثانية فقد عَرَفْتَ الطريق ، أليس كذلك.. ؟
فغر الفتي فاه دهشة ، ومرة ثانية عصفت به الأفكار والظنون " ما معني هذا ؟ لست "إيب- خنسو" ! من أكون إذن ؟ من أنا .. ؟ " لم يستطع أن يفتح فمه ليتكلم أو يسأل فقد رأي العجوز يتمدد علي المصطبة صامتاً ..
" كان يوماً ثقيلاً .. مليئاً بالأحداث والغرائب " وغاص الشاب في لجة من الأفكار وأخذ يستعيد ماضيه يوماً يوماً ما استطاع عله يجد علامة أو إشارة لما حدث له طوال هذا اليوم الغريب ..
-9-
بدأ الظلام يلف المدينة بعباءته السوداء , ولم يعد" مرى إن بتاح" قادراًَََََ على تمييز أحدٍ من العائدين إلى منازلهم بسبب ضعف بصره من ناحية , وعتمة أول الليل من ناحية أخرى .. ومن ثم لم يجد بداً من مغادرة مجلسه في شرفة منزله الواقع على الطريق القادم من شاطئ النهر ممتداًَ باستقامة إلى وسط المدينة , ومخترقاًَ ذلك الحي الذي يقيم به عدد من الموظفين والكتبه في دواوين الحكومة وبعض التجار وصغار الكهنة والضباط ذوي الرتب الصغيرة والأطباء وأصحاب الحانات ..
كانت معظم بيوت الحي تتكون من طابق واحد مبنى بالطوب اللبن المطلي بالجير الأبيض وتحتوى على عدد من الغرف حسب الحاجة وحسب عدد أفراد الأسرة , وبعض هذه البيوت كانت – خاصة الموسرة قليلاًَ – توجد أمامها أو خلفها مساحة مربعة صغيره إما أن تزرع بالخضراوات والفاكهة وإما أن تبنى فيها حظائر للطيور المنزلية كالبط والأوز والدجاج ويحيط بهذه المساحة سور من الطوب اللبن أو الشجر القصير ..
وكانت شرفــة منزل" مــرى إن بــتاح" تتيــح له وهو جالس رؤية المارة في ذلك الطريق , سواء المتجهين إلى النهر أو العائدين من الحقول ,
ومع ذلك فلم يكن يستقر في جلسته إلا قليلاًَ , ثم ينهض عندما يخيل إليه أن "ايب خنسو" هو القادم هناك .. عندئذٍ كان ينتفض واقفاًَ ويقترب من سياج الشرفة ويستند عليه ويميل بجذعه محدقاًَ , وعندما تتضح له الرؤية يسقط في يده ويعود لكرسيه .. ثم لا يلبث أن يعاود الكرة كلما ظن في شخص قادم شبهاًَ " بايب- خنسو" ...
- لم يعد الولد بعد...
قال وقد دخل إلى وسط المنزل وامرأته تحاول إشعال المشعل , ويبدو أنها فشلت في ذلك أكثر من مرة , لم يلا حظ " مرى إن بتاح" رعشة يديها ومع ذلك فقد تقدم هو وأشعله فانتشر ضوءه الضعيف في أرجاء المكان جاعلاًَ من خيالهما على الحائط المقابل شبحين يتحركان ببطء , رفعه الرجل ووضعه في الكوة المعدة له في الحائط فاختفي الشبحان .. قالت بقلق ..
- ألم يعد الولد .. ؟
- لا .. لم يعد حتى الآن .. لكن .. على أية حال .. هو لم يتأخر كثيراًَ ..
قال وهو يتجه إلى أريكة بجوار الحائط ويجلس , تبعته زوجته واتخذت مجلسها بجواره وهى تتفرس في وجهه ..
- " مرى إن بتاح" .. هل أنت مطمئن لتأخره .. أم تراك تحاول أن تهون علىّ وعلى نفسك؟
- " حنوت- سن" .. لماذا أهون عليك أو علي نفسي .. ربما .. ربما يدخل علينا الآن بضحكته المعهودة , وهو يناديك بصوته القوى طالباًَ العشاء مدعياًَ انه سوف يسقط ميتاًَ من الجوع إن لم .....
لم يكمل " مرى إن بتاح" الذي كان يتكلم ونظره معلق بالحائط المقابل فقد تناهى إلى سمعه صوت زوجته وقد علا نشيجها , التفت إليها والألم يعتصر قلبه وربت على كتفيها ..
- لا تخشى شيئاًَ .. ولا تقلقي يا "حنوت- سن" .. إن ابننا عاقل , ولا يمكن أن يؤذى نفسه من أ جل شئ تافه كالذي حدث اليوم ..
- أتسمى ما حدث اليوم شئ تافه .. لقد كانت تلك الفتاه هي كل أمله في الدنيا .. وتقول انه شئ تافه ..
- نعم .. شئ تافه .. ويجب أن تخجلي يا "حنوت- سن" من كلامك هذا .. إن ابننا له طموحات أكثر من هذا بكثير .. إنه يعد نفسه للمناصب العليا وجليل الأعمال ولا يمكن أن يكون كل أمله في الدنيا الفوز بفتاه مهما كان شأنها ..
- أنت قاسى القلب يا " مرى إن بتاح" .. نعم.. أنت قاسى ..
وعلا نشيجها ثانيه , فلان الرجل وهدأ من حدته وعاد ليربت على كتفها فأزاحت كفه بغضب ..
- لا تغضبي يا "حنوت- سن" .. إنما أقول بفمي ما ليس في قلبي .. إنني في الحقيقة قلق وخائف .. خائف جداًَ يا حنوت سن .. فاغفري لي ..
سرحت المرأة ببصرها في المجهول والدموع مازالت تلمع بعينيها , تنهدت وهى تتمتم
- ترى .. أين أنت الآن يا ولدى ..؟
خيم الصمت عليهما.. كلُ طوى قلبه على حــزنه وقلـقه وســكت , ومرت اللحظات, بطــيئة , ثقيلة , وأصـبح غياب الولد حقيقة واقعة , و الأمل في عودته يتضاءل شيئاًَ فشيئاًَ , وفجأة .. انتفض الاثنان واقفين إثر سماعهما طرقاًَ على الباب تبادلا النظرات وفرحه الأمل على الوجهين العجوزين تزيد من تجاعيدهما , انطلقا معاًَ في اتجاه الباب , كادت المرأة أن تنكفئ على وجهها , ولكنها نهضت بسرعة وكأنها في العشرين من عمرها , سبقها الرجل إلى الباب وفتحه بلهفة , وهو يوشك أن يقــرع الولد .. لكنه .. لم يكن هناك .. خرج صوته ضعيفاًَ مبحوحاًَ ..
- أهو أنت .. ؟
- نعـم هو أنا .. ومن تراه غيري يمكـن أن يطرق الأبواب في هذه السـاعة من اللــيل .. ؟ هه ..؟ من يفعل ذلك غير" با- حور" ..
ودخل دون أن يدعوه أحد وهو يواصل كلامه بصوته الجهوري المعتاد عنه ..
- أين ذلك الولد .. صديقي" ايب- خنسو".. لقد اشتقت إليه كثيراًَ .. أهو نائم .. دعوني أوقظه .. كيف ينام وقد عاد" با- حور" ..
عندما أدرك وجود المرأة بالداخل تنتظر متلهفة .. واصل حديثه بنفس الصوت ..
- آه .. عمت مساءاًَ يا أمي الطيبة .. أين " ايب- خنسو" , أنت أيها الشاب الكسول النائم .. استيقظ فوراًَ وإلا صببت دلواًَ من الماء على وجهك القبيح ..
ظل الاثنان واقفين .. كلُ في مكانه منذ دخل" با- حور" وقد اطرقا وتدلت ذراعاهما وعلا وجهيهمـا اليأس والقنـوط والحـزن , و" با- حور" مازال يملأ المـكان بضجيجه وما إن أدرك الموقف حتى سكـت قليلاًَ وهو يتفرس فيهمـا وقد شعر بحــرج الموقف, تقدم من الرجل وحدق في وجهه قائلاًَ ..
- ماذا حدث يا أبتى .. ؟ أهناك ما يسوء .. ؟
أومأ الأب مؤمناًَ على كلامه .. مد الشاب يده وأخذ بيد الأب واتجها إلى الأريكة وأجلسه وجلس بجانبه ..
- قل لي يا أبتى ما حدث بالتفصيل, وبسرعة فقلبي قد انشغل ولن أصبر طويلاًَ حتى أعلم كل شئ .. هل تعرض له أحد بسوء.. قل لي من هو وإني- وحق الشياطين جميعاًَ - لقاتله على الفور ولو كان الكاهن "كا رع" , أو حتى كبير الكهنة نفسه..
وبينما أخذ الأب يحكى" لبا- حور" ما حدث من الكاهن" كا رع" وخروج"ايب خنسو" وغيابه حتى الساعة ويعبر له عن قلقه وخوفه على الولد .. كانت الأم قد دلفت إلى الداخل لتعد" لبا- حور" شيئاًَ من الطعام والحلوى التي يحبها كما اعتادت أن تفعل كلما عاد من رحلاته , وعادت لتضع أمامه الطعام ولكنه انتفض واقفاًَ وصاح ..
- معذرة يا أمي الطيبة .. هذه المرة الأولى التي لن أمد فيها يدي إلى طعامك اللذيذ هذا .. معذرة .. فلن آكل أو أشرب حتى أعود" بايب- خنسو"- صديقي-
وانطلق خارجاًَ يرتطم سيفه بساقه من فرط انفعاله وسرعته .. وخيم السكون ثانيه على الأب والأم اللذين جلسا صامتين وأمامهما مائدة الطعام لم يمد إليها أحدٌ يده .. تنهدت الأم وهى تقول وكأنها تحدت نفسها ..
- لكم أحب هذا الولد .. وكأنه خرج من بطني .. !!
رمقها الأب بنظرة طويلة ولم يرد ..
-10-
عندما خرج" با- حور" مندفعاً من بيت صديقه" ايب- خنسو" لم يكن يعرف بالضبط إلي أين يتجه، لذا فبعد وقت غير يسير قضاه بحثاً من شارع إلي شارع، توقف فجأة وهو يلهث انفعالاً وليس تعباً وأخذ يفكر.. " إلي أين يمكن أن يذهب" إيب خنسو؟ " إنه لا يرتاد الحانات ولا أماكن اللهو، ومن المستبعد أن يكون قد لجأ إلي المعبد، وليس له أصدقاء يمكنه أن يلجأ إليهم سواه هـو وجِـسِر، وبالطبع لا يمكن أن يذهب إلي جسـر في ظروف كهذه .. إذن ... أين هو الآن .. أين .. ؟
- آه ..
تذكر فجأة أنه كان يذهب بصحبته كثيراً إلي شاطئ النهر ، ينتقي مكاناً معشباً يجلس فيه ، ويظل لساعات يتأمل تيار الماء القادم من الجنوب بأمواجه الهادئة ، وخاصة عندما يكون القمر بدراً تتكسر أضواءه الفضية علي صفحة النهر مع حركة الأمواج الأمر الذي كان يضجر" با- حور" كثيراً وإن لم يكن يجهر به من أجل صديقه – فهو لم يكن يحب حالة السكون -
- لابد أنه هناك ..
هكذا قال لنفسه ومن ثم فقد اندفع إلي الشاطئ مسرعاً وهو يمني نفسه بأن يجده عائداً من هناك أو علي الأقل يجده جالساً شارداً كعادته في مكان ما ..
