عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية gogo
gogo
:: منتسب جديد ::
تاريخ التسجيل: Oct 2019
رقم العضوية : 184
المشاركات: 170
:
:
:  - :
قديم 10-19-2019, 01:37 PM
# : 1
gogo
  • معدل تقييم المستوى : 10
  • الإعجاب:
    افتراضي شرح زاد المستقنع - جزء سابع
    http://www.shamela.ws
    تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



    الكتاب : شرح زاد المستقنع
    المؤلف : محمد بن محمد المختار الشنقيطي
    مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
    http://www.islamweb.net
    [الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 417 درسا]
    حكم من ملك نصاباً وعليه دين
    قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب].
    بعد أن بيّنا حكم دينك إذا كان لك على الغير دين، يرد السؤال في العكس، إذا كان للغير عليك دين فكنت مديوناً للغير؛ كشخص له تجارة وهذه التجارة فيها دين للغير، فلا يخلو إما أن يستغرق دين الغير جميع التجارة فتسقط عنه الزكاة؛ لأنه لا يملك شيئاً؛ لأنه مال للغير، هذا مذهب الجمهور أن الدين يسقطها، وأثر عن عثمان رضي الله عنه ما يدل على ذلك حينما كان يفرض للناس أعطياتهم إذا حلّ أجلها، وكان يقول: (هذا شهر زكاتكم لمن كان له دين) ويسقطه رضي الله عنه، وكان يعتبر الدين مسقطاً للزكاة عن المال، وهو مذهب الجمهور.
    وقال بعض العلماء: الدين لا يسقط الزكاة؛ لأن هذا الرجل الذي له مال، وهذا المال ملك للغير يخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الناس حقوقهم، وإما أن يزكّي، أما أن يبقي المال عنده لا هو زكّى وأعطى الفقراء حقوقهم من المال، ولا هو سدد أصحاب الأموال؛ فإنه حينئذٍ يكون ظالماً، وهذا الظلم يقع على الفقراء، والأصل وجوب الزكاة.
    ولا شك أن الإنسان الذي عليه دين: إما أن يوفي الناس ديونهم، وإما أن يؤدي زكاته، فالنفس تميل إلى هذا القول الذي اختاره بعض العلماء رحمة الله عليهم من أن الدين لا يسقط الزكاة.
    (90/7)
    ________________________________________
    تقسيم الأموال إلى ظاهرة وباطنة
    قال المصنف رحمه الله: [ولو كان المال ظاهراً].
    قوله: (ولو كان المال ظاهراً) العلماء والفقهاء رحمة الله عليهم يقسمون الأموال إلى قسمين: أموال ظاهرة، وأموال باطنة، الأموال الظاهرة عندهم كالزروع والدواب والمواشي والعقارات ونحوها من المنقولات الأخرى، وهي تكون في المثمونات، وأما الأموال الباطنة فهي في الذهب والفضة، يسمون الأول ظاهراً وهو الزروع والمواشي والعقارات والأرضين والدور، كل ذلك يسمونه أموالاً ظاهرة، وأما بالنسبة للأموال الباطنة فهي كالذهب والفضة، ولذلك هي خفية والناس يؤتمنون عليها، يعني: حينما يأتي الشخص يكون عنده مائة ألف، قد لا تستطيع أن تفرض عليها الزكاة؛ لأن ماله خفي، لكن إذا كانت له عقارات وبقالات ومحلات تجارية، فإن هذه أموال ظاهرة مكشوفة أمام الناس، ولكن الذهب والفضة يكون باطناً خفياً عن الناس، ولذلك قالوا: الأول ظاهر، وقالوا في الثاني: باطن.
    (90/8)
    ________________________________________
    حكم من ملك نصاباً وعليه حق لله
    قال المصنف رحمه الله: [وكفارة كدين].
    هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأفكار، فقد بيّن لنا رحمه الله الحكم في حقوق العباد -إذا كان للإنسان على الإنسان دين- وأنه يختار رحمة الله عليه ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن الدين يسقط الزكاة هذا إذا كان الدين لمخلوق، فما الحكم إذا كان الدين للخالق؟ القول الذي اختاره المصنف رحمة الله عليه أن الرجل لو كانت عنده مائة ألف، وهي مال للغير ودين للغير يستحقه عليه لا تجب الزكاة، فيرد

    السؤال
    لو كان عنده ألف ريال، وعليك ديون لله عز وجل فيها، أو عندك خمسة آلاف ريال وعليك دين لله من عتق رقبة في كفارة قتل، أو كفارة جماع في نهار رمضان، أو في ظهار، الرقبة قيمتها خمسة آلاف ريال، وأنت تملك خمسة آلاف ريال، فعليك دين لله عز وجل.
    فالمصنف رحمه الله بعد أن بين أن الديون تسقط الزكاة عن الأموال، قال رحمه الله: دين الله ودين المخلوقين سواء، فمن كان عليه دين للمخلوق يسقط به المال بحيث يستغرق المال كله أو ينزل به المال عن نصاب الزكاة فحينئذٍ يقولون: لا تجب عليه الزكاة، فلو كانت عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة بخمسة آلاف ريال، فحينئذٍ يقول المصنف رحمه الله وجمهور العلماء: هذا المال وإن كان مما تجب فيه الزكاة، لكنه مستغرق لحق لله عز وجل، قالوا: نقيس حق الله على حق المخلوق، فكما أسقطنا الزكاة بحق المخلوق وهو الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى)، وفي الصحيح: (ودين الله أحق بالوفاء)، قالوا: فمن كانت عليه كفارات مجتمعة أو متفرقة تستغرق بحقها من المال والنقد النصاب، أو تستغرق أمواله كلها فلا زكاة عليه، مثل من عنده خمسة آلاف وعليه عتق رقبة، أو عنده خمسة آلاف والرقبة قيمتها مثلاً ألفان وخمسمائة وعليه رقبتان تسقط عنه الزكاة، أو مثلاً عليه عتق رقبة كفارة، وعليه فدية أو عليه شاة جبراناً لواجب في الحج فوّته أو ضيعه، فحينئذٍ إذا جمعنا هذه الشياه الواجبة عليه في واجبات الحج، وجمعنا ما للرقبة من مال استغرق سبعة آلاف ريال وعنده سبعة آلاف ريال، أو عنده خمسة آلاف ريال وهي دون المبلغ المستحق عليه فلا زكاة عليه، هذا على القول الذي ذكرناه من أن الديون تسقط الزكاة، وقد ذكرنا ما هو راجح في هذه المسألة.
    (90/9)
    ________________________________________
    حكم زكاة من ملك نصاباً من صغار الغنم ونحوها
    قال المصنف رحمه الله: [وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه].
    قوله: (وإن ملك نصاباً صغاراً) الصغار كالسخلة من الغنم، فمعلوم أن الشرع إذا أوجب الشاة في الأضحية أو الهدي يشترط سناً معينة، الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلو فرضنا أنك ملكت شياهاً دون القدر الذي يعتد به وهي الصغار، والشاة الصغيرة هي التي تسمى بالجفرة، لو أن إنسان عنده جفار مثلاً أربعين جفرة؛ فإنه تجب عليه الزكاة منذ أن ملكها، ولا يقال أن هذه الصغار دون الحد الواجب، ولا تجب عليه الزكاة؛ بل تجب عليه فيها الزكاة.
    (90/10)
    ________________________________________
    صور انقطاع الحول
    قال المصنف رحمه الله: [وإن نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول].
    لو كان عندك نصاب من إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، وهذا النصاب في أثناء حولان الحول وقبل تمامه غيرّته أو بدلته أو أنفقت منه فنقص، فإن هذه مسألة يُحتاج إلى بحثها.
    ما مناسبة هذه المسألة لما مضى؟ -حتى نعرف ترتيب العلماء للأفكار- الأصل في هذه المسائل التي نبحثها أنه تجب عليك الزكاة، وأسقطتها لحقوق الله عز وجل، فكأنه يبحث متى تجب وتسقط، فأنت في قاعدة وجوب الزكاة عليك وسقوطها لسبب؛ مثل ما ذكرنا؛ لديون أو حقوق، ففي حكم ذلك لو أن العوز والنقص اعتراك بحكم الشرع، فعندك نصاب وقبل تمام الحول نقص هذا النصاب، فلو فرضنا كانت عندك أربعون شاةً، وكان بداية ملكك لها في الأول من شهر المحرم، فأنت تستقبل بها حولاً كاملاً، جئت في ذي الحجة قبل تمام ذي الحجة ودخولك في المحرم حتى تجب عليك الزكاة ماتت من هذه الأربعين شاة، أو ذبحت لضيف منها شاة، أو بعت منها شاة أو شاتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ نقصت عن النصاب، فتستقبل الحول من جديد، وإذا ملكت شاة أخرى فإنك تنتظر إلى أن يتم النصاب من جديد، ولو قبل حَوَلان الحول بيوم واحد.
    أي: في يوم تسعة وعشرين من ذي الحجة جاءك ضيف ونزل بك وذبحت له الشاة، فحينئذٍ يعتبر هذا المال قد خرج عن حكم الزكاة، ولا تجب عليك فيه الزكاة وتستقبل حولاً جديداً ولو بعد عشرين سنة، فإذا ملكت شاة أخرى فأصبحت هذه الشياه أربعين شاة؛ تبتدئ الملكية وتستقبل حولاً جديداً بالملكية، وحينئذٍ لا إشكال، هذه حالة، أن ينقص المال عن الزكاة، لكن يشترط في هذا النقص ألا يكون حيلة على الشرع، والحيلة على الشرع: الفرار من الزكاة ومن حق السائل والمحروم الذي أوجبه الله عليك في مالك زكاة له، فلو أن إنساناً عنده -مثلاً- مائة وإحدى وعشرون شاةً، الواجب عليه شاتان، وقبل أن يأتيه المصدِّق بيوم احتال في إعطاء هذه الشاة لشخص، فحينئذٍ أعطى شخصاً مثلاً شاة صغيرة السن كالجفرة مثلاً، فهذا من الحيلة بدل أن يدفع للمتصدق شاتين بالسن المعتبرة وهو الثني من المعز والجذع من الضأن، فإن كانت ضأناً فلا إشكال، وإن كانت من الماعز فماعز، لكنه قال: بدلاً أن أعطي شاتين من الثني من الماعز، فإنني آخذ هذه الجفرة وأهديها لجاري، فأهداها لجاره قبل مجيء المصدِّق، فهذه حيلة لا تسقط حق الله عز وجل في ماله، ويجب عليه أن يؤدي شاتين ولو كان الغنم دون النصاب المعتبر في الشرع، ولو أعطى ثلاث جفرات -مثلاً- فانتقص عن قدر الشاتين وجبت عليه شاتان، لماذا؟ لأنه احتال على الشرع، فهو يعامل بنقيض قصده، كمن طلّق امرأته وهو في مرض الموت ظلماً لها حتى يحرمها من حق الله، فهذا ظالم للمساكين قاصد حرمانهم من حق الله، كيف تثبت عليه؟ تقول: الأصل وجوب الشاتين عليه، ولكنه فرّ عن هذا الأصل بغير عذر شرعي، فكونه أعطى أو لم يعط عندنا على حد سواء؛ لأن إعطاءه افتيات على الشرع وظلم للناس، ولا يمكن للشرع أن يأذن بهذا الظلم، لأنك لو قلت: سقطت عنه الزكاة فقد أذنت بالظلم، وأجزت له أن يضيع حق الفقراء، وحينئذٍ خالفت مقصود الشرع، ولذلك يقولون: يجب عليه أن يؤدي الشاتين، ولو احتال بهذه الحيلة فوجودها وعدمها على حد سواء، فيعامل بنقيض قصده.
    فمن طلّق امرأته في مرض الموت، فإن هذا التطليق لا يؤثر، وتكون وارثة له؛ لأنه قصد حرمانها من حقها.
    لكن ما الدليل على أن الشرع يعامل المحتال بنقيض قصده؟

    الجواب
    لو أن إنساناً رأى أباه يملك مالاً كثيراً يقدر بالملايين مثلاً، فحبه للدنيا أغراه أن يقتل أباه، بحيث ينال ما عند أبيه من التركة والمال أو كان ابناً له، عنده مثلاً أموال كثيرة، فأقدم الأب على قتل ابنه، فإن الأب إذا قتل ابناً لا يقتل به؛ بشبهة الأدب، وهذه مسألة ستأتي -إن شاء الله- في كتاب القصاص، حيث نعلم أنه يمتنع قتل الوالد بابنه، فحينئذٍ إذا قتله وهو يريد الميراث منه، فإن الشرع لا يورث القاتل كما هو نص السنة: (لا يرث القاتل المقتول)، فحينئذٍ عومل بنقيض قصده، إذ لو فتح للناس أن القاتل يرث، فإن الإنسان يقدم على قتل قريبه وهو يعلم أن ورثته لا يقتلونه، فإن الابن قد يقتل أباه، وهو يعلم أن بقية إخوانه سيتنازلون؛ لأنهم لا يرضون أن يفجعوا بأبيهم وأخيهم، فسيتنازلون عن القصاص، فإذا تنازلوا عن القصاص فإنه سيرث، ولذلك سدّ الشرع الذرائع المفضية إلى سفك الدماء والوصول إلى الأموال بهذه الحيل، ونهى عن توريث القاتل ممن قتل، وبناءً على ذلك فإنه لا يرث القاتل المقتول، وذلك معاملة له بنقيض القصد، قال العلماء: ففهم من هذا أن من قصد قصداً محرماً، فإنه يعامل بنقيض قصده، ولذلك قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده موافقاً لقصده لا مخالفاً له.
    فإذا كان قد أعطاه الله مائة وإحدى وعشرين شاةً ويسرّها له، فقصد الشارع أن يعطي المسكين حقه من الشاتين، فإذا جاء يخالف قصد الشارع بنية منكرة، وجحود لنعمة الله عليه، وإضرار بالفقراء والضعفاء، عومل بنقيض قصده، فأوجبنا عليه الشاتين، مع أن ماله في الصورة ليس بمال تجب فيه الشاتان وإنما هو مال تجب فيه الشاة الواحدة.
    هذا بالنسبة لما يتعلق بمسألة المعاملة بنقيض القصد.
    قال المصنف رحمه الله: [أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول وإن أبدله بجنسه بنى على حوله].
    قوله: (أبدله) من بدّل ماله من غنم أو بقر أو إبل، أو ذهب أو فضة أو غير ذلك من أموال الزكاة، فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يبدّله بجنسه مع اتفاق النوع، مثلاً عنده إبل فأبدلها بإبل، كأن يكون -مثلاً- عنده عِراض فأبدلها ببختية؛ لأن الإبل العِراض هي التي لها سنام واحد، والبختية هي التي لها سنامان، فأبدل الإبل بالإبل، حينئذٍ لا إشكال؛ لأن الجنس واحد فيبقى الحكم واحداً، فكأن المال لم يختلف.
    الحالة الثانية: أن يبدله بغير جنسه، كأن يكون عنده ذهب وفضة، فاشترى بهما -مثلاً- عقاراً لكي يتاجر به، فحينئذٍ نقول: يستأنف الحول من شراء هذا العقار؛ لأنه خرج عن كونه ذهباً وفضة إلى كونه عقاراً، وخرج عن زكاة الأثمان إلى زكاة عروض التجارة، فحينئذٍ يستأنف الحول من جديد، لكن بشرط: ألا يكون قاصداً الحيلة على الزكاة، مثلما ذكرنا؛ فإنْ قصد الاحتيال على الزكاة؛ كإنسان يكون عنده مليون، فاشترى بها بيتاً قبل تمام الحول حتى يفر من زكاتها ثم باع هذا البيت -مثلاً- واشترى به بيتاً وهو واثق أن البيت سيأتي بقيمته ولا يتغير الحال ولا يقصد الربح ولا النماء ثم يبيعه بنفس القيمة، أو يشتريه وهو يعرف أنه سيخسر، ولكنه يقارن بين خسارته بهذا الشراء وخسارته في الزكاة، فيرى أن خسارته بالزكاة أعظم من خسارته بالشراء، فيشتريه ويبيعه بعد يوم أو يومين، فحينئذٍ نقول: هذا الشراء لاغٍ، وهذا التبديل لاغٍ، وعليه أن يبقى على الحول الأصلي، وذلك معاملة له بنقيض قصده.
    إذاً لا بد للفقيه والمفتي أن ينظر إلى قصده، وأن يعلم ما يريد من هذا التبديل، فإن كان تبديله بريئاً ليس خروجاً من الزكاة؛ فإنه حينئذٍ يؤثر إذا كان من غير جنسه، وإن كان من جنسه فإن المال مال واحد وتجب عليه الزكاة.
    وقوله: (بنى على حوله) يعني على حول الأصل.
    (90/11)
    ________________________________________
    تعلق الزكاة هل هو بعين المال أم بذمة مالكه
    قال المصنف رحمه الله: [وتجب الزكاة في عين المال].
    قوله: (وتجب الزكاة في عين المال) هذه مسألة خلافية الزكاة هل أوجبها الله في الأموال بعينها، أم أوجبها في ذمتك؟ إما أن تقول الزكاة واجبة في ذمم الناس متعلقة بالمكلفين، أو تقول: الزكاة واجبة في أموال الناس.
    فللعلماء وجهان: اختار المصنف رحمه الله مذهب من يقول: الزكاة واجبة في عين المال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (في كل أربعين شاةً شاةٌ) فإنه عبر بـ (في) جعل في الظرفية، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] (في أموالهم) فجعلها حقاً في عين المال.
    ومنهم من قال: حق في الذمة.
    ما الفرق بين قولك: في عين المال، وبين قولك: في الذمة؟ هذا تترتب عليه فوائد، من ألطفها: لو أن رجلاً امتنع من أداء الزكاة في الغنم، عنده أربعون شاةً، تجب عليه شاة واحدة، فامتنع السنة الأولى وامتنع السنة الثانية وامتنع السنة الثالثة، ثم تاب إلى الله وأراد أن يزكّي، فإن قلت: الزكاة في عين المال، حينئذٍ يكون الواجب عليه شاة واحدة، لماذا؟ لأنها لما كانت في عين المال، وجبت عليه شاة واحدة في السنة الأولى، فأصبح عين هذه الشاة محبّساً وديناً عليه، فأصبح الذي عنده تسع وثلاثون شاة، وإنما تجب الزكاة إذا كان الذي عنده أربعون شاة، والذي عنده تسع وثلاثون فتعلقت الزكاة بعين ماله، وأصبحت هذه الشاة ديناً عليه لا يملكها، فإذا جاءت السنة الثانية جاءت وعنده تسع وثلاثون، وليس عنده أربعون، فحينئذ يكون عليه زكاة سنة واحدة، ولو جلس على هذه الوتيرة عشر سنوات، فالواجب شاة واحدة.
    أما لو قلت: متعلقة بذمته، فحينئذٍ تجب عليه ثلاث شياه، الشاة الأولى للسنة الأولى، وهي دين في ذمته، وقد ملك أربعين، فجاءت السنة الثانية وقد ملك الأربعين فعليه شاة ثانية، ثم جاءت السنة الثالثة وعليه شاة ثالثة، فأصبح الواجب عليه ثلاث شياه.
    هذا يتفرع على مسألة الحلي، إذا قلنا: على المرأة في حليها زكاة، إذا كانت نصاباً فلو فرضنا أن عندها نصاباً، وحد النصاب تسعون غراماً على أحد الأقوال، التسعون غراماً وجب عليها ربع عشرها، فإن قلنا: يتعلق هذا بعين مالها وهو الحلي، فإنها إذا امتنعت السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؛ فالواجب عليها زكاة سنة واحدة؛ لأنها لما وجب عليها ربع عشر التسعين جراماً انتقص النصاب عن الحد الواجب، وحينئذٍ تكون في السنة الثانية غير مطالبة بالزكاة وكذلك في الثالثة والرابعة، فإن تابت إلى الله وجبت عليها زكاة سنة واحدة، هذا إذا تعلق الحق بعين المال.
    أما لو تعلق حق الزكاة بذمة مالك المال، فحينئذٍ تجب عليها الزكاة في السنوات مضاعفة مرتبة، ولا نظر إلى تأثيرها في النصاب وعدم تأثيرها، وهذا معنى قوله رحمة الله عليه: أن الزكاة متعلقة بعين المال.
    قال المصنف رحمه الله: [ولها تعلق بالذمة].
    قوله: (ولها تعلق بالذمة) هي المسألة التي ذكرناها آنفاً، وهذا ينبني على مسألة الدين، يقولون: لو قلت: إنها في عين المال سقطت عنه الزكاة، فإذا دخلت في ذمته يقولون: من جهة الاستحقاق بدليل إيجاب الزكاة على غير المكلف من الصبي واليتيم، فإنك أوجبتها في عين المال، وكذلك أيضاً تجب في الذمة من جهة الاستحقاق، وتفرّع على قول أنها متعلقة بالذمة أنها لا تصح بدون نية، ولا بد له من قصد العبادة، ولا بد له من التوكيل فيها وأن يقصد التوكيل، فلو أخرج إنسان زكاة عن رجل دون أن يأذن له ويوكله، فإنه لا تبرأ ذمته؛ لأنه لم ينو براءة الذمة، فهي عبادة متعلقة بذمته، فلو أن ابناً -مثلاً- تبرع عن أبيه بزكاة فإنها لا تصح؛ لأنها تعلقت بذمة الأب، وهذه الذمة لا بد وأن ينوي بها لإخراجه أصالة أو وكالة، فلما أوقعها الغير دون أن ينويها من تعلقت بذمته لم تجزه من هذا الوجه.
    (90/12)
    ________________________________________
    بيان الأمور غير المسقطة لوجوب الزكاة
    قال المصنف رحمه الله: [ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاء المال].
    شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي لا تعد مسقطة لوجوب الزكاة، ومن ذلك عدم القدرة على الأداء، بعد استقرار وجوب الزكاة في ذمة الإنسان، ومثال ذلك: أن يحول الحول على المال، ويكون حوله مثلاً في أول محرم، ثم يُجنّ أو يغمى عليه، ولا يستطيع أن يقوم بأداء هذه الفريضة، فإن طريان الجنون والإغماء عليه يمنعه من القدرة على الأداء، فهذا الطريان لا يؤثر في استقرار الزكاة ووجوبها، كما نص رحمة الله عليه على ذلك، والأصل في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، كما في حديث السنن الصحيح، فهذا الحديث بيّن أن الزكاة واجبة في المال، وبناءً على ذلك كونه يغمى عليه ولا يقدر أن يتمكن من الأداء، لا يؤثر في استقرار الوجوب وثبوته، ولزوم مطالبته بهذا الحق، كما لو أنه أُغمي عليه، فإن الصلاة واجبة، فكما طولب بالصلاة يطالب بالزكاة وغيرها من الفرائض على الأصل، إلا ما قام الدليل على استثنائه بالإسقاط، وبناءً على ذلك نص رحمه الله على أنه لا يُسقط مثل هذا وجوب الزكاة عليه، فإن كان مجنوناً وأُقيم وليه مقامه، فإن هذا الولي يخرج الزكاة عنه نيابة؛ لأنه تعذر الأصيل، فأقيم عنه الوكيل، فيخرج عنه الزكاة كما هو الحال في مال اليتيم.
    قوله: (ولا بقاء المال).
    وصورة ذلك: لو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة، ثم إن هذا المال استبدله بمال آخر بعد وجوب الزكاة عليه، أو حوّله إلى جنسٍ آخر، فلا تزال الزكاة واجبة عليه، ويعتبر مطالباً بهذه الزكاة؛ لأنه قد تعلّقت ذمته بهذه المطالبة، ولا دليل على إسقاطها، فلو أنه بادل هذا المال أو صرف عينه أو وهبه أو تصدق به بعد مضي الحول، فإنه يطالب بإخراج الزكاة.
    (90/13)
    ________________________________________
    تعلق الزكاة الواجبة على الميت بتركته
    قال المصنف رحمه الله: [والزكاة كالدين في التركة].
    قوله: (والزكاة كالدين) أي: حكمها حكم الدين، وتثبت في تركة الإنسان بعد موته، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: إن من لم يؤد الزكاة تعتبر ديناً عليه، تُخرج من ماله بعد وفاته، وأخذ بعموم قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]، والآية الثانية: {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، والآية الثالثة: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]، فقال: إن الزكاة دين لله عز وجل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، قالوا: فقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم صيام النذر الذي تعلق بذمة الميتة وهي أم السائلة منزلة الدين، فإذا كان صوم النذر ديناً بوجوبه على المكلفة، فكذلك الزكاة صارت ديناً على المكلف بوجوبها؛ بتعلق ذمته بهذا الحق، وبناءً على ذلك، فلو مات ولم يؤد الزكاة، مقصِّراً في ذلك أو غير مقصر، فإنها تعتبر ديناً في ماله، ويُخرج هذا الدين من ماله، ولو تكرر لسنوات عديدة.
    ومن أهل العلم من يقول: إن الزكاة لا تبقى متعلقة بذمة الميت، بمعنى: أنه لا يطالب الورثة بإخراجها من التركة، والتركة قد صارت إلى ملكية الورثة، فهم الذين ملكوها بمجرد مرضه للموت، ولذلك لا يتصرف إلا في حدود الثلث، وعلى هذا القول، قالوا: لو فتحنا هذا الباب لأصبح ذريعة للإضرار بالورثة، وهذا يقول به بعض أئمة السلف، ويختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، فأصبح كل رجل يؤخر زكاة ماله إلى دنو أجله، فيصير ماله مستحقاً بكماله لسداد ديون الزكاة عليه، والأصل يقتضي رجحان قول الجمهور الذين يقولون: إنها متعلقة بالمال.
    ومن أهل العلم من فرّق فقال: إذا فرّط فإنه تجب الزكاة على ماله، وتؤخذ من تركته، وإذا لم يفرِّط فإنه لا تؤخذ من التركة ولا يُطالب بها الورثة، والأول أقوى.
    (90/14)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (90/15)
    ________________________________________
    حكم زكاة الجواهر النفيسة من غير الذهب والفضة

    السؤال
    هل تجب الزكاة في المعادن الأخرى غير الذهب والفضة كالألماس والأحجار الكريمة؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإن الحلي من الذهب والفضة تجب فيها الزكاة على أصح أقوال العلماء، فإن اشتمل حلي المرأة على ألماس وعلى جواهر أخرى، فإنه لا تجب عليها الزكاة فيه، وبناءً على ذلك يقولون: يختص الحلي بالذهب والفضة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها ... ).
    وأما بالنسبة للألماس والياقوت والمرجان واللؤلؤ؛ فهذه إن عرضها للبيع وكانت من عروض التجارة وجبت الزكاة في قيمتها، أما لو تحلّت بها المرأة أو كان فص خاتمها عقيقاً أو نحو ذلك، فإنه لا تجب على من ملكه الزكاة إذا اتخذه للبس وحلي.
    والله تعالى أعلم.
    (90/16)
    ________________________________________
    حكم زكاة العقارات إذا عرضت للبيع

    السؤال
    من كانت عنده أرض يتربص بها السوق وينوي بيعها، فهل عليه فيها زكاة؟

    الجواب
    هذه المسألة وهي مسألة عروض التجارة إذا كانت من العقارات، عندك بيت أو أرض أو مزرعة عرضتها للبيع سنوات ولم تبعها إلا بعد عشر سنوات، فهل الواجب عليك أن تؤدي زكاتها في كل سنة، أم الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: الواجب عليك أن تؤدي زكاة سنة واحدة عندما تبيعها، فإذا بعت الأرض أو بعت المزرعة أو بعت الدار وجبت عليك زكاة سنة واحدة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فهو مذهب الأئمة السبعة -فقهاء المدينة السبعة- واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وهو إحدى الروايتين والوجه أيضاً عند الشافعية، يقولون: إنه تسقط الزكاة عنه وتجب عليه لسنة واحدة.
    وهذا هو أصح أقوال العلماء: أن ما عرضته للبيع من بيوتٍ أو عقارات أرضين ومخططات وزراعات كل ذلك لا تجب عليك الزكاة إلا عند البيع، فتزكيها لسنة واحدة ولو مضت عليها سنوات وأنت عارضٌ لها للبيع.
    والله تعالى أعلم.
    يقولون: أنه ليس مالكاً للمال أصلاً، ولم يثبت ملكه للمال إلا بالبيع، فإنه ربما عرضت للبيع ثلاث سنوات، ثم عدلت عن البيع إلى الملكية والقنية، ولذلك قالوا: إنه لا تجب عليك الزكاة، ثم إنك ربما -كما هو موجود الآن- ربما يكون قيمة العقار الآن مائة ألف ثم في السنة الثانية مائة ألف والثالثة مائة ألف والرابعة إلى عشر سنوات وقيمته مائة ألف، ثم ينزل هذا العقار حتى يباع بخمسة آلاف وقد يباع بعشرة آلاف، فتزكي طيلة هذه السنوات ثم تبيع ولا يبلغ قيمة بيعك ما زكيت.
    وهذا موجود، خاصة الآن ربما كان المكان مرغوباً لسبب، ثم يشاء الله عز وجل لأمر أو لآخر أن يصبح هذا المكان كأنه لا قيمة له، فبدلاً من أن تكون قيمته مئات الألوف ولربما تبلغ الملايين يصبح لا قيمة له، ولذلك قالوا: إنه لا يزكي إلا عند بيعه؛ لأنه لما باع تحققت ملكيته للأرض، وأصبح هذا المال أشبه بالديون وأشبه بالمال غير الموجود، حتى يتحقق من بيعه، ولأن نيته غير ثابتة؛ إذ لو طرأ عليه طارئ للسكنى والقنية ونحو ذلك، فإنه سيسكن ويقتني ويخرج عن كونه متاجراً.
    والله تعالى أعلم.
    (90/17)
    ________________________________________
    حكم زكاة الدين الذي لا أجل له

    السؤال
    ما حكم الدين الذي لم يسم له أجل، بل ترك أمره إلى المدين متى شاء سدده، هل تجب زكاته، أم لا؟

    الجواب
    إذا كان الدين لا أجل له، فإنه ينظر في صاحبه، فإن كان قادراً على السداد، فإنه يجب أن يحتسب وجوبه منذ قدرته على السداد، ويفصّل فيه كما فصّل في المليء، وأما إذا بقي عاجزاً عن السداد لسنوات طويلة فلا زكاة عليه حتى يسدده، وإذا سدده زكاه لسنة واحدة.
    والله تعالى أعلم.
    (90/18)
    ________________________________________
    زكاة الأنعام إذا تعدد الملاك ووقعت الخلطة

    السؤال
    والدي ووالدتي لهما غنم تبلغ بمجموعها النصاب، ولكن كل واحد يطعم غنمه على حدة، ومبيتهما في حظائر متجاورة، فهل عليهما زكاة كلٌ على حدة، أم بمجموعهما؟

    الجواب
    هذه المسألة هي مسألة الشركة في بهيمة الأنعام، فشرط اعتبار المالين مالاً واحداً أن يكون مراحهما واحداً ومرعاهما واحداً وفحلهما واحداً، فإذا كان الأمر كذلك فإنه تجب الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الزكاة).
    فإذا كان المال على هذه الصفة فإنه تجب فيه زكاة المال الواحد؛ فلو ملك أحدهما عشرين شاة، وملك الآخر عشرين شاة، وجبت عليهما شاة واحدة، يدفعها أحدهما، ثم نقدر قيمة هذه الشاة، ويجب على الآخر أن يدفع نصف قيمتها، فلو أن هذه الشاة أُخذت من أحد الشريكين وقيمتها خمسمائة ريال، فإننا نوجب على الشريك الثاني أن يدفع له مائتين وخمسين ريالاً، وقس على هذا.
    وأما إذا كان مراحهما مختلفاً، أو كان لكل واحد منهما حظيرة، ومرعاهما مختلف، أو كانت من المعلوفة كما ورد في السؤال، فإنه لا تجب زكاتهما، وليسا بمال واحد، وإنما هما مالان مختلفان.
    والله تعالى أعلم.
    (90/19)
    ________________________________________
    كيفية إخراج زكاة الدين المقسط

    السؤال
    لقد استدان مني أحد الناس مبلغاً وقدره عشرون ألفاً، وهو يدفع لي المبلغ أقساطاً؛ كل شهر مقدار تسعمائة، فهل في هذا المال زكاة؟

    الجواب
    إذا مضى على هذا الدين سنة كاملة وحلّ أجل مطالبته، فحينئذٍ تنظر إلى كل قسط وتزكيه على حدة، وتجب عليك زكاة كل قسط منفرداً، فتؤديه لسنة واحدة.
    والله تعالى أعلم.
    (90/20)
    ________________________________________
    حكم المطالبة بأداء الدين بعد إبراء المدين منه

    السؤال
    لو أن لي عند شخص مالاً، ثم أبرأته منه بسبب عجزه عن السداد في ذلك الوقت، ثم إن الله منَّ عليه بالمال وأصبح غنياً، فهل لي أن أطالبه به الآن؟ وما حكم ذلك؟ وهل له أن يرفض السداد؟

    الجواب
    إذا سامحت أحداً في الدين فقد وهبته المال، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، مضى أجرك على الله، واحتسب ثوابك عند الله، ولا تفسد عليك آخرتك بدنياك.
    والله تعالى أعلم.
    (90/21)
    ________________________________________
    عقوبة تارك الزكاة

    السؤال
    ما عقوبة تارك الزكاة يوم القيامة؟

    الجواب
    عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها، فأحميت؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرّ عليه أخراها أعيد عليه أولاها؛ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) ثم ذكر ذلك في الغنم.
    فهذه هي عقوبته في الآخرة.
    وأما عقوبته في الدنيا، فمحق البركة من الأموال، وسوء العاقبة والمآل، ومن ضيّع حق الله ضيعه الله كما ضيّع حقه، ولينتظر كل من ضيّع أمانة الله وحقّه في الزكاة عقوبة عاجلة في نفسه أو ماله أو أهله وولده.
    والله تعالى أعلم.
    (90/22)
    ________________________________________
    تعلق الأحكام بغلبة الظن

