الموضوع: الغريب
عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية AshganMohamed
AshganMohamed
:: منتسب جديد ::
تاريخ التسجيل: Oct 2019
رقم العضوية : 154
المشاركات: 1,917
:
:
:  - :
قديم 01-15-2020, 07:04 AM
# : 1
AshganMohamed
  • معدل تقييم المستوى : 10
  • الإعجاب:
    افتراضي الغريب
    الكتاب السادس

    الغريب


    جبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد مسقط رأسي ولا وجدت من يعرفني ولا يسمع بي وسأبقى غريبا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني .
    جبران خليل جبران


    تأخذ شهادة الراوي في هذا المقطع، منعطفا جديدا حيث تصبح الرحلة غوصا في أعماق الذات. انتبهوا لحيرة الراوي.وهو في سعيه لتفحص هذه الذات مثل العين التي ترى كل شيء ولا تستطيع رؤية نفسها وهي تبصر .
    المعلّق


    قال الراوي في افتتاحية الكتاب السادس للرّحلة

    اليوم 21000 من الرحلة
    يحدّق فيّ الشحاذ الثمل رافعا عقيرته بالغناء. يمد يده بشره لقطعة النقد ، ثم يصرخ بأعلى صوت:أجنبي آخر غريب جديد ،"بونيول"، تفه!
    هذا عالم يوجد فيه كل شيء فلماذا لا يوجد فيه شحاذ عنصري ولماذا لا يكون للشحاذين الحق في سبّ زبائنهم ؟ الثابت أنه أيضا شحاذ غير سهل وهو يرفض بقوة فتح راحته لأستعيد قطعة نقدي استثمرها في صدقة صالحة تعود علي بغير السبّ.
    ثم ما يجهله هذا الشقي أنني غريب قانوني ورسمي ومعترف به وليس كبقية الغرباء الذين يختبئون في الأقبية خوفا من اكتشاف أمرهم وترحيلهم خارج الحدود. وعلى كل لست وحدي الغريب الذي يمشى في هذا الشارع ولا أعني الأجانب بالأوراق الرسمية أو دونها وإنما سكان المكان أنفسهم .
    ومتى كان الآدمي في وطنه في أيّ مكان من هذا العالم ؟... عندما شكّل لأحقاب لا تحصى صيدا سهلا لكبار الكواسر وصغارها ؟...عندما مثّل لقرون لا تعدّ أثمن فريسة للصيّادين من بني جنسه.. ؟ أو لما كان ملاحقا بالطاعون، بالطوفان وبالمجاعات ؟ أو وهو محاصر بالبحر المزمجر، بالصحراء المكشرة ، بالأعاصير الماحقة، بالغابات الخانقة وبالبراكين الحارقة؟... أو وهو عائش إلى الأبد تحت تهديد الفناء ، محكوم عليه أن يلد للموت وأن يبني للخراب ؟
    على كل حال هؤلاء الذين يدّعون أنهم ليسوا أجانب وغرباء مثلي، يجهلون تقريبا كل شيء عن بعضهم البعض وربما يستعملون" أجانبهم " لمجرد فشّ الغيظ لكثرة ما يعترضهم من وجوه مجهولة محيرة ومزعجة لبني جلدتهم. قد يكون تحفيز الغريب لكل المشاعر المبهمة والعدوانية التي يثيرها فينا أمر لا علاقة له به هو وإنما بنا نحن، والآخر دوما مجرد مرآة نتأمل فيها مشاكل ذاتنا. ثم لماذا أكون أنا غريبهم ولا يكونوا هم غربائي، فأنا لا أعرف عنهم أكثر مما يعرفون عني. أضف لهذا أنهم لا يملكون بطاقة هويتي التي تسمح في بلادي باعتبارهم غير غرباء المهمّ أن في حافظتي ورقة بلاستيكية- يبدو أنها صعبة التزوير- ومدتني بها سلطات البلد ببالغ الامتعاض تحفظني مؤقتا من عنف الذين يدعون أنهم ليسوا الغرباء وخاصة من عنف شرطي يمكنه بكل راحة بال طرحي على بطني ووضع الأصفاد في يدي ومسدس زميله فوق صدغي . ففي هذه البطاقة الثمينة – التي أعيش على هاجس فقدانها أو سرقتها – يمكن لحفظة الأمن والقانون على حدّ تعبيرهم، معرفة أصلي وماذا أفعل هنا.
    صحيح أن الورقة لا تمنع أن أمشي في الطرقات لا وهم لي حول ما يدور ببال من يلقون عليّ نظرة متجهمة: غريب،. خطر،محيّر،مهدّد للنظام العام، لخزينة الدولة، للصحة العمومية، لا يرجى منه مصاهرة مشرفّة أو حتى مصلحة عابرة.
    يا رجل لا تستسلم للكآبة وللبارنويا فوضعك ليس بالسوء الذي تتصوّر، لا تنسى ازدواجية الآدمي. آه صحيح ثمة من ينظر إليّ مطولا لتتدافع داخل ذهنه أفكار حول كوني آدمي مثله بل ثمة منهم من سيغالب خوفه ليتوجه إلي حذرا يريد رمي جسر على هاوية غربتي وغربته .
    قد يكون من مزايا البطاقة البلاستيكية لا فقط حفظي مؤقتا من عنف الآدميين وإنما طمأنتي حول من أكون، ففيها سلسلة طويلة من الأرقام تحدّد هويتي في هذا المكان.
    بطاقة الهوية !.هل اخترعنا الشيء لنسخر من أنفسنا ؟
    بالطبع لا فائدة أن تستوقف أحدا من هؤلاء البشر المتدافعين حولك لتسأله من هو وما الذي يفعل في هذا العالم وهل كان متطوعا لزيارته أم هل حشر فيه هو الآخر حشرا، وما الجريمة التي ارتكب واستأهلت من المحكمة حكما بقسوة عقوبة الوجود مدى حياة. فالقاعدة أن جهله بذاته لا يقل عن جهله بالآخر وبكل الآخرين.
    القاعدة أنك تعبر العالم وأنت غريب يجاور غرباء يجاورون غرباء.
    الأخطر من كل هذا أن تعيش غريبا على ذاتك أو أن تشعر أن بداخلك غريب.
    تكتشف باكرا أنه يوجد داخلك سيّد لا يعصى له أمر طويلا. هو من يحدّد وقت الجوع والعطش والتبرّز والتبوّل والشهوة والحب والنوم والحلم.
    أقرّر أن أذهب يمنة فيصرّ المجهول الذي بداخلي على أن الطريق الأضمن هو اليسار. أقرّ العزم على الذهاب يسرة فيصرّ على أن أضمن طريق الذي ينعطف يمينا . ثم أشعر به يتوجّه إلى الخلف دون تكلّف عناء الإنذار. يتباطأ عندما أريده أن يسرع . يركض بي كأنّه يفرّ أمام النّار عندما آمره بالتمهّل. نادرا ما يقبل أن يركض بي خببا لأكحّل عينيي بالمناظر الخلاّبة التي تحيط بجانبي الطريق. أتابعه غالب الوقت عاجزا و''هو'' يقرّر الوقوف في مكان حملني إليه عن نزوة أو عن قصد لا أفهم مراميه .
    حتى لا أبالغ أو أتجنّى، أعترف أنه يذهب أحيانا و يتوقّف أين أريد لا يجادل في اتّجاه ولو كان هاوية بلا قاع . تأتيني آنذاك أفكار جميلة عن مهارتي في ترويض هذا المقنّع المتمترس داخلي ، فإذا بالصهيل المفزع يتعالى لتتجدّد حصص ''الروديو''. هكذا حكم عليّ أن أشقّ طريقي في الزّحمة أصارع الفرسان والفرس التي أركب . كم استغرب اليوم طول تشبّثي بالسرج وكم أنهكتني المعارك التي لا تنتهي مع فرسي هذه وأنا موثق مسمّر على ظهر الحيوان الجامح !
    لا تشعر بجبروت الساكن المجهول قدر شعورك به و''هو'' يقودك بقبضة من حديد، لا قدرة لك على مقاومة، باتجاه الخروج النهائي كأنك مجرّد طرد يسلمه مجهول لمجهول.كيف يكون، من تسميه اللغة "أنا"ً، هو أنا، والحال أنني أعلم أصدق العلم أنّ ً"أناي" الذي أعترف به وأتحمل مسئولية أفعاله، لم يكن له ضلع في قرار هام اتخذ على مر السنين، باستثناء التحرك داخل مساحة جد ضيقة من " الحرية"؟
    كيف لا يتعمّق الإحساس أن داخلك أناءان (مع عدم الاعتذار لأهل النحو والصرف ولومي لعدم تفكيرهم في إيجاد مثنى وجمع للأنا ) واحد رسمي ومعترف به والآخر يعيش في كنف الطي والكتمان.على فكرة هل من الممكن أنك بصدد قراءة ما يكتب "هو " لا ما أكتب " أنا" ؟ أنا مجرد سكرتير للأنا الفعلي ؟ كلا ، لا يمكن أن أقبل شيئا كهذا وأنا رجل رفض دوما أن يكون عميلا لأي كان فكيف ينتهي في آخر عمره عميلا لذاته ؟
    كم من مرّة صرخت في هذا الذي يختفي وراء الستار والذي يحركني كما يشاء ليعرّف بهويته فكنت كمن يحدّث الجبل ! كم من مرّة تحايلت على صمته بشتمه والتملّق الرّخيص فكنت كمن يشتم السماء ويتملّق البحر!
    تكلّم يا من يسكن بين الضلوع دون عقد كراء وموافقة من صاحب المحل ...ما نسبك الحقيقي، ماذا تفعل داخلي ؟ ما علاقة القربى بيننا...الخيال في مرآة حلاّق طفولتي يقلد تحرك شفتي ولا ينبس ببنت شفة ؟عظيم ثمّ ماذا أيضا ؟ ارفع صوتك قليلا. تتهمني الآن بالطرش.وبالغباء وبالعمى وببلادة الحس وثقل الدم وبطء الفهم وأنّني كالحمار يحمل أسفاره. هل تعرف إن لنا وسائلنا لإجبارك على الكلام . من الأحسن أن تبوح بهويتك وبمن كلّفك بالمهمّة وأهدافها قبل أن أسلّمك لأهل الاختصاص.ماذا تقول ؟ أنّني أنا الذي سأتعذب ...لكنّني سأوصيهم أيّها المغفّل أن لا يعذّبوك إلا أنت. ستصرخ وتنادي أمك بلا جدوى، إلى تسليمك مفاتيح الذات والشّفرة التي كتبت بها أهمّ الملفّات.. إلى توضيح العلاقة التي تربطنا ولماذا تأمر طول الوقت ولا تطيع إلاّ عرضا. آه لا ينفع معك تهديد ؟ طرقنا بابك بالعلم فلم ينفع ، بالتفلسف فلم ينفع ، بالصّمت فلم ينفع ، بالفنّ فلم ينفع ، بالرّجاء فلم ينفع .قل لي على الأقل أيّ باب أطرق.اللعنة لا بدّ من فرض إرادتي على هذا الأبكم. لست سيد العالم ، لأكن على الأقل سيّد نفسي.
    يتكثف صمت اللعين وأفهم أنه معرض عن مجادلة غبي موجوع ليس في حالة تؤهله للفهم . أواصل معابثته وتعذيبي
    غير مقبول أن أخرج من هذا العالم ومن هذا الشكل الذي لبسته وليس لي سوى هذه الأفكار الناقصة المشوهة الباهتة عنك. هل تقبل لذات، أنت في آخرة المطاف جوهرها، بمثل هذه المظلمة . هل يمكن على الأقلّ أن تحسّن خدماتك.اتفقنا إذن. لا تصاعد من بعد اليوم من أعماقك المخيفة لألم أو أمل.
    يخيل لي أنه ''هو'' الذي يبتسم ولسان حاله يقول مرفوض،مرفوض،كل شيء مرفوض وكذلك الباقي.ما الحل وقد استعصى التفاهم. الطلاق طبعا. كما يفعل كل الأزواج الذين أرهقهم الخصام واستحال بينهم الوفاق!
    أين القاضي الذي سيصدر الحكم ،ومن سيحمّل مصاريف القضية ؟ خاصة ما الوثائق التي سأقدمها ضدّه هذا الأنا الذي يعاكس الأنا ؟
    ماذا لو سارع الخصم بتقديم القضية ضدي عملا بمبدأ كل الخبثاء : ضربني وبكي وسبقني وشكا. كأني أسمعه وهو يقدم للقاضي وثائقه المزيفة: يبصر ولا يرى شيئا . يسمع ولا ينصت أبدا. لا ينتبه إلا لأقلّ الأشياء والأمور شأنا. أسرّ في أذنه بألف حقيقة فلا يفهم واحدة، وإن فهم، فبالصدفة أو على وجه الخطأ. له في كل موضوع رأي سخيف. لا يثبت على موقف إلا إذا كان الهذيان عينه. ذهنه قمامة أنظفها دوريّا فيسارع لملئها بكلّ أصناف الوهم والهوس. ذاكرته لا تحفظ لروائع الرحلة أثرا. أشير عليه فلا يسمع . أنبّهه فلا ينتبه. أعلّمه فلا يتعلّم . أهدّئه فلا يهدأ. أحاوره فلا يفهم لي قولا أو نصحا. آمره بمصلحته فيتنطّع. أدفع عنه الأذى فيؤذيني. أبريه من الألم فيوجعني. أحميه من طيشه فيمعن في النزق. أريه الطريق المفتوح فلا يتوجّه إلا للحلقات المفرغة.أدفعه نحو براري السلامة فيقصد مباشرة الرمال المتحرّكة.أفتح عينيه على الروائع فيغلقها بعناد الطفل المدلّل. ألف لعنة على هذا الشكل الذي قبلت التجسّد داخله. لا بدّ من نقاش معمّق مع الهندسة العامّة حالما تنتهي هذه المغامرة. أي جدوى لتبذير الطاقة والجهد في مثل هذا الكائن السخيف؟ نعم يجب إنهاء تجربة بمثل هذا الفشل.
    لا أتحمّل المزيد من هذا التجنّي .أبدأ في تصفيف هذه الاتّهامات الظالمة لأدحضها الواحدة بعد الأخرى وقد قرّ القرار أن أكون أنا الشاكي لدى الهندسة العامّة بل والمطالب بتعويضات ضخمة لما لحقني من مشاكل غير مقبولة '' هو'' أو الأنا الآخر، سببها. أي جدوى لمحاكمة أنا من قبل أنا،لمحاكمة أنا فيها الخصم
    و''هو'' الخصم والحكم ونحن توأمان مشدودان من عظم الصدر.
    ما يواسيني بعض الشيء أنني لست الوحيد في مثل هذه الورطة. كم سمعت رفاق الرحلة يشكون من أناهم : جرّبت أن أغرقه بالخمر. حاولت أن أطفئ لهيبه بهذا المخدّر أو ذاك. رمت ترويضه بهذا الدين أو بتلك الفلسفة، بالحكمة أو الفن...عبثا.
    لو استطعت الأقل التخلص من الغريب من حين لآخر لمجرد الترويح عنه وعني !
    آه لو أمكنني أنا أيضا التخلص من الغريب ثقيل الظلّ.
    ماذا لو جرّبت دخول الدور المظلمة التي أحب الجلوس فيها لمشاهدة قصص الذوات الأخرى ومشاكلها التي لا تنتهي مع ذاتها ، مخاطبا المرأة الواقفة خلف منضدة تستلم المعاطف الثقيلة: لا معطف لي ، لكنني أودعك" نفسي" للسهرة،لا حرج إن ضيعتيها وهذا بقشيش محترم لأجلّ الخدمات.
    آنذاك سأخلع الأنا، أو الهو أو سمّه ما شئت، أسلّمه للمرأة المذهولة . كم سأشعر بالخفّة، بالحرية ، مقدرا كم كان اللعين أثقل من جسم عملاق على رجلي كسيح .
    ثمة داخل ملفات المشاريع المجهضة والأحلام المجنونة سيناريو آخر.
    ها أنا أتوجّه للمرآة وقد جاءني الحلّ في منتصف الحلاقة : ما رأيك في الاحتفاظ بجيكل وهايد معا . خلّصيني من الاثنين . وافعلي بهما ما تشائين. أبوس زجاجك تخاطبني المرآة : من أين لي أن أرفض لك طلبا، ألسنا في فضاء كلّ الممكن . هل أنت مستعدّ ؟ أعطي إشارة الانطلاق لعملية امتصاص جيكل وهايد . تختفي ملامحي من المرآة وأبقى جامدا أمامها لا أتحرك .تبرز من الغد الصحافة الشعبية بعناوين صاخبة على الصفحة الأولى :حالة لم يسبق لها مثيل،شخص يكتشف أمام مرآة لا تعكس له صورة وهو في حالة ليست الموت وليست الحياة .الأطباء لا يجدون تفسيرا للظاهرة .
    هيهات، لا مهرب للأنا من الأنا وهو ظلك الذي لا يضيّع خطاك أبدا . تدخل فراش النوم هاربا منه فتجده يتربّص بك داخل ألف كابوس . تستيقظ على أمل أن يكون قد انحلّ أو تغيّر فإذا به هو الذي يوقظك. تتنكّر علّه لا يعرفك فتكتشف أنّه كان القناع. تبغي قتله وتخطّط للأمر فإذا به اليد التي تربط الحبل والرجل التي تدفع بالكرسي.
    ثمة إذن إشكالية مركزية في ذاتنا وهي أنها منفصمة وأن هناك شرخ ، بل قل هوة بين ما يمكن تسميته أنا السطح ، وأنا كامن في الأعماق تعرفه من أفعاله ، لكنك عاجز عن فهم أصله وفصله ومقاصده السرية .
    يبقى المجهول الذي يتحكم فيك سرّا يقضّ مضجعك ... هاجسا في المرحلة من العمر التي تسمّيها اللغة مراهقة ووعيا مؤلما متقطعا بين مدّ وجزر على مرّ السنين. لا يخيل لك أنّ الحيرة التي يثيرها انطفأت نهائيا إلاّ وفوجئت بها جمرة تحت الرماد تنتظر إشارة الرّيح. ولا مجال لتفادي هذا الموضوع اللّعين أو رميه في غياهب النسيان وبداخله بقيةّ الأسئلة اللّعينة وجزء من الإجابة عنها .
    تشعر الذات بما في هذا العالم من صعوبة الفهم والتعامل دون قدرة وضع الإصبع على مكمن الدّاء.هي ترى عجزها في مقارعة العدد الذي لا تستطيع عدّه ، في التعقيد الذي لا تستطيع فكّ عقده ، في كثرة الأحاجي والألغاز...خاصة في كونها مشكلة تحاول حلّ مشاكل العالم وهي أول وآخر مشاكله.
    لماذا تنفصم إلى جزء على السطح يضج بالشكوى وجزء في الأعماق لا يتكلم...لجزء يعلم وجزء يجهل...لجزء يتذكّر وجزء ينسى ؟
    ماذا لو كنا أمام ثنائية أخرى قد تكون مبسطة أو مهووسة كبعض ثنائيات اللغة؟ لكن من أين الإنكار إن هناك شرخ ؟ هل حصل هذا بقرار مدروس وفيه مصلحة ما أم هو عطب لصق كائن بصدد التكون ؟ هل الأمر تشوّه خلقي أم مرض عضال ومكتسب؟
    تأتيني أحيانا غيرة من بني نبات وبني حيوان أتصوّرهم ملتحمين بالعالم ،سطحهم عمقهم وعمقهم سطحهم، ولا شرخ مؤلم يعانون منه طوال الحياة . هل يجهل حقّا آل نبات و آل حيوان وآل جماد انفصام الذات وحيرة الانفصام أم لهم نفس المصاعب ، كل ما في الأمر أنهم يجهلون هستيريا الآدميين ؟
    الثابت أنه محكوم عليك العيش طوال الرحلة مع ساكن مجهول الاسم مبهم الصفات وأن تكون دوما ذاتا مسكونة بل قل محتلّة من ذاتها.
    نعم ،من هذا الذي نرتحل من بداية الرّحلة إلى نهايتها موثقين مشدودين إليه،هذا الذي نقوده ويقودنا في مسالكها، هذا الذي نسميّه ولا نعرف من هو...أوّل من نقابل من الكائنات و آخر من نودّع ؟
    "من يبادر داخلي (روبرتو جياروز)
    عندما لا يكون الأنا ؟
    من يحلم داخلي عندما أحلم ؟
    من يوقظني على العدم ؟
    نحن مجرد ضيوف داخل بيوتنا
    نشقى لمغادرتها
    وكأننا كنا يوما أصحابها "
    وطوال بحثك عنه تفاجأ ببعده اللاّمتناهي وبقربه الشديد.تفاجأ أنه أنت يتأمل صورته في المرآة ، أنه صورتك في المرآة تتأملك أنت . تفاجأ أنّه يفاجئك إلى آخر لحظة. تفاجأ أنّك تعرفه أصدق المعرفة وتجهل عنه كل شيء.تفاجأ أنه المفتّش والمبحوث عنه.تفاجأ لحظة إلقاء القبض عليه أنّ راحتك لم تنغلق إلاّ على الفراغ.
    لنسمّه ''هذا الشيء''، ولنتبعه على طريقة أجدادي البدو وهم يبحثون عن فارّ لم يترك على الرمل إلا آثار خطى يهدد بقائها كل لحظة هبوب الريح . ****
    السطح