لمّا لمْ يتحقق شيء من أمانيه أخذ يجوب الشاطئ ذهاباً وإياباً ، وما من أحدٍ أو شيء يتحرك في الظلام .. وعلي بعد لمح لهب نار صغير يتأجج ، فاندفع تجاهه .. لم يجد غير نوتي قد أوقد ناراً يأتنس بها بالقرب من قاربه .. أحس النوتي بالقادم واستجاب علي الفور لهاجس الخوف فاستعد وأخذ حذره واطمأن علي وجود المجداف في متناول يده إذا دعت الحاجة ، وبصوت لم ينجح تماماً في إخفاء نبرة الخوف فيه صاح ..
- من.. ؟ من هناك .. ؟
- لا تخش شيئا ً أيها النوتي .. إنما أبحث عن صديق لي .. ألم يمر بك اليوم شاب من هذا الحي القريب اسمه" إيب- خنسو" .. ؟
- أنا لا أعبر النهر بالأسماء يا سيد .. إنما
عندئذٍ كان" با- حور" قد تمركز في دائرة الضوء المنبعث من النار ، تأمل النوتي هيئة محدثه ، رأي شاباً مفتول العضلات ، فارع الطول يهتز سيفه بحزامه ، فأدرك أنه أمام ضابط أو جندي في الجيش ، فأظهر الاحترام الواجب وغير من لهجته وأكمل ..
- إنما أنا في خدمتك يا سيدي إذا أردت عبور النهر حتى لو كنا في آخر الليل ، أما إذا كنت تسأل عن شخص بعينه فأنا قد عبرت اليوم بشباب وشيوخ ونساء كثيرين ولم أعرف لأحدٍ منهم اسماً ، لكن .. انتظر .. لقد تذكرت .. نعم .. تذكرت أحدهم .. كان وحيداً .. ربما كان هو من تسأل عنه .. كان غريباً بعض الشيء .. لا بل كان حزيناً وشارداً .. حتى أنه ......
قاطعه" با- حور" وقد بدأ صبره ينفد ..
- كف عن ثرثرتك أيها النوتي قبل أن أطيح برأسك أو أقطع لسانك الثرثار هذا .. أجبني عما سألتك إجابة مفهومة ومحددة ..
- يا سيدي .. لو صبرت علي لأجبتك بما تريد ، كنت أقول أنه كان حزيناً ويائساً حتى أنه أسقط جعرانه دون أن يشعر وعندما ناديته لأعطيه إياه رفض أن يأخذه .. وقال لي .."احتفظ به أيها النوتي الطيب عله يجلب لك الحظ السعيد .. فهو لم ينفع معي .. " آي وحق الآلهة أجمعين ، هذا ما قاله لي بالضبط.. لم يصرخ بوجهي ، ولم ينهرني ..
- أين هو هذا الجعران .. ؟
- ها هو يا سيدي،هو الذي أعطاه لي وحق" بتاح" .. وحق "رع" .. وحق ..
اختطفه" با- حور" وتأمله بالقرب من النار، بان عليه الارتياح قليلاً، فقد أيقن أنه جعرانه ، هو قريب إذن وسليم معافى ..
- إنه هو،هو من أبحث عنه" إيب- خنسو" صديقي، أين ذهبت به أيها النوتي ..؟
- عبرت به للضفة الأخرى كما أمرني يا سيدي .. هذا كل ما حدث ..
- ألم يعد ثانية .. ؟
- لا .. لم يعد معي ..
ألقي " با- حور" بالجعران للنوتي وأمره بصوت حاد أن ينهض ليعبر به إلي الشاطئ الآخر..
لم يجد النوتي مفراً من إجابة طلبه ، نهض مسرعاً ليحل رباط القارب بينما قفز" با- حور" إلي القارب ، أزاح النوتي وأمسك هو بالمجدافين وراح يجدف بقوة لم تكن متوفرة لدي النوتي ، وقبل أن يرسو القارب علي الشاطئ تماماً كان " با- حور" قد قفز بخفة ورشاقة ، وانطلق وهو يقول للنوتي بصوت عسكري آمر ..
- انتظرني حتى أعود
تقوقع النوتي في أرضية قاربه وهو متحير مما يجرى حوله ولا يستطيع فهمه ، ظل يفكر في الأمر قليلاً حتى غلبه النعاس فنام ، ولم يفق إلاّ علي صيحة با حور وقد قفز إلي القارب وهو يأمره بالعودة ، تناول الرجل مجدافيه وهو يغالب نعاسه، تسائل وهو يتثائب ويبدأ التجديف بوهن عائداً للضفة الأخرى ..
- ألم تجد صاحبك .. ؟
- لا .. هل أنت متأكد أنه لم يعد معك ..
- أنا علي يقين من ذلك يا سيدي .. ربما عاد مع نوتي آخر .. هذا ما
يحدث غالباً يا سيدي . يذهبون معي ويعودون مع غيري .. !
وعاد " با- حور" إلي صمته مستغرقاً في تفكير عميق ، ولم يلتفت إلي ثرثرة النوتي وحكاياته حتى أنه وصل إلي الشاطئ دون أن يشعر .نهض واقفاً وخيبة الأمل بادية علي وجهه، وكعادته قفز إلي الشاطئ قبل أن يرسو القارب وانطلق دون أن يلتفت إلي النوتي الذي تابعه بنظراته متعجباً حتى اختفي في الظلام ..
لم يكن" با- حور" يدري ماذا يقول لوالدي " إيب- خنسو"،أحس في نفسه ضعفاً،
وأنه لن يقدر علي مواجهتهما وقد عاد خاوي اليدين من أي خبر، لم يجد في نفسه
الجرأة ليذهب إلي بيته أو إلي بيت صديقه ، شعر بجفاف في حلقه ،وضيق في صدره .. رأي أنه من الأفضل أن يقصد حاناً من تلك الحانات التي تسهر حتى الصباح ليحتسي قدحاً أو قدحين من الجعة ريثما تهدأ نفسه ويصفو ذهنه ،ثم يقرر بعد ذلك ما يمكن فعله،وكأنه وجد المخرج مما يعانيه من قلق وخيبة أمل فاتجه مباشرة إلي الحان .. جلس شارداً،مالت عليه نادلة جميلة وسألته عما يطلب، رد وهو يتنهد طويلاً ..
- أريد قدحاً من الجعة ..
قالت بدلال محاولة إغواءه :
- قدحاً واحداً فقط يا سيدي.. أتريد أن تشرب وحدك..؟
لم يرد ولكن نظرته إليها كانت كافية لكي تجعلها تفر من أمامه بسرعة البرق لتعود بعد قليل صامتة لتضع أمامه قدحاً من الجعة وتختفي مسرعة قبل أن يدرك وجودها ..
لم يطل جلوسه في الحان ، فلم تفلح الجعة في إعادته إلي صفاء الذهن ، إضافة إلي أن الجو الخانق داخل الحان قد زاد من ضيق صدره .. أحس أنه غير قادر علي التنفس فنهض خارجاً..
استقبله هواء النزع الأخير من الليل ببرودته فأحس ارتياحاً ، أخذ نفساً عميقاً وهو يمشى علي غير هدى ، لم يكن يدرى إلي أين يذهب حتى استقر به المقام علي مصطبة طينية أمام مدخل بيت صديقه" إيب- خنسو" فجلس يقلب الأمر علي كل وجوهه ويحدق في الظلام الممتد حوله حتى غلبه النوم في مكانه ..
عندما فتح عينيه وجد ضوء النهار قد بدأ يتسلل من عتمة الليل ، فرك عينيه وتثائب سائلاً نفسه " أين أنا..؟ " وعندئذٍ بدأ عقله يستيقظ وتعود إليه ذكري الليلة الفائتة .. انتفض واقفاً كمن لدغته أفعى حين سمع صوتاً يعرفه جيداً يصيح به :
- " با- حور" !؟
ألقى كلٌ منهما بنفسه في حضن الآخر دون كلام ، وغابا متعانقين طويلاً .. ثم تواجها للحظة يتأملان بعضهما ، كأن كلٌ منهما يبحث عن شيء تغير في وجه صاحبه .. وفجأة لكزه" با- حور" في صدره بكفه القوى قائلاً :
- أين كنت طوال الليل أيها الأحمق ..؟
- أين كنت أنت أيها السكير.. إن رائحة الجعة تفوح منك .. ؟
وضحكا طويلاً ، أخذ" إيب- خنسو" بيد صديقه واتجها إلي داخل المنزل وهو يهمس في أذنه محذراً
- إياك أن تخبر والدي بشيء ..
فهدر" با- حور" بغيظ وهو يكور يمينه ويرفعها في وجه صديقه ..
- وماذا أعرف أنا حتى أخبر أحداً بأي شيء .. قل لي .. ماذا أعرف ، أصبح "باحور" غريباً لا يعرف شيئاً عن صديقه الوحيد في هذه الدنيا ..اللعنة عليّ ..
أسرع " إيب- خنسو" يسد فمه بيده وهو يحلف بأنه سيشرح له كل شيء ولكن فيما بعد فسكت" با- حور" علي مضض ، وكانا قد اقتربا من الباب ..
طرق" إيب- خنسو" الباب الذي فتح سريعاً وكأن أحداً كان يقف خلفه .. وجد والده أمامه والتعب والإرهاق باديان علي وجهه فالقي بنفسه بين أحضانه .. تلقاه العجوز وقد بللت دموعه وجهه ولحيته ، وجاءت الأم تهرول مسرعة فاتحة ذراعيها ..وهي تتمتم بالدعاء والثناء علي" با- حور" .. دعاهم الأب للجلوس فجلسوا و"با- حور" يصيح بصوته الجهوري منادياً الأم التي كانت قد اختفت بالداخل ..
- والآن يا أمي الطيبة نحن علي استعداد لتناول كل ما عندك من الطعام الطيب والحلوى اللذيذة .. فأنا لم أذق طعاماً منذ الأمس ..
ردت الأم من الداخل بصوت غلبت عليه الفرحة ..
- حالاً يا ولدي .. سيكون الطعام جاهزاً بين يديك .. إنك تستحق ما هو أكثر من ذلك .. إنني مدينة لك ..
غمز" ايب- خنسو" لـ " با- حور" مهدداً ..
- بماذا أنت مدينة لهذا الوغد يا أمي .. إنه لم يفعل ما يستحق عليه كسرة خبز ..
- أحقاً لم أفعل شيئاً أستحق عليه كسرة خبز ؟ إذن .. أخبرها أين كنت طوال الليل أم تتركني أنا أخبرها ؟ أنا أقول لك يا أمي .. إنه ....
أسرع " ايب- خنسو" يضع يده علي فمه كي لا يكمل ، و" با- حور" يحاول التملص منه ضاحكاً والأب يراقب متبسماً ، صاح" إيب- خنسو" محاولاً تغيير الموضوع بينما الأم تضع أمامهم الطعام ..
- لم تأخرت هذه المرة يا" با- حور" علي الحدود الجنوبية ،هل الأمور هناك علي غير ما يرام ..؟
أشاح " با- حور" بيديه وهو يبدأ في التهام الطعام بنهم ..
- ومتي كانت الأمور علي ما يرام في هذا البلد يا صاحبي! إن الأمور تسير من سيئ إلي أسوأ ،وإن لم تكن هناك قبضة قوية تمسك بزمام الأمر فسوف تحدث الكارثة لا محالة ..لم يعد هناك من يهتم بالجيش ولا أسلحته ولا تدريب الجنود ولا بناء الأساطيل كما كان يفعل أجدادنا العظام الأقوياء في غابر الزمان .. ولذلك طمع الجميع فينا ..
تدخل الأب في الحديث موجهاً السؤال لـ " با- حور" ..
- أهم النوبيون ثانية .. ماذا يريد هؤلاء الناس ..؟
- لا..لا يا أبي ، ليس النوبيون هم المشكلة الحقيقية .. إنهم قوم من أقصي الجنوب
يحاولون الاستيلاء علي بلادنا ويطمعون فيها بسبب ضعف الحكام وتراخي القوة العسكرية ، وهو ما يكفي لتشجيع أي أفاق علي التجرؤ علي أطراف البلاد ..
- القوة العسكرية لا تنقصنا .. ما ينقصنا بالفعل هو قوة الإيمان..
هكذا رد" إيب- خنسو" بحدة علي كلام " با- حور" مما جعل الأخير يضيف متهكماً ..
- وهل أقاتل الأعداء بقوة إيماني .. هل أتلو علي العدو صلاة ترديه قتيلاً في الحال
تباً لكم يا صغار الكهنة ، لو ترك الأمر بيدكم لهلكنا قبل أن ينصرم العام..
- ألا تحتاج للآلهة كي تحقق النصر علي الأعداء..؟
- وفيم أحتاج إليها .. إن قوتي في ذراعي ، ورمحي في يدي ، والعدو أمامي ، وإن لم أقتله فسيقتلني ، ما دخل الآلهة في الأمر إذن ..؟
- كيف لا يكون لها دخل في الأمر .. إنها ..إن كل شيء بيدها .. هي التي تمنح النصر، وهي التي تحمي البلاد من الغزاة ، وهي التي..
- كفي ..كفي .. أتري لو هاجمنا جيش قوي يبغي القضاء علينا ، ولم يتصدي له جيش أقوي هل تتصدي له الآلهة ..؟
رأي الأب أن الحوار بدأ يتخذ مساراً آخر يتسم بالجدية مبتعداً عن روح المرح التي بدأ بها فرفع كلتا يديه مسكتاً الشابين ومهدداً إياهما..
- يكفي هذا .. يكفي هذا .. كُلا وإلا ّ طلبت من حنوت سن أن ترفع المائدة ..
ضحكوا جميعاً وراحوا يأكلون باستمتاع ويتبادلون الأحاديث في كل شيء عدا سبب غياب "إيب- خنسو" ، وأين وكيف قضي ليلته .. ولم يكن هذا باتفاق بينهم بالطبع ، لكن يبدو أنه لم يكن لدي أي منهم الشجاعة ليخوض في هذا الأمر الآن ، وبخلاف هذا لم يخف علي الأم ما اعترى الشاب من ذبول وهزال ، وكذا شعر الأب بتغير أحوال الشاب وكثرة شروده ، رغم محاولاته إظهار مشاركته في مرحهم ودعاباتهم، وعندما حان وقت انصراف" با- حور" ، ناداه " إيب- خنسو " قبل أن يغلق الباب خلفه منبهاً إياه ..
- " با- حور ".. لا تنس .. في الغد عرس صديقنا " جسر" ويجب أن نكون بجانبه ، بل لابد من ذلك ..
توقفت يد "با- حور" علي مقبض الباب ، وأطال النظر لصديقه ، وأومأ برأسه بما يعني الاتفاق ..
-11 -
بدأت الإستعدادات لزواج الشاب "جسر" و" مريت" ابنة الكاهن ، وعلقت الأعلام الصغيرة الملونة علي منزل الكاهن وكذلك أمام منزل "جسر" ، وأعدت المصابيح علي جدران المنزل من الداخل وعلي بوابته من الخارج ، وبدأ توافد الموسيقيين وقارعي الطبول، وتبع هؤلاء عدد من المتسولين والعاطلين عن العمل، تكاثروا أمام المنزل مطالبين بشيء من طعام الوليمة، وهو ما أثار الكاهن فأخذ ينهرهم ويطردهم بعيداً عن منزله وهو يسبهم ، فتكوموا غير بعيد يتحينون فرصة أخري للوصول إلي مأربهم ..
كان الكاهن قد استدعي ابنته قبل خروجه إلي حجرته ، دخلت الفتاة وهي مطرقة وعلي وجهها أمارات حزن دفين .. رجع الكاهن بظهره إلي الوراء حتى يفسح لبطنه المجال كي تستريح .. أدام النظر قليلاً إلي وجه ابنته ، وقال بصوت خفيض حاول أن يجعله حازماً ..
- " مريت" .." مريت" يا ابنتي الحبيبة .. ألست سعيدة بهذا الزواج المبارك كما أنا سعيد به.. ؟
قالت وصوتها وهيئتها تخالفان ما تقوله ..
- بلي يا أبتي .. أنا سعيدة طالما أنت سعيد ..
سدد إليها نظرة حادة من عينيه اللتين تشبهان عين القط الشرس ، وأوشك أن يصرخ في وجهها ، لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة ..
- هل أفهم من هذا أن قلبك ما زال معلقاً بذلك الشاب الملحد الكافر .. ؟
رفعت رأسها للمرة الأولي ، وواجهت الكاهن ، عينيها في عينيه ، نظراتها ثابتة ولهجتها تميل نحو الاحتجاج المكتوم ..
- إن "إيب- خنسو" ليس ملحداً ولا كافراً يا أبتي .. إنه شاب طيب .. وهو يعد نفسه كي يكون كاهناً ، فكيف يكون كافراً أو ملحداًً .. !
- لن يكون كاهناً أبداً .. لن يكون .. وسوف تثبت لك الأيام صدق قولي .. ولا تعودي لذكر اسمه أمامي ثانية ..
أخذ نفساً طويلاً ، ولانت لهجته فجأة وهمس بلهجة الناصح ..
- أنت لا تعرفين مصلحتك ، لأنك لا زلت صغيرة غِرّيرة .. لا تنظرين لأبعد من موضع قدميك إنني أزوجك من كبير كهنة رع المقبل .. وربما .. ربما ما هو أكثر
من ذلك .. نعم .. أنا علي يقين من هذا .. هل تعرفين معني ذلك .. ؟
وهنا نهض بصعوبة بالغة من كرسيه الذي بدا وكأنه حشر فيه ، مسح حبيبات العرق التي نبتت علي جبهته وصلعته بمنديله الحريري ولملم ثوبه الكهنوتي الفضفاض ، اقترب من ابنته في حنان مصطنع واضعاً يده السمينة علي كتفيها ..
- هل تعرفين يا ابنتي الحبيبة معني أن تكوني زوجة لكبير كهنة الإله رع ..
الإله الرسمي للدولة .. للأرض السمراء كلها .. ؟
- لكن .. يا أبتي ..
قاطعها بسرعة وهو يسوي ملابسه متهيئاً للخروج وإنهاء الحوار ..
- أعلم .. أعلم ما ستقولين .. لكنه سيحدث .. قريباً جداً سيحدث .. إننا نعمل من أجل ذلك اليوم منذ زمن طويل .. وها قد أوشكت جهودنا أن تؤتي بثمارها .. سوف يصبح "رع" إلهاً أكبر .. وستقام له المعابد الخاصة في جميع أنحاء الأرض السمراء .. معابد الشمس ذات المسلات الذهبية البديعة .. وسيتنافس الملوك في وقف الأوقاف لمعابد رع .. سنصبح نحن سادة الكهنة ، سادة لكل ما علي الأرض .. هل أدركت الآن ماذا أعددت لمستقبلك.. ؟ دعينا من هذا الآن .. هناك
- أمر هام أود أن أخبرك به وقد كدت أنساه .. أنا الآن سأذهب إلي المعبد
لأنجز بعض المهام ، وربما أعود بعد الظهيرة وبصحبتي بعض الأخوة من الكهنة العظام .. أرجو أن تشرفي بنفسك علي إعداد الطعام المعد لهم خصيصاً، هل فهمتي ؟ لن أسمح بأي خطأ في هذا الأمر.. آه .. هناك أمر آخر .. لا تتفوهي بكلمة أو حرف مما قلته لك الآن لأي إنسان .. أتفهمين ! حتى أنت نفسك .. هه ؟
أومأت الفتاة وما زال وجهها عابساً حزيناً، بينما انفلت هو من الباب بصعوبة واتجه إلي الخارج متخذاً طريقه إلي معبد الإله رع .. مضي يضرب الأرض الترابية الناعمة بقدمه الثقيلة فتثير سحابات صغيرة من التراب حول قدمه مخلفة أثر نعله الفاخر علي التراب من خلفه .. بصق مرتين متأففاً من هؤلاء المتسولين القذرين ومن رائحتهم الكريهة وهو يتساءل داخل نفسه " لماذا تخلق الآلهة أناساً بهذه القذارة ؟ " ، عاد فتذكر مهمته اليوم فانبسط وجهه قليلاً وراح يفكر ويأمل " آه لو كانت تلك المرأة صادقة فيما قالت " .. تذكر ذلك اليوم الذي رأي فيه تلك السيدة المهيبة وهي في زيارة غير متوقعة للمعبد .. كان حينئذٍ لا يزال كاهناً صغيراً في المرتبة الخامسة .. لا يذكر ماذا كان يفعل داخل قدس الأقداس وعندما شعر بحركة غير عادية وفوجئ بدخول السيدة التي طغت رائحة عطرها علي روائح البخور والعطور داخل قدس الأقداس ، وبصحبتها كبير الكهنة لم يدر ماذا يفعل، فاضطر للاختفاء خلف تمثال الإله .. " يا له من يوم ! " كلما تذكر أنه كان من الممكن أن يفقد وظيفته في ذلك اليوم .. تصاعد الدم حاراً إلي رأسه وشعر بدبيب كدبيب النمل يسري في كل جسده .. لما استعاد وعيه ، وأحس بأن كبير الكهنة ترك السيدة وحدها تناجي الإله ، سمع ما لم يكن مفروضاً أن يسمعه أحد مهما كان ..
لقد سمع مناجاة حارة ، ودعوات تخرج من قلب مكلوم أن يحفظ الإله ابنها الرضيع من كل سوء .. وأن يقيه شر الطامعين في العرش .. كرر في نفسه "الطامعين في العرش ! ؟ .. لابد أنها زوجة الملك .. " استولت عليه الدهشة وتسائل .. " لماذا لم تذهب إلي معبد الإله" بتاح" ؟ .. أليس الإله" بتاح" هو الإله الرسمي للدولة ..؟ !
" هناك الكثير الذي لا أفهمه " .. عندئذٍ فقط ، فطن الكاهن الصغير إلي مدي جهله بما يحدث من حوله ، واستيقظت حواسه وغرائزه ،" لم لا يستفيد من كل شيء حوله .. ؟ لم لا يبحث هو عن الأسرار ولا ينتظر الصدفة .. ؟ وبالفعل بدأ يبحث بنفسه .. وما إن خرجت الملكة حتى تسلل خارجاً وأخذ يراقبها، كان بصحبتها وصيفة لها، عقد عزمه في الحال : " هذه الوصيفة هي وسيلتي لمعرفة الحقيقة " ..
إن كل ما يعرفه مما يدور من حوله لا يتعدى تلك الاضطرابات التي تحدث داخل أسوار القصر الملكي ، وهي كثيراً ما تحدث كلما ضعف الملوك ، وازدادت مشاكل وراثة العرش .. وهو أيضاً يعرف كما يعرف كل الناس أن زوجة الملك لم تنجب ذكوراً فيما عدا ذلك الطفل الذي قيل أنه مات أثناء ولادته .. فلمن تدعو الملكة إذن .. ؟ " هناك أمور غامضة ولابد من جلائها وكشف غطائها وهنا بدأ يلتفت إلي أحداث صغيرة ووقائع كان يحسبها تافهة مرت عليه في هذا المعبد الصغير الذي التحق به دون تفكير أو نظر إلي المستقبل البعيد ، فلو كانت له أطماع أو كان لديه طموح للمجد لكان قد التحق بمعبد" بتاح" رب "منف" ومعبودها الأول ، ولكنه ألقي بنفسه في هذا المعبد الصغير القليل الشأن لعبادة "رع" إله الشمس دون تمييز بين الآلهة أو العبادات لمجرد الهروب من الفاقة والفقر ..ولم يطف بذهنه يوماً أن هناك حركة دائبة و محاولات مستميتة للصعود برع إلي المرتبة الأولي بين آلهة مصر، تذكر زيارات كهنة غرباء لم يرهم من قبل للمعبد ، تذكر أيضاً وفود من كهنة المعبد كانت تخرج سراً لأماكن مجهولة لم يكن يدرى عنها شيئاً ومبعوثين تبدو عليهم الأهمية من القصر الملكي يأتون للمعبد ويجتمعون سراً بكبار الكهنة .. وبدأت الصورة تتضح أمامه شيئاً فشيئاً ، وعندئذٍ بدأ يتحين الفرصة للصعود و تحقيق مكانة مرموقة لنفسه وعند هذا الحد من الذكريات كان الكاهن قد وصل إلي بوابة المعبد الخارجية ،وإلي الواقع .. دلف من البوابة الضخمة واجتاز بهو الأعمدة الخارجي، وواصل سيره بتؤدة خلال البهو الداخلي ، تأمل منظراً للإله حورس علي الجدار الأيمن للبهو وقرص الشمس فوق رأسه ينشر الضياء للعالم ويخترق روحه، ويبعث الأمل في صدره.. تقدم خطوات أخري ، توقف أمام باب حجرة الكاهن الأكبر .. سوي ملابسه ودعا رع أن يوفقه ويسدد خطاه ..
طرق الباب طرقات خفيفة ، ودفعه بهدوء فأصدر صريراً خفيفاً سمع بوضوح في السكون الذي يشمل المكان .. أعاد غلق الباب من خلفه واستدار ليواجه كبير كهنة رع العظيم" سمنخ- كا رع" ، كان الكاهن الأكبر مضطجعاً علي كرسي فخم من الخشب اللامع ، يبدو مسنده المرتفع من خلفه مزيناً بقرص الشمس ، تمتد أشعته الذهبية من أعلي إلي الجانبين في شكل هرمي ، تصاعدت رائحة البخور إلي أنف كا رع وهو يجثو علي ركبتيه ساجداً أمام كرسي كبير الكهنة
- بارك الرب العظيم رع اسم سيدي العظيم كبير الكهنة ..
ورفع رأسه قليلاً ليري أثر تحيته علي وجه كبير الكهنة ، كان الوجه المغضن يتفرس فيه ، والعينين الضيقتين تنفذان داخله ، أحس برعدة خفيفة ، لكنه أبي أن يستسلم للشعور بالهزيمة ، لا سيما أن في جعبته ما يسر الكاهن الأعظم ، نهض ببطء ووقف مطرقاً وبصوت خفيض قال :
- جئت علي عجل حسب أمر مولاي .. أنا رهن إشارة مولاي الكاهن الأعظم ..
- يبدو أنك أصبحت كسولاً أيها الكاهن ..
اغتصب الكاهن ابتسامة مبتسرة ، وعاد يجثو أمام كرسي كبير الكهنة وهو يلهث وتتعثر الكلمات علي شفتيه ، ومن طرف خفي يلاحظ ملامح العجوز أمامه ولما لم يجد الغضب المرسوم علي وجهه حقيقياً ، اطمأن في داخله ، لكنه تصنع الانزعاج الشديد وهو يصيح ولكن بحيث لا يسمعه أحد ..
- أنا ..؟! أنا يا مولاي ؟! الرب العظيم "رع" وحده يعلم كم أحب مولاي ، وأؤثره علي نفسي ذاتها.. الرب العظيم وحده يعلم ما فعلت وما بذلت من جهد .. بل ومن تضحيات كي أحقق لمولاي الكاهن الأعظم ما يريد ويرغب .. إن جسدي هذا مهما كان سميناً ، لا يدخر جهداً ، ولا يهدأ حتى يحقق لمولاي ما يأمر به .. لقد .. لقد جئت مولاي اليوم بأنباء سارة .. نعم .. هي بالتأكيد أنباء سوف تبهج مولاي كثيراً ..
- هل وجدت الشاب الذي حدثتني عنه .. ؟
أجل .. أجل يا سيدي ، إنني منذ زمن طويل أبحث وأنقب وراء هذا الشاب حتى تيقنت من حقيقته ، وأصله الملكي الخالص ، ثم أضاف هامساً ، " إنه ابن الملك "شبسسكاف" والملكة "عنخ تا وي" .. كان قد ولد إبان الاضطرابات التي حدثت عقب موت الملك " وقد أحطته برعايتي وعطفي واكتسبت ثقته ومحبته ،أصبح قريباً مني وكأنه من أهل بيتي ، واليوم سوف تراه فخامتكم ، وسوف تشهد بنفسك حفل زواجه من ابنة خادمك المطيع " كا رع "..
- آه .. سوف تزوجه من ابنتك .. !
لم يخف المغزى الذي يلمح إليه كبير الكهنة علي" كا رع"، لكنه ابتلعه، وقال مؤكداً
- أجل يا سيدي .. وبهذا الرباط سوف يكون بأيدينا ، ولا يستطيع أحد أن يؤثر عليه أو يبعده عنا .. سيكون بذلك في يد سيدي يوجهه كيف يشاء فلا يعارض، ولا يجادل .. أليس كذلك يا سيدي .. ؟
- لا يهم .. لا يهم .. المهم أن تكون علي يقين من أمره .. وإلا وقعت الطامة الكبرى .. إننا نعمل جاهدين منذ سنوات لكي نرتقي بإلهنا وعبادتنا ومعابدنا إلي المرتبة الأولي في كل البلاد ، ولن نتنازل عن هدفنا ، ولن نسمح لأحد أن يفشل خططنا حتى ولو كان الملك نفسه .. أتفهمني .. ؟
كان كبير الكهنة صادقاً فيما قال فقد حقق الكثير من أهدافه ، فها هي معابد الشمس قد انتشرت في كثير من المدن ، ترتفع مسلاتها المذهبة شامخة في السماء ، وازدادت موارد المعبد من الأراضي الخصبة والإقطاعيات زيادة كبيرة ، لكن الطموح كان كبيراً ، وهل هناك حدود للطموح ،" لابد من أن تدخل أصابعنا في القصور الملكية حتى نشعر بالأمان الكامل " .. كانت هذه نظرة كبير الكهنة التي لم يكن يصرح بها إلاّ أمام خاصته ولكن الكاهن" كا رع" لم يكن من خاصته يوما ..
قال كبير الكهنة كلماته الأخيرة وقد سدد عينيه مباشرة في وجه الكاهن وتقلصت ملامح وجهه حتى أحس الكاهن بالرعب ، وأخذ العرق يتصبب غزيراً علي جبهته ولأول وهلة بدأ الشك يتسلل إلي قلبه فيما يقول وفيما يعتقد أنه صحيح ..تمتم بصوت خفيض لم يبين حتى لكبير الكهنة الذي لم يهتم بما يقول ..
- اطمئن يا سيدي .. اطمئن ..
أشار إليه بالانصراف ، فتقدم خطوة للأمام وسجد أمامه ثم نهض وانصرف مهرولاً تشيعه عينا كبير الكهنة بشيء من الاحتقار حتى أغلق الباب خلفه ..
أغلق كبير الكهنة عينيه ، وراح يستعرض رحلة كفاحه هو ومن سبقوه في سبيل إعلاء شأن الإله رع وعبادة الشمس ابتداءاً من تلك الحيلة القديمة التي دبرها أجداده في عهد الملك " خنوم خوفوي" علي لسان الساحر الذي تنبأ له بمولد من يرث العرش من أبناء كهنة الإله العظيم "رع" حتى اليوم وما تحقق فيه من نجاح في هذا السبيل حيث كاد" رع " أن يصبح الإله الرسمي للدولة تقريباً ، صحيح هناك بعض النفوذ لكهنة "بتاح" ، لكنه لم يعد يرقي لنفوذنا ولن يستمر لوقت طويل ، كما أن أصابعنا تمكنت من القصر الملكي وأصبح لها دور رئيسي في اختيار الملوك أنفسهم كانت حيلة ذكية لا ترد إلاّ علي ذهنٍ جبار ينظر إلي البعيد و لسنوات طويلة قادمة ولا يتعجل النجاح القريب الذي قد يكون رخيصاً ، ولا يستمر طويلاً ، أما حيلتك أيها الكاهن الغبي " كا رع " فهي حيلة غبية مثلك تماماً ، ولن تنطلي علي أحد ، ماذا يريد بمصاهرة من يظن أنه سيكون الملك ..؟ تبسم ساخراً.. يريد أن يكون كبيراً للكهنة ! نعم .. لاشك أن هذا ما يطمح إليه .. ولو ترك الأمر للأغبياء من أمثاله لضاع كل شيء ..
-12-
كان " مري إن بتاح "جالساً في ردهة منزله الفسيحة مستمتعاً بالراحة والهدوء والسكينة بعد عودة ولده سالماً ، وفي غمرة استسلامه للراحة أخذ يتذكر ذلك اليوم البعيد حين كان عائداً من عمله الليلي في حراسة مخازن الحبوب الملكية عند بزوغ الفجر ليجد علي مصطبة منزله سفطاً من سعف النخيل وشيء يتحرك بداخله ، جفل قليلاً في البداية ، ثم عاد يحدق في السفط ليجد ذلك الطفل الجميل يهز يديه وقدميه بقوة دون بكاء ، مد يده ورفعه لأعلي فتوسط وجهه القمر الذي كان بدراً تلك الليلة فصاح " أنت إيب- خنسو، أنت إيب- خنسو، نعم أنت هو " واحتضنه برفق وحنان وقال في نفسه " لا شك أن حنوت سن العزيزة ستطير بك فرحاً .. ها هي الآلهة الطيبة تمنحها طفلاً بعد طول انتظار .. " .
مرت به "حنوت- سن" حاملة كوباً من شراب الأعشاب الدافئ الذي يحب أن يحتسيه وقت العصر ووضعته أمامه دون أن يشعر بوجودها ، حركت يديها أمام وجهه حركة دائرية ، فأفاق مبتسماً ، بادرته قائلة ..
- فيم أنت مستغرق هكذا يا " مري إن بتاح" .. إنك لم تشعر بي ولا بشيء حولك ، لكني أراك تبتسم .. اصدقني القول يا رجل حتى لا تذهب بي الظنون هنا أو هناك .. فيمن تفكر الآن ..؟
تعالت ضحكات الرجل حتى أن يده اهتزت بشدة وهو يتناول كوب الأعشاب وكاد أن يسقط منه فوضعه علي المائدة وواصل ضحكه بنشوة ، خرج صوته بصعوبة:
- آه .. يا زوجتي العزيزة "حنوت- سن" .. تظنين بي الظنون ؟! أنا..؟ أما زلت تغارين علي زوجك العجوز؟ لا.. لا.. لا يجدر بك ذلك .. أتعرفين فيم كنت أفكر الآن ، كنت أتذكر ذلك اليوم البعيد الذي وجدت فيه ابننا العزيز أمام بيتنا ، وكيف رفعته بين يدي فجاء وجهه في وسط القمر تماماً ، وكدت أخطئ ساعتها أيهم القمر وأيهم الطفل ..
- آه ..إنه حقاً يوم لا ينسي .. أتدري يا "مري" أنني كلما تذكرت ذلك اليوم أشعر بخدر في أحشائي ! كأني أنا الذي ولدته ..
وامتد حبل الذكريات بين العجوزين يعيد ما حدث ، وكانت هذه عادتهما كل حين ، يجلسان معاً ، يستعيدان ذكري ذلك اليوم السعيد، وما هبط عليهما من خير علي يد ذلك الطفل المبارك إذ شفيت" حنوت- سن" من مرضها ، وإذ ترقي" مري" في عمله حتى أصبح مشرفاً علي مخازن الحبوب الملكية كلها ، فانتقلا إلي هذا الحي النظيف بدلاً من الحي الفقير الذي كانا يقطنانه ، ولا تنسي حنوت سن أبداً أن تذكر زوجها بتلك الهدايا التي كانت تلقي عليهما في بيتهما دون أن يعرف أحد من أين تأتي كل تلك الملابس الجميلة للطفل والقطع الذهبية بداخلها وكأن هناك من يتكفل به معهما ، ولما أعياهما التفكير في الأمر أرجعاه إلي الآلهة الكريمة التي تباركهما وطفلهما وكعادتها أيضاً باحت حنوت سن بمخاوفها من أن يأتي يوم يعرف فيه الولد حقيقة الأمر، أو يأتي من يقول لها " أعطني طفلي ! " ..
قطع حبل الذكريات فجأة إذ سمعا طرقاً علي الباب ، تبادلا النظر ، فهما لا يتوقعان أحداً في مثل هذا الوقت ، لا يمكن أن يكون" إيب- خنسو" قد عاد بهذه السرعة من عرس صديقه ، وهما غير معتادان علي زيارة أحد ، عاد الطرق مرة أخري ، بدأ مري يتحرك في اتجاه الباب وعينا "حنوت- سن" تتابعه " من عساه يكون ؟ " هي لا تدري لماذا تتوجس من هذا الطارق المجهول ، نفس الإحساس كان يراود "مري" ، كان هذا واضحاً في خطواته المترددة .. تقدم خطوات أخري حتى أمسك بمقبض الباب وفتحه فوجئ بشخص ملثم يرتدي السواد ، توقف متردداً ووقف الشخص ينتظر الدعوة بالدخول حتى أحس كلاهما بالحرج ، خرج صوت مري واهناً لا يكاد يسمع ..
- من ؟ من تريد ؟
- هل سنتحادث هنا .. علي الباب يا " مري إن بتاح" ؟
كان الصوت غريباً وواثقاً .. لكن يبدو من نبراته أنه صوت أنثوي ، وصعق الرجل حين سمع اسمه ومجرداً من أي مظهر من مظاهر الاحترام ، تمتم "مري" بكلمات اعتذار وأفسح لها الطريق داعياً إياها للدخول فدخلت بخطوات بطيئة وهي تتفحص المكان ، كانت حنوت سن قد تساءلت عن القادم لكن المفاجأة لم تمكن "مري" من الرد عليها فظلت مكانها تحدق في شخص الداخل ولا تعرف ماذا تقول ..
جلست المرأة علي الكرسي الذي كان "مري" يجلس عليه فظل واقفاً لا يدري ماذا يفعل وواجهت "حنوت- سن" ، قالت وهي ترفع نقابها :
- كيف حالك يا " حنوت- سن" الطيبة ؟
ذهلت " حنوت- سن" وازدادت دهشة "مري إن بتاح" وبدا الموقف غير مفهوم وغير مريح للعجوزين ، إن تلك المرأة تعرفهما جيداً ، لكنهما لا يعرفانها ولم يرها أحدهما من قبل بالرغم من كشفها النقاب ووضوح وجهها الذي بدا طاعناً لكنه ما زال محتفظاً بمعالم جماله و أثر النعمة والحياة المرفهة التي لا ينعم بها غير أصحاب القصور والضياع من علية القوم بادية عليه .. كانت لا تزال تتفقد بعينيها محتويات المنزل ، حتى السقف لم يسلم من نظراتها الفاحصة ، والرجل وزوجته ينتظران أن تتكلم وتفصح عن سبب زيارتها ، أو علي الأقل تُعرّف نفسها ..وأخيراً قالت وعلي شفتيها ابتسامة لم تسترح لها " حنوت- سن" ..
- أنتما بالطبع لا تعرفان من أنا ! وما سبب زيارتي خاصةً في غياب " نوسر" ..
ازداد الأمر تعقيداً بالنسبة للعجوزين وبدت الحيرة علي وجهيهما ، كما سقط الخوف بقلبيهما عند ذكر هذا الاسم الغريب ، قال مري بصوت خرج بصعوبة ..
- معذرة يا سيدتي المحترمة .. نحن لا نعرف أحداً بهذا الاسم ..
وعندما وجد في نفسه القدرة علي الكلام ، ازداد جرأة وأكمل ..
- ثم أننا لا نعرف من أنت ، فهلا تفضلت وقلت لنا من أنت وماذا تريدين منا .. إننا لم نرتكب إثما مع أحد ، ولم نؤذ جاراً ولم ....
قاطعته المرأة الغريبة قائلة :
- أعلم .. أعلم كل هذا .. وأعلم أكثر مما تظن أيها الموظف المحترم "مري إن بتاح" المشرف علي مخازن الحبوب الملكية ..
ثم وجهت إليه نظرة حادة وهي تقول :
- هل كنت تحلم بمنصب كهذا أيها الرجل الطيب ، وهل كنت تطمح أن تعيش في هذا الحي النظيف بدلاً من ذلك الحي الفقير الذي كنت تقطنه ؟ وهل كنت تنتظر طفلاً جميلاً يملأ عليكما حياتكما كـ" نوسر"، أو من تسمونه "إيب- خنسو" ! ؟
وهنا تجمد وجه الرجل وأدرك أنه قد آن الأوان ليعيد الوديعة إلي أصحابها ، أما "حنوت- سن" فقد غاص قلبها بين جنبيها .. أحست بيد تلك المرأة تمتد بلا رحمة لتنزعه من صدرها فأجهشت وجسدها يرتعد بعنف ، الطفل الذي كانا يظنانه عطية وهبة من الآلهة ، يأتي الآن من ينتزعه من بين أحضانهما قائلاً ببساطة أنه ابنه وليس ابنهما ،كيف ؟ لا.. هذا ليس عدلاً.. لا يمكن أن ترضي الآلهة بهذا أبداً .. لا يمكن .. " إيب خنسو ..! نوسر ..! لا شأن لنا بكل هذا ، نحن لا نعرف شيئاً عن هذه الأمور .. نحن نعرف فقط ابننا ، إيب خنسو ، الذي يدعوني أبي ، ويدعو هذه المرأة أمي .."
دارت هذه الخواطر بذهن الرجل الذي أحس بأنه غير قادر علي الوقوف علي قدميه فاتجه ببطء إلي الأريكة وانهار عليها وهو يرمق المرأتين بنظرات غائمة .
كان كل همه وخوفه علي" حنوت سن الذي يدرك تماماً أنها لن تعيش ليوم واحد لو
أخذ " إيب- خنسو" منها ، وفجأة خطر له خاطر تمني في قرارة نفسه أن يكون حقيقة فنهض واقفاً " ماذا لو كانت هذه المرأة كاذبة ؟ " ، اتجه إليها في الحال ، واجهها بقوة من يدافع عن آخر معاقله ، قال :
- هل تعني السيدة المحترمة أن " إيب- خنسو" ابنها وأنها جاءت اليوم لتأخذه منا ما الذي يثبت ادعاءاً كهذا ؟
قالت المرأة بهدوء وثقة :
- لا.. لا أعني هذا ، إن" نوسر" أو" إيب- خنسو" ليس ابني أنا ، ولم آت لآخذه منكما فاطمئنا ، اطمئني يا " حنوت- سن" الطيبة فأنا أعلم مقدار حبك لـ "نوسر" ومدي خوفك وحرصك عليه ، وعندما اخترتكما أنتما لتكونا أبوين لنوسر كنت أعلم أنكما ستكونان خير أبوين له ..وأنه سيكون سعيداً معكما ..
كان لهذه الكلمات وقع السحر علي" مري" و" حنوت- سن" ، عادت الدماء تتدفق في عروقهما ثانية ونهضت " حنوت- سن" قائلة :
- معذرة أيتها السيدة الكريمة .. لم نقم بواجب الضيافة ، سأحضر لك مشروباً أو شيئاً من الحلوى ..
أسرعت المرأة فجذبتها شاكرة لها كرمها لتجلس وطلبت من" مري" أن يجلس هو الآخر لأن هناك أمراً تود أن تحادثهما فيه بخصوص" نوسر"، فجلست "حنوت- سن" وأحضر " مري" كرسياً من جريد النخيل ليجلس مواجهاً السيدة التي لم يعرف اسمها حتى الآن والشعور بالقلق والإحساس بالخطر ما زال يراوده رغم هدوء باله نسبياً بعد علمه ببقاء الولد بين أحضانه ..
أخذت المرأة شهيقاً طويلاً ، وبدا عليها أنها غاصت في بحر من الذكريات البعيدة وظهر علي وجهها أنها لم تكن ذكريات سعيدة بأي حال ،وراحت بصوت ذو وتيرة واحدة تروي ما حدث ..
- في أواخر أيام الملك "شبسسكاف" الذي لم تدم مدة حكمه لأكثر من أربعة سنوات وفي عامه الأخير كانت زوجته علي وشك الوضع ، ولما جاء المولود ذكراً خافت عليه من الوضع السيئ داخل القصر خشية التخلص منه من قِبَل بعض الأمراء الذين كانوا يتنازعون العرش وادعت أنه مات فور ولادته وكنت أنا "مِحِيت" الوصيفة الأولي للملكة والمفضلة لديها ، كنت أنا التي ساعدتها في وضع وتنفيذ الخطة التي حافظت علي حياة " نوسر" بمساعدة زوجي الضابط بالحرس الملكي ..
عقدت الدهشة لسان "مري" وزوجته ، فقد فسرت هذه الحكاية الكثير من الأحداث التي لم يكن كلاهما يجد لها تفسيراً غير رضا الآلهة عنهما وعن الطفل ..
عاودت المرأة روايتها للأحداث ..
- إلاّ أن الخطر ظل قائماً حتى بعد نجاح خطتي أنا والملكة إذ يبدو أن الأمر تسرب دون قصد إلي آخرين فقد فوجئت ذات يوم بكاهن يدعي "كا رع" وهو من كهنة رع يطاردني ليعرف حقيقة الأمر لكنني عرفت كيف أضلله وأبعد الخطر عن " نوسر"، فهؤلاء الكهنة كانوا وراء تلك القلاقل التي حدثت في القصر في ذلك الوقت بعد أن استفحل نفوذهم داخل القصر، وأصبحوا يتدخلون في كل شيء حتى وصل بهم الأمر إلي السيطرة الكاملة علي بعض الملوك وهو ما لم يرض عنه بعضهم الآخر وهذا ما جعل النزاع يدب بين الأمراء ، ويصل أحياناً إلي حد التآمر للقتل ، وهذا ما حدث مع الملك "شبسسكاف" الذي لم يكن يستريح لهم ، وأنا ما جئت اليوم لآخذ" نوسر" منكم ، ولكني جئت لأخبركم بالأمر فأنا علي يقين من أنكما لا تعلمان به
- نعم .. كنا نظن أن الآلهة هي التي أرسلته إلينا ..
- أيها الرجل الطيب .. إن الآلهة لا تلقي بأطفالها أمام بيوت الناس ، لكن الأمر الهام الآن أن " نوسر" له الحق في العرش ونحن وبعض المخلصين له ولوالده الذي لم يره نزمع أن نعيد له حقه قريباً ، وما يجب علينا الآن أن نخبره بالحقيقة بطريقة هينة حتى لا يصدم ، ونحاول أن نهيئه للأيام القادمة ، فستكون صعبة عليه بالتأكيد وأريد مساعدتكما في ذلك ، هل تفهماني ..؟
- بالطبع .. بالطبع يا سيدتي .. إن " إيب" ... أقصد " نوسر" يستحق كل الخير .. لم يكن هذا غريباً ، فخلقه ينبئ عن طبيعته الملكية .. ولقد كنا – أنا وأمه – نداعبه وهو صغير ونقول له " أنت ما خلقت إلاّ لتكون عظيماً يا إيب خنسو.." ، وكان يضحك كثيراً لهذا القول ، أليس كذلك يا "حنوت- سن ؟ .
لم تحر" حنوت- سن" جواباً فقد كانت دموعها تسيل دون أن يشعر بها أحد ومنذ أن
أحست أن ابنها سوف يؤخذ منها، لم يكن في كل ما قيل ما يعنيها، إن ما يعنيها فقط هو ابنها الذي لا تجد مبرراً معقولاً ليبتعد عنها ويفارق أحضانها، ولم يجد "مري"
بُدّاً من مواساتها والحزن يعتصر قلبه من أجلها ، أخذ يربت علي يديها وكتفيها محاولاً تهدئتها ، لكنها لم تحرك ساكنا، وظلت نظرات عينيها جامدة ، كانت "محيت" تراقب ما يحدث ، ورأت أن ضعف المرأة وانهيارها يمكن أن يفسد الخطة قالت :
- لا تخشى شيئاً يا "حنوت- سن" الطيبة .. إنه لن يفارقك أبداً .. أنت أمه التي عاشت معه سنوات طويلة .. هو نفسه لن يرضي بذلك .. لو نجحنا في أن نعيد له حقه فسوف تعيشين معه في قصره الملكي .. أنا أؤكد لك ذلك ..لن تفارقيه أبداً .. اطمئني ..
عندئذٍ فقط بدأت "حنوت- سن" تعود للوعي .. وتعي ما يدور حولها .. قالت وهي تمسح دموعها وتحاول أن تبتسم :
- أحقاً ؟ لن يفارقني ؟ باركتك الآلهة أيتها السيدة "محيت" .. باركتك الآلهة ..
- وباركتك أنت أيضاً ..
ثم أضافت محذرة ..
- ولكن .. احرصا حرصاً شديداً علي ألاّ يعلم أحد بهذا الأمر .. أي أحد .. ففي هذا خطر كبير علي حياة " نوسر" ، إن كهنة "رع" لا يعلمون بأمره ويظنون أن الوريث الشرعي شاب آخر وهم قد احتضنوه وعزموا علي إعلان أمره في الوقت المناسب لهم ولو علموا الحقيقة الآن فستكون حياة " نوسر" في خطر كبير وربما.. ربما قتلوه ..
وصرخ الاثنان في وقت واحد :
- لا.. لا .. لن نفتح فمنا بكلمة عما جري اليوم .. لن يحدث هذا أبداً ..
تهيأت "محيت" للنهوض وهي تكرر تحذيرها للعجوزين بكتمان الأمر، غطت وجهها تماماً وانصرفت مسرعة .. وظل "مري" و"حنوت- سن" يتبادلان النظر، لكنهما لم يتبادلا كلمة واحدة ..
-13-
- من أنا ...!؟
أصعب سؤال يمكن أن يواجهه الإنسان ، خاصة إذا ما سأله الإنسان لنفسه بعد أن كان يظن أن له حياة ..وعليه الآن أن يعرف من كان ؟ ومن هو الآن ؟ ومن سيكون ؟ وتكثر الأسئلة وما من رد يهدأ النفس ويريح الفؤاد ..
واحتار الشاب ، كيف يبدأ رحلة البحث عن نفسه .. هل يسأل من يفترض الآن أنهما أبويه .. أم يسأل ذلك الرجل الذي كشف الغطاء عن بئر الأسرار .. أم يسأل ساحر أو منجم .. أم يسأل نفسه .. !؟ ..
ولماذا لم يسأل نفسه من قبل عندما كان يشعر أن هناك عيوناً تراقبه دون أن يري وجوهاً .. وعندما كان يظهر له فجأة وعلي غير انتظار من يقيله إذا تعثر ، ويعينه إذا احتاج لمعونة .. ثم ما هذا الاسم الذي ناداه به الحكيم في الكهف أو المقبرة ..من أين عرفه وكيف حدده .. لماذا وصفته " ميريت " ذات مرة بأن له وجها ملكيا .. الأمر الذي تكرر مع "با- حور " نفسه عندما قال له وهما في بداية سنوات الرجولة " لولا أني أعرف أبويك ، لظننت أنك ابن أمير أو ملك .." ، وأثناء دراسته بالمعبد لا يزال يذكر أن معظم الكهنة - فضلاً عن رفاقه - كانوا يعاملونه باحترام ، بل ويخفضون أنظارهم حين يتحدثون إليه .. ولا يزال يذكر أيضاً كيف تغاضي الكاهن بسهولة وسمح له بدخول المكتبة ، المكان المحرم علي كل الدارسين بالمعبد بل وعامة الكهنة وهذا الكاهن " كا- رع" .. لماذا كان يعتبره عدواً له دونما سبب ظاهر بينما قدم عليه "جسر" وقربه إليه وكأنه يكيده ..
- من أنا إذن ...!؟
هل كنت طوال هذه السنوات التي تزيد عن العشرين أحيا حياة شخص آخر لا أعرفه..! أسكن جلده ، وأحس بقلبه ، وأفكر بعقله ..؟ من هو هذا الشخص .. ومن أنا من أكون ..؟ "إيب- خنسو" أم " نوسر" .. أم تراه شخص ثالث أو رابع قد أكونه ..
كان كلما هاجمته هذه الهواجس والأفكار يجلس ساهماً شارداً كأنه غائب عن الوعي وعندما يراه "مري إن بتاح" علي هذه الحال يذوب قلبه شفقة وعطفا ، لكن الكلام يتوقف علي لسانه .. وفي هذا اليوم لم يستطع أن يتركه فريسة للحيرة والقلق والضياع ، فقرر أن يتحدث معه ، جلس بجانبه علي الأريكة ، وربت علي كتفه بحنان وسأله ..
- ما بك يا "إيب- خنسو" ؟
- ليتني أعرف يا أبتى .. ليتني أعرف .. هل تعرف أنت ..؟ هل تعرف من أنا ؟ هل أنا "إيب- خنسو" أم "نوسر" ؟ أم ............
دهش الرجل وظهر الخوف والانزعاج علي وجهه ، ظن أن السر انكشف وشاع ، وفي ذلك خطر كبير علي حياته كما يعلم ، سأله بلهفة ..
- من أخبرك بهذا الاسم ؟
- دعك من الاسم والأسماء فهي لا تعني شيئاً ، أريد أن أعرف أولاً من أنا ؟
قال الرجل وقد اعترته حالة من اليأس والتسليم بالأمر الواقع ..
- إذن فقد عرفت ..!
صرخ " إيب- خنسو" صرخة يائس ، وهو ينهض ويجوب الردهة رائحاً غاديا ..
- لم أعرف شيئاً .. لم أعرف.. يبدو أن الجميع يعرف عني ما لا أعرف أنا.. قل لي يا أبي أرجوك .. ما هي الحقيقة ..؟
- سأقول لك كل شيء .. لا فائدة من إخفاء الأمر الآن .. تعالي اجلس بجانبي هنا ..
أسرع الشاب بالجلوس بجانب الرجل بعد أن وجد بصيصاً يمكن أن يقوده إلي الحقيقة التي ينشدها.. جلس وقد تهيأ للإصغاء بكل جوارحه ..
وبدأ "مري إن بتاح" يحكي له ما حدث منذ وجده علي باب منزله طفلاً رضيعاً في سفط من سعف النخيل ، وظنه هبة من الآلهة له ولزوجته التي لا تنجب ، خاصة بعد الخير الوفير الذي انهمر عليهما بعد احتضانه ، وظل هذا الاعتقاد راسخا في نفسه حتى الأمس ، بالأمس فقط عرف وتيقن أنه لم يكن هبة ولا عطية من أحد ، بل كان مجرد وديعة ، وديعة يجب أن تُرَد إلي صاحبها حين يطلبها .. وسكت الأب هنيهة ريثما يسترد أنفاسه التي أنهكها الانفعال ، لكن الشاب المتعطش أبي عليه ذلك وأخذ يستحثه ليكمل ..
نعم يا "إيب- خنسو" أقصد يا .. " نوسر" .. أنت لم تكن هبة إله ، أو ابناً لامرأة ضالة..أنت ابن ملك ، وأمك ملكة مبجلة ، وليست حنوت سن المسكينة ، لكنك كنت بالنسبة لنا هبة حقيقية من إله رحيم لا أعرف من هو .. هبة ملأت علينا حياتنا ، وأدخلت البسمة إلي قلوبنا ، جعلتنا نعرف معني السعادة والحب ، هذه هي الحقيقة التي أعرفها ، فهل استرحت الآن ..؟ هل عرفت من أنت ؟ كانت كلمات الأب تنساب من فمه هادئة ، تتخللها أنفاسه اللاهثة من فرط انفعاله ، وإحساسه بقرب فقدانه أعز شيء لديه ..
وفي الوقت نفسه كانت هذه الكلمات الهادئة تضرب أذني الشاب كالرعد ، وكأنها تهدم كيانه كله ، وتعيد بناءه في صورة أخري..نهض من مكانه بجوار والده ذاهلاً وأخذ يدور في المكان ويتأمله كأنه يراه للمرة الأولي ، يتحسس الأشياء ، ويتلمس الجدران ، يفتح الباب ويغلقه ويتكلم دون أن يوجه كلامه لأحد ..
- هل تعني أن هذا البيت ليس بيتي .. وكل هذه السنوات التي قضيتها بين جدرانه ليست من عمري .. هذه الأريكة التي طالما جلست عليها مع أصدقائي ، وهذه المقاعد ، وهذه المائدة ، وحتى هذا السقف الذي أظلني .. كل هذا لم يكن لي أنا وحتى أنت .. أنت نفسك ..لست أبي .. أبي الذي ناديته صغيراً وكبيراً أبي .. وهذه المرأة القاعدة بالداخل تعد لي طعامي أو تحيك لي ملابسي ، ليست أمي .. هذه المرأة التي أعطتني من الحب والحنان ما لم تعطه أم لولدها ليست هي أمي .. كيف ؟ أليس هذا عبث ..؟ أم تراني في حلم مزعج .. أو كابوس سخيف .. وأننا لن نلبث أن نصحو منه جميعا ،
- اهدأ يا ولدي .. اهدأ .. تلك إرادة الآلهة .. إن لك بيتاً أفضل من هذا البيت .. وأهلاً أفضل من....
أسرع الشاب مقاطعاً وقد فرد راحته في وجه الرجل ..
- لا .. لا تكمل .. لا تكمل يا أبي .. لسوف أظل أناديك أبي ما حييت ، وأنت يا أمي تعالي هنا من فضلك .. تعالي..
خرجت "حنوت- سن" من الداخل وهي مطأطأة الرأس تترقرق الدموع في عينيها ، كانت تستمع لكل ما يجري ، وهي منذ أدركت الحقيقة وهي تطوي جناحها علي أحزانها ولا تتكلم مع أحد حتى زوجها .. توسطت الردهة ووقفت ساكنة ، جامدة الملامح ، تمتمت ..
- هل .. هل ستتركنا اليوم ..؟
- لا .. لا يا أمي .. لن أتركك أبداً .. إني .. إني أحتاج لحضنك اليوم أكثر من أي وقت آخر .. لا تتركيني أنت .. لا تتركيني
فتحت ذراعيها عن آخرهما ، ارتمي الشاب بينهما فأطبقت عليه بعنف وصوتها يرن في أرجاء المنزل وتردد الجدران صداه ..
- ولدي ......
-14-
هدأت الأمور قليلاً ، واستقرت نفس "آيب- خنس" أو" نوسر" بعد أن عرف الحقيقة التي كان ينشدها بخصوص مولده وأصله ، وجلس ذات صباح تتقاذفه الأفكار، لقد تغيرت أشياء ، ويجب أن تتغير أشياء تبعاً لذلك ، عرف الآن من هو ، لكن تري هل يستطيع أن يعرف من سيكون ..؟ عجيب أمر هذه الدنيا.. إن عليه الآن أن يختار لنفسه حياة أخري، لم تكن لديه هذه الفرصة من قبل ، لقد ولد وعاش حياته حتى الآن دون اختيار، وعليه الآن أن يختار، أيكون الملك ؟ أم النبئ ؟ ..أم الاثنين..؟ لا شك أن كونه الملك يمكنه أن يساعد كثيراً في إعلان أمر الرسالة ، لكن .. هل الوقت مناسب بالفعل لأمر كهذا ..؟ الواقع يقول ..لا.. لا يمكن الجهر بالرسالة إلاّ في الوقت المناسب ، وهذا الوقت لا يوجد من يحدده الآن ، المطلوب فقط حملها والحفاظ عليها حتى تصل إلي من يجهر بها وينفذها في الوقت المحدد لها..هو يأمل بالطبع أن يكون هذا هو زمن ظهورها ، لكن ما يراه حوله من تدهور في الأخلاق وفساد في النظام وسيطرة للتشاؤم وانتشار للفوضى وغياب للعدل ، كل هذا يجعل من ظهورها أمراً صعباً .. ثم يتراجع ويقول لنفسه أن مثل هذه الرسائل لا تأتي إلاّ لتنير الظلام وتقيم العدل ، وأن هذا الزمان خير وقت لظهورها ..
هز رأسه يأساً ، فلم يعد قادراً علي رؤية شيء ، أو تحديد رأي .. وأكد لنفسه " لا مفر من زيارة الحكيم إيبور " .. وبينما هو غارق في تأملاته فوجئ بـ" با- حور" واقفاً علي رأسه .. ظهرت عليه الدهشة وقال له ..
- " با- حور" !؟ هل أنت هنا ؟..منذ متي وأنت هنا ..؟
- منذ ...منذ الصباح الباكر ، وأنت .. منذ متي وأنت غائب عن الدنيا ..؟
- آه .. آه يا" با- حور" ، لقد تعبت ، لكم أتمني أن تطير رأسي من فوق كتفي حتى أستريح .. قل لي يا " با- حور" .. واصدقني القول كعادتك .. كيف تراني الآن ..؟
- أراك كما عرفتك دائماً .. صديقي ورفيق حياتي ..حتى لو أصبحت ملكاً فسوف أكون بخدمتك ، وحياتي فداء لك ..
- هل تصدقني يا" با- حور" لو قلت لك إني لا أريد أن أكون ملكاً ..؟
- نعم .. أصدقك .. فقد تعودت علي جنونك منذ زمن طويل ، كف عن الثرثرة الآن وقم معي.. هناك زائرون يريدون رؤيتك الآن .. هيا قم ..
ومد يده وقبض علي يد "إيب- خنسو" وجذبه فخرج معه بلا مقاومة أو حتى سؤال عن هؤلاء الزوار ، وجد بضعة أشخاص يجلسون في ردهة البيت لا يعرفهم ، وإن كانت وجوه بعضهم ليست غريبة عليه تماماً ،انتفضت سيدة واقفة حال رؤيتها الشاب، أخذت تتأمله وصدرها يعلو ويهبط ،اقتربت منه ووقفت قدامه ، خرج صوتها مكتوماً من شدة الانفعال وهي تمد يدها تتحسس وجهه ..
- ولدي .." نوسر" .. ولدي ..
فهم علي الفور أنها أمه التي ولدته ، فربت يديها برفق ، ثم رفعهما إلي فمه ولثمهما فجذبته إلي حضنها ، و"حنوت- سن" تتابع المشهد وعيناها تدمعان ، وكذلك "محيت" ، أراد "با- حور" أن يخفف من حدة العواطف الجياشة التي يمكن أن يغرق فيها الجميع فوجه الكلام إلي" إيب- خنسو" قائلاً وهو يشير إلي الضابط " منتو" ..
- أتذكر يا صديقي هذا الضابط العظيم ..؟، إن صورته مطبوعة في رأسي منذ ذلك اليوم الذي قابلنا فيه عندما خرجنا إلي الصحراء ونحن صبية..
أومأ "إيب- خنسو" بالإيجاب ، وكانت هذه إشارة للضابط لكي يدخل في الموضوع الذي جاءوا جميعاً من أجله ، فبدأ حديثه علي الفور متوجهاً إلي" إيب- خنسو"..
- سيدي" نوسر".. لقد كنت ضابطاً في حرس أبيك الملك" شبسسكاف"، وكنت من المقربين إليه ، وواجبي أن أبذل جهدي حتى يعود إليك حقك في عرش البلاد وبذلك أكون قد قمت بواجبي نحو أبيك الذي كنت أحبه كثيراً ، خاصة وأنا أعلم ما كان يبغي، من أجل رفعة شأن البلاد ، وما كان يحلم به من مجد وعظمة للأرض السمراء كلها ، لكن الظروف لم تساعده ، والعمر لم يسعفه والأمل معقود عليك أنت لاستكمال هذه المسيرة ، ونحن هنا اليوم لنبدأ الكفاح من أجل هذا ، ونحن لسنا وحدنا بالطبع ، معنا أنصار كثيرون فيما لو حاول كهنة رع إعاقتنا ..
وسكت "منتو" قليلاً ليري تأثير كلامه علي الشاب ، ولما طال سكوت "إيب- خنسو" انبري" با- حور" قائلاً بحماس ..
- تكلم يا صديقي..أقصد يا سيدي" نوسر" .. إننا في انتظار إشارة منك لنبدأ الإعلان عن اسم الملك الجديد ، فالملك " خا- نفر- رع " لن يظل في الحكم طويلاً وهناك أنباء تفيد بأن كهنة "رع" لديهم نية تنصيب ملك آخر ربما يكون من الكهنة وليس من بيت ملكي .. فلا تتردد يا صديقي ..
تسائل" إيب- خنسو" مندهشاً ..
- ولماذا يعترض كهنة رع علي تنصيبي ملكاً ..؟ ألست من كهنة رع أم أنهم فصلوني من المعبد ..؟
رد الضابط " منتو" قائلاً :
- لأن اسمك ونسبك سيكون مفاجأة لهم ، فهم لا يعرفون اتجاهاتك ولا نيتك تجاههم ، هم يريدون ملكاً يصنعونه بأيديهم ، يأتمر بأوامرهم وينفذ أغراضهم ، وقد وصل بهم الأمر إلي حد أنهم يريدون تنصيب شاب يدعي "جسر" ملكاً علي البلاد مدعين أنه من نسل الملوك السابقين ..
أكملت الوصيفة " محيت" حديث منتو قائلة :
- نعم .. يحسبون أنه المقصود .. وأنا الذي أوحيت بذلك للكاهن" كا رع" عندما طاردني ليعرف لمن كانت سيدتي "عنخ تاوي" تدعو في المعبد ، فخفت عليك وضللته وفهم هو من إشارتي أنه الشاب الآخر ، فقربه إليه وزوجه من ابنته ظناً منه أنه سيكون ملكاً يوماً ما ..
استولت الدهشة علي كلٍ من "إيب- خنسو" و"با- حور" ، وعرف "إيب- خنسو" الآن فقط سبب معاملة الكاهن السيئة له ، صاح " با- حور" :
- "جســر"!؟ صديقنا !؟ هل تصدق ما يحدث يا صديقي ..؟
- نعم يا " با- حور" .. الآن أصدق .. لكن " جسر" بالتأكيد لا يعلم شيئاً مما يدور حوله
- وهذا يدعونا إلي الإسراع في إعلان الأمر حتى نفوت الفرصة عليهم ..أليس كذلك يا سيدي الضابط " منتو" ..؟
- نعم .. لكن بعد أن نسمع رد سيدي" نوسر" حتى نبدأ التحرك من الآن..
اتجهت الأنظار كلها إلي" إيب- خنسو" تنتظر رده ، لم يكن أحد منهم ينتظر أن يتردد الشاب أو حتى يتباطأ في الرد ، لكن سكوته طال أكثر مما ينبغي فبدأ القلق يساورهم خاصة " با- حور" الذي سمعه منذ قليل يقول أنه لا يريد أن يكون ملكاً وخشي أن يكرر ما قال علي مسامع الحاضرين ، فأخذ يستحثه بنظراته ، لكن "إيب خنسو" رد بصوت هادئ وبنبرة حاسمة :
- سوف أعطيكم ردي غداً.. إن عليّ أن أقوم بمهمة قبل أن أجيبكم ..
تبادل الجميع نظرات التعجب والدهشة من هذا الرد غير المتوقع ، مالت عليه أمه الملكة وهمست متسائلة عما يقصد ، بينما تسائل" با- حور مستنكراً..
- مهمة!؟ أية مهمة تلك يا صديقي؟ إن الأمر لا يحتاج منك أكثر من كلمة واحدة .. قلها يا صديقي ..قلها حتى نستريح جميعا ..
- لا أستطيع أن أقطع برأي الآن ، لابد من القيام بهذه المهمة أولاً .. لابد ولن أطيل عليكم ، سأقوم بها الآن ..
ونهض واقفاً واتجه إلي الباب ليخرج والعيون تتابعه بدهشة ، هب" با- حور" خلفه عازماً علي مصاحبته إلاّ أن "إيب- خنسو" أوقفه بإشارة من يده فوقف متحيراً لا يدري ماذا يفعل حتى سمع صوت الباب وهو يقفل، أشار له الضابط منتو فاندفع خلفه
-15-
اتخذ "إيب- خنسو" طريقه مباشرة إلي البر الغربي ، عبر النهر وصعد إلي الطريق المؤدي إلي المقبرة التي يسكنها الحكيم "إيبـور" ، لم يلتفت للخلف مرة واحدة وبذلك لم يلحظ " با- حور" الذي تبعه دون أن يدري ، كانت شمس الظهيرة تلسع وجهه وتصبب العرق غزيراً علي جبينه من شدة الحرارة والانفعال ، لكنه لم يكن يأبه لشيء سوي ما جاء من أجله ، وصل إلي المقبرة فوجد حجراً يكاد يسد فوهتها فتعجب ، لم يشاهد هذا الحجر من قبل ، توجس شراً فخفق قلبه لكنه دخل ، لم يتمكن من الرؤية في البداية بسبب انتقاله مباشرة من ضوء الشمس الساطع إلي الظلام الدامس فأخذ يتحسس طريقه بيديه ، نادي بصوت خفيض ، جاوبه صوت ضعيف يدعوه للدخول،وبصعوبة شديدة بدأ يميز المكان ، حدق في الضوء الضعيف داخل الحجرة ، وجد الحكيم ممدداً علي إحدى المصاطب يبدو عليه الوهن الشديد ، سأله :
- هل أنت نائم يا سيدي ..؟
- لا يا ولدي .. لست نائماً .. لكن يبدو أنني أستعد لرحلة الأبدية .. ألم أقل لك من قبل أنه قد آن لي أن أستريح.. !
- هل أنت مريض يا سيدي ..؟
- لا .. لا يا ولدي ، لست مريضاً .. لكن يبدو أن ساعتي قد حانت كي أستريح ، كنت علي يقين من أنك ستأتي .. لابد وأن تكتمل الدورة .. وها قد أتيت ، أنظر .. هذه هي الرسالة .. هناك في هذه الأوراق.. خذها معك واحتفظ بها في مكان أمين ، بعيداً عن أيدي العابثين والجهلة .. احتفظ بها يا بني ، هذا كل ما أرجوه منك ..
كانت الكلمات تخرج من فم الرجل متقطعة ، وأنفاسه تتلاحق كأنه يخشى أن يموت قبل أن ينتهي مما أفزع الشاب ، نظر إليه بإشفاق وأسي ، قال :
- يحسن بي أن أنقلك من هنا ، يجب أن تتلقى علاجاً ..
سارع الرجل بالاعتراض رافعاً يده بصعوبة وقد تحشرج صوته وهو يقول :
- لا..لا.. لا فائدة .. ما هو مسطور ، لابد أن ينفذ ، هذا .. هذا آخر يوم لي في هذا العالم .. بل قد تكون آخر ساعة .. لقد عشت طويلاً بما يكفي أن أطلب الموت بنفسي .. لا تهتم بي .. لديك ما هو أهم .. الرسالة .. الرسالة..
وراح الرجل يكرر الكلمة عدة مرات ثم سكت فجأة حتى ظن الشاب أنه مات ، اقترب منه ، وضع يده علي صدره ، كان يعلو ويهبط ببطء شديد ، همس الشاب ..
- يجب أن أنقلك من هنا إلي المعبد لأقوم بعملية التحنيط ..
- لا .. لا حاجة لي بذلك ، لن ينفعني التحنيط ولا الدفن كما تفعلون بموتاكم ، اتركني هنا ، كل ما أطلبه منك أن تأخذ الأوراق وتمضي ، وتسد فوهة القبر،
- لا .. لن أتركك وحدك ..
وأخذ "إيب- خنسو" في جمع الأوراق ولفها جيداً حتى يمكنه إخفائها في ثيابه ، وبينما هو منهمك في عمله حانت منه التفاته نحو الرجل فوجده ساكناً سكون الموتى ، أسرع إليه يتحسس جسده ، كان بارداً وليس به أي علامة من علامات الحياة .. مات الرجل الذي جاء ليستفتيه في أمره ، فلم يمهله القدر ليفعل .. تلفت حواليه فلم يجد شيئاً يغطي به جسده سوي ثوب قديم ملقي في ركن الحجرة .. غطاه به ووقف ساكناً لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول .. هل يتلو صلاة أو دعاءاً مما تعلمه في المعبد ، إنه يعلم أن الرجل لا يعترف بهذه الأقوال ولا يؤمن بها.. لم يجد إلا أن يدعو له بالسلام ولروحه بالسكينة ، وجر رجليه خارجاً من هذا المكان الذي أصبح موحشاً ..
عندما خرج من الظلام لم يستطع أن يواجه ضوء الشمس القوي فأغمض عينيه للحظات حتى تعوّد علي الضوء ، شمر عن ساعده استعداداً للعمل بوصية الحكيم ليسد فوهة القبر ، كان الحجر ثقيلاً ، وحرارة الشمس تكاد تحرق جلده ، والرمال الساخنة تلسع قدميه ، وبينما هو منهمك في العمل فوجئ بظل يمتد أمامه ففزع للحظة نظر خلفه ليجد" با- حور" بقامته الفارعة ، سر في داخله للوهلة الأولي ، لكنه لما فطن للأمر غضب وثار فسأله :
- ما الذي أتي بك يا " با- حور" ..؟ وكيف عرفت مكاني ؟ هل كنت تتتبعني دون علمي .. لماذا ؟
- نعم .. كنت أتتبعك .. كيف أكون علي علم بأن حياتك في خطر ولا أحميك ؟ ما هذا المكان ، وماذا تفعل هنا ؟
- علي كل حال ليس هذا وقت الثرثرة ، تعالي ساعدني أولاً كي نسد هذا القبر
- قبر!؟ قبر من؟ هل دفنت أحداً هنا ؟
كان يتكلم وقد بدأ بالفعل يساعده في تحريك الحجر حتى سد الفوهة تماماً ، وبدأ " "إيب- خنسو" يهيل التراب علي المدخل بحيث يخفيه عن الأعين ، ثم التفت إلي صديقه مشيراً إليه بالعودة فأجابه واتخذا طريقهما معاً فيما كان " با- حور" يتأمل المكان حوله ثم نظر إلي" إيب- خنسو" الذي كان يمشي مطرقاً ووطأة الحزن الشديد بادية علي وجهه، فسأله عما حدث ، وعن هذا الذي دفنه منذ قليل ، لم يلتفت "إيب خنسو" لكلام " با- حور" لكنه توقف فجأة وأمسك بذراعه قائلاً ..
- اسمع يا " با- حور" .. سأبوح لك الآن بسرٍ خطير ، ولولا ثقتي بك ما بحت به ولا أريدك أن تطلع عليه أحد مهما حدث ..
فوجئ " با- حور" بهيئة "إيب- خنسو" الجادة ، ولاحظ تعبيرات وجهه فلم يذكر أنه رآها من قبل فأدرك خطورة الأمر .. أكمل " إيب- خنسو" دون أن يترك له فرصة للكلام..
- إن هذه الأوراق التي أحملها تحوي أسراراً خطيرة ولو علم الكهنة بوجودها معي فلن يمنعهم شيء من أخذها حتى لو اضطروا لقتلي وقتل كل من يعلم بأمرها ، وأنا أريد أن أخفيها في مكان لا يصل إليه إنسان ، هل يمكنك مساعدتي ..؟
- ولو أني لا أفهم شيئاً ، لكني لن أتخلي عنك أبداً ، ولو كانت حياتي ثمناً لذلك ولكن ، ما هذه الأهمية البالغة لبضعة أوراق لهؤلاء الكهنة ، ثم إنك منهم ، ألست بكاهن مثلهم ..؟
- لا .. لم أعد كذلك ، لم أعد منهم ..؟ هذه الأوراق تكشف أكاذيب الكهنة وتدعو إلي الإله الواحد .. الإله الحق الذي سوف أدعو إلي الإيمان به ..
- أي إله هذا .. أهو إله غير "رع" و" بتاح" و" خنوم" وغيرهم من هؤلاء الذين تؤمنون بهم .. أهو إله جديد لم يعرفه أحد بعد ..؟
- ليس هناك إله جديد وإله قديم يا " با- حور".. إنه إله واحد أزلي ،وما ذكرت الآن إلاّ أسماء ليس لها حول أو قوة ..
بهت" با- حور" وأحس أن صاحبه يضع نفسه في حفرة لن ينجيه منها أحد ، هو الذي لم يكن يؤمن بالآلهة أحس بالخوف علي صديقه ، تابع "إيب- خنسو" ..
- أنا أعلم بخطورة ما أنا مقدم عليه ، لكنني لا أثق في أحد غيرك .. ربما يتربصون
بي، وربما يقتلونني ، هذا لا يهمني ، ما يهمني أن تخبأ هذه الأوراق في مكان بعيد عن أعين الكهنة والناس أجمعين ، هل تفهمني يا" با- حور" ؟
- أنا لا أحتاج أن أفهم كي أساعدك ، لكن ماذا عن العرش الذي ينتظرك ؟
- لا أعرف .. عندما أعلن عن دعوتي هذه ، لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث ، وعلي أية حال ، أنا لا أرفض العرش .. بل وسأطالب بحقي فيه ..
خاتمة
إلي هذا الحد تعتبر البردية انتهت ، فالجزء الباقي لا يمكن قراءته وليس هناك مفر من الاعتماد علي ما تركه لنا كتاب التاريخ عن هذه الفترة المضطربة من تاريخ البلاد ، وكما نعلم فإن فترات الاضطرابات لا تترك آثاراً واضحة وثابتة يمكن أن يحتفظ بها الزمن لقرون طويلة ، بل يتم كل شيء علي عجل ، بدليل العثور علي مبانٍ ومقابر ومعابد لم يتم استكمال بنائها ..
أما عن نهاية قصتنا فقد اختلفت فيها الأقوال وتضاربت ، لكن الثابت تاريخياً أنه كان هناك ملك من ملوك الأسرة الخامسة يدعي " نوسر رع " ، وأنه تولي العرش بعد الملك " خا نفر رع " والذي لم نعرف عدد سنوات حكمه ، مما يؤكد وجود اضطرابات وقلاقل داخل القصر الملكي ، وأن هذا الملك " نوسر رع " حكم لمدة ثلاثين سنة ، بالإضافة إلي مدة مجهولة ربما شاركه فيها ملك آخر .. إلاّ أنه لم يكن هناك ما يثبت أن هذا ال" نوسر" كان هو بطل قصتنا ، ويرجح البعض أنه يمكن أن يكون الكهنة تمكنوا من تنصيب "جسر" اعتماداً علي رواية الكاهن " كا رع " وتعمدوا نشرها بين الناس بالرغم من علمهم بكذبها ، وأن علامة الملك التي كانت في كتف" إيب- خنسو" تتطابق مع نصفها الآخر الموجود مع الملكة "عنخ تاوي " بينما "إيب- خنسو" الذي يعني اسمه " قلب القمر" كما سماه الرجل الطيب " مري إن بتاح " لم يعرف أحد عن نهايته شيئا مؤكداً واختلفت الروايات ما بين قائل أنه اختفي تماماً بعد أن هاجت عليه الدنيا كلها بتحريض من الكهنة ، سواء كهنة الشمس أو كهنة" بتاح " أنفسهم ، وهناك من ادعي أن أسرته الملكية أخفته في الجنوب ،وأنه عثر في زمن لاحق علي قبر يعتقد أنه يخصه في منطقة النوبة العليا ، وتروي بعض الأخبار أنه اختبأ في نفس القبر الذي كان يعيش فيه الحكيم" إيبـور" وبعلم صديقه المخلص" با- حور".. وبين قائل إنه قتل في ظروف غامضة .. ولكن النفر القليل الذين صدقوه وآمنوا بما يقول يؤكدون أنه لم يمت ولم يقتل ، لكنه اختفي و سوف يعود حتماً في زمن آخر وأنهم ظلوا ينتظرون عودته ويغرسون هذه العقيدة في نفوس أولادهم لقرون طويلة ...
أما عن الأوراق التي كانت بحوزة " إيب- خنسو" والتي استأمن عليها صديقه المخلص " با- حور" فلم يتمكن أحد من الكهنة من العثور عليها رغم البحث المحموم عنها في كل مكان ، وهناك إشارات إلي أن شخصا ما عثر عليها بطريق الصدفة في زمن لاحق .. وهو ما سنحاول التحقق منه في القريب العاجل .....