صوت تغريد طيور ...
الصوت يتعالي بالتدريج ليتحول تدريجيا من شيء رقيق الي شيء مزعج ...
إنه ذلك المنبه الأحمق يحاول أن يوقظني، في البداية بالذوق ثم يتحول الي القوة تدريجيا...
صمتا يا أحمق، انا مستيقظ ولكني لا أستطيع أن أقوم من الفراش لأوقفك. أحتاج بعض الوقت لأستجمع قواي للذهاب الي اخر الغرفة و أوقفك. المرء يكتسب قواه العقلية كاملة بعد النوم في وقت يتراوح من 15 الي 20 دقيقة. إنه لم يدرس علم وظائف الأعضاء علي ما يبدو.
قمت من النوم متثاقلا الي نهاية الغرفة و قمت بإيقاف المنبه الموضوع علي الأرض في ركن الغرفة. إنها فكرتي أن أضعه في هذا المكان الغريب،لأني أوقفه و أنام دون أن أشعر حين يكون علي الكومود بجوار رأسي. أردت أن أجعل إيقاف المنبه شيئا يستلزم ترك الفراش كي أجبر نفسي علي الإستقاظ في موعدي. نظرت في شاشة المنبه. الساعة الان الثامنة صباحا. اليوم هو الأول من مارس عام 2152. لا فارق، كل الأيام تتساوي لدي.
ولكن لماذا أستيقظ الان؟ يا لي من أحمق.اليوم أجازة ولا توجد اليوم أي العاب أو إلتزامات من أي نوع، و التدريبات موعدها في السادسة مساء. اليس من حقي أن أكسر روتين الإستيقاظ اليومي في يوم مثل هذا؟
حسنا لقد إستيقظت و لا فائدة من تقريع النفس الان.
دخلت الحمام الملحق بالغرفة للقيام بطقوس الصباح المعتادة. نظرت الي وجهي قي المرآة الأنيقة المعلقة فوق الحوض. مازال وجهي كما هو، نفس الملامح القسيمة و النظرة المسيطرة المتحدية كما هي.
أشعر بالجوع. يجب أن أعد لنفسي شيئا علي سبيل الإفطار. هبطت الي الطابق الأرضي و دلفت الي المطبخ لإعداد إفطارمرتجل.سأكتفي بكوب من اللبن و بعض الشطائر. وضعت الكوب و الشطائر علي صينية و أخذتها الي الردهة.
وضعت الطعام علي المنضدة الصغيرة و أزحت الستارة عن النافذة التي تحتل جدارا بأكمله و تطل علي حديقة الفيلا. اليوم مشرق و جميل، المنظر من هنا رائع و لكن...
هناك شيء ما خطأ. اليوم مشرق و الحياة جميلة و كل شيء علي ما يرام، و لكني لا أجد في نفسي إستمتاعا بأي شيء أو الرغبة في عمل أي شيء. يبدو أن الغدة المسئولة عن الإستمتاع بالحياة التي تكلم عنها أحمد خالد توفيق – علي الرغم من أني لم أجدها في كتب علم وظائف الأعضاء- لا تعمل كما ينبغي اليوم. للدقة الوقتية هي لا تعمل اليوم ولا الأيام السابقة. إنه الإكتئاب بحذافيره. الإكتئاب كما ينبغي أن يكون...
نظرت الي الطعام علي الصينية. علي الرغم من شعوري بالجوع فإني لا أجد شهية لأن أضع قطعة واحدة من الطعام في فمي. أشعر أن التهام شطيرة واحدة من هذه الشطائر عمل بطولي تتضائل أمامه بطولات هرقل و أخيل و كل بلهاء الأساطير الإغريقية مجتمعين.
لماذا لا أزور أكرم يوسف؟ أشعر برغبة عارمة في رؤيته والإستماع الي حديثه. أعلم أنه لا يطيق رؤية وجهي ولكنه لن يقدم علي طردي. أعتقد أنه لايزال يحمل لي بعضاً من الود القديم.
صعدت الي غرفتي و بدلت ثيابي. القميص الخفيف، البنطال الجينز و الحذاء الرياضي الأبيض الأنيق.أشعر أني نيست شيئا. ما هو يا تري؟ اه، إنه المسدس. وضعت المسدس الصغير بعد أن تأكدت من أنه محشو بالطلقات في الجراب المعلق علي وسطي. لا يمكن لشخص مثلي أن يخرج من منزله دون سلاح.
خرجت من الفيلا و توجهت الي المرآب الصغير الملحق بها. لم أحاول أن أختار واحدة من السيارات الثلاث كما هي عادتي كلما خرجت، و إنما توجهت الي أقربهم الي باب المراب. لا مزاج لدي اليوم للإنتقاء و الإختيار. كل السيارات تستوي، فلو وجدت في المراب حمارا قرب الباب لركبته و خرجت.
ركبت السيارة و خرجت من الجراج ثم من الفيلا. ضغطت علي زر في السيارة لينغلق باب الجراج خلفي و قدت السيارة في الشوارع المحيطة بمنزلي متوجها بها الي الطريق الذي يقود الي الجانب الشرقي من المدينة، او ما يدعوه البعض الجانب المظلم من المدينة.
وصلت الي الجانب الشرقي من المدينة في نصف ساعة. أسير في الطرقات الضيقة غير الممهدة بسرعة بسيطة و أتأمل ما حولي. كتابات بالإسبراي أغلبها بذيء تسب الحكومة أو تشجع بعض الفرق الرياضية، منازل من طابق واحد أو طابقين تفوح بالفقر و القذارة.
بعض الأطفال يرتدون ثياباً ممزقة و يلعبون الكرة و يتبادلون السباب فيما بينهم. عجوز تجلس علي عتبة دارها في ثياب رثة تلتهم شيئا من طبق صدئ، بينما تنتشر أكوام القمامة في كل مكان.
إنحرفت يمينا حيث الشارع الذي يسكن به أكرم. صفيحة قمامة كبيرة مقلوبة علي جانبها في وسط الشارع و قد سقطت منها القمامة. لقد ضيقت من عرض الشارع الضيق أصلا.
ركنت سيارتي- السيارة عرضها أقل بقليل من عرض الشارع أصلا- أسفل منزل أكرم. في الواقع إن وصف هذا الشيء بالمنزل يحتوي بعض المبالغة. هو عبارة عن مبني متهالك من طابقين، كل طابق تحتله شقة واحدة أصغر من الحمام الملحق بغرفتي.
صعدت السلم الضيق الي شقة أكرم. وقفت أمام شقته مترددا للحظة. لا أحب هذا الشعور بأني شخص غير مرغوب فيه. فكرت في أن أعود أدراجي من حيث أتيت، ثم طردت هذه الفكرة و إستجمعت مشاعري و طرقت الباب.
لحظات قليلة ثم إنفتح الباب و ظهر علي عتبته أكرم. تجهم عندما رآني و إرتسمت علي وجهه اشد علامات الضيق، فلو كان الشيطان ذاته هو من يطرق بابه لما كان أشد ضيقا و تجهما.
نظرت في عينيه للحظة محاولا تلمس أدني قدر من الود أو بقيايا مشاعر الصداقة القديمة لكني لم أجد منها شيئا، و كأني أحاول صيد البطريق في الصحراء.
حاولت رسم أفضل إبتسامة لدي و سألته متلطفا:
-"هل ستدعني علي الباب هكذا؟"
-"تفضل بالدخول".
قالها في جمود و هو يفسح لي الطريق لأمر داخل بيته الصغير.أشعر أن شكل المنزل تغير مقارنة باخر مرة رأيته فيها.مازال المنزل يحتفظ بذلك المزيج من البساطة و النظافة علي الرغم من عدم وجود أي علامة من علامات الثراء، إلا أن لمسة من الذوق والجمال لا تخطئها العين قد زادت عليه.
جلست علي اريكة في وسط الردهة و جلس هو علي المقعد المواجه لها و لم يتكلم. حاولت ان أبدأ معه حديثا ولكني لم أجد موضوعا للحديث، فقط جلست شاعرا بالإرتباك و العجز أمام نظراته الجامدة.
بدا أن هذا الوضع سيستمر الي أن يموت أحدنا، ولكن ما هي إلا لحظات حتي دلفت الي المكان فتاة شابة تغطي شعرها بإيشارب، و هزت رأسها بتحية مهذبة.
-"السلام عليكم".
-مرحبا.
قلتها بإرتباك لأني أعرف أن أكرم يعيش وحيدا. نظرت الفتاة الي اكرم نظرة متسائلة و كأنها تسأله عن كنهي. قالت بديبلوماسية:
-أهلا و سهلا بك، يبدو أنك من أصدقاء أكرم.
ثم نظرت الي أكرم و قالت :
-"ألن تعرفني بالأستاذ يا أكرم؟"
-"انا..."
-" هذا خالد حسني".
قالها مقاطعا في لهجة ذات مغزي. في الحال إرتسمت علامات الفهم علي وجه الفتاة. يبدو أنها كانت تشعر انها رأتني في مكان ما و لا تذكر أين. بالتأكيد هي تري بعض الملصقات أو الإعلانات عن العاب الواقع. بالتأكيد هي لا تشاهد الألعاب ذاتها، فهي لا تبدو من هذا الطراز.
-"من فضلك أعدي لنا كوبين من الشاي".
-"حالا".
قالتها و إنصرفت بعد أن ألقت علي نظرة طويلة متفحصة.
-"هذه..."
-"حنان زوجتي".
قالها مقاطعا إياي قبل أن أسترسل في الكلام او في خواطري.
هذا إذا سبب تغير شكل المنزل. هذه الفتاة هي مصدر لمسة الذوق والتغيير التي أضيفت الي المنزل.
-"لم أعلم أنك تزوجت".
-"أكان واجبا علي ان أستأذنك؟"
-"كلا ولكن..."
لم أكمل العبارة. بالتأكيد لم يكن أكرم ليدعوني الي زفافه، هذا شيء أعرفه يقينا، و علي الرغم من هذا فقد كنت أتمني أن يفعلها.
بعد دقائق جاءت زوجته حاملة صينية عليها كوبين من الشاي و طبق صغير من الحلوي و قدمتها الي.
-"إنها بمناسبة زفافنا أنا و أكرم".
-"زفاف مبارك".
بعد دقائق معدودة إستأذنت في تركنا بمفردنا لكي "نتحدث بحرية" علي حد قولها. لا داعي للتبريرات يا فتاة. أنت لا تريدين التواجد في مكان أكون انا فيه.
عندما إنصرفت نظرت إلي أكرم و قلت له:
-"علي الرغم من قصر فترة زواجك إلا أن زوجتك إكتسبت بعض من صفاتك".
نظر لي متسائلا
-"هي أيضا تكره فكرة وجودي في منزلكما. علي الرغم من تعاملها المهذب إلا أنها لم تستطع أن تخفي هذا".
نظر لي في صمت مقاوما رغبته في الرد علي ثم تغلب عليه طبعه العصبي المندفع.
-"المرء لا يحتاج الي أن يعرفني لكي يكره وجود قاتل في منزله".
-"أهي أيضا تري ان المقاتلين في العاب الواقع قتلة؟"
-"بالتأكيد. المرء لا يحتاج الي الكثير من الجهد ليدرك ان شخصا يقتل الاخرين لكي يسعد مجموعة من المتفرجين المرضي نفسيا هو قاتل".
علي الرغم من اني ناقشت معه الأمر اكثر من مرة إلا أني وجدت نفسي مدفوعا في نفس النقاش القديم. إنفعلت و علا صوتي و انا أرد عليه:
-"أنت تتحدث و كأني قاتل أجير أو رجل عصابات. أنا لا أقتل أحدا و هو جالس في بيته وسط أسرته ولاأنتظر تاجراً في زقاق مظلم لأقتله مقابل أموال من منافسيه. كل المقاتلين يعلمون من البداية ان كل معركة في العاب الواقع لابد أن تنتهي بقتل الجميع الي أن يبقي مقاتل واحد، و لقد إرتضوا هذا و وقعوا عقدا ينص علي هذا، ولم يجبروا علي شيء.لاحظ أن اللاعبين يخوضون هذه المعارك مقابل المال، هم لا يضحون بأنفسهم في سبيل قضية قومية أو مبدأ إن لم تكن لاحظت هذا".
-" أعلم ما تقول، و لكن يبقي..."
قاطعته مكملا:
-"الفرق بيني و بينهم هو تفوقي عليهم. انا أخوض المعركة تلو الأخري و أتغلب علي البلهاء الاخرين في معارك متكافئة، ولا أحسبك من الغباء بأن تلوم علي تفوقي، الذي لم يأتي من فراغ أو بالصدفة، و إنما جاء بالمران والقراءة المستمرين. كلهم يدخل المعركة و أملا في أن يقتلوني و يفوزوا بما أفوز انا به من الشهرة و المال".
-"لا تسيء فهمي، انا لا أراهم أفضل منك لأنك تقتلهم قبل أن يقتلوك. أنتم مجموعة من السفاحين المقامرين، تكسبون المال بإراقة الدماء، و تقامرون علي حياتكم في سبيل المال و الشهرة. كلكم تستوون في هذا".
نظرت اليه في صمت ولكنه إستمر كقطار يسير بلا مكابح:
-"هل هذا هو ما تربيت عليه؟ هل هذا هو ما تعملته من قراءاتك وثقافتك؟ ان الناس تتنافس في أن تقتل بعضها البعض؟ هل صارت القراءة وسيلة لتتعلم بها كيف تكون خبيرا في قتل الاخرين؟"
-"تربيت عليه؟ أي تربية تقصد؟ أتقصد التربية هنا في هذا الحي القذر، بدخل منعدم بينما المدينة بها من الأغنياء من لا يدري كيف يصرف أمواله؟ الثقافة التي تتحدث عنها لا تغني شيئا في هذا العصر. هل إستطاعت مبادئك و أخلاقك و تدينك أن تنتشلك من هذا الحي القذر، علي الرغم من أن الحقراء يحيون في قصور؟..."
-"لهذا إخترت الحياة في القصور و تكون حقيرا مثلهم".
قالها مقاطعا إلا أني أكملت و كأني لم أسمعه
-"هذه مدينة مليئة بالبلهاء. ربما كانوا مرضي نفسيين مثلما تقول أنت، إلا ان هؤلاء المرضي بيدهم تقديم المال و الحياة الكريمة. كل ما أفعله هو أني أرضي هؤلاء الحمقي لأنال هذه الحياة الكريمة."
-"حتي لو كان هذا بالمقامرة بحياتك و قتل الاخرين؟"
-"حتي لو كان هذا بقتل البشر جميعا إن إرتضوا قبول المخاطرة و دخول اللعبة".
نظر لي نظرة من طراز (لا-فائدة-من-الكلام معك) و لم يعقب. أكملت حواري وقد بدأت أشعر بالغضب من أنه وضعني في موقف المدافع عن نفسه- و هو ما يحدث في كل مرة نناقش فيها نفس الموضوع.
-" أنظر إلي نفسك. أنظر الي المكان الذي تعيش فيه و الدخل الذي تعيش به. أشخاص كثيرون أقل منك علما و عقلا يرفلون في الثراء، و أنت تعيش بدخل شهري أقل مما ينفقه أحدهم علي حيوانه الأليف.لقد كانت أمامك الفرص لتعيش مثلهم بل و أفضل منهم إذا أردت، فما الذي إكتسبته من تمسكك بالدين و المبادىء؟ "
-"إكتسبت الكثير. إكتسبت إحترامي لنفسي. يكفي أن أنظر الي نفسي في المرآة دون أن تروادني الرغبة في أن أبصق علي صورتي في المرآة, وأضع رأسي علي وسادتي ليلا مستريح الضمير. إكتسبت نظرة الإحترام في عيني زوجتي، و الأهم من كل هذا أني أرجو أن أكتسب رضا الله. أتذكر شيئا يدعي رضا الله أم تراك نسيت معني هذه الكلمة؟".
مازال أكرم كما هو، لا يتغير. مازال نفس الطفل الذي يثور أن شتمه المدرس و يفضل أن يضرب بالعصي علي أن يهان أو تجرح كرامته.
-"دعك من هذا الكلام الذي لا معني له عن الضمير و الإحترام".
نظر في عيني بعمق و كأنما يستشف هل فعلا لا أؤمن بهذه الكلمات ثم قال في هدوء:
-"هناك شيء واحد يحيرني. ما الذي يدعوك الي زيارتي بإنتظام؟ أنت شخص ثري شهير يتمني نصف مشاهير و أثرياء المجتمع علي الأقل قضاء لحظات معك، فلم تأتي لزيارة شخص بسيط مثلي؟
قلت بإرتباك:
-"أنت صديفي منذ الطفولة و قد تربينا و نشانا سويا و...."
قاطعني متسائلا:
-"ولكننا إتخذنا سبيلين مختلفين تماما في الحياة، و أنت تعلم أني أعارض عملك تماما، فلماذا تكلف نفسك عناء زيارة شخص يرفض أسلوبك في الحياة و تقضي الوقت في محاولة إقناعه بأنك إنسان لا بأس به؟
هذه هي المسألة كما يقول هاملت. لقد سألني أكرم السؤال الذي قضيت الشهور و السنين في محاولة يائسة لطرده من ذهني لأني أعلم يقينا أنه سؤال بلا إجابة. ما الذي يجذبي الي أكرم؟ أو بعبارة أدق، ما الشيء الذي يملكه أكرم و أحتاج اليه؟ أهي مجرد محاولة لحفظ العلاقة بصديق الطفولة؟ لا أعتقد، فالكثير من أصدقاء طفولتي لم أرهم منذ ما يزيد علي عشر سنوات، ولو لمحتهم في الشارع اليوم لما كلفت نفسي عناء النزول من سيارتي للسلام عليهم. أهو مجرد حنين الي رؤية المكان الذي نشأت فيه و الذي أكن له ذكريات الطفولة علي الرغم من إمتعاضي منه الان؟ كلا، يمكنني أن أري المكان دون أن أزور أكرم. يمكنني التجول فيه بسيارتي أو علي قدمي – معظم الشوارع هنا ضيقة لا تستوعب سيارة لتمر فيها- وأعود دون المرور ببيت أكرم أو دون زيارته، فما الذي يدفعني الي زيارته علي الرغم من علمي المسبق بأني شخص غير مرغوب فيه في بيته؟
دارت هذه الأفكار في رأسي دون أن أجد لها إجابة. بعد فترة من الصمت بدا وكأنها ستدوم الي الأبد أجبت أكرم:
-"هل ستصدقني إن قلت أني لا أدري فعلا ما الذي يدفعني لزيارتك؟".
-"نعم سأصدقك".
قالها و كأنما يتوقع الإجابة. هذا منطقي، فلطالما شعرت ان هناك نوعا من تبادل الأفكار بيني و بين أكرم.كان هذا سلاحا ذا حدين. لطالما كنت أستمتع بهذا حين كنا نقوم سويا بحيل الطفولة البسيطة التي كنا نقوم بها لمضايقة المدرس أو أحد زملائنا- حين يكون الدرس صعبا أو يكون المدرس مملا و نشعر بالحاجة لبعض الترفيه- و التي عادة ما كنا نتلقي بسببها العقاب و أحيانا تمر دون أن يكتشف الفاعل. يكفي أن أنظر اليه و أتبادل معه بعض الإشارات ليفهم ما أريد و نبدأ التنفيذ فورا. و لطالما أغاظتي قدرته علي معرفة ما أفكر فيه حين كبرنا قليلا و بدأت إختلافات التفكير بيننا في الظهور.كنت أبدأ معه الحديث في موضوع ما لأجده يعلم ما أفكر فيه و ما أنوي فعله و عادة ما كان ينتقد تفكيري، وكل هذا بعد أن أكون قد قلت أول خمس كلمات من الموضوع.
نظرت في ساعتي- دون داع في الواقع، فليس لدي اليوم أي إرتباطات أو مواعيد ولكني أرغب في الهرب من هذا الموقف بأي ثمن- ثم قلت له :
-"لقد أطلت عليك. شكرا علي هذا الوقت الذي قضيته معي. و الأن إسمح لي بالإنصراف".
قلتها و قمت متوجها الي باب المنزل و فتحته و خرجت.
-"بلغ زوجتك تحياتي و تهنئتي بالزواج".
قلتها و أنا علي وشك نزول درجات السلم المتآكلة.
-"خالد".
قالها أكرم مستوقفا إياي قبل نزولي.نظرت له متسائلا.
-"لا تظن أني أرفض زيارتك لي. مرحبا بك في أي وقت".
قالها في هدوء يشوبه بعض الحزن، و كأنما آلمه ما قال لي، أو ربما آلمه ما صار اليه حالي و ما صارت اليه صداقتنا.
نظرت له و إبتسمت ثم هبطت درجات السلم دون تعليق. مازال صديق الطفولة القديم- الذي كان علي إستعداد لأن ينال علقة ساخنة في معركة غير متكافئة دفاعا عني حين يتحرش بي بعض الصبية الأوغاد- يعيش بداخله.
قدت السيارة بسرعة بطيئة نسبيا متوجها الي منزلي. في الطريق مرت بجواري سيارة فاخرة بها بعض الفتيات.
بلهاوات. هذه هي الكلمة التي قفزت الي ذهني حين رأيتهن. السيارة فاخرة غالية الثمن فبالتأكيد هن ثريات .بالطبع الثراء ليس دليلاً علي التفاهة، ولكن مظهر هؤلاء الفتيات كان يدل علي هذا. تسريحات شعر عجيبة تقبحهم ولا تجملهم و ملابس متبرجة و مظهر عام لا يدل علي الرقي الفكري.
رأتي إحداهن فأرتسمت في عينيها علامات الإندهاش الأبله ثم نظرت الي صديقاتها و أشارت الي. المرء لا يحتاج لأن يكون خبيرا في التمثيل الصامت ليفهم ما تقوله لصديقاتها. أنظروا هذا خالد حسني.
لم أكلف نفسي حتي عناء رفع يدي لأحييهن. كنت أراقبهن بعيني ولكن أفكاري كانت في مكان بعيد.
-2-
إن أردت أن تتخيل المستقبل، فتخيل قدماً في حذاء طويل العنق تسحق وجهاً آدميا ..وإلي الأبد.
جورج أورويل
كنا أنا و أكرم طفلين نشئا معا في نفس المنطقة السكنية. بدأت معرفتي به في أول سنوات الدراسة. كانت ظروفنا الإجتماعية و المادية متشابهة. لم نكن من ابناء الأثرياء. هذا بديهي، فهذا الجزء من المدينة لا يسكنه سوي الفقراء. ولكن علي الرغم من تواضع مستوانا المادي كان أهلنا حريصين علي تعليمنا. كان تعليما شكليا بكل تأكيد، فالمدرسين لا يبالون كثيرا بالعلم و التعلم في الجانب المظلم من المدينة. المدرسون أنفسهم أغلبهم بلا ضمير ولا هدف في الحياة، و يؤدون الوظيفة علي سبيل الروتين لكي ينالوا القليل من الجنيهات اخر الشهر، و غالبا ما ينفقوا اغلبها علي السجائر و ربما المخدرات. أغلبهم لم يكن يعلم شيئا عن المادة التي يدرسها، فلو أنصفوا لوضعوا نصف هؤلاء المدرسين مع الطلبة ليبدأو التعلم من البداية.
التعليم الحقيقي يناله أبناء الأثرياء الذين يتعلمون علي أيدي مدرسين محترمين، ليس كهؤلاء الجهلة الذين كانوا لدينا في المدرسة. علي الرغم من هذا كنا نتعلم انا و أكرم إعتمادا علي الكتب، و كنا متفوقين تفوقا ملحوظا.
في النهاية لم نستطع الحصول علي التعليم الجامعي. الجامعة مكلفة لا يستطيع سوي الأثرياء دخولها، و بالتأكيد الثراء اخر ما كان يمكن ان نوصف به.
عملنا أكرم و أنا كعاملين في واحدة من شركات برمجة الحاسبات العملاقة بمرتب هزيل. في البداية كانت وظيفتنا إجراء عمليات الصيانة الدورية للحاسبات و تنظيفها و إصلاح الأعطال البسيطة- وهو عمل بسيط روتيني يمكن لأي شخص القيام به، فأعطال الحاسبات معظمها بلا علاج سوي إستبدال الجزء التالف- إلا أن أكرم كان يستغل وقت الفراغ – فقد كنا نقضي الكثير من الوقت بدون عمل فعلي- في قراءة كتب البرمجيات. شركة بهذا الحجم كان بها مكتبة عملاقة لمن يريد أن يقرأ فيها من المبرمجين العاملين بالشركة، و كان أكرم يقضي الوقت في قراءة هذه الكتب. تدريجيا بدأ يجرب أن يكتب البرامج البسيطة الصغيرة. بالتأكيد لم يكن لديه جهاز كمبيوتر- فالمرتب يكفي بالكاد لإطعامنا- و لكنه كان يستغل أحد الأجهزة المهملة القديمة نسبيا و ما أكثرها في شركة مثل هذه.
و في أحد الايام و بينما انا اجلس في الشركة- لا أفعل شيئا ذو قيمة في الواقع- جائني خبر وفاة أبي. بعد هذا الحدث جائني خبر وفاة أمي. مات أبي و أمي بعد ان عاشا حياة من الفقر و المهانة و الأمل الذي لا ينقطع في ان إبنهما – الذي هو انا- سيكون عظيما في يوم من الأيام، فإذا بي أسلك نفس طريقهما و ينتظرني نفس مستقبل المظلم الذي إبتلع الكثيرين من قبلي.لم أزر قبر أبي أو أمي بعد موتهما مطلقا. لا أستطيع ان أزورهما و قد ماتا دون أن أحقق لهما الأمل الذي إنتظراه و عاشا حياتهما من أجله.
في هذا الوقت كنت قد سئمت هذه الحياة. الفقر ليس مشكلة. قلة الإمكانيات ليست مشكلة أيضا. المشكلة الحقيقية هي أنه لا يوجد أدني أمل في ما هو أفضل. اليوم مثل الغد و العام القادم مثل العام الحالي. النفق طويل أسير فيه منذ سنوات دون أن أري بادرة ضوء في نهايته.بل و الأدهي أني أري من حولي الكثيرين ممن قضوا عمرهم كله سائرين في النفق دون أن يصلوا الي أي نور في نهايته و ماتوا و هم في الظلام.
في يوم من الأيام رأيت ملصقا في أحد الشوارع يعلن عن المعارك. كان الملصق يمثل رجلا قصير الشعر مفتول العضلات يحمل مدفعاً رشاشاً يتصاعد منه الذخان و تحت الصورة شعار المعارك الشهير " الفائز يأخذ كل شيء".
كنت أعلم أن هذا الإعلان و الإعلانات المشابهة غرضها الأول هو جذب الفقراء الي المعارك. كان أغلب من يدخلون هذه المعارك من الفقراء. بالتأكيد لن يترك ثري من الأثرياء حياته المرفهة لكي يعرض نفسه للموت في أحد المعارك.
علي الرغم من علمي بهذا إلا اني كنت وصلت الي درجة اليأس من الحياة. إن فزت في المعارك فقد فزت ببعض المال، و إن لم أفز إسترحت من هذه الحياة التي بلا أمل.
لم أخبر أكرم بما أنتويه. كنت أعلم أنه سيحاول أن يثنيني عن ما سأفعله بأي ثمن، و لم أكن في حالة تسمح لي بالجدال أو المناقشة مع أي إنسان.
وصلت بالسيارة الي منزلي. وضعت السيارة في المرآب ثم دلفت الي المنزل. واجهتني الصورة الجدارية العملاقة التي حرصت علي أن تكون أول ما يراه من يدخل من باب المنزل. صورة عملاقة تحتل الجدار المواجه للباب، تمثلني و أنا و أنا أرتدي سترة بدون أكمام، وأمسك مسدسا كبيرا و أصوبه الي الكاميرا.
دخلت الي المنزل و ألقيت جسدي علي الأريكة الوثيرة في الردهة و أغلقت عيني وأكملت تذكر شريط ذكرياتي.
توجهت في أحد ايام الشتاء الممطرة الي مبني شركة الألعاب. ذهبت سيرا علي الأقدام، ليس لتوفير ثمن المواصلات كما كنت أفعل دوما، فإنني و قد إتخذت قراري هذا أدرك أني إما ميت أو ثري، لا يوجد خيار آخر، ولكني لم أكن أحب أن اري نظرة الناس الي فقري الواضح في ثيابي ومظهري، نظراتهم التي تنحصر في الشفقة أو الإحتقار. في الماضي كنت أستطيع ان أتحملها احيانا، ولكني الان مهلهل نفسيا الي أقصي درجة، و يكفيني أقل ضغط لكي أنهار تماما.
سرت علي قدمي لمدة ساعة حتي وصلت الي شركة الألعاب. تحتل شركة الألعاب مبني بيضاوي الشكل يتكون من 10 طوابق. المبني مغطي برخام أسود و النوافذ مصنوعة من زجاج عاكس أزرق اللون، مما يعطي المبني شكلا أنيقا مقبضا في الوقت ذاته، و أعلي المبني علامة الشركة التي تمثل مجموعة من الرصاصات ذهبية اللون، متراصة في شكل يمثل رمز اللانهاية المستخدم في الرياضيات (∞). المبني تحيط به ساحات واسعة للسيارات – فيما بعد عرفت أن هناك أيضاً مرآب ضخم من طابقين يقع تحت المبني، و يقع تحته ساحتين للتدريبات، أي أن المبني به أربع طوابق إضافية تحت الأرض- و حدائق معتني بها، و يحيط بكل هذا سور به بوابة ضخمة.
كان منظري غريبا و أنا اتوجه الي البوابة العملاقة بملابسي المبتلة من أثر المطر و مظهري العام الذي بدا متناقضا بشدة مع كل مظاهر الفخامة و الأناقة في المكان. توجهت الي مكتب الأمن الصغير بجوار البوابة و قبل أن اتفوه بكلمة قال لي رجل الأمن:
-" اللاعبين الجدد يتوجهون الي باب اللاعبين في الناحية الأخري".
قالها في لهجة روتينية و قد تعرف غرضي من مظهري، فلابد أنهم يرون الكثير ممن هم علي شاكلتي. حسنا، علي إذا ان أدور حول هذا المبني العملاق لكي أستطيع الدخول الي المبني. لا يوجد شيء سهل علي من هم مثلي، حتي الإنتحار.
درت حول المبني في ثلث ساعة و توجهت الي البوابة الخلفية.بجوار البوابة مكتب أمن مشابه للمكتب الموجود لدي البوابة الأخري. توجهت اليه و قبل أن أتكلم قال لي في هدوء:
-"توجه الي الباب المواجه للبوابة مباشرة".
يبدو أني سألتحق بهذه المعارك و أموت دون أن يسمح لي أحدهم بأن أتفوه بكلمة. دخلت من البوابة الي الساحة المحيطة بالمبني. أمامي مباشرة كان المبني بمظهره الأنيق – صُنِف هذا المبني كواحد من أجمل عشر مباني في العالم- و في أسفل المبني باب من نفس الزجاج الأزرق العاكس عليه لافتة كتب عليها بحروف سوداء كبيرة " اللاعبين الجدد".
و كأنه ناد رياضي و ليس مكانا يفقد المرء فيه حياته....
ما أن دخلت من الباب حتي شعرت بالجو المكيف- مكيف بالتدفئة في هذا الوقت من العام- و رائحة عطرية تفوح في المكان. يبدو أنه معطر جو من نوع ما.الباب يفتح في ردهة كبيرة متسطيلة. الأرضيات من الرخام الأزرق الذي يتخلله عروق من اللون الأسود. كل شيء هو مزيج من الأسود والأزرق هنا، اللونين المميزين للشركة. حتي اللوحات التي تزين الجدران يسيطر عليها هذين اللونين.
الي يسار الباب يوجد مكتب إستقبال تجلس عليه فتاة في العشرينيات ترتدي زيا رسميا يحمل شعار الشركة علي صدره.توجهت اليها و دون كلمة و في ألية قدمت لي إستمارتين. الأولي كانت إستمارة بيانات يجب ان املأها. الثانية كانت إقرارا بأني أتحمل مخاطر الإشتراك في الألعاب، و أني أدرك ان هذا قد يسبب لي عاهة أو يتسبب في موتي. وقعت الإقرار قبل أن أملأ إستمارة البيانات. كان الإقرار مليئا بالبنود، إلا اني لم أدقق في قراءتة، فقد كنت وصلت الي حالة من اللامبالاة قل أن تتواجد، فلو صرخ الناس من حولي أن المبني ينهار لما كلفت نفسي عناء الجري لأخرج منه.
قدمت الفتاة الي بطاقة زرقاء اللون كتب عليها بحروف ذهبية "لاعب جديد"، و تحتها كتب أسمي بخط صغير.
-"يمكنك أن تمر علينا يوم السبت القادم في العاشرة صباحا لتقابل المنسق من أجل الإتفاق علي التدريبات؟
-"المنسق"؟
-"نعم، منسق المعارك"؟
حتي المعارك صار لها منسق.و كأنها حديقة أو مسرح...
-" و أي تدريبات تقصدين"؟
-"تدريبات الأسلحة. سيقومون بتدريبكم علي إستخدام الأسلحة فلن تتقاتلوا بأيديكم. هذه ليست مصارعة حرة أو مباراة كاراتيه إن لم تكن قد إنتبهت لهذا".
عظيم.بالإضافة الي عملها كآلة إستقبال، هذه الفتاة ذات الوجه الحجري يمكنها السخرية أيضا. اليوم هو الثلاثاء. مازال امامي بضعة أيام قبل الموعد المنشود.
في يوم السبت توجهت الي الشركة من و انا أحمل البطاقة في جيبي. توجهت الي مكتب الإستقبال. نفس الفتاة تجلس عليه كما كانت يوم الثلاثاء.توجهت اليها و في الية قدمت الي أستمارة البيانات والإقرار من جديد. إنها مبرمجة إذاً.
قلت لها في شيء من السخرية و انا أخرج لها البطاقة الزرقاء:
-"انا هنا من أجل مقابلة منسق المعارك. لقد كنت هنا يوم الثلاثاء الماضي و ملأت هذه الأوراق".
-"الدور الثالث. المصعد في اخر الردهة الي اليسار".
قالتها في شيء من الضيق دون أن تنظر في البطاقة و قد أحنقتها لهجة السخرية في صوتي. توجهت الي المصعد في، و قبل أن أضغط زر المصعد دلف اليه شخص متوسط الطول، له شعر قصير و فك مربع. كان زيه بسيط يوحي بأنه من اللاعبين الجدد أيضا.قال في شيء من التردد:
-"الدور الثالث".
-"هل أنت لاعب جديد؟".
-"نعم. و أنت أيضا؟"
-"نعم".
ضغطت زر المصعد. صعدنا دون أن نتبادل كلمة إضافية.
القاعدة الثانية: لا تصادق أي من اللاعبين، فقد تقابله في معركة ما،فإما أن تقتله أو يقتلك هو، و عندها إما أن تكون قد قتلت صديقا أو قُتلت علي يد صديق.
في الطابق الثالث خرجت من المصعد و خلفي ذلك اللاعب. إستوقفت أحد المارين في الطرقة و سألته عن مكتب منسق المعارك. أخبرني أنه أخر مكتب الي اليسار. سرت و ذلك الاخر يسير خلفي دون أي كلمة و قد شعر بعدم رغبتي في الحديث. وصلت الي المكتب المنشود. باب المكتب عليه لافتة كتب عليها "داني جوليان". إسم به رنين غربي واضح.
فتحت الباب دون أن أطرقه. لا يوجد داعي للذوق والأخلاقيات عندما يقوم المرء بالترتيبات اللازمة لقتله.
الغرفة صغيرة بها مكتب أنيق يجلس خلفه شخص طويل أنيق، زنجي الملامح نظر لنا في هدوء ثم قال في هدوء:
-"لاعبان جديدان علي ما أظن؟"
قالها دون ان يبدو في صوته تذمرا من دخولي مكتبه دون إستئذان.نطقه به لكنة أجنبية لا تخطئها الأذن. هذا هو سبب إسمه ذو الرنين الغربي إذاً.
-"نعم".
-"مرحبا بكما. أنا داني جوليان. منسق المعارك".
مد يده مصافحا في ود واضح، كمن يصافح صديقا عزيزا.في البداية شعرت بالغرابة لكون يده دافئة علي الرغم من برودة الجو في هذا الوقت من العام،ثم تذكرت أن المبني مكيف بالتدفئة. من الواضح ان نظام التكييف لديهم ممتاز هاهنا.
-"تفضلا بالجلوس".
جلسنا علي الكرسيين المقابليين لمكتبه. سألنا في ود و هو يمد يده الي زر علي مكتبه- غالبا ليستدعي احد السعاة:
-"ماذا تحبان أن تشربا؟".
رد ذلك اللاعب الاخر - فيما بعد علمت أن إسمه علي- في صوت خافت:
-"انا أفضل...".
-"لا داعي للمشروبات، فهذا ليس حفل ترفيهي علي ما أظن".
قلتها في برود و سماجة.تجمدت يده في طريقها الي الزر و نظر لي و قد ذهبت الإبتسامة عن وجهه لثانية، ثم إبتسم من جديد دون أن يبدو عليه تأثر من فظاظتي الواضحة - يبدو أن الناس في هذا المكان أكثر لطفا من سنوهوايت أو أن هذا سلوك معتاد لدي الكثيرين من المتقدمين للمعارك- و قال:
-"يبدو أنك من النوع العملي يا سيد ...".
-"خالد حسني".
- "و انا علي ... (لا أذكر إسمه الثاني للأسف)".
قالها الاخر في شيء من اللهفة، كطفل يخبر المدرسة بإسمه في أول أيامه في المدرسة.يبدو هشاً تماما و مثير للشفقة.
-"تشرفنا. كما أخبرتكم، انا منسق المعارك، و هذا يعني أني مسئول عن كل ما يخص هذه المعارك –معارك المبتدئين فقط، المعارك الأكبر لها منسقين آخرين، و عندها يسمون المنسق مخرج..."
و كأنها أفلام خيال علمي و ليست عمليات قتل حقيقية.و بالطبع أنت تأمل في ان تكون مخرجا كبيرا في أحد الأيام. أتمني لك التوفيق.
-"...في البداية سيكون هناك تدريبات علي إستخدام الأسلحة و بعدها أشرح لكم طبيعة المعركة القادمة، و التي ستكون الشهر القادم.التدريبات ستكون هنا في ساحة التدريب بالشركة.متي يمكنكم البدء بالتدريبات؟"
-"الان".
قلتها في إقتضاب و حسم. نظر داني الي علي منتظرا رده:
-"لا مانع من أن نبدأها الآن إن كان الأستاذ خالد يرغب في هذا".
