- لا ترش الرذاذ على ثوبي يا شتيرنر! أنت لا تجيد التجذيف.
- طبعاً, لدى النساء عادة تبرز عندما يتوجهن إلى نزهة في القارب, وهي أن يرتدين ثوباً مصنوعاً من تلك المادة التي يترك رذاذ الماء عليها بقعاً لا تمحى.
- أنت تستعير هذه الفكاهة من قصة "ثلاثة في القارب" لجيروم جيروم.
- أنت واسعة الإطلاع جداً, أيتها الآنسة. أنا لست مذنباً في أن جيروم قام بهذه الملاحظة قبلي. الحقيقة تبقى حقيقة, ولو أن المسافرين في الزورق كانوا خمسة لا أربعة.
ردت إيما فيت من مقعدها:
- نحن أربعة فقط.
أجاب شتيرنر:
- أيتها اللعبة الرائعة ذات الشعر الأجعد الذهبي لقد كان الراكب الرابع في زورق جيروم كلباً, أما الراكب الأول في قاربنا فهو كلبي فالك...
- لماذا هو الراكب الأول؟
- لأنه عبقري. فالك! ناولْ منديل الأنف للآنسة فيت, فهي قد أوقعته, كما ترى.
قفز فالك كلب الصيد الأبيض الجميل بحذاقة وناولها المنديل, فضحك الجميع.
قال شتيرنر بخيلاء:
- ها أنت ذي تشاهدين! تزوجيني يا آنسة غليوك! وسنفتتح معك سيركاً للكلاب الضالة, فأقوم بعرض عجائب الترويض وأنا ألبس باروكة المهرج الشقراء, في حين تجلسين عند الصندوق. ولك أن تتخيلي فقط هذه الحياة المسالمة الرغيدة: الجمهور يتقاطر إلينا من كل حدب وصوب, والكلاب ترقص, والنقود تخشخش في الصندوق ... وبعد الحفلة سنولم مائدة في مجتمع أخلص وأبهى الأصدقاء من ذوي الأربع. عظيم! هذا أكثر تسلية بكثير من العمل لدى كارل غوتليب.
- أشكرك, لكني لا أحب حياة التشرد.
- هم ... أنا أمثل لك كمية تافهة جداً بوجود رأسمالك.
سألتْ إلزا غليوك في حيرة:
- بوجود رأسمالي؟
- لماذا تتعجبين؟ أنت تتظاهرين كما لو أنك لا تعرفين رأسمالك. إنه شعرك العجيب المميز لفينوس تيتسيان ... أليس هذا اللون طبيعياً؟.. لا تلبسي وجهك الاستياء. أنا أعرف أنه طبيعي. أما النساء التيتسيانيات, كما تعرفون, فقد صبغن شعورهن بمركب خاص. حتى إن وصفة هذا المركب قد حفظت في مكان ما. وهكذا ترون, فإن جميلات العالم اللواتي ألهمن ريشة تيتسيان, قد كوَّن صنعياً ذلك الذي قامت الطبيعة الكريمة بإعطائك إياه دون تقديم وصفة ... أما عيناك الزرقاوان مثل الهاوية السماوية! فإنهما طبعاً, ليستا ملونتين صنعياً أبداً...
- كفاك...
- أسنانك, عقد لؤلؤ...
- بعد ذلك يأتي وصف الشفتين المرجانيتين, أليس كذلك؟ من الممكن التفكير بأنك لست سكرتيراً لصيرفي مضجر, وإنما مندوب تجاري متجول لدى شركة مجوهرات. لذا فأنا سأدفع لك, أيها الثقيل, لأجل هذه المجاملات الجواهرية! أما وجهك الطويل, وأنفك الطويل, وشعرك الطويل, وذراعاك الطويلتان فهي طبعاً حقيقية؟
- وأنت أيعجبك أكثر كل شيء مدور؟ مثل ذلك الوجه المدور لدى أوتو زاوير, وهاتان العينان المدورتان, ومن الجائز, ذلك الرأسمال المدوَّر الذي سيتكوَّن بعد عشر سنوات...
نطقت إلزا غليوك والسخط في صوتها:
- لقد أوصلت الكلام إلى حد الدناءة.
تكلم زاوير المستشار القانوني للصيرفي غوتليب:
- من فضلك, لا تحسب الرأسمال في جيوب الآخرين.
كان زاوير منحرف المزاج خلال حديث شتيرنر مع إلزا, وشق صامتاً الماء المتورد بأشعة الشمس الغاربة بمجذافين طويلين.
شعر شتيرنر حقيقة أنه مضى بعيداً في نكاته, لذا أخذ يتكلم بجدية أكبر.
- المعذرة أنا لم أرد الإساءة لأحد. أردت القول فقط إنه في الحب, كما في كل الأمور, يوجد القانون ذاته, قانون الصراع من أجل البقاء, والأقوى سينتصر. فذكور الأيائل تخوض صراعاً حتى الموت, في حين تصبح الأنثى ذات القرون والقوائم الأربع من نصيب المنتصر. ومن هو الأقوى في مجتمعنا؟ إنه ذلك الذي يملك رأسمالاً.
التفت شتيرنر نحو إلزا.
- تخيلي يا آنسة, كما لو أنني أصبحت غنياً فجأة, مثل كريز. لا, أكثر غنى. مثل رب العمل المحترم كارل غوتليب. عندئذ, من المحتمل, ألا يبدو وجهي طويلاً إلى هذا الحد في عيون النساء.
أجابت إلزا مبتسمة:
- سيبدو أكثر طولاً.
قال شتيرنر بعدم ارتياح:
- آ! هذا لأنك حرة في الاختيار حسب ذوقك حتى في وسط من أشباه غوتليب, بسبب امتلاكك لهذا الرأسمال من الجمال. وما الذي سيبقى لنا لنعمله, نحن الحثالة التافهة, المؤلفة من مختلف السكرتيرين والسكرتيرات, الذين يقفون قريباً من طاولة المأدبة, لكنهم مضطرون لالتقاط الفتات الساقط فقط, وهم يبتلعون ريقهم, ويشاهدون كيف يثمل الآخرون من كل خيرات الحياة؟
قالت فيت:
- يالها من كلمات قبيحة لديك يا شتيرنر!
تابع شتيرنر:
- المعذرة, فأنا سأعير قاموسي اللغوي اهتماماً في غاية الجدية ... النزاهة: هذا هو عيبنا الذي يستغله من هو أعلى منا, قال هايني ذات مرة: "النزاهة شيء رائع إذا كان الجميع من حولي نزهاء, وأنا النصاب الوحيد بينهم", ولكن بما أن حولي كتلة متراصة من المحتالين أيضاً, طبعاً الحديث لا يجري عن الموجودين, فإنه كي أمتلك السعادة...
ونظر إلى إلزا غليوك(1) نظرة ذات معنى.
- ... من الواضح أنه علي أن أصبح ذلك النصاب الخارق, الذي يبدو جميع المحتالين الباقين أشخاصاً فاضلين بالمقارنة معه.
تدخل أوتو زاوير في الحديث مجدداً:
- أنت اليوم ترفه عن السيدتين ترفيهاً فاشلاً إلى حد ما يا شتيرنر, إذ تكتسب مزحاتك مسحة قاتمة جداً.
سأل شتيرنر آلياً:
- آ؟
ثم سحب رأسه فجأة وصمت, فأصبح وجهه شيخوخياً, إذ ظهرت ثنية عميقة بين حاجبيه. وبدا غارقاً في تفكير عميق, كما لو أنه يحل مسألة ما صعبة.
وضع فالك إحدى قوائمه على ركبته ونظر بانتباه إلى وجهه.
ربض المجدافان في يدي شتيرنر دونما حراك, وقطرات المياه الحمراء مثل الدم تسيل منهما دون انقطاع تحت أشعة الشمس الغاربة.
ارتعشت إلزا غليوك فجأة وهي تشاهد وجه شتيرنر الذي شاخ فوراً, وحولت نظرها إلى زاوير كما لو أنها تبحث عن مساعدة.
وفجأة صدم شتيرنر المجدافين بالمياه بقوة, ثم رماهما وانفجر في قهقهة.
- اسمعي يا آنسة إلزا. وماذا لو أنني أصبحت أقوى إنسان على الأرض؟ لو أن الجميع امتثل لكلمة واحدة مني, لإشارة واحدة, مثلما يمتثل فالك؟
صرخ شتيرنر وهو يرمي السوط في الماء:
- فالك! الحقه!
اندفع فالك مثل السهم مغادراً متن القارب.
- هكذا! لو أنني أصبحت سلطان العالم؟
قالت إلزا:
- أ تعرف يا شتيرنر؟ لديك وجه شاب, ولكنه قديم الطراز للغاية. تشاهد هذه الوجوه بين الصور في الألبومات العائلية. وعادة ما يقولون عنها كما يلي: "هذا هو جدنا في شبابه". وها أنت ذا بالضبط مثل "جد في شبابه". لا, أنت لا تصلح قطعياً كي تصبح نابليون. هل يعقل أن يخرج منك نابليون مصرفي صغير؟.
- أوخ, هكذا إذاً؟ في هذه الحالة أنا أحرمك من التاج, والقصر, والعربة الذهبية, والقلادة الماسية, ومن جميع وصفاء ووصيفات بلاطك. أنا أحرمك من عطفي. واعلمي أنني لا أحبك إطلاقاً. ولا تظني أنني أنوي القيام بمآثر مثل فارس من القرون الوسطى, فقط كي أستحق الحصول على يدك وقلبك. كلا, إطلاقاً. فأنت بالنسبة إلي مقياس لإنجازاتي فقط. رهاني الأول, لا أكثر. هذا ما لدي لك!
- وماذا في ذلك! والآن ألا ترغب في الانكباب على المجدافين؟ حان وقت العودة إلى المنزل.
سحب شتيرنر إلى الزورق فالك المبتل, الذي صب الرذاذ على الجميع عندما انتفض, فصرخت غليوك وفيت.
نكت شتيرنر وهو يضغط بقوة على المجدافين:
- لقد هلك ثوباكما اللذان يخشيان الماء.
اندفع الزورق بسرعة مع التيار نحو الأسفل, واختفت الشمس خلف الغابة. وفي الأعلى تلألأ النهر مثل الذهب المصهور, في حين رقدت حول القارب ظلال زرقاء.
أخذت الرطوبة تمتد, فألقت إيما على كتفيها شالاً أزغب.
صمت الجميع.
كان سطح النهر المرآوي ساكناً, ونادراً ما قامت سمكة صغيرة بشق السطح الأملس الهادئ وقد لمعت حراشفها فوقه.
قطع زاوير الصمت:
- لم أكن أعلم أنك طموح على هذا النحو يا شتيرنر. أخبرنا ما الذي دفعك لترك مركزك العلمي والانتقال إلينا في مجموعة خدم غوتليب المتواضعين؟ إذ إنك, إذا لم أكن مخطئاً, قد عملت عملاً ناجحاً جداً في مجال دراسة الدماغ, لا بل إنني صادفت عدة أخبار في الجرائد عن تجاربك الموفقة ... ماذا يدعى ذلك العلم الفتي الذي شغفت به آنذاك؟ الإرتكاسولوجيا؟
قالت إلزا:
- أنا أتخيل تخيلاً مبهماً جداً ماهية هذا العلم.
ابتدأ شتيرنر الحديث بتلك النبرة, كما لو أنه يقرأ محاضرة على جماعة منتقاة:
- أيها السيدات الفاضلات والسادة الأفاضل. الإرتكاسولوجيا, هو العلم الذي يدرس ردَّات الأفعال الجوابية لدى الإنسان, وعموماً لدى أي كائن حي, والتي تظهر بالارتباط مع تأثير العالم الخارجي. فتميز بذاتها عموماً, كل علاقات الكائن الحي مع الوسط المحيط. مفهوم؟
أجابت إيما:
- غير مفهوم إطلاقاً.
- سأحاول التعبير بشكل أسهل. الارتكاس هو نقل الإثارة العصبية من إحدى نقاط الجسم إلى الأخرى بوساطة المركز أي الدماغ. فكل تأثير من الخارج عبر أعضاء الحس, وعن طريق الارتكاس من خلال المركز, يستدعي للعمل أعضاء الجسم هذه أو تلك. وبكلام آخر, يستدعي رد الفعل. الطفل يمد يده نحو النار, فتحرقه. إن تأثير النار هذا على الجلد ينتقل من خلال الأعصاب إلى الدماغ, ويذهب رد الفعل الجوابي من الدماغ إلى اليد, فيسحب الطفل يده بسرعة. وسيرتبط التصور عن النار لدى الطفل بتصوره عن الألم. وفي كل مرة عندما يشاهد الطفل النار سيبدأ بسحب يده بوجل. أي أنه حدث ذلك الذي ندعوه علمياً الارتكاس الشرطي. سأقدم مثالاً أكثر تعقيداً. ستقدمون الطعام للكلب, وفي الوقت ذاته, وفي كل مرة عندما يباشر الأكل ستعزفون على المزمار, غداء مع الموسيقا. أثناء الطعام يسيل لعاب الكلب بغزارة. بعد فترة من الزمن, عندما يرتبط العزف على المزمار في وعي الكلب ارتباطاً وثيقاً بالأحاسيس الذوقية, فإنه سيكون كافياً لكم أن تعزفوا على المزمار كي يبدأ لعاب الكلب بالسيلان بشدة. ارتكاس شرطي!. وما علينا إلا التفكير في أن أكثر الأحاسيس الإنسانية "قداسة" مثل الواجب, والإخلاص, والفريضة, والأمانة, وحتى "الأمر القطعي" الكانتي الشهير, ما هي إلا ارتكاسات شرطية تماماً, من الرتبة ذاتها التي تضم سيلان لعاب الكلب أيضاً. عملية خلق هذه الارتكاسات أكثر صعوبة, ولكن الجوهر ذاته. بعد هذا الإيضاح العلمي, أعترف أن كل هذه الفضائل العالية لا تثير في نفسي احتراماً خاصاً ... ولهذا يبدو لي أحياناً, أن سيلان لعاب الفضيلة هذا مفيد لأحد ما, وأن أحدهم يعزف على مزمار الدين والأخلاق والواجب والنزاهة. أما نحن, الأغبياء, فنطلق اللعاب. ألم يحن الوقت كي نرمي كل سقط المتاع القديم هذا, وأن نكف عن الرقص على مزمار الأخلاق القديمة؟
قرر زاوير أن يغير الحديث, فسأل شتيرنر مجدداً لماذا ترك مهنته العلمية. وقال:
- أنت تعرف كثيراً جداً, ومن الجائز أنه بإمكانك الوصول إلى الشهرة وإلى مختلف النجاحات في المجال العلمي وصولاً أسرع.
أجاب شتيرنر والنظرة الماكرة في عينيه:
- هاكم لماذا تركت مهنة العلم أيها المحترم زاوير, لقد شرَّحت نحو ألف دماغ إنساني, وتصوروا أنني لم أجد عقلاً في أي منها. وقد قررت أن العلاقة مع الأدمغة تكون ألذ كثيراً عندما تكون مشوية جيداً, وموجودة على طاولة غداء ربِّ عملنا الطيب جداً.
سمع شتيرنر صوت فيت خلفه:
- يا لها من كلمات شنيعة التي تفوهتم بها مجدداً!
- عفوا ألف مرة! لكني أؤكد لكم أن غوتليبنا لا يتغذى بأدمغة بشرية. ما هي إلا استعارة مجازية, ها - ها! أنا أشعر أنه سيأكل غداً صباحاً بيت الصيارفة تيوبفير و ك ... لقد أردت القول فقط إنه كان جيداً بالنسبة لسلاطين العصور الوسطى أن يمارسوا العلم, عندما كان تحت أيديهم جبال من مختلف المأكولات وبراميل من النبيذ. أما الآن ... فها أنا ذا وزاوير لا نعدو أن نكون خادمين متواضعين للصيرفي, وحتى أنتما, يا أروع آنستين, عاملة على الآلة الكاتبة وكاتبة الاختزال لديه, تتقاضيان أكثر مما يناله دكتور شاب في أكثر العلوم روعة. كما ترون فأنا صريح. أنا لست أول ولا آخر من فضَّل حساء العدس على خيرات العلم المستقبلية. ومع ذلك, كيف نعرف؟ لقد علمونا في المدرسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين, لكن كل هذه الرياضيات تجريد حقيقي. في العالم الواقعي لا توجد خطوط مستقيمة … قف! ها نحن أولاء قد وصلنا, والآن...
ثم التفت إلى إيما فيت:
- أعطني يدك واسمحي لي باصطحابك حتى المحطة ...
مضى شتيرنر وفيت إلى الأمام.
دفع زاوير أجرة القارب, ثم تأبط ذراع إلزا وتوجه ببطء نحو محطة القطارات.
أظلمت الدنيا وانتثرت النجوم في السماء. كان الطريق خالياً من الناس.
قال زاوير:
- انظري, كيف تتألق النجوم! من المحتمل أن طقساً ممطراً سيحل.
أجابت إلزا:
- نعم, لكننا سنفلح في الوصول.
- هل أنت مسرورة بنزهتنا, يا إلزا؟
سألت إلزا وهي تبتسم:
- أليست مخاطبتك لي عديمة الكلفة أكثر من اللازم؟
ثم تابعت دون أن تدع زاوير يتكلم:
- لكن, لا تتذرع. كان بوسعي أن أكون راضية لولا ذلك الثرثار الذي لا يحتمل, شتيرنر. يوجد إذاً أمثال هؤلاء الناس الفارغين! يقرقع مثل العقعق, لا يدع أحداً ينبس بكلمة. ويا لها من ادعاءات.
قال زاوير متأملاً:
- نعم, ثرثار ... لكنني وددت نصحك يا إلزا بأن تكوني أكثر حذراً مع هذا الثرثار.
نظرت إلزا إلى زاوير متعجبة:
- ألم أكن حذرة معه؟
ثم انفجرت ضاحكة وصاحت:
- كلا يا أوتو, أنت ببساطة تغار علي! لكن أليس مبكراً بعد؟ فأنا لم أعطك كلمة حتى الآن. ويمكن أن أغير رأيي.
- ها أنت ذا قد مزحت, في حين انقبض قلبي ... ثرثار! طبعاً, ثرثار. لكنه يتكلم عن وعي. هل سمعت ما قاله عن النزاهة وعن الخطوط المنحنية؟ هذه فلسفة خطرة. وأنا حقيقة أخافه , أخاف عليك وعلى شيخنا غوتليب ... فهذا الثرثار يتكلم بقصد خفي. يوجد شيء ما في كلماته. ما الذي يخطط له. لن أتعجب لو أنه قام بشيء ما رهيب.
تذكرت إلزا فجأة وجه شتيرنر الممعن النظر, والذي شاخ وقد أضاءه الشعاع الأرجواني للشمس الغاربة, فعاد الخوف إليها ثانية, وضغطت لاإرادياً يد زاوير بقوة أكبر.
- لكن كيف استحوذ على ثقة غوتليب! فالأخير الآن لا يتركه يبعد عنه خطوة واحدة. لقد أسكنه في بيته ... وفي الأمسيات يقوم شتيرنر بتسلية العجوز بالاستعانة بكلابه المروضة.
- يجب أن ننصفه يا أوتو فكلابه مدهشة.
- أنا لا أنفي ذلك. فكلابه تفوق كل ما هو معروف في مجال ترويض الحيوانات. وخصوصاً هذا المدعو فالك.
تذكرت إلزا:
- وكلبه الرومي الأسود, الذي يعرف العد ويتعرف على أي حرف من الأبجدية, يحزر دون كلام كل أوامره. يصيبني الخوف في بعض الأحيان...
- نعم, كما لو أن الشيطان ذاته يسكن هذا الكلب الرومي. من الجائز أن شتيرنر ذكي وعبقري. لكن الشر العبقري خطره مضاعف.
ونظر زاوير نظرة ذات معنى إلى إلزا.
- لا تقلق بشأني يا أوتو. فسحره لا يؤثر علي. أنا كنت ببساطة لا أكترث به. لكن بعد أمسية اليوم عندما شاهدت وجهه ... لا أعرف كيف أعبر عن هذا ... على كل حال, من الجائز أننا نجور عليه. ما هذا؟.. آخ!..
ظهر فالك من العتمة دون جلبة, وعض بأسنانه طرف ثوب إلزا وشدها إلى الأمام بزمجرة مرحة.
غضب زاوير من الكلب وأخذ يطرده, لكن إلزا انفجرت ضاحكة:
- على ما يبدو أنك أصبحت موسوساً يا أوتو. من الواضح أن شتيرنر قد أرسل فالك لينبهنا كي نستعجل.
2 - تحت عجلات القطار
فتح باب المكتب وظهر على العتبة الصيرفي كارل غوتليب بمرافقة السكرتير الشخصي لودفيغ شتيرنر.
تلألأت شمس الصباح على نظارات كارل غوتليب الذهبية بعد أن غمرت الغرفة كلها من خلال الجدران المصنوعة من زجاج متصل. ضَيَّق الصيرفي عينيه وابتسم. كان عمره نحو ستين سنة, لكن أحداً لم يعطه هذا العمر بعد النظر إلى وجهه البض الأبيض ذي التورد في كامل وجنتيه. ناعم الحلاقة, تفوح منه رائحة صابون غال وسجائر جيدة وعطور, مسرور دائماً, مرح وحيوي, جسَّد في شخصه الرفاهية الحياتية.
سأل وهو يصافح بالدور أيدي غليوك وفيت وزاوير:
- لكن, كيف مرَّت نزهتكم خارج المدينة؟ بمرح؟ هل اصطدتم كثيراً من السمك؟ كان الطقس رائعاً, أليس كذلك؟ من فضلك يا زاوير أرسلْ هذه البرقيات. هل استلمت نشرة البورصة؟ ما هو سعر صرف الدولار اليوم؟ نعم ... نعم ... أسهم القطن؟ ترتفع بشدة؟ عظيم. ارفضوا دفع هذه الحوالات الخاصة ببيت الصيارفة تيوبفير و ك. لا أستطيع التساهل أكثر. تبدين اليوم رائعة, يا آنسة فيت ... وأنت بماذا تحلمين, يا آنسة غليوك؟ ها – ها!
هددها بإصبعه متخذاً مظهراً ماكراً.
- يبدو أنني حزرت. فالربيع يجلب معه بكتيريا خطرة. نعم- م!
ثم نظر إلى الساعة بعد أن رتب باقة البنفسج الموجودة في عروة السترة السوداء وقال:
- الساعة الآن العاشرة. سينطلق القطار في العاشرة وخمس وأربعين دقيقة. سأسافر وأعود في الثانية والربع, سأذهب لاستلام المعمل. سننتهي أنا وشتيرنر من الشكليات بسرعة. بالمناسبة سوف أتسلى, لقد جلست طويلاً ... هل وصلت السيارة؟ لنذهب يا شتيرنر!
خرج الصيرفي غوتليب وهو يخطو بتؤدة, صارخاً خلف الباب:
- أين أنت يا شتيرنر؟
مضى شتيرنر بسرعة إلى الغرفة المجاورة وصرخ:
- حالاً! فالك! بروت!
ركض لملاقاته كلبان وهما ينبحان بمرح: كلب الصيد الذي كان في النزهة, وبروت الكلب الكبير الضخم ذو اللون النمري.
أمال شتيرنر رأسه جانباً عندما مر بالقرب من غليوك وسأل بسخرية:
- ألم تقرري بعد؟
- ماذا؟
- الزواج بي...
وبعد أن ضحك بصخب انطلق مع كلابه للحاق برب عمله.
تجهمت إلزا, وتمتم زاوير بشيء ما وهو جالس خلف طاولته.
ضجت السيارة المغادرة وراء النافذة.
ساد الصمت في الغرفة, وطقطقت فيت على الآلة الكاتبة, أما زاوير فتصفح أوراقاً ما بعصبية وقال مجدداً بصوت خافت:
- مربي كلاب.
ردت عليه غليوك:
- بماذا تدمدم هناك؟
أجاب زاوير:
- إنه مع كلابه في كل مكان. لا أستطيع احتمال هذا السيد المتصنع! بالأمس فقط قال عن غوتليب إنه يكاد يقتات بالبشر, من الواضح, أنه يشير إلى قسوة غوتليب مع المدينين له, واليوم هل شاهدتموه؟ يتملق هكذا رب العمل. ليس أسوأ من فالك في النظر إلى العيون!.. لماذا تظنونه أخذ الكلبين؟ أ ليسلي بهما العجوز في أحضان الطبيعة ...
قالت إلزا:
- يبدو أنك تتحول إلى مماحك يا زاوير! لقد حزر شتيرنر لأن غوتليب التهم تيوبفير و ك.
أجاب زاوير متجهماً:
- هو ذاته أقنع غوتليب كي يقوم الأخير بإبراز الكمبيالات للتحصيل, لا يوجد شك في ذلك.
غنَّت فيت مبتسمة:
- ببساطة, زاوير يغار.
قال زاوير بجفاف وهو يعطي فيت ورقة:
- انسخي من فضلك هذا الكشف!
هدأت فيت مثل طفل مذنب وأجابت بوجل:
- تفضل!
قرقعت الآلة الكاتبة, وانغمس الجميع في العمل الذي قطعته رنات الهاتف.
نحو الساعة الحادية عشرة رن جرس هاتف جديد.
استمع زاوير إلى المكالمة كالمعتاد دون أن يتوقف عن كتابة رسالة العمل التي بين يديه.
- آلو! نعم, نعم ... مكتب السكريتاريا الخاصة بالصيرفي كارل غوتليب. ماذا هناك؟ لا أسمع؟ تكلموا بصوت أعلى! حدث؟ ماذا حدث؟ كيف؟ غير ممكن.
سقط قلم الحبر الآلي من يد زاوير وامتقع وجهه. وسمعت في صوته تلك النبرات العصبية, بحيث أن غليوك وفيت تركتا العمل وأخذتا تتابعانه بفضول القلق.
- سقط تحت القطار؟ لكن كيف حدث هذا؟ عفواً, لكن هذا الفضول مفهوم تماماً!.. نعم ... نعم ... أسمع ... نعم ... سيتم كل شيء!..
وضع زاوير سماعة الهاتف ونهض من وراء الطاولة وهو يمرر يده على شعره.
سألت فيت بهلع وهي تنهض:
- ما الذي حدث يا زاوير؟ من سقط تحت القطار؟ تكلم بسرعة.
لكن زاوير استوى في المقعد ثانية وجلس صامتاً, وقال بعد توقف:
- نعم ... لقد انتظرت شيئاً ما من هذا القبيل.
ثم نطق بسرعة وهو ينهض بعصبية:
- لقد أخبروني هاتفياً لتوهم أن كارل غوتليب قد سقط تحت القطار.
سألت فيت وغليوك في آن واحد:
- لكن هل هو حي؟
- التفاصيل غير معروفة...
قالت فيت:
- تفاصيل جيدة! هل هو حي أم لا؟
- لقد طلبت شرحاً للحادث, لكنهم أجابوني أن الوقت الآن ليس وقت شروحات ... ينبغي أن نعد تختاً بسرعة وأن نستدعي الأطباء...
قالت غليوك:
- يعني, هو حي؟
- يمكن ...
ضغط زاوير أزرار الأجراس الكهربائية لاستدعاء الخدم. أصدر الأوامر, وهتف للأطباء ... تعالى الهرج في المنزل وجاءت القهرمانة تركض قلقة.
كان غوتليب وحيداً, وقد أدارت كل أموره المنزلية "مدبرة منزل", كانوا يدعونها العجوز النظيفة السيدة شميتغوف, وقد صدمت إلى درجة اضطرت إلزا للاهتمام بها.
سمعت صافرة سيارة مقتربة فصرخت فيت:
- الطبيب!
أجاب زاوير:
- كلا, فهذا بوق سيارتنا. هانس, اذهب بسرعة إلى مدخل البيت.
خرج الخادم هانس بسرعة حاجلاً بساقيه المريضتين.
تكاثف في الغرفة انتظار فارغ الصبر. وجلست السيدة شميتغوف في المقعد نصف ميتة من الخوف والقلق وهي تتنفس بصعوبة. وسمع من الغرف البعيدة وقع ثقيل لأقدام تتابع الخطو.
همست فيت:
- يحملونه ... ليته يكون حياً.
انفتحت الأبواب عن آخرها. حمل أربعة أشخاص جثة كارل غوتليب المدماة والمشوهة. صرخت شميتغوف صراخاً هستيرياً وأغمي عليها. كانت ساقا غوتليب مبتورتين من فوق الركبتين. حمل الشخص الخامس المرتدي زي موظف في السكك الحديدية حزمة ما. عرفت فيت وغليوك أنها حرام غوتليب. بان حذاء الصيرفي اللماع من تحت طرف الحرام الذي انفتح.
فكرت غليوك, فخطر لها خاطر أخرق:
"ساقاه, إنهما ساقاه ... يا للهول! لكن لماذا يحملونهما؟ بماذا تلزماه الآن؟"
لم تتغير ملامح غوتليب كثيراً, لكن وجهه كان ذا بياض غير عادي مثل صفحة الورق.
فكرت إلزا:
"بسبب فقدان الدم"
وأدهشها أحد التفاصيل أيضاً, فقد بقيت باقة البنفسج في عروة سترة غوتليب السوداء, ولسبب ما فإن هذه الوردة على صدر الميت قد أقلقت إلزا قلقاً غير مألوف.
توجه الموكب الحزين إلى غرفة نوم غوتليب عبر المكتب, مخلفاً على الأرضية الخشبية قطرات من الدم.
مشى شتيرنر في إثر جثة غوتليب. كان وجهه ممتقعاً أكثر من المعتاد, ولكنه كان هادئاً. دار بحذر حول قطرات الدم الموجودة على الأرضية الخشبية كي لا يطأها, متخذاً ذلك المظهر, كما لو أنها برك من مياه المطر وسط الطريق.
سار في أعقابه فالك. شم الكلب قطرات الدم بمنخريه العصبيين المتوسعين.
نظرت غليوك إلى شتيرنر بخوف غير مفهوم لها ذاتها, فقابل نظراتها, وتراءى لها أنه يبتسم بعينيه فقط.
وبعد أن عاد زاوير من غرفة النوم, اقترب من شتيرنر وحدق في عينيه ممتحناً, وسأل:
- كيف حدث هذا؟
احتمل شتيرنر هذه النظرة أيضاً. حاجباه فقط هما اللذان اهتزا. وأجاب بهدوء:
- أنا لم أكن شاهداً. فقد طلب غوتليب مني إرسال برقية مستعجلة. وقد استغرق مني ذلك خمس دقائق فقط, لا أكثر. وعندما عدت كان كل شيء منتهياً. يقول الشهود إن كلبي بروت خاف من القاطرة البخارية واندفع جانباً فسقط تحت قدمي غوتليب. لم يثبت العجوز على قدميه فوقع من الرصيف على القضبان سوية هو والكلب. تقطع بروت إلى نصفين, كلب مسكين! أما غوتليب فقد بترت ساقاه.
- أنت تأسف على الكلب فقط؟
- لا تقل حماقات يا زاوير. ولا تعط أهمية كبيرة جداً للأساليب الرسمية في التعبير عن "الأسى النفسي". لقد كان غوتليب عجوزاً جليلاً. وأنا آسف عليه. لكن لا ينتج عن ذلك أنه لا يمكنني التعبير عن أسفي لموت صديق بأربع قوائم.
قال زاوير مفكراً, كما لو أنه يعطي كلماته معنى خاصاً:
- يا للغرابة, مات غوتليب بسبب بروت.
أجاب شتيرنر وهو يبتسم بسخرية قبل أن يذهب إلى غرفة نوم غوتليب:
- كلبي بروت ليس إنساناً, وإنما هو كلب. وغوتليب ليس قيصراً, بل هو صيرفي.
3 - وصيتان
أقلق خبر الوفاة المأساوية لكارل غوتليب, أكبر صيرفي ألماني, العالم التجاري كله . كان مكتب الصيرفي واحداً من العقد العصبية في حياة البلاد المالية والصناعية. لقد مول غوتليب لا البنوك المالية وحدها, وإنما الصناعة الضخمة أيضاً. لذا ليس غريباً أن يصبح موت غوتليب المفاجئ حدث اليوم, إذ ناقشت الجرائد النتائج المحتملة لهذه الوفاة بالنسبة لهؤلاء أو أولئك الدائنين, وخمنت التناسبات المتغيرة للقوى المالية, ومصير البنك الذي فقد رئيسه. وطرح سؤال: هل سيحل أحد ما مكان غوتليب, أم أن البنك سوف يصفى؟. وأخبر المراسلون الصحفيون القراء عن ورثة غوتليب من الأقرباء: ملاك الأراضي أوسكار غوتليب الأخ الأصغر للمرحوم, ولديه الابن رودولف البالغ من العمر أربعاً وعشرين عاماً إضافة إلى أربع بنات. لا بل حسبت إحدى الجرائد مقدار الرأسمال الذي سيؤول إلى الشاب والعرائس الغنيات, رغم أن أحداً لم يعرف بالضبط ما مدى ضخامة الممتلكات.
قلق التجار وضجت الجرائد, أما في بيت كارل غوتليب فقد انتهى الفصل الأخير من تراجيكوميديا حياة إنسان.
وتصرف في البيت وفقاً لحقوق الورثة الشرعيين أوسكار غوتليب الإنسان الأحمر الملفوح بالشمس الأخرق, وأولاده النمشون المغفلون الذين تم استدعاؤهم على نحو عاجل.
عبس أوسكار غوتليب وزم شفتيه. أشعل إمكان الاغتناء الشرر في عينيه الضيقتين, لكن حس اللباقة والأسف المخلص جزئياً بسبب فقدان الأخ جعلاه متحفظاً. في حين أن أولاده ابتهجوا علناً, وانهمكوا في التذوق المسبق لحلاوة امتلاك الثروة انهماكاً لا رادع لـه. فقد جال الابن رودولف وابنتا أوسكار الكبيرتان لويزا وهيرترودا من غرفة إلى غرفة, وعاينوا اللوحات, ولمسوا الزينات الغالية, وجلسوا على المقاعد الوثيرة, وتحسسوا القماش بالأيدي. تقاسموا الأشياء فيما بينهم, تجادلوا, ضحكوا ورسموا خططاً...
دفنوا جسد كارل غوتليب المشوه مع ساقيه المبتورتين في ضريح غال ذي معمارية ثقيلة الوزن, وخصصوا اليوم التالي للدفن لفتح الوصية.
نظم هذا العمل تنظيماً احتفالياً إلى حد ما. فقد دعي بعض موظفي كارل غوتليب أيضاً, وبضمنهم زاوير وشتيرنر وغليوك وفيت.
جلس شتيرنر خلف طاولة الكتابة بهيئة من يعاني الملل, ورسم كلاباً على صفحة ورقة.
ناداه رودولف غوتليب:
- اسمع أنت, يا سكرتير عمي المرحوم. قدني من فضلك إلى الطبقة العليا, فأنا أريد المعاينة...
ضغط شتيرنر بصمت زر الجرس الموجود على الطاولة فظهر خادم عند الباب.
- هانس, قد السيد غوتليب الابن إلى الطبقة العليا.
ثم عاد شتيرنر للانغماس في رسم الكلاب ثانية.
صمت رودولف, لكن حمرة الغضب غمرت وجهه الأنمش. زاوير, الذي راقب هذا المشهد بينما كان يجلس في الزاوية مع غليوك وفيت, ابتسم ابتسامة خبيثة.
- انظري, يا إلزا, شتيرنر يتصرف كما لو أنه هو ذاته الوريث ... أعترف أنني لا أفهم لعبته. لكأنه يقصد شخصياً أن يرميه المالكون الجدد خارج الأبواب.
قالت إيما بجزع:
- من غير المعروف أيضا ما الذي سيحصل معنا.
ضحكت إلزا بسخرية:
- وماذا في ذلك, إذا طردت فسيتوجب علي الانضمام إلى السيرك الجوال, وسأعمل أمينة صندوق.
- كفي عن المزاح يا إلزا. أنا أقول بمنتهى الجدية إن شتيرنر يدبر لعبة ما كبيرة تدبيراً واضحاً.
ثم تابع بعد أن خفض رأسه:
- ألا يبدو لكما أن وفاة كارل غوتليب قد حدثت في ظل ظروف غريبة؟
نظرت إلزا إلى زاوير.
- ما الذي تريد قوله يا أوتو؟ لكن شتيرنر لم يكن موجوداً في لحظة الكارثة.
- آ ها! يعني, أن هذه الفكرة خطرت على بالكِ أيضاً. فكرة أن موت غوتليب ليس مصادفة؟ الكلب! ماذا لو أن الكلب تصرف بإيحاء غير قابل للشرح؟ إذا لم أكن مخطئاً, فإن شتيرنر قد مارس في عمله العلمي مسائل الإيحاء ونقل الأفكار عبر المسافات. هل تعرفان أي عجائب يجترحها مع كلابه؟ هل تذكرين, بالأمس عندما كنا عائدين من النزهة, ركض فالك نحوك...
همست فيت:
- يا لها من كوابيس! ماذا لو أنه أوحى فجأة إلى الكلاب فأماتتنا عضاً؟
ضحك زاوير ضحكة ساخرة.
- لن يحصل على فائدة من هذا ... اعذراني, فكلاب شتيرنر تقتنص طريدة أكثر ضخامة. لكن ما الفائدة التي سيجنيها من موت غوتليب؟ إن هذا الإنسان الغريب يحيط نفسه بسر عميق. أنتما تعلمان أننا نعمل معاً منذ أكثر من سنة, ونتقابل كل يوم, لكن لا أنا ولا أحد غيري لم يكن قد دخل غرفته قط. ما الذي يفعله هناك؟ أي الخطط يدبر بسكينة؟
- ... لا أفكر أبداً في القيام بذلك. يمكنك أن تأخذي لنفسك منظر كورو الطبيعي, لكن لن أتنازل عن لوحة القديس سيباستيان.
مرت الأختان غوتليب قربهم وهما تتجادلان حول تقسيم إرث عمهما. فصمت زاوير.
قرعت الأجراس في كل البيت داعية الجميع إلى مكتب المالك المرحوم الكبير. وهناك كان كاتب بالعدل يجلس خلف طاولة المكتب. عجوز حليق نحيل يلبس نظارة ذات إطار أسود من عظم السلحفاة. كان شكلياً إلى حد كبير, ورفض قطعياً إخبار الورثة أي شيء عن محتوى الوصية قبل فضها, فنظر الآن آلـ غوتليب بقلق لا إرادي إلى حقيبة الكاتب بالعدل الثخينة التي تخفي سر الإرث. أخرج الكاتب بالعدل, دون عجلة, حزمة من الحقيبة وقدمها لاستعراض سلامة الأختام, ثم فضها وبدأ القراءة.
انتقلت حسب الوصية أملاك المرحوم كلها إلى أخيه أوسكار غوتليب, مع تخصيص مبلغ ضخم نوعاً ما للسيدة شميتغوف, ومبالغ أقل للشيوخ من الخدم.
تنفس آلـ غوتليب بارتياح بعد أن سمعوا الوصية حتى النهاية, لكن وجوههم استطالت فجأة عندما قال الكاتب بالعدل وسط السكون السائد:
- هذه الوصية الأولى.
سأل أوسكار غوتليب بهلع:
- يعني, توجد وصية ثانية أيضاً؟
أجاب الكاتب بالعدل:
- توجد وسوف أتلوها.
وبعد إجراءات معاينة الأختام ذاتها, فضها وتلا الوصية الثانية التي كتبت قبل وفاة كارل غوتليب بشهر فقط:
- " إبطالاً لكل الوصايا المحررة مسبقاً, فإنني أوصي بكل الممتلكات المقتناة العائدة لي, المنقولة منها وغير المنقولة مهما كانت مكوناتها, أن تصبح ملكية كاملة لعاملة الاختزال إلزا غليوك الموظفة عندي. ولأسباب شخصية لن أتمكن من الكشف عن البواعث التي تدفعني لحرمان أقربائي من الإرث ولإعطائها لإلزا غليوك. لكن, وكي لا يقوم الأولون بالطعن القضائي في الحقوق الموصى بها للأخيرة, فإنني أشير إلى أن ما حملني على ذلك هو:
1 - خدمة قدمتها لي إلزا غليوك, خدمة لن أتحدث عنها, لكن قيمتها لا يمكن أن تغطى حتى بالرأسمال المتروك.
2 - بعض الظروف ذات الطبيعة الشخصية جداً, والتي أرغمتني على شطب أخي أوسكار غوتليب من بين قوائم المقربين مني ...".
وأكمل الكاتب بالعدل:
- ممتلكات الوارث محولة إلى دولارات تقدر بمليارين وفقاً للحساب الأولي.
استلقى أوسكار غوتليب على ظهر المقعد. أصبحت عيناه زائغتين. تنفس تنفساً مرفقاً بصفير من فم مفتوح فتحة عريضة وهو يلعب بأصابعه بعصبية. وبدا أن الضربة صعقته.
تعانقت الأختان غوتليب ونشجتا وهما تحنيان رأسيهما الواحدة على كتف الأخرى.
امتقع لون رودولف بحيث برزت كل حبات النمش على وجهه مثل رذاذ القمامة. ثم صرخ فجأة صراخاً هستيرياً:
- غير ممكن!.. غير ممكن!.. كذب! خداع! جريمة!.. نحن لن نترك الأمر هكذا! الجميع هنا محتالون.
هز الكاتب بالعدل كتفيه.
- كن حذراً في كلامك أيها الشاب. أنا نفذت واجبي فقط. يمكنكم الطعن في الوصية عن طريق القضاء إذا وجدتموها غير صحيحة. أما الآن فأنا مضطر لإعطائها للوريثة.
نهض الكاتب بالعدل من وراء الطاولة, ثم اقترب من إلزا غليوك, وأعطاها الوصية باحترام.
رفعت إلزا حاجبيها في حيرة كاملة وأخذت الورقة آلياً.
شخص زاوير المصعوق نحو إلزا, ولم تعرف إيما فيت أ ينبغي لها أن تفرح أم أن تبكي. فقط الكاتب بالعدل وشتيرنر هما من حافظ على الهدوء.
وفجأة مال أوسكار غوتليب وأخذ ينحدر زاحفاً من الكرسي, فاندفع الجميع لمساعدته.
- الطبيب!
وقامت القيامة.
4 - العروس السعيدة
قبل اعتماد وصية كارل غوتليب بشأن ممتلكاته, تم إنشاء وصاية, زد على ذلك أن أوسكار غوتليب ظفر بتعيينه وصياً. لذا بقي آلـ غوتليب يعيشون في بيت الصيرفي المرحوم, وتماسك الشاب رودولف غوتليب كما في السابق باستقلالية المالك المستقبلي, آملاً بقوة أن القضاء "سوف يعيد الحقوق للورثة الشرعيين".
تطلب استكشاف ممتلكات المرحوم الضخمة وجود جميع الموظفين, ولهذا عاد الجميع إلى العمل في اليوم التالي ليوم فض الوصية, وبضمنهم إلزا.
لاقاها زاوير متعجباً:
- أنت؟ .. بأي صفة أنتِ تظهرين هنا؟
أجابت ببساطة:
- بصفة عاملة اختزال.
أجابها:
- المليارديرات لا يعملن مختزلات.
ثم قال زاوير وهو يسحب إلزا جانباً:
- أرجوك, اجلسي ... ينبغي أن نتحدث أنا وأنت حديثاً جدياً.
جلسا. أوتو الشاحب بعد ليلة لم ينم فيها, مسح جبينه بيده مستجمعاً أفكاره.
- منذ يوم أمس, لدي بلبلة في رأسي بحيث فقدت القدرة على الحديث المترابط, إما أنني اشتبهت في قيام شتيرنر بجريمة دون أساس, أو ... أو إنه أخطر مما ظننت ... لكن شيئاً اتضح لي, وهو أن حاجزاً لا يقهر ينشأ بيني وبينك ... أنت تذهبين عني يا إلزا!
نظرت إلزا إليه في حيرة وعتاب:
- قولي لي بصراحة يا إلزا وبمنتهى الصدق, ألم تكوني تعرفين شيئاً عن تلك ... السعادة التي كانت بانتظارك؟
أجابت إلزا بحزم:
- لم أعرف شيئاً.
شدد زاوير:
- لكن عليك أن تعرفي على الأقل الخدمة غير العادية المقدمة لكارل غوتليب, والتي قيمها تقييماً أعلى من كل ثروته؟
- أنا لم أقدم لـه أي خدمة على ما أذكر.
وضع زاوير يده مجدداً على جبينه المتقد.
- يمكن أن أجن من هذا ... لنفرض أن شتيرنر متورط هنا, مع أنني لست متأكداً شخصياً من ذلك, لنفرض أنه أثر تأثيراً ما على العجوز غوتليب, وأقنعه بشطارة بهذه الخدمة غير الموجودة, التي ألزمت غوتليب على ما يبدو, بأن يكون ممتناً لك ... لكن عندئذ, لماذا لم يستفد من الوصية على اسمه؟ أو ...
استقام زاوير كله بشكل ما فجأة وتصعر وجهه بألم.
- المعذرة يا إلزا, لكن علي أن أسألك سؤالاً آخر حساساً للغاية: من الجائز أنه كانت بينك وبين كارل غوتليب علاقات حميمة ...
نهضت إلزا مستاءة.
- إيه, إيه, لن أفعل, اهدئي! اجلسي أرجوك ... أنت ترين أنني لا أتمالك نفسي ... تخطر في رأسي أفكار سخيفة تماماً. آخ, إنه ذلك العذاب! .. علي أن أفصح لك فوراً عن كل شكوكي التي عذبتني طوال الليل. لقد قلبت فكري كثيراً! وفكرت أنه يمكن أن تكوني ... ابنة غوتليب.
- اسمع يا زاوير, سأغادرك الآن إن لم ...
- أو يمكن ..., ها - ها - ها!, إنك تعملين بالاتفاق مع شتيرنر, وأنك لست إلا ستاراً له.
نهضت إلزا ثانية, لكن زاوير أمسكها من يدها وأرغمها على الجلوس.
- اجلسي! عليك أن تستمعي إلى هذا. افهمي أن ما أقوله لك بتلك الحدة والصراحة, سيقولونه, لا بل إنهم يقولونه خلف ظهرك. هل يعقل أنك لا تفهمين أن هذه الوصية تسود اسمك الطيب؟
- اسمع يا زاوير, أنا أحبك - لاحظ أنني أقول لك هذا بصراحة - لكن لكل صبر نهاية. حتى لو كان الجنون يتحدث في داخلك فإنني ... لا أحتمل تلك الأشكال من الجنون. من الذي أعطاك الحق في إهانتي دون عقاب؟
- الحق, الحق! من أعطى الحق في تعريضي لعذاب الشكوك الرهيبة ... ومن أين هي؟
صمت زاوير وخفض رأسه بتعب.
رثت إلزا لحاله ولمست يديه بلطف, ثم قالت بصوت خافت:
- لم يعرضك أحد للعذاب, أنت ذاتك تعذب نفسك. ومن أجل ماذا؟ لكن افهم يا أوتو أن شيئاً لم يتغير في علاقاتنا, وأنا لا أفهم عن أي جدار تتحدث.
- كيف لم يتغير شيء؟ وملايين, ومليارات غوتليب! أنت واحدة من أغنى نساء البلاد, أما أنا … فأملك كبريائي الذكورية. أنا فقير ولا أريد أن يقال عني إنني قد تزوجت النقود. النقود! أليس هذا حائطاً؟
- ومن الذي أقنعك بأن هذا الحائط المؤلف من أكياس من الذهب سينتصب بيننا؟ لا يوجد أي جدار ولن يوجد!
نظر أوتو زاوير إلى إلزا دون أن يفهم ولكنه شعر بالراحة.
- ما الذي تريدين قوله يا إلزا؟
- إنه لا ينبغي نهائياً أن تكون المستشار القانوني أوتو زاوير, وأن تسهر الليالي, وأن توصل نفسك إلى الخبل, كي تفهم كل الارتباك الناجم عن الحصول على هذه التركة. وأنا لا أفكر بقبول هبة كارل غوتليب. سأتخلى عن الحقوق في الإرث. وهذا كل شيء.
صرخ زاوير بصوت مرتفع, بحيث أن إيما فيت التي عملت في الطرف الآخر من الغرفة أوقفت قرقعتها على الآلة.
- ماذا بك يا زاوير؟ لقد أخفتني.
- لا شيء يا آنسة, فهذا من السعادة. بسبب أنني أصبحت غنياً فجأة! غنياً للغاية!.
فهمت إيما على طريقتها واندفعت تقبل صديقتها الضاحكة وتهنئ زاوير المتألق.
- يعني أنك ستتزوج إلزا.
وفجأة سمعوا صوت شتيرنر الذي دخل الغرفة:
- ما هذا المشهد العائلي! بماذا تهنئان؟
صاحت إيما متوجهة إلى شتيرنر:
- يا لها من سعادة. ستقترن إلزا بزاوير, وسيكونان غنيين للغاية.
سأل شتيرنر:
- هل هذا صحيح؟
تبادلت إلزا وزاوير النظرات. وتمهلت عدة لحظات ثم قالت بحزم:
- نعم هذا صحيح. يمكنك تهنئتنا.
كان زاوير سعيداً إلى درجة صافح فيها بقوة يد شتيرنر الممدودة.
- فليكن إذاً. أهنئكما يا ربّي عملي المستقبليين. إذا كنتما, على أي حال, راغبين في الانتفاع من خدماتي. وإذا لم تكونا, فمع السلامة! حقيبتي على كتفي. سأجمع كلابي وأنطلق مع السيرك الجوال ... ليس باليد حيلة, يجب البحث عن أمينة صندوق أخرى ... أ يمكن أن توافق الدمية؟ إيما هل أنت موافقة؟ ماذا بك أيتها الصغيرة؟ أ أنت تبكين؟
قالت إيما:
- هذا ... من ... السعادة.
ضحك شتيرنر ثم قال وهو يهددها بإصبعه:
- هكذا إذاً؟ على الدُمى أيضاً أن يخفين مشاعرهن. اعترفي أنك تشفقين قليلاً على لودفيغ, آ؟ لقد أحببته قليلاً جداً, آ؟
دخل الخادم.
- السيد غوتليب - الأب يلتمس من السيد أوتو زاوير القدوم إلى المكتب.
هز زاوير رأسه لإلزا وخرج من الغرفة بلا رغبة. فأصبح لودفيغ شتيرنر جدياً فجأة بعد أن بقي وحده مع إلزا.
- هل هذا محسوم يا آنسة غليوك؟
- نعم هذا محسوم.
استغرق شتيرنر في التفكير ثم قال:
- وأنا؟ ألا أملك أي حظوظ صغيرة في النجاح؟
- الآن, أقل من أي وقت مضى ... اسمع يا شتيرنر: أنت , كما يبدو لي, الشخص الوحيد القادر على إزالة الغموض عن كل هذه القضية. أجبني على عدة أسئلة.
- أنا أسمعك.
- أ يمكنك أن تشرح لي سر الوصية؟
- لقد مات سوية مع كارل غوتليب.
- هذا الجواب لا يرضيني تماماً. سؤال آخر أيضاً, أكثر الأسئلة صعوبة: هل توجد صلة ... بين تحرير الوصية والموت المفاجئ لكارل غوتليب.
- أوثق صلة: فما أن مات غوتليب حتى أصبح ممكناً إظهار الوصية لاعتمادها ومباشرة حقوق الورثة. سيقول لك ذلك كل حقوقي.
- إما أنك لا تريد أن تفهمني ...
- أو أنك بسبب الوداعة تعبرين بضبابية شديدة. قولي بصراحة: هل أنا المذنب في موت العجوز؟
احمرت إلزا:
- أنت ذاتك المذنب يا شتيرنر, هل تذكر؟ لقد دعوت النزاهة رذيلة … ومن الصعب عليَّ التهادن مع فكرة أن بين المعارف الذين تصافحهم ...
- توجد يد مضرجة بدم رضيع بريء في الستين من عمره؟ وبمثل هاتين اليدين تجرأت وطلبت يدك ...
قال أوسكار غوتليب وقد ظهر عند باب الغرفة:
- اسمع يا شتيرنر, أين أنت ؟ هكذا لا يجوز. نحن ننتظرك منذ وقت طويل.
نهض شتيرنر وخرج مكرهاً. فأسرعت إيما الفضولية نحو إلزا:
- عن ماذا تحدث معك هكذا مطولاً؟
- لقد عرض علي يده وقلبه والكرة الأرضية على شكل هدية زواج.
- وماذا بك أنت؟ عرضان في يوم واحد! محظوظة!
قالت إلزا:
- إيما, أنت تعرفين, لقد رفضت التركة.
فتحت إيما عينيها كل الفتح.
- إيه, وأنت لست أذكى من شتيرنر.
5 - حادثة ملتبسة
لم يمت أوسكار غوتليب, لكن الفقدان الفجائي للإرث الذي طار من بين يديه هز كيانه العجوز. فقد جلس في مكتب المحامي المعروف لوديرس بوجه مدبب ومسود ومتورم, وقال وهو يحني رأسه جانباً ويفتل في يديه قلم رصاص بعصبية.
- قضية التركة هذه, هي قضية شيطنة ما شاملة, وسخافة. من الجائز أن ابني رودولف محق في تأكيده وجود عصابة هنا. عصابة مجرمين أو مجانين. احكم بنفسك. في اليوم التالي ليوم فض الوصية دعوت إلي أوتو زاوير المستشار القانوني لأخي المرحوم كي أتبادل الحديث معه حول القضية, وكما بدا لي, فإن زاوير بوصفه شخصاً مقرباً للمرحوم كارل وموثوقاً, كان باستطاعته إلقاء الضوء على هذه القصة غير المحتملة للوصية. لكن زاوير إما أنه فعلاً لم يكن يعرف شيئاً عن تغيير الوصية, أو أنه لم يرد قول الحقيقة لي. وعوضاً عن هذا أبلغني زاوير فجأة بخبر آخر, وهو أن إلزا غليوك ترفض التركة. دعوت إلي غليوك فأكدت هذا. وكأن حجراً انزاح عن قلبي. ومع ذلك, لم تمض عدة أيام حتى أبرزت الوصية أمام المحكمة لاعتمادها. وقد أبرزها زاوير ذاته بتوكيل من إلزا غليوك.
سألته أنا:
- ما الذي تفعله؟
ضغط زاوير كتفيه.
- لقد غيرت الوريثة نيتها.
سأل المحامي وهو ينفخ الدخان من سيجاره:
- وإلزا غليوك؟ هل تحدثت إليها مرة أخرى؟
- تحدثت. لقد تركت لدي انطباعاً غريباً. هناك هدوء ما حجري على وجهها, نظرة باهتة وحركات ذابلة, كما لو أنها لم تنم نوماً كافياً.
قلت لها:
" يا آنسة غليوك, ولكنك رفضت التركة؟"
أجابتني بخمول:
" لا أعرف, لا أذكر ... يمكن".
"إذاً لماذا قدمت الوصية للاعتماد؟".
نظرت إلي متعجبة وصمتت مثل القتيلة. وهكذا تعذبت معها نحو الساعة, ثم نهضت فجأة وخرجت دون أن تقول كلمة.
سأل المحامي:
- من الممكن أنها غيرت قرارها تحت تأثير الخطيب, إذ إن زاوير خطيبها؟
- أنا أيضاً أظن ذلك. لكن العجيب أن هذا الخطيب يبدو منزعجاً من شيء ما أيضاً. فهو كئيب مثل غيمة, كما لو أن حصول خطيبته على تركة طائلة هو تعاسة رهيبة. زاوير متجهم وغاضب ومهتاج. إما أنه ممثل جيد, أو أنهم قد جنوا جميعاً هناك.
تابع أوسكار غوتليب بعد أن وضع قلم الرصاص في جيبه ثم عاد واستله تواً:
- لكن مهما كان الأمر, فإن الوصية قد أظهرت ويجب النضال. ما رأيك يا سيدي المحامي؟
أرخى لوديرس رأسه الخالي من الشعر وذا الجمجمة الوردية على ظهر المقعد, وتابع حلقة الدخان المتبددة, ثم ابتدأ الحديث كما لو أنه يتناقش مع ذاته:
- لا يجوز دحض الوصية من خلال نظام الدعاوى لأسباب صورية: فالوصية حررها الكاتب بالعدل مع مراعاة جميع المتطلبات القانونية. ويثبت محضر تحقيق القضاء والشرطة أن موت كارل غوتليب كان نتيجة لحادثة مؤسفة تستبعد سوء القصد. ما الذي يبقى لنا؟ البرهنة على جنون الموصي لحظة كتابة الوصية. هذه هي السبيل الوحيدة, لكن المقلقلة كثيراً ...
التفت لوديرس نحو أوسكار غوتليب بعد أن نفث حلقة جديدة من الدخان:
- قل لي بذمة طاهرة, كيف كانت علاقتك مع أخيك المرحوم؟ ألم توجد بينكما ... آ ... آ ... خلافات, نزاعات؟
أجاب أوسكار غوتليب بحزم:
- لم توجد!
- لكن هذه الإشارة في الوصية الثانية؟
احمر أوسكار غوتليب وأخذ يتململ على الكرسي.
- هذه الإشارة! افهموني, إن هذه الإشارة هي السبب الرئيس لرغبتي في رفع دعوى حول بطلان الوصية الثانية, هذه الإشارة تصمني بالعار. إذا كان الاستسلام للحرمان من الحق في الإرث صعباً, فإن الأصعب هو الاستسلام لهذا الافتراء من المرحوم ... أنا لا أعلم ما الداعي له, لكن يوجد هنا سوء فهم ما. من الجائز أن أحداً ما قد سود صفحتي في عيني شقيقي عن سوء نية.
- نعم, حادثة ملتبسة ... سأسعى لفعل كل شيء ممكن, لكن من الصعب ضمان النجاح.
وبعد أن أطلق المحامي المعروف حلقة ثالثة من الدخان, انتقل إلى موضوع الأتعاب, وهو الأكثر سهولة ولذة بالنسبة إليه.
6- مرافعة قضائية
أثارت دعوى أوسكار غوتليب القضائية ضد إلزا غليوك ضجة كبيرة. فالأجر الخارق الذي ينبغي أن يتسلمه المحامي الشهير لوديرس في حال ربح القضية, والمبلغ الهائل الذي خلفه غوتليب وفقاً للوصية, ومفاجأة مشيئته لما بعد الموت, وجمال الوريثة الحديثة العهد, والموت الفجائي لغوتليب بعد شهر من كتابة الوصية, كل هذا كان مادة لا تنضب لتعليقات الصحف, وبدرجة أكبر أيضاً لأحاديث الناس اليومية. أبديت أكثر الاقتراحات استحالة, وجرت نقاشات حارة, وتمت الرهانات. واهتموا أكثر من كل شيء بالعلاقة المتبادلة بين الأخوين غوتليب, وكذلك بالعلاقة بين إلزا غليوك وكارل غوتليب وزاوير. أي خيوط ربطت بين هؤلاء الناس؟ ما الذي حدث بين أوسكار وكارل غوتليب؟ لماذا حرم المرحوم أخاه من التركة؟ اهتمت المحكمة أيضاً بهذا السؤال.
قامت دعوى أوسكار غوتليب, التي صاغتها يد المحامي لوديرس الماهرة, على أساس أن الموصي في لحظة التوصية لم يكن "بكامل العقل والذاكرة". وقد بذلت كل الجهود للبرهنة على ذلك. أزعجوا جثة كارل غوتليب. وشرَّح أفضل البروفيسورات الدماغ, فاحتوى المحضر المقدم إلى المحكمة لهذا الغرض على وصف مفصل جداً لوزن الدماغ ولونه, وعدد التلافيف الدماغية, وبدايات التصلب, لكن المسألة الأساسية لم تحل.
لم يتجاسر الخبراء على القيام باستنتاجات مباشرة عن الانحراف النفسي لكارل غوتليب, رغم أنهم وجدوا بتأثير من لوديرس "بعض الشذوذ".
لكن لوديرس امتلك أيضاً احتياطياً من الشهود المعدين جيداً. إذ تبين أنه يمكن تدبير أموره معهم تدبيراً أسهل مما كان مع الخبراء. لقد أحاط بكارل غوتليب ناس كثيرون عندما كان يرأس عملاً ضخماً, ولم يكن من الصعب تجنيد شهود من بينهم جاهزين للإدلاء بأي شهادة مقابل عمولة مناسبة. وقد قدَّم الشهود, الذين تقودهم يد خبيرة, كثيراً من الوقائع الدقيقة من حياة المرحوم, والتي أكدت جواز فكرة أن كارل غوتليب لم يكن طبيعياً.
أضحك المحاسب الرئيسي الجمهور عندما وصف إحدى غرائب المرحوم: ولعه الشديد بالتنظيم الذي يصل إلى الهوس. على سبيل المثال: بنى مصعداً خاصاً, ثبت على أرضه مقعداً ينتصب أمام طاولة مكتبه, ويصل هذا المصعد بين ثلاث طبقات. كان غوتليب يضغط الزر, كي يهبط من شقته الموجودة في الطبقة الثانية إلى الطبقة الأولى, حيث يوجد المصرف. وبعد أن يوقع الأوراق, أو يلتقي شخصياً مع الزبائن المطلوبين, كان يرتفع على مقعده مثل إله مسرحي إلى الطبقة الثانية مباشرة نحو الطاولة, كي يتابع عملاً كان قد شرع به.
لم يحب غوتليب ظهور الخدم والموظفين أمامه أثناء عمله. كان يقول: "هذا يشوش عمل الأفكار". لهذا فقد مُدَّت في كل البيت نواقل من أشرطة خاصة متحركة لا نهاية لها. وإذا أعوز غوتليب كتاب من المكتبة ,أو فنجان قهوة, فإنه كان يطلبه هاتفيا. وكان فنجان القهوة والكتاب وعلبة السيجار تصل إلى طاولته على صينية محمولة على شريط الناقل المتحرك دون ضجيج
قال أحد الشهود:
- شغفه بالصحة أيضاً قارب الهوس, فقد وُضِعَت في جميع الغرف موازين حرارة, ومقاييس لنسبة الرطوبة, وأجهزة دقيقة لتحديد تركيب الهواء وتنقيته. لم يعترف غوتليب بالتهوية العادية وقال: "لا يمكنك تنقية الهواء في المنزل, بهواء خارجي مسمم بالغبار والبنزين المحروق". لذا نقي الهواء كيميائياً. وراقب شخص معين خصيصاً ثبات الحرارة عند اثنتي عشرة درجة مئوية, فقد بُرِّدت صنعياً في الصيف لتصل إلى هذا الحد, كي لا يكون الهواء جافاً أو رطباً. كما أشبع الهواء بالأوزون صناعياً, كي لا ينقص محتواه من الأوكسجين ويظهر أكسيد الكربون.
الخبراء النفسانيون الجدد من ذوي العريكة اللينة, أو ممن دفع لهم لوديرس أكثر, أعطوا استنتاجهم على أساس هذه الشهادات, مع تسمية حكيمة هي ذهان المرحوم غوتليب. وأخذت القضية تميل بوضوح لصالح أوسكار غوتليب. بقيت مسألة واحدة فقط عقَّدت قرار المحكمة, وهي علاقة كارل وأوسكار. الحقيقة أن عدداً من الشهود قدم إفادات ملائمة بخصوص هذه المسألة أيضاً, بتأكيدهم وجود "عواطف الأخوة" بين كارل وأوسكار. ولكن القطيعة بين الأخوين يمكن أن تحدث على أرضية ما غرامية غير مفهومة حتى لأقرب الناس. ومن حسن حظ أوسكار, لم يستطع أحد البرهنة على حدوث مشاجرة بين الأخوين. حتى إن لوديرس كان ينتظر النصر بلذة ويتصرف ذهنياً بالأجر الضخم. فيللا في نيس ... سيارة جديدة ... مارييت ... ابتسم لوديرس وضيق عينيه مثل الهر. من أجل هذا ينبغي التعامل مع الخبراء والشهود!.. لقد سعى لوديرس بكل جهده, مقحماً في القضية مقدرته الفذة وعبقريته الخطابية.
وفي ذلك اليوم الذي توجب فيه على المحكمة إصدار القرار, لم تستطع قاعة المحكمة الضخمة استيعاب جميع الراغبين في سماع الحكم. وبحث الفضوليون بأعينهم عن إلزا غليوك, لكنها لم تكن موجودة, فقد دافع زاوير عن مصالحها.
