شوشو فتاة يقول لك جسمها إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة. وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفة جملة، وتشغل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت هذا الشطر الأول من عمرها في عزلة قلّما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال؛ إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تجسّ محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية: هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما، أن ينقّل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلي نفسها وروحها وطبيعتها وجمالها، مركزًا. وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع. تحدق «فيه» تحديقك «في» بئر، ولا ترنو «إليه» كما ترنو «إلى» رسم.
ومن الفتيات من لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها، لأول وهلة، ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يتقى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومنٍ خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانًا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هى أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة؛ أو أوجع من أن ترفِّه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر.
٢
كانت الشمس قد غابت وراء الأفق ولفت الحقول في شملة من الظلام لا رقيقة ولا شفافة، وكان اثنان يدلفان في الطريق بين المزارع على حمارين، أحدهما مسرج ملجم، يعاني الفتى الحضري الذى يمتطيه أشد البرح من تخطره ونزاعه إلى الانطلاق في العدو، وهو لا يكاد يمسك نفسه فوقه من فرط التقلقل. وثانيهما — أي ثاني الحمارين — يخطو وادعًا، ورأسه مدلى وأذناه مسترخيتان وليس على ظهره سوى لبدة عتيقة استقر عليها الراكب ولصق بها حتى لا تكاد رجلاه تتحركان، كأنما هما خشبتان مشدودتان إلى جانبي الحمار، وكان الفتى في شاغل من متاعبه فقطعا أكثر الطريق في صمت إلى أن التفت الفتى إلى رفيقه وقال: لم أعرف اسمك إلى الآن فهل تسمح لي به؟
– اسمي؟ آه! أحمد الميت.
– الميت؟ ولماذا يدعونك الميت؟
فقال القروي وهو مطرق كما كان، وعيناه إلى أذني حماره: لأني مت.
فابتسم فتانا ساخرًا وقال: سبحان من يحيى العظام وهى رميم! ولكني أحسب يوم النشور لا يزال بعيداً، فكيف عدت إلى الحياة قبل الأوان؟
فرفع القروي رأسه فجأة والتفت إلى الفتى التفاتة المغضَب وقال: لقد قلت لك إني متّ وانتهى الأمر.
فاسترسل فتانا في سخره ولم تزايله ابتسامته: إذًا من الراكب على حمارك يا رفيقي؟ أهو عفريتك؟
– عفريتى؟ لالا! لا تخف! أنا أحمد الميت.
– ولكن ألا تحدثني كيف حييت مرة أخرى؟ أو من الذي ردك إلى الحياة؟
– لم يردني إلى الحياة أحد. لقد مت وانتهى الأمر.
فحملق الفتى في وجهه وهو مبهوت وكف عن الكلام، وقد دار في نفسه خاطر لم يرتح معه إلى صحبة هذا الرفيق.
وبعد قليل قال أحمد الميت: ليست هذه أول مرة جئتنا فيها؟
– بل هي الأولى.. (ثم بعد قليل) لوددت أني ما جئت!
وسكتا برهة ثم عاد القروي يصل ما انقطع: لقد حسبتك عرفت الدار من طول تحديقك إلى ناحيتها.
– وأنى لي برؤيتها وهذا الظلام أكثف من جلد الفيل؟
فضحك القروي ضحكة حفلت بالقرقعة ثم أمسك فجأة وقال: إنكم يا أبناء المدن لم تألفوا النظر في الظلام.
فقال الفتى — وفي صوته مرارة تنم على ما يكاتم من الألم الذي جره عليه نشاط دابته: كلا! لم يرزقنا الله مثلكم عيون القطط.
ثم ساد السكون لحظة أخرى قال القروي بعدها: أحسبك تعرف قصة الباشا المرحوم مع أفندينا؟
– كلا!
– إنها قصة ممتعة. لقد شرف أفندينا يومئذ ….
– من تعني بأفندينا هذا؟
– أفندينا إسماعيل! لقد شرف يومئذ بلدتنا ولم يكن الباشا قد نال هذه الرتبة، ففرش له الطريق كله بالرمل، ونصب على جانبيه الزينات التي لم نرّ لا قبلها ولا بعدها إلى الآن، وأقام الأفراح أربعين يومًا فسرّ أفندينا جدًا وقال له ساعة همّ بالركوب عائدًا: إني جعلتك من بيكواتي ويمكنك بعد أن أرجع إلى مصر أن تزورني في أي وقت تشاء لأكافئك على كرم ضيافتك وسخائك في استقبالنا. ومضت سنون بعد ذلك لا أذكر عدها، وفي يوم تذكر البيك كلمة أفندينا فنهض وقال: إني ذاهب إليه من توّي. فلما صار في مصر مضي إلى سراي أفندينا وقرع الباب، فقال الخادم: ماذا تبغي؟ فحكى له ما كان، فقال له: «إن إسماعيل مضى وجاء غيره، فعاد وأخبر القرية أن إسماعيل الثاني..».
– إسماعيل الثاني؟ أظن يا صاحبي أن في تاريخك خطأ.
– كلا! لا خطأ في الرواية، أمن أجل أن كتبكم لا تحوي هذه القصة تكون خطأ؟ وأنا بعد لم أتممها لك ولم أخبرك بما وقع له مع إسماعيل الثالث..».
– إن هذا لا يطاق. كلا! لن أحتمل إسماعيل الثالث. ووثب إلى الأرض عن ظهر الدابة وتركها وسط الطريق، ومال إلى حافته اليمنى كأنما أراد أن يجعل بينه وبين رفيقه أطول بعد ممكن. ورأى القروي ذلك فكف عن محادثته، وجعل يقول لنفسة: «ما أغرب هؤلاء الأفندية الذين يجيئون من الأمصار! أما والله لولا أنه يمت بالقرابة إلى الباشا رحمه الله..».
وبلغا البيت، فنهرتهما الكلاب، وأفزع الفتى نباحها وهيئتها الوحشية، فدنا من رفيقه بكرهه، حتى يكاد يدخل في ثيابه فزجرها القروي عنه، وصعد به السلم.
٣
قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظا من الراحة: تعال بنا إلى بهو السلم، فإن الجو بديع في هذه الليلة.
– ولكن السلّم يؤدي إلى الغيط مباشرة بلا حاجز، و… والكلاب ….
– آه. الكلاب! أتخافها؟ إنها لن تؤذيك … تعال … تعال … أيصح أن تكون أضعف مني قلبًا؟
فمضيا إلى البهو وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي: «مرجان، بخيت، مرزوق» فعجب الفتى وقال: «وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تتعبي الخدم يا شوشو بلا داع».
والتفت فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم وتقبل عليها وتتوثب حولها وتتمسح بثوبها وتحرك أذنابها وتلعق حذاءها، فأشارت إليها فربض واحد إلى يمين الفتى، وثان أمامه، والثالث إلى يساره، وعادت وهي تحادث قريبها حتى عرضت مناسبة. فنهضت وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما همّ أن يقوله إذا صحّ أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته.
فأسلم أمره لحظِّه ولهاتيك الكلاب، وجعل يلاحظها خلسة، وشاءت بعوضة أن تلذعه في جبينه، فرفع يده ليذبّها. فرفعت الكلاب الثلاثة رؤوسها وزامت!
فحطّ ذراعه.
وأراد الحظ أن تألم ساقه الوضع الذي كانت فيه، فهمّ بتحريكها فعادت الكلاب ترفع رؤوسها وتزوم، فتركها مكانها.
وكثر البعوض فجأة، وتوالى الإحساس باللذع في الوجه واليدين والرجلين، وهو يتجلد إشفاقا من هذه الكلاب الضارية، حتى جاوز الأمر الطاقة، وكاد يذهب رشده فصاح — وهو مسمّر في مكانه، ومن غير أن تتحرك شعرة في جسمه: «أبعدوا عني هذه الكلاب، وإلا قمت وتركتها تمزّقني».
وفي هذه اللحظة فتحت نافذة مطلة على البهو، وظهرت منها شوشو مستغربة في الضحك.
الفصل الثاني
«وكان صباح.. يومًا واحدًا»
قضى فتانا إبراهيم — وهذا اسمه — ليلة هادئة عميقة النوم إذا استثنينا حلمًا قصيرًا ركب فيه جوادًا بلا لجام جمح به في طريق وعر، ينحدر على أحد جانبيه نهر جائش، وتعترضه في بعض المواضيع أقنية تختلف ضيقا وسعة، عليها ألواح من الخشب، وقف الجواد الخبيث فجأة، فوق واحدة منها وأهوى برأسه وقادمتيه إلى الماء ليشرب!
وبدأ الصبح بأصوات العصافير. فنهض ثم لبس حذاءه ومعطفه وطربوشه، وخرج متسللًا كاللص. وكانت السماء غائمة، والجو مطلولًا لا تخلص معه الأنفاس. وكان هو يكره الرطوبة ويتقيها ويشفق من عواقب التعرض لها، وكثيرًا ما ثنته عما يقصد إليه، ولكن منظر الحقول في هذه الساعة قبل طلوع الشمس، والضباب يسترها على مسافة متر، ويشفّ شيئا فشيئًا عنها — وهو منظر لا عهد له به — أغراه بالمضي فانطلق على غير هدى، حتى وقف على ترعة صغيرة نزرة الماء، تكسو الحشائش جانبي مجراها، ويفترش الماء في قاعها بساطًا سندسيًا ليّنًا. وجعل ينظر إليها تارة، ويدير عينه في الحقول المستوية تارة أخرى. وكان المنظر من حوله مؤلفًا من عناصر إذا اجتمعت، كما هى الآن، أحالت الحب في النفس الحساسة قلقًا، وهوت بالأمل إلى الشك، وهبطت باليقين إلى مرتبة الرجاء، ومنعت الذكرى أن تحرك الأسف على فائت، أو الرغبة أن تدفع إلى سعي. وذلك أنه كان أمامه — على قدر ما وسعه أن يرى — هذه الترعة السوداء ومن ورائها مثل الجدار القائم. ومن خلفه هو أرض بعضها مرعى فيما يعلم، وبعضها زرع لا يدري أي شيء هو. ثم فضاء غير مستوٍ يقوم من بعده البيت الذي زايله منذ لحظة. وكل ما حوله أشكال ليس لها معارف — كالدرهم المسيح — توحي إلى النفس أي شيء، ولا تنطق بشيء، إذ كان الضباب لا يزال يكسوها ثوبًا يزيدها في رأي العين والقلب عريًا وتجردًا. وكانت السماء دانية مسفة يحس المرء أنها تهمَ بالانطباق على الأرض. ثم بدأت الشمس تطلع حمراء قانية كبيرة القرص، وأخذت تطلق أشعتها الطويلة المتوهجة من الشرقِ فتتلقاها في الغرب السحب، فأطراف المنازل، والأكواخ والنوافذ ورؤوس الأشجار، فالأغصان النابتة على وجه الأرض؛ فصارت الأنفاس كأنها خارجة من فوهة مدخنة، لا من فم آدمي.
وأحس لطول ما وقف، بالبرد يسري من قدميه إلى سائر بدنه، فثنى خطواته إلى الدار، وما كاد يفتح الباب المؤدي إلى الجناح الذي أفرد له، حتى طالعته زنجية لامعة الجلد، منتفخة الأوداج، كأنما حشيت أشداقها قطنّا، براقة الأسنان. واسعة العينين حمراؤهما، قد غرز رأسها المعصوب بين كتفيها غرزًا، واتصل بهما بلا واسطة. أما صدرها فعريض جدًا، وأما خصرها — إذا جاز أن يُسمّى هذا خصرًا — فهضيم جدًا، حتى كأن ما نقص من هذا زيد في ذاك، ويلي الخصر ردفان ثقيلان تحتهما ساقان قصيرتان كالقمعين، فكأنهما زير عليه إبريق مقلوب فوقه كرة ذات ثقوب، والمرء بايسر مجهود من الخيال يستطيع أن يتصورها مفككة.
فابتدرته الزنجية بقولها: أين كنت يا سيدي؟
فلم يرتح إبراهيم إلى هذه المفاجأة، ولم يسره لونها الأسود البرّاق بعد ذلك الضباب الذى لبث فيه. وكان من أثقل الأشياء على نفسه أن يُسأل عن روحاته وغدواته، فقال لها: أين كنت؟ وكيف يعنيك هذا؟
– لقد أزعجتنا جدًا يا سيدي، ولم يخطر لنا قط أنك قد تخرج في مثل هذه البكرة المطلولة، فحرت ماذا أصنع و..
– لعلك لم تقلقي أحدًا من أجلي؟
– نعم، أيقظتهمٍ جميعًا.
– أيقظتهم جميعًا؟ ولماذا بالله؟ أترينني طفلًا أم أنا هنا سجين؟
ولم تكن المسكينة تتوقع أن يغضبه سؤالها وإشفاقها عليه، وأفزعتها نظراته أكثر مما أفزعتها لهجته، فرمت بعينيها إلى الأرض وأخذت تتمتم: لا … لا، ياسيدى، عفوك! هذا بيتك ….
– من قال لك إني في بيتي يُضرب عليَّ نطاق من الخدم؟
– أنا.. أنا.. لا ذنب لي. لقد أمرتني سيدتي شوشو قبل أن تنام أن أخبرها.
فلم يمهلها حتى تتم كلامها، وصاح بها وقد تملكه غضب شرّ ما فيه أنه يعلم أن لا داعي له: إذا كانت سيدتك هي التي شاءت أن تسدّ في وجهي الأبواب، فسأرحل هذا النهار. نعم لا بد من السفر، فلست أنوى أن أعصب رأسى وأسدل على وجهى قناعًا!
ودفع باب غرفته بعنف، ودخل وهو يتمتم بصوت يزيده تهدجًا شعوره بأنه مخطئ في غضبه، وأنه تهوّر بلا مسوغ. وشرع يعد حقيبته ويفكر في القيود التي تحيط بالمرء في الريف، ونسي أن للمدن أيضًا قيودها.
ولم يكن صاحبنا إبراهيم قد بلغ سن الفلسفة، أو إن شئت فقل سن التبلّد أو الحزم أو ما تحب غيرهما، وإن كان بطبعه لا طياشًا ولا قليل التؤدة. وكان من ذلك الطراز الذي نستطيع أن نقول إن الله وهبة كل شىء، إلا القدرة على الانتفاع بالحياة والتوفيق فى الدنيا، وإن يكن اشبه بالنساء في المرونة وسرعة التكيّف. وكان عظيم الاعتداد بنفسه شديد الاعتماد عليها ولكن من غير أن يشوب ذلك الكبرياء والتقحم على الناس. وفيه أنفة كثيرًا ما كانت تبلغ درجة البلاهة، وقد غلب عليه «الكاتب» وصار لقبًا وعلمًا عليه كما حدث لعبد الحميد من قبله بقرون طويلة المدد. ولم تكن مزيته الابتكار أو العمق بل إنه ما من فكرة يتناولها إلا وسعه أن يجلوها في أحسن معرض، وإلا استطاع — إذا لم تكن مما ابتكر — أن يضيف إليها ويزيد عليها ما ليس دونها. على أن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه ليطلّع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنه ليحيط بكل ما وراءها، ولكنه قلّما رأى شيئًا خارجها إلا من خلالها. وكان على قوة طبعه شديد الحياء كثير الحذر ولا سيما معٍ النساء اللواتي لم يألف مجالسهن إلا العائليه، ولم يكن احترامه لهن كبيرًا وإن كان على ذلك لا يحتقرهن. وعنده أن المرأة أداة لبقاء النوع، وإن جمالها ليس إلا شركًا تنصبه الحياة ويحسن كثيرا أن يتجنبه، وإن الرجل أجمل من المرأة على العموم، لأن جمال الرجل الجميل لا يستمد أكثر فتنته — كجمال المرأة — من الغريزة النوعية. وكان سلوكه إزاء المرأة مظهرًا لرأيه فيها — ونعني أنه كان يعدها مخلوقًا جديرًا بالعطف والمداعبة في غير ضعف ودون أن يمنع ذلك أن تحكمها دائمًا وتلزمها طاعتك.
ومن سخر الأقدار أن هذه الطبيعة القوية المتمردة إلى حد كبير تكون في جسم ضئيل هزيل لا يحتمل شيئًا! فقد كان صاحبنا قصيرًا ضامر الجسم دقيق العظام واهي التركيب، وليس فيه شىء ينمّ على هذه القوة التي انطوى عليها إلا وجهه، أو بعبارة أدق جبهته الواسعة العريضة المتألقة، وعيناه الواسعتان الحادتان، وهامته المستطيلة القوية، وأنفه الكبير الأقنى، وشفته المقوسة الغليظة بعض الغلظ. على أن قوته تنحصر على الاكثر في جبهته وعينيه. ولم يكن يخفى عليه هذا السر، فكان يبلغ بنظرة يسددها ما لا يبلغه الرجل الضخم بالعصا في يده. ولكنه كان على ذلك رضيّ الطباع، دمث الأخلاق، سريع الفيء إلى الرضى.
ودخلت عليه شوشو وهو لا يحسها، ووقفت خلفه وهو مشتغل بنزع غطاء حقيبته، ووضعت كفيها على عينيه، فأمسك بها ونزعها عنه برفق وقال: آه.. شوشو!
– نعم أنا شوشو. من كنت تحسبني؟
فاحمرّ وجهه الأسمر قليلًا وابتسم.
وكانت لآخر عهده بها قبل عام طفلة ألفاها في هذه اللقية امرأة بارعة الشكل ممشوقة القد، تغترف العين بشارتها وترتاحٍ النفس إلى نظرتها: سوداء العينين عميقتهما؛ ذهبية الشعر ترسله أمواجًا على كتفيها، بيضاء مشرقة، حمراء الخدين قرمزية الشفتين لينتهما: عينها نار، ولحظها حب، وصوتها تغريد، وقوامهٍا أتم ما يكون استواء وصحة وعزمًا ونشاطًا، وحركتها مملوءة ظرفًا ورشاقة، رقيقة كأنها النسيم، جليلة كأنها ملكة، ذائبة حينًا، متدللة متجبرة أحيانًا، ساخرة طورًا، وطورًا ساذجة غريرة، جميلة في كل حال. وقالت وهى تعتمد أن تتجاهل معنى ما يفعل: دعني أخرج لك ما تريد من الثياب. إن هذا عمل النساء لا الرجال. اصعد أنت إلى «فوق» فإنهم ينتظرونك ليفطروا معك وسأعد لك كل شيء.
– ولكنك لا تعرفين ماذا أبغى؟
– أعرف كل شيء! وماذا تستطيع أنت أن تعرف أكثر مني؟ إنك كالطفل الصغير يحتاج حتى إلى من يلبسه الجورب!
فلم يدرِ أعرفت وتجاهلت أم هي لا تعلم شيئًا مما حدث، وكانت نفسه قد سكنت فآثر أن يطوي الأمر، وبدا له أن هذا خير ما يمكن أن يصنع، وقال مغالطًا: «ولكني لا أعرف من أين أصعد».
– إذًا لنبدأ بالصعود وبعد ذلك نعود إلى هذه الحقيقة. أليس كذلك؟
– نعم؟
– هيا إذًا.
ووضعت كفها على كتفه اليمنى وجعلت تطفر إلى جوانبه وتتواثب كالفراشة.
الفصل الثالث
«كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»
صعد إبراهيم وشوشو — أم ترى ينبغي أن نقول شوشو وإبراهيم؟ إلى غرفة الطعام فألفيا حول المائدة «نجية» كبرى أخوات شوشو، وابنيها. وهي سيدة جميلة الوجه، ولكنها ضخمة الجسم مترهلة اللحم، ذات معدة — وما لنا لا نقول «كرشًا»؟ — تمشى أمامها. ولها إيمان راسخ بالمشائين في الظلام، ونعني بهم الشياطين والعفاريت والأرواح، وبأولياء الله الصالحين، غير أن إيمانها بأولئك أقوى وأعمق منه بهؤلاء، وأكثر ما تدور أحاديثها وقصصها بالليل عنهم، وما أقل من لم تقل له «لا شك أنك رأيت عفريتًا. لقد رأيتهم انا بعينى هذه مرات عديدة في البيت وحوله. ولكنهم لا يؤذونك إلا إذا كلمتهم أو تعرضت لهم».
وللعفاريت معها حادثة لا تكف عن ذكرها كلما عرضت مناسبة. وتلك أنها فيها مضى من الزمن وفي مفتتح حياتها مع زوجها، قامت بالليل إلى حاجتها واستصحبت معها خادمتها فاطمة الزنجية التي عرفتها في الفصل السابق، فلم تكد تبلغ الحمام حتى سمعت وقع حوافر المعيز صاعدة ونازلة على السلم، وعابثة في المطبخ، فصرخت وعادت تعدو إلى غرفتها ولكن زوجها أبى أن يصدق أو يلتفت إلى سبب فزعها «فلما أصبحنا وجدنا كل الأطباق التي كانت في المطبخ مكسرة، ووجدنا ثلاثة من الغنم ميتة. فهل كسرت الأطباق نفسها؟ ومع ذلك يأبى ابن عمي (أى زوجها) أن يصدق»!
وتضرب بطن يسراها على ظهر يمناها فوق كرشها الكروية ومن أجل هذا تعنى قبل الذهاب إلى مخدعها بأن تمر بغرفة بنيها، ومن تكون في ضيافتها من أخواتها، وأن تمسح رؤوسهم وتتلو آية الكرسي ثم تستودعهم الله وتمضي.
وهي من الطراز المحافظ الذي يستنكر كل جديد ويعده بدعة يجب أن يستغفر الله منها ويعاذ به من شرها. ولزوجها بيت في رمل الإسكندرية مدَ إليه أسلاك الكهرباء فاعترضت وقاومت ما استطاعت، فلما أعياها الأمر وأصر زوجها على الكهرباء أبت كل الإباء أن تدخلها غرفة نومها! فرأى زوجها أن يرضيها بهذه التضحية الصغيرة. ولا يزال البيت تضيئه الكهرباء إلا هذه الغرفة التي بقيت كأنها قطعة ممتلكة من الزمن الغابر. وجهز زوجها الحمام بالأدوات الحديثة فأغضبها منه هذا، وأصرت على الاستحمام في «الطشت» وإهمال الحوض!
أما التليفون فله في بيتها بالرمل عشر سنوات ومع ذلك لا تعرف كيف تستعمله، وتقول شوشو عنها إنها تطلب الرقم هكذا «٩ الرمل ١٥» بدلًا من الرمل ١٥٩ مثلًا!