    ربما كنت في التاسعة أو العاشرة من عمري لما حصل هذا النقاش أو ما يشبهه.
    - ''با'' أنا الذي سأختبر معلوماتك هذه المرة. من أكرم العرب؟
    - النصراني حاتم الطائي .
    - من أشجع العرب.
    - الأسود عنترة بن شدّاد.
    - وأوفى العرب.
    - يهودي اسمه السموءل .
    - و من أشعر العرب.
    يرسم "با" على محياه ابتسامة التهكم ثم يصرخ.
    - قطعا ليس ذلك الأخرق الذي قال"إذا الشعب يوما أراد الحياة". لو قال على الأقل
    " لو هذا القطيع يوما أراد الممات " لكان من الصادقين .
    - أنا أعرف من هو. إنه المتنبي .أليس كذلك ؟ أليس كذلك
    - هل ثمة غيره يا مغفل ؟
    - "با" أريد أن أكون المتنبي لما أكبر.
    ينفجر الرجل ضاحكا
    - المتنبي فقط!
    ثم يستشيط غضبا
    - إياك ثم إياك. كن شجاعا كعنترة،كريما كحاتم، وفيّا كالسموءل. حذار أن تصبح شاعرا ولو كالمتنبي. هذه أمة بقدر ما كثر الله فيها من شعراء، بقدر ما ماتت فيها الفضائل والهمم التي يحث عليها الشعر ولا أتحدث عن انقراض من يستأهلون بيتا واحدا من المدح .
    - ماذا أكون إذن ؟
    - ثمة مهنتان شريفتان فقط في هذا العالم الوغد : التي تمنح الموت والتي تمنعه. فيك كل مؤهلات العسكري، لكنك بهذه النظارات اللعينة لا تصلح مقاتلا. كن طبيبا والآن اتركني أقرأ جرائدي.
    يا للمسكين... أب آخر لم يجد في ابنه من يواصل ذاته ويحقق له ما فشل في تحقيقه.
    كم سمعته يصرخ : أحفاد المرابين هناك ، وأحفاد الصليبيين هنا، يتطاولون على أحفاد الفاتحين !أي عالم هذا؟ لابدّ من جعله يمشي أخيرا على رجليه. أريدك للبطولة، للشهادة، للجهاد، للمعركة أمّ المعارك!
    المهمّ أن صرخة "با"، وأحداث أخرى لا دخل له فيها وسيأتي ذكرها لاحقا، فتحت الطريق الذي قادني لمكان دخلته سنينا والناس يظنون أنني أبحث فيه عن تعلّم صنعة ومهنة...والحال أنّني كنت الطفل الفاشل الذي منعته نظاراته من أن يصبح جنرالا يقرأ في التلفزيون بصوت صارم البيان رقم 1 ،بعد أن ألغى بجرّة دبابة الدستور ناهيك عن الأخلاق والقوانين، يلبس زيا مضحكا من كثرة النياشين على الصدر والبطن ، يفرض صوره الضخمة حتى في بيوت الراحة، ،يحكم بالحديد والنار، يسرق أموال الشعب ويفعل بمعارضيه الأفاعيل...بل واضطرته الأقدار الظالمة أن ينتهي مناضلا يدافع عن حقوق الضحايا الذين لم يسعفه القدر الظالم بالزج بهم في السجون وحك جلدهم بما تيسّر من فنون التعذيب .
    ربما لم أخسر شيئا كثيرا بالقياس لما ربحت في التردّد على موقع مركزي خزّنت فيه الآدمية علومها بخصوص جملة من هواجس الطفل ومنها طبيعة الذات.
    هذه ليست فرصتي الأولى لأرى بأم عيني ما قرأت ليالي لا تحصى في كتب التشريح وما نقلت عنها من رسوم. لكنها ستكون قطعا الأكثر اكتمالا والمشرّح صديق حميم من بلاد الشام سأتدلّل عليه كثيرا وأنا واثق أنه لن يرفض لي طلبا . كم من فضوليين عذّبتهم نفس الأسرار ،لكنهم جاءوا في الزمان غير المناسب ،أو لم يتبعوا طريق الصبر والحيلة مثلي، فطلعوا إلى المشانق وهم يشرّحون جثث التهريب بل وأحيانا من قتلوهم للغرض، والحال أنّني سأخرج بعد حين لمقهى المستشفى لا للسجن.
    أبادر الزميل وأنا أحكم لبس القفاز محدّقا في الجسد المسجى على طاولة الجليز.
    - الأعراض لورم هضمي ومع هذا لم تظهر الصور شيئا. أريد التأكد.
    - اسمع يا فتى،هذا مريضك ومن حقك أن تعرف بماذا قتلته . لكن لا تضيّع وقتي كما يفعل كل المبتدؤون. أنظر ما أفعل ولا تفعل إلا ما أطلبه منك ، فالتشريح علم لا تقدرون عليه يا من لا تعرفون سوى وصف السموم .
    - كفّ عن الهذر ولنبدأ.
    يشدني منظر الجسد العاري الساكن البارد المسترخي أخيرا.
    هل هذا حقا غلاف الشيء أم الشيء نفسه ؟...هل الجسد نوع من الواسطة التي لا بد منها لكي يوجد العالم داخلنا ونوجد داخله ، لكي يفعل فينا أفعاله ونفعل فيه أفعالنا... مفهوم الواسطة أو الأداة غير مقنع لأنه يحيل لوجود كيانين مستقلين مثل آلة التصوير والمنظر الذي تلتقطه بينما العلاقة بين الجسد والعالم مستعصية على الحل...هما بداهة وجهي نفس قطعة النقد ...السؤال المحيّر ما طبيعة قطعة النقد هذه ؟
    ينهرني الزميل
    - هيا أرني براعتك ومدى حفظك لدروس أساتذتك الأجلاء.
    نشرع في تقطيع الجثة على جانبي طاولة الفحص ونحن ظاهريا طبيبان يبحثان في موت مريض ...وفعليا طفلان يفتتّان لعبة تخفي عنهما سرّها بكثير من الخبث.
    يرسم زميلي بسكينه أخدودا عميقا ينطلق من تحت الحلق إلى الصرّة. يدخل يده تحت الفكّ الأسفل مستلاّ بفظاظة ودفعة واحدة اللّسان والحنجرة والمريء والقصبة الهوائية. ثم يصرخ:
    -انتهى الشوط الأوّل . ما رأيك في هذه البراعة يا فتى ؟
    نواصل العمل متوجهين للصدر نشقه ونخرج من داخله عضلة بحجم اليد .أخلع القفّاز لأمسكها بيدي لأعرف بحاسة الّلمس هذا العضو الذي تقول قصص العصر أنّه آلة امتصاص وضخ للدم ، وقصص قديمة أنه معقل الحبّ.ثم ننزع بغلظة كيسين من الهواء يحتلاّن جانبي قفص من العظام يمتلئان بأوّل نفس يستنشقه القادم الجديد وينطلق منها آخر نفس عندما تحين ساعة الرحيل .
    يعود الزميل للصراخ وهو في قمة المرح .
    - هل نواصل بإلقاء نظرة على الدماغ ؟
    - الورم المحتمل في الجهاز الهضمي. لا داعي لفتح الجمجمة.
    - لا تريد سياحة في جوف الرجل ؟ يا ولد اغتنم فرصة رواق مزاجي .
    هكذا قطعنا فروة الجلد بسرعة ولويناها من طرفيها واقتلعناها بقوّة، ثم أمسكنا بمنشار وبدأنا ننشر دائرّيا الجزء الأعلى من العظم، ثمّ اقتلعناه من القحف لنواجه أخيرا بعضو رخو رمادي مائل إلى الصفرة لا زال مغلّفا بغشاء هشّ لم يقاوم طويلا المقصّ والسكّين. ينقض صاحبي بحماس مفتعل على الدماغ يفصله من جذعه ويستلّه من مخبأه العظمي ثم يرميه بلامبالاة مدروسة فوق الطاولة.
    هذا هو إذن العضو هو الذي تقول عنه قصص العصر انه معقل ''النفس'' و''الفكر'' و''العقل'' .ما أبخس هذا الذي لا يقدر بثمن !
    ما بي ؟ هل أنا من النوع الذي يغمى عليه عندما يرى أوّل قطرة دم ؟ كم من عملية حضرتها وسال فيها الدم فلم أنتبه أو أتأثّر ! ما الذي يتصاعد من أعماقي
    ويمنعني من التركيز ...مشاعر بالغة العمق والغموض والوجع جاءتها ظروف للبروز،أم هل أتيت هذا المكان لأوفّر لها منفذا ؟ ينتبه اللعين لحالتي.
    -أراك ممتقع اللون ، مالك ؟
    - اهتمّ بشؤونك.
    ـ متأكّد انك بخير ، أتريد أن أنادى لك طبيبا ؟
    ـ ها ها .يا لها من نكتة جديرة بثقيل دم مثلك !
    - هدّئ أعصابك .تصوّر أنك بصدد تقطيع كبش العيد لا أكثر.
    يا لهذا الغبي… كأنّه يعلم ... كأنه يستغلّ الفرصة لينكأ أقدم جروحي !
    وفي ملفات قديمة كتب عليها بالأحمر الغليظ : مزعج للغاية، يفتح الطفل عيني الرعب على أقصاهما وهو يشاهد سائلا أحمر يتفجر من العنق شلالات وأنهارا تسيل على إسمنت بهو الدار بعد أن انتزع منه أهله بالقوة كائنا لطيفا ،وديعا، بريئا،كان يحنو عليه ويدلّله، يجرب كيف يكون وهو في سنته الرابعة أما وأبا.
    وفي هذا الملف المحافظ على دقة التفاصيل،وحدة الألوان،يضرب المقتول الهواء بقوائمه الأربع لدقائق طويلة، والقاتل يمسح سكينه في منديل أبيض هادئا راضيا عن نفسه. لا يتمالك الطفل المصدوم نفسه فيهاجمه بقبضتيه الصغيرتين، والرجل مصرّ على مداعبته، بل وعلى تقبيله لا يقدّر ما يثيره في نفس مهاجمه من بغض.
    لا بدّ من جرّه بعيدا حتى لا ينقضّ مرة أخرى على المجرم وهو يواصل الاعتداء الفظيع، ينزع عن الجثة الهامدة جلدها ويمزّقها إربا إربا .
    ينفجر الطفل في وجه أمه وهو بين صراخ غاضب وعويل يصمّ الآذان .
    - لماذا فعلتم هذا به ؟ ماذا فعل خروفي ؟ أنا أكرهكم كلكم .أنا أكرهك ،أكرهك و لن أكلمك من الآن إلى الأبد .
    - كفى الآن!
    تعود ''ما'' لرقتها
    - تعال اجلس بيننا .لا تبق وحدك طول النهار في هذا اليوم المبارك .
    أنا أجلس بين النساء وهن يعبثن ضاحكات بأمعاء صديقي يحشونها بالخضراوات والتوابل لإعداد ما يسمونه "العصبان" لعشاء العيد !
    - يا بني هوّن عليك، إنه مجرّد…أقصد …اقصد أنه...على كلّ هو لم يتألم كثيرا .
    أواصل التمنّع عن كل طعام. تقطّب الأم جبينها ويطيّب من خاطري بعض الشيء أن أرى غمامة الدمع في عينيها .
    - يا بني ، إنه كبش العيد ونحن نضحي به في هذا اليوم المبارك لأنها إرادة الله.
    من أين للطفل في هذا العمر أن يعرف أن الآدمي المسكين لا يخطو خطوة إلا وعزرائيل وراءه، أنه مجبر على تقديم الأضاحي ولسان حاله يقول للقوّة المجهولة الماكرة. اتركي لي حياتي وخذي هذه بدلها. من أين له أن يعرف كم هو محظوظ وقد ولد في أسطورة أرحم من التي كانت تسيّر قوما سكنوا نفس الأرض قبل دخول قومه إليها، والأطفال، خاصة أولهم مثله، يقدمون قرابين لإله اسمه مولوك أملا أن يحفظ التّجار من غضب البحر ومن تقلبات أسعار الصرف.
    يهزّ الطفل العنيد رأسه بالرفض المتواصل لمنطق الكبار وإلههم الغريب. لا تكف دموعه عن السيلان يعذبه شعور عجزه وهوانه ، هو الذي لم يقدر على حماية صديق اللعب من المصير الفظيع.
    وهذا طفل قادر رغم صغر سنه على التفكير على أكثر من مستوى والتعامل مع الواقع من عديد الزوايا. من جهة البكاء والغضب لأطول إزعاج ممكن، ومن جهة أخرى الرصد الدقيق للسيل الجديد من الصور والمعلومات. ثمة إذن تحت صوف وجلد الخروف أشياء كثيرة منها هذه الأعضاء المبعثرة وهذه الأمعاء الكريهة المنظر والرائحة. هكذا جاءتني مبكرا الفكرة أن بداخلي سوائل مشبوهة وأشياء كريهة ، أنّني أحمل مراحيض مملوءة قذارة، أنّني كيس فيه ما لا يسّر الناظرين. لم يكن ذلك أمرا سهل القبول من ذات تعلمت باكرا أن يكون بها "أنف أن تسكن اللحم والعظم" فما بالك بأن تكون قمامة متجوّلة تصدر من حين لآخر.روائحها البليغة.
    على ذكر روائح الذات. ممّا أذكره عن علاقاتي المعقّدة بالرجل الذي كنت أسميه "با" أنّ أول سوء تفاهم بدأ معه وأنا لم أتجاوز سنتي الثالثة وكان بخصوصها . قلت ليلتها متوجّها ل'' ما'' وهي مضطجعة حذوه:
    - يا لهذه الرّائحة...أف ....أف !! "ما" أخرجي الكلب !
    كان في ضحكها المكتوم ونحنحة "با" وتذكّري آخر لحظة أن الكلب لا يشاطرنا غرفة النوم، ما يكفي لأفهم أنّ ربّ البيت - و ربّما حتى ربته - يضرط، أو تضرط كما اضرط وتخرج منه،أو منها، روائح بغيضة كالتي تصدر منّي . كان لذلك الاكتشاف ضجيجا صامتا مثل دويّ قنبلة تنفجر تحت الماء .
    انتقم الرجل لنفسه سنوات طويلة بعد الحادثة. قال وأنا أداوي نفس الحرج بسعال حادّ انتابني على غير سبب:غطيّت الصوت بالسعال الملائم، ماذا ستفعل لإخفاء العبير ؟ إنه الحرج الأكثر شيوعا بين الآدميين وكل ذات مطالبة بالحفاظ على الأشياء الكريهة التي بداخلها ومنها الروائح إلى أن تجد مكانا تفرغها فيه بعيدا عن الأنوف والأنظار. بل هم جعلوا من تغطية ما ينبعث منهم من روائح جزءا متواصلا من همومهم الصغيرة، فجهزوا القوافل والمصانع والخبرات على مر العصور لكي يغطي العطر ما ننغلق عليه من نتن.
    يواصل زميلي هذرا يغالب به اضطرابا لا يتلاطم كأمواج السطح مثل اضطرابي وإنما كالتيارات السرية التي تعبر عمق المحيط . ثم يصرخ متكلفا مزيدا من الاستفزاز:
    -انتهى الشوط الثالث بانتصارنا نحن الاثنين بالضربة القاضية على جثة السيد …السيد من؟ انظر لاسمه على الورقة المربوطة في رسغه . يا ولد منظرك يرثى له الأعداء فما بالك بصديق لدود مثلي. لا تحمّل نفسك ما لا تطيق.اخرج لحظة لتنفس شيئا من الهواء الطلق .أعدك أنني سأكتم السرّ يوما الأقل ،الوقت الكافي لكي تعدّ أكاذيب الدفاع عندما أفضحك أمام الزملاء .
    - قلت لك واصل .
    ـ أنت على وشك الإغماء! قد اضطر لتشريحك أنت الآخر لمعرفة سبب موتك . انظر للكبد، صاحبك كان من هواة بنت الكرم على ما يبدو.
    الكبد!
    يختفي الطفل بعيدا رافضا أن يكلم أحدا ، مواصلا مراقبة تفاصيل السلخ والتقطيع، وعيناه بين فتح وإغلاق. تتلقف أيادي الأم والخالة والجدة شيئا أسودا لزجا يضعنه مباشرة على نار الكانون . تصرخ فيه الجدّة بالكفّ عن الدلال وتناديه أمه بلطف فيه بداية نفاذ صبر ليتذوق شيئا من هذا الكبد المشوي اللذيذ .ماذا أصاب هذه المرأة التي تفهمني عادة ؟ هل نست أنها تناديني يا كبدي .
    - لا أريد طعامك ؟ لا أريد . قلت أكرهك وسأبقى كارها لك ما حييت .
    اللعنة ما الذي دفعني للعودة للثرثرة مع الزميل بجملة كهذه؟
    - بالمناسبة ألم تأتك يوما الفكرة أن هذا الكبد لا يختلف، في شكله ولونه وربما في طعمه، عن كبد خروف العيد.
    يغمزني مرافقي وكأنه فهم قصدي
    - لا يهمّك ، فكبد هؤلاء الكحوليين ضخم بما فيه الكفاية. سأضع لك رطلا جانبا، وإن أردت شيئا من لحم الكتف وبعض"الكوتليت" فلا تتردد في الطلب . انتبه فقط عند الخروج ألا تسقط القفة من يديك أمام الممرضين . يكفي ما يقال عنا، حتى لا تخرج غدا جريدة عنصرية بعنوان بارز عن اكتشاف شبكة أجنبية لتزويد حوانيت الشاورمة.
    آه هذه آخر نكتة من بند قارّ في قاموس النكت :أكل اللحم البشري !
    المحرّم الأكبر، بل قل الإغراء الأكبر وحتى الضرورة الكبرى ! أليست أدوات المعرفة الأولى والأصدق عند الآدمي،مثل بقية الكائنات الحية،الفكّ والأسنان