    السؤال
    ما معنى قولكم: (إن الله تعبدنا بغلبة الظن)؟

    الجواب
    معنى ذلك أن الشرع جعل غالب الظن محكوماً به، وقد قرر ذلك العلماء، ومن أنفس ما كُتب في ذلك كتاب الإمام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ومصالح الأنام، قال: إن الشريعة بنيت على غالب الظن في كثير من المسائل، والدليل على هذا أمور: أولاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد)، فالقاضي يقضي في الدماء ويقضي في الأعراض ويقضي في الفروج ويقضي في غيرها من حقوق الناس بشاهدين، مع أن هذين الشاهدين ربما نسيا، وربما أخطأا، وربما توهما، وربما كذبا وزورا والعياذ بالله، فقد يستباح دم الرجل إذا شهد شاهدان عدلان أنه قتل فلاناً، فإذا شهد الشاهدان أنه قتل فلاناً، فإنه حينئذٍ يستباح دم المشهود عليه، ويُحكم بالقصاص، وتثبت حقوق القتل سواءً بسواء، كمن أقر، مع أن هذين الشاهدين ربما أخطأا وربما دلّسا وكذبا، ومع ذلك نحكم بشهادتهما؛ لغلبة الظن في أنهما لمّا زُكّيا وعرفت أمانتهما وعدالتهما أنهما صادقان، فغلب على ظننا صدقهما وحكمنا بذلك، هذا بالنسبة لحقوق العباد مع العباد.
    وتعبّدنا الله بغلبة الظن فيما بيننا وبينه سبحانه وتعالى، فنحن نحكم بدخول شهر رمضان وخروج شهر رمضان، فنبني عبادة وركناً من أركان الإسلام، وكذلك حج الناس بشهادة الشهود على الهلال، مع أنه ربما كذب الشهود وربما أخطئوا وربما توهّموا، وأنت تدين الله عز وجل، وتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك، مع أنه يحتمل أنه أخطأ، تسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فتمسك عن صيامك، وتسمعه يؤذن لأذان المغرب فتفطر من صيامك، وتعتد بذلك في عبادة هي ركن من أركان دينك، مع أن المؤذن يحتمل أنه أخطأ، ويحتمل أنه لم يصب الحقيقة في كون الشمس غربت أو كون الفجر قد طلع، ومع هذا جعل الله ذلك عبادة في الصلاة، وجعله عبادة أيضاً في الزكاة، فإن الإنسان يبني على غالب ظنه في الزكوات، فإن الإنسان إذا غلب على ظنه ملكيته لمال، بنى على غلبة الظن في ملكية المال، وبنى على غلبة الظن في الحول، وكل ذلك مما يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى به في زكاته، كذلك أيضاً في صومه وحجه، وقس على ذلك مما لا يُحصى كثرة.
    فلو تعبدنا الله باليقين لحصل على الناس من الحرج ما الله به عليم، فأنت حينما تخرج من بيتك لصلاتك وأنت على طهارة، فإنك ربما جلست ساعة فيما بين طهارتك وبين صلاتك، ولا تتحقق يقيناً أنك لم تحدث، فلربما خلال الساعة خرج منك شيء، لكن غالب الظن أنك على طهارة، وأن طهارتك باقية، فتحكم بكونك متطهراً، وتستبيح الوقوف بين يدي الله عز وجل بغالب ظنك، وقس على هذا سائر الأحكام.
    فإن الإنسان مثلاً لو قال لامرأته كلمة من كلمات الطلاق، وهذه الكلمة اختلف العلماء فيها، فمنهم من يقول: إنها طالق، ومنهم من يقول: إنها غير طالق، فلو ذهبت إلى عالم وفقيه معتدّ بفتواه ومعتد باجتهاده، فأفتاك أنها امرأتك، فقد جعل الله السماحة على لسانه، فتتعبد الله عز وجل بغالب ظنك من إصابة هذا المجتهد، مع أنه يحتمل أن يكون أخطأ وأنها ليست بامرأة لك، وأنها قد حرمت عليك.
    فقس على ذلك من المسائل ما لا يحصى كثرة، ولذلك يقول العز بن عبد السلام كلمة نفيسة، يقول رحمه الله: إن الشرع يبني على غلبة الظنون، ولا يبني على ضعيف الظن، وغالب الظنون كالمحقق، ولو ذهبنا نعتبر أن الظنون الغالبة فاسدة لفسدت أحوال العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فمن رحمة الله عز وجل أن تعبدنا بهذا الغالب على الظن.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد.
    (90/23)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة بهيمة الأنعام
    من رحمة الله على عباده أن فرض عليهم زكاة في أموالهم من نقود وأنعام وغيرها، فهي طهرة للغني، وعون للفقير وبلاغ يتبلغ بها، وليعلم كل غني أن الزكاة حق للفقير، وأن المال مال الله سبحانه وتعالى، فلا يمن به على الفقير، وليعلم أن الله عز وجل استخلفه في هذا المال، فليؤد حق الله تعالى فيه.
    (91/1)
    ________________________________________
    أصناف الأنعام التي تجب فيها الزكاة
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة بهيمة الأنعام].
    قوله: (بهيمة) فهي مأخوذة من أبهم الشيء، وإبهام الشيء استشكاله وعدم وضوحه، وقالوا: إن البهيمة سمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتمكن من النطق والكلام، ومن هنا يقال: كلامٌ مبهم، أي غير واضح، قالوا: لأن البهيمة لا تستطيع الكلام ولا الإبانة والإفصاح عما في نفسها، فسمِّيت بهيمة لذلك.
    وقوله: (الأنعام) من النعم، والأنعام تشمل: الإبل، والبقر، والغنم، كما قاله أئمة اللغة ومنهم: الأزهري رحمه الله، تشمل كلمة الأنعام هذه الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فلا يدخل في ذلك الوعول ولا الظباء ولا الغزلان، ولا غير ذلك من بقية الحيوانات.
    فقوله: (باب زكاة بهيمة الأنعام) أي: في هذا الموضع سأذكر جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالزكاة الواجبة في الإبل والبقر والغنم، وهذه هي التي أمر الله عز وجل بزكاتها، فالإبل تشمل الإبل العراض والبختية، والغنم تشمل الضأن والماعز، والبقر يشمل البقر المعروف والجواميس، فهذه كلها تعتبر من بهيمة الأنعام.
    (91/2)
    ________________________________________
    حكم زكاة ما تولد من الأنعام ومن غيرها
    ما تولَّد وكان أنثاه من بهيمة الأنعام، وذكره من غير بهيمة الأنعام أو العكس، ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: ما تولد وكان أصله مما تجب فيه الزكاة، كأن تكون أمه بقرة، فإنه يأخذ حكم الزكاة، بمعنى أنه تجب فيه الزكاة، ويأخذ حكم أمه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر)، فأتبع المولود لأمه، فإذا كان الذكر (الفحل) لا تجب في جنسه الزكاة، والأنثى تجب فيها الزكاة، فإن المتولد منهما يتبع أمه، وتجب فيه الزكاة.
    (91/3)
    ________________________________________
    أسباب ذكر زكاة الأنعام قبل غيرها
    ابتدأ المصنف رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام لأسباب، من أهمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام قبل زكاة النقدين في كتابه المشهور الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، والذي يسميه العلماء: كتاب الصدقة، وهو أهم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنصبة الزكاة، ابتدأ صلوات الله وسلامه عليه فيه ببيان الأنصبة المتعلقة بالإبل والبقر والغنم، ثم بعد ذلك ذكر نصاب الذهب والفضة وبينه صلوات الله وسلامه عليه.
    كذلك أيضاً من الأسباب الداعية لتقديم زكاة بهيمة الأنعام: أنها أعز ما كانت العرب تملكه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمُر النعم)، فكانت أعز ما يملكه الإنسان، وتتفاخر به العرب، لأنها كانت تحب هذا النوع من المال، ومن هنا قال سبحانه وتعالى في أمارات يوم القيامة: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4]، وهي من أعز ما كانوا يملكونه، وهي الناقة العشراء، (عطلت) أي: لم يُحمل عليها، وقيل: (عطلت) بمعنى: أن الإنسان من شدة أهوال يوم القيامة لم يلتفت إلى أعز ماله وهي الناقة العشراء.
    سيتكلم رحمه الله عن على الثلاثة الأنواع وهي: الإبل والبقر والغنم، ويبدأ بالإبل ثم يتبعها بالبقر ثم يتبعها بعد ذلك بأنصبة الغنم.
    (91/4)
    ________________________________________
    شروط وجوب الزكاة في الأنعام
    قال رحمه الله: [تجب في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ إذا كانت سائمة الحول أو أكثره].
    أي: تجب الزكاة في إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لورود النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس في بهيمة الأنعام خلاف، قالوا: إن الزكاة فيها واجب.
    وقوله: (سائمة) من السوم وهو الرعي، وقيل: إنه مأخوذ من السيماء وهي العلامة، كما في قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29]، فالسوم قالوا: توصف الغنمة به؛ لأنها تُعْلِمُ الأرض، والرعي الذي هو السوم يعتبر شرطاً لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام، فالبهائم: الإبل والبقر والغنم تنقسم إلى قسمين: إما سائمة ترعى، وإما معلوفة، ويتفرع على ذلك قسم ثالث ينبني عليهما وهو الجامع بين السوم والعلف، فما كان منها سائم، فإنه تجب فيه الزكاة بالإجماع، بمعنى: أن الإبل والبقر والغنم إذا كانت ترعى، فالعلماء متفقون على وجوب الزكاة فيها.
    أما المعلوفة: فهي التي يشتري الإنسان لها العلف، أو يأخذه من مزرعته، أو يذهب بنفسه يجنيه ويحشُّه من الأرض ثم يعطيه للبهيمة، ولا يخرجها من حظيرتها، فهذه معلوفة، سواءً اشترى أو ذهب وجمع لها ثم أطعمها، فإذا كانت البهيمة معلوفة، فللعلماء فيها قولان: منهم من يقول: البهيمة المعلوفة تجب فيها الزكاة كما تجب في السائمة؛ لأن الأصل يقتضي وجوب الزكاة في جميعها.
    والقول الثاني: أن الزكاة لا تجب في المعلوفة.
    فأصحاب القول الثاني وهم الجمهور، يقولون: إن المعلوفة لا تجب فيها الزكاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من الإبل السائمة)، وقوله في كتاب الصدقة وفي السنن: (وأما الغنم ففي سائمتها في كل أربعين)، فقوله في سائمة الإبل، أو الغنم: في سائمتها، يدل بمفهومه على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، وهذا المفهوم هو الذي يسميه الأصوليون: مفهوم الصفة، فإن السوم صفة، والمفهوم له عشرة أنواع، ومنها: النوع الذي هو الصفة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (في سائمتها) مفهومه: أن المعلوفة التي لا ترعى لا تجب فيها الزكاة، وهذا كما قلنا: مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح: أن البقر والإبل والغنم إذا لم ترع لا تجب فيها الزكاة.
    إذا ثبت أنه لا بد من السوم، يبقى النظر في النوع الثاني وهو الذي جمع بين السوم والعلف، فالذين قالوا باشتراط أن تكون سائمة؛ منهم من يقول: العبرة في السوم بأكثر الحول، وبناءً على ذلك فلو جمعت بين السوم والعلَف ننظر، فإن كانت أشهر السوم أكثر من أشهر العلف، فإنه تجب فيها الزكاة، وإن كانت أشهر العلف أكثر من أشهر السوم فلا تجب فيها الزكاة، مثال ذلك: لو كانت عنده أربعون من الغنم، وهذه الأربعون ترعى ثمانية أشهر وأربعة أشهر تكون في حظائرها ويعلفها، فإن الأكثر للسوم والرعي، فتجب فيها الزكاة، وأما إذا كان العكس وهو أنها ترعى أربعة أشهر وتُعلف ثمانية أشهر، فإنه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها معلوفة، هذا حسب ما قيل في اشتراط السوم، فإذاً العبرة في السوم بأكثر الحول.
    وقال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إذا سامت ورعت ولو بعض الحول تجب فيه الزكاة، ولا يفرِّق بين كونه أكثر الحول أو أغلب الحول.
    والصحيح: أن الزكاة فيها إذا جمعت بين السوم والعلف تابع للغالب عليها، فإن كان الغالب عليها أن تعلف فلا زكاة إلا إذا كانت من عروض التجارة، فالزكاة في قيمتها، وأما إذا كانت تسوم وترعى أكثر الحول، فإن الزكاة تجب فيها؛ لأن الحكم للغالب منهما.
    إذاً: بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فيها مسألتان بالنسبة لوجوب الزكاة فيها: المسألة الأولى: أنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا رعت، وكانت تسوم.
    المسألة الثانية: أن يكون السوم في أكثر الحول، فإذا كان أكثر الحول للسوم وجبت فيها الزكاة.
    وأما إذا كانت معلوفة؛ يُعلفها صاحبها ويطعمها أكثر الحول، أو كل الحول، فلا تخلو نيته من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قصده منها أن يأخذ غلتها، وأن يستفيد من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، فإذا كان قصده نماء المنفصل منها، فإنه حينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ كما إذا قصد منها أن يشرب من ألبانها، فيكون عنده أربعون من الغنم من أجل أن يشرب حليبها، وأن ينتفع من صوفها، وكذلك أيضاً يجعلها للضيف وللقرى ونحو ذلك، فهذا لا تجب عليه الزكاة.
    الحالة الثانية: أن يقصد منها التجارة، كأن تكون عنده أربعون من الغنم ويقصد منها أن يبيع ويشتري، فيأخذ منها مجموعة لكي يطعمها ويقيم عليها حتى إذا غلت أسعارها أو كبرت أسنانها ذهب بها إلى السوق وباعها، فهذا زكاته زكاة عروض التجارة.
    فخلاصة ما سبق: أن بهيمة الأنعام لها حالتان: إما أن تكون سائمة سواء كانت سائمة كل الحول أو أكثر الحول ففيها الزكاة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وإما أن تكون معلوفة، فإن كانت معلوفة: فإما أن تكون بقصد النماء لما يكون منها؛ من حليبها وأصوافها، وتكون طعمة للضيف وطعمة للبيت، فهذه لا زكاة فيها، وإما أن يقصد منها أن يبيعها ويستفيد بالمال الذي يبيعها به، فهذا حكمه حكم عروض التجارة، تقدّر عند كل حول وتكون الزكاة في قيمتها، فالفرق بين كونها تجب فيها الزكاة كسائمة وتجب فيها الزكاة كعروض التجارة: أننا إذا أوجبنا فيها الزكاة كسائمة، يُعتبر فيها النصاب وهو أربعون، وأما إذا أوجبنا الزكاة فيها كعروض تجارة فتكون العبرة بالقيمة، فلربما يكون عنده أربع شياه وتجب عليه الزكاة؛ لأن قيمتها تصل إلى نصاب زكاة عروض التجارة.
    (91/5)
    ________________________________________
    نصاب زكاة الإبل
    قوله: [فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض].
    ابتدأ رحمه الله بالأعلى وهي الإبل، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما كتب كتابه الذي رواه عبد الله بن أنس عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه ابتدأ بالإبل، فبين عليه الصلاة والسلام أنصبتها والأسنان الواجبة فيها، فيكون ابتداء المصنف رحمه الله بها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
    والإبل فيها حقان: الحق الأول ليس من الإبل نفسها وهو الحق الواجب، وإنما هو من الغنم، والحق الثاني يكون من الإبل نفسها، فأما الحق الذي يجب من الغنم فإنه يبتدئ بالخمس من الإبل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)، فإذا كان عند الإنسان خمس من الإبل فإنه تبتدئ فرضية الزكاة بهذا العدد، وما دونه كأن يكون عنده أربع من الإبل أو ثلاث أوناقتان أو ناقة فلا زكاة، إلا إذا كانت لغرض التجارة.
    فإن كانت عنده خمس من الإبل وجب عليها شاة، فإن بلغت عشراً ففيها شاتان، فإن بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، فإن بلغت العشرين ففيها أربع شياه، فإن بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذاً تبتدئ بالغنم في كل خمس منها شاة، هذه الشاة يشترط فيها ما يشترط في الأضحية من سلامتها من العيوب، وبلوغها للسن المعتبرة، فلا يجزئ إلا الثني من الماعز والجذع من الضأن، فلا يُخرج أي شاة، بل يشترط في الشاة التي تدفع زكاة عن هذه الخمس أن تكون قد بلغت السن المعتبرة؛ ففي الماعز يشترط أن تتم سنة كاملة، وتدخل في الثانية وهو الثني من الماعز، وفي الضأن تبلغ أكثر الحول؛ لأنه يكون جذعاً إذا فاق الستة الأشهر، خاصة إذا كان مرعاه طيباً.
    فالمقصود: أن زكاة الإبل تبتدئ في الشاة الواحدة في كل خمس، وما دون الخمس لا زكاة فيه، إلا إذا قصد بهذه النوق البيع والشراء، فتقول له: زكاتك زكاة عروض التجارة خارجة عن مسألتنا؛ لأننا نتكلم على زكاة الإبل من حيث هي بوجوب النصاب فيها، فإذا بلغت خمساً وعشرين يقول عليه الصلاة والسلام: (ففيها بنت مخاض)، والماخض: الحامل، وبنت مخاض أي: بنت ناقة حامل، ومعنى ذلك: أنه تمت لها سنة واحدة، ودخلت في الثانية، ويقولون لها: ماخض؛ لأن أمها قد حملت من بعدها فتكون ماخضاً، هذه تجب في كل خمس وعشرين إلى أن تبلغ ستاً وثلاثين، فمن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون: هي التي تمت سنتين ودخلت في الثالثة، واللبون: هي أم المرضعة ذات اللبن، فقد أنجبت ما في بطنها، وأخرجت ما في بطنها، فأصبحت ترضعه، فهي لبون، فبنت لبون أي: بنت ناقة لبون، فمعنى ذلك: أنه تمت لها السنتان.
    هذا إذا جاوزت الخمسة والثلاثين إلى ست وثلاثين، فمن ست وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة؛ وهي طروقة الفحل، وصفت بذلك؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل، وقيل: استحقت أن تُركب وأن يحمل عليها، الحقة تمت لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، فإن بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، والجذعة تمت لها أربع سنوات ودخلت في الخامسة؛ لأنها تجذع أسنانها، بمعنى أنها تسقط، إلى أن تبلغ خمساً وسبعين، فإذا جاوزت الخمس والسبعين إلى ست وسبعين، فمن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، فيكون الواجب فيها بنتا لبون من ست وسبعين إلى تسعين، فإن جاوزت التسعين إلى إحدى وتسعين، فمن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل، هذا هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأنصبة الإبل التي بيّنها عليه الصلاة والسلام وفصلها، كما في حديث أنس.
    من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين فيها بنت مخاض، ومن ست وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، ومن ست وأربعين إلى ستين فيها حقة، ومن إحدى وستين إلى خمس وسبعين فيها جذعة، ومن ست وسبعين إلى تسعين فيها بنتا لبون، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان طروقتا الفحل.
    هذا يحتاج إلى أن يحفظه طالب العلم ويضبطه على نفس الوصف الذي ذكرناه، ثم بعد ذلك يكون الحكم مختلفاً، إذا بلغت مائة وعشرين، من بعد مائة وعشرين إن زادت عليها، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
    بعد المائة والعشرين إذا جاوزتها بالعشرات فإنه للعلماء فيها قولان: منهم من يقول: تُستأنف الفريضة، واستئناف الفريضة يرى أنه بعد المائة والعشرين تنظر خمسة وعشرين ففيها شاة، ثم ثلاثين فيها شاتان، مائة وخمسة وثلاثين ثلاثة شياه، مائة وأربعين أربعة شياه، مائة وخمسة وأربعين، حينئذ تبدأ تضيف عليها أي: يستأنف الفريضة، وهذا قول مرجوح.
    والصحيح مذهب الجمهور: أنها إذا بلغت مائة وعشرين وجاوزت المائة والعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، والمسألة حسابية، فالمائة والثلاثون: إذا جئنا ننظر إلى مائة وعشرين قبلها ففيها حقتان حسب حكم الشرع الصريح، ولو اعتبرنا القاعدة الحسابية التي تنص أن كل أربعين فيها بنت لبون، لكان فيها ثلاث بنات لبون، فإذا كان لديك نصاب زكاته من بنات اللبون، ثم زدت فوق ذلك النصاب عشراً من الإبل، فأسقط واحدة من بنات اللبون وأدخل حقة، ثم إن زادت عشراً أخرى فأسقط بنت لبون أخرى وأدخل حقة، توضيح ذلك بالتطبيق: فمائة وثلاثون فيها بنتا لبون وحقة، فبنتا اللبون عن الثمانين والحقة عن الخمسين، فإن جاوزت إلى مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين، فإذا جاوزت إلى مائة وخمسين فأسقط بنت اللبون، وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث حقائق عن مائة وخمسين، فإن وصلت إلى مائة وستين ففيها أربع بنات لبون؛ لأن مائة وستين إذا قسمت على أربعين كان الناتج أربعة، ففيها أربع بنات لبون، فإن وصلت مائة وسبعين فأسقط واحدة منهن وضع مكانها حقة، فيكون فيها ثلاث بنات لبون وحقة، أما مائة وثمانين ففيها بنتا لبون وحقتان، حقتان عن مائة وبنتا لبون عن ثمانين، وسر على هذا، حتى تجتمع في بعض الأحيان الفريضتان، وكلما زادت عشراً سقطت واحدة من بنات اللبون ودخلت بدلها حقة؛ لأن الفرق بين الحقة وبنت اللبون إنما هو العشر، وبناءً على ذلك تستقيم الفريضة بعد هذا بهذا التفصيل، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
    [وفيما دونها في كل خمس شاة].
    يعني: فيما دون الخمس والعشرين في كل خمس شاة، فالخمسة فيها شاة والعشرة شاتان، والخمسة عشر ثلاث شياه، والعشرون أربع شياه، وهذا أعلى ما يجب من جهة الغنم، فإن بلغت خمسة وعشرين فإنها تبتدئ بالواجب من الإبل نفسها، تبدأ ببنت المخاض، ثم تليها بنت اللبون، ثم تليها الحقة، ثم تليها الجذعة، ثم تجمع بين بنتي اللبون، ثم بين الحقتين على التفصيل الذي بيناه.
    [وفي ست وثلاثين بنت لبون].
    دون الستة والثلاثين فيها بنت مخاض، ولاحظ أنه قال: بنت لبون وبنت مخاض، فلا يقبل إلا الإناث -إلا في بنت المخاض يمكن أن يقبل بدلها ابن اللبون الذكر- والسبب في هذا: أن وجوب بنت اللبون وبنت المخاض والحقة والجذعة، إنما هو لكون الأنثى تنجب ويكون منها النسل، ويكون منها الحليب فنماؤها خير لبيت المال، فجعلها الله عز وجل واجبة من الإناث وهي أحق، لكن لو كانت الإبل ليس فيها إلا ذكور، فللعلماء فيها وجهان: منهم من قال: ألزمه بالبحث عن أنثى وليخرجها.
    ومنهم من قال: إذا لم يكن عنده إلا الذكور يخرج ابن مخاض وابن لبون ونحو ذلك فيما ذكروه رحمة الله عليهم على نفس الترتيب الذي يكون في الإناث.
    القول الثاني هو الأقوى، وسيأتي أنه اختاره جمع من العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن كل مال تجب الزكاة فيه من نوعه.
    [وفي ست وأربعين حقة].
    وهي كما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها حقة طروقة الفحل)، قالوا: سميت حقة؛ لأنها استحقت أن تطرق بالفحل، واستحقت أن يُحمل عليها ويركب.
    [وفي إحدى وستين جذعة].
    لأنها جذعت أسنانها.
    [وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة].
    اختلف العلماء فيما بين المائة والعشرين وما بين المائة والثلاثين، فقد ذكرنا بعض العلماء يدخل الشياه في كل خمس فيجعل الخمس فيها شاة والعشر فيها شاتان، وقلنا: إن هذا مذهب مرجوح.
    والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن زادت ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة)، فبعض العلماء يقول: إذا كانت مائة وعشرين، وزادت واحدة فإنني أوجب ثلاث بنات لبون بدل أن كانت على المائة والعشرين مستقرة بحقتين، وبناءً على ذلك يرى أن بنات اللبون تكون بزيادة الأفراد فيما بين مائة وعشرين ومائة وثلاثين، وقال بعض العلماء: لا يجب فيما بين ذلك، وهذا الوقص الذي يكون بين الفريضتين لا يجب فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل أربعين) و (في كل خمسين) فكأنه يشير إلى ما يقبل القسمة على الأربعين والخمسين، ويجمع ما بين الأربعين والخمسين، فمائة وإحدى وعشرين لا تعتبر جامعة بين الخمسين والأربعين، وبناءً على هذا فإن المائة والعشرين المائة والإحدى والعشرين والاثنتين والعشرين، والثلاث والعشرين، والأربع والعشرين، حتى تبلغ مائة وثلاثين، فما دون المائة والثلاثين يرى أن فيه حقتين على الأصل الذي نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث.
    (91/6)
    ________________________________________
    نصاب زكاة البقر
    يقول رحمه الله: [فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة].
    هذه زكاة البقر، وسمي البقر بقراً من البقْر وهو شق الشيء، قيل: سمِّي البقر بذلك؛ لأنه يشق الأرض بالحراثة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واتبعتم أذناب البقر)، أي: بالحراثة والزرع، وزكاة البقر واجبة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليها كما في حديث معاذ حينما بعثه إلى اليمن.
    والجزيرة العربية يقل فيها وجود البقر، وإنما كان المشهور فيها الإبل والغنم، وأما البقر فكان قليل الوجود في جزيرة العرب، وذلك لكونه يطلب المرعى الأكثر، ولا يرتفق في الصحراء، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم زكاته حينما بعث عامله معاذاً على اليمن، وكان البقر موجوداً هناك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر من النصاب، في كل ثلاثين تبيع، وهو الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، وُصِف بذلك؛ لأنه يتبع أمه، ويكون وراءها، هذا التبيع يجب في كل ثلاثين، واختلف العلماء فيما دون الثلاثين من البقر كخمس من البقر وعشر وخمس عشرة وعشرين، قال بعض العلماء: نقيسها على الإبل، ففي كل خمس من البقر شاة، وفي كل عشر شاتان، وفي كل خمس عشرة ثلاث شياه قياساً على الإبل، وهذا القول يقول به سعيد بن المسيب، والإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمة الله عليهم، لكن جماهير السلف يقولون: لا يجب فيما دون الثلاثين من البقر زكاة، وهذا هو الصحيح؛ لأن معاذاً رضي الله عنه -كما في حديث الدارقطني والبيهقي وغيرهما، رحمة الله عليهم- قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ في البقر من كل ثلاثين تبيعاً)، فدل على أن ما دون الثلاثين لا تجب فيه الزكاة؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ووجوب الحق فيها.
    قوله: تبيع، التبيع ذكر، أو تبيعة، وهي الأنثى، ولذلك يقولون: لا يؤخذ الذكر إلا ابن لبون، بدل بنت المخاض في الإبل، والتبيع أو التبيعة يخيّر بينهما في البقر، هذا بالنسبة لبهيمة الأنعام، وإلا فالأصل أنها تؤخذ من الإناث، فلا يؤخذ إلا الأنثى؛ لأنه أحب لبيت المال، وأحب للفقراء، وهو منصوص الشرع، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على الأنثى، ولذلك لا يخرج الذكر بدلها إلا في هذا الموضع، أو ما ذكرناه من كون ماله كله من الذكور.
    [وفي أربعين مسنة].
    وهي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة، والمسنة من الإناث، ثم بعد ذلك في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، وإذا بلغت السبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا بلغت الثمانين ففيها مسنتان، وإذا بلغت التسعين ففيها ثلاثة أتبعة، وإذا بلغت المائة أسقط تبيعاً منها وأدخل مسنة، فتقول: فيها تبيعان ومسنة، وقس على هذا، التبيعان بالستين والمسنة بأربعين، أصبح المجموع مائة، وقس على هذا حتى تجتمع الفريضتان في مائة وعشرين، في مائة وعشرين من البقر يخيّر، نقول له: إن شئت أخرج أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات، إن شئت أن تخرج هذه أو تخرج هذه، فالثلاث المسنات تعادل مائة وعشرين، والأربعة الأتبعة تعادل مائة وعشرين، يسمونه: اجتماع الفريضتين، حينئذٍ يخيّر، كمائتين في الإبل، يجتمع فيها بنات اللبون مع الحقاق، إن شاء أخرج في المائتين خمس بنات لبون أو أربع حقاق، ولا يلزم بواحدة منه إن شاء هذا أو ذاك.
    [وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، ويجزئ الذكر هنا، وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً].
    هذا كله بيّناه، يعني: ابن لبون بدل بنت المخاض إذا لم يجد رب الإبل بنت مخاض فإنه يقول له الساعي: أخرج بدلاً منها ابن لبون ذكر؛ لأنه قد يستفاد منه فيكون فحلاً لهذه الإبل، وهذا منصوص الشرع، ولذلك لا يجتهد ولا يقال بالصيرورة إلى الذكور، إلا في حالة ما إذا كان المال كله ذكوراً، ويستوي البقر والجواميس في الزكاة.
    (91/7)
    ________________________________________
    نصاب زكاة الغنم
    قال رحمه الله: [فصل: ويجب في أربعين من الغنم شاة].
    هذه هي زكاة الغنم وهو النوع الثالث، والغنم هي الماعز والضأن، فالضأن ذكره وأنثاه والماعز ذكره وأنثاه يستوي فيه الزكاة، وكما قلنا في الإبل العراض والبختية، العراض: التي لها سنام واحد، والبختية: التي لها سنامان، هذه الأنواع كلها تعتبر داخلة في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة من هذه البهائم، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الغنم، ولم يفرق بين الماعز والضأن، والعرب تسمي الماعز والضأن (الغنم) بهذا الاسم، فدل على دخولها في هذا العموم، ومن هنا قال العلماء: تجب الزكاة على من ملك ضأناً أو ملك ماعزاً أو جمع بينهما، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ، فتجب على من ملك أربعين شاةً شاةٌ واحدة، وما كان دون ذلك فلا زكاة فيه إلا إذا كان عرض تجارة، كأن يملك ثلاثين شاة بقصد النماء للبيع والشراء، فهذا منفصل، وزكاته زكاة عروض التجارة، مثل ما يفعله تجار الغنم، فهؤلاء إذا حال الحول على أحدهم يجمع ما عنده من الغنم ويقدر قيمته ويزكيه، ولا يلتفت إلى أنصبة الغنم كما ذكرنا.
    [وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، ثم في كل مائة شاة].
    يستمر الفريضة من الأربعين إلى مائة وعشرين، فإن بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه، ثم بعد ذلك تستقيم الفريضة في كل مائة شاة، هذا منصوص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك الذي ذكرناه، والإجماع على هذا.
    (91/8)
    ________________________________________
    خلطة الأنعام وأثرها في أحكام الزكاة
    قال رحمه الله: [والخلطة تصيِّر المالين كالواحد].
    بعد أن بين لنا الأنصبة، شرع في بيان الأحكام المتعلقة ببهيمة الأنعام، فقال: (والخلطة تصيِّر المالين واحداً) الخلطة: من الاختلاط، واختلط الشيء بالشيء إذا دخل فيه، تقول: اختلط الليل بالنهار إذا قارب طلوع النهار، وكذلك إذا قارب دخول الليل، فالخلطة أصلها دخول الشيء في الشيء، والعرب والناس عادةً إذا كانت عندهم البهائم لا يخلون من حالتين: إما أن ينفرد كلٌ منهم بغنمه وإبله وبقره، بالمرعى والمراح، فحينئذٍ لا إشكال، والمال للرجل والزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، لكن هناك إشكال، وهو أن يكون عندي من الشياه والغنم ما لا يبلغ النصاب، وعندك مثله، فلو جُمع المالان بلغا قدر النصاب، وكان بين مالي ومالك خلطة؛ شراكة شيوع؛ كأن نملك ستين من الغنم لك نصفها ولي نصفها؛ كرجل توفي عن ابنين وله ستون من الغنم، تقسم بين الابنين الذكرين هذا له ثلاثون وهذا له ثلاثون، فالمال بينهم مشاع؛ فهذه خلطة، إن جئنا ننظر إلى الابن الأول فله ثلاثون، وإن جئنا ننظر إلى الثاني فله ثلاثون، وكل من الثلاثين عند كل واحد منهما دون النصاب، لكن الذي أمامنا من المال هو ستون شاة، وقد بلغت النصاب، فالخلطة سواءٌ كانت بالشركة لإرثٍ أو شراكة بينهما في المال لعلاقة من قرابة ونحو ذلك، أو كانت في المراح كما يقع في القبائل وأبناء العم، وأحياناً تكون القبيلة مرعاها واحد، ويجتمع الثلاثة والأربعة والخمسة في مرعى واحد، تذهب إبلهم مع بعضها، وترجع مع بعضها، ويكون مراحها ومكان ظعنها وبقائها واحداً، فهذه تأخذ حكم المال الواحد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)، فأعطى المالين المجتمعين حكم المال الواحد، فيشترط أن يكون المرعى واحداً، والسوم واحداً، والفحل واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل وتكون فيه واحداً فلا يختلف، والمحلب وهو المكان الذي تحلب فيه على أحد القولين عند العلماء رحمة الله عليهم واحداً، فهذا غالباً ما يكون في البادية، في البادية يتيسر فيه أكثر لسعة المكان، فتجد المالين كالمال الواحد، مرعاهما واحداً، والمكان الذي تسوم فيه الإبل واحداً، والفحل الذي يضرب واحداً، والمراح الذي تمرح فيه الإبل واحداً، والمكان الذي تحلب فيه واحداً، فإذا جمعت هذه الأوصاف فهي مال واحد، فإن كانت الغنم ستين شاة لكل واحد منهما ثلاثون، ففيها شاة واحدة، ولو نظرنا إلى ملكية كل واحد منهما لم تجب الزكاة فيه، هذا ثلاثون وهذا ثلاثون، لكن لأنهما بهذه الصفة وبهذه الحالة، فقد جعلا بمثابة المال الواحد، فتجب الزكاة عليهما، نقول لهما: أخرجا شاةً واحدة، لكن يرد

    السؤال
    هل يخرجها هذا أو ذاك؟ نقول: يخرجها أي واحد منهما، فإن أخرجها أحدهما طالب الآخر بنصف قيمتها، فإن كانت هذه الشاة قيمتها خمسمائة ريال، فعلى الآخر أن يدفع لمن دفع مائتين وخمسين ريالاً.
    فإذا اتحد المال بالأوصاف التي ذكرناها، فإنه يأخذ حكم المال الواحد، وتجب الزكاة عليه.
    ولا يفرق بين هذا المجتمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرَّق خشية الزكاة)، فدل على أنه لا يجوز أن يقال: هذا مال وهذا مال، ويفرَّق بينهما حتى لا تجب الزكاة عليه، أو قبل تمام العام وقبل مجيء الساعي يحرص الاثنان على التفريق بين الغنم وبين الإبل وبين البقر حتى لا يطالبهم الساعي بزكاة، فإن اطلع الساعي على ذلك ألزمهما بزكاة المال الواحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزّل المالين المختلطين منزلة المال الواحد، فتجب عليهما الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه.
    (91/9)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (91/10)
    ________________________________________
    حكم زكاة الإبل التي تحتاج إلى العلف أحياناً

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، وجزاكم الله خير الجزاء: إذا كانت الإبل سائمة أكثر الحول؛ وذلك لأن الرعي لا يكفي، فهو يطعمها مع الرعي، فهل يجب فيها زكاة؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فهذه المسألة ذكرها بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، إذا كان المرعى لا يكفي، وقد جعل الإنسان مع هذا المرعى علفاً يعلف به دوابّه، فهل نقول: إنها سائمة بناءً على أنها رعت، أو نقول: إنها معلوفة بناءً على أنه يعلفها ويقوم عليها؟ والجواب: أننا نقول: إنها سائمة؛ لأن العلف كان فضلاً وتقوية للطعام، ولم يكن أصل قوتها، فأصل قوتها كان على السوم، وبناءً على ذلك تجب فيها الزكاة وهي سائمة لثبوت الوصف.
    والله تعالى أعلم.
    (91/11)
    ________________________________________
    حكم إخراج القيمة في الزكاة

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا بلغ النصاب أربعين شاة، فهل يصح أن أخرج قيمة الشاة نقداً بدلاً من الشاة؟

    الجواب
    هذه المسألة للعلماء فيها قولان: هل يجوز إخراج النقد بدل هذه التي سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسنان؟ الجمهور على أنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذه الأسنان وعيّن من نفس الإبل والبقر والغنم، وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يجوز؛ لأن معاذاً رضي الله عنه قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قالوا: فأخذ العِدل أو أخذ المِثل من الثياب بدل العين الواجب في الزكاة، وهذا أصل للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، يطرِدُه، بمعنى يجعله مطّرِداً، فيقول -مثلاً- في زكاة الفطر: يجوز أن تخرج بدلها النقود ونحوها من الكفارات.
    والصحيح: مذهب الجمهور أنه لا يجوز الإخراج إلا مما سمّى النبي صلى الله عليه وسلم وعيّن، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّد هذا وأقّته، وما حدّده الشرع لا يجزي إلا بعينه، ولأن المال النقد يأخذه المحتاج وغير المحتاج، وأما الطعام فلا يأخذه إلا المحتاج ولا يأخذه إلا الفقير، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده كان الذهب والفضة موجوداً في زمانهم، ومع ذلك ما أخرجوا زكاة الفطر من ذهب ولا فضة، وبناءً عليه فلا يجوز إخراج القيم؛ لا في الأعيان التي ذكرت في الزكوات، ولا في غيرها من الزكوات كزكاة الفطر ونحوها، وإنما يجب الإخراج على النحو الذي سماه الشرع، إن كان طعاماً فطعام، وإن كان إبلاً فإبل، وإن كان بقراً فبقر، وإن كان غنماً فغنم، وأما ما استدل به رحمه الله من حديث معاذ، فيجاب عنه بأن الحديث ورد في الجزية، والجزية يجوز الانتقال فيها إلى المثل والبدل، بخلاف الزكوات، فإن الزكاة سمّيت وحُددت، فوجب عين المسمى والمحدد.
    والله تعالى أعلم.
    (91/12)
    ________________________________________
    إذا وجبت الشياه على صاحب الإبل ولم يكن لديه غنم

    السؤال
    فضيلة الشيخ لو كان عند شخص عشر من الإبل ولا يملك غنماً، فكيف يزكي بشاتين، أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا وجبت الشياه على مالك الإبل فإنه يطالب بها، أما الطريقة والكيفية فذلك مردّه إليه، والشرع لا يتدخل في كيفية حصول الناس على القدر الواجب، وإنما يلزمهم بالأصل.
    والله تعالى أعلم.
    (91/13)
    ________________________________________
    حكم زكاة ذوات العاهات من الأنعام

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، هل في بهيمة الأنعام ذوات العاهات زكاة؟

    الجواب
    إذا كانت البهائم فيها عاهات، أو كانت مريضة، فملك أربعين من الغنم كلها مِراض، أو ملك خمساً وعشرين من الإبل كلها سقيمة ومريضة، فإنه يُخرج مريضة، وتعادل هذا المال الذي يملكه، ولا يجب عليه أن يخرج صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، هذا حديث معاذ في الصحيحين، فلا شك أن الصحيحة في المريضة كريمة المال، ولذلك لا يطالب بإخراج الصحيحة إذا كان عنده مِراض، وإنما يطالب بإخراج ما هو مماثل لماله، فلو كانت الغنم هرمة وكبيرة السن فإنه يخرج واحدة هرمة، وهكذا بالنسبة للإبل إذا كان بها عاهات، أو بها جرب أو غير ذلك، فإنه يطالب بالإخراج بمثل ما هو من ماله.
    والله تعالى أعلم.
    (91/14)
    ________________________________________
    تلف المال بعد وجوب الزكاة فيه

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا احترق المال بعد وجوب الزكاة، هل يلزم صاحب المال دفع الزكاة؟

    الجواب
    يجب عليه أن يزكي، إذا احترق المال أو تلف فإنه يجب عليه أن يزكي، ولكن لا يُلزم بإخراج الزكاة من السعاة ونحوهم إلا إذا ملك، ففرق بين وجوب الشيء وبين الإلزام به، فتقول: يجب عليَّ أن أدفع لك الدين، ولكن لا يلزمني أن أدفع لك الآن؛ وذلك لأني معسر، فهذا الرجل يعتبر معسراً، فإذا أعسر، فإنه تسقط المطالبة إلى أن يكون قادراً على السداد، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإذا تلف المال أو احترق المال وليس عنده ما يسدد به الزكاة، تركناه حتى يملك المال ولو بعد عشر سنوات، ولو بعد عشرين سنة، حتى يملك هذا القدر الذي وجب عليه، وإلا صار ديناً عليه يؤديه متى أطاق القدرة عليه.
    والله تعالى أعلم.
    (91/15)
    ________________________________________
    زكاة الأنعام إذا كان بعضها سائماً وبعضها معلوفاً

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، إذا كانت بهيمة الأنعام بعضها سائمة، وبعضها معلوفة، وذلك كأن تكون صغارها التي لا تستطيع المشي معلوفة، والبقية سائمة، هل تجب الزكاة في جميعها، إذا كانت أكثرها السائمة، أم في سائمتها فقط؟

    الجواب
    بالنسبة لصغار الغنم كالسخلة ونحوها، فإنها تعد وتحسب، وجاء في الأثر: (عد عليهم السخلة ولا تأخذها منهم)، كما أثر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وبناءً على ذلك فإن كونها صغيرة لا يمنع وجوب الزكاة، ولا يمنع المطالبة بها، وهكذا إذا كان أكثرها يسوم والباقي تبع لهذا الذي يسوم، لكنه لا يرعى معه ولا يسوم معه، فإن الحكم للأكثر، ويكون الأقل تبعاً لهذا الأكثر، كما أن السخلة تبعت أصلها.
    والله تعالى أعلم.
    بعض العلماء يرى أنه يمتنع الحكم إذا لم يبلغ الأكثر الذي يسوم قدر النصاب، فلو كانت عنده أربعون شاة، وكان الذي يسوم ثلاثين، وكان الباقي لا يسوم لا تجب عليه الزكاة حتى يسوم الأربعون، لكن الذي ذكرناه من كونها تجب فيه إذا كان بالتبع، بمعنى أن تكون صغاراً وراء أمها ترضع، فهذه حينئذٍ تعتبر تبعاً، وتجب عليه الزكاة، ولا يؤثر وجود هذا العدد من الصغار، ويعتبر السوم للأمهات؛ لأن هذه الصغار في حكم التبع، فهي إذا رأت الأم شربت لبنها، فكأنها انتفعت من السوم الذي رعته، وهذا مذهب صحيح يرى أن حصول الارتضاع لهذه الصغار والانتفاع لها، إنما كان عن طريق السوم، وبناءً على ذلك يعتبر كأنه تابع للأصل، وتجب فيه الزكاة كما لو سام كله.
    والله تعالى أعلم.
    (91/16)
    ________________________________________
    حكم الأنعام السائمة المعدة للبيع

    السؤال
    أثابكم الله فضيلة الشيخ، ما الحكم إذا كانت الأنعام سائمة، وجعلها من عروض التجارة، فأي الزكاتين فيها: زكاة بهيمة الأنعام، أم زكاة عروض التجارة؟

    الجواب
    إذا كان الشخص يملك الأنعام لنفسه، ثم طرأ له أن يتاجر فيها بالبيع والشراء، فيشتري الإبل بالبقر ويبادل، فمنذ أن نوى وغيّر نيته إلى التجارة يستأنف الحول، فإذا كان قد بقي على أصله إلى شهر محرم وحَوْلُه في صفر، فحينئذٍ نقول: منذ بداية محرم التي ابتدأ فيها نية التجارة يستقبل نية عروض التجارة، ويزكي زكاة عروض التجارة.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
    (91/17)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [1]
    الحبوب والثمار من الأصناف التي أوجب الله تعالى فيها الزكاة، ولها نصاب معلوم، وتجب عند الحصاد، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بهذا الباب ذكرها الشيخ في هذه المادة.
    (92/1)
    ________________________________________
    وجوب زكاة الحبوب والثمار
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب: زكاة الحبوب والثمار] هذا الباب عقده المصنف رحمه الله لبيان الأحكام المتعلقة بزكاة الحبوب والثمار.
    والحبوب والثمار من الأنواع التي أوجب الله عز وجل زكاتها، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر سبحانه وتعالى بإعطاء الحق وهو الزكاة يوم الحصاد، أي: حصاد الزروع والثمار، ويكون ذلك بضوابط بينتها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصّل العلماء رحمهم الله أحكامها.
    وزكاة الزروع والثمار أجمع العلماء رحمهم الله عليها، فهي من الأنواع المتفق عليها؛ لدلالة الكتاب والسنة في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) فبيّن صلى الله عليه وسلم أن الزروع والثمار من جنس ما يزكّى.
    وقوله رحمه الله: (باب زكاة الزروع والثمار) أي: في هذا الموضع، سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا النوع من أنواع الزكاة.
    والحبوب: تشمل البر والشعير والأرز والدخن والفاصوليا واللوبيا والعدس ونحوها من الحبوب، والثمار مثل التمر من النخل ونحو ذلك مما يخرج من الأصول الثابتة.
    والعلماء رحمهم الله يعبِّرون بهذا التعبير مراعاة لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، في قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وإنما تكال الحبوب وكذلك تكال الثمار، فخرج بقية المزروعات كالخضروات والفواكه التي لا تكال، فإنها لا تدخل في هذا الباب، وسيبين المصنف رحمه الله هذه المسألة عند بيانه للأنواع التي تجب زكاتها من الزروع والثمار.
    (92/2)
    ________________________________________
    الحبوب التي تجب فيها الزكاة
    يقول المصنف رحمه الله: [تجب في الحبوب كلها ولو لم تكن قوتاً].
    (تجب في الحبوب كلها)؛ لأنها من جنس ما يكال، ولأنها تكون أقواتاً على التعليل بالقوت والكيل، والتعليل بالكيل أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وهو حديث في الصحيحين، فكأنه بيّن لنا في هذا الحديث أن الزكوات في الحبوب إنما تجب فيما يُكال، وأما ما لا يكال فإنه لا تجب فيه الزكاة.
    وبالنسبة لقوله رحمه الله: (في الحبوب كلها) تشمل البر والشعير، وما عرف في زماننا كالأرز وغيره؛ فالحبوب كلها تجب زكاتها إذا بلغت النصاب المعتبر وهو خمسة أوسق.
    (ولو لم تكن قوتاً) اختلف العلماء رحمهم الله، هل يشترط في الحبوب أن تكون قوتاً أو لا يشترط؟ فيقع الخلاف إذا كانت الحبوب من جنس البهارات التي لا يقتات بها، وإنما يستصلح بها القوت، وكذلك ما يُتداوى به، فالذين يقولون أنه يشترط فيها أن تكون قوتاً كالأرز والبر والشعير فإنهم يوجبون الزكاة فيها دون ما لا يقتات كالحبة الخضراء -وسيذكر المصنف رحمه الله أنواعاً مما لا يعتبر من الأقوات- فبعض العلماء يمثِّل له بالحبة الخضراء وبذر القطن ونحو ذلك من الحبوب التي لا يقتات بها الناس، ولو كانت من جنس ما يستصلح به القوت كحبوب البهارات ونحوها، فهذه كلها لا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب الزكاة فيما يُقتات على القول الذي ذكرناه باشتراط القوت، والمصنِّف هنا لم يشترط القوت التفاتاً إلى الحديث الصحيح: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات.
    (92/3)
    ________________________________________
    الثمار التي تجب فيها الزكاة
    [وفي كل ثمر يُكال ويدّخر].
    مثل التمر، فإن تمر النخيل يكال ويدَّخر، ولذلك يرتفق الناس به الحول كله، فهو من جنس ما يُكال ويُدخر، فاشترط رحمه الله فيه الكيل مع الادخار، ومن أهل العلم من قيّد العلة بالكيل ولم يلتفت إلى الادخار، وهو أقوى على ظاهر الحديث الذي ذكرناه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الكيل ولم يعتبر الاقتيات، ولا الادخار.
    [كتمر وزبيب].
    فالتمر يكون من النخيل، والزبيب يكون من العنب من الزروع، فمثّل بهذين المثالين لأنهما من جنس ما يُقتات ويُدَّخر، وعلى هذا فإن ظاهر كلام المصنف أنه إذا لم يكن مدّخراً، فإنه لا تجب فيه الزكاة.
    أما ما لا يُكال -مثل البرتقال والتفاح والموز والبطيخ- فلا تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أوجب الزكاة في الزروع والثمار قيّدها بالخمسة أوسق، فكأنه يقيدها بما يُكال، والبرتقال لا يكال، وينبغي أن يُنبّه على مسألة مهمة: وهو أنه اشتُهر في زماننا هذا الكيلو غرام، فيفهم البعض أننا إذا قلنا: لا يكال أي: لا يوزن، الكيلو غرام من جنس ما يوزن، وتوضيحاً لذلك نقول: إن الشيء إذا بِيع إما أن يباع بالكيل أو يباع بالوزن أو يباع بالعدد أو يباع بالذرع، وقد يباع جزافاً، وهذه الأشياء كلها: الكيل، والوزن، والذرع، والعدد، تقديرات للمبيعات؛ فما يباع كيلاً مثل بيع التمر بالصاع وبالمد، فهذا من جنس ما يُكال، وفي حكم المكيلات ما يوجد في زماننا من بيع الحليب باللتر، فهذا يكال، فيعتبر من جنس المكيلات، والكيل يرجع إلى حجم الشيء والوزن يرجع إلى ثقله.
    والضبط بالوزن أدق من الضبط بالكيل، أي: من جهة تحرير الشيء، فالوزن من أمثلته الكيلو غرامات الموجودة الآن.
    فالشيء إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً أو يباع عدداً كالبطيخ، تقول: بكم هذه الحبة؟ وكذلك السيارات فإنك لا تكيلها ولا تزنها، وإنما تنظر إلى أعدادها.
    ونمثل بالأشياء الموجودة حتى يكون الضبط أبلغ، وإلا ففي القديم يقولون: كالإبل والبقر والغنم، هذه معدودات، فإن الإبل لا تباع وزناً ولا تباع كيلاً وإنما تباع بالعدد، فتقول: بكم هذه الناقة؟ أريد ناقة ناقتين ثلاثاً أربعاً فيرجع في بيعها إلى الأعداد، كذلك في زماننا هذا السيارات تعتبر معدودة.
    وأما المذروع فيشمل الأقمشة، وأيضاً يكون في العقارات مثل بيع الأرض، كل ذلك يعتبر من المذروعات، والذرع يكون لتقدير الأطوال والمساحات.
    فإذا باع الإنسان إما أن يبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً، فالشيء إذا كان من جنس ما يكال وجبت فيه الزكاة إذا كان من الزروع والثمار، وأما إذا كان يباع بالعدد أو بالوزن مثل البرتقال، فإنه يباع بالعدد فتبيعه بالحبة، وتبيعه بالوزن، تقول: أعطني كيلو غراماً، فلا تبيعه كيلاً، وإنما تبيعه إما وزناً وإما عدداً، فهذا ليس من جنس ما تجب فيه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد للزروع والثمار نصابها بخمسة أوسق، فكأنه نبه حينما قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق) أنه إذا لم يكن مكيلاً أنه لا زكاة فيه، فلو سألك سائل وقال: عندي أرض أزرعها بكراث أو فجل أو نحو ذلك من البقول والخضروات؟ فلتقل: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها ليست من جنس المكيلات، وإنما هي إما من جنس المعدودات أو من جنس الموزونات، وعلى هذا لا تجب فيها الزكاة، ومثلها ما كان من هذا النوع من الزروع.
    وكذلك ما كان يباع بالوزن كالبرتقال والتفاح والموز، فهذا لا تجب فيه زكاة، فلو سألك إنسان عن أرض يزرع فيها التفاح والبرتقال أو الليمون أو نحو ذلك مما لا يكال، فلتقل: هذا لا تجب زكاته؛ لأن الزكاة مخصوصة بما يكال.
    (92/4)
    ________________________________________
    نصاب زكاة الزروع والثمار
    قال رحمه الله: [ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطلٍ عراقي].
    أجمع العلماء رحمة الله عليهم أن للحبوب والثمار نصاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في الحديث الصحيح عنه بقوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) فهو صلوات الله وسلامه عليه يبيّن أن الخمسة الأوسق هي نصاب الزروع والثمار، فما بلغ الخمسة وزاد عليها تجب فيه الزكاة، وما كان دون ذلك فإنه لا زكاة فيه، وعلى هذا فقد رتب المصنف الأفكار، فابتدأ رحمه الله ببيان النوع الذي تجب زكاته من الزروع والثمار، وهو ما يكال، على التفصيل الذي ذكره من جهة الاقتيات والادخار واشتراط كلٍّ أو عدمه، وبعد أن بيّن لك أنه من جنس ما يكال شرع في بيان الحد الآن عرفت النوع الذي تجب زكاته، فورد