تفوق لوديرس على نفسه وألقى مرافعة رائعة. لقد حلل بدقة إفادات الشهود والخبراء, فعمل مقارنات غير متوقعة واستنتاجات, وصدَّ بمهارة مداخلة زاوير المتجهم. كما قوطعت ملاحظاته الظريفة عدة مرات بتصفيق الجمهور, الذي كانت أغلبيته على ما يبدو, تقف إلى جانب "الورثة القانونيين", أي إلى جانب أوسكار غوتليب. ورغم كل التجرد الظاهري للقضاة, كان واضحاً أنهم يميلون لصالح غوتليب.
قال لوديرس في نهاية مرافعته:
- أما فيما يخص علاقة المرحوم كارل غوتليب بموكلي, مهما كانت, فأي معنى يمكن أن يكون لعطف أو كراهية مريض نفسي؟ يقول زاوير إن كارل غوتليب كان يدير عملاً ضخماً.
هز لوديرس كتفيه:
- يعرف التاريخ أمثلة عندما حكم ملوك مجانين دولاً ضخمة, ولم يُخَمِّن الشعب حتى ذلك ...
صفق قسم من الجمهور فقرع رئيس المحكمة الجرس.
في هذه اللحظة نهض أوسكار غوتليب من كرسيه. كان يملك شكلاً ناعساً إلى حد ما. واقترب دون مبالاة من الطاولة التي يجلس خلفها القضاة, بوجه خال من الحياة وهو يسحب رجليه, ثم قال بفتور:
- اسمحوا لي بالكلام.
حل صمت عميق.
نطق أوسكار غوتليب وهو يختار الكلمات بصعوبة, كما لو أنه يتذكر شيئاً ما:
- خطأ ... ليس صحيحاً ما قاله لوديرس. كان كارل طبيعياً وسليماً. لقد حرمني كارل من التركة عن حق. أنا المذنب تجاهه.
سكنت القاعة سكوناً متوتراً. وذهل لوديرس, ثم انقض على أوسكار غوتليب وشده من كمه بهياج.
- ما الذي تقوله؟ ثُب إلى رشدك! أنت تتلف كل القضية!
وهمس في أذن العجوز لاهثاً:
- أنت جننت.
سحب أوسكار يده بسرعة وصرخ بهياج غير متوقع:
- ما الذي تهمس به هنا؟ لا تضايقني! انصرف! أنا مذنب تجاه كارل … أنا لا أستطيع التحدث فيم يكمن ذنبي … هذه قضية عائلية … لكن ليس هذا مهماً...
حتى القضاة صُعقوا.
سأل رئيس المحكمة:
- ولماذا لم تتكلم عن هذا إلا الآن؟
- لأنه الآن ...لأنه ...
تروَّى غوتليب, كما لو أنه أضاع الفكرة, ثم تابع:
- لأنني لم أعرف أن بعض القرائن قد أصبحت معروفة لأخي المرحوم. لقد علمت بذلك اليوم فقط. ليس أنا من يستحق هذه الوصية, وإنما إلزا غليوك.
ضجت المحكمة مثل سد مخروق, وغلب الصراخ المتعالي على رنين جرس الرئيس. شحب لوديرس فاقترب من منضدة الكتابة متمايلاً, وسكب الماء بيد مرتجفة. طنت الكأس على أسنانه, وانسكب الماء على صدره. عجب زاوير لم يبد أقل من عجب الآخرين. أما رودولف غوتليب الأحمر المحتدم غيظاً, فقد انقض على أبيه, وأخذ يهزه من كتفيه وهو يصرخ بشيء ما. لكن أوسكار كان غير مبال بكل شيء. عندئذ هرع رودولف نحو طاولة القضاة هازاً قبضتيه, وصرخ صراخاً غلب على ضجيج القاعة:
- هل يعقل أنكم لا ترون أنه جُنَّ؟ الجميع هنا إما مجانين أو مجرمون ... لن أترك الأمر هكذا.
أوقفت المحكمة الجلسة, وأمر الرئيس بإخلاء القاعة.
7 - الوريث المفقود
رفضت الدعوى وثبتت الوصية, وأصبحت إلزا غليوك وريثة.
لم يرد رودولف الاستسلام لذلك, ولا لوديرس الذي أفلت منه الأجر الضخم. لكن ما العمل؟ هل يكشفان على أوسكار غوتليب ويعلنانه مجنوناً, ويقيمان عليه وصاية في شخص رودولف, كي يمكنهما استئناف الدعوى؟
تعقدت القضية بسبب اختفاء أوسكار دون أثر بعد المرافعة فوراً. ولم يكن ممكناً إعلانه عديم أهلية التصرف غيابياً. تورط رودولف في الديون, وهو يبذر الأموال بحثاً عن والده المفقود. وعد بمكافأة ضخمة, لكن لم يجدوه. واقترب موعد الطعن من نهايته.
وفي غمرة يأسه هرول إلى إلزا غليوك, التي لم تكن قد انتقلت بعد إلى منزل كارل غوتليب, الذي تحول لملكيتها وفقاً للوصية, وإنما كانت تأتي إليه بانتظام دون انقطاع عن العمل. وفي غرفة السكريتاريا الخاصة كان شتيرنر يتلو عليها شيئاً ما وهي تسجل. كان يمكن أن تبدو ممارستها لعملها السابق غريبة, لكن رودولف كان في حال لم تسمح لـه بإعارة انتباه لأي شيء.
سأله شتيرنر وهو يبتسم:
- آ, كيف أحوالكم أيها الشاب؟
أجابه رودولف بزعل:
- هذا لا يخصك أيها الشاب. علي أن أتحدث مع الآنسة غليوك.
ثم نظر رودولف نحو شتيرنر مستفهماً, كما لو أنه يدعوه للخروج, فضيق شتيرنر إحدى عينيه.
- سرياً؟ تفضل!
وخرج.
أخذ رودولف يركض في المكتب بشعر منكوش. ثم قال:
- يا آنسة!.. يا آنسة!..
وفجأة أخفى وجهه بيديه وبكى بكاء مراً.
سألته إلزا وقد ارتبكت من المفاجأة:
- ماذا بك؟
هرع رودولف نحوها. جثا على ركبتيه وثنى ذراعيه, وأخذ يطلب بصوت قطعته الدموع:
- أتضرع إليك!.. لا تهلكيني. ارفضي التركة! بماذا تلزمك؟ أقصد أنها ضخمة, من الذي يرفض الثروة؟ لكنها ليست لك. أريد القول إنه لا علاقة لك فهي التي أتتك فجأة ... أخ أفكاري تتشوش ... وأنا؟.. بيد أنني عشت مفكراً بهذا فقط ... الوالد مقتصد غاية الاقتصاد, يخاف على كل قرش. تراكم علي الكثير من الديون ... أنت! لماذا أنت؟ لأي سبب أنت؟ لكن هذا غير معقول, لا يمكن أن يتفق مع شيء, فظاعة! بيد أن هذا ... أنا لا أعرف ماذا أقول, لكن افهميني, افهميني وارحميني ... ارفضي التركة, وإلا ... سوف أقتل نفسي.
أجابته إلزا بهدوء:
- أنا لا أستطيع فعل ذلك.
- كيف لا تستطيعين؟ من الذي يستطيع منعك؟ ألم ترفضيها؟
- لا أذكر ...
- أشفقي علي, ارحميني, أتوسل إليك! وإلا فإنني ... سأنتحـ ... نعم لقد تحدثت عن ذلك...
وثب رودولف هازاً بيده فروة شعره الحمراء, وأخذ يركض في الغرفة مجدداً فبدا مجنوناً. ثم توقف فجأة, ووجه نظره إلى نقطة واحدة, وقبض على ذقنه بيده اليسرى.
- اللعنة! اللعنة على هذه الشعرات الحمر وعلى هذا الوجه الأنمش.
ثم نتف شعره وضرب خديه .
- لو كنت جميلاً على الأقل ... أما أنت, أنت رائعة ... لو أنك كنت, لو أنني كنت ..., وإذا تقدمت طالباً يدك؟
ابتسمت إلزا, فقد بدا مضحكاً على نحو خارق للعادة في هذه الدقيقة ووجهه مضرج وشعره الأحمر منفوش.
- أشكرك, لكن عندي خطيب.
- هراء, طبعاً. أنا ببساطة سوف أجن وأبوح بأفكاري. أنت رائعة. لكن ما يلزمني هو ثروتك وليس أنت.
وأضاف بخبث بعد توقف قصير:
- غير أنني لم أستطع التفكير بأن مثل هذا الجمال يمكن أن يكون قاسياً هكذا, و ... طماعاً.
عبست إلزا.
- أنا لست طماعة.
- إذا ما الذي يعيقك عن رفض الإرث, وعن جعلي وشقيقاتي أسعد الناس؟
وفجأة قبض على يدها بعد أن هرع إليها, ونظر مباشرة نحو عينيها بكل قوة الرغبة غير المشبعة, وقال لاهثاً:
- ارفضيها! ارفضيها! ارفضيها!..
مر طيف على وجه إلزا الهادئ, فقطبت حاجبيها كما لو أن صراعاً دار في داخلها. وعلى الرغم من كل قلق رودولف, فإنه لاحظ ذلك وأخذ يطلب بقوة مضاعفة, لكن في هذه اللحظة اتخذ وجه إلزا تعبيراً هادئاً من جديد, وأغمضت جفنيها نصف إغماضة, ثم قالت بهدوء لكن بحزم:
- اتركني.
وحررت يدها واتجهت نحو الباب دون أن تقول كلمة أكثر.
- إلى أين أنت ذاهبة؟ انتظري!
انقض رودولف خلفها محاولاً إمساكها من يدها, لكن باب الغرفة انفتح في هذه اللحظة. ودخل كلب راكضاً ومصدراً زمجرة تحذيرية, ووقف بين رودولف وإلزا. ثم ظهر شتيرنر في إثر الكلب وقال:
- إي , هذا ليس جيداً, من ذا الذي يقبض على أيدي الخطيبات الغريبات؟
توقف رودولف وارتعش كما لو أنه مصاب بالحمى, وقاس شتيرنر بنظرة عدائية, فنظر شتيرنر إليه بهدوء وازدراء.
ضرب رودولف الأرض بقدمه واستدار بسرعة على عقبيه, وخرج من الغرفة راكضاً. وبعد أن قفز إلى داخل السيارة أخذ يتمتم كما في الهذيان:
- تلف كل شيء! تلف كل شيء!
سأله السائق:
- إلى أين ستذهب؟
- تلف كل شيء! تلف كل شيء! إلى لوديرس ...
ثم دخل راكضاً إلى غرفة لوديرس, متمتماً بهذه الكلمات ذاتها "تلف كل شيء", دون أن يعير انتباهاً إلى الزبونة التي كانت تجلس عند المحامي.
- لوديرس! تلف كل شيء ... لقد رفضت ... رفضت إلزا جميع النقاط, هذا ما كان ينبغي انتظاره ... غداً ستنتهي مدة تقديم الاستئناف. الوالد مفقود ... لو كنا نعرف على الأقل أنه مات ... لكن لا, وعندئذ سيكون الوقت متأخراً! لا يمكنك إقامة الوصاية خلال عدة ساعات ... تلف كل شيء ... بقي شيء واحد: تقديم الاستئناف ... وكالة والدي الموجودة باسمك لم تلغ ...
- لكن هذا لا أمل منه بوجود تصريح أوسكار غوتليب في القضية.
- مهما يكن , قدمه!.. من الممكن أن نجد الوالد حتى ذلك الوقت عندما سيعيدون النظر في القضية.
هز لوديرس كتفيه, لكنه فكر أنه ربما كان هذا صحيحاً. المهم ألا يفوت الموعد وهناك يمكن للظروف أن تأخذ منحى آخر.
قُدِمَ الاستئناف. لكن, كما في السابق, لم ترشح أخبار عن أوسكار غوتليب إطلاقاً. واستنفدت كل طرق المماطلة, فخسر آل غوتليب القضية في كل المراجع. وحازت إلزا غليوك حقوق الورثة.
8 - المبنى الزجاجي
انعكس ولع الصيرفي المرحوم بالتنظيم على معمارية بـيته, المبني وفقاً لآخر ما توصلت إليه تقـنية البناء المؤمركة. فقد عُرِّف جمال هذه المعمارية الجديدة بقاعدة جديدة هي قابلية الاستخدام. كان مبنى غوتليب الضخم الثلاثي الطبقات والممتد طولاً, مصنوعاً كله من الحديد والزجاج والبـيتون. وكان مظهره الخارجي مستقيماً بصورة مملة, مثل ورقة مسطرة في دفتر حسابات جارية. لم يحتو على خط منحن واحد يسر العيون, ولا على زخرفة. وأعطت ألواحُ الزجاج الضخمة المثبتة على كل الحائط المبنى هيئة حوض سمك عملاق. تهيأ أن الزجاج يمثل حماية هشة جداً للملايين التي أدارها مصرف غوتليب, لكن "السمكات الذهبية" الخاصة بهذه المسمكة حفظت عميقاً في قاعها, في طبقة تحت الأرض. وكان الفولاذ والبـيتون المستخدم في مستودع المال هذا قادراً على تحمل ليس غارات القراصنة الأرضيين فقط, وإنما الغارات الجوية أيضاً. كانت هناك مئات الأجراس الآلية والإشارات الضوئية والبيريسكوبات الخاصة, التي تعطي الحراس القابعين في الطبقة الأولى إمكانية أن يروا ما الذي يحدث في القبو. وحكمت الأبواب التي تغلق آلياً, والحواجز الكهربائية, وأجهزة التصوير السينمائي بالفشل على كل محاولة للتسلل إلى هنا بالقوة أو بالحيلة. وأنفق غوتليب في حينه كثيراً من النقود كي يعلن لكل العالم من خلال مندوبي الإعلام, الذين يصفون كل عجائب تقـنيات الحماية هذه, عن مناعة حصنه المصرفي, وليصد رغبة هواة الربح السهل في التسلل إلى الأقبية. وللحقيقة, فقد جرت محاولة واحدة فقط للاعتداء خلال عشر سنوات. وانتهت نهاية محزنة جداً للمقتحمين: فقد انصفق الباب الآلي بشدة على اثنين من السارقين الأكثر مهارة في مجال السرقة, كما تفعل المصيدة بالفئران.
التقطت آلة التصوير السينمائي التي عملت آلياً هذه الحادثة. وعرض هذا المشهد في جميع دور السينما كمثل عن الرذيلة المعاقبة. وللحقيقة فقد أكدت الألسنة الشريرة أن كل هذه السرقة كانت ممسرحة من غوتليب ذاته, الذي دعا مقابل مكافأة مجزية "ممثلين" معروفين في عالم الجريمة, ووعدهم بإطلاق سراحهم عندما تهدأ الضجة حول القضية. ومع ذلك فقد سرى مفعول المشهد, إذ نام الصيرفي والمودعون لديه باطمئنان.
توضع البنك بكل أقسامه في الطبقة الأولى الأرضية. كما وُجد هنا الحراس المسلحون, الذين لم تكن هناك حاجة لهم في الحقيقة, لكن الصيرفي حافظ على ملاك كبير جداً منهم "من أجل الزينة".
توضعت شقة غوتليب في الطبقة الثانية, حيث شغل الوسط منها المضافة وغرفة استقبال والسكريتاريا الخاصة والمكتب. الطرف الأيمن من المبنى كان مقسوماً إلى غرفتين موصولتين بغرفة المكتب, كان في إحداها منامة غوتليب, وعاش شتيرنر في الأخرى. حافظ شتيرنر على إغلاق هاتين الغرفتين دائماً, ولم يسمح للخدم بالدخول إلى هناك حتى من أجل التنظيف. وجد في الطرف الأيسر من الطبقة "معرض وحوش" شتيرنر: كلابه المروضة وذئاب وخنازير وقطط ودب. عاشوا جميعهم عيشة مشتركة في وحدة مؤثرة. فبعد أن تخلى عن منصبه العلمي تابع شتيرنر "عن هواية", كما قال, دراسة سيكولوجيا الحيوانات.
شغل ثلثا الطبقة الثالثة العلوية تقريباً ووسطها بمتحف للصور الفنية, الذي كان مدعاة لفخر غوتليب ومادة لمزحات الخبراء ونكاتهم. فلقد تواءم هنا في ذلك الاتحاد المؤثر, وجنباً إلى جنب مثلما فعلت حيوانات شتيرنر, كل من أندريه ديل كارتو الأصلي, مع كوريجيو المزيف بفظاظة, ولوحة زيتية لهاو غير معروف, مع رسم بالرصاص لليوناردو دافينشي. كانت اللوحات جميعها مرتبة في حوامل متوضعة في صف متعامد مع الحيطان الزجاجية. سمى غوتليب هذا "تنظيم الإضاءة". كان وسط القاعة خالياً, إذا لم يحتسب البيانو الواقف على منصة خشبـية. ومن أجل حفلات الغداء الاحتفالية جلبت من المستودعات طاولات مبتكرة قابلة للطي من تصميم غوتليب. وقد شغلت مكاناً قليلاً جداً في هيئتها المطوية, لكن جمعها كان عذاباً حقيقياً: خرج الخدم عن أطوارهم عندما كان عليهم تجميع قطع لا نهاية لها وألواح وعوارض… لقد ذكر هذا العمل بأحجية صينية. فالأقسام المنفصلة المركبة تركيـباً خاطئاً كانت تتناثر ولا تنصاع أو تدخل في الشقوق. كان الخدم يضطربون ويضطرب غوتليب أكثر.
- لكن, كيف لا تفهمون؟ هذا سهل جداً!
وكان يهرع من ذات نفسه ويجمع ويقتلع ويسند ويسقط وينكدم ويغضب أكثر من الجميع.
انتهى هذا الأمر الآن, إذ تهجع الطاولات بسلام في هيئة مفككة مثل صاحبها التعِس المقطع الأوصال. كانت القاعة خالية, لهذا كان يطيب الدخول من هنا إلى الحديقة الشتوية المجاورة. كانت أوراق النخيل العريضة تغطي حوض السمك الكبير. وضفرت النباتات المتسلقة مغارة صنعية. وأبهجت الأوركيديا الزاهية باختلاط ألوانها العيون.
أعطت الأرائك المريحة الموجودة بين شجرات الغار والدفلات المزهرات إمكانية الاستراحة وسماع الطيور المغردة الطائرة بحرية.
جاور الطرف الآخر من القاعة مكتبة تقع فوق غرفتي مكتب غوتليب المتوضعتين في الطبقتين الثانية والأولى. اتصلت الغرف الثلاث هذه جميعها بمصعد ثبت عليه مقعد. أحب غوتليب "الصعود" بعد العمل على مقعده المتحرك إلى المكتبة, المؤلفة استثنائياً من إصدارات فخمة في أغلفة غالية مشكلة بالختم بالذهب, كي يدخن سيجاراً هنا, لكنه لم يقرأ كتباً. وقلما استل كتاباً ما منها ففتحه وتأمل الصور.
- خشخاش منزلي , طيف رسغ القدم ... توجد مثل هذه الحيوانات السخيفة! تماماً بنظارات! تفو, شيء قبيح, سأراه في الحلم أيضاً.
وأغلق الكتاب بشدة ثم تمطى في تلذذ بعد يوم عمل.
خلت الغرفتان القاصيتان. إحداهما وجدت فوق غرفة نوم المرحوم غوتليب, والأخرى فوق غرفة شتيرنر.
قاد شتيرنر إلزا إلى هذه الغرفة الأخيرة عندما انتهت معاينة المبنى.
- هذه هي جميع ممتلكاتك. أعتقد أن إقامتك هنا ستكون جيدة. فهنا يوجد كثير من الضوء والهواء, مثلما هو في كل المبنى على أية حال. وليس دون أساس أن الموصي لك كان يملك تلك الهيئة الرائعة النضرة والخدين المتوردين.
ارتجفت إلزا عند التذكير بالموصي, وجرى ظل خفيف على وجهها.
عبس شتيرنر وقال بجد:
- إلزا, هل يعقل أن كل هذا لا يسرك؟ فأنت الآن واحدة من أغنى النساء في العالم. يمكنك أن تنفذي كل أهوائك. إذا كان هذا المبنى لا يعجبك, يمكنك النزول في واحد من المنازل الستة والعشرين التي تعود لك الآن في المدينة. يمكنك العيش في فيلاتك في نيس ومينتون وأوسبيداليتي وفي مايوركا والجزائر. ولم أعد أذكر أين ...
ثم تابع بعد أن فكر بشيء ما:
- لكن يجب أن يعجبك المكان هنا.
دوت إجابة إلزا مثل الصدى:
- نعم ينبغي أن يعجبني المكان هنا.
- ستقيم خادمتك في الغرفة المجاورة. في هذه الغرفة, مثلما هو في كل مكان, الأجراس الكهربائية أكثر من مسامير التنجيد في الأثاث. والهواتف أكثر من الأجراس أيضاً ... يمكنك طلب كل ما يطيب لك دون ترك المقعد. فنجان القهوة سيأتيك بنفسه على الناقل ... إلى لقاء قريب!
غطست إلزا في المقعد بتعب عندما خرج, وغطت وجهها بيديها وقد حنت رأسها. دقت الساعة بعيداً في مكان ما فانتشر رنينها انتشاراً مدوياً في القاعة الفارغة.
جلست إلزا طويلاً دون حراك.
فكرت بحياتها التي سارت بهذا الشكل الغريب. لقد عرفت الفقر باكراً, لأنها ابنة أهل فقراء ويتيمة الأبوين. كانت جميلة جمالاً غير طبيعي منذ طفولتها. وقد جلب هذا الجمال كثيراً من السعادة والكثير من المصائب إلى حياتها. إحدى العجائز الميسورات, وهي السيدة بـيكر الأرملة الوحيدة, قامت بضم البنت إليها بعد أن رأتها طفلة جميلة في الملجأ. كان عمر إلزا في ذلك الحين اثني عشر عاماً. وعاشت حتى السابعة عشرة في كنف السيدة بـيكر. كانت هذه السنوات الخمس الأفضل في حياتها. أحبتها العجوز, لا بل دللتها, علمتها تعليماً جيداً فتعلقت إلزا بها مثل التعلق بأم. لكن العجوز ماتت فجأة دون أن تترك وصية. رمى الأقرباء الصدقة لإلزا على نحو مهين جعلها ترفض مساعدتهم وتشرع في العمل. مرَّ عامان صعبان اضطرت خلالهما للتعرف على العالم من جوانب حقيرة. بمثل جمالها لم يكن صعباً عليها الحصول على مكان في مخزن. فقد وجدت هذه الأماكن, لكنها تركتها سريعاً بسبب الاعترافات السافرة جداً بشأن جمالها من جانب أرباب العمل. وقررت الانتقال إلى عمل آخر. درست الاختزال ليلاً. وعندما أنهت دراستها, تيسَّر لها الالتحاق بغوتليب. وهنا تعرفت إلى زاوير, وأحبته بسبب تعامله معها باحترام, فقد كان متأدباً دائماً وضابطاً لنفسه.
حصولها على التركة غيَّر مسار حياتها.
لم تستطع بحال من الأحوال أن تفهم كيف ولماذا قبلت التركة بعد أن كانت قد قررت رفضها.
سألت نفسها:
- لماذا؟ لماذا؟
وفجأة أصبح وجهها هادئاً. واغتمضت عيناها نصف إغماضة. وبقيت كذلك عدة دقائق. وفي النهاية تنفست بملء صدرها, مثل شخص خرج من مكان خانق إلى الهواء العليل. وعجبتْ لأنه لم يبق أثر من قلقها الغامض وكآبتها. نهضت وتمطت بلذة, كما لو أنها تمرن الأعضاء المتخدرة, ثم عاينت الغرفة بفضول.
- حقاً, المكان هنا مسل جداً. يا لها من رسمة خلابة على السجادة! كم هناك من الضوء! كم هو سهل التنفس!
ثم تنفست بعمق وأخذت تعاين مكانها الجديد بشعور جديد من فضول ما مشتد. تعاين المكتبة ومتحف اللوحات والحديقة الشتوية البديعة.
- وكل هذا ملكي!
وفكرت لأول مرة : "لكن شتيرنر محق من كل بد! يا لي من محظوظة!".
9 - خمسون بالمئة علاوة
هبط شتيرنر بسرعة إلى الطبقة الثانية بعد أن ترك إلزا, فوجد في غرفة السكرتاريا الخاصة زاوير وإيما فيت والقهرمانة العجوز شميتغوف.
نظر إليه زاوير بعداوة وفيت وشميتغوف بقلق.
جميعهم لم يعودوا يعرفون كيف ستصاغ علاقاتهم اللاحقة بعد أن أصبحت إلزا غليوك مالكة كاملة الحقوق.
قال شتيرنر بحيوية:
- مرحباً أيها السادة! أنا من طرف المالكة الجديدة! لا تقلقوا على شيء, جميعكم ستبقون, لقد تحدثت مع إلزا ... الآنسة غليوك ... سيكون لدينا عمل كثير الآن ... ربة عملنا الجميلة غير مطلعة على العمل المصرفي. وعلينا , أنا وأنت بشكل رئيسي يا زاوير, يقع عبء إدارة أعمال مصرف إلزا غليوك.
قال زاوير بغيظ:
- أرجو ألا تقرر عني وألا تحدد واجباتي.
- نعم ... لكن كيف يمكن غير ذلك؟ على كل سنتحدث أيضاً. ينتظرني عمل مستعجل.
دخل شتيرنر إلى المكتب بسرعة وكتب شيئاً ما على طاولة مكتب غوتليب, وخبأ ما كتبه في درج الطاولة, ثم أغلق الباب بالمفتاح ودخل إلى غرفته. ثم خرج عائداً بسرعة وجلس مجدداً خلف طاولة مكتب غوتليب.
دخلت إلزا إلى غرفة المكتب, وظهر في إثرها زاوير وفيت وشميتغوف.
شكرت إيما والقهرمانة إلزا لأنها ستبقيهما عندها.
قال شتيرنر:
- آ! الآنسة غليوك, سعيد جداً بتفضلك بالمجيء إليَّ. كيف تشعرين بنفسك؟
- حسناً, أشكرك.
- هل أعجبك البيت؟
أجابت بحيوية:
- جداً! الطبقة العلوية مغمورة كلها بالشمس. تبدو وكأنك تسبح في محيط شمسي. أما هذه الحديقة الشتوية فهي زاوية خلابة. حقاً, لا حاجة للسفر إلى نيس مع امتلاك هذا الملجأ الأخضر بالقرب منك!
ابتسم شتيرنر بمرح:
- ممتاز! يعني أن كل شيء على ما يرام؟
ولدت حيوية إلزا المفاجئة وابتهاجها انطباعاً معاكساً لدى زاوير. فقد تيقظ ونظر إليها بارتياب, ثم أخذ يقضم شفتيه.
قال شتيرنر:
- تفضلي الآن وانزعي عن كاهليك عبء العمل, لقد حضَّرت وكالة عامة على اسمي وفقاً لرغبتك. تفضلي وقعيها.
تعجب زاوير وشميتغوف وحتى فيت الساذجة. كان يبدو طبيعياً للجميع أن الوكالة ستعطى لزاوير خطيب إلزا, أو في أقصى الأحوال ستقسم إدارة الأعمال بينه وبين شتيرنر.
أجابت إلزا برضا:
- نعم, نعم.
وأخذت الريشة.
- دقيقة واحدة!
قرع شتيرنر الجرس, فدخل إلى الغرفة الكاتب بالعدل العجوز مع شاهدين.
لاقاه شتيرنر:
- المعذرة لأننا نتعبك بدعوتك إلى المنزل على أساس المعرفة القديمة...
هز العجوز رأسه بمجاملة.
وقعت إلزا الوكالة, وانتهت الشكليات خلال عدة دقائق.
قال شتيرنر:
- ينبغي أن يكون كل شيء وفق الأصول. أشكركم! أنتم أحرار.
خرج الكاتب بالعدل وفيت وشميتغوف.
- ستبقى أنت يا زاوير مستشاراً قانونياً. لكن صيرفينا الجديد أطيب من القديم, وسوف يزيد أجرك بمقدار خمسين بالمئة. يلوح لي أنك أوصيت بذلك؟
أجابت إلزا:
- نعم, نعم!
أجاب زاوير الذي اخضر:
- أشكرك على هذا الشرف, لكني أرفض زيادتك والمنصب.
سألت إلزا وهي ترنو إلى خطيبها:
- لكن لماذا, يا أوتو؟ هل أنت تمزح؟
- تفاهم أنت هنا مع ربة العمل, أما أنا فلا وقت لدي. ينبغي النزول إلى المصرف بما أن العجوز كارل قد اخترع تلك الوسيلة الجديدة للمواصلات.
وتوارى شتيرنر في الباب الأرضي بعد أن ضغط الزر.
كررت إلزا بعد أن بقيت وحدها مع زاوير:
- هل أنت تمزح, يا أوتو؟
ولمست ذراعه برقة.
سحب زاوير يده بتقزز وصعَّر خده.
- لا أعرف من منا يمزح ... يبدو لي, أنك أنت يا آنسة غليوك ...
- أوتو!
- لكن مزحاتك تشبه التهكم فقط ... التهكم على الكرامة الإنسانية والحب والثقة والصداقة.
أخذ زاوير يتكلم والاستياء في صوته:
- إلزا! ماذا بك يا إلزا؟ لقد أكدت لي بأنك سترفضين التركة ثم خدعتني ... لماذا؟
- أوتو, لكن ألا تفهم أنه كان ينبغي ذلك؟ أو لست أنت ذاتك من رافع باسمي أمام المحكمة؟
- نعم, أنا رافعت … لا أعلم لماذا رافعت … إنها وسوسة ما شيطانية … مهما يكن, أنت طلبت مني وأنا فعلت … فأنا لا أستطيع أن أرفض لك طلباً … لكن أنت؟ أنت خدعتني! لقد أصبحت مليونيرة, وأيقظت مجدداً في داخلي كل شياطين الشكوك التي تعذبني. هذه التركة ستعيبك وتلطخ حبنا. وهذا ليس كل شيء: أنت تعطين الوكالة لشتيرنر فجأة!.. أي شكوك سوداء جديدة سوف توقظين أنت؟.. أنت معه في وفاق, أنت ... قريبة منه! أنت شريكة في جريمته. لقد استغفلتني مثل طفل.
- أوتو!
- اصمتي! هل يعقل أنك لا تفهمين ما يحاك حول اسمك من أساطير. لقد دنسوا اسمك, وستطير هذه الدناءة من الشوارع إلى هنا, إلى هذه المخادع الذهبية, فهي لن تحميك. أنت تعيشين معها في بيت واحد, أنت ...
- اهدأ يا أوتو, أتضرع إليك!
- كلا, لن أهدأ!.. لقد وجدت كل هذا قليلاً عليك. أنت تريدين إذلالي بعرضك زيادة خمسين بالمئة. ها - ها - ها!.. الحب والكرامة بخمسين بالمئة!
انفجر زاوير بضحك هستيري, ولم يستطع ضبط نفسه.
نظرت إلزا المصدومة إليه بعجز, وجرى في داخلها صراع رهيب. وفي النهاية لم تحتمل أعصابها فانفجرت باكية.
هدأ زاوير. نشج بعصبية, وتنفس بصعوبة من حين لآخر, ثم قال بهدوء بعد أن جلس في المقعد ووضع رأسه على يديه:
- كم أنا تعِس ... كم أنا تعِس!
اقتربت إلزا وعانقته.
- أوتو, هل يعقل أنك تظنني بمثل هذه الغباوة؟ فأنا أحبك! هيا اهدأ, يا حبيبي العزيز ... سأفعل كل شيء تقوله ...
- حقاً؟
أجابت إلزا بحزم:
- حقاً. لا تتهمني فأنا ذاتي لا أعرف كيف حصل كل هذا ...
نهض زاوير فنهضت إلزا في إثره, ثم قال وهو يشد على يديها:
- لا تلزمني الثروة, أنا أحبك أنت فقط, ومن أجل حبي أطلب الزواج منك غداً, هل تسمعين؟ غداً تحديداً وليس بعد ذلك, وغداً بالذات ستطردين من المنزل شتيرنر اللعين مع جميع كلابه!
- أنا موافقة.
- إلزا!
- أوتو!
ارتفعت أرضية المصعد دون ضجيج, ثم سمعا خلفهما فجأة صوت شتيرنر الساخر:
- أوهو! يتبادلان القبل! يا لـه من مشهد مؤثر!
انفصل أحدهما عن الآخر وحدقا.
جلس شتيرنر خلف طاولة المكتب ودخن سيجاراً.
صاح زاوير ممتعضاً:
- لماذا أنت هنا؟
أجابه شتيرنر بسخرية:
- بسبب الواجب الوظيفي والثقة التي أولتني إياها ربة العمل...
قاطعه زاوير:
- ربة عملنا غيَّرت قرارها. ستعطيك الحساب كاملاً. ستُلغى الوكالة الموجودة على اسمك. ومكافأة لك على خدماتك ستعطى أجر شهرين كاملين مع زيادة خمسين بالمئة.
قال شتيرنر وهو يحك جبينه:
- عليَّ إذاً أن أفتح سيركاً جوالاً.
لكنه تجهم بعد أن بقي وحيداً, وأخرج من درج الطاولة مخططاً ما وعاينه, ثم تمتم شيئاً ما بغضب, ودخل بسرعة إلى غرفته, وحبس نفسه فيها طويلاً.
10 - الفتاة ذات الإبريق المكسور
انقضى شهر.
جلست إيما فيت في مكانها المعتاد وكتبت على آلة الريمنغتون. سار زاوير بخطوات كبيرة في غرفة المكتب مدة طويلة, وهو ممتقع وغير حليق وتسريحته غير معتنى بها, ونظر إلى إيما شذراً. ثم اقترب منها متمايلاً من جانب إلى آخر, وأخذ ينظر إلى وجهها بتركيز.
ابتدأت أصابع إيما الرشيقة تعمل دون انتظام فوق ملامس الريمنغتون, واحمرت بتأثير من نظرة زاوير الثاقبة, ثم سألت دون أن تتوقف عن العمل:
- لماذا تنظر إلي هكذا, أيها السيد زاوير. كما لو أنك لم ترني قبلاً؟ أنت تعيقني عن العمل ...
- ولكنك يا آنسة إيما ذات جمال فائق!
ازدادت حمرة إيما, ولكنها لم تسعَ لاتخاذ هيئة من لم يسمع كلماته.
تابع زاوير:
- أمر غريب. أنت تعملين هنا منذ أكثر من عام, وأنا ألتقيك كل يوم. لكن كما لو أن عينيَّ تفتحتا خلال الشهر الأخير فقط: وجه بـيضاوي وديع, شعر ناعم يرغب المرء في لمسه وتمسيده, عينان بديعتان! فيهما بساطة طفولية ومكر شيطان صغير. أنت "الفتاة ذات الإبريق المكسور" حية.
- أنا لم أكسر أباريق قط.
- إنها لوحة غريوز. وأنت ...
- كفاك يا زاوير.
كان يطيب لإيما سماع زاوير, لكنها أخفت مشاعرها خوفاً من غضب إلزا, التي داهمتهما أكثر من مرة يتبادلان مثل هذا الحديث. كانت إلزا تمر قربهما بوقار, لكن إيما كانت تشعر أن "ربة عملها", مثلما نادتها الآن مازحة, كانت ترى وتفهم كل شيء.
- أنا لا أتعرف عليك يا سيد زاوير!
- أنا ذاتي لا أعرف نفسي يا صغيرتي. يؤكد الفلاسفة أن معرفة الذات هي أصعب المسائل في العالم ...
وحقيقة أنه ما كان ممكناً التعرف على زاوير. لقد توقف زاوير اللبق والمتأنق والمدقق عن الاهتمام بمظهره الخارجي, وهذا شيء لم يحدث سابقاً إطلاقاً. وبدأ بالتردد على المطاعم, والالتقاء بجماعة مشبوهة, واتخذ موقفاً مهملاً من العمل.
- هاك, أيتها الآنسة العزيزة فيت, كفاك قرقعة على هذه الآلة الموسيقية الخسيسة. حان وقت الانتهاء. لنذهب للأعلى, سأريك أسماكاً ذهبية جديدة في الحوض الموجود في الحديقة الشتوية. لقد استجلبها شتيرنر مؤخراً ليقدمها هدية إلى ربة عملنا
ترددت إيما, فنظر زاوير إلى باب غرفة المكتب نظرة ذات معنى وهو يبتسم.
- أتخافين ربة العمل؟
توردت إيما ونهضت.
- دقيقة واحدة فقط! فأنا أتعجل الذهاب إلى البيت.
لكن هذه الدقيقة امتدت أكثر من نصف ساعة.
ثرثر زاوير ولاطف دون انقطاع. احمرت إيما نتيجة خوف خفي من أن تباغت, ثم نهضت فجأة بعد أن نظرت إلى الساعة.
- يا إلهي, لقد تأخرت!
ثم خرجت من الحديقة الشتوية ودخلت إلى القاعة المقفرة بعد أن أصلحت تسريحتها.
- اسمعي يا إيما, لنذهب اليوم إلى المسرح سوية. وفي المساء نتعشى في الكونتيننتال ونستمع إلى فرقة الجاز.
لم تستطع إيما منع نفسها من الضحك, وهي التي اعتادت أن ترى زاوير جدياً.
تأبط زاوير ذراعها وسحبها نحو المخرج وهو ينزلق فوق الأرضية الخشبية.
راقبت إلزا هذا المشهد وهي تقف بين حيطان اللوحات, إذ غالباً ما تسكعت في الرواق.
عندما ابتعد زاوير وإيما خرجت إلزا الممتقعة من زاويتها, ومشت إلى الحديقة الشتوية, وجلست بتعب على المقعد قُبالة الحوض. خرت النافورة وتحركت السمكات الذهبيات ببطء خلف خضار الزجاج. عامت نحو السطح وأطلقت فقاعات هواء. ساد الهدوء. قبعت الطيور على الأغصان, وقد انتفش ريشها كما لو أنها تحت المطر.
خفضت إلزا رأسها فشاهدت حقيبة من الجلد الأصفر مرمية على الأرض وعليها حرفان فضيان استهلاليان "أ. ز.".
سمعت في تلك الأثناء صوت خطوات مقتربة فخطرت في بالها فكرة:
"نسي أوتو زاوير حقيبته وهو آت لأخذها".
أرادت الاختباء في المغارة كي لا تلتقي به, لكنها بقيت في مكانها بعد تفكير.
دخل زاوير وهو يدندن أغنية من أغاني الكاباريه, وعندما رأى إلزا ارتسم التعجب على وجهه واضطرب قليلاً, لكنه ما لبث أن اتخذ مظهراً غير متكلف.
- آ! هل تسمحين بالتنزه في الحدائق؟ هل تعجبك السمكات الذهبيات؟ أعتقد أنها فاتنة مع صلصة جيدة.
لكن المزحة لم تضحك إلزا.
- اسمع يا زاوير, ما الذي يعنيه كل ذلك؟
- عن ماذا تتحدثين يا آمرتي؟
- عن الذي حدث هنا الآن. وعموماً عن كل تصرفاتك خلال الشهر الأخير.
احمر زاوير.
- يمكنني يا آنسة غليوك أن أسألك السؤال ذاته. ما الذي يعنيه تصرفك؟ هل نفذت وعدك؟ هل أصبحت زوجتي, وهل طرد شتيرنر؟ إلام يستند حقك في مناقشة حرية تصرفاتي؟
- أنا لا أطالب بأي حقوق. أنا لا أتراجع عن وعودي رغم أنني لم أنفذها.
- لماذا؟
تكدرت إلزا بدورها. لماذا؟ هي ذاتها لا تعرف. لقد حدثت هنا مجدداً فجوة في وعيها. وعانت إحساساً كريهاً بفقدان الذاكرة, معروف لديها مسبقاً. واصطدم فكرها بحاجز غير مرئي مثل اصطدام ذبابة بزجاج شفاف.
خفضت إلزا رأسها وصمتت, في حين عاين زاوير ملامح وجهها وقوامها مستطلعاً, وفكر متعجباً.
"كيف استطعت أن أحبها؟ لا شيء مميز فيها! يوجد مقدار ما تريد من هذه التماثيل الحية الجميلة في كل مخزن من مخازن أزياء الموضة . رقبتها جميلة لكنها طويلة إلى حد ما. الغريب أنني لم ألاحظ ذلك سابقاً. وتانك الكتفان الضيقتان … والشامة الموجودة عند عينها اليسرى, إنها ليست في مكانها أبداً. هذه الشامة تشوهها حتماً!.."
- أنت لا تجيـبـين!.. ألا يوجد لديك ما تقولينه؟
أجابت إلزا أخيراً:
- لكنك أنت لم تترك العمل أيضاً. لماذا؟
أصابت المكان الموجع لدى زاوير. فهو حقيقة لم يترك العمل لسبب غير مفهوم لـه ذاته. فقبل شهر من الآن بردت عواطف زاوير نحو إلزا بروداً ما فاجأه هو ذاته, والتهب حباً تجاه إيما. كان يشعر من حين لآخر بوزر هذا, ووزر تصرفاته الأخرى: لقد أخرجه ذلك التنافر مع ذاته عن مسار حياته. كما لو أنه عانى فصاماً في الشخصية, وهذا ما عذبه. لذا عكف على اللهو كي ينسى, وسلك نمطاً مشتتاً من الحياة. لكنه لم يرغب في الاعتراف بعجزه عن إجابة نفسه على سؤال: لماذا لم يترك هذا المنزل؟ لقد أهاجه هذا فحوَّل السؤال إلى وجهة أخرى.
- آ. إذاً أنت ترغبين في التخلص مني بسرعة. كل شيء واضح الآن.
نظرت إلزا إليه بعتاب:
- أوتو, هل ستهـينني ثانية؟
- ارتاحي تماماً! لقد أتعب أحدنا الآخر إلى درجة كافية, وحان لنا أن ننهي هذه اللعبة. إذا أردت أن تعرفي, فأنا لا أذهب من هنا لأنني أحب إيما فيت. نعم أحبها, وسأطلب يدها اليوم بالذات!
بدا لـه هذا التعليل أكثر مطابقة للحقيقة, على الرغم من أنه شعر في مكان ما من وعيه الباطني بأنه يخدع نفسه: ألم يكن يستطيع المغادرة مع إيما سوية؟
استلقت إلزا على ظهر المقعد وقالت بهدوء فقط:
- أوتو!
حل الصمت . وتحرك في داخل زاوير شيء ما شبـيه بالشفـقـة. لكن ما لبثت أن لمعت فكرة: إنها تكذب وتتصنع, كما تفعل دائماً. لذا أخذ يتكلم بـهياج:
- وما الذي انتظرته مني؟ ألا يكفي أنني وافقت على لعب دور تشيتشيسبيه كما كان مألوفاً في وقت ما في البندقية!.. صديق البيت الرسمي! أنا أعتذر عن هذه الوظيفة الفخرية. بوجود ثروتك يمكن إيجاد راغبين آخرين. أما أنا فلتطرديني. إيما فيت لا تلتقط النجوم من السماء, ولا تدير المليارات. تتألف كل روحها من لولب واحد بسيط, لكن يمكن لهذه الفتاة أن تصبح زوجة شريفة.
لم تعترض إلزا وخفضت رأسها أكثر فأكثر, كما لو أنها تتلقى ضربات سوط.
رفع زاوير الحقيبة.
- زاوير فقير, لكن لا يمكن شراؤه بعلاوة خمسين بالمئة فوق أجره! اعذريني, إنهم ينتظرونني.
ثم خرج بعد أن انحنى بلطف مبالغ فيه, فتردد وقع خطواته بوضوح في القاعة الضخمة.
جلست إلزا مثل الذليلة, ثم أعادتها دقات الساعة إلى وعيها فارتعشت.
- الساعة الخامسة. شد ما تأخر الوقت!
تكاثفت عتمة الشتاء. خرجت إلزا من القاعة ونظرت حواليها فوقعت نظرتها بالمصادفة على البيانو. اعترتها رغبة مفاجئة بالعزف, فرفعت غطاء الآلة, ثم جلست وعزفت.
بدا لها أنها لم تعزف قط بمثل هذه الرغبة...
ارتعشت فجأة إذ شاهدت وجه شتيرنر أمامها. متى دخل؟.. وقف مستنداً إلى البيانو ونظر إليها. كان وجهه أكثر امتقاعاً من المعتاد وجدياً وحزيناً. كما ارتعشت شفتاه الدقيقتان بعصبية.
أطلقت إلزا صرخة وتوقفت عن العزف.
قال لها بصدق وبساطة:
- اعزفي, أرجوك!
تابعت إلزا بعد أن تمالكت روعها. فاستمع إلى العزف بانتباه فترة من الزمن, ثم أخذ يتحدث ببطء وهدوء:
- كم هو رائع عزفك! هل هذه "تمة"؟ "تمة" سان – سانس … يقولون أن التم يغني قبل الموت … لكن التم يعيش طويلاً, طويلاً جداً. فقط تلك الطيور المجروحة جروحاً مميتة تموت قبل وقتها. هل يعقل أنك مجروحة؟ من جرحك؟ وهل هو يستحق أن تموتي من أجله؟
سألته إلزا وقد توقفت عن العزف وأرخت يديها على ركبتيها:
- عمن تتحدث؟
- عنه, عن زاوير! هل هذا سر؟
تحرك في إلزا كبرياء المرأة, فقالت بجفاف وقد نهضت من وراء البيانو:
- أرجوك يا سيد شتيرنر ألا تتدخل في شؤوني الخاصة!
- نعم ولكنها شؤوني الخاصة أيضاً يا آنسة إلزا, فأنت تعلمين أنني أحبك!
- لكنك تعرف أنني لا أحبك.
- واأسفاه , في هذا تكمن كل التعاسة ... تعاستي وتعاستك. نعم, نعم, وتعاستك رغم أنك لا تفهمين هذا. كم كان كل شيء سيكون رائعاً لو أنك أحبـبتني! لو أنك أحبـبتني بنفسك.
قالها شتيرنر بمعنى خفي.
- وكيف يمكن أن تحب على نحو آخر؟
لم يجب شتيرنر.
- اسمعي يا إلزا, تعالي نتحدث بجدية. في هذه القاعة المنظمة لا يوجد حتى مكان للجلوس عليه ... لنذهب إلى الحديقة الشتوية, أرجوك!
جلسا على ذلك المقعد ذاته الذي كانت تجلس عليه إلزا تواً.
بدأ شتيرنر الحديث:
- لقد اجتزت مدرسة صعبة وتعرفين الحياة. أنت تعرفين كم هو صعب على الفتاة الجميلة والفقيرة أن تحصل على لقمة الخبز بشرف. أنت غنية الآن, ولكن للثروة ورطاتها. أنت تصبحين طعماً مضاعفاً بالنسبة للرجال. إذ غالباً جداً ما يهرع الدونجوانات والباحثون عن المتعة خلف الجمال, ويجري السفلة والأنذال خلف الثروة. ولا ضمانة عندك الآن بأن من ستختارينه سوف يحبك أنت وليس ثروتك. ما الذي سوف يكون بانتظارك عندئذ؟ لقد انتهى الأمر مع زاوير. وأنت وحيدة. انظري إلى الأشياء نظرة سليمة. لماذا لا يمكنني أن أصبح زوجك؟ أنت لا تحبـينني. لكنهم يقولون إن أكثر الزيجات سعادة هي تلك التي يكون العقل هو الواسطة فيها وليس الحب. يمكنك أن تحبـيني لاحقاً. هذه الحالات ليست نادرة ... ومن ثم ... لدي عمل ضخم وخطط عظيمة. وعلاقتك تجاهي تكبلني ولا تمكنني من التوسع إلى أقصى مدى ومن التفرغ كلياً للعمل ... أقول لك للمرة الأخيرة: احسميها!
هزت إلزا رأسها بالنفي.
قال شتيرنر مستعجلاً:
- كلا, كلا! لا تقولي لي الآن أي شيء. فكري بكل شيء بهدوء, زني اقتراحي ثم أعطني الإجابة ... اليوم هو الخميس ... الساعة السادسة من مساء الأحد هي آخر موعد!
انحنى شتيرنر ثم خرج.
دقت الساعة دقاً مدوياً معلنة السادسة.
11 - رحلة زواج لم تتم
أفاقت إلزا في الصباح وقد غاب عنها وضوح التفكير منذ فترة طويلة. كان عليها أن تقرر: هل تقبل عرض شتيرنر, أم ترفضه؟ لم تهتم لماذا كان عليها أن تقرر ذلك من كل بد. جلست إلزا بعد الإفطار الصباحي في ركنها المحبوب في الحديقة الشتوية مقابل الحوض, كي تتخذ قراراً نهائياً. ومع ذلك أعاقوها, إذ دخل خادم وأخبرها أن أوسكار غوتليب ينتظرها في غرفة الاستقبال, ويلتمس بشدة أن تقابله.
فكرت إلزا: "أوسكار غوتليب؟ من أين ظهر؟"
ومر في ذاكرتها حشد كامل من الذكريات العابرة عن المحاكمة القضائية.
هبطت إلزا إلى غرفة استقبال الطبقة الثانية.
مشى العجوز لملاقاتها وهو ينحني انحناءة خفيفة, فلم تعرف فوراً أنه شقيق الصيرفي المرحوم. لقد نحل أوسكار غوتليب, وأرخى لحية عريضة وكثيفة وشيباء عوضاً عن السكسوكة الصغيرة. أصبح وجهه أطول, وغار خداه, وازداد الانتفاخ تحت عينيه. لكن التغيير لم يمس المظهر فقط, إذ شعرت بالذل والمهانة في جميع وضعياته وحركاته, وتراكضت عيناه بقلق.
قال وهو يقبل يد إلزا:
- أقدم اعتذاراتي بسبب إقلاقك. لكن الحاجة القصوى تجبرني على هذا...
أشارت إلزا إلى المقعد.
- تفضل.
جلسا, فتنهد أوسكار غوتليب, ثم فتل القبعة في يده وصمت. وبعد أن تمالك نفسه تحدث بصوت مرتجف:
- أنا, في الحقيقة, لا أعرف كيف أبدأ ... اسمحي لي قبل كل شيء بأن أؤكد لك أنني استسلمت تماماً للواقعة الحاصلة ... تماماً ... لكن الحدث ذاته, الذي أدى إلى حرماني المفاجئ من التركة, وضعني في موقف صعب للغاية. تكمن القضية في أنه بعد وفاة أخي و ... بعد رفضك للإرث قمت ... بـِرَهْنِ ممتلكاتي ... ما العمل؟ فالشبـيبة تطمع كثيراً بالتسلية ... المدينة الكبيرة ... الثياب ... الكثير من الإغراءات ... نعم وكان ينبغي أن أصلح المزرعة. كانت الالتزامات قصيرة الأجل. لم أفكر بأنك ستغيرين قرارك, وأن كل شيء سيجري هكذا! أنا لا أقول هذا كي ألومك, ولكن كي أشرح لك. والآن, بعد أسبوع, ستباع ممتلكاتي في المزاد العلني لعدم سداد الدين. وأنا مفلس ... مفلس نهائياً في شيخوختي, وبين يدي كومة أطفال ... عندي خمسة منهم إضافة إلى زوجتي العجوز.
- ما هو مجموع دينك؟
ارتبك أوسكار غوتليب.
- مبلغ كبير, لا بأس به, بالنسبة لمواردي طبعاً. مئتا ألف ...
فكرت إلزا.
- تفضل انتظر وسأعطيك الجواب الآن.
لم يتوقع غوتليب أن يجري كل شيء بتلك البساطة, فأخذ يشكرها مقدماً بحرارة وذل.
مرت إلزا عبر غرفة السكرتاريا الخاصة, التي لم يكن فيها أحد بعد على الرغم من أن العمل كان قد ابتدأ في هذه الساعة.
فكرت إلزا: "غريب ما الذي يعنيه هذا؟"
ودخلت إلى غرفة كارل غوتليب حيث عمل شتيرنر على نحو دائم فوجدته هنا.
- شتيرنر, لقد أتى أوسكار غوتليب إلى هنا ...
رفع شتيرنر حاجبيه.
- وجدوه؟ أم أنه قام من بـين الأموات؟ وماذا في ذلك, الأفضل أن يأتي متأخراً من أن يأتي في غير وقته. ماذا يريد؟
- يلتمس نقوداً ... ستباع ممتلكاته في المزاد العلني.
- كم؟
- يقول إن ممتلكاته مرهونة بمئتي ألف.
صعر شتيرنر وجهه.
- يكذب! ممتلكاته بكل موجوداتها لا تساوي مئة ألف. رمل ونتآت ... سنعطيه مائة ألف وليتوارَ!
- اسمع يا شتيرنر, رغم ذلك أنا أشعر أنني مذنبة بغير إرادتي في تعاسته, ثم ... إنه مسكين جداً ... لم يكن من السهل عليه أن يأتي إلى هنا. أعطه مئتي ألف من فضلك!
انفجر شتيرنر ضاحكاً.
- من فضلك! هذا رائع! رئيسة بيت الصيارفة تطلب من مرؤوسها باحترام شديد! كل شيء ملكك, يا آنسة غليوك, وكلمتك قانون. عملي بسيط: أن أدير الدولاب وأنفذ أوامر المسؤولين.
وقع شيكاً بمبلغ مئتي ألف بسرعة, ثم وضع دفتر الشيكات في الطاولة وأغلقها بالمفتاح.
- هاك الشيك.
- أشكرك.
- ثانية! متى ستتعلمين أن تكوني ربة عمل؟
خرجت إلزا من غرفة المكتب وقدمت الورقة إلى غوتليب.
- تناول شيكاً بمبلغ مئتي ألف ...
أخذ أوسكار غوتليب الشيك بيد تهتز من الاضطراب, وعاد يشكرها مجدداً ويعتذر.
أجابته إلزا بحيرة:
- من فضلك, لا تشكرني, من الأفضل أن تحدثني ما الذي حصل معك؟ أين اختفيت بعد جلسة المحاكمة؟!
جلسا مجدداً.
- مرضت ... مرضت, وكان مرضي غريباً جداً. عندما خرجت من المحكمة اعتراني فجأة خوف من الناس وخجل ... كنت أخجل من الظهور أمام أعينهم. أنت تعلمين أن صور جميع المشاركين في المحاكمة القضائية قد طبعت في جرائد كثيرة. وتهيأ لي أن كل عابر سبـيل, وكل سائق عربة اجتازني, وحتى الأطفال يشيرون إلي بأصابعهم ويقولون: "ها هو ذا الشخص الذي حرمه أخوه من التركة بسبب تصرفه غير اللائق!" وهكذا, بما أن أحداً لم يعرف ماهية هذا التصرف غير اللائق, فإن كل واحد كان يستطيع التفكير كما يحلو له: من الممكن أنني قمت بالتزوير – قلدت توقيع أخي على الحوالات. ومن الجائز أنني اعتديت عليه محاولاً تسميمه. لذا هربت ...
تنهد العجوز.
- نعم لقد عشت كثيراً من الدقائق المرة يا آنسة ... هربت إلى مكان قريب جداً. لقد بحثوا عني في كل العالم, أما أنا فعشت في هذه المدينة ذاتها. اختبأت في مكان أمين عند صديقي العجوز الوحيد. وقلت له: "سأقتل نفسي إذا أفشيت سر وجودي حتى لشخص واحد". لكن لم يكن هناك داع للحديث عن ذلك, فهو لم يكن سيفشيه حتى دون تحذير.
ابتسمت إلزا:
- لكن, اعذرني, ألم تخجل من هذا الصديق؟
- لا! والمدهش في الأمر, أنني لم أكن أعرف عنوانه, لكنني وجدت شقته بحدس غير مفهوم … وهكذا مضيت ووصلت … وما لا يقل إدهاشاً أيضاً أن صديقي استقبلني بطريقة وكأنه كان ينتظر هذا اللقاء, على الرغم من أننا لم نر بعضنا بعضاً عدة سنوات, كما أننا لم نتراسل. لم أتفرغ للبحث عنه وزيارته مدة طويلة. قال لي ببساطة: "ها أنت ذا قدمت".
عشت عنده وكنت أعاني طوال الوقت من شعور الخوف والخجل. كنت في أمسيات بعض الأحيان, كما لو أنني أثوب إلى رشدي. حتى إنني كنت أفكر بالخروج في اليوم التالي لاستنشاق الهواء النقي. لكن في الليل, كنت أشعر فجأة بالخوف والخجل المحرق يملآن نفسي ثانية, وبجذور شعري تتحرك على رأسي ... وسوسة ما تماماً! كنت أخبئ رأسي بإحكام بالملحفة, وأستلقي متوارياً خائفاً من أن أتحرك. وفي الصباح لم أكن أذهب إلى المطعم متذرعاً بألم في الرأس. كانت الستائر مسدلة بإحكام على نوافذ غرفتي.
قالت إلزا متأملة:
- كم هذا غريب!
- قرأت الجرائد, وتتبعت أعمال البحث عني وقد تجمدت من الخوف. لقد سارت في طريق خاطئة. وخلال كل تلك الفترة ابتسمت مرة واحدة فقط عندما قرأت في الجرائد أنهم "وجدوني" في مكان ما من الأرجنتين. لقد نسيت الآن في أي مدينة. طبعاً, تبـين أن ذلك خطأ. كان "شبـيهي" مزارعاً قدم إلى تلك المدينة في عمل خاص. وبالحكم على الصورة في الجريدة فقد كان يشبهني حقاً.
- وهل دامت طويلاً هذه الحالة لديك؟
- تماماً إلى ذلك اليوم الذي أصدر فيه آخر مرجع قضائي قراراً قطعياً ونهائياً لصالحك في القضية. عندئذ هان علي كل شيء فوراً, فعدت إلى المنزل حيث أقمت إلى أن استلمت إشعاراً بالمزاد الذي سيجري. فقررت أن الشخص الوحيد الذي يمكنه إنقاذي...
لم يكمل كلامه لأن زاوير وإيما فيت دخلا إلى الغرفة, فنهض غوتليب وأسرع خارجاً.
أذهل مظهر زاوير وإيما إلزا. كان زاوير يرتدي ثوباً رسمياً, وارتدت إيما فستاناً أبـيض مع باقة من الأزهار البـيضاء على صدرها. كان وجهاهما متهللين, وتأبط زاوير ذراع إيما.
- اسمحي لي يا آنسة غليوك أن أقدم زوجتي إيما زاوير. باركي لنا فقد تكللنا.
امتقعت إلزا ونهضت, فاندفعت إيما لتقبلها. لكنها توقفت مترددة وقد شاهدت حيرة إلزا.
تغلبت إلزا على اضطرابها وقبلت إيما ببرود, ومدت يدها لزاوير.
كانت إيما سعيدة جداً لدرجة لم تلحظ معها هذه البرودة. وأخذت تتمتم وقد شبكت ذراعيها على صدرها مثل الأطفال.
- أوتو هذا مضحك جداً.
وألقت نظرة مشرقة على زوجها.
- كنت وإياه في المسرح بالأمس فقال فجأة: "ينبغي أن نتكلل أنا وأنت الآن. لنذهب"
سألت إلزا:
- وهل عزمت على ذلك فوراً؟
صعرت إيما وجهها تصعيرة مضحكة جداً قالت فيها: "ومن يرفض السعادة".
- حدث كل شيء تلقائياً, بطريقة ما, فلم ننتظر نهاية المسرحية رغم أنها كانت ممتعة جداً ... عرضت تمثيلية ... يا إلهي, لقد نسيت!.. لكن أيها؟ هذا كله يستوي … ذهبنا نبحث عن الكاهن. لحق أوتو بذلك العجوز المضحك النعسان قبل أن يأوي إلى الفراش! فقرأ شيئاً ما. مرة وأخرى وكله جاهز! هل ستغضبين مني يا إلزا؟.
سألتها فجأة بوجل غير متوقع.
ارتسمت ابتسامة عفوية على وجه إلزا وهي تشاهد هذه السذاجة الطفولية, ثم عانقت صديقتها بشعور صادق وقبلتها.
- هل يمكن أن أغضب من الدمية؟ هل أنت سعيدة؟
أجابت إيما وقد قطبت حاجبـيها:
- للغاية!
لكن بسمة إلزا اختفت من وجهها عندما وقع نظرها على زاوير, الذي كان ينظر إلى إيما بعينين ولهانتين. وفكرت: "كلا , هذا الزواج ليس انتقاماً من جانب زاوير. فهو يحب إيما حقاً ... إنها وسوسة ما, وسوسة! من قال هذه الكلمة؟ نعم, أوسكار غوتليب … لقد تحدث عن الوسوسة . ما الذي يعنيه كل هذا؟ أنا أشعر مجدداً بأن أفكاري بدأت تتبلبل ..."
- آ - آ, زوجان حديثا القران!
قطع صوت شتيرنر الواقف عند باب غرفة المكتب سلسلة أفكارها.
فكرت إلزا بتعجب: "هل عرف؟"
كان من الصعب عليها احتمال مشهد المباركة مرة أخرى, خصوصاً بوجود شتيرنر. فخرجت خلسة.
قال شتيرنر بمرح:
- أهنئكما, أهنئكما.
صافح زاوير يد شتيرنر بقوة وبأكثر الأشكال حفاوة. وبدا كما لو أنه لم يتبق أثر من العداوة السابقة.
قالت إيما:
- نحن نفكر أن نسافر اليوم مساء لقضاء شهر العسل. هل ستعارضان أنت وإلزا؟
ارتسمت على وجه شتيرنر تعابـير التبرم, لكنه ابتسم لإيما بلطف فوراً.
- طبعاً, مفهوم, أيتها الدمية الرائعة!.. إلى أين تفكران بالسفر؟
- إلى نيس أو إلى النرويج. لم نقرر بعد. أوتو يريد النرويج وأنا أريد نيس ...
قال شتيرنر وهو يبتسم:
- هل يعني هذا أنكما ستقومان برحلة الزواج منفصلين؟
ثم تابع:
- سيتجمد أنفك الصغير في النرويج الآن. ينبغي أن تعتني بها يا زاوير. سوف تذهب إلى نيس, طبعاً!
- إذاً, الوداع. علينا أن نستعد للسفر!
وأمسكت زوجها من يده وشدته نحو المخرج.
- أسرع, أسرع يا أوتو, أنت أخرق جداً! أنا متأكدة أنني سأتأخر وإياك عن موعد القطار في كل الأمكنة!
عاش زاوير في فليغيل في شقة صغيرة مريحة.
هرع الشابان بانتعاش ومرح, وأخذا يرتبان الحقائب باستعجال ويتحدثان دون توقف.
- وهكذا, أ إلى نيس؟
- وما العمل؟ إلى نيس إذاً إلى نيس.
- يا إلهي, يجري كل هذا بتلك السرعة كما لو أننا نعاني حريقاً!.. يا لها من حقيـبة ثقيلة.
- يمكننا ألا نسافر ... ينبغي أن نرمي الكتب منها ... أعطني أدوات الزينة ...
- لن نسافر؟ إذاً أنت جننت! طبعاً سوف نذهب! لكن ثوب السفر؟
- سنشتريه بطريقنا. فستانك الرمادي مناسب جداً من أجل البداية.
جلسا على الأرض أمام الحقيـبة الكبـيرة, وأخذا يرميان الكتب. وفجأة تسمرا لمدة دقيقة, كما لو أنهما يستمعان لفكرة ما, ثم نظر أحدهما إلى الآخر بتعجب. وأخيراً سألت إيما:
- ما لنا نجلس على الأرض مثل البلهاء الصينيـين؟ لماذا جررت هذه الحقيـبة؟ هل عليك أن تذهب لقضاء عمل؟
أجاب زاوير:
- أنا لم أعتزم الذهاب إلى أي مكان. لا أعرف لماذا سحبت الحقيـبة. من الجائز أنك رغبت في مشاهدة هذه الكتب؟
- كتب؟ هذه الكتب المملة؟ يا لنا من غبـيـين! لقد جننا من السعادة!
ثم نهضت بعد أن ضحكا ضحكاً رناناً, وقفزت فوق الحقيـبة وقبلت زاوير.
عبس زاوير. فلسبب ما, أجبرته حادثة الحقيـبة المسحوبة على الاستغراق في التفكير.
- ما لك تجهمت؟ هل أنت مستاء مني؟
وأحنت رأسها بذلك المكر, بحيث عاد زاوير إلى مرحه من جديد وقال مبتسماً:
- مستاء طبعاً, إذ لم تكادي تسكنين معي حتى نشرت الفوضى!
- كلمة شرف, لست أنا وإنما هي وحدها!
وأشارت بقدمها إلى الحقيـبة.
- عودي إلى مكانك! عودي! هيا ساعدني أيها الثقيل.