    واللسان. أليس بديهيا أن تنفيذ أمر "أعرف نفسك" –يتطلب أن تعمل الأنياب في هذه الذات التي تبحث عن أسرارها. المشكلة كثرة الصعوبات ومنها رفض الذات أكل ذاتها واستحالة مضغ الأسنان لنفسها .ثمّ من أين المادة الأولية وهي لا تباع سرا إلا أوقات المجاعات؟ لا حلّ أمامك سوى انتظار ثورة يسحل فيها الشعب قائده الفذ ليمكنك، أن أسعفك الحظ بحضور موكب القتل، تذوّق لحمه وتناول ما تيسّر من الكبد وحتى لمزيد من التعمق العلمي مضغ أسنانه هو .خارج هذه الحالة النادرة الوقوع أنت في ورطة ، خاصة وأن جارك مهما كان مضيافا لن يعطيك شيئا من لحمه أو لحم زوجته لمجرد إشباع فضولك العلمي.ومن ثمة ركون البعض للإعلانات على الانترنت :"أرغب في أكل آدمي، فهل من راغب في أن يؤكل". فجاءه متطوّع مدّ عنقه للذبح ليشبع ''الباحث'' من البحث، ويزداد المبحوث فيه معرفة بالوجه الآخر للذبح والالتهام.
    ثمة إذن "سوق " فيها عرض وطلب، لكنها جد سرّية ومحفوفة بالمخاطر ككل سوق سوداء. انظر ما حدث لرجل من بلد اسمه أوكرانيا يلبس نظّارات سميكة مثلي،بل هو من خرّيجي الجامعات ومدمني المكتبات. قتل هذا الرجل المتحضر خمسين امرأة، اغتصبهن قبل القتل وأكلهن بعده أو أثناءه. قال قبل أن يضعوا رصاصة في رأسه أنّه خطأ من أخطاء الطبيعة، والحال أنّه كان مجرّد فكرة من أفكارها لم تكن تواجه دوما بالاستهجان المنافق لهذا العصر.نحن لا نريد أن نفكر في مغزى طقوس كهنة الأزتاك وهم يستأصلون على سطح أهراماتهم القلوب الخافقة للأضاحي البشرية. كان الأمر يتم وسط أهازيج الشعب وبعد انتهاء القتل كانت الأشلاء الدّامية لقلوب ما زالت تنبض تقدّم لمأدبة السادة يتذوقونها بمزيج من اللذّة والفضول.
    تقول كفى قصص شواذ ومتوحشين ! قصص من ؟
    قيل والعهدة على المؤرخين أنه كان لقوم في منطقة اسمها أوروبا ،إبّان عصر يسمّى النهضة، ملك عظيم راع للدين والفن والفلسفة،اسمه فرنسوا الأول .كان جلالته يحمل على الدّوام في جيبه قنّينة صغيرة من مسحوق اللحم الآدمي يمضغه متأنّيا، يقينا أنه يدفع البركان الذي بداخله لمزيد التوهّج .وفي أوروبا المتحضرة هذه،وضعت أصول وقواعد لتذوّق اللّحم البشري. فبعد قتل الآدمي شنقا باسم الانتقام الشرعي الذي يسمّونه عدالة، تترك الأجساد معلّقة على هامات المشانق أطول وقت ممكن حتّى يتعفّن أعلى الرأس، ثم يحصدون العفن يدفعون فيه باهظ الثمن. عادة قد تكون انتشارا أكثر مما نعتقد، وفي كل الأحوال تمارسها بكل بساطة إلى اليوم قبائل أدغال الأمازون. هناك يجهّزون الميت بوضعه على النار حتى تحيله رمادا يمزجونه بالموز الطرّي ثم يتقاسمون بينهم المسحوق الثمين.
    آه من هؤلاء والشواذ والكفار ! لكننا نحن ...نحن ؟ !
    عن الجاحظ بعض الأشعار التي عيّرت فيها قبائل العرب بعضها البعض بأكل البشر.قال أحدهم في ذمّ هذيل
    وأنتم أكلتم سحفة بن محدّم زمانا فلا يأمنكم أحد بعد
    تداعوا له من بين خمس وأربع وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد
    وقال آخر :
    إن سرّك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع وسل عن دار لحيان
    قوم تواصوا بأكل الجار بينهم فالشاة والكلب والإنسان سيان
    ثمة من قال في بني فقعس
    عدمت نساء بعد رملة فائد بني فقعس تأتيكم بأمان
    وباتت عروسا ثم أصبح لحمها جلا في قدور بينكم وجفان
    وقال شاعر يهجو باهلة :
    إن غفاقا اكلته باهله تمشّشوا عظامه وكاهله
    وأصبحت أم غفاق ثاكله
    على ما يبدو كان أجدادنا ذواقة يعرفون أطيب أجزاء الآدمي
    أبلغ لديك بني كلب واخوتهم كلبا فلا تجتروا بعدي على أحد
    هذي الخصى فكلوها من نفوسكم كما أكلتم خصاكم في بني أسد
    على كل حال كلنا حفدة آكلي لحوم البشر، وقد نكون أجداد من سيتكاثر منهم على سطح الأرض إذا واصلت الأمور التطور حسب نشرات الأخبار.
    السؤال المركزي ما وراء هذه الغريزة التي تنفجر في بعض الظروف عند البعض وتبقى عند البقية مطمورة ببالغ الحرص؟ هل كان نبلاء'' الأزتاك'' يبحثون وراء طعم اللحم الآدمي عن طعم الذات نفسها وحتى عن طعم الحياة التي تختزلها ؟ هل كان هنود الغابة الأمازونية ينقلون سحريا زخمها من المأكول إلى الآكل وكذلك الملك الفرنسي المتحضّر؟ ربما كان المجرم الأوكراني يعظّ غلاف هذه الحياة كالكلب المسعور ينـفّس عن بغض عميق يذيقها ما أذاقته من لاذع الألم ؟
    ينتهى التشريح لا يبق داخل الجسد أي عضو رخو يقطر دما .
    أنتبه للنظرة الساخرة التي يلقيها عليّ الزميل .
    - تريد صورتي ؟ قلت لك كل الأعراض تدلّ على وجود السرطان في الجهاز الهضمي. افتح لي المعدة والقولون ثم الأمعاء ولندقّق النظر في أشلائك هذه .
    يا لهذا الكائن الغريب المسجي بين يدينا ! هو لم يحرّك ساكنا ونحن لم نتوقف لحظة عن استفزازه بالنخز والقص والاقتلاع والتقطيع والكلمات البذيئة فلم تطلق شفتاه آه واحدة أو يثب شاهرا في وجهنا سكاكيننا مدافعا عن حرمته الترابية.
    حرمته الترابية ؟ هل نحن أوّل من اعتدى عليها ؟ هل كان له يوما حرمة ترابية أصلا؟
    قد لا يتشكل وعينا بالجسد قدر صراعنا للحفاظ على حرمة لا يحترمها أحد أو شيء.
    ويوم امسكوا بطفل الرابعة يضحكون ويهزجون لا يبالون بصراخه ورعبه ورمي هو الآخر على الأرض كصديقه المقتول شاهرين في وجهه السكين يتمتمون بتعاويذهم الغريبة التي رتلوها وهم يذبحون طفله المدلّل...أيقن أنه أخطأ بالمجاهرة بكرهه الشديد ل'' ما'' وأن أشلائه هي التي ستبعثر على الأرض. لماذا يريدون ذبحه وهذا ليس يوم العيد ؟ ثم لماذا يريدون أيضا ذبح الأخ الصغير وهو الذي يقدّم دوما كنموذج التعقّل الطاعة ؟ قد يكون اجتماع الأخوين ذلك اليوم على فراش الألم هو الذي ربط إلى الأبد بينهما، فغلبت الصداقة الأخوة وهي أحيانا أخطر أنواع العداوة بين الآدميين.
    يتوجه الرجل الفظيع الذي خلته جزّارا، بمقصّه لا لعنقي وإنما لشيء بين فخذي لم أعرف له سوى وظيفة إخراج دفق قوي من السائل الأصفر، أوجّهه أين أريد وخاصة أين لا يجب ، المهم أن يصل أبعد نقطة ممكنة من الفضاء .ثم تتضح الحقيقة الرهيبة. هم يريدون أن يجعلوا مني بنتا لأكون هادئا ومطيعا. أرجح الظنّ أنّ الرجل الفظيع لم يجد فيّ زبونا سهلا ذلك اليوم لأنّني أتعبت طول حياتي كل من أرادوا إقحامي في أساطير لست كاتبها أو على الأقل صاحب رأي مسموع فيها . تدوّي الزغاريد والأم أرفع النسوة صوتا. بمن نستطيع أن نثق في هذا العالم المليء بالغدر والغدّارين؟
    وفي خصوص ما سبق وما تبع الزغاريد، هناك ملفّان في الذاكرة. ثمة ملف طفل بطل دافع، رفسا ولطما وعضّا ،عن حرمته الترابية ووحدة أراضيه رافضا المساومة في قضية السيادة على جسده وصادا العدوان الغاشم بكل ما أوتي من قوة مفضلا الشهادة على الاستسلام لقوى الغدر والعدوان. ثمة ملفّ عن طفل جبان فقد وعيه من فرط الرعب، والأرجح أنه ثمة شيء من الحقيقة في الملفين وأن الطفل قاوم ثم هرب إلى راحة اللاّوعي.ها هو يفيق من الإغماء صارخا وبه شعور أن نارا التهبت بين فخذيه يزعق بنفس القوة أخ الساعة وصديق المستقبل، هو الآخر بحاجة لمن يرمي بين فخذيه شلالا من الماء البارد لإطفاء نار حارقة. ثم ينتبه لخرق أبيض يصبغه الدم ويلف عضوا لم يبتر وإنما أدخل على مظهره تحسين سيفاخر به وقد غفر للأم وللحلاّق. يتنفس الأخوان الصعداء وقد تأكدا أنهما لن يصبحا بنتين لا مستقبل لهما سوى الكنس والطبخ وخدمة الذكور.ثم يعودان للصراخ لأن الألم حقا فظيع ولأنه لا بد من استغلاله إلى أقصى حد ممكن للحصول على بعض المطالب المعلّقة.
    إنها مجرد بداية لسلسلة من الدروس القاسية تكشف لك أن ما تظنه ملكك تفعل به ما تشاء،هو منذ الإفاقة ملك للأبوين والمجتمع والثقافة والدولة والزوج والأطفال أن ما تتوهم أنه فضاءك الخاص ،كل شبر فيه محتل بكائنات تتغذى منه، تحسبه الأرض الموعودة التي وهبتها لها آلهة الجراثيم والدود في آخر منعطفات الطريق... أن ما تعتقده أخص شيء يميزك نسخة من نموذج سحبت له ما لا يحصى من النسخ .
    وهذا الشيء الفريد المبتذل الآن مثل كتاب مزّقت وبعثرت كل صفحاته، مثل شجرة اقتلعت من جذورها وأسلمت للمنشار والفأس ، مثل لعبة نجح الطفلان الكبيران في فتحها وبعثرة كل مكوناتها.أشلاء مصففة على الجليز الأبيض ونحن أمامها كأطفال أطلقوا على آخر كمبيوتر أنتجته أكثر الصناعات تطورا ، فهشّموا غلافه وبعثروا محتوياته أرضا لرؤية ما ينغلق عليه .
    وهل نحن إلا همج دخلوا أكمل مكتبة فخلعوا الباب وكسّروا النوافذ ودكّوا الحيطان ومزّقوا الكتب وهم مقتنعون أنهم سيفهموا سرّ المكتبة والكتب والنصوص... ما أغبى الإصرار على البحث عن الذات في مكان محدد من الجسد ولو كان الدماغ... قول كهذا كالقول بوجود الموسيقى في البيانو والبحث فيها بدراسة أنواع العطب التي تلحق بالدماغ كالبحث عن سوناتات شوبرت في المفاتيح المهشمة لهذا البيانو...ونسمّي هذا علما !! قد تكون الإيجابية الوحيدة لهذه المنهجية فهمنا كم نخطئ في البحث عن اللاّمحدود داخل حدود ضيّقة، في التنقيب عن اللاّمنظور داخل المنظور، في البحث عن صانع كل الأفكار في جزء من فكرته... ما الباب الذي يجب أن نطرق إذن فيفتحه لنا حارس لطيف يدخلنا الحرم لنتجول داخله على أطراف الأصابع لا نكسر شيئا .
    أهرش راسي غير منتبه أنني لم أخلع بعد قفازي .
    - هل ترى شيئا ،هل وجدت هذا الورم اللعين ؟
    - الورم لا، وإنما وجدت كثير من الخرا. تريد الحقيقة يا فتى، تشخيصك كان مخطئا من البداية. لننتظر المعلّم، إمّا يبرؤك وإمّا ...الويل لك من لسانه.
    كان رئيس القسم يأتينا آخر الصباح ليتوقّف طويلا أمام الجثّة يتفحّص بقاياها من وراء نظّاراته السميكة باهتمام فيه فضول الباحث وحيرة الجاهل وتكلف الممثل .
    كان يقلّب الأشلاء بقضيب حديدي يتأكّد أولا أنها موضوعة بكل عناية ونظافة على طاولة الجلّيز الأبيض، أننا صففّناها وفق أوامره .كانت دقّة القطع وبراعة القصّ من شروط رضاه ، ثم كان يمرّ لتفحص العلامات التي تفسّر فشل الشكل في المحافظة على ذاته أو فشل الذات في المحافظة على شكلها.
    يطيل الرجل النظر إلى الأشلاء الدامية متوقفا طويلا أمام الأمعاء المفتوحة.
    -انظر هذه الحبّة الصغيرة! ورمك يا عزيزي . تقول الأشعة لم تكشف عنه.غريب ! إنه في الواقع من حجم كاف ليظهر بوضوح على الصور.يبدو يا عزيزي أن نظاراتك ليست بالقوة الكافية ورأيي أن تطلب فحصا من قبل أحد زملائنا أخصائي العيون. يا للأسف! ربما كان السرطان قابلا للاستئصال لو شخّص في الإبان.
    لم تبق إلا الجملة المعهودة وخاصة النبرة التي يتفكه بتقليدها كل الأطباء الشبان المتعاملين مع الرجل: إلى اللقاء يا عزيزي ، ومعناها أن طبيب مبتدئ وجاهل مثلك عاجز عن التشخيص على الحيّ سيتردّد كثيرا على المشرحة يرهقنا بالعمل الزائد .
    لا يمكن أن أترك هذا الرجل يسخر مني بمثل هذه السهولة .
    -"مون بون مسيو" ، ما أسهل التشخيص بالمقص والمنشار والسكين.
    يفتعل الرجل الترفع عن الدخول في مهاترة مع مقيم وقح . يلتفت لزميلي الواقف وراءه يخفي بصعوبة ضحكه ومنتظرا أن يملي عليه الوصف الدقيق لحالة الأشلاء وتشخيصه الرسمي الذي سنضيفه ونغلق به ملف هذا الكومة من اللحم .
    ثم ينصرف دون أن يحيينا.
    - يا حيوان لقد جرحت الأستاذ وربما سيتشفّى مني .
    وهل يظن هذا البليد أنني لم اجرح أنا أيضا ؟
    - اللعنة عليك وعليه وعلى التخصص الذي اخترتما، يا أشباه الأطباء ، يا جزارين
    يا أولاد القحبة، .يا أولاد فرنكنشتاين!
    - وتظن بعد هذا الكلام الخطير أن الدار ستزودك مجانا بالمخ الطازج وافخر أنواع الكبد الدسم. اهدأ يا ولد .المعلّم لم يقصد تحميلك وزر موت المريض وإنما هي مزحته الأزلية مع كل الأطباء الذين يطلبون تشريح حالاتهم . تعال نخيط الجثة ثم بعدها أعزمك على قهوة ساخنة تعيد ملامح آدمية لوجهك.
    - جزارون وخياطون أيضا . يا له من تخصص .
    - هل تظن أننا لا نهتم بأناقة جثثنا ؟ نحن نعيدها إلى أصحابها في أحسن حال.
    يبدأ صاحبي بخياطة الجرح الذي شقّه على طول الجثة ثم ينتبه لسهو .
    - نسينا الجرائد . لا بد من الحشو حتى تستقيم عضلات البطن والصدر.
    نعيد تمزيق الخياطة لنحشو الجثة بما تيسر من آخر أعداد الجريدة الصباحيةً. كذلك نفعل مع القحف الفارغ . بداهة لن يشعر صاحبنا بالملل وهو في قبره، فله ما يقرأ قبل دعوته للمثول أمام التحقيق . المهم أن يكون من هواة كرة القدم فالجريدة رياضية والمانشيتة بخصوص انتصار فريق المدينة .
    يخلع زميلي قفازه و يرميه جانبا متنفسا الصعداء ثم يتمعن في ساخرا متشمتا .
    -بصراحة أوّل مرّة مع النساء ، هل كنت في مثل هذه الحالة أيضا ؟
    - طلّعت روحي أنت وأستاذك الله يطلّع روحك وروحه!
    ينصرف الطبيب الشاب ساخطا على نفسه يجترّ هاجس ورم لعين لو….لربما وينصرف الطفل الذي دخل القاعة متنكرا في ثياب الطبيب الشابّ يد فارغة وأخرى لا شيء فيها وقد أزداد حيرته بخصوص موضوع الروح التي تسكن الجسد وتخرج منه عند الموت والتي لا يعرف حتى "با" أي شيء عنها.