-"حسنا. يمكنكم الأن النزول الي ساحة التدريب أسفل المبني و الإلتقاء بمدربيكم. سأصدر تعليماتي اليهم ببدأ تتدريبكم".
ثم قام واقفا وصافحني قائلا:
-"أتمني لكم التوفيق".
تتمني لنا التوفيق في أن نقتُل أم أن نُقتَل؟
توجد ساحة التدريب أسفل المبني. في الواقع يوجد طابقين أسفل المبني-بالإضافة الي الطابقين المخصصين كمرآب للسيارات - يضم كل منهما ساحة تدريب.ساحتي التدريب تضم ساحات رماية، ساحات جري و حمام سباحة. الساحات مساحتها عملاقة مثل مساحة المبني.
يوجد ثلاث مدربين هم من سيتولي تدريبنا علي إستخدام الأسلحة. في الواقع إن كلمة أسلحة تحمل قدرا من المبالغة، فبالنسبة لمجموعة من المبتدئين مثلنا كان التدريب ينحصر في إستخدام المسدسات فقط. غالباً لن تكون تدريبات رماية محترفة، فقط سنتعلم كيفية تأمين المسدس، تغيير خزانة الرصاصات و إطلاق النار. كان العرض الذي سنقوم به هو معركة بين المبتدئين و لم تكن مثل هذه المعارك تحظي بشعبية كبيرة لدي الجمهور، لذا كان الإهتمام بها بسيطا. الإهتمام الأكبر يكون للمعارك التي تضم النجوم فقط..
بالإضافة الي تدريبات الأسلحة توجد بعد تدريبات اللياقة البدنية البسيطة و التي تنحصر في الجري. التدريبات مقسمة علي خمسة أيام. في هذا اليوم لم يكن هناك سواي انا و علي، و لكن في باقي الأيام جاء آخرون.
في هذا اليوم بدأنا التدريبات بتدريبات الجري و القفز. في نهاية اليوم و بينما نحن نتأهب للإنصراف،قال لنا أحد المدربين:
-" يمكنكما المجيء هنا في أي يوم لمزاولة التدريبات. البطاقات الزرقاء التي لديكم تسمح لكم بدخول صالة التدريب في أي وقت، و لكن لا تتوقعوا منا أن نشرف عليكم في أي تدريبات بإستثناء الأيام الخمسة المقررة لتدريب اللاعبين الجدد".
في الأيام التالية كنت أذهب الي مقر التدريبات يوميا. في الواقع فإن جميع اللاعبين كانوا يزاولون التدريبات يوميا. لم أكن أكتفي بالتدريب فقط، ولكني أضفت شيئا أخر: المعرفة. كنت واثقا من أن المدربين لم يقدموا لنا كل ما يمكن أي يفيدنا. بالتأكيد هناك أشياء أخفوها أو يجهلوها أو تكاسلوا عن تعليمها لنا...
القاعدة الرابعة: لا تثق بأي شخص له أدني علاقة بالعاب الواقع. حين يشارك المرء في عمل مثل هذا فهو إما غبي أو عديم الضمير أو مزيج من هذا و ذاك.
كنت أستغل أحد أجهزة الكمبيوتر المهملة في الشركة لأدخل الي شبكة الإنترنت لإبحث عن معلومات أخري قد تفيدني في ما أنا مقدم عليه، الأمر الذي صار عادة لدي حتي اليوم – في الواقع هي أحد أهم الأمور التي صنعت تألقي في هذا المجال.
ثالث أيام التدريب كان بداية التدريب علي السلاح الذي سنستخدمه في المعركة. في معركة للمبتدئين لن يكون السلاح سوي مسدس بسيط. كان السلاح المستخدم هو مسدس من عيار 9 مم. في اليوم السابق لهذا التدريب كنت قد قرأت كل ما يمكن معرفته عن هذا السلاح من خلال شبكة الإنترنت.
كما توقعت تماما، كان التدريب قاصرا، يتلخص في تأمين المسدس، تغيير خزانة الرصاصات، و كيفية إطلاق النار. هذا التدريب تنقصه نقتطين رئيسيتين: معرفة نقاط القوة والضعف في هذا السلاح، و كيفية إطلاق النار أثناء الحركة. تمرينات الرماية كانت كلها علي أهداف ثابتة و أثناء وقوف اللاعبين ثابتين. نحن بصدد دخول معارك قتال، لسنا بصدد دخول أوليمبيات الرماية.
كنت أستغل إمكانية إستغلال ساحات التدريب لأستكمل ما نقص من التدريبات بنفسي، مستغلا ما تعلمته عن تمرينات الرماية من شبكة الإنترنت. كنت أتدرب علي إصابة الأهداف و تغيير خزانة الرصاصات أثناء الحركة.
في احد المرات سألت أحد المدربين:
-"ألا توجد صالات رماية للأهداف المتحركة؟"
في البداية إندهش لأني فكرت في هذا. نظر لي طويلا كأنما يقيس مدي معرفتي بالرماية:
-"لماذا؟"
إبتسمت بركن فمي و لم أرد. كان سؤالا سخيفا لا إجابة له.
-"ليس مسموحا للمبتدئين بإستخدامها. ربما عندما ترتفع لمستوي اعلي يمكن أن أدربك علي إصابة الأهداف المتحركة".
ثم عقب في سماجة:
"هذا طبعا إن خرجت حيا من المعركة المقبلة".
-"عندما أدخل صالة رماية الأهداف المتحركة فإني لن أقبل أن تتدرب علي يدي، فما بالك بأن تكون مدربي؟ لابد للمرء من مدرب لديه عقل صالح للإستخدام الآدمي إن أردت رأيي".
قلتها و أدرت ظهري له دون أن أنتظر رأيه و قد أدركت أنه يكرهني كره الأطفال لطبيب الأسنان، بينما شعرت أنا بشيء من الرضا. هناك أشخاص يشعر المرء بالراحة حين يثير غضبهم, و هذا المدرب كان منهم.
في آخر أيام التدريبات و بينما انا أتأهب للإنصراف، جاء أحد العاملين بالمبني ليخبرنا أن علي اللاعبين الإنتظار لأن داني جوليان سيلتقي بهم الآن.
بعد خمس دقائق جاء داني جوليان و طلب أن نشكل دائرة حوله حتي يمكننا أن نستمع لما سيقول. فعلنا كما طلب منا و بدأ الكلام. كان يبدو عليه الإرهاق، ربما لأننا في نهاية اليوم, إلا أنه كان متأنقا و كأنما فرغ لتوه من إرتداء ملابسه.كان كلامه تقريريا كمذيعي نشرات الأخبار:
-"أهنئكم علي إنهاء تدريبات التأهيل لألعاب الواقع. كما تعلمون تقوم الألعاب علي فكرة معارك يتم فيها القتال بينكم بأسلحة حقيقية و اخر من يتبقي علي قيد الحياة هو الفائز، و هو من يفوز بالجائزة المالية و يتأهل الي مستوي أعلي، و الذي يعني بالطبع معارك أصعب و مقابل مادي أكبر. المعركة القادمة ستكون غدا في ميناء قديم توقف إستعماله منذ زمن. بالطبع الميناء سيكون محاطاً بأسوار لمنع أي لاعب من الهرب في أثناء القتال. سيمنح كل منكم مسدسا بالإضافة الي خزانتي رصاصات إضافية. سيتم تثبيت ميكروفونات و كاميرات في ثياب كل منكم. هذا سيمنح المخرج فرصة بث حي للمعركة من خلال ما يرأه اي من اللاعبين، هذا بالطبع بالإضافة الي الكاميرات و المايكروفونات المنتشرة في انحاء المكان، و التي تقدم تقريبا تغطية شاملة للمكان. هل لديكم أي أسئلة؟"
بالطبع توجد لدي الكثير من الأسئلة لكن لن يقدم لي داني إجابتها. هل سأعيش بعد هذه المخاطرة؟علي الرغم من يأسي التام من الحياة التي لم اري فيها ما يمكن ان يثير أي إغراء في الإستمرار فيها، إلا أني و قد إقترب وقت الجد مازلت أتشبث بالحياة. ربما هو شيء غريزي لا دخل للعقل و المنطق فيه. ربما هو ذلك الأمل الغير مبرر في أن يكون الغد أجمل من اليوم حتي إن كانت كل المؤشرات تشير الي العكس.
هل ستنجح هذه المخاطرة في تغيير هذا الواقع الذي أعيشه؟ و إذا غيرت الواقع، فهل تتركني كما أنا، خالد حسني الذي أعرفه؟ أم أنها تحولني الي شخص اخر لا أعرفه و لكني أخشاه كما أخشي الموت؟
كلها اسئلة لا و لم و لن يوجد لها إجابة لها لدي داني بالطبع.
الأخرون كان لديهم أسئلة لا أتذكر معظمها، إلا أني أتذكر سؤال علي الذي سأله في إرتباك و إستحياء كعادته:
-"هل يسمح لنا بملابس مضادة للرصاصات؟"
تبادل الجميع نظرات السخرية و الغمزات، و تصاعدت صوت الضحكات المكتومة لأحدهم إلا أن داني لم يبتسم و لم يسخر. فقط وضع عينيه في عيني علي و قال له في هدوء:
-"و ما فائدة الألعاب إن كان اللاعبين يرتدون ملابس مضادة للرصاص؟"
-"أنا... لم... ".
-"مستر علي، إن إسم العابنا هو العاب الواقع. هذا يعني أن كل ما يراه المشاهد هو واقع بحت، لا مجال للخدع. إذا ما شاهد المتفرج دماء أحد اللاعبين فهي دماء حقيقية، ليست صبغة حمراء. أذا ما شاهد أحد اللاعبين يموت فهو يموت فعلا و ليس تمثيلا. هذا هو ما يجذب الجمهور لها و يعطيها الشعبية الجماهيرية، و إلا فما الذي يميزها عن أفلام السينما؟
نظر له علي في ذهول و كأنها المرة الأولي التي ينتبه فيها الي هذه الحقيقة. لم يرد علي سؤال داني و لم ينتظر هذا الأخير منه ردا. فقط أدار ظهره لنا متوجها الي الباب و قال و هو يغادر المكان:
-"نلتقي هنا في الثامنة صباحا غدا".
في اليوم التالي إستيقظت في السادسة صباحا. جلست علي حافة الفراش و تأملت الغرفة حولي في شيء من الحزن. علي الرغم من أن الغرفة بسيطة متواضعة الأثاث تساقط طلاؤها في أكثر من موضع، إلا أني اليوم أشعر بأني أحبها. لم يتغير في الغرفة شيء، ولكن التغيير كان فيّ أنا. كنت أتصور أني قد فقدت الحب تجاه أي شيء و أي شخص، إلا أني و قد أقدمت علي مخاطرة قد تفقدني حياتي، و جدت أن الأشياء من حولي قد صارت أحب الي نفسي.
طردت هذه الأفكار من رأسي و بدأت في تغيير ثيابي.
إرتديت ثوبا رياضيا رمادي اللون و حذاءا رياضيا من اللون ذاته. لقد كلفني الثوب والحذاء كل ما أملك تقريبا، و لكني كنت قد إخترتهما بعناية لسبب معين. مكان المعركة ميناء قديم، بالتأكيد يحتوي علي أكوام من المعادن القديمة الصدئة غالبا بسبب الرطوبة،هذه المعادن تتمثل في حاويات النقل و معدات الشحن و المخازن العملاقة. هذا يعني أن اللون الأسود بدرجاته يسيطر علي المكان، دعك من أن السماء مليئة بالغيوم في هذا الوقت من العام. هذا الثوب الرمادي يجعل ملاحظتي من مسافة بعيدة شيئا عسيرا. في البداية فكرت في أن أرتدي ثياب سوداء، إلا أن اللون الأسود عادة ما يكون لامعا و تسهل ملاحظته عن بعد.
ذهبت الي مبني شركة الألعاب. في صالة التدريبات وجدت داني ، و حوله باقي اللاعبين الخمسة.يبدو اني خر من وصل. كان اللاعبين ملتفين حول داني و هذا يكمل لهم باقي تعليماته التي فاتني بعضها- و لكني لا أظنها مهمة:
-"يمكنكم الان تغيير ثيابكم. سيقدم مساعديّ لكم ملابس و أحذية رياضية ،فلن تخوضوا الالعاب بثيابكم هذه. الملابس ذات مقاسات مختلفة، فليختر كل منكم المقاس المناسب له".
جاء مساعدوه بالملابس. كانت الملابس ذات لون أحمر زاه، و كذلك كانت الأحذية-لا أعلم من اين يمكن للمرء أن يأتي بحذاء أحمر زاه، ولكن يبدو أن شركة الألعاب لها مصادرها الخاصة. يمكن لشخص مصاب بقصر النظر و الإستجماتيزم و العشي الليلي و جميع أنواع ضعف البصر تمييز من يرتدي هذه الثياب من مسافة مائة ميل.
اللون الأحمر هو أقل الألوان تشتتاً مع المسافة، و لهذا تكون الأضواء الخلفية للسيارات حمراء، ليمكن تمييزها من مسافة بعيدة. أكاد أقسم أن هذه الحركة متعمدة. لا أعتقد أن حقيقة بسيطة مثل هذه قد غابت عن داني أو من هم خلفه.
نظرت في عيني داني و قلت في لهجة متحدية:
-"لن ارتدي هذه الثياب".
-"لماذا يا مستر خالد؟ إن هذه الثياب صنعتها إحدي أكبر شركات الأدوات الرياضية في العالم، و هي خفيفة...."
-"انا أكثر تعودا علي ثيابي التي أرتديها الان".
نظر لي و كأنما يستشف ما يدور في عقلي. أكاد أجزم أنه أدرك أني فهمت اللعبة التي يلعبونها.إلا أنه رأي أن لا يستمر في المناقشة لكي لا أكشف الأمر أمام الأخرين:
-"كما تحب".
قام الآخرون بتغيير ثيابهم، ثم ركبنا إحدي حافلات شركة الألعاب لتقلنا الي الميناء القديم.
عندما وصلنا الي الميناء القديم قام موظفو شركة الالعاب بتثبيت الكاميرات الدقيقة و المايكروفونات في ثيابنا، و أعطوا كل منا مسدسا و أدخلوا كل منا من مدخل يختلف عن الاخرين. هذا يعني ان الموضوع سيشمل بعض البحث ايضا. لتضيق دائرة البحث، اعطي داني أوامره بأن تتم اللعبة في نصف الميناء الشرقي فقط، و أمر بتركيب سور شائك مرتفع يفصل بين نصفي الميناء. مازالت المساحة كبيرة، فنحن نتحدث هنا عن ميناء، لا عن فناء مدرسة. لحسن الحظ أن هذا الميناء لم يكن ميناء رئيسيا، لذا فحجمه صغير نسبيا.
المدخل الذي كان مخصصا لي كان في اقصي شرق الميناء. ما أن دخلت منه حتي أغلقة موظفوا الشركة بجنازير و قفل عملاق.
فلتبدأ لعبة الموت.
عندما دخلت من البوابة وجدت نفسي بجوار مخزن عملاق من طابقين له سقف عبارة عن بعض الالواح معدنية المثبتة ببعضها. في البداية فكرت في الإختباء في هذا المخزن و إستخدام إحدي نوافذ الطابق العلوي لإطلاق النار و إصطياد من يمر بجواره، ولكني تخليت عن الفكرة سريعا، إذ أن هذا المخزن في طرف الميناء و لن يمر أحد بجواره، دعك من أن المخزن مغلق ولا أعرف وسيلة لفتحه.
قررت أن أسير علي طرف الميناء الشمالي المطل علي البحر. هذا يجعل أحدي الجهات- الشمال- آمنة بالنسبة لي، بدلا من السير في منتصف الميناء، بالإضافة الي ان هذا يجعل الشمس في عيني من يحاول إصابتي مما يجعل التصويب علي صعبا.
بعد خمس دقائق سمعت صوت طلقات رصاص و صرخات.لقد إنخفض عدد المنافسين الي أربع.
بعد خمس دقائق أخري من السير لمحت لاعبا يعبر ساحة واسعة علي مسافة بعيدة مني- لمحته بفضل الزي الأحمر- و لكنه لم ينتبه إلي. اسرعت بالإختباء خلف كومة من الإطارات كنت أمر بجوارها لكي لا يراني. تأهبت لمباغتته و لكني لمحت من يختبيء علي سطح أحدي الحاويات المعدنية العملاقة المستخدمة في نقل البضائع. كانت الحاوية في نفس الساحة الكبيرة، و كان اللاعب المختبيء أعلاها يحكم التصويب لكي يصيب ذلك الذي يعبر الساحة. كان هذا خطأً قاتلا.
لكل سلاح يوجد ما يسمي بمدي الفاعلية الأقصي ( Maximum effective range)، و هو أقصي مسافة يمكن منها إصابة هدف في حجم الجسم الادمي بإستخدام هذا السلاح إذا كان المستخدم جندي متوسط المستوي، و يعتبر هذا مقياسا لمدي دقة إصابة السلاح و شدة الرصاصات. المسدسات من عيار ال 9 مم – مثل التي معنا- لا يزيد مدي الفاعلية الأقصي لها عن 50 مترا في المعتاد. بالطبع هذه معلومات عرفتها بنفسي و لم يتفضل مدربونا بإخبارنا بها، ربما لأن العاب المبتدئين ليست مهمة أو هو نوع من إنعدام الضمير، و الأرجح أنه السبب الأخير.
القاعدة الرابعة: لا تثق بأي شخص له أدني علاقة بالعاب الواقع. حين يشارك المرء في عمل مثل هذا فهو إما غبي أو عديم الضمير أو مزيج من هذا و ذاك.
المشكلة هنا أن المسافة بين اللاعبين كانت لا تقل عن ال 50 مترا. إذا أضفنا لهذا أننا جميعا رماة مبتدئون – أي اننا لا نرقي لمرتبة جندي متوسط المستوي- لوجدت أن إحتمالية إصابة اللاعب الذي يعبر الساحة منخفضة جدا. دعك بالطبع من أنه يسير في الساحة، أي انه هدف متحرك و ليس هدف ثابت.
راقبت ما يحدث من مكمني، و بالطبع حدث ما توقعته تماما. الرصاصة لم تصب هدفها، كل ما فعلته أنها نبهت الهدف الي ان هناك من يختبيء علي الحاوية، و يحاول إصابته. في الواقع كان رد فعله سريع، فأخد يجري سريعا بإتجاه الحاوية.
اللاعب الذي كان علي الحاوية إرتبك حين وجد من يعدو بإتجاهه، فأطلق المزيد من الرصاصات و لكن أي منها لم يصب هدفه طبعا. في النهاية فقد أعصابه و قفز من فوق الحاوية. لم تكن القفزة هينة في الواقع، فالحاوية إرتفاعها يقترب من الخمسة امتار، لذا فقد سقط علي الأرض، حاول أن يقوم مسرعا إلا أني كنت أعرف الباقي لذا فبدأت أتحرك من مكاني.
بعد لحظات سمعت صوت رصاصات و صرخات. بالطبع إستغل اللاعب الأخر سقوطه و قتله. هذا شيء بديهي مفروغ منه، إلا أني كنت أخطط لأن أباغت القاتل الآن، بعد أن هدأت أعصابه نسبيا و غالبا سيكون قد فقد بعض من حذره.
درت حول الساحة فرأيته يقترب من اللاعب القتيل، غالبا ليفحصه. رفعت زر تأمين المسدس و جذبت إبرة الإطلاق. في هذا النوع من المسدسات يجب جذب إبرة الإطلاق قبل إطلاق أول رصاصة. هذا يشكل مع زر التأمين نظام تأمين مزدوج لمنع إنطلاق الرصاصة بطريق الخطأ.
إقتربت منه من خلفه و هو يفحص القتيل و لكن يبدو أنه سمع صوت خطواتي و أنا أقترب منه فحاول الإستدارة، إلا اني كنت علي مسافة أقل بقليل من الأمتار العشرة منه فجذبت الزناد مرتين.
الإنسان يموت بصعوبة، فبإستثناء بعد الأماكن القليلة في الجسم، لا يمكنك إصابة إنسان و قتله في لحظة واحدة. حين دار ذلك اللاعب حول نفسه محاولا إصابتي إرتبكت و لم أصوب الرصاصة الي مكان معين في جسده. فقط جذبت الزناد مرتين. أصابته الرصاصات صدره و بطنه، فسقط أرضا.
كانت هذه أول مرة أري فيها شخص مصاب بالرصاصات. سقط أرضا و جراحه تنزف بغزارة و حاول أن يقول شيئا ما. لم أستطع تبين الحروف، فقد كان يتكلم في صعوبة شديدة. في خلال لحظات بدأ جسده يرتجف و بدأت الدموع تسيل من عينيه. لا ادري أهي دموع الألم، أم دموع الحزن علي حياته التي يعيش اخر لحظاتها الآن، أم هي دموع الخوف من الموت الذي ينتظره في خلال لحظات.
كان مظهره مثيرا للشفقة و الحزن الي درجة رهيبة. في الواقع لم أتصور أني في يوم من الأيام قد أحمل هذا الكم من الشفقة تجاه أي شخص ايا ما كانت الظروف، إلا أن منظره و هو يرتجف و يبكي كان صعبا. لم أتصور أن يمتلك هذا المسدس الصغير تلك المقدرة الرهيبة علي إحداث هذا الكم من الأذي.
القاعدة الخامسة: لا تطيل النظر الي ضحيتك. العاب الواقع صعبة علي النفس فلا تزيدها صعوبة.
إنتبهت علي صوت خطوات قريبة مني، و في لحظة أدركت ما حدث. لقد إستغل احدهم إنشغالي في مراقبة ذلك المصاب ليقترب مني و يصيبني. في الواقع هذا هو نفس ما فعلته أنا تقريبا.أثناء تأثري بمراقبة ذلك المصاب، خفضت يدي التي تحمل المسدس و غابت حواسي. لقد ضاعت فرصتي.
إلتفت الي الخلف بهدوء. هذا هو اللاعب الأخير، فلقد مات ثلاثة لاعبين حتي الأن، لم يبقي سواي و هو .
كان هذا الأخير هو علي. نظر لي نظرة متعبة و مسدسه مرفوع في وجهي ، و كأنما يستجمع قواه لجذب الزناد، ثم أغلق عينيه و جذب الزناد.
بالطبع لم يحدث شيء. لقد نسي أن يجذب إبرة الإطلاق، ربما بسبب إرتباكه الأبدي أو قلة خبرته بإستخدام الأسلحة.
في هذا النوع من المسدسات يجب جذب إبرة الإطلاق قبل إطلاق أول رصاصة. هذا يشكل مع زر التأمين نظام تأمين مزدوج لمنع إنطلاق الرصاصة بطريق الخطأ.
فتح علي عينيه في رعب و نظر الي المسدس و فطن الي السبب. لم يحاول أن يجذب إبرة الإطلاق، بل ألقي المسدس من يده و غطي وجهه بعينيه.لقد إحترقت أعصابه، إذ لم تحتمل كل هذا الضغط الذي ربما لم يتعرض له منذ ولد.
رفعت مسدسي الي رأسه وأطلقت النار. بهذا انا الفائز.
كانت هذه أول و أصعب لعبة لي. و في أعماقي زاد شعور بأن الطريق الجديد الذي إخترته لحياتي ليس أسهل أو أفضل من باقي الطرق كما كنت أتصور، إلا أني في نفس الوقت شعرت أني سأستمر في هذا الطريق.
-3-
حين عدت الي المنزل كنت أشعر أني مفكك تماما. إنه الأدرينالين الذي إمتلأت به عروقي لمدة نصف الساعة هي زمن المعركة. الان إنسحب الأدرينالين من عروقي تاركا تفككا غير عادي. دعك من مشهد ذلك الذي اللاعب الذي مات برصاصاتي – لا أعلم إسمه للأسف- و الذي ظل لفترة طويلة يؤرقني و يضغط علي أعصابي.
بعدها ببضعة ايام سمعت طرقات عنيفة علي باب منزلي. هرعت الي الباب و فتحته. كان القادم هو أكرم. ما أن رأيت النظرة التي تجمع بين الغضب والذهول في عينيه حتي أدركت غرضه من الزيارة. بادرته قائلا:
-"أنت رأيت اللعبة".
لم أكن قد أخبرته بموضوع مشاركتي في ألعاب الواقع. لم أكن أدري كيف يمكن أن أفاتحه في الأمر أو أشرح له الموضوع. لم تكن لدي أدني قدرة علي الشرح أو النقاش بحالتي هذه. ولكني مجبر الآن علي خوض هذه المناقشة. دون أن يدخل البيت، بدأ أكرم حديثه الغاضب:
-"إذا فهذا صحيح. أنت شاركت في العاب الواقع. في الحقيقة انا لم أري اللعبة – كما تسميها- فميعاد إذاعتها ليس الآن، ثم إني لا أشاهد هذه الألعاب الهمجية. فقط جاء إعلان عنها و للحظة تخيلت أني رأيت وجهك. ثم جاءت لقطة أخري و أدركت أن هذا هو أنت أو شخص يشبهك الي درجة تثير الذهول. في الواقع لقد كنت أحاول أن أقنع نفسي أن هذ شخص سواك. كنت أتمني أن يكون هذا شخص سواك. لماذا فعلت هذا يا خالد"؟
-"لماذا فعلت هذا؟يا له من سؤال! أتري أي داعي يمنعني من أن أفعل هذا؟ أتري أني أملك أي حياة أو مستوي مادي أو إجتماعي أو حتي أمل في ما هو قادم غدا يمنعني من أن أخوض لعبة كهذه؟
-"..فقررت أن تغيير حياتك بأن تخاطر بها، فإما أن تفوز بكل شيء أو تفقد حياتك التي مللتها. أليس كذلك".
اللعنة علي قدرتك علي فهم أسلوب تفكيري يا أكرم.
-"بلي إن كان هذا سيريحك. هو كذلك".
نظر الي مذهولاً و كأنما لم يتوقع أن أرد عليه بهذه الصراحة. في الحقيقة حين أتذكر هذا الأن أجد أنها كانت صفاقة أكثر منها صراحة.
-"و ماذا عن الآخرين الذين تقتلهم؟ ماذا عن أبنائهم و أهلهم"؟
-"لقد إرتضوا المخاطرة من البداية".
-"و ماذا عن الهدف الأكبر من كل هذا؟ لا أظنك تجهل أن هذه المعارك الهدف منها هو تحويل نظر الفقراء الي أشياء أخري لإلهائهم عن طلب ما هو أفضل لحياتهم عن طريق إثارة أحط الغرائز البشرية فيهم. يمنحونهم ما يشغلهم و يلهيهم، و في نفس الوقت يتخلصون من بعض منهم ممن يتقدمون للمعارك بطرق قانونية تماما. أتجهل أن..."
-"لا طاقة لدي لهذه المحاورات البيزنطية يا أكرم الآن. هذه حريتي الشخصية و لقد خاطرت بحياتي و ليس بحياتك أنت".
-" ولكني صديقك و أظن أن من واجبي أن أرشدك حين أجدك قد فقدت عقلك. تأكد أني لن أتركك لتهلك نفسك في الدنيا و الآخرة و أقف متفرجا عليك مستمتعاً بألعابك. ماذا عن الدين يا خالد؟ أتجد في الإسلام ما يوافق ما تقوم به الآن؟ أن يقتل الناس بعضهم بعضا للتسلية؟ ".
-"عن إذنك الآن يا أكرم، فانا متعب و أرغب في أن أنال قسطا من الراحة".
قلتها و أنا أغلق الباب. في الواقع لم أكن متعبا وإنما كنت أهرب من هذه المناقشة. لم تكن لدي القدرة النفسية علي المجادلة الآن مع شخص من ذوي المباديء مثل أكرم، دعك من أن منطقي مهلهل أصلا لن يستطيع أن يقف أمام أكرم بعقليته الناقدة، أو حتي أي شخص حتي إن كان محدود الذكاء.
تكررت هذه المناقشة في الأيام التالية كثيرا. أكرم يحاول إثنائي عن ما يدور بذهني و أنا أجتهد في لي عنق المنطق و التحايل علي الأمور لكي أقنعه برأيي – الذي لم أقتنع به أنا نفسي.
كانت هذه أول معركة أخوضها في ألعاب الواقع. بعد هذا توالت المعارك و إرتفعت تدريجيا حتي صرت ما أنا عليه الآن، نجما يشار اليه بالبنان.
منذ البداية وضعت لنفسي مجموعة من القواعد لأسير عليها و لا أخالفها. هذه القواعد هي الوسيلة التي يمكن بها أن أتفوق في مجال مثل هذا. دائماَ ما يصنع التنظيم فارقاً ضخماًَ في أي مجال. الشيء الذي جعل المافيا أكثر من مجرد عصابة تقليدية من اللصوص و القتلة هو القواعد التي وضعوها و نفذوها بحذافيرها.
القاعدة الأولي: التدريب البدني هام للغاية، و التدريب العقلي أكثر أهمية.
القاعدة الثانية: لا تصادق أي من اللاعبين، فقد تقابله في معركة ما،فإما أن تقتله أو يقتلك هو، و عندها إما أن تكون قد قتلت صديقاً أو قُتلت علي يد صديق.
القاعدة الثالثة: المعرفة بمكان أو سلاح إحدي المعارك يصنع فارقا ضخماً.
القاعدة الرابعة: لا تثق بأي شخص له أدني علاقة بالعاب الواقع. حين يشارك المرء في عمل مثل هذا فهو إما غبي أو عديم الضمير أو مزيج من هذا و ذاك
القاعدة الخامسة: لا تطيل النظر الي ضحيتك. العاب الواقع صعبة علي النفس فلا تزيدها صعوبة.
في نفس الوقت كنت أتحسس أخبار أكرم بكل سبيل ممكن. لقد علم البرمجة لنفسه بنفسه، ثم لم يلبث أن إنتبه إليه أحد العاملين بالشركة و تم تعيينه كمبرمج بمرتب ضخم. في الواقع لقد كان مرتبا ضخما مقارنة بما كان يحصل عليه في منصبه القديم كمسئول صيانة، إلا أنه أقل بقليل من الكثيرين الذين هم أقل منه كفاءة، فقط هم من طبقة الأثرياء. لابد لمن هم من طبقة الأثرياء من مرتب أعلي من الفقراء حتي لو قاموا بنفس العمل. في هذا المجتمع يفكر الأثرياء في أنفسهم علي أنهم نوعية من البشر تختلف عن الفقراء، حتي إني لا أستبعد أن يكون بعض الأثرياء يتمنون لو تختلف الصفات التشريحية للأثرياء عن الفقراء، كأن يكون لهم مثلا ثلاث رئات و للفقراء رئة واحدة.
ثم لم يلبث أن عرفت أن أكرم قد فقد عمله. لقد طُلب منه أن يشارك في برمجة موقع عملاق مخصص لإحدي المطربات، لصالح مجموعة من عشاق هذه المطربة. بالطبع الموقع سيمتليء بصور المطربة المذكورة و التي لن تكون آية في الإحتشام كما يمكن لأي معاق ذهنيا رأي المطربة المذكورة و لو مرة واحدة أن يستنتج. بالطبع إعترض أكرم علي هذا – لا أستبعد أن يكون قد قام بإلقاء مديره من النافذة حين طلب منه العمل في هذا الموقع. النتيجة هي أنه قد تم رفده.
تكررت هذه الحادثة مع شركات أخري، لأسباب مختلفة يمكن تلخيصها في كلمة(مباديء أكر)" . هذا شيء لا أستغربه، ففي هذا المجتمع يصبح ذوي المباديء أشبه بمرضي الجذام، مطاردين من المجتمع، و لا مكان لهم سوي الجانب الفقير من المدينة حيث يذوون في الظلام.
الأن يعمل أكرم بصورة متقطعة مع بعض الشركات التي تستغل حاجته و تعطيه أجرا لا يذكر.
في هذه الفترة طرأ علي تغير هام، فقد توقفت عن الصلاة لأول مرة في حياتي منذ أن بدأت الصلاة بإنتظام و أنا طفل. كنت و قد إخترت مهنتي الجديدة أشعر انها تتناقض بشدة مع الصلاة و كل ما يمت للدين بصلة. دعك من أني صرت أشعر أني أُثقل نفسيا بالصلاة الي درجة رهيبة. صارت الصلاة أصعب مما يمكن لأي شخص أن يتخيل.
كانت هذه هي البداية، بعدها توالت الألعاب و صرت أرتفع من مستوي الي ما أنا عليه، ملك الألعاب غير المتوج. شعبيتي خارقة و ثروتي لا تحصي و...
خرجت من شرودي و ذكرياتي علي صوت جرس الهاتف. إنتفضت حتي أني كدت أقفز من مكاني، فلقد كنت مستغرقا بعمق في أفكاري.
قفزت الي الهاتف و رفعت السماعة:
-"من المتحدث"؟
-"إنه أنا رفاييل. كيف حالك يا خالد؟
تنهدت بعمق و قلت:
-"أنا بخير حال".
-"لا تبدو لي بخير علي الإطلاق. هل أنت مريض؟
-"كلا. فقط أنا... لم أحظي بكفايتي من النوم".
-"كنت أريد أن أقابلك لأرتب معك للمعركة القادمة".
تردد قليلا ثم أضاف:
-"إن كنت متعبا فيمكننا أن ..."
-"لا لست متعبا. يمكنني ان القاك اليوم في المساء".
-"حسنا، سأنتظرك في مكتبي في الثامنة".
-"كلا، فليكن اللقاء في أي مكان بعيدا عن المكتب. أريد أن أبتعد عن كل ما له علاقة بالعمل و الرسميات".
-"لا بأس، فلنجعله في منزلي إذا".
-"حسنا، سأمر عليك في الثامنة مساء. الي اللقاء".
لكم أتمني أن ينتهي هذا اليوم...
-4-
الأشياء التي تحظي بشعبية عالية وسط الجماهير هي أشياء فاسدة- أوسكار وايلد.
رفاييل أهارون هو أكبر و أهم مخرجي شركة العاب الواقع-و أكثرهم ثراء و شهرة بالطبع. إنه الشخص الذي يتمني باقي المخرجين الصغار – أمثال داني جوليان- أن يكونوه في يوم من الأيام. بالطبع هو الذي يقوم بإخراج المعارك التي أشترك فيها الآن. أنا و هو نشكل شيئا أشبه بالفريق منذ فترة لا بأس بها. هو أميركي الجنسية - مهنة مخرجي الألعاب تكاد أن تكون مقتصرة علي الأمريكيين لسبب لا أعلمه- إلا أنه يتحدث العربية بطلاقة مدهشة. لا أعلم كيف أتقن العربية الي هذه الدرجة. ربما أسأله عن هذا يوما ما..
في تمام الثامنة كنت علي باب منزله. للدقة المعمارية هو ليس منزل و إنما قصر. يمكنني أن أترك لك أن تتخيل مدي الفخامة والثراء التي يفوح بها. يبدو أن رفاييل قد أنفق نصف مدخراته علي هذا القصر.
إستقبلني أحد الخدم علي الباب و قادني الي البهو المخصص للضيوف. بعد لحظات قليلة جاء رفاييل مرتديا حلة رمادية أنيقة و قميصا أسود و ربطة عنق هي مزيج من اللون الرمادي و الذهبي. من لا يعرفه قد يظن أنه علي وشك الذهاب الي حفل زفافه الآن، إلا أن هذه هي عادته، دائما متأنق الي أقصي درجة ممكنة. أتمني أن أراه ذات مرة عندما ينزل في حمام السباحة الكبير الموجود في الحديقة. لابد أنه ينزل الماء بنفس هذه الثياب.
دعني أصفه لك. إنه في أواخر الأربعينيات، يميل الي القصر، أزرق العينين، رمادي الشعر، يرتدي عوينات ذات إطار ذهبي اللون – لا أستبعد أن يكون هذا الإطار من الذهب- و له لحية رمادية أنيقة تحيط بفمه.
صافحني في ود قائلا:
-"مرحبا بك يا خالد. لقت قلقت عليك بعد محادثتنا علي الهاتف. لم تبد لي علي ما يرام إطلاقا، حتي أني فكرت في أن أمر عليك دون أن أنتظر للساعة الثامنة.
-"لم يكن الأمر ذا بال يا رافاييل.فقط كنت مرهقا قليلا".
-" و كيف حالك الآن".
- "بخير، شكرا لسؤالك".
إستدعي الخادم و طلب لي مشروبا باردا. بعد أن جاء المشروب و دار بيني و بينه بعض الثرثرة البسيطة، إعتدل في مجلسه و قال في حماس:
-"و الآن فلنناقش المعركة القادمة. أنا أعدها لتكون حدثا لا ينسي. ستكون علامة مميزة في تاريخي و تاريخك...
قاطعته في سخرية:
-"من الممكن أن تكون علامة مميزة في تاريخي بأن أموت فيها. هذا سيجعلها نهاية تاريخي كله".
أكمل و كأنما لم أقل شيئا:
-"مكان المعركة القادمة سيكون في جزيرة صغيرة قرب جزر هاواي، هذا يثير خيال الجمهور بلا شك. لقد عاني مساعدي كثيرا حتي يجد جزيرة صغيرة المساحة في هذه المنطقة، فأنا لا أريد أن يصاب الجمهور بالملل بينما اللاعبين يبحث كل واحد فيهم عن الآخر. أيضا الجو في هذه المنطقة في هذا الوقت من العام حار ممطر. و هناك إحتمالية لا بأس بها أن تسقط الأمطار. هذا تجديد في حد ذاته".
-" إذا فكل ما ستفعله هو أنك ستختار مكانا مبتكرا لتدور فيه الألعاب".
-"ليس هذا فقط. أتعلم يا خالد ما الذي أوحي بفكرة العاب الواقع في البداية؟"
-"لا أعلم، و لكني أظن أنها تلك المباريات الرومانية القديمة".
-"ليس تماما. لا أدري إن كنت تعلم أنني صاحب الفكرة في الأصل. ما أوحي الي بفكرة العاب الواقع هي العاب الكمبيوتر. ألعاب الرماية التي يكون فيها أكثر من لاعب و يدور بينهم القتال الي أن يفوز أحدهم. عادة ما كان الفائز يتحدد طبقا للنقاط التي احرزها من قتل الاعبين الآخرين. في البداية فكرت في أن تكون الألعاب قائمة علي الخدع، مثلا بإستخدام الطلقات التي تحدث بقع من الحبر علي الثياب في موضع الإصابة، و التي يستخدمها رجال العمليات الخاصة أحيانا في تدريباتهم".
-"ولكن بهذا لن تجذب لها سوي عدد قليل من الأشخاص، غالبا من محبي العاب الكمبيوتر".