    السؤال
    ما هو الحد الشرعي الذي يطالب المكلف بالزكاة إن بلغ ما يملكه من الحبوب والزروع والثمار مبلغه؟ تقول: هو خمسة أوسق، فإن زكاة الحبوب والثمار محدودة بهذا الحد، فلا نقول لكل من ملك حبوباً وثماراً: زك ما عندك، وإنما ننظر في الذي يخرج من زرعه، فإن بلغ الخمسة الأوسق أوجبنا عليه الزكاة، ولو نقص عنها ولو يسيراً لم تجب عليه الزكاة، فلو كان عنده أربعة أوسق فقط، لم تجب عليه الزكاة.
    والوسق: ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فعندنا صاع، وعندنا مد، فالصاع النبوي الذي كان في زمانه عليه الصلاة والسلام يسع أربعة أمداد، والمد هو ملء الكفين المتوسطتين -يعني: ليستا بكبيرة ولا صغيرة، وإنما الكف المتوسطة- لا مقبوضتين لأنه يقل المحمول، ولا مبسوطتين لأنه ينتشر، وإنما يكون بالوسط، فهذا القدر إذا وضعته يعادل المد، فإذا عادل المد فإن أربعة منه تعادل الصاع.
    وهذا القدر الذي ذكرنا أنه المد هو الذي كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام بقدره كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع) الصاع: أربعة أمداد، فيصبح المد هو ربع الصاع، فإذا قيل لك: ربع صاع أو قيل لك: مد نبوي فالمعنى واحد، ولا يزال الصاع موجوداً إلى زماننا هذا في المدينة يتوارثه الأصاغر عن الأكابر ويعتبر حجّة، ويحرّر فتأخذ الصاع من الصناع ثم تذهب إلى إنسان أخذ صاعه عن إنسان حرّره عن طريق أهل الخبرة، وبهذا تعلم القدر الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكال به من هذا الجنس من المكيلات.
    فستون صاعاً من هذا الصاع النبوي تعادل الوسق، فالخمسة أوسق تساوي ثلاثمائة صاع، فقدر ثلاثمائة صاع هو الذي أوجب الله فيه الزكاة؛ فلو كان يملك مائتين وتسعين صاعاً أو مائتين وتسعة وتسعين صاعاً لم تجب عليه الزكاة حتى يبلغ هذا القدر بعد تصفيته وحصاده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    والأصل في هذا التحديد السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وبناءً على ذلك قال العلماء: إنه يرجع فيه إلى الكيل، وقد كان الوزن موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتبر الوزن، وننبه على أن المكيلات لا تضبط بالوزن، فالتمر لا يمكن أن تضبطه بالوزن، توضيح ذلك: لو أخذت صاعاً من تمر العجوة مثلاً وأخذت صاعاً من تمر الصفا -وهو نوع آخر- أو تمر الحلوة أو الربيعة، فإنك لا يمكن أن تجدهما في وزن واحد، فإن العجوة أثقل من الحلوة، والحلوة أخف، ولو أخذت نوعاً ثالثاً كالعنبر، فإنك تجده أخف من الحلوة؛ فلو جئنا نقول: الصاع يعادل أربعة كيلو غرام، فهل يعادل من العجوة، أو يعادل من العنبر، أو يعادل من الحلوة؟ ولذلك قالوا: إنه لا يجوز بيع المكيل بالوزن؛ لأنه إذا بيع بالوزن لم تتحقق المماثلة التي اشترطها النبي صلى الله عليه وسلم في الربويات كما سيأتينا إن شاء الله في كتاب البيوع، وقد نبّه على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني وغيره من الأئمة أن المكيلات لا تضبط بالوزن؛ لأن المكيلات العبرة فيها بالحجم، فقد يكون حجمها كبيراً وتسع فراغاً من الصاع بحيث لو وزنتها يكون وزنها خفيفاً، وقد تجد منها ما هو صغير الحجم ثقيل الوزن، فالعجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، والعنبر كبير الحجم خفيف الوزن، ولذلك لا ينضبط فيها الوزن.
    ثم إذا جئت تضبط الحبوب بالوزن تجد أنها يختلف بعضها مع بعض من حيث الجودة والرداءة، ولذلك تجدهم إذا ضبطوها بالوزن قالوا: كذا كذا (كيلو غرام) من البر الجيد أو من الشعير الجيد، والجودة أمير غير مستقر؛ فقد يكون جيداً في نظرك وليس جيداً في نظري، وقد يكون جيداً في عرف بلد ولكنه ليس بجيد في عرف بلد آخر، فالمكيلات لا تضبط بالوزن، ولذلك يحرِّر العلماء المكيلات بالكيل؛ لأن الشرع قصد الكيل فيها، وأما الموزونات فإنها تضبط بالوزن، وبناءً على ذلك لا تضبط الزكوات بالكيلو غرام، وإنما تضبط بالصاع، وإذا قلنا بلزوم ضبطها بالآصُع، وأكدنا على ضرورة ذلك ينبغي على طالب العلم أن يعلم، فإن هذا فيه إحياء للسنة؛ لأن الناس أصبحت تجهل الآصُع، ففقه الفتوى وفقه الفقه أننا نبقي الناس على هذا الأمر المسنون، فإن الناس قد نسوا الصاع، حتى أنك لو قلت لرجل في فدية الحج: عليك -مثلاً- ثلاثة آصُع تطعمها ستة مساكين، لم يدر ما الصاع، فإذا قلت له بالكيلو غرامات يدري، فعلى هذا تفوت السنة وتضيع، ومن هنا لزم رد الناس إلى الأصل وإحياء السنة، وهكذا في زكاة الفطر، فلو رد الناس إلى الكيلو غرامات فإنه يأتي زمان لا يضبطون الصاع، وقد يقرأ الرجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرضية زكاة الفطر صاعاً فيقول: أي شيءٍ هذا الصاع؟! ولذلك ينبغي إحياء هذه السنة، وكان العلماء رحمة الله عليهم يقولون في حديث الصحيحين لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لنا في مُدِّنا وصاعنا) فلا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بالبركة.
    فإذاً لا بد من فقه الفقه أن تبقى هذه المكيلات، وأن تُحيا حتى يربط الناس بها، ويعرف الناس بها السنة، والكفارات ونحوها مما أوجب الله عز وجل لا يمكن ضبطها إلا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يُصار إلى الكيلو غرامات ما أمكن، ومن ضبطها بالوزن فله ضبطه واجتهاده، ولكن الأصل من جهة إحياء السنة وبقائها بين الناس والمعروف في نصوص العلماء أنه ينبغي التأكيد على الكيل، ولذلك إذا قيل: إنها تعادل ثلاثة كيلو غرامات ونصفاً أو أربعة على اضطراب في هذا التقدير، فإذا قيل: إنها تعادل ذلك من الحب فحينئذٍ يرد السؤال: كم تقديرها من التمر؟ لو أراد أن يخرج الزكاة من التمر، وحينئذٍ لا يمكن للناس أن يصلوا إلى حد معيّن بالوزن.
    ثم انظر إلى الكيل فإن الكيل إذا جئت تضع الحب فإنه ينتشر ولا يثبت على الصاع؛ لأن الصاع يملأ حتى ينتشر ويتساقط، وهذا الانتشار يختلف؛ وذلك يؤثر في الوزن قطعاً، والذين يضبطونه بالوزن يغتفرون هذا التأثير، ويقولون: هو يسير مغتفر، ولكنه قد يكون مغتفراً لو اضطررنا إليه، وليس هناك ضرورة إلى الصيرورة إلى الوزن ما دام أن الشرع قصد الكيل.
    وخلاصة الأمر: ما دام أن الشرع حد الكيل فيما يكال مع وجود الوزن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغي البقاء إحياءً لهذه السنة، وعلى هذا فلا يُلتفت إلى التقدير بالكيلو غرام، وإنما يقال كما قال العلماء والأئمة رحمة الله عليهم: إن الزكاة تجب في قدر ثلاثمائة صاع نبوي، وهذا هو الحد الذي تضبط به الزكاة وهو المعتبر.
    (92/5)
    ________________________________________
    وجوب ضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لتكميل النصاب
    قال رحمه الله: [وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب لا جنس إلى آخر].
    (وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض) فلو زرع في نصف العام حباً، ثم زرع في نصفه الثاني حباً وجئنا ننظر إلى النصف الأول وإذا به قد بلغ مائتين صاع، والنصف الثاني قد بلغ مائة صاع، فإذا نظرت إلى زرعه الأول أسقطت عنه الزكاة، وإذا نظرت إلى زرعه الثاني مجرداً أسقطت عنه الزكاة، لكن ينبغي ضمهما إلى بعضهما؛ لأنهما في حكم الزكاة الواحدة في العام الواحد، وعلى هذا فالمعتبر أن يزرع في نفس العام، لكن لو زرع مثلاً في أواخر حزيران من العام الماضي، لأن الشهور الشمسية ينضبط بها الزراعة، ولذلك يقول الفقهاء: إذا زرع في حزيران، فلو زرع حباًَ في حزيران وحصد، ثم لما كان من العام القادم زرع في حزيران حباً بحيث لو نظرنا إلى زرعه العام الماضي وزرعه السنة، كل زرع مستقل لا تجب فيه الزكاة ولو ضممناهما وجبت، نقول: لا يضم؛ لأن زرع العام منفصل عن زرع السنة، ولكل سنة زرعها، فيشترط في ضم الثمرة أن تكون في نفس العام، كذلك أيضاً في النخيل، النخل يُطلِع مرة واحدة في السنة، ولكن إذا وضع الله فيه البركة، فإنه يطلِع مرتين، وفي بعض المناطق قد يطلِع مرتين إما لرِيِّه أو لحسن جوِّه، وهذا أمر يقع في بعض المناطق، كما ذكر عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك له في ماله وولده)، وفي رواية (أكثر ماله وولده) فأُعطي كثرة الولد وكثرة المال، فمما ذكروا في ماله أنه كان له نخل يطلِع مرتين في العام، وهذا من غرائب ما يكون، فإن النخل يطلِع مرة واحدة في السنة كما هو معلوم.
    فإذا أطلع النخل مرتين ضم طلعه الأول إلى طلعه الثاني، ثم إن النخل نفسه يختلف، فالنخل بحكمة الله عز وجل إذا جاء فصله وزمانه الذي يكون فيه نضج ثمره، فإنه يختلف في النضج فشيءٌ منه ينضج في أول الصيف، وشيءٌ منه ينضج في منتصف الصيف، وشيءٌ منه ينضج في آخر الصيف، ثم الذي ينضج في أول الصيف يأكله الناس بسراً أو يأكلونه رُطباً، وأوساط الصيف غالباً يكون رطباً، وآخر الصيف يكون تمراً، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يبين لعباده عظيم فضله عليهم وعظيم منته عليهم، فتجد الذي يؤكل في أول الصيف لا تستسيغ طعامه في منتصف الصيف، والذي يؤكل في منتصف الصيف لا تستسيغ طعامه في آخر الصيف، بل ربما يكون الإنسان قد أكل الثمرة أمس، فإذا طلع سهيل ثم جاء يأكلها اليوم يجد طعمها مختلفاً تماماً، حتى لا يجد لها النكهة التي وجدها أمس، وهذا دليل واضح على عظمة الله عز وجل، وأن لهذا الكون خالقاً سبحانه وتعالى، فمن حكمة الله عز وجل أن ثمر النخيل لا ينضج مرة واحدة وإنما ينضج متتابعاً على الترتيب، فشيءٌ في أول الزمان، وشيءٌ في أوسطه، وشيءٌ في آخره.
    فبالنسبة للثمرة فإن الإنسان قد يجذ الذي يكون في أول الصيف بعد تمامه ولم ينته الصيف بعد، ثم يجذه أوسطه، ثم يجذه آخره، فيُضم كل هذه الأنواع بعضها إلى بعض، ولا تقل: إنني أعتبر كل نوع على حدة، وأعتبر النصاب ثلاثمائة صاع لكل نوع على حدة، فلو نظرت إلى نوع منه يؤكل بُسراً في أول الصيف، ونوع منه يؤكل رطباً، ونوع منه يؤكل تمراً، فلا تفصل بعضه عن بعض، وإنما تضمها لأنها ثمرة عام واحد، فترى زكاتها العام الواحد، وترى أن بعضها يُضم إلى بعض حتى يصير الجميع نصاباً فتجب فيه الزكاة أو يكون دون النصاب فلا تجب فيه الزكاة.
    (92/6)
    ________________________________________
    أصناف الحبوب والثمار لا يضم بعضها إلى بعض في الزكاة
    قوله: [لا جنس إلى آخر].
    لو كان عنده حبوب جنس البر والشعير مثلاً، فإنه لا يضم البر إلى الشعير، ولا يضم الأرز إلى البر، وإنما ينظر لكل جنسٍ على حدة، واختلف في البر والشعير، وأصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم أنهما نوعان منفصلان، ودلت السنة على ذلك، ففي الحديث الصحيح عن عبادة الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وموضع الشاهد في قوله: (إذا اختلفت هذه الأصناف) فأجاز لنا بيع البر بالشعير متفاضلاً، بشرط أن يكون يداً بيد، وذهب بعض السلف كما هو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وكان يقول به معمر بن عبد الله الصحابي، يقول: إن البر والشعير بمثابة النوع الواحد؛ لحديث معمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل) وفسّره الراوي وهو معمر بالشعير بالبر، وجعلهما نوعاً واحداً، ولكن الصحيح أن معمر رضي الله عنه جعل البر والشعير بمثابة النوع الواحد التفاتاً للعموم في قوله: (الطعام بالطعام) وهذا الالتفات جاء ما يفسره ويبينه في قوله في حديث عبادة الذي ذكرناه: (البر بالبر والشعير بالشعير) وهو آكد وأبين في فصل كل منهما عن الآخر.
    يستفاد من هذا أنه لو كان عنده مائة صاع من البر ومائتان من الشعير، فإن قلت: هما نوع واحد؛ وجبت عليه الزكاة؛ لأنهما يُضمان إلى بعضهما، وإن قلت: إنهما نوعان مختلفان، لم تجب عليه الزكاة؛ لأن البر نوع والشعير نوع، ولم يكتمل النصاب في كل نوع على حدة، هذه فائدة هل نعتبر البر والشعير نوعاً واحداً، أو نوعاً مختلفاً؟ ولا يُضم جنس إلى جنس، فلا تقل: إذا كان عنده مائة صاع من الحب أُضيفها إلى مائتي صاع من التمر، وإنما ينظر إلى التمر على حدة وإلى الحب على حدة، والتمر نفسه أنواع بمثابة الجنس الواحد، فلو كان عنده الحلوة والعجوة والصفاوي كل واحد منها مائة صاع، فإنك تقول: أعتبرها نوعاً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والتمر بالتمر) ولم يفصِّل، فدل على أن التمور كلها بأنواعها بمثابة النوع الواحد، بناءً على ذلك لو كان عنده مائة صاع تمراً من نوعٍ من أنواع التمور وعنده نوع ثان مائة صاع، ومن نوع ثالث مائة صاع، وجبت عليه فيها الزكاة، لأنها بمثابة النوع الواحد.
    (92/7)
    ________________________________________
    اشتراط ملكية النصاب وقت وجوب الزكاة
    قال رحمه الله: [ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة].
    هذا أمرٌ لا بد منه للحكم بلزوم الزكاة عليه، ووقت الوجوب هو وقت بدو الصلاح.
    وتوضيح ذلك: أن نقدم بمقدمة يتصور الإنسان بها حقيقة بعض الثمار والزروع.
    النخل -مثلاً- يمر بمراحل، فمن حكمة الله عز وجل أن النخل أول ما يكون منه في ثماره الطلع، والطلع: كيزان تحمل ثمرة النخلة، هذا الطلع يكون أول ما يبدو في زمان معين من السنة، يخرج ذلك الكيس الخشبي الذي بداخله الثمرة المخلوقة بقدرة الله عز وجل، مرتبة منظمة حتى أنك لو فتشت هذا الكيس تعجب من بديع صنع الله عز وجل في ترتيبها ودقتها وتناسقها، فإذا كنت تعجب من كيس واحد، فكيف بهذه البساتين التي تحمل البلايين بل بلايين من هذه الأكيسة بنظام بديع غريب يدل على عظمة الله جل جلاله؟! فإذا خرج هذا الطلع يكون تقريباً في الغالب في حجم الذراع، على هذه الصورة، يخرج شيئاً فشيئاً في جذع النخلة، من أعلاها بين الجريد الذي لم ييبس، وهو قلب النخلة كما يسميه العامة، وفي ذلك حكمة، فلو خرج في جذع النخلة من أسفل لانكسر؛ لأنه لا يجد ما يحمله، وإنما يكون في قلبها في أعلاه حتى يكون على الجريد، ويحمله الجريد بقدرة الله عز وجل، فإذا عبثت به الرياح أو ثقل وزنه مع الزمان لم ينكسر، وهذه من حكمة الله جل جلاله، فإذا خرج هذا الكيس يتشقق وذلك في زمان مناسب حتى أنك في زمان البرد تجد أسابيع معينة يكون فيها شيء من سكون الهواء وحرارة الجو حتى تخرج هذه الكيزان، مع أنك في فصل من الفصول الباردة، فإذا خرجت هذه الكيسان تشققت، فبداخلها الثمرة، يأتي الفلاح ويأخذ طرفي الكيس الخشبي ويقطعهما وتخرج الثمرة التي هي العرجون بشماريخه، فهذا العرجون بشماريخه تجد فيه حبات التمر، الواحدة تلو الأخرى منظمة مرتبة على أحسن ما أنت راءٍ من تنظيم وترتيب، وتبارك الله أحسن الخالقين، فيأتي الفلاح ويأخذ من الذكور؛ لأن النخل فيه الذكر وفيه الأنثى، فالذكور تطلع كيزان مثل كيزان الإناث، ولكن فيها اللقاح، وهذا اللقاح يؤخذ ثم يغبَّر به تلك الثمرة الخارجة في الكيس الذي ذكرناه، فيلقح الفلاح، فتأتي مرحلة ثانية وهي التي تسمى بالتأبير، وفيها أحاديث ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها؛ كحديث عبد الله بن عمر: (من باع نخلاً قد أُبِّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، فهذه مرحلة التأبير، وتترتب عليها أحكام شرعية، ومرحلة التأبير هي التي ورد فيها حديث المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على أهل المدينة وجدهم يؤبِّرون النخل، فأمرهم أن يتوكلوا على الله، فتركوا الثمرة ولم يؤبروها ففسدت، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فهذه مرحلة التأبير.
    بعد التأبير تكون هناك فوق الشهرين مرحلة تسمى مرحلة العقد، مثل أيامنا هذه، فتبدأ الحبة تكبر؛ لأنها في بدايتها تكون قريبة من حبة الذرة، فهذه الثمرة التي تأكلها في نهاية العام والتي قد تبلغ في حجمها الإصبع الكامل، تكون بعد التأبير بقدر أصغر من حبة الذرة، فهذه الحبة الصغيرة تكبر شيئاً فشيئاً مع مرور الزمان بما يزيد على الشهرين، حتى يكتمل حجمها المعتاد وهي خضراء، فإذا اكتمل حجمها المعتاد، ضربها اللون بقدرة الله عز وجل، فاصفرّت أو احمرّت على حسب ما جعلها الله عز وجل من ذلك النوع، هل هو أحمر أو أصفر، {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [النحل:13]؛ لأن اختلاف الألوان يدل على وجود الخالق، لأنه لو كانت الأمور طبيعية كما يقول أهل الطبيعة: أن الحياة وجدت صدفة، لكان كله أحمر أو كله أصفر، ولكن هذا أحمر، وهذا أخضر، وهذا أصفر، يدل على وجود من غيّر هذه الألوان، وهو سبحانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
    وهذه المرحلة -مرحلة اللون- تسمى في الشرع بالإزهاء، وهي التي ورد فيها حديث أنس في الصحيحين: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهو، قالوا: يا رسول الله! وما تزهو؟ قال: تحمارُّ أو تصفار) وهي مرحلة الإشقاح، ومرحلة بدو الصلاح، كما ورد في الأحاديث: (نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو)، (نهى عن بيع الثمرة حتى تشقح) فهي مرحلة اللون، ويكون اللون أحمر أو أصفر.
    بقي إشكال وهو: إذا كانت الثمرة لونها أخضر مثل النوع الذي يسمى بالخضري، يبقى أخضر، كيف يعرف صلاحه؟ قالوا: بالطعم؛ فإنه إذا جاء وقت بدو صلاحه صار حلو الطعم بعد أن كان مر الطعم، وهذا هو الذي عناه حديث ابن عباس في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى تؤكل أو يؤكل منها) فردّ إلى الطعم، فهذه مرحلة بدو الصلاح، ولها ضوابط عند العلماء رحمة الله عليهم، فتكون باللون، وتكون بالزمان وهو طلوع الثريا، وفيه حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره وابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يطلُع النجم، وتؤمن العاهة) وهو الثريا كما فسّره ابن عمر، وهذا التفسير أشار إليه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير، وقال: إنه طلوع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة خلت من مايو أيار.
    الشاهد: هذه المرحلة تسمى مرحلة بدو الصلاح، وهي المرحلة التي يحكم فيها بوجوب الزكاة، فلو أن الإنسان في هذه المرحلة كان غير مالك للثمرة، فإنه لا تجب عليه الزكاة، وينظر في تقدير فائدة هذا الحكم الذي ذكره المصنف رحمة الله عليه ما يترتب عليه من الحكم بإيجاب الزكاة.
    بعد هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح تأتي مرحلة البُسر والبلح، فإذا ضربه اللون صار بُسَراً كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما جاء إلى الصحابي وجز له عرجون نخل، قال: هلا أتيتنا من ثمره! قال: إنما أردت أن تتخير من بُسره ورُطَبه وتمره).
    فهذه مرحلة البُسر، يؤكل بعض الثمر الذي يكون من النخل، بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستسيغه إلا بلحاً، وبعضه يؤكل رطباً.
    وبعد أن يصير بلحاً تمر عليه فترة الشهر والنصف وزيادة؛ يبدأ يذبل آخر الثمرة، ثم يذبل قليلاً قليلاً؛ ربع الثمرة ثم نصفها ثم ثلاثة أرباعها حتى يكتمل ترطيبها، فهذه المرحلة تسمى بمرحلة الرُّطَب، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التمر، ويسميها العلماء بمرحلة الصرام؛ لأنه يصير كالصريم وعندها يستوي كمال الاستواء.
    هذه مراحل ثمرة النخل والذي يهمنا منها مرحلة بدو الصلاح، فلو أن هذه المرحلة وهي مرحلة بدو الصلاح كان النخل في ملك غيرك، ثم صار إلى ملكك بإرث ونحوه لم تجب عليك الزكاة، وإنما وجبت في ملك الغير.
    أوضح هذه المسائل: لو أن رجلاً كان له بستان فيه نخل، فلما بدا الصلاح توفي الرجل، وترك ابنين، الابنان يقسم البستان بينهما مناصفة، لهذا نصفه ولهذا نصفه، فلو فرضنا أن هذا البستان فيه ثلاثمائة صاع التي هي النصاب، فإذا قلنا: إن البستان في ملك الميت وجبت الزكاة؛ لأن النصاب كامل، وإذا جئنا ننظر إلى ملكية الابنين فقد ملك كل منهما مائة وخمسين صاعاً دون النصاب، فحينئذٍ يقولون: العبرة بوقت بدو الصلاح، إن جاء وقت بدو الصلاح والرجل لم يمت، فحينئذٍ الزكاة واجبة عليه، وتخرج من ماله وتركته قبل قسمة البستان، وإن جاء وقت بدو الصلاح كأن يكون أبّر النخل ثم توفِّي قبل بدو صلاحه، فحينئذٍ البستان في ملك الابنين، ولا تجب فيه زكاة؛ لأنه قد جاء وقت الوجوب ولم يملك كل منهما النصاب، هذه فائدة وقت بدو الصلاح.
    بالنسبة للحبوب والزروع الأخرى، ما هي علامة بدو الصلاح؟ لبدو صلاح الحب علامات: منها الاشتداد كالحب، فالحب علامة بدو الصلاح فيه أن يشتد، وفي حديث مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد) وذلك: أن الحب أول ما يكون في خلقه يكون ليناً، وتكون خلقته لينة حتى إنك لو ضغطت بإصبعك على الحبة لخرج ماؤها، ثم تبدأ تشتد شيئاً فشيئاً حتى يكتمل اشتدادها، فإذا اشتدت واكتمل اشتدادها فتلك مرحلة بدو الصلاح، فمن باع النخلة قبل الإزهاء الذي هو اللون، أو باع الحب قبل أن يشتد فبيعه باطل ولا يجوز، فهذا الوقت وهو وقت اشتداد الحب، ولون ثمرة النخيل هو الحد الذي يفصل فيه لجواز البيع وعدمه، وهو الحد الذي يفصل فيه في ملكية الثمرة ووجوب الزكاة وعدم وجوبها.
    يقول العلماء: هناك علامات كثيرة لبدو الصلاح: أولها: اللون كما في النخل يحمار ويصفار.
    ثانياً: أن يكون شديداً بعد لينه، كالبر والشعير فيشتد بعد اللين.
    العلامة الثالثة: أن يلين بعد الشدة كالتين، فإن التين يكون شديداً أول ما يكون فإذا بدأ يلين بدا صلاحه، فهو عكس النوع الذي قبله، وألحق بعض العلماء بهذا النوع الثالث البطيخ عند بيعه، طبعاً ليس في البطيخ زكاة؛ لأنه ليس من جنس ما يكال، لكن في البيع يشترطون أن يلين؛ لأن البطيخ إذا بدا صلاحه لان، أما إذا كان شديداً فإنه لم يطب ولم يكن صالحاً لأكله.
    العلامة الرابعة: أن يكتمل حجمه بعد صغره، أي: يبدأ يكبر حجمه حتى يكتمل كالطماطم والباذنجان ونحوها، هذه علامة صلاحها.
    العلامة الخامسة: أن يكتمل طوله بعد قصره كالقثّاء والخيار ونحوها، فتحكم بجواز البيع إذا اكتمل حجمه.
    والعلامة السادسة: أن يحلو بعد مرارته كقصب السكر، فإن علامة بدو الصلاح فيه أن يكون حلواً بعد أن كان مراً.
    والعلامة السابعة: أن يتفتح من أكمامه فبعض الزروع يكون، بدو صلاحها عند بداية تفتحها كبذر القطن إذا ابتدأ تفتحه فهو علامة صلاحه، أو يكتمل التفتح كما في الورد إذا بيع بقصد الانتفاع به في مطعم ونحوه.
    هذه علامات بدو الصلاح؛ يترتب عليها أحكام في الزكاة، وتترتب عليها أحكام في البيوع، كما سيأتينا إن شاء الله في بيع الأصول والثمار، ولا بد لطالب العلم أن يلم بمثل هذه الأمور.
    ونحن ننبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن من عادة فقهاء الإسلام رحمة الله عليهم والأ
    (92/8)
    ________________________________________
    لا تجب الزكاة فيما يكتسبه اللقاط أو يؤخذ كأجرة على الحصاد
    قال رحمه الله: [فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده].
    اللقاط: هو الشخص الذي يلتقط الثمار من تحت النخيل، من عادة الناس في القديم أنهم يتركون للضعفاء والمحتاجين إذا دخلوا البساتين أن يلتقطوا ما يتساقط من الثمر؛ لأن النخل إذا حمل تمره أو رطبه تتحرك به الرياح، فبتحرك الرياح يسقط شيء من هذا الثمر والرطب رزقاً قد ساقه الله عز وجل لهؤلاء الضعفاء، وكان من سنة الخلفاء الراشدين وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا دخل أحد إلى بستانك أو كنت في طريق في سفر، فمررت ببستان، جاز لك أن تأكل ما تساقط من ثمره بدون إذن صاحبه، لكن بشرط: أن لا تتمول، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له أن يرقى فيجني ولكن يأخذ ما تساقط، ففي هذه الحالة لا يُتعرّض للإنسان غالباً إذا أخذ هذا الشيء، فلو أن إنساناً يمر على البساتين، ويلتقط ما تساقط فبلغ الذي التقطه حد النصاب ثلاثمائة صاع، فهل تجب عليه الزكاة؟

    الجواب
    لا؛ لأنه بدا صلاح هذا الملتقط وليس في ملكه، وإنما في ملك غيره، فلا تجب عليه الزكاة.
    [أو يأخذه بحصَاده].
    هذه مسألة فيها خلاف، عندك ثمر من النخيل مثلاً أو حبوب، فمن عادة المزارعين أنهم يستأجرون أناساً للحصاد وللجَذاذ، فعندك مائة نخلة وقال لك رجل: أنا أجُذُّ لك هذه المائة نخلة وآخذ منك مائة صاع، أو آخذ منك خمسين صاعاً، فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، وهي من مسائل الإيجار.
    بعض العلماء يقول: لا يجوز أن تستأجر الأجير بجزءٍ من عمله؛ لأنه غرر، وتوضيح ذلك: أنه إذا قال له: جذ لي النخل وخذ منه مائة صاع، فإن المائة صاع متوقفة على الجذاذ، ويكون أخذه من عمله، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز له ذلك، واحتجوا بحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وقفيز الطحّان) وهذا الحديث ضعيف، ووجه قفيز الطحان قالوا: نهَى عنه؛ لأن الطحان سيطحن، سيقول له: اطحن لي هذا الحب وخذ منه نصف صاع أو خذ منه نصفه، فقفيز الطحان بمعنى: اطحن وخذ من طحنك، قالوا: لا يجوز، ومن أمثلتها: أن يقول له: اذبح الشاة وخذ جلدها، قالوا: لأننا لا ندري هل يخرج الجلد ثخيناً أو رقيقاً، وهل يسلم الجلد أثناء سلخه من الكشط والقد أو لا يسلم، ولذلك قالوا: هي إجارة غرر، فلو كان الحديث ضعيفاً فإن الأصول تقتضي منعها لوجود الغرر، وبناءً على ذلك قالوا: لا يستأجر الأجير بجزءٍ مما يقوم به، وإنما يُستأجر بمنفصلٍ عنه، وعلى هذا لا يصح هذا النوع من الإجارة.
    هناك قول آخر يقول: يجوز أن يستأجر الأجير بجزءٍ من عمله، وعلى هذا يقولون: يصح أن يقول له مثلاً: خذ السيارة واعمل بها يوماً وخذ مما تخرجه مائة ريالاً، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرناها مثل مسألة قفيز الطحان، ومثل مسألة إجارة السلاخ بالجلد، وكذلك مسألتان، فإنه يقول له: جذ لي النخل وخذ ربع الجذاذ، واحصد لي الحب وخذ مائة صاع، فهذه إجارة بجزء من العمل.
    فقالوا: على القول بالجواز يصبح في هذه الحالة لو جذَّ النخل أو الحب وكان جذذه بثلاثمائة صاع، فمع أنها بلغت النصاب، لا تجب عليه الزكاة؛ لأن هذه الثلاثمائة وإن كانت قد بلغت النصاب قد جاء وقت وجوب الزكاة فيها وقد خوطب بها الغير، فلا تزكى مرتين، وإنما تزكى مرة واحدة، وذلك من المالك الحقيقي لها.
    [ولا فيما يجتنيه من المباح كالبرطم والزعبل وبزر قطونا ولو نبت في أرضه].
    أي: حبوب المزروعات التي تنبت بنفسها، والمباحات التي تنبت بنفسها (الناس شركاء في الماء والكلأ والنار) ما ينبت من المباحات كالأعشاب ونحوها، هذه الناس فيها سواء، لذلك يقال لها إنها من المباحات، فإذا نبتت بنفسها في مزرعة، مثلاً: لو أن إنساناً كانت له أرض ثم هذه الأرض أرسل الله عليها المطر، فأنبتت عشباً، ولهذا العشب منه ما هو حب مثلما ذكر الزعبل والبرطم؛ وهي الحبة الخضراء، أنبتت نوعاً من الزروع التي لها حبوب وبلغت النصاب ثلاثمائة صاع، فهل نوجب فيها الزكاة؟ قالوا: هذا من جنس المباحات، ليس مما للمكلف فيه سعي، وإنما هو من جنس المباحات التي يملكها سائر الناس، فلا تجب في مثلها الزكاة، والسبب في هذا أنهم قالوا: إنه يبدو صلاحها وهي ليست ملكاً لأحد، وإنما يملكها بالجذ، فإذا جذها ملكها؛ لأن العشب والماء والنار مباحات لا تملك إلا بالقبض؛ مثلاً: لو أن الله عز وجل أنبت العشب في مكان، فليس من حق أحد أن يقول: هذا العشب لي، إلا إذا نبت في أرضه، أما لو نبت في مكان فملكيته تكون بعد الجني، ولأنه بدا صلاحه وليس ملكاً لأحد، فلا زكاة فيه، كما ذكرنا عن الأصل الذي قررناه.
    وقال بعض العلماء: إن نبتت في أرضه فهو ملكٌ له، ولذلك لا ينازعه أحد، فتجب فيه زكاة، وإن نبتت في غير أرضه فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن الله أنبتها ولا مالك لها.
    (92/9)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (92/10)
    ________________________________________
    خرص الثمار والحبوب

    السؤال
    في زكاة الحبوب والثمار هل في تحديد الخمسة أوسق لا بد من كيلها صاعاً تلو صاع، أم يكفي خرص أهل الخبرة، أثابكم الله؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإذا كان عندك نخل أو كانت عندك حبوب مزروعة، فالسنة أن يرسل الإمام الخارص على أصحاب البساتين عند بدو الصلاح في النخل.
    والخارص: هو الذي يخرص؛ من الخرص، والخرص: الظن والحدس والتخمين، والأصل في اعتبار الخرص ما ثبت في حديث عبد الله بن رواحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى نخل خيبر يخرصُه؛ لأن نخل خيبر كان مناصفة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، نصفه لليهود ونصفه للمسلمين، فيحتاج أن يُخرص قبل أن يُجذ حتى يعرف كم للمسلمين وكم للعاملين والأجراء وهم الذين كانوا بخيبر.
    فالشاهد: أن هذا الخارص رجلٌ عنده خبرة، يذهب إلى النخيل وينظر في النخلة فيقول: هذه النخلة إذا جذت فسيكون بإذن الله فيها -مثلاً- ثلاثون صاعاً عشرون صاعاً عشرة آصع، بخبرته؛ لأنه مع الزمان والدربة والتجربة يستطيع أن ينظر في النخلة فيخرصها، وهذا شيءٌ أقرّه الشرع، فإذا نظر إلى النخلة حدد ما فيها، ثم ينطلق إلى الثانية والثالثة حتى يجمع ما للإنسان في نخله، وبعد أن يمر على البستان بكامله يقدِّر أن في هذا البستان تسعمائة صاع مثلاً، أو ألف صاع، فإذا قدّر ألف صاع يُسقِط منها الربع، والربع هذا سبب إسقاطه أن هناك ما يسقط بسبب الريح، وهناك ما يسقط بسبب الرقي على النخل، وهناك ما يأكله الطير، الذي هو نقر الطير، وهناك الهبة والعطية يهبها صاحب النخل، وهذه هي السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الخرّاص أن يتجاوزوا في حدود الربع، فهذا الربع يُترك لصاحب المال، فيقدر بما دون ذلك، فيقول: هذا النخل فيه سبعمائة وخمسون صاعاً، لا يقول: ألف، مع أنها ألف صاع لكن يُسقط منها الربع إعمالاً لما ذكرناه من السنة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وصّى الخرّاص أن يُسقطوا هذا القدر؛ لأن في المال طعمة الطير، وفيه الساقط، وفيه الهبة والعطية ونحو ذلك، فهذا يعتبر في الخرص، أما أن ننتظر حتى يجذ ثم يكيل كل ما جذه فلا، وإنما يقدر قبل الجذاذ، وهكذا الحبوب تقدر وهي في سنابلها، ثم بعد ذلك إن جذ يطالب بإخراج القدر الواجب عشراً أو نصف عشر على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى.
    والله تعالى أعلم.
    (92/11)
    ________________________________________
    كيفية إخراج زكاة عروض التجارة

    السؤال
    بالنسبة للموزونات كالبرتقال والتفاح إذا كانت من عروض التجارة، هل تجب فيها الزكاة رغم أنها لا يحول عليها الحول، أثابكم الله؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإذا أدخل الإنسان مالاً لكي يتاجر به في الفواكه أو غيرها، فالعبرة بهذا المال، وتعتبر الأعيان المنتقلة من عروض التجارة، ولا يؤثر فيها كونها لا تبقى، فالعبرة بدخوله للمتاجرة بهذا المال، ويعتد بحول رأس المال الذي دخل فيه للتجارة، فلو كان عنده مائة ألف وأراد أن يدخل في بيع الفواكه، فإننا نقول: متى دخلت في بيعها؟ فإن قال: في أول محرم، نقول: حينئذٍ كلما جاء محرمٌ من كل عام، فانظر إلى ما عندك من عروض التجارة من الفواكه وغيرها وقدرة يساويه من القيمة، وزكه على الأصل المنضبط في عروض التجارة.
    وسيأتي إن شاء الله تفصيله وبيانه في موضعه، والله تعالى أعلم.
    (92/12)
    ________________________________________
    معنى التمول

    السؤال
    قلتم: من مر ببستان فله أن يأخذ ما تساقط من الثمر، إلا أن يتمول، فما معنى قولكم: يتمول؟

    الجواب
    يقول بعض العلماء: يتمول أي: يأخذ معه، واغتفر بعض أهل العلم التموُّل وقال: إنه يجوز له أن يأخذ ما تساقط متمولاً أو آكلاًُ، يعني: يستوي أن يكون للأكل أو للتمول، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما في الصحيح- كان له مالٌ في خيبر، فقال: يا رسول الله! إنها أحب مالي، فما تأمرني؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقفها وأن يحبس الأُصول وأن يتصدق بالثمرة، فتصدق بها على ابن السبيل غير متمول، يعني: أن لا يتمول منها، بمعنى: أن يأخذ بلغته وكفايته في طريقه ولا يأخذ ذلك على سبيل الارتفاق معه زائداً عن حاجته التي يأكلها أثناء الأخذ من تحت النخل، والله تعالى أعلم.
    (92/13)
    ________________________________________
    حكم الالتقاط من بساتين مكة

    السؤال
    هل يختلف الحكم في مسألة الالتقاط في مكة، أثابكم الله؟

    الجواب
    بالنسبة لمكة لا يختلف الحكم، من كان عنده بستان في داخل مكة ودخله إنسان يجوز له أن يأخذ؛ لأن هذا ليس باللقطة؛ لأنها في ملك الغير وصاحبها معروف، وهذا حكم شرعي أشبه بهبة شرعية في مال الإنسان، ليس لها علاقة باللقطة، اللقطة تكون مالاً ضائعاً لا يُعرف صاحبها، وأما هذا فهو مالٌ معروف وصاحبه معروف، وإنما هو حق واجب على الإنسان لأخيه المسلم عند وجود حاجته، والله تعالى أعلم.
    (92/14)
    ________________________________________
    حكم من مات وعليه زكاة ودين لا يكفي ماله لسدادهما معاً

    السؤال
    إذا توفي رجل وعليه زكاة ودين، فأيهما يقدم إذا كانت التركة لا تكفي لسدادهما معاً، أثابكم الله؟

    الجواب
    هذه المسألة تُعرف بمسألة ازدحام الحقوق، فإذا ازدحم حق لله وحق للعباد، قدم حق المخلوق على حق الله عز وجل، وهذا من جهة أن الله عز وجل حقوقه مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة والمقاصة، وذلك أن الشريعة قدّمت حقوق الأنفس والآدميين على حق الله عز وجل، ولذلك إذا أصابت الإنسان المخمصة وهو في سفر أو في غربة أو في مكان ما، أصابته المخمصة فإن حق الله أن لا يأكل من الميتة، وقد حرم الله الميتة، فإذا خاف على نفسه جاز له أن يأكل منها إنقاذاً لنفسه، وأخذ العلماء من هذا وأمثاله من أحكام الشريعة أصلاً؛ وهو أنه إذا ازدحم حق الله وحق المخلوق قدِّم حق المخلوق؛ لأن المخلوق يطالب بحقه، والله عز وجل كريم يرحم عبده إذا ضاقت يده، أو فاته الوقت عن الأداء أو وُجد عنده العذر، ولذلك قالوا: إذا ازدحمت الزكاة والدين يقدَّم حق الدين على الزكاة، ويخرج من المال الديون، فإذا فضل فضل أخرج في زكاته، وهكذا إذا كانت عليه كفارات وحقوقٌ أخرى، فإنه يُخرج منها بعد أداء ديون العباد، والله تعالى أعلم.
    (92/15)
    ________________________________________
    حكم دفع المرأة زكاة حليها إلى زوجها

    السؤال
    أريد أن أخرج زكاة الذهب والحلي الذي يلبسه أهلي، وأنا رجل عليَّ ديون، هل يجوز لي أن أسدد ديوني من مبلغ الزكاة، أثابكم الله؟

    الجواب
    بالنسبة لدفع الزكاة إلى الزوج فيها وجهان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: فمن أهل العلم من يقول: يجوز دفع الزكاة من الزوجة لزوجها، لحديث زينب رضي الله عنها وأرضاها لما: استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود، ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته أنها تريد أن تتصدق، وأن أبناء عبد الله بن مسعود في ضيعة وحاجة، فأمرها أن تتصدق عليه، وأن الصدقة عليه لها فيها أجران: صلة الرحم، والصدقة.
    قالوا: إذا كان هذا أصلاً يدل على أنها إذا بذلت لزوجها أنها متصدقة، ولو كانت في النفل، فإنه يدل على أنه يجوز صرف الزكاة إلى الزوج، وبناءً على ذلك قالوا: يجوز أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهذا القول أقوى القولين.
    وقال بعض العلماء: لا يجوز للزوجة أن تدفع زكاتها لزوجها؛ لأنها ستستفيد من الزكاة؛ لأنه سينفق عليها.
    والذي يظهر كما ورد في السؤال أنه إذا كان الزوج مديوناً ومحتاجاً، ولم تحابه المرأة يجوز أن تدفع زكاة حليها إليه.
    والله تعالى أعلم.
    (92/16)
    ________________________________________
    كيفية إخراج زكاة العقارات

    السؤال
    رجل لديه مال واستثمره في شراء العقارات من أراض وغيرها، وذلك بقصد المحافظة على رأس ماله من إنقاص الزكاة له، هل عليه شيءٌ في ذلك؟ وما الحكم إذا كان المال ليتامى، ويقصد بذلك المحافظة على مالهم كما هو، جزاكم الله خيراً؟