    ***

    الأعماق

    تطلق"ما" صرخة مدويّة وقد وصل العويل من بيت رجل ترفض ضاحكة أن أسميه صالح مصرة على أن أتوجه له قائلا يا خالي. ترمي كل ما بين أيديها وتهرع للبيت القريب تحضن خالة جالسة في حلقة نساء تلطمن خدودهن بحماس غريب .
    كان رفيق اللعب مسجى بلا حراك وسطهن كأنه غير عابئ بوجودي وغير راغب في استئناف اللعب .لم أعرفه يوما بمثل هذه اللاّمبالاة حتى أوقات الجفاء. هل احمل على محمل الجدّ طول صمته هذا ؟ مؤكّد أنّه سينهض صارخا من مرقده ليمسك بيدي...أننا سنقفز من فوق كل هذا الحشد من الإناث جريا نحو أشجار الزيتون واللوز.كان دوما أسرع منّي في تسلّقها. هذه المرّة سأكون الأسرع .
    تواصل النائحات صمّ الآذان بعويل متزايد الإزعاج .أجيل البصر حائرا في المشهد الجديد ، ثم أركّزه على امرأة توقّفت عن العويل وكلام ملحّن عن جمال الطفل ولوعة أمّه... لتتثاءب بصوت عال . تفاجأ المرأة بالطفل ينظر إليها مستغربا فترمقه والشرر في عينيها . يلمع شيء كالكره في عينيها . تشيح عنه البصر عائدة إلى التحسّر بأعلى صوت على الروح التي عادت إلى خالقها.
    تتدافع إلى ذهن الطفل الحائر أفكارا متزايدة الفوضى. ما هذه الروح التي عادت لخالقها وهل خروجها سبب سكون رفيق كل مقالبه ؟ غريب، كيف خرجت منه وهل سيستطيع كل هذا الصراخ إقناعها بالعودة إليه لتنتهي أزمة قد لا تكون إلا مرضا جديدا لا يعرفه ؟ يواجه الطفل لأوّل مرّة باحتمال ألا تعود الروح الهاربة إلى وكرها وإن ابن خاله لن يلعب معه أبدا يصبح الشك يقينا والكبار من الرجال يحاولون إبعاده برفق مشبوه ولطف غير معتاد ليأخذوا الطفل الآخر بعيدا عن الأنظار وهو دائما ساكن لا يبدي اهتماما بوجود ابن عمة متزايد الهمّ .
    وعند الرجوع للبيت تتدافع الأسئلة الجديدة ،الفرق بينها وبين القديمة ما تنضح به من قلق يغذيه هاجس مسكوت عنه .هل من الممكن أن تقرّر روحه هي الأخرى الفرار من جسده فيضعوه في خرق أبيض وتأتي خالته لتولول ووجهها مدفون في صدر أمه؟ لا بدّ من حلّ هذه السرّ الجديد المضاف للكثيرة الأخرى العالقة.
    ـ'' ما'' أين ذهبت روح حسين؟
    ـ إلى حيث دعاها خالقها ...إلى فسيح جنته يا حبيبي.
    ـ ولماذا دعاها خالقها ؟
    تضع الأم إصبعها على شفتي الطفل ويفهم من نظرتها أنّها لا ترغب في الخوض في الموضوع وأنه لا فائدة من الإلحاح.
    ـ "ما" أنا لي أيضا روح وستذهب عند خالقها؟
    ـ.بعد الشرّ على وليدي . وسبعة ألطاف و خمسة وخميس وعين الحسود فيها عود.، قل أعوذ برب الناس من الشيطان الخنّاس.أفاجئ بارتعاش الصوت وأن''ما'' تتمتم دقائق طويلة بآيات الكتاب المقدّس ويدها اليمنى مرفوعة فوق رأسي تنثر عليه قطرات من ماء الإبريق.حقا الحب تلطّف ورحمة وإشفاق وحرص وإعجاب واثرة، لكن لو تمعنت في مكوناته لوجدت أن أهمها الخوف، لأن هذا الذي نحب ثمين للغاية وجزء كبير من أهميته تأتي من كونه هش ، عرضة للعطب ، مؤهل لتختطفه منك في كل لحظة تقاطعات الطريق .والأم الآن في أوج الحب لأنها في أوج الخوف، هي التي تعرف ما لا يعرفه ابنها عن الأمراض القاتلة التي تتهدد حياة أطفال الفقراء. لا بدّ من ترك العاصفة تمرّ قبل العودة للسؤال الكبير .
    - "ما" هل لكل الناس روح ؟
    ـ نعم يا بني .
    ـ حتى الجيران ؟
    تضحك الأم.
    - حتى الجيران.
    ـ''ً ما ''، ما معنى الروح ؟
    تتخلّص من الحرج بمحاولة المزاح .
    ـ هي أنت، يا روحي .
    لا تزيد الإجابة الطّين إلا بلّة. وهل يكون للشخص الواحد روحين؟
    تصرّ ''ما'' على التملّص من السؤال الضخم . لم يبق إلا المحاولة مع دليلي الآخر. يجب أن أترصّد ظهوره المقبل وأن أختار توقيت السؤال. هو يعرف كل شيء ومن ثم شغل الساعة.
    -'' با'' ما هي الروح ؟
    وممّا بقي عالقا في الذهن من خطبته الطويلة أنها منّة من اللّـه، حبانا بها دون الحيوانات ، أنّها موجودة داخل قلوبنا، تحرّكنا وتتحكّم في كل ما نفعل ونقول .
    -''با'' ، لماذا تخرج الروح، من أين تخرج، هل تعود عندما تخرج ؟
    تتغيّر نبرة الصوت . تتلاشى منه نبرة المرح . ها هو يمارس طريقة ''ما''
    في التهرب دون وابل القبل.أشعر بالرجل متردّدا وهو يتحدث باقتضاب مريب عن حضور "السّاعة " دون أن يتكلّف عناء شرح ما السّاعة "ومتى تأتي ولماذا تأتي ولماذا تسمّى الساعة وليس الدقيقة. كم كرهت اكتشافي يوما أنه كان يغالط طفلا ساذجا في هذا الموضوع وفي غيره وهو يتبحّر في الحديث عن الروح بطلاقة من ملك المشكل من نواصيه، والحال أنّه عاش هو الآخر آخذا قصصا ساذجة على محمل الجدّ. ما أكثر ما تلاقي من بشر تقيس جهلهم بصفاقتهم في تعليم ما يجهلون.
    المشكل أنه- في هذا الميدان على وجه الخصوص - لا فرق كبير بين من يجهلون ومن يدّعون في العلم معرفة .
    *
    لا بدّ من زمن طويل ليجد الطفل نفسه في المكان الذي يستطيع فيه العودة للموضوع والتعمق فيه . أنتبه أين أنا بالضبط . وكما هو الحال دوما في تجربة الانتباه تداهمني غرابة مكان أدخله منذ سنوات وحجب عني التبلّد طبيعته. ألست مثل عامل يومي في ورشة إصلاح مختصة في الأجساد المعطوبة والأرواح المجروحة .هنا يبدو لك هذا الذي نسميه الجسد،والذي تعتبره الرؤى الساذجة مجرّد غلاف الذات، آلة تصاب ككل الآلات بجملة من المشاكل: مجاري مسدودة بحجيرات....شرايين توقف فيها تدفق الدم ...مفاصل اهترأت من طول الاستعمال....فقدان توازن ما في عمل هذا العضو أو ذاك واستعصاء إعادته إلى سالف حسن التصرف ....جنون خلايا قررت ألا تنضبط لخط قائد الجوقة ... انتصار الكائنات غير المنظورة التي تترصد بنا في كل شربة ماء وكل نفس هواء ...أخطاء قوى الدفاع وهي تطلق نيرانها على مكوناتها لا على مكوّنات العدو...إضافة إلى ما تتركه من آثار تجاربنا التي لا تنتهي مع الخوف والحزن والغضب . وعندما تنتهي قدرة الحاوي على الحفاظ على محتواه. يصبح المكان، محطة إقلاع الأرواح العائدة إلى خالقها طوعا أو كرها.ثمة حالة واحدة تخرج فيها الروح تخرج ...مؤقتا.
    تصرخ الممرضة : أسرع ! صرع متتابع النوبات منذ ساعات.
    أواجه بجسم ينتفض ثم يسترخي ليعود للانتفاض . منظر أثار على مرّ التاريخ موجة عارمة من الرعب. هذه المرّة لن تنتهي الأزمة تلقائيا وقد ترابطت النوبات الواحدة وراء الأخرى كالإعصار يتبعه طوفان ووراءه تسونامي . البنت في خطر الموت . من حسن الحظّ أن دواء "الفاليوم" سائلا في الشرايين أنفع من التعاويذ. تنتهي الأزمة وتعود "الروح" التي اختفت طوال الأزمة مسترجعة مقاليد حكم الجسد.
    - يا آنسة، ما الذي تشعرين به بالضبط قبل فقدان الوعي ؟ أريد كل التفاصيل لأنها ستساعدني على تحديد المنطقة الدماغية التي قد يكون بها الخلل المسبب لمرضك.
    - قبل فقدان الوعي أشعر بأشياء مخيفة. كأن يدا غريبة تعتصر أمعائي. ثم أشعر بالتباعد وبالغرابة ، كأنني في حلم . تقول أمّي أنني أمشي إبان النوبة ذاهلة ولا أتذكّر أنني مشيت. تقول أنني أتكلّم ولا أتذكر أنني تكلمت وأنني أفعل أشياء غريبة والحال أنني لم أفعلها .
    كيف لا تأتي الآدميين فكرة التقمّص وكأن الذات التي تسكن الجسد خرجت من وكرها، أو كأن ذاتا أخرى خرجت من وكر مجهول لتحلّ محلّها ؟
    أحمل صور الأشعة إلى رئيس القسم متثاقل الخطى.
    - سيدي ،إنه ورم ضخم وعميق في الفصّ الأيمن ؟
    يلقي الجرّاح المحنّك على الصور نظرة المهني مقيّما ما سيلقاه من صعوبات.
    - قد لا نستطيع الوصول إليه . سأحاول أن أفعل شيئا . أدخلها حالاّ لغرفة العمليات.
    وحول طاولة معدنية أسجيت عليها المريضة المبنّجة.،يتجمع رجال ونساء بأرديتهم الخضراء ووجوههم المقنّعة وأيديهم المغطّاة بالقفازات، كأنهم كائنات وصلت لتوّها من عالم آخر.يحلق شعر الفتاة لتتناثر على الأرض جدائل شقر أحاذر لمسها برجلي كأنّ بي خوف من تدنيسها. يبدأ العمل الجدي بخلع فروة الرأس ونشر عظم القحف وشقّ غشاء شفّاف هو آخر ستار يحجب حسب الإشاعات الرائجة مركز الذات وعرينها .عليّ أن أكون ابتداء من الآن، منتبها أشدّ الانتباه، حذرا أشد الحذر، حاضرا بكل حواسّي، خاصّة وأن الأستاذ مشهور بصرامته مع الأطباء الشبان،لا يرضى إلاّ بمطلق الإتقان والانضباط.
    ها هو أخيرا العضو الأصفر الرمادي الرخو وعلى وجه التحديد الجزء الملآن منه. كم من علماء جهلة من الماضي البعيد والقريب علّموا بكل جديّة أجيالا من الطلبة أن بطيناته معقل الروح .البطين الأوّل والثاني معقل الإحساس باللّذة وبالألم والبطين الثالث مركز الفكر والعقل والرابع موطن الذاكرة،والحال أنها لم تكن ملآنة إلا بالماء! مسكين أيضا ذلك العالم الجاهل المسمى ديكارت يوم خرج بحقيقة أن الروح التي تجمع كل هذه الوظائف وحدة صماء وموجودة في غدّة يتيمة تتوسّط العضو الرّخو. إنه دوما نموذج العلبة. بالحاوي والمحتوى. كلّ هذا لأن الرؤى غير المتقنة تجعل من العالم نفسه أكبر العلب وكل كائن علبة داخله تحتوي على علب أصغر ، وهكذا على طريقة الدمى الروسية. من الطبيعي أن يضع فكر التعليب الروح داخل هذا العضو، بعد أن وضعه في السابق في علبة القلب وعلبة الكبد بانتظار أن ينقل يوما إلى علبة الخلية، وعلبة الصبغيات، وعلبة شوارد الذرّة ....ولا نهاية للتعليب وكل علبة بحاجة إلى أخرى، ففي أي علبة سنضع أصغر العلب ؟
    كيف الخروج من هذه اللخبطة ؟ جعلت الرؤى غير المتقنة الروح شيئا خارجا ومستقلا عن الجسد فعقّدت نظرتنا دون منفعة... لا مخرج من هذه الثنائية المزعجة ، دون تعسف على المنطق، غير اعتبار الروح الخاصية الأساسية والأرقى للجسد الحيّ ... يمكن توسيع نفس المنطق للتخلص من ثنائية الدماغ – الفكر ، باعتبار هذا الأخير خاصية الدماغ الأرقى وحالته الطبيعية وهو في أوج صحته وعطائه...كيف لا تفنى الروح بفناء الجسد أو لا يتبخّر الفكر عندما يتوقف الدماغ عن العمل، بما أن الخاصية مصاحبة للشيء الذي تميّزه، تبدأ به وتنتهي معه و لا توجد إلا بوجوده ؟
    يلاحظ ''المعلّم''، ونحن نقترب شيئا فشيئا من الورم شرود ذهني. ينهرني بفظاظة فأنتبه محرجا .تتصاعد الحدّة والعصبية في صوته وهو يأمرني بأن أمرّر له هذه الأداة أو تلك، أن أفعل ما يقول، لا ما أتصوّر أنه قال. ينفصم العقل أو الانتباه أو سمه ما تريد إلى جزء يأتمر بأوامر أستاذي وجزء يواصل العمل لحسابه الخاص رغم صراخ الرجل المتزايد توترا.
    بحق كل أنصاف العلماء وأشباه الفلاسفة،بحقّ كل جهل الآدميين، بحق كل آمالهم وآلامهم، بحق كل إثمهم و براءتهم …لتعطى لهذه الفتاة فرصة!
    وهذه صلاة لن تنفع ككل صلاة ، فالشبح المستعصي على الحواس واللغة والخيال سيهاجر نهائيا هذه المرة من هذا الجسد، كما هاجر من كل الأجساد ،ولا أحد يعرف عنه شيئا له أهمية تذكر.
    أخرج من غرفة العمليات بوجع في الظهر لطول الوقوف، بوجع في الرأس لطول التركيز، وبوجع في القلب والشعر الحريري يرمى بلامبالاة في المزبلة.
    ينهرني "المعلم " وهو يهرول لقاعة العمليات المحاذية حيث ينتظره مريض آخر:
    - اعلم والديها أن كل ما في الأمر ربح بعض الشهور.
    - هل من الممكن أن يأتي الخبر منك ؟
    - لا تتهرّب. هذا أيضا جزء من المهنة ولا بدّ أن تتدرب عليه.
    تلمع نظرات عدم التصديق في عيني الأب. تنفجر الأم ببكاء صامت .ألوذ بالفرار. أرمي بجسدي المرهق على أول كرسي.فجأة أنتبه لهذا الذي كان مطيتي على طول الطريق. كم يطمئنني أنه لا زال متماسك الأجزاء ، أنه لا زال صالحا للعمل ،بعيدا عن لحظة الفكّ وتقديمه غذاء لكائنات لا تتحرج من أكل لحم البشر...أنه لا زال النمر الذي أروّض،الخروف الذي أحمى، الحمار الحرون،الذي أدفع، الخنزير الذي أمنعه من الوحل، النسر الذي أحلق به عاليا، والجمل الذي لا زلت احتاج لعبور صحراء الوجود.
    أخلع حذائي لتفقد حالة الانتفاخ في قدميّ .غريب أنني لم انتبه لهذا الجزء من جسمي وكل عنايتي منصبة على الأجزاء ''النبيلة'' منه. غريب تجاهلي المتواصل لأهمية القدمين؟ وهل كنت انتصب لولاهما ؟ هل تمتّعت يوما بسحر الغابات والشواطئ والجبال مشيا على رأسي ؟ بل وهل كانت النصوص تتألف داخل ذهني لولا ساعات المشي الطويل ؟ لماذا لا أختلق لي نظرية تمشي بذكرها الركبان تدّعي بكل صلف الجهلة أن القدمان هما معقل الذات ؟
    نعم لا بدّ من ردّ الاعتبار لهذا الجزء المظلوم من كيان الآدمي.
    أذكّرك مرة أخرى إن أصبحت -هكذا بالصدفة- من الرجال الذين تنحت لهم التماثيل، أن يقتصر تمثالي على قدمين التحمتا بالطريق. يمكن للنحات الذي سيتكلف بالمهمة التاريخية أن يأخذ بعض الأفكار من جاكومتي فهو الفنان الوحيد الذي أعطى للقدمين ما يستحقان من اعتبار متوقفا في أروع أعماله عند قصبة الساق لا يعنيه كل ما فوق . بالضبط ما أريد.
    وفي الانتظار كيف سأواصل البحث عن الروح وهل هي الذات وما علاقتها بالجسد وهل هو غلافها أو عمقها وما العقل والفكر والنفس وكيف الخروج من لخبطة المفاهيم وثنائيات اللغة وهلوسة المفكرين وهذياني الخاص ؟
    وبينما أنا بصدد دلك قدميّ الموجوعتين ، يمرّ أمامي عجوز مرتعش ذاهل تقوده ممرضة إلى موعد مع واحد من عديد العمال المختصين في ورشة الإصلاح ليقول رأيا ما في العطب الذي جعله على هذه الحالة المشينة .
    فجأة يعاد خلط كل الأوراق وقد اتضح لي طريق جدّ مختلف لمواصلة الجري وراء الفرس التي أركب.

