عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية gogo
gogo
:: منتسب جديد ::
تاريخ التسجيل: Oct 2019
رقم العضوية : 184
المشاركات: 170
:
:
:  - :
قديم 10-22-2019, 10:32 AM
# : 1
gogo
  • معدل تقييم المستوى : 10
  • الإعجاب:
    افتراضي شرح زاد المستقنع - جزء ثامن
    http://www.shamela.ws
    تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



    الكتاب: شرح زاد المستقنع
    المؤلف: أحمد بن محمد بن حسن بن إبراهيم الخليل
    عدد الأجزاء: 6
    [الكتاب مرقم آليا]
    لما ذكر المؤلف الحكم العام شرف في المستثنيات:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وإن رد ... جاز.
    يعني: إذا خطب فردوه: جاز للثاني أن يخطب.
    - لأنه بالرد سقط حقه من تحريم خطبة غيره عليه. وإذا سقط حقه جاز لغيره أن يخطب.
    وهذا لا إشكال فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أو أذن.
    إذا أذن جاز.
    - لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن خطبة الرجل على خطبة أخيه حتى يدع أو يأذن.
    فإذا أذن جاز بالإجماع لأن النص صريح فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أو جهلت الحال: جاز.
    إذا لم يعلم الخاطب الثاني هل ردوا الخاطب الأول أو لم يردوه جاز للخاطب الثاني أن يخطب.
    للماذا؟
    - قالوا: لأنه إذا لم يعلم هل أجيب أو لم يجب فإن الأصل عدم الإجابة.
    وهذه المسألة عند الحنابلة مبنية على مسألة أخرى هي أهم من هذه المألة وهي:
    * * هل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه خاص بما إذا أجيب أو عام يشمل ما إذا أجيب وإذا لم يجب؟
    الجواب: أن هذه المسألة فيها خلاف:
    = ذهب الجماهير من أئمة المسلمين والفقهاء إلى أن هذا الحديث مخصوص بما إذا أجيب فإذا لم يجب جاز لغيره أن يخطب.
    بل حكي الإجماع. حكى الإجماع غير واحد على أنه يجوز أن يخطب إذا لم يجب.
    = والقول الثاني: وهو فقط قول للشافعية. أنه يحرم مطلقاً.
    واستدلوا: بعموم الحديث. لأن الحديث: يقول: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه. وليس فيه قبل أو بعد.
    أما دليل أصحاب القول الثاني وهو قول للشافعية فواضح وهو عموم الحديث ولم يفرق بين أن يجيبوه وأن لا يجيبوه.
    نبقى في دليل القول [الأول] الذي حكي إجماعاً وذهب إليه علمة السلف.
    دليلهم: استدلوا على هذا بأدلة:
    - الدليل الأول: ما تقدم معنا: أن فاطمة - رضي الله عنها - خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خطبها معاوية ثم [أبو جميل] ثم أسامة فهؤلاء خطبوها جميعاً.
    وهذا دليل على أنه ما لم تجي المخطوبة يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه.
    وأجاب القائلون بالوجوب أنه ربما أنهم لم يعلموا بخطبة بعضهم من بعض وربما أنهم علموا بأن فاطمة ردت ومن وجهة نظري أن هذه الأجوبة فيها تكلف.
    (5/73)
    ________________________________________
    - الدليل الثاني: أن هذا الأمر معروف عند السلف وهو أنه ما لم يوجب يجوز للآخر أن يخطب. وقد ذكر ابن عبد البر قصة طريفة وهي دليل لهذه المسألة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهي: أن امرأة من الأنصار خطبها جرير - رضي الله عنه - ثم خطبها مروان بن الحكم ثم خطبها عبد الله بن عمر فجاء عمر بن الخطاب ودخل عليها في بيتها وقال: اسمعي خطبك جرير وهو سيد أهل المشرق. وخطبك مروان وهو سيد شباب مكة وخطبك عبد الله بن عمر وهو من عرفت - رضي الله عنه لم يثن عليه لأنه ابنه - ثم قال: وهذا عمر بن الخطاب يخطب. فالمرأة فرحت فهتكت الستر وقالت: أجاد أنت يا أمير المؤمنين. قال: نعم. قالت: رضيت بأمير المؤمنين. وإذا قرأت القصة تلاحظ أن المرأة فرجت بأمير المؤمنين وحق لها.
    هذه القصة صريحة أن أربعة خطبوا امرأة واحدة وأن عمر كان يعلم أن هذه المرأة خطبت من ثلاثة فهذا يقطع الإجابات التي ذكرها بعض الذين يرون العموم وهي قوله لعلهم لم يعرفوا.
    والراجح إن شاء الله مذهب الجماهير وهو أن التحريم والمنع يتعلق بما إذا أجيب فقط.
    والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

    ((انتهى الدرس)).
    (5/74)
    ________________________________________
    الدرس: (2) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    كان الحديث في آخر درس حول خطبة المسلم على خطبة أخيه. وتحدثت عما يتعلق بهذه المسألة من أحكام وأدلة وباقي علينا مسألتان:
    * * المسألة الأولى/ مما يتعلق بخطبة المسلم على خطبة أخيه - هل النهي يختص بالمسلم؟ أي: لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه المسلم أو يشمل غير المسلمين؟
    = ذهب الحنابلة وهو منصوص الإمام أحمد إلى أنه يختص بالمسلم.
    - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ذلك فقال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). والأخوة في الدين تقتضي المساواة يعني في الدين فلا يخطب على أخيه يعني: المسلم.
    واستدلوا على ذلك أيضاً:
    (5/75)
    ________________________________________
    - بأن للأخوة في الدين من الحقوق التي تراعى ما ليس لغيرها من الصلات الأخرى. فصلة الأخوة في الدين قوية ولها واجبات من كل مسلم تجاه الآخر.
    = والقول الآخر: أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة الغير سواء كان من المسلمين أو من غير المسلمين.
    وأجابوا عن الحديث: بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (على خطبة أخيه) خرج مخرج الغالب وليست صفة مقيدة.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن النهي في هذه المسائل لحق العقد لا لحق العاقد فلا ننظر للعاقد ودينه.
    - ثم إن عقد الذمة كفل للذميين حقوقاً كثيرة مالية وغير ماليه ومنها هذا الحق.
    - وأيضاً الاعتداء على الغير ممنوع سواء كان هذا الغير من المسلمين أو من غيرهم.
    وهذه المسألة محل إشكال وتردد والذي يظهر لي ويغلب على نظري أن الراجح مذهب الحنابلة وممن اختار هذا القول من المحققين الشيخ الفقيه الخطابي وأيضاً الشيخ ابن المنذر وغيرهم كلهم رأى رجحان هذا القول.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن هذا القيد ليس قيداً أغلبياً وإنما قيداً مقصوداً لأن الأخوة في الدين معنىً خاص مقصود فإلغاؤه من الحديث واعتباره قيداً غالباً ليس بمتوجه ولا ظاهر بل الأقرب أنه مقصود.
    - والأصل في الصفات المذكورة في الأحاديث أنها مقصودة.
    - ثم اعتبار هذا اعتداءً هو باعتبار المعتدى عليه فإذا كان مسلم فخطبة الإنسان على خطبة أخيه نوع من الاعتداء لكن إذا لم يكن من المسلمين فإن الشارع لم يثبت له هذا الحق فلك أن تخطب على خطبته وولي المرأة له أن يختار بين الخاطبين حسب مصلحة موليته.
    على كل حال يظهر لي إن شاء الله أن الراجح مذهب الحنابلة وإن كانت المسألة فيها نوع إشكال والخلاف فيها قوي.
    * * المسألة الثانية/
    ذكرت أنه لا يجوز للإنسان أن يخطب على خطبة أخيه وبقينا في مسألة أخرى وهي:
    إذا خطب على خطبة أخيه فهو مخالف وآثم ولكن بقي النظر في العقد الذي تم على هذه الخطبة الممنوعة ليكون صحيحاً أو باطلاً.
    في هذه المسألة أيضاً بين أهل العلم:
    = فالجماهير من أهل العلم ذهبوا إلى أن العقد صحيح والخاطب على خطبة أخيه ظالم وآثم إلا أن العقد صحيح.
    - لأن النهي لا ينصرف إلى ذات العقد وإنما إلى أمر خارج عن العقد وهي الخطبة السابقة للعقد.
    (5/76)
    ________________________________________
    - ثم إن هذا العقد - وهذا هو الدليل الثاني لهم - هذا العقد عقد مستوف لشروطه وأركانه ولا يوجد مبرر لإبطاله.
    = القول الثاني: وهو مذهب المالكية. أن العقد المبني على الخطبة الثانية الممنوعة عقد فاسد.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن النهي في الشرع يقتضي الفساد. وهذه الخطبة منهي عنها ومزجور عنها وما يترتب عليها فهو فاسد لأنه مترتب على منهي عنه.
    = القول الثالث: أن العقد صحيح ولكن يتوقف على رضا الخاطب الأول.
    - لأن الخطبة على خطبة أخيه اعتداء على حق الخاطب الأول.
    فإذا تزوج نقول للخاطب الأول إن أمضيت النكاح أمضيناه وإن رددت النكاح رددناه ثم إذا رد الخاطب الثاني النكاح فإنه لا يلزم من هذا أن تتزوج به بل إذا رد الخاطب الأول نكاح الخاطب الثاني المعتدي صارت المرأة بعد ذلك حرة إن شاءت قبلت بالخاطب الأول وإن شاءت قبلت بالخاطب الثاني وإن شاءت قبلت بغيرهما.
    وليس كما يتبادر إلى الذهن أنه إذا رد الخاطب الأول النكاح فهو أحق بها هذا غير مراد.
    وهذا القول الثالث هو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وعند الشيخ قاعدة وهي: (أن أي نهي كان سببه حق الآدمي في النكاح والبيوع وفي أي معاملة فيها عقد فإنه يصحح العقد ويثبت الخيار للطرف المعتدى عليه). دائماً وأبداً. وأما في النواهي التي يكون فيها النهي لحق الله فهو - أي: العقد - يكون فاسداً)
    هذه قاعدة الشيخ - رحمه الله - قاعدة مضطردة في كل المسائل التي فيها نهي لم تنخرم قاعدة الشيخ في هذه المسألة.
    في بعض كلام شيخ الإسلام ما يدل على أنه يرجح قول المالكية مطلقاً وهذا ليس بمراد فإما أن يكون الشيخ له في المسألة قولان أو يكون جوابه في بعض المرات الذي يقول فيه: والراجح القول الثاني. ويطلق. يعني: لم يفصل.
    والصحيح أن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ولا أدل على هذا من أنه صدر هذا القول بكلمة: والتحقيق: أنه يقال: يثبت لحق ... إلى آخره فجعل هذا هو القول الذي فيه تحقيق فلا ينظر للأقوال الأخرى التي فيها إطلاق ترجيح قول المالكية.
    نرجع الآن إلى المتن بعد أن أنهينا المسائل المتعلقة بخطبة المسلم على خطبة أخيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ويسن: العقد يوم الجمعة مساء.
    (5/77)
    ________________________________________
    يسن أن يعقد الإنسان في هذا اليوم وهو يوم الجمعة.
    ويسن أيضاً أن يكون العقد في مساء يوم الجمعة.
    واستدلوا على هذا بدليلين:
    - الأول: أن استحباب ذلك مروي عن التابعين ولا أذكر أنه مر عليَّ أنه عن أحد من الصحابة لكن عن التابعين مروي عن عدد منهم.
    - الثاني: قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت في الجمعة ساعة إجابة وهي عند كثير من الفقهاء آخر ساعة في الجمعة ولذا يستحبون أن يكون العقد في آخر ساعة من الجمعة لكي يوافق هذه الساعة فإذا دعي للمتزوج وافق ساعة إجابة فأجيب ووفق في هذا الزواج. إذاً استدلوا بدليلين.
    وأضاف الشيخ منصور في الروض: أنه أيضاً يستحب أن يكون في المسجد فيكون يوم الجمعة وفي المسجد.
    وفي الحقيقة ليس في النصوص الشرعية ما يدل على استحباب عقد النكاح لا في يوم الجمعة ولا في المسجد مع الاعتراف والإقرار بأن يوم الجمعة يوم فاضل وأن المسجد من البقع الفاضلة إلا أن النكاح فيه شائبة العبادة كما سيأتينا والعبادات توقيفية وما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعقدون الأنكحة لأنفسهم ولغيرهم ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يعقدون ذلك لا في يوم الجمعة ولا في المساجد.
    ولا في المساجد. فالأقرب أن الإنسان يعقد النكاح في الزمان والمكان الذي يناسب وضعه الاجتماعي أو ظروفه ولا ينظر إلى قضية إيقاع العقد في يوم الجمعة أو في المسجد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    بخطبة ابن مسعود.
    يستحب الحنابلة أن يخطب الإنسان بخطبة ابن مسعود - رضي الله عنه -.
    وفي هذه الخطبة مسائل:
    * * المسألة الأولى/ أن عقد النكاح بخطبة ابن مسعود: سنة.
    ـ فإن شاء عقد العقد بها.
    ـ وإن شاء بدونها.
    ـ وإن شاء استبدلها. فإن قال: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله: صح وأجزأ.
    إذاً: استعمال هذه الخطبة سنة وبإمكانه أن يبدل هذه الخطبة باستفتاح آخر.
    * * المسألة الثانية/
    = ذهب الحنابلة إلى أن العاقد يستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إلى آخره ... ولا يذكر الثلاث آيات وإنما يقتصر على الحديث.
    = والقول الثاني: أنه يذكر خطبة ابن مسعود مع الآيات الثلاث.
    (5/78)
    ________________________________________
    وهذا القول هو الصحيح لان الحديث فيه الثلاث آيات ولا معنى للاقتصار على أول الحديث دون آخره.
    فمذهب الحنابلة ضعيف وعلى الإنسان أن يأتي بالخطبة كاملة.
    بهذا انتهى الفصل الأول من كتاب النكاح وننتقل للفصل الثاني.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فصل وأركانه.
    بدأ المؤلف الكلام عن أركان النكاح، وبدأ به لأهميته.
    والأركان التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - ثلاثة.
    وركن الشيء هو جزء ماهيته. يعني: ما يتركب منه الشيء.
    فهذا هو الجزء اصطلاحاً.
    سواء في المسائل الشرعية أو في غيرها. ركن الشيء لابد أن يكون من جزء ماهيته.
    بدأ - رحمه الله - بالركن الأول:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    الزوجان الخاليان من الموانع.
    الركن الأول: الزوجان الخاليان من الموانع.
    والمقصود بالموانع ما سيذكره من المحرمات في باب المحرمات من النساء. فهذه هي الموانع.
    وقد يكون من الموانع: اختلال بعض شروط صحة النكاح في أحد الزوجين. سيأتينا.
    وهذا الركن ذكره الشيخ موسى هنا وذكره في كتابه الإقناع وغيره لم يذكر هذا الشرط.
    فالشيخ الموفق في المقنع وأيضاً صاحب المنتهى كلهم لم يذكروا هذا الشرط.
    وفسَّر الشيخ منصور عدم ذكرهم لهذا الشرط لأنه أمر ظاهر لا حاجة لذكره.
    ومعنى هذا: أنهم لم يذكروه لوضوحه لا لأنهم لا يرونه ركناً.
    فإذاً على هذا التقرير يكون ركناًَ عند الحنابلة كلهم.
    وهو ركن: بالإجماع.
    - لأنه لا يمكن أن يكون عقد الزواج صحيحاً ولا تاماً إلا بوجود الزوجين.
    وهذا كما قال الشيخ منصور: بدهي.
    الركن الثاني:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    الإيجاب.
    والركن الثالث:
    القبول.
    الإيجاب والقبول هما الركن الثاني والثالث وقد يعبر عنهما بالصيغة.
    والإيجاب والقبول: ركن. بالإجماع بلا مخالف.
    والإيجاب: هو اللفظ الصادر من الولي أو من نائبه الدال على إلزام نفسه في حال رضا القابل.
    وأما القبول: فهو اللفظ الصادر من الزوج الدال على رضاه بالمعقود عليه.
    وهذان الإيجاب والقبول من أهم أركان النكاح لأنه في الحقيقة هما العقد كما سيأتينا إنما يتم العقد بالإيجاب والقبول ولهذا كما قلت صار محل إجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/79)
    ________________________________________
    ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ: زوجت أو أنكحت وقبلت هذا النكاح أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت.
    أفادنا المؤلف - رحمه الله - بهذه العبارة مسألتين:
    * * الأولى/ أن عقد النكاح لا يصح إلا باللغة العربية ممن يحسنها.
    * * الثانية/ أنه باللغة العربية وأيضاً لا يتم إلا باستخدام لفظين فقط: (أنكحت) و (زوجت).
    إذاً: لابد أن يكون بالعربية ولابد أن لا يستخدم فيه إلا أحد هذين اللفظين.
    فإن استخدم لفظاً ثالثاً فالعقد باطل.
    - لأنه اختل ركن الصيغة فاختل تبعاً له العقد برمته.
    وهذه المسألة وهي تحديد لفظ أنكحت وزوجت محل خلاف بين الفقهاء:
    = فذهب الحنابلة والشافعية إلى أن النكاح لا يصح إلا بأحد هذين اللفظين.
    واستدلوا على هذا بأدلة:
    - الدليل الأول: أنه ليس في القرآن إلا استخدام أحد هذين اللفظين في عقد النكاح ولم يستخدم القرآن أي لفظ آخر.
    وتتمت الاستدلال: أنه إذا مان القرآن لم يذكر إلا أحد هذين اللفظين والنكاح من الأمور التعبدية والدال على أنه من الأمور التعبدية أنه يدور بين الاستحباب والوجوب فإذا ثبتت أنه تعبدي والقرآن لم يستخدم إلا اللفظين صار لا يجوز أن يعقد إلا بهما.
    هذا هو عمدة الشافعية والحنابلة.
    - الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (استحللتم فروجهن بكلمة الله). وكلمة الله هي فقط ما جاء في القرآن من استخدام لفظ النكاح والتزويج.
    = القول الثاني: أنه لا يجوز استخدام أي لفظ في النكاح إلا ثلاثة: (زوجت) و (أنكحت) و (ملكت).
    وهذا مذهب ابن حزم.
    وفي المحلى يقول: لا يجوز إلا بزوجت وأنكحت وملكت. ثم قال كلمة: وبالإمكان.
    ولك يظهر لي مطلقاً ما معنى هذه الكلمة.
    ولما أراد ابن حزم يستدل لكل لفظة استدل لكل لفظة بدليل ولم يتطرق لكلمة بالإمكان فلعلها خطأ من المحقق أو قرأت خطأ عند قراءة المخطوط. المهم لم يظهر لي في الحقيقة لها معنى بعد قراءة كلام ابن حزم.
    (5/80)
    ________________________________________
    واستدل ابن حزم بتخصيص الألفاظ الثلاثة بما استدل به الحنابلة والشافعية في لفظيه: (أنكحت). و (زوجت). وأما التمليك: فاستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي رغب في الزواج من المرأة التي عرضت نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زوجه بقوله: (ملكتكها بما معك من القرآن). فاستخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ: التمليك.
    وابن حزم كما هو معلوم رجل ظاهري يجمد على النصوص فلما لم يجد إلا هذه الثلاثة ألفاظ وقف عندها.
    = القول الثالث: أن النكاح يتم بأي لفظ يدل على المقصود وهو مذهب الأحناف والمالكية ونصره شيخ الإسلام بن تيمية بأدلة كثيرة وأطال في تقريره.
    واستدل هؤلاء:
    - بأن القاعدة المتفق عليها في الشرع أن العبرة بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
    وإذا علمنا أن قصده أن ينكح هذه المرأة أخذنا بهذا القصد.
    - الدليل الثاني: أن المقصود من الإيجاب والقبول معرفة رضا كل من الزوجين بالآخر: الزوج بنفسه والزوجة عن طريق الولي. ومعرفة الرضا يحصل بهذين اللفظين وبغيرهما.
    - الدليل الثالث: أنه ليس في النصوص ما يدل على اشتراط استخدام اللفظين وإنما غاية ما في النصوص استخدام اللفظين. والنصوص ليس فيها نفي المشروعية عن غير هذين اللفظين.
    والراجح إن شاء الله المذهب الثالث وأدلتهم قوية وإن كنت لا أرى أي مبرر عند عقد النكاح للعدول عن لفظت: (أنكحت) أو (زوجت). لأنه ما دام استخدام غيرهما محل خلاف والقائلون بأن العقد لا يتم إلا بهما من الأئمة الكبار: الشافعي والإمام أحمد فلا مبرر للعدول عنهما لا من الولي ولا منى مأذون الأنكحة ولا من غيره لكن لو استخدم غيرهما فالعقد إن شاء الله صحيح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ومن جهلهما: لم يلزمه تعلمهما.
    إذا جهل اللغة العربية أو جهل استخدام أو لا يحسن استخدام هذين اللفظين من اللغة العربية فإنه لم يلزمه أن يتعلمهما.
    لأمرين:
    - الأمر الأول: أن النكاح على الصحيح سنة وكل ما هو سنة من الشرع فإنه لا يجب على الإنسان أن يتعلم أركانه.
    (5/81)
    ________________________________________
    - الدليل الثاني: أن القاعدة الشرعية تقول: (أنه لا وجوب مع العجز) وهذا يعجز عن أن ينطق هذين اللفظين باللغة العربية فينطقهما بلغته ولا حرج عليه.
    وهذا صحيح: أنه لا يلزمه أن يتعلمهما، ولما بين أنه لا يلزمه أن يتعلمهما أراد أن يبين ماذا يصنع؟
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وكفاه معناهما الخاص بكل لسان.
    يريد المؤلف - رحمه الله - تقرير معنى معين وهو أن اللفظ الذي يريد أن يستخدمه الأعجمي الذي لا يعرف العربية يجب أن يشتمل على معنى اللفظين في العربية يعني: الإنكاح والتزويج.
    فليس له أن يستخدم أي لفظ بل عليه أن يستخدم لفظاً يحمل معنى التزويج والإنكاح ولهذا المؤلف - رحمه الله - نص على قوله: (وكفاه معناهما الخاص بكل لسان) وإلا فإنه من المعلوم أنه إذا أعفيناه عن النطق بأنكحت وزوجت له أن ينكح بما شاء لكنه أراد أن يبين أنه لا ينكح إلا باللفظ الذي يشتمل على معنى هذين اللفظين.
    * * مسألة/ مهمة: إن عقد النكاح بغير العربية مع قدرته على العربية: هذه المسألة محل خلاف. مع اتفاق الجميع أنه أساء وأنه ينبغي أن لا يصنع لكن إلى أي درجة ينبغي أن لا يصنع.
    هذا محل خلاف.
    = فالقول الأول: أن العقد صحيح ولو تجنب اللغة العربية قاصداًَ مع معرفته بها واستخدم لغة أخرى.
    وهذا مذهب الأحناف.
    = القول الثاني: أنه إن عقد النكاح بغير العربية مع قدرته على العربية فإن العقد باطل.
    وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم يكاد يكون الجمهور.
    - لأن الخلاف السابق بين المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة إنما هو في استخدام لفظ أنكحت وزوجت أما استخدام اللغة العربية فهو مذهب الجماهير.
    = القول الثالث: أنه عمله مكروه والعقد صحيح. يعني: يصح مع الكراهة.
    وهذا اختيار شيخ الإسلام بن تيمية وإنما رأى أن صحيح:
    - لأن العقد عنده - رحمه الله - ينعقد بكل ما يدل عليه بأي لهجة وبأي لسان وإنما كان مكروهاً لأنه استخدم غير العربية بلا حاجة.
    من هنا نعلم أن شيخ الإسلام يرى أن استخدام غير اللغة العربية لغير حاجة مكروه - أقل أحواله أنه مكروه.
    ثم تزداد الكراهة إذا استخدمه في عقد اهتم به الشارع وهو عقد النكاح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن تقدم القبول: لم يصح.
    (5/82)
    ________________________________________
    يعني: إذا قبل قبل أن يوجب ولي المرأة فهذا القبول لا عبرة به.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن القبول إنما هو إجابة للإيجاب فإذا كان قبل الإيجاب لم يصبح قبولاً شرعاً. ولهذا التغى وصار لا قيمة له.
    = القول الثاني: أنه يصح تقدم القبول إذا كان بلفظ الطلب. فإن كان باللفظ الماضي فإنه لا يصح.
    واستدلوا على هذا: بأن الرجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجنيها. فأتى بلفظ القبول قبل الإيجاب لكن بلفظ الطلب. فزوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في الحديث أنه قبل بعد أن أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - له العقد.
    = والقول الثالث: أنه صحيح مطلقاً. عكس المذهب. وقالوا: أن الإيجاب هو اللفظ الصادر أولاً من الزوج أو من الولي.
    واستدلوا ثانياً: بأن القبول سواء تقدم أو تأخر فهو دال على رضا الزوج بالمعقود عليه وهذا هو المقصود من الصيغة.
    عني: معرفة رضا الزوج ولين المرأة بالعقد.
    وهذا القول الثالث هو الصحيح إن شاء الله فإذا كان الزوج مثلاً - كما يحصل - فرح بالعقد وأثناء الملكة قبل أن يتكلم المأذون قال: قبلت. عند الحنابلة أنه غير صحيح لكن على القول الصحيح أنه صحيح ولو كان المأذون ذو فطنة فإنه ينبغي عليه أن يأمره بالإعادة. لماذا؟
    - هنا تأتي مسألة مهمة جداً: بعض الناس يُسَخِّر الخلاف في حفظ العقود وتحقيق مقصود الشارع.
    وبعض الناس يسخر العقود والخلافات فيها بالتحايل على مقصود الشارع.
    طالب العلم ما دام يعلم أن في مسألة تقدم القبول وتأخره خلاف وكان مثلاً هو مأذون الأنكحة ينبغي أن يسخر هذا العلم في التوصل لتصحيح عقود المسلمين فيقول له: أعد القبول.
    هذا من فطنة المأذون في الحقيقة واو كان يرجح الجواز لأنه لا معنى في المجال العملي ما دام بالإمكان الاحتياط فهو الواجب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وإن تأخر عن الإيجاب: صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه.
    أفادنا المؤلف - رحمه الله - بأن الإيجاب يجب أن يصدر بعد القبول فالموالاة شرط في الإيجاب بعد القبول.
    لكن إذا كان القبول جاء متأخراً عن الإيجاب فإنه يصح عند الحنابلة بشرطين:
    - أن يكون هذا الإيجاب المتأخر في المجلس.
    - وأن لا يتشاغلا عن العقد.
    (5/83)
    ________________________________________
    فإذا تم الشرطان فالقبول صحيح ولو تأخر وهذه هي الفائدة عند الحنابلة. فإذا قال زوجتك ابنتي وجلسوا يتحدثون في شأن العقد لمدة ساعة ثم قال الزوج: قبلت. الآن تشاغلا بغير العقد؟ لا. وإنما تشاغلا بالعقد.
    خرج عن المجلس؟ لا. وإنما بقيا في المجلس.
    فالقبول: صحيح.
    دليل الحنابلة:
    - قالوا: أن حالة المجلس كحالة العقد. يعني: أنهم ما داموا في المجلس فكأنهم في العقد - في حالة انعقاد العقد. بدليل: أن العقود التي يجب فيها القبض يصح فيها القبض في المجلس ولو طال.
    فهذا يدل على أن حكم المجلس حكم العقد.
    = القول الثاني: للشافعية وهو أنه يجب أن يكون القبول بعد الإيجاب فوراً. ضيق مذهب الشافعية في هذه المسألة.
    يجب أن يكون فوراً. سواء بقوا في المجلس أو لم يبقوا تشاغلوا أو لم يتشاغلوا. يجب أن يكون فوراً.
    وفى عن التأخير اليسير فقط.
    وهذا المذهب غاية في الضيق لأنه كثيراً ما يتشاغل ولي المرأة مع الزوج بعد الإيجاب - للكلام حول الشروط أو حول أمور تتعلق بالنكاح فإبطال الإيجاب الصادر أولاً من الولي بسبب هذا الانقطاع لا يتوافق مع قواعد الشرع.
    كما أن المقصود من الإيجاب والقبول متحقق ولو تأخر بعض الشيء.
    إذاً: الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وإن تفرقا قبله: بطل.
    هذا الكلام من المؤلف - رحمه الله - يؤكد أن الموالاة شرط لصحة القبول.
    فإن تفرقا قبل أن يقبل بطل الإيجاب.
    الدليل: أنه بخروجهم عن المجلس أعرضا عن العقد وهذا الإعراض معنى الرد. وهذا الكلام جميل جداً من الحنابلة: أنه بخروجهم أعرضا عن العقد. وهذا صحح.
    وهذا الإعراض هو بمعنى الرد. فإذا كان بمعنى الرد إذاً يعتبر الزوج رد ولم يقبل.
    والمؤلف - رحمه الله - صرح بالتفرق قبله ولم يصرح بمسألة فيما لو لم يتفرقا ولكن تشاغلا فإذا تشاغلا بغيره فكذلك لأن التشاغل بغيره يدل على الإعراض الدال على الرد.
    (5/84)
    ________________________________________
    وهذا صحيح تماماً. فإذا جلسوا لعقد نكاح ثم أوجب ولي المرأة ثم صار الزوج يتكلم مع ولي المرأة حول أسعار الأراضي والسيارات والسلع والمزارع وصاروا يتكلمون عن البلدان. فهل هذا لائق أو هو دليل على إعراضهم عن العقد؟ دليل بلا شك على أنهم أعرضوا إما من قبل الزوج أو من قبل ولي المرأة.
    فإذاً: المؤلف لم ينص على هذه المسألة لأنها مفهومه من القيد السابق.
    انتهى الفصل المتعلق بالأركان وننتقل إلى الشروط.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فصل. وله شروط.
    المؤلف - رحمه الله - ذكر أربعة شروط فقط ولم يوافق الأصل وهو المقنع فإن المقنع ذكر خمسة شروط.
    والشرط الذي اختلفوا فيه هو الكفاءة.
    على أن الشيخ الموفق - رحمه الله - في المقنع ذكر أن الكفاءة على روايتين عن الإمام أحمد لكن ذكره كشرط وحكى الخلاف.
    هنا لم يذكره كشرط إلا أنه في آخر الفصل أشار إلى هذا الشرط إشارة وذكره ليبين موقف الحنابلة من اشتراط الكفاءة كما سيأتينا إلا أنه لم يعتبره من الشروط.
    والشرط هو في الاصطلاح العام الذي لا يختص بالفقه الشرط هو ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم ولا يلزم من وجوده وجود الحكم.
    ولاشك أنكم أخذتم هذا في أصول الفقه عند قراءة نظم الورقات وعرفتم ما هو الشلاط ومحترزات هذا التعريف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أحدها: تعيين الزوجين.
    تعيين الزوجين: شرط.
    أما وجود الزوجين فهو: ركن.
    إذاً: تعيين الزوجين: يعني: تحديد الزوجين شرط من شروط صحة عقد النكاح.
    الدليل على هذا:
    - أنه لا يمكن أن يصح في عقد فيه معقود عليه وعاقد إلا بتحديد العاقد والمعقود عليه.
    هذا أولاً.
    - ثانياً: أن الأغراض المقصودة للشارع من النكاح لا تتحقق إلا مع تعيين الزوجين.
    إذاً: الحكم والأغراض التي أرادها الشارع من النكاح لا تتحقق إلا بتحديد الزوجين.
    بناء على هذا الشرط: إذا خطب الإنسان امرأة معينة وأجابوه ووافقوا عليه ثم لما جاء العقد عقدوا له على أختها فإن العقد هنا باطل والشرط الذي اختل فيه هو تعيين الزوجة. وهذا صحيح والعقد باطل تماماً ولا يترتب عليه أي أثر من آثار عقود النكاح. لأن اشتراط تعيين الزوجة اختل في هذه المسألة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/85)
    ________________________________________
    فإن أشار الولي إلى الزوجة.
    مقصوده: وهي حاضرة فإن هذه الإشارة تجزئ: لأن فيها تعييناً.
    فإذا قال هذه وأشار إليها فهذا تعيين.
    ـ فإن كانت غائبة في البيت وأشار البيت إلى جهة البيت فهذه الإشارة لا قيمة لها فلابد أن تكون الإشارة والمرأة حاضرة.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أو سماها.
    إذا سماها أيضاً هذا تعيين لها باسمها.
    ولكن الحنابلة يقولون يجب أن يقول: فلانة ابنة فلان. فيقول مثلاً: عائشة ابنة عبد الله ابن كذا.
    وعللوا هذا:
    - بأن من تسمى عائشة كثر. وإطلاق اسم عائشة فقط لا يكفي.
    والصحيح: أنه إذا كان الذي يقوم بالعقد هو الأب وليس له إلا ابنة واحدة اسمها عائشة وقال: زوجتك عائشة فإنه لا حاجة لذكر اسمها كاملاً لأنه من المعلوم أن المقصود عائشة يعني: ابنة هذا الذي أوجب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أو وصفها بما تتميز به.
    يعني: أو وصفها بوصف يختص بها ولا يشترك معها أحد فيه.
    كأن يقول: زوجتك ابنتي الكبيرة. هل يمكن ان يشترك مع الكبيرة غيرها؟ لا لا يمكن. لأنه لن يكون له كبيرة إلا ابنة واحدة.
    وأن يقول: زوجتك ابنتي الطويلة. لأنه إذا لم يكن في بناته طويله إلا هي فإنها تتعين.
    فإن قال: زوجتك ابنتي الطويلة وكل بناته هكذا؟ ... وأي شيء اختل؟ المشاركة. أنه يشاركها في الوصف غيرها.
    إذاً: الذي اختل هو المشاركة.
    إذاً: لابد أن يذكر وصف تختص به المرأة ولا يشاركها غيرها.
    فإذا ذكره فهو تعيين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    أو قال: ((زَوَّجْتُكَ بِنْتِي)) وله واحدة لا أكثر: صح.
    إذا قال زوجتك بنتي وليس له إلا واحدة صح.
    حتى قال الحنابلة ولو سماها بغير اسمها.
    لو كانت ابنته الوحدة اسمها فاطمة وقال: زوجتك ابنتي عائشة: صح.
    لماذا؟ لأن الالتباس مأمون هنا. إذ لا يوجد له إلا ابنة واحدة.
    وهذا مبالغة من الحنابلة: لأنه إذا قال زوجتك ابنتي عائشة وابنته اسمها فاطمة دخل اللبس وشك الزوج وشك الشهود ودخل الارتباك على أطراف العقد جميعاً فهذا من الخطأ.
    ولو قيل أنه لا يصح لكان متوجهاً لأنه ربما يكون له ابنة لا تعرف. يشتهر أنه ليس إلا ابنة واحدة وربما كان له ابنة أخرى من زوجة أخرى.
    (5/86)
    ________________________________________
    على كل حال هذه مبالغة في الحقيقة نقول: إذا لم يكن له إلا ابنة واحدة فإما أن يقول زوجتك ابنتي ويسكت أو يقول زوجتك ابنتي ويسميها باسمها الصحيح.
    وبهذا انتهى الفصل الذي يتعلق [بالشروط].
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فصل) الثاني: رضاهما.
    هذا الفصل أيضاً لاستكمال الشروط وأيضاً الفصل الذي يليه والفصل الذي يليه.
    إذاً الفصول المتتابعة القادمة كلها في الشروط.
    يشترط في صحة عقد النكاح: رضا الزوجين.
    وتعليل ذلك:
    - أن الزوجين طرفا العقد ولا يصح العقد إلا برضا أصحابه.
    وهذا الشرط من حيث هو لا خلاف فيه إنما الخلاف في الاستثناءات التي سيذكرها المؤلف - رحمه الله - فيما بعد أما من حيث فلابد من رضا كل من الزوجين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    إلاّ البالغ المعتوه.
    قوله: (إلا). أراد المؤلف - رحمه الله - إلا الأب في تزويج البالغ المعتوه.
    في الحقيقة في المقنع قدم الأب وهو أوضح.
    عبارة الشيخ الموفق أحياناً موفقة.
    فهنا لاحظ أن المؤلف - رحمه الله - يقول: إلا البالغ والمجنون .. ثم قال: فإن الأب ووصيه .. إلى أخره.
    لو قال: إلا الأب فله تزويج البالغ المعتوه) لكان أوضح.
    وهذا مقصوده: أن الأب له تزويج البالغ المعتوه.
    (المعتوه) هو ناقص العقل ولم يصل إلى الجنون.
    والجنون: هو فاقد العقل تماماً.
    وقيل: المعتوه المجنون. واحد.
    لكن الأشهر التفريق بينهما وهو الأقرب.
    والشيخ - رحمه الله - اقتصر على المعتوه لينبه على المجنون.
    فالحنابلة يرون أن المعتوه والمجنون لوليهما أن يزوجهما جبراً بغير رضا.
    واستدلوا على هذا بأمرين:
    - الأول: أنه لا نظر لهما ولا يعرفان المصلحة.
    - الثاني: أنه إذا جاز تزوج الصغير مع أن له رأياً ونظراً فالمحنون والمعتوه من باب أولى.
    = القول الثاني: أنه ليس للأب أن يزوجهما.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن تزويجهما يلزم منه مهر ونفقة على هذا المجنون والمعتوه وليس له أن يتصرف بما فيه خسارة عليهما.
    - بالإضافة إلى أنه لا مصلحة لهما بهذا النكاح.
    = القول الثالث: أنه له ولاية إجبار على المجنون والمعتوه إذا كان فيهما حاجة للنكاح. والحاجة للنكاح قد تكون حاجة شهوة وقد تكون حاجة رعاية.
    (5/87)
    ________________________________________
    والأقرب والله أعلم أن للأب أن يجبر المجنون والمعتوه على النكاح الذي فيه مصلحة لهما.
    والسبب في هذا:
    - أنه غالباً ما يكون عند تزويج هذا المجنون والمعتوه غالباً إذا رضيت الزوجة بهذا الزوج غالباً ما تكون زوجة تريد بر هذا المجنون.
    فإذا أرادت بره وصيانته ورعايته وربما أتت منه بأولاد وقام الأولاد بحقوق أبيهم فهذه مصالح. أو ليست مصالح؟ مصالح كبيرة جداً.
    أما إذا لم يكن فيه مصالح: مثل أن يكون هذا المجنون المعتوه غني وتريد المرأة أن تتزوج منه ليجب عليه النفقة عليها ولا تريد رعاية هذا الزوج وربما امتنعت عن الإنجاب منه.
    فهذا: فيه مصلحة أو ليس فيه مصلحة؟
    ليس فيه مصلحة بل فيه مضرة على الزوج.
    على كل حال القول بأنه إذا كان هناك مصلحة للمجنون والمعتوه فإن لوليهما الإجبار هو الصحيح وفيه نفع عظيم للمجنون والمعتوه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والمجنونة.
    يعني: وللأب أن يزوج المجنونة.
    مقصودة: بالمجنونة يعني: البالغة. لأن الصغيرة سيأتي الكلام عنها.
    فالمجنونة للأب أن يزوجها. سواء وجدت منها شهوة وميل إلى الرجال أو لم يوجد.
    فالأب له أن يزوجها.
    أما إذا وجدت منها شهوة فإن الأب وغيره من الأولياء لهم أن يزوجوها.
    لكن إذا لم يوجد منها هوة فالشخص الذي له أن يجبرها على الزواج هو فقط: الأب.
    = القول الثاني: أن الأب لا يملك أن يجبر المجنونة على النكاح إلا إذا كانت مما يجبر لو كانت عاقلة.
    يعني: إذا كانت مما يملك إجبارها لو كانت عاقلة.
    والأقرب والله أعلم أن الراجح في المجنون هو الراجح في المجنونة.
    فإذا كان في تزويجها مصلحة والزوج سيقوم عليها بالرعاية والعطف والقيام بمصالحها م قد تنجب منه أولاداً يقوم الأولاد برعايتها والمحافظة عليها فهذه مصالح مقصودة وللأب أن يزوجها.
    وإذا لم تكن هناك مصالح فإنه لا يزوجها.
    ((الأذان)).
    على أن الزوجة فيها مصالح غالبة لأنه في الزواج يترتب على عقد الزواج نفقة والسكن على الزوج ونفقات العلاج عند بعض الفقهاء فالمصلحة في تزويج المرأة قد يكون أظهر منه في تزويج الرجل يعني: إذا كان مجنوناً أو مجنونة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والصغير.
    (5/88)
    ________________________________________
    الصغير أي الذي لم يبلغ لوليه أن يجبره على الزواج بغير رضاه.
    وحكي على ذلك الإجماع: على أن له أن يجبره.
    واستدل الفقهاء رحمهم الله:
    - بأن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - زوج ابناً له صغير ثم تشاكوا واختصموا إلى زيد فأمضياه يعني: زيد وابن عمر.
    فدل هذا على صحة إنكاح الرجل ابنه بغير رضاه.
    = وقال بعض الفقهاء: أنه إذا كان صبياً قارب الاحتلام والبلوغ فإنه لا يجبر.
    واختار هذا القول: القاضي من الحنابلة.
    والأثر الذي ذكرته عن ابن عمر يفيد الجواز مطلقاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والبكر ولو مكلفة.
    البكر ولو مكلفة للأب أن يجبرها على الزواج بغير رضاها.
    والبكر: تنقسم إلى أقسام ربما لن نتمكن من ذكر جميع الأقسام الثلاثة الآن.
    لكن نبدأ بالقسم الأول:
    ـ وهو: أن تكون البكر دون تسع سنوات.
    فالبكر دون تسع سنوات: لأبيها أن يجبرها على النكاح عند جميع الفقهاء وحكي إجماعاً حتى شيخ الإسلام - رحمه الله - الذي من الذين يرون بقوة أخذ رأي البكر فيما عدا هذه الصورة في هذه المسألة لم يخالف.
    فلم يخالف أحد من الفقهاء: إلا فقيه واحد وهو ابن شبرمة واعتبر قوله شاذاً.
    استدل هؤلاء بأدلة كثيرة:
    - الدليل الأول: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - زوج عائشة وهي ابنة ست سنوات.
    - الدليل الثاني: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زوج أم كلثوم لعمر - رضي الله عنه - وهي صغيرة ولم يعترض أحد من الصحابة.
    واستدلوا بـ:
    - الدليل الثالث: وهو أن الله تعالى أثبت أن عدة اللائي لم يحضن ثلاثة أشهر والعدة لا تكون إلا بعد النكاح الذي يعقبه طلاق. فإذاً معناه أنه ربما تزوج وهي صغيرة ثم تطلق وتكون العدة ثلاثة اشهر.
    فهذه ثلاثة أدلة يضاف إليها: الإجماع. لأن خلاف ابن شبرمة لا يقدح إن شاء الله في هذا الإجماع.
    والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...

    انتهى الدرس
    (5/89)
    ________________________________________
    الدرس: (3) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    كنت بالأمس تحدثت عن البكر وذكرت أن لها أقساماً ثلاثة وتحدثن عن القسم الأول وذكرت حكمه مع الأدلة.
    ـ القسم الثاني: البكر التي تم لها تسع سنوات فأكثر ولكنها لم تبلغ.
    فهذا النوع اختلف فيه الفقهاء على قولين:
    = القول الأول: لجمهور الفقهاء: ذهبوا إلى أن حكم البكر قبل وبعد التسع واحد. أي: أنه لأبيها أن يجبرها على النكاح.
    واستدلوا:
    - بأن البنت بعد التسع وقبل البلوغ ما زالت غير مكلفة فنقيس ما بعد التسع على ما قبل التسع بجامع عدم التكليف والبلوغ.
    - الدليل الثاني: أن البنت بعد التسع ليس لإذنها عبرة في التصرفات. فيقاس عليها النكاح.
    وهذا القول كما قلت لكم مذهب الجماهير.
    = القول الثاني: أن البنت بعد التسع لا تجبر. وهو مذهب قلة من الفقهاء واختاره من المحققين الزركشي وشيخ الإسلام بن تيمية.
    واستدلوا:
    - بأثر عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
    ـ القسم الثالث: البكر البالغة. وهي التي ذكرها المؤلف - رضي الله عنه - وهي محل الخلاف القوي.
    فالبكر البالغة:
    = ذهب الأئمة الثلاثة أحمد ومالك والشافعي إلى أنها تجبر وتزوج بغير إذنها.
    واستدل الجمهور:
    - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأمر وإذنها صماتها).
    وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين: ـ البكر. ـ والثيب. وأثبت أن الثيب أحق بنفسها من وليها. وهذا يدل بمفهومه على أن البكر ليست أحق بنفسها من وليها.
    = والقول الثاني: وهو مذهب الأحناف واختاره ابن المنذر وغيره من المحققين كشيخ الإسلام بن تيمية:: أن البكر البالغة لا تجبر على النكاح.
    واستدلوا:
    - بأن جارية بكراً أجبرت على النكاح في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفعت أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخيرها.
    وهذا الحديث اختلف فيه المتقدمون والمتأخرون. فأبو داود والبيهقي يرون أنه لا يصح ويعلونه بالإرسال وجملة المتأخرين يصححونه.
    (5/90)
    ________________________________________
    - الدليل الثاني لهم: ما أخرجه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن. قيل ما إذنها يا رسول الله؟ قال: أن تسكت.)
    فالحديث نص على أن البكر لا تنكح حتى تستأذن.
    فهذان حديثان لأصحاب القول الثاني.
    والأقرب إن شاء الله من حيث الأدلة القول الثاني. والسبب في ذلك أن أصحاب القول الأول استدلوا بمفهوم الحديث بينما استدل أصحاب القول الثاني بمنطوق الحديث وتقدم معنا في كتاب الطهارة وفي غيره أن الاستدلال بالمنطوق مقدم على الاستدلال بالمفهوم.
    ولهذا نقول: الراجح إن شاء الله أن البكر البالغة لا تجبر على النكاح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    لا الثيب.
    يعني: أن المرأة الثيب البالغة لا تجبر على النكاح.
    واستدل الحنابلة على هذا الحكم بأدلة:
    - الأول: الإجماع. فإنه حكي الإجماع على أن الثيب البالغة لا تجبر على النكاح ولم يخالف في هذا الإجماع إلا رجل من أعلام وسادات الأمة وأكبرهم بعد الصحابة والتابعين شأناً وهو الحسن البصري.
    لكن مع ذلك في الحقيقة يستغرب على الشيخ الإمام الفقيه الزاهد الورع الحسن البصري أنه يخالف في مثل هذه المسألة.
    ووجه الاستغراب: أن في هذه المسألة نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم هذا النص أخذ به كل العلماء.
    ولهذا نسب كثير من أهل العلم هذا القول من الشيخ الحسن البصري إلى الشذوذ لمخالفة النص الصريح الواضح وكما قلت لكم أنه مثل هذا القول يستغرب على الحسن البصري إن ثبت عنه.
    - الدليل الثاني: أن امرأة يقال لها الخنساء زوجها أبوها وهي ثيب بغير إرادتها فرفعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد النكاح.
    هذا الحديث في صحيح البخاري. لكن هذا الحديث وإن كان في صحيح البخاري إلا أنه من الأحاديث التي انتقدها الإمام الدارقطني في كتابه التتبع. وناقش العلماء قول كل من البخاري والدراقطني وممن ناقش المسألة بطبيعة الحال ابن حجر فإنه ذكر الخلاف بين البخاري والدارقطني والأقرب والله أعلم أن الصواب مع البخاري فيكون الحديث صحيح إن شاء الله.
    وهو نص في المسألة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت الاختيار للمرأة الثيب.
    (5/91)
    ________________________________________
    * * مسألة/ ذكرت أن هذا الحكم إنما هو في المرأة الثيب البالغة. أما الثيب الصغيرة ففيها خلاف وليست محل إجماع. فالثيب الصغيرة اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال - وأنت إن شاء الله - لو تأملت فستعرف الثلاثة أقوال وسبب الخلاف من خلال ما سبق.
    فالمرأة الثيب الصغيرة يتنازعها أصلان:
    ـ الأول: أنها ثيب.
    ـ والثاني: أنها صغيرة.
    فإذا الخلاف سيكون بسبب هذا التنازع.
    = فالقول الأول: أن الثيب الصغيرة تجبر. لماذا؟
    - لأنها صغيرة. فأشكلت عليهم الأحاديث التي إثبات الخيار للثيب. فأجابوا عنها بأنها تحمل على الكبيرة.
    - الثاني: أن الثيب الصغيرة لا تجبر.
    - لأنها ثيب والأحاديث اثبتت الاختيار للمرأة الثيب.
    = القول الثالث: أن المرأة الثيب إن كانت جون تسع أجبرت وإن كانت فوق تسع لم تجبر.
    أي الأقوال أرجح؟
    (مناقشة مع الطلاب ... )
    المسألة فيها إشكال.
    لكني أنا أرى أن الأحاديث لما ذكرت الثيب وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الأيم) ثم قال في آخر الحديث البكر وقال الشراح أن الأيم هنا ليست المرأة التي لم تتزوج كما في اللغة وإنما الأيم هنا هي الثيب لأنها مقابلة بالبكر. فإذا ثبت هذا التقرير. أن الأيم في الأحاديث هي الثيب فعلاً كأن الشارع - وإلى هذا يميل الحنابلة - علق قضية الإجبار وعدم الإجبار لا على الكبر والصغر وإنما على الثيوبة والبكارة.
    والسبب معقول في الحقيقة: لأن الثيب صار عندها خبرة بالرجال ومعرفة وتستطيع أن تتخذ قرارها بشأن الزواج .. وكما قلت لكم المسألة فيها إشكال ولكن هذا قد يكون أقرب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن الأب ووصيه في النكاح: يزوجوهم بغير إذنهم، كالسيد: مع إمائه وعبده الصغير.
    تقدم معنا أن هذا الاستثناء ينصب على: الأب وأنه هو الذي يملك الإجبار فقط.
    لكن أضاف المؤلف هنا أن الإنسان يملك إجبار إمائه على الزواج كما يملك إجبار ابنته الصغيرة وقد حكي الإجماع على السيد يملك إجبار الأمة.
    وعللوا هذا:
    - بأن السيد يملك منافع الأمة ومن جملة المنافع البضع. فله أن يجبرها على النكاح.
    = والقول الثاني: المقابل لهذا القول الذي حكي فيه الإجماع. أن الأمة إذا كبيرة فإنها لا تجبر وإن كانت أمة.
    (5/92)
    ________________________________________
    والصحيح القول الأول: أن السيد يملك إجبار الأمة وإن كانت كبيرة لأنها ملك يمينه ومنافعها في يده.
    ـ الثاني:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وعبده الصغير.
    يعني: ويملك أن يلزم عبده الصغير بالنكاح.
    وإلى هذا ذهب أيضاً الجماهير.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن الأب إذا كان يملك أن يجبر ابنه الصغير فعبده من باب أولى. لأن سلطة وولاية السيد على العبد أكبر منها على الابن. فما يجوز ف الابن يجوز في العبد من باب أولى.
    وفهم من كلام المؤلف - رحمه الله - أن السيد لا يملك إجبار العبد الكبير.
    وذلك: لأنه مكلف وكبير ويملك الطلاق فلا يملك سيده إجباره على النكاح.
    = والقول الثاني: أن السيد يملك أن يجبر العبد ولو كان كبيراً لأن السيد إذا ملك رقبة العبد فمن باب أولى أن يملك تزويجه إجباراً.
    والصحيح: الأول. وهو المذهب. أنه لا يملك إجبار العبد الكبير.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ولا يزوج باقي الأولياء: صغيرة دون تسع.
    (باقي الأولياء) كالعم والأخ وابن العم ونحوهم. هؤلاء لا يملكون لتزويج إجباراً.
    - لأنهم دون الأب في المنزلة وفي الشفقة وفي رعاية مصالح المولية.
    وهذا لا إشكال فيه.
    (صغيرة دون تسع) يعني: سواء كانت بكراً أو ثيباً. فإنهم لا يملكون التزويج مطلقاً.
    استدل الحنابلة على هذا:
    - بأن عبد الله بن مظعون زوج ابنة أخيه لعبد الله بن عمر فلما سمع المغيرة بن شعبة بذلك دخل على أمها ورغبها بالمال يعني بالمهر ورغبها فما زال بها حتى مالت إلى قول المغيرة فلما مالت إلى قوله تبعتها البنت فمالت إلى قول أمها فصارت الأم والبنت يميلون إلى المغيرة والأب يميل إلى عبد الله بن عمر فوقع خلاف بينهم وذلك بعد أن تم العقد لكن قبل الدخول.
    فارتفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله يا رسول الله إني لم آل لها نصحاً زوجتها عبد الله بن عمر وهو من الأكفاء ومن خير الصحابة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها). قال عبد الله بن عمر فانتزعت من يدي بعد العقد - رضي الله عنهم -.
    ففي هذا الحديث: النص الصريح على أن العم لا يملك سلطة الإجبار فلما رفضت البنت أبطل العقد.
    (5/93)
    ________________________________________
    = القول الثاني: أنه يملك إجبارها إن كانت أقل من تسع ولا يملك إن كانت فوق تسع.
    - لأن البنت تحت التسع ليس لقولها عبرة ولا لإذنها عبرة شرعاً فيملك إجبارها.
    والأقرب والله اعلم أنه لا يملك: لأن الحديث الذي في الباب حديث عام.
    قوله - رحمه الله -: (ولا يزوج باقي الأولياء: صغيرة دون تسع) ظاهر كلام المؤلف ولو بإذنها. لأنه لا يعتبر لها إذن كما قلت المرأة دون التسع إذنها غير معتبر ولا ينظر إليه.
    إذاً: يترتب على هذا أن البنت إذا توفي أبوها وصار لها أولياء أخ أو عم أنه لا يمكن أن تزوج إلا إما إذا بلغت أو نقول على القول الثاني بعد التسع. قبل هذا لا يمكن ان تزوج ولو أذنت لا يمكن أن يتولى أحد تزويجها لأنه لا يملك أحد سلطة الإجبار وفي المقابل هي إذنها غير معتبر فيجب أن ننتظر إلى أن يكون لها إذن معتبر إما بأن تتجاوز التسع على قول أو بأن تصل إلى البلوغ على الآخر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ولا صغيراً.
    يعني ولا يملك باقي الأولياء تزويج الصغير.
    والسبب في ذلك:
    - أن باقي الأولياء ليسوا كالأب في الشفقة والحرص ورعاية مصالح الإبن فلا يزوج.
    فإن احتاج - يعني: هذا الصغير - فإن الذي يزوجه الحاكم ولا سلطة لباقي الأولياء على صغير مطلقاً عند الحنابلة.
    = والقول الثاني: أن الصغير لا يزوج ولو أذن إلا إن احتاج فإن باقي الأولياء أولى من الحاكم وأكثر شفقة وأقرب لهذا الصبي.
    فعلى القول الثاني: باقي الأولياء مقدمون على الحاكم.
    وهذا هو الصحيح. فإن أخوه وعمه أعرف بمصالحه مع العدل والأمانة والشروط التي تقدمت في الولي منهم بالحاكم.
    إذاً: مع عدم الحاجة لا يمكن أحد أن يزوج الصغير حتى يبلغ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ولا كبيرة عاقلة.
    الكبيرة العاقلة سواء كانت ثيباً أو بكراً فإنه لا يجوز لأحد من الأولياء أن يزوجها إلا بإذنها كما سيأتينا في كلام المؤلف - في نص المؤلف.
    فإن أذنت جاز وإلا فلا.
    وذلك: - لأن الأحاديث الصريحة تقول: لا تنكح الأيم إلا بإذنها أو إلا أن تستأمر يعني: أن يؤخذ أمرها.
    وهذا الحديث صحيح بأنه لا يجوز أن يزوجوا الكبيرة إلا بإذنها إذا لم يكن لها أب فإن كان لها أب دخلنا في الخلافات السابقة.
    (5/94)
    ________________________________________
    نحن الآن نتحدث عن باقي الأولياء.
    فباقي الأولياء ليس لهم أن يزوجوا الكبيرة العاقلة.
    وهذا مذهب الجماهير ولا إشكال فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ولا بنت تسع، إلاّ بإذنهما.
    يعني: ولا يزوج باقي الأولياء بنت تسع إلا بإذنها.
    قوله: (إلا بإذنهما) يعود على الكبيرة وعلى بنت التسع.
    فبنت التسع والكبيرة يجوز أن يزوجا بإذنهما.
    - لأن لهما إذناً معتبر.
    فإذا أذنت جاز لباقي الأولياء أن يزوجوها وإلا انتظروا إلى أن تأذن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وهو صمات البكر ونطق الثيب.
    الإذن شرعاً: بالنسبة للزواج يختلف من البكر إلى الثيب:
    ـ فالبكر إذنها أن تسكت. وإلى هذا ذهب الجماهير والجم الغفير.
    واستدلوا: بالاحاديث الصريحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ما إذنها فقال في الحديث الأول: (أن تسكت) وفي الحديث الثاني: (صماتها) وهذه النصوص صريحة.
    فإذا سكتت حياء فإنه لا بأس بتزويجها.
    = والقول الثاني: أنه لابد أن تأذن نطقاً وهو ضعيف مخالف للنصوص.
    ومن المعلوم أن المقصود بأن تأذن بالسكوت يعني: إذا لم يعلم الولي أنها رافضة فإذا سكتت ولكن الولي يعلم أنها رافضة وسكتت سكوت رفض فإن السكوت هنا لا يعتبر إذناً.
    ـ القسم الثاني: الثيب. والثيب لا يكون إذنها إلا بالنطق والكلام.
    وهذا محل إجماع. ولا يكتفي بالصمت بل يجب أن تتكلم.
    والدليل على هذا:
    - أن الأصل في اللغة والشرع والعرف أن الإنسان يعبر عن رضاه بلسانه. وهنا نقول كذلك يجب ان تتكلم برضاها وتنطق به.
    هذا فضلاً عن أن الأحاديث السابقة جعلت إذن البكر أن تسكت ومفهوم هذا أن إذن الثيب أن تتكلم.
    ولقوة أدلة هذا القول صار محل إجماع.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فصل) الثالث الولي.
    الشرط الثالث: الولي.
    وهو - أي: هذا الشرط - من أهم الشروط وأولاها بالعناية والانتباه.
    وذلك: في القديم والآن تأكد تماماً الاعتناء بهذا الشرط وفهمه.
    = ذهب الجماهير من الأئمة والفقهاء أحمد والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة المسلمين. إلى أن الولي شرط لصحة فإن لم يوجد ولي فإن العقد باطل ولا يصح ولو أذن الولي بعد ذلك.
    واستدلوا على هذا بأدلة:
    - الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا نكاح إلا بولي).
    (5/95)
    ________________________________________
    وهذا الحديث صححه أئمة كبار كالإمام أحمد والإمام ابن معين وغيرهم من أئمة السلف. وهو نص كما ترى.
    - الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. باطل. باطل. وها المهر بما استحلمن فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
    وهذا الحديث أيضاً صححه أئمة منهم: الإمام ابن معين ومنهم الإمام ابن حبان وغيرهم.
    وهذان الحديثان نصوص صريحة لا معدل عنها.
    - الدليل الثالث: أن اشتراط الولي مروي عن الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم - رضي الله عنهم ـ
    - الدليل الرابع: أن في تجويز المرأة في إنكاح المرأة لنفسها من المفاسد الظاهرة والمعروفة ما يكفي بعضه لتحريم وإفساد العقد.
    - الدليل الخامس: أن نظر الرجل في مصلحة المرأة ومعرفته بالرجال أكمل وأبلغ من نظر المرأة لنفسها مع عاطفتها وتسرعها.
    = القول الثاني: أن النكاح صحيح بلا ولي. أي: أن المرأة تتولى النكاح بنفسها.
    وإلى هذا ذهب أبو حنيفة - رحمه الله -.
    واستدل: أن الله تعالى أباح للمرأة أن تبيع جاريتها وبيع الجارية يتضمن بيع منفعة البضع. فإذا كانت تملك أن تبيع كل الجارية فلأن تملك أن تزوج الجارية من باب أولى.
    واستدل أيضاً: بأن الله تعالى أضاف النكاح إلى النساء فدل على أنه يختص بهم ولهن القيام به.
    = القول الثالث: أن النكاح يقع صحيحاً لكن يشترط إجازة الولي فإن أجاز وإلا بطل.
    والحق إن انشاء الله الذي لا مرية فيه قول الجماهير.
    (5/96)
    ________________________________________
    وما ذكره الإمام الكبير أبو حنيفة ليس إلا أدلة عقلية لا قيمة لها مطلقاً في مقابل النصوص. نعم لو لم يكن في الباب نصوص لكان لأدلته نوع وجاهة لكن الأدلة العقلية مهما كانت قوية من حيث النظر إلا أنها لا قيمة لها متى كانت في مقابل النصوص لاسيما وأن هذه النصوص مؤيده بفتاوى من الصحابة وفتاوى من التابعين لاسيما وأن الواقع د على صحة ما دلت عليه هذه النصوص وأنه متى فتح الباب للمرأة أن تتزوج من تشاء وقعت من المفاسد ما الله به عليم. ولو لم يكن من المفاسد إلا مفسدة واحدة وهي: أنه متى مسكت امرأة مع رجل قالت: كنت زوجته نفسي. فحينئذ لا يمكن الاعتراض على هذا لأن المرأة عند الاحناف تلي تزويج نفسها وغيرها لو لم يكن من مفاسد هذا القول إلا هذه المفسدة لكان حرياً به أن يضعف ويرد.
    لما ذكر المؤلف - رحمه الله - اشتراط الولي ذكر الشروط:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وشروطه: التكليف.
    ـ الشرط الأول من شروط الولي أن يكون مكلفاً والمكلف هو العاقل البالغ.
    أما العقل فهو شرط في الولي: بالإجماع. لأن المجنون لا نظر له وهو تحت ولاية غيره فكف يلي على غيره.
    وأما البلوغ:
    = فذهب إلى اعتباره واشتراطه الجماهير.
    = وقيل أن ابن عشر سنوات يزوج أنه أدرك وصار يفهم.
    = وقيل ابن اثني عشر سنة يزوج. لأنه شارف على البلوغ.
    والصواب أنه لا يزوج إلا البالغ. لأن الولاية في أمر النكاح تحتاج إلى تمام كمال الحال والطفل ما لم يبلغ لم يستتم كمال النظر والبحث عن المصالح. أضف إلى هذا أن هذا الصبي قبل البلوغ تحت ولاية غيره لم يستحق ولا أن يكون منفرداً على نفسه فكيف يلي غيره.
    فإذاً: إن شاء الله لا يزوج أحد من الأولياء إلا إذا بلغ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والذكورية.
    يعني: ويشترط في الولي أن يكون ذكراً فإن زوجت المرأة أحداً نفسها أو آخر فإنه لا يصح.
    وهذا الشرط مستفاد من الخلاف السابق. لأن الخلاف السابق نص على اشتراط الولي ونص على أن المرأة إذا أنكحت نفسها فنكاحها باطل - ثلاثاً قاله - صلى الله عليه وسلم - - مما يدل على أن الذكورية شرط في الولاية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والحرية.
    يعني: ويشترط في الولي أن يكون حراً.
    (5/97)
    ________________________________________
    وإلى هذا: ذهب الجماهير وقالوا: إن العبد لا يكون ولياً على غيره.
    - لأنه تحت ولاية سيده.
    - ولأنه ناقص التصرف.
    = القول الثاني: أن العبد إذا استوفى الشروط الأخرى يكون ولياً على أقربائه.
    - لأنه لا مانع من ذلك وليس في النصوص ما يدل على اشتراط الحرية.
    - أضف إلى هذا كله أن من العبيد ما يكون أعقل وأعلم وأعرف بمصالح قريباته من غيره.
    وهذا القول الأخير هو الراجح.
    لكن تقدم معنا الآن أن السيد يزوج الأمة فكيف نقول الآن أن العبد يكون ولياً - مثلاً - على ابنته؟
    (على المذهب العبد لا يكون ولياً على ابنته - مثلاً - على القول الثاني يكون ولياً على ابنته ويقوم بتزويجها ونحن قلنا أن الأمة الذي يزوجها إجباراً هو السيد فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟
    هذا يحمل على قريبة العبد الحرة لأن الأمة انتهينا منها أن الذي يتولى تزوجها هو السيد. فإذا قلنا العبد يلي يعني: يلي قريبته الحرة).
    إذاً نخرج من هذا الإشكال بهذا التفصيل أنه يلي قريبته الحرة لأنه تقدم معنا أن الأمة دائماً السيد هو المتصرف فيها.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والرشد في العقد.
    قوله: (في العقد) إشارة إلى أن الرشد اختلف باختلاف الموضوع:
    ـ فإن كان في المال فالرشد شيء.
    ـ وإن كان في النكاح فالرشد شيء آخر.
    فقد يكون الإنسان راشداً تماماً في الأموال وسفيهاً في التزويج. وقد يكون العكس: راشداً في التزويج. يعرف المصالح ومبذراً في المال.
    هنا يجب أن يكون رشيداً في العقد ولو لم يكن رشيداً في المال.
    والرشد في العقد هو أن يكون الولي عارفاً بمصالح المرأة وما يصلح لها وما لا يصلح وينتقي الأكفاء لها ويسعى في كل ما يجلب لها المصلحة فيما يتعلق بالنكاح.
    وهذا شرط في الحقيقة كان ينبغي أن يبدأ به المؤلف لأنه من أهم شروط الولاية لأن الولي لم يوضع أصلاً إلا لهذا الأمر وهو أن يقوم برعاية ابنته أو أخته أياً كانت موليته.
    فإذاً هذا الشرط من أهم الشروط ولا إشكال في اشتراطه بل هو المقصود من الولاية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    واتفاق الدين.
    اتفاق الدين: شرط بالإجماع، فلا يزوج المسلم كافرة، ولا يزوج الكافر مسلمة.
    (5/98)
    ________________________________________
    - لأن اختلاف الدين يمنع من كمال الشفقة. هذا شيء، والشيء الآخر: لأنه لم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فليس للكافر ولاية على المؤمن، وولاية النكاح نوع من الولايات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    سوى ما يذكر.
    يعني: إلا ما يستثنى.
    وذكر الشيخ منصور: أن الذي يستثنى ثلاث مسائل:
    ـ أم الولد تحت الكافر إذا أسلمت.
    ـ والأمة الصغيرة تحت المسلم.
    ـ والذمية إذا لم يكن لها ولي زوجها السلطان. والسلطان خالفها في الدين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والعدالة.
    يعني: ويشترط في الولي أن يكون عدلاً.
    ومقصود المؤلف بالعدالة هنا يعني الظاهرة دون الباطنة.
    فيشترط في الولي أن يكون عدلاً عدالة ظاهرة فإن كان فاسقاً فإنه ليس له أن يتولى تزويج ابنته أو أخته.
    - لأن الولاية في النكاح أمانة وهو ليس من أهل الأمانات.
    - ولأنه قد يخون رغبة في المال.
    = والقول الثاني: أن من لم يكن عدلاً - وهو الفاسق - يلي التزويج بشرط أن يتحقق فيه الرشد في العقد.
    يعني: أن يكون رشيداً في أحوال العقود.
    وهذا القول الثاني عليه العمل وهو الصواب حتى من حيث النظر فضلاً عن العمل: لأن من أولياء الأمور من يكون فاسقاً في أبواب الطاعات لكنه فيما يتعلق بالمرأة رشيد جداً وقد يسعى في مصلحتها أكثر من غيره وينظر فيما يناسبها من الرجال ويبحث عن الأكفاء أكثر من غيره.
    والمقصود الشرعي من الولاية هو هذا.
    فإذا كان الفاسق يؤدي هذا المقصود على وجع تام فإنه يصلح ولياً.
    وهذا القول في الحقيقة قوي جداً وكما قلت عليه العمل.
    = القول الثالث: وهو أصعب الأقوال - أن الولي لابد أن يكون عدلاً ظاهراً وباطناً.
    والراجح القول الثاني إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فلا تزوج امرأة: نفسها ولا غيرها.
    بناء على ما تقدم من أن الذكورية شرط في الولاية إذاً لن تزوج امرأة نفسها ولن تزوج غيرها.
    فهو تفريع على ما تقدم من أدلة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ويقدم: أبو المرأة في إنكاحها.
    بدأ المؤلف في ترتيب الأولياء.
    وبدأ بالأب.
    - لأنه أقوى الأولياء.
    ومفهوم كلام المؤلف أن الأب يقدم على الابن. فإذا كان للمرأة أب وابن فالأب مقدم.
    (5/99)
    ________________________________________
    واستدلوا على هذا: بأن الابن موهوب للأب وولاية الموهوب على الهبة أولى من ولاية الهبة على الموهوب.
    وهذا صحيح.
    - الدليل الثاني: أن الأب أكثر شفقة على ابنته من ابنها وأكثر سعياً في طلب مصالحها.
    - الدليل الثالث: أن الابن قد يستنف عن تزويج أمه فيدخل عليها بذلك الضرر.
    = القول الثاني: أن الابن مقدم على الأب.
    - لأن الابن أقرب إلى الأم من الأب: بدليل: أنه أقوى منه في الميراث.
    والراجح: أن الأب مقدم إن شاء الله بلا إشكال لأن الميراث بابه يختلف عن باب الولاية.
    فالميراث سببه القرب والبعد والولاية سببها الشفقة والبحث عن مصالح المولية. فبينهما فرق يمنع من إلحاق أحدهما بالآخر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم وصيه فيه.
    الضمير في: (فيه) يعود على النكاح.
    يعني: وصي الأب في النكاح لا في الأموال مقدم على الابن والجد والأخ.
    فإذا مات الأب وأوصى إلى رجل ولهذه البنت ابن فوصي الأب مقدم على الابن.
    استدل الحنابلة على هذا:
    - بأن الولاية حق من حقوق الأب فإذا أوصى به انتقل لمن بعده وهو الوصي.
    = القول الثاني: أن الولاية لا تستفاد بالوصاية.
    يعني: لا يمكن أن يكون الإنسان ولي بالوصية.
    واستدلوا على هذا أن الولاية من الأمور التي تستفاد بالشرع. فالشارع هو الذي تولى بيان الولي.
    فمن جعله الشارع ولياً فهو مقدم على الوصي.
    وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله.
    فإذا مات الأب انتهى حقه بالولاية ولا يملك أن يوصي بل تنتقل إلى من بعده شرعاً حسب الترتيب الذي سيذكره المؤلف - رحمه الله -.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم جدها لأب وإن علا.
    أي أن الجد أيضاً مقدم على الابن.
    وسبب التقديم:
    - أن الجد يوصف بأمرين:
    ـ الولادة ـ والتعصيب.
    فالبنت مولودة له: باعتبار أنها مولودة ابنه وهو يعصب.
    بينما الابن لا يملك إلا التعصيب فقط.
    ومن يتصف بمعنيين يقدم على من يتصف بمعنى واحد.
    = والقول الثاني: أن الابن مقدم على الجد.
    = والقول الثالث: أن الأخ مقدم على الجد.
    = والقول الرابع: أن الجد والأخ بدرجة واحدة.
    (5/100)
    ________________________________________
    والأقرب والله أعلم أن الجد مقدم على الابن: لأن الأسباب التي ذكرتها في الأب موجودة في الجد. ومن هنا يقدم على الابن وإن كان تقديم الجد على الابن ليس في القوة كتقديم الأب على الابن. في الحقيقة فها إشكال وتوقف لكن الأرجح والأظهر أن الجد يقدم على الابن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم ابنها.
    جاء الابن في المرتبة الرابعة.
    لابد أن لا يكون فيه: لا أب ولا وصيه ولا جد ثم يأتي الابن.
    مع إن النظر يقول أنه من أقرب الناس.
    إذاً الابن في المرتبة الرابعة.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن أم سلمة لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله ليس من أوليائي أحد حاضر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس أحد منهم حاضر أو غائب يكره ذلك. - اللهم صل على محمد.
    فقالت أم سلمة: يا عمر قم فزوج رسول الله فقام فزوجه. فهنا زوج الابن أمه لأنه ليس من الأولياء أحد حاضر.
    وهذا الحديث يقوي أي مسألة؟ تقديم الأب والجد لأن المرأة تطلبت الأولياء ولك تكتف بالابن مما يدل على قوة ماذهب إليه الحنابلة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم بنوه وإن نزلوا.
    يعني: الابن - ثم ابن الابن - وإن نزل.
    فجنس البنوة مقدم على الأخوة.
    والدليل الدال على: ولاية الابن. يدل على ولاية ابن الابن. لأن ابن الابن:: ابن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم أخوها لأبوين ثم لأب.
    الأخ يأتي بعد عدم وجود عمودي النسب.
    فإذا لم يوجد أحد من الآباء ولا أحد من الأبناء انتقلنا إلى الأخ.
    وهذا الانتقال بعد عدم وجود عمودي النسب محل إجماع لا إشكال فيه. وذلك:
    - لأنه الأقرب عد عمودي النسب. والولاية كما سيأتينا مدارها على القرب والشفقة. والأخ هو الأقرب.
    قال: (لأبوين). = ذهب الحنابلة إلى تقديم الأخ لأبوين على الأخ لأب.
    واستدلوا على هذا بأمرين:
    - الأول: أنه أقوى منه في الميراث مما يدل على قربه.
    - والثاني: أنه يتصل بجهتين والأخ لأب يتصل بجهة واحدة.
    = القول الثاني: أن الأخ لأب كالأخ الشقيق فهما في درجة واحدة لا يقدم الشقيق عليه.
    (5/101)
    ________________________________________
    واستدلوا على هذا: بأن هذه الولاية إنما هي مستفادة من الأب وأبوهما واحد ولا تأثير ولا عبرة تفرد الشقيق بالأم - يعني: أنه أخ من أم، لكن الصحيح إن شاء الله بوضوح أن الأخ الشقيق مقدم. وذلك لأن الأخ الشقيق أقرب وأكثر شفقة من الأخ لأب. فلا يستوون.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم بنوهما كذلك.
    يعني: ثم أبناء الإخوة كذلك:
    ـ فإبن الأخ الشقيق مقدم على ابن الأخ لأب. كما أن الأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب فابنه مقدم على ابن الأخ لأب.
    والسبب: هو ما تقدم: من قوة الأخ الشقيق. ... ((الأذان)).
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم عمها لأبوين ثم لأب.
    بعد مرحلة الأخ تترتب الولاية حسب الميراث من جهة العصبات.
    فمن يرث: يلي.
    والخلاف في قوله: (ثم عمها لأبوين ثم لأب). كالخلاف في الأخ الشقيق والأخ لأب.
    إذاً: الخلاف المتقدم أي معنا هنا وقد رجحنا أن الأخ الشقيق مقدم فهنا العم لأبوين مقدم على العم لأب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم بنوهما كذلك.
    يعني: ابن العم لأبوين مقدم على ابن العم لأب. وهكذا.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم أقرب عصبة نسباً كالإرث.
    يعني: بعد ذلك ننظر في ترتيبهم كأقرب عصبة للمرأة كما نرتبهم في الإرث.
    والسبب في أنه نرتبهم على هذا الترتيب:
    - أن مبنى الولاية على الشفقة. والرعاية والسعي في تحصيل مصالح المرأة والشفقة أمر معنوي لا يمكن أن يدرك أيهما أشفق عليها من الآخر. فربطه الشارع بأمر ظاهر وهو القرابة فكلما كان الإنسان أقرب علمنا شرعاً أنه أشفق لأنه لا يمكن أن نعلق هذا المعنى بشيء غير محسوس والقرابة أمر محسوس.
    فإذاً نقول كلما كان الإنسان أقرب فهو في الغالب أشفق فهو الولي.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم المولى المنعم.
    يعني: ثم إذا لم يوجد أولياء من النسب انتقلنا إلى الأولياء بالإنعام - بالعتق.
    فإذا لم يكن لها عصبات من النسب فوليها بالإجماع: من أعتقها. هو مولاها يقوم بتزويجها.
    وهذا محل إجماع. لأنه الأولى بعد عدم وجود أحد من النسب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم أقرب عصبته نسباً.
    يعني: إذا لم يوجد المعتق بنفسه فإنه أقرب الناس بهذا المعتق نسباً والذي هو يعصب يكون هو ولي لهذه المرأة الذي أعتقها الميت.
    (5/102)
    ________________________________________
    إذاً: ننتقل بعد المعتق إلى الأولياء بحسب قربهم وبعدهم من الميت.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم ولاء.
    يعني: ثم مولى المولى.
    فإذا لم يوجد لهذه المرأة أحد من الأقرباء نسباً ولم نجد أيضاً لها ولي ووجدنا ولي مولى يعني: من أعتق الذي أعتقها فهذا له حق التزويج وهو مقدم وله الولاية لأنه لا يوجد أحد أقرب منه لهذه المرأة.
    وقَلَّ أن يقع مثل هذه الأشياء وهي نادرة جداً أو لا تكاد تقع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ثم السلطان.
    السلطان: ولي من لا ولي له بالإجماع.
    لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والسلطان ولي من لا ولي له).
    فإذا لم نجد أحداً من الأقارب ولا من الأولياء فإنا ننتقل إلى السلطان ويقوم هو بتزويج هذه المرأة.
    هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ...
    انتهى الدرس
    (5/103)
    ________________________________________
    الدرس: (4) من النكاح
    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    انتهينا بالأمس من الكلام عن ترتيب الأولياء عند الفقهاء وتبين أن الأحق الأب ثم الجد ثم الابن ثم الأخ ثم الأعمام، وباقي من مسائل الأولياء مسائل لم أتطرق إليها بالأمس وهي ما إذا وجد أكثر من ولي في درجة واحدة كأن يوجد عدد من الأخوة أو يوجد عدد من الأعمام فهم متساوون في القرب من الزوجة فأيهم يلي التزويج؟ ينقسم الحكم إلى قسمين:
    القسم الأول: أن تأذن المرأة لأحدهم، فإذا أذنت لأحدهم، فإنه هو الولي، ولا شأن للباقين في التزويج. يعني أنه يتعين هذا للمأذون له فإن لم تأذن لأحد منهم على وجه التعيين فينقسم إلى قسمين:
    إما أن يتراضوا على أحدهم فلا حرج أو لا يتراضوا، فإن لم يتراضوا فالأولى وليس الواجب في الترتيب كالتالي: يقدم خيرهم وأدينهم ثم بعده الأكبر سناً ثم إذا تشاحوا ولم يرضوا بهذه الأفضليه فالقرعة، يقرع بينهم ومن خرجت له القرعة صار هو ولي المرأة.
    (5/104)
    ________________________________________
    من هنا علمنا قول أن ما يراه كثير من الناس أنه يقدم الأكبر مطلقاً على سبيل الوجوب ليس بصحيح إلا أن الناس تعارفوا على هذا أن الأكبر هو الولي وهو خلاف ما قرره الفقهاء من أنه يقدم خيرهم وأدينهم ثم بعد ذلك أسنهم.
    انتهى ما يتعلق بالأولياء، ثم انتقل المؤلف إلى موضوع آخر وهذا الموضوع يتعلق بمسألة أن الشارع الحكيم لم خول الولي تزويج المرأة، لم يجعل هذا الحق له مطلقاً يتصرف فيه كما يشاء بل وضع لهذا الحق ضوابط وحدود حتى لا يعتدي الولي في استخدام هذا الحق الذي منحه إياه الشارع، ولهذا تحدث المؤلف عن مسائل ثلاث:
    المسألة الأولى: مسألة العضل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن عضل الأقرب)
    إذا عضل الأقرب انتقلت الولاية عنه إلى غيره وسيأتينا إلى من ستنتقل، إذا عضل الولي المستحق للولاية فإنها تنتقل عنه.