    الجواب
    هذا المال الذي يشتري به العقارات ويبيعها، إذا اشترى الأرض وعرضها للتجارة فالأرض تجب زكاتها إذا باعها، فلو اشترى أرضاً ومكثت عشرين سنة لم تبع ثم باعها بعد عشرين سنة فعليه أن يزكيها لسنة واحدة، وبهذا القول قال سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكذلك قال به عروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت، واختاره إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس، وقال به بعض فقهاء الشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع.
    وبناءً على ذلك إذا اشترى الأرضين، فكل أرض يعتبر فيها الزكاة إذا باعها، إذا تمت لها سنة كاملة وهي معروضة للتجارة، فلو مكثت سنوات زكاها لسنة واحدة للأصل الذي ذكرناه، ولا تجب الزكاة في عين المال، وهناك فرق بين عرض التجارة بالعقارات، وعرض التجارة بالمنقولات، فعرض التجارة بالعقارات أشد لما فيه من الضيق والحرج الذي نفى الله عز وجل وجوده في الشريعة، فإن الرجل ربما عرض أرضه وهي تساوي الملايين ثم يبيعها بعد عشر سنوات بمائة ألف، وهو طيلة هذه العشر السنوات يزكيها على أن قيمتها الملايين، ثم بعد ذلك تنزل إلى هذا السعر وهذا موجود، ربما كانت الأرض في مكان وعليه الطلب والرغبة والإلحاح، فتبلغ الملايين والأسعار الخيالية، فيدفع زكاتها، ثم يشاء الله عز وجل أنها تنزل حتى تباع بالشيء الزهيد اليسير، وقد وقع هذا.
    وأعرف رجلاً من القرابة كانت أرضه تساوي تسعة ملايين ثم وصلت إلى عشرة، وما زال على ذلك قرابة عشر سنوات أو أكثر، ثم باعها بما يقارب المليون وشيء يسير، فلو أنه طيلة العشر سنوات وهو يزكي ربما يخرج قيمتها قبل أن يملك القيمة التي سيبيعها به، فالحرج موجود والمشقة حاصلة، وأفتى هؤلاء الأئمة من السلف من التابعين كـ سعيد بن المسيب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعروة بن الزبير، كلهم يقولون: إنه يزكيها لسنة واحدة، وذلك بعد قبضها، ولا تجب عليه الزكاة طيلة هذه السنوات.
    وأموال اليتامى تجب فيها الزكاة على الصحيح، وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) وهو مذهب جمهور العلماء.
    (92/17)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة الحبوب والثمار [2]
    ما سقي من الحبوب والثمار بالمئونة ففيه نصف العشر، وما سقي بلا مئونة ففيه العشر، وتجب زكاته إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر.
    وما وجد مدفوناً من عهد الجاهلية ففيه الخمس، وهو ما يسمى بالركاز.
    (93/1)
    ________________________________________
    إيجاب العشر فيما سقي بلا مئونة
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [فصلٌ: يجب عشرٌ فيما سقي بلا مئونة].
    شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل ببيان المقدار الذي أوجب الله عز وجل في زكاة الحبوب والثمار، فبيّن أنه العشر، والعشر هو الواحد من العشرة، والأصل في ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيما سقت السماء العشر).
    وهذا يدل على أن الحبوب والثمار تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما كان سقيه بمئونة.
    القسم الثاني: ما كان سقيه بغير مئونة.
    والمئونة: مأخوذة من المئن وهو التعب والنصب، وقالوا: (ما سقي بمئونة) أي: بتعب ونصب، وذلك هو شأن المزارع في غالب أحوالها، أنها تفتقد إلى خروج الماء واستنباطه من الأرض، ثم بعد ذلك توزيعه وتقسيمه على الأماكن التي يراد سقيها، فهذه مئونة وتعب وكلفة ومشقة، ويشمل ذلك ما كان بالآلات القديمة كالسواني ونحوها، وما كان بالآلات الحديثة كالمكائن الزراعية ومضخات المياه، فإن الإنسان إذا سقى بها يعتبر في حكم من سقى بما فيه مئونة ومشقة، وإذا كان الزرع يسقى بالمئونة والمشقة ففيه نصف العشر، وأما إذا كان يسقى بغير مئونة وهو القسم الثاني الذي لا تعب فيه، والمراد به ما تسقيه العيون والسيول، وما تسقيه الأمطار من السماء، فهذا لا مئونة فيه ولا تعب بالنسبة للماء، ولا مشقة في استنباطه واستخراجه، فجعل الله الزكاة الواجبة فيه العشر، أي: يجب إخراج عشره صدقة للفقراء والمساكين الذين سمى الله عز وجل من المستحقين، ولا شك أن الذي فيه المشقة والتعب أعظم كلفة من الذي لا مشقة فيه ولا تعب.
    والذي يُسقى بدون مئونة، وهو الذي تسقيه العيون والسيول والأنهار ففيه تفصيل، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يحتاج إلى معالجة ما، وذلك بتحويله إلى مكان الزرع، ووجود مشقة في رفعه إلى ذلك المكان، فمن أهل العلم من قال: كل ما سقي بالسيول ما دامت تصيب الأرض -وكذلك العيون والأنهار- فلا كلفة فيه ولا مشقة، والواجب على صاحبه العشر، سواءً حوّل الماء وجعله في سواقٍ وتكلّف السواقي، أو أن الماء بنفسه سرى على الأرض كالرياض المعروفة في البادية، يجعلونها على أماكن جريان السيل، أو في شرائع الجبال، فهذه لا مشقة فيها؛ لأن الماء سينزل وسيصيب هذه الأماكن التي بُذر فيها الحب، فعند هؤلاء العلماء يستوي أن يكون السيل قد أصاب الأرض مباشرة، أو أدخلته أنت إلى الأرض فتكلفت في إدخاله، بأن تكون قد جعلت له حاجزاً أو صخرة يصطدم بها ثم يدخل إلى مزرعتك، فبعض العلماء يفرِّق بين الذي سقي من السماء، والذي يحتاج إلى معالجة بالسيل والأنهار، فيقول: هذا مئونة ومشقة، فيكون فيه نصف العشر.
    والصحيح: أنه لا فرق؛ لأنه سقته السماء، وداخل فيما سقته السماء.
    وأما ما سُقي بالنضح -كما ورد في الحديث- فهذا فيه كلفة ومشقة، ومعناه: أنه يستنبط الماء ويتكلف إخراجه، هناك حالة تستثنى من السيول والأنهار، وهي حالة المضخات المائية الموجودة الآن، فإذا احتاج المزارع لوضع مضخة على السيل من أجل أن يجذب بها الماء خفِّف عنه في الزكاة؛ لأنه في حكم النضح، أما لو دخل السيل بنفسه أو دخل بمعالجة، فإنه لا يصدق عليه أنه مما فيه المشقة، وإنما يجب فيه العشر، وعلى هذا ففرِّق بين ما سقي بمئونة ومشقة وتعب وبين ما سقي بدون مئونة ومشقة وتعب؛ وهذا يدل على سماحة الشريعة، ورحمة الله عز وجل بعباده، وحكمته في تشريعه جل شأنه؛ لأن الذي فيه المشقة سيحتاج الإنسان إلى كلفة من المال والجهد والوقت، ولذلك يكون حظه من زرعه أقلّ لو قلنا: عليه العشر، ولكن الذي لا كلفة فيه ولا مشقة فإن الأوجه أن يكون حظ الفقراء فيه أكبر، وهو نصاب العشر كما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم.
    (93/2)
    ________________________________________
    إيجاب نصف العشر فيما سقي بمئونة
    قال رحمه الله: [ونصفه معها].
    أي: مع المئونة والكلفة والمشقة، سواء كانت بالسواني القديمة، أو كانت بالدلو والرشاء القديم، أو كانت بالمضخات الموجودة الآن من المكائن الزراعية وآلات الضخ، كل ذلك يعتبر مما فيه مئونة ومشقة، فيجب عليه نصف العشر، أي: نصف عشر ما يخرجه.
    فلو أن إنساناً ملك أرضاً يصبها المطر والسيل -وهي التي تسمى في العرف بالرياض التي تكون في البادية- فزرعها فأخرجت له -مثلاً- ألف صاع من الحب، فإذا كان قد زرعها وأصابها الماء من قطر السماء بدون كلفة ولا مشقة ولا مئونة، أوجبنا عليه عُشْر ألف صاع أي: مائة صاع، نقول: عليك مائة صاع كزكاة، وتسعمائة صاع لك، هذا بالنسبة للواجب.
    وبعض العلماء: يعتبر التخفيف على الأصل الذي ذكرناه، يسقط عنه الثلث أو الربع، ثم بعد ذلك يحسب الزكاة من السبعمائة والخمسين التي تعادل ثلاثة أرباع ما أنتجته الأرض، ويوجب عليه عشرها، فإذا كان يخرج ألف صاع، يقول: نسقط عنه ثلث ما تخرجه أرضه أو الربع كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرصتم فدعوا الثلث وإلا فالربع)، أقلّ ما يترك هو الربع، فربع الألف مائتان وخمسون صاعاً، ثم بعد ذلك من السبعمائة والخمسين الباقية يُخرج عشرها وهو خمسة وسبعون صاعاً.
    (93/3)
    ________________________________________
    مقدار الزكاة إذا سقي الزرع بمئونة تارة وبدون مئونة تارة أخرى
    قال رحمه الله: [وثلاثة أرباعه بهما].
    وثلاثة أرباع العشر إذا كان يسقى بالمئونة وبدون مئونة، وهذا إذا كان نصف السنة، مثلاً: إذا كانت هناك الأمطار والسيول، فترك الأرض للأمطار والسيول فسقتها، فمضت ستة أشهر وهي تسقى بالأمطار والسيول والأنهار، أو تكون هناك عين تجري ستة أشهر وتنقطع، فهذه الأرض نصف السنة تسقى بدون مئونة، ثم النصف الثاني يكون سقيها بالآلات والمكائن الزراعية؛ إذا جئنا ننظر إلى وجود المئونة فهي نصف السنة، وإن جئنا ننظر إلى فقد المئونة وعدم وجودها فهو نصف السنة كذلك، وليس لأحدهما أغلبية على الآخر، فقالوا: نوجب عليه العشر في النصف الأول من العام، فيكون حينئذٍ ثابتاً في ذمته هذا العشر في الستة الأشهر الأولى، ثم الستة الأشهر الأخرى نوجب عليه نصف العشر، فيكون عليه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنك إذا حسبت في نصف العام الأول العشر ونصفه نصف العشر، وحسبت في نصف العام الثاني نصف العشر ونصفه الربع، أصبح المجموع ثلاثة أرباع.
    مثال ذلك: لو كان عنده مثلاً ألف صاع، هذه الألف صاع سُقي منه نصف عام بدون مئونة، الستة الأشهر الأولى، وسقي الستة الأشهر الأخرى بمئونة، فالواجب حينئذٍ نقول: عليه العشر في نصف العام الأول، وعليه نصف العشر في نصف العام الثاني، وحينئذٍ يكون ثلاثة أرباع العشر واجباً عليه؛ لأن العشر لم يستتم في نصف العام الأول، فيكون عليه حينئذٍ نصف العشر؛ لأن نصف العام إذا كان العام كله فيه عشر، فنصف العام فيه نصف العشر، ثم النصف الثاني عليه نصف العشر، ولم يستتم عاماً كاملاً فعليه ربع العشر، فحينئذ نصف العشر وربع العشر يصبح حينئذٍ ثلاثة أرباع العشر، فإذا نحن كنا قلنا: عليه ألف صاع فيه مائة صاع منها، وإذا قلنا: عليه نصف العشر فعليه خمسون صاعاً، والواقع نصف العشر لأنها نصف عام، فعليه حينئذٍ الخمسون، ثم تنتقل إلى النصف الثاني الذي فيه المشقة والعناء، فعليه نصف العشر، ونصف العشر خمسون، ولما كان نصف عام توجب عليه نصفها وهو خمس وعشرون صاعاً ثم تضيف الخمسة والعشرين إلى الخمسين ليصبح المجموع خمساً وسبعين صاعاً.
    [فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً].
    إن كان أكثر انتفاع النخل بالمئونة فنحسب نصف العشر، وإن كان أكثر انتفاع النخل بالسقي بلا مئونة وهو سقي الأنهار والسيول والعيون، فحينئذٍ عليه العشر، فينظر إلى ما هو أكثر نفعاً، هذا إذا تفاوتت بحيث لا يمكن أن ينضبط، إذا ضبطنا الأول بنصف العام وضبطنا الثاني بنصف عام فلا إشكال، فتعطي لكلٍ نسبته، أما إذا لم ينضبط، فينظر إلى أكثرهما نفعاً فحينئذٍ يغلَّب، والحكم للأكثر، والنادر لا حكم له.
    [ومع الجهل العشر].
    إذن عندنا عدة أحوال: إما أنه يسقى بالنضح والمئونة والمشقة ففيه نصف العشر بلا إشكال، وإما أن يكون يسقى بلا مئونة ولا مشقة ففيه العشر بدون إشكال، وإما أن يكون مشتركاً بينهما معلومٌ نصاب كل واحد منهما كنصف ونصف، فحينئذٍ لهذا نصفه ولهذا نصفه، وإما أن يتفاوتا فالنظر إلى ما هو أكثر نفعاً، وإما أن يُجهل الحال -وهي الحالة الخامسة- بمعنى: لا نستطيع أن نعرف لا أكثرهما نفعاً ولا نعرف مقدار النضح، ولا نستطيع أن نميز ما هو بدون نضح، فحينئذٍ يرجع إلى العشر، وهذا مرده إلى الأحظ للفقراء؛ لأن الزكاة مبنية على حق لله عز وجل أوجبه للفقراء والضعفاء، فغلِّب حق الفقراء على حق الأغنياء، ولذلك قالوا حينئذٍ: إذا كان لا يدري ننتقل إلى العشر ونوجب عليه زكاة عشر ماله.
    (93/4)
    ________________________________________
    وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار
    قال رحمه الله تعالى: [وإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة].
    قد بيّنا أن اشتداد الحبوب من علامة بدو الصلاح، فالحب أول ما يكون يكون ليناً في سنابله، ثم يبدأ يشتد، فإذا اشتد وابيضّ -كما في رواية الصحيح- بدا صلاحه وجاز بيعه حينئذٍ، أما قبل الاشتداد فلا يجوز البيع ولا يحكم ببدو صلاح، فإذا اشتد الحب يبعث الإمام الخُرَّاص، والخارص: هو الشخص الذي له خبرة في الحبوب والنخيل، بحيث ينظر إليها ويعلم مقدار ما فيها عن طريق التجربة على سبيل التقريب، فيقول: هذا النخل فيه مثلاً ألف صاع، ويبيِّن أو يقدر ما على كل نخلة، وهذا راجع إلى الخبرة وكثرة الابتلاء في هذا العمل، فذلك يجعل الإنسان من السهل عليه أن ينظر إلى النخلة، ويعلم ما بها.
    والدليل على مشروعية الخرص: ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر)، وخيبر لما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم كان بها اليهود، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإذا بها أرض زرع، فالصحابة سيرجعون معه إلى المدينة، ولا شك أن هذا الزرع سيتلف ويهلك، فلا هو استفاد منها، ولا استفادت يهود، فسألوه أن يتركهم في هذا النخل يعملون فيه ويصلحونه حتى يثمر، وإذا أثمر قسمت الثمرة بينه عليه الصلاة والسلام وبين اليهود، فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقي أهل خيبر على الشطر -وهو النصف، فيكون لهم نصف الثمرة وللنبي صلى الله عليه وسلم نصف الثمرة- فكان يبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه لكي يخرص نخل خيبر) يخرص بمعنى: أنه يحدد كم في هذا النخل من الآصع، ثم يخلى بين اليهود والنخل- فيدفعون النصف الذي تبين أن نصف النخل على قدر ما بيّن عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل في مشروعية الخرص، والعلماء مجمعون على مشروعية الخرص، وأنه إذا بدا الصلاح يبعث الإمام الولي من يخرص للناس نخيلهم وحبوبهم، ليقدر المقدار الذي أوجب الله وفرض في نخيلهم وحبوبهم.
    قال: [وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح].
    قوله: (اشتد الحب) علامة خاصة، وقوله: (بدا الصلاح) علامة عامة، ونحن بيّنا العلامات الخاصة والعلامات العامة في بدو الصلاح، فالحبوب والثمار إذا بدا صلاحها ينظر كم يحمل هذا النخل أو هذا الزرع من الحبوب والثمار ويحسب ويقدر، ثم يخلى بين الناس وبين الحبوب والثمار ينتفعون بها، فيترك لصاحب البستان بستانه، أن يأكله بلحاً ورطباً وتمراً، وأن يبيع وأن يتصدق وأن يهدي، يخلى بينه وبينه، حتى إذا انتهى وجذ جاء إلى الولي بالمقدار الذي حدد في زكاة المال، فيأتي الخارص ويخرص النخيل والحبوب والثمار والعنب وغيره، وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه ليخرص العنب والنخيل) فهذا كله يدل على مشروعية الخرص عند بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وحدد المقدار الواجب يترك الناس، يقال لهم: هذا نخلكم وهذا زرعكم افعلوا به ما شئتم، وإنما يجب عليكم أن تُخرجوا من الزكاة قدر كذا وكذا.
    قال المصنف رحمه الله: [ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر].
    (ولا يستقر الوجوب) بمعنى: لا ويطالب الفلاح (إلا بجعلها) أي: بجعل الثمار والحبوب (في البيدر) وهو المكان الذي تجلب إليه الثمرة.
    والتمر إذا جُذَّ يكون فيه شيء من اللين، فيحتاج إلى أن يشمّس، فيبسط في مكان يسمى بالبيدر، فهذا المكان تضربه فيه الشمس حتى يقوى ويشتد؛ لكي يصلح لاختزانه، وكذلك أيضاً لكنزه في الآلات التي يكنز فيها، أما لو أُخذ قبل ذلك من النخلة مباشرة ووضع في الآلات فربما فسد فلم يصلح للأكل، ولذلك يحتاج إلى أن يشمس، فهذا البيدر هو المكان الذي يشمس فيه.
    وأما الحبوب فإنها تحتاج بعد أن تُجَذ إلى أن توضع ثم تفرش وتصفى، وبعد ذلك ينتفع الناس بها، وتخرج لأجل أن تكون في مصالحهم فيطعمونها ويرتفقون بها.
    فقبل جلبها إلى هذا المكان لا يستقر الوجوب على أحد قولي العلماء رحمة الله عليهم، منهم من قال: العبرة بالجذ، فإذا جذ، وجبت عليه الزكاة، واستقرت في ذمته؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر الله عز وجل بإيتاء الحق عند الحصاد وحين الحصاد، ولذلك يجب عليه ذلك.
    [فإن تلفت قبله بغير تعدٍّ منه سقطت].
    وهذا بناءً على القول الذي يَشْتَرِط أن تكون في البيدر، فهذا القول الذي يشترط هذا الشرط لا يطالب صاحب النخل بالزكاة ودفعها إذا تلفت قبل وضعها في البيدر، ولكن بشرط أن لا يفرط، فإن فرّط ضمن، فإذا أصابتها الآفة قبل جلبها إلى البيدر -ما بين الجذاذ وبين جلبها إلى البيدر- فأصابها إعصار وتلفت أو أصابها غرق -جاء السيل وأغرقها- فحينئذٍ لا يلزمه الضمان، فلا تجب عليه الزكاة، ولا يطالب بدفعها، هذا حسب القول الذي يشترط لاستقرار الوجوب أن تجلب للبيدر.
    أما على القول الثاني فإنه بمجرد جذِّه يعتبر في حكم الآخذ لها، وحينئذٍ إذا تأخر في دفعها للمستحقين يتحمل المسئولية.
    والأولون يقولون: كيف يدفعها للوالي وهي لم تستصلح بعد ولا يمكن أن يكيلها إلا بعد أن توضع في البيدر وتشمّس ثم بعد ذلك تُكال، ويمكن أن تخرج للناس؟! وهذا القول للجمهور رحمة الله عليهم، وهو من جهة النظر أقوى وظاهر التنزيل على القول الأول له وجهه، وبناءً على ذلك يقولون: إذا تلفت من غير تعدٍ لم يضمن، وإن تلفت بتعدٍ ضمن.
    وتلفها بتعدٍ كأن يأتي ويجذ الثمرة ثم يضعها في بيدر مكشوف أمام الناس، ومزرعته مفتوحة لكل من أراد أن يدخل، فجاء السارق وأخذ الثمرة؛ فهذه السرقة وقعت بتعدٍّ وتفريط منه، فإذا فرّط وتعدى أُلزم بعاقبة تفريطه، فيجب عليه ضمان الزكاة، ولا تسقط عنه الزكاة على هذا الوجه لأنه فرّط.
    (أو تعدى) أي: تعاطى أسباب الفساد، كأن يرسل الماء عليها، أو يضعها في الشمس على طريقة يفسد بها التمر، فحينئذٍ نقول: أنت الذي تعديت فتُلزم بما فعلت من التعدي، وتجب عليك الزكاة، فيشتري غيرها ويدفعها زكاة بالمقدار الذي وجب في ذمته.
    (93/5)
    ________________________________________
    حكم إيجار الأرض للزراعة
    قال المصنف رحمه الله: [ويجب العشر على مستأجر الأرض دون مالكها].
    إذا تبينت هذه الأحكام من وجوب العشر ووجوب نصف العشر، فالنخل والزرع لا يخلو من حالتين: إما أن تكون الأرض والزرع ملكاً للإنسان، فحينئذ لا إشكال، والكلام الذي مضى منصبٌّ على صاحب الأرض بما أنتجت أرضه من حبوب وثمار.
    الحالة الثانية: أن تكون الأرض لشخص، والزروع والثمار لشخص آخر، ومن أمثلة هذه الحالة أن يقول لك رجل: أجرّني هذه الأرض عشر سنوات، وهذه هي مسألة إجارة الأرضين للزراعة، وهي مسألة اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها هل تجوز إجارة الأرضين للزراعة، أو لا تجوز إلى ثمانية أقوال مشهورة: القول الأول: التحريم مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يؤاجرها) وهو حديث جابر في الصحيح.
    وهذا القول الذي يقول به الظاهرية قول ضعيف، وإن كان الحديث صحيحاً لكنه منسوخ؛ لأنه كان في أول الأمر حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان بالمهاجرين ضيق في اليد وكانوا في فقر وشدة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له أرض فليزرعها -أي: بنفسه- أو ليُزرعها أخاه -أي: يمكِّن أخاه من زراعتها- ولا يؤاجرها)، يعني: لا يؤجرها على أخيه المسلم، وهذا تعظيم لأخوة الإسلام وتقديم لها على مصالح الدنيا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمه إلى المدينة عن المؤاجرة، ثم رخص فيها كما جاء في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه في الصحيحين.
    القول الثاني: تجوز إجارة الأرضين مطلقاً، وبه قال بعض السلف رحمة الله عليهم، وهذا القول يحتج بحديث رافع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) ثم بيّن رافع سبب هذا النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس) ما معنى هذا الحديث؟ أراد رافع أن يبيّن السبب في النهي عن زراعة الأرضين غير النهي الأول؛ لأن النهي وقع على صورتين: الصورة الأولى: النهي المطلق الذي اشتمل عليه حديث جابر في مقدمه عليه الصلاة والسلام على المدينة، وهو نهي متجه إلى الأنصار الذين كانوا يملكون أرض المدينة.
    والنوع الثاني من النهي: جاء لصورة مخصوصة من الإجارات، كان الرجل يقول للرجل: خذ أرضي وازرعها، فما يخرج من زرع بجوار الماذيانات وأقبال الجداول -والماذيانات هي التي تسمى الآن القناطر والجداول التي يجري فيها الماء- فهو لي؛ فمن ذكاء صاحب الأرض يعلم أن الذي بجوار الماء يعيش، وأن الذي هو بعيد عن الماء قد يعيش وقد لا يعيش، لمكان العطش والظمأ؛ وحتى لو عاش يكون أقلّ نتاجاً وأضعف، فلذلك يشترط رب الأرض أن يكون له الزرع الذي يكون على الجداول، ويكون للذي يستأجر ما هو بعيد عن الجداول، وفي هذا ظلم وغرر، فهو يتضمن محظورين شرعيين: المحظور الأول: الظلم؛ لأن هذا المسكين يتعب باستصلاح الأرض ثم يَسْلَم الذي لغيره ويهلك الذي له، فهذا من الظلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله؟) فهذا المؤجر -صاحب الأرض- يستغل تعب المستأجر -العامل في الأرض- وكدّه ونصبه ويأخذ من حبّه دون أن يستفيد الآخر شيئاً إذا لم يسلم البعيد.
    ثانيا: أنه من الغرر، كما قال رافع في نفس الحديث: (فيسلم هذا ويهلك هذا) والغرر هو المخاطرة؛ مأخوذ من: غرر فلان بفلان إذا خاطر به وعرّضه للخطر، فيقولون: (يسلم هذا ويهلك هذا) كأن رب الأرض يغرر بالمستأجر، فيجعله يستأجر على رجاء أن يجد مصلحة ولا يجد مصلحة، لكن رب الأرض يستفيد المصلحة.
    فأصحاب القول الثاني الذين يجوزون مؤاجرة الأرضين يحتجون بحديث رافع، ولكن الحديث لا يدل على قولهم؛ لأن القول أعم من الدليل، وإذا كان الدليل أخصّ من القول أو القول أعمّ من الدليل فحينئذٍ لا يصلح الدليل دليلاً لإثبات القول كله، وإنما يصلح في حدود ما ورد به الدليل، فحديث رافع يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس).
    (بشيء معلوم) أي: محدّد.
    القول الثالث: تجوز إجارة الأرضين إلا بجزءٍ مما يخرج منها؛ بمعنى: يجوز أن يؤجر الأرض بالذهب والفضة، أما بالطعام الذي يخرج منها فلا يجوز؛ لأنه إذا كان بجزءٍ مما يخرج منها، فإنه يعتبر من باب الغرر؛ لأنه لو قال له: هذا النصف لي والنصف الثاني لك، يحتمل أن يسلم هذا ويهلك هذا، وتقع الخصومة بينهما، فمنعوا من ذلك، وهذا القول يضعف على حديث المزارعة؛ لأن المزارعة تكون في الجزء المعلوم من الأرض.
    والقول الرابع: أنه تجوز إجارتها إلا بالطعام، يجوز إجارتها بكل شيء إلا بالطعام، سواء كان منها أو من غيرها؛ والسبب في ذلك يقولون: إنه ربا؛ لأنه إذا استأجر الأرض وقال: أعطيك مائة صاع أو أعطيك مائتي صاع، فإنه حينئذٍ قد باع الطعام بالطعام، لأن حقيقة الأمر أنه استفاد من الأرض ألف صاع، وأعطاك في مقابلها مائتي صاع، فباع الطعام بالطعام نسيئة ومتفاضلاً، فقالوا: لا يجوز.
    القول الخامس: أنه تجوز إجارتها بالنقدين فقط، وهذا القول هو من أقوى الأقوال، وهو الذي عناه رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيءٍ معلوم فلا بأس به) وذلك لزوال العلة التي سبقت الإشارة إليها في الأقوال المتقدمة.
    وهناك أقوال ضعيفة، لكن هذه هي أشهر الأقوال المعتمدة على النصوص.
    إذا ثبت هذا فإن استأجر رجلٌ من رجلٍ أرضاً وقال: يا فلان! هذه الأرض لا يخلو الاستئجار لها من حالتين: إما أن يستأجرها للزراعة، أو يستأجرها لغير الزراعة، إن استأجرها لغير الزراعة فلا إشكال، وإن استأجرها للزراعة ففيه تفصيل عند العلماء: إن كانت الأرض فيها بئر ماء، ويغلب على الظن بقاؤه وبقاء مصالحه، وقصد منها الزرع فيجوز، وأما إذا استأجرها بقصد الزراعة ولم يكن بها بئر ماء، وقال: أحفر إن أخرج الله لي ماءً فالحمد لله، وإذا لم يخرج فأنا أتحمل المسئولية، فهذا من الغرر الذي لا يجوز.
    الخلاصة أنه إذا كان في الأرض ما يعين على زراعتها -وهو وجود البئر أو وجود العين- جازت إجارتها للزرع، فلو استأجرها عشر سنوات، وفي كل سنة يزرع فيها الحبوب، فزرع فيها في النصف الأول من العام وزرع فيها في النصف الثاني من العام، فهل تجب الزكاة على رب الأرض ومالك الأرض أو على المستأجر؟

    الجواب
    تجب الزكاة على المستأجر؛ لأن رب الأرض لم يملك هذا الزرع لا أصوله ولا فروعه، وحينئذٍ الواجب إخراج الزكاة على من ملك الحب أصله وفرعه، وبناءً على ذلك: يجب عليه أن يخرج الزكاة من حبه ونتاجه الذي يتحصّل عليه منه.
    فنقول: المستأجر هو المطالب بإخراج الزكاة، وتجب عليه الزكاة بنفس التفصيل الذي ذكرنا، ومن هنا قال المصنف: (ولا تجب الزكاة على رب الأرض وإنما تجب على المستأجر دون المالك).
    أما في النخل فيتأتى ذلك بأن يؤجره الأرض عشرين عاماً، على القول بجواز إجارتها العشرين عاماً والثلاثين عاماً، فلو استأجرت أرضاً عشرين عاماً وأحببت أن تزرع فيها النخل فيستقيم حينئذٍ الكلام على إجارتها إذا كانت في النخيل، وتقع مسألة إجارة النخيل وإجارة الأرض، وتكون النخيل ملكاً للمستأجر، وحينئذٍ يطالب المستأجر ولا يطالب ربّ المال، فلو زرع فيها نخيلاً عشرة أعوام أو عشرين عاماً وخمسة عشر عاماً، استأجرها وزرع فيها نخيلاً، فإنه حينئذٍ تتحقق مسألتنا، فنقول: إنه تجب الزكاة على المستأجر دون رب الأرض ومالكها.
    [وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره].
    العسل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته مع رجلٍ من أهل اليمن سأله عن عسله.
    أما حديث عمرو بن شعيب فقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يملك عسل نحلٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أد العشور، قال: احمها لي يا رسول الله، فحماها عليه الصلاة والسلام له لما أدى عشورها)، هذا الحديث تكلم العلماء على سنده، فمن قائل بثبوته كالإمام أحمد رحمة الله عليه ومن وافقه، وقوى هذا بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما كتب له عامله عن العسل يسأله فيه، قال: (إن أدوا من كل عشر قرب قربة فاحمها لهم) وهذا يدل على أنه يرى الزكاة فيها بالعشر.
    وجمهور العلماء على عدم وجوب الزكاة في العسل؛ لأنه لم تثبت عندهم أدلة صحيحة، وحديث عمرو بن شعيب عندهم متكلّم في سنده، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، ولأن الذين قالوا بوجوب الزكاة في العسل لم يستطيعوا أن يبينوا دليلاً صحيحاً على تحديد نصاب العسل، أي: القدر الذي إذا بلغه العسل وجبت فيه الزكاة، فبعضهم يقول: ستمائة رطل، وبعضهم يقول: مائة وستون رطلاً، واختلفت أقوالهم، وكلهم ليس عنده أصل صحيح من الكتاب والسنة يحدد نصاب العسل، ومنهم من يقول: فيه العشر بغض النظر عن كونه بلغ أو لم يبلغ، ولذلك يقولون: هذا مما يدل على ضعف القول بوجوب الزكاة فيه.
    ولا شك أن من أدى عشر ما يخرجه النحل من عسله أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، خاصة لما فيه من الاهتداء بسنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
    (93/6)
    ________________________________________
    الركاز وأحكامه
    قال المصنف رحمه الله: [والركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية ففيه الخمس في قليله وكثيره].
    أصل الركز الدفن، ولذلك يقال للرمح: إنه مركوز، إذا دُفِن في الأرض؛ ومعنى رُكِزَ: غُرِز في الأرض ودفن فيها، ويشمل وصف الثبوت، وقد يطلق الرِّكز للصوت الخفي، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98] أي: هل تسمع لهم صوتاً ولو كان خفياً، فهذا أصل الركاز.
    وأما بالنسبة للمراد بالركاز في الشرع فهو دفن الجاهلية، والمراد بذلك ما يعثر عليه من النقود والأموال والجواهر التي كانت لأهل الجاهلية، ويعرف كونها من دفن الجاهلية إذا كانت عليها كتابات جاهلية أو عليها تواريخ جاهلية، فحينئذٍ تعرف بأنها من دفن الجاهلية؛ فيكون فيها الخمس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح: (وفي الركاز الخمس) أُعطي حكم الفيء، ولذلك يجب فيه الخمس ويلحق بالزكاة، ومصارفه مصارف الفيء، وستأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد في مباحث الغنيمة.
    وهذا الركاز يشترط فيه أن يكون من دفن الجاهلية، أما لو وجدنا نقوداً وذهباً وفضة من دفن الإسلام، يعني: في زمان من بعد عصر النبوة، فإنه حينئذٍ يأخذ حكم اللقطة ويسري عليه ما يسري على اللقطة من أحكام.
    فإذا كان عليه أمارات الجاهلية ومن أموال الجاهلية، فإنه ركاز، وفيه الخمس؛ فبمجرد ما يأخذه يُخرج خمسه، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً.
    فاختلف الركاز عن الزكاة بما يلي: أولاً: أنه لا يتحدد بنصاب، والزكاة تتحدد بنصاب.
    ثانياً: مصارفه مصارف الفيء، أما الزكاة فمصارفها هم الذين سماهم الله عز وجل من الأصناف الثمانية، الذين حددهم من فوق سبع سماوات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] وسيأتي إن شاء الله الكلام على هؤلاء الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل في كتابه.
    فبالنسبة للركاز يؤدي الخمس عن قليله وكثيره، فلو حصل على ألف غرام منه، أو حصل على مائة غرام منه فالحكم واحد، بل حتى لو حصل على عشرة غرامات، وهي من دفن الجاهلية، فعليه أن يخرج خمسها ومصرفها مصرف الفيء.
    وذهب بعض العلماء -وهم الحنفية- إلى أن المعادن تأخذ حكم الركاز، والجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- على أن الركاز يختص بدفن الجاهلية.
    الحنفية يقولون: المعادن حكمها حكم الركاز، ويجب عليه أن يخرج زكاتها، فيخرج منها الخمس، سواء كانت ذائبة أو كانت مما يحتاج إلى إذابة أو كانت جامدة، فالذائبة مثل أن يؤخذ الذهب والفضة ويذوّب فيلحق بالركاز وعليه الخمس، والجامدة مثل النورة (الجص) وغيرها مما يكون من المعادن التي تستخرج، فهذه فيها الخمس عندهم.
    والصحيح: أن المعادن لا تأخذ حكم الركاز، وإنما لها حكم مستقل، ولا تدخل فيما سن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وفي الركاز الخمس).
    والركاز يشترط فيه وجود العلامة، أما إذا وجدت فيه علامة الإسلام، أو غلب على الظن أنه من دفن المسلمين، فإنه يأخذ حكم اللقطة، وسنبين هذه الأحكام بالتفصيل في باب اللقطة، وسيأتي إن شاء الله في باب المعاملات.
    [ففيه الخمس في قليله وكثيره].
    (ففيه الخمس في قليله وكثيره)، فلو كان الذي حصل عليه ألف غرام فإننا نوجب عليه خمُس الألف، وهو مائتان من الغرامات، فيجب عليه أن يؤديها، وشأنه في الأربعة الأخماس يفعل بها ما شاء، والركاز يملكه من وجده، فمن وجده في برِّية أو عمران ملكه، فإذا كان في عمران وهذا العمران ملكاً له فحينئذٍ لا إشكال، وإن كان ملكاً لغيره فهو لذلك الغير؛ لأن من ملك أرضاً ملك ما بباطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين) فجعل سافل الأرض تابعاً لأعلاها، وبناءً على ذلك قالوا: يكون لصاحب الأرض.
    (93/7)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (93/8)
    ________________________________________
    إخراج الزكاة مما زرع للعلف

    السؤال
    نحن نزرع الأعلاف للماشية ويأتي فيه الحب ويبلغ النصاب، ولكن نحصد الأعلاف ونعلف بها الماشية وفيها الحب في السنابل، هل يلزمنا الزكاة مع أننا لم نزرع للحب إنما للتعليف، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فتجب الزكاة على من ملك الخمسة الأوسق سواء زرعها لنفسه أو زرعها لدوابه علفاً، وحينئذٍ يجب عليكم إخراج ما أوجب الله من الزكاة على ظاهر الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الزكاة في الحبوب.
    والله تعالى أعلم.
    (93/9)
    ________________________________________
    حكم زكاة السويق

    السؤال
    السويق الذي يحصد قبل أن يشتد حبه ثم يطبخ فيشتد حبه بالطبخ، هل فيه زكاة، ومتى تكون زكاته، أثابكم الله؟

    الجواب
    بالنسبة للسويق إذا جُذ قبل بدو صلاحه وهو قبل الاشتداد، فلا تجب فيه الزكاة، وبناءً على ذلك يكون حكمه حكم الثمرة إذا قطعت قبل بدو صلاحها، فالثمر إذا قطع قبل بدو صلاحه لم تجب فيه زكاة، كأن يقطع ثمرة نخيله علفاً للدواب، أو يقطعها لأجل أن يتقوى النخل، فكل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وعلى هذا فلو قصه قبل بدو صلاحه لم تجب فيه الزكاة، والفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية واضح، وذلك أن الحاصد في المسألة الأولى قد استقر وجوب الزكاة عليه؛ لأنه حينما بدا صلاح الحب واشتد، فإنه وجب عليه أن يؤدي الزكاة، واستقر عليه الوجوب بالحصاد، وأما الحالة الثانية -وهي ما ذكر في السؤال الثاني- فحينما جُذ الثمر أو الحب قبل بدو صلاحه، فإنه لم يخاطب بالزكاة ولم تجب عليه الزكاة أصلاً؛ لأن شرط وجوبها أن يشتد الحب في سنابله، فإذا حصد قبل اشتداده في سنابله، فإنه لا تجب عليه الزكاة.
    والله تعالى أعلم.
    (93/10)
    ________________________________________
    حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف

    السؤال
    إذا وضع الحب في البيدر وتلف بتعدٍ أو غير تعدٍ، فما الحكم، أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا وضع في البيدر وتلف بتعدٍ وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لم يتعدّ ولم يفرِّط فلا ضمان عليه، وقد بينا هذا التعدي، كأن يرسل الماء عليه، أو يتساهل في وضعه على طريقة تؤدي إلى تلف الثمرة، أو يتركه للدواب والهوام، ويكون المكان الذي فيه البيدر فيه دواب وهوام تفسده، فحينئذٍ تعدى؛ لأنه عالم بوجود هذه المفاسد، ولم يتعاط أسباب الحفظ والصيانة، فيلزم بضمان ما تعدى فيه، وأما إذا كان فرّط فالتفريط أن يتساهل في تعاطي الأسباب للحفظ، كما ذكرنا أنه ترك الباب مفتوحاً فجاء السارق وأخذ، أو جعل مزرعته مفتوحة لكل من يدخل ويخرج بدون أن يحفظ الثمرة ويصونها، ويكون البيدر عليه ما يحفظه، فحينئذٍ يلزمه الضمان ولا يسقط ذلك وجوب الزكاة عليه.
    والله تعالى أعلم.
    (93/11)
    ________________________________________
    حكم المزارعة بما يخرج من الثمر

    السؤال
    استأجر رجل أرضاً لزراعتها واتفق مع صاحب الأرض على ربع الخارج من ثمارها وحبوبها، فهل هذا جائز، أم لا؟ وما العمل فيما سبق، أثابكم الله؟

    الجواب
    استئجار الأرض بربع ما يخرج منها أو بنصف ما يخرج منها لا يجوز على أصح أقوال العلماء كما ذكرنا.
    الحلّ في هذه الحالة: إذا استأجر وتمّ العقد، فإن القاعدة في الإجارات الفاسدة أنها تُفسخ إن أمكن الفسخ، بمعنى: أنه يقال لكل منهما أن يجدد العقد، وإذا أمكن ذلك فلا إشكال، أما لو زرع وخرج الزرع ومضت المدة، فالحكم حينئذٍ في القضاء والفتوى أن ذلك يردّ إلى أجرة المثل، فنقول: أنتم اتفقتم على وجه فاسد، فننظر كم أجرتها بالمعروف، فننظر في العرف في هذه القرية والمدينة أو المحلّ الذي فيه الأرض، لو أُجرت أرض مثل هذه الأرض بكم ستؤجر.
    قالوا: كل شهر بألف -وقد مضت ستة أشهر مثلاً- فنقول للمستأجر: ادفع ستة آلاف وهي أجرة المثل، يجب عليك دفعها، وخذ الثمرة كاملة لك، فيكون حينئذٍ ليس لرب الأرض أن يشارك المستأجر في الثمرة، وتكون الثمرة بكاملها للمستأجر، وعليه أن يدفع لرب الأرض أجرة أرضه بالمعروف، ولذلك قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فالعرف يُرد إليه عند وجود ما يقتضي ذلك من الخلل في الإجارات أو فساد عقدها، فنقول: كم مضى من الأشهر؟ قالوا: شهران أو ثلاثة أو أربعة، فنقول: ادفع أجرة هذين الشهرين بالمعروف، فحينئذٍ لا ظلمنا رب الأرض ولا ظلمنا من استأجر الأرض، وأعطينا الأرض حقها، وكان في ذلك تحقيق للمصالح كلها، فالعامل في الأرض استفاد بالأجرة وأخذ حقه، والمستأجر استفاد بحبه الذي زرع في أرضه وما يكون منه من نتاج، وأعطيت الأرض حقها بدون ظلم، وهذا هو عين العدل الذي أمر الله به ورسوله.
    والله تعالى أعلم.
    (93/12)
    ________________________________________
    الخراج بالضمان

    السؤال
    من اشترى بيتاً أو أرضاً ثم وجد فيها ركازاً، فهل هو للبائع، أم للمشتري، أثابكم الله؟

    الجواب
    من اشترى أرضاً أو اشترى بيتاً فوجد فيه ركازاً فالركاز لمن اشترى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أم المؤمنين عائشة عند أبي داود في السنن: (الخراج بالضمان) ومعنى الحديث: أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنه متحملٌ لخسارة أرضه؛ حيث إنه لو تلفت الأرض، أو جاءتها آفة، أو جاءها ضرر، لتحمّل المشتري المسئولية، فكما أنه يتحمل الغرم فله الغنم، والقاعدة في الشرع: أن الغنم بالغرم، تفريعاً على هذا الحديث الذي عمل به وأجمع العلماء على العمل به: (الخراج بالضمان) قال أئمة الحديث: أجمع العلماء على العمل بمتنه، أن الخراج بالضمان، وهي قاعدة الغنم بالغرم، فالذي يشتري أرضاً وبعد عقد البيع بلحظة واحدة افترقا ثم حفر ووجد الركاز، فإنه ملكٌ له، وهو الذي يأخذه ويستحقه.
    والله تعالى أعلم.
    (93/13)
    ________________________________________
    زكاة العسل

    السؤال
    على القول بوجوب الزكاة في العسل، فهل يعتبر الشمع الموجود في العسل في الوزن أم لا، أثابكم الله؟

    الجواب
    يقولون: لا بد من تصفيته من شمعه، وإنما يجب منه بعد تصفيته؛ كالحب لا يجب فيه مع وجود قشره وما يصاحبه، كذلك إنما تجب الزكاة من صافي العسل.
    (93/14)
    ________________________________________
    عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة

    السؤال
    استأجر رجلٌ عدداً من النخل يقوم بتلقيحها والمحافظة عليها في فترة الطلع فقط على عدد من الأقنية، قنوان لكل نخلة، فما الحكم فيها، أثابكم الله؟