    ****










    طبقات المنجم

    وفي هذا المقطع من النصّ، يتوجّه عجوز مرتبك نحو نافذة الغرفة ليتسمر أمامها مطيلا النظر لشجرة زيتون علاها الغبار.يلتفت لباب يفتح تدخل منه امرأة ترتدي الأبيض تبادره بمرح:
    - صباح الخير يا سيدي، كالعادة أمام النافذة ؟ والآن هلاّ تبعتني لحصّة التأهيل. أرجو ألاّ تكون مشاكسا كالمرّة الماضية.
    من هذه ؟ لماذا تبتسم لي، من أين تعرفني؟ المرّة الماضية ! وكنت فيها مشاكسا !
    تواصل المرأة المجهولة كلاما بلا معنى :
    -انتبه دوما إلى الأسماء المكتوبة على الأبواب لتتذكّر الطريق .انظر إلى أسماء الأطبّاء والممرّضات فهي مكتوبة بوضوح على أعلى الصدر. أنظر هنا، هذا اسمي ردّد معي: الممرضة فلانة ،والآن هل تتذكّر اليوم اسم طبيبك ؟
    الاسم ! أي اسم ؟ طبيب ؟ أي طبيب ؟ من هذا الشاب الذي يغالب ما في ملامحه من جدية وصرامة ليرسم على وجهه الأسمر ربع ابتسامة قد تكون ابتسامة خجل قديم أو تهكّم مزمن يحاول جاهدا كتمه؟
    من هذه المرأة السمراء المحدقة فيه ومن صاحبة الشعر الكستنائي التي تمسك بذراعها،لماذا تتفحصاني بمثل هذه النظرات الدامعة ؟ ما معنى كل هذا ؟
    تجيل المرأتان النظر بين الطبيب الشاب والمريض العجوز وقد تداخلت الحدود وانمحت الفواصل في نصّ يرفض منذ البداية الالتزام بالعلامات المعهودة. وهو وحده العليم بأنهما تجيلان البصر بين الشاب الذي لم يلدهما بعد ووالدهما العجوز الذي شارفت رحلته على الانتهاء .
    يداهم الطبيب الشاب قلق يعتصر الأمعاء وهو يتفحص العجوز الذاهل المرتعش. هل من الممكن ومن المقبول أن تكون النهاية بمثل هذه الفظاعة...بمثل هذا القبح ؟
    ثم يستجمع كل شجاعته.لمواجهة ما لا يحتمل.
    - هل يمكن يا سيدي أن تقول لي اليوم ما اسمك ؟
    اللعنة على هذا الغبي . ماذا يعني وماذا يريد مني؟
    تتدخل المرأة السمراء تخاطب الطبيب وهي لا تكفّ عن التحديق في المريض:
    - كيف يمكن أن يحصل شيء كهذا،لرجل كهذا،بغض النظر عن كونه والدنا !
    تتدخل الغريبة الثانية تمسح دمعها:
    - خطيب مفوّه لا يجد اليوم أبسط الكلمات، فيستشيط غضبا ويدخل في حالة من الهيجان تبث فينا الرعب. لا أصدّق أنه "با". كم من مرة جلبه الجيران من الشارع تائه نسي أين البيت الذي يسكن منذ عشرين سنة. الشهر الماضي رأيته يمزّق ديوانه المفضّل بأسنانه ويأخذ في مضغ صفحاته. ثمة أشياء أخرى نخجل من الحديث فيها تتعلق... بالنظافة ...بنظافة اللسان أيضا.
    اللعنة،كيف أكون هادئا مهذبا وأنا أتبع لحظة بلحظة تسلل الظلام داخلي انطفاء الأنوار في فكري ؟
    تتدخل من كنت أسميها تفيحة :
    - هل من المعقول ألا يتذكر أنه قابلنا هذا الصباح ؟
    تتدخل من كنت أسميها تفاحة :
    -أ ينسى رجل كذا اسمه واسمي هو الذي كان يضرب المثل بذاكرته ؟
    الذاكرة ! بيت القصيد. وبيت الملفات الذي أصبح فارغا لا أحد يعلم من أفرغها وفي أي سلة مهملات رماها. ربما السارق هو النسيان.
    النسيان ! يد رحيمة كانت تمحو باستمرار آخر خوف وآخر كابوس وآخر حقد وآخر ألم ليخففنا دوريّا من أثقال كانت تقسم الظهر لو راكمناها، لكنه الآن اليد الخبيثة التي تمسح باستمرار كل ما تكتبه الأيام على سبورة الذات لتتوسع شيئا فشيئا إلى ما سطرته عليها السنين والعقود.
    ها أنا أعيش اللّحظة بعد اللّحظة بعد اللّحظة، ولا رابط بين اللّحظات. أصبح كلّ فعل يمسح ما مضى من أفعال، وكل شعور يمسح الذي سبقه، ليتوقّف سيلان النهر، لتتجمّد تجربة الوجود في جليد حاضر أزلي لا يسبقه قبل ولا يتلوه بعد. ما أغرب أن أكون جديدا على عالم في كل لحظة جديد كأني ولدت للتوّ والحال أنني فيه قديم فيه قدم قلعة متهاوية الجدران أبلتها محن السنين. أين كل ما فعلت و ما تعلّمت هذه السنوات والأيام الأخيرة ؟ أين ذهب هذا الجزء من رصيدي من الحياة ؟ من أكون دون هذا الرصيد ؟ هل يعقل أن تمحو يد غير مسئولة تجربة يتيمة فريدة لم تحصل ولن تتكرّر على كثرة ما عرف العالم وجرّب من القصص ؟ ما أغرب أن تتبخّر الحمولة من ظهر الحامل وهو لم يصل بعد إلى حيث يجب أن يوضع الحمل! وفي مثل هذا المرض يموت الفكر بتسرب الذاكرة منه كما يموت الجسم بنزيف مزمن ...مع اختلاف هائل، أننا نعيش كل تفاصيل الاحتضار، لا للدقائق الأخيرة التي تسبق الغيبوبة النهائية وإنما لسنوات قبل لفظ النفس الأخير.
    أفيق مبلّلا بالعرق من كابوس يعيشه فعلا كم من آدمي شاء حظه العاثر أن يكمل الرحلة وهو لا حيّ ولا ميّت. أي اسم يجب أن نعطي لكائن ذهب العته بذاكرته ؟
    هل من نهاية أفظع لرحلة ظننت أنني خبرت كل فظائعها ؟ أنا الناجي ممّا لا يحصى من الأمراض،قد أسقط فريسة أخبث مرض تذوب فيه الذات كما لو كانت قطعة ثلج تعرّضت لوهج شمس الصحراء.
    ومن ''حسنات '' المرض- أو توهّمه- أن يذكرنا لحظة بالحكمة القائلة '' الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه سوى المرضى ''،ومن حسنات التجارب الموجعة ، حتى ولو كانت خيالية،أن تؤشر على طرق أخرى لتناول المشاكل التي استعصت لحدّ الآن حتى على الطرح السليم .
    بداهة ثمة علاقة وثيقة بين الذات والذاكرة. أليست كفعل (التذكر)،وكمادة (الملفات)، الشرط الضروري لوجود لذات حيث لا وجود لفكر أو لمفكّر في غيابها ؟
    ألا نصاب بأشدّ القلق كلّما لاحظنا عطبا أو قصورا في الذاكرة لشعورنا أننا نتلاشى بتلاشيها ؟
    قد يكون من الإجحاف القول أن الذات هي الذاكرة، حيث هي أيضا مشاريع المستقبل،. لكن ألا يستحيل المستقبل بتبخر الماضي ؟
    هل استكشاف فضاء الذاكرة المدخل الملكي لفهم ما الذات وكيف تشكّلت. هذا الفضاء هو ميدان المفهوم البعبع الذي يبدو حتى مفهوم العالم أمامه سهلا ؟
    الزمان ! ما الزمان ؟ كلمة من كلمات اللغة مع كل إمكانيات وحدود الكلمات ؟... تجربة حسية شعورية قوية ونحن منبهرون ومرتعبون من التغيّر المستمرّ للعالم والذات ؟...هل التغيير إمضاء الشيء بل قل الشيء نفسه حيث لا تغيير دون زمان ولا زمان دون تغيير؟ أم هل الزمان الرابط بين حالات هي دونه لحظات متفرقة كفقاع صابون لا تولد إلا لتتطاير في كل اتجاه ؟ كل هذا في نفس الوقت، مفهوم من الفكر ومشاعر من العاطفة وخيط رفيع تنسجه الذاكرة ؟
    أيا كانت قيمة هذا التصور ، لا بدّ أن أنعزل في مكان قصّي من القارب أصمّ أذني عن صخب السّيل، عن هرج من هم معي علي المركب غير عابئ بصراخ من ألقت به الحركة الهوجاء في الأمواج المتلاطمة، لتجنيد هذه الذاكرة في آخر جهد،لتشعّ بكل نورها قبل أن يطفئ الموت فتيل وعي حائر أو أن ينفخ عليه قبل حلول الآجال مرض اسمه العته.
    *
    ذاكرة ورقة الخريف
    للانخراط في الطريق الجديد سنحتاج لأكثر من صورة تعيننا على الأمر: الغوص في أعماق البحر، الحفر والتنقيب في طبقات المنجم، تتبع الشجرة من الأعلى إلى ما تحت التراب،أو المكتبة. أدخلها مغلق العينين لأستحضر كل ما استودعت فيها السنين والعقود من هامّ الوثائق.
    أنا الآن ذاهل أمام ما يتراصّ فوق رفوفها من ملفات لا تكف عن التحرّك وتبادل الصفحات ما بينها. إنه"المكان'' الذي تحفظ فيه القوة المجهولة ملفّات تاريخي وقد حان وقت التمعّن في أهمّها علها تقول لي شيئا ذا معنى عن المحتويات وخاصة عن الذي يجمع ويصنف ويشتغل على كل هذه المادة .
    يأمر الخيال بكل الخدمات. تحضر موظّفة جميلة مثقلة بكل طلباتي الأولى . تسرّ في أذني وهي تضع القهوة والسيجار فوق المنضدة:التعليمات ألا نزعجك وأن نتركك تأخذ كلّ الوقت. نعم من المؤكد أنني سآخذ كل وقتي، خاصة أن كل الذي صرفته منه لحدّ الآن موجود في هذه الملفات.
    آه هذه آخر أثار احتكاكي الواعي بصخب العالم ! أنا الآن كمن يحاول عدّ أضواء مدينة ليلة عيد الميلاد أو قراءة أرقام السيارات المسرعة في شوارعها.
    هل من الممكن أن يستوعب ذهني كل هذا السيل الجارف،كل هذا الشلاّل الصاخب من الصور والأحاسيس والمشاعر ولا ينفجر؟
    وفي مستوى الطابق السطحي هذا،تعمل الذاكرة أساسا كمركز انتقاء، الأقلية لقسم التوثيق وجل من ينطبع على شاشتها مباشرة لسلة المهملات .
    كم أنا محظوظ أن وظيفة المحو كانت دوما ولا زالت سليمة وإلا كان مصيري كمصير أولئك المساكين الذين يسمونهم العباقرة المتخلفين ذهنيا ، والواحد منهم قادر على استرجاع أجزاء كاملة من الموسوعة البريطانية بعد قراءتها مرة واحدة، أو حفظ كل أرقام الهاتف لمدينة كاملة، أو رسم شكل مدينة كاملة بعدد نوافذ عمارتها بعد المرور مرّة يتيمة فوقها بحوامة ،لكنه عاجز عن ارتداء ملابسه أو تناول طعامه دون إعانة.
    تبرز الموظفة من خلفي تردد بصوتها المدروس وهي تضع الوثائق الثمينة أمامي.
    - بقية الملفات التي يبحث عنها سيدي .
    ثمة شيء ما يثير فيّ بداية توتر.أشير للموظفة فتقترب تفتعل الوجل.
    - تظنين أنني لم أنتبه لكثرة البياض على أشرطة التسجيل، للمقاطع الغائبة وكأنها مرّت على مقص الرقيب.أيّ صورة مشوّهة عن ذاتي سأقدمها لقرائي إذا كانت هناك ملفات محظورة حتى على صاحبها.
    يتكثف صمت الدمية الجميلة.
    - ألفت انتباهك إلى حالة التآكل لأكثر من ملفّ. أين المحافظ للاحتجاج؟
    المشكلة أن المحافظ هو "هذا الشيء" ،أو أنا ، أو" أنا-هذا الشيء"، أو لا أدري من، وفي كل الحالات ليس غريبا يمكن أن "أفشّ فيه خلقي"
    - بالمناسبة ماذا تفعلون بكلّ هذه الملفّات عندما تحين الساعة ؟ كيف تتصرف آنذاك، هل تئن وتصرخ وهي تمزّق؟ هل تتسلّق بعضها سلة المهملات هاربة بأوراقها قبل أن تفرغ في عربة الزبالة ؟ ربما تبيعونها بالجملة وبأبخس الأثمان. لمن ؟ أرجو أنكم لا ترتكبون جريمة كهذه. مؤكّد أن لكم خزينة مركزية تحيلون إليها وثائقي." دخيلك "، أين توجد ، ومن المحافظ المركزي وماذا يفعل بكل هذه المادة وهل لقي ملفي منه كل العناية المطلوبة ؟
    لا فائدة في الجدل مع أغبى جزء من ذاتي ومن الأحسن العودة لتفحص المسموح بتفحصه.آه هذا ملف تطور الشكل الذي لبسته أو لبسني ... وهذه ملامح الطفل بما فيها من كآبة وخجل أمّه وحزم غاضب أخذه عن أبيه... المادّة الخامّ التي ستعمل عليها يد نحات فظّ اسمه الدهر، تضرب بغلظة هنا وهناك لتخلق وجه الشاب والكهل بتجهمه المتعالي، ولهب نظرته، والتواء شفتين يحسبه الناس تكبّرا وهو إخفاء لضحك متواصل أمام كثرة مهازل الحياة أو نفاذ صبر أمام تجدد مآسيها .
    آه وهذا ملف أستاذ جليل يوم سألني عن سنّي وفاجأني بقوله : لا زلت شابا، لكنك ستعلم أنك شخت يوم تلحظ لأوّل مرّة وأنت تدخل للمحاضرة ثبات طلبتك سنة بعد سنة على نفس العمر وأنت وحدك الذي يكبر...آه وهذا ملف تصديق الرجل والصرخة التي تعالت مني يومها: يا الهي طلبة هذه السنة ورضّع بأجساد عمالقة ! من حسن الحظ أنه لا وجود لصور ترصد تجعّد جلد الروح وسقوط شعرها وأسنانها إن كان للروح جلد
    و شعر وأسنان.
    كفى من هذه الصور المحبطة لأصلب العزائم ، ما المكتوب داخل الملفات . ما الذي قررت الذاكرة الناسية عدم رميه لسلة المهملات؟
    لا تضع إصبعك في أنفك...قل للمعلّم صباح الخير يا سيدي..أغسل أسنانك قبل أن تذهب إلى النوم ... أورام البطين الرابع عند الطفل تؤدّي مبكّرا إلى ظهور ارتفاع الضغط داخل القحف ...لا يخلّص هذا العالم مسيح واحد ...كل دون إحداث صوت خاصّة مع كبار القوم .. جئت لا أعلم من أين لكنّي أتيت وسأبقى ماشيا قدّامي شئت هذا أم أبيت ... إنّما يخلّص العالم كلّ واحد منّا شريطة أن يتذكّر أنّه هو الآخر المهدي المنتظر... ثلاثة في ثلاثة يساوي تسعة، تسعة في تسعة يساوي واحد وثمانون... يولد جميع الناس أحرارا وقد وهبوا عقلا وضميرا على الأقلّ في النظرية ... إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابدّ للقيد أن ينكسر، المشكلة أنه يريد القيد لا الحياة، أو على وجه التحديد سلّم أنه لا حياة بلا قيد ... الحوامض الأمينية واحد عشرون منهم ثمانية لا بدّ أن ننهشها من لحم كائنات حيّة أخرى ... لا ترينّ الناس إلاّ تجمّلا نبا بك دهر أم جفاك خليل... البقاء للأصلح في النظرية وفي الواقع للجبناء الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف... السمك أغنى بالفسفور من بقيّة لحوم الكائنات... انطلاق رحلة الآدمية كان من الساحل الشرقي لإفريقيا ... تفتح قبضة الباب من فوق إلى تحت...سرعة الضوء أعلى سرعة ممكنة ...العنف مظهر من مظاهر القسوة عند من هم فوق ومظهر من مظاهر التمرّد عند من هم تحت... خطّ البنطلون المكوي يمرّ من فوق وسط الركبة لا من جانبها ... نبحث عن الحبيب ثلاثة أشهر ونحبه ثلاثة سنين ونتخاصم معه ثلاثين سنة ثم يأتي دور الأطفال لتكرير السيناريو... السيّد من أعطى المثل لا من أعطى الأوامر... الاعتدال فضيلة الفضائل وهو تنازل من موقع القوة عن الكبرياء والمصالح لكنه رذيلة الرذائل وهو تنازل من موقع الضعف عن الكرامة والمبادئ....
    معدّل السكّر في الدم غرام في كلّ لتر...المافيا دولة بصدد التكوين والدولة مافيا نجحت... الرجال قوّامون على النساء لأسباب يعرفونها هم وحدهم ... كن ودودا وانبذ العنف مهما كان مأتاه... من صفعك على خدّك الأيسر افصل رأسه عن الجذع ... لا تضع يدك على النار... الموضة الفكرية الحالية أن الأطفال الذكور يريدون في الثالثة الزواج بأمّهم وقتل أبيهم ... أقرب محطّة مترو للوصول إلى بيت '' تفاحة'' ''شاتوروج'' على خطّ ''باب كلينيانكور'' ... فاز باللّذة الجسور... توضع الإبرة بين الفقرتين الرابعة والخامسة... الأحمر اللّون المفضّل عند الصينيين وابغض الألوان إليّ... الاتجاهات الأربع هي الشرق والغرب والشمال والجنوب، المشاكل الأربعة الأولى التي يطرحها العالم على الطريق... وجد الأوروبيون طريق قارّة قديمة اكتشفها الآسيويون قبل عشرين ألف سنة وسموها مع هذا العالم الجديد ...يا بني ستكون كارثة لو كسّرت مرّة أخرى نظّاراتك... واحد زائد واحد يساوي اثنان مهما كانت سرعة الريح... العين بالعينين والسنّ بكامل الفكّ ... توجد المعثكلة وراء جدار المعدة الخلفي وأمام العمود الفقري وعلى أقصي يساره يوجد الطحال...الحياة مرض خطير والموت علاجه الوحيد ...العنف ليس قوّة والقوّة ليست عنفا... حافظ على نظّارتك لأنه ليس لي ما أشتري لك بديلها ...لا تنسى سوطك عندما تذهب إلى المرأة... كرة القدم هي اليوم أفيون الشعب ... لا تستفزّ الأقوياء إن لم تعدّ لهم ما يجب من القوّة... الأسبرين دواء رائع لا يؤخذ مع قرحة في المعدة... أحسن لون لطلاء بيوتنا الأبيض لأنّه يمتصّ أشعّة الشمس...يوجد في العنف من قوّة ما يوجد في البورنوغرافيا من حبّ ... لا نبي في قومه... التاريخ رواية المنتصرين... أنا السجين والعالم سجني وسجّاني... أفضل ما اخترع الآدمي '' الكسكسي'' بالسمك ... ستكون كارثة الكوارث لو كسّرت مرّة أخري نظّاراتك يا بني... الألم ضرورة لكن غير معروف لمن ولماذا... من عرف الدهر يخشى شدّاته ويرتقب... يجب على المرأة إرضاع طفلها على الأقلّ ستّة أشهر من عارض السلطان زهد في الدنيا... الديناصور كائن انقرض منذ خمسة وستون مليون سنة بضربة لحجارة من سجيل جاءت من الفضاء وأفسحت المجال للجنس الوبش الذي حشرت في شكله... .يجب أن أترك بصمات لا تمحى...يجب ألا اترك أثرا على أرض ولا ظلا على حائط... الكوكب الأزرق في خطر من آلاف الأجرام التائهة حوله وهي أملنا الأخير لنرتاح ونريح..."الملل كثيرة مختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاث أصناف : قوم ورثوا دينهم عن آباءهم وآخرون أكرهوا عليه حتى ولجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا"... إذا كان قانون لاوتسو صحيحا وأن كل اسم له ليس الاسم،فمعنى هذا أن كل طريق إليه ليس الطريق ولو كان الطاو،أن الحقيقة ليست الحقيقة ،أن الخطأ ليس خطأ ،أن الخطيئة ليست الخطيئة ،أن الشيطان ليس الشيطان، أن الأنا ليس الأنا ...ما الدعامة التي يمكنني أن أبني عليها الرؤيا ؟... قل الحق ولو كان على نفسك ... كن ولدا طيبا و نطاسيا و تقدميا وثوريا ومناضلا... حذار من الصداع عند الأطفال فاحتمال ورم الدماغ كبير... لا هدف نصل إليه لأن الحياة دورة في حلقة مفرغة.ولا منفذ في هذا العالم لأحد... لا تضع إصبعك في أنفك..كيف الخروج من هذا النفق ؟...لا عيش لكريم في بلد شعبه غنم وحاكمه ضبع.....النجدة !... أين أضع كلّ هذا الحبّ الذي بداخلي والذي لا يريده أحد؟... نعم الشفقة ...لا شيء نستأهل ويجب أن نعطيه لبعضنا البعض غير الشفقة ومشتقاتها... نعم كم نحن مساكين معشر البشر... قل للمعلّم يا سيّدي... إياك أن تكسر نظاراتك مرة أخرى ..................................