دفعت إيما وزاوير الحقيـبة إلى ما تحت السرير. ولم يعد أي منهما يتذكر شيئاً عن السفرة قط.
12 - الساعة السادسة مساء
- لا تنسي يا إلزا, أن غداً هو الأحد. سأتسلم جوابك في الساعة السادسة مساء. أما الآن فأنا مغادر المدينة في عمل مستعجل. سأعود في المساء أو صباحاً. مع السلامة!
خرج شتيرنر من الحديقة الشتوية. بقيت إلزا وحدها, لكنها لم تفكر بجوابها لشتيرنر. كانت أفكارها متجهة إلى ناحية أخرى. لم تستطع أن تتعافى من الضربة, التي سببها لها زاوير بزواجه المفاجئ من إيما فيت. أحست بوحدتها إحساساً لم يسبق لـه مثيل.
تحركت السمكات الذهبـيات ببطء في الحوض, وهي تلتمع عند انعطافها هازة أذيالها الطرية بسلاسة.
حسدتهن إلزا. لقد عاشت السمكات في الأسر ضمن صندوق زجاجي مثلها هي, لكن كان لديهن مجتمعهن الصغير اللعوب, كما أنهن لم يعرفن الشكوك المضنية. لقد شعرت بنفسها أكثر تعاسة مما في أصعب أيامها في الحياة العملية. ما الذي أعطتها الثروة إياه؟
فالمحاكمة القضائية التي احتوت على سر ما والثروة فصلاها عن الحشد الصاخب للناس البسطاء الذين يعيشون كما يحلو لهم, فيتنزهون في الطرقات, ويذهبون إلى السينما. لقد استدعى الاهتمام كل خروج لها, ولاقتها آلاف النظرات الفضولية, لذا أعرضت عن الخروج. لم توجد لذات لا تستطيع أن تسمح بها لنفسها, ومع ذلك حرمت منها جميعها. فقط الحائط الزجاجي هو ما يفصل بـينها وبـين العالم الواسع المتلون بجميع الألوان. لكن هذا الحائط كان لا يقهر بالنسبة إليها, فهمست والحسرة في صوتها.
- ما أكثر تعاستي! ما أشد تعاستي!
وهكذا دقت الساعة دقاً مدوياً تردد في الغرف الفارغة مثلما حصل بالأمس ومثلما حصل في اليوم الثالث, وكما حصل في أيام كثيرة سابقة. زأرت سيارة في مكان ما بالأسفل, كان المغادر هو شتيرنر ... شتيرنر! علي أن أعطيه الجواب غداً. وشعرت أنه الموعد الأخير.
- لماذا ينبغي علي؟
مر الوقت. ومن الغريب أن أفكارها اتضحت أكثر فأكثر بعد رحيل شتيرنر, كما لو أن غشاوة قد انقشعت عن عينيها. أوسكار غوتليب ومرضه الشبـيه "بوسوسة ما". حب زاوير الغريب والمفاجئ لإيما والشبـيه بوسوسة…
وكل هذه السلسلة من التصرفات غير المنطقية والخرقاء والمتناقضة لدى الناس المحيطين بها منذ لحظة وفاة كارل غوتليب؟ أليس كل هذا شبـيهاً "بالوسوسة"؟ ها هي ذي الكلمة التي تعطي مفتاح السر! لكن من أين تأتي هذه الوسوسة؟ من يقف وراءها؟ شتيرنر! وحده. شتيرنر!
وماذا لو كان سبب كل هذا؟ حديثه الغريب في القارب, وتلميحاته إلى وجود سلاح ما جبار يستطيع بمساعدته إخضاع العالم. هل يعقل أن ذلك ليس ثرثرة فارغة؟ هل يعقل أنه يمتلك الوسيلة, وأنه يلعب بالناس مثلما تفعل الهرة بالفئران نصف المخنوقة؟ لكن من أين لـه هذه القوة؟ ما هو كنهها؟ من هو, قارئ غيب, كاليوسترو جديد؟ أم سفينغالي؟
وفجأة شعرت إلزا بتلك البرودة التي جعلتها ترتجف.
تمثل شتيرنر لها حدأة تنقض على طائر في البرية, وأنها هي هذا الطائر. ألا تهرب؟ كلا, لا مكان تهرب إليه من هذا الشخص. لن يفلتها من براثنه القابضة عليها.
نهضت إلزا وهي تتنفس بصعوبة, ثم هوت مجدداً على الأريكة وتملكها الرعب. ثم صرخت فجأة بطريقة جعلت الطيور تطير من الأغصان مرفرفة وخائفة.
ردد الصدى كلماتها بوضوح في القاعة.
- لا, لا, لا!
ومن الغريب أن الصدى المفاجئ نشطها على نحو ما, كما لو أن شخصاً ما قد ساندها, وكما لو أن صديقاً خفياً كرر لها "طبعاً , لا!". لا يجوز أن تستسلم دون مقاومة, لا يجوز أن تصبح لعبة معدومة الإرادة بيد شخص آخر, أو أن تسلم نفسها لإنسان تكرهه.
دخلت إلى القاعة كي تهدأ, وفكرت وهي تطوف في القاعة: "ما العمل؟ ما العمل؟". وبالمصادفة وقع نظرها على لوحة يظهر فيها فارس ما بدوي على حصان عربي, يلبس رداء أبـيض خفاقاً مع قلنسوة, وينطلق مندفعاً في الصحراء هارباً من متعقبـيه الذين أدركوه.
"هكذا تنبغي مقابلة خطر الموت! من الممكن أنه مات, لكنه ناضل حتى النهاية ... الهروب! الهروب مهما حدث !".
اقتربت إلزا من البـيانو وجلست على الصندلية(2). وفجأة جال أمامها مشهد غير قديم, عندما وقف شتيرنر واستمع إلى موسيقاها. لم يسبق قط أن أثار لديها وجهه الطويل والشاحب مع ابتسامته الهازئة مثل هذا الارتعاد والقرف.
"الهرب دون إبطاء! لكن كيف؟ حتى النقود لا توجد لدي!"
وهمست بحرقة:
- مليارديرة! مليارديرة - شحاذة!.. بالأمس فقط أهدت غوتليب مئتي ألف, لكنها لم تأخذ لنفسها نقوداً من شتيرنر قط. شيء ما أمسكها عن ذلك, قد تكون الكرامة.
نعم ولماذا كانت تلزمها النقود؟ فهي تقريباً لم تذهب إلى المدينة قط. ولو حصل أنها اشترت شيئاً ما, فإنهم كانوا يوصلونه إلى البـيت, وكان شتيرنر يدفع لهم.
تذكرت فجأة أنه ينبغي أن تكون قد بقيت نقود في حقيبتها النسائية من آخر أجر استلمته. فذهبت بسرعة إلى غرفتها وفتحت الحقيبة باضطراب. كانت النقود في مكانها. لم تكن كثيرة, ولكنها تكفي للمغادرة. وبعد ذلك؟ يمكن لأي مصرف في كل مدينة أن يفتح لها اعتماداً غير محدود, ولكنهم سيرسلون الحوالة إلى مصرفها من أجل الدفع, وعند ذلك سيعرف شتيرنر إلى أين غادرت.
فكرت إلزا :
- أخ, كله سواء! من الأفضل أن تكون معدمة, على أن تذعن لما ينتظرها هنا ...
ارتدت ثيابها على جناح السرعة وهبطت إلى الطبقة الثانية. استلقى كلب كبـير مبقع عند باب المدخل وهز ذنبه بلطف عندما رآها. مسدته إلزا وأرادت تحريكه من مكانه, لكن الكلب الكبـير لم يتحرك. قامت بمحاولة لتجاوزه وفتح الباب, فوثب الكلب فجأة وشب ووضع قائمتيه الأماميتين على كتفيها, وهو يزمجر مهدداً ودافعاً إياها إلى الوراء. كانت خائفة من هذه النزوة المفاجئة للكلب فتراجعت, وقالت بلطف:
ما بك يا بوتسيفال؟
هز الكلب ذنبه, ولكنه زمجر زمجرة أكثر تهديداً لدى محاولة إلزا الثانية. لقد ترك شتيرنر حرساً مخلصين! هل تنادي طالبة المساعدة؟ لم ترد أن تثير ضجة. وفجأة دارت في خلدها فكرة. مضت بسرعة إلى غرفة مكتب غوتليب فوجدت الباب مفتوحاً.
الجلوس في المقعد المنتصب على أرضية المصعد وضغط الزر يتطلب دقيقة واحدة.
وهبطت إلى قسم المصرف فرحة بنجاحها.
"لقد فقتك في الدهاء يا شتيرنر!"
نظر الحراس بتعجب إلى ظهورها غير المعتاد, فخافت أن يكونوا قد حصلوا على أمر من شتيرنر بألا يدعوا أحداً يخرج. ولكنهم سمحوا لها بالمرور باحترام. اجتازت إلزا عتبة المبنى الذي أصبح بغيضاً بالنسبة إليها وقلبها ينبض بقوة.
تنشقت ملء صدرها هواء الربـيع, واختلطت بجمهور الشارع. يا لها من سعادة! لقد كانت حرة. انعطفت عند الزاوية ,واستقلت سيارة أجرة, وأمرت سائقها بالذهاب إلى أقرب محطة قطارات. فقط لتبتعد من هنا بأسرع ما يمكن!
شاهدت في المحطة حمالاً سألها إلى أين تريد أن تحجز البطاقة.
- كله سواء ... كم يمكنني أن أقطع بهذه النقود ...
ارتكبت إلزا عملاً طائشاً بإبهارها للحمال, إذ تركت أثراً في ذاكرة هذا الشخص, وبذلك قدمت خيطاً للبحث عنها. لكنها كانت مثل المحمومة, ولم تتبصر في كلماتها.
هدأ توترها العصبي فقط بعد أن أطلقت القاطرة البخارية صافرتها لآخر مرة واهتزت العربة بسلاسة. كانت حتى الدقيقة الأخيرة خائفة من مطاردة شتيرنر, على الرغم من معرفتها بعدم وجوده في المدينة.
كانت جاهزة لتبكي من الفرح عندما مرت ضواحي المدينة بسرعة وتكشفت الحقول. أكسبت شمس المساء أبنية المزارع لوناً ذهبـياً. ورعت القطعان وهي تتسكع ببطء فوق العشب الربـيعي الأخضر الزمردي. قادها كل شيء إلى الابتهاج. لم تتوقف عن النظر من النافذة والغناء بمرح:
أنا طائر حر وأريد أن أطير!
لم تفكر بالمستقبل. لقد ثملت من الحرية. واستغرقت في التفكير فقط عندما غابت الشمس وغطى الظلام سطح الأرض فأشعلوا النور في العربة.
- إي, لن يحدث أسوأ مما كان!
ثم خلعت ثيابها بسرعة وغفت بقوة وقد أنهكها القلق الذي عاشته, لكنها أفاقت فجأة كما لو أنها تعرضت لصدمة, وتطلعت حولها بحيرة. عربة ... كيف وصلت إلى العربة؟ تنامى الاضطراب في نفسها بسرعة, وكذلك شعور ما لم يكتمل بعد. نما هذا الشعور وتقوى وتوضح.
إلى الوراء! يجب أن تعود الآن دونما إبطاء إلى موضعها السابق! شتيرنر! شتيرنر الحبـيب! إنه ينتظرها! ومثل أمامها الوجه الحزين والعزيز دائماً, كما رأته عندما عزفت على البـيانو.
لبست بسرعة وخرجت إلى الممشى. توجه المسافرون النعسون كي يغتسلوا حاملين مناشفهم بأيديهم. كانت ساعة باكرة من الصباح.
- قل لي أيها المرافق, هل سنصل المحطة قريباً؟
أخرج المرافق السمين ساعة فضية كبـيرة ببطء يثير الاستياء, وفتح الغطاء دون استعجال ثم أجاب:
- بعد عشرين دقيقة يا آنسة.
ضربت إلزا الأرض بكعبها.
- شيء فاضح, كم هو طويل الانتظار! ومتى سينطلق قطار العودة.
- القطار المعاكس سينطلق في الوقت ذاته.
عضت إلزا شفتيها بسبب اللهفة. وفي النهاية عندما اقترب القطار من المحطة خرجت منه راكضة وهو يسير تقريباً, ودخلت إلى عربة القطار المقابل الذي سيقفل عائداً .
لم تكن تملك بطاقة فكتب المراقب محضراً, لكن إلزا لم تلاحظ حتى ذلك وهي تجيب تلقائياً على جميع الأسئلة. وقد نظر المراقب إليها باحترام وفضول عندما ذكرت كنيتها.
لم تجد إلزا مكاناً لها بسبب نفاد صبرها. خرجت من حجرتها وانتقلت من نافذة إلى نافذة مثيرة انتباه المسافرين بشكلها الغريب وحركاتها المضطربة. كانت جاهزة لتبكي بسبب الكدر الناجم عن أن القطار السريع يسير بذلك البطء. وسألت في كل دقيقة:
- هل سنصل قريباً؟
أخذ المسافرون الذين ملوا من الإجابة على استفساراتها يتحاشونها. عندئذ ذهبت إلى حجرتها, انبطحت على الأريكة, ضغطت صدغيها إلى حدود الألم, وكررت كما لو أنها تهلوس:
- لودفيغ! لودفيغ! لودفيغ!.. متى سأراك؟
توقف القطار أخيراً. فانطلقت إلزا عبر الرصيف وعبر القاعة وهي تدفع المسافرين, ثم ركضت من محطة القطارات ووثبت إلى داخل سيارة.
- إلى مصرف إلزا غليوك! أسرع, أسرع, أسرع! بأقصى سرعة ممكنة.
وقف شتيرنر وسط غرفة المكتب منتظراً إلزا, التي اقتحمت الغرفة بشعر أشعث وارتمت نحوه وعانقته بقوة وهي تنشج.
- لودفيغ, عزيزي, وأخيراً!
انعكست السعادة والحزن على وجه شتيرنر, وقال بصوت خافت وهو يقبل إلزا على عينيها المغلقتين:
- أنت لي!
ودقت الساعة السادسة.
***
القسم الثاني
1 - ذعر في البورصة
عاش العالم التجاري حالة من الذعر.
وابتداءً من شهر أيار دخلت البورصة مرحلة أقسى الاضطرابات. فقد سجل خلال شهر أكثر من ألفي منافسة. وارتفع عدد المنافسات إلى خمسة آلاف في شهر حزيران. وفي الوقت الذي هلكت فيه المؤسسات الصغيرة, حاولت الجرائد المالية أن تخفف الانطباع بالكارثة الداهمة. وعملت على تهدئة الرأي العام بقولها إن الأزمة ستنظف حياة البلاد الاقتصادية من "المؤسسات غير المتينة والفائضة التي نمت على أرضية المضاربة بالعملة" فقط. لكن في شهر حزيران أصبحت عدة مؤسسات من أقدم وأكبر المؤسسات ضحية للأزمة. وانعكست هذه الضربة انعكاساً خطيراً على الصناعة وعلى جمهور حملة الأسهم الصغار. عندئذ لم تعد الجرائد تخفي الخطر. اقتربت كارثة حقيقية لا بل مرعبة, لأن ظهور الأزمة ذاته لم يخضع للتعليل المعتاد "لحالة السوق الاقتصادية", كما لو أن مرضاً جديداً مجهولاً لوباء مخيف قد تدحرج عبر المؤسسات المالية, حاصداً المزيد من الضحايا الجدد. وفي بداية شهر تموز كان قد بقي في كل البلد أضخم ثلاثة مصارف فقط, وهي التي صمدت: ميونستربرغ , وشوماخر, وإلزا غليوك. تعرض الاثنان الأولان لخسارة نحو ثلاثين بالمائة من رأسماليهما. أما مصرف إلزا غليوك فلم يكتف بعدم التعرض للخسارة, وإنما ضاعف رأسماله نحو ثلاث مرات. وكان ينبغي أن يجري الصراع الأخير على البقاء بـين هذه الجبابرة المالية الثلاثة. امتلك مصرف إلزا غليوك رأسمالاً يزيد على رأسمالي ميونستربرغ وشوماخر إذا أُخذا على نحو منفصل, لكن إذا توحد هذان المصرفان ضد مصرف إلزا غليوك, فإن الأرجحية يمكن أن تميل لصالح الاثنين ضد الواحد.
الحقيقة أنه كان يمكن أن توجد تركيبة أخرى: الدخول في اتفاق مع مصرف إلزا غليوك, أو حتى ضم الرساميل مع تأمين حقوق معروفة لأصحابها. وقد حاول ميونستربرغ والداهية شوماخر كل بمفرده, وهما يخفيان الأمر أحدهما عن الآخر, فأرسلا أزلامهما المخلصين إلى شتيرنر "ليجسا نبضه". لكن هذا "العبقري الشرير", كما كانوا يسمونه في أوساط البورصة, لم يسر باتجاه أي اتفاق. لقد سخر سخرية مهينة, وكان عديم الرحمة ولا يلين تجاه منافسيه. فالسعادة غير الاعتيادية في لعبة البورصة, والتنبؤات التي لا تخطئ بأسعارها, والتأثير غير المفهوم إطلاقاً على المحيطين بشتيرنر جعلوه مخيفاً.
تحادث الصيارفة وسماسرة البورصة بعضهم إلى بعض بصوت منخفض, كما لو أنهم خافوا أن يتنصت إليهم عدو خفي. تحدثوا عن الحالات الكثيرة العدد لوفيات غريبة للصيارفة الذين التجؤوا شخصياً إلى شتيرنر. لم يخبروا أحداً ما الذي قاله لهم شتيرنر. ولكن كما لو أن هؤلاء الصيارفة قد فقدوا عقلهم وكل خبرتهم بعد أن ذهبوا إليه, فعقدوا صفقات خرقاء أدت إلى تسريع إفلاسهم فقط, في حين صبت رساميلهم في مستودعات الأقبـية بمصرف إلزا غليوك. عديدون من هؤلاء الأشخاص المفلسين أنهوا حياتهم انتحاراً. ولذلك قرر ميونستربرغ وشوماخر العمل من خلال سلسلة كاملة من الوسطاء, خوفاً من اللقاء الشخصي.
عندما لم تؤد المباحثات مع شتيرنر إلى شيء, أصبح واضحاً لشوماخر وميونستربرغ أن الاندماج فقط بين مصرفيهما المتعاديين أحدهما مع الآخر منذ أكثر من نصف قرن, سيوفر إمكان متابعة الصراع المرير مع "العبقري الشرير", إن لم يوفر النصر.
بدت لهما إدارة هذا الصراع أكثر سهولة, لأنهما امتلكا أكثرية أسهم أكبر المؤسسات التجارية والصناعية في البلاد: مناجم الفحم الحجري, إنتاج طلاء الأنيلين, مصانع السيارات والراديوهات, الإنارة الكهربائية, السكك الحديدية في المدن, مصانع بناء السفن ... أسهم هذه المنشآت وجدت في أيدي ملايين حملة الأسهم الصغار من المزارعين غير الأثرياء, وموظفي المكاتب, وطباخي السفن, وحتى لدى الأطفال الذين يشغلون المصاعد. جميعهم ربطوا مصائر ادخاراتهم الصغيرة بمصير مصرفي ميونستربرغ وشوماخر. لقد وقف خلف الصيرفيين "رأي عام" واسع.
زاوير مساعد شتيرنر الأكثر إخلاصاً واجتهاداً, دخل إلى غرفة المكتب لتقديم تقريره الدوري صباح الخامس عشر من تموز.
شد زاوير بقوة على يد شتيرنر الممدودة.
- مرحباً يا زاوير! كيف هي صحة خادرتك؟
- أشكرك. اتضح أن خوفي لا مبرر له. لقد أتى الطبـيب بالأمس.
- وما الذي وجده لدى السيدة زاوير؟
أجاب زاوير بوجه سعيد ومحتار إلى حد ما:
- إنها تتهيأ كي تصبح أماً.
- هكذا إذا؟ أهنئك! انقل إليها تحيتي. وما الذي يحصل في البورصة؟ هل هناك أخبار؟
- يوجد, وهو خبر ضخم. سيشكل ميونستربرغ وشوماخر جبهة موحدة ضدنا. لقد قدما عريضة لإنشاء شركة مساهمة, وكما يقولون في أوساط البورصة فإن الحكومة سوف تساعدهما.
- لقد عرفت ذلك.
ارتسم التعجب على وجه زاوير, فابتسم شتيرنر ابتسامة خبـيثة وأجاب:
- ما الذي بقي لديهما ليفعلاه؟ فالوحوش تتجمع دائماً للدفاع بمواجهة عدو أضخم. أما الحكومة؟ فإنها ذاتها تريد أن تملك طبقة بـين المصرف الحكومي وبـيني. ولهذا إذا تصدع ميونستربرغ السمين وشوماخر النحيف فسيبقى في الدولة عندئذ قوتان ماليتان فقط. قوتان فقط يا زاوير: أنا, أي مصرف زوجتي والمصرف الحكومي. ومن غير المعروف حتى الآن من سينتصر على من.
حتى زاوير كان مندهشاً, وهو الذي اعتاد على نجاحات صديقه الباهرة.
- ألست تحلق عالياً جداً يا شتيرنر؟
- نحن نعيش في عالم من التوازن غير المستقر يا صديقي. وأمامنا طريقان فقط: إما نحو الأعلى, أو نحو الأسفل. عند التوقف فإن العجلة المتدحرجة ينبغي أن تميل وتقع. كيف هي استجابة البورصة لاندماج المصرفين المرتقب.
أجاب زاوير:
- ارتفعت سندات ميونستربرغ وشوماخر مقدار خمسين نقطة خلال يوم واحد.
- زج سماسرتنا ليشتروا بالجملة هذه السندات.
- هل تلعب لصالح ميونستربرغ وشوماخر.
- أنا ألعب لصالح غليوك. هل يعقل أنك لم تفهم لعبتي بعد؟ افتل يا زاوير افتل. فكلما زاد ارتفاعهم كان أحسن. لقد سئمت من اصطياد الطرائد الصغيرة, وأريد إنهاء كل هذه الجلبة في البورصة بضربة واحدة.
بعد أن وقع شتيرنر الأوراق خلى سبـيل زاوير, لكنه عاد وناداه بعد أن تذكر شيئاً ما.
- اسمع يا زاوير, استعلم عن عنوانَيْ منزلـَيْ وزير التجارة والصناعة ووزير المالية.
- يمكنك إيجاد عنوانيهما هنا في هذا الدليل.
- أخ, نعم ... أشكرك. كيف تظن يا زاوير, ألا يمكننا دعوتهما لزيارتي تحت أي حجة كانت؟
- لا أعتقد.
- ألن يُنعِما بهذا الشرف على لودفيغ شتيرنر؟ سنرى ما الذي سيجري بعد شهرين. أما الآن فسنقنع من دون هذه الزيارة. أعطني من فضلك مخطط المدينة.
أعطاه زاوير المخطط.
- أشكرك يا زاوير. أنت حر.
بسط شتيرنر المخطط الكبـير على الطاولة, ووضع بوصلة, وأدار المخطط بحيث يتطابق اتجاه الشمال المرسوم عليه تطابقاً دقيقاً مع إبرة البوصلة, ثم علَّم تعليماً محكماً بنقاط على المخطط الأماكن التي عاش فيها الوزيران ومصرف إلزا غليوك, ووصل هذه النقاط بخطوط, وسجل الزوايا في المفكرة.
- وهكذا ... أيها السادة الوزراء, إذا لم يأت الجبل إلى محمد...
ودخل إلى غرفته الملاصقة لغرفة المكتب دون أن يُتِم حديثه, وأغلق على نفسه بالمفتاح.
بعد عشر دقائق دخلت إلزا إلى غرفة المكتب, وجلست على المقعد الغائر بالقرب من طاولة المكتب. طقطق القفل ثم خرج شتيرنر من غرفته, فنهضت إلزا بسرعة وذهبت لملاقاته وهي تمد يديها, فقبل شتيرنر كلتا اليدين.
- هل أردت رؤيتي يا لودفيغ؟
تأبط شتيرنر ذراعها وقادها.
- نعم يا صديقتي. لقد أنهيت عملي الصباحي, وأريد تناول الإفطار معك في الحديقة الشتوية.
سُرَّت إلزا.
- قلما تقابلني أنت يا لودفيغ ...
- وما العمل يا عزيزتي. تجري عندنا حروب ... هل تعلمين أن ثروتك قد تضاعفت ثلاث مرات. وأنه بعد عدة أيام ستصبح رساميل جميع المصارف الخاصة في البلاد بـين يديك؟
ثم جلسا خلف طاولة كبـيرة مفروشة من أجل الإفطار, فملأ شتيرنر الأقداح خمراً.
- ستصبحين ملكة البورصة.
وشرب جرعة.
- نعم, لن تكون هناك أي بورصة. فالبورصة جميعها ستكون هنا. بأي سعادة كان كثيرون من أمراء الدم سيعرضون عليك أيديهم وقلوبهم, لو لم تكوني زوجتي! عليك أن تعترفي أن شتيرنر ليس ذلك الثرثار الفارغ, حتى لو كنت مذنباً قليلاً في وجود ثروتك هذه كلها وفي جبروتك.
عارضته إلزا بحرقة:
- أنا لم أقل هذا قط.
- نعم؟ هذا أفضل.
وقرعا كأسيهما.
- لودفيغ, كنت سأكون أكثر سعادة لو أنك لم تضاعف ثروتي ثلاث مرات, وإنما الزمن الذي تخصصه لي. لو أنك تعلم كم أعاني في وحدتي ... أنا أعيش فقط في انتظار الحين الذي سأراك فيه.
- قليلاً من الصبر أيضاً يا عزيزتي! سألوي أذرع خصومنا الأخيرين. سألقي بهم عند قدميك مثل غنيمة حربـية, وعندئذ …
دخل زاوير وانحنى باحترام لإلزا, فأجابته بإيماءة لطيفة من رأسها.
- اعذراني من فضلكما لأنني أقلقكما. ينتظرك سيد ما في غرفة الضيوف يا شتيرنر, ويقول إنه جاء بعمل لا يؤجل. وأنا أشك شكاً قوياً بأنه عميل لشوماخر. وهو يرغب أن يتباحث معك شخصياً.
خرج شتيرنر فسألت إلزا:
- إيه, كيف حال إيما؟
- أشكرك ... كل شيء جيد ...
- وما الذي قلته لك؟ لقد كنت محقة! سيكون لدى إيما طفل!.. تأمل فقط. هي ذاتها عليها أن تلعب بالدُمى. سأذهب إليها اليوم من كل بد ...
- ستكون سعيدة جداً برؤيتك.
عاد شتيرنر.
- أنت لم تخطئ يا زاوير. فالثعلب العجوز شوماخر جاهز لخيانة حليفه في الدقيقة الأخيرة, في حال ضممته إلي بصفة شريك ... وهو يُخَوِّفني ويعدني بمختلف الفوائد, وبكلمة فإنه يدفع بكل ترسانة حكمته الاستغلالية.
- وبماذا أجبته؟
- لقد قلت: بلغ السيد شوماخر أنه لا يلزمني شركاء ولا مربـيات. اجلس لتناول الإفطار معنا يا زاوير.
ثرثروا بمرح مثل ناس تربطهم صداقة خالصة واحترام متبادل, إذ لم يبق أثر من العواصف السابقة.
2 - الأقوى ينتصر
في ذلك اليوم, عندما كان على الحكومة المصادقة على الشركة المساهمة الجديدة التي توحد مصرفي ميونستربرغ وشوماخر, استدعى شتيرنر زاوير إليه في الصباح الباكر وأمره:
- بع جميع أسهم ميونستربرغ وشوماخر. اطرحها جميعها حتى السند الأخير.
- لكنها ارتفعت خلال ليلة واحدة بمقدار ست وعشرين نقطة. وقد حصلنا على معلومات مؤكدة أن المصادقة على الشركة المساهمة مضمونة, ويتهيأ لي ...
- لا تقلق على شيء, ونفذ أمري بدقة. اذهب بنفسك إلى البورصة الآن حالاً, وأخبرني هاتفياً عن كل شيء.
هز زاوير كتفيه ورحل.
رن الهاتف بعد ساعة.
- إنهم يتسابقون لشراء الأسهم. إنها ترتفع إلى الأعلى.
- ممتاز يا زاوير. في أي ساعة سيعقد اجتماع الحكومة؟
- في الساعة الثانية ظهراً.
- هل ستلحق وتبـيع كل الأسهم خلال هذا الوقت؟
- تكفيني ساعة لذلك.
- هذا أفضل. اهتف لي بعد ساعة.
لم تمض من الساعة نصفها حتى أخبره زاوير:
- لقد بيعت الأسهم عن آخرها. يحدث في البورصة شيء غير معقول. فالجمهور يملأ كل الساحة قبالة البورصة. وتوقفت حركة السير في الشارع. الترومايات تسير بصعوبة بالغة, أما السيارات فلا تستطيع ...
- هذا لا يهمني. ما أحوال أسهمنا؟
- واأسفاه إنها تنهار.
- رائع. انتظر إلى أن تنخفض أكثر وعندئذ اشتريها بالجملة ...
سألته إلزا وقد دخلت إلى الغرفة:
- لودفيغ, هل أنت مشغول جداً؟
تابع شتيرنر كلامه عبر الهاتف:
- احتكر جميع ما سوف يعرضونه. اهتف لي على نحو متكرر.
ثم التفت نحو إلزا وقال:
- نعم, أنا مشغول جداً يا عزيزتي. تناولي الإفطار وحدك. فاليوم لن أبتعد عن الهاتف طوال النهار, ومن المحتمل طوال الليل.
صنعت إلزا إشارة تبرم, فوضع شتيرنر سماعة الهاتف واقترب منها.
- ما العمل يا حبـيبتي, اصبري. فأنا أخوض اليوم صراعاً عاماً. وينبغي أن أكسبه. وغداً سوف تكونين ملكة غير متوجة. وستجدين بـين يديك ثروات ...
قالت إلزا بعتاب:
- لودفيغ!
- حسناً, لن أتكلم عن هذا. ما أحوال إيما؟ هل كنت عندها؟
- من كان يتوقع ذلك؟ قال الطبـيب إن كليتيها ليستا في وضع حسن. والحمل خطر عليها ...
استمع شتيرنر وهو شارد:
- نعم, نعم.
- لكنها تقول إنها ستموت ولن تتخلى عن الطفل.
- نعم, رائع.
قرقع الهاتف مجدداً, فارتعش شتيرنر وقبل إلزا على جبـينها بسرعة وقال لها:
- كوني عاقلة ولا تسأمي. عندما ينتهي كل هذا فسنذهب أنا وأنت إلى الريفيـيرا. آلو! أنا أصغي.
تنهدت إلزا وخرجت.
- في الساعة الثانية عشرة؟ أي بعد ساعة؟ هذا أفضل! أخبرني فوراً بقرار الحكومة حالما تعرفه ...
تمشى شتيرنر القلِق في غرفة المكتب بعد أن وضع سماعة الهاتف.
- ستحل الحكومة هذه المسألة في الساعة الثانية عشرة عوضاً عن الثانية. هذا يعني أنه يؤثر! أنا أؤمن الآن بالنجاح إيماناً أكبر مما سبق. وإذا حدث النصر هنا فسيحدث النصر في كل شيء! وسيكون شتيرنر كلي القدرة!
ثم أرخى رأسه إلى الوراء مغمضاً عينيه نصف إغماضة, وتسمَّر مدة دقيقة والابتسامة مرسومة على وجهه.
- ومع ذلك فالوقت ليس وقت الانتشاء بالسلطة. يجب استجماع كل القوى من أجل الضربة الأخيرة.
دخل شتيرنر إلى غرفته وأغلق على نفسه بالمفتاح, ثم خرج تعباً وممتقعاً بعد ساعة, فأصلح خصلة شعر متهدلة على جبـهته, وارتمى على المقعد وأغمض عينيه نصف إغماضة.
رن الجرس فوثب شتيرنر كما لو أنه جالس على نابض, وانتزع سماعة الهاتف.
- آلو! نعم, نعم, أنا ... أهذا أنت يا زاوير؟
لكن المتكلم لم يكن زاوير, وإنما شبـيلمان أحد عملاء شتيرنر.
- مفاجأة صاعقة! لقد انتهى الاجتماع لتوه, ورفضت الحكومة المصادقة على ميثاق الشركة المساهمة. وقد صرخ شوماخر الذي كان في الاجتماع بوجه الوزير قائلاً: "خائن", وتلقى ميونستربرغ ضربة فنقل إلى منزله فاقداً للوعي.
لم يكمل شتيرنر الإصغاء, فأنزل سماعة الهاتف بـيد تهتز من الاضطراب. وأطلق تلك الصيحة القوية التي ملأت أنحاء غرفة المكتب "النصر!", بحيث استفاق فالك المتمدد قرب المقعد, ونظر إلى صاحبه بعد أن هب واقفاً نظرة ذهول.
- إنه النصر يا فالك!
ثم رمى شتيرنر المنديل إلى زاوية الغرفة وأمره:
- هاته!
وصل الكلب إلى حيث المنديل بعدة قفزات, فأمسكه وعاد به إلى صاحبه.
- هاك ما هم عليه الآن جميعهم! ها - ها - ها!
ضحك شتيرنر بعصبـية, ثم رفع الكلب من قائمتيه الأماميتين وقبل جبـينه.
- لكني لن أقبلهم يا فالك, لأنهم أغبى منك ولأنهم يكرهونني. لذلك فإن إرغامهم على حمل الزحار هو أكثر لذة.
رن الهاتف مجدداً.
- زاوير؟ نعم, لقد عرفت. قال لي شبـيلمان, كيف هي استجابة البورصة؟
- انفجار قنبلة كان سيولد أثراً أقل. لقد تحولت البورصة إلى مشفى للمجانين.
- وأسهم ميونستربرغ؟
- تنهار بسرعة خارقة. أنت عبقري يا شتيرنر!
- ليس الآن وقت المديح. عندما يصبح تداول أسهم المصارف المنهارة بسعر ورق التغليف, فإنه سيكون ممكناً شراؤها بالجملة ... وسيمكننا أن نعيد إليها قيمتها. لكننا لن نتعجل هذا. لقد قمنا بعملنا, ويمكنك أن تذهب يا زاوير!
- لا أستطيع الخروج. لقد تحول الناس إلى قطيع فقد عقله. حتى ممرضو الإسعاف السريع لا يستطيعون التسلل إلى هنا, كي ينقلوا من أغمي عليه ومن داسه الجمهور.
- حسناً, إذا كنت قد فقدت حريتك فأخبرني ما الذي يحصل لديك.
وأخبره زاوير أن سماسرة الأوراق المالية قد أجروا اجتماعاً لمدة عشر دقائق, قرروا فيه أنه لا يمكنهم إطلاقاً الاحتفاظ بسندات ميونستربرغ وشوماخر وجميع المصارف المرتبطة بهما. لقد حدث الانهيار. وقد حملت كل دقيقة الخراب لثروات كاملة, فانتقلت السندات كل دقيقة من أيد إلى أيد. ووصل التوتر العصبي أعلى نقطة بعد منتصف الليل. ملأت سيارات حملة السندات الكبار ليس الساحة المقابلة للبورصة فقط, وإنما الساحة المجاورة لها. وقد جلس هؤلاء في سياراتهم الليموزين طوال الليل ممتقعين وتعبـين وعيونهم شاردة. وحملت النشرات الواحدة تلو الأخرى أخباراً عن الانخفاض المستمر في أسعار الصرف. وأرسلت هذه الأسعار عبر الهاتف, لكنها لم تكن تطابق الواقع لحظة إرسال البرقية الهاتفية. حطم جمهور الناس معسكراً في المتنزَّه المجاور, مثلما يحدث وقت الجائحة الطبـيعية, ودفعوا مقابل الجلوس على مقعد المتنزَّه أكثر من أجرة غرفة في أفضل الفنادق.
وقبل الصباح أصيب اثنان من السماسرة وصيرفي بخبل عنيف, وصرخ السمسار:
- الموت لشتيرنر!
وأمكن بصعوبة نقل المخبولين إلى المستشفى.
هدأ القلق فقط مع انبثاق الفجر مثل شعلة حريق تم احتراقه. وخرج أغنياء الأمس من البورصة منكوبـين لمدة عشر سنوات. خرجوا محنيي الظهور وقد شابوا وارتعشت أقدامهم.
قل الجمهور, فحصل زاوير أخيراً على فرصة للخروج من مبنى البورصة وهو يتهادى من التعب, وتنفس الهواء النقي ملء صدره وفكر:
"مثل هذا الذعر يسود الآن في كل البلد ... لقد أفلس في هذه الليلة مئات آلاف الناس, وضيَّع ملايين المودعين الصغار مدخراتهم. لقد صرخ ذلك المجنون على شتيرنر, واتهمه بكل شيء. لكن شتيرنر ليس مذنباً. فالأقوى سينتصر. وشتيرنر ماهر, عبقري العقل!"
ابتسم زاوير وما لبث أن تثاءب بتعب.
أما شتيرنر فقد نهض من وراء الطاولة, وتمطَّى بتلذذ بعد أن حصل من زاوير على آخر الأخبار هاتفياً. هدأ قلقه. وخامره شعور بذلك التعب اللذيذ, الذي يتملك المرء عندما يعمل جيداً ويكون مسروراً من نتائج عمله. لقد انتصر. وانتصاره أكبر من النصر على الصيارفة والوزراء. لقد انتصر على مقاومة الإنسان! آلـ غوتليب, وإيما, وزاوير, وإلزا ... وهؤلاء الآن!
ثم قال بعجرفة:
- لا أحد في العالم بعد الآن يمكنه مقاومتي. وكل العالم سيصبح ملكي قريباً!
لم يرغب أن ينام, فصعد إلى الأعلى وقرع باب غرفة إلزا. كانت مرتدية ثيابها وغير نائمة, ففتحت الباب بسرعة ومدت يديها مهللة.
- وأخيراً تذكرتني يا لودفيغ!
3 - الفيلا البـيضاء
أصبح مصرف إلزا غليوك سلطاناً غير محدود للعالم المالي, ودعي كما في السابق بكنية إلزا قبل زواجها. ومع ذلك, فإن إلزا ذاتها لم تشعر قط بزيادة جبروتها. وكما في السابق تسكعت وحيدة في غرفها الفارغة, وعاشت على فكرة اللقاءات القصيرة مع شتيرنر. لكنه كان لا يزال مشغولاً جداً ولا يستطيع أن يخصص لها وقتاً أكبر. كانت إلزا تشعر دائماً عندما كان يريد رؤيتها, إذ تسري في جسدها ارتعاشة عذبة, فكانت تهرع إلى الأسفل من دون نداء وهي تعرف أن شتيرنر غير مشغول وأنه لن يبعدها عنه. لكن كان يحدث أن تمتد الأيام ويمضي الأسبوع, فلا يظهر شتيرنر عندها إلا في الصباح فقط كي يحييها وهو شارد الذهن, ثم يختفي. في بعض الأحيان كان يغيب عن المدينة لعدة أيام. وعندئذ كان ينقض عليها خمول ما, حتى إنها كانت لا ترغب في رؤيته. فإذا قابلته فوراً بعد عودته, فإنها كانت تقابله ببرود. وكان شتيرنر يقطب جبـينه باستياء, ويسرع إلى غرفته التي حظر دخولها حتى عليها. وكانت تلاحظ كيف أن شعور الحب الحار عاد يملأ كيانها بعد عدة دقائق من وجود شتيرنر في غرفته, فتستقبله بنظرات ملأى بالحنان.
استمر شتيرنر بالتقطيب كما لو أن فكرة أثقلته, لكن شعور إلزا المخلص سرعان ما تملكه. كان لطيفاً ومبدياً للاهتمام, فاقتنصت إلزا هذه الدقائق النادرة بشره...
تأجل سفرهما, فقد وضع شتيرنر أمام نفسه مهمة جديدة وهي الاستيلاء على صناعة البلد كلها ووضع يده عليها, بالاستفادة من أن أكثرية المؤسسات كانت مدينة لمصرف إلزا غليوك.
قاوم أصحاب المعامل والمصانع بعناد, لكن شتيرنر وضع يديه على معاملهم ومصانعهم بطريقة منهجية.
استدعى إليه زاوير وإلزا فقط عندما حسم الصراع لمصلحته, وقال:
- أستطيع أخيراً أن أرتاح وأن أقوم مع بعض التأخير برحلة زواجنا. أنت قادر على القيام بالعمل يا زاوير. الصراع انتهى من حيث الجوهر, وبقي أن نُشَرعِنَ حقوقنا فقط: أن نضع سندات "آخر الموغيكان" (3)) موضع التحصيل, وأن نعلن المزاد على معاملهم ومصانعهم, وأن نثبت المؤسسات في قبضتنا, لأنه من الذي سيشتريها غيرنا؟ سنطير غداً صباحاً. كيف هي صحة زوجتك؟
هز زاوير رأسه بأسف.
- لا يمكنك التعرف عليها يا شتيرنر. لقد تغيرت كثيراً باتجاه الأسوأ.
أجاب شتيرنر مبتسماً:
- بالتأكيد, فهذا من طبـيعة الأشياء.
أجاب زاوير وقد تكدر قليلاً:
- كلا, لا أقصد هذا. لقد تنفخ وجهها وقدماها كثيراً: إنهما كليتاها. لم تطع الأطباء والولادة الآن محتومة.
ثم قال بجزع صادق:
- أنا قلق جداً على دُميتي ...
- عليك الآن أن تهتم بدُميتين دفعة واحدة. لا تخف يا زاوير, سيخدمك أفضل البروفيسورات. لا تنس أن تبرق لي حول كل شيء. انقل تحيتي إلى زوجتك.
لم ينم شتيرنر في الليلة التي سبقت السفر. انشغل بشيء ما في غرفته.
أغفت إلزا في غرفتها, ولكنها شعرت من خلال الحلم كما لو أن تيارات ما كهربائية أو عصبـية تمر عبرها, وأن حباً متزايداً نحو لودفيغ يملأ كيانها, فمدت يديها عدة مرات وهي نصف نائمة وهمست بحنان:
- لودفيغ! حبـيبي لودفيغ!
ومع أول أشعة للشمس طارت معه على طائرتهما الخاصة. طارا إلى مينتون, إلى إحدى الفيلات التابعة لها, التي اشتراها كارل غوتليب قبـيل وفاته بقليل.
بدت لها هذه السفرة بصحبة لودفيغ رائعة على نحو أسطوري, بعد طول حياة في عزلة ونصف وحيدة.
لقد أرادت في الوقت ذاته أن تنظر إلى لودفيغ, وأن تتمتع بالمنظر الشامل الذي ينبسط في الأسفل, وغنَّت بمرح:
أنا طائر حر وأريد أن أطير!
وذلك بعد أن تطلعت إلى الرحابة الواسعة أمامها, ثم استدارت نحو شتيرنر وهي تضحك.
- "أريد أن أطير" أغنية سخيفة, يجب أن أغني "أنا طائر حر وأنا أطير معك". انظر كم هو مضحك: نحن نرى من هنا الأسقف القرميدية فقط. وتبدو البـيوت مربعات جميلة فوق بساط أخضر. وما هي تلك النملات؟ إنها قطيع! يا للضآلة! ما هي تلك الجبال الثلجية التي تلمع بعيداً؟
- جبال الألب.
- وصلنا جبال الألب! وسنطير أعلى من النسور.
لم تشعر سابقاً بسعادة كهذه.
حطت الطائرة بسلام في مطار صغير قرب نيس. وبعد ساعة كانا في فيلتهما.
تقع الفيلا غير بعيد عن فينيتميليه بالقرب من الحدود الفاصلة بـين ممتلكات فرنسا وممتلكات إيطاليا.
فيلا بيضاء رائعة تقبع قرب شاطئ البحر تقريباً, ذات كسوة رخامية, وقد نعمت أنحاؤها بالخضرة, واكتست أشجار البرتقال بثمار ضخمة. نمت أشجار النخيل في الساحة المقابلة للفيلا, كما تغطت الساحة ببساط ناصع من القرنفل الأحمر.
الإزعاج الوحيد في الفيلا كان قربها الشديد من شبكة السكك الحديدية. كانت القطارات تسير دون انقطاع ملعلعة فوق الرأس, لكن إلزا لم تلحظ حتى هذا الإزعاج, فقد نامت جيداً في المساء ولم توقظها الضجة. وفي النهار قاما بنزهات إلى الجبال, أو أبحرا في يختهما, أو طارا على متن طائرة مائية على امتداد الشاطئ حتى نيس وبالعكس. قصر إمارة موناكو الصغيرة الملتصقة بالصخور الصفراء مثل عش السنونو بدا مثل لعبة, وامتد الموج قرب الساحل على شكل خيط أبيض. كان المتنزهون يبدون على الشاطئ بقياس يقل عن الدبوس. كان المشهد أكثر إدهاشاً عندما أقفل الطيار عائداً ووجه المقدمة الرمادية للطائرة المائية نحو عرض البحر. ارتفعت أطراف الأفق عالياً بفضل خداع البصر, الذي حول البحر إلى كأس زرقاء انعكست فوقه كأس السماء السماوية, وبدا كما لو أن الطائرة المائية موجودة في مركز كرة. عامت في الأسفل مراكب شراعية تبدو كالألعاب.
وأرادت إلزا أن تضحك من سرورها وسعادتها. ثم عادت إلى الفيلا نشيطة ومنشرحة على نحو لم يسبق لـه مثيل.
بدت الفيلا مريحة و "صالحة للسكن" إلى حد غير معتاد عند مقارنتها بمبنى غوتليب المنظم والبارد والشبـيه بصندوق زجاجي نصف فارغ. لم يتح لغوتليب إدخال غرائبه إلى هنا أيضاً. كان جميع الأثاث قديم الطراز إلى حد ما, ولكنه جميل ومريح. وأعجبت إلزا إعجاباً شديداً بالبيانو القديم ولكن الجيد, فعزفت عليه في الأمسيات الدافئة. كان باب الشرفة مفتوحاً, وارتفع القمر فوق السطح الأملس للماء ملقياً شريطاً فضياً على البحر, أما القبَّات (4)) المنتعشة ببرودة المساء فقد تنفست بارتخاء عذب.
كانت المقطوعات التي عزفتها جميلة للغاية ومُطرِبة وبهيجة وهادئة مثل هذه الليالي الجنوبـية.
بدا أن شتيرنر ارتاح أيضاً, حتى أن ملامح وجهه أصبحت ألين, ولم تعد الابتسامة الساخرة تحني شفتيه. أحياناً فقط كان شتيرنر يصبح حزيناً ومشغول البال عندما كان يصوب نظره على إلزا.
مر أسبوعان خلسة, لكن في بداية الأسبوع الثاني شعرت إلزا بتغير ما في داخلها, كما لو أنها أخذت تتيقظ من حلم. كانت تنسحب إلى غرفتها وتجلس وحيدة فترة طويلة, وأخذت الأفكار الطفيلية تقلقها من جديد, والذي أثار دهشتها هو أن معزة لودفيغ لديها كما لو أنها أصبحت أقل. تمعنت في وجهه, فأصبح كما لو أنه يزداد طولاً وسماجة.
لاحظ شتيرنر هذا فازداد تقطيـبه, ولم تبهجه برقيات زاوير أيضاً. لقد أخبره عن سلسلة من الإخفاقات, فخلال فترة غياب شتيرنر بُعِثت عدة مصارف, واستطاع بعض الصناعيين الكبار وأصحاب المناجم الحصول على قرض أجنبي, فدفعوا الحوالات وخرجوا على هذا النحو من تحت استعباد شتيرنر المالي. لكن الأكثر أهمية أنه بعد سفر شتيرنر قامت ضده حملة إعلامية كبـيرة في الجرائد. وعُدَّ أن تجميع كل الثروات المالية والصناعية في أيدي مصرف واحد هو مصرف إلزا غليوك يشكل خطراً على الدولة وعلى مصالح السكان. وقد تجنَّدت الجرائد الحكومية ضد شتيرنر مثلها مثل الجرائد الخاصة.
أعطى نجاح شتيرنر غير الاعتيادي والذي لا مثيل لـه مادة لأكثر الافتراضات والتفسيرات اختلافاً. زد على ذلك, أن أكثرية الصحف مالت إلى أنه مهما كان السبب الذي أدى إلى هذا النجاح, فإنه يخرج عن الأطر المألوفة. ولذلك ينبغي مصارعة هذا الجبروت بإجراءات غير مألوفة أيضاً ولم ينص عليها القانون. كان من المحتمل أن تصدر الحكومة مرسوماً تشريعياً خاصاً موجهاً ضد شتيرنر. واضطر الوزراء الذين لم يقرُّوا نظام شركة ميونستربرغ وشوماخر المساهمة لتقديم استقالتهم تحت ضغط الرأي العام, على الرغم من أن التحقيق غير المعلن الذي أجري بحقهم لم يستطع إثبات وجود بواعث مغرضة في سلوكهم, وبكلام آخر, رشوتهم من قبل شتيرنر. لم يحتمل ميونستربرغ الصدمة فمات. وحاول شوماخر الانتحار, لكنه بقي حياً فرحل إلى أمريكا.
تلك كانت أخبار الأسبوع الأخير. وعرف العالم كله من يكون شتيرنر. كان اسمه على شفاه الجميع, فاعتصم في جناحه مع زوجته هنا في مينتون, إذ أثار كل خروج لهما ذلك الفضول المقترن بالخوف, بحيث أن شتيرنر ذاته كان يتحاشى الظهور في المجتمع.
لم يشعر بالوحدة الانفرادية طوال الوقت الذي كانت فيه إلزا حنونة معه, لكن برودتها تجاهه تزايدت خلال الأيام الأخيرة, فأصبح هو أكثر كآبة.
ثم طفق يعمل فجأة. فطلب صفائح حديدية وشبكة سلكية وعوازل وكومة من المواد الكهروتكنيكية, وأمر بجلبها جميعها إلى غرفة منفصلة, وأغلق على نفسه هناك يوماً كاملاً.
في الصباح التالي عادت إلزا إلى حنانها من جديد, وامتلأت حباً نحوه, لكن بدا أن هذا أيضاً لم يسره. اقترح عليها أن يتنزها في الجبال كي يتسلى, فهما لم يخرجا من المنزل منذ مدة طويلة. وافقت إلزا في هذه المرة عن طيب خاطر.
سارا بعيداً, وتوقفا للراحة في بـيت صغير أبـيض نظيف.
جلبت لهما العجوز المضيافة والكثيرة الكلام والفضولية حليباً, ثم قالت بعد أن استعلمت من أين هما:
- هاكما من أين أنتما! يقولون إنه ظهر هناك الآن شخص ما اسمه شتيرنر. لم يتركوا شيئاً لم يقولوه عنه عندنا! إنه مع زوجته الآن أغنى الناس في العالم, لكن مصدر هذه الثروة غامض! كم من البشر مات بسببه؟ كم منهم أفلس؟ وكم سال من الدم والدموع ...
قرع الباب ودخل إلى الغرفة فوراً دون انتظار الجواب خادم قدم من الفيلا وهو يلهث.
- المعذرة يا سيد شتيرنر, لقد أمرت بإيصال كل البرقيات المستعجلة دونما إبطاء.
ثم أعطاه البرقية وهو يمسح العرق عن جبـينه.
- ها هي ذي, استلمناها لتونا.
أسقطت العجوز المنشفة من يديها بسبب الاضطراب, وارتجفت وهي تنظر إلى شتيرنر بخوف.
فض شتيرنر البرقية وقرأها, ثم نهض فجأة وعبس وقال للخادم:
- يمكنك أن تذهب يا هان!
وبعد أن رمى قطعة ذهبية نحو العجوز المصعوقة, مدَّ يده إلى إلزا قائلاً:
- لنذهب, علينا أن نتجهز للسفر دون إبطاء.
نظرت العجوز في إثرهما طويلاً, ثم تناولتْ القطعة الذهبية بأطراف أناملها حذرة, وصلـَّت بهمس, ثم رمت القطعة النقدية في البالوعة.
- نقود ملعونة!
سألت إلزا بقلق:
- ماذا حدث يا لودفيغ؟ هل يعقل أننا سنعود إلى هناك من جديد يا حبـيبي؟ بهذه السرعة!
وألقت نظرة حزينة على السماء والساحل والبحر, كما لو أنها تودعها.
- وجودي ضروري, لقد أبرق زاوير بأن أعدائي استغلوا غيابي, وبدؤوا الصراع من جديد.
أصبح وجه لودفيغ قاسياً فجأة, وحرر يده من تحت يد إلزا بخشونة بالغة جعلتها ترتدُّ خائفة. ثم صرخ بغضب وهو يهز قبضته.
- المبلغ إلى مكانه, لعنكم الله!
ما إن سمع فالك الكلمة المألوفة حتى استلقى بطاعة على الطريق ووضع خطمه على قائمتيه.
عند وصول شتيرنر إلى البـيت وجد أن الوضع أكثر جدية مما توقع, فقد توحد عشرات الصيارفة المفلسين, وشكلوا مصارف جديدة تنافست بنجاح مع مصرف إلزا غليوك, وتمكنوا ليس فقط من اجتذاب قسم من الزبائن المصرفيين, وإنما افتدوا عدة معامل ومصانع ضخمة كانت توجد تحت سيطرة شتيرنر المالية. إضافة إلى ذلك فقد أعدت الحكومة قانوناً عن "المؤسسات المصرفية" موجهاً بوضوح ضد شتيرنر.
نسي شتيرنر إلزا, وانهمك مجدداً في الصراع أياماً كاملة دون أن يخرج من غرفته, لكن في هذه المرة تمكن شتيرنر من التغلب على خصومه بسرعة, ووضع يديه على المصارف المنافسة مجدداً, ولم يعد هناك أي حديث عن إصدار قوانين تحد من حرية عمليات شتيرنر. وأكثر من ذلك, فقد صدرت مجموعة من القوانين الجديدة التي تُشَرِّع الأنظمة الجديدة التي أدخلها شتيرنر إلى الممارسة المصرفية.
وحلت من جديد فترة من الهدوء النسبي لديه, فتقابل مع إلزا على نحو متكرر, واستأنف أعماله العلمية. زار "حظيرة حيواناته", وبنى أجهزة ما معقدة.
لكن رغم كل ذلك شعر بالتعب. فقد عاش حياة عصبـية جداً, وأنفق الكثير من الطاقة العصبـية. وقد وجد الطبـيب الذي دعي لمعاينته أنه مصاب بالحَرَض(5). هذا الوضع المرضي عمَّق لديه الشعور بالوحدة, وخصوصاً الآن عندما جرت الحياة بهدوء نسبي. حتى ملاطفات إلزا لم تهدئه, لا بل أثارته في بعض الأحيان.
وقال عبارة غير مفهومة لإلزا:
- ليس هو, ليس هو! هل أنت من يلاطفني, أم أنني ألاطف نفسي بـيدك؟
لكن موسيقاها كانت لا تزال تؤثر عليه تأثيراً مفيداً.
روح الوحدة الشريرة عذبته خصوصاً في الأمسيات مثلما تعذب شاؤول, فكان شتيرنر يهرع إلى "داوده", كما كان يسمي إلزا في تلك الدقائق. وكان يطلب منها:
- اعزفي, اعزفي يا إلزا! أريد موسيقا فهي تهدئني ...
كانت تنتصب أمامهما لوحات سعادتهما الصافية في الأسابـيع الأولى لسفرهما إلى الجنوب. وفاحت رائحة الأزهار من الحديقة الشتوية فخيَّم سحر الليل الجنوبي, لكن الحزن على السعادة المفقودة امتزج الآن مع هذا السحر.
وفجأة سمعا صوت زاوير:
- المعذرة لكوني أزعجتكما, هنئاني فقد وُلِدَ لي صبي اليوم صباحاً.
نهض شتيرنر وإلزا, وقد قلقا لسبب ما من هذا الخبر.
تابع زاوير وقد بدا عليه الإعياء الشديد والسعادة:
- حتى إنني لم أستطع إبلاغكما عن هذا هاتفياً, فأنا لم أنم طوال الليل ... قلقت. هي نائمة الآن.
- بسلامة؟
- كانت الولادة صعبة. وزوجتي ضعيفة جداً. مضاعفات في الكليتين. بقول الأطباء إنه من الضروري أن تسافر إلى الجنوب, ومن المحتمل أن ذلك لفترة طويلة, لكنها لا توافق على السفر من دوني. هل تخليان سبـيلي؟
ونظر زاوير إلى شتيرنر وإلزا نظرة رجاء.
استغرق شتيرنر في التفكير.
قالت إلزا:
- بالطبع, أليس كذلك يا لودفيغ؟
- سأعطيك الجواب بعد يومين, أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً. أما الآن فاسمح لي أن أهنئك بزاوير الصغير.
انحنى زاوير.
- المعذرة, لكني مستعجل.
وخرج بعد أن ودعهما بسرعة.
أما إلزا وشتيرنر فقد وقفا ساندين مرفقيهما إلى البـيانو, وغرقا في أفكارهما.
4 - ذهان جماعي
مرَّ أسبوع ولم يسافر زاوير مع زوجته بعد. لم يخرج شتيرنر من غرفته تقريباً في الأيام الأخيرة وكان متجهماً جداً, حتى إن الأمسيات الموسيقية في القاعة الكبـيرة قد ألغيت. حاولت إلزا مقابلة شتيرنر في بعض الأحيان لكن شيئاً ما منعها, ومع ذلك فقد تسكعت في القاعة, وتوقفت وعقدت يديها وهمست بصوت خافت:
- كم أنا تعيسة!
في نهاية الأسبوع أخذ شكل شتيرنر يبهت بطريقة ما في وعيها, وكان وجهه يتراءى أمامها أحياناً فيبدو غريـباً ومخيفاً.
كانت تتفرس أكثر فأكثر في الأثاث المحيط بها بذهول, كما لو أنها تشاهده لأول مرة. ولاحقتها في نهاية الأسبوع هيئة زاوير. حبـيبي زاوير, كيف استطاعت نسيانه؟ لم تفكر إطلاقاً أن زاوير متزوج وأنه قد ولد لـه طفل, كما لو أن ذلك لم يكن. التقت بزاوير مصادفة فرمقته بتلك النظرة الحنونة, بحيث إنه نظر إليها مندهشاً, ثم تعكر فجأة واستغرق في التفكير, كما لو أنه يحاول تذكر فكرة ما غابت عنه.
قالت وهي تناديه باسمه مجدداً:
- أوتو, أنا لم أرك منذ فترة طويلة ... لماذا تتحاشاني يا أوتو؟
ثم أضافت بصوت خافت وقد مدت يدها نحوه:
- أنا وحيدة تماماً ... أحتاجك, يا أوتو...
كانا وحدهما.
جلس أوتو على الكرسي قرب إلزا, ومسح جبـينه براحته مسحاً قوياً. أيقظت كلمات إلزا اللطيفة ذكرياته النائمة.
أفصح وجه زاوير عن صراع مرير, وفجأة شقت طريقها فكرة ما فأنارت وجهه. أمسك إلزا من يدها ونظر إليها نظرات عشق, ثم نطق بصوت يقطعه الاضطراب:
- نعم, نعم, نحن لم نتقابل منذ فترة طويلة! إلزا, حبـيبتي, إلزا! كيف استطعت نسيانك؟ أنا لا أعرف ما الذي يجري معنا, لكن كما لو أن الضباب قد تبدد الآن فرأيتك بعد طول فراق. أين كنت يا إلزا؟ ما الذي جرى معك؟
جلسا كما لو أنهما تقابلا في حقيقة الأمر بعد فراق طويل محزن, ولم يستطيعا أن يشبعا نظراً أحدهما من الآخر.
أخذا يتحدثان عن حبهما مقاطعاً أحدهما الآخر, تحدثا عن كآبة الوحدة وعن السعادة بهذا اللقاء.
دقت ساعة البرج معلنة انتهاء الساعة إثر الساعة. تعالت الضربات مدوية في الغرف الفارغة, فيما هما يتابعان الجلوس والحديث دون أن يلاحظا الوقت.
لم يرسما أي خطط. لم يتذكرا الماضي ولم يفكرا بالمستقبل. لقد انتشيا بدقيقتهما الراهنة ببساطة, انتشيا بهذا الشعاع الذي اخترق اختراقاً مفاجئاً العتمة التي أحاطت أفكارهما وأحاسيسهما الحقيقية. ودقت الساعة مرة أخرى فقالت إلزا:
- إنها الساعة الثانية عشرة, كم تأخر الوقت! إلى الغد يا حبـيبي.
ثم بادرت إلى عناق زاوير أولاً, وقبلته قبلة طويلة وعنيفة.
لكن هذا "الغد" لم يأت.
لقد أخرجهما شتيرنر من تحت سيطرته مؤقتاً فقط, لأنه كان مشغول الرأس بهموم جديدة. صنع جهازاً ما معقداً, كان ينبغي أن يزيد من قدرته ومن سلطته على الناس. لقد دفعته تعقيدات جديدة ومسائل ضخمة ناشئة لتصنيع هذا الجهاز.
ازداد إنتاج الصناعات التي يشرف عليها ازدياداً غير عادي بفضل الإجراءات التي اتخذها, فرخصت البضائع وأشبعت السوق الداخلية بها. وأقبل شتيرنر على أزمة فائض إنتاج كارثية. كان الاستحواذ على الأسواق الأجنبـية فقط يستطيع إنقاذه, لكن عوائق ضخمة جابهته على الطريق نحو ذلك. فالدول الأجنبـية التي خافت من منافسة بضائعه الرخيصة فرضت رسوم حماية عالية. وكان ينبغي كسر هذا الحاجز مهما كلف الأمر. فالحرب الاقتصادية التي خاضها مع المنافسين الأجانب وصلت إلى مرحلة كان ينبغي فيها أن تتحول إلى صدام مسلح بصورة حتمية, لكن إعلان حرب حقيقية كان أمراً معقداً. في الحقيقة , لقد فعل بالحكومة كل ما أراد, ولكن مع ذلك كانت الحكومة عقبة بـين إرادته والعمل, فقرر أنه قد آن الأوان كي يقضي على الحكومة, ليصبح هو ذاته حاكم البلاد الوحيد والمطلق, فيخضع لإرادته ملايين الناس, ويوحي إليهم بفكرة ضرورة الحرب, فيذهبون للموت بسعادة مثلما مات جنود نابليون.
لكن كان يلزمه لذلك سلاح ذو قدرة غير عادية, "بعيد المدى" يقهر أفكار الناس وإراداتهم, سلاح للإيحاء الجماعي, أمواج راديوية ... وعمل عملاً مركزاً لصنع ذلك, فنسي مؤقتاً الناس المحيطين به.
حُلَّت مسألة شتيرنر في ذلك اليوم الذي افترقت فيه إلزا عن زاوير بقبلة. وتذكرهما في الليل فقط. تذكرهما فانقلب كل شيء في نفسيهما. عاد زاوير إلى حب "خادرته" الصغيرة إيما وإلى عبادة الطفل, أما إلزا فكررت بحنان اسم لودفيغ في منامها ما قبل الصباحي.
قدمت إليه صباحاً وقبلته على جبـينه في غرفة المكتب, ثم قالت:
- حبـيبي لودفيغ, عندي لك طلبان!
- مرحبا يا عزيزتي … طلبان كاملان! مُريني يا أميرتي.
- غوتليب هنا.
- غوتليب ثانية؟
- إنه غوتليب الشاب, رودولف.
- لكن الشاب يشبه العجوز, كما تتشابه قطرتا ماء. تلزمه النقود, أليس كذلك؟
- لقد تشاجر رودولف مع أبـيه عندما علم أن العجوز قد حصل على مئتي ألف منا ولم يعطه شيئاً, لذا يرجو رودولف غوتليب...
- ولا بأي حال من الأحوال!
- لكننا أغنياء جداً يا لودفيغ!
- يمكن أن نعطي صدقة للعجوز مهما كان السبـيل لإنفاقها, لأننا بالضبط أغنياء جداً, أما إعطاء هذا الصبي فإنه يعني إعطاءه مبرراً للتفكير بأننا انتزعنا منه لقمة العيش بطريقة ليست سوية تماماً, وأننا ذاتنا نعترف بذلك. وعندئذ لن تتخلصي منه. وسيبدأ بابتزازنا. لا يحتاج العجوز للكثير وهو راض, أما رودولف … فإنه لا يزال خطراً. كلا, كلا يا عزيزتي. لا يمكنني فعل ذلك حفاظاً على مصالحك.
- لكنني وعدته تقريباً ...
فكر شتيرنر فقد كان مزاجه جيداً, وأرغمته إحدى الأفكار على الابتسام.
- سأتحدث معه بنفسي. اجلسي يا إلزا. دقيقة واحدة.