    الجواب
    من يعمل في الأرض يسقيها ويؤبرها ويقوم على مصالحها بجزءٍ مما يخرج منها كربع الثمرة ونصف الثمرة، فهذه مساقاة شرعية، والأصل فيها حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها) هذا أصل عند العلماء في مشروعية المساقاة.
    الحالة الثانية: أن يقول له: أبِّر النخل وقم بتأبيره ولك ربع الثمرة، فهذا لا يجوز؛ لأنها ليست بمساقاة شرعية، والمساقاة الشرعية يقول العلماء: إجارة مستثناة من الإجارة بالمجهول، فأصل المساقاة الجائزة استثناها الشرع من الإجارة بالمجهول، وتوضيح ذلك: أن الأصل في الإجارة في الشرع -وهذه قاعدة ينبغي أن يضعها كل طالب علم نصب عينيه- أنه لا بد فيها من تحديد العمل والأجرة، فيحدد العمل وتحدد الأجرة، يحدد العمل بالزمان وبالقدر، فتأتي للعامل وتقول له: اعمل عندي يوماً بمائة في زرع أو بناء، هذه تحدد بالزمان، فاليوم يرجع إلى العرف إن كان العرف ثمان ساعات استحق الأجرة بثمان ساعات، وإن كان العرف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه سيعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرتاح في وقت الراحة بالعرف، هذه إجارة محددة بالزمان، والعمل محدد بالزمان، كذلك تتحدد الإجارة بالمكان بالمسافات وبالأقدار، فتقول له: أستأجرك إلى مكة يعني: توصلني إلى مكة كالسيارات، فهذه إجارة بالمكان، وكما في الصحيحين من حديث عائشة: (استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً) فهذه إجارة للمكان، أنه استأجره لكي يأخذ به مكاناً بعيداً عن الأنظار حتى يبلغ به المدينة، وهذه إجارة محددة بالفعل.
    كذلك أيضاً الأجرة لا بد أن تكون معلومة، فلو قال له: تعال واعمل عندي في العمارة يوماً مثلاً، قال: بكم؟ قال: ما نختلف سنتفق، سيكون الذي يرضيك سيكون الذي يسرُّك ما يهمك، لا يجوز، لماذا؟ لأنها مجهولة، فقد يكون الذي يرضي الرجل عند مالك العمل غير الذي يكون عند المستأجر، فيخدعه، ولذلك يحصل الضرر والفتنة، فيقول له: خذ مائة، يقول: لا، الذي يرضيني مائة وخمسون، أو يقول له: خذ خمسين، فيقول: الذي يرضيني مائة، فتقع الفتنة، والشريعة تريد من كل متعاقد أن يكون على بينة من أمره، فلا بد أن تحدد العمل والأجرة التي ترتبت على العمل، ولذلك جاء في حديث عبد الرزاق في المصنف: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فلا بد أن يكون الأجر معلوماً، وأجمع العلماء على حرمة الإجارة بالمجهولات.
    نحن عرفنا أنك لا يجوز أن تستأجر إنساناً بشيء مجهول، لا على عمل مجهول ولا على أجرة مجهولة، مثلاً: لو قال له: ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، لا يجوز حتى يحدد كم طول الحائط وكم عرضه، وكذلك أيضاً ما هي مواصفاته؛ لأنه لو بناه على طريقة فربما يقول صاحب البيت: كنت أريده على طريقة أخرى، وكنت أريده على وضع آخر، فتقع الفتنة، وكلّما تأملت منهج الشريعة في شروط الإجارات والمعاملات التي تقع بين الناس تجد تشديداً، لكن هذا التشديد حفظ لأموال الناس ولحقوقهم، فلا أحد يظلم أحداً، وكلما طُبقت هذه الشروط الشرعية وجدت الناس في مأمن، وكلٌ يعلم ما الذي له وما الذي عليه، لكن ابحث عن أي خصومة في الإجارات لا تجدها إلا إذا دخلتها الجهالة أو دخلها شيءٌ من الغرر والمخادعة، ولذلك تجد بعض العقود لا تصحح في الشريعة؛ لوجود الدَخَل والجهل.
    لابد أن نفرِّق بين الإجارة والمساقاة، فالمساقاة حينما قال رب الأرض للعامل: خذ نخلي -عنده مائة نخلة- اسقها وقم عليها وأصلحها وأبِّرها، فإذا أخرجت الثمرة فبيني وبينك، نصفها لك ونصفها لي، هذا في الأصل الشرعي لا يجوز، لماذا؟ لأن العمل مجهول، فلا ندري كم مدة الأيام، وكم مدة الشهور، وكم المدة التي سيستغرقها عمل العامل.
    أيضاً: نفس العمل لا ندري كم قدره، المائة النخلة كلها قد تُطلع، وقد يُطلع نصفها، وقد يطلع ثلاثة أرباعها، وقد يطلع الثلث، لا ندري كم القدر، ثم لو أطلعت قد تطلع الجيد وقد تطلع بعدد كثير، وقد تطلع بالعدد القليل، وإذا أطلعت العدد الكثير أو الجيد، لا ندري هل يبقى صالحاً إلى الجذاذ أو لا، فإذاً المسألة كلها مبنية على الغرر، ومن هنا قال العلماء: المساقاة نوع من الإجارات المستثناة من الأصول.
    لأن الأصول تقتضي عدم الجواز، فاستثنيت بقدر الحاجة، إذا ثبت أنه إذا قال له: اسق لي زرعي أو اسق لي النخل ولك نصفه أو ربعه، أن هذا في الأصل لا يجوز ولكن جاز لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً بالمزارعين وبالناس، وكأنه اغتفر وجود الجهالة في العمل لطيبة الأنفس، فهذا شيء ورد النص به.
    هنا مسألةٍ لو قال له: قم على النخل أبِّر نخلي وخذ نصف الثمرة، فحينئذٍ ليست بمساقاة؛ لأن المساقاة قائمة على السقي، وقائمة على تطييب النخل، وإزالة الشوك عن الجريد حتى يتهيأ وضع الأقنية عليه، هو أجره فقط على التأبير، والتأبير شيء واستصلاح النخل بالسقي والقيام عليه شيءٌ آخر، فحينئذٍ رجعت إلى الأصل الذي يقتضي التحريم؛ لأنها إجارة بالمجهول، وحينئذٍ لا يصح هذا النوع من الإجارات، فنقول: إذا قال له: أبِّر النخل ولك نصف ما يخرج وارتفعا إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بفساد الإجارة، ويأتي بأناس من أهل الخبرة، ويقول: قدروا عمل هذا الرجل في التأبير، كم نخلة أبَّر؟ قالوا: مائة نخلة، يسأل أهل الخبرة: كم يكون قيمة تأبير النخلة الواحدة؟ قالوا: كل نخلة تؤبَّر بعشرة ريالات مثلاً، هذه مائة نخلة معناه أن له ألف ريال يقول لرب الثمرة: أعطه ألف ريال ولك الثمرة خالصة، فأخذ العامل حظه، وأخذ رب المال ثمرته، وألغى هذا النوع من الإجارة الفاسدة.
    فإذاً يشترط في صحة الإجارة بجزء الثمرة أن تكون مساقاة شرعية على الصفة المعتبرة، المساقاة الشرعية يتحمل تنظيف البئر واستصلاحه، ويقوم على جلب الماء من البئر سواء عن طريق الدلو أو عن طريق القيام على السواني ومراقبتها، وتشغيل السواني في الأوقات المعتبرة للسقي، ويعطي وجبات النخل بنفس القدر المعتبر في السقي، فإذا قام بالسقي يقوم بعد ذلك بتطييب النخل وتهيئته للطلوع عليه، ثم النخل تكون أعراشه وعراجينه على الجريد، وتحتاج إلى تنظيف الجريد من الشوك حتى يتمكن من جنيه، ثم يقوم على تأبيره، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه لاستصلاح ثمر النخل، أما بالنسبة للإجارة على التأبير وحده فالحكم فيه ما ذكرنا.
    والله تعالى أعلم.
    (93/15)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة النقدين
    الذهب والفضة -وهما النقدان- من الأموال التي تجب فيها الزكاة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة فيهما، ومن الأحكام والمسائل التي تتعلق بالذهب والفضة: حكم إعطاء الأوراق النقدية منزلة الذهب والفضة، وحكم زكاة حلي النساء، وحكم اتخاذ الذهب والفضة للرجال والنساء، وحكم ضم النقدين بعضهما إلى بعض لاستكمال نصاب الزكاة، وغير ذلك من الأحكام.
    (94/1)
    ________________________________________
    حكم الأوراق النقدية
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (باب زكاة النقدين) هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه الأحكام المتعلقة بزكاة الذهب والفضة، وهما المرادان بقوله: (النقدين)، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يفردون لكل نوع من أنواع الزكاة باباً مستقلاً، ولذلك ابتدأ رحمه الله بزكاة بهيمة الأنعام وبيّن أحكامها، ثم أتبعها بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها رحمه الله بزكاة النقدين؛ والسبب في ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لبهيمة الأنعام، وقد أخّر زكاة النقدين في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم، حيث ذكر زكاة الفضة بعد زكاة الإبل والبقر والغنم، ولذلك ناسب أن يرتب المصنف رحمه الله على ترتيب السنة، فابتدأ بزكاة بهيمة الأنعام كما بيّنا، ثم أتبع ذلك بزكاة الحبوب والثمار، ثم أتبعها بزكاة النقدين.
    والمراد بالنقدين: الذهب والفضة، وكان الناس في القديم يتعاملون بهما أصلاً، فكانت الدنانير من الذهب، وكانت الدراهم من الفضة، وما زال الناس يتعاملون بذلك إلى قبل قرنين من الزمان أو قرن ونصف، حيث نشأة فكرة قائمة على المستندات، فكان التجار يسافرون من أماكن بعيدة يخافون في أسفارهم من الغرق وضياع المال، فكانوا يأخذون أوراقاً بالحوالة إلى تجار في الأماكن التي يذهبون إليها، فيسافرون من المشرق إلى المغرب، فيدفعون أموالهم من الذهب إلى رجل في المشرق في البلد الذي هم فيه، يعطيهم حوالة إلى وكيل لهم في المغرب، فيسلمون من ضياع المال في الطريق، وحمل هم حفظه والقيام عليه، فإذا نزلوا بالمكان الذي هم مسافرون إليه وجدوا الوكيل فأعطوه الورقة والمستند، فأعطاهم ما يريدون، فاشتروا تجاراتهم وانتقلوا بها إلى المكان الذي يشاءون.
    ثم توسعت الفكرة من التجار حتى أصبحت شائعة ذائعة بين الناس وفي الجماعات، ثم بعد ذلك أصدرت الأوراق المعروفة المعهودة الآن بالنقد، فأصبحت هذه الأوراق من ناحية شرعية بمثابة المستندات لرصيد صاحبها، وهذا أمر ينبغي لكل طالب علم أن يضعه في الاعتبار، أن الورق بذاته ليس مأموراً بزكاته، ولكن رصيده في الأصل إما ذهب إن كان من الجنيه والدولار والدينار ونحوه، أو فضة كالريال، فلما أعطي هذا المستند نُزِّل منزلة الأصل وسمي باسمه، ولذلك كانوا في القديم يتعاملون بريال الفضة المعروف، ثم أُعطوا بدله المستند المكتوب قائماً مقام هذا الأصل، وبناءً على ذلك فمن الناحية الشرعية هي أشبه بمستند الدين والقاعدة: أن المستندات تأخذ حكم أصولها، أي: أنها تُنزَّل منزلتها إذا تعذر الأصل، فأصبحت من الناحية الشرعية منزّلة منزلة رصيده.
    ولما شاعت هذه الأوراق أصبح البعض يقول: لا زكاة فيها لأنها ورق، وأغفل الأصل -كون رصيدها من الذهب أو رصيدها من الفضة- ولا شك أن هذا يعتبر مرجوحاً وضعيفاً؛ لأنه يفوت حقوق الفقراء والضعفاء، ولذلك ضعِّف هذا القول -كونها ورقاً لا زكاة فيه- وبناءً على ذلك فالفقه يقتضي أن هذه الأوراق يُنظر إلى رصيدها، فإن كان رصيدها من الفضة وجبت عليها زكاة الفضة، وإذا كان رصيدها من الذهب وجبت فيها زكاة الذهب، بناءً على ذلك أصبح الناس يتعاملون بالفرع قائماً مقام الأصل، ويُنظر إلى رصيدها بحسب أصلها، ثم بعد ذلك ألغي الرصيد، وهذا الإلغاء بتعامل عام لا علاقة له بالأفراد، ومن الناحية الفقهية لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه في الأصل إذا أعطى إنسان إنساناً وثيقة عن دين، ثم قال له: ألغيت لك أصل دينك، فإن هذا الإلغاء من الناحية الشرعية واقع في غير موقعه، فلا يترتب عليه حكم، مثال ذلك: لو أن إنساناً أعطيته كيلو من الذهب، ثم كتب لك مستنداً عن هذا الكيلو، ثم قال لك: هذا المستند لا أعترف به، أو ليس لك فيه رصيد، فالأصل الشرعي يقتضي أن رصيده محكوم به شرعاً، وأنه منزلٌ منزلة رصيده، شاء المديون أو أبى، هذا من الناحية الفقهية، إذا ثبت هذا فالإلغاء لا يؤثر في حقيقة الورق، ولا يلغي قيمتها الشرعية، وبناءً عليه تنزل منزلة رصيده، إذا ثبت هذا، فإننا ننظر في كل عملة إلى أصلها، فما كان من الفضة كالريال فأصله فضة، ويحسب نصابه بالفضة بناءً على أن الورق القديم منزلٌ منزلته.
    أما لو قيل بإلغاء الرصيد وأن هذا الورق يُنظر إليه مجرداً، ويجوز التعامل به ولو بالفضل وبالزيادة، فهذا القول فيه نظر من وجوه: الوجه الأول: أنه قائم على إلغاء الرصيد الواقع في غير موقعه؛ لأن الشرع لا يلتفت إلى الإلغاء إلا إذا كان له مستند شرعي، لأنه دين ثابت شرعاً بحكم الشرع، فلو ألغاه المدين لا يؤثر هذا الإلغاء؛ لأنه لا تأثير له في الأصل، وبناءً على ذلك يكون كالمعجوز عنه كما لو جحده الأصل، وهذا الفرع منزَّل منزلة أصله.
    الوجه الثاني: أننا لو قلنا هذا لما وجبت زكاة في ريال، والسبب في ذلك: أن الله لم يأمرنا بزكاة الورق، وإنما أمرنا بزكاة ذهب وفضة، فإذا قلنا: إننا لا نلتفت إلى رصيدها، فلا زكاة فيها، وهذا لا شك أنه يضيِّع حق الله عز وجل، إضافة إلى أن هذا الريال سمي باسم أصله، ولذلك أصله من الفضة فسمي باسمه، فإذا ألغي الرصيد ونُظر إلى الريال مجرداً عن الورق، فإننا لا نلتفت إلى وجوب الزكاة فيه، فلو قال قائل: إن هذا الورق له قيمة في ذاته، فوجبت فيه الزكاة؛ لأن له رواجاً وله قيمة، أُجيب بأن قيمة الورق لا تستلزم وجوب الزكاة فيه، ألا ترى ورق العلم كتب العلم ونحوها، فإن لها قيمة وتباع بقيمة ولها ثمن، ومع ذلك لا تجب فيها الزكاة، وعلى هذا فإنه لا يُلتفت إلى القول بإلغاء الرصيد، وهذا الذي يقوى من جهة النظر، وأن هذه الأوراق منزلة منزلة رصيد، ولو قيل بإلغاء الرصيد وجواز التفاضل بين الريال الورق والريال المعدني لحل الربا نسيئة وفضلاً وزيادة، ووجه ذلك: إذا ساغ لرجل أن يعطي رجلاً مائة ألف من الورق ثم يقول: اقضها لي بالحديد مائتين أو مائة وعشرين، وهذا لا شك أنه فتح للقول بجواز ما حرّم الله عز وجل، وحينئذٍ يتمكن أهل الربا من المراباة دون أن يُحكم بحرمة تعامله؛ لأنه يقول له: خذها ريالاً وردها حديداً، وحينئذٍ يمكنه أن يفاضل ويقع الربا الذي حرم الله عز وجل، ونهى عباده عنه.
    فالذي يظهر أن هذه الأوراق منزَّلة منزِلة رصيدها، وإذا ثبت هذا؛ فإننا نقول: نصابها نصاب الرصيد، وكل ريال منزّل منزلة الرصيد، والحديد المعدني ينزل منزلة الريال الورق؛ لأن كل ريال من الحديد أو الورق إنما هو مقابل لريال من الفضة، فإذا صرفت مثلاً ريالين من الحديد بريال من الورق، كأنك صرفت ريالين من الفضة التي هي في رصيده مقابل ريال من الفضة، وهذا عين ربا الفضل، وعلى هذا فإنه لا بد من تنزيل هذا الفرع منزلة أصله، والحكم بكونها أموالاً منزَّلة منزلة أصولها، فتعتبر الريالات من الفضة، وزكاتها زكاة الفضة.
    أما على القول بعدم الالتفات إلى الرصيد، فهم نظروا إلى قيمتها أعني قيمة الفضة بالورق، فقالوا: إذا أراد أن يزكي فإنه ينظر إلى قيمة ريالات الفضة القديمة بريالات الورق، والواقع أن ريالات الفضة القديمة ينبغي صرفها بريالات الورق مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن ريال الفضة القديم كريال الورق سواءً بسواء؛ لأنه مستند عن أصل واحد، فلو اشترى إنسان ريال فضة قديم بعشرة ريالات من الورق فهو عين الربا الذي حرّم الله، لأنه كأنه صرف عشرة ريالات من الفضة في مقابل ريال من الفضة، وهذا عين الذي نهى الله عز وجل وحرّم، فلا يعقل أننا نقول في الزكاة: انظر إلى قيمة ريال الفضة القديم بالريال الورق؛ لأنه لو قيل بذلك لجازت أصل المعاملة وهي ربوية، وعلى هذا فالذي يظهر أن كل ريال من الورق منزل منزلة رصيده من الفضة، وكل ريال من الحديد والنيكل منزل منزلة رصيده من الفضة بناءً على ذلك فنصاب الفضة له حكم، ونصاب الذهب له حكم.
    (94/2)
    ________________________________________
    الأدلة على وجوب زكاة النقدين
    وزكاة النقدين الأصل في وجوبها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فأمر الله بأخذ الزكاة من الأموال، والذهب والفضة مال، فدخل في هذا المأمور به، وعلى هذا فإنها فريضة من فرائض الله، ودلّت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في كتابه صلى الله عليه وسلم حينما قال: (وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر).
    فدل على أن الزكاة واجبة في الرقة وهي الفضة، والإجماع قائم على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وأنهما من الأموال التي ينبغي تزكيتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، أعني الشروط المعتبرة للحكم بفرضية الزكاة.
    إذاً أوجب الله عز وجل زكاة النقدين، والعلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستوي في ذلك ما كان منها مغشوشاً، وما كان منها خالصاً، وتوضيح ذلك أنهم في القديم كانوا يضربون الذهب دنانير، ويضربون الفضة دراهم، ويحتاج الذهب إلى شيءٍ من المعدن -من النحاس أو الحديد- يتقوى به، ولذلك لا يصفو الدينار ذهباً خالصاً؛ لأن الذهب ضعيف، فإذا كان الدينار مشوباً وفيه غش فللعلماء رحمة الله عليهم في هذه المسألة خلاف، بعض العلماء يقول: الدنانير ينظر إليها بالرواج، فإذا راج المغشوش منها كرواج الذي لا غش فيه وهو الخالص وجبت زكاة المغشوش كزكاة الخالص، مثال ذلك: إذا قلنا: إن خمساً وثمانين غراماً هي مقدار النصاب في الذهب، فإن الذي عنده من دنانير الذهب ما يبلغ هذا الوزن، يجب عليه أن يؤدي منها سواءً كانت مغشوشة أو كانت خالصة، فلا يلتفت إلى وجود الغش؛ لأنها بالرواج، أعني كون الناس يتعاملون بها كتعاملهم بالخالص نزِّلت منزلة الخالص فكأنه لا شائبة فيها، وهذا القول يقول به بعض الفقهاء، كما هو مذهب المالكية رحمة الله عليهم.
    وقال الحنابلة رحمهم الله، ويوافقهم الشافعية: يُنظر إلى الصافي والخالص، فالدنانير إذا كانت مشوبة، لا بد وأن يُنظر إلى خالصها من الذهب، والدراهم إذا كانت مشوبة لا بد وأن ينظر إلى خالصها من الفضة، فلا تجب الزكاة إلا في الخالص منها، فإن نقصت في الخالص عن قدر الزكاة، كأن يكون عنده عشرين ديناراً وفيها مشوب فحينئذٍ لا تجب عليه الزكاة؛ لأنها بالمشوب نقصت عن هذا القدر، وعلى هذا قالوا: إنه يلتفت إلى الأصل، فإذا كانت خالصة وبلغت النصاب وجبت الزكاة، وإن كانت مشوبة ولا يبلغ قدر الخالص منها نصاباً فلا تجب فيها الزكاة.
    ولا شك أن هذا القول الثاني أقوى من جهة النظر والاعتبار؛ لأنه إذا قيل: إن الزكاة وجبت في ذهب وفضة، فينبغي الالتفات إلى الذهب والفضة بذاتها دون ما خلطها من الشوائب.
    (94/3)
    ________________________________________
    نصاب الذهب والفضة
    قال المصنف رحمه الله: [يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما].
    قوله: (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً) هذا هو نصاب الذهب، والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (إذا كان عندك دنانير أو ذهب فبلغ عشرين ديناراً، ففيها نصف دينار)، رواه الإمام الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد، وهذا الحديث حسّن إسناده غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وفيه كلام؛ لأنه من رواية عاصم بن أبي ضمرة عن علي رضي الله عنه، وفيه الكلام المعروف.
    فيقولون: إن الإجماع انعقد على هذا الحديث، أن العشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، ولا شك أن العلماء سلفاً وخلفاً أجمعوا على أن عشرين مثقالاً هي نصاب الذهب، فما نقص عن عشرين مثقالاً لا زكاة فيه، وبناءً على ذلك، قالوا: ينظر إلى وزنها وعِدلها، وعدل عشرين مثقالاً خمسة وثمانون من الغرامات الموجودة حالياً، فإذا بلغ الذهب خمسة وثمانين غراماً فإنه تجب فيه الزكاة، وإذا كان دون ذلك فإنه دون النصاب المعتبر، وهناك خلاف في المثقال، مما جعل الأنصبة عند العلماء تختلف، خاصة مع وجود الشوب في الدنانير القديمة، فبعض العلماء يقول: إنها تصل إلى ستة وتسعين غراماً، والخلاف ما بين خمسٍ وثمانين وست وتسعين غراماً، لكنه بالخالص المحرر هو خمسة وثمانون غراماً، وهو ما يعادل أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنيه السعودي، وهذا هو قدر النصاب من الذهب، والإجماع منعقد على وجوب الزكاة في هذا القدر، وأن ما دونه لا تجب فيه الزكاة.
    قوله: (وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم)، أما بالنسبة للفضة، فربطها النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي درهم، والإجماع قائم على ذلك أن مائتي درهم هي نصاب الفضة، ولا خلاف في هذا من جهة العدد.
    أما من جهة الوزن فخمس أواق، وفيها حديث الصحيحين: (ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة)، فهذا يدل على أن العبرة بخمس أواق وبمائتي درهم، إن كانت عدداً فبالدراهم، وإن كانت وزناً فبالأوقية، أما ضابطها بالغرامات، فهناك خلاف بين الجمهور والحنفية، والجمهور يقولون: إن مائتا درهم عربي تصل إلى خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً، هذا بالنسبة لقدرها بالغرامات.
    هذا القدر أجمع العلماء على اعتباره في الذهب والفضة، لورود السنة في الفضة في الصحيحين، وأما بالنسبة للذهب فالحديث الذي ذكرناه، وله شواهد منها ما ذكره الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الأموال، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهذه الأحاديث هي أصل في نصاب الذهب ونصاب الفضة على الصورة التي ذكرناها.
    قوله: (ربع العشر منهما) أي: من الذهب ومن الفضة، فعشرون ديناراً عشرها ديناران، وربع الدينارين يعادل نصف دينار، ولذلك في كل عشرين ديناراً نصف دينار كما جاء في حديث علي رضي الله عنه.
    وأما بالنسبة للفضة ففي كل مائتي درهم خمسة دراهم، هذا هو ربع العشر لورود النص فيه: (في الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر) ويسميه العلماء رحمهم الله القدر الواجب، وفي هذا العصر يقولون: يعادل اثنين ونصف في المائة، هذا القدر هو الذي أوجبه الله عز وجل في زكاة الذهب وزكاة الفضة.
    (94/4)
    ________________________________________
    حكم ضم النقدين إلى بعضهما
    قال المصنف رحمه الله: [ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب].
    قوله: (ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب) هذه مسألة خلافية، وصورتها: أن يكون عند الإنسان نصف النصاب من الذهب، وعنده فضة بحيث لو جمعت مع الذهب بلغت النصاب، سواء قلنا: عِدلها من نصاب الفضة أو عِدلها من نصاب الذهب، فحينئذٍ يرد

    السؤال
    هل كلٌ منهما ينظر إليه بانفراد، ويعتبر نوعاً مستقلاً، أم أنهما يضمان مع بعضهما؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: منهم من يرى الضم، وهم الجمهور، ومنهم من لا يرى الضم وهم الشافعية، واحتج الشافعية بالأصل، قالوا: إن الشرع جعل الفضة نوعاً من الأموال، وجعل الذهب نوعاً من الأموال، ولا يمكن أن نضم النوع إلى النوع، كما أننا لا نضم الإبل إلى البقر، ولا نضم الغنم إلى الإبل، فنظراً لاختلاف الأنواع ننظر إلى كل نوعٍ على حدة، وهذا المذهب يستند إلى الأصل كما ذكر أن الذهب نوع والفضة نوع، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وبالإجماع أنه يجوز بيع الذهب بالفضة متفاضلين، فدل على أنهما نوعان مختلفان، وهذا بالإجماع في الصرف، فإذا كان في نظر الشرع في الصرف أنهما نوعان مختلفان، فكذلك في الزكاة، وهذا القول هو أسعد القولين بالدليل، وأولاهما بالصواب إن شاء الله تعالى؛ أن لكل منهما نصاباً معتبراً، ولا بد أن تبلغ الفضة نصابها وأن يبلغ الذهب نصابه خلافاً للجمهور رحمة الله عليهم الذين يقولون بضم كل منهما إلى الآخر.
    (94/5)
    ________________________________________
    حكم ضم قيمة العروض إلى النقدين
    قال المصنف رحمه الله: [وتضم قيمة العروض إلى كل منهما].
    (وتضم قيمة العروض إلى كل منهما)، صورة المسألة: فلان من الناس عنده متجر، يتاجر فيه بطعام أو كساء أو دواء، أو نحو ذلك، وهذا المتجر له رأس مال مائة ألف، دخل بها فتاجر، فمن المعلوم أن البائع والمتاجر، تارة تكون عنده الأعيان من الأكسية والأغذية، ونحوها، وتارة تكون عنده النقود، وتارة يكون عنده الاثنان، فيكون الدرج فيه المال والنقد من الذهب والفضة، ويكون المحل فيه العروض، فإذا دخل برأس مالٍ للمتاجرة فيه، جُعِل هذا الشيء بمثابة الشيء الواحد، لأنه لما فرغ المائة ألف والمائتين للتجارة أعطيت حكم المال الواحد، فحينئذٍ ينظر إلى قيمة ما في المتجر من العروض المعروضة سواءً كانت من الأطعمة أو الأكسية أو الأغذية أو غيرها من العروض المعروضة، ويضيفها إلى ما في درج التاجر، فإذا بلغت النصاب وجبت الزكاة، ويقع ذلك إذا كانت العروض نصف النصاب، وكان الذي في الدرج يعادل النصف، فإذا قيل بالضم وجبت الزكاة؛ لأنه بضم بعضهما إلى بعض بلغا النصاب الذي أوجب الله فيه الزكاة، وهذا هو المعتبر لأنهما بمثابة المال الواحد أما لو كان الذي في الدرج مال مُرصَد لغير التجارة، كإنسان قبل الحول بيوم عنده مال استفاده من دين مائة ألفٍ -مثلاً- فجاء ووضعه في درج متجره للحفظ أو نحو ذلك، فالمائة ألف هذه التي جاءته من الدين لا نضمها إلى ما في المتجر عند حولان الحول، وإنما نضم المال المدار الذي احتكره للتجارة، أو جاءه عن طريق التجارة، وأما ما جاءه عن طريق إرث أو دين، فهذا له حكم المستقل، إلا إذا ضمه لرأس المال للمتاجرة به.
    (94/6)
    ________________________________________
    حكم اتخاذ الذهب والفضة للرجل
    قال المصنف رحمه الله: [ويباح للذكر من الفضة الخاتم].
    قوله: (ويباح للذكر من الفضة الخاتم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم من الفضة، وسبب ذلك: أنه لما أراد أن يكاتب ملوك الأرض للدعوة إلى الله عز وجل، قيل له: إن الملوك لا يقرءون الكتب إلا إذا خُتمت، فاتخذ خاتماً صلوات الله وسلامه عليه، وكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فهذا الخاتم كان في يده صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك انتقل إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وكان عثمان رضي الله عنه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم يمر بقباء فيصلي فيه، ثم يجلس على قف بئر أريس، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك، فجاء عثمان وجلس على قف البئر وما زال يعبث بخاتمه حتى سقط الخاتم من يده في البئر، وطلبوه فلم يجدوه، وبئر أريس بئر بقباء من الجهة الغربية إلى الجهة الجنوبية من المسجد، ويعرف البئر ببئر الخاتم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، وكان من الفضة، كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من الفضة، وما عاش عثمان بعد سقوط الخاتم إلا يسيراً، قيل سنة، ثم قُتِل رضي الله عنه، فكان فقد الخاتم إشارة إلى ما يكون من الفتن التي افتتح بها البلاء على الأمة بعد ذلك، وهي من الأمور التي كانت من علامات الحوادث التي وقعت في زمانه رضي الله عنه وأرضاه.
    أما بالنسبة للخاتم فهو ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان من الفضة.
    وأما بالنسبة للذهب، فإنه لا يجوز أن يتختم به الرجل، فإن تختم به الرجل، فهو جمرة من نار والعياذ بالله، يعذَّب بها يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رأى رجلاً قد اتخذ خاتماً من ذهب، فقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في إصبعه)، وهذا يدل على أنه إذا تختم بالذهب عذبه الله يوم القيامة، قيل: يعذب في قبره، وقيل: يعذب في حشره، وظاهر النص الإطلاق؛ لأنه قال: (جمرة من نار)، وهذا لا تقييد له، لا بالبرزخ ولا بالآخرة.
    وأما بالنسبة للنساء، فيجوز لهن التختم بالذهب والفضة، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فالمرأة تتحلى وتتزين، وشرع الله عز وجل لها الزينة، وذلك لمقاصد اعتبرتها الشريعة الإسلامية، لما فيها من حصول الألفة في الزواج ونحو ذلك، وأما بالنسبة للرجل فالإجماع قائم على تحريم الذهب على الرجال، لكن استثنى بعض العلماء اليسير، وسيذكر المصنف رحمه الله بعضاً من ذلك، فمن هذه الاستثناءات صور ذكرها أهل العلم، منها ما ورد فيه النص بأصله، ومنها ما استثناه العلماء من باب الاستحسان، وفيه بعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، ومنها ما استثناه العلماء اجتهاداً.
    قال المصنف رحمه الله: [وقبيعة السيف].
    قوله: (وقبيعة السيف) قالوا: إنها تستثنى، فيجوز أن تكون من الفضة؛ لأن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من الفضة، وهذا ورد به النص، وعلل العلماء رحمهم الله بأن قبيعة السيف، وهي التي تكون على رأس المقبض أشبه بالكرة أو الدائرة التي تكون في آخر اليد حتى يستطيع الإنسان إذا أمسك بالسيف أن يحكم إمساكه فيقوى ضربه لمن يقاتل، فهذه القبيعة استثنيت أن تكون من الفضة، فيجوز اتخاذها من الفضة، وفيها حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العلماء: إن الحكمة في ذلك إرهاب العدو، فإن العدو إذا رأى المسلمين في أحسن هيئة وأحسن حال هابهم، ويكون ذلك أدعى لحصول مقصود الشرع من كسرة شوكة الكفار، وهذا كما ذكرنا من باب التعليل للنص، ومن هنا قاس بعض العلماء على القبيعة صوراً الأصل يقتضي تحريمها، ولكنهم استحسنوها، وقالوا بجوازها اجتهاداً، وفي هذا الاجتهاد نظرٌ لا يخفى.
    قال المصنف رحمه الله: [وحلية المنطَقة ونحوه].
    قوله: (وحلية المنطَقة) وهي التي يُشد بها وسط الإنسان، أشبه بالحزام وتكون لحاملة السيف تُحلّى ويوضع فيها شيءٌ من الفضة، استثنيت هذه وفيها بعض الآثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرى فعل الصحابي حجة يستثنيها، وليس فيها شيءٌ صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    قوله: (ونحوه)، أي: ونحو ذلك، وهذا يقتضي القياس، أنه ينزل منزلة هذه الأشياء، ما كان في حكمها مما فيه إغاظة للعدو وكسرٌ لشأفته، مما يتحلى به على قصد الإغاظة لهم، ولكن الذي يظهر أن هذه الأشياء الأصل فيها المنع؛ لأن الفضة في الأصل فيها وجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الفضة للذكر تجوز، فيجوز أن يتخذ ما شاء منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الفضة فالعبوا بها لعباً)، وللعلماء خلاف في قوله: (العبوا بها لعباً)، منهم من حمله على الحقيقة، وهو اللعب الذي يكون بخاتم الإنسان، إشارة إلى ما أبيح منها وهو التختم، والإنسان من عادته إذا تختم لعب بخاتمه، قالوا: فالمقصود به حقيقة اللفظ، ومنهم من يقول: هو مجازٌ كناية عن الجواز، فاتخذوا منها ما شئتم، فيجوز أن يتخذ السيف من فضة، ويجوز أن يتخذ الخنجر من فضة، ويجوز أن يتخذ الحزام من فضة، ويجوز أن يتخذ القلم من الفضة، ويجوز أن يتخذ الإزار من الفضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبوا بها لعباً)، وهذا على سبيل التجوز، وإن كان الأصل حمل اللفظ على الحقيقة، وهو أقوى.
    ومما يقوي حمله على الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحائفهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، قال العلماء: لما حرم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الفضة، مع أن الأواني يُحتاج إليها للأكل، كأنه نبه بهذا الأعلى إلى ما دونه، وتوضيح ذلك: أن هناك أشياء ضرورية، وأشياء حاجية، وأشياء تحسينية، منها الكماليات والفضوليات، هذه ثلاث مراتب، فالضروريات هي التي تتوقف عليها حياة الناس، وهي التي يرخَّص فيها في مقام المحظورات والمحرمات، كالأمور التي تتعلق بحياة الإنسان وتتوقف عليها حياته كأكله وشربه ونحو ذلك، فهذه من مقام الضروريات، ومقام الحاجيات هي الأشياء التي لو منع الناس منها تضرروا، وحصل الضيق لكنهم لا يموتون، فيفضي إلى درجة الحرج والمشقة، فيقولون: إن وضع الطعام في أواني الذهب والفضة، نفس الأواني في مقام الحاجيات؛ لأنها تحفظ الطعام الذي يغتذي به الإنسان، ولو لم يحفظ الطعام، لا يستطيع الإنسان أن يغتذي، فهي بحكم الحاجيات، فإذا حرّم النبي صلى الله عليه وسلم وضع الذهب والفضة في الأواني، مع أنها في مقام الحاجيات، فمن باب أولى الفضول والتحسينات، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بها أن ينبه بما هو أدنى، وهذا ما يسمونه التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه، كقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، فإنه نهى عن أف فمن باب أولى أن لا يضرب الوالدين.
    ولذلك يقولون: إذا حرُم أن يأكل في آنية الذهب والفضة، مع أنه يحتاج إلى حفظ الطعام بالإناء، فمن باب أولى ما هو في مقام الفضول والزينة والتحسين، ولما في اللعب بالفضة من كسرٍ لقلوب الفقراء والضعفاء، وبذلك قالوا: إنها أقرب إلى الإسراف، فالإنسان إذا لبس ساعة من فضة أو اتخذ قلماً من فضة، مع أنه يمكنه أن يتخذ ما دون ذلك، لا شك أنه سيتكلف، وستكون قيمة الفضة غالية.
    وأما الذهب فلا يرخص فيه على الأصل حتى يدل الدليل على استثنائه.
    قال المصنف رحمه الله: [وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه].
    قوله: (وما دعت إليه ضرورة كأنف) مثال ذلك: أن يُجدع أنف الإنسان -يقطع- ثم يحتاج إلى وضع الذهب ستراً لهذا الأنف، هذا من باب الضروريات، والأصل فيه حديث عرفجة بن أسعد أنه جُدِع أنفه يوم كلاب، وقيل: الكلاّب، وكان بين تميم وكندة، ثم اتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فاتخذ أنفاً من ذهب، ولذلك قالوا: ما كان من الأعضاء مُحتاجاً إليه أن يوضع فيه ذهب أو فضة، يجوز أن يتخذ منه ما شاء من الذهب والفضة بقدر حاجته، ويبنونه على حديث عرفجة رضي الله عنه وأرضاه، ويقولون: إن هذا من باب الحاجيات، ويؤكد ذلك أن الأنف إذا جُدع فإن الإنسان يستضر بدخول الجراثيم ودخول الأشياء الكبيرة التي قد تضر به، ولذلك اتخذ الأنف دفعاً لهذا الضرر، بخلاف ما إذا كان وضع العضو تحسيناً، كتجميل سنِّ بذهب فإنه لا يجوز؛ لأنه ليس بحاجي ولا ضروري، ولا آخذٌ حكم الحاجة ولا الضرورة، ولذلك فهو حرام، فإن مات ميت وسنه من ذهب، ولبّس بالذهب، أو اتخذ سناً من ذهب، فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكن إزالة هذا الذهب دون إضرار بالميت، فتجب إزالته، كما نص العلماء رحمة الله عليهم على ذلك.
    وإما أن لا يمكن إزالته إلا بضرر من جرحٍ أو قلع للسن، وهي من أصل الخلقة، فحينئذٍ تترك، ولا يؤمن عليه أن الله يعذبه بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خاتم الذهب: (جمرة من نار)، حتى قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إنه إذا تحلى بالذهب في سن بدون حاجة لا يأمن أن يكون عليه جمرة من نار في فمه، نسأل الله السلامة والعافية.
    ولذلك اختص الحكم بقدر الضرورة، أما الأسنان التي يحتاج إلى سدها واحتيج إلى ذهب أو فضة، فإن كانت الفضة يمكن أن تؤدي المقصود، فلا يترخص بالذهب؛ لأن ما جاز للضرورة يقدَّر بقدرها، فلا يتجاوز إلى الذهب؛ لأن الفضة أهون من الذهب، والرخصة بالفضة أيسر من الرخصة بالذهب، والذهب أشد، ولأن الفضة قد أُذن للرجل بها، والذهب لم يؤذن للرجل به، فيبقى على الأصل المقتضي للتحريم، فيُيَسَّر في الفضة ولا يُيَسَّر بالذهب، فإذا أمكنه أن يدفع ضرورته بالفضة لا يعدل إلى الذهب، لكن لو كانت الأسنان من الفضة تنتن، وتكون لها رائحة، أو اتخذها من الفضة فأنتنت وآذت، فحينئذٍ يجوز له أن يعدل إلى الذهب ولا حرج عليه في ذلك، والشرط في جواز الذهب والفضة في السن أن لا يوجد البديل، فإن وجد بديل من مع
    (94/7)
    ________________________________________
    ما يباح للنساء اتخاذه من الذهب والفضة
    قال المصنف رحمه الله: [ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه ولو كثر].
    قوله: (ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه) كالأسورة والقلائد والأوشحة والحزام من الذهب والفضة، وغير ذلك مما جرت العادة بلبسه، قوله: (ولو كثر) أي: ولو كان كثيراً، وذلك لأن الله عز وجل وصف النساء بكونهن يتحلين بالحلية، وذلك من شأنهن، كما قال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فجعل لهن هذا الحظ من الدنيا، وبناءً على ذلك لا حرج أن تتحلى المرأة باليسير والكثير، خاصة إذا جرى العرف بهذا اللبس، ولا يعتبر محظوراً في حقها.
    (94/8)
    ________________________________________
    حكم زكاة الحلي
    قال المصنف رحمه الله: [ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال أو العارية].
    قوله: (ولا زكاة في حليهما) المعد للاستعمال، الحلي الذي تتحلى به المرأة للعلماء فيه قولان: منهم من قال: يجب على المرأة أن تؤدي زكاة الحلي قلّ أو كثر، بشرط أن يبلغ النصاب المعتبر، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
    القول الثاني: لا تجب الزكاة في الحلي، وهذا هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
    واستدل الذين قالوا بوجوب الزكاة في حلي النساء بحديث الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة تطوف، وعليها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا، قال: هما حسبك من النار)، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيّن وجوب الزكاة، إذ الوعيد فيه لا يترتب إلا على فعل محرم أو ترك واجب، ولا شك أن الواجب هنا هو الزكاة، فدل على أن الزكاة واجبة، فجعل قوله: (هما حسبك من النار)، مرتباً على قولها: لا، فدل على أنها لو زكت لما كان حسباً لها من النار، قالوا: فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب الزكاة في الحلي، واستندوا أيضاًَ إلى الأصول، وذلك في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ولا شك أن الحلي مال؛ لأن له قيمة، وقالوا: إنه تجب فيه الزكاة، سواء كان من الذهب أو كان من الفضة.
    واستدل الجمهور على إسقاط الزكاة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في الحلي زكاة)، وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية أيوب بن عافية، وهو ضعيف، ولا يقوى على معارضة حديث الترمذي الذي صححه غير واحد.
    وبناءً على ذلك: يترجح القول القائل بوجوب الزكاة في الحلي، وحينئذٍ يجب على المرأة إذا حال الحول على حليِّها أن تنظر في زكاته إذا كان قد بلغ النصاب، فتُخرج ربع عشره، إن شاءت أخرجته من الذهب، وإن شاءت أخرجته من الفضة، أخرجت ربع العشر من الذهب، أو أخرجته بعدله من الفضة، توضيح ذلك: لو أن حليها زكاته عشرة غرامات، فحينئذٍ نقول لها: إما أن تخرجي عشرة غرامات من الذهب، وتعطى للمسكين ينتفع بها، يبيعها ويأخذ مالها، أو تنظري عِدل العشرة غرامات في يوم الحول بقيمتها من الذهب، فإذا كانت قيمة كل غرام من الذهب في يوم الحول ثلاثين ريالاً فإننا نعتبر الواجب عليها في عشر غرامات ثلاثمائة ريال، ونقول: أنت بالخيار إن شئت أخرجت عدلها من الفضة، وإن شئت أخرجت أصلها، أعني العشرة غرامات، فتُخيّر بين الاثنين، إن شاءت هذا أو هذا، لكنها إذا أرادت أن تنظر إلى عِدل الذهب من الفضة، فينبغي أن تنظر إلى اليوم الذي هو حولها، فلو كان غرام الفضة في يوم حولها يساوي أربعين ريالاً، ثم أرادت أن تخرج بعد يوم أو يومين، وقيمته خمسون أو ستون فالعبرة بالأربعين، لا بالزيادة ولا بالنقص الطارئ بعد يوم الحول، وعلى هذا لا بد أن تعرف قيمة الغرامات في يوم الحول، وتؤدي زكاته على هذا الوجه المعتبر، والعبرة بقيمة البيع لا بقيمة الشراء.
    وقوله: (المعدة للاستعمال أو العارية).
    بناءً على القول بإسقاط الزكاة في الحلي، كما يقول الجمهور هناك مسائل، يقولون: أولاً: ينبغي أن يكون الحلي معداً للاستعمال، فإذا كان بعضه معداً للاستعمال وبعضه لا يعد للاستعمال إلا نادراً، فإننا نوجب عليها الزكاة في النادر، وأما الغالب فلا زكاة فيه، ومن أمثلة ذلك: لو كان عندها ذهب تلبسه أكثر الحول، أو كل الحول، وذهب خاص للمناسبات بحيث لا يعادل أكثر الحول، تجب عليها الزكاة في النادر الذي تلبسه في المناسبات، ولا تجب عليها في الذي تتحلى به دائماً.
    ثانياً: وأيضاً يقولون: إن الحلي يشترط فيه أن يكون مباحاً للمرأة، فما زاد وكان محرماً فإنه تجب عليها الزكاة فيه، ولا يعتبر مستثنى؛ لأن التحريم يسقط الرخصة، وكأن الحلي الأصل وجوب الزكاة فيها، فرخص بإسقاط الزكاة فيها إذا كانت تتحلى بها، وبقي ما عداه على الأصل الموجب للزكاة.
    قال المصنف رحمه الله: [فإن أُعد للكراء أو للنفقة أو كان محرّماً ففيه الزكاة].
    قوله: (فإن أعد للكراء) إذا قلت: إن الحلي لا زكاة فيه، فإنه قد يُعد الحلي للكراء، ومن أمثلة ذلك: أن يكون عند المرأة أسورة من الذهب، أو قلائد من الذهب، وتؤجرها على النساء، إذا صارت المناسبات تأخذ المرأة هذا السوار الليلة بمائة مثلاً، وكل سوار بمائة، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء: من أهل العلم من يرى جواز إجارة الذهب والفضة للتجمل والزينة، ومنهم من يمنع من ذلك.
    والذين يجيزون يقولون: إن المنفعة وهي الزينة مقصودة، فصارت منفعة مقصودة، فحينئذٍ يجوز أن يُستأجر، وبناءً على هذا القول الذي يقول بالجواز، كما مشى عليه المصنف رحمه الله، حينئذٍ الذي يُعد للكراء تجب فيه الزكاة مع أنه حلي، ولا تسقط عنه الزكاة على أصل المذهب الذي اختاره رحمة الله عليه؛ لأنه لما أُعد للكراء خرج عن كونه حلياً مرخصاً بإسقاط الزكاة عن صاحبه.
    وقوله: (أو للنفقة) كامرأة تعد أسورة من أجل أن تبيعها، ثم بعد ذلك تنفق على نفسها وعلى عيالها، فلا تلبسها، هذا ليس بحلي ولا آخذٌ حكم الحلي وإن كان في أصله حلياً، لكنه ليس في مقام الرخصة بالحلي؛ لأنها لا تلبسه ولا تتحلى به ولا تتجمل.
    وقوله: (أو كان محرماً) اتخذته وكان حراماً عليها أن تتخذه كأواني الذهب وأواني الفضة، فهذا المعد للأواني يحرم عليها أن تستعمله، وحينئذٍ لا يرخّص ولا يقال بإسقاط الزكاة عنها، فلا يقول قائل: إن الذهب حلال للنساء، وهذه الآنية اتخذتها للزينة في بيتها لا تجب عليها الزكاة بل نقول: يجب عليها أن تزكي هذه الأواني من الذهب والفضة.
    والحمد لله رب العالمين.
    (94/9)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (94/10)
    ________________________________________
    حكم شراء طعام بمال الزكاة وتوزيعه على الفقراء

    السؤال
    إذا كان يجب على المسلم قدر مالٍ معين من الزكاة فهل يجوز له أن يشتري بالمال طعاماً ويوزعه على الفقراء؟

    الجواب
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإن الزكاة حق من حقوق الله جعله للفقراء والضعفاء في أموال الأغنياء، لا يجوز للغني أن يقدم على التصرف في هذا المال إلا بإذن شرعي، ولم يثبت في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة للغني أن يتصرف في المال الذي أوجب الله عليه أن يؤديه زكاة، فلو وجب عليه أن يخرج خمسة آلاف زكاة، لم يأمره الله عز وجل بإخراجها طعاماً، وقد وجبت عليه نقداً، من ذهب أو فضة أو ما قام مقامهما، فإذا تصرّف بالشراء فاشترى بها طعاماً للفقير، أو اشترى بها أغطية أو أكسية فإنه حينئذٍ لم يؤد الزكاة التي أوجب الله عليه وخرج بالتصرف عن كونه مزكياً إلى كونه متصدقاً، ويجب عليه ضمان هذا المال، وإخراج الزكاة لأصحابها على الوجه الذي أمر الله عز وجل، ولا وجه للاجتهاد بإخراج الأعيان بدل النقود؛ لأن الله سمّى هذا الحق للفقراء، ولا شك أن الإنسان إذا استأجر أجيراً بمائة ريال، فجاء في نهاية اليوم فقال للأجير: هذه المائة ريال اشتريت لك بها طعاماً، لا شك أن الأجير لا يرضى، ويرى أنه قد ظلمه، وقد خرج عن هذا الحق بالتصرف في المال، إلا في حالة واحدة تستثنى، وهي: أن يكون هناك أيتام وهؤلاء الأيتام لا ولي لهم، أو أيتام ومن يقوم عليهم سفيه لا يحسن التصرف، أو هناك فقير أو مسكين ولكنه لا يحسن التصرف في المال، فأنت تعلم أنك لو أعطيته الألف أو الألفين أو الثلاثة أتلفها من ساعته، ولربما صرفها في أمور لا طائل تحتها ولا نائل، والله نهانا عن إعطاء السفهاء الأموال، فإذا نويت أنك قائم عليه، بشرط أن لا يوجد ولي، فحينئذٍ تعطيه على قدر حاجته، فتمر عليه بالشهر تعطيه نفقة شهره، أو تقول لصاحب دكان: أعطه طعامه، وأجمل لي حسابه وأنا أحاسبك، فتقوم على نفقته بالشهر، أو تقوم على نفقته بالأسبوع حتى توفي مال الزكاة، فهذا لا حرج فيه، وإذا كان الإنسان يريد أن يستخدم هذه الطريقة في أناس يستطيعون الإنفاق على أنفسهم، ولكن لا يأمن منهم حسن التصرف، فيمكنه أن يعجل الزكاة قبل وقتها ثم ينفق عليهم مقسطة بالأشهر والأيام.
    والله تعالى أعلم.
    (94/11)
    ________________________________________
    حكم ضم ذهب الزوجة والبنات ليبلغ النصاب

    السؤال
    عند زوجتي وبناتي ذهب، فهل أضم الذهب إلى بعضه لتكميل النصاب، أم ذهب الزوجة لا يضم إلى ذهب البنات أو زوجة أخرى؟

    الجواب
    هذا فيه تفصيل: لمن هذا الذهب الذي يلبسه البنات؟ فإن كان الذهب الذي تلبسه البنات لأمهن وهي زوجتك، فحينئذٍ ذهب الزوجة وذهب البنات بمثابة المال الواحد، وزكاته زكاة المال الواحد فيضم بعضه إلى بعض، إلا في حالةٍ وهي: أن تكون الأم قد نوت العطية، فأعطت ابنتها، فالبنت ذهبها مستقل، وكل بنت ينظر إلى ذهبها، ويعتبر النصاب فيها على حدة، وكذلك الحال بالنسبة للزوج، فإن كان الزوج قد أعطى زوجته ذهباً على سبيل أنها تلبس، ثم بعد ذلك يستبدله لها، لا أنها مالكة لهذا الذهب، فحينئذٍ تجب عليه زكاته، وينظر في زكاة ذهب بناته إذا كان قد أعطاهن من أجل أن يجدد لهن كل سنة، لا على سبيل العطية التي يُقصد منها التمليك.
    والله تعالى أعلم.
    (94/12)
    ________________________________________
    كيفية إخراج الزكاة مع اختلاف عيارات الذهب

    السؤال
    من المعروف أن الذهب له عيارات مختلفة، فعند إخراج الزكاة هل يضم إلى بعض، أم يزكى كل عيار على حدة؟

    الجواب
    هذه المسألة، عيار واحد وعشرين وثمانية عشر وأربعة وعشرين، السبب فيه وجود الشوب من النحاس ونحوه، فخالص الذهب يكون أربعة وعشرين، وهو صافيه وأفضله وأجوده، وإذا خالطه المشوب نزل بحسب الدرجات التي تكون فيه، فيضم الذهب بعضه إلى بعض في الزكاة، والسبب في ذلك: أن الشرع جعل خالصه ومشوبه بمثابة المال الواحد في الربا، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة)، وقد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن خالصها ومشوبها في العيارات واحد، والسبب في ذلك صعوبة الانفكاك، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: أنه يُغتفر وجود النحاس في الذهب، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، واغتُفر في الموازنة في الربويات، فإذا بادل ذهباً عيار واحد وعشرين بذهب عيار أربعة وعشرين، أو أربعة وعشرين بعيار ثمانية عشر، فيجب التماثل والتقابض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن التمر، وقال عامله على خيبر: (إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، قال: أوه! عين الربا)، فقوله: (إنا نبيع الصاع من هذا) يعني الجيد، (بالصاعين من هذا) يعني الرديء، فاعتبر المشوب موجباً للتفاوت، فقال: (أوه! عين الربا) أي: لا بد وأن تبيعه مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، ولذلك حكي الإجماع على أن خالص الذهب ومشوبه في الوزن واحد، إلا إذا كان المشوب مما يمكن سحبه ويمكن فصله بدون مشقة وعناء، خاصة إذا كان في غير الضرب، كأن يكون أُدخل عليه فحينئذٍ يفصل، وهكذا بالنسبة للقلادات إذا كان فيها فصوص، فلا بد من فصلها وبيع الذهب بالذهب متقابلاً، ولا يغتفر وجود هذه الفصوص مثلما يغتفر في المشوب.
    الشاهد: أن الشرع حينما جعل الذهب خالصه ومشوبه بمثابة الشيء الواحد في الربويات نُزِّل هنا منزلة المال الواحد، على خلاف مسألة الخالص والمشوب في تقدير النصاب على الأصل الذي ذكرناه لوجود القدرة، وذلك أن المشوب أُدخل بخلاف المشوب الذي وجد في أصل الخلقة.
    والله تعالى أعلم.
    (94/13)
    ________________________________________
    كيفية إخراج زكاة الحلي

    السؤال
    حسب علمي أن الكثير يخرجون زكاة الحلي بقسمة قيمة الذهب على اثنين ونصف في المائة، فهل فعلهم صحيح، أم لا بد من نصاب الفضة؟

    الجواب
    هذا مبني على الأصل الذي ذكرناه، أنه إذا اختار إخراجها من الفضة ينظر إلى قيمتها، سواءً قلت: يحسب الغرامات ثم ينظر إلى قيمة الغرامات الواجبة، أو يحسب غرامات الكل ويزكيها، فالنتيجة واحدة، فهي ابن أخت خالة التي قبلها، ما هناك فرق، وابن أخت الخالة هو الشيء نفسه، وهذا مثال عند العرب، يقولون: هو ابن أخت الخالة، أي الشيء نفسه، ما هناك فرق، سواء قلت: إنه ينظر إلى الغرامات وقيمتها من النقد، أو ينظر إلى مجموع الغرامات كلها ويضربها في الفضة، المعنى واحد.
    (94/14)
    ________________________________________
    حكم لبس الرجل خاتماً من الألماس أو من الأحجار الكريمة

    السؤال
    ما حكم لبس الخاتم للرجال، إذا كان هذا الخاتم من الألماس، أو ما يسمى بالأحجار الكريمة؟

    الجواب
    لا حرج في لبس المعادن الأخرى من الألماس، والأحجار الكريمة، والعقيق، والمرجان، واللؤلؤ، وغيرها؛ لأن الله تعالى سخرها لبني آدم، وكما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز التحلي بالمجوهرات وغيرها ما لم يجر العرف باختصاص النساء بها دون الرجال، وأما بالنسبة للأصل، فالأصل يقتضي جواز الانتفاع بما في هذا الكون حتى يقوم الدليل على التحريم، فإذا قام الدليل على الاستثناء والتحريم فإنه محرم بحكم الشرع، ويعتبر خاصاً في التحريم على حسب مورد النص.
    والله تعالى أعلم.
    (94/15)
    ________________________________________
    حكم لبس الرجال الأشياء المطلية بالذهب

    السؤال
    هناك بعض الساعات والأقلام يوضع عليها دهان من ماء الذهب بنسب مختلفة، فهل يجوز لبسها، أم لا؟

    الجواب
    الذهب خالصه ومشوبه، مطليّه وغير مطليّه واحد، وحكمه واحد، واستثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض الحنفية رحمة الله عليهم المطلي، فقالوا: إذا كان الطلاء يسيراً يجوز، وهذا مبني على دليل يعرف بالاستحسان، والاستحسان: الاستثناء من أصل عام بدليل ينقدح في نفس المجتهد، والذي يظهر أن هذا ضعيف، ولا يستثنى من ذلك مطلي ولا غير مطلي إلا إذا قام الدليل على الاستثناء، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم الذهب وحرّم استعماله، وبناء على ذلك لا يُرخص للرجل أن يتسامح في اليسير من الذهب في ساعة أو قلم أو غير ذلك إلا ما استثناه الشرع.
    والله تعالى أعلم.
    (94/16)
    ________________________________________
    وصية قبل الاختبارات

    السؤال
    كما تعلمون فإن الاختبارات على الأبواب، فهلا تفضلتم بوصية في ذلك؟

    الجواب
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهون علينا وعليكم اختبار الدنيا والآخرة، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية سؤلنا ورغبتنا.
    أما بالنسبة لهذه الأيام فأوصي إخواني من طلاب العلم بأمور: أولاً: أن يتوكلوا على الله عز وجل، وأن يفوضوا الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، فما من أمر من أمور الدنيا ينزل بعبد من عباد الله أو بأمة من إماء الله، فينزله العبد بباب الله عز وجل متوكلاً على الله، مفوضاً أمره إلى الله، آخذاً بالأسباب التي شرع الله، إلا جعل الله له العاقبة على أحسن ما يبدو ويأمل، ولذلك قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فأول ما يوصى به طالب العلم أن يكون متوكلاً على الله، لا على ذكائه، ولا على حفظه، ولا على فهمه، ولا على نبوغه، ولا على ضبطه، ويحس أنه لا يملك من أمره شيئاً إلا أن يعينه الله، وكلما برئت من الحول والقوة في أي أمرٍ من أمورك الدينية والدنيوية، كمّل الله نقصك، وجبر كسرك، وكان لك معيناً وظهيراً، فما من إنسان يكون عنده هذا الشعور إلا وفِّق، ولا تعتمد على أي شيء غير الله سبحانه وتعالى، فمهما أوتيت من الحفظ والفهم، فلابد لك من عون الله، وقد ذكر الإمام الماوردي رحمة الله عليه -يحكي عن نفسه-: أنه دخل ذات يوم المسجد، وكان طلابه ينتظرونه، فكأنه دخله شيءٌ من نفث الشيطان حينما قال له: هل هنا مسألة في الفقه لا تعلمها؟ كان الإمام الماوردي عجيباً في الفقه، وهو صاحب كتاب الحاوي، وهو كتابٌ كاسمه، جمع فأوعى من المسائل أصلية وفرعية في الفقه، يعز وجود مثله، فضلاً عن أحسن منه، أجاد وأفاد رحمة الله عليه، فلما دخله هذا العجب يقول: دخلت على طلابي، فلما جلس بينهم جاءت إليه امرأة، وكانت معها صبية لأول مرة تحيض، فسألته عن مسألة من مسائل الحيض الواضحة، قال: فأظلمت الدنيا في وجهي.
    وكأنه لا يعرف شيئاً، هذا الإمام العظيم الذي فرّع وقعّد ونظّر، والإمام النووي رحمة الله عليه في المجموع كثيراً ما يعتمد على تخريجاته وتصحيحاته ونقولاته، رحمة الله على الجميع، قال: فإذا به لا يعي شيئاً، وكأنه لم يعلم شيئاً، يقول: فمن شدة ما هو فيه جعل يتصبب من العرق، والطلاب من هيبة شيخهم وإجلالهم له -كانوا يعظِّمون العلماء ويجلونهم ويوقرونهم- سكتوا وما استطاع أحد أن يجيب عن هذه المسألة الواضحة إجلالاً له، وذهولاً من الموقف، فما زالت المرأة تنتظر الجواب، وتردد عليه السؤال: رحمك الله كان كذا، رحمك الله، ما حكم كذا، وهو لا يجيب، فلما وجدت أنه لا يجيب، انصرفت عنه، فإذا بطالب علم حديث العهد بطلب العلم يدخل المسجد فسألته عن المسألة، فأجابها بكل سهولة، فقالت له: والله أنت خيرٌ من هذا الذي جلس، فضّلته على شيخه، لأنه رأى نفسه في العلو، فوضعه الله في السفول.
    هكذا الإنسان، الماء لعظم فضله، جعله الله في قرار الأرض: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، والدخان لحقارته يتعالى ويتعاظم.
    فالإنسان الموفق الكامل يحتقر نفسه مهما أوتي، ولذلك تجد العالم الذي جعل الله علمه رحمة له وخيراً له يتواضع ولا يعد نفسه شيئاً.
    فطالب العلم إذا أراد أن يمضي إلى اختباره أو إلى امتحانه لا يُحس أن عنده شيئاً، إنما يعلق أمله على توفيق الله ومعونة الله، وعندها يكون له من الله على قدر ما كان من توكله ويقينه بالله سبحانه وتعالى.
    الأمر الثاني: ألا يضيع الإنسان حق الله عز وجل، فيسهر حتى يضيع صلاة الفجر، أو يجلس لترداد المواد ومراجعة الكلمات حتى يفوت صلاة الجماعة، أو يأتي متأخراً، فلا ينصرف الإنسان عن الله عند اشتداد حاجته إليه، بل حتى في الأمور التي تتعلق به في معيشته، المنبغي إذا نزلت بإنسان أيام عصيبة كأيام الاختبارات والامتحانات أن يحافظ على حق الله، وأن يحس أن مخرجه أن يوفِّي لله حقه حتى يعطيه الله عز وجل من معونته وتوفيقه، كما وفّى لله يوفي الله له، ولذلك ينبغي عليه أن يحرص كل الحرص على إقامة الصلاة، والله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، فجعل الصلاة قرينة الصبر، وهذا يدل على أن لها في النوائب والشدائد والمصائب فضلاً عظيماً وأثراً كبيراً في صلاح حال العبد، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بلال! أرحنا بالصلاة)، فكانت قرة عينه صلوات الله وسلامه عليه وبهجته وسروره حينما يقف بين يدي الله.
    فإذا كنت في أيام الاختبارات لا يختلف حق الله عندك عن الأيام العادية، عظم شأنك وجلّ بإذن الله عز وجل؛ لأنك تُمتحن أنت في امتحان أُخروي، فإذا كانت امتحاناتك واختباراتك تجعلها تبعاً لامتحان الله لك في هذه الدنيا، وفقك الله وأعانك.
    الأمر الثالث: حق العباد، إخوانك وزملاؤك يحتاجون إلى ملخصات، يحتاجون إلى معونة، فأعنهم ولا تكن بخيلاً بالعلم، ولا تضن، وتمن لأخيك من الخير مثل ما تتمنى لنفسك أو أكثر، لا بد أن يربي الإنسان نفسه على المعاني الكريمة التي هذب الله بها المسلمين، نحن أمة مسلمة منقادة لله مستسلمة، فالإنسان ينبغي عليه أن يحب لإخوانه وزملائه من الخير مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، حتى قال الإمام الشافعي: (والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يُظهِر الله الحق على يديه)، وهذا شيء من النزاهة والنقاء والصفاء في قلوب الأخيار، وهو من رحمة الله عز وجل بالعبد، فالإنسان إذا كان خيراً صالحاً أحب للناس مثل ما يحب لنفسه أو أكثر، ولا تكره أن أحداً يسبقك، فهذه أمور الدنيا، والمعوّل على الآخرة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: اصبروا فإني فرطكم على الحوض)، الفضل هناك إذا قرعت الرءوس ومدّت من يده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً، ففضلت على غيرك، هناك الفضل بإذن الله عز وجل.
    فالإنسان لا ينظر إلى هذه الدنيا إلى درجة أن يكره لإخوانه الخير، فيحس أنهم إذا سبقوه غمطوه أو أهانوه، بل أحب لهم من الخير مثل ما تحب لنفسك أو أكثر.
    فلا ينبغي أن تكون الامتحانات وسيلة لحسد الناس، وكراهية الخير لهم، وإذا أحد سبقك أو فضُل عليك فقل: الحمد لله، اللهم إن فضّلته علي في الدنيا فلا تفضِّله عليَّ في الآخرة.
    تكون الآخرة هي مبلغ علمك وغاية رغبتك، وهي أكبر همك، وعندها تسعد وتفلح، وتحس أن أمور الدنيا تحت قدمك، ولا تبالِ بشيء أقبل أو أدبر، إن أقبل استعنت به على طاعة الله، وإن أدبر فلن تلو عليه، تستقم لك السعادة، وهذه من نعم الله عز وجل على العبد، وهي راحة النفس، لا تحسد أحداً على فضل الله عز وجل، وإن أوتيت الفضل بذلته وتمنيته للناس.
    كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها: ذكر الله عز وجل من كثرة الاستغفار وسؤال الله المعونة ونحو ذلك {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
    ومن الأمور التي ينبغي على الإنسان أن ينتبه لها: حقوق الأبناء والبنات، فينبغي على الآباء والأمهات أن يرفقوا بالأبناء والبنات في أيام الاختبارات، ويعينوهم على طلب العلم، ويساعدوهم على المذاكرة حتى لا تنكسر نفوسهم بالتأخر عن زملائهم وقرنائهم، يكون للوالد فضل، أما أن تأتي مثل هذه الأيام وهو مهمل حقوق أبنائه وبناته فلا، كذلك أيضاً ينبغي أن يشملهم بالعطف والحنان والرعاية، وأن يحفظ مشاعرهم النفسية، والقلق الذي هم فيه، فيسليهم بالكلمات الإيمانية، ويثبت قلوبهم بالمواعظ الربانية، فالصبي إذا عودته من صغره على ذكر الله في الشدائد، فجاءت العواقب سليمة يحس أن ذكر الله هو الطريق للسلامة في العواقب، فينشأ منذ نعومة أظفاره وقد تعلّق قلبه بالله جل جلاله، وعندها يصلح حاله ويكمل ويشرف، ويكون له خير الدنيا والآخرة.
    وليرفق بهم فلا يحملهم ما لا يطيقون، وبعض الآباء والأمهات تزداد أذيته لابنه في أيام الاختبارات، فيكون الابن مشوش الذهن، ولا يحس أنه متقن لعدم تفرغه، فيأتي الأب ليشغله بمشاغل يمكنه بنفسه أن يقوم بها أو يقيم غيره مقامه، فيأتي ويضار به أو يضيق عليه أو يعنت عليه، وهذا لا ينبغي.
    كذلك على الآباء أيضاً غفران زلاتهم، والتجاوز عنهم في مثل هذه الأوقات العصيبة؛ لأن نفوسهم مشغولة، فينبغي للإنسان أن يكون مع أبنائه حليماً رحيماً، وهذا من الرفق الذي قال عنه عليه الصلاة السلام أنه: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه)، فالله جعلهم أمانة في عنقك، والله ما نظرت إليهم في أوقات الشدة والكرب من مرض أو سقم أو مشغلة من مشاغل الدنيا وعوارضها، فشملتهم بعطفك وإحسانك إلا لطف الله بك كما لطفت بهم، فالإنسان إذا عامل غيره بالإحسان عامله الله بالإحسان، فما {جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ومن يسّر يسّر الله له، فإذا كان تيسيرك على أقرب الناس إليك، فإن الله ييسر عليك، وأفضل ما يكون الإحسان على أقرب الناس منك؛ لأنه أحوج ما يكون إلى عطفك وحنانك وبرك وإحسانك.
    وإذا جئت قادماً على صالة الاختبار، فتذكر قدومك على الله جل جلاله، وتذكر قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله)، فالإنسان كما أنه يتهيأ لعرض الدنيا واختبار الدنيا، يجب أن يتهيأ لاختبار الآخرة، هذه ذكرى وعبرة، كما يقول بعض العلماء: المؤمن من فكرة إلى فكرة، ومن عبرة إلى عبرة.
    فالله جل جلاله ينبهك بمثل هذه
    (94/17)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة عروض التجارة
    عروض التجارة من الأموال التي أمرنا بإخراج الزكاة فيها، والعروض هي ما يملكه الإنسان بنية التجارة، وأما ما ملكه بنية الاقتناء فلا يدخل في ذلك.
    فمن ملك مالاً بنية التجارة وحال عليه الحول وبلغ النصاب وجب عليه إخراج زكاته، وينبغي عليه أن يقوِّمه عند إخراجه بالأحظ للفقراء والمساكين وألا يظلمهم حقهم.
    (95/1)
    ________________________________________
    زكاة عروض التجارة ومشروعيتها
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة العروض].
    العروض: جمع عرض، والعرض: هو المتاع، ومراده رحمه الله أن يبين حكم زكاة التجارة، وهي الأموال التي يعرضها الإنسان بقصد المتاجرة فيها، وذلك أن ما عند الإنسان منه ما يكون للقنية كسيارته وأثاث بيته ونحو ذلك، ومنه ما يكون معروضاً للبيع والمتاجرة.
    والأصل في وجوب الزكاة في عروض التجارة عموم قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى لم يفرِّق بين مال وآخر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الزكاة من المال، وعروض التجارة مال، فالأصل وجوب الزكاة فيها، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
    أما الدليل الثاني: فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، قال مجاهد -وهو تلميذ عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن- في تفسيرها: إنها عروض التجارة، وأشار إلى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، ففسر الآية: بأن المراد بها عروض التجارة، ولا شك أن مجاهداً رحمة الله عليه كان يأخذ التفسير من عبد الله بن عباس، وكان يستوقفه عند كل آية، يسأله عن حلالها وحرامها وما فيها من أحكام، فمثل هذا الغالب أنه أخذه عن ابن عباس رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس مكانته عالية في التفسير والتأويل؛ وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فهو معلَّم ملهم رضي الله عنه وأرضاه، وعلى هذا قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة، وبذلك قال جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وكان يقول به فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيَّب وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، ولا يشتهر هذا القول في المدينة غالباً إلا وله أصل عن الصحابة، ولذلك قال العلماء: القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة هو الأصل، حتى يدل الدليل على الإسقاط.
    قال رحمه الله: (باب زكاة العروض) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بزكاة عروض التجارة.
    (95/2)
    ________________________________________
    شروط وجوب زكاة عروض التجارة
    قال المصنف رحمه الله: [إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً زكّى قيمتها].
    (إذا ملكها بفعله) أي: بفعل المكلف، كأن يشتري عروضاً من أغذية أو أكسية أو دواب -كالسيارات الموجودة الآن فهي حكم الدواب- فيملكها بفعله، أي: يشتريها، فلا تأتيه عن طريق الإرث، وتدخل عليه بغير محض الفعل، فاشترط العلماء رحمهم الله: أن يكون مالكاً لها بالفعل، أي: أنه أدخلها إلى ملكه قاصداً التجارة بها.
    (95/3)
    ________________________________________
    حولان الحول من حين نية التجارة
    قوله: (بنية التجارة) أي: لا بد في زكاة العروض من وجود نية التجارة، فالعبرة في حول زكاة العروض بالنية، فمتى ما نوى المتاجرة بهذا المال، فإنه يبتدئ الحول من هذه النية، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، ولا شك أن الزكاة داخلة في هذا العموم، فلا يُحكم بوجوب الزكاة على إنسان في مالٍ على أنه من عرض التجارة حتى ينوي المتاجرة به؛ فإن المال حينئذٍ صدُق عليه أنه معروضٌ للتجارة.
    ولكن لو كانت نيته القنية، أي: أنه تملكه للقنية، أو للارتفاق به، فهذا ليس من عروض التجارة، ولا يدخل في هذه النية كون الإنسان عنده بيت أو عنده سيارة، وينوي في قرارة قلبه أنه إذا احتاج إلى بيعها أنه يبيعها، فإن هذه النية مترددة، ولا توجب الحكم بوجوب زكاة عروض التجارة؛ فالإنسان من حيث هو لو أصابته فاقة أو حاجة، فسيبيع ما يملك، فهذه النية عارضة ولا تؤثر، ولا بد من وجود النية المستقرة التي يقصد منها المتاجرة، سواء كان ذلك في العقارات أو المنقولات، والمنقولات كالأغذية، فلو اشترى مائة كيس من طعام، ونوى أن يتاجر بها، فإنها من عروض التجارة، وكذلك العقارات، فلو اشترى أرضاً أو اشترى داراً أو عمارةً، وقصد منها أن يربح بها الأكثر، فحينئذٍ تعتبر هذه الأرض وهذه العمارة من عروض التجارة، وزكاتها زكاة عروض التجارة.
    (95/4)
    ________________________________________
    بلوغ النصاب
    قوله رحمه الله: (وبلغت قيمتها نصاباً زكى قيمتها).
    هذا الشرط الثاني: أن تكون قد بلغت النصاب بالفضة، وهو -كما ذكرنا- ثلاثٌ وخمسون ريالاً، فإذا بلغت هذا القدر وعرضها للتجارة، فإنه لا بد من حولان الحول على هذه النية، فلو باعها قبل حولان الحول فلا زكاة فيها، مثلاً: لو عرض غذاءً أو كساءً كالأقمشة، لمدة ستة أشهر بنية التجارة، ثم بيعت أثناءها، واستُنفدت قيمتها، فهذه لا زكاة فيها، فلا بد في عروض التجارة أن يمر عليها حولاً كاملاً، ويستوي في ذلك أن تكون العين بنفسها أو ما قام مقامها مما تولد من أصلها، وذلك كأن يدخل للتجارة بمائة ألف ريال، فيشتري بها عشر سيارات ليتاجر بها، يشتري واحدة ويبيعها ثم يشتري أخرى ثم يبيعها، وهكذا فحينئذٍ الحول حول رأس المال، فهو متاجرٌ بالمائة ألف، فإذا حال الحول، وبقي من المائة ألف ما يساوي قدر النصاب وجب عليه زكاة ذلك القدر الباقي.
    قال المصنف رحمه الله: [فإن ملكها بإرث أو بفعله بغير نية التجارة ثم نواها لم تصر لها].
    كما ذكرنا؛ لأن الأصل في أموال التجارة أن تكون متأصِّلة أو متمحضة النية بالتجارة؛ فلو أنها دخلت عليه بهبة أو بإرث، فلا تعتبر من عروض التجارة بالنية.
    (95/5)
    ________________________________________
    الاعتبار في تقدير الزكاة عند الحول
    [وتُقوَّم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورِق].
    (وتقوّم) أي: عروض التجارة.
    من المعلوم أن عروض التجارة في الغالب -سواء كانت من العقارات أو المنقولات- تحتاج إلى معرفة القيمة، فهناك قيمتان: القيمة الأولى: التي اشتريت بها، والقيمة الثانية: التي تعرضها أو تعرض بها الشيء المبيع، فلو أنك اشتريت عشر سيارات لعرضها للتجارة، وقيمتها -مثلاً- في الأصل حينما اشتريتها مائة ألف، ولكنك حينما عرضتها للبيع عرضتها بمائة وخمسين، فحينئذٍ يجب عليك اعتبار سعر البيع، وأما قيمة الأصل فإنها ليست بقيمة؛ والسبب في هذا أن الذي تعرضها به للبيع يعتبر مالاً في الحكم، أي: كأنك مالك لهذا القدر، وأما الذي اشتريت به فإنه لا يؤثر لكونه غير مستقر، وحينئذٍ يستوي أن يكون زائداً عما تعرض به، أو يكون ناقصاً عنه، فلو أنك اشتريت (بمائة ألف) وتريد أن تبيع (بخمسين ألفاً)، أو انخفض السعر حتى أصبحت تباع (بخمسين)، فالقيمة (خمسون)، ولو أنك اشتريت (بخمسين) ثم ارتفعت قيمتها، وعرضتها (بمائة)، فالقيمة مائة، وقس على هذا.
    وتقوّم بالأحظ للفقراء، فيُنظر إذا كان الأحظ أن تقوم بالدراهم قُوِّمت بالدراهم، وإن كان الأحظ أن تقوم بالدنانير قوِّمت بالدنانير.
    قال المصنف رحمه الله: [ولا يُعتبر ما اشتريت به].
    (ولا يعتبر) أي: في القيمة والتقدير والتقويم (ما اشتريت به)، وفي ذلك أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أمر أن تقوَّم عروض التجارة بقيمتها، أي: في حالها، وهذا يدل على أن العبرة في عروض التجارة بقيمة البذل لا بقيمة الشراء، وقد بيّنا أن السبب في هذا أنك إذا عرضت الدار -مثلاً- أو الأرض للبيع، وكانت القيمة التي اشتريت بها مائة وتعرضها بمائة وخمسين، فأنت في الحقيقة بمثابة المالك للمائة والخمسين، ولكن يرد

    السؤال
    لو أن هذا الشيء المعروض للتجارة فيه اضطراب، أي: لا يثبت على قيمة معينة، فأنت تقدِّر أن أقل ما تبيع به هذه السيارة هو مائة وخمسون، ولكنك إذا جئت تعرض تقول: مائة وسبعون أو مائة وستون، فهل العبرة بأكثر ما تطلبه، أم العبرة بأقل ما تطلبه أو ترضى به؟ أولاً: قضية سوم الأشياء بأعلى من قيمتها حتى تنزل، فيه حديث أم أنمار رضي الله عنها، فإنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا أرادت أن تشتري الشيء سامته بأقل من قيمته، فلا تزال مع صاحبه حتى يبلغ قيمته فتشتريه، وإذا أرادت أن تبيع الشيء سامته بأكثر من قيمته حتى يبلغ القدر الذي ترضى به فتبيع، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، فكره بعض العلماء مثل هذا.
    ولكن الصحيح أنه يجوز؛ لأن هذا الحديث متكلّم في سنده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الإصابة، وأشار إلى سنده، وله أصل في سنن ابن ماجة.
    والصحيح: أنه يجوز للإنسان أن يسوم بالأكثر والأقل، والأفضل له أن يجتزئ بأقل الأرباح حتى يضع الله له البركة فيما يأخذ، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع)، قالوا: السماحة في البيع أن يرضى بأقلّ الربح.
    ثانياً: إذا قلنا: إنه يشرع أن تسوم بالأكثر حتى تبلغ الأقل، فحينئذٍ نحن بالخيار بين ثلاثة أمور: إما أن نقول: العبرة بالأكثر لأنها تسام به، وعُرضت متاجرةً بهذا الأكثر، وكونه يرضى بالأقل، هذا شيءٌ رضي خسارته على نفسه، فلا نرضى خسارته على الفقراء والمساكين.
    وإما أن نقول: العبرة بالأقل؛ لأنه هو اليقين، والقاعدة في الشرع: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فالأصل أن الذي يبيع به وتُقدَّر به السلعة ويرضى به المشتري في الغالب هو الأقل، فحينئذٍ نقول على هذا الوجه: العبرة بالأقل.
    وإما أن نقول: العبرة بما بينهما.
    والذي يترجح من هذه الثلاثة الأمور القول: بأن العبرة بالأقل؛ لأنه اليقين، وهذا أصل طرده العلماء رحمة الله عليهم في كثير من المسائل.
    وعليه: فإنه إذا كان يعرضه بمائة ويرضى بتسعين فالعبرة بالتسعين.
    وقال بعض العلماء: الورع أنه ينظر إلى السوق، فإن كان السوق رائجاً حتى يصير بالأكثر، فإنه يقدره بالأكثر، وإن كان بالأقل فلا حرج أن يقدره بالرخصة بالأخذ بالأقل.
    قال المصنف رحمه الله: [وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمانٍ أو عروض بنى على حوله].
    أي: بنى على حول الشراء، ما دام أنه اشتراه بنية التجارة، وهذه المسألة الأصل فيها ما ذكرنا أن من دخل إلى التجارة برأس مال واشترى بها عروضاً ثم باعها قبل تمام الحول، فإن العبرة بالأصل، أي: بالثمن، ولا يلتفت إلى هذه العروض؛ لأننا لو قلنا بهذا لما استطعنا أن نزكي عرضاً للتجارة إلا في القليل النادر، وتوضيح ذلك: أن من دخل بمائة ألفٍ يريد أن يتاجر بها في شهر محرم، فاشترى بها عشر سيارات -مثلاً- فعرضها للبيع، فبيعت في منتصف العام، واشترى أخرى مكانها، فقد يقول قائل: الأول قد انقطع بالبيع، والثاني يستأنفه بالشراء من منتصف الحول، نقول: لا، العبرة بالأصل، فحينئذٍ هذه المائة ألف لما تمحّضت للمتاجرة فإننا نقول: العبرة بحولها، فإذا اشترى وأدخل وأخرج، فهذا كله تابع لأصله، يبني عليه، وتجب عليه زكاته كما ذكرنا.
    [وإن اشتراه بسائمة لم يَبْنِ] وهذا بناءً على أن زكاة السائمة غير زكاة الأموال المعروضة للتجارة؛ لأنه انتقل من أصل إلى أصل، فالسائمة إذا قطعها بالبيع لا يبني وإنما يستأنف، مثال ذلك: لو كان عنده من الإبل ما يبلغ النصاب، وتجب عليه فيه الزكاة، وفي منتصف العام باعها، ثم اشترى به سيارات أو أكسية أو أغذية، وعرضها للتجارة، فإننا نقول: السائمة لها زكاة مستقلة، وعروض التجارة التي هي الأكسية والأغذية لها حول مستقل، فيستأنف الحول من جديد، ولا يبني على الحول الأول لاختلاف الأصلين، فأصل السائمة شيء، وأصل عروض التجارة شيءٌ آخر.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
    (95/6)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (95/7)
    ________________________________________
    المعتبر في زكاة العملة الورقية

    السؤال
    ما هو نصاب المال المعتبر في العملة الورقية، هل المعتبر فيه نصاب الذهب، أم نصاب الفضة؟ ولماذا؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فالعملة الورقية أصلها فضة كما ذكرنا، وبناءً على ذلك فزكاتها زكاة الفضة؛ لأنها عبارة عن أسناد توثيقية عن الفضة، فيقدر النصاب بهذا القدر الذي ذكرناه، وهو ثلاثة وخمسون ريالاً، وهي تعادل مائتي درهم، فما بلغه فإنه تجب فيه الزكاة، وما كان دونه فلا تجب فيه الزكاة، وأما تقديرها بالذهب فليس بسديد؛ لأنها إذا قدِّرت بالذهب خرجت عن أصلها، والأوراق لا يؤمر بزكاتها، وإنما أُمرنا بزكاة هذا الأوراق (العملة الورقية)؛ لأن رصيدها من الفضة، ولا يؤثر في ذلك كونه يحصل على الرصيد (الفضة) أو لا يحصل، أو يتمكن منه أو لا يتمكن؛ لأن هذا المستند ثابت من ناحية شرعية، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في قيمته الحقيقية واعتباره من الفضة.
    والله تعالى أعلم.
    (95/8)
    ________________________________________
    زكاة المحلات التجارية

    السؤال
    كيف يُخرج أصحاب المحلات التجارية كالدكاكين والبقالات الزكاة، وذلك لاختلاف البضائع فيها واختلاف أسعارها؟

    الجواب
    إذا حال الحول يحتاط صاحب (البقالة) و (المتجر) باليوم واليومين الذي يتمكن فيها من جرد البضائع، وحينئذٍ يقفل هذا المحل أو يتصرف بطريقة يمكنه بها أن يجرد في هذا اليوم الذي هو رأس حول المال، فإذا جرد أصناف البضائع وصنّف كل صنفٍ على حدة، حينئذٍ ينظر إلى قيمة عرضه في ذلك اليوم، فلو كان عنده ألف صنف، فيُنظر العدد الموجود من كل صنف، وقيمة كل شيءٍ منه، ثم بعد أن يجرد هذا بقيمته يزكي المحل بقيمة واحدة، ولا يجوز له أن يخمِّن ولا أن يقدر؛ لأن القاعدة: (أن القدرة على اليقين تمنع من الشك) وبعض الناس قد يتلاعب في هذا الأمر، بل قد يتسامح البعض في الفتوى، والواقع أنه ينبغي عليه أن يجرد، وينبغي أن يشعر الناس بأهمية الزكاة، والفقه أننا نطالبهم بالجرد؛ لأن الجرد يُشعر بأهمية الزكاة ووجوب هذه الفريضة، ولو أنه احتاج إلى هذا الجرد لمحاسبة شركائه لوجدته يجرد كل صغيرة وكبيرة، ولا يجد العناء، ولكن في حق الله يتلاعب الناس إلا من رحم الله، ويتساهلون ويبحثون عن الرخصة في الفتوى، فالواجب حملهم على الأصل؛ إلا إذا تعذر القيام بهذا الأصل.
    والله تعالى أعلم.
    (95/9)
    ________________________________________
    زكاة الدين في عروض التجارة، وإخراج الزكاة من العروض نفسها

    السؤال
    عندي محل تجاري حال عليه الحول، وبه بضاعة بمبلغ مائة ألف ريال، وعلى المحل دين من البضاعة الموجودة بمبلغ وقدره خمسة وثلاثون ألف ريال، فهل أزكي على قيمة البضاعة كاملة، أم أزكي بعد خصم الدين؟ وإذا حال الحول ولا توجد عندي سيولة نقدية، فهل يجوز لي أن أزكي من البضاعة التي توجد عندي، أم تبقى الزكاة ديناً عليَّ، جزاكم الله خيراً؟

    الجواب
    للعلماء في الدَّين وجهان: منهم من يقول: إن الدَّين يُسقط، وحينئذٍ تُسقط هذا المبلغ الذي هو دين عليك.
    ومنهم من يقول: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن تُسدد حقوق الناس قبل استتمام المدة وحولان الحول، وإما أن تُطالب بزكاة الجميع، وهذا أقوى والنفس إليه أميل؛ لأنه هو الأصل، ولا شك أن الإنسان إذا ملك هذا القدر وكان في ماله يمتنع من سداد حقوق الناس، ثم بعد ذلك يسقط الزكاة عنه، فهذا فيه ضعف، ولا يخلو من نظر، وعليه فإنه يقوى القول بأنك تُطالب بأحد الأمرين: إما أن تسدد للناس حقوقهم، أو يجب عليك زكاة المبلغ كاملاً.
    على هذا يجب عليك زكاة المال كاملاً، ولا يسقط منه شيء إعمالاً للأصل.
    والله تعالى أعلم.
    أما إذا حال عليك الحول وليس عندك سيولة؛ فإنه حينئذٍ يجب عليك أن تخرج هذا المال، إما ديناً من الغير، أو تتصرف بما تستطيع الحصول على حق الفقراء وتعطيهم حقهم كاملاً، أما إخراج الزكاة من نفس العروض فقول جمهور العلماء: أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الله عز وجل أوجب عليك المال بعينه، فتُخرج من الفضة فضة وتخرج من الذهب ذهباً، وإن كانت من العروض تُخرج بقيمتها من الذهب والفضة، ولو أن إنساناً قيل له: اعمل شهراً، فإذا عمل الشهر جيء له بطعام وكساء ودواء، وقيل له: راتبك خمسة آلاف ريال، وهذه كلها مئونتك بالخمسة آلاف ريال، فلن يرضى، وسيقول: ليس من حق أحد أن يتصرّف في مالي، وهذا حق لي، لا آذن لأحد أن يتصرف فيه، فكذلك الفقير؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فليس من حق التاجر أن يتصرف في أموال الفقراء والضعفاء، بل إنه قد يحتال بهذه الطريقة، فيجد البضاعة لا تنفد، وسوقها كاسد، فحينئذٍ يدفع عن نفسه ضرر كساد السوق ويعطي الفقراء والضعفاء مما عنده من المعروضات للتجارة، وعلى هذا فإنه يجب عليه أن يؤدي حق الله في ماله، ويمكِّن الفقير من عين المال من الذهب والفضة، ولا يخرج الأطعمة وغيرها من عروض التجارة.
    والله تعالى أعلم.
    (95/10)
    ________________________________________
    زكاة مهر المرأة غير المدخول بها

    السؤال
    هل في المهر زكاة إذا أعطي للزوجة ولم يتم الزواج إلا بعد سنة؟

    الجواب
    إذا أخذت المرأة المهر فإنها حينئذٍ تزكيه، وتعتبر حوله من القبض؛ لأنها تستحق هذا المال بالقبض، ويبقى النظر في خوف وجود الطلاق قبل الدخول، ولذلك بعض العلماء يقول: هي مستحقة لنصفه، ولا تجب عليها زكاة النصف الثاني إلا إذا دخل بها، فإن دخل بها قضت زكاة ما مضى، وهذا له وجه، ولكن الأول أورع وأحوط؛ لأن الطلاق نادر، فأُعمِل الأصل من بقاء العقد.
    والله تعالى أعلم.
    (95/11)
    ________________________________________
    حكم من يشتري سلعة ليبيعها لغيره بالتقسيط

    السؤال
    إذا قال البائع للمشتري: اذهب واختر السلعة التي تريدها وأنا أشتريها لك وأقسطها عليك، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب
    هذا عين الربا، فإذا قال له: اذهب واشتر ما شئت من متاع أو سيارات وائتني بفواتيره، ثم يشتريها ذلك الشخص ثم يقسِّطها عليه، فهذا عين الربا، بدل أن يقول له: خذ مائة ألف وردها مقسطة بمائة وعشرة احتال بإدخال السلعة، ثم يتفق هؤلاء مع التجار على أنه إذا رفض المشتري أنهم يردون البضاعة، وقد يقول البعض: بأن هذا جائز؛ لأن الطرف الذي ذهب إليه المحتاج اشترى السلعة ولم يلزم الطرف المدين أو الذي يريد هذه السلعة بالعقد، وبناءً على ذلك خيّره، وقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع، نقول: إن الشريعة ألغت صورة العقدين مع صحتهما ظاهراً لذريعة الربا.
    مثال ذلك: بيع العينة، وصورتها: رجل جاء إلى تاجر فاشترى منه سيارة بمائة ألف مقسطة، فالسيارة قيمتها بالأقساط مائة ألف؛ لكن قيمتها بالنقد ثمانون ألفاً، فلما اشتراها بمائة ألف إلى أجل قال التاجر: أشتريها منك نقداً بثمانين، فإذا جئت تنظر إلى صورة العقدين فالأصل صحتهما، فالسيارة قيمتها الحقيقية بالأقساط مائة وقيمتها الحقيقية بالنقد ثمانون، فالأصل يقتضي أن العقد صحيح، لكن لما صُرفت السيارة للمشتري ثم عادت للبائع أُلغيت صورة العقدين، وصارت حقيقة الأمر كأنه أخذ النقد أي: الثمانين في مقابل المائة المؤجلة، فحرم الشرع هذا النوع من العقد، وألغى صورة العقد.
    كذلك هنا لما كان البنك أو الشركة أو مَنْ يشتري ليس مراده أن يستفيد بالسلعة أصلاً، وإنما يشتريها بناءً على طلب وتحديد وتعيين، فلما وجدت الرغبة ووجدت الحاجة حينئذٍ توجه بالشراء، فلما اشتراها آل الأمر إلى أنه بدل أن يعطيه الثمانين المعجلة ويقول: ردها مائة مؤجلة أدخل السلعة حيلة وحينئذٍ يعتبر من بيوع الربا، وشبهة الربا فيه ظاهرة.
    والله تعالى أعلم.
    (95/12)
    ________________________________________
    معرفة النصاب في المال

    السؤال
    عندما أريد أن أعرف ما عندي من المال هل بلغ نصاباً أم لا، فإنني أسأل الصاغة عن قيمة خمسمائة وخمسة وتسعين غراماً من الفضة كم تساوي من الريالات، فهل فعلي صحيح؟

    الجواب
    هذا الفعل ليس بصحيح؛ لأن الريال مع الفضة لا بد فيه من التساوي والتماثل، فإذا قلت: خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً كم تساوي بالفضة، فهذا عين الربا؛ لأن أصل الورق ريال من الفضة، وله وزن محدد، فعندما تشتري بريال الورق الفضة لا بد أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد، فإذا أعطاك الصائغ قيمتها متفاضلاً فإنه قد بناها على الربا؛ لأن التفاضل محرم، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة من طالب العلم، لأنه في هذه الحالة كأنه يبادل الفضة بالفضة، ولا بد من التماثل والتقابض، وحينئذ لا تلتفت إلى قيمة زنة الغرامات، وإنما تلتفت إلى تحرير الريال الفضي القديم بالفضة، ثم تنظر إلى عدلها من مائتي درهم، وقد كُفيت المئونة؛ فإن هذا يعادل ثلاثة وخمسين ريالاً، وبناءً على ذلك ثلاثة وخمسون من الفضة القديمة تعادل بزنتها هذا القدر، وحينئذٍ يجب عليك زكاة هذا القدر.
    (95/13)
    ________________________________________
    اعتبار الحول في زكاة العروض

    السؤال
    رجل اشترى خمس سيارات في محرم، وعرضها للتجارة، ثم لم يلبث أن باعها في رمضان واشترى بقيمتها أغناماً وعرضها أيضاً للتجارة، فهل يبدأ الحول من جديد، أم يبقى على الحول الأول، أثابكم الله؟

    الجواب
    يقول بعض العلماء: إذا كانت تجارته من جنس وانتقل إلى جنس آخر فإنه يستأنف الحول، بشرط أن لا يقصد الفرار من الزكاة أو الاحتيال على الزكاة، وعليه فلو دخل في تجارة السيارات، ثم بعد ذلك تحوَّل إلى السائمة، قالوا: يستأنف الزكاة، بمعنى: يحسب حولاً جديداً من رمضان لهذا المال الجديد.
    والله تعالى أعلم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
    (95/14)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب زكاة الفطر
    فُرضت زكاة الفطر على المسلمين طهرة للصائم من اللغو والرفث، فهي مكملة للصيام، وطعمة للفقراء والمساكين وإغناء لهم عن السؤال في يوم العيد.
    وهي مفروضة على الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، فمن كان عنده فضل عن قوته وقوت عياله فيجب عليه أن يخرج عن نفسه وعمن تلزمه نفقته صاعاً من طعام.
    (96/1)
    ________________________________________
    زكاة الفطر واشتقاقها ومشروعيتها
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [باب زكاة الفطر].
    تقدّم تعريف الزكاة، والفطر المراد به: الفطر من الصوم، وللعلماء رحمة الله عليهم في تسمية زكاة الفطر وجهان: الوجه الأول: أن الفطر هنا ضد الصوم، والمراد به الفطر من الصوم، أي: إكمال عدة رمضان، ودخول شهر شوال.
    الوجه الثاني: أن المراد بالفطر من الفَطْر وهو الخلق، ومنه قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم وجبلهم عليها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، قال ابن عباس: (ما كنت أعلم معنى هذه الآية - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ} [فاطر:1]- حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئرٍ، فقال أحدهما: هي بئري وأنا فطرتها، فعلمت أن معنى فطر: خلق وأوجد)، ففي المخلوق أوجد وفي الخالق خلق.
    فقولهم: زكاة الفطر، أي من الخلقة، وبناءً على ذلك يعتبرونها من زكاة البدن.
    والأقوى: أن المراد بالفطر: الفطر من رمضان؛ لرواية ابن عمر في الصحيح: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، فأضاف الفطر إلى رمضان فصار مختصاً به، وخرج معنى الفَطْر وهو الخلق.
    هذه الزكاة شرعها الله عز وجل، فمن العلماء من يقول: هي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من يقول: هي مشروعة بالسنة والإجماع.
    فأما الذين يقولون: إنها مشروعة بالكتاب، فيحتجون بقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، قالوا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أدى زكاة الفطر، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بالتكبير ليلة العيد؛ لأنه يشرع ذلك، (فَصَلَّى) أي: صلى صلاة عيد الفطر، فجعل الثلاثة الأمور مرتبة بعضها إثر بعض.
    وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالسنة، وفيها حديثان: أولهما: حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان)، وثانيهما: حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين أيضاً، قال: (كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر).
    فهذه الأحاديث دلّت على مشروعية صدقة الفطر، ولذلك أجمع العلماء على مشروعيتها، والخلاف بينهم هل هي واجبة، أم مستحبة؟ فمنهم من يقول إنها مستحبة وليست بواجبة.
    ومنهم من يقول: إنها واجبة.
    فالذين يقولون بالوجوب هم جمهور العلماء رحمة الله عليهم من السلف والخلف، وذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الإمام مالك وشهّره بعض أصحابه من المتأخرين - إلى أنها ليست بواجبة.
    والصحيح: أنها واجبة؛ لقول عبد الله بن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر)، والقاعدة: أن هذا اللفظ (فرض) يدل على الوجوب واللزوم؛ لأن الفريضة تعتبر لازمة لا خيار للمكلف في إسقاطها، فلا تعتبر في مقام المندوبات والمستحبات، وإنما هي في مقام الواجبات، ولذلك قال تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]، فالفرض يطلق بمعنى الواجب، ولا يطلق على المندوب والمستحب، فكان تعبير هذا الصحابي بقوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) دالاً على الوجوب.
    لكن الظاهرية رحمة الله عليهم ينازعون في مثل هذا الحديث؛ ويقولون: يحتمل أن الصحابي فهم ما ليس بفرضٍ فرضاً، فلا يرونه دليلاً على الفرضية.
    وجمهور الأصوليين ومنهم الأئمة الأربعة على أن الصحابي إذا قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة أعرف بالخطاب وأعرف بلسان العرب ومدلولاته، وهم قد شهدوا مشاهد التنزيل، فهم أعرف بأساليب الكتاب والسنة، مع ما لهم من العلم والدراية بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الأمر الذي يجعل ما ذكره الظاهرية -من احتمال فهم الصحابي ما ليس بفرض فرضاً- ضعيفاً، والقاعدة: (أن الاحتمالات الضعيفة لا ترد على النصوص، ولا تبطل أدلتها).
    وعلى هذا فالصحيح أن قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعتبر دالاً على الوجوب، وأن زكاة الفطر فريضة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويدل على هذا قوله بعد ذلك: (وأمر أن تُخرج قبل الصلاة)، كما في الصحيح، فقوله: (وأمر أن تخرج قبل الصلاة) يدل كذلك على وجوبها، وبناءً على ذلك تأكد القول بوجوب زكاة الفطر.
    (96/2)
    ________________________________________
    سبب مشروعية زكاة الفطر
    للعلماء رحمة الله عليهم في سبب مشروعية زكاة الفطر أوجه، فمنهم من يقول: شرع الله زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والسبب في ذلك: أن الإنسان ضعيف، يعتريه ما يعتريه من الجهل، كما وصفه تعالى بالجهل والظلم: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلا يأمن أثناء صيامه من الشتم، والرفث الذي يلغو به وغير ذلك من الخطايا التي لا تصل إلى حد الكبائر، فجعل الله صدقة الفطر مطهِّرة لهذا النقص الذي يعتريه في صيامه.
    ومن العلماء من قال: إن صدقة الفطر شُرعت من أجل الضعفاء والمساكين، والسبب في هذا: أنهم إذا أُعطوا صدقة الفطر أُعينوا على الفرح بالعيد والسرور به، ولذلك ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته) ولكنه ضعيف؛ إلا أن العلماء يقولون: معناه صحيح، والشرع يقصد إغناء الفقراء، بدليل أنه فرض هذه الزكاة وخصّها للفقراء والضعفاء.
    ويقول بعض السلف رحمة الله عليهم: إن صدقة الفطر -بناءً على القول الأول- تكمّل الصوم وتجبر كسره، على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس وقد حسنه غير واحد من العلماء: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طعمة للمساكين وطهرة للصائم من اللغو والرفث) فقالوا: إنه على هذا الوجه تكون صدقة الفطر بمثابة سجود السهو للصلاة، فإنه يجبر النقص فيها، وكالهدي في الحج، فإذا حج الإنسان متمتعاً أو قارناً فإنه يجبر النقص به، والسبب في ذلك: أن المتمتع كان ينبغي عليه بعد انتهاء عمرته أن يرجع إلى ميقاته ويُحرم بالحج؛ ولكنه أحرم بالحج من مكة فكان حجه نقصاً، ولذلك المكي لا يجب عليه دم؛ لأنه أحرم من الميقات في النسكين، فلذلك شُرع الدم جبراناً لهذا النقص، وهكذا القارن؛ لأنه في معناه، وعلى هذا قالوا: إنها -أي: زكاة الفطر- بمثابة الجبر للنقص في صيام المكلف على ظاهر الحديث الذي ذكرناه.
    (96/3)
    ________________________________________
    على مَنْ تجب زكاة الفطر
    قال المصنف رحمه الله: [تجب على كل مسلم، فضُل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته، وقوت عياله وحوائجه الأصلية].
    قوله رحمه الله: [تجب على كل مسلم] (تجب) أي: زكاة الفطر (على كل) (كل) من ألفاظ العموم، والعموم هذا يشمل صغار المسلمين وكبارهم وذكورهم وإناثهم، فالرجل يُخرج عن أهل بيته سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين، كانوا ذكوراً أو إناثاً، أحراراً أو عبيداً، فيجب عليه أن يُخرج عنهم صدقة الفطر لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) وقوله: (من المسلمين) حتى يخرج الكافر، فالكافر لا تجب عليه صدقة الفطر؛ لأنها شرعت للتطهير، والكافر لا يطهر، ويشمل هذا العموم في قوله: (كل) العاقل والمجنون، فلو كان في الأبناء أو البنات من هو مجنون وجبت عليه الزكاة وأُخرجت عنه، وفي الجنين وجهان: وقد أثر عن عثمان رضي الله عنه وسليمان بن يسار رحمه الله أنهم كانوا يخرجون عن الجنين، واستحب بعض السلف وبعض الأئمة كما نقل ابن الملقن وغيره في شرح العمدة: أنه يُخرج عن الجنين إذا تمت له أربعة أشهر؛ لأنه في حكم الحي حينئذ، ومنهم من اعتبر الأربعين يوماً، والأقوى الأول لما فيه من استتمام المدة لنفخ الروح لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح.
    وكذلك أن يكون المكلف الذي نخاطبه بزكاة الفطر، مالكاً قادراً على إخراجها، فلذلك اشترط المصنف رحمه الله أن يكون عنده فضل عن القوت، والفضل: هو الزائد، ومنه فضلة الطهور: أي الزائد بعد وضوئك وطهرك، وفي الحديث: (أنه شرب فضلة وضوئه) أي: ما زاد، ومنه فضلة الطعام.
    وقوله: (فضل له يوم العيد وليلته صاع عن قوته وقوت عياله) فالرجل إذا كان وحيداً مسئولاً عن نفسه، نقول: لا تجب عليك زكاة الفطر إلا إذا ملكت ما تُخرج به زكاة الفطر زائداً عن قوتك، ولذلك يبدأ الإنسان بنفسه، فإذا كان المال الذي عنده لا يكفيه إلا لقوته، فليس من المعقول أن يطلب منه أنه يغني الفقير حتى يصير هو إلى الفقر، ولذلك يُبدأ به فيكف نفسه ويقوم بحوائج نفسه الأصلية، فإذا فضل بعد الحاجة شيء، حينئذٍ يُنظر في الزكاة ويُخاطب بها، وهكذا الحال إذا كان عنده أهل وعنده أسرة، فننظر في قوته وقوت زوجه وأولاده ومن تلزمه نفقته كالعبيد، فإذا كان هذا الرجل عنده -مثلاً- مائة ريال يحتاجها ليلة العيد لنفقته الأصلية، فحينئذٍ لا نطالبه بزكاة الفطر؛ لأنه لم يملك ما زاد عن قوته، بحيث يكلّف ويخاطب بالوجوب، أما لو كان يكفيه منها خمسون لحاجته الأصلية وقوته، فحينئذٍ نقول: أنت مخاطب بزكاة الفطر، فالشرط: أن يكون عنده فضلٌ عن القوت.
    قال المصنف رحمه الله: [ولا يمنعها الدين إلا بطلبه].
    (ولا يمنعها الدين) قالوا: لأنها ليست متعلِّقة بالمال، وإنما هي متعلقة بالبدن، وبناءً على ذلك: إذا كان الإنسان مديوناً فإنه يجب عليه أن يُخرج زكاة الفطر إذا كان عنده فضلٌ عن قوته يمكنه أن يخرج به هذه الزكاة.
    (ولا يمنعها الدين، إلا إذا طولب به) هذا استثناء، أي: في حالة واحدة يكون الدين مانعاً، وهي: إذا طالب صاحب الدين بدينه، فحينئذٍ تعارض حقان: حق الله وحق المخلوق، وحقوق الله مبنية على المسامحة بإجماع العلماء، وحقوق المخلوقين مبنية على المشاحة والمقاصة، وبناءً على ذلك قالوا: يبتدئ بسداد دينه وتسقط عنه الزكاة.
    (96/4)
    ________________________________________
    إخراج زكاة الفطر عمن تلزمه نفقته
    قال المصنف رحمه الله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلمٍ يمونه ولو شهر رمضان].
    فقوله: [فيخرج عن نفسه وعن مسلم يمونه] (عن نفسه)؛ لأنه مخاطبٌ بها أصالة، (وعن مسلمٍ يمونه) أي: يقوم على نفقته، وسيأتي إن شاء الله في باب النفقات بيان الضوابط التي يُحكم بها على الإنسان بوجوب النفقة على القريب، ونحو ذلك، والأصل في إيجاب زكاة الفطر على الإنسان فيمن تلزمه نفقته ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر)، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (عبده) قال جمهور العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على السيد أن يُخرج الزكاة عن العبد، ولا نعرف في العبد شيئاً من جهة الإيجاب إلا كون السيد قائماً على نفقته، فلما كان قائماً على نفقته كان هذا معنىً مناسباً لشرعية الحكم بوجوب صدقة الفطر، ومن هنا قال العلماء رحمة الله عليهم: تجب صدقة الفطر عن الإنسان إذا قام بنفقة غيره، فلا يُطالب ذلك الغير بزكاته وإنما يطالب من تلزمه نفقته، وعلى هذا يؤديها عن عبيده، ويؤديها عن زوجته بالتفصيل المعروف في الزوجة، وذلك إذا دخل بها أو مُكِّن من الدخول فلم يدخل، فحينئذٍ تلزمه النفقة؛ لأن النفقة تجب للزوجة بالدخول، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فأمر بالإنفاق على الزوجات بعد الدخول والاستمتاع، وعلى هذا فالدخول على صفتين: إما أن يكون حقيقياً، وإما أن يكون حكمياً، فإن كان حقيقياً فلا إشكال، وإن كان حكمياً كأن يقول أولياء المرأة: خذ زوجتك، أو يمكنوه من الدخول بها، ولكنه امتنع من ذلك، فحينئذٍ تنزَّل الزوجة منزلة المدخول بها في النفقات، وتلزمه حينئذٍ نفقتها، وعلى هذا: فلو خرجت عن هذا الوجوب بعلة -كما سيأتي إن شاء الله في النشوز- فحينئذٍ يجب عليها أن تخرج صدقة الفطر عن نفسها، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه، فقال: بعدم وجوب زكاة الفطر على الزوج لزوجته، وقال: الزوجة تطالب بإخراج صدقة الفطر عن نفسها.
    قال المصنف رحمه الله: [وعن مسلم يمونه ولو شهر رمضان].
    (وعن مسلم) فخرج الكافر، (يمونه) أي: يقوم على نفقته ومئونته، (ولو شهر رمضان) فيدخل في هذا العامل، فلو أن عاملاً عند إنسان، فقال له: ألتزم بنفقتك، وحدد الطعام الذي يعطيه إياه مع الأجرة، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تصح هذه الأجرة، ومن أهل العلم من قال: لا يجوز أن يقول للعامل أستعملك شهراً وطعامك عليَّ؛ لأن الأصل في الإجارة أن تكون الأجرة معلومة، فإذا قال له: وطعامك عليَّ.
    ولم يحدد ضوابط الطعام وقدره ونوعيته وقيمته، فحينئذٍ صارت الأجرة مجهولة؛ لأنه وإن أخذ -مثلاً- ألف ريال في الشهر؛ لكن هذا الطعام لا ندري كم يبلغ، فقد يظن العامل أنه من جيد الطعام فإذا به يعطيه من رديئه، أو من المتوسط، وبناءً على ذلك قالوا: قدر الطعام مجهول، فدخلت الجهالة في الأجرة؛ لأن الجهالة في الأجرة على ضربين: إما أن تكون في أصل الأجرة، كأن يقول له: ابن هذا الحائط وأُرضِيك، أو نتفق بعد ذلك، أو لا يكون إلا خيراً، فهذه جهالة متمحِّضة، لا يُدرى ما هو المال المدفوع، ولا تُدرى الأجرة ما هي؟ فهذه جهالة توجب فساد الإجارة بالإجماع.
    النوع الثاني من الجهالة: أن تدخل على المعلوم، ومن أمثلتها: أن يقول له: اعمل في هذا المحل شهراً ولك ألف ريال وربع الخارج أو نصفه أو (5%) من الخارج، فحينئذٍ تكون (الألف) معلومة؛ لكن دخلت الجهالة بالنسبة المضافة إليها، وهذا ما يقال في الطعام، فإذا قال للأجير: اعمل عندي وطعامك عليَّ، فحينئذٍ إذا قال: طعامك عليَّ، وحدّد الطعام على وجه ترتفع به الجهالة فلا إشكال، فالأجرة صارت معلومة، فعلى هذا الوجه لو كان طعامه عليه بحدٍ معين واشتغل عنده في شهر رمضان، فحينئذٍ تتفرع على الأصل المستنبط من حديث أبي هريرة من وجوب الزكاة عليه عند من ذكرنا من العلماء رحمة الله عليهم.
    (96/5)
    ________________________________________
    الترتيب في إخراج الزكاة عند العجز عن إخراجها عن الجميع
    قال المصنف رحمه الله: [فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه].
    أي: فإن عجز هذا الرجل الذي خوطب بالزكاة، وعنده جماعة تلزمه مئونتهم ونفقتهم.
    (إن عجز عن البعض) بمعنى: عنده زوجة وعنده أربعة أولاد ذكور وإناث، فحينئذٍ إذا جئنا ننظر إلى الزكاة وإذا بها تبلغ مائة ريال، والذي عنده خمسون ريالاً، فقد عجز عن البعض، وهذه هي صورة المسألة، فإذا عجز عن البعض، فكيف يرتب؟ وهذا من دقة المصنف رحمه الله، فبعد أن ذكر لك الأصل ذكر لك ما يطرأ على الأصل من وجود البعض دون الكل.
    قال المصنف رحمه الله: [بدأ بنفسه فامرأته فرقيقه].
    أي: يجب عليه أن يُخرج على هذا الترتيب، فيبدأ بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك)، فيبدأ أول ما يبدأ بنفسه، ثم بعد ذلك بزوجته؛ لأن نفقتها متأصلة وليست بعارضة، بخلاف الأجير، أو المملوك، فإذا فضل بعد ذلك ينتقل إلى الرقيق.
    قال المصنف رحمه الله: [فأمه فأبيه].
    وهما الوالدان.
    لكن هل يقدّم الأب، أم يقدّم الأم؟ الصحيح: أن الأم تقدّم، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سأله رجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، قال العلماء رحمة الله عليهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم الأم على الأب، وجعل لها ثلاثة حقوق من أربعة، وجعل للأب ربعها، وذلك لعظيم ما للأم من فضل وإحسان وبر للولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فعليه أن يبدأ بأمه قبل أبيه، وهذه مسألة مطردة، من أمثلتها: لو مات الوالدان ولم يحجا، فهل يبدأ بالحج عن أمه، أم عن أبيه؟ يبدأ بالحج عن أمه، ويقدمها على أبيه، وقس على هذا، ومنها: مسألة التعارض، فأمرته أمه وأمره أبوه، فأيهما يطيع؟ هذا يحتاج إلى تفصيل؛ لكن لو تساويا في المرتبة فالأم مقدمة على الأب، على تفصيل يذكره العلماء رحمة الله عليهم في باب البر.
    قال المصنف رحمه الله: [فولده، فأقرب في ميراث].
    (فولده) أي: بعد ذلك يقدم الولد، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فيخرج عن أولاده إذا فضل شيء بعد الوالدين.
    قال المصنف رحمه الله: [فأقرب في ميراث].
    أي: بعد ذلك ينظر إلى الأقرب في الميراث، فابن العم إذا كان مشلولاً عاجزاً عن الكسب، ولزمتك نفقته، وهناك ابن عم ثان؛ لكن الأول ابن عم شقيق والثاني ابن عم لأب، فإن ابن العم الشقيق يُقدم على ابن العم لأب، وقس على هذا، فإن الإخوة الأشقاء يقدمون على الأعمام، فإذا كان هناك أخٌ شقيق عاجز عن الكسب وتلزمك نفقته وهناك عم شقيق، فتقدِّم الأخ الشقيق على العم الشقيق؛ لأن جهة الأخوة أقوى من جهة العمومة؛ ولأنه شاركك في أحد أصليك أو فيهما معاً، ولكن العم شارك أباك ولم يشاركك، ولا شك أن الأخ أقرب من هذا الوجه، ولذلك يقدم على العم، وغيره من مسائل الترتيب المعروفة، والتي تقدمت الإشارة إليها في باب الجنائز.
    قال المصنف رحمه الله: [والعبد بين شركاء عليهم صاع].
    فلو كان هناك رجلان يملكان عبداً واحداً نصفه لزيدٍ ونصفه لعمرٍ، فحينئذٍ على هذا نصف صاع وعلى هذا نصف صاع.
    (96/6)
    ________________________________________
    إخراج الزكاة عن الجنين وعن المرأة الناشز
    قال المصنف رحمه الله: [ويستحب عن الجنين].
    لأنه فعل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد، وفعله بعض السلف أيضاً، وكان يفتي به سليمان بن يسار رحمة الله عليه، وقالوا: إنه يستحب إخراجه عن الجنين على التفصيل الذي ذكرناه، وذلك إذا استتمت له المدة أما إذا كان ناقصاً عنها فلا يستحب.
    قال المصنف رحمه الله: [ولا تجب لناشز].
    أي: ولا تجب صدقة الفطر عن ناشز وهي المرأة التي نشزت، والنشز: هو المرتفع من الأرض، كالهضبة ونحوها، والكدية ونحوها من الأشياء التي ليست على منبسط الأرض، ووصفت المرأة بكونها ناشزاً كأنها تعالت عن زوجها؛ لأن الله جل وعلا خصّ الرجال بفضائل وخصّ النساء بفضائل، فجعل للرجل فضل القيومية على المرأة، وذلك لما جعل فيه من الخصائص المعينة في ذلك، وجعل للمرأة ما جعل من اللين والرفق والدعة والسكون لكي يجبر الله نقص هذا بكمال هذا، ويكون في ذلك الخير للأولاد، بوجود الشدة إذا احتاج إلى شدة ووجود اللين والرفق إذا احتاج إلى اللين والرفق والحنان، فإذا كانت المرأة خرجت عن هذه الفطرة توصف بكونها ناشزاً، أي: تتعالى على زوجها، فإن أمرها لا تأتمر، وإن نهاها لا تنتهي، وإذا دعاها إلى فراشه امتنعت، والنشوز أبلغ ما يكون في الامتناع عن الاستمتاع، وهو الذي وردت فيه اللعنة -والعياذ بالله- فإذا نشزت عن زوجها أو ذهبت إلى بيت أهلها بدون إذن زوجها، وبدون إضرار من الزوج أيضاً، ففي هذه الحالة تسقط نفقتها، وحينئذٍ لا يُطالب الزوج بإخراج زكاة الفطر عنها، وإنما يطالب إذا كانت في طاعته وقائمة بحقوقه وتلزمه نفقتها.
    (96/7)
    ________________________________________
    إخراج الزكاة بدون الإذن ممن أمر بالإنفاق عليه
    [ومن لزمت غيره فطرته، فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت].
    هذه المسألة صورتها: أن يكون الإنسان مطالباً بالزكاة عن شخص، ثم يُخرج هذا الشخص عن نفسه بدون إذن من أُمر بالإنفاق عليه، كأن تُخرج الزوجة بدون علم أو استئذان من الزوج، أو يخرج الولد إذا كان في نفقة أبيه بدون علم أبيه وبدون استئذانه -أما إذا استأذن فلا إشكال، فلو قالت الزوجة لزوجها: سأخرج صدقة الفطر، فلا إشكال- فللعلماء رحمة الله عليهم وجهان: بعض العلماء يقول: صدقة الفطر متوجه الخطاب فيها إلى هذه المرأة -التي هي الزوجة- ولكن أُسقطت عنها فوجِّه الخطاب إلى الزوج لوجوب النفقة عليه، فإن أخرجت الزوجة أجزأها لأنه الأصل، وعلى هذا درج المصنف.
    ومنهم من يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وحينئذٍ لا يجزيها أن تُخرِج حتى تستأذن المطالب بها وهو الزوج، وهذا أقوى إعمالاً للأصول، ولذلك لو أن امرأة تملك حلياً، ثم أراد الزوج أن يُخرج زكاة حليها بدون علمها، فهذا بالإجماع لا يجزئ؛ لأن الزكاة لابد فيها من النية، وهي لم تنو الإخراج، ولم توكله بذلك، فصارت صدقة محضة، وكذلك هنا، فإنه إذا أخرجها بدون إذن المخاطب بها أصلاً، صارت من محض الصدقات، والورع أنه لابد من الاستئذان، ولا تصح إلا بنية على الوجه الذي ذكرناه.
    (96/8)
    ________________________________________
    وقت وجوب زكاة الفطر
    [وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر].
    لقوله: (صدقة الفطر من رمضان) فأسند الصدقة إلى الفطر من رمضان، واختلف العلماء في وقت وجوبها: فقال بعضهم: تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لأنه إذا غابت شمس آخر يوم من رمضان فإن الليل محسوب لشهر الفطر، وهو شهر شوال.
    ومنهم من قال: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد؛ لأن الفطر لا يتحقق إلا بطلوع الفجر، وبناءً على ذلك يبتدئ فطره بطلوع الفجر.
    ومنهم من يقول: بطلوع الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر عند غدُوِّه إلى المصلى، وكان غُدُوُّه بحيث تكون الشمس قد ارتفعت على قدر رمحين، فكان يصلي بالناس صلاة العيد في ذلك الوقت، ومعنى ذلك: أن خروجه سيكون -كما هو معلوم لمن قدّر المسافة بين مصلاه عليه الصلاة والسلام وحجراته- بعد طلوع الشمس.
    وفائدة هذا الخلاف: أنه لو أسلم الكافر قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان فحينئذٍ تجب عليه صدقة الفطر، لماذا؟ لأنه يكون في حكم من أدرك رمضان، ويلزمه كذلك قضاء آخر يوم من رمضان إذا أسلم قبل غروب شمسه، وإذا قلنا: إن العبرة بطلوع الفجر، فحينئذٍ تتأقت بطلوع الفجر، فعلى هذا لو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر فلا تجب عليه الزكاة، وكذلك لو اشترى عبداً في هذا الوقت لا تجب عليه الزكاة أيضاً؛ لأنه دخل في ملكه ولم يوجد بعدُ سبب الوجوب أو سبب مخاطبته بالزكاة، وإنما تجب على سيده الأول، وقس على هذا بقية المسائل، فهذه فائدة الخلاف، هل تجب الزكاة بغروب شمس آخر يوم من رمضان، أم تجب بطلوع فجر يوم العيد، أم بطلوع الشمس فيه؟ والأقوى أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ لظاهر حديث ابن عمر: (صدقة الفطر من رمضان)، فأسندها إلى الفطر، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]، فإن إكمال العدة إنما يكون بمغيب شمس آخر يوم من رمضان، وعلى هذا فالعبرة بمغيب شمس آخر يوم من رمضان.
    قال المصنف رحمه الله: [فمن أسلم بعده أو ملك عبداً أو تزوج أو وُلد له لم تلزمه فطرته].
    لما ذكرناه في فائدة الخلاف في وقت الوجوب.
    قال: [وقبله تلزم].
    لأنه وجد السبب الموجب للوجوب.
    قال المصنف رحمه الله: [ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط].
    هذا ثابت في الصحيح أنهم كانوا يخرجون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تجوز قبله بثلاثة أيام، وقال الإمام أبو حنيفة: يجوز إخراجها من أول رمضان؛ لأنه يرى أنها متعلقة بالشهر، وإذا وُجد السبب من أوله جاز الإخراج، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الأصل إخراجها ليلة العيد، ولأن مقصود الشرع إغناء الفقراء ليلة العيد ويومه، وبناءً على ذلك يكون إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين رخصة، والأصل إخراجها في ليلة العيد ويومه قبل الصلاة.
    قال المصنف رحمه الله: [ويوم العيد قبل الصلاة أفضل].
    لأنه يحقق مقصود الشرع من إغناء السائلين، وإعفافهم عن المسألة.
    قال المصنف رحمه الله: [وتكره في باقيه].
    أي: وتكره في باقي اليوم، يعني بعد الصلاة، والكراهة هنا إما أن تكون تنزيهية أو تحريمية، والأقوى أنها تحريمية، فإذا أخرجها بعد الصلاة فإنها تعتبر صدقة من الصدقات ويأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
    ولقول ابن عمر في الحديث: (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، فدل على أنه يجب على المكلف أن يخرجها قبل الصلاة، وأن إخراجها بعد الصلاة يوجب الإثم للمخرج.
    قال المصنف رحمه الله: [ويقضيها بعد يومه آثماً].
    (96/9)
    ________________________________________
    القدر الواجب في زكاة الفطر
    يقول المؤلف عليه رحمة الله: [ويجب صاع من بر أو شعير].
    شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان القدر الواجب من زكاة الفطر، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) وهذا يدل على القدر الواجب في زكاة الفطر، وهو الصاع، والصاع النبوي أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وهو الصاع الذي عنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (وكان يغتسل بالصاع)، وأما المد فإنه ربعه، فيقال: مدٌ ويقال: ربع صاع، كل ذلك بمعنى واحد، فيخرج صاعاً -أربعة أمداد- من بر أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط، وإذا كان هناك طعام تعارف الناس عليه كالأرز في زماننا، فإنه يخرجه ويجزيه؛ لأن مقصود الشرع إغناء السائلين بالطعام في هذا اليوم، ولا شك أن الأرز يقوم مقام المطعومات الموجودة على عهده صلى الله عليه وسلم، وهو يحقق مقصود الشرع من إغناء السائل في يوم العيد، ولذلك يخرج الإنسان منه ولا حرج عليه في ذلك.
    قال المصنف رحمه الله: [أو دقيقهما أو سويقهما].
    إذا طُحن الشعير والبر فأخرج من دقيقهما أو سويقهما الذي طُحن ثم لُتَّ واستوى على النار ونضج، ثم بعد ذلك صار سويقاً، فيجوز أن يخرج منه صاعاً، سواءً هذا أو ذاك، والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الصاع من الطعام نفسه.
    قال المصنف رحمه الله: [أو تمرٍ أو زبيب أو أقط، فإن عدم الخمسة أجزأ كل حب وثمر يُقتات].
    فبيّن رحمه الله بهذا أن الحكم لا يختص بالإخراج من هذه الخمسة فقط، ولكن العبرة بالطعام، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد: (كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام)، قالوا: وهذا يدل على العموم، وإن كان بعضهم يرى أن ما بعده مفسر له، والبعض يحمله على البر، وعلى العموم قال العلماء: العبرة بكونه يرتفق به مطعوماً، فإذا حصل ذلك فقد أجزأ.
    قال المصنف رحمه الله: [لا معيب ولا خُبز].
    أي: لا يجوز أن يخرج المعيب من الحبوب، فلو أخرج شعيراً فيه السوس، أو تغيّر أو تعفّن فلا يجوز له أن يخرجه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد نهى الله عز وجل المسلم أن يقصد إلى الخبيث، والمراد بالخبيث من الطعام الرديء منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فدلّ على أنه لا يجوز إخراج الرديء من الطعام، ويستوي في ذلك صدقة الفطر وغيرها من الصدقات الواجبة، فيخرجه من أوسط الطعام، لا يُطالب بالجيد الأعلى ولا يطالب بالرديء الأدنى، ولكن يخرج من المتوسط، والدليل على ذلك: أن الله نهى عن الرديء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كرائم الأموال، فقال: (وإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم)، فيخرج من المتوسط، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، فلا يجزئ أن يخرج صاعاً معيباً، كأن يكون تمراً فيه سوس، أو طالت مدته حتى تغيَّر.
    قال المصنف رحمه الله: [ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه].
    فلو أنه أخذ الصاع فقسمه بين أربعة مساكين لكل مسكين ربع صاع أجزأه، وهكذا لو قسمه بين مسكينين فأعطى كل مسكين نصف صاع أجزأه، فيجوز أن يُخرج ما للواحد للجماعة، ويجوز أن يخرج ما للجماعة للواحد، فلو أنه هو وأهل بيته يجب عليه إخراج خمسة آصع، فوجد مسكيناً فأعطاه الخمسة الآصع أجزأه ذلك، ولكن بشرط ألا يتوسع في حق المسكين على حساب غيره.
    وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
    (96/10)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (96/11)
    ________________________________________
    وجوب زكاة الفطر على من أفطر في رمضان

    السؤال
    هل تجب زكاة الفطر على من أفطر شهر رمضان كاملاً لعذرٍ شرعي كالحامل والمرضع وغيرهما؟ وهل إذا قضى صيام شهر رمضان تجب عليه الزكاة بعد ذلك، أي: هل زكاة الفطر تتعلق بالصائم دون المفطر، أثابكم الله؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإن من أفطر في شهر رمضان فإنه يجب عليه أن يؤدي زكاة الفطر، سواءً كان معذوراً أو غير معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، والمراد بذلك الزمان، وعلى هذا فإنه يخرجها وتجب عليه، ونصّ على هذا أهل العلم رحمة الله عليهم.
    والقول بأنها تسقط عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (طعمة للمساكين، وطهرة للصائم من اللغو والرفث) ضعيف، والصحيح: ما نص عليه الجماهير من أنها شرعت طعمة للمساكين وغناءً لهم يوم العيد، وعلى هذا كونها تطهِّر الصائم من اللغو والرفث مشترك مع غيره من العلة الموجودة، ويجوز تعليل الحكم بعلتين على أصح أقوال الأصوليين، وحينئذٍ يستقيم أن يخاطب بها إعمالاً للأصل؛ لأنه أفطر من رمضان، والمراد أنه دخلت عليه ليلة العيد وهي ليلة الفطر من رمضان.
    ألا ترى أنهم نصوا على أنه لو أسلم الكافر قبل مغيب الشمس ولو بلحظة أنه تجب عليه زكاة الفطر مع أنه لم يصم، وبناءً على ذلك لا يشترط أن يكون قد صام، بل زكاة الفطر واجبة على من صام أو أفطر بعذر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يُخرجوا زكاة الفطر، ولم يفصِّل، حيث لم يقل: (من أفطر شيئاً من رمضان فلا زكاة عليه)، ولم يقل: (من كان شيخاً كبيراً فأفطر فلا زكاة عليه)، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وبناءً على ذلك يجب عليه أن يؤدي الزكاة، سواءً كان مفطراً أو كان صائماً.
    وأما ما ذكرته من كونه يؤخرها إلى القضاء، فهذا لم يقل به أحدٌ من العلماء.
    والله تعالى أعلم.
    (96/12)
    ________________________________________
    إخراج القيمة في زكاة الفطر

    السؤال
    هل يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، لا سيما وأنها أحياناً قد تكون أحب للفقير، أثابكم الله؟

    الجواب
    اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز أن يُخرج القيمة بدل الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من الطعام؛ ولأن النقد كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بإخراج النقد بدل الطعام؛ ولأن الطعام يأخذه المحتاج ولا يأخذه غير المحتاج، وأما النقد فيأخذه المحتاج وغير المحتاج؛ ولأن المقصود أن يغنيهم بالطعام، بخلاف ما إذا أعطاهم المال فبذَّروه في غير ما مصلحة، فلا شك أن أخراج الطعام أولى للأثر وللنظر، وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم يُخرجون صدقة الفطر ويأمرون بها، وما حُفظ عن واحد منهم أنه اجتهد فأمر الناس بإخراج القيمة، وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز إخراج القيمة.
    وذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه إلى جواز إخراج القيمة، واحتج بدليلين: أولهما: حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن قال لأهل اليمن: (ائتوني بخميصٍ أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) قالوا: فطلب البدل في الزكاة، فدل على جواز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام، كما طلب الثياب بدلاً عن الورِق، إذاً: يجوز أن يأخذ الورق أو الذهب بدل الطعام، وهذا الدليل أُجيب عنه بأنه في الجزية، وقوله (ائتوني بخميص أو لبيس) إنما هو في الجزية وليس في الزكاة، وبناءً على ذلك لا يعتبر دليلاً على جواز إخراج البدل في الزكاة.
    وأما الدليل الثاني فحديث ابن عباس: (اغنوهم عن السؤال ليلة العيد ويومه)، وهذا حديث تكلّم العلماء في سنده، وقوله: (اغنوهم) لا يدل على التأقيت والتحديد بالنقد؛ لأنه لو أُخذ قوله: (اغنوهم) على ظاهره من النقد لعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا قال: (اغنوهم) وأمر بإخراج الطعام دل على أن المراد بذلك الاستغناء والكفاية عن السؤال بوجود الطعام؛ لأنه إذا وجد الطعام اندفعت الضرورة، وهذا هو الصحيح.
    وعليه فلم يقم دليل قوي على إخراج النقد، وقد يقولون: إن النقد أرفق؛ لأن المسكين يأخذ الزكاة ويبيعها، فبدل أن يبيعها بقيمة قليلة فلنعطه القيمة الأصلية، فهذا أفضل.
    ولا شك أن هذا مردود عليه؛ لأن الثواب بالطعام أبلغ وأعظم أجراً من الثواب بالمال؛ لأن الطعام إذا أكله تحققت من حصول النفع له، وإذا باعه كان التفريط داخلاً منه، ولذلك قالوا: إنه يرتفق بالطعام أكثر من ارتفاقه بالنقد، وهذا صحيح؛ لأنه قد يأخذ النقد ويكون سفيهاً لا يحسن التصرف فيه.
    وبناءً عليه فإنه لا يجوز إخراج النقد بدل الطعام في صدقة الفطر.
    والله تعالى أعلم.
    (96/13)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب إخراج الزكاة
    الزكاة شأنها عظيم، ولذلك يجب على الإنسان أن يبادر بأدائها على الفور وألا يتأخر في ذلك، إلا إذا وجد الضرر، فيجوز له أن يتأخر إلى زواله.
    والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ولذلك فإن من منعها جاحداً لوجوبها وهو عارف به فقد ارتد عن دين الإسلام، ويجب أخذها منه وقتله، وأما منع الزكاة بخلاً بها فهو من كبائر الذنوب، وكفران لنعمة الله عز وجل، وهو مؤذن بزوال الأموال ومحق بركتها، ويجب على الوالي أخذها منه وتعزيره.
    (97/1)
    ________________________________________
    وجوب إخراج الزكاة في وقتها
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب إخراج الزكاة].
    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بصفة إخراج الزكاة الواجبة، وذلك أن إخراج الزكاة، فيه بعض المسائل التي تتعلق بالمُخرج، وكذلك بالنسبة لمن يُعطى الزكاة، فناسب أن يُفردها رحمه الله بهذا الباب.
    [ويجب على الفور].
    أي: ويجب إخراج الزكاة على الفور، والفور: ضد التراخي، ومعنى هذه العبارة: أن المسلم إذا أوجب الله عليه زكاة ماله؛ فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة في وقتها، كما قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فلذلك يجب عليه أن يبادر، وأن يمتثل أمر الله عز وجل، فيُخرج الزكاة فوراً ولا يتأخر، قال العلماء: الأصل في الأمر أنه يقتضي الفور، إلا إذا دل الدليل على التراخي، فإنه إذا قال السيد لعبده: قم، فتأخر في القيام ساعة استحق أن يعاقبه، قالوا: فهذا يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الفورية، ولذلك نص الأصوليون على وجوب المبادرة بفعل الأوامر، وأنه لا يجوز التأخر إلا إذا أذن الشرع بالتأخير والتراخي.
    فمثلاً: إذا زالت الشمس توجه الخطاب بصلاة الظهر، ووجب على المسلم أن يصلي أربع ركعات، ولكن الأمر فيه شيءٌ من التراخي؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما بين هذين وقت) فجعله مخيراً، وهذا يدل على أنه يجوز له أن يتأخر، إلا إذا كانت هناك جماعة ونادى المنادي، فيجب عليه السعي إليها.
    فالشاهد: أن الأوامر ينبغي أن يبادر المكلف بفعلها، والزكاة من جنس الواجبات والفروض التي أمر الله، فلا يجوز له أن يؤخرها؛ ولأنه إذا أخَّرها أضر بالفقراء والضعفاء والمساكين، ومن هنا تتفرع مسائل: منها: أن بعض الوكلاء يأخذون الزكاة بقصد إعطائها للفقراء والمساكين، فتمكث الزكاة عندهم بالأيام، بل بالأسابيع، بل بالشهور، وقد تتأخر إلى سنة كاملة، وهذا من الظلم وصاحبه آثم، والسبب في ذلك: أن من أخذ الزكاة يريد إنفاقها، فينبغي عليه أن يكون على بصيرة بالمستحقين، ويكون عنده ديوان أو كتاب يحدد فيه الأشخاص الذين يريد أن يصرف الزكاة إليهم، فإن كان الأشخاص المسجلون عنده يبلغون -مثلاً- خمسة أشخاص وتجزيهم الخمسة آلاف، فلا يجوز له أن يأخذ عشرة آلاف ويعطل ما تبقى منها حتى يبحث عن مستحق، بل يأخذ بقدر ما يعلم من الفقراء والضعفاء.
    وهذه المسألة يخلط فيها الكثير، وتضيع بسببها حقوق، وقد يبقى الضعفاء والفقراء محرومون من أموال كثيرة مجمدة، وهذا لا يجوز، بل ينبغي على الإنسان إذا توكّل بالزكاة أن يأخذ بيد وأن يعطي بأخرى، مبادرة للامتثال بأمر الله عز وجل، ولا يجوز التأخير إلا في حدود ضيقة، وكان بعض العلماء والفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم ممن أدركناهم لا يستطيع أن ينام أحدهم ليلته وعنده شيء من الزكاة، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في قصة الدينارين أنه تخطّى الرقاب بعد صلاة الفجر مهموماً مغموماً، وقال: (ما ظني لو أني مت وعندي هذان الديناران؟!)، فهذا يدل على عظم أمر الزكاة، وكون الإنسان يأخذ العشرة آلاف والعشرين الألف ويجمدها في رصيده أو يضعها في بيته، والفقراء يكتوون بالجوع، والمديونون والمعسرون يُهانون ويُذلُّون بذل الدين وهوانه، فإن الله سيحاسبهم على ذلك كله، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، بل ينبغي أن يتشدد في هذا الأمر على نفسه، ولا يأخذ الزكاة إلا وقد علم بأهلها، وإن استطاع أن لا يبيت وعنده شيءٌ منها، فذلك هو الحسن والأكمل، أما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من كونه أعطى الصدقة لـ أبي هريرة ليحفظها فهذا أمر يرجع إلى قسمته عليه الصلاة والسلام للضعفاء الذين كانوا يأتونه من القرى، وهذه أحوال استثناها العلماء.
    وكذلك بالنسبة لصاحب المال إذا أراد أن يُخرج زكاة ماله، فلو فرضنا أن زكاة ماله عشرة آلاف ريال، وهو يريد أن يُخرجها بنفسه، فعليه أن يتحرى قبل نهاية الحول، فيكتب الضعفاء والفقراء، حتى إذا انتهى الحول أوصل لكل ذي حق حقه، أما أن يبقيها مجمدة عنده، ويتحرى ويتأخر ويماطل، فهذا لا يبعد أن يكون كالذي قبله، ولذلك نبّه العلماء على أنه ينبغي على من توكّل بالزكاة أن يتقي الله في حقوق الضعفاء والفقراء، فإن الله جعل الزكاة حقاً، ولم يجعل لأحد فيها منّة على الضعيف والفقير، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، فجعله حقاً واجباً، حتى إن بعض العلماء يقول: لا ينبغي للغني إذا أعطى الفقير أن يرفع يده عليه، حتى لا يشعره بالذلة؛ لأن هذا حقٌ واجب، وليست بصدقة نفل.
    فالزكاة أمرها عظيم، فينبغي أن يبادر الإنسان بأدائها على الفور، وأن يُنصح كل من يأخذ الزكاة، سواء كان يأخذها على سبيل الأفراد أو على سبيل الجماعة ألا يتأخر فيها، وأن يبادر بإخراجها لأهلها.
    (97/2)
    ________________________________________
    جواز تأخير إخراج الزكاة للضرورة
    يقول المصنف رحمه الله: [مع إمكانه].
    (مع إمكانه) الإمكان: ما في وسع الإنسان، فإذا كان يمكنه وفي وسعه أن يبادر بادر، لكن لو جاءه ظرف لا يستطيع معه أن يتمكن من إخراج الزكاة، وهو شيءٌ يقهره ويمنعه من المبادرة بها، فحينئذٍ له أن يتأخر إلى أن يتمكن، والأصل في ذلك أن الله عز وجل كلّف العباد بما في وسعهم، ولم يكلِّفهم بما هو خارج عن وسعهم، ومن هنا قعّد العلماء القاعدة التي تقول: (التكليف شرطه الإمكان)، وهذه قاعدة مستنبطة من قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإن كان بإمكانه أن يبادر بالإخراج لزمه الإخراج فوراً، وإن كان لا يمكنه إلا بعد ساعات، أو بعد أيام، أو بعد أسابيع، فيعذر بقدر الضرورة التي ضيقت عليه أو منعته من المبادرة بامتثال أمر الله عز وجل بإخراج الزكاة.
    [إلا لضرورة].
    أي: إلا إذا وجد الضرر، فإذا وجد الضرر جاز له أن يتأخر إلى زواله، كأن يعلم بأهل بيت هم مساكين أو فقراء، ولكن الطريق الذي يريد أن يذهب فيه بهذه الزكاة فيه ضرر، فيؤخِّر إلى زواله، حتى يعطي المستحق حقه، كأن يخشى من لصوص أو قطع طريق أو نحو ذلك من الأسباب، فحينئذٍ يجوز له أن يؤخر خوفاً من هذا الضرر، ويستوي في ذلك أن يكون الضرر متعلقاً به أو متعلقاً بماله أو متعلقاً بأهله وولده، فهذه الأحوال يجوز له أن يؤخر فيها، ولا يجوز له أن يؤخر إلا عند خوف الضرر الذي يصل به إما إلى مرتبة الحاجيات أو مرتبة الضروريات، ومرتبة الضروريات كأن يخاف على نفسه الهلاك، ومرتبة الحاجيات دونها، فلا يخاف الهلاك والموت، ولكن يخاف الضرر والإجحاف، كمذلة ومهانة لا تليق بمثله، ونحو ذلك، فإن نزلت نظرنا، إن وصلت إلى قدر الحاجيات ساغ ذلك للقاعدة: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة)، وإن كانت دون مرتبة الحاجة والضرورة فلا يجوز تأخيرها، ومن توسع في تأخير الزكاة أثِم.
    والأصل في إسقاط الإخراج الفوري لوجود الضرر: أن الشريعة لا تأمر بالضرر، فلو كان هناك ضررٌ في الإخراج الفوري، وقلنا للمكلف: أخرجها فوراً، فقد أُمر بالضرر، والله لا يأمر بالضرر، ولذلك ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)، وهذا يدل على أن الضرر لا يأمر به الشرع، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والضرر فيه حرج، ولذلك لا يأمر الله عز وجل بما فيه حرج، فإذا كان إخراجه للمال فوراً فيه حرج وضرر عليه، نقول أخِّر حتى يزول الضرر، للقاعدة: (أن ما شُرع لحاجة بطل بزوالها)، فإذا زال الضرر أو ذهب تزول معه الرخصة، فحينئذٍ يجب عليه الإخراج فوراً.
    (97/3)
    ________________________________________
    حكم من جحد وجوب الزكاة
    قال رحمه الله: [فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم].
    (فإن منعها) أي: الزكاة، (جاحداً لوجوبها) -نسأل الله السلامة والعافية- قيل له: أدِّ زكاة مالك، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: لا زكاة، أو طرد الذي بعثه الوالي لجلب الزكاة، وقال: لا أريد أن أخرجها، وليست هناك زكاة، فقال له: اتق الله، فإن الله فرض عليك الزكاة، فقال: الزكاة غير مفروضة -نسأل الله السلامة والعافية-، فجحد أن الله أوجب على عباده زكاةً، فهذا يعتبر كافراً بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة يقتضي الكفر، فمن أنكر فرضية الصلاة أو فرضية الزكاة فإنه يعتبر كافراً بإجماع المسلمين، وهذا يسميه العلماء: إنكار المعلوم من الدين بالضرورة.
    وخصّ المصنف التكفير بحالة ما إذا كان عالماً كأهل الردة، فإنهم لما ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما توفِّي النبي عليه الصلاة والسلام قالوا في سبب ردتهم حينما منعوا الزكاة: مات الذي أُمرنا بدفع الزكاة إليه، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الله يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، وما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي علينا.
    يستخفُّون بـ أبي بكر رضي الله عنه، يقولون: إن الزكاة إنما أوجبها الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول له: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] فخصّ الخطاب به، وغفلوا أن هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم والأمر له أمرٌ لأمته بالتبع، فأنكروا فرضية الزكاة على هذا الوجه، ومن هنا كفروا، ولم يكفروا لمنع الزكاة؛ لأن مانع الزكاة لا يكفَّر إلا إذا جحد، وأهل الردة جحدوا، ومن هنا قال أبو بكر: (والله لو منعوني عناقاً -وفي رواية: عقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)، فإذا منع وأنكر فقد كفر.
    لكن اشترط العلماء في تكفير من جحد الزكاة، أن يكون عارفاً بوجوب الزكاة، عالماً به، فإذا كان جاهلاً أن الزكاة مفروضة، وقال: ليس هناك زكاة، وأنكر لجهله لم يكفَّر.
    ومن أمثلة ذلك: حديث العهد بالإسلام، فلو أن رجلاً أسلم وعنده تجارة، ثم حال عليها الحول، فجاء المصدِّق والمزكي، فقال له: أد الزكاة، فقال: أي زكاة.
    ليست هناك زكاة، فأنكر الزكاة لجهله بالإسلام، وعدم علمه، فيعرَّف مثل هذا ويعلّم، ولا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة.
    [وأخذت منه وقتل].
    أي: وأُخذت من الذي منع وجحد وقُتل، فهناك حكمان يتعلقان بمن منع جحوداً -والعياذ بالله-: أولهما: أخذ الزكاة منه؛ لأن الزكاة متعلقة بالفقراء، وحقٌ للفقراء والمساكين، فكونه يرتد، لا يمنع أن نأخذ الحق الواجب في ماله، كما لو ارتد وعليه دين للمسلمين، فإننا نأخذ من ماله سداداً لدين المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فدين الله أحق أن يقضى)، فالزكاة حقٌ لله عز وجل في ماله، وهو دين واجب عليه أن يؤديه، وقد صرّح النبي صلى الله عليه وسلم بكون الحقوق ديناً على المكلف، فإذا امتنع من أدائها قوتِل وأُخذَت منه، وإذا جحدها قُتل وأخذت منه، أي: من ماله؛ لأنها دينٌ للفقراء والمساكين، فوجب أن يؤخذ هذا الدين ويعطى لأصحابه المستحقين.
    الحكم الثاني: أنه يقتل، ويستتاب المرتد ثلاثاً -كما سيأتي إن شاء الله في أحكام المرتدين- فإن تاب وإلا قتل، وهل يشمل ذلك مانع الزكاة، أو لا يشمله؟ فيه كلام للعلماء رحمة الله عليهم، ووجّه بعض العلماء أنه يقتل مباشرة.
    (97/4)
    ________________________________________
    حكم من منع أداء الزكاة بخلاً
    قال رحمه الله: [أو بخلاً أُخذت منه وعزر].
    أي: (أو منعها بخلاً، فقال: الزكاة واجبة، فقيل له: أد الزكاة، قال: لا أؤديها، فهو مقرٌ بوجوبها، ولكنه بخل بها -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من أسوأ ما يكون من العبد أن يكفر نعمة الله عليه، وأن يجحد ويبخل بما آتاه الله من فضله، ولذلك آذن الله أموال البخلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله أن يمحق بركتها، وقد يسلبهم بها فيكويهم بنار سلبها في الدنيا: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفِّحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).
    فمنع الزكاة والبخل بها من كبائر الذنوب، ولذلك يؤذن الله أهل المنع بمحق البركة من أموالهم، ويعذبهم بها، فتزهق أنفسهم.
    فما من إنسان يمتنع من أداء حق الزكاة إلا ضيق الله عليه كما ضيق على الفقراء، وتجده في ضيق ونكد من العيش، ولو كانت أموال الدنيا تصب في حجره؛ لأن الله أصابه بزهق النفس؛ بسبب بخله بما آتاه الله من فضله، وقد يعاقبه الله بعقوبة في دينه، فيفتنه أو يبتليه بنفاق، فيختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله-: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة:77]، فهذا يدل على أن التمرد على الله وكفران نعمة الله عز وجل يؤذن بزوال الأموال، كما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى؛ فإنه لما جحد الأقرع والأبرص وبخلا بفضل الله عز وجل عليهما وعندما: (جاء الملك إلى الأعمى في صورته وقال له: ابن سبيل منقطع، فقال له: دونك الوادي، وفيه الغنم فخذ منه ما شئت، فقد كنت فقيراً فأغناني الله، والله لا أرزؤك من مالي اليوم شيئاً -وهذا حال أهل الوفاء-، فقال: أمسك عليك مالك فقد هلك صاحباك)، فهذا يدل على أن من بخل -والعياذ بالله- فإن الله سبحانه وتعالى يؤذن ماله بالهلاك.
    ومن البخل: البخل بنعم الله الأخرى، فلا يختص الحكم بالبخل بنعمة المال فقط، بل حتى البخل بنعمة العلم، في تعليم الجاهل إذا سأل وتوجيهه، فهذا أيضاً من أعظم البخل، وقد كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، قال: فكيف بمن حبس طعام الروح؟!! والمراد بذلك تعليم الناس وتوجيههم.
    فالمقصود: أنه لا يجوز للإنسان أن يبخل بما آتاه الله من فضله، ومن ذلك البخل بالزكاة، نسأل الله السلامة والعافية! [أُخذت منه وعزِّر].
    أخذت منه قهراً، أي: بالقوة والغصب، (وعزِّر)، للعلماء قولان: منهم من يقول: تؤخذ وشطر المال، عقوبة وعزمة من عزمات الله عز وجل.
    ومنهم من يقول: تؤخذ الزكاة وحدها.
    وجمهور العلماء يقولون: تؤخذ الزكاة وحدها؛ لأن الأصل في أموال المسلمين أنه لا يجوز أخذها إلا بحق، فهذا منع الزكاة وهي حق فنأخذ الحق وحده، ولم يروا ثبوت الحديث في التعزير بأخذ شطر المال.
    وأما من قال: يؤخذ شطر المال فلقوله عليه الصلاة والسلام عمن منع الزكاة أي: الزكاة، لما منعها قال: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، قالوا: فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ الزكاة وشطر المال، وللعلماء في شطر المال قولان: منهم من يقول: شطر ماله كله، فلو كان عنده ذهب وفضة وإبل وغنم وبقر وعروض تجارة، فمنع إخراج الزكاة من عروض التجارة أو من الإبل، قالوا: نأخذ نصف ثروته كلها من عروض التجارة ومن غيرها، فلو كانت ثروته كلها عشرة ملايين فنأخذ نصفها وهو: خمسة ملايين، عزمة من عزمات الله عز وجل؛ لكفرانه لنعمة الله عز وجل عليه.
    ومنهم من يقول: يؤخذ شطر المال الذي منع إخراج الزكاة منه، فإن كان عنده -كما ذكرنا- عروض تجارة، وإبل وبقر وغنم وذهب وفضة، ومنع إخراجها من الذهب أُخذ نصف الذهب الذي عنده، وإن منع من عروض التجارة أُخذ نصف عروض التجارة التي عنده.
    والصحيح الأول: أنه يؤخذ من نصف المال كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا آخذوها وشطر ماله)، وهذا يدل على أنه شطر المال كله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الأخذ من المال الذي منع منه المانع، فدل على أنه يؤخذ نصف المال كله، وهذا هو الأقوى.
    وبعض العلماء يقول: الأمر يرجع إلى الوالي، فإن رأى أن تعزير هذا لمنعه وجيه عزّره بشطر المال، وإن أراد أن يخفِّف عنه لمصلحة يراها فلا حرج عليه في ذلك.
    (97/5)
    ________________________________________
    زكاة مال الصبي والمجنون
    قال رحمه الله: [وتجب في مال صبيٍ ومجنون].
    أي: (وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون) الصبي: من الصبا، والصبا: هو الطور الذي يسبق البلوغ، والبلوغ يكون بوصول الإنسان، بلغ الشيء إذا وصله، وسمي البلوغ بلوغاً؛ لأن الإنسان يصل فيه إلى طور العقل.
    فإذا كان الذي يملك المال صبياً، ومثال ذلك: لو مات رجلٌ وعنده ثروة، وخلّف ابنين، وقُسمت الثروة عليهما، ونصيب كل واحد منهما قد بلغ النصاب، وكان الصبيان دون البلوغ، فهما يتيمان،
    و
    السؤال
    هل نقول: إن اليتيم غير مكلّف، فكما أنه لا تجب عليه الصلاة لا يجب عليه أن يزكي، أم أننا نقول: إنه تجب عليه الزكاة في ماله؟ للعلماء قولان: الجمهور على وجوب الزكاة في أموال اليتامى، وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا تجب، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن الزكاة حق متعلق بالمال، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103]، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو المأمور باتباع سنته- أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة)، وهذا قد قاله بمسمعٍ ومرأى من فقهاء الصحابة؛ لأن عمر رضي الله عنه كان يمنع فقهاء الصحابة من الخروج من المدينة حتى إذا أرادوا أن يخرجوا للجهاد منعهم؛ خوفاً من نزول المسائل والنوازل، فإنه كان يستشيرهم، ومع ذلك قال هذه الكلمة ولم ينكر عليه أحد، فدلّ على أن الزكاة حق متعلق بالأموال، وليس متعلقاً بالمكلَّف نفسه، بمعنى: أنه يسقط على من كان غير مكلَّف كالصبي والمجنون.
    وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي ومال المجنون؛ لأن الصبي إذا كان عليه دين للمخلوق وجب عليه أن يؤديه، فكذلك الزكاة هي دين وحق لله في أموال الناس، فيجب عليه أن يخرجه، ولا تتعلق الزكاة بالبلوغ.
    (97/6)
    ________________________________________
    من يتولى إخراجها
    قال رحمه الله: [فيخرجها وليهما].
    الصبي والمجنون كلٌ منهما كما هو معلوم لا يُحسن التصرف في أمواله، فالصبي لو مات أبوه وترك له عقاراً فأراد أن يبيعه لما أحسن بيعه، وربما يبيع الذي (بمائة) (بعشرة) فهو لا يُحسن الأخذ لنفسه، ولو أراد أن يشتري شيئاً يشتهيه، وقيل له: هذا الشيء الذي تشتهيه لا نعطيكه إلا (بمائة)، وقيمته (عشرة) لاشتراه (بالمائة)؛ لأنه ليس عنده عقل يمنعه، ولذلك قالوا: لا يؤمن على ماله، فحجر الله على اليتامى، وعلى السفهاء رحمة بهم؛ لأنهم لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ولا الإعطاء لغيرهم، وهذا النوع من الحجر يسميه العلماء: الحجر لمصلحة المحجور، وهناك نوع ثانٍ وهو: الحجر لمصلحة الغير كالمفلس.
    فإذا حُجر على الصبي أو على اليتيم أو على المجنون، فمن الذي يُخرج الزكاة من أموالهم؟ يُخرجها الولي، والولي: شخصٌ يقيمه القاضي للنظر في مصلحة مال اليتيم والمجنون، فمثلاً: إذا توفي الأب نظر القاضي في ورثته وفي أقربائه، فإن وجد عم الصبي عاقلاً حكيماً رشيداً ديِّنا أميناً، وضع الأموال عنده، وهذا العم الذي يُنصَّب من القاضي ولياً عن اليتيم، هو الذي يبيع له ويشتري له، فلو رأى المصلحة أن يبيع بيوته باعها، ولو رأى المصلحة أن يشتري له عقاراً اشتراه، فيتصرف في ماله فيما فيه المصلحة، ولذلك قال عمر: (اتجروا في أموال اليتامى)، فجعل الأولياء مكلَّفين، وخوّل لهم أن يقوموا بالتجارة في أموال اليتامى طلباً لمصلحة الربح والنماء، فعلى هذا يُخاطب الولي بإخراج الزكاة، وكلما حان وقت وجوبها نظر إلى قدرها فأخرجه من المال وزكاه.
    (97/7)
    ________________________________________
    بعض أحكام إخراج الزكاة
    قال رحمه الله: [ولا يجوز إخراجها إلا بنية].
    أي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، ولما كان الباب معقوداً لأحكام الإخراج يرد

    السؤال
    هل يصح الإخراج بدون نية، أو لا بد من النية؟
    و
    الجواب
    أنه لا بد من النية؛ لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، والزكاة عبادة، ولما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، والزكاة عمل، فدلّ على أن الزكاة لا تصح إلا بنية، وعلى ذلك اتفق العلماء رحمة الله عليهم، وبناءً عليه: فلو أن إنساناً وجبت عليه الزكاة ألف ريال، فمرّ عليه مسكين وشكا له حاجته، فأعطاه الألف ريال شفقة عليه، ولم يتذكر أن عليه زكاة ألف ريال، وبعد أن ذهب المسكين تذكّر أن عليه زكاةً وهي ألف ريال، فنوى أن هذه الألف الماضية، قائمة مقام الزكاة فهذا لا يجزئ؛ لأن شرط النية أن تكون مصاحبة للعمل أو سابقة عنه باليسير الذي لا يضر، بمعنى: لا يوجد الفاصل الذي يضر، وبناءً على ذلك فلا بد من النية.
    (97/8)
    ________________________________________
    الأفضل للمزكي أداء الزكاة بنفسه
    قال رحمه الله: [والأفضل أن يفرِّقها بنفسه].
    أي: والأفضل والأكمل أن يفرق زكاته بنفسه؛ لما فيه من كمال الطاعة لله عز وجل، ولما فيه من المشقة والتعب الذي يأجره الله عليه، ولما فيه من الطمأنينة بوصول الحق إلى مستحقه، ولما فيه من خلو المسئولية بين يدي الله عز وجل، فإنك لو أعطيت زكاة مالك لرجل وقلت له: أخرج هذه الزكاة للفقراء.
    وهذا الرجل ضيَّع هذه الزكاة، فأنت مسئول بين يدي الله عنه، حتى ولو كان أميناً، فإن الله يسألك عن أمانته، لم أعطيته؟ ولذلك لا يجوز أن يوكِّل الإنسان بالزكاة إلا إذا كان على غلبة ظن بأمانة من يؤدي إليه وحفظه وقيامه بأداء الزكاة على وجهها، فلو كان أميناً ولكنه متباطئاً كسولاً يتأخر في أداء الحقوق، فأدّى الزكاة إليه وهو يعلم أنه متكاسل، فتباطأ وتكاسل، فإنه يأثم كإثمه؛ لأنه أعانه على الظلم وتأخير الحق عن مستحقه.
    إذاً الأفضل والأكمل خلواً من المسئولية وعظماً في الأجر أن يقوم بنفسه بأداء الزكاة، ولما فيه من تحصيل دعوة الفقراء والضعفاء، ولدعوات الفقراء والضعفاء لذة يعرفها من وجدها، فإنه لربما دعا له مسكين مستجاب الدعوة، أن يبارك الله له في ماله، ولما فيها من جمع القلوب، ولذلك يُحس الفقراء بعطف الأغنياء عليهم، ولكن إذا جاء وكيل الغني، وأعطاها إليه، لم يشعر بذلك العطف والحنان، ولكن أن يأتيه إلى داره، ويعطيه بنفس سمحة، ويُظهر له العطف والحنان، فذلك أبلغ في حصول الألفة والمحبة والترابط والتراحم بين المسلمين، وهذا مقصود شرعاً، ولذلك تجد الغني الذي يتولى زكاة ماله بنفسه مباركاً له، وكثيراً ما يجد من دعوات الخير، وكلّما فرجت الزكاة عن مكروب ومنكوب وتذكّر كربه قال: غفر الله لفلان؛ لأنه يذكر الساعة التي وقف عليه فأعطاه زكاته فيها، فلذلك الأفضل والأكمل أن يلي صاحب الزكاة إخراج زكاته لما فيه من تحصيل الأجور، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: (ثوابك على قدر نصبك) أي: على قدر ما تجدين من التعب في الطاعة يثيبك الله جل وعلا، ولذلك قال العلماء: الأفضل أن يلي الإنسان إخراج زكاته بنفسه؛ لأنه إذا ذهب إلى بيوت الفقراء والضعفاء نظر في حالهم، فلربما وجد عورة، فزاد على الزكاة بالصدقة، ولربما كشف حاجة لمحتاج، وفرَّج نكبة لمنكوب، وكربة لمكروب، وهذا لا شك أنه أفضل، فهو يحصِّل وجوه خير كثيرة، مع ما فيه من احتساب الخطوات بمشيه في طاعة الله عز وجل، واحتساب الوقت، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها.
    (97/9)
    ________________________________________
    الدعاء لمن أخرج الزكاة
    قال رحمه الله: [ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد].
    الذي ورد أن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، (وصل) بمعنى: ادع، ومنه قول الشاعر: تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلاً يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا فدعت لأبيها فقال: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا فقوله: (عليك مثل الذي صلّيت) أي: دعوتِ.
    فالصلاة في اللغة هي: الدعاء، فلما قال الله جل وعلا: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وهذه هي السنة أن الإمام ومن يقوم مقامه كالسعاة الذين يأخذون الزكاة من الناس، يُسن لهم إذا أخذوا الزكاة أن يدعوا للمتصدق: أن يبارك الله له في ماله، وأن يبارك له فيما آتاه، وأن يقولوا له القول الحسن الذي يحمله على محبة الخير والزيادة منه، وهذا مقصود شرعاً، وورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال كما في الصحيح: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى)، قال بعض العلماء: أي: ارحمهم؛ لأن الصلاة تُطلق بمعنى الرحمة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]، فصلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الرحمة، وقيل: (صلِّ) أي: بارك لهم فيما أعطيتهم من المال والخير، وهذه نعمة عظيمة؛ لأنه ليس المهم أن يكون عند الإنسان مال، ولكن الأهم أن يبارك الله له في هذا المال، ولذلك يدعو له بالبركة، ويقول: اللهم بارك لفلان، والأفضل أن يشمله وأهله بالدعاء، فيقول: اللهم بارك لآل فلان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى).
    وأما بالنسبة لمن يعطيها فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يقول: (اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً)، وهذا حديث ضعيف تكلم العلماء في سنده، والصحيح: أنه ليس هناك تقيد أو إلزام بذكر معين، والأمر واسع؛ لأن القاعدة: (أن ما أطلقه الشرع من الأذكار يبقى مطلقاً حتى يرد التقييد) ولم يرد تقييد في هذا بدليل ثابت في الكتاب والسنة، فبقي المطلق على إطلاقه.
    (97/10)
    ________________________________________
    إخراج الزكاة لفقراء البلد
    قال رحمه الله: [والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده].
    هذه العبارة المراد بها أن أصحاب الأموال يُخرِجون زكاة أموالهم في البلد الذي هم فيه، وفيه تجاراتهم وأموالهم، وهذا من حكمة الله عز وجل أنه جعل فقراء البلد غناهم في أموال الأغنياء في نفس البلد، والأصل في الإلزام بهذا ما ثبت في حديث معاذ في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة -أي: زكاةً- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يقل: (فأتني بها)، فدل على أن الزكاة تتعلق بالبلد، وهذا هو الصحيح على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد الزكاة بالبلد، وعلى هذا فلا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر.
    ومن تأمل ونظر وجد أن نقل الزكاة يفوِّت مصالح عظيمة، وإن كان في بعض الظروف الضيقة قد يحصِّل مصالح أو يدرأ مفاسد؛ لكنه في كثير من الأحوال يُضر بأهل البلد، ولذلك تجد في البلد الضعفاء والفقراء، ويكون فيه أغنياء، فإذا قيل لأحد من خارج البلد: تصدّق على فقراء هذا البلد، قال: إن فيه من الأغنياء ما يكفيه، ويسد عوزه، فيمتنع من الصدقة عليهم.
    ومن هنا قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا كان له أقرباء مستحقون للزكاة أن يبدأ بهم، وليس هذا من المحاباة، والسبب في هذا: أن أقارب الغني لا يُعطون إذا كانوا فقراء أو ضعفاء من الأجانب؛ لأن كل إنسان يقول: هذا قريب لفلان الغني، فيمتنع من إعطائه شيئاً، ولذلك تصبح قرابته وبالاً عليه بحرمانه الخير من الأجنبي ومن قريبه.
    ومن هنا قالوا: تعطى لفقراء البلد، حتى إذا سُدّت حاجتهم صُرفت إلى ما وراء ذلك البلد، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ إذ لا يُعقل أن يصل الإنسان مكاناً بعيداً وحوله الفقراء يكتوون بالجوع والأسى والألم، وفيهم الأيتام والضعفاء والأرامل، أما في الأحوال المخصوصة كالنكبات والفجائع التي تحصل في البلدان والأمصار، فرخّص بعض العلماء في نجدتها، وإن كان بعض العلماء قال: إن هذا له أصل من وجوب المبادرة في سد عوَز المسلم؛ لكن الكلام إذا لم تكن هناك مثل هذه الأحوال الطارئة، فإذا كان الناس في بلد، وجب على أغنيائهم أن يسدوا عوزهم، لما فيه من رعاية حق الجوار، فإن الناس في البلد الواحد بمثابة المتجاورين، فإذا اكتفى بلده فحينئذٍ ينصرف إلى ما وراء مدينته وقريته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وهذا خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم.
    (97/11)
    ________________________________________
    نقل الزكاة إلى مسافة القصر
    قال رحمه الله: [ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة].
    هذا هو الذي ذكرناه، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، والنقل المحرّم إلى مسافة تُقصر فيها الصلاة؛ لأن الذي دون مسافة قصر الصلاة يُعتبر من ضاحية المدينة، فلو كنت -مثلاً- في مكة وجاء ضعفاء من ضواحي مكة فإنك تعطيهم، أو خرجت إلى القرى المجاورة لمكة، ولم تكن على مسافة القصر فلا حرج؛ لأنها تعتبر ملتحقة بمكة وآخذة حكمها؛ لأن ما جاور الشيء أخذ حكمه.
    [فإن فعل أجزأت].
    فإن خالف هذا وفعله، فصرف زكاته عن بلده إلى بلد آخر أجزأت، والله سائله عن ضعفاء بلده، وسائله عن محتاجيهم، ولذلك يكون غير خالٍ من المسئولية والتبعية في إخراجه لهذا الحق عن بلده؛ لأن الأصل يقتضي أن يخرج زكاته في بلده.
    [إلا أن يكون في بلدٍ لا فقراء فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه].
    هذا بالنسبة للأحوال المستثناة، أن يكون في بلدٍ سدَّت حاجته، وليس فيه فقراء، وهذا أمر يرجع إلى الحقيقة، أما المبالغة وكلام الناس، فلا يُعتد بكلامهم، بل عليه هو أن يتحرى ويتأكد من هذا الشيء، أنه لا يوجد فقير، ولا مسكين، ولا يوجد مديون، أو غيرهم من بقية الأصناف الذين سماهم الله عز وجل، فبعد ذلك ينقل الزكاة إلى غير هذا البلد، وللعلماء تفصيل: بعضهم يقول: ينقلها إلى أقرب البلدان إليه، ولا يجوز له أن ينقلها إلى ما هو أبعد منها؛ لأنه لمّا أمر الشرع بإخراجها في نفس البلد دلّ على أن العبرة بالبلد وما في حكمه، أي: ما هو أقرب إليه، حتى ينزَّل منزلته في الحكم.
    وبعضهم يقول: هو مخيّر.
    وفائدة هذا الخلاف: أنه لو كان الإنسان -مثلاً- في بلدٍ وهناك مدينتان، إحداهما: تبعد خمسمائة كيلو مترات، والثانية تبعد مائة كيلو، فاكتفى بلده، فعلى القول الأول: لا يجوز أن ينقلها إلى البلد الأبعد مع وجود البلد الأقرب، وعلى القول الثاني: هو مخيَّر، فإن شاء نقلها للأبعد وإن شاء نقلها للأقرب.
    (97/12)
    ________________________________________
    إخراج الزكاة في بلد المال
    قال رحمه الله: [فإن كان في بلد ومالُه في آخر أخرج زكاة المال في بلده].
    للعلماء قولان في هذا: بعضهم يقول: العبرة ببلد المال.
    وبعضهم يقول: العبرة ببلد صاحب المال.
    والأقوى: إذا نظرنا إلى جهة المعنى ومقصود الشرع.
    مسألة: لو فرضنا أن عنده عشرة آلاف في المدينة، وعشرة آلاف في جدة، وعشرة آلاف في مكة، وهو في مكة، فعلى القول الثاني: يُخرج زكاة الثلاثين الألف في مكة، وعلى القول الأول: يجزئ زكاته أثلاثاً، فيجعل لمكة الثلث، وللمدينة الثلث، ولجدة الثلث الآخر، وهذا هو الأقوى والأوجه.
    [وفطرته في بلدٍ هو فيه].
    أي: وأما زكاة الفطر فإنها تتبع الشخص، فلو كان -مثلاً- ماله في المدينة، وأفطر في جدة أو في مكة، فيخرج زكاته في البلد الذي أفطر فيه؛ لأنها وجبت عليه في البلد الذي هو فيه، إلا أهله وولده، فلو كان في المدينة، وأهله في مكة، ووجبت عليه زكاة الفطر، فهو مخيَّر بين أمرين بالنسبة لأهله: إما أن يوكلهم فيخرجونها في البلد الذي هم فيه، أو يخرجها عنهم في البلد الذي هو فيه، فالأمر واسعٌ في زكاة الفطر.
    (97/13)
    ________________________________________
    حكم تعجيل الزكاة
    قال رحمه الله: [ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل ولا يستحب].
    التعجيل: المبادرة بالزكاة قبل أن يتم الحول، وشرط ذلك: أن يملك النصاب، فلو عجّل الزكاة قبل ملك النصاب فهي صدقة من الصدقات، وليست بزكاة واجبة، فلو بلغ النصاب فعجل لسنة أو سنتين فلا حرج عليه.
    والأصل في ذلك حديث العباس كما في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل منه الزكاة لعامين) وهو حديث حسَّنه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وعليه: فإنه يجوز تعجيل الزكاة لسنة أو سنتين، ولا يجوز لأكثر؛ لأن ما شُرع على سبيل التخصيص يختص الحكم بالصورة الواردة، فهنا الأصل أنه يخرج كل زكاة بعد تمام الحول، وكونه يؤذن له بالإخراج قبل تمام الحول يُعتبر خارجاً عن الأصل، فجاز بالصورة الواردة، فقالوا: يعجِّل سنة، ويعجِّل سنتين.
    وهذا قد تترتب عليه مصالح، منها: لو حصلت نكبة لفقراء وضعفاء، واحتيج أن يكون هناك مالٌ كبير، فقال: لو أني عجّلت زكاتي لسنتين لعظُم المال ففُرِّجت عليهم هذه النكبة العظيمة، فعجَّلها وفرج عليهم هذه النكبة العظيمة، فهذا حسن، وهكذا لو حصلت أحوال نادرة فعجَّل فيها الزكاة.
    أما إذا لم تحصل الموجبات، فقالوا: لا يستحب تعجيلها.
    والسبب في عدم الاستحباب: خوف أن يأتي زمان الزكاة، ويوجد من هو أحوج ومن هو أضعف، ولذلك قالوا: فلو يؤقت لوقتها، فهذا أفضل وأكمل، وفصّل بعض العلماء وتفصيله جيِّد: فقال: إن وُجِد موجب للتعجيل، واحتاج محتاجون للتعجيل عجَّل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تعجّل العباس، فدل على وجود الموجب، فيُستحب التعجيل تفريجاً لهذه الكربة والنكبة، وإن لم يوجد موجب، إلا أن يتخلص من الزكاة، وأن يخفف عن نفسه التبعية، فقالوا: إنه خلاف الأولى والأفضل والأفضل له إذا وُجد الموجب أن يبادر، لما فيه من المبادرة بالخير، وتحصيل الأجر.
    (97/14)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (97/15)
    ________________________________________
    كيفية تعزير مانع الزكاة

    السؤال
    هل يقتصر التعزير بأخذ شطر المال فقط، أم للقاضي أن يعزر بالجلد أو السجن، أثابكم الله؟

    الجواب
    مسألة التعزير تأتي على وجهين: إما أن تكون مقيّدة.
    وإما أن تكون مطلقة.
    فالتعزير من حيث هو في القضاء راجعٌ إلى الوالي يعزر بما رأى، وقال بعض العلماء: يعزر ولو بالقتل في مسائل مختلفة، أي: من حقه أن يعزِّر ولو بالقتل، ومن هنا قال العلماء: -كما يختاره المالكية- واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقول عند الحنابلة، ويميل إليه الإمام ابن القيم رحمة الله عليه، وأشار إليه في كتابه النفيس الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وكذلك أشار إليه ابن فرحون في تبصرة الحكام ومناهج الأحكام -إن التعزير لا يتقيد بشيء، وإنما يرجع إلى نظر الإمام بما فيه المصلحة.
    يبقى النظر في تعزير النبي صلى الله عليه وسلم للذي منع الزكاة، وهو يحتمل أمرين: - إما أن يقصد به التأقيت، وهذا يُفهم من قوله: (عزمة من عزمات ربنا).
    - وإما أن يُفهم منه مطلق التعزير، فحينئذٍ لا يتأقّت.
    والأول أقوى؛ لقوله: (عزمة من عزمات ربنا)، فدل على أن هذا التعزير مؤقت، لا يُزاد فيه على هذا الحد، وأنه يؤخذ ويُعاقب في المال الذي منعه.
    والله تعالى أعلم.
    (97/16)
    ________________________________________
    حكم إظهار الزكاة عند إعطائها

    السؤال
    هل يجب إظهار الزكاة، أي: هل يجب إخبار الفقير والمسكين بأن هذه زكاة؟

    الجواب
    يستحب العلماء رحمة الله عليهم ذكره لذلك؛ لأمور: أولها: لأنه إذا كان من غير أهل الزكاة أخبرك أنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك قالوا: فيها احتياط لحقوق الضعفاء والفقراء، فلربما ترى الرجل تظنه فقيراً وهو ليس بفقير، ولذلك إذا أخبرته أنها زكاة احتطت للمستحقين، فكان أبلغ في الاحتياط.
    ثانيها: لدفع المنة، وذلك أن بعض الناس قد يستغل الزكاة لأغراض شخصية، يقصد منها أن يظهر أنه -نسأل الله السلامة والعافية- كريم وجواد، أو كونه صديقاً صادقاً في ودّه لمن يحبه، فيعطي الزكاة ولا يُظهرها، فيظن الذي أخذها أنها عطيّة منه، ولذلك قالوا: لا يجوز له أن ينتحل على هذا الوجه حق الله عز وجل وحق الفقير، وبناءً على ذلك لا بد وأن يُخبر، ولا شك أن هذه الأمور التي ذكروها لها وجاهة، إلا إذا كان الإنسان متأكداً من أنه فقير ضعيف، ولم يقصد الاستعلاء، واستثنى كذلك بعض العلماء: أن ترى أنك لو أخبرته أنها زكاة لامتنع وهو محتاجٌ، ولكن عنده عزة نفس، فحينئذٍ يجوز لك أن تخفي عنه فتعطيه دون أن يعلم أنها زكاة.
    والله تعالى أعلم.
    (97/17)
    ________________________________________
    مَنْ تعجل في إخراج الزكاة ثم زاد ماله وقت وجوبها

    السؤال
    إذا عجَّل رجل إخراج زكاة ماله، فقد يأتي وقت وجوبها وقد زاد ماله، فماذا عليه عندها، أثابكم الله؟

    الجواب
    يخرج بقدر الزيادة، أي: يحتسب الزيادة ويخرج قدرها.
    والله تعالى أعلم.
    (97/18)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الزكاة للأقرباء البعيدين

    السؤال
    إذا كان للإنسان أقرباء يستحقون الزكاة؛ ولكنهم ليسوا في نفس المدينة التي هو فيها، فهل يعطيهم إياها، أم لا، أثابكم الله؟

    الجواب
    يجوز أن يعطيهم في حالة ما إذا قدموا عليه أو وكّلوا شخصاً يأتيه فيأخذ منه الزكاة في المدينة التي هو فيها، فحينئذٍ يكون ذلك مجزياً ولا حرج فيه.
    والله تعالى أعلم.
    (97/19)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الزكاة للمديون

    السؤال
    لو كان على والدي دين