    والدليل على هذا من وجهين:
    الوجه الأول: أنه بعضله تعذر تزويج الزوجة أو تعذر تزويج المرأة وإذا تعذر انتقلنا إلى من بعده.
    الثاني: أنه بعضله خرج من العدالة إلى الفسق، والسبب أنه ظالم والظالم فاسق فإذا خرج إلى الفسق انتفت الشروط المتقدمة بحق الولي وانتقلت الولاية إلى من بعده. إذاً إذا عضل الولي فان الولاية تنتقل إلى من بعده وسيأتينا إلى من تنتقل. والعضل هو أن يمنع الولي تزويج الكفء الذي رغبت فيه ورغب فيها هذا هو العضل.
    فإذا منعها على هذا الوجه فهو فاسق إذا كان بغير حق وتنتقل الولاية عنه وهذا هو النوع الأول من الأنواع التي تنتقل عنهم الولاية.
    النوع الثاني ذكره المؤلف بقوله:
    (أو لم يكن أهلاً)
    إذا لم يكن أهلاً فإن الولاية تنتقل عنه والولي يصبح ليس أهلاً إذا اختل شرطاً من الشروط المتقدمة كأن يكون صغيراً أو مجنوناً أو فاسقاً أو كافراً، إذا اختل أي شرط من هذه الشروط المتقدمة التي اشترطها الفقهاء الذي وضعها في الولي صار ليس أهلاً للولاية ثم تنتقل بسبب ذلك الولاية عنه إلى من بعده.
    النوع الثالث: أشار إليه رحمة الله تعالى بقوله:
    (أو غاب غيبة منقطعة)
    (5/105)
    ________________________________________
    إذا غاب غيبة منقطعة فإن الولاية تنتقل عنه لكن الفقهاء اختلفوا في ضابط الغيبة المنقطعة على أقوال: القول الأول: هو الذي ذكره الشيخ موسى هنا فيقول الشيخ لا تقطع إلى بكلفة ومشقة هذا هو التعريف الأول للغيبة المنقطعة، هي أن يسافر الولي سفراً لا يبلغ معه إلى بكلفة ومشقة، وهذا هو مذهب الحنابلة.
    القول الثاني: أن يكون بحيث لا يمكن أن يكاتب أو يمكن أن يكاتب لكن لا يجيب.
    القول الثالث: أن يسافر مسافة قصر إذاً كل ولي يسافر مسافة قصر سقطت ولايته على هذا القول.
    القول الرابع: أن يتغيب غيبة تُستَغب معها المرأة يعني يدخل عليها الضرر بسبب هذا الغياب.
    القول الأخير: أن يغيب غيبة ينصرف معها الكفء المرغوب يعني يوجد كفء راغب في الزواج لكن بسبب غيبة الولي قد ينصرف لأنه لن ينتظر حينئذ نعتبر هذه الغيبة غيبة منقطعة.
    ولا يشترط في الغيبة المنقطعة أن تكون مع السفر فلو استتر في البلد وترتب على استتاره إغرار بالمرأة أو ذهاب الكفء الخاطب فإنه يعتبر غاب غيبة منقطعة.
    أرجح الأقوال القول الرابع لأنه أشمل الأقوال إذا غاب الولي غيبة يدخل الضرر معها على المرأة انتقلت الولاية عنه إلى من بعده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الضابط كما قلت أرجح مما ذكره المؤلف رحمه الله.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (زَوجّ الأبعد)
    هذا الحكم في الصور الثلاث إن عضل، أو فقد الأهلية، أو غاب غيبة منقطعة، انتقل إلى الأبعد ومقصود المؤلف بالأبعد هنا يعني الذي يليه مباشرة فإذا سافر الأب انتقلت الولاية إلى الأبعد وهو أبناء العم أو إلى من يليه مباشره وهو من؟ الجد عند الحنابلة والابن على القول الثاني على ما سبق تفصيله.
    والقول الثاني: أنه إذا وجدت أحد الأسباب الثلاثة فان الولاية تنتقل مباشرة إلى السلطان لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " السلطان ولي من لا ولي له" وهذه لا ولي لها باعتبار وجود المانع.
    واستدلوا أيضاً بوجود المانع يجعل الموجود كالمعدوم كأنه مات.
    (5/106)
    ________________________________________
    والراجح البين الرجحان أنه ينتقل إلى من بعده والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "السلطان ولي من لا ولي له" وهذه لها ولي وهو الثاني في الدرجة بعد الأب إن كان الأب هو الذي عضل إذاً نقول تنتقل لمن بعده ولا تنتقل إلى السلطان لأن هذا هو معنى الحديث فالسلطان لا يكون ولي أي امرأة لها ولي.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إذا زوج الأبعد أو زوج أجنبي بغير عذر لم يصح)
    إذا زوج الأبعد أو زوج أجنبي بغير عذر لم يصح إلى هذا ذهب كثير من أهل العلم أنه إذا اعتدى الأبعد وزوج فان النكاح لا يصح.
    واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" وهو حيث صحيح فدل الحديث على أنه إذا لم يلي التزويج الولي المعين من قبل الشارع فإن العقد يكون باطلاً.
    والقول الثاني: أن العقد صحيح لكنه موقوف على رضا من له الحق وهو الولي الأول أو صاحب المرتبة الأولى.
    واستدلوا على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءته البكر التي زوجها أبوها بغير رضا جعل لها الخيار.
    والراجح مذهب الحنابلة، والسبب في الترجيح أن الاستدلال بالحديث الثاني الذي استدل به أصحاب القول الثاني لا يستقيم لسببين:
    السبب الأول: أنه تقدم معنا أن هذا الحديث ضعيف وأن الأئمة أعلوه بالإفساد.
    والسبب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اثبت لها الخيار لا لاختلال الولي وإنما لاختلال الرضا لأنها تقول زوجني أبي بغير رضا إذاً الشرط الذي اختل ليس عدم وجود الولي وإنما عدم وجود الرضا ولهذا الاستدلال به لا يستقيم، فالراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، فإذا اعتدى أحد الأولياء ظلماً وزوج المرأة بغير رضا الولي الأول فإن الحكم إعادة النكاح فيعقد من جديد سواء رضي بالزوج أم لم يرضى يجب أن يعاد النكاح لاختلال شرطه الأهم وهو وجود الولي غير الشرعي.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (الرابع الشهادة)
    (5/107)
    ________________________________________
    الشرط الرابع: الشهادة ذهب الحنابلة والشافعية والأحناف إلى أن الإشهاد في النكاح شرطاً من شروط الصحة فإن لم يُشهد بطل العقد إلا أن بين الأحناف والحنابلة والشافعية خلاف بسيط وهو أن الشافعية يقولون أن الإشهاد ركن وليس بشرط، والحنابلة والأحناف يقولون أنه شرط لكن لا قيمة لهذا الخلاف لأن الجميع يرى أن العقد إذا فُقد الإشهاد باطل إذاً ليس هناك محصلة في تسميته ركن أو تسميته شرط.
    استدل الجمهور بأدلة: الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وهذا الحديث ضعفه الإمام أحمد وضعفه أيضاً الإمام ابن المنذر بل ذهب عدد من المحققين إلى أنه لا يصح في الإشهاد حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح أنه ليس في السنة يعني من الأحاديث الصحيحة ما يدل أبداً على اشتراط وجود الشهود في صحة النكاح على كل حال هذا هو الدليل الأول.
    الدليل الثاني: أنه روي عن عمر وابن مسعود وغيره من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام اشتراط الشهادة في النكاح.
    الدليل الثالث: أن في الإشهاد حفظاً لحق الولد لئلا يجحد الوالد نسب ابنه بأي سبب من الأسباب، فالإشهاد يثبت العقد.
    القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وينسب إلى المالكية أن الإشهاد ليس بواجب، وإنما الواجب الإعلان فإذا أعلن صح العقد أشهد أو لم يُشهد.
    ويستدل على هذا بأدلة: الدليل الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام أعتق صفية رضي الله عنها وأرضاها وجعل العتق صداقها وتزوجها ولم ينقل أنه أشهد.
    الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب الزواج ملكتكها بما معك من القرآن ولم ينقل أنه أشهد.
    الثالث: أنه لا يوجد دليل على الإشهاد فالدليل عدم الدليل وتقدم معنا أن عدد من الأئمة يرى أنه لا يصح في الباب حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    القول الثالث: أن الواجب إما الإعلان أو الإشهاد، إذا وجد الإعلان أو الإشهاد كفى، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ الفقيه ابن حزم رحمه الله.
    (5/108)
    ________________________________________
    واستدل على هذا بأن الشارع الحكيم إنما أراد خروج العقد من السفاح إلى النكاح وهو يحصل بالإعلان الذي هو نقيض نكاح السر الذي يسمونه نكاح السر فإذا حصل الإعلان حصل مقصود الشارع والإشهاد نوع من الإعلان.
    والراجح إن شاء الله مذهب ابن حنبل أن الواجب إما الإعلان أو الإشهاد، إلا أنه فقط يتنبه إلى مسألة يتوقف فيها شيخ الإسلام وهي: ما إذا حصل عقد النكاح مع الإشهاد سراً فهنا الإعلان فقد والإشهاد وجد لكن الإشهاد سراً فهذا توقف فيه شيخ الإسلام وهو فعلاً محل توقف فيجب وجوباً تجنب عقد النكاح السري ولو مع الإشهاد، فإذا أراد الإنسان أن يكتم نكاحه لسبب أو لآخر فإنه لا يجعله سراً بالنظر لجميع الأطراف يمكن أن يكون سر لمن لا يريد أن يطلع عليه كزوجته أو غيرها لكن يُطلع عليه عدداً بأن يصنع وليمة ويدعوا إليها بعض الناس الذين يريد أن يدعوهم ليحصل الإعلان لأنه في الحقيقة وجود النكاح السري المتكتم عليه ولو مع وجود الإشهاد محل نظر كبير لأن الشارع لا يريد الإشهاد بقدر ما يريد الإعلان، فالإعلان أهم من الإشهاد فيتنبه الإنسان إلى هذه المسألة، لما قرر الشيخ الإشهاد انتقل إلى شروطه.
    (5/109)
    ________________________________________
    نريد أن ننبه إلى تنبيه وهو أنهم يقولون أن المالكية يرون أن الإشهاد كما ذكرت لكم حكمه أنه سنة وبالنظر في كتب المالكية نجد أن لهم تفصيل آخر هم يقولون: أن الإشهاد عند العقد سنة يعني لا يجب أن يُشهد عند العقد لكن يجب ألا يدخل بالمرأة إلا وهو أشهد إذاً عندهم سعه في تأخير الإشهاد إلى مرحلة الدخول لكن لا يجوز أن يدخل إلا بعد أن يشهد فإن دخل قبل أن يشهد فالنكاح عندهم فاسد، وعليه أن يفسخ هذا النكاح، الفرق بينهم وبين الجمهور أن العقد عند الجمهور إذا عُقد بدون إشهاد لا ينعقد أصلاً أما عند المالكية فينعقد ويصح فإن لم يشهد قبل الدخول فسخ العقد فبينهما فرق لكن في النتيجة المحصلة واحدة وهو لاشك بينهما فرق أساسي لأن المالكية يصححون العقد لكن في النتيجة يكون الأمر واحد لأنه إن لم يشهد صار النكاح باطلاً، لذلك يجب أن نتنبه إلى هذا وأنه لا يصلح أن نقول المالكية يرون أن الإشهاد سنة ونطلق، هذا غير صحيح يجب أن نعطي المذهب حقه لأنهم يرون أنه واجب قبل الدخول.
    يقول المؤلف ـ رحمه الله ـ في بيان الشرط:
    (فلا يصح إلا بشاهدين)
    اتفق الأئمة الأربعة على أنه لا يكتفى بواحد بل لابد من شاهدين لما في الحديث (وشاهدي عدل) فإن شهد واحد فإنه لا يجزئ ونحن نتحدث الآن عن العدد لا عن الذكورية والأنوثه وهذه مسألة أخرى نحن نتحدث عن العدد فالعدد لا يجوز أن يقل عن اثنين باتفاق الأئمة الأربعة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (عدلين)
    اتفق الأئمة الثلاثة مالك وأحمد والشافعي على أن العدالة شرط لصحة الشهادة.
    واستدلوا على هذا بأن الشهادة نوع من الولاية والولايات الشرعية يشترط فيها العدالة وأن لا يكون فاسقاً والمقصود بالعدالة هنا يعني الظاهرة.
    القول الثاني للأحناف: أن العدالة ليست بشرط بل تصح شهادة الفاسق.
    واستدلوا على هذا أن الأدلة الآمرة بالإشهاد ليس فيها اشتراط العدالة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ذكرين)
    يعني أنه يشترط أن يكون الشهود من الذكور فيها احتمال نقول ذكرين، ذهب الأئمة الثلاثة لاشتراط الذكورية وهم مالك وأحمد وأبو حنيفة.
    واستدلوا بأمرين:
    الأول: أحاديث ضعيفة جداً.
    (5/110)
    ________________________________________
    الثاني: أن الزهري قال: (مضت السنة أن لا تقبل للنساء شهادة في النكاح والطلاق والحدود).
    القول الثاني: للأحناف نَفَسُهم في باب النكاح مع النساء جيد يعني من وجهت نظرهم جيد ولذلك هم يقولون ممكن يشهد رجل وامرأتان لأن هذه الشهادة لا تتعلق بالمال ولا يوجد مانع من شهادة النساء.
    ثم جاء ابن حزم صاحب القول الثالث يوسع المسألة أكثر فقال: يجوز أن تشهد أربع نسوة فتخلوا الشهادة من الذكور تماماً وأيضا لعدم وجود دليل مانع وابن حزم رجل ظاهري إذا لم يوجد دليل نص فالأصل أن الكل تُقبل شهادتهم.
    في الحقيقة الأقرب من حيث الأدلة مذهب ابن حزم إذ لا يوجد ما يمنع من شهادة أربع نسوة لولا الأثر المروي عن الزهري فإن صح هذا إلى الزهري فلا كلام أنه يجب أن يكون الشهود من الذكور ولا دخل للنساء لأنه يقول مضت السنة وهو إمام إذا قال هذه الكلمة فهو يعنيها مضت السنة ألا تقبل شهادة النساء في النكاح والطلاق والحدود فإن صح هذا إلى الزهري الإمام الكبير فإن الراجح مذهب الجمهور من الأئمة وإن لم يصح فالراجح مذهب ابن حزم وليس مذهب الأحناف، لا نشترط وجود ذكر لكن في الغالب راح يكون هذا الأثر صحيح باعتبار أن الأئمة الثلاثة اعتمدوا عليه فالحقيقة لم أراجع الإسناد إلى الزهري لكن يغلب على ظني أنه إن شاء الله ثابت باعتبار أن الأئمة استدلوا به.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (مكلفين)
    ذهب الأئمة الأربعة إلى اشتراط التكليف والتكليف هو أن يكون الشاهد بالغ وعاقل أما اشتراط العقل فكما هو مذهب الأئمة الأربعة فهو مذهب بالإجماع بجميع أهل العلم لأن المجنون ليس أهلاً للشهادة ولا يتحمل تحملاً يؤدي معه الأداء الصحيح وأما البلوغ فكما قلت لكم هو مذهب الأئمة الأربعة.
    والقول الثاني: أن من قارب البلوغ وهو عاقل تقبل شهادته.
    (5/111)
    ________________________________________
    الجمهور استدلوا على اشتراط البلوغ بأن الإنسان قبل أن يبلغ تحت ولاية غيره ونحن قلنا أن الشهادة نوع من الولاية وإذا كان تحت ولاية غيره فكيف يتولى على غيره هذا تعليل الجمهور، في الحقيقة كلام الأئمة الأربعة وجيه لاسيما في مثل هذا العقد المهم الحساس، ينبغي أن لا يشهد عليه من لم يبلغ وإنما يكتفى بالشهادة على النكاح من قبل البالغين، لكن لما علمت هذه المسألة ليس فيها أدلة نص يعني من الكتاب أو السنة فإنه يتوجه أنه إذا تم العقد بشهادة اثنين لم يبلغا أنه لا نحكم بفساد العقد وإن رجحنا وجوب البلوغ وأن مذهب الأئمة الأربعة صحيح لكن إذا وقع الأمر حينئذ نقول العقد صحيح لأمرين:
    الأول: لا يوجد دليل على اشتراط البلوغ صريح.
    الثاني: أن أصل وجوب الشهادة ليس بقوي فإذا جمعت بين الأمرين لا تكاد تشك أنه إذا عقد الأمر النكاح وشهد عليه اثنان لم يبلغا وقاربا البلوغ فإنه يصحح العقد ومن خلال الخلاف السابق تعلم أنه لم يقل أحد من الفقهاء بتصحيح شهادة الصبي الصغير الذي لم يميز أو الذي ميز قريبا كأن يكون له سبع سنوات أو ثمان سنوات هذا لا أعلم أحد من أهل العلم صحح شهادة هذا الطفل إنما الخلاف في الرجل الذي قارب البلوغ وهو عاقل ويفهم هذا الخلاف فيه كما سمعت.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (سميعين)
    يشترط في الشهود أن يكون لديهم حاسة السمع وهذا الشرط باتفاق الأئمة الأربعة ودليلهم ظاهر جداً لأن المشهود عليه هنا قول والقول إنما يسمع سماعاً إذا لم يكن يسمع فعلى ماذا يشهد ولهذا اتفق الأئمة الأربعة على هذا الحكم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ناطقين)
    ذهب الجمهور إلى أن الأخرس لا تصح شهادته ودليلهم أيضاً ظاهر وهو عدم تمكنه من أداء الشهادة عند الحاجة إليها. وإلى هذا ذهب الشافعية والأحناف والحنابلة وهم الجمهور.
    (5/112)
    ________________________________________
    القول الثاني للمالكية: وهو قول للحنابلة أنه يصح إذا تمكن من أدائها كتابة وفي الحقيقة الحنابلة هم الذين قالوا مسألة الكتابة، والمالكية عندهم إطلاق فيما رأيت قالوا تصح شهادة الأخرس مطلقاً لكن يبدو لي أن مقصودهم يعني إذا أداها كتابةً وهذا القول الثاني صحيح إذا كان لا يتكلم ولكنه يسمع فإنه إذا كان سميع لكنه أخرس فان شهادته صحيحة لأنه إذا طُلب منه أن يؤديها سيؤديها كتابةً.
    ومن هنا علمنا أن الأخرس الذي لا يحسن الكتابة لا تصح شهادته عند الأئمة الأربعة وعلمنا أيضاً من خلال تعليل الحنابلة والمالكية أن الأخرس الذي يتكلم بالإشارة تصح شهادته لأنه سيؤدي الشهادة بالإشارة ومن يحسن الإشارة من الناطقين ينقل شهادته إذاً الضابط أن الأخرس إذا استطاع أن يؤدي الشهادة بالكتابة أو بلغة الإشارة فان شهادته صحيحة.
    انتقل المؤلف إلى موضوع آخر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وليست الكفاءة ... )
    انتهى المؤلف من شروط صحة النكاح ثم أراد أن ينبه إلى شرط الكفاءة وهو شرط عند بعض أهل العلم أراد أن ينبه إلى الأحكام المتعلقة بهذا الشرط.
    فالكفاءة لغة: المساواة.
    وشرعاً: مساواة الزوج للزوجة في الدين والنسب.
    وقولنا في التعريف في الدين والنسب يعني على ما مشى عليه المؤلف أما الصفات التي يطلب فيها التساوي لتحقيق المكافأة أو لتحقيق التكافؤ فهي مختلف فيها بين الفقهاء كما سيأتينا لكن نحن نريد أن نعطي تعريف عام للكفاءة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ليست الكفاءة شرطاً)
    ذهب الجمهور من أهل العلم، عامة أهل العلم إلى أن الكفاءة ليست من شروط الصحة وإن كانت من شروط اللزوم فهي ليس من شروط الصحة لكنها من شروط اللزوم ويترتب على هذا أن العقد على رجل ليس مكافئ للمرأة صحيح إلا أن للأولياء الحق في الفسخ إذاً يجب أن نتصور مذهب الجمهور تماماً قبل أن ننتقل إلى الأقوال والأدلة إذاً ليس شرط صحة ولكنه شرط لزوم نحتاج أدلة لطرفي القول.
    الدليل الأول: على أنه ليس من شروط الصحة أن النبي صلى الله عليه وسلم (زوج قرشية وهي فاطمة بنت قيس من أسامة بن زيد وهو مولى) والحديث في الصحيح.
    (5/113)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: أن أبا حذيفة رضي الله عنه زوج سالماً من ابنة عمه هند وهي قرشية، هند هذه ابنة الوليد بن عتبة من صميم قريش وسالم مولى لامرأة من الأنصار.
    الدليل الثالث: ليس في النصوص الشرعية ما يدل على اشتراط المكافأة أو أن يكون كفأً التكافؤ.
    الدليل الرابع: مجموعة من الأحاديث لا يصح منها شيء تدل على عدم اشتراط الكفء صراحة.
    القول الثاني: أن كون الزوج كفء للزوجة شرط صحة يعني أنه من حقوق الله ليس من حقوق الآدميين فلو رضي الزوج والزوجة وجميع الأولياء الأقرباء من الطرفين لا يعني شيء والعقد باطل.
    واستدلوا بدليلين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء لبعض والموالي بعضهم أكفاء لبعض" فالحديث قسم إلى قسمين ودل بمفهومه أن غير العربي ليس كفء للعربي وهذا الحديث قال عنه أبو حاتم: (هذا كذب وباطل).
    الدليل الثاني: قالوا أن عمر بن الخطاب قال على ملأ من الناس لأمنعن تزويج الحسيبات إلا من الأكفاء وهذا الأثر ضعيف.
    وأنا أقول من عندي حاشا لله أن يقول أمير المؤمنين عمر هذا الكلام أبداً وهو يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يزوج الموالي من القرشيات حاشاه أن يقول مثل هذا.
    القول الثالث: كون الزوج كفؤ ليس بشرط صحة ولا لزوم ليس بشرط مطلقاً وهو مذهب ابن حزم ومذهب لبعض الفقهاء استدلوا بأن الأحاديث المذكورة في القول الأول ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ رضا باقي الأولياء فدل على أن رضاهم غير معتبر.
    (5/114)
    ________________________________________
    والراجح إن شاء الله القول الثالث لأنه لا يوجد في السنة ما يدل على الاشتراط أضف إلى هذا وجود أحاديث تدل على عدم الاشتراط لكن من الحكمة بلا شك أنه إذا كان التزويج بغير الأكفاء يدخل الشقاق على كامل العائلة والحمولة ويؤدي إلى أضرار ومفاسد كبيرة أنا أقول من الحكمة وليس من الأحكام الشرعية ألا يقدم الولي على مثل هذا التصرف صيانة لاجتماع العائلة ولعدم دخول فساد على الأب والزوجة وربما على الأبناء وربما تطور الأمر إلى أكثر من هذا نعم صحيح على طالب العلم أن يبين أن هذه عصبية جاهلية ليست من الإسلام في شيء وأن ينور الناس ويفقههم في هذا الباب لكن هذا شيء واستخدام الأولياء الحكمة في التصرف أحياناً شيء آخر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وليست الكفاءة وهي دين ومنصب وهو النسب والحرية)
    الكفاءة عند الحنابلة في أمرين فقط الدين والمنصب.
    المنصب عرفه الشيخ بقوله النسب والحرية نبدأ بالأول وهو الدين والمقصود بالدين يعني أن يساويها ديناً فالمقصود بالدين هنا الصلاح والاستقامة وقيل المقصود بالدين فعل الأوامر واجتناب النواهي وبين القولين تشابه شديد إلا أن القول الأول كأنه يتطلب مرحلة أو درجة من الصلاح أكثر من مجرد فعل الأوامر وترك النواهي بناءً على هذا لا يجوز أن يزوج التقية للفاجر لأن ليس بينهما تساوي في الدين ولا يجوز أن يزوجها للفاسق ولو لم يصل إلى مرحلة الفجور لأنه ليس بينهما تساوي في الدين.
    والقول الثاني: أن الدين ليس شرطاً في التزويج وعلى القول الثاني العمل، فالآن الناس يزوجون المرأة وإن كانت صالحة لرجل وإن كان فاسقاً والعقد صحيح وهو في الحقيقة لا يوجد ما يدل بطلان العقد إذا زوج الرجل ابنته الصالحة من رجل فاسق أو فاجر بغير الزنى لا يوجد ما يدل على البطلان لكن لاشك أن تزويج الإنسان ابنته الصالحة إلى رجل فاسق ليس من أداء الأمانة وقد يكون آثم في هذا الصنع أولاً لأنه لم يراعي مصلحة المرأة وثانياً وهو الأهم أنه يعرَّض المرأة إلى خلل في دينها بسبب طول الصحبة مع هذا الفاسق ويستثنى من هذا ظروف معينه وملابسات خاصة تكون المصلحة في التزويج لكن في الأصل أنه ليس من أداء الأمانة أن يزوجها للفاسق.
    (5/115)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومنصب وهو النسب)
    النسب تقدم معنا أنه من شروط الكفاءة والخلاف المتقدم ينصب في الحقيقة على النسب والأدلة التي ذكرت تدل على عدم اشتراط النسب ومما يدل على قوة القول بأن اشتراط النسب لا تدل عليه الأدلة مع الأحاديث التي تقدمت قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} فجعل الكرامة والمنزلة إنما هي بالتقوى وليست بالنسب وكما أن قوله تعالى: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} يدل على هذا.
    وجه الاستدلال أن الله تعالى ذكر في الآية أن الحكمة من جعلهم شعوب وقبائل أن يتعارفوا لا أن يتفاخروا ومنع تزويج غير النسيب هو من باب التفاخر إذاً هاتان الآيتان تدلان على قوة ما تقدم من أنه لا يشترط الكفاءة في النسب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والحرية)
    الحرية شرط عند الجمهور واستدلوا بدليلين:
    الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام خير بريره لما أعتقت وبقي زوجها عبداً.
    الثاني: أن العبد ينقص درجة كثيرة عن الحرة ويدخل عليها الأذى بسبب أن العبد سيكون مشغولاً بمصالح سيده عن حقوق زوجته.
    والقول الثاني: أن الحرية لا تشترط فيجوز أن نزوج الحرة للعبد والأقرب أنه شرط لزوم لا صحة فإن حديث بريره فيه التخيير وليس فيه الفسخ ونحن نقول نبقى مع هذا الحديث النبوي ونقول هو شرط لزوم والقول بأنه شرط لزوم قوي في الحقيقة لأنه صحيح أن العبد مشغول بمنافع سيده وخدمته عن حقوق الزوجة ويدخل عليه الضرر.
    ((الأذان))

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (شرطاً في صحته)
    يعني وليست الكفاءة شرطاً في صحته لكنه أراد أن يبين أنها شرط لزوم فقال يتقدم شرط أنه هل هي شرط في الصحة أو لا؟ يقول: فلو زوج الأب عفيفة بفاجر أو عربية بأعجمي فلمن لم يرضا من المرأة أو الأولياء الفسخ.
    إذا زوج الرجل موليته من غير الكفء صح العقد وثبت الخيار للمرأة وباقي الأولياء وأفادنا المؤلف أن جميع الأولياء وليس صاحب المرتبة الأولى في الولاية فقط بل لجميع الأولياء حق الفسخ ولو كان الولي الأول راض، فإذا زوج الأب ابنته من رجل فلأخيه وابنه ولكل الأولياء حق الفسخ إذا لم يرضوا بهذا الرجل من حيث الكفاءة.
    (5/116)
    ________________________________________
    واستدل الحنابلة على هذا بأن الضرر والضيم يدخل عليهم جميعاً، ودخول ضرر يثبت الحق في الفسخ.
    القول الثاني: أنه ليس لكل الأولياء الحق في الفسخ إنما الحق فقط للولي الأول وهو صاحب الولاية الشرعية.
    واستدلوا على هذا بأن إذن الباقين غير معتبر فاعتراضهم كذلك لا يعتبر، واستدلوا بأن الله تعالى جعل الولاية لهذا الرجل وأناط به الحكم فقوله هو المعتبر.
    والراجح إن شاء الله القول الثاني لأن مذهب الحنابلة وهو القول الأول يؤدي إلى نوع من الفوضى فكل واحد من الأولياء لم يرض بهذا الزوج لأي سبب كان ذهب يبحث عن اختلال شرط الكفاءة في الدين أو في النسب أو في الصفات الأخرى التي ذكرها الفقهاء كالصنعة وتطلب هذا الأمر إلى أن يبطل النكاح.
    مادام الشارع جعل الولاية لهذا الأول فهو المفوض في الرضا وعدم الرضا.
    بهذا انتهى الباب الأول وننتقل إلى باب المحرمات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

    (باب المحرمات في النكاح)
    باب المحرمات في النكاح باب مهم ومفيد ليعرف الإنسان من يجوز أن يتزوج ومن لا يجوز والمحرمات تنقسم إلى قسمين:
    محرمات إلى الأبد ومحرمات إلى أمد.
    والمحرمات إلى الأبد له أقسام:
    بدأ المؤلف بالقسم الأول وهو المحرمات بالنسب، وبدأ الشيخ بالمحرمات بالنسب لأنهن أشد المحرمات تحريماً لشدة القرب من الرجل، والمحرمات من النسب سبع نساء ذكرن بالآية: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت}، يظهر لي من ترتيب الآية أن القرآن بدأ بالأقرب فالأقرب أليس كذلك؟ بناءً على هذا تثبت الآية أن العمة أقرب من الخالة وهذا نستفيد منه ليس في باب النكاح فقط لكن نستفيد منه في صلة الرحم إذا كانت الآية هذا ترتيبها إذاً نقول أن العمة أكثر في صلة الرحم من الخالة، والخالة لها صلة رحم بالإجماع قوية لكن نقول يلمس من الآية وتأكد هذا بأن الشارع بدأ بتحريم بنات الأخ قبل بنات الأخت مما يؤكد هذا المعنى وأن أقرباء الرجل أقرب.
    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/117)
    ________________________________________
    الدرس: (5) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    بالأمس تحدثنا عن أول باب المحرمات من النساء وقبل أن أكمل أحب أن أنبه إلى مسألة تتعلق بمسألة الكفاءة وأن الحنابلة يرون أن لباقي الأولياء الفسخ إذا لم يرضوا.
    تحدثنا عن هذه المسألة والخلاف فيها.
    الشيء الذي أحب أن أضيفه هو أن هذا الخلاف في كون الأولياء لهم الحق في الفسخ أو عدمه إنما هو إذا وقع العقد والزوج ليس من الأكفاء.
    أما إذا تزوجت المرأة بالكفؤ ثم بعد ذلك أصبح ليس من الأكفاء فهنا عند الحنابلة وغيرهم ليس للأولياء حق الفسخ وإنما الذي له حق الفسخ في هذه الصورة فقط الزوجة.
    وهذا فيما إذا كان من الأكفاء ثم أصبح بعد ذلك من غير الأكفاء.
    وهذه المسألة ضرورية ولابد من التفريق بين الصورتين.
    ونعود إلى الكلام عن المحرمات من النساء ...
    تقدم معنا أن المحرمات على نوعين:
    ـ محرمات على سبيل التأبيد.
    ـ ومحرمات إلى أمد.
    وأن المؤلف - رحمه الله - بدأ بالمحرمات على سبيل التأبيد وأنهن أقسام. وبدأ المؤلف - رحمه الله - بالمحرمات نسباً لأنهن أشد أنواع النساء تحريماً وبدأ بأشد المحرمات نسباً وهي الأم.
    والمحرمات بالنسب تقدم أنهن في كتاب الله سبع نسوة معدودات محصورات: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ... } [النساء/23] فهذه سبع نساء هن المحرمات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    تحرم أبداً: الأُم، وكل جدة وإن علت.
    الأم والجدة من المحرمات في باب النكاح.
    ودليل هذا ظاهر وهو: قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم}.
    وأم الأم: أم وإن كانت تسمى جدة إلا أنها في الشرع أيضاً: أم.
    والأم في الشرع واللغة والعرف هي: المرأة التي ولدتك.
    سواء كانت ولادة حقيقة وهي الأم المباشرة.
    أو ولادة مجازية وهي التي ولدت من ولدتك.
    إذاً: هذه هي الأم المرادة بالتحريم.
    ومن المعلوم إن شاء الله أن تحريم الأم محل إجماع والقرآن واضح الدلالة عليه ولا إشكال فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والبنت وبنت الإبن وبنتاهما.
    (5/118)
    ________________________________________
    تحرم: ـ البنت. ـ وبنت الإبن. ـ وبنتاهما: يعني: بنت البنت. وبنت بنت الابن.
    هؤلاء أربع نسوة.
    لكنه ختم هذا:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وإن سفلت.
    إذاً: بنت البنت. وبنت ابن البنت وإن سفلت محرمات على الإنسان.
    ودليلها أيضاً واضح وهو: قوله تعالى: {وبناتكم}.
    فالبنت بالإجماع والنص فلا يجوز للإنسان أن يتزوج من ابنته.
    وهذا الأمر أوضح من أن ينبه عليه ولكنه أراد أن يذكر المحرمات في القرآن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    من حلال وحرام.
    أفادنا المؤلف - رحمه الله - أن البنت وإن كانت من زنا فهي محرمة على أبيها يعني - ولابد أن نقول يعني: - الزاني.
    وإلى هذا ذهب الجماهير. فذهبوا إلى أن البنت من الزنا محرمة على أبيها وهو: الزاني.
    واستدلوا على هذا بدليلين:
    - الأول: أن هذه البنت مخلوقة من ماء الرجل فهي في الواقع والحقيقة ابنة له.
    - الثاني: القياس على مسألة أجمع عليها وهي: تحريم الأم على ابنها من الزنا.
    فاستدل الجمهور بهذين الدليلين وذهبوا إلى تحريم ابنة الزنا.
    = والقول الثاني: وهو للإمام الشافعي. فهو يرى جواز الزواج بابنته من الزنا.
    واستدل على هذا بدليلين:
    - الأول: أن هذه البنت لا تنتسب إليه شرعاً.
    - الثاني: أن هذه البنت التي جاءت من الزنا - والعياذ بالله - ليست من أولاده بدليل: أنها لا تدخل في آية المواريث بالإجماع.
    فلذلك ذهب - رحمه الله - إلى أنه لا تحرم بنت الزنا ولكن مع ذلك قال: أن الزواج بها مكروه.
    وهذا من الإمام الشافعي مبني على أصله الذي تقدم معنا مراراً وهو الأخذ بظاهر الحال. فالظاهر أن هذه شرعاً ليست ابنته وإذا لم تكن ابنته في ظاهر الشرع جاز له أن يتزوجها لعدم وجود المانع الشرعي.
    مذهب الإمام الشافعي في الحقيقة ضعيف - أو ضعيف جداً. لأنه يستقيم مطلقاً النظر للظواهر وترك الحقائق.
    وهذه البنت لا شك أنها من مائه فكيف يجيز له أن ينكحها. والقياس على ولد المرأة من الزنا قياس جلي إذ لا فرق بينهما كذلك ولد المرأة من الزنا ليس بابن لها ولذلك نقول إن شاء الله ما ذهب إليه الإمام أحمد والإمام مالك والإمام أبو حنيفة وغيرهم من أهل العلم هو الصواب إن شاء الله وهي محرمة ولا تجوز مطلقاً للأب.
    (5/119)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وإن سفلت.
    يعني: وإن نزلت.
    وتقدم معنا الكلام عنه: بنت البنت - وبنت بنت الابن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وكل أُخت.
    يقصد بـ: (كل) يعني: سواء كانت شقيقة أو لأم أو لأب.
    والدليل على التحريم: الآية. فالآية نصت على تحريم الأخوات. فالأخوات لا يجوز للإنسان أن يتزوج بهن ولا أن ينظر إليهن نظر شهوة وهذا لا إشكال فيه وهو كما محل إجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنتها.
    يعني: بنت الأخت محرمة، لقوله تعالى: {وبنات الأخت}.
    فبنت الأخت محرمة على الإنسان ولا يجوز له أن ينكحها للنص الصريح في كتاب الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنت ابنتها.
    يعني: بنت بنت الأخت. أيضاً محرمة:
    - لأن بنت بنت الأخت هي في الواقع: بنت الأخت.
    والمؤلف - رحمه الله - ترك مسألة/ ولعله يرى أنها ظاهرة وهي: بنت ابن الأخت. فهو يقول: بنت بنت الأخت باقي عليه: بنت ابن الأخت.
    فبنت ابن الأخت تعتبر من بنات الأخت أيضاً.
    ولذلك لو قال المؤلف - رحمه الله -: (وبنات أولادها) لانتهى الإشكال.
    إذاً بنت الأخت وبنت وبنت الأخت وبنت ابن الأخت كلهم يدخل صراحة في الآية.
    وهو أيضاً أمر مجمع عليه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنت كل أخ.
    أيضاً: (كل) هنا تشير إلى الأخ الشقيق ولأب ولأم.
    وأرى أن المؤلف - رحمه الله - لو قدم بنت الأخ على بنت الأخت لكان أوفق وأحسن.
    لماذا؟ ليطابق الآية.
    بنات الأخ: صرح القرآن بتحريمهن. وهن محرمات بالإجماع. وما يقع من وهم عند بعض العوام الذين هم بعيدين عن العلم تماماً أن بنت الأخ تجوز وهم فاحش ولا يقع فيه إلا إنسان ربما لم يقرأ القرآن مطلقاً.
    ولذلك هو يقع من أناس مغرقين في الجهالة والبعد عن أحكام الشرع لأن هذا الحكم موجود في القرآن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنتها.
    يقصد: (بنتها) يعني: بنت بنت الأخ. فبنت بنت الأخ هي في الواقع بنت للأخ.
    ولذلك فهي: أيضاً داخلة في الآية وهي محرمة بالإجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنت ابنه.
    يعني: بنت ابن الأخ.
    فبنت ابن الأخ هي في الواقع بنت للأخ وهي داخلة أيضاً في الآية وتحريمها ظاهر ومجمع عليه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنتها وإن سفلت.
    (5/120)
    ________________________________________
    يعني: بنت بنت ابن الأخ، فهذه من بنات الأخ.
    وطول السلسلة لا يمنع من نسبتها للأخ.
    فإذاً: كل بنت تنزل عن الأخ من بنات بناته أو بنات أبنائه فهي محرمة وهي داخلة في الآية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وكل عمة وخالة وإن علتا.
    العمة والخالة: محرمات: بنص الآية.
    وأيضاً هن محل إجماع، فالعمة والخالة محرمات.
    لكن نلاحظ أن المؤلف - رحمه الله - لم يقل: وبنتها وبنت بنتها وبنت بنت أخوها: لأن بنت العمة وبنت الخالة حلال.
    - لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}.
    - ولأنه لا يوجد دليل على التحريم.
    ولذلك لاحظ أن المؤلف - رحمه الله - أطلق. فبنات العمة وبنات الخالة من النساء التي يجوز للإنسان أن يتزوج بهن.
    بهذا انتهى القسم الأول من المحرمات وننتقل إلى القسم الثاني وهي: الملاعنة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والملاعنة على الملاعن.
    ـ القسم الثاني: المحرمات باللعان.
    والمحرمة باللعان تحرم على زوجها الذي لاعنها.
    - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (للملاعن ليس لك عليها سبيل).
    فالملاعنة محرمة على الزوج.
    * * مسألة/ فإن رجع الزوج وأكذب نفسه. فإن أكذب نفسه:
    = فالمذهب: أنها تظل محرمة عليه. ولا يجوز له أن يتزوجها ولو أكذب نفسه.
    ونقل بعض الحنابلة عن الإمام - رحمه الله - رواية أخرى أنه: من أكذب نفسه جاز له أن يعقد عليها من جديد لمن هذه الرواية اعتبرها كثير من الحنابلة رواية شاذة.
    لأن الحديث عام. لاسيما وأن الذي روى هذه الرواية قد ينقل في أحيان كثيرة ما يستغرب عن الإمام أحمد فإذا جمعت هذا مع هذا تبين لك أن حكم بعض الحنابلة عليها بالشذوذ صحيح.
    ـ القسم الثاني: إذا لم يكذب نفسه فإنه بالإجماع لا يرجع إليها.
    وإنما يوجد خلاف قال ابن قدامة وهو خلاف شاذ فالإجماع إن شاء الله محفوظ بالنسبة إذا لم يكذب نفسه.
    هذا ما يتعلق بالقسم الثاني. وهو فقط الملاعنة.
    ننتقل إلى القسم الثالث:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ويحرم بالرضاع: ما يحرم بالنسب، إلاّ أُم أُخته وأُخت ابنه.
    ـ القسم الثالث: المحرمات بالرضاعة.
    يقول - رحمه الله -:ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.
    (5/121)
    ________________________________________
    الله سبحانه وتعالى صرح في القرآن بتحريم امرأتين بالرضاع فقط: {أمهاتكم اللاتي أرضعنكم} و {أخواتكم من الرضاعة} [النساء/23].
    ولكن النص في القرآن على هاتين المرأتين لا يعني قصر الحكم عليهما. فإن أهل العلم أجمعوا على أن الحكم ليس مقصوراًَ على هاتين وإنما يمتد إلى جميع المحرمات بالرضاعة مما يقابلن المحرمات بالنسب.
    واستدلوا على هذا:
    - بالحديث الصحيح الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).
    فبالاستدلال بهذا الحديث وبالإجماع قاس العلماء باقي المحرمات من الرضاعة على المذكورات في الآية الكريمة.
    وبهذا عرفنا أن كل محرمة من النسب يقابلها محرمة من الرضاعة - وسيأتيتنا في كتاب الرضاعة تفصيل كثير حول هذا وما يستثنى والأشياء التي لا تستثنى والخلاف في بعض المحرمات بالرضاع سيأتينا إن شاء الله في ذلك الكتاب.
    إلا أن الشيخ المؤلف - رحمه الله - استثنى امرأتين وهذا الاستثناء من القاعدة هو وضع قاعدة يقول:
    يرم بالضراع: ما يحرم بالنسب.
    فاستثنى من هذا مسألتين:
    ـ الأولى: يقول: (إلا أم أخته). أم أخته من النسب: ـ إمام أن تكون أمه. ـ أو زوجة أبيه.
    إذاً: أم أخته من النسب: محرمة.
    لكن أم أخته من الرضاع ليست محرمة.
    معنى أم أخته من الرضاع لا كما يفهمه بعض الناس - معناها: يعني إذا كان لك أخت لها أم من الرضاع.
    وليس المعنى أم أخته من الرضاع - كما يفهمه كثير من إخواننا.
    إذاً: معنى أم أخته من الرضاع يعني: إذا كان لك أخت لها أم من ارضاع فهذه الأم لا تحرم عليك.
    وجه الاستثناء: أن أمها من النسب تحرم وأمها من الرضاع لا تحرم.
    إذاً: يجب أن نفهم كيف كان هذا استثناء من القاعدة العامة.
    ـ الثاني: أخت ابنه. أخت ابنك: ـ إما أن تكون ابنتك. ـ أو تكون ربيبتك. وفي الصورتين محرمات: ابنتك وابنة زوجة يعني ربيبتك محرمة.
    لكن أخت ابنك من الرضاع ليست محرمة عليك. يعني: إذا كان لابنك أخت من الرضاع فهي لا تحرم عليك. بينما ما يقابلها من النسب: محرم.
    ولهذا استثنى المؤلف - رحمه الله - هاتين المسألتين من القاعدة العامة.
    (5/122)
    ________________________________________
    هكذا ذكر المؤلف - رحمه الله - وغيره من الحنابلة. بينما ذهب جمهور عريض من العلماء إلا أنه لا حاجة لاستثناء هاتين المسألتين أصلاً لأنها لا تدخل في القاعدة لأن العلاقة بين هاتين المرأتين المحرمتين هي المصاهرة وليست النسب، فإذاً لا تدخل في القاعدة أصلاً. ولهذا اعتبروا استثناءها غير صحيح لأنها لم تدخل أصلاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ويحرم بالعقد: زوجة أبيه.
    انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى المحرمات بالمصاهرة.
    والمحرمات بالمصاهرة أربع:
    ـ ثلاث منهن يحرمن بمجرد العقد.
    ـ وواحدة لا تحرم إلا بالدخول. وجعلها المؤلف الأخيرة حتى يذكر المحرمات بمجرد العقد متسلسلات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    ويحرم بالعقد: زوجة أبيه.
    قوله: (ويحرم بالعقد: زوجة أبيه) ظاهره: سواء كان بعد الدخول أو قبل الدخول.
    - لأن المرأة بعد العقد تعتبر من نساء الرجل فتدخل في الآية ولم تشترط الآية الدخول.
    يقول - رحمه الله - ويحرم بالعقد: زوجة أبيه.) يحرم بمجرد العقد زوجة الأب وأيضاً هذا منصوص عليه في القرآن بقوله: {ولا تنكحوا كا نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}.
    فالآية نص بتحريم الزواج بمن عقد عليها الأب.
    ولهذا أصبحت هذه المسألة محل إجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وكل جد.
    الجد: كما تقدم معنا مراراً هو: أبو الأب وإن على، وهو في الشرع: أب.
    الآية التي نصت على تحريم نكاح ما نكح آباؤنا يدخل فيها الجد، والجد أيضاً: محل إجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وزوجة ابنه وإن نزل.
    زوجة الابن وإن نزل يعني: ابن الابن وابن الابن. زوجات هؤلاء جميعاً محرمات.
    - لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم}.
    فحليلة الابن محرمة بمجرد العقد على الأب.
    ودليل هذا القرآن ولهذا أصبحت هذه المسألة محل إجماع من الفقهاء.
    وكما ترى الشارع الحكيم فيما يتعلق بالنكاح تولى بيان الأمر بشكل واضح وغالب المسائل محل إجماع لأن هذه المسألة حساسة وهذا يعطي الإنسان أن عقد النكاح عقد اهتم به الشارع اهتماماً بالغاً والاحتياط له في الحقيقة واجب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    دون بناتهن.
    يعني: دون بنت زوجة الأب.
    فبنت زوجة الأب حلال للإبن وهي: الربيبة.
    (5/123)
    ________________________________________
    ولهذا صرح هنا لعله لدفع التوهم صرح بعدم تحريم بنت زوجة الأب لأنها ربائب وليس بينها وبين ابنه من زوجة أخرى أي علاقة فهي تجوز ولا حرج في الزواج منها.
    وكما قلت هو في العمة والخالة لم يصرح بالنفي لكن هنا صرح بالنفي دفعاً للتوهم والإلتباس.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وأُمهاتهن.
    يعني: أم زوجة الوالد وأم زوجة الولد.
    فأم زوجة الوالد إذا تزوج الأب بزوجة أمها حلال للإبن كما أن ابنتها حلال للابن كذلك أم زوجة الابن نفس الشيء حكمها أنها حلال للأب.
    - لأنه لا يوجد بينهم صلة.
    - ولا يوجد ما يدل على المنع، والأمر واضح وإنما صرح على حكمه دفعاً للتوهم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وتحرم: أُم زوجته وجداتها بالعقد.
    هذا: الثالث: مما يحرم بمجرد العقد والأخير، وهو: أم الزوجة:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتحرم: أُم زوجته وجداتها بالعقد) يعني: بمجرد العقد.
    والدليل على تحريمها:
    - قوله: {وأمهات نسائكم}. وأم المرأة يطلق على أمها القريبة التي ولدتها وعلى من ولدت من ولدتها أو على التي ولدت من ولدتها وهي الجدة وإن علون.
    وتحريمهن أيضاً نص في الكتاب ومحل إجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنتها وبنات أولادها: بالدخول.
    هذا النوع الرابع. وهو: بنت الزوجة. وبنت ابنتها، لا تحرم إلا بالدخول.
    وهي: المرأة الوحيدة التي يشترط - يعني: من المحرمات بالمصاهرة - الوحيد التي يشترط لتحريمها مع العقد: الدخول.
    واستدلوا على هذا:
    - بقوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن}. [النساء/23]
    فالآية نصت على اشتراط الدخول.
    * * مسألة/ نلاحظ أن الآية اشترطت مع الدخول: أن تكون في حجر الزوج. وهذه المسألة: نقول هي محل خلاف. - أي: في اشتراط هذا الشرط المنصوص عليه في الآية: خلاف.
    = فذهب الجماهير ومنهم الحنابلة - كما ترى في كلام المؤلف وغيرهم من أئمة المسلمين: إلى عدم اشتراط هذا الشرط.
    وقالوا: الربيبة تحرم على الزوج - يعني زوج الأم - بعد سواء كانت في حجره أو لم تكن كذلك.
    وأجابوا عن الآية: بأنها خرجت مخرج الغالب. لأن الغالب أن تكون ابنة الزوجة في بيت الزوج. - يعني ابنى الزوجة من غيره - في بيته.
    واستدلوا:
    (5/124)
    ________________________________________
    - بأن الآية فصلت في حكم الدخول فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ولم تفصل في اشتراط كون الربيبة في حجر الزوج.
    ففي هذا إشارة إلى أنه لا يشترط على سبيل الحقيقة.
    = القول الثاني: وهو مذهب ابن حزم. أنه يشترط.
    واستدل على هذا بأمرين ظاهرين:
    - الأول: الآية. فقال: الآية صريحة في اشتراط هذا الأمر.
    - والثاني: آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    * * مسألة/ إذا اشترطنا أن تكون في حجر الزوج فبماذا يحصل تحقق أن تكون في حجره؟
    = قال الظاهرية: يحصل بأمرين:
    ـ الأول: أن تكون البنت في بيته وتحت كفالته ورعايته. فهنا تسمى في حجره.
    ـ الثاني: أن لا تكون في بيته لكن يكون هو الذي يتولى مصالحها كأنه الولي.
    فإذا تحقق أحد الأمرين فهي في حجره. يتحقق الشرط عند الظاهرية.
    خلاصة الأمر: إذاً: أن الربيبة تحرم بشرطين: ـ أحدهما: مجمع عليه وهو الدخول.
    ـ والثاني: مختلف فيه وهي أن تكون في حجره.
    والأقرب والله أعلم: أنه لا يشترط. لأن ظاهر الآية يفيد هذا بعدم التفصيل فيه ولأن أئمة المسلمين قاطبة فهموا أن هذا القيد المذكور في الآية قيد خرج مخرج الغالب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن بانت الزوجة أو ماتت قبل الخلوة: أُبحن.
    تلاحظون أن المحقق - وفقه الله - أشار إلى نسخة أنها: (أو ما تت بعد الخلوة) وهذه النسخة لعلها هي الصواب.
    لأنه تحصل الفائدة من تنصيص المؤلف على الدخول وعدمه إذا كانت العبارة بعد لا إذا كانت.
    يقول - رحمه الله - أنه إذا بانت الزوجة أو ماتت بعد الخلوة أبحن.
    أبحن: إذا ماتت أو بانت: لأن المانع زال فدخلن في عموم الآية المبيحة للمحصنات من النساء.
    * * مسألة/ قوله: (بانت الزوجة أو ماتت قبل الزوجة: أبحن) يريد المؤلف أن يؤكد على مسألة أن التحريم يكون بعد الدخول. وأنه لا يكون قبل الدخول ولو كان بعد الخلوة.
    إذاً: من كلام المؤلف نشترط الخلوة أو الدخول؟ نشترط الدخول - نحن قلنا أنها لا تحرم إلا بالدخول فهو يريد أنها لا تحرم بدون الدخول ولو كان بعد الخلوة.
    وإلى هذا ذهب الجمهور.
    مستدلين: بالآية: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن}.
    = القول الثاني: أن مجرد الخلوة بالمرأة يحرم البنت ولو لم يدخل بها.
    واستدلوا على هذا:
    (5/125)
    ________________________________________
    - بأن الشارع جعل الخلوة مقررة للمهر وموجبة للعدة فكذلك تحرم البنت.
    والراجح مذهب الجمهور وذلك لأن الله نص في القرآن على اشتراط الدخول وليس مع نص الله بحث أو نظر أو تعليل.
    فنقول: الخلوة جعلها الشارع مقررة للمهر كما سيأتينا وموجبة للعدة لكنها لا تحرم البنات إذا حصلت مع الأمهات بل لابد من الدخول يعني: لابد من الوطء.
    فهذا هو المراد بالدخول.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فصل وتحرم إلى أمد: أُخت معتدته وأُخت زوجته وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما.
    انتقل المؤلف - رحمه الله - إلى القسم الثاني من أصل التقسيم وهن: المحرمات إلى أمد.
    والمحرمات إلى أمد أيضاً: أقسام.
    بدأ: ـ بالقسم الأول وهي: المحرمة بسبب الجمع.
    ويجب أن تستحضر كلمة: (بسبب الجمع). لأنها تعليل لكثير من الأحكام والتفصيلات المذكورة في هذا الباب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وتحرم إلى أمد: أُخت معتدته وأُخت زوجته.
    تحرم أخت المعتدة وأخت الزوجة مطلقاً.
    يعني: يحرم أن يجمع بين أختين حرتين أو أمتين. أو إحداهما حرة والأخرى أمة.
    يحرم الجمع بين الأختين مطلقاً.
    - لقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين}.
    فأخذ الفقهاء من هذا تعميم الحكم وأنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين أختين.
    وسيأتينا إن شاء الله مسألة / معتدته وماذا يقصد المؤلف بها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وبنتاهما.
    يعني: يحرم الجمع بين زوجته وبنت أخت زوجته زوجته.
    وبين معتدته وبين بنت أخت معتدته.
    لماذا؟
    - لأنه من الجمع بين المرأة وخالتها. والجمع بين المرأة وخالتها محرم ولا يجوز كما سيأتينا وسينص عليه المؤلف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وعمتاهما وخالتاهما.
    لا يجوز الجمع بين الزوجة وعمتها ولا بين الزوجة وخالتها.
    وإلى هذا ذهب كل علماء المسلمين من أهل السنة.
    واستدلوا على هذا:
    - بالحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
    وكما قلت: هو محل إجماع إنما خالف من لا قيمة له مطلقاً في الخلاف ولو أنهم لم يحكوا قولهم أصلاً لكان أولى: والذين خالفوا هم: الخوارج والشيعة.
    ولا قيمة لخلافهم مطلقاً.
    (5/126)
    ________________________________________
    إذاً: نقول: الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها محرم بالنص والإجماع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن طلقت وفرغت العدة: أُبحن.
    قوله: (وفرغت العدة) أفادنا أنه لا يجوز الجمع بين معتدة الإنسان وأختها مطلقاً.
    والمعتدات على قسمين:
    ـ القسم الأول: الرجعية. فالرجعية لا يجوز الجمع بينها وبين أختها أو عمتها أو خالتها بالإجماع.
    ـ القسم الثاني: البائن بينونة صغرى. أو بينونة كبرى.
    - فالبائن بينونة صغرى/ مثل/ المختلعة.
    - والكبرى/ مثل/ المطلقة ثلاثاً.
    = فالحنابلة يرون أنه لا يجوز الجمع بين البائن بينونة كبرى وأختها أو خالتها أو عمتها.
    واستدلوا على هذا:
    - بأن من كانت في العدة لها حق على الزوج ولزوجها حق عليها.
    = والقول الثاني: أنه يجوز الجمع بين البائن بينونة كبرى أو صغرى وبين عمتها أو خالتها.
    واستدلوا على هذا:
    - بأنه لا يمكن أن يعود الرجل لزوجته التي بان منها. فليس في زواجه من أختها أو خالتها أو عمتها جمع بينهما.
    وفي الحقيقة: أولاً: لم أجد من فرق - يعني: من المتقدمين - بين البائن بينونة كبرى وصغرى هم يحكون الخلاف بين الرجعية والبائن سواء كانت كبرى أو صغرى.
    هذا شيء.
    الشيء الثاني: في القول بأنه يجوز الجمع بينهما وجاهة وقوة. - القول الثاني: وجيه وقوي لأنه فعلاً إذا نظرت لروح النص والسبب الذي من أجله منع الشارع من ذلك تجده مفقود تماماً في البائن سواء بينونة كبرى أو رجعية.
    لكن مع ذلك لو أن الإنسان انتظر إلى أن تخرج من العدة خروجاً من الخلاف لاشك أنه أحوط.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن تزوجهما في عقد أو عقدين معاً: بطلا.
    (إن تزوجهما) يعني: من لا يجوز أن يجمع بينها وبين الأخرى في عقد واحد أو في عقدين: بطلا.
    (في عقد واحد) صورته: أن يقول: زوجتك أختي فيقول قبلت. فالآن تزوج في عقد واحد امرأتين لا يجوز الجمع بينهما.
    صورة أن يجمع بينهما بعقدين: أن يحضر ولي المرأة وولي خالتها. ويقولان للزوج زوجناك جميعاً فيقول: قبلت.
    فهنا في عقدين وفي الأول في عقد واحد.
    فإذا حصل هذا بطل النكاح.
    تعليل البطلان:
    - أن العقد وقع جملة واحدة فصار في هذا العقد جمع بين من لا يجوز الجمع بينهما. والجمع علة الإبطال.
    (5/127)
    ________________________________________
    = القول الثاني: أنه إذا جمع بين امرأتين يتخير إحداهما ولا نبطل العقدين.
    = والقول الثالث: أنه إذا جمع بنينهما: نقرع بينهما. فمن وقعت عليها القرعة صارت هي الزوجة والأخرى بطل نكاحها.
    والصواب أن العقد باطل. لأنه بالعقد جمع بين الممنوعتين فعليه أن يعيد ويعقد على أي منهما.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فإن تأخر أحدهما أو وقع في عدة الأُخرى وهي بائن أو رجعية: بطل.
    لما بين الحكم: إذا وقع العقدان دفعة واحدة بين الصورة الثاتية وهي ما إذا وقع عقد بعد عقد.
    وجمع بالعقد الثاني مع معقوده عليها بالعقد الأول من لا يجوز الجمع بينهما.
    والحكم في هذه الصورة أن العقد الثاني: باطل.
    التعليل:
    - هو ما تقدم/ أنه بالعقد الثاني جمع بين الممنوعتين لا بالعقد الأول. فالعقد الذي حصل به الجمع يبطل.
    كما أنه في الصورة الأولى لما حصل الجمع بين الثنتين بعقد واحد أبطلناه هنا حصل الجمع بالعقد الثاني فأبطلنا العقد الثاني وبقي العقد الأول صحيحاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    وتحرم: المعتدة والمستبرأة من غيره.
    انتقل إلى القسم الثاني وهن المحرمات لعارض يزول.
    فيقول - رحمه الله -: (وتحرم المعتدة والمستبرأة من غيره).
    ـ المعتدة من غيره. والمستبرأة من غيره محرمة. فلا يجوز للإنسان أن يتزوج معتدة غيره ولا من تستبرئ لغيره.
    - لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}.
    فنصت الآية على أنه لا يجوز أن يعقد الإنسان على معتدة غيره إلا إذا بلغ الكتاب أجله: يعني: انهت العدة.
    فإن عقد فالعقد باطل بنص القرآن.
    وهذا يتناول المعتدة والمستبرأة ويتناول ما إذا كانت المعتدة والمستبرأة تعتد بوطء حلال أو بوطء حرام.
    والمستبرأة هي التي يقصد من إمهالها معرفة براءة الرحم لا استكمال العدة الشرعية.
    والمعتدات والمستبرأة سيخصص المؤلف لهن باباً مستقلاً وهو من أبواب الفقه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها.
    لا يجوز للإنسان أن ينكح الزانية إلا إذا تحقق شرطان:
    ـ الشرط الأول: التوبة.
    ـ والشرط الثاني: انتهاء العدة.
    نبدأ بالشرط الأول: يشترط لجواز نكاح الزانية أن تتوب وإلى هذا ذهب الإمام أحمد وهو من مفردات الحنابلة.
    (5/128)
    ________________________________________
    واستدل على هذا:
    - بالآية. {الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك}.
    قال الحنابلة: والمرأة قبل أن تتوب تسمى زانية فتدخل في الآية.
    = القول الثاني: وهو مذهب الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأبو حنيفة أنه لا يشترط أن تتوب بل له أن يعقد عليها ولو لم تتب.
    واستدلوا على هذا بأدلة:
    - الدليل الأول: أن الله تعالى يقول: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. ولم يذكر في الممنوعات الزانية.
    والجواب على هذا الاستدلال: أن الله تعالى أيضاً قال في سياق الممنوعات: {والمحصنات من النساء} يعني: ويجوز لكم نكاح المحصنات من النساء وهذه ليست محصنة بل زانية.
    ثانياً: إذا لم تذكر الزانية في الآية الأولى فقد ذكرت في الآية الثانية.
    - الدليل الثاني: أن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - نصا على الجواز جواز نكاح الزانية.
    وهو صحيح عنهما.
    الراجح: الراجح مذهب الحنابلة. إن شاء الله بلا إشكال. ولا تردد. والإمام أحمد أخذ بالآية ولم يلتفت إلى الآثار.
    أضف إلى هذا: أنه صح عن عمر - رضي الله عنه - فتوى أخرى أصرح من هذه الفتوى ونسينا أن نذكر هذا (فتوى ابن عباس وعمر ليس فيها التصريح على أن هذه الزانية لم تتب. لكن سئل عن نكاح الزانية فأجازه.
    وفي الفتوى الثانية لعمر - رضي الله عنه - جاءه رجل وقال: إني أردت أن أنكح ابنتي فزعمت أنها زنت وأنها تخشى الفضيحة والعار - نسأل الله العافية والسلامة - فقال عمر - رضي الله عنه - هل تابت؟. فقال: نعم. فقال: زوجها.
    ففي هذه الفتوى النص الصريح على التوبة بينما الفتوى الأولى التي استدل بها الجمهور ليس فيها التصريح.
    الفتوى الأولى هي كالتالي: أن عمر - رضي الله عنه - جيء بامرأة ورجل قد زنيا فضربهما ثم أراد أن يزوج المرأة بالرجل فأبى الرجل - الزاني - قال الجمهور فهذا أمير المؤمنين سيزوج قبل التوبة.
    في الحقيقة صحيح أن ظاهر الفتوى والأثر أن التزويج بعد الجلد يعني: كأنها إلى الآن ما تابت - كأنها - لكن هذا محتمل وربما بعد أن أوتي بها إلى أمير المؤمنين تابت ولو كانت أقيم عليها الحد بالضرب.
    (5/129)
    ________________________________________
    وهنا فائدة بسيطة وهي أن ما نسمع عنه من أن مجموعة من الناس الذين يسلكون مسك مسلك الإغواء للنساء ويوقعوهن في حبائل الزنا أو ما دون الزنا ثم يتنكبها ويقلب لها ظهر المجن موجود من عصر الصحابة فهذا الرجل يطلب منه عمر أن يتزوج بها وقد زنا بها فيأبى وهذا نجده إلى الآن تجد من يكثر من مغازلة النساء والإيقاع بهن إذا أراد أن يتزوج ذهب إلى العفائف والحرائر وفي هذا أكبر واعظ لكل من سولت لها نفسها أن تتعاطى بالهاتف مع الشباب فإن النهاية وخيمة جداً كما ترى.
    وتعجبت جداً لما قرأت الأثر فيا سبحان الله.
    * * مسألة/ ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - أنه يحرم على الزوج .....
    (((الأذان))).
    أقول ظاهر كلام الحنابلة أنه يشترط لصحة النكاح توبة الزوجة الزانية فقط وأنه لا يشترط أن يتوب الزوج.
    = والقول الثاني: أنه يشترط أن يتوب الزوج والزوجة وأن اعقد لا يصح إذا كان الزوج زاني إلا إذا تاب.
    ودليل هذا القول ظاهر لأن الآية لم تفرق بين الزانية والزاني. لكن الإشكال أني ما أعرف دليل الحنابلة - ما وجدت لهم دليلاً - لماذا فرقوا مع وضوح الآية؟
    يعني: لا أذكر الآن لهم دليلاً فلم يفرقوا مع وضوح الآية إلا وهم يستندون على دليل واضح بالتأكيد لكن لا أذكر أنا لهم دليلاً معيناً.
    * * مسألة/ كيفية التوبة/ = ذهب الحنابلة: أن المرأة تعرف توبتها بأن تراود من قبل الزاني أو من قبل غيره فإن امتنعت فهو دليل التوبة وإلا فلا.
    = والقول الثاني: أن توبة الزانية كتوبة غيرها تكون بالنجم والاستغفار والاقلاع.
    والراجح أن توبة الزانية كتوبة غيرها ولهذا يقول: ابن قدامة - رحمه الله - والصحيح أن توبة الزانية كتوبة غيرها بالندم والتوبة والاستغفار.
    لكن هذه الطريقة الغريبة التي سلكها الحنابلة وهي: أن ترواد. وهي منصوص الإمام أحمد - رحمه الله - اعتمدوا فيها على فتوى لابن عمر - رضي الله عنه -.
    لكن الراجح بلا شك إن شاء الله هو القول الثاني وهو أن توبتها بالتوبة والندم والاستغفار والإقلاع.
    وأما فتوى ابن عر فهي والله أعلم فتوى خاصة في مناسبة خاصة ولا أراد - رضي الله عنه - أنه دائماً نمتحن الزانية حتى نعرف هل هي تائبة أولا؟
    (5/130)
    ________________________________________
    فتعميم هذه الفتوى غير مناسب من وجهة نظري.
    يقول - رحمه الله -:
    والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها.
    ـ الشرط الثاني: أن تنقضي العدة. = وذهب الحنابلة إلى هذا: استدلالاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض).
    = والقول الثاني: أنه لا يشترط انقضاء العدة. - لأن هذا الماء ماء محرم ولا يثبت النسب فلا يمنع عقد النكاح.
    والصواب مع الحنابلة فهم أحض بالدليل.
    والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.

    انتهى الدرس
    (5/131)
    ________________________________________
    الدرس: (6) من النكاح
    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
    كنت تحدثت في الدرس السابق عن شروط نكاح الزانية وأخذنا الشرط الأول وهو التوبة، والشرط الثاني وهو انقضاء العدة، وأخذنا الراجح في اعتبار هذين الشرطين أو عدم اعتبارهما وانتهت هذه المسألة، بقينا في مسألة تلحق بالشرط الثاني وهو انتهاء العدة، وهو بماذا تنتهي العدة.
    ذهب الجمهور إلى أن عدة الزانية بوضع الحمل أو بالإقراء، فإن كانت حامل فبوضع الحمل وإن كانت حائل فبالإقراء.
    والقول الثاني أن عدة الزانية تنقضي بحيضة واحدة يعن أنها تستبرأ فقط، وتقدم معنا أن الاستبراء يحصل بحيضة واحدة.
    وإلى هذا القول الثاني ذهب بعض الفقهاء وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصحيح وستأتينا هذه المسألة إن شاء الله في كتاب العدد لكن أردت أن أنبه إلى كيفية انقضاء العدة بالنسبة للزانية وهو أن الصحيح أنها تنقضي بحيضة واحدة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومطلقته ثلاثاً حتى يطأها زوج غيره)
    يعني وتحرم عليه المرأة التي طلقها ثلاث مرات حتى تنكح زوجاً غيره.
    ودليل هذا قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره}.
    وقوله فإن طلقها يعني الطلقة الثالثة، وهذا الحكم دل عليه مع النص الإجماع وهو أن المرأة إذا طلقت ثلاث تطليقات صحيحات فإنها لا ترجع إلى زوجها إلا بعد نكاح زوج آخر.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (والمحرمة حتى تحل)
    (5/132)
    ________________________________________
    يعني ولا يجوز أن ينكح المحرمة إلا بعد أن تحل التحلل الكامل أي الثاني.
    ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يَنكح أو يُنكح.
    وإلى هذا ذهب الجماهير وعامة علماء الأمة إلى أنه لا يجوز ولا ينعقد نكاح المحرمة.
    والقول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة أن المحرمة يجوز أن يعقد عليها الإنسان ويصح العقد واستدل أبو حنيفة بأن ابن عباس أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة وهي محرمة.
    والجواب على هذا الاستدلال: أن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي حلال لأنها رضي الله عنها أخبرت بذلك وهي أعلم بالقصة من ابن عباس رضي الله عنهما لأن العقد كان عليه وهي أعلم بملابسات القضية كما أن قولها أنه عقد عليها صلى الله عليه وسلم حلالاً يوافق الحديث المتقدم فهو مرجح لأمرين ولهذا فالصواب إن شاء الله مع الجماهير وهو أنه لا يجوز أن يعقد على المحرمة إلا بعد الإحلال الثاني.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا ينكح كافر مسلمة)
    لا يجوز أن يمكن الكافر من نكاح المسلمة والعقد إن تم فهو باطل ودل على بطلانه وتحريم إجرائه من الأصل النص والإجماع.
    أما النص فقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} فلا يجوز إنكاح المشرك إلا إذا آمن وقبل ذلك لا يجوز أن يعقد له على المسلمة.
    والإجماع حكاه غير واحد من أهل العلم أنه لا يجوز أن يعقد لكافر على مسلمة فإن فعلوا فالعقد باطل.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا مسلم ولو عبداً كافرة)
    أي ولا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة.
    لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}
    فالمشركات كافرات لا يجوز للإنسان أن يعقد عليهن لنص هذه الآية واستثنى المؤلف جنس كافرة وهي قوله (إلا حرة كتابية) أفادنا الشيخ بقوله (إلا حرة كتابية) مسألتين:
    الأولى: أنه يجوز نكاح الكتابية سيأتينا الكلام عنه.
    الثانية: أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية وأن الجواز يختص بالحرة.
    واستدل الجمهور على هذا بقوله تعالى: {فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} فنص على أنه يجوز للإنسان أن ينكح الأمة بشروط ستأتينا إذا كانت مؤمنة، فدلت الآية على أن الكافرة لا يجوز أن تنكح.
    (5/133)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: أن المنع من نكاح الأمة الكافرة مروي عن عمر وابن مسعود.
    والدليل الثالث: أن نكاح الأمة الكافرة يؤدي إلى استرقاق الكافر لأولاد المسلم لأن زوجته الكافرة أولادها أرقاء لسيدها الكافر.
    فهذه ثلاث أدلة قوية جداً في المنع من التزوج بالأمة غير المسلمة ولو كانت كتابية.
    القول الثاني: أنه يجوز مثلاً الإنسان أن يتزوج الأمة الكتابية قياساً على جواز ملك الأمة الكتابية وملك منافعها وبضعها فإذا جاز للإنسان أن يملك ملكاً تاماً أمة كتابية ويشمل الملك الاستمتاع فالزواج وهو أقل من باب أولى وهذا مذهب أبي حنيفة وهو ـ رحمه الله ـ كثراً ما يقيس أقيسة مقابل للنصوص فهذه المسألة فيها نص من الكتاب وفتاوى عن الصحابة فكيف نترك هذا كله ونرجع إلى أقيسة عقلية مجردة.
    فالراجح إن شاء الله مذهب الجمهور: أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح الأمة الكتابية وإنما الجواز يختص بحرائر أهل الكتاب.
    المسألة الثانية: جواز نكاح الكتابيات
    لقوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}
    وجواز نكاح الحرة الكتابية مذهب الجماهير ويكاد يكون استقر عليه الأمر أي على الجواز وكان يوجد خلاف عند بعض المتقدمين ولكن كأن الأمر استقر على الجواز لصراحة الآية من جهة ومن جهة أخرى أن عدد من الصحابة تزوجوا كتابيات منهم حذيفة رضي الله عنه.
    الأمر الثالث: المؤيد للجواز أن ما يروى من المنع عن عمر وابنه وغيره من الصحابة يحمل على الإرشاد لا على التحريم ولهذا أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه حذيفة أن يفارق زوجته الكتابية فأبى رضي الله عنه وأرضاه ثم لما توفي عمر فارقها وكأنه أراد بيان الجواز، وقد أشار هو إلى تعليل آخر فإن حذيفة سئل لماذا فارقتها بعد ذلك؟ فقال لئلا يرى أني صنعت ما لا ينبغي وهذا ملحظ لهذا الصحابي الجليل كأنه لو أطاع عمر وفارق زوجته صدق عليه أنه صنع ما لا ينبغي وهو رضي الله عنه لم يصنع إلا أمراً جائزاً ولعل هذا أيضاً
    يعود إلى قضية الجواز.
    مسألة: المراد بالكتابيات أهل التوراة والإنجيل فقط دون غيرهم من الكتب السماوية ومن كانت تتدين بالكتب الأخرى كتب داؤود أو إبراهيم أو غيرهما من أنبياء الله ليست من أهل الكتاب.
    (5/134)
    ________________________________________
    مسألة: مع القول بجواز نكاح الكتابيات إلا أن الجمهور من الفقهاء رأوا أن هذا الجواز مكروه يعني جائز مع الكراهة واختار الكراهة شخ الإسلام ابن تيمية وهو قول وجيه جداَ أي القول بالكراهة لأن الزواج بغير المسلمة قد يؤدي إلى فساد الأولاد ورقة دينهم وقد يتشبع الابن بدين أمه لاسيما مع كثرة غياب الأب فالقول بالكراهة هذا قول وجيه جداً.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا ينكح حرٌ مسلمٌ أمة مسلمة ... )
    انتقل المؤلف إلى حكم نكاح الأمة المسلمة ولهذا تلاحظ أن الشيخ يقول ولا ينكح حر مسلم أمة مسلمة لماذا قال الشيخ أمة مسلمة؟
    لأنه تقدم معنا أن نكاح الأمة الكافرة لا يجوز.
    ذهب الجماهير من أهل العلم إلى أنه يجوز أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين:
    الأول: أن لا يجد طولاً لنكاح الحرائر يعني لا يجد سعة في المال.
    الثاني: أن يخشى العنت وسيأتينا ما هو العنت عند الفقهاء.
    ودليل الشرطين قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} إلى أن قال: {ذلك لمن خشي العنت منكم} فنصت الآية على الشرطين.
    القول الثاني: جواز نكاح الأمة إذا وجد العنت وإذا وجد الطول أي ولو كان مستطيعاً، فهو يشترط صاحب هذا القول فقط العنت، وممن ذهب إلى هذا القول الإمام الثوري رحمه الله وغفر له.
    القول الثاني: جواز نكاح الإماء ولو مع السعة والطول وإلى هذا ذهب الأحناف.
    واستدلوا بتعليل فقالوا إن القدرة على النكاح لا تمنع النكاح فمقصودهم بالقدرة يعني إذا كان يجد طولاً ومقدرة وسعة في المال فإن القدرة على النكاح بسبب وجود الطول لا تمنع النكاح.
    والراجح مذهب الجماهير لأمرين:
    الأول: أنه يؤيده فتاوى الصحابة.
    الثاني: أن التعليل الذي ذكره الأحناف لا قيمة له مطلقاً ولا عبرة به في مقابل الآية مجرد أقيسة عقلية في الحقيقة لا قيمة لها.
    فالآية تقول: {من لم يستطع منكم طولاً} وهو يقول: أن من استطاع الطول فإن هذا الطول لا يمنع النكاح والآية نص على أنه يمنع النكاح فأي تعليل عقلي أضعف من مثل هذا التعليل مقابل النص.
    بقينا في رأي الثوري: أن الإنسان إذا وجد العنت له أن يأخذ الأمة ولو وجد الطول.
    (5/135)
    ________________________________________
    نحن نقول أن هذا القول للإمام الثوري رحمه الله قوي بشرط ألا يتمكن مع هذا الطول من نكاح الحرائر اللاتي يحصل بها العفة مثاله أن يجد مالاً لكن لا يجد إلا صغيرة لا يطأ مثلها فهذا يجد طول لكن هذا الطول لا يرفع عنه العنت أو يجد طولاً ولا يجد إلا امرأة غائبة كأن يخطب امرأة فيقال له ذهبت للحج تحتاج لكي ترجع إلى سنة كما في الوقت السابق لما كان السفر يأخذ مدة طويلة فكيف سيصبر سنة.
    الضابط: أن يجد مالاً ولكن لا يستطيع بهذا المال أن يتزوج من تعفه إما لصغرها أو لغيبتها أو يجد مالاً ولكن لا يجد من يزوجه خطب ولم يزوجوه الناس، لسبب أو لآخر إذا هذه مجموعة من الأمثلة وقد نص الإمام أحمد نفسه على من وجد طولاً ولم يجد إلا غائبة فله أن ينكح الأمة، نحن نقول أن هذا الكلام صحيح.
    فيكون القول الراجح: أنه لا يجوز نكاح الأمة إلا بوجود الشرطين إلا إذا وجد طولاً لا يستطيع معه نكاح الحرائر فهو في الحقيقة القول الراجح مركب من مذهب الجماهير وقول الثوري وهذا القول إن شاء الله تجتمع به الأدلة.

    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (إلا أن يخاف عنت العزوبة)
    اختلف الفقهاء ما المراد بالعنت فذهب الحنابلة إلى ما ذكره المؤلف وهو أن يحتاج إلى التمتع أو الخدمة.
    وإلى هذا ذهب أيضاً المجد ابن تيمية.
    والقول الثاني: أن العنت هو أن يخشى الزنا فلا يجوز له أن ينكح الأمة إلا إذا خشي أنه إن لم نكحها وقع في الزنا.
    والراجح إن شاء الله المذهب وهو اختيار كما قلت المجد لأن المشقة والعنت يحصل وإن لم يخشى على نفسه الزنا كما أن الآية مطلقة {لمن خشي العنت} والعنت يحصل بهذا المقدار وإن لم يحصل الزنا، فهم من هذا أنه لو احتاج الأمة للخدمة فإنه يجوز أن يتزوج وليست المسألة مقصورة على إرادة الاستمتاع، وأيضاً لو أراد أن يستمتع بها واحتاج إلى الجماع ولم يخشى أن يصل إلى مرحلة الزنا فيجوز له عند الحنابلة عند المعتمد على المذهب أن ينكح الإماء.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو ثمن أمة)
    يعني ويشترط ألا يجد ثمن الأمة فإن وجد ثمن الأمة فلا يجوز له أن ينكح الإماء فصارت الشروط ثلاثة
    (5/136)
    ________________________________________
    لكن الشروط عند الحنابلة والجمهور اثنان فقط وهو ألا يجد طولاً وأن لا يخشى العنت، وأضاف المؤلف مخالفاً للمذهب هذا الشرط وهو أن لا يجد مالاً يشتري به أمةً علل أصحاب هذا القول قولهم بأنه إذا وجد مالاً يتمكن به من شراء الأمة ارتفع العنت والحرج يستطيع أن يشتري الأمة ويقضي حاجته منها ولا يحتاج مع ذلك إلى الزواج.
    الدليل الثاني: أنه تخلص بهذا من استرقاق ولده.
    القول الثاني وهو المذهب: أنه لا يشترط أن يجد ثمن أمة ولو وجد ثمن أمة مادام تحقق الشرطان فإنه يجوز له نكاح الإماء والأقرب والله أعلم ما اختاره المؤلف وهو أنه يُشترط ألا يجد ثمن الأمة لأنه إذا وجد ثمن الأمة فلا حاجة أن ينكح أمة لأن العنت والمشقة المشترطة في الآية تزول، فإن قيل كيف تشترطون شرطاً إضافياً والآية لم تنص إلا على شرطين فالجواب أن الشرط الثاني المذكور في الآية يتضمن الشرط الثالث لأن العنت يرتفع مع وجود ثمن الأمة، فالأقرب إن شاء الله ما اختاره المؤلف.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا ينكح عبد سيدته)
    يعني لا يجوز للعبد أن ينكح سيدته، ولا يجوز للسيدة أن ترضى وتأذن بنكاح العبد لها والسبب في هذا أنه إذا ناكح العبد سيدته اجتمع حقان متنافيان فله عليها حق الزوجية ولها عليه حق الملك وبين الحقين تنافي كبير فالزوجية تقتضي طاعة الزوج وأن ينفق عليها والملك يقتضي طاعة السيد وأن ينفق على عبده فتنافى وتعارض حقان ولهذا قالوا لا يجوز وحكي إجماعاً وهذا صحيح فماذا تصنع إذا أرادت أن تنكحه؟ تعتقه ويتزوجها لكن ربما تقول إذا أعتقته لن يرد النكاح فربما هذا مأخذ الجمهور.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا سيد أمته)
    يعني ولا يجوز للسيد أن ينكح أمته.
    وعللوا هذا بأن الملك أقوى من النكاح فليس السيد بحاجة إلى إدخال الأضعف على الأقوى، فإنه بالملك أي بكونه مالكاً لها يستحق المنفعة والبضع، وأما النكاح فلا يستحق معه إلا البضع فقط، وهذا القول يؤيد مسألة أخرى وهي: أنه يشترط عدم وجود ثمن الأمة مادام أن الحنابلة يرون عدم جواز نكاح السيد لأمته هذا يؤيد أنه لو كان واجد لسعر الأمة أنه لا يتزوج أنه يشتري هذه الأمة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (5/137)
    ________________________________________
    (وللحر نكاح أمة أبيه دون أمة ابنه)
    للحر نكاح أمة أبيه لأن الابن لا يملك وليس هناك شائبة ملك لممتلكات أبيه فالابن في هذه الحال يتزوج امرأة أجنبية تماماً ولا يوجد شائبة ملك له عليها إذا يجوز للابن أن يتزوج أمة أبيه لكن يقول الشيخ دون أمة ابنه فلا يجوز للإنسان أمة ابنه علل الحنابلة هذا بأن ممتلكات الابن فيها شائبة ملك للأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك" وإذا كان للأب شائبة ملك لأمة ابنه فتكملة الاستدلال وقد تقدم معنا أن الإنسان ليس له أن يتزوج أمته.
    القول الثاني: يجوز للإنسان أن يتزوج أمة ابنه لأن ممتلكات الابن ملك خالص له قبل أن يتملكها الأب فهو في الحقيقة تزوج امرأة أجنبية.
    الراجح: أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج أمة ابنه.
    مأخذ الترجيح: سبب الترجيح ليس الدليل الذي ذكره الحنابلة ولكن هناك مأخذ آخر وهو أن الأب إذا كان الابن يستطيع أن يزوجه فهو يجد الطول فانتفى في حقه الشرط وإذا انتفى الشرط لم يجز للإنسان أن يتزوج الأمة.
    إذاً نحن نقول: لا يجوز أن تتزوج أمة ابنك لأن ابنك يجب عليه أن ينفق عليك لتتزوج وقد أشار إلى هذا المأخذ اللطيف الجميل ابن رجب الحنبلي رحمه الله وغفر له.
    فإذا اعتمدنا هذا المأخذ نقول لا يجوز للابن أن يزوج أباه أمته ولا أمة غيره لأن مأخذ المنع هو أنه يجب على الابن أن يزوج أباه وأن مقدرة الابن على تزويج أباه تجعل الأب له سعة وطول في التزوج من الحرائر.
    إذاً نقول أن هذا إن شاء الله هو الراجح لكن لابد أن نتنبه أنه لتعليل غير التعليل الذي ذكره المؤلف.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وليس للحرة نكاح عبد ولدها)
    ليس للمرأة أن تتزوج بعبد ولدها وهذه المسألة مبنية على المسألة اللاحقة لهذه المسألة وهي أن ملك أحد الزوجين للآخر يفسخ النكاح كما أن ملك ولد أحد الزوجين للآخر يفسخ النكاح وإذا تزوجت بعبد ابنها فقد تزوجت بمن يملكه ابنها فدخلت في المسألة اللاحقة ويمكن أن نقول لهذا المنع مأخذ آخر وهو: أن للأم أن تتملك من مال الابن إذاً ساوت الأب في قضية وجود شائبة الملك، فللمنع من زواج المرأة من عبد ابنها هذان المأخذان.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (5/138)
    ________________________________________
    (وإن اشترى أحد الزوجين الآخر أو بعضه انفسخ نكاحهما)
    إذا اشترى أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح لدليلين:
    الأول: الإجماع والإجماع يتعلق بشراء أحد الزوجين فقط دون شراء ولد أحد الزوجين يبطل العقد.
    الثاني: ما تقدم معنا أنها إذا اشترى صار بين الحقين تعارض، فحق العبد يتعارض مع حقه كزوج.
    إذاً مسألة إذا اشترى أحد الزوجين ليست محل إشكال مطلقاً.
    ثم قال: أو ولده يعني وإن اشترى ولد أحد الزوجين الآخر أيضاً انفسخ النكاح.
    عللوا هذا بأن ملك الابن كملك الأب الدليل على أن ملك الابن كملك الأب أن الابن والأب يستوون في المنع من القصاص وأحكام الاستيلاد وإذا كان ملك الابن كملك الأب صارت مقيسة على المسألة السابقة كأن ملك ولد أحد الزوجين كملك أحد الزوجين للآخر.
    القول الثاني: أن ملك ولد أحد الزوجين لا يؤدي إلى الفسخ لأنه لا دليل على فسخ النكاح والأصل في العقد الشرعي أنه إذا انعقد مستوفياً الشروط الشرعية أنه لا يفسخ ولا يبطل إلا بدليل شرعي.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو مكاتبه)
    إذا ملك مكاتب أحد الزوجين الآخر انفسخ النكاح والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في ولد أحدهما تماماً فما قيل هناك يقال هنا.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومن حرم وطؤها بعقد حرم وبملك يمين إلا أمة كتابيه)
    هذه قاعدة جميلة كل من حرم وطؤها بالعقد حرم وطؤها بملك اليمين والمؤلف يريد أن يشير إلى مسألة وهي أنه لا يجوز للإنسان أن يطأ الإماء غير الكتابيات فلو أن المسلمين غزوا مشركين أو مجوس أو ملحدين أو شيوعيين ثم سبوا نساءهم فإنه لا يجوز أن توطأ هذه المرأة لماذا؟ لأن من لا يجوز وطؤها بعقد لا يجوز وطؤها بملك. وهل يجوز للإنسان أن يتزوج من مجوسية أو المشركة أو شيوعية أو الملحدة؟ لا يجوز.
    إلى هذا القول ذهب الجماهير وحكي إجماعاً بل أن من حكى الإجماع نسب المخالف إلى الشذوذ.
    استدلوا بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} لكن الإشكال أن هذه الآية في سياق النكاح وليست في سياق الوطء بملك اليمين.
    (5/139)
    ________________________________________
    القول الثاني: وذهب إليه نفر يسر لكن هؤلاء النفر من المتقدمين وهم سعيد بن المسيب، طاؤوس، وعطاء ونصرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وأنا نبهتكم إلى أنه من المهم جداً أن تراعي هل الخلاف نازل أو عالي فإذا كان الخلاف عالي صار الخلاف قوياً جداً، لكن لما يكون الفقهاء من القرن الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس، على قول ثم يأتي فقيه من السابع أو الثامن أو التاسع ويخالف فإن الخلاف يكون ضعيف، هنا الخلاف في مسألتنا عالي وهو من الفقهاء السبعة من التابعين، استدل أصحاب القول الثاني بِأدلة واضحة جداً.
    الدليل الأول: أن النبي صلى الله عله وسلم لما غزا هوازن أذن للصحابة بوطء الإماء بعد الاستبراء وهن مشركات.
    الدليل الثاني: عموم الآية {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} وملك اليمين في الآية لم يقيد كما قيد في النكاح بل أن عدم تقييده في الآية إشارة إلى أنه لا يقيد باعتبار أنه قيد في النكاح دون الوطء وملك اليمين.
    الدليل الثالث: أن عامة السبايا اللاتي كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كن من مشركي العرب وكان الصحابة يطأونهن رضي الله عنهم.
    لعله من الظاهر لك جلياً أن القول الثاني قوي جداً لكن يشكل عليه الإجماع وهذا الإشكال أشكل حتى على ابن قدامة فابن قدامة رحمه الله يقول: (وأدلتهم ظاهرة وقوية ويشكل عليها مخالفة سائر أهل العلم) فلولا هذه المخالفة لكان القول بالجواز هو القول لكن مع هذه المخالفة الغريبة يعني من الجماهير الأئمة الأربعة عامة الفقهاء حتى أن الإمام أحمد لما أورد عليه إماء أو سبايا هوازن قال: (لعلهن أسلمن) أجاب عن الحديث بهذا الجواب، وفي الجواب هذا ضعف فالأصل عدم الإسلام.
    على كل حال الراجح من الأدلة بشكل واضح القول الثاني، ولكن يشكل عليه الإجماع فقط، وهذه من وجهة نظري من المسائل الغريبة لأن الأدلة واضحة مع ذلك ذهب الفقهاء جميعاً إلا من ذكر ثلاثة أو أربعة إلى المنع، فالمسألة غريبة.

    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (إلا أمة كتابية)
    (5/140)
    ________________________________________
    يعني تستثنى الأمة الكتابية فالأمة الكتابية ما وجه الاستثناء؟ أن الأمة الكتابية لا يجوز أن توطأ بالعقد لكن يجوز أن توطأ بملك اليمين ولهذا ذهب الجماهير وهو محل إجماع إلا أنه روي عن الحسن البصري فقط أنه كره فقط وطء الأمة الكتابية ولم ينقل عنهم المنع والتحريم فذهب الجماهير إلى أنه يجوز وطء الأمة وأدخلوه في عموم الآية {أو ما ملكت أيمانكم} فوطء الأمة الكتابية لا إشكال فيه.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومن جمع بين محللة ومحرمة .. )
    إذا جمع بين محللة ومحرمة في عقد واحد صح فيمن تحل فإذا تزوج امرأة محرمة فإن العقد يصح في الحلال ويبطل في الحرمة.
    والدليل على هذا أن النكاح الذي وقع على الحلال في المثال نكاح مستوفي الشروط مكتمل الأركان فهو صحيح والنكاح على المحرمة يبطل.
    القول الثاني: أنه إذا جمع في عقد واحد بين من يجوز نكاحها ومن لا يجوز فإن العقد كله باطل فيمن تجوز وفيمن لا تجوز وعلل أصحاب هذا القول قولهم بأن العقد واحد فإذا بطل بطل كل ما فيه، والصواب أن العقد يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل ولأن العقد وإن كان واحداً إلا أنه يتناول امرأتين إحداهما مستوفية للشروط والأخرى لم تستوفي فيصح في المستوفية.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا يصح نكاح الخنثى ... )
    الخنثى هو: من له آلة الذكر وآلة الأنثى أو من ليس له آلة ذكر ولا آلة أنثى فهذا خنثى.
    ثم هذا الخنثى قد يكون مشكل وقد يكون غير مشكل، فالخنثى المشكل هو الذي لم تظهر عليه لا علامات الرجولة ولا علامات الأنوثة فهذا يعتبر خنثى مشكل.
    يقول الشيخ: (ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره)، ذهب الحنابلة إلى أن المشكل لا يجوز أن ينكح فلا يجوز له أن ينكح امرأة ولا يجوز له أن ينكح رجل.
    التعليل: قالوا أنه لم يوجد فيه ما يتحقق معه من الجواز.
    معنى التعليل: أنه ربما لو نكح امرأة يكون امرأة ولو نكح رجلاً ربما يكون رجلاً، فإذاً لم نتحقق فيه سبب الجواز، فيبقى على المنع إلى أن يتبين أمره ولو طال.
    والقول الثاني: أن الخنثى المشكل يرجع إلى قوله فإن قال أنه يميل إلى النساء زوج بامرأة وإن قال أنه يميل إلى الرجال تزوجه رجل.
    (5/141)
    ________________________________________
    واستدل أصحاب هذا القول بأن هذه علامة على كونه رجل أو امرأة، وبأن هذا الأمر لا يعرف إلا من قبله.
    وإلى هذا ذهب القاضي أبو يعلى، وهو قول وجيه، وهو خير من حبس هذا الخنثى، مع حاجته للنكاح مدة طويلة، وربما يكون الخلاف في هذه المسألة في وقتنا هذا نادر وقليل باعتبار أن بالامكان التعرف على حقيقة الخنثى هل هو رجل أو امرأة بطرق كثيرة جداً تغني عن إبقائه معلقاً بين الأنوثة والرجولة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:

    باب الشروط والعيوب في النكاح
    الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: شروط النكاح وقد تقدمت معنا، وشروط النكاح تسمى الشروط الشرعية وسبب تسميتها بأنها الشروط الشرعية أنها من وضع الشارع.
    القسم الثاني: الشروط في النكاح
    وتسمى الشروط الجعلية لأن العاقدان هما اللذان وضعاها وجعلاها في العقد.
    والشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة.
    والشروط الصحيحة تنقسم إلى قسمين:
    شرط يقتضيه العقد: كأن يشترط أن تسلم إليه زوجته فهذا الشرط تحصيل حاصل لأن العقد يقتضي تسليم الزوجة.
    الثاني: شرط ليس من مقتضى العقد وفيه مصلحة للشارط، كأن تشترط ألا يتزوج عليها.
    القسم الثاني: الشروط الفاسدة
    وتنقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: الفاسدة الغير مفسدة، فالشرط فاسد والعقد صحيح، كأن يشترط الرجل ألا مهر لها، ونحن الآن لا نريد إعطاء أحكام عن الشروط لكن نريد تصوير الأقسام فقط.
    القسم الثاني: الشرط الفاسد المفسد، يعني أن الشرط يفسد والعقد يفسد، وهو عند الحنابلة أربع أقسام فقط نكاح الشغار، ونكاح المتعة، ونكاح التحليل، والنكاح المعلق على شرط.
    إذاً الآن بصفة عامة تصورنا أقسام الشروط.
    مسألة: اختلف الفقهاء عموماً في الشروط في النكاح يعني في تصحيحها والإلزام بها، فذهب الجماهير الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة إلى أن الشروط لا تلزم، بل يستحب الوفاء بها فقط.
    واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست ف كتاب الله.
    (5/142)
    ________________________________________
    القول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام أحمد وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام وغيرهم من المحققين أن الشروط صحيحة ولازمة وسيأتينا ما معنى تصحيح هذه الشروط عند الحنابلة لكن الذي يعنينا الآن أن هذه الشروط صحيحة ولازمة.
    واستدلوا بأدلة:
    الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" والحديث نص في مسألتنا.
    الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:" المسلمون على شروطهم ".
    الدليل الثالث: الأدلة العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقود كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
    والراجح القول الثاني إن شاء الله بلا إشكال وهذه المسألة وإن كانت من المفردات إلا أن قول الحنابلة فها قوي جداً.
    تنبيه: أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن مذهب المالكية في الواقع والمعنى يقرب من مذهب الحنابلة لأنهم في الأخير يلزمون بالشروط وهذا معنى تصحيحها.
    بعد هذا التصور العام لأحكام الشروط نرجع إلى الشروط التفصيلية.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (إذا شرطت طلاق ضرتها)
    بدأ الشيخ بالقسم الأول من النوع الأول وهو الشروط الصحيحة التي لا يقتضيها العقد فيقول الشيخ وإذا شرطت طلاق ضرتها في آخر العبارة صح فإن خالفه فلها الفسخ.
    يجوز عند الحنابلة أن تشترط طلاق ضرتها فتقول: قبلت بشرط أن تطلق زوجتك الأخرى.
    واستدلوا على هذا بأن في هذا الشرط منفعة للزوجة منفعة ظاهرة لتكون منافع الزوج جميعها لها. ... الثانية: القياس على ما إذا اشترطت ألا يتزوج عليها بعد ذلك.
    القول الثاني: أن هذا الشرط باطل ولا يجوز فلا يجوز أن تشترطه المرأة وهو باطل إن اشترطته.
    والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تسأل المرأة طلاق ضرتها لتكتفأ ما في صحفتها" وفي لفظ في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها، وهذا القول اختاره ابن قدامة، وهو نص في المسألة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو ألا يتسرى ولا يتزوج عليها أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها أو شرطت نقداً معيناً أو زيادة في مهرها صح)
    (5/143)
    ________________________________________
    هذه الشروط أربعة وهذه الشروط صحيحة عند الحنابلة استدلالاً بما تقدم معنا في الخلاف العام وهو قوله: "المسلمون على شروطهم"، "وإن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" والأحاديث والآيات العامة الموجبة للوفاء بالشرط والعقد.
    وهذا القول كما قلت وهو تصحيح هذه الشروط اختيار شيخ الإسلام رحمه الله.
    والقول الثاني: أن هذه الشروط لا تصح ولا تلزم فله مثلاً أن يتسرى عليها وله أن يتزوج عليها وله أن يخرجها من دارها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذه الشروط ليست في كتاب الله، والصحيح أنها شروط صحيحة ولازمة للأحاديث العامة وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله " أن هذه الشروط في كتاب الله بدلالة النصوص الأخرى.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (فإن خالفه فلها الفسخ)
    هذا هو حقيقة مذهب الحنابلة أو ثمرة مذهب الحنابلة فالمقصود عندهم بتصحيح الشرط والإلزام به هذه الثمرة وهي أن للزوجة عند المخالفة الفسخ.
    فاستدل الحنابلة على هذا بأن رجلاً اشترطت عليه زوجته أن لا يخرجها من دارها فأراد أن يخرجها فتنازعوا وترافعوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال أمير المؤمنين: لها شرطها فقال الرجل: إذاً اأمير المؤمنين يطلقننا فقال عمر بن الخطاب: مقاطع الحقوق عند الشروط، وهذا الأثر ذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم وهو صحيح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقد فسخ عمر هذا النكاح بالشرط.
    مسألة أخيرة: حكم الإيفاء بالشرط عند الحنابلة مستحب وليس بواجب لكن إذا لم يوفي فللمرأة الفسخ، وهذه مسألة دقيقة يجب أن تفرق بين قول الحنابلة الوفاء بشرط مستحب وبين قول الجمهور الوفاء بشرط مستحب فالحنابلة يجعلونه مستحباً لكن إن لم يفي فللمرأة الفسخ.
    والقول الثاني: أنه يجب وجوباً فإن لم يفعل فهو آثم ولها الفسخ.
    واستدلوا على هذا بالنصوص الآمرة بالوفاء بالشروط.
    (5/144)
    ________________________________________
    واستدل الحنابلة بأن الوفاء بشرط المستحب بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلزمه في الأثر المذكور، فلما لم يلزمه تبين أن الوفاء بالشرط مستحب، ولكن الأقرب أن الوفاء بالشرط واجب وهذا الأثر يحمل على أن عمر بن الخطاب أراد الإصلاح بينهم على كل حال لا يمكن أن نترك النصوص الواضحة ونأخذ بهذا الأثر في جانبه المتشابه.
    هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    - ((انتهى الدرس)).
    (5/145)
    ________________________________________
    الدرس: (7) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    بالأمس تحدثنا عن الشروط الصحيحة عند الحنابلة، وتوقفنا على قول المؤلف وإذا زوجه وليته إلى آخره.
    بدأ المؤلف الكلام عن الشروط الفاسدة وتقدم معنا أن الشروط الفاسدة تنقسم إلى قسمين: فاسدة ومفسدة، مفسدة للعقد وفاسدة بنفسها مع بقاء العقد صحيح، وبدأ الشيخ بالقسم الثاني: وهي الفاسدة المفسدة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر ... )
    هذا العقد الذي ذكره المؤلف هو نكاح الشغار، ونكاح الشغار معناه في اللغة: الخلو وقيل معناه في اللغة: الرفع، والأقرب والله أعلم أن معناه في اللغة الخلو، وأما في الاصطلاح فسنذكر تعريفه عند الحنابلة: وهو الذي ذكره المؤلف، فتعريفه أن يزوج الرجل للآخر موليته على أن يزوجه موليته ولا مهر بينهما، وفهم من هذا التعريف أن الحنابلة يشترطون أن ليكون العقد من الشغار أن يجتمع فيه وصفان:
    الأول: أن يشترط كل منهما على الآخر أن يزوجه موليته.
    والثاني: أن يخو العقد من المهر.
    حكم الشغار:
    الشغار محرم، وهو محرم والعقد فاسد، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم" نهى عن الشغار" والنهي في الحديث للتحريم، وهو يدل على فساد العقد.
    عرفنا الآن معنى الشغار في اللغة والاصطلاح، وحكمه في الشرع.
    (5/146)
    ________________________________________
    مسألة: تقدم معنا أن الحنابلة لا يعتبرون العقد من الشغار إلا إذا اجتمع فيه وصفان.
    ودليلهم على هذا حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار" وقال هو أن يزوج الرجل موليته على أن يزوجه الآخر موليته وليس بينهما صداق.
    فقالوا الحديث فسر الشغار واشترط خلوه من الصداق.
    والجواب عن هذا الحديث ـ قبل أن ننتقل إلى القول الثاني ـ الجواب عن الحديث أن التفسير المذكور في الحديث إنما هو من كلام الإمام نافع، وقد صرح أبو داود أن هذا الكلام إنما هو تفسير من نافع، كما أن البخاري ومسلم أخرجا الحديث ونسبا في رواية التفسير إلى نافع، وهذا هو الصحيح أن التفسير من نافع.
    القول الثاني: أن الشغار: هو أن يزوج الرجل موليته لآخر على أن يزوجه الآخر موليته، ولا يُشترط أن يخلو من الصداق، إذاً الممنوع على هذا القول هو مجرد الاشتراط، فإذا وجد الاشتراط بطل العقد، وإلى هذا ذهب ابن حزم، وهو قول لبعض الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله.
    والدليل على هذا من وجهين:
    الأول: حديث أبي هريرة وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الشغار وقال: الشغار أن يزوج الرجل موليته لآخر على أن يزوجه الآخر موليته" ولم يذكر الصداق.
    الثاني: أن العباس بن عبد الله بن العباس تزوج أخت الحكم على أن يزوجه الحكم أخته، فقام معاوية خطيباً وأبطل النكاح وقال: هذا هو الشغار، وإبطاله لهذا النكاح كان على مرأى ومسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد، وليس في الأثر اشتراط الخلو من الصداق، بل فيه أن كل منهما أصدق الأخرى صداقاً.
    (5/147)
    ________________________________________
    وهذا القول كما قلت هو الصحيح إن شاء الله، فالنكاح يعتبر من الشغار بمجرد الاشتراط، فالاشتراط هو علة المنع، ويؤيد هذا أن الظلم على المرأة غالباً لا يكون بمنع المهر، وإنما يكون بأن يفرض عليه الزواج أو يكرهها على الزواج بطريقة أو بأخرى، لأنه يريد أن يتزوج بمولية الآخر، فهذا هو الظلم في الحقيقة، وليس فقط خلو العقد من المهر، فهذا الظلم متوقع، والواقع كثيراً، هو سبب التحريم، فإن إنضاف إليه خلوه من الصداق صار ظلمات بعضها فوق بعض، وظلم للمرأة من أكثر من وجه، وصار محرماً بلا إشكال، لكن في مسألة تعريف الشغار هو هذا أي هو ما يكون فيه اشتراط ولو مع المهر.
    هذا هو النوع الأول من الشروط الفاسدة والمفسدة وهو الشغار، ثم انتقل الشيخ رحمه الله إلى النوع الثاني.
    قال المؤلف - رحمه الله -
    (وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها ... )
    وهذا النكاح يسمى نكاح تحليل ونكاح التحليل محرم ولا ينعقد، ولا يوجب تحليل المرأة المطلقة ثلاثاً.
    والدليل على هذا "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له" هذا الحديث له طرق كثيرة جداً لكن لا يخلو شيء من هذه الطرق من علة، وإنما الحديث يصح بمجموع طرقه، فيكون صالح للاستدلال باجتماع الطرق وإلا في الحقيقة لا يوجد إسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه اللعن لكن توجد أسانيد كثيرة يعضد بعضها بعضاً.
    الدليل الثاني: أنه نقل عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة فيها النهي عن أن يتزوج الإنسان امرأة لمجرد التحليل.
    الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى من يتزوج ليحلل المرأة ليس إلا بالتيس المستعار وحديث التيس المستعار ضعيف ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    مجموع هذه الأدلة لاسيما الآثار مع حديث "لعن الله المحلل والمحلل له" الذي يصح بمجموع طرقه يصلح لبيان أن نكاح التحليل محرم، بل ربما نقول تحريمه وإبطاله إجماع من الصحابة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أنه متى حللها للأول طلقها أو نواه بلا شرط)
    (5/148)
    ________________________________________
    يعني إن اشترط في العقد فهو نكاح تحليل بلا إشكال، وكذلك لو نواه ولم يشترطه في العقد، فالعقد يعتبر نكاح تحليل، والضمير في نواه يرجع إلى الزوج، فإذاً النكاح إذا قصد به التحليل يبطل بمجرد النية عند الحنابلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم" إنما الأعمال بالنيات" ولأن هذا لم يُرد النكاح الشرعي وإنما أراد نكاح التحليل.
    القول الثاني: أنه إذا نوى التحليل ولم يشترط في العقد فالعقد صحيح.
    واستدلوا على هذا بأن هذا العقد مستوفي بأركانه وشروطه، فهو صحيح وإن نوى التحليل، وزاد بعضهم بل إنه يؤجر على هذا العمل لأنه أراد الإحسان بإرجاع الزوجة المطلقة ثلاثاً إلى زوجها المطلق ثلاثاً.
    والصواب إن شاء الله بلا إشكال أن التحليل محرم بالنية، ولو بدون التصريح باشتراطه أثناء العقد، وعلى هذا تدل آثار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك يدل عليه الاعتبار الصحيح إذ لا يوجد فرق بين أن يصرح بالنية وبين أن لا يصرح.
    مسألة: أفاد المؤلف أن النية التي تؤثر وتفضي إلى إفساد العقد هي نية الزوج فقط دون نية المرأة.
    والقول الثاني أن نية كل من الزوج والمرأة والولي إن نووها تبطل، والصواب إن شاء الله أن النية المؤثرة هي فقط نية الزوج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الله المحلل والمحلل له" فالحديث نص على أن المحلل والزوج، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة لما أرادت أن ترجع إليه بعد تطليقها ثلاثاً:"أتريدين أن ترجعي إليه، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فقوله صلى الله عليه وسلم "أتريدين أن ترجعي إليه" إشارة إلى أنها نوت هذا ومع ذلك لم يبطل النبي صلى الله عليه وسلم العقد الثاني، لأن الزوج الثاني وهو عبد الرحمن بن الزبير لم يقصد التحليل.
    وبهذا الحديث استدل الإمام أحمد رحمه الله على أن نية المرأة ليست بشيء وهذا هو الصواب، فإذا رضيت بالزواج بنية أن تعود إلى زوجها الأول، لكن الزوج الثاني لم ينو مطلقاً هذه النية فالعقد صحيح، وهو مبيح للزوج الأول متى طلقها الزوج الثاني.
    (5/149)
    ________________________________________
    وشيخ الإسلام رحمه الله أشبع هذه المسألة بحثاً بإبطال التحليل بكلام غاية في النفاسة والقوة والجودة والمتانة والعمق، وما شئت من الصفات الحسنة، في الحقيقة أجاد إجادة قوية جداً وتحدث عن مسائل كثيرة جداً في الكتاب عن سد الذرائع، وعن الحيل والأجوبة عن أدلة الذين أجازوا الحيل، ثم أخيراً حصر الكلام في مسألة التحليل، وذكر الأدلة على تحريم التحليل في كلامٍ في الحقيقة رائع جداً، ويطرب له الإنسان لقوته ومتانته في الحقيقة، رحمه الله وجزاه عن المسلمين كل خير.
    ثم انتقل إلى النوع الثالث من الشروط المبطلة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو قال زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها)
    أو قال زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها فالعقد باطل لأن التعليق يتنافى مع عقود المعاوضات والنكاح من جملة عقود المعاوضات، إذاً التعليق هو الذي سبب إبطال العقد، لأنه يتعارض مع عقود المعاوضات كالبيع والنكاح من جملة عقود المعاوضات.
    والقول الثاني: أنه إذا علقه أو اشترطه على هذه الصفة برضا أمها أو بغيره من التعليقات فإنه يصح، والعقد المبني على هذا الشرط صحيح، لأنه لا يوجد دليل على المنع من تعليق عقود المعاوضات على الشروط، والأصل في العاملات الحل، وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو أقرب إن شاء الله إلى الصواب وأشبه بأصول الشرع.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو إذا جاء غد فطلقها)
    هذا هو القسم الرابع والأخير من الشروط الفاسدة المفسدة وهو نكاح المتعة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو إذا جاء غد فطلقها ... )
    يعني إذا قال الولي للزوج زوجتك وإذا جاء غد فطلقها، أو وقّت بمدة يعني صرحوا بتأقيت مدة معينة مجهولة أو معلومة، فإن العقد حينئذ يعتبر نكاح متعة، ونكاح المتعة محرم، ولا يجوز إيقاعه، والعقد باطل.
    (5/150)
    ________________________________________
    والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في فتح مكة وقال: "أني كنت أبحت لكم المتعة فإني أحرمها إلى يوم القيامة" وفي لفظ أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن المتعة في فتح مكة"، وعلى هذا القول استقر قول فقهاء المسلمين من أئمة المذاهب الأربعة، وغيرهم من الفقهاء المعتد بأقوالهم، وقد روي في المسألة خلاف عن ابن عباس وعن أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم لكن الصحيح إن شاء الله أن ابن عباس رجع عن هذه الفتوى، ولو فرضنا أن ابن عباس لم يرجع عن هذه الفتوى فقوله مرجوح بلا شك ولا إشكال، لكونه يخالف الحديث الصحيح ولكونه يخالف الآثار الأخرى عن عمر وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكاح المتعة استقر الأمر على أنه نكاح محرم وباطل.
    مسألة: نكاح المتعة الذي تحدثنا عنه هو النكاح الذي يصرح فيه العاقد اشتراط مدة، فهذا النكاح هو الذي تحدثنا عنه، وهو الذي حرمه جملة فقهاء المسلمين أو كل فقهاء المسلمين.
    بقينا في مسألة: وهي ما إذا تزوج الإنسان ولم يصرح في العقد بتأقيته ولكنه نواه، وهو الذي يسمى النكاح بنية الطلاق، وهذه المسألة كانت قليلة الأهمية في السابق ولكنها أصبحت اليوم من المسائل المهمة، والتي يكثر فيها الكلام بسبب كثرة السفر، وانفتاح الناس على المفاتن والشبهات والأهواء، فكثر الكلام في هذه المسألة لهذا السبب، ونريد أن نتحدث عن هذه المسألة ولكن باختصار، ذهب الحنابلة وعلى رأسهم الإمام أحمد وقد صرح بهذا مراراً أن النكاح بنية الطلاق محرم، والعقد باطل، وإلى هذا ذهب الإمام الأوزاعي وأيضاً ابن حزم وهو الذي يفهم من تقرير العلامة ابن القيم فهؤلاء يرون أن النكاح بنية الطلاق لا يجوز واستدلوا بأدلة:
    الدليل الأول: أن النكاح بنية الطلاق هو نكاح متعة تماماً، إلا أنه لم يصرح فيه بشرط التوقيت، وإلا فهو تماماً كنكاح المتعة، وقرروا هذا الدليل بأن النية في عقود النكاح كافية ولا يشترط التصريح بالشرط، بدليل أنهم يبطلون نكاح التحليل بمجرد النية ولو لم يشترط، وأي فرق بين إنسان عازم على التطليق بعد شهر إلا أنه لم يصرح ولم يشترط في العقد، وبين آخر صرح واشترط.
    (5/151)
    ________________________________________
    الثاني: أن النكاح بنية الطلاق لا يتوافق مطلقاً مع مقاصد الشرع من النكاح، والشارع الحكيم إنما أمر بما أمر به لتحقيق غرضه، وهذا النكاح لا يتحقق منه الغرض.
    الثالث: أن هذا النكاح أصبح وسيلة من وسائل انتشار العقود الباطلة بالإجماع، لأنه إذا أجزنا النكاح بنية الطلاق صار الناس يتوسعون بوجود نكاح بنية الطلاق بلا ولي ولا شهود ولا استيفاء الشروط الباقية كما هو مشاهد، والعمل الذي أصله مباح إذا أدى إلى مفسدة محرمة صار محرماً، كيف والنكاح بنية الطلاق ليس من الأعمال المباحة، بل هو محرم عند هؤلاء.
    القول الثاني: ذهب إليه الإمام مالك وبطبيعة الحال الشافعي، لأن الشافعي رجل يأخذ بالظواهر والإمام أبو حنيفة، فالأئمة الثلاثة ذهبوا إلى هذا واختاره من المحققين ابن قدامة.
    واستدل هؤلاء بأن النكاح بنية الطلاق نكاح، وليس على الإنسان إذا أراد أن يتزوج ليس عليه أن ينوي حبس امرأته إلى الأبد، هذه النية ليست واجبة، فإذا تزوج زواج شرعي فالزواج صحيح نوى التطليق بعد مدة أو لم ينوي، هذا هو دليل الجمهور.
    (5/152)
    ________________________________________
    تأملت أنا هذه المسألة مراراً وتكراراً وأعدت فيها النظر وظهر لي بوضوح أن النكاح بنية الطلاق متعة ليس بينه وبين نكاح المتعة أي فرق، إلا فرق ليس له قيمه وهو عدم التصريح بالشرط، وأي قيمة لهذا الشرط، ومن العجيب أن نكاح المتعة في القديم كان يتخذ كثيراً في السفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أباح نكاح المتعة كانوا في سفر في مكة، والآن النكاح بنية الطلاق إنما يستخدم في السفر، فبينهما تطابق من وجهة نظري كبير، ويظهر لي الآن بجلاء أنه متعة إنما خلي عن الشرط، وأتعجب في الحقيقة من ذهاب الجماهير إلى الجواز كما تعجب شيخ الإسلام من ابن قدامة حيث أشار إلى الجواز مع أن المذهب كله على المنع، وفتاوى الإمام أحمد على المنع، وسئل عن الرجل يذهب إلى خرسان ليتزوج ثم يطلق إذا أراد أن يخرج من خرسان، وقال: هذا متعة، فإذا تأمل الإنسان وهي مسألة خلاف على كل حال والخلاف فيها قوي جداً، لكن يظهر لي بوضوح أن النكاح لمن عزم على الطلاق بعد مدة عينها أنه متعة، ولا يفترق عن المتعة بأي شيء في حقيقته، وإنما يفترق عنه في ظاهره، وهو قضية التصريح بالشرط أو عدم التصريح بالشرط، وهي قضية ليس لها أي قيمة من وجهة نظري، ومما يؤيد المنع أن دائماً نقرر في المسائل كثيراً أن العبرة بالمعاني والمقاصد، وليست العبرة بالألفاظ والمباني، وإذا أردنا أن نعتبر هذا العقد اعتبار، وننظر إلى المقاصد منه، وجدنا أن المقصد منه يتوافق مع المتعة، فإذا كنا نرى أن هذه القاعدة صحيحة وطبقناها على هذه المسألة نتج عن ذلك المنع، أعود وأقول هي مسألة خلاف والخلاف فيها قوي بل الجمهور يرون الجواز ولكن هكذا ظهر لي بعد التأمل.
    فصل
    (5/153)
    ________________________________________
    يعني في الشروط الفاسدة في نفسها التي لا تفسد العقد، وذكر الشيخ رحمه الله تعالى أمثلة، ويلاحظ أن الشيخ رحمه الله لم يذكر ضابطاً لهذه الشروط، كما أنه لم يذكر ضابطاً للشروط الفاسدة المفسدة، أما الشروط الفاسدة المفسدة فله عذر أنه لم يذكر ضابط، لأن الحنابلة يرون أن الشروط الفاسدة المفسدة تنحصر في أربعة عقود وهي السابقة (الشغار والمتعة والتحليل والمعلق بشرط) فقط، ولذلك لم يذكر لها ضابطاً لكن من وجهة نظري وهذا عوداً للمسألة السابقة لو أن الشيخ الماتن رحمه الله صرح بأسمائها المشهورة فقال نكاح الشغار، نكاح التحليل لكان أوضح لطالب العلم وأظهر في بيان الحكم.
    نرجع المهم الآن إلى الشروط الفاسدة التي لا تفسد العقد، لم يذكر لها الشيخ ضابط، والسبب في ذلك والله أعلم ما أشار إليه ابن القيم وهو أن الفقهاء عندهم اضطراب شديد في شروط الصحة والشروط الفاسدة، وأنهم لم ينضبطوا في تقرير ما هو الشرط الصحيح والشرط الفاسد، وأشار إلى ضابط جميل جداً وفي الحقيقة سنلاحظ أننا إذا طبقنا هذا الشرط يصدق في الأمثلة التي ستذكر وغيرها.
    يقول الشيخ في الضابط: أن كل ما جاز عمله بلا شرط صار لازماً بالشرط.
    وستأتي الأمثلة الموضحة لهذا الضابط الجميل من الشيخ ابن القيم.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن شرط ألا مهر لها)
    إذا شرط ألا مهر لها فإن الشرط باطل والعقد صحيح.
    أما الدليل على بطلان الشرط فلأن هذا الشرط يتنافى مع مقتضى العقد، ويبطل ما كان واجباً في أصل العقد، وإذا كان بهذه المثابة فهو فاسد.
    وأما الدليل على صحة العقد مع بطلان الشرط فهو أن الشرط أمر إضافي خارج عن حقيقة العقد فإذا بطل بقي العقد صحيحاً، وهذا الدليل للحنابلة هو دليل لكل الشروط اللاحقة.
    يقول الشيخ: وإن شرط ألا مهر لها، عرفنا الآن أن الحنابلة إذا شرط ألا مهر لها أن الحكم بطلان الشرط وصحة العقد.
    نحن الآن نريد أن نذكر التفصيل في بعض الشروط.
    القول الثاني: أن الشرط والعقد كلاهما باطل.
    (5/154)
    ________________________________________
    واستدل هؤلاء بأن المهر من حقيقة العقد، لأن الله تعالى إنما أباح المحصنات بالمهر وقال: {وآتوهن أجورهن} فلما شرط الله للنكاح المهر عرفنا أنه من مقتضيات أصل العقد، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ومذهب المالكية والأحناف ووسع الدائرة شيخ الإسلام وقال المذهب أكثر السلف.
    وهذا القول هو الصحيح ويدل على صحته أنا لو صححنا العقد بلا مهر، لصار هذا النكاح يشبه الهبة، والهبة أي جواز أن تهب المرأة نفسها للرجل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول تنتفي الخصوصية، وكل قول يؤدي إلى انتفاء الخصوصية فهو دليل على ضعفه وخطئه.
    إذاً الخلاصة نقول الصواب إن شاء الله أنه إذا اشترط ألا مهر فإن العقد أو الشرط فاسدان.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو لا نفقة)
    يعني أو شرط الزوج ألا نفقة لها، إذا شرط الزوج ألا نفقة لها فالشرط باطل والعقد صحيح، والتعليل هو ما تقدم.
    والقول الثاني: أن العقد والشرط صحيحان، فإذا اشترط أنه لن ينفق فالشرط صحيح.
    واستدل هؤلاء بالنصوص العامة الآمرة بإيفاء الشروط واستدلوا أيضاً بأن هذا الشرط لا يتناقض مع مقتضى العقد، واستدلوا أيضاً بأن قاعدة أن الشرط إذا تنافى مع مقتضى العقد يبطل ليست بصحيحة، بدليل "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لمن اشترى نخلاً بعد أن تؤبر، أن يشترط ثمر هذه النخل"، مع أن هذا الشرط يتنافى مع مقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أنه يبقى ملك للبائع، ومع ذلك صحح الشارع هذا الشرط، وإلى هذا أشار ابن القيم، وبهذا قدح في هذا الأصل الكبير عند الحنابلة، وهو أن الشرط الذي يتنافى مع مقتضى العقد يصبح فاسداً، وهذا القول صحيح، وهو أنه لو شرط عليها أنه لن ينفق فإنه لا يجب عليه أن ينفق، لأنه لا يوجد دليل على اشتراط النفقة لصحة العقد.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر)
    نأخذ الصورة الأولى، إذا شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها فقال: أني قبلت النكاح بشرط أن يكون لك ليلة وللأخرى ليلتين، فهذا الشرط باطل عند الحنابلة والعقد صحيح، وعليه أن يقسم بالعدل ولو شرط هذا الشرط في العقد.
    (5/155)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن العقد والشرط صحيحان، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة، وهي اشتراط عدم النفقة، ولو أردنا أن نطبق الضابط الذي ذكره ابن القيم يقول: أن ما كل ما جاز بذله بلا شرط يعني في الأصل صار لازماً بالشرط، وهل يجوز للمرأة أن تتنازل عن ليلتها للأخرى ابتداءً؟ يجوز، فإذا جاز أن تتنازل يجوز أن نلزمها بهذا التنازل من خلال الشرط، وهو في الحقيقة ضابط جيد بخلاف المهر، المهر لا يجوز لها هي أن تتنازل عنه ولا ابتداءً، ولذلك لم يصح الشرط الملزم بالتنازل عنه فهو في الحقيقة ضابط إن شاء الله مطرد.
    يقول (أو أكثر) يعني أو أن يشترط الزوج أو أن تشترط الزوجة أن يقسم لها أكثر من ضرتها، فالشرط باطل والعقد صحيح، وهذا الحكم صحيح لأن الشرط في هذه المسألة باطل، لأن هذا الشرط يتضمن ظلم المرأة والاعتداء على حقها، ولذلك نقول هذا الشرط فاسد لأنه يتعارض مع نصوص الشرع، ولأن فيه اعتداء على حق الغير بخلاف الشرط الأول، فهو تنازل من المرأة، وإذا تنازلت عن حقها فلا حرج عليها، أما هذا الشرط فهو اعتداء على طرف ثالث، فلا يجوز إذا اشترطوا، وعليه أن يقسم بالسوية، وأيضاً إذا أردت أن تطبق ضابط ابن القيم تجده صحيح، هل يجوز للإنسان ابتداءً أن يفاضل بين نسائه؟ لا يجوز، إذاً لا يجوز أن يلزمه من خلال الشرط.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو شرط فيه خياراً)
    أي شرط الزوج في النكاح خيار، فقال: تزوجت فلانة ولي الخيار لمدة شهر، فهذا الشرط باطل والعقد لازم وصحيح.
    التعليل: ذكروا تعليلاً جميلاً في الحقيقة قالوا: أن هذا الشرط يؤدي إلى امتهان الحرائر، ووجه ذلك أنه يكشف عن المرأة ويستمتع بها ثم إذا بدا له قال اخترت الفسخ، وبهذا تمتهن الحرائر ويدخل عليهن الضرر.
    واستدلوا بدليل آخر وهو ما تقدم معنا أن عقود المعاوضات لا يصلح فيها التعليق.
    (5/156)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن هذا الشرط صحيح وأن له هذا الخيار، وهو بمعنى الشروط، وتقدم معنا أن الشروط صحيحة، وأنه لا يوجد دليل على بطلان جنس الشروط ما لم تتعارض مع دليل شرعي، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم"، في الحقيقة هذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام وهو من حيث التنظير الفقهي يشبه المسائل السابقة التي نقول أن الراجح فيها أن الشروط صحيحة، لكن تعليل الحنابلة أوجب لنوع من التوقف في الحقيقية، لأن كون النكاح يعلق بخيار، وتكون المرأة عرضة للابتذال والامتهان، وأنه بعد مضي الفترة المحددة في الخيار يختار الفسخ كل هذا يجعل الإنسان في الحقيقة يقوي مذهب الحنابلة، وهو أن اشتراط خيار لمدة معينة لا يجوز في العقد، كما أني أخشى أن يتخذ هذا الحكم ذريعة للمتعة، فبدل أن يقول متعة أو بنية الطلاق يقول لي الخيار، ثم نقول هذا الخيار لا يرد على الحنابلة مطلقاً لأن الزوج إذا قال تزوجت فلانة ولي الخيار مدة شهر، إن كان ناوياً الطلاق فهو عند الحنابلة باطلاً، إذاً هذه المسألة عند الحنابلة تتنزل على زوج ناوي الطلاق، إذاً هي لا ترد على مذهب الحنابلة، لكنها ترد وبقوه على مذهب الذين يرون جواز النكاح بنية الطلاق، فيقول لي الخيار، وإذا أراد أن يرجع إلى بلده فسخ العقد وانتهى الموضوع، بل إنه هذا الحكم قد يستغل استغلال شنيع جداً لأنه سيأتينا أن من فائدة الشرط أن يكون الفراق على سبيل الفسخ لا الطلاق، وسيأتينا أن من فوائده أنه ما تحسب عليه طلقه، فهو أحياناً يتحرج لأنه كلما أراد أن يسافر لابد أن يطلق، ربما يسافر لبلد ثلاث مرات، وهو يريد هذه المرأة فتكون مطلقة ثلاثاً، فبدل ما يتزوج بنية الطلاق يتخذ الخيار، ويقول أنا لست على مذهب الحنابلة في النكاح بنية الطلاق، ولست على مذهبهم في مسألة الخيار، ويتركب من هذا أنه ممكن يتزوج الواحدة ويفارقها ولا نقول يطلقها عشرات المرات، فأقول ربما يستغل استغلال سيء، على كل حال نحن الآن يعنينا الحكم الفقهي، فهذا هو الحكم الفقهي أنه يبدو لي أن مذهب الحنابلة صحيح وقوي.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو إن جاء بالمهر في وقت كذا ... )
    (5/157)
    ________________________________________
    إذا قال: إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا بطل النكاح، فإن الشرط يلتغي، والعقد صحيح، فتبقى زوجته، أتى بالمهر أو لم يأتي في الوقت المحدد، والسبب في إبطاله عند الحنابلة هو أن هذا نوع من التعليق، وتقدم معنا أن الحنابلة لا يرون صحة تعليق عقد النكاح على أي شرط.
    والقول الثاني: أن هذا صحيح وأنه لا ينبني على القول بهذا الشرط أي محذور، ولذلك نقول لذا قال إن أتيت بالمهر إلى مدة كذا وإلا فالنكاح باطل، صحيح، فإن لم يأت به فسخ النكاح، وفي هذا مصلحة للمرأة وللولي وللزوج وليس فيه أي مفسدة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن شرطها مسلمة .. )
    وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية فله الفسخ.
    والتعليل أنها إذا بانت كتابية دخل عليه الضرر وعلى ولده، كما أن الكتابية أنقص في المعنى من المسلمة، وهو اشترط مسلمة فصارت كتابية، وأما العكس، إذا اشترط كتابية فبانت مسلمة فليس له الخيار ولا الفسخ، لأنه شرط شرطاً فجاءه خير من شرطه.
    والقول الثاني: أنه إذا شرطها كتابية فجاءت مسلمة له الخيار، وعللوا هذا بأنه ربما أراد ألا تنشغل بأداء العبادات.
    والراجح أن له الخيار، إلا أن هذا التعليل في الحقيقة سيء وغير مقبول، تصحيح هذا التعليل كيف يكون من مقاصد المسلم أن يحضر من لا يتعبد الله، لكن لماذا نصحح مع إبطال هذا التعليل، لأنه ربما يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يريد هذه المرأة لعمل فيه إهانة وامتهان، ولا يريد أن تكون مسلمة، رفعة للمسلمة حينئذ شرطه صحيح وله الخيار.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (أو شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح)
    يعني فبانت خلاف ذلك فله الفسخ، هذه الشروط الأربعة إذا اشترطها فبانت المرأة بخلاف هذه الشروط فله الفسخ.
    واستدل الحنابلة على هذا بأن هذه الشروط شروط مقصودة مرغوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلمون على شروطهم"، وإذا كانت هذه الشروط مقصودة ومرغوبة فإن تخلفها يعطي الزوج الحق في الفسخ.
    (5/158)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه إذا شرطها جميلة أو بكراً أو نسيبة وتبين أنها ليست كذلك فلا خيار له، واستدلوا على هذا بأن فسخ النكاح إنما يكون بالعيوب التي توجب الفسخ وهي ثمانية فقط، وليست هذه منها، كما أن هذه الصفات صفات كمال وليست نقص في العيب، فإذا تخلفت لم يؤدي هذا إلى إبطال العقد.
    والراجح بلا شك ولا إشكال أنه إذا تخلفت هذه الشروط فإنه له حق الفسخ، لأن هذه الشروط شروط مقصودة فيها نفع ظاهر للزوج، إلا أنه ينبغي التأكيد على أن اشتراط أن تكون جميلة أنه اشتراط غير دقيق ويؤدي إلى النزاع، لأن ما معنى جميلة؟ أولاً لا يوجد جميلة إلا ويوجد من هي أجمل منها، وهذا الأمر سهل، الأمر الآخر وهو أصعب أنه قد تكون المرأة جميلة جداً في نظر شخص وفي نظر الآخر ليست بجميلة، والحل من وجهة نظري أن يجعل الضابط فلان، يقول جميلة بنظر فلانة ممن يثق هو برؤيتها، ويثق أيضاً بتقديرها للجمال، المهم أن تضبط، أما أن يشترط أن تكون جميلة هذا أمر لا يمكن ضبطه، ويستطيع أن يفسخ مهما كانت المرأة توصف بالجمال، كما أن هذا الشرط يدل على قوة القول باستحباب النظر إلى المرأة، لأنه مع النظر إلى المرأة لا نحتاج إلى أن نشترط أنها جميلة، ولا يستطيع هو أن يفسخ لأنه سبق أن رآها وعرف هل هي جميلة أو ليست بجميلة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها)
    المرأة إذا عتقت تحت الحر فلا خيار لها، بل هي ملزمة بالبقاء معه.
    واستدلوا الجمهور على هذا الحكم بدليلين:
    الأول: أنها بكونها حرة أصبحت مساوية له في المنزلة، يعني للزوج، ونحن الآن نتكلم عن الأمة تحت الحر، فإذا عتقت تساوت هي وإياه في المنزلة فلا تملك الفسخ.
    الثاني: حديث عائشة أن بريرة رضي الله عنها وأرضاها لما عتقت اختارت الفسخ، قالت عائشة: وكان زوجها عبداً ولو كان حراً لم تمكن من الفسخ.
    القول الثاني: أن الأمة إذا عتقت خيرت سواء كان زوجها حراً أو عبداً، واستدلوا برواية لحديث بريرة أن زوجها كان حراً، والصواب إن شاء الله أن الزوج كان عبداً وإلى هذا مال الإمام البخاري، وأن هذه الرواية أصح الروايات، وبهذا عرفنا أن دليلهم الأول ضعيف.
    (5/159)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: أن علة تخيير المرأة أنها زوجت وهي أمة، لا تملك من أمرها شيئاً تصرف فيها سيدها، فلما ملكت رقبتها خيرت، وهذا نصره جداً ابن القيم ورأى أنه مأخذ قوي جداً ورجح هو وشيخ الإسلام هذا القول وهي أنها لها الحرية في الاختيار، سواء كان الزوج حراً أو عبداً.
    والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة ومن وجهة نظري أن اختيار الشيخ وتلميذه رحمهم الله ضعيف، السبب في ضعفه من وجهين:
    الأول: أن عائشة وهي أعرف الناس بقصة بريرة لأنها هي التي دفعت قيمة المكاتبة وعلى علم بأوضاعها وأحوالها، أخبرت أن زوجها لو كان حراً لم تمكن من الاختيار، هذا أولاً.
    ثانياً: أن التعليل الذي ذكره ابن القيم ضعيف، وجه ضعفه أن هذه الأمة زوجت قسراً في حال يبيح الشارع تزويجها عليه، كما أن الصغيرة التي يجوز لوليها أن يجبرها على النكاح إذا كبرت وذهب وصف الصغر ليس لها خيار، كذلك هذه الأمة إنما زوجت قهراً بموجب الشرع وبإذن الشارع، فإذاً لا معنى لتخييرها بعد ذلك، لهذين الدليلين أقول إن اختيار أن القول الثاني ضعيف وأن مذهب الحنابلة في هذه المسألة قوي وأنها إن عتقت وزوجها حر فليس لها الخيار بل تبقى زوجة له.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (بل تحت عبد)
    يعني بل تخير تحت عبد، إذا عتقت تحت عبد فإنها تخير بلا إشكال بالإجماع والنص، فإن حديث بريرة فيه أنه كان عبداً، كما أن أهل العلم أجمعوا على أنها إذا عتقت صارت أعلى منه منزلة وفقد شرط المكافأة، ولابد أن تختار لنفسها البقاء مع هذا العبد أو الانفصال.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (فصل ومن وجدت زوجها مجبوباً ... )
    هذا الفصل أراد المؤلف أن يبين فيه العيوب التي ينبني عليها جواز الفسخ من الزوجين، وهذه العيوب عند الحنابلة وعند الأئمة الأربعة معدودة وليست مضبوطة، يعني لا تؤخذ بضبطها بقاعدة معينة وإنما هي معدودة، منهم من يقول أنها ثمانية ومنهم من يقول ستة ومنهم من يزيد أو ينقص وهذه العيوب تنقسم إلى ثلاث أقسام:
    عيب يختص بالرجل، وعيب يختص بالمرأة، وعيب مشترك بين الرجل والمرأة، ومفهوم عبارة الحنابلة أن ما عدا هذه العيوب الثمانية لا يجوز ولا يمكّن لأحد من الزوجين الفسخ إذا وجدت في الآخر.
    (5/160)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن العيوب التي تمكن أحد الزوجين من الفسخ مضبوطة وليست معدودة، يعني مضبوطة بقاعدة معينة.
    ((الآذان))
    قلت والقول الثاني أنه مضبوطة وضبطها ابن القيم بقوله أن كل عيب يؤدي إلى نفرة أحد الزوجين من الآخر ومنع الاستمتاع على الوجه المطلوب فهو من العيوب التي يفسخ بها النكاح، وهو أيضاً ضابط جيد، ويتوافق مع مقاصد الشرع، لكن يبقى أن ننظر هل أحد وافق الشيخ على هذا التعميم، أو أن هناك إجماع على حصر العيوب بعيوب معينة، هذه القضية تحتاج تحرير فقط لا يكون هناك إجماع.
    بدأ المؤلف رحمه الله بالعيوب الخاصة بالرجل يعني بالزوج وهي كما قلت عيوب تؤدي إلى الفسخ.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ)
    الجب عند الفقهاء هو: قطع الذكر أو قطع ما لا يتمكن معه من الجماع، وهو عيب في الزوج يخول المرأة الفسخ.

    واستدلوا على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم روي عنهم آثار في العنة، والجب أعظم من العنة، لأن العنة كما سيأتينا هي عيب مع بقاء الذكر، بينما الجب هو عيب مع فقد الذكر.
    الدليل الثاني: أنه مع كون الزوج مجبوب لا تتحقق مقاصد النكاح من الاستمتاع والاستعفاف وحصول الولد، ولهذا اعتبره الفقهاء من العيوب التي تبيح للزوجة الفسخ.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن ثبتت عنته ...
    العيب الثاني: العنة أن يكون عنيناً والعنة هي: أن لا يتمكن الزوج من الإيلاج بسبب عدم الانتشار.
    ومقصود الحنابلة وغيرهم من الفقهاء إذا كان هذا عيباً ومرضاً ثابتاً، أما إذا لم يتمكن من الجماع لمرض أو لعلة عارضة فإن هذا لا يبيح الفسخ للمرأة.
    البحث الثاني: أن العنة تثبت الخيار للمرأة لأمرين:
    الأول: أنه روي عن أصحاب النبي منهم علي وعمر وابن عباس.
    الثاني أنه لا يحصل مع العنة مقاصد النكاح كما تقدم في المجبوب، وتأتي المباحث لاحقاً إن شاء الله.
    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/161)
    ________________________________________
    الدرس: (8) من النكاح
    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    تحدثت بالأمس عن العيب الثاني من العيوب الموجبة أو المخولة لفسخ النكاح وهي من عيوب الرجل. العيب الثاني هو: العنة، وأخذنا بالأمس تعريفه، وأنه يعتبر عيب عند جميع الأئمة إلا من شيخ، استدلالا بالآثار الثابتة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلالا بكونه يفقد العقد الحدث الذي من أجله أنشئ وهو الاستمتاع وتحصيل الذرية والسكن وغير ذلك مما يقصد بعقد النكاح.
    المسألة الثانية: بماذا يثبت؟ وهي التي أشار إليها المؤلف، تثبت العنة بأحد ثلاثة أمور: الأول الإقرار، والثاني البينة، والثالث النكول، إذا فقدت هذه الثلاثة فإنه لا قيمة لدعوى المرأة بأن الزوج عنين، لابد أن تثبت ذلك إما ببينة أو هو يقر أو يقر وتشهد على إقراره أو تتوجه إليه اليمين وينكل عنها، فبالنكول يقضى عليه، فهم من هذا كما قلت أنه لا يوجد طريقة أخرى لإثبات العنه سوى هذه الطرق التي ذكرها المؤلف.
    والقول الثاني: أنه إذا لم نتمكن من إثباتها بهذه الطرق، فإن القاضي يختبر الزوج اختبار مباشر عن طريق وضعهما في غرفة واحدة، وطلب من الزوج أن يريق الماء على الفراش، فإذا أراق الماء وحكم أهل الخبرة أنه ماء الرجل بطلت دعوى المرأة، والأقرب والله أعلم المذهب، وذلك لأن استخدام مثل هذه الطريقة يفضي إلى منازعة شديدة بين الزوجين، ويفضي إلى مفاسد أخرى.
    المسألة الثالثة: بماذا يزول أو تزول العنة؟ ذهب الحنابلة إلى أن العنة تزول بإيلاج الحشفة، رأس الذكر، ولا يشترط إيلاج سائر الذكر، وعلى هذا جمهور الحنابلة، واستدلوا على هذا بأن هذا القدر من الجماع يبيح الزوجة لزوج آخر، ويتقرر بها المهر، فكذلك تزول بها العنة.
    والقول الثاني: أنه لا تزول إلا بإيلاج جميع الذكر في فرج المرأة، وقالوا أنه بهذا نتحقق من الانتشار التام والوطء التام، والقول الثاني فيه ضعف، والصحيح إن شاء الله مذهب الحنابلة، لما ذكروه من تنظير بقضية استقرار المهر وحل الزوجة لزوج آخر إذا كانت مطلقة ثلاثاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/162)
    ________________________________________
    (وإن ثبتت عنته بإقراره أو بينة على إقراره)
    هذه هي المسألة الرابعة: أن العنين إذا ثبتت عليه العنة يؤجل لسنة، والدليل على هذا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بتأجيل العنين لمدة سنة بمحضر من الصحابة، ولم يعترض عليه أحد، فهو أشبه ما يكون بإجماع الصحابة، والمقصود بالسنة يعني الهلالية، ولا يحكم عليه قبل مضي السنة يعني بالفسخ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أجل سنة منذ تحاكمه)
    يعني أن بداية حساب السنة يكون من التحاكم للقاضي لا من الدعوى ولا من العقد، وإنما من حين التحاكم، فإذا صدر الحكم بدأنا بحساب السنة، والدليل على هذا أيضاً أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن ظاهره أن السنة حسبت من حين حكم عليهم، كما أن في بعض الآثار التصريح في بعض الروايات عن عمر بن الخطاب بأن السنة حسبت بعد المحاكمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن وطء فيه وإلا فلها الفسخ)
    يعني إذا مضت السنة ولم يطأ طيلة السنة ولا مرة واحدة فإن لها الحق في الفسخ، وهذا هو ثمرة إثبات العيوب المخولة للزوجة بالفسخ، وذهب الجمهور إلى أن هذا الحق يثبت على التراخي وليس على الفور، فإذا سكتت بعد السنة فلها أن تطالب بعد مضي شهر أو شهرين أو ثلاثة بحقها بالفسخ إذا لم يطأ، فهو أمر يثبت على التراخي لا على الفور، ربما رأت المرأة الانتظار أكثر من ذلك، وربما رأت أن تختبر نفسها هل تستطيع الصبر مع مثل هذا الزوج، أو لأي حكمة أخرى، على كل حال هو عند الجمهور على التراخي وهذا هو الصواب، والتعليل أنه على التراخي لأن التراخي في هذه المسألة لا يسقط حقها ولها أن تطالب متى شاءت بحقها في الفسخ إذا لم يطأ في أثناء هذه السنة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين)
    إذا اعترفت أنه وطئها يعني ولو مرة واحدة والسبب في ذلك يعود إلى تعليلين:
    التعليل الأول: أنه بوطئه ولو مرة واحدة تحققنا أنه ليس بعنين، وقد أشر بالأمس إلى أن مقصود الفقهاء بكون الزوج عنين يعني أن يكون هذا صفة له دائمة وليست عارضة، فإذا وطء ولو مرة واحدة بانتشار دل هذا على أنه ليس بعنين.
    (5/163)
    ________________________________________
    التعليل الثاني: أنه بهذا الوطء حصل مقصود المرأة وهو استقرار المهر، فإذا وطء مرة لا تملك المرأة المطالبة بعد ذلك بدعوى أنه عنين، المطالبة بالفسخ بدعوى أنه عنين.
    القول الثاني: وهو الذي تبناه فقيه أبو ثور أنه إذا وطء مرة ثم لم يتمكن من الوطء مرة أخرى وأصيب بالعنة بعد ذلك أن لها أن تطالب، واستدل على ذلك بأن الضرر موجود، وبأن الحكم يدور مع علته والعلة هي عدم التمكن من الوطء بسبب عدم الانتشار، وهي موجودة بهذه الصورة، والراجح إن شاء الله القول الثاني، لأن الضرر الحاصل بترك الوطء، ولو كان وطء مرة واحدة كالضرر الحاصل بترك الوطء من الأصل، فالأقرب إن شاء الله القول الثاني.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولو قالت في وقت ... )
    إذا قالت المرأة في وقت من الأوقات رضيت به عنيناً سقط حقها، وظاهر كلام المؤلف سواء رضيت به قبل هذه السنة أو بعد السنة أو في أثناء السنة، والتعليل أنها أسقطت حقها باختيارها، فلا تستطيع بعد ذلك أن تستدرك هذا الحق، وإلى هذا ذهب الجماهير.
    والقول الثاني: أنها إذا أسقطت حقها فلها أن ترجع فيه، وهو مذهب المالكية، وأضافوا إلى هذا أنها إذا رجعت عن إسقاط حقها فإنا لا نحتاج إلى أن نضرب له أجلاً مرة ثانية إذا كان ضرب له أجل في المرة الأولى، فالمالكية حفظوا حق المرأة بهذا القول، فهم يرون أنه لها أن تطالب ولا يشترط أن نعيد الكرة مرة أخرى ونؤجله لمدة سنة، وهذا القول الذي ذكره صحيح وقوي لما تقدم من أن هذا الحق يدوم ويطول، يعني قضية أن يكون عنيناً عيب يستمر، والعيوب التي تستمر للمرأة الرجوع عن التنازل بحقها، لما يدخل عليها من ضرر عظيم، ونحن نتحدث فيما إذا علمت بالعيب بعد العقد، أما إذا علمت بالعيب قبل العقد وعقد العقد وهي عالمة فإنها لا تملك الرجوع كما سيأتينا، إنما البحث الآن فيما إذا دخلت وعقد عليها ثم تبين لها أن فيه هذا العيب، حينئذ إذا رضيت فلها أن ترجع، أما إذا كان العقد عقد على هذا الأساس فليس لها أن ترجع، وبهذا انتهت العيوب المتعلقة بالرجل.
    فصل
    (5/164)
    ________________________________________
    هذا الفصل اشتمل على القسم الثاني، والقسم الثالث، ومجموعة خلطها المؤلف أحياناً تكون من القسم الثاني، وأحياناً تكون من القسم الثالث، لكنه بدأ بالقسم الثاني وهو العيوب المتعلقة بالنساء، أو العيوب الخاصة بالنساء، فهذه العيوب تثبت الفسخ كما سيأتينا.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والرتق)
    الرتق هو: أن يكون الفرج مسدوداً لا مسلك فيه للذكر، بمعنى أن يكون ملتصق، وإنما قالوا مسدوداً أي ملتصقاً حتى يخرجوا العيوب اللاحقة، لأن الامتداد فيها ليس بالالتصاق وإنما بأمر آخر، إذاً الرتق هو أن يكون الفرج ملتصق، ومسدود بهذا السبب، لا يوجد به مسلك للذكر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والقرن)
    القرن هو لحم يحدث في الفرج يمنع من الإيلاج، وقيل أن القرن هو عظم يكون في الفرج يمنع من الإيلاج، لكن كثير من أهل العلم يقولون أنه لحم، لأنه لا يكون عظم في فرج المرأة وإنما يكون لحم، فقطعة اللحم الموجودة في الفرج حالت بين الزوج وبين الجماع وهذا العيب الثاني.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والعفل)
    العفل قيل أنه أيضاً لحمة تسد الفرج، وقيل أنه ورم يكون في الفرج يمنع من الإيلاج، ومن المعلوم أن هناك فرق بين الورم وبين اللحم، وقيل أنه رغوة تمنع من تمام اللذة، ففسر بأحد ثلاثة تفسيرات، وعلى كل حال على كل من التفسيرات يعني سواء فسرناه بالتفسير الأول أو الثاني أو الثالث فهو عيب، كما صرح الحنابلة بأن اختلاف تفسيره لا يرفع الحكم بإحدى التفسيرات، فإذاً هو عيب على أي تفسير فسرته إياه، لكن يقرب والله أعلم أنه ورم، حتى لا يكون نفس القرن، ومعلوم أنه تقدم معنا لغة العرب الأصل فيها كل مفردة منها تحمل معناً مغايراً، وكوننا نفسر العفل بأنه مثل القرن كما يذهب إليه بعض الحنابلة فيه بعد، ولكن نفسره بأنه ورم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والفتق)
    الفتق هو: انخراق ما بين السبيلين، يعني ما بين القبل والدبر، وقيل أنه انخراق ما بين مسلك الذكر ومخرج البول، يعني أنه انخراق في القبل فقط، والأقرب أنه يشمل هذا وهذا، فإن كان هناك انخراق سمي انخراقاً في القبل فقط، أو فيما بين القبل والدبر.
    (5/165)
    ________________________________________
    معنا الآن أربعة عيوب، الرتق والقرن والعفل والفتق، هذه العيوب الأربعة جاءت فيها آثار عن اثنين من الصحابة ابن عباس وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، وأثبتا أن هذه من العيوب الموجبة للفسخ، فالدليل فيها الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأما الدليل الثاني: فهو الدليل المتبادر إلى الذهن والذي نعلل به سائر العيوب، وهو أن هذا العيب يمنع من الاستمتاع ويحول بين الزوج وزوجته، ولهذا أصبح عيباً يوجب الفسخ، فالاعتماد في الحقيقة على التعليل والأثر، واعتبار هذه الأربعة من العيوب أشبه ما يكون من مذهب جميع الأئمة.
    يتبقى معنا مسألة وهي أنها بعض هذه العيوب اليوم قد تعالج علاج تام بحيث لا يكون لها أي أثر، ولا يشعر بها الزوج، ولا يعلم بها أصلاً، فهل نقول أنه باعتبار التقدم الطبي اليوم تعتبر هذه العيوب ليست بعيوب؟ أو نقول أنه ينظر إلى رأي الطبيب، هل تكون المرأة بعد العلاج كالمرأة السوية تماماً أو لا؟ فإذا أخبر أنها كالمرأة السوية تماماً، وأن الزوج لا يلمس أي فرق، فإنه ينبغي ألا تعتبر من العيوب، والأحسن والأوفق أن يكون العلاج قبل الزواج، على يد امرأة جراحة ثقة، لكي تخرج المرأة من الفسخ بهذا العيب من قبل الزوج، فالأولى أن يكون العلاج قبل الدخول.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (واستطلاق بول ونجو وقروح سيالة في فرج ... )
    هذه ثلاثة استطلاق بول ونجو، وقروح سيالة في الفرج، وباسور وناسور.
    استطلاق البول هو أن لا تتمكن من حبسه متى أرادت، وكذلك استطلاق النجو، فإذا لم تتمكن من حبسه متى أرادت فإنه عيب.
    يقول وقروح سيالة في فرج، يعني أن يوجد في فرج المرأة قروح سيالة، يخرج منها إما دم أو صديد.
    والباسور والناسور هما داءان يصيبان المقعدة معروفان، بالنسبة لاستطلاق البول والنجو هذا مشترك بين الزوج والزوجة، وبالنسبة للقروح السيالة في الفرج صرحوا أنها خاصة بالمرأة، وبالنسبة للباسور والناسور مشترك بين المرأة والرجل، هذه الثلاثة أمراض اختلف فيها الفقهاء، فذهب الحنابلة كما ترون إلى اعتبارها من العيوب الموجبة للفسخ، واستدلوا على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: أن مثل هذه العيوب تسبب تقزز الرجل وكراهيته.
    (5/166)
    ________________________________________
    الدليل الثاني لهم: أن هذه العيوب تمنع من الاستمتاع الذي يقصد بالنكاح.
    القول الثاني: أن هذه العيوب لا توجب الفسخ واستدلوا بأمرين:
    الأمر الأول: أن هذه العيوب لم تذكر في الآثار وليست محل إجماع بين أهل العلم.
    الثاني: أن بعض هذه العيوب لا يمنع من الاستمتاع.
    والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، وقد تكون بعض هذه الأمراض أبلغ من الأمراض المتفق عليها، فمثلاً وجود الجروح البليغة في الفرج أصعب وأشق من الرتق، لأن الرتق بالإمكان فتحه وتصبح المرأة بعد فتحه كأي امرأة أخرى، بينما هذه الجروح لا يمكن الجماع معها لما تسببه كما قال الحنابلة من النفرة، كما أنها تمنع من الاستمتاع بالكامل، أضف إلى هذا أن غالباً إذا جامع الزوج زوجته، وهي كذلك أنه لا يسلم من الأمراض والعدوى، فما اختاره ابن القيم وجيه جداً في هذه الأمراض، على أن في الحقيقة هذه المباحث ضعيفة اليوم بسبب التقدم الكبير في الطب، مما يعني لا يكاد يصمد أمامه مرض ثابت، إلا الأمراض التي ليس لها علاج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وخصى وسل ووجاء)
    الخصاء والسل والوجاء هذه خاصة بالرجل، فالخصاء قطع الخصيتين، والسل هو استلالهما يعني الخصيتين مع بقاء الجلد، والوجاء هو رض الخصيتين، والخلاف في هذه الثلاث أيضاً واحد، فالقول الأول: وهو مذهب الحنابلة كما ترى أنها من العيوب الموجبة للفسخ، واستدل الحنابلة على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: أن الرجل إذا خصي صار ضعيفاً في الجماع، مما يمنع الاستمتاع التام من قبل المرأة.
    ثانياً: أن المخصي لا يمكن أن ينجب، وكذلك السل والوجاء.
    القول الثاني: أن هذه العيوب لا توجب الفسخ واستدلوا على هذا أيضاً بأمرين:
    الأمر الأول: أن الخصاء ليس في معنى الجب ولا العنة، بل هو يجامع كما يجامع أي رجل.
    (5/167)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: وهذا أيضاً ذكره بعض الحنابلة، أن المخصي قد يكون أقوى في الجماع من غيره، ووجه ذلك عندهم أن المخصي يجامع ولا يريق الماء الذي يحصل بسببه الضعف، لأنه لا ماء عنده، فهذا الفريق وهو أيضاً بعض الحنابلة يعكس الدليل فيقول أن الخصاء من أسباب زيادة الاستمتاع، بخلاف الفريق الأول الذين يرون أن الخصاء من الأشياء التي تضعف الاستمتاع، في الحقيقة الفصل بينهما يحتاج إلى طبيب، لكن بالنسبة للترجيح الراجح مذهب الحنابلة، والسبب في هذا عدم وجود الذرية، فلو سلمنا لبعض الحنابلة وغيرهم أنه لا يقدح في الاستمتاع أو لا يضعف الاستمتاع، إلا أن عدم وجود الذرية هو بحد ذاته موجب للفسخ.
    الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أيضاً اختيار الشيخ ابن القيم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وكون أحدهما خنثى واضحاً)
    إذا كانت خنثى غير مشكل وإنما واضح فهو مما يجيز للآخر الفسخ، وأما الخنثى المشكل فلا نحتاج للكلام عنه لأنه لا يصح نكاحه عند الحنابلة.
    الفسخ بالخنثى الواضح محل خلاف أيضاً، فالحنابلة يرون أنه يفسخ به لأنه لا يتم الاستمتاع به بسبب كونه خنثى وتردد الطرف الآخر في حقيقة المقابل.
    والقول الثاني: أنه إذا كان خنثى واضح وليس بمشكل ويقوم بما عليه من واجب سواء كان الرجل أو المرأة فإن الآخر لا يحق له الفسخ، لأن الاستمتاع المقصود بالعقد موجود، وفي الحقيقة الأقرب أيضاً مذهب الحنابلة، لأنه يبقى الإنسان لم يتمكن مع ما يوصف به الآخر من أنه خنثى من الاستمتاع على الوجه الكامل.
    انتهى الشيخ رحمه الله من القسم الثاني، ومن القسم المشترك هذا الذي المؤلف لم يرتبه بحيث يكون تبع النساء ولا المشترك، وانتقل إلى القسم الثالث وهو المشترك عند جميع أهل العلم، ولو أن الشيخ أخذ الأشياء المشتركة من القسم الثاني ووضعها مع الأشياء المشتركة من القسم الثالث لكان أولى، لكن الشيخ لعله أراد أمر آخر وهو حسن الترتيب، لأن استطلاق البول والقروح والباسور أمراض متشابهة، وإن كان بعضها مشتركاً وبعضها خاصاً، لكنه متشابه وبذلك جعلها مع بعض لكن الآن هو بدأ بالقسم الثالث:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وجنون ولو ساعة)
    (5/168)
    ________________________________________
    الجنون من العيوب المشتركة، فقد تكون الزوجة مجنونة، وقد يكون الزوج مجنوناً، وقول الشيخ الجنون ولو ساعة يعني أنه لا يشترط في الجنون يكون مطبقاً، فإذا كان ينتابه ويرتفع عنه فإنه عيب يفسخ به النكاح، واستدل الحنابلة على هذا بأن المجنون ولو أحياناً يخشى من ضرره هذا الدليل الأول.
    الدليل الثاني: أن النفس لا تركن إلى من هذه حالة، وهذا تعليل لطيف من الحنابلة، صحيح إذا علم أنه قد يجن فإن النفس لا تركن إلى اتخاذه زوجاً أو زوجه، وهذا لا إشكال فيه إن شاء الله، وهو ثبوت حق الفسخ بالجنون ولو كان عارضاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وبرص وجذام)
    البرص والجذام من الأمراض التي تعد عيوب مشتركة للزوج والزوجة، والدليل على هذا من عدة أوجه:
    الوجه الأول: أن في كل منهما ما يؤدي إلى النفرة وعدم السكون.
    الثاني: وهو خاص بالبرص، أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ولما وضعت ثيابها رأى في كشفها بياضاً، فقال: خذي عليك ثيابك والحقي بأهلك صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ضعيف لا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع ذلك، هذا بالنسبة للبرص، بالنسبة للجذام استدلوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الفرار فالفسخ من باب أولى، أضف إلى هذا أن الجذام معدي بخلاف البرص، فهو علة خاصة بالجذام، أضف إلى هذا كله وهو من أهم الأدلة أن اعتبارها عيوب مروي عن عمر بن الخطاب وعن ابن عباس، فكما ترى الأدلة الدالة على ذلك كثيرة جداً، فهذه العيوب تثبت الخيار في الفسخ سواء كانت بالمرأة أو كانت بالرجل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يثبت لكل واحد منهما الفسخ)
    هو عندك هنا يقول بكل واحد منهما فتعدلونها لتكون منها.
    (5/169)
    ________________________________________
    يرى الحنابلة أن الفسخ يثبت بكل واحد من هذه العيوب، ويرون أن هذا الحق محصور في هذه المعدودات لا يتعداها إلى غيرها، بناءً على هذا العمى ليس بعيب، والعرج ليس بعيب، والقرع وكل عيب لم يذكر ليس بعيب، يعني ليس بعيب يستطيع أحد الزوجين الفسخ به، وتقدم معنا الخلاف بهذه المسألة وأن اختيار ابن القيم أن العيوب محدودة وليست معدودة، وأن الضابط أن كل مرض يؤدي إلى عدم الاستمتاع والنفرة فهو موجب للفسخ، تحدثنا عن هذا إذاً كل مرض أولى من هذه الأمراض فهو أحق بالحكم، فمثلاً الأمراض الجنسية المعاصرة، الإيدز والهربس وما شاكل هذه الأمراض، بلا شك أنها أعظم من الأمراض التي ذكرها الفقهاء، فهي أمراض خطيرة جداً ومعدية مباشرة وقبيحة، كما أنها بالذات هذه الأمراض غالباً ما تكون دليل على رقة دين صاحبها، لأنها تكون بسبب الممارسات الممنوعة، فأي فقيه يرى أن مثل الإيدز ليس بعيب تستحق المرأة معه الفسخ أو الرجل إذا كان في أحد منهما، هذا لا يقوله فقيه لكنهم رحمهم الله لم يعرفوا إلا هذه الأمراض فحصروها ووجدوا أن الصحابة نصوا عليها، فهم أيضاً تمسكوا بهذه الآثار واعتبروها معدودة، وإلا لا شك أن ما ذكره ابن القيم وجيه جداً، والأمراض المعاصرة تؤكد وتجعل الأمر أشبه ما يكون بالقطعي.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولو حدث بعد العقد)
    إذا حدث المرض بعد العقد، يعني رجل تزوج امرأة وهو سليم تماماً ثم أصيب بأحد الأمراض الموجبة للفسخ، فالحكم أنها تملك الفسخ عند الحنابلة، واستدلوا على هذا بأن هذا العيب عيب يوجب الفسخ وجد في أحد الزوجين فاقتضى حكمه، هذا كلام صحيح أنه عيب يوجب الفسخ وجد في أحد الزوجين فاقتضى حكمه وهو الفسخ.
    القول الثاني: أن العيب إذا حدث بعد العقد فإنه لا يوجب الفسخ، واستدلوا على هذا بالقياس على البيع فإن الإنسان إذا اشترى السلعة ثم حدث فيها عيب فبالإجماع لا يردها إلى صاحبها، قالوا فكذلك أحد الزوجين، لأن النكاح عندهم من عقود المعاوضات.
    (5/170)
    ________________________________________
    والقول الثالث: أن العيب إذا حدث في المرأة فإن الزوج لا يملك الفسخ، لأنه يملك الطلاق، وإن حدث في الزوج فإن المرأة تملك الفسخ، لأنه لا سبيل لها إلى المفارقة إلا بالفسخ، والراجح والله أعلم المذهب وهو أن الحق يثبت بكل منهما لأن الشارع جعل هذا العيب موجب للفسخ سواء وجد قبل أو بعد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو كان بالآخر عيب مثله)
    إذا كان في كل منهما عيب مساوي للآخر، كل منهما أبرص، أو كل منهما مجذوم، فالحكم عند الحنابلة أنه يثبت لكل منهما الحق في الفسخ، واستدلوا على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: أن الإنسان قد يكره العيب في غيره ولا يكرهه في نفسه.
    الثاني: أن العيب الموجود في الآخر موجب للفسخ، والعيب الموجود عند أحدهما لا يمنع هذا الفسخ، أو بعبارة أوضح أن العيب الموجود في الزوجة مثلاً يوجب الفسخ، ووجود هذا العيب في الزوج لا يرفع هذا الحق.
    القول الثاني: في هذه المسألة أنه إذا كان كل من الزوج والزوجة مصابان بنفس العيب أنه لا يملك أحد منهما الفسخ، واستدلوا على هذا بأنهما متساويان ليس لأحدهما الحق على الآخر.
    والراجح المذهب لأن كون أحدهما يرضى بهذا العيب لا يرفع حق الآخر.
    مسألة: إذا كان في كل منهما مرض مختلف فالحكم نفسه، أن لكل منهما الفسخ فإذا كان أحدهما أبرص والآخر أجذم فلكل منهما الحق في الفسخ، ويستثنى من هذا مسألة واحدة ونستطيع أن نضع لها قاعدة، نستثني من هذا إذا كان العيب ليس هو المانع من الوطء، مثل أن تكون هي رتقاء وهو مجبوب، فلا الذي منعه من الجماع أنها رتقاء ولا الذي منعها من الجماع أنه مجبوب، فحينئذ لا يملك أحد منهما الفسخ، لأن العيب ليس هو المانع، وهذا صحيح، أنه إذا لم يكن العيب هو المانع فلا يملك الفسخ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو وجدت منه دلالته ... )
    (5/171)
    ________________________________________
    إذا وجدت الدلالة على الرضا بالعيب أو رضي به رضاً صريحاً فلا خيار له، لأنه أسقط حقه بنفسه، إلا أن الشيخ المجد استثنى من هذا الحكم مسألة، وهي إذا كان الزوج عنين لا بد أن تصرح المرأة بالرضا قولاً، ولا نكتفي بالدلائل والقرائن الدالة على الرضا بل لابد أن تصرح، وعلل الشيخ المجد هذا الحكم بأن العنة أمر يطول ويستمر ونحتاج إلى التأكد من رضا المرأة، قال حفيده شيخ الإسلام ابن تيمية ولم أرى أحداً نص على هذا إلا الجذب، الحنابلة كلهم لا يفرقون بين العيوب إلا الجذب لكنك إذا تأملت تجد أن ما ذكره الشيخ المجد صحيح وأن مثل هذا العيب يحتاج إلى التصريح بالرضا، لأنه أمر يدوم أما العيوب الأخرى فبالإمكان أن تعالج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يتم الفسخ أحدهما إلا بحاكم)
    الفسخ بالعيب لا بد أن يكون عن طريق الحاكم، والسبب في ذلك أنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر وحكم، فلا يقوم به الزوج أو الزوجة من تلقاء نفسه.
    والقول الثاني: أنه لكل منهما الفسخ إلى حكم الحاكم، لأن سبب الفسخ موجود فلا نحتاج إلى حكم الحاكم.
    والقول الثالث: أنه إذا تم الفسخ برضا الطرفين فلا نحتاج إلى حاكم، وإذا تم الفسخ مع الاختلاف فلا بد من حكم حاكم، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قوي جداً وهو الأقرب إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن كان قبل الدخول فلا مهر)
    فإن كان الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة، سواء كان الفسخ من قبل الزوج لعيب في المرأة، أو من قبل المرأة لعيب في الزوج، وعللوا ذلك أنه إذا كان من المرأة لعيب في الزوج فهي التي فسخت، وإذا كان لعيب منها والذي فسخ الزوج فلأنه يعود في الحقيقة الفسخ لسبب منها، وهو العيب الذي في المرأة.
    (5/172)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه إذا كان بسبب العيب في الزوج فإنه لا بد من دفع نصف المهر للزوجة، لأن الفسخ كان بسبب الزوج، إذ العيب منه، ولو كانت المرأة هي التي طلبت، واستدلال الجمهور غريب، لما كان الرجل قالوا ولو كان الفسخ من الزوج إلا أنه لما كان بسبب عيب الزوجة عاد الأمر للزوجة، ولم يصنعوا هذا إذا كان العيب في الرجل، وهذا غريب منهم وفيه شيء من عدم الإنصاف، فالراجح إن شاء الله القول الثاني الراجح أنه إذا كان بعيب من الزوج ولو كان بطلب من المرأة فلها نصف المهر.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وبعده لها المسمى)
    إذا كان الفسخ بعد الدخول والمسيس فلها المسمى، والدليل على أن لها المسمى أن هذا العقد عقد صحيح بمسمى صحيح فوجب، وهذا كلام صحيح، أنه عقد صحيح بمسمى صحيح فوجب بالدخول.
    والقول الثاني: أن لها مهر المثل وليس المهر المسمى، ودليلهم القياس على العقد الفاسد، قاسوا العقد المفسوخ على العقد الفاسد، وهو قياس مع الفارق، لأن العقد المفسوخ عقد صحيح إلا أنه فسخ، بينما العقد الفاسد فاسد.
    (5/173)
    ________________________________________
    والقول الثالث: أنها تعطى المهر المسمى مع تنقيص ما يقابل العيب، ونعرف قدر النقص بنسبته إلى مهر المثل، فنقول الآن أنت كم سميت لها المهر؟ فيقول مائة ألف، نقول كم مهر المثل؟ فيقول مثلاً خمسين ألف، نقول مهر المثل إذا كانت برصاء كم يكون؟ فيقول خمسة وعشرين ألف فالنسبة كم خمسين بالمئة، يعني كم ستعطى من المهر المسمى؟ خمسين ألف، إذاً نعرف نسبة التنقيص من خلال المقارنة بمهر المثل، لأن المهر المسمى لا يمكن أن نقيس عليه، لأن الناس يتفاوتون وقد يعطي الإنسان المرأة أضعاف مهر مثلها، فإذاً لا نرجع للمهر المسمى وإنما نرجع إلى مهر المثل، ثم ننقص منه بهذا المقدار، وهذا القول ذكره شيخ الإسلام وقواه المرداوي وهو قول فيه إنصاف، أما إلزام الزوج بجميع المهر مع أن الفسخ كان بسبب عيب في المرأة فيه نظر، إلا أن في الحقيقة بعيداً عن الأحكام الفقهية ليس من المروءة أبداً بعد الدخول إذا أراد الفسخ أن ينقص من المهر شيء أو أن يسترجع شيء منه، يعني أقول أنا ليس من المروءة باعتبار أن الدخول والمسيس حصل، وهذا كما قلت لكم بعيد عن الفقه والحلال والحرام، وهو فقط من باب المروءات أما إذا أرادوا الحلال والحرام فالراجح إن شاء الله هو ما ذكره شيخ الإسلام.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويرجع به على الغار إن وجد)
    الغار غالباً هو الولي، لأنه كتم عيب المرأة عن الزوج، وسبب ذلك أن المعروف والمعهود أن الذي يخبر بعيوب المرأة قبل العقد هو الولي وليست المرأة، فليس من المعهود أن تأتي المرأة وتقول للرجل أن في عيب كذا وكذا، فإذا كان الزوج هو الذي كتم فعليه المهر، فيرجع الزوج على الولي بالمهر يعطيه المرأة ثم يرجع على وليها أياً كان الولي ويأخذ المهر كاملاً، الدليل على هذا أن عمر بن الخطاب قال أيما رجل تزوج مجذومة أو برصاء ثم مسها فعليه المهر بالمسيس وله ضمانه على الولي، وهذا الأثر صحيح عن عمر أنه أوجب الرجوع رضي الله عنه على الولي.
    ((الآذان))
    القول الثاني: أنه لا يرجع بشيء من المهر واستدلوا بدليلين:
    الأول: أنه دفع هذا المهر مقابل عوض أخذه وهو الدخول والوطء.
    (5/174)
    ________________________________________
    الثاني: أنه لا يوجد دليل من النصوص على الرجوع، والأصل أن المهر يتقرر بالدخول كما سيأتينا في باب الصداق، وأنصف هذا القول مجموعة من الفقهاء منهم الشيخ الشوكاني.
    والراجح إن شاء الله هو مذهب الحنابلة بلا إشكال وهذه الفتوى من عمر هي الحجة بالباب لاسيما وأنه لم يخالفه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الخلفاء الراشدين، هذا الأثر كافي في الباب كما أن المعنى يؤيده، لأن الفرق أو سبب الفسخ من قبل المرأة لأن العيب فيها وهذا المعنى يقتضي ألا يضيع المهر على الزوج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والصغيرة والمجنونة والأمة ... )
    يعني لا يجوز أن تزوج إحدى هذه النساء بمعيب، قال الشيخ المرداوي بلا نزاع، والسبب في ذلك أن ولي أمر هذه المرأة المجنونة أو الصغيرة عليه النظر لمصلحتها، وليس من النظر لمصلحتها أن تزوج بمعيب بأحد هذه العيوب الثلاثة، لكن إن خالف فزوجها فينقسم إلى قسمين: إن خالف فزوجها وهو يعلم فالعقد باطل، لأنه زوج وهو غير مأذون له بالتزويج شرعاً، والذي جعله ولي هو الذي نزع منه الولاية بهذه الصورة.
    الثانية: أن يزوجها وهو جاهل، فإذا زوجها وهو جاهل فالعقد صحيح وتملك المرأة الفسخ.
    والقول الثاني: أنه إذا زوجها ولو كان جاهلاً فالعقد باطل، واستدلوا على هذا بأنه زوجها بمن لا يحل أن يزوجها إياه كما لو زوجها جاهلاً بمحرم من محارمها، فهو إذا زوجها بمحرم من محارمها فالعقد باطل، ولو كان جاهلاً كذلك هنا نقول العقد باطل لهذا السبب، والأقرب والله أعلم القول الثاني وعلى هذا يكون إذا خالف فزوجها فالعقد باطل مطلقاً، لأنه اعتدى على حق هذه الصغيرة والمجنونة إلى آخره.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع)
    أفاد المؤلف أن المرأة الكبيرة لها أن تختار الزواج بالمجبوب والعنين، وعللوا هذا بأنه حق لها رضيت بإسقاطه، وإذا كان حقاً لها فلها أن تسقطه.
    (5/175)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن لوليها أن يمنعها ولو رضيت، وعللوا هذا بأنه أمر يدوم ويطول، وقد تندم ولا ينفعها الندم لأنها رضيت به قبل العقد، فمن النظر لها ولمصلحتها أن يمنعها وليها، والأقرب والله أعلم أن الكبيرة العاقلة إذا اختارت الزواج بمثل هذا الشخص أنه ليس لأحد أن يمنعها، لأنه حق لها خاص تنازلت عنه.
    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    - ((انتهى الدرس)).
    (5/176)
    ________________________________________
    الدرس: (9) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع)
    أخذنا بالأمس الخلاف في هذه المسألة على قولين، وهل للولي حق في منعها أو ليس له حق في منعها، ولم أذكر أن ابن قدامة يميل إلى خلاف المذهب وهو أنه له أن يمنعها.
    بقينا في المسألة التالية لهذه المسألة:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (بل من مجنون ومجذوم وأبرص)
    أي بل له أن يمنعها ولو كانت كبيرة إذا أرادت أن تتزوج من مجنون أو مجذوم أو أبرص، وعلل الحنابلة هذا بأن هذه العيوب الضرر فيها لا يقتصر على المرأة، بل يتعدى إلى الذرية، كما أنه يتعدى إلى الولي، لأنه يعير بمثل هذا الزواج، فلما صار الضرر لا يقتصر على الزوجة، منع الحنابلة من التزويج ولو برضا المرأة، ومن هنا عرفت الفرق بين أن يكون عنيناً أو مجبوباً وبين أن يكون أبرص أو مجذوم أو مجنون الفرق بينهما هو هذا، أن الضرر لا يقتصر على المرأة في العيوب الثلاثة التي ذكرها المؤلف الآن، ولهذا إذا سئلت لماذا يفرق الحنابلة بين هذه العيوب لا بد أن تعرف أنه هذا السبب.
    (5/177)
    ________________________________________
    القول الثاني: أن لها أن تتزوج وليس للولي أن يمنعها ولو كانت العيوب هي هذه الثلاثة المذكورة، لأن هذه العيوب تتعلق أولاً بالمرأة، ثم بالأولياء، فإذا رضيت هي بإسقاط حقها سقط، لأن الحق الأول لها، ولو قيل أن مثل هذه المسائل يرجع فيها للملابسات التي تحتف بها مثل طبيعة المرأة وطبيعة الأهل وحاجة المرأة وإلى آخره بالنسبة للمجنون والأبرص لكان للقول بالتفصيل هذا أنه يختلف باختلاف الأحوال قد يناسب أحياناً أن تزوج المرأة من مثل هؤلاء وقد لا يناسب بحسب وضع المرأة، هذا بالنسبة للجنون والبرص، لكن الجذام المشكلة فيه أنه مرض معدي، فإذا تمكنت من تجنب العدوى فذاك، وإلا فإنه ليس للإنسان أن يقحم نفسه في مثل هذا الأمر، وليس للولي أن يرضى أيضاً بتزويج موليته ممن سيباشرها الزوج، وتنتقل إليها هذه الأمراض لا شك أن هذا المنع فيه وجيه، أقول لو قيل بهذا التفصيل كان جيد وإلا إذا لم يقل بهذا التفصيل فالذي ذكره الحنابلة صحيح، وهذه المسائل كثير منها فتاوى صريحة عن الإمام أحمد، فمثلاً الزواج بالعنين والمجبوب نص الإمام أحمد أنه لا يعجبني، يقول ربما رضيت ثم ندمت إذا أرادت منه ما تريد المرأة من زوجها ندمت، وقد يحصل بناءً على هذا مفاسد.
    الخلاصة أن مذهب الحنابلة في هذه المسائل وجيه إلا أن يقال بالتفصيل الذي أشرت إليه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومتى علمت بالعيب أو حدث به لم يجبرها وليها على فسخه)
    قبل أن نتكلم على هذه المسألة، فهم من الكلام السابق في المسائل السابقة، أنه إذا رضيت المرأة والولي فالزواج صحيح، سواء كان العيوب الثلاثة أو العيبان المتقدمان، لأنه أحياناً يعلق على رضا الزوجة وأحياناً يعلق على رضا الولي، فإذا رضيت الزوجة والولي جاز التزويج بلا إشكال، ولا أظن هذه محل خلاف، إذا رضيت الزوجة ورضي الولي جاز لها أن تتزوج بمن يتصف بهذه العيوب بلا إشكال إن شاء الله لأن الحق لا يخرج عنهما.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومتى علمت بالعيب ... )
    (5/178)
    ________________________________________
    ومقصود المؤلف بهذا يعني بعد العقد إذا علمت به بعد العقد أو حدث العيب بعد العقد فإنه ليس للولي أن يجبر المرأة على الفسخ، بل يصبح حقاً خاصاً بالمرأة، والسبب في هذا أن القاعدة المشهورة أن الاستدامة أقوى من الابتداء، هذا من جهة ومن جهة أخرى القاعدة أيضاً أن الولي له حق في الابتداء دون الاستدامة، وهذه المسألة قال عنها الشيخ المرداوي بلا نزاع، فليس للولي إذا رضيت المرأة بعد العقد بحدوث العيب أن يجبرها على الفسخ.
    بهذا انتهى هذا الباب ننتقل للباب الذي يليه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