اختفى شتيرنر في غرفته ثم عاد من هناك سريعاً.
- سأمزح معه مزحة تجعله يقلع عن هذا المنزل. كان باستطاعتي إرغامه على نسيان بـيتنا ببساطة, لكن ضمه إلى عداد من هم "تحت الوصاية" لا يبهجني إطلاقاً.
قال شتيرنر الجملة غير المفهومة لإلزا, ثم قرع الجرس وأمر الخادم الذي دخل بأن يدعو رودولف غوتليب.
دخل غوتليب الذي لم يكن يشبه الملتمس. لقد تصارع في داخله الطمع الذي قاده إلى هنا مع الكرامة المزوقة.
قال شتيرنر:
- اجلس أيها الشاب, هل تلزمك النقود؟
اهتز رودولف من هذه المعاملة, لكنه تمالك نفسه واحمر وجهه الأنمش فقط, ثم قال وقد بقي واقفاً:
- نعم تلزمني النقود. وكما يتهيأ لي ... فإن طلبي ليس دون أساس إطلاقا.
"فكر شتيرنر: غبي! إنه يجرد نفسه من السلاح بهذه البداية".
- إذا كنت تصوغ المسألة بهذا الشكل, أيها السيد غوتليب, فعليك باللجوء إلى الجهات القضائية الملائمة للبرهنة على وجاهة اعتراضاتك "القانونية".
أجاب رودولف بعبارة محضرة مسبقاً:
- هناك معايير أخلاقية إضافة للمعايير الحقوقية. ولا حاجة للبرهنة على حقوقي المعنوية.
- بالأخلاق تدار أعمال الإحسان, وهنا لا توجد مؤسسة خيرية.
احتدم رودولف فجأة:
- كفاك نزوات! إما أن ترضيني أو أنني ...
- أخ, أنت تهددني؟ أنا معتاد على إبعاد أمثال هؤلاء الزوار باحترام خاص.
صفر شتيرنر, فسُمِع من غرفة المكتب المجاورة وقع أقدام ناعمة لكن ثقيلة, ودخل دب بني إلى غرفة المكتب متهادياً من قدم إلى أخرى على قائمتيه الخلفيتين, ثم اقترب بصمت من رودولف, وأنشب قائمتيه في صدره, وأخذ يدفعه نحو الباب الخارجي.
امتقع رودولف, ووصل إلى الباب وهو نصف حي من الخوف, ثم هرع يركض فجأة هارباً من الدب الذي يلاحقه وهو يصرخ صراخاً هستيرياً.
كانت إلزا خائفة, فيما قهقه شتيرنر بعد أن استلقى في المقعد.
- هذه أفضل طريقة للتخلص من الزوار غير المرغوبـين. لن يظهر مجدداً, اطمئني!
ثم ضحك مجدداً.
رن الهاتف.
- آلو! شتيرنر, نعم أنا أسمعك. أ هذا أنت ثانية يا سيد غوتليب؟ لن تترك الأمر يمر هكذا؟ أوهو! وهل تطلق النار جيداً؟ نعم, نعم. لكنني أنصحك فقط بألا تتصيدني قرب المنزل! واعلم أنني قد أعطيت أمراً ملزماً لأصدقائي من ذوي القوائم الأربعة كي يمزقوك إلى قطع مثل جدي غبي إن وقعت أعينهم عليك ثانية! ماذا, موت عمك؟ قاتل؟ قل لي من فضلك! نعم, نعم ... أتمنى لك التوفيق!
قال شتيرنر وهو يضع سماعة الهاتف:
- أحمق.
- لودفيغ هل يمكن إخافة الناس بمثل هذا الشكل؟
- يا عزيزتي, إنه أكثر الأسلحة براءة في ترسانة الصراع الإنساني. لكن كان لديك طلب ثان أيضاً؟
- أنا الآن لا أعرف ...
- لا تقلقي. فمحميك الثاني لن يقع في قبضة دب. من هو؟
- إنها إيما. لقد كنت عندها. وقد رجتني كي ندع زاوير يسافر معها إلى الجنوب. علاجها ضروري وهي لن تذهب دون زوجها.
- نعم, يمكن. الآن يمكن. سأدبر نفسي من دون زاوير.
ثم كرر شتيرنر بعد أن تناول عدد الجريدة الصباحي:
- الآن يمكن! على فكرة هل قرأت جريدة اليوم؟ هاك اقرئي, ملاحظة طريفة. اقرئي بصوت مسموع.
أخذت إلزا الجريدة التي علم شتيرنر عنواناً فيها بقلم أحمر.
"ذهان جماعي
لوحظت ظاهرة غريبة في المدينة في الحادية عشرة ليلاً من مساء الأمس, واستمرت مدة خمس دقائق لدى كثير من الناس. عددهم لم يحدد بعد, ولكنه وفقاً للمعطيات الموجودة يزيد عن عدة آلاف شخص. فقد ظهرت فكرة ملحاحة, والأصح لحن لجوج من الأغنية المعروفة "حبـيبي أوغسطين". مثل هذه الأفكار الملحاحة وُجدت سابقاً أيضاً لدى أشخاص منفردين ممن يعانون من الاضطرابات العصبـية. الميزة غير المفسرة لهذه الحالة هي طبـيعتها الجماعية. وقد كان أحد موظفي جريدتنا ذاته ضحية هذا الذهان.
وهاكم كيف يصف الحدث:
- جلست مع صاحبي, الناقد الموسيقي المعروف في المقهى. اشتكى الناقد الشديد الغيرة على الموسيقا الكلاسيكية من هبوط الأذواق الموسيقية, ومن توسخ المسارح الموسيقية بفرق الجاز المبتذلة والفوكستروتات. وتحدث بحزن عن أنهم نادراً ما يُقدِّمون القدماء العظام مثل بـيتهوفن وموتسارت وباخ. استمعت إليه بانتباه وأنا أهز رأسي لأنني من أنصار الموسيقا الكلاسيكية. وفجأة لاحظتُ ببعض الرعب, أنني أدندن ذهنياً لحناً لأغنية تافهة هي: "حبـيبي أوغسطين". ففكرت: "ماذا لو أن سميري علم بذلك؟ وبأي ازدراء كان سيعرض عني!..". وتابع حديثه, لكن كما لو أن فكرة ما لجوجة كانت تلاحقه ... حتى إنه كان من وقت لآخر ينفض رأسه, بالضبط وكأنه يطرد ذبابة أسأمته. كانت الحيرة مرتسمة على وجهه. وأخيراً صمت الناقد, ثم أخذ ينقر إيقاعاً على الكأس بالملعقة, فأصبت أنا بالدهشة لأن نقرات الملعقة كانت مطابقة تماماً لإيقاع الأغنية التي جالت في رأسي. وفجأة خطر لي هاجس غير متوقع, ولكنني لم أقرر الإفصاح عنه بعد. وتابعت بتعجب مراقبة نقرات الملعقة.
صعقت الأحداث اللاحقة الجميع:
أعلن المايسترو وهو يرفع عصاه:
- زوبـيه, "الشاعر والفلاح".
لكن الأوركسترا عزفت فجأة "حبـيبي أوغسطين". عزفت بالوتيرة والنبرة ذاتهما … فوقفنا أنا والناقد وجميع الجالسين في المطعم مثل رجل واحد, وبقينا واقفين دقيقة وكأننا أصبنا بالكزاز. ثم تكلم الجميع فوراً فجأة, ولوحوا بأيديهم باهتياج, ونظروا بعضهم إلى بعض في حيرة تامة. كان واضحاً أن هذا اللحن الملحاح قد تعقب الجميع في الوقت ذاته. وسأل الناس الغرباء بعضهم بعضاً, فاتضح أن الأمر كان كذلك. استدعى هذا انفعالاً استثنائياً, وتوقفت الظاهرة بعد خمس دقائق بالضبط.
ووفقاً للاستعلامات التي أجريناها, فقد عمَّ هذا اللحن الملحاح جميع القاطنين حول ساحة البورصة وشارع المصرف تقريباً. وقد دندن كثيرون اللحن بصوت مسموع وهم ينظرون برعب بعضهم إلى بعض. وحدثنا من كان في الأوبرا أن فاوست ومارغريتا أديا فجأة "حبـيبي أوغسطين" بمرافقة الأوركسترا عوضاً عن تأدية الدويتو"آه, يا ليلة الحب". وعلى هذه الأرضية فقد عدة أشخاص عقولهم فأخذوا إلى مشفى الأمراض النفسية.
وتنتشر مختلف الإشاعات عن أسباب ظهور هذا الوباء الغريب. ويقدم ممثلو الوسط العلمي الأكثر اطلاعاً اقتراحاً بأننا نتعامل مع قضية ذهان جماعي, على الرغم من أن طرق انتشار هذا الذهان لا تزال غير معللة. وبغض النظر عن الشكل البريء لهذا "المرض", فإن المجتمع قلق قلقاً استثنائياً لسبب مفهوم تماماً, فكل ما هو "غير معلل" ومجهول يخيف ويذهل الخيال البشري. زد على ذلك أنه ظهرت تخوفات من أن "المرض" يمكن أن يعود للظهور بأشكال أشد خطراً. كيف يمكن مكافحته؟ كيف نحتاط ذاتياً؟ لا أحد يعرف هذا, مثلما لا أحد يعرف أسباب ظهور "المرض". وقد تشكلت على عجل لجنة من ممثلي الوسط العلمي, وحتى من النيابة العامة التي ستسعى لكشف سر الأغنية المرحة التي ألقت الرعب بـين الجمهور الساذج . لنتحلَّ بالصبر ولنحافظ على الهدوء. فمن الجائز ألا نجد كل شيء بتلك الجدية والخطورة التي تبدو للكثيرين".
أنهت إلزا القراءة ونظرت نحو شتيرنر ثم سألته:
- ما الذي يعنيه كل ذلك يا لودفيغ؟
- هذا يعني أن كل شيء رائع! فلنذهب لتناول الإفطار يا عزيزتي!
5 - لجنة الإنقاذ الاجتماعي
خلافاً لتأكيدات الجرائد المُطَمئِنة فقد تبـين أن الأغنية الألمانية المرحة التي أزعجت سكان المدينة الضخمة هي قضية جدية, توحي بتخوفات كبـيرة.
لم يمض أسبوع منذ ذلك الوقت الذي اضطر فيه آلاف الناس لغناء هذه الأغنية, حتى حصلت حادثة أقلقت على نحو أكبر ليس المجتمع فقط وإنما الحكومة أيضاً.
في منتصف النهار تماماً أوقفت كل الحركة لمدة دقيقة في قسم من المدينة. كان يمكن الظن بأنه يجري "إضراب ما احتجاجي لمدة دقيقة", لكن الإضراب لم يسبق لـه مثيل من حيث تنظيمه وشذوذه.
توقف عمل المؤسـسات فجأة, كما لو أنه بإشارة من صولجان سحري.
كف الموظفون عن الكتابة, كما لو أن شللاً لحظياً كبل أيديهم. وتجمد الباعة في المخازن وهم يناولون البضائع للشارين, ووقفوا دون صوت بأفواه فاغرة وابتسامات متسمرة مثل المصعوقين.
تحول الموسيقيون في أوركسترات المطاعم إلى تماثيل, وتسمرت الأقواس في أيديهم. كما تثبت الزوار في وضعياتهم, منهم من رفع الفنجان بـيده, ومنهم من قرَّب قطعة لحم بالشوكة إلى فمه المفتوح.
لكن أكثر ما أدهش هو منظر الشوارع والساحات التي لفَّها التجمد الغريب. هاهم أولاء الخفراء برفقة معتقل في وسطهم. كان المعتقل يستطيع الهرب بسهولة من حراسه المتحجرين لو أنه لم يتسمر هو ذاته وقدمه مرفوعة. وفي السوق مد طفل جائع يده إلى فطيرة وقد حنى جسمه بقوة وباعد قدميه ليهرب, في حين انقضت البائعة عليه بهيئة دجاجة تدافع عن صيصانها من حدأة مغيرة. كان في هذه المجموعة المتحجرة الكثير من الحركة وقوة التعبـير والحيوية, بحيث إن النحات كان سيدفع كثيراً كي يملك إمكانية إيصال موديلاته الحية إلى تلك الحالة, كما لو أن لقطة فوتوغرافية برهية قد ثبتت اللعبة اللحظية لتعابـير الوجوه وحركة العضلات.
شمل التخشب ذاته المارة الموجودين على الأرصفة. وأعجَبُ ما في الأمر كان أن الظاهرة الغريبة استحوذت على الحركة في المدينة بشكل شريط. وكان كل عابر سبـيل يدخل المنطقة الغامضة يتحجر لحظياً, في حين لم تتوقف الحركة المعتادة في الجهتين المحاذيتين لهذه المنطقة. أما السيارات التي دخلت بتسارع إلى هذه "المنطقة الميتة" فقد انسلت منها. أو الأصح, أن الآلة قد حملتها, لأن السائق والركاب كانوا يفقدون قدرتهم, ليس على الحركة فقط وإنما على التفكير مدة دقيقة كاملة.
لم تستدر السيارات على المنعطفات, فاقتحمت البـيوت واصطدمت واحدتها بالأخرى متكدسة على شكل مواكب كاملة. وحدثت كارثة لقطارين على السكك الحديدية في المدينة. زد على ذلك أن أحد القطارين كسر الركيزة وسقط على الشارع.
لم يكد المجتمع يثوب إلى رشده بعد هذه الهزة حتى أصيبت المدينة بضربة جديدة. فقد عبرت المدينة على شكل شريط موجة خبل ما جماعي استمرت خمس دقائق. فتملك الجميع هياج شديد. وكانت مادة الجنون في هذه المرة كلمة "الحرب".
صرخ الرجال وهم يلوحون بالعصي والمظلات, وصرخت النسوة والعجائز والأطفال بحماسة غير عادية:
- الحرب, الحرب حتى النصر! الموت للأعداء!
وغنوا الأناشيد الوطنية دون تناسق. كانت وجوه الجميع رهيبة. وبدا كأن هؤلاء الناس قد ثملوا من الدم, وأنهم يرون أمامهم عدواً مميتاً.
- الموت أو النصر! الحرب! عاشت الحرب!
كان التعطش للعمل والنضال والدم قوياً إلى درجة حصول سلسلة من المذابح في الطرقات. فقد تقاتل الرجال والأولاد بعضهم مع بعض. وأحاطت النسوة بسيدة بدينة توهمن أنها أجنبـية, وضربنها بالمظلات إلى حد أنه لم يبق من المظلات إلا أسياخها المحنيَّة. كانت وجوههن ممتقعة, والتهبت أعينهن بالكراهية. سقطت قبعاتهن على الأرض واسترسلت شعورهن. وتابعن ضرب المرأة المنكودة بنوع من السادية المقارب للتلذذ الشهواني بالقسوة. وخيل إليهم وجود جواسيس أجانب في كل مكان. أوقف جمهور الرجال سيارة إسعاف سريع عابرة, وأخرج منها جاسوساً متخيلاً. نزع الرجال الضمادات عن جسد المنحوس المحروق. صرخ المريض, أما الناس الذين جنُّوا فقد جاسوا في الضمادات بحثاً عن أوراق سرية.
كانوا جميعهم, رجالاً ونساء, عجائـز وأطفالاً, بهذه الحالة إلى درجة أنهم كانوا سيذهبون حقيقة للموت في ساحات الوغى. وكانوا سيموتون وهم يفكرون ليس بأنفسهم, وإنما كيف سيقـتلون فقط.
انتهت نوبة الجنون فجأة تماماً مثلما بدأت.
نظر الناس المصعوقون والمصدومون إلى المضروبـين والجرحى, وإلى آثار الدماء على الأرض, وإلى بذاتهم الممزقة غير المرتبة, وإلى شعورهم, ولم يستطيعوا أن يفهموا ما الذي يعنيه كل هذا.
اللجنة المشكلة لتقصي أسباب خبل الناس الجماعي في موضوع الأغنية المرحة سرعان ما تحولت إلى هيأة للإنقاذ الاجتماعي.
الإنقاذ ممن؟ لم تعرف اللجنة ذلك, لكن لم يعد أحد يشك بأن المجتمع مهدد بخطر شديد لم يسبق لـه مثيل في التاريخ. خطر من عدو مجهول غير مرئي قد يكون شخصاً أو ميكروباً. بدا العدو الجديد الخفي للحكام أخطر من الحروب والثورات, تماماً لأنه كان غير مرئي. لم يكن معروفاً من أين سيأتي الخطر الجديد وكيف سيكافح. كان قلق المجتمع غير اعتيادي. ففي كل يوم كان يجن عشرات الأشخاص, وكانوا ينهون حياتهم انتحاراً لأنهم لم يكونوا قادرين على تحمل الانتظار المتوتر لمصائب جديدة مجهولة. وحافظت الحكومة والصحافة بصعوبة بالغة على سير الحياة المعتاد. وبدا أن ضغطاً قليلاً أيضاً سيؤدي ليس إلى انحلال الدولة فقط, ولكن إلى انحلال جميع أسس العيش المشترك وتحولِ المجتمع إلى مشفى شاملة للمجانين.
شُعِرَ بذلك في العاصمة بقوة غير عادية. فقد وُجِدَ أنذال غذوا بأنفسهم هذا الذعر عن طريق نشر الشائعات الفظيعة, على الرغم من أنهم لم يستـسلموا للذعر بتلك الدرجة.
- ستحل قريـباً نوبة جديدة للمرض. وسيبدأ بعض الناس بقرض رقاب بعضٍ.
- سيتوقف البشر عن التنفس وسيموتون اختناقاً وهم يعانون عذاباً شديداً.
- سيحل النوم الفجائي ولن يستيقظ أحد أبداً ...
وقد صدَّقوا كل هذا.
لقد بدا كل شيء ممكناً بعد حصول ما حصل.
باع الناس بـيوتهم وأشياءهم بأبخس الأثمان لمن ضارب مستغلاً الذعر, ورحلوا من المدينة إلى أماكن لم يطلها الوباء بعد.
اجتمعت لجنة الإنقاذ الاجتماعي من دون انقطاع تقريـباً. وجرت هذه الاجتماعات في قبو عميق من مبنى بلدية المدينة, وأحيطت بالكثير من السرية خوفاً من أن تنكشف أمام العدو الخفي, فيما لو كان كائناً حياً. وبقي السر غير مفضوح على الرغم من أن أعضاء اللجنة قد اجتمعوا في النهار وفي الليل بالتناوب.
وُجد تضارب بـين العلماء والخبراء المدعوين.
قدم الأطباء النفسيون فكرة الذهان الجماعي والتنويم المغنطيسي, فقد خضعت ثورة المشاعر القتالية المتعطشة للدماء لهذا التفسير العلمي, ولكنه كان من الأصعب تعليل الأداء المتزامن للأغنية ذاتها من قبل جمهور الناس. لقد بدت هذه الأغنية للعلماء ظاهرة أكثر خطورة من الهيجان المفاجئ لجمهور الشارع بغض النظر عن براءة "المرض". فالعلم يعرف أمثلة عن قابلية انتقال عدوى الانفعالات المعبر عنها بوضوح تعبـيراً خارجياً, ويعرف أمثلة عن "إجرام جمهور" التنويم المغنطيسي الجماعي. لكنه يجهل أشكال التنويم المغنطيسي الجماعي "المكتوم".
وبدت الإشارة إلى السحرة الهنود, وكأنهم قادرون على فعل شيء مشابه, غير مقنعة. فكل أعاجيـبهم التي تبدو وكأنها تنفذ بوساطة التنويم المغنطيسي الجماعي لم تختبر ولم تدرس, وقد حبكها خيال الرحالة المتوهمين. ولم تقد إلى شيء أيضاً "الفرضية الميكروبـية" التي حاولت تفسير الظاهرة الغامضة بفعل ميكروب جديد. وفُحِص فحصاً دقيقاً مئات الأشخاص من المتعرضين "للمرض" الجديد, إذ حلل الأطباء دماءهم, لكنهم لم يجدوا أي ميكروب.
قال المهندسون الكهربائيون:
- ستحل المسألة في حقل مختلف تماماً. أقوى الاحتمالات أننا نتعامل مع أمواج راديوية يتلقفها جسم الإنسان مباشرة.
سألهم المهندسون القدماء بسخرية:
- مستقبلات راديوية بشرية؟ هل هذا شيء من حقل الخيال؟
أجابهم الأولون:
- والراديو ذاته, أليس من حقل الخيال؟
هز العجائز أكتافهم.
- برهنوا لنا!
- سنبرهن!
وأقبل المهندسون على إجراء التجارب أسوة بزملائهم الأطباء.
وعمل يوهان كرانتس عملاً مركزاً لكشف هذا السر, في الوقت ذاته الذي جلس فيه العلماء في مخابرهم وراء ميكروسكوباتهم وصماماتهم المهبطية.
لم ينتم يوهان كرانتس إلى فئة العلماء الجليلة. لقد كان عبارة عن شرطي تحري فقط. رجل ذو خبرة مهنية كبـيرة وذو عقل غير رديء. حتى إنه لم يطرح على نفسه السؤال حول من هو العدو: هل هو ميكروب أم إنسان؟ لأنه ينبغي إيجاد العدو كائناً من كان, وبتلك الطريقة التي قادت كرانتس نحو الهدف مراراً. آثار الجريمة! هذا ما يهم التحري. لقد كانت أكثر من كافية. ينبغي فقط استخدامها بمهارة. وأقبل كرانتس على العمل بقوة, وقد أثارته أهميته وسريته, وكذلك رغبة مغرورة لسبق العلماء الكثيري التفكير الذين يضعون النظارات.
جلس الليالي بطولها في غرفة المكتب الكبـيرة خلف طاولة المكتب المطمورة بغنائم انتصاراته, وهي صور المجرمين وبصمات الأصابع ومفاتيح مشتركة وأدلة مادية. وانكب على مخطط المدينة الكبـير, منظماً جميع أخبار الجرائد وبلاغات الشرطة عن آخر الأحداث.
سبح في دخان التبغ بالمعنى الحرفي, ونادراً ما جدد هواء الغرفة, نفث الدخان مجدداً, ورسم على الخريطة خطوطاً ما متقطعة, كما لو أنه قد تعقب مجرماً تعرف إليه.
ثم صرخ وهو يصل خطين بزاوية حادة على خريطة المدينة:
- جاهز!
كانت الساعة الرابعة صباحاً. طوى كرانتس مخطط المدينة باستعجال, ووضعه في حقيـبته الرثة, ثم استدعى سيارة وانطلق إلى اللجنة.
صرخ وهو يطير راكضا نحو القاعة المقنطرة:
- خبر مستعجل, السر ينكشف.
اضطرب المجتمعون الذين كانوا كثيرين جداً رغم تأخر الوقت, وسأل أحد أعضاء اللجنة بقلق:
- هل كشفت السر؟
أجاب كرانتس:
- لقد قلت السر ينكشف, وهو سينكشف. لقد وجدت مكان إقامة الميكروب المجرم أو الإنسان. لقد وجدت تلك البؤرة التي يصدر عنها التأثير الخفي.
ثم تابع كرانتس وهو يخرج الخريطة باستعجال ويفردها على الطاولة بادئاً بالشرح, وقد احتشد الجميع حوله:
- طريقتي بسيطة جداً: لقد رتبت جميع المواد الخاصة بالأحداث غير المفسرة كي أحدد بدقة المناطق المصابة "بوباء الخبل". وهاكم ماذا نتج. لم تعطني حالة الأغنية الكثير. لقد شمل هذا الوباء قسماً من المدينة بدائرة نصف قطرها نحو الكيلومترين. ولوحظ اللحن الملحاح متدرجاً في ضعفه خارج الكيلومترين, ولم يمس أحداً عند الكيلومتر الثالث. ووُجد مركز هذه الدائرة حول ساحة البورصة وشارع المصرف تقريـباً. وقرب هذا المكان بالضبط سُجِلت تلك القوة للجاجة اللحن, بحيث إنهم لم يفكروا به فقط وإنما أدّوه بصوت مسموع. ولم أتمكن مع الأسف من تحديد هذا المركز تحديداً رياضياً دقيقاً, لأنني لم أتمكن من إنشاء تدرج تناقصي لقوة اللجاجة على أساس الاستنطاقات. فالأشخاص الذين كانوا في المكان ذاته يعطون بـيانات مختلفة جداً, ومن الواضح أن الخواص الذاتية أجبرت كل واحد على التلقي تلقياً مختلفاً.
قال أحدهم بخيـبة أمل:
- ذلك فقط؟
- ليس ذلك فقط أبداً. فقد أعطى الوباء اللاحق أكثر بكثير. لقد سار هذا الوباء وفق اتجاه معروف, وشمل قطاعاً ضيقاً نسبـياً, وانتهى في مكان محدد. حصلت على شيء يشـبه الشعاع, الذي يبتدئ من مبنى مصرف إلزا غليوك.
ضجَّ الجمهور.
- شتيرنر! إنه هو طبعاً! لقد قلت!
ذُكِرَ اسم شتيرنر في اللجنة أكثر من مرة.
قاطعهم كرانتس :
- لا تتعجلوا بالاستنتاج أيها السادة. لقد كنت واثقاً أيضاً أن الخيوط تقودني إلى شتيرنر, ولكنني انتظرت بفارغ الصبر "الحفلة" التالية من أجل التأكد. وكان "الخبل الحربي" هو هذه الحفلة. لقد اخترق المدينة أيضاً مثل شعاع, ووصل إلى منزل غوتليب, منزل إلزا غليوك الآن. ونتجت زاوية حادة. ولكن لو وصلنا النهايات, فإن نقطة المنطلق ستكون خلف مبنى إلزا غليوك. وستقع في المبنى المجاور. هاكم, هل تتفضلون بالمشاهدة؟
ثم أراهم الخريطة وأعطاهم الشروح.
- ما الذي يوجد في هذا المبنى المجاور حيث يقع رأس الزاوية؟
- مطعم "أمبـير". إلى هناك يجب أن يتوجه بحثنا.
ولطم كرانتس الخريطة براحته الدهنية, كما لو أنه قتل ذبابة.
كانت براهين كرانتس بسيطة ومقنعة. فقررت اللجنة بعد مداولات قصيرة إجراء تفتيش عام في مطعم "أمبـير" وفي الغرف الموجودة في ذلك المبنى.
وتواً استنفرت كل الشرطة هاتفياً.
أحاطت بالمبنى على شكل حلقة متراصة مفرزة كبـيرة من الجنود, الذين فتشوا القاطنين المذعورين, وقلبوا كل شيء رأساً على عقب من العلية إلى القبو, لكنهم لم يجدوا شيئاً مثيراً للشك رغم كل مساعيهم.
تجهم كرانتس ولكنه لم يستسلم.
- واحد ما من زوار المطعم كان يستطيع القيام بكل هذا السحر.
كان هذا غير ممكن أيضاً.
حظروا على جميع المقيمين في المبنى حظراً صارماً الحديث عن التفتيش الليلي إلى أي كان. واعتقلوا عدة أشخاص ممن أثاروا شكوكهم, وقرروا وضع مراقبة غير معلنة على رواد المطعم.
ومع ذلك فقد ذاع الخبر في المدينة. واجتاح الجمهور المهتاج المطعم, فاضطروا إلى إغلاقه.
تأوه كرانتس وشتم وقد كدَّره الفشل, ثم قال:
- لكن سنصارع أيضاً. كائناً من كان خصمنا, فإنه يعرف الآن أننا نسير وراء الأثر الصحيح. وسنرى إن كان سيجرؤ على تذكيرنا بنفسه ثانية. فالخط الثالث سيقرر مصيره.
6 - محاولة اغتيال فاشلة
- السعادة! السرور! النعيم! يا لها من حياة رائعة! يا لها من لذة.
عانق إنسان شاب مصباح الشارع بعينين زائغتين وبسمة عريضة على وجهه, كما لو أن المصباح كان صديقه الحميم.
- حبـيبي القنديل! هل أنت سعيد مثلي ...
وحضن عجوز نحيل يلبس ثياباً رثة امرأة صبـية في ثوب نفيس:
- كم أحبك يا عزيزتي! كم أنتم جميعكم أحباء وغالون!
وقبَّـلت هي شعر وجنتيه الخشن والقصير والقاسي, وأجابته هامسة:
- أنا في غاية السعادة! يبدو لي أنني وجدت أبي المرحوم ... لقد كان يشبهك ... أبي, أبي الغالي!
وفي مكان قريب تبادل العناق عدوان سياسيان قديمان, مؤيد للملكية وفوضوي:
- كفانا صراعاً! فالحياة في غاية الروعة!
قطف أحد الصعاليك زهرة من المتنزَّه العام المجاور, وقدمها لشرطي كما يقدم الكنز:
- خذها مني يا صديقي!
قبَّل الشرطي السمين ذو الأنف الرمادي الأزرق الصعلوك بحنان وأخذ منه الوردة.
- أشكرك من أعماق قلبي! الورود سعادة الحياة! أنا أحب الورود والأغاني حباً جماً!
- هل نغني؟
- فلنغنِّ.
جلسا على العشب, وبعد أن تعانقا غنيا أغنية عاطفية وهما يسكبان دموع التأثر.
صرخ صاحب مخزن مجوهرات بانشراح مفرط في حماسته, وهو يملأ جيوب الزوار بالخواتم والأحجار الكريمة وعقود اللؤلؤ والساعات الذهبـية:
- خذوها, خذوها جميعها! الأمر سيان, لن نأخذها معنا إلى القبر! فليملأ السرور قلوبكم مثلما يملأ قلبي! فلتذهب التجارة إلى الشيطان! فلتعش السعادة الشاملة!
برأت المحكمة مجرماً سياسياً خطيراً. واعتذر النائب العام المعروف بقساوته عن توجيه الاتهام في هذه المرة, وعانق المجرم وهو يضع رأسه بهمة فاترة على صدره, ثم بكى من التأثر وهمس:
- يا صديقي, يا أخي! من الجيد أن تسامح وأن تحب!
حتى في المسالخ عانق الجزارون المحترفون الثيران المجلوبة إليهم للذبح, وقبلوها بـين أعينها بحنان, ثم مسَّدوا الحيوانات بأيديهم.
- هل خفت يا ذا الخطم؟ اشرب الماء واذهب لرعي العشب في الحديقة المجاورة. كفانا دماء! تنفس!
حصل هذا بعد عدة أيام فقط من اجتياح المقهى. وبدا كأن العبقري الشرير الذي سيطر على المدينة قد أطلق تحديه وسخر من محاولات اللجنة للنضال ضده. وكما لو أن العدو الخفي قد أهدى الناس غبطة لا سابق لها, تعويضاً عن الخبل الكئيب السابق وعن ضحايا التوقف المفاجئ للحركة في المدينة. كانت حال الغبطة كبـيرة جداً, بحيث إن الناس الذين جربوها كانوا جاهزين للقيام بكل شيء كي يجربوا ثانية اللذة غير المسبوقة. في هذه المرة حافظ الجميع على كامل ذكرياتهم عما عاشوه, وتحدثوا عن الجنة المفقودة.
وكاد هذا أن يكون أكثر هولاً من تأجج التعطش للدماء والقسوة. فأي سلطة على النفس البشرية امتلك هذا العدو الخفي؟ كان يستطيع تسميم الناس بسم اللذة أو العذاب, وأن يجعلهم سلاحاً أعمى لتحقيق رغباته, وأن يسعدهم أو ينهكهم أو يشوههم أو يقتلهم, يقتلهم دون طلقة واحدة, بهدوء ودون ضجة ومن مكان غير معروف ... كان هناك مبرر للقنوط.
جلس أعضاء اللجنة في قبو المبنى العميق ليلاً مكتئبـين وصامتين, ينظرون بأمل إلى كرانتس الذي أجمل النتائج مرتباً التقارير عن الحادثة الأخيرة, كي يحدد قطاع المدينة الذي شمله جنون اللذة.
سُمِعَت في أحيان نادرة أصوات متلهفة:
- كيف تسير الأمور, يا كرانتس؟
- سيراً رائعاً!
تذمر أحدهم غاضباً:
- لا يوجد أسوأ من ذلك!
أجابه كرانتس:
- على العكس فكل شيء يسير سيراً عظيماً. لم يكن لدي مسألة على هذا القدر من السحر والجدارة بالإجلال, نعم, نعم, نعم!
هز كرانتس أصابعه الثخينة الحمراء بسرعة مقلـِّباً الأوراق, وعلـَّم من وقت لآخر خطاً جديداً متقطعاً على خريطة المدينة. ثم تابع:
- كرانتس مثل فارس قديم العهد, سيحرر المدينة من التنين فينصبون لـه تمثالاً. لكرانتس بالطبع وليس للتنين, ها - ها! أو الأصح, لنا سوية: كرانتس يحمل الرمح في يده وعند أقدامه التنين المطعون.
سأله النائب العام الذي بكى منذ فترة ليست طويلة على صدر المجرم:
- كيف تستطيع المزاح؟ وحولك رعب شامل. إذا اعتذرت عن توجيه الاتهام فستفنى الدولة ...
- أنا أمزح دائماً حتى في مواجهة فوهة لص مسلح. ما العمل؟ عادة احترافية. يمكن ملاقاة الخطر إما بالابتسام أو بالهرب فقط. والأمور تسير سيراً ممتازاً كما أقول. عدوى الجنون تحمل مجدداً طبـيعة الموجة الموجهة. وليخردقني اللصوص المسلحون إن لم تكن قمة هذا الشعاع تؤدي إلى المكان ذاته مجدداً. سأرى خمسة تقارير أيضاً ويكون كل شيء جاهزاً...
احتشد أعضاء اللجنة حول كرانتس يعمهم القلق. حلَّ الصمت المتوتر. ووضع كرانتس اللمسات الأخيرة على الخريطة.
- جاهز!
صرخ موظف وزارة الداخلية:
- إنه يؤدي إلى مبنى إلزا غليوك مجدداً.
- نعم, مجدداً. تفضلوا شاهدوا الخريطة.
دفع كرانتس الخريطة بعيداً عنه نحو منتصف الطاولة, وأخذ يشرح:
- هاكم. هل تتفضلون بالمشاهدة. الشعاع رقم واحد هو شريط الجنون عندما توقفت الحركة كلها. وها هو ذا الشعاع رقم اثنين - جنون الحرب. لم تلتق هنا الزوايا عند منزل إلزا غليوك. وقد وقع الرأس على المبنى المجاور حيث يوجد المطعم. وإلى هناك وجهنا بحثنا.
- وأخطأنا.
- مفهوم تماماً: لقد افترضنا أن منبع التأثير واحد. لكن الحزمة الثالثة هي حزمة "سعيدة" حقاً. لقد كشف لنا قطاع السعادة الجنونية الخطأ. ويتضح أن التأثير كان من نقطـتين, لكن هاتين النقطـتين كلتيهما تقعان في منزل إلزا غليوك. هذا البـيت طويل جداً, كما تشاهدون, ومن الواضح أن نقطـتي التأثير قد وجدتا في نهايتي البـيت المتقابلتين. ولهذا السبب تخيلنا أن رأس الزاوية الحادة يجب أن يقع في المبنى المجاور لو كان مصدر التأثير واحداً. لقد أعطانا القطاع الثالث رأساً آخر, حيث تلاقى الخطان رقم واحد ورقم ثلاثة. هل هذا واضح؟
شرع الجميع يتقلقلون.
- لقد قلت سلفاً إن هذا مِنْ فِعلِ شتيرنر!
- وأنا أيضاً أكدت هذا سابقاً.
- شرير! وحش! إنه في قبضتنا الآن.
- كرانتس, سنفلح في اعتقال هذا المجرم ليلة اليوم بالذات.
أجاب كرانتس:
- الاعتقال لا يأخذ وقتاً طويلاً. أليس من الأفضل التأجيل حتى الصباح؟
سأل النائب العام بنفاد صبر, وهو الذي لم يستطع أن يغفر لشتيرنر رفضه لتوجيه الاتهام والمشهد المخجل لتآخيه مع المجرم:
- ولماذا حتى الصباح؟
أجاب كرانتس:
- ببساطة شديدة, نحن نتعامل مع مجرم غير عادي, ولهذا ينبغي اتخاذ كل إجراءات الحذر والتأمل في كل خطوة كي نضرب بلا خطأ. المصرف يغلق بإحكام في المساء ويحرس جيداً. وإذا ذهبنا ليلاً, فإننا سنـثير جلبة رغم كل الحيطة, مما سينبه العدو. من الأفضل الذهاب صباحاً في ساعة فتح المصرف, عندما لا يكون هناك الكثير من الزبن. والوصول بثياب مدنية مسلحين بمسدسات فقط. والدخول واحداً واحداً دون إثارة لشكوك حراس المصرف والموظفين, ومن ثم الانـقضاض فوراً نحو الأعلى ومباغتة العدو وإمساكه.
كان النائب العام, رغم كل نفاد الصبر لديه, مضطراً للاعتراف بأن تصورات التحري الخبـير هذه هي تصورات صحيحة, ولتأجيل اعتقال شتيرنر حتى الصباح.
تابع كرانتس:
- لكني أعتقد, أنه من المحتمل أن نضطر للتأجيل يوماً آخر...
صرخ عجوز نحيل يلبس النظارات, وهو وزير الداخلية الذي أتى إلى اللجنة شخصياً:
- هذا ما ينقصنا!
رفع كرانتس حاجبـيه:
- وما العمل يا صاحب السعادة. لقد تفضلت بإبلاغكم أنه ينبغي التفكير في كل خطوة. حرفياً في كل خطوة. يجب أن نعرف جيداً جميع ترتيـبات مبنى إلزا غليوك. جميع المداخل والمخارج. وأن نعرف بدقة الغرفة التي يقيم فيها شتيرنر وغير ذلك. ينبغي جمع هذه المعطيات, ويلزم زمن للقيام بهذا.
تكدر الجميع مجدداً.
وفجأة ضرب رئيس الشرطة نفسه على جبـينه بـيده:
- اسمحوا لي! يبدو أنني وجدت مخرجاً. في الحقيقة, القدر ذاته يساعدنا! فمنذ أيام فقط عينت في دائرتي أحد الأشخاص الشباب, وهو رودولف غوتليب. هل تعرفون هذه الكنية؟
- بالتأكيد! الوريث الفاشل. ابن أخي الصيرفي المرحوم!
قال رئيس الشرطة مبتسماً:
- هاكم دليلاً يا كرانتس. لن تجد أفضل منه. لقد درس المبنى من الأعلى إلى الأسفل عندما كان يتمتع بحقوق الوريث المستقبلي. وهو يضمر أكثر مشاعر الكراهية صراحة نحو شتيرنر. وبكلمة فإنه شخص مناسب تماماً.
- ممتاز, لكن أين نجده؟
- لا أسهل من ذلك!
هتف رئيس الشرطة وأعطى أوامره.
لم تمض الساعة حتى دخل رودولف غوتليب النعسان إلى القبو, حيث اجتمعت اللجنة. ولى نعاس رودولف فوراً عندما علم لماذا استدعَوْه, وتلألأت عيناه ثم صرخ وهو يضم قبضتيه:
- سأتحاسب معك الآن, أيها السيد شتيرنر!
تهلل رئيس الشرطة سروراً, وتوجه إليه رودولف بالحديث:
- أيها السيد الرئيس, أرجوكم رجاء حاراً ألا ترفضوا لي أكثر الطلبات استكانة!
- ما الأمر يا صديقي؟
- اسمحوا لي أن أقتل هذه الحشرة بـيدي أنا!
ارتبك وزير العدل:
- وكيف ذلك, من دون تحقيق ومحاكمة؟ فحتى الآن لا توجد لدينا أدلة مباشرة.
تدخل النائب العام في الحديث فجأة:
- أتعرفون أيها السادة, الشاب محق. والقضية جدية جداً ولا تحتمل اللعب بلعبة العدالة. لا أحد منا يشك أن كل هذا من صنع شتيرنر, وأننا نتعامل مع مجرم غير عادي. وهذا يعني أنه يجب اتخاذ إجراءات غير عادية ضده. هذا ما تتطلبه حماية الدولة والمواطنين. إذا أبطأنا في التعامل مع شتيرنر, فأنا غير متأكد أنه لن يجبرني على تقبـيله وتقديم سيجارة لـه عوضاً عن خطاب الاتهام أثناء جلسة محاكمته. عندما يكون مصير البلد على كف عفريت, والأمر هو كذلك, فإنه إجرام مباشر من ناحيتنا قيامنا بالمخاطرة. ومن المحتمل أن يفلت العدو من أيدينا باسم مراعاة الشكليات. ثم … إحم … نحن نتحدث فيما بيننا … ألا يمكن أن يقـتل شـتيرنر أثناء محاولته الهرب؟ مهما أدانوا هذه الطريقة, فإنها من حيث الجوهر لا تنطوي على الخداع. فأي مجرم لا يرغب في تجنب القصاص, ولا ينتهز أي فرصة للهرب؟ وبهذا الشكل سنتخلص من العدو بضربة واحدة.
استجاب رئيس الشرطة:
- صحيح تماماً! لا قانون مع من يدوس قوانين المجتمع والدولة.
سأل كرانتس:
- هل تصوب بدقة يا غوتليب؟
- الطلقة تصيب الطلقة بالنسبة لكل الحشوات.
قال رئيس الشرطة:
- إذاً, أتمنى لك التوفيق!
نوقشت خطة الهجوم قبل حلول الصباح, وتقرر أن يذهب أربعة فقط: رودولف غوتليب وكرانتس واثنان من عملاء الشرطة موثوق بهما. وأُخِذ هؤلاء الاثنان بمثابة احتياط.
قال كرانتس:
- يكون أفضل كلما كان أقل.
حضرت الفصيلة في الساعة التاسعة صباحاً مسلحة بالبارابـيلومات ومزودة بتعليمات دقيقة.
قال رئيس الشرطة مرة ثانية:
- أتمنى لكم التوفيق!
تسللت الفصيلة إلى المصرف بسلام, وصعدت إلى الطابق الثاني, وتوجهت إلى غرفة المكتب بقيادة رودولف. واجهت الخدم بهدوء, لكنها أمرتهم بالوقوف في مكانهم بنبرة سلطوية.
كانت غرفة المكتب فارغة. وقف أحد العملاء أمام باب المدخل, والثاني أمام الباب المجاور لغرفة شتيرنر, أما رودولف فقد فتح برفقة كرانتس باب غرفة شتيرنر السرية, وعاينها معاينة سطحية. كانت الغرفة خالية تقريباً من الأثاث. شكَّل التخت مع المنضدة والخزانة الصغيرة وخوان الزينة كل الأثاث. كان نصف الغرفة مفصولاً بحاجز ضخم لحد ما مصنوع من خشب البلوط. جلس شتيرنر خلف خوان الزينة, وحلق ذقنه أمام المرآة. لزم لكل هذه المعاينة ما لا يزيد على عدة دقائق. لم يلحق شتيرنر أن يدير رأسه استجابة للضجيج الصادر عن الباب المفتوح, حتى انقض كلباه على رودولف قبل أن يتمكن من سحب مسدسه. في الوقت ذاته شاهد شتيرنر, الجالس وظهره باتجاه الباب, رودولف في الصورة المنعكسة على المرآة فقفز عن الكرسي, وصار أمام الحاجز بقفزتين, ففتح الباب واختفى وراءه. اندفع رودولف وكرانتس نحو الحاجز, وأخذا يقرعانه وهما يصدان الكلاب, فقد أُعطيا تعليمات بإطلاق النار على شتيرنر فقط, كي لا يثيرا ضجة قبل الأوان.
صرخ غوتليب:
- افتح يا شتيرنر, افتح, لماذا خفت؟
فتح الباب للوراء بطريقة مفاجئة بحيث تعثر رودولف الذي كان يستند إليه.
قال شتيرنر بهدوء:
- انتبهوا, لا تقعوا. توقف يا فالك! توقف يا بـيتش!
رقد الكلبان باستسلام ووضعا خطميهما على القوائم الممدودة, لكنهما استمرا بملاحقة الزائرين بعيونهما بانتباه.
قال شتيرنر بعد أن جلس مجدداً وراء خوان الزينة:
- أنا في خدمتك يا سيد رودولف غوتليب.
وضع رودولف غوتليب المسدس على هذا الخوان ذاته, وأمسك الفرشاة وأخذ يصوبن رقبة ووجنتي شتيرنر, ثم أمسك رودولف الموسى وبدأ يحلق بها. أرجع شتيرنر رأسه للوراء, فحلق رودولف نحره بحذر وانـتباه.
- تضايقـني قليلاً يا غوتليب … اشحذ الموسى!
مرر رودولف الموسى على السير ثم تابع الحلاقة, فيما وقف كرانتس قربهما كما لو كان حارساً.
- أشكرك يا غوتليب. أنت تحلق حلاقة رائعة. لديك عبقرية, وأنصحك ألا تدفنها في الأرض. افتح صالون حلاقة.
وتحدث شتيرنر إلى كرانتس مستفهماً:
- وأنت؟
- كرانتس! يوهان كرانتس! أنا في خدمتك!
تنشط كرانتس فجأة وألقى المسدس, ثم خطف فرشاة الثياب وبدأ ينظف ثوب شتيرنر.
- أشكركما, هاكما أجرة العمل.
وأعطى شتيرنر كل واحد قطعة نقدية صغيرة, فانحنيا بمهانة وتوجها نحو الباب.
وبعد أن خرجوا من المبنى تفرقوا جميعهم وذهبوا في اتجاهات مختلفة.
فَقِد أثر العميلين.
حضر كرانتس إلى السجن وطلب أن يسجنوه في غرفة منفردة. أخذ مدير السجن الأمر على محمل المزاح, لكن كرانتس احمر كله من الغضب وخبط الأرض بقدميه.
- معي تعليمات من الوزير ذاته بإلقاء القبض على جميع من أجد القبض عليه ضرورياً, وأرجو عدم المناقشة. أنت لا تجرؤ على عدم الثقة بكلام موظف رسمي!
هز مدير السجن كتفيه, وأعطى أمراً فأخذوا كرانتس وحبسوه. واستفهم مدير السجن هاتفياً, لكنه حصل على جواب أنه لم يُعطِ أَحدٌ أمراً باعتقال كرانتس, وإنما بالعكس فإنهم ينتظرونه بلهفة في اللجنة. ومع ذلك فقد رفض كرانتس الخروج من السجن قطعياً, وصرخ مهدداً:
- إذا حاولتم إخراجي بالقوة فسأطلق النار! لقد حبسني كرانتس ذاته. وكرانتس ذاته فقط هو من يخرجني.
لوح مدير السجن بـيده:
- لقد فقد عقله أو ثمِلَ.
وبما أن كرانتس لم يفارق السلاح إطلاقاً فقد كان من الخطر استخدام القوة معه.
- فليأخذه الشيطان! دعوه يبقى.
وقبع كرانتس يراقب الحراس في الممشى من ثقب الباب, ثم صرخ على الحارس:
- هل بصرك سيئ؟ وهل يمكن التوقف طويلاً في طرف واحد؟ ألا تعرف الواجب؟ تعال إلى هنا وتأكد من القفل كي لا أهرب.
من الواضح أن كرانتس استثناء من القاعدة التي تحدث عنها النائب العام, إذ لم يبد كرانتس أي محاولة للهرب.
ومن بـين جميع المشاركين في الهجوم الفاشل عاد رودولف غوتليب وحده فقط إلى اللجنة, لكن كان من الصعب الحصول منه على شيء, فقد كان مذهولاً ومكفهراً. وأجاب على جميع الأسئلة التي طرحها عليه أعضاء اللجنة بنفاد صبر إجابات سخيفة.
- حلق!
- من حلق؟ عن ماذا تتحدث؟
- حلقت لشتيرنر.
تبادل أعضاء اللجنة النظرات في حيرة.
سأل الوزير رئيس الشرطة بصوت خافت:
- من المحتمل أن هذا كلام مجازي, لغة للمجرمين تعني القتل؟
أجابه رئيس الشرطة:
- لم يسبق أن سمعت هذه العبارة.
- تكلم كلاماً مفهوماً. هل شتيرنر حي أم ميت؟
طاف رودولف على الجميع بنظرة متكدرة, ثم أجاب بحرقة بعد أن ابتسم:
- حي أكثر منا! حلقت لـه حلاقة ناعمة. ينبغي أن أفتح صالون حلاقة.
7 - "تريلبـي"
- وأخيراً يا لودفيغ!
استقبلت إلزا شتيرنر بالكلمات المعهودة ومدت يديها:
- لقد نسيتني تماماً!
وقفا في الحديقة الشتوية يحدقان أحدهما بالآخر كما يحدث بعد فراق طويل. إنهما في حقيقة الأمر لم يتقابلا منذ شهر تقريباً. وخلال هذه الفترة تغير كلاهما إلى حد ما. أصبح وجه شتيرنر أكثر نحفاً بطريقة ما, غارت عيناه وأصبحت نظرته قلقة, كما أخذت التبدلات الحادة في مزاجه تظهر على نحو أكثر تكراراً. نحلت إلزا نحولاً أبرز عظما الترقوة, واستطال إهليلج وجهها, لكن نظرتها صارت جامدة وأكثر حزناً, وأصبحت حركاتها ذابلة وآلية. وتغيرت تغيراً أكبر في داخلها أيضاً. بدا كأن شخصيتها بدأت تتحلل تحت تأثير حياتها النفسية غير الطبـيعية التي عاشتها. فكرت تفكيراً متقطعاً وهي تنتقل انتقالاً مفاجئاً ودون رابط من فكرة إلى أخرى. تحطم مزاجها تحطماً مفاجئاً كذلك, وتحولت تحولاً أكثر فأكثر من شخص حي إلى آلة, وانعكس هذا على طبـيعة لقاءاتها مع شتيرنر أيضاً. كان حديثهما إما أن يتوقف عند منتصف الكلمة, أو يلتهب بحيوية غير عادية ...
أجلس شتيرنر إلزا قربه وضم خده إلى وجنتها, فمررت يدها على خده الآخر.
- ناعم؟ رودولف غوتليب هو من حلق لي.
سألت إلزا متعجبة:
- غوتليب؟
- نعم, غوتليب. إنه يريد أن يفتح صالوناً للحلاقة, وهو يتدرب من خلال الحلاقة لأصدقائه.
وضحك شتيرنر ضحكة رنانة.
- أنا لا أفهم يا لودفيغ. هل أنت تمزح؟
- لا داعي للفهم. انسَيْ غوتليب.
حل الصمت.
- تغيرت كثيراً يا لودفيغ. أنت متعب ...
- ترهات!
- لماذا تعمل بتلك الكثرة؟ هل يعقل أنك في ورطة؟
نهض شتيرنر وأخذ يمشي بعصبـية.
- ورطة؟ بالعكس. كل شيء يسير سيراً رائعاً. لكنني تعبت ... نعم ... تعبت تعباً قاتلاً.
ثم تحدث بهدوء وقد أغمض عينيه نصف إغماضة:
- أتلهى ... أنت باردة تجاهي يا إلزا!
وصالب ذراعيه بعد أن فتح عينيه مجدداً, وأخذ ينظر بانتباه إلى عيني إلزا, فامتقعت فجأة تحت تأثير هذه النظرة, وأخذت تتنفس بصعوبة بفم نصف مفتوح. واندفعت نحو شتيرنر, كما لو أنها ثملة, مطلقة أنيناً ممدوداً, ثم أحاطت رأسه بـيديها, وأخذت تمطره بقبلاتها على عينيه وجبـينه ووجنتيه وهي تلهث. وفي آخر المطاف عضَّت شفتيه عضاً وصل حد الألم ونزف الدماء. وفجأة أبعدها شتيرنر.
- كفى! اذهبي إلى مكانك! اهدئي.
جلست إلزا على الأريكة بإذعان. ذهب انفعالها كذلك فجأة مثلما ابتدأ, تاركاً الإعياء فقط.
تمتم شتيرنر وهو يمشي بسرعة بـين النخلات:
- ليس هذا, ليس هذا ... اللعنة.
وسأل بعد أن هدأ:
- بماذا اشتغلت خلال الفترة الأخيرة يا إلزا؟
نطقت بخمول:
- فكرت بك ...
هز شتيرنر رأسه متخذاً مظهر الطبـيب الذي تصدق توقعاته.
- وماذا فعلت أيضاً؟
- لقد قرأت. وجدت في المكتبة الرواية القديمة "تريلبي" وأعدت قراءتها. هل قرأتها؟ سفينغالي ينِّوم تريلبي مغناطيسياً, فـتصبح ألعوبة في يديه. لقد أسفت لحال تريلبي. وفكرت: يا لهول أن تفقد إرادتك, وأن تعمل ما يأمرونك به, وأن تحب من يشيرون عليك به.
تجهم شتيرنر.
- وفكرت: كم هو حسن أن يحب أحدنا الآخر بحرية وأن نكون سعيدين.
- هل أنت سعيدة؟
قالت إلزا بخمول كما في السابق:
- نعم, أنا سعيدة. يا لـه من شخص رهيب, سفينغالي.
وفجأة قهقه شتيرنر قهقهة حادة.
- لماذا تضحك؟
- هكذا, لا شيء. تذكرت أمراً مضحكاً ... سفينغالي كلب.
ثم وجه نحوها مجدداً نظرة مركزة وقال:
- انسَيْ سفينغالي! وهكذا ما الذي قرأتِهِ؟
- لم أقرأ شيئاً.
- تهيأ لي أنك تحدثت عن رواية ما؟
- أنا لم أقرأ أي رواية.
- هل عزفت؟
- لم أعزف منذ فـترة طويلة.
- لنذهب كي تعزفي لي شيئاً ما, فأنا لم أسمع موسيقا منذ زمن بعيد ...
ذهبا إلى القاعة, فجلست إلزا وراء البـيانو وبدأت تعزف لحن "الربـيع" لغريغ. وقالت بصوت خافت وهي تعزف:
- هذا الشيء يذكرني بمينتون. الأمسيات الهادئة... والقمر الذي يبزغ من وراء البحر... رائحة الأزهار الأنبوبـية… كم كنا سعيدَيْنِ آنذاك, في الأيام الأولى!
- والآن هل أنت غير سعيدة؟
- نعم, لكن … أنا أراك قليلاً جداً. وأنت أصبحت عصبـياً ومتعباً جداً. لقد فكرت: لماذا هذه الثروة؟ وهل يلزم الكثير كي تكون سعيداً؟ وفكرت بالذهاب إلى هناك, إلى الشواطئ اللازوردية للعيش بـين الأزهار, وكي أثمل من الشمس والحب.
وفجأة ضحك شتيرنر مجدداً ضحكاً حاداً ورناناً.
- كي نقـتني بستاناً ونملك قطيع ماعز. فأكون أنا الراعي وأنت الراعية الحسناء. بول وفرجينيا … وعنزة بـيضاء محبوبة ذات جرس فضي معلق بشريطة سماوية. وأكاليل من الأزهار الحقلية النامية عند الساقية. حياة مسالمة رغيدة!.. لودفيغ شتيرنر في دور راع طيب لقطيع من الماعز! ها - ها - ها!.. من المحتمل أنك محقة يا إلزا. فالهموم المرتبطة بقطيع من ذوات الأربع أقل من الهموم المرتبطة بذوي القدمين. انسَيْ مينتون يا إلزا! ينبغي نسيان كل شيء والسير إلى الأمام. أعلى فأعلى. إلى هناك, إلى حيث النسور. وأعلى من ذلك ... كي نبلغ السحاب, فنسرق النار المقدسة من السماء أو ... نقع في الهاوية ونتحطم. اتركيها! لا تلعبي لعبة الحياة المسالمة الحلوة هذه. إلعبي شيئاً ما عاصفاً. اعزفي مقطوعة شوبان النارية "البولينيز" . اعزفي لليست. اعزفي عزفاً تتصدع فيه الملامس وتتقطع الأوتار.
أذعنت إلزا لكلماته, وعزفت بقوة تفوق قوتها مقطوعة "بوليشينيل"(6)) لرحمانينوف. وبدا كأن روح شتيرنر المتمردة قد سكنتها.
سار شتيرنر في القاعة بخطوات كبـيرة وهو يطقطق أصابعه بعصبـية.
- هكذا!.. هو هكذا!.. أن أحطم. أن أكسر!.. هذا ما أريده!.. أنا الوحيد في العالم, والعالم ملكي!.. الآن الوضع جيد ... يكفي يا إلزا ... ارتاحي!..
أرخت إلزا يديها وهي منهكة القوى وتتنفس بصعوبة. وقد فقدت وعيها تقريباً بسبب التوتر الخارق للطبـيعة. تأبط شتيرنر يدها وقادها إلى الحديقة الشتوية, ثم أجلسها.
- ارتاحي هنا. حتى جبـينك يتصبب عرقاً.
ثم مسح جبـينها بمنديل الأنف, وأصلح خصلات شعرها المتهدلة.
- ماذا تكتب إيما؟ هل استلمت منها رسالة منذ فترة طويلة؟
تنشطت إلزا قليلاً.
- نعم, نسيت أن أخبرك. استلمت منها بالأمس رسالة كبـيرة.
- كيف حال صحتها؟
- أفضل, لكن الأطباء يقولون إنه ينبغي أن تبقى في الجنوب مدة شهرين إضافيين. وطفلها سليم أيضاً.
- وهل لزمتها رسالة كبـيرة كي تخبرك عن هذا؟
- إنها تكتب كثيراً عن زوجها. وتشتكي أن خلق زاوير أخذ يسوء, فقد أصبح كئيباً سريع الغضب. ولم يعد يعيرها ذلك الانتباه. وإيما تخاف أن يبدأ حبه لها بالبرود ...
استمع شتيرنر إلى خبر إلزا هذا بفضول قلق. وبدا وكأن حب زاوير لإيما يهمه أكثر من حب إلزا لـه شخصياً. استغرق شتيرنر في التفكير وعبس, ثم همس بصوت خافت:
- غير معقول!.. هل يعقل أنني أخطأت في حساباتي؟ المسافة ضخمة ... لكن هذه خطيئة ... كلا! غير ممكن!.. يجب التأكد ...
وفجأة نهض بسرعة دون أن يعير إلزا أي انتباه, وخرج مستعجلاً من الحديقة الشتوية دون أن يودعها.
- لودفيغ, إلى أين أنت ذاهب؟ لودفيغ! لودفيغ!
تلاشت الخطوات المبتعدة في الصالة الكبـيرة.
أرخت إلزا رأسها ونظرت إلى الأسماك السابحة في الحوض وهي مستغرقة في التفكير. تحركت الأسماك دون صوت في المكعب الزجاجي الأخضر وهي تلوح بأذيالها الطرية وتفـتح أفواهها. وعامت على السطح فقاعات صغيرة تلمع مثل قطرات الزئبق.
- وحيدة من جديد!..
8 - منطقة الذعر
زار النائب العام بشخصه كرانتس في سجنه الذي أراده لنفسه. وقد رغب في معرفة تفاصيل الهجوم الفاشل على شتيرنر. بدأ النائب العام الحديث مستعطفاً:
- اسمع يا كرانتس: لقد كنت دائماً موظفاً مثالياً. قل لي ما الذي حدث عند شتيرنر, ولماذا أخضعت نفسك للسجن الانفرادي.
وقف كرانتس منتصباً وقد تهيأ, لكنه لم يتأثر بالموعظة.
- أنا مجرم ولهذا أنا أسجن نفسي. ولا أستطيع الكلام عن فحوى جريمتي. من حقي رفض الإدلاء بشهادتي. يمكنكم محاكمتي!
- لكن كيف سنحاكمك إذا كنا لا نعرف ما هي جريمتك؟
- وما علاقتي بالأمر؟ سأبقى في السجن الاحتياطي إلى أن تعرفوا. إذا قال كرانتس "لا" فهذا يعني "لا". القضية منتهية ولن نتحدث. لكني أنا السجين, أملك شكوى ضد نظام السجن.
سأل النائب العام مهتماً:
- وما الأمر يا كرانتس؟
- فظاعة! قدموا على الغداء حساء البورش. غرفت بالملعقة فالتقطت قطعة من اللحم تزن نحو مئتي غرام, وعلى سطح البورش طبقة من الدهن. إذا بدؤوا في السجون يطعمون بمثل هذا البورش, فإن الناس الشرفاء أيضاً سيصبحون قطاع طرق. اختلال في النظام. وأعلن لكم أيها السيد النائب العام إعلاناً قطعياً أنني سأبدأ إضراباً عن الطعام إن لم تتردَّ نوعيته, وليكن هذا بعلمكم! أو كما يحدث هنا, على سبـيل المثال: يرافق الخفراء المجرمين من الزنزانات المنفردة إلى المرحاض الموجود في نهاية الممشى عوضاً عن وضع وعاء. هل هذا نظام؟ من المحتمل أنهم يتقاعسون عن إخراج الأوعية, فأرغب أنا في الهروب بسبب هذا ويردونني عند محاولتي الهرب ... لذلك ... أرجو اتخاذ الإجراءات من أجل التنفيذ المنتظم للائحة النظام الداخلي في السجن!
فتح النائب العام فمه أيضاً من التعجب.
الحقيقة أنه لم يتعجب من قطعة اللحم التي تزن مئتي غرام ومن الدهن في حساء البورش, فقد عرف النائب العام جيداً أن السجناء الآخرين لا ينتشلون قطع اللحم من الحساء السائل النتن. لكن من طلب تخفيض نوعية الطعام! إذ لم يحصل سابقاً أن سمع النائب العام مثل تلك الطلبات.
فكر النائب العام: "المسكين , لقد فقدَ عقله تماماً بعد زيارته لشتيرنر"
ثم قال تحدوه الرغبة أن يكون ليناً قدر المستطاع:
- أرجوك رجاء حاراً يا كرانتس أن تحدثني عن كل شيء بوصفي الرفيق الأكبر. فنحن عملنا طويلاً جداً معاً. أعطني إفادة ما على الأقل.
- أعطيك إفادة؟ أ هذا ما تريده؟ إذا قام المجرمون بتقديم الإفادات, فما الذي سيبقى لنا لنعمله نحن رجال التحري؟ هل سنجول في العالم؟ تريد أن تبقينا عاطلين عن العمل؟ كلا, لن أقوم بأي سفالة ضد رفاقي. دعهم يكشفون جريمتي ليحصلوا على الجائزة!
صُعق النائب العام بهذا المنطق المفاجئ, وتكدر بسبب الفشل. لاحظ كرانتس هذا وبدا أنه أصبح يشفق على النائب العام, فنقب في جيوبه واستخرج من هناك قطعة نقدية فضية صغيرة, وناولها للنائب العام كما يناول الشحاذ.
- هذا كل ما يمكنني تقديمه إليك!
مد النائب العام يده على نحو آلي وأخذ القطعة النقدية, ثم نظر إليها بارتباك.
- ضمها إلى الأدلة المادية. نقود محصلة بطريقة إجرامية ...
كانت هذه قطعة النقود التي استلمها كرانتس من شتيرنر "حلواناً".
ابتعد النائب العام بصمت وهو يدوِّر بـين أصابعه الدليل المادي وفكر: "يا لـه من عامل قيِّم فقدناه! وكله بسبب شتيرنر! هل يعقل أننا لن نتمكن من القضاء عليه؟".
لوَّح النائب العام بـيده فقط, واسترخى على المقعد بقنوط عندما سأله أعضاء اللجنة الذين انتظروه بفارغ الصبر عن نتيجة زيارته لكرانتس.
سأل وزير الداخلية:
- ما العمل؟ هل يعقل أن شتيرنر لا يقهر؟
نهض قائد المنطقة العسكرية الذي دعي "الجنرال الحديدي", وهو عجوز ناحل نشيط ذو شاربين كثين مثل شوارب العرفاء, وأخذ يتحدث فجأة بصوت جهوري وشاب لعمره:
- ما العمل؟ أنا سأقول لكم ما العمل. سنعلن حرباً حقيقية على شتيرنر. اعذرني, أنا العجوز, أيها السيد الوزير. لكن لا بد أن أعصابكم أنتم المدنيـين ضعيفة جداً. أرسلتم زوجاً من الشرطة فأضاعوا القضية, وها أنتم أولاء تتحدثون عن مناعة أحد الأنذال, الذي لم يكد يشم رائحة البارود بعد.
بدأ "الجنرال الحديدي" يصرخ, كما لو أنه قد قاد جيشاً مليونياً في ساحة المعركة:
- هاكم ما ينبغي عمله. أعلنوا حالة الحصار في المدينة. طوقوا مبنى إلزا غليوك بحلقة متراصة من أرتال الجنود, وقوموا بالانقضاض عليه, نعم بالانقضاض. وانقلوا المدفعية تحسباً لكل طارئ. وإذا لم يفلح هجوم المشاة لسبب ما, وهذا ما لا أفترض حصوله, فسنمحو المبنى كله عن وجه الأرض. لم يسبق لأحد أن نجح في تضليل الشظايا والقنابل. هاكم ما ينبغي أن نعمله, لا أن نصاب بالذعر!