    خلاصة تجربتي هذه الفوضى !؟ بئس ما تعكس ! من أين لي أن أنكر أنني أمام "المادة" التي نسجت منها ذاتي !
    - هل يريد سيّدي مزيدا من الوثائق ؟
    - شبعت وثائق .أريد زبدة كل هذا الزبد .
    - هذا أمر لا يقدر عليه سواك يا سيدي.
    نعم هذا أمر لا يقدر عليه غيري أنا .... أنا الزبّاد... أنا الزبدة ... أنا الزبد.
    ما الزبدة التي أبحث عنها ؟
    طبعا ما ترسّب تحت الفوضى الظاهرية، ما نقش على صفحة الذات من أعمق المشاعر والأحاسيس، تشهد أنني عرفت روعة وفظاعة تجربة الوجود.
    كم من حرص أبدته الذاكرة وأحسنت في ذلك وهي تحتفظ بمثل هذه الحالات لأنها الدليل الوحيد أنني كنت حاضرا في العالم والعالم حاضر فيّ بنفس القوة والإصرار.تتضوّع الأعماق بعطور الصنوبر والنعناع والياسمين والبرتقال والصوف والبطيخ والبحر والقرنفل والفلّ والخبز الساخن. تملأ لساني أحاسيس المرارة والحموضة والحلاوة. يقشعرّ جسدي وأنا أشعر به في قبضة الزمهرير. يسترجع طعم الدفيء وهو تحت الغطاء الثقيل ورقة شعر حريري ورطوبة رمل الليل وعشب الصباح وحرارة كثبان الرمل وهي تحت وهج أشعة قدّت من الفضة المذابة. وهذه ملفات روائح الغائط والبول والدم المتخثّر والبلاستيك المحروق والغازات السامّة ومنكر الزعيق وبذيء الكلام ورخيص الشتم والسبّ وأحاسيس انسياب ثعبان على جسدي…كل آلامي.كل صرخات المتعة والانبهار.
    كم غريب أنّ صرخات الإعجاب والعجب، ما زالت بعد كل هذه السنين حادّة متوهجة كأنها لرضيع في بداية إفاقته .
    أنات الألم أيضا ووصول العذاب إلى الحدود المشرفة على فقدان كل توازن.
    تتدافع من ملفّ غليظ،ثقيل، يوحي شكله بالنفور والخوف صور طفلة وصلت محطة اسمها المراهقة وهي جالسة على الأرض مستندة إلى الحائط ساهمة مطرقة ترفض التواصل مع أيّ كان. تصرخ "ما" وهي تتابع عاجزة انطفاء الحياة في طفلتها :
    - إنّها لا تأكل منذ أسابيع وأنت لا تحرّك ساكنا.
    دخلت البنت في إضراب عن الحياة ،فما الذي أقدر عليه ؟
    أحاول فتح أي منفذ للقلعة الموصدة.:
    - يا حبيبتي هذه مرحلة صعبة.،لا بدّ أن تواجهي ،ذلك قدرنا جميعا .
    تدير لي تفيحة وجها تملأ عينيه دموع صامتة ، تسمع ولا تنصت .ففي مثل هذه الحالات يصمّ الآدميّ أذنيه عن كلّ نداء وقد اقتنع أنه لا ذكاء يمكن أن يبرّر ما في العالم من غباء ،لا روعة يمكن أن تنسي ما فيه من فظاعة ،لا براءة تعذر ما فيه من آثام ،لا رقّة يمكن أن تغطّي على شراستة، ولا جمال يجعل قبحه مقبولا . ها قد قرّر ألا حاجة له بمثل هذا العالم وأنه يفضّل العودة من حيث أتى.
    تواصل تفيحة انسحابها من عالم لم تعد تعبأ به .تصرخ الزوجة الأزلية في الزوج الأزلي وقد فقدت رشدها: سيادتك من مؤتمر إلى مؤتمر، من سجن إلى منفى ،من مهمة هامة إلى مهمة أهمّ، وهذه هي النتيجة.
    يرفع الألم كل تحرج فتصبح الكلمات سهاما مسمومة ترشقها الأم في قلب الأب المذنب:طبعا هذه البنت ليست محسوبة فيما هو هام وخطير. هي تستطيع أن تنتظر شهورا لترى أبا بالوكالة وقته للإنسانية لا للإنسان ولو كان من صلبه.إنها الآن لميتة وموتها على حسابك وحدك.
    وهل للرجل ما يردّ به. كذبوا ، من شابه أباه فقد ظلم
    وهذا ملفّ آخر يزن أطنانا من الهمّ والغمّ وفيه تفاصيل ليوم حملتها بين ذراعي وقناع الموت على وجهها وجسمها الهش يكاد لا يزن شيئا .
    تنتهي تفيحة في غرفة إنعاش بسرير بارد أبيض بلون الكفن. أجلس على الأرض أراقب تدفّق السوائل المغذية في ذراع لم يبق فيه إلاّ جلد أصفر على عظم بحجم القلم ولا قدرة لي أو رغبة في دموع جفت منذ زمن طويل .ليس لي ما أقدّم غير كل ما يقدر عليه الإنسان من حبّ. عاجز.
    الحبّ!
    كم نخطئ عندما نعتقد أن الأشياء والكائنات التي تحرك فينا هذا الشعور هي التي تمنحنا أو تمنينا بأكبر قدر ممكن من المتعة . لو كان الأمر صحيحا لكانت هذه الطفلة المحتضرة أبغض البشر إليّ وهي سبب أفظع ما عشت من آلام .على العكس هي الآن أحبهم، بل حبي لها لا تسعه السماوات والأرض. ما الحب إذن ؟ قد يكون أحسن من فهم طبيعته الأعرابي الذي سئل أي أطفالك أحب إليك، فقال المريض إلى أن يبرأ والصغير إلى أن يكبر، والغائب إلى أن يرجع .
    ما القاسم المشترك بين الوضعيات الثلاث التي يتسبب فيها المرض والصغر والغربة؟ حالة الهشاشة طبعا. ما فهمه هذا الأب أنه بقدر ما تتعاظم الأخطار التي تهدد وجود المحبوب ، بقدر ما يجب أن يزداد حبنا له، لأن هذا الحب في آخرة المطاف هو أقصى ما نقدمه له، ورقته الكبرى إن لم تكن الوحيدة لمواجهة تحديات البقاء. لذلك أقول أن الشيخ الأكبر نفسه لم يفهم طبيعة من يسميه الحقّ . خطوة جبارة فهمه أنه بغير حاجة للعبادة ، لكنك يا معلّمي الجليل خلافا لما تدعو له هو أيضا بغير حاجة للحبّ فهو ليس هشا أو ضعيفا ولا حياة مهددة له،لا ضمان لتواصلها إلا حبنا له ...اللهم إلا إذا قبلنا أن حياته هي حياة كل حيّ . آنذاك يصبح ما ندعيه من حب له حب الذوات التي تبلور فيها ...أو أن حبها هو طريقتنا الوحيدة لمحاولة التقرّب لمن هو فوق كل عبادة وكل حب .
    ها أنا على الأرض أسند ظهري إلى السرير ومحدقا ببلاهة في الحائط ،ذهب الألم بكل إحساس حتى بالألم ذاته. لا أحد في هذا الليل القاتم السواد يأخذني بين ذراعيه وكلهم يئنون من الآلام ولا أحد يأخذهم ليضع الرأس على الصدر يمسح على الشعر ويمسح الدموع.
    القاعدة في هذا العالم اللعين، وفي مثل هذه الظروف خاصة، أنه إذا كان بوسع الأمور أن تتطور من سيء إلى أسوأ ، ومن الأسوأ إلى ما أسوأ منه ، فإنها لا تتردّد لحظة. يا لشماتتي في قانون الشماتة المطلقة وقد وصل حدّا لن يستطيع تجاوزه. نعم ما الذي يستطيع أن يفعله بي أكثر من الموت. لينتهي كل شيء. لتمت تفيحة فموتها بداية الجزر في آلام لم يعد أمامها أدنى مجال للمدّ.
    نهار أتيت للدنيا (نزار القباني)
    وجدت قرار إعدامي
    ولم أرى باب محكمتي
    ولم أرى وجه حكامي
    كل هذه السنوات الحافلة بالعواصف والآن حانت لحظة الغرق. لينفّذ الحكم الآن، لم أعد أقوى على مزيد من الألم.لا منفذ لأحد في هذا العالم اللعين ، اللهم إلا إذا كان الموت ، وهؤلاء الأغبياء الذين لا يخشون شيئا قدر خوفهم منه والحال أنه نوم لا تتخلّله كوابيس... وليمة من اللافكر ومن اللاشعور...طفرة من السلام الأزلي..."شبعة" من اللاوجود...تخمة من العدم...الراحة الأبدية...الخلاص أخيرا !
    كم صدق رهين المحبسين :
    تباركت أن الموت فرض على الفتى ولو أنه بعض النجوم التي تسري
    وهوّن ما نلقي من البؤس أننا بنو سفر أو عابرون على جسر
    متى ألقى بعد المنية أسرتي أخبرهم أنّي خلصت من الأسر
    انتبه لن نخلص من أسرك أيها العالم البائس قبل تصفية كلّ الحسابات. سترى ما نحن فاعلون بغاباتك ، بأنهارك، ببحارك وكل ما خلقت من كائنات. هل تظنّ أن ما نفعله فيك مجرّد غباء وليس انتقاما من المنتقم .
    أقرّب يدي من اليد المتدلية من السرير كمن يخشى لمس جناحي فراشة بالنار. أتوجه للراقدة على فراش الجمر بالوداع الأخير وباللغة الأولى التي تبادلنا بها تحية التعارف يوم الوصول وأولى إشارات الطمأنة. لغة الرّضع.
    - طاطوطاطي .....طوطو ....تبيتي ....
    كأن شيئا ما نفذ أخيرا إلى شيء ما ...لمس شيئا ما ...حرّك شيئا ما ...أثّر في شيء ما ...غيّر وجهة المسار. أيكون ذلك لأن هذه الطفلة اللعينة شعرت أنها ظفرت بما تريد ...أنها انتقمت بما فيه الكفاية ...أنها تأكدت أخيرا من شيء كانت تريد التأكد منه وهي تعرف أصدق المعرفة أنه لم يكن يوما بحاجة لتأكيد.
    لا أصدّق أذنيّ وأنا أسمع تفيحة تهمس مبتسمة :طيطوطاطا .شرم برم
    ربما ثاب العالم إلى رشده و فهم أنّ التهديد جدّي فأصابه خوف عميق. لا طبعا إنها شفقة الوحش الرقيق بالآدمي المسكين أضحكه تهديده ثم أبكاه.
    تتجدّد فيّ شهوة الحياة والطفلة تطيل لي النظر وتبتسم.
    -هل ...هل ؟
    -..ن...ن...نعم . نعم .نعم .
    تستطيع رجليّ حملي من جديد فأقف مترنحا.
    يلمع شيء كالقلق في عينين بدأت تدب فيهما الحياة من جديد .
    -"با" هل ستبقى معي هذه اللّيلة في هذا المكان الموحش .
    - وغدا نعود للمنزل وقد فكّ الإضراب ؟
    - نعم
    - لمواصلة المشوار؟
    - نعم لمواصلة المشوار.
    - على علاته ومصاعبه ومتطلباته ؟
    - على علاته ومصاعبه ومتطلباته .
    -مبيسةبتي....هثتبه ... طا طاطو ....طاطي طاطا.
    ها أنا أرقص فرحا والدموع تتدافع من العينين أخيرا. في آخرة المطاف ما هذه الرحلة إلا كابوس يتخلله أحيانا حلم جميل أو حلم جميل يتخلله كابوس بشع وفي كل كل الحالات هي دوما كوابيس وأحلام متداخلة تستعصي على الفصل.
    وعلى مستوى آخر من تفحّص الملفّ يمكن القول أن هذ الحادثة توحي بفكرتين هامتين للتقدّم في موضوعنا.
    الأولى أن القصة تعكس المشاكل المزمنة للآباء مع الأطفال،خاصة في مرحلة دقيقة من العمر أي أنها تعكس جملة من مشاكل الآدمي مع ذاته في مرحلة معينة من رحلته والثانية أنها مثل بقية تجاربي جدّ خاصة بي نظرا لتفاصيل جدّ دقيقة فرضتها ظروف لا تتكرّر أبدا بنفس الإيقاع والنسق.
    ثمة إذن من جهة أزلية الدور،ومن جهة أخرى خصوصية الأداء وظروفه.
    بداهة هذه الخصوصية في لعب دور الابن والأب وبقية الأدوار، اضف إليها الظروف التي حفّت بها والمسارب التي اتخذت والنهايات التي وصلت إليها هي كل ما يشكل طرافة كل ذات ويميزها عن بقية الذوات وهي في نهاية المطاف تاريخ الذات أي مختزل تجربتها الوجودية
    لنسم ّهذا المستوى من الذات"ذاكرة الأنا دون سواه".
    الفكرة الثانية أن وجود ذوات تفيحة و"ما" و"با" ، هو الشرط الضروري لتشكّل النسيج الذي صنعت منه قصتي ومن ثمة ذاتي ؟ لكن ألا يعني هذا أن جزءا منك موجود خارجك؟
    ثمة طبقة ثانية إذن تحمل الطبقة الأولى والقاسم المشترك بين ملفاتها الحضور القويّ للذات الأخرى.
    *
    ذاكرة الغصن
    وهذا ملفّ خاص غليظ ثقيل ملآن فيه أحاسيس بالغة الرقة ، بالغة التعقيد بالغة العمق وليس فيه إلا موضوع واحد: ضغط شفة نافذة الصبر على شفة مكتنزة لأول قبلة الحبّ الأول. وهذا ملفّ يوم غافلت "ما" وذهبت للبحر وكان يوما عاصفا وكدت أغرق لو لم ينتشلني محسن ويتجمع حولي المنقذون لإنعاشي وأخفيت الأمر لكن الخبر وصلها بسرعة فأغمي عليها ... وهذا ملف ليلة مشيت مع الجدّ تحت نجوم الصحراء يلفنا ظلام وديع وصمت مهيب ،آه هذه دون أدنى شك بقايا ملفات كثيرة " للعبيثة" التي طالما أرهبتني بها جدة وترت أعصابها أكثر من مرّة ... وهذه بضعة أسطر لبقايا خصومتي مع الجار الذي سمّم حياتي بضجيجه المنكر فوق رأسي ليالي الكتابة وكنت لا أتمنى شيئا قدر موته ... وهذا ملفّ يوم حاصرنا السيل أنا و"با" في سيارة بدأت تتقاذفها الأمواج،فأحسست كم نحن قريبان وكم ضيعنا من وقت في خصام عقيم
    كم من هذه الذوات ساهمت كل بنصيبها في تكوين النسيج العامّ لذاتي ؟.
    لو تناولنا ملف "أين في الناس" جاعلين منه الخيط الرفيع الذي سيقودنا في سراديب طابق جديد من الذاكرة.... كفى حديثا عنه خاصة وهو يدور منذ سنين في نفس الأوجاع ...إذن صورة الذات التي يبدو لي اليوم أنها صاغته أكثر من كل ذات...
    ألم يجعل من شاعر السيف والرمح والقرطاس والقلم القدوة والمعلم ومن قصائده الكلام المقدّس لا ما يرتّل داخل أماكن لم يواظب عليها، خوفا أو نفاقا أو تقليدا، إلاّ وهو على وشك الرحيل؟
    كم كان يردد مقولته قدر''النفيس أن يكون غريبا حيثما كان''.
    ألم يعرّف لي نفسه يوما أمامي بأنه "المنتقم منه والمنتقم "؟
    لماذا جعل من هذه الذات بالذات خياره ليصنع بها هيكل ذاته؟ هل لأنه تعرّف في آلامها على الآلام التي عذبته طوال حياته؟ وهل سأجد منبع آلامي في منبع آلام دليل الدليل ؟
    أعود لقصائد لا تلقى وإنما تزمجر، باحثا عن السبب الدفين للصراخ وعربدة الغضب عند رجل قلده "با" إلى درجة الإسفاف وأخذت عنه تقليد التقليد .
    هل ذروة مأساة الرجل وقوفه اضطرارا على أبواب الملوك يستجدي من يحتقر، هو الذي كانت بنفسه أنفة أن تسكن اللحم والعظم ؟ هل السبب أن العالم أسرف عليه بالمحن ليختبر هل هو حقا جادّ في ما يقول ؟ هل لأنه رفض له شهواته أو بالغ في التقتير بها ؟ كلا ، كل هذا من قبيل مبتذلات لا تؤثر إلا في النفوس الرديئة والشاعر أحسن من يعرف أنه إذا كانت النفوس عظاما تعبت من ورائها الأجسام.
    ينتبه للسبب - أو لواحد من أهمها - أديب أعمى عرّيف بالآلام وما تفعله بالمعذّبين في الأرض .غريب ! كيف لم يسترع انتباهي يوما أن ديوانه لا يبدأ بذكر حسبه ونسبه ... أن الرجل فاخر دوما بنفسه لا بقومه خلافا للمألوف... أنه بكى وأبكى الأجيال على جدّة، لا على أب أو أم أو أخ أو ابن .
    ثمة إذن منطقة مظلمة في قصة الرجل ربما وجد فيها "با" شيئا عزّز الصلة .لكن "با" كان معروف الحسب والنسب وكان له أب معروف وأم معروفة .
    أم معروفة ...أم " با" !
    أنتبه أنني لم أسمع ''ما" على كثرة مدحها للناس تمدح هذه المرأة ... أنني لم أسمع أيضا أمّ ''ما'' على كثرة ذمّها في النّاس تذمّ جدّتي الأخرى... أنني لم أسمع كلمة عنها من جدّي ولا كلمة أيضا من المرأة الطيبة التي تزوّجها بعدها ...أخيرا لا آخرا، أنني لم أسمع ''با'' الذي كان يذكر والده بألف خير، يذكرها إلا صارخا في قمة الانفعال والموضوع هو لا هي: ،أنا الذي عقرت أمه بعد أن ولدته لا يشرفها أن تلد غيره ! أنا الذي لم يتخبط غيره في جوف أمه.
    كل ما يحتويه ملفّ هذه المرأة ، اسم يحفّ به صمت مشبوه لا شكّ أنه سرّ بائس ككل أسرار العائلات. أحاول استدراج "ما" للردّ على سؤال كنت أرميه كل مرة وراء ستار الوعي لشعوري انه لا يلقى على أحد وخاصة على أم . لماذا لم ينجب جدي من جدتي إلاّ "با" وكان له ثلاثة أطفال مع زوجته الثانية؟ غريب ألا يكون ل"با" أشقاء في مجتمع يؤمن أن"المال والبنون زينة الحياة الدنيا" .
    تحين الفرصة والمزاج رائق، لا عاصفة في الأفق، والتي مرت اندملت جروحها .
    - "ما" ألا تعتقدين أنه لو كان له أشقاء علّموه باكرا أن يقاسم، لما أفرط في دلاله علينا، كأنّ الكون بأسره أمه المكلفة بتدليله .
    تقاطعني "ما" بصوت فيه نبرة حادة.
    - أمه لم تدلّله يوما .
    تصمت و تعظّ على شفتها كأنها ندمت على زلّة لسان.
    قد أحرّك أشياء لا يجوز تحريكها، لكن فضولي أهم من ترفق يحضر ويغيب.
    - لم تدلّله ! ربما كانت مريضة وأن مرضها أثّر في طبعها وفي طبعه.ربما هذا المرض السبب أنها لم تنجب غيره .
    تشيح "ما" ببصرها .يأتي الردّ قاطعا ووجهها إلى الخلف وفي الصوت نبرة بالغ الاستهجان.
    - كلاّ لم يكن بها أيّ مرض ، والآن قل لي ماذا ستفعل بخصوص قضية فلان.
    - لا تغيّري الموضوع ، أريد كل التفاصيل عن هذه المرأة لأسباب لا علاقة بها باغتياب ميتة ، وإنما بحقي في معرفة سلسلة الأحداث التي صنعتني .
    تستكين "ما" لصوت فيه الآن نبرة الأمر والنهي كما يفعل كلّ آدمي ظهره للحائط ولا مصلحة له في مواجهة خصم مصمّم .
    - كل ما أعرفه أنه غضب منها وهو في الخامسة عشر لأنها رفضت له ضيفا من عمره، فخرج ولم يعد للبيت... إلا بعد عشرين سنة .
    عشرون سنة ! لا أصدق أذنيّ . كيف يمكن حتى لرجل غضوب مثل "با"، أن يغضب من أمه عشرين سنة ؟ التفسير غير مقنع أو غير مكتمل. يجب أن يكون رفضها استقبال ضيفه القطرة التي أفاضت الكأس . ما الذي ملأ الكأس قبل أن تفيض؟ شدتها التي التصقت باسمها ؟ أم هل حرمته من حب بقي طوال حياته يركض ورائه ؟
    مؤكد أنها سبب الوجع الأول الذي جعل "با" كائنا متألما مؤلما وكم تسبّب للآخرين من أوجاع.
    تنسحب"ما" داخل قوقعتها تعلمني أنه لا فائدة في مواصلة الحديث.
    ثمة بداهة شيء آخر لا يمكن لأم أن تحادث فيه ابنها ...شيء ربما تهامست به النساء يوما بعيدا عن آذان الأطفال. بعض العلامات ولا شيء يجمع بينها .لأحاول الجمع بين مختلف قطع هذا " البوزل" الجديد. ثمة صمت ثقيل مريب عن هذ المرأة متواصل عقودا. ثمة مفاخرة" با" المشبوهة بأن لا أحد تخبط في أحشاء أمه غيره كما هو حال الأنبياء .ثمة عداؤه للنساء وتنكيله بكل أنثى رماها الحظّ العاثر بين ذراعيه مكدسا الخليلات والحليلات في كل مقاطع الطريق، يشبعهّن إذلالا وخيانة وطلاقا.
    كل هذا يفوح بعطر الانتقام من خطيئة لا تغتفر. الخيانة الزوجية ؟ جدّ مستبعد . أشياء كهذه لا تقع في واحة صغيرة وإن وقعت مرة كل مئة سنة فإنها تنتهي بالذبح تحت التكبير والزغاريد . مفهومهم للشرف. يحنون الهامة أمام كل طاغية حقير ويقتلون بشجاعة امرأة ضعيفة لا يهمّ أن تكون أختا أو أما أو زوجة أو بنتا وهم الزناة بالفعل أو بالنوايا. ماذا لو كان السرّ اكتشاف الطفل باكرا ما تهامست به النساء وأن المرأة التي سمعت عنها يوما أنها لا تحبّ(بجرّ الحاء) ولا تحبّ(بنصبها ) والتي رفضت لابنها ضيفا.... رفضت له أيضا إخوة ولأبيه رجولته ؟
    هل تقديسي للإخاء والأخوة فصل على هامش قصّة حزينة لطفل فشل طفولته قبلي لأنه حرم أخوة بقي طول حياته يدير لهم الظهر ولا يكف عن البحث عنهم ؟ هل محبّتي للنساء وترفّقي الدائم بهن مجرّد ردّة فعل على مجرّد ردّة فعل على مجرّد ردود أفعال لا أحد يعلم متى انطلقت ولماذا ؟ هل غضبي صدى لغضب طفل آخر لا ناقة لي ولا جمل في مشاكله ومع هذا لا مجال للتخلص من الطابع الذي طبعني به إلى الأبد...علما وأنه هو الآخر وجد نفسه يتخبط في مشاكل لم يكن له أي دخل في وقوعها ؟ ما أغرب أن تشكّل أحداث لا دخل لك فيها ما بك من خصال وعيوب !ما أغرب أن يقول البعض بحريته وكلنا مسيرون بأحلام أو كوابيس من سبقونا ، أحيانا حتى دون معرفة الذوات التي صاغتنا ، والطريقة التي تقاسمت بها المناطق التي طبعتها بطابعها ! كأن الذات رداء تصنعه بما يتوفّر لك من خيط ومن أصناف القماش والمادة دوما ذوات أخرى...كأنها مجرد ساقية أو مجرى مياه، وإن ابتغيت العظمة، نهر حفرته أيادي خفية لتصب فيه جداول آتية من أعماق المجهول .
    بديهي إذن أن قصة جدتي أثّرت بكيفية جذرية في تكوين شخصية "با" لتطبعني بها من خلاله إلى الأبد. ماذا عن الأحداث التي صنعت قصتها هي وتفسرها ؟
    على أي أوجاع كانت تنام جدّتي ''كالي'' ؟ من ساهم في تكوين الطبع الشرس الذي عرفت بها صدقا، أو تجنيا ،أو عن قلة فهم وتفهّم، كما هو الحال دوما في أحكامنا القاسية على بعضنا البعض؟ لكن حتى لو عرفت تفاصيل قصة الجدة المعذبة بسرّ ما وبوجع لم يفهمه أحد، لأحالتني قصتها بالضرورة على قصة الذوات التي صنعت قصتها، مما سيحيلني على الذوات التي صنعت القصص التي صنعت الذوات التي صنعت قصتها مما يحيلني على....إلى آخره وإلى ما لا نهاية.
    نحن نعاني من قلة المعلومات عن أقرب الآدميين الأحياء، فما بالك ونحن نتوغل بعيدا في أعماق الماضي.تفتح الذاكرة ملفات أقرب الأجداد وهي روايات منقولة وكتابات مؤرخين وكثير من الأساطير...عن مجموعة لا عن أشخاص.
    ومما أمكن اعتصاره من الخليط الغريب- ومع هذا، أو لأجل هذا الفاعل فعله في تشكيل الذات-أن ملك الماشين وراء أذناب البقر، أهل الماء والطين، أطمع يوما أجداد الجدة في أرض توجد وراء النهر العظيم على الدوام خصبة خضراء ، فيها سبايا بيض البشرة لهن عيون بلون البحر بارعات في كلّ فنون الحبّ ...أن هؤلاء الأجداد افتعلوا تصديق الملك الداهية للفرار من أرض لا مقاومة فيها ولا خطر...أنهم توغلوا على خيلهم باتجاه المجهول يجرّون وورائهم نسائهم وأطفالهم والبعير ...أن جدّة حازمة اسمها الجازية صاحبة الشعر الواصل قدميها كانت قائدة الغزوة...أنها بعثت لاستكشاف الطريق بطلا أسمرا اسمه من اسم الهلال جمع الجرأة والدهاء... أنه رسم العلامات لتتدفق جحافل الفرسان ...أن الشمس غربت كم من مرة على ساحات القتال والأجداد يشقون الطريق بسيوفهم ...أنهم كانوا يؤوبون لخيامهم تحت صدمة فظاعة ما عاشوا وما فعلوا لا يصدّقون أنّهم ما زالوا أحياء...أن ليل الصحراء كان يواسي القتلى والقتلة ... أن السيف عاد لغمده يوم تبين أنه لا نهاية للطريق وأن كل مكان ليس المكان ومن ثمة كل مكان هو المكان ولا بد من حط الرحال. كيف لا يكون ''با'' الرحالة الذي لا يستقرّ في أرض وقد ولد من تاريخ كل هذا التشرّد ؟ كيف لا يتواصل الرحيل داخلي أنصب حتى في فضاء الخيال خيمة سوداء على سطح الشمس وصحراء الغزو كون برمته رمله النجوم وكثبانه المجرّات ؟
    لكن لهؤلاء الأجداد بالضرورة أجداد هم الجداول التي صبّت في الجداول التي صبت في الجدول الذي تشكلت منه ذاتي .
    ومما حفظت الذاكرة الجماعية، أو توهمت تذكره، أن أجداد الأجداد الذين توقفوا طويلا عند حدود النهر الخالد، ثم تجاوزوه نحو الغرب ، عاشوا على ساحل خليج بحر يفتح على مجاهل وعجائب الشرق البعيد ... أنهم انطلقوا منه نحو مغرب الشمس، ليس فقط بحثا عن الماء والكلأ كما فعل أجدادهم عبر العصور،وإنما هذه المرة لنشر الدين الجديد واللغة العظمى...وأنهم قدموا لهذه اللغة التي لا تشبهها لغة عندما يتعلق الأمر بالشعر شاعرة لا تشبهها شاعرة اسمها الخنساء .
    الخنساء !
    بداهة لم يسمّ "با" ابنة له ماتت في سنتها الأولى صدفة باسم سقط منذ قرون من التداول،مثلما لم يسمّ صدفة كبرى بناته باسم البلد الذي كان يحبه أشدّ الكره ويكرهه أشدّ الحبّ. يقيني أنّه تشبّع بقصائدها ، أنّه نسي ما قرأ، أن ما قرأ اختمر داخله ببطء ، أنّ مناهج ومسالك فتحت داخل ذاته، أنّ أهدافا قاهرة تحدّدت لها والشعر منذ القدم ما تستودع فيه القبيلة تعليمات صنع ذوات أطفال الصحراء.
    ومما يقال عن هذه الجدة الأسطورية الأخرى أنّها ظلّت تندب طول حياتها موت البطل، رافضة أن تتجسد الفضائل في غيره...أنّها ظلّت سادرة في غيّها لا تقبل سلوى ولا تريد للنسيان محو اسم أخيها صخر.
    يا عين ما لك لا تبكين تسكابا إذا راب دهر وكأنّ الدهر ربابا
    فابكي أخاك لأيتام أرملة وأبكي أخاك إذا جاورت أجنابا
    يغدو به سابح، نهد مراكله مجلبب بسواد اللّيل جلباب
    حتى يصبح أقواما يحاربهم أو يسلبوا دون صفّ القوم أسلابا
    هو الفتى الكامل الحامي حقيقته مأوى الضرير إذا ما جاء منتابا
    يهدي الرعيل اذا ضاق السبيل عنهم نهد التليل لصعب الأمور ركابا
    المجد حلّته والجود علّته والصدق حوزته إن قرنه هابا
    خطاب محفلة فرّاج مظلمة إن هاب معظلة سنّى لها بابا
    حمّال ألوية قطّاع أودية شهّاد أنجية للثأر طلاّبا
    سمّ العداة وفكّاك العناة إذا لاقى الوغى لم يكن للموت هيّابا.
    ربما رسمت الخنساء نموذج الإنسان الكامل الذي استبطنه "با" هو الذي أراد نفسه دوما الجريء، الجميل، فرّاج مظلمة، سمّ العداة،الصدق حوزته، الجود علته والمجد حلّته. كيف يحقق ركنا أساسيا من البرنامج والأم تأمره بطرد الضيف؟
    تواصل الذاكرة حفرها في طبقات متزايدة العمق، وكل المادة عن الجداول التي صبّت في الجداول التي صبت في الجدول الذي تشكلت منها الذات،ما تجود به ذاكرة الخيال وخيال الذاكرة.
    لفترة من الزمان تبقى الأسماء مألوفة للسمع، قريبة من القلب،واللغة تتحدث عن هوادج وإبل وخيام وصحراء مترامية الأطراف ورجال قيام سجّد ركوع يبتهلون لآلهة اسمها ذو الخلصة وهبل واللات والعزى. لازالت الملفات ترنّ بقعقعة الشعر وترنّم السلاح . لا زالت الصور لغانيات لهن عيون المها وشعر يغار من سواده اللّيل.
    ووجوه سمر كأنّها نحتت بالسكين فيها من القسوة أبشعها ومن اللّطف أحبّه. إنها الصور الجداول لقوم إذا شجعوا تهوّروا، إذا أكرموا أسرفوا، إذا ظلموا أفرطوا إذا ثأروا كفروا وإذا حنّوا ذرفوا الدمع مدرارا، لا تضاهيهم كائنات آدمية أخرى رقّة وتوحشّا.
    لهؤلاء الأجداد بالضرورة أجداد هم الجداول التي صبّت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبّت في الجدول الذي تشكلت منها ذاتي.
    ها نحن في تتبعنا مجرى قصة واحدة مثل من يجذب خيط كبة الغزل، لكنها كبة لا نهاية لها مهما جذبت من الخيط .ويقال اليوم عن أجداد أجداد الأجداد أنهم خرجوا منذ آلاف السنين من ربوع سواحل قارة اسمها أفريقيا ، أنهم ولّوا وجوههم نحو الشمال بحثا عن صيد يأكلون وهربا من صياد يأكلهم،أنهم مشوا قرونا وقرونا يتبعون الشواطئ متوغلين من حين لآخر في أعماق الأراضي البكر ،حافز الروح الفضول، وحافز الجسم الخوف والجوع والعطش.
    آه هذا جدي بهراز الصيّاد الذي فقد رجله اليسرى في معركة مع الفهد. وهذا جده سمهل قبل أن يأكله الأسد وهو في ريعان الشباب. على فكرة أين في الناس جدّ مثل جدي أفيلفت الصياد الأسود القصير ؟ صحيح أنه جدك مثلما هو جدي وأنه كان أكبر صيادي الفيلة في كل العصور بشهادة سليله كاتب هذا السطور. انظر لهذا البطل وهو رابض وراء أكمة ،ووتر القوس مشدود، ينتظر أن يسقط الفيل في الحفرة المغطّاة بالعشب حذو الغدير ليعمل فيه نصله وهو يصلي له أن أغفر لي قتلك يا إله القبيلة وحاميها بلحمك من الموت جوعا.
    ولهؤلاء الأجداد بالضرورة أجداد هم الجداول التي صبّت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبت في الجدول الذي تشكلت منها ذاتك وذاتي .يقال أنهم نزلوا من أشجار الغابة بمنتهى الحذر مقتربين من حدودها يلقون بنظرة خاطفة على السهول المفتوحة على الآفاق ... أن أشجعهم انتصب واقفا لأوّل مرّة في تاريخ الجنس ليرى هل ثمة ما يتحرك داخل الأعشاب العالية ... أنه ألقى بنظرة جشعة على جيفة تعد باللحم ونظرة خائفة حوله يرصد من يترصّد من كائنات لها خناجر مثبتة في الأشداق وسيوف مثبتة في القوائم .
    لم يبق على أجداد الأوائل إلا مغالبة خوف سيتركونه مترسبا في الأعماق والتسلح بكل ما في طاقتهم من خصال ومن قدرات وحتى من عيوب لربح معركة البقاء .
    هذه القوى الداخلية التي يستنفرونها هي الأعمدة التي سيرتفع عليها بناء كل الذوات.
    توقّف على صورة أنثى وجلة تقترب بحذر من غدير تربض التماسيح على ضفته.
    إنها لوسي التي يقال هذه الأيام أنها جدة سمهل وكل من سبقوه من أجداد. بربك ألا تلاحظ أن في وجهها قسمات ينذر بقرب بروز ربع ابتسامة على وجه هادئ وقور، وملامح ابتسامة واسعة وضحكة مرحة دائمة كأن صاحبتها سمعت لتوها نكتة أعجبتها لوسي هذه لا تختزل فقط خصائص حسية . إنها الذات التي بلورت للمرة الأولى بما يكفي من الوضوح الرعب والانبهار والوجع والخوف والثبات والصبر والأمل، وكل الأحاسيس والمشاعر التي سنتوارثها جيلا بعد جيل لا نتصرف إلا في طريقة الأداء أو في تفاصيل التفاصيل.
    كأنّ ذاكرة لوسي تدوي بقوة في ذاكرة كل من ولدت وأن صداها لم يضعف من حلقة لأخرى وكل ما في الأمر أنها تعقد وتكثف وتعمّق.
    وعلى طول السلسلة ، تبلورت اللغة التي وضعت اسما وصورا وأحكاما على التجارب الأولى . هكذا وصلت الموجة ذاكرة جدتي التي نقلتها للرجل الذي نقلها لي، لا وعي لأحد بكل ما تراكم من مخاوف وأوهام ومعتقدات وكيف شكلت كياننا.
    ولا بدّ من مواصلة الحفر، فلهؤلاء الأجداد أجداد هم الجداول التي صبّت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبت في الجداول التي صبت في الجدول الذي تشكلت منها ذاتك ذاتي. لكن إلى أين ؟
    تتعطل كل أدوات الفكر والخيال وقد استنفذا كل الوثائق واعتصرا كل ما فيها ولم يبق أمامهما إلا الإبهام التام داخل مطلق الغموض.
    كم طوّحت بي الكتابة بعيدا ...كان المشروع أن أصف عالما موضوعيا فإذا بي أكتشف ذاتي في مرآة العالم والعالم في مرآة ذاتي... كنت أريد الحديث عن ذاتي فإذا بي لا أتحدّث إلا عن الذوات التي صنعتها وكلها جداول تصب في جداول ...ويبقى السؤال الضخم يلاحقني بالرغم ،أو نتيجة تتابع الصور... ما "الماء" الذي رسم السواقي والجداول وما النبع الذي منه يتدفق ؟
    عبث كل هذا البحث ؟ طبعا لا. كم فيه من دروس ...منها فهمنا إصرار كل طفل وكهل على العودة دوما لذاكرة أمه وأمته لعلمه أنها تحتوي على حجر الرحى في تكوين ذاته... منها أن كل ذاكرة تولد من كل الذاكرات التي سبقتها... منها أننا ضحايا صورة بيروقراطية للذات ونحن نتخيلها مثل بلد له حدود واضحة وعاصمة تحت حكم سلطان الأنا المكلف بالقيادة والتنسيق والتمثيل الدبلوماسي لدى الكيانات الأخرى المبنية على نفس النموذج ، والحال أنها أشبه بأمة الإغريق في العصور الكلاسيكية وهي تتوزع على أرخبيل جزر ومستعمرات مبعثرة على كم من ساحل بعيد...منها أننا كائنات تسكن الآخرين ويسكوننا ... منها أن الذات كخارطة فيها بعض العلامات المؤكد وصحتها وجل المساحة بياض مترامي الأطراف كتب عليها Terra Incognita وستبقى أراض مجهولة على الدوام...ومنها أن أياد خفيّة حفرت مجرى نهر الذات قبل أن تستقرّ فيه قطرة ماء... منها أن الأنا مثل جدول يأخذ ماءه مما لا يحصى من الجداول ليتفرع بدوره في كم من جدول ...ومنها أن الذي حفر وسال طوال القرون ليس بالضرورة ماء زلال وإنما أيضا كذلك الذي يخرج من المراحيض.
    هنا ترمي الذاكرة كل ما حفظت من معلومات عن تاريخنا دفعة واحدة ولسان الحال يقول : هذه صورتك يا آدمي يا ابن ال....
    تتصاعد من أعماقي صرخات الاستنكار والرّفض.كم فيّ من عنف، من قسوة، أنانية من رياء، من نفاق ، من كذب، من غدر، من خيانة ، من نميمة ، من طمع، من حسد، من حقد كافر على كل ما هو حيّ جميل ونبيل !ها قد نبتت لي حوافر أين كانت لي قدمان ! بل وذيل طويل وقرنان على جانبي الرّأس. أليس "شيطان" مجرّد حالة-اسم-دور من حالات -أسماء -أدوار الذات. لا بدّ من تنظيم الدفاع عن هذه الذات وهي كل ما أملك.ما دخلي أنا ؟...أقصد الأنا الرسمي،المحلي،الشخصي، المستقل،الوحيد،اليتيم المتميز،الساكن في جسد منفصل أين باغتتني قاهرا عاتيا منتقما سفّاحا ؟ متى كنت قاسيا فظيعا ؟ بأي حجّة تدّعي أنّه لا أحب إلىّ من سفك دماء الكائنات، أنّني لا أعشق شيئا قدر عشقي الذبائح والقرابين تقطر دما، أنّي متشوّق إلى القتل تشوّقي للاغتصاب والنهب والسلب...متى شاهدتني أذبح العجائز وهنّ تصرخن من الرعب وتستصرخن شفقة ماتت فيّ على فرض أنها وجدت يوما... متى رأيتني أخصي الرجال متفنّنا في شتّى أنواع إلحاق أقصى الإذلال...أين جرّبتني أعمل في أجسادهم كلّ ما يقطع ويمزّق ويفرقع؟... أين شاهدتني أتمتع برؤيا الأجساد تحترق بالنّار، من أين أتيت، لا سامحك إله أو شيطان، بصورتي أقتلع أسنان الذهب من أفواه ميّتة قبل رمي الأجساد وهي تتضوّع برائحة الغاز في أفران تحيلها سمادا وصابونا ؟
    بهذه الذات اغتصبت امرأة أخي، واغتصبت ابنته واغتصبت ملكه، وسرقت من فم أطفاله الجائعين كسرة الخبز الجاف. وبمثل هذه الذات عذّبتني أنا الآدمي مشاعر الإثم والذنب، فهربت منها بالانغماس في مزيد من عربدة القتل. وبهذه الذات حرقت، أنا الآدمي، الأشعار والشعراء. بهذه الذات اضطهدت الموسيقى وحرّمت الفنّ وعاديت كلّ ما هو نبيل صادق وجميل .بهذه الذات دمّرت المكتبات ودمّرت المدن ودمّرت الحقول ودمّرت الغابات ودمرّت الأنهار ودمّرت البحار ودمّرت الكواكب ودمّرت العوالم ولم تأتني الراحة إلاّ والموجود حولي خرابا على خراب. كيف أنكر أن هذا الأنا- الأصل والذي انبثق منه الأنا الذي أشير به إلى ذاتي ، كائن لا ترتعد له يد وهو يقطّع خروفي الجميل إربا إربا، لا تتحرّك له عضلة في الوجه وهو يضع في دبر الآدمي خازوقا أحمرا حاميا ملتهبا خارج لتوّه من النار لتحترق الأحشاء ، لا تختلج له عضلة لا تتحرّك له شعرة وهو يبقر بطون الحوامل ؟
    كيف لا يكون التاريخ دورانا في نفس الحلقة المفرغة ومن يصنعه ذات بمثل هذه العنف، بمثل هذه الأنانية ، بمثل هذه القدرة على الإجرام ؟
    تتدافع من سحيق المستقبل صور لوجوه قاسية وعيون باردة لألف طاغية ومجرم وسفّاح سيواصلون الجريمة بالجملة وبالتفصيل إلى ما لا نهاية.
    يرسم "هذا الشيء" على ملامحه ربع ابتسامة فيها من الحزن أعمقه. ماذا عن بطولاتي وأنا أواجه عالما بأسره ؟ أين ملفات ملاحمي وأنا أبني وأشيّد وأخلق ؟ أين كل الأحداث التي تشهد بشجاعتي، بصمودي، بعبقريتي ، بالحب الذي وزعته على كل الكائنات ؟...آه ميزان الدفوعات ليس لصالحي ولا فائدة للنعامة أن تضع رأسها في الرمل، فالذوات التي أتت الفظاعات التي دنست هذا العالم هي أيضا نسخة من ذاتي وليس فقط التي قدّسته.
    لنسمّ هذا المستوى من الذات " ذاكرة نحن جميعا ".

    *
    ذاكرة الجذور والجذع
    بداهة قصتك مجرد قصة داخل قصة الجنس البشري بأسره وفصل من فصولها، فهل يمكن أن تكون قصة الآدمية هي أيضا قصة داخل قصة أوسع ممّا قد يعني أن ما نسميه ذاتنا ذات داخل ذات داخل ذات ؟
    تبرز دابّة الحديد من الاتجاه المعاكس للطريق بسرعة مرعبة .وبينما الأنا في حالة ذهول وشلل مسلّما بنهاية الحياة ،وثب "هذا الشيء" من الأعماق كأنه نمر يتمطّى داخلها يترقّب. وفي لحظة فاصلة بين الحياة والموت، شعرت به يملى على العضلات المتشنّجة أوامره لا يخطئ الحساب ولا هي تتوانى عن طاعة، تعرّفت على سيّدها الحقيقي،على سيّد سيّد تعوّدت منه سوء التقدير وفشل التصرّف.
    ها هي لا تخطيء أو ترتبك تتدافع لعمل سريع، فعال، منسّق، ناجع، منفذّة بدقة فائقة تعليمات صادرة من مجهول.تنصاع الآلة التي كنت أقودها جفوني مثقلة بالنوم، كما لو أصبحت هي الأخرى جزءا لا يتجزأ من هذه العضلات. هكذا شعرت بالسيارة تثب في المنعرج القاتل أين يجب الوثب، تستعيد التوازن في المكان الذي لو تجاوزته بشعرة لانقلبت رأسا على عقب وتتوقف بالضبط أين يجب التوقف. ليلتها تراجع الموت كالنسر انقض على شحرور لم يلمسه إلا بجناح.
    وفي ظلمة اللّيل وعلى قارعة الطريق، بعد أن أوقفت الآلة التي كادت أن تكون لي كفنا، استعاد الأنا وعيه...لترتعد الفرائص، لتعمّ الفوضى أين كان الهدوء سائدا.
    يتجدد انتباهي في مثل هذه الحالات لهذا الذي يعمل في صمت لا يبرز إلا في جلائل الأمور. ثم يعود التبلد لا يبدّده إلا حلول ظروف استثنائية أخرى.
    يميد العالم بي وقد أصبح بلا سقف أو قاع، بلا فوق أو تحت. كأنّ الجسم أسلم قياده لعاصفة هوجاء تكونت داخلي ترفعني مرّة إلى عنان السماء وترميني أخرى في أعمق هاوية. ها قد عدت الطفل الذي يركب الأرجوحة يوم العيد ليجرّب لذّة دوار حضر هذه المرة ولا لذة تصحبه. تتراءى لي معطيات الكابوس الذي ينتظرني والذي شاهدت كم من مرضاي يتخبطون فيه: العجز والقهر والألم والروائح الكريهة تنبعث من جسد فقد التحكم في سوائله وعلب الأدوية على طاولة غرفة النوم والابتسامة الصفراء للممرضة المكلفة بالحقن وبنظافتي وتصنع الطبيب الشاب اكتشاف تحسن لا يشعر به إلا هو.
    إن كان لا بدّ من الموت فلا أريد هذا الطريق إليه .ليكن وقوفا في معركة وإن استعصت رصاصة العدو فسمّ رحيم يقي من كل هذه المهانة. هيهات فلا مجال للانتصاب والعاصفة الهوجاء داخلي ترميني كل مرة على الفراش .
    تأتيني أوامر "هذا الشيء" بالكفّ عن الصبيانيات. أشعر به يعيد ترتيب البيت دون أن أفهم كيف يتصرّف. لست من الآن فصاعدا غير مجرّد مشاهد يتابع قوى جبّارة تتصارع داخله منتظرا حسمها. ترفقي بي أيتها الإرادة الجبارة الصامتة.
    الثابت أن هذا مركز التحكّم وكل ما يجري على السطح ،ومنه وهم الحرية ، ظلال لما يجري " هنا". اللعنة !غريب حتى داخل ذاتي ؟
    شيئا فشيئا ودون تدخل طب كنت أعرف حدوده في مثل هذه الأمراض، أتى اليوم الذي استطعت أن أقف فيه مجددا على قدمي، أن أمشي وحدي إلى باب الغرفة مترنّحا،لأتعلّم المشي كأنني رضيع يضع أولى خطاه على الطريق . كل هذا لأن
    ''هذا الشيء'' شخّص أين يجب التشخيص، عالج أين يجب العلاج مصلحا ما أفسده عطب غبي طارئ.
    فكرة جدّ مطمئنة لولا أن لها نقيض. من أدرى منّي كم بوسعه أن يرتبك، أن يتلعثم وأنه رغم سعة قدرته ليس على كل شيء قدير. حقيقة رهيبة تعي بها باكرا.
    يتفجّر من أنف الأخ الصغير شلاّل من سائل أحمر لزج ساخن كريه الرّائحة يخرج الأمّ من صوابها وهو يرفض الكفّ عن السيلان. تلك الليلة جاءنا رجل أجنبي على عجل، والحال أنه لم يكن مسموحا لأيّ غريب أن يدخل بيتنا في غياب سيّده.
    قالت "ما" تبرّر دخوله علينا في الظلام أنّها هي التي طلبت من الجارة أن تهتف له أن اسمه دكتور وأنه وحده القادر على إيقاف السائل الأحمر من التدفّق خارج طفلها وإلا رحل كما فعل قبله ابن الخال.
    ممّا بقي محفورا في الذاكرة أنها كانت تتكلّم معه باحترام شديد ، أنها كانت تأتمر بكل ما يقول، أنّ الغريب عبس وقطّب الجبين وهي تعطيه ما حسبته كثيرا من المال، أنّها اعتذرت بفقرها ، أنّني كرهت الرّجل لما أحدثه في ''ما'' من حرج،وأنّني قرّرت تلك اللّحظة أن أعرف كيف أوقف تدفّق الشيء الأحمر لأكون رجلا يدخل كلّ البيوت ليلا، يعامل بأقصى التبجيل ولا يأخذ متأفّفا مصروف الأطفال .
    كان السؤال الذي حوّل مجرى حياتي ليلتها: لماذا لم يتوقّف السائل الأحمر عن التدفّق من أخي إلاّ بعد مجيء الغريب ،والحال أنّه خرج منّي أكثر من مرّة ثمّ توقّف دون حاجة لأحد أو أن آمره بذلك ؟
    ولمّا بدأ الأستاذ بعد أكثر من عقد درسه عن السائل الأحمر وكيف يتدفّق ولماذا لا يتخثّر في الأوعية، وكيف يرتبك العالم المجهول أحيانا فلا يكفّ عن السيلان مما ينذر بكثير من الويلات، أصخت السمع كما لم أفعل يوما ولا أظن أن أحدا من الطلاب حواليّ انتبه للموضوع كما كنت له منتبها. المشكلة أنك عندما تضع أولى خطواتك في هذه المجاهل أو تتوغل فيها شيئا ما، تواجه بدوار من غير نوع الذي أصبت به نتيجة التهاب عابر.في الأذن الداخلية.
    كم ردّدت لنفسي وأنا ساهر للصبح أراجع ما تعلمت عن أعلم الأساتذة وأجهلهم تركيب الجسم ووظائفه : يا إلهي هل من نهاية للتعقيد المذهل لهذه "الآلة "!
    تكتشف دوما أن القوة المجهولة أكثر عبقرية وإعجازا مما تخيلت في أجمل نوبات الخيال...أن قوام هذا العلم الخارق حوار صامت بين أسئلة لا تتوقف إلى آخر نفس، وأجوبة سديدة : أين أضع القدم، كيف أحرّكها ، كيف أنسّق بين ألف عضلة لأتفادى هذه العقبة أو تلك، كيف أصلح هذا العطب وابرأ من ذلك الجرح، كيف أنمي وأتعهد وأحفظ مكوّناتي من كل الأخطار؟ وقبلها سؤال الأسئلة : كيف أبني هذه الواسطة التي تسميها اللغة الجسد ؟
    يفرض علينا المنطق القول بأنّ الذات لم تعرف طريقها إلى الوجود كما هي عليه إلاّ لأنها تعلّمت عبر العصور كيف تضع الخطوة وراء الخطوة و ما الذي يجب أن تفعل وما الذي يجب ألا تفعل في الخطوة الموالية . كأنّي بأيادي خفية عليمة بكلّ التفاصيل وكل السياق والنسق تتراقص لتصنع هذه البداية المبهمة. كأنّي بمهندس مسؤول ألقى على نفسه كل الأسئلة واكتشف كل الأجوبة: اصنعوا، قيسوا ،شذبوا، لا تغفلوا عن مراجعة تلك الأسس،.انتهت مأمورية الفرقة الأولى،أطلقوا تلك القوى من عقالها، شيء من المراجعة في ذلك الشّكل، قفوا هنا، واصلوا هناك ، الآن جدّدوا، آخر اللمسات في ذلك الاتجاه ...كل هذا لتتحدد الخصائص والطباع ويرسم طيف الممكن من الأفعال والتفاعلات للكائن الذي سنصبح كلنا نسخا منه ،أو قل ممثليه الشرعيين.
    لا أخطر من خطأ الأيادي الماهرة في عزف نوطة يتيمة أو كتابة حرف واحد، فما بالك إن نسيت أو أخطأت قراءة جزء كامل من وصفة الصنع. يا للعجب أن تكون أنت المبتدئ الذي لا يعرف نوطة موسيقيّة واحدة قائد مثل هذا الاوركسترا الماهر ومؤلف كل هذه الموسيقى الرائعة ! يا للعجب أن تكون أنت الأمّي، بمثل هذه الخبرة في تنظيم القوافي ووضع كل قواعد الشعر !
    كم حلمت أن" هذا الشيء" فتح لي خزائنه، أنني وجدت طريقة ما لأقنعه أو لأجبره على صبّ كلّ ما تعلّمه في وعيي، أن الخيط الذي انقطع يوما بين العمق والسطح أعيد ربطه . كم من مرة نفذ صبري لا أتحمل أن أكون الحمار يحمل أسفاره، فأعود للصراخ العقيم ولمشاكسته أضحك مني ومنه: سيادتك تعرف كل أسرار هذا الجسم اللعين وآخذ الصفر الرنان في فرض الفيزولوجيا. سيادتك تملك كل الخرائط عنه وأنا أبلي العينين في حفظ دروس علم الأعضاء، وبالكاد أحصل على المعدّل ولو كنت ابن حلال، لهمست لي بكل الأسرار فأصبح عبقريّ كل العصور.
    يا للقهر أن أضّيع إلى اليوم ثمين الوقت في الجري وراء العلم الناقص والكامل منه داخلي ! كم أتكلّف من جهد ومن عنت وهو فيّ ،ملتحم بي لكن وراء خزائن محكمة الإغلاق!
    يا لغرابة الوضعية والمرء كالجالس على كلّ كنوز قارون، يقضّي عمره في البحث عن المفتاح والمفتاح في جيبه !
    إن في صدري يا بحرُ لأسراراً عجابا (إيليا أبو ماضي)
    نزل السِّتر عليها وأنا كُنت الحِجابا
    يا للوضع الغريب والبشر منذ وجدوا يشغّلون أدمغتهم على أقصاها، جيلا بعد جيل يكدّسون جبالا من المعطيات لفهم... كيف يشتغل الدماغ وما الفكر الذي به يفكرون!
    كيف أكون في العمق بمثل هذا العلم وفي السطح بمثل هذا الجهل المشين؟
    ما لا ننتبه له أن نبض العالم نفسه حوار مسترسل بين مكونات تلقي أسئلة صامتة وأخرى تعطي الأجوبة لا تنبس ببنت شفة . يخيّل لي أنني أسمع أحيانا بعضها وهي تتصاعد من الأشجار، من الكائنات، من الشمس ، من القمر، من النجوم وحتى مما تسميه اللغة الكون . تأتي الإجابات يحف بها نفس الصمت المهيب ،فتنجح الزهرة لونها والنحلة طيرها والحبلى حملها والمجرّة ولادة ألف نجم وكم من كوكب حامل لمعجزة الحياة .الشيء الثابت أن الردود الناجحة لا تكون إلا بالأسئلة الصائبة وهذه وتلك لا تكون إلا بذاكرة رهيبة حفظت كل التجارب.فلولاها لسادت في صنع الآدميين وبقية الكائنات فوضى مبتدئين أزليين.
    وهذه ذاكرة لا تحتفظ بملفّات الشخص ولا بملفّات جنس من الكائنات وإنما بملفّات أغرب وأوسع واشمل ...إنها ذاكرة تحفظ كيف يوقف النزيف وكيف تصنع العين وكيف يشغّل ذهن كائن آدمي وكيف ينجح العصفور أول تحليق والنحلة أشهى عسل والزهرة أفوح عبير.
    لنسمّ هذا الطابق من ذاكرة الذات " ذاكرة هو لا غير".
    بداهة هذه الذاكرة العظمى هي ذاكرة ما تسميه اللغة الحياة. قد توجد تحتها طبقة أعمق ربما هي ذاكرة رحم كل الأشكال ومقبرتها التي سميناها العتمة، لكن لا يمكن لخيال تخيلها أو لعقل تصورها .
    المهمّ أن ذاكرتها متواجدة في كل ذات وأنها الطبقة الأعمق للذاكرة التي نحمل.
    لأننا الحياة وليس فقط حي ّبعينه كما علمتنا الرؤى غير المتقنة .
    قلما ننتبه أن كل واحد منا يحمل في جسده كامل مقوماتها وأنها لم تبخل على أحد ، بملفات ما أو لم تحابي واحدا على آخر بمده بأخرى تجعله كائنا مختلفا. فكل الفوارق لا تتعلق بغياب أو إضافة وإنما بطريقة تصريف الملفات وداخل أضيق الحدود .
    الذات إذن مستويات مترابطة لكنها مستقلة ويجب أن تبقى كذلك.
    على مستوى السطح ذاكرة " الأنا دون سواه"... ذاكرة الذات بما هي مجمل خصائص وحالات وتجارب فرد متميّز بظروف الوصول والسفر والرحيل.
    صحيح أننا لا نعي إلا بها،أن وعينا يتناقص بصفة سريعة عندما نتوغل في الطبقات الأخرى. هل يتوقف عمق البحر لأن النور لا يخترق إلا بضعة مئات من الأمتار بدءا من السطح ؟
    وتحت هذا السطح طبقة " نحن جميعا"...ذاكرة الذات وهي حصيلة تاريخ الجنس البشري بأسره وجملة الثوابت التي تشكل قصة كل أنا سطحي تنويع طريف على نغم قار.
    ثم الأعماق:"ذاكرة هو لا غير"، ذاكرة الحياة بزخمها... معقل "هذا الشيء" !
    "لمّا رميت جانبا هذا الشيء البالغ الصغر(سوزوكي)
    الذي أسميه الأنا
    أصبحت كل العالم الشاسع"
    ها قد تشكلت لنا أخيرا مقاربة للذات عبر صور يأتينا تأملها بالانبهار والدوار.
    صورة جبل جليد ،الجزء الظاهر منه ذاكرة "الأنا دون سواه"، والجزء المخفي "ذاكرة نحن جميعا" وأعمق أعماقها ذاكرة "هو لا غير"...صورة الشجرة ،والذات فيها هي الورقة والغصن والجذع و أيضا كل الجذور...صورة بئر سحيقة الأغوار، والأنا البالغ الصغر طبقتها السطحية...صورة السمكة التي تسبح في عمق المحيط ، وأمواج نفس المحيط تتلاطم في جوف السمكة التي تمخر عبابه...صورة آلة موسيقية هي الموسيقار والمقطوعة الموسيقية المتواصلة التأليف... أمّا الوتر-اليد-الإلهام، فلا تصوّر له إلا وكان الفراغ وصمت مقدّس يتلعثم في حضرته كلّ سائل وينكفئ مرتبكا على قصوره كلّ سؤال.

    ****
    الموضوع: الغريب بقسم

    موقع روضة الكتب
    http://www.roudabooks.com/
    منتديات روضة الكتب
    http://raudabooks.com/vb/