    باب نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين
    يريد المؤلف أن يبين حكم الأنكحة التي تجري بين الكفار، ووضع الشيخ رحمه الله قاعدة لهذا وهي أن حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين، يعنى أنه صحيح وليس بفاسد، وإذا كان صحيحاً ترتبت عليه الآثار التي تترتب على النكاح الصحيح، فتجب القسمة فيه ويجب المهر ويقع الطلاق والخلع والظهار والإيلاء وإن طلقها ثلاثاً فلا تحل له إلا بعد زوج آخر، تترتب عليه الآثار التي تترتب على النكاح الصحيح، وذلك لأنا حكمنا على أنكحتهم بأنها أنكحة صحيحة، ومقصود المؤلف أن أنكحة الكفار كأنكحة المسلمين ولو كانت بالنسبة لأحكام المسلمين فاسدة، يعني إذا أجرى الكفار نكاح بلا ولي ولا شهود ولا مهر لكنهم يرونه نكاحاً صحيحاً فهو صحيح، والدليل على هذا من وجهين:
    الوجه الأول: أن الله تعالى نسب نساء الكفار إليهم، والنسبة تقتضي التصحيح، فقال امرأة فرعون وامرأته حمالة الحطب فنسب المرأة لهذا الكافر وهذه النسبة تقتضي تصحيح العقد.
    الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهل الذمة ومجوس هجر وغيرهم على أنكحتهم، ولم يفتش فيها بل أجراها على الظاهر والصحة، فدل هذا على أن أنكحة الكفار حكمها حكم أنكحة المسلمين يعني من حيث الصحة، وهذا الحكم لا إشكال فيه فعليه عمل الصحابة وعليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، بناءً على هذا لا يصح أن نفتش عن أنكحتهم فنأتي إلى أهل الذمة ونقول كيف عقدت على زوجتك وننظر فيه فإن كان متوافقاً مع أحكام الشرع أمضيناه وإلا أبطلناه، هذا التصرف تصرف خاطئ مخالف لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولظاهر القرآن.
    (5/179)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويقرون على فاسده)
    يعني إذا علمنا أن نكاح الكفار فاسد فيقرون على هذا النكاح الفاسد لكن بشرطين:
    الشرط الأول: أن يكون نكاحاً صحيحاً في دينهم، والسبب في اشتراط هذا الشرط أنا نقرهم على ما يصحح في دينهم، فإذا لم يصحح في دينهم فلسنا ملزمين بإقرار النكاح الذي يصح في غير ملتهم، بل نحن نقرهم على ما يصح في ملتهم لأن هذا هو مقتضى العقد الذي بيننا وبينهم، فإذا تزوج نصراني نصرانية على غير شريعة النصارى فليس علينا أن نقر هذا النكاح، بل نبطل النكاح ونجري عليه أحكام الإسلام، لابد أن يتزوجها على طريقة النصارى، بعبارة أخرى لابد أن يتزوجها زواجاً يرى النصارى أنه صحيح، وهكذا اليهود والمجوس والوثنيين وكل ملة لها شريعة أو طريقة، فإن كانت الملة ليس لها شريعة وثني أو ملحد ليس له دين ولا شريعة فما الحكم؟ الحكم أن هذه المجموعة من الناس الذين لا يتدينون بأي شريعة سماوية ولا أرضية هذه هي شريعتهم، أنهم لا يتدينون بأي دين فإذا عقد نكاحاً على وفق هذه العقيدة فهو يعتبر نكاح صحيح، ومن هنا نقول إذا ارتد النصراني عن دينه تماماً وأصبح ملحد لا يؤمن بالله ولا بموسى ولا بعيسى ولا بأي نبي ثم أجرى العقد على شريعة النصارى لأنه في محيط نصراني فهنا نجري عقده على أحكام المسلمين ونبطل العقد لماذا؟ لأنه لم يجري العقد على دينه، لأن دينه هو الإلحاد، وهذه قضية يجب أن يتنبه إليها، لأنهم أي الحنابلة يرون أنا نقر الكفار على دينهم إذا أجروه على وفق دينهم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا)
    الشرط الثاني: أن لا يرتفعوا إلينا، يعني ألا يتحاكموا إلينا، والدليل على هذا قوله تعالى {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} فدلت الآية على أنا نخضعهم بأحكامنا إذا جاؤونا، وقبل المجيء لا نخضعهم إلى أحكامنا، وهذا صحيح، فالآية نص في اعتبار هذا الشرط إذا تحقق الشرطان فإنه يقرون على أنكحتهم ولو كنا نرى أنها في شرعنا فاسدة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا)
    (5/180)
    ________________________________________
    إذا أتونا قبل عقده، يعني ارتفعوا إلينا، فإنا نعقد لهم وجوباً على ملة الإسلام، فلا بد من ولي وشهود ومهر وكل شروط وأركان النكاح الصحيح الشرعي لقوله تعالى {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}، والقسط هو أن يجري العقود على مقتضى الشرع، وهذا الحكم لا إشكال فيه، وهو أنهم إذا ارتفعوا إلينا نحكم على عقودهم بمقتضى الشرع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان)
    إذا أتونا بعد أن أجروا العقد، أو أسلما بعد الدخول وإجراء العقد فإنا نقر النكاح كما هو ولا نخضعه إلى أحكام الشريعة، والسبب في هذا أن خلقاً عظيماً كثيراً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخضع عقودهم إلى أحكام الشرع، بل أجراها على ظاهرها واعتبرها صحيحة، وهذا الدليل دليل قطعي معلوم من السيرة بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يخضع أنكحة الذين أسلموا من القبائل والأمم التي دخلت في دين الله لم يخضع عقودهم إلى أحكام الشرع، وهذا أمر إن شاء الله ظاهر متى ارتفعوا إلينا بعد العقد أو أسلما في وقت واحد، وحكى بعضهم الإجماع على هذا الحكم وهو ظاهر إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والمرأة تباح إذاً أقرا ... )
    أي أن هذا الحكم الذي ذكرت مشروط بأن تكون المرأة تباح إذاً، يعني تباح حال إقرار العقد، فإذا كان هذا الكافر قد تزوج خالته أو عمته فإنه يجب أن نفرق بينهم، وإذا كان تزوج أخت زوجته يجب أن نفرق بينهم، القاعدة أنه يجب أن نفرق بينهم إذا كان لا يجوز أن يقر عليها، وذكر الحنابلة ضابط مريح في هذه القاعدة، أن كل نكاح لا يجوز ابتداؤه لا يجوز استدامته، فلا يجوز أن يبتدئ نكاح الخالة ولا العمة ولا المرأة على أختها ولا المطلقة ثلاثاً قبل زوج آخر وهكذا، واستدلوا على هذا بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأن يفرق بين كل من تزوج ذي رحم من المجوس، وهذا إن شاء الله صحيح، فإذا ارتفعوا إلينا أو أسلموا نبقيه إلا إذا كان مما لا يجوز ابتداؤه.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن وطئ حربي حربية ... )
    (5/181)
    ________________________________________
    مقصود الشيخ هنا ولو كان على سبيل القهر، بشرط أن يعتبر هذا الوطء نكاحاً في دينهم، فإذا اعتبروه نكاحاً يعني أن المرأة تصبح زوجة بمجرد السطو عليها ووطؤها قهراً فإنه يعتبر نكاح ويقر كل من الزوج والزوجة عليه، وفي الحقيقة هذه المسألة داخلة في ضمن المسألة السابقة، إلا أنه نبه عليها لأمرين:
    الأمر الأول: أنها تتعلق بالحربي والحربية، ولكن الصواب أن هذا لا يختص بالحربي حتى الكتابي والكتابية وأي ملة إذا اعتبروا هذا نكاحاً فهو نكاح.
    الأمر الثاني: نص عليه لألا يتوهم أن إقرار العقود يفتقر إلى إجراء العقد، بل لو كان الوطء عندهم نكاح يكفي، ومع ذلك هو في الحقيقة داخل في الجملة السابقة، فنحن نقول كل نكاح يعتبره الكفار نكاح إذا أسلم عليه أبقيناهم وأقريناهم على هذا النكاح، مهما كان نوعية إجراء العقد عند هذه الملة وتلك الملة، ويبقى الشرط فقط أن يكون مما يجوز استدامته عند المسلمين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإلا فسخ)
    يعني وإن لم يكن نكاحاً في دينهم فسخ، لما تقدم من أنا نقر الكفار على ما يعتبرونه ديناً لهم، أما دين غيرهم فلسنا ملزمين بإقرارهم عليه، بل يجب أن يجرى على وفق الشرع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومتى كان المهر أخذته)
    يعني إذا كان المهر في هذه الأنكحة صحيح فإنها تأخذه كاملاً، واستدلوا على ذلك بأن هذا النكاح صحيح والمسمى صحيح فوجب دفعه، لأنه إذا كان النكاح صحيحاً والمسمى صحيح فالنتيجة الطبيعية لهذه المقدمة وجوب دفع هذا المهر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن كان فاسداً .. )
    بين الشيخ حكم المهر إذا كان صحيحاً، ثم أراد أن يبين حكم المهر إذا كان فاسداً، فحكم المهر إذا كان فاسداً ينقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: أن يكون المهر الفاسد مقبوض، فإذا كان المهر الفاسد مقبوض، ثم ارتفعوا إلينا فإنا نصحح قبض هذا المهر، ولو كان باطلاً أو سحتاً أو محرماً لا ننظر إلى طبيعة المهر ما دام قبض، والدليل على هذا من وجهين:
    (5/182)
    ________________________________________
    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن مهور الكفار بعد إسلامهم، وقطعاً أن بعض المهور لبعض الذين أسلموا كانت فاسدة، فإنه قد يجعل مهرها خمراً أو خنزيراً، ولم يتعرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى مهورهم هذا أولاً.
    ثانياً: أن في العادة إذا كان الرجل أصدق امرأته منذ زمن أنها تصرفت فيه، وأعطته إلى غيرها بيعاً أو هبةً أو استئجاراً، وغيرها أعطاه إلى ثالث ومع تطاول المعاملات على الصداق يكون إبطاله فيه عسر ومشقة عظيمين، كما أن فيه صد عن سبيل الله، وفيه تنفير للمسلمين عن الدخول في الإسلام، ولهذا نقول أنه باعتبار هذه العلل مجتمعة يبقى المهر كما كان مادام مقبوضاً.
    القسم الثاني: المهر الذي لم يقبض، وكذلك نفس الحكم الذي لم يسمى، ولهذا هنا كلام الشيخ قوله في المتن وإن لم تقبضه ولم يسمى، العبارة في نسخ الزاد هكذا فيما أعلم (ولم يسمى) لكن العبارة الصحيحة (أو لم يسمى) وهذه العبارة وهي عدم التسمية ليست في المقنع إنما أتى بها الشيخ موسى زيادة، لكن في غير المقنع من كتب الحنابلة قال (أو) وهو المقصود يعني إذا (لم تقبضه) أو (لم يسمى)، إذاً نقول القسم الثاني إذا لم تقبضه أو لم يسمى أصلاً فحينئذ لها مهر المثل.
    والقول الثاني: أنه إذا لم يسمى فلها مهر المثل بلا إشكال، لكن إذا كان فاسداً فالقول الثاني أنه لها بمقدار قيمة المهر الفاسد، فإذا أهداها آلات طرب أو خنزير أو خمر ننظر إلى قيمة هذا المهر الفاسد ونعطي المرأة بمقدار هذه القيمة، والصحيح أن لها مهر المثل، لأن المهر الذي فيه مال فاسد لا يعتبر مالاً في الشرع ليس له قيمة ولا اعتبار، ولذلك نحن نهدر هذا المهر تماماً، ولا نعتبر فيه لا القيمة ولا غير القيمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    فصل (وإن أسلم الزوجان معاً)
    إذا أسلم الزوجان في وقت واحد بقي النكاح على ما هو عليه بالإجماع، والدليل هو ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين أسلموا.
    (5/183)
    ________________________________________
    والدليل الثاني: الإجماع المحكي ومقصود الحنابلة بقولهم معاً يعني أن يتلفظا بالإسلام في وقت واحد، يقول الزوج والزوجة الشهادتين في وقت واحد، فإن اختلف أو تقدم أحدهما أو تأخر فله حكم آخر سيذكره المؤلف، لكن يشترط لبقاء العقد أن يتلفظا بوقت واحد.
    والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يتلفظا به في وقت واحد، بل يشترط أن يكون في مجلس واحد، وعلة القول الثاني تقدمت معنا وهي تعليل يشتهر بين الفقهاء وهو قولهم أن حال المجلس حال العقد، يعني أن كل ما يكون في مجلس العقد يعتبر كأنه كان أثناء العقد، وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله، بل القول الأول كما قال ابن القيم وغيره من الأقوال التي يتعذر وقوعها فإنه يتعذر أن ينطق الزوج والزوجة لا إله إلا الله في وقت واحد هذا لا يكاد يقع والشرع لا يعلق بأمور يندر وقوعها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو زوج كتابية بقي نكاحهما)
    يعني إذا أسلم زوج الكتابية فإن النكاح يبقى على ما هو عليه لأنه يجوز للمسلم أن ينكح الكتابية، وهذا الحكم محل إجماع يعني عند القائلين بجواز نكاح الكتابية، كما أنه مقتضى النظر لأنه إذا أسلم ما زال يجوز له أن يكون زوجاً لهذه المرأة ما دامت كتابية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين ... )
    يقصد بقوله هي: يعني الكتابية سواء كانت مع كتابي أو مع غير كتابي، أما هو يعني لو أسلم الكتابي فتقدم، فإن أسلمت هي أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل، إذا أسلمت المرأة قبل الدخول بطل النكاح، لأنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكافرة، ولا يجوز للكافر أن يتزوج المسلمة، هذا الدليل الأول.
    الدليل الثاني: حكي الإجماع.
    الدليل الثالث: قوله تعالى {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} لكن الشطر الأول هو الدليل الآن، بناءً على هذا بمجرد إسلام الزوجة قبل الدخول يعتبر العقد مفسوخ، ولا نسميه طلاقاً، وتنتهي علاقة المرأة بالرجل بمجرد إسلام المرأة، كل هذا إذا كان قبل الدخول، سيأتينا تعليق على هذا في المسألة الثانية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن سبقته فلا مهر ... )
    (5/184)
    ________________________________________
    إذا أسلمت هي قبله فلا مهر يعني فليس لها المهر، وعلل الحنابلة هذا بأن الفرقة جاءت من قبلها لأنها هي التي أسلمت، فبإسلامها انفسخ النكاح، والقاعدة أن الفرقة إذا كانت من جهة الزوجة فلا مهر لها.
    القول الثاني: أنها لها نصف المهر، والسبب في ذلك أن الفرقة في الحقيقة ليست من قبل الزوجة بل من قبل الزوج، لأنها إنما فعلت ما فرض الله عليها وهو الإسلام، وهو الذي بتركه الإسلام صارت الفرقة، واختار هذا القول أبو بكر من كبار أصحاب الإمام أحمد والمرداوي، ونصروه وقووه وقالوا الخطأ منه لا منها، فلها نصف المهر، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله بلا إشكال وهو مقتضى النظر والفقه لأنه ليس السبب منها السبب منه هو، لأن الفطرة والأصل الإسلام، فهو خالف الفطرة وترك الإسلام، وأما هي فلم تصنع إلا الرجوع إلى الفطرة، ولا إشكال إن شاء الله أن هذا هو الراجح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن سبقها فلها نصفه)
    يعني إن أسلم هو فلها نصف المهر، والتعليل لأنه السبب منه هو لأنه أسلم، فالحنابلة مطردة عندهم القاعدة الذي يسلم هو السبب.
    والقول الثاني: أنه لا شيء لها لأن الفرقة منها حيث تركت الإسلام، نفس المسألة السابقة، لكن الغريب أن أبو بكر في المسألة الأولى قال كما سمعتم، في المسألة الثانية وافق الحنابلة ونص على هذا ولا أعلم ما وجه التفريق، أما المرداوي فاطرد وقال هذه المسألة كتلك المسألة، وكلام المرداوي هو المنطقي والمعقول والمقبول أنه لا فرق بينهما ونعتبر الزوج هو الذي تسبب في الفرقة لأنه ترك الإسلام، يعني في المسألة الثانية، وبناءً على هذا يدفع نصف المهر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن أسلم أحدهما بعد الدخول ... )
    إذا أسلم أحدهما بعد الدخول فهي مسألة فيها اضطراب شديد جداً، نحن نلخص الأقوال كما يلي:
    (5/185)
    ________________________________________
    القول الأول: أنه يوقف على انقضاء العدة، فإن أسلم الآخر قبل انقضاء العدة عاد إلى الزوج إلى زوجته وإلا فلا، وهذا القول وهو اعتبار الوقت بانقضاء العدة هو مذهب الأئمة الأربعة، إلا أن الأحناف والمالكية عندهم تفصيلات أخرى، لكن من حيث اعتبار العدة اتفق الأئمة الأربعة على اعتبار العدة، والإمام أحمد روي عنه اعتبار العدة من أكثر من طريق حتى بلغ مجموع الذين رووا عنه هذه الفتوى نحو خمسين رجلاً، كأنها من أكثر ما روي عن الإمام أحمد خمسون واحد رووا عن الإمام أحمد أنها تنتظر إلى العدة، فإن أسلم أحدهما وإلا فالفراق، هذا القول يتضمن أمرين:
    الأول: أن النكاح يبقى ولا ينقطع.
    والثاني: أن حدود النكاح إلى نهاية العدة.
    أما الدليل على الأول فأدلة كثيرة منها الأول أن صفوان بن أمية تأخر إسلامه عن زوجته لمدة نحو شهر وردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، وكذلك أبو سفيان تقدم إسلامه على إسلام زوجته هند ومع ذلك ردها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهم على النكاح الأول، وكذلك عكرمة فإنه أبى الإسلام وخرج إلى اليمن وخرجت زوجه في إثره إلى اليمن وأقنعته بالإسلام وأسلم وأبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحهما الأول.
    وأما الدليل على مسألة العدة فهو ما رواه شبرمة وهو أحد التابعين أنه قال كان الرجل والمرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أسلم أحدهما وقف على العدة فإن أسلم الآخر قبلها وإلا انقطع النكاح، هذا الأثر ضعفه الشيخ العلامة الألباني في إرواء الغليل، لكن في الحقيقة الأثر يحتاج إلى جمع طرق، ولأن العلل التي ذكرها الشيخ لم أبحث الأثر بشكل عميق لكني لم أقتنع مع ذلك بالعلل التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيحتاج الأمر إلى جمع طرق وتحرير حال شبرمة يحتاج إلى جهد كثير وطويل، لاسيما وأن هذا الأثر في الحقيقة مهم في المسألة جداً، وتضعيفه بأشياء بسيطة مما لا يقبل، على كل حال أنا لا أقول هو صحيح أو ضعيف، لكني أقول أنه يحتاج إلى نظر أعمق من هذا، هذه هي أدلة الجمهور، وهي فيما يتعلق ببقاء النكاح أدلة لا شك فيها، أما فيما يتعلق بتأقيته بالعدة فهي محل نظر.
    (5/186)
    ________________________________________
    القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ونصره ابن المنذر ونصره الخلال وأيضاً تلميذه أبو بكر وأيضاً نصره ابن حزم وعدد من أهل العلم، أنه بمجرد الإسلام تنقطع العلاقة، بمجرد ما يسلم أحدهما تنقطع العلاقة بينهما، واستدلوا على هذا بأن المبطل للنكاح هو اختلاف الدين، ومبطلات النكاح لا تختلف أن تكون قبل الدخول أو بعد الدخول، كما أن قوله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} آية مطلقة لم تفرق بين قبل الدخول وبعد الدخول، وقوله {لا هن حل لهم} أيضاً لم تفرق بين قبل الدخول وبعد الدخول، فهم في الحقيقة تمسكوا بالأصل، فقالوا بما أن إسلام أحد الزوجين يفسخ النكاح إذاً يفسخه مباشرة، ولا يوجد هناك مدة يرجع إليها في ذلك، لأن المبطل مبطل مطلقاً.
    القول الثالث: وهو قول الشيخ الفقيه النخعي ونصره جداً شيخ الإسلام وابن القيم، وخلاصة هذا القول أنه إذا أسلم أحد الزوجين فالنكاح باقي مطلقاً ودائماً، إلا أنه يكون عقد جائز لا لازم، ومعنى هذا أنها إذا أسلمت المرأة فهي تبقى في عقد الزواج وعلى عصمة الزوج، لكنه بقاء غير ملزم فإن شاءت أن تتزوج فلها ذلك، واستدل هؤلاء بأدلة:
    الدليل الأول: وهو من أدلتهم القوية، أنه لا يوجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع اعتبار العدة يعني اعتبار مدة العدة والانتظار إلى نهايتها لبقاء النكاح أو فسخه، فتعليق الأمر على العدة تعليق على أمر لم يعتبره الشارع مطلقاً، هذا أولاً.
    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بعد سنين اختلف فيها، وعلى كل الأقوال هي بعد العدة، لأنه ردها على قول بعد ست سنين، وعلى قول بعد ثمان عشر سنة، وعلى قول بعد أربع سنوات، والحقيقة تحرير هذا لا يعنينا لأنه على كل الأقوال بعد انتهاء العدة.
    الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر إلى اعتبار العدة في الوقائع التي أقر النبي صلى الله عليه وسلم عليها الزواج بعد إسلام أحد الزوجين، يعني حديث عكرمة وسفيان وغيره لم يشر فيها إلى اعتبار العدة.
    (5/187)
    ________________________________________
    وهذا القول مع كونه من الأقوال التي ظاهرها القوة إلا أن اثنان من أهل العلم وهم ابن عبد البر وابن قدامة يعتبرون هذا القول شاذ، مخالف لجماعة المسلمين، ما هو الشاذ في هذا القول؟ الشاذ في هذا القول عندهم هو إرجاع الزوجة إلى زوجها بعد انتهاء العدة، هذا المفهوم هو الشذوذ، فإرجاعها بعد العدة لم يقل به أحد إلا النخعي وشيخ الإسلام وابن القيم، واعتبر أيضاً من الشذوذ، وتقدم معنا أن الأئمة الأربعة على اعتبار العدة أي على التأقيت بالعدة.
    (5/188)
    ________________________________________
    المسألة هذه في الحقيقة فيها إشكال كبير، وليست من المسائل التي ممكن أن الإنسان يرجح فيها ببساطة، فيه امرأة خرجت من الروم وقت الإمام أحمد وأسلمت، جاء عبد الله بن الإمام أحمد وقال: ههنا امرأة خرجت من الروم وأسلمت فهل ترى لها أن تتزوج فالإمام أحمد قال: اختلف الناس في هذا رحمه الله فذهب بعضهم إلى التأقيت بالعدة، وذهب بعضهم إلى الانتظار مطلقاً، وذهب بعضهم إلى فسخ النكاح، ثم قال الإمام أحمد وأما أنا فأتهيب الجواب فيها. هذا هو وهو يعني من هو رحمه الله يعني من هنا أقول أنه ما يلزم أن في كل مسألة أن الإنسان يرجح ومع ذلك أنا أعطي نقاط، لاشك أن أدلة شيخ الإسلام وابن القيم غاية في القوة والواقع أنه قوية جداً من حيث الدلالة والثبوت، حتى أنها أثبت من أدلة الجمهور، ويؤيدها أثر عن عمر وأثر عن على بإسناد صحيح، فهي أدلة قوية جداً جداً، هذا شيء الشيء الثاني أشار ابن القيم إلى شيء وهو أنه لو لم نقل بتصحيح القول الثالث الذي تبناه هو لكان القول الثاني وهو مذهب ابن حزم وابن المنذر أقوى من مذهب الجمهور لأن القاعدة أن ما يبطل يبطل قبل وبعد الدخول، فأشار إلى هذا المعنى أن القول الثاني أقوى يعني ابن القيم يرى أن القول الذي حكي هو أضعف الأقوال قول الأئمة الأربعة يعتبره أضعف الأقوال، وهذا لا يزيد المسألة إلا إشكال، فإن شاء الله تبقى كما هي وتتوقف على بحث أثر شبرمة وعلى أن الإنسان يستخير فيها مراراً ويسأل الله أن يفتح عليه، ولاسيما وأن المسألة هذه اليوم مسألة مهمة جداً والسبب أنه ولله الحمد الدخول في الإسلام أصبح بأعداد كبيرة جداً، ونسبة الدخول في الإسلام الآن في أوروبا وأمريكا هي أعلى نسبة، ولا تقارنها أي نسبة أصلاً فنسبة الدخول في الإسلام إلى نسبة عدد السكان مرتفعة جداً تصل أحياناً إلى عشرة بالمئة وهي نسبة خيالية تعتبر وتسعة بالمئة وثمانية بالمئة، كل هؤلاء يحتاجون إلى هذه المسألة لأنهم غالباً لا تريد أن تبقى على عصمة زوجها الكافر ويتقدم إلى خطبتها مسلم مباشرة لتثبيتها على الإيمان وترجع إلى مسألتنا هذه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول)
    (5/189)
    ________________________________________
    يعني إذا انتهت العدة ولم يسلم أحدهما تبينا أن العقد مفسوخ من الأول، وعللوا هذا بأن سبب الفسخ هو اختلاف الدين وهو موجود من حين أن أسلم أحدهما، إذاً إذا لم يسلم بعد انتهاء العدة نعتبر العقد مفسوخ من الأول، ويترتب على هذا أنه إذا وطءها في أثناء العدة فإنه يترتب عليه أن يدفع مهر آخر لأن المهر الذي وجب بالعقد دفع، وهذا مهر بسبب الوطء الذي كان بعد الفسخ لأنه تبين معنا أنه بعد الفسخ يفهم من هذا أنه لا يجوز للزوج أثناء التربص أن يطء امرأته، لأنه لم يتبين هل هي زوجة أو ليست بزوجة، كما أنه يفهم من هذا أن من فعل هذا بالإضافة إلى ترتب مهر آخر ينبغي أن يعزر وأن يؤدب لأنه وطء هذه التي ينتظر فيها في حال لا يجوز له أن يطأها.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول ... )
    إذا كفرا، مقصود الشيخ بكفرا هنا ارتد فالبحث الآن في الردة لأن البحث في الدخول في الإسلام تقدم ولذلك لو أن الشيخ قال إن ارتد كان أوضح لأن المقصود في الحقيقة الكلام على أحكام المرتد فإذا ارتد أحد الزوجين عياذاً بالله نسأل الله العافية والسلامة، فالحكم كالحكم إذا أسلم أحد الزوجين إن ارتد قبل الدخول انفسخ النكاح مباشرة وإن ارتد بعد الدخول فننتظر مضي العدة، فإن انتهت العدة قبل أن يرجع إلى الإسلام تبينا أنه مفسوخ وإن رجعا بقيا على نكاحهما.
    (5/190)
    ________________________________________
    وهذه المسألة قلت أنها كالمسألة السابقة لكن عند التأمل تجد أنها من حيث العمل ترجح قول الجمهور، لأنه الآن مثلاً من الأشياء التي انتشرت ترك الصلاة بالكلية، لا يصلي مطلقاً وإذا لم يصلي مطلقاً فإن العلماء اختلفوا فيه على قولين: منهم من يرى أنه مرتداً خارجاً عن الدين، ومنهم ومن يرى لأنه يبقى على الإسلام وإن قتل حداً، فعلى القول بأنه يكون مرتد إذا كان مرتداً فعند شيخ الإسلام وابن القيم يعامل معاملة إذا أسلم أحدهما، هنا يكون فيه إشكال، يعني يترتب على هذا أن نقول للزوجة إذا قالت أن الزوج لا يصلي مطلقاً ماذا نقول؟ تبقين وأنت على الخيار، إلى متى؟ ليس له حد. فتقول إلى متى أبقى مع هذا الزوج الذي لا يصلي؟ ليس له حد وتبقى على هذا على شرط ألا يطأها، فإذا تبينا أنه لم يرجع، ومتى نتبين أنه لم يرجع ربما لا يصلي وربما يقول سأصلي بعد أسبوع تبقى القضية غير منضبطة في الحقيقة مطلقاً، لاسيما في مثال الردة لأن الإسلام وعدمه قد يكون تحديد الزوج لكونه سيسلم أو لا واضح، يعني بعد مضي مدة يقول سأسلم أو سأبقى على ملة الكفر التي أنا عليها، لكن بالنسبة لترك الصلاة دائماً كما هو مشاهد في الواقع تبقى ربما بعض الناس ما يرجع إلى الصلاة إلا بعد ثلاث سنوات، أو بعد خمس سنوات، ولكن بالنسبة للجمهور الأمر مضبوط جداً جداً نقول تبقين معه إلى انتهاء العدة إن صلى فهو زوجك وإن لم يصلي فقد انفسخ النكاح، وفي هذا انضباط كبير جداً وهو مما يرجح قول الجمهور، على أن شيخ الإسلام نص أن الردة كإسلام أحدهما، وأنا أقول أن هذا مما يقوي قول الجمهور، بالإضافة إلى أثر شبرمة إن صح، ومع ذلك في الحقيقة المسألة مشكلة كيف لم يأتي أي شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة يعلق الأمر بالعدة، ولا إشارة من قريب أو بعيد، هذا في الحقيقة غريب ومشكل ومع هذا الأئمة الأربعة لا يختلفون في اعتبار العدة، فلا بد أن أثر شبرمة هذا له أصل إن شاء الله، وهو الذي عليه اعتمد الأئمة في تحديد الأمر في النكاح.
    إلى هنا نتوقف على باب الصداق.
    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس))
    (5/191)
    ________________________________________
    الدرس: (10) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    (باب الصداق)
    الصداق تعريفه هو: العوض الذي يعطى للمرأة مقابل للنكاح ونحوه، والمقصود بنحوه أي وطء الشبهة والنكاح الفاسد.
    والصداق في النكاح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
    أما الكتاب: فقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم}
    وأما السنة: فسيأتينا منها عدد كبير، ومن ذلك أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أصدق امرأة تزوجها بنواة من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أولم ولو بشاة" فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم له على الدخول على المرأة بالصداق.
    أخيراً الإجماع: والإجماع حكاه غير واحد، إذاً الصداق ذكرنا تعريفه، وأخذنا أنه مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (يسن تخفيفه)
    ذهب الفقهاء إلى أن السنة في المهر التخفيف، وأن تخفيف المهر أحب إلى الله.
    واستدلوا على هذا بنصوص:
    النص الأول: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أكثر النساء بركة أقلهن مؤنه" هذا الحديث إسناده ضعيف لا يثبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في الحقيقة معناه صحيح، يدل على معناه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا، والآثار المروية عن الصحابة وقواعد الشرع العامة.
    الدليل الثاني: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير النساء أيسرهن مهراً"، وهذا الحديث صححه المتأخرون.
    (5/192)
    ________________________________________
    الدليل الثالث: الأثر المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تغلوا صداق النساء فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صداق نسائه ولا بناته عن اثنتي عشرة أوقيه) وهذا الأثر ثابت إن شاء الله عن أمير المؤمنين عمر. كما ترى الآثار واضحة جداً، وإذاً نصتصحب هذا الأصل أثناء دراسة مسائل الصداق، وهو أن الأحب للشارع أن يكون يسيراً قليلاً.
    مسألة: فإن زاد الإنسان في المهر زيادة كثيرة مع القدرة فهو جائز بلا كراهة بشرط أن يخلو من سبب إضافي يدل على الكراهة، كالمباهاة والمنافسة الجاهلية في مقدار الصداق، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو الصحيح إن شاء الله.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (يسن تخفيفه وتسميته في العقد)
    أفادنا المؤلف رحمه الله بهذه العبارة مسألتين:
    الأولى: أن تسمية النكاح يعني ذكر مقدار المهر في أثناء العقد أنه سنة.
    والدليل على هذا من وجهين:
    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المهر.
    الثاني: أن تسمية المهر أثناء العقد أقطع للنزاع.
    المسألة الثانية التي أفادها كلام المؤلف هو: جواز عدم تسمية المهر في العقد لأن تسمية وذكر المهر سنة إذاً يجوز ألا يذكر.
    والدليل على هذا قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، فإن مفهوم الآية أنه: يجوز أن يطلق قبل أن يفرض لها فريضة، يعني قبل أن يسمي ويذكر المهر في العقد.
    الدليل الثاني: ما أخرجه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً ولم يذكر مهراً، فيجوز أن الإنسان يعقد العقد ولا يذكر المهر مطلقاً، ويؤجل الكلام عن المهر إلى ما بعد الدخول ولا حرج في هذا بدلالة القرآن والسنة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وتسميته في العقد من أربعمائة درهم إلى خمسمائة درهم)
    يعني ويسن أن يتراوح المهر بين الأربعمائة والخمسمائة درهم.
    الدليل على هذا أن صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة، وصداق نسائه خمسمائة درهم صلى الله عليه وسلم.
    (5/193)
    ________________________________________
    أما الدليل على صداق البنات رضي الله عنهن وأرضاهن فهو أثر عمر السابق فإنه قال وأخبر أن صداق النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه وبناته هذا المقدار وهو اثنتي عشرة أوقية والأوقية أربعين درهم.
    والدليل الثاني أن علي بن أبي طالب لما عقد على فاطمة رضي الله عنها وأرضاها أراد أن يدخل عليها فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطها شيئاً فقال: لا أملك شيئاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين درعك رضي الله عنه وأرضاه فأعطاه الدرع، درع من حديد وقدره في بعض الروايات بأنها بأربعمائة درهم، هذه الرواية لم أقف على إسنادها التي فيها التقدير أن الدرع قيمته أربعمائة درهم لم أقف على إسنادها، لكن مع أثر عمر ربما يقبل أنه هذا المقدار، أما أن صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهذا ثابت من حديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصدق نسائه اثنتا عشرة أوقية ونشاً قيل: ما النش؟ قالت: النش نصف أوقية" وكما قلت الأوقية أربعون درهم يكون المجموع خمسمائة درهم.
    من الظاهر أن بين أثر عمر وحديث عائشة شيء من الاختلاف، لأن عمر يخبر أنها اثني عشر أوقية، وعائشة تخبر أنها اثنتي عشرة أوقية ونصف، والجواب عن هذا الاختلاف من وجهين:
    الأول: أن يكون الصواب مع عائشة ويكون ما ذكره عمر رضي الله عنه مخالف للواقع، وسبب الترجيح أن حديث عائشة صحيح وهي أخبر بصداق نسائه من عمر.
    الجواب الثاني: وهو الصحيح أو وهو إن شاء الله الأقرب أن عمر أراد أن يخبر على سبيل الإجمال، ولم يرد أن يحدد بدقة وإنما أراد أن يخبر إخباراً مجملاً، وإلا فهو يعرف مقدار الصداق، وهذا الجواب الثاني أحسن إن شاء الله، إذاً عرفنا الآن ما هو مستند الحنابلة في تحرير المهر بين هذين المقدارين.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً)
    أفادنا المؤلف رحمه الله أيضاً مسألتين:
    (5/194)
    ________________________________________
    المسألة الأولى: أن المهر يجوز مهما كان قليلاً أو كان كثيراً، بعبارة أخرى لا حد لأقله ولا لأكثره، أما أنه لا حد لأكثره فهذا محل إجماع أنه لا حد لأكثره ويدل عليه ظاهر الآية: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} واختلف المفسرون في معنى القنطار، ولكن على جميع الأقوال هو المال الكثير فالاستدلال بالآية صحيح.
    الثاني: أنه لا يوجد في النصوص ما يدل على تحديد أكثر المهر.
    المسألة الثانية: أقله، لا حد لأقله عند الجمهور، واستدل الجمهور على هذا بإطلاق الآية {أن تبتغوا بأموالكم}، والمال يصدق على الكثير وعلى القليل.
    والقول الثاني للأحناف: أنه لا يجوز أن يقل المهر عن ما تقطع به يد السارق، واستدلوا بحديث وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا مهر دون عشرة دراهم"، وهذا الحديث لا أصل له يعني أقل من أن نقول ضعيف، ليس في كتب السنة، والغالب أن العلماء إذا قالوا لا أصل له يعني أنه لم يرو بإسناد.
    والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وهو أن المهر لا حد لأقله.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً)
    هذه هي المسألة الثانية: كل ما صح ثمناً صح مهراً.
    والدليل على هذا: أن المهر عوض البضع، فكل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والأجرة يعني في الإجارة صح أن يكون مهراً، وسيذكر المؤلف مجموعة من الأشياء التي تستثنى لكن الأصل أن كل ما صح ثمناً للمبيع أو أجرة في الإجارة، فإنه يصح أن يكون مهراً.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن أصدقها تعليم القرآن .. )
    (5/195)
    ________________________________________
    قوله وإن أصدقها تعليم القرآن أفادنا المؤلف بهذه العبارة بل بالتي قبلها، يعني هو مستفاد من عموم العبارة السابقة، أنه يجوز أن يكون المهر قليلاً وكثيراً، حالاً ومؤجلاً، حالاً وفي الذمة، وعيناً، لأنه يقول: (كل ما صح أجرة أو ثمن صح مهراً)، وهذه الأشياء تصح، وأيضاً يجوز أن يكون منفعة، ويجوز أن يكون عيناً، وهذا الذي أقوله اتفق عليه الأئمة الأربعة في الجملة، وهو أنه يجوز مهما كان نوعه وجنسه وتأجيله وحلوله إلى آخره، إلا أن الأحناف خالفوا في المنفعة، فلم يرو أن المنفعة يصح أن تكون مهراً، واستدل الأحناف على عدم تصحيح المنفعة مهراً في أن الله سبحانه وتعالى اشترط أن يكون المهر من المال والمنفعة ليست مالاً.
    واستدل الجمهور الذين يرون جواز أن تكون المنفعة مهراً بأدلة:
    الأول: أن المنفعة وإن لم تكن مالاً فهي بمعنى المال ولذلك يعاوض عنها بالمال.
    الدليل الثاني قوله تعالى: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج}، والإجارة للرعي منفعة وليست مالاً.
    لهذا نقول الراجح إن شاء الله: جواز جعل المنفعة مهراً، يستثنى من هذا مسألة واحدة فقط أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله، وهي أنه لا يجوز أن تكون المنفعة خدمة خاصة للزوجة، يعني أن يكون المهر هو منفعة خدمة الزوجة، واستدل على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: أن في هذا إهانة وامتهاناً للزوج.
    الثاني: وهو من وجهة نظري الأهم أن في هذا تعارض الحقوق، بأن العقد يقتضي أن تخدم الزوجة الزوج، وهذا المهر يقتضي العكس، وما ذكره الشيخ وجيه وصحيح، فإذاً يجوز أن تكون المنفعة أي نوع من الأنواع، إلا خدمة الزوجة، فلها أن تقول مهري أن تقوم بإدارة المزارع الخاصة بي، أو المنازل الخاصة بي، أو بتأجير البيوت التابعة لي، ونحو هذه، أو بمتابعة المعاملات الخاصة بي، إلا أنه يجب أن تكون المنفعة محددة ومعلومة.
    (5/196)
    ________________________________________
    نرجع، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: (وإن أصدقها تعليم قرآن لم يصح)، لا يصح عند الحنابلة أن يكون العوض هو تعليم القرآن، والتعليل ظاهر لما تقدم معنا في كتاب البيوع، أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحن نقول أن كل ما صح عوضاً في الأجرة والبيع صح مهراً، وهذا لا يصح عوضاً في الأجرة، فلا يصح مهراً في الحقيقة، مسألة تعليم القرآن داخلة في عموم عبارته السابقة، يعني لو لم يذكرها لأمكن طالب العلم أن يعرفها من خلال القاعدة، لأنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن عند الحنابلة إنما نص عليه الشيخ لأن فيها نصاً من السنة، ولقوة الخلاف فيها، إذاً عرفنا الآن مذهب الحنابلة أنه لا يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً.
    واستدلوا على هذا بأنه ليس مما يجوز أخذ الأجرة عليه.
    الدليل الثاني: أن تعليم القرآن ليس مالاً.
    القول الثاني: أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً، واستدل الحنابلة على هذا بحديث الواهبة، فإن الواهبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يرد أن ينكحها أنكحها رجلاً، ولم يكن مع الرجل أي نوع من الأموال النقدية، لا الحاضرة ولا الغائبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم، فقال: أنكحتكها بما معك من القرآن، أو زوجتكها بما معك من القرآن".
    فالباء في هذا الحديث باء المعاوضة فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل عوض البضع تعليم القرآن، وهو نص في المسألة.
    (5/197)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: أن تعليم القرآن منفعة معلومة محددة، فجاز أن تكون مهراً، واشترط القائلون بالجواز معرفة مقدار ما سيعلم الرجل المرأة، وهل التعليم هو التحفيظ؟ أو التعليم هو حسن القراءة؟ فلا بد أن يبين هذا بالتمام حتى نخرج من الجهالة إلى العلم، إذاً يجوز أن يكون تعليم القرآن عند هؤلاء مهراً، والصحيح هو هذا إن شاء الله، ولا يستطيع أن يخرج الإنسان عن مقتضى هذا الحديث، وما أجاب به الحنابلة عن الحديث ضعيف جداً وهو أنهم قالوا: مقصود النبي صلى الله عليه وسلم زوجتكها بما معك من القرآن أي نظراً لقدرك ورفعتك بحفظ القرآن، وهذا كلام فيه تكلف ظاهر جداً، ثم إنه يجعل العقد بلا مهر، ونحن تقدم معنا أن خلو العقد من المهر يفسد النكاح.
    الخلاصة أن الراجح إن شاء الله: هو هذا أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن مهراً للمرأة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (بل فقه وأدب وشعر .. )
    (5/198)
    ________________________________________
    يعني بل يجوز أن يكون تعليم الفقه والأدب والشعر المباح مهراً، وتعليل ذلك أن هذا التعليم تعليم معلوم، ومنفعة محددة، فجاز أن تكون مهراً، والشيخ هنا يقول رحمه الله: (بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم) فذكر الفقه والأدب والشعر المباح، هل في كلام الشيخ إشكال؟ الإشكال الذي ظهر لي أنه كيف يقول الشيخ بل فقه وغيره من الحنابلة يقولون بل فقه وحديث إلى آخره، مع العلم أنهم قرروا في كتاب البيع أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث، نصوا على هذا أليس كذلك؟ الجواب عن هذا أن يقال: أن قوله بل فقه يعني على القول بجواز أخذ الأجرة هذا حتى نحمل كلام المؤلف على محمل حسن، وإلا في الحقيقة ينبغي أن لا يذكر الفقه باعتبار أنه قرر فيما سبق أنه لا يجوز أن تؤخذ الأجرة على تعليم الفقه، وهنا نقول على القول بجواز تعليم الفقه والحديث، ينبغي أيضاً أن يحدد، الفقه طويل ومتشعب والحديث كذلك والتفسير والنحو، ينبغي أن يحدد ما هو الشيء الذي سيكون محل التعليم، وإذا حدد الشيء كأن يقول تعليم كتاب الصلاة مثلاً، إذا حدد الكتاب ينبغي أن يحدد ما هو التعليم المقصود، هل تقصد أنه يفهم أو يحفظ؟ ثم إذا حدد ينبغي أن يحدد إذا افترضنا أن التعليم هو الفهم يعني أن يشرح له إلى أن يفهم، ينبغي أن يحدد مدى الشرح المتعلق بالفهم، يعني كأن يقول المهر هو شرح كتاب الصلاة إلى أن تفهم الزوجة كتاب الصلاة على ألا يتجاوز مدة الشرح شهر مثلاً، لأنه قد يكون المتعلم ذكي، وقد يكون غبي، وقد يكون بطيء الفهم، وقد يكون سريع الفهم، فإذا كان المهر هو التعليم والتفهيم، ربما يجلسون ثلاث أربع سنوات ما فهم الكتاب، فإلى أي حد يكون العمل، ومن الناس من يفهم من أول مرة ومنهم من يفهم من ثاني مرة ومنهم من يفهم من ثالث مرة ومنهم من لا يفهم أبداً، فإذاً لا بد من وضع حد معين للفهم، وهذا كله نصوا عليه الحنابلة وهو حقيقي، ولذلك إذا كان في منطقة من المناطق اعتادوا أن يكون المهر هو التعليم بسبب جودتهم وكثرة الدين فيهم ورغبتهم في الخير ينبغي تحديد هذا الشيء، حتى لا يكون مثار اختلاف.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن أصدقها طلاق ضرتها .. )
    (5/199)
    ________________________________________
    وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح، لا يجوز أن يكون المهر طلاق الضرة الأخرى، لأمرين:
    الأمر الأول: أن طلاق المرأة الأخرى ليس بمال، والله تعالى شرط في المهر أن يكون مالاً.
    الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل المرأة طلاق أختها"، فهذا النوع من المهر محرم.
    القول الثاني: أنه يجوز أن يجعل طلاق الضرة مهراً، لأن للزوجة الجديدة منفعة واضحة، وهي خلو الزوج عن مشارك، وهذا القول الثاني كما ترون ضعيف جداً لأنه مصادم للنص، والقول إذا صادم النص لا عبرة به، ولو ظهر للإنسان أن ما ذكره أصحابه من تعليل وجيه، فهو قول ضعيف مصادم للنص، كيف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر فيجعله بعض الناس مهراً هذه مضادة للشرع.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وله مهر مثلها)
    له مهر مثلها: يعني إذا لم نصحح هذا المهر فللمرأة مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن المهر إذا لم يصح فإنا نرجع إلى مهر المثل، وهي قاعدة الحنابلة وغيرهم من الفقهاء كما سيأتينا في المسألة اللاحقة.
    القول الثاني: أن لها مهر ضرتها، يعني نعطيها بمقدار مهر الضرة، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام، لأن هذا المهر أقرب إلى المهر المسمى، وهذا القول هو الراجح، لاحظ الآن سيأتينا مسائل أخرى تشبه هذه المسألة، لاحظ الآن أنا رجحنا القول الذي فيه مهر المثل أو الأقرب للمسمى، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وسيأتينا أن هذا لو وضع قاعدة لكان مفيداً سيأتينا الآن في المسألة اللاحقة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل)
    إذا بطل المسمى وجب مهر المثل عند الجماهير.
    استدلوا على هذا بأن البضع لا يستباح إلا بعوض، فإذا بطل العوض رجعنا إلى بدله، وأقرب الأبدال مهر المثل، والمهر يبطل لعدة أسباب: إما أن يكون المهر محرماً، كأن يصدقها خمراً أو خنزيراً، أو يبطل لكونه مجهولاً، أو لا يبطل وإنما لم يسمى.
    هذه قاعدة الحنابلة، والحقيقة أن في المسألة تفصيل آخر وهو كالتالي:
    (5/200)
    ________________________________________
    أن نقول إذا كان المهر لم يسمى، فالواجب بدله مهر المثل، والدليل على هذا حديث صحيح وهو أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سئل عن رجل عقد على امرأة ثم مات فأفتى رضي الله عنه وأرضاه بأن لها مهر مثلها، ثم قام أحد الصحابة وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمثل ما حكم به ابن مسعود، قال الراوي: فلما علم ابن مسعود بموافقته النبي صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً لم يفرح مثله في الإسلام، عبارة ضخمة جداً يعني كأنه بعد إسلامه لم يفرح بشيء كفرحه بموافقته لفتوى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الحديث أخذ بعض أهل العلم أن من ضوابط معرفة الإنسان لفهمه أن يوافق قول المحققين، وهذا الصحيح، فإذا كان الإنسان فهمه وإدراكه وفهمه للنصوص يوافق فهم المحققين وعلى رأسهم الصحابة فهذا دليل على صحة فهمه وجودة ذهنه، وإن كان العكس فالعكس، وليس المقصود أن يكون الترجيح واحد، لكن الفهم واحد أما الترجيح فيختلف فيه الناس، فهذا الحديث نص في أنه إذا لم يسمى المهر فلها مهر المثل.
    القسم الثاني: أن يكون المهر باطلاً، لكونه محرماً كالمغصوب والخنزير والخمر وما شابه ذلك، فهذا الحنابلة أيضاً يرون أن لها مهر المثل.
    والقول الثاني: أنه في هذا النوع للزوجة مثل المغصوب أو قيمته، فإذا غصب سيارة وأصدقها للمرأة ثم تبين أنها مغصوبة فالمهر عند الحنابلة مهر المثل، والمهر على القول الثاني أن يأتي بسيارة مثل هذه السيارة المغصوبة.
    والقول الثالث: أنه إن كان خمراً فتعطى بمقداره خلاً، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو في الحقيقة لا يختلف عن القول الثاني نفس الشيء.
    (5/201)
    ________________________________________
    على كل حال الراجح إن شاء الله القول الثاني وهو أن يأتي بمثل المغصوب أو بقيمته، إذا كان المهر مغصوباً يأتي بمثله أو قيمته، لكن إذا كان المهر خمراً كيف يأتي بمثله؟ خل هذا الذي أشارت إليه الرواية الثالثة، لكن الإشكال الآن أن بين قيمة الخمر وقيمة الخل فرق كبير، وهي مثلاً امرأة نصرانية لا تعرف أحكام الإسلام وأصدقها خمراً باهض الثمن رضيت به مهراً، ثم تبين أنه في الشرع لا يجوز، فقال: آتي لك بدله وهو الخل، الخل أرخص بكثير من الخمر، وقد يكون الفرق بينهما كبير، ولهذا نقول إن القول الثاني أرجح لأنه أضبط، تأتي ببدله، فإن لم تتمكن لعدم وجوده أو للمانع الشرعي فتأتي بالقيمة، فنقول كم قيمة هذا الخمر ويكون هو الصداق. وهذا القول في الحقيقة فيه عدل كبير جداً، متوافق مع الشرع وفيه طمأنينة في استباح البضع، لأنها إنما رضيت بهذا القدر من المهر، وكما تعلمون قد يكون بين المهرين بون شاسع جداً، فإذا أصدقها سيارة جديدة تقدر بمائة ألف ريال وصداق مثلها عشرة آلاف ريال بين المهرين تسعين ألف ريال، فدخل عليها ضرر على مذهب الحنابلة لو قلنا لها مهر المثل، أما على هذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام ففيه عدل، وإن شاء الله أنه أقرب لقواعد الشرع.
    فصل
    وإن أصدقها ألف إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً وجب مهر المثل، قوله وجب مهر المثل يعني فسد المهر المسمى ووجب مهر المثل، هذا مقصود المؤلف، يعني فسد المهر المسمى ووجب مهر المثل والحنابلة يرون أن هذا المهر فاسداً لأنه مجهول، فإنا لا نعلم هل الأب ميت أو حي، وأخذنا أنه لا يصح أن يكون المهر مجهولاً ويجب إذا كان مجهولاً مهر المثل، فإن كان حال الأب معلوماً يعرف هل هو ميت أو حي فإنه أيضاً لا يصح أن يكون مهراً لأن تعليق المهر على موت الأب أو حياته لا ضرر فيه صحيح لا للزوجة ولا للزوج، ولا يجوز تعليق المهر على أمر ليس فيه غرض صحيح.
    (5/202)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنه يصح تعليق المهر على هذا الأمر لأنه قد يكون فيه غرض صحيح للزوج وفيه غرض صحيح للزوجة، أما غرض الزوجة فواضح فهي إذا قالت إن كان الأب ميتاً فلي ألفين وإن كان الأب حياً فلي ألف غرضها صحيح، لأنه بموت أبيها تكون حاجتها أكبر، وبحياته تكون حاجتها أقل، وهذا يجعل الأمر متناسباً مع مقدار المهر، وقد يكون هو أيضاً له غرض صحيح بأن يكون لا يحب أباها أو يستثقل أباها فإن كان الأب ميتاً فهي كالبشارة له ويعطيها ألفين، وإن كان حياً نقص، بالنسبة للقول الثاني وجيه في الحقيقة لاسيما إذا كان الغرض لها لكنه ليس من المروءة تعليق المهر مهما كان الغرض على موت الأب تعليقه على موت الأب أمر غير جيد لاسيما إذا كان المهر أكثر في حال موت الأب، بل ينبغي أن يعلق المهر على أمر آخر سوى موت الأب يحصل به الغرض، على كل حال إن علقه عليه فالرواية الثانية عن الإمام أحمد أرجح إن شاء الله.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وعلقه ... )
    نعم إذا علقه فقال: إن كان لي زوجة بألفين، وإن كان ليس لي زوجة بألف، فيصح المسمى بلا إشكال لأن للمرأة غرض صحيح في خلوه من المشاركة، بل أن الفقهاء يقولون من أكبر أغراض المرأة خلو الزوج من مشاركة، فتعليق هذا الأمر أو المهر على هذا الأمر صحيح ولا إشكال عليه فإن تبين أن له زوجة فيعطيها ألفين وإلا فألف.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإذا أجل الصداق .. )
    إذا أجل الصداق أو بعضه صح بلا نزاع، فيجوز أن يكون مؤجلاً أو معجلاً، ولا إشكال في ذلك لأنه معاوضة، فيقاس على البيع، فلا إشكال إن شاء الله في كونه مؤجلاً.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (فإن عين أجلاً ... )
    إذا كان المهر مؤجلاً فهو على قسمين: إما أن يكون مؤجلاً لأجل معين، فيحل بحلول الأجل، ولا إشكال ويجب على الزوج أن يدفع المهر عند حلول الأجل.
    القسم الثاني: ألا يكون مؤجلاً بأجل معين، وإنما يطلق، فالحنابلة يرون أنه إذا أطلق فالتسمية صحيحة، ويحل بالفرقة، والفرقة تحصل بأحد أمرين طلاق أو موت.
    (5/203)
    ________________________________________
    استدل الحنابلة على تصحيح المسمى مع جهالة الأجل بأن العرف والعادة جرت بأن المؤجل إذا لم يحد بأجل معين فحده الفرقة، والعرف دليل معتبر في الشرع، ولهذا قعد الفقهاء أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
    القول الثاني: أنه إذا أجله بأجل مجهول فسد الأجل ووجب حالاً.
    والقول الثالث: أنه يفسد المسمى برمته ولها مهر المثل، ولا شك أن الحنابلة قولهم أرجح وأوفق وهو الذي يدل عليه عمل الناس والأعراف السائدة، وأما إلغاء الشرط وحلول المهر ففيه مضرة ظاهرة على الزوج، ولا يأتي فيما أرى الشرع بمثله.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن أصدقها مالاً مغصوباً .. )
    إن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل، تقدم معنا أن قاعدة الحنابلة أنه متى فسد المسمى فالواجب مهر المثل، وأن من صور فساد المسمى أن يصدقها مالاً محرماً كالخنزير والخمر، وتقدم معنا أن القول الثاني وجوب مثله أو قيمته، وأن هذا إن شاء الله أرجح القولين وأقرب لقواعد الشرع.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن وجدت ... )
    وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشه وقيمته، معنى هذه العبارة: أنه إذا أعطى الزوج زوجته مهراً معيباً فإن الزوجة تخير بين أمرين:
    الأول: أن تمسك المهر المعيب، وتأخذ الأرش وهو الفرق بين قيمة المهر سليماً ومعيباً.
    والخيار الثاني: أن ترد المهر وتأخذ قيمته إن كان قيمي أو مثله إن كان مثلي.
    والقول الثاني: أنه ليس لها إلا أن تمسك أو ترد فقط، وهذه المسألة تقدمت معنا بعينها في خيار العيب، فما يقال هناك هو ما يقال هنا، تماماً، الخلاف هنا كالخلاف هناك، وذكرت هناك أن الراجح: أنها تخير بين الإمساك وبين الرد فقط بظاهر حديث المصراة، كذلك هنا لأن هذا العقد فيه معاوضة، يعني النكاح والمهر فيه معاوضة، فلعله إن شاء الله الأقرب هنا هو الأقرب هناك، وإن كانت المسألة أيضاً تحتاج إلى مزيد تأمل هنا وهناك لكن الأقرب إن شاء الله الآن هذا.
    (5/204)
    ________________________________________
    يقول الشيخ هنا رحمه الله تعالى: (وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشه وقيمته)، مقصود الشيخ بهذه العبارة: أي إذا كان معيناً، إذا كان المهر معيناً فالحكم هو ما ذكرت، أما إذا كان المهر في الذمة فإنه إذا كان معيباً فلها بدله لا الأرش ولا القيمة، لأنه في الذمة، فإذا قال صداقك شاة عمرها كذا وصفتها كذا وكان ينوي أن يعطيها شاة عنده تنطبق عليها المواصفات ثم تعيبت الشاة بأي عيب، فالواجب أن يحضر لها شاة تتوافق مع الوصف المذكور في العقد، إذاً الخلاصة أن الخلاف السابق في المعين لا في ما في الذمة لأن ما في الذمة يجب بدله مطلقاً.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (وإن تزوجها على ألف ... )
    إذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية، مقصود المؤلف هنا: أنه يجوز للأب أن يشترط لنفسه قدراً معيناً من المهر، ويكون ملكاً له، لكن ينبغي أن تتنبه أن المهر هو مجموع ما لها وله، مال الزوجة وللأب، المجموع هو المهر، يسمى مهراً، لأنه سيأتينا فروع تنبني على مقدار المهر، هل المهر ما تأخذه الزوجة أو ما يأخذه الأب؟ الصواب أن المهر ما تأخذه الزوجة والأب، نرجع لمسألتنا، الحنابلة يرون أنه يجوز للأب أن يشترط لنفسه قدراً معيناً من المهر، واستدل الحنابلة على هذا بدليلين:
    الأول: الآية السابقة {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} ففي الآية أن شعيب عليه الصلاة والسلام اشترط لنفسه أن يرعى موسى الغنم والمهر في هذه الحالة للأب كله.
    الدليل الثاني: الذي استدل به الحنابلة أن الأب له أن يتملك من مال ولده ما يشاء، واشتراط الأب قسماً من المهر هو بمعنى التملك.
    القول الثاني: أن المهر كله للمرأة.
    والقول الثالث: أنه إذا اشترط الولي هذا الشرط فسد المسمى ولها مهر المثل.
    والقول الرابع: أن ما يشترط لأحد سوى الزوجة إن كان قبل العقد فهو للزوجة، وليس لمن سمي له وإن كان بعد العقد فهو لمن سمي له.
    (5/205)
    ________________________________________
    واستدلوا أي أصحاب القول الرابع بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة نكحت على مهر أو محاباة أو حباء أو عطية فهو لها قبل العقد، ولمن سمي له بعد العقد" وهذا الحديث كما ترى نص على التفصيل المذكور في القول الرابع نص تماماً، لكن هذا الحديث فيه إشكال من حيث الثبوت، فهو أعل بعلتين:
    العلة الأولى: أنه رواه ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وابن جريج مدلس وأجاب أصحاب هذا القول عن هذه العلة بأن ابن جريج صرح بالتحديث عند الإمام النسائي، فانتهينا من علة التدليس.
    العلة الثانية: أن الإمام الكبير البخاري قال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني لم يسمع من عمرو، وهذه علة قادحة، ولم يذكر عنها أصحاب هذا القول جواباً مع ذلك أقول أن هذا الحديث يؤيده أمران:
    الأول: أنه روي هذا الحديث من طريق آخر عن مكحول مرسلاً ومراسيل مكحول جيدة.
    الثاني: أن هذا الحديث روي عن عائشة رضي الله عنها، وهو ضعيف لكن ضعفه يسير، فاجتمع معنا هذا الحديث، مع حديث عائشة وضعفه يسير، مع مرسل مكحول، من وجهة نظري أن اجتماع مثل هذه الأمور تعطي الحديث قوة لاسيما وأنه فيما يظهر لي أن ما في الحديث من تفصيل متوافق مع قواعد الشرع.
    ((الآذان))
    لهذا يكون إن شاء الله الراجح القول الرابع لأن هذا الحديث يعضده ويقويه.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (فلو طلق قبل الدخول .. )
    إذا طلق الإنسان قبل الدخول وبعد العقد فللمرأة نصف المهر، ونص المسمى هنا ألف، وهذا معنى ما قلته أولاً، أن المهر هو مجموع ما يعطى الأب والزوجة، فإذا كان المهر يتقدر بألفين، فنصفه ألف، لقوله تعال: {فنصف ما فرضتم}، وسيأتينا كم للمرأة قبل الدخول وبعد الدخول، لكن المؤلف يريد أن يشير هنا إلى أنه يأخذ نصف مجموع ما أعطى الأب والمرأة.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ولا شيء .. )
    يعني لا تملك المطلقة وهي ابنته المطالبة بالألف، ولا الزوج يملك المطالبة بالألف، لأن حقيقة ما صار أن المهر للمرأة ثم أخذه الأب، كأنه أخذه بعد قبض المرأة يعني الزوجة، وإذا أخذ الأب المهر بعد قبض الزوجة له فلا يستطيع أحد أن يطالبه به لا ابنته ولا الزوج.

    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (5/206)
    ________________________________________
    (ولو شرط ذلك لغير الأب فكل مسمى لها)
    يعني أن جواز اشتراط الأولياء شيء من المهر خاص بالأب، أما غيره من الأولياء كالأخ والعم والابن فليس لهم أن يشترطوا، واستدل الحنابلة على هذا بأن غير الأب ليس له أن يتملك من مال ابنه فلا يساوي الأب. واستدلوا ثانياً بأن الأصل أن المهر ملك للزوجة، وإنما خرجنا عن هذا الأصل بوجود أدلة تستثني الأب.
    قال المؤلف - رحمه الله -:
    (ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها .. )
    يجوز للأب أن يزوج ابنته ولو كانت كبيرة وثيبة بدون مهر مثلها ولو كرهت.
    واستدل الحنابلة على هذا بأمرين:
    الأمر الأول: جميع النصوص الدالة على استحباب تخفيف المهور.
    الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ صداقاً عن بناته اثنتي عشرة أوقية، وهذا بلا شك أنه ليس مهر مثلها، بل مهر مثل بنت النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، فهذان دليلان على جواز أن يكون أقل ولا يشترط رضا المرأة.
    القول الثاني: وهو الذي تبناه الإمام الشافعي أنه لا يجوز للأب أن يأخذ مهراً أقل من مهر المثل.
    أولاً استدل بأمرين: الأمر الأول: أن في هذا تعدي على حقوق المرأة.
    الثاني: أنه بهذا مفرط، لأن عليه أن يعمل بما فيه صلاح المرأة، وليس من صلاحها الغض من مهر مثلها.
    والراجح إن شاء الله القول الأول لأن معه النصوص التي ذكر.
    والله أعلم وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/207)
    ________________________________________
    الدرس: (11) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن زوجها به ولي غيره ... )
    قوله وإن زوجها به، الضمير في قوله به يعود إلى ما دون مهر المثل، فإذا زوجها بما دون مهر المثل غير الأب ورضيت وأذنت جاز، والعلة في ذلك أن الحق لها فإذا أسقطته سقط، ولهذا جوزنا لغير الأب أن يزوجها بدون مهر المثل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن لم تأذن فمهر المثل)
    إذا لم تأذن يعني للأولياء غير الأب، فيجب مهر المثل، لأن المهر عوض عن البضع، والعوض لابد فيه من رضا صاحبه، وصاحب العوض هي الزوجة، فإذا لم تأذن ولم ترض فإن المسمى يبطل، ولها مهر المثل، وهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال على من يكون تكميل المسمى الذي هو دون مهر المثل، إلى أن يبلغ إلى مهر المثل، في هذا خلاف بين الفقهاء اختلفوا على قولين:
    (5/208)
    ________________________________________
    القول الأول: أنه الزوج، فعلى الزوج أن يكمل إلى أن يبلغ مهر المثل، لأنه هو الذي أخذ العوض واستمتع بالزوجة فعليه أن يدفع مقابل هذا الاستمتاع، والمقابل هنا هو مهر المثل.
    والقول الثاني: أن الزوج عليه أن يدفع المسمى، وعلى الولي أن يكمل إلى مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن الولي هو الذي فرط وهو الذي قصر بأخذ دون مهر المثل، ولعل الأقرب أنه على الولي، لأنه فرط بتزويجها بأقل من مهر المثل، ويفهم من كلام الفقهاء حين قالوا فرط، أن تصرفه هذا إذا لم يكن تفريطاً وإنما صنع ذلك لصالح الزوجة، كأن تخطب من قبل رجل مرغوب ومعروف بالصيانة والقيام على الزوجة بما ينبغي من حقوقها ولكنه لم يرض إلا بهذا المهر الذي هو دون مهر المثل فرضي مراعاة لمصلحة المرأة فإنه لا يُضمّن في مثل هذه الصورة، أما إذا لم يكن هناك مصلحة مراعاة فإن الولي يضمن.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن زوج ابنه الصغير بمهر المثلي أو أكثر .... )
    أفادنا المؤلف أن للأب أن يزوج ابنه بأكثر من مهر المثل، ويصح ويكون لازماً ويثبت في ذمة الصبي. والدليل على هذا: أن المرأة قد لا ترضى إلا بهذا المهر، كما أن هذا الابن قد لا يزوج إلا بهذا المهر، ولهذا جاز له أن يزيد على مهر المثل.
    (5/209)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه ليس للأب أن يزيد عن مهر المثل، لأنه يتصرف بمال ابنه بطريق الوكالة وعليه أن يراعي مصلحة الابن وليس من مصلحة الابن زيادة المهر عن مهر المثل، والصواب إن شاء الله أن للأب أن يزيد في مهر ابنه عن مهر المثل، لما في ذلك غالباً من المصلحة ويندر أن يدفع الأب أكثر من مهر المثل بغير مصلحة، ومن هنا عرفنا أن الشارع الحكيم يفرق بين أن يكون الولي هو الأب وبين أن يكون الولي سواه من الأولياء كالأخ والعم والابن، لأن الأب فيه زيادة شفقة وحرص على الابن والابنة ولذلك خوله الشارع أن يتصرف أكثر من غيره من الأولياء.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن كان معسراً لم يضمنه الأب)
    هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان أهل الزوجة والزوجة يعرفون أنه معسر، فإذا كانوا يعرفون فإن الأب لا يضمن المهر، السبب في ذلك أنه ليس للأب دور سوى أن يكون وكيلاً عن ابنه، والوكيل لا يضمن الثمن كما في البيع، ولا يضمن العوض هنا في النكاح، لأنه مجرد وكيل لا يدخل ذمته شيء من الضمان.
    والقول الثاني: في هذه المسألة أن الأب إذا زوج ابنه المعسر فإنه يضمن، لأن لسان الحال يقول وأنا ضامن عنه، وعلى هذا يدل العرف، أن الأب إذا زوج ابنه المعسر كأنه يقول أنا أضمن ما على ابني من مهر ونفقه. وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله أنه يضمن ما دام زوج ابنه وهو معسر فكأنه يقول ما يجب على ابني فهو علي، وفهم من هذا التفصيل أن الابن إذا كان موسراً فإن الأب لا يضمن مطلقاً، وهذا صحيح وهو رواية واحدة عن الإمام أحمد لم يختلف فيه، أنه إذا كان موسراً فإن الأب لا يضمن ما على ابنه في حالة كونه موسراً قادراً، ولو عجز بعد ذلك مادام حين العقد موسراً فإنه لا ضمان على الأب.
    انتهى الفصل الأول من باب الصداق ننتقل إلى الفصل الثاني.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فصل وتملك الزوجة .. )
    هذا الفصل خصصه المؤلف للكلام عن ملك المهر والتصرف فيه وما يتعلق بهذه المسائل.
    أفادنا المؤلف أن المهر يملك بالعقد، يعني بمجرد العقد، وتعليل ذلك أن العقد موجب بذاته لملك العوض، فملكت المرأة المهر به.
    (5/210)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن المرأة لا تملك بالعقد إلا نصف المهر، واستدلوا على هذا بأن الزوج ربما طلق قبل الدخول فلا يكون لها إلا نصف المهر، والراجح إن شاء الله المذهب وهي أنها تملك جميع المهر بالعقد، والقول الثاني ضعيف فقهاً وتعليلاً لأمور:
    الأمر الأول: أن الطلاق عارض والأصل عدمه، وإنما يريد الإنسان النكاح للدوام لا للطلاق، والقاعدة الشرعية أن الحكم للغالب لا للعارض، فكيف نثبت الحكم هنا للعارض.
    ثانياً: ينبغي على هذا القول أن لا تملك المرأة شيء مطلقا، ً لأنه ربما أيضاً ارتدت، وإذا ارتدت لم تستحق شيئاً من المهر، فإذا كانوا يراعون أنه ربما طلق، كذلك يجب أن يراعوا أنها ربما ارتدت.
    وهذا كله يدل على الضعف الشديد في القول الثاني، فالراجح إن شاء الله أن المرأة تملك المهر بمجرد العقد لأن العوض في العقود يملك بها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولها نماء المعين قبل قبضه)
    بدأ الشيخ الكلام عن فروع ملك الزوجة للمهر بالعقد.
    الفرع الأول: أنه إذا كان المهر معنياً فإن المرأة تملك النماء المتصل والمنفصل، فهو لها، والتعليل أن هذا النماء نماء في ملكها، ونماء الإنسان في ملكه هو من ملكه، يعني أنه نمى والعين في ملكها، ونماء العين المملوكة ملك لمالك العين، وهذا صحيح ولا إشكال فيه، ومفهوم قوله المعين: أن غير المعين ليس كذلك وهذا الذي أشار إليه بقوله:
    (وضده بضده)
    ضد المعين غير المعين، فإذا كان المهر مالاً لم يعين فإن المرأة لا تملك نماء هذا المهر غير المعين، ولا تملك أن تتصرف فيه، لأنه لم يعين ولهذا لا يمكن أن يكون نماؤه تبعاً له لعدم التعيين، وهذا أيضاً لا إشكال فيه فإذا قال: صداقك شاة وصفها كذا وكذا، أو سيارة وصفها كذا وكذا، أو بيت وصفه كذا وكذا ولم يعين، فإنها لا تملك النماء.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن تلف فمن ضمانها ... )
    هذه أيضاً من فروع ملك المهر الفرع الأول: أن لها أن تتصرف فيه.
    والفرع الثاني: أن ضمان المهر عليها فلها أن تتصرف والضمان عليها، واستثنى المؤلف من الضمان ما إذا منع الزوج زوجته من قبض المهر فإذا منعها فإن الضمان لا يكون عليها، وفي هذه المسألة بحث:
    (5/211)
    ________________________________________
    البحث الأول: أن الزوج إذا منع زوجته من التصرف في المهر فحكمه حكم الغاصب، عليه النقص ولها الزيادة.
    المسألة الثانية: أن المؤلف أفادنا أن المرأة تملك التصرف، وعليها الضمان بملك المهر بالعقد، وذلك لأن المهر دخل في ملكها وإذا دخل الشيء في ملك الإنسان ملك التصرف فيه وعليه ضمانه.
    القول الثاني: أن التصرف في المهر والضمان له لا يكون إلا بعد القبض، أما قبل القبض فإنها لا تملك ذلك، قياساً على ما تقدم في البيع أن الأعيان المملوكة بعقود معاوضة لا يتصرف فيها ولا تدخل الضمان إلا بعد القبض، فالخلاف الذي تقدم معنا في كتاب البيوع في التصرف في المبيع قبل قبضه وفي ضمانه يأتي معنا في التصرف في المهر قبل قبضه والتصرف فيه وضمانه قبل قبضة، فهناك ذكرنا الأقوال وهي نفسها هنا التفريق بين المكيل والموزون وغيره والقول بالتعميم، وترجيح أن الحكم عام لجميع الأعيان فكذلك هنا، الخلاصة أن البحوث التي تقدمت معنا في قبض الثمن في البيع من حيث التصرف والضمان، تأتي معنا في قبض المهر من حيث أيضاً التصرف والضمان، ولهذا نقول أن الراجح بناءً على البحوث السابقة أن المهر لا يصح التصرف فيه ولا يضمن مطلقاً إلا بعد القبض، مهما كان نوع المهر معدوداً مذروعاً مكيلاً موزوناً مهما كان نوع المهر فإنه لا يصح التصرف فيه ولا يضمن إلا بعد القبض، ولو كان من العقار أو من المنقود عموماً يشمل جميع أنواع المهور وهذا الذي تقدم معنا في البيع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعليها زكاته)
    يعني عليها زكاة المعين، لأنه دخلها في ملكها بالعقد وعلى الإنسان أن يزكي الأموال التي يملكها إذا حال عليها الحول، فعليها الزكاة بالنسبة للمعين، أما غير المعين فلا زكاة فيه على المرأة لأنه لم يعين ولم يستقر الملك عليه بعد، فإذا قال الزوج لزوجته قبل العقد أو بعد العقد سيكون المهر سيارة وصفها لها ولم يقبضها إياها إلا بعد سنة فإنها إذا قبضت هذه السيارة يبدأ الحول بعد القبض، أما إذا قال صداقك هذه السيارة التي يشار إليها الآن فإنه يحسب الحول من حين العقد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن طلق قبل الدخول ... )
    (5/212)
    ________________________________________
    من الأشياء التي تستغرب على المؤلف رحمه الله أنه لم يذكر الأمور التي يستقر بها المهر، مقررات المهر مع أنه من أهم مباحث الصداق لم يذكره الشيخ، وهذا غريب في الحقيقة، والسبب في ذلك أن الأصل وهو المقنع لم يذكر مقررات المهر، أما غيرهم من الحنابلة وغيرهم من الشافعية والمالكية وسائر أهل العلم فإنه في الحقيقة يعتنون عناية خاصة بمقررات المهر، لأنها مهمة من حيث ثبوت المهر، وللخلاف القوي في بعضها، ولشدة حاجة الناس إليها، في الحقيقة أنا استغربت من الشيخ أنه ترك مقررات المهر، مع أنه ذكرها في كتابه الإقناع وذكرها في كتبه الأخرى، وذكرها الشيخ ابن قدامة في غير الأصل في غير المقنع، لكن على كل حال الأصل والمختصر الزاد لم يذكرا مقررات المهر.
    نقول مقررات المهر أربعة:
    الأول: يتقرر ويستقر المهر، ومعنى يتقرر ويستقر: أي لا يسقط مهما كان السبب بعد ذلك، يتقرر أولاً بالموت فإذا مات الزوج أو ماتت الزوجة حتف أنفها أو انتحرت أو حتف أنفه أو انتحر أو مات بأي سبب من الأسباب فإن المهر يستقر ويثبت للمرأة، واستدل الجماهير على هذا الحكم بأمرين:
    الأول: حكي إجماعاً.
    الثاني: حديث ابن مسعود رضي الله عنه فإن رجلاً تزوج امرأة ولم يسمي لها مهراً فسئل ابن مسعود فقال: لها مهر نسائها لا نقص ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بروة بنت واشق بنفس هذا الحكم الذي حكمه ابن مسعود، فإذاً الموت من مقررات المهر ولا إشكال.
    الثاني: الوطء، والوطء أيضاً من مقررات المهر بالإجماع، بل هو المقرر الأول في الحقيقة للمهر، والدليل على أن الوطء من مقررات المهر من وجهين:
    الأول: الآية وهي قوله تعالى: {ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، فنصت الآية أنه لا يتقرر المهر إلا بالمس، والمس في الآية هو الوطء.
    الدليل الثاني: هو الإجماع.
    (5/213)
    ________________________________________
    الثالث من مقررات المهر: الخلوة، والمقصود بالخلوة يعني المجردة ولو بلا وطء، فإذا خلا الزوج بزوجته وانفردا فإنه يجب بذلك المهر، سواء وطء وجامع أو لم يجامع، ويستثنى من هذا إذا منعت المرأة زوجها من الوطء، أو كان ممن لا يطأ مثله، ففي هاتين الصورتين لا تكون الخلوة مقررة للمهر، فيما عدا هاتين الصورتين الخلوة مقررة للمهر، ولو خلا بها وهي حائض يعني لا يستطيع أن ينكحها، ولو خلا بها وهي محرمة، يعني ولو وجدت موانع حسية أو شرعية، والدليل على أن الخلوة من مقررات المهر من وجهين:
    الوجه الأول: وهو الأصل عليه الاعتماد، أنه روي عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب المهر، فجعلوا مناط استقرار المهر على الخلوة، وهذه الآثار التي رويت عن الصحابة رضي الله عنهم هي العمدة في باب ثبوت واستقرار المهر بمجرد الخلوة.
    الدليل الثاني: أن المرأة بتسليم نفسها للزوج أثناء الخلوة أدت ما عليها من التمكين فاستحقت بذلك المهر.
    والقول الثاني: أن الخلوة لا توجب المهر إذا خليت عن الوطء، لأن الآية صرحت باشتراط المس {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}، والمس هو الجماع، والراجح القول الأول لورود الآثار الصحيحة عن الصحابة بل عن الخلفاء.
    المقرر الرابع والأخير: المباشرة أو أن يستحل منها ما لا يستحله إلا الزوج، هذا المقرر الرابع على شقين: الشق الأول: أن يباشر أو يقبل أو يمسك أو يلمس كما قال الفقهاء، ولو بلا خلوة، جعلوا هذا المباشرة وما يلحق بها من مقررات المهر، واستدلوا على هذا بأن هذا من جملة الاستمتاع فيقاس على الوطء.
    الشق الثاني للمقرر الرابع: أن يستحل منها ما لا يستحل غيره، كأن يراها عريانة، فإن رؤية الرجل للمرأة عريانة ليست من المباشرة، إلا أنها مما لا يستحله إلا الزوج.
    (5/214)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن المباشرة ونحوها لا تقرر المهر، لأن الآية والآثار دلت على أن مقررات المهر الوطء والخلوة، والمباشرة ليست وطء ولا خلوة، ولهذا نقول إنها ليست من المقررات، يعني لأنها ليست وطءً ولا خلوة، والراجح بوضوح إن شاء الله أنها ليست من المقررات، فعلى الراجح تكون المقررات ثلاثة، الموت والوطء والخلوة، فإذا حصل أحد هذه الثلاثة تقرر المهر ووجب في ذمة الزوج، ولا يمكن أن يسقط أبداً لأنه استقر.
    نرجع إلى كلام المؤلف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة ... )
    إذا طلق الزوج قبل الدخول أو الخلوة، يعني قبل مقررات المهر، فله نصف المهر، لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، هو الشيخ يقول له نصف المهر أو نقول لها نص المهر النتيجة واحدة، فإذاً إذا طلق قبل الدخول فله نصف المهر، وهذا الحكم منصوص عليه في الآية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فله نصفه حكماً)
    معنى قوله حكماً أي قهراً، يدخل في ملكه بلا اختيار، لأن الآية أثبتت أن له النصف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (دون نمائه المنفصل)
    له نصف المهر دون النماء المنفصل، يعني وهو للزوجة، باعتبار ما تقدم معنا أن المهر يملك بنمائه المنفصل والمتصل بمجرد العقد، فإذا طلق قبل الدخول رجع بنصف المهر الذي سلم، وأما النماء فهو للزوجة لما تقدم معنا من ملكها إياه.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وفي المتصل له نصف قيمته بدون نمائه)
    يعني والمتصل أيضاً للزوجة، لكن أراد المؤلف أن يبين بماذا يرجع الزوج، إذا كان النماء متصلاً، فيقول يرجع بنصف القيمة قبل النماء، فإذا أصدقها شاة تقدر بمائة ريال مثلاً وسمنت الشاة وصحت وأصبح قيمتها ثلاثمائة ريال فهو يرجع بخمسين ريال، بالقيمة قبل النماء المتصل، والخلاصة والأسهل أن نقول يرجع بنصفه والنماء المتصل والمنفصل للزوجة، فإذا قلنا أن النماء المتصل كله للزوجة، إذاً لن يرجع الزوج إلا بنصف ما أعطاها قبل هذا النماء المتصل، وإنما نص الشيخ على المتصل لأن المنفصل أمره واضح، المنفصل سيبقى عند الزوجة لكن الإشكال في المتصل فبين الشيخ كيف يحسب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/215)
    ________________________________________
    (وإن اختلف الزوجان ... )
    بدأ الشيخ بمسائل الاختلاف، وبدأ بالمسألة الأهم، وهي ما إذا اختلفا في القدر يقول: وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما في قدر الصداق يعني فالقول قول الزوج وإلى هذا ذهب الجمهور أنهما إذا اختلفا في قدر المهر أو الصداق فالقول فيه قول الزوج، فإذا قال: الزوج قدر المهر مائة وقالت: قدر المهر ثلاثمائة، فالمهر مائة، والدليل للجمهور: أن الزوج ينكر الزيادة، والمنكر جانبه مرجح لأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب للزوجة إلا مائة، ومن المعلوم أن هذا الاختلاف يقصد الشيخ بعد العقد أو قبل العقد؟ الاختلاف دائماً يكون بعد العقد، لأنه بعد العقد ثبتت الحقوق فأي منهما نقبل قوله.
    القول الثاني: أنهما إذا اختلفا في القدر نرجع إلى مهر المثل، لأنهم اختلفوا وتعذر معرفة المهر المسمى فرجعنا إلى مهر المثل.
    والقول الثالث: أنا نقبل قول من يشبه قوله الواقع، فإذا كان قول الزوج والزوجة كلاهما يشبه الواقع فسخ النكاح، وهذا مذهب الإمام مالك، فإذا كانت الأعراف أن متوسط العوائل يكون الصداق فيها ثلاثون ألفاً، هذا هو المتوسط، والعاقد والمعقود عليها من متوسط العوائل، فزعم الزوج أن المهر خمسة آلاف ريال، وزعمت الزوجة أن المهر ثلاثون ألف ريال، فعلى المذهب المهر خمسة آلاف، وعند المالكية المهر ثلاثون ألف ريال، إذا زعمت الزوجة في هذا المثال أن المهر ثلاث وثلاثون ألف ريال، وهو زعم أن المهر ثلاثون ألف ريال فالحكم عند المذهب القول قول الزوج وعند المالكية ينفسخ النكاح، ويستقبلون عقداً جديداً إن شاؤا، وقول المالكية ينفسخ يعني بدون طلاق، هذا ظاهر عبارة المالكية، نفسخ العقد بدون طلاق، لأنهم عبروا بكلمة يفسخ، مذهب المالكية في الحقيقة فيه اعتدال وفيه توسط وإن كان الأصل دائماً أن القول قول مُنكر وهذا قاعدة صحيحة ويدل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لكن في مثل الأمور التي فيها أعراف سائدة، جرى عليها الناس، ترجيح قول من قوله يؤيد أو يتوافق مع العرف أقرب من اعتبار القواعد العامة، فالذي يبدو أن قول المالكية أقرب إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو عينه)
    (5/216)
    ________________________________________
    إذا اختلفوا في عين الصداق فقالت المرأة الصداق هذا البيت، وقال الزوج بل الصداق هذه المزرعة، فالقول قول الزوج لما تقدم معنا أن القول قول المنكر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو فيم يستقر به .. )
    إذا تنازعوا في حصول ما يستقربه المهر، فالقول قول الزوج بلا نزاع، لأن هذه المسألة ليس فيها أعراف، فهي تقول حصلت الخلوة، والزوج يقول لم تحصل الخلوة، أو هي تقول حصل الوطء، والزوج يقول لم يحصل الوطء، أو هي تقول مات الزوج، والزوج يقول لم يمت، إذاً الموت لا يدخل معنا في هذا الخلاف، الحنابلة يقولون أنه بلا نزاع وهذا صحيح، لأنه ينفي وقوع شيء، والأصل أن الأشياء لم تقع وليس الأصل أن الأشياء وقعت، فالقول قول الزوج إن شاء الله بلا إشكال يستثنى من هذا مسألة واحدة وهي ما إذا كانت المرأة بكر وأثبتت بعد خلوته بها صارت ثيبة، فإن استطاعت أن تثبت فالقول قولها وهذا كما لو أتت ببينة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وقولها في قبضة)
    يعني والقول وقولها في قبضة، فإذا قال الزوج: قبضت المهر وقالت الزوجة: لم أقبض المهر فالقول قول الزوجة لأن الأصل عدم قبض عدم المهر.
    والقول الثاني: أنه إذا جرت عادة الناس أن المهر الحال يسلم قبل الدخول فالقول قول من يدل العرف والعادة على صحت قوله، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام وهو قوي جداً وظاهر الرجحان، وهنا نكون قدمنا الأصل على الأصل أو الأصل على العادة؟ قدمنا العادة على الأصل، وسيأتينا مراراً أنه عندنا في الفقه الظاهر والأصل والعادة، أحياناً نقدم الظاهر وأحياناً نقدم الأصل وأحياناً نقدم العادة حسب قرائن المسائل، وفي هذه المسألة رسالة دكتوراة مفيدة جداً هل يقدم الأصل أو الظاهر أو يقدم الأصل على العرف أو العرف على الظاهر، فإذا تعارض الأصل والظاهر فهناك خلاف بحسب ملابسات القضية، وأيضاً الشيخ العلامة ابن رجب تحدث عن تعارض الأصل والظاهر.

    فصل
    هذا الفصل عقده المؤلف لبيان أحكام المفوضة، وأطال المؤلف في أحكام المفوضة واختصر في أحكام المهر المسمى، وهذا من وجهة نظري خلل في الحقيقة لأن غالب الناس المهر فيها مسمى، إذاً هذا الفصل في أحكام المفوضة، النساء تنقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: المفوضة.
    (5/217)
    ________________________________________
    القسم الثاني: المسمى لها المهر
    والمؤلف انتهى عن المسمى لها المهر وانتقل إلى الكلام عن المفوضة.
    والمفوضة أو التفويض في لغة العرب: إحالة الأمر إلى الغير، أو إسناد الأمر إلى الغير، وهو ينقسم إلى قسمين: تفويض بضع، وتفويض مهر، وسيذكر الشيخ تفويض البضع ويبدأ به ثم ينتقل إلى تفويض المهر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يصح تفويض البضع ... )
    تفويض البضع ذكر المؤلف تعريفه الدقيق، وأما معناه العام الذي يسهل معرفة ما هو المفوضة، فتفويض البضع هو إخلاء النكاح من المهر، هذا هو تفويض البضع، وقد يكون إخلاء النكاح من المهر بالسكوت عن المهر وقد يكون بشرط نفيه، ولا توجد صورة ثالثة.
    فإن كان تفويض البضع بالسكوت عن المهر فهذا صحيح وجائز، وتقدم معنا أن تسمية المهر حكمه في الشرع سنة، وذكرنا الأدلة على أن تسمية المهر في العقد سنة وليس بواجب، فالسكوت عن التسمية جائز ولا حرج فيه.
    النوع الثاني: أن يكون التفويض بشرط نفيه، وتقدم معنا أن شرط عدم المهر عند الحنابلة شرط فاسد لا يفسد، وأن القول الثاني أنه شرط فاسد مفسد، وأن الراجح أن اشتراط عدم المهر شرط فاسد مفسد، وهذا كله تقدم معنا في الكلام عن الشروط في النكاح وليس شروط النكاح.
    نأتي إلى التعريف الدقيق وقد أوضحه الشيخ بعبارة جلية يقول: تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة يعني بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فإن كان الأب فله أن يزوج المجبرة بلا مهر، وإن كان غير الأب فليس له ذلك إلا إذا أذنت.
    هذا ما يتعلق بتفويض البضع، وأما ما الحكم إذا فوض الولي البضع فسيذكره المؤلف لاحقاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتفويض المهر .. )
    كما أخذنا حقيقة تفويض البضع، نأخذ حقيقة تفويض المهر، تفويض المهر هو جعل تحديد المهر إلى الزوجين أو إلى غيرهما، ونسيت أن أنبه أن الأصل في التفويض والذي ينصرف إليه عند الإطلاق تفويض البضع لا المهر، فالأصل إذا قيل مفوضة يعني في البضع لا في المهر. إذاً نرجع ونقول تفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أي أحد الزوجين أو أجنبي، فإذا حصل ذلك فهي مفوضة تفويض مهر، ثم بدأ المؤلف بالحديث عن الحكم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/218)
    ________________________________________
    (فلها مهر المثل في العقد)
    أفادنا المؤلف أن عقد المفوضة صحيح، وأن للمفوضة بنوعيها البضع والمهر مهر المثل، والدليل على هذا: أن التفويض جعل المهر مجهولاً، والمهر المجهول يجب فيه مهر المثل، أو يجب بدله مهر المثل، وهذا يستوي فيه تفويض البضع وتفويض المهر، وذكر بعض الفقهاء خلافاً في تفويض المهر، وهذا الخلاف ضعيف، والصواب إن شاء الله أن حكم تفويض البضع والمهر واحد، وأن فيهما مهر المثل، والدليل على هذا حديث ابن مسعود فإن الرجل الذي مات لم يسمي المهر في النكاح فأوجب ابن مسعود مهر المثل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويفرضه الحاكم بقدره .. )
    هذه العبارة فيها مسائل: المسألة الأولى: أنه يجوز للمرأة المطالبة بفرض المهر بالإجماع، ومعنى فرض المهر هو تحديد قدره.
    ثانياً: إذا امتنع الزوج من فرض المهر، فإن الحاكم يلزمه بذلك، وإلا أوجب عليه مهر المثل.
    قوله (بقدره): يعني أن الحاكم يجب أن يفرض المهر إذا رفض الزوج من فرضه بقدره والضمير يعود على مهر المثل، يعني يفرض مهر المثل، والسبب في ذلك أن الزيادة إجحاف على الزوج والنقص إجحاف بالزوجة، والعدل هو مهر المثل، ولذلك نقول الحاكم ليس له أن يقدر ما شاء بل يجب عليه أن يقدر قدراً يتساوى مع مهر المثل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن تراضيا قبله)
    وإن تراضيا قبله يعني: قبل تقدير الحاكم على مفروض جاز، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لا فرق بين كون قليل وكثير، وتعليل ذلك أن الحق لا يخرج عنهما يعني عن الزوج والزوجة، فإذا تراضيا صح ما تراضيا عليه.
    مسألة: ويكون المبلغ الذي تراضيا عليه حكمه حكم المسمى، يعني كأنهم سموا مهراً معيناً في العقد، ويأخذ أحكام المهر المسمى كلها.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه)
    يعني لو قالت الزوجة قبل أن يفرض الزوج، أو قبل أن يفرض الحاكم مهر المثل: أبرأته من المهر صح، وإن كان مهر المثل الآن مجهولاً، والسبب في ذلك أن الإبراء من المجهول جائز صحيح، إذاً يجوز لها أن تبرأه ولا حرج، وليس هذا من النكاح بلا مهر، لأنه الآن عقد على أساس أن لها مهر المثل، لكن هي أبرأته.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومن مات منهما .. )
    (5/219)
    ________________________________________
    مازال الكلام عن المفوضة، يقول ومن مات منهما يعني من الزوجة أو الزوج قبل الإصابة والفرض المقصود بالإصابة الوطء والمقصود بالفرض تقدير وبيان المهر، فالحكم يقول ورثه الآخر، إذا مات أحدهما قبل التقدير والإصابة فإن الآخر يرثه بالإجماع، والسبب في ذلك أن العقد جعلها زوجة، وهو عقد كما تقدم معنا صحيح، فتدخل في النصوص الآمرة بفرض قدر من التركة للزوجة، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولها مهر نسائها)
    أفادنا المؤلف بهذه العبارة قاعدة، وهي أن كل ما يتقرر به المهر المسمى يتقرر به مهر المفوضة، وتقدم معنا أن المسمى من جملة الأشياء التي يتقرر بها الموت، فموت أحد الزوجين في نكاح التفويض أيضاً يتقرر به المهر.
    ((الآذان))
    هذا مذهب الحنابلة، واستدلوا بعموم حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث جعل الموت مقرراً للمهر، والنكاح الذي في حديث ابن مسعود مفوضة.
    القول الثاني: أنه لا مهر لها مطلقاً، لأن هذا الفراق بالموت فراق بلا مسيس ولا فرض، فيقاس على الطلاق، والله تعالى يقول: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} وهذه فورقت بلا مس ولا فريضة، فتقاس على الطلاق، فليس لها شيء، والجواب عن هذا الاستدلال أن قياس الموت على الطلاق قياس مع الفارق الكبير، لأن الطلاق يختلف عن الموت بأشياء كثيرة، منها أن الموت يقرر المهر في الحياة والطلاق لا يقرره، ومنها أن العدة تجب بالموت ولا تجب بالطلاق، فقياس أحدهما على الآخر قياس فيه نظر
    القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد كما أن القول الأول والثاني روايات عن الإمام أحمد، أن لها نصف مهر المثل، وهذه الرواية رويت عن الإمام أحمد، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية شن على هذه الرواية حملة بقصد أنها لا يمكن أن تثبت عن الإمام أحمد، أي يقصد إثبات عدم صحة هذه الرواية عن الإمام أحمد، وذكر أوجه كثيرة جميلة جداً في بيان ضعف نسبة هذه الرواية إلى الإمام أحمد، منها أن هذه الرواية تخالف المشهور عن الإمام أحمد، فإن أصحاب الإمام المعروفين المشهورين رووا عنه خلاف هذه الرواية،
    (5/220)
    ________________________________________
    الثاني: أن هذه الرواية تخالف طريقة ومنهج الإمام أحمد، لأن الإمام أحمد إذا اختلف الصحابة على قولين لا يخرج إلى قول ثالث، والصحابة اختلفوا على القول الأول والثاني فقط، أنه لا شيء لها أو لها المهر الشيء الثالث: أن الإمام أحمد لا يخالف النصوص، وحديث ابن مسعود ظاهر في أن الموت يقرر المهر بالنسبة للمفوضة، وما ذكره الشيخ من تضعيف نسبة هذه الرواية للإمام أحمد صحيح وقوي، وهذا البحث الذي بحثه الشيخ في كيفية إضعاف بعض الروايات التي تنسب إلى الإمام أحمد مفيد، ويحسن ويجدر بالإنسان أن يطالعه.

    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/221)
    ________________________________________
    الدرس: (12) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    ما زال البحث في المفوضة وكما قلت بالأمس المؤلف رحمه الله أطال فيها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة)
    يعني وإن طلق المفوضة قبل الدخول، فلها المتعة وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة، أن المتعة في هذه الحال واجبة، واستدل الجمهور هؤلاء بقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدرة وعلى المقتر قدرة متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين}، الآية نصت على أنه إذا خلي النكاح عن الفرض والمس، فإن الواجب حينئذ المتعة.
    والقول الثاني: للمالكية وهم يرون أن المتعة مشروعة، إلا أنها على سبيل الاستحباب لا الوجوب، يعني أنه تستحب ولا تجب واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في آخر الآية السالفة {حقاً على المحسنين}، والإحسان ليس بواجب، الإحسان درجة من درجات الندب لا الوجوب.
    القول الثالث: أن لها نصف مهر المثل، واستدلوا على هذا بأن هذه المفوضة لو دخل بها لوجب لها مهر المثل، فإذا طلقها قبل الدخول لها نصفه قياساً على الطلاق والمهر المسمى فيه.
    والراجح القول الأول.
    (5/222)
    ________________________________________
    والجواب على استدلال المالكية، أن الإحسان لا يتنافى مع الوجوب، فقد يكون الشيء إحساناً وهو واجب، لاسيما والآية أمرت أمراً صريحاً {فمتعوهن} وقال الله تعالى في آخرها: {حقاً} والحق يطلق على الواجب.
    وأما القول الأخير فهو قياس مع الفارق، إذ كيف نقيس المفوضة على التي لها مهر مسمى، ثم هذا القياس والاستحسان قياس في مقابل النص الصريح وهي الآية، فالراجح إن شاء الله تعالى مذهب الجمهور.
    ثم لما قرر المؤلف وجوب المتعة انتقل إلى بيان المقدار.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (بقدر يسر زوجها وعسره)
    أفادنا بهذه العبارة أن المتعة مقدرة بحال الزوج لا بحال الزوجة، واستدلوا على هذا بصريح الآية: {على الموسع قدرة وعلى المقتر قدرة}، يعني على الزوج.
    والقول الثاني: أنها مقدرة بحال المرأة، واستدل أصحاب هذا القول: بأن المهر مقدر بحال المرأة، ولهذا نحن نقول مهر المثل، يعني مهر مثل الزوجة، فإذا كان المهر مقدراً بالمرأة، فكذلك المتعة، وهو قول ضعيف. والراجح إن شاء الله القول الأول، لصراحة الآية باعتبار حال الزوج لا حال الزوجة، ومما يتفرع على هذه المسألة مسألة أخرى: وهي مقدار المتعة، ذهب الحنابلة إلى أن مقدار المتعة يقدر بأعلاه وأدناه، فأعلاه خادم، وأدناه سترة تصلح لصلاة المرأة فيها، هذا أعلاه وأدناه.
    والقول الثاني: أن المتعة لا تتقدر، وإنما يرجع في تقديرها عند التنازع إلى الحاكم، لأنه واجب لم يقدر في الشرع، فرجعنا فيه إلى اجتهاد الحاكم، والراجح القول الثاني: أنه لا يتقدر بقدر معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، وهذا كما قلت إذا وقع النزاع بين الزوجة والزوج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويستقر مهر المثل بالدخول)
    إذا دخل على المفوضة استقر مهر المثل، ومقصود الشيخ بقوله بالدخول، يعني بكل مقررات المهر، وإنما ذكر الدخول لأنه أكثر مقررات المهر وقوعاً.
    والدليل على ذلك: القياس على المهر المسمى، ففي المهر المسمى يستقر هذا المهر بالدخول، فكذلك بالنسبة للمفوضة وهذا لا إشكال فيه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن طلقها بعده فلا متعة)
    (5/223)
    ________________________________________
    يعني وإن طلق المفوضة بعد الدخول فإنه لا متعة لها، استدل الحنابلة على أنه: لا تعطى المرأة المطلقة بعد الدخول متعة بأن الله تعالى قسم النساء إلى قسمين لا ثالث لهما، قسم لها المتعة وهي مذكورة في قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} وقسم لها نصف المهر وهي المذكورة في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ... فنصف ما فرضتم} فلما قسم الله تعالى النساء إلى قسمين علمنا أن كل قسم يختص بحكمه، فيختص المتعة بالنساء اللاتي لا دخول فيها ولا مسيس ولا فرض، ويختص المهر أو نصفه بما في الآية، نصفه إذا طلق وقد سمى أو فرض، وكله إذا دخل أو باقي مقررات المهر.
    القول الثاني: أن المتعة واجبة لكل مطلقة، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها شيخ الإسلام رحمه الله واستدل بقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين}، فالآية عامة وفيها مؤكدات كثيرة، فيها الأمر، وفيها قوله حقاً، وفيها الإشارة إلى أن دفع المتعة مطلقاً من جملة التقوى، والتقوى واجبة.
    القول الثالث، أن المتعة مستحبة، ودليل هذا القول هو: الجمع بين الأدلة السابقة.
    الراجح إن شاء الله اختيار شيخ الإسلام، وإن كانت المسألة فيها نوع إشكال، لكن الراجح إن شاء الله هو هذا، لأنه لا يوجد صارف واضح للآية، وكون الآية الأولى أثبتت المتعة في صورة، فإنها لا تنفي المتعة عن الصور الأخرى، فالأقرب إن شاء الله أنها واجبة وإن كان عمل الناس الآن أن المطلقة بعد الدخول قلّ من يعطيها متعة، وأنت كما ترى القول بالوجوب قوي وواضح، ونصر الشيخ القول بالوجوب بمعنى إضافي على الآية وهو جميل فقال: إن المهر الذي يعطى للمرأة بسبب الدخول لا يمنع المتعة، لأن المهر مقابل الوطء، وأما المتعة فهي في مقابل ما حصل للمرأة من كسر الخاطر وضيق النفس بسبب الطلاق، فهذا له سببه، وهذا له سببه، وهذه إشارة جميلة في الحقيقة.
    مسألة: الخلاف المذكور هو في متعة المفوضة، لأن البحث ما زال في المفوضة، وأما المطلقة بعد الدخول التي مهرها مسمى فالخلاف فيها هو هذا الخلاف نفسه، إذاً الخلاف في المفوضة والمسماة واحد لا فرق بينهما واستدلوا بذات الأدلة.
    (5/224)
    ________________________________________
    انتهى الشيخ الآن من الكلام عن المفوضة، وانتقل إلى الكلام عن النكاح الفاسد، وما يشبه النكاح الفاسد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإذا افترقا في الفاسد)
    استعمل المؤلف كلمة افترقا ليشمل الطلاق والفسخ، والنكاح على ثلاثة أنواع:
    النوع الأول: النكاح الصحيح وتقدم معنا.
    النوع الثاني: النكاح الفاسد وهو الذي نتحدث عنه
    النوع الثالث: النكاح الباطل
    ففرق العلماء بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، فالنكاح الفاسد هو النكاح المختلف في صحته، وهذا ظاهر كلام الفقهاء، سواء كان الخلاف قوي أو ضعيف، ما دام مختلف فيه اختلاف معتبر فهو فاسد، ولو كان أحد القولين شديد الضعف عند الآخر، ومثاله أن يتزوج بلا شهود أو بلا مهر أو بلا ولي فهذه من أمثلته.
    النوع الثاني: النكاح الباطل وهو النكاح المتفق على بطلانه، ومن أبرز أمثلته أن يتزوج من لا تحل له، كأن يتزوج أخته من الرضاع أو خالته أو عمته إلى آخره فهذا نكاح باطل بإجماع المسلمين.
    الهدف أو الفائدة من التفريق بين النكاح الفاسد والباطل: هو أنه في النكاح الفاسد يجب على الزوج وجوباً أن يطلق أو يفسخ، وجوباً عند الجماهير، ولو كان الزوج أو الزوجة أو الولي يرون أن النكاح فاسد، يجب عليه مع ذلك أن يطلق أو يفسخ، والدليل على ذلك: أن هذا النكاح الفاسد ربما رأى الزوج أنه صحيح ورأت الزوجة أنه فاسد، فتذهب الزوجة بلا طلاق وترى بأنها ليست زوجة للأول، والأول يبق يرى أنه زوجها، ثم تتزوج بآخر ويكون للمرأة زوجان، فلأجل عدم وقوع هذا المحذور الكبير أوجب الجمهور أن يقوم الزوج بالطلاق أو الفسخ.
    القول الثاني: للشافعي قال: إذا ثبت أن النكاح فاسد فإنه لا يجب على الزوج لا أن يطلق ولا أن يفسخ، واستدل على هذا: بأن هذا العقد الفاسد لم ينعقد أصلاً حتى نوجب عليه أن يفسخه أو أن يطلق، والراجح مذهب الجمهور وبناءً، على هذا الراجح نقول إذا لم يطلق الزوج ولم يفسخ وجب على الحاكم أن يقوم بالتفريق بينهما بالفسخ أو الطلاق، حتى لا يدخل الاشتباه في وجود زوج آخر.
    (5/225)
    ________________________________________
    هذا الفرق هو الفارق الأساسي بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، وهذا الفارق في الحقيقة يرجع إلى أثر العقد لا إلى حقيقة العقد، ما معنى هذا؟ معنى هذا أنه في الواقع وحقيقة الأمر عند الفقيه الذي يرى أن العقد فاسد العقد، الفاسد والباطل واحد، لأن كل منهما لم ينعقد شرعاً عند هذا الفقيه، فهو في حقيقة الأمر لا فرق بينهما، ولكن الفرق هو من جهة أثر العقد الفاسد وأثر العقد الباطل، وهذا أمر يجب أن يُعرف، وأن الفرق إنما هو في الظاهر والآثار لا في الحقيقة.
    الآن عرفنا الفرق بين الفاسد والباطل ننتقل الآن إلى الكلام عن الفاسد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإذا افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر)
    إذا افترقا قبل دخول وخلوة فلا مهر، ولو كان المهر مسمى، والدليل على هذا: أن الذي يوجب المهر هو العقد، وهنا لا عقد، لأن العقد شرعاً لا حقيقة له في العقد الفاسد، إذاً هذا الحكم الأول للعقد الفاسد.
    الثاني: قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وبعد أحدهما يجب المسمى)
    قوله بعد أحدهما: يرجع إلى الدخول أو الخلوة، ونحن سنأخذ كل واحد على حدة.
    المسألة الأولى: إذا فارقها بعد الدخول، فالواجب عند الحنابلة المهر المسمى، الدليل عند الحنابلة: أنه في حديث عائشة: "أيما امرأة نكحت بلا ولي فنكاحها باطل باطل باطل ولها المهر بما استحل من فرجها" هذا الحديث عمدة في مسائل النكاح الفاسد، عليه اعتماد الفقهاء في رواية لهذا الحديث "عليه ما أصدقها بما استحل من فرجها" وما أصدقها هو المسمى هذا مذهب الحنابلة.
    (5/226)
    ________________________________________
    القول الثاني: أن عليه مهر المثل لا المسمى، واستدل هؤلاء بذات الحديث فقالوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" فلها المهر بما استحل من فرجها" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب المهر هو استحلال الفرج لا العقد، والواجب بالوطء هو مهر المثل لا المسمى، والنبي صلى الله عليه وسلم علق المهر على الوطء لا على العقد، وهذا القول اختاره ابن قدامة وهو الصحيح إن شاء الله، إذ كيف نرتب على العقد الفاسد المسمى في ترتيب مهر المسمى على العقد الفاسد تصحيح للعقد الفاسد، ونحن نرى أنه فاسد يعني لم ينعقد أصلاً، ولهذا إن شاء الله الراجح هو هذا القول وهو انه مهر المثل.
    المسألة الثانية: التي أشار إليها الماتن الخلوة، فالخلوة تقرر المهر المسمى عند الحنابلة، واستدلوا على هذا بالقياس على النكاح الصحيح، قالوا كما أن الخلوة تقرر المهر المسمى النكاح الصحيح، فكذلك في النكاح الفاسد، بجامع أن في كل منهما وطء ودخول.
    القول الثاني: أن الخلوة لا توجب على الزوج شيئاً، واستدلوا بأنه في حديث عائشة جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب المهر الوطء وهنا لا يوجد وطء، بناءً على هذا إذا تزوج رجل امرأة بلا ولي وخلا بها بلا وطء جلس معها ليلة الزفاف خلوة كاملة بلا وطء ولم يمسها إلى الصبح فإنه إذا جاء الصبح وأُخبر أن العقد فاسد فأنهما يفترقان ولا يترتب على هذا شيء، بينما عند الحنابلة يترتب المسمى، وهذا فرق كبير جداً بين أن يترتب المسمى وبين ألا يترتب شيء، والراجح إن شاء الله أنه لا يترتب شيء لما تقدم من حديث عائشة وهو أصل في هذا الباب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويجب مهر المثل لمن وطئت .. )
    بدأ الكلام عما يشبه النكاح الفاسد وليس بنكاح فاسد، فإذا وطء الإنسان امرأة وطء شبهة فإنه يجب عليه أن يدفع مهر مثلها كاملاً، والدليل على هذا من وجهين:
    الأول: الإجماع فإنه حكي الإجماع على هذه المسألة وهي وجوب مهر المثل في وطء الشبهة.
    الثاني: عموم حديث عائشة فإنها تقول فلها المهر بما استحل من فرجها، فجعلت المهر بسبب استحلال الفرج وهذا استحل الفرج.
    (5/227)
    ________________________________________
    القول الثاني: وطء الشبهة لا يجب شيء واستدل هؤلاء بأن: الشارع إنما علق المهر ونحو المهر بوجود الزوج وشبهة، وهذا ليس بزوج، وهذا الثاني اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، والراجح إن شاء الله المذهب، سبب ذلك أنه يظهر بوضوح وجلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علق وجوب دفع مهر المثل بالوطء، وهذا ظاهر، ولهذا يقول بما استحل يعني بسبب استحلاله الفرج، وهذا واضح، ومع وجاهة وقوة ما ذكره الشيخ إلا أنه لا يكفي في الخروج عن ظاهر هذا الحديث، هذا هو النوع الأول وهو وطء الشبهة.
    وقبل أن ننتقل إلى الثاني، وطء الشبهة يأخذ حكمه وطء آخر، وهو الوطء في نكاح باطل، فالوطء في نكاح باطل حكمه حكم وطء الشبهة، فإذا عرفت حكم وطء الشبهة عرفت حكم النكاح الباطل، وبالإمكان أن يضاف هذا لمساءل الفروق بين النكاح الفاسد والنكاح الباطل، وعلى هذا يكون مقتضى اختيار شيخ الإسلام أنه إذا حصل نكاح باطل فإنه لا يجب شيء ولو مع الدخول الوطء.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو زناً كرهاً)
    إذا زنا بامرأة غصباً وكرهاً فلها مهر المثل، استدل الحنابلة بحديث عائشة السابق بما استحل من فرجها.
    القول الثاني: أن لها المهر إن كانت بكراً، وليس لها شيء إن كانت ثيبة.
    والقول الثالث: أنه لا شيء لها، واستدل الذين قالوا بأن لا شيء لها بأن النبي صلى الله عليه وسلم:" نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي" فمهر البغي أبطله الشارع، وهذا القول الثالث اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وهو فيما يظهر لي الآن غاية في الضعف، والسبب في ذلك، أن هذه المزني بها كرهاً، كيف نعتبر الموطوءة بزناً حكمها حكم البغي، البغي رضيت بالبغاء فلا حق لها ولا مهر، وهذه وطئت غصباً، بل إنها المزني بها غصباً أولى بمهر المثل من الموطوءة بشبهة، لأن الوطء بشبهة لا يوجد إجبار منه ولا منها، وإنما محض خطأ، وهنا هذه المرأة مجبرة ومعتدى عليها فهي أحق بمهر المثل من الأولى، ولهذا في الحقيقة غريب اختيار الشيخ اللهم إلا أن يكون له مأخذ آخر لم يذكره، أما التسوية بين وطء الزنا بالرضا والموطوءة بزناً كرهاً هذا غريب، لذلك الراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة وهو أن لها مهر المثل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/228)
    ________________________________________
    (أو زناً كرهاً)
    خرج بالزنا الكره الزنا بالمطاوعة، فهذه لا مهر لها وعليها الحد، فإذاً قيد معتبر قوله كرهاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يجب معه أرش بكارة)
    لا يجب مع الوطء بشبهة ولا مع الزنا كرهاً أرش بكارة، والسبب في هذا يرجع إلى أمرين:
    الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة أوجب على الواطء مهر المثل فقط، ولم يتطرق إلى الأرش، فنقتصر على الموجود في الحديث.
    والدليل الثاني، وهو من حيث المعنى وهو قوي أيضاً، أن أرش البكارة موجود في مهر المثل لأنه حين تقدير مهر المثل نراعي أنها بكراً، فثمن البكارة متضمن في مهر المثل، وهذا كلام جيد وسديد، إذاً لا يجب عليه أن يدفع أرش البكارة، وتقدم معنا أن أرش البكارة هو الفرق بين قيمة الأمة ثيباً وقيمتها بكراً، أو الفرق بين مهر المرأة ثيباً وبين مهرها بكراً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال)
    يعني أنه يجوز للمرأة أن تمنع نفسها يعنى ألا تسلم نفسها للزوج حتى تقبض مهرها، لكن بشرط أن يكون هذا المهر حالاً، الدليل على هذا الحكم من وجهين:
    الأول: الإجماع، فإنه حكي الإجماع على أن للمرأة أن تمنع نفسها.
    الدليل الثاني: أنه ربما فض بكارتها ثم امتنع عن دفع المهر أو ماطل فيه، وحينئذ لا يمكن أن نستدرك البكارة، وهذا كما ترون أدلة قوية جداً، فللمرأة أن تقول لن أذهب إلى بيت الزوج حتى يكمل المهر الحال.
    عرفنا حكم هذه المسألة، مسألة ملحقة بها ظاهر كلام الحنابلة أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج ولو كان مثلها لا يصلح للوطء لها أن تمتنع مطلقاً.
    والقول الثاني: أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج، أي من تسليم نفسها لبيت الطاعة، إذا كانت تصلح للوطء، أما إذا كانت لا تصلح للوطء فيجب عليها أن تذهب، لأن المعنى الذي من أجله جوزنا لها الامتناع مفقود فيمن لا يمكن أن توطء، وهذا القول الثاني هو الصحيح، لأنه لا معنى من الامتناع مع أنه لا يمكن أن يوطأ مثلها، ومن هذا الخلاف عرفنا أن الإجماع المحكي في المسألة الأولى يتنزل على المرأة التي يمكن أن توطأ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إن كان مؤجلاً .. )
    هذه ثلاث مسائل:
    (5/229)
    ________________________________________
    الأولى: إن كان مؤجلاً، فإذا كان المهر مؤجلاً فليس لها أن تمنع نفسها من التسليم، وجه ذلك أنها برضاها بالتأجيل رضيت بتسليم نفسها، وهذا صحيح، بأنها لما رضيت بالتأجيل علمنا أنه لا مانع عندها من تسليم نفسها، ولأن القول بجواز منع نفسها مع التأجيل يفضي إلى عدم حصول المقصود من النكاح، لأن الحنابلة يرون أنه يجوز أن يكون المهر مؤجلاً بغير حد معلوم، أليس كذلك كما تقدم معنا، إذاً على هذا ربما تبقى الزوجة في بيتها أو الزوج في بيته سنين، ولا يلزم المرأة أن تذهب إلى زوجها وهذا يتنافى مع كل مقاصد النكاح.
    المسألة الثانية: أو حل قبل التسليم، يعني إذا كان المهر مؤجلاً ثم لم تسلم نفسها حتى حل، فحينئذ يجب أن تسلم نفسها ولو كان المهر الآن حال، والسبب في ذلك أن وجوب التسليم مستقر قبل حلول أجل المهر، بناءً على هذا إذا حل الأجل ولم يسلم فإنه يجب أن تذهب إلى بيتها، لأن وجوب التسليم سابق لموعد الحلول.
    المسألة الثالثة: أو سلمت نفسها تبرعاً، إذا سلمت المرأة نفسها تبرعاً يعني في صورة تستطيع أن لا تسلم نفسها، فإنها بمجرد التسليم لا يجوز لها الرجوع، ودليلهم على هذا أنه بالدخول استقر عوض المرأة فلا تتمكن من الرجوع، هذه مسألة مهمة جداً ويكثر وقوعها.
    (5/230)
    ________________________________________
    القول الثاني: أن لها الامتناع عن تسليم نفسها ولو رضيت في وقت من الأوقات، واستدل هؤلاء بأن الموجب والمسوغ لامتناع المرأة هو عدم تسليم المهر، ولا زال هذا المعنى موجوداً، وقبل الترجيح هذه المسألة من المسائل التي توقف فيها الإمام أحمد رحمه الله، وتقدم معنا أنه مثل هذا الإمام الكبير إذا توقف فهو إشارة إلى وجود بعض التعارض في أدلة المسألة، الذي يظهر لي أن المتوافق مع قواعد الشرع هو القول الثاني لأن الحقوق المتجددة لا تسقط بالإسقاط ولأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا كان علة الامتناع هو عدم دفع الزوج للمهر فهذه العلة موجودة، فالذي يظهر والله أعلم هو هذا أن لها أن تمتنع، وفي هذا القول في الحقيقة الثاني مع أنه قرب لقواعد الشرع أحفظ لحقوق النساء، لأنها قد ترضى في وقت من الأوقات ضانة أن الزوج سيؤدي الحق الذي عليه إن عاجلاً أو آجلاً، ثم يظهر لها أنه مماطل وأنه يدفع كلما جاء الوقت أخر فلها أن تمتنع وتذهب إلى أهلها إلى أن يدفع الزوج المهر وهذا إن شاء الله أقرب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أعسر بالمهر الحال .. )
    إذا أعسر بالمهر بشرط أن يكون الحال، فلها الامتناع، سواء قبل الدخول أو بعد الدخول.
    نأخذ كل مسألة على حده.
    المسألة الأولى: قبل الدخول، قبل الدخول للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها إذا أعسر الزوج، لأنه بإعسار الزوج تبينّا عدم المقدرة على أداء العوض، وإذا لم يستطع أن يؤدي العوض جاز لها أن تمتنع، كما أن البائع إذا لم يؤدي المشتري الثمن جاز له الرجوع بالسلعة.
    القول الثاني: أنه إذا أعسر فليس لها أن تمتنع، لأن هذا الإعسار غاية ما يكون دين في ذمة الزوج لا يمنع من الطاعة، كما إذا أعسر في النفقة القديمة، فإن هذا الإعسار لا يمنع من التسليم، وهذا القول الثاني اختاره الشيخ ابن قدامة وأيضاً الشيخ ابن حامد من الحنابلة وله اختيارات أيضاً جميلة.
    المسألة الثانية: إذا كان بعد الدخول، وهي التي أشار إليها قوله (ولو بعد الدخول)، إذا كان بعد الدخول فالحنابلة كما ترون الحكم نفسه، أن لها الفسخ،
    (5/231)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه بعد الدخول ليس لها الفسخ، وإذا كنا نرجح فيما قبل الدخول أن ليس لها الفسخ ففيما بعد الدخول من باب أولى، أنه ليس لها الفسخ، لأنه بعد الدخول تستقر الحقوق أكثر منها قبل الدخول.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يفسخه إلا حاكم)
    أي أنه يجب أن يكون الفسخ على يد الحاكم، والدليل على هذا أن هذه المسألة محل اختلاف وتحتاج إلى اجتهاد، والحنابلة دائماً إذا كانت المسألة تحتاج إلى اجتهاد فإنه يرجع في الفسخ فيها إلى الحاكم، دفعاً للنزاع والشقاق.
    والقول الثاني: أن لها الفسخ بمجرد الإعسار، وهذا القول ضعيف جداً، ويؤدي في الحقيقة إلى التلاعب والفوضى، لأنه ربما تزعم المرأة أنه أعسر بالمهر وتخرج وتقول فسخت النكاح أو النكاح انفسخ، ثم إذا سئل الزوج قال المهر موجود، ثم إذا رجعنا إلى الزوجة قالت ذكر لي أنه أعسر، ودخلنا في متاهة لها أول وليس لها آخر ومما يزيد الأمر سوءً لو ذهب المرأة وتزوجت، فلا بد في الحقيقة في مثل هذه المسائل من الحاكم، فيقوم القاضي بفسخ النكاح بناءً على ثبوت إعسار الزوج بالمهر.
    وبهذا انتهى باب الصداق وننتقل إلى باب وليمة العرس
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

    (باب وليمة العرس)
    الوليمة اسم لما يصنع في النكاح خاصة، يعني اسم لدعوة النكاح خاصة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (تسن)
    أفادنا المؤلف أن حكم الوليمة سنة، والوليمة مشروعة بالإجماع، وهي عند الجمهور سنة، واستدلوا على سنيتها بأحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:"أولم لو بشاة"، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بشاة صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسمن وإقط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه ولم تذكر في النص بمدّي شعير، وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، ولهذا أجمع أهل العلم على أنه مشروع، وذهب الجمهور إلى أنه مسنون.
    (5/232)
    ________________________________________
    القول الثاني: أن الوليمة واجبه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:" أولم ولو بشاة فأمره" أمراً صريحاً بالوليمة، والراجح إن شاء الله أنها سنة، وسبب الترجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أولم ولو بشاة" والإيلام بشاة كونه يولم بشاة لم يقل أحد بوجوبه، فدل هذا على أن الأمر كله في الحديث على سبيل الندب، ولا يمكن أن نقول قوله:" أولم ولو بشاة" نصفه للوجوب ونصفه للندب، وأما الدليل على أن صنع الإنسان وليمة بمقدار شاة لا يجب بالإجماع، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بأقل من شاة.
    مسألة: مع القول بأن الوليمة سنة، نحتاج إلى تحديد الوقت اختلف الفقهاء متى يسن صنع الوليمة.
    فالقول الأول: أنه عند العقد ولو قبل الدخول.
    والقول الثاني: أنه بعد الدخول، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام، واستدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على نسائه بعد الدخول.
    والقول الثالث: أن الأمر في وقته واسع، يبدأ من العقد إلى نهاية أيام الزواج، وهذا القول اختاره المرداوي وقال به تجتمع النصوص، نقول يسن من حين العقد إلى نهاية ولائم النكاح أو الزواج.
    ويظهر إن شاء الله أن الأمر في هذا واسع، ولو تحرى الإنسان أن لا تكون الوليمة إلا بعد الدخول لكان هذا حسناً، مع أن عمل الناس قبل الدخول، ولهذا ما انتشر الآن عند بعض الناس من وجود حفلة مصغرة تكون لدخول الزوج على زوجته، ثم تصنع وليمة بعد ذلك هذا في الحقيقة أقرب للسنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل بالمرأة ثم يصنع الوليمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (تسن ولو بشاة فأقل)
    (5/233)
    ________________________________________
    أفادنا المؤلف رحمه الله أنه يجوز أن يولم بأقل من شاة، وهذا محل إجماع، لصنع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا استحب كثير من الفقهاء ألا ينقص الإنسان في وليمته مع القدرة عن شاة، بل استحب كثير من الفقهاء أن يزيد على الشاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أولم ولو بشاة" فجعل أقل المقدار الذي يولم به الإنسان هو شاة، وهذا صحيح، أنه ينبغي ويستحب أن يولم الإنسان بأكثر من شاة، وكلما زاد فهو أفضل، بشرطين: القدرة وعدم الإسراف، فإذا تحقق الشرطان فلا بأس، وسيأتينا أن أبّي بقي يصنع الولائم لزواجه رضي الله عنه لمدة ثمانية أيام، وكذلك ابن سيرين جلس هذا المقدار، وغيره من السلف، فإذا لم يكن هناك إسراف ومباهاة فلا بأس.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتجب في أول مرة .. )
    قوله وتجب أشار المؤلف إلى أن إجابة الدعوة الخاصة بوليمة الزواج واجبة، وإلى هذا ذهب الجماهير بل حكي إجماعاً، وممن حكى الإجماع ابن عبد البر والنووي والقاضي عياض وغيرهم فهو إجماع محكي.
    واستدلوا على هذا بأدلة:
    الدليل الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليأتيها" وفي لفظ "فليجب".
    الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "شر الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله"، وهذا الحديث روي من قول أبي هريرة وروي في الصحيح أيضاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث صريحة في الأمر بإجابة الدعوة إذا كان الداعي للزواج.
    القول الثاني: أن إجابة الدعوة فرض كفاية، واستدل أصحاب هذا القول بأن المقصود من الأمر بإجابة الدعوة إدخال السرور على المسلم وتوليه وهذا يحصل إذا قام به من يكفي.
    القول الثالث: وهو مروي عن بعض الشافعية وأيضاً بعض المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه سنة.
    والذي تدل عليه النصوص هو القول المحكي إجماعاً، والخروج عن هذه الأحاديث في الحقيقة صعب، وهي فيها الأمر الصريح بإجابة الدعوة، والحكم عليه بأنه عصى الله وعصى رسوله إن لم يفعل، فلعل هذا هو الأقرب إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتجب في أول مرة)
    (5/234)
    ________________________________________
    يعني تجب في اليوم الأول، والمقصود بقولهم تجب في اليوم الأول يعني في الدعوة الأولى، فإذا دعاه المرة الأولى وجب عليه أن يجيب، وإذا دعاه المرة الثانية فإنه يستحب أن يجيب، وإذا دعاه الثالثة فإنه يكره كما سيأتينا عند الحنابلة أن يجيب، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدعوة في اليوم الأول سنة وفي اليوم الثاني إحسان وفي اليوم الثالث رياء وسمعة"، وهذا الحديث ضعيف، وأيضاً استأنسوا بالآثار فإن السلف كانوا يجيبون اليوم الأول والثاني دون الثالث، وروي أن سعيد بن المسيب جاءه رجل فدعاه اليوم الأول فذهب، ثم جاءه اليوم الثاني فدعاه فذهب، فلما جاءه اليوم الثالث ودعاه حصبه يعني رماه بالحصى رضي الله عنه، لأنه رأى أن القضية أصبحت أشبه ما تكون بالمباهاة وبضياع الوقت، على كل حال الواجب هو اليوم الأول.
    فهم من كلام الفقهاء أنه لا بأس بتكرار وليمة الزواج، أن يصنعها مرة ومرتين وثلاث وأربع وخمس، وذكرت لكم أن أبي صنعها ثمان مرات، وكذلك ابن سيرين نفس الشيء رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا بأس من تكرار الوليمة بشرط عدم الدخول بالإسراف والمباهاة.