أدخل خطاب "الجنرال الحديدي" الحماسي دفقاً من النشاط والحيوية.
تعالت أصوات منفصلة ضد مشروع الجنرال, لكن معارضتها لم تكن ضد جوهر المشروع ذاته.
- يمكن أن تتضرر المباني المجاورة ...
- ما هو ذنب الذين يعيشون مع شتيرنر, زوجته على الأقل ...
أجاب الجنرال:
- لقد قلت إن الأمر لن يصل إلى القصف بالقنابل على الأرجح, لكن لو حصل ذلك, فإنه لا توجد حرب من دون ضحايا. ومن الأفضل أن يموت عدة مئات من الأشخاص بدلاً من الدولة كلها.
- ألا ينبغي تحذير المواطنين على الأقل وترحيلهم؟
- لا يجوز! تحذيرهم يعني تحذير العدو. من الأفضل ألا نؤجل هذه القضية. اليوم مساء إذا حصلت على موافقتكم, أنا سأقود عساكري القناصة, وسنرى ما الذي سيفعله هذا الذي لا يقهر!
قال وزير الحربـية:
- لكن فقط من دون نيران المدفعية!
- لماذا؟
- لأنها يمكن أن تدمر ليس شتيرنر فقط, وإنما سلاحه أيضاً. وهو ... يمكن أن يفيدنا نحن أيضاً.
وافق الجميع على ذلك.
عرض "الجنرال الحديدي" خطته أمام اجتماع الأركان المنعقد في ضواحي المدينة:
- أمامنا مهمة ليست سهلة, فنحن مقيدون بتوجيهات الحكومة بألا نستعين بنـيران المدفعية. ولدي أمر باعتقال شتيرنر حياً, وقتله إذا كان ذلك غير ممكن, لكن مع المحافظة على حصانة المبنى بكل ما يوجد فيه من أدوات. نحن نتعامل مع عدو غير عادي, وعلينا أن نخوض الحرب في مركز المدينة, ومع ذلك فإن تكتيك حرب الشوارع يكاد لا يكون قابلاً للاستخدام هنا. فأي حرب شوارع هي هذه الحرب, عندما لا نستطيع تلمس العدو ومكامن ضعفه؟ وفيما لو تمكنّا من النفاذ بسلامة إلى المبنى فإننا هناك فقط سوف نصطدم بشتيرنر, وسيكون هذا ... إحم... هذا سيكون "حرب منازل". وأول شيء ينبغي أن نهتم به هو إزالة أي إمكانية لهروب شتيرنر. ثم, نحن نعرف أن شتيرنر يصدر أشعة, أو يوجهها ضمن قطاع معروف, أو يسيطر بوساطتها على محيط محدد. زد على ذلك, أن أشعته وسندعوها سلاحه, لا تؤثر على الجميع التأثير ذاته, كما هو مرئي. كل هذا يجبرنا على توزيع قوانا على جميع منطقة المعركة, ويرغمنا على امتلاك احتياطي. فليتحرك المشاة في الشوارع إلى مكان المعركة بشكل كتلة متراصة. فإذا أصيبت الصفوف الأولى, ولنقل إنها اندفعت إلى الوراء مذعورة, فإن الصفوف الخلفية ينبغي أن تشدد الهجوم, وأن تحوِّل بالقوة المفارز الطليعية إلى الأمام. وهكذا, من المحتمل أن نتمكن من الوصول إلى مبنى شتيرنر ذاته. ومن يعلم, فمن الجائز أننا بهذه الطريقة قد نجدهم في "المنطقة الميتة", خارج "نطاق الرمي" كما هو الحال في معارك المدفعية. أنا سأرافق المفرزة الطليعية.
قال الياور كورف:
- هذا سيكون تهوراً شديداً من جانبكم, يا صاحب السعادة.
أجابه الجنرال بحدة كبـيرة:
- أيها السيد العقيد, اسمح لي شخصياً بأن أحدد موقعي في ساح الوغى. وأشدد من أجل الوضع الحالي.
أمسك الياور عن الجواب وهو الذي اعتاد على فظاظات الجنرال, واكتفى بأن احمر بكثافة.
تابع الجنرال:
- أنا شخصياً أعرف أن هذه مخاطرة. لكن كل حرب هي مخاطرة وليست لعبة دومينو. وكي أقود المعركة يجب أن أعرف سلاح العدو. يجب أن أجرب على نفسي تأثير "النار" المعادية, كي أتأكد هل هي مميتة بالنسبة للمقاتل الصلب, مثلما هي بالنسبة للخامل الضعيف الأعصاب.
حل الصمت. ووقف ضباط الأركان متجهمين. قطع الياور هذا الصمت الثقيل. كان يعرف أن النقاش مع الجنرال العنيد غير ممكن. مخطط الهجوم هذا كله, لم يعجب الياور. هجوم "برفقة جنرال على حصان أبـيض في المقدمة" يذكر باللوحات الزيتية المبتذلة القديمة. لكن لم يكن باليد حيلة. بقي التفكير بالنتائج فقط.
في الساعة الثانية عشرة ليلاً تحركت فصائل الجنود بعتادها الحربي الكامل من مختلف أقسام المدينة متجهة إلى شارع المصرف وساحة البورصة. وذهب مع مفرزة الطليعة "الجنرال الحديدي" ذاته ممتطياً حصاناً عربـياً رائعاً ذا لون ذهبي.
- كل الجيش ضد واحد, والأنكى من ذلك أنه مدني!.. هذا عار, لكن فليأخذه الشيطان, وجود هذا العار أفضل من هلاك البلد!
عبر الجنرال الشارع الملاصق لساحة البورصة. كان مبنى إلزا غليوك يطل على هذه الساحة بجانب واحد, وعلى شارع المصرف بالجانب الآخر.
قال الجنرال وهو يحدق بانتباه إلى مبنى إلزا غليوك الظاهر ويهمز الحصان:
- سنرى ما الذي سيغنّيه لنا!
نقل الحصان العربي الأصيل قوائمه الدقيقة نقلاً جميلاً ومضى إلى الساحة, لكنه شخر فجأة دون سبب ظاهر وضم أذنيه ثم ارتد بجسمه فوراً إلى الوراء وجسده يرتجف كله. ارتبك الجنرال. فما الذي أخاف آبريك وهو الذي لم يخفه حتى هدير المدافع؟ ربت الجنرال على رقبة الحصان ثم قال وهو يهمزه:
- ما لك يا آبريك. هل تتغابى؟
في هذه المرة, ما إن وطئ آبريك الساحة حتى شب واستدار على قائمتيه الخلفيتين واندفع إلى الوراء. وأحس الجنرال ببرودة الرعب تسري في كل ظهره في تلك اللحظة التي استدار فيها الحصان وتجاوزت فيها قائمتاه الخلفيتان لبرهة العلامة الفاصلة بـين الشارع والساحة. ووقف آبريك على بعد عدة عشرات من الأمتار عن الساحة.
تمتم الجنرال:
- يا لها من شيطنة؟
وفجأة تملكته تلك الثورة من الغضب والغيظ التي كانت تنتابه في أكثر الدقائق خطورة. أدار الجنرال الحصان نحو الساحة وغرز المهاميز بكل قوته في جنبـيه. لف آبريك رأسه وهو الذي لم يعتد على تلك المعاملة القاسية, وضم أذنيه وانطلق نحو الأمام برمَح كامل السرعة, ثم عدا إلى داخل الساحة بتسارع, وهنا شخر شخيراً مخيفاً, وقام بتلك القفزة الجانبـية بحيث سقط الجنرال عن الحصان مثل المقطوع, وهو أفضل فارس في كل الجيش, لكن بدا أنه لم يلحظ حتى ذلك, فقد كان وعيه وأعصابه وكل كيانه مهزوزين برعب غير طبـيعي وخارق للطبـيعة مثلما كان لدى الحصان. ولم يعد إلى وعيه إلا في الطريق, الذي سحبه إليه آبريك وهو يجره من قدمه المشتبكة بالركاب فقط. وكانت فصائل المشاة قد اقتربت من هذا المكان.
فكر الجنرال: "شاهدوني!.. يا لـه من عار!.."
ثم نهض ونفض عنه الوسخ, وقال للياور الذي اقترب وهو يكظم ارتباكه:
- لا بأس ... لا تقلقوا, ترهات! آبريك اللعين الذي خاف من شيء ما عمل ذلك الملعوب, بحيث أن الشيطان ذاته ما كان سيثبت في جلسته.
لم يتحدث الجنرال عن ذلك الذعر المرعب الذي عاناه شخصياً, كي "لا يخفض الروح القتالية", وكي لا يفتضح افتضاحاً أكبر أيضاً أمام الضباط والجنود.
- هل احتشدت كل القطعات؟
- الجميع في أماكنهم. الأحياء المؤدية إلى الساحة مشغولة وكذلك أفنية المرور ...
- وشارع المصرف؟
- المدخل المؤدي إلى هذا الشارع محتل أيضاً.
- حسناً! انتظروا الإشارة!
تحركت العساكر للانقضاض عندما مالت أقواس الصواريخ المضيئة فوق مبنى غليوك بناء على أمر الجنرال. وهنا حصل شيء غير متوقع.
لم يحدث أن رأى الجنرال مثل ذلك الذعر خلال حياته القتالية الطويلة كلها. وقف الجنرال على عتبة السيارة غير بعيد عن الساحة, وصرخ بصوته الجهوري:
- إلى الأمام! إلى الأمام! سأطلق النار!..
لكن لم يسمعه أحد. وحدث مع الجنود شيء ما غير عادي. تحركوا مسرعين برعب مميت وهم يرمون بنادقهم ويدعس أحدهم الآخر. عم الأنين والصراخ الساحة. شددت الصفوف الخلفية الهجوم, في حين اندفع الداخلون إلى الساحة نحو الوراء ... أعطى الجنرال أمراً بمطاردة الهاربـين. دفعت صفوف الجنود المتراصة التي تسد الطريق طوابـير المقدمة إلى الساحة التي تحولت إلى جحيم يرغي, لكنها امتلأت شيئاً فشيئاً.
وفجأة تدفقت موجة ما جديدة ذات محيط تأثير أكبر, فشمل الذعر العساكر الذين يسيرون في الطريق. أغارت هذه الأمواج مثل نفس جليدي للموت, وتدحرجت عبر الصفوف فتحولت طوابـير العساكر المنتظمة إلى قطيع متوحش من الحيوانات التي جنت. انقض الجنود بعضهم على بعض, فالتجؤوا إلى مداخل وبوابات المباني, ولاقاهم من هناك مواطنون راكضون في ذعر مرعب. ملأ الذعر المنازل أيضاً, فاختبأ الناس تحت الأسرة, وتسللوا إلى الخزانات. ورمى بعضهم نفسه من النوافذ على رؤوس الجنود وحرابهم. أمسكت النساء الأطفال وهنَّ يطلقن زعيقاً وحشياً, وهرعن عبر الغرف كما لو أن اللهب قد أحاط بالمبنى كله. جاشت تدفقات الناس الذين فقدوا عقولهم عبر المماشي وأدراج المباني: بعضهم ركض نحو الأعلى, وبعضهم نحو الأسفل. تزلجوا على الأدراج, وداسوا النسوة والأطفال الذين وقعوا. وأكثر الأشياء هولاً كان أن أحداً لم يعرف سبب الذعر, وأن أحداً لم يعرف ممن ينبغي الهروب. لكن تدريجياً تشكلت حركة في اتجاه واحد ضمن هذا السيل المتدفق الفوضوي, ربما لأن جنود الصفوف الخلفية الذين لم تصلهم موجة الذعر بعد , قد أخذوا يركضون إلى الوراء بعد أن شاهدوا منظر الهيجان العام, فكان أن جرّوا الآخرين خلفهم. تزايد نمو دفق الحركة المعاكسة هذا, وبدا كأن الناس قد وجدوا طريق النجاة, فأخذوا جميعهم يركضون في اتجاه واحد بتلك السرعة الجنونية, كما لو أن آلاف الرشاشات قد تعقبتهم.
وبعد أن ركض ثلاثة شوارع شاهد الياور "جنراله الحديدي", وهو الشخص الذي لم يعرف الخوف. كان الجنرال دون خوذة, يرتدي سترة رسمية ممزقة. عيناه مخبولتان, وهو يثب فوق صدور الأجساد المرتمية, ويشق طريقه بقبضتين ضخمتين.
تزايد اتساع "منطقة الذعر الواقية", كما دعيت لاحقاً هذه الظاهرة, وشملت أيضاً المبنى الذي اجتمعت فيه لجنة الإنقاذ الاجتماعي, فهرب أعضاء اللجنة وكل الحكومة.
لم يهدأ الذعر إلا عند الصباح, لكن اللجنة لم تتجاسر على العودة إلى المدينة.
فُقِدت العاصمة وتبقى إنقاذ البلاد, لكن لم يؤمن بذلك أحد تقريباً. وعندما بحث أعضاء اللجنة بعضهم عن بعض, عُقِد مجلس حربي في الضيعة المجاورة.
كان "الجنرال الحديدي" منسحقاً تماماً بسبب الفشل وعانى يأساً كاملاً. قال:
- الحراب عاجزة أمام الشيطان.
وخفض رأسه بقنوط.
انتصر شتيرنر. كان يستطيع التصرف بالبلاد وفق رغبته متفوقاً على أي طاغية في العالم.
9 - "مساعدة رفاقية"
تابعت الدول الأجنبـية باهتمام نتيجة صراع الحكومة الألمانية مع شتيرنر. لم يخف المصرفيون الفرنسيون والإنكليز غبطتهم عندما حمل البرق والراديو خبر إفلاس وهلاك أكبر المصرفيين الألمان, منافسيهم في السوق المالية العالمية.
قال المصرفيون الأجانب وهم يحصون أرباحهم المستقبلية:
- ممتاز! شتيرنر حاذق!
لقد رأوا في شتيرنر رجل مال محظوظاً إلى حد غير عادي. لكنهم كانوا واثقين أنه سيسقط في نهاية المطاف, كما سقط في وقت ما اتحاد ستينيس الاحتكاري الذي نما مثلما تنمو كائنات الخميرة.
نما جبروت شتيرنر متجاوزاً كل التوقعات وكل مقياس. ولم يعرف تاريخ الرأسمالية صعوداً سريعاً وخارقاً مثل ذلك الصعود الذي صاحب هذا النابليون المالي. لقد اتقدت فوقه "شمس أوستيرليتس" أكثر فأكثر, لكن لم تكن هناك علائم تدل على "واترلو" التي اقتربت.
أخذت تتسرب أكثر فأكثر, وأقوى فأقوى شائعات عن أن نجاح شتيرنر يعود إلى أسباب ما غير عادية, وأن في حوزته وسيلة ما سرية للتأثير على الأشخاص, الذين يجردهم من إرادتهم ويخضعهم لنفوذه, فيجعل منهم ألعوبة بـين يديه.
وعندما سار شتيرنر على طريق الصراع مع الحكومة, بدأ يتقلقل بتوجس ليس المصرفيون الأجانب فقط وإنما رجالات الحكومات.
أحدثت هزيمة "الجنرال الحديدي" وهروب الحكومة انطباعاً صاعقاً في كل العالم الدبلوماسي.
واحد ضد الجميع! واحد ضد الدولة! دون جيش ومدافع ودون طلقة واحدة, وقد خرج منتصراً من الصراع !..
لم تعد الدول الأجنبـية تقبل البقاء متفرجة سلبـية فترة أطول, وتوجب عليها تحديد موقفها من المغتصب.
حجبت مسألة شتيرنر في فرنسا مؤقتاً مسائل السياسة الداخلية والحروب الاستعمارية أيضاً. وقد خصصت لأحداث ألمانيا اجتماعات خاصة مغلقة لمجلس الوزراء ومجلس النواب, وارتدت هذه الاجتماعات طابعاً عاصفاً. وفي آخر المطاف اتخذ قرار بأغلبـية الأصوات, وهو الاعتراف بضرورة المشاركة في الصراع ضد شتيرنر من حيث المبدأ, وعرض المساعدة على ألمانيا, لكن التحرك الفعّال سيكون فقط بعد أن تؤمِّن فرنسا نفسها ضد الجانب الإنكليزي.
تعاملت إنكلترا مع الأحداث في أوربا بهدوء أكبر, على الرغم من أنها راقبت بانتباه مجرى الصراع ضد شتيرنر. وأقر مجلس الوزراء الإنكليزي وحدة الرأي بسرعة نوعاً ما:
- لقد أضعفت الحرب الأوربـية ألمانيا بما فيه الكفاية, والانهيار اللاحق لألمانيا يمكن أن يخل بالتوازن الأوربي. ووفقاً لرأي مجلس الوزراء فإن شتيرنر لا يمثل خطراً مباشراً على الدول الأخرى في الوقت الحالي. ومن المحتمل أن حبه للسلطة لا يذهب بعيداً إلى ذلك الحد. فإذا ارتأوا رأياً آخر في فرنسا فهذا شأنهم, لكنه لا يجوز السماح لفرنسا أن تنفرد بتدخلها في قضايا ألمانيا الداخلية, حتى لو كان ذلك بموافقة الأخيرة. إضافة إلى ذلك, وعلى الرغم من أن شتيرنر مغتصب للسلطة, لكن كما يبدو فإنه مدير اقتصادي غير رديء. ينبغي النظر إليه كيف يدبر الأمور. والنتيجة المستخلصة من كل هذا هي: ينبغي أن نـقترح على فرنسا التريث في تدخلها, فإذا أظهر شتيرنر نية للتدخل في شؤون الدول الأجنبـية أو مس مصالحها, عندئذ يتم التدخل شراكة مع فرنسا.
استدعى هذا الجواب المبلغ لفرنسا السخط بـين العسكريين الذين نادوا بكرامة الأمة, وقالوا وهم يطالبون بالتدخل الفوري من أجل البرهنة على استقلال السياسة الفرنسية على الأقل فقط:
- لا يجوز أن نسير دائماً وراء حجج إنكلترا!
ومع ذلك فقد اعترضت عوائق ذات خواص دبلوماسية طريق التدخل المباشر. فالحكومة الألمانية لم تستعجل لأخذ يد المساعدة هذه, إذ إن مخاوفها من أن "المساعدة المخلصة" من جانب فرنسا ستكلفها غالياً جداً لم تكن دون أساس.
زد على ذلك أن الحكومة الألمانية لم تفقد الأمل بعد بالقضاء على شتيرنر بقواها الذاتية. فما زال "الجنرال الحديدي" يتمتع بهيبة كبـيرة في الدوائر العسكرية والوزارية, على الرغم من نتيجة المعركة الفاشلة, وهو معارض حازم للتدخل الأجنبي.
فقد قال:
- ما الذي سيعطيه لنا هذا التدخل غير الذل الجديد والضرائب الجديدة؟ لقد اقترحت على المجلس العسكري استخدام المدافع البعيدة المدى, كي نزيل الوكر الملعون عن وجه الأرض… لكنهم عارضوني بالقول من المحتمل أن يؤدي هذا إلى هلاك لا طائل منه لعدة آلاف من السكان المسالمين الأبرياء. مثل هذه العواطف مضرة! من الأفضل أن نعرض عدة آلاف للهلاك من أن نعرض كل الدولة!
قاطع وزير الحربـية خطاب "الجنرال الحديدي", وهو الذي حسد في نفسه شعبـيته:
- ليس هذا فقط يا صاحب السيادة. فالباعث الحاسم الذي أرغمنا على رفض استخدام نيران المدفعية كان التصور الذي قدمته أنا, بأننا عند تدمير مبنى غوتليب حتى أساساته بالمدفعية الثقيلة فإننا سندمر مع شتيرنر اختراعه أيضاً. وهو ... من المؤسف تدميره! لو تمكنا من امتلاك سلاح شتيرنر, أوهو!
حتى إن الوزير قد أغلق عينيه على نحو حالم.
- لكان بإمكاننا تصفية حسابنا مع فرنسا, ولكان بإمكاننا تدمير جميع أعدائنا. نحن ...
أجاب "الجنرال الحديدي" محتداً:
- أ كنا سنحكم العالم؟ توقفنا عند شيء صغير: الإمساك بشتيرنر حياً. أنا حاولت, فليجرب الآخرون!
وبعد مناقشات طويلة اتخذ قرار بمهاجمة شتيرنر بأسلحة ثقيلة بعيدة المدى.
لم يستطع "الجنرال الحديدي" إخفاء ابتهاجه عندما أطلق المدفع الضخم البعيد المدى من فوهته الرهيبة قذيفة يعادل طولها قامتين بشريتين, فشقت الهواء محدثة ضجيجاً هائلاً وهي تنطلق في اتجاه العاصمة. كانت هذه الضربة المدوية عذبة مثل سيمفونية بالنسبة إليه فقهقه:
- أوهو! إنها تطير! تفضل, أيها السيد شتيرنر. أجبر هذه الهدية على الحيدان عن طريقها. والآن نيران البطاريات! بسرعة قبل أن يثوب إلى رشده هناك, إذا لم يكن قد انتقل إلى السماء.
بدا كأن الأرض انهارت. لم يستطع الجنود الوقوف على أقدامهم من ارتجاج الهواء. وقف "الجنرال الحديدي" فقط ووجهه يشع مثل إله الحرب. بدا كأنه أصبح أكثر ارتفاعاً. وتجمعت التجاعيد حول عينيه في ضحكة مرحة وخبـيثة. ثم صرخ:
- نار!
لكن لم يسمعه أحد على الرغم من صوته الجهوري, فقد امتنعت طبلات الآذان المرتجة عن التقاط وقع الأصوات البشرية الضعيف.
لوح الجنرال بيده بفارغ الصبر مشيراً إلى الأسلحة.
انشغل الطاقم بالتحضير للطلقة التالية, لكن رجال المدفعية انحنوا فجأة ووقفوا دون حراك في أماكنهم, كما لو أنهم قد أنهكوا.
صرخ "الجنرال الحديدي":
- ماذا بكم؟ نار!
لم يتحرك الجنود.
هرع "الجنرال الحديدي" نحو واحد منهم وشده من كتفه, لكن كما لو أن الجندي لم يلحظ هذا.
أخذ "الجنرال الحديدي" يشتم محتداً ويخبط الأرض بقدميه. وجمَّدت وعيه فكرة أن شتيرنر حي, وأنه قد استخدم سلاحه الخفي.
تنشط رجال المدفعية كذلك دونما توقع, وأخذوا فجأة يديرون أسلحتهم المنتصبة على منصات دائرية إلى الجهة المعاكسة. لم يحصل سابقاً قط أنهم أنجزوا هذا بتلك الدقة والتلقائية والسرعة.
لم يكد الجنرال المصعوق يثوب إلى رشده حتى كانت المدافع قد أديرت, ودوَّت طلقة واحدة فثانية فثالثة ... لم يهدأ الإطلاق حتى استُنفد كل احتياطي القذائف, التي طارت الواحدة إثر الأخرى حاملة الموت إلى المدن المجاورة وإلى السكان المسالمين.
لم يعد "الجنرال الحديدي" يصرخ, ولم يقلق. لقد فهم كل شيء. فهم أن لا طائل من أوامره أمام هذه القوة المجهولة, التي كبَّلت إرادة الجنود. سحقه وعيه بالكارثة وصعقه. وشعر أنه مكبَّل بالقوة المجهولة هو ذاته. تهاوى على الأرض منهوك القوى, وخفض وجهه الممتقع إلى الأسفل, وعندما سكنت الطلقة الأخيرة وحلَّ الهدوء الرنان, سحب الجنرال المسدس من الجراب وصوبه إلى صدغه.
انتزع أحد ما المسدس من بـين يديه.
قال الياور:
- عيب, يا صاحب السيادة!
تابع الجنرال جلوسه, كما لو أنه لم يلحظ هذا أيضاً. ونظر ببلادة إلى الأرض. تقلَّب الجنود الساقطون حوله من شدة الإنهاك مثل الجثث.
حل المساء. وتحرك الهلال بـين سحب الغيوم عبر السماء التي لا تزال مضيئة, لكن الناس لم يشاهدوا الهلال ولم يسمعوا زقزقة الطيور في الغابة المجاورة. لقد كانوا أنصاف موتى.
الياور فقط كان لا يزال ناشطاً. حتى إنه وجد في نفسه القدرة كي يرسل برقية للحكومة عن نتيجة المعركة من محطة لاسلكية متنقلة, على الرغم من أنه كاد ألا يكون حاجة لذلك, فالقذائف المتساقطة على المدن والقرى أشاعت بنفسها خبر الكارثة.
قال الياور بصوت خافت:
- فظاعة ...
وجلس غير بعيد عن الجنرال على كرسي نقال, ودخن سيجارة وهو ينظر بشرود إلى السماء.
وفجأة استرعت انتباهه نقطة عند الأفق, كانت تارة تظهر وأخرى تختفي بـين الغيوم. وقد حددت عين الياور الخبـيرة سريعاً أنها طائرة محلقة, وأنها تطير على ما يبدو إلى برلين مباشرة. وتبعتها أخرى وثالثة. سرب كامل.
فكر الياور: "طائرات من تكون هذه؟ نحن لم نعط الأوامر لطيارينا … أمن المحتمل أن وزير الحربـية قد تصرف لدى علمه بنتيجة المعركة؟ لكن إرسال الناس إلى هلاك محتم بعد ذلك سيكون جنوناً ..."
ثم اقترب من الجنرال دون أن ينهي أفكاره ولمسه من كتفه بحذر.
- يا صاحب السيادة!
تذكر الجنرال فجأة:
- نعم, نعم ... انتهى كل شيء! لماذا انتزعت المسدس مني يا كورف؟ أعطني إياه. على كل حال أنا لن أجتاز حياً هذا العار.
- يطير نحو برلين سرب من الطائرات يا صاحب السيادة.
- سخافة ... هراء ... يتراءى لك.
- تفضل انظر!
كان هدير الطائرات قد سمع بوضوح وسط هدوء المساء.
أدار الجنرال رأسه بتعب:
- يا للشيطان! حقاً! يا للعبث! هذا ما كان ينقص أيضاً. استفسر بالراديو من يكونون؟
أرسل الياور برقية لاسلكية, لكن لم تجب أي طائرة.
بدأ الجنرال يشتم فقد تنشط.
فكر الياور مبتسماً: " وأخيراً عاد إلى رشده!"
شفي الجنرال بسرعة, وانتفض كله بطريقة ما كما لو أنهم أسالوا عليه دوشاً بارداً منعشاً.
- لديك عينان فتيتان يا كورف. لمن هذه الطائرات. هل تراها؟
كانت الطائرات قريبة جداً, لكنها طارت على علو شاهق, زد على ذلك أن العتمة حلت سريعاً بسبب السحب المتكاثفة. تهيأت عاصفة للحدوث فوق مكان الفرقة. واشتدت الريح فهزت الطائرات, لكن يبدو أنها قاومت الهواء مقاومة جيدة لأن يداً خبـيرة تقودها.
- من الصعب التمييز ...
- أنيروا الطائرات بالكشافات.
وبعد عدة دقائق غمرت أشعة الضوء الساطعة الطائرات, فتسلح الجنرال والياور بالمناظير.
قال الجنرال:
- إما أنه يتهيأ لي, أو ...
- لا يتهيأ لكم. أنا أرى بوضوح تام ... هذه طائرات أمريكية.
- الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.
واسترخى الجنرال بتثاقل على الكرسي, ووضع المنظار على ركبتيه, ثم نظر إلى الطائرات المبتعدة وسأل الياور:
- هل تفهم ماذا يجري؟
تابع كورف النظر من خلال المنظار وهز كتفيه.
- إنها على ما يبدو تسلك الطريق إلى برلين ... هذا يعني أمريكا.
- لكن كيف؟ ولماذا؟
- يبدو أن الريح ستحرفهم جانباً إلى حد ما.
كان تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية في الصراع ضد شتيرنر غير متوقع, ليس فقط بالنسبة "للجنرال الحديدي" ولكن بالنسبة لكل أوروبا أيضاً.
فبـينما كانت مباحثات دبلوماسية تجري بـين الحكومات الأوربـية, اتخذ قرار سريع في واشنطن التي تابعت كل ما يجري بانتباه.
لم تستطع أمريكا البقاء دون مشاركة. فضلاً عن ذلك فإن عمل شتيرنر التخريبي خفض القدرة على الدفع لدى واحد من المدينين الأوربـيين. لقد حسبت واشنطن قبل وزير حربـية ألمانيا أيضاً كل تلك النتائج التي يمكن أن تحصل, إذا استطاعت الحكومة الألمانية بعد قضائها على شتيرنر ذاته الاستحواذ على أداة صراعه. وقد ثمَّنت أمريكا قبل الجميع قيمة هذه القوة الجبارة الجديدة. وإذا كان حصول أمريكا ذاتها على هذه القوة صعباً, فإنه ينبغي تدمير سلاح شتيرنر معه ذاته, كي لا يقع سره في أيد أخرى. ويكون أفضل كلما فُعِل ذلك أسرع. لكن كيف؟ لقد استحوذت التقنية الأمريكية لدرجة كبـيرة على قدرة التحكم بالطائرات لاسلكياً, فكانت تستطيع الطيران لمسافات كبـيرة دون طيارين, وفقاً للاتجاه المحدد في مكان الانطلاق, وإلقاء القذائف المتفجرة ذات القوة التدميرية الكبـيرة آلياً على مكان محدد مسبقاً. الشيء الوحيد الذي لم يكن قد انتهى بعد هو آلية الحصول على صورة كامل مسار الطيران من الطائرات المحلقة, كي يجري تتبع التحليق طوال الوقت وتصحيحه. لكن اعتبر تأجيل التدخل إلى حين الانتهاء من هذه الأعمال مخاطرة. وبدا أن دقة الآليات والخرائط الجغرافية الحربـية المنشأة بإتقان تستطيع تأمين النجاح ... وفهمت أمريكا باكراً أيضاً, أنه يمكن منازلة شتيرنر فقط بآليات مسيرة دون أشخاص ومن مسافة بعيدة عنه. الحقيقة أن المحيط الأطلسي والطريق الممتد عبر أوربا من الشاطئ الغربي لفرنسا كانا كبـيرين جداً. وكانت التيارات الهوائية على ذلك الامتداد الكبـير تستطيع تغيير التحليق الأصلي للطائرات, بغض النظر عن كل "المقومات" الآلية. لهذا كان من الضروري إرسالها في مسارها من أراضي فرنسا على أبعد تقدير. لكن كانت تلزم موافقتها على ذلك, تماماً مثلما كانت تلزم موافقة ألمانيا أيضاً على هذا الهجوم على برلين. لم يشكل الحصول من الدوائر الدبلوماسية الأوربـية على الجواب المطلوب صعوبة تذكر بالنسبة للدوائر الدبلوماسية الأمريكية.
وقد أُرسلت من الحكومة الأمريكية إلى فرنسا وألمانيا حول هذا الموضوع مذكرات مفعمة بالاحترام, مصوغة بأكثر أشكال المجاملة الدبلوماسية لباقة. وفي الوقت ذاته أرسلت مع المذكرات المحترمة تنبيهات قصيرة لكن قوية, حول السداد الفوري لدفعات الدين الحكومي المؤجلة.
لم يبطئ الجواب. فقد أجابت فرنسا وألمانيا بمذكرات لطيفة مماثلة مع إبداء الموافقة على تدخل أمريكا, وفي الوقت ذاته طلبتا تأجيل السداد باحترام يصل حد الهوان.
وافقت أميركا بسخاء على التأجيل وأرسلت طائراتها. حتى إنها لم تنتظر جواب ألمانيا الذي أبطأ, كما لو أنها كانت واثقة منه تماماً. وحلقت الطائرات الأمريكية التي شاهدها "الجنرال الحديدي" وياوره فوق ألمانيا, في تلك اللحظة عندما كان الوزير قد وقـَّع الجواب تواً فقط.
ومع ذلك فقد خُدعت أمريكا بحساباتها. لقد حرفت العاصفة الطائرات جانباً. واحدة منها فقط رمت القنابل على العاصمة, فأزالت من الأساسات القصر الملكي. فيما رمت بقية الطائرات حمولتها القاتلة على جوار المدينة فأحدثت خراباً عظيماً.
لم يربك الفشل الأمريكيين, إذ أرسلوا سرباً جديداً. لكن الألمان هنا, وقد شاهدوا النتائج المحزنة للإرسالية الجوية, تضرعوا أولاً طالبـين خلاصهم من هذه المساعدة الساحقة, وإضافة إلى ذلك, أرسلوا اعتراضاً حازماً مستغيثين بالرأي العام في أوربا, بعد أن شاهدوا أنهم يفقدون شيئاً. لم تكن أمريكا ستعير هذا الاحتجاج انتباهاً لو لم يتغير الوضع على مسرح العمليات الحربـية.
فمن الواضح أن شتيرنر تابع تطوير سلاحه غير العادي, وقد أرسل فجأة شعاعاً فكرياً موجهاً, اخترق ليس ألمانيا فقط وإنما كل فرنسا أيضاً وصولاً إلى المحيط ذاته.
وعلم جميع من وجد نفسه في منطقة هذا الشعاع بماذا فكر شتيرنر.
"هل أنتم تريدون إعلان حرب عالمية ضدي؟ أنا أقبل التحدي! أسلحتكم تافهة بالمقارنة مع سلاحي. ولذلك تخلوا عن الصراع . وإذا كان الجنون قد تملككم فسأجعلكم أكثر جنوناً أيضاً. أرسل تحذيري الأخير".
وواضح أن شتيرنر قد أرسل شعاعاً فكرياً جديداً بعد أن غير زاوية الشعاع قليلاً. وجنَّ فعلاً كل من وُجد ضمن هذا الشعاع في ألمانيا وفرنسا. شمل الخبل العنيف حتى طاقم وركاب الباخرة العائمة عند الشاطئ الفرنسي, فارتمى الناس نحو الأمواج أثناء جنونهم, وفجَّر الوقادون المراجل فغرقت الباخرة . وامتلأت مستشفيات الأمراض النفسية. المخبولون بعنف هاموا على وجوههم في الشوارع, وانقضوا على المارة مثيرين الذعر, فحصلت ضرورة لإطلاق النار على عدة أشخاص من شديدي الخطورة والقوة.
عاشت أوربا كلها حالة ذعر. وساد في واشنطن مزاج من الإحباط غير المعتاد. وقد ترك عدة مهندسين أمريكيين من المشاركين في البعثة التي وقعت تحت تأثير أشعة شتيرنر والذين جُلبوا من فرنسا انطباعاً مكرباً. فلأول مرة عانت أمريكا من مثل هذه الضربة الحساسة لعزة النفس الوطنية, خصوصاً أنها كانت موجهة لأعظم دولة من قبل شخص واحد, إضافة إلى أنه أوربي.
وحدثت ضرورة لإيقاف العمليات العسكرية مؤقتاً, فارتاح شتيرنر من ذلك التوتر الضخم الدائم الذي وجد ضمنه أثناء "المعارك".
10 - بحثاً عن سلاح مكافئ
عاشت عائلة زاوير في أوسبـيداليتي غير بعيد عن مينتون قرب شاطئ البحر المتوسط.
كان لدى إيما أساس للشكوى من زوجها في رسالتها الموجهة لإلزا. كان أوتو زاوير في الفينة الأولى لوصولهما حنوناً جداً ومبدياً الاهتمام بزوجته المريضة. كان يحملها على يديه بنفسه إلى الشرفة الواسعة, ويجلسها بعناية في المقعد, ويجلب الطفل في العربة. جلسا أياماً هكذا يتمتعان بالبحر اللازوردي, ويتابعان بأعينهما المراكب العابرة واليخوت الخفيفة الأنيقة والطائرات المائية المحلقة على امتداد الشاطئ مصدرة هديرها. لم يتكلم أحدهما مع الآخر تقريباً, لكن هذا الصمت كان صمتاً خفيفاً لأناس سعداء. وفي أحيان نادرة كانت إيما تمد يدها لزاوير وهي تبتسم بسعادة, فيشد عليها ولا يتركها تخرج من يده.
أثرت الشمس الجنوبـية على صحتها تأثيراً نافعاً, فعاد التورد إلى خديها سريعاً, وازدادت قوتها, حتى إنها نهضت على قدميها بعد ثلاثة أسابـيع. لكن سعادة الشفاء سرعان ما أخذت تتعكر, لأن زاوير بدأ يتعامل مع زوجته ببرودة متزايدة . لم تعد تجد لدى استيقاظها باقة طازجة من القرنفل المرشوش بالماء وبنفسج نيس والورد الأحمر القاني العطر على الطاولة قرب سريرها. وتزايدت ندرة جلسات زاوير معها على الشرفة. أصبح صمتهما ثقيل الوطأة, إذ لم يعد يقرّبهما وإنما زاد الشقة بـينهما.
كانت إيما تسأل باكتئاب وهي ترى زاوير ينهض:
- هل أنت خارج؟
فيجيبها بفظاظة:
- لا أستطيع المكوث هنا طيلة اليوم.
ويذهب إلى غرفته أو إلى خارج المنزل.
وفي إحدى المرات دخلت غرفة زوجها فجأة فصادفت ذلك المشهد:
كان زاوير يجلس قرب طاولة المكتب وقد فتح درجها, وينظر بحزن وحنان إلى صورة إلزا.
وكما لو أن إبرة دقيقة اخترقت قلب إيما فاحمرت, وأرادت الخروج دون أن يراها, لكن زاوير شاهد خيالها في المرآة الكبـيرة. وتلاقت نظراتهما. فازداد تعكر إيما أكثر. أما زاوير فقد عبس وارتسم الشر على وجهه, ثم رمى الصورة إلى داخل الطاولة وخبط الدرج. وقال بهياج دون أن يلتفت وهو ينظر إلى خيالها في المرآة:
- ماذا لديك وراء هذا السلوك في اقتحام الغرفة عندما أكون ... أعمل؟
- المعذرة يا أوتو. فأنا لم أعلم ...
وخرجت بهدوء من الغرفة.
أصيب قلب إيما الصغيرة بجرح, فانسلت إلى غرفتها وبكت طويلاً وهي تنحني فوق مهد الطفل.
- يا ولدي المسكين, يا طفلي الصغير!
بكت وهي تقبل رأس الطفل بحذر, فسقطت عدة دمعات على شعره.
لم تنم في المساء وفكرت. فكرت ... كان هذا السلوك غير عادي أبداً بالنسبة لإيما الصغيرة. فكرت وهي تلوي يديها:
- هاكم لماذا تبردت عواطف أوتو تجاهي. إنه يحب واحدة أخرى. وإلزا هي الأخرى! هذا طبـيعي تماماً. لقد أحبا أحدهما الآخر. كيف استطعت نسيان ذلك؟ لماذا وافقت أن أصبح زوجة زاوير؟ لماذا تزوجني زاوير إذا كان يحب إلزا؟ ولكنه أحبني أيضاً, إذ لا يمكنه خداع قلبي. وإلزا؟
كان كل هذا صعباً جداً بالنسبة لإيما. فقد انهالت الأفكار الغليظة والأسئلة غير القابلة للحل عليها مثل انهيار ثلجي جبلي, فسحقت فوراً زهرة سعادتها الرقيقة.
بكت ذارفة دموعاً لا حول لها, وهمست بـيأس:
- أوتو, أوتو!
هل تناضل؟ هي لم تخلق للنضال.
وعند الصباح اتخذت قرارها: أن تكتب لإلزا تلك الرسالة ذاتها التي أقلقت شتيرنر أكثر مما أقلقت إلزا.
أوحت الغريزة النسائية لإيما بنبرة الرسالة الصحيحة, إذ لم تذكر في الرسالة أي كلمة عن حادثة الصورة. واكتفت فقط بتقاسم مصيبتها مع إلزا كما تتقاسمها مع صديقة. وعلى نحو نصف واع نصبت إيما بهذه الرسالة مصيدة لمنافستها, آملة أن تلك سوف تكشف نفسها بطريقة ما إذا كانت مستمرة في حب زاوير.
انتظرت إيما جواب إلزا بفارغ الصبر, وقد استلمته أخيراً.
لم تطاوعها يداها عندما فضَّت المغلف. تجمَّد قلبها وتقافزت الأسطر أمام عينيها, لكن ما إن قرأت الرسالة حتى تنهدت بارتياح.
- كلا, إلزا لا تستطيع الكذب!
صبَّرت إلزا إيما, وأكَّدت أن أوتو سيعود حنوناً مجدداً تجاه "خادرته الصغيرة". وأهم شيء هدَّأ إيما أن إلزا قد كتبت أكثر عن نفسها, وعن حبها لشتيرنر, وعن سعادتها, وعن هواجسها ... لقد عبَّرت بصراحة عن قلقها من أن مظهر شتيرنر أصبح سيئاً, وأنه مجهد وعصبي للغاية. اطمأن قلب إيما. لا بل أضحكتها نهاية الرسالة, فقد كتبت إلزا:
"لن تعرفي شتيرنر الآن. لقد أرخى لحيته فأصبح شبيهاً براهب ناسك ..."
- أتخيله! هو ذا غول ما!
فرحت إيما, لكن زاوير أرغمها سريعاً ومجدداً على الاستغراق في قنوط لا مخرج منه.
أصبح زاوير أكثر حدة وفظاظة مع إيما بعد حادثة صورة إلزا. صار يأتي إلى الشرفة الآن عندما تكون إيما جالسة هناك كي يرى ابنه فقط, دون أن يعيرها انتباهاً. كان زاوير يجلس قرب عربة الأطفال ويبدأ بملاعبة الطفل.
تابعت إيما زوجها بقلق وتصيَّدت نظراته, لكن أوتو لم يلاحظها. كانت تعتزم الكلام أحياناً:
- لقد كتبت إلزا أن منظر شتيرنر يبدو سيئاً وأنه مجهد جداً.
أجاب زاوير عبر أسنانه:
- العالم سيربح فقط إذا فطس هذا الحيوان.
تعجبت إيما من تغير زاوير الحاد تجاه شتيرنر, فهو لم يستطع سماع اسمه الآن. لكن إيما لم تقرر سؤاله عن سبب هذا التغير. وجلسا صامتين.
بطريقة ما تراءى لإيما أن مزاج زاوير حسن. فقد كان أهدأ من المعتاد على أقل تقدير. وحلق سرب من الطائرات فوق البحر.
سألت إيما فجأة:
- لماذا لا تسقط الطائرات, يا أوتو؟
أجاب زاوير:
- كم أنت حمقاء, يا إيما. المدهش, كيف أنني لم ألحظ هذا سابقاً!..
امتقعت إيما من الكدر والضيم, وأجابت بصوت يرتجف من الدموع:
- وماذا في ذلك, يمكنك تركي. سآخذ أوتو الصغير وأذهب.
- تفضلي! لن أمسكك. لكني لن أعطيك ابني!
ثم أصلح الغطاء فوق الطفل وخرج.
اقتربت إيما من الطفل دون أن تكبت دموعها وانحنت فوقه.
- هل يعقل أنني سأفقد هذا أيضاً؟
صرَّ الرمل تحت أقدام شخص ما على الطريق.
- هل أستطيع رؤية السيد زاوير؟
مسحت إيما وجهها الشاحب بالمنديل باستعجال والتفتت. وقف أمامها شاب في بذلة صيفية بـيضاء وشعر أحمر ونمش على الوجه.
فكرت إيما: "أين شاهدت هذا الوجه؟"
- أ لم تعرفيني؟ يبدو أننا تقابلنا.
- آخ, نعم, نعم. السيد غوتليب!
- رودولف غوتليب. لم تخطئي.
أخرجت الأصوات زاوير فانحنى غوتليب.
- علي أن أتحدث معك يا سيد زاوير بشأن قضية هامة جداً.
ذهبا إلى غرفة المكتب فابتدأ غوتليب:
- آمل أنك تعرف كل أحداث الفترة الأخيرة من خلال الجرائد.
أجاب زاوير:
- أنا لا أقرأ الجرائد.
رفع غوتليب حاجبـيه باستغراب:
- لكن كل العالم يتحدث عن ذلك!
احتار زاوير قليلاً. فهو لم يقرأ الجرائد إطلاقاً منذ لحظة وصوله إلى الريفييرا, كما لو أنه نسي وجودها. لماذا؟ هو ذاته لم يعرف هذا. وقد أجبره سؤال غوتليب الآن على الاسترسال شخصياً في التفكير.
أجاب زاوير كي يشرح الغرابة بطريقة ما:
- أردت أن أرتاح. يوجد في الجرائد شيء ما دائماً. شيء يزعج أو يشوش ... كل هذه المشاحنات السياسية ...
- علي في هذه الحالة أن أبـيّن لكم وضع الأشياء. فالقضية تدور ليس حول المشاحنات السياسية, ولكن حول الخطر الذي يهدد البلاد بأكملها, ومن الجائز أن يهدد العالم كله.
حدث غوتليب زاوير عن الحرب غير العادية بـين لجنة الإنقاذ وشتيرنر, وعن الهزيمة المشينة "للجنرال الحديدي".
استمع زاوير بانتباه متزايد مقاطعاً المتحدث أحياناً بشتائم فظة موجهة لشتيرنر.
وعلى ما يبدو فقد أعجبت هذه الردود غوتليب جداً, فقال منهياً الحديث:
- أنا مسرور للغاية لأنك مثلي, على ما يبدو, قليل الانحياز لشتيرنر. كل واحد منا يملك أسبابه كي يكره شتيرنر. لكنك عملت معه وكنت يده اليمنى. أنا أعترف أنني تخوّفت من أن تكون ما زلت إلى جانبه حتى الآن. وعندئذ ما كانت مهمتي ستتكلل بالنجاح ... أنا مرسل من قبل اللجنة - لقد كانت هذه فكرتي بالذات - لكني أملك صلاحيات ... يتهيأ لي أنك الشخص الوحيد الذي يمكن أن يكشف سر تأثير شتيرنر غير العادي على الناس. سر تلك القوة التي يتمتع بها. أكثرية العلماء يميلون في الوقت الحالي إلى أن شتيرنر قد استحوذ على سر إرسال الأفكار عبر المسافات. لكن سر هذا الإرسال لم يكتشف. وإذا أنت أردت ... فإنه باستطاعتك تقديم خدمة كبـيرة لنا ... والمكافأة ...
نهض زاوير وتمشى في الغرفة باضطراب.
- مكافأة؟ إسقاط هذا الوحش شتيرنر هو أفضل مكافأة لي!
فكر زاوير بإلزا في هذه اللحظة. وتذكر حكاية الأميرة التي وقعت في قبضة ساحر شرير. وشتيرنر هو هذا الساحر. أما هو زاوير فإنه الفارس الذي ينبغي أن يحرر الأميرة من السحر. يحرر! لكن كيف؟
- كنت سأساعدكم عن طيب خاطر, يا سيد غوتليب, لو كنت أعرف شيئاً ما مؤكداً. الحقيقة تقال أنني أملك تخمينات فقط. وحسبما أعرف فإن شتيرنر قد مارس نشاطاً علمياً في حقل دراسة الدماغ وإرسال الأفكار إلى بعيد قبل التحاقه بخدمة عمكم المرحوم. وأجرى التجارب على الحيوانات, وقد رأيت بنفسي أن الحيوانات قامت بالعجائب. أنا شخصياً أعتقد ...
صمت زاوير كما لو أنه تردد, ثم تابع:
- أن عمكم, كارل غوتليب, قد مات ميتة غير طبـيعية … فهذا الكلب الذي ارتمى تحت أقدام العجوز لحظة اقتراب القطار, كان يستطيع العمل بإيحاء من شتيرنر, حتى لو لم يكن موجوداً في هذه اللحظة.
نهض رودولف غوتليب, ثم مدَّ رأسه إلى الأمام, وتنفس بصعوبة من الاضطراب وصاح:
- لقد اعتقدت دوماً أن قضية الإرث تخفي جريمة! لكن لماذا لم تفصح عن شكوكك أثناء المحاكمة؟ وأكثر من ذلك, لقد دافعت عن مصالح إلزا غليوك في المحكمة ...
ضغط زاوير كتفيه:
- أعتقد أنني, مثل جميع المحيطين بشتيرنر, كنت تحت تأثير هذا الإنسان الرهيب. أنا لست عالماً, ولا أعرف بأي طريقة يوحي شتيرنر بأفكاره إلى الناس. لكني أعتقد أن سلطته محدودة بنطاق تأثير معروف. أنا أحكم على ذلك, لأنني هنا فقط بعيداً عنه, شعرت كيف أصبحت أتحرر تدريجياً من تنويم مغنطيسي ما, إذ "تزول مغنطة" تلك الشحنة التي من الواضح أنني تلقيتها قبل مغادرتي. أو أن شتيرنر لم يصل بعد إلى إمكان التأثير من مسافات كبـيرة. أو أنه قام أثناء مغادرتي بإيحاء ذي قوة غير كافية لي, فضعف مع مرور الزمن.
قال غوتليب:
- أنت محق. لكن شتيرنر يتطور باستمرار على ما يبدو, إذ إن دائرة تأثيره وقوتها ومداها في تزايد. ومن يعلم, فمن الجائز ألا نكون في مأمن هنا غداً.
ارتعش زاوير:
- مجدداً؟ هل سأقع مجدداً تحت سلطة هذا الشخص؟ هل سأصبح ألعوبة بـين يديه؟ كلا, من الأفضل أن أهرب إلى طرف العالم! والأفضل أيضاً إبادة شتيرنر. فأحرر نفسي والآخرين!
- إذا كان هذا كذلك, إذا كان سر نجاح شتيرنر في هذا, فإن النضال ضده ممكن فقط بسلاح مكافئ. ومن سيعطينا إياه؟
صمتا. فكر زاوير بشيء ما, ثم قال:
- نعم, أنت محق. النضال ممكن فقط بوجود سلاح مكافئ. خطرت لي فكرة الآن. لا يمكن أن يكون شتيرنر وحده فقط هو من انشغل بحل مسألة إرسال الأفكار عن بعد. ينبغي البحث بـين العلماء ...
قال غوتليب:
- لقد بحثنا, وتوجهنا إلى العلماء العاملين في هذا المجال. لكن عددهم قليل جداً. لقد استفهمنا من أحد العلماء الإيطاليين فأجاب بأن ما يقوم به شتيرنر لم يصل إليه العلم المعاصر. إما أن شتيرنر عبقري في هذا المجال وسبق الآخرين, أو أن شيئاً ما آخر هنا.
- لكن ليس الإيطالي وحده ...
- حصل لي أن قرأت عن تجارب عالم آخر أيضاً. والحقيقة أنه لا يحمل حتى لقب بروفيسور.
سأل زاوير بسخرية:
- ولهذا فأنت لم تستعن به؟
- أعترف ...
- وهل شتيرنر يستعبدنا بنير لقبه البروفيسوري؟ ينبغي إيجاد هذا العالِم من كل بد! لا يجوز إهمال أي فرصة.
وقال زاوير بعد أن فكر قليلاً:
- ولا يجوز إفلات أي دقيقة. وهكذا سأذهب معك, وسنبحث عن هذا العالِم لنستمع إلى ما سوف يقوله لنا. نعم, شيء آخر أيضاً, لقد عاش شتيرنر في فيلا بمينتون, وهي قريبة. ينبغي إلقاء نظرة هناك إن كان قد خلف وراءه أثاراً ما.
تأهب زاوير للرحيل بسرعة, وقال بعد أن قابل زوجته على الشرفة:
- إيما, أنا سأسافر.
سألت إيما بقلق:
- لمدة طويلة؟
- لا أعرف, لكني أعتقد أن المدة طويلة.
وودعها ببرود, ثم خرج بسرعة برفقة غوتليب.
لم تعرف إيما هل تبكي لأن زاوير غادرها, أم تفرح لأنه لم يحرمها من الطفل.
تسلل زاوير, الذي يملك وكالة من شتيرنر, إلى فيلا إلزا غليوك دون عقبات, وعاين بانتباه كل المسكن.
وجد في إحدى الغرف الفارغة تقريباً قطعة ضخمة من خليطة معدنية. وتناثرت على الأرض قطع من لولب سلكي وحطام عوازل خزفية وأطراف توصيل ومشابك.
قال غوتليب وهو يرنو إلى كتلة المعدن المصهورة:
- عمل دقيق! شتيرنر قادر على إخفاء الأدلة. من الواضح أن جهازاً ما قد انتصب هنا. لكن كيف تمكن من صهر كل المعدن دون أن يحرق حتى الأرض؟
- وماذا في ذلك. لا يوجد ما يمكننا فعله أكثر هنا يا غوتليب. لنذهب للبحث عن سلاح ضد السمّ. أين يوجد عالِمنا الذي لا يحمل شهادة؟
- في موسكو.
11 - المخترع الموسكوفي
بعد شهر دخل زاوير وغوتليب إلى فناء الجب الموجود في تفيرسكايا - يامسكايا غير بعيد عن بوابات النصر. تجمعت الأبنية ذات الطبقات الست بإحكام حول الساحة المزفتة. ترددت أصوات الأطفال الذين يلعبون لعباً مدوياً بـين الحيطان العالية.
قال غوتليب وهو يستعرض أرقام الشقق عند باب الدخول إلى المبنى:
- يبدو أنه هنا. هيا يا زاوير, ما دام كل شيء يسير سيراً حسناً.
تذمر زاوير وهو يتنفس بصعوبة:
- تفو, ليأخذه الشيطان, متى سينتهي هذا الدرج؟ يا للعجب, كيف يستطيع هؤلاء الناس العيش دون مصعد؟ ما هو رقم الشقة؟
- التاسعة والعشرون.
- هذه هي الخامسة والعشرون, إذاً إلى الطبقة الأخيرة.
قال غوتليب:
- لا بأس, الجولة مفيدة لك. فأنت تمتلئ بسرعة كبـيرة يا زاوير.
وضغط الزر.
خابت آمال زاوير مما شاهده عندما دخل أخيراً غرفة كاتشينسكي, إذ لم يتطابق أثاث الغرفة ولا حتى المخترع ذاته مع ما صوَّره زاوير لنفسه.
كان ينتظر مشاهدة غرفة مكتب مطمورة ومحجوبة بمختلف الآلات وبتلك الفوضى التي تميز المخترعين. ولم يذكره مسكن كاتشينسكي بمخبر لفاوست معاصر. كانت هذه عبارة عن غرفة صغيرة ذات نافذة إكليلية عريضة. انتصبت أمام النافذة طاولة مكتب كبـيرة مع آلة كاتبة. وتوضَّعت آلة أخرى على طاولة صغيرة ملاصقة للجانب الضيق من طاولة المكتب. كانت الآلتان, إحداهما للأحرف الروسية والثانية للأحرف اللاتينية, وكذلك رسم صغير لمحرك هوائي وفق نظام فليتنير معلق على الحائط قرب الطاولة, هي المؤشرات الوحيدة غير الواضحة على طبـيعة أعمال مالك الغرفة.
عُلِّقت فوق الأريكة العريضة ذات النمط التركي نسخة غير سيئة من لوحة لغريوز تصور فتاة ذات تعابـير بسيطة المكر في عينيها, وهو ما يميز "غريوز". نظر زاوير إلى هذا الرأس وصعَّر خديه. تذكر إيما. فقد قارنها بفتيات غريوز عندما وقع هكذا فجأة في حبها.
عُلِّق منظران طبـيعيان إلى جانب رأس غريوز. وتوضَّع على طاولة صغيرة منفصلة تمثال صغير من حديد الزهر, يمثل واحدة من مجموعات أحصنة كلود المنتصبة في لينينغراد على الجسر القديم العهد.
أكملت الأثاث نملية صغيرة, وخزانة ذات مرآة, وطاولة في منتصف الغرفة مفروشة بسماط نظيف, وعدة كراسٍ منجدة بالجلد ذات مساند عالية.
وجدت عليها كلها آثار النظافة والأناقة. وهذا ما حيَّر زاوير أيضاً. فعندما تجلس في هذه الغرفة يمكن أن تتخيل أنك موجود في برلين أو ميونيخ وليس في موسكو أبداً.
لقد تخيل المخترع الروسي تخيلاً مختلفاً تماماً. فهذا الجنس من الناس, حسب رأي زاوير, يجب أن يتميز بملامح خاصة. لكن وقف أمام غوتليب وزاوير شخص لا يزال شاباً ويبدو متواضعاً, ذو شعر فاتح ممشوط إلى الخلف, عيناه فاتحتان ووجهه ناعم الحلاقة, أنفه مستقيم وخطوط شفتيه مرسومة وكأنها منحوتة. كان يرتدي قميصاً مخملياً ذا لون بني داكن وبنطالاً ذا تفصيلة خيَّال محشوراً في جزمة ذات ساقين ضيقـتين.
وقفت إلى جانبه زوجته في قميص أبيض محتفية ومرحبة.
فكر زاوير: "ألم نخطئ نحن؟"
لكنهما لم يخطئا. عرَّف الضيفان بنفسيهما, وسرعان ما انعقد حوار حار.
فكر زاوير: "من الجائز أن هذا الشخص أيضاً يملك تلك القوة الجبارة مثل شتيرنر, لكنه يعيش ويـبدو بتلك البساطة! هل يعقل أنه لم يشعر بإغراء كي يستخدم هذه القوة لمصالحه الشخصية مثل شتيرنر؟ كي يصبح غنياً إلى حد غير عادي وجباراً. أم أن الناس يفكرون ويشعرون هنا على نحو مختلف حقيقة؟"
سعى زاوير للحصول على إجابة على الأسئلة التي تهمه بطريقة غير مباشرة فالتفت نحو زوجة كاتشينسكي وابتسم مازحاً:
- أخبريني, أ ليس مرعباً لك أن يكون لكِ زوجاً كهذا الذي يستطيع الإيحاء للآخرين بكل ما يريده. لك على سبـيل المثال؟
رفعت كاتشينسكايا حاجبـيها مندهشة:
- لماذا؟ ما الذي يستطيع إيحاءه لي خصوصاً؟ لم تخطر هذه الفكرة على بالي إطلاقاً. عنده مَخبَر من أجل التجارب.
ابتسم كاتشينسكي, فقال زاوير وقد ارتبك قليلاً:
- ومع ذلك فهذه القوة خطرة.
أجاب كاتشينسكي:
- مثل كل قوة أخرى. لقد اخترع نوبل الديناميت كي يسهل عمل الإنسان في صراعه ضد الطبـيعة, وليفجر حجر الغرانيت. لكن الإنسانية جعلت من هذا الاختراع أكثر أسلحة الإبادة هولاً. فلم يبق لنوبل المغموم إلا أن يؤسس جائزة للسلام من "عائدات الديناميت", كي يكفِّر جزئياً على الأقل عن خطيئته غير المقصودة أمام الإنسانية. وشتيرنر ليس استثناء في هذا المجال. لقد استخدم هذه القوة الجديدة لأغراضه الفردية فقط.
وتابع كاتشينسكي:
- يتعلق كل شيء بأيدي من توجد البلطة. أحدهم يقطع بها الحطب والآخر رأساً بشرياً. ولقد جرى التنبؤ بخطر ذلك الاستخدام قبل أن يرمي شتيرنر بتحديه للمجتمع. عندما أصبحت تجاربي الأولى معروفة للجمهور الواسع, ألحَّ عليَّ مباشرة بالأسئلة ضيقو العقل القلقون. قدِمَت إليَّ بعض النسوة وأكَّدن أن ناساً أشراراً يعرضنهن لإيحاء من بعيد. هؤلاء التعيسات طلبن مني بقنوط إنقاذهن من "السحر الشرير". قالت لي إحداهن إن طلاباً ما من جامعة خاركوف "يشحنونها" بتيارات كهربائية, بحيث أنها عندما تمر بالقرب من أعمدة الإنارة الحديدية فإن شرارات تطير منها محدثة فرقعة.
وقالت: عندما أسير منتعلة جرموقاً وقبعة حريرية لا يحدث الشرار. فماذا أفعل؟ أستلقي لأنام فأشعر كيف تملؤني الأمواج الكهربائية وأسمع صوتاً "أنت الآن تحت سلطتنا!".
نصحتها أن تتغطى بغطاء حريري, وأن تمسك بـيدها مادة معدنـية موصولة بأنابـيب التدفئة: تأرَّضي كما في المستقبل اللاسلكي.
وأكَّدت لاحقاً أن هذا قد ساعدها. فما إن "تأرَّضت" حتى "انعطف" التيار وذهب إلى الأرض فنامت بهدوء.
ما الذي كان باستطاعتي فعله أيضاً؟ كان هؤلاء مرضى عصبـيين أو نفسيين ببساطة.
هدد بعض الرجال بقتلي إذا شرعت باستخدام اختراعي.
صرخ واحد منهم: "أنا لا أرغب أن تحشو دماغي بأفكارك!"
قال غوتليب وهو يرغب في نقل الحديث بسرعة إلى أرضية عملية:
- وهم محقون في مخاوفهم. فالرعب الذي يزرعه شتيرنر حول نفسه ...
قال كاتشينسكي:
- نعم, نعم, أنا أيضاً توقعت هذه الإمكانية, ولهذا فإنني منذ البداية عملت في اتجاهين: اتجاه كيفية تطوير إرسال الأفكار عبر المسافات, واتجاه كيفية حماية الناس من الأذى الذي تسببه.
سأل غوتليب مهتماً:
- وماذا إذاً. هل نجحت في هذا؟
أجاب كاتشينسكي:
- أعتقد أنني سأحل المسألة.
قال زاوير:
- اسمح لي أن أطرح سؤالاً. كل العالم يتحدث الآن عن إرسال الأفكار عن بعد. لكن يا لخجلي, فأنا لا أعرف فيمَ تكمن القضية هنا, ولماذا اكتشف الناس الآن فقط فجأة ذلك الذي كان يجب أن يوجد دائماً على ما يبدو؟
تنشّط كاتشينسكي أما غوتليب فقد تنهد دون رضا, وفكر: "ستُستَعرَض النظرية الآن , في حين يجب العمل".
- القضية باختصار تتلخص كما يلي: تستدعي كل فكرة من أفكارنا مجموعة من التغيرات في أصغر جزيئات الدماغ والأعصاب. وتترافق هذه التغيرات بظواهر كهربائية. فالدماغ والأعصاب تشعّ أثناء العمل أمواجاً كهرطيسية خاصة تنتشر في كل الاتجاهات, تماماً كما تنتشر الأمواج اللاسلكية.
- لكن لماذا لم نستطع التخاطب فكرياً أحدنا مع الآخر حتى الآن؟
- هذه الأمواج الكهربائية ذات استطاعة صغيرة, زد على ذلك أنها ذات طبـيعة خاصة. ولهذا تُسَجل في الوعي الآخر الفكرة المُشَعّة من شخص ما فقط في تلك الحالة عندما تصل هذه الفكرة إلى دماغ ذي توليف مماثل, إذا جاز التعبـير.
- وبكلمة, إذا استطاع الدماغ "المستقبل" استقبال موجة بالطول ذاته الذي ترسل عليه "محطة الإرسال" أي الدماغ المُشِع؟
- صحيح تماماً. وحوادث تلك الإرسالات لوحظت منذ فترة طويلة بــين ناس أقرباء. لكن بما أنه كان من غير الممكن التأكد من هذه الحوادث, والأكثر من ذلك شرحها علمياً, فإن العلم نفاها ببساطة أغلب الأحيان, وخصوصاً أن هذه الأحداث المحيرة قد استخدمها مُحَضِّرو الأرواح و "المتخاطرون عن بعد " والتيوصوفيون وغيرهم من المتصوفين, الذين يحاولون باستخدام هذه الوقائع غير المفسرة علمياً البرهنة على وجود "الروح", التي يمكنها أن تظهر نفسها بمعزل عن الجسد.
توقف كاتشينسكي ثم تابع:
- واحدة من هذه الحوادث "الغامضة" دفعتني شخصياً لأن أنشغل بمسألة إرسال الأفكار عن بعد.
قال زاوير:
- هذا ممتع!
استدار غوتليب على الكرسي وقد نفد صبره.
- جرت القضية في تفليس. مَرِضَ صديقي بحمى من النوع الشديد, وكنت غالباً ما أزور المريض. في إحدى المرات رجعت من عنده في وقت متأخر من الليل. أطفأت النار واستلقيت في السرير. دقّت الساعة الثانية. وبعد دقات الساعة سمعت صوتاً بوضوح تام ... كما لو أن أحداً ما قد قرع بالملعقة عدة مرات طرف قدح من زجاج رقيق. فكّرتُ وأنا أشعل الضوء: "القطة". لكني بعد معاينة الغرفة لم أجد لا قطة ولا حتى أي مادة زجاجية من التي كان بإمكانها التصويت عند الارتجاج. لم أعط قيمة لهذه الحادثة وسرعان ما غفوت.