-"بالظبط. أتعرف ما هي المشكلة العملاقة التي تواجه مخرجي السينما و مصممي العاب الكمبيوتر – و التي لا يعرف الكثير منهم انها موجودة أصلا- و التي تحد من إنتشار العابهم و أفلامهم و إندماج الناس فيها"؟
هذا الرجل درس علم النفس دراسة ممنهجة. كل النصابين يعتمدون علي موهبتهم في فهم النفس البشرية، و لكن هذا هو أول نصاب يبني عمله علي دراسة ممنهجة لعلم النفس بالإضافة الي الموهبة.
نظرت له نظرة متسائلة من طراز (لا-أعلم) فأكمل بنفس الحماس:
-"أنها خيال. مهما إندمج شخص ما في فيلم رعب أو إثارة، فعقله الباطن يعلم تماما أن هذا ليس سوي فيلم. في ألعاب الكمبيوتر أنت تقتل صديقك بينما هو يجلس أمام الجهاز المجاور لك. هذا قتل تام للعبة أو الفيلم. بعض من مخرجي الأفلام البلهاء كانوا يعرضون كيفية صنع الخدع السينمائية في أفلامهم في برامج التليفزيون و هم يظنون أن هذا نوع من التسويق أو الدعاية للفيلم، و بهذا يذهب المشاهد الي السينما و هو يعلم أن مشهد السفينة و هي تغرق قد تم صنعه بالكمبيوتر، و أن مشهد غرق الممثلين قد تم تصويره في حمام سباحة مع وضع خلفيات مزيفة".
- "و لهذا فكرت في العاب واقعية تماما".
-"بالظبط. لهذا كانت شعبية الألعاب الرومانية ساحقة. منذ عصر الرومان الي اليوم تغير الكثير من الأشياء. طرق العرض و الإخراج، نوعية الأسلحة، نوعية الألعاب، و لكن هناك شيء ثابت لم يتغير منذ العصر الروماني الي اليوم. في الواقع هو لم يتغير منذ العصر الحجري الي اليوم. اتعلم ما هو هذا الشيء"
فكرت قليلا ثم قلت:
-" الإنسان".
إبتسم إبتسامة واسعة ثم قال:
-"أتعلم ما الذي يجذبني اليك- أكثر من كونك لاعبا متميزا؟ عقلك. كل اللاعبين الأخرين يهتمون بجسدهم و أسلحتهم فقط. أنت الوحيد الذي يهتم بعقله أيضا. هذا يصنع فارقا ضخماً. نعم أنت علي حق. ما لم يتغير أبداً هو النفس البشرية. الإنسان مولع بالعنف و العاب العنف. العنف وسيلة تسلية هامة كفيلة بأن تنسي الإنسان كل مشاكله أياً ما كان حجم هذه المشاكل.
"و ماذا عن الهدف الأكبر من كل هذا؟ لا أظنك تجهل أن هذه المعارك الهدف منها هو تحويل نظر الفقراء الي أشياء أخري لإلهائهم عن طلب ما هو أفضل لحياتهم عن طريق إثارة أحط الغرائز البشرية فيهم. يمنحونهم ما يشغلهم و يلهيهم..."
نظرت الي رفاييل طويلاً و قلت له:
-" الخبز و العاب السيرك Bread and Circus".
-"بالظبط. الناس في روما القديمة كانوا فقراء معدمين، مدينتهم مليئة بالفساد السياسي و المالي، و علي الرغم من هذا كانوا يذهبون الي سيرك ماكسيموس Circus Maximus ليصرخوا و يمرحوا و هم يشاهدون المعارك. كل ما أهمهم في الحياة هو أن ينالوا الخبز و زيت الزيتون و أن يشاهدوا المعارك بإنتظام، و كان هذا كفيلا بأن ينسوا مشاكلهم كلها.
-"و لا يزعجوا الطبقة الحاكمة أو ينتقدوا الفساد السياسي و الإداري في الدولة.كل ما علي الدولة أن توفره هو الخبز و الألعاب و بهذا تنسي الجماهير ما يدور وراء الكواليس".
-"ربما كان ما تقوله صحيحا. الخلاصة هي أني أحاول أن أصنع جو العاب الكمبيوتر بواقعية، و لهذا سأضيف بعض النقاط الهامة التي كانت في العاب الكمبيوتر. مثلا، ستوجد بعض الأسلحة المتقدمة في أماكن متفرقة من الجزيرة. من يجدها ستزيد فرصته في الفوز طبعا. أيضا قمت بتصميم بعض الفخاخ و التي قد تكشف عن مكان من يقع فيها أو حتي تقتله. لن أخبرك طبعا عن هذه الفخاخ أو أماكن الأسلحة و لكني يكفي أن أخبرك أن التكلفة الإضافية المتوقعة للتعديلات الجديدة هو مبلغ به ما لا يقل عن سبعة أصفار"
-"و لماذا تتحمل الشركة هذه التكلفة العالية؟ لماذا لا تحافظ علي نظام الألعاب القديم الأقل تكلفة؟ لا أعتقد أن شعبية الألعاب قد إنخفضت".
قال في لهجة مازحة مقلدا من يظهرون في الإعلانات:
"هدفنا إسعاد الجمهور. و تذكر أن الفائز يأخذ كل شيء".
ثم قال بلهجة جادة:
-"هناك تعديلا قد يغطي هذه النفقات بل و يأتي بربح لا بأس به للشركة. في الفترة الأخيرة ظهرت بعض الشائعات أن الألعاب ليست واقعية و أنها قائمة علي بعض الخدع. بمعني آخر لا يوجد قتل حقيقي. لهذا فكرت في فكرة مبتكرة. سنأخذ بعضا من الجمهور الي المعارك، حيث سيتواجدوا داخل ساحة المعركة نفسها. بالطبع سيكون هذا مقابل دفع ثمن التذكرة الذي لن تقدر عليه سوي فئة محدودة في المجتمع".
-"و ماذا عن الرصاصات المتطايرة؟ قد يصاب أحدهم برصاصة أثناء المعركة. دعك من أنهم سيكونوا مصدرا لتشتيت إنتباه اللاعبين.
-"بالنسبة للرصاصات فسيرتدوا ملابس من الكيفلار Kevlar تغطي جسدهم بأكمله حتي رؤسهم. أما بالنسبة لتشتيت الإنتباه، فيمكنك أن تفكر فيها علي أنها إضافة أخري من عالم العاب الكمبيوتر. بعض الألعاب بها رهائن أو أبرياء، و هؤلاء قد يظهروا لك فجأة و عليك أن لا تقتلهم. بالطبع لن نخاطر بأحد المشاهدين، لذا إن أطلق أحد اللاعبين عليهم رصاصة بطريق الخطأ فسيحميهم الكيفلار".
-"لا بأس. متي ستكون هذه المعركة".
-لن تكون قبل شهر من الآن. الموضوع يستغرق وقتا لتجهيز كل هذا، دعك من أن بعض النقاط مازالت موضع نقاش في الشركة، إلا أني سأقنع وأئل الحديدي. سأنقعه بالأرباح المنتظرة لهذه التعديلات. دعك من أن شركة الألعاب تكسب الكثير من الإشتراكات في القنوات المميزة.
وائل الحديدي هو الملياردير الشهير صاحب شركة الألعاب. أنا شخصيا أري أنه أحمق، و بالمناسبة هو منبهر برفاييل الي درجة الوله، و يطيعه في كل ما ينصح به.
-"هذه نقطة أخري تثير دهشتي. لماذا يدفع الناس إشتراكاً باهظاً للإشتراك في القنوات المميزة لمشاهدة الألعاب بينما هي تبث علي القنوات المجانية. أنا أعلم أن المعارك تبث علي القنوات المجانية بعد بثها علي القنوات المميزة بيوم، و لكن هل يساوي هذا تكلفة الإشتراك؟
إبتسم رفاييل إبتسامة خبيثة و قال:
-"القنوات المميزة لا تمنح الأثرياء فارقا زمنيا فقط.، بل فارقاً نفسياً أيضاً. إنها تعطيهم تميزاً علي الطبقة الفقيرة. إذا أردت الدقة هي تساعد علي فصل الطبقات. الفارق بين الطبقة الغنية و الطبقة الفقيرة واضح في كل شيء: الطعام، الثياب، وسائل المواصلات، أماكن السكن إلي آخر هذه الأشياء. و الأغنياء يرحبون دوما بما يزيد من هذا الفارق و يقويه و هذا هو ما تمنحه لهم القنوات المتخصصة".
نظرت له في صمت و تفكرت في ما قال. لا أدري من أين تأتيه هذه الأفكار الشيطانية.
-"حسنا. سأنصرف الآن لعلي أحظي بشيء من النوم".
-"سأتصل بك غداً لأطمئن عليك".
إتجهت الي الباب، و عندما أمسكت مقبض الباب تذكرت شيئاً. إلتفت اليه و سألته:
-"رفاييل، من الأحمق الذي إختار كلمة (الفائز يأخذ كل شيء) كشعار للألعاب؟ هذه كلمة قديمة مستهلكة و لا تدل علي أي شيء، و كأنها إعلان عن مسابقة تنظمها إحدي شركات السمن الصناعي. لماذا لا يختار شعاراً معبراً مثل (دماء و رصاصات) أو شيء من هذا القبيل".
-بالعكس. هذا هو الشعار المناسب. علي الرغم من كل ما قلته لك عن حب الناس للعنف، إلا أن هناك أيضا رفض للعنف و حب للسلام في داخل النفس البشرية. يمكنك أن تفكر في الأمر علي أنهما تياران متضادان. لا نريد أن نصدم المستمع أو المشاهد بهذا الشعار، و كأنما نقول له شاهد الألعاب دعما للعنف و الدماء. دعنا نختر شعارا لا يمكن الإمساك به و لا يدل علي شيء و لا يمكن أن يختلف عليه إثنان. هل يمكن أن يرفض شخص ما أن يفوز لاعب في لعبة من الألعاب؟ بالطبع لا. و لكن ما اللعبة، ما الذي سيفوز به، بأي مقابل، كل هذه أشياء لا يذكرها الشعار و لا يجب أن يذكرها لكي لا يثير الأفكار في عقول الناس، و لا يثير في النفس هذا التيار المضاد الرافض للعنف. هذا شيء يعرفه السياسيون و الإعلاميون بالفطرة. يسمونه الحديث المزدوج Double Speak. و يعني تقليل التفكير في إتجاه معين أو منعه بإستخدام الفاظ مطاطة تحتمل أكثر من معني.".
-"تماما مثل شعار الثورة الفرنسية: الحرية الإخاء المساواة. ".
-"شعار الثورة الفرنسية مثال ممتاز للحديث المزدوج، علي الرغم من أن دراسة الإعلام كعلم له مصطلحاته و كتبه لم يكن قد بدأ بعد، إلا أن مبدأ الحديث المزدوج قديم قدم الدهر يعرفه السياسيون و الإعلاميون بالفطرة كما أخبرتك. لا أحد يرفض الحرية، ولا الإخاء و المساواة، و لكن حرية من؟ من ماذا؟ إخاء بين من؟ مساواة من بمن؟ هذا شيء لا يذكره الشعار. القيمة الحقيقية لمثل هذا الشعار أنه يبعد الإنتباه عن السؤال الهام: هل تؤيد سياسة الثورة الفرنسية؟ هل تؤيد عمليات الإعدام بالمقصلة و غزو الشعوب الأخري و كل ما قام به قادة الثورة الفرنسية من مجازر؟ نفس الشيء بالنسبة لشعار الألعاب، إنه يبعد الإنتباه عن سؤال هام: هل تؤيد العنف و القتل"؟
اللغة السياسية هي اللغة التي تم تصميمها لجعل الأكاذيب تبدو حقائق و جعل القتل شيئا مستساغاً، و إعطاء الشكل الموضوعي العقلاني لأشياء هي عبارة عن هراء تام- جورج أورويل.
نظرت له و قلت:
-"أنت شيطان".
ضحك بعمق و قال:
-" لا تهون من شأني يا خالد. إن الشيطان تلميذفي مدرستي،صحيح أنه تلميذ مجتهد إلا أني مازلت أستاذه".
-"سأنصرف الآن. وداعا".
-"صحبتك السلامة".
-5-
مر أسبوع أو أكثر علي لقاءي برفاييل. أشعر برغبة شديدة في فعل شيء جديد أو تغيير شكل حياتي. ربما هي الحاجة الي الزواج. لكم أتمني أن أقضي بعض الوقت مع أكرم دون مناقشات و مجادلات. فقط بعض الوقت مع الشخص الوحيد الذي يمكن أن أصنفه علي أنه صديقي. و لكن هذا شيء صعب إن لم يكن مستحيل. لابد من الجدال و المناقشات التي لا تنتهي.
يمكنني أن أقنعه بأن يقوم بهذه التضحية الصغيرة من أجلي. أعلم أنه يحبني و أنه طيب القلب علي الرغم من عصبيته و إنفعاله.
لم أشعر بنفسي إلا و أنا أطرق باب منزله. فتحت زوجته الباب و نظرت الي في تهيب. قلت لها في شيء من الخجل:
-" معذرة لقدومي بدون موعد مسبق و لكن...".
-"مرحبا بك في أي وقت يا سيد خالد. تفضل بالدخول".
دخلت الي الردهة و جلست هناك بينما دخلت هي الي المنزل لتستدعي أكرم. بعد لحظات جاء أكرم و قبل أن يفتح فمه بكلمة قلت له:
-"إسمعني أولا. أنا في أشد الحاجة إليك. لا تناقشني في موضوع العاب الواقع هذا، فأنا لا أستطيع إحتمال مثل هذه المناقشات، علي الأقل ليس الآن. أنا الآن بحاجة الي صديق، و لا أعلم لي في هذا الكون صديق سواك. أنا الآن هش تماما كطفل رضيع، فهل أجد لديك الصدر الرحب لتسمعني"؟
-"ماذا بك يا خالد؟ هل أنت مريض؟ هل أنت مشاكل مالية؟ هل ...
-" لا يوجد شيء من هذا".
-"ماذا إذا؟ كلامك مقلق للغاية. إن كان في يدي شيء أساعدك به فلن أتأخر بالطبع".
-"أنا واثق من هذا. فقط أنا بحاجة الي صديق يستمع الي، و لا أعلم لي صديق سواك في هذا الكون".
-"تكلم يا خالد دون أن تزيد من قلقي".
-"لا أعلم كيف أبدأ معك الحديث أو ماذا يمكن أن أقول. يمكن لي أن ألخص الموضوع في الإكتئاب، و لكني أشعر أن ما أمر به هو أكبر و أصعب من الإكتئاب".
-"الإكتئاب ليس بالمرض الهين. إنه أخطر من الكثير من الأمراض العضوية".
-"ربما كان ما أمر به نوع من الإكتئاب. لا أدري بالظبط فأنا لست طبيباً نفسيا، فقط أشعر أن حياتي خاوية. لقد مللت الشهرة. أشعر أنها بلا معني. ما معني أن تكون شهيرا في لعبة من العاب التسلية؟ و الأدهي أنها ليست تسلية بريئة بل هي مدمرة. و فوق كل هذا لها أغراض خفية علي مستوي المجتمع.
-"أنت الذي يتحدث الآن عن الألعاب و ليس أنا".
-"ليست الألعاب في حد ذاتها و لكن حياتي ككل. كلما توغلت في الألعاب صار الأمر صعباً. قتل الناس ليس بالشيء الهين أو الممتع بالنسبة لي كما قد يتبادر الي ذهنك. في بعض الأحيان أشعر أن المقابل المادي الضخم للألعاب لا يكاد يساوي الضغط النفسي المريع الذي أتعرض له في كل لعبة و أنا أقتل أشخاصاً ليس بيني و بينهم أي عداء أو كراهية من أي نوع. و لكن دعنا من الألعاب فليست هي محور النقاش. بعيداً عن الألعاب، حياتي نفسها بلا أي معني. أعيش وحيدا بلا هدف. اليوم مثل غدا مثل الأمس. لم تعد الشهرة و المال أشياء مغرية كما كانت قديما. أقضي الوقت مقسما بين تدريباتي و قرائاتي، بدون ... لا أدري كيف أصف لك هذا. بدون أي شيء معنوي. اتفهم ما أقصده؟"
نظر لي أكرم طويلا ثم قال في حذر و كأنما يحاول أن يتحكم في نفسه لكي لا يتطرق لموضوع الألعاب:
-"ألم تفكر في الزواج؟"
-"و من تلك التي يمكن أن أتزوجها؟. لا يمكن لشخص مثلي عمله يتلخص في المخاطرة بحياته يمكنه الزواج. دعك من أني لا أجد من أرضي بها زوجة لي. هناك الكثير من البلهاوات اللائي يحلمن بي كزوج، و تقضي كل منها الساعات الطويلة في أحلام اليقظة متمنية أن أخوض معركة من أجل عينيها، ثم لا يلبث أن تنتهي هذه الأحلام عندما يأتي أول أحمق يطلب الزواج منها. المشكلة أني لا أريد فتاة بلهاء منبهرة بخالد بطل ألعاب الواقع، بل فتاة أحترم عقلها و شخصيتها تريد الزواج من خالد الإنسان.
ثم ضحكت في عصبية و قلت:
- "هذه متناقضة لا حل لها، فأنا لا أحترم أي فتاة تحترم أو تعجب بشخص يمتهن مهنة مثل مهنتي. الفتاة التي تعجب بي أو تقبل بي زوجا إما سفاحة تتسلي بإمتصاص دماء الأطفال الصغار ليلاً أو بلهاء أو مزيج من هذا و ذاك".
-"دعني أسألك سؤالاًً و لكن بدون أن تغضب".
-"سل ما بدا لك".
-"هل تصلي أو تقرأ القرآن بإنتظام"؟
-"كلا. منذ فترة طويلة و أنا لا أمارس أي من الشعائر الدينية. بل إن منزلي ليس به مصحف علي ما أذكر".
-"لماذا لا تجرب كبداية لتغيير حياتك أن تعود للمواظبة علي الصلاة؟ ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
-"أكرم أنا أتحدث معك عن مشاكل أخري ليس عن الصلاة أو القرآن. ثم إن هناك نقطة هامة. أنا دوما تحت الأضواء. لو تسرب خبر أني أصلي أو أقرأ القرآن سيكون في هذا مجال للشائعات و القيل و القال و سيكون في هذا الكثير من المشاكل لي.
-"و ما دخل الناس بك إن كنت تصلي أم لا؟ هذا شيء لا يخالف القانون علي ما أعلم".
-"أنت لا تعلم الطبقة العليا من المجتمع. ربما يمكنك هنا في هذا الجزء من المدينة أن تصلي و تمارس شعائرك الدينية بلا مشاكل، و لكن حيث أعيش انا، ممارسة أي شعيرة دينية يضعك موضع إشتباه. هذا قانون غير مكتوب".
-"لا أدري يا خالد. أعتقد أن سلامتك النفسية تستحق هذه التضحية البسيطة. جرب و لن تخسر شيئا و بإذن الله سيكون في هذا بداية تغيير الي الأحسن في حياتك".
فكرت قليلا ثم قلت له:
-"حسنا. سأجرب و لو لفترة قليلة".
-"عظيم. عن إذنك لحظة واحدة"
غاب أكرم في داخل المنزل لدقائق ثم عاد و في يده بعض الكتب:
-"هذا مصحف، و هذه بعض الكتب الدينية التي أتمني أن تعجبك. أدعو الله أن تكون هذه بداية تغيير جدي في حياتك نحو ما هو أحسن".
قضيت بعض الوقت مع أكرم ثم إستأذنته في الإنصراف. قبل أن أنصرف نظرت له طويلا و قلت له:
-" أشكرك يا أكرم علي كل ما فعلته من أجلي".
-"أنا لم أفعل شيئا ذا بال".
-"بل فعلت الكثير. لن يمكنك أن تتخيل كم كنت محتاجا الي هذه اللحظات التي قضيتها معك. لقد إستمعت الي بصدر رحب و هذا ليس بالشيء الهين أو البسيط، و حاولت أن تساعدني. الآن أشعر أن هناك علي الأقل شخص واحد في هذا العالم يهتم بأمري.
تعلثم أكرم و ارتبك:
-"أنا.... لم .... ".
"و الآن أستأذنك في الإنصراف. مرة أخري شكراً لك".
نزلت و ركبت سيارتي. وضعت المصحف و الكتب علي المقعد المجاور لي، ثم عدلت عن هذا ووضعتهم في درج السيارة. لا أريد أن يراني صحفي ما أو يستوقفني شرطي ثم يجد هذه الكتب الي جواري. لن يكون الأمر ظريفاً حينئذ.
أدرت السيارة ثم سرت في الطرقات الضيقة بسرعة بسيطة و أنا أتأمل الشوارع و ...
-"اللعنة".
بينما أنا أسير ظهرت أمامي فجأة فتاة صغيرة السن. كانت تعبر الطريق دون أن تنتبه الي سيارتي. ضغطت مكابح السيارة بشدة فتوقفت السيارة قبل أن تصدمها، لحسن الحظ أني كنت أسير بسرعة منخفضة. الغريب الفتاة لم تلتفت الي السيارة أصلاً بل واصلت عبور الطريق و كأن شيئا لم يكن.
أخرجت رأسي من النافذة و هتفت في غضب:
-"غيري من نوع المخدر الذي تدمنيه. إن لم تفعلي فلن تعيشي لتأخذي جرعة أخري".
نظرت لي الفتاة بعينين ممتلئتين بالدموع ثم أكملت طريقها حتي وصلت الي الرصيف المقابل ثم جلست عليه ووضعت رأسها بين يديها و أخذت تبكي. لقد كانت حزينة الي درجة أنها لم تنتبه الي السيارة و لم تهتم بأن ترد علي عبارتي الساخرة.
نزلت من السيارة و توجهت اليها. للدقة العمرية هي لم تكن فتاة بل طفلة يقترب عمرها من السنوات الأربع، واضح من ثيابها الفقر و عدم العناية، إذ لم تكن ثيابها أو وجهها آية في النظافة. علي الرغم من هذا إلا أنها كانت تفوح برقة الطفولة و عذوبتها في تناقض صارخ مع ثيابها الممزقة المتسخة و شعرها غير المعتني به. لو كنت حاكما لهذه المدينة لأمرت بشنق أم هذه الفتاة علي عامود نور في ميدان عام كما كان النازيون يفعلون برجال المقاومة في المدن التي إحتلوها...
يمكن الحكم علي أخلاقيات المجتمع من خلال ملاحظة مدي ما يقدمه من رعاية لأطفاله - ديتريتش بونهوفر.
كانت الفتاة صغيرة الجسد دقيقة الملامح، سوداء الشعر و العينين و ... لا أدري كيف أصف هذا، و لكن بها شيئا غريبا جذبني اليها. مظهرها كان كفيلاً بتغيير مشاعري فجأة، فبعد أن كنت علي إستعداد لتهشيم رأسها علي أقرب جدار، شعرت بشفقة شديدة تغمرني تجاهها و رغبة في أن أوقف دموعها بأي ثمن. من الذي يمكنه أن يبكي مثل هذا الملاك الصغير؟ الأمر يتطلب قسوة غير عادية لفعل شيء كهذا. إن من أبكاها هو شخص جدير بدخول كتب التاريخ الي جوار النازيين و الإسرائيليين و المغول و كل السادة رقيقي المشاعر مرهفي الحس الذين يملأون كتب التاريخ.
توجهت لها و و ثنيت ركبتي حتي صار وجهي علي مستوي وجهها و قلت لها:
-"ما الذي يبكيك يا صغيرتي".
-"لقد إنكسر ذراع أميرة و لن يمكنني أن أجد غيرها. لقد كنت أسير ثم سقطت علي الأرض تحت قدمي.لن أستطيع أن أجد غيرها. صدقني يا سيدي انا لم أقصد أن....".
-"مهلاً يا عزيزتي مهلاً. من هي أميرة أولا؟"
-"هذه هي أميرة".
قالتها و رفعت يدها اليسري بدمية صغيرة لم أنتبه اليها في البداية. هذا هو الموضوع إذاً. أمسكت الدمية و تفحصتها. في الواقع إن ذراع الدمية لم ينكسر، فقط إنفصل عنها و يمكن إعادة تركيبه بسهولة، فقط الفتاة لم تفطن لهذا لصغر سنها.
نظرت لها و سألتها:
-" إن أصلحتها لك ماذا تعطيني في المقابل"؟
نظرت لي في شيء من عدم الفهم و كأنما تفكر في المقابل الذي يمكنها أن تمنحه لي، ثم قالت في شيء من التردد:
-" ليس لدي حلوي لأمنحها لك. أنا لا أشتري الحلوي، فأبي لا يعطيني المال. يقول لي أنه سيشتري به أشياء أخري، و لكنه...
-"لا أريد حلوي. إن أصلحت لك الدمية فهل تصبحين صديقتي؟
-"كيف أصبح صديقتك؟ أنا صغيرة و أنت كبير؟
ضحكت بعمق. ما أعذب براءة الأطفال.
ركبت لها ذراع الدمية في ثوان. لم يكن الأمر صعبا. لاحظت أن الدمية شديدة النظافة. لابد أن الفتاة تعتبر أميرة إبنة لها و تعتني بها بشدة. لو أن أم هذه الفتاة إعتبرت إبنتها دمية فلربما إعتنت بها بعض الشيء.
ما أن مددت ذراعي للفتاة بالدمية حتي أمسكتها و تأكدت أن ذراعها بخير بأن أدارته حول مفصل الكتف مرتين، ثم قفزت في الهواء و أخذت تصيح:
-"لقد أصلح أميرة. لقد أصلح أميرة".
ثم قفزت و قبلتني قبلة صغيرة علي خدي الأيمن. لم أتصور أن يسعدها هذا الي هذه الدرجة. جلست علي الرصيف و أجلستها بجواري بعد أن هدأت قليلا.
-"ما أسمك يا صغيرتي".
-"سارة".
-"كم عمرك؟"
نظرت لي في إستغراب و قالت:
"ما معني عمر"؟
غريب هذا. الفتاة صغيرة السن و لكن علي ما أعتقد يعرف من هم في مثل سنها سنوات عمرهم. من الواضح أن الفتاة لا تلقي أي عناية عقلية أو تعليمية من أي نوع. تجاوزت هذا السؤال و قلت لها:
-"أترغبين في بعض الحلوي؟"
-"أنا أحب الحلوي جداً. ذات مرة جاءت هدي الي لنلعب. و كان معها بعض الحلوي. هدي أعطتني بعض الحلوي. في هذا اليوم كانت هدي تلعب مع أميرة بينما أنا كنت ألعب في ...".
ثم أكملت حديثها –الذي لا أذكره- و الذي كان ينتقل من نقطة لأخري علي عادة الأطفال.كانت تتحدث في حماس غريب. لابد أن نابليون لم يشعر بهذا الحماس و هو يقص أمجادة العسكرية. تذكرت كلمة لأحد الكتاب قال فيها يمكنك أن تعرف أنك صرت كبيراً حين تبدأ في الشعور بالملل. الأطفال فقط هم الذين يجدون في كل شيء نقطة مثيرة لا يراها الكبار لهذا لا يشعرون بالممل. كانت سارة تتحدث بحماس في كل الموضوعات، إلا أني كنت أستمتع بحديثها الي أقصي درجة. ربما هو ذلك الكم الهائل من البراءة و البساطة و التي لم أعتد أن أراها. ربما هو نوع من التغيير أن تجري حديثا مع طفلة صغيرة. لا أدري بالظبط. ما أعرفه هو أني كنت في غاية السعادة و أنا أستمع الي حديثها في هذه اللحظات.
ركنت السيارة في شارع جانبي ثم أمسكت بيدها و سرت في الطرقات الضيقة و الشوارع القذرة أبحث عن محل يمكنني أن أشتري منه بعض الحلوي لها.
وجدت بقالة صغيرة، يديرها شاب مراهق، في السادسة عشر من العمر تقريباً. نظر الينا في دهشة و كأنما يتساءل عن ما يمكن أن يجمع بين شاب يظهر عليه الثراء و رغد العيش و فتاة فقيرة قذرة في الرابعة من العمر. لم أعره إنتباهاُ و نظرت اليها و سألتها:
-"ما هي الحلوي التي تحبينها؟ أتحبين الشيكولاته؟
نظرت لي في إستغراب و دهشة. في البداية ظننت أنها تري السؤال بديهيا، إذ أن كل الأطفال يحبون الشيكولاته، ثم فطنت الي أنها لم تسمع الكلمة من قبل أساساً. لا أدري هل هذا بسبب فقرها أم صغر سنها.
إخترت انا الحلوي بدلا منها، فمن الواضح أنها لم تري معظم هذه الأصناف من قبل. غادرنا المتجر الصغير و إزلت الغلاف الحيط بقالب من الشيكولاته و قدمته لها. أمسكته في تردد و نظرت الي و كأنما تسألني عن كنه هذا الشيء. قلت لها:
-"هذه تسمي شيكولاته. إنها لذيذة للغاية. تذوقيها و سترين".
قضمت قضمة صغيرة و لاكتها في حذر ثم راقت لها الشيكولاته. أخذت تأكل قالب الشيكولاته و نست كل ما يحيط بها. حتي أميرة التي كانت تبكي من أجلها منذ قليل صارت في آخر إهتماماتها.
شعرت أن إمساكها لأميرة بيديها الصغيرتين و أكلها الشيكولاته في نفس الوقت يضايقها قليلا، فقلت لها:
-" أعطني أميرة لأمسكها لك ريثما تأكلين الشيكولاته".
-"كلا. أميرة ملكي أنا".
-"سأعطيها لك حينما تفرغين من أكل الشيكولاته".
-"كلا. أنا لا أترك أميرة".
و كأني سأسرق اميرة لألعب بها. من الواضح أني كنت مخطئاً. هي ليست علي إستعداد لترك أميرة أطلاقا مهما حدث.
-"أين تسكنين؟"
-"بجوار هدي".
من الواضح أن هدي هي صديقتها المقربة. لا جدوي من أن أسألها عن عنوان بيتها، إذ لابد أنها تعرف الطريق الي منزلها و لكنها لا تعرف كيف تصف العنوان.
-"هل ستذهبين الي المنزل الآن؟"
-"نعم".
-"حسناً، هيا بنا نذهب سوياً".
و سرت معها في الطريق الي منزلها.
مازلت أذكر العالم كما يبدو في عيني طفل صغير..
تدريجيا حُجبت هذه الصورة بما أعرفه الآن..
أين ذهبت مشاعري و أفكاري..
تم إبدالها بالعالم الحقيقي في مبادلة غير عادلة..
أريد ان أعود لما كنت عليه في الماضي..
من الثقة في كل شيء و الجهل بكل الحقائق..
من أغنيةFields of Innocence لفريق Evanescence
الجانب الفقير من المدينة قذر مهمل. هذا شيء يعرفه أي أحمق، إلا أن المنقطة التي يقع فيها منزل سارة هي أكثر أجزاء الجانب الفقير قذارة و إهمالا. لن أستغرب لو كانت هذه البقعة هي أحقر و أقذر بقاع الأرض.لن أصف هذه المنطقة بالتفصيل، فقط سأقول أن باقي الجانب الشرقي من المدينة يبدو كمنتجع سياحي مقارنة بهذه البقعة، و سأترك الأمر لخيالك.
سرنا في الطرقات الضيقة بينما سارة تلتهم باقي أصناف الحلوي التي إشتريتها لها، حتي وصلنا إلي منزلها. كلمة منزل هي تفخيم لهذا الشيء، فهو أقرب الي كوخ ضيق من الطوب و له سقف من الصاج الصديء المتآكل. فوق هذا الصدأ تتراكم أكوام من القمامة و المخلفات و الأتربة. هذا هو أحقر و أقذر منزل يمكن أن يسكن فيه إنسان. حتي الحيوانات تترفع عن أن تسكن في مكان مثل هذا.
طرقت سارة الباب المتهالك الذي يكاد يسقط من تلقاء ذاته. إنفتح الباب ليظهر خلفه رجل بدين ضيق العينين قصير القامة يرتدي زياً قذراً ممزقاً في أكثر من موضع، ذقنه غير حليقة و يسير مترنحاً. ما أن فتح الباب و رأي سارة حتي صاح فيها بلسان ملتو:
-"أين كنت يا إبنة الكلب؟ ألم آمرك ألا تبتعدي عن..."
ثم لم يلبث أن إنتبه الي وجودي. ما أن رأي وجهي حتي صمت في شيء من الإندهاش ثم لم يلبث أن أكمل في هياج:
-"ألم آمرك أن تتوقفي عن مضايقة الناس و جلب المشاكل علي أم رأسي؟ هل إنتهت جميع مشاكلي و لم يعد لي هم سواك؟"
قالها ثم هوي علي وجه سارة بصفعة عنيفة، لحسن الحظ أني أسرعت وتلقيتها علي راحة يدي قبل أن تسقط علي وجه الفتاة.
يا له من وغد. كيف ينوي أن يصفع فتاة صغيرة بهذه القوة؟ لقد آلمتني عظام يدي كثيراً عندما تلقيت صفعته عليها. إن يده شبيهة بقذيفة المدفع.
نظر الي فاغراً فاه و قد أذهله سرعة رد فعلي. إنتبهت الي أن عينيه حمراوان و لديه قدر لا بأس به من بطء الإدراك. لو أضفنا هذا الي مشيته المترنحة لقلت أن هذا الرجل مخمور أو يتعاطي نوع من المخدرات.
قلت له في صرامة:
-"لا يوجد أي مشاكل يا هذا. فقط وجدت الفتاة تسير في الشارع فقمت بإيصالها الي منزلها".
من داخل البيت جاءت زوجته. مثلها مثل زوجها فقيرة قذرة ممزقة الثياب، إلا أن عقلها ليس غائبا مثله. غالباً هي لا تدمن الخمور أو المخدرات مثله، أو علي الأقل هي لم تتعاطاها منذ قليل. شاهدت زوجته ما حدث فقالت:
-"معذرة يا سيد، فهو لا يعي ما يفعل. لقد أطارت تلك الأقراص اللعينة عقله".
ثم إلتفتت الي زوجها صائحة:
-"ألن تتوقف عن تناول هذا (الهباب) يا رجل. يوماً ما ستقتل نفسك أو تورط نفسك في كارثة بسبب هذا (الهباب) الذي تتناوله".
-"صمتاً يا إمرأة. هل صار الأمر و النهي في هذا البيت لك"؟
ثم إلتفت الي سارة و قال لها:
-"هيا إدخلي".
أكاد أجزم أن هذا الرجل سينهال عليها ضرباً عندما أبتعد.لا يهم السبب، يكفي أن يتعكر مزاجه لأي سبب،عندها سيبحث عن من يضربه، و بالطبع سيجد الفتاة أنسب الناس لهذا. فقط وجودي يمنعه من أن يمارس لذته الآن.
دخلت الفتاة الي البيت بعد أن ألقت عليّ نظرة طويلة و كأنما ترجوني أن أتدخل لأنقذها من دخول البيت. ولكن بأي حجة أستطيع أن أتدخل لأمنع فتاة من الحياة مع أب مثل هذا.
لم أدر كيف وصلت الي سيارتي و لا كيف قدتها الي منزلي. كان عقلي شارداً فيما رأيت اليوم، حتي أني بعد عودتي الي المنزل بما يزيد عن الساعة، تذكرت المصحف و الكتب التي أعطاها لي أكرم. لقد نسيت أن آخذها من درج السيارة. خرجت الي المرآب الملحق بالفيلا و عدت بالمصحف و الكتب.
في المساء صليت صلاة العشاء ثم قرأت بعض القرآن في فراشي. بدأت من بداية المصحف و قرأت ما يقرب من عشر صفحات ثم و ضعت المصحف بجواري علي الكومود. أغمضت عيني و شردت في ما رأيته اليوم.
هذه الفتاة إحتلت تفكيري، ببراءة الطفولة التي تملؤها. لن تدوم هذه البراءة كثيراً لو إستمر نمط الحياة الذي تعيشه، هذا إن إستمرت الحياة أصلاً و لم تلق حتفها بسبب ضربة من أبيها الرقيق مرهف الحواس. ما زالت عظام يدي تؤلمني حتي الآن من شدة ضربته.
أشعر برغبة شديدة في أن أري الفتاة مرة أخري. ما زالت أشعر بالقبلة التي وضعتها علي وجهي. أشعر بما فيها من سعادة و حب الأطفال البسيط الفطري. لم أشعر من قبل بهذا الشعور و لم أتخيل أن سعادة طفلة صغيرة قد تحدث في نفسي هذا الأثر النفسي الكبير.
أيضا أذكر نظرة عينيها عندما تركتها و كأنما ترجوني أن أنقذها من العودة الي منزلها. ربما كنت أنا أول من يحسن معاملتها منذ ولادتها، لهذا شعرت أني قد أستطيع أن أحميها مما تعانيه. مريع هو الشقاء الذي يرتسم علي وجوه الأطفال. هذه فتاة من المفترض أن يكون همها الأول اللعب مع أقرانها و العناية بدميتها و الذهاب الي مدرستها، و لكن الواقع أهم ما يشغلها هو كيف تتقي شر أبيها.
لابد من أن أفعل شيئاً لأنقذ الفتاة مما تعانيه. لا أدري ما الذي يمكن لشخص مثلي أن يفعله في موقف مثل هذا، و لكن لابد من فعل أي شيء، حتي لو كان هذا الشيء إغتيال ابيها علي قارعة الطريق. لن يكون في هذا خدمة لسارة فقط، بل سيكون خدمة للبشرية جمعاء أن تفقد هذا الحلوف البري.
و لكني لا أستطيع أن أتحرك الآن لفعل أي شيء، لابد من إنتظار الصباح. علي أن أنتظر ثمان ساعات كاملة قبل أن أستطيع التحرك لفعل أي شيء.
من الذي قال إن غداً لناظره قريب؟
-6-
ما أن أشرق صباح اليوم التالي حتي كنت أستعد للخروج.توضأت و صليت الصبح و دعوت الله أن يوفقني فيما أنا مقدم عليه. خرجت دون أن أتناول طعام الإفطار. لا أستطيع أن أصبر علي أن أفعل ما أنتويه، و لا أستطيع ترتيب أفكاري أو التحكم فيها. لابد من أن أفعل شيئاً لهذه الفتاة و تتضارب في ذهني الوسائل التي يمكن أن أفيدها بها. لابد من عقل آخر يفكر معي و إلا جننت. لا أعرف عقلاً في هذا العالم إلا عقلي أكرم و رفاييل أهارون. بالطبع لا أستطيع أن أستشير رفاييل في كيفية معاونة فتاة فقيرة. سيكون هذا مشهداً كوميدياً لا ينسي.