    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/235)
    ________________________________________
    الدرس: (13) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    تقدم معنا بالأمس الكلام عن وجوب إجابة الدعوة، ثم كنا شرعنا في الشروط التي تشترط للوجوب، وذكرنا الشرط الأول وهو في أول مرة، وانتهينا من الكلام عنه، ثم ننتقل إلى الشرط الثاني:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إجابة مسلم)
    يشترط لوجوب إجابة دعوة وليمة العرس أن يكون الداعي مسلم، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حق المسلم على المسلم خمس ثم قال وإذا دعاك فأجب"، وهذا الحديث في صحيح مسلم، وقد جعل إجابة الدعوة من حقوق المسلم على المسلم، فغير المسلم ليس له هذا الحق، وهذا صحيح، ويؤيد هذا الحديث أن المقصود أصلاً من إجابة الدعوة ما يحصل من التقارب والتآخي والموالاة وهو منفي في حق الكافر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يحرم هجره)
    يشترط لوجوب إجابة الدعوة أن يكون الداعي ممن يحرم هجره، فإن كان الداعي ممن لا يحرم هجره فإن إجابة الدعوة لا تجب، لأن المطلوب فيمن لا يحرم هجره أن يهجر ويبتعد عنه، كالمبتدع والفاسق والمجاهر بالمعاصي والداعي إلى الفسق والخنى والفجور ونحوهم، فهؤلاء لا تجب إجابة الدعوة بالنسبة لهم، لكن هل يجوز أو يكره أو يحرم؟ يختلف حسب حال هذا الداعي، إن كان في إجابة الدعوة مصلحة وبيان الحق له وللحاضرين يعني للداعي وللحاضرين صارت الإجابة مستحبة، وإن كان ذهاب هذا الشخص إلى المبتدع يؤدي إلى افتتان المبتدع وظن أنه على حق أو على شيء فالذهاب حينئذ يدور بين الكراهة والتحريم، أما الوجوب فلا يجب مطلقاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يحرم هجره إليها إن عينه)
    هذا هو الشرط الرابع، الشرط الأول في أول مرة، والثاني أن يكون مسلماً، والثالث أن يحرم هجره، وهذا الشرط الرابع أن يخصه بالدعوة، أن يعينه أثناء الدعوة، استدل الحنابلة على أن هذا من الشروط بأن الداعي إذا عين شخصاً ولم يجب حصل له انكسار ووحشة من هذا الذي لم يجبه، وهذا الأمر لا يوجد فيما إذا لم يعينه وإنما دعاه دعوة عامة يدخل فيها هو وغيره، بهذا استدل الحنابلة يعني بتعليل.
    والقول الثاني: أنه إذا لم يعينه فإنه يجب لعموم إذا دعاك فأجب.
    والقول الثالث: أنه يكره وهو الذي سيذكره المؤلف في آخر الباب.
    (5/236)
    ________________________________________
    والقول الرابع: أنه مباح، وهذا القول الأخير هو الصحيح، أو نقول أنه مستحب، إما مباح أو مستحب، أما القول بأنه مكروه أو واجب فهو ضعيف، ويمكن أن يستأنس بالقول بعدم الوجوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعاك"، فإن هذا القول يشعر بتخصيص الإنسان بالدعوة لا بتعميمه، فربما نستأنس بهذا اللفظ مع التعليل الذي ذكره الحنابلة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولم يكن ثم منكراً)
    هذا هو الخامس ألا يوجد منكر، يشترط للوجوب خلو مكان الزواج من المنكرات، والمؤلف قريباً سيفصل تفصيل دقيق في قضية وجود المنكر في الدعوة، ولهذا نؤجله إلى كلامه الآتي قريباً إن شاء الله، إنما هو يشترط الوجوب ألا يكون في الدعوة منكر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن دعا الجفلى)
    لما ذكر الشيخ الشروط ذكر محترزات الشروط في الحقيقة، الأول أن يدعوه دعوة الجفلى، ودعوة الجفلى هي أن يدعو دعوة عامة ليس فيها تخصيص، حينئذ لا يجب إجابة دعوته، بل يكره عند الحنابلة كما ترون على ما ذكره المؤلف، واستدل الحنابلة على الكراهة بأن في إجابة الدعوة إذا كانت على سبيل التعميم دناءة وحرص على حضور الولائم مما يستدعي أن تكون الإجابة مكروهة.
    والقول الثاني: أن الإجابة مباحة أو مسنونة، واستدل هؤلاء بأن "النبي صلى الله عليه وسلم صنع وليمة وأرسل أنس وقال ادعوا لي فلاناً وفلاناً ومن لقيت" فقوله ومن لقيت هذا هو تماماً هو دعوة الجفلى أي الدعوة عامة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا الناس دعوة مكروهة، وهذا القول لاشك أنه هو الصواب، والحكم عليها بأنها مكروهة غريب، غاية ما هنالك أنها ليست بواجبة وتصبح بعد ذلك تدور بين الإباحة والندب، وهي إلى الندب والاستحباب أقرب بلا شك.
    الثاني من المحترزات قوله ـ رحمه الله ـ:
    (أو في اليوم الثالث)
    إجابة الدعوة في اليوم الثالث مكروهة للحديث، لأنه في الحديث الذي مر معنا أمس أنه جعل إجابة الدعوة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف وفي اليوم الثالث رياء وسمعة، وإذا كانت إجابة الدعوة من باب الرياء والسمعة فهي مكروهة، والواقع أن الاستدلال بهذا الحديث محل نظر من وجهين:
    (5/237)
    ________________________________________
    الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا يمكن أن نحكم على إجابة الدعوة في اليوم الثالث أنها مكروهة اعتماداً على حديث ضعيف.
    الثاني: لو صح الحديث لدل على التحريم لأن الرياء والسمعة محرمان، فكيف نستدل به على الكراهة فقط، إذا الاستدلال بهذا الحديث استدلال في غير محله، ولذلك نقول أن الأقرب إن شاء الله أن إجابة الدعوة في اليوم الثالث تدور بين الإباحة والندب، أما الدعوة في اليوم الثاني فالحنابلة يرون أنها مسنونة، يعني إجابة دعوة اليوم الثاني مندوبة ومسنونة، إذاً النقاش معهم إنما هو في الحكم الذي أطلقوه على اليوم الثالث.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو دعاه ذمي)
    إذا دعاه ذمي فقد دعاه غير مسلم، تقدم أنه لا يجب، لكن الحنابلة يرون أن إجابة الدعوة مكروهة، والسبب في ذلك أن الذمي يطلب إذلاله وهانته، وإجابة دعوته تتنافى مع ذلك.
    والقول الثاني: أن إجابة الدعوة للذمي أيضاً إما مباحة أو مندوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة اليهودي وأجاب دعوة اليهودية، والنبي صلى الله عليه وسلم لنا فيه أسوة حسنة، فنقول إجابة الدعوة مباحة أو مستحبة، وتقدم معنا في كتاب الجهاد أنه ليس من مقاصد الشرع تقصد إذلال الذمي بالطريقة التي وصفها الفقهاء، هذا ليس من المقاصد، لكن المراد مع الذمي ألا يتولاه الإنسان في العقيدة ولا يحبه ولا يناصره ولا يؤازره، أما تقصد إذلاله فليست النصوص شيء واضح يدل عليه، وهذا ما يتنافى مع النصوص التي فيها الأمر بمخالفة اليهود والنصارى، فإن مخالفة الكفار شيء وتقصد إذلالهم بفعل زائد شيء آخر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (كرهت الإجابة)
    هذا يرجع للمسائل الثلاث السابقة، ففي كل واحة منهم يكره للإنسان أن يجيب وتقدمت مناقشة ذلك.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومن صومه واجب دعا وانصرف)
    (5/238)
    ________________________________________
    إذا دعي الإنسان وهو صائم صوماً واجباً، كأن يصوم قضاء رمضان أو كفارة واجبة أن نذر أو أي صيام واجب، فإنه يجيب وجوباً، ولكن يحرم عليه أن يفطر، والسبب في هذا أن الفطر وقطع الصيام الواجب محرم، والأكل مندوب، وليس للإنسان أن يقترف محرماً ليحقق مندوباً، ويدل على هذا أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليدعوا وإن كان مفطراً فليطعم" فهذا الحديث فيه النص على هذا المعنى.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والمتنفل يفطر إن جبر)
    لما بين الشيخ حكم الإنسان إذا دعي وهو صائم صيام واجب بيّن حكم إذا دعي وهو صائم صيام متنفل، فيقول والمتنفل يفطر انجبر يعني أن المتنفل إذا دعي فإنه يستحب له أن يفطر إذا كان في فطره جبر لخاطر الداعي، ومفهوم كلام المؤلف أن الداعي إذا لم يحصل له انجبار خاطر ولم يحصل له انكسار بعدم الأكل فإن المستحب ألا يفطر ولو كان صيامه صيام ندب، وهذا صحيح، وهذا التفصيل الذي ذكره الشيخ موسى هنا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله وهو الذي إن شاء الله تدل عليه النصوص السابقة إن شاء الله، وهو الذي تدل عليه الآثار فإن ابن عمر رضي الله عنه دعي فلما مد يده ليأكل قال إني صائم، فلنا أن نقول أن ترك الطعام هذا التفصيل يتعلق بصيام النفل إذا كان ترك الطعام يدخل على الداعي انكساراً فإنه يستحب أن يفطر الإنسان وإلا فإنه يبقى صائماً.
    (5/239)
    ________________________________________
    والقول الثاني: وهو المذهب أنه يستحب أن يفطر مطلقاً، سواء حصل انكسار للداعي بعدم الأكل أو لم يحصل مطلقاً، واستدل الحنابلة بأن رجلاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمسك رجل عن الطعام فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أخوكم دعاكم وتكلف لكم كل وصم يوماً مكانه" هذا الحديث صححه الشيخ العلامة الألباني وعامة المتأخرين أيضاً صححوه، ولهذا استدل به المؤلف، فإذا كان الحديث على فرض ثبوت الحديث فهو في الحقيقة يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يفطر مطلقاً، على أنه يمكن أن يناقش الحديث بأن الظاهر من حال الرجل الداعي أنه انكسر بعدم أكل هذا الرجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه لاحظ هذا من الداعي فأمره بأن يفطر وأن يطعم، وقد نقول أن هذا التفصيل في الحقيقة الذي هو إن حصل جبر خاطر أفطر وإلا فلا تفصيل نظري بحت لماذا؟ لأنه غالباً بل نقول دائماً إذا دعاك فهو يحب أن تأكل، ففي الواقع ليس بين القولين فرق كبير، ولهذا نقول ينبغي إذا دعيت وأنت صائم صوم نفل أن لا ترد دعوة أخيك وأن تطعم، لأنه الغالب يريد أن تأكل، بل الغريب هو ألا ينكسر إذا لم تأكل لأنه لم يدعوك إلا ليكرمك.
    مسألة: ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الإنسان إذا جاء صائماً فإنه يستحب للداعي ألا يكرر عليه الدعوة والإلحاح بأن يفطر، ورأى أن ذلك من المسألة المكروهة، فعلى الإنسان أن يضيف أخاه وأن يطلب منه أن يطعم إكراماً له ثم لا يلح بعد ذلك.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يجب الأكل)
    (5/240)
    ________________________________________
    معنى هذا أن الواجب هو إجابة الدعوة لا الأكل، فالأكل مسنون فقط، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء فليأكل وإن شاء فليترك"، وهذا تخيير صريح، وهذا الحديث في صحيح مسلم، بناءً على هذا يكون الأكل مندوب مطلقاً، والتفصيل السابق الذي ذكرناه في الصائم صيام نفل يكون على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب، أما الوجوب فقد حصل بإجابة الدعوة، وهذا يتوافق مع ما يصنعه بعض الناس اليوم من أنه يأتي إلى وليمة الزواج ثم إذا قدم الأكل خرج، هذا لا بأس فيه وقد أجاب الدعوة، ولو كان بعض الناس يرى أنه لم يجب الدعوة فرؤيته لا تتوافق مع الشرع، نقول إذا حضر ودعا وشارك ثم خرج قبل أن يأكل فقد أجاب الدعوة، لأن الأكل مندوب، نعم لا شك أن كونه يأكل أكمل في إجابة الدعوة وأطيب لخاطر الداعي لكن يبقى أن هذا الأمر بالنص النبوي مباح، لقوله إن شئت فكل وإن شئت فاترك.
    القول الثاني: أن الأكل واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن كان مفطراً فليطعم"، وقوله فليطعم أمر صريح.
    والراجح إن شاء الله القول الأول، لأنه في الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول التصريح بالتخيير بين الأكل وعدمه، ولهذا نحمل حديث وإن كان مفطراً فليطعم على الندب جمعاً بين الأخبار.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإباحته تتوقف على صريح إذن أو قرينة)
    معنى هذا الكلام أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل إلا إذا أذن له أو دلت القرائن على الإذن، وتعليل ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يأكل مال أخيه إلا بإذنه، قال الفقهاء والدعوة إلى الوليمة إذن، لأنه لم يدعه إلا ليطعم، وقال الفقهاء أيضاً أن تقديم الطعام إذن في الأكل، لأنه لم يقدم الطعام إلا ليطعم الناس، والأقرب أن الإذن بالأكل يرجع إلى الأعراف السائدة في كل بلد، ففي بعض البلدان تقديم الطعام إذن ويشرع الناس في الأكل، وفي بعض البلدان لا يكتفون بتقديم الطعام حتى يضيفهم الداعي ويأمرهم بالأكل، بل يعتبر من أكل قبل أن يطلب منه البدء خالف الأعراف العامة، وهذا القول الأخير هو الصحيح إنه يُرجع في الإذن للأعراف، وكما قلت لكم الأعراف تختلف اختلافاً كبيراً في هذا الأمر.
    (5/241)
    ________________________________________
    مسألة لم يذكرها المؤلف: الدعوة إذن في الأكل عند الحنابلة لكنها ليست إذن في الدخول، بل يجب عليه إذا حضر ألا يدخل إلا بعد الإذن.
    والقول الثاني: أن الدعوة إذن في الدخول فإذا دعي جاء ودخل بلا إذن، لأن الإذن مستفاد من الدعوة السابقة.
    والقول الثالث: أن هذا الأمر يرجع فيه إلى القرائن، فإن دلت القرائن على أن هذه الدعوة إذن فذاك وإلا فلا، وهذا القول اختاره الشيخ المرداوي وهو القول الصواب، فلا المنع مطلقاً صحيح ولا الإذن مطلقاً صحيح، ونحن نشاهد في الواقع أنه لا يلزم من دعوة الإنسان لك أن يرضى أنه بمجرد وصول البيت تدخل البيت، أليس كذلك، لكن إن دلت القرائن ونحن لا نقول الأعراف إن دلت القرائن على أنه إذن فهو إذن، من أوضح وأبرز القرائن أن يجد الباب مفتوحاً، فإذا جاء المدعو إلى بيت الداعي ووجد الباب مفتوحاً فإن هذا إذن والقرينة دالة على أنه يريد أن كل من يأتي يدخل حينئذ لا بأس بالدخول ولو بلا إذن.
    ثم بدأ الشيخ بتفصيل مسألة وجود المنكرات في ولائم الزواج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغير)
    إذا علم أن في المكان الذي سيذهب إليه منكر، أي نوع كان من أنواع المنكرات، فإنه ينقسم إلى قسمين:
    الأول: أن يتمكن من إزالة هذا المنكر، فإذا تمكن من إزالة المنكر فإنه عند الحنابلة يجب عليه أن يحضر ويجب عليه أن ينكر، وليس له أن يتخلف إذا كان في مكان الوليمة منكر مادام يستطيع يغير هذا المنكر، واستدلوا على هذا بأن في إجابة الدعوة تحقيق فرضين، الفرض الأول الإجابة، والفرض الثاني تغيير المنكر.
    القول الثاني: أنه إذا علم أن في المكان منكراً فإنه لا يجب عليه أن يحضر، فإن حضر وجب عليه أن يغير، واستدل هؤلاء بأن في إيجاب الذهاب إلى الدعوة تكليف بتغيير المنكر، والأصل عدم التكليف.
    (5/242)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: أن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بسبب وجود المنكر، ومعنى أسقط حرمة نفسه يعني لم تعد إجابة دعوته واجبة، يعني أسقط حقه كمسلم يجب إجابة دعوته، وهذا القول مال إليه شيخ الإسلام وقال هو أقيس على كلام الإمام أحمد، فنقول إذا دعيت إلى مكان فيه منكر فأنت مخير بين أمرين: إما أن تذهب أو أن لا تذهب، فإن ذهبت فيجب عليك تغيير المنكر، وهذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام وجيه وصحيح، ويؤيده أن ذهاب الرجل المعروف المنظور إلى أفعاله إلى مكان فيه منكر قد يتخذ ذريعة لتسويغ المنكر ولو قام بإنكاره، فإن بعض الناس دائماً يأخذ {ويل للمصلين} ويترك باقي الآية، فيقول فلان حضر دعوة فلان وفيها منكر ولا يكمل ويقول أنه أنكر، لكن إذا امتنع من الذهاب لا شك أن هذا يؤدي إلى أن عامة الناس يتجنبون المنكرات لأن الناس يتجنبونهم بسبب وجود هذه المنكرات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإلا أبى)
    وهذا هو القسم الثاني، يعني وإن لم يتمكن من إنكار المنكر وتغييره فإنه لا يذهب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار فيها الخمر" فالبقاء في مكان فيه منكر لا يجوز شرعاً، ولهذا نقول إذا لم تتمكن من تغيير المنكر وجب عليك ألا تذهب وجوباً، لأن إجابة الدعوة واجبة، وعدم المكوث مع المنكر أيضاً واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن حضر ثم علم به أزاله)
    (5/243)
    ________________________________________
    يعني إذا لم يعلم به قبل أن يأتي مكان الدعوة ثم لما حضر وجد المنكر فإنه يسعى في إزالته فوراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، ولذلك نحن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سلطة المنكِر ثلاث اليد واللسان والقلب، لكن ينبغي أن يعلم أن تغيير المنكر باليد ليس على إطلاقه، فلا يجوز للإنسان أن يغير المنكر بيده إذا كان يترتب على تغيير المنكر باليد منكر أكبر منه، لأن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إذهاب المفاسد وتقليلها وتحصيل مصالح وتكميلها، فإذا كان إذهاب المنكر سيأتي بمنكر أكبر منه صار محرماً، وحينئذ ينتقل الإنسان إلى الثاني وهو التغيير باللسان، أما إذا لم يترتب على التغيير باليد ما هو أسوء منه وأكثر ضرراً ونكارة فإنه يغير بيده، كما أن التغيير باليد لا يتناول ما هو من صلاحيات ولي الأمر، مثل إقامة الحدود ونحوها مثل هذه الأشياء التي تناط بولي الأمر لا تدخل في هذا الحديث العام، فيما عدا هذين الأمرين وهو أن لا يترتب منكر أكبر ومفسدة أكبر أو أن تكون من اختصاصات ولي الأمر فإن الحديث يستعمل، فمثلاً إذا كان يوجد أداة موسيقى واستطاع أن يغلق هذه الأداة بدون وجود مفاسد فإنه يغلق هذا الشيء الذي يصدر الموسيقى، لأن هذا يدخل في الحديث، فمثل هذا على سبيل التمثيل، وإلا المنكرات كثيرة وإنما مثلت به لأنه غالب ما يكون من المنكرات، أما إذا ترتب على إغلاق هذا الجهاز مفاسد أخرى وأضرار أكبر من الموسيقى، فإنه لا شك أنه ينتقل إلى المرحلة الثانية وهي التوجيه باللسان، المقصود الآن أنه إذا حضر مكان الوليمة ثم علم به سعى في إزالته.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن دام لعجزه عنه انصرف)
    (5/244)
    ________________________________________
    الواجب إذا حضر الإنسان مكان فيه منكر الواجب ليس فقط الإنكار، الواجب أن يزيل المنكر فإن لم يتمكن من إزالة المنكر فإن الواجب أن يخرج من المكان، لأنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر لم يتغير، وهذه قاعدة ذكرها الحنابلة وغيرهم من الفقهاء، أنه لا يجوز للإنسان أن يبقى في مكان فيه منكر، سواء كان هذا المنكر يتعلق بالمطعوم أو المشروب أو المسموع أو المعلق، أي نوع من المنكرات لا يجوز للإنسان أن يبقى في هذا المكان إذا لم يستطع إزالة المنكر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير)
    يعني إذا حضر إلى المكان وعلم بوجود منكر في ناحية من نواحي هذا المكان، إلا أنه لم يسمع ولم يرى هذا المنكر، فالحكم أنه مخير بين أمرين: إما أن ينصرف وفي هذه الحالة لا يأثم بالانصراف لأن صاحب الدعوة أسقط حرمة نفسه بإيجاد المنكر في وليمته فلم تعد إجابته واجبة، أو أن يبقى فإذا بقي فلا يجب عليه أن ينكر، لأن الحنابلة يقولون أن وجوب الإنكار يتعلق بأمرين: أن يرى أو أن يسمع، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره" وهذا لم يرى منكراً ولم يسمع وإنما علم به فقط.
    (5/245)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أن العلم بالمنكر يوجب السعي في تغييره وإن لم يرى ولم يسمع، ونحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم من رأى إما على رؤية العلم لا رؤية البصر، أو نقول أن الحديث وربما يكون هذا أقرب خرج مخرج الغالب وهو أن الإنسان يعلم بالمنكر من خلال الرؤية أو السماع لا من خلال نقل المنكر إليه، وهذا القول الثاني قد يكون أرجح وأقرب، لأنه على قاعدة المذهب ينبني على هذا أن كثير من المنكرات لا يجب على الإنسان أن ينكرها لأنه لم يرها ولم يسمع بها، وقد يتسبب هذا بانتشار المنكرات واستفحالها بسبب أننا لا ننكرها لأنه لم يرى ولم يسمع، فنقول إن شاء الله أن الواجب أن ينكر وإن لم يرى ولم يسمع إذا علم، مما يدل على هذا أن معاوية رضي الله عنه لما علم بنكاح الشغار قام وأنكره على المنبر وإن كان لم يرى ولم يسمع لأن عقد النكاح صار قبل أن يأتي، فممكن أن نستأنس بهذا الأثر عن معاوية، بأن الإنسان يجب حسب ما يستطيع أن يسعى في إنكار المنكر إذا علم به ولو لم يره ولم يسمعه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويكره النثار والتقاطه)
    النثار: هو إلقاء ما يراد توزيعه على الناس ليتناهبوه، سواء كان الملقى طعاماً أو نقداً، ويتعلق بالنثار والتقاط مسائل:
    المسألة الأولى: أن بعض الفقهاء يقول أن الخلاف في أنه مكروه أو مباح، وأما الجواز فهو محل إجماع، والغريب أن الحنابلة يحكون هذا الإجماع مع أنه عن الإمام أحمد نفسه رواية بالتحريم، وهي موجودة رواها أصحابه فكيف يحكون الإجماع مع وجود رواية عن إمامهم بالتحريم، ذهب الحنابلة إلى أن النثار والتقاطه مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم:" نهى عن الانتهاب".
    والقول الثاني: أن الالتقاط مباح، لأن الالتقاط هو إباحة الإنسان مال نفسه عن طريق نشره بين الناس، وللإنسان أن يبيح الناس ماله كيفما شاء، واستدلوا أيضاً "بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح البدن التي أهداها للحرم قال من شاء أن يقتطع فليقتطع" وهذا في معنى النثار.
    القول الثالث: التحريم، وهو أنه لا يجوز تمليك المال بطريقة الانتثار، واستدل هؤلاء بأن:
    أولاً: الأصل في النهي التحريم.
    (5/246)
    ________________________________________
    ثانياً: أن في إتباع هذه الطريقة تعويد للمسلم على سفاسف الأمور وشح النفس وبعداً عن ما يرتفع به الإنسان معالي الأمور، لا شك أن التعليل الذي ذكروه لا يؤدي إلى التحريم، لكن مما يؤيد أو يقوي التحريم النص وهو النهي، وهذا القول الذي هو التحريم مال إليه شيخ الإسلام رحمه الله، بقينا في الجواب عن أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الناس أن يأخذوا من لحم الهدي، أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن اللحم أكثر من الناس، فإذا كان اللحم أكثر من الناس لن يكون هناك انتهاب، لأن كل واحد سيأخذ نصيبه، وفي الحقيقة الجواب فيه ضعف، من أين لهم أن اللحم أكثر من الناس؟ بل الواقع أنه غالباً في ذلك الوقت سيكون الناس أكثر من اللحم بسبب الفقر، لاسيما وأن الحديث الذي فيه أنه أباحهم، فيه أن المذبوح كان ست أو سبع من البدن، وهذا العدد قد لا يكفي كل الموجودين في مكة لاسيما إن كان زمن حج، لذلك نقول الأقرب أنه مكروه ولا ينبغي أبداً أن يصنع مثل هذا الصنع، وفي الحقيقة ليس من شيم أهل المروءات، ولهذا لما نضج حسن بن أحمد بن حنبل قال أبوه الإمام أحمد لحُسُن (حُسُن هذه التي اشتراها الإمام أحمد بعد موت أم عبد الله زوجته وجاءت له بحسن) فقال الإمام أحمد: دخل عليهم لما أرادوا أن يفرحوا بالطفل وقال: لا تنثروا، نهاهم أشد النهي، قالت حُسُن فقال لي مولاي لا تنثروا، وفي هذا أنه ينبغي للعالم أن يعمل بعلمه، فهذا الإمام أحمد مع كونه فرح بهذا الطفل مع ذلك نهاهم عن هذا العمل الذي هو النثار.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومن أخذه أو وقع في حجره)
    (5/247)
    ________________________________________
    المسألة الأولى: إذا أخذه فإنه له على الخلاف السابق في كون الأخذ مكروه أو محرم، وهذا أمر واضح، لكن يقول أو وقع في حجره، إذا وقع في حجره فالأقرب والله أعلم أنه له بلا كراهة، وهذا مذهب الحنابلة، لأنه لم ينتهب معهم، ولأنه جاءه المال من غير سعي، ويستوي في هذا ما إذا أعد حجره لالتقاط المنثور وما إذا وقع فيه من غير إعداد، والسبب في هذا أن صاحب المال بذل ماله لمن يقع في يده، وقد وقع المال في حجره فهو له، من وجهة نظري أن هذا صحيح، فهو له وبلا كراهة، لأنه لم يسعى في تحصيله ولم يدخل في صورة الانتهاك المنهي عنها، بدليل أنه بقي جالساً حتى جاء الشيء ووقع في حجره.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويسن إعلان النكاح)
    إعلان النكاح مسنون بلا نزاع، وتقدم معنا أن بعض الفقهاء يرفعه من درجة السنية إلى الوجوب، وبعض الفقهاء يرفعه إلى درجة أنه شرط من شروط صحة النكاح، تقدم هذا معنا عند الكلام عن شروط النكاح، واستدلوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت فأعلنوا النكاح" وهذا الحديث أيضاً يصححه المتأخرون، وهو دليل ظاهر على أن نكاح السر يقرب بالعقد إلى السفاح، لقوله فصل مابين الحلال والحرام، وقوله الدف والصوت أخذ منه الفقهاء أن المقصود بالصوت إعلان النكاح، وعلى كل حال هذا الحديث كما قلت لكم يصححه المتأخرون، ولو لم يصححه المتأخرون فالقواعد العامة تدل على استحباب نشر وإظهار النكاح، كما كان المهاجرون والأنصار يصنعون بإعلانه والنشيد فيه إلى آخره.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والدف للنساء)
    في هذه العبارة مسائل:
    المسألة الأولى: الدف هو الإطار المغطى بالجلد من جهة واحده.
    المسألة الثانية: أن الدف في النكاح مباح بالإجماع، وذهب كثير من الفقهاء ومنهم الحنابلة إلى أنه مستحب، في درجة أعلى من الإباحة، أما الإباحة فهي محل إجماع.
    المسألة الثالثة: أن الاستحباب والندب يتعلق بالنساء، وهو مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وذكره في أكثر من موضع واستدل هؤلاء بأمرين:
    الأمر الأول: أنه لم يرو ولم ينقل عن أحد من السلف أنه ضرب بالدف، وإنما اقتصروا فيه على النساء.
    (5/248)
    ________________________________________
    الثاني: أن في ضرب الرجال للدف تشبه للنساء، ولا يجوز للرجل أن يتشبه بالمرأة.
    القول الثاني: أن الدف لا يختص بالنساء، بل يجوز للرجال وللنساء استخدام الدف في النكاح، واستدلوا على هذا بأمور:
    ((الآذان))
    الأمر الأول: أن النصوص التي فيها الحث على اتخاذ الدف في وليمة الزواج عامة، لم تخصص الرجال من النساء
    الثاني: أن الحكمة من الأمر بالدف عند جميع أهل العلم إعلان النكاح، وإعلان النكاح باتخاذ الرجال للدف أعظم منه باتخاذ النساء، وإذا كانت الحكمة تتحقق بضرب الرجال للدف أكثر فهم أولى بالجواز.
    الخلاف في هذه المسألة فيه تكافؤ، وفيه قوة يعني في كلا القولين، لكن الأقرب إن شاء الله أن الدف خاص بالنساء، وسبب الترجيح: هو أنه يظهر بوضوح من خلال الآثار المروية عن الصحابة أن اللاتي كن يضربن بالدف النساء فقط، فمثلاً لما تولت عائشة تزويج امرأة من الأنصار، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"هل كان معكم شيء من اللهو" ويدخل فيه الدف، ووجه هذا الكلام لعائشة ومن معها من النساء. ثانياً: الجارية التي نذرت أن تضرب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدف إذا رجع سالماً أيضاً كانت جارية، فمن خلال هذين الأثرين وغيرهما يظهر للإنسان أن الدف في العهد النبوي كان يضرب من قبل النساء، أما النصوص العامة فهذه عنها أحد جوابين:
    الجواب الأول: أنها عامة تحمل على النصوص الأخرى المبينة أن الذين كانوا يتعاطون الدف هم النساء فقط.
    الثاني: وليس هذا ببعيد، أن هذه النصوص عند التحقيق لا تثبت، كثير من النصوص التي فيها الأمر بالدف ضعيف جداً، هو هذا الحديث ولم أتمكن من النظر فيه بالتفصيل" فصل ما بين الحلال والحرام" هذا الحديث هو الذي ظاهر إسناده الصحة، وإلا ما عداه يغلب عليها الضعف، فنجيب عن أن النصوص التي يقول المجيزون أنها عامة بأحد هذه الجمل: بأنها تحمل على المعروف من العهد النبوي، وهو أن النساء تختص باستخدام الدف، أو أن نقول أنها لا تثبت وهذا الحكم يحتاج فقط إلى وقت للنظر في أسانيد هذا الحديث، ومع هذا أقول الأقرب إن شاء الله هو أنه الدف يختص بالنساء.
    هنا نكون توقفنا على باب عشرة النساء.
    (5/249)
    ________________________________________
    هذا والله أعلم وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    - ((انتهى الدرس)).
    (5/250)
    ________________________________________
    الدرس: (14) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    باب عشرة النساء
    العشرة في لغة العرب: المصاحبة والمخالطة، فمن يعاشر شخصاً فهذا يعني أنه يخالطه ويصاحبه
    وأما في الاصطلاح الشرعي: المقصود بهذا الباب فهو ما يكون بين الزوجين من الألفة والوئام وحسن الصحبة.
    فهذا المعنى هو المقصود بالبحث في هذا الباب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يلزم الزوجين العشرة بالمعروف)
    حث الشارع وأكد على أنه يجب على كل من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف، وهذه العشرة منها ما يكون واجباً, ومنها ما يكون مستحباً متأكداً كما سيأتينا في هذا الباب، وقد دلت نصوص كثيرة على وجوب العشرة بالمعروف، وسيأتينا في كلام المؤلف حدود العشرة بالمعروف, لكن الذي يعنينا الآن هو أنّ الشارع الكريم حث على العشرة بالمعروف في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} (النساء/19)، وقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة/228)
    وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم (استوصوا بالنساء خيرا)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله)
    والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً, ويظهر لي والله أعلم أنه متواترة المعنى أو قريبة من التواتر لكثرة النصوص الدالة على استحباب وتأكد إحسان العشرة بين كل من الزوجين.
    لما قرر المؤلف وجوب العِشرة بالمعروف, انتقل كما هي عادة الفقهاء إلى الضابط، يعني بماذا تحصل العِشرة بالمعروف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويحرم مطل كل واحد بما يلزمه للآخر والتكره لبذله)
    العشرة بالمعروف تحصل بأن يؤدي كل واحد منهما ما عليه للآخر بلا مطل ولا تكره, فإذا أدى ما عليه مستوفياً للشرطين، فقد عاشر صاحبه بالمعروف, وفهم من هذا التعريف أنّ صور الإخلال بالعشرة بالمعروف ثلاث:
    (5/251)
    ________________________________________
    الأولى: من لا يعاشر بالمعروف مطلقاً، يعني أن لا يبذل ما عليه مطلقاً.
    الثاني: أن يبذله مع التكره.
    الثالث: أن يبذله مع المماطلة.
    فهذه صور الإخلال بالعشرة الواجبة, فهذه العشرة كما تقدم في النصوص واجبة، ومما يدل على تأكد العشرة لاسيما في حق الزوج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إذا دعى الرجل زوجته إلى فراشه , فلم تأتي باتت تلعنها الملائكة إلى الصباح)
    وفي لفظ (ثم بات غضبان عليها) ففي هذا الحديث في بعض الألفاظ التصريح بأنه إذا أبت وبات غضبان عليها تلعنها الملائكة إلى الصباح, وفي بعض الألفاظ, أنه بمجرد أن تأبى فإنّ الملائكة تلعنها إلى الصباح, ولا شك أنّ لعن الملائكة دليل كبير على أنّ مخالفة هذا الأمر من كبائر الذنوب، إذا عرفنا الآن بماذا يحصل المماطلة، ولهذا نحن نقول لإخواننا الأزواج وأخواتنا الزوجات أنه كثير ما يحصل الإخلال بالعشرة بالمعروف، كثيراً ما يحصل في جانب التكره. فإنّ بعض الناس يظن إذا بذل ما عليه فقد أدى الواجب ولو بتكره وهذا ليس بصحيح, بل يجب أن يبذل ما عليه بلا تكره يعني منقادة به نفسه, فإنّ التكره في أداء الحقوق يفسد أداء الحق على الآخر إلى أن تصل لدرجة بمن يؤدى إليه الحق أن لا يرغب بأخذ هذا الحق لما احتف به من التكره.
    فأنا أؤكد على أن يتنبه كل من الزوج والزوجة إلى أن يؤدي الحقوق بلا تكره.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة)
    إذا تم العقد فإنه يلزم أن يسلم أهل الزوجة، الزوجة إلى زوجها, والدليل على هذا أنّ تمام العقد يقتضي تسليم العوض والمعوض، فيجب على الزوج أن يسلم المهر وعلى أهل الزوجة أن يسلموها إليه, لأنّ هذين هما العوض والمعوض.
    فإذاً الدليل أنّ العقود في الشرع تقتضي إذا تمت تسليم العوض والمعوض، وفي عقد النكاح العوض والمعوض المهر والزوجة، لكن لهذا التسليم ضوابط وشروط أشار إليها الشيخ الماتن - رحمه الله -.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (لزم تسليم الحرة)
    إذا الوجوب يتعلق بالحرة, أما الأمة فلها حكم آخر سينص عليه المؤلف, وهو أنه يجب أن تسلم بالليل لا بالنهار، فتسليم الأمة جزئي, وتسليم الحرة كلي، يعني في جميع النهار والليل. وسيأتينا بحث الأمة.
    (5/252)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (التي يوطأ مثلها)
    إنما يجب تسليم المرأة التي يوطأ مثلها, ويلتحق بالمرأة التي يوطأ مثلها, المرأة التي يمكن أن يستمتع بها بما دون الوطء، مثل المرأة المريضة التي لا يمكن أن توطأ لكن يمكن الاستمتاع بها بما دون الوطء, كالمباشرة والتقبيل ونحوهما، فإذا كانت المرأة يوطأ مثلها أو يمكن أن يستمتع بها بما دون الوطء, حينئذ يجب على أهل الزوجة تسليم الزوجة إلى زوجها بهذا الشرط.
    وإذا كانت المرأة لا توطأ, ولا يمكن أن يستمتع منها مطلقاً فإنه لا يجب على أهل الزوجة أن يسلموها إلى الزوج ولو بعد العقد.
    التعليل: علل الفقهاء هذا بأنّ وجوب التسليم إنما هو للتمكن من الاستمتاع, فإذا لم يمكن الاستمتاع لم يمكن التسليم واجباً وهذا واضح، إذا لم يمكن أن توطأ فإنه لا تسلم، إذا عرفنا تعليل عدم وجوب التسليم.
    وهناك تعليل آخر: وهو أنه لا يأمن من تسليم الزوجة التي لا يوطأ مثلها, أن يقوم الزوج بالوطء وهي لا يوطأ مثلها فتضرر الزوجة فمن باب سد الذرائع رأى الفقهاء أنه لا يجب على أهل الزوجة أن يسلموا الزوجة إلى الزوج، وهذا الحكم يستوي فيه ما إذا ادعى الزوج أنه يريد أن يأخذ الزوجة لتعليمها وتأديبها، أو أخذها للاستمتاع، يعني بعبارة أخرى أنها لا تعطى للزوج وولو زعم أنه أخذها للتعليم والتأديب لا للاستمتاع، لما تقدم وأنه وإن زعم هذا فإنّ وجود المرأة معه في نفس البيت وهو يعلم أنها زوجته مظنة عظيمة لوقوع الوطء الذي هو مضر بهذه الزوجة.
    مسألة / ذهب الحنابلة إلى أنّ المرأة التي يوطأ مثلها تحد بالسنين، فإذا تمت تسع سنوات, فهي امرأة يوطأ مثلها، وإن كانت أقل فهي امرأة لا يوطأ مثلها، واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وبنى بها - رضي الله عنها - وهي بنت تسع سنين.
    (5/253)
    ________________________________________
    والقول الثاني: في ضابط المرأة التي يوطأ مثلها, أنه أمر يختلف باختلاف النساء, فقد تكون المرأة لها تسع سنوات ولا يمكن أن توطأ بل لها عشر ولا يمكن أن توطأ، وقد تكون امرأة أخرى لها سبع سنوات ويمكن أن توطأ, فإنّ هذا الأمر يرجع إلى طبيعة المرأة وطبيعة جسد المرأة, وما يتعلق بهذه الأمور, وهذا القول الثاني وهو أنه يختلف باختلاف النساء وأنه لا يتحدد بسن هو القول الصحيح إن شاء الله، بناء على هذا إذا عقد على امرأة ولها ثمان سنوات وهذه المرأة جسدها يقبل الوطء ويمكن أن تفهم ما يقع بين الزوج والزوجة من المعاشرة، فإنه يجب على أهل الزوجة أن يسلموها إليه.
    وإذا عقد على امرأة لها عشر سنوات لكنها نضوة الخِلقة , يعني ضعيفة الخلقة لا تتحمل الوطء كما أنها لا تفهم ما يقع بين الزوج والزوجة فإنه والحالة هذه وإن كان لها عشر سنوات فإنه لا يجب أن تسلم إلى الزوج.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه)
    فالوجوب أي وجوب التسليم موقوف على طلب الزوج، وتعليل ذلك أنّ التسليم حق من حقوق الزوج, والحقوق الخاصة تتوقف على الطلب, فإذا لم يطلب ورضي ببقائها عند أهلها فلا حرج في ذلك.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولم تشترط دارها أو بلدها)
    يعني وإن كانت اشترطت الدار أو البلد, فإنه لا يجب أن تسلم بل على الزوج أن يأتي إليها في دارها ويستمتع منها بما يشاء في دارها، ولا يجب على أهل الزوجة أن يخرجوها إلى بيته, لأنها شرطت البقاء في دارها أو في بلدها, ودليل هذا الشرط تقدم معنا مفصلاً ومطولاً أنّ هذا الشرط من الشروط الصحيحة اللازمة, وأنّ الشروط الصحيحة اللازمة يجب على الزوج أن يتقيد بها وإلاّ فللمرأة الحق في الفسخ وهذا الشرط من جملة الشروط الصحيحة اللازمة التي تقدمت معنا في باب الشروط في النكاح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً)
    (5/254)
    ________________________________________
    معنى هذه العبارة يعني إذا طلبت الزوجة أو طلب الزوج المهلة في التسليم والاجتماع, فإنه يجب إجابته لهذه المهلة، على سبيل الوجوب سواء كان الطالب الزوج أو كانت الطالبة الزوجة, وفي الغالب سيكون الطالب من؟ الزوجة. لتستعد لأمر الزواج بما يتطلبه الزواج عادة، الدليل على الوجوب من وجهين:
    الوجه الأول: أنه جرت العادة بالإمهال اليسير لتستعد الزوجة لأمر الزواج, علماً أنّ المقصود بالاستعداد هنا في كلام الفقهاء الاستعداد المتعلق ببدن المرأة أو الزوج, لا الاستعداد المتعلق بالبيت, ولا بالملابس, إنما الاستعداد المتعلق بماذا؟ ببدن المرأة.
    الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (لا تدخلوا على النساء ليلاً حتى تمتشط الشعثى وتستحد المغيبة)، هكذا ضبطوها (المغيبة) وجه الاستدلال من الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلب من الزوج الإمهال مع طول الصحبة فلأنه يجب الإمهال مع بداية الصحبة من باب أولى، وهو استدلال قوي جداً، إذا طلب الزوج أو الزوجة المهلة للاستعداد فإنه يجب وجوباً إنظارهما قدر ما جرت العادة به من الاستعداد، ثم استثنى المؤلف مسألة:
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (لا لعمل جهاز)
    قوله لا لعمل جهاز, النفي هنا نفي للوجوب لا للاستحباب, يعني أنه لا يجب الإنظار لعمل الجهاز لكنه يستحب, والجهاز قد يتعلق بالرجل, بأن يستعد بتأسيس أو تأثيث أو تهيئة المنزل, وقد يتعلق بالمرأة بأن تستعد بأدوات المرأة الخاصة بالزواج الخارجية، كالألبسة وأدوات الزينة وما يتعلق بهذه الأمور، مما تحتاج إليه المرأة عادة قبيل الزواج, فالحنابلة يرون أنّ الإنظار لهذا الأمر لا يجب وإنما يستحب, لأنه لأمر خارج عن ذات الزوج والزوجة.
    لم أقف على قول بالوجوب لكني أقول إن كان أحد من الفقهاء قال بالوجوب في مسألة استعداد في الجهاز فهو قول وجيه جداً وقوي، وهو الراجح بوضوح إن كان قيل به, أنا لم أقف على قائل بالوجوب كما قلت لكن إن كان قيل به فهو قول قوي جداً.
    (5/255)
    ________________________________________
    السبب في ذلك: أنه إذا كنا ننظر الزوجة لبعض الأعمال البسيطة المتعلقة بالبدن, كأن يستعد من حيث الشعر ومن حيث الجسد ... إلخ، كيف لا نمكن الزوج من الاستعداد في أمر مهم وهو مثلا ً البيت الذي يريد هو وهي أن يسكنا فيه، واليوم الناس يعتبرون الاستعداد فيما يتعلق بالبيت أهم وأشق من الاستعداد الخاص بنفس الزوج، فإذا كان الحنابلة يرون أنّ الإنظار لاستعداد الخاص بالزوج واجب فهذا الإنظار واجب من باب أولى، فيما يظهر لي. كذلك ما يتعلق بالزوجة، فإنه لا تكاد المرأة تجرأ على الدخول على الزوج وتستصيغ ذلك إلاّ بعد الاستعداد الكامل بحسب الأعراف كل بلد له عرفه في الاستعداد, لكن البلدان جميعاً يتفقون على هذا المقدار المشترك وهو الاستعداد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط)
    تقدم معنا أنّ الحرة يجب أن تسلم في جميع الزمان, أما الأمة فإنه تسلم ليلاً فقط, ذكر الفقهاء تعليلاً لذلك, وهو أنّ السيد يملك من الأمة الخدمة والاستمتاع, فإذا انتقل الاستمتاع إلى الزوج, بقيت الخدمة حق من حقوق السيد, ولهذا نقول هي له بالنهار للخدمة فقط ولزوجها بالليل للاستمتاع، ولكن لماذا جعلوا الليل للزوج, والنهار للسيد، ولماذا لم يعكسوا لأنّ الخدمة يمكن أن تكون بالليل ويمكن أن تكون بالنهار؟ عللوا هذا بأنّ الخدمة جرت العادة بأن تكون في النهار, وطلب المعاش غالباً يكون بالنهار, وجرت العادة أنّ الاستمتاع يكون في الليل, ولهذا جعلوا حق الزوج في الليل وحق السيد في النهار، وهذا صحيح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويباشرها ما لم يضر أو يشغلها عن فرض)
    أفادنا المؤلف بهذه العبارة أنّ للزوجّ الحق في الاستمتاع بالزوجة في كل زمان وفي كل مكان وبأي كيفية شاء, إلاّ ما سيذكره المؤلف من الاستمتاع المحرم, إذا أفادنا أنّ له أن يستمتع منها كيفما شاء زماناً ومكاناً وكيفية.
    (5/256)
    ________________________________________
    واستدلوا على هذا بالحديث المتقدم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (ذكر أنّ المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه ولم تأتي وبات وهو غضبان عليها لعنتها الملائكة إلى تصبح). وكذلك في الحديث الحسن إن شاء الله أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال إذا دعى أحدكم زوجته فلتجب ولو كانت على تنور) مع أنّ ترك التنور في هذه الحالة يؤدي إلى فساد المال وفساد المال منهي عنه ومع ذلك أباح لها الشارع أن تترك الخبز الذي في التنور أو أي طعام كان ولو أدى ذلك إلى فساده, وهذا من الأدلة الواضحة على الوجوب, كذلك جاء في الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر الزوجة أن تجب زوجها ولو كانت على ظهر جمل)، ففي حديث التنور من جهة الزمان وفي حديث الجمل من جهة المكان, إذا يجب على الزوجة أن تستجيب لرغبة الزوج في كل الظروف والأماكن والكيفيات, إلاّ التي استثناها الشارع كما سينص عليه المؤلف.
    أفادنا المؤلف بعموم عبارته, أنّ للزوج أن يستمتع من زوجته بالجماع ولو تعددت المرات بلا حدّ ولا عدد, ولكن هذا الحكم والحكم السابق مشروط بشرطين:
    الشرط الأول: أن لا تؤدي كثرة الجماع إلى الإضرار بالزوجة.
    الشرط الثاني: أن لا يؤدي ذلك إلى تفويت الزوجة فرضاً من فروض الله.
    بشرط أن لا يضرها ولم يفوتها فرضاً من الفروض، فإنّ له أن يجامع عدد المرات التي يشاء بلا حدّ، واستنبط الحنابلة هذا الحكم من النصوص العامة, فإنّ النصوص عامة متى دعاها دخلت في الحديث ولو كثرت هذه المرات.
    وأما الشرطان اللذان ذكرهما المؤلف, وهو عدم الإضرار وأن لا تفوّت فرضاً, فدليلهما واضح.
    فالدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ضرر ولا ضرار)
    والدليل الثاني: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
    القول الثاني: يتعلق بمسألة عدد المرات التي للزوج أن يجامع فيها الزوجة، القول الثاني أنّ الزوج إذا جامع بكثرة فإنّ للزوجة أن تصالحه عن عدد الجماع بما يتفق عليه, فلها أن تقول لك في اليوم كذا مرة والزائد تدفع مقابله عوضاً, فيكون صلح عن بعض عدد الجماع. الدليل استدلوا بدليلين:
    (5/257)
    ________________________________________
    الأول: أنّ امرأة في عهد ابن الزبير اشتكت كثرة الجماع من زوجها, فحكم عليها بست في النهار وست في الليل.
    الدليل الثاني: أنّ أنس سئل عن امرأة جامعها زوجها بكثرة فحكم بأربعة في الليل والنهار.
    قالوا فهذان الصحابيان قيدوا بعدد محدد، والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة , وهو أنه لا يتقيد بقيد ولا يحدّ بعدد.
    وأما الجواب عن الآثار فمن وجهين:
    الوجه الأول: البحث في ثبوت هذه الفتاوى، فإن ثبتت فإنّ هذه الفتاوى تحمل على وقوع الضرر من كثرة الجماع، ونحن نتفق، والجماهير يرون ذلك أنه إذا كان هناك ضرر فإنه يجب أن يحد عدد الجماع إلى العدد الذي لا يكون معه ضرر على الزوجة.
    إذا نجيب على الآثار بأنها تحمل هذه الآثار على وجود ضرر على الزوجة, أما في الحقيقة إذا كان الزوج يجامع بكثرة ولا يوجد ضرر على الزوجة إلاّ أنه سئمت من كثرة الجماع بلا ضرر يقع عليها, فيظهر لي أنّ مذهب الحنابلة في هذه المسألة أقوى.
    سبب الترجيح: أنّ النصوص التي اعتنت بهذا الأمر التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريحة بأنّ هذا حق من حقوق الزوج ولم يأتي في النصوص ما يقيّد هذا الحق ونحن نفترض ونفرض المسألة مع وجود ضرر على الزوجة، حينئذ الأقرب والله أعلم مذهب الحنابلة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وله السفر بالحرة ما لم تشترط ضده)
    يعني أنّ للزوج أن يسافر بزوجته, وأنه يجب عليها الطاعة إذا طلب منها أن تسافر معه, إلاّ إذا كانت اشترطت عليه ألاّ تخرج من بلدها فإن كانت اشترطت هذا الشرط, فهو شرط صحيح لازم, وإن لم تكن اشترطت فإنه يجب عليها أن تسافر مع زوجها.
    الدليل على هذا: أنّ الزوج له حق الاستمتاع بالزوجة في كل الأوقات ومن ذلك الأوقات في السفر, ولم يتمكن من الاستمتاع إلاّ إذا سافرت معه، وهذا صحيح وهو أنه يجب على المرأة أن تطيع الزوج إذا أراد أن يسافر, لكن يشترط لوجوب الطاعة أن يسافر إلى بلد مأمون في الطريق وبعد الوصول, فإن كان الطريق إلى البلد غير مأمون أو كانت البلد غير مأمونة فإنه لا يجب على الزوجة أن تسافر, فإذا أراد أن يصحبها إلى بلد فيه حرب أو فيه وباء أو فيه كوارث طبيعية فإنه لا يجب عليها أن تسافر معه.
    (5/258)
    ________________________________________
    كذلك إذا أراد أن يصحبها في طريق مخوف لا يأمن معه الإنسان على نفسه, فإنه لا يجب عليها أن تسافر معه.
    هل من ذلك إذا أراد أن يسافر في طيران يكثر سقوط الطائرات فيه؟ أو في سفن يكثر الغرق فيها؟ أو ليس من ذلك؟
    إذا كانت هذه الخطوط معروفة بأنّ طائراتها كثيرة السقوط, أو هذه السفن كثيرة الغرق, فإنه لا يجب أن تسافر، لكن ما يظهر لي أنا أنه في خطوط معروفة أنها كثيرة السقوط، يعني هذا نادر, وكذلك لا يظهر لي أنه يوجد مجموعة من السفن معروفة بكثرة الغرق.
    فإنّ هذه الكوارث الكبيرة لا يمكن أن تتكرر بكثرة, لكن من ذلك أن يسافر بها مع سائق معروف بالتهور, حينئذ لها أن تمتنع، ولو كان هذا السائق قريب، المهم القاعدة العامة إذا كان هناك ضرر فإنه لا يجب أن تسافر معه.
    قال رحمه الله في بداية الكلام عن الممنوعات من الوطء بعد أن قرر القاعدة العامة أنه له أن يباشر كيفما شاء أراد أن يبيّن الممنوعات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويحرم وطؤها في الحيض والدبر)
    تحريم الوطء في الحيض دلّ عليه النص والإجماع.
    قال تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة/189] فوطء المرأة أثناء الحيض محرم بالإجماع والنص ولا إشكال فيه لم يختلف فيه أهل العلم ولله الحمد, ويستوي في هذا أول نزول الحيض وأوسط نزول الحيض وآخره إذا خفّ ويلتحق به الصفرة والكدرة إذا اعتبرناها حيضاً, ففي كل هذه المراحل لا يجوز للإنسان أن يطأ زوجته.
    وتقدم معنا هذا في كتاب الحيض.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والدبر)
    ولا يجوز أن يطأ في الدبر, ذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وعامة علماء الأمة، إلى أنّ الوطء في الدبر محرم وهو من الكبائر وجاء فيه من النصوص أكثر مما جاء في الحيض عند من يصحح هذه النصوص, استدل الجماهير بأدلة:
    الأول: قوله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة/223] وقد فسر الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنه - الآية بأنّ المقصود بالحرث موضع الولد, وهو صريح جداً, وجه الاستدلال من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى إنما أباح وطء المرأة في موضع الولد، هذا الدليل الأول.
    (5/259)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: مجموعة كبيرة من الأحاديث الدالة على تحريم الوطء في الدبر, منها قوله - صلى الله عليه وسلم - (ملعون من أتى امرأته في دبرها) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا تأتوا النساء في أعجازهن) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنّ الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن)، هذه النصوص أولاً جميعا لا تخلو من ضعف، كل واحد منها في اسناده ضعف لا يسلم منها حديث، لكن كثيراً من المتأخرين يصحح هذه الأحاديث معتمداً على ثلاثة أمور:
    الأول: أنه جاءت من طرق متعددة.
    الثاني: أنها توافق ظاهر القرآن.
    الثالث: أنها توافق فتاوى الصحابة.
    لكن مع ذلك ذهب كثير من الأئمة, إلى أنه لا يثبت في هذا الباب حديث صحيح, من هؤلاء الإمام البخاري، ومن هؤلاء النسائي، ومن هؤلاء الإمام ابن المنذر، نحو خمسة من الأئمة , على رأسهم البخاري والنسائي.
    الأقرب والله أعلم أنه لا يثبت في الباب حديث صحيح، لأنّ هذه الأحاديث من الضعف بحيث لا يقوي بعضها بعضاً.
    الدليل الثالث: صح عن الصحابة تحريم وطء المرأة في الدبر.
    إذا الدليل الأول: الآية، والدليل الثاني: الأحاديث، وعلمتم كيف شأن هذه الأحاديث من حيث الثبوت وعدمه، والدليل الثالث: الآثار.
    القول الثاني: أنّ وطء المرأة في الدبر جائز, وهو مروي عن اثنين الإمام مالك وقبله ابن عمر وبعضهم يرويه وينسبه للإمام الشافعي والصحيح أنّ هذا القول لا يثبت عن مالك ولا ابن عمر ولا عن الشافعي.
    نبدأ بالأهم وهو ابن عمر - رضي الله عنه - روي عنه ما يوهم جواز وطء المرأة في الدبر. وعن هذه الفتوى أجوبة عن الفتوى المنقولة عن ابن عمر أجوبة:
    الجواب الأول: أنّ مقصود ابن عمر بجواز وطء الدبر يعني الوطء في القبل من جهة الدبر. الوطء يكون في القبل لكن أتاها من جهة الدبر، وهذا تفسير أحد كبار تلاميذ ابن عمر وهو نافع, فإنه قال أنّ مقصود ابن عمر هذا وصح عنه هذا التفسير.
    الجواب الثاني: أنه إن ثبت عن ابن عمر فهو وهم منه - رضي الله عنه - وممن ذهب إلى أنّ هذا وهم وصح عنه ابن عباس فإنه قال وهم ابن عمر.
    (5/260)
    ________________________________________
    الجواب الثالث: أنه صح عن ابن عمر بإسناد كالشمس أنه يرى تحريم الوطء في الدبر، بل روي عنه اللعن فقال لعن الله من أتى امرأته في دبرها، وكما ترى كل واحد من الأجوبة الثلاث كافي في إبطال الاستدلال بأثر ابن عمر.
    أما مالك فإنه سئل فيما ينسب إليه من جواز الوطء في الدبر فقال معاذ الله.
    وأما الشافعي فإنه لم يثبت عنه، ولهذا أقول إن شاء الله الراجح بلا تردد ولا إشكال بإذن الله أنّ الوطء في الدبر محرم وهو من الكبائر بل قال شيخ الإسلام - رحمه الله - الوطء في الدبر للزوجة من اللواط, وقال ابن القيم - رحمه الله - لم يبح وطء الدبر على لسان نبي من الأنبياء.
    كما أنه يضاف لهذه الأدلة أنّ وطء الدبر يترتب عليه آثار وخيمة جداً وأمراض تلحق بالزوج بالدرجة الأولى، وبالزوجة بالدرجة الثانية ويظهر لي والله أعلم أنّ القول بالجواز شاذ وغير معتبر، وأنه ينافي الفطرة لاسيما وأنّ الآية صريحة أنّ جواز الوطء إنما هو في محل الولد وأما ما تمسك به الذين يقولون بجواز الوطء بالدبر وهو الآيات العامة، فقالوا نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، هذا عام ونسوا أنّ ابن عباس فسّر الآية بمحل الولد، والاستدلال بالعمومات لا يصلح مع وجود النصوص الخاصة.
    وأنا أقول لو لم يكن في الباب أي نص لكانت الأضرار الطبية التي ثبتت بالتواتر والإجماع كافية في التحريم، كيف وتوجد آثار عن الصحابة صحيحة مسندة كثيرة, أنّ الوطء لا يجوز حتى روي عن ابن عمر اللعن.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وله إجبارها ولو ذمية على غسل حيض)
    يعني ونفاس وإنما تركوا النفاس لأنّ أحكام الحيض والنفاس واحدة المعنى, وتعليل الوجوب أنه لا يمكن أن يستمتع الإنسان من زوجته إلاّ بعد أن تغتسل, ولهذا فإنه يجب عليها أن تغتسل ليتمكن من الاستمتاع الواجب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ونجاسة)
    ويجب على الزوجة أن تغسل النجاسة التي أصابت بدنها أو أصابت ثوبها, لأنّ الزوج لا يتمكن من الاستمتاع مع وجود النجاسات في بدن المرأة، وهذا أمره واضح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وأخذ ما تعافه النفس من شعر وغيره)
    (5/261)
    ________________________________________
    يعني ويجب على الزوجة أن تأخذ ما تعافه نفس الزوج من الشعر ونحوه من الأوساخ التي يندب للزوجة أن تتخلص منها, يجب وجوبا أن تتخلص من الشعور وهذا الوجوب زائد على الوجوب المستفاد بالنصوص من حلق أو أخذ الإبط وحلق شعر العانة فإنّ النصوص دلت على هذا, وهذا وجه آخر للوجوب, وهو إذا طلب الزوج ذلك.
    الدليل: أنّ الاستمتاع لا يتم مع وجود ما تعافه النفس من الزوجة, لا حظ هم يقولون لا يتم, ولم يقولوا لا يوجد لكنه لا يتم بخلاف الحيض فإنّ الاستمتاع لا يوجد, لأنه لا يجوز للزوج أن يجامع زوجته قبل أن تغتسل.
    القول الثاني: أنه لا يجب على المرأة أن تأخذ ما تعافه نفس الزوج من شعر ونحوه, لأنّ هذه الشعور لا تمنع من الوطء.
    والجواب على هذا الاستدلال أنها تمنع كمال الوطء والاستمتاع للزوج واجب على زوجته, وعلى المرأة أن تؤدي الواجب على وجه الكمال لا على وجه النقص, وهذا القول الأول هو الصحيح، ومقتضى تعليل الحنابلة أنه أيضاً يجب على الزوج أن يأخذ ما تعافه الزوجة من شعر ونحوه, لأنّ الاستمتاع كما سيأتينا في آثار الصحابة حق متبادل, وإن كان هو من الحقوق الأولى للزوج بالذات لكنه أيضاً من الحقوق المتبادلة, فيجب على الزوج أن يأخذ ما تعافه نفس الزوجة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة)
    يعني ليس للزوج أن يجبر زوجته على غسل الجنابة إذا كانت ذمية, لأنّ الذمية لا تلزم بفروع الشرع إلاّ بعد الدخول في الإسلام، وهذه المسألة فيها خلاف كالخلاف في المسألة السابقة تماماً من حيث التعليل والدليل والأقوال والراجح.
    فمثلاً الزوج تعاف نفسه الزوجة التي لا تغتسل من الجنابة, ولو كانت ذمية ولهذا نحن نقول الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في المسألة السابقة تماماً، والراجح أنه يجب على الزوجة أن تغتسل من الجنابة لا وجوباً شرعياً أصلياً، وإنما ليتمكن الزوج من استيفاء الحقوق على الوجه الكامل.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع)
    هذا الفصل يقول المؤلف - رحمه الله - فصل وهذا الفصل يريد المؤلف أن يتكلم فيه عن المبيت والقسم وما يتعلق بهما.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (5/262)
    ________________________________________
    (ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع)
    قوله عند الحرة لم يبيّن المؤلف ماذا يجب عليه عند الأمة, فلنذكر الأمة ثم نرجع لتفصيل الحرة لأنّّ المؤلف سيستمر في تفصيل الأحكام المتعلقة بالحرة.
    الأمة يجب على الزوج أن يبيت عندها ليلة من كل سبع ليالي, لأنّ أكثر ما يجمع الإنسان على زوجته الأمة ثلاث حرائر، لكل حرة ليلتان وللأمة كم؟ ليلة واحدة فست للحرائر وواحدة لمن؟ للأمة، فإذا لها ليلة من كل سبع، هذا ما يتعلق بالأمة نرجع إلى تفصيل الحرة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويلزمه ........... وينفرد إن أراد في الباقي)
    المؤلف يريد أن يتحدث عن قسم الابتداء، وقسم الابتداء هو القسم إذا كان له زوجة واحدة, فيجب عليه أن يبيت عندها ليلة من كل أربع وينفرد بالثلاث, هذا مذهب الحنابلة دليلهم: القصة المشهورة التي وقعت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنّ امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه، وأثنت على زوجها خيراً وذكرت من قيامه وصيامه، فأثنى عليها عمر خيراً، وقال لها جزاك الله خيراً فاستحت المرأة فخرجت، فقال كعب بن سوار وكان حاضراً, يا أمير المؤمنين لما لم تعدي المرأة على زوجها, قال وما ذاك؟ قال إنما أتت شاكية، فإنّ زوجها إذا كان يقوم الليل ويصوم النهار ليس لها منه شيء، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عليَّ بزوجها فلما جاء قال لكعب احكم، فقال - رضي الله عنه - إنّ أكثر ما يجمع الحر أربع زوجات، فحكمي أنّ لها ليلة من كل أربع.
    فقال عمر بن الخطاب، إنّ حكمك أعجب من فهمك، ثم قال اذهب فأنت قاضي البصرة.
    هذا الأثر عمدة الحنابلة, فإنّ عمر بن الخطاب حكم بهذا الحكم بعد مداولات في مجلس القضاء مع حضور الصحابة وأطبقوا - رضي الله عنهم - أنّ المرأة الحرة في قسم الابتداء لها ليلة من أربع, وله أينفرد بنفسه في الثلاث الباقية.
    القول الثاني: أنّ هذا القسم يرجع فيه إلى العرف, وهذا القول أضعف الأقوال.
    القول الثالث: أنّ الحكم بما يبيت الزوج من الليالي عند زوجته يختلف باختلاف الأحوال واستدلوا على هذا بأنه ليس من حسن العشرة أن ينفرد الإنسان عن زوجته بلا سبب لمدة ثلاث ليالي، ويبقى معها لمدة ليلة واحدة، وليس له زوجات سواها.
    (5/263)
    ________________________________________
    وأجابوا عن أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأنها فتوى خاصة وحادثة عين.
    وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو أنه يختلف باختلاف الظروف والزوج والزوجة، الراجح أيُّ القولين أرجح هذه المسألة تأملت فيها كثيراً ويظهر لي أنّ الراجح بوضوح جداً مذهب الحنابلة، السبب في ذلك أنه لا يظهر مطلقاً عند تأمل الأثر
    أنّ هذا الأثر فتوى خاصة أو حادثة عين أو تتعلق بفتوى شخصية, لأنّ أمير المؤمنين لا يعرف المرأة ولا الرجل وهي فتوى في مجلس عام، لا يظهر مطلقاً منها أنها فتوى خاصة, ولم يذكر في الأثر أي ملابسات تختص بالمرأة أو بالرجل, ولهذا أنا أرى أنّ اختيار شيخ الإسلام
    في هذه المسألة فيه ضعف وأنّ هذه الفتوى التي بمحضر الصحابة وتكاد تكون إجماع لا يمكن أن ترد بمثل هذه التعليلات.
    نقول إن شاء الله الراجح أنه يجب على الإنسان أن يبقى ليلة من ثلاث في قسم الابتداء.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة)
    الوطء واجب على الزوج وجوباً إذا لم يكن معذوراً بمرض ونحوه, واستدلوا على هذا بأنّ المقصود من عقد النكاح إحصان المرأة، وإعطاءها الحقوق, وهذا لا يكون مع الامتناع عن الوطء.
    الثاني: أنّ ترك لوطء ليس من المعاشرة بالمعروف.
    القول الثاني: أنه لا يجب على الزوج أن يطأ، واستدلوا على هذا بأنّ الوطء حق من حقوق الزوج, فكيف نوجب على الإنسان حق من حقوقه، والراجح أنه يجب عليه أن يطأ لأنّ الوطء حق مشترك وليس حقاً خاصاً بالرجل, بل يجب عليه أن يطأ.
    وسيبيّن المؤلف - رحمه الله - مقدار هذا الوجوب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة)
    كما قلت لما بيّن الوجوب بيّن مقدار هذا الوجوب, فالحنابلة يرون أنه يجب أن يطأ مرة واحدة كل أربع أشهر, واستدلوا على هذا بأدلة: بأنّ الله تعالى حدّ للمولي أربعة أشهر, فدل على أنّ هذا غاية ما ينتظر الإنسان في الوطء.
    القول الثاني: أنّ الوطء يرجع فيه إلى العرف، وهذا أيضاً أضعف الأقوال, لأنه لا يمكن أن نعتبر الأعراف في أمور يختلف فيها الناس.
    (5/264)
    ________________________________________
    القول الثالث: أنه يجب أن يطأ زوجته بما يحصل لها به الكفاية ولو كثر ما لم يضر ببدنه أو بطلبه المعاش، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام، وهو قول قوي جداً, بهذين الشرطين فيجب أن يعف زوجته، وأن يطأها الوطء الذي تحصل به الكفاية بهذين الشرطين:
    1 ـ أن لا يضر ببدنه.
    2 - وأن لا يضر بمعاشه.