وفي الصباح عندما دخلت منزل صديقي رأيت تلك الململة الخاصة التي قالت لي كل شيء دون كلام. لقد مات صديقي في هذه الليلة. كانت جثته لا تزال مستلقية في السرير, فأخذت أساعدهم في إبعاده وسألت:
- متى مات؟
أجابتني أمه:
- في تمام الساعة الثانية ليلاً.
اصطدمت ساقي بالمنضدة التي يوجد عليها الدواء وأنا أقترب من السرير. استدارت الملعقة الموجودة في القدح الكبـير المصنوع من زجاج رقيق, فسمعت صوتاً معروفاً.
فكرت بحيرة: "أين سمعته؟ أمسِ ليلاً. لا يوجد أدنى شك أنه ذلك الصوت نفسه". وسألت أم صديقي كيف مات ابنها.
"في تمام الساعة الثانية ليلاً قرَّبت ملعقة الدواء من شفتيه. حرَّكهما بضعف فقط, لكنه لم يستطع الشرب. وضعت الملعقة في الكأس وانحنيت فوقه. فكان ميتاً".
أرغمتني هذه الحادثة على التفكير معمقاً. طبعاً, أنا لم أُسلِّم إطلاقاً بوجود أي شيء خارق للطبـيعة. لكن بماذا كان يمكن عندئذ تعليل هذه الحادثة؟ قرأت في ذلك الوقت منهاجاً لمحاضرات حول اللاسلكي في واحدة من المدارس. فأنا, كما هو محتمل أن يكون معلوماً لديكم, مهندس كهربائي من حيث المهنة. وأول فكرة التمعت في ذهني, أوحت إلي بأن ظاهرة إرسال الصوت الغريبة ينبغي أن تكون من الصنف الكهربائي ومشابهة للإرسال اللاسلكي. ألم يشع دماغ صديقي الذي كان يموت الأمواج الكهربائية التي وصلت إليَّ؟ وبدأت بدراسة عمل الدماغ والأعصاب هنا في موسكو. ويا لعجبي, فقد وَجدتُ سلسلة من التشابهات الغريبة جداً بـين بنية الجملة العصبـية والدماغ وبـين تصميم المحطة اللاسلكية. فجزيئات الدماغ تلعب دور الميكروفون والكاشف والهاتف. وخيوط الأعصاب الليفية تملك في أطرافها التفافة تُذكِّر تذكيراً عجيباً باللولب الشريطي أي الملف التحريضي. وهاكم التحريض الذاتي. المهم أنه من وجهة النظر الفيزيولوجية, فإن البروفيسور الفيزيولوجي الذي عملت معه لم يكن قادراً على شرح معنى هذا اللولب شرحاً مقبولاً. وهو يحصل على تعليل منطقي تماماً في ضوء التقنية الكهربائية. فمن الواضح أن الطبـيعة قد صنعت هذه الالتفافة الحلزونية لتقوية التيار الكهربائي. بل إنه لدينا في الجسد صمامات راوند, وهي دسامات القلب الإكليلية. منبع طاقة القلب يوافق البطاريات التراكمية. أما جملة الأعصاب الطرفية فتوافق التأريض, وهكذا بدراسة بنية جسم الإنسان من وجهة نظر التقنية الكهربائية, توصلتُ إلى قناعة تامة بأن جسمنا عبارة عن جهاز كهربائي معقد, محطة لاسلكية كاملة قادرة على إرسال واستقبال التموجات الكهرطيسية. هاكم تفضلوا وانظروا الرسم.
- لم يكن من السهل عليَّ البرهنة على وجود الأمواج الكهرطيسية دون جدال. لقد أجريتُ تجاربي في مخبر دوغوف, الذي مارس بنجاح تجاربه في الإيحاء للحيوانات. لقد وضعتُ تجربتي على الشكل الآتي: صنعتُ بـيدي قفصاً من شبكة حديدية كثيفة تنتصب على عوازل. كان يمكن تأريض الشبكة حسب الرغبة. أجلسنا كلباً أمام القفص ودخل دوغوف إليه. عندما لم يكن القفص مؤرَّضاً كان الكلب ينفذ أوامر دوغوف الفكرية بنجاح. لكن كان يكفي أن يؤرِّض غلاف القفص المعدني كي لا يصل أي إيحاء إلى الكلب. وأعتقد أنكم تفهمون لماذا: فالأمواج الكهرطيسية الساقطة على الشبكة المعدنية كانت تذهب إلى الأرض ولا تصل إلى الكلب. وبهذا الشكل حُلَّت المسألة. فقد أثبتُ وجود أمواج كهرطيسية يبثها الدماغ. وتمَّت البرهنة بطرق أخرى على الطبـيعة الكهرطيسية للأمواج الدماغية والعصبـية من خلال أعمال علمائنا: الأكاديمي لازاريف والبروفيسور بـيخفيريوف, وفي إيطاليا البروفيسور كازامالي.
فقد غوتليب صبره نهائياً فقال أخيراً:
- كل هذا ممتع للغاية, لكن لنعترف بأننا لا نهتم بالجانب العلمي قدر اهتمامنا بالنتائج العملية لأعمالكم. لقد تفضلتم بالقول إنه يمكنكم حل مسألة حماية السكان من الاستخدام الإجرامي لوسيلة التأثير الجديدة على الناس. لكنكم لم تحلوا هذه المسألة بعد. وبمختصر القول هل ستستطيعون إزالة ضرر شتيرنر؟
- المسألة بالنسبة إليَّ محلولة نظرياً. لكني لم أقم بالتأكد منها تجريبـياً بعد على مستوى كبـير. لقد اقتصرنا على تجارب إرسال الأفكار إلى الحيوانات من مسافات قصيرة. و "آلتي - الدماغية" قابلة للتحقيق تماماً بالنسبة للتقـنية المعاصرة. فأنا أدرس طبـيعة الأمواج الكهرطيسية التي يبثها دماغ الإنسان, وأحدد طولها وترددها إلى آخر ما هنالك. واسترجاعها ميكانيكياً لم يعد يمثل صعوبة. قوّوها بالمحولات فتجري الأفكار - الموجات مثل الأمواج اللاسلكية العادية, وسوف يستقبلها الناس. آلتي تُبنى وتتألف من هوائي, وجهاز تقوية مع محولات, وصمامات مهبطية, ورابطة تحريضية مع دارة طنينية للهوائي. يمكنكم إشعاع فكرة محددة إلى هوائي "محطتي اللاسلكية المرسلة" وهي ستقوي هذا الإشعاع وترسله عبر الفضاء. هاكم "المدفع" الجديد الذي سنرمي بوساطته شتيرنر.
تنهد غوتليب بارتياح:
- وهل سيمكن استخدام هذا المدفع قريباً؟
- أعتقد أنه يمكن إرسال الطلقة الأولى بعد أسبوعين.
- ممَ سوف تتكون؟
- سوف نباغت شتيرنر, ونوحي إليه بأن يخرج من المنزل وأن يأتي إلينا. وسوف يكون في قبضتنا.
- لكن أين سوف تنصب "مدفعك"؟
- أظن أن علينا أن نذهب إلى أقرب موقع ممكن من هدفنا. أكرر إن المدفع لم يُختبر في تجربة, ولا أضمن تأثيره من مسافة بعيدة.
- لكن أ ليس من الخطر الدخول إلى دائرة تأثير شتيرنر؟ إذ إنه يملك سلاحاً أطول مدى وأكثر كمالاً واختباراً؟
- لا يوجد مخرج آخر. يجب أن نُقدِمَ على المخاطرة.
سأل زاوير:
- ألا يمكننا أن نتزود بعوازل؟ لقد قلت إنك فكرت بوسائل الحماية.
- طبعاً يمكن أن نغطي أنفسنا بشبكة معدنية رقيقة. وسوف تترسب الأمواج الكهربائية التي تشعها أفكار شتيرنر على الشبكة, وستذهب إلى الأرض. سوف لن نتأثر بإشعاعاته, لكن في الوقت ذاته فإن ذلك العزل سوف يُفقدنا نحن ذاتنا إمكانية إشعاع الفكر. الحقيقة أنه باستطاعتنا العمل ميكانيكياً بوساطة "الآلة – الدماغ". لكنني لم أدرس كفاية بعد أمواج الإشعاع الدماغي الكهرطيسية, ولهذا لا بد من المخاطرة بأنفسنا حالياً. أنا سأرسل الأفكار إلى الهوائي دون بذلة عازلة. فإذا ما أحسستُ بتأثير إشعاع شتيرنر عندئذ تطرحون عليَّ الشبكة. أنتم ذاتكم ستكونون في بذات عازلة.
- وماذا لو ذهبنا مباشرة بهذه البذلات الواقية إلى مبنى شتيرنر ونكَّلنا به؟ عسى أنه في هذه المرة لن يجبرني على دغدغته بالشفرة عوضاً عن نحر رقبته؟
- هذا يعني المضي إلى القتل ...
- طريقه إلى هناك!
- ... ليس فقط شتيرنر, لكن أولئك الذين سيذهبون لقتله. شتيرنر طبعاً, سوف يبـيع حياته غالياً. سنحاول القبض عليه حياً. هكذا سيكون أفضل والنصر سيكون كاملاً.
نهض غوتليب, ونهض في إثره كاتشينسكي وزاوير.
بدأ غوتليب:
- اسمح لنا أن نشكرك ...
أجاب كاتشينسكي:
- من غير سبب. اشكروني عندما يصبح شتيرنر في أيدينا.
12 - الحرب الصامتة
جلس شتيرنر خلف الطاولة في غرفة المكتب منكبّاً على الرسوم, وفجأة شعر برغبة لا تقاوم في الخروج من المنزل. وكان قد نهض وتوجه إلى الباب, عندما أجبرته فكرة خطرت بباله على التوقف: ماذا لو أنه هو ذاته قد وقع تحت تأثير إرادة غريبة؟ هل يعقل أنهم كشفوا سره, وأنهم يستعملون السلاح ذاته؟ من الواضح أن تأثيرهم لم يمتلك القوة اللازمة بعد, إذ لم يفقد شتيرنر قدرته على المحاكمة, لكنه شعر بوضوح تام برغبة لا تقاوم في الخروج إلى الشارع. سرت قشعريرة خفيفة في ظهر شتيرنر. سيموت إذا لم يتخلص حالاً من تأثير الفكرة الغريبة! ما العمل؟ كيف ينقذ نفسه؟ وحملته رجلاه لا إرادياً حتى الباب. علقت عند الباب ستارة حريرية, ومرَّت بالقرب منها مشعات التدفئة. مشى شتيرنر خطوة إلى الجانب بقوة إرادة خارقة, وانتزع الستارة الحريرية ثم ألقاها على رأسه, وأمسك بـيديه أنابـيب التدفئة المعدنية, فشعر تواً كيف تناقصت رغبته في الخروج إلى الشارع, وذهبت التيارات الكهرطيسية المرسلة من عدو خفي إلى الأرض بسرعة. تنهد شتيرنر بارتياح, لكن هذا لم يعن النجاة بعد. كان ينبغي التفكير في الوضع الناشئ.
فكر شتيرنر: "يوجد في غرفتي القفص الحديدي الذي عملت فيه تجاربي الأولى. لو تسللت إلى هناك ودخلت إلى القفص وتأرَّضت ... سأختبئ بطريقة ما وهناك سنرى. لكن هل سأنجح في بلوغه راكضاً؟ ألن يحطم العدو نبضة إرادتي حالما أبتعد عن التأريض؟ لو لم يكن هذا اللينيليوم ممدوداً على الأرض أيضاً؟ ليأخذهم الشيطان! لقد بدؤوا الرمي بسلاحي. هذا شنيع. يجب أن أنعزل قبل كل شيء. عندي شبكة معدنية. سيكون ممكناً أن أطرحها على نفسي, وسأصنع فيما بعد بذلة حقيقية. لكن كيف أدركها؟ إلزا! ينبغي استدعاء إلزا.
تشكل بـين شتيرنر وإلزا منذ زمن بعيد ذلك الاتصال الكامل, بحيث كان يكفيه أن يفكر حتى من دون استخدام أي إشعاعات فكرية مقواة, كي تظهر دونما إبطاء. ابتدأ شتيرنر يستدعيها فكرياً, مصوراً بوضوح, كما هو دائماً, كل الطريق الذي يجب أن تجتازه. لكن إلزا لم تأت. فقد أعاق النسيج الحريري الموجود على رأس شتيرنر الإشعاع ...
- اللعنة!
فتح شتيرنر الحرير قليلاً, وعرَّى رأسه نصف تعرية, فأحس في الدقيقة ذاتها برغبة الخروج من المنزل. شد شتيرنر الحرير على رأسه باستعجال, واستغرق في التفكير. ومن خلال شق في النسيج الحريري شاهد بعين واحدة زر جرس كهربائي على الحائط غير بعيد عنه.
- شكراً للمرحوم غوتليب, فقد غرس هذه الأجراس في كل مكان. من الجائز أن أوفق في استدعاء الخادم ... الجرس موجود على مسافة مترين. انزلق بـيده على الأنبوب المعدني, وأخذ يقترب من الجرس. انتهى الأنبوب. قطاع التدفئة اللاحق موجود على مسافة سبعين سنتيمتراً. انحنى شتيرنر وأمسك بـيده اليسرى نهاية الأنبوب, ومدَّ اليمنى إلى أنبوب القطاع التالي, مهتماً في الوقت ذاته بألا ينحدر الحرير عن رأسه. فقد عض أطراف النسيج بأسنانه لأجل ذلك. وهكذا انتقل إلى القطاع اللاحق وضغط الزر وهو يتمسك بالأنبوب.
- ماذا لو أنهم أرسلوا إيحاء للخدم؟ سأهلك ...
تنهد شتيرنر بارتياح عندما ترددت خطوات العجوز هانس الخافقة من بعيد.
دخل هانس إلى غرفة المكتب, ووقف أمام شتيرنر الملتحف بالحرير بوجه رصين لخادم مهذب قادر على إخفاء تعجبه وراء قناع من الاحترام.
قال شتيرنر:
- هانس, يوجد في غرفتي ...
ثم تلجلج, فهو لم يُدخِل أحداً من قبل إلى غرفته. وفكر: "آ , لا وقت لهذا الآن. يمكنني أن أوحي إليه بأن ينسى كل ما سيشاهده هناك".
- يوجد في غرفتي شبكة معدنية. اجلبها إلى هنا دون إبطاء. هاك المفتاح ...
حافظ شتيرنر على الحرير بـيد واحدة, كما لو أنه يحجب عريه بخجل, وسحب المفتاح باليد الأخرى وأعطاه لهانس.
ابتعد هانس بصمت وجلب شبكة معدنية رقيقة.
- ارمها علي!
نفذ العجوز الأمر بذلك المظهر المعتاد, كما لو أنه ألبسه معطفاً.
- أشكرك يا هانس. اذهب الآن ... قف! ألا تشعر بشيء يا هانس؟ بأي رغبات خاصة؟ بالخروج إلى الشارع, على سبـيل المثال؟
- وماذا هناك في الشارع! إذا أردت الحقيقة, يا سيد شتيرنر, فأنا أشعر برغبة في الرقاد... رجلاي المريضتان تطلبان الراحة!..
- وهل ظهرت هذه الرغبة لديك منذ مدة طويلة؟
- نعم, أخذت أحِّن إلى السرير منذ عشرين عاماً.
- اذهب يا هانس!
ذهب شتيرنر بسرعة إلى غرفته الواقعة خلف غرفة المكتب.
- إيه, يا ويلكم!
همهم بغضب وهو يحرك الآلات. أزَّت المحركات الجبارة في الأسفل, واشتعلت الصمامات فعملت الآلة. أُرسِلت "الطلقة" فوصلت إلى الهدف.
وقفت في ضواحي المدينة سيارة شحن كبـيرة. كانت تنتصب على أرضها محطة لاسلكية ذات جهاز غير عادي تماماً. كانت هذه محطة مصممة وفقاً لمخطط كاتشينسكي من أجل إرسال الفكرة المُشعَة وتقويتها. كان السائق وزاوير وغوتليب في بذات خاصة مصنوعة من شبكة سلكية دقيقة تغطي كامل الجسم ولا يستثنى الوجه من ذلك.
ضحك كاتشينسكي:
- اللباس غير عادي تماماً. لكن إذا قونَـنَـتهُ الموضة فإنه سيعد مبتكراً. سنأخذ في المستقبل بصنع بطانة معدنية رقيقة ببساطة, وسنضعها في بذلاتنا. مع الأسف, فأنا لا أعرف كيف سأستغني عن الخمار. لكن النساء ارتدين الخمار! ونحن سوف نُحَضِّر أخمرتنا بحيث لا تكون أسمك ولا أثقل من الحريرية.
ثم قال كاتشينسكي:
- القذيفة أُرسِلـَت. لقد بعثت أمراً لشتيرنر بأن يخرج من البـيت ويأتي إلى هنا.
سأل غوتليب:
- وكيف سنعرف أن القذيفة قد أصابت الهدف؟
قال كاتشينسكي:
- أنا أعتقد أنه سيعلمنا على نحو أو آخر, إذا لم يظهر. فالقضية أننا نملك محطة استقبال لاسلكية ميكانيكية إضافة إلى دماغنا "المستقبـِل" الخاص بنا. ويوجد في المحطة جهاز يسجل آلياً إشعاع المحطة الأخرى.
و "أخبرهم" شتيرنر فعلاً, على الرغم من أن الشكل كان غير متوقع إطلاقاً بالنسبة للمهاجمين.
فجأة وقع كاتشينسكي على أرض السيارة, في تلك اللحظة عندما أرسل "قذيفة - فكرية" ثانية من دون البذة العازلة. حاول أن ينهض, لكنه سقط مجدداً. أراد أن يجلس, لكن رأسه وكل جسده هويا جانباً.
اندفع زاوير وغوتليب نحو كاتشينسكي وسألاه:
- هل أنت جريح؟ مرضوض؟ كيف تشعر بنفسك؟ ما الذي يؤلمك؟
أجاب كاتشينسكي وقد قام بمحاولة ثانية للجلوس فسقط جانباً مجدداً:
- لا شيء يؤلمني, وأشعر بنفسي سليماً تماماً, لكن فليأخذه الشيطان, لقد فقدت تماماً شعور التوازن!..
كان زاوير وغوتليب والسائق مصدومين. وأسرع غوتليب فرمى الشبكة المعدنية على كاتشينسكي كي يحميه من الإشعاعات الجديدة.
- نعم, طبعاً!.. ما الذي يدهشكم؟ من الواضح أن شتيرنر قد شل المراكز العصبـية التي تتحكم بالتوازن. بـيد أنه سار بعيداً في أعماله! حس التوازن واحد من أعقد المسائل وأقلها خضوعاً للمعالجة. البروفيسور بـيختيريوف …
فكر زاوير: "ومع ذلك فإن هؤلاء المخترعين جنس من الناس متميز تماماً. لقد أسقطوه أرضاً وهو يتحرك بعجز مثل دودة مدهوسة, لكنه ذاته يناقش علم الأفعال الانعكاسية مطبقاً عليه!.."
تابع كاتشينسكي:
- لقد فعل هذا عمداً, كي يظهر لخصمه مع أي عدو خطر سوف يتعامل. حس التوازن...
- هذا كله ممتع جداً يا سيد كاتشينسكي, لكن ينبغي علينا الآن أن نهتم بصحتك. أنا أعتقد ...
والتفت غوتليب نحو زاوير:
- علينا أن نتراجع في هذه المرة, وأن نجلي جريحنا الأول في هذه الحرب غير العادية, كي نقدم لـه المساعدة الطبـية.
قرر زاوير وغوتليب التراجع بغض النظر عن احتجاجات كاتشينسكي, الذي أراد متابعة المبارزة عن بعد.
- تذكروا أن مسؤولية ملايين الناس تقع عليكم. ماذا لو أن شتيرنر قتلكم. أو لنقل, سلبكم عقلكم؟
ثم وافق كاتشينسكي بتنهيدة:
- وماذا, لنذهب؟
ثم تابع وهو مستلق في السيارة:
- نعم, شتيرنر خصم خطر. فهو يملك سلاحاً أكثر قوة. ومن الواضح أن قوة إرساله بتلك الضخامة لأنه يستخدم موجة موجهة. سنحاول أن نستعمل الأمواج الموجهة!..
- من الأفضل أن تقول كيف ستعيش الآن دون حس التوازن؟
أجاب كاتشينسكي:
- من المحتمل أن أنجح في إيجاده!
هز غوتليب رأسه بشك. بدا كاتشينسكي عاجزاً تماماً, إذ لم يستطع حتى أن يمد يده فقد كانت تسقط إلى جانبه مثل العود على الرغم من أن كل أعضاء جسمه كانت سليمة تماماً.
- انظر يا زاوير. ألا توجد تسجيلات ما على شريط الجهاز.
نظر زاوير. كان الشريط معلَّماً بخطوط منحنية.
- شيء ما مرسوم هنا, لكنني لم أفهم شيئاً.
قام كاتشينسكي بمحاولة فاشلة لمد يده من تحت الشبكة.
- سأصنع قريباً الجهاز الذي سوف يترجم هذه العلامات إلى حروف. قرِّب الشريط من عينيَّ يا زاوير! هكذا ... هم ... يريد إخافتي!.. هاكم الفكرة التي أَشعَّها :
"لقد خسرتم المعركة إذ فقدتم فرصتكم الوحيدة لأخذي على حين غرة.
شتيرنر"
صرخ كاتشينسكي ورفع بهياج رأسه الذي سقط إلى الوراء فوراً:
- آه, يا للشيطان! لكنك لن تخيفني بهذا يا شتيرنر!
وصلوا إلى المستشفى وحملوا كاتشينسكي على أيديهم, ثم علّقوا شباكاً معدنية على حيطان الغرفة.
لم يستطع الأطباء فهم شيء من مرض كاتشينسكي, فاضطر أن يشرح لهم وهو يبتسم.
قال كبـير الأطباء وهو يباعد يديه:
- مع الأسف فإن الطب عاجز عن مساعدتك.
أجاب كاتشينسكي:
- عرفت هذا. ينبغي أن نخلق طباً جديداً, أو أن نلجأ إلى الهوميوباتيا.
هز الطبـيب رأسه باستياء.
- الهوميوباتيا شعوذة.
أجاب كاتشينسكي وهو يبتسم:
- ليس دائماً. مبدأ الهوميوباتيا هو "داوها بالتي كانت هي الداء". هاكم بأي معنى أنا أتحدث عن الهوميوباتيا.
كان زاوير أول من فهم فكرة كاتشينسكي.
- هل تريد استخدام جهازك لإرسال الأفكار من أجل المعالجة؟
- نعم, طبعاً. سوف أرسل إلى "آلتي – الدماغية" فكرة وهي أنَّ مراكزي الدماغية المشرفة على حس التوازن ينبغي أن تستعيد نشاطها, ثم سأدرك شخصياً هذا الإشعاع بعد تقويته. وبما أن شتيرنر قد أثر عن بعد, فإنني سأعرَّض نفسي لتأثير مضاد بالقرب من مصدر الإشعاع ذاته. وهكذا أعتقد أنني سأفلح في إعادة حس التوازن المفقود ... لنقم بالتجربة!
تابع الأطباء التجربة باهتمام غير الواثق. لكنهم صفقوا جميعهم عندما نهض كاتشينسكي فجأة من الأرض وبدأ يلوح بـيديه وهو يقف على رجل واحدة.
صاح طبـيب شاب:
- هذه حقاً أعجوبة!
همهم طبـيب عجوز بصوت خافت:
- إذا لم يكن "مرض" كاتشينسكي ذاته تصنعاً.
وهكذا وضِعَت بداية لطب جديد حصل لاحقاً على استخدام واسع في أكثر المجالات اختلافاً. من معالجة الأمراض العصبـية, وحتى القيام بعمليات دون آلام ودون استخدام التخدير.
سأل زاوير كاتشينسكي عندما بقيا وحدهما:
- قل لي, لماذا أصابتك "الضربة" المرسلة من شتيرنر لك وحدك؟ إذ لو استطاع شتيرنر أن يحدد بدقة الاتجاه الذي أرسل منه إشعاعك الفكري, فإن إشعاعه الجوابي كان سيقابل في طريقه أشخاصاً آخرين غير محميين بشباك. لماذا إذاً لم ينل منهم الشعاع؟
فكر كاتشينسكي:
- أعتقد أنه ليس من الصعب تعليل ذلك. فبعد أن استلم شتيرنر إشعاعي الفكري, استطاع أن يحلل فوراً طوله وتردد موجته. وبكلمة, كل تلك الخواص المميزة التي تنفرد بها محطتي اللاسلكية المرسلة, أي دماغي. إذ إن كل دماغ يشع أمواجاً كهربائية تختلف إلى حد ما عن إشعاع أدمغة الناس الآخرين. وبعد أن حدد الخواص المميزة لإشعاعي الفكري, أرسل شتيرنر "رصاصة" جوابـية شلتني على موجة بالطول والتردد ذاتهما. وقد أدركتها أنا فقط. هذا أكثر الشروح طبـيعية. لكنني أعتقد أنه استطاع إرسال الإشعاع "للمُظهِر" أيضاً, إذا أمكن التعبـير كذلك.
- بأي معنى؟
- أي بمعنى أنه يستطيع إرسال إيحاء فكري: "يجب أن تشل مراكز الحركة الإرادية لدى الشخص الذي أشعَّ فكرة ضدي". وأنا هو الشخص الذي أرسل هذا الإشعاع, يعني أنه لدي...
- لكن هل يمكن فعل تلك الإيحاءات؟ هل وُجِدَت تلك الحوادث في التطبـيق العملي للتنويم المغنطيسي؟
- لا أذكر, رغم أنه لا مستحيل في هذا. على كل الأحوال, فإن التعليل الأول يبدو لي شخصياً أسهل وأكثر منطقية. لقد انتهينا من هذا. والآن إلى العمل!
ثم قال كاتشينسكي بنشاط:
- سنحاول العمل على نحو مختلف في هذه المرة. سنحيط شتيرنر بحلقة كاملة من "مدافعنا" وسنؤثر عليه فوراً من جميع الاتجاهات. طبعاً, هو يستطيع صد ضرباتنا متحاشياً الحلقة بشعاعه الموجه, وفي حين سيقوم بهذه الدورة فإن كل مدفع من "مدافعنا" سيفلح في إشعاع قذيفة فكرية.
قال غوتليب:
- وماذا لو أننا وجهنا أشعتنا إلى الخدم في المبنى أيضاً؟ إذ لو أرغمناهم على الخروج من المسكن, فإن أحداً لن يجلب المواد الغذائية لشتيرنر, وسيحكم عليه بالجوع فيضطر للاستسلام.
وافقه كاتشينسكي:
- رائع. سنستخدم هذه الطريقة.
حُضِّرَت بسرعة آلات لاسلكية لإشعاع الفكر. وعندما أصبح كل شيء جاهزاً ارتحل "القائد العام" إلى الموقع مع "الأسلحة" الثلاثين التي صفت حول المدينة على مسافة عدة كيلومترات.
أرسل كاتشينسكي إنذاراً نهائياً لشتيرنر.
"يجب أن تقنعك إشعاعاتنا الفكرية أنه قد حانت نهاية استخدامك الاستثنائي للقوة الجديدة, أي لإرسال الأفكار عن بعد. آخرون يملكون هذه القوة على قدم المساواة معك. الصراع اللاحق في ظل هذه الظروف لا معنى له. فهو سيزيد فقط المصائب الاجتماعية ومعاناة الجماهير. وحتى لو عزلت نفسك شخصياً من تأثير إشعاعاتنا الفكرية, فإننا سوف نشل نشاطك التخريـبي. وعلى كل الأحوال, فإننا سنجيب على إشعاعك الفكري ذي الطبـيعة الجماهيرية بإشعاع مضاد وأمر مضاد. نحن نستطيع ضمان بقائك حيّاً في حال التنفيذ الفوري للشروط التالية:
1 - إعادة الوضع الطبـيعي وحرية الإرادة دونما إبطاء لجميع المتعرضين لتأثير إشعاعاتك الفكرية.
2 - الإيقاف النهائي لاحقاً لكل الإشعاعات الفكرية من جانبك.
3 - تسليم جميع الآلات والأجهزة الكهربائية المُشَغِلة للإشعاع الفكري.
في حال رفضك أو عدم استلام الجواب فلن أتورع عن استخدام أقصى الوسائل.
كاتشينسكي"
وأرسل في اللحظة ذاتها أمراً فكرياً إلى جميع خدم شتيرنر كي يهربوا من المبنى. لكن شتيرنر كان مستعداً.
قرأ البرقية الفكرية المسجلة آلياً, وأرسل الجواب فوراً:
"سألقي السلاح في ذلك الحين الذي أجد فيه شخصياً ضرورة هذا".
وفجأة لاحظ أن الخدم يهربون من المبنى, وفهم فوراً سبب هذا الهروب فأرسل أقوى شعاع مع أمر بالعودة.
اندفع الخدم جيئة وذهاباً كما لو أنهم وسط لهب حريق. رمتهم الإشعاعات المتقاطعة لفكرتين متعاكستين من جانب لآخر فاندفعوا عبر المبنى. تمزقوا بـين "رغبتين" في وقت واحد: الهروب من البـيت مهما حصل, وعدم مغادرته بأي شكل من الأشكال. هرع الناس إلى الأبواب تارة, وركضوا في الاتجاه المعاكس تارة أخرى. بعضهم تشبث بالأثاث وبعضادات الأبواب وبأنابـيب التدفئة كي يثبتوا في أماكنهم. وقد حدثت كل هذه الململة غير الطبـيعية دون صوت واحد.
كانت إشعاعات شتيرنر أقرب ومن الواضح أنها أقوى, فثبت الخدم العائدون تدريجياً في أماكنهم.
وفي هذا الوقت كان شتيرنر قد أرسل إشعاعاً فكرياً جديداً.
فقد أثار جميع السكان الذين كانوا لا يزالون في المدينة بلا استثناء, وأمرهم بالذهاب لتدمير آلات الأعداء.
اندفع الناس من المدينة مثلما يحدث أثناء هزة أرضية, ونفّذوا أمر شتيرنر. كان هذا الهجوم غير متوقع, ونجحت الحشود في تدمير عدة مرسلات فكرية, لكن أكثرية مقاتلي كاتشينسكي فهمت في الوقت المناسب مغزى الجماهير الراكضة, فأشعّت موجة الذعر.
اندفع الناس جيئة وذهاباً في رقص جنوني متبلبلين في دوامة الإشعاعين, دون أن تكون لهم القوة كي يعودوا أو يهجموا ...
لم يعوِّل شتيرنر على النجاح الكامل لهذا الهجوم. كان يلزمه فقط أن يحول الانتباه من أجل الضربة الرئيسة. لقد وجّه الأمواج إلى مختلف الجهات وفق دائرة, فسقط الأعداء غير المحميين بشبكة أو الذين فتحوا هذا اللباس المُتعِب دون حذر, وقد أصيبوا بالشلل والجنون. ونقلوا هؤلاء الجرحى إلى المؤخرة أو عالجوهم بنجاح محدود وفقاً لطريقة كاتشينسكي. لم يثب المهاجمون إلى رشدهم. كان عددهم أكثر فاستبدلوا الساقطين من الصفوف باستعجال, ووقفوا أمام آلاتهم المرسلة للأفكار ليشعّوا الأمواج الفكرية نهاراً وليلاً.
نام شتيرنر عدة ساعات في بذته العازلة. لكن النوم طويلاً كان خطراً. كان من الممكن انتظار هجوم جسدي, لذا ألبس جميع الخدم بذات عازلة وسلَّحهم.
تعب شتيرنر لكنه لم يستسلم. وأنهى بسرعة تحديثاً جديداً على آلته المرسلة التي, حسب رأيه, كان ينبغي أن تؤدي إلى تلف آلات الأعداء.
استمرت الحرب عدة أيام.
وفي إحدى المرات وقف كاتشينسكي على السيارة دون الغطاء الواقي, ليرسل إشعاعاً فكرياً يشل تأثير شتيرنر. وفجأة وثب من السيارة وركض إلى جهة ما. نام زاوير على مشمع وهو يحجب رأسه بشبكة عازلة. أما غوتليب المناوب فإنه لم يعط أهمية لركض كاتشينسكي في الدقيقة الأولى.
كانت الليلة عاتمة. ولم تُشعَل الأضواء الكاشفة كي لا يظهر مكان وجود المرسل الفكري. مرت عدة دقائق ولم يعد كاتشينسكي.
أخذ شعور القلق يسيطر على غوتليب, فأيقظ زاوير وأخبره عن هروب كاتشينسكي.
صرخ زاوير:
- ما الذي فعلته؟ هل يُعقل أنك لم تفهم أن كاتشينسكي كان واقعاً تحت تأثير شعاع موَّجه من شتيرنر؟ لقد هلك. كم من الوقت انقضى منذ لحظة هروبه؟
تذرع غوتليب:
- نزل من السيارة بهدوء منذ عشر دقائق, فاعتقدت أن ذهابه قد يكون بعمل.
- هيه, هل يجوز أن نرتكب مثل هذه الهفوة يا غوتليب؟
كانوا من أجل سرعة العمل قد طرحوا على أكتافهم أغطية معدنية فقط, فرمى زاوير غطاءه, وشعَّ فكرة:
"ارجع يا كاتشينسكي! ارجع يا كاتشينسكي"
وفي اللحظة ذاتها وثب زاوير من السيارة وركض في العتمة.
حدس غوتليب أن يعطي أمراً للسائق بالانتقال إلى مكان آخر, كي يخرج من منطقة تأثير الإشعاع الموجه. وأعطى بسرعة أمراً فكرياً لكل المرسلات بإشعاع فكرة:
"كاتشينسكي وزاوير ارجعا"
شُعَّت الفكرة من قبل عشرين مرسل فكري في الوقت ذاته, وبعد عشر دقائق ظهر من العتمة شكل معتم يتأرجح إلى الأمام وإلى الوراء ومحني كما لو أنه يسير بمواجهة ريح قوية. كان هذا زاوير وقد أفلحوا في إنقاذه. لكن كاتشينسكي على ما يبدو اقترب كثيراً جداً من بؤرة إصدار الأشعة ذات استطاعة التأثير المطردة الازدياد, فلم يستطع إعادته الشعاع المبعثر الصادر عن المرسلات الفكرية الباحثة عنه بصورة اعتباطية.
صرخ زاوير:
- أسرعوا إلي بالغطاء.
طرح غوتليب الشبكة المعدنية على زاوير.
- شكراً يا غوتليب, لقد عملت جيداً في هذه المرة. لقد أنقذتني. لو أنك تعرف ما الذي عانيته عندما جررت!.. خطوة إلى الأمام واثنتان إلى الوراء ...إحساس قذر! هل عاد كاتشينسكي؟
- واأسفاه, لا.
- المسكين كاتشينسكي! لقد هلك ... هلك في غير أوانه ... دونه لن نتغلب على شتيرنر.
- سنتابع النضال يا زاوير. نحن نعرف كيف نتعامل مع الآلات. وفي النهاية إذا لم ننجح في أسر شتيرنر بأمر فكري, فسنحاول الهجوم عليه بسلاح قديم في أيدينا. سنلبس فرقة كبـيرة ثياباً عازلة, ونتسلح حتى أسناننا, ثم نتسلل إلى المبنى. العزل سوف يحفظنا من الإشعاع, أما الرصاص فهو, ويا للسعادة, لا يتأثر بالإيحاء ... وسوف نجهز عليه!
13 - "ليلة ممتعة إمتاعاً شيطانياً"
هرع كاتشينسكي إلى مبنى إلزا غليوك وهو يكاد يسقط من الإعياء.
من الواضح أنهم كانوا ينتظرونه. فقد فُتِحت الأبواب أمامه. دخل كاتشينسكي راكضاً إلى الطبقة الثانية وهو يقفز عبر عدة درجات. تنفس بصعوبة وهو يمسح العرق عن جبـينه, ثم دخل إلى غرفة المكتب واسترخى على المقعد خائر القوى. فُتِح الباب من غرفة شتيرنر, وظهر على العتبة إنسان مغطى كله بشبكة معدنية مع خمار معدني كثيف على رأسه, بحيث أخفى تماماً ملامح وجهه. كان هذا شتيرنر الذي سأل:
- ما كنيتك؟
- كاتشينسكي.
- بولوني؟
- روسي.
صمت شتيرنر ثم بدأ بعد توقف:
- أنت أسيري. أنت تعلم أنه يمكنني إيقاف تنفسك فتموت ميتة مؤلمة نتيجة الاختناق. يمكنني أن أصنع منك عبداً مطيعاً. يمكنني أن أفعل بك كل شيء.
أجاب كاتشينسكي:
- أعرف. وهل هذا يجلب الارتياح إليك؟
صمت شتيرنر مجدداً:.
تابع كاتشينسكي:
- الحرب لا تعرف الرحمة. سيقضى عليّ وأنا أعرف هذا, لكن سيقضى عليك أيضاً. وإذا كان الأمر منتهياً معي فلم أعد شخصياً أشكل خطراً عليك, فاسمح لي بوصفي عالماً, أن أتوجه إليك بطلب.
- تكلم.
- أريد معاينة اختراعك. فمن المهم أن أعرف أي طريق سلكت في أبحاثك, وكيف صممت أجهزتك.
تعجب شتيرنر وفكر قليلاً, ثم اقترب من كاتشينسكي ومد يده نحوه, لكن كاتشينسكي لم يقبل مصافحته. تراجع شتيرنر إلى الخلف وأخفى يده تحت الشبكة ثم سأل بسخرية:
- هكذا إذاً! هل الجميع هناك عندكم في روسيا أبطال هكذا؟
أجاب كاتشينسكي ببساطة:
- أنا لا أرى بطولة في رفضي مصافحتك. نحن نقف على نقيضين, ويدي بعيدة جداً عن يدك. هذا كل ما في الأمر.
- حسناً. سألبي رغبتك, وربما أتركك حياً حتى الصباح, إذا وافقت على إعطاء أمر لزملائك كي يوقفوا إشعاعهم حتى الساعة التاسعة صباحاً.
فكر كاتشينسكي. ففي نهاية الأمر لا قيمة لعدة ساعات من "الهدنة". ثم إنه يريد إخبار جماعته أنه حي.
- أنا موافق.
قاد شتيرنر كاتشينسكي إلى غرفته حيث نُصِبَت المحطة المشعة للأفكار.
سأل كاتشينسكي موجهاً انتباهه إلى صندوق صغير صُنِعَ من شبكة سلكية يمكن لشخص أن يقيم فيه بوضعية الجلوس:
- وهذا ماذا يكون؟ هل مررت أيضاً عبر هذا؟
أجاب شتيرنر:
- نعم, هذا قفصي الحديدي الذي استخدمته في تجاربي, كي أثبت وجود الأمواج الكهرطيسية التي يُشعّها الدماغ.
قال كاتشينسكي:
- عجيب! لقد سلكنا طريقاً متماثلة!
- لكن طريقينا افترقتا. تفضل بإشعاع أمر لأركانك.
ركّز كاتشينسكي فكره أمام الجهاز وأرسل الأمر. تأكد شتيرنر في الحال بوساطة التسجيل الآلي من صحة الإرسال. وبعد أربع ثوان قدم الشريط ذاته إجابة:
شعَّ زاوير فكرة "برهنوا أن المتحدث هو كاتشينسكي"
أرسل كاتشينسكي محتوى أحاديثهم الأخيرة, وكذلك محتوى لقائهم في موسكو. وكان واضحاً أن زاوير قد اكتفى.
"لن يحدث أي إشعاع أو هجوم حتى التاسعة صباحاً.
زاوير"
قال شتيرنر:
- هيه, هذا رائع. الآن سوف أحبسك في غرفة المكتب كي أريك جميع مخططاتي. سوف تقضي ليلة رائعة!
أغلق شتيرنر باب غرفة المكتب بوساطة القفل ووضع المفتاح في جيبه.
- اجلس ها هنا قرب الطاولة. ينبغي أن أُرسل شيئاً ما من غرفتي.
- لكني آمل ألا تستخدم الهدنة للإساءة إلينا؟
- لا تقلق. هذه الرسالة الفكرية سوف تكون, كما يقال, ذات طبـيعة خاصة عائلية.
ابتسم شتيرنر ابتسامة خبـيثة وذهب إلى غرفته. ضجَّ محرك في مكان ما في الأسفل, ثم خرج شتيرنر من غرفته بعد ربع ساعة فاستل حزمة من الرسوم من الخزانة وألقاها على الطاولة.
-هيه, وهذا أنا! تمتع! هنا تجد كل شيء وصولاً إلى مخطط المبنى. أنت ترى أنني لا أُخفي شيئاً. لقد وضعتُ آلات الدينامو الجبارة في القبو.
صمت شتيرنر وتمشى في غرفة المكتب, ثم سأل كاتشينسكي بعد أن استدار بعنف:
- ألست مندهشاً من سلوكي؟ فأنا لم أقتلك وعرضتُ عليك, يا عدوي, أن تتعرف على أسراري العسكرية. على هذه المخططات.
- كلا, لست مندهشاً. إذا كنتَ لم تقتلني وعرضت علي إمكان التعرف على هذه الخطط فهذا يعني أنه يوجد لديك تصوراتك بخصوص هذا. ولذلك فإنني لا أتعجل في إبداء الدهشة أو الشكر على فعلتك "السخية".
- أنت محق, فأنا أتصرف كذلك ليس بدافع السخاء.
صمت شتيرنر, كما لو أنه تردد في كشف سبب سلوكه أمام كاتشينسكي. ثم قال ببطء, كما لو أنه فعل رغماً عنه:
- لقد خسرتُ المعركة.
أجابه كاتشينسكي بسرعة:
- من المفهوم أنك خسرت. منذ ذلك الحين الذي كُشِفَ فيه سرك. فهو معلوم الآن ليس فقط مني. لقد انتهى احتكارك. سلطتك انقسمت على اثنين والصراع اللاحق ...
صرخ شتيرنر وخبط الأرض بقدمه:
- كذبٌ! فأنا لم أستعمل بعد جميع وسائلي. لقد سرتُ بعيداً على طريق تطوير أجهزتي مقارنة بكم. فأنا أملك أيضاً اختراعاً تجهلونه. مراكمة أمواج وأفكار ملايين الناس, والمقويات الهائلة ... ولو أنني استخدمت كل هذا الآن لكنتُ قد سحقتكم وأخمدت أزيز البعوض الذي تمثله إشعاعاتكم الفكرية, مثلما تُخمِدُ محطة لاسلكية خارقة الاستطاعة اللعثمة الضعيفة الصادرة عن أقزام لاسلكية. أنا محطة ذات استطاعة خمسين ألف كيلوواط, أما مواردكم بالمقارنة مع استطاعتي ...
- ومع ذلك فأنت مهزوم.
- ليس هناك حيث تفكر. ليس في مجال التقـنية …
- أين إذاً؟
- لقد أخذتُ على عاتقي حملاً يفوق طاقتي. فالأمر الذي باشرته كان سخافة. فكي أسيطر على العالم مثلما رغبت أن أفعل, كان ينبغي أن أصبح آلة لإشعاع الإرادة. لكني لا أعدو كوني إنساناً. لقد خارت قواي. لقد استنزفت إرادتي من الناحية الفيزيائية البحتة باستنزافي لاحتياطي طاقتي العصبـية. هاكم واحداً من أسباب هزيمتي. الآن يستوي كل شيء طبعاً! خذ هذه الرسوم. استخدمها كما تريد. اجعلها ملكاً عاماً.
نظر شتيرنر إلى الساعة وارتجف.
- هذا كل شيء. نفذ شروطنا بدقة. فهذا ضروري جداً بالنسبة إليّ. على كل حال سأقفل عليك ولا داع للشكوى, وإضافة إلى ذلك سأترك هؤلاء الحراس.
وأشار شتيرنر إلى ثلاثة كلاب ضخمة من الجنس النمري.
- إنهم يستطيعون تنفيذ الأوامر. ولتأخذ بالحسبان أنه لدى أول محاولة منك للتسلل إلى غرفتي أو محاولة الهرب, فإنهم سوف يمزِّقونك إلى أقسام.
خرج شتيرنر من غرفة المكتب وأغلق الباب من الخارج.
فتح كاتشينسكي الرزمة الكبـيرة, التي حُفِظت فيها الأوراق المبقعة بحسابات وصيغ رياضية ومخططات وتصاميم ورسوم تخطيطية. كل هذه اللغة الاصطلاحية التي لا يفهمها غير المُطّلعين كانت واضحة ومفهومة لكاتشينسكي. لقد تحولت الأرقام والصيغ إلى أفكار, والأفكار إلى أنماط. وعكست أعمدة الأرقام والحروف المتناسقة عمل المنطق المتين للدماغ الذي صاغها. افتـتن كاتشينسكي بأصالة المنهج وجمال الفكرة وجرأة البناء, مثلما يفتـتن لاعب شطرنجي بدور لأستاذ شطرنجي. غاص كاتشينسكي بسرعة في التصاميم ونسي كل شيء في الدنيا.
وجد كاتشينسكي بـين كومة الورق دفتراً للكتابة. كان هذا شيئاً يشبه دفتر مذكرات خطها شتيرنر. ملاحظات عابرة دون تواريخ. مقاطع أفكار وكروكيات رسوم تخطيطية أنشأتها يد متعجلة. شواهد من الكتب. حسابات منزلية. عاين كاتشينسكي عدة صفحات ثم همس:
- ومع ذلك فهذا أمتع مما ظننت.
وأخذ يلتهم الصفحة تلو الأخرى ...
"ما الذي سيجلبه العام الجديد؟ كنتُ عند هيري! البروفيسور منحرف المزاج. الشمبانزي فريتس مرض وجرحَ يد هيري (عضَّها).
قرأت "أساريع على الشجرة". إذا بدأنا نُزعجُ أسروعاً فأخذ يتقلص, فإن الأساريع المجاورة ستبدأ بتقليص عضلاتها أيضاً, وستتلوى! كيف نعلل ذلك؟
تحسّنَ فريتس والتأمت يد هيري.على ما يبدو فإن العجوز قد خاف من تلوث الدم. حدثته عن الأساريع فأفضى بتعليلاته الضبابـية فقط دون أن يشرح شيئاً. الفعل المنعكس الشرطي. تماماً مثلما يبكي الأطفال عندما يرون طفلاً باكياً آخر. لكن هنا تكمن القضية, فالأساريع تتلوى, إذا صدّقنا الخبر, دون أن ترى ذلك الذي نزعجه بالأصابع.
سلبتني الغسّالة: ثلاثة ماركات وخمسة وعشرين بفينيكاً من أجل الغسيل! ينبغي البحث عن غسّالة أرخص. لم يكفني من أجل الكتاب.
تمكن أرينيوس (الذي لا أستطيع شراء كتابه بسبب الغسًالة) من ملاحظة أن جزيئات الأملاح المحايدة بالمعنى الكهربائي, المنحلة في المحاليل الحاوية في تركيبها على أملاح وحموض أو أسـس, والناقلة للتيار الكهربائي ناقلية جيدة, تتحلل إلى أقسام كهربائية مشحونة حصلت على اسم الشوارد (هاكم الشاردة – "الجوّال", الإلكترون المتشظي) ...
المالك يطالب بإيجار الشقة. يتوعدني بالطرد. ينبغي الشروع بالترجمة مجدداً.
أطعمنا الكلب الرومي بوجود الموسيقا. عزفتُ على الناي. ثبتَ الفعل المنعكس الشرطي. بعد العمل قام البروفيسور هيري بنزهته المعتادة ورافقني.
حدثني أثناء الطريق عن شيء طريف.
إنه يؤكد أننا لو أخذنا زوجاً من الحشرات ذكراً وأنثى وفرقناهما, فوضعنا الأنثى في قفص صغير, ونقلنا الذكر لمسافة بعيدة خارج المدينة وأطلقناه هناك, فإن الذكر سيصل طائراً إلى الأنثى. كيف يجد الطريق؟ يقول البروفيسور هيري إن الذاكرة البصرية متطورة جداً لدى الحشرات, وأنه لا شيء عجيب في هذا. حشرات كثيرة (النحل) تملك مثل تلك الذاكرة. لكن يتهيأ لي أن هذا بعيد الاحتمال. وحالما تظهر الحشرات سوف أقوم بهذه التجربة, بحيث أنقل الذكر إلى خارج المدينة في علبة مقفلة.
استأصل هيري أحد نصفي دماغ الكلب. يبدو أن العملية لم تجر بنجاح كامل. الكلب المسكين ينبح نباحاً أكثر حزناً مما كان بوجود نصفي الدماغ. حقـنـته بالمورفين فهدأ. لاحظت أن تأثير المورفين المهدئ كان تأثيراً دورياً: هدأ الكلب تدريجياً, الفواصل بـين النوبات أصبحت أطول. وعندما كان المورفين يكف عن التأثير, فإن هذه الدورية كانت تلاحظ في استئناف الإحساس بالألم أيضاً.
تيسَّر لي الحصول على كتاب للترجمة. كيمياء. صعب. لكنهم أعطوني سلفة بالمقابل فأرضيت أكثر دائـنيّ إلحاحاً: مالك الشقة وبضمنها بـيت الكلب والحانوتي. يظهر أنه يوجد الكثير من الطرائف في الكيمياء. عرفت اليوم أثناء الترجمة أن الدورية تلاحظ في كثير من العمليات الكيميائية. مثلاً, إذا سكبنا زئبقاً في قارورة, وسكبنا فوق الزئبق بـيروكسيد الهيدروجين بتركيز محدد, فإن عملية كيميائية تبدأ بالحدوث بـين الزئبق وبـيروكسيد الهيدروجين, وتتمحور في أن بـيروكسيد الهيدروجين يتحلل إلى ماء وأوكسجين, وكما يبـين التسجيل, فإنه يلاحظ تباطؤ وتسارع دوريان في إطلاق الأوكسجين. وأكثر الأمور طرافة, أن السموم والمخدرات تقوم بتأثير فريد من نوعه على بنية الإنسان أيضاً بناء على هذا التفاعل الدوري. ألا يقول هذا, من حيث الجوهر, بأنه تجري في بنية الإنسان والحيوان مثل تلك التفاعلات الكيميائية بالضبط؟ أليس مدهشاً أن المورفين ينتج تأثيراً مهدئاً على التفاعل في قارورة المخبر مماثلاً لتأثيره على الكلب الذي أجرينا لـه العملية؟
العلوم المختلفة تتقارب تقارباً مفاجئاً في بعض الأحيان. أجريت مع البروفيسور هيري تجارب لدراسة عمليات التعب. تعب العين. الأرجوان الذي يتحلل في الضوء يستعاد في العتمة.
يمكن إيصال تهيـيج العصب إلى حد معين بالإثارة المتكررة, وبعد ذلك يحدث الارتكاس, ويكف العصب ببساطة عن الاستجابة للتهـيـيج. دورة حساسية العصب تتعلق بالتحلل الكلي للمادة الحساسة فيه (على سبـيل المثال, يتضح أن الأرجوان هو تلك المادة الحساسة في العين).
فيما يخص المراكز العصبـية المتوضعة أعلى النخاع الشوكي فإن تهـيـيجها بالكهرباء يستدعي "ردود أفعال" دورية لا تتعلق بدور التيار المؤثر وطبـيعة التهـيـيج. وتجري الإثارة الحركية المرسلة من المركز إلى العضلات من 16 إلى 30 مرة في الثانية. (دورية أيضاً, مثلما هي في العمليات الكيميائية).
يجد هيري عندي قدرات فائقة في ترويض الكلاب. وربما لو بدأت بالاستعراض في السيرك لكنت جنيت أكثر مما سأحصل عليه من الترجمة. الطريق لا تزال بعيدة للوصول إلى البروفيسورية! وما الذي ستقدمه البروفيسورية؟ لقد أسأمتني الحاجة.
12 أيار يوم عظيم! لقد تركت فراشة أنثى في قفص صغير لديّ عند النافذة المفتوحة, ونقلتُ الذكر في علبة مغلقة إلى خارج المدينة, وأطلقته هناك. خفت كثيراً من أن يتلف الذكر أجنحته فلا يعود قادراً على الطيران. في الحقيقة لقد تضررت قليلاً, ولكن الفراشة الذكر طارت في اتجاه المدينة. عدت ولم تكن قد وصلت بعد. لكن بعد نحو نصف ساعة وصلت الفراشة طائرة, وبدأت تحوم حول صديقتها الأسيرة. أطلقتُ سراح الاثنتين. كنت مصدوماً. كيف وجدت الفراشة التي أخذتها إلى خارج المدينة طريق العودة؟ لقد أُغلِقَ عليها بإحكام, ولم تر الطريق. هيري مخطئ. لقد عادت الفراشة مقودة بحاسة ما نجهلها. ما هي هذه الحاسة؟ وتذكرت أيضاً الأساريع. فبأي حاسة تعرف أن واحداً منها يتلوى بتشنج بـين أصابع شخص ما؟ فكرت طوال اليوم ... وفجأة تهيأ لي أنني حزرت الأحجية, وأنني على أعتاب اكتشاف ما ضخم. من المحتمل أن هذا هو ما يدعونه الغريزة؟ فهم مباشر فجائي. على أي حال لقد أدركت لاحقاً. عندما "لاحت" لي الفكرة فإن هذا لم يكن "إشراقاً" بعد, وإنما سعادة لا حدود لها نتيجة استشعاري بأنني الآن سوف أعرف شيئاً ما مهماً. طبعا لا يوجد شيء سرّي في الحدس, على الرغم من أننا لا نفهم كل الأشياء. يبدو لي أن الحدس هو تلك اللحظة عندما تـتجمع فجأة سلسلة كاملة من الانطباعات والأفكار والمعارف المتناثرة والمتراكمة ربما خلال فترة كبـيرة, فتدخل في اتصال فيما بـينها. يتكون هذا الاتصال في الدماغ. وتوصل كل هذه الأفكار إلى منظومة فتتوحد وتعطي نتيجة ما, فكرة ما جديدة. هكذا على الأقل ما حدث معي. الآن أستطيع أن أتتبع كيف وصلت إلى اختراعي. عندما فكرت بالفراشات والأساريع فإنني على الأغلب فكرتُ مازحاً بأنها ربما تتخاطب بوساطة اللاسلكي. طبعاً يجب أن تكون لديها محطتها اللاسلكية "الطبـيعية" الخاصة. من المحتمل أن قرون استشعارها هي هوائياتها. أعجبتني المقايـسة فتابعت التفكير بهذا. ولم لا؟ فراشتان فُرِّقتا تستطيعان التخاطب بالإشارات. لكن أي طاقة تستطيع إرسالها؟ لو تكون الكهرباء. لنتذكر محاليل أرينيوس الكيميائية المنتجة للشوارد أي للكهرباء. تجري عمليات كيميائية معقدة في عضويات الكائنات الحية وهي ترافق عمل العضلات وعلى نحو أساسي الأعصاب والدماغ. وتلاحظ في هذا العمل دورية معروفة. يعني أن المراكز العصبـية تحرر أو تشع الشوارد دورياً. تطير هذه الشوارد فتلتقطها المنظومة العصبـية لكائن آخر. و … وهاكم التخاطب اللاسلكي.
أنا لم أقم بكل الاستنتاجات بعد, لكني شعرت أن اكتشافي أعمق وأهم وأكثر شأناً من شرح بسيط لكيف تقابلت فراشتان مفرَّقتان. لقد أعطتني الفراشات اتجاهاً جديداً فقط لأفكاري. من المحتمل أن الفراشتين وجدتا الطريق إحداهما للأخرى من دون مشاركة اللاسلكي. من الجائز أن الشم متطور لديهما, أو أنهما تملكان إحساساً بالاتجاه غير معروف لنا. الآن يمكن للفراشتين أن تطيرا وتفترقا وتتقابلا, وأن تجد إحداهما الأخرى بأي طريقة تريدان. لا توجد قضية لي مع الفراشات. عندي أجسام للدراسة أكثر أهمية: الحيوانات والإنسان ..."
فكر كاتشينسكي:
"عجيب, وصلنا أنا وشتيرنر إلى النتيجة ذاتها رغم أننا سلكنا طريقين مختلفين. الأصح أنه كانت عندي وعنده نقاط انطلاق مختلفة. لكن أنا وهو استفدنا من أجدّ الأبحاث في مجال الكيمياء والفيزيولوجيا والفيزياء. ولو أننا لم نعرف شيئاً عن اللاسلكي وعن نظرية الشوارد وعن علم الأفعال المنعكسة لما كنا هو وأنا قد اخترعنا واكتشفنا شيئاً. الآن أفهم لماذا يقوم العلماء الذين يعيشون أحياناً في نهايات متعاكسة من الأرض بالاكتشاف ذاته, ويمكن القول يوماً بـيوم وساعة بساعة ...".
ثم كتب شتيرنر في دفتر يومياته:
"... سرتُ عدة أيام مثل المخبول. لقد قمت باكتشاف علمي. هل أتحدث أو لا أتحدث عنه مع البروفيسور هيري؟ لم أحتمل فحدثته ربما حديثاً غير مترابط تماماً ودون وضوح. لكنه على ما يبدو استوعب فكرتي الأساسية ذاتها. نظر البروفيسور بسخرية إليَّ من فوق نظارته الصغيرة, وانضغط فمه الخالي من الأسنان في ابتسامة, بحيث أن شاربـيه وقسماً من لحيته أسفل الشفة السفلى انتصبت مثل أبر القنفذ وقال:
- أنت تؤكد أنك ها ... أن الدماغ الإنساني العامل, أي المفكر, يُشِعُّ أمواجاً لاسلكية. ولهذا يمكن إرسال الأفكار عبر المسافات؟
- الأصح القول إنه لا يتم إرسال الأفكار ذاتها عبر المسافات, وإنما تلك الأمواج الكهربائية التي يُشعُّها الدماغ. كل فكرة, كل مزاج "يُصدِرُ" موجته الخاصة ذات الطول والتردد المحددين. يلتقط هذه الأمواج الكهربائية دماغ آخر "فيظهره" في الوعي مثل تلك الفكرة أو ذلك المزاج الموجود عند المرسل.
أصغى هيري بانتباه وهز رأسه مؤكداً, وعندما انتهيت نطق بوضوح:
- هراء! لا تغضب, لكن هذا هراء يا صديقي الشاب. أنت كنت ميالاً دائماً للاستنتاجات المتسرعة. وإذا استمررتَ في السير على هذه الطريق فلن يخرج منك عالم جَدّيٌ أبداً.
غضبت أنا:
- لكن لماذا هراء؟
- لأن هذا غير علمي. وغير علمي, لأن هذا غير مبرهن بالتجربة. هيه ها أنا ذا وأنت نقف على مسافة خطوتين أحدنا من الآخر. حاول أن ترسل فكرة ما إليَّ.
تكدرتُ قليلاً.
- لأجل ذلك ينبغي أن تكون "محطتانا", أي الدماغ والأعصاب, ذات توليف واحد.
- وماذا في ذلك, ولّفها!
- لا يجوز توليفها.
قام هيري بإيماءة ظافرة.
- اسمح لي فأنا لم أنته بعد. لا يجوز توليفها كما يتم توليف المستقبل اللاسلكي. لكن يحدث توليف واحد لدى الناس وثيقي الصلة. هل هي قليلة الحالات التي يتحدثون عنها ...
- حول الرؤية عن بعد, والتخاطر, واستحضار الأرواح, وتدوير الطاولات وغيرها من الهراء ؟ حذار يا صديقي الشاب فقد وطئت طريقاً زلقة جداً.
- لكن لا يوجد شيء مشترك بـين نظريتي وكل هذا الهراء!
كنت متكدراً, لكن لم تثبط عزيمتي.
مجدداً دون نقود ... هل يعقل أن يطردني المالك؟ ومع ذلك فأنا محق. لن أهدأ ما لم أبرهن لهذا الفطر العجوز هيري أنني محق. لكن كيف أُنظِّم التجربة؟
يعدونني بدفع أجرة الترجمة غداً.
وجدتها! هيري يتعجب من قدرتي على ترويض الكلاب. هو لا يعرف سر ترويضي. أنا لا أبني ترويضي على أساس الأفعال المنعكسة الشرطية,بل أسلك طريقاً أخرى. أنا أُوحي للكلاب.
ويكمن سر هذا الإيحاء في أنني سأسعى بوضوح وجلاء شديدين لنفسي أن أتصور كل الطريق, وكل حركة من الحركات التي ينبغي أن يفعلها الكلب وهو ينفذ أمري. حصلت بالأمس حادثة مضحكة. لقد أسـأمني هيري بهمهمته وتعاليمه, حتى إنني فكرت لو أن فيغا (الكلب الأبـيض, الذي يحب هيري إلى حد الجنون) يعضه. ووفقاً لعادتي, فقد خيَّلت لنفسي بوضوح أن فيغا سيركض نحو هيري وسيمسكه من ساقه. وماذا حدث؟ هرع فيغا حقيقة نحو هيري وهو ينبح نباحاً عالياً ومزَّق بنطاله. أليس هذا إرسالاً للفكرة عبر المسافات؟ تكدر هيري وخاف. سقط سلوك فيغا بتلك الدرجة من الحدية من دائرة كل الأفعال المنعكسة التي غرسناها فيه, بحيث أن هيري افترض جدياً أن السعار أصاب فيغا, فأجلس المسكين في قمرة معزولة وأخذ يراقبه. وضع أمامه الماء, وتعجَّب جداً من أن فيغا يشربه مثلما يحصل دائماً. الأمر مضحك لي, لكن فيغا ضجر في غرفته الضيقة المظلمة. وأنا لا أستطيع شرح سبب تصرفه. طرافة! لقد بحثت عن طريقة للبرهنة لهيري على إمكان إرسال الفكرة عن بعد, والآن ينبغي انتظار حالة أخرى. ومع ذلك يمكن صنع هذه الواقعة. فليعط هيري مهمة بنفسه, على سبـيل المثال, أن ينبح الكلب عدداً معيناً من المرات.
اقترضت عشرين ماركاً. دفعت أجرة الشقة.
لا يزال فيغا سجيناً. حاولت الإيحاء إليه عبر الجدار كي ينبح ثلاث مرات. لقد نفَّذ عادة أوامري الفكرية تنفيذاً صحيحاً. لكن إيحائي الآن لا يؤثر. ما الذي يعنيه هذا؟
وجدتُ السبب. جدار "الغرفة الضيقة المعتمة" مُنجَّدٌ بصفيحة حديدية والصفيحة تلامس أنبوب شبكة المجاري الذاهب نحو الأرض. عظيم. القدر ذاته يساعدني و "يقيم التجربة": إشعاعي الفكري يصيب الجدار الحديدي ويذهب إلى الأرض عبر تأريض شبكة المجاري دون أن يصل إلى الكلب. إذا صنعنا قفصاً حديدياً يمكن تأريضه أو عزله حسب الرغبة, وجلسنا في هذا القفص, وقمنا بالإيحاء للكلب من هناك فإن ...".
همس كاتشينسكي:
- مدهش! هاكم كيف ظهرت لديه فكرة صنع القفص الحديدي!
من الواضح أنه كان في دفتر يوميات شتيرنر فراغ جسيم, إذ إن التسجيل اللاحق كان يخص فترة خدمة المؤلف عند كارل غوتليب.
ثم كتب شتيرنر:
"رب عملي المحترم كارل غوتليب يحب الكلاب كثيراً. يا لغرابة هذا فقد "قاربتنا" الكلاب, وصنعت مستقبلي عند غوتليب. تعرفتُ إليه عند هيري. تبـيّنَ أنهما رفاق مدرسة ومن العمر ذاته, وهو الأمر الذي لا يجوز افتراضه أبداً عند النظر إليهما معاً: فهيري فطر عجوز, أما غوتليب فمُنوِّرٌ مثل الخيروفيم. اهتم غوتليب جداً بكلابي المروضة, وسألني أن أُعرِّج عليه. يأتي غوتليب لزيارة هيري مرة في العام على الأكثر, ولهذا فإنني لم ألتق المصرفي سابقاً. وها أنا ذا السكرتير الخاص لكارل غوتليب! هو مسرور مني وأنا منه.
انتهيت من العجوز هيري منذ مدة طويلة دون أن أبرهن لـه تجريـبـياً إمكان إرسال الفكرة عبر المسافات. وهذا أفضل. لقد قررت العمل مستقلاً, فهؤلاء العجائز ذوو الأسماء لديهم عادة نسب أعمال الشبـيبة إليهم. "أجريت تجارب في مخبر هيري ... تحت إشراف هيري ..." وانتهى.
كل المجد لهيري. على كل ما يهمني الآن ليس المجد وإنما شيء ما أكثر أهمية. لقد أجريت لنفسي تجربة إيحاء عبر قفص حديدي, واقتنعت دون جدال بأن الفكرة تترافق بإشعاع أمواج كهربائية. والآن ينبغي البدء بدراسة طبـيعة هذه الأمواج الكهربائية.
مشغول كل الانشغال. في الأمسيات أُصممُ جهازاً لالتقاط الأمواج اللاسلكية التي يُشعّها الدماغ الإنساني. وينبغي لهذا أن يكون مستقبلاً ذا حساسية غير عادية من أجل استقبال أمواج لاسلكية ذات طول متناه في القصر. سيكون المستقبل ذا مجال توليف على طول موجة يمتد من أربعين سنتيمتراً حتى المتر.
هاكم الرسم التخطيطي.
إلزا غليوك! فتاة ممتعة على نحو غير عادي. يوجد بـينها وبـين مستشارنا القانوني, لا أستطيع إطلاقاً حفظ كنيته, شيء ما لا هو بالمرِّ ولا هو بالحامض. ها هي ذي! زاوير! توجد بـين غليوك وزاوير علاقة ما لبقة تماماً, لكن ... أيحتمل أن يكون خطيبها؟ ما الذي وَجَدَته في هذا الشخص ذي الوجه المدوّر؟
إخفاقات! المستقبل لا يلتقط أمواج فكرتي اللاسلكية. سأعيد صنعه. أعمل الآن في الليالي. أما في الأمسيات فأدرس في الجامعة التشريح والفيزيولوجيا, لكني أدرسها من وجهة النظر الراديوتكنيكية. شيء خارق! الجسد الإنساني بمثابة محطة لاسلكية مرسلة ومستقبلة! شيء ممتع جداً!
لكن كي أدرس هذه المحطة اللاسلكية توَجَّب عليَّ البدء بدراسة علم التقنيات اللاسلكية. ليأخذها الشيطان. ربما سيبدو غداً أنه من الضروري للغاية البدء بدراسة علم الفلك! لا يزال من الجيد أن مالك الشقة لم يعد يضجرني الآن بتذكيراته عن ديوني. أعيش عند غوتليب, وأحصل على أجر جيد. أشعر أنني قارون بعد حياتي نصف الجائعة. وأملك إمكان الحصول على المواد الضرورية لآلاتي. إلزا غليوك. غليوك هي السعادة. من نصيب من ستكون غليوك؟ هل يعقل أن تكون للمُدوَّر؟
النحس مجدداً. أسمع صفيراً ما. ولولات. هل يعقل أنها "موسيقا الفكرة"؟ ينبغي أن أعزل الغرفة عزلاً أفضل عن العالم الخارجي كي لا تحصل أي تأثيرات غريبة.
وأخيراً ...
غليوك لا تعيرني انتباهاً. فيت دمية حية, جيدة لكنها فارغة. يبدو لي أنها مغرمة بزاوير, لكن قلبه مشغول بإلزا. لم يعد يوجد شك في هذا. لكن إيما؟ مأساة!
القضية تسير وتجري على ما يرام! لا يوجد شيء مدهش. نحن نُعبِّر عن أفكارنا بإشارات الأحرف في الرسالة والجريدة. الأفكار والمشاعر بالنسبة إلي الآن تملك لغة مختلفة ومسميات أخرى. طول الموجة هو نون والتردد هو إكس. الخوف. شعور الخوف لـه تلك الموجة اللاسلكية. السعادة تملك أخرى. يبدو أنني قريباً سوف أًحَضِّر المشاعر صنعياً, وسوف أرسلها عبر المذياع. ألا ترغبون في المرح أو البكاء؟ من الطريف أن أحاسيس الحيوانات تملك أمواجاً كهربائية تُذكِّر بالأمواج الكهربائية الموافقة لدى الناس والقريبة جداً (الخوف والسعادة وغيرها).
كلا, كان هذا غير عادي أكثر من اللازم!!!
ليأخذه الشيطان! فهذه عبقرية! أنا ذاتي أرفع نفسي إلى مستوى العبقرية. لقد صنعتُ محطة لاسلكية صغيرة مرسلة, وبدأت أُشعُّ الموجة التي توافق شعور الحزن عند الكلب. يسجل جهازي الآن بدقة شديدة الأمواج الكهربائية التي يُشعّها دماغ الإنسان والحيوانات, وقد تجمَّع لديَّ "قاموس" كامل للأمواج - المشاعر - الأفكار. وهكذا شغّلتُ جهازي "الحاكي", أي محطتي المرسلة الصغيرة على المقام الحزين, فشعَّت أمواجاً لاسلكية عن حزن الكلاب. أجلستُ كلبي فالك بالقرب من المحطة على كرسي عازل كي يلتقط الأمواج الكهربائية التقاطاً أفضل. فماذا حدث؟ اكتأب كلبي فالك فجأة وأخذ ينبح! لقد التقط الأمواج اللاسلكية الخاصة بحزن الكلاب! ومن سعادتي أمسكتُ كلبي معانقاً, ودرتُ معه في الغرفة.
وعندما عدتُ أخيراً إلى رشدي قررت أن أُكرر التجربة, فأجلست الكلب وراء الحاجز. لكن فالك لم ينبح. من الواضح أنه يلتقط الأمواج اللاسلكية على مسافات قريبة فقط. وماذا لو ضخمنا استطاعة محطتي المرسلة؟ أنا لا أفهم إلزا غليوك بتاتاً. لكن لماذا تهمني بهذا الشكل؟ ربما أنا مغرم بها؟ حماقات! فلا متسع لديَّ لهذا.
غرابة غير عادية! لقد ولّفتُ ذاتي على المقام الحزين. سجّل جهازي الموجة التي أشعّها حزني. تملك الموجة ذبذبة معقدة نوعاً ما. ثم قمت بإشعاع تلك الموجة من جهازي المرسل الذي ضخّم الإرسال بصورة محسوسة. ولّفتُ نفسي على أكثر المقامات مرحاً, ورحت أنتظر النتيجة. شيء مدهش. لقد اكتأبتُ, والحقيقة أنني كنت جاهزاً كي أنبح مثل فالك. أنا ذاتي أرسلت لنفسي موجة الحزن. أما أعجب الأشياء, فهو أنني كنت أعي وعياً رائعاً أنه لا توجد عندي أي أسباب للحزن, وأن هذه الكآبة ذات "منشأ صنعي". هل يمكن أن نُسمّي هذا تنويماً مغنطيسياً ذاتياً؟ يبدو لي أنه يوجد شيء آخر في هذه الحالة غير الإيحاء أو الإيحاء الذاتي. الشيء المشترك مع التنويم المغنطيسي في هذه الحالة, هو تأثير هذه أو تلك من الأفكار أو الأمزجة فقط, وهو يبدو للعيان كما يقال. لكن هذا يُستدعى ميكانيكياً هنا: تُستدعى في الألياف العصبـية استدعاء صنعياً تلك العمليات الكهروكيميائية التي تترافق دائماً مع المزاج أو الفكرة الحاليين. ميكانيك مدهش!
ومع ذلك فكيف سأُجري تجاربي اللاحقة؟ كيف سأؤثر على الآخرين دون أن أقع شخصياً تحت تأثير الإشعاع؟ يوجد طريقان لأجل هذا: أولاً - الإشعاع الموجه, وثانياً - العزل (شبكة معدنية على الرأس).
الشبكة تساعد. سأبدأ العمل بالأمواج الموجهة. أي الهوائيات أنسب لهذا؟ لعلها من ذلك الشكل. من الضروري بناء هوائي وفقاً لنمط "المرايا البؤرية", التي تجمع الأشعة في محرق محدد. وبهذه الطريقة أستطيع تضخيم تأثير الإشعاع بصورة ملحوظة.
أنا لا أعطي الحرية لأفكاري, لكن رأسي يدور في بعض الأحيان: أي الآفاق تنفتح أمامي! إلزا!
تجربة الأمس. أصدرتُ أمراً فكرياً لفالك كي يجلب لي كتاباً من الغرفة المجاورة. التقطت المحطة المرسلة هذا الأمر وأشعّته. نفّذ فالك الأمر. رددت الكتاب إلى مكانه وكررت الإشعاع ميكانيكياً, أي أنني شخصياً لم أعط أي أمر فكري, لكني أصدرته بمساعدة مرسل تلك الموجة المماثلة لما في الأمر الفكري. جلب فالك الكتاب مجدداً. يُسَجل الجهاز هذه الأمواج اللاسلكية مثل صوت على أسطوانة الحاكي. وسيمكنني الآن أن أُرسل أوامر متكررة بدورة واحدة لعتلة.
قمت اليوم بتجربة ممتعة. حاولت فكرياً إرسال أمري لإنسان. يعيش عند غوتليب خادم عجوز, هانس. أمرته فكرياً أن يأتي إلى غرفتي. ركّزتُ كل قوة تفكيري, كما لو أنني تخيلت نفسي مكان هانس, ومشيت كل الطريق من غرفته إلى غرفتي. وبكلمة فقد تصرفتُ كما لو أنني أوحيتُ لفالك. لكن العجوز هانس لم يأت. لم يدهشني هذا. فقد نشأ بـيني وبـين فالك "بـيان" كامل - رابطة منذ مدة طويلة, كما يقول المنومون المغنطيسيون. ثم إنني كنت أُصدرُ الأوامر الفكرية لفالك من مسافات قريبة. والأمواج اللاسلكية المُشَعّة من دماغي ذات استطاعة متناهية الصغر, وغير كافية كي تصل إلى دماغ شخص آخر وتثير ذبذبات كهربائية ممائلة (أي أفكار وأنماط). ثم إنني وهانس شخصان مختلفان كثيراً. وببساطة فإن دماغه, أي محطته المستقبلة, لم تستطع التقاط الإشارات التي يرسلها دماغي. عندئذ أرسلت ذلك الأمر الفكري بعد تقوية استطاعة الإرسال من خلال محطتي اللاسلكية المرسلة. أعترف بأنني انتظرت ما الذي سيجري لاحقاً بقلق بالغ. ويا لغبطتي غير القابلة للشرح, فقد سمعتُ خطوات يوهان الخافقة: عنده قدمان كبـيرتان, وهو يمشي دائماً منتعلاً حذاء طرياً. فتح بابي دون أن يقرعه, وهذا شيء لم يحصل معه من قبل, وتوقف فجأة بذهول وحيرة. ما الذي سيواصل فعله؟ أنا لم آمره, وهو لا يعرف الآن كيف يعلل ظهوره.
قال وهو يبادل رجلاً بأخرى:
- اعذروني, لكني ... تناهى إلى سمعي أنكم ناديتموني.
أسرعتُ إلى تهدئة العجوز:
- نعم, نعم. أردت أن أعرف هل عاد السيد غوتليب من النادي.
أجاب يوهان الذي انفرجت أساريره:
- لم يعودوا بعد.
الآن لم يعد يشكُّ أن ظهوره كان بناء على ندائي, وزال من عنده شعور مزعج بسبب تصرفاته غير القابلة للتفسير.
- أشكرك, يمكنك الذهاب يا يوهان.
انحنى العجوز وخرج. أما أنا؟.. أنا جاهز كي ألحق به وأمسكه بسبب السعادة, وكي أدور معه في الغرفة مثلما فعلت مع فالك الذي نبح بسبب الحزن.
نجحت التجربة! فما الذي تعنيه؟ تعني أنني أستطيع أن آمر الأشخاص الآخرين. أستطيع إرغامهم على القيام بكل ما أريده. أنا أستطيع! أنا أستطيع كل شيء! أليست هذه القدرة الكلية؟ إذا أردتُ, فسيجلب الناس كل ثروتهم ويبسطونها عند قدمي. إذا أردتُ, فسينتخبونني ملكاً, إمبراطوراً. فليذهب التاج إلى الشيطان! إذا أردتُ, فستحبني أجمل امرأة ... إلزا! كلا, كلا... لن أفعل هذا. شتيرنر أنت تُضيّع عقلك! تماسك يا شتيرنر, وإلا فإنك سترتكب حماقات! شتيرنر! طالب فقير منذ فترة ليست بعيدة, ثم طالب دراسات عليا لدى البروفيسور هيري ... إنسان عادي متوسط ذو وجه طويل بشع نوعاً ما ... وها أنت ذا تحلم بالسلطة والمجد والحب فقط لأنك سُعِدتَ مصادفة بالوقوع على اكتشاف علمي مهم؟!
بالأمس كنا في نزهة: أنا وإلزا غليوك وإيما فيت وزاوير. يبدو أنني نطقت كثيراً من الكلمات الزائدة بطريقة نصف هزلية ونصف جدية, وعرضتُ الزواج على إلزا. وهذا ما كان ينبغي انتظاره … لكن لنفرض أنها لا تمزح معي! على كل فهي لا تمزح. لماذا ينظر زاوير فقط نظرة المنتصر؟ تحكني يدي كي أختبر عليه قوة مرسلاتي الفكرية".
" ما أطول المدة التي لم أكتب فيها! زوجتي تكتئب مجدداً. ينبغي أن أقوّي أيضاً استطاعة مرسلاتي. لقد باشرت لعبة ضخمة. إما أن ألوي رقبتي أو … لماذا لم أستمع إلى أصوات التعقل؟ تأخر الوقت الآن كي أتوقف, فقد قادتني اللعبة بعيداً جداً. لقد تعبتُ وأُنهكت قواي بسبب الإجهاد الدائم. فليأخذني الشيطان! كان من الأفضل ألا أترك البروفيسور هيري!
الحرب !..
يكفي! تعبت تعباً شديداً. حان وقت إنهاء اللعبة ...".
14 - اللعبة منتهية
جلست إلزا غليوك في الحديقة الشتوية وقد تغطت كلها بخمار معدني رقيق.
اقتربت العاصفة الرعدية, وتردد دوي الرعد البعيد بصوت منخفض في القاعة المجاورة. كان الجو خانقاً. فكرت إلزا بلودفيغ مثلما تفعل دائماً, وارتعشت كلها عندما سمعت خطواته. وتعجبت جداً عندما خلع شتيرنر الغطاء المعدني عن جسمه فجأة بعد دخوله الحديقة الشتوية, واقترب منها وألقى الغطاء عنها أيضاً.
- اليوم يمكننا أن نرتاح يا إلزا من هذا الرداء الكريه. أف!
وتنهد بارتياح.
لم تر إلزا وجه شتيرنر منذ فترة طويلة, لذا تعجبت من كيفية تغيره. أنفه تًرَهَّف أكثر مثل أنف مريض اشتدت وطأة المرض عليه, وغاصت عيناه بعمق أكثر. أما شعر رأسه ولحيته فقد نما بشدة.
- لقد تغيرت كثيراً يا لودفيغ! من الصعب معرفتك!
ابتسم شتيرنر بخبث:
- هذا أفضل. ألست شبـيهاً في الحقيقة الآن بذلك الزاهد العجوز؟ لنذهب يا إلزا ... ستعزفين لي. فأنا لم أسمع موسيقا منذ فترة طويلة ... للمرة الأخيرة ...
دخلا إلى القاعة, فجلست إلزا وراء البـيانو وأخذت تعزف نوكتورن شوبان.
- انتظري يا إلزا … كفّي ... ليس هذا. كيف يمكنك أن تعزفي ذلك اللحن الحزين اللطيف عندما تقترب العاصفة الرعدية؟ هل تسمعين دوي الرعد؟ الرعد!.. إنه يبعث وينشط البعض ويحمل الهلاك للآخرين ... شتيرنر سيموت في ليلة هذا اليوم ...
نهضت إلزا باضطراب.
ما بك يا لودفيغ؟ أنت تخيفني!
- لا بأس … لا تصغي إلي … ستسمعين كثيراً أيضاً في هذه الليلة … ينبغي أن أتحدث عن الكثير من الأشياء أنا وأنت … ليكن عزفك أسرع … اعزفي لبـيتهوفن - الموسيقا الجنائزية بمناسبة موت البطل. البطل! ها - ها - ها!
عزفت إلزا.
سار شتيرنر في القاعة بخطوات كبـيرة وهو يعتصر يديه.
- الموسيقا الجنائزية بمناسبة موت البطل الذي نزع المجد منه … يقولون إن بـيتهوفن كتبه لمناسبة موت نابليون, ولكنه وقد خابت آماله فيه لاحقاً سمّى المارش ببساطة: "بمناسبة موت البطل". عن ماذا أردت الحديث؟
نظر شتيرنر إلى الساعة وقال:
- يكفي يا إلزا. فالدقائق محسوبة. قبليني الآن, قبليني بقوة, على نحو لم تُقَبليني فيه من قبل قط.
... انفصل شتيرنر عن شفتي إلزا.
- خداع حلو للنفس!
دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً.
همس شتيرنر بصوت خافت:
- النهاية!
في هذه اللحظة شعرت إلزا بحدوث شيء ما غير عادي معها, كما لو أن غشاوة ما سقطت عنها, غشاوة مشابهة للشبكة المعدنية التي ارتدتها في الفترة الأخيرة. وتوضحت أفكارها إلى حد غير مألوف. وفجأة ومن جديد أصبحت إلزا السابقة التي كانت قبل موت كارل غوتليب. لقد انهار سحر ما. نظرت بتعجب إلى القاعة الكبـيرة غير المريحة الغارقة في الغسق. أضاء البرق وجه شتيرنر, فارتجفت وقد رأت أمامها وجهاً ملتحياً غريباً. وسألت بحيرة:
- ما هذا؟ أين أنا؟ من أنت؟
تابع شتيرنر هذا التغير بفضول مؤلم.
- هذه قاعة كارل غوتليب, الصيرفي المرحوم. عاملة الاختزال إلزا غليوك لم تكن هنا قط ... وأمامك لودفيغ شتيرنر. ألم تتعرفي عليَ؟ إلزا!.. أنا مخطئ بحقك ولا أسألك العفو. الشيء الوحيد الذي يبرر لي هو أنني أحببتك حقاً و ... أحببتك ... أحبك بعمق وإخلاص ...
تراخت إلزا على الكرسي المستدير بالقرب من البـيانو, ونظرت برعب تقريباً إلى شتيرنر وقد ارتدّت إلى الوراء.
مسح شتيرنر جبهته بـيده, كما لو أنه يستجمع أفكاره.
- لا تنظري إليَّ هكذا يا إلزا! نعم أنا أحبك. وهل أنا أول من دفعه الحب إلى الجريمة؟ لقد صارعتُ نفسي طويلاً. هل تذكرين حديثنا القديم أثناء النزهة في القارب؟ لقد تكلمتُ آنذاك عن القوة الجبارة التي امتلكتها. لقد سبقتُ الآخرين في اكتشاف طريقة إرسال الأفكار عبر المسافات. ووجدتُ بـين يديَّ قوة لم يملكها أي شخص في العالم قبلي قط. وقد ... داخ رأسي, إذ مرت فيه أضخم الخطط. واستخدمت هذه القوة كي أُوحي إليك بأن تحبـيني …
ارتدّت إلزا عنه برعب.
- وأَوحيتُ إلى زاوير أن يحب إيما. حرَّكتُ الناس مثل الدمى, سحبتهم بخيط فتراقصوا وفقاً لرغبتي. أردتُ الثروة فأتـتني. لكني ظللتُ حذراً طوال الوقت إلى أن اقتنعتُ تماماً بكلية جبروتي. سرتُ بطرق التفافية. المنحني! يقود إلى الهدف قيادة أصح. لقد تحدثت عن هذا آنذاك في القارب. وكي لا أثير الشكوك ضدي فقد عملتُ كي تحصلي أنت على ثروة غوتليب, وليس أنا. أما أنا … فقد حصلتُ عليك مع جهاز عروس جيد! ها - ها - ها!..
نظرت إلزا نحو شتيرنر بعينين متوسعتين.
- سببتُ الكثير من الشر للناس. لكن لا تظني أن الشر ذاته قد حمل إليَّ الغبطة. أردتُ أن أصبح عظيماً. تهيأ لي أن سلطتي دون حدود. كان يكفي أن أرغب في المجد, فيأخذ الناس بالتصفيق لي, ويتغزلون بأقل نتاجاتي موهبة. لكن هذا في نهاية الأمر إعجاب بالذات, وهو كذلك خداع للنفس مثلما هو الإيحاء إليك بأن تحبـيني.
وفجأة خفض رأسه وتابع بذلك الحزن في صوته:
- أنا شبـيه بتور. إلزا هل تذكرين الأسطورة الشعرية الاسكندنافية عن الإله تور؟ لقد عدَّ نفسه كلي القدرة مثلي. وبطريقة ما هامَ في البلاد التي عاشت فيها قبـيلة العمالقة. فأخذوا يسخرون من قامته القصيرة. غضِبَ تور, واقترح عليهم تجريب قوته. قال العمالقة: "اشرب الماء من هذا القرن". شرب دون نهاية, ولم ينته من الشرب. اقترح العمالقة عليه أن يتصارع مع عجوز, لكنه لم يستطع التغلب عليها رغم أنه غاص في الأرض حتى ركبتيه بسبب الجهد. كان القرن موصولاً مع البحر. حتى الإله تور لم يكن قادراً على شرب البحر. أما العجوز فكانت الموت ذاته. وأنا أردتُ, مثل تور, أن أشرب البحر. لقد أردتُ أن أقلب تاريخ البشرية وحدي, وأن أفرض إرادتي على ملايين "القطرات" في المحيط الإنساني. أردتُ أن أُبدِع شيئاً أشبه "بمصنع للسعادة" بوساطة آلاتي, لكني خلقتُ بدائل خرقاء فقط.
نظر شتيرنر بعصبـية إلى الساعة.
- يبدو أنني لا أقول المطلوب … وهكذا ينبغي أن أقول الكثير … لو أنك تعلمين يا إلزا كيف عانيتُ, مزروباً مثل حيوان في زاوية معتمة, محاطاً بأعداء لا نهاية لهم, دائم الحذر, بتوتر عصبي مستمر لا يضعف.
لو كان هناك صديق واحد على الأقل حولي - صديق مخلص ووفي ... لو أنك أحببتني حباً لم أصطنعه أنا! لكان من المحتمل أن أتابع النضال. لكني كنت وحيداً ... لقد تعبت تعباً لا حد له!..
صَمتَ شتيرنر وخفضَ رأسه.
نظرت إلزا نحو شتيرنر, وفكرت أنه لا يوجد شيء غامض ومخيف في هذا الوجه الممتقع والمنهك. هذا وجه مريض بضعف الأعصاب, وجه إنسان شديد التعب. ما الذي يمثله شتيرنر؟ من المحتمل أن يكون مخترعاً عبقرياً ومجرباً, لكنه الشخص العادي الذي اكتشف مصادفة طريقة إخضاع إرادة الناس الآخرين لإرادته, ففقد عقله تقريباً بسبب "جبروته". لقد قام بآلاف الحماقات, ولم ينتصر على "العالم", وسُحِق هو نفسه تحت ثقل خارج عن طاقته ألقاه على كاهله. فهمت إلزا هذا بمشاعرها أكثر منه بعقلها. شاهدت أمامها ليس بطل مأساة ولا إنساناً خارقاً, وإنما إنساناً يعاني ببساطة, والذي يعاقب بقسوة بسبب أخطائه. كان ذلك الشتيرنر مفهوماً أكثر من قبلها, وأثار فيها الشفقة فقالت بهدوء:
- لا بد أنك عانيتَ كثيراً!
- أشكرك! كلمات التعاطف هذه بالنسبة إليَّ أغلى من قبلات موحى بها صناعياً!.. نعم أنا ميت من التعب وأنا ...
توقف شتيرنر ثم قال بصوت خافت:
- قررت الاستنكاف عن الصراع. قررت وضع حد لكل شيء والقضاء على شتيرنر ذاته
أخرجَ الساعة مجدداً ونظر إليها.
- بقي لشتيرنر عدة دقائق كي يحياها.
نظرت إلزا إليه برعب.
- هل تناولت السم؟
- نعم, تناولت. لكن السم ليس عادياً تماماً. الآن سوف تعرفين هذا … لكن قبل القضاء على شتيرنر قررت التكفير قليلاً عن ذنبي تجاهك على الأقل. لقد أعدتُ إليك وعيك السابق. لقد أوحيتُ إليك في الساعة الحادية عشرة بأن تصبحي إلزا السابقة في تمام الثانية عشرة. سوف تنحسر عنك كل الحياة الاصطناعية مثل القشاوه. كوني حرة, كوني نفسك. نظِّمي حياتك كما تريدين, أحبي من تشائين, كوني سعيدة.
تنفست إلزا بعمق.
وتابع هو:
- وشتيرنر؟ ما العمل مع شتيرنر الذي يرفض الناس الشرفاء مصافحة يده؟ يجب أن يموت شتيرنر. لقد أعطيتُ أمراً لآلتي المرسلة للأفكار. لقد عيَّرتُها على الاستطاعة الكاملة.
نظر شتيرنر مجدداً إلى الساعة.
- في تمام الساعة الواحدة, بعد ست دقائق فقط ستُشِعُّ هذا الأمر المرسل من شتيرنر إلى شتيرنر. وسينسى شتيرنر أنه شتيرنر. سيفقد شخصيته, سينسى كل شيء كان في حياته. سيكون إنساناً آخر مكتسياً وعياً جديداً. سوف يكون شتيرن. سيذهب شتيرن من هنا إلى هناك, إلى حيث أمره شتيرنر بالذهاب, حتى إن شتيرن لن يشك أن وجود شتيرنر المقيّد سوف يزجُّ في القفص الحديدي لحياته الباطنة!.. إنه الموت ... موت الوعي!
سألته إلزا بهلع غير إرادي:
- لكنهم يستطيعون اقتناصك؟
- ومن سيعرف شتيرنر في هذا الفوضوي؟ لم يشاهدني أحد في هذا المنظر مع لحية. لقد فكرتُ بكل شيء مسبقاً. اليوم مساء لن يصدر إشعاع عن الأعداء. وحتى لو أنه حدث فلن يكون خطراً بالنسبة لشخص ما هو شتيرن. الإشعاعات موجهة, وينبغي أن تقهر وعي شتيرنر. وهو لن يعود موجوداً!..
نظرت إلزا نحو شتيرنر بعينين متوسعتين. فأمامها ينبغي أن يحدث سر تقمص ما.
- شيء آخر يا إلزا. عندما سأذهب, سينقلب كل شيء رأساً على عقب هنا. من المؤكد أنهم سينتزعون منك كل ممتلكاتك. لقد اهتممت بأن لا تحتاجي. ها هنا.
ناول شتيرنر إلزا رزمة.
- ستجدين نقوداً من أجل الطريق وعنوان أحد الأشخاص, لقد حولتُ إلى اسمه مبلغاً ضخماً من المال. الاحتفاظ به على اسمك خطر. لقد حصل على إيحاء شديد, وستكون النقود في سلام. اذهبي إلى هناك. المكان بعيد جداً, لكن هذا أفضل. يجب أن ترتاحي من كل الذي عِشْتِه. حان الوقت! الوداع يا إلزا!
- انتظر, سؤال واحد ... قل يا شتيرنر, هل أنت ... مذنب في موت كارل غوتليب؟
دقت الساعة الواحدة. وفجأة سرى التشنج في وجه شتيرنر. تدحرجت عيناه وأصبحتا عكرتين, فتمسك بحرف البـيانو متنفساً بصعوبة.
تابعت إلزا هذا التغير وقد انكمش قلبها.
تنهدَ شتيرنر وأخذ يثوب إلى رشده تدريجياً.
- أجب على سؤالي يا شتيرنر!
نظر شتيرنر إليها بحيرة كاملة وقال بصوت ما جديد مغاير وهادئ:
- المعذرة يا سيدة, ولكني لم أتشرف بمعرفتك. ولا أعلم عن أي سؤال تتحدثين؟
ثم انحنى شتيرنر وخرج من القاعة بخطوات رتيبة وغريبة.
كانت إلزا مصدومة. ولم يعد شتيرنر موجوداً.
15 - عند حوض الأسماك المكسور
لم تنم إلزا إطلاقاً في هذه الليلة. انبلج الفجر وهي لا تزال جالسة في المكان ذاته قرب البـيانو. هزَّتها أحداث هذه الليلة. تمعنت في تلك العقدة العويصة والصعبة, في تلك الفوضى التي أدخَلَها شتيرنر إلى وعيها. تذكرت كل شيء عاشته منذ زمن موت كارل غوتليب: هربها الفاشل من شتيرنر, حبها المفاجئ له, السفر إلى مينتون. لكنها تذكرته مثلما تتذكر شيئاً غريباً, كما لو أنها قرأت كل هذا في رواية. وتذكرت بوضوح كذلك ذلك الزمن عندما كانت خطيبة زاوير. لكن شيئاً ما في لوحة الماضي هذه قد تغير. شعَرَت وهي تفكر بزاوير أنها لا تزال تحبه, لكنها تحبه بطريقة ما مختلفة: لقد أعتم مظهر زاوير. ما الذي حدث معه؟ هل تغير هو؟ أي إنسان هو عموماً؟.. ويا لدهشتها, فقد أدركت إلزا نفسها عند فكرة أنها لا تعرف زاوير من حيث الجوهر. كيف ستسير علاقتهما الآن؟.
انقطع تفكيرها مع ظهور إيما المفاجئ. كانت إيما متعبة وممتقعة وفي ثياب السفر. وقد صرَخَت وهي تندفع نحو صديقتها باكية:
- إلزا!
انهالت إلزا على إيما الباكية بالأسئلة:
- مرحباً, يا إيما! ما سبب بكائك؟ لماذا لم تبلغيني بقدومك؟ أين طفلك؟
- ابني هناك في الأسفل مع الحاضنة. لقد هجرني أوتو, حتى إنه لم يترك نقوداً, فبعت ثياباً وبعض الحلي لأجمع أجرة الطريق.
- تركك مع الطفل دون نقود؟
- لقد جنَّ تماماً. شعرتُ بنفسي تعيسة ووحيدة. ليس لي أحد غيرك ...
وفجأة نطقت إيما بصوت متقطع وبنوبة جديدة من البكاء الهستيري:
- لا تنتزعي أوتو مني! إنه يحبك ويحتفظ بصورتك وينظر إليها. أنا لم أتجسس عليه إطلاقاً. لقد دخلتُ مصادفة, لكنه طردني بفظاظة ... إنه يحبك!.. لا تنتزعيه. لديك كل شيء, وأنت تلك السعيدة. لديك الثروة وتحبـين لودفيغ. لماذا تريدين أوتو أيضاً؟
ابتسمت إلزا بطرف شفتيها, لكن عينيها بقيتا حزينتين. وفكرت وهي تنظر إلى وجه صديقتها الذي تـغير ونحل:
"المسكينة إيما, أين اختفت الحمرة التي غطت كامل وجنتيها وضحكتها الرنانة؟ الدمية المسكينة, ما الذي فعله أوتو بها؟ هل يعقل أنه عديم الحنان إلى هذا الحد؟".
ثم قالت بصورة جدية وهي تُمسِّدُ بيدها شعر إيما الذي تشعث:
- أنا لست أسعد منك. ولا توجد ثروة لديَّ. وأنا لم أعد أحب شتيرنر, وشتيرنر لم يعد موجوداً ...
نسيت إيما مصيبتها لدقيقة بسبب الدهشة :
- هل مات؟ لماذا لم تكتبي لي عن هذا؟ وهل الموتى لا يُحَبَّون؟ كم من الأخبار!..
ابتسمت إلزا ثانية, فأصبح وجه إيما حزيناً مجدداً, وقالت وهي تنشج:
- هذا يعني, هذا يعني أنك اعترفت لشتيرنر بحب زاوير, فقتل نفسه من القنوط. يعني أنك ستنتزعين أوتو مني؟
قالت إلزا بلطف:
- اهدئي أيتها الطفلة الغبـية. أنا لن أنتزع منك زاويرك, فهو زوجك ووالد طفلك.
أجابت إيما:
- هذا لا يعني شيئاً. لقد قال, لقد قال أكثر من مرة إن كل حبه نحوي كان إحدى الوساوس الشيطانية, وأنه لولا هذه الوسوسة لما أحب إطلاقاً تلك الحمقاء. وقال إنه يمكن فسخ ذلك الزواج. وإذا قال أوتو فهذا صحيح. فأنا غبـية حقاً. لكن فقط … حتى الأغبـياء يريدون السعادة!
ثم بكت مجدداً:
- بـيد أنه أحبني كما أنا! ولاحقاً … لاحقاً أصبح كما لو أنه يثأر مني لأنه أحبني.
ثم حدَّثت إيما إلزا عن تاريخ حبها قاطعة الحديث بالبكاء. لقد عانت طويلاً جداً في الوحدة, والآن تكلمت عن كل شيء آلمها. عن فظاظة أوتو وتعنته, عن سخرياته وتهكماته وإهاناته.
استمعت إلزا وتبرَّد قلبها لا إرادياً. لقد انتصب أوتو أمامها تحت ضوء جديد. لم يكن هذا "وسوسة". لقد تصرف هكذا بعد أن تحرر من سلطة شتيرنر. كان باستطاعته الكفَّ عن حب إيما. لكن هل يعقل أنه تنقصه اللباقة والتأدب وأخيراً الشرف البسيط, كي يردع نفسه عن ذلك التعامل مع زوجته. وفكرت إلزا وهي تتذكر حبها لزاوير:
"هل يعقل أن شتيرنر محق في رأيه بأننا دمى عمياء فقط بـيد الغريزة, التي يمكنها إجبارنا على أن نحب شخصاً ذا رأس حمار؟ يا للهول!..".
استمعت إلزا إلى صديقتها وهي تفكر بأمورها, وأنصتت إلى الضجيج المتزايد في الطبقة الثانية.
"ما الذي يمكن أن يكون هناك؟".
أما هناك فقد جرى آخر فصول الصراع.
لقد اقتحمت مبنى إلزا فصيلة مسلحة ببدلات معدنية واقية على رأسها زاوير وغوتليب.
ضرب زاوير باب غرفة المكتب بمقبض البارابـيلوم وصرخ:
- افتح يا شتيرنر وإلا سنحطم الباب!
سمع المهاجمون على نحو غير متوقع صوت كاتشينسكي الواصل من غرفة المكتب ونباح الكلاب.
- شتيرنر غير موجود, وأنا لا أستطيع فتح الباب. لقد أغلقه شتيرنر من الخارج عند ذهابه, ووضع الكلاب قربه.
- أهذا أنت يا كاتشينسكي؟ ألا تزال حياً؟
توجه زاوير إلى الجنود وأمرهم:
- اخلعوا الباب!
انقضت عدة أكتاف متينة على الباب فأخذ يتشقق. سُمِعَ خلف الباب نباح كلاب عنيف, ودسَّت الكلاب الكبـيرة أخطامها المكشرة المغطاة بالزبد في الشقوق الناشئة.
أردت عدة طلقات الكلاب في مكانها فتناهى صوت كاتشينسكي الهادئ:
- لماذا تقتلون الحيوانات؟
تمتم زاوير وهو يحشر نفسه في الثغرة المتشكلة:
- وهل كنتَ تفضل أن تمزقنا الكلاب؟
كان مندهشاً بعد أن رأى أن كاتشينسكي يجلس بهدوء خلف الطاولة سانداً رأسه بـيديه, فلقد عاين المخترع التصاميم بتركيز.
سأل زاوير:
- أين شتيرنر؟
أجاب كاتشينسكي دون أن يرفع رأسه:
- لا أعرف. لقد وعدني أن يعميني ويخنـقـني صباحاً أو بشيء من هذا القبـيل, لكن من المحتمل أنه قد نسي, أو أنه مشغول بشيء ما ...
ثم هتف بعد أن صفق بـيده التصاميم:
- هذا شيء رائع! لم يخدعني شتيرنر. لقد أمضيت ليلة ممتعة إلى حد شيطاني! شتيرنر هذا عبقري حقاً. رسم تخطيطي لهوائي, جهاز تقوية مع محولات, وصمامات مهبطية, ورسم تخطيطي لرابطة تحريضية مع دائرة طنينية لهوائي ...
تبادل زاوير وغوتليب النظرات: هل يعقل أن شتيرنر قد سلب كاتشينسكي عقله؟
قال زاوير:
- يجب تفتيش كل المبنى من الأعلى إلى الأسفل ووضع الحراسة على المحطات المرسلة للأفكار.
بدؤوا المعاينة من غرفة شتيرنر حيث توضَّعت واحدة من المحطات المرسلة للأفكار. وُجدَت المحطة الثانية المماثلة في الطرف الآخر من المبنى بالقرب من "معرض الوحوش". لم تكن المحطة تعمل فقال غوتليب:
- وهكذا أيها السادة. أنا أعتقد أنه لا خطر الآن, ويمكن أن نخلع أقنعتنا الواقية.
وكان أول من نزع الشبكة عن رأسه فاقتدى الآخرون به.
كان بـين الواصلين عدد من معارف غوتليب القدماء: المدعي العام, ورئيس الشرطة و"الجنرال الحديدي" الذي شارك في الحملة العسكرية ضد شتيرنر "بغرض دراسة الأساليب الجديدة في إدارة المعركة".
لقد باعد ما بـين يديه كما لو أنه يبرر فشل حملاته العسكرية السابقة ضد شتيرنر وقال:
- من كان يعرف أنه ينبغي ملاقاة شتيرنر بخمارات نسائية على الرأس؟
ثم قطب حاجبـيه الأشيبـين الكبـيرين وقال بحزن وهو يشير إلى كاتشينسكي:
- ها هم أولاء الآن قواد المستقبل. أنتم أيها السادة المهندسون. لقد انتهى دورنا! ما الذي سنفعله بالحربة إذا كان هذا الشيء يستطيع فتل الحربة إلى أي جهة؟
وأشار بعداء إلى الآلة التي بدت من خلال باب غرفة شتيرنر.
دخل زاوير إلى غرفة شتيرنر:
- ومع ذلك ينبغي إخبار الجميع بأننا استولينا على أسلحة التأثير الفكري.
ثم تمتم وهو ينظر بحيرة إلى تصميم مجهول لآلة:
- تفو, يا للشيطان.
واستدعى المخترع لمساعدته.
- كاتشينسكي, هل تفهم شيئاً ما في هذا؟
اقترب كاتشينسكي من الآلة وأخذ يدور الأذرع بثقة فعملت الآلة, ثم قال:
- ينبغي إرسال الشعاع الذي سيحرر كل من دحره شتيرنر.
أجابت عدة أصوات:
- صحيح!
وأخذ كاتشينسكي "يعالج عن بعد" كما عبَّر أحد الواقفين في الغرفة.
سأل زاوير أحد الجنود الذين فتشوا مكان القبو:
- هيه, ماذا هناك؟
فأجاب:
- شتيرنر غير موجود.
- ابحثوا في الطبقة الأولى! فتشوا كل شق!
توجه كاتشينسكي بحديثه إلى المدعي العام:
- معذرة أيها السيد المدعي العام, هل أستطيع أخذ هذه المخططات؟ لقد أعطانيها شتيرنر ...
- الآن لا أستطيع السماح بلمس أي شيء وأخذه من هنا. فكل هذا عبارة عن مادة للتحقيق. قد يجوز لاحقاً ...
أجاب كاتشينسكي:
- مؤسف جداً!
ثم فكر: "ومع ذلك فمن الجيد أنني أفلحت في التعرف على كل هذا وكتبت أهم الصيغ. سنقنع من دون المخططات. أما هم فعلى الأرجح لن يفهموا كل ما في الصيغ".
قال غوتليب:
- وأنا أيضاً أرغب في التوجه إليكم برجاء أيها السيد المدعي العام. من الضروري استدعاء فصيلة إضافية لحماية القبو الذي تحفظ فيه مقدَّرات ضخمة. أنا أفترض أنني أملك الحق في الإصرار على هذا بحكم كوني الوريث القانوني. وأعتقد أن مسألة حقنا بالتركة الآن لا تستدعي الشك أبداً.
أجاب المدعي العام:
- حقوقكم هي مسألة المستقبل. لكني لا أملك شيئاً ضد الحراسة المشددة.
تزايد تجهم زاوير وهو يستمع إلى هذا الحديث, فاقترب من غوتليب وقال بسخرية:
- ألم تركض كثيراً إلى الأمام يا سيد غوتليب؟ فكما يجب أن يكون معلوماً لديك علماً جيداً, فقد حكمت المحكمة بالتركة لصالح إلزا غليوك, وقد اكتسب القرار القوة القانونية.
- لكن يمكن أن يعاد النظر فيه في ضوء الوقائع المكتشفة مجدداً.
وفجأة صرخ الحليف حتى أمد قريب بعد أن افتضح:
- بأي صفة أنت تتدخل في هذه القضية؟ لقد ضللت الجميع كفاية! إذا وقفت في طريقي نحو التركة مرة أخرى فسأطلب أن يعتقلوك. لقد رافعت باسم غليوك, وهذا يعني أنك شريك في الجريمة!
احتدم زاوير:
- لكن مسألة سبب حرمان والدك المحترم من التركة ...
انقطع النقاش مع ظهور كرانتس الذي باعد يديه باضطراب.
- أوتو! ها هو ذا نفسه! هاكم أين حلقنا أنا وأنت يا غوتليب للسيد شتيرنر. ونظفنا ثوبه, قه... وحصلنا على البقشيش من إحسانه!
ثم التفت إلى المدعي العام:
- هل تذكر سعادتك الدليل المادي الذي قدمته إليك في السجن. هل تذكر قطعة النقود؟ إنها ذاتها هي جريمتي. ثمن الدم كما يقال. فعوضاً عن قتل السيد شتيرنر نظفتُ ثوبه!
- لا أحد سوف يلومك بسبب هذه الجريمة يا كرانتس. لقد سجنتَ نفسك كفاية, والآن ينتظرك عمل جدي. لقد قبضنا على القفص لكن الطائر فر. شتيرنر غير موجود.
قال كرانتس بمرح وهو يفرك يديه:
- سنجده, سنجده! سنستخرجه من تحت الأرض!
سُمِعَ صوت كاتشينسكي الذي نحى سماعة الهاتف وقال:
- أخبار محزنة. لقد هتفوا الآن من أحد المصانع بأنه ما إن توقف تأثير نفوذ شتيرنر حتى سقط مئات العمال مغمياً عليهم, من الواضح أنه حدثت ردة فعل بعد الإنهاك المرعب الزائد الذي ثبتهم فيه شتيرنر طوال الوقت. يطلبون مساعدة دونما إبطاء.
خرج زاوير المتجهم والغاضب من الغرفة, وصعد إلى الطبقة الثالثة, فوجد إلزا وزوجته في الحديقة الشتوية.
ارتمت إيما عليه صارخة بفرح:
- أوتو!
لكنه أبعدها عنه بفظاظة, ثم سأل زوجته بتجهم:
- من أين أنت؟ اخرجي. عليَّ أن أتحدث مع السيدة ... شتيرنر.
نظرت إلزا نحوه بلوم, ونظرت إيما نحو إلزا والدموع في عينيها كما لو أنها تقول: هل ترين كيف يتعامل معي؟
قال زاوير وهو ينظر نظرة عابسة إلى زوجته:
- هيه؟
تنهدت إيما وخرجت بخضوع.
قالت إلزا بلوم:
- أوتو زاوير, أنا لا أتعرف إليك.
قال زاوير باهتياج:
- إنها تعاستي! أنا لا أعرف كيف أنفصل عنها. يجب أن تعرفي أن حبي لها قد استُدعيَ صنعياً من قبل شتيرنر.
- هذا لا يعطيك الحق بمعاملتها هكذا, فهي ليست مذنبة في أي شيء. كما أنها أحبتك من قبل ليس بأمر من شتيرنر.
أجاب شتيرنر باهتياج كذلك:
- وأي علاقة لي بها؟ أين شتيرنر؟
- لقد خرج.
- إلى أين؟
- أنا لا أعرف. هو لم يقل لي, لكن من المؤكد أنه غير موجود في المبنى.
- أنت تكذبـين! أنت تخفينه!
نهضت إلزا.
- اسمع يا زاوير. إذا لم تتخل عن هذه النبرة فسأخرج حالاً.
أرغم زاوير نفسه على الهدوء اضطرارياً, وجلس بالقرب من إلزا, ثم قال بلطف تقريباً:
- اعذريني يا إلزا. لقد توترت أعصابي كثيراً في هذه الفترة. أنت تقولين إن شتيرنر غير موجود. يعني أنك حرة.
أجابت إلزا بهز رأسها.
- ما الذي يمنعنا الآن من أن نكون سوياً؟
- زاوير, لكنه يوجد عندك طفل وزوجة ...
- لا تحدثيني عنها يا إلزا!
أمسك يدها, فتجهمت إلزا وسحبتها بهدوء لكن بحزم. ليست الزوجة والطفل فقط هما من باعدها الآن عن زاوير. فالملامح الجديدة لمزاج زاوير جعلته غريباً. ومن الجائز أنها ليست ملامح جديدة. من المحتمل أن هذه الفظاظة والجفاف عاشا دائماً في داخله تحت غطاء اللباقة الباردة, وأنها فقط لم تلحظها قبلاً؟
شيء آخر أمسك إلزا. فشتيرنر كما عرفته في الليلة الأخيرة قد أذهل خيالها. لقد كان مجرماً, ومارس العنف على إرادتها الحرة ومشاعرها, لكنه سار عبر حياتها وترك أثراً. وتلك الهاوية من المعاناة التي كشفها لها في الليلة الأخيرة لم يكن بإمكانها ألا تهزها. لقد برهن بإعادة حريتها أن شيئاً من الاستقامة لا يزال كامناً في داخله.
لم يفهم زاوير ما الذي يعتمر في نفس إلزا, وظن أن الحياء الأنثوي فقط يتحدث داخلها.
قام بمحاولة أخرى لمسك يدها, وبدأ يتكلم بولع متزايد:
- قولي "نعم" يا إلزا وسنكون سعيدين. لقد عانينا كثيراً نحن الاثنين, لذا نستأهل حق السعادة. ثم تذكري يا إلزا, لقد سررتُ عندما اعتذرتِ عن التركة لأنني خفتُ أن أفقدك؟ أنا أعتقد أنها لن تقف حائلاً بـيننا الآن. شتيرنر غير موجود. فما الذي يمنعك من استخدام حقك؟ غوتليب؟ هذا الجرو لا يخيفني!
نظرت إلزا إلى زاوير ثم سحبت يدها مجدداً.
لاحظ زاوير في نظرات إلزا الدهشة والخوف, فأسرع يبرر وقد فهم هذا الخوف بطريقته:
- لا تظني أن ما يتحدث في داخلي هو الطمع. كلا, فأنا أحبك. أحبك فقط وليس ثروتك. لكن كوني عملية. وافهمي أن الجنة في كوخ هي حلم الشعراء. فكري بمستقبلك. أعطني وكالة, وأنا أتكفل بأن أنقذ على الأقل قسماً من ممتلكاتك بحدود ما خُصصَ لك في التركة.
نهضت إلزا ورفعت يديها كما لو أنها دافعت عن نفسها.
- كلا يا زاوير, كلا! لا تحدثني عن التركة! أنا لا أريد أن أعيش مرة ثانية كل هذه الكوابـيس. كل هذه الوساخة … لننهِ هذا الحديث … لقد تعبتُ جداً … لم أنم طوال الليل وبصعوبة أقف على ساقيّ ...
سأل زاوير عقب ابتعاد إلزا:
- لكن هذه ليست كلمتك الأخيرة؟
خرجت إلزا بسرعة دون أن تجيبه بشيء, وهرعت إلى غرفتها ثم عانقت إيما الباكية.
- لا تبكي يا طفلتي! أنا لن أنتزع منك أوتو, لكني أخشى أنك لن تفلحي في استعادته.
سألت إيما وهي تنظر إلى إلزا بعجز:
- أتظنين؟
قالت إلزا كي تعزي صديقتها رغم أنها لم تؤمن بهذه العودة:
- من المحتمل, لاحقاً ... والآن ينبغي أن نرتاح أنا وأنت. أنا لن أتركك. سنذهب إلى مكان بعيد كي ننسى كل شيء. لا تبكي! ينبغي أن تحافظي على نفسك فأنت لست وحيدة تماماً . لديك ابن وسنربـيه معاً. ستجدين سعادتك فيه.
- نعم, لنذهب. لا تتركيني يا إلزا!
تابع زاوير جلوسه في الحديقة الشتوية قرب حوض السمك وقد خفض رأسه. جلس متجهماً وغاضباً. وفجأة صرخ:
- آه, يا للشيطان!..
ثم ضرب على نحو غير متوقع لنفسه حائط الحوض الزجاجي بقبضته.
انكسر الزجاج فسال الماء. هبطت السميكات إلى القعر وفتحن أفواههن بشره وضربن الرمل الرمادي بأذيالهن ...
***
القسم الثالث
1 - بـيت صغير عند البحر
تأرجحت أوراق النخيل التي حركها هواء ساحلي معتدل تأرجحاً رتيباً, مثل مروحة ضخمة حركتها يد خفية. لفحت الشمس دون رحمة رغم أنها كانت في ساعة مبكرة. وسقطت من النخيل على الأرض ظلال سوداء ضاربة إلى الزرقة.
انتصب على سفح الجبل بـيت صغير ذو سقف مستو وشرفة واسعة تطل على ساحل المحيط. وامتدّت غابة استوائية خلف المنزل. احتشدت النخلات بكثافة حول البـيت وأخفينه عن القيظ بأوراقهن العريضة. وزنَّر سور حي من نباتات شوكية قطعة الأرض حول الدار. انتصب المنزل منفرداً. ووُجِدَت مدينة صغيرة خلف سلسلة جبلية غير عالية.
جلست امرأة شابة شقراء على الشرفة لتناول قهوة الصباح, وقد ارتدت بذلة صيفية بـيضاء, وانتعلت بقدميها العاريتين حذاء مضفوراً من منتجات محلية.
سأل الخادم العجوز الذي يرتدي قميصاً فضفاضاً وسروالاً أبـيضين, وينتعل مثل ذلك الحذاء المضفور:
- هل تريدين فنجاناً آخر؟
- كلا, يا هانس, أشكرك. يمكنك إبعاد القهوة. كيف حال قدميك يا هانس؟
- أشكرك, ممتاز. لقد شفتني هذه الشمس شفاء رائعاً. قليلاً جداً أيضاً وسوف أرقص!
- هل السيدة شميتغوف في المنزل؟
- ذهبت لجلب المؤونة. ينبغي أن تعود قريباً. هل تحتاجين لأي شيء يا سيدتي؟
- كلا, أشكرك, لا بأس.
خرج هانس. تنهدت إلزا وتناولت المروحة المصنوعة من أوراق النخيل, وأدارت الكرسي الخفيف المضفور نحو المحيط, ثم أخذت تنظر إلى أشعة الشمس الصباحية المتلألئة على سطح الماء وهي تلوح بالمروحة بهدوء.
انقضت سنوات ثلاث منذ ذلك الزمان الذي انتقلت فيه للإقامة هنا مع إيما وطفلها الصغير والسيدة شميتغوف التي توسلت كي تأخذها معها.
كان هانس خادم كارل غوتليب العجوز أول شخص التقته هنا. لقد كان ذلك الشخص المؤتمن الذي كلفه شتيرنر قبل انسحابه أن يهتم بإلزا. سعى شتيرنر"لتثبـيت" وفاء هانس بإشعاع فكري ذي قوة كبـيرة. حقق شتيرنر آنذاك نجاحاً كبـيراً في الإيحاء الفكري لمدة طويلة. فلقد حضَّر نفسه كي يوحي لذاته بأن "يتقمص شخصية" مدى الحياة. كان هانس التجربة الأولى في هذا الاتجاه. وابتسم شتيرنر مسروراً بعمله عندما انتهت التجربة على هانس وأعطت نتائج مستقرة تماماً وفقاً للاختبار. وفكر وهو يطلق هانس: "كم هو سهل الآن أن تجعل من الناس أوفياء ومخلصين!".
لكن هذا الوفاء المثبَّت صنعياً بالإيحاء كان للحيطة فقط. فهانس وفقاً لكل الاحتمالات كان سيبقى مخلصاً من دون إيحاء, وكان سينفذ كل أوامر شتيرنر بدقة. وقد وضع باسم هانس مبلغاً ضخماً في مصرف المدينة المجاورة, لكن المالكة المطلقة للنقود والمنزل كانت إلزا.
لقد أعجبتها جداً هذه الزاوية المعزولة الهادئة والبعيدة عن المراكز الصاخبة وعن كل ما يمكن أن يُذكِّرها بالماضي. أرادت شيئاً واحداً: أن ينسوها بسرعة.
كان انتقالهم إلى هنا شبـيهاً بالهروب. لم يقولوا لأحد إلى أين يذهبون, وغادروا فجأة دون إنذار, لا بل إنهم غيَّروا كُناهم هنا. أخذت إلزا تُسمّي نفسها بـيكر على كنية العجوز الطيبة التي آوتها وربتها في طفولتها. واتخذت إيما كنية أمها المرحومة قبل الزواج - شبـيلمان. فقط شميتغوف هي من استبقى الكنية السابقة وقالت:
- لقد تعودت كثيراً جداً على كنيتي, وسوف أتبلبل إذا استبدلتها. ثم ... من المحتمل ألا يكون هذا قانونياً, وأنا أخاف من المسؤولية.
عاشت المستعمرة حياة هادئة ومسالمة. وخوفاً من الانكشاف لم يتبادلوا الرسائل مع أحد, حتى إنهم لم يحصلوا على جرائد. وأدارت شميتغوف مع هانس الاقتصاد الصغير. المربـية ذات البشرة السوداء ساعدت إيما في الاعتناء بالطفل. وعمل زنجيان في الحديقة وببستان الخضار, كما اعتنيا بزوج من الأحصنة وحمار. لم تكن هناك حاجة إلى الأحصنة تقريباً. فنادراً ما كانت إيما تمتطيها مع ابنها للقيام بنزهة, إذ كانا يكتفيان عادة بالتنزه مشياً على شاطئ المحيط.
اسمرَّ الجميع إلى درجة جعلت من الصعب التعرف إليهم, وخصوصاً أوتو الصغير أو كريبـيش كما كانوا ينادونه. كان سيشبه تماماً طفلاً من تلك المنطقة بشعره الأسود والأجعد, وبلونه البرونزي الناجم عن تلويح بشرته العارية دائماً تقريباً, لولا ملامح وجهه الأوربـية.
ملَّت إيما قليلاً في بداية الوقت دون جو المدينة الكبـيرة المعتاد, لكنها سرعان ما اعتادت الحياة الجديدة. تركت هموم الطفل قليلاً من أوقات الفراغ, وبرزت الحمرة السابقة على وجنتيها من خلال تلويح البشرة, كما تشابك ضحكها مع ضحك طفلها غالباً الآن, مثل جرسين رنانين ملأا برنينهما أنحاء البـيت الصغير.
عزفت إلزا على البـيانو أحياناً في الأمسيات, فهي لم تستطع الاستغناء عن هذه العادة الثقافية. كان الطفل ينام. وتستوي إيما عند قدمي إلزا على الحصيرة وتصمت.
فكَّرت كل واحدة منهما بأمورها.
كانت إلزا تنهض متأخرة, وتصغي إلى الأصوات المرحة التي كانت ترن عند ساحل المحيط وهي تتناول قهوة الصباح وترسم ابتسامة خرساء.
كان كريبـيش يختفي على الشاطئ كل الأيام, إذ كان يجمع القواقع والأحجار ويصيد السراطين ويعيد إلى الماء الأسماك الصغيرة التي ترميها أمواج المحيط إلى الشاطئ.
خافت إيما الجبانة من كل شيء أول الوقت. خافت أن يجرف المحيط الهائج منزلهم, خافت من العقارب والأفاعي التي يمكن أن تزحف إلى المنزل, خافت من الأسود. وُجِدَت الأسود هنا في الحقيقة, لكن بعيداً في عمق الغابة, ولم تقترب قط من المنزل. سمع قاطنو البـيت مرة أو مرتين فقط زئيرها البعيد, فأيقظت إيما المرعوبة إلزا ... لكنها اعتادت كل شيء فيما بعد.
لوَّحت إلزا بالمروحة تلويحاً بطيئاً وهي تتابع اليخت الأبـيض الذي بان في المحيط عند مدخل الخليج. لم يكن نادراً أن تتحرك قوارب صيادي الأسماك المحليين عبر الخليج. وكان ظهور مركب أوربي حدثاً بالنسبة لقاطني هذه البقعة الهادئة فقد جانبت الطرق البحرية المكان. كانت المراكب الصغيرة تظهر في الأفق أحياناً, لكنها كانت تمرُّ دون توقف أو تَدخلُ إلى مرفأ المدينة المجاورة. في هذه المرة انعطف اليخت الأبـيض نحو الخليج.
أحسَّت إلزا بشعور كريه لدى إنسان يخاف أن راحته وترتيب حياته المعتاد يمكن أن يختلا.
تهادى اليخت باتزان وهو يقترب من الشاطئ. ورفرف علم أحمر على اليخت.
فكّرت إلزا: "غريب".
وفي هذه الأثناء رسا اليخت على الشاطئ.
كان مسموعاً كيف شرعت سلسلة الياطر تدمدم.
طُويت الأشرعة فبدأ اليخت يتهادى في مكانه, ونزل إلى القارب بحاران وثلاثة أشخاص في بذلات بـيضاء, وهم يعتمرون خوذات فلينية على رؤوسهم. أقلع القارب. ثم نزل أولئك الثلاثة الذين يلبسون الأبـيض إلى الشاطئ عند ذلك المكان حيث وجدت إيما مع الطفل والمربـية السوداء. صمتت أصوات الأجراس. التصق كريبـيش بأمه ونظر بخوف إلى الناس الغرباء. أخرج البحارة حزماً من القارب, ونقلوها وهم يغطسون في الماء حتى أحزمتهم, ثم رتبوها على الشاطئ. اقترب رجل يلبس الأبـيض من إيما وانحنى, ثم نزع الخوذة الفلينية وقال شيئاً ما وهو يشير إلى الحزم. هزَّت إيما رأسها. فكَّ البحاران والثلاثة الذين يلبسون الأبـيض الرزم, وأخرجوا أطواقاً ومشمعاً وحبلاً. وأخذوا ينصبون خيمة. هذا ما كان ينقص أيضاً! لماذا هنا بالضبط؟
قالت إيما شيئاً ما للمربـية التي حملت الطفل بـيديها, وصعد الثلاثة بسرعة على الطريق الحجرية نحو البـيت. أخذت إلزا تُلوِّح بالمروحة بسرعة متزايدة وهي تنتظرهم بفارغ الصبر. سبقت إيما المربـية والطفل, وكادت تركض نحو الشرفة. شاهدت إلزا وجه إيما المضطرب والممتقع, ومن غير المعروف لماذا أخذت تقلق هي نفسها.
سألت إلزا صديقتها التي صعدت درجات السلم الخفيفة راكضة إلى ظل الشرفة الكثيف:
- من هؤلاء؟ ماذا يريدون من هنا؟
لم تستطع إيما التقاط أنفاسها بسبب الصعود السريع للجبل وبسبب التعب والقلق. والتصقت خصلات شعرها بجبـينها الرطب.
وسمعت إلزا خلفها صوت شميتغوف التي عادت مع المؤونة:
- لم أجد طيوراً اليوم, لكني اشتريت سمكاً جيداً.
كررت إلزا سؤالها دون أن تجيب شميتغوف:
- من هؤلاء الناس؟
أجابت إيما وهي تنظر بخوف إلى صديقتها:
- وصل شتيرنر ومعه أيضاً اثنان من الـ ...
امتقعت إلزا وأسقطت المروحة من يدها, ثم تهاوت على ظهرها.
- هذا غير ممكن! لقد أخطأت يا إيما.
- هو, هو! أؤكد لك أنه هو! الحقيقة أن وجهه قد تغير كثيراً, لكنه هو ذاته. لا يمكن نسيان عينيه! ومعه اثنان من الغرباء. أحدهما أكثر شباباً, أما الآخر فكهل وله شاربان.
حلَّ الصمت. كانت إلزا مضطربة اضطراباً عميقاً. وأخذت تتنفس بتلك الكثرة, كما لو أنها هي من صعد الجبل راكضاً لتوه وليست إيما, ثم سألت:
- عمَّ تحدث معك؟
- لقد جاؤوا من أجل الصيد, وطلبوا الإذن بنصب الخيمة. ولسبب ما دعا شتيرنر نفسه شتيرن.
صرخت إلزا:
- شتيرن! نعم, هذا هو, لا يوجد شك.
سألت إيما:
- ولماذا هو شتيرن؟
فكرت إلزا دقيقة ثم قالت:
- لقد غيَّر اسمه مثلما فعلنا نحن ...
قالت إيما بعتاب:
- هل عرفت هذا وصمت؟
- أنا لم أظن أننا سنلتقيه في وقت ما. لديه أساس أكبر مما هو لدينا كي ينسى ماضيه وكي لا يكشفه. ولهذا فأنا أرجوك يا إيما وأنت يا سيدة شميتغوف, ونبِّها هانس أيضاً أنه لا ينبغي لأحد منا أن يدعو شتيرنر باسمه السابق إذا ظهر هنا, وينبغي ألا نتخذ مظهر من عرفه. ومهما كان مذنباً فإنه لم يعد كذلك. لقد تخلص من ماضيه, وعلينا المحافظة على سره.
- وإذا كان هذا السر معروفاً لتابعيه؟
- لا أظن ...
- وإذا كشف شتيرنر نفسه بنفسه في حال تعرف إلينا؟ أعتقد يا إلزا أنه لن يحافظ على هدوئه حالما يراك.
ثم صفقت بـيديها وهتفت مثل الأطفال:
- يا لـه من أمر رائع!
وهنا أضافت بانشغال:
- فقط لو أنه لن يصنع أي مصائب مجدداً ...
- لا تقلقي. لن يصنع المصائب. ولن يتعرف إلى أي واحد منا. يمكنك أن تكوني واثقة تماماً من هذا. إذ إنه لم يتعرف إليك. ربما عليَّ فقط ... قليلاً ... بصفتي إحدى معارفه العارضين.
ثم أضافت كما لو أنها تذكرت شيئاً ما:
- لكن من المحتمل ألا يأتوا إلى هنا؟
قالت إيما:
- سيأتون. من المؤكد أنهم سيأتون وهاك لماذا. لقد قال لي شتيرنر: "آمل أننا لن نقلقكم بشيء, لكن إذا كان بــين خدمكم ساكن أصلي يعرف المكان, فإننا سنرجوكم بشدة أن تسمحوا لنا بأخذه بصفة دليل مدة يوم أو اثنين".
وفجأة صرخت:
- قادمون. إنهم قادمون إلى هنا! الأمر سيَّان بالنسبة إليَّ فهم شاهدوا تلك المتوحشة الشعثاء.
لوَّحت إيما بـيدها بـيأس.
- أما أنت فاذهبي وانتعلي حذاءك على الأقل وشدّي جوربـيك الطويلين! لا يجوز هكذا. فإن شتيرنر, تفو, شتيرن, شتيرن, شتيرن في حال من الأحوال كان لك ...
لم تكمل إلزا الإصغاء, فقد نهضت بسرعة وذهبت إلى غرفتها. ليس انشغالها بهندامها هو ما أرغمها على الذهاب, وإنما رغبتها في أن تتغلب على قلقها منفردة.
الآن سوف تلتقي مجدداً ووجهاً لوجه مع شتيرنر, مع هذا الشخص الغامض الذي صنع لها الكثير من الشرور, لكن الذي أحبها بإخلاص.
تنقلت إلزا من زاوية إلى أخرى بسرعة. أدار سيل من الذكريات رأسها. وقد تعجبت هي نفسها من شدة قلقها. تهيأ لها أنها نسيت كل شيء, وأن كل شيء قد أصبح ماضياً لا عودة له. سرٌ واحد بقي غير مكتشف, ونادراً ما عذبها. هل شتيرنر مذنب في موت كارل غوتليب؟ لقد أخذ شتيرنر هذا السر معه. اقتربت إلزا من المرآة, وبدأت بترتيب شعرها دون وعي.
وفكَّرت وهي تنظر إلى وجهها: "كم صرت سوداء!". ثم همست وهي تتنهد:
- مع ذلك كله سواء, فهو لن يعرفني.
سمعت أصواتاً حول المنزل, فاندفعت فجأة نحو الخزانة وأخذت تقلب الثياب.
- لكن ماذا أفعل أنا؟
وفكَّرت: "من المحتمل أن يبدو كل هذا قديم الطراز إلى حد مرعب".
انتقت أخيراً ثوباً خفيفاً أبـيض وارتدته بسرعة, ثم عاينت نفسها مرة أخرى في المرآة وتنفست بعمق ثم خرجت إلى الشرفة.
2 - صيادو الأسود
اقترب من إلزا إنسان كهل ذو شاربـين منفوشين وقال وهو ينحني:
- اسمحي لي بصفتي الأكبر سناً في جماعتنا أن أقدِّم الآخرين. دوغوف مدير حدائق الحيوانات في موسكو. وهذا هو كاتشينسكي. إنه يرأس كل أعمال إرسال الأفكار عبر المسافات.
حيّاها كاتشينسكي.
وأشار دوغوف إلى شتيرنر:
- هيه, أما هذا, فإنه مساعدي الأقرب شتيرن.
مدَّ شتيرنر يده لإلزا فتصافحا مصافحة احتفالية إلى حد ما.
جلس الجميع حول الطاولة. قرعت إلزا الجرس وطلبت إحضار الفطور. اهتزت الصينية اهتزازاً ملحوظاً في يدي الخادم العجوز عندما اقترب من الطاولة, واختلس النظر شذراً نحو شتيرنر. ابتسمت إيما فجأة وهي تنظر نحو الباب. التفتت إلزا كي تشاهد ما الذي أضحك إيما, فشاهدت وجه السيدة شميتغوف المرعوب والتي كانت تطل من وراء الباب.
شرب دوغوف قدحاً من النبـيذ من أجل صحة ربّات المنزل وقال:
- نحن نسألكم بشدة أن تعذرونا لأننا عكرّنا وحدتكم, لكن الحقيقة أن ذلك حصل مصادفة يا سيدة بـيكر. لقد قررنا استخدام إجازاتنا كي نتصيد الأسود في هذه الأمكنة. هناك نقص في حدائق حيواناتنا في عدد من نماذج هذه الحيوانات الرائعة, من ذلك النوع الذي يمكن أن نقابله هنا فقط. وهكذا فقد توجهتُ مع شتيرن إلى هنا, وانضم إلينا كاتشينسكي الذي يريد أن يجرِّب بنفسه على الواقع ذلك السلاح الذي زوَّدنا به.
سألت إيما الفضولية:
- وما هو هذا السلاح؟ وأين هو؟
ضحك دوغوف.
- وهكذا اذهبي معنا إلى الصيد وسترينه!
صرخت إيما برعب:
- صيد الأسود؟ ولا بأي شكل! فأنا أرتجف عندما أسمع زئيرها البعيد ...
قال دوغوف وهو يفرك يديه:
- أوهو! هذا يعني أنهم لم يخدعونا, ويجب أن يكون تصيدنا موفقاً.
ثم تابع:
- أما نحن فقد أقلقناكم, لأننا لا نريد أن نثير ضجة زائدة في المدينة بوصولنا. فحشود المشاهدين تعيق دائماً, ولهذا قررنا الانعطاف نحو خليجكم.
ومدَّ دوغوف يده نحو الساحل.
- نحن سنعيش في الخيمة. وسنسألكم عن شيء واحد فقط: إذا كان بـين خدمكم سكان أصليون, فاسمحوا لنا باستخدامهم بصفة أدلاء.
وافقت إلزا على طلب دوغوف برضا. وحاولت ألا تنظر إلى شتيرنر, لكنها لم تستطع ضبط نفسها كي لا تنزلق بنظرتها عدة مرات على وجهه. لم تتمالك نفسها أخيراً فتوجهت إليه:
- قل لي يا سيد شتيرن, إذا لم أكن مخطئة, فأنت لست روسياً؟
قال شتيرن:
- نعم, أنا لست روسياً.
- وهل أنت ... تعيش منذ مدة طويلة في روسيا؟
- منذ نحو ثلاث سنوات.
لم يسمح الأدب بالاستمرار في هذا الحديث الذي يشبه التحقيق. ومع ذلك فقد سألت إلزا على نحو غير متوقع لنفسها:
- وأين عشت سابقاً؟
ضحك شتيرنر بأكثر الأشكال من دماثة الأخلاق. أدهش هذا الضحك إلزا, إذ لم يشبه قط ضحك شتيرنر السابق والساخر والجاف والشرير. وحقيقة كان أمامها شخص آخر.
- أين عشت سابقاً, وعموماً ما الذي حدث معي من قبل هو أحجية بالنسبة إليَّ شخصياً. ألا تصدقين؟ اسألي رفاقي. فأنا لا أذكر شيئاً على الإطلاق مما حصل معي قبل وصولي إلى موسكو. وفي أول الوقت أصابني "النسيان" باكتئاب شديد. لجأت إلى البروفيسورات من أجل النصائح فوجدوا عندي مرضاً نفسياً ما معقداً ذا تسمية عويصة, شيء ما يشبه الفصام. وعند هذا المرض يمكن للإنسان أن يفقد شخصيته وذاكرة الماضي. وها هو ذا الرفيق كاتشينسكي قد عرض عليَّ تجريب طريقـته الخاصة في العلاج.
باعد شتيرنر يديه وهو يبتسم:
- ورغم كل ثقتي بكاتشينسكي واحترامي لـه فقد رفضت. فهذا العلاج شيء يشبه التنويم المغنطيسي, وأنا أشعر نحوه بكراهية عضوية.
نظرت إلزا نحو كاتشينسكي فهز رأسه مؤكداً وقال:
- لقد عرضتُ خدماتي على شتيرن لكنه رفضها. طبعاً لن أقوم بإجراء التجارب من دون موافقته.
تابع شتيرنر:
- خدمتُ في موسكو بصفة عامل في مصنع "دينامو", ثم التحقت بحديقة الحيوانات, فأنا أحبُّ الحيوانات كثيراً. وهناك تعرَّفت إلى المدير دوغوف, الذي كان جميل المعاملة إلى حد أنه سرعان ما جعلني مساعده الأقرب.
أجاب دوغوف:
- لقد استحققت ذلك يا صديقي.
- ومن خلال دوغوف تعرّفتُ أيضاً إلى "مرسل الأفكار" كما يدعون كاتشينسكي عندنا مزاحاً. وهذا كل شيء أستطيع أن أحدثك عنه.
سألت إيما:
- وهل تنتصب عندكم الآن بهذا النحو الواسع قضية إرسال الأفكار هذه عبر المسافات؟
ردَّ دوغوف:
- أوهو! شيء ما غير عادي! في الحقيقة لقد نال إرسال الأفكار عبر المسافات استخداماً واسعاً. وبعد عدة عشرات من السنين لن تعرفوا العالم.
قال شتيرنر:
- وذلك الذي تم الوصول إليه مدهش, هل يعقل أنكم لم تقرؤوا الصحف؟
- نحن لا نكتتب على الجرائد.
نظر شتيرنر نحو إلزا وتجهم كما لو أنه يحاول أن يتذكر شيئاً ما, ثم قال:
- غريب, يتهيأ لي كما لو أنني رأيتك قليلاً في مكان ما وفي وقت ما. أ من الجائز أن يكون لقاء عابراً في الطريق؟
أجابت إلزا وقد تكدرت:
- ممكن. وهكذا أنتم تقولون إن إرسال الأفكار يجترح المعجزات؟
أخذ كاتشينسكي يتكلم بسرعة وقد حلَّ الإلهام عليه فجأة:
- نعم, المعجزات. لقد حققنا في الحياة الأعاجيب والتخيلات والآمال الباطلة. إنك لن تعرفي موسكو فيما لو حصل أنك كنت فيها في وقت ما. وأول شيء سوف يدهشك هو أن موسكو قد أصبحت مدينة الصمت العظيم. نحن لا يتحدث تقريباً أحدنا مع الآخر منذ ذلك الحين الذي تعلمنا فيه كيف نتبادل الأفكار مباشرة. إذ كم تبدو لنا الآن طريقة الحديث القديمة ضخمة وبطيئة! من الممكن أننا مع مضي الوقت قد نضيع مقدرتنا على الكلام. وعما قريب سوف نحيل البريد والبرق وكذلك الراديو إلى الأرشيف. لا بل إننا تعلمنا أن يتخاطب أحدنا مع الآخر عن بعد. وهاك الآن, إذا أردت فإنني أستطيع تبادل الأفكار مع صاحبي في موسكو.
صمت كاتشينسكي, ثم ركّز تفكيره وقد أطبق عينيه نصف إطباقة ووضع علبة ما على صدغه. تابعت إلزا مع إيما باندهاش تعابـير وجهه التي عكست ذلك الحديث الصامت. ثم فتح كاتشينسكي عينيه وابتسم.
- صديقي في عافية, لكنه مشغول جداً فهو في اجتماع. الثلج يهطل في موسكو. إيفين يرسل تحياته لكم جميعاً, ويرجونا أن نحضر ببغاء لزوجته.
اندهشت إيما حتى إنها فتحت فمها من الاندهاش. وسألت:
- ولكن كيف, ألا تختلط كل هذه الأفكار؟
- يوجد اختلاط متبادل, لكن ليس بتلك الدرجة كما في الإرسال اللاسلكي. "فمحطاتنا اللاسلكية" أكثر دقة من القديمة, ونحن نعرف دائماً كيف يتولّف مستقبل مُكالمنا, فننشئ الاتصال اللازم بسرعة.
سألت إلزا:
- وأين هي محطتك اللاسلكية؟
أجاب كاتشينسكي مبتسماً وهو يشير إلى جبهته:
- ها هنا! دماغنا هو محطتنا اللاسلكية. وتوجد عندنا الآن أيضاً آلات تقوية حقيقية, لكننا نستخدمها فقط لإرسال الأفكار ذات الإدراك الجماهيري, كما يقال, مثل أخبار اليوم والمحاضرات والحفلات الموسيقية. أما الأشخاص المفردون فيملكون من أجل التخاطب بعضهم مع بعض المقويات التي يمكن وضعها في الجيب.
وأراها كاتشينسكي العلبة التي حملها قرب صدغه تواً.
- ها هي ذي! لا داعيَ الآن للتقوية ضمن المسافات القريبة. وعمّا قريب سنستغني عن التقوية الاصطناعية. فسنصل إلى استطاعة أكثر قوة "لمحطاتنا اللاسلكية" الطبـيعية عن طريق التمرين المستمر.
- وهل تستطيعون إرسال الحفلة الموسيقية كما في الراديو؟
- أفضل مما هو عبر الراديو. نحن نسأل أفضل ملحنينا أن يرتجلوا فكرياً, وأن يشعّوا ارتجالهم. يا لها من فرحة أن تستمعي لتحليق الخيال الحر! أو على سبـيل المثال, الشطرنج الذي يتولعون به عندنا. مئات آلاف الناس يتابعون فكرياً لعبة أساتذة الشطرنج. واللعبة "على المكشوف" شديدة المتعة عندما يشعُّ الشطرنجيون كل عملية التمحيص في الخطوات. ولا يمكنني أن أحدثك عن كل شيء!
قال شتيرنر وقد التقط نظرة إلزا:
- تعالي وشاهدي بعينيك.
وافقه كاتشينسكي:
- نعم هذا أفضل شيء, نحن نرسل فكرياً ليس الأصوات فقط ولكن الألوان أيضاً والأنماط والمشاهد. وبكلمة, كل ما يستطيع الإنسان تخيله. عندما يصبح إرسال الأفكار ملكاً عاماً فلن تبقى المسارح والسينمات والمدارس والأماكن الخانقة وتجمعات الناس موجودة. وستصبح المعارف والتسالي والمشاهد في متناول كل واحد. وتبـينت فائدة إرسال الأفكار الاستثنائية في حياتنا العملية. توجد لدينا الآن جماعات العمل المثالية التي تنفذُ العمل برشاقة أفضل أوركسترا.
القضية تقودنا إلى تنسيق نشاط المنظومات العصبـية بمساعدة إرسال الأفكار. توافق الحركات مهم بحد ذاته إلى درجة استثنائية في تلك الحالات حيث يستخدم العمل الجماعي. لأجل ذلك, وعلى سبـيل المثال, استخدمت الأغاني في كل الأزمنة بدءاً من العصور الموغلة في القدم. وفي وقت ما غُنيت عندنا أغنية "إيه, شدوا الجذوع, هيَّا معاً" وعند مقطع "هيَّا"(7)) كان العاملون وكأنهم يستجمعون القوى المشتركة في نقطة واحدة من الزمان والمكان. لكن هذه الطريقة نفعت وساعدت فقط في تلك الحالات حيث تطلب الأمر استخدام القوة الفيزيائية الخرقاء. وقد سعوا لاستخدام طرق أخرى لتنسيق حركات العمل في العمليات الأكثر تعقيداً. لقد أُعِدت منظومات دعيت خطوط التجميع, عندما تجري كل العمليات "على شريط" بحيث أن أي توقف في أحد الأمكنة سيؤدي إلى توقف كل الشريط. وعليك أردتِ أم لم تريدي أن تنضمي إلى وتيرة العمل العامة. لقد أجبرت هذه المنظومة الناس ذوي التكوينات العصبـية والفيزيائية المختلفة على العمل بوتيرة واحدة. وبديلاً للإجبار الميكانيكي جاءت مرسلاتنا الفكرية التي لا ترغم العمال, وإنما تساعدهم على تنسيق عمل جملتهم العصبـية وعضلاتهم مع عمل الجماعة.
في وقت ما أدهش الناس في موسكو ما يدعى بـيرسيمفانس, فهو أول فرقة سيمفونية دون قائد. كان هذا في الحقيقة أول محاولة لتشكيل جماعة مرتبطة بلحام داخلي, بتنسيق عمل المنظومات العصبـية لأناس كثيرين. ومع ذلك فقد كان هناك لحام ميكانيكي أكبر في بـيرسيمفانس. لقد خضع أعضاؤها لوتائر موسيقية محددة مسبقاً أكثر مما فعلوا بالنسبة لوحدة إرادة الجماعة.
الأمر مختلف عندما يؤثر "قائد" خفي على مراكز الإرادة مباشرة, إذ ينتج تناسق عمل رائع, وتكون إنتاجية العمل أعظمية بالطبع.
- لكن ألا يطمس كل هذا الشخصية وحريتها؟ إذ يمكن أن يوجد أناس يريدون استخدام هذه القوة للإضرار بالآخرين!
قال شتيرنر:
- وُجِدَ ذلك الشخص الذي دعوه شتيرنر. وقد حصل لي أن سمعت عنه شيئاً ما. هذا الشخص سبّبَ في الحقيقة الكثير من الأضرار باستخدامه لجبروت قوة الفكرة لخدمة أهدافه الخاصة. لكن هو ذا كاتشينسكي قد تمكن من جعل شتيرنر غير مضر.
لم تتمالك إلزا نفسها فطرحت سؤالاً مرعباً وجهته لشتيرنر:
- وأنت ألا تعلم أين شتيرنر الآن؟
- لا أعرف. وليشكر القدر أنني لا أعرف أين هو ... لو أنني قابلت هذا الشخص فلن يفلت من العقاب.
ابتسم كاتشينسكي.
- لماذا الانتقام من شتيرنر؟ لدينا طرق أكثر نعومة كي ننتـزع الإبرة السامة. والحقيقة أننا نلجأ إليها فقط في الحالات الاستثنائية. ثم إنه ينبغي أن نكون عادلين, فقد ترك لنا شتيرنر إرثاً ضخماً. من دون اختراعاته ما كنا سنحصل على تلك النجاحات في مجال إرسال الأفكار. وأخيراً فقد حافظ على حياتي. كانت في داخله شهامة.
تابع شتيرنر:
- لا يمكن أن يحصل في روسيا ما قام به شتيرنر. فمنذ تلك اللحظة التي أصبح فيها إرسال الأفكار عبر المسافات ملكية عامة حصل, كما يقال, توازن في القوى. إذا لم ترغبي أنت في استقبال الأفكار الغريبة, فإنه باستطاعتك دائماً "إقفال مستقبلك" وتنتهي القضية.
قال كاتشينسكي:
- الحق يقال إنه لم ينتف إمكان "الهجوم الفكري" المباغت. لكننا نتابع هذا بصرامة ونعاقب عليه معاقبة خاصة. فبمساعدة مقوياتنا الخارقة الاستطاعة الموجودة بحوزتنا نوجه للمجرم "إيحاء" مناسباً, فيصبح عديم الضرر إلى الأبد, لأن فكرة تكرار الجريمة ذاتها لا يمكن أن تظهر في وعيه. لا حاجة لنا الآن إلى السجون, فنحن نصنع من كل مجرم فرداً نافعاً في المجتمع.
فكّرت إلزا بشيء ما. لاحظ دوغوف هذا, ولخوفه من أن تكون أحاديثهم قد أتعبت أصحاب المنزل الذين لم يبقوا معتادين على زيارات الأشخاص الغرباء, فإنه نظر إلى ساعته وقال:
- على كل لقد تشعبنا في الكلام. لنذهب يا شتيرن فعلينا أن نُحضِّر أنفسنا للصيد.
وهبط دوغوف وشتيرنر من الشرفة بعد أن ودعا السيدتين.
سألت إلزا على إثر ذلك:
- آمل أنكما ستكونان عندنا على الغداء؟
أجاب دوغوف مع انحناءة:
- إذا لم يزعجكم هذا كثيراً.
بكى أوتو الصغير في مكان ما فاعتذرت إيما وخرجت.
3 - شتيرن وشتيرنر
بقيت إلزا وحدها مع كاتشينسكي. تملكها القلق. فمن كل ما حدّثها عنه كاتشينسكي أدهشها أكثر ما أدهشها وشغلها شيء واحد, وهو أن كاتشينسكي يمكن أن يعيد لشتيرنر وعيه السابق, أن يصنع شتيرنر السابق من شتيرن مدة عدة دقائق على الأقل. كانت تريد هذا بشدة. لماذا؟ هي ذاتها أدركت معنى هذا بصعوبة. وفكّرت: "أنا أريد معرفة سر موت غوتليب". لكن ليس هذا فقط هو ما أثار لديها رغبة في رؤية شتيرنر السابق. من الجائز أنه تحدث داخلها دون وعي منها شعور الأنثى, التي لم تستطع التهادن مع كون أن الإنسان الذي أحبها وقرر القضاء على نفسه قضاء فريداً, قد قتل مع شخصيته أيضاً شعور الحب تجاهها. من المحتمل ... من المحتمل أنها بدأت تحب هذا الإنسان نتيجة انعطاف غريب في المشاعر. جلست صامتة دون أن تعرف كيف تقبل نحو هدفها. وبدأت من غير حزم:
- قل لي أيها السيد كاتشينسكي, ألا تستطيع تجريب طريقتك عندنا هنا كي تعيد وعي شتيرن السابق؟ هل هذا ممكن؟
- نعم ولا, وعموماً يقال إن استعادة الذاكرة ممكنة تماماً. الطب يعرف كثيراً من تلك الحالات. يوجد منها الكثير في الحروب عندما يفقد الناس ذاكرتهم عن الماضي تماماً, لا بل ينسون أسماءهم أيضاً بسبب رض شديد, لكن الذاكرة تستعاد لاحقاً. وتُعرف مثل تلك الحالات أثناء التنويم المغنطيسي أيضاً. الفقدان النهائي للذاكرة ممكن فقط عندما تتخرب مراكز الذاكرة ذاتها في المادة الدماغية تخريباً عضوياً. وهذا كما يقال, فقدان صدمي للذاكرة, ولا أمل في علاجه. لكن في الحالة المذكورة فإن تخريب النسيج الدماغي لم يحصل, وإلا لكان انعكس على كل النشاط النفسي. أما شتيرن فإنه طبـيعي تماماً في كل شيء آخر غير تذكر الماضي. أستطيع أن أضرب من نفسي مثلاً. فخلال صراعي ضد شتيرنر أصاب مراكزي الدماغية التي تتحكم بالتوازن, فأصبحتُ عاجزاً تماماً. ومع ذلك فقد تمكنتُ من استعادة الإحساس بالتوازن.
تنشطت إلزا:
- يعني أنه ممكن؟ لماذا إذاً أجبتَ "بنعم ولا"؟
- نعم عموماً يمكن, لكن … أنت سمعتِ أن شتيرن ذاته لا يرغب في التعرض لهذه التجربة؟ هذا أولاً … لكن لماذا يهمك إلى هذا الحد وعي شتيرن السابق؟
- القضية تكمن في أنه يبدو لي ... أنني كنت على معرفة مع هذا الإنسان ... لا بل من المؤكد أنني كنت على معرفة جيدة جداً. لكنه نسيني مثلما نسي كل شيء ماض. وقد رغبتُ في إيقاظ إحدى الذكريات في داخله. ثم أيضاً ... معرفة أحد الأسرار. سر مهم جداً كان يريد إخباري به, لكنه لم يملك الإمكانية ...
نظر كاتشينسكي إليها باندهاش وفكر: "قصة حب", ثم أجاب:
- مع الأسف ليس لدي إمكانية لإشباع فضولك قسراً عن رغبته.
تجهمت إلزا وقالت وبعض الاستياء في صوتها:
- هذا ليس فضولاً. هذا جدي جداً. جدي إلى درجة أنني سألتك إجراء التجربة دون طلب لإذنه. فقط لمدة عشر دقائق. ومهما كان هو في الماضي فإنه سيعود شتيرن مجدداً, ولن يعرف شيئاً عن التجربة. إذ إنه لا يوجد أي شيء إجرامي في هذا. أنا أرجوك, أرجوك بشدة
تجهم كاتشينسكي في هذه المرة وأجاب بصرامة:
- إذا بدأت أنا شخصياً بخيانة مبادئنا في حماية حرية الوعي الغريب, فإنه من المستحيل أن يكون هذا محموداً.
بدأت إلزا تتهيج وفكرت: "كاتشينسكي لا يفهم أهمية القضية. وهكذا فسأريه أنه يوجد هنا شيء أكثر جدية من الفضول النسائي!", وقالت:
- قال شتيرن إنك أزلتَ خطر المدعو شتيرنر. كيف حدث هذا؟ أرجو أن تحدثني.
حدثها كاتشينسكي.
- يعني أنك شاهدت شتيرنر بوجهه في ذلك المبنى الزجاجي؟
- كلا, أنا لم أره بوجهه. فقد كان يضع قناعاً معدنياً كثيفاً.
- ما دُمتَ ذلك العنيد الذي لا يريد تحقيق رغبتي فإنني سأضطر لكشف السر: شتيرن هو شتيرنر أيضاً. أما أنا فزوجته المسماة قبل الزواج إلزا غليوك, ثم شتيرنر وفقاً للزوج.
بُهِتَ كاتشينسكي ثم قال بعد فترة توقف:
- هل يعقل أن كرانتس كان محقاً؟
- ومن كرانتس هذا؟
- كرانتس التحري. لقد وضع هدفاً لحياته وهو البحث عن شتيرنر. وقد قابل شتيرن في موسكو منذ فترة ليست بعيدة, وأخذ يؤكد لي أن هذا هو شتيرنر. وقد تطلب الأمر مني جهوداً كبـيرة, كي أقنع كرانتس بأنه قد وقع في الضلال نتيجة للشبه الخارجي.
سألت إلزا وقد سُرَّت بالأثر الحاصل:
- آمل الآن أنك ستعترف بأن طلبي لـه أساس؟
استطاع كاتشينسكي أن يتلفظ فقط بـ:
- شتيرن هو شتيرنر!
وغرق في تفكير عميق.
نظرت إلزا إليه بترقب:
- هيه, ماذا هناك, نعم أم لا؟
- لا!
- لكن إذا وافق شتيرن - شتيرنر على التجربة؟
- هو لن يوافق.
- سنرى! سأتحدث معه بنفسي. انتظر هنا سأعود الآن.
بقي كاتشينسكي على الشرفة يراقب إلزا المبتعدة.
هبطت إلى الأسفل نحو الخيمة الموجودة على الشاطئ, وأخذت تتحدث عن شيء ما مع شتيرنر الذي استمع إليها بانتباه, ثم هزَّ رأسه.
فكر كاتشينسكي: "هل يعقل أنها تمكنت بتلك السرعة من إقناعه؟ فهو كان يرفض برعب دائماً عندما كنت أقترح عليه القيام بتجربة لإعادة ذاكرته عن الماضي".
دعت إلزا شتيرنر للذهاب معها, وقالت وهي تصعد إلى الشرفة:
- إنه موافق, موافق. لا بل إنه يطلب منك ذلك بنفسه.
سأل كاتشينسكي ولمّا يصدق بعد:
- هل أنت موافق؟
أجاب شتيرنر:
- وبغبطة كبـيرة. فأنا لا أملك شيئاً ضد ذلك.
فكر كاتشينسكي: "أنا في نهاية الأمر أستطيع في كل دقيقة إطفاء ذاكرة الماضي لدى شتيرنر. سوف أراقبه". ثم قال:
- وماذا في ذلك. ليكن الأمر كما تريد.
وسحب من جيبه علبة المراكم المقوي وألصقها بصدغه, ثم أمر شتيرنر فكرياً وهو يثبت عينيه:
- اجلس ونم!
جلس شتيرنر صاغراً, ونام من فوره وقد أغمض عينيه وأرخى رأسه.
قال كاتشينسكي متوجهاً لإلزا:
- عادة نحن لا نلجأ للتقوية, لكن هذه العملية صعبة, وأنا سأعيد وعيه السابق فقط لمدة عشر ...
قالت إلزا:
- مدة عشرين!
- إذاً, مدة خمس عشرة دقيقة لا أكثر. آمل أنه لن يصنع مصائب كبـيرة خلال هذا الوقت. وتحسباً لأي طارئ سأراقبه من الغرفة, وعليك أن ترتضي بهذا. بعد خمس عشرة دقيقة تماماً سوف يصبح شتيرن مجدداً.
صمت كاتشينسكي وأخذ ينظر بتركيز نحو شتيرنر.
- سيستيقظ الآن. أنا ذاهب.
ذهب كاتشينسكي إلى البـيت, ووقف عند الباب على نحو لم يكن بادياً من الشرفة.
تنهد شتيرنر بعمق عدة مرات, ثم فتح عينيه وفجأة أغلقهما من جديد فقد أعمته الشمس الساطعة. كان الانتقال من شبه عتمة القاعة الكبـيرة في منزل غوتليب إلى سطح المحيط المتلألئ حاداً جداً. وأخيراً فتح عينيه وهو يضيقهما.
- ما هذا؟ أين أنا؟ إلزا؟ أنت؟
ثم اندفع نحوها وأخذ يقبل يديها.
- عزيزتي إلزا! لكن ما الذي يعنيه هذا؟ أنا لا أستجمع أفكاري.
قالت هي برقة:
- اجلس يا لودفيغ. اسمع ولا تقاطعني. لدينا خمس عشرة دقيقة فقط لهذا اللقاء ... سأشرح لك كل شيء. أنت ذهبت في تلك الليلة العاصفة متحولاً إلى شتيرن. وها أنا ذي وأنت التقينا مجدداً. كيف؟ سأقول لك لاحقاً إذا بقي لدينا وقت. والآن أرجوك أن تقول لي بسرعة الشيء الذي عذّبني طوال هذا الوقت, هذه السنوات الثلاث.
كرر شتيرنر مندهشاً:
- ثلاث سنوات؟
- قل لي الحقيقة. هل أنت مذنب في موت كارل غوتليب؟
- لقد قلت لك يا إلزا. حدث موت غوتليب في الحقيقة نتيجة لمصادفة مشؤومة.
- لكن الوصية الثانية وضعت قبل الموت بشهر واحد فقط. هل هي مصادفة أيضاً؟
قال وهو يبتسم ابتسامته الساخرة المعهودة:
- كلا, هذه ليست مصادفة. إذا أردت فأنا مذنب في هذا. حقيقة, أنا استعجلت غوتليب كي يضع الوصية الأخيرة, لأن أيامه كانت معدودة. فقد كان مريضاً مرضاً قلبـياً مميتاً بغض النظر عن مظهره المتورد. لم يحدثه الأطباء عن ذلك, لكنهم أخبروني بصفتي الشخص المؤتمن أن أيامه معدودة, وأنه لن يعيش أكثر من شهر. ولهذا أوحيت إليه فكرة الإسراع بوضع الوصية. لماذا باسمك وليس باسمي أظن أنني قلت لك. فهذا "المنحنى" كان أقرب إلى الهدف.
- لكن ماذا عن خدمتي لغوتليب التي يذكرها في الوصية؟
- لقد حدثت على الأرجح, على الرغم من أنني ضخّمتها قليلاً. بطريقة ما أعطيتك عدة حوالات موقعة من كارل غوتليب, استلمناها كي ندفعها, ومن الجائز أنك لاحظت مصادفة أن الخط لا يشبه الخط المعتاد فلفتِّ نظري إلى ذلك. آنئذ لم أظهر بمظهر المهتم, لكني أجريت فيما بعد تحقيقاً دقيقاً, ووجدت العشرات من تلك الحوالات. وكانت هذه الحوالات مزورة. من أين ظهرت؟ ومن الذي زوَّرها؟ بعد تحريات طويلة وحذرة وصلتُ إلى قناعة بأن هذا من عمل يديّ أوسكار غوتليب, أخي المرحوم كارل. جمعتُ أدلة ساحقة وقدمتها لعجوزنا كارل. وعلى هذا النحو فقد قدمت لـه خدمة, ورغم أنني لم أقل لـه إنك أول من لاحظ التزييف, فإنك فتحت عينيه على سلوك أخيه غير اللائق. غضب كارل غضباً مخيفاً, وقال لي عندئذ إنه سيحرم أوسكار من الميراث. هذه الفكرة لم تكن موحاة مني. وأرسل لأوسكار رسالة حادة. أجاب أوسكار برسالة يرجو فيها السماح بمذلة, واعترف بذنبه لكنه برره بوضعه المادي الصعب. هذه الرسالة يجب أن تكون محفوظة في واحدة من خزائن غوتليب المقاومة للحريق ...
هتفت إلزا:
- وهي قد وُجِدَت! هذه حقيقة ... الآن أنا أصدقك!
- ومن الذي وجدها؟
- كانت لدى زاوير مفاتيح. وعندما ذهبت أنت, تزاعل زاوير مع رودولف غوتليب, الذي أعلن مجدداً عن حقه في الميراث. وعلى ما يبدو فإن زاوير أراد أن يحل مكانك في كل شيء, وقرر محاربة غوتليب كي يحافظ على الأملاك في يديّ. وقبل أن تُختَم الخزائن أمكن لزاوير أن يفتح واحدة منها, فوجد هناك حزمة الحوالات المزورة ورسالة أوسكار غوتليب, وقدمها للنائب العام كي يبرهن على صحة وصية كارل غوتليب الذي حرم أخاه من الميراث. أطلق رودولف غوتليب المتهيج النار على زاوير فجرحه في معدته. ثم مات زاوير بسبب التهاب الصفاق. أما رودولف غوتليب فقد حكم بالسجن عشر سنوات, وهو يمضي الآن مدة العقوبة. واقتضى الأمر إغلاق قضية تزوير أوسكار للحوالات منذ البداية, لأن أوسكار مات فجأة بسبب داء السكتة لدى أول تحقيق ...
قال شتيرنر:
- كم هناك من التعاسات! لكني لست مذنباً فيها يا إلزا؟
- نعم رغم أنك قد تكون مذنباً على نحو غير مباشر. لكننا لن نتحدث عن هذا. والآن قل لي لماذا ظهرت في موسكو؟
زمَّ شتيرنر كتفيه:
- عندما فكرت في هربي, فإنني قررت أنه سيخطر في بال أعدائي أقل من كل شيء أن يبحثوا عني في موسكو. إضافة إلى أن شرطة موسكو لا تملك بالطبع اتصالاً مع شرطتنا. لذا قررت "إرسال" شتيرن إلى هناك. ماذا حصل مع شتيرن؟ أنا لا أعرف.
- يمكنني أن أحدثك قليلاً عن هذا مما عرفته من شتيرن.
وحدثت إلزا شتيرنر عن كل ما حصل مع شتيرن حتى تلك اللحظة التي وصل فيها, دون أن تذكر كنية كاتشينسكي .
سأل شتيرنر:
- لكن كيف تمكنتِ من إعادة وعيي السابق؟
- لقد طلبتُ ذلك من أحد أصدقائك الجدد. أردتُ الحديث مع شتيرنر السابق عدة دقائق على الأقل, كي أعرف الأشياء التي قلتها لي.
- وهل وافقتُ أنا على إعادة الوعي إلي؟
- نعم, لقد وافقتَ.
قال شتيرنر:
- غريب, لقد توقعتُ هذه الإمكانية, لذا فعندما أوحيتُ لنفسي بتغيير شخصيتي أمرتُ شتيرن ألا يقبل بتعريض نفسه للإيحاء ولا بأي شكل من الأشكال.
أجابت إلزا مبتسمة:
- هيه, يعني أن شتيرن لم يطعك وإنما أطاعني.
قال شتيرنر بحسرة:
- إلزا, إلزا لماذا فعلت هذا؟ كم هو صعب أن أشعر مجدداً بثقل الذي عشته على كاهلي.
أجابت إلزا:
- سينزاح عنك مجدداً عما قريب.
- نعم, لكن فراقك الآن أصعب عليَّ من السابق. نسيانك ثانية ...
نهض شتيرنر ومدَّ يده, ثم قال وهو ينظر إليها بحب:
- إلزا!..
في هذه اللحظة صارت عيناه هادئتين في وجهه فجأة, ثم تجهم قليلاً لأنه أمسك يديها وقال:
- وهكذا هل ستذهبـين معنا إلى الصيد يا سيدة بـيكر؟ أنا موافق وأعتقد أن رفاقي لا يعارضون. تَصَيُّدنا سيكون آمنا تماماً.
فهمت إلزا أن شتيرن يقف أمامها ثانية. لقد انقضى الوقت.
دخل كاتشينسكي إلى الشرفة والساعة بـين يديه ثم سأل شتيرنر:
- قل لي يا شتيرن عن ماذا تكلمت مع السيدة بـيكر على الشاطئ. هل عن الصيد فقط؟
أجاب شتيرنر وهو ينظر إلى كاتشينسكي بتعجب:
- هيه, نعم. وإلا عن ماذا أيضاً؟ لقد اقتربت السيدة بـيكر مني, وطلبت أن نأخذها معنا إلى الصيد. لقد قالت إنك ستوافق أنت ودوغوف إذا وافقت أنا أيضاً. أنا موافق. وها قد أتيت لأقول هذا.
ثم التفت نحو إلزا:
- أليس كذلك؟
أجابت إلزا مبتسمة:
- نعم, هكذا.
نظر كاتشينسكي نحو إلزا بعتاب ثم هزَّ رأسه.
سأل شتيرنر:
- لماذا تهزُّ رأسك يا كاتشينسكي؟
قالت إلزا لكاتشينسكي:
- لكن كل شيء مرَّ بسلام.
ارتبك شتيرنر:
- ما الذي مرَّ بسلام؟ عن ماذا تتحدثون أيها السادة؟
لوَّح كاتشينسكي بـيده ثم قال وهو يحدق بلوم نحو إلزا.
- نعم, ترهات. لقد احتالت السيدة بـيكر لرغبتها في المشاركة في الصيد.
وسأل كاتشينسكي إلزا:
- هل أنت راغبة جدياً في الذهاب؟
أجابت إلزا ضاحكة:
- طبعاً, جدياً.
باعد كاتشينسكي يديه ثانية, فسأل شتيرنر إلزا:
- وهكذا هل سنذهب صباح الغد؟
4 - "تمة" سان سانس
جلس الجميع على الشرفة مساء بعد العشاء وتحدثوا بحيوية.
تحدث الضيوف عن موسكو وعن العجائب التي يجترحها إرسال الأفكار عبر المسافات, وعن الإمكانات الاستثنائية التي يفتحها هذا السلاح الجبار عندما ستحوزه البشرية حيازة متقنة.
أصغت إيما بحماسة, ثم تنهدت وحدقت إلى إلزا كما لو أنها تقول: "يا للمتعة هناك! أما نحن فنعيش هنا!..".
ارتفع قرص القمر الضخم من وراء الأفق ساكباً فضة بقعه عبر كل المحيط وصولاً إلى الشاطئ ذاته. وهزّت الأمواج هذه الهدية السماوية بعناية. تنفس المحيط برودة المساء الرطبة. وفاحت من الزهور على نحو أقوى رائحة توابل حلوة. غنّى السكان الأصليون في مكان ما غير بعيد. كان غناؤهم إيقاعياً كذلك ووحيد النمط مثل اضطراب الأمواج عند الشاطئ. وتحت تأثير هذه الليلة الجنوبـية أصبح الحديث أكثر بطئاً ثم همد أخيراً. فأصبحت تُسمَع خشخشة الحصى التي تصقلها الأمواج على نحو أكثر وضوحاً.
وفجأة أنهت إيما أفكارها بحسرة مسموعة:
- وها نحن أولاء نعيش هنا!..
ردّ دوغوف وقد مرر يده حوله تمريراً واسعاً:
- أنت ظالمة يا سيدة. وكل هذا أليس ساحراً؟
- نعم, لكن ... اليوم وغداً الشيء ذاته ... أريد شيئاً جديداً! المكان هنا جيد ومع ذلك ينقصه شيء ما.
قال دوغوف مبتسماً:
- أنا أعرف ما الذي ينقص! الموسيقا! من أجل استكمال الانطباع على الأقل. ألا تعزفين يا سيدة بـيكر؟ لقد شاهدتُ آلة عندك. اعزفي لنا شيئاً ما مثل ذلك ... عاطفياً! سنسمع ونصمت ونتأمل.
أيد كاتشينسكي دوغوف:
- نرجوك, نرجوك!
أجابت إلزا ببساطة:
- بكل سرور.
ثم دخلت إلى الغرفة وجلست خلف البـيانو. أسندت أصابعها إلى الملامس الباردة والرطبة قليلاً بسبب النداوة المسائية وهي تشعر بحماسة عصبـية, وفكَّرت: "اليوم سأعزف عزفاً جيداً".
- ما الذي سأعزفه؟
سبقت أصابعها فكرتها ممتثلة لأمر ما غامض قبل أن تتمكن من التفكير, وبدأت تعزف "تمة" سان سانس.
تطايرت الأصوات الهادئة والرقيقة في الليل, فوق طريق المحيط الفضي نحو القمر, مازجة سحر الأصوات بسحر الليل.
- يا لروعة عزفك!..
ارتعشت إلزا, فقد وقف أمامها شتيرنر مستنداً إلى البـيانو ونظر إليها بانتباه. متى دخل؟
- عفوك, هل أعقتك؟ لكني لم أستطع ألا أن أقدم إلى هنا ... هذه الأصوات ... تابعي أرجوك!..
استمعت إلزا إلى شتيرنر بقلق دون أن توقف الموسيقا وفكّرت بأمورها. "التمة" هي "تمة سان سانس" ... هكذا قال لها في وقت ما هناك منذ زمن بعيد في القاعة الزجاجية. كلا, هو لا يستطيع أن يكون شريراً حتى النهاية. وآنذاك كان صوته حنوناً مثلما هو الآن.
قال شتيرنر وهو يحدق بإلزا:
- "التمة" ... "تمة" سان سانس! سمعت هذه المقطوعة عشرات المرات بأداء أفضل الموسيقيـين. لكن لماذا تقلقني على هذا النحو هذه الموسيقا. موسيقاك؟ يبدو لي, وكأنني سمعتها في وقت ما, مثلما يبدو لي أحياناً أنني قابلتك في مكان ما ...
أخذ صدر إلزا يرتفع ارتفاعاً أعلى بسبب القلق. ثم أجابته بسرعة وهي تتابع العزف:
- هذا لا يبدو فقط. فأنا تقابلت معك فعلاً.
سألها شتيرنر بسرعة أيضاً:
- أين؟ ومتى؟
- مساء, أثناء العاصفة, في قاعة كبـيرة ذات حيطان زجاجية وسقف…
مسح شتيرنر جبهته بـيده مركِّزاً تذكره على شيء ما.
- نعم … فعلاً. أنا أتذكر شيئاً ما مشابهاً ...
- كما تقابلت أنا وأنت قبل ذلك أيضاً ... غالباً ... في تلك الحياة التي نسيتها أنت ...
تابعت إلزا إلقاء الجمل بسرعة وعصبـية كما في السابق:
- لقد نسيتني … وعندما أصبحت شتيرن فإنك أجبت على أحد أسئلتي بـ: "عفواً يا سيدة, لكني لا أعرفك".
- كيف؟ هل يعقل؟ وأنا ... كنت على معرفة جيدة جداً بك؟
ترددت إلزا. وبدأت أصابعها تخطئ. ثم حزمت أمرها فأوقفت الموسيقا ونظرت مباشرة إلى عيني شتيرنر.
- جداً ...
وبدأت تواً بعزف "كراكوز" لرحمانينوف كي تخفي قلقها في الموسيقى الحماسية. وكان شتيرنر مضطرباً.
- لكن عندئذ ... عندئذ أنت تعرفين من كنت أنا في السابق؟
صمتت إلزا. نمت أصوات "كراكوز" وتوسعت وتمتنت.
- أرجوك يا سيدة بـيكر قولي لي! يوجد سر ما هنا, وينبغي أن أعرفه!
أوقفت إلزا الموسيقا فجأة ونظرت بجد مع خوف تقريباً إلى شتيرنر, ثم قالت:
- لا أستطيع أن أقول لك هذا, الآن على أقل تقدير.
سُمِع صوت دوغوف:
- ما لك لا تعزفين؟
بدأت إلزا تعزف مجدداً.
صمت شتيرنر وأمال رأسه, ثم قال ثانية بهدوء:
- موسيقاك ... أنت ذاتك ... لماذا؟
ولم يكمل فكرته كما لو أنه بحث عن عبارة مناسبة.
- لماذا تقلقيني هذا القلق؟ اعذريني, لكن عليَّ أن أصرِّح, فأنا لست دونجواناً ينجذب بسهولة إلى كل امرأة جميلة. لكنك … انعطافة رأسك, وترتيب ثوبك, والإيماءة الخفيفة, كل هذا يقلقني قلقاً غير عادي, ويستدعي ليس ذكريات ما مبهمة وحسب, وإنما ... تيارات عصبـية معروفة إذا جاز التعبـير هكذا …
وفجأة اقترب شتيرنر من إلزا بحمية لم تتوقعها, ثم أمسك يدها وقال:
- يا سيدة بـيكر, أنا لن أصرّ على أن تقولي من كنت أنا سابقاً. لكن إذا كنت أنا وإياك على معرفة, فإنك ملزمة إذاً بأن تحدثيني عن ذلك الزمن … عن صداقتنا … من المحتمل … أكثر من الصداقة … هذا … هذا مهم جداً بالنسبة إليَّ!.. لنذهب إلى هناك نحو شاطئ البحر وهناك ستحدثينني.
خرجا إلى الشرفة, فسأل دوغوف:
- هل انتهى الفاصل الموسيقي؟ مؤسف جداً. لقد تكيفنا لتونا كي نسمع.
أجاب شتيرنر عنها:
- رأس السيدة بـيكر يؤلمها. سنذهب إلى شاطئ البحر كي نشم الهواء الرطب.
هبط شتيرنر وإلزا نحو البحر.
ودعهما كاتشينسكي بنظرة متنبهة ومشغولة البال.
ابتسم دوغوف المرح ابتسامة عريضة.
لاحظت إيما هذه الابتسامة فغضبت منه, وفكرت: "لا يعرف شيئاً, لا يفهم ويبتسم أيضاً!". وتنهدت وهي تنظر إلى الشخصين الجالسين على الصخور الساحلية ...
5 - المُروِّضون
انطلق مسير الفصيلة الصغيرة. مشى في المقدمة مرافقان زنجيان, وسار في إثرهما دوغوف وإلزا وشتيرنر وكاتشينسكي.
سألت إلزا بحيرة:
- أين هي بنادقكم؟
أجاب دوغوف وقد نقر على جبهته:
- ها هنا!
سألت إلزا مازحة:
- كيف, مرة ثانية هنا؟ دماغك؟ هذا مرسل لاسلكي وبنادق أيضاً. ومن المحتمل أن يكون مصباحاً كهربائياً ذاتياً؟
- ليس محتملاً فقط, ولكنه سوف يكون كذلك, فالفكرة الإنسانية هي القوة الأعظم, أو كيف هي هناك كما قال أرينيوس يا كاتشينسكي؟..
- "أعظم مصدر للطاقة هو الفكرة الإنسانية … فالذبذبات الكهرطيسية التي تظهر في خلايا الدماغ البشري هي القوة العظمى التي ستسيطر على العالم".
قال دوغوف:
- هل ترين أي سلاح جبار يوجد في دماغنا!
دخلوا إلى دغلة الغابة الاستوائية. خيَّم هنا ما يشبه العتمة. رفرفت الطيور المرقشة بـين الأغصان والنسيج العنكبوتي للعرائش. أشعة الشمس التي تخترق بعض الأمكنة مثل شعاع المصباح الكاشف, أخرجت مجموعات أوراق متعددة الألوان من شبه العتمة, وأنارت قوس القزح على ريش الطيور الملون. اختفى الطريق, وأصبح السير على الأوراق المتعفنة وجذوع الأشجار الساقطة المنخورة أكثر صعوبة. ساعد شتيرنر إلزا على تجاوز عقبات الطريق.
أصبح شتيرنر يعتني بإلزا ويلاطفها على نحو غير معتاد منذ مساء الأمس.
سألت إلزا التي بدأت تتعب:
- كم سيطول تجوالنا؟ أعتقد أن الحيوانات تعيش بعيداً في عمق الغابة.
أجاب دوغوف:
- ولماذا علينا أن نبحث عنها؟ على الوحش أن يركض بنفسه نحو الصياد. وهكذا سنجد المرجة ونناديهم.
وصلوا سريعاً إلى مرجة في الغابة مضاءة بالشمس إضاءة ساطعة. ضيَّق الجميع أعينهم بعد شبه العتمة في الدغلة. زهور ضخمة مبقعة حمراء وصفراء تشبه الخزامى.غطَّت المرجة بغطاء متصل.
صرخت إلزا:
- يا لها من فتنة!
جلس الجميع يتسامرون دون هموم.
قال دوغوف:
- هيه, حان الوقت.
ومضى إلى منتصف المرجة تماماً وتوقف. رفع رأسه قليلاً إلى الأمام ونحو الأعلى. أصبح وجهه جدياً وأمعن النظر. أخذ يدور ببطء في كل الاتجاهات, كما لو أنه يخترق بنظره دغلة الغابة.
ارتعشت إلزا فجأة, فقد سمعت من مكان ما بعيد زئير أسد مثل دويّ ناء للرعد, فأجابه ثان وثالث ...
قال كاتشينسكي مبتسماً:
- إنه يقع في الصنارة!
استمر دوغوف في دورانه ببطء بالوضعية المركزة ذاتها. اقترب الزئير أكثر. تحركت القرود بخوف على الأغصان وصرخت. تملك القلق الطيور أيضاً, فرفرفت بأجنحتها طائرة من الأغصان للأعلى.
ها قد خشخشت الأغصان تحت أقدام الوحوش الناعمة لكن الثقيلة.
كانوا يأتون من كل النواحي ويحيطون بالناس غير المسلحين وغير المحميين ... أصاب الهلع إلزا. ماذا لو أن السلاح الجديد كان غير فعال؟ سيموت الجميع أشنع ميتة!..
لاحظ شتيرنر خوفها فأمسك يدها, وقال وهو ينظر إلى عينيها:
- اهدئي!
سكن قلقها. وفي هذا الوقت هرع أسد ضخم إلى المرجة وهو يكسر الخمائل, وأغمض عينيه بسبب الضوء الساطع ثم توقف, وبعدئذ اقترب بهدوء من دوغوف وهو يزمجر بلطف, ثم مسح رأسه بقدميه. هرشه دوغوف بـين أذنيه فتمدد الأسد عند قدمي المروض. وسُمِع صوت يشبه المواء, ثم هرعت إلى المرجة لبؤة مع شبلين. وجلست أيضاً عند قدمي دوغوف. وقفز أسد آخر من الغابة قفزة ضخمة.
قال دوغوف:
- لكن يكفي! لن يحمل يختنا كل هؤلاء الضيوف. إنك زائد على الأرجح.
وتوجه إلى الأسد الأول وهو يربت على رأسه:
أنت لست بذلك الجمال. ارجع من حيث أتيت, أيها العجوز!
لعق الأسد يد دوغوف بلسانه الضخم وركض إلى الدغلة.
تابع دوغوف الحديث ممرراً يده على ظهر الأسد الضخم الذي قفز عبر كل المرجة:
- أما هذا فجميل. انظروا, ليس وبراً وإنما هو صوف ذهبي حقيقي!.. وأنت لماذا تبكي أيها الصغير؟ تشظّت قائمتك؟ يا للصغير المسكين! أعطنيها كي أسحب الشوكة.
سحب دوغوف من قائمة الوحش حسكة كبـيرة تعود لنبتة شوكية.
نظرت اللبؤة إلى هذه العملية بهدوء.
قال دوغوف وهو يلتفت نحو إلزا:
- لديها قوائم ناعمة جداً, وهي غالباً ما تعاني من الأشواك. لكن لماذا لا تقتربـين يا سيدة؟ أنت ترين أنها مسالمة مثل الأطفال!
اقتربت إلزا من الأسود, وأخذت تمسِّدها فهمهمت بلطف, ثم حكَّت رؤوسها بيدها وسعت جاهدة كي تلعقها.
- هيه, حان وقت العودة إلى البـيت. لقد مالت الشمس نحو المساء. أين أدلتنا؟
وجد كاتشينسكي واحداً منهم بـين العشب الكثيف. استلقى الزنجي المسكين مثل الميت الذي شله الخوف. وهرب الثاني لدى الأصوات الأولى لزئير الأسود. لكن ذلك الذي وجدوه كان قليل القدرة على أن يخدم بصفة دليل. كان يرتجف لدرجة أن العقد المصنوع من القواقع والمعلق على رقبته كان يرن دون توقف. خاف أن يهمس عند مشاهدة الأسود. أخذ كاتشينسكي يثبته بنظره, فهدأ الزنجي ومشى قُدماً.
سار دوغوف في المؤخرة في هذه المرة فتبعه الأسد واللبؤة والشبلان بطاعة مثل الكلاب. مشى الدليل في المقدمة وخلفه إلزا مع شتيرنر وخلف شتيرنر كاتشينسكي.
وفي أكثف دغلة حيث سادت العتمة تقريباً, طقطقت أغصان الأشجار فوقهم. صرخ شتيرنر وحمى إلزا بنفسه. وقع النمر الأمريكي الذي قفز نحوها على شتيرنر فأسقطه أرضاً. صرخت إلزا مرعوبة. ومع ذلك لم يمزِّق النمر شتيرنر مثلما توقعت, وإنما هرب فجأة إلى الدغلة وهو يلوي ذنبه مثل كلب مضروب.
سُمِع صوت دوغوف:
- ومع ذلك فإن تصيدنا ليس آمناً تماماً! هل أنت جريح يا شتيرن؟
أجاب شتيرن وهو ينهض من الأرض:
- سليم ومعافى. تمزقت البذلة فقط.
قال كاتشينسكي وهو يقترب من إلزا:
- يمكنك الآن الاقتناع بقوة سلاحنا يا سيدة بـيكر. لم يتعرض النمر الأمريكي لتأثير الفكرة فحاول الهجوم علينا. لكن قبل أن يقع على شتيرن تمكنتُ من إعطاء الوحش أمراً فكرياً بالانصراف ما دام سالماً. وكما شاهدت فقد ركض ركضاً معيباً. تطير الأمواج الكهرطيسية عند إشعاع الفكرة بسرعة ثلاثمئة ألف كيلومتر في الثانية, أي بسرعة الضوء. وأنت ترين أننا نملك أسرع سلاح في العالم. كان يكفيني جزء من مئة ألف جزء من الثانية كي أزيل خطر العدو.
قال شتيرنر وهو يحدق نحو إلزا:
- ومع ذلك يجب أن نكون أكثر حذراً.
إذ لم يخف على نفسه مقدار ما خاف عليها.
أجاب دوغوف:
- لم يعد هناك خطر الآن. فالدغلة تقل كثافتها وسنخرج من الغابة عمّا قريب.
صرخت إلزا عندما سكن اضطرابها قليلاً:
- يا لها من ببغاوات رائعة!
هتف كاتشينسكي:
- آخ. كدت أنسى! لقد وعدت إيفين أن أجلب ببغاء لزوجته.
ثم اختار من الغصن أجمل واحد وأرسل إليه أمراً فكرياً, فجلس الببغاء على كتف كاتشينسكي.
نظر الزنجي إلى كاتشينسكي باحترام وسواسي.
لاحظ كاتشينسكي هذه النظرة فضحك, ثم أشار إلى الزنجي:
- بالنسبة إليه نحن كائنات أرقى وآلهة كلية القدرة قادرة على اجتراح العجائب. هكذا خُلِق الإنسان: فهو إما أن يؤله, أو أن ينفي الشيء الذي لا يستطيع فهمه.
أجابت إلزا:
- يمكن أن يبدو هذا أعجوبة ليس للزنجي فقط.
قال دوغوف:
- بـينما لا يوجد هنا أي أعجوبة. يقوم كل ترويض للحيوانات على أننا نستدعي ونُثبِّت لديها ما يدعى بالأفعال المنعكسة الشرطية. نجاحاتنا في إرسال الفكرة عبر المسافات صنعت فقط إمكان التثبـيت الفوري في الوعي لكل ما نرغب فيه.
ثم تابع بعد توقف:
- نعم, تذكَّر يا كاتشينسكي تجاربنا الأولى. لقد كان هذا لهو أطفال بالمقارنة مع ما نفعله الآن!
أجاب كاتشينسكي:
- كن عادلاً تجاه تجاربنا الأولى. فمن دونها ما كنا سنملك حديقة حيواناتنا التي فتنت كل العالم.
سألت إلزا:
- وما هي هذه الحديقة؟
- إنها تستحق المشاهدة! ساحة ضخمة في ضواحي موسكو مزججة ومحولة إلى حديقة شتوية ذات أبعاد غير عادية. تنمو النباتات بحرية في هذه الحديقة. وتتبختر الأسود والنمور والتيوس والظباء والفهود والأطفال فيها بحرية بـين الورود والنباتات. مجموعة الأطفال التي تمضي أياماً كاملة هناك تلعب مع الوحوش متنزهة وهي تمتطي النمور وتهارش الأشبال الفتية. لكن ها هي ذي نهاية طوافنا. لقد بان منزلنا ...
أقلق ظهور الموكب غير العادي جميع قاطني المنزل. فما إن شاهدت إيما الأسود المقتربة حتى صرخت برعب, ثم أمسكت الطفل واندفعت إلى البـيت وهي تغلق الأبواب والنوافذ. هرعت الزنجية العجوز نحو الشاطئ وهي تصرخ صراخاً يائساً. وسقطت شميتغوف مغمى عليها. ووقف هانس على قدميه بصعوبة. وفي الحظيرة شخرت الأحصنة وتلاطمت وقد شعرت بالحيوانات المتوحشة. أما الحمار فقد نهق بجنون.
لكن سكن الجميع تدريجياً. أقنعت إلزا إيما بالخروج إلى الشرفة, وأخذت تتهارش مع الأسود كي تشجع صديقتها. وفي نهاية المطاف حتى أوتو الصغير تجرأ واقترب من الأشبال الفتية دون أن يتجاسر على لمسها بعد.
خاطب دوغوف إيما:
- ألا ترغبـين يا سيدة شبـيلمان أن أبقي لكم أسداً؟ فهو سيسلي ابنك وسيحمي منزلكم.
- أشكرك لكن ... أبعدها من هنا من فضلك!
ضحك دوغوف ونظر إلى الأسود, ثم حوَّل نظره إلى البحارة الجالسين في الخيمة. نهض البحارة فوراً لتنفيذ الأمر الفكري, وبدؤوا يطوون الخيمة ويحضِّرون القارب للإقلاع. هبطت الأسود نحو الشاطئ ببطء وحذر وهي تدوس على الطريق الحجرية, ثم تمددت على الرمال. نقلها البحارة واحداً واحداً إلى اليخت.
سألت إلزا بحزن:
- هل أنتم مغادرون؟
- مع الأسف نحن لا نستطيع البقاء طويلاً. ينتظرنا منطاد كبـير. لكننا نأمل أن تعارفنا السار لن ينتهي عند هذا. سوف نزوركم من وقت لآخر, فنحن سنحتاج لكثير من الحيوانات الجديدة لملء فروع حديقتنا, التي سنفـتـتحها في خاركوف وتفليس وغيرها من المدن. ومن الأفضل أن تأتوا إلينا وتشاهدوا عجائبنا.
انحنت إلزا.
اقترب دوغوف من إيما:
- أما أنت يا سيدة فقد خسرتِ كثيراً جداً لأنك لم تأت معنا إلى الصيد. كنت سترين كثيراً من العجائب.
وتابع دوغوف بعد أن نظر إلى السماء حيث حامت مجموعة من الطيور فوق الخليج:
- بـيد أنني أستطيع أن أريك "أعجوبة" كي أعوضك عمّا لم تشاهديه في الصيد.
أخذ دوغوف ينظر إلى الطيور فغيرت طيرانها فوراً, وانتظمت في مثلث, واقتربت من المنزل محلقة بهذا التشكيل. تحوَّل المثلث إلى دائرة, ثم تزايد اتساع الدائرة وتباعدت, كما لو أنها ذابت في الهواء, وامتزجت مع الأبعاد الموغلة في بعدها.
صفقت إيما بـيديها مفتـتنة.
صرخ الطفل:
- أيضاً! أيضاً!
وبـينما روَّح دوغوف عن إيما والطفل أثناء الوداع, انعزل شتيرنر مع إلزا جانباً, وتحدث معها بحرارة عن شيء ما. ارتبكت إلزا واحمرت, لكنها كانت راضية عن كلمات شتيرنر على ما يبدو.
قال دوغوف:
- هيه, حان وقتنا!
نزل الجميع نحو الشاطئ. جلس كاتشينسكي ودوغوف وشتيرنر في الزورق, وأمسكوا بالمجاديف.
صرخ شتيرنر وهو ينظر إلى إلزا:
- إلى اللقاء.
ولوَّح بالمجاذيف.
سالت قطرات الماء من مجدافه تحت أشعة الشمس الغاربة مثل قطرات نبـيذ هيوسكي الأحمر. وها هو ذا القارب يصل إلى اليخت فيصعد الرحالة إليه. وتمتط الأشرعة بسبب الريح المواتية. وتصلصل سلسلة الياطر ...
تناهى إلى مسامع إلزا مرة ثانية:
- إلى اللقاء!
لوَّحوا على اليخت بالمناديل, فأجابتهم إيما وإلزا والطفل بالتلويح.
انتظمت كل الأسود على المتن ذاته بوضع قوائمها على الحاجز. وبدا وبر الوحوش مثل صوف ذهبي تحت أشعة الغروب. وأقلع "الآرغيون"(8)) الجدد ...
نظر دوغوف إلى الأسود فهزَّت جميعها رؤوسها فجأة, ولوَّحت بقوائمها كما لو أنها تودع قاطني المنزل الصغير. ضحك الصبي وإيما. ابتسمت إلزا على الرغم من أن وجهها كان حزيناً.
اختفت أشرعة اليخت في البعيد. وهبطت الشمس نحو سطح المحيط الزمردي الذي سرعان ما شابته مسحة رمادية. ومع ذلك بقيت المرأتان والطفل واقفين على الشاطئ محدقين إلى تلك الجهة حيث تلوَّن أثر اليخت على سطح المحيط.
قالت إلزا أخيراً وهي مستغرقة في التفكير:
- نعم, ربما في الحقيقة, علينا أن نذهب إلى هناك كي نشاهد كل تلك العجائب.
أجابتها إيما بحيوية:
- من البديهي! فلقد جلسنا طويلاً هنا!
لم تستطع إلزا خلال مدة طويلة أن تغفو في هذه الليلة. وعندما غفت قبل الصباح, فإنه تهيأ لها أنها سمعت صوت لودفيغ الذي ناداها.
وهمست هي عبر الحلم:
- نعم, يا حبـيبي لودفيغ!
لكن إلزا أخطأت.
ليس شتيرنر هو من فكـَّر بها في هذا الوقت, وإنما شتيرن.
جلس شتيرن على ظهر اليخت تحت السماء الجنوبـية المليئة بالنجوم وعلى كرسي مضفور صغير, مستنداً بكوعه إلى رأس الأسد النائم. كان القمر قد بان, وجاءت من المياه نسمة منعشة من نسمات ما قبل الصباح. ومع ذلك فإنه لم ينم بعد, وإنما فكَّر بالسيدة بـيكر التي تعيش في بـيت منعزل على شاطئ المحيط.
هدهدته موجة رتيبة. أمال شتيرن رأسه نحو لبدة الأسد الكثة وأغفى خلسة.
أنارهما أول شعاع من الشمس: إنسان وأسد.
ناما بسلام حتى دون أن يشِّكا بخفايا حياتيهما الباطنية, إذ حَشَرَت قوة الفكرة الإنسانية كل ما كان فيهما مرعباً وخطيراً بالنسبة إلى المحيطين بهما.
***
الفهرس
القسم الأول 5
1 - مرشح ليصبح نابليون 5
2 - تحت عجلات القطار 15
3 - وصيتان 21
4 - العروس السعيدة 27
5 - حادثة ملتبسة 33
6- مرافعة قضائية 37
7 - الوريث المفقود 41
8 - المبنى الزجاجي 45
9 - خمسون بالمئة علاوة 51
10 - الفتاة ذات الإبريق المكسور 57
11 - رحلة زواج لم تتم 65
12 - الساعة السادسة مساء 73
القسم الثاني 79
1 - ذعر في البورصة 79
2 - الأقوى ينتصر 85
3 - الفيلا البـيضاء 91
4 - ذهان جماعي 99
5 - لجنة الإنقاذ الاجتماعي 107
6 - محاولة اغتيال فاشلة 115
7 - "تريلبـي" 125
8 - منطقة الذعر 131
9 - "مساعدة رفاقية" 139
10 - بحثاً عن سلاح مكافئ 149
11 - المخترع الموسكوفي 157
12 - الحرب الصامتة 167
13 - "ليلة ممتعة إمتاعاً شيطانياً" 179
14 - اللعبة منتهية 195
15 - عند حوض الأسماك المكسور 201
القسم الثالث 211
1 - بـيت صغير عند البحر 211
2 - صيادو الأسود 219
3 - شتيرن وشتيرنر 227
4 - "تمة" سان سانس 235
5 - المُروِّضون 239
الفهرس 248
***
(1) "غليوك" تعني السعادة في اللغة الألمانية.
(2) الصندلية: كرسي دون مسند.
(3) الموغيكان: قبيلة من الهنود الحمر الأمريكان, أُبيدت أغلبيتها, وحُصِرَت بقاياها في مناطق مغلقة خاصة. وغدا تعبير آخر الموغيكان كناية عن آخر ممثلي جهة ما أو ظاهرة ما.
اشتهر هذا المصطلح بعد أن نشر الكاتب الأمريكي جيمس فينيمور كوبر روايته الشهيرة "آخر الموغيكان".
(4) القبَّات: زهور النرجس الرومي, أو زهور المسك الرومي.
(5) الحَرَض: فساد في البدن والعقل, وهو كذلك الضيق النفسي المرضي.
(6) بوليشينيل: (المهرج) في مسرح الدمى الفرنسي في القرن السادس عشر, وهذا المصطلح يقابل من زاوية ما شخصية كركوز أو (قره كوز) في مسرح خيال الظل لدى الترك والعرب.
(7) لازمة في أُغنية شعبية روسية شهيرة, كان يُنشدها العمال الذين يسيرون على ضفة النهر وهم يجرّون بحبل جذوع الأشجار المربوطة الطافية على صفحة مياه النهر. وكانت هذه هي الطريقة المستخدمة لنقل الجذوع من مكان إلى آخر.
(8) إشارة إلى أبطال الأسطورة الإغريقية, الذين سُمّوا بالآرغيين نسبة إلى السفينة "آرغو", التي أبحروا على متنها بقيادة البطل "جازون" إلى "كولخيدا" (جورجيا حالياً), لإحضار "الفروة الذهبية" التي كانت بحراسة التنين.
---------------