ركبت سيارتي و قدتها بسرعة عبر شوارع المدينة متجهاً الي جانبها الفقير. عرجت علي منزل أكرم و صعدت درجات السلم المتآكلة وثباً ثم ضغطت زر الجرس. لحظات و فتح أكرم الباب. نظرة إندهاش و قلق واضحة علي وجهه و كأنما يتساءل عن السبب الذي من أجله أطرق بابه في هذه الساعة المبكرة من الصباح. قبل أن يقول شيئاً بادرته بالكلام:
-"هناك أمر هام أرغب في أن أستشيرك فيه. لا تقلق فأنا لم أقحم نفسي في مشاكل و لا أي شيء مما يدور في ذهنك. فقط أنا بحاجة الي عقلك لنصف الساعة".
إبتسم و أفسح لي الطريق الي داخل منزله بدون أن يتفوه بكلمة واحدة. قادني الي ردهة المنزل ثم قال:
-"إنتظر قليلاً ريثما أعد إفطاراً سريعاً و أعود إليك".
-"أنت تتناول الأفطار كل يوم في الصباح، اليس كذلك؟"
نظر الي مندهشا من السؤال ثم قال في حذر:
-"نعم. كل الناس يفعلون هذا".
-"عظيم. لا داعي للإفطار اليوم علي سبيل تغيير روتينك اليومي. أيضا هذا يجعلك متميزاً عن الآخرين. إجلس و إستمع إليّ".
نظر الي محملقاً ثم إنفجر ضاحكاً و جلس علي المقعد المواجه لي و قال:
-"هل وصل الأمر الي هذه الدرجة؟ فلنر ما يدور برأسك".
قصصت عليه الموضوع في ربع ساعة. صمت أكرم لبعض الوقت مفكراً فيما حكيت له ثم قال:
-"و لكن كيف يمكنك أن تقدم شيئاً لهذه الفتاة؟ لا أعتقد أن القانون به نص يسمح ب..."
-"دعك من القانون. لا يوجد قانون في هذه المدينة. أنا أعرف من يمكنهم أن يفعلوا أي شيء أطلبه منهم بدون الحاجة الي قانون. المشكلة أنهم لن يتحمسوا كثيراً لفكرة مساعدة فتاة من الطبقة الفقيرة في المجتمع. ربما كان من الأفضل أن أحدثهم عن كلب مشرد في الشوارع، هذا قد يثير حماستهم أكثر".
-"ما الحل إذاً".
-"سآخذ هذه الفتاة لتعيش معي في بيتي".
-" هل ستخطفها"؟
-"لو تطلب الأمر ذلك سأفعله، إلا أنه هناك طرق أسهل لحسن الحظ. سآخذ هذه الفتاة من أبيها و برضاه التام و سعادته أيضا".
-"كيف أيها الذكي؟ هل ستقنعه أنك ستوفر لها مستوي مادي أفضل و تعليماً مدرسياً و ما الي ذلك؟ لا أظن أن شخصاً مثل الذي وصفته الآن سيبالي بشيء من هذا".
-"بالطبع لن يبالي بهذا. سأقنعه بوسيلة أخري".
-"ما هي هذه الوسيلة أيها العبقري؟"
-"إرتدي ملابسك و تعال معي و ستري".
-"و ما علاقتي أنا بهذا؟ اعطني سبباً واحداً ل ....".
-"علاقتك بهذا أنك صديقي، هذا سبب وجيه. ليكن هذا لك درس لكي لا تصادق أمثالي فيما بعد. و الآن أمامك خمس دقائق لتغير فيها ثيابك و سأنتظرك في سيارتي أسفل المنزل. لا تتأخر".
نزلت من المنزل قبل أن أمنحه فرصة لمزيد من الإعتراض. بعدها بقليل نزل أكرم و قد إستبدل ثيابه. ركب السيارة جواري و لم ينس أن يقل في لهجة ذات مغزي:
-"سيارتك جميلة حقاً".
-"لا وقت لهذا الكلام الآن يا أكرم".
قدت السيارة الي منطقة قريبة من منزل الفتاة ثم نزلنا منها و ترجلنا. لا تستطيع السيارة دخول الحواري الضيقة القذرة هنا.
و صلنا الي منزل سارة و طرقت الباب. لحظات و إنفتح الباب و ظهر خلفه أبيها. نظر الي و لم يبد أنه يتذكر أنه رآني أصلاً. قلت له بدون أي مقدمات:
-"أنا أرغب في أن آخذ إبنتك لتعيش مع أبنتي لتسليها. إن إبنتي ليس لها إخوة أو أخوات و لقد رأيت إبنتك و فكرت أنه ربما يمكن أن تأتي لتعيش مع إبنتي، إذ أنها في مثل عمرها تقريباً".
إرتسمت علي وجه أكرم نظرة مذهولة لحسن الحظ أن أبا الفتاة لم ينتبه اليها. تماسك قليلاً يا أحمق و لا تفسد الأمر.
نظر إلي أبيها في غيظ ثم قال في غضب:
-"ماذا تظن يا هذا؟ هل يمكن لأب أن...".
-"سأدفع لك خمسمائة جنيه شهرياً".
في ثانية واحدة تلاشي الغضب من علي وجهه و بدا علي وجهه شيء من التردد ثم إرتسمت في عينيه نظرة جشع و قال:
- "و كيف لي أن أبتعد عن صغيرتي؟ و هل يوجد من هو أحب الي منها؟ إن....".
-"سبعمائة جنيه و هذا آخر عرض سأقدمه فأنا لا أحب إطالة الحديث. إما أن تقبل و إما أن ترفض، و ليكن هذا الآن علي الفور".
-"موافق".
مددت يدي في جيبي و أخرجت بعض المال. قدمته اليه و قلت:
-"هذه سبعمائة جنيه لأول شهر. سأعطيك مثلها أول كل شهر".
أخذ مني المال في لهفةو سعادة و أخذ يعده. من داخل المنزل جاءت إمرأته التي كانت تسترق السمع و حاولت أن تأخذ منه المال إلا أنه أبعده عن يدها و صاح فيها أن تبتعد عن المال. إنشغلا في الشجار سويا بينما ناديت سارة. جاءت من الداخل تحمل أميرة كالمعتاد و سلمت عليّ ثم نظرت الي أكرم في تردد. في هذه الأثناء كان أكرم يشاهد ما يحدث و هو فاغر فاه في صورة تصلح لأن توضع في المعجم و تحتها كلمة مذهول. لو أنه رأي ديناصورين يتصارعان في غرفة نومه لما إرتسم علي وجهه هذه القدر من الذهول. جذبته من ذراعه لألفت إنتباهه الي سارة. مد يده اليها فمدت يدها في شيء من التردد. هذا معتاد لدي الأطفال طبعاً لأنها تراه لأول مرة.
داعبها أكرم قليلاً بينما الرجل و أمرأته يتصارعان من أجل المال. نظر أكرم اليّ مبتسماً و قال:
-"أهذه هي سارة؟ في الحقيقة هي تستحق الوصف الذي وصفتها به و أكثر".
أمسكت بيد سارة و سرنا أنا و هي و أكرم في إتجاه سيارتي. الطريف أن الفتاة لم تسأل إلي اين نحن ذاهبون، لا أدري هل لأنها صارت تألفني أم لأن أي مكان نذهب اليه هو أفضل من بيتها.
بعد أن سرنا خطوات قليلة حتي جاء صوت ابيها من خلفنا يهتف في غضب:
-"إلي أين أنت ذاهب يا هذا؟"
نظرت له في تساؤل فقال:
-"أنت لم تعطني عنوانك".
ثم أكمل و علي وجهه إبتسامة صفراء مقيتة:
-"كيف سآتي اليك في أول كل شهر لآخذ السبعمائة جنيه؟"
يا للخنزير. و انا الذي كنت أظنه سيسأل عن المكان الذي ستكون فيه إبنته ليطمئن عليها من وقت لآخر فإذا به فقط يهتم بالمكان الذي سيقبض منه المال ....
أن يكون لديك طفل لا يجعل منك أباً بأكثر مما يجعلك إمتلاك البيانو موسيقاراً.
مايكل ليفين
أعطيته عنوان منزلي ثم إنصرفنا. ما أن ركبنا سيارتي حتي إندفع أكرم في أسألته و كأنما كان ينتظر فقط أن نبتعد قليلاً:
-"ما هذا الذي حدث الآن؟ إن الرجل يؤجر إبنته بالمال. هذا هو المعني الحرفي لما حدث. إنه لا يهتم بما قد تفعله أنت بإبنته، و لم يسأل إن كنت ستحسن رعايتها. لم يسألك عن أسمك، بل إنه حتي لم...."
ثم إختنقت الكلمات في حلقه من فرط الإنفعال. قلت له:
-"بالطبع المال هو كل ما يهمه من الحياة. لو أني كنت طلبت حياته هو مقابل المال فلربما أعطانيها بعد مساومة قصيرة. أنا كنت علي إستعداد لأن أدفع كل ما أملك مقابل أن أفوز بها، و لكن لحسن الحظ أنه لم يدرك هذا و إلا لطالب بالفعل بكل ما أملك. أما عن رعايتي لإبنته، فلن أسيء معاملتها و العناية بها بأكثر مما يفعل هو. أعلم أن هذا شيء قاس، و لكن لن يستطع أي شخص أن يسيء معاملة هذه الفتاة بأكثر مما يفعل أبيها. ربما كان القتل أكثر رحمة و هوناً من أن يهين آدميتها و طفولتها يومياً بإنتظام.
-"هناك شيء آخر. أنت قلت أنه رآك بالأمس. لم يبد عليه أنه رآك في أي مكان من قبل. و حتي لو لم يكن رآك، انت شخصية شهيرة و معروفة، و لكن علي الرغم من هذا لم يبد ما يدل علي أنه تعرفك".
-"عندما رآني بالأمس كان متعاطيا لمخدر من نوع ما. الخمر و بعض أنواع المخدرات لها هذا التأثير، ففي الفترة التي يكون فيها الكحول أو المخدر في جسدك تصبح شخصاً آخر غير ما أنت عليه بدون المخدر. عندما ينتهي مفعول المخدر أو الكحول تنسي كل ما مررت به و ما فعلته و أنت تحت تأثير الكحول أو المخدر. عندما تتعاطي الكحول أو المخدر ثانية تتذكر ما مر بك في المرة الأولي عندما تناولت الكحول أو المخدر. بعبارة أخري، إذا تعاطي هذا الرجل أقراصه المخدرة الآن فسيتذكرني. أعلم أن هذا يبدو مضحكاً و لكنه حقيقي".
نظر إلي أكرم في عدم تصديق إلا أني أكملت:
-"أما بالنسبة لكوني شخصاً شهيراً فهذا الرجل ليس لديه جهاز تليفزيون ليشاهد عليه الألعاب، و حتي إن كان لديه جهاز تليفزيون أو رآني في أحد المعلقات الإعلانية أو ما شابه، فلا أعتقد أن مخه الذي تآكل من فرط الإدمان قادر علي أن ينتبه الي أو يتعرفني إذا ما رآني".
نظر إلي في عدم إقتناع و لم يتفوه بكلمة حتي و صلنا الي بيته. أوقفت السيارة أمام باب البيت فنزل من السيارة دون أن يقول شيئاً و قد بدا عليه الإرهاق. لم تتحمل عقليته التي تعيش في المدينة الفاضلة – علي الرغم من كل ما رآه و يراه يومياً- ما رآه الآن.
هتفت به:
-"شكراً يا أكرم".
لوح بيده في حركة غير ذات معني ثم أكمل السير الي منزله في تثاقل.
نظرت الي سارة التي جلست في المقعد الخلفي تلعب بدميتها غير مبالية بحديثنا و حمدت الله علي أن وفقني الي أن إنتشلتها مما كانت فيه.
أمامنا أيام قادمة من المرح سوياً يا صغيرتي.
-7-
يد طفل صغير في يدك.. يا للحنان و القوة التي تطلقها فيك. في لحظة واحدة تجد نفسك قد صرت مركز الحكمة و القوة في الكون – ماريوري هولمز.
عندما و صلنا الي المنزل و نزلنا من السيارة ،أخذت سارة تتأمل حديقة الفيلا بفضول الأطفال المعتاد، فهي لم تر منظراً مماثلاً من قبل. تسللت يدها اليمني لا شعورياً لمتسك بيدي، بينما ظلت تضم أميرة الي صدرها باليد اليسري. هذا منطقي طبعاً، فأنا الشيء الوحيد المألوف لها في كل ما يحيط بها في هذه اللحظة.
لم أقطع الصمت و تركتها تتأمل ما حولها. في خلال لحظات كانت تسير لتستكشف الحديقة دون أن تترك يدي أو تتفوه بكلمة. لم أعترض و تبعتها في سيرها. توقفت أمام إحدي الأزهار بنفسجية اللون. وفقت أمام الزهرة فاغرة فاهها في إنبهار. بينما كانت هي تتأمل الزهرة كنت أنا أتأمل وجهها و علامات الذهول المرتسمة عليه. و قفت تتأمل الزهرة لدقيقة كاملة و مدت يدها لتتحسسها. و أخيراً تكلمت بأنفاس متقطعة من فرط الإنبهار:
-"ما هذا"؟
"هذه و ليس هذا. هذه تسمي زهرة".
نظرت لي و كأنما لم تكتف بهذا. هي تريد المزيد من المعلومات. تري ما المعلومات التي يمكن أن يقدمها المرء عن الزهور الي طفلة مثل هذه، صغيرة السن و تربت في بيئة لا يمكن أن تعلمها أي شيء ذي قيمة؟ دعك من أن يكون هذا المرء شخص مثلي كل ما يعرفه عن الزهور هو أنها نبات لا يؤكل –إلا في الأساطير الإغريقية طبعا.
عندما لم تتلق مني رداً علي نظرتها المتسائلة، التفتت الي الزهرة و أكملت تأملها و تحسسها في إنبهار. لم يلبث أن إنتبهت الي زهرة أخري قريبة، و لكن هذه كانت حمراء اللون. تركت يدي و وقفت أمامها تتأملها و تتحسسها مثل الزهرة الأخري. نظرت الي و سألت نفس السؤال:
-"ما هذا؟"
ما دامت سألت نفس السؤال، بالتأكيد ستتلقي نفس الإجابة:
-"هذا و ليس هذه. هذه أيضاً زهرة".
نظرت الي و تفكرت فيما قلته، ثم أخذت تنقل نظرها بين الزهرتين ثم قالت في تردد:
-"و لكن ...".
ثم بترت عبارتها. هي تريد ان تقول أن الشيئين مختلفتين في الشكل و اللون، فكيف يكون كلاهما زهرة، و لكنها لا تستطيع أن تعبر عن أفكارها. للأسف لا أعرف أسماء هذه الزهور.
-"الزهور لها أنواع و ألوان متعددة".
هزت رأسها في عدم إقتناع ثم لم يلبث أن لفت نظرها نبات آخر في الحديقة. بالطبع لا أعرف إسمه كالمعتاد، فأنا لم أزرع الحديقة بنفسي و إنما قامت بهذا إحدي شركات تنسيق الحدائق. يبدو أن هذه الجولة الإستكشافية في الحديقة لن تنتهي قبل أن يبدأ الشيب يغزو شعري.
قلت لها:
-"هيا لندخل الي البيت أولا ثم سنكمل باقي اليوم هنا في الحديقة".
أكملت تأمل الحديقة و كأنما لم أقل شيئاً. كررت ما قلت و أنا أجذب يدها تجاه الفيلا. قالت في شيء من العناد:
-"أريد ان أظل هنا".
-"سندخل الي البيت لبعض الوقت ثم نكمل باقي اليوم هنا في الحديقة".
ثم أضفت في لهجة مغرية:
-"و يمكننا أيضا أن نري حمام السباحة الموجود خلف الفيلا".
نظرت الي في تساؤل. بالتأكيد هي لم تسمع عن شيء يدعي حمام سباحة من قبل.
-"حسناً".
كنت أتوقع هذا. هي لا تعرف ما هو حمام السباحة، و لكن مادامت الفيلا بها أشياء مبهرة مثل الزهور، فبالتأكيد حمام السباحة سيكون هو الآخر شيء مبهر أو ربما أكثر إبهاراً.
كما تمنيت تماماً، الفتاة مستوي ذكائها أعلي من المتوسط بكثير. علي الرغم من قلة معلوماتها – مقارنة بمن هم في مثل سنها- إلا أن تفكيرها منطقي و قوة ملاحظتها ممتازة. في مثل هذه السن الصغيرة تعتبر قوة الملاحظة و كثرة التساؤل و تأمل الأشياء من علامات الذكاء التي لا جدال عليها.
دلفنا الي الفيلا، و كما هو معتاد أخذت تتأمل ما حولها بفضول. تركتها و توجهت الي جهاز الهاتف. لابد من إجراء مكالمتين سريعتين.
بعد أن أنهيت المكالمتين صليت الظهر و حمدت الله علي أن وفقني إلي ما كنت أتمناه. أشعر أني فزت اليوم بكنز لا يوصف و لا يقدر بمال.
بعد الصلاة توجهت الي المطبخ. لا أعلم ما الغذاء المناسب لفتاة في هذه السن. أعددت بعض الشطائر و كوب من اللبن – الشيء الوحيد الذي يخطر ببالي عندما أفكر في غذاء طفل، أو هكذا تعودت علي الأقل. غالباً سترفض شرب اللبن كعادة الأطفال، و لكن ربما إستطعت أن أقنعها بتناول الشطائر علي الأقل. أنا نفسي لا أطيق اللبن و لا أشربه إلا ممزوجاً بشيء ما- شاي، قهوة، عصير فاكهة، أي شيء.
وضعت الشطائر علي صينية صغيرة و خرجت الي الردهة. كانت سارة تقف أمام التلفاز المغلق تتأمله بإنبهار.قدمت لها كوب اللبن و أنا أتوقع منها رفضاً، إلا أنها لم ترفضه و أمسكته تتأمله بنفس الإنبهار و التساؤل. فطنت إلي أنها لم تر اللبن أيضاً من قبل. تملكني شعور عنيف من الكراهية لأبيها و أمها في هذه اللحظة. أعلم أن الفتاة من بيئة معدمة مادياً و ثقافياً، و لكن لم أتوقع أن يصل الأمر الي هذه الدرجة، أنها لم تر اللبن أبداً. لم يهتم أبيها في يوم من الأيام بأن يسقيها كوب من اللبن، لأن اللبن يكلف مالاً، و كل ما لديه من أموال ينفقه علي مخدراته بالتأكيد. ألا بارك الله فيه.
تذوقت رشفة صغيرة من اللبن ثم إمتعض وجهها بشدة. إنفجرت في الضحك ، فقد كان تعبيراً مضحكاً للغاية. دون كلمة مدت يدها الي بكوب اللبن، و لم أناقشها كثيراً. لا أريد تكون بداية علاقتي بها كوب من اللبن.
أعطيتها شطيرة تذوقتها في حذر و كأنما تتأكد أني لم أضع فيها اللبن، ثم أكملت إلتهامها في جوع واضح.
بعد دقيقة رن جرس الباب. فتحته لأجد علي عتبته مندوب محل الملابس، يحمل الملابس التي طلبتها لسارة بالهاتف. هذه أولي المكالمات التي أجريتها عندما دخلنا الي الفيلا. أرجو أن تكون الملابس مناسبة لها، فأنا لا أعلم ما هي مقاييسها. فقط طلبت من الموظفة التي ردت علي مكالمتي ملابس لطفلة في الرابعة من العمر متوسطة الجسد.
نقدت مندوب محل الملابس نقوده, و بالطبع طلب مني أن أوقع له أوتوجرافاً. لا بأس. عادة أنا أرفض توقيع الأوتوجرافات، و لكني اليوم سعيد للغاية. لو طلب مني مليوناً من الجنيهات لكتبت له شيكأً في الحال.
ما هي إلا لحظات إلا و دق جرس الباب ثانية. فتحته لأجد علي عتبة الباب المربية التي طلبتها. هذه هي المكالمة الثانية. أحتاج الي من يعني بالفتاة ولا خبرة لدي إطلاقاً بالأطفال الصغار. طلبت أحد دور رعاية الأطفال الشهيرة و طلبت منهم أن يرسلوا لي من يمكنه أن يقوم بالأمر فورا.
كانت سيدة في منتصف الثلاثينيات، يبدو عليها الرقي و التهذيب. بالطبع مربية أطفال تعمل في دار رعاية أطفال مثل هذه لابد من أن تكون مؤهلة علي أعلي مستوي، دعك طبعاً من الرقي و حسن المظهر. لكل هذا ثمنه بالطبع ولكن الأمر يستحق ما هو أكثر– سارة تستحق ما هو أكثر.
في كلمات موجزة أخبرتها أني أريد العناية بهذه الفتاة، و أشرت الي سارة. لم يغب عن نظري نظرة الإندهاش التي إرتسمت في عينيها لمظهر الفتاة الفقير، و لكنها لم تسأل أو تعترض و بدأت في تنفيذ عملها. في الواقع كانت تتقن رعاية الأطفال و التعامل معهم إلي درجة عالية. تعرفت الي سارة و أخذت تحدثها و تداعبها حتي إكتسبت ثقتها، بل و أخرجت من حقيبتها لعبة صغيرة و أعطتها لها، و هكذا صارت صديقتها. بعد هذا بدأت بأن أعطت الفتاة حماما ساخناً، و ألبستها الثياب الجديدة التي إشتريتها لها. لحسن الحظ كان مقاس الثياب مناسب لها.
عطرتها بعطر خاص للأطفال – له رائحة لا أستطيع أن أصفها، و لكنها تذكرني بالحلوي مع مزيج من رائحة غريبة لا أعلم ما هي، إلا أن الخلاصة أني شعرت أنه عطر رائع للأطفال- ثم قامت بتمشيط شعرها في ذيل حصان أنيق. لشد ما أظهرت العناية مدي جمالها. دون أدني مبالغة يمكنني أن أقول أنها كانت أرق و أجمل طفلة رأيتها في حياتي. طفلة تخطف الأبصار. هذا هو أقل ما يمكن أن توصف به.
أعطتي المربية نظاماً غذائياً لإتباعه مع سارة، مع بعض الإرشادات العامة بشأن نومها و صحتها و علامات الأمراض التي علي الإنتباه لها، الي آخر هذه الأشياء. لم أرغب في أن أفقد شيء مما تقول، فسجلت حديثها علي جهاز صغير لتسجيل و سماع الأصوات، يمكن أن يوصل بجهاز الكمبيوتر لتفريغ الأصوات التي تم تسجيلها عليه. سأقوم تعليمات الطعام هذه الي السيدة أمينة، مدبرة المنزل حين تأتي اليوم. إنها تمر علي ثلاث مرات أسبوعياً لتقوم بطهي الطعام و الإشراف علي تنظيف المنزل – بالطبع لا يمكنها العناية بفيلا كبيرة وحدها، هي تأتي معها بمساعدين ليساعدوها في هذا. هي سيدة لطيفة في أواخر الأربعينات من العمر، وأجرؤ علي القول أنها أكثر شخص أستريح اليه في هذا المجتمع الكريه الذي أعيش فيه.
قبل أن تنصرف، إتفقت معها أن تمر بالبيت مرتين بالأسبوع لتتابع العناية بسارة بإنتظام.أيضاً لم أنس أن آخذ منها إسم العطر الأطفال الرائع الذي إستخدمته مع سارة.
بعد أن إنصرفت المربية بدأت البرنامج الحافل الذي أعددته إرتجالاً لسارة. في البداية ذهبنا الي أحد محلات الملابس لكي أشتري لها المزيد من الثياب، ثياب للخروج بها و بيجامات للنوم و لم أنس أن أشتري لها ثوب إستحمام صغير. عندما كنت أنتقي ثوب الإستحمام لها بمساعدة أحدي البائعات، جذبت سارة يدي. نظرت اليها فأشارت الي بيدها أن أنزل. كانت تريد أن تقول لي شيئاً ما و لم ترغب في أن تسمعنا البائعة. ثنيت ركبتي كي أكون علي مستواها، فقالت في صوت خافت:
-"ما هذا؟"
نظرت لها و قلت لها في حذر:
-"هذا ثوب".
-"ولكنه ليس مثل الباقيين".
رائع. بل أكثر من رائع. لقد لاحظت أن ثوب الإستحمام يختلف عن باقي الثياب التي إشتريناها و لم يمر الأمر عليها مرور الكرام. هذا رائع بالنسبة لسنها.
إبتسمت و أيضاً إبتسمت البائعة و قد سمعت العبارة الأخيرة. قلت لها:
-"ستعرفين فيما بعد".
بعد أن إنتهينا من شراء الثياب، ذهبنا الي متجر شهير متخصص في العطور، فإشتريت لها زجاجة من عطر الأطفال الذي أخذت إسمه من المربية، ثم عرجنا علي أحد محلات لعب الأطفال الكبري.
أخذ البائع يعرض علي سارة جميع أنواع الدمي الموجودة بالمحل، إلا أنها رفضت تماماً أي دمية. حاول البائع بشتي الطرق أن يشرح لها مميزات الدمي التي يعرضها، إلا أنها كانت تضم أميرة إلي صدرها و ترفض حتي أن تصغي للبائع. كانت الدمي كبيرة الحجم غالية الثمن، معها الكثير من الكماليات مثل الثياب و أمشاط الشعر الي آخر هذه الأشياء التي لا أعرف الكثير عنها للأسف. أقل ما يمكن أن توصف به هذه الدمي هي أنها أفضل كثيراً من أميرة، إلا أني شعرت أن سارة ترفض مجرد فكرة التخلي عن دميتها الأثيرة، حتي لو حصلت علي دمية أفضل منها.
لم أرغب في أن أضغط عليها، خاصة و أني شعرت بضيقها من عرض الدمي الذي قدمه البائع. أشرت له أن كفي و أمسكت بيد سارة و إبتعدت عن القسم الذي يحتوي الدمي، لأشتري لها نوع آخر من اللعب، و لكني لم أجد في المحل ما يناسبها. بالله عليك ما هي اللعبة التي تناسب طفلة صغيرة سوي دمية؟ كل الألعاب الأخري لا تناسب سوي الأولاد. مسدسات و أسلحة مختلفة، دمي لأبطال أفلام الكرتون- أولئك الذين لا يفعلون شيئاً سوي إنقاذ العالم من الكوارث المحققة- و سيارات تسير بالبطاريات. لا يوجد ما يمكن أن يناسبها في هذه الألعاب.
و لكن بعد السير في المتجر لبعض الوقت، وجدنا أ نفسنا في قسم مخصص لدراجات الأطفال. إشتريت لها دراجة صغيرة ذات ثلاث عجلات ووضعتها في السيارة، دون أن آخذ رأيها. إن لم تناسبها الدراجة فلا يوجد ما يناسبها في هذا المحل. لم أكن أستطيع أن أخرج من المحل دون أن أشتري لها شيئاً. إذا أردنا الدقة، فأنا أكثر حاجة الي شراء هذه الدراجة من سارة. أنا بحاجة الي أن أشتري لها لعبة ما، لا أدري ما سبب هذا الشعور، فأنا لم أتعامل مع طفل أو طفلة بهذا القرب من قبل.
في الماضي، لم تكن فكرة أن يكون لدي طفل تمر بذهني علي الإطلاق. ربما فكرت في أن أتزوج يوماً ما، فقط لشعوري بالحاجة الي زوجة، و لكني لم أشعر يوماً بالحاجة لأن يكون لي طفل. الآن حين أفكر في هذا، و أري كيف كنت متلهفاً علي شراء هذه الدراجة الصغيرة لسارة دون أن تطلبها، أشعر بالفارق الضخم الذي أحدثته هذه الطفلة الصغيرة فيّ. ذات مرة قرأت في أحد المقالات أن الأم تأخذ من طفلها أكثر مما تعطيه. وقتها كان رأيي أن من كتب هذا المقال هو أحد مدعي الحكمة أو هو مجرد معتوه ممن يعج بهم العالم. الآن أري أنه كان عبقري.
من ينظر الي الأمر نظرة سطحية قد يظن أن هذه الفتاة الصغيرة تحتاج اليّ، بصغر سنها و براءتها و فقرها و سوء ظروفها الإجتماعية، إلا أن من ينظر الي الأمر نظرة مدققة، سيري أن حاجتي لها أكثر من مدي حاجتها اليّّ.
عدنا الي المنزل لكي أقوم بما وعدتها به من رؤية حمام السباحة. الشمس ستغيب في خلال ساعات قليلة، و لكن حمام السباحة محاط بكشافات و به نظام لتدفئة الماء. الآن أشعر بالفائدة الحقيقية لحمام السباحة، فأنا لم أسبح فيه أكثر من ثلاث مرات. لم أكن أشعر الحاجة اليه عند بناء هذه الفيلا، إلا أني كنت أري أن الأثرياء لديهم حمامات سباحة في فيلاتهم، فقمت ببناء واحد علي أعلي مستوي من التجهيزات. كان حمام السباحة بالنسبة لي مجرد وسيلة لإستكمال الوجاهة الإجتماعية.
في الفيلا إستقبلتنا السيدة أمينة – فاليوم موعد عمليات التنظيف و الطهي ، وهي تملك مفتاحاً للفيلا- و عرفتها بسارة. مدت يدها في بشاشة و لطف لتصافحها، و لكن سارة إختبأت خلفي في حياء. ضحكنا أنا و السيدة أمينة.تركتنا السيدة أمينة قائلة أنها ستعود لتمضي بعض الوقت مع سارة فيما بعد، و لكن لديها الآن ما تقوم به في المطبخ.
ما أن تركتنا السيدة أمينة حتي قالت سارة:
-"و الآن أريد أن أري...."
ثم صمتت محاولة التذكر. ضحكت و قلت لها:
-"حمام السباحة؟"
-"نعم، أريد أن أري حمام السباحة".
علي الرغم من أنه قد مضت عدة ساعات علي وعدي لها، و علي الرغم من أني لم أذكر لها الموضوع ثانية إلا أنها لم تنس. رائع. علي أي حال أنا لا أنوي أن أحنث بوعدي معها بعد أن بدأت أكتسب ثقتها.
قلت لها:
-"إرتدي ثوب الإستحمام لكي نري حمام السباحة سوياً.
-"ما هو ثوب الحمام".
-"ثوب الإستحمام و ليس ثوب الحمام. هذ هو".
و أخرجت ثوب الإستحمام من وسط الثياب التي إشتريناها و ناولته لها. نظرت الي في تساؤل و كأنما تسأل عن علاقة إرتدائها لهذا الثوب الغريب برؤيتها لحمام السباحة. قلت لها:
-"إصعدي الي الغرفة التي في الطابق العلوي الي اليمين و إرتدي الثوب و سنذهب فوراً لنري حمام السباحة. سأجعل السيدة أمينة تساعدك".
نظرت الي نظرة و كأنها تقول ( فلنصبر عليه الي النهاية).
توجهت الي المطبخ و في كلمات سريعة قصصت علي السيدة أمينة قصة معرفتي بسارة و رغبتي في العناية بها و أن أجعلها تعيش معي الي أن تكبر. تفهمت الموضوع سريعاً، و إن لم تغب عن عيني تعبيرات التعجب و الدهشة علي وجهها. بالتأكيد هي تتساءل كيف يمكن لمن هو مثلي أن يفكر في شيء كهذا. لم أحاول أن أبرر لها هذا، فأنا نفسي لا أدري ما الذي يدفعني الي هذا.
أخبرت السيدة أمينة بتوصيات التغذية التي أخبرتني بها المربية و طلبت منها أن تأخذها في إعتبارها عند طهو الطعام من الآن فصاعدا. أيضا طلبت منها أن تصنع صنفاً حلوا لسارة اليوم، و قبل أن تقوم بكل هذا، طلبت منها أن تساعد سارة علي إرتداء ثوب الإستحمام لأننا سنلهو قليلاً في حمام السباحة.
خرجت السيدة أمينة الي الردهة و أخذت تداعب سارة قليلاً. تدريجياً تخلت سارة عن حياءها و بدأت تستجيب لمداعبات السيدة أمينة. هذا ما كنت أتوقعه، فالسيدة أمينة لديها ثلاث أبناء، و من معرفتي بشخصيتها، أعتقد أنها أم حنون، و بالتأكيد تعرف كيف تداعب طفلة صغيرة و تكتسب ثقتها. بعد دقائق قليلة، صعدت سارة مع السيدة أمينة الي الغرفة العلوية لكي تساعدها علي إستبدال ثيابها.
توضأت و صليت العصر و أجريت مكالمة تليفونية، ثم إرتديت ثوب الإستحمام الخاص بي وخرجت الي الردهة فوجدت سارة و قد إرتدت ثوب الإستحمام و إن كانت ما تزال ممسكة بأميرة. صحبتها الي حمام السباحة الذي يقع خلف الفيلا.
راقبت وجه سارة و هي تري حمام السباحة. إرتسمت علي وجهها علامات الدهشة المعتادة. لقد صرت أستمتع بهذه النظرة كثيراً.
علي الرغم من الجو لم يكن بارداً، إلا أني لا أضمن أن تكون برودة الماء مناسبة لسارة. أنا أحب الماء أن يكون بارداً قليلاً، إلا أني لا أعتقد ان هذا سيكون مناسباً لها. قمت بتشغيل نظام التدفئة و لكني لم أقم بتشغيل الكشافات. لم تغب الشمس بعد، و مازالت الرؤية واضحة.
بعد تحديق طويل في حمام السباحة، أشارت سارة اليه و قالت:
-"هذا حوض".
ضحكت كثيراً حتي دمعت عيناي. بعد أن هدأت ضحكاتي قلت لها:
-" هذا ليس حوضاً. هذا حمام سباحة. نحن نستخدمه لنلهو قليلاً وسط الماء".
أمسكت يدها و توجهت الي الجانب الآخر من حمام السباحة حيث عمق الماء قليل. قلت لها:
-"ضعي أميرة جانباً لكي ننزل الي حمام السباحة".
هزت رأسها بشدة و قالت:
-"كلا".
-"ستكون أمامنا دوما. سنضعها هنا علي هذه المنضدة لكي لا تغيب عن عينيك".
قلتها و أخذتها الي المنضدة الصغيرة المجاورة لحمام السباحة. مددت يدي لآخذ منها الدمية فنظرت لي في تردد ثم تركتني أخذها لأضعها علي المنضدة الصغيرة.
-"و الآن هيا بنا لننزل حمام السباحة".
نزلت أنا أولاً و مددت يدي اليها و قلت لها:
-"هيا إنزلي يا سارة".
وقفت مترددة علي حافة حمام السباحة قليلاً ثم إقتربت بهدوء من يدي. حملتها بين يدي و أنزلتها في حمام السباحة الي جواري. ما أن لمس جسدها الماء حتي ضحكت قليلاً و هدأ توترها.
أمضينا ساعتين في حمام السباحة نلهو سوياً. لحسن الحظ أنها لم تكن من أولئك الأطفال الذين يخافون الماء خوفاً مبالغاً فيه.
عندما بدأ الظلام يحل خرجنا من حمام السباحة و عدنا الي الفيلا. لم تكن سارة ترغب في أن نترك حمام السباحة. كانت علي إستعداد أن تستمر في اللعب في حمام السباحة الي يوم يبعثون، و لم تبد علي إستعداد لأن تقتنع بالحجج التي سقتها مثل الظلام و برودة الجو و الوقت الذي تأخر. بالنسبة للأطفال تعتبر هذه الأشياء هراء من الذي يقوله الكبار دوما، لا يستحق أن يترك المرء لأجله شيئاً رائعا مثل حمام السباحة. الي حد ما أنا أتفهم وجهة نظرها و أري أنها تستحق التفكير.
لم تترك سارة حمام السباحة إلا عندما أخبرتها أن لدي شيء ما أريدها أن تراه.
-"ما هو".
-"مفاجأة".
نظرت لي في إستغراب. هي لا تعرف معني الكلمة.
-"لن أخبرك حتي تريه بنفسك".
بدأت تلين و بدا لي أننا سنترك حمام السباحة أخيراً. عندما عدنا الي الفيلا صعدت سارة لإستبدال ثيابها بمساعدة السيدة أمينة، و إستبدلت أنا أيضا ثيابي سريعاً. ما أن إنتهيت حتي دق جرس الباب. لقد جاء مندوب محل الزهور الذي حادثته هاتفياً قبل نزولنا الي حمام السباحة بما طلبته منه. نقدته ماله و أخذت اللفافة التي جاء بها و ذهبت الي الردهة. دقائق قليلة و نزلت سارة من أعلي. كانت تنزل بسرعة و تقفز درجات السلم. لم يبدو عليها الإرهاق علي الرغم من الوقت الذي قضيناه في حمام السباحة. جاءت السيدة أمينة بأطباق الحلوي و قدمتها لنا، و أكلت سارة قليلاً ثم نظرت الي اللفافة.
أجلستها علي ركبتي ، و قدمت لها اللفافة المغلقة:
-"و الآن هذا هو الشيء الذي كلمتك عنه".
أمسكت اللفافة الكبيرة التي تكاد تفوقها حجماً بين يديها الصغيرتين. علمتها كيف تفك الشريط الذي يغلفها و تفتحها.
كانت اللفافة تحتوي علي أزهار متنوعة، و كل زهرة يحيط بساقها لفافة شفافة أنيقة ملصق عليها إسم الزهرة. لقد طلبت من محل الزهور أن يرسل الي زهرة من كل الأنواع التي لديه في المحل. بالطبع شعر عامل المتجر بالإندهاش إلا أني لم أفسر له. لو أخذت جنيهاً لكل من أثارت تصرفاتي دهشته في الآونة الأخيرة لصرت أغني أهل الأرض.
ما أن إنقتحت اللفافة حتي صفقت سارة بيديها في شدة و صرخت :
-"زهرة".
-"زهور و ليست زهرة".
لم تبالي بما قلت. لم يبد عليها أنها سمعتني أصلاً. ليس هذا وقت الدقة الإحصائية. أمسكت زهرة كتب عليها (ياسمين) و قربتها من أنفها.
-"شميها".
تشمتتها في حذر ثم إرتسمت علي وجهها علامات الدهشة المعتادة. هذا الشيء الرائع المدعو الزهور يحمل الكثير من الأسرار علي ما يبدو.
أخذت تتشمم باقي الزهور ثم أمسكت بإحداها و قالت:
-"ليست لها رائحة".
-"بعض أنواع الزهور ليس لها رائحة".
أخذت أقرأ لها أسماء الزهور – فهي لم تتعلم القراءة و الكتابة بعد- و هي تصغي الي.