    ((انتهى الدرس)).
    (5/265)
    ________________________________________
    الدرس: (15) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن سافر فوق نصفها وطلبت قدومه ... )
    إذا سافر الزوج لعذر وحاجة سقط حقها من القسم والوطء، ولو طال السفر مادام لعذر.
    أما إذا لم يكن له عذر يمنع الرجوع ففي الحكم تفصيل كما يلي:
    إن كانت مدة السفر ستة أشهر فأقل فإنه لا حرج على الزوج ولا يطالب بنفقة ولا وطء، وإن كان أكثر من ستة أشهر فإنه يجب عليه أن يعود متى طلبت الزوجة ذلك.
    إلى هذا ذهب الإمام أحمد, إلى هذا التقسيم والتفريق ذهب الإمام أحمد واستدل على ذلك بالقصة المشهورة التي حدثت في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو أنّ امرأة خرج زوجها للجهاد, وأصابها الضر من طول غيابه, فدخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على ابنته حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وقال كم تصبر المرأة
    على فراق زوجها, فقالت سبحان الله مثلك يسأل مثلي عن هذا؟! فقال أمير المؤمنين إنما أردت صالح المسلمين, فقالت - رضي الله عنها - تصبر المرأة من خمسة أشهر إلى ستة أشهر, فجعله عمر بن الخطاب حداً لغياب الرجل.
    إذاً عرفنا مستند الحنابلة في هذا التقسيم, ثم بيّن المؤلف الحكم فيما إذا زاد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن سافر فوق نصفها)
    يعني فوق نصف ماذا؟ السنة.
    (وطلبت قدومه وقدر لزمه)
    إذا سافر أكثر من ستة أشهر بغير عذر ولا حاجة, فإنه إذا طلبت الزوجة قدومه لزمه وجوباً, والسبب في ذلك أنّ قدوم الزوج في هذه الحالة حق من حقوق المرأة, فلا يجب إلاّ بطلبها.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وقدر لزمه)
    (5/266)
    ________________________________________
    يعني إن طلبت المرأة قدومه , ولم يقدر أن يأتي لعدم أمن الطريق أو لعدم وجود وسيلة النقل أو لأيِّ سبب من الأسباب التي لم يتمكن معها من القدوم, فإنه لا يجب عليه والحالة هذه أن يقدم, لأنه لا يستطيع, ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها.
    إذا عرفنا الآن الحكم فيما إذا سافر الزوج, وتفريق الحنابلة بينما إذا كان ستة أشهر فأقل وبينما إذا كان أكثر من ستة أشهر، وكما تلاحظ الشيخ المؤلف ذكر الحكم فيما إذا كان فوق ستة أشهر، ولم يذكر الحكم فيما إذا كان أقل من ستة أشهر وذكرته لك.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أبى أحَدَهُما فُرّقَ بينهما بطلبها)
    (فإن أبى أحَدَهُما) صحح النسخة التي بين يديك, لأنه الصواب الفتحة، الضمير في أحدَهمُا يرجع إلى القدوم من السفر أو الوطء، يعني إن أبى أن يطأ الوطء الواجب, أو أبى أن يقدم في الصور التي يجب عليه أن يقدم، فإنه يلزمه الحاكم بذلك، وجعلوا الإلزام إلى الحاكم لأنّ هذا الأمر يحتاج إلى اجتهاد وتقدير, تقدم معنا مراراً أنّ كل أمر يحتاج إلى اجتهاد وتقدير فإنه يرجع فيه إلى الحاكم لئلا يقع النزاع، ولهذا عبر المؤلف بقوله (فُرِّق بينهما بطلبها) وقال فُرِّق المقصود به الحاكم، وبطلبها تقدم معنا أنّ السبب أنّ التفريق يكون بطلب الزوجة، لأنه حق من حقوقها, فلا يجب إلاّ بعد الطلب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد)
    يعني يسن للإنسان إذا أراد أن يطأ أن يسمي وأن يقول الوارد, ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله, قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإذا قسم بينهما ولد لم يضره الشيطان)، فهذا الحديث اشتمل على التسمية واشتمل على ذكر الوارد, وهذه السنة واضحة.
    مسألة / هل يختص هذا الدعاء بالرجل, وقع بين الفقهاء خلاف، فمن العلماء من قال هذا الذكر خاص بالرجل عند إرادة الجماع دون المرأة لقوله - صلى الله عليه وسلم - (لو أنّ أحدكم).
    (5/267)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنّ هذا الذكر لا يختص بالزوج بل يشمل الزوج والزوجة الرجل والمرأة, وعلل أصحاب هذا القول قولهم بأنّ الأذكار الواردة في السنة سواء كانت أذكار صباح ومساء أو طبعاً شراب أو مبيت قد تذكر بلفظ التذكير ولا يعني هذا تخصيص الرجل بها دون المرأة, فكذلك هذا الحديث, وإن خرج مخاطباً به الرجل فإنه لا يعني أنه لا يتناول المرأة, وإلى هذا القول ذهب المرداوي - رحمه الله - ورجح أنه لا يختص بالرجل وهو الصحيح إن شاء الله.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويكره كثرة الكلام , والنزع قبل فراغها)
    من قول الشيخ (وتسن التسمية ..... ) بدأ بذكر آداب الجماع, والآداب تشتمل المسنونات والمكروهات، فإنّ تجنب المكروهات من جملة آداب الجماع، فأخذنا الأدب الأول وهو التسمية مع الذكر.
    ثم بدأ بالمكروهات فقال (ويكره كثرة الكلام ......... ) يكره للرجل وللمرأة أثناء الجماع أن يكثرا من الكلام, واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلّمن أحدكم في الجماع فإنّ منه يكون الخرس والفأفأة) فدل هذا الحديث على كراهية الكلام أثناء الجماع, وهذا الحديث ضعيف, والمكروه عند الحنابلة كما تلاحظ في كلام المؤلف كثرة الكلام, أما الكلام بلا كثرة فليس بمكروه, والأقرب والله أعلم أنّ الكلام أثناء الجماع ينقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: مباح وهو أن يتكلم بكلام ليس له علاقة بأمر الجماع.
    القسم الثاني: مستحب وهو أن يتكلم بكلام يحقق المقصود من الجماع, وهو كمال الاستمتاع كما قال الفقهاء، وعلم من هذا التقسيم أنّ القول بالكراهة ليس بصحيح إذ لا دليل يدل على الكراهة مطلقاً, لكن نقول إما أن يكون مباحاً أو أن يكون مستحباً على ما تقدم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والنزع قبل فراغها)
    يعني ويكره للزوج إذا جامع زوجته أن ينزع قبل فراغها, والمقصود بالنزع أن ينتهي من الجماع قبل فراغ زوجته من حاجتها, فهذا العمل مكروه, والدليل على الكراهة من وجهين:
    الوجه الأول: قوله تعالى {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] وهذا ليس من العشرة بالمعروف.
    الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا قضى أحدكم حاجته فلا يعجل حتى تقضي حاجتها) هذا الحديث فيه ضعف.
    (5/268)
    ________________________________________
    لكن في الحقيقة هو صحيح المعنى ويتوافق مع الآية ويتوافق مع قواعد الشرع، فنقول إنّ نزع الرجل قبل أن تقضي الزوجة حاجتها من الجماع مكروه لهذه النصوص, وذهب بعض الفقهاء إلى أنه محرم, والذي ذهب إلى أنه محرم هو شيخنا - رحمه الله - فإن كان سبق بالقول إلى التحريم فهو قول وجيه جداً، وإن لم يسبق فيكون الراجح الكراهة فقط.
    والسبب في أنّ قول التحريم قوي إن كان قيل به, أنّ نزع الرجل قبل أن تقضي الزوجة حاجتها، مُضِر جداً بالزوجة وقد يكون له آثار سلبية أكثر من لو لم يجامع أصلاً, وهذا الأمر مضادة للمقصود الشرعي من الجماع, وإذا كان الجماع كما تقدم معنا واجباً في الشرع فإنّ ما يضاد هذا الواجب ويؤدي إلى عكس النتيجة القول بتحريمه وجيه جداً، وعلى كل حال المهم أنّ نزع الرجل قبل أن تقضي زوجته حاجتها يدور بين الكراهة والتحريم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والوطء بمرأى أحد)
    يعني ويكره أن يطأ بمرأى أحد من الناس, ويلتحق بالوطء بمرأى أحد التقبيل والمباشرة والضم ونحوها, فهذه الأمور مكروهة بمرأى أحد، تعليل الكراهة: أنّ قيام الزوج بهذا العمل بمرأى أحد هو من الدناءة التي ينبغي أن يترفع عنها المسلم.
    ومقصود الحنابلة بمرأى أحد يعني مع ستر العورة, أما مع انكشاف العورة فمحرم كما تقدم معنا في شروط الصلاة في الشرط المتعلق بوجوب ستر العورة، فمقصود الحنابلة هنا يعني مع ستر العورة فإذا استتر الزوجان وجامعها بمرأى من الناس فإنّ هذا مكروه، كما تسمع وهو في الحقيقة كما قال الحنابلة من الدناءة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والتحدث به)
    يعني ويكره أن يتحدث الزوج بما صنع مع زوجته, أو تتحدث الزوجة بما صنعت مع زوجها في الجماع.
    (5/269)
    ________________________________________
    دليل الكراهة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر يوماً ثم قال للرجال (لعل بعضكم يتحدث بما يكون بينه وبين أهله (، فسكت الرجال، فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النساء فقال: (لعل إحداكن تتحدث بما يكون بينها وبين زوجها) فسكت النساء, ثم قامت امرأة وقالت يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تفعلوا فإنّ مثل ذلك كمثل الشيطان لقي شيطانة فجامعها في الطريق والناس ينظرون)، فهذا الدليل الصحيح دليل على كراهية أن يتحدث الزوج والزوجة بما يجري بينهم.
    الدليل الثاني: ما جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عدّ من يتحدث بما يكون بينه وبين أهله من شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
    القول الثاني: أنّ التحدث به محرم, واستدل هؤلاء بأنّ الأدلة التي استدل بها الذين قالوا بالكراهة تدل على التحريم لا الكراهة، وهذا صحيح واضح جداً, لأنّ جماع الشيطان والشيطانة في الطريق الممثل به محرم، كما أنّّ الفعل الذي يؤدي إلى أن يكون الإنسان
    من شرار الخلق عند الله يوم القيامة لا شك أنّ هذا محرم, وهو مؤكد بثلاثة:
    الأول: أنه من شرار الخلق. ... الثاني: عند الله وهو مذكور في الحديث. ... الثالث: يوم القيامة.
    فهو من شرار الخلق، ويوم القيامة عند الله، على كل حال القول بالتحريم هو الصحيح وهو الذي تدل عليه هذه النصوص الصحيحة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويحرم جمع زوجتيه في مسكن واحد)
    المسكن: تعريفه هي الغرفة المسقوفة التي لها دهليز، هذا تعريفه في اللغة.
    وأما تعريف البيت فهو كتعريف المسكن تماماً، البيت والمسكن واحد.
    المصطلح الثالث الدار وهي ما تشتمل على عدة مساكن, يعني على عدة غرف, فالدار فيها عدة مساكن أو عدة بيوت.
    المؤلف يقول لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجتيه في مسكن واحد، يعني في غرفة واحدة, ولو كانت الغرفة كبيرة جداً، والسبب في ذلك أنّ جمعهما يؤدي إلى وقوع الزوجتين في المحظور بسبب الغيرة والتنافس, كما أنّ في جمعهما في غرفة واحدة إضرار عظيم وظاهر
    بالزوجتين، لأنّ وجود الضرة معها في نفس الغرفة يؤدي إلى الغيرة من أيّ تصرف يكون من الزوج وهذا إضرار بهما.
    (5/270)
    ________________________________________
    وما ذكره المؤلف من أنّ هذا محرم صحيح, مع القدرة في أن يسكنهما في أكثر من غرفة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (بغير رضاهما)
    أما برضاهما فلا بأس، فإذا رضيت الزوجتان في السكن في غرفة واحدة فلا حرج، لأنّ الحق لهما, فإذا تنازلا عن حقهما فلا بأس، فإذا سكنت الزوجتان في غرفة واحدة, في مسكن واحد أو في بيت واحد, فهل يجوز أن يبيت هو مع الزوجتين في فراش واحد؟
    الجواب: يجوز أن يبيت في فراش واحد برضاهما أيضاً، إذا رضيت الزوجتان له أن ينام بينهما في فراش واحد.
    وهل يجوز أن يكون اللحاف واحد. أو يشترط أن ينام بينهما وكل منهما له لحافه.
    الجواب: يجوز برضاهما أن يكونوا في لحاف واحد, فإذا مع رضا الزوجتين يجوز أن يسكن في غرفة واحدة وينام في فراش واحد ويتغطى بلحاف واحد.
    مسألة / وهل يجوز أن يجامع إحداهما بوجود الأخرى؟
    الجواب: لا يجوز أن يجامع إحداهما بوجود الأخرى, ولو مع الرضا, هنا لا نقول برضاهما ولا بغير رضاهما, لا يجوز ولو مع الرضا.
    لأنّ هذا فيه مضرة ظاهرة على الزوجة التي لم تجامع, ولو رضيت كما أنّ في هذا دناءة في الحقيقة، لا يجوز أبداً وإن كانت زوجته أن يجامعها بوجود الزوجة الأخرى.
    علم من هذا التقسيم, أنّ وضع الزوج إحدى الزوجتين في طابق والأخرى في طابق آخر جائز عند الفقهاء بل وضع كل واحدة في غرفة في بيت واحد في دور واحد جائز عند الفقهاء, بشرط أن يكون هذا مسكن مثلها كما سيأتينا في باب النفقات.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وله منعها من الخروج من منزله)
    للزوج أن يمنع زوجته من الخروج من المنزل, فهذا حق من حقوق الزوج, بل هو من أعظم حقوق الزوج بعد حق الاستمتاع، وعموم كلام المؤلف يشمل ما لو منعها من زيارة والديها, ولو كانا مريضين, وهذا صحيح, لأنّ حق الزوج بالنسبة للمرأة مقدم على حق الوالدين، الدليل على هذا من عدة أوجه أو نصوص:
    النص الأول: قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء/75] وقد فسر بعض السلف هذه الآية, أي أمرهم نافذ عليهم.
    الدليل الثاني: قوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة/228] وهذه الدرجة تشمل الطاعة.
    (5/271)
    ________________________________________
    الدليل الثالث: وهو في الحقيقة نص في المسألة: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا استأذنت أحدكم زوجته إلى المسجد فلا يمنعها)، فإنّ صريح مفهوم الحديث, أنها إذا استأذنت إلى غير المسجد فله أن يمنعها.
    الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد, لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)، وهذا الحديث إسناده إن شاء الله حسن، وكما ترى النصوص، وعدم الخروج إلاّ بإذن الزوج نصوص ظاهرة جداً وكثيرة، وسيأتينا في النصوص أنّ هذا من أعظم الحقوق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويستحب إذِنُهُ أن تُمَرِّض محرمها)
    ويستحب يعني للزوج أن يأذن لها في تمريض محارمها, والدليل على أنّ هذا مستحب قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] فإنّ هذا من العشرة بالمعروف.
    والدليل الثاني: أنّ في الإذن في تمريض محارمها, إعانة على صلة الرحم، وصلة الرحم مندوبة والإعانة عليها مندوبة، إذا يستحب له ويتأكد في حقه أن يأذن بالتمريض.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وتشهد جنازته)
    يعني ويستحب له أن يأذن لها بأن تشهد جنازة محارمها, وفي استحباب هذا الأمر نظر, بأنّ المرأة منهي عنها إتباع الجنائز.
    فنقول للزوج ينبغي أن تمنعها لأنّ في منع الزوج من إتباع زوجته للجنازة تحقيق لرغبة الشارع فنقول لا ينبغي الإذن لها في إتباع الجنازة، لكن قول المؤلف - رحمه الله - (ويستحب بإذنه أن تمرض محارمها)، لا يظهر لي أنّ مقصود المؤلف حصر الاستحباب على تمريض المحارم بل حتى الزيارة التي هي من صلة الرحم، أو زيارة الوالدين، أو الأخوات التي تكون ضمن النطاق المشروع يستحب له أن يأذن لها، لأنّ هذا من صلة الرحم, ولعل المؤلف مثّل بالتمريض
    لأنّ الاستحباب فيه ظاهر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وله منعها من إجارة نفسها)
    (5/272)
    ________________________________________
    وله منعها من إجارة نفسها, بلا نزاع وتعليل ذلك أنها إذا أجرت نفسها فقد منعته من الاستمتاع في زمن الإيجار, ونحن قلنا أنّ الاستمتاع حق من حقوق الزوج في كل الأوقات, فإذا أجرت نفسها فقد منعته من هذا الحق, وعموم عبارة المؤلف يشمل إجارة الأعمال وإجارة الزمان, يعني يشمل ما إذا استأجرت في عمل معيّن أو استأجرت في زمن معيّن, وهذا صحيح فإنه يشمل الأمرين، لكن ذكرنا في باب الإجارة, لما تحدث المؤلف عن هذه المسألة وهي أنه يشترط في استئجار الزوجة إذن الزوج, قلت هناك أنه إذا عملت المرأة في البيت عملاً لا يضر الزوج فإنه ليس له حق في المنع, لأن هذا العمل لا يضره, وهذا صحيح وهنا نقول صحيح أنّ العمل داخل البيت الذي لا يضر الزوج ليس له حق في المنع, لكن إذا زعم الزوج أنّ عمل المرأة في البيت يقضي عليه أوقات طويلة ويشغل الزوجة عن أن تستعد له وأن تقوم بحاجته على الوجه الكامل فله حق في المنع, إنما يتصور عدم الحق في المنع فيما إذا كانت تعمل عملا ً محدوداً داخل البيت، ولا يضر هذا بحقوق الزوج أبداً, هنا نقول ليس للزوج الحق في منع زوجته من العمل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومن إرضاع ولدها من غيره إلاَّ لضرورته)
    وله الحق في منع زوجته من إرضاع ولدها من غيره, ولو كان ولدها فله المنع من إرضاعها, والسبب في هذا أنّ زمن الإرضاع حق من حقوق الزوج وهي إذا أرضعت الطفل فإنها تمنع الزوج من حق الاستمتاع في مدة الإرضاع، وهذا صحيح لأنّ الزوج له حق الاستمتاع في كل الزمن, ومفهوم عبارة المؤلف يستثني ما إذا كان الولد لها منه, فحينئذ ليس له أن يمنعها, لعموم قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة/233] وهذه الآية وإن كان لفظها خبر إلاّ أنها بمعنى الأمر يعني المقصود من الخبر الأمر، فليس له أن يمنعها من إرضاع ولدها إذا كان منه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إلاّ لضرورته)
    هذا الاستثناء يرجع إلى ولدها من غيره, فإذا كان الولد من غيره بلغ إلى مرحلة الضرورة بحيث لم يقبل أن يشرب الحليب إلاّ من أمه أو لم توجد امرأة يمكن لأهل الولد أن يستأجروها له حينئذ يجوز لها أن ترضعه, وليس للزوج الحق في منعها ولا ينظر في منعه.
    (5/273)
    ________________________________________
    لأنه وصل حال الطفل إلى حدّ الضرورة, بقينا في مسألة وهي أنه وإن كان للزوج الحق في منعها من إرضاع ولدها من غيره إلاّ أن هذا مكروه, أقل أحواله أنه مكروه لأنه يتنافى تماماً مع العشرة بالمعروف, لأنّ منعه زوجته من إرضاع ابنها ولو كان من غيره ليس من المعاشرة بالمعروف، لما يعلم من رغبة الأم لابنها ورغبة الابن لأمه وحاجته إليها في مثل هذا السن وهو سن الرضاعة , فلا شك أنّ أقل أحواله الكراهة, بهذا انتهينا من فصل وننتقل لفصل متعلق بالقسم.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم , لا في الوطء)
    المؤلف يريد من هذا الفصل أن يبيّن أحكام القسم بين الزوجات, وصدر الشيخ الباب بقوله وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، المساواة بين الزوجات في القسم دلت عليه النصوص بشكل واضح وهو أصل المسائل في الباب، والدليل على وجوب القسم من وجوه:
    الوجه الأول: قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء/19] وهذا ليس من العشرة بالمعروف.
    الثاني: قوله تعالى: {فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء/129]
    الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - (من كان له زوجتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل).
    الدليل الرابع: الإجماع، فإنه لا يحفظ أنّ أحداً خالف في وجوب العدل في القسم, فإذا القسم من الأمور المهمة ومن الظلم البيّن الإخلال به، وهذه نصوص تشهد بالوجوب بوضوح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (لا في الوطء)
    يعني لا يجب عليه أن يعدل في الوطء, فهو يجب عليه أن يبيت عندها, أما الوطء فلا يجب عليه أن يعدل فيه, فله أن يطأ إحداهما أكثر من الأخرى, والدليل على هذا من وجهين: الأول: الإجماع، فإنهم أجمعوا على أنه لا يجب عليه أن يعدل في الوطء.
    الثاني: وهو تعليل وجيه, أنّ الوطء سببه الشهوة والميل وهذا الأمر خارج عن تصرف الرجل, فالشهوة والميل أمر نفساني لا يمكن للزوج أن يتحكم فيهما, وإذا أمرناه بالعدل في الوطء فقد ألزمناه بما لا يستطيع.
    (5/274)
    ________________________________________
    مسألة / قال الإمام أحمد - رحمه الله - لكن لا ينبغي للزوج أن يجمع نفسه لإحدى زوجتيه, معنى هذا الكلام لا ينبغي للإنسان إذا كان له زوجتان أن يوفر نفسه في الجماع إلى أن يأتي إلى من يريد ثم يجامع قصداً هذا لا ينبغي، وتلاحظ من كلام الإمام أحمد.
    أنّ هذا ليس بمحرم لكنه لا ينبغي, والمسألة مفروضة فيما إذا أعطى إحدى زوجتيه حقها من الجماع, فإذا أعطاها الحق الواجب العدل فيما زاد عن الواجب لا يجب, لكن يقول الإمام أحمد لا ينبغي أن يجمع نفسه لإحدى زوجتيه, لأنّ هذا ليس من مكارم الأخلاق، وليس من العشرة بالمعروف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعماده الليل لمن معاشه النهار)
    الضمير يرجع إلى القسم, وكون الليل عماد القسم بلا خلاف بين الفقهاء, والسبب في ذلك أنّ الليل هو وقت السكن والرجوع والنوم، فيجب عليه أن يعدل فيه, وأما النهار فهو وقت طلب المعاش، والمؤلف بيّن حكم الليل وأما النهار فهو تبع لليل في وجوب العدل، والدليل على أنّ النهار تبع لليل في وجوب العدل أنّ عائشة - رضي الله عنها - قالت توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يومي, ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ضحى يعني في النهار مع ذلك اعتبرت وفاته في يومها - رضي الله عنها - فدل هذا على أنّ اليوم تبع لليل في القسم.
    مسألة / هل يجعل اليوم السابق لليل أو اليوم اللاحق لليل هو التابع للمقسوم لها؟
    نحن قلنا الآن يجب أن يقسم وأنّ القسم يكون في الليل، فهل يجعل اليوم السابق أو اللاحق؟ الجواب له أن يجعل السابق أو اللاحق إن شاء جعل اليوم السابق لليل وإن شاء جعل اليوم اللاحق لليل, وتعليل ذلك أنّ له أن يتقدم أو يتأخر, أنّ العدل لا يختل بذلك
    هي لها ليلة ويوم, يعني ليل ونهار سواء كان هذا النهار قبل أو بعد يتحقق المقصود بهذا أو هذا.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والعكس بالعكس)
    لمن كان معاشه بالليل، فعماد القسم يكون بالنهار، وتنقلب الأحكام تماماً إذا كان معاشه بالليل, كمن يكون دوامه ليلاً في وقتنا هذا فعماد القسم النهار بالنسبة له لأنه وقت السكن والنوم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويقسم لحائض , ونفساء , ومريضة , ومعيبة , ومجنونة , مأمونة وغيرها)
    (5/275)
    ________________________________________
    يقصد بغيرها كالتي آلى منها أو ظاهر أو المحرمة بالحج أو المحرمة بالعمرة، ما هو مقصود المؤلف في هذا الكلام، مقصود المؤلف أنه يجب عليه أن يقسم للزوجة وإن كان لا يمكن أن توطأ في هذا الوقت، لأي سبب من الأسباب التي ذكرها، إذا هذا هو ضابط هذه المسائل
    أنه يجب عليه أن يقسم لزوجته وإن كانت لا يوطأ مثلها لعارض في هذا الوقت، تعليل وجوب القسم وإن لم يمكن الوطء أنّ المقصود من القسم بالإضافة إلى الوطء ما يحصل من الإستئناس والسكينة لوجود الزوج وقربه من زوجته وهذا يحصل بالنوم ولو لم يوجد وطء،
    ووجوب القسم لمن لم يمكن أن توطأ محل إجماع فيجب عليه أن يبات عندها وإن لم يتمكن من الوطء لحيض أو إحرام أو نفاس أو غيرها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن سافرت بلا إذنه, أو بإذنه في حاجتها, أو أبت السفر معه, أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة)
    ذكر المؤلف أربعة مسائل:
    المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه. ... المسألة الثانية: إن سافرت بإذنه في حاجتها.
    الثالثة: إذا أبت السفر معه. ... الرابعة: إذا أبت المبيت عنده في فراشه.
    نحن سنتكلم عن ثلاث مسائل من هذه المسائل الأربعة, وهي المسألة الأولى والثالثة والرابعة. ثم نتكلم بكلام آخر عن المسألة الثانية وهي ما إذا سافرت بإذنه في حاجتها، المؤلف جمع بين هذه المسائل والواقع أنّ الأحكام تختلف، نأتي إلى المسائل الثلاث الأولى وهي:
    سافرت بلا إذنه، أو أبت السفر معه، أو أبت المبيت عنده في فراشه, إذا فعلت ذلك فلا قسم لها ولا نفقة.
    أما من جهة القسم فلا قسم لها بالإجماع, في هذه المسائل الثلاث, لأنها بعصيانها فوتت على نفسها حق القسم, لأنها سافرت بلا إذنه أو أبت المبيت عنده.
    وأما النفقة ففيه خلاف, وليس محل إجماع كالقسم, والصحيح في النفقة أنه لا نفقة لها أيضاً, وهذا هو الصحيح من المذهب.
    وهو الصحيح من حيث الدليل, وستأتي هذه المسألة في كتاب النفقات، لكن نقول الصحيح إن شاء الله أنه لا نفقة لها في هذه المسائل الثلاث يعني إذا سافرت بلا إذنه, أو أبت السفر معه أو أبت المبيت عنده في فراشه، فلا قسم ولا نفقة, إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ القسم محل إجماع والنفقة محل خلاف.
    (5/276)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو بإذنه في حاجتها)
    إذا سافرت بإذنه في حاجتها ففيه خلاف، فالمذهب كما ترون لا قسم لها ولا نفقة, لأنها سافرت لحاجتها فسقط حقها.
    القول الثاني: أنّ لها القسم والنفقة, والسبب في ذلك أنها وإن سافرت في حاجتها إلاّ أنها سافرت بإذنه فلما أذن لها لم يسقط حقها لا في القسم ولا في النفقة.
    القول الثالث: أنها إذا سافرت بإذنه في حاجتها سقط حقها في القسم وبقي حقها في النفقة. والسبب في هذا أنها لما سافرت بإذنه النفقة باقية، وأما القسم فهي التي فوتت على نفسها القسم بسفرها فأسقطت حقها بهذا السفر وإن كان بإذنه، هذا القول الثالث اختاره ابن عبوس من الحنابلة، وابن عقيل، وهو كما ترى قوي جداً ووجيه.
    سؤال / على القول لا قسم ولا نفقة ما معنى هذا القول وهي مسافرة؟ كيف يدخل القسم والنفقة وهي مسافرة؟
    يثبت حقها إذا رجعت يقضيها.
    على القول بوجوب أو بثبوت القسم والنفقة بإذنه فإنّ الحكم إذا رجعت قسم لها بقدر ما غابت، فإذا غابت خمسة أيام يعطيها كم؟
    خمسة أيام بقدر ما غابت يعطيها، وكما ترون أنه إذا سافرت لحاجتها كيف نقول إذا رجعت يعطيها كل الأيام التي سافرت فيها لهذا مضرة للزوجات الأخريات كم أنّ السفر كان لحاجتها هي.
    مسألة / ذكر المؤلف ما إذا سافرت بإذنه لحاجتها, بقينا فيما إذا سافرت لحاجته هو، فإذا سافرت لحاجته لم يسقط قسم ولا نفقة فإذا رجعت قسم لها ويستمر في الإنفاق مدة السفر, لأنّ السفر كان لقضاء حاجة الزوج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له فجعله لأخرى جاز)
    إذا وهبت إحدى الزوجات نصيبها لزوجة معينة أو وهبته للزوج وجعله هو لزوجة معينة جاز, تعليل ذلك من وجهين:
    الوجه الأول: أنّ سودة - رضي الله عنها - جعلت يومها لعائشة - رضي الله عنها - وهذا نص في المسألة.
    التعليل الثاني: أنّ الحق لا يخرج عنه وعنها، فإذا رضي بذلك جاز ونفذ، فإذا للزوجة أن تتنازل عن ليلتها لمعينة أو للزوج ليجعلها حيث شاء، وأيهما أفضل أن تتنازل لمعينة أو للزوج فيجعلها هو حيث شاء؟
    (5/277)
    ________________________________________
    أنا أرى أنها تهب يومها لزوجة وليس للزوج لماذا؟ التعليل هو أنه إذا وهبت للزوجة جاز بالإجماع، وفي الآخر خلاف فخروجاً من هذا الخلاف ينبغي للزوجة أن تعطيها زوجة معينة؟ وأيضاً تعليل فعل سودة جميل, لأنه هذا تأسي بسودة وليس كما فعلت أحق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن رجعت قسم لها مستقبلاً)
    إذا رجعت فالحكم ينقسم إلى قسمين:
    1 - أن يكون التنازل عن الليلة مقابل عوض وأن يكون بغير عوض، فإن رجعت بعد أن تنازلت بغير عوض جاز لها الرجوع في المستقبل بالإجماع، لأنّ هذا من الحقوق المتجددة.
    2 ـ أن تكون تنازلت مقابل عوض حينئذ ليس لها الرجوع لأنّ المعاوضات لازمة، إذا هذا حكم الرجوع لكن ينبغي أن تعلم أنّ المعوضة في التنازل عن ليلة محل خلاف والحنابلة يرون أنه لا يجوز ولكن القول الصحيح أنّ للزوجة أن تتنازل عن ليلتها مقابل عوض ونحن ذكرنا التفصيل بناء على القول الصحيح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (مستقبلاً)
    يعني ما مضى ليس لها أن تتراجع عنه، فإذا قالت أنا تنازلت عن سبع ليالي للتجربة, والآن رجعت فاقسم لي سبع ليالي ليس لها ذلك لماذا؟ لأنّ هذا التنازل في حكم الهبة المقبوضة، والهبة المقبوضة لا يجوز الرجوع فيها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا قسم لإمائه , وأمهات أولاده , بل يطأ من شاء متى شاء)
    الإماء وأمهات الأولاد ليس لهن قسم, والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ جاريتين يطأهما ولم يقسم لهما.
    الدليل الثاني: قوله تعالى {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} [النساء/3] يعني أنّ ما ملكت اليمين لا يجب فيه العدل.
    الثالث: الإجماع فإنهم أجمعوا أنه لا يجب أن يقسم للأمة فلا إشكال في الأمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار , وثيباً ثلاثاً)
    قلنا في أول القسم كنا تحدثنا في أول الفصل عن قسم الابتداء، ما معنى قسم الابتداء؟ إذا كان له زوجة واحدة.
    أما هذا فالقسم إذا كان له أكثر من زوجة، إذا تزوج البكر فإنه يمكث عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب فإنه يمكث عندها ثلاثاً.
    (5/278)
    ________________________________________
    والدليل على هذا حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال من السنة إذا تزوج البكر أن يمكث عندها سبعاً وإذا تزوج الثيب أن يمكث عندها ثلاثاً، هذا نص في التقسيم الذي ذكره المؤلف.
    الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة (إنه ليس بك هوان على أهلك إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لهن) أو قال (سبعت للبواقي) فهذا الدليلان نص على مسألة أنه إذا تزوج البكر قام عندها كم؟ سبعاً وإن تزوج الثيب أقام عندها كم؟ ثلاثاً، ولا إشكال في هذه المسألة لأنّ النص صريح.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي)
    يعني وإن أحبت البكر أو الثيب؟ إذا الضمير يرجع على الثيب إن أحبت الثيبة بقي عندها سبعاً لكن إن بقي عندها سبعاً سبع للبواقي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن سبعت لك وإن سبعت لك سبعت للبواقي)، هنا إشكال كيف يسبع للبواقي ولها حق في ثلاث. كان المتبادر للذهن أن يربع أليس كذلك؟ لأنّ الثلاث حق أصلي.
    أجاب الفقهاء على هذا الإشكال بأنّ المرأة الثيب إذا تزوجها الرجل فلها حق في الثلاث ما لم تتصل بالسبع، فإن اتصلت سقط حقها بالثلاث يعني لها حق في ثلاث غير متصلة بأربع فإن اتصلت سقط حقها, هكذا أجابوا عن الحديث.
    القول الثاني: أنه إذا سبع للثيب, فإنه يربع للبواقي، لأنّ الثلاث حق أصلي لها, فإذا يقسم للبواقي الزائد عن هذا الحق الأصلي، وهذا القول قول وجيه من حيث النظر لكن مع ذلك مرجوح لمخالفته السنة الصريحة لهذا الراجح المذهب.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (النشوز ... )
    النشوز لغة: يطلق على المكان المرتفع من الأرض كأن المرأة ارتفعت عليه واستعصت وهو مشتق من نشز على وزن فلس.
    أما اصطلاحا فسيذكره المؤلف.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (النشوز: معصيته إياه فيما يجب عليها)
    قصر المؤلف النشوز على الزوجة والصواب أنه يكون منهما ولهذا فالتعريف الأقرب:
    (امتناع الزوجين أو أحدهما عن أداء الحق الواجب عليه بلا عذر)
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإذا ظهر منها أماراته .... )
    الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة يعتبرون النشوز يحصل بأحد أمرين:
    1) امتناعها عن الاستمتاع.
    (5/279)
    ________________________________________
    2) الخروج بلا إذن ونحوه كأن تغلق الباب دونه أو تمتنع عن السفر معه.
    فهذا هو المقصود بالحق الواجب إلا أن المالكية أضافوا ترك الفرائض فجعلوه من النشوز، وظاهر كلام الفقهاء أن ترك الخدمة ليس من النشوز، أما على القول بندبه فظاهر، وأما على القول بوجوبه فكذلك لم يذكروه من النشوز أي الامتناع عن الخدمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع مطلقاً أوتجيبه متبرمة)
    والتبرم هو التثاقل في الاستجابة (أو متكرهة)، يعني مع كراهة الاستجابة فعلمنا من كلام المؤلف أنّ الامتناع عن الاستجابة تماماً نشوز، كما أنّ التكره والتبرم أيضاً ماذا؟ نشوز وليس من علامات النشوز.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعظها)
    اتفق الجماهير على أن التأديب على الترتيب فلا ينتقل إلى الثاني إلا بعد تجربة الأول وهكذا، لكن اختلفوا متى يبدأ بأول مراحله، فالقول الأول: وهو المذهب ومذهب الشافعية يبدأ بالوعظ من حين ظهور الأمارات، ولو لم يظهر النشوز فعلاً.
    القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنفية لا يبدأ بالوعظ إلا بعد ظهور النشوز فعلاً.
    والأقرب الأول لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن ... } فعند الخوف من النشوز يبدأ بالوعظ.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعظها)
    المرحلة الأولى من العلاج أن يعظ، يشمل عدة عناصر: العنصر الأول: أن يخوفها بالله، وأن يبيّن لها أنّ عملها من الآثام التي يجب أن تتوب عنها.
    ثانياً: يبيّن لها عظم المعصية، يعني أولاً يخوفها بالله ثم يبيّن لها أنّ المعاصي لها آثار سيئة على قلب وبدن المسلم.
    الثالث: أن يبيّن لها ما يترتب على النشوز من ترك النفقة والهجر والضرب, هذه ثلاث عناصر في الوعظ، ويختلف الناس في الوعظ بحسب الحال وبحسب المرأة والرجل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أصرت هجرها)
    قوله فإن أصرت يعني فإن أظهرت النشوز حينئذ ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي الهجر فإن أصرت هجرها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء, وفي الكلام ثلاثة أيام)
    قسم الشيخ الهجر إلى قسمين: قسم الأول: الهجر في المضجع.
    القسم الثاني: في الكلام.
    (5/280)
    ________________________________________
    القسم الأول الهجر في المضجع، اختلف الفقهاء فيه فمنهم من قال الهجر في المضجع يحصل بترك الجماع، ومنهم من قال في المضجع يحصل بأن يوليها ظهره, ومنهم من قال الهجر في المضجع يحصل بأن ينام في مكان آخر.
    والصواب أنّ الهجر يقصد منه جميع هذه الأمور، ويستعمل الزوج من هذه الأمور ما يرى أنه الأوفق لحال الزوجة، وهذا من بلاغة وإعجاز القرآن, لأنه أمر بالهجر أو أرشد إلى الهجر وأطلق ولم يبيّن كيفية الهجر ليرجع الزوج إلى المناسب لحالته، فيستخدمه في الهجر.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (في المضجع ما شاء , وفي الكلام ثلاثة أيام)
    للزوج أن يهجر زوجته ثلاثة أيام ولا يزيد, ولو لم ترتدع بالهجر ثلاثة أيام, فإنه لا يجوز له أن يهجر أكثر من ثلاثة أيام.
    لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يحل للمرء أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام).
    القول الثاني: أنّ له أن يهجر ما شاء إلى أن تتأدب، لأنّ هذا الهجر يقصد منه التأديب، ولعل الأقرب أنه لا يتجاوز ثلاثة أيام، وله أن يستخدم أساليب أخرى لم ينهى عنها الشارع في التأديب.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن أصرت , ضربها ضرب غير مبرح)
    إذا أصرت انتقل إلى المرحلة الثالثة, وهي الضرب والضرب يشترط له شروط:
    الأول: أن يظن نفع الضرب في حال زوجته، فإذا ظن أنّ الضرب لا ينفع فلا يجوز له أن يستخدم هذا الأسلوب.
    الشرط الثاني: أن يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يجوز له أن يضرب ضرباً مبرحاً وهو إجماع ولو ظن أو جزم أنّه إن ضرب فإنها سترتدع لا يجوز له أن يضرب إلاّ ضرباً غير مبرح لأنّ هذا ليس من العشرة بالمعروف, ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد ونص على أنّ الضرب يكون غير مبرح.

    ((انتهى الدرس)).
    (5/281)
    ________________________________________
    الدرس: (16) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    باب الخلع
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (باب الخلع)
    هذا الباب من الأبواب المهمة , لأنّ حاجة الناس إليه كثيرة.
    ووضع المؤلف باب الخلع بعد النشوز من الترتيب الحسن, لأنه إذا لم ينفع العلاج القرآني في النشوز, فإن الحل سيكون إما بالطلاق أو بالخلع, وقدّم الخلع هنا لأنّ الطلاق له كتاب خاص.
    الخلع في لغة العرب هو: النزع والتجريد, ووجه التسمية أنّ كلاً من الرجل والمرأة إذا حصل بينهما عقد النكاح صار لباساً للآخر فإذا خالعته كأنها نزعت هذا اللباس.
    (5/282)
    ________________________________________
    وأما في الشرع: فالخلع فراق الزوج زوجته بعوض, هذا حقيقة الخلع.
    والخلع مشروع بالكتاب والسنة.
    فأما الكتاب فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [النساء/3] ورفع الجناح يدل على الجواز.
    وأما السنة فحديث ابن عباس - رضي الله عنه - وما فيه من قصة ثابت, وستأتينا لأنّ هذا الحديث هو أصل الباب.
    وأيضاً أجمعت الأمة على مشروعية الخلع, ولم يخالف في هذا إلاّ بكر المزني وهو تابعي مشهور - رضي الله عنه ورحمه - ولكن استقرّ الأمر على أنّ الخلع مشروع جائز.
    بهذا عرفنا تعريف الخلع لغة وإصطلاحاً وأنه مشروع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (من صح تبرعه من زوجة , وأجنبيّ صحّ بذله لعوضه)
    ذكر المؤلف هنا الضابط فيما يصح أن يبذل العوض, فالضابط أنّ كل من صح تبرعه صح أن يبذل العوض, وخرج بهذا من لايصح تبرعه, ومن أمثلته: المحجور عليه لسفه, لا يجوز له ولا يصح من أن يبذل العوض في الخلع, لأنّ الخلع فيه تبرع ولا يجوز له أن يتبرع، فإذا كانت المرأة سفيهة محجور عليها لسفهها فلا تستطيع أن تخالع.
    مسألة/ لا تسطيع أن تخالع ولو أذِن لها الولي, لأنّ الولي ليس له الحق فالإذن بالتبرعات.
    والقول الثاني: أنها إذا خالعت بإذن الولي وكان في هذا الخلع مصلحة لها جاز وإلاّ فلا, فإذا أذن لها الولي لأنّ مصلحتها في المخالعة فحينئذ يصح الخلع, ويصح بذل هذه المرأة للعوض, وهذا القول الأخير إن شاء الله أقرب وهو إختيار العلامة المر داوي - رحمه الله -.
    مسألة /ذكرنا حكم المحجور عليها لسفه, أما المحجور عليها لفلس فهذه يصح تصرفها في الذمة, ولهذا يصح أن تخالع, ويثبت العوض في ذمتها, لأنّ لها تصرفاً صحيحاً في الذمة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (من زوجة , وأجنبيّ (
    (5/283)
    ________________________________________
    أخذنا التفصيل في الزوجة، نأتي إلى الأجنبي يصح عند الأئمة الأربعة, أن يبذل عوض الخلع رجل أجنبي أو إمرأة أجنبية, ولو بغير رضا الزوجة, واستدل الأئمة على هذا بأنّ هذه معاضة فجازت من الأجنبي.
    القول الثاني: أنّ الأجنبي لا يصح أن يبذل عوض الخلع, وهذا مذهب الفقيه الكبير أبي ثور - رحمه الله -.
    واستدل على هذا بأنّ بذل العوض لمخالعة زوجة الغير سفه, لأنه لا فائدة للباذل من هذا البذل, إذ ماذا ينتفع الإنسان من بذله عوضاً لخلع زوجة الآخر.
    القول الثالث: أنه يصح للأجنبي بشرط أن يكون القصد من المخالعة تخليص الزوجة من رقّ الزوج لمصلحتها، يعني وإلاّ فلا يجوز، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو قول قوي, فإذا بذل العوض بقصد مصلحة الزوجة, فهو جائز وهو إن شاء الله مثاب على هذا العمل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإذا كرهت خُلُق زوجها, أو خَلقهُ , أو نقص دينه , أوخافت إثماً بترك حقِّهِ أُبيح الخل)
    انتقل المؤلف لبيان متى يجوز للمرأة أن تطلب الخلع، وذكر أربعة أمثلة, يجوز فيها للمرأة أن تطلب الخلع.
    المثال الأول: إذا كرهت خُلُق الرجل, يعني كرهت أخلاقه وتصرفه معها وفي البيت.
    الثاني: إذا كرهت خَلقَه, فإذا صارت تكره خلقه وترى أنه لايعجبها, فلها حينئذ أن تطالب بالخلع.
    الثالث: نقص دينه, إذا كرهت منه نقص دينه, بأن لا يأتي بالفرائض على وجهها, أو ألاّ يصلي مع الجماعة, أو أن يتعاطى الذنوب أياّ كان نوعها, فإن هذا من الأسباب المسوغة لطلب الخلع.
    الأخير: خافت إثماً بترك حقه, إذا خافت إثما بترك حقه جاز لها أن تخالع, ولو كانت لا تعيب خلَقه ولا خُلُقه ولا دينه فإنه أحياناً تكره المرأة الرجل بلا سبب, وتكون هذه الكراهة من أسباب عدم قيامها بالواجب عليها, حينئذ يجوز لها أن تخالع, الدليل على جواز الخلع في هذه الصورة الآية والحديث:
    أما الآية فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [النساء/3] فنصت على أنه إذا خافت ألاّ تقيم حدود الله أي ألاّ تؤدي الواجب عليها جاز لها أن تخالع.
    (5/284)
    ________________________________________
    وأما الحديث فهو حديث ابن عباس الذي أشارت إليه, فإنّ زوجة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يارسول الله لا أنا ولا ثابت. وفي رواية في الصحيح، قالت لا أعيب عليه في خُلُق ولا دين, ولكني أكره الكفر, ومقصودها بالكفر أي كفران العشير, والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها تقول لا أعيب خلق ولا دين, أقرّها على أنها لو كانت تعيب عليه خلق أو دِين جاز أن تخالعه, فأخذنا من مجموع الآية والحديث, أنه إذا وجدت هذه الأسباب ونظائرها جاز للمرأة أن تطلب الخلع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإلاّ كره ووقع)
    مقصود المؤلف بقوله وإلاّ كره ووقع يعني أنه مع استقامة الحال يكره للمرأة أن تطلب الخلع, واستدلوا على الجواز بقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} [النساء/4] فدلت الآية على أنّ المرأة إذا طابت نفسها بشيء من المهر عوضاً جاز مطلقاً, وإلى هذا ذهب الجماهير يعني ذهبوا إلى الجواز مع الكراهة.
    القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - ومذهب داود الظاهري واختاره من المحققين ابن المنذر - رحمه الله - أنه لا يجوز في هذه الحالة الخلع, واستدلوا بثلاثة أدلة:
    الدليل الأول: أنّ الآية إنما أباحت الخلع إذا خافوا ألاّ يقيموا حدود الله, ومع استقامة الحال, لا يتحقق الشرط.
    الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيما امرأة طلبت الطلاق من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة) والخلع نوع من الفراق فيقاس على الطلاق.
    الدليل الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (المختلعات والمتبرجات هنّ المنافقات)، وحملوا الحديث على المختلعات بغير سبب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ إمرأة ثابت على طلب الخلع, لكن هذا الحديث الأخير ضعيف.
    والراجح والله أعلم القول الثاني, وفي ظنيّ أنّ هذه المسألة نظرية, لأنّ المرأة لماذا تطلب الخلع مع استقامة الحال, يعني يبعد أن تطلب الخلع مع استقامة الحال، لكن لو فرض أنّ إمرأة مستقيمة الحال مع زوجها وأرادت أن تخالع هكذا, فإنّ الحكم أنّ الجمهور يرون أنّ عملها مكروه , والصحيح أنّ عملها محرم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن عضلها ظلماً للافتداء)
    (5/285)
    ________________________________________
    إذا عضلها ظلما للافتداء فإنّ الخلع لا يصح, لقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة/229] فالآية نصّت أنه لا يحل للإنسان أن يعضل المرأة لتفتدي منه.
    وعضل المرأة يكون بالتضييق عليها أو بالضرب أو بمنع الحقوق أو بمنع النفقة.
    القول الثاني: أنه إذا عضلها لتفتدي ظلماً, فإنّ الخلع صحيح والعوض حق يكون للزوج لكن مع الإثم, وهذا مذهب الأحناف.
    القول الثالث: أنه إذا عضلها لتفتدي منه, فافتدت منه فإنّ الخلع صحيح ولكن مجاناً فيرد العوض, وهذا مذهب للإمام مالك - رحمه الله - معاملة له بنقيض قصده, فالإمام مالك ألزمه بالخلع يعني بالبينونة الصغرى مع عدم أخذ العوض, كأنه أراد أن يعاقبه على قصده السيئ, انظر الفرق بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة, تماماً هذا في أقصى الشمال وهذا في أقصى اليمين, وتوّسط بينهما الإمام أحمد, والأقرب والله أعلم مذهب مالك, لأنه عهد في الشرع معاقبة الإنسان بنقيض قصده, فهذا الغال يحرق رحله, ومن امتنع من الزكاة أخذت شطر ماله, فإذا نرى أن الشارع قد يعاقب الإنسان بنقيض قصده, كما أنّ في هذا ردعاً للأزواج الظلمة وإغلاقاً لباب مضايقة المرأة لتفتدي منه بغير حق , فإنّ بعض الأزواج إذا كره زوجته ولم يجد عليها أي خطأ ويريد استرداد المهر صار يظلمها ويعضلها ويضايقها حتى تفتدي, ولاشك أنّ هذا ظلم, لأنه إذا أراد هو أن يطلق فليطلق وليبقى المهر عند الزوجة, لكن بعضهم يتخذ هذا الأسلوب حيلة لاسترداد المهر, وهو مردود عليه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولم يكن لزناها)
    هذه العبارة استثناء من العبارة السابقة, يعني إن عضلها لزناها صح لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء/19] والآية نصّ في أنّ إذا أتت المرأة بفاحشة جاز للرجل أن يعضلها وأن يضايقها بمختلف التصرفات حتى تفتدي منه, لأنّ هذه المضايقات والعضل بحق, فهذه الصورة المستثنى من الأول.
    (5/286)
    ________________________________________
    المستثنى الثاني قوله (أونشوزها أو تركها فرضاً ففعلت) يعني إذا عضلها لأنها نشزت عليه بترك الطاعة أو بترك الفرائض, فإنه يجوز له أن يعضلها, وأن يضايقها لتفتدي منه, لأنّ العضل بالضرب ومنع الحقوق حينئذ بحق, وإذا كان بحق جاز له أن يأخذ العوض المترتب عليه، فاستثنى المؤلف من العضل هاتين الصورتين فقط، إذا أتت بفاحشة أوكان العضل بسبب النشوز.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (أو خالعت الصغيرة , والسفيهة , والمجنونة , والأمة بغير إذن سيدها لم يصح)
    إذا خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة لم يصح, وهذا تأكيد لما سبق لأنه تقدم معنا أنّ من لا يصح تبرعه لا يصح بذله للعوض في الخلع, وهؤلاء المجنونة والصغيرة والسفيهة لا يصح أن يتبرعوا فلا يصح أيضاً أن يبذلوا العوض في الخلع, ويأتي معنا الخلاف السابق إذا بذلوه بإذن الولي, على المذهب لا يصح وعلى القول الثاني يصح, وتقدمت هذه المسألة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والأمة بغير إذن سيدهالم يصح)
    يعني ولا يصح للأمة أن تخالع بغير إذن سيدها, تعليل ذلك: أنّ التصرف في الشرع فرع عن الملك, والأمة لا تملك فلا تتصرف، لهذا نقول لا يصح تصرفها وهو باطل إلاّ في حالة واحدة إذا أذن لها السيد.
    القول الثاني: أنه يصح للأمة أن تخالع إذا خالعت في ذمتها, ولا يصح أن تخالع إذا خالعت بمعيّن, لأنه إذا خالعت بذمتها فإنّ هذا لايضر السيد وبإمكانها إذا عتقت أن تؤدي ما عليها لأنه في ذمتها والصواب إن شاء الله أنّ الأمة لاتخالع إلاّ بإذن السيد مطلقاً، لأنها في ملكه وتصرفها يجب أن يكون تحت إمرته وإذنه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظه , أو نيته)
    (5/287)
    ________________________________________
    هذا الحكم راجع لجميع المسائل التي ابتدأها بقوله (فإن عضلها ظلماً لتفتدي) بمعنى أنه لما بيّن مجموعة من المسائل لايصح فيها الخلع أراد أن يبيّن ماذا يكون حكمه إذا لم يصح الخلع , فذكر أنه إن خالع بلفظ صريح الطلاق أو بكنايته مع النية, فهو طلاق رجعي، وإن كان بغير لفظ صريح الطلاق ولابنيته فهو لاشيء، إذا عرفنا الآن فهذه المسائل التي حكمنا عليها أنّ الخلع لايصح ماذا يكون بعد ذلك؟ فعند الحنابلة أنّ هذا الخلع الذي لايصح إن كان بلفظ الطلاق الصريح أو بكنايته مع نيته فهو طلاق, وإن كان بغيرهما فهو؟ لاشيء، ولا يعتبر شيئاً, وسيأتينا مسألة هذا الطلاق، هل الخلع بلفظ الطلاق طلاقاً أو فسخاً؟
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (والخلع بلفظ صريح الطلاق , أو كنايته. وقصده طلاق بائن)
    هذه المسألة التي ابتدأ فيها المؤلف هذا الفصل من أهم المسائل, يقول المؤلف رحمه الله (والخلع بلفظ صريح الطلاق بائن ( .....
    ذكر الشيخ صورتين يكون الخلع فيهما طلاق بائن ومقصوده بكلمة بائن أي بينونة صغرى
    الصورة الأولى: إذا كان بصريح لفظ الطلاق أو بكنايته مع النية, وإلى هذا القول ذهب الأئمة الأربعة, بل ابن قدامه هو إجماع أنّ الخلع إذا كان بهذا اللفظ فهو طلاق بائن, استدلوا على هذا الحكم الجماهير بأدلة:
    الدليل الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري لثابت: خذ الحديقة وطلقها تطليقه، فقالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يتكلم باللفظ الشرعي فقوله طلقها تطليقه, يعني أنّ هذا الفسخ يكون طلاقاً لكنه بائن بسبب وجود ماذا؟ العوض.
    الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن ثلاثة من الصحابة عثمان وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم -.
    الدليل الثالث: أنّ الفرقة التي يملكها الرجل إنما هي الطلاق فإذا فارق زوجته فقد طلقها, هذه أدلة الجماهير.
    نأتي الجواب على الأدلة أما الجواب عن الدليل الأول: فإنّ هذا اللفظ وإن كان في صحيح البخاري إلاّ أنه معلول ولايثبت وهو شاذ، بل من جملة من أشار إلى ضعفها الإمام البخاري في الصحيح فهذا اللفظ لا يثبت إنما اللفظ الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم - خذ الحديقة وفارقها.
    (5/288)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: الآثار المروية عن الصحابة وقد نصّ الإمام أحمد أنه لا يثبت منها شيء، هي ضعيفة ولا تثبت عن أحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
    أما الدليل الثالث: فهو استدلال بمحل النزاع هو يقول لاتوجد فرقة إلاّ طلاق، ونحن نقول توجد فرقة هي فسخ وليست طلاق, فليس له أن يستدل بمحل النزاع.
    القول الثاني: ولاشك أنه لايغيب عن ذهنك أنّ القول حكي إجماعاً, القول الثاني رواية عن الإمام أحمد وهي مذهب قدماء أصحابه كما يقول شيخ الإسلام وهو إختيار ابن القيم وإختيار شيخ الإسلام - رحمهما الله - ولما رأيت أنّ شيخ الإسلام يقول أنّ هذا رواية عن الإمام أحمد واختيار قدماء أصحابه تعجبت من حكاية ابن قدامة الإجماع, لو أنّ شخصاً آخر غير ابن قدامة حكى الإجماع لكان الأمر قريب لكن ابن قدامة أحد المخالفين في الرواية, كما أنّ قدماء الأصحاب وهو يعرفهم اختاروا هذا القول فلا أدري ما وجه حكاية الإجماع هل هو لم يقف على أقوالهم أو يرى أنهم رجعوا، هو في الحقيقة محل إشكال كيف يحكي الإجماع.
    أدلة القول الثاني الدليل الأول: أنّ هذا ثابت بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه يعتبر هذه الصيغة فسخاً وليست طلاقًا.
    الثاني: أنّ الله تعالى ذكر في القرآن الطلاق ثم الطلاق يعني ذكر التطليقتين ثم الخلع ثم الطلاق, قال ابن عباس ولو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق في كتاب الله أربعة, والأمة أجمعت أنّ الطلاق ثلاث مرات، الراجح إن شاء الله القول الثاني وضابط هذا القول أنّ أي فرقة تمت بعوض فهي فسخ وليست طلاق مهما كانت صيغة الفراق هذا هو الضابط للقول الثاني, إذا عرفنا الآن الحكم فيما إذا خالع بلفظ صريح الطلاق أوبكنايته مع النية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن وقع بلفظ الخلع , أو الفسخ , أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً لاينقص عدد الطلاق)
    (5/289)
    ________________________________________
    إذا خالع بغير اللفظين السابقين, لا بصريح الطلاق ولا بكنايته مع النية، وإنما خالع بألفاظ أخرى, كلفظ الخلع أو الفسخ فإنّ الحكم عند الحنابلة أنه فسخ وليس بطلاق, ولا ينقص به عدد الطلاق, وهذا القول من مفردات الحنابلة, والجماهير أيضاً حتى في هذه المسألة على أنه طلاق, واستدلوا بالآثار المروية عن عثمان وعلي وابن مسعود, فإنها عامة تشمل الخلع الذي يكون بلفظ الطلاق أو بلفظ الفسخ، واستدل الحنابلة بأثر ابن عباس حيث اعتبر هذا فسخاً ولم يعتبره طلاقاً, وإذا كنّا نرجح أنّ الخلع بلفظ صريح الطلاق فسخ فإذا بلفظ الفسخ أو الخلع فمن باب أولى سيكون ماذا؟ فسخاً وليس طلاقاً ولاينقص به عدد الطلاق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق ولو واجهها به)
    معنى ولو واجهها به يعني ولو قال لها في وجهها أنت طالق, ذهب الحنابلة إلى أنّ المختلعة في عدة الخلع لا يلحقها طلاق, واستدلوا بدليلين:
    الدليل الأول: أنّ هذا مروي عن ابن عباس وعن ابن الزبير - رضي الله عنهما -.
    الثاني: القياس على المطلقة إذا انقضت العدة, والجامع ما هو الجامع في هذا القياس؟ عدم إمكانية المراجعة في الصورتين هذا هو الجامع، وهو جامع صحيح.
    القول الثاني: للأحناف أنّ الطلاق يقع عليها إذا واجهها به, واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال للمختلعة في عدتها أنت طالق فقد طلقت, فالحديث فيه قيد أن تكون في عدتها وفيه قيد أن يواجهها به، يعني بلفظ الطلاق
    والجواب: أنّ هذا الحديث لا أصل له أشد من أن يكون ضعيفاً لا أصل له, والراجح إن شاء الله أنه لايقع عليها طلاق في زمن العدة.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يصح شرط الرجعة فيه)
    اشتمل كلام المؤلف على مسألتين:
    المسألة الأولى: أنه لا رجعة في الخلع سواء قلنا هو فسخ أو طلاق, لأنّ الله سبحانه وتعالى سمى العوض فداء, ولا يكون فداء إلاّ بذلك, يعني بأن لا يملك المراجعة, وهذا واضح.
    (5/290)
    ________________________________________
    المسألة الثانية: أنه لو شرط المراجعة, فلا يصح أيضاً ويكون الخلع صحيحاً والشرط فاسداً, استدلوا على هذا بأنّ هذا الشرط منافي مقتضى العقد والمقصود منه, فإنّ مقصود المرأة من بذل العوض هو ماذا؟ ألاّ ترجع إليه، ولهذا صححنا العقد وأبطلنا الشرط هذا مذهب الحنابلة وهو واضح.
    القول الثاني: أناّ نصحح الشرط ولكن يرد الزوج العوض ويكون طلاقاً رجعياً, واستدل هؤلاء بأنّ شرط الرجعة لا يجتمع مع العوض فيتساقطان ويبقى أصل الطلاق.
    القول الثالث: أنّ الشرط صحيح والعقد صحيح, فيملك الزوج العوض ويملك أن يراجع, لأنّ المرأة رضيت بالشرط بطوعها, ولأنّ الشروط في المعاوضات صحيحة، وشيخ الإسلام يميل لهذا القول, تصحيح الشرط والعقد, والصحيح إن الله المذهب، لأنّ أصل الخلع والمقصود منه أن تملك المرأة نفسها, وأن لا يتمكن الزوج من مراجعتها, فاشتراط ما يسقط هذا المقصود هو في الحقيقة اشتراط اسقاط المقصود بالخلع، والشارع الحكيم إنما شرع عقود المعيّنة لتحقيق المقاصد منها, ولهذا البيع لما كان المقصود منه تلبية حاجات بعض الناس من بعض, لما فقد هذا القصد في الربا أبطله الشارع, كذلك نقول نحن هنا المقصود الشرعي في الخلع لا يجوز شرط اشتراط ما يسقطه.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (إن خالعها بغير عوض , أو بمحرم لم يصح)
    ذكر الشيخ مسألتين:
    الأولى: إذا خالعها بغير عوض، هذه المسألة أيضاً مسألة ينبني عليها عدة فروع إذا خالعها بغير عوض لم يصح
    الخلع والسبب في هذا أنّ الله تعالى علّق في القرآن الخلع عل وجود الفدية, فإذا لم توجد الفدية لم يصح الخلع، وهذا القول اختيار شيخ الإسلام.
    القول الثاني: أنّ الخلع بغير عوض صحيح, ويكون طلاقاً بائناً واستدل أصحاب هذا القول بالقياس على الطلاق بجامع أنّ في كل من الصورتين مفارقة يعني في كل من الصورتين قصد المفارقة, وهذا القول اختيار شيخ الإسلام, فيكون للشيخ في هذه المسألة قولان.
    (5/291)
    ________________________________________
    تنبيه!!! على القول الثاني إذا صححنا الخلع بغير عوض يجب أن يكون طلاقاً بائناً ولايكون فسخ, والسبب في ذلك أننا لو صححناه فسخاً لا أمكن للإنسان أن يطلق بلا عدد كما كان في الجاهلية, والطلاق بلا عدد منسوخ في الشرع, ولأجل أن نجعله مغلق نقول هو طلاق بائن ويحسب من الثلاث ولا يكون فسخاً، الأقرب والله أعلم أنّ الخلع لايصح بلا عوض. وإذا أراد أن يفارق زوجته فليكن بالطلاق، لكن أصحاب القول الثاني إنما صححوا الخلع بلا عوض لأنه قد يكون مقصود الزوج أن يقطع الطريق على نفسه في مراجعة زوجته ولا يريد أن يأخذ عوض، وهذا لا يكون إلاّ بالخلع بلا عوض واضح, بعض الناس الآن يعلم أنّ بقاء زوجته معه مضر عليه في دينه ولكن نفسه تتوق إلى هذه الزوجة, ولا يريد أن يأخذ منها مال فالطريقة لكي يتخلص من هذه الزوجة أن يطلقها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه, ولا يريد هو أن يطلق بالثلاث لأنه لايريد أن يستنفذ الطلقات, حينئذ ليس أمامه إلاّ الخلع بشرط عدم العوض وهذا الذي جعل شيخ الإسلام في الاختيار الثاني يصحح الخلع بلا عوض.
    نأتي إلى المسألة الثانية وهي إذا كان الخلع محرماً, الخلع المحرم على قسمين:
    القسم الأول: أن يكون محرماً بعلم الزوجين يعني أن يعلم الزوجان أنه محرم, فإذا علم الزوجان أنه محرم فالخلع باطل لأنّ العوض محرم.
    القول الثاني: أنه صحيح وللزوج مهر المثل, وهذا القول الثاني هو الصحيح، ولو قيل أنّ للزوج قيمة هذا العوض المحرم لكان وجيهاً جداً لا نقول له مهر المثل, بل نقول له قيمة هذا العوض المحرم.
    القسم الثاني: إذا كانا لا يعلمان أنّ العوض محرماً, فحينئذ يصح الخلع حتى عند الحنابلة, وله بدله، له بدل هذا العوض المحرم.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته)
    (5/292)
    ________________________________________
    هذه العبارة تعود للمسألتين السابقتين, وهي الطلاق بغير عوض, والثانية بعوض محرم, فلما قرر المؤلف أنّ الطلاق بغير عوض أو على عوض محرم لا يصح, أراد كذلك أن يبيّن ماحكم هذا الخلع, والحكم عند الحنابلة أنه إن كان بلفظ صريح الطلاق أو بنيته, فله طلاق رجعي, وإن كان بغير لفظ صريح الطلاق ولا بنيته فهو لا شيء بناء على أنّ الحنابلة يرون أنّ الطلاق بغير عوض لا يصح.
    إذاً سيكون القول الثاني بناء على تصحيح الطلاق بغير عوض سيكون حكمه في هاتين الصورتين طلاق بائن بينونة صغرى ويحسب من عدد الطلقات, إذاً الآن نرجع لمسألتنا, الشيخ يقول هنا (ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته) وإن كان بغير لفظ الطلاق ولا نيته فهو عند الحنابلة لاشيء بناء على أنّّ الطلاق بغير عوض لايصح عند الحنابلة, وعلى القول بأنّ الطلاق بغير عوض يصح ويكون طلاقاً بائناً يحسب من الثلاث يكون طلاقاً بائناً يحسب من الثلاث, واضح وهذا كله مفرع على قضية أنّ الخلع بلفظ صريح الطلاق أو بنيته يكون طلاقاً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وما صح مهرا صح الخلع به)
    لإطلاق الآية {فلا جناح عليهما فيما افتدت} [البقرة/229] فأيّ شيء تفتدي به فهو صحيح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويكره بأكثر مما أعطاها)
    هذه المسألة في حكم أخذ الزوج أكثر من المهر الذي بذله في العقد, فالحنابلة يرون أنه يجوز للإنسان أن يأخذ أكثر مما أعطى, لكن مع الكراهة، دليل الحنابلة على أنه يجوز مع الكراهة الجمع بين أدلة الأقوال التي ستأتي.
    القول الثاني: وهو مذهب الجمهور الجواز بلا كراهة, واستدل الجمهور على الجواز بلا كراهة بأمرين:
    الأمر الأول: إطلاق الآية فإنّ الله شرع الافتداء ولم يقيّد هذا الافتداء بشيء.
    الثاني: أنه صح عن الصحابة جواز الخلع بكل شيء, حتى خلعت المرأة في زمن الصحابة بكل شيء حتى ما تربط به رأسها, كل شيء، كل ما تملك ومع ذلك صححه بعض الصحابة, وهو صحيح وثابت عنهم.
    القول الثالث: عكس الحنابلة أو عكس الجمهور أنه لا يجوز الزيادة مطلقاً, بل لا يأخذ إلاّ ما أعطى, واستدلوا على هذا بدليلين:.
    الدليل الأول: أنّ هذا مقتضى العدل, فتفتدي نفسها منه بما ملكها به أليس كذلك؟
    (5/293)
    ________________________________________
    الثاني: قالوا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لثابت خذ الحديقة ولا تزداد, فنهاه عن الزيادة وهذا اللفظ لايصح.
    الراجح مذهب الجمهور وهو الجواز بلا كراهة لأنّ هذا دلّ عليه الأثر وظاهر القرآن.
    مع هذا المحاكم يعملون بعمل جيد في الحقيقة, سألت أنا بعض القضاة ماذا تصنعون إذا طلب الزوج مبلغاً كبيراً, فهم في الحقيقة يتوسطون وهو قول نحن انتهينا من المسألة العلمية والترجيح, لكن من حيث تأديب الناس والتعامل معهم قول ممتاز جداً, وهو أنهم يسمحون بالزيادة غير المفرطة، يعني له أن يزيد لكن بلا مبالغة, فهو قول يعني من حيث العمل جيد جداً، نقول خذ لكن بلا مبالغة لاسيما إذا كان من الزوج شيء من التفريط والخطأ وهذا من السياسة الشرعية المحمودة في الواقع.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن خالعت حامل بنفقة عدتها صح)
    الزوج إذا طلق زوجته وهي حامل, فيجب عليه أن ينفق عليها كما سيأتينا في كتاب النفقات, سواء قلنا أنّ النفقة للحمل كما هو مذهب الحنابلة, أو النفقة لها بسبب الحمل, على أي من القولين يصح أن تخالع بهذه النفقة, فتقول النفقة التي تجب عليك لزمن العدة هي عوض الخلع فيصح والمؤلف يريد أن يشير إلى مسألة, وهي أنّ هذا يصح وإن كنا لا نعلم مقدار النفقة، فقد تكون نفقة كبيرة وقد تكون قليلة, ومع ذلك يصح, وهذه المسألة في الحقيقة ترجع إلى المسألة التالية.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ويصح بالمجهول)
    يعني وبالمعدوم الذي ينتظر وجوده, أما المعدوم الذي لا ينتظر وجوده فلا يصح, ذهب الحنابلة إلى أنه يصح الخلع بالعوض المجهول واستدلوا على هذا بأدلة:
    الدليل الأول: القياس على الوصية.
    الدليل الثاني: أنّ الخلع هو عبارة عن إسقاط, فالزوج يسقط حقه من البضع, ونحن مرّ معنا مراراً أنّ الإسقاطات فيها تسامح، وهذا قاعدة في الفقه أنّ ما يكون من باب الإسقاطات فيه تسامح.
    القول الثاني: أنّ الخلع بالمجهول يصح, لكن يجب عليها مهر المثل، نحن نقول القول الثاني يصح ويجب عليها مهر المثل, والقول الأول يصح وللزوج ما أعطت, أي شيء تعطيه هو العوض لأنّا نصحح العوض المجهول.
    (5/294)
    ________________________________________
    القول الثالث: أنّ الخلع بالمجهول لا يصح, لأنّ الخلع وإن كان فيه شائبة التبرع, إلاّ أنه في الأصل معاوضة, والجهالة لا تصح في المعاوضات، يبدوا لي أنّ شيخ الإسلام يرى المذهب, والسبب في هذا أنّ الشيخ - رحمه الله - صرّح بصحة الخلع الذي فيه غرر، والغرر والجهالة شيء واحد في الفقه، هو لم يصرح فيما وقفت عليه صحة الخلع بالمجهول لكن صرّح بصحة الخلع مع وجود الغرر، فينبغي أن يصحح هذا على كل حال الراجح أنه لا يصح إلاّ أن يكون العوض معلوماً وهو القول الثالث, لأنّ تصحيح الخلع بعوض مجهول يفضي غالباً إلى الشقاق والنزاع, لاسيما وأنّ الخلع يحصل عادة مع الوفاق أو مع النزاع؟ مع النزاع فإنه يندر أن يكون الخلع مع الوفاق فغالباً ما يكون مع النزاع, فإذا زاد هذا النزاع نزاعاً آخر بسبب الجهالة استحكمت العداوة والفرقة، ولهذا نقول إن شاء الله الأصح أنه لابد أن يكون معلوماً.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (فإن خالعته على حمل شجرتها , أو أمتها , أو ما في يدها , أو بيتها من دراهم أو متاع , أو على عبد صح)
    هذه المسائل هي تفريع على القاعدة أو على الضابط وهو تصحيح الخلع بالمجهول, لما صحح الخلع بالمجهول أراد أن يذكر مسائل تنبني على هذا الضابط, وذكر ثلاث نماذج من المسائل, المسألة الأولى: (إذا خالعته على حمل شجرتها أو أمتها)
    المسألة الثانية: (إذا خالعته على ما في يدها أو ما في بيتها من دراهم أو متاع)
    المسألة الأخيرة: (إذا خالعته على عبد وأطلقت ولم تبيّن) ففي الصور الثلاث الخلع صحيح, فإذا خالعته على حمل شجرتها أو أمتها فليس له إلاّ ما تحمل الشجرة وكذلك إذا خالعته على حمل الشاة فليس له إلاّ ما تحمل هذه الشاة, ولو حملت الشاة ومات الولد الذي في بطنها ليس له إلاّ هذا الذي في بطنها, لأنها خالعته على الذي في بطنها, كذلك إذا خالعته على ما في يدها أو ما في بيتها من الدراهم ليس له إلاّ ما في يدها وليس له إلاّ ما في بيتها, ولو كانت الدراهم أقل من ثلاث, التعليل أنها خالعته على ما في يدها وهذا ما في يدها ليس في يدها إلاّ درهم واحد, وهو رضي بأن تخالعه على ما في يدها.
    (5/295)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنه إذا خالعها على ما في يدها أو ما في الدار من دراهم, ثم تبيّن أنه أقل من ثلاث فله ثلاث يعني دراهم, لأنّ كلمة دراهم لا تصدق على أقل من ثلاث، والراجح المذهب ليس له إلاّ ما في يدها, لأنه رضي بما في يدها وهذا ما في يدها.
    وأنا أقول هذا الراجح بناء على جواز الخلع بالمجهول، أو متاع إذا خالعته على ما في بيتها من متاع فله ما في البيت من متاع سواء كان المتاع قليل جداً أو كان المتاع كثير جداً له ما في البيت من متاع أيّاً كان قدره.
    أو على عبد إذا خالعته على عبد ليس له إلاّ عبد لكن كيف نحدد هذا العبد, بالنسبة لمتاع البيت وما في يدها واضح.
    لكن إذا خالعته على عبد وأطلقت فله أقل ما يصدق عليه مسمى العبد, وليس له أن يعترض لأنها خالعته على عبد وأطلقت ورضي.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقلّ مسماه , وعدم الدراهم ثلاثة)
    له مع عدم الحمل يعني إذا خالعته على حمل أمتها ولم تحمل، أو خالعته على المتاع فلما دخلنا البيت لم نجد فيه متاعاً مطلقاً، أو خالعته على عبد ووجدنا أنها لا تملك أيّ عبد كان, حينئذ له أقل المسمى من الحمل والمتاع والعبد, فإذا خالعته على حمل شاة فله أقل ما يسمى حملاً سواء كان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير أو أي من نوع من أنواع الشياه , وكذلك العبد وكذلك الحمل, لأنّ الذمة تبرأ بأقل مسمى العوض المذكور.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ومع عدم الدراهم ثلاثة)
    لأنّ أقل مايسمى دراهم ثلاثة, إذاً الآن إذا خالعته على ما في يدها فإن كانت اليد فارغة كم له؟ وإن كان في اليد درهم واحد فصار أنفع له أن تكون اليد فارغة أو مليئة؟ الأنفع له أن تكون فارغة, لأنها إذا كانت واحدة فليس له على المذهب إلاّ هذا الدرهم وإذا كانت فارغة فسيكون له ثلاثة.
    فصل
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإذا قال: متى , أو إذا , أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق طلقت بعطيته)
    (5/296)
    ________________________________________
    هذا الفصل المؤلف أراد منه بيان مسألة مهمة, عقد الفصل لتحقيق هذا المقصد وهو أنّ الطلاق على عوض كالخلع في أنّ الزوج لا يملك مراجعة زوجته, لأنّ المقصود من الطلاق على عوض أن تفتدي نفسها وأن تتخلص من ضرره وإذا مكناه من المراجعة ذهب هذا الغرض, إذاً مرة أخرى مقصود المؤلف من هذا الفصل بيان أنّ الطلاق سواء كان معلق أو منجز إذا كان على عوض فهو كالخلع في ماذا؟ في عدم جواز المراجعة, وذكرت التعليل على هذا.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن تراخى)
    أفادنا المؤلف - رحمه الله تعالى - مسألتين:
    المسألة الأولى: أنّ الزوج إذا استخدم هذه الألفاظ صار التعليق لازماً من جهته وليس له الرجوع فإذا قال متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق، أصبح لازماً ولا يملك الرجوع ولا فسخ التعليق, واضح. فيبقى الأمر بيد المرأة إلى ما لا نهاية تعليل هذا قالوا أنّ هذه الصيغة اشتملت على تعليق وعوض, أليس كذلك لأنه يقول متى أعطيتني ألفاً فأنت طالق اشتملت
    على التعليق والعوض لأنه يقول متى أعطيتني كم؟ ألفاً قالوا والمرجح والمغلب في هذه الصيغة هو التعليق لا العوض ولهذا يكون التعليق لازما في حق الزوج , وهذا مذهب الجمهور.
    القول الثاني: أنّ هذا التعليق ليس بلازم بل للزوج فسخه متى شاء , واستدل أصحاب هذا القول بأنّ حقيقة هذا التعليق أنه تعليق مقابل بعوض فهو بالبيع أشبه منه بالتعليق, وهو يفارق التعليق المحض, التعليق المحض كأن يقول إذا دخل زيد فأنت طالق هذا تعليق محض, هل يوجد عوض في هذا التعليق, إذاً هو تعليق محض فالتعليق المربوط بعوض يفارق التعليق المحض لأنّ التعليق المحض هو في الواقع ايقاع للطلاق وغاية ماهنالك أنه مؤخر، بخلاف التعليق الذي معلق بعوض فالمقصود منه المعاوضة وبهذا أصبح بين الصورتين فرق، وهذا الفرق البديع في الحقيقة ذكره شيخ الإسلام وانتصر لهذا القول الثاني وقوله وجيه وقوي, وعلمنا من هذا التفريق أنّ هناك فرق بين أن يقول الرجل لزوجته إن أعطيتني ألف فأنت طالق وبين أن يقول إن خرجت من هذا الباب فأنت طالق.
    ففي الصورة الأولى يملك الفسخ وفي الصورة الثانية لا يملك الفسخ. انتهينا من المسألة الأولى التي دلت عليها عبارة المؤلف.
    (5/297)
    ________________________________________
    المسألة الثانية: أنّ هذا الحق يثبت على التراخي, فهو مطلق وليس على الفور بل على التراخي متى أعطته الألف في أيّ وقت طلقت.
    القول الثاني: أنه إن استخدم متى فهو على التراخي, وإن استخدم إذا وإن فهو على الفور, واستدلوا على هذا بأنّ متى موضوعة للتراخي فأفادت التراخي وأما إذا وإن فإنها لا تدل على التراخي والأصل في العقود والمعاوضات الفور أوالتراخي؟ الفور، وعلى هذا القول إذا قال لها إذا أعطيتني ألفاً فأنت طالق وانقضى المجلس ولم تعطيه ألفاً ثم أعطته بعد يوم فإنها لا تطلق وعلى المذهب تطلق, إذاً اشتمل هذا الكلام على مسألتين مهمتين للغاية, وقد يفعل كثير من الرجال هذا التطليق, فيقول لها إن أعطيتني المهر فأنت طالق، فعلى المذهب أشبه مايكون أنّ المرأة ملكت أمر نفسها, فتستطيع متى شاءت أن تعطيه الألف وتصبح طالق, لأنّ هذا الحق لازم وعلى التراخي, فهي مسألة مهمة وأخذنا الآن التفصيل فيها.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن قالت إخلعني على ألف , أو بألف , ففعل بانت واستحقها)
    هذه المسائل تختلف عن المسائل السابقة في أمرين: ما هي المسائل السابقة؟ إذا قال متى أعطيتني ألف فأنت طالق وما معها من المسائل، هذه المسائل تختلف عنها بأمرين: الأمر الأول أنّ هذا التعليق تعليق جائز وليس بلازم, فللمرأة الفسخ متى شاءت.
    ((الآذان))
    الأولى: أنها تملك الفسخ متى شاءت المرأة فسخت هذا العقد لأنه معاوضة والمعاوضات تفسخ.
    والثانية: أنه على الفور وليس على التراخي لما تقدم وذكرته الآن, إذاً بين المسألتين فرق, الشيخ يقول هنا - رحمه الله - (وإن قالت إخلعني على ألف) وكذلك إذا قالت طلقني على ألف الحكم واحد.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (واستحقها)
    (5/298)
    ________________________________________
    يعني إذا أعطاها الألف، في مسألة المرأة وإن قالت إخلعني على ألف ففعلت، يعني إذا قالت إخلعني على ألف وأعطته الألف استحقها وطلقت، ومقصود المؤلف أنها إذا قالت إخلعني على ألف وأعطته الألف فقد خلعت ولا يشترط أن يقول الزوج خالعتك أو طلقتك مقابل الألف لا يشترط، لأنّ الجواب معاد فيه السؤال، فإذا قالت طلقني على ألف وأخذ الألف. وقال أنت طالق , فكأنه قال أنت طالق على هذه الألف، إذاًً يستحق العوض بمجرد ما يأخذه ويطلق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وطلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثاً استحقها)
    إذا قالت طلقني واحدة فطلقها ثلاثاً، استحق الألف لماذا؟ لأنه أعطاها ما تريد وزيادة.
    القول الثاني: أنه لا يستحق العوض لأنّها طلبت واحدة ولم تطلب ثلاثة, وقد يكون للمرأة غرض في الطلقة الواحدة لا في الثلاث، لأنّ الطلقة الواحدة بالإمكان المراجعة, بينما الثلاث لا تراجع إلاّ بعد زوج آخر وفي قول ثالث وسط: بين القولين وهو قول جميل وهو أنه إن رضيت المرأة فله العوض وإن لم ترض فليس له العوض. فإذا قالت طلقني واحدة فطلقها ثلاثاً, نقول للمرأة هل ترضين في الطلاق؟ فإذا رضيت أخذ العوض وإذا لم ترضى لم يأخذ العوض.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وعكسه بعكسه)
    يعني إذا قالت طلقني ثلاثاً, وطلقها واحدة, فإنه لا يستحق العوض, لأنها طلبت ماذا؟ ثلاث وهو أعطاها واحدة , ولأنّ المرأة قد يكون لها قصد أن لا ترجع إليه إلاّ بعد زوج آخر.
    القول الثاني: أنها إذا طلبت ثلاث وطلقها واحدة فله ثلث العوض, لأنه أعطاها بعض ما طلبت فاستحق بعض العوض وهذا القول وإن كان ظاهره قوي ويتوافق مع المنطق, إلاّ أنّ الراجح المذهب, لأنّ المرأة لم تطلب الثلاث إلاّ وهي تريد الثلاث والواحدة لا تحقق لها الغرض المقصود من طلبها للخلع.

    ((انتهى الدرس)).
    (5/299)
    ________________________________________
    الدرس: (17) من النكاح

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير ولا طلاقها)
    يعني أن الأب لا يملك أن يخالع مع زوجة ابنه الصغير ولا يملك أيضا أن يطلقها .. هذا مذهب الحنابلة ..
    واستدلوا بأدلة منها:
    1 - قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، ومن أخذ بالساق هو الزوج.
    2 - أن هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر الخطاب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما ـ.
    3 - أن في هذا التصرف من الأب إسقاطا لحق الابن وليس له أن يسقط حق ابنه.
    القول الثاني: أن الأب له أن يفعل ذلك، أي للأب أن يفعل ذلك.
    واستدلوا على جوازه بأن الأب إذا كان يملك أن يزوج ابنه فيملك أن يفسخ النكاح بخلع أو طلاق.
    والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة، إلا أنه يستثنى ما إذا كان الخلع في مصلحة الابن مصلحة ظاهرة واضحة لا تردد فيها حينئذ يجوز للأب أن يخالع ابنه لتحقيق هذه المصلحة وإلا فإنّ الأصل أنه لا يجوز له أن يخالع، وهذا هو الأقرب المتوافق مع فتاوى الصحابة.
    قبل أن ننتقل عن هذه المسألة حديث (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) حديث إسناده فيه ضعف وضعفه البيهقي وابن الجوزي ولكن معناه إن شاء الله صحيح.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا خلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها)
    يعني ولا يملك الأب أن يخالع ابنته الصغيرة بشيء من مالها، وتقدمت هذه المسألة عند قول المؤلف (كل من صح تبرعه صح بذله للخلع) ذكرنا هل للأب أن يخالع عن ابنته أو لا.؟ ذكرنا الراجح أن له ذلك إذا كانت المصلحة في المخالعة .. وأن هذا اختيار الشيخ المرداوي.
    قبل أن ننتقل أيضا للمسالة الثالثة، بالنسبة للأب مع الابن ذكرنا أنه لا يملك أن يخالع ولا أن يطلق .. هذا الحديث يتعلق بالأب أما غيره من الأولياء فإنهم لا يخالعون ولا يطلقون .. حكي إجماعا .. لكن هذا الإجماع ليس بتام فإن بعض الحنابلة يرى أن من كان له حق التزويج فإن له حق المخالعة، لكن الصواب أن غير الأب ليس له علاقة ولا يملك أن يخالع أو يطلق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق)
    (5/300)
    ________________________________________
    يعني إذا خالعت المرأة زوجها على مال معين فإن هذا الخلع لا يسقط غيره من الحقوق كأن يكون على الزوج نفقة أو يكون على الزوج مهر مؤخر هذه الحقوق وغيرها من الحقوق تبقى لأنه لا علاقة للخلع بغيره من الحقوق الواجبة للمرأة أو للزوجة في ذمة الزوج.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت ثم نكحها فوجدت بعده طلقت)
    صورة هذه المسألة: أن يقول الزوج لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق فهنا علق الطلاق على صفة وهي دخول الدار، ثم لما علق الطلاق على هذه الصفة أبانها بخلع أو طلاق أو بأي طريقة للإبانة، ثم لما أبانها دخلت الدار، ثم لما تزوجها مرة أخرى ودخلت الدار مرة أخرى حينئذ يقع الطلاق عند الحنابلة، وعللوا هذا بأن المرأة وجد منها الصفة المعلق عليها الطلاق في نكاح صحيح فاجتمع وجود الصفة والنكاح الصحيح فوقع الطلاق وهذا تعليل واضح.
    القول الثاني: وهو مذهب الجماهير وأكثر أهل العلم أنه في هذا المثال لا يقع الطلاق.
    واستدلوا على هذا بأن التعليق انحل بدخول الدار في المرة الأولى واليمين إذا انحلت لا تعود، فإذا دخلت الدار مرة اخرى في النكاح الثاني فإنها لا تطلق وهذا القول واضح القوة وهو الراجح بلا تردد إن شاء الله فإذا دخلت مرة أخرى لم تطلق.
    مسألة:
    إن علق الطلاق على صفة ثم أبانها ثم رجعت ولم توقع هذه الصفة حال الإبانة ثم لما ردّها في النكاح الثاني أوقعت الصفة هذه المسألة فيها خلاف أيضاً، لكن الخلاف في هذه المسألة عكس الخلاف في المسألة السابقة ففي هذه المسألة وقوع الطلاق هو مذهب الجمهور لأن اليمين لم تنحل، وقد وجدت الصفة في نكاح صحيح فوقع الطلاق.
    القول الثاني: أن اليمين تنحل بمجرد الطلاق، وأنها إذا فعلت الصفة لا تطلق ويبدوا والله أعلم أن مذهب الجمهور أقرب وهو وقوع الطلاق.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (كعتق وإلا فلا)
    (5/301)
    ________________________________________
    الخلاف في العتق كالخلاف في الطلاق تماماً، إلا أنه يوجد بينهما فرق واحد وهو أنه في العتق عن الإمام أحمد رواية ثانية عدم الوقوع، بينما في الطلاق لا يوجد عنه رواية بعدم الوقوع، وهذا غريب يعني عن الإمام أحمد في المسألة الأولى رواية واحدة خالف فيها الجماهير، بل خالف فيها ما اعتبره بعضهم إجماعاً.
    وعادة الإمام أحمد في مثل هذه المسائل أن يكون له رواية أخرى لكن لم ينقل عنه - رحمه الله - وغفر له وأسكنه فسيح جناته إلا هذه الرواية.
    وبهذا يكون انتهى كتاب النكاح ولله الحمد وهذا بتوفيق الله وإعانته وننتقل إلى كتاب الطلاق.

    ((انتهى الدرس)).
    (5/302)
    ________________________________________
    الدرس: (1) من الطلاق
    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:

    (كتاب الطلاق)
    لا نحتاج تعليق على الترتيب فإنه من المنطق أن يكون الطلاق بعد النكاح هو من المنطقي يعني من جهة الترتيب الفقهي ولا يعني هذا؛ أنّ كل نكاح سيكون بعده طلاق , بل نادراً ما يكون طلاق لكن المقصود لما بيّن انعقاد عقد النكاح لابد أن يبيّن طريقة حلّ هذا العقد.
    الطلاق في لغة العرب/ مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والترك.
    وأما في الشرع / حلّ قيد النكاح أو بعضه. والمقصود بقولهم بعضه, يعني الطلاق الرجعي والطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.
    أما الكتاب فعدة آيات, منها قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {البقرة/227}
    أما في السنة عدد كبير من الأحاديث منها الحديث المتفق عليه وهو أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - طلقّ زوجته ومنها الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقّ حفصة ثم راجعها، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
    والإجماع منعقد بين علماء الأمة على مشروعية الطلاق.
    وأما النظر فهو أنّ الحال المعيشية بين الزوجين قد تصل إلى مفسدة كاملة يكون معها المضي في النكاح مفسدة لا مصلحة فيها, والشرع لا يأتي بمثل هذا. وقول الفقهاء أنّ الطلاق مشروع يعني من حيث الأصل , أما حكمه التكليفي فسيذكره المؤلف , إنما هو مشروع من حيث الأصل.
    قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
    (يباح للحاجة , ويكره لعدمها, ويستحب للضرر ,ويجب للإبلاء , ويحرم للبدعة)
    سيبيّن المؤلف أنّ الطلاق ترد عليه الأحكام الخمسة, الإباحة والجواز والتحريم .... إلى آخره , كما سيذكره المؤلف
    (5/303)
    ________________________________________
    الحكم الأول , الإباحة عند الحاجة , ويقصد بالحاجة أن يجد الزوج من زوجته سوء عشرة، سوء خُلق أو سوء خَلق أو غير ذلك من الأسباب , فإذا وجدت الحاجة صار الطلاق مباحاً عند الفقهاء مع العلم أنّ الحاجة موجودة لكن لم يرفعوه إلى الاستحباب وإنما جعلوه مباحاً فقط، وكأنهم يشيرون إلى أنّ الصبر في مثل هذه الحالة أولى وأقرب شرعاً من المبادرة بالطلاق. على كل حال الحكم الأول الإباحة عند الحاجة. وضربنا المثال على الحاجة وهذا أمر واضح.
    قال - رحمه الله - (ويكره لعدمها)
    الطلاق لعدم الحاجة يعني الطلاق مع استقامة الحال. حكمه أنه مكروه. واستدلوا على الكراهة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ففي الحديث أنّ الطلاق حلال وأيضاً هو مبغوض وينتج من المقدمتين أنه مكروه , هذا الحديث فيه ضعف.
    التعليل الثاني أنّ في الطلاق إعدام للمصالح الشرعية التي يحبها الله والتي شرع النكاح من أجلها وإعدام هذه المصالح مكروه.
    القول الثاني: أنّ الطلاق مع استقامة الحال محرم, لأنّ فيه إضرار بالمرأة بلا حاجة, كما أنه من السفه إذ لا حاجة للطلاق ومع ذلك أوقعه وفيه ثالثاً وأخيراً. إعدام للمصالح الشرعية المرجوة من النكاح.
    والقول بالتحريم قوي إلاّ أنه يشكل عليه فقط أنّ بعض السلف كان يطلق كالحسن ولم ينقل عن الصحابة والتابعين الإنكار عليه ولو كان فعل محرماً لأنكروا عليه , يعني أقول هذا يشكل لكن القول بالتحريم بلا سبب وجيه جداً.
    يقول - رحمه الله - (ويستحب للضرر)
    يستحب الطلاق في صورتين.
    الصورة الأولى أشار إليها المؤلف. وهي إذا وقع الضرر على المرأة فقوله للضرر يتعيّن أن نحمله على المرأة يعني على الضرر الواقع على المرأة. فإذا كرهت المرأة الرجل لسوء عشرته أو لسوء خُلقه أو لسوء خَلقه, أو لأي سبب من الأسباب فإنه يستحب للزوج أن يطلق. تعليل الاستحباب أنّ في هذا الطلاق تخليصاً للمرأة من الضرر. وتخليص الإنسان من الضرر مستحب.
    النوع الثاني: الذي يستحب فيه الطلاق إذا أخلت المرأة بفرض من فروض الله أو تركت العفة حينئذ يستحب له أن يطلق.
    (5/304)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الحال واجب , إذا أخلت بالفروض أو لم تأمن على عرضها وعفافها وحشمتها فإنها يجب أن تطلق.
    واستدلوا على الوجوب بأنّ هذه المرأة لا يأمن أن تدخل على فراش الرجل من ليس منه. كما أنّ في إبقاء المرأة إقرار للخنا في أهله ولا يجوز للرجل أن يقرّ الخنا في أهله لأنّ هذا من الدياثة. حينئذ على هذا القول الثاني إذا صارت المرأة تخلّ بالصلوات أو بالصيام بأن تترك بعض الصلوات أو صيام بعض الأيام أو تترك الزكاة أو تترك أي فرض من فروض الله أو كانت ليست محتشمة أو عفيفة فالزوج مخيرّ بين أمرين , إما أن يؤدبها ويعلم أنها أقلعت عن الخلق الذميم أو يطلق لا خيار إلاّ هذين الخيارين. القول الثاني قوي وهو وجوب التطليق إذا لم تستقم المرأة فإنها تطلق.
    يقول - رحمه الله - (ويجب للإيلاء)
    الإيلاء: هو الحلف على ترك وطء زوجة وسيخصص له المؤلف كتاباً كاملاً.
    فإذا حلف وضربت له المدة ولم يفيء فإنّ الطلاق حينئذ واجب إن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم في هذه صورة لوجوب الطلاق.
    الصورة الثانية: أن يتخذ الزوجان حكمان ويحكم حكمان بالطلاق حينئذ يكون الطلاق واجب ,فإذا رأى الحكمان أنّ الحال لن تستقيم وحكموا بالطلاق فالطلاق يكون واجب ,فإن طلق وإلاّ طلق عليه الحاكم. فهاتان صورتان للوجوب.
    يقول - رحمه الله - (ويحرم للبدعة)
    سيتناول المؤلف طلاق البدعة ببحث طويل لكن الذي يعنينا الآن أنّ البدعة تكون بأن يطلق الإنسان في طهر جامعها فيه أو في حيض, أو يطلق أكثر من واحدة فهذا الطلاق محرم , وصاحبه آثم , وأما مسألة الوقوع وعدمه فسيذكرها في الفصل اللاحق.
    يقول - رحمه الله - (ويصح من زوج مكلف)
    الطلاق يصح من الزوج المكلف المختار بالإجماع, لأنّ هذا الذي يملك عصمة النكاح له أن يطلق فلا إشكال في مسألة طلاق المكلف.

    يقول الشيخ - رحمه الله - (ومميّز يعقله)
    هذه العبارة فيها مسائل.
    المسألة الأولى: أنّ غير المميز أو المميز الذي لايعقل الطلاق لا يقع طلاقه بالإجماع.
    المسألة الثانية: أنّ معنى يعقل الطلاق أيّ يعرف معناه ويعلم أنّ إمرأته تبين منه بذلك , هذا معنى يعقله.
    (5/305)
    ________________________________________
    المسألة الثالثة: الخلاف في هذه المسألة تفرّد الحنابلة بالقول بوقوع طلاق المميز قالوا أنّ طلاق المميز يقع واستدلوا على هذا بأدلة:
    الدليل الأول: الآثار المروية عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    الدليل الثاني: أنّ هذا المميز عاقل يعرف معنى الطلاق فيقاس على المكلف, بجامع العقل وإن تخلف البلوغ إلاّ أنّ العقل موجود.
    - القول الثاني: وهو قول الجمهور أنّ طلاق المميز لايقع واستدلوا على هذا بدليلين:
    الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاثة والصبي منهم وهو مرفوع عنه القلم فكيف يصح طلاقه.
    الثاني: أنّ الصبي المميز يقاس على غير المميز بجامع عدم البلوغ , إذاً هذا هو الجامع بينهما , الراجح مذهب الحنابلة اعتماداً على الآثار لكن ينبغي أن يكون المميز تحت ظل وليه وألا يبادر بالطلاق لأنّ المميز الصغير قد يختلف هو وزوجته عند أشياء تافهة. شاب صغير قد يبادر إلى الطلاق , فعلى وليّ الأمر أن يلاحظ ذلك.
    قال - رحمه الله - (ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه)
    كالمجنون ومن أكره على شرب المسكر بغير حق , وهو دائما بغير حق , فإنه لايقع طلاقه بالإجماع , واستدلوا على هذا بدليلين:
    الدليل الأول: رفع القلم عن ثلاث. قالوا المجنون حتى يفيق.
    الثاني: أنّ من فقد عقله لا قصد له ومن لا قصد له لا يعتد بكلامه. فمسألة من فقد عقله بعذر لا إشكال فيها.
    ثم قال - رحمه الله - (وعكسه الآثم)
    هذه المسألة هي التي فيها إشكال , يعني أنّ من شرب المسكر عمداً بغير عذر , وفقد عقله فإنّ طلاقه صحيح وواقع وهذا مذهب الحنابلة بل مذهب الأئمة الأربعة استدلوا - رحمهم الله - على وقوع طلاق السكران بأدلة:
    الدليل الأول: قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كل طلاق جائز إلاّ المعتوه.
    الدليل الثاني: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلوا السكران كالصاحي في حد القذف , ودليل ذلك أنّ عمر بن الخطاب لما شكي إليه كثرة شرب الناس الخمر شاور الصحابة - رضي الله عنهم - فقال علي - رضي الله عنه - أنه إذا شرب فقد عقله ثم هذى ثم قذف فأرى أن يحد حد القاذف ثمانون جلدة , فنزل السكران منزلة الصاحي في حد القذف.
    (5/306)
    ________________________________________
    الدليل الثالث: أنّ هذا السكران فقد عقله بغير عذر فليس أهلاً أن يرفع عنه آثار قوله.
    القول الثاني: أنّ طلاق السكران لايقع وهو مذهب عدد من الفقهاء وعدد من المحققين - رحمهم الله - استدلوا على هذا بأدلة:
    الأول: أنه صح عن عثمان - رضي الله عنه - أنّ طلاق السكران لايقع , وأنه لم يصح عن صحابي خلاف حينئذ إذا رأينا أنهم ذكروا
    أنه لم يصح عن غير عثمان - رضي الله عنه - خلافه نحتاج الجواب عن أثر علي - رضي الله عنه - الجواب عنه من وجهين:
    أو الجمع بينه وبين زعمهم أنه لم يصح إلاّ عن عثمان - رضي الله عنه -
    الأول: أنه لا يصح ولا يثبت عن علي - رضي الله عنه -
    الثاني: وهو الأقرب أنه لا دلالة في أثر علي - رضي الله عنه - فإنه ذكر أنّ كل الطلاق جائز إلاّ المعتوه , ولم يتحدث عن السكران
    فلا دلالة في الأثر من الأصل.
    الدليل الثاني: للقائلين بعدم الوقوع أنّ الله تعالى قال {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فدلت الآية أنّ السكران لا يعتد بقوله لأنه لا يعلم ما يقول , وإذا كان لا يعتد بقوله فإنه لا يقع طلاقه.
    الدليل الثالث: أنّ السكران غير مكلف لأنه فاقد العقل وإن كان فاقد العقل بغير عذر إلاّ أنه فاقد العقل , فوجد فيه وصف رفع التكليف. الراجح إن شاء الله أنه لا يقع , وذكر أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - رجع إلى هذا القول, فهذه المسألة من المسائل التي يعرف فيها الرواية الأولى والثانية , فالثانية عدم الوقوع وهذا القول إن شاء الله أقرب.
    * * مسألة / حد السكر الذي لايقع معه الطلاق , هو ألاّ يعرف ما يقول ولا يفرقّ بين الأعيان فيختلط عليه مثلاً ردائه مع رداء غيره
    ولا يشترط أن لا يعرف السماء من الأرض , لأنّ المجنون قد يعرف السماء من الأرض ومع ذلك غير مكلف , وهذا الضابط أخذ من الآية , {حتى تعلموا ما تقولون} [النساء/43] فإذا علم ما يقول وفرق بين الأعيان وقع طلاقه وإن كان فيه نشوة السكر وإلاّ فلا.
    قال - رحمه الله - (ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو ولد ... )
    بدأ المؤلف بالكلام عن طلاق المكره والإكراه يحصل بأمرين:
    الأول: إيقاع الأذى مباشرة.
    الثاني: تهديد بالأذى
    (5/307)
    ________________________________________
    والمؤلف ذكر النوعين.
    النوع الأول: يقول الشيخ: ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده ,أو أخذ مال يضره لم يقع.
    إذا هدده بإيلام له أو لولده أو لوالديه أو لأقاربه لا يختصر الحكم به وبولده أو أخذ منه مالاً كثيراً أو ضربه فإنّ هذا إكراه.
    ذهب الجماهير الأئمة الثلاثة وجمهور الأمة إلا أنّ طلاق المكره لايقع. واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق في إغلاق) وفسروا الإغلاق بالإكراه.
    القول الثاني: أنّ الطلاق يقع , وهو مذهب أبي حنيفة.
    واستدل على هذا بأنّ المكره رجل مكلف طلق في نكاح صحيح فيقع. ويكون كغير المكره وهو تفقهه عجيب وبعيد كل البعد لأنّ الأحناف عمدوا للوصف الذي عليه مدار المسألة وهو الإكراه فألغوه وجعلوا المكره كغير المكره وهو غريب جداً , ولهذا لم يوافقهم أحد من أئمة الإسلام الأئمة الأربعة , وقولهم ظاهر الضعف.
    النوع الثاني: يقول أو هدده بأحدها قادر يظن إيقاعه به لم يقع , النوع الثاني من الإكراه أن يهدده ويشترط للتهديد شرطان:
    الأول: أن يكون التهديد من قادر.
    الثاني: أن يكون التهديد ممن يظن إيقاعه.
    وفهم من كلام المؤلف أنه لا يشترط أن يغلب على ظنه إيقاعه بل مجرد ما يظن فقط أنه سيوقع عليه التهديد فإنّ له أن يطلق , وهذا هو الصحيح أنه لا يشترط غلبة الظن بل يكتفى بالظن المجرد المتساوي الطرفين. فإذا تحقق الشرطان وطلق فإنّ طلاقه لايقع وإلى هذا ذهب الجماهير ما عدا الأحناف.
    القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد , أنّ مجرد التهديد ليس بمسوغ للطلاق, فإن طلق فهو واقع ويشترط أصحاب هذا القول أن يمسه بعذاب ولا يكتفون بمجرد التهديد.
    والصحيح أنّ التهديد بهذين الشرطين كافي في عدم وقوع الطلاق , ولا ننتظر إلا أن يعذب
    (5/308)
    ________________________________________
    * * مسألة / يشترط في هذا العذاب أن يكون عذاباً مؤلماً , كالضرب المبرح أو أخذ مبلغ كبير من المال أو إيذاء قريب يعنيه ألاّ يؤذى ونحو ذلك , أما إذا أخذ منه مبلغاً بسيطاً , وقال أكرهت فإنّ هذا ليس بإكراه ولو كان بخيلاً. فإنّ مثلاً المبلغ البسيط عند البخيل يساوي المبلغ الكبير عند الكريم , نحن نلغي الإكراه ونلغي وصف البخل ونقول إذا كان المبلغ يسيراً فإنه لا إكراه والطلاق واقع.
    يقول المؤلف - رحمه الله - (فطلق تبعاً لقوله)
    أفادنا المؤلف أنّ عدم وقوع الطلاق فيما إذا كان الطلاق لدفع الإكراه , أما إذا كان الطلاق لا لدفع الإكراه وإنما بقصد إيقاع الطلاق فإنه يقع , وهذا صحيح إذا تصور وقوعه , فإذا أكره الإنسان وفي تلك اللحظة طلق لا يقصد دفع الإكراه وإنما يقصد أن يطلق حينئذ الطلاق واقع , أما إذا قصد دفع الإكراه أو قصد أن يطلق فعلاً لكن بسبب الإكراه فإنه لا يقع.
    والتفريق بينهما عسر جداً لا يكاد الإنسان يتصور إكراه ثم طلاق بعد الإكراه ويكون قصد الإنسان ماذا؟ الطلاق لا دفع الإكراه هذا لا يكاد يتصور ,
    إلاّ في صورة واحدة وهي ما إذا تكرر الإكراه ثم ضجر الزوج فعلاً من هذا الزوجة بسبب كثرة إكراه أولياءها له على الطلاق ثم طلق قاصداً للطلاق حينئذ الطلاق يقع , أما في الأمور والأحوال الطبيعية , فإنه لا يتصور.
    ثم قال - رحمه الله - (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه)
    الطلاق يقع في النكاح المختلف فيه يعني الذي اختلف فيه الأئمة بسبب فقد شرط كالنكاح بلا ولي وبلا شهود ..... إلى آخره.
    أو بلا مهر. هذا الطلاق يقع ولو كان المطلق يرى عدم صحة النكاح , ومعنى أنه يقع يحسب طلاق شرعي صحيح , فلو فرضنا أنه نكح هذه المرأة نكاحاً صحيحاً يكون بقي له طلقتان.
    الدليل على هذا أنّ هذا النكاح المختلف فيه , يثبت النسب والعدة ولا يحد في الوطء فيه وهذه أحكام النكاح الصحيح فيقع الطلاق
    الدليل الثاني: أنّ هذا الطلاق يحل الزوجة لغيره , لأنه قد يرى هو أنّ النكاح غير صحيح. ولكن ترى المرأة والزوج الثاني أنّ النكاح صحيح , فلا تحل للثاني إلاّ بعد طلاق الأول.
    (5/309)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنه لا يصح الطلاق وهو عبث , لأنّ المطلق لا يرى أنّ النكاح انعقد أصلاً فكيف يطلق , والأقرب أنّ الطلاق يقع لمجموع الدليلين. وخروجاً من الخلاف وبقاء المرأة مترددة بين بقاءها في عصمة الأول وصحة زواجها من الثاني. الأقرب إن شاء الله وقوع الطلاق وهو الأحوط , فنقول للزوج الذي تزوّج بغير وليّ طَلِّق , فإن قال أنا أرى أنّ النكاح لم ينعقد سأمضي وتمضي هي , نقول لا طَلِّق , ولو أنّ الحاكم ألزمه لكان وجيهاً , لأنه بهذا تنضبط الأمور ولا تبقى المرأة معلقة.
    قوله (ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه) يعني وأما النكاح الباطل فإنه لايقع طلاقه, وهذا لا إشكال فيه , وإن كان روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنّ النكاح الباطل أيضاً يقع طلاقه , لكن الصحيح أنّ النكاح الباطل لا يقع طلاقه لأنّ النكاح الباطل لا قيمة له شرعاً مطلقاً. مثل أن يتزوّج الإنسان أحد محارمه , فهنا لا نقول طلق وليس للطلاق أي قيمة ولا عبرة.
    قال - رحمه الله - (ومن الغضبان)
    هذه المسألة تعتبر من أمهات مسائل كتاب الطلاق حقيقة , والحاجة إليها كثيرة جداً طلاق الغضبان عند الحنابلة يقع , وهو مذهب الجماهير. واستدلوا على هذا بأدلة:
    - الدليل الأول: أنّ الغضبان رجل مكلف عاقل يتصور ما يقول فيقع طلاقه.
    - الثاني: أنّ في قصة المظاهر الذي ظاهر من زوجته في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض ألفاظه , فغضب منها وظاهر واعتد النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهاره وإن كان غضباناً والظهار كالطلاق.
    القول الثاني: تقسيم ذكره وتبناه شيخ الإسلام ابن تيمية وأخذه عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان الصغرى , وأظن أنّ هذا التقسيم أول من قاله شيخ الإسلام. وهو كالتالي يقول ينقسم الغضبان إلى ثلاثة أقسام:
    - القسم الأول: أن يكون في بداياته وأوائله بحيث يتصور ما يقول ويعني فهذا لا خلاف في وقوع طلاقه.
    (5/310)
    ________________________________________
    - القسم الثاني: أن يكون في أواخر الغضب بحيث انغلق عليه القصد ولم يعد يتصور ما يقول فهذا يقول ابن القيم عبارته {لا ينبغي أن يكون فيه خلاف} وهذان القسمان أمرهما واضح. لأنّ الغضبان الذي في نهاية الغضب حكمه حكم المجنون والمغمى عليه. بل كثيراً ما يغمى عليه فعلاً من شدة الغضب.
    - القسم الثالث: من تعدى بداياته ولم يصل إلى نهاياته , فهذا محل الخلاف , ذكر الشيخ ابن القيم وكتابه إغاثة اللهفان لعدم وقوع طلاق الغضبان. أطال في هذه المسألة جداً. ذكر أدلة: أنا أقسّم أدلة الشيخ إلى ثلاثة أقسام:
    القسم الأول: نصوص
    القسم الثاني: قواعد شرعية عامة
    القسم الثالث: تعليلات فقهية
    نبدأ بالقسم الأول: استدل بحديثين.
    الحديث الأول (لا طلاق في إغلاق) وذكر أنّ السلف فسروا الإغلاق بالغضب لأنه مع الغضب ينغلق عليه مقصود الكلام ويخرج بلا إرادة.
    الدليل الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يقضي القاضي وهو غضبان)
    وجه الاستدلال أنّ الشارع إنما منع القاضي من
    الحكم أثناء الغضب , لأنّ الغضب يمنع تصور ما يقول وينغلق عليه فهمه , وهذا ما يقع في الغضبان.
    لم أرى الشيخ استدل بنصوص إلاّ بهذين النصين.
    القسم الثاني والثالث: القواعد والتعليلات , هذه القواعد والتعليلات مجموعة من الأدلة يلتمس فيها الشيخ عدم وقوع الطلاق.
    ومن وجهة نظري أنّ هذه التعليلات والقواعد ضعيفة.
    السبب الأول: تأملت هذه القواعد والتعليلات كثيراً فوجدت أنّ هذه التعليلات والقواعد تشترك بين القسم الثاني والثالث تستطيع أن تنزلها على القسم المتفق عليه وتستطيع أن تنزلها على القسم المختلف فيه. لم تتمحض للقسم المختلف فيه. ولا يجد الإنسان فيها بغيته من القول بعدم وقوع طلاق الغضبان.
    السبب الثاني: في الضعف أنّ هذه التعليلات مصادمة لفتاوى الصحابة. فقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه يوقع طلاق الغضبان. وصح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها ترى انعقاد يمين الغضبان. واليمين كالطلاق عقد , إذا انعقدت من الغضبان فكذلك في الطلاق.
    الأمر الثالث: الذي بسببه أرى أنّ التعليلات ليست بقوية. أنه انعقد الإجماع على وقوع طلاق الغضبان.
    (5/311)
    ________________________________________
    الأمر الرابع: ويعرفه كل من يمارس فتوى طلاق الغضبان , وهو أنّ التفريق بين هذه المراتب عسر جداً لا يكاد يظهر إلاّ في صور نادرة وهي ما إذا وصل إلى غضب لا يختلف فيه اثنان. فيما عدا هذه الصورة التفريق بين المرتبة الثانية والثالثة يكاد يكون شكلي. لمجموع هذه الأمور أنا أرى لاسيما الإجماع وآثار الصحابة, أنّ اختيار الشيخين في هذه المسألة غير صحيح وأنّ الإنسان إذا طلق وهو غضبان فطلاقه واقع ما لم يصل إلى مرحلة لا يختلف فيها اثنان أنه لا يتصور ما يقول وخرج عن عقله وطوره. وهذه المرحلة لا يختلف فيها اثنان لوضوحها ما عدا هذه المرحلة وهي المرحلة الثانية فإنه يقع الطلاق , وممن رجح هذا القول وانتصر له بكلام جيد ابن رجب - رحمه الله - فإنه انتصر لهذا القول بل تعجب من هذا القول لأنه يرى أنّ الصحابة رأوا وقوع طلاق الغضبان لأنه غضبان.
    قال فجعل الذين لم يوقعوه الغضب الذي هو سبب في وقوعه سبب في عدم وقوعه. وهذا عكس فقه الصحابة.
    على كل حال بعد التأمل ظهر أنا بوضوح أنّ هذا التقسيم نظري وأنه لا يسعف في الواقع , وأنّ الراجح أنّ الغضبان إذا طلق فإنه طلاقه صحيح , ولهذا لما سمع الناس بهذه الفتوى تجد لا يكاد يطلق إلاّ ويقول أنا غضبان. طبيعي أنه غضبان هو لم يطلق إلاّ لذلك ولا واحد بالمائة سيطلق وهو بنفسية هادئة , هذا لا يوجد, إذا غالباً الناس إنما يطلقون حال الغضب ثم يأتي التفريق بين هذه المراتب وهو لا يمكن , كما قلت هذه المسألة مهمة جداً , والإنسان يحتاج أن يستخير وأن يسأل الله التوفيق فيها , لكن هكذا ظهر لي بعد التأمل ولعل بعضكم لو رجع لكلام ابن القيم سيجد مسألة أنّ المعاني التي ذكرها تشترك بين المرتبة الثانية والثالثة.
    قال - رحمه الله - (ووكيله كهو)
    (5/312)
    ________________________________________
    يعني أنّ وكيل المطلق كالمطلق في استحقاق الطلاق أفادنا المؤلف بهذه العبارة , أنه يجوز للإنسان أن يوكل من يطلق عنه , لأنّ الطلاق عبارة عن فسخ عقد فجاز التوكيل فيه , وأفادنا أنّ الوكيل حكمه حكم الموكل , فمن يجوز له أن يطلق هو بنفسه يجوز أن يُوكَل ومن لا يجوز أن يطلق هو بنفسه فإنه لا يصح أن يُوكَل , فالصغير دون التمييز لا يُوكَل والمجنون لا يوكل وهكذا كل من لا يستطيع هو بنفسه أن يطلق فإنه لا يصح أن نوكله بالطلاق.
    قال - رحمه الله - (يطلق واحدة)
    يعني أنّ التوكيل المطلق لا يملك فيه الموكل إلاّ واحدة , لأنّ مقتضى التوكيل المطلق أن يملك طلقة واحدة فقط , فإن طلق أكثر فإنّ الزائد باطل.
    يقول - رحمه الله - (ومتى شاء)
    دائما ما سيتحدث الفقهاء في الطلاق عن أمرين الوقت والعدد , فالموكل من حيث العدد يملك كم؟ واحدة , ومن حيث الوقت مفتوح له , فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل , والسبب في هذا أنّ عقد التوكيل عقد يقتضي الدوام والتراخي وليس عقدا على الفور فله أن يطلق متى شاء ما لم يفسخ الموكل.
    قال - رحمه الله - (إلاّ أن يعيّن له وقتاً وعدداً)
    فإذا عيّن له وقتاً أو عدداً لم يجز أن يخرج عن ذلك لأنّ الحق للموكل في تعيين العدد والوقت فإذا قال له لك أن تطلق ثلاثاً لمدة أسبوع انتهت الوكالة بعد مضي الأسبوع , وإذا قال له لك أن تطلق واحدة لمدة سنة , انتهت الوكالة بسنة وانتهت الوكالة إذا طلق واحدة المهم أنّ الذي الموكل إذا أقتّ العدد والوقت يجب على الموكل أن يلتزم به.
    قال - رحمه الله - (وامرأته كوكيله في طلاق نفسها)
    يعني من حيث الزمن والعدد , وفي توكيل الزوج زوجته في الطلاق خلاف سيأتينا لا حقاً إن شاء الله الكلام في توكيل الزوج زوجته أن تطلق وفي جعل العصمة بيد الزوجة فترة مؤقته أو فترة مُطلَقًة ستأتي.
    (فصل)
    هذا الفصل في طلاق البدعة والسنة وهو أيضاً من الفصول المهمة.
    فطلاق البدعة: هو الطلاق الذي يكون على غير شرع الله ,
    وطلاق السنة: هو الطلاق الموافق لشرع الله. هذا من حيث التعريف العام
    وسيبّين المؤلف طلاق السنة بتفصيل وطلاق البدعة بتفصيل. بدأ الشيخ - رحمه الله - بالسنة لأنه الأصل.
    (5/313)
    ________________________________________
    يقول - رحمه الله - (إذا طلقها مرة في طهر , لم يجامع فيه وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة)
    أفادنا المؤلف أنّ طلاق السنة هو ما اشتمل على هذه الأوصاف. وهو أن يطلق مرة وأن تكون هذه المرة في طهر وأن يكون هذا الطهر لم يجامع فيه , فإذا وجدت هذه الأوصاف , فهو طلاق سنة.
    الدليل على هذا أنّ الله تعالى قال: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق/1] وأنّ السلف فسروا هذه الآية بقولهم أي طاهرات من غير جماع وهذا تفسير مروي عن اثنين من أكبر وأفقه الصحابة. ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا التفسير نص في المقصود فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمر بطلاق السنة وبيّن الصحابة هذا الطلاق بهذا التفسير تعيّن المراد.
    الدليل الثاني: حديث ابن عمر المشهور أنه طلق زوجته وهي حائض. فجاء عمر يستفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغير عليه وقال (مره فليراجعها) وسيأتينا هذا الحديث ,
    وجه الاستدلال من هذا الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها
    وأنه ثرّب عليه أنه طلق في الحيض ويمكن أن نستدل بوجه آخر وهو أنّ ابن عمر - رضي الله عنه - كأنه لم يجرأ أن يستفتي هو وطلب من أبيه أن يستفتي له , وهذا يدل على أنّ الطلاق في الحيض كأنه مستقر عندهم أنه لا يجوز. على كل حال هذا وجه من الاستدلال وإلاّ الحديث نص في المقصود. إذاً هذه هي أدلة , أنّ هذا هو طلاق السنة.

    يقول - رحمه الله - (وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنة)
    (5/314)
    ________________________________________
    قوله وتركها حتى تنقضي عدتها أراد أن يشير إلى حكم طلاق الرجعية. الرجعية إذا طلقها وأصبحت في العدة , فهل هي في طهر لم يجامعها فيه؟ أو ليست في طهر؟ يصدق عليها صحيح , ولهذا ذكرها المؤلف , لأنه لو قال طهر لم يجامعها فيه وترك المسألة لدخلت الرجعية , المرأة الرجعية في طهر لم يجامعها فيه ومع ذلك طلاقها طلاق بدعة وليس بطلاق سنة. لأنّ طلاق الرجعية في العدة حكمه حكم إيقاع أكثر من طلقة في الطهر الواحد , إذاً المخالفة في طلاق الرجعية في العدد ولا في الزمن؟ في العدد إذاً هو بدعي من هذه الجهة , وإلاّ هي زوجة في طهر لم يجامعها فيه , لكن حكم الطلاق حكم من طلق أكثر من مرة في طهر لم يجامعها فيه , وسيأتينا أنّ الطلاق. بل جاءنا. وسيأتينا أنّ الطلاق أكثر من مرة في طهر واحد محرم وبدعي. إذا الآن عرفنا وتصورنا طلاق السنة.
    فإن قيل ما هو الدليل على أنّ طلاق الرجعية بدعي؟ ما هو دليل هذا التفصيل.
    فالجواب الأدلة كثيرة:
    الدليل الأول: أنه إذا طلق الرجعية صدق عليه أنه طلق أكثر من مرة في طهر واحد.
    الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم قال لعمر مره فليراجعها. ولو كان التطليق للرجعية يقع لأمره أن يطلقها وهي رجعية
    الدليل الثالث: أنه صح عن ابن مسعود وعلي. أنّ الرجعية لا تطلق إلاّ بعد إرجاعها.
    هذه ثلاث أدلة واضحة جداً ولا مجال من وجهة نظري للنزاع فيها أنّ طلاق الرجعية بدعي.
    قال - رحمه الله - (فتحرم الثلاث إذن)
    الطلاق الثلاث فيه مسألتان:
    المسألة الأولى: حكم أن يطلق ثلاثاً؟
    المسألة الثانية: إذا طلق هل يقع أو لايقع؟ وبين المسألتين فرق
    المسألة الأولى حكمه. ذهب الجماهير إلى أنّ طلاق الثلاث محرم , واستدلوا على هذا بأدلة:
    الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وطلاق السنة فيه طلقة واحدة فالطلاق الثلاث ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
    الدليل الثاني: أنّ رجلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق ثلاثاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) فجعل التطليق ثلاثاً من اللعب بكتاب الله.
    (5/315)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنّ الطلاق ثلاث جائز , ولا محظور فيه واستدلوا على هذا بأدلة:
    الدليل الأول: أنّ عويمر العجلاني - رضي الله عنه - لما لاعن امرأته وانتهى اللعان. قال يا رسول لقد كذبت عليها إن أبقيتها فطلقها ثلاثاً. وهذا الحديث صحيح.
    الثاني: أنّ فاطمة بنت قيس أخبرت أنّ زوجها طلقها ثلاث تطليقات.
    الدليل الثالث: حديث عائشة وهو أيضاً صحيح أنّ رجلاً طلق إمرأته فبت طلاقها.
    قالوا هذه ثلاث نصوص في العهد النبوي فيها الطلاق الثلاث.
    والراجح إن شاء الله أنّ الطلاق محرم وهو مذهب الجماهير.
    والجواب عن هذه الأدلة التي ذكروها. أما حديث عويمر - رضي الله عنه - فإنّ الفرقة حصلت بالملاعنة وليس بالطلاق الثلاث وأما الجواب عن حديث فاطمة وعائشة فهو أنّ المقصود أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات كما في بعض الألفاظ. وليس المقصود أنّ هذا الصحابي جمع عليها الطلاق ثلاثاً. ثلاث طلقات في مجلس واحد أو في زمن واحد. ولهذا نقول الصحيح إن شاء الله أنّ طلاق الثلاث لا يجوز وهو كما قلت مذهب الجماهير. هذه مسألة.
    المسألة الثانية , مسألة هل يقع أو لا يقع وهذا يطول جداً ولا يتسع له الوقت والله أعلم.
    (5/316)
    ________________________________________
    الدرس: (2) من الطلاق

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    انتهى بنا الكلام في مجلس الأمس عند حكم إيقاع الطلاق بالثلاث. وكان الكلام عن الحكم التكليفي واليوم إن شاء نتحدث عن الحكم
    الوضعي يعني هل هو صحيح أو فاسد. والمؤلف - رحمه الله - لم يتطرق لهذا الأمر وإنما تطرق للحكم التكليفي فقط.
    فقال (فتحرم الثلاث إذن)
    وقبل أن نتحدث عن حكم طلاق الثلاث من حيث الصحة والفساد نريد أن ننبه إلى إضافة دليلين للقائلين
    بتحريم طلاق الثلاث , بالأمس حكيت الخلاف وأريد أن أضيف دليلين لتقوية القول بتحريم طلاق الثلاث.
    الدليل الأول: الآية وهي قوله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} ثم قال {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق/1]
    (5/317)
    ________________________________________
    وإذا طلق ثلاثاً فأيُّ أمر يحدث بعد الثلاث , فالآية دليل على أنّ الطلاق الشرعي لا يكون إلاّ واحدة لكي يتبيّن ويتمهل الإنسان إن أراد إرجاع زوجته , وإن أراد أتم الطلاق.
    الدليل الثاني: أنّ التحريم مروي عن عمر وعن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما - فهذان دليلان يضافان إلى أدلة القول بتحريم الطلاق الثلاث.
    نأتي الآن إلى الوقوع وعدمه , اختلف العلماء - رحمهم الله - في الطلاق الثلاث هل يقع أو لا يقع؟
    فذهب الحنابلة وهو المنصوص عن الإمام أحمد ومذهب الجماهير من أهل العلم. أنّ الطلاق الثلاث يقع. واستدلوا على وقوعه بالأحاديث السابقة معنا ,
    الحديث الأول: حديث عويمر العجلاني أنه طلق امرأته ثلاثاً بعد الملاعنة.
    الحديث الثاني: حديث فاطمة بنت قيس وأنّ زوجها طلقها ثلاثاً.
    الحديث الثالث: حديث رفاعة - رضي الله عنه - فإنّ رفاعة طلقّ امرأته ثلاث طلقات ثم تزوجت بعده , عبد الرحمن بن الزبير ثم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول الله , ليس معه إلاّ مثل الهدبة , تقصد هدبة الثوب , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة , لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
    سيأتينا هذا الحديث المهم لاحقاً إن شاء الله. لكن الذي يعنينا الآن. سيأتينا في باب الرجعة وهو عمدة في كتاب الرجعة.
    اللي يعنينا الآن أنه في هذا الحديث طلقها ثلاثاً , فهذه ثلاث أدلة.
    الدليل الأخير: أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى وقوع الطلاق ثلاثاً.
    والجواب عن الأحاديث. الثلاثة تقدم معنا بالأمس , وهو أنّ في حديث الملاعن أنّ الفرقة حصلت باللعان. لا بالطلاق الثلاث.
    وأما بالنسبة لفاطمة وبالنسبة لرفاعة الجواب عنهما أنّ المقصود بأنه طلقها ثلاثاً يعني منفصلات. بدليل رواية في حديث فاطمة فأرسل لها بآخر ثلاث تطليقات.
    وأما الأثر عن ابن عباس فالجواب عنه أنّ ابن عباس صح عنه أيضاً أنه لا يقع.
    (5/318)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنّ الطلاق الثلاث لا يقع وإلى هذا ذهب بعض الحنابلة وبعض المالكية وطاووس تلميذ ابن عباس وابن عباس - رضي الله عنه - والظاهرية ونصره شيخ الإسلام - رحمه الله - ابن تيمية ونصره شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - واستدلوا بأدلة:
    الدليل الأول: حديث ابن عباس في صحيح مسلم أنه قال كان الطلاق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الطلاق الثلاث واحدة. هذا الحديث في صحيح مسلم. أجاب عنه الجمهور بأجوبة
    الجواب الأول: أنه منسوخ. بالأحاديث السابقة وهذا الجواب هو أضعف الأجوبة. إذا كيف يستمر العمل
    على حديث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر وهو منسوخ. هذا لا يستقم مطلقاً
    الجواب الثاني: أنّ هذا الحديث ضعيف. ودلّ على ضعفه أمران:
    الأول: أنه صح عن ابن عباس أنه أفتى بخلافه
    الثاني: أنه روى تلاميذ ابن عباس خلاف هذا - رضي الله عنه - وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنّ القاعدة التي اتفق عليها العلماء أنّ العبرة بما روى لا بما رأى وربما وهو احتمال كبير جداً , أنّ ابن عباس أخذ بفتوى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإن في حديث ابن عباس السابق لما قالوا سنتين من خلافة عمر قال ابن عباس فلما رأى عمر الناس تساهلوا في أمر الطلاق. قال يعني عمر أرى الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه أناة , فلو أمضيناه ثم أمضاه. - رضي الله عنه - وربما ابن عباس صار يفتي بقول عمر هذا وليس بغريب لأنّ ابن عباس كثير الأخذ عن عمر بن الخطاب. إذا هذا الدليل في الحقيقة سالم لا يوجد عنه جواب صحيح.
    الدليل الثاني: ما تقدم معنا أنه صح عن ابن عباس أنّ الطلاق الثلاث واحدة.
    الدليل الثالث: حديث ركانة وهو أنه طلق ثلاثاً ثم ندم فطلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فحلف أنه ما أراد إلاّ واحدة فجعلها واحدة. وهذا الحديث ضعيف.
    الدليل الأخير: قوله - صلى الله عليه وسلم - (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) وليس طلاق الثلاث على أمر الله ورسوله لأنّ النصوص دلت على أنه ينبغي أن يطلق مرة واحدة في الطهر الذي لم يجامع فيه.
    (5/319)
    ________________________________________
    ولهذا الراجح إن شاء الله , أنّ الطلاق الثلاث لا يقع , بسبب هذا النص ولأنه من الواضح جداً من خلال تتبع التاريخي أنّ انتشار هذا القول بين الأئمة الأربعة كان بسبب أنّ عمر ألزم الناس وتبعه الخلفاء واشتهر العمل بالإلزام بالثلاث تأديباً للناس وإلاّ فإنّ النصوص واضحة , أنه كان الطلاق الثلاث واحدة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى الإمام أحمد لما قيل له فبما تجيب عن حديث ابن عباس لم يجب إلاّ بما ذكرنا , وهو أنه روى عنه تلاميذه خلاف هذا. وهذا لا يكفي فإنه يروى عن الإنسان أشياء كثيرة وكلها صحيحة.
    والخلاصة أنه إن شاء الله القول بأنه لا يقع أقرب ومن باب التنبيه الخلاف في هذه المسألة أهون من الخلاف في مسألة الحيض التي ستأتينا الآن. تلك المسألة مشكلة جداً , أما هذه فهي أوضح منها , ويظهر لي أنّ القول بعدم الوقوع أقرب
    وبهذا نكون انتهينا من الطلاق الثلاث ونتقل إلى مسألة (في حيض)
    قال - رحمه الله - (وإن طلق من دخل بها في حيض , أو طهر وطء فيه , فبدعة , يقع)
    أفادنا المؤلف أنّ التطليق في الحيض بدعة والتطليق في الطهر الذي أصابها فيه بدعة , وأدلة هذا تقدمت معنا أثر ابن مسعود وأثر ابن عباس في تفسير الآية وأنّ ماعدا ما ذكروه - رحمهم الله - من أنه يطلق في طهر لم يجامع يكون بدعة وهذا يتناول الطلاق في الحيض والطلاق في طهر جامعها فيه , والطلاق في الحيض محرم بالإجماع , ليس فيه خلاف كما في الطلاق الثلاث , وإنما محرم بالإجماع لكن الخلاف في وقوعه , عرفنا الآن أنّ حكم الطلاق الثلاث فيه خلاف , وحكم إيقاع الطلاق الثلاث فيه خلاف.
    حكم الطلاق في الحيض محرم بالإجماع , وحكم إيقاع الطلاق في الحيض ادعي فيه الإجماع أيضاً , ومن هنا علمنا أنّ الخلاف في مسألة الحيض ليس كالخلاف في مسألة الطلاق الثلاث كما تقدم نأتي إلى وقوع الطلاق في الحيض. ذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة وحكاه ابن قدامة وابن المنذر إجماع العلماء , بل ذكروا أنه لم يخالف فيه إلاّ أهل البدع والأهواء تأكيداً للإجماع. كل هؤلاء ذهبوا إلى أنّ الطلاق في زمن الحيض محرم ويقع. وهذه المسألة تدور على حديث ابن عمر جميع الاستدلالات من الطرفين في حديث ابن عمر.
    (5/320)
    ________________________________________
    نبدأ بأدلة الجماهير الذي حكي إجماع:
    استدلوا بأدلة من حديث ابن عمر. وحديث ابن عمر هو أنه - رضي الله عنه - طلق زوجته في الحيض واستفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق والده عمر - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أن يطلق فليفعل) هذا الحديث في الصحيحين. لكن له ألفاظ كثيرة جداً كل من الذين قالوا بوقوع الطلاق وبعدمه يأخذ ببعض ألفاظه , نرجع فنقول استدل الجماهير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها) وهذا أقوى دليل لهم , وجه الاستدلال أنّ المراجعة في الشرع هي إعادة المطلقة. واستخدام النبي - صلى الله عليه وسلم - للألفاظ يكون استخدام شرعي. فقوله (مره فليراجعها) يعني أنّ الطلاق السابق واقع.
    أجاب القائلون بعدم الوقوع بأجوبة كلها ضعيفة غير واضحة ولا مقنعة , أقواها أنّ المراجعة هنا يقصد بها المعنى اللغوي , وذلك أنّ الطلاق غالباً يسبب فراق أبدان الزوجين , فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يراجع يعني مراجعة الأبدان. وكأنّ الطلاق لم يقع وهذا غير مقنع في الحقيقة , ويبقى قوله (مره فليراجعها) محل إشكال.
    الدليل الثاني: رواية لهذا الحديث من طريق ابن أبي ذئب أنه قال (وهي واحدة) يعني أنه في لفظ حديث ابن عمر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (مره فليراجعها وهي واحدة) وهذا نص أنها لا تكون واحدة إلاّ وقد وقعت.
    والجواب على هذا الحديث. أنّ في هذه الرواية شذوذ , فإنّ الذين رووا هذا الحديث عن تلاميذ ابن عمر كلهم لم يذكر هذه اللفظة مع أهميتها وكونها فاصل في النزاع ,لو كانت موجودة لرواها الباقون. وهذا الاستدلال أمره سهل وتم الجواب عنه بالتضعيف.
    الدليل الثالث: في رواية في حديث ابن عمر علقها البخاري قال (وحسبت عليه بتطليقة)
    الجواب عن هذا الاستدلال أنه ليس في الروايات ما يبيّن من الذي احتسبها , هل هو ابن عمر أو عمر أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعض الروايات ما يدل على أنّ الذي احتسبها هو ابن عمر , فإنه صرح في بعض الروايات أنه هو الذي احتسبها.
    (5/321)
    ________________________________________
    ويؤيد هذه الرواية ما جاء في الصحيح أنّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة قال أفرأيت إن عجز واستحمق. فعلل حسبان الطلاق بكونه عجز واستحمق فكأنه هو الذي احتسب الطلاق ,وهذا المأخذ أشار إليه ابن القيم , وعلى كل حال يبقى هذا اللفظ مشكل ويحتمل أنّ الذي احتسبها ابن عمر أو أنّ الذي احتسبها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه أدلة الجماهير. وبإمكانك أن تضيف إن شئت الإجماع
    فإنّ بعضهم يضيف الإجماع فيقول محل إجماع.
    القول الثاني: أنّ الطلاق محرم ولا يقع , واستدل هؤلاء أيضاً بأدلة:
    الدليل الأول: ما جاء في الحديث وهو قوله عن ابن عمر (ولم يعتد بها)
    والجواب عنه. أنّ الروايات الصحيحة الثابتة فسرت أنّ المقصود بلم يعتد بالحيضة لا بالطلقة.
    الدليل الثاني: ما جاء في روايات حديث ابن عمر وهو قوله (ولم يرها شيئاً) وهذه الرواية فيها ضعف. وإن كان بعضهم يميل إلى تحسين هذه الرواية ولكن الصواب أنها لا تثبت في حديث ابن عمر.
    إذا استدلوا بلفظين: (لم يرها شيئاً) والثاني (لم يعتد بها) وبيّنا أنّ هذا الاستدلال باللفظين لا يستقيم. إلى هنا انتهى الاستدلال بالنصوص , ولو كانت المسألة تقف على هذه الأدلة لكان القول بالوقوع هو المتعيّن.
    (5/322)
    ________________________________________
    والسبب في ذلك: أنه لا جواب صريح عن (مره فليراجعها) في الحقيقة مشكل جداً كما أنّ (احتسبت عليه) فيه قوة لكن ليس بقوة الدليل الأول وهو (مره فليراجعها) لكن بقي دليل ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - من وجهة نظري أنه يقلب الموازين ويربك القائلين بوقوع الطلاق في الحيض. وهو أنه يقول أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالمراجعة , ومقتضى هذا أنه أمره بأمر لا مصلحة فيه ولا فائدة , لأنه إذا راجع وقد أوقعنا الطلاق ترتب على هذا مضرة إضافية على المرأة من جهتين وقوع الطلاق الثاني وتطويل العدة , والشارع لا يأمر بما فيه مضرة للمطلقة ولا بما فيه عبث. هذا الدليل قوي جداً ولا يملك الإنسان أمامه في الحقيقة أن ينساق لظاهر الألفاظ ويترك هذا المعنى القوي , وأنا أتيت لكم بعبارات الشيخ عبارة شيخ الإسلام - رحمه الله - عبارة قوية جداً أذكرها لكم. يقول الشيخ هنا في هذه المسألة لا حظ عبارة الشيخ المسألة هذه مهمة وضرورية جداً يعني الطلاق في زمن الحيض كثير جداً الآن وسابقاً يقول الشيخ في تقرير هذا الدليل [لو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة , ليطلقها ثانية فائدة , بل فيه مضرة عليهما - الزوج والزوجة - ولو لزم الطلاق المحرم لحصل الفساد الذي كره الله ورسوله , ولا يرتفع ذلك الفساد برجعة يباح له الطلاق بعدها , والأمر برجعة لا فائدة فيها مما ينزه عنه الله ورسوله فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة يجب تنزيه الله ورسوله عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد] هذا الذي ذكرت خلاصة يعني أتيت بالزبدة من كلامه وإن كان من لفظه , وإلاّ هو أطال في تقرير هذا وبيّن أنّ هذا لا يمكن أن تأتي به الشريعة لأنه مفسدة محضة للمرأة والرجل والأولياء وفيما يتعلق بعدد الطلاق وفيما يتعلق بتطويل العدة فكيف يأمر الله سبحانه وتعالى بمراجعة وإيقاع الطلاق الأول والثاني.
    (5/323)
    ________________________________________
    ولهذا أنا أقول إنّ هذا القول الثاني الذي يذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وجيه في الحقيقة والإنسان يركن إليه وهو مطمئن وهو مروي عن ابن عباس - رحمه الله - ومروي عن طاووس ومروي عن الظاهرية. فلم يتفرد شيخ الإسلام به ومروي عن بعض المتأخرين من المحققين مثل ابن الوزير - رحمه الله - المهم أنه يوجد قائل بهذا القول في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم فالإجماع غير واقع وإن شاء الله يكون هذا القول الذي ذكره الشيخ قوي ولا يخفى عليكم إن شاء الله أنّ الخلاف الذي سمعتم قوي جداً وأنه يتوجه جداً للإنسان إذا لم يتبيّن له وجه المسألة أن يمسك عنها , فإنّ هذه المسائل من المضائق ولهذا الإمام كان أحمد لا يفتي
    فيها وإن كانت له أقوال , لكن لا يفتي فيها لأنها محل مضيق ولو أنه النصوص فيها متعارضة والخلاف واقع فيها بين الصحابة , لكن هذا الذي يظهر بعد تأمل وتأني والله أعلم بالصواب.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (وإن طلق من دخل بها في حيض , أو طهر وطىء فيه)
    إذا طلق في الطهر الذي وطء فيه ذكرت أنه بدعة. ذكرت في الأدلة ويستثنى من هذا ما إذا استبان حملها , فإذا وطء واستبان الحمل فليس ببدعة وسيأتينا في صريح كلام المؤلف.
    قال - رحمه الله - (وتسن رجعتها)
    هذه المسألة مفرعة على القول بالوقوع , كما أنّ بعض المسائل التي ستأتينا مفرعة على القول بالوقوع , إذا أوقعنا الطلاق فإنه يسن أن يراجع المرأة , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (مره فليراجعها)
    والقول الثاني: أنّ المراجعة واجبة , لأنّ قوله (مره فليراجعها) أمر والأصل في الأمر للوجوب والأقرب أنّ الأمر للوجوب وهذا الخلاف في مسألة المراجعة إنما هو في الطلاق أثناء الحيض , أما إذا طلق في طهر وطئها فيه , فإنّ المراجعة سنة بالإجماع لم يقل أحد بوجوبها وكما علمتم هذا التفصيل والكلام كله إنما هو على القول بالوقوع. أما إذا لم يوقع فليس هناك مراجعة لا سنة ولا واجبة.
    قال - رحمه الله - (ولا سنة ولا بدعة: لصغيرة , وآيسة , وغير مدخل بها , ومن بان حملها)
    (5/324)
    ________________________________________
    قوله ولا سنة ولا بدعة ظاهره أنه لا سنة ولا بدعة في الوقت والعدد , فيجوز أن يطلق ثلاثاً , والصواب أنه لا سنة في الوقت ولكن هناك سنة وبدعة في العدد , فالصغيرة والآيسة ومن بان حملها يجوز أن نطلقها في كل وقت , لكن لا يجوز أن نطلقها أكثر من واحدة.
    والدليل على هذا. أنّ النصوص التي دلّت على تحريم إيقاع الثلاث شاملة للآيسة والصغيرة ونحوها , وليس مع الحنابلة دليل يدل على استثناء هذه الأعيان أو هذه النساء اللاتي لا تحيض أو لم يبدأ معها الحيض أو بان حملها, إذا الصواب أنه لا سنة ولا بدعة من جهة الوقت فقط.
    يقول - رحمه الله - (لصغيرة وآيسة وغير مدخل بها ومن بان حملها)
    لو أنّ الشيخ بدأ بمن لم يدخل بها لكان أولى , لأنّ من لم يدخل بها بالإجماع لا سنة ولا بدعة في حقها , وتعليل ذلك أنّ من لم يدخل بها
    لا عدة عليها ,ومن لا عدة عليها فإنه لا يقال أنه في ايقاع الطلاق زمن الحيض إطالة للعدة لأنه لا عدة أصلاً.
    وأما الصغيرة والآيسة فأيضاً لا بدعة ولا سنة في حقها , لأنها ستشرع في العدة من حين يقع الطلاق , ونحن نمنع طلاق البدعة بما في من تطويل العدة , وهنا لا تطويل فلا سنة ولا بدعة , وكذلك من بان حملها ينطبق عليها نفس الشيء لأنها من حين تطلق تبدأ بالعدة فليس في طلاقها سنة ولا بدعة , ومعلوم أنه ذكره من بان حملها مبني على إمكانية الحيض من الحائض وهذه مسألة تقدمت معنى في كتاب الطهارة وهي هل تحيض الحامل أو لا؟ فعلى القول بأنها تحيض لا سنة ولا بدعة فله أن يطلقها وهي حائض وطلاقه صحيح
    لأنّ في هذه الصورة لا يوجد تطويل للعدة.

    قال - رحمه الله - (وصريحه لفظ الطلاق , وما تصرف منه)
    أفادنا المؤلف مسألتين:
    المسألة الأولى: أنّ الطلاق لا يقع إلاّ باللفظ لا يقع بالنية المجردة.
    الثاني" أنّ ألفاظ الطلاق فيها صريح وفيها كناية.
    والصريح / ما يحتمل إلاّ طلاق كقوله أنت طالق.
    والكناية / ما يحتمل الطلاق وغيره كقوله اخرجي أو اعتدي وسيأتينا
    وأفادنا المؤلف أنّ صريح الطلاق فقط لفظ الطلاق , لا يوجد لفظ صريح للطلاق إلاّ لفظ الطلاق وما تصرف منه وما عداه من الألفاظ فهو كناية.
    (5/325)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنّ صريح الطلاق ثلاثة , الطلاق والفراق والتسريح.
    فأضافوا التسريح والفراق , واستدلوا على هذا بأنّ الفراق والتسريح جاء في كتاب الله وفي العرف مراداً به الطلاق فهو صريح فيه
    والصواب أنّ الفراق والتسريح ليس من الصريح لأنه يستعمل في غير الطلاق بكثرة واللفظ الذي يستعمل في غير موضوعه بكثرة فليس صريحا فيه.
    القول الثالث: أنّ هذا التقسيم إلى صريح وكناية صحيح من حيث أصل الوضع , إلاّ أنه يختلف باختلاف البلدان والأوقات.
    فما يكون صريحاً عند قوم قد يكون كناية عند آخرين وما يكون كناية عند قوم قد يكون صريحاً عند آخرين. وهذا القول تبناه العلامة ابن القيم وأنت تلاحظ أنه لا ينازع من حيث أصل الوضع في وجود صريح وكناية. لكنه يقول إنّ هذا يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان. وقوله صحيح ووجيه , فإذا استخدم قوم لفظاً من الألفاظ للطلاق الصريح فهو صريح عندهم وإن لم يكن لا طلاق ولا فراق ولا تسريح , فإذا هذا القول إن شاء الله الأقرب.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (وصريحة لفظ الطلاق وما تصرف منه)
    ما تصرف منه كأن يقول لها أنت مطلقة أو أنت طالق , هذا صريح في الطلاق لأنه متصرف من لفظ الطلاق.
    قال - رحمه الله - (غير أمر, ومضارع , ومطلقة اسم فاعل)
    هذه ثلاثة يقول غير أمر ومضارع ومطلقة اسم فاعل , الأمر والمضارع واسم الفاعل من الطلاق. هذه ليست صريحة.
    فإذا قال لها اطلقي , أو تطلقين , أو مطلقة. فإنه لا يقع الطلاق لماذا؟ قالوا لأنّ هذه الألفاظ لا تدل على إرادة إيقاع الطلاق فليست فيه إذا ماذا تكون؟ مهملة! تكون كناية فتقع بالنية , وممن اختار أنّ هذه الألفاظ إذا لم نعتبرها من الصريح فهي كناية. شيخ الإسلام رحمه الله - فإذا لا نهمل هذه الألفاظ إذا قال لها اطلقي , نقول إن أردت الطلاق فهو كناية ويقع.
    قال - رحمه الله - (فيقع به وإن لم ينوه جاد أو هازل)
    (5/326)
    ________________________________________
    الضمير يعود إلى الصريح , وإن لم ينوه جاد أو هازل , هذه مسألة مهمة , وهي أنّ الحنابلة يرون أنّ الطلاق باللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية , وفي نفس الوقت يقع من الهازل , وأشار ابن القيم - رحمه الله - إلى أنّ الخلاف في مسألة طلاق الهازل والطلاق بالصريح بغير نية واحد , مسألة واحدة. وهذا ابداع منه لأنه يلخص لك المسائل ويرجع بعضها إلى البعض في حقيقة المسألة , وأنت إذا تأملت تجد أنّ حقيقة طلاق الهازل هو طلاق صريح بغير نية ,إذا الخلاف في المسألتين واحد ,نقول ذهب الحنابلة إلى أنّ إيقاع الطلاق بالصريح بلا نية أو طلاق الهازل يقع , واستدلوا بدليلين:
    الدليل الأول: قوله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} [النساء/89] ومن هزل بالطلاق أو قال أنت طالق ثم قال لم أنوي إيقاع الطلاق فهو اتخذ آيات الله هزواً , يعني أحكامه. فناسب أن نلزمه بمقتضى القول.
    الدليل الثاني: وهو عمدة القول قوله - صلى الله عليه وسلم - (ثلاث جدهن جد , وهزلهن جد , النكاح , والطلاق , والرجعة).
    قالوا هذا الحديث نص في المسألة , والجواب عن الحديث أنه مشكل جداً لو صح لكن الحديث ضعيف لا يثبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحب أن أنبه إلى أنّ هذا الحديث لا يثبت ولا بمجموع طرقه , مهما تعددت الطرق فإنه لا يثبت فهو حديث لا يصح نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
    القول الثاني: أنّ الطلاق في هذه الصورة لا يقع , واستدلوا أيضاً بأدلة:
    الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات) يعني إنما اعتبار الأعمال بالنيات.
    الدليل الثاني" قوله سبحانه وتعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة/227] والهازل لا عزم له ,يعني أنّ الهازل لم يعزم فلا يقع الطلاق. والآية دلت على أنّ الطلاق يحتاج إلى عزم.
    (5/327)
    ________________________________________
    الدليل الثالث: ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه رضي الله عنه , قال (إنما الطلاق عن وطر) ومعنى عن وطر يعني عن قصد وإرادة وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله وهو أنّ الطلاق لا يقع فإذا قال أنت طالق لا يقصد أبداً الطلاق يقصد تخويفها يقصد استخدام هذا اللفظ , فإنه عند الحنابلة والجمهور يقع , ونقول بانت زوجتك أو كانت رجعية فيما يملك من عدد الطلاق. وكذلك لو هزل فقال أنت طالق أنا أمزح فعند الجمهور طلقت لأنّ الطلاق ليس فيه هزل , لكن الصحيح إن شاء الله أنها لا تطلق وكما أشرت مراراً وتكراراً , فائدة العلم أن يولد الورع وإلاّ ما فائدة العلم؟! فالآن علمت أنّ الجماهير يوقعون طلاق الهازل فمن الأشياء التي يتحتم التنبيه عليها أنّ الطلاق ليس من الأمور التي يهزل بها , وأنك لو هزلت فإن زوجتك طالق عند الأئمة الأربعة , فهو ليس أمراً سهلاً وإن كان الراجح هو القول الثاني. لكن العلم يولد الورع لا الاستخفاف , فبعض الناس العلم يولد عنده التهاون , فإذا علم أنّ القول الثاني هو الراجح تهاون فيه فصار ثمرة العلم عكسية عليه , وهذا خطأ تربوي.
    * * مسألة ضرورية / ذكر بعضهم أنه من أدلة الأئمة الأربعة. أنّ الصحابة يوقعون الطلاق , صحيح توجد آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أنّ طلاق الهازل يقع. لكن لا يصح منها شيء. ليس من هذه الآثار أثر صحيح. فكلها ضعيفة. فليس عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ما يدل على وقوع طلاق الهازل.
    قال - رحمه الله - (فإن نوى بطالق من وثاق , أو في نكاح سابق منه أو من غيره , أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً)
    هذا أيضاً من أحكام الطلاق الصريح , فحكمه الأول" أنه يقع ولو بلا نية.
    (5/328)
    ________________________________________
    الثاني" أنه إذا قال طالق ثم قال نويت من وثاق أو في نكاح سابق منه أومن غيره أو أراد طاهراً فغلط , يعني أراد أن يقول أنت طاهر فقال أنت طالق , لم يقبل حكماً , معنى لم يقبل حكماً يعني لم يقبل إذا ترافعوا إلى القاضي , ومقابل قبول القول حكماً قبوله ديانة ومعنى قبوله ديانة , فيما بينه وبين الله , فإذا قال أردت أنت طاهر فقلت طالق , وأردت من وثاق فديانة يقبل يعني تعتبر هذه الزوجة في عصمته بينه وبين الله , وأما إن ارتفعوا إلى الحاكم , بأن ادعت المرأة أنه قال أنت طالق , فإنّ الحاكم لا يقبل منه زعمه أنه أراد من وثاق أو أراد أن يقول طاهر فقال طالق , استدل الحنابلة على عدم قبوله حكماً , بأنه يدعي خلاف ظاهر اللفظ. فلا يقبل منه.
    القول الثاني: أنه يقبل منه حكماً لأنه يدعي شيئاً ممكناً , فقبل منه. ولعل الأقرب أنّ هذه المسائل ترجع إلى رأي القاضي , فإذا رأى أنّ هذا الزوج متلاعب وأراد أن يستحل من زوجته ما لا يحل له أو أراد أن يوقع الطلاق ويراجع لأنه يعلم أنه يملك المراجعة أو احتال على أي شيء من هذه الأشياء فإنّ يجب على القاضي أن لا يقبل منه , وإذا كان رجل متدين معروف الصدق والأمانة لم يخبر عليه كذب وزعم أنه سبق لسان منه , وقال هذه الكلمة لم يردها فإنه ينبغي أن يقيل عثرته.
    قال - رحمه الله - (ولو سئل أطلقت امرأتك فقال: نعم وقع)
    لو سئل أطلقت امرأتك فقال نعم وقع , وإن قال فيما بعد أنا كذبت يقع , وإن كان كذب فعلاً لماذا؟ لأنّ الصريح في الجواب كالصريح في الابتداء فعادت هذه المسألة إلى الطلاق بلا نية , لأنه هنا ليس له نية , هو لم يهزل هنا , فإن قلنا أنّ الطلاق بغير نية في الصريح يقع فهنا يقع , وإن قلنا الطلاق بغير نية إذا لم يقصد لا يقع فهنا لا يقع.
    قال - رحمه الله - (أو ألك امرأة؟ فقال: لا, وأراد الكذب فلا) إذا قيل له ألك امرأة؟ فقال لا وأراد الكذب فإنه لا يقع , لماذا لأنّ غاية هذا اللفظ أن يكون كناية , والكنايات لا تقع إلاّ بنية , فإذا لم ينوي إيقاع الطلاق فهو لا يقع. مقتضى تقرير الحنابلة , أنه إذا قيل لرجل ألك امرأة ثم جلس يفكر وأراد أن يطلق فقال لا وأراد
    (5/329)
    ________________________________________
    أن يطلق , وأراد بلا الطلاق فإنه يقع لكن قلّ ما يقع مثل هذا الأمر.

    (فصل)
    قال - رحمه الله - (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية , وبرية , وبائن)
    هذا الفصل مخصص في الكلام عن الكنايات , والكنايات تنقسم إلى قسمين:
    1 - كناية ظاهرة ... 2 - كناية خفية
    فالكناية الظاهرة هي الألفاظ التي يظهر منها إرادة إيقاع الطلاق.
    والخفية. هي الألفاظ التي يخفى منها إرادة إيقاع الطلاق.
    وسيأتينا أنّ الظاهرة تختلف عن الخفية بأنّ الظاهرة تدل على البينونة الكبرى عند الحنابلة. كما سيأتينا.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (وكناياته الظاهرة: نحو أنت خلية ........ )
    الكناية الظاهرة تعريفها / كل لفظ يدل على الطلاق دلالة ظاهرة , ويقع به بينونة. هذا تعريف الطلاق عند الحنابلة وهذا التعريف صحيح إلاّ آخره وهو قضية أنه يدل على البينونة وستأتي مناقشة هذه المسألة.
    يقول الشيخ (وكناياته الظاهرة) ثم مثلّ له فقال. أنت خلية: الخلية في أصل اللغة الناقة المطلقة. فكأنه شبه زوجته بإطلاق الناقة والإطلاق هنا من قيد النكاح.
    وقوله (وبرية) مشتقة من البراءة , والبراءة هنا أيضاً من عقد النكاح. يعني أنت بريئة من عقد النكاح. وإذا كانت بريئة من عقد النكاح طلقت.
    وقوله (وبائن) مشتق من البين وهو الفراق , البين بين اثنين يعني الفراق منهما , وافتراق الزوجين يعني انقطاع النكاح.
    وقوله (وبتة وبتلة) البتة والبتلة مشتقة من القطع لأنّ البت هو القطع , وقطع الحبل بين الزوجين هو الطلاق.
    وقوله (وأنت حرة) يدل على إيقاع الطلاق لأنّ الزوجة عند الزوج بمنزلة الأمة , لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فإنهن عوان عندكم) يعني رقيقات. فإذا قال لها أنت حرة من عقد النكاح فهي طالق.
    وقوله (وأنت الحرج) يعني الإثم وهي تكون محرمة عليه وهو آثم إذا أتاها إذا كانت مطلقة.
    ثم قال - رحمه الله - (والخفية: أخرجي , واذهبي , وذوقي)
    (5/330)
    ________________________________________
    الخفية: الألفاظ الخفية. هي كل لفظ دل على إرادة الطلاق دلالة خفية مع إيقاعه مرة واحدة ,هذا هو حقيقة الكنايات الخفية. مثلّ لها بقوله (اخرجي , واذهبي , وذوقي , وتجرعي) هذه الأربع واضحة إذا قال اخرجي واذهبي ....... الخ , وأراد مع ذلك الطلاق فهي طلقة واحدة رجعية , وتكون من الكنايات الخفية , لأنه أمرها بالخروج والذهاب وأن تذوق وتتجرع , فالذوق والتجرع هو لآلام الطلاق , والخروج والذهاب يعني عن بيت الزوجية والمفارقة بذلك.
    وقوله (واعتدي) هذا اللفظ من الكنايات وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لسودة - رضي الله عنها - (اعتدي) واعتبره الفقهاء من الكنايات الخفية لكن في الحقيقة كلمة (اعتدي) هو خفي ولا ظاهر؟ يعني العدة عادة؟ ظاهرة لماذا اعتبروه خفي؟
    لأنّ من صميم تعريف الظاهرة أن تدل على البينونة , (واعتدي) لا تدل على البينونة فبنى الحنابلة التمثيل على التعريف ولا في الحقيقة (اعتدي) كناية ظاهرة جداً , بل هو أوضح من بتلة وبتة وأنت حرة , لأنها لم تعتد إلاّ بعد الطلاق.
    قوله (واستبرئي) يعني رحمك , والمرأة إنما يطلب منها الإستبراء إذا وقع عليها الطلاق , وما قيل في (اعتدي) يقال في (استبرئي) من حيث كونه خفي أو ظاهر.
    وقوله (اعتزلي) يعني كوني وحدك , فإذا قصد بقوله اعتزلي الطلاق وقع لأنه كناية عنه.
    وقوله (لست لي بامرأة) كناية خفية واعتبروه خفية لأنه لا يدل على عدد.
    وقوله (الحقي بأهلك) قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لابنة الجون. فإنها لما قالت أعوذ بالله منك , قال الحقي بأهلك واعتبرت هذه طلقة رجعية.
    ثم قال - رحمه الله - (وما أشبهه)
    إذا ما أشبه هذه الألفاظ التي تدل على المفارقة من غير عدد , فإنها تعتبر من الكنايات الخفية , والحاجة إلى الكنايات قليلة جداً من وجهين:
    الوجه الأول: أنّ استخدام هذه الكنايات قليل جداً. إذا أراد أن يطلق قال أنت طالق.
    الوجه الثاني: أنّ ابن القيم اختار أنّ الكناية والصريح يختلف فهذه الكنايات هي في الواقع صرائح عند قوم آخرين فلا نحتاج إلى التقسيم ولا إلى التنبيه.
    ثم قال - رحمه الله - (ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلاّ بنية مقارنة للفظ)
    (5/331)
    ________________________________________
    لا يقع بالكنايات طلاق إلاّ مع النية بلا نية لا يقع طلاق , وتعليل ذلك أنّ هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيرها , واللفظ إذا احتمل معنيين فإنه لا يحدد إلاّ بالنية.
    القول الثاني: أنّ الظاهرة لا تحتاج إلى نية , لأنها واضحة في الطلاق ومغرقة فيه إلى درجة أنها تقتضي البينونة فكيف نحتاج مع ذلك إلى نية ووالصواب أنها تحتاج إلى نية , بل قال المرداوي رحمه الله عن هذا القول وفيه بعد ظاهر , أو عبارة نحوها فهذا القول بعيد إذا كان الخلاف قوي في صريح الطلاق فكيف سيكون الخلاف في كنايته.
    قال - رحمه الله - (إلاّ في حال خصومة أو غضب وجواب سؤالها)
    لما قرر المؤلف أنّ الكنايات لا تقع إلاّ بالنية أراد أن يبيّن صوراً تستثنى ويقع فيها الطلاق بلا نية عند الحنابلة,
    وهذه هي إذا كانت هذه الألفاظ قيلت في خصومة حال خصومة , أو في حال غضب , أو في جواب سؤالها يعني إذا طلبت منه الطلاق.
    قال - رحمه الله - (فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً)
    الحكم فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً. إذا طلق بالكنايات حال الخصومة أو الغضب أو بسبب الطلب فإنه يقع مطلقاً ولو زعم أنه لم يرد الطلاق , هذا حكماً فإذا قالت الزوجة أنه قال لي بعد خصومة اخرجي ثم قال الزوج ما أردت الطلاق فعند الحنابلة لا يقبل منه وتقع الطلقة ,
    استدل الحنابلة على هذا: بأنّ قرينة الحال تغني عن النية وتقوم مقامها فلم نعد بحاجة إلى النية
    ثانياً: أنّ زعمه أنه لم يرد الطلاق يخالف الظاهر فإنّ الظاهر أنّ هذا اللفظ على إثر خصومة أو غضب أو طلب , إنما أراد به المفارقة.
    القول الثاني: أنّ هذه الألفاظ تنقسم إلى قسمين:
    فإن استخدم الألفاظ التي يكثر إرادة الطلاق بها فالحكم كما قال الحنابلة.
    وإن استخدم الألفاظ التي لا يكثر إرادة الطلاق بها فإنه يقبل منه حكماً أنه لم يرد الطلاق , فيقسمون الألفاظ إلى قسمين.
    القول الثالث: أنه لا يقبل إلاّ بنية في الجميع , واستدل هؤلاء بدليلين:
    الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إنما الأعمال بالنيات) ولم يستثني حال الغضب أو الخصومة أو طلب المرأة.
    (5/332)
    ________________________________________
    الثاني: أنّ اعتبار النية لا يسقط في حال لا الغضب ولا في حال الرضا , يعني أنه لا يختلف بين حال الغضب والرضا بل يعتبر في الحالين. وهذا القول الأخير هو الصواب بلا شك , رجل قال لزوجته بعد نزاع وشقاق اخرجي , نقول طلقت منك وإن لم يرد ربما أراد بقوله اخرجي تجنب وقوع الطلاق فكيف نعامله بنقيض قصده ونقول وقع الطلاق , في هذا القول بعد كبير جداً , ولهذا ابن قندس رحمه الله من كبار الحنابلة أشار إلى أنه يرى أنّ الحنابلة ما أرادوا بهذه العبارة إسقاط اعتبار النية وإنما أرادوا أنّ قرينة الحال تكفي عن النية , وهو تخريج منه جيد , فيبعد أن يكون مراد الحنابلة أنه إذا استخدم الكنايات في حال الغضب تطلق مباشرة. وإنما لعلهم أرادوا أنّ الكناية الآن أو أنّ الملابسات والقرائن تغني عن النظر لي النية ,على كل حال سواء صح ما ذكره ابن قندس أو لم يصح الراجح أنه لا بد من النية في الكنايات , لاسيما مع ترجيح اشتراط النية في الصريح.
    وقوله (حكماً) دليل على أنه يقبل منه في الديانة وفي بينه وبين الله , فإذا قبلت المرأة منه أنه ما أراد الطلاق ولم يترافعا إلى الحاكم فهي زوجته عند الله وعند رسوله. يعني زوجته في حقيقة الأمر , ويديّن بينه وبين الله ولا يأثم بتركها.

    قال - رحمه الله - (ويقع مع النية بالظاهرة ثلاث وإن نوى واحدة)
    الكنايات الظاهرة إذا استخدمها الزوج صارت أعظم من الصرائح أليس كذلك؟ لأنه إذا قال أنت طالق واحدة , وأما إذا استخدم كناية ظاهرة فقال أنت بتة ,أو أنت حرة , فإنها تقع ثلاث. الدليل قالوا إنّ هذه الألفاظ تحمل معنى البينونة , والبينونة لا تكون إلاّ بإيقاع الثلاث.
    القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لطيف جداً , وفيه فقه , قال تقع بالكنايات الظاهرة واحدة لكن بائنة , وهو جميل جداً يدل على أنه من الفقهاء - رحمه الله - لأنه جمع بين الأقوال.
    القول الثالث: أنه لا يقع إلاّ ما نواه إن كانت واحدة أو ثنتين أو ثلاث , ما نواه يقع. واستدل هؤلاء بأنّ الكنايات الظاهرة لا يمكن أن تكون أعظم من الصرائح , والصرائح لا يقع بها إلاّ واحدة هذا القول الأخير هو الراجح إن شاء الله.
    (5/333)
    ________________________________________
    يقول الشيخ - رحمه الله - (وبالخفية ما نواه)
    يعني ويقع بالخفية ما نواه , إن كان واحدة أو ثنتين أو ثلاث , وتعليل ذلك ظاهر وهو أنّ ألفاظ الكنايات الخفية لا تحمل في طياتها الإشارة إلى العدد وإنما تحمل الإشارة إلى إيقاع الطلاق فقط من دون نظر إلى العدد , وبهذا يكون انتهى ما يتعلق بالكلام عن الصريح والكناية , نختم هذا الفصل بفائدة وهي أنّ الشيخ بيّن الألفاظ الصرائح وألفاظ الكنايات.
    * * هل هناك قسم ثالث؟!
    الجواب/ نعم هناك قسم ثالث. وهو ما ليس بصريح ولا كناية , وما ليس بصريح ولا كناية لا يقع به طلاق مطلقاً.
    فإذا قال لها بارك الله فيك. هذا لا يقع فيه شيء ولو أردت الطلاق , لأنّ هذا اللفظ لا يدل على المفارقة بحال ولا يحمل في معناه أي دلالة على المفارقة. وإذا قال قومي اطبخي ثم قال أردت الطلاق ماذا نقول؟ لا يقع فيه شيء. إذا صارت الألفاظ كم؟ ثلاثة صريح ثم يليه كناية ثم ما ليس بصريح ولا كناية.

    (فصل)
    قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت عليّ حرام , أو كظهر أمي فهو ظاهر ولو نوى به الطلاق)
    هذا الفصل أراد المؤلف أن يبيّن فيه الألفاظ التي أيضاً لا يقع بها الطلاق ولو نواه , وإن كانت تدل من حيث المعنى على الطلاق.
    جمع الشيخ بين مسألتين مختلفتين تماماً ,
    الأولى" إذا قال أنت عليّ حرام ,
    والمسألة الثانية: إذا قال أنت عليّ كظهر أمي.
    نبدأ بالمسألة الأولى" أنت عليّ حرام , هذه المسألة غريبة لأنه اختلف فيها الصحابة اختلاف كثير واختلف فيها العلماء حتى وصلت الأقوال إلى ثمانية عشر قولاً. في هذه المسألة فقط إذا قال الرجل لزوجته أنت عليّ حرام.
    نحن لا نريد أن نذكر هذه الأقوال لأنّ بعضها يدخل في بعض. وبعضها شديد الضعف. لكن نقتصر على خمسة أقوال أرى أنها أهم وأجدر هذه الأقوال:
    القول الأول: المذهب. وهي أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولا يكون يمين ولا طلاق ولو نواه. فبمجرد ما يقول أنت علي حرام فهو ظهار ولا ننظر لنيته.
    القول الثاني: أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى به طلاق إلاّ أن ينوي به يميناً.
    (5/334)
    ________________________________________
    ما الفرق بين القولين؟ في اليمين. القول الأول هو مذهب الحنابلة // والقول الثاني هو اختيار شيخ الإسلام وبهذا علمنا أنه لا فرق بين الحنابلة وشيخ الإسلام إلاّ إذا نوى أنه يمين.
    (5/335)
    ________________________________________
    الدرس: (3) من الطلاق

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    في درس الأمس كنت تحدث عن مسألة أنت عليّ حرام , وجاء وقت إقامة الصلاة قبل إتمام هذه المسألة وسنعيد ما يتعلق بهذه المسألة اليوم لكن قبل ذلك تحدثنا في دروس سابقة عن صريح الطلاق وكنايته والأحكام التي يختص بها الصريح والأحكام التي تختص بها ألفاظ الكناية , وذكرت أنّ ما عدا هذه الألفاظ يعني الألفاظ التي ليست من الصرائح ولا من الكنايات أنه لا يقع بها الطلاق وكل هذا تقدم مفصلاً , ونسيت أن أتكلم عن حكم الطلاق المكتوب , فأتكلم عنه اليوم إن شاء الله.
    اختلف أهل العلم في الطلاق المكتوب هل يقع أو لا يقع؟ وإذا وقع فهل هو من الصرائح أو من الكنايات؟
    * نبدأ بالمسألة الأولى: ذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق المكتوب يقع يعني إذا كتب على ورقة, أنت طالق طلقت زوجته إذا أراد الطلاق استدل الحنابلة على هذا بأنّ الكتابة كاللفظ في بيان المقصود ,
    والدليل على أنها كاللفظ في بيان المقصود , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتبليغ الرسالة , وقد تارة باللفظ لمن راسلهم - صلى الله عليه وسلم - فكونه - صلى الله عليه وسلم - يراسل الملوك في أنحاء البلاد يدعوهم إلى الإسلام من خلال الكتابة , دليل على أنّ الكتابة تقوم مقام اللفظ.
    والقول الثاني: أنّ الطلاق لا يقع بالكتابة , لأنّ الأصل في الطلاق أن ينطق به , والراجح بلا إشكال أنّ الطلاق في الكتابة يقع.
    * نأتي إلى المسألة الثانية: وهي هل الطلاق المكتوب صريح أو كناية , أيضاً هذه المسألة محل خلاف؟
    (5/336)
    ________________________________________
    فذهب الحنابلة إلى أنّ الطلاق من الصرائح , يعني حكمه حكم لفظ الصرائح , فإذا كتب أنت طالق فقد طلقت واستدلوا على هذا بأنّ الكتابة تفيد ما يفيده اللفظ , فإذا كان أنت طالق صريح في اللفظ فهو صريح في الكتابة , إلاّ أنّ الحنابلة قالوا مع كون المكتوب صريح إلاّ أنه لو زعم أنه لم يرد الطلاق قبل منه حكماً , ففرقوا في هذا الحكم بين صريح اللفظ وصريح الكتابة , فالآن علمنا وفهمنا تفصيل الحنابلة في كونه صريح أو كناية.

    القول الثاني: أنّ الكتابة كناية , ولا يقع إلاّ بالنية , واستدلوا على هذا بأنّ الطلاق المكتوب يحتمل فقد يكون يريد تحسين خطه , وقد يريد تخويف المرأة وقد يريد حكاية طلاق عن غيره , وإذا كان الطلاق المكتوب يحتمل فهو كناية , لأنه تقدم معنا أنّ تعريف الكناية هو ما يحتمل الطلاق وغيره , والمكتوب يحتمل الطلاق وغيره فصار كناية , وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله أنه كناية وليس بصريح بناء على هذا , ما سأل عنه بعض إخوانكم وفقهم الله وهي رسائل الجوال , إذا كتب رسالة جوال (أنت طالق) وأرسل لها الرسالة فما الحكم؟ الحكم أنها تطلق وعند الحنابلة وهو صريح , وعلى القول الثاني إن أراد الطلاق طلقت وإن لم يرد لم تطلق , لأنه كناية والكناية تحتاج إلى نية.
    إذا أرسل رسالة صوتية , ألا يوجد الآن رسائل صوتية في الجوال , سجلّ وقال (أنت طالق) وأرسلها رسالة صوتية فما الحكم؟
    هل هو صريح أو كناية؟ كتابة أو نطق؟ ما الفرق بين أن يرسل رسالة فيها صوت أنت طالق وبين أن يقول لها أنت طالق؟ يعتبر طلاق لفظي , كأنه قال لها أنت طالق , لكن تطلق إذا سمعت وإلاّ إذا تكلم , متى تبدأ بالعدة؟ إذا تكلم. لا إذا سمعت ... إذا سمعت مجردا يكون الخبر

    (فصل)
    قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت علي حرام)
    (5/337)
    ________________________________________
    تحدثت عن بدايتها وقلت أنّ هذه المسألة فيها خلاف كبير بين الصحابة ,وفيها بين أهل العلم خلاف يصل إلى ثمانية عشر قولاً. مما يدل على الاضطراب في هذه المسألة وتعارض الأدلة , أو إن شئت قل عدم وجود أدلة صريحة وإنما يوجد آثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت أني سأذكر خمسة أقوال أرى أنها الأقوال الأقوى في هذه المسألة , وبدأت بالقول الأول" فأقول
    الحنابلة ذهبوا: إلى أنه إذا قال أنت علي حرام فهو ظهار ولو نوى طلاقاً ولو نوى يميناً.
    وأنّ القول الثاني: وأنّ القول الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو مذهب لبعض الفقهاء كالقول الأول إلاّ أنه إذا أراد يميناً فهو يمين , ويكون الفرق بين المذهب وبين اختيار شيخ الإسلام فيما إذا نواه يميناً. ونحن الآن نحتاج الأدلة , بالنسبة لأدلة القول الأول والثاني واحدة , فنحتاج دليل على أنه ظهار , ونحتاج دليل على أنه ليس بطلاق , ونحتاج دليل على أنه يمين أو ليس بيمين. على الخلاف.
    نبدأ بالدليل الأول: أنه ظهار. أنّ هذا الرجل لما قال أنت علي حرام فقد أوقع التحريم على زوجته وهو أولى من أنت عليّ كظهر أمي لأنّ التحريم في قوله أنت عليّ كظهر أمي علمناه لأنه يلزم من هذا اللفظ.
    وأما أنت عليّ حرام فهو صريح في التحريم , وما كان صريحاً في التحريم فهو أولى مما يستلزم التحريم. وهو دليل قوي جداً.
    لأن أنت عليّ حرام أصرح وأكثر مباشرة من أنت عليّ كظهر أمي.
    الدليل الثاني: على أنه ليس بيمين , استدل الحنابلة وشيخ الإسلام على أنه ليس بطلاق , لأنّ الظهار كان في الجاهلية طلاقاً , فكان الرجل إذا ظاهر من امرأته فكأنه طلقها , فجاء الإسلام ونسخ أن يكون الظهار طلاقاً , فإذا نوى المكلف المسلم بلفظ الظهار الطلاق فهو باطل , لأنّه نوى ما أبطله الشارع فلم نعتد بنيته. لأنها مقابلة ومعارضة للشارع.
    نأتي إلى الأخير: وهو اليمين , استدل شيخ الإسلام - رحمه الله - على أنّ الإنسان إذا قال أنت علي حرام وأراد اليمين فهو يمين بتعليل قوي ,فقال أنّ من أراد اليمين لم يرد تحريم ذات زوجته , وإنما أراد منع نفسه أو حثها أو التصديق أو التكذيب , وهذا هو معنى اليمين.
    (5/338)
    ________________________________________
    الدليل الثاني: لشيخ الإسلام , أنه صح عن ابن عباس أنه جعل أنت عليّ حرام ظهاراً تارة , وجعل أنت عليّ حرام يميناً تارة أخرى , وفي هذا دليل على أنّ أنت عليّ حرام , قد يقصد به اليمين وقد يقصد به الظهار , باعتبار أنه تارة أفتى بهذا وتارة أفتى بهذا
    الدليل الثالث: قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم/1] وهذه الآية نزلت في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه العسل أو وطء الزوجة في بيت الأخرى , فجعل الشارع الكريم التحريم , تحريم الإنسان على نفسه شيئاً بمنزلة اليمين كما ترى اختيار شيخ الإسلام وأدلته على أنه إذا أراد يميناً فهو يمين قوي جداً.
    القول الثالث: أنّ أنت عليّ حرام , يمين مطلقاً واستدل هؤلاء بدليلين:
    الدليل الأول: أنّ هذا مروي عن أبي بكر وعمر.
    الدليل الثاني: أنه مروي عن ابن عباس
    الدليل الثالث: الآية فإنّ تحريم النبي
    - صلى الله عليه وسلم - جعله الله يميناً مكفرة. والأقرب أنه لا يثبت عن أبي بكر وعمر أنهم جعلوه يميناً , ففي الإسناد إليهما انقطاع.
    القول الرابع: أنّ أنت عليّ حرام ليس بشيء , لأنّ قوله أنت عليّ حرام كذب إذ ليست عليه بحرام.
    والجواب على هذا. أنّ ما قالوه صحيح لو كان مراده الإخبار , أما هو فمراده الإنشاء فهو يحكم على امرأته أنها حرام عليه.
    القول الخامس والأخير: وهو مذهب الشافعي أنه إن أراد بأنت عليّ حرام طلاقاً فهو طلاق , وإن أراد ظهاراً فهو ظهار , وإن أراد يميناً فهو يمين , واستدل على هذا القول بأنّ أنت عليّ حرام , إن أراد الطلاق فهي كناية , والكنايات في الطلاق تقع مع النية , وإن أراد ظهاراً فكذلك كناية , وكنايات الظهار مع النية تقع , وإن أراد يميناً فهو يمين لأنه أخرجه مخرج اليمين منعاً لنفسه أو حثاً أو تصديقاً أو تكذيباً , فصار يميناً موافقة لظاهر القرآن هذه الأقوال الخمسة هي أقوى الأقوال , وبقيت الأقوال غالباً ما تتداخل مع هذه الأقوال ولا تكاد تنفرد بشيء معيّن.
    (5/339)
    ________________________________________
    الراجح في هذه المسألة المهمة التي ما زالت تقع إلى الآن بكثرة , القول الثاني. يليه في القوة القول الخامس يليه في القوة الأول وهو المذهب. فعرفنا الآن الراجح وعرفنا الأقوال التي تليه قوة , الحقيقة قول الشافعي قوي جداً , لولا أنّ الشارع الحكيم لم يجعل الظهار طلاقاً, نسخ هذا المعنى في إرادته مضادة لمقصود الشارع , لولا هذا المعنى لكان قول الشافعي هو القول القوي على كل حال إن شاء الله , أنّ الراجح هو القول الثاني لأنه توافق مع مقاصد الشرع ولأنّ فتاوى الصحابة تنطبق عليه مهما اختلفت.
    قال - رحمه الله - (أو كظهر أمي فهو ظهار. ولو نوى به الطلاق)
    يعني إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي , فهو ظهار ولو نوى الطلاق أو اليمين ,وهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق بل هو ظهار لأنه عبّر عن زوجته أو حرّم زوجته بصريح الظهار فلا ينصرف لغيره ,ولو جعلنا أنت عليّ كظهر أمي طلاقاً لعدنا إلى حال الجاهلية الذين يجعلون الظهار طلاقاً , فهذه المسألة الأقرب أنها لا تدخل في الخلاف السابق.
    قال - رحمه الله - (وكذلك ما أحل الله عليّ حرام)
    إذا قال الإنسان لزوجته ما أحل الله عليّ حرام , يعني منها , فحكمه كحكم أنت عليّ حرام تماماً. من حيث الخلاف والأقوال والأدلة
    والترجيح , فهي نفس المسألة.
    ثم قال - رحمه الله - (وإن قال: ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً وإن قال: أعني به طلاقاً فواحدة)
    هذه المسألة فيها عند الإمام أحمد تفصيل ,
    إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق فهي ثلاث.
    وإذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به طلاقاً فهي واحدة. هذا تفصيل الإمام أحمد بين اللفظتين.
    الدليل. قال الإمام أحمد: أنّ الطلاق فيه الألف واللام التي للاستغراق , وإذا استغرق الطلاق فقد أوقع الثلاث.
    وأما إذا قال: أعني به طلاقاً , فهو واحدة لأنه لم يرد الاستغراق.
    القول الثاني: أنه في المسألتين واحدة رجعية , لأنّ الألف واللام التي للاستغراق , تستعمل كثيراً في بيان الجنس لغير الاستغراق فليست نصاً صريحاً في الطلاق.
    (5/340)
    ________________________________________
    القول الثالث: أنّ هذا اللفظ إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق أو أعني به طلاقاً ظهار مطلقاً , إلاّ أن ينوي به يميناً.
    واستدل هؤلاء بأنّ الظهار لا يكون في الإسلام طلاقاً , ونحن تقدم معنا أنّ قوله (ما أحل الله عليّ حرام) كقوله (أنت عليّ حرام) ولا فرق بين أن ينوي وبين أن يصرح بالنية , لا يوجد فرق. فإذا قال أنت عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار , كذلك إذا قال ما أحل الله عليّ حرام أنوي به الطلاق فهو ظهار , وأيّ فرق بين أن يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته وبين أن لا يصرح بنيته.
    إذا نقول تعود هذه المسألة إلى مسألة أنه ليس في الشرع إيقاع الطلاق بصيغة الظهار. ونحن قررنا أنّ أنت عليّ حرام أو ما أحل الله عليّ حرام أنه يساوي أنت عليّ كظهر أمي. إذا عادت المسألة لقضية أنه ظهار بصيغة التحريم فلا يقع طلاقاً.
    فالخلاصة / ما أحل الله عليّ حرام أعني به الطلاق , حكمه الصحيح أنه ظهار مطلقاً مالم ينوي اليمين.
    فنعود للقول الثاني في المسألة السابقة.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: كالميتة , والدم , والخَنزِير وقع ما نواه من طلاق , وظهار, ويمين)
    إذا قال أنت عليّ كالميتة يختلف عما إذا قال عند الفقهاء أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير , نأتي إلى لفظ المؤلف الذي ليس فيه حرام أنت عليّ كالميتة والخنزير., إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير,
    يقول الشيخ الماتن - رحمه الله - (وقع ما نواه من طلاق وظهار ويمين)
    فإن نوى الطلاق فهو طلاق , وإن الظهار فهو ظهار , وإن نوى اليمين فهو يمين.
    الدليل على هذا: أنّّه إذا قال أنت عليّ كالميتة وأراد الطلاق فغاية ما هنالك أنه كناية , والكنايات تقع بالنية , وإذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد الطلاق فقط أراد التحريم لأنّ هذا التشبيه إنما هو تشبيه بالتحريم , فصار كأنه قال أنت عليّ حرام.
    وأنت عليّ حرام عند الحنابلة ظهار , وإن أراد يمين فهو يمين لأنه أراد المنع أو الحث فأخرجه مخرج اليمين.
    ابن القيم يقول - رحمه الله - (أنّ أنت عليّ حرام كالميتة أو الخنزير يساوي تماماً أنت عليّ حرام)
    (5/341)
    ________________________________________
    بقينا في اللفظ الثالث الذي ذكره المؤلف وهو أنت عليّ كالميتة والخنزير, والصواب أنّ أنت عليّ كالميتة والخنزير يساوي أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير , وأنّ حكم هذه المسائل كلها تعود إلى مسألة أنت عليّ حرام , لأنه في الواقع أراد التحريم.
    فما ذكره الشيخ ابن القيم من التسوية بين أنت عليّ حرام وأنت عليّ حرام كالميتة والخنزير, صحيح وتساويه تماماً ولا فرق أنت عليّ كالميتة والخنزير فإنّ إسقاط كلمة حرام لا معنى له لأنه إنما أراد أنت عليّ حرام كالميتة والخنزير إذا عرفنا حكم أنت علي كالميتة والخنزير.
    قال - رحمه الله - (وإن لم ينوي شيئاً فظهار)
    إذا لم ينوي شيئاً فالأصل أنه تحريم والتحريم عند الحنابلة ظهار.
    القول الثاني: للشافعي أنه إذا لم يرد شيئاً فهو كقوله أنت عليّ حرام , فالشافعي يقول إذا قال أنت عليّ كالميتة والخنزير ولم يرد شيئاً فهي تساوي أنت عليّ حرام على الخلاف فيها , وأيضاً ما ذكره الشافعي في هذه المسألة صحيح وتكون حكمها حكم أنت عليّ حرام ومن هنا علمنا أنّ مسألة أنت عليّ حرام مهمة , لأنّ عشرات المسائل ترجع إلى أنت عليّ حرام. هذا من جهة ومن جهة أخرى أنّ غالب استعمال الناس هو بأنت عليّ حرام , وهذا مما يؤكد أهمية هذه المسألة.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً)
    يعني إذا قال حلفت بالطلاق فلما أردنا أن نأخذه بهذه اللفظة , قال كذبت فإنهم إذا ترافعوا إلى الحاكم فإنه يلزمه العمل على الحلف بالطلاق. السبب/ قالوا أنه في هذه الصورة تعلقّ به حق الغير , وإذا تعلقّ به حق الغير لزمه مراعاة لهذا الغير. وتبيّن من كلام المؤلف أنه لا يلزمه ديانة , يعني فيما بينه وبين الله. فإذا قال حلفت بالطلاق وهو كاذب فيعتبر لم يحلف بالطلاق لأنه أخبر إخباراً كاذباً ولم يقع منه حلف بالطلاق.
    قال - رحمه الله - (وإن قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً , ولو نوى واحدة)
    إذا قال أمرك بيدك ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة , إذا قال لها هذا اللفظ فهو إما تمليك أو توكيل ولا يختلف الحكم بكونه تمليك أو توكيل. إما تمليك وهو الأصل في الحقيقة , أو توكيل , فإذا قال أمرك بيدك عند الحنابلة ملكت ثلاثاً ولو نوى واحدة.
    (5/342)
    ________________________________________
    التعليل: عللوا هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ هذا مروي عن بعض الصحابة. الثاني: أنّ أمرك بيدك يشبه الكنايات الظاهرة والكنايات الظاهرة تفيد ماذا؟ إيقاع الطلاق ثلاثاً أو واحدة؟ تفيد ثلاثاً. فلما كانت كالكنايات الظاهرة ملكت به الزوجة ثلاث تطليقات. ولو نوى واحدة , لأنه لو نوى واحدة لنوى ما يخالف ظاهر اللفظ فلم يقبل منه.
    القول الثاني: في هذه المسألة المهمة وقد وقعت في عصر الصحابة بكثرة وفي عصر التابعين بكثرة ولذلك نقل عن الصحابة فتاوى كثيرة في هذه المسألة. القول الثاني: أنها واحدة رجعية , واستدل الإمام أحمد بنفسه على هذا القول فقال عن خمسة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
    القول الثالث: أنه إذا قال لها أمرك بيدك فليس بشيء وهو لغو. ونصر هذا القول وأطال في نصره ابن حزم - رحمه الله – واستدل على هذا بأنّ الله تعالى إنما جعل الطلاق بيد الرجل فهو من خصائصه , وجعله تعالى من خصائصه لحكم أرادها من تؤدة الرجل وتأنيه ونظره في العواقب فلا يجوز أن نسند هذا الأمر للمرأة بحال من الأحوال , لأنه مناقضة لمقصود الشارع.
    ولما ذكر ابن القيم هذا القول علقّ عليه فقال وهذا هو القول لولا هيبة الصحابة , وإنما نحن لهم تبع وهم لنا قدوة , ونحن نقول كما قال ابن القيم تماماً لولا هيبة الصحابة لكان إسناد الطلاق للمرأة ليس بشيء , لكن مع إفتاء الصحابة بأنه شيء لا مجال لإلغائه.
    قال ابن القيم: ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه ألغى تمليك الزوجة الطلاق , إنما اختلفوا في تملك من ذلك فمنهم من قال تملك ثلاثاً ومنهم من قال تملك واحدة. أما أصل الإيقاع فإنهم لم يختلفوا فيه. ولهذا نقول الراجح إن شاء الله هو القول الثاني الذي نصره الإمام أحمد بأنه فتوى خمسة من الصحابة , ونقول تملك واحدة ولا شك أنّ هذا القول وسط بين مذهب الحنابلة وبين مذهب الظاهرية.
    قال - رحمه الله - (ويتراخى ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ)
    (5/343)
    ________________________________________
    قوله ويتراخى يعني: نّ المرأة تملكه ملكاً متراخياً لا على الفور , واستدلوا على هذا: بأنّ هذا التمليك هو في الواقع في حكم التوكيل والتوكيلات في الشرع على التراخي لا على الفور , وهذا صحيح أنه إذا ملّك زوجته أمرها , فإنها تملك هذا الأمر على التراخي.
    قال - رحمه الله - (مالم يطأ ........ )
    فإن فعل فإنّ التوكيل والتمليك يعتبر مفسوخ ,
    أما الأول" فهو الوطء فإذا وطأها بعد أن ملكها أمرها فإنّ هذا الوطء بمعنى الفسخ. فلما وطأها عرفنا أنّه أراد فسخ التوكيل.
    الثاني: الطلاق إذا قال أمرك بيدك ثم طلقها , فهو في الحقيقة فسخ التوكيل لأنه باشر التطليق بنفسه.
    الثالث والأخير: الفسخ وهو أمره واضح فإذا فسخ الوكالة أو التمليك انفسخت لأنّ شأن الوكالات أنها تنفسخ بفسخ المالك. والمالك هنا هو الزوج.
    وكثير من الحنابلة لم يذكر تطليق وإنما ذكر الوطء والفسخ دون التطليق ,لأنّ أمر التطليق واضح ,لأنه إذا طلقها فقد فسخ ما أعطاها
    لكن المؤلف زاد الأمر وضوحاً بالتصريح بالتطليق.
    قال - رحمه الله - (ويختص اختاري نفسك بواحدة وبالمجلس المتصل)
    يختص اختاري نفسك بواحدة بمجلس متصل. إذا هناك فرق بين أن يقول لها اختاري نفسك وبين أن يقول لها ملكت أمر نفسك. ففي الأولى اختاري نفسك لا تملك إلاّ طلقة واحدة ولا تملكها إلاّ في المجلس يعني على الفور ولا تثبت على التراخي , ما الدليل في التفريق بين العبارتين.
    استدل الإمام أحمد بآثار الصحابة ,فإنّ فتاوى الصحابة فيها التفريق بين اللفظين , فإذا قال لها هذا اللفظ , وهو لفظه اختاري نفسك فإنها إن طلقت مباشرة , وإلاّ بانتهاء المجلس تفقد هذه الصلاحية وكذلك لا يمكن أن تطلق إلاّ واحدة , فإن قالت طلقت نفسي ثلاثاً فإنها لا تطلق إلاّ واحدة.
    قال - رحمه الله - (ما لم يزدها فيهما)
    (5/344)
    ________________________________________
    دائما الضمير يرجع إلى الوقت والعدد , فإذا زادها وقال لها اختاري نفسك متى شئت فهو على التراخي , وإذا قال لها اختاري نفسك بالعدد الذي تشائين فاختارت أن توقع أيّ عدد شاءت , لأنّ الحق له وإذا ملكها إياه ملكت , ونحن نقول دائما في مسائل أنها تملك الثلاث وأنّ الثلاث تقع أو لا تقع إلاّ واحدة , وهذا كله مفرع على القول بوقوع الطلاق بالثلاث.
    قال - رحمه الله - (فإن ردّت أو وطء أو طلق أو فسخ بطل خيارها)
    هذا تصريح بمفهوم العبارات السابقة ,لأنّه قال ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ ,ثم قال هنا فإذا ردت أو وطء أو طلق أو فسخ بطل خيارها إنما أضاف مسألة واحدة وهي أنها إذا ردت هي فقالت فسخت أو رددت التوكيل فإنها لا تملك بعد ذلك أن تطلق نفسها.
    * * مسألة/ إذا ملكها أمر الطلاق وصححنا هذا التمليك , فإنّ صيغة إيقاع الطلاق أن تقول طلقت نفسي منك , ولا تقول أنت طالق الدليل على هذا فتوى ابن عباس فإنّ امرأة ملكها زوجها نفسها فقالت أنت طالق - هداها الله - فقال أخطأ نوءها يعني لم تصب لو قالت طلقت نفسي لأصابت , واستخدام هذا اللفظ خطأ. وعليها إذا أرادت أن تطلق نفسها أن تقول طلقت نفسي منك.
    ولا تقول أنت طالق يعني أنها تملك ملكاً أصلياً , وهي لا تملك ملكاً أصلياً , وإنما تملك ملكاً فرعياً مكتسب من التوكيل السابق.
    بهذا انتهى الفصل المتعلق بالكنايات التي لا تقع طلاقاً عند الحنابلة.

    * باب ما يختلف به عدد الطلاق *
    يقول الشيخ في بيان ما يختلف به عدد الطلاق يعني من حيث المرأة والرجل.
    قال - رحمه الله - (يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً , والعبد اثنتين حرة كانت زوجتاهما أو أمة)
    أفادنا المؤلف - رحمه الله - مسألتين:
    المسألة الأولى: أنّ عدد الطلاق معتبر بالرجال لا بالنساء , وإلى هذا ذهب الجماهير وأفتى به عمر وعثمان - رضي الله عنهما - واستدل الجماهير. بأنّ الله تعالى أوكل الطلاق إلى الرجل وخاطبه به فهو الذي يعتبر به عدد الطلاق.
    (5/345)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنه يعتبر بالمرأة , فإذا تزوج العبد حرة ملك كم؟ ثلاثاً , وإذا تزوج الحر أمة ملك اثنتين , واستدل هؤلاء بأنّ هذا مروي عن ابن مسعود وعليّ - رضي الله عنهما - وبأنّ الطلاق إنما يقع على المرأة فيعتبر بها , وهذا القول ضعيف في الواقع , وأظنه إن شاء الله لا يثبت عن عليّ ولا عن ابن مسعود , وأنا أقول هذا تفقهاً وإلاّ لم أراجع الإسناد. لكن لا أظنه يثبت عن عليّ أنّ الطلاق معتبر بالمرأة فإنّ هذا بعيد عن النصوص الشرعية , إذا نقول الراجح أنّ الطلاق معتبر بالرجل لا بالمرأة , فإذا كان حراً فإنه يملك ثلاثاً مهما كانت زوجته , وإذا كان عبداً فإنه يملك اثنتين مهما كانت زوجته.
    المسألة الثانية: التي دلت عليها عبارة المؤلف , أنّ الرقّ يؤثر على الطلاق بالتنقيص , يعني أنّ الحر يملك ثلاثاً والعبد يملك تطليقتين وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة , بل عامة فقهاء المسلمين على هذا القول , وهو أنّ الرقّ ينقص عدد الطلاق استدلوا بأدلة:
    الدليل الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (يملك العبد تطليقتين , وقرء الأمة حيضتين) وهو نص في المسألة إلاّ أنّ إسناده ضعيف.
    الدليل الثاني: أنّ هذا مروي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
    الدليل الثالث: الإجماع وهو محكي.
    الدليل الرابع: القياس على الحدود , فإنهم أجمعوا على أنّ الحد ينصف على العبد كذلك الطلاق.
    القول الثاني: أنّ العبد يملك ثلاث طلقات كالحر , وأنّ الرقّ لا يؤثر على الطلاق بالتنقيص , واستدل هؤلاء بأنّ الله تعالى قال: {الطلاق مرتان} [البقرة/227] ولم يفرق بين حر وعبد , وهذا مذهب من؟ الظاهرية , والغريب اختاره أيضاً أو مال إليه المرداوي وهو غريب لأنه ليست له عادة خروج عن مذاهب الجماهير لاسيما مع قوة الأدلة لهم. لكن هو رأى الآية عامة فمال إليها.
    والراجح بلا إشكال إن شاء الله القول الأول.
    أولاً: لأنه محكي عن الصحابة.
    ثانياً: لما فيه من إجماع
    ثالث: لأنّ القياس الذي ذكروه صحيح
    إذا عرفنا الآن معنى قوله يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً والعبد اثنتين حرة كانت زوجتاهما أو أمة. عرفنا الآن إذا هاتين المسألتين وهو هل هو معتبر بالرجال أو لا!
    (5/346)
    ________________________________________
    قال - رحمه الله - (فإذا قال: أنت الطلاق , أو طالق , أو عَليّ , أو يلزمني , وقع ثلاثاً بنيتها , وإلاّ واحدة)
    * * هذه المسألة أيضاً مهمة , وسيأتينا لماذا هي مهمة! وإن كان المؤلف لم يصرح بالجزء الأهم منها كما سيأتينا.
    يقول الشيخ. فإذا قال أنت الطلاق أو طالق ..................... ) الخ
    نحن نريد أولاً أن نقرر المذهب لا حظ أنّ الشيخ - رحمه الله - المؤلف ساوى بين هذه الألفاظ , فأنت الطلاق يساوي عنده أنت طالق ويساوي عليّ الطلاق ويساوي الطلاق يلزمني , والصواب أنّ هذه الألفاظ لا تستوي فهما على مجموعتين:
    المجموعة الأولى: أنت الطلاق أو عليّ الطلاق أو الطلاق يلزمني.
    والمجموعة الثانية: أنت طالق.
    المجموعة الأولى أنت الطلاق أوعليّ الطلاق أوالطلاق يلزمني. تلاحظ أنه عبرّ عن الطلاق بالألف واللام يعني أضيف للطلاق الألف واللام التي تفيد الاستغراق. فإذا استخدمها وقع ثلاثاً , إلاّ أن يريد واحدة ,
    والدليل على هذا: أنها الألف واللام للاستغراق والأصل أنها تشمل جميع الثلاث. إلاّ إذا قصد واحدة , فإنه لا يقع إلاّ واحدة , هذا ما يتعلق بأنت الطلاق.
    نأتي إلى قوله أنت طالق. إذا قال أنت طالق فالجمهور أنها واحدة , ولا تكون ثلاثاً لأنها لا تدل على الاستغراق. وقيل هي ثلاث بنيته إذا الحنابلة يرون أنّ قوله أنت الطلاق , أو الطلاق يلزمني يدل على أنه ثلاث إلاّ أن يريد واحدة , ويستوي عند الحنابلة ما إذا أخرج هذا اللفظ معلقاً أو منجزاً أو حلف به ,
    * وكنت أحب أنّ الشيخ الماتن يضيف هذا لأنّ هذه الإضافة تكمل الحكم فإذا إذا قال أنت الطلاق أو الطلاق يلزمني سواء أخرجه مخرج التعليق فقال الطلاق يلزمني إن دخلت الدار هذا تعليق, أو أخرجه مخرج اليمين أو الحلف.
    فقال إن ذهبت إلى أهلك فالطلاق يلزمني , أوعليّ الطلاق أن تدخل أو علي الطلاق أن تخرج , فحلف به , في هذه الصور جميعا الحكم عند الحنابلة واحد , وهو إن أراد الثلاث فهو ثلاث , وإن أراد واحدة فواحدة.
    وعللوا هذا , أنّ استخدام صريح الطلاق لا يقع به إلاّ الطلاق , ولو نوى به يميناً أو علقّه أو نجزّه.
    (5/347)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنه إذا استخدم هذه الألفاظ معلقّة أو أراد الحلف بها , فإنها تأخذ حكم اليمين. وإلاّ فهي طلاق وهذا القول ذهب إليه شيخ الإسلام - رحمه الله - ونصره بأدلة تبلغ نحو الثلاثين دليل , وأطال في تقريبه بما إذا قرأه الإنسان لا يكاد يخرج عنه , وذكر هذا في القواعد النورانية ببحث مفصل ورائع ومفيد لطالب العلم سواء وافقت المؤلف أولم توافقه قراءة هذا المقطع مفيد في تنمية الملكة الفقهية. أدلة شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام - رحمه الله -[أنّ هذه المسألة لم تقع , الحلف بالطلاق لم يقع , في عهد الصحابة وإنما وقع في عهدهم الحلف بالنذر والحلف بالعتاق , يعني استخدام النذر وعتق العبد استخدام اليمين , فلما وقع في عهدهم هذا جعلوه كاليمين] فهذا الدليل الأول له. وهو التسوية بين الطلاق والنذر والعتاق.
    الدليل الثاني: وهو في الحقيقة من وجهة نظري هو أقوى دليل عند الشيخ - رحمه الله - وهو أنه قال أنّ جميع الفقهاء أدخلوا الطلاق والنذر والعتاق تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على شيء فقال إن شاء الله لم يحنث) أدخلوه من حيث الحنث وإن لم يدخلوه من حيث كونه طلاقاً أو يميناً.
    قال شيخ الإسلام [فإذا أدخلوا الطلاق تحت هذا الحديث فيلزمهم أن يدخلوه تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) ثم قال شيخ الإسلام وهذا واضح لمن تأمله] يقصد أنه أمر قوي وواضح لكن بشرط أن يتأمل بتأني. إذا هذا الدليل هو من وجهة نظري أقوى دليل وما عداه من الأدلة تكاد تكون تعليلات أو فتاوى من الصحابة , لكن هذا الحديث نص في المسألة لأنه بالإجماع أدخلوا الطلاق تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على أمر فقال إن شاء الله ..... ) الخ فأدخلوه تحت لفظ اليمين في الحديث فيجب أو يلزمهم أن يدخلوه تحت الحديث الآخر ولا فرق بينهما وكما قلت هذا القول إن شاء الله هو الصحيح بهذا الدليل بالذات من أدلة شيخ الإسلام وباعتبار هذا القول أو بتصحيح هذا القول إذا حلف الإنسان بالطلاق وهو واقع بكثرة فإنه لا يقع طلاق ولا يلزمه إلاّ أن يكفر كفارة يمين.
    (5/348)
    ________________________________________
    * * وأريد أن أنبه إلى أمر مهم جداً , وهو أناّ أخذنا الآن الخلاف في بعض الألفاظ والخلاف عميق تصوّر الفرق بين إنسان يجعل أنت عليّ حرام ظهار وبين إنسان يجعل أنت عليّ حرام يمين. أليس كذلك؟ بينهما فرق عظيم جداً.
    كذلك في مسألة الحلف بالطلاق , ربما تبين امرأته وتكون الطلقة الثالثة وربما يفتى بأن يكفر كفارة يمين وينتهي الأمر.
    من هنا أقول ينبغي للمفتي أن لا يسهّل أمور الطلاق على الناس , حتى لو كان الإنسان يرى أنّ الطلاق المعلّق أو المحلوف به حكمه حكم اليمين , لا ينبغي أبداً أن يسهّل هذا الأمر , وبمجرد ما يقول له الإنسان أنا حلفت وقلت كذا وكذا , يقول كفارة يمين , بل عليه أن يشدد في الأمر وأن يصعّب عليه لأنّ هذا من مقصود الشارع ولهذا وافق الصحابة كلهم والتابعون.
    * * عمر لماّ صعّب على الناس أمر الطلاق الثلاث تأديباً لهم , ولهذا نقول ينبغي للإنسان ما يأخذ العلم أخذاً مجردا وجافاً بل يعلم أنّ العلم لابد أن يسير هو والتأديب وتربية الناس في مسار واحد , ولا نقول أن تخالف الدليل لتأديب الناس لكن الإنسان يعرف كيف يؤدب الناس وإن أفتاهم بالقول الصحيح.
    ثم قال - رحمه الله - (ويقع بلفظ كل الطلاق , أو أكثره , أو عدد الحصى , والريح ونحو ذلك ثلاث ولو نوى واحدة)
    هذه الألفاظ إذا ذكرها فقال كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو عدد الحصى ........ الخ فإنه يقع ثلاثاً ولو نوى واحدة , لأنها صريحة في العدد , وتقدم معنا أنّ الألفاظ التي صريحة في العدد لا تقبل التنزيل أو لا تقبل زعم صاحبها أنه أراد واحدة , لأنّ هذه الدعوى تخالف صريح اللفظ فهي ثلاث وإن أراد واحدة , بعبارة أنه لو رأى الإنسان أنّ الطلاق الثلاث يقع , فإنه من استخدم هذه الألفاظ فإنه يقع عليه طلاق الثلاث ولو قال نويت واحدة , لأنّ هذه النية تخالف ظاهر كلامه.
    قال - رحمه الله - (وإن طلق عضوا , أو جزءا مشاعاً , أو معيناً , أو مبهماً أو قال: نصف طلقة , أوجزءاً من طلقة طلقت)
    اشتمل كلام المؤلف على مسألتين:
    المسألة الأولى: إذا أوقع كل الطلاق على بعض زوجته.
    والمسألة الثانية: إذا أوقع بعض الطلاق على كل زوجته.
    (5/349)
    ________________________________________
    نبدأ بالمسألة الأولى: إذا أوقع كل الطلاق على بعض زوجته , فإذا قال يدك طالق أو رجلك طالق أو نحو هذا من الأعضاء فإنّها تطلق.
    تعليل ذلك: أنّ التحريم والتحليل لا يتجزأ ولا يتبعض في المرأة , فإما أن تكون كلها حرام أو تكون كلها حرام , فإذا أوقع الطلاق على بعضها حرم كلها , لعدم تجزأ الحلال والحرام , وأنتم أخذتم مراراً قاعدة إذا اجتمع الحلال والحرام غلّب الحرام.
    المسألة الثانية: يقول أو قال نصف طلقة أو جزءاً من طلقة طلقت, يعني إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة فإنّ الطلاق يلزم المرأة كلها لماذا؟ لأنّ الطلاق لا يتجزأ.
    أسألكم أيهم أقوى في المسألتين من حيث إيقاع كل الطلاق؟ إذا أوقع الطلاق على بعض المرأة أو إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة أيهما أقوى؟
    الأولى: إذا أوقع الطلاق على بعض المرأة فهو أقوى من إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة , والواقع أنه في المسألة الثانية محل إجماع , وفي المسألة الأولى خلاف فصار أيهم أقوى؟
    الثاني. محل إجماع إذا أوقع بعض الطلاق على كل المرأة , فإنه يكون محل إجماع. وأنا لماذا سألتكم هذا السؤال لأنه فعلاً يتبادر إلى الذهن أنه في المسألة الأولى أقوى من المسألة الثانية , مع ذلك الثانية محل
    إجماع والأولى محل خلاف. وهذا يستدعي أنّ الإنسان دائماً ما يركن إلى نظرته وفهمه , وإنما يتأمل أكثر في المسائل.
    قال - رحمه الله - (وعكسه: الروح , والسن , والشعر , والظفر ونحوها)
    أيضاً تشتمل على مسألتين:
    المسألة الأولى: الروح إذا قال روحك طالق , فإنه لا تطلق عند الحنابلة لماذا؟ قالوا لأنّ الروح ليس عضوا ًيستمتع به فهو كالسمع والبصر.
    والقول الثاني: أنه إذا أوقع الطلاق على الروح , فإنه يقع واستدلوا على هذا بأنه لا حياة للبدن إلاّ بالروح , فإذا أوقع عليها الطلاق فقد طلقت.
    المجموعة الثانية: يقول والسن والشعر والظفر ونحوها. إذا أوقع الطلاق على هذه الأشياء السن والظفر ونحوها فإنه لا يقع الطلاق.
    (5/350)
    ________________________________________
    استدل الحنابلة على عدم وقوع الطلاق , بالقياس على الريق والدمع , لأنّ الريق والدمع لا يقع الطلاق فيها بالإجماع , فقاسوا عليه السن والظفر والشعر , والجامع بينهما الانفصال , أنّ كلاً منهما ينفصل.
    القول الثاني: أنه إذا أوقع الطلاق على السن والظفر والشعر , فإنه يقع واستدلوا على هذا بالقياس على عضوٍ من أعضاءها.
    والجامع , أنّ كل منهما جزء لا يستمتع به إلاّ بمقتضى عقد النكاح , فاستويا في هذا الأمر فاستويا في حكم الطلاق. إذا دائما نجد في المسائل , أنه يتجاذب الفرع أصلان. فأيهما أشبه به , الراجح يبدوا لي بعد التأمل والله أعلم , أنّ الراجح أنه إن طلق الشعر وقع وإن طلق السن والظفر لم يقع, لأنّ الشعر محل للاستمتاع وتشبيهه بالعضو تشبيه قوي, بخلاف السن والظفر فإنه ليس بمحل للاستمتاع وتشبيهه بالريق والدمع أقرب , هكذا ظهر لي والله أعلم.
    قال - رحمه الله - (وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد إلاّ أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً)
    قوله وإن قال لمدخول بها. بدأ الشيخ الكلام عن المسائل التي تفارق المدخول بها غير المدخول بها في الأحكام.
    فيقول وإن قال لمدخول بها , أنت طالق وكرره وقع العدد إلاّ أن ينوي ...... )
    إذا قال الرجل لامرأته التي دخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق , فينقسم إلى ثلاثة أقسام: -
    القسم الأول: أن يريد إيقاع الطلاق , أيّ يريد التعدد , فإنه يقع بلا خلاف يعني في المذهب.
    القسم الثاني: أن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق, يريد التأكيد ولا يريد الطلاق فإنه لا يقع إلاّ واحدة بلا خلاف يعني عند الحنابلة
    القسم الثالث: أن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق , ولا ينوي شيئاً , فهذا محل الخلاف , فالمذهب يرون أنه يقع متعدداً. لأنّ الأصل في هذا اللفظ أنه أراد تعدد الطلاق.
    (5/351)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه واحدة , لأنّ الأصل في الطلاق أن يقع واحدة لا أكثر. والراجح القول الثاني. وهو أنه إذا لم ينوي شيئاً فإنه واحدة لأنّ الأصل عدم وقوع الطلاق وليس الأصل وقوع الطلاق , مع إني أقول أنه يبعد جداً أن يتكلم الإنسان بقوله أنت طالق أنت طالق أنت طالق , ولا يريد لا الإيقاع ولا التأكيد , إذا ماذا يريد؟ لكن إن وقع وقال الإنسان أنا لما قلت أنت طالق أنت طالق أنت طالق , كنت غضباناً ولم أنوي تأكيداً ولا تأسيساً , إذا وقع هذا فالحكم أنها واحدة.
    وقوله (إلاّ أن ينوي تأكيداً يصح)
    أفادنا أنّ التأكيد منه ما يصح ومنه ما لا يصح , والتأكيد الذي يصح هو التأكيد المتصل وسيأتينا في ختام هذا الباب الكلام عن المتصل والمنفصل.
    قال - رحمه الله - (وإن كرره ببل , أو بالفاء , أو قال بعدها , أو قبلها , أومعها طلقة وقع ثنتان)
    هذه مجموعة من المسائل لها حكم واحد لكن في الحقيقة لكل منها تعليل خاص. وهي ثلاث مسائل: -
    المسألة الأولى: أن يقول أنت طالق بل طالق.
    المسألة الثانية: أن يقول أنت طالق ثم طالق , أو فطالق.
    المسألة الثالثة: أن يقول أنت طالق طلقة بعدها طلقة , أو قبلها طلقة , أو معها طلقة ,
    هذه ثلاث مسائل لكل واحد منها مأخذ يختلف عن مأخذ المسألة الأخرى.
    نبدأ بالمسألة الأولى:
    فإذا قال لزوجته: أنت طالق بل طالق فإنها تطلق طلقتان ,
    التعليل: أنّ بل يستخدم للإضراب , وهو العدول عن الحكم الأول إلى الحكم الثاني. والطلاق إذا وقع فإنه لا يرتفع فنتج من هذا وقوع الطلاق الأول والطلاق الثاني. وهو تعليل جميل متى كان المطلق عالماً باللغة العربية ويعلم أنّ بل يقصد منها هذا المعنى. فإنّ العوام اليوم يقصدون ببل طالق ماذا؟ التأكيد.
    المسألة الثانية"
    إذا قال أنت طالق ثم طالق , أو أنت طالق فطالق , فيقع هنا طلقتان
    التعليل: أنّ ثم والفاء معناهما للترتيب والتعقيب فتقع الطلقة الأولى وتقع الطلقة الثانية. وهذا واضح.
    المسألة الأخيرة"
    إذا قال أنت طالق طلقة بعدها طلقة , أو قبلها طلقة , أو معها طلقة , ففي هذه الصورة تقع طلقتان ,
    (5/352)
    ________________________________________
    والتعليل: أنّ هذا اللفظ صريح في الجمع , هو يقول أنت طالق طلقة معها طلقة فهو صريح في الجمع , أو يقول قبلها أو بعدها طلقة , فلا إشكال في وقوع طلقتين إذا استخدم هذا اللفظ , وعرفنا أنّ هذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل لكل واحدة منها مأخذ يختلف.
    ثم أراد المؤلف أن يبيّن نتيجة الفصل باختلاف المدخول بها عن غير المدخول بها.
    قال - رحمه الله - (وإن لم يدخل بها: بانت بالأولى , ولم يلزمه ما بعدها)
    فإذا قال أنت طالق بل طالق لزوجة لم يدخل بها إلى الآن , فلا تطلق إلاّ واحدة , والتعليل لهذا الحكم أنّ هذه الطلقة الأولى صارت أجنبية , والأجنبية لا يقع عليها طلاق. كذلك إذا قال أنت طالق ثم طالق فإنها لا تطلق إلاّ واحدة , لأنّ الثانية صادفت امرأة أجنبية فلم تؤثر فيها.
    * يستثنى من هذا مسألة. وهي إذا قال أنت طالق طلقة معها طلقة , لأنّ هذا صريح في الجمع , وكذلك إذا قال أنت طالق وطالق؛ لأنّ الواو لمطلق الجمع. إذا عرفنا أنها تستثنى هاتين المسألتين ما عداهما تكون طلقة واحدة.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (والمعلق كالمنجز في هذا)
    يعني إذا قال إن دخلت الدار فأنت طالق بل طالق , فهذا المعلق حكمه حكم المنجز. لماذا؟ لأنّ القاعدة تقول [أنّ المعلق إذا وقع فإنه يقع كما لو كان منجزاً] هذه قاعدة عندهم , فالتفصيل السابق في بل وثم والفاء , يأتي معنا فيما إذا صار الطلاق معلقاً , وعرفنا ما معنى تعليق الطلاق وهو أن يقول إن دخلت الدار فأنت طالق , فيعلق الطلاق على دخول الدار. بهذا انتهى هذا الفصل الذي اشتمل على مسائل قليلة النفع في آخره , فإنّ استخدام بل وثم والفاء وتطليق ظفر المرأة وتطليق رجل المرأة هذه لا تكاد تقع لكن على كل حال نحن عرفنا الآن الأحكام فيما لو تحذلق بعض العوام وقال شعرك طالق مثلاً.

    (فصل)
    هذا الفصل عقده المصنف للاستثناء والاستثناء في لغة العرب هو مطلق الإخراج.
    وأما في الاصطلاح اللغوي وفي اصطلاح أهل الشرع , فهو إخراج ما دخل في الجملة بإلاّ أو أحد أخواتها. وهذا الفصل مفيد في الحقيقة ويقع.
    (5/353)
    ________________________________________
    قال - رحمه الله - (ويصح منه استثناء النصف فأقلّ من عدد الطلاق والمطلقات. فإذا قال: أنت طالق طلقتين إلاّ واحدة وقعت واحدة وإن قال: ثلاثاً إلاّ واحدة فطلقتان)
    المؤلف يريد أن يبيّن أنّ الاستثناء اللفظي يؤثر في عدد المطلقات وفي عدد الطلاق , فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة فهي مطلقة تطلقتين. وإذا قال نسائي الأربع طوالق إلاّ واحدة فاللاتي يطلقن من النساء كم؟ ثلاث , والاستثناء اللفظي في الطلاق في العدد والمطلقات محل إجماع.
    لم يخالف إلاّ رجل من الحنابلة , وقال الاستثناء ليس بشيء. لأنّ الطلاق إذا وقع فإنه لا يرتفع. فإذا قال أنت طالق ثلاث إلاّ واحدة قال هذا الاستثناء لا ينفعه لأنّ الطلاق وقع بالثلاث , فلا يرتفع مرة أخرى.
    والجواب عن استدلاله:
    أولاً: أنه محجوج بالإجماع.
    ثانياً: أنه لم يفهم الاستثناء , لأنّ الاستثناء هو في الواقع إرادة المتكلم البيان أنّ هذا الشيء غير داخل في كلامه أصلاً , ولم يقع ثم يرفعه ولكنه أراد أنّ هذا غير مقصود أصلاً بالكلام ولهذا نحن نقول إن شاء الله الراجح أنّ الاستثناء اللفظي ينفع في عدد المطلقات وفي عدد الطلقات.
    يقول الشيخ هنا (ويصح منه استثناء النصف فأقلَّ)
    أما استثناء أكثر من النصف فإنه لا يصح , فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلاّ اثنتين , فهذا الاستثناء لا غي , ويكون الطلاق ثلاثاً.
    واستدلوا على هذا بأنّ المعروف في لغة العرب استثناء النصف فأقل , ولا يعرف عندهم استثناء الأكثر.
    والقول الثاني: أنّ الاستثناء صحيح ولو استثنى الأكثر , والدليل على هذا أنه لا يوجد مانع من أن الإنسان يريد استثناء الأكثر وعدم وقوع مثله في لغة العرب لا يدل على بطلانه , فإذا قال أنت طالق ثلاث إلاّ اثنتين فالواقع أنه وقعت عليها طلقة واحدة.
    قال - رحمه الله - (وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات)
    (5/354)
    ________________________________________
    لما انتهى من الاستثناء اللفظي لا معي انتقل إلى الاستثناء بالنية , والاستثناء بالنية ينفع في المطلقات ولا ينفع في عدد الطلقات , فإذا قال نسائي طوالق إلاّ واحدة في نيته صح الاستثناء , وإذا قال أنت طالق ثلاثاً ونوى في نيته واحدة إلاّ واحدة فإن الاستثناء لا ينفع دليل التفريق , قالوا إذا قال نسائي طوالق فإنّ كلمة نسائي تقبل الاستثناء , أما إذا قال أنت طالق ثلاثاً فإنّ العدد لا يقبل الاستثناء.
    (5/355)
    ________________________________________
    الدرس: (4) من الطلاق

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    مازال الكلام في الفصل المتعلق بالاستثناء في الطلاق , وكنا انتهينا من القسم الأول وهو الاستثناء اللفظي وكذلك القسم الثاني وهو بقلبه يعني الاستثناء بالنية وتبيّن معنا أنه في الاستثناء القلبي يصح في المطلقات لا في عدد الطلقات , وتبيّن معنا في الدرس السابق ما هو السبب اليوم.
    يقول المؤلف - رحمه الله - (وإن قال: أربعتكن إلاّ فلانة طوالق صح الاستثناء)
    وإذا صح الاستثناء لم تطلق , بصحة استثناءها ولا فرق بين هذه العبارة وبين قوله وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح لا فرق بينهما إلاّ أنّ المؤلف أراد أن يبيّن أنه سواء تقدم الاستثناء أو تأخر فإن الحكم واحد لا يختلف , سواء قال أربعتكن طوالق إلاّ فلانة أو قال أربعتكن إلاّ فلانة طوالق , فالحكم واحد فأراد فقط أن ينبه إلى هذه المسألة وإلاّ ليس في هذه العبارة زيادة علم.
    ثم قال - رحمه الله - ((ولا يصح استثناء لم يتصل عادة , فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل)
    بدأ المؤلف بشروط الاستثناء ليكون صحيحاً. فالشرط الأول" أن يتصل الكلام فلا بد ليصح الاستثناء أن يتصل الكلام. والاتصال إما أن يكون اتصال حقيقي // أو // اتصال حكمي ,
    فالاتصال الحقيقي هو: أن لا ينقطع الكلام فيستمر في الكلام ذاكراً المستثنى منه والمستثنى فيه في سياق واحد.
    (5/356)
    ________________________________________
    وأما الاستثناء الحكمي فهو: أن يفصل بين المستثنى منه والمستثنى بنحو تنفس أو سعال بما لا يقطع في الحقيقة الاتصال.
    وإلى اشتراط الاتصال ذهب الأئمة الأربعة بلا خلاف ,بل إنّ بعض الفقهاء قال هو محل إجماع ,واستدل الجماهير على اشتراط الاتصال بأنّ الكلام إذا لم يكن متصلاً لم يكن كلاماً واحداً , وإذا لم يكن كلاماً واحداً فإنّ الطلاق يقع باللفظ الأول , وإذا وقع فإنه لا يرفع فهذا هو عمدتهم في اشتراط الاتصال , وهو يعود إلى مسألة أنه إذا وقع الطلاق فإنه لا يرفع لأنّ الاستثناء لم يصح , ومن هنا علمنا أنه ليس معهم دليل من الكتاب أو السنة.
    القول الثاني: وهو مذهب الحسن البصري , ورواية عن الإمام أحمد ونصره شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم من المحققين , وهذا القول هو أنه لا يشترط الاتصال , ويعبر عن هذا القول بأحد تعبيرين:
    التعبير الأول: أن يقولوا لا يشترط الاتصال ما دام في المجلس.
    والتعبير الثاني: أن يقولوا لا يشترط الاتصال مادام الكلام واحداً , وهو اختلاف عبارة إلاّ أنّ هذا الاختلاف يلقي الضوء على مقصود هؤلاء بقولهم لا يشترط الاتصال. الأدلة استدل هؤلاء بأدلة:
    الأول: منها أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (لما خطب في حجة الوداع وبيّن منزلة مكة وحرمتها , وقال لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها , ثم قال ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد ثم قال ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ثم قال العباس إلاّ الإذخر, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الإذخر) ففي الحديث الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام أجنبي. فإنّ حكم اللقطة وحكم ولي الدم ليس له علاقة بقضية الاستثناء وهو جواز احتشاش الإذخر. وهو نص في المسألة فإذا هذا الحديث بيّن صحة الاستثناء وإن لم يتصل أيّ
    الاتصال الذي أراده الجمهور.
    الدليل الثاني: أنه صح عن ابن عباس أنه يجوز الاستثناء وإن لم يتصل , وهذا القول هو الراجح أنه مادام الكلام كلاما واحداً في مجلس واحد متصل فإنه يصح الاستثناء ولو فصل بين المستثنى منه والمستثنى بكلام أجنبي عن الموضوع.
    ثم - قال رحمه الله - (وشرطه النية قبل كمال ما استثنى منه)
    (5/357)
    ________________________________________
    يعني والشرط الثاني للاستثناء أن يكون الاستثناء بنية سابقة , فإن تكلم بالكلام ولم ينوي الاستثناء ثم عرض له أن يستثني فإنّ الاستثناء لا يصح , وهذا مذهب الحنابلة.
    القول الثاني: في هذه المسألة أنّ الاستثناء يصح ولو لم يكن في ذهن المتكلم وإنما عرض له عرضاً أثناء الكلام , واستدلوا بدليلين:
    الدليل الأول: ما جاء في الحديث الصحيح أنّ نبي الله سليمان - صلى الله عليه وسلم - قال (لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد منهما مجاهداً في سبيل الله , فقال له أحدهم - وفي رواية فقال له الملَك - قل إن شاء الله , فلم يقل إن شاء الله.
    وجه الاستدلال بهذا الحديث أنه لما قال الملَك لسليمان عليه السلام قل إن شاء الله , دل هذا على أنه لو قال إن شاء الله لنفعه.
    مع العلم أنه لم يكن في ذهن سليمان أن يقول إن شاء الله , وهذا أيضاً نص في المسألة وهو نص في أنه يجوز الاستثناء وإن لم ينوي عند التحدث بالكلام.
    الدليل الثاني: حديث الإذخر الذي تقدم معنا , فإنه قطعاً لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نيته أن يستثني الإذخر وإنما استثناه بطلب العباس - رضي الله عنه - ومع هذا صح الاستثناء وصار يجوز للإنسان وإن كان في مكة أن يأخذ الإذخر وينتفع منه. فهذان دليلان من السنة يدلان على أنه لا يشترط أن يكون الإنسان ناوي أن يستثني. بل الغالب أنّ الإنسان إذا استثنى لا يكون في ذهنه أن يستثني أليس كذلك؟ لأنه لو كان في ذهنه أن يستثني لاستثنى من الأصل.
    إذا هذا هو القول الراجح إن شاء الله وهو القول الثاني
    وبهذا نكون انتهينا من الفصل المتعلق بالاستثناء.

    * باب الطلاق في الماضي والمستقبل *
    معنى باب الطلاق في الماضي والمستقبل: أيّ تقييد الطلاق في الوقت الماضي أو تقييده بالوقت المستقبل. والمعنى ما حكم الطلاق إذا قيّد بوقت ماضي. أو بوقت مستقبل.
    (5/358)
    ________________________________________
    يقول الماتن - رحمه الله - (إذا قال: أنت طالق أمس) هذا في الماضي , أو (قبل أن أنكحك) أيضاً في الماضي (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع) إذا قال أنت طالق بالأمس فإنّ الطلاق لا يقع وتعليل هذا أنّ الطلاق هو عبارة عن رفع الاستباحة ورفع الاستباحة في الماضي لا يمكن. وهذا واضح يعني إذا كان الشيء مباح للإنسان في الماضي فإنّ هذه الإباحة التي وقعت في الزمن الماضي لا يمكن أن ترفعه والطلاق هو في الحقيقة رفع للاستباحة , بعني لاستباحة المرأة , فهذا هو الدليل على أنّ الطلاق في الماضي لا يقع.
    لكن يقول الشيخ هنا - رحمه الله - (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع)
    قبل أنّ نتعرض لقضية إذا نوى وقوعه في الحال, إذا قال أنت طالق بالأمس قلنا أنه لا يقع, لهذه المسألة أصل ترجع إليه وهو مفيد لمعرفة باقي المسائل. لكن قبل أن نذكر أصل هذه المسألة لا يتبيّن أصلها إلاّ بذكر الخلاف. ذكرنا المذهب أنه لا يقع وتعليلهم أليس كذلك؟
    القول الثاني: وهو رواية أنه يقع ,
    الدليل: أنه لما علق الطلاق على أمر لاغٍ ألغينا ما عُلقّ عليه وأثبتنا الطلاق , لأنّ هذا الوصف وصف لاغِ فألغيناه , عرفنا إذا الآن الخلاف , نأتي إلى المسألة التي أحب أن أنبه عليها ,
    هذه المسألة ترجع إلى قاعدة وهي:
    إذا عُلقّ الطلاق على أمر محال , فهل يلتغي الوصف ويثبت الطلاق , أو يلتغي الطلاق لكونه عُلقّ على محال هذا الضابط هو الضابط الذي ترجع إليه حقيقة الخلاف في هذه المسألة وإذا كنا نرجح أنّ الطلاق لا يقع إذا كذلك نرجح في هذا الضابط أنّ الذي يلغى هو الطلاق وليس الوصف , لأنّ الأصل عدم وقوع الطلاق ولأنّ الأصل أنّ التعليق مراد ولا يمكن أن نلغي التعليق المراد بلا دليل.
    إذا انتهينا من مسألة إذا لم ينوي وقوعه في الحال وهو أنه لا يقع.
    يقول الشيخ (ولم ينوي وقوعه في الحال لم يقع)
    مفهوم العبارة أنه إذا نوى وقوعه في الحال فإنه يقع , الدليل على هذا: تعليل سيتكرر معنا وهو أنه مقر على نفسه بما هو أغلظ فأخذ به لأنّ الإنسان إذا قال أنت طالق بالأمس , وقال أردت اليوم فقد أقرّ على نفسه بما هو أغلظ لأنّ هذا الإقرار يؤدي إلى وقوع الطلاق.
    (5/359)
    ________________________________________
    والقول الثاني: أنه إذا قال أنت طالق بالأمس أعني اليوم فإنّ هذا الكلام لغو ولا يقع الطلاق , وممن نصر هذا القول الإمام الغزالي من الشافعية , فإنه تبنى هذا القول ورأى أنه قول وجيه وأقوى من القول الأول وأنّ هذا كلام لغو كيف تقول أنت طالق بالأمس ثم تقول أردت اليوم هل هذا إلاّ تلاعب ولغو من الكلام. ولا يخفى أنّ كلام الغزالي فيه وجاهة.
    إلاّ أنه يعكّر عليه أنّ بعض الناس يقول أنت طالق بالأمس يريد ماذا؟ يريد تحقيق الطلاق كأنها من الأمس مطلقة, ولا يريد قضية تعليق الطلاق على الوقت الماضي , في مثل هذه الصورة ممكن يقال يقع الطلاق لأنه غاية ما هنالك أن تكون كناية والكنايات تقع مع النية ونحن نقول إنّ هذا اللفظ كناية وإذن كان فيه الصريح وهو لفظ الطلاق , لكن لما ألحق به كلمة بالأمس خرج عن مقصوده ولم يصبح دليلاً على الطلاق إلاّ مع النية وهذه حقيقة الكنايات.
    ثم - قال رحمه الله - (وإن أراد بطلاق سبق منه , أو من زيد وأمكن قبل)
    يعني إذا قال أنت طالق بالأمس وقصد طلاق سابق منه , أو طلاق سابق من زيد وأمكن بأن تقدم منه طلاق قُبِل, لأنّ لفظه يحتمل وإذا تكلم بما يحتمل صح منه وقُبِل.
    قال - رحمه الله - (فإن مات , أو جُنَّ , أو خرس قبل بيان مرداه لم تطلق)
    هذه العبارة ترجع إلى قوله أنت طالق أمس, وإلى قوله أنت طالق قبل أن أنكحك, فإذا قال هذه العبارة ولم يبيّن مراده هل يريد الوقوع حالاً الآن أو يريد فعلاً أنت طالق بالأمس , ومات أو جن أو خرس فإنّ الطلاق لا يقع , واستدلوا بدليلين:
    الأول: أنّ الأصل بقاء النكاح.
    الثاني: أنّ الأصل من هذه العبارة والمتبادر منها أنه أراد بالأمس, فنحن نبقى مع الظاهر من عبارته وهذا صحيح فإذا مات أو جن فزوجته باقية في النكاح.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر فقدم قبل مضيه لم تطلق)
    يعني وإن قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً قبل قبل قدوم زيد بشهر فقدم قبل مضيه لم تطلق ,
    (5/360)
    ________________________________________
    السبب أنه علقّ طلاقها على وصف لم يوجد؛ وهذا الوصف هو أنها تطلق قبل قدوم زيد بشهر , والواقع أنّ زيد قدم قبل الشهر فلم توجد الصفة , فلم تطلق المرأة وهذا صحيح لأنه لا يعدو أن يكون علقّه على صفة وهذه الصفة لم توجد وأمره واضح.
    قال - رحمه الله - (وبعد شهر وجزء تطلق فيه يقع)
    معنى العبارة وإن قدم زيد بعد شهر وجزء تطلق فيه طلقت , إذا قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر وقدم بعد شهر وجزء فإنها تطلق والتعليل عكس التعليل السابق. وهو أنّ الوصف الذي عُلقّ عليه الطلاق وجد.
    لكن لماذا يقول الشيخ وجزء؟ مراده بكلمة وجزء أنه يشترط أن يوجد جزء يمكن إيقاع الطلاق فيه , فإذا لم يوجد هذا الجزء فإنها لا تطلق. إذا عرفنا من هذه الكلمة حكم مسألة أخرى , وهي ما إذا قدم على رأس الشهر تماماً فإنها لا تطلق , لأنّ الشرط لم يتحقق بل لابد من وجود جزء يمكن أن يقع الطلاق فيه, وكما قلت لكم هذه الأبواب وما يليها قليلة الفائدة. ولا تكاد توجد أصلاً في واقع الناس إلاّ أنها من جهة أخرى مفيدة لتمرين الإنسان على فهم المسائل أما من حيث الواقع فهي قليلة الفائدة.
    قال - رحمه الله - (فإن خالعها بعد اليمين بيوم وقدم بعد شهر ويومين صح الخلع وبطل الطلاق)
    إذا خالعها بعد اليمين بيوم ثم لم يقدم زيد إلاّ بعد اليمين بشهر ويومين , فإنّ الخلع صحيح والطلاق لا يصح لماذا؟ الخلع صحيح لأنه خالعها وهي زوجة فإنه تبيّن بسبب عدم قدوم زيد في الوقت المحدد أنه أثناء الخلع هي زوجة , والخلع يقع على الزوجة.
    وأما أنه لا يصح أو بطل الطلاق فلأنّ الشرط وجد حال كون المرأة مخالعة , والمخالعة لا يقع عليها الطلاق. إذا هذا مقصود الشيخ بقوله (صح الخلع وبطل الطلاق)
    قال - رحمه الله - (وعكسهما بعد شهر وساعة)
    (5/361)
    ________________________________________
    يعني يبطل الخلع ويصح الطلاق إذا قدم بعد شهر وساعة لماذا؟ لأنّ تبيّن أنه لما خالعها بعد اليمين بيوم إنما خالع امرأة مطلقة , ولا يقع الخلع على امرأة مطلقة ولذلك نشترط في هذا الطلاق أن يكون طلاقاً بائناً لماذا؟ لأنه لو كان رجعياً فإنّ الخلع يقع على الزوجة الرجعية , فمقصود الشيخ هنا بالطلاق يعني في هذه المسألة بالذات الطلاق البائن , ويشترط لتصحيح هذه المسائل أن لا يتخذ الخلع حيلة لإبطال التعليق , فإنّ اتخذه حيلة فإنّ الخلع لا يصح والطلاق يقع بوجود الصفة.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: طالق قبل موتي طلقت في الحال)
    طلقت في الحال لماذا؟ لأنه الآن قبل الموت ألاّ يصدق عليه الآن أنه قبل الموت, هل يوجد جزء من الحياة لا يصدق عليه أنه قبل الموت هي الآن قبل الموت , فإذا قال لها أنت طالق قبل موتي طلقت في الحال وهذا صحيح.
    ثم - قال رحمه الله - (وعكسه معه , أو بعده)
    إذا قال أنت طالق مع موتي أو قال أنت طالق بعد موتي فإنّ الطلاق لا يقع, والعلة في ذلك. أنّ الطلاق صادف المرأة بعد الموت والبينونة والطلاق لا ينفع إلاّ في امرأة منكوحة وهذه ليست منكوحة , إذا صحيح إذا قال هذه العبارة فكأنه لم يقل شيئاً لأنّ عبارته لغو ولم يصح الطلاق.
    (فصل)
    هذا الفصل في تعليق الطلاق على المستحيل , والمستحيل على نوعين: -
    النوع الأول: المستحيل عادة.
    والنوع الثاني: المستحيل لذاته. وهو الذي يسمونه المستحيل عقلاً.
    فأمثلة المستحيل عادة. الأمثلة التي ذكرها المؤلف. فجميع الأمثلة المذكورة إنما هي للمستحيل عادة.
    أما أمثلة المستحيل عقلاً أو لذاته. كأن يقول أنت طالق إن لم ترددي أمس , لأنّ المرأة لا يمكن أن تردّ أمس أليس كذلك؟ يمكن للإنسان أن يردّ أمس هذا مستحيل عقلاً , وكما إذا قال لها أنت طالق إن لم تشربي من هذا الكوب وليس فيه ماء , وكما إذا قال لها أنت طالق إن لم تجمعي في هذه العين بين اللون الأسود والأبيض. هل يمكن الجمع بينهما؟ لا إذا هذا مستحيل عقلاً كأنه أراد أن يطلق لكن أراد أن يعذّب المرأة بمثل هذه الأشياء. المهم عرفنا الآن أنه مستحيل عادة ومستحيل عقلاً وهو الذي يسمونه المستحيل لذاته.
    (5/362)
    ________________________________________
    الحكم أنه إذا علقّ الطلاق على مستحيل فإنها لا تطلق. لأنّ المستحيل لا يقع والطلاق معلقّ عليه وهو لذلك تبعاً له لا يقع. وهذا صحيح.
    وفي المسألة قول ثاني: وهو أنه إذا علقّ الطلاق على مستحيل عادة , فإنه لا يقع وإذا علقّه على مستحيل لذاته وعقلاً فإنه يقع لماذا؟
    لأنه لما علقّه بالمستحيل لذاته علمنا أنه لا يريد التعليق لأنّ المستحيل لذاته لا يقع.
    والصواب أنّ المعلقّ على المستحيل لا يقع عادة أو عقلاً , فإنه لا يقع لأنّ هذا المستحيل لم يقع , وإذا لم توجد الصفة لم يوجد الحكم.
    لكن أنا ذكرت هذا الخلاف لأنه لفت انتباهي أن الشيخ لم يمثلّ إلاّ بالمستحيل عادة , فهل أراد الإشارة لهذا الخلاف أو أنّ المسألة يعني وجدت صدفة هكذا ولم يمثلّ إلاّ بالمستحيل عادة الله أعلم. على كل حال الآن عرفنا الخلاف وأنّ الصواب التسوية بين المستحيل عادة وعقلاً.
    قال - رحمه الله - (وتطلق في عكسه فوراً وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميّت أو لأصعدن السماء ونحوهما)
    يعني أنت طالق لأقتلن الميت ,أو أنت طالق لأصعدن السماء ونحوهما ,هنا إذا علقّه على عكسه طلقت فوراً لماذا؟ لأنه علقّ الطلاق على عدم وجود المستحيل وعدم وجوده معلوم. فإذا تطلق مباشرة, إذا عكس المسألة السابقة تماماً. إذا علقّ الطلاق على عدم وجود المستحيل فإنها تطلق فوراً , وعلمتم الآن السبب وهو أنّ عدم وجوده معلوم في الحال.
    قال - رحمه الله - (وأنت طالق اليوم إذا جاء غدٌ لغوٌ)
    فإنها يقول الشيخ لغوٌ يعني فإنها لا تطلق لماذا؟ أنا أقول أنّ فائدة هذه المسائل تمرين الذهن ولا الأحكام قليلة الوقوع ولذلك نحن نريد نناقشكم فيها لماذا إذا قال أنت طالق اليوم إذا جاء غداً فهو لغوٌ؟ لأنه اليوم لا يمكن أن يأتي غداً ,هو يقول أنت طالق اليوم إذا جاء غداً وغداً لا يمكن أن يأتي اليوم أليس كذلك؟ إذا هذا السبب في عدم الوقوع
    قال - رحمه الله - (وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر , أو اليوم طلقت في الحال)
    لأنه الآن هو في هذا الشهر في هذا الشهر وفي هذا اليوم , فصدق الشرط فوجد الحكم وهو الطلاق فعلقّه على أمر موجود الآن.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: في غدٍ , أو السبت , أو رمضان طلقت في أوله)
    (5/363)
    ________________________________________
    إذا قال أنت طالق في غدٍ أو أنت طالق السبت , أو في رمضان , لأنها تطلق في أوله والسبب في ذلك أنه إذا جاء أوله فهي فيه.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: أردت آخر الكل دُيِّن وقبل)
    إذا قال لما قلت أنت طالق غداً أو السبت أو رمضان, أردت آخر السبت وآخر غداً وآخر رمضان قبل منه ,والسبب في هذا أنّ العبارة تحتمل هذا المعنى لأنّ قوله في غدٍ في للظرفية وهي تصدق على كل اليوم ,كما أنّ آخر اليوم منه فلفظه محتمل له لكن إذا قال أنت طالق غداً وقال أردت آخره , فهل يصح أو لا يصح؟ الجواب أنه إذا قال أنت طالق غداً فإنه لا يصح.
    ما الفرق بين العبارتين؟ حرف وهو (في) في العبارة الأولى أنت طالق في غدٍ أو في السبت أو في رمضان وهنا قال أنت طالق غداً إذا قال أردت آخره فإنه لا يصح لماذا؟ لأنه لا يصدق على المرأة أن تكون طالق في كل غدٍ إلاّ إذا طلقت من أوله. ولهذا نقول عبارتك غير صحيحة ولا تحتمل ولا تقبل في الحكم , فهي تطلق بمجرد ما يدخل غداً إذا قلت أنت طالق غداً , فهناك فرق بين أنت طالق في غدٍ وأنت طالق غداً.
    قال - رحمه الله - (وأنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه إلاّ أن ينوي في الحال فيقع)
    هاتان مسألتان:
    المسألة الأولى إذا قال أنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه.
    المسألة الثانية: إلاّ أن ينوي في الحال فيقع.
    المسألة الأولى: إذا قال أنت طالق إلى شهر طلقت عند انقضائه لماذا؟ لأنّ نحمل معنى إلى شهر يعني بعد شهر , والذي جعلنا نحمل هذه العبارة هذا المحمل هو أنه مروي عن ابن عباس أنّ قول القائل , إلى غدٍ يعني بعد غد والدليل أيضاً حتى من جهة اللغة واستعمال العرف لأنه إذا قال أنا سأسافر إلى غداً يعني أنه سيخرج من البلد متى؟ بعد انقضاء غد , نحن قلنا أنّ إلى في مثل هذه العبارات بمعنى بعد.
    هنا يقول أنت طالق إلى شهر , يعني بعد شهر , سأخرج إلى شهر يعني بعد شهر والعمدة في الحقيقة هو أثر ابن عباس
    المسألة الثانية: (إلاّ أن ينوي في الحال فيقع) إذا قال أنت طالق إلى شهر مقصودي الآن فإنها تطلق في الحال, والتعليل هو ما تقدم معنا وأشرنا إلى أنه سيتكرر وهو أنه أقرّ على نفسه بما هو أغلظ.
    (5/364)
    ________________________________________
    قال - رحمه الله - (وطالق إلى سنة تطلق باثَنَي عشر شهراً)
    إذا قال أنت طالق إلى سنة فمعنى هذه العبارة أنت طالق بعد سنة , والسنة في الشرع مدتها اثنا عشر شهراً , لقوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} [التوبة/36] فإذا الكتاب دلّ على أنّ عدة الشهور عند المسلمين اثنا عشر شهراً.
    فإذا إذا مضى اثنا عشر شهراً من هذا التعليق فإنها تطلق , بخلاف المسألة التالية وهي "
    قال المؤلف - رحمه الله - (فإن عرّفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة)
    إذا قال أنت طالق إلى السنة , فإنها تطلق بانسلاخ ذي الحجة لأنّ الألف واللام للمعهود , والمعهود في سنة المسلمين أنها تنتهي بانسلاخ شهر ذي الحجة فبمجرد انسلاخه تطلق.
    ما الفرق بين المسألتين؟ الفرق بينهما أنه لو قال هذه العبارة وقد بقي على شهر ذي الحجة شهر واحد فإنه بمجرد ما ينسلخ تطلق. بينما في العبارة الأولى لا بد أن تبقى لمدة اثَنَي عشر شهراً.

    * باب تعليق الطلاق بالشروط *
    تعليق الطلاق بالشروط: أيّ ترتيب الطلاق , على أمر حاصل أو غير حاصل بأنّ أو أحد أخواتها.
    مثال الأمر الحاصل / أن يقول إن كنت حاملاً فأنت طالق ووجدنا في الواقع أنها حامل فهو ترتيب على أمر حاصل.
    مثال الذي لم يحصل / أن يقول إن دخلت الدار فأنت طالق , وهي لم تدخل الدار.
    * * مسألة / التعليق ينقسم إلى قسمين: -
    القسم الأول: أن يحلف بالتعليق وهو كاره لوقوع الطلاق فحكم هذه المسألة بالإجماع حكم الحلف بالطلاق , وما هو حكم الحلف بالطلاق؟ تقدم معنا قريباً. وبعض الناس إذا سمع هذا الإجماع تشكل عليه المسألة ويظن أنه حكاية إجماع أنه يمين. وهذا خطأ هو حكاية الإجماع إنما هي على أنّ حكم الحلف بالطلاق ثم ينظر بعد ذلك في حكم الحلف بالطلاق على الخلاف الذي سبق معنا.
    الصورة الثانية: أن يعلق بالشرط مريداً إيقاع الطلاق , كأن يقول إن خرجت الشمس فأنت طالق إن قدم زيد فأنت طالق فالحكم في هذه المسألة أنّ الطلاق يقع عند وجود الشرط عند الأئمة الأربعة والفقهاء جميعاً وحكي إجماعاً.
    (5/365)
    ________________________________________
    والقول الثاني: للظاهرية أنّ هذا لاغٍ ولا حكم له , لأنّ الطلاق لا يكون بالتعليق عندهم. وهو قول شاذ مخالف لفتاوى الصحابة ومخالف لأصول الشرع وكون الآيات والأحاديث ليس فيها تصحيح الطلاق إذا علق بشرط هذا لا يعني أنه لا يقع ولا يصح. ولا أدري كيف يتجرأ على مثل هذا مع وجود الفتاوى الصريحة عن عدد كبير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (لا يصح من إلاّ من زوج)
    لا يصح التعليق إلاّ من زوج , فغير الزوج لا قيمة لتعليقه فإذا قال الإنسان إذا تزوجتك ودخلت الدار فأنت طالق , ثم تزوجها ودخلت الدار فلا عبرة بكلامه السابق , والدليل على هذا من وجهين: -
    الأول: إجماع الصحابة فإنهم أجمعوا على أنّ الإنسان قبل أن يتزوج إذا علقّ فلا قيمة لتعليقه.
    الدليل الثاني: الحديث تقدم معنا (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا طلاق لإبن آدم فيما لا يملك) فهذه النصوص كلها تدلّ على أنّ هذا الطلاق لا يصح.
    القول الثاني: أنه يصح فإذا تزوجها ثم دخلت الدار طلقت وعللوا هذا بأنه علق ووجد المعلقّ عليه في حال النكاح فصح , وهذا أشبه ما يكون بمذاهب التلفيق بين الأقوال ,لأنه علقّ صحيح ووجد التعليق في زمن الطلاق صحيح ,لكن تعليقه في حال لا يملك هذا التعليق ثم هذا القول من عجائب الأقوال لأنّه يخالف إجماع الصحابة , وأنا في الحقيقة اعتبر أنه أيّ قول مخالف لإجماع محكي عن الصحابة فيه جرأة كبيرة مهما كان القائل به.
    قال - رحمه الله - (فإذا علقه بشرط لم تطلق قبله , ولو قال عجلته)
    إذا علقّه بشرط فإنّ هذا التعليق يظل صحيحاً ولا يملك تعجيله , معنى التعجيل/ هو إلغاء الشرط وايقاع الطلاق حالاً ,هذا هو التعجيل فالزوج إذا علقّ لا يملك التعجيل وإلغاء الشرط , لأنه عقد خرج منه فثبت حكمه.
    (5/366)
    ________________________________________
    ثمرة المسألة / ما هي ثمرة المسألة؟ لو قال الزوج إذا لم تسمحوا لي بتعجيل الشرط أطلّق طلاقاً مبتدأً أليس كذلك؟ فهل هذا الخلاف تحصيل حاصل أو له ثمرة؟ له ثمرة ثمرته أنه لو قال هذا الكلام وطلقّ فإنه إذا وجد الشرط فإنها تطلق ثانية , لأنّ الشرط يبقى موجوداً مادام لم يَنحَلّ بحنث أو براءة منه , والصحيح أنه لا يَنحَلّ , ومن الفقهاء من قال يَنحَلّ , فإذا قال عجلت الطلاق المعلقّ وقع ولا يقع إذا وجد الشرط بعد ذلك , لكن الصواب أنه لا يقع , وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى وهي هل يملك الزوج أن يلغي الشرط؟
    هذه المسألة التي معنا مبنية على المسألة التي ذكرت , والمسألة التي ذكرت فيها خلاف.
    فذهب الأئمة الأربعة والجماهير: إلى أنّ الشرط لا يمكن أن يلغى.
    القول الثاني: وهو مذهب لبعض الحنابلة من المتأخرين , أنه يمكن إلغاء الشرط فإنّ الإنسان يمكن أن يلغي العقد الذي عقده بنفسه ونسب هذا القول لشيخ الإسلام , وأنا أرى أنّ هذه نسبة غير صحيحة , إنما الشيخ يصحح الرجوع في الشرط المعلقّ , [وين مرّ علينا وقلنا هناك الفرق] في الخلع انتصر الشيخ للإنسان بإمكانه أن يرجع عن الشرط المعلقّ بالخلع وذكرنا هناك الفارق الدقيق الذي كره شيخ الإسلام وهو فارق جميل وذكرت هناك أنّ الشيخ يفرقّ بين هذا التعليق وبين التعليق المجرد وهو الذي معنا الآن , وأما هنا فإنه لا يقول بالرجوع كما أنه ظاهر فتاوى الصحابة أنهم لا يقولون بالرجوع لأنه لو أمكن الرجوع لحلّت المسألة برجوع الزوج وفسخ التعليق , لكنا لا نراهم يحلّون المسألة بهذه الطريق فعلمنا أنهم يرون أنّ التعليق لازم. على كل حال الراجح إن شاء الله أنه لا يستطيع فسخ الشرط.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال)
    إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار , ثم قال قولي إن دخلت الدار سبق لسان , وأنا أردت أن أطلّق فكلامه مقبول للتعليل السابق وهو أنه مقرّ على نفسه بما هو أغلظ عليه. فقبل في حقه لأنّ الإقرار إذا كان فيه حق زائد على المقرّ فإنه يقبل.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: أنت طالق , وقال: أردت إن قمت لم يقبل حكماً)
    (5/367)
    ________________________________________
    لم يقبل حكماً إذا قال أنت طالق ثم قال أنا أردت إن قمت فإنه يقبل تديّناً ولا يقبل حكماً لأنه يدعي خلاف لفظه , ولو فتح هذا الباب لأمكن لكل إنسان إذا جاء مجلس القضاء لقال أردت بكلامي ذاك كذا , حتى لو اعترف بدين عليه لقال أردت بالاعتراف كذا وكذا فإذا في مجلس الحكم دعوى إرادة غير ظاهر اللفظ غير مقبولة , لكن تديُّناً يقبل وتقدم معنا تدينا معناه ماذا يعني فيما بينه وبين الله؟
    فإذا صدقته الزوجة وبقي على نكاحهما فهو صحيح.
    قال - رحمه الله - (وأدوات الشرط: إن , وإذا , ومتى , وأيُّ , ومن , وكلما)
    يعني وأدوات الشرط سِت: فإنه ذكر سِت ومقصوده بهذه السِت يعني التي تستعمل غالباً , وإلاّ لا شك يوجد أدوات أخرى غير هذه السِت. منها ما ذكره المؤلف لأنه قال بعد ذلك (وكلها , ومهما) فأضاف واحدة هو, إذا قيل لك لماذا ذكر هذه السِت فقط؟ فالجواب لأنها هي التي تستعمل غالباً.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (وكلما وهي وحدها للتكرار , وكلها , ومهما , بلا لم أو نية فور أو قرينة للترخي ومع لم للفور إلاّ إن مع عدم نية فور أو قرينة)
    في الحقيقة الشيخ خلط الأمور وأدخل بعضها في بعض من غير ترتيب مريح للطالب , نحن نقول في هذه المسائل الشيخ يتحدث عن ثلاث مسائل: - التكرار , والفور , والتراخي.
    فنقول بعبارة أسهل جميع هذه الأدوات لا تفيد التكرار إلاّ (كلما) كل هذه الأدوات لا تفيد التكرار إلاّ ماذا؟ إلاّ (كلما) وكل هذه الأدوات تفيد التراخي بلا لم أو نيته أو قرينته. الثالث. كل هذه الأدوات تفيد الفور مع لم إلاّ (إن) كل هذه الألفاظ تفيد الفور مع نيته أو قرينته. إذا أربع عناصر ترّتب هذه القضايا التي يعني ذكرها الشيخ.
    العنصر الأول: كلها لا تفيد التكرار إلاّ (كلما)
    العنصر الثاني: كلها تفيد التراخي بلا لم أو نية الفورية أو قرينته.
    العنصر الثالث: كلها مع لم تفيد الفور إلاّ (إن)
    العنصر الأخير: كلها تفيد الفور مع نيته أو قرينته. الآن عرفنا الأربع عناصر نأتي إلى كل واحد منها: -
    * ليس شيء من هذه الأدوات يفيد التكرار إلاّ (كلما) لأنّ كلما في لغة العرب تفيد هذا المعنى بخلاف باقي الأدوات فإنها لم تأتي في لغة العرب لإفادة التكرار.
    (5/368)
    ________________________________________
    * وكلها مع لم تفيد الفور إلاّ (إن) لماذا؟ قالوا لأنّ إن لا يفيد الوقت أصلاً. فلم وغير لم لا تؤثر عليه شيئاً.
    * كلها تفيد الفور مع نيته أو قرينته. هذا معلوم فإذا تكلم بهذه الأدوات ناوياً الفور أو أتى بقرينة تفيد الفور فإنها كلها تفيد الفور حتى) إن) هذا إذا معنى قول الشيخ (وكلما وهي حدها للتكرار , وكلها ومهما بلا لم أو نية فور ..................... ) الخ
    فقوله (وكلما وهي وحدها للتكرار) يعني أنّ كلما وحدها للتكرار , والباقي ليست للتكرار.
    ثم - قال رحمه الله - (وكلها) يعني مع (مهما) بلا لم أو نية الفور أو قرينته للتراخي إذا الأصل في هذه الأدوات أنها للتراخي أو للفور؟
    الأصل للتراخي , ولا تفيد الفور إلاّ بأحد ثلاث قرائن. (لم) , (نية الفور) , (قرينة الفور)
    هذا عدا ماذا؟ عدا (إن) في لم , فإن لا تفيد الفور ولو دخلت عليها لم.
    سيعيد المؤلف بيان هذه الأشياء بالأمثلة , فإنّ الخمس مسائل التالية كلها تدور حول هذا المعنى.
    قال - رحمه الله - (فإذا قال: إن قمت , أو إذا , أو متى , أو أيُّ وقت , أو من قامت , أوكلما قمت فأنت طالق فمتى وجدت طلقت)
    هذا تأكيد لمعنى التراخي , كأنه يقول أنّ هذه الألفاظ تفيد التراخي من حيث الأصل , فإذا قال إن قمت فإنها متى قامت في أيِّ وقت من الأوقات فإنها ماذا؟ تعتبر طالق ولا يتقيد بوقته الذي قال فيه هذا التعليق. إذا هذا معنى أنها للتراخي ولذلك يقول الشيخ - رحمه الله - (فمتى وجدت طلقت) يعني أنها للتراخي.
    قال - رحمه الله - (وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحِنثُ إلاّ في كلما)
    التكرار معناه وجود طلاق كلما وجدت الصفة , فالتكرار يصح في حق (كلما) ولا يصح في حق الأخريات , فإذا قال إن قمت فأنت طالق فقامت , ثم جلست وقامت تطلق الثانية؟ ولماذا؟ لأنه لا يفيد التكرار.
    لكن إن قال لها كلما قمت فأنت طالق , فقامت ثم قعدت , ثم قامت ثم قعدت , ثم قامت , كم طلقت؟ ثلاث. إذا عرفنا الآن معنى أنها تفيد التكرار وما معنى أنها لا تفيد.
    قال - رحمه الله - (وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينوِ وقتا , ولم تقم قرينة بفور , ولم يطلقها طلقت في آخر حياة أوَّلِهمَا موتاً)
    (5/369)
    ________________________________________
    يريد المؤلف أن يبيّن أنّ (إن) إذا دخل عليها لم لا تفيد الفور , فيقول وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ................. الخ
    إذا قال الرجل إن لم أطلقك فأنت طالق. فإنّ هذه العبارة تفيد تعليق الطلاق على عدم الطلاق أليس كذلك؟ وعدم الطلاق لا يتحقق إلاّ إذا بقي من حياة أحدهما ما لا يتسع لإيقاع الطلاق , حينئذ تحقق أنه لم يطلق قبل هذا لم يتحقق لأنه بالإمكان أن يطلق فيما بعد.
    هذه العبارة تفيد أنه إذا علق الطلاق على عدم الطلاق فإنها لا تطلق إلاّ في آخر جزء من حياته , ويشترط في هذا الجزء أن يتسع ولا أن لا يتسع لوقوع الطلاق؟ أن لا يتسع. فإن اتسع لم تطلق. على هذا إذا استخدم هذه اللفظة يحتاج المرأة وأهلها إلى فقيه ليشرح لهم متى تطلق ومتى لا تطلق. وهذا الحقيقة من التلاعب , يعني لو استخدمه الإنسان لا هو ولا المسائل السابقة لأنه في الحقيقة يعتبر من التلاعب الذي ينبغي أن يؤدب , إن أراد أن يطلق فليطلق بقوله أنت طالق.
    قال - رحمه الله - (ومتى لم , وإذا لم , أو أيُّ وقت لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت)
    إذا قال لها متى لم أطلقك فأنت طالق , الآن دخل على أداة الشرط متى حرف (لم) ولم إذا دخلت على هذه الأدوات تفيد ماذا؟ الفور فإن لم يطلق فوراً , والمقصود بفوراً يعني بعد مضي وقت يمكن أن يطلق فيه , إن لم يطلق طلقت. لماذا؟ لأنها تفيد الفور وهو لم يطلق إذا طلقت , فقد علق الطلاق على عدم التطليق , والتطليق الصفة المعلق عليها يجب أن توجد فوراً , فإذا لم توجد فإنها تطلق. إذا قال لزوجته متى لم أطلقك طلقت , هل يستطيع أن لا يطلق؟ لا يستطيع لماذا؟ لأنه إن طلق فقد طلق أليس كذلك؟ معلوم هذا وإن لم يطلق وجد الشرط فطلقت , فإذا بمجرد ما يقول هذه العبارة نعلم أنّ الزوجة بكل حال طالق.
    قال - رحمه الله - (وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى وما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه)
    إذا قال كلما لم أطلقك فأنت طالق , فإنّا أخذنا أنّ كلما تفيد ماذا؟ التكرار. كلما وجد زمن لم يطلق فهي طالق ثم إذا وجد زمن آخر لم يطلق فهي طالق , فإذا وجد زمن ثالث لم يطلق فيه فهي طالق بالثلاث , أليس كذلك؟ كلما وجد الشرط وجد التطليق.
    (5/370)
    ________________________________________
    إذا ما هو الحل لمثل هذا حتى لا تقع الثلاث على زوجته؟ هل يمكن له أن يتجنب إيقاع الثلاث؟ وهل يمكن له أن يتجنب إيقاع الواحدة؟ كيف يمكنه أن يتجنب إيقاع الثلاث؟ أن يطلق لماذا؟ لأنه يكون بَرَّ بيمينه وانتهى الشرط. لكن إذا لم يطلق طلقت الثانية ثم الثالثة ثم انتهى العدد.
    يقول الشيخ - رحمه الله - (طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى)
    يعني أنّ إيقاع الثلاث في هذه العبارة كلما لم أطلقك فأنت طالق , إنما يكون في حق المدخول بها , لأنّ غير المدخول بها تبين وتصبح أجنبية بالطلقة الأولى لأنه لا عدة عليها فلا تلحقها الطلاقات الثانية والثالثة. وهذا أمر واضح.
    ثم - قال رحمه الله - (وإن قمت فقعدت , أو ثم قعدت , أو إن قعدت إذا قمت , أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد)
    إذا قال لها إن قمت فقعدت أو قال لها إن قمت ثم قعدت , لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد ,
    وتعليل ذلك: أنّ الطلاق هنا معلقّ على شرطين مرتَّبَين فلا تطلق إلاّ بوجود الشرطين وأيضاً مرتَّبَين , فلو أنها قعدت ثم قامت فإنها لم تطلق , لأنه رتبّ وقال لا بد أن تقوم ثم تقعد, وهذا أمر واضح.
    أما ما يتعلقّ بقوله (إن قعدت إذا قمت) وقوله (إن قعدت إن قمت)
    فهذا يعود إلى قاعدة معروفة , وهي أنه إذا رتبّ الحكم على شرطين فالثاني لفظاً هو الأول في المعنى , لماذا؟ لأنّ الشرط الثاني شرط في الأول والشرط يتقدم المشروط وترجع المسألة إلى حكم المسألة السابقة لأنه إذا قال (إن قعدت إذا قمت) فلابد أيضاً أن تقوم ثم تقعد
    ثم - قال رحمه الله - (وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتّبين , وبأَو بوجود أحدهما)
    إذا قال إن قمت وقعدت , فلا تطلق إلاّ بوجودهما لماذا؟ لأنه رتبّ الطلاق على هذين الشرطين , لكن لا يشترط الآن الترتيب لأنّ الواو تقتضي مُطلَق الجمع لا تقتضي الترتيب.
    أخيراً يقول (وبأو بوجود أحدهما) إذا قال إن قمت أو قعدت فأيُّ من العملين وجد فإنّ الطلاق يوجد لأنه علقّه على وجود أحدهما فوجد الطلاق بوجود أحدهما.
    بهذا يكون انتهى.
    (5/371)
    ________________________________________
    الدرس: (5) من الطلاق

    قال شيخنا حفظه الله:
    بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    (فصل)
    مازال المؤلف - رحمه الله - في الكلام عن التعليق , وهذا الفصل يتعلق بتعليق الطلاق على صفة الحيض.
    يقول الشيخ الماتن - رحمه الله - (إذا قال: إن حضت فأنت طالق , طلقت بأولّ حيض متيقَّنٍ)
    إذا قال إن حضت فأنت طالق فإنها بمجرد ما تحيض فإنها تطلق , لكن يجب أن تحيض حيضة نعلم أنها حيضة وذلك بخروج الدم المتيّقن أنه حيض , فإذا خرج هذا الدم فقد حاضت وإذا حاضت فقد طلقت.
    هذه الصورة الأولى.
    الثانية" يقول - رحمه الله - (وإذا حضت حيضة تطلق بأوّل الطهر من حيضة كاملة)
    إذا قال لها إذا حضت حيضة فإنها تطلق بحيضة كاملة , وذلك بأن تحيض حيضة كاملة ثم تطهر فإذا طهرت فإنها تطلق وعلم من هذا أنه لو قال لها إن حضت حيضة فأنت طالق قال لها هذا الكلام أثناء الحيض فإنّا ننتظر إلى أن تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم تطلق , لأنّ هذا الشخص قال إذا حضت حيضة , والحيضة الكاملة لا تكون إلاّ من بدأ نزول الحيض الدم إلى الطهر وجفاف المرأة.
    * * مسألة / وهل يشترط مع ذلك أن تغتسل؟ أو بمجرد توقف الدم وانتهاء الحيض تطلق , فيه خلاف.
    والأقرب والله أعلم المتوافق مع فتاوى الصحابة في مسائل أخرى أنها لا بد أن تغتسل , بناء على هذا فإذا طهرت واغتسلت طلقت وتبيّن معنا أنّ الفرق بين العبارتين أنه في الأولى قال: (إن حضت) , بينما في الثانية قال (إن حضت حيضة)
    الصورة الثالثة" يقول - رحمه الله - (وفي إذا حضت نصف حيضة تطلق في نصف عادتها)
    إذا قال لها إذا حضت نصف حيضة طلقت فإنها تطلق في نصف العادة , ويعلم نصف العادة بعد انقضاء العادة فإذا حاضت لمدة ستة أيام ثم طهرت علمنا أنها طلقت بعد مضي ثلاثة أيام وإذا حاضت لمدة أربعة أيام علمنا أنها طلقت بعد مضي أربعة أيام , ومن هنا علمنا أنه لا يمكن أن نعرف المنتصف إلاّ إذا اكتملت العادة فإذا اكتملت علمنا متى وقع الطلاق عليها.

    (فصل)
    هذا الفصل يتحدث عن تعليق الطلاق على الحمل.
    فيقول المؤلف - رحمه الله - (إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف)
    (5/372)
    ________________________________________
    إذا علقّه بالحمل يعني قال لها إن كنت حاملاً فأنت طالق , فإنها إذا ولدت لأقل من ستة أشهر علمنا أنه من حين قال هذا القول طلقت لأنّا علمنا بهذه الولادة أنها كانت حامل لمّا قال لها هذا الكلام فإذا تطلق إذا ولدت لأقل من ستة أشهر , فإذا ولدت لأكثر من ستة أشهر لم تطلق , لأنّا علمنا أنه حين علقّ الطلاق لم تكن حاملاً بل كانت حائلاً , وفي وقتنا هذا إذا علقّ الطلاق بالحمل , فإنها يجب أن تكشف لأنه لا يمكن أن تعلم هل هي حامل أو لا وتبعاً لذلك هل هي مطلقة أو لا إلاّ بالكشف , ومالا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب وكونها تعلم هل هي مطلقة أو ليست بمطلقة هذا واجب , لما يترتب على كونها مطلقة من آثار كثيرة.
    ثم - قال رحمه الله - (وإن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن)
    هذه المسألة عكس المسألة السابقة , يقول لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق , فالمؤلف يريد أن يبيّن حكماً قبل أن يبيّن هل تطلق أو لا وهذا الحكم هو أنه إذا قال لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق فإنه يجب عليه أن يمسك عن الوطء إلى أن يتبيّن هل هي حامل أو حائل ويتبيّن ذلك باستبرائها بحيضة , وجه تحريم الوطء في هذه المدة أنها ربما تكون حامل فتطلق , والتي تطلق وهي بائن تكون أجنبية ولا يجوز له أن يطأها , ولهذا قيّد المؤلف الحكم بقوله بحيضة في البائن , يعني في المرأة التي تكون هذه الطلقة في حقها بائن , علمنا من تقييد المؤلف أنها إذا كانت رجعية لا يحرم عليه أن يطأ ولو لم يستبن الأمر لأنّ الرجعية يجوز للزوج أن يطأها.
    القول الثاني: أنها وإن كانت رجعية لا يجوز له أن يطأ ولو كانت رجعية , وعلل أصحاب هذا القول مذهبهم. بأنّ الوطء في هذه الحالة يفوّت العلم بكونها مطلقة أو ليست بمطلقة , فالمأخذ عند هؤلاء يختلف عن المأخذ السابق.
    وهو قضية هل يجوز أن يطأ أو لا يجوز أن يطأ. وهذا القول الثاني هو الصحيح , بناء عليه إذا قال لها إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق فإنه يجب أن يعتزلها إلى أن يتبيّن هل هي حامل أو حائل.
    ثم - قال رحمه الله - (وهي عكس الأولى في الأحكام)
    (5/373)
    ________________________________________
    يعني أنه في الصورة الثانية في الصور التي يقع فيها الطلاق في المسألة الأولى لا يقع فيها الطلاق في المسألة الثانية , بمعنى أنها إذا ولدت لأكثر من أربع سنين فإنها تطلق , لماذا؟ لأنّا علمنا أنه لما علقّ الأمر على كونها ليست حاملاً لم تكن حاملاً فطلقت.
    إذا هو يقول إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق , فعلقّ الطلاق على وجود الحمل أو على عدم وجود الحمل , يعني إذا لم يكن الحمل موجوداً فهي طالق , وإذا ولدت لأكثر من أربع سنين تبيّنا أنه حين تكلم بهذا لم تكن حاملاً , لأنّ أكثر مدة الحمل أربع سنين , فإذا تكون طالقاً في هذه الحال.
    قال - رحمه الله - (وإن علقّ طلقة إن كانت حاملاً بذكر , وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً)
    يقول الشيخ. وإن علقّ طلقة إن كنت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً , لماذا؟ لأنه تبيّن أنها كانت حاملاً بذكر وأنثى وهذا الحكم بلا نزاع عند الحنابلة , لأنّ الصفة المعلقّ عليها الطلاق وجدت , فوجد الحكم كاملاً وهو الطلاق ثلاثاً.
    فإن ولدت ذكرين , فهل تطلق واحدة أو طلقتين؟ هو يقو علقّ طلقة فقال إن كنت حاملاً بذكر فتطلقين طلقة وبأنثى فتطلقين طلقتين فهي الآن حامل بذكرين. تطلق طلقة واحدة , بل إنّ المرداوي يقول عن القول بأنها تطلق طلقتين أنه بعيد جداً وضعيف.
    وفي الحقيقة هذا الرجل بئسما كافأ زوجته به , كافأها بالطلاق إن كانت حاملاً بذكر وإن كانت حاملاً بأنثى.
    قال - رحمه الله - (وإن كان مكانه إن كان حملك أو ما في بطنك لم تطلق بِهِمَا)
    معنى قول المؤلف وإن كان مكانه إن كان حملك , يعني وإن كان بدل العبارة الأولى العبارة الثانية فتكون العبارة إن كان حملك ذكراً طلقت طلقة , وإن كان حملك أنثى طلقت طلقتين ثم تبيّن أنها حامل بذكر وأنثى , فإنها لا تطلق لا واحدة ولا ثنتين ولا يقع بهذا شيء:
    (5/374)
    ________________________________________
    التعليل: أنه قال إن كان حملك بذكر وهي الآن حملها ليس بذكر , وإنما بذكر وأنثى , وليس حملها بأنثى لأنها حامل بذكر وأنثى إذا الشرط لم يوجد , ففي هذه الحالة إذا حملت بتوأم , فإنها تتخلص من الطلاق , هذا إذا استخدم عبارة إن كان حملك , فإنه اشترط أن يكون كل الحمل ذكر أو كل الحمل أنثى , والآن ليس كل الحمل ذكر بل ذكر وأنثى.
    فصل
    قال - رحمه الله - (إذا علقّ طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به)
    المسائل الأولى فيها تعليق على الحمل وهنا على الولادة , يعني بغضّ النظر عن الحمل فهو الآن علقّ الحكم على الولادة. يقول لامرأته إذا ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإذا ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين , فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً طلقت بالأولى وبانت بالثاني ولم تطلق به.
    ما معنى هذه العبارة؟
    إذا قال لها إن كنت ولدت ذكر فأنت طالق طلقة , وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين , فولدت ذكر ثم أنثى حينئذ إذا ولدت الذكر الأول طلقت , لأنّ الصفة وجدت وأصبحت معتدة , لكن في بطنها الأنثى فإذا يصدق عليها أنها حامل والحامل تنتهي عدتها بأن تضع الحمل , فإذا وضعت الحمل الثاني الذي في بطنها أصبحت بائنة ولم تقع عليها الطلقة الثانية.
    ربما يكون بين خروج الطفل الأول وخروج الطفل الثاني دقائق , ومع ذلك تنتهي العدة , فإذا إذا استخدم هذه العبارة فإنها تقع عليها الطلقة الأولى فقط. ولا تقع عليها الثانية لأنها خرجت عن العدة.
    ففي المثال الذي ذكره المؤلف إذا ولدت أنثى ثم بعد ساعة ولدت ذكراً , فكم طلقت؟ طلقتين. لأنه يقول إن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين هي ولدت الأنثى فوقعت الطلقتان ثم لما ولدت الذكر خرجت من العدة فصارت بائنة أجنبية فلم تقع عليها طلقة الذكر , بينما إذا ولدت الذكر أولاً طلقة واحدة.
    هذا الكلام في الولادة الطبيعية وهي الموجودة في عصر المؤلف , في الولادة القيصرية هل يختلف الحكم بأنّ الطبيب يخرج الذكر أو يخرج الأنثى أولاً , أو لا يختلف وهذه ليست ولادة؟
    (5/375)
    ________________________________________
    الآن الناس يقولون ولدت المرأة أليس كذلك , ثم يسأل المتكلم هل ولدت ولادة طبيعية أو ولدت ولادة غير طبيعية؟ إذا الولادة غير الطبيعية أيضاً ولادة. فلذلك نقول ينبغي أن يكون الطبيب يعني نبيه وأن يخرج الذكر أو الأنثى؟ الذكر حتى تتخلص المرأة من الطلقة الثانية. وهذا صحيح إن فعل وعلقّ هذا التعليق فيجب أن ينبه الطبيب أن يخرج الذكر حتى تقع عليها طلقة واحدة.
    إذا لماذا لا تطلق الطلقة الثانية في مثال المؤلف؟
    لأنّ الطلقة الثانية وقعت على امرأة بائن. ما وجه أنها بائن؟ لأنها خرجت عن العدة بالولادة الثانية ولا الأولى؟ بالولادة الثانية. بينما بالولادة الأولى وقعت الطلقة. إذا هذا معنى قول الشيخ (إذا علقّ طلقة على الولادة ................... الخ) ولا حظ أنّ الشيخ قال طلقت بالأول لأنه ربما يكون الأول ذكر وربما يكون الأول أنثى.
    وقال ثم أنثى حياً أو ميتاً لأنه إذا خرج الطفل حياً أو خرج الطفل ميتاً فإنه يصدق عليه أنها ولادة ولذلك يقولون ولدت مولوداً ميتاً.
    قال - رحمه الله - (وإن أشكل كيفية وضعِهِمَا فواحدة)
    إذا أشكل فلم نعرف هل وضعتهما معاً , أو وضعتهما متفرقين فإنه لا يقع إلاّ واحدة , والسبب أنّ الثانية مشكوك فيها , والأصل هو عدم وقوع الطلاق , لكن كيف يكون الإشكال! هم يقولون بأن لا تعلم هل وضعتهما جميعاً أو وضعتهما واحدًا بعد الآخر.
    هل يمكن أن تضعهما جميعاً , بأن ننسى هذه صورة. ومن أبرز الصور أن لا نعرف أيهما الأول هل هو الذكر فتكون طلقة أو الأنثى فتكون طلقتين. إذا هذا هو الإشكال , أن لا نعرف أيهما الأول أو أن ننسى. لأنه عند النسيان أيضاً يقع الإشكال.

    فصل
    قول الشيخ - رحمه الله - فصل يعني في تعليق الطلاق على الطلاق.
    قال - رحمه الله - (إذا علقه على الطلاق ثم علقه على القيام , أو علقه على القيام ثم على وقوع الطلاق , فقامت , طلقت طلقتين فيهما)
    (5/376)
    ________________________________________
    بأن قال , في هذه الصورة يقول إن علقه على الطلاق ثم علقه على القيام , يعني قال إن طلقتك فأنت طالق ثم قال بعد ذلك إن قمت فأنت طالق , فإذا قامت ماذا يحصل؟ يقع عليها الطلاق ثم إذا وقع عليها الطلاق صدق عليها الشرط الثاني فوقعت عليها الطلقة الثانية ولهذا يقول في ختام العبارة فقامت طلقت طلقتين فيهما.
    الصورة الثانية" العكس يقول أو علقه على القيام ثم على وقوع الطلاق نفس الشيء , يعني قال إن قمت فأنت طالق ثم قال ماذا؟ إن طلقتك فأنت طالق ثم قامت , فلما قامت وقع الطلاق فلما وقع الطلاق وقع الشرط الثاني فطلقت طلقتين , هو لو قال من الأول أنت طالق طلقتين انتهينا. لكن ربما أراد أن لا تقوم أو أن لا تذهب أو نحو ذلك.
    قال - رحمه الله - (وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة)
    رجل قال لزوجته إن قمت فأنت طالق , وإن طلقتك فأنت طالق ثم قامت فكم تطلق؟ واحدة. لماذا؟ لأنه أراد بالطلقة الثانية أن يوقع طلقة مرادة جديدة , يعني أن يستأنف ويبتدأ بطلقة جديدة , فهو الآن هي لما قامت طلقت , لكن هذا الطلاق ليس طلاقاً مبتدأً مستأنفاً وإنما طلاقاً معلقاً , ولهذا لا تقع به إلاّ واحدة. عرفنا إذا الفرق بين العبارتين.
    هو يقول إن قمت فأنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق , ثم قامت فإنه لايقع عليها إلاّ واحدة , لماذا؟ لأنّ قوله وإن طلقتك يريد طلاقاً جديداً مبتدأً أراد إيقاعه من جديد. وهذا الطلاق الذي حصل بالقيام ليس طلاقاً جديداً مبتدأً وإنما طلاقاً بسبب التعليق.
    إذا متى تطلق طلقتين؟ يعني ماذا يقول إذا قامت طلقت ثم لما طلقت قال لها أنت طالق فكم صارت الآن؟
    لأنّ الثاني لم يقع فإذا قال لها هذه العبارة ثم قامت طلقت ثم قال لها أنت طالق طلقت فصارت المجموع كم؟
    الآن هي جالسة. قال لها إن قمت فأنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق؟ قامت طلقت الأولى , إن سكت كم يقع بهذا , هو لم يسكت وإنما قال أنت طالق فطلقت بهذا الطلاق المبتدأ , وهو قال لها إن طلقتك فأنت طالق صارت كم؟ ثلاث.
    (5/377)
    ________________________________________
    إذا إنما يقع الطلاق المعلق الثاني إذا طلقّ طلاقاً مبتدأً مراداً جديداً , أما إذا سكت فإنه واحدة , ولذا في هذه العبارة ينبغي على الزوج أن يحذر لأنه ربما يظن أنه سيقع طلقتان والواقع أنه إذا طلق ثانية وقد استخدم هذه العبارة فسيتنفذ الثلاث فعليه أن يحذر إذا كان من الذين يرون وقوع الطلاق الثلاث.
    قال - رحمه الله - (وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً)
    إذا عندنا مسألتان: -
    يقول وإن قال كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت ................ الخ
    المسألة الأولى: أن يقول كلما طلقتك فأنت طالق , ففي هذه المسألة يقول المؤلف الشيخ أنها تقع عليها طلقتين. لأنّ الأولى ابتدائية
    والثانية بسبب وجود ماذا؟ الشرط فإذا قال لها أنت طالق فقد طلقت الأولى ووقع الشرط فطلقت الثانية.
    الثانية" يقول وفي الثانية ثلاثاً , وهي قول المؤلف كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق , ثم قال لها أنت طالق , حينئذ طلقت الأولى بهذا الطلاق المبتدأ ثم تطلق الثانية لأنه قال لها كلما وقع عليك طلاقي ثم تطلق الثالثة لأنّ المرأة وقع عليها الطلاق الثاني فإذا وقع عليها الطلاق الثاني تطلق للمرة الثالثة.
    إذا هناك فرق بين أن يقول كلما طلقتك وبين أن يقول كلما وقع عليك طلاقي.
    إذا انتهينا من تعليقه بالطلاق ننتقل إلى الفصل الذي بعده.

    فصل
    هذا الفصل فصل في الحلف في الطلاق والحلف بالطلاق هو / تعليق الطلاق على شرط يقصد منه الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب
    فإذا كان هذا قصده فهذا يسمى حلف بالطلاق , وتقدم معنا أنّ هذه المسألة وهو الحلف بالطلاق مسألة مهمة وتقدم معنا ذكر الخلاف
    فيها. يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق , ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال) لماذا؟
    لأنه علقّ الطلاق على الحلف وقد وجد الحلف , وتطلق مرة أو مرتين؟ الآن يقول إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق إن قمت , فتطلق مرة أو مرتين؟ الآن الطلاق مرتب على شرط ما هو الشرط؟ الحلف بالطلاق هو الآن حلف بالطلاق فقال:
    (5/378)
    ________________________________________
    أنت طالق إن قمت! يقول الشيخ وقع الطلاق في الحال بمجرد ما ينطق هذه الكلمة يقع الطلاق يقع واحدة أو ثنتين؟ واحدة إن لم تقم فإذا قال لها إن قمت فأنت طالق ولم تقم , تطلق طلقة واحدة لتحقق الشرط وهو الحلف بالطلاق , فإن قامت طلقت ثانية. إذا قول الشيخ هنا طلقت يعني واحدة , لأنه هو يتكلم عن مسألة تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق.
    إذا مرة أخرى إذا قال الرجل إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال أنت طالق إن قمت فهو الآن حلف بطلاقها فتحقق الشرط فوقع ماذا؟ الطلاق. فإن قامت طلقت طلقة ثانية.
    وأنا نبهت يا إخواني مراراً على أننا نحن نتحدث هنا عن مسائل مبينة على أقوال سبقت مناقشتها , فمثلاً وقوع الطلاق على الرجعية تقدم معنا الخلاف فيه , وقوع الطلاق الثلاث تقدم معنا الخلاف فيه , وقوع الطلاق على الحائض تقدم معنا الخلاف فيه.
    لكن نحن نريد تقرير كلام المؤلف كل مسألة فيها طلقتين غير صحيحة , ما تطلق المرأة في الطهر الواحد إلاّ طلقة واحدة.
    قال - رحمه الله - (لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرط لا حلف)
    مقصود المؤلف. لا إن علقه على شرط مجرد فإذا علقه على شرط مجرد فإنها لا تطلق لأنه علقه على الحلف وهذا ليس بحلف , فإذا قال إن طلعت الشمس فأنت طالق فإنها لا تطلق , يعني مقصود المؤلف إذا قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال إن خرجت الشمس فأنت طالق ثم خرجت الشمس , تطلق أو لا تطلق؟ لا تطلق لأنّ علقه على الحلف بالطلاق والتعليق المجرد ليس بحلف.
    وإن قال إن قدم زيد فأنت طالق , فهل هذا تعليق مجرد أو حلف بالطلاق؟ تعليق مجرد لأنك لا تستطيع تفهم من هذا حث ولا منع ولا تصديق ولا تكذيب. وإن قال إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق فهو حلف بالطلاق , وهذا الذي أراد المؤلف - رحمه الله - أن ينبه عليه وهو التفريق بين الحلف بالطلاق والتعليق المجرد.
    قال - رحمه الله - (وإن حلفت بطلاقك فأنت طالق أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاث)
    (5/379)
    ________________________________________
    إذا قال لها إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها مرة أخرى إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , طلقت لأنه بعبارته الثانية حلف بطلاقها. فإن قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, إن حلفت بطلاقك فأنت طالق, فكم تطلق؟ طلقتين
    رجل قال لزوجته إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , إن حلفت بطلاقك فأنت طالق , فالشرط وجد كم مرة؟ مرتين. كلما وجد الشرط وجد الحكم فتطلق مرتين , إذا يحتاج ليطلقها ثلاثاً أن يعيد العبارة كم؟ أربع مرات لأنّ الأولى لا يقع بها شيء لأنها هي التي أسست التعليق.
    المسألة الثانية: إذا قال إن كلمتك فأنت طالق , رجل قال لزوجته إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها إن كلمتك فأنت طالق تطلق وإن قال مرة أخرى إن كلمتك فأنت طالق مرة أخرى لماذا؟ لأنه علقّ الطلاق على الكلام ووجد الكلام يستثنى في المسألتين السابقتين. ما إذا أعاد التأكيد أو للإفهام. فإنها لا تطلق. وغالب أحوال الناس أنهم يعيدون للإفهام لا للتأسيس.

    فصل
    هذه المسألة قريبة من المسألة السابقة.
    قال - رحمه الله - (إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي , أو قال: تنحي , أو اسكتي , طلقت)
    لماذا؟
    لأنه كلّمها فهو يقول لها إن كلمتك فأنت طالق ثم قال لها تنحي , أو اخرجي , أو اذهبي , أو انصرفي , فحينئذ يقع الطلاق لأنه علق الطلاق على تكليمها وقد كلّمها , وهل يأتي معنا هنا أنه مالم ينوي الإفهام أو التأكيد؟
    الحنابلة يقولون في هذه المسألة. إن كلمتك فأنت طالق اسكتي أنها تطلق مالم ينوي إفهاماً أو تأكيداً والذي يظهر لي أنّ الإفهام والتأكيد لا يتأتى في مثل هذه الصورة , لأنه كيف يؤكد إن كلمتك فأنت طالق بقوله تنحي أو اسكتي أو تحققي , لأنّ الإفهام يكون بإعادة العبارة وتأكيد معناها , فالذي يظهر لي أنه إذا قال لها إن كلمتك فأنت طالق ثم غضب وقال اسكتي أو اخرجي فإنها تطلق لأنه في الواقع كلّمها , ولو نوى التأكيد أو الإفهام لأنّ لا مجال للإفهام هنا , كيف يفهمها إن كلمتك فأنت طالق بقوله اخرجي أو اسكتي هذا
    ليس بإفهام , فالذي يظهر لي أنه لا يتأتى , والله أعلم.
    (5/380)
    ________________________________________
    قال - رحمه الله - (وإن بدأتك بكلام فأنت طالق , فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر انحلت يمينه)
    إذا قال لزوجته إن بدأتك بكلام فأنت طالق , فقالت زوجته من الغضب إن كلمتك فعبدي حر فإنه لا يمكن أن يحنث هنا أبداً , لماذا؟ لأنها كلمته قبل أن يكلمها فلا يمكن أن يبدأ بكلامها , حينئذ لا يمكن أن يقع الطلاق في هذه الصورة ولهذا إذا قال الرجل لزوجته إن بدأتك بالكلام فأنت طالق وهي لا تحب الطلاق فالتصرف الذي تتصرفه هو ماذا؟ أن تبادر بتكليمه لأنها لو سكتت وبادر هو طلقت.
    قال - رحمه الله - (ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر)
    ما لم يكن نيته بهذا الكلام أن لا يبدأ معها الكلام في أيِّ مجلس , فإن كانت هذه نيته فإنّ هذا التعليق يستمر ولابد في كل مجلس أن تبدأ هي قبله , فإن بدأ هو قبلها ماذا؟ طلقت والغالب من إرادة الناس إن بدأت بكلامك فأنت طالق هو إرادة هذا في كل مجلس ولاّ في هذا المجلس؟ الآن إذا قال الإنسان أنا لا أبدأ بكلامك يقصد الآن ولاّ دائماً؟ الذي يظهر لي أنّ مراد الناس بهذه العبارة يعني دائماً كأن يكون الشخص دائماً هو الذي يبدأ بالحديث ومقابله لا يبدأ فيلاحظ الزوج أنه هو الذي دائماً يبدأ بالحديث مع الزوجة هو الذي يثير الكلام فملّ من هذا الوضع فقال بدأتك بالكلام غير هذه المرة فأنت طالق , يريد أنها تبدأ هي بالكلام في كل مجلس , يبدوا لي أنّ هذا مقصود الناس على كل حال يرجع للنية , فإن كانت نيته في كل مجلس فإنه يجب أن تتحدث هي قبله في كل مجلس وإلاّ طلقت.

    فصل
    قال - رحمه الله - (إذا قال: إن خرجت بغير إذني , أو إلاّ بإذني أو حتى آذن لك , أو إن خرجت إلى غير الحماّم بغير إذني فأنت طالق)
    يقول الشيخ (فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت مرة بغير إذنه) فإنها تطلق والسبب أنّ الشرط وجد فوجد الحكم لأنها خرجت بغير إذنه وإن خرجت قبل ذلك بإذنه فإنّ الخرجة الثانية وقعت بغير إذنه فطلقت. وهذا صحيح , ومقصود المؤلف البيان أنّ الزوج إذا قال لزوجته إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أَذِنَ لها في مرة واحدة فإنّ المرة الثانية إن خرجت بغير إذنه فهي طالق لأنّ الإذن تناول مرة واحدة وباقي خروجها يحتاج إلى إذنٍ جديد.
    (5/381)
    ________________________________________
    قال - رحمه الله - (أو أَذِنَ لها ولم تعلم)
    وخرجت بغير إذنه فإنها تطلق , لأنّ الإذن مع عدم العلم ليس بإذن.
    والقول الثاني: أنه إذا أذن لها فإنها لا تطلق ولو لم تعلم لأنّ الشرط لم يتحقق وفي الحقيقة هذه المسألة مشكلة لأنه من جهة هي خالفت الأمر أليس كذلك؟ وخرجت بغير إذن تعلمه يعني بالنسبة لها هي خرجت بغير إذن , ومن جهة أخرى هي في الواقع خرجت مع وجود الإذن. والذي يظهر لي والله أعلم بوضوح وإن كانت مشكلة لكن يظهر لي الآن بعد التأمل أنها إذا خرجت تطلق , لماذا ما السبب؟
    أنّا نعلم أنّ الزوج أراد أنّ هذه المرأة متى خرجت بغير إذنه عامدة فهي تطلق وهي الآن مع نفسها خرجت بغير إذنه فوقع المحظور الذي أراد زوجها أن يتفاده , ولهذا نقول تطلق. وهذا الذي مشى عليه الحنابلة وهو في الحقيقة أفقه.
    قال - رحمه الله - (أو خرجت تريد الحمّام وغيره)
    يعني طلقت.
    مع العلم أنه هو قال إن خرجت إلى غير الحمّام بغير إذني طلقت , هي الآن خرجت إلى الحمّام وإلى غير الحمّام ومع ذلك تطلق السبب؟
    أنه يصدق عليها أنها خرجت إلى غير الحمّام , وهذا صحيح لأنها خرجت إلى غير الحمّام وإن كانت خرجت أيضاً إلى الحمّام.
    قال - رحمه الله - (أو عدلت منه إلى غيره)
    يعني لو خرجت لا تريد إلاّ الحمّام , ثم بعد أن انتهت من الحمّام عدلت إلى غيره حينئذ تطلق , والتعليل هو نفسه السابق لأنها خرجت إلى غير الحمّام. ما الفرق بين المسألتين؟
    أنها في الصورة الأولى" من حين خرجت وهي تنوي أن تذهب إلى الحمّام وإلى غيره.
    وفي الصورة الثانية" خرجت لا تنوي الذهاب إلاّ إلى الحمّام لكنها عدلت إلى غيره.
    * لماذا استثنوا الحمّام من هذه المسألة ما السبب؟
    لأنه في القديم الحاجة إلى خروج المرأة إلى الحمّام لاسيما بعد نهاية الحيضة والنفاس ملحة جداً لأنّ لا تتيسر في بيوت الناس كما تتيسر منازلنا ولله الحمد الآن , فالحمّامات كانت معّدة للاغتسال وخروج المرأة إليها كان
    حاجة ضرورية فجرى العرف أنّ خروج المرأة إلى الحمّام لا يحتاج إلى إذن وإنما الذي يحتاج إلى إذن هو الخروج إلى غير الحمّام.
    قال - رحمه الله - (لا إن أَذِنَ فيه كلّما شاءت , أو قال إلاّ بإذن زيد فمات زيد ثم خرجت)
    (5/382)
    ________________________________________
    قال لا إن أذن (فيه) فيه يعود إلى الخروج كلما شاءت , فإذا أذن فيه كلما شاءت فإنه لا يحنث إذا خرجت , لأنه أذن لها في الخروج إذناً مطلقاً , فكأنه نسخ عبارته الأولى وأذن لها في الخروج مطلقاً.
    المسألة الثانية: إذا قال لها لا تخرجي إلاّ بإذن زيد , أو إن خرجت بغير إذن زيد فأنت طالق , ثم مات زيد فخرجت فإنها لا تطلق لماذا؟
    التعليل: أنه يتعذر إذن زيد بموته. فسقط الشرط وإلاّ لو بقي لبقيت في بيتها إلى الموت ,لأنّ إذن زيد لا يمكن الوقوف عليه بعد موته وهذا لا يتأتى إذاً نعدل إلى الثاني وهو سقوط إذن زيد وجواز الخروج.

    فصل
    قال - رحمه الله - (إذا علقه بمشيئتها بـ (إن) أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى)
    إذا علقه بمشيئتها فقال متى شئت الطلاق فأنت طالق , فإنّ هذا التعليق يبقى أبداً لماذا؟ لأنّ ذكرنا في أول الفصل أنّ هذه الحروف تفيد التراخي أو الفور , تفيد التراخي مالم تقرن بكلمة لم , وهنا لم تقرن بكلمة لم فتفيد التراخي فيبقى هذا الحق ثابتاً لها دائماً وأبداً فمتى شاءت الطلاق في أيِّ وقت كان طلقت.
    * * مسألة / هل له أن يفسخ هذا التعليق فيقول لها لو شئت الطلاق لم تطلقي , وقد فسخت التعليق السابق؟
    الجواب أنه ليس له أن يفسخ هذا التعليق , لأنّا أخذنا الخلاف في التعليقات وهو أنّ التعليقات لا تفسخ عند الجماهير فإذاً لا يملك الفسخ في هذه الصورة.
    قال - رحمه الله - (وإن قالت: قد شئت إن شئت , فشاء لم تطلق)
    يعني قالت المرأة لزوجها قد شئتُ إن شئتَ , قال الزوج شئتُ تطلق أو لا تطلق؟ كلام المؤلف تطلق أو لا تطلق؟ لا تطلق لماذا؟
    عللوه بتعليل لطيف جداً: قالوا لأنّ الطلاق معلقّ على مشيئة المرأة , والمرأة هنا لم تشاء وإنما علّقت المشيئة على مشيئة زوجها والمشيئة شيء والتعليق شيء آخر. مع أنّ المتبادر إلى الذهن أنها تطلق أليس كذلك؟
    يعني رجل قال لزوجته إن شئت فأنت طالق , فقالت قد شئتُ إن شئتَ فقال الزوج قد شئتُ , فعند الحنابلة لا تطلق مع إنّ المتبادر أنها تطلق , لكن الصحيح أنها لا تطلق وما ذكروه وجيه جداً , لأنه فرق بين التعليق وبين المشيئة.
    ولو استمروا هكذا لصار البيت كله شئتُ وشئتِ وانتهى الوقت.
    (5/383)
    ________________________________________