ومقياس الصحة عندها مقدار ما يصيبه المرء من طعام، فأصح الناس من يلتهمه التهامًا ويأتى على ما أمامه كأنه لن يصيب رزقه غدًا. بل قيمة المرء رهن بذلك، فأحق الناس بالإكبار الأكول البطين أما من يأكل بقدر أو لا يأكل حتى يجوع فهو طفل لم يكبر ولم يشب عن الطوق ولو جلله الشيب وقوست قناته السنون أو الحادثات. وأثمن ما تهديه من النصائح إلى المريض أو الضعيف أو الحزين أن «كل ثم كل ثم كل»! هذا عندنا الدواء من الحمى والمغص والصداع الخ. ولا تصدق الأطباء فإنهم يميتون الناس قبل أن تفرغ آجالهم! وما بعجيب بعد ذلك أن صغر في عينها صاحبنا إبراهيم وإن كان قد ناهز الثامنة والعشرين وماتت له زوجة وبنون لم يعش منهم إلا واحد.
وجعلت تسأله على الطعام عن صحته، وعن العملية الجراحية التي أجريت له وكيف احتمل الكلوروفورم — أو البنج كما تعرفه — وعن المستشفى الذي أقام به حتى شفي وتقول: يا ابن خالتي! كيف رضيت بالبنج؟
فيقول: «وهل كان من الممكن أن أحتمل العملية بغير ذلك»؟
فتهز رأسها غير مصدقة، وتسأل: «وهل كانت العملية ضرورية؟ لقد لبثت لا أنام منذ علمت بخبرها، حتى طمأنني ابن عمي وأنبأني أنك خرجت من المستشفى، ومع ذلك لم أطمئن تماما إلا بعد أن علمت أنك آت إلينا. وكيف صحتك الآن»؟
– كما ترين، حسنة.
– لقد كان دخولك المستشفى حماقة! فكر.. إن المستشفى كالمجزرة، ولا بد أنه مملوء بالعفاريت.
– لا، لا، لا عفاريت ولا ….
– كيف يمكن؟ الدم … والذين يموتون فيه. إن بيتنا هذا جديد، ومع ذلك فيه عفاريت. ولو كان زوجي هنا لقص عليك كيف تطلع وتنزل كالمعيز على السلم الخشبي.
– ابن ابن خالتي ينام وحده في ذلك الجناح، ولا يحسن أن يعرف هذه الحكاية التي سمعناها مائة مرة.
فقال إبراهيم: «دعيها يا شوشو تقصها، فإن سِيَرَ العفاريت لا تفزعني، ولكم تمنيت أن يظهر لي عفريت! ولكم سرت عمدًا بين المقابر في الظلام الحالك، آملًا أن أرى واحدًا».
فصاحت به نجية: «ماذا تقول؟ أمجنون أنت»؟
فلم يغضب إبراهيم لأنه كان أعرف بها من أن يثيره كلامها ولم يزد على أن قال لها: وما الضرر؟
– الضرر؟ أحذر أن تصنع هذا هنا! لقد كان أحمد خادمنا عائدًا على حماره من المحطة في بعض الليالي، فلما دنا من البيت وقف الحمار بغتة، ونشر أذنيه وأدار رأسه، ونظر أحمد فإذا الطريق قد سدّه مارد، ولكن الله ألهمه أن يتلو آيات من كتاب الله، وأن يستحث الحمار فنجا ولم يكد. فحاذر أن تخرج في الليل وحدك! إنك لست في مصر، ولا آمن عليك إن خرجت، وسأمر على الخدم أن يخبروني كلما هممت بذلك! يجب أن تعود سليمًا إلى بيتك.
•••
وكانوا قد فرغوا من الطعام، فمضت به شوشو إلى غرفة أخرى، وجلست إلى جانبه تستخبره عن المستشفى، وكيف كان يقضي لياليه فيها، ومن كان يؤنسه في وحدته، وكان يوجز ما استطاع في أجوبته، وتأبى هي إلا الإطناب وتلح فيه: قل لي. قل بالله (وأحاطت عنقه بذراعها اليمنى) أكنت تقضي الليل كله وحدك؟
– نعم.
– ألا يجالسك أحد؟
– الزوار.
– وإذا لم يزرك أحد؟
– أنا أحب الوحدة.
– ولكن هبني مكانك. فأنا لا أحب الوحدة ولا أطيقها.
– هناك الممرضات.
– آه. أهن شابات أم عجائز؟
– لا أعرف إلا المستشفى الذي كنت فيه.
– حدثني عنه إذًا! لماذا لا تتكلم! إن هذه ليست عادتك! أهناك شيء لا يصح أن أعرفه؟
– كلا.
– إذًا لماذا تأبى الكلام عن المستشفي؟
– لأنها ذكرى.. تؤلمنى.
– هذا صحيح! ولكنك جدير بأن تحمد الله على شفائك مع ذلك.
فصمت قليلًا وقال وهو مطرق: «لا أدري»!
فاعتدلت ونظرت إليه بعينيها العميقتين، ووضعت يمناها على جبينه، ورفعت رأسه وسألته: «كيف لا تدري؟ لست أفهم»!
فقال وجفنه مرخى، ونظرته إلى الأرض، وإصبعه ينفض السيجارة.
– شوشو! اسمعي! إنك لا تزالين صغيرة.
– كلا! لست صغيرة! أنا أطول منك. أما ترى.
ونهضت ورفعت أطراف كفيها إلى كتفيها، وعيناها إلى صدرها ثم هوت يديها إلى ركبتيها ووضعتهما عليهما، وانحنت إليه، وحدقت في وجهه باسمة، وهمت بالكلام، ولكن هيئته صدتها، فأسرعت إلى مكانها بجانبه وجذبته من كتفه وقالت: مالك؟ قل لي!
فقال وهو منحنِ إلى الأرض: لا شيء! اطمئني! كل شيء..
– كل ماذا؟
فنهض ومضى إلى النافذة ويداه في جيبي معطفه، وجعل ينظر من خلال الزجاج دون أن يرى شيئا، ولحقت به ووقفت إلى يساره هنيهة، فلما لم يلتفت إليها طوقته بذراعيها وقالت وهي تجذبه جذبة بعد كل كلمة: إبراهيم! ابن خالتي! مالك؟ تكلم! لست أفهم!
– ربما كان خيرًا لك ألا تفهميني.
فأدارت إليه وجهها وقالت: ولكني لا أستطيع أن أراك هكذا! ألست بنت خالتك؟ أم أنت تستصغرنى؟
– كلا يا شوشو.
– قل لي إذًا ولا تدعني أتألم من أجلك هكذا بسبب جهلي ما يؤلمك.
– ماذا أقول؟ لقد دخلت المستشفى لأتداوى من مرض فشفيت. ولكني خرجت بمرض جديد شرً ما فيه أنه لاطبيب له، إلا..
– إلا من؟ قل أسرع!
– لا أقوى على أكثر من هذا يا شوشو. بل أقول إني ما أتيت إلى هنا إلا لأتداوى ولكن بلا جدوى على ما يظهر.
فجرى ببال شوشو خاطر لَمحت إليه ومنعها الحياء والأدب والمحافظة على كرامة ابن خالتها أن تفصح عنه وجعلت تتمتم: آ.. سامحني ولكن أأنت في حاجة إلى … ما ….
فالتفت إليها بسرعة وقد أدرك غرضها ولم يدعها تتم الكلمة وصاح وقد فاضت نفسه بالإحساس المكتوم.
– يا بلهاء.
وانطلق هاربًا من الغرفة. وخلّفَها واقفة مبهوتة واجمة تحملق في أثره وفمها مفتوح من الدهشة؛ حتى كأنما أحالها بصيحته هذه تمثالًا للبلاهة.
الفصل الرابع
«إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
١
قبل أن نتقدم بخطوة أخرى في هذا التاريخ — أو في هذه الفترة من حياة صاحبنا إبراهيم — نكرّ راجعين بالقارئ بضعة أسابيع لنجلو ما عساه يكون مشكَلّا مما أسلفنا قصةً في الفصل السابق. وهي أوبة تردنا إلى أيام عشرة قضاها في مستشفي لا حاجة بنا إلى اسمه إذ كنا لن نعود إليه مرة ثانية، وكانت طلبتنا عنده قد زايلته. وكان كبير الأطباء صديقًا لإبراهيم فأوصى به الخدم والممرضات، وأطلق له الحرية في استقبال الزوار، وأمرهم أن يتوخوا في ذلك مرضاته. وكان هذا شرط إبراهيم لما ألحّ عليه الطبيب أن يجري له العملية، فقبله واكتفى بأن ينبه إلى وجوب الإقلال من تقبل الزيارات في الأيام الأولى على الأقل.
وفى صباح اليوم المضروب للعملية ذهب إبراهيم وحده إلى المستشفى دون أن يخبر أمه أو ابنه. وهما كل أهل بيته إذا أسقطنا الخدم — كأنه ماضِ إلى عمله. وتقدم إلى غرفة الجراحة بجأش رابط ونفس — لا نقول مطمئنة — ولكنا نقول غير مكترثة لما عساه أن يكون. ومع أن الطبيب احتاج أن ينشّقه مقدارًا كبيرًا من الكلوروفورم، فإنه لم يكد يغسل يديه حتى كان إبراهيم قد فتح عينيه وأفاق إلى حد كببر، فحملوه وهو متنبه ووضعوه في سريره وتركوا إلى جانبه ممرضة تعنى به، فلبث نحو ساعة لا يتحرك ولا يتكلم ولا يصنع أكثر من أن يدير عينيه في السقف والجدران أو يرفع يديه من حين إلى حين ويمسح جبينه لغرض واحد هو أن يثبت لممرضته أنه مفيق. وهي تحدجه بنظرها ولا تكاد تحوّل نظرها عنه كأنما تعجب لجلده. ثم لفت وجهه فجأة وقال: «ما اسمك؟» ولم يكن ذلك منه التفات سائل عادي بل كان أشبه بحركة متوجع.
ويظهر أن هذا آخر ما كانت تنتظر أن يسألها عنه، فلم تجد الجواب حاضرا وتلعثمت وهي تخبره أن اسمها «ماري» وحول وجهه عنها قبل أن تنطق وعاد إلى صمته، وكأنما توهمت أنه لم يسمع وخشيت أن يسوءه حسبانه أنها لم تجب أو كأنما ملت طول الصمت الذي ألزمها إياه — والصمت أشق على النساء منه على الرجال — فمالت إليه وحنت عليه وكفاها على السرير لتعتمد عليه وقالت: أقول إن اسمي ماري.
فتصلبت عضلات وجهه وانزوى ما بين عينيه وتضاغطت شفتاه هنيهة قبل أن يقول لها: «نعم سمعت … أرجو ألا تضعي يدك على الفراش فيتحرك … مؤقتا على الأقل …».
فرفعت يديها بسرعة عن السرير وقد أدركت أن صمته تجلد؛ وأنه يكابد من الألم ما يود أن يكتمه لسبب ما، ونهضت وقد حدثتها نفسها أن خير ما تحسن به إليه هو أن تدعه وحده. وفطن هو أيضًا إلى ما خطر لها وأوما إليها بعينيه فعادت إلى كرسيها فقال: هل تعلمين أن أهلي يجهلون أني هنا؟
– كلا!
وبدا عليها شىء من الدهشة فلم تدر ماذا تقول أكثر من «كلا» ومضى هو في كلامه فقال: أرجو أن تغتفري لي ما أنا قائل. إن وجودك معي الآن على الأقل لا يكاد يجديني. وأنت في الخارج أنفع لى منك هنا. كم الساعة الآَن؟.
– التاسعة والربع.
– لا يزال إذًا في الوقت فسحة. إن أخى على موعد معي هنا. وهو لا يعرف شيئا مما حدث ولا يتوقعه. وكل ما أطلعته عليه هو أني سأعرض نفسي على الدكتور … وأني أحب أن يكون معي. وسيحضر بعد قليل. والآن افتحي الدولاب وناوليني الورقة التي في الجيب الأيمن من سترتي … أشكرك.. متى جاء أخى فأطلعيه على الحقيقة وهوّني عليه الأمر ما استطعت، وإذا طلب أن يراني فقولي له إني نائم — فإني أخشى أن يكثر من الاسئلة الفارغة البلهاء. وأكّدي له أني كتبت هذه الورقة بعد أن أفقت من العملية وزال عني ألمها وذلك ليطمئن قلبه — إنها كذبة ولكن يكون في بعض الأوقات ضروريًا، واطلبي منه أن يعمل بما في الورقة حرفيًا … أحسبني أتكلم أكثر مما يلزم فهل أستطيع أن أعتمد على ذكائك وحسن تصرفك؟
فطمأنته وأكدت له أنها ستؤدي الرسالة كما يجب أن تؤدَّى وسألته قبل أن تنصرف أله حاجة أخرى؟
– نعم، أن تعودي قبل خروجه وتخبريني بما فعلت. ويمكنك أن تقولي له إنك آتية لترىء أنائم أنا أم مستيقظ. وهذا من قبيل الاحتياط حتى أستطيع أن أصلح ما عساه يقع من الخطأ وحتى أتوقى ما لا أود حدوثه.
٢
وجرى كل شيء على ما رسم: زيارات قليلة قصيرة يؤديها له أهله وخاصة خلصاءه، ووحدة طويلة تتخللها فترات جعلت تطول شيئًا فشيئًا تؤنسه فيها مارى بمحضرها وحديثها. فنشأت بينهما ألفة وعلم منها أنها سورية الأصل وأنها تعلمت في إحدى مدارس الراهبات في سوريا ثم تزوجت شابًا إيطاليا جاء بها إلى الإسكندرية ولبثت معه ثلاث سنين قضى نحبه بعدها وخلّف لها طفلًا. فزاولت الحياكة أولًا ثم التمريض وها هى ذي إلى جانبه.
ومن العسير أن يصف المرء «ماري» هذه وصفًا دقيقًا. ولعل من المستحيل أن يستطيع المرء وصف إنسان ما على وجه الدقة. ولكن من الممكن أن نقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ — إن «ماري» كانت تبدو في بعض الأحيان جميلة، وفي بعض الآخر غير جميلة، تبعًا لحالتها الصحية والنفسية. وندع هذا مع ذلك ونقول عن مظهرها الجثماني إنها ذات وجه ناطق دقيق المعارف، وإن لونها أقرب إلى الشحوب، وإنها ضامرة الجسم، وإن من يراها يخيَّل إليه أنها ظمأى كالعود من الزهر انقطع عنه الماء، وإنها لو سقيت من هذا الشراب الذي تقرأ في عينيها ولونها التياعها إليه؛ لربت واهتزت. والمرء يستشف في وجهها النزوع إلى انتظار رأيك قبل أن تفضي إليك برأيها — وإلى انتظار عملك أيضًا على الأرجح قبل أن تقدم هي على عمل. ومما أكد هذه النزعة فيها، مزاولتها مهنة التمريض. والمستشفى — كما يسهل أن يدركَ القارئ — أشبه ببقعة معزولة عن العالم، أو منتزعة من أحشائه، يكون فيه التفكير أكثر من العمل، والقلق والملل أكثر من التفكير، ولا يجري التفكير فيه، حين يجرى، إلا في دائرة ضيقة، وقلّما يؤدى إلى نتائج خيالية. ولكنه على ذلك مسرح تمثل عليه روايات تداني في جلالها واتساقها ووحدتها أحيانًا، خارجيات سفوكليبس وشكسبير، ويساعد على إكسابها هذه المزايا، تركز العواطف وشدة توقف بعض الحيوات على بعض.
وقد خلق إبراهيم عطوفأ أليفًا، سريع الإحساس بالجمال، ليس أقوى من نفسه من عواطف الأدب والحب، وخلقت ماري سمحة النفس رضية الطباع، حساسة كالوتر المشدود، وشاءت المقادير أن يتشابها فيما وقع لهما، فهو فقد زوجته وهي فقدت بعلها. وكل من الفقيدين خلّف وراءه طفلًا، وفي كلتا النفسين ذلك الحنين المخنوق الذي خلفه موت الفقيد، ولم تَجُدِ الحياة بما يطفئه أو يسكن لاعجه. وكان إبراهيم على حيائه، لا يكاد يألف إنسانًا حتى يفتح له قلبه، ويرسل معه نفسه على سجيّتها، وقل أن يتبسّط لأول وهلة ولكنه كان صاحب فكاهة وعبث، وما عرفته امرأة إلا أعجبها منه ما فيه من الدعابة، والفكاهةُ من أقصر الطرق إلى قلوب النساء، فلم تمض إلا خمسة أيام حتى كان إبراهيم قد علق ماري، وماري قد شغفت بإبراهيم، وحتى صارت غرفة المستشفى فردوس عاشقين — إذا صدقت الظواهر — وما أكثر ما تلاقت شفاههما في قبلات فرحة في ذلك الفردوس المنزوى، الذي يحسبه الناس مستشفي فحسب!
واستمرت العلاقة بينهما بعد أن بارح المستشفى إلى بيته، وكثرت المحادثات بينهم بالتليفون والمقابلات. غير أن الإرادة التي وهنت مع المرض، عادت مع الصحة، ففطن إبراهيم إلى ما في علاقتهما من الجرح، وأدرك أن الأمر يوشك أن ينقلب مشكلًا. ورأى أنه لا يستطيع أن يرضاها زوجة، وأنها تطمح ما هو أسمى من مرتبة الخليلة، وهَبْها لم تطمع فإن ذلك لا يحل مشكل حياته، ولا ينيله مأربه ولا يبلغه ما يتمنى من السكون إلى الحب المنزلي الذي لا يعدل به شيئًا. فخطر له أن ينأى عن القاهرة زمنًا عسى أن تطيب نفسه عنه، وأن تروض هي نفسَها على بعده. ولما لم يهده التفكير إلى خير من ذلك، صمم عليه وشرع في إمضاء هذا العزم على توه.
والتقيا ليلة سفره وتنزها قليلًا ولما آن أن يفترقا سألته: متى نلتقي غدًا؟
– ليس غدًا.
فقالت وهى تبتسم ولا تدري ما عقد النية عليه: «ماذا يشغلك عني يا برامينو»؟ وكان برامينو، اسمه عندها تناديه به حين تداعبه. فأجابها وهو يتكلف الابتسام: يشغلني أني مسافر.
– مسافر؟ كيف هذا؟ وإلى أين؟
– أوه! لا على مكان معين. سأنتقل من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى أخرى ثم أعود فيما أرجو.
– وما داعي ذلك؟ متى عزمت عليه؟
– لا داعي له إلا أن دكتورك أمرني به وألح على فيه.
فزاد لونها شحوبًا وأظلم وجهها وأطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها وحدقت في عينيه وقالت: إنها إرادتك أنت لا مشورة الدكتور! لا تمار! إني أعرفك!
فلم يزد على أنه ابتسم ابتسامة من يستنكف أن يكابر ولا يكترث لما تظن به، فسال ما تجمد في نظرها ولانت عضلات وجهها وبدا فيه الضعف، وأمسكت بكتفه وقالت وهي تهزّه ولا تعبأ بمن عسى أن يراهما من الناس: لا، لا! لا تذهب! قل إنك باق!
فرفع كفيها عنه في رفق وقال بلهجة من يريد أن يطمئنها وإن لم يكن في كلامه ما يعين على ذلك: ولكن هذا مستحيل يا ماري! لقد أبرقت إلى بعض أقاربي أنبئهم باعتزامي السفر غدًا وأطلب أن يرسلوا من ينتظرني.
– أبرق إليهم مرة أخرى بعكس ذلك.
فهز كتفيه وقال: وما الفائدة؟ سأسافر بعد غد إن لم أسافر غدًا! فالرحلة لابد منها على كل حال.
وهمّ أن يدعوها إلى التمشى قليلًا ليسرّى عنها، غير أنه عاد فرأى أنه من الأحزم والأجدى أن ينتهي الوداع حيث هما. فاكتفى بأن يهوِّن الأمر عليها — وعلى نفسه أيضًا — ببضع كلمات، ثم ربت لها ذقنها بأطراف أصابعه وسلم، فقالت بعد أن تلفتت يمينًا ويسارًا كأنما كانت تحدث نفسها باختلاس ضمة: «يا له من حلم قصير»! وكان قد خلَّى يدها وناْى خطوة فقال: لالا! لا تقولي هذا يا ماري! لو كنت ممن يتشاءمون لما حسن وقع ذلك في نفسي قبيل سفري!
فنبهها ذلك فدنت منه وأقبلت عليه تؤكد لها أنهما سيلتقيان. أما هو فسلم مرة أخرى وشور لها بيده وهو يبتسم ولم يجب!
الفصل الخامس
«قلت أكون حكيمًا أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف …
بعد أن انطلق إبراهيم من الغرفة التي كان فيها مع شوشو وخرج منها مارقًا كالسهم، انحدر مسرعًا إلى غرفة نومه واستلقى برهة على «كنبة» فيها وأغمض عينيه كالذي يريد أن ينام، وما به من نوم، فكَرَّ أمام مخيلته كل ما وقع له مع «ماري» مما قصصناه وما لم نقصصه في الفصل السابق، فعاوده الحنين إليها والأسف على فراقها والألم لما خلفه لها، ولم يكن إبراهيم ممن يحبون أن يخدعوا نفوسهم وينحلوها من المزايا ما عطلت منه، وكان يؤثر أن يغمط نفسه وأن يعدها مجردة من كل ما يجعله حبيبًا إلى النساء مرموقًا منهن، ولعل السبب ذلك أنه أحس بالجمال، وأحسن تقديرًا له، وأشد شعورًا بمواطن الضعف في نفسه، وأفطن من أن يتأتي له أن يغضى عن هذه العيوب وألا يكترث لها، أو أن ينحيها عن عينيه ولا يدعها تبرز وتحجب مزاياه. ولذلك لم يلبث أن راح يتصور «ماري» متلهية عنه بكل ما يعدها صباها وجمالها له. ومن هو إبراهيم حتى تشغل نفسها به وتشيح بوجهها عن الدنيا من أجله؟ إن صباها الذي ألقت بها حرارته بين ذراعيه خليق أن يلقيَ بها بين ذراعي سواه، ولن تعدم رجلًا يكون أفتن منه وأوفى أيضًا! وأي حق له عليها بعد أن آثر أن يطرحها ويفر منها على هذه الصورة ولا يترك لها حتى عنوانه؟ وهكذا ظل يحمل على نفسه حتى آلمها فنهض وقد ضاق صدره وفتح النافذة لتخلص أنفاسه قليلًا، وكانت نافذته تطل على فناء خلفي رحيب، بعضه — وأكثره — بستان زهر وشجر باسق، وبعضه بيوت للدجاج والإوز والحمام والأرانب وغيرها، وحوله سور أسفله مبنيِّ بالآجر وأعلاه مصنوع من قوائم من الحديد مغطاة من الداخل بالحصير، ليحجب من يكون في الداخل من عيون المارة. وفي الجنوب باب للخدم وقد يدخل منه الزوار من النساء أحيانًا إذا شئن، وكذلك من الرجال الذين يمتون إلى أهل هذا البيت بصلة من قرابة أو مصاهرة. ورأى إبراهيم الخدم يدخلون ويخرجون، وحديد الباب يلمع في ضوء الشمس فأدرك أن دهانه جديد، وراقه أن يراقب الداخلين والخارجين وما يصنعون إذ يفتحون الباب أو يغلقونه، ومبلغ التفاتهم إلى الدهان، وعنايتهم باتقاء تلويثه لأيديهم أو ثيابهم. فلم يجد الرجال — وكانوا قليلين على كل حال — يتفاوتون تفاوتًا يذكر، وكان كل منهم يدفع الباب برجله فيفتحه ويدخل ثم يعود فيدفعه من الداخل أيضًا؛ أما النساء فكن أكثر اختلافًا: جاءت أولاهن — أو أولى من أبصر منهن — في ثوبها الأسود الذي يكنس الأرض وراءها وذراعاها مثنيتان إلى صدرها وعموديتان عليه، وكفاها مفتوحتان كأنما تريد لتتقي بهما شيئًا، فلما بلغت الباب دفعته براحتيها ودخلت، وكأنما أحست أن شيئًا قد لصق بهما فنظرت إليهما وصاحبت «يوه» ووقفت مكانها حائرة، ثم كأنها لم تدر ماذا تصنع فجعلت تتلفت يمنة ويسرة ومضت إلى أقرب رجل أخذته عينها لتستشيره على الأرجح ولم تصوب نظرها مرة واحدة إلى ثوبها لترى ماذا أصابه! وبعد قليل جاءت أخرى على رأسها سلة مغطاة فلما بلغت الباب منحته جنبها ودفعته بكتفها، ودخلت مطمئنة غافلة عن الخطوط وأنصاف الدوائر التي ارتسمت على ذراعها مما يلي الكتف! فرفهت هذه المناظر وأمثالها عن نفس إبراهيم، وانبسطت أسارير وجهه ولمعت في عينيه ابتسامة خفيفة، وإنه لمشرف على هذه الصور وإذا بصوت من ورائه يقول: «خالي! شوشو تسأل عنك»! وكان المتكلم محمد ابن نجية. وهو وأخته يدعوانه خالهما اختصارًا. فالتفت إليه كالمفيق من حلم أو كأنما كان قد توهم وهو مطل من النافذة أنه مشرف من السحاب، فلما سمع الصوت الذي يناديه أحس كأنما هبط إلى الأرض. ولكنه إحساس لم يطل فتناول الصبي ورفعه إليه وطبع على فمه قبلة أبوية وسأله: «أين هي»؟ فقال الغلام: «في غرفة الاستقبال» ويظهر أن إبراهيم استغرب هذا فصمت قليلًا كأنه يفكر ثم قال: «حسن قل لها إني هنا لا أصنع شيئًا. فلتأت إذا شاءت».
فخرج الغلام يعدو، ومشى إبراهيم إلى السرير ووقف معتمدًا بظهره عليه. وكان دقيق الملاحظة كثير التفكير في كل ما يرى أو يسمع، ومن عادته إذا خلا بنفسه ولم يرغب في المطالعة أن يدع خياله يرسم له مناظر ومواقف وينشئ محاورات وأحاديث. فجعل يفكر في قول الصبي إن شوشو في غرفة الاستقبال: في غرفة الاستقبال؟ لقد تركها هناك! فهل تراهها لم تبارحها. وكم دقيقة أو ساعة مضت عليها منذ غادرها، وامتدت يده إلى جيبه مدفوعة بحركة لَدْنيَّة وأخرجت الساعة، وتأملها ولكنه لم يقرأ فيها شيئًا بل ابتسم إذ تذكر أنه لم ينظر إلى الساعة حين غادر شوشو فلا يستطيع أن يعرف كم لبثت في هذه الغرفة. ولكن لماذا تبقى في الغرفة وحدها ولا تزايلها؟ ما أغرب أمر هذه الفتاة! أتراها ساءها ما بدر منه؟ ربما! بل لا شك في ذلك فإنها فتاة متعلمة مهذبة ولا بد أن يكون قوله لها «يا بلهاء» قد حزّ في نفسها، وانطلق يلوم نفسه ويعنفها ويستهجن شكاسة طبعه.
ودخلت شوشو تنساب كالماء فتقدم إليها باسطًا كلتا يديه وقال: اعتذر إليك يا شوشو! سامحيني! لقد أسأت إليك وكان ذلك سوء أدب مني بلا ريب. فهلا تغفرين؟
فتناولت كفيه في كفيها وجذبتهما إليها وفي عينيها نور البِشْرِ وحول وجهها كالهالة، وقالت وأمالت رأسها إلى كتفها اليسرى: «تعتذر إلي؟ ممّ بالله؟ هيه؟ تعال هنا»، ومضت به إلى الكنبة: «قل لي ماذا كنت تصنع وحدك هنا! أتراك جئت لتقضي الوقت كله في هذه الغرفة؟ اسمع! سأغلقها بيدي بعد أن تستيقظ من النوم وأحفظ مفتاحها معي ولا أسمح لك بدخولها إلا وقت النوم، أفهمت»؟
فأعداه بشرها وقال وقد شاع في كيانه السرور: «فهمت وسمعت وأطعت! والآن ماذا كنت تصنعين أنت في غرفة الاستقبال وحدك»؟
فدفعت رأسها إلى الوراء قليلًا وهزتهُ كما يفعل العصفور بعد أن يشرب وقالت: «أنا؟ أوه! لا شيء! وماذا عساني أفعل وأختي تأبى إلا أن تعدني ضيفة ولو أقمت معها العمر كله»!
وفي هذه اللحظة سمعا صوت عجلات ووقع حوافر خيل، فأصغى إبراهيم؛ أما شوشو فنهضت إلى النافذة وأطلت منها ثم التفتت إلى إبراهيم وهي تقول: «الدكتور»!
فوقف إبراهيم وقد غاض البِشْرُ من وجهه وسألها بلهفة وهو لا يفهم: «دكتور؟ هل مرض أحد»؟
فبادرت إليه وقالت: «لا، لا! إنه الدكتور محمود.. قريب ابن عمي (زوج أختها) ألا تعرفه؟ له عيادة في البندر ويزورنا من حين إلى حين، وكلماء جاء قريتنا يعود مريضًا، والآن سأذهب لأستقبله وأجيء به».
– ليس إلى هنا وأنا في هذه الثياب أيضًا؟
فضحكت وقالت: «لا تخف! بل في الغرفة التي أمام غرفتك.. هذه (وأشارت إليها) أما ثيابك فما لها؟ إنك في قرية ولا حاجة بك وإلى تغييرها».
ومضت تعدو ….
الفصل السادس
«ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»
لم يسع إبراهيم إلا أن يطل من النافذة. ولم يكن يعرف هذا الدكتور ولا سمع به، أو على الأصح لا يذكر أنه سمع به، فقد كانت ذاكرته أشبه بالغربال الواسع الخروق، وكانت الأسماء أول ما ينسى إذا طال غياب أصحابها عنه، وكثيرًا ما كان ذلك يخجله، وكان ربما التقى باثنين من معارفه لا يعرف أحدهما الآخر فيمنعه نسيان اسم أحدهما، أو اسميهما معًا، أن يقوم بواجب التعريف، وكان إذا تحرج الموقف ولم يجد بدًا من أداء هذا الواجب، يلجأ إلى المداعبة ويقول لهما: «إذا شئتما أن تتعارفا فلا اعتراض لي ولكن لا تنتظرا مني معونة»! فيتقدم كل منهما للآخر باسمه في حياء واضطراب ويخرج هو بذكر ما كان ناسيًا!
ولم يفارقه الوجوم منذ سمع كلمة «الدكتور» تندّ عن شفتي شوشو، إما لما تركه توهمه حين نطقت باسمه أن أحدًا قد مرض فجأة، وإن كانت شوشو قد بادرت إلى نفى ذلك وطمأنته، وإما لأنه لم يرتح على العموم لما ظهر له من أن شوشو تقابل هذا الدكتور وإن كان قريب عمها، وكان هو — إبراهيم — ليس من دعاة الحجاب، أو لأنه لم يجد في الساعات القليلة التي أقامها في الريف ما كان يتوقع من الإيناس والشواغل، أو لعله كان لكل ذلك تأثيره. ومهما يكن من تعليل سهومه فإن الذي حدث أنه لم يكد يخرج وجهه من النافذة حتى تراجع وأغلق مصراعيها الزجاجيين كأنما هذا ما قصد إليه، تم عاد إلى الكنبة ووضع رجلًا فوق رجل وأشعل سيجارة.
وفي أثناء ذلك كان الدكتور قد ترجّل وترك المركبة في حراسة أحد الخدم ودخل البيت فاستقبلته شوشو في وسط السلم وصعدت به إلى الغرفة المواجهة لغرفة إبراهيم.
وبعد هنيهة دخلت على إبراهيم فاطمة الزنجية التي كره وجهها وكلامها في الصباح، وقالت وهي مطرقة بها شيء من الوجل: تفضل يا سيدى ….
فنحّى السيجارة عن فمه وأرسل نفخة من دخانها، وأمال رأسه إلى ناحية السيجارة — وكانت في يمناه — وقال لها بلهجة مبطنة بالمرارة: إلى أين يا ستي إن شاء الله؟
فأحست المسكينة أن حادثة الصباح ستتكرر، فقالت وهي مضطربة: عند ستي شوشو والدكتور.
– ما أسرع ما نسيتني ستك شوشو بدكتورها: أنا أيضًا ضيف كالدكتور ولم أسبقه إلا بساعات.
قال هذا بصوت خفيض وعينه إلى الأرض كأنما كان يحدث نفسه. ثم رفع رأسه إلى الخادمة التي كانت تخالسه النظر وقال: ألم تجد ستك شوشو من ترسله غيرك؟ لماذا لم تحضر بنفسها؟
– أنا … أنا … ياسيدي ….
– أنت تخرجين من هنا … (بصوت عال).
فخرجت المسكينة تتعثر وبودها لو استطاعت أن تحلف ألا تريه وجهها.
أما هو فكان يود أن ينهض ويتمشى في الغرفة، ولكنِ الباب مفتوح وفي وسع من يكون في الغرفة المقابلة أن يراه، فظل قاعدًا وجعل يتميم: «قبّح الله الريف وساكنيه! لو أنها كانت فتاة من أجلاف الريف لعذرتها. ولكنها تعلمت في المدارس الفرنسية أيضًا، وليست بالصغيرة على كل حال حتى يُغتفر لها ذلك.
الواقع أن مجيئي إلى هنا كان خطأ … يجب أن أعود أدراجي أو أرحل إلى الإسكندرية فهى من هنا قريبة … إن أعصابي ضعيفة ولا قِبل لي باحتمال هذه الفصول الباردة … وأنا لم أحتك بأهل الريف الحقيقَيين بل لم أر منهم غير رفيقى من المحطة إلى هنا … ذاك الميت الحي الذي لم يكفه إسماعيل واحد ولم يرض بأقل من ثلاثة! وهو مع ذلك وكيل مضيفي! كيف يمكن أن أطيق كل هذا الجهل والجلافة»؟
وكرّ به الفكر إلى ماري … ماري السمحة المؤدبة الوديعة، التي كانت تقرأ في وجهه كل ما يدور في ذهنه، وتسبقه إلى ما يطلب قبل أن يتحرك لسانه، ماري التي فر منها بلا سبب، وحرم نفسه متعة حديثها، وأنس محضرها ولذاذة حبها، ماري التي كان إذا خلا بها يجلس على ركبتيها كالطفل ويسند رأسه إلى صدرها، ويمسح لها وجهها براحته، وهي تحنو عليه وتقبله، وهو مغمض العينين! فنهض فجأة وقال وهو يشير بإصبعه: «كلا! لا بد أن أكتب إليها لتلحق بي في الإسكندرية …».
– من هي؟
فالتفت فإذا شوشو واقفة في مدخل الباب، وذراعاها ممدودتان وكفاها على المصراعين، وقدّها الممشوق بادية معالمه كلها بفضل وقفتها، وثوبها الصوفي المحبوك، فبهت إبراهيم! كما بهت الذي كفر فيما حدثنا الكتاب الكريم، ولم يدر ماذا يقول أو يفعل. ولم يكن أسهل من التخلص، ولكن خياله النشيط جسّم له الأمر فارتبك، وبدا ذلك كأجلى ما يكون في جموده في مكانه، وفي ثبات حملاقه، وذهول نظرته، وانفراج شفتيه، وتصلّب يمناه المثنية على صدره.
فزايلت شوشو ابتسامتها وتقدمت إليه وردت مصراعي الباب وراءها حتى تلامسا، ووقفت إلى جانبه تحدجه بنظرها، ثم قالت له وتكلفت الابتسام، وإن كان لونها ممتقعًا: ستحرق السيجارة أصابعك إذا لم تنتبه!
وكأنما رد صوتها رشده إليه، فحنى رأسه وصوب عينيه إلى يده وقال: «نعم أشكرك» وبدا منه مثل حركة من يهِم بالقعود، وإن لم يكن وراءه شيء، فسندته شوشو بذراعيها فأفاق تمامًا والتفت وراءه ثم رفع إليها وجهه الشاحب المتهضم وقال: «أشكرك ثانية» فقالت وهي تقسر نفسها على الابتسام ولا تدري ماذا تهدي إليه: من حسن الحظ أن الدكتور هنا، وإني أستطيع أن أكون ممرضة عند الحاجة!
فندت عن صدره «آه» قصيرة مثقلة، كأنها خارجة من صدر رجلِ طُعن وهو نائم.
– يجب أن تجلس. إنك مريض وتناولت يده تجسها.
– كلا! كلا! لست مريضًا. دعيني.
ولكنه أطاعها وجلس وهو يتأفف، ويمر يده على وجهه.
– إن الدكتور وحده ….
– اذهبى إليه، حقيقة لا يليق أن تدعيه وحده.
– لا أستطيع أن أتركك وحدك. ولكن انتظر.
وخرجت مسرعة.
وبعد دقائق عادت وأخبرته أنها صعدت بالدكتور إلى أختها ثم قالت: والآن أراك أحسن مما كنت حين تركتك. ألست كذلك؟
– نعم أحسن كثيرًا.
– إذًا قم والبس بذلتك، فقد كلفتني حيلتي كذبة. فعليك أن تبيض وجهي.
– أية كذبة؟
– لقد قلت لهما إنك مصر على عدم مقابلة الدكتور إلا في بذلتك، كذبة قلتها كسبًا للوقت لأني خفت أن تطول هذه الحالة التي رأيتك عليها. وكلفتني غير الكذبة شيئًا آخر، ولكني سأحاسبك فيما بعد. أما الاَن فالبس ثيابك وسأسبقك.
الفصل السابع
«أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» …
صعد إبراهيم إلى غرفة الاستقبال العائلية التي جلس فيها بعد الإفطار مع شوشو برهة، فألفى الأسرة مجتمعة فيها: محمد الصغير ابن نجية يبكي — أو على الأصح تبكي حنجرته دون عينيه — لسبب لا شك يدعو إلى بكاء مثله، وفي كفه مرآة صغيرة ينظر فيها ويظهر أن الغرض من ذلك أن يرى في صقالها كيف يبدو الوجه الإنساني حين يبكي حامله! وكان يكف عن النشيج كلما استوقفه المنظر العام أو لفته منه شىء خاص، ثم يستأنف الإعوال! وكانت زينب أخته — أو زوزو كما ألفوا أن يسموها على عادة هذه الأسرة — معتمدة بذراعيها على كرسي، ومنحنية عليه وناظرة إلى مقعده، ومشتغلة بتحركيه إلى الأمام وإلى الوراء، وأمها نجية تلتفت إليها من حين إلى حين وتزجرها عن هذه الحركة، خوفًا على الكرسي، بمثل هذه الأصوات: «تؤ.. تؤ.. تؤ..» ثم تعودٌ وتحول وجهها إلى الدكتور إلى جانبها ولا تنتظر نتيجة زجرها، أما شوشو فلم تكن في الغرفة ساعة دخلها إبراهيم.
ووقف الدكتور وتقدم خطوات، ومدّ يده إلى إبراهيم وتصافحا ورفع عمد عينه عن المرآة ونظر بمؤخرها إلى القادم في سكوت، ثم أكب عليها ومضى في عويله الذي يظهر أنه كان يجد فيه نوعًا من الإمتاع، ولكنه لأمر ما هبط بطبقة هذه النغمات إلى أدنى ما يستطيع. وتخلّت زوزو عن الكرسى وخفت إلى إبراهيم وتمسحت به وهو يسلم على الدكتور، كما تتمسح القطط بأصحابها. فاحتملها وجلس وأجلسها على ركبته، فأهوت على عنقه تطوقه وتقلبه في صمت تام وابتسام لم تكد تفوز بمثله من موضع عطفها وحبها حتى انقلب ضحكًا عاليًا.
ودخلت شوشو في إثر إبراهيم — كأنما كانت مختبئة تنتظره — فأثارها الدكتور بنظره وتعلقت عينه بمرونة حركتها إذ تبدو كأن أوصالها ساكنة وهي تنساب كالجدول الرقراق، وكان قوسا حاجبيها الدقيقين الحادين يختلجان، وعينها تومض فيها نظرة عجيبة جمع بين عدم الاكتراث والخبث والدلال والسذاجة، وكانت شفتاها الرقيقتان تقلدان حاجبيها وتختلجان مثلهما، وكذلك جانبا أنفها الجميل. وإذا قلنا أنفها الجميل فقد قلنا كثيرًا؛ فما أندر الأنوف الجميلة وإن كثرت العيون الفاتنة والشفاه المغرية. وإذا أضفت إلى هذا وذاك خصلًا متموجة من الشعر الأصفر، وثوبًا من الصوف داكن الحمرة منسجمًا على قوامها، أمكنك أن تكوِّن لنفسك فكرة ولو ضئيلة عن هذه الفتاة التي صارت في هذه الغرفة كالزهرة بين الخضر!
وتخلى لها الدكتور عن مقعده، ومضى إلى آخر الغرفة ليأتي بكرسي لنفسه، فابتسم إبراهيم الذي تظاهر بالتشاغل بمداعبة زوزو — إذ رآه يمشي وأحد كتفيه إلى الأمام ورأسه مائل إلى اليسار وذراعاه تضطربان في الهواء كأنما خّلَتَا من الأعصاب أو كأنهما كمّان فارغان.
وبعد تبادل التحيات وما هو منها بسبيل، قالت شوشو وهي تنظر عن عَرَضٍ إلى إبراهيم، وكان مطرقًا يهمس في أذن زوزو، وإن لم يفت عينه ولا أذنه شيء: ما قولك يا دكتور! اليوم الجمعة وهو يوم راحتك. فاقضه معنا فإن ابن خالتي يمل مجالستنا ويهرب منّا دائمًا إلى غرفته.
فلم يبد على الدكتور كأن هذا يضايقه جدًا وقال: ولكن..
– قل إنك موافق … أسرع.
قالتها بلهجة لم يسع الدكتور معها أن يظل لسانه معترضًا على ما يوافق عليه قلبه فقال: إذ كان الأستاذ (فرفع لإبراهيم وجهه ونظر إليه نظرة بلهاء جوفاء) لا يرى في وجودي ما يزيد من ميله إلى الهرب فإني على أتم استعداد ….
– معذرة يا سيدي الدكتور إذا قاطعتك. يظهر أنك لا تعرف أساليب شوشو المحرجة (ضحك مكتوم من شوشو) أؤكد لك أنها لا تعني ما تقول … أنا أعْرَفُ بها منك.
– بل أعرف كل حرف.
– نعم، تعنين أنك تطلبين إلى الدكتور أن يقضي اليوم معنا — أعني هنا — ولكن الباقي الذي يخصنى ليس سوى عبث منك بي وحدي.
– سله يا دكتور بذمته أليس في عزمه أن يطير إلى الإسكندرية حالًا لو أنه يستطيع؟
فمالت نجية إلى الأمام وحملقت في وجهه ثم في وجوههم وقالت: يسافر؟ كيف؟ وهل أقام شيئًا حتى يفكر في السفر؟
– سليه يا أختى (بخبث).
فقالت نجية بلهجة من كاد يهتدي إلى السر: «أتراك رأيت …».
ولكن شوشو قاطعتها ضاحكة: لا، لا: إنك لا تنسين عفاريتك قط! أنا أعرف السبب!
ورمت إلى إبراهيم نظرة.
فقال إبراهيم بصوت اليائس: «ربما» واضطجع في كرسيه وأطبق شفتيه إطباق من لا ينوي أن يفتحهما مرة ثانية.
وفتر الحديث لأن الدكتور لم يسعه أن يشترك في هذه المناقشة العائلية، ولمح أن إبراهيم لا يحب أن يتوسع فيها. ورأت شوشو أن إشارتها إلى ما سمعته عفوًا من إبراهيم وهو يحدث نفسه في غرفته قد أعادت إليه الاكتئاب، فندمت وصار الكلام متكلفًا متقطعًا.
وكان الأفق قد غام وانتشرت سحابة كثيفة واحدة في مجاليه، وبدأت تهمي وترسل صفحات متموجة من المطر ترق حينًا وتكثف حينًا آخر. وجعلت الأشجار المغروسة وراء البيت تتوجع كالبؤساء من الرياح التي تعصف بها وتصفر بيها، ثم طغت الرياح حتى صارت الجذوع الوطيدة تهتز وتروع الناظر إليها بهذه الحركة التي لم تعهد منها، كما يروعك الرجل القوى حين يبكي، وراحت الغصون المتدلية تتصعد وتتصوب، والفروع العالية المستقيمة تتلوى وتترنح وتبدو كأنها توشك أن تتقصف، واضطربت مهابُّ الرياح وتعددت تياراتها وتعارضت، حتى صارت الأغصان المتقاربة في الشجرة الواحدة من هذه الأشجار تميل كل مميل وتتضارب وقد تشتبك، وجعلت الأوراق — ما بين خضراء وصفراء تتطاير عن أعوادها وتتفاذف ثم تسقط فروع الزروع. وأظلمت الدنيا وصار وقع الماء على زجاج النافذة كنقر العصي، وكانت روعة هذه الثورة قد تركت القوم صامتين برهة، ثم قالت شوشو وفي وجهها أمارات الفوز وفي صوتها نبرات السرور: والاَن يا دكتور لم يبق لك مفر من البقاء!
ونظرت إلى إبراهيم تبتغي تأييده. ولم ينتظر الدكتور هذا التأييد، فأرسلها ضحكة عالية لم يفهم إبراهيم لها معنى، ولم يعرف لها داعيًا! وبدا له أن من سوء التقدير أن يضحك المرء وهو محبوس من جراء هذا الجو العاصف، فأخذ يراقب الدكتور ويحصى عليه حركاته وأنفاسه، فخيل له — ولعله غير مخطئ — أن الدكتور يتغفله ويلاحظ شوشو باسمًا حتى وهو يكلم غيرها، ولم يزل حتى أقنع نفسه بذلك، ثم صارت المسألة التي تتطلب الجواب: هل وجه شوشو يزداد احمرارًا أو يشحب أو يثبت ولا يتغير على كثرة هذا اللحظان وتكرره؟ وهل هي ترامقه أيضًا، أم هذه الاختلاجات التي يراها في جفونها عفوا لا عمد فيه؟ وعلى كثرة ما فكر في ذلك وطول ما شغل به نفسه لم يستطع أن يطمئن إلى جواب يسكن به إليه.
ولما أعياه جواب هذه الأسئلة وأمثالها نفض يده من معالجتها كالسأمان واعتاض منها سؤالًا آخر عنَّى به نفسه برهة أخرى في خلال هذه الجلسة التي طالت بفعل الجو الفاسد: ما له يتعب نفسه بالتفكير في ذلك؟ ليترامقا ما شاءا! وهل يعنيه من أمرهما شيء؟ وكان الجواب الذي لم يسترح إليه أنه حب الاستطلاع المركوز في طبيعته، وأنه مفطور على دقة الملاحظة، وليس يسعه إلا ذلك ولا حيلة له فيه، وليس من الضروري دائمًا أن يكون وراء هذا سبب آخر. أو علة خفية. وأي شيء هناك يمكن أن يكون خفيًا؟ لا شىء على التحقيق! فهز كتفيه ومطّ شفتيه واعتدل فوق كرسيه ووطّن نفسه على الضرب في زحمة الحديث. وإذا به يرى شوشو تكاد تسقط عن كرسيها من شدة الضحك، والدكتور يبتسم — ابتسامًا هو أقرب إلى الضحك المكتوم فيما يرى — ويسألها ما لها؟ ونجية مرتجّة الأنحاء مما أصابها من عدوى الضحك، وكفها على ذلك الجانب من فمها الذي يواجه إبراهيم. فلم يفهم، وهمً — تنفيذًا لعزمه — أن يضحك مثلهم، ولكنه أطبق شفتيه بعد أن فتحهما لما لمح من حركات شوشو ونظراتها وإشاراتها أن شيئًا فيه هو الذي يضحكها، فأسرع فأدار عينيه في ثيابه، فلم تأخذ شيئًا غريبًا، فعاد فرفعهما إليها وهزّ رأسه هزّة خفيفة كالمستفسر فلم يلقَ جوابًا سوى هذا الضحك، فشعر بالدم يصعد إلى رأسه ويتجمع فيما وراء عينيه ولكنه ضبط نفسه وردها بجهد، ونجية تضحك قليلًا ثم تسألها: «مالك»؟ والدكتور يتلفت متظاهرًا بالاستغراب، يضرب كفًا بكف، ومحمد وزوِزو يقهقهان وينحنيان وتخذلهما أرجلهما فيقعان على البساط، وأخيرًا خرجت شوشو تعدو منحنية وكفها على شفتيها يقول «بف بف»!
ومضت دقائق خيلت أطول مما هي، ولم تعد شوشو فنهض الدكتور، وكان أظهر الجميع قلقًا وتلفتًا، ومشى إلى النافذة حيث وقف هنيهة يتأمل السماء المربدة والمطر ينهمر ولا يكاد يرى شيئًا، ثم عاد ويسراه في جيبه ويمناه تعبث بسلسلة الساعة الذهبية وقال: «سأنظر أين ذهبت شوشو» وخرج فألفاها أخيرًا واقفة على رأس السلم مستظلة من المطر بدورته المؤدية إلى السطوح، ومتكئة على حاجزة، وسمعها وهو يدنو مها تغني بصوت خفيض فاقترب منها على أطراف أصابعه ووقف على مسافة قريبة منها معلقًا أنفاسه، مخافة أن تنتبه إلى وجوده فتحرمه المنظر والمسمع جميعًا: والقارئ لابد يعلم أن الرجل إذا وقعت من نفسه امرأة فهو يحضرها إلى ذهنه في صورة هي أحب إليه مما عداها. لأن هذه الصورة تكون أعلق بذاكرته وتكون هي المظهر الذي تبدو فيه لخياله حين يتمثلها. وقد اختارت صورة شوشو هذه الهيئة التي رآها الدكتور عليها في ذلك المكان، وصارت تزوره فيها في كلا نومه ويقظته. والمنظر عبارة عن فتاة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، في ثوب من الصوف قرمزي لاصق بالبدن بحيث لا يفلت شيء بينما هي منحنية بجنبها الأيمن على حاجز السلم، ومعتمدة بخدها الأيمن على كفها، وبكوعها على هذا الحاجز. أما راحتها اليسرى فمطبقة في خصرها الذي يبرز من تحته ردفاها مرتفعين مائلين إلى اليسار قليلًا، وجيدها الأتلع النضير قد انثنى عليه القرط تحت شعرها الذهى المقصوص. وهذا ما كان باديًا منها لعين الدكتور حيث وقف يرجو أن تظل كما هي لا تشعر به ولا تتحرك ولا تكف عن الغناء.
ولكنها تحركت! إما لأنها أحست به وإما لأن الوقفة أتعبتها أو أملتها. فرأته فصبغ الدم وجهها وارتدت، ولكنها لم تتجهم له وقالتْ وفي عينها نظرة عتب ورضى في آن: آه! ألك هنا كثير؟
فدنا منها خطوة: «لا! مع الأسف»!
فلم ترده عن الدنو ولم تحاول أن تتحول عن مكانها لتحفظ المسافة الأولى بينها وبينه، وقالت وكلتا يديها وراءها على الحاجز وصدرها بثدييه المستديرين بارز: أكنت تسمع؟
فقال برقة، ومدّ رجله لخطوة أخرى لم يخطها: ربما كنت أشد التفاتًا إلى مصدر الصوت.
فقالت بلهجة من يستزيده مما يحرم عليه: لا تقل هذا يا دكتور!
– ولماذا؟ إنك تعرفين إعجابى بك.
فلم يبدُ عليها ما يدل على الارتياح إلى إعرابه عن هذا «الإعجاب» وودت لو أنه استخدم في وصف شعوره لفظًا أقوى من «الإعجاب» وقالت بلهجة أقسى مما كان ينتظر إذا اعتبرنا ما مرّ إلى الآن: كلا! هذا لا يليق. وأنت تعلم أنى محقة!
فدهش — وهل كان ياترى من حقه أن يدهش؟ ولم يدر ماذا أغضبها فجأة وقال: ولكن يا عزيزتي..
فقاطعته بلهجة أشد قسوة: لست عزيزة أحد من فضلك!
وكأنما آلمها أن تكون عزيزة أحد، وإن كانت هي التي حرمت نفسها هذه المزية، فحل الاكتئاب محل الغضب في أسارير وجهها الذي بدا كأنه طال فجأة، واحمرت عيناها أيضًا حتى ليظن من يراها أنها حديثة عهد بالبكاء، أو أنها مشفية عليه. فلم يسعه إلا أن ينقل رجله الأخرى ويخطو الخطوة التي كان همّ بها وصدّه عنها ما لا نعلم، وتقدم منها وكاد يلصق بها فنحت عنه وجهها ومنحته كتفًا، فتناول يسراها بين راحتيه فلم تسحبها وقال وفي صوته نبرات الأسف والألم الصادقين: ولكني لا افهم! بأي شيء أسأت إليك يا عزيزتي؟
– قلت لك لست عزيزة.. عزيزتك!
فلم يفهم أيضًا! وأنى له أن يطلّع على ما تطوي عليه أضلاعها وهو لم يرزقه الله تلك الفطرة التي تهديه إلى اللفظ الذي يكون أوقع في نفس المرأة وأعذب في سمعها موافقة لهواها؟ وأراد أن يصلح ما فسد فزاد الطين بلة: حسن! لن تسمعي مني هذه الكلمة التي تكرهينها، فلا داعي للفتور. ولكن قولي لي كيف أدعوك؟
فسحبت يدها التى كانت قد تركتها له وقالت: ادعنى باسمى! لماذا تدعوني بغيره؟
– اتفقنا إذًا ….
وابتسم، وأبى له سوء الحظ وعماه في هذه اللحظة الدقيقة التي كان يمكن أن تنعكس فيها الآية، إلا أن يزيد «يا شوشو».
فرفعت عينها في وجهه ساخطة زارية وخرجت دون أن تجيبه.
وتخلف هو برهة ثم لحق بها وهو يقول: ما أعجب أطوار النساء!
ولو أنه كان تبعها حين خرجت لسمعها تقول لنفسها: ما أشد غباوته!
الفصل الثامن
«يغمز بعينيه، يقول برجليه، يشير بأصابعه، في قلبه أكاذيب»
١
جاء وقت الطعام فجلسوا إليه في غرفته، أو على الأصح في الردهة الفسيحة التي تحيط بها الحجرات، ولم يكن ثم سوى مائدة مربعة وبضعة كراسي من الخيزران. وكان إبراهيم قد سبقهم ولكنه تلكأ عند باب السلم ووقف — حيث كانت شوشو منذ برهة! — يتأمل الجو ويمد ذراعه ليتلقى بكفه المطر الذي كان لا يزال ينهمر، ويحاول أن يرفع وجهه ليرى السماء وهل رقت السحب فيها أم لاتزال كثيفة حالكة، فنظرت شوشو إلى الدكتور، ونظر الدكتور إلى شوشو وقد طاف برأسيهما خاطر واحد. وقال كل منهما لنفسه: «أتراه رآنا أو سمعنا»؟ وزادت شوشو فعجبت للأقدار التي جعلتها هي تسمعه في الصباح وجعلته هو — فيما تظن — يراها أو يسمعها بعد ساعات!
وقالت نجية: «يظهر أنه لم يجع».
فقالت شوشو، ونهضت عن المائدة: بل يظهر أنه ينتظر المن من السماء.
ومضت إليه وأمسكت بذراعه وجرته معها وهي تقول: هكذا يجب أن تعامل، اجلس هنا!
وكان الدكتور حسن الحظ فقد جلست شوشو إلى جانبه.
وكان من بواعث سروره الحقيقي أو المتكلف أنه أصر على اتخاذ كوب سهت شوشو فشربت منه وإن لم يكن كوبها! وإن القطة التي لبثت هنيهةَّ في حجر شوشو انتقلت إلى حجره وألمسته شعرها الذي لمس كف شوشو من قبل. يضاف على ذلك أنه همّ أن يساعده، وحمل إلى طبقها شيئًا من الخضر رفضته فنقله إلى طبقه بعد أن كاد يلمس طبقها! وكان من حين إلى حين يختلس نظرة إلى جانب وجهها وإلى جيدها وغير ذلك من بدائع هذه الفتاة التي ظلت أكثر الوقت تلقي الحديث إلى إبراهيم الجالس أمامها. وكانت فاطمة تتوخى أن تقف وراء إبراهيم مخافة أن يراها، وستّها شوشو لا تفتا تدعوها أن تنحى عنه لئلا تلوث ثيابه وهي تضع الصحاف أو ترفعها عن المائدة، فتشير المسكينة إلى شوشو بيدها وتعض شفتها السفلى وتومئ بعينها إلى إبراهيم فيضحك منظرها شوشو، ويدير إبراهيم وجهه إلى فاطمة فتجمد وتنقطع حركاتها وإشاراتها وتقول نجية: دعيها يا أختى فإنها مستحية.
وفرغوا من الطعام فأشعل إبراهيم سيجارة، وكان الدكتور يهم بالقيام عن المائدة، فلما رأى السيجارة عاد فوطن نفسه على البقاء، ولمح إبراهيم ذلك فقال: لا تكلف نفسك هذه العادات الإفرنجية يا دكتور إننا هنا — على رأي شوشو — في الريف وعلى أننا — معاشر المصريين — لا نتحدى هذه العادات حتى في العاصمة، ويمكنك أن تسبقنا إذا شئت فإني باقٍ هنا مع بنت خالتي «وأشار بعينه إلى نجية». اذهبي يا شوشو معه.
٢
قالت شوشو للدكتور لما صارا وحدهما في غرفة الجلوس: إن هذا حسن بلا شك؟
– ماذا؟
– أظنه يسرك جدًا؟
– ولكن ماذا؟
– ألا تستطيع أن ترى أن ابن خالتي رآك واقفًا معي وسمع ما تفضلت علي به.
– ولكن كيف يمكن؟ وهبيه رأى وسمع فماذا إذًا؟ فيما قلت شيء لاينبغي أن يقال؟
– بلاشك.
– يظهر أن قلبي لن يستطيع أن يصلح ما أفسده لساني! فيا له من زمن يتعقب سوء الحظ فيه الرجل من أجل أنه لم يقدر أن يغمط امرأة؟ لأنه أعرب لها عن إعجابه بجمالها؟ أو كان عليّ أن أكابر وأن أزعم أني أكره دمامتك؟ يجب أن تعترفي أنه ما كان يسعنى أقل مما قلت.
فمضت شوشو إلى النافذة لتخفي أمارات السرور الطبيعي الذي لمع في عينيها ورجفت له شفتاها. وقالت وهي سائرة: أحسب أن من واجبي أن أشكرك يا دكتور؟
فتبعها وهو يعبث بسلسلة ساعته وقال: إن من الثناء ما هو إساءة أدب، وقد يكون هذا من ذنوبي. ولكن من المعاملة ما هو ظلم، وقد تكون معاملتك إياي من هذا القبيل. رجل صريح لم يألف المكاتمة يجهر برأيه فيعد من أجل ذلك سيئ الأدب!
فقالت ووجهها إلى النافذة: لست أسمح للأغراب أن يجترئوا علي حتى بالمديح.
فقال بلهجة الظافر: آه! إنه ليس المدح الذي تستحقين أضعافه هو الذي يغضبك بل صدوره عني! ولو أن غيري — إبراهيم مثلًا — كان محلي.
فتهجمت له وقاطعته: إني أمنعك! إنه ابن خالتي، بل أخي وأعز أهلنا علينا، وهو لا يحلم بأن يفعل ما فعلت.
فلم ينهزم أمام هذه التعبيسة وضاعف الحملة: إن من بواعث اغتباطي على كل حال أن أعلم أني صادق في وصفي لك رضيت أم سخطت. وهل كنت ترين أن أراك ثم أذهب وأتحدث عن دمامتك لا لسبب يسوغ هذا الكذب الشنيع سوى أن أعفيك من الارتباك والخجل حين تسمعين أنك جميلة؟
فزادت تعبيسًا وقالت بصوت مرتفع قليلًا: إن هذا كله تكلف. وأنت تعلم — كما أعلم — أنك لم تقل لي إني..
– لقد قلت إنك جميلة.
– كلا! هذا كذب.
– وأقول ذلك الآن.. وإنك لكذلك. بل أنت أجمل من رأيت.. ويمينًا ….
– لا تحلف فلن أصغي إليك. إنك فظيع.
ووقفت مضطربة بين الخجل من سماع ذاك والرغبة في الاستزادة منه. أما هو فلم يعبأ شيئًا بمقاطعتها ومضى يشد عليها ويقول: أكرر أنك من أفتن النساء. فهل في هذا كذب؟ إن الأمر واضح لا خفاء به. وقد يكون في قولي هذا اجتراء، ولكن الإخلاص شفيعي.
– كلا. لانك غير صادق.
– مهلًا مهلًا يا شوشو! واسمحى لي أن أُكابر هذا الأدب وأعجب به إعجابى بجمالك. ولا أحسبني أول من وصفك بهذا. ويجب أن تصدقي الناس إذا لم تصدقيني.
فلم تستطع أن ترد نفسها عن مسايرته إلى حيث يجرها فقالت: إن الناس لا يقولون عني ذلك.
– بل لابد أنهم يفعلون وإلا كانوا عميانًا.
– أعني إني لا أسمعهم فإنك تعلم أني لا أقابل غير أهلي، ولعلى مخطئة في السماح لك برؤيتى.
فلم يلتفت إلى الشطر الأخير من كلامها، ولم يسمح لها أن تزحزحه عن موقفه وقال: ولكنك تعرفين أنهم يقولون هذا؟
فأغرتها حلاوة الاعتراف بالموافقة، وصدها التأدب والحياء فاضطربت: «لا — أعني — سمعت فاطمة تقول إنهم يذكرونني بذلك … غير أن..» ولمحت أختها وابن خالتها مقبلين، فنبه ذلك في نفسها طبيعتها العابثة، وأمسكت عما كانت فيه وقالت بصوت عالِ: إذًا نحكّم ابن خالتي. تعال افصل في الأمر.
فريع الدكتور واصفر وجهه ودارت الأرض به، ولم يعد يدري أواقف هو على رجليه أم رأسه، وتلفت كالذي يبحث عن نافذة يثب منها، ولم يستطع أن يمنعها أو يقول لها شيئًا لأنها باغتته بما لم يكن له في حساب، ولم تزد على أن ألقت إليه نظرة خبيثة ثم تقدمت إلى الباب.
وقال إبراهيم: «ماذا؟ فيم تختلفان»؟
وكان الدكتور لا يزال واجمًا. ممتقع اللون مسمّرًا في مكانه، وقد بدا لنفسه سخيفًا جدًا لا يدري بأية قوة يواجه الموقف المخجل الذي تهم شوشو أن تضعه فيه.
فقالت شوشو — وهي ترمي إلى الدكتور بالنظرة، وتمتع عينيها بمنظره وبما يكابد من ألم وحيرة وخوف: إنه يقول لي … ويكرر … ويؤكد.. ويقسم.. إني.. إنه..
فعيل صبر الدكتور وصاح بها: «شوشو»!
– لا تقاطعني من فضلك. يجب أن يعرف ابن خالتي هذه الحماقة.
فقال إبراهيم عابسًا: حماقة؟ ماذا تعنين يا شوشو؟
– أعني إنها حماقة وجرأة وجنون. ولا بد أن أبسَط لك الأمر ليتأتى لك أن تحكم، فأمسك أنت أيضًا عن المقاطعة من فضلك.
ثم كأنها رثت للدكتور المسكين، فكفت عن تعذيبه وقالت: يقول إنه لا يستطيع البقاء معنا، وإنه لابد له من العودة إلى المركز لأن عليه أن يعود أحد المرضى مهما كانت المشقات. وأنا أقول له إن العودة مستحيلة في هذا الجو المطير. فاقض بيننا بالحق.
وجلست. فجلس الدكتور كأنما قد انقلب آلة حاكية، ولم يسرِّ عنه ما قالت لأنه — على فرط ذهوله — أدرك أنها تبيعه صمتها بثمن معين هو أن يجلو عن البيت حالًا. فيا لها من عقوبة تنزلها به جزاء له على ما اجترأ به عليها من المغازلة البريئة؟ أفتراها كانت — وهي تعاطيه الحديث — تفكر في هذه الوثبة التي قصمت ظهره، وأطارت لبه، وشردت عقله؟ ويا ليت من يدري أجادَّة هي أم هازلة؟ وعلى أنه لم يطل التفكير في تلك اللحظة، ولم يسعه إلا أن ينزل على حكم المقادير التي جعلته رهن مشيئة شوشو، على الأقل في هذا الموقف، فهزّ رأسه لنجية وإبراهيم أن «نعم» وبلع ريقه ومدّ يده إلى جيبه ثم أخرجها وقال: «لقد كنت ناسيًا فأذكرتني المفكرة وأنا أنظر فيها عرضًا. وأنا أعلم أن الخروج في مثل هذا الجو حماقة، ولكن واجب الطبيب فوق راحته».
وأظهر الإصرار وراح يدفع «بالواجب» و«بحالة المريض» كل اعتراض حتى أذنوا له بكرههم.
الفصل التاسع
«من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه فى ثوب؟»
انقطع المطر وسكنت الريح، وكان إبراهيم واقفًا إلى نافذة غرفته يطل على الحديقة التي مر بك الكلام عليها، أو على الأصح يحدق في الظلام الدامس والسكون الرهيب اللذين لفت فيهما الكون، حين دخلت عليه شوشو ودنت منه ووقفت تتأمله، وهو لاهِ عنها بما يرسمه له خياله النشيط. وكان البرد قارصًا والليل صامتًا لا حركة فيه ولا حس، كأنما استحال كل شيء في السماء والأرض صورة مرسومة، وقد خيّل إلى إبراهيم وهو يرمي هذا السواد بعينيه كأن هاوية من الخرس قد ابتلعت كل صوت ونأمة، وأنه لو أرسل في ظلمتها صيحة لما ارتد منها إلى الأذن رجع ولا كان لها صدى، وأنه لو ألقى فيها بحجر لما سمع له وقعًا ولا بلغ الحجر قاع الهاوية، وبدأ له كأن الأرض قد ضرب عليها السحر شيطان وألزمها حالة غير إنسانية يعيى الإنسان نعتها، أو كأنها في غيبوبة أفقدتها وعيها أو كأنما هو ينظر إلى الدنيا الذاهلة عنه من خلفها ويتأملها وهي مدبرة عنه أو يسترق السمع من وراء أستار الكون.
وعالج إبراهيم، وهو ثابت الحملاق، أن يصور لنفسه وقع هذا المشهد الرهيب وما انطوى عليه من الجمال والجلالة والموت في آن، وأن يتبين نوع إحساسه به، وأن يهتدي إلى العبارة عنه فأعياه التماس ذلك، وماذا عسى أن يبلغ من طاقة المرء على تصوير هذا المنظر المسحور — هذه الدنيا التي أنامتها عين غير مرئية؟
وطال الأمر على شوشو أو لعلها خشيت أن تعديه الطبيعة فيجمد وينقلب تمثالًا، فقد جعلت تمر كفها على ذراعه وتمسح له شعره براحتها، وهو في شغل عنها، فلما رأت أن ذلك لم يرده إلى الحياة ولا أشعره وجودها أدارته إليها وربتت له خده فاختلجت شفتاه ولكنه لم ينطق، فافترت له عن أعذب ابتساماتها وقالت له وهي تجره إلى الكنبة: قل لي مالك؟
فقال وهو يقعد أو يلقي على الأصح بنفسه على الأريكة: تسألينني ما بي؟ بي هذه الطبيعة التي كانت منذ ساعة تبرق وترعد وتمطر وتصخب كأنما يعول فيها مائة ألف شيطانة ثم آضت كما ترين، الآن فقط فهمت ما كنت أقرأ في صباي عمن مسخوا حجارة!
– هل تريد أن تقول إن هذا أول عهدك بمثل ذلك؟
– نعم، ولشدّ ما أتمنى أن أجرب ذلك في نفسي لحظة واحدة! لحظة واحدة تسكن فيها نفسي هذا السكون فتخرس ألسنة الهواتف وتّمحي صور الحوادث، ويغيض ذلك العباب الجائش هنا في صدري هذا.
فقاطعته شوشو قائلة: ما أعجب أمرك والله! تكون معنا كأنْ لا شيء على وجه الأرض يعنيك ثم لا تكاد تخلو بنفسك حتى تنقلب إنسانًا غيرك، كأنّ في جوفك بركانًا يريد أن ينفجر، أفلا تفضى إلى بما يكربك؟ قل لي! هات ما عندك! أطلعني على دخيلة نفسك! ائتمنّى على سرك.
فوقع من نفسه عطفها وحنوها، وهمّ أن يبثّها شكواه ويقول لها بشجوه ولكنه ضعف لم يساوره إلا ريثما التفت إليها، ثم ملك نفسه وكبحها. وقال — وعلى فمه ابتسامة سرور وشكر لم تخلُ من ذلك السخر: يا فتاتي الصغيرة أتقدرين أن ….
فحزّت هذه الابتسامة في نفس شوشو ووثبت إلى قدميها وهي تقول: بودي ألا تتكلم كأنك شيخ هرم وأنا طفلة أحبو؟
– لا تغضبي! (ومد يده فتناول ذراعها) عودى إلى مكانك بجانبي. دعي بداوتي هذه. لا تلتفتي إليها. إنها مرارة النفس يقطر بها اللسان وينضح بها الوجه وتفيض بها العين، وبكرهي أن تري مني ذلك أنت أو سواك من خلق الله — آه يا شوشو لو تعلمين! إذًا لعذرتني.
– وماذا يمنعك أن تخبرني فتطرح عن صدرك هذا الحجر؟
– يمنعني كبرياء نفسي وعلمي أن الشكوى عبث وباطل ومحال ليس يُجدي.
– أدام الله عليك الكبرياء التي أفاضها عليك!
ونظرت إلى ساعتها على معصمها وقالت: الساعة الآن الحادية عشرة فقم إلى سريرك والتحف بها!
فضحك وقال: وأنت؟ هل أثقل رأسك النعاس؟
– أوَيعنيك أن تعرف؟
– بلاشك.
– إذًا اعلم أني لست ذاهبة لأنام.
– وماذا تنوين أن تصنعي؟
– سأجلس قليلًا وأفكر.
– في أي شيء؟
– ليس لي مثل كبريائك فلا أكتمك أن سأفكر في غرابة أطوارك.
– آه! أوَ لاتزالين غضبى؟
– كلا. ليس ما بي غضب. لقد كنت أود.. على أن هذا لا يهم الآن.
فخطر له أن هذه الفتاة على صغر سنها متعلمة وأنها قد تستطيع أن تفهم وأن تعذُر فقال: اسمعي يا شوشو. إن الواحدة تكون طفلة وتدّعي لنفسها مع ذلك قدرة الأنبياء ومنزلة الرسل ….
قالت مقاطعة: «لا أفهم».
قال: «لست وحدك التي لا تفهم. إن كل امرأة مثلك لا تستطيع أن تخرج من خصوصها إلى العموم. إن قلب الواحد منكن يدق عطفا ومرثية للألم الفردي، ولكنه يعجز عن أن يجعل عطفه أو إحساسه على العموم عميقًا شاملًا لاَلام الحياة..».
فابتسمت وهزّت رأسها وقالت بلهجة مبطنة بالسخر: صدقني إني أعطف عليك.
فقال ولم يلتفت إلى سخرها: إن الجنس الإنساني معناه — فيما تعلم المرأة — هذا الطفل المعين أو هذا الرجل المعين الذي لعلها أبصرته واقفًا إلى جانب الباب ينتظر في البرد أو تحت الشمس مثلًا. إن المرأة عاجزة عن الإحساس بالآلام العامة، عمياء لا تستطيع أن تراها. هذه هي الدنيا نصف عمياء نصف مستوحشة تصرخ شرقًا وغربًا وقد أجنّها الألم والخطيئة أيضًا. فهل ثم امرأة واحدة يشحب وجهها إذ ترى هذا النمر العالمي يهز قفصه؟ هل تكف واحدة منكن عن نظم العقود وتطريز الثياب من فرط إحساسها «بجملة» هذا الألم العالمي؟ أريني دمعة واحدة أراقتها امرأة — كما أراقت كورديليا عبراتها — لأن الدنيا جنت؟ ليس من بينكن من ترى أن تبكى من أجل هذا؛ على كثرة دموعكن وسهولةِ إسبالها! إنكن لا تبكين إلا لما تعرفن وأنتن معذورات: طفل مريض تلمسه المرأة بأصابعها فتحس ما به من الحمى فتنهمر الدموع! ولكن مليونًا يمرضون! هذا شيء آخر! والأولى أن ينتفر المرء منكن أن تبكين من أجل الكسور العشرية أو المركبة إنكن لا تفهمن الدنيا باعتبارها وحدة وكلًا، ومن أجل هذا لا تتأثر بكن هذه الدنيا لأن الواحدة منكن لا تقدر أن تتسرب في المجموع وتفنى في الجماعة. نجد فيكن الأم الرؤوم، والزوجة الوفية الكاملة، وقد نرى فيكن الولية والقديسة، ولكنا لن نفوز منكن بنبي أو رسول — لا حتى ولا بشاعرة.
وأمسك بعد هذه الخطبة الطويلة، وعجب لنَفَسِه الذي ساعفه على كل هذا الكلام، واضطجع وأطبق شفتيه.
ولم تجبه شوشو بشيء بل نهضت وأغلقت الباب وراءها.
استيقظ إبراهيم على صوت بقرة، فدفع يده تحت الوسادة وتناول الساعة فألفاها الثالثة صباحًا، فعاد فأغمض عينيه وفي ظنه أن البقرة ستكف عن هذا الصخب الذي جاء قبل أوانه، ولكن البقرة على ما يظهر كانت تعتقد أن الليل قد انحسر وأن الصبح قد أسفر، فوثب عن السرير إلى النافذة فإذا السماء صافية والقمر مضيء ففتحها وأطل برأسه فرأى البقرة إلى جانب الباب وقد مطت عنقها ورفعت عينها إلى السماء، ولم يكن يعرف البقر إلا مجازًا، ولا كان له بهذا الضرب من الخلائق عهد فجعل يصيح بها «هش. هش»، ويوهمها أنه سيقذفها بشيء، غير أن صيحاته وحركاته وإشاراته كانت تنعشها كأنما سرّها أن تعرف أن لأصواتها مستمعًا، كما يشجع المغني أن يرى الطرب يهيج سامعيه. فلما رأى ذلك توهم أن ظهوره لها هو الذي يشجعها وأنها خليقة أن تثوب إلى السكينة، وأن تثبط همتها إذا انصرف عنها، فأغلق النافذة وتحرّى أن يحدث في إغلاقها من الضجيج أكثر مما تدعو إليه الحاجة إيذانًا لها بإهمال شأنها. وكأنما حسبت البقرة أن احتجاجه عنها كان داعيه أنها قصّرت في الأداء، وأن التعبير كان ضعيفًا وأن الإحساس فيه فاتر، فأطلقت عليه أقوى أصواتها، وكانت جفونه قد كاد يطبقها النعاس فأطارته هذه الصيحات المتلاحقة وكادت تطير بلبه معها، فجرّ نفسه إلى الكنبة وانطرح عليها وأشعل سيجارة ومضى يفكر على هذا النحو. «النوم قد جفاني ولا سبيل إليه الآن مادامت، هذه البقرة قد شاءت أن تعد الصباح قد طلع. والجلسة هنا — إلى صباح الآدميين لا صباح البقر — كلفة شاقة. وإذا كان الحظ قد رمى بي إلى هذا الريف الذي يبكر ناسه في النوم وتبكر أبقاره في اليقظة، فالرأي أن أخرج إلى هذه الحديقة التي أفسدتها البقرة وأن أنتظر فيها الفجر لعله يوحي إلى بعض معانيه».
ولما انتهى إلى هذا الرأي أسرع فلبس معطفه وحذاءه وأخرج من الحقيبة مذكرته وقلمه وفتح الباب وخرج وأغلقه خلفه ولكن من أين؟
وكانت البقرة تواصل الصخب فأراد أن يسرع ليدركها ويثأر منها. غير أن الاهتداء إلى باب السلم المؤدي إلى الحديقة استغرق من الوقت وكلفه من المتاعب ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت الغرف كلها موصدة حتى غرفته، والمكان مظلمًا. وكان ظنه أن هذه الصالة فارغة فإذا به يحسها مكتظة؛ فقد كان ثمة دلو ثقيل اصطدم به أكثر من عشر مرات في لفه ودورانه حتى انتهى إلى وجوب حمله معه وهو «يطوف» في أرجاء هذه الصالة التي أصارتها الظلمة لا أول لها يُعرف ولا آخر لها يوصف، وراح يعزي نفسه عن حمل هذا الدلو الثقيل بأنه سيضرب البقرة به.
ولكن كيف يهتدي إلى الباب وهو لم يكد يخطو خطوات في الصالة ويصطدم بالدلو لأول مرة حتى اختلط عليه الأمر ولم يعد يعرف شرقًا من غرب بل لم يعد يعرف أين باب غرفته هو؟
ووقف برهة يفكر في المخرج من هذا التيه فبدا له أن الإشكال يحل بأن يلتمس الحائط ويسير على محاذاته فإنه إن فعل ذلك لا محال موفق إلى الباب، ففعل بلا عناء يستحق الذكر وسار كما اعتزم. غير أن الواقع أنه بدأ بباب السلم وهو يحسبه باب غرفته وراح يمضى عنه لا إليه، والتقى في طريقه بما لا يذكر أنه رآه في النهار أو في اللحظات القليلة التي اجتاز فيها هذه الصالة قاصدًا إلى غرفته أو خارجًا منها، وتعثر بما حسبه «غابة» من القوارير حتى لم يجد معدى عن أن ينأى عن الحائط مرغمًا، وسار بضع خطوات فإذا به يلتقي بقوارير توهمها غير الأولى فضحك وقال لنفسه لعل أرض المكان قد فرشت بالقوارير!
وصادف بعد ذلك برميلًا. نعم برميلًا؛ فوقف يعجب ويتساءل هل قررت شوشو أن تقلب الصالة حانة خمَّار؟
وملّ هذه البراميل والقوارير فقال أترك الحائط وأرمي بنفسي في جوف الصالة وأدفع أول باب أبلغه، ألم يقل، بشار: «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج»؟ فكان هذا فاتحة التوفيق. ذلك أنه وجد بابًا لم يعن نفسه لفرط ضجره بالتساؤل عنه أيَّ باب هو؟ وعالجه فانفتح فإذا به باب سلم فصافح وجهه نسيم الليل المقرور وأعاد إليه اتساق خواطره فانحدر ولكنه لم يجد حديقة ما فوقف كالأبله!
وكان صوت البقرة لا يزال يصل إليه فلم يجد عسرًا في فهم ما حدث. ذلك أنه لم يهتد إلى سلم الحديقة بل على سلم خلفي يفضى إلى فناء «الحريم»، وبذلك صار الجناح الذي ينزل فيه بينه وبين البقرة فقال: «لا بأس وإن كانت البقرة قد نجت بجلدها» ووضع الدلو مقلوبًا وكان لا يزال معه وقعد عليه وأخرج القلم والمذكرة ليدون ما يخطر له.
ولم يخالجه شك في أن الشمس ستطلع لا محالة من الناحية التي جلس ينظر إليها فقد أخذت السماء تصطبغ بلون قرمزي شيئًا فشيئًا، ولكنه لم يكتب شيئًا ولم يخط حرفًا لأن إحجام الشمس عن الطلوع حيّره حتى خالجه شعور وقتي بالخوف عليها وابتسم وهو يقول لنفسه: «لولا ما تعلمته في المدرسة لحسبت أن الشمس قد غيّرت رأيها وعدلت عن الطلوع اليوم».
ثم نهض ونظر خلفه ولم يمنعه قيام البناء في وجهه أن يدرك أن الشمس طلعت من ورائه!
وجلس وكتب في المذكرة هذه الملاحظات وهم يبتسم ويقول «لعل فيها فائدة لشوشو»!
«ديسمبر — الريف. يظهر أن البقر أحس بالفجر من الديكة وأسرع إلى تحية الصباح من العصافير. وفي وسع من يعنيه ذلك أن يقضي ليلة في الريف ويبكّر في القيام قبل الفجر بساعة وبعض ساعة. وليس في الريف ذلك السكون المزعوم فإذا سكنت الطبيعة هاجت الأبقار؛ ويجب على من يبغي الراحة والنوم العميق في الريف أن يأخذ معه كمية من الأسبرين أو الفيرامون تكفي له وللبقر عند الحاجة».
ولم يفتح الله عليه بأكثر من هذا أو أشبه منه بالمعاني الشعرية ولم يدون شيئًا من الخوالج أو الإحساسات؛ لأنه كان في تلك الساعة مجردًا منها. وعلى أنه — كما قال لنفسه — ما حاجته إلى الإحساسات التي قد يخطئ في تصويرها أو بوشيها بما يجعل ألوانها أزهى أو أقتم؟ أليست هناك مدرسة ترى أن يكون الوصف مطابقًا للحقيقة عاريًا من زينة الخيال وحليه وتفويفه؟ وهب لا مدرسة هناك فما ذنبه هو إذا كانت شمس الريف قد أبت إلا أن تطلع من ناحية غير مرقوبة؟ ومن أين تأتي هذه الخيالات أو تنشأ الإحساسات ولا تفكير له إلا في البقرة التي هدَّت رأسه بأنغامها، والدلو الذي شلّ ذراعيه جميعًا على التوالي بثقله؟
ومع ذلك لم يرَ أنه يبخل على السماء بملاحظات تنفعه إذا حدثته نفسه أن يكون روائيًا فيكتب: «تبدو السماء قرمزية ثم تخضر لسبب ما، ثم تصفر أو تبيض لسبب آخر غير واضح».
وضحك وقال لنفسه فلنشبهها بشيء! أليس التشبيه ضروريًا في كل كلام شعري ولو لتقريب الصورة التي يراد أداؤها؟ ولكن من أين تجيء لها بمشبه وهى لا تثبت على لون؟ وماذا تقول شوشو إذا اطلعت على هذه العبارات … شوشو؟ لقد خطرت له شوشو مرتين في نصف ساعة؟ ولكن لا عجب، فما يقضي معظمَ وقته إلا معها ولا يملأ جوًه سواها الآن.
وعاد إلى التشبيه اللائقٍ بهذا الجانب من السماء الذي احمر ثم اخضر ثم اصفر، وبينما كان جادًا في البحث عنه، خرجت فاطمة الزنجية من باب الحريم ولم تكد تراه — وهو لاهٍ عنها — حتٍى انكفات راجعة وعادت بأهل البيت جميعًا كبارًا وصغارًا وسادًة وخدمًا وفي طليعتهم نجية وشوشو وأقبلوا عليه جميعًا يسألونه في وقت واحد عمَّا به؟ وما جاء به إلى هنا؟ وفيم الجلوس على هذا الدلو؟ وماذا يصنع بالقلم والكتاب في يده؟ وهل هذه عادته في مصر؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي قعد ينتظر آخرها على غير جدوى، وهو ينقل عينه من وجه إلى وجه تبعًا لمصادر الأسئلة حتى كاد يجن.
ولما أعياه أن يجد فرصة للكلام وسط هذا اللغط المتواصل نهض عن الدلو في صمت ومضى إلى غرفته وأوصد بابها وراءه وانطرح على السرير بما عليه من ثياب وهو يقول: «لماذا لم أنم؟ سأنام حولًا كاملًا متى عدت، إلى القاهرة! ماذا كنت أصنع؟ لقد كنت أريد أن أخرِسَ هذه البقرة التي أزعجتني كما لم تزعجني سيارات القاهرة وأبواقها وترامها وصياح البائعين فيها. ذلك كله هناك غير مستغرب وأعصاب المرء مستعدة له بسبق التوقع وبالعادة. ولكن هنا. هنا حيث يقولون إن السكون سابغ والهدوء مطبق محيط، والمرء لا يتوقع شيئًا من الضوضاء، والأعصاب متفترة مسترخية من الاطمئنان والأمن، تكفي بقرة واحدة لإطارة العقل».
وأخذه النوم وهو يحدث نفسه بالرحيل.
الفصل العاشر
«العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع»
لم يطل نوم إبراهيم. ذلك أن الكرى كان قد عقد أجفانه قبل أن يتغطى فلم يلبث أن ابترد فاستيقظ وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة بدقائق، فقام ونظر من زجاج النافذة إلى الشمس المشرقة على الحديقة والحقول وراءها، ففتحها فتضوع إليه ريا الخضرة المطلولة والأزاهير الندية دافئة تحت الشمس. وكان واسع الاطلاع ملمًا بأساطير القدماء وما نسج خيالهم حول الطبيعة. ولكنه نسي ذلك كله لما صار وحده مع السماء والأرض وهما أوسع وأشد تنوعا من أن توائمهما الخيالات المسطورة في الكتب. وأحس فى هذه اللحظة حنينًا — لا إلى شيء معين — وغبطة تشيع في كيانه كله، وظمأ خيل إليه أنه ما من شيء يمكن أن يطفئه ويفثا غلته. فمال بذراعيه على النافذة وأبرز وجهه للشمس وحدّق في السحب البيضاء تتفرق وتتجمع وتسبح في بطء. وخطر له — وعجب هو لنشوء هذا الخاطر — إن من الخطأ أن تنعت الطبيعة بالقسوة. كلا ليس في الطبيعة قسوة حقيقية. إنها حارّة حية. ولا تكاد تتفق الحرارة والقسوة. وإذا كان فى بعض ما فيها يسطو على البعض الآخر ويأكله أو يلتهمه أو يأتى عليه فما قيمة هذا؟ إن كل شيء يحيا وإذا كان يموت فإنما هذا ليعين غيره على الحياة. وأين يا ترى قرأ أن الكون فنان لا يزال يعبر عن نفسه بصور مختلفة؟ لا يذكر أين قرأ هذا، ولكنه يذكر أيضًا أن الكاتب قال — أم ترى هو صاحب هذا الخاطر: إن هذا الفنان الأعظم لا يزال يخفق فيما يحاول أن يبدعه ويخلده من خارجياته، على أن العالم بل العوالم كلها صغيرها وكبيرها مثلنا ومثل الأزهار والأشجار ليست سوى قطع شتى من هذا الفن، وكل منها تام في ذاته كامل من حيث هو. وكل حياة تجري إلى مداها ثم تراق وترد إلى هذا الفنان المبدع الذي لا ينفك يحاول ضروبًا جديدة من الفن. العقل والمادة شيء واحد. ومن يدري؟ فلعله ليس لا عقل ولا مادة وعسى أن لا يكون هناك إلا نمو وذبول ثم نمو جديد وذبول وهكذا إلى ما لا نهاية: فنان لا يفتأ يعبر عن نفسه في ملايين وملايين من الصور المتغيرة والذبول والموت — أو ما نسميهما كذلك — إنما هما راحة ونوم أو هذا هو الجزر الذي يجيء بين مدّين، أو الليل الذي يفصل نهارين والنهار الذي يطلع لا يشبه الذي سبقه في شيء. ولا المد كالذي كان قبله. هذه الصور التي نراها في الدنيا وفي أنفسنا، هذه القطع الفنية التيٍ يخرجها الفنان الأعظم لا تعود ولا تبقى على حال ولا تلتزم شكلًا معينًا. بل هي دائمًا جديدة. عوالم جديدة وآحاد وأفراد جديدة وأزاهير طريفة. وليس في هذا ما يكرب النفس. كلا؛ إنَّ ما يكرب النفسَ أن تعلم أنها ستظل حية أبدًا حتى بعد ما يسمى الموت. أو أنها ستحيا كرّة أخرى في جسم آخر فلا أنا أنا. ولا أنا مخلوق آخر. إن هذا يكون ماذا؟ فساد ذوق؟ هبني كتبت مقالًا أو وضعت قصة أو نظمت قصيدة. فهل أستطيع أن أتصور أن مقالتي تصبح مقالة أخرى أو قصيدتي تنقلب قصيدة ثانية؟ وهل في وسعي أو وسع سواي أن يفصل ما بين العبارة التي صببت فيها المقالة أو القصة أو القصيدة، والمادة الذهنية التي أعربت عنها بهذه الألفاظ؟ كلا. وكما أني أنا الفنان الأصغر لا أزال أصوغ كل يوم جديدًا؛ كذلك الفنان الأعظم لايزال يخرج من القديم جديدًا ومن التليد طريفًا كالنافورة تقذف الماء خيطًا من القطرات لا تشبه منها واحدة أختها وتقع هذه القطرات في الحوض وتعود أدراجها من الأنابيب على النافورة فتقذفها قطرات جديدة مصوغة في أشكال وحجوم غير الأولى.
ثم تنهّد وقال لنفسه: «ولكني لا أستطيع أن أفهم أو أدرك لماذا تظل هذه القوة الأبدية منهمكة في الإعراب عن نفسها في صور فردية شتى لا آخر لتنوعها؟ لماذا لا تكف ولا تنقطع عن العمل ولا يصير كل شيء إلى «لا شيء»؟ ظلام أبدي شامل! ويا ليت من يدري أهما اثنان لا ثالث لهما: أن يظل هذه الفنان يعمل ويخرج ويبدع كما هو فاعل أو أن لا يكون ثم شيء على الإطلاقِ؟ وهل من الاتفاق المحض أن حدث هذا ولم يحدث ذاك»؟
وسكت وحدّق بعينيه الواسعتين في الفضاء يبغي أن يرى شيئًا هناك وراء كل منظور. ثم هزّ كتفيه وقال وهو يمشى إلى «الكنبة»: كل هذا جميل. ولكن هل بنا حاجة إلى التفكير؟ هذه الدنيا أمامنا، وأحسب أن كل ما بنا حاجة إليه أن نتناولها كما هي وأن نقنع بذلك.
وهمّ بالجلوس فسمع نقرًا على الباب ففتحه وطالعه وجه شوشو، كأنه — أي وجهها — في حلم، وأحس وهو يصافحها كأن حولها جوًا من الماضي والمستقبل. وذلك ما لا عهد له به فسألته: ماذا كنت تصنع؟
– لاشيء.
ولكنه وجهه مال إلى النافذة. فقالت؟
– أكنت تسخط على هذه الطبيعة التى لا تثبت على حال؟
ألا ترى معي أنها كالطفل، تكون عابسة باكية ثم إذا هي تضحك لغير سبب مفهوم؟ إن تناقضها أو اضطرابها كثيرًا ما يحيرني؟ وكم تمنيت لو أني أستطيع أن ألزمها الحالة التي يتفق أن تروقني — إلى أن يتغير مزاجي على الأقل.
فعجب أن يجيء أول ما يجري بخاطرها بسبيلٍ مما كان هو يفكر فيه؛ ولكنه كتم هذا — وإن لم تكتمه عيناه — وقال مجيبًا على كلامها: كلا يا شوشو. أنا لا أحس بالرغبة في إلزام الطبيعة حالة ما، أو بعبارة أخرى: لا أتمنى أن أفرض عليها مزاجي الخاص أو أي مزاج معين، ولعل ذلك لأن تنوع الأمزجة وتعدد الحالات التي تكون عليها الطبيعة في جميع مظاهرها — هو مصدر السرور الذي أفيده منها، بل هو الذي يرجع إليه ويقوم عليه إيمانى بالحياة. ولولا هذا التنوع لما بقي ثمّ شيء اسمه الحياة.
فافترَّت عن ابتسامة إعجاب وقالت: ذلك لأنك أديب. لأنك إبراهيم الكاتب!
قال: «نعم. أحسب الأمر كذلك. وإن كنت لا أرى أن كوني كاتبًا هو السبب في ذلك. كلا. إن طبيعة الفنان أو روحه ترتاح إلى التغير. فأنا أجل هذه الجدة التى أراها كل صباح يطلع وكل مساء يجيء. وفي كل شخص. وفي كل مظهر من المظاهر التي تعبر بها الحياة عن نفسها. أرتاح لأني لا أرى شيئًا نهائيًا. ولما كان التغير دئمًا فلا أراني أشبع من النظر والتأمل والتفكير. أحب كل شيء: ما كان وما هو كائن وما سيكون.. أحب حتى … الموت.
وسكت. وساد سكون عميق. ثم رفع إليها عينيه وقال: وأنت يا شوشو؟ ما رأيك!
وكانت جالسة وعينها إلى النافذة، فالتفتت إليه كأنما أيقظها صوته من حلم، والتقت عيونهما. وقالت: أنا؟ لا أدري! إني لم أكن مصغية.
فاضطرب شيء في صدره وخفق قلبه خفقة عطف مضطرم وشعر كأن بها حاجة إلى حمايته، واستغرب من نفسه هذا الإحساس الذي لا مثير له ولا موجب لنشوئه فابتسم وقال: ألم أقل لك إن المرأة يعجزها أن يكون إحساسها شاملًا ونظرتها جامعة وروحها واسعة محيطة؟
ورأها مصغية إليه فمضى في كلامه: أنا مثلًا — ولست أعني نفسي على وجه الخصوص، ولكني أعني الرجل على العموم — أستطيع أن أفتح قلبي للطبيعة كلها بكل ما اشتملت عليه وأن أغمر كل مظاهرها بحبي، حتى هذا العنكبوت الذي يخيفني في العادة والذي أكره أن أرى نسجه في زوايا النافذة أو أركان الغرفة، يفيض قلبي ويتفتح. ولكن المرأة شيء آخر. لم ترزق هذه السعة الروحية. نعم قد تحس أحيانًا بشوق إلى أن تضم الكون كله بين ذراعيها. ولكن هذا لماذا؟ لأنها تحب إنسانًا معينًا لا ترى سواه ولا تحس إلاه؛ والكون كله مختزل في شخصه. وليس لشيء موجود منفصل عنه؛ فهي إذا أحبت الطبيعة فإنما تحب فيها هذا الرجل الذي يملأ دنياها ويستغرق عالمها.
فأرخت شوشو عينها هنية ثم رفعت إليه وقالت: وإذا كان الرجل هو الذي يحب؟ إذا كنت أنت مثلًا هذا الرجل؟
فاضطرب وتدافعت العواطف في صدره، وأحس الندم يعض قلبه، وخيل إليه كأنه يرى وجه زوجته التي ماتت منذ سنوات، يطالعه من ظلمة الماضي الدفين ويلومه ويتهمه — يتهمه؟ لماذا؟ وكأنه يسمع صوتها يقول معنفًا: «كيف يمكن أن تحب ماري»؟ وغاب الوجه واستتر ولم يبق إلا شوشو تنظر إليه بعينين تحلمان، وابتسامة فيها شيء من المرارة، ماذا جرى له؟ أين ذهب إشراقه؟ ماذا فعل الله بصباحته؟ إن هذه الفتاة عجيبة! وها هي ذي تومض عينها إيماضة خبيثة كأنما يسرها ما تقرؤه في وجهه من الاضطراب! ما لعينها متعلقة بعينيه؟ أهي ناظرة إليه؟ كلا! إنها كالتي ترى شيئا هو أحلى وأعذب من كل حقيقة منظورة.
ونهض وقال: أي سؤال هذا يا شوشو؟
فنهضت مثله وقالت: أهو سؤال غريب غير جائز؟
وكان يمشي في الغرفة فلم يفتح الله عليه بخير من: كلا. لا غرابة. إني جائع جدًا ولست آتيًا هنا لأصوم.
فانفجرت ضاحكة وقالت: ألا تزال ملتحفًا بكبريائك؟
فلم يلتفت إلى هذا ودنا منها ووضع يمناه على كتفها وقال: اسمعي ياشوشو. لقد قضيت هنا ليلتين ولم أجاوز عتبة الباب إلا دقائق أمس. فما العمل؟ لست أراني أطيق هذا الحبس فقولي لي أين أذهب. ولكن بالله عليك لا تقذفي بي في وسط جحافل من أجلاف الريف..
فتكلفت الجد وقالت: هل تستطيع أن تخرج وتسير في هذه الأوحال؟
فقال: قبّح الله الريف! ألا شيء غير الجلوس في هذه الحجرة؟
قالت: أمَلَلْتَنًا جدًا؟ وبهذه السرعة؟
فأسرع يؤكد لها أن الأمر على العكس، وإنه لم يضجره إلا الحبس، وإن بوده لو استطاع أن يخرج معها إلى الحقول. فصفقت وصاحت به وقد اضطرم خداها: ما أحلى هذا! أوده من كل قلبي.
– ولكن كيف يمكن؟
– أوه. سأجد الوسيلة. دع هذا لي.
وخرجت لتجيئه بالطعام.
الفصل الحادي عشر
«حبيبي مدّ يده من الكوة، فأتْت عليه أحشائي»
معنى هذا؟
حار إبراهيم في تفسير خوالجه وما جاش به صدره وهو جالس مع شوشو. ولم يكن ما قرأه في أسارير وجهها وعينيها العميقتين أقل تحييرًا له، فلم يطق الجلوس في الغرفة وانتظار الطعام، وخشي أن تجيئه به تلك الزنجية اللامعة كالفحمة، وكره أن يرى وجهها بعد شوشو، واختلج في قلبه شيء من العطف عليها من أجل هذا الكره الذي يحسه لها، وكأنما أراد أن يهرب من نفسه ويتجنب أن يواجه ما تضطرب به. فأسرع فانحدر من السلاملك على الفضاء الذي أمامه، وتذكر وهو يهبط السلم كيف تركته شوشو بين ثلاث كلاب ضارية فابتسم وهو يقول: «تالله ما أظرفها! إن معين حيلها لا ينضب» ثم تجهم إذ رأى نفسه يكر إلى ذكر شوشو ويدعها تستولي على خواطره، فأسرع في المشي ولم يلتق بأحد، فمال إلى الحديقة غير عابئ بالأوحال التي تراكمت على حذائه، وقال يحدث نفسه وهو يقتلع رجليه واحدة بعد الأخرى من الأوحال: «أما لو أن الأرض جافة! إذا لاستطعت أن أمشي قليلًا وأن أفني بالمشي هذه الإحساسات الجديدة وأنفقها فيه وأحيلها عرقًا يتصبب».
ورأى رجلًا جالسًا على حجر يضحى في آخر الحديقة، فمضى إليه فألفاه شيخًا هرمًا في يده عصا، ونهض الرجل متوكئًا على عصاه ورفع له يده بالسلام. وراق إبراهيم وجهه المغضن كالحصير وشارباه المتهدلان كأنما كلت شعراتهما وفترت، فحياه ووقف صامتًا لا يدرى ماذا يقول، وأحس كأن بينهما جونًا يتعاظم، واشتاق أن يفتح قلبه لهذا الشيخ المتهدم ضيق العينين، متدلي الشاربين، المتوكئ على العصا؛ الذي اجتاز الحياة كلها وشق طريقه بين أشواكها. وتمنى لو يفتح له هذا الشيخ قلبه، فيقول هذا بشجوه مرة وذاك بشجوه مرة. ولكنه لم يجد الكلام حاضرًا ولم يدر كيف يجره إلى التحدث عن نفسه، فاكتفى بأن يقول: من أبناء القرية؟
وسخر من نفسه إذ قال ذلك. من أبناء القرية؟ إنه من جدودها بل جدها الأعلى فيما يعلم!
وقال الرجل بصوت جاد كأنه الصفير «أيوه» ووقف ينتظر السؤال الثاني فقال إبراهيم: «أنا من مصر» كأنما أحب أن يبادله التعريف ويشعره أنهما ندان.
فقال الرجل: «ما شفتهاش يا أفندي».
فقال إبراهيم: «لم تخسر شيئًا».
ولمعت عين الرجل وهو يحجب الشمس بكفه ويقول: بيجولو إنها جميلة. ما شفتهاش يا ابني.
– ليست أجمل من قريتكم.
وسرّ الرجل هذا الثناء على قريته وبدا الارتياح في هزات رأسه وفي ازدياد عمق الأخاديد التي حفرها الزمن في وجهه وهو يبتسم وقال: بلدنا؟ الشبان ما يعرفوهاش يا افندي. بيرحلوا ويجعدوا في البنادر. يبعتوهم المدارس يجومو ما يطيجوش البلد تاني. بيعدموا الصحة حداك والمال كمان.
وتحمس فدقّ الأرض بالعصا وقال: «بجالي سبعين سنة عايش في الأرض ما هجرتها يوم. وأروح فين»؟
وابتسم ووقع كلامه من قلب إبراهيم فقال؟
– وهل كل الفلاحين مثلك؟
– أيوه. زيى؟ لع! ما حد زيي؟ شبان الزمان ده كيف يبجوا زيي؟ ما طيج أفوت ريحة الأرض.
وضحك الرجل أو على الأصح انفرجت شفتاه عن فمه الذي عاد أدرد كالكهف الخاوي وقال: إنه زي البجر اللي تهزل وتهبط لما يتغير الرعي.
ثم رفع يده التي فيها العصا وقال مشيرًا إلى نوافذ السلاملك: بينادم عليك يا أفندى.
فتركه إبراهيم آسفًا ولم يتحول إلى السلم؛ بل قصد إلى نافذة غرفته مخترقًا إليها الحديقة، وطاف برأسه العجب من أن تأسر الأرض رجلًا كهذا، وتقيده إليها سبعين حجة، ما أقوى هذه الأرض التي لا يعود رجل مثله يطيق فراقها أو حرمان رائحتها! وأدار عينيه في الحديقة وهو سائر لا يلتفت إلى شوشو التي كانت تشور له أن يرتد ويتحول، ورمى طرفه إلى المساحات المترامية وراء السور، ثم رده إلى جمال الغصون وسحر الألوان إذ تخفق الأفنان في ضوء الشمس. فلم يعد عجيبًا أن يتدفق حب هذه الأرض في عروق أبنائها ويجري من دمائهم، وهم الذين يفلحونها ويتعهدونها بما يزيدها خصبًا، ويرصدون لها عيونهم وقلوبهم حتى يعودوا من فرط إلفها لا يطيقون أن يبرحوها؛ وأن تخطئ لحاظهم غضارتها ونضارتها وخضرتها الندية وشمسها دافقة الحرارة وجوّها الطليق ونسيمها العطر، ومطرها المنهمر وسحبها المتكاثفة طبقات بعضها فوق بعض، وماشيتها، وكل ما حفلت به من حيوانات صغيرة وكبيرة، لها كل ساعة بل كل لحظة تجديد.
وصار تحت النافذة فأومأ لشوشو وقال: من هنا. أطعميني من هنا.
فابتسمت. ما أحلى وجهها وأعمق عينيها! لم يرها قط أصبح ولا أجمل منها اليوم. وكانت عينها تنتقل من الطعام إلى الأرض ثم قالت: ولكن كيف أستطيع؟ تعال إلي. هذا أحسن.
فهزّ رأسه مصرَّاً وأعلن اكتفاءه بلقمة وقطعة من الجبن أو بضع زيتونات، واهتز كيانه سرورًا بتناول الطعام على هذه الطريقة. وراق خياله أن تلقي إليه شوشو باللقمة بعد الأخرى وأن يتلقف ما تلقي، بل أن تفلت اللقمة وتخطئها كفه وتقع فيلتقطها ويلتهمها بكل ما يعلق بها، ولكن شوشو كانت تهم أن تلقي إليه برغيف كامل حشته ما لا تعرف فصاح بها: لالا. لقمة لقمة. من فضلك.
فرمت إيه نظرة دل واغتباط، وضحكت وراحت تطعمه على نحو ما أراد، وهو يشعر بالحاجة إلى التوثب والقفز، ولا يكاد يطيق الوقوف على قدميه. وكانت ربما أوهمته أنها ملقية إليه باللقمة فيمد كفيه ليتلقاها فتخيب أمله، فيضحكان ويكون هذا أحلى وأمتع.
ولما أصاب كفايته من الطعام، قال لها: ليس في الحديقة أحد غير هذا الشيخ الهرم. فانزلي إلىّ.
فنظرت إليه مفكرة. ثم حنت على النافذة وأطلت بوجهها وصدرها وتلفتت، وكأنما اطمأنت فقالت: من هنا؟ أتتلقفني إذا هبطت إليك؟
– كلا. تعالي من السلم الآخر.
فصاح يردها وقد خاف أن تجازف: ومضى ليسبقها إلى المدخل ويستقبلها عنده. ولم تلبث أن جاءت تعدو فتخشى أن تزل قدمها في الزحاليق، فدفع ذراعيه ليقيها العثور وهي تجري مقبلة، فإذا بها ترتمي بينهما، فكاد يقع بها ولكنه كان قريبًا من الحائط فاعتمد عليه بكتفه، ولو كان الأمر إلى شعوره وإلى ما يشي به سكونها بين ذراعيه من الرغبة في البقاء، لظل يحتضنها، ولكنها كانت شوشو — بنت خالته وصديقته الصغيرة التي كم داعبها وهي طفلة، وخرج بها للرياضة والنزهة، وكم ركبت ظهره وزحف بها على البساط! وكم دفعت كفها الصغير في جيوبه باحثة عن الشكولاتة والحلوى واللعب الدقيقة التي اعتاد أن يشتريها لها ويبقيها معه حتى تتاح له فرصة يقدمها إليها فيها من غير أن ترى أختُها الأخرى! وكم تسللت إلى سريره وراحت تمسح له وجهه وهو نائم بيدها اللينة دقيقة الأصابع، حتى يفتح عينيه ويثاءب، فتلثم أقرب ما يكون إليها منه، وكثيرًا ما قبلت اللحاف، ثم تضحك فيبتسم ويعجب كيف لا يغضبه منها إزعاجها له وإيقاظه، وتشد ذراعه وقد تجر رجليه لينزل عن السرير ويلاعبها.
طافت برأسه هذه الصور ومئات غيرها من أيام طفولتها فاحمرّ وجهه، وأنكر من نفسه أن يتركها بين ذراعيه! ولكنها كانت كالعصفور وجد وكره واطمأن إلى عشه، فلم يجد في قلبه من جفوة الطبع وقسوة النفس ما يشجعه على أن يدفعها بغير مراعاة لها أو اكتراث لإحساسها. فمسح شعرها بكفه — إيه ما أنعمه وأبدعه متوهجًا في ضوء الشمس! وهمس في أذنها «شوشو» فرفعت إليه عينيها في فتور كأنما كانت تحلم فربّت لها على كتفها وقال: «هلم بنا» فاعتمدت على كفيها — وكانتا على كتفيه — وحملت نفسها في تثاقل وبطء وبجهد واضح.
الفصل الثاني عشر
«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته»
لم يغمض لشوشو جفن في تلك الليلة، وإن كانت — على خلاف عادتها — قد بكرت في الذهاب إلى مخدعها، وتركت أختها نجية وحدها مع طفليها، وزعمت أن جفونها مثقلة، وجعلت تتثاءب وتهوم وتتناوم حتى قالت لها نجية: قومي يا حبيبتي. لا تتحاملي على نفسك.
وكانت الأشجار ترى في ضوء غرفتها. وأكثرها قد ذهب مع الربيع رونقه، ولكن بعضها وأدناها إلى النافذة كان مورقًا رفافًا منوّرا، وكان ضوء القمر ينفذ إلى الأوراق الخضراء، ويومض في صفحاتها كأنه قطرات لامعة من الفضة. واستراحت الأطيار والضفادع إلى سكون الليل وسهوم القمر، فانطلقت هذه تنقنق وتلك تصدح أو تصفّر، وودت شوشو في هذه الساعة لو أنها كانت عصفورًا يذهب إلى حيث يشاء ويحلّق في الجو، ويسبح في الفضاء، ويبصر وهو ناشر جناحيه كل ما بين الأرض والسماء — عصفورًا ينحدر على شعاع من نور الشمس أو خيط من ضوء القمر — عصفورًا يرفع منقاره وهو طائر ويتلقى في فمه الدقيق قطرة من المطر — عصفورًا يحط على أعلى فنن في أسمق شجرة، أو يهوي إلى الأرض ويخطو بين أغصان البرسيم فتحجبه، ويضع بيضه الصغير حيث يروقه أو يؤلف عشه، ويمد منقاره إلى الماء حيث يجده ويمص قطرة ويتلفت — عصفورًا ثيابه ولا يبدل أفواف ريشه ولا يكون في رأي العين مع ذلك إلا جميلًا. آه إنه روح الكون ولا شك في العصافير والسحب — سابحة تجوب الآفاق؛ وهي الأزهار والأشجار التي لا تكون إلا عطرة ولا تبدو إلا حالية مونقة ولا يعتورها قلق ولا يساورها اضطراب. آه! لماذا تقلق النفس؟ لأي شيء تطلب ما ليس في اليد وتريد أن تحس وأن تعلم وتبغي أن تحب وأن تَحب؟
ولما بلغ بها التفكير هذا المدى اعتمدت بكوعها على النافذة واتخذت من كفيها كأسًا لذقنها. لقد تغيرت الدنيا كلها في يومين اثنين، لا بل في يوم واحد، نعم؛ كانت تحب إبراهيم من قبل كما يمكن أن تحب أخاها لو أن لها أخًا، غير أنها لم تكن تحس بمثل هذا الحنين إليه. ولا كانت تصبو إلى مشاطرته كل شيء؛ بل إلى أن تهبه وتمنحه نفسها وتسليه وتحميه وتفوز منه بالروح والراحة — الراحة من أي شيء؟ أهذا هو الحب الذي تصفه القصص الفرنسية التي قرأت منها عشرات؟ كلا! تلك حكايات لفقها الخيال النشيط، ومن أين لكتَّاب تلك القصص المزورة أن يعرفوا كيف يثب القلب إلى الحلق وتضطرم النفس وتعود كالبركان الذي يوشك أن ينفجر ويقذف بالحمم؟ أيكون الحب طاغيًا عنيفًا كما تجده هي؟ ويا ليت من يدري كيف صارت تخجل الآن، وتشعر النار تندلع في وجنتيها وبالدموع كأنها ستطفر من عينيها كلما رأته بعد أن طما في نفسها هذا العباب الزاخر وهي بين ذراعيه عند باب الحديقة! إن لهذا الحب روعة ليست لسواه.
وإبراهيم؟ إنه وعر مرّ النفس — لماذا يا ترى؟ ألا تستطيع أن تستدرجه حتى يكاشفها بما تنطوي عليه أضالعه لتحيط خبرًا بدواعي هذه المرارة؟ ولكنه حتى كثير الجهامة، وإن كان من واجبي أن أعترف أنه ظريف الدعابة مليح الفكاهة حين تسلس نفسه ويصفو أفقه، وآه من عينه على رقتها! لم تر شوشو أحدّ منها ولا أنفذ، هي عين تأخذ كل ما دق وجل مما يقع تحتها فليس يفوتها شيء حتى ما هو مغيّب في الصدور. وياما كان أحلاها هنيهة على قصرها، وأنا بين ذراعيه ورأسي على كتفه! وما كان أرقه وأحناه وهو ينحيني عنه وقد تصلبت عضلات وجهه حتى صار كالدمية المنحوتة من الصخر، والورود البيضاء ترف في حوضها كأنها مصوغة من ذوب أشعة القمر، والبقرة التي أزعجته وأضحكتنا في الصباح منه مثقلة الأثداء تنظر بعيني نائمة، والأفنان تهتز وتترنح فوق رأسينا ولأوراقها حفيف مطرب، والسماء تبدو من خلالها شتى الشكول، وندى الصباح على وجهينا، والسكون واسع عظيم؛ وكأن الدنيا كلها في صلاة وتسبيح، وقلبي مثلها يسبّح بحمد الله. لقد كنت سعيدة، وأظنه هو أيضًا كان سعيدًا على الرغم مما كان في وجهه. ما أشد سحر هذا الحب الذي يجمِّل الدنيا ويفيض عليها من الفتنة ما لم يكن لها، ويحيلها كالحلم اللذيذ لا بل كالصوت الجميل … كالنغمة العذبة … كالغناء الملائكي. لكأن روحي هائمة مع روحه الآن.. لم تعد روحي في بدني فليتها تظلُ معه هائمة، فما أريد أن ترتد على جسمي.. لست ابغي أكثر من هذا. أبدًا. أبدًا! إيه أيتها الغبطة، نشدتك الحب ألا ما بقيت معي! لا تنقضي.. لا تذهبي عني!
ولكنه يفزعني … سبحات عقله تخيفني ووثبات خياله ترعبني فأتضاءل وأتضاءل، أحس كأني لم أعد شيئًا! ما أقساه حين يفتح عينيه كأنما يريد أن يلتهم بهما الدنيا. ويروح يتكلم كأنْ ليس معه أحد. لا يحسني في تلك اللحظات ولا أظنه يراني، ويخيل إلى أنه يبصر ما ورائى من خلال بدني.. وانتَفَضَتْ كأنما سرت في جسمها رعدة فلفّت شملة الصوف التي كانت على كتفيها وجمعت أطرافها على يديها فوق صدرها ومضت إلى السرير، وقعدت وتنهدت، وقد طاف برأسها أن هناك سرًا هو علة هذه الأطوار الغريبة من إبراهيم. فإن له ساعات يطول فيها وجومه فلا تتحرك حتى شفتاه؛ وأحيانًا ينفجر غاضبًا بما لا يكاد تفهمه فيحيرها ويروعها، وطورًا تنبسط نفسه إلى الحياة والدنيا وتهش روحه فلا يكاد يطيق جسمه، وطورًا آخر يضحك ويلعب كأنه جديد في الدنيا لا يعرف إلا صفحتها المشرقة — ليس كل هذا عفوًا! ترى ماذا يجيش في صدره هذا؟ ألا يمكن أن أعلم؟ كلا! لا أمل. فإنه كتوم، كتوم متكبر كما يقول، يعد الإفضاء بما في نفسه ضربًا من الشكوى. وكل شكوى عنده ضعف لا يليق بالرجل. وا أسفاه! لن أعرف أيحبني كما أحبه؟ لن أسمع اللغة التي أود لو يخاطبني بها. لغة الحب المجنحة. لغة القلب النارية. كلا لا أمل في هذا أيضًا. لأنه شيء ينكره خلقه الوعر.
واشتهت أن تقول بشجوها، وأن تصب في أذن إنسان ما حديث حبها، وأن تطرح عن قلبها ثقل هذا الكتمان. ولكن لمن؟ ألأختها؟ واأسفاه! إن هذا يكون جنونًا مطبقًا، فما تستطيع أختها أن تقدر الحب إلا بين زوجين، وحتى بين الزوجين لا يليق عندها أن يجري كلام فيه، أختها نجية؟ إنها ليستْ سوى كذا قنطار من اللحم، وما عرفت قط إلا العفاريت والخرافات. ولا عهدتها شوشو تستطيع أن تنزل عن شيء مما درجت عليه.
ووجدت شوشو نفسها تنحى على أختها كأن لها عندها ثارًا. فعجبت لهذا وأسفت وانثنت واعتذرت لها بنشأتها وجهلها، ولكن أسُدَّت الدنيا فلا سبيل إلى أحد تبّثه ما في نفسها؟ وخطر لها أن أختها الوسطى سميحة أقدر على الفهم، غير أن سميحة في الإسكندرية مع ابن عمها (زوج نجية)، وعلى أن مكاشفتها بهذا الحب، مسألة فيها نظر كثير. فإن سميحة أكبر من شوشو، والكبرى تسبق الصغرى إلى الزواج، وليس بمجهول أن سميحة ما انفكت منذ سنتين تتحبب إلى إبراهيم وتحاول أن تستولي على هواه وتقتنص قلبه، وابتسمت شوشو وهي تفكر في هذا، فما يخفى عليها أن إبراهيم لا يطيق سميحة، إنه على الرغم مما هو معهود فيه ومعروف عنه من ضبط النفس والقدرة على كتمان عواطفه، لا يحاول أن يداجي سميحة أو يداريها، ولا يتكلف أن يكتمها أنه يمقتها، فهو يحرّف اسمها ويدعوها «سوسة» ولا يكون إلا سيئ الخلق في حضرتها، بل لا يزال يفر من مجلسها كلما وسعة ذلك. وهي؟ واأسفاه! لا تنهزم ولا تبالي هذه الجفوة ولا تحفل نفوره منها، بل تزداد شدًا عليه ومطاردة له، ومع أنه سرّ شوشو أن تشعر أن في وسعها أن تكون على يقين من أن «سوسة» لا أمل لها في إبراهيم، وأن لها «أي شوشو» أن تطمئن، إلا أنه لم يخف عليها أن كون «سوسو» لم تتزوج بعد، سيكظ الطريق بالعقبات والمصاعب، ويجعل أملها هي، أي شوشو لا أقرب ولا أيسر. فنكست رأسها وقد اغرورقت عيناها وزايلتها الغبطة التي كانت تحسها، وحلّ محلها الاكتئاب، وبدأ اليأس يدب في صدرها فأحست أنها توشك أن تختنق. ماذا تصنع؟ أين القلب الذي يمكن أن يعطف عليها ويرثيَ لها في هذه المحنة؟ بل أين المخلوق الذي تستطيع أن تبيحه دخيلتها وتفضي إليه بسرها؟ لا أحد! وهالها أن تشعر بالوحدة في هذا العالم الزاخر، وأن ترى إلى أى حد أرضاها حبها لإبراهيم مستفردة، وفى هذه اللحظة فقط أدركت أن حولها أربعة جدران سميكة، وأن هذه الجدران الأربعة — من ورائها ومن قدامها وعن يمينها وعن شمالها — محيطة بها مسدودة عليها حيثما تكون من الأرض. لماذا خلقها الله في مصر؟ لماذا يضرب عليها هذا الشقاء؟ حتى إبراهيم لا يسعها أن تذهب إليه وتقول له: «إني أحبك» كلا! هذا أيضًا مستحيل. لأن التقاليد والآداب تأبى ذلك. وإنها لواثقة الآن أن إبراهيم يحبها وأنه يتمنى لو استطاع أن يعلن لها حبه، ولكنه مثلها تقيد لسانه التقاليد والآداب. وما أدراها؟ لعله الآن — في هذه اللحظة بعينها — تؤرقه الحيرة والكمد — إلا أن في هذا العزاءَ لقلبها. وبحسبها أن تعلم أنه مثلها موجع مكروب مهموم مؤرق. ولكن من يدري! حتى هذا العزاء التافه فيه شك كبير! ألا تستطيع أن تذهب إليه وترى؟ واأسفاه! كان هذا أمس — أمس فقط — ممكنًا! لشدّ ما يتغير كل شيء في يوم وليلة، بل في ساعة واحدة، لم تكن أمس قد انتهت إلى الاعتراف والإقرار فيما بينها وبين نفسها بهذا الحب، فلم تكن تخجل أن تجري إليه وتدفع الباب في جرأة وتوقظه إذا كان نائمًا، وتجره من رجليه، وتمازحه وتداعبه، وتكون معه كما تكون الأخت المدللة مع أخيها الذي يحبها، أما اليوم، فقد سدّ شيطان الحب هذا الطريق. ولكن لماذا؟ لا تدري، وكل ما تدريه هو أنها صارت تستحي حتى أن تلقاه بعد أن عرفت ما في نفسها له.
ولكن ألا سبيل مع ذلك إلى معرفة ما تصبو إلى معرفته؟ ألا يمكن أن توفد.. من؟ فاطمة؟ ليس ثم غيرها. إنها أمينة مخلصة وفيها وفاء. وانشرح صدرها فتسللت من غرفتها إلى حيث فاطمة نائمة. وكانت ملفوفة في لحافها ولا شيء يبدو منها، فكشفت عن وجهها وجعلت تحركها حتى أيقظتها. وأشارت إليها أن تتبعها في صمت، ولما صارتا في غرفة شوشو قالت فاطمة وهي تفرك عينيها: نعم ياستى.
فابتسمت لها شوشو ودنت منها ووضعت كلتا يديها على كتفيها وقالت: أريد منك أن تذهبى إلى السلاملك وتنظري ماذا يصنع إبراهيم. فأفاقت المسكينة جدًا ودقت على صدرها بكفها وقالت: «أنا؟ أنا ياستى»؟
فأسرعت شوشو تزجرها عن رفع صوتها وقالت: «هس. لا تدعى أحدًا يسمع. نعم أنت، وما الضرر»؟
قالت: «الضرر؟ أتريدين أن يقتلني! إن سيدي إبراهيم صعب لا يا ستي»!
قالت شوشو: «لا عليك. سأعطيك فستاني الأخضر. إنه جديد».
فقالت فاطمة وهي لا تفهم: «ولكن لماذا لا تذهبين أنت»؟
نعم لماذا لا تذهب هى؟ يا ليت من يدري كيف صار هذا عسيرًا؟ ورأت فاطمة أن ستها شوشو واقفة مطرقة وفى وجهها سهوم غريب. فأدركها العطف على ستها، ولكن خوفها من إبراهيم كان أعظم من رثائها لشوشو فقالت: ثم إنه لا يليق يا ستي أن أذهب إليه في الليل هكذا؟ هذا عيب! ماذا يقول عني؟ لا لا يا ستي؟ أتريدين يقتلني سيدي الشيخ؟
ولكن هذا العذر الذي تقدمت به فاطمة لتنجو، هو بعينه الذي هوّن الأمر على شوشو ويسّر لها الحل فقالت: لن تذهبى وحدك. سأرافقك. وأقف فى الصالة وأن تتقدمين إلى الباب وتفتحينه بلطف وتنظرين. فإذا سألك أو زجرك أسرعت إلى نجدتك. افعلى لأجل خاطرى يافاطمة.
– ولكنه لا شك الآن نائم يا ستى.
– لا، لا، لا.
– كيف تعرفين؟
وزادت دهشة الخادمة وصار اللغز فيما ترى أعوص. ولكنها ليست مطالبة بالتفكير ولا بحل الألغاز، وتذكرت الفستان الأخضر وأن سيدها لم يشتر لها في هذا الشتاء كسوة، وسيدتها نجية لم تخلع عليها شيئًا من ثيابها القديمة، فتوكلت على الله وخرجت تطلب المصباح فمنعتها شوشو. ومضيا معًا في الظلام والبرد، وشوشو تسأل نفسها: «ما آخر هذا الحب يا ترى؟».
الفصل الثالث عشر
«عهدًا قطعت لعيني فكيف أتطلع إلى عذراء؟»
ما آخر هذا الحب؟
في هذا كان إبراهيم أيضًا يفكر تلك الليلة، وهو مضطجع على سريره في الظلام، وكان لا يستريح إلى النور إذا ثقلت على كاهله وطأة الحياة، أو ألح عليه إحساس أو خاطر، كأنما يخشى أن يفضح النور له سرًا، أو يهتك لما يخفيه سترًا، وكان امرءًا لا ينفك يغالب نفسه حتى يقهرها أو تقهره قبل أن يستسلم لعاطفة أو فكرة، وكان مذ أوى إلى مخدعه، يدخن سيجارة في إثر سيجارة، وكان يشعل الجديدة من القديمة. ولا يجد للدخان طعمًا، ولا يفيد منه سرورًا، وأراد أن يشغل نفسه أو يلهيها عما يكظ شعابها، فشرع يلتمس تعليلًا لفتوره هذا عن التذاذ الدخان، فزعم لنفسه أولًا أن الحواس — ولا سيما حاسة النظر — هي التي يرجع إليها الارتياح إلى التدخين وأن المرء إنما يعتاد في الحقيقة أن يرى الدخان يتلوى ويعقد سحابات صغيرة بعد أن ينفخه بفمه، وأن يشعر بالسيجارة بين إصبعيه وبين شفتيه، ولكن المهم هو رؤية الدخان، لأن العين أهم الحواس وأوثقها اتصالًا بالدماغ. وأقدرها على إفادة الصور الذهنية.
ولكن هذا التعليل — على قربه من الصواب — لم يقنعه، ووجد إبراهيم نفسه يتساءل: «هب النور مضاء، ومعي.. شوشو، أكنت أنظر إلى الدخان خارجًا من فمي ومتلويًا في جو الغرفة، أم إليها هي» وغضب لما رأى نفسه يكر إلى ما يريد أن يتلهى عنه، وقال لي عناد: «حسن. فلنواجه الموضوع».
وواجهه في حزم وشجاعة واستعداد لاحتمال النتائج: لقد تحول حبه لشوشو من أخوي إلى جنسي، ذلك ما لا شك فيه، فهل له أن يأمل أن يفوز بها، وأن يقنع أهلها أن يزوجوه منها؟ كلا! فإن في الطريق تلك البنت الخبيثة التى لا تحجم عن كل شر إذا همَّ أهلها بأن يقدموا شوشو عليها. وستكون النتيجة أن تشقى شوشو، وهي ستشقى على الحالين، ولكن أهون الشرين أن تيأس من الآن، والعاطفة غضة لم يستحفل أمرها، ولم يستعص علاجها.
وهو؟ أوه. ليست هذه بأول عاطفة احتاج أن يخنقها! وإنه لعذاب. وإنه ليحس كأنما يقتلع أحشاءه مع العاطفة التى يحاول أن ينزعها من قلبه. وطاف برأسه قول ابن الرومي:
«وقْعُ السهام ونزعُهُنّ أليمُ»
فقال: «صدق المسكين»، وود في هذه الساعة لو أن معه ما طبع من ديوانه، إذًا لقضاها ليلة طيبة مع هذا الشاعر المنكود الحظ، الذي ألهبته الحياة بسياط من نار، وكربته الخواطر فراح يتساءل: «ما الحب؟ وما الشهرة والخمول؟ وما السعادة والشقاء؟ وما الحياة نفسها»؟ وأعياه أن يهتدى إلى جواب مريح — وأي جواب آخر سوى أنها عناء وباطل ليس يُجدى. وليس هذا بجواب. وإنما هو همسة الضعف، ووسوسة العجز. وصحيح أن الحياة لا فرق عندها بين سعيد وشقي، ومجدود ومكدود، ومعروف ومغمور، وعاشق وخلي: وحيوان ونبات وجماد. ولكن هناك فرقًا بين إحساسات المرء بوقع الحياة، والمرء ليس الحياة حتى يطلب منه أن يكون نظره إلى الأشياء كنظرها هي، واعتباره لها كاعتبارها.
«والخلاصة»؟.. وجلس إبراهيم على السرير ورد على سؤاله: «والخلاصة: أني لن أذوق النوم في ليلتي هذه على ما أرى». وضايقه أن يكون أكبر ظنه أن يقضي الليل المقرور أرقًا، ويناجي نفسه ويحاورها ويداورها على غير طائل. وتوهم أنْ ليس عليه إلا أن يعتزم النوم وإلا أن يريده فينام. فانطرح على السرير وتغطى وأغمض عينيه وراح يتنفس بانتظام محاولًا أن يتقي التفكير في أي شيء. ولكن جهد اتقاء التفكير كان كجهد التفكير نافيًا للنوم، لأنه جهد على أية حال، فخطر له أن يوحي إلى نفسه أنه سينام، وجعل يكرر «سأنام» حتى قالها أكثر من ثلاثين مرة، ثم ضحك فجأة وقد تذكر أنه كان مفتوح العينين وهو يردد هذا اللفظ. ولم يكن ضحكه إلا حركة عصبية لا عن سرور نفس ومراح، فما عتم أن تجهم وهو يسأل نفسه: وبعد؟ وضاق صدره إذ لم يسمع مجيبًا له على سؤاله. فطرح الغطاء بعنف كأنما كان هو علة أرقه، ووثب على السرير حتى إذا استقر على رجليه تلفت وقال: «ترى أين المصباح؟ ولم يسعه على كل ما به إلا أن يبتسم. أترى تجربة الأمس ستعاد؟ البقرة البارحة — ترى ماذا صنع الله بها — والليلة المصباح؟ وألفى نفسه يعجب لحياة الريف التي لم ير منها شيئًا إلى الآن، ويقيسها — متحاملًا عليها — إلى حياة المدن. ولكن دقته وما فطر عليه من العطف الذي تؤدي إليه سعة الأفق والقدرة على الإحاطة بالجوانب المختلفة — ردته إلى الإنصاف. فمضى يقول لنفسه إن المفروض أن المرء في المدن يصنع ما بدا له، ولكن استبداد العادات والتقاليد يقضي على كل نزعة إلى التحرر، ولا يدع للمرء مفرًا من النزول على حكم هذا العادات والتقاليد، أما هنا في الريف فالحياة أشبه بمناوشات مستمرة، فالمرء يجد نفسه مثلًا يتناول طعامه وحده في آية ساعة. وقد تظمأ في الليل فتجد القلة فارغة أو لا تجد القلة على الإطلاق. وهذا الشيخ علي، على كثرة ما أنفق على بيته هذا — بناء وتأثيثًا — لم يعن بأن يعلق مصباحًا في الغرفة يتدلى من سقفها، فمرة ينام المرء على مصباح يضاء بالبترول، ومرة لا يجد إلا قنديل زيت أو شمعة، وقد لا يجد شيئًا من هذا كله. ويذهب المرء إلى الحمام فلا يستطيع أن يوصد الباب، إذ لا مفتاح ولا رتاج، وهذا عجيب، إذا ذهبت تعتبر أن الشيخ علي كلف نفسه أن يجهز الحمام بحوض كبير، وقد تكون في الحوض عاريًا فيفتح الباب خادم أو واحد من هؤلاء الفلاحين الذين لا يدري إبراهيم أهم خدم أم أقارب أم من عمال الأرض، والواحد يذهب إلى حيث يشاء في الليل أو النهار، فلا يسأل أحد فيما يرى إلى أين أو لماذا أو متى تعود؟ وأدهش إبراهيم أنه لا يعلم أين يبيت هؤلاء الرجال الذين يبصرهم في النهار رائحين غادين، وداخلين خارجين، وأدهشه فوق ذلك أنه لا يرى أحدًا يقلقه اختفاؤهم دفعة واحدة، بل لا أحد يذكرهم أبدًا، ولم يذكر إبراهيم أنه رأى أحدًا يلعب شيئًا خارج البيت — كل ما رأى من الألعاب، وهو لايعدو الورق أو الطاولة، يؤدى داخل البيوت وعلى الكراسي أو الوسائد. ولم يعجب إبراهيم لهذا فإن الزراعة رياضة كافية. وما حاجة الفلاح الذي يقضي يومه عاملًا في الحقل إلى كرة أو متوازييْن؟ ولم يسعٍ إبراهيم إلا أن يعترف على الرغم من كل ذلك بأنه يشعر أن هناك روحًا تمسك البيت وتحفظ عليه وحدته — روحًا أو لعلها فتاة في ثوب قان من الصوف.. آه شوشو مرة أخرى! تالله ما ألح هذا الخاطر وأشد تشبثه بالنفس! أتراه هجر السرير في هذا الليل المقرور ليعود إلى التفكير فيها؟ أو لم يفرغ من هذا الأمر؟ ألم ينته منذ لحظة إلى وجوب القنوط والإقناط؟
وقطع عليه تفكيره صوت تهامس خافت. فأرهف أذنيه وتسمع، وكانت حاسة السمع عنده قوية. فخيل إليه إن إنسانًا يخلع نعليه. فهز رأسه ومشى على أطراف أصابعه إلى الباب ووقف بجانب الحائط يترقب ويفكر. ما العمل إذا كان هذا الطارق لصًا؟ ليس معه سلاحه يدافع به عن نفسه، ولا هو قوي مفتول الساعد فيستغني بقوته عن السلاح، فماذا يصنع؟ والهم في هذه اللحظة أن يستغل الظلمة، فعاد إلى السرير فسحب اللحاف عليه وسوّاه كأنه نائم تحته ليوهم القادم، ورجع إلى حيث كان بجانب الباب واعتزم أن يدع اللص — إذا كان لصًا — يدخل في سكون ومن غير أن يعترضه. وأن يتسلل هو فيخرج، وإذا وسعه فوق النجاة بنفسه أن يوصد الباب على الضيف الثقيل ويغلقه بالمفتاح، كان ذلك خيرًا.
وسمع قرقعة كأنما داس اللص المحتمل على بندقة فارغة، فابتسم وقال لنفسه: «سيكون هذا الظلام عوني وحليفي»، لأن هذا الصوت الفرقعة تلته صرخة خافتة مكتومة، فحيّره ذلك لأن هذا الصوت قد يند عن طفل أو امرأة أما عن رجل فلا. ونازعته نفسه أن يطل برأسه ولكنه استحمق هذا الخاطر فطرده، ولم يطل وقوفه وانتظاره فقد بدأ مصراع الباب — وكان مواربًا — يتحرك ببطء شديد حتى لامس الحائط منه شيء فعض إبراهيم شفته وأدرك أن المفتاح من الداخل. إذًا لن يوصد الباب على هذا الوغل؟ وليس من الحزم أن يعالج إخراج المفتاح والواغل منه قريب. فلم يبق إلا أن يترك كل شيء للحظ ولإلهام الموقف، وعليه أن يحافظ على هدوئه واتزان أعصابه ليتأتى له أن يتصرف بحكمة.
وأطل شيء كالكرة الحمراء فلصق بالحائط جدًا، وحدق في هذه الكرة العجيبة والتي بدأت ترتفع حتى حاذت رأسه، وامتدت ذراع ليس لها كف ظاهرة، إلى الحائط الآخر؛ وكأنما اطمأن صاحب هذه الأعضاء الغريبة، فخطا بجرأة. فما أسرع ما غير إبراهيم ما كان قد صمم عليه، فأهوى إلى ساقي الداخل وجرهما بقوة فوقع صاحبهما على وجهه وندت عنه صرخة أيقن منها إبراهيم أن هذه امرأة. فحمد الله على أن حماه عار الفرار من امرأة؛ وحنق عليها لأنه كان يوشك أن يبدو لها جبانا، وتقدم إليها في ثبات وركلها برجله وصاح بها: «قومي أيتها اللعينة».
فتوسلت إليه المسكينة: «في عرضك يا سيدى. في عرضك».
فشد ذراعيها بعنف وقال: ماذا تصنعين هنا يا بنت الكلب؟ انطقي!
وركلها برجله.
فلم تقدر المسكينة على القيام وجعلت تكرر وهي تنتحت: «في عرضك» وغاظ إبراهيم أنها تبكي وأنها لا تزيد على التوسل، وأنه لن يقف على سر هذه الزيارة، فكاد يجن وقبض على عنقها وهو يصيح: سأقتلك إن لم تنطقي. قولي ماذا جاء بك؟
– أنا!
فخلى عنها وانتفض قائمًا إلى مصدر الصوت في مدخل الباب. ثم دفع فاطمة برجله وقال: «قومي هاتي المصباح». ومضى إلى الكنبة في سكون.
وقالت شوشو وتقدمت إليه: «معذرة يا بن خالتي. لا داعى للمصباح. أنا أرسلتها إليها ورافقتها حتى لا تخاف».
فلم يدعها إلى الجلوس، وقال فى جفوة متكلفة: أريد أن أفهم معنى هذا.
فارتبكت شوشو؛ ولم يكن شيء من هذا كله مما تتوقع، ولم يخف عليها أنها كانت طائشة فيما فعلت، وأنه مصيب في سؤاله محق في غضبه؛ ولكنها على عادة جنسها نسيت ذلك وتعلقت بلهجته الجافية فحزت في نفسها وسالت الدموع على وجنتيها، ووقفت ترد النشيج بجهد، ولم يكن إبراهيم ملتفتًا إليها لأنه آلى أن يتكلف الجفوة، وأتيحت له الفرصة فاغتنمها ولم يكن هذا بالهين ولكنه كان الواجب في اعتقاده فلم يتردد، ومضى يقول لنفسه وهو جالس لا ينظر إلى شوشو: «إن الحياة كالنظر إلى الظلام. والمرء لا يعرف أي شيء هذا المقبل عليه وإنما يخمن ويقدر، كما يقدر في الظلام ويخمن أي شجرة هذه التي تصادفه في طريقه، وكما يحاول أن يتبين وهو سائر هل بلغ شفا شيء؟ والإنسان وحده هو الذي يفكر ويتبرم ويعنّي نفسه بهذا وذاك — بالحياة والموت، وبالمستقبل، وبالنور والظلام، وبالحب والبغض، لقد كنت في الصباح مع شوشو هذه في الحديقة، ومازلت أذكر وهي على صدري تلك النحلة الصغيرة التي طارت فوق رأسينا ومضت إلى الحشائش وغرزت رأسها فنامت. فيا ليت أنا كهذه النحلة نحيا في كل لحظة أتم حياة، فإذا تعبنا ألقينا رؤوسنا ونمنا، أما لو أن شوشو ليست هنا الآن! مسكينة شوشو واقفة وحدها في الظلام تحدق في سواد اليأس الذي لا يتخلله عرق واحد من النور.. مسكينة مسكينة».
ونهض ومضى إلى النافذة ففتحها وأطل منها. فتضوع إلى أنفه نسيم الروض العطر. ولم يكن يرى شيئًا ولكنه لم يشكَّ في أن كل ورقة على غصنها، وكل زهرة وكل عود نابت — كل أولئك متآمر أن يذيع كل ما فيه من عبير وعطر، وتنهد وهو يحدث نفسه أن كل هذه الحيوات الصغيرة متحابة متعاشقة. وإلا لما اتسقٍ جمالها كل هذا الاتساق.
وأغلق النافذة وعاد فلم يجد أحدًا في الغرفة.
الفصل الرابع عشر
«حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى بين الجنات ويجمع السوسن»
١
كان أول ما رآه إبراهيم من حياة الريف — غير ما في البيت الأنيق الذي شاده الشيخ علي — أحمد الميت راقدًا في حظيرة البهائم، وكان إبراهيم قد اعتزم أن يقلل من المكث في البيت وأن يكثر من الخروج إلى الحقول والتجواب في القرية، على الأقل في النهار، حتى يجيء الشيخ علي من الإسكندرية، فقادته رجلاه إلى هذه الحظيرة وهو لا يدرى.
وكان أحمد قد سكر فلما بلغ الحظيرة عرج عليها وارتمى فيها، ولم يكن يدري لا هو ولا سواه كم ساعة قضاها هناك راقدًا يغط، بعمامته وجلبابه الأسود وحذائه الأصفر الشامي، وعلى أنه لم يكترث لذلك. بل لم يكن يبالي كم ساعة أخرى يمكن أن يقضيها هناك.
ولم يكن منظر هذا السكران الطافح بالغريب على ما يظهر فى القرية، يدل على هذا أن إبراهيم رأى قريبًا من رأس النائم حجرًا منصوبًا كأنما أراد واضعه أن يتماجن على النائم — وشهرته الميت — فرفع عليه حجرًا كالذي ينصب على القبور، وفيما عدا هذا الماجن المجهول لم يتبين إبراهيم أن أحمد أزعجه أحد آخر، إذا استثنينا حمارًا كان مطلقًا في الحظيرة وكان لا ينفك يدنو من هذا الراقد ويشمه كأنما يحسبه بعض المذاود أو بعض ما يوضع فيها. ويضاف إلى الحمار كلب — لم ينس إبراهيم أنه رآه ليلة جاء إلى هذه القرية — مستلقيًا عند قدميه ولا يزال يرفع رأسه فتقع الشمس في عينيه فتختلج جفونه.
وقف إبراهيم ينظر إلى هذا «الميت» ويفكر فيما ينبغي أن يصنع ويعجب للشيخ على كيف يتخذ مثل هذا المجنون السكير وكيلًا له ويعهد إليه في الإشراف على شؤون ضيعته. ثم تقدم فدفع الحجر برجله فألقاه، ولاحظ أن عمامة الرجل على الأرض وأن رأسه عار وأن أشعة الشمس واقعة عليه، وظن أن هذا قد يجديه فالتقط العمامة وغطى بها جبينه وعينيه وترك له فمه وأنقه ليتنفس، ولم يجد أن في وسعه شيئًا آخر فأولاه ظهره ومضى، ولكنه تلفت مرة قبل أن يخرج. فإذا بالعمامة على الأرض مرة أخرى وإذا بأحمد الميت قاعدًا يقول كلامًا غير مفهوم.
والحقيقة أن أحمد الميت — على خلاف أهل الريف — لم يكن يطيق أن ينام وعلى رأسه غطاء، ولعله يؤمن في أعماق نفسه بفائدة الشمس للجسم ولا يخشى وقوعها حتى على رأسه، وكان منذ حداثته يأبى أن يضع على رأسه شيئًا وهو نائم، ولكنه وهو قاعد ورجلاه ممدودتان لم يستطع أن يفضي إلى إبراهيم بعقيدته هذه ولا أن يبين له أن تلك عادته ولم تنفرج شفتاه إلا عن تمتمة غير مفهومة، فكرّ إليه إبراهيم وزجره أن ينهض إلى بيته إن كان له بيت غير هذه الحظيرة.
فنهض أحمد إلى قدميه وسأل إبراهيم: البيت؟ لماذا أذهب إلى البيت؟
ولم يكن هذا بالسؤال الذي يلقى على إبراهيم، ولكنه مع ذلك قال له وهو ممتعض من منظره: اغسل هذه الأقذار التى على جسدك أيها البهيم القذر.
ولم يكد يقولها حتى كان أحمد الميت يخلع ثيابه ويقذف حذاءه ويعدو في قميصه وسرواليه المصفرين، إلى النهر، فدهش إبراهيم وأيقن أن الرجل لا مفر له من الغرق، ولما كان لا يدري كيف ينقذه فقد بدا أن يرجع إلى البيت ويخبر من فيه.
٢
دفع إبراهيم باب الحديقة الخلفي بقدمه، وانثنى إلى اليسار ثم وقف. ذلك أن شوشو كانت حانية على حوض الزهر تقطف زهرة من أزهار الأراولة وظهرها إليه. فعض شفته وخطر له أن يتراجع غير أنه خشي أنه تنتبه، فظل واقفًا وقد بدأ المنظر يروقه، فقد نفخت شوشو الزهرة لتطير عنها الحشرات، ثم قبلتها ثلاثًا وراحت تنزع غلائها المستطيلة المتحازية على مدار كأسها — واحدة واحدة — وتلقيها وهى تقول على التوالي: «نعم، لا، نعم، لا.» فوافقت «لا» آخر ورقة، فتجهم وجهها وتفلت ما بقي من الزهرة من بين أصابعها إلى الأرض، ولبثت هنيهة جامدة لا تتحرك، ثم أهوت على الحوض فجأة واقتلعت زهرة أخرى وأعادت التجربة فكان ختامها «نعم» في هذه المرة، فلم تكد تقوى على الوقوف ساكنة وراحت تدب برجليها وتضم كأس الزهرة إلى فمها بكلتا يديها.
ثم كأنما طاف برأسها أن الكفتين متعادلتان وأن «نعم» يقابلها «لا» فالمسألة لم تتزحزح عن موضعها الذي كانت فيه من قبل، فلابد من تجربة ثالثة للترجيح، وشكت في أنها بدأت التجربة الثانية كما بدأت الأولى «نعم» فقد يكون عدد الغلائل واحدًا في كل زهرة من هذه الأزهار، فإن كان هذا هكذا فلا شك أن النتيجة تختلف تبعًا لاختلاف ما تبدأ به. وإذا صح أن البدايتين اختلفتا، وأن عدد الغلائل واحد. فهل غشت إلا نفسها؟ وهل يمكن أن تكون النتيجة إلا واحدة فى كل مرة؟
ولكن هل الغلائل عددها متساوِ؟ هذه هي المسألة! ولحلها حنت على الزهر فقطفت اثنتين ومضت تشد الورق وتعد، فاختلف الرقمان، فتهلل وجهها وبدا السرور في وقفتها وحركاتها، فقد صار التجريب معقولًا، والأمر متروكًا للمصادفة والاتفاق، وليس مما يسهل العلم بنتيجته من غير أن يتكلف المرء قطف الزهر وإفساده بنزع ورقه، وصاحت «لنبدأ من جديد».
فعلم إبراهيم أنها محت التجربتين وأسقطتهما من حسابها، وراحت تنزع الورق في تؤدة وأناة وتثني رأسها على صدرها في كل مرة، حتى بقيت ورقة واحدة قالت من غير أن تنزعها «نعم» طويلة ممطوطة كأنها الصعداء تتنفسها وتحط بها عن كاهلها وقرًا، ثم وقفت ساكنة لا تصنع شيئًا ولا تتحرك. ورأسها مثني على صدرها وعينها ترنو إلى الكاس الذي لم تبق على حافته سوى ورقة واحدة وفي وجهها طول، وفي هيئتها استرخاء كأن جسمها موشك أن يتهافت وأن يهوي إلى الأرض كومًا مفكك الذرات.
فعجب إبراهيم لهذه التي كانت تطفر كالفراشة قبل دقيقة لماذا وجمت بغتة؛ وللنفس الإنسانية وسرعة انتقالها من المرح والكآبة، ولخفاء البواعث التي تفضى إلى هذا أو ذاك؛ على حين تدعو الظواهر إلى النقيض، وود في هذه اللحظة لو يستطيع أن يرد إليها البِشْرَ الذي كان ينضح به وجهها، والخفةَ التى كانت فى روحها، والمرحَ اَلذي كان في سلوكها، والضحكاتِ الكروانية والدعابة التي كانت تركب بها الحياة نفسها — في ليالِ معدودات — غاب كل هذا، وذهبت شوشو اللعوب المفراح التي لم تحتج يومًا أن تفكر أن تمد بصرها إلى ما وراء اللحظة التي هي فيها. ولكن هذا ليس في وسعه، وما هو بأحسن منها حالًا ولا بأقل حاجة إلى الغوث، نعم، الغوث، ولكنه رجل مجرب وهي فتاة غريرة، وهو قد خاض العباب وغالب التيار وتدرب على المكافحة، وهذا أول عهدها باللجة الطامية، وما أهول الغصص التي تعانيها وهي تغوص وتطفو وتختنق وتشرق وتدفع باليدين والرجلين وتحاول أن تصيح طلبا للنجدة فيخرسها الماء الذي يملأ فمها، وتومئ فلا يراها أحد، ومن ذا الذي يغيث في هذا الخضم الضاغي؟
أين اليد التي ليست في شاغل من أمرها؟
ومع أن ما كانت شوشو فيه، واضح المعنى، فقد شاء إبراهيم أن يتجاهله وارتد إلى الباب ففتحه ثم أغلقه بعنف كأنما كان داخلًا لتوه، وأقبل على شوشو التي انتبهت على صوت الباب، وتكلف البشاشة وفي صدره أظافر تمزقه وبسط إليها كفيه وقال وهو يسرع إليها: ما أبدع الجو في البكور! هل أفطرت؟
فمنحته كلتا يديها وسألته بصوت خافت: أين كنت؟
فأبقى كفيها في يديه ونظر إليها وقال بلا تكلف: ما ابدعك!
– إبراهيم!
– إنك تفرغين على الحديقة جمالًا جديدًا. أحب أن أخبرك أني اليوم مجرم … لماذا تتراجعين؟ أتتخلين عني في محنتي؟ نعم لقد قتلت رجلًا. لا تُراعي! إنه ليس إلا أحمد الميت؟ غرق أو هو يغرق الآن أو لا أدري فقد يعود إلى الحياة ثانية! على كل حال ليست هذه أول ميتاته إن صح ما تحكون عنه.
ولما رآها حائرة مضطربة قص عليها ما حدث وبالغ في الوصف فسرّى عنها وأغربت في الضحك وجعلت هي تطمئنه وتؤكد له أن لا خوف أن يقاد به.
•••
وجاءت هي إليه بالطعام في غرفته، فلما جلس إليه علىٍ البساط أسندت ظهرها إلى الكنبة فنظر إليها فقالت: «لا أحس جوعًا» فالتفت إليها وقال بلهجة الجد الصارم: سأرخي لحيتي احتجاجًا.
فقالت وهي تضحك: ولكن لماذا؟ ما علاقة لحيتك بأن آكل أو لا آكل.
فقال: «تصوري منظر قريبك وقد أرسل حول خديه وتحت ذقنه لحية كثة! إنه منظر يوقظ الضمير النائم. وما أظنك ترتاحين إلى لقائي بعد ذلك ولحيتي في يدي. أفهمت الآن»؟
وبعد أن أصابا شبعهما قال: «والآن أين القهوة يا فتاتي المهملة؟ ألا تعلمين أن لي معك حديثًا خطيرًا يتطلب كل ما في رأسي من اتزان وحكمة».
ولم تدر أهو يجد أو يهزل، ومضت عنه ولكنها ما عتمت أن عادت لا بالقهوة بل بأدواتها: بحُقِّ البن وحُقِّ السكر، والسبرتو، وقعدت أمامه تصنعها.
وقال دون أن ينظر إليها بصوت لا يكاد يسمع فكأنه يتنفس أو يحدث نفسه: شوشو أيتها الفتاة الرائعة، لقد رأيتك اليوم تنزعين ورق «الأراولة» وتجربين حظك أو تستوحين هذه الزهرة الفاتنة، تسأليها عن مصيرنا..
فتحولت إلى جانبه ولم تتكلم، فأراح ذراعه على كتفها ومضى في حديثه أو مناجاته.
– هممت أن أصرفك عن استنباء الزهرة، ولكني قلت أدع لها ذكرى حميدة تنعم بها في يوم من الأيام المقبلة. أترك لها حلمها الجميل وإن كنت في شك من أن الأحلام ليست خطرة. شوشو، إن أنفاسك لا تتعلق أو تحتبس حين ترينني مقبلًا أو مدبرًا …».
فتمتمت في حياء: «ولكني آسر..».
فقال: «ربما» (فرفعت إليه عينيها بسرعة فلم يعبأ بهذه الحركة ومضى إلى غايته) «على أن هذا أشبه بأن يكون شعورًا أخويًا منه بأن يكون أ.. أ.. تعرفين ما أعني؟ نحن قريبان وبيننا من الود فوق ما يكون بين الأقرباء في العادة. ولكن هذا ليس معناه أننا … أننا … أكثر من ذلك … اسمعي يا شوشو. لقد أخطأتُ حين جئت إلى هنا. لو كنت أعلم أن هذا سيحدث لما جئت. ولكن هذا لا ينهض عذرًا لي. أنا الملوم. ماذا جرى؟ أتبكين؟ يا ألله»!
وجذبها إليه فأسندت خدها إلى صدره وهي تنشج فكاد قلبه يتمزق رقة لها وعطفًا عليها وعلى نفسه أيضًا؛ ولم يسعه إلا أن يهمس في أذنها: شوشو يا فتاتي الساحرة. ازجري العين عن بكاها. إنك تعلمين أني أتصنع أني كاذب لا أعني ما أقول. إني مجنون بك وسأظل مجنونًا. هذه هي الحقيقة وليكن ما شاءت المقادير فلن تصبو نفسي إلى غيرك.
وكان صوته يرتعش ويده ترتجف وكيانه كله يهتز فالتفت ذراعها بعنقه وقالت هامسة: أعرف ذلك.
وهدأت الأعصاب، وبعد لحظةً ادار إليها وجهه ولثم شفتيها ثم قال: اصغي إلي. فما أستطيع أن أرفع صوتي. سأبكي إذا فعلت.
فدنت منه حتى لصقت به، وشد هو نفسه حتى خيل إليه أنه صار كالصخرة، ولكن صوته ظل متهدجًا على الرغم منه.
– إني اكبر منك سنًا وأكثر تجارب، ولم يكن من حقي أن أدع الأمر بيننا يبلغ هذا الحد، وعلى أن لك على صغرك وغضارة سنك وقلة خبرتك، من الذكاء ما يعينك على التقدير السديد والنظر السليم، وإني لأعلم كما تعلمين أن بيننا.. تفاهمًا.. تفاهمًا مباركًا.. ولست أعتقد أن بين اثنين سوانا مثل هذا التعاطف الطبيعي. كلانا خلق لصاحبه، ولكن لهذه الأمور مقتضياتها، مستلزمات لا مفر منها ولا معدى عنها، إذا لم يكن الزواج هو المصير فليس يجوز أن ينشأ بيننا أو يظل مثل هذا التفاهم. إنه تحدٍّ للطبيعة: أن يتحاب اثنان ثم لا شيء. الشأن شأننا في الحقيقة. والأمر لا يعني سوانا ولكن الأيام مقلوبة. والعادات والتقاليد سخيفة ومنافية للعقل والواجب. صارمة أيضًا. ونحن نوشك أن نحدث في سورها ثغرة … أن نقتحم الحصن المنيع الذي بناه الجهل … ولست أراك تقوين على ذلك. ولا أحسبني خيرًا منك. ينبغي أن نفتح عيوننا. عاجلًا أو آجلًا. أنا أوثر أن يكون ذلك آجلآ. وهو أحلى وأعذب وأندى على النفس. ولكنه لن يكون إلا حلمًا مهما طال. ونحن ننسى أحيانًا مصير كل شيء لا يساير التيار، ولا يوافق الزمن ولا يطابق روح الأيام. وإذا كان لابد من التحطم على صخور التقاليد فليكن ذلك … اليوم».
فخنقت الفتاة عبرتها وتعلقت به يائسة ثم قالت، وكلتا ذراعيها حول عنقه ووجهها مدفون في صدره: لا أقدر … لا أقدر … مرة واحدة … كلا لا أقدر.
فمسح لها شعرها في رفق وقال: «لابد … وإنك لتعلمين ذلك. لابد أن نكسر قلبينا».
فقالت: «نكسر؟ ولكن أوه! أوه! لماذا نمزق قلبينا؟ دعني أيامًا … أمهلني وقتًا كافيًا. لا هكذا في دقيقة واحدة، بالتدريج، إبراهيم. بالتدريج، ليبقى لي شيء أذكره. أحلم به. أدّخره للأيام السود. دع لي شعاعًا واحدًا من النور، لا أكثر، لا تهشم حياتي كلها اليوم. لا تمح دنياي بلفظة. حتى التعذيب يجب أن يكون تدريجًا ليحتمل».
فابتسم لها — في عينيها.
وكما أن لمسه ألانه وفتره وسرَّى عنه أيضًا، كذلك ضعفها قواه وأمر عزمه وقال: كلا! يا شوشوِ. ليس هذا خليقًا بك. يجب أن نصدق أنفسنا ونكون أقوى منها أيضًا. نحلق فوق مقاديرنا. وسيفسد كل شيء إذا لم نختم هذه الحكاية الآن ثم ننهض مبتسميْن. لقد غرسنا معًا أجمل زهرة. ونمت وتفتحت حتى صارت منى النفس وريحانة العين والأنف — حسن منظر وذكاء مشم. وقد آن أن نقطفها … يجب أن يكون قطفها كما ينبغي. لا ورقة ورقة، فلا تبقى هناك زهرة. وتصوري جمال الذكرى. ذكرى الزهرة الجميلة التي كانت لنا والتي لم نخف أن نقطفها … لما أينعت … سنزهى بذلك ونسعد أيضًا حين نذكره. نذكر زهرتنا التي لم ندعها تذبل أو تموت … ويجب أن نقطفها بابتسامة يا شوشو من أجلك وأجلي …».
– أوه! إن هذا كالموت. لا أستطيع أن أواجهه.
– بل تقدرين معي. نحن الاثنين نستطيع أن نواجه أي شيء، وماذا يعنينا من الموت ما دمنا نستطيع أن نسير في الحياة بقلب سليم؟
فرفعت شوشو رأسها وقالت: أنت محق. يجب أن نسير بقلوب سليمة.
وتحولت عينها إلى النافذة وارتفعت منها إلى السماء. ثم ارتدت إليه ومدت يدها البضة ولمست شعره ومشطته بأصابعها إلى الوراء وتركها هو تداعب شعره كما تحب؛ ثم قالت وهي باسمة وفي صوتها حنو دافق: فلنقطف زهرتنا الآن.
فابتسم لها..
والتقت شفاههما في قبلة طويلة ودارت الأرض حولهما، ثم أرخى ذراعيه فتخلت عنه وتناول كفها فلثم أطراف أصابعها ثم اضطجع على الكنبة وأخرج سيجارة وأخذ يلعب بها وهو يفكر ويبتسم، ثم رفع رأسه وقال: شوشو، ما قولك في مكثى أيامًا أخرى؟ لقد كنت معتزمًا أن أرحل، لكني أظن أننا نستحق أن نبقى معًا قليلًا — كأخوين!
فقالت وهى تنهض وتشده معها: «لقد ترفقت بي على الرغم من قسوتك».
وغادرا الغرفة معًا إلى حيث أختها.