مر الوقت كالحلم الجميل. لم أشعر بأن الوقت قد تأخر إلا عندما بدأت سارة تتثائب. أخذتها و صعدنا الي أعلي لكي تنام. ليس لدي في الطابق العلوي غرف مجهزة للنوم سوي غرفتي. باقي الغرف غير مفروشة أساساً، بإستثناء غرفة هي مزيج من غرفة معيشة و حجرة مكتب، أقضي بها معظم الوقت أمام جهاز الكمبيوتر.غدا سأجهز أحدي الغرف لتكون غرفة مخصصة لسارة، اما اليوم فيمكنها أن تنام بجواري في الفراش.
أدخلتها الفراش و قد أمسكت في يدها بزهرة الياسمين فقد راقت لها رائحتها أكثر من باقي الزهور، و يبدو أنها علي وشك أن تحل محل أميرة.
و كأنما سمعت أفكاري، فبعد أو وضعت رأسها علي الوسادة بثانيتن، قفزت فجأة منزعجة:
-"أميرة؟"
-"لا تقلقي، لقد تركناها علي المنضدة المجاورة لحمام السباحة. نامي و سأذهب أنا لأحضرها".
-"سأذهب معك".
-"لا داعي لهذا ف..."
بترت عبارتي عندما رأيت علامات الإنزعاج الشديد علي وجهها. كانت فعلياً علي وشك البكاء. لم أكن أريدها أن تخرج من الفيلا في جو الليل المائل للبرودة، و لكن من الأفضل أن تصاب بالبرد عن أن تصاب بالذعر. لا أدري ما سبب هذا التعلق الشديد بدمية. لم أتصور أن تنزعج فتاة من أجل دمية الي هذه الدرجة. الأدهي انها لم تفقد الدمية، فقط هي إبتعدت عنها قليلاً.
أمسكت بيدها و ذهبنا و أحضرنا الدمية. كانت تسير بخطوات سريعة تكاد تقترب من العدو، و كأن الدمية ستطير أو ستهرب. لم تهدأ إلا بعد أن أحضرنا الدمية.
عدنا الي غرفة النوم، و وضعت سارة رأسها علي الوسادة و إحتضنت أميرة بين ذراعيها بينما يدها اليمني لا تزال ممسكة بزهرة الياسمين.
فكرت في أن أحكي لها قصة كما يفعل الناس مع الأطفال عند النوم، و لكني لا أعرف أي من هذه القصص التي يسميها الغربيون قصص الجنيات Fairy Tales، فقد كنت أنظر الي هذه القصص علي أنها إحدي طرق تنمية التخلف العقلي لدي الأطفال و آبائهم علي حد السواء. فكرت في أن أبتكر لها قصة ، ثم وجدت أني لو فعلت هذا، فسأجعلها تكره القصص الي الأبد، إذ أن قدرتي علي تأليف القصص لا تزيد عن قدرتي علي قيادة مركبات الفضاء. كنت بحاجة إلي أن أقضي معها المزيد من الوقت في أي شيء، حتي لو كان هذا بأن أحكي لها قصص كنت أعتبرها بلهاء. الآن أري أنها مهمة في أنها قد تكون إحدي وسائل التواصل بيني و بينها - أما إن كانت القصص سترضيها بالإضافة الي هذا، فأنا علي إستعداد بأن أعترف بأن قصص الأطفال هي أهم ما في الوجود. لا بأس، لا داعي لأن نقوم بكل شيء في يوم واحد، فلنبق شيئاً للغد.
أطفأت المصباح و تركت مصباحاً صغيراً مضاءاً لكي لا أتركها تنام في الظلام الدامس، ثم خرجت من الغرفة. ما أن أغلقت باب الغرفة حتي جاءني صوتها من داخل الغرفة:
-"عم خالد".
فتحت باب الغرفة، فقالت لي:
-"لا تتركني وحدي يا عم خالد".
لم أكن أشعر برغبة في النوم، فلم يحن موعد نومي بعد، ولكني شعرت بلذة خبيثة. ها قد جاءت وسيلة لقضاء المزيد من الوقت مع هذا الملاك الذي يخشي أن ينام وحده.
قضيت الوقت في تأمل وجهها الجميل. كل الأطفال الذين يبدون كالشياطين في يقظتهم يبدون كالملائكة عندما ينامون، فما بالك بالطفلة التي تبدو كالملاك و هي متيقظة، كيف تبدو عندما تنام؟
في لحظات قليلة كانت غارقة في النوم. لقد كان يوماً حافلاً بكل المقاييس، بالنسبة لها و بالنسبة لي. دون مبالغة يمكنني أن أقول أن هذا أجمل أيام حياتي.
بعد أن نامت قمت من جوارها و نزلت الي ساحة التدريب التي تحتل القبو العملاق الموجود أسفل الفيلا. اليوم موعد التدريب، فأنا أتدرب مرتين أسبوعياً لكي أحافظ علي مستواي. هذه عادة لم أكسرها يوماً من أن بدأت في مهنتي هذه.
القاعدة الأولي: التدريب البدني هام للغاية، و التدريب العقلي أكثر أهمية.
بدأت بتدريبات الإحماء المعتادة ثم توقفت. لا أريد أن أتدرب الآن، أنا فقط أريد أن أقضي مع سارة المزيد من الوقت. أشعر بأنه ليس من العدل أن تنام و تتركني. هذه ساعات ضائعة يمكن أن تستغل فلماذا نضيعها في شيء سخيف مثل النوم.
لأول مرة في حياتي تخليت عن التدريب و صعدت الي أعلي. ذهبت الي الطابق العلوي، الي غرفة المعيشة، و فتحت جهاز الكمبيوتر. لا أعلم ما الذي أريد أن أقوم به علي جهاز الكمبيوتر، فقط هي الحاجة لفعل أي شيء. قضيت الوقت في تصفح صفحات إنترنت مملة و سماع بعض الأغاني الأكثر مللاً. بعد ما فعلته اليوم، أشعر بأنه لا شيء يعادل في روعته قضاء الوقت مع سارة.
لا أدري كيف مر علي الوقت حتي بدأت أتثاءب و أشعر بالرغبة في النوم. قمت فصليت و قرأت بعض الآيات من القرآن الكريم ثم وضعت رأسي علي الوسادة بجوار سارة و إحتنضت جسدها الصغير بذراعي.
و كان هذا أجمل و أهدأ نوم أحظي به منذ زمن طويل.
-8-
في الأيام التالية كنت أقضي معظم الوقت مع سارة، بل و أتحيز الفرصة لكي أطيل الوقت الذي أقضيه معها. كنت قد إشتريت بعض من قصص الاطفال لكي أحكيها لها حين تنام في غرفتها التي فرشتها لها بأثاث أطفال أنيق، و ملأت جدرانها و أرضيتها بصور الشخصيات الكارتونية و الطيور المغردة و الأرانب الثرثارة التي تتجمع حول قدمي فتاة شقراء تسير في الغابة- يبدو أنها سنوهوايت-، و أقضي النهار معها في النزهات أو في اللعب في البيت، خصوصا في حمام السباحة الذي صارت سارة تعشقه الي حد الجنون.
فكرت في أن أبدأ في تعليم سارة تعليماً منتظماً. نحن الآن في الصيف ولا توجد دراسة، و لكني فكرت في أن أقدم لها في أحدي المدارس الراقية مع بداية العام الدراسي المقبل.
الآن صارت لحياتي معني و هدف بشكل لم أشعر به من قبل. الآن انا أدخل الي الفراش لأنام و أنا أتحسر علي الوقت الذي سيضيع في النوم بعيداً عن سارة، بعد أن كنت أذهب الي الفراش لأني لا أجد شيئاً أفضل أقوم به. أقضي الوقت معها أكتشف عالمها و عاداتها التي بدأت تتكون بالتدريج مثل التهام نوع معين من الشيكولاته أو مشاهدة حلقات الكارتون المفضلة لديها – دعك بالطبع من أميرة و طقوس العناية بها- و أشعر بشعور كولومبوس حين إكتشف العالم الجديد. في الحقيقة أنا لا أكتشف عالماً جديداً، بل أنا أري العالم بعينين جديدتين، عيني طفلة صغيرة، حيث يصير كل شيء مهما كان مألوفاً لغزاً جديداً يعاد إكتشافه من جديد. الآن صار لي هدف أتخيله و أسعي اليه، هو أن أري سارة و قد صارت فتاة ناضجة متميزة. متميزة علي الصعيد الشخصي، الديني، الخلقي و العقلي أيضاً. هي صورة مبهمة ليست محددة الملامح، و لكنه صار هدفاً يملأني بشدة، حتي أني إشتريت بعض الكتب في التربية و تنمية القدرات العقلية للأطفال.من أول ما قرأته في هذه الكتب هو أن قابلية الناس للتعلم و إستغلال ما يتعلموه تتفاوت. في رأيي،هذه الفتاة هي شخص صالح للتعلم كما يقول الغربيون Knowledgeable، بل لن أبالغ إن قلت أنها أكثر من رأيتهم في حياتي ذكاء.هذا الذكاء الفطري لابد من أن يستغل و ينمي.
بالإضافة الي العناية بسارة، صرت أقضي الوقت في قراءة القرآن و قراءة الكتب التي أعطانيها أكرم، و أقضي بعض الوقت في التأمل و التفكير في حياتي و ما آلت اليه. حين أتفكر في الأمر أجد أن الكثير من الأشياء التي كانت تسير في إتجاه خاطيء في حياتي قد بدأت في التحول نحو ما هو أفضل. المشكلة أن هناك أشياء أكثر– مثل مهنتي- التي تنتظر دورها في أن تتغير الي الأفضل، و لكني لا أجد في نفسي القوة الكافية لتغييرها. ليس الآن علي الأقل.
في مساء أحد الأيام و بينما كنت أقرأ كتاباً و سارة تجلس بجواري تشاهد أحد أفلام الرسوم المتحركة في التلفاز، رن جرس الباب. لم أكن أتوقع أحداً في هذا الوقت، و لكني قمت و فتحت الباب، و كان الطارق هو آخر شخص يمكن أن يخطر ببالي. كان الطارق هو أكرم، و قد وقف مرتبكاً محاولاًً أن يبعد عينيه عن عيني. و قفت مذهولاً محدقاً في وجهه لا أدري ماذا أفعل. كانت الأفكار تتسابق في رأسي حتي أني لم أعد قادراً علي اللحاق بأي منها. ما الذي جاء بأكرم الي منزلي؟ هل الموضوع يتعلق بسارة؟ هل أتصل به والدها و يريد أن يستعيدها؟ و لكنه يملك عنواني أنا و ليس عنوان أكرم. هل هي زيارة من صديق لصديقه؟ ربما أبدي أكرم نحوي قدراً من المودة في الفترة الأخيرة حين كنت أزوره، و لكن لن يصل الأمر بالتأكيد إلي أن يزورني في منزلي. مازال هناك الكثير من ال....
-"ألن تدعونا الي الدخول يا سيد خالد".
أخرجني الصوت من دوامة أفكاري. كان الصوت صوتاً أنثوياً. في هذه اللحظة إنتبهت الي أن حنان زوجته تقف بجواره. لقد جاء مع زوجته أيضاً. أفسحت لهم الطريق و بصعوبة أستجمعت شتات أفكاري لكي أستطيع الكلام.
-"تفضلوا، مرحباً بكم".
دلفوا الي بهو المنزل حيث كانت سارة تشاهد فيلم الرسوم المتحركة. نظرت اليهم سارة في صمت، بينما توجهت اليها حنان و صافحتها و أخذت تداعبها بألفاظ من طراز( هذه هي سارة إذا- يا لجمالها) الي اخر هذه الأشياء، بينما جذبني أكرم من ذراعي و همس في أذني:
-"يبدو أنك إعتنيت بها كثيراً".
-"ألا تستحق".
-"بل هي تستحق ما هو أكثر".
ربتت علي كتفه و قلت له في مودة:
-"مرحبا بك".
نظر الي و لم يقل شيئاً و لكن نظرته قالت الكثير. ما زلت أمتلك صديقاً عزيزاً مخلصاً بعد كل هذه الأيام.
دخلت الي المطبخ و أعددت لهم بعض المشروبات الباردة و الحلوي ووضعتها علي صينية صغيرة و خرجت اليهم. وجدت سارة تجلس علي ساقي حنان التي أخذت تتبادل معها حديثاً هامساً. يبدو أن حنان نجحت في أن تصنع من نفسها صديقة لسارة في هذا الوقت القصير.
بعد أن تبادلنا بعض الحديث في موضوعات عامة، تنحنحت حنان ثم قالت بأسلوبها الديبلوماسي المجامل:
-"أعتقد أنك تتساءل عن سبب زيارتنا لك يا سيد خالد. أنا أعلم أن هناك...لنقل بعض الخلاف في وجهات النظر بينك و بين أكرم...
لا داعي لإختيار الألفاظ، انا أعلم أكرم من قبل أن تعرفيه بسنوات و أعرف كيف يفكر.
..و لكنك و أكرم أصدقاء، و بعد ما قمت به مؤخراً لرعاية سارة، شعر أكرم برغبة في أن يعيد علاقتكما لما كانت عليه في الماضي...
ليس أكرم بل أنت يا حنان من أصر علي هذا. أكرم لا يقبل بأنصاف الحلول، و أنت من أتي به الي هنا. سأتظاهر بأني أصدق ما تقولين و لكني أشكرك بشدة علي دفع أكرم لهذه الخطوة.
.. و أن تتجاوزا هذا الخلاف بينكما.
-" شكراً لك يا أكرم".
أطرق أكرم بوجهه الي الأرض و تمتم بكلمات غير مسموعة. إنه حتي عاجز عن التظاهر بأنه تجاوز الامر تماماً. و لكن لا بأس، تكفيني زيارته لي، علي الأقل تكفيني في الوقت الحالي.
أمسك أكرم بالكتاب الذي كنت أقرأه قبل أن يأتي. كان كتاباً قديماً يقارن بين المذاهب الفكرية المختلفة – التي كانت سائدة وقت كتابته- و يقارنها بالإسلام من منظور أكاديمي بحثي بحت.
-"مذاهب فكرية معاصرة؟ من أين جئت بهذا الكتاب؟ انا لم أسمع به من قبل".
-"من أحد المحال المتخصصة في بيع الكتب القديمة- لهذا تلاحظ أن الكتاب مهتريء مصفر الأوراق. أنت تعلم أن الكتب ذات المحتوي الديني غير مسموح بطباعتها غالباً و علي من يريد أن يقرأ كتاباً دينياً متعمقاً أن يبحث قليلاً. لقد كلفني هذا الكتاب مبلغاً لا بأس به".
بالطبع لم أخبره بالحيل التي قمت بها من أجل أن أشتري كتاباً ذو محتوي ديني دون أن يعلم البائع أن مشتري الكتاب هو خالد حسني.
تصفح خالد الكتاب سريعاً ثم قال:
-"و لكن الكتاب قديم للغاية. أعني أن محتواه قديم، فلم يعد هناك مثلاً من يتحدث عن الشيوعية الآن".
-"و لكن هناك شيء ثابت لم يتغير منذ العصر الروماني الي اليوم. في الواقع هو لم يتغير منذ العصر الحجري الي اليوم. اتعلم ما هو هذا الشيء"
فكرت قليلا ثم قلت:
-"الإنسان".
-"و لكنه يتعرض للكثير من الأفكار التي دائماً ما تثور و تنتشر أحيانا مثل الإلحاد. ثم أن الأمر الهام في هذا الموضوع هو أنه يقارن بين المنهج الذي يضعه البشر – أيا ما كان هذا المنهج - و المنهج المنزل من الله".
نظر الي أكرم طويلاً دون أن ينطق، و لكني أعلم السؤال الذي يدور في ذهنه:
مادمت تفكر بهذه الطريقة، كيف تستمر في ما تقوم به؟
مشكلة أكرم أنه لا يعلم متي يصمت و متي يتكلم. هذا عيب قاتل إن أردت رأيي. حتي حين يصمت فإن أفكاره تصلني كأفضل ما يكون. أرجوك يا أكرم توقف قليلاً عن أن تكون ضميراً لي يحاسبني علي كل ما يدور في عقلي.
أبعدت عيني عنه و نظرت الي سارة التي كانت تجلس بجوارنا تلتهم الشيكولاته المفضلة لديها و تلعب بدميتها الأثيرة. لا أعلم كيف مرت هذه الجلسة و لكن في النهاية قام أكرم و حنان لينصرفا. قمت و صحبتهما الي الباب، و بينما هم لدي الباب قالت لي حنان:
-"ما قمت به مع هذه الفتاة ليس بسيطاً. أنت أنقذتها من حاضر بشع و مستقبل مظلم. لقد جعلك الله نجدة لها مما كانت فيه".
-"لا أدري من منا كان نجدة للآخر".
نظر الي أكرم ثم صافحني و إنصرف مع زوجته.
-9-
كثيراً ما تسبب شر رجل واحد في معاناة مدينة بأكملها.
هيسيود – شاعر يوناني قديم
في اليوم التالي أيقظني جرس الباب في التاسعة صباحاً. فضلة لديها أكتشف عالماً جديداً، بل أنا أري العالم بعينين جديدتين، عيني طفلة صغيرة.كولاته أو مشاهدة نوع معين من أفلام الكارتوكنت قد نمت في وقت متأخر في الليلة السابقة، إذ فكرت في أن أقرأ في أحد كتب الحديث لبعض الوقت، ثم لم يلبث أن إستغرقتني القراءة ولم أنم إلا بعد صلاة الفجر، لذا نهضت متثاقلاً و إستغرقت بعض الوقت حتي أدرك أن هناك من يرن جرس الباب بإلحاح. نهضت متثاقلاً و نزلت الي الطابق السفلي و فتحت الباب. لم أكن أنتظر أحداً في هذا الوقت و سارة لا تزال نائمة، لذا أسرعت قليلاً لأري من هذا الطارق و أفتح الباب قبل أن يوقظها رنين الجرس. كان الطارق هو رفاييل. للحظة شعرت بالدهشة، إذ لم تكن من عادة رفاييل أن يزورني بدون موعد سابق، ولكني تغلبت علي المفاجأة بسرعة:
-"رفاييل. مرحباً بك".
-"ما هذا الكسل؟ أنا أعلم أنك تستيقظ مبكراً في المعتاد. إتصلت بك ولكنك لم ترد علي الهاتف".
-"لقد كنت مستغرقاً في نوم عميق، فقد نمت في وقت متأخر بالأمس. هلم إدخل".
جلسنا في بهو الإستقبال، و جئت بكوبين من الشاي و جلسنا نتحدث قليلاً. قال لي:
-"أعتذر عن هذه الزيارة المبكرة و لكن...".
قاطعته مبتسماً:
-"هي ليست مبكرة، انا الذي تأخر في الإستيقاظ". ذا الكسل؟ أنا أعلم أنك تستيقظ مبكراً في المعتاد. وعد سابق، ولكني تغلبت علي المفاجأة بسرعة:
14014014014014014014014014014014014014014014014014 0140140140140140140140140140140140140140140
-"ربما. المهم أن هناك فكرة خطرت ببالي، و فكرت في أن أعرضها عليك. في المرة السابقة تكلمت معك عن تغيير جو المعركة و إضافة بعض الأسلحة الجديدة، و لكن هناك فكرة رائعة خطرت في بالي. هي فكرة مرتبطة بالمعارك الرومانية القديمة التي تكلمنا عنها. أتعلم ما الشيء الذي يميز المعارك الرومانية القديمة عن العاب الواقع؟
فكرت قليلاً ثم قلت:
-"أن الجمهور كان في نفس مكان المعركة بدلاً من أن يشاهدها عبر التليفزيون"؟
-"هذه نقطة، نقطة جيدة، ولكنها ليست نقطة الإختلاف الوحيدة. المعارك القديمة كانت أكثر دموية. هذا يعود الي طبيعة السلاح في المقام الأول. الأسلحة الجديدة أكثر فتكاً و تأثيراً، حيث يمكنك أن تقتل عدداً من الأشخاص في لحظة واحدة بضغطة علي زناد مدفع رشاش أو بتفجير قنبلة، ولكن السيوف و الرماح و الخناجر أكثر دموية. إنها تسمح لك بجرح شخص ما ثم قتله ببطء أمام المتفرجين".
-"مثلما كان المصارعين يفعلون، حين ينتظرون أن يشير الجمهور أو القيصر بإبهامهم الي أسفل لكي ينهي المصارع حياة مصارع جريح".
-"بالظبط. دعك من أن معارك الأسلحة القديمة تسمح بشكل مختلف من أشكال القتال، شكل أكثر إثارة ووحشية".
و كأنما الأمر إختيار أصناف الأكل أو أشكال الثياب. هذا الرجل يحاول أن يتفنن في طرق القتل. و كأنما لا يكفيه ان يموت الناس، بل لابد أن يعانوا قبل الموت. علي قدر علمي هو أول من يفكر بهذه الطريقة علي مر التاريخ... لا ليس أول من يفعل. أذكر أني قرأت أن الإسرائيليين فعلوا هذا حين كانت عصاباتهم تجتاح القري الفلسطينية في أربعينيات القرن العشرين. كانوا يستخدمون السونكي ضد الأهالي العزل لأنه أكثر ترويعاً و تأثيراً في النفس.
بعد لحظات من الصمت قلت في شيء من التردد:
-"رفاييل... أنا لن أستطيع القتال في هذه المعارك".
-"أنا لم أقل لك أنها معارك، فقط أنا أعرض الفكرة. بالطبع أنا أعلم أنك تدربت علي إستخدام الأسلحة الحديثة وليس السيوف و الخناجر. أنا فقط أعرض عليك الفكرة. الموضوع يحتاج الي الكثير من الترتيبات و الدعاية بالطبع، و هذا سيستغرق وقتاً أكثر من كافي لتتدرب علي الأسلحة الجديدة.هذه العروض الجديدة ستكون قنبلة الموسم، ربما أكثر من المعركة المقبلة في تلك الجزيرة الإستوائية التي حدثتك عنها".
-"كلا أنت لا تفهمني. أنا لن أستطيع...".
بترت عبارتي لأني سمعت صوت خطوات في الطابق العلوي. لقد إستيقظت سارة علي ما يبدو. يا إلهي، لا أريدها أن تنزل الآن. لا أريد ان يراها رفاييل. لا أعلم لماذا، ولكني لا أريدها أن تقابل أحداً من هذا الوسط القذر أو أن يراها أحد العاملين فيه.
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. سمعت صوت خطواتها علي السلم ثم لم يلبث أن رأيتها أمامي.تفحصها رفاييل بنظره، بينما وقفت هي تنظر له في فضول ممزوج بحياءها المعتاد من الغرباء. إلتفت الي رفاييل و قال في لهجة ذات مغزي:
-"علي قدر علمي ليس لديك أولاد و لست متزوجاً".
-" إصعدي الي غرفتك يا سارة".
لم تعارض أو تسأل أسئلتها الفضولية المعتادة و قد شعرت من لهجتي المتوترة و نظرتي القلقة أن شيئاً ما ليس علي ما يرام. فقط إستدارت و صعدت الي غرفتها.
إلتفت الي رفاييل فإرتطمت عيني بنظرته المتفحصةً. بصعوبة تمالكت أعصابي و قلت:
-"هي إبنة أحد أصدقائي، و لقد تركها في رعايتي لبضعة أيام ريثما يسافر لبعض أغراض العمل و يعود".
بالطبع لهجتي لا تنجح في إقناع طفل مصاب بالتخلف العقلي. رأيت رفاييل ينظر الي في شك و قد تيقن من أني أداري شيئاً ما. بعد لحظة من الصمت قال لي:
-"ليس هذا موضوعنا علي كل حال. أريدك أن تستعد للسفر في خلال بضعة أيام لتصوير تلك المعركة التي حدثتك عنها في تلك الجزيرة الإستوائية، فلقد أقنعت وائل الحديدي بالأمر و قمنا بعمل الدعاية و الترتيبات اللازمة للأمر. أوراق السفر ستكون جاهزة اليوم أو غداً و سنسافر في خلال هذا الأسبوع و في خلال هذه الفترة فكر في ما كلمتك عنه، و سأنتظر رأيك حين نعود. والآن استأذنك في الإنصراف".
قالها و إتجه الي الباب. لم أعرض عليه أن يبقي لبعض الوقت، علي الرغم من أنها كانت زيارة قصيرة. في الواقع أنا أنتظر إنصرافه هذا بفارغ الصبر.
توقف رفاييل لدي الباب و دون أن يلتفت الي قال:
-"أنت لا تجيد الكذب يا خالد. علي الأقل لم تجده اليوم".
ثم فتح الباب و خرج دون أن ينتظر مني تعقيباً.
اللعنة. لا يمكن خداع هذا الرجل. لا أدري ما الذي قد يكون قد إستنتجه بشأن سارة، و لكني لا أشعر بالراحة.
بعد لحظات نزلت سارة من غرفتها و قد سمعت باب الفيلا يغلق، فأدركت أن رفاييل قد إنصرف. إقتربت مني و سألتني:
-"من هذا الرجل يا عم خالد؟ الرجل الذي كان يجلس معك".
-" إنه صديقي يا سارة".
نظرت اليّ و علي وجهها تعبير غريب. ربما هو نوع من عدم الرضا أو الإمتعاض. غريزة الأطفال لا تخطيْ أبداً، ربما لأن براءتهم لم تفسد بما في هذا العالم من قذارة. إذا أضفنا الي هذه الغريزة ذكاء سارة الفطري لوجدنا أن علي الرغم من أنها لم تره إلا لبضع ثوان، إلا أنه من المنطقي أنها لن تشعر بالراحة تجاهه.
بعد أن قمنا بطقوس الصباح المعتادة من إغتسال و إفطار، قمت بصب كوبين من العصير لي و لسارة و جلست أفكر في هذه المعركة المقبلة بينما جلست هي الي جواري تلتهم الشيكولاته و تلعب بالدراجة الصغيرة ثلاثية العجلات التي إشتريتها لها.
كان تفكيري مشوشاً و الأفكار تتضارب في رأسي. أشعر بصعوبة شديدة في مجرد أن أستعد للسفر هذه المرة. لا أريد أن أقتل أحداً بعد الآن. الفكرة نفسها تبدو الآن مرعبة. أشعر أن الله قد عوضني عن الكثير من مما كان ينقصني و لا أستطيع الآن أن أفعل ما كنت أفعله......
من أعان علي قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب علي جبهته آيس من رحمة الله.
حديث شريف
القتل شيء مريع. و كأني أكتشف هذا الأمر الآن لأول مرة. في الماضي كنت أعاني كثيراً بعد كل معركة، و لهذا كنت أحاول قدر الإمكان أن لا أطيل النظر الي ضحاياي، و لكن الآن أشعر أن كل ما مررت به كان مجرد قشور. الأمر يشبه أن تنظر الي حمام السباحة و تري عمقه بسيطاً، ثم تقفز فيه لتكتشف أن هذا العمق البسيط كان إنكساراً للضوء عبر الماء، و أن العمق أكبر كثيراً مما كنت تظن. لا أستطيع أن أفعل هذا بعد أن فتح الله عيني عن ما كنت أجهله... لا، لم أكن أجهله، فقط أنا لم أكن أقدر حجم الجريمة التي كنت أرتكبها. تري أيغفر لي الله ما فعلته من قبل؟ و لكن كيف يغفر لي و أنا علي وشك الذهاب مرة أخري لأقتل المزيد من البشر
﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما﴾
سورة النساء- الأية 93
أنا فعلاً لا أريد ان أقتل أحداً بعد اليوم و لكن هذا ليس بالقرار السهل. بأي حجة سأبرر هذا لرفاييل و لشركة العاب الواقع؟ ماذا سيكتب عني الإعلام؟ هل سيكتبوا أن خالد حسني خائف من المواجهة القادمة؟ المشكلة أني بالفعل خائف. في الماضي كنت أخاف الموت، و لكن هذا الخوف أضعفته الحياة التي كنت أحياها. في البداية كانت حياة صعبة فقيرة بلا أمل في ما هو أفضل، و بعد أن صرت شهيراً غنياً، صارت الحياة خاوية من كل ما يثير الإحترام أو أي نوع من المشاعر الجميلة. في الحالتين لم تكن الحياة شيئاً يستحق أن يحافظ المرء عليه، فقط هي غريزة البقاء التي كانت تثور في نفسي من حين لآخر.
ولكن الوضع الآن إختلف. الآن لدي بالفعل حياة جميلة أرغب في أن أعيش كل لحظة منها. لدي هدف أسعي لأن أحققه، و علي أن أقضي ما بقي من عمري في طلب المغفرة من الله لكل ما إرتكبت في من جرائم. الآن صارت كل لحظة في الحياة غالية. فكرة أن أموت في المعركة القادمة تبدو الآن فكرة مرعبة، حتي لو كان إحتمال موتي في المعركة القادمة إحتمالاً ضئيلاً للغاية.
أسمع صوت أكرم الصارم في عقلي:
-"أتخشي ما سيقوله عنك رجال الإعلام أو رجال شركة الألعاب أكثر مما تخشي الله؟هل مواجهة بعض الكلمات من بعض الناس أصعب من مواجهة الموت؟ بل والأدهي، أصعب من مواجهة غضب الله؟ ماذا ستقول لسارة حين تكبر قليلاً و تسألك ما عملك؟ هل تظن أنها ستحترمك حين تعرف مهنتك، أم أنك ستربيها علي أن القتل شيء لا بأس به"؟
نظرت الي سارة التي تركت الدراجة و جلست تتابع الكارتون بإهتمام، غير شاعرة بالمعركة الدائرة في عقلي الآن. أكرم- أو صوته الذي يتردد في ذهني- علي حق في هذه النقطة، ولكن الأمر ليس سهلاً. لقد صار أكرم ضميراً ثانياً لي، ولكن هذا الضمير لا يقبل بأنصاف الحلول و لا الحجج الواهية. حسناً الأمر لن يكون سهلاً، و لكن علي أن أواجهه. لن أبدأ بمواجهة رفاييل. أخشي أن يثنيني عن قراري. أنا الآن هش نفسياً ليس لدي القدرة علي مواجهة شيطان متمرس مثل رفاييل. المشكلة أن أكرم لن يكون دعماً لي. أنا بحاجة الي شخص متفهم، يتفهم ضعفي و يساعدني علي تجاوزه. أكرم طيب القلب و أنا أعرف أنه يحبني فعلاً، و لكنه إنفعالي مندفع لا يمكن الإعتماد عليه في شيء مثل هذا. إذا أردنا الدقة فأنا بحاجة الي زوجة تتفهم ما أنا مقبل عليه و تعينني علي نفسي بالحسني، ولكن للأسف هذه الزوجة غير موجودة. ما أنوي أن أفعله لن يساعدني فيه سوي الله.
بصوت خافت قلت:
"أللهم أعني علي أن أرضيك و أبعدني عن ما يغضبك".
قمت فإتصلت بإحدي المجلات الكبري التي تهتم بمتابعة أخبار مشاهير المجتمع. تحدثت مع رئيس تحريرها و أخبرته أن لدي تصريحاً خاصاً لمجلته. بالطبع لم يصدق الرجل أذنيه، فأنا بطبعي لا أكثر من التصريحات و الحوارات مع هذه المجلات البلهاء، و فجأة يجدني أعرض عليه إنفراداً صحفياً. طلبت منه أن يرسل أحد المحررين ليجري معي الحوار فأخبرني أنه سيجريه بنفسه، و أن هذا شرف له و إضافة الي رصيده الصحفي، الي آخر هذا الهراء. أخبرته أني سأنتظره اليوم في الساعة الواحدة.
في تمام الساعة الواحدة كان رئيس التحرير يطرق جرس الباب. كان متأنقاً في أواخر الأربعينات من العمر، و يبدو موحياً بالثقة. لم أتوقع أن يكون هذا مظهره. توقعت أن يكون رئيس تحرير مجلة كهذه شخصاً تبدو عليه مثل هذه الجدية، ولكن يبدو أنهم يأخذون موضوع صناعة التفاهة بجدية.
إستقبلته و جلسنا في ردهة الإستقبال. أخبرته بأني سأسجل الحوار من أوله، لأمنع أي تلاعب أو تغيير في كلماتي، فوافق بدون جدال أو مناقشة.بالطبع هو أيضاً كان يقوم بتسجيل الحوار لكي ينقله فيما بعد علي الورق. ثم بدأت ما أنا بصدده.
-"في الواقع التصريح الذي لدي، هو أني قررت أن أعتزل العاب الواقع الي الأبد".
نظر الي في ذهول، إذ أنه لم يتوقع شيئاً مثل هذا، ثم لم يلبث أن تمالك نفسه بعد ثوان وقال:
-"و ما السبب؟ هل تعرضت لإصابة في المعركة الأخيرة أم أنها مشاكل بينك و بين إدارة شركة العاب الواقع؟"
-"ليس هذا و لا ذاك. كل ما هنالك أن الله هداني لما لم أهتدي له من قبل. القتل محرم في كل الأديان. أنا أعلم أني قتلت كثيراً، و لكن حان الوقت لكي يتوقف نهر الدم هذا. القتل شيء بغيض. لا شيء في الدنيا يساوي أن يفقد المرء حياتي من أجله، و لا أن يقتل الآخرين من أجله".
-"ولكن ألا تري أن....".
-"دعني أكمل كلامي من فضلك. شركة الألعاب تحاول أن تثير أحقر الغرائز البشرية في المتفرجين و تستغل هذا لكي تلهيهم عن مشاكلهم الحقيقية، مثل التفرقة الطبقية الحادة المنتشرة في المجتمع، و الفساد السياسي و الإداري المنتشر في المجتمع. تلهيهم عن طلب ما هو أفضل لأنفسهم، علي الصعيد المادي و الديني و الدنيوي. تلهيهم بإثارة غرائز العنف الي أقصاها في النفس البشرية، و تجميل العنف و تغليفه بهيئة تجعله مقبولاً بل و مطلوباً لدي الناس- دعك بالطبع من تحقيق مكاسب خرافية من خلال هذا. أنا لا أريد أن أكون جزءاً في هذه المنظومة. أنا أريد أن أكون إنساناً يرضي عنه الله و يرضي عن نفسه. طيلة هذه السنوات لم أشعر للحظة بإحترام لذاتي أو لما أفعله، و الآن جاء الوقت الذي أتخذ فيه قراراً تأخر منذ زمن طويل.
-"ولكن الا تري أنه من الغريب أن تتخذ مثل هذا القرار و أنت في ذروة نجاحك؟ أعني أنك تتخلي عن نجاحك و شهرتك لأسباب دينينة؟ هل تري هذه الأسباب الدينية كافية لكي تترك كل ما حققته من شهرة ونجاح"؟
-"بالنسبة للكثيرين تصير الأسباب الدينية هي الأخيرة في قائمة الأولويات. بالطبع شركة الألعاب ليست هي السبب في هذا، ولكن شركة الألعاب ساعدت علي ترسيخ هذا التفكير في عقول الناس بسياستها الإعلامية الموجهة. أنا كنت أفكر بنفس الأسلوب يوماً ما، و لكن كل ما يمكنني أن أقوله لك هو أن الله هداني. لا تفسير آخر لدي. الآن أنا أري أن الأسباب الدينية أكثر من كافية لأترك مجال العاب الواقع".
-"دعني أسألك سؤالاً. هناك شائعات تقول أنك تعتني بفتاة صغيرة السن؟ هل هذا صحيح؟ وهل لهذا دخل بقرارك بإعتزال العاب الواقع؟"
كيف عرف بهذا الأمر؟ اللعنة علي الشهرة و ما تجذبه من فضول الفضوليين.كنت أريد أن تظل سارة بعيدة عن هذا ولكن يبدو أني فشلت في هذا. علي أن أتجاوز هذا السؤال بدون الدخول في أي تفاصيل.
-"الفتاة التي أعتني بها هي فتاة صغيرة فقيرة أحاول أن أقدم لها ما أستطيع من الرعاية. أما عن علاقة هذا بإعتزالي الألعاب، فأنا لا أدري حقاً. ربما كان فقط توافقاً زمنياً، كل ما أعرفه هو أن حياتي تغيرت منذ أن دخلتها هذه الفتاة الصغيرة".
-"ولكن ماذا عن الذين قتلتهم من قبل؟ علي حد قولك فإن القتل شيء بغيض و محرم دينياً. ما جدوي الإعتزال بعد أن قتلت من قتلت؟"
-"هذا منطق معكوس. هل الحل أن أستمر في القتل ما دمت قد قتلت من قبل؟ القتل شيء بغيض و هذا أدعي لأن أتوقف عنه لا أن أستمر فيه. أنا أعلم أني أذنبت كثيراً، ذنوباً ليست بسيطة، و لكني أطمع في مغفرة الله سبحانه و تعالي و رحمته".
-"وما هي الخطوة التالية التي تنوي أن تقوم بها؟ أعني ما المهنة التي تنوي أن تمارسها أو ما هي خططك للمستقبل"؟
صمت للحظات ثم أجبت:
-"هذا شيء لم أفكر فيه بعد. لم أضع خططاً في الوقت الحالي. كل ما أعلمه هو أني لن أمارس القتل مرة أخري".
إستمر الحوار لمدة ساعة نقلت فيها رأيي كاملاً، و لكني أعتقد أن نصف هذا الكلام سيتم حذفه. علي الأقل بتسجيلي للحوار أضمن عدم تغيير تصريحاتي الي شيء آخر. بعد أن إنصرف رئيس التحرير، صرت أشعر أني أقوي ولو قليلاً. بعد أن إتخذت مثل هذه الخطوة صارت الأمور أسهل قليلاً. أشعر الآن أني أكثر قدرة علي مواجهة هذا الأمر. ولكني بالطبع مازلت أخشي المواجهات القادمة. مواجهة الإعلام، مواجهة المجتمع و ...
رفاييل. الغريب في الأمر أني أخشي مواجهة هذا الرجل أكثر من أي شيء آخر. علي الرغم من أنه لا يملك علي أي سلطات مباشرة أو وسيلة يضغط بها علي، إلا أني أخشي مواجهته. حين تواجه من يملك قدرات جسدية أو سلطات إدارية و قانونية، يغدو الأمر سهلاً، أما مواجهة رفاييل فهي تخلتف. حين تواجه رفاييل أهارون فأنت تواجه عقلية تقدر علي الإيذاء النفسي و تتفنن فيه. هذا رجل يعرف كيف يقود النفس البشرية الي المهالك دون أن تطرف له عين. دعك بالطبع من نطاق الضرر الذي يسببه. الشخص الذي يقتل أو يسرق أو يؤذي غيره ضرره محدود بعدد من يمكن أن يؤذيهم، أما رفاييل فإنه يؤذي و يدمر علي نطاق شمولي. رفاييل يخطط لتدمير مجتمعاً بأكمله تدميراًً نفسياً و عقلياً، بنفس الحماسة التي تخطط بها أنت لقضاء عطلتك السنوية. هذا الشر الصافي هو الذي تصعب مواجهته. يمكنك أن تنظر الي رفاييل علي أنه قنبلة نووية نفسية.
فليعينني الله علي ما أنا مقبل عليه.
-10-
بعد أن سجلت الحوار مع رئيس تحرير تلك المجلة بيومين، و بينما كنا أنا و سارة نتناول الغذاء الذي أعدته السيدة أمينة، دق جرس الباب. فتحت الباب لأجد أكرم لدي الباب بصحبة زوجته. أخذتي المفاجأة فوقفت للحظة متردداً ولكنه لم يترك لي وقتاً للتردد، إذ أنه إحتضنني بشدة و أخذ يبكي و يقول كلاماً كثيراً تقطعه دموعه مما منعني من أن أفهم منه شيئاً ، بينما وقفت زوجته تراقب هذا المشهد و السعادة تعلو وجهها. لم أعتقد أن رئيس التحرير سيقوم بنشر المقال بهذه السرعة. و حتي إن كان نشره، فلن يقرأه أكرم، فهو لا يتابع مثل هذه المجلات.
بعد أن هدأ أكرم قليلاً دخلنا جميعاً و جلسنا في بهو الإستقبال و جاءت سارة لتجلس معنا. في الواقع هي لم تجلس معنا، هي فقط دخلت بهو الإستقبال فتجاهلت أكرم و تجاهلتني و إتجهت بخطوات سريعة الي حنان زوجة أكرم. يبدو أنها نجحت في أن تكتسب الكثير من صداقتها في الزيارة السابقة. لا بأس، أعتقد أن الفتاة تجد فيها شيء من لمسة الأم التي لم تشعر بها يوماً.
قلت لها في شيء من العتاب:
-"ألن تأتي لتسلمي علي ضيفنا يا سارة"؟
كانت حنان قد أجلستها علي ساقيها مثل المرة السابقة و طوقت خصرها بذراعيها. نظرت سارة الي أكرم ثم هزت رأسها بالنفي. إنفجرنا جميعاً في الضحك و قال أكرم:
-"لماذا ذهبتي إذاً لتسلمي علي حنان؟ هل هي أفضل مني"؟
هزت سارة رأسها بالإيجاب. ضحكنا مرة أخري و قلت لأكرم:
-"لا تحاول معها يا أكرم، فالأطفال يتميزون بالصراحة. دعك من أنها ذكية و أحسنت الإختار فلا شيء فيك يمكن أن يثير شغف طفلة في هذا السن – ولا في أي سن إن شئت الصراحة. بالله عليك إن كنت أنت طفلاً و طلبت منك أن تختار بين شخص مثلك و بين حنان، فمن تختار؟"
-"هذا الموقف لن يحدث لأنه لا يوجد من يشبهني. أنا عملة نادرة لا يوجد منها نسختين. لست وحدي، بل كل العباقرة لن تجد لهم شبيهاً. أيمكنك أن تجد شخصاً مثل أينشتين مثلاً؟ بالطبع لا. و كذلك أنا لا يمكنك أن تجد من هو مثلي".
-"أتعلم يا أكرم أن الموقف الذي قلته أنا مستحيل أن يحدث حقاً. ليس للأسباب التي ذكرتها أنت و التي لا تنم عن أنك تتحلي بالتواضع، بل لأنك لم تكن طفلاً في أحد الأيام يا أكرم. يخيل إلي أنك ولدت و عمرك عشرون عاماً".
ضحكت حنان و قالت:
-"معك حق في هذه النقطة".
ضحكنا سوياً للحظات ثم بعد قليل من الصمت قلت لأكرم:
-"كيف عرفت بالموضوع يا أكرم؟ أعني أنك لا تتابع مثل هذه المجلات عادة.
-"الخبر ملأ الشوارع ونقلته كل المجلات و الصحف بالأمس. في البداية أنا لم أصدق و ظننت أنها فرقعة صحفية من مجلة بلهاء، ولكني سمعت الحوار بنفسي و لم أصدق إلا حين سمعت صوتك في ....".
-"أي حوار هذا الذي سمعته؟"
-"الحوار الذي كان بينك و بين رئيس تحرير تلك الصحيفة. هل كان الحوار ملفقاً أم ...".
-"هل قام رئيس التحرير بإذاعة الحوار المسجل بيني و بينه"؟
-"لم يذيعه بل أرفقة بعدد المجلة الذي نشر فيه الحوار. لقد كتب في مقدمة المقال أن أحداً لن يصدق هذه التصريحات لذا أرفق بها التسجيل الصوتي علي قرص مدمج. لقد أصدر نسخة خاصة من المجله، فهذه المجلة شهرية، و ميعاد صدور العدد الجديد بعد أسبوع، إلا أنه أصدر عدداً خاصاً لنشر تصريحاتك".
-"ليس لدي أدني فكرة أن كل هذا قد حدث في اليومين الماضيين".
-"هل كنت نائما في الكهف؟ لقد نشر الخبر و أذيع في جميع وسائل الإعلام و لا أحد يصدق ما حدث. ليس فقط لأنك إعتزلت، بل لأن المبرر الذي إعتزلت لأجله لم يكن متوقعاً إطلاقاً".
ثم صمت للحظة ثم قال بصوت مضطرب:
-"لم أصدق أذني حين سمعت هذا الحوار. لقد قمت بشراء تلك المجلة خصيصاً لأسمعه. أنا كنت أتمني هذه الخطوة منذ زمن ولكن عندما سمعت صوتك و سمعت ما قلته لم أستطع أن....".
ثم غلبه الإنفعال فلم يكمل عبارته فقلت له:
-"الحمد لله أن وفقني لهذا. ولكنها خطوة تأخرت كثيراً للأسف".
قالت حنان في لهجة متعاطفة:
-"المهم أنك قمت بها. لم أستغرب الأمر حين سمعته، إذ أني كنت أتوقع منك شيئاً مماثلاً بعد ما فعلته مع سارة".
إستمرت هذه الزيارة حتي وقت متأخر من الليل، يسودها جو عام من السعادة و المرح. بالإضافة الي فرحتي بما وفقني الله لفعله، كنت أشعر بالسعادة لسبب آخر، هو أن أكرم قد عاد كما كان في الماضي، يمزح و يضحك بدون ذلك التحفظ الذي ساد علاقتنا منذ دخلت عالم العاب الواقع. يبدو لي و كأن مئات السنوات قد مرت منذ آخر مرة رأيت أكرم يمزح أو يضحك في وجودي.
بالإضافة الي مشاعر السعادة التي كانت تغمرني كنت أشعر بالتوتر. تري لماذا لم يتصل رفاييل بي حتي الآن مادام الأمر قد صار معروفاً للجميع؟ كنت أخاف من رد فعل رفاييل لقرار مثل هذا، ولكن الأمر الأكثر إثارة للمخاوف هو أن لا يبدي رد فعل للموضوع. هذا يعني أنه يدبر شيئاً ما. لن يكون رد فعل عادياً بل رد فعل مخطط له و منفذ بعناية. فلنر ما ستأتي به الأيام.
في نهاية الزيارة و بينما أكرم و حنان يتأهبان للإنصراف، سألني أكرم:
-"ما هي خطوتك التالية يا خالد"؟
ضحكت و قلت:
-"هذا هو نفس السؤال الذي القاه علي رئيس التحرير. يبدو أن هذا السؤال أهم مما كنت أتصور. ألم تسمع إجابتي عليه؟
-"سمعتها ولكنها بدت لي نوع من الهرب من السؤال بطريقة ناعمة. أعتقد أن لديك خطة ما للمستقبل".
-"لن تصدقني إن قلت لك أنه ليست لدي أي خطط. لقد إنشغلت بفكرة أن أعتزل الألعاب. لم يكن قراراً سهلاً علي بأي حال من الأحوال، ولكني إتخذته و الحمد لله. علي أن أبدأ في التفكير للمستقبل. غالباً ما سأحتاج اليك لتفكر معي في هذه النقطة".
-"لا بأس، ولكن لا داعي لأن تطلب مني أن أفكر معك في الصباح الباكر، مثلما جئت تعرض علي فكرة رعايتك لسارة قبل أن أتناول إفطاري.
-"يا لك من فجع. مازلت تشعر بالأسي لأني حرمتك وجبة إفطار منذ شهر تقريباً".
إنتهت الزيارة و إنصرف أكرم بصحبة زوجته، بعد أن تعهدا لسارة أن يكررا الزيارة قريباً، فقد تمسكت سارة للغاية بحنان زوجة أكرم و رفضت أن تنصرف حنان. لم تبال بأكرم إطلاقاً، كل ما أهمها هو أن تبقي حنان معها. بصعوبة شديدة أقنعناها بأن تترك حنان تذهب الي منزلها بعد أن تعهد أكرم و أقسم بالأيمان المغلظة أنهم سيكرروا الزيارة قريباً.
-11-
بعد زيارة أكرم لي بما يقرب من الأسبوع، رن جرس الباب في المساء. كانت سارة قد نامت و كنت أنا أتأهب للنوم. فتحت الباب فوجدت أبا سارة لدي الباب. لقد مضي الشهر سريعاً دون أن أشعر و يبدو أنه يريد أجر الشهر الجديد. لم يتغير هذا الرجل، نفس المظهر القذر المنفر و نظرته التي هي مزيج من الشر المتحفز و الذهول الذي يسببه له المخدر. دون أي تحية أو كلمة ترحيب قلت له:
-"لحظة واحدة سأحضر لك المال".
-"أنا لا أريد المال. أريد إبنتي".
يا للوغد. سنعود للمساومة من جديد.
-"كم تريد؟ لن أدفع لك أكثر من خمسين جنيهاً إضافية. إن ....".
-"قلت لك لا أريد مالاً، بل أريد إبنتي".
قالها بشيء من الإصرار مما جعلني أتوتر.
-"سأدفع لك ثمانمائة جنيه شهرياً. هذا يعني زيادة مائة جنيه".
-"ألا تفهم؟ لا أريد مالاً بل أريد إبنتي، و إن لم تفعل سأبلغ الشرطة بأنك تختطفها. طبقاً للقانون سيقومون بتفتيش المنزل بعد إستصدار أمر بهذا، و سيجدونها عندها ..."
هذه إذاً هي لعبة رفاييل. ذلك الأحمق لا يدري شيء عن القانون و لا عن الإجراءات القانونية التي تتبع في مثل هذه البلاغات. هناك من أخبره بهذا و دفعه الي طلب أن تعود سارة اليه. هذا يبرر إصراره الشديد. بالطبع وعدوه بمقابل مادي لا بأس به. بالطبع هو لم يسأل عن السبب. عقله أصلاً توقف عن التفكير منذ زمن، كل ما أدركه هو أن هناك مصدراً للمال لا بأس به. دعك بالطبع من أن القانون لا يطبق في هذه المدينة، لكن رفاييل يستطيع أن يتدخل ليجعله يطبق هذه المرة.
-"كم دفعوا لك"؟
نظر الي مذهولاً ثم تعلثم و قال:
-"من هؤلاء؟ أنا لا أعلم عن أي شيء تتحدث".
-"بل أنت تفهمني جيداً. أنا أستطيع أن أدفع لك المبلغ الذي دفعوه لك و أكثر منه قليلاً".
-"لا أريد مالاً. فقط أنا أريد إبنتي. الآن.
قضيت نصف ساعة كاملة في مناقشته دون جدوي. الوغد مصر علي أن يعود بإبنته و إلا أبلغ الشرطة و أخذها بالقوة. علي أن أعطيها له ريثما أسوي هذا الأمر. لا أعلم كيف يمكن أن أوقظها الآن لأخبرها أنها ستترك حياتها الجديدة لتعود الي أبيها. سيبدو الأمر كالكابوس بالنسبة لها. المرعب أن علي أنا أن أقوم بهذا الأمر. كنت أتمني لو يوجد من يمكن أن ألقي عليه هذه المسئولية و لكن للأسف لا يوجد سواي.
صعدت الي الطابق العلوي و أيقظتها. إستغرق الأمر خمس دقائق لكي تستيقظ من نومها العميق و تنهض جالسة في الفراش. قلت لها و أنا أتحاشي أن أنظر في عينيها:
-"سارة... إن أبيك هنا و يريدك أن تعودي معه. إنه يريدك أن تعودي الي منزلك القديم لتعيشه معه و مع أمك و ...".
نظرت الي و كأني أقول لها أنها ستعود للحياة مع فرانكنشتاين و ميدوسا. اللعنة. كيف يمكن أن أشرح لها الأمر. إضطربت و قالت و هي علي وشك البكاء:
-"ولكني أريد أن أظل هنا".
-"عزيزتي أنا سأزورك هناك بإنتظام. إن أباك يحبك و يريد أن يعيش معك فلقد أوحشته كثيراً".
-"كلا، إنه لا يحبني. أنا أريد أن أعيش هنا، معك أنت".
-"أنا أيضا لا أريد أن أبتعد عنك للحظة واحدة ولكنه أباك. انا لا أستطيع أن أمنعه من أن يأخذك للحياة معه. أتفهمينني"؟
هزت رأسها بالإيجاب. قضيت ما يقرب من الربع ساعة في محاولة تهدئتها، ثم ساعدتها في إستبدال ثيابها و نزلت بها الي أبيها الذي كان لايزال واقفاً لدي الباب. ما أن رأت أباها حتي زاد ضغط يدها علي يدي و بدأت دموعها تسيل من جديد.
أن تعاني هذه الطفلة الضعيفة بدون أن يكون في مقدور أحد أن يساعدها فهذا شيء مخيف، أما أن تنتظر مني أنا المساعدة فهذا ما لا أحتمله. مريع هو الشعور بالعجز. أن يكون هناك من يثق بك و بقدرتك علي حمايته بينما أنت عاجز عن أن تقدم له ما هو أكثر من بضع كلمات لا نفع لها.
أمسك أبيها بيدها دون كلمة و أستدار لينصرف و لكني إستوقفته:
-"مهلا. إنتظر لحظة واحدة".
كانت سارة قد نست أن تأخذ معها أميرة. هي لا تذهب الي أي مكان بدونها، و لكن يبدو أن حزنها أنساها. صعدت الي الطابق العلوي حيث وجدت الدمية في فراش سارة. لقد كانت نائمة و هي تحتضن دميتها كالمعتاد.
نزلت بالدمية في يدي و أعطيتها لسارة. تناولتها في صمت بدون إكتراث بينما دموعها ما زالت تسيل علي وجهها الجميل. نظر الي أبيها كمن ينظر الي مجنون، ثم أمسك بيدها و إستدار منصرفاً.
بعد أن أغلقت الباب بقيت واقفاً خلفه لوقت لا يعلمه إلا الله. كنت أشبه بالمذهول، عاجز عن التفكير أو فعل أي شيء. هذا ليس عدلاً. ليس عدلاً علي الإطلاق. أنا أحق برعاية هذه الفتاة من أبيها، و أي قانون يقول غير هذا فهو قانون أحمق. هذا الرجل لا يؤتمن علي رعاية قطيع من الخراف، فما بالك برعاية طفلة. ليس عدلاً أن أحرم منها بعد أن صرت لا أستطيع الحياة بدونها. أفكر من أجلها، أضحك لضحكها و لا أحلم إلا بها. وفي النهاية بعد أن تغلغلت في روحي تماما هذا يأتي هذا الرجل لينتزعها من حياتي. يا له من شعور اليم.
سأدخل لأنام الآن و في الصباح سأحاول أن أجد حلاً لهذا الموضوع. لا أعلم أي وسيلة لحله، ولكني أعلم أني سأجن إن لم أنام الآن.
بالطبع كما يمكنك أن تتخيل لم يغمض لي جفن حتي الصباح. لقد قضيت ليلة لم أقض مثلها في حياتي أتقلب في فراشي كالمحموم و تهاجم رأسي أفكار متضاربة لما يمكن أن أفعله غداً. هل أعرض علي ذلك الرجل مبلغاً ضخماً من المال؟ لا لن يجدي هذا، فلقد عرضت عليه الأمر بالفعل ولكنه رفض. في البداية لابد أن أعلم ما الذي أقنعه به رفاييل. هل أراقب منزله و أنتظر حين يتركه لأسأل إمرأته عن العرض الذي تلقاه؟ يبدو هذا صعباً، إذ أن هذا الأمر يمسها و غالباً ستتخذ جانب زوجها. هل أسأل رفاييل؟ هذا أخر ما يجب أن أفكر فيه. سيستغل الفرصة ليتلاعب بي و يتلذذ بما أنا فيه.
المشكلة أن صورة سارة و قد عادت الي بيئتها القديمة، الي أبيها فظ المعاملة و أمها المهملة لا تفارق مخيلتي. أن تعود مثل هذه الزهرة الي ذلك المستنقع يبدو أمراً بشعاً. الأفضل لها أن تموت عن أن تحيا حياة مثل هذه.
في الصباح قمت من الفراش وصليت داعياً الله أن يعينني علي حل هذه المشكلة التي لا أعلم لها حلاً. حاولت أن أتناسي الموضوع مؤقتاً و أتناول إفطاراً سريعاً، ولكن كل ما حولي كان يذكرني بها. الأغلفة الفارغة للشيكولاتة المفضلة لديها، دراجتها، أسطوانات الفيديو التي عليها أفلام الكارتون التي كانت تشاهدها، حتي حين كنت أفتح النافذة أري حمام السباحة الذي كانت تعشقه. و كأنما تآزر الكون عليّ ليزيد من معاناتي.
قضيت اليوم أدور في الفيلا كالحيوان الحبيس. لابد من حل قبل أن أجن، حتي إن أضررت لأن أختطفها بالفعل من بيت أبيها. هذا أفضل من أن أجن.
مضت الساعات، و عند الظهيرة دق جرس الباب. فتحت الباب فوجدت أن الطارق هو أكرم. كان في عينيه مزيج من الإضطراب و الغضب، و ما أن فتحت الباب حتي طوح بقبضته في وجهي. لحسن الحظ تراجعت سريعاً فلم تصب الضربة وجهي، بينما إختل توازن أكرم و كاد أن يسقط أرضاً إلا أني أمسكت بذراعه قبل أن يسقط. ما الذي دهاه هذا الأحمق؟ و كأن ما لدي من مشاكل لا يكفيني؟
تملص أكرم من ذراعي و أخذ يرغي و يزبد بكلمات غير مفهومة و حاول أن يهاجمني ثانية. لحسن الحظ أنه ضعيف. تفاديت ضرباته و أمسكت بكلتا يديه لأمنعه من المزيد من المحاولة و أنا أردد كلمات علي غرار "إهدأ" و "ما الذي دهاك" و "دعني أفهم أولاً".
بعد دقائق كانت قواه قد أنهكت و جلس يلهث كالثيران و يحاول أن يتكلم وسط أنفاسه المتقطعة:
-"أنت... هناك حيوانات أفضل منك... لقد ظننت أن... ولكني كنت مخطئاً".
-"ما الذي تتكلم عنه بالظبط؟"
إستمر في الكلام و كأنه لم يسمعني:
-"كيف تجرؤ... كيف تطاوعك مشاعرك علي أن... لم أتصور أن يصل بك الأمر الي...".
صرخت فيه:
-"أنا لا أفهم شيئاً".
أجفل و نظر الي بشيء من الإندهاش. قلت له بصوت أهدأ قليلاً:
-"أنت منفعل و أنا ليس لدي أدني فكرة ما الذي تتحدث عنه بالظبط. كلماتك غير مترابطة أو مفهومة. إن أردت أن تتكلم هكذا لآخر اليوم فليست لدي الأعصاب التي تسمح لي بسماعك. إهدأ و أخبرني ما الذي تتحدث عنه".
نظر الي في غضب ثم قال بحدة:
-"أتحدث عن سارة بالطبع".
تنهدت و قلت في حزن:
-"ليس من حقي أن أمنع أبيها أن يستردها. القانون في صفه و أنا ليست لي صفة قانونية تسمح لي..."
بترت عبارتي حين لاحظت نظرة الإستغراب التي لاحظتها علي وجهه. قلت له في توتر:
-"أليس هذا ما تقصده؟"
قال في شيء من التردد:
-"لا. أنا أتكلم عن ألعاب الواقع. لم يكن ينبغي أن تجعل سارة تشترك في تلك اللعبة التي....".
هنا كنت قد فقدت كل تحكم ممكن في أعصابي و بدأت ركبتي ترتعش. جلست أمامه و قلت بلهجة حاولت الحفاظ عليها هادئة قدر الإمكان:
_"أخبرني بالموضوع من البداية و تكلم معي و كأني لا أعلم شيئاً عن هذا الموضوع".
-"في الصباح، و بينما أقلب قنوات التلفيزيون، رأيت إعلاناً فيه صورة فتاة تشبه سارة. كانت تلك القناة هي قناة العاب الواقع، و كان الإعلان عن لعبة جديدة، هي لعبة قتال بين أطفال...قتال حتي الموت، و كان الإعلان يقول أن اللعبة القادمة بين سارة و فتاة أخري. كانت تلك الفتاة تبدو أكبر سنا بكثير من سارة و تبدو عليها علامات الشراسة. لقد ظننت أنك قمت ب... أقصد أنك...".
لم يكمل عبارته ولكن المعني مفهوم. و أنا الذي ظننت أن لعبة رفاييل هي مجرد أن يحرمني من سارة و يعيدها الي أبيها، ولكن يبدو أن خياله أكثر إتساعاً.
قمت الي جهاز الهاتف فطلبت رقم مكتب رفاييل. بعد ثوان من الرنين جائني صوت سكرتيرته الخاصة:
-"مكتب رفاييل أها....".
-"أعطني رفاييل. أنا خالد حسني".
بعد ثوان سمعت صوت رفاييل الهاديء:
-"كنت أنتظر إتصالك منذ ساعات".
-"سأسألك سؤالاً واحداً. هذه اللعبة بموافقة والد سارة، اليس كذلك؟"
-"بالطبع. لقد وقع كل الأوراق الممكنة. بالطبع انت تتساءل كيف أقنعته بأن يترك المبلغ الذي عرضته عليه أنت. لقد عرضت عليه أن تكون إبنته نجمة من نجوم الألعاب. مثلك، و هذا بالطبع سيجله ثرياً مثلك، بمعني آخر أن تكون ثروته مساوية لثروتك".
-"و بالطبع قبل المخاطرة بإبنته؟ هل ظن أن الأمر بهذه السهولة و أن إبنته يمكن أن تفوز في مثل هذه المعركة و تصير من أبطال العاب الواقع"؟
-"بالتأكيد. هو لم يفكر في الموضوع من الأساس. كل ما أدركه هو أن هناك وسيلة سريعة لكسب مبلغ رهيب من المال، والمقابل بسيط، و هو المخاطرة بحياة إبنته. بالطبع لم يتردد كثيراً. بل هو لم يتردد أصلاً. لقد وافق في الحال و ترك إبنته لدينا حتي يحين موعد المعركة. لو كان كل الناس ...".
أغلقت سماعة الهاتف و صعدت الي الطابق العلوي حيث إستبدلت ثيابي و نزلت السلم قفزاً و توجهت الي باب الفيلا عدواً أمام عيني أكرم المندهشتين. قال لي :
-"إلي أين أنت...".
كنت قد خرجت من الفيلا قبل أن ينهي عبارته. كنت أشبه بمن هو تحت تأثير المخدر، أسمع و أري ما يدور حولي و لكن عقلي منفصل تماماً. ركبت سيارتي و إنطلقت بها من المرآب بسرعة صاروخية. لم يكن من عادتي يوما التهور في القيادة، ولكني لم أكن أعي ما أفعل. يدي و قدماي تقودان السيارة بينما عقلي شارد تماماً. و رغماً عني سالت دموعي علي وجهي.
كيف وصل به الغباء الي أن يصدق أن إبنته الرقيقة الهشة يمكن أن تكون من نجوم الألعاب؟ طوال عمري و أنا مقتنع أن تسعة و تسعين بالمائة من الناس أغبياء، ولكن هذا الرجل وصل الي درجة قياسية غير مسبوقة من الغباء الممزوج بأقصي درجة من درجات إنعدام الضمير. لقد قبل الوغد أن يضحي بحياة إبنته في مقابل حلم بالثروة، و كأنما لم يكفيه ما رأته من قسوته في سنوات عمرها القليلة. والآن عليها أن تقاتل و تقتل. عليها أن تتحمل ما لم أستطع أنا الشخص الكبير الناضج تحمله فقط لتجلب لأبيها مالاً لينفقه في شراء المزيد من المخدر. طفلة في الرابعة من العمر عليها أن تتعلم كيف تحمل سلاحاً و كيف تقتل، بدلاً من أن تجد الحنان و الرعاية التي تستحقهما تماما. بدلاً من أن تكون معلوماتها في الحياة هي معلومات عن الدمي الجميلة والألعاب المسلية و أفلام الكارتون، تصبح معلوماتها عن الحياة هي معلومات عن الموت، عن جشع الناس و سعيهم الذي لا يتوقف الي المال، عن العنف و الدموية في أعنف صورها، وكل هذا بدون مبرر إلا أنها فقط إبنة هذا الرجلً. الأدهي من هذا أنه تركها لدي شركة الألعاب حتي يحين موعد المسابقة القادمة. فكرة أن سارة الآن في يد رفاييل و زبانيته هي فكرة مرعبة لا أحتمل أصلاً أن أفكر فيها.
قدت السيارة بجنون الي الجانب الشرقي من المدينة في إتجاه بيت سارة الدموع تشوش الرؤية أمامي.سأكون محظوظاً لو لم أقتل نفسي اليوم في حادث تصادم.
وصلت الي تلك الطرق الضيقة التي لا تستطيع السيارة أن تسير فيها فنزلت من السيارة و دون أن أبالي بأن أغلق الباب خلفي أخذت أعدو في الطرقات الضيقة حتي وصلت الي بيت سارة. أخذت أطرق الباب بأقصي ما في يدي من قوة بدون توقف. إنفتح الباب و ظهر الرجل علي عتبته متذمراً.
-"ما الذي...".
قبل أن يتم عبارته جذبته من ثيابه الي خارج البيت و حملته و ضربت بظهره الجدار المجاور للباب بأقصي ما إستطعت من قوة، حتي أن عضلات ذراعي آلمتني بشدة.
صرخ الرجل من فرط الألم و المفاجأة.حملته مرة أخري و ضربت ظهره بالجدار مرات عديدة دون أن أبالي بصرخاته. كنت أتمني أن أسمع صوت عظام عاموده الفقري تتهشم ولكن الوغد بدين، عاموده الفقري أمامه طبقات من الشحوم لا بأس بها. خرجت زوجته و شاهدت المنظر فإنفجرت في الصراخ مثل سارينة الإسعاف.
حاول أن يطوح بيده في وجهي ولكني أمسكت ذراعه في اللحظة المناسبة ثم ثنيت ذراعه بأقصي ما إستطعت من قوة حتي سمعت صوت عظامه تتهشم. صرخ الرجل في شدة بينما تجمع الناس حولنا دون أن يجرؤ أحدهم علي التدخل. يبدو أن مظهري كان رهيباً، بذلك الغضب الجنوني الذي تملكني وقتها. علي الرغم من ذراعه المهشمة التي تدلت بدون حركة جوار جسده، إلا أني لم أكتف و لم يهدأ غضبي ولو قليلاً. كنت أتمني أن أجعله يعاني الي أقصي درجة ممكنة.
أمسكت عنقه و أخذت أضرب رأسه بالجدار مرات متتالية بدون توقف.
بعد بضع ضربات توقفت صرخاته و تراخي جسده. تركت عنقه فسقط أرضاً بدون حراك. تحسست عنقه فلم أجد نبضاً. لقد مات. القت زوجته بنفسها فوق جسده الهامد و أخذت تصرخ و تلطم وجهها.
تركت جسده ملقي أرضاً و توجهت الي حيث تركت السيارة، بينما أفسح الناس الذين أحاطوا بالمكان الطريق لي في شيء من الرهبة. هذه هي أول مرة في حياتي أقتل فيها شخصاً دون أن أشعر بذرة من الندم. بل بالعكس، أشعر أني لم أنتقم منه بما يكفي. لا توجد عقوبة في الحياة تكفي كمقابل لما فعله هذا الوغد بإبنته و بي. الآن أتفهم شعور إدموند دانتيس بطل قصة الكونت دي مونت كريستو حين شعر أن الموت لا يكفي كعقاب لمن أضاعوا حبيبته و تسببوا في سجنه و موت أبيه جوعاً. عزائي الوحيد أني أعلم أن هناك عقاباً ينتظر ذلك الوغد يوم القيامة، الأمر الذي لم يضعه إدموند دانتيس في إعتباره.
سرت بخطوات بطيئة متثاقلة ثم إسترعي إنتباهي شيء ملقي علي الأرض علي بعد خطوات من بيت سارة. كانت أميرة ملقاة علي الأرض. لابد أنها سقطت من يد سارة أو ألقاها أباها هنا. سارة لا تتخلي عن دميتها أبداً، لابد أن أباها أجبرها علي تركها أو إلقائها هنا قبل أن تذهب إلي شركة الألعاب.
رفعت الدمية من الأرض. كانت تفوح برائحة ذلك العطر الذي إشتريته لسارة يوم أخذتها الي داري، و الذي صار رائحتها المميزة فيما بعد. هذه الدمية كانت هي الوسيلة التي دخلت سارة بها الي حياتي لتغيرها الي ما هو أجمل بما لا يقاس. دون أن أشعر ضممت الدمية الي صدري و إنفجرت في البكاء.
-"ما هي الحلوي التي تحبينها؟ أتحبين الشيكولاته؟
نظرت لي في إستغراب و دهشة. في البداية ظننت أنها تري السؤال بديهيا، إذ أن كل الأطفال يحبون الشيكولاته، ثم فطنت الي أنها لم تسمع الكلمة من قبل أساساً. لا أدري هل هذا بسبب فقرها أم صغر سنها.
-"ما هذا"؟
"هذه و ليس هذا. هذه تسمي زهرة".
-"هذا ثوب".
-"ولكنه ليس مثل الباقيين".
-"لا تتركني وحدي يا عم خالد".
كل الأطفال الذين يبدون كالشياطين في يقظتهم يبدون كالملائكة عندما ينامون، فما بالك بالطفلة التي تبدو كالملاك و هي متيقظة، كيف تبدو عندما تنام؟
-"أنت لا تجيد الكذب يا خالد. علي الأقل لم تجده اليوم".
-"كلا، إنه لا يحبني. أنا أريد أن أعيش هنا، معك أنت".
مريع هو الشعور بالعجز. أن يكون هناك من يثق بك و بقدرتك علي حمايته بينما أنت عاجز عن أن تقدم له ما هو أكثر من بضع كلمات لا نفع لها.
-12-
التقدم في أساليب النظم الديمقراطية يمكن إستخدامه لخدمة صناعة الإجماع بمعني جعل الرأي العام يوافق علي أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق إستخدام وسائل دعائية.
والتر ليبمان- عميد الصحفيين الأمريكيين سابقاً
توجهت الي السيارة و الدمية في يدي. ركبت السيارة و توجهت الي مبني شركة الالعاب. صعدت الي مكتب رفاييل في خطوات سريعة، و إن لاحظت أن هناك حركة غير عادية في المبني. الكثير من الأشياء و المعدات تنقل عبر المبني لسبب لا أعلمه. لم أبالي كثيراً و أكملت طريقي الي مكتب رفاييل. قبل الدخول الي مكتبه، علي أن أمر علي غرفة سكرتيرته.كانت تجلس أمام مكتبها، إلا أني لم أبالي بها و توجهت الي باب مكتب رفاييل. حاولت أن تمنعني من الدخول اليه:
-"لا يمكنك الدخول قبل أن ....".
ثم بترت عبارتها. يبدو أن مظهري كان يغني عن أي نقاش بنظرة التصميم و الحزن التي كانت علي وجهي. توجهت الي باب مكتبه و فتحته و دخلت المكتب و أغلقت الباب ورائي.
كان رفاييل جالس في كرسي المكتب الوثير وظهره اليّ. كان ينظر عبر زجاج مكتبه، الذي يحتل الجدار المواجه للباب بأكمله. قال دون أن يستدير بكرسيه:
-"لماذا تأخرت؟ أنا أنتظرك منذ أن أنهيت مكالمتك معي".
-"كان علي أن أنهي بعض الأشياء"
-"هل لي أن أعرف ما هي هذه الأشياء؟"
-"كنت أتناقش قليلاً مع والد سارة، ولكنه لم يحتمل سحر حديثي فسقط ميتاً".
إستدار بكرسيه بحركة حادة و نظر الي بشيء من الترقب. قلت له في برود:
-"ما الذي تريده لكي لا تخوض سارة هذه اللعبة؟"
-"أن تخوض أنت لعبة صغيرة بدلاً منها. قواعد اللعبة هي البساطة ذاتها. كنت قد حدثتك عن أن... ألن تجلس؟ إجلس فإن الحديث سيطول و لن نستطيع الإستمرار فيه و أنت واقف هكذا".
جلست علي الكرسي المواجه لمكتبه و أكمل هو حديثه بلهجة تقريرية لا إنفعال فيها :
-"تعرف أني إستقيت فكرة ألعاب الواقع من ألعاب الكمبيوتر. في العاب الكمبيوتر، يوجد طراز من الألعاب قائم علي ما يسمي ب "موقف رهائن" Hostage Situation أو Die Hard situation. في هذه الألعاب توجد رهينة أو مجموعة من الرهائن. مجموعة من اللاعبين تقوم بدور إرهابيين، و مجموعة أخري تقوم بدور فريق مكافحة الإرهاب. علي المجموعة التي تمثل فريق المكافحة تحرير الرهائن قبل وقت محدد، وإلا قام الإرهابيون بقتل الرهائن. أنا أفكر في أن أقوم بمثل هذا السيناريو في ألعاب الواقع. الرهينة ستكون سارة، و أنت ستمثل فرقة مكافحة الإرهاب".
-"أنت مجنون. أنا لن...".
-"دعني أكمل كلامي. لست في موقف يسمح لك بالمساومة أو الرفض. ستقبل و إلا دخلت سارة اللعبة القادمة. و كما لا يغيب علي ذكائك، فإن فرصة فوزها شبه منعدمة".
الوغد علي حق للأسف. فلنستمع لما يقول.
-"كنت أقول أنك ستمثل فريق مكافحة الإرهاب، و سارة ستكون الرهينة. المفاجأة أن الإرهابيين هم مجموعة من أفضل اللاعبين المحترفين الذين لدينا. بالطبع إن نجحوا في قتلك، تموت الفتاة. هذه نقطة مهمة، إن مت ستقتُل سارة أيضاً. دعك من أنه بعد فترة معينة من الوقت سيتوجه الفريق المنافس لك الي سارة و يقتلها، و عندها أيضا ستكون قد خسرت بغض النظر عن موتك أو حياتك. بالطبع إن هزمت، سيكون للفريق مكافأة ضخمة. أما الشخص الذي يقتلك، فإن له مكافأة شخصية – بالإضافة الي مكافأة الفريق التي سيتم توزيعها علي الفريق كله- هذه المكافأة هي مبلغ من سبعة أصفار. مكان المعركة سيكون جديداً، سيكون هنا، في مبني الألعاب. لعلك تساءلت عن سبب الفوضي و عمليات النقل التي لابد و أنك رأيتها هنا في المبني. إنها إعداد للمبني لكي تقام فيه هذه المعركة. ستكون سارة رهينة في إحدي غرف هذا المبني، وسيكون عليك البحث عنها. هذه الغرفة ستكون مغلقة و سيتم فتحها بعد نصف ساعة من بدء المعركة، عندها يدخل الفريق المنافس لك الي الغرفة و يقتلوها، و عندها ستكون قد خسرت. سنقوم بإعداد الطابقين العلويين من المبني لعمل قاعتين عملاقتين مثل قاعات السينما في كل طابق منهما، حيث سيحضر مجموعة من المتفرجين – بعد دفع مقابل مادي ضخم طبعا- حيث سيتم بث حي الي داخل هذه القاعات، بالإضافة الي أن المعركة ستبث علي الهواء علي قناة الألعاب. هذه ستكون أول مرة أقوم بإخراج المعركة علي الهواء. أيضاً سنقوم بفتح رهان صغير قيمته مائة جنيه، حيث يراهن المتفرجين علي الفائز في هذه المعركة، و بعد نهاية المعركة يكسب المتفرج أو يخسر بناء علي إختياره، هل كان سليماً أم لا. و دعني أخبرك أني أظن أن فرصة فوزك ضئيلة للغاية، إذ أن جميع اللاعبين المحترفين سيكونوا ضدك و سيستميتوا في قتالك من أجل الفوز بالمكافأة. ولكنك ستقبل بالتأكيد. أنت ستضحي بحياتك من أجل فرصة و لو ضئيلة لإنقاذ تلك الفتاة".
-"أأنت واثق الي هذه الدرجة"؟
-"بالطبع، لدرجة أني أمرت قسم الإعلانات بصنع الإعلان عن المعركة القادمة و قد قاموا بصنعه بالفعل و سيبدأ بثه غداً. يمكنك أن تشاهده الآن.
قالها و توجه الي أقصي الغرفة حيث توجد مكتبة الصغيرة بها جهاز فيديو و جهاز تليفزيون صغير. قام بوضع إسطوانة في جهاز الفيديو ثم قام بتشغيلها. علي شاشة التلفاز ظهر الإعلان .لم يكن مميزاً في شيء عن باقي الإعلانات المعتادة للمعارك، و لكني لاحظت أن الإعلان ذكر أني سأفوز بمبلغ ضخم من المال في حالة فوزي في هذه المعركة. لم يذكر رفاييل هذا في كلامه.
بعد أن إنتهي الإعلان قلت له:
-"أنا أقبل دخول هذه المعركة و لكنك مدين لي بإجابة بعض الأسئلة علي الأقل".
عاد الي الجلوس في كرسي المكتب و قال:
-"سل ما بدا لك".
-"لماذا"؟
نظر لي في تساؤل.
-"لماذا تفعل كل هذا؟ لديك الكثير من اللاعبين المحترفين سواي فلماذا تفعل كل هذا لأن لاعباً واحداً فقط قرر الإعتزال"؟
نظر الي دون أن ينطق لبضع ثوان ثم قال:
-"هذا يحتاج الي شرح يطول بعض الشيء".
-"أنا لست متعجلاً. يمكنني أن أستمع لك لساعات".
أخذ نفساً عميقا كمن يستعد لمعركة ثم أخذ يتكلم دون إنقطاع:
-"ليست المشكلة في أن لاعباً قد إعتزل. صحيح أنك أكثر اللاعبين تميزاً، و لكن هذه ليست المشكلة الكبري. المشكلة هي السبب الذي من أجله إعتزلت الألعاب. أنت إعتزلت الألعاب لأسباب دينية، و لأن شركة الألعاب شركة تثير أحط الغرائز في البشر و تستغلها الي آخر هذا الكلام....".
-"أليس هذا حقاً؟ ثم إن هذا رأيي الشخصي. هل قمت بكل هذا لأن رأيي لا يروق لك".
-"دعني أكمل كلامي للنهاية. بالطبع أنا لست أحمق لكي أثور أو أغضب لأن رأيك لا يروق لي. الموضوع أكبر من هذا. كنت قد حدثتك عن أن النفس البشرية بها تيارات متضادان، احدهما يرفض العنف و الآخر يتلذذ به. علينا أن نجعل الناس تحب العنف و تنسي كرهها له. يوجد مصطلح إعلامي يسمي (صناعة الإجماع Manufacturing Consent ) ، أي أننا نريد أن نصنع إجماعاً بين الناس علي شيء هم يرفضونه أصلاً. نريدهم أن يجمعوا علي أن العنف شيء رائع و مقبول. لكي نصنع هذا الإجماع لابد من إسكات الأصوات التي ترفض العنف. بالتدريج نجعل كل وسائل الإعلام – التي نمولها أو علي الأقل نمثل لها عميلاً إعلانياً- تروج للألعاب، نكثر من الدعاية للألعاب، ونتجاهل كل الأصوات أو الآراء التي ترفض الألعاب. تدريجياً، يجد كل من يرفض الألعاب نفسه وحيداً. هو ينظر حوله ولا يري إلا قبولاً للألعاب و ترحيباً بها من المجتمع كله، فيظن أنه الوحيد الذي يرفض الألعاب – علي الرغم من أن هناك آخرين مثله تماماً- و تدريجياً إما أن ينخرط في التيار السائد، أو ينطوي و يحتفظ بصوته الرافض للعنف داخل نفسه ولا يصرح به. هذا أسلوب قديم، كثيراً ما أستغل هذا الأسلوب بواسطة الإعلاميين للترويج للبرامج السياسية التي تلقي رفضاً من المجتمع".
ثم بدأ صوته يضطرب و يسوده شيء من الإنفعال و الغضب:
-"علي مر سنوات إجتهدت بكل السبل الممكنة كي أصنع هذا الإجماع. بدا لي أني قد نجحت الي أقصي درجة، إذ أنه علي مر سنوات، لم يظهر صوت واحد رافض للألعاب. و إذ بي أفاجأ ذات يوم بتصريح لك و تعلن فيه كل ما إجتهدت أنا في إخفاءه علي مر السنوات. و ما زاد الطين بلة أن الصوت الذي ظهر معلناً رفضه للألعاب هو صوت أشهر و أنجح اللاعبين. هذا يجعل التأثير مضاعفاً. كل من كان يظن أنه الوحيد الذي يرفض الألعاب أدرك الآن أنه لم يعد وحيداً، و أن هناك شخص آخر يري نفس رأيه، و هذا الآخر هو نجم شركة العاب الواقع، و أشهر اللاعبين. لن يمكنك أن تتخيل كم المقالات التي إنهالت في الأسبوع الأخير في الصحف ووسائل الإعلام، و المظاهرات الجماهيرية التي تنادي بوقف الألعاب، بل و تقديمي أنا و وائل الحديدي للمحاكمة. الأمر يشبه إنهيار السد الذي كان يمنع الفيضان. أنت دمرت ما إجتهدت أنا في بنائه علي مر سنوات".
نظرت له و لم أرد. حقاً لم أفكر أن الأمر قد يصل الي هذه الدرجة. تذكرت موقفاً لا أنساه أبداً مر بيً في طفولتي حين كنت في المدرسة، إذ جاء أحد الأطفال الينا ليخبرنا أنه وجد قطة تحتضر أمام باب المدرسة. شاهدت في إندهاش كيف إندفع الأطفال ليشاهدوا الأمر في حماس شديد. كنت أظن أن في موقف مثل هذا سيذهبوا في حماس لينقذوا تلك القطة أو يساعدوها، و لكن ما أثار رعبي أنهم كانوا ذاهبين لكي يستمتعوا برؤية القطة و هي تحتضر. أحياناً قد يكون الأطفال ساديين الي درجة مرعبة.
تبعتهم في خطوات مترددة و لم أنس المشهد حتي الآن. كانت القطة تنزف من مواضع متعددة في جسدها، يبدو أن سيارة قد داستها أو شيء من هذا القبيل. بالطبع كان المشهد مريعاً – أو علي الأقل هكذا بدا لي – و تمنيت أن أفعل شيئاً ما لأنقذها. لا أدري ما الذي كان يمكن لطفل لم يلبغ العاشرة من العمر أن يفعله في مثل هذا الموقف، و لكني لم أفكر في الأمر بمنطقية وقتها، كل ما كان لدي هو بعض المشاعر الثائرة في نفسي.
علي الرغم من رغبتي في أن أساعد تلك القطة المحتضرة، إلا أني لم أجرؤ أن أعلن عن رغبتي تلك. كان كل الأطفال من حولي يشاهدون الأمر في سعادة واضحة، و كل منهم يلفت نظر الآخر الي شيء مثير في جسد القطة، مثل كسر في أحد ارجلها أو موضع ينزف في جسدها. بدا لي وقتها أني الوحيد الذي يريد أن يساعد هذه القطة. الآن حين أستعيد هذه الذكري أتفهم ما قاله رفاييل عن صناعة الإجماع. أن تشعر أنك علي صواب ولكن لا أحد غيرك يري ما تراه".
بعد لحظات من التفكير قلت له:
-"و لهذا تنتقم أنت مني بأن تجبرني علي الدخول في معركة فرصة فوزي فيها ضئيلة للغاية".
-"ليس إنتقاماً شخصياً. أنا أقوم بهذا لغرض عملي بحت. يمكنك أن تفكر فيه علي أنه محاولة لإصلاح ما قمت أنت بإفساده. أنت ظهرت أمام الناس كبطل، يترك الألعاب و يتخذ إتجاهاً دينياً، بل و يرعي طفلة صغيرة أيضاً. لابد من أن تنهزم هذه الصورة. لابد من أن يهزم البطل. هذا يقلل كثيراً من بطولته و شعبيته و يساعد علي محو صورته من الأذهان. بالطبع هذا لن يصلح ما أفسدته أنت تماماً، ولكنه سيقلل من تأثير ما فعلته أنت".
-"لدي سؤال آخر، أو هي بضعة أسئلة تتعلق بالمعركة القادمة. المشاهدين الذين سيشاهدوا بثاً حياً هنا من داخل مبني الألعاب، ما فائدة دفع مبلغ ضخم مادامت المعركة ستبث علي الهواء علي قناة الألعاب؟ ثم هل تظن أن الناس ستقبل أن يكون محور اللعبة حياة طفلة صغيرة؟ أعني أن هناك حداً للعنف لن يقبل الناس بتجاوزه. و هناك شيئاً آخر، مادامت فرصة فوزي محدودة، فما فائدة الرهان علي أني سأهزم أم لا؟ لابد أن المشاهدين جميعا سيراهنوا علي الإحتمال الأكبر و هو أني سأهزم، و بالتالي يتسبب هذا في خسارة لشركة الألعاب و هو .....".
-"مهلاً مهلاً. تمهل قليلاً حتي يمكنني الرد علي أسئلتك. بالنسبة للمشاهدين الذين سيأتون الي هنا، فهم سيأتون لأنهم سيشعروا أنهم في قلب مكان المعركة. حين يسمعون صوت الرصاصات والصرخات يتردد من الطوابق التي تقع أسفل منهم، فإن هذا يعطيهم شعوراً أكثر بالواقعية. أما بالنسبة لأن تكون حياة طفلة صغيرة هو محور اللعبة، فهذا لا يهمهم. المهم بالنسبة لكل منهم هو أن تخسر أنت أيا ما كان الثمن، حتي لو كان هذا الثمن هو موت أمه ذاتها. بل إن البعض سيتلذذ بموت هذه الفتاة بالذات أكثر من أي شيء آخر".
-"ولماذا يهمهم أن أخسر؟ ولماذا يتلذذون بموت سارة بالذات"؟
-"لأنك أهنتهم. من سيحضرون العرض هنا هم الناس الأشد حماساً للألعاب. حين إعتزلت أنت، كانت الرسالة الصامتة التي وصلت اليهم هي ( أنا أفضل منكم يا من تتلذذون بسفك الدماء. أنا إتخذت إتجاهاً دينياً، و أرعي فتاة صغيرة). هم يعرفون ويشعرون بأن الألعاب شيء غير آدمي أو إنساني – هذا بديهي، لأن الصواب و الخطأ أشياء فطرية الي حد كبير- ولكنهم يتلذذون بالألعاب، و لن يتركوا متعتهم لأن الألعاب شيء غير آدمي. الآن تأتي أنت و تقدم علي الخطوة التي لم يستطع أي منهم أن يقوم بها. الآن كل منهم يتمني لك الفشل، و يا حبذا لو كان هذا الفشل مقروناً بموت الفتاة التي حاولت أنت أن تحميها و ترعاها. هذا يمثل بالنسبة لهم نوعاً من العقاب المزدوج لك لأنك حاولت أن ترتقي عليهم. أما بالنسبة للرهان، فإن قيمة الرهان بسيطة. إن فاز كل منهم بالرهان – و هو ما سيحدث غالباً- فسيفوز بمأتي جنيه، و هو مبلغ تافه بالنسبة لثمن التذكرة التي سيدفعها. الغرض من هذا الرهان ليس المكسب المادي. الغرض هو إشعارهم بالإنتصار عليك. حين تخسر أنت هذه المعركة – وهذا ما سيحدث لا محالة- فإن كل منهم سيشعر بأنه راهن علي فشلك، و قد فشلت بالفعل. أي رهان – مهما كانت قيمته- يثير في النفس الخوف و التوتر و الترقب. عندما تنهزم أنت يزول هذا التوتر و يحل محله شعور بالقوة و الإنتصار، و هذا الإنتصار سيكون مقرونا بهزيمتك. هذا سيشعرهم أنهم هم الذين فازوا عليك. هذا هام لإستعادة شعبية الألعاب و محو ما قمت أنت بفعله في نفسيتهم.
هناك شيء خارق للطبيعة في هذا الرجل. إنه يتحدث عن التلاعب بحياة البشر و مشاعرهم بموضوعية شديدة و كأنما يتحدث عن دورة حياة دودة البلهاريسيا. لو كان هذا فيلماً سينمائياً لقلت أن هذا الرجل هو الشيطان و قد تجسد في صورة إنسان.
-"و ماذا عن تلك المكافأة التي يذكرها الإعلان، و التي أنالها إن فزت في المعركة؟ أنا لم أطلب مكافآت و كل ما يهمني هو أن أنقذ سارة، فلماذا تدفع شركة الألعاب شيئاً لا أريده ولم أطلبه؟ لا أظن أنكم علي هذه الدرجة من الكرم".
-"ليس كرماً، فقط أحاول أن أقلل من قدرك لدي الناس. ها هو خالد حسني يقوم بمغامرة من أجل المال مرة أخري. هذا يشعر الناس أنك الي حد ما حقير مثلهم، و لست علي هذه الدرجة من النبل التي يظنوها".
-"نعم، إنها تلك السياسة الإعلامية القديمة، سياسة جوبلز وزير الدعاية النازي: إكذب كذبة كبيرة يصدقك الناس بسهولة".
إبتسم و قال بلهجة المعلم الذي يحدث تلميذه النجيب:
-"كلا، لقد أخطأت هذه المرة. لقد كان جوبلز حماراً كبيراً. من السهل دوماً إكتشاف الكذب حين يكون كذباً خالصاً.مثلاً لقد ظل جوبلز يكذب عن إنتصارات الجيش الألماني علي الجبهة الروسية علي الرغم من الهزائم التي كانت تلاحق الألمان وسط الجليد الروسي، فماذا حدث بعدها؟ ما أن بدأ جوبلز حملة من أجل التبرع للجيش الألماني بالمعاطف، حتي شعر الناس أن هناك شيء ما خطأ، و أن الجيش لا يحرز تلك الإنتصارات المزعومة، علي الرغم من إستمرار الأكاذيب الإعلامية بإنتصارات الجيش الألماني. أسلوب جوبلز هذا أثبت فشله أكثر من مرة. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر أسلوب إعلامي جديد في الترويج للأكاذيب، هو مزج الحقائق بالأكاذيب. لو كنا نطبق سياسة جوبلز الإعلامية كما تقول أنت، لقلنا أن خالد حسني سيدخل المعركة من أجل المكافأة المالية فقط دون أن نذكر سارة من الأساس، ولكن الناس لن يصدقوا هذه الكذبة، و سيسهل كشفها. أما أن نقول أن خالد حسني سيدخل المعركة من أجل الفتاة بالإضافة الي المكافأة المالية، فهذا أمر يختلف. الناس تعلم بالفعل أنك ترعي هذه الفتاة. هذا سيجعل موضوع دخول المعركة من أجلها مقبولاً بالنسبة لهم. و مادام الجزء الأول حقيقياً، فالجزء الثاني أيضاً حقيقي، و هو أنك تدخل المعركة من أجل المال أيضاً. حين تمزج الحقائق بالأكاذيب، يغدو من الصعب فصل الحقائق عن الأكاذيب إلا لشخص باحث مدقق، و أغلبية الناس بالطبع ليسوا كذلك".
أطرقت و شردت بأفكاري و أخذت أفكر في هذا الكلام.
وظيفة الصحف هو الإشارة الي الخبر و ليس تقديمه في صورة كاملة تثير أي رد فعل لدي القاريء.
والتر ليبمان- عميد الصحفيين الأمريكيين سابقاً
هذا الرجل يحاول أن يتفنن في طرق القتل. و كأنما لا يكفيه ان يموت الناس، بل لابد أن يعانوا قبل الموت. علي قدر علمي هو أول من يفكر بهذه الطريقة علي مر التاريخ... لا ليس أول من يفعل. أذكر أني قرأت أن الإسرائيليين فعلوا هذا حين كانت عصاباتهم تجتاح القري الفلسطينية في أربعينيات القرن العشرين. كانوا يستخدمون السونكي ضد الأهالي العزل لأنه أكثر ترويعاً و تأثيراً في النفس.
رفعت عيني اليه و قلت له:
-"أنت يهودي، اليس كذلك"؟
نظر الي دون أن ينطق و دون أي تعبير من إنفعال علي وجهه. أكملت أنا كلامي:
-"كان يجب علي أن أنتبه الي إسمك، إن به رنيناً يهودياً لا تخطئه الأذن. ولكني لم أنتبه الي هذا قبل الآن، قبل حديثك عن تلك السياسة الإعلامية، و التي نسيت أنت – أو تناسيت عمداً- أن تقول أن اليهود هم الذين قاموا بصنعها و نشرها في الإعلام الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال سيطرتهم علي معظم وسائل الإعلام من سينما و صحف و محطات إذاعية و دور النشر. في الواقع هو أسلوب تفكير يهودي قديم قدم التاريخ، ذكره القرآن منذ آلآف السنين".
ظل رفاييل علي صمته ثم قال في النهاية بعد صمت بدا و كأنه سيستمر الي الأبد:
-"ربما كان جوبلز أحمقاً كبيراً، و لكن هناك من هو أكثر منه حماقة و غباء، أتدري من هذا"؟
ثم قال دون أن ينتظر ردي:
-"إنه أنا".
قالها بلهجة حادة غاضبة.
-" لقد كان جوبلز يخشي الثقافة و الذكاء. كانت له كلمة شهيرة هي "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي". كل النظم السياسية الديكتاتورية علي مر التاريخ كانت
تخشي هذه النقطة و تراقبها في حذر، في حين لم أنتبه اليها أنا. لقد كنت أراقب ثقافتك و ذكاءك و أسلوب تفكيرك المتميز و أنا في غاية السعادة لأن هناك اللاعب الذي يملك القدرات الجسدية بالإضافة الي القدرات العقلية. كان لابد أن أعلم أن هذه الثقافة و هذا التفكير المتميز خطر لابد من إقصاءه. في النهاية ما فعلته أنت هو خطئي انا قبل أن يكون خطأ أي شخص آخر".
ثم تنهد و قال:
-"عموماً لا فائدة من البكاء علي اللبن المسكوب. المعركة القادمة ستكون يوم الإثنين القادم، أي بعد أربعة أيام من الآن. المعركة ستبدأ في تمام الساعة العاشرة صباحاً. سيبدأ العد التنازلي من الساعة العاشرة صباحاً حتي لو تأخرت. يمكنك أن تمر علي قسم التدريبات في أي يوم خلال الفترة القادمة لتنتقي الأسلحة التي تروق لك".
لم أرد عليه، فقط قمت و توجهت الي الباب منصرفاً. قبل أن أخرج قال رفاييل:
-"نسيت أن أخبرك شيئاً".
إلتفت اليه منتظراً ما سيقوله. قال و في عينيه نظرة متشفية:
-"الفريق المنافس لك سيقوده أيمن مختار".
أيمن مختار هو النجم الثاني لشركة العاب الواقع. قيادة شخص مثله للفريق ستجعل الأمر أكثر صعوبة. الآن سيكون لهذا الفريق المشتت قائد يوجهه، و هو قائد له عقلية لا بأس بها.
-"ولماذا تقبل الآن أن يقاتلني أيمن مختار؟ لقد عُرض الأمر عليك كثيراً من قبل و لكنك كنت ترفض بحجة أن موت أي منا يمثل خسارة ضخمة لشركة الألعاب. بالطبع لن يمثل موتي فارقاً لأني إعتزلت الألعاب، ولكن ألا تخشي أن أقتل أيمن في هذه المعركة، و عندها تخسر شركة الألعاب لاعباً متميزاً آخر"؟
-"ألا تفهمني؟ لابد من أن تخسر هذه المعركة مهما كان الثمن ومهما كانت المخاطرة. لو كنت أستطيع أنا أن أقاتلك لأشتركت بنفسي في القتال".
أنت تفعل ما هو أشد من القتال. أنت الذي يخلق الحرب من البداية، ثم يلقي بي و بالآخرين فيها. فليساعدني الله.
قلت له و أنا أفتح الباب:
-"سيكون عليك تسوية الأمر مع الشرطة لكي يؤجلوا القبض عليّ لأربعة أيام ريثما أخوض هذه المعركة. يمكنك أن تجعل وائل الحديدي يفعل هذا، فله الكثير من المعارف و النفوذ، أو إختر الطريقة التي تناسبك. أنا أعلم أنك قادر علي هذا. هذا بالطبع إن كانت الشرطة ستهتم من الأساس بمقتل مدمن من الجانب الشرقي للمدينة.
و خرجت من المكتب متوجهاً الي البيت.
-13-
حين عدت الي البيت وجدت أكرم مازال في إنتظاري. لقد نسيته تماماً كان جالساً أمام جهاز التليفزيون ولكنه كان شارداً لا يتابع شيئاً مما يدور علي شاشته. ما أن دخلت الي البيت حتي قفز من كرسيه و قال بلهفة:
-"ما الذي توصلت اليه؟ هل إستطعت أن تسوي الأمر مع والد سارة "؟
قلت بلهجة ساخرة:
-"نعم، لقد سويت الأمر معه تسوية نهائية. لن يقوم بأي أعمال حمقاء بعد اليوم، و الي الأبد".
لم ينتبه أكرم الي لهجة السخرية في صوتي. قال و قد تهلل وجهه:
-"إذا لن تدخل سارة تلك المعركة"؟
نظرت له نظرة مشفقة و قلت له:
-"لقد قتلت أباها".
نظر الي بذهول و كأنما لم يستوعب الأمر. بعد ثوان من التحديق في وجهي قال في تردد:
-"أنت تمزح، اليس كذلك"؟
-"كلا لست أمزح. لقد ذهبت إليه و أوسعته ضربا حتي مات".ً
نظر الي و كأنما يحاول أن يستوعب الأمر و يتأكد من أني لا أمزح. بالتأكيد سيعطيني محاضرة لا بأس. كلا أرجوك يا أكرم، ليس الآن. إختر وقتاً آخر.
بعد لحظات من الصمت قال في لهجة خافتة:
-"لا بأس. هو يستحق ما هو أكثر إن أردت رأيي".
نظرت له مندهشاً. هذا آخر شيء كنت أتوقعه من أكرم. نظر الي و قد شعر بإندهاشي من تصرفه. قال في لهجة مترددة:
-"لقد ضحي بحياة إبنته في مقابل المال. أعتقد أنه يستحق القتل...اليس كذلك"؟
لم أرد علي سؤاله.بالنسبة لي، فلو كنت أستطيع لقتلته مائة مرة علي الأقل.
في كلمات موجزة أخبرت أكرم بما تم بيني و بين رفاييل، و الإتفاق الذي أجبرني علي التورط فيه. بعد أن إنتهيت أطرق برأسه لدقيقة، ثم قال:
-"ولكن هذه مخاطرة و في النهاية أنت لا تضمن أن تنقذ سارة".
-"إن كان هناك إحتمال أن أنقذها حتي لو كان واحد بالمائة فسأقبل المخاطرة. لا أستطيع أن أجلس هنا و أشاهدها علي شاشة التليفزيون و هي تموت أمام عيني".
شردت بأفكاري قليلاً. لابد من أبدأ الإعداد لهذه المعركة. لن يمكن الإعتماد علي القوة في هذه المعركة. لابد من الحيل. الكثير منها. أغمضت عيني و أخذت أفكر في ترتيبات المعركة القادمة، بينما أكرم يجلس صامتاً بجواري. لا أعلم ما الذي دار بخلده وقتها.
بعد أن مرت ساعة كاملة و نحن علي هذا الوضع، كنت قد وضعت تصوراً لا بأس به للأمر. صعدت الي غرفتي و أخذت مبلغاً ضخماً من المال من خزينة الثياب – حيث أحتفظ ببعض المال – دسست مسدسي – بعد أن تأكدت من حشوه بالرصاصات- في جراب أنيق حول وسطي ثم نزلت الي الطابق الأرضي.
لكني بعذي دار بخلده وقتها. يني أفكر في ترتيبات المعركة القادمة، بينما أكرم يجلس صامتاً بجواري. اقع14014014014014014014014014014014014014014014014 0140140140140140140140140140140140
قلت لأكرم:
-"هيا بنا، سأوصلك الي منزلك".
-"لن أتركك و أنت علي هذه الحالة. سأتصل بحنان تليفونياً لاخبرها أن....".
-"لا داعي لكل هذا. أنا بخير حال. هيا بنا الآن".
نظر الي مرتاباً و قد شعر أني أحاول التخلص منه بشكل أو بآخر، و لم يكن مخطئاً الي حد كبير. قال بلهجة مترددة:
-"لا داعي لأن توصلني أنت، سأذهب أنا بنفسي".
-"كلا سأوصلك أنا".
قلتها بلهجة قاطعة محاولاً أن أنهي هذا النقاش الذي لا داعي له. حين أفكر لا أحب أن يخرجني أحد من أفكاري.بالنسبة لي، الأمر يشبه أن تحاول الإستماع الي خبر هام في التلفاز بينما رنين التليفون لا ينقطع. لابد من نزع سلك التليفون في هذه الحالة. هذا هو ما أفعله مع أكرم الآن، أنزع سلكه لكي يتوقف عن الرنين.
ركبنا سيارتي و توجهت الي الجانب الشرقي من المدينة. وصلنا الي منزل أكرم دون أن نتبادل حرفاً واحداً طوال الطريق، فقد كنت شارداً. عندما وصلنا الي منزله قال و هو علي وشك النزول من السيارة:
-"سأتصل بك في قبل أن أنام لكي.....".
قاطعته دون أن أكترث لعبارته:
-"أنت تعرف كيف تقود سيارة، اليس كذلك"؟
حملق في وجهي قليلاً ثم قال في حذر:
-"نعم، فقد تلقيت دورة في قيادة السيارات ولكني لا أملك سيارة".
-"عظيم. والآن الي اللقاء".
قلتها و كأني أطلب منه أن يترك السيارة. ما أن نزل من السيارة، و أغلق الباب حتي إنطلقت بالسيارة. توجهت الي أعماق الجانب الشرقي من المدينة حيث أوكار تجمع العصابات. هنا يمكنك شراء كل السلع الممنوعة، و الحصول علي جميع الخدمات غير القانونية، بدءاً بتزويير الوثائق و إنتهاء بإستجار قاتل محترف.
كنت بحاجة الي شراء سلاح. لم آخذ سلاحاً من صالة التدريب الموجودة في شركة الألعاب، لأني لا أريد ان يعلم أيمن مختار نوعية الأسلحة التي سأستخدمها في هذه المعركة. بالأخص لا أريده أن يعرف أني أنوي إستخدام بندقية قناصة في هذه المعركة.
عندما وصلت الي المنطقة التي كنت أنشدها، ترجلت و تركت السيارة.
كان هناك مجموعة من الشباب يبدو عليهم التشرد و الإجرام واقفين يتبادلون المزاح البذيء سوياً، فلو كنت رئيس الشرطة في هذه المدينة لألقيت القبض عليهم دون تهمة محددة. إن منظرهم في حد ذاته هو تهمة لا بأس بها. وجوه يبدو عليها الإدمان و التشرد، بعضهم يطيل شعر رأسه حتي يصل الي كتفيه, و في عيونهم نظرة عدوانية لا مبرر لها. لاحظت أن في جيوب معظمهم بروز صغير أسطواني الشكل. لابد أنها المطواة التي يحملها كل منهم. رعاع. هذه هي الكلمة المناسبة لوصفهم.
توجهت اليهم و دون أن ألقي عليهم تحية قلت لهم:
-"أريد شخصاً يبيع سلاحاًً".
نظروا الي في سخرية ثم قال أحدهم:
-"و ما نوع السلاح الذي تريده أيها البطل".
يا للملل. لابد من محاولات إثبات القوة التي لا بأس بها. لقد وجدوا شخصاً أنيقاً يبدو عليه الإحترام، و بالتالي فهو ضعيف مهذب. لا بأس من ان يثبتوا رجولتهم إذاً و يظهروا له كم هم أقوياء شجعان و كم هو ضعيف جبان.
-"بالتأكيد أريد سلاحاً حقيقياً، و ليس مطواة بلهاء مثل التي تحملها".
إلتمعت في عينيه نظرة غاضبة شرسة و أخرج مطواته و لوح بها أمام وجهه.
-"أتريد أن تجرب هذه المطواة البلهاء"؟
دون أن أرد أشرت الي جانبي الأيسر حيث يتدلي مسدسي. نظر اليه في توتر، فهو لم يلحظ أني أحمل مسدساً في البداية و تراجع الي الوراء قليلاً. أبعدت عيني عنه و توجهت الي الآخرين بالسؤال:
-"والآن هل يمكن أن يقودني أحدكم الي من يبيع سلاحاً هنا؟ أريد من يبيع أسلحة متقدمة غالية الثمن، و ليست مثل هذا المسدس البسيط الذي احمله".
قادني أحدهم عبر الشوارع الضيقة الي منزل صغيرمن طابقين. طلب مني ان أنتظره علي باب المنزل و دلف الي الداخل. بعد لحظات جاء و بصحبته رجل في الأربعينات من العمر، قصير القامة، يرتدي عوينات مطلية بطلاء ذهبي متآكل، و زياً بسيطاً. كانت تبدو عليه بعض إمارات التهذيب و الرقي – أقول بعض، الرجل لم يكن أرشيدوق النمسا مثلاً. دون أن أتبادل معه كلمة تحية قلت له:
-"أريد مدفعاً رشاشاً".
-"أتريد طرازاً معيناً".
-"أريد ان أري الطرازات التي لديك".
-"الأنواع التي لدي محدودة، ولكن إن كنت تطلب طرازاً معينا، يمكنني أن اوفر كل أي طراز تطلبه في خلال أسبوعين".
ضحكت و قلت:
-"أسبوعين؟ أنا أريده الآن في التو و اللحظة".
فكر الرجل قليلاً ثم قال لي:
"إتبعني".
و أشار الي ذلك الشاب الذي صحبني إشارة معناها أن (إنصرف أنت الآن).
تبعته الي داخل المنزل. دخل الي غرفة صغيرة بها الكثير من صناديق مغلقة، و الأشياء المهملة مثل إطارات سيارات قديمة و قطع قماش قذرة ممزقة. فتح أحد الصناديق و ناولني منه مدفعاً رشاشاً. تفحصته قليلاً ثم قلت له:
-"ألديك أية طرازات أخري غير هذا الطراز"؟
-"هذا المدفع رائع. إن مداه يبلغ ثمانمائة متر، و يمكن أن....".
يا للملل. أنا لست في حالة نفسية أو عصبية تسمح لي بسماع مثل هذه النشرات الإعلانية.
-"هذا مدفع رخيص، مداه لا يزيد عن الأربعمائة متر. إن أصابت رصاصة منه شخصاً علي مسافة تزيد عن هذا فسترتطم بجسده ثم تسقط أرضاً دون أن تؤذيه. ثم إن دقة إصابة هذا المدفع محدودة. لن تستطيع أن تصيب به هدفاً بدقة علي مسافة تزيد عن مائتي متر. هذا بالإضافة الي أنه ثقيل و كبير الحجم".
إرتسمت في عينيه نظرة مذعورة و قد فوجيء بمعرفتي هذه المعلومات. كان منظره مضحكاً. قال في تردد و قد بدا عليه أنه تعرف شخصيتي:
-"أنت..".
-"لا يهم من أكون، فقط أريدك أن تعرض عليّ ما لديك دون أن تلعب دور فتاة الإعلان".
دون كلمة إضافية، قام بفتح ثلاث صناديق أمامي. كل صندوق به ما يقرب من عشرين مدفعاً رشاشاً، و كل صندوق به طراز معين من المدافع الرشاشة. إنقيت أحد الطرازات الثلاثة و تفحصته. أخيراً وجدت ما كنت أنشده.
المعركة القادمة من طراز المعارك التي يطلق عليها (معارك الأماكن المتلاصقة Close Quarters battle )، حيث يكون القتال بين أفراد قريبين نسبياً، و يكون مدي الرؤية محدوداً، مما يعني أني لا أحتاج سلاحاً بعيد المدي، بل أحتاج سلاحاً قويا خفيف الوزن صغير الحجم يسمح لي بقدر كبير من حرية الحركة. هناك نقطة أخري، هي اني سأواجه عدداً كبيراً من المقاتلين، مما يعني أني أحتاج الي سلاح يمكنه إصابة عدد كبير من المهاجمين بسهولة.
كان السلاح الذي وقع عليه إختياري مدفعاً رشاشاً يمكنه إطلاق النار بمعدل 700 رصاصة في الدقيقة، يسمح بالتحكم في معدل إطلاق الرصاصات، صغير خفيف الوزن نسبياً، به قاذف صغير للقنابل. السلاح المثالي لمثل هذه المعركة.
بالإضافة الي هذا، فإن المدفع به منظار لإصابة الأهداف البعيدة. هذا المنظار المقرب يسمح بإصابة الهدف بدقة علي مسافة أربعمائة متر. هي ليست ميزة هامة لمثل هذه المعركة، أقصي ما أحتاجه هو دقة إصابة علي مسافة مائتي متر، و لكنها ميزة لا بأس بها تضاف الي مزايا هذا السلاح.
التفت الي ذلك الرجل القصير – لا أعلم إسمه حتي الآن- و قلت له:
-"سآخذ هذا. أريد ايضاً بندقية قناصة".
توجه الي ركن الغرفة و أزال بعض من المهملات التي تملأها و أخرج من تحتها صندوقاً يقارب في الحجم البندقية التي كانت بداخله. أخرج القصير تلك البندقية و ناولها لي. تفحصتها بسرعة و قلت له:
-"ألديك طرازات أخري"؟
-"ليس لدي سوي هذا الطراز في الوقت الحالي".
كانت بندقية قصيرة المدي - مقارنة ببنادق القناصة، حيث يبلغ مدي فاعليتها ثمانمائة متر. عموماً، لم تكن قطعة فنية أو شيئاً خارقاً في فئتها، ولكن ليس أمامي خيار سواها.
-"أريد أيضا سترة مضادة للرصاصات".
أحضر لي سترة بدون أكمام مصنوعة من الكيفلار. لا بأس بها، و إن كنت أريد زياً كاملاً يغطي جسدي كله، و لكني لن أجد مثل هذا الزي هنا بالتأكيد. ليس مسموحاً بإرتداء السترات المضادة للرصاصات في العاب الواقع، و لكني لا أبالي. أنا لا أنوي أن ألعب دور البطل المغوار هنا و لا أريد أن أفوز بشيء، كل ما أريده هو أن أحرر سارة، و سأقوم بإستخدام كل ما يمكنني من تحريرها، ولتذهب شركة الألعاب و قواعدها الي الجحيم. في النهاية هي ليست تشريعات منزلة من السماء.
دفعت ثمن قطعتي السلاح و السترة المضادة للرصاصات، بالإضافة الي الكثير من الرصاصات و القنابل الصغيرة و كاتم صوت للمدفع الرشاش و آخر للبندقية. كانت البندقية غالية الثمن للغاية. كنت أتوقع هذا، لا أحد يطلب بندقية قناصة إلا لأغراض محددة، و بالتالي يرتفع ثمنها. بالنسبة لي، هذه البندقية لا غرض لها سوي قتل شخص واحد فقط.
قبل أن أنصرف قلت لذلك القصير:
-"أحتاج الي قنابل تنفجر بجهاز تحكم عن بعد، أيمكنك توفيرها؟
فكر قليلاً ثم قال:
-"ما هي شدة التفجير التي تحتاجها"؟
لو لم يسأل هذا السؤال لما إشتريت منه هذه القنابل. ليس من السهل الحصول علي هذا النوع من القنابل، غالباً ما يتم صنعها يدوياً.هي قنابل سهلة الصنع نسبياً، ولكني لا أستطيع أن أعتمد علي هاو ليقوم بهذا العمل. السؤال الذي سأله يدل علي أنه يعرف ما يتكلم عنه و ليس أحد الهواة الذين يصنعون القنابل بإستخدام بعض المعلومات المنشورة علي الإنترنت ثم تنفجر القنبلة في وجوههم في النهاية.
-"أريدها أن تقتل أي شخص في دائرة نصف قطرها ثلاثة أمتار و ليس أكثر من هذا. لا أريد أن يكون تأثيرها شديداً علي الخرسانة، فقط الأشخاص. أتعرف كيف تصنع مثل هذه القنبلة"؟
فكر قليلاً ثم قال:
-"كمية بسيطة من متفجرات البلاستيك تحيط بها أجسام معدنية مدببة صغيرة. حين ينفجر البلاستيك تتطاير هذه الأجسام المعدنية في كل صوب لتقتل البشر في دائرة قد يصل نصف قطرها الي عشرة أمتار، دون أن يؤذي الإنفجار المبني نفسه فلا ينهار، أما الدائرة الإلكترونية المسئولة عن التفجير، فمن السهل الحصول عليها دون عناء كبير. اليس هذا ما تريده"؟
-"نعم، هذا هو ما أريده".
في الحقيقة انا لم أفكر في هذه الفكرة. كل ما فكرت فيه هو إنفجار محدود لا يؤثر علي الخرسانة ،فأنا لا أريد أن ينهار المبني إن إستخدمت إحدي هذه القنابل – أو ينهار جزء منه مثل سقف أو أحد الأعمدة- فيقتلني أو يقتل سارة، ولكن فكرة إستخدام الأجسام المعدنية داخل القنبلة لم تخطر ببالي من قبل. من الواضح أن الرجل له باع في تصنيع وبيع الأسلحة علي نطاق أكبر من عصابات الشوارع. يبدو أن مستوي الفساد هنا أكبر مما كنت أظن. ولكن أحياناً ما يكون الفساد مفيداً، لولاه لما وجدت من يمكنه بيع مثل هذه الأسلحة أو تصنيع هذه القنابل أو....
أو ربما هو توفيق الله لي؟ الكلام عن الأسلحة و طرق القتل يثير في النفس – النفس السوية- إنقباضاً و رهبة، ولكن يعلم الله أني لا أريد من هذا سوي أن أنقذ هذه الفتاة البريئة التي صارت حياتها لعبة في يدي شيطان آدمي. هذه هي أول مرة في حياتي أخطط فيها لمعركة ما لهدف جدير بالإحترام.
إتفقت مع القصير علي أن أمر عليه لآخذ القنابل في اليوم السابق للمعركة، و دفعت له مبلغاً مقدماً من المال.
بعد أن أخذت منه الأسلحة وضعتها في حقيبة السيارة ثم ركبتها و إتجهت الي المنطقة المحيطة بمبني شركة الألعاب. أقرب مبني الي شركة الألعاب يقع علي مسافة تزيد عن الخمسمائة متر، إذ أن الشركة تملك أرضاً ضخمة المساحة علي أطراف المدينة، يقود اليها طريق خاص متفرع من أحد الطرق الرئيسية في المدينة. إستأجرت شقة في المنطقة المحيطة بشركة الألعاب. الشقة تقع في الطابق السادس و لها نافذة تطل علي البوابة الرئيسية لشركة الألعاب، و يمكن منها رؤية النوافذ الرئيسية للمبني.
بعد أن إستأجرت تلك الشقة، عدت الي البيت بالأشياء التي إشتريتها و نزلت الي ساحة التدريب الموجودة أسفل الفيلا. في الأيام المقبلة، لن يكون لي شاغل سوي أن أقضي الوقت في التدريب علي إستخدام هذه الأسلحة. للأسف لا توجد وسيلة للتدريب علي إصابة الأهداف البعيدة هنا في ساحة التدريب حيث أنها صغيرة نسبياً.
اللهم وفقني.
-14-
في يوم السابق للمعركة، ذهبت الي ذلك القصير حيث إستلمت منه القنابل و نقدته باقي المبلغ الذي إتفقنا عليه، ثم ذهبت الي بيت أكرم. ضغطت زر الجرس ففتح لي أكرم الباب.
-"مرحباً بك يا خالد. تفضل بالدخول".
دلفت الي منزله، و بعد أن جلست، قال أكرم:
-"لحظة واحدة سأذهب ل...."
-"لا داعي لأي شيء تنوي أن تقدمه، فأنا سأنصرف في خلال لحظات. فقط أريد أن أطلب منك شيئاً".
جلس دون أدني إعتراض. قلت له و أنا أحاول أن أتجاهل نظرات الشفقة التي بدت علي وجهه:
-"هذا مفتاح إحدي سياراتي و هذا مفتاح المرآب. أنت أخبرتني أنك تجيد قيادة السيارات من قبل اليس كذلك؟"
-"بلي".
-"عظيم.أريدك أن تأتي الي الفيلا غداً في الصباح و تستقل السيارة و تنتظرني فيها أمام البوابة الرئيسية لشركة الألعاب في تمام الساعة العاشرة و الربع. أنت تعلم أين تقع شركة الألعاب، اليس كذلك"؟
-"بلي ولكن لماذا"؟
-"لكي تنقلني أنا و سارة– إن نجحت في تحريرها- بعد إنتهاء المعركة لأني لا أضمن أن أكون في حالة تسمح لي بقيادة السيارة".
بدت علي وجهه علامات الإنزعاج.
-"هل يمكنني أن أعتمد عليك في هذا"؟
-"بالتأكيد".
-"حسناً. سأنصرف الآن. وداعاً".
قلتها و قمت لكي أنصرف. قال أكرم في تأثر:
-"خالد. أنا....".
ثم إنفجر في البكاء و إحتضنني بشدة. ربت علي كتفه و لم أقل شيئاً. لا يوجد ما يمكن أن يقال في مثل هذا الموقف.
في اليوم التالي إستيقظت مبكراً، صليت ثم إرتديت ثوباً رمادي اللون و إرتديت تحته السترة المضادة للرصاصات. قمت بتثبيت خنجر صغير في جراب صغير حول ساقي اليسري، و ثبت مسدساً في جراب آخر حول ساقي اليمني. ركبت سيارتي و إنطلقت بها. لم أذهب بها الي مبني الألعاب مباشرة، بل ذهبت تلك الشقة التي إستأجرتها و التي تطل علي مبني الألعاب.
أخذت البندقية من حقيبة السيارة، و أخذت منظاراً مقرباً، و صعدت الي الشقة. لحسن الحظ لم أقابل أحداً من سكان المبني في طريقي الي الشقة. الساعة الآن الثامنة صباحاً. هذا يعني أن أمامي ساعتين قبل أن يبدأ القتال.
أخذت أراقب الإستعدادات التي كانت تجري في المكان بإستخدام المنظار المقرب. بالطبع في هذا اليوم تم إخلاء المبني من العاملين جميعاً.فقط المشاهدين، اللاعبين، و رفاييل و مساعديه. لاحظت أن المشاهدين قد بدأو بالفعل في التوافد الي المبني بأعداد كبيرة علي الرغم من أن الوقت ما زال مبكراً. بالطبع كانت تلك تعليمات لهم، لكي يمكن أخذ كل مشاهد الي كرسيه و لكي يتفرغوا لإستعدادات القتال.
الصفة المشتركة بين كل هؤلاء المشاهدين هو أنهم يثيرون في النفس شعوراً بعدم الإرتياح. بالطبع هم أثرياء، يمكن ملاحظة هذا من ثيابهم- و التي لم تكن كلها جيدة الذوق ولكنها غالية الثمن- و من السيارات التي جاءوا بها، و لكن بالإضافة الي ثرائهم، هم يتعاملون مع الأمر بحماس ممزوج بشيء من التوتر. الأمر بالنسبة لهم ليست مجرد معركة عادية، بل هي شيء يتحدد علي أساسه شيء مصيري بالنسبة لهم.
حين تخسر أنت هذه المعركة – وهذا ما سيحدث لا محالة- فإن كل منهم سيشعر بأنه راهن علي فشلك، و قد فشلت بالفعل. أي رهان – مهما كانت قيمته- يثير في النفس الخوف و التوتر و الترقب. عندما تنهزم أنت يزول هذا التوتر و يحل محله شعور بالقوة و الإنتصار، و هذا الإنتصار سيكون مقرونا بهزيمتك. هذا سيشعرهم أنهم هم الذين فازوا عليك
بعد ما يقرب من النصف ساعة كان جميع المشاهدين قد دخلوا المبني و بدأت الإستعدادات النهائية للقتال. جاء رفاييل و معه وائل الحديدي، و دلفوا مباشرة الي المبني، ثم جاء أيمن مختار في تمام الساعة التاسعة. أخذ أيمن يعطي تعليماته للمقاتلين في الساحة المواجهة لمدخل المبني. أحصيت عددهم فوجدتهم خمسة و عشرين مقاتلا، يحمل كل منهم مدفعاً رشاشاً و حزاماً في مسدسهً. تفقدت وجوههم بالمنظار المقرب. علامات الإنصات و التركيز الشديد تبدو واضحة علي وجوههم. هم يثقون بأيمن الي أقصي درجة. توقعت هذا. هم علي وشك مواجهة خالد حسني، الملك الغير متوج لعالم ألعاب الوقع. علي الرغم من كثرة عددهم إلا أن سمعتي و شهرتي تثير في نفوسهم قدراً لا بأس به من الرهبة. كل منهم يفكر في أنه سيواجه خالد حسني. هو لا يهتم بأن يقتل خالد حسني قدر إهتمامه بأن لا يقتله خالد حسني. لن يكسب أحدهم شيئاً إن قتلته أنا ثم هزمني باقي الفريق.
أيمن يمثل لهم درعاً نفسياً لا بأس به. إن كان خالد حسني شهيراً معروفا بمهارتهً، فلدينا من يقاربه شهرة و مهارة. هذا يعطيهم قدر لا بأس به من الثقة. لا شك أن رفاييل يعلم هذا و لهذا إختار أيمن مختار بالذات ليقودهم.هذه إحدي النقاط التي أخطط لأن أستغلها.
مشكلة الإعتماد الشديد علي شخص واحد هي أن فقدانه يمثل خسارة كبيرة للفريق. أيمن لا يستخدم مساعد له في هذه المعركة لحسن الحظ. هو يدلي بتعلماته للمقاتلين و كلهم يصغون اليه دون أدني سؤال أو إعتراض. هذا يعني أن كل منهم قد توقف عن إستخدام عقله و إكتفي بعقل أيمن. هذا يعني أنه إن أمكن إزالة أيمن فإن هذا يعني قتال مجموعة من الناس المهشمة نفسياً و عقلياً.
المشكلة هي كيف يمكن الوصول الي أيمن؟ أيمن ليس أبلهاً، بالتأكيد هو يعلم أهميته في مثل هذه المعركة، و بالتالي فلن أجده واقفا علي بوابة المبني حين أدخله، فأطلق عليه بعض الرصاصات و ينتهي الأمر. بالتأكيد سيبتعد عن أماكن القتال المباشر، غالباً سيقود المعركة من إحدي الغرف التي لا حصر لها في المبني، و سيتابع القتال من خلال نظام الكاميرات الذي تم تركيبه في المبني في الأيام السابقة من أجل بث المعركة للمشاهدين في الطابقين العلويين، وعلي الهواء.
بعد أن أعطي أيمن تعليماته لهم قام أحدهم بتوزيع أدوات إتصال عليهم قاموا بتثبيتها خلف رؤسهم. كانت أداة الإتصال عبارة عن جهاز لاسلكي صغير تخرج منه سماعة توضع في الأذن، ويتصل بها مايكروفون صغير يثبت أمام فم كل منهم. هذه إذاً هي الوسيلة التي ينوي أيمن أن يستخدمها لينقل لهم تعليماته.
بعد أن تأكدوا من سلامة أجهزة الإتصال بدأو جميعاً في الإنتشار في المبني، و إنتشر بعضهم في الساحات و الحدائق المحيطة بالمبني، و بعد لحظات شاهدت أيمن واقفاً أمام إحدي النوافذ في الطابع السابع التي تطل علي البوابة الرئيسية للمبني. هذا ما كنت أتمناه، أن يراقب البوابة الرئيسية منتظراً لحظة مجيئي أمام النافذة.
تفقدت باقي نوافذ المبني بالمنظار، فوجدت إثنين من المقاتلين كل منهم يقف أمام إحدي نوافذ المبني و كل منهم ينظر الي البوابة في ترقب. أحدهم كان في الطابق الخامس و الآخر كان في الطابق الرابع.
أخذت أراقب المبني حتي جاءت الساعة العاشرة تماماً. المفروض أن المعركة بدأت الآن.
وضعت المنظار المقرب جانباً و أمسكت بالبندقية و ركبت بها كاتم الصوت ثم وضعتها علي كتفي. نظرت من خلال منظار البندقية فوجدت أيمن مازال واقفاً أمام النافذة دون حراك. لم يكن هناك أحد معه في الغرفة. قمت بتسديد البندقية بحيث صارت نقطة تقاطع الخطين الأحمرين في منظار البندقية علي عنق أيمن. المسافة بعيدة لذا لابد من وضع هذه النقطة في الإعتبار عند تقدير نسبة الخطأ التي ستنتج عن إرتداد البندقية، خاصة أن قوة إرتداد هذه البندقية أكبر من سواها من البنادق ذات التصميم الجيد. و بهدوء شديد ضغطت الزناد.
أصابت الرصاصة أيمن في منتصف جبهته تماماً. لقد فقد الفريق نصف قوته تقريباً. القتال سيكون أشبه بقتال عصابات الشوارع بدلاً من أن يكون قتال خبراء معارك. علي أن أتحرك بسرعة قبل أن يكتشف أحدهم مقتل أيمن. دون أن أنتظر وجهت البندقية الي اللاعب الواقف أمام النافذة التي في الطابق الخامس. قتلته سريعاً هو الآخر ثم قتلت اللاعب الواقف أمام النافذة التي في الطابق الرابع.
وجهت البندقية الي الحديقة بهدف إصتياد أحد اللاعبين المنتشرين بها، إلا أني لاحظت أن حالة من التخبط و الذعر بدأت في الإنتشار بين اللاعبين المنتشرين في الحديقة، و بدأو جميعاً في التحرك في توتر بإتجاه مبني الألعاب. كيف إستطاعوا أن يعرفوا بالأمر؟ آه إنه رفاييل. لم أضع هذا في إعتباري. لابد أن إحدي الغرف التي قتل بها أيمن أو أحد اللاعبين بها كاميرا نقلت الأمر الي رفاييل. لابد أنه يستطيع الإتصال باللاعبين بشكل ما.
حاولت إصتياد أحد اللاعبين إلا أن الرصاصة لم تصب رأسه بسبب حركته، بل أصابت كتفه من الخلف. سقط أرضاً و صرخ ثم قام واقفاً و أخذ يعدو بقدر المستطاع بإتجاه المبني. عندها تحولت الحركة المتوترة بين اللاعبين الي عدو صريح بإتجاه المبني.
بدأت تحركي في الحال، فالوقت له أهمية قصوي هنا. القيت البندقية جانباً، فلم يعد لها نفع الآن. كل ما كنت آمله هو أن أقتل أيمن بها فإذا بي أقتله و أقتل لاعبين آخرين و أصيب لاعب ثالث.
نزلت السلالم بسرعة و أنا أفكر. تبقي الآن واحد وعشرون مقاتلاً. لا بأس بسير المعركة حتي الآن. بالإضافة الي الذعر و التخبط الذي سببه إكتشاف مقتل أيمن، فإني أحدثت لديهم ذعراً بإستخدامي لسلاح لم يتوقعوه. الآن هم يمضغون أعصابهم بكل ما في الكلمة من معني.
ركبت سيارتي و إنطلقت بها مسرعاً. بالإضافة الي الذعر و التوتر الذي أصاب اللاعبين، فلقد إبتعدوا عن الحديقة و النوافذ. لا أريد أن أدخل من البوابة الرئيسية لأجد ما يزيد عن العشر مقاتلين، كل منهم قد إتخذ موقعا متميزاً ووجه سلاحه الي الجهة التي يتوقع مجيئي منها. الآن كل منهم يتخذ وضعاً عشوائياً داخل المبني دون أدني تخطيط أو تنظيم.
توجهت بالسيارة الي الجانب الشرقي من السور. علي الرغم من أنهم جميعاً تركوا الحديقة و النوافذ، إلا أني لا اريد أن أخاطر بالدخول من البوابة الرئيسية حيث يتوقع الجميع.
نزلت من السيارة و أخرجت من الحقيبة الخلفية المدفع الرشاش الذي قمت بحشوه بالرصاصات و القنابل و ركبت كاتم الصوت له. علقته علي كتفي ووضعت حول جسدي حزام به الرصاصات والقنابل. بالمدفع الرشاش و حزام الرصاصات و الخنجر حول ساقي اليسري و المسدس حول ساقي اليمني، لابد مظهري يبدو مثل أبطال أفلام الحركة أو.... يبدو مثل نجوم ألعاب الواقع.
أخرجت من حقيبة السيارة حبلاً به عقد علي إمتداده، و في أخره خطاف. القيت الحبل علي السور و جذبته لأتأكد أنه قد ثبت جيداً في مكانه، ثم إستخدمته لأتجاوز السور الذي كان إرتفاعه لا يزيد عن أربعة أمتار لحسن الحظ. الآن انا في الحديقة المحيطة بالمبني. علي الآن أن أعرف في أي مكان بالمبني توجد سارة. نظرت الي ساعتي فوجدت الساعة الآن العاشرة و خمس دقائق. لا بأس، مازال أمامي بعض الوقت. أمسكت بالمنظار المقرب و تفحت المكان. لا توجد كاميرات مراقبة. المفترض طبقاً لقوانين الألعاب أن هذه الكاميرات تستخدم فقط لنقل المعركة للجمهور دون أن يتدخل المخرج لصالح أي من الاعبين، ولكن لا يمكن الإعتماد علي هذه النقطة. بالتأكيد رفاييل سيخبر المقاتلين بمكاني. الغش هو إسم اللعبة اليوم.
-"لابد من أن تخسر هذه المعركة مهما كان الثمن ومهما كانت المخاطرة. لو كنت أستطيع أنا أن أقاتلك لأشتركت بنفسي في القتال"
إنبطحت ارضاً و إقتربت زاحفاً من المبني. توجد بوابة في الجانب الشرقي من المبني تقود الي الردهة الرئيسية الموجودة في الطابق الأرضي. يمكنني أن أري خمسة من اللاعبين و قد تجمعوا في وسط الردهة. بالتأكيد هم يحاولون الإبتعاد عن النوافذ قدر الإمكان.
هنا لاحظت خطئاً لا بأس به. كانوا جميعاً ينظرون عبر الباب الشمالي للمبني، والذي يواجه البوابة الرئيسية. بالطبع أي طفل يتابع أفلام الحركة يعلم أن المقاتلين يتجمعون في دائرة دوماً و قد ألصق كل منهم ظهره بالآخر لتغطية جميع الجبهات، و لكن الذعر بلغ بهم مبلغاً كبيراً لم أتوقعه. الآن هم يتصرفون بالغرائز فقط دون أدني إستخدام للعقل. الآن يمكنني أن أرفع قامتي قليلاً من الأرض و أستخدم أسلحتي بحرية أكبر.
أحكمت تصويب قاذف القنابل الملحق بالمدفع الرشاش ثم جذبت زناد الإطلاق. هبطت القنبلة امامهم تماماً و إنفجرت. كان الإنفجار صغيراً طبعاً، في النهاية هي مجرد قنبلة صغيرة، إلا أن تجمعهم في مكان واحد سمح لي بإصابتهم جميعاً بقنبلة واحدة. لا أعلم إن كان الإنفجار قد قتلهم أم أنه أصابهم فقط. لا يهمني إن قتلهم الإنفجار أو لم يقتلهم، فقط أريد أن أبعدهم عن طريقي، أن أجعلهم غير قادرين علي القتال. في عالم القتال تستخدم كلمة لوصف هذا الغرض هي (تحييد العدوEnemy Neutralizing ). تبقي الآن ستة عشر مقاتلاً.
بعد أن إنقشع الدخان الناجم عن الإنفجار دخلت الي الردهة الرئيسية في حذر. كان المقاتلين الخمسة منطرحين أرضاً دون حراك.درت بعيني في المكان فرأيت ثلاث كاميرات إحداها كانت قريبة من مكان الإنفجار فتحطمت. أري رفاييل بعين الخيال يخبر المقاتلين أن خالد حسني يحمل أيضاً قاذف قنابل. لابد أنهم علي وشك الإصابة بإنهيار عصبي بعد هذا ال....
سمعت صوت خطوات يأتي من أحد الممرات التي تقود الي الردهة. إختبأت بجوار الممر. بعد ثوان رأيت أحد اللاعبين و قد إندفع خارجاً من الممر. لابد أن صوت الإنفجار أطار صوابه، فهم لم يتوقعوا أن يصل الأمر الي إستخدام القنابل. لم ينتبه الي وجودي.
باغته من الخلف و أسقطته أرضاً ثم ركلت المدفع من يده فطار بعيداً، ثم صوبت اليه مدفعي الرشاش. نظر الي في توتر و هو ساقط علي الأرض. لا تخف يا هذا، أنا أريدك حيا.
-"أين الفتاة. حاول أن تجعل الموضوع سهلاً بالنسبة لنفسك بدلاً من أن يكون هناك الكثير من الألم".
لم ينطق و ظل علي صمته. لا بأس. حولت المدفع الرشاش الي نظام الإطلاق الذي يطلق الرصاصات منفردة بدلاً من الإطلاق المتتالي- ثم أطلقت رصاصة الي قدمه. صرخ من شدة الألم. عسي أن يستمتع جمهورك العزيز يا رفاييل.
-"والآن أين الفتاة"؟
قال وسط تأوهاته:
-"لن أخبرك".
لم أتصور أن يبلغ تمسكهم بالمكافأة المالية الي هذه الدرجة. في البداية ظننت أنه يعتمد علي ما نقل عني في الأخبار من أني صرت أكره العنف، ولكن الآن بعد أن أثبت له أني لن أتواني عن أن أحرر سارة بأي ثمن، فإن المبرر الوحيد الذي أراه هو التمسك الشديد بهزيمتي لكي يفوز بالمكافأة المالية.
-"الرصاصة القادمة ستكون في فخذك. كسر في عظمة الفخذ قد يسبب صدمة عصبية قاتلة، بمعني أن الألم قد يقتلك هذه المرة".
-"إذهب الي الجحيم".
صوبت المدفع الرشاش الي فخذه و أطلقت النار. هذه المرة كاد صراخه أن يصم الآذان.
-"أنا لن أتواني عن أن أمزققك إرباً أنت و جميع اللاعبين من أجل تحرير هذه الفتاة. أنا لست بطلاً ولا أريد أن أكون بطلاً. كل ما أريده هو تلك الفتاة الصغيرة".
قال و الدموع تسيل من عينيه:
-"الفتاة في الطابق السابع في غرفة في نهاية الممر الشرقي".
-"وأين غرفة رفاييل"؟
-"في الطابق الثامن، و معه وائل الحديدي في نفس الغرفة، و المشاهدين في الطابقين التاسع و العاشر".
نظرت في ساعتي. الساعة الآن العاشرة و عشر دقائق. الوقت يمر سريعاً. إستدرت و إبتعدت عنه. ما أن سرت لخطوات قليلة حتي شعرت بألم شديد في ظهري مقروناً بصوت عال. إستدرت الي فوجدت في يده مسدساً...
أحصيت عددهم فوجدتهم خمسة و عشرين مقاتلا، يحمل كل منهم مدفعاً رشاشاً و حزاماً في مسدسهً.
يا لتسرعي. في غمرة إندفاعي لكي أنقذ سارة قبل فوات الوقت لم أنتبه الي أن الوغد ما زال لديه مسدسه. لحسن الحظ أني ارتدي السترة المضادة للرصاصات و إلا كنت ميتاً الأن. صوبت اليه المدفع الرشاش بعد أن حولت نظام الإطلاق الي الإطلاق المتتالي للرصاصات و قتلته.
خطرت ببالي فكرة. توجهت الي جثته و أخذت جهاز الإتصال من خلف رأسه ووضعته خلف رأسي، ووضعت السماعة داخل أذني. ما أن فعلت هذا حتي سمعت صوت رفاييل الغاضب:
-"ليس مسموحاً بإستخدام السترات المضادة للرصاصات يا خالد و أنت تعلم هذا.أيضاً لم نتفق علي إستخدام القنابل و بنادق القناصة".
كيف عرف أني إرتديت الجهاز الآن. نظرت حولي فوجدت إحدي كاميرات المراقبة. لقد نسيتها. بالطبع كنت محقاً في أنه يساعد اللاعبين بما يراه عبر الكاميرات.
لم أرد عليه و أخذت أفكر. لابد من أن أفقده نقطة تميزه هذه أو علي الأقل أنال مثلها, و لكن كيف؟
خطرت ببالي فكرة جيدة بدأت تنفيذها في الحال. توجهت الي غرفة الأمن الخاصة بالمبني، والتي تقع في نهاية أحد الممرات التي تتفرع من الردهة التي أقف فيها. في غرفة الأمن بالتأكيد يمكن متابعة كل ما تنقله كاميرات المراقبة في المبني.
وجدت غرفة الأمن دون عناء كبير. قمت بتشغيل شاشات المراقبة و أخذت أري ما تنقله. معظم اللاعبين كانوا متجمعين في الطابق الأول قرب السلم، بينما باقي الطوابق بها عدد محدود من اللاعبين. الطابق السابع لم يكن به أي لاعب إطلاقاً، علي الرغم من أن هذا الطابق الذي توجد به سارة. بالتأكيد هم ينتظرون صعودي لهم في الطابق الأول و كل منهم يريد ان يقتلني لكي يفوز هو بالمكافأة الإضافية. هذه نقطة أخطأ فيها رفاييل. لقد جعل مكافأة خاصة لمن يقتلني، و بالتالي كل منهم يريد أن يقتلني هو بدلاً من أن يتعاونوا لقتلي. بالطبع تسبب غياب أيمن مختار في زيادة الطين بلة. الآن يمكنني أن...
هنا خطرت ببالي فكرة رائعة. يمكن في مبني الألعاب عزل أي قطاع من المبني بأبواب من الزجاج المضاد للرصاصات. لقد سمعت بهذا الأمر يوما ما. الفكرة أن شركة الألعاب أرباحها خرافية، بمعني أن كمية السيولة النقدية التي يتم جمعها في شركة الألعاب من المشتركين و من الإعلانات و باقي مصادر الكسب مهولة. هذه السيولة النقدية يتم تحويلها الي البنوك يومياً، و لكن وجود مثل هذه السيولة النقدية يجعل الشركة عرضة للسرقة. لهذا تم وضع نظام أمان يسمح بعزل أي قطاع من المبني بأبواب من الزجاج المضاد للرصاصات من أجل منع أي لص من الهرب إن تم إكتشافه.
بحتث قليلاً في كمبيوتر الأمن حتي وجدت الوسيلة التي أفعل بها ما أردت. كل طابق في المبني عبارة عن ممر شرقي و آخر غربي، يلتقي كل منهما عن السلم الرئيسي للمبني. عند عزل الطوابق، تهبط أبواب من الزجاج المضاد للرصاصات لعزل الجانب الشرقي و الغربي من كل طابق، بينما السلم يمكن رجال الأمن من الصعود الي الطوابق الغير معزولة.
عزلت جميع الطوابق ما عدا الطابق السابع. حتي الطابق الثامن الذي به رفاييل و وائل الحديدي و الطوابق العلوية التي بها المشاهدين عزلتها، ثم صعدت الي الطابق السابع. في الطابق الأول رأيت المقاتلين و قد تجمعوا لدي الأبواب الزجاجية و قد أخذوا يطرقوها بشدة بأيديهم و يصيحون، و قد بلغ بهم الغضب مبلغه. حاول أحدهم أن يطلق النار علي الباب و لكن الرصاصة إرتدت لتصيب لاعباً آخر. سقط هذا الأخير بينما أكملت صعودي دون أن التفت اليهم.
في الطابق الرابع رأيت أحد المقاتلين. لم يكن معزولاً خلف الأبواب الزجاجية. لابد أن الأبواب هبطت بينما هو علي السلم. رفعت مدفعي الرشاش و أطلقت عليه النار و فعل هو المثل أيضاً. أصابته رصاصاتي بينما تلقت السترة المضادة للرصاصات التي أرتديها رصاصاته. بالطبع شعرت بالألم الناجم عن إرتطام الرصاصات بالسترة الملاصقة لجسدي، إلا أن هذا الألم أفضل من أن تخترق الرصاصات جسدي بالتأكيد. نظرت في ساعتي. الساعة الآن العاشرة و الربع. لا بأس علي الإطلاق.
جاءني صوت رفاييل من خلال جهاز الإتصال. كانت السعادة تشوب صوته مما أشعرني بالقلق:
-"خالد. كلامي الذي أقوله الآن يبث للمشاهدين هنا في المبني و علي الهواء. لقد إنتهي الوقت".
-"أي وقت هذا الذي إنتهي؟ لا يزال امامي ربع ساعة كاملة".
-"الوقت الذي أخبرتك به هو نصف ساعة، هذا صحيح. ولكننا قررنا أن نجعل الوقت ربع ساعة فقط، و ألا يعلم أحد بهذا سوي مشاهدينا....".
الآن كل منهم يتمني لك الفشل، و يا حبذا لو كان هذا الفشل مقروناً بموت الفتاة التي حاولت أنت أن تحميها و ترعاها. هذا يمثل بالنسبة لهم نوعاً من العقاب المزدوج لك لأنك حاولت أن ترتقي عليهم.
أخذت أصعد درجات السلم كالمجنون بينما رفاييل يتابع حديثه البغيض:
-"...بينما كنت تخطط أنت واضعاً في حسابك أن الوقت نصف ساعة، كان الجميع علي علم بأن الوقت ربع ساعة. و الآن الرتاج الأوتوماتيكي للغرفة التي بها سارة علي وشك أن يفتح و هناك لاعب علي وشك أن يقتلها. أنت لم تنتبه اليه لأنه كان في إحدي الغرف التي لم يكن بها كاميرا مراقبة".
وصلت الي الطابق السابع. توجهت الي الممر الشرقي و شعرت أن الأمر يتخذ طابعاً كابوسياً مرعباً. الممر طويل، طوله لا يقل عن الأربعين متراً، في آخره غرفة بدأ بابها يفتح بصورة أوتوماتيكية و علي بابها أحد اللاعبين مستعداً لدخولها. أطلقت عليه النار و أنا أعدو بإتجاهه فصرخ و أمسك ذراعه الأيمن. إنفتح الباب فرأيت سارة جالسة علي الأرض في غرفة جرداء عارية من الأثاث، مرتدية نفس الثوب الذي كانت ترتديه حين أخذها أبيها من بيتي. ما أن رأتني حتي هتفت:
-"عم خالد...".
سارة تبتر عبارتها حين تري الوغد الواقف لدي الباب بذراعه المصابة. الدموع تسيل علي وجهي من فرط الإنفعال و أنا أعدو بإتجاهها، بينما الوغد يحاول أن يرفع مدفعه الرشاش و يطلق النار تجاهها. الرصاصات تطيش. فوهة المدفع الرشاش لم ترتفع عن الأرض أصلاً. لابد أن عضلاته ذراعه قد تمزقت.
أدرك الوغد أنه لن يمكنه إطلاق الرصاص بذراع مصابة بأكثر من رصاصة فألقي المدفع و أستل بيده اليسري مدية من جيبه. هنا صرخت بشدة و رفت مدفعي تجاهه و أطلقت النار بينما سارة تصرخ بشدة. أصابته الرصاصات في أماكن متفرقة من ظهره و القته عبر الغرفة بجوار سارة. تحامل الوغد علي نفسه و رفع المدية الي أعلي. صرخت سارة في رعب بينما أنا علي باب الغرفة. هوي الوغد بالمدية علي سارة. في الواقع هو لم يهو بها، بل سقطت يده بالمدية بعد أن فقد قدرته أصلا علي رفع ذراعه لتصيب سارة في جانبها الأيسر.
الدماء تتفجر من جسد سارة بينما أنا القي المدفع من يدي وأصرخ كالمجنون و أحتضن جسد سارة. صراخ المشاهدين يصم الآذان بينما صوت رفاييل البغيض يقول في سعادة:
-" و الآن أعزائي المشاهدين ينتهي القتال بمقتل الرهينة و هزيمة خالد حسني و فوز فريق شركة الألعاب. تهنئاتي لجميع المشاهدين الذين راهنوا علي هذه النتيجة التي.....".
تفحصت الجرح في جسد سارة بيد مرتجفة. الجرح في جانبها الأيسر. لم أستطع أن أحدد هل هو جرح خطير أم لا، هل عميق أم لا. كنت أشعر أني تحت تأثير عقار الهلوسة. لابد أن هذا ليس حقيقياً. لا يمكن أن تصل القسوة الي هذه الدرجة. لا يمكن أن تصل بهم السعادة الي هذه الدرجة التي تجعل صوتهم كهدير الشلالات لأن طفلة رقيقة في الرابعة من العمر قد أصيبت. لا يمكن أن يصل الطمع بشخص أن يكون الشيء الوحيد الذي يستميت للقيام به و هو يحتضر هو قتل طفلة صغيرة. هناك شيء غير آدمي خارق للطبيعة في هذا.
أغلقت جهاز الإتصال لكي لا أستمع الي صوت رفاييل البغيض ، وحملت سارة علي كتفي الأيسر و نزلت بها السلالم مسرعاً. بينما أنا في الطابق الأرضي فوجئت بأحد الاعبين أمامي. لم أدر من أين جاء هذا.لابد أنه كان في إحدي الغرف في الطابق الأرضي، فأنا لم أقم بتفتيش الغرف. كان جالساً علي الأرض و قد وضع مدفعه الرشاش علي مسافة لا بأس بها و ثبت السماعة جيداً علي أذنه لكي يستمع لما يذيعه رفاييل وسط ضجيج الجماهير. إنه يتأكد من أن الفتاة قد ماتت و أنه الآن يستحق نصيباً من الجائزة. ما أن رآني حتي قام مسرعاً بإتجاهي. كان المدفع بعيداً عنه، لذا إستل مدية مشابهة لتلك التي أصابت سارة و إتجه بها الي، و طوح بمديته محاولاً أن يصيب سارة. لابد أن يتأكد من أنها قتلت، ربما جعل له هذا نصيباً في المكافآة.
إستدرت بجسدي لكي أتلقي أنا الطعنة بدلاً من سارة. لم يكن في يدي سلاح، فلقد تركت المدفع الرشاش في الغرفة التي في الطابق السابع.
أصابتني المدية أسفل إبطي الأيمن. تفجر الدم غزيراً بينما إستللت مسدسي بيدي اليمني و أطلقت عليه ثلاث رصاصات.
سقط الوغد قتيلاً بينما نظرت انا الي ذراعي. كانت الدماء تسيل كالشلال. لقد قطع الوغد الشريان العضدي Brachial artery . هذا الشريان يعتبر أحد شرايين الجسد الرئيسية. هذا النزيف يمكنه أن يقتلني في خلال ثلاث دقائق. لم أبالي و حملت سارة و إتجهت الي البوابة الرئيسية لشركة الألعاب. كان أكرم هناك واقفاً و علي وجهه توتر رهيب. ما أن رآني و رأي سارة و الدماء تغرقنا حتي شهق و جري بإتجاهي. أعطيته سارة و قلت له:
-"توجه بها الي المستشفي حالأً".
-"و أنت".
-"لن يمكن إسعافي في هذا الوقت. أسرع بالتحرك يا أكرم ولا تناقشني. فقط عدني أن تراعي أنت سارة من بعدي".
حاول أن يتكلم ولكن صوته إختنق بالدموع. حمل سارة و وضعها في السيارة ثم إنطلق بها.
نزعت أنا الجزء العلوي من ثيابي و ربطت به ذراعي. لم يوقف النزيف، فهذا الرباط البائس لا يمكنه أن يوقف نزيف شريان مثل هذا، ولكنه سيقلله بعض الشيء. سيعطيني بضع دقائق إضافية.
الآن فكرة واحدة تسيطر علي كياني. لابد من أن يموت كل من ساهم في هذا. لابد أن يموت رفاييل ووائل الحديدي و أولئك المشاهدين واللاعبين. أن تقتل فتاة صغيرة دون ذنب جنته فهذا يجعلك سفاحاً، أما أن تنظم أنت كل هذا و تدفع المال و تضع الترتيبات لضمان قتلها، فهذا يجعل منك شيئاً خارقاً للطبيعة يتضاءل بجواره كل ما أنتجته قرائح أدباء الرعب.
هؤلاء المشاهدين صرخوا في حماس عندما أصابت تلك المدية سارة. صرخوا و كأنما نال كل منهم كل ما كان يتمناه منذ سنين، دون أن يتوقفوا لحظة واحدة ليفكروا أن تلك التي أصيبت هي مجرد فتاة رقيقة في الرابعة من العمر إجتمع عليها سوء رعاية الوالدين و الفقر و المجتمع الذي أثار شيطان آدمي أحط غرائزه فصار كالحيوانات التي تهيجها رائحة الدماء.
الرؤية بدأت تتشوش أمامي و بدأت أترنح. علي أن أعمل سريعاً.إتجهت الي المرآب الذي يقع أسفل المبني. المرآب من طابقين، و به الكثير من السيارات، معظمها سيارات فاخرة. إنها سيارات المشاهدين بالطبع. إنتزعت القنابل الصغيرة التي تستخدم في قاذف القنابل ثم القيتها بدون إكتراث في أنحاء المرآب، كطفل يلقي بالأحجار في النهر، و كذلك فعلت بالقنابل التي تنفجر بجهاز تفجير عن بعد. لم أستخدم هذه الأخيرة كما كنت أنوي اليوم. لا بأس، سأستخدمها الآن.
صعدت الي الطابق الأرضي من المبني و خرجت الي الحديقة المحيطة بالمبني ثم ضغطت زر جهاز التفجير عن بعد. هز إنفجار مدو المبني ثم تبعته سلسلة طويلة من الإنفجارات. إن القنابل تنفجر و معها تنفجر خزانات الوقود في السيارات.
هنا إنتهت قدرتي علي الوقوف علي ساقي. الرؤية شبه منعدمة أمام عيني أيضاً. فتحت جهاز الإتصال بيد مرتجفة و بصوت خافت متقطع قلت:
-"رفاييل... هل تسمعني"؟
-"نعم أسمعك. ما الذي قمت به في المرآب؟ هل قمت بتفجير السيارات؟ هذا لن يجعلك تفوز. أنت خسرت المعركة التي.....".
-"الخرسانة....".
-"أي خرسانة؟ ما الذي تتحدث عنه؟"
-"الخرسانة لا تحتمل الحرارة..... أعمدة المبني في المرآب...".
لم أستطع أن أكمل عباراتي و لكنه فهم ما أقصده. صرخ في إضطراب:
-"مستحيل. أنت لا يمكنك أن .... إن هذا غير..".
أغلقت جهاز الإتصال. صوت صراخ المشاهدين من الطوابق العلوية يتعالي بينما الإنفجارات مازالت تتوالي. لابد أن رفاييل قد نسي أن يوقف بث الحديث لهم. أو لعله تعمد أن يجعلهم يسمعون كلامي علي أمل أن يجدوا فيه نبرة من الحزن و الأسي. هذا سيزيد من شعبية الألعاب و من شعور المشاهدين بإنتصارهم عليّ. الآن هم لا يجدون الموت شيئاً مبهجاً حين يتعلق بهم.
تري هل ينجح أكرم في أنقاذ سارة؟ هل تلاقي سارة علي يدي أكرم و زوجته الحنان والعطف التي هي جديرة بهما الي أقصي حد؟ هل تنسي القسوة والوحشية التي تعرضت؟ هل تنسي أن أباها و أمها و المجتمع كله قد أجمع يوماً ما علي قتلها فقط ليرضوا العنف المتأًصل في نفوسهم؟ تري هل يأتي اليوم الذي تصير في شابة ناضجة ناجحة تثير إعجاب كل من يعرفها؟ لكم تمنيت أن أري هذا اليوم، و لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. حسبي أني قد حاولت قدر إستطاعتي أن أجعل هذا الحلم قابلاً للتحقيق.
تري هل تذكرني سارة حين تكبر؟ هل تذكر أن هناك رجلاً حاول يوماً ما أن يراعيها و يحنو عليها و يعطيها الحنان الذي تستحقه و الذي إتحد المجتمع كله لحرمانها منه؟ هل تذكر أنها عاشت في بيت هذا الرجل شهراً كان أجمل أيام حياته؟ هل تصير في يوماً ما أماً رائعة تحكي لأبنائها عن الرجل الذي دخلت حياته فلم تعد حياته مثلما كانت؟
وعيي يتسرب مني تدريجياً و علي الرغم من هذا لا تتوقف الأفكار في رأسي.
تري هل تتوقف الألعاب؟ هل يتوقف تيار الدم هذا بقتل صاحب شركة الألعاب و قتل أولئك المشاهدين و قتل رفاييل؟ أتمني أن يثير الأمر تفكير الناس قليلاً، حين يروا أن المشاهدين قد صاروا أيضا ضحية للألعاب. بالتأكيد لن تقوم الألعاب بسهولة من جديد، و حتي إن قامت فلن يكون هذا قبل وقت طويل. ربما بهذا الوقت أمنح فرصة لسارة و من هم مثلها كي يعيشوا الحياة التي يستحقونها. كل يوم لا توجد فيه الألعاب هو يوم يضاف الي حياة إنسان.
و رفاييل. إن قتل رفاييل لهو شيء لا يستهان به. أنت لا تجد شخصاً يجمع كل هذا الكم من العلم و الذكاء و الشر الصافي الخالص كل يوم. حتي إن قامت الألعاب فلن تجد شخصاً مثل رفاييل بسهولة.
تري هل يغفر لي الله ما قمت به؟ هل يتجاوز عن القتل الذي قمت به و الدور الذي ساهمت به في الألعاب؟ هل يتقبل الله مني رعايتي لهذه الطفلة الصغيرة و تضحيتي بحياتي من أجلها؟
الدنيا تظلم من حولي تماماً ووعيي يغيييييييب......
الآن صار لي هدف أتخيله و أسعي اليه، هو أن أري سارة و قد صارت فتاة ناضجة متميزة. متميزة علي الصعيد الشخصي، الديني، الخلقي و العقلي أيضاً. هي صورة مبهمة ليست محددة الملامح، و لكنه صار هدفاً يملأني بشدة.
الآن لدي بالفعل حياة جميلة أرغب في أن أعيش كل لحظة منها. لدي هدف أسعي لأن أحققه، و علي أن أقضي ما بقي من عمري في طلب المغفرة من الله لكل ما إرتكبت في من جرائم. الآن صارت كل لحظة في الحياة غالية. فكرة أن أموت في المعركة القادمة تبدو الآن فكرة مرعبة، حتي لو كان إحتمال موتي في المعركة القادمة إحتمالاً ضئيلاً للغاية.