إهداء
في المرات الماضية كانت أغلب إهداءاتي لمن لهم موطئ قدم في الحديث عن معضلة الحرية في الوطن العربي، لكن هذه المرة أصبحت أنانياً وأريد أن أحتفظ به لنفسي لأن الأوضاع ختمت الأقوال بالأفعال.
(1)
يرى الدكتور عصام أحمد ابن الصعيد المصري أن عداد القومية العربية بدأ بالعمل، منذ أن تلاحقت الأحداث العربية بشكل سريع جعل المشاهدين العرب في الداخل والخارج يضعون رؤوسهم بين الأخبار في القنوات الفضائية، يتابعون بشغف ما يحصل في أوطانهم، والمتابعون لا يفرقون بين بلد عربي وآخر، أو بين بلد متحرك وبلد ساكن، إنهم يتابعون نسمات الحرية وكل يطلب أن يكون نصيبه كبيراً من نسمات الحرية.
في الحقيقة رياح الفلسفة هي من تغشاهم، وتكشف لهم حقيقة أبشع أنواع الفساد الذي كان مغطى بوسائل إعلامية تقدم القادة وتصورهم ملائكة عظام، يعملون ليل نهار، من أجل روح الجمال الذي يتغذى على رحيق الخير وطرد الشر.
الشعوب كانت تعي حقيقتهم، لكن مغلوبة على أمرها، كان الزعماء يغتصبون المفردات اللغوية، ولكن الآن ستظهر لنا ممارسات فلسفية جميلة تأخذ من المنطق مقراً لها، ومن الجمال سماءً، ومن الصدق غذاءً، ومن اللغة وجبة.
كانت معضلة الحرية في الوطن العربي القاسم المشترك في الروايات التي كتبها عصام، لإثبات أن هناك علاقة قوية بين الرواية والحرية، إذ يركز على وجود علاقة عضوية بين الرواية والحرية، ويتضح من خلال رواياته ألم معايشة مرحلة الانكسار واعتلال الصحة النفسية للمواطن العربي نتيجة لغياب الديمقراطية السياسية، سواء كانت في الشأن الداخلي أو الشأن العام.
انطلقت رواياته كشغف عارم بالحرية، ولم تكن انعكاساً لمجتمع يتنفس أكسجين الحرية، إنما استعاض عنه بمجتمع ديمقراطي صغير يقوده ويحركه طبقاً لانفعالاته وإحساساته الخاصة به، فكانت رواياته دعوة إلى دخول الحرية غير الموجود أصلاً على أرض الواقع، حتى أنه تجنب في الحوار داخل رواياته قمع أبطالها، لأنه يكره القمع بشكل كبير.
بعد أن انتهى من روايته "روعة" قرر ألا يكتب بعدها ، ولكن شاءت الأقدار بل أرغمته على كتابة رواية "جاب الذيب من ذيله" تماشياً مع حلم رآه وتطابق مع طلب زميله الدكتور منذر صالح كتفسير لحلمه، فكُتبت الرواية، وقرر للمرة الثانية ألا يكتب شيئاً بعدها، اعتبر روايته الأخيرة مدخلاً بسيطاً إلى عالم الفلسفة أتته من السماء بقوة الرؤيا، داخله إحساس قوي يلح عليه دائماً أنت لم تخلق لتصبح كاتباً روائياً، وهذا يتماشى حقيقةً مع وضعه ويقربه، إلا أنه يعاند من مبدأ أن يكتب ويظل يكتب عن الحرية حتى تتحقق وتلوح في الأفق ثم يتوقف عن الكتابة دون رجعة، إنه لم يمتهن الكتابة الروائية من أجل النجومية أو لتحقيق رغبة داخله، إنما لمرارة الوضع العربي الذي أشد مرارة من الحنظل.
بعد أقل من أسبوع من توزيع الدكتور عصام أحمد لروايته "جاب الذيب من ذيله" حدثت تطورات سريعة في المشهد السياسي المصري، قلبت حالة الشعب المصري رأساً على عقب، وفي الحقيقة العالم العربي كله انقلب رأساً على عقب أيضاً.
نهضت الوطنية تقف على قدميها في مصر، ووقف معها عصام الذي كان يقف بالمقلوب، رأسه إلى أسفل وقدماه إلى السماء، طيلة العقود الأربعة الماضية، في ظل الوضع الجديد للوطنية ووقوفها العظيم في ميدان التحرير، بدأ الفرد العربي يتذوق الحق، ويستشعر العدالة، ويصطف بجانب الخير، ويشعر بطعم اللذة لأول مرة في حياته، هنا الجمال أصبح "المظهر الحسي" للخير، وعندها أصيبت الشجرة الشيطانية بحالة هيجان لا تعرف ماذا تفعل، وبدأ المرء يعمل عقلة في كيفية التعامل مع الواقع، ميدان التحرير في نظر عصام أعظم من جميع اللوحات الفنية التي رآها طيلة حياته، وقريبة بجمالها من لوحة المجرات وسديمها التي عشقها منذ الصغر، بدأ ينقشع القحط والتصحر السياسي من أمام ناظري عصام والشعب المصري.
تحرك قطار الحرية في 14 جانفي 2011 من تونس التي قال أحد مواطنيها أمام كاميرا إحدى القنوات الفضائية "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، كلمات قوية جداً ومؤثرة تعكس خيبة الشعوب العربية طيلة العقود الماضية، التي كشف تقرير "ويكليكس" شيئاً من الحقيقة المغيبة عن الشعوب أمام عدسات الكاميرات ليبرهن على خيانة وسوء الساسة العرب، حلت على الأنظمة العربية لعنة "محمد بو عزيزي" فخر ساقطاً أولاً زين العابدين، وتلاه في السقوط مبارك، والحبل على الجرار، وتكشفت مساوئهم وعوراتهم في الوقت نفسه، يرى عصام أن عام 2011 عام التحرر من فساد الأنظمة وأن هذه السنة تحتاج إلى كتابة أحداثها وتفاصيلها بماء الذهب، وهنا تبادرت إلى ذهنه فكرة تحويل عربة الشاب الراحل "بوعزيزي" إلى نصب تذكاري تطلى بماء الذهب.
أصبح عصام يصطحب ابنه أحمد كل يوم إلى ميدان التحرير، والمكوث إلى ساعات متأخرة من الليل، وفي بعض الأحيان يبيتان في الميدان، بدأت تظهر حقيقة عصام القديمة والتي تقوم على مبدأ إسقاط القمع من أجل اعتماد حرية الشعب، خاف الخال أمين على عصام المعتصم في ميدان التحرير من "بلطجية" النظام المترنح، فأرسل ثلاثة من أبنائه لحمايته ، قدموا من بنبان قبلي في أسوان لنجدة القريب من قلبه دائماً، ثلاثة من أقوى أبنائه بنية جسمانية هم بدوي، وبسطامي، ومحمود.
رجعت إلى عصام الحالة القديمة التي أتته مع بداية قراءاته الفلسفية المتمثلة في التأمل أثناء دورانه داخل منزله، هذه المرة يتأمل وهو يدور في ميدان التحرير، يستعرض أمام ناظريه حالته النفسية في السابق، التي أوشكت أن تقوده إلى مراحل متقدمة وخطيرة في عالم الأمراض النفسية، شرب جرعة كبيرة من إناء المعاناة الشاملة التي لا تنحصر في جزئية خاصة، إنها معاناة الوطن، ومعاناة الوطن فيها مواطنون يطمحون إلى الأفضل في المأكل والمشرب والمسكن، ولكن في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني، يظل الأفضل والأحسن والأجمل والأكمل، هو القائد من خلال توزيع صورة في الأماكن العامة، والإطراءات المستمرة على مدار الساعة من المثقفين والإعلاميين والنخب المستفيدة من النظام.
في الأسبوع الثاني من الاعتصام أحضر عصام خيمة صغيرة لينام فيها هو وابنه، اطلع عصام على قصص ومعلومات من أفواه بعض المعتصمين الذين استلطفوه كثيراً فكشفوا ما في جعبتهم من إحباطات ولواعج الحرمان التي حلت بهم في ظل حكم عائلة "آل مبارك"، وكذلك قصص أخرى من أبناء خاله أمين عن بعض المشاكل التي واجهتهم من قبل.
ظل المعتصمون ينتظرون سماع خبر رحيل الرئيس، ولكن الرئيس يمانع، وظل يمانع وعين نائباً له، ولكن الممانعة لم تطل مع إصرار المتظاهرين على رحيله.
أطلقت منال بيومي زغرودة طويلة وشديدة لم تفعلها من قبل، دوت بها هذه المرة بعد سماعها خبر تنحي الرئيس مبارك في الشاشة الكبيرة في ميدان التحرير، أثناء ذلك كان متواجد بجانبها زوجها بيومي بالإضافة إلى عصام وروعة وأحمد وأبناء أمين، دموع الفرح في عيني عصام، احتضن عصام روعة من شدة الفرحة، كاد أن يحطم أضلاعها بالرغم من كبر سنه، وكأن قوة خفية نزلت عليه من السماء، تقول له سقط مركز الفساد والقمع والتعذيب، تركزت نظرات عصام على أرض الميدان وغباره وقال:
- سأحمل معي هذا المساء بعضاً من تراب هذا الميدان العظيم وأضعه في زجاجة أستطيع أن أشاهده كل يوم كشاهد على روح الثورة.
ما إن سمع أحمد ما قاله والده حتى أحضر قنينة ماء فارغة في الخيمة وبدأ يملأها بالتراب، لم تخطر هذه الفكرة ببال أحد من العاملين في التجارة، وإلا لأحضر قواريره وبدأ يبيعها على الموجودين، وعلى بعض العرب المتواجدين في الميدان، تراب الميدان المعطر برذاذ حناجر الملايين التي تردد بأعلى صوت "الشعب يريد إسقاط النظام" هذه العبارة المباركة التي بدأ يرددها من أراد أن يوجه رسالة للنظام والتي جاءت طائرة من تونس.
ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تنظيم قيام الثورة من خلال "الفيس بوك والتويتر" على تحريك المياه الراكدة، أي أن هذه الجرعة التنظيمية السريعة أضافت إلى المشهد السياسي الفعل الحر وأدت دور النقد بالنسبة للعقل العربي الذي ظل مختطفاً طيلة العقود الماضية، وأتت الآن الفرصة المناسبة للظهور والتعبير عن الشعوب العربية التي من حقها أن تحصل على ما حصلت عليه الشعوب الأوروبية والأمريكية وبقية شعوب العالم في قضية تصريف أمورها بطريقة ديمقراطية وعقلانية.
يرى عصام أنه إذا منحنا أنفسنا درجات عالية في سلم الحرية وأوقفنا الوصاية على جسد الإنسان وفكره عندها يصبح المرء مدركاً لذاته، حيث إن هذه الوسائل الحديثة لم تحرك ساكناً، ولم يكن لها آثار سلبية في المجتمعات المنفتحة والمتقدمة في وقتنا الحاضر، إنما نحن بحاجة إلى توظيف العقل في التعامل مع الواقع، فزمن العسكر والنخب التي تفكر عن الشعوب قد ولى، وما زال عصام يرى أن المستقبل يخبئ لنا الكثير، خصوصاً عن طريق النانو تكنولوجي وهو أكثر تعقيداً من الوسائل التي بين أيدينا، فالعلم والمعرفة يسيران بسرعات عالية، ويصبح ما لدينا الآن أشياء بسيطة جداً في السنوات القريبة المقبلة "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، فالإنسان بشكل عام يكون الضحية سواء كان في المجتمع المتقدم أو المتخلف ضحية للتطور التكنولوجي الذي يقضي على روح الإبداع والجمال عند الإنسان، ويصبح الإنسان ترساً في دولاب الحياة، ولا يمكن اعتبار حرية التعبير والديمقراطية علاجاً للمشاكل الاقتصادية مثلاً، إنما علاج أكيد لمنع إصابة المرء بالاكتئاب والأمراض الأخرى التي تعيق سلامة الصحة النفسية للإنسان العربي المتأزم، الذي يعيش الانكسار.
تابع عصام الأعداد الكبيرة من التونسيين الذين سببوا مشكلة للايطاليين نتيجة لرغبتهم المكوث في ايطاليا، وعدم العودة إلى تونس على الرغم من تحسن الوضع السياسي وزيادة هامش الحرية، لكن المهاجرين غير الشرعيين الذين تجاوز عددهم الواحد والعشرين ألف مهاجر يركزون على أهمية لقمة العيش، هذه الحالة أثرت كثيراً على نفسية عصام الذي كاد يبكي عندما ذكر أحد المهاجرين أنه لا يملك المبلغ الذي يستطيع أن يشتري به حذاء بدلاً من حذائه المهترىء الذي رفعه أمام الكاميرا.
أصبح عصام جشعاً وطماعاً وليس هناك حداً لطمعه وجشعه المبرر من وجهة نظره في قضية مشاغبات الشعوب العربية في وجه أنظمتها، تحركت في داخله القومية العربية الصحيحة التي تقوم على مبدأ الحرية وتوظيف العقل، غير القومية القديمة التي تقوم على شعارات زائفة وقمعية، كان دائماً يكرر في نقاشاته وأبحاثه أن القومية فاشلة إذا كان من يخطط لها ويوجهها قمعيون ودكتاتوريون، ويرى أن القومية العربية جميلة ورائعة إذا تغذت من ثدي الحرية، حيث يتواجد أشياء كثيرة من بينها العدل، والحرية تستبدل قبح الفساد والجور بالمكاشفة والمعاقبة، فثقافة الحرية شيء جديد بدأ يحل في سماء الدول العربية لمواجهة القبح والغش، أصبح هناك مدار أوسع للعقل العربي الآن وهو قدرته على الفعل الحر، وهذه خاصية مهمة للعقل ظلت مغيبة طيلة العقود الماضية.
لم يمض على جلوس المحامية ريم صالح سنة وعدة أشهر على كرسي مجلس الشعب، إلا وحدثت ثورة مصر، الثورة المحبوبة عند أغلب من تابعها في الوطن العربي، لكن ريم أحست بالغبن بعد زوال حلمها الذي كانت تطمح من ورائه إلى تبوء مناصب قيادية في البلد، جلست في منزلها ما يقارب الشهر لم تخرج إلا ما ندر لشراء بعض الحاجيات الضرورية، بناتها الثلاث خلال فترة الثورة كن عند والدهن، أما هي في منزلها الجديد الذي اشترته بعدما أصبحت عضواً في مجلس الشعب، لقد خلقت الثورة عندها كابوساً ألزمها الصمت، ولكن هذا الصمت انكسر عند مكالمة عصام التي ردت عليه:
- مرحباً دكتور عصام آسفة على عدم الرد على مكالماتك السابقة.
- قلقت عليك، أو بالأصح خفت عليك، أعرف إنك صدمت بما حدث وكل الشعب المصري صدم، ولكن هناك من كانت صدمته ألم وهناك من تحولت إلى فرحة وأنا واحد من الذين فرحوا.
- أعرف نوعية صدمتك من قبل أن تذكرها لي، لكن قل لي هل تعرف شيئاً عن أبي؟
- إنه بخير، كان بالأمس عندي في المنزل، ما رأيك لو تناولت معنا طعام العشاء، سنكون الليلة بانتظارك الساعة السابعة مساءً
- على بركة الله.
ساد توتر بين ريم ووالدها منذر بسبب بناتها الثلاث، فلم يعد منذر كالسابق يتحملهن، فطلب منها ألا تتركهن في منزله، على الرغم من قيام والدتها إلهام بالاهتمام بهن، أصبح منذر في الأشهر الأخيرة لا يحب أي إزعاج داخل المنزل، تغيرت نفسيته وأصبح أكثر قلقاً من قبل، يغضب بسرعة ولا يتحمل النقاش الطويل، إنه بحاجة إلى عرض نفسه على طبيب نفسي.
(2)
وصلت ريم في الوقت المحدد وكان في استقبالها عصام وروعة، أما أحمد فهو خارج المنزل بمعية الثلاثي الأسواني بدوي ومحمود وبسطامي، أراد أحمد أن يستضيفهم في أحد المطاعم السريعة، ويطلب لهم دجاج "الكونتاكي" كما يطلقون عليه بلكنتهم الصعيدية، والهمبرجر، أعطته روعة مبلغاً كافياً للصرف على الأكل ويفيض قليلاً، تريد أن تخلق منه رجلاً يحسن التصرف، إنه تجاوز الخامسة عشر بعدة أشهر.
استفاض عصام بعرض ملف كامل عن الفساد الشديد لرئيس مجلس الشعب الذي تؤمر ريم بإمرته، وكذلك رئيس مجلس الشورى، إنهما من الكوارث التي حلت بالشعب المصري:
- لقد أخبرني الأستاذ طه أدهم قديماً عن ممارستهما الإجرامية، ولم أشأ أن أخبرك.
- ليتك حذرتني من قبل، ولم أتقدم لطلب العضوية.
- هل ارتكبت أي خطأ في المجلس؟
- صوت على بعض القرارات وأنا غير مقتنعة بها.
- فهمت.
أكثر من ساعتين من النقاشات المحتدمة، قالت ريم:
- كنت سعيدة قبل المجلس، والآن خسرت كل شيء.
- عليك أن تجتازي هذه المرحلة وتعودي إلى مكتب المحاماة، لماذا القلق ويداك لم ترتكبا أي مسؤولية في حق مواطن أو في حق الشعب المصري؟
ارتاحت ريم قليلاً بعد سماعها لكلام عصام وشكرته على العشاء الجميل، وأخذت صورة لتراب الميدان بعد أن استأذنت عصام ورحلت.
بحث عصام في أكثر من محل عن نوعية جيدة من القوارير الممتازة، وفعلاً اشتراها بتسعين جنيهاً من أجل وضع التراب العزيز على قلبه في جوفها، القنينة التي وضع فيها تراب الميدان شفافة جداً كي يستطيع أن يشاهد ما فيها، من ناحية جمال شكل التراب، أشهب اللون أقرب إلى شكل الاسمنت المتعرض للتعرية الطويلة، وبأحجام متفاوتة، منه الناعم جداً ومنه الخشن والمتوسط، لم ينس عصام صورة التراشق بالحجارة، عندما بدأ مناصرو النظام بالهجوم عليهم مما حدى ببعض المعتصمين بأخذ بلاط الرصيف وتكسيره ورجم المعتدين عليهم.
ظل أبناء خاله بدوي ومحمود وبسطامي عنده في المنزل لمدة أسبوع، ينامون في غرفة واحدة على الأرض عدا بدوي الذي فضل النوم على السرير، فهم لا يحبون الأسرة، ظلوا معه في الميدان لمدة ثلاثة أيام كظله، تنفيذاً لوصية والدهم أمين، لكنهم في الحقيقة قدموا من الصعيد وهم مقتنعون بما يفعلون في الميدان، خصوصاً بعد مشاهدتهم "لبلطجية" النظام عندما دخلوا الميدان بجمالهم وخيولهم في معركة "الجمل".
يحتضن عصام عبق تراب الميدان الذي يظل ينظر إليه كل يوم عندما يجلس في صالة المنزل، داعب بدوي بابتسامة عريضة عصام وهو يقول له:
- أخاف عليك من أن تقوم في يوم من الأيام بعبادة هذا التراب غير النظيف، عندنا في القرية تراب أنظف وأفضل منه.
- لا يا ولد الخال أعرف أنه تراب لا يسمن ولا يغني من جوع، لكنه رمز لشيء عظيم عندي، لا تخاف علي من الناحية الشرعية، لقد قال الشيخ القرضاوي إن "الحرية مقدمة على الشريعة".
- هل فعلاً قال ذلك الشيخ الجليل؟
- نعم، ونقل في أكثر من قناة فضائية، دعني أفتح على التلفاز لنسمع شيئاً عن تطورات الثورات العربية.
- ثورات تشابه أبقارها في الوطن العربي.
- لا أسمح لك حتى لو كنت ابن خالي بوصف الشباب الأحرار في الوطن العربي بالأبقار، إنهم يسعون من أجل الحرية.
- أنا لا أحتقرهم ولا أستهزئ بهم، بل قصدي من ناحية الطبيعة والشكل، وحقك علي.
- أسلوبك جيد يا بدوي، هل درست؟
- حاصل على دبلوم صنايع، لكن أحب قراءة الروايات.
- عظيم إنك تحب القراءة، التي هجرها الكثير في زمننا الحاضر.
فتح عصام التلفاز، وبدأ يسمع ويشاهد مع أبناء خاله تنازلات بعض الأنظمة العربية واعترافاتهم بحرية التعبير والإعلام والصحافة ووقف قانون الطوارئ وزيادة مخصصات الموظفين وإخراج بعض سجناء الرأي هنا ضحك عصام وتكلم بسطامي:
- ما أضحكك يا دكتور؟ لا يوجد في الخبر ما يضحك.
- عملية التحسينات والتنازلات ذكرتني بفعل جدي عطية عندما يرفض حماره السير أو المشي يستخدم شوكة من سعف النخل يضعها في جيبه الأمامي ويغرز رأسها في رقبة الحمار يسير بعدها بسرعة عالية، فالتظاهرة أصبحت هي شوكة عطية.
- يعني تقول بأن القادة العرب لا ينفع معهم إلا الشوك.
هنا هام عصام بفكره ولم يجب على بسطامي، بل كان يقول في حقيقة نفسه إن الحمير أفضل منهم بكثير بعدما استعرض "البلاوي المتلتلة" التي خلفها نظام مبارك، وأن الفهم لم يأت إلا بعد زحف الجماهير كما قال زين العابدين: "فهمتكم"، كان حاكماً لمدة تجاوزت الثلاثة وعشرين عاماً وكان في غفلة عن مطالبهم وحقوقهم، أما مراقبتهم فمخابراته تعرف الشاردة والواردة .
مفردات قديمة ولكنها جديدة الاستخدام عند عصام فيما يكتب الآن، مثل التراب والبلطجية والشوكة التي كان يستخدمها جده عطية والقادم أكثر، وقد تكون عربة "بو عزيزي" لها نصيب في فصول روايته الأخيرة.
رحل الجد عطية قبل أن يولد بسطامي أول أبناء الخال أمين بسنتين، إنه والد أمين وصبحية أم عصام.
أضاف عصام موجهاً كلامه لبدوي:
- التنازلات التي تقدمها الأنظمة قبل السقوط بالتقسيط، وهذا يذكرني بتساقط أجزاء الحقيقة التي تتضح لنا من خلال العلم.
- إذن التنازلات تقربنا من الحقيقة.
- هي تقربنا من الحرية، والحرية ركيزة أساسية للفلسفة، وممكن يكون كلامك صحيحاً في حالة قيام الحرية بكشف كل أشكال الفساد والتكتم، وإطلاق يد الفعل الحر الذي يقوده العقل.
علق بسطامي:
- أنا لم أفهم شيئاً، لكن قل لي يا دكتور لو أخذت من تراب الميدان فهل يفيد التربة والمحاصيل الزراعية؟
سمعت الدكتورة روعة سؤال بسطامي وضحكت من قلبها وقالت:
- نعم، سيقضي على حشائش الفساد التي بيعت على المزارعين، وكان سماداً مغشوشاً، أنه تراب طاهر أنصحك أن تأخذ منه وتوزعه على جميع مزارعي القرية حتى لو على شكل قوارير صغيرة.
- من الغد سآخذ منه ما أستطيع من أجل توزيعه على المزارعين.
أردف عصام قائلاً:
- ما قالته روعة على سبيل الدعابة، يحتفظ به كرمز يخصب العقول ولا يؤثر مباشرة في الحقول.
لم يفهم بسطامي شيئاً مما قاله عصام، وفكر بنسيان الموضوع والتوجه إلى موضوع آخر، لكن بدوي علَّق قائلاً:
- أريد أن أفعل كما فعلت يا دكتور، سآخذ معي عينة من التراب وأضعها في قنينة للذكرى ولعرضها على سكان القرية، لكن قل لي يا دكتور إلى متى سنظل محتفظين بالقنينة؟
- طالما الثورة متوهجة بشبابها ولم يتم اختطافها، إني أخاف عليها من الذين يفرحون بالحرية ويطالبون بها، لكنهم يقتلوها عندما يمسكوها.
- لم أفهم من تقصد.
- فئة أحبها، ويشهد الله على حبي لها، لكنهم يموتون من أجل فرض توجههم وطرحهم وإحساسهم الكبير بأنهم هم من يملكون الحقيقة.
- الآن فهمت،لكني أخاف من الفوضى الخلاقة ويستمر العنف، أو يكون هناك احتلال لبعض الدول كما حدث في العراق.
- إني أخاف فقط من سرقة الثورة وهم أكثر رجعية وتخلف من الحكام أنفسهم.
- بدأت تقتل عندي الفرحة بخوفك.
- المرحلة المقبلة مرحلة سلام، ولكن بعد الانتهاء من دمقرطة الأنظمة العربية وإيران.
- أريد منك أن تعطيني نسخة من روايتك الأخيرة "جاب الذيب من ذيله" كي أقرأها في أسرع وقت.
- من عيوني.
تحدث بدوي بصراحة إلى عصام عن علامات الفرح التي شاهدها على محياه، وكذلك على أغلب الوجوه المصرية في ميدان التحرير، مما جعله يسأل عصام قائلاً:
- هل لإسقاط النظام دور على نضارة الوجوه؟
- الحرية هي من يجلب النضارة للوجوه، إنها البلسم الشافي للتصحر السياسي الذي أصاب الوجوه العربية.
- كنت أموت في اليوم ألف موتة عندما أخرج في لقاء تلفازي أو أتحدث مع زملائي، لأني أعجز عن التحدث بصراحة لأني متيم بالبحث عن الحقيقة.
- أي حقيقة تتحدث عنها؟
- حقيقة الوضع العربي المزري برمته.
- إذن هذا هو السبب وراء نضارة الوجوه المصرية الآن.
- نعم، الفرحة عمت الجميع، جميع الوجوه المسحوقة، لكن كم هو مؤلم أن ترى هذه الأيام وجوه بعض المتنفذين في النظام السابق مسودة، الوجوه التي كانت تستخدم المساحيق التي أغتصبت ثمنها من عرق الغلابة.
بدأ بدوي يسترجع المنظر الذي ذكره عصام عن جده عطيه وحماره، لكنه لاحظ أنه ليس جميع من ركبوا الحمير يملكون شوكة شبيهة بشوكة عطية، فهل الحمير الأخرى مطيعة عدا الحمار العنيد الذي يملكه عطيه، أو أنهم يستخدمون طرقاً أخرى.
قرر بدوي أن يركب حمار المزرعة عند عودته للقرية، وسوف يستوضح من أبيه كل تفاصيل شوكة الجد عطية، فقد يكون لها استخدامات أخرى غير ما ذكر لهم عصام.
المشهد العام في العالم العربي أن عصام وملايين العرب يعيشون الآن صدمة حقيقة وضعهم، التي هي أغرب من الخيال.
(3)
تمنى عصام لو أن الشاعر الكبير الراحل نزار قباني موجوداً كي يكتب قصيدة عصماء عن ميدان التحرير، وما حدث له إبان الاعتصامات التي حدثت أثناء فصل الشتاء الممطر، ومصر لا تخفى على نزار التي عاش فيها فترة طويلة، وعن قصائده في الرئيس عبد الناصر، فبدأ عصام يتخيل أنه أمام قبر نزار يقول له:
- ليتك كنت موجوداً، وشهدت ثورة الميدان، لتكتب لنا قصيدة ترفع من هامة الشبان، وأخرى لمن كافحوا منذ الصغر، وهم الآن ثلاثة أضعاف عمر الشبان، قل لي هل عرفت شيئاً عن ثورات 2011، هل السماء أمدتك بمعلومات عما جرى في الميدان؟ أم أن الحوار بيننا حوار طرشان؟عشقت كل أبياتك السياسية لخلوها من النفاق ومطالبتها بالحرية، وابتعدت عن قصائدك عن كل مراهقاتك العشقية، أعرف أنك لست من المطبلين أو ماسحي الأحذية، سأترك عندك مجموعة من الأسماء لتكتب عن كل واحد قصيدة في ديوانك الجديد، شرارتا الحرية محمد بوعزيزي وخالد السيد، ووائل غنيم، من حرك المياه الراكدة والميادين العربية الأخرى، وأسماء أخرى سآتي بها غداً عندما تكون قد انتهيت من القصائد الثلاث، وان كنت مشغولاً فضعهم جميعاً في قصيدة واحدة، لكن دعني أكتب لك هذه المرة فصول ديوانك، وما عليك إلا الإبداع كما عهدتك.
- كنت أحلم بهذه اللحظة، انقل على لساني تبريكاتي وتحياتي للشعوب العربية، وقل لهم عليكم في التراحم فيما بينكم، فلا توجد مفردة أجمل من مفردة الرحمة، انتظروا قليلاً بضعة أشهر أو حتى سنة، سيظهر شعراء جدد نبتوا من رحم الثورة والحرية.
- يبدو لي أنك لن تكتب لنا شيئاً، فما علينا إلا الانتظار كما رغبت، أو أن أرحل إليك قريباً وأزودك بالأخبار وتفاصيل عن الشخصية المصرية الجديدة التي تحس من خلالها بنهضة فكرية وسياسية جديدة، انتظرني إني قادم بعد عيد الأضحى.
بعد مشاهدة أحوال الشباب التونسيين الذين هاجروا بطريقة غير شرعية إلى ايطاليا، خطرت في بال عصام فكرة مجنونة، عبارة عن هدية ومعها مشروع اقتصادي للشعب التونسي يقول إن الحرية وحدها لا تكفي وكنوع من رد الجميل على ما قدمه الراحل "محمد بوعزيزي"، أراد عصام أن يفعل شيئاً يخلد فيه اسم "بوعزيزي" في ساحة الحرية، وتستفيد منه المدينة الفقيرة التي احتضنت "بوعزيزي" منذ الصغر، مدينة دخلت التاريخ العربي من أوسع أبوابه، إنها مدينة "سيدي بوزيد".
أراد أن يقدم شيئاً يخدم هذه المدينة الصحراوية كما فعل الأمريكان لمدينة "لاس فيجاس"، بأن أوجدوا فيها أكبر مدينة للقمار في العالم، لكن عصام يعرف أن ما عمل في المدينة الأمريكية لا يصلح أبداً لمدينة إسلامية، وأن عقول بعض المواطنين لا تتسع للمسارح ودور السينما والغناء، فكيف بصالات القمار المحرمة شرعاً، إنه مدرك لخطورة مرض القمار الذي يصعب التشافي منه، أراد أن يكون هناك قطار يربط شمال تونس بمدينة "سيدي بوزيد" في المنتصف، أي من بحر تونس الشمالي بساحل صناعي في مدينة "سيدي بوزيد"، يقام من أجل خلق مدينة حديثة عليه، فيها فنادق مطلة على الساحل وصالة كبيرة وبها مدرجات يتوسطها تمثال "بوعزيزي" وعربتة التي تطلى بالذهب، بعد تغليفها بمواد معدنية لجذب السياح وتخليد الذكرى العظيمة.
عرض عصام فكرة المدينة والقطار على المحامية ريم كي يعرف ردة فعلها أولاً، وثانياً أن توظف خبرتها كمحامية في إقناع الآخرين، وأولهم السفير التونسي في القاهرة.
أيدت ريم المشروع الرائع لتخليد اسم مدينة شرارة الحرية العربية، لكنها اعتذرت عن تولي عرض الموضوع على السفير بحجة تجربتها الناقصة في المجلس، حيث خلقت عندها ندوباً في روحها يصعب إقناع الآخرين حتى يتم محو الصورة السيئة عن المجلس:
- اعذرني يا دكتور لو قلت لك أني لا أستطيع بسبب سمعة المجلس، وليس بسبب سمعتي، ولا أريد أن تخسر المشروع الجميل، لماذا لا تقوم أنت بالمهمة؟
- إني احترقت اشتعالاً طيلة السنوات الماضية من أجل مشاريع كبيرة على رأسها مشروع تطبيق الحرية والدفاع عنها، إني أخاف أن أصدم أو تتوقف الفكرة، ومن ثم أرجع إلى مربعي الأول، دعيني أحلم.
- حتى الحلم بحاجة إلى إرادة يا عزيزي، لماذا لا توكل المهمة للدكتورة روعة؟
- حاولت لكنها اعتذرت.
من خلال قراءة فكر عصام يتضح أن أهم معضلة واجهته هي الحرية، فهو لا يطمح إلى وجود حرية مطلقة، لأن الحرية المطلقة تكون ضمن الجانب السلبي للحرية، إنما يسعى إلى الحرية التي تقوم على الخطط العقلانية والمشاريع الإنسانية التي تتجاوز النظام ويعود خيرها على جميع فئات المجتمع عندها تتحقق الحرية الموجبة.
أغرب ما سمعه عصام هذه الأيام هو التوجه الجديد عند بعض فئات المجتمع التي ركبت الموجة الجديدة، ومنهم صديقه أو بالأصح زميله في قسم الإعلام الدكتور إبراهيم عنّا الذي تخلى عن القسم وأفكاره ليعمل مستشاراً عند وزير النفط، يكتب للوزير خطاباته الرسمية، ويتقاضى راتباً مغرياً أنساه كل مبادئه القديمة التي كان يعزف عليها قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراة، ويعود إلى أرض الوطن قادماً من الولايات المتحدة.
في السنوات الأولى من شبابه كان من الذين استهوتهم القومية العربية، فكان يقرأ لرموزها أمثال ساطع الحصري ومؤسس حزب البعث ميشيل عفلق وبعض المفكرين العرب، لم ينضم إلى أي حزب أو توجه إنما جلس أكثر من عشرين عاماً يدغدق أوراق الوزير وخطاباته وتدغدغه "مصاري" الوزير.
الآن وبعد استلام الثورة مقاليد النظام تغير الدكتور "عنّا" وأصبح ينتقد ولي نعمته السابق ويردد شعارات الثورة، مفرداته الآن هي مفرداته القديمة التي ظلت حبيسة داخله طيلة العقود الماضية، لكنها ظهرت للوجود بعد الثورة، وبدأ يعلق في القنوات الفضائية على بقية الثورات الأخرى في البلدان العربية، يصول ويجول من وازع قومي، لقد حلق فكره الذي كان يكتبه في خطابات الوزير على الصفر.
عصام على النقيض منه انقطع الآن عن الظهور في القنوات الفضائية، واعتذر مرات كثيرة من التعليق على الأحداث الجارية، الكل أصبح يتحدث عن مبادئ الثورة، فسقط عنه الوجوب الآن إذا قام بها البعض، عندما كان الحديث عن الحرية واجباً كان هو من القلائل الذين يتحدثون ويكتبون عن شجرة الحرية العظيمة.
بدأ مشروع المدينة التونسية الحديثة وساحلها الجميل الصناعي يختمر في رأس عصام على غرار ساحل صناعي مقام في اليابان شاهده في إحدى القنوات الفضائية قبل عدة سنوات، يريد أن يدفع عشرة آلاف دولار في هذا المشروع، خمسة منها تبقى كأسهم له، والخمسة الأخرى تبقى أيضاً أسهماً، ولكن لخمسة أفراد من التونسيين المحتاجين وعلى رأسهم سكان مدينة بوزيد وما جاورها، فهو يطمح أن يكون عدد المشتركين يتجاوز الخمسة ملايين مشترك من التونسيين وغيرهم من العرب، فلو صح توقعه لأصبح قيمة المساهمة خمسين مليار دولار تكلفة لقطار بو عزيزي ومدينة سيدي بوزيد الجديدة، إنه يطمح أولاً إلى تشغيل الشباب العاطلين في هذا المشروع السياحي العظيم الذي لا يقل العدد المتوقع للعاملين فيه عن نصف مليون شاب، وثانياً إلى تخليد اسم مدينة سيدي بوزيد وابنها شرارة الخير والحرية، ومن جاهد وقدم نفسه من أجل الحرية على مدار العقود الماضية، حجز مبلغ العشرة آلاف دولار لهذا المشروع ولكن كيف يفاتح به المسؤولين.
إن ما يزعج عصام هو الطرح الديني المتشدد حينما شاهد تقريراً يتحدث عن شابين ملتحيين في أحد شوارع العاصمة التونسية، ومعهما لافتة كتب عليها "لا للديمقراطية والرأسمالية ونعم للخلافة الإسلامية"، ويتحدث أحدهما عن ضرورة حجاب المرأة وتغطية وجهها، هذا التقرير أوشك أن يقتل مشروع عصام الاقتصادي بسبب ضيق الأفق عند هذه الفئة المتزمتة، التي لا تؤمن بغير الخلافة الإسلامية منهجاً سياسياً، والجميع يدرك خطورة الوضع السياسي التوريثي الذي يقتل العدل والقيم الإنسانية في العهد الأموي والعباسي والعثماني، وحتى في الوضع الحالي عندما تحولت الجمهوريات إلى ملكيات مثل سوريا، وهناك دول كانت في الطريق مثل مصر، وليبيا، واليمن، حتى أتت نكبتهم على يد عام القصب 2011 عام السقوط الدكتاتوري، إن السلطة التداولية الديمقراطية تخدم الإسلام أكثر من نظام الخلافة الإسلامية في العهود الماضية، كما بين ذلك من قبل حبر هذه الأمة الشيخ القرضاوي عندما قال "الحرية مقدمة على الشريعة".
يتوق شباب ميدان التحرير إلى محاكمة الرئيس السابق وأعوانه على ما ارتكبوه من مصائب، منها شهداء الثورة وسرقة أموال الشعب، لكن عصام يريد محاكمتهم على تحطيم إرادة الشعب لمدة تجاوزت الثلاثين عاماً، إنه لا يقف عند المحاسبة عن شهداء الثورة والسرقات كنوع من المحاسبة، إنما يركز على محاسبة القادمين أكثر بكثير من المرحلة الماضية، إن التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية يجب ألا تسمح بارتكاب أخطاء تقتل زمن مقبل يقوده شباب لا يقلوا ذكاءً عن بقية شعوب العالم المتقدم، لأن شباب الثورة يرغبون تسلق الجبال العالية، فزمن السكن في الحفر قد ولىّ.
(4)
أعاد التراب الذي يشاهده عصام كل يوم وأخذه من الميدان حقيقة تكوين الإنسان، فكأنه مطارد بمعرفة الحقيقة التي أرهقته في روايته السابقة "جاب الذيب من ذيله"، لكن درجة اليقين عنده عالية فيما يخص الوجود، حيث أدرك أن "أي مناهج بحث أو معارف يجب بالضرورة أن تفضي إلى الإيمان بالدين ولا تتناقض معه، لأن الدين حاكم العقل البشري بالمعجزة التي تتجاوز عوالم التجريب وسنن المادة، والغرض من البحث في تجليات المعرفة هو التساوق مع أهداف الدين، وليس التصادم معه أو الخروج عنه"، هذا الشعور أو التوجه يحمله معه منذ أن كان شاباً وحتى في توجهاته المعرفية الأخيرة التي سجلها في روايته "الذيب".
عذابات كثيرة ترافق عصام عند كتابة رواياته، يشق بنفسه طرق كتابة رواياته دون متابعة أو الإطلاع على أي رواية أثناء الكتابة، يرفض معالجات ومتابعة طرق الكتَّاب الآخرين، فيظل الألم يعتصره دون اللجوء للمراوغة أثناء رسم أبطال رواياته، الأحداث التي تحيط بشخص عصام جعلته واقفاً يرفض أن يحني ظهره ولو قليلاً أو لسويعات معدودات.
عكف بدوي على قراءة رواية "جاب الذيب من ذيله"، وانتهى منها خلال عدة ساعات متواصلة، كان يريد أن يعرف شيئاً عن عصام ويقترب من فكره الذي لم يسبق له التعرف عليه مباشرة أو عن طريق مؤلفاته العديدة.
سجل بدوي أول ملاحظة له على الرواية، وقال إنها أقرب إلى مدخل إلى عالم الفلسفة منها إلى رواية يتسلى بها، وإنها تصلح أن تكون ضمن مواد السنة الأولى التحضيرية في قسم الفلسفة، الرواية فيها "حشد لمقولات فلسفية وليس هذا مفهوم الرواية الفلسفية... روايات ألبير كامو أو سارتر التي تتحدث بعمق عن الفلسفة الوجودية لا يوجد فيها مقولات بقدر أنها سرد لأحداث تم الاستنتاج من خلالها على الوجودية".
في الصباح قابل عصام وذكر له ملاحظته الأولى، وقال:
- أريدك أن تعرفني على أصدقاءك الذين تحدثت عنهم في الرواية وعلى رأسهم منذر.
- تقديراً لقوة ملاحظتك الأولى التي تنم عن وعي كبير أقول سيكون لك ما تريد في نهاية هذا الأسبوع، يتم لم الشلة عندي وستتعرف عليهم.
- أشكرك سأرحل بعد ساعتين، ولكن في مرات مقبلة أتعرف عليهم، مدير الفندق الذي أعمل فيه يسأل عني باستمرار لأني الفني الوحيد المسؤول عن كهرباء الفندق في مدينة أسوان، والعمل فيه مريح جداً وساعات الطوارئ قليلة جداً، مما جعلني أتجه إلى قراءة الروايات.
رحل أبناء الخال الثلاثة بدوي وبسطامي والثالث الصامت محمود إلى أسوان، وطلبوا من عصام أن يزورهم في أقرب فرصة.
أرسل عصام روايته "جاب الذيب من ذيله" إلى صديقه الناقد (ع .غ) من أجل معرفة انطباعاته النقدية، ولكنه كان شحيحاً في ردة فعله، عدا أنه وافق عصام على أن الطرح المعرفي له يتماهى مع اليقين الذي يمتلكه بطل الرواية، وأن الرواية جادة تختلف عن روايات الإثارة، وهذا دليل على أن مشاريع عصام الثقافية تتحدث عن مشاريع كبيرة يملكها الجميع، ولم يتحدث مطلقاً عن رغبات خاصة به.
يعيش عصام هذه الأيام مرحلة لم يعشها من قبل، إنها مرحلة الكرامة التي بدأ يعيشها معه أبناء الأمة العربية، وكل دقيقة يفرح فيها يخالطه معها خوف من الذين قد يسرقون الثورة وتتراجع طموحاته قليلاً، إن خطورة السارقين إن تمكنوا لا تقل أبداً عن خطورة مبارك وأبنائه، بل ربما يتفوقون عليهم تحت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحجر قلبه برهة عندما شاهد وسمع في قناة تلفازية تونسية من أن هناك جماعة قد هجمت على مسرح فيه مجموعة من العائلات، وطالب المهاجمون بوقف المسرحية، لقد اعترف عصام قائلاً في بوح ذاتي:
- نحن أمة منحوسة ما إن نتخلص من مصيبة حتى ندخل في أخرى.
عرض عصام على روعة فكرة الذهاب إلى أسوان بالقرب من مدينة خاله بنبان قبلي، خصوصاً أن بدوي وعده بعمل تخفيض في سعر الإقامة، في الفندق قد تصل إلى ثلاثين في المائة:
- فكرة رائعة خصوصاً أن الإجازة الصيفية لم يتبق عليها إلا شهر واحد.
- أسوان مدينة جميلة، والفندق أيضاً رائع ويطل على البحر، كما أن أغلب مرتاديه من السياح الأجانب.
- إذن دعه يحجز لنا بعد شهر من الآن.
- كم المدة التي ترغبين فيها؟
- أسبوعان كفاية.
- على بركة الله.
يختلف عصام عن بعض المثقفين الذين يتحكمون في وقتهم ساعة بساعة حسب مزاجهم وحالتهم النفسية أكثر من قضية الارتباط في العمل، إنه لا يحب الذين يربطون علاقاتهم مع الآخرين بطريقة "أكل العنب حبة حبة"، إنه يأكل الآن العنب حبة حبة وفي بعض الأحيان يأكل أكثر من حبة حسب طبيعة الموضوع والمناسبة.
يسعى عصام إلى تبني مبدأ الفلسفة المثالية التي ترفع من مكانته الشخصية، وتحقق له أمام ناظريه "كمال الذات"، ويطمح أن يغرس في عقل ابنه أحمد الخير وطرد الشر، والفضيلة والابتعاد عن الرذيلة، وأن يكون قادراً على احترام الآخرين واحترام القيم الروحية، وفي ضوء ذلك كان في جمجمة عصام ثلاثة أسئلة تدور حول أحمد:
1- أي نوع من المعرفة يرغب أن يكون عليه أحمد؟
2- أي نوع من القيم يرغب أن يتبناها أحمد؟
3- أي نوع من الأفراد يمكن أن يكون عليه أحمد؟
يحاول عصام أن يفعل شيئاً من أجل ابنه الذي يتشكل يوماً بعد يوم من خلال ما ينفثه والداه، وأيضاً من خلال المحيطين به من زملاء وأصدقاء، الأبناء عادة يصاحبون والديهم، إذا كانت صدورهم تتسع لمطالبهم، ويتم التعامل معهم بقلوب تختلط فيها العاطفة مع المنطق، الآن سيتفرغ للاهتمام بابنه بعد أن تحقق الحلم الذي كان يتمناه عصام قبل مغادرة رحلة الحياة والمتمثل بكسر شوكة الطغيان، ولم يتبق له إلا الاطمئنان على بداية مسيرة الثورة، إلا أن هناك بعض الأمور التي أزعجت عصام هو استمرارية وزير الدفاع الذي خدم مبارك فترة طويلة، وأصبح رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهذا أزعج أيضاً شريحة كبيرة من المعتصمين لأنهم تواقون إلى تحويل السلطة العسكرية إلى سلطة مدنية في أسرع وقت لتطبيق العدالة الانتقالية التي تسرّع في محاكمة مبارك وأبنائه ورموز الفساد، مع الشكر الجزيل منه للجيش، فالجيش في نظره شيء والمجلس الأعلى شيء آخر.
توقف عصام عند الخبر الذي يبرئ الشرطية فايدة حمدي من فعلة الصفعة التي قيل إنها وجهتها لـ"بو عزيزي" في السابع عشر من ديسمبر2010، فظلت مذنبة في نظر الناس داخل تونس وخارجها، لم تكشف محاضر البحث وشهادة الشهود أي شيء يبرهن على ذلك، وهذه القصة كانت من صنيعة النظام التونسي السابق كي تكون كبش فداء.
إن هدير الثورات العربية تفعل الأفاعيل في أذهان الشعوب العربية التي تبحث عن الكرامة، والعدالة، فهناك عشرات السفاهات التي ارتكبتها الأنظمة العربية وما زالت ترتكبها من لم تتعظ من الدروس الحالية، يبدو أن سحر الكراسي أثَّر على أدمغة من يخططون ويرسمون طرق حياة شعوبهم دون الالتفات إلى أن مبدأ الوصاية قد عفى عليه الزمن وتجاوزه.
(5)
فرح عصام كثيراً عندما سمع بالاسم الجديد لحزب الأخوان "الحرية والعدالة"، وكأن هذا طمأنه قليلاً، لأنه يعرف ومقتنع أن الحرية ما تدخل في شيء إلا زانته وما تخرج منه إلا وحل الظلم والقهر والجور والقمع.
كان هناك اقتراح لعصام في روايته "روعة" إنشاء حزب إسلامي اسمه "الحب والحرية"، وهذا يبين أن الحرية عندما تكون قاسماً مشتركاً بين أي فئة أو جماعة أو دول تكون النتائج سليمة وقيمة، وهذا يقود إلى أن الجانب العملي في الدين الإسلامي سيكون قوياً ويقود إلى الرسالة العظيمة للإنسان المتمثلة في عمارة الأرض بالعلم والأخلاق السليمة، لا أن يتم اختزال الدين في ثقافة الموت وحدها.
وصلت إلى عصام رسالة على موبايله تفيد بأن يوم الجمعة المقبل سيكون هناك اعتصام في ميدان التحرير من أجل إنقاذ الثورة يشارك فيه أغلب فئات المجتمع، وكان رده بنعم سيكون ضمن من يحرصون على استمرارية دور الميدان، وقرر أيضا أن يأخذ معه أحمد المتعهد بأخذ بعض تراب الميدان كدليل على أن تراب الميدان لن يموت، طالما ترتاده وتعتصم به الملايين، وسيظل متوهجاً تحت أقدام دعاة الحرية، يرى عصام أن الثورة لم تكتمل، إنها نصف ثورة، فالثورة الحقيقية لم تبدأ بعد، إنها الآن انتفاضة خلاقة.
يرى عصام أن الحرية تخنق أشياء كثيرة مثل الفساد العلني والمخفي منه، والظلم والاحتكار والكذب والدجل، وأساليب الإجرام والنهب وإرهاب ما يسمى بأمن الدولة وهو يمارس إرهاب مواطني الدولة، لكنه يرى أنه متى ما خنقت الثورة المسرح والسينما والموسيقى والغناء قل عليها السلام، في حالة الدول العربية الآن يجب أن يكون التسامح ديدن المرحلة المقبلة كما فعل أسطورة جنوب أفريقيا "مانديلا"، الذي خلده التاريخ بفعل التسامح أكثر من تخليده مع معاناته في السجن لأكثر من سبعة وعشرين عاماً، إن تقليص أدوار رجال النظام السابقين وتهميش أدوارهم أفضل بكثير من الانتقام منهم، الحرية هي أن تغلق ملفات الماضي لأن عقارب ساعة الحرية لا ترجع إلى الوراء، فالشخص الكريم ليس "الذي يعطي فقط، بل الذي يسامح أيضاً"، إنها مقولة قديمة لكنها صالحة في أي زمن لعلو مكانة التسامح في حياة الإنسان، وللأديب "ميخائيل نعيمة" مقولة قريبة من ذلك بُهر بها عصام كثيراً "عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار، ولا يغسل قلبه مرة واحدة في السنة"، التسامح العلاج الرئيس لمرض الانتقام غير المبرر الذي يتجاوز القانون، سواء كان في الأمور الخاصة أو الشأن العام.
تألم عصام كثيراً عندما أحس أن إحدى الفئات الرئيسة التي كانت مواظبة في حضور الاعتصامات السابقة غابت هذه المرة، لأنها حسب ما تتصوره أنها قد حققت ما كانت تصبو إليه فلم يعد هناك حاجة لحضورها، وأنهم أناس قانعون جداً بما حصلوا عليه من خلال التصويت على تعديل الدستور، وهذا ما كان يخشاه عصام، لكنه فضل مبدأ التفاؤل على التشاؤم والانتظار حتى ينجلي الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لكن في الجمعة التي تلتها، حضر الغائبون وتجاوز عدد المعتصمين المليون، اشترك المعتصمون في البداية بكل أطيافهم، لأنهم متفقون على إسقاط النظام، وتحقق لهم المطلب الشامل، ثم بدأت تظهر مطالب كل فئة على حده، وهذه قد تكون ظاهرة صحية إذا غابت عنها المصالح السياسية، فمطالب شباب الثورة شاملة استفادت منها الجماعات الإسلامية مثل: إسقاط النظام ومحاكمة رجاله، وتغيير الدستور والإفراج عن سجناء الثورة وتحديد مواعيد الانتخابات وغير ذلك من المطالب السامية، لكن جماعة الإخوان انشقت عنهم في قضية الدستور وصوتوا من أجل تعديل الدستور القديم.
سكنات وحركات عصام موجهة إلى الميدان، وأيضاً إلى ما حدث في بقية الوطن العربي، ولكن الذي أزعجه أن ثقافة الاعتذار أو بالأصح شجاعة الاعتذار، لم تتمكن من أن تسكن في روح الأنظمة العربية وتعترف بالفشل في تحقيق التنمية، وفي المجالات السياسية، خصوصاً حرية التعبير والصحافة، وأن الشخصية العربية مهانة ومحتقرة في أغلب الأماكن والمحافل الدولية، لكنها الآن ارتفعت قليلاً وعندما تتعافى معافاة كاملة، قد يطول ذلك في نظر الباحثين والمفكرين ربما يصل إلى عشر سنوات تقريباً، لكن في نظر عصام يرى أن ذلك لن يصل إلى ربع الفترة التي توقعوها لأن العفريت خرج من القمقم، وأفاق من سباته، فمنذ فترة وجيزة كان الخوف مسيطراً على الشعوب العربية، والآن بدأت الشعوب تحطيم ركائز الخوف وإخراجها من أحشائها.
يرى عصام أن للدول الخارجية العظمى ثقل كبير في دعم الثورات العربية وتركها تواجه قدرها دون مواجهتها أو حرفها عن مسارها، فإن الشعوب العربية ستنتصر في أسرع وقت لأنها تواقة إلى الحرية.
تحدث عصام مع روعة عن أنه سيلفت نظر بعض شباب ميدان التحرير حول ضرورة مطالبة الحكومة بسرعة تعيين مرشح لمصر لتولي منصب أمين الجامعة العربية قائلاً:
- يجب أن نرجم الأمين الحالي للجامعة "موسى" بالبيض، لن أقول لك بالحجارة لأني أكره العنف، على الرغم من تخفيف حدة نبرته الصوتية عما كانت عليه عندما كان يعيش في جلباب أسرة آل مبارك.
- لماذا هذا التحامل عليه؟
- لست متحاملاً عليه، لكن لا يوجد له أي ميزة معنوية، فقد خدم النظام السابق كوزير للخارجية قبل أن يصبح أميناً، كان ترساً في ماكينة نظام فاسد.
- هو لا يريد الاستمرار كأمين للجامعة، يريد ترشيح نفسه كرئيس للجمهورية.
- لا عليك لن يحصل على أي نسبة مشجعة، ولن يصوت له إلا بعض فلول النظام السابق.
- لو كنت مسؤولاً عن ترشيح ثلاثة لمنصب الجامعة العربية فمن ترشح؟
- هناك وجوه جميلة من الناحية الأخلاقية كثيرة، وغاب عني الكثير، لكني أذكر على وجه السرعة الدكتور حسن نافعة، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور عمرو حمزاوي، والأديب صنع الله إبراهيم، ومن خارج مصر الدكتور برهان غليون، وهيثم مناع، والدكتور محمد المسفر.
- أكيد تأثرت بمواقفهم الحالية.
- أعرفهم من قبل عزل الرئيس، انهم سيجعلون الجامعة العربية تخافهم لصدقهم، وسيقهرون سنين الكذب والدجل، أرى أن أمين الجامعة يجب أن يكون أقوى من أي زعيم عربي، لا أن يكون عبارة عن سكرتير عند رئيس مصر كما فعل موسى.
انتهى النقاش بين عصام وروعة حوالي الساعة الواحدة ظهراً، وانشغل كل واحد منهما في عمله، وفي الساعة الثالثة عصراً تفاجأت روعة عندما رأت وسمعت من نشرة الأخبار أن مصر رشحت الدكتور مصطفى الفقي أميناً للجامعة، وفي انتظار موافقة الدول الأخرى، فلم تمض على مناقشة الموضوع مع عصام ساعتان وإذا بالموضوع يثار، فجع عصام بهذا المرشح الضعيف والمحسوب على الحزب الوطني الذي تركه بعد أحداث 25 يناير، وكأن فكرة عصام وئدت قبل أن تبدأ ويعرضها على شباب الثورة.
ذهب عصام بعد ذلك إلى أخذ نوع من القيلولة المتأخرة لإراحة أعصابه من الخبر المدمر لنظرته المستقبلية للجامعة العربية، وفي اليوم نفسه سمع عصام ما قاله وزير خارجية العراق زيباري بأن تكلفة عقد القمة المقبلة في العراق سيكلف 460 مليون دولار، لو صرفت على مشاريع خدماتية للشعب العراقي لكان مردودها أفضل بكثير من اجتماعات لا تسمن ولا تغني، أشياء مشينة ومخجلة حدثت طيلة السنوات الماضية في أروقة الجامعة العربية التي كرست الاستبداد والقمع والتآمر، لكن مع عهد الحرية المقبل سيحسب للجامعة ألف حساب، فجميع مرتكزات الوحدة موجودة بين الدول العربية وعلى رأسها وحدة روح الشعوب العربية التي جعلت عصام يتابع جميع أحداث الثورات العربية وكأنها تحدث في مصر.
تألم عصام كثيراً على حظوظ العراق بشكل عام، فمنذ آلاف السنين والمصائب تتعقبه، إلا هذه المرة التي تعثرت القمة العربية فكان وجه العراق جميلاً على الشعوب العربية، حيث تحفظت دول الخليج على قمة بغداد، ويأمل عصام أن يتم التأجيل حتى تكتمل الوجوه الجديدة في مسرح السياسة العربية، من أجل تقديم خطط ومشاريع عربية وحدوية تقوم على الحرية كأساس متين، وفي هذا السياق هناك العديد من الدروس والعبر التي يجب أن نتفاداها في المرحلة المقبلة، وعلى رأس ذلك أن تكون السلطة الرابعة "للصحافة" في مكانها الطبيعي، وتلعب الدور المنوط بها، مع أخواتها الأخرى الإذاعة والتليفزيون والانترنت، البسطاء لا يحلمون إلا بكسرة خبز وكرامتهم التي لن تتحقق إلا تحت مظلة الحرية من خلال قوانين تكفل حقوقهم على أرض الواقع لا في الدساتير التي هي عبارة عن حبر على ورق، أعلنت الجامعة العربية عن تأجيل القمة إلى عام 2012.
(6)
مازالت سحابة الحب واقفة ترسل رذاذها الخفيف على جبيني العشيقين اللذين أمضيا ما يقارب ستة عشر عاماً وهما في ود والتصاق، لأن الأقدار ساعدتهما في التوافق في نسب الرغبة في العطاء سواء كان حسياً أو معنوياُ، فالتوافق في درجة الرغبة الجنسية منعت الطرفين من أن يشكو أحدهما من الآخر، وأغلقت باب النقص أو الزيادة عند أي منهما، فحبال المودة ستظل حاضرة إلى الأبد، ولم يكن للنضج المعرفي دور قوي في إنجاح العلاقة، لأن عصام أدرك ذلك منذ فترة طويلة، ودعمت أخيراً من خلال الكتاب الذي أطلع عليه للمؤلف الأمريكي "اندرو شافير" الذي بين أن "العقول الكبيرة والقلوب المحطمة مترافقان على الدوام، وكلما زاد العقل لمعاناً أصبح الفشل أكثر صعوبة... ولا يمكن أن تملك الحب والحكمة بذات الوقت"، حيث سرد المؤلف الكثير من القصص المحزنة التي أوصلت الكثير من الفلاسفة العظماء من مختلف العصور إلى الجنون والانتحار، عندما أحبوا وتزوجوا، ووقف عصام عند بعض الأسماء مثل: جون كالفن، وديدرو، ولوس الوستير، واوغست كونت، و ألبير كامو، وبرتراند راسل وآخرون، وقد كانت نصيب الخيانة والشك من أبرز مكونات المشاكل التي حطمت زواجات الفلاسفة الذين لم تقيهم اتساع مداركهم، حيث ذكر عصام على غلاف روايته "جاب الذيب من ذيله" أن "الظروف القاسية التي مر بها بعض الفلاسفة والمفكرين ليست نتيجة قطعية بسبب عجزهم عن الإجابة على تساؤلاتهم الفكرية التي طرحتهم أرضاً، إنما نتيجة لطبيعة التكوين البشري الذي ينزع إلى الجنون أو الانتحار أو الإدمان أو الإجرام أو الجنس، حتى لو لم يعمل الإنسان عقله".
يظل الإنسان ضعيفاً بعض الأحيان حتى أمام أبسط القضايا، فقد تؤرقه بعض الكلمات من أقرب المقربين إليه إن كان له حس مرهف تجاه ما يقوله الآخرون، وهؤلاء المرهفون من ينتمي إليهم عصام، لأنه قد بنى توجهاته مع الآخرين على المكاشفة وعدم المراوغة، إنه كتاب مقروء استطاعت روعة أن تقرأه مرات عدة في الشهر الأول من زواجهما.
عاد عصام وأسرته في ساعة متأخرة من الليل من مدينة أسوان بعد أسبوعين أمضوها هناك بالقرب من أمين وأولاده، استهلك منها أمين وضيوفه أجوازاً من الحمام والأرانب وذكور البط، وبعضاً من السمك أحضره أمين من أسوان، حيث إن القرية لا تبعد كثيراً، حوالي نصف ساعة في السيارة، فحصت روعة عند عودتها موجودات المنزل، ووجدت أنه لم ينقص منها شيئ، ونام الجميع، لكن المفاجئة حدثت عندما وجد عصام كل شيء في مكانه عدا قارورتي التراب.
تذكر عصام أنه في اليوم الذي سبق السفر هاتف مؤسسة لديها خدم يتم تأجيرهم بنظام الساعة، هناك احتمال كبير جداً ظهر في الصورة أن العاملة قد مدت يدها وأخذتها اعتقاداً منها بأنها ذات قيمة ثمينة، يمكن الاستفادة منها كعلاج أو ما شابه ذلك، تذكر عصام أنه فعلاً لم يلحظ القارورتين يوم السفر، هذه المرة الأولى منذ عدة سنوات يتم فيها سرقة أشياء تعود لعصام.
هاتف رجل منزل عصام:
- هل هذا منزل الدكتور عصام؟
- نعم أنا هو، ماذا تريد؟
- باعت لي امرأة قبل عدة أيام قارورتين تعتبرهما مهمتين وترغبون في شرائهما.
- كيف عرفت أنهما مهمتان بالنسبة لي؟
- المرأة تقول إن هذه التربة توزن بالذهب، وإلا لما وضعتها في زجاجتين جميلتين، وقد اشتريتهما منها بألفي جنيه، فبكم تشتريهما مني؟ إني صاحب محل آثار وتحف.
- شيء جميل أن تكون الزجاجتان في متحفك، لا أريد شرائهما بعد أن تم اختطاف التراب، وأنت تتستر على السارقة.
- لكن قل لي ما هذا التراب؟
- إنه تراب الفلسفة يا عزيزي.
- وهل للفلسفة تراب، أم أنك تستخف بي؟
- التراب أعظم شيء في الوجود، ولا يستكثر عليه أن يكون له فلسفة يا غبي.
- أنا لست غبياً، أنت مجنون ومجنون من يتحدث معك.
صرخ بعدها عصام صرخة قوية استيقظت على أثرها روعة من نومها، إنه كان يحلم ذهب بسرعة إلى مكتبه للإطلاع على التراب، فوجده في مكانه لم يتعرض للسرقة.
يسيطر القلق والشك على عصام خوفاً من سرقة الثورة، فتحولت الثورة عنده إلى قارورتين من التراب العظيم، قارورة سيحتفظ بها، وأخرى سيهديها إلى شخص قريب من قلبه، لقد زاد عنده الخوف من اختطاف الثورة، ويبدو أن الخوف ترسب في أقاصي وجدان عصام، منذ أن كان صغيراً، بسبب وراثي من أمه، أو أن ذلك نتيجة لطبيعة الظروف المحيطة به، لكن والدته صبحية كانت ضحية الخوف الذي كان ينهش في جسدها، حتى آخر لحظة من حياتها.
انقطعت الرؤى التي كان يشاهدها عصام لفترة تجاوزت الستة أشهر تقريباً، لكنها هذه المرة عادت بشكل آخر ليس كما تعود عليه في السابق من خلال الرؤى التنبؤية، التي تقدم له شيئاً من أسرار الحاضر القريب. إن القراءات المعرفية التي اطلع عليها سابقاً جعلته يدرك أنه من العبث البحث في دهاليز الحقيقة، متأرجحاً بين مقولة رورتي الخاصة "بتساقط أجزاء الحقيقة شيئاً فشيئاً من خلال العلم"، والزمن مفتوحة أبوابه، وبين الرجل الآخر مصطفى محمود، الذي كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على تساؤلات الإنسان، وأصيب بخيبة أمل عندها بحث في الأديان السماوية والأرضية واستقر به المطاف عند القرآن الكريم.
زار عصام وروعة ريم المحامية بعد أن رجعت إلى عملها في مكتبها للمحاماة مع شريكها النابلسي، حمل عصام معه هدية مغلفة تفاجأت بها ريم وكانت عبارة عن الزجاجة الثانية من تراب الميدان كهدية يقول من خلالها عليك العمل من خلال وجود هذه الزجاجة المباركة، شارك في اللقاء المحامي النابلسي وشكر عصام على ذوقه الرفيع.
تنفس القضاء في مصر الصعداء بعد أن داست أقدام المتظاهرين على الظلم والفساد المستشري في كل زاوية من زوايا النظام السابق.
رجع محمود ابن أمين إلى السعودية بعد أن قضى شهرين في مصر، هو سائق خاص لدى إحدى الأسر منذ ما يقارب العشرين عاماً، قضى من إجازته عشرة أيام في القاهرة، وبقية الأيام قضاها في بنبان، اشترك مع بسطامي في مشروع شراء بعض الإبل من السودان، ومن ثم ذبحها وبيعها على سكان القرية وما جاورها، إن لحم الجمال أرخص بكثير من الضأن والبقر، باعا حوالي اثنان وعشرين جملاً مذبوحاً كان ربحهما تجاوز عشرة آلاف جنيه، تقاسماها بالتساوي، وضع بسطامي المبلغ الذي كسبه أخيراً مع محمود في حساب ابنه هشهش.
(7)
تعهد المعتصمون بأنهم سيرجعون إلى الميدان في حالة اختطاف الثورة، لقد طالت خطاهم الشجاعة وتقلصت مساحة الخوف لديهم، أما بالنسبة لعصام فما زال غير واثق من بقايا النظام السابق، ومن الرجعيين الذين لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، كان الاستفتاء بنعم على تعديل الدستور السابق ضربة قوية وموجعة لشباب التغيير الذين يودون مسح الدستور القديم من الوجود، لكن ذوي التوجهات الإسلامية ومن توافق معهم في الهدف مثل حزب الوسط الذي ركز على شعاره المتمثل بـ" الوطن قبل الايدولوجيا... ومن التحرير إلى التعمير"، وكان يهدف إلى تقصير فترة وجود العسكر، حصدوا سبع وسبعين في المائة من النسبة، إذن الأيام المقبلة ستكون حبلى بالأحداث.
إن اقتحام الشباب للمراكز الأمنية بعد أن تنامى لأسماعهم من إحراق بعض الأوراق والأدلة التي تبين فنون المراقبة والمتابعة لأغلب شرائح المجتمع وكتابة التقارير عنهم، كان رجال التحريات لا يكلون ولا يملون من إقحام أنوفهم في كل صغيرة وكبيرة لمن تقع أسماؤهم بين أيديهم.
افتقد عصام صديقه منذر لعدة أيام وانقطعت أخباره، لم يكن منذر بحماسة عصام في سماع تقاسيم سيمفونية الثورة التي عزفت في ميدان التحرير، ولم يغب منذر عن بال عصام طيلة أيام الأحداث، لكن الأمر لا ينظر إليه على أنه مرحلة إلى الأمام، فقد يكون له عواقب وخيمة حسب إحساس منذر، يجمع عصام قواه عله يستشرف الأيام القريبة المقبلة، يريد أن يبارك لنفسه بالثورة أو أنه من الزاوية الأخرى يندب حظه ومعه جميع من يتطلعون إلى المستقبل بنظرة تفاؤلية، لكن يقنع بعض الأحيان بما قاله بعض المحللين من أن التحول إلى نظام ديمقراطي يحتاج إلى وقت طويل كمرحلة انتقالية، لوجود خلافات عميقة حالية، فلا بد من فتح الباب لكيانات جديدة تعبر عن نفسها وحضورها في الساحة الإعلامية لتشكيل رأي عام لأن الأحزاب القديمة غير معبرة عن فئات المجتمع، لأنها كانت انعكاس للنظام السابق على الرغم من تجاوزها العشرين حزباً.
هناك العديد والعديد مثل عصام يعيشون هذه الأيام فجر الحرية في مصر ويتنفسون هواءها.
تعيش روعة فرحة الثورة من خلال مرآتها التي يوجد فيها صورة عصام المبتسم والأنيق، صارحته:
- تزيد حماستك ومعها قلقك كلما دنوت من تحقيق حلمك المتمثل باقتطاف ثمار الحرية، فشجرة الحرية دون ثمارها لا تساوي شيئاً.
- كلامك صحيح مائة في المائة، فالقلق مصاحب للفرح عندي، والقلق عندي ليس مربوطاً بمصر وحدها، إنما مربوط بجميع أبناء جلدتي في الوطن الكبير، لكن مصر بالنسبة لي هي رأس الجسد.
- وهل يخفى علي القمر، في نفس الوقت الذي تفكر فيه في ميدان التحرير تفكر أيضاً بمدينة سيدي بو زيد ومدن عربية أخرى.
- على رسلك إلى الآن لم أفعل شيئاً من أجل مدينة سيدي بو زيد.
- لقد أمضيت الساعات تلو الأخرى في التفكير فيها وعرضت مشروعك على أكثر من شخص، أليس كذلك؟
- نعم، لكنه مشروع استثماري أكثر من كونه لبنة من لبنات الحرية.
- برب الكعبة، لو سئلت مثلاً وأمام الجمهور، قد يكون من خلال قناة فضائية عن أهمية المشروع، إلا ستصل إلى مرحلة أن العشرة آلاف دولار كلها هدية ولن يكون لك أسهماً منها كما ذكرت في خطة مشروعك.
- نعم فكرت في هذا، ولكن حدثيني كيف توصلت إلى ذلك؟
- أن فترة خمسة عشر سنة كافية بأن أعرف توجهاتك، وحتى أي حركة من حركاتك، لأنك كتاب مفتوح وسهل قراءتك، خصوصاً أن قاعدتك الأساسية التي تنص على أن الحرية لا يمكن المتاجرة بها.
انتهى النقاش وذهبا إلى الصالة لمتابعة الأحداث العربية المستمرة والمستعرة من خلال التلفاز.
لا يعرف عصام ماذا يفعل هذه الأيام، هل ينتظر حتى تتكشف له وجوه الثورات في الوطن العربي؟ أم يسير في مشروعه ويتوجه إلى تونس والعمل على مقابلة بعض المسؤولين هناك عن إمكانية تنفيذ المشروع، فلو كان يعرف أن المشروع سيقابل بالترحيب والعمل على تنفيذه لأقدم على السفر في الحال، لكنه يخشى أن فكرة المشروع قد لا تلاقي ترحيباً هناك ويعود للمرة الثانية خائباً، أو بالأصح خالي الوفاض، لقد زار تونس قبل حوالي ثلاثين عاماً من أجل فكرة لم تختمر في ذهنه ثم عاد، طلبت روعة من عصام أن يؤجل ذهابه إلى تونس حتى أقرب إجازة كي تذهب معه، رحب عصام بطلبها وتم تحديد موعد السفر مع بداية الإجازة المقبلة التي لم يتبق عليها أكثر من شهرين.
يمضِّي عصام معظم وقته في متابعة الأحداث العربية عبر القنوات الفضائية التي تتنافس فيما بينها من أجل الحصول على أكبر درجة من المصداقية، هناك قنوات أخذت دور المشجع والمحرض على الوقوف في وجه الأنظمة، وتجاوزت في ذلك حدود المهنية، وقنوات أخرى تحاول أن تكون مهنية، لكن عصام يتابع الجميع المحرض والمهني من أجل الوقوف في وجه التسلط القديم الذي لم تغير فيه رياح العولمة في السنوات الماضية التي أثرت على بلدان ومجتمعات عديدة.
أصبح بدوي يتصل بعصام بشكل شبه يومي، حيث دار آخر حديث بينهما عندما تحدث بدوي إلى عصام قائلاً:
- أريد أن أكتب رواية، لكن عنوانها قريب من روايتك السابقة، فهل تسمح لي أن أسميها "جابوا الريس من ذيله".
- أضحكتني هذا الصباح، إنه عنوان شيق وجميل وهو مثل موجود في ثقافتنا المصرية، من حقك استخدامه وأشجعك على ذلك من كل قلبي.
- لي أكثر من أسبوع ولم أكتب إلا ثلاث صفحات.
- لا عليك ابدأ ولا تستعجل، كل شيء في وقته جميل.
- عنوان روايتك ووضعنا الحالي ووجود الحكومة في سجن طرة، أشياء لم تخطر على بال أحد.
- هذه نهاية الطغاة.
انتهى الاتصال بينهما وسعد عصام بطلب بدوي، وأحس أنه وضع قدمه على بداية الطريق.
في السابق كان الرئيس هو من علقهم من آذانهم في الميادين وفي الجامعات والمنازل وداخل المؤسسات الإعلامية، يجلدهم بقانون الطوارئ ويطلق أيدي الحرامية من المتنفذين بسلب لقمة العيش من الفقراء وإيداعها في حسابات صفوة النظام من خلال مجالس الامتيازات التي أفشت ونشرت العفن والفساد بين الناس، التحدي الكبير يكمن الآن في أن تظل شوكة عطية جاهزة للغرس في ظهور من لا يقدرون ثورة الشباب، ومن معهم من كبار السن.
(8)
بدأ عصام يسترجع قراءاته الفلسفية من واقع ميدان التحرير ليدرك أنَّ الفكر العربي بدأ يثبت خيمته في عالم التطور، معتمداً على الجانب العقلاني الذي استلهمه من الرفع من قيمة العقل، حتى في أمور العلاقات الاجتماعية من أجل إيقاظ النهضة من سباتها طيلة العقود الماضية، وتحريك الوعي باتجاه التغيير، ومحاولة فهم العالم الخارجي فهماً صحيحاً لا يقوم على العنف ولا يقبل الإكراه ويتمترس خلف الحجة والمنطق.
كانت الثورات ترمي بثقلها على الأرض العربية والغرب بين المصدق والمكذب، كيف حدث ذلك لشعوب كانت مقموعة طيلة العقود الماضية، والغرب يقطف خيراتها بصمت، ويتعامل مع قادتها بكل أدب واحترام دون الاكتراث بما يفعلونه القادة من قتل وتنكيل بشعوبهم الخانعة والخاضعة لهيمنتهم، حتى أتت عبارة الرئيس التونسي "فهمتكم" التي كتبها تاريخ الحرية العربي بماء الذهب، ثم أتت كلمات ذلك الصحفي في الشارع العام وهو يصرخ بأعلى صوته "هرب ابن علي"، يرى عصام أن العالم العربي يعيش صدفة تحرر منها الناعم كما في تونس ومصر ومنها الخشن كما في ليبيا وعلامات الاستفهام على البقية.
كان عصام يرغب لو أن هذه الثورات أتت في الفترات السابقة من القرن العشرين، لكانت كفتنا حروباً اندلعت في المنطقة أكلت الأخضر واليابس، كان يتمنى لو أن ثورة مصر أتت في عهد عبد الناصر أو العهد الذي قبله عندما كان سعر الجنيه المصري في العلالي، أما الآن فالجنيه السوداني أرفع قيمة من الجنيه المصري، فدخل الفرد عامل مهم في إنجاح الثورات السياسية والثقافية، يتمنى عصام لو أن هناك تلاقحاً في اقتصاد مصر مع اقتصاديات دول الخليج والدول الأخرى المنتجة للنفط، ومع حلول العهد الجديد في مصر حل عليهم بؤس العاملين في ليبيا والذين يشكلون دخلاً جيداً حوالي مليون ونصف عامل، وقد لا يرجعون ثانية بسبب تغير الظروف للمرحلة المقبلة.
عصام مقتنع تماماً أن تراب الميدان هو المضاد الحيوي لخلق الشخصية المصرية الحديثة، التي لا تسقط بسهولة في دائرة التخلف والانحطاط، لكن هذا التراب بحاجة إلى تحريكه بين الفينة والأخرى من خلال أقدام شكّل وعيها مفردات جميلة مثل الحرية والجمال والمنطق، ويمكن أن يلاحظها المشاهد من خلال الندوات التي تقام وتحصل على تغطية إعلامية، فتجد كل فريق يدافع عن فكرته وآرائه بطريقة يحترم فيها الخصم أو الجماعات الأخرى دون أن يقوم بتسفيه آرائها كما كان يفعل النظام السابق.
عاد عصام الآن ولم يعد، عاد إلى معشوقته الحرية التي أفنى سنوات من عمره ينشدها، وفي الوقت نفسه ظل موجوداً في معجبته الفلسفة، وكحقيقة واضحة لا يوجد أي بذرة خلاف أو شقاق بين المحبوبتين ، إنهما وجهان لعملة واحدة تصدر من بنوك المنطق، والعقل والجمال والصدق والموضوعية، أحست روعة بشيء من التغير طرأ على شخصية عصام بعد أن داوم على الذهاب لميدان التحرير، أمّا ابنها أحمد فقد بدأ يلتصق بأبيه أكثر وأكثر ودخل في سن أكبر من سنه.
بدأت ريم تراجع نفسها بعد تكليف الدكتور عصام شرف بترأس الحكومة، وهو الذي عمل من قبل وزيراً للنقل في حكومة سابقة لدى الرئيس السابق مبارك، فترة قريبة من طول الفترة التي قضتها في مجلس الشعب، وقد تم اختيار عصام من قبل الثوار :
- ألا يحق لي أن أعمل مع ثوار الميدان في التظاهرة المقبلة من أجل إنقاذ الثورة.
لكنها قررت أن تعرض فكرتها على عصام عله يجد لها مخرجاً من الحالة السيئة التي تعيشها الآن.
يعيش منذر مرحلة ضبابية، خارج نطاق السيطرة عليها، لم يكن من المنتمين للنظام السابق، وأيضاً لم يحضر إلى ميدان التحرير، وبعبارة أخرى لم يكن أحد خريجي ميدان التحرير لعام 2011، عينات كثيرة هم من على شاكلة منذر، مواقفهم وتوجهاتهم غير واضحة حتى الآن، وقد تتبلور توجهاته عندما يجد الحزب الذي يحقق له رغباته لاحقاً، عطل منذر بوصلة عقله المعرفية منذ بداية الثورة في 25 يناير، لقد أصيب بدهشة قوية جعلته لا يحرك ساكناً، أحجم عن لقاءاته الأسبوعية الثقافية التي يعقدها مع طلابه والمعجبين بطرحه الفكري في قهوة الأنس، والتي قد حضرها عصام لمرات قليلة ثم انسحب.
المرحلة الحالية التي يعيشها عصام أخف بكثير من مرحلة سابقة عندما كان غارقاً إلى أذنيه في المفاهيم والمصطلحات الفلسفية في جو سياسي لا يعرف نسمة الحرية، يحاول أن يتلمس الحقيقة التي عصت على من قبله من فطاحلة الفلسفة طيلة العقود الماضية، الآن هو بين ميدان التحرير وانعقاداته المفتوحة، ومدنية الحرية التي يطمح أن يشاهدها على أرض الواقع.
فرح الخال أمين بما آلت إليه الأحداث في مصر، لأنه كان من العاشقين والمعجبين بخطابات الرئيس الراحل عبد الناصر، وأنه كان يعتقد أن قيمة المصريين في زمن عبد الناصر لا يساويها قيمة في الوطن العربي، لكن عصام يرى أن نظام عبد الناصر كما اعترف به بنفسه" بأن نظامه كان دولة مخابرات"، ولم يبن نظام ديمقراطي على الرغم من أن الظروف كانت مناسبة لذلك، والاقتصاد المصري حينها كان في وضع ممتاز، لكن قضية القومية العربية دغدت مشاعره، وأصبح لسان حاله يردد:
بلاد العرب أوطان من الشام لبغدانِ ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوانِ كان الشعور القومي عنده متقداً دون الاتكاء على مؤسسات المجتمع المدني، فمات وسقطت الشعارات والمجتمع في مستنقع العسكر، وأتت رياح التغيير في الألفية الثالثة، وتم سحقها والدوس على كرامتها بالأقدام من قبل آل مبارك.
تكلم عصام مع بدوي في مشروع الرواية التي ينوي بدوي كتابتها قائلاً:
- آمل أن تنتظر قليلاً حتى يصبح عندك أكثر من ذيل رئيس.
- الرؤساء كثر يا عزيزي ولا أستطيع تجميع أذيالهم، دعني مع ذيل واحداً، والآخرون هم من يكتبون رواياتهم عن الأذيال الأخرى.
أغرت الثورات الكثير من الشباب والكبار الانخراط فيها، فهي تحمل سحراً لا شبيه له، إنها لذة لا يفوقها لذة في وقتنا الحاضر، فمن كان يتصور أن شعباً تجتاحه القبلية والطوائف والأمية، وينهشه الفقر ويستمر معتصماً في الميادين والشوارع لأكثر من ثلاثة أشهر، وأكثر من نصف سكانه مسلحون، ويلتزموا الهدوء، إن الفلسفة التي فيها منطق وعقلانية وجمال تنتصر في الآخر، كان عصام يتوقع أي شعب عربي آخر يفعل ذلك عدا اليمن، ولم يمل المتظاهرون طيلة الأشهر الماضية وهم يستخدمون بعض الأحيان أغاني تقوي عزيمتهم وتجعلهم لا يغفلون عن ثورتهم الملتهبة في وجدانهم وأحاسيسهم، لا يشغلهم أي شيء عن المطالبة برحيل النظام.
مع كل قضية تطلع عليها ريم يختلس نظرها وبسرعة هدية عصام التي يفوح منها نسمات كلمات الحرية والعدالة التي كان يرددها المعتصمون، إنها الآن مخلوقة عزمت على فتح صفحة جديدة مع الحالة الانتقالية التي تعيشها مصر.
يبدو من المستحيل إيقاف ربيع الثورات العربية، الخريف حلَّ على الأنظمة العربية فبدأت تتساقط أوراقها، وبدأ الاستبداد يحمل حقائبه معلناً رحيله دون رجعة إلى عوالم أخرى قد لا نعرفها، جلس عصام يحدق في أمتعة التخلف والمؤامرات وهي تنسكب في جوف التحدي والإرادة القوية التي يحملها شباب الثورة.
يتمنى عصام لو أنه يستطيع كشف ما سيحدث في السنوات الخمس المقبلة، يريد أن يعرف شيئاً يطمئنه ويزيل الخوف المتكلس عنده منذ سنوات طويلة، أشكال وأنواع للخوف موجود داخله، بعض منها اكتسبه بالوراثة، وبعض آخر بسبب طبيعة النظام السابق، والجديد منها يعكس الخوف من المجهول المحدق بالثورة، يريد أن يفرح كثيراً لو أن الصورة للخمس سنوات المقبلة مشرقة لتزدهر أحلامه التي هي أحلام الملايين من البشر الذين تم التلاعب بهم طيلة العقود الماضية ، قد أوشك في السابق أن يموت عطشاً، لكن الثورة قد بللت حلق التحرر، وأمسكت زمام الموقف، ولملمت شتات المشاعر العربية المتفرقة، ونسجت أحلاماً جديدة يتغنى بها الشباب والجيل القادم، لقد تجاوزوا إسقاط النظام، ودفعوا قيمة ذلك من الشهداء، أكثر من 800 شهيد، أما الجرحى فعددهم أكبر بكثير.
(9)
قويت أواصر العلاقة بين عصام وجذوره في الصعيد بعد الثورة التي رفعت من شأن كل مصري سواء داخل مصر أو خارجها، هاهو بسطامي الابن الأكبر للخال أمين يقوم بالاتصال بعصام أكثر من ثلاث مرات بعد عودة عصام وأسرته من رحلة أسوان، المحرض الأول هو هشهش ابن بسطامي الذي في سن أحمد تقريباً، اتصل أبو هشهش بعصام ليعرف إن كان موافقاً على زيارة ابنه هشهش لهم في القاهرة، وافق عصام لكن بشرط موافقة روعة لأنها هي المسؤولة عن شؤون أحمد، وصل هشهش إلى القاهرة وكان في استقباله في محطة القطار عصام وأحمد.
أحضر هشهش مجموعة من الحمام والأرانب والبط وقال:
- هدية بسيطة من جدي أمين، من إنتاج المزرعة، وقد حملني جدي السلام الكثير لك ولروعة وأحمد.
- لجدك في قلبي مكانة كبيرة لأنه رجل لا ينسى المعروف، ويظل مديناً لمن يعمل معه عملاً حسناً.
- أوصاني جدي أن أسألك عن رأيك لو درست هنا مع أحمد، فهل ترى ذلك جيداً؟ لقد قال لي لن يفيدك أحد أكثر من عمك عصام.
- فكرة جميلة لكنها تحتاج إلى دراسة من كل الأوجه.
طلبت روعة من عصام أن يأخذ ما أحضره هشهش إلى مكان الطيور ليتم ذبحها وتنظيفها، وفعلاً تم ذلك ولم يستغرق ساعة واحدة، في هذه الأثناء رن جرس الهاتف وإذا بالمتصلة منال الزغرودة:
- مساء الخير روعة.
- أهلا منال، كيف حالك.
- اشتقت لك كثيراً وفكرت أن أزورك هذا المساء.
- لم لا حياكما الله أنت وبيومي، ولنتناول العشاء والخير في مقدمكما.
- يعيش بيومي أجمل أيام حياته، يخرج من الجامعة كل يوم، ويمر على ميدان التحرير وهو مشتاق لمقابلة عصام.
- وعصام كذلك، ننتظركم هذه الليلة.
كان أحمد سعيداً بقدوم هشهش وكان مبسوطاً من اسمه الفريد من نوعه، تحدث هشهش عن العشاء الجميل الذي قدمه أحمد لوالده بسطامي وأعمامه بدوي ومحمود، وطلب منه أن يذهب الليلة إلى نفس المطعم، لكن أحمد اشترط موافقة والدته روعة، ورث أحمد بعض الصفات من أبيه مثل العاطفة الجياشة التي تفوح عطراً وبلسماً على من حوله، فكانت هذه الصفات التي اصطادت هشهش للمجيء والسكن معه، انسجام كبير بين أحمد وهشهش جعل عشرة أيام تنقضي وكأنها يوم واحد.
قابل الدكتور عنّا في ميدان التحرير عصام وأخبره بأنه يقدم في قناة الميدان الجديدة برنامجاً أسبوعياً يستضيف ضيوفه من الميدان، يتحدث فيه عن شؤون البلد السياسية، القناة الجديدة تابعة لإحدى الشركات المملوكة لرجل الأعمال أحمد عمار لتكون نقطة تحول ووصال مع الوضع الجديد، وافق عصام على اللقاء الذي حدده عنّا مطلع الأسبوع الأول من الشهر المقبل، أي بعد أسبوعين تقريباً.
أحس عصام بنوع من الحسرة والمرارة بتولي عينات كانت محسوبة على النظام السابق لمقاليد الإعلام، وكأن شيئاً لم يكن، كان يتمنى أن تكون وزارة الثقافة منوطة برجل مثل صنع الله إبراهيم الروائي الذي رفض جائزة مبارك للثقافة والعالية القيمة المادية على الرغم من احتياجه لهذا المبلغ الذي يسيل له لعاب مرتزقة الثقافة من النخب التي تسبح بحمد مبارك.
لم يكحل عصام عينيه برؤية صنع الله في أي قناة تابعها خلال أيام الثورة أو بعدها، لكن لا توجد لديه أي معلومة أكيدة عن الروائي العظيم الذي تذوق فنون التعذيب في السجون المصرية تفيد أنه تحدث أو لم يتحدث لقناة فضائية.
يخطط عصام لمقابلة صنع الله من أجل الحديث عن الميدان وترابه وإمكانية كتابة عمل روائي يجمعهما، القاسم المشترك بينهما إذن واحد، والنتيجة ستكون مبهرة، لكن عصام سأل نفسه: هل صنع الله سيقبل بي أن أشاركه كتابة العمل؟ كاتب من الطراز الأول يقبل بكاتب غير معروف حتى لو كانت نيته سليمة.
أنصت عصام لتقرير من البنك الدولي يعلن فيه تراجع النمو في الاقتصاد المصري والتونسي بنسبة تصل إلى ثلاثة في المائة وبقية الدول العربية الأخرى بنسبة تصل إلى اثنين في المائة وذلك عن عام 2011 مقارنة بعام 2010، لكن الأمر العظيم الذي لم يرصده البنك عن نسبة نمو الشخصية العربية في هذه الفترة التي تم فيها وضع رموز الفساد في السجون، الرموز التي لعبت بأرواح شعب كامل طيلة عدة عقود، أن الحالة النفسية كما يراها عصام للشعب المصري أو حتى بقية الشعوب العربية لا يقابلها ترليونات العالم أجمع، فلو وضعت الصحة النفسية للشعوب العربية بكفة، وأرزاق العالم كله في كفة أخرى، لرجح التحسن الأولي للصحة بكل ما هو ملموس، إنه ينتظر الآن نظاماً ثالثاً يصطف مع تونس ومصر، إما أن تكون ليبيا أو اليمن أو سوريا.
لا يستطيع أحد أن يصف الشعور الذي انتاب عصام حينما يلملم وريقاته التي يكتبها عن الأحداث العربية الجارية، فهو في صدد اختيار عنوان شامل لروايته التي يجهزها الآن، إذ دفعته مشاعر الفرح إلى تسجيل انطباعاته، اختار عدة عناوين سيستقر على واحد منها:
تراب الميدان، ويقصد به تراب ميدان التحرير الذي أخذه ساخناً حينها، وما زالت درجة حرارته عالية، لكن هناك أكثر من ميدان في الوطن العربي.
تراب الفلسفة، عنوان شامل وجامع لقضية الحرية والعقل والجمال.
"ربيع الأشواك"، واستمد هذا العنوان من شوكة الجد عطية، وهي الشوكة التي كان يستخدمها الجد عطية عندما يركب حماره، عنوان شامل للوضع الحالي، فالشوكة التي جعلت زين العابدين يقول "فهمتكم" عندما وجهت إلى خاصرته وخاصرة نظامه، لكن نوعية الحمير تختلف، فمنهم من تكفيه شوكة الجد عطية ومنهم من يحتاج إلى شوكة أكبر، مثل شوكة حلف النيتو أو أكثر قوة من الحلف كشوكة الولايات المتحدة.
أخبر بدوي عصاماً بأنه بدأ الكتابة عن قصة حمار جده عطية، كانطلاقة للدخول والحديث عن حكومة سجن طرة في المزرعة، وأطلعه أيضاً على مشروع يتماهى مع مشروع عصام في تونس يكون هذه المرة في القاهرة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي لمصر، لكن بدوي لم يكشف عنه في انتظار الانتهاء من دراسة جدواه الاقتصادية.
(10)
ارتاح عصام كثيراً لإمكانية بقاء هشهش لديهم، وأدرك جلياً أن أحمد بحاجة إلى شخص في نفس عمره، وأن هشهش هو المناسب له في هذه المرحلة، صفات الرجل الصعيدي متوافرة في شخصية هشهش، ومنها الخشونة واحترام الكبير والكرم.
طلب هشهش من عصام زيارة ميدان التحرير ذائع الصيت هذه الأيام، وافق عصام على طلبه بكل رحابة صدر، ووعده بأول فرصة للتظاهر في الميدان، قال عصام:
- الميدان موجود منذ عشرات السنين، لكنه لم يلبس حليته إلا بعد 25 يناير، اكتملت حلاوته بعد رحيل مبارك.
- حدثني كثيراً عمي بدوي عن الميدان وقال إنه ميدان الشباب.
- إنه ميدان شباب اليوم وميدانكم مستقبلاً.
- أريد أن أصبح مهندساً كي أرسم وأخطط ميادين أخرى أفضل من ميدان التحرير، فأنا أحب التصميم.
- لن تنتج مصر ميداناً أجمل وأروع من ميدان اسمه يحمل معنى الحياة.
في الليلة التي جمعت بيومي وزوجته بعصام وروعة كانت ليلة تفصيلية، تحدث بيومي عن سلبيات النظام الاقتصادي السابق، أعطاهم تفصيلات النهب والسرقات، كان يحس بها عصام دون معرفة محددة لأرقام المسروقات، ولذلك لم يندهش عصام لأنه احترق بلهيبها طيلة السنوات الماضية التي كان ينشد فيها تحقيق حلم الحرية.
بعد مضي أسبوعين على ذهاب هشهش إلى القاهرة وصل والده بسطامي ليطمئن على التجربة الأولى لابنه بعيداً عنه، وأحضر معه كمية من إنتاج المزرعة كهدية على سكنى ابنه عندهم، تفاجأ أبو هشهش بالتراب الموجود على مكتب عصام، وطلب منه أن يعطيه شيئاً منه كي يعينه ويقويه في تعاملاته الليلية مع زوجاته الثلاث، ثلاث زوجات والحصيلة ولد واحد هو هشهش،كان ينتظر قدوم أي مولود، له أكثر من عشر سنوات ولم يأتِ المولود المنتظر، فأطلق عليه العمدة هنيدي لقب أبو هشهش، وبعد اللقب بشهر واحد حملت زوجته وأنجبت له مولوداً ذكراً، وفرح به فرحاً كبيراً، وحمد الله واستمر يحمل هذا الاسم واعتبره مباركاً، داعبته روعة كما تفعل دائماً، وقالت:
- لو أخذت كمية قليلة من هذا التراب مضيفاً إليه كمية من الماء وداومت عليه لمدة شهر لحملن زوجاتك الثلاث مباشرة.
- يا سبحان الله، من أين لكم بهذا التراب المبارك العجيب.
- عليك أولاً بإقناع عصام كي يعطيك القارورة كاملة.
- عصام رجل طيب لن يبخل علي بشيء.
قال عصام:
- أنا مستعد أن آخذك للطبيب لعمل الفحوصات أمّا التراب فدعك منه، لن يفيدك في شيء، فلو أصبح له مفعول فسيكون عندك عدد من مشوا عليه في ميدان التحرير.
- كم تقريباً؟
- حوالي مليونين وأكثر.
- أعوذ بالله كيف لي أن أطعمهم؟!
ضحك عصام على سؤال بسطامي حتى كاد أن يغشى عليه، استأذن بعدها عصام من بسطامي وذهب للخلود للراحة، لأن عنده يوم غد لقاء تلفازي.
أعطى مقدم البرنامج نبذة مطولة عن عصام، وأشاد بالأبحاث القيمة والرائعة، إلا أنه اتهمه بالتقصير في قضية حمل لواء المسؤولية والنقد إبان النظام السابق، عندها غضب عصام غضباً شديداً وقال:
- عزيزي د.عنّا، صحيح أني لم أرتبط بحزب أو جماعة، وهذا عن طريق قناعتي الأكيدة بأني أكره أن أربط نفسي بتوجه واحد، ولكن ربطت على عنقي جميع المفردات والجمل والمبادئ التي تقود إلى التحرر، هل تعلم أن كل أبحاثي ورواياتي تدور حول هذه المفردة الجميلة والطاهرة.
- لم أقصد إثارتك وأعرف أن كل ما ذكرته صحيحاً.
- لكن قل لي أنت، ماذا قدمت أيام النظام السابق؟ هل تريدني أن أقول إنك كاتب خطب وزير البترول السابق وبقدرة قادر تحولت الآن إلى شخص يتحدث عن الحرية.
هدأ النقاش قليلاً، وبدأ عنّا يركز على طموحات ومشاريع عصام المقبلة، ومدى نجاح الثورة.
بما أن عصام عاش طيلة أيامه السابقة ينتظر الحرية التي أطلت عليه من خلال أصوات ميدان التحرير، هاهو الآن يرسم بقلمه وفكره، مدينة الحرية في تونس قبل أن يعرضها على المسؤولين التونسيين كي لا يصاب بخيبة أمل لو رفضت الفكرة من البداية قبل أن يعيشها على الورق كما عاش من قبل أقسام الحرية وتعريفاتها على الورق، يريد الآن أن يرسم مزاراً للحرية على الأرض.
تخيل عصام الحوار التالي مع السفير التونسي في القاهرة:
- صباح الخير سعادة السفير، أبارك لكم ثورتكم الرائعة.
- وأنا أيضاً أبارك لكم ثورة شبابكم المجيدة.
- ولكن قل لي كيف أخدم سعادتكم؟
- أريد منكم أن تطلعوا على هذه الرواية ومن ثم نتناقش بما فيها.
- ليس لي أي اهتمام بقراءة الروايات، وأنا مشغول بأمور مهمة تتجاوز قضية القراءة الحرة.
- وهل تتوقع أني حرصت على مقابلتكم وحجزت موعداً قبل أسبوع من أجل أن تقرأ رواية لي.
- إذن ماذا وراء ذلك؟
- تونس وراء الرواية وميدان التحرير.
- اشرح لي من فضلك.
- هناك مشروع كبير يهم شباب تونس ويهمني أنا أيضاً، ملامحه العامة موجودة في الرواية.
طلب السفير من سكرتيره إحضار قهوة لعصام، ودار النقاش حول الوضع العربي الراهن الذي لم تشهده الساحة من قبل.
ترك عصام أرقام هواتفه عند السفير ورحل.
استغرب السفير طلب عصام وقرر أن يقرأ الرواية قبل أن يحكم على طبيعة الطلب، وافق ذلك أن يوم غد إجازة نهاية الأسبوع.
حل التفكير الإيجابي على عصام، وأحس أنه قد استلم تأييد السفير، الذي أعجب بالفكرة، وقرر أيضاً المشاركة والوقوف معها، وأنه عرضها على بقية العاملين في السفارة الذين بدورهم أبدوا تعاطفهم مع خيال عصام الرائع الذي قد صبح يوماً من الأيام حقيقة لو حالفه التوفيق.
ستصبح هذه الخطوة لو نفذت كما يراها عصام أول مساهمة اقتصادية من أجل إنشاء مدينة الحرية في مكان فقير لم ينتج أشهر من الراحل "بوعزيزي" تاج الحرية فيما بعد، بين أنه من حق المساهم الذي يدفع عشرة آلاف دولار تخفيض في المرة الأولى يصل إلى عشرين في المائة لو أراد زيارة المدينة وركوب قطار بوعزيزي السريع، وفي المرات التالية يصل التخفيض إلى عشرة في المائة وكل ذلك من أجل تشجيع المساهمين من خارج تونس، يريد أن يفتح باب السياحة إلى تونس على مصراعيه، ويقصد من وراء ذلك خلق علاقة بين الشعوب العربية ومدينة الحرية، ومن أجل أن تستقر الثورة وتبدأ خططها الإصلاحية في التمدد داخل المدن وخارجها، تونس التي تغنى الشعب العربي في أبيات ابنها أبي القاسم الشابي الذي لا يوجد بيتاً شعرياً قريباً من بيته الذي يركز على همة الشعوب وقوتها في تغيير أقدارها ومصائرها فالبيت يقول:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
الغريب في حالة الثورات، أن الثورة الأولى استمدت قوتها من ابنها وكسرت القيد قبل غيرها، فبذلك تكون الثورة الأولى في الوطن العربي، حصلت في البلد الذي سمع ودون أبيات أبي القاسم، واحتضن جسده الطاهر، فكأن التونسيين أرادوا أن يقولوا لبقية الشعوب العربية الأخرى نحن أحق منكم في عزف سيمفونية الحرية قبلكم، لن يكتفي عصام بوجود عربة "بوعزيزي" وتمثاله، إنما جميع صور وأشياء من كان لهم بصمة في مسار الحرية في تونس، وعلى رأسهم أبو القاسم الشابي قصيدة إرادة الشعب التي ستكتب بماء الذهب وفي أغلب اللغات العالمية، فالمبلغ الذي يطمح إليه عصام لإنشاء المدينة لا يتجاوز قيمة الأسلحة التي تشتريها الدول العربية سنوياً، ومن كان يصدق أن الأسلحة التي اشترتها ليبيا سابقاً سيزج بها داخل الأرض الليبية ويموت من يموت ويصاب من يصاب، وكل ذلك في ظل غياب الحرية، ألا يحق لعصام أن يفكر في مشروع يرفع من مفهوم الحرية ويقدسها.
بدأت الأفكار تنهمر على مخيلة عصام في تشكيل المدينة التونسية، مما جعله يفكر بعمل مفتاح المدينة الذهبي يعطى للذين يكون لهم مساهمات إنسانية وإبداعية، وعلى جبين المفتاح صورة بوعزيزي، المدينة لها شرطة خاصة تهتم بمساعدة السياح، والساكنين وتحرص على استتاب الأمن لقطع دابر السرقات وخلق صورة جديدة جميلة لرجل الأمن، في ظل الحرية يختزن داخله الرحمة لمن حوله، ولو أتيحت لعصام فرصة إنشاء حزب في تونس أو غيرها لن يجد في بؤرة اهتمامه وتفكيره أجمل من اسم حزب "الرحمة"، لأن هذه الكلمة تمزج عدة أمشاج من الإيمان الحقيقي بمُثل مهمة ومقدسة فيها "الحب، والتضحية وإنكار الذات، والتسامح، والعطف، والعفو، والكرم".
لم يضع عصام في الحسبان كيفية إحضار المياه إلى الشاطئ الذي يريد تجهيزه في مدينة الحرية التي يريد استزراعها في المدينة الفقيرة سيدي بوزيد، أقسم على نفسه يميناً مغلظة أنه في حالة نجاح فكرته المثالية سيعمل أخرى مشابهة لها، ولكن قد تكون بطريقة أخرى، أي أن عشرة آلاف دولار أخرى قادمة لصرفها في أم الدنيا، ولن يستكثر ذلك على شباب ثورة الميدان، رشح عصام والدة الراحل بوعزيزي كمسؤولة عن حمل مفتاح المدينة.
تمر الساعات بسرعة، والأرض العربية تستعر، أو بالأصح كما قال الشاعر فؤاد حداد:
الأرض بتتكلم عربي
الأرض بتتكلم عربي وقول الله
إن الفجر لمن صلاّه
ما نطول معاك الآه
الأرض..الأرض..الأرض
الأرض بتتكلم عربي
الأرض بتتكلم عربي ومن حطين
بترد على قدس فلسطين
أصلك ميه وأصلك طين
الأرض..الأرض..الأرض
الأرض بتتكلم عربي
فعلاً في هذا الوقت أصبح مفعول هذه الكلمات ينطبق على الواقع العربي، الشوارع والميادين تتحدث عربياً "الشعب يريد إسقاط النظام"، الإدارة والأفعال والمفردات والكلمات في ظل الحرية تصبح ذات دلالات إنسانية وجمالية تقمع الفساد والقهر السياسي، تظهر هنا الرجولة السياسية، التي تتخذ من العقلانية والمنطق منهاجاً لأي خطط ومشاريع تنموية للإنسان العربي.
أخذ عصام يستكمل حلمه السابق بخصوص مشروعه التونسي، ويتخيل أن هناك رجلاً يطرق باب منزله، وإذا به السفير التونسي يريد أن يتحدث معه بخصوص المشروع الجبار، أدخله عصام غرفة الجلوس، وطلب من روعة تجهيز القهوة والعصائر، أخبره السفير بأنه حجز على رحلة بداية الأسبوع المقبل لمقابلة وزير الخارجية ووزير السياحة في تونس لعرض المشروع عليهما لمعرفة إمكانية تنفيذه، ذهب السفير على أمل إطلاع عصام على التفاصيل بعد عودته من رحلته الطارئة الخاصة بالمشروع.
جلس عصام وحده واستعرض مشاريع عربية دفع فيها الكثير في دول غربية، كمتاجر وفرق رياضية وخيول ووسائل إعلامية وفنادق، فهل نستكثر هذه المرة على أنفسنا دفع هذا المبلغ، وسيعمل لهذا المشروع في البداية دراسة جدوى اقتصادية، فعصام مقتنع تمام الاقتناع أن المشروع ليس بحاجة لعمل الدراسة لأن تمثال الحرية لا يوزن بمال الكون أجمع، وهذا يقودنا إلى القول بأن الثورة شبيهة بكتابة رواية أصعب ما فيها نهايتها، لكن عصام يحاول في روايته أن يسهل من نهاية روايته انطلاقاً من أن الحرية أقدس من أي نهاية، وأنها أتت لتسهل على الناس أمورهم وحياتهم وتمتعهم بكسرة الخبز عندما يغمسونها في عرق العدالة والمكاشفة.
(11)
أكتب هذه الوريقات البسيطة وأرسلها عبر الايميل إلى سعادتكم ليتم الإطلاع عليها في أسرع وقت إن أمكن.
أستاذي الدكتور عصام، أفيدكم بأني خططت لمشروع اقتصادي على غرار مشروعكم الرائع في دفع حركة التنمية الاقتصادية في تونس، أما ما جادت به قريحتي فيتمثل في عمل مشروع اقتصادي يكون مقره الرئيس في القاهرة، وستجد مع هذه الرسالة المختصرة فكرة ملخصة للمشروع الذي هو عبارة عن الاستفادة من حكومة سجن طرة، إذا لم تعجبكم الفكرة فما عليكم إلا تجاهلها، ودمتم.
ابنكم بدوي أمين
أسوان
ملخص المشروع
إن جهود ثورة مصر يجب ألا تقف عند عملية إسقاط النظام بل يجب أن تتعداها إلى الوصول إلى درجة عالية من الاستقلالية السياسية والاقتصادية، وفي ضوء ذلك أرى أن يتم الاستفادة الكاملة من الحكومة المنحلة في سجن طرة، التي تسببت في الفساد والخراب والاستبداد.
أفيدكم أستاذي العزيز بأني قد جمعت مبلغاً من المال كي أتمكن به من الزواج، ولا مانع لدي لو اقتطعت منه ألف جنيه كقيمة تذكرة لأتمكن من زيارة أعضاء حكومة سجن طرة، لأتفقد أحوالهم والإطلاع على حاجياتهم، وأنا مقتنع تمام الاقتناع أن هناك الملايين غيري ممن يسعدون بشراء التذاكر من أجل دعم الاقتصاد المصري، وذلك لمشاهدة أبطال فيلم "حكومة سجن طرة"، إن هذه الفكرة أراها رائعة من أجل الصرف على البطون الجائعة وتعويضات لأهالي الشهداء، والآن هل توافقني على ما نوهت عنه وتصبح أنت أول الزائرين من الجمهور المصري؟
لم يطلع عصام على ايميلاته، وبدوي كل ساعتين أو ثلاث ينظر في ايميله عله يجد رداً من عصام على مقترحه، أخيراً بعد أن ملَّ الانتظار، اتصل بدوي على عصام هاتفياً ليعرف هل اطلع على فكرته أم أنه تجاهلها لتفاهتها؟
- مساء الخير دكتور عصام.
- مساء الخيرات والسرور.
- أرسلت لك قبل يومين رسالة على بريدك الإلكتروني، ولم يصلني منك أي رد حوله.
- آسف جداً، لم أفتح ايميلي خلال اليومين السابقين كنت مشغولاً بأعمال أخرى، لكن بعد قليل سأطلع عليه وأخبرك فيما بعد.
- كيف ابن أخي هشهش، آمل ألا يكون قد أزعجكم.
- هو وأحمد يقضيان أسعد أيامهما الآن، كما أنهما حريصان أيضاً على دراستهما ومستقبلهما.
قرر بدوي ألا يقرأ أي رواية خلال الأيام المقبلة، ويركز جهده على كتابة المفاصل الرئيسة لروايته "جابوا الريس من ذيله"، يحاول بدوي أن يعالج في روايته الحاجة الماسة إلى قوة المجتمع الذي استطاع أن يأتي برأس النظام وذيله، فالمجتمع بحاجة إلى أن يتقوى الآن بمؤسساته المدنية التي تحدد فيما بعد كيفية إحضار الرئيس القادم.
قبل أن يفتح عصام بريده الإلكتروني هاتفته روعة من الجامعة تعرض عليه إمكانية تناول الغداء في مطعم الجامعة.
اطلع عصام على ايميل بدوي ولم يرد عليه، على أمل أن يناقشه مع روعة أثناء تناول الغداء، ترك عصام سيارته عند المنزل وركب سيارة أجرة، خوفاً من ألا يجد موقفاً لسيارته، وأيضاً ليرجع مع روعة في سيارتها.
حيرت عصام فكرة بدوي الجديدة من نوعها، وأصبح مذهولاً، وفكر في عرضها على روعة وصارحها:
- قبل أن تتحدثي معي، حدثني بدوي وطلب مني أن أطلع على الايميل.
- عسى في الأمر خيراً.
- يحمل فكرة عجيبة، وطلب مني أن أعلق عليها، يريد أن يفعل شيئاً من أجل مصر.
- فليفعل ومن حجر عليه؟
- لا تستعجلي.
- أردت أن أجتمع معك ونطلب الغداء ونتحدث بأمورنا الخاصة.
- فكرته فيها نوع من الكوميديا والتراجيديا في نفس الوقت.
- لقد شوقتني الآن.
- باختصار، يريد أن يقتطع مبلغ ألف جنيه من المبلغ الذي جمعه من أجل زواجه، ليبتدع طريقاً لم يسلكه أحد ولم تفعله أي دولة في العالم.
- تتحدث باسترسال عن جمال فكرته.
- ضعي خطين تحت كلمة جمال، نحن الآن اقتربنا من الفكرة.
- أسرع وادخل في الموضوع.
- يريد أن تضع الدولة تذاكر لمن أراد زيارة حكومة سجن طرة، وهو يعتقد أن هناك ملايين من البشر داخل مصر وخارجها، سيأتون من أجل زيارة أبطال الفساد.
- فكرة سخيفة لا يرضاها العقل، أريد أن أطلب أطباق الأكل ونكمل الحديث بعد الطلب.
لم يهدأ بال عصام حتى ينتهي من الموضوع، ورجع ليناقشه مرة ثانية مع روعة.
- الآن عملتي الطلبات، لن يكون هناك تعذيب للسجناء، ولا إهانتهم، إنما يطور ويحدث المكان الذي يقبعون فيه وتوضع لهم طاولة كبيرة ويناقشون عليها أمور ومستقبل حكومتهم، ويقدم لهم ما لذ وطاب من الأكل، كما يسمح لهم بكتابة مذكراتهم وحتى نشرها.
- إذن ما الفائدة من إراحتهم؟
- أعرف أن هناك الكثير الكثير الذين يريدونهم يتذوقون جزءاً من ما أذاقوه للمساكين من قبل، لكن بدوي يريد من ذلك تحقيق مشروع يدر ربحاً وريعاً يفوق ما كانت تقدمه الولايات المتحدة لمصر في السابق.
- وهل القانون يجيز ذلك؟
- لا أعرف، ولكن أعتقد إذا وافق أعضاء حكومة طرة على ذلك فما المانع. وسأشتري تذكرة لي ولك ولأحمد وهشهش.
- تصرف كل هذا المبلغ من أجل أن تشمت بهم؟
- هذا مشروع خيري يدر الكثير من أجل مصر، فلماذا لا؟ وذلك من أجل أن يكون هذا المشروع كفارة عن ما فعلوه بحق مصر.
- نغير الموضوع ونتحدث عن رحلة نقوم بها في الأيام المقبلة.
- لك ما تريدين.
أخبر عصام بدوي أن الموضوع من الصعوبة تنفيذه، إلا إذا وافق المسجونون أنفسهم على ذلك، وهذا يحتاج إلى وقت حتى تصدر الأحكام ضدهم، ويتحطم جبروتهم داخل الزنازين، وذكر أنه من الممكن تحويل فكرتك هذه إلى فيلم ويتم تنفيذه بسهولة.
سأل عصام عن كيفية بداية بدوي مع قراءة الروايات، أجاب:
- منذ الشهر الأول الذي عملت فيه في الفندق بدأت هواية القراءة تظهر من خلال بعض الروايات التي يتركها بعض الساكنين في الفندق، والعاملون في الفندق يعرفون نهمي وحبي لقراءة الروايات، وأصبحوا يحضرون لي ما يجدونه متروكاً في الغرف من روايات، وأيضاً بعض مما عندهم لقرائتها ثم إعادتها إليهم.
اقنع بدوي والده أمين أن يقضي عنده في غرفته في الفندق يوماً أو يومين، ليسأله عن أشياء تخص جده عطية، وذلك نتيجة للحديث المطول الذي ذكره له عصام عن شوكة عطية.
أحس بدوي بعد وقفته في ميدان التحرير لعدة أيام ولقاءاته المطولة مع عصام، أنه شخص ولد من جديد وفي فمه شوكة من ذهب، سجل بدوي ثلاثة محاور رئيسة في روايته القادمة هي شوكة عطية، وحكومة سجن طرة، وطموح هشهش.
حلّت على المحامية ريم قضية قد سبق لمثيلاتها أن مرت عليها من قبل، والمتمثلة بمطالبة إحدى السيدات بخلع زوجها بسبب قلة مرات ممارساته الجنسية معها، والزوج متمسك جداً بزوجته، ولا يريد أن يطلقها، شرحت فريدة صاحبة القضية المعضلة التي تواجهها بأنه لا يمارس الجنس معها إلا مرة كل أسبوعين، وأنها لا تريد أن تقع في حبائل الشيطان بخلق علاقات غير شرعية مع آخرين، اقتنعت ريم بقوة حجتها، لكنها حاولت قبل أن ترفع القضية حلحلة الموضوع مع زوجها ياسين، وتم استدعاؤه إلى المكتب والتفاهم معه حول إيجاد مخرج للقضية التي سببت الكثير من المشاكل لبعض السيدات والعكس صحيح، هناك العديد من الرجال يشكون عدم تلبية زوجاتهم لرغباتهم الجنسية، وأنهم يقعون تحت رحمة زوجاتهم في قبول الطلبات، قد يكون للاختلاف ميزة جيدة إلا في هذه القضية المتعبة جداً.
تذكرت ريم أنها سمعت في إحدى القنوات الفضائية التي تحدثت فيها مقدمة البرنامج الأسبوعي عن الجنس في رأس كل شهر أن هناك متصلة تشتكي من قلة الممارسة الجنسية من قبل زوجها، وثم بعد هذه المتصلة أتت متصلة أخرى وكانت تشكو من الطلبات شبه اليومية من زوجها، شرح ياسين أن طبيعته الفسيولوجية تحدد رغبته، ولا توجد لديه أي عوائق أخرى أدت إلى ذلك، طلبت ريم من ياسين أن يطلقها دون الحاجة إلى اللجوء إلى المحكمة، لأنها امرأة أمينة وصادقة تملك مؤثرات فسيولوجية دفعتها إلى ذلك، نصحت ريم كل من فريدة وياسين بأن يكون البعد الجنسي في الزواج المقبل ضمن الشروط أو بالأصح الشرط الأول.
استلطفت ريم تصرفات ياسين وطريقة تفكيره الرائعة في وجهة نظرها مما جعلها تصارح فريدة:
- إنك تخسرين رجلاً طيباً ومن الصعوبة أن تجدي من يحل محله.
- إني مصممة على رفع القضية من أجل الانفصال.
- حسناًً، كما تشائين.
تدرك ريم أن الاختلاف كان ولا يزال وسيبقى سنة كونية في الأديان والمذاهب، إلا في القضية الجنسية، لأن له عواقب وخيمة إن لم تراع منذ البداية، ولكن من الصعوبة معرفة ذلك قبل الزواج، لكنها طالبت الأطباء بعمل قياس أو تحاليل، كما أصبحت الآن الفحوصات الطبية ضرورية قبل الزواج.
تذكرت ريم حالتها السابقة مع زوجها السابق قبل الطلاق، وكثرة طلباته الليلية وهي دائماً تتعذر بالعمل والأشغال الأسرية، فزوجها من فصيلة فريدة وهي من فصيلة ياسين، هناك أزواج تخدمهم الصدفة في ذلك وتكون النسبة متقاربة بالقليل أو الكثير.
(12)
عصفت الثورة بكل شيء حول عصام، قلبت حزم الانكسارات والآهات إلى حزم من الآمال غير المرئية الآن، ويضع يده على قلبه عند سماع أي خبر عن الاقتصاد في تونس، فحالة السياحة في تراجع عما كانت عليه من أوروبا وليبيا والمغرب، يريد أن يطمئن عليها أولاً، وثانياً على مصر، فمصر أيضاً بحاجة إلى خطط إنقاذية، وهذا ما دفع بدوي إلى التفكير بعمل شيء من أجل "الغلابة"، كي لا تحدث ثورة مضادة.
تغيرت الأحداث وتغيرت أجندة لقاءات عصام مع من حوله، عندما كان وهج النقاش الفلسفي والمعرفي في دائرة الضوء كان منذر في الصدارة وأعضاء قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، يجتمع معهم ويقدم محاضرات يبين فيها اهتماماته الفلسفية، كل تفصيلات اهتماماته ذكرها في روايته السابقة، ورحلته إلى بريطانيا التي أعد فيها بحثاً عن المفاهيم الفلسفية في وقتنا الحاضر والتعليق على مفاهيم الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، وتحليل كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة"، الآن حوله بدوي وحكومة سجن طرة وشوكة جده عطية، والرجل الكبير صفوت حسين الذي تجاوز الستين من عمره، تعرف عليه عصام في ميدان التحرير وكان يحضره عنده ويعطف عليه، شرح صفوت الظروف الصعبة التي واجهها، قائلاً:
- إني أكمل دور ابني الشاب مدحت الذي سقط في الميدان في الأيام الأولى من الاعتصام، وأحس دفء روحه حولي، كنت أغرق في البكاء، وأتمنى أن أموت في هذا الميدان كما مات ابني من قبل.
- اسمح لي بتقبيل رأسك يا عم صفوت على ما تقوم به من أجل الثورة وأجل مصر وأجل ابنك، إن التخاذل استغرق منهم لحظات، لكن ثمن الثورة كان مرتفعاً، وتحتاج إلى وقت طويل كي تنضج.
اغرورقت عينا عصام، وقدم ما عنده من أكل بسيط، لقد خلقت الثورة علاقة قوية بين المعتصمين لمدة 18 يوماً لم يشهدوها من قبل، وهذا دليل على أن الحرية تجمع ولا تفرق أبداً، فيها الاصطفاف مع الخير ورسم لوحة جمالية خالية من الأهواء والرغبات الخاصة في زمن الحدث، فالحدث وحدّ الجميع، لكن يظل السؤال قائماً، ما المدة المتوقعة لاستمرار التوحد؟
عرف عصام مكان سكن العم صفوت، وقام بزيارته أكثر من مرة بعد سقوط النظام.
قويت العلاقة بين عصام وأبناء خاله الذين تضامنوا معه في الميدان وسكنوا عنده قرابة أسبوع وزيارته لهم، وسكن هشهش عنده، وأصبحت العلاقة الجديدة على حساب منذر، وريم، وسعاد، وبرهان، فأصبح كل يغني على ليلاه.
ذكر أمين قصة كفاح والده عطية الذي كان يسكن في قريته بنبان قبلي ويذهب كل صباح على حماره كي يعمل في القرية المجاورة كأستاذ بناء طين وأيضاً في موسم النخيل يقوم بتلقيح النخل، خصوصاً الطويل الذي يتخوف البعض من صعوده، ومن ثم يقوم بصرمه عندما يستوي تمراً، الحمار صديقه طول الطريق، يطعمه من التمر وقت جمع المحصول، لكنه بعض الأحيان يرفض المسير، فيضطر عطية إلى استخدام الشوكة التي أخذها من النخل، فيبدأ الحمار بالمسير وبشكل أسرع، وتظل الشوكة في جيب عطية في أغلب الوقت، ويضع شوكة أخرى في البردعة خوفاً من سقوط الأولى في حالة قلع ثوبه، عمل عطية في شغلة البناء والنخل أكثر من أربعين عاماً، استطاع خلالها شراء المزرعة التي يسكن فيها أمين والعائدة ملكيتها لعصام من ورثته من أبيه وأمه، فقد اشتراها أحمد والد عصام من عطية بعد زواجه من صبحية ابنة عطية، بمبلغ عشرة آلاف جنيه قبل حوالي ثمانين عاماً، والآن سعرها يساوي الكثير الكثير من قيمتها الأولى، لكن عصام لا يرغب في بيعها طالما خاله أمين محتاجاً لها هو وأبناؤه، وقد عرض عليه أكثر من مرة شراءها من قبل عمدة البلدة هنيدي لكنه رفض، كل شيء في نظر عصام الآن أفضل من قبل ، عدا موضوع "السلفية الجهادية" التي أتتها فرصة من ذهب بعد سقوط النظام ولم يكن لهم مساهمة في البداية في الاعتصام في ميدان التحرير لأنهم لا يؤيدون مبدأ الخروج على الحاكم من موقف ديني.
يدرك عصام عملية توظيف نظام السادات للإخوان في مواجهة حركة التكفير والهجرة والشيوعيين، ومن ثم عمل مبارك على توظيف السلفيين في مواجهة الأخوان، موضوع السلفية الجهادية مقلق لعصام لأنهم لا يؤمنون بفكرة الدولة المدنية، هذا حال الذين لا يبنون لهم مشروعاً حضارياً يستطيع أن يقف في وجه الدكتاتورية والظلم أياً كان نوعه.
اتصلت إحدى القنوات الفضائية الإخبارية العربية المشهورة بعصام للتعليق على بعض الأحداث العربية، لكنه اعتذر، من أجل التركيز على كتابة روايته الأخيرة، وينتظر أن يقوم بكسر جميع الأقلام التي كتب بها في حالة الانتهاء من الرواية، يملك من الأقلام الأسود والأزرق والأخضر والأحمر وقلم الرصاص، ولا يعرف أحد من الذين حوله عن قراره هذا، فقد تكون هناك احتمالات أخرى من خلالها يضطر إلى كتابة عمل ما كما فعل في السابق، وهو قد أخذ على نفسه وعوداً بأنه قد اكتفى من كتابة الرواية، الرواية عنده همّ ومعاناة وألم وانعكاس لبواعث تمرّ من حوله، كتابة الرواية عنده شيء ضروري وليس كمالياً.
جلست روعة تفكر كثيراً في حوار ذاتي، في السنوات الماضية أخذت الفلسفة والقراءة عصام مني، والآن تأخذه الثورة أيضاً، أما في السنوات التي كانت قبل زواجنا كان أشبه بالرجل الحر، قالت وهي تبتسم:
- أتمنى أن أكون سبب خير عليك، ففي مقدمي أتت لك الفلسفة، وهذه السنة أتت الثورة وكلاهما شغلاك عني.
- مقدمك الخير كله، وآمل أن يكون هناك حدثاً مفرحاً العام المقبل.
- مصر وتحررت من الاستعباد، وماذا تريد إذاً؟ متى ستخرج من جحيم التفكير؟
- العام المقبل سيكون من أصعب السنوات على العالم العربي وهذا لا يعني أن مشاكلنا قد حلت، أغرب شيء أن نستخف بأعداء الحرية، فالحرية لها أعداء كثر في الداخل وأعداء آخرون في الخارج، والاقتصاد يحتاج إلى جهد منّا جميعاً، ومن الصناديق الدولية.
- أتمنى أن تحدثني من دون خوف، فأغلب أحاديثك يكمن الخوف فيها.
- الخوف هو من يحرك الحرص والتوخي والحذر، هذا جميل إن لم يتعد حدوده، فالخوف هو من يقلل من التهور ويحوله إلى شجاعة مدروسة.
- لم أستطع إفحامك.
- أعرف، لأنك تنطلقين من حرص وخوف عليّ يا عزيزتي، هذا ما أحس أنا فيه تجاه ثورتنا العظيمة، فأنا أخاف عليها كما تخافين علي وعلى أحمد، إني أراقب مصر وهي تطلي وجهها باللون الأبيض بعد سنين مظلمة.
في وقت متقارب بين غضب الإنسان المصري وغضب الطبيعة في اليابان، يشعر الإنسان أنه في جوف مصيدة الحياة، الإنسان العربي يغضب كما تغضب الطبيعة، أمور صعبة جداً وكأن الموت هو بطل المسرحية، لا يعرف عصام كم من الزمن تحتاج إليه الثورات العربية كي يتوقف الغضب وتبدأ مرحلة جديدة، غضبت الطبيعة في اليابان، وغضب القذافي على شعبه، وبدأت النار تشتعل، وكأن عصام بدأ بتعليق ثيابه على شماعة القدر، إذن كل شيء في هذه الحياة يغضب وكأن الغضب ديدن الحياة، يسأل عصام نفسه:
- هل الذين لا يغضبون محظوظون؟ أم أنهم أناس لا يعرفون شيئاً ولا يريدون أن يعرفوا كي لا يصدموا.
غضب عصام من ذلك المقدم المصري الذي يعمل في إحدى القنوات الفضائية العربية الذي حضر إلى ميدان التحرير، وأصبح يأمر في بعض الأحيان، وهو من الذين يهتمون بدخلهم الشهري ولا يقل راتبه عن عشرين ألف دولار، لا يمكن أن يحسب على شباب الثورة ولا على كبارها الذين تجرعوا مرارة النظامين السابقين، وجد ثورة جاهزة واعتلى صهوة جوادها، كان عصام في السابق لا يحب طريقة هذا المقدم لأنه يملك ابتسامة صفراء مؤدلجة جداً، وشخصية غير مقبولة أيضاً، لكنه يضرب بقوة بسيف القناة التي يعمل بها، لا بشخصيته المؤثرة.
انتشر خبر طلاق فريدة فهيم بين صديقاتها في مصنع النسيج الذي تعمل به، لكن لا أحد يعرف شيئاً عن سبب طلاقها، حاصلة على درجة الماجستير في الإدارة من جامعة القاهرة، صادف موضوع طلاقها ترقيتها إلى مدير الشؤون الإدارية في المصنع، لديها ولد تجاوز سنه الثانية عشر واسمه علام على اسم جده من أبيه، سعت فريدة إلى عمل حفلة بسبب ترقيتها وحجزت صالة المصنع الكبيرة للمناسبات، وقامت بتوزيع كروت الدعوة على أغلب العاملين في المصنع، ذهبت مساء إلى مكتب المحامية ريم وأعطتها عشر دعوات لها ولمن ترغب دعوته، فهي تكن الود الكبير للمحامية ريم لإنهاء قضيتها دون اللجوء للمحكمة، وهذا يعني أن القضية لم تكلفها إلا القليل جداً.
حجزت ريم بطاقتين لوالدها منذر ووالدتها الهام، وثالثة لمدير المكتب النابلسي ورابعة لها، ست بطاقات أرسلتها ريم إلى عصام، وبنفس الطريقة حجز عصام بطاقة له وثلاث بطاقات لروعة وأحمد وهشهش، وأرسل بطاقتين لأب الشهيد صفوت حسين واحدة له والأخرى ترك له خيار منحها لمن يحب، تعهد عصام لصفوت في حال رغبته الحضور أن يمر عليه في شقته ويصحبه معه للحفلة نهاية الأسبوع المقبل.
ذهبت فريدة إلى زوجها السابق وأعطته بطاقة دعوة له وثلاث بطاقات أخرى لمن يرغب دعوتهم، فهي ما زالت تكن له كل الاحترام والتقدير، ترى فريدة أن الشراكة الزوجية قريبة جداً من مفهوم الشراكة التجارية، ففي حالة عدم التوافق وظهور صعوبات يجب أن يكون الحل ودياً وتنهى الشراكة في أسرع وقت، لا أن يتم الطعن والضرب تحت الحزام، لكن المجتمع يعقد قضية الطلاق أكثر من اللازم، والسعي في الاستمرار في الحياة الزوجية حتى لو أن النار تشتعل في الداخل.
ترى فريدة أن الثقافة كرست مفهوم الصبر بين الزوجين كما كرست عدم الخروج على الحاكم الظالم، الحب في نظرها العطاء المتواصل بين الزوجين، فإذا توقف أحدهما عن العطاء، وأصبح طماعاً يريد الحصول على ما يريد هو دون الاكتراث بحقوق من حوله، أصبحت الحياة تقاد بطريقة الأنظمة العربية التي تأخذ ولا تعطي.
اتصل ياسين بالمحامية ريم ليخبرها أنه في الطريق إليها ومعه محرر التحقيقات بالمجلة لعمل تحقيق مفصل عن المكتب وعن من يقوم بإدارته، رحبت بذلك لكنها أخبرته أن شريكها في المكتب غير موجود، استمر اللقاء أكثر من ساعة ونصف وسجل المحرر اللقاء كاملاً وذهب إلى المجلة لإنهاء كتابة الموضوع، أما ريم وياسين ذهبا إلى أقرب مطعم لتناول وجبة العشاء.
(13)
عرض بدوي فكرته الفريدة من نوعها على بعض العاملين في الفندق من أجل الحصول على تأييد ودعم لها، لكنه تفاجأ بأنهم يريدون تشتيت أعضاء حكومة طرة وعدم وضعهم في سجن واحد من أجل ألا يكون لهم يد في إعداد خطط يخدمهم فيها من هم في الخارج، ويحدث بعد ذلك ثورة مضادة، لكن بدوي أقسم لهم قسماً غليظاً بأن شعباً تذوق طعم الحرية لن يرجع إلى الوراء، الشعب يستنشق رائحة الحرية لأول مرة، ولذلك لن يفرط أحد فيها، أما فلول النظام السابق فلن يستطيعوا تشكيل ثورة مضادة، قد يكون هناك جماعات جديدة لها مصالح خاصة، لكنها هي أيضاً لن تغلب أنصار الحرية الكثر، حتى الأشخاص الذين عزفوا في جوقة النظام السابق، دخلوا الآن في حالة الوضع الجديد، وأصبحوا يعزفون سيمفونياتهم بمفردات جديدة عليهم، كما كان يفعل صديق عصام الدكتور إبراهيم عنا، فالثورة تجبُّ ما قبلها من الأفكار والمعتقدات وتعطيهم الأمن والأمان.
مضى على طلاق ياسين أكثر من شهرين وهو وحيد في شقته، وهذا بطبيعة الحال مؤلم له، لأنه يكره العيش وحيداً، ابنه علام مع والدته فريدة، فكر في البحث عن زوجة، لكنه خاف من تكرار قضيته السابقة، اختلطت عليه الأوراق، لكنه قرر في الأخير مصارحة المحامية ريم، وعرض مشكلته عليها، علها تجد له مخرجاً سهلاً، صارحها قائلاً:
- من الصعوبة علي أن أفاتح المرأة التي سأطلبها للزواج بشرطي أو بالأصح بوضعي.
- وجدت لك امرأة بنفس درجة رغبتك، ومطلقة لكنها لا ترغب في الزواج.
- من هي دليني عليها، قد أستطيع إقناعها، فأنا رجل طيب.
- أعرف أنك رجل طيب، فقد نفذت ما اقترحت عليك سابقاً في قضيتك، فأنت رجل غير صدامي، لكني لا أرغب بالزواج.
- أنت؟!! من حسن طالعي لو قبلت، هذا ما لم أحلم به، أن أتزوج من محامية معروفة وعضو سابق في مجلس الشعب.
- مشكلتي أني كنت عضواً سابقاً، إني أمزح معك، لكن أحببت أن أقول لك إني من طبيعتك، لكني سأحاول أن أساعدك في البحث عن من ترغب.
بدأت ريم تنسى المرحلة السابقة وتتكيف مع القضايا الجديدة، وبالاتصال مع الدكتورة روعة لإعادة العلاقة السابقة، وفعلاً لها ما أرادت، وأصبحت تزورهم من فترة لأخرى، عرضت ريم على عصام وروعة أن يقوما بزيارة خارج القاهرة لمدة ثلاثة أيام، تريد أن تحتضن بناتها الثلاث، لأنها لم ترهم منذ فترة قاربت الثلاثة أشهر.
اقترحت روعة عليها أن تذهب إلى أسوان، ففيها فندق جميل وهي مدينة سياحية، فيها مناظر جميلة، ويمكن لها أن تحصل على تخفيض في الإقامة نظراً لوجود بدوي الذي يمكن أن يساعدها هناك، لكن روعة اعتذرت عن الذهاب معها، بسبب ارتباطها بمحاضراتها في الجامعة، اتصلت روعة ببدوي وجهز لريم حجزاً في الفندق، ورحلة في البحر، وأخرى في القرى المحيطة بأسوان بأسعار مخفضة.
بدأت ريم تفكر جدياً في موضوع ياسين، وهناك احتمال كبير أن توافق على طلبه، فهو رجل ميسور الحال، ومكانته الاجتماعية جيدة من خلال المجلة التي يرأس تحريرها، قد تكون رحلتها الاستجمامية للتفكير في العودة ثانية للحياة الزوجية من أجل تعويض دور الأب لبناتها الثلاث.
في اليوم الثالث من رحلتها اتصلت ريم بالأستاذ ياسين للاطمئنان على حاله وإعطائه بعض أخبار الرحلة، لقد كشف لها في السابق عن حبه الكبير للأطفال، وهذا مؤشر قد يقرب بينهما، أخبرته أنها وجدت له من يبحث عنها، وأنها بمجرد وصولها إلى مصر ستخبره بكل شيء.
أحس ياسين أنها هي المقصودة، وبدأ فرحاً أكثر من اللازم، ولم يصدق وبدأ يحاور نفسه:
- غداً سيتضح كل شيء.
في الصباح الباكر ذهب ياسين إلى المجلة بنفسية منفتحة على غير عادته منذ طلاقه، بدأ يتعامل برقة وطيبة مع كل المتعاملين معه، أحس أن أيامه المقبلة ستكون أفضل بكثير من سابقاتها.
حكى أمين على بدوي قصة ليلة من ليالي الألم عندما كان صغيراً ليلة انغراس الشوكة في صدر عطية، قبل أن يلقح عطية نخل القرية المجاورة، قام بتنظيف النخل من الشوك، فأعجبته واحدة يريد أن يأخذها معه ليستخدمها في تعامله مع حماره "هدبان" عندما لا يسمع كلامه، في هذا اليوم سمع كلامه وأسرع في المشي دون توقف، في تلك الليلة أتى عطية من القرية منهكاً ورمى بنفسه على فراشه لينام، وهنا تحركت الشوكة الجديدة التي لم يستخدمها مع هدبان فانغرست في صدره ولم يتبق إلا رأسها، وبدأ بالصراخ والدماء تسيل، في حينها لم يكن في القرية طبيب، لكني ذهبت وأحضرت الحلاق الذي يقوم مكان الطبيب العام وطبيب الأسنان، ومع كثرة تحرك عطية دخلت الشوكة أكثر فأكثر، لكن الحلاق محمدين استطاع بعد جهد إخراج الشوكة والدماء تسيل، وضع بعض العلاجات الشعبية لتوقف الدماء وفعلاً توقف النزيف، ولكن الإشكالية أن الجرح قد التهب وظل لأكثر من شهر حتى التئم وتعافى، بعدها توقف عطية عن ركوب الحمار والذهاب للقرية، واشترى له مزرعة في بنبان قبلي.
علق بدوي على كلام أمين قائلاً:
- غريب أمر الشوكة، يجب ألا نضعها في جيوبنا، فالشوكة حرة لا يجب أن يملكها أحد في جيبه، ضعها في المكان المناسب لحفظها.
- بعد مرور ثلاثة أشهر تقريباً عاد عطية لركوب الحمار، لكن داخل القرية، وبدأ يضع الشوكة في البردعة، ولم يضعها في جيبه أبداً بعد تلك الحادثة.
- قد تكون الحادثة أتت كعقاب له من عند الله على تعامله الخشن مع الحمار.
- هناك من يستخدم العصي أو المحشات، وهي أشد إيلاماً للحمير، ولم يحصل لهم أي عقاب على قسوتهم.
عرفت فريدة مطلقة ياسين ما آلت إليه العلاقة بين زوجها السابق ومحاميتها، وأحست بنوع من الغبن، وأنها لا بد أن تستخدم سلاح المكر والخديعة للإيقاع بينهما، أعلنت فريدة الحرب وبشكل شبه صريح عندما تحدثت مع ريم:
- لم أتوقع أن محامية معروفة وبمكانتك تقدم على الزواج من رجل غير قادر على إسعاد زوجته وإشباعها.
- كنت أتوقع أنك تباركين لي أولاً، كما فعلت لك عندما حضرت حفل ترقيتك في العمل، كان ياسين يعاني من استنزافك وكثرة طلباتك له، أعدك بأني سأقدم ما أستطيع فعله، لن استخدم معه سلاح التنغيص الذي كنت تستخدميه معه، لقد قضيت على سكينته وأصبح يقضي جل وقته في المجلة.
- يبدو أنك من الآن استخدمت الأسلحة الهجومية ضدي، ولن يكون لحديثي معك أي فائدة.
- سأرسل لك بطاقة حفل الزفاف إن أردت الحضور.
- لن يكون بوسعي حضور زواجكما لأني مشغولة جداً.
أخبرت ريم كلاً من عصام وروعة بتفاصيل زواجها المقبل من ياسين، وأن بطاقات الدعوة في الطريق خلال عشرة أيام، تكن ريم التقدير الكبير لعصام على مواقفه الكثيرة معها في السنوات العشر الماضية وفي وقتها الحاضر.
أعطى أحمد صورة كاملة ومفصلة عن أبيه لهشهش، وعن الحب الكبير الذي في قلبه تجاه عصام، أطلعه على جميع الروايات التي كتبها أبوه من قبل وما يفعل الآن.
(14)
دخل أحمد وهشهش على عصام وهو في مكتبه، لقد كان يكتب أجزاءً من روايته "شوكة عطية"، ومباشرة لاحظ هشهش كثرة الأقلام على طاولة عصام، وسأل:
- هل من أراد أن يكتب رواية لا بد أن يكون عنده مجموعة من الأقلام الملونة؟
- لا يا عزيزي هشهش، أكتب بالأسود والأزرق أما الأحمر والأخضر للملاحظات والإضافات التي أسجلها، إني قررت أن أتخلص منها جميعاً بعد الانتهاء لأني لا أريد أن أكتب بعد ذلك شيئاً.
- وكم بقي لك على الانتهاء؟
- لم يتبق سوى القليل.
- أريدك أن تمنحني الأقلام لأحتفظ بهم للذكرى، وأقول أن هذه الأقلام التي كتبت بها رواية جدي عطية.
- طلبك مجاب.
يرى عصام أن مسؤوليته قد زادت الآن تجاه أحمد وهشهش، في السابق كان مشغولاً في التفكير بأحمد أما الآن فزاد هشهش، لكن راحة البال موجودة الآن، هشهش شخصية ذكية ومرحة جداً، سحبت شخصيته كل لحظات الوحدة السابقة التي كان يعيشها أحمد، يفكر عصام في إرسالهما في الصيف المقبل إلى بريطانيا لتقوية اللغة الانجليزية لديهما من خلال البحث عن معهد أو جامعة تتولى ذلك، أيدت روعة فكرة عصام لكنها طلبت منه ألا يفاتحهما حتى يأخذ موافقة بسطامي أولاً.
يسيطر الهم العام على عصام، إذ تكون المهمة الرئيسة الآن هي تشكيل في خياله حزب عربي يكون مقره في مدينة "سيدي بوزيد" بجانب المدينة السياحية وأحد معالمها، يبنى بشكل جمالي مميز يدل على القواسم المشتركة بين العرب، وتكون أبوابه مفتوحة طول العام للزوار، ويتبع له فندق صغير خاص بالأعضاء المشتركين بالحزب، يمكن للزائر الاطلاع على دستور الحزب والتسجيل في عضويته من أجل عدم التسليم بالظروف المفرقة للأمة العربية، الحرية هي القاسم المشترك الجديد الذي حل على الأمة ضيفاَ في هذا العام على أمل أن تستقر وتستوطن من أجل إقامة دائمة كي يتم طرد القهر الذي شارك الأفراد في حليبهم وقوتهم طيلة السنين الماضية، في روايته "روعة" التي صدرت 2008 أسس عصام لحزب إسلامي في مصر كان اسمه "الحب والحرية" وهنا نحن الآن نسمع عن تأسيس حزب "الحرية والعدالة" التابع لجماعة الإخوان المسلمين، أما الآن يقترح عصام حزباً عربياً غير مربوط بديانة أو طائفة، وبالإمكان أن تكون الشوكة هي شعاره، أما اسمه قد يأخذ وقتاً من التفكير حتى يتوصل عصام إلى ذلك، والهدف من هذا الحزب الارتقاء بالإنسان العربي وغرس بذرة اللحمة التي تقوم على الحرية والحب.
يتابع عصام الوضع المصري خطوة خطوة، ويتابع معه أيضاً الوضع العربي كافة، توقف عند كلمة رئيس الحكومة الدكتور عصام شرف الذي تخرج من ميدان التحرير عندما قابل الجمهور في سينا وفي الصعيد وكان لهم مطالب، وقال بالحرف الواحد "طلباتكم أوامر"، وشرف يدرك حقيقة ما يقول، وهذا نتيجة أن من يرشحه الشارع أقل ما يفعله أن يسمع لهم.
إن تعسر الولادة في ليبيا واليمن وسوريا شكلَّ نوعاً من الألم القوي في الجهاز العصبي لعصام، نتيجة لإراقة الدماء في هذه الدول، ان جهاز الإحساس للمواطن العربي واحد، عدا العينات التي كانت تقبض ثمن صمتها والمصنوعة من صلصال النفاق والذل.
استطاع ياسين بأسلوبه الجميل إقناع ريم بألا حاجة إلى إقامة حفل زواج، فهما قد مرا بهذه المرحلة من قبل، فلا داعي لتكرارها، ودعا إلى اقتصارها على أقرب الأقربين إليه وهي بالمثل، لكنها طلبت تأجيل حفلة أقرب الأقربين حتى يعودا من أسبوع العسل الذي قررا أن يسافرا فيه خارج مصر، اختارا السفر إلى اليونان لأنهما لم يزراه من قبل، ودَّع ياسين العاملين في المجلة جميعاً، ووعدوه بإقامة حفلة له في المجلة عند عودته، وكذلك ودعت ريم المحامي النابلسي ووالديها، وقامت بزيارة عصام وروعة، وتحدثت لهما عن عريسها الجديد الذي قبضته كثمن لأتعابها دون التخطيط لذلك عندما أقنعته كي يطلق فريدة التي أقامت ضده قضية ضعف المعاشرة.
عمل مدير التحقيقات في المجلة تحقيقاً من صفحتين عن زواج ياسين من المحامية ريم، وتحدث عنهما بإسهاب، بأنهما زوجان متقاربان في عقليتهما وعواطفهما، ولم يكن ياسين على دراية بذلك، حتى تم إرسال رسالة إلى هاتفه المحمول تفيد أن هناك موضوعاً مهماً يجب أن تطلع عليه من خلال "الإنترنت" وفعلاً فتح الكمبيوتر وإذا بصورة ريم على الغلاف والتحقيق في الداخل، هناك أشخاص لا تتحقق رغباتهم إلا من خلال المحاولة الثانية، فهل هما من هذه النوعية؟ أم أن أيامهما المقبلة تقول غير ذلك وأن هناك محاولة ثالثة مقبلة.
تحول الاثنان إلى مراهقين وخالفا ما في داخلهما سابقاً، فنسبة المعاشرة زادت عن سابق عهدها في زواجتيهما السابقتين، فهل معاشرات قبل الثورة تختلف عن ما بعدها، على الرغم من أن الاثنين ليسا من رواد ميدان التحرير، إنهما على ضفافه من بعيد، جل وقتهما أمضياه داخل الفندق اليوناني، لأن كل واحد منهما يحمل كلاماً كثيراً في داخله، وجد من يستمع إليه ويتعاطف معه، ظلا حبيسا الفندق لمدة ثلاثة أيام، يتنقلان ما بين معاشرة وقصص جمعاها من خبرتهما الطويلة، قربا من روح فكاهة قالها أحد الحشاشين "لماذا نشتري أجمل الملابس الغالية الثمن ونحن أسعد أوقاتنا نكون بدون ملابس"، في مساء اليوم الثالث خرجا العاشقان الجدد إلى وسط العاصمة أثينا للبحث عن دار سينما لمشاهدة أحدث الأفلام الأمريكية.
يجمع عصام قواه من أجل مشروعه التونسي، وفجأة يسمع خبراً وتحقيقاً في تونس عن السلفية الجهادية، يتراجع عشرات الخطوات إلى الوراء، ويفكر في نحر الموضوع من الوريد إلى الوريد، هزه خبر عن تفجير في مطعم "أركانه" في المغرب، وهو من أقدم معالم ساحة جامع الفناء التي وضعتها اليونسكو على لائحة التراث الإنساني، قتل فيه أكثر من ستة عشر شخصاً، فكيف به إذا تم انجاز مشروع المدينة السياحية في سيدي بوزيد وتعاقب عليها نوعية من فجر مطعم أركانه، إنهم نسخ متكررة لحكومة طالبان التي تم إنشاؤها من قبل المخابرات الأمريكية والباكستانية في أفغانستان لمواجهة المجاهدين بعد خروج الاتحاد السوفييتي، إنهم لا يؤمنون بشيء اسمه سياحة ودخل للدولة بالعملة الصعبة.
بعد تفجير مطعم "أركانة" بخمسة أيام تم قتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن على يد القوات الأمريكية في باكستان بعملية عسكرية استغرقت أربعين دقيقة، تم رمي جثته في بحر العرب حسب زعم المصادر الأمريكية، إنه وجه من وجوه السلفية الجهادية وقائد عرفه العالم أجمع من خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وبدأ عصام يسمع لتعليقات بعض قادة الإخوان المسلمين في مصر للمرحلة الثانية من مراحل زعيم القاعدة الذي توجه إلى استخدام العنف وانتقدوها على الرغم من ترحمهم عليه كرجل مسلم قد يكون أخطأ الطريق في مرحلته الثالثة أيضاً عندما استهدفت القاعدة الدول العربية.
هنا رجع الأمل قليلاً عندما سمع بعض المحللين يتحدثون عن أفول نجم القاعدة، وحل محله ثورات الشعوب العربية التي تبتعد عن العنف في مواجهة الأنظمة، وتونس ومصر خير مثالين على ذلك.
جميل جداً في نظر عصام تصرفه وموقفه من الجهاد الأفغاني وصراع القاعدة مع الولايات المتحدة، فلم يعجب أو يتعاطف مع كليهما، الآن أصبحت نظرته صائبة، عندما اتضحت اللعبة السياسية الأمريكية من الصراع، وأن حرية الشعوب العربية من خلال جماهيرها أفضل من تفجيرات القاعدة أو انتصارات المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفييتي، والتي كانت من تخطيط الولايات المتحدة، حيث قال برجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي "لقد سحبنا روسيا إلى ذلك الفخ وساعدنا المجاهدين قبل غزو روسيا لأفغانستان بستة أشهر" لقد طورنا جيشاً قوياً من المرتزقة ليسوا بالقليل حوالي مائة ألف رجل من أخطر القتلة ومن المتطرفين الإسلاميين..."، هنا يكمن مربط الفرس حسب ما يراه عصام، إذن الإرهاب صنيعة لمن أحضر مائة ألف مجاهد وأنفق عليهم عدة سنوات حتى تمت هزيمة الاتحاد السوفييتي وتفككه، ومن ثم الحرب بين المجاهدين لمدة عشر سنوات، وأتت بعدها المخابرات الأمريكية والباكستانية بشباب "طالبان" يدرسون الشريعة في جامعات ومعاهد باكستان من الأفغان وإعطائهم الدبابات والأسلحة، وتمت السيطرة على المجاهدين وحكمت طالبان، كل شيء تم بتدبير المخابرات الأمريكية، وهذا قد يقود إلى أن أحداث 11 سبتمبر تمت بمعرفة المخابرات الأمريكية، عندما احترقت ورقة ابن لادن تم تكوين معلومات مهمة خلال شهرين فقط والاستدلال عليه، وتمت تصفيته، وهم يتشدقون طيلة الفترة الماضية بأنهم يبحثون عنه بجدية، شهران كفيلان بمسحه من الوجود وإلقاء جثته في بحر العرب، اشتعلت شمعة المشروع التونسي من جديد بمعية الأحداث الطازجة.
(15)
استلم عصام مجموعة من روايته "شوكة عطية" وذهب مباشرة إلى ميدان التحرير، كان هذا حوالي الساعة التاسعة والنصف ليلاً من يوم الجمعة، بعد مرور مئة يوم على الثورة، ولم يخبر أحداً بذلك، واختار منتصف الميدان وتوسد نسخ روايته على أمل أن ينام قرير العين في هذا الميدان بعد انتصار الثورة، تلفونه المحمول مقفل، وروعة تتصل عليه كل ربع ساعة تقريباً، وبدوي أيضاً أحد المتصلين ولكن لا مجيب، يريد لقلبه وفكره وكل جزء من جسده أن ينام حتى لو كان الموت يعزف نايه، وضع أنفه بأقرب نقطة ملامسة لتراب الحرية وصور ملايين الأشواك التي نغزت النظام في الميدان أمام عينيه، والأمة تمر أمام ناظريه، يحاول أن يقول شيئاً للأشواك التي رحلت، وبرحيلها سقط النظام البائس، إن ثورتكم قد نجحت وها أنا أنام قرير العين وغيري الملايين تحس هذا الإحساس، لكني أحس أني أكثرهم شعوراً بالفرحة، لم يستسلم للنوم وبدأ يستعرض نتائج بحث أعده عن الحرية قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر بعدة أشهر وكانت عينة البحث من لبنان كان البعض يرى أن العشرين سنة المقبلة:
"ستكون أكثر ارتهاناً للسلطة إذا استمر تناسل الأنظمة القائمة رغم أن عينها ستكون دائماً على الحرية في أي مكان آخر".
"أعتقد أن الصحافة العربية ستكون أقل حرية في العشرين سنة المقبلة، وذلك حسب تكريس التوارث السياسي".
يبحث عصام في العوامل التي أثرت في عدم وجود صحافة حرة في الوطن العربي، حول بحثه الطويل إلى كتاب عن الحرية الإعلامية والعولمة في الوطن العربي، ونظرة استشرافية للعشرين سنة المقبلة من خلال مرئيات الصحفيين اللبنانيين، وكانت إجاباتهم للسؤال المفتوح أكثر تشاؤماً للسنوات العشرين المقبلة، وقد يتوافق هذا مع قصيدة للشاعر العراقي أحمد مطر عن تغلغل اليأس داخله حيث تقول قصيدته عن الأمل، كما عبر عن ذلك الصحفيين اللبنانيون من قبل.
أمس اتصلت بالأمل!
قلت له:
هل ممكن
أن يخرج العطر من الفسيخ والبصل؟
قال: أجل
وهل يمكن أن تشعّل النار بالبلل؟
قال: أجل
قلت:
وهل يمكن وضع الأرض في جيب زحل؟
قال: نعم، بلى، أجل...
فكل شيء محتمل
قلت: إذن حكام العرب سيشعرون يوماً بالخجل؟
قال: ابصق على وجهي إذ ا هذا حصل...
أحد الصحفيين كتب في ورقته "من المؤكد أن تغييراً ما سيحصل، ولكن بأي اتجاه؟"، إحساسه صدق، وهذا عصام يتوسد روايته في قلب ميدان التحرير، حدث التغيير وفي اتجاه لا أحد يعرف أو يخمن حتى الذي أعد الدراسة لم يتوقع ذلك.
أنتج عصام فيلماً تلفزيونياً عن الخطاب الإعلامي الحر بطولة الفنان السوري القدير جمال سليمان وبسام كوسا، تفاجأ عصام بالطريقة التي تعامل معها الفنان جمال سليمان بكل أريحية وانفعال، لأن القضية مهمة بالنسبة للمنتج والكاتب والممثل، وهنا اعتبر عصام العمل كأجمل فيلم تلفازي قدمه البطل، يذكر عصام أن العمل قد تأثر بوجود الرقابة السورية التي طالبت بتغيير العنوان، الذي اختاره عصام "لحظة ميلاد" وتحول إلى اسم آخر حسب اختيار كاتب السيناريو، وأجزاء أخرى من النص تم حذفها، وأضاف بدلاً منها البطل قصة أخرى، لقد كان عصام راضياً عن العمل على الرغم من التعديلات التي جرت عليه، لكن أي درجة تتجاوز الخمسين بالمائة في قضية الحرية تستحق التعب من أجلها، لم يكن عصام يفقه شيئاً في الإنتاج، لكنه نجح في أول مرة من ناحية قيمة العمل، وفشل في التوزيع.
نام عصام رغم قسوة الأرض، لأنه لم يحضر معه أي شيء يقيه ذلك، لكن قسوة الأرض كانت أرحم بكثير من قسوة النظام السابق الذي يقسو على البشر أكثر من قسوة الأرض التي قد تعالج قسوتها بفرشة بسيطة، لكن قسوة النظام قبيحة جداً، ولا يمكن معالجتها إلا من خلال الكذب والاستدجان والنفاق والفساد.
نام عصام نومة هنيئة لا يشبهها نومة أخرى، رواية "شوكة عطية" جعلته يحلق في سماء لا يشبهه سماء، كأنه تعاطى جميع ما يوجد في الأرض من "كوكايين"، "وحشيش"، "وهروين"، في روايته "جاب الذيب من ذيله" التي صدرت مع نجاح الثورة التونسية، قال فيها: "أما عصام فلسان حاله يقول كما قال الشاعر السوري نزار قباني:
عشرون عاماً يا كتاب الهوى
ولم أزل في الصفحة الأولى
فحقيقة قصة حب عصام أقوى وأصدق ألف مرة من غزل الشاعر نزار وافتنانه بالنساء، فلم يصدق نزار في ادعائه لنفسه بأنه مازال في الصفحة الأولى، وعشيقاته كثيرات جداً، فقد ختم الدرس عدة مرات، لكن عصام وكحقيقة مع معشوقته الحرية له أكثر من ثلاثين عاماً واقفاً عند كتابة الصفحة الأولى التي يعلن فيها إمساكه بجدائلها واقتطاع بعضاً من خصلات شعرها..."، إنه الآن في الصفحة الأولى، يرشف الرشفة الأولى من كأس الحرية، التي يرقد فيها على ترابها الطاهر، ويمسك ببعض من خصلات شعرها، كأنه يسمع من يقول له "من قدك يابيه"، حلت الحرية على بلدك وعلى قومك.
بعد مرور ساعتين صحا عصام من نومه، ووزع ما معه من نسخ من روايته على من حوله في الميدان واحتفظ بواحدة، ثم فتح تلفونه المحمول وغادر الميدان متوجهاً إلى المنزل وهو يحدث نفسه: سأسلم هشهش ما وعدته به الليلة.
هشهش وأحمد يستعدان للسفر يوم غد السبت إلى بريطانيا لقضاء الإجازة الصيفية في أحد المعاهد البريطانية لتعلم اللغة الانجليزية، فقد وافق بسطامي على سفره بعد أن أقنعه عصام وروعة بذلك، استلم هشهش أقلام رواية جده ووضعها في حقيبة كبيرة أحضرها معه من القرية، وبدأت الآن مرحلة جديدة لهشهش مع رحلته الأولى خارج مصر، أتى من الصعيد وسيسافر إلى بريطانيا العظمى سابقاً
عرف بدوي عن صدور رواية عصام وكان بوده لو أتى مسرعاً للاطلاع عليها، وعلى ما كتب فيها عن حمار جده العظيم "هدبان"، شرح له من خلال الهاتف أنه الآن في معمعة كتابة أجزاء من روايته الجديدة التي تناول فيها شخصية جده عطية وحكومة سجن طرة، طلب بدوي من عصام مجموعة نسخ من الرواية ليوزعها على زملائه العاملين في الفندق، في اليوم الرابع بعد صدور الرواية حمل عصام معه نسختين واحدة لصديقه الجديد صفوت والد شهيد الميدان، وذهب إلى منزله البعيد عن منزل عصام، ولكن عصام كان متحمس لأن يسلمه نسخة من شوكته التي تعتبر القاسم المشترك بينه وبين صفوت، جلس عنده قرابة الساعة، أحضر له كوباً من القهوة وقطعة من الشوكولاته، شرب عصام القهوة واعتذر بلطف عن الشوكولاته لأسباب صحية تمنعه من أكلها، يعيش صفوت مع ابنته ميرفت التي تعيش بمفردها بعد إصابة زوجها في أحداث ميدان التحرير وفقدانه لبصره، فهو يرقد في المستشفى في حاجة إلى إعادة تأهيل ليده اليمنى، يصاب المرء في بعض الأحيان بتتابع المصائب، حيث رحل الأخ وبقي الزوج مصاباً وأبٌ يسدد من بقايا جسده وذاكرته فاتورة الثورة، طلبت ميرفت من عصام نسخة أخرى من الرواية لتقرأها على زوجها صلاح ، فأعطاها النسخة الأخرى التي كانت بحوزته وقال لها:
- واجب علي أن أهدي نسخاً من الرواية لمصابي الثورة، إنهم يستحقون.
- لكن قل لي لمن كنت ستهديها؟
- كنت سأذهب إلى السفارة التونسية، لإعطائها للسفير كي يطلع على المشروع الذي داخلها، إنها محاولة بسيطة مني لعمل شيء عظيم.
- إذن، تعطيني نسخة فيما بعد، أو أستعير نسخة والدي وأنت اذهب بالأخرى إلى السفارة.
خرج عصام مسرعاً حاملاً نسخة السفير متوجهاً إلى سيارته، دون أن يركز في طريق، وإذا بسيارة مسرعة تصدمه ويقع أرضاً، حُمل عصام إلى أقرب مستشفى في الحي، لقد تسبب الحادث بكسر في ساقه، لم يعرف صفوت أو ميرفت شيئاً عن ما حدث لعصام في الشارع القريب من منزلهما، بعد ساعتين تقريباً نزل صفوت وابنته ميرفت لزيارة صلاح في المستشفى القريب من منزلهما.
(16)
كتب بدوي فصول عدة من روايته "حكومة سجن طرة"، ورسم صورة إيجابية عن هذه الحكومة التي تدر مالاً عظيماً من السياح العرب والأجانب والمصريين أنفسهم، تنازل القاضي الذي وضعه بدوي في الرواية عن أحكام الإعدام والسجن المؤبد إلى سجنهم جميعاً لمدة عشر سنوات شريطة قبولهم بالزيارات الجماعية لهم من قبل الذين يرغبون في ذلك، كأنهم في متحف "مدام توسو" للشمع في لندن.
اختار بدوي مكاناً يسهل على الجميع الوصول إليه، وتحت حراسة أمنية مشددة، إنهم في هذا الوضع أغلى ثمناً من قطع الألماس بأحجامهم، حدد بدوي سعر التذكرة ألف جنيه للمواطن المصري وألف دولار للعربي والأجنبي، وضع بدوي فتوى يجيز فيها شراء التذكرة من مال الزكاة، وذلك كي تذهب قيمة التذاكر إلى خزينة الدولة لتقيم المشاريع من أجل الناس الغلابة، إن ما يفكر فيه بدوي ليس فيه أي قدرٍ من الشماتة في القطط السمان التي سقطت، إنما كيف يتحول عقابهم إلى منفعة وتخفيف القسوة عليهم، ويدر ذلك ربحاً على الشعب المصري، فقد تكون المكونات الداخلية لديهم قابلة لما يفكر فيه بدوي، إذن نفهم بسهولة لماذا فكر بدوي بذلك؟، كما هو الشأن بما فكر فيه عصام بالنسبة للمشروع التونسي، ليس من أجل الربح المادي له، إنما من أجل فعل شيء يصب في خانة إنجاح الثورة التي تحتاج إلى دعم كل شخص فرح بقيامها في مشارق الأرض ومغاربها.
اهتمت إدارة المستشفى بالدكتور عصام، بعد التوصية القوية من الشخص الذي تسبب في الحادث ويدعى كمال رأفت، وهو مدير شركة الفضاء الخاصة بالأعمال الإنشائية، وقد غطى التأمين كامل النفقة لعلاج عصام، حيث تبين أن عنده شعر بسيط في الساق يحتاج إلى المكوث في المستشفى لمدة يومين، تفاجأت ميرفت وهي في طريقها إلى صلاح بوجود عصام في مدخل قسم العظام، قالت لعصام:
- يا سبحان الله، قبل حوالي ساعتين تقريباً كنت عندنا سليماً، ماذا حدث لك؟
- بمجرد ذهابي إلى سيارتي في الشارع المقابل لمنزلكم صدمتني سيارة مسرعة، لقد كنت سارحاً قليلاً ولم أنتبه.
- حمداً لله على سلامتك.
- طمأنني الطبيب.
صدم صفوت بحادث عصام، لكنه كان متماسكاً، ولم يرد أن يزعجه، وقال:
- كتب الله لك أن تتعرف على صلاح.
- أين هو؟
- في الغرفة المقابلة لك.
- سأطلب من الممرضة أن تأخذني إلى الأستاذ صلاح.
ليس من السهل أن يرصد الواحد منا قدره، أو أن يقرأ شيئاً منه، لم يخبر عصام روعة حتى الآن، يريد أن ينقل إليها الخبر شيئاً فشيئاً، وحتى يستقر في غرفة خاصة، طلب عصام من روعة أن تحضر له مجموعة من روايته "شوكة عطية" إلى المستشفى، وأخبرها أنه في زيارة لصديق له هناك من شباب ميدان التحرير، وقد طلب منه مجموعة من الرواية لتوزيعها على أصدقائه الذين يزورونه، أعطاها رقم غرفته، وبعد ساعة تقريباً وصلت روعة إلى المستشفى، واتضح لها ما كان خافياً عليها، وحمدت الله على سلامته.
طلب عصام من الممرضة أن تحضر له كرسياً متحركاً كي يقوم بزيارة صلاح في الغرفة المجاورة، أوصلت الممرضة عصام إلى غرفة صلاح، وروعة تحمل مجموعة النسخ لإهدائها لصلاح وضيوفه، تجاوز عددها الخمسة عشر نسخة، يريد عصام أن يوصل رسالة مفادها أن مصابي الثورة أعزاء وقريبون من قلوبنا.
قامت ميرفت بتقديم عصام وروعة لزوجها صلاح على أنهما أصدقاء والدها تعرفا في الميدان، وشكرتهم على تواصلهم الدائم مع والدها سواء كان ذلك من خلال الزيارة أو الهاتف، وشكرتهم على علو درجة الوطنية لديهم، تحدثت ميرفت عن تحسن الحالة الصحية لصلاح، وأنه سيتم نقله إلى المنزل خلال أسبوع، وسيستمر على عمل التمارين الرياضية والعلاج الطبيعي من أجل استعادة وضعه الصحي كاملاً، أما بالنسبة لفقدان البصر، فالصورة لم تتضح بعد إن كان سيستمر على هذه الحالة أم سيعود إليه بصره.
اتصل عصام بالمحامية ريم، وطلب منها أن تحدث ياسين عن عمل لقاء صحفي مع الثائر صلاح الشوبكي الذي سقط مصاباً في ميدان التحرير، وأخبرها عن ما حدث له وهو في طريقه إلى توصيل نسخة من روايته للسفير التونسي، فرحت كثيراً بصدور الرواية وتألمت لما حدث له، وقالت:
- الآن سأكلم ياسين لإرسال الصحفي، وأنا في طريقي إليك.
- هل أنت مشغولة؟
- لا يوجد عندي شيء، لقد وصلنا البارحة من اليونان، هل روعة عندك؟
- نعم.
- جميل أريد أن أتحدث معها عندما أصل.
وصلت ريم ووصل بعدها الصحفي إسحاق معلوف، واستمرت الأحاديث لمدة ساعتين في غرفة صلاح، كان محور الحديث عن الثورة، وعن رواية الشوكة، استعرض لهم عصام مجمل أحداث الرواية، والصحفي يسجل ما يقول عصام.
عبَّر صلاح عن إعجابه الكبير بالرواية وأنه بحاجة إلى قرائتها، لكنه لا يستطيع الآن، تعهد له عصام بأنه من صباح الغد سيقرأ عليه الرواية، ورحب صلاح بذلك، لأنه يريد أن يسمع ذلك من خلال صوت الكاتب الرجولي الذي يعكس طبيعة نغمة الرواية التي تميل إلى القسوة أكثر من ميلها تجاه الرومانسية والنعومة، وإلا لطلب من ميرفت أن تقرأها له.
زادت درجة الحساسية لدى مطلقة ياسين فريدة بعد تنامي تفاصيل حياتهما الزوجية من خلال صديقتها المحررة في المجلة سوزان أحمد، التي كانت تحاول من قبل نسج علاقة عاطفية مع ياسين بعد أن أصبح عازباً، لكنه لم يعطها أي نوع من الاهتمام، فانقلبت عليه وأصبحت تزود فريدة بالأخبار الداخلية في المجلة، سوزان قريبة من فريدة، ولم تنس فضل مساعدة فريدة لها بتوظيفها في المجلة من خلال توسط ياسين، فسوزان خريجة قسم الإعلام قبل سبع سنوات ولم ترتبط بأحد بعد، لكنها نشيطة في مجال اللقاءات الصحفية وتملك شخصية قيادية، وتفكر في الانتقال للعمل في قناة فضائية وهي على وشك توقيع العقد.
تسارعت خطوات بدوي الكتابية في محاولة منه إنهاء الرواية في وقت غير بعيد عن رواية شوكة جده، خصص بدوي فصلاً كاملاً لعملية إحصائية لدخل العملية الاستثمارية لحكومة السجن، فقد تجاوز الدخل المفترض في العشر سنوات أحد عشر مليار جنيه، وصفها منذ البداية في مشاريع اقتصادية تدر ريعاً على مصابي الثورة وشهدائها، وعلى تطويرات تحتية في الصعيد والقرى الفقيرة، أحس بدوي بنوع من الحسد تجاه عصام الذي أنهى قبله كتابة الرواية وطبعها، كان يريد أن تكون روايته "حكومة سجن طرة" أول رواية تطبع في مصر تتحدث عن الثورة ، وتدعمها معنوياً، يريد بدوي أن يحصل على نوع من النجومية من خلال كتابته للرواية، رجل مغمور لا يعرفه غير العاملين في الفندق وأسلاك الكهرباء، لقد حلت الغيرة والحسد في قلب بدوي، وبدأ يقلل من اتصاله بعصام، يريد أن يقدم عملاً من أجل تخليد اسمه والانعتاق من جلباب عصام الروائي.
لا يستغني العمدة هنيدي في اجتماعاته الليلية عن وجود بسطامي الذي بوجوده يقتل أي نوع من الملل والكآبة، حيث رزقه الله وجهاً طفولياً مدعوماً بمجموعة من الاندهاشات البسيطة والقوية منها، يملك كنزاً هائلاً من القصص والمواقف التي حدثت له وأخرى سمعها من آخرين، ولكن طريقة عرضه مختلفة جداً عن الطريقة التي وصلت إليه، يظل على اتصال شبه يومي بابنه هشهش في القاهرة، وأيضاً بعد سفره إلى بريطانيا، عندما يسأله هنيدي عن علاقاته ومشاكله مع زوجاته لا يخبئ عنه شيئاً، ولكن يضيف عليها نوعاً من الدعابة والمرح.
حل بسطامي ضيفاً خفيف الظل على عصام لدفع تكاليف رحلة ابنه هشهش ومصاريف الدراسة هناك، لكن روعة رفضت ما أراد أن يفعله بسطامي وقالت:
- دفعت عن ابني الثاني، ولن آخذ تعويضاً عن ذلك مهما أصريت أو حاولت،اعتبر ما فعلته حلاوة انتصار الثورة.
- لقد أفرحتيني عندما قلت أنه ابنك الثاني، ولذلك لن أجبرك، وسأرجع الآن.
- لن ترحل قبل أن تمضي عندنا أياماً، وتلطف الجو برحابة صدرك وطيبتك.
- أتعبتني طيبتي مع العمدة وأصبحت بالبلدي مسخرة، ففي جلساته يدعوني دائماً، أما في الاستشارات وأخذ الرأي يتركني، ويميل إلى الصامتين في مجلسه دائماً لأخذ المشورة.
- لكنك تملك قلباً كبيراً، فما عليك إلا الصمت وتقليل المشاركة ثم انتظر النتيجة.
- إني لا أستطيع الصمت، أحب زرع الابتسامة والضحك، الصمت يرفع ضغطي، لقد حاولت من قبل وتعبت.
- إذن اصبر على ما أنت فيه واحتسب.
إن علاقة بدوي بأخيه بسطامي ليست قوية، والسر وراء ذلك أن والده أمين يميل إلى الابن الأكبر بسطامي، ويحمله مسؤولية إدارة المزرعة، وزوجة بسطامي أيضاً تحن على أمين وتهتم به، وتعتبره أباً لها.
(17)
بمساعدة القلم السوزاني كتبت فريدة تفاصيل قصتها مع زوجها السابق ياسين وعملية الخلع، دون أن تذكر اسمه، إنما تطرقت إلى كيف وأين انتهى به المطاف، وزواجه من محامية معروفة، لم تكتب اسمها الصريح، بل نشرت القصة تحت اسم القاصة "جيهان عبد الله"، أرسلت القصة على البريد الإلكتروني للمشرف على الصفحات الثقافية بالمجلة، وتم نشرها دون أن يطلع عليها رئيس التحرير لأنها خالية من المحاذير التي تمنع نشرها. فجع ياسين بالقصة وأسود وجهه، وشك أن وراءها فريدة وسوزان، استغرب ياسين وجود هذا القدر الهائل من الحقد في جوف فريدة الذي عاش معها قرابة خمسة عشر سنة.
انقطعت سوزان عن المجلة، وباشرت عملها في القناة كمقدمة برامج، دون أن تلتقي رئيس التحرير، لقد ختمت خدمتها بالمجلة بمساعدة قريبتها على من ساعدها ووقف معها طيلة السنوات السبع الماضية، حمل ياسين نسخة من المجلة وأعطاها ريم وقال:
- انظري كيف يفعل الحقد بالبشر.
- لا عليك، إنها غبية التي فرطت فيك.
- ليتها فعلت ذلك قبل عدة سنوات، وأكون تعرفت عليك، لم أعهدها بهذه الشراسة والحقد كما هي عليه الآن.
- زواجك مني أجهز على أي فرصة يمكن أن تعود إليها، إن أردت فعل ذلك فأنت حر.
- أترك الجنة والظل الظليل وأعود إلى الرمضاء.
- إذن عليك أن تنسى الموضوع، وأن تعمل خططاً من أجل تطوير المجلة، فنحن نعيش في عصر الثورة.
- إني أفكر في ذلك.
أتت ردود كثير من القراء حول قصة جيهان، أغلبها يشيد بالمقدرة الكتابية لدى القاصة، واللياقة الأسلوبية، وبشروا بمستقبل واعد للقاصة إذا استمرت على النهج وتوج بقراءات معرفية، لم يشأ ياسين أن يقفل الموضوع بل تجاهله تماماً وترك المحرر وشأنه.
قضية كبيرة أتت إلى مكتب المحامي النابلسي من العيار الثقيل للدفاع عن أحد رجالات النظام السابق متهم بأخذ عمولات وتبييض أموال، أحالها النابلسي إلى ريم لدراستها والدفاع عن المتهم، أتعاب القضية لا يمكن لأي مكتب محاماة التفريط فيها، اعتذرت ريم وقالت:
- لا يمكن أن أقبل بذلك حتى لو لم أجد أي قضية، وآكل من الخبز الناشف.
- لن أجبرك عليها لكن فكري في الأمر.
- فكرت وانتهيت، احتقرت نفسي عندما قبلت أن أكون عضواً في مجلس الشعب، ولن أكرر الغلطة مرة ثانية.
رجع بسطامي إلى القرية بعد ثلاثة أيام قضاها في القاهرة يحمل إرادة قوية بالتقليل من امتهان الكوميديا عند العمدة أو حتى داخل منزله ومع زوجاته، لكنه حمل أيضاً أعداداً من نسخ رواية عصام الأخيرة ليسلمها إلى بدوي حسب طلب عصام.
ظلت النسخ عند بسطامي أسابيع عدة وبدوي لم يسأل عنها، على الرغم من إخبار بسطامي بذلك، أخذ بسطامي إحدى النسخ وأهداها للعمدة هنيدي، فرح هنيدي بها وقال:
- اقرأ علينا مما كتب فيها يا بسطامي، كنت صغيراً وأعرف جدك عطية، وكان يركبني على حماره.
- أعطها شخصاً آخر يجيد القراءة، ويكون أفضل مني.
عادت إشكالية العمود الفقري والمفاصل إلى عصام من جديد، وأحس أن هناك أمراً جاء لينغص عليه قطاف ربيع الثورات العربية والتمتع بمتابعة شؤون الحراك العربي عبر القنوات الفضائية، وبدأت آلام الأرجل تعود من جديد، لكنه يحمد الله الذي حفظه حتى يرى بأم عينه سقوط آلهة النفاق والكذب، تردد في اسم الرواية، وقارب أن يسميها على غرار روايته السابقة "جاب الذيب من ذيله" لتكون الرواية الأخيرة "جابو الريس من ذيله" لكن بدوي قد سبقه في التفكير بذلك، وآثر الابتعاد عن الاسم السابق، خصوصاً أن الريس قد سقط من ذيله، وذيله هنا بقية رموز نظامه ابتداء من أسرة آل مبارك وانتهاء بوزرائه ورؤساء المجالس والمحافظين، هناك فارق كبير في الرواية الأولى التي تتحدث عن قضية البحث عن الحقيقة المستعصية على الفلاسفة والمفكرين، وبين حقيقة الأنظمة العربية التي هي مكشوفة وبوضوح أمام الجماهير، لكن الخوف ضارب أطنابه، حتى أتت ساعة الصفر وكسرت بعض الأطناب وبدأ الفرج.
تعثر مشروع بدوي الروائي، وقرر تأجيله حتى تتضح الصورة من خلال الانتخابات المقبلة، فلو حالفها النجاح دون حدوث مطبات هوائية في جو التصويت، وخلت أيضاً من التآمر والوصاية، فإن نفسية بدوي تكون في وضعية الشخص الواثق من خطوته، لتجعله يسيطر على شخوص الرواية على الرغم من تنوع مداركهم ومشاربهم، البرودة سيطرت على العلاقة الساخنة سابقاً بين بدوي وعصام، واشتعلت علاقة بسطامي مع عصام بسبب متابعة أحوال هشهش.
بعد الثناء العطر الذي عبرَّ عنه بعض القراء على القصة التي كتبتها سوزان عن أحداث قصة خلع زوج فريدة، أدركت أنها قادرة على تحويل هذه القصة القصيرة إلى رواية، ومن ثم تحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفازي، خصوصاً أنها تقابل العديد من الذين يعملون في المجال الفني من ممثلين ومخرجين ومنتجين، الآن دقت عندها ساعة الصفر من أجل كتابة الرواية، وأول اسم أطلقتها سوزان على الرواية "خلع الريس"، يتبادر إلى ذهن القارئ أولاً الوضع السياسي في مصر وما تلته من أحداث، ولكن الكاتبة لم تدس بقلمها على البعد السياسي، إنما أوغلت في عمق الطرح الاجتماعي، وخصوصاً العلاقة الجنسية بين الزوجين، إن هذا التوجه اللعين عند سوزان الآن، ومن قبلها صاحبة الفكرة فريدة، حمل معه أشياء كثيرة، وعلى رأسها أن من يسكت عن حقه قد يجعل الآخرين يتمادون في استلهام الأفكار الشيطانية للانقضاض على مكامن الخير عنده.
أهم ما يميز كتابة سوزان لغتها الشعرية التي تأسر القارئ، على الرغم من خلوها من طريقة المعالجة الجيدة التي من المفترض أن يقوم بها الكاتب، سوزان لا تعالج إنما تفتح الجرح وتتركه يتعرض للالتهاب، قسمت ساعات عملها بين الإعداد لبرنامجها الأسبوعي "أشواك في الطريق" وكتابة روايتها "خلع الريس" التي تطمح أن تنتهي منها خلال شهر، لأنها قد تجاوزت فيها القضية لكونها كتبتها كقصة تسعى إلى توسيع الأحداث، وإضافة بعض الوجوه، لقد نشرت القصة من قبل، وهذا ما شجعها لتحويلها إلى رواية عرضتها على المنتج رفاعة يسري، الذي رحب بتحويلها إلى فيلم سينمائي في أسرع وقت، لا يعرف ياسين حتى الآن ما تدبره له سوزان، أو بالأصح عن نجوميتها الواعدة في مجال الرواية، إنها توظف برنامجها لخدمة أعمالها الخاصة، لا أحد من الفنانين أو المنتجين أو المخرجين يرفض أن يتم استضافته في برنامجها للتحدث عن ما مر فيه، من خلال مشواره الفني وحياته بشكل عام.
بدأت سوزان تسعى عن ناشر يقوم بطباعة روايتها وتوزيعها، وفعلاً وجدت أحد ملاك دور النشر ويدعى أحمد فوزي، واستضافته في برنامجها على أمل أن تقوى علاقتها مع الناشر، وفعلاً وافق مبدئياً على طباعة روايتها مقابل 50% من دخل التوزيع، وأن تكلفة الطباعة هدية من دار نشره للقناة، لأنه يعرف أن ذلك سينعكس ايجابياً على داره، في اليوم الذي استلمت فيه النسخة الأولى من الرواية سلمت إحدى النسخ إلى المنتج رفاعة لعمل الفيلم السينمائي، سلم رفاعة النسخة التي وصلته من سوزان إلى كاتب السيناريو الذي يتعامل معه منذ فترة طويلة ويدعى طلعت الشريف، وإلى هذه المرحلة لا يعرف ياسين ولا ريم عن ذلك شيئاً، وقع رفاعة مع سوزان عقد تحويل الرواية إلى عمل فني مقابل 5% من دخل الفيلم.
(18)
رجع عصام إلى مناقشة قضية حمار عطية الذي كان يهتم به صاحبه ويطعمه بعضاً من التمور التي يحصل عليها مقابل أتعابه، فهو لا ينسى رفيق دربه ومشواره اليومي الذي يعتلي فوقه في ذهابه وإيابه من إعطائه شيئاً كرد اعتبار على الخدمة الجليلة التي يقدمها له هدبان كوسيلة مواصلات لا تحتاج إلى وقود ترتفع أسعاره حسب المناخات السياسية، يعطيه التمر في بداية مشواره والعودة أي قبل تناوله لعلفه في الصباح والمساء، في أيام الصيف يرشق عليه عطية كمية من المياه لتنظيفه، وأيضاً للتبريد عليه، وفي كل عيد يغسله بالصابون الذي يغسل فيه ملابسه، لهدبان مكانة كبيرة في قلب عطية، لا يفرقه عن أبنائه في شيء، رفض أن يبيعه لجاره بعد أن استقر في مزرعته، وظل عنده حتى مات ودفنه في حفرة كبيرة تقديراً لمكانته، ولا يريد لحيوانات الجيف أن تنهش منه حتى لو كان ميتاً، في روايته شوكة عطية كان يصف القادة بالحمير التي بدأت تفهم معنى الشوك الذي بدأ يلامس جسدها بقوة، ولكن في الحقيقة حدث نوع من تبادل الأدوار في السنوات الماضية، أو بالأصح في القرون الماضية كانت هناك أشواك تلامس أجساد المواطنين بقسوة من خلال الأجهزة الأمنية، يا للروعة ما أحلى تبادل الأدوار، قالها عصام، وأصبح كل من يرشح نفسه لتولي منصب قيادة الشعب يفكر ألف مرة بأن الشعوب تملك سلاحها وقوتها، وتستطيع أن ترمي حمارها أرضاً، وتسير هي في طريق الحرية، لقد خرجت الشعوب من دائرة الانقياد إلى دائرة قيادة أنفسها من خلال من يمثلها.
في بال عصام سؤال يود لو عرف إجابته من أسرة آل مبارك، عن ماذا لو عرفوا مصيرهم الذي هم فيه الآن يقبعون؟ وهل يقبلون فيه مقابل ثلاثين عاماً مضت من الحكم؟، سؤال عصام يرقد على عنصر الزمن، والزمن شيء يصعب قياسه، زمن إجابتهم على السؤال هو عامل الحسم في الموضوع، إذن زمن العالم العربي بدأ الآن، وبدأ يشتغل عداده، كان في السابق عداد الزمن لا يعمل لأن العقل العربي مقصى، والإقصاء كارثة تحل على الفرد والمجتمع والدول.
أرسلت سوزان نسخة من روايتها لياسين وكتبت معها رسالة تفيد بأن الرواية في طريقها إلى عمل سينمائي، تصفح ياسين الرواية وقرأ الرسالة وبدأ يتحدث مع ريم:
- كارثة حلت بي، أريد أن أرفع قضية على الكاتبة وإيقاف عمل الفيلم.
- تتحدث عن ماذا؟
- عن قصتي مع فريدة ومعك.
- لكنها لم تذكر الاسم، وهذا مربط الفرس، التشهير له ثلاث مرتكزات، تحديد الهوية والتشويه والنشر، فهويتك لم تحدد.
- لكن من حولي يعرفون أني المقصود بذلك، ارفعي القضية في أسرع وقت ممكن.
- لن تكسب القضية حتى لو قدر القاضي وضعك، لأنها ستقول إنها نشرت قصة الرواية في مجلتك أولاً ولم تعترض، وهذا الخطأ الفادح الذي كلفك الكثير.
- إذن ما المطلوب فعله؟
- لا تفعل شيئاً، اكتب لها رسالة وبين فيها أننا سنكون أول المشاهدين للفيلم في حالة عرضه، كن كالصخرة التي تتحطم عليها المشاكل.
- فعلاً، سأكتب لها رسالة الآن.
قرر معهد اللغة الذي يدرس فيه أحمد وهشهش في لندن أن يعمل في آخر يوم رحلة خارج لندن إلى مدينة "ألتون تورز" الترفيهية وتعاقد المعهد مع شركة سياحية يملكها رجل مصري يسير حافلات إلى المدن الترفيهية والأماكن السياحية.
يشرح المسؤول عن الرحلة ويدعى محمد، طالب في السنة الرابعة هندسة الالكترونيات في جامعة الإسكندرية، جاء في الإجازة الصيفية إلى لندن للعمل وتحسين وضعه المالي، قص قصته على أحمد وهشهش وجلس معهما في أحد المطاعم في المدينة، إنه على أخلاق عالية وعصامي، قام محمد بسؤال أحمد وهشهش عن نيتهم في العام بعد المقبل في اختيار التخصص في الجامعة، تحدث أحمد:
- أريد أن أدرس في كلية الطب، وأصبح طبيباً أعالج أبي من أمراض الشيخوخة.
أما هشهش فقال:
- قرأت رواية عصام التي هي مدخل إلى عالم الفلسفة، وأحب أن أدرس شيئاً عن المعرفة والفلسفة.
ثم علَّق محمد:
- تخصصات جميلة، الطب والفلسفة، ولكن كيف يكون وضع وتفكير والديكما حيال تخصصاتكما.
رد عليه هشهش:
- فكرت في التخصص أثناء وجودي في لندن مع إدراكي الكامل أن والدي سيرفض ذلك ويريدني أن أصبح طبيباً.
أحمد:
- حاول والدي أن يحبب ويقرب الفلسفة والفكر من نفسي، لكنها لم تستهوني على الإطلاق.
أمضى أحمد وهشهش يوماً جميلاً في المدينة الترفيهية بصحبة محمد الذي أعجب بعقلية وأدب كل منهما.
توقف هشهش عند إرادة وطموح محمد الذي أتى من بلده كي يجمع قليلاً من النقود لتعينه على تكملة دراسته الجامعية، ذكر لهم محمد أن أستاذه يشجعه على مواصلة دراساته العليا في نفس التخصص في كندا أو اليابان، وذلك نتيجة للتقدم الكبير في مجال هندسة الاتصال.
يشكر عصام الله كثيراً على وضع ابنه عندما يشاهد أوضاع أطفال الشوارع، وأنهم حتى الآن بعيدون من يد المساعدة على الرغم من قيام الثورة، وقد يكونون صيداً سهلاً لصقور الفساد والجريمة.
تابع عصام خطاب الرئيس الأمريكي أوباما، ولم يجد فيه شيئاً قيماً عن الصراع العربي الإسرائيلي، وبارك في خطابه الثورة التونسية والمصرية وأن هناك الكثير من الدول العربية في الطريق إلى السقوط في جوف الديمقراطية، قال عصام بينه وبين نفسه:
- يا سبحان الله هذه الدولة دعمت أسرة آل مبارك أكثر من ثلاثين عاماً ودول دكتاتورية أخرى تدرك الآن أهمية الديمقراطية بعد أن تحركت شعوب المنطقة وشاءت الأقدار.
عقد في دبي منتدى الإعلام العربي وشارك فيه أعداد كبيرة من الإعلاميين العرب، وبدأت بعض القنوات العربية بعمل اللقاءات معهم، وهم من جنسيات مختلفة، وكان جل حديثهم عن ربيع الثورات العربية، استطاعوا أن يخرجوا شيئاً من أعماق أعماقهم حول الحرية كان مخبأً في داخلهم طيلة سنوات عملهم السابقة، وتناسوا أنهم كانوا يعملون فيها قنوات لا تؤمن بالحرية أصلاً، ولم يتفوهوا ببنت شفة حيال فلسفة القنوات التي يعملون بها، لقد خضعوا لرقابة ذاتية طيلة السنوات الماضية من أجل لقمة العيش.
هنا تذكر عصام صديقه إبراهيم عنّا مستشار الوزير الذي تحول بقدرة قادر إلى أحد المنافحين عن الحرية، الثورات الحديثة في نظر عصام لم تقم بإعطاء الذين وقفوا في وجه الأنظمة السابقة فرصاً كبيرة بتولي المناصب القيادية في الإعلام وغيره، همَّش أبطال التحرير السابقين والذين تعودت جوانبهم على السجون.
لاحظ عصام هدوء الإعلانات الفنية التي كانت في السابق الشغل الشاغل للعاملين في المجال الفني، كانت الدراما والكوميديا سكك للهروب من حالة الاكتئاب التي يمر بها المواطن المصري، أما الآن فإنه أصبح مبتسماً والابتسامة تخفف عليه كثيراً من ضغوط الحياة، وبدأ يستخف بأفلام "الهشك بشك"، يبدو أن سياسات القنوات الفضائية التي كانت تنتج الأفلام والمسلسلات العربية جرى عليها ما جرى من التغير، وأن ربيع الثورات قد جرف معه الضحالة في الطرح وسياسة "الجمهور عاوز كده"، وهذا السبب الذي كان وراء مساندة أغلب الفنانين للنظام السابق كي تروج أعمالهم ويظل في قصورهم العاجية.
(19)
عالم جديد دخله صلاح من أوسع أبوابه، إنه عالم فاقدي البصر أو بالأصح المكفوفين، والمشكلة أنها حلت عليه مع حلول عام جديد على الشعب المصري، عام بدأت تتحرك فيه شفاه المواطنين وفتح أفواههم التي كانت مقفلة طيلة العقود السابقة، التي لا تفتح إلا أمام طبيب الأسنان.
صلاح الذي شارك في الميدان وعاجلته الغازات السامة التي أفقدته بصره، يريد أن يرى كيف يحرك الشعب المصري شفاهه، إنه في معزل تام عن عالم الحرية يدفع ضريبة مواجهة الفساد والطغاة، صرخ صرخة غضب في وجه ميرفت قائلاً:
- أريد أن أفقأ أعين من تسببوا في فقدان بصري، وغيري الكثير من الذين يعانون مشكلة العمى.
- سيرجع بصرك، لكن استمر على العلاج.
- أريدك أن تأخذيني إلى الميدان اليوم، وأيضاً اشتقت إلى سماع صوت عصام الذي يبعث داخلي الأمل.
- ارس لك على بر، تريد الميدان أو تذهب الى عصام.
- أريد الاثنين.
- كيف؟
- اسأليه إن كان يريد الذهاب إلى الميدان، أقول لك أعطيني موبايلي سأتصل عليه.
كاد صلاح يبكي وهو يتحدث مع عصام، قدر عصام مكالمته ووافق على الذهاب معه مساءً إلى الميدان عندما تخف الحرارة قليلاً، يعرف عصام صعوبة الموقف الذي يمر به صلاح هذه الأيام، فمشكلة فقدان البصر المفاجئ تحتاج إلى وقت طويل حتى يسلم الفرد لمشيئة القدر، ويتكيف مع العالم من حوله، إنها مأساة وهناك آخرون ضحايا الثورة في تونس سببت لهم إعاقة كاملة، شاهدهم من خلال الشاشة الفضائية.
طلب صلاح الحرية لعقله، لكنه فقد حرية النظر، إنه يعيش مرحلة الصدمة أكثر من الآخرين الذين يعيشون المعاناة نفسها، بدأ ينغلق على ذاته، وهذا ما يخيف ميرفت التي بدأت تعاني من وضع صلاح، يجب على الدولة أن تهتم به وتعالجه حتى لو في الخارج، تحدث معها بصراحة وقال:
- أتألم كثيراً لأني فقدت رؤية وجهك الجميل، أنسيت قصة حبنا خلال سنوات الجامعة؟ أعيد تلك المشاهد أمامي في اليوم ألف مرة.
- عملك في الميدان أعظم ألف مرة من قصة حبنا، فقصة حبنا واحدة، وما فعلت قصة حب أخرى لملايين المصريين، كل آهة تقولها أو تفعلها أتألم أنا أضعاف مضاعفة.
- أنت عظيمة يا ميرفت.
- وأنت زوجي المناضل منذ أن كنت طالباً في الجامعة.
يتابع عصام الوضع في اليمن والفرصة الأخيرة هذه الليلة ويده على قلبه خوفاً من أن يرفض الرئيس علي عبد الله صالح التوقيع على المبادرة الخليجية، التي بموجبها يتنازل الرئيس بعد مرور ثلاثين يوماً، وتكون هناك حكومة وطنية، إذن عين على اليمن وعين يتابع بها الأحداث في سوريا وليبيا، في هذه الليلة أيضاً وصل أحمد وهشهش من لندن بعد غياب دام شهرين تحملا فيه جهد الغربة والدراسة، تجربة جديدة لصغيرين وثقا فيهما أبويهما، طلب هشهش من عصام أن يأخذ معه أحمد إلى القرية لمدة أسبوع ويعودا بعد ذلك لبدء عام دراسي جديد يودعا في نهايته مرحلة ويدخلا مرحلة جديدة، وافق عصام بعد أن أخذ موافقة روعة، التي وافقت شريطة أن يظل عندها ثلاثة أيام، ومن ثم السفر إلى القرية، لكن عصام استدرك وقال لروعة:
- لماذا لا نذهب جميعاً هناك لمدة أسبوع نريح أعصابنا في جو القرية الجميل؟ ويكون الرئيس اليمني وقَّع على أقل من مهله.
- لا يوجد لدي أي مانع، وأيضاً تريح أعصابك من متابعة الأحداث العربية طوال اليوم.
- وهل تتوقعين أني لن أتابع الأخبار هناك؟ هذا غير صحيح سأقلل وأكتفي بمتابعة الأخبار قبل النوم، تعودت ألا أنام قبل أن أتابع أكثر من نشرة أخبار.
- لكن قل لي، ماذا تريد أن نأخذ معنا؟
- نشتري الأشياء فيما بعد من أسوان.
فرح الشابان بمعرفة ذهاب الجميع، والسفر بالسيارة أريح بكثير من القطار المزدحم والبطيء، سأل عصام هشهش وأحمد عن أهم شيء استفاداه من الرحلة، فأجاب هشهش:
- مقولة جميلة قرأتها في كتاب القراءة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل تقول"never, never, never give up" ترمز إلى عدم الاستسلام.
أما أحمد فقال:
- استفدت لغوياً، لكن في الحقيقة جل من شاهتهم في الشوارع والمواصلات والمطار من الأجانب المتجنسين.
علَّق عصام على كلمة رئيس الوزراء بأنها مقولة مهمة ينجح من يطبقها، أما ملاحظة أحمد فهي مهمة أيضاً تبين تحول العالم إلى دولة عالمية واحدة.
علم بدوي بقدوم عصام وروعة، لكنه لم يحرك ساكناً، واعتذر عن القدوم إلى القرية لتناول طعام العشاء الذي أعده أمين، متحججاً بوجود موعد عنده في المساء مع إدارة الفندق.
أصبح الميدان نقطة وصل بين العرب من خلال تواجدهم فيه، وأيضاً من خلال متابعة أحداث الوقفات، رجل عربي تجاوز الأربعين من عمره يفترش فرشة صغيرة وسط الميدان ويستلقي على ظهره ويطالع السماء، هذا الرجل قطع مسافات طويلة من أجل أن ينام هناك، أصبح الميدان الآن رمزاً ومزاراً للسائحين العرب التواقين إلى شم رائحة الحرية.
في الستينات كانت شخصية عبد الناصر القومية تلعب دوراً مهماً لدى الإخوان العرب، أما الآن فميدان التحرير أصبح يدغدغ مشاعر العرب، ومن لم يزره يفكر بزيارة هذا المعلم الحضاري الذي لا يقل أهمية عن تمثال الحرية في الولايات المتحدة.
لم يوقع صالح على المبادرة، وفي ضوء ذلك انقبض قلب عصام، كما أن بدوي لم يأت إلى القرية، الوحيد الذي يشارك عصام اهتماماته الكتابية، عندها قرر عصام أن يذهب إلى بدوي في عقر فندقه الذي يعمل فيه، مع زقزقة العصافير في القرية، حرك عصام مقود سيارته متوجهاً إلى أسوان، دون أن يخبر بدوي بقدومه، وصل إلى الفندق في أقل من ساعة، وسأل عن بدوي وذهب إلى غرفته ووجده نائماً، استيقظ بدوي ورحب بعصام ترحيب المشتاق إليه، وأسمع عصام كلمات ترحيبية، وتأسف عن غيابه عن الحضور ليلة البارحة، أحس عصام ألا يوجد شيء داخل بدوي تجاهه، لكن في الحقيقة ما قال بدوي لا يعكس ما بداخله، إنه ذكي وكتوم يفهم كيف يتعامل مع من حوله، على النقيض من عصام المكشوفة أوراقه، والذي يعزف دائماً على الشفافية والموضوعية والصدق، توسع بدوي في الحديث عن المشاريع والخطط الخاصة بالفندق، ولم يتطرق لأموره الخاصة به والمتعلقة بالكتابة، وأصر على عصام أن يتناول معه وجبة الغداء في الفندق واحتفى به، رجع عصام إلى القرية لتخبره روعة أن صالح لم يوقع المبادرة، وأن الدول الخليجية تفكر بسحب المبادرة، وجهت روعة لعصام سؤالاً:
- كيف ترى لنا السنوات الخمس المقبلة؟ من أجل أن ترتاح وأرتاح أنا بعدك ، راحتي من راحتك.
- أمهليني مدة بقائنا هنا، أفكر في الموضوع ليلاً على موسيقى صراصير المزارع.
مسك عصام يد روعة، وخرجا إلى ربوع القرية تحت ضوء القمر، يتحدثان عن إمكانية السفر خارج مصر في صيف العام المقبل.
(20)
تابع عصام خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، وأعضاء المجلس يقومون ويقعدون ويصفقون كأن أمامهم قائداً عظيماً أو رئيساً من الدول الاشتراكية السابقين، نسف في خطابه كل شيء حول حدود عام 1967، وأنكر في خطابه عودة اللاجئين وتقسيم القدس.
بعد مرور خمس ساعات تقريباً يتصل عنّا على عصام للتعليق على خطاب نتنياهو، وافق عصام من أجل إيصال رسالة على الرغم من تهربه من اللقاءات الفضائية، خلال الساعتين بدأ عصام يرتب أوراقه للتعليق على الخطاب التشاؤمي لدى أغلب المحللين العرب.
استهل عصام حديثه عن إشكالية الصراع العربي الإسرائيلي، بالخبرة العربية في الاقتتال فيما بينهم، والكلمات التي كررها بعض العرب في ليبيا وسوريا واليمن بأن هذه الأنظمة تفعل العجب أكثر مما فعلت إسرائيل بغزة، إن ما قالوه العرب ليس دفاعاً عن إسرائيل، إنما انظروا كيف تفعل الأنظمة العربية بمواطنيها، وفي ضوء ذلك طلب عصام أن يؤجل أي تفكير أو حلحلة للقضية الفلسطينية لمدة خمس سنوات، يقوم الفلسطينيون بتدمير ما يملكون من أسلحة بسيطة تملكها حماس لا تسمن ولا تغني من جوع، أسلحة بسيطة أقل من الأسلحة التي يملكها الثوار الليبيون، والتي لم تفعل شيئاً أمام قوة القذافي، ولولا التسخير الإلهي لحلف الناتو لداس العقيد على رقاب وجثث الليبيين في بنغازي وغيرها من المدن الليبية، والحالة الفلسطينية شبيهة بوضع الثوار إن لم تكن أقل بكثير.
لا يقصد عصام هنا ألا يفعل العرب شيئاً إنما عليهم استخدام الثورات السلمية التي تحرك الشارع العالمي أكثر من الصواريخ العبثية، وهذا ليس تقليل من عزيمة المجاهدين الفلسطينيين، إنما لإبعاد الشماعة التي تعلق عليها إسرائيل قتلها للفلسطينيين، مدعية تهديد وجودها وحدودها، خمس سنوات من الهدوء والتركيز من جديد على القضية الفلسطينية من خلال "الفيس بوك" و"التويتر"، لعل ذلك أرحم بكثير من المواجهة العسكرية التي لا فائدة منها لعدم التكافؤ.
ثانياً، بعد اكتمال عقد الثورات العربية يمكن تسخير المصالح العربية من أجل دعم القضية الفلسطينية من خلال البعد الاقتصادي المهم في هذا الوقت، قال عصام أيضاً:
- نحن اليوم أحوج ما نكون إلى استخدام العقل والفهم المعاصر الذي يكسبنا أكثر من الخسائر المتتالية لنا بسبب عقدة الحرية التي بدأت تتفكك شيئاً فشيئاً من خلال ربيع الثورات، على الرغم من أن العقدة لم تنحل كاملاً، وفي إنهاء آخر عقدة في الحرية يتم ضرب الإرهاب السياسي والديني الذي أنهك الشعوب العربية طيلة العقود الماضية.
اقتنع عصام بما يشاهده في ميدان التحرير من تظاهرات من وقت لآخر لإثبات استمرارية وجود قوة الميدان من أجل التعجيل بتنفيذ متطلبات الثورة، يريدون تطبيق المفهوم البرغماتي للثورة، الذي يقوم على الصدق في ربط أفكار الثورة مع تصرفات الشعب، وذلك للوصول إلى إيجاد سلوك ناجح في الحياة.
بدأت الثورة في مصر بتفعيل دور نقابات الفلاحين وذلك من خلال وجود الاتصال المفتوح بين الفلاح ونقاباته لحل ما يواجهه من مشاكل، فما عليه إلا إرسال رسائل عبر الموبايل يشرح فيها حقيقة الصعوبات التي يواجهها في مزرعته، وفي ضوء ذلك يتم إرسال المندوب لمتابعة مشكلته.
الحرية لها طعم لذيذ وجميل لا يعكر صفوه إلا سكرات الموت.
أجرى عصام تعديلاً على طريق قطار بو عزيزي، فبدلاً من أن يكون مساره من الشمال إلى الجنوب اقترح أن يكون من الشرق إلى الغرب، ليتحقق المعنى الشامل لقطار تونس العظيم الذي يربط شرقها بليبيا وغربها بالجزائر، وذلك من أجل إيصاله إلى مصر والجزائر والمغرب، وفي ضوء ذلك نكون قد تجاوزنا التنظير ودخلنا إلى عالم الفعل على المستوى المحلي والقومي.
قرر عصام أن يسلم هشهش زجاجة تراب الميدان ليقوم بمتابعة شؤونها، ويسلم نفسه لابنه أحمد الذي بدأ دراسة الطب في جامعة القاهرة، ودخل هشهش الجامعة نفسها مع صديقه أحمد.
وافق بسطامي على توجه هشهش بعد أن أقنعه عصام بألا يعارض تخصص اشتاق وقرر من يريد خوض غمار التحدي، اشترط عصام على ابنه أن يدخل أي تخصص يختاره فيما بعد في الكلية عدا قسم النساء والولادة قائلاً:
- أريدك أن تعالجني من أي شيء أشكو منه، لكن لو ذهبت للقسم الذي أنا كإنسان خارجه فلن أستفيد منك شيئاً.
- لكن والدتي روعة تستفيد.
مشوار أحمد طويل كطول المشوار المطلوب لربيع الثورات.
اندفع بسطامي في مجلس العمدة هنيدي نحو الحديث عن الثورات العربية تاركاً القصص والكوميديا جانباً، يريد أن يدخل في عالم السياسة وتراجيديا الأنظمة العربية، إنه في حالة هروب من الابتسامة نحو الألم، يبحث عن موقع جديد لدى العمدة.
عرض بسطامي على هنيدي نفس ما يفعله مع أخيه محمود وهي تجارة الماشية وخصوصاً الجمال، وجلبها من السودان بسعر أرخص من مصر، لكن هنيدي لم يستجب لطلب بسطامي، لأنه لا يرى فيه إلا المسلي وصاحب النكتة، لم يدرك بسطامي أن عالم الكوميديا أفضل بكثير من عالم التراجيديا المحزن الذي لا يقوم ولا يقعد إلا على مصائب البشر، فمن ينظر إلى الحياة بعقله يجد إنها عالم مليء بالكوميديا، حتى لو لبست ثياب التراجيديا.
بدأ بسطامي يشتغل وحده في تجارة الإبل، والتعرف على تاجر سوداني يتعامل معه بالأجل حتى تصريف ما عنده، إنه مطالب الآن بتوفير مصاريف ابنه الوحيد هشهش، على الرغم من أن المسكن والمأكل وأحياناً الملابس كفلتها له علاقته الجيدة بأحمد، انقطع بسطامي عن مجلس هنيدي الذي بدأ يبحث عنه ويريد مشاركته الآن في المشروع، بعد أن سمع أن أموره قد تيسرت والأرباح بدأت تحل عليه، ومع كثرة مشاغل بسطامي قلت متابعته لهشهش، التي كانت في السابق شبه يومية.
تتابع روعة أمور ابنيها أحمد وهشهش، وكانت ترغب لو أنهما يدرسان في تخصص واحد، في الصباح تذهب روعة للجامعة وهما بصحبتها أما العودة فتختلف حسب موعد المحاضرات، إنهما في بداية مشوارهما الجامعي الذي يحتاج إلى الصبر والمثابرة، اتفق أحمد وهشهش أن يتقابلا يومياً في الجامعة في وقت الظهيرة لتناول وجبة الغداء، لكن مع مرور الوقت واختلاف التخصص تعرف أحمد على أصدقاء جدداً والأمر نفسه بالنسبة لهشهش، لكنهما يظلان قريبان من بعضهما.
عندما تنتحر الشوكة من أجل وردة، فهذه قمة التضحية والرفع من قيمة الجمال عالياً، فعظمة الشوكة في وخزها وما تسببه من ألم تختلف درجاته، فهناك أشواك تسبب وخزات مؤلمة منها الصالح والطالح، البعض منها لا يعيق الشخص عن الركض والقفز، لكن أعظم الشوكات نفعاً للبشرية عندما تتحول الصحافة إلى شوكة في خاصرة الحكومات، ويعم نفعها على الجميع، فكل شيء له ثمن، فشوكة الخاصرة لها ثمن باهظ من الألم والتضحية كي تصبح ناضجة ومثمرة، وبحاجة إلى رعاية يقوم عليها العقل الذي يتصيد مناحي الجمال. وقد تكون وخزات الشوك في الأقدام والأطراف، وأخطرها وخزات الرأس التي تشل بقية أجزاء الجسم، فبعد سنوات عجاف مرت، ربعت هذه السنة الأشواك، واخضر اليابس فيها، واعتدل المائل واستيقظ النائم، وكأننا أمام فيلم أمريكي فيه إبداع في الصورة لحيوانات صغيرة مثل النحل والنمل تجتاح المدينة، هذه المرة أشواك بدأت تجتاح البلاد العربية، أشواك خضراء ربيعها أتى من السماء دون ماء، لكن ليس بمستغرب أن ما يكون يابساً يصبح أخضر بقدرة الإله.
صدر للمؤلف العديد من الكتب والدراسات حول معضلة الحرية الإعلامية في الوطن العربي، وفي مجال الرواية له التالي:
رواية "اللفة" 2002م
رواية "مسيرة القدر" 2005م
رواية "روعة" 2008م
رواية "للحب قوة" 2010م
رواية "جاب الذيب من ذيله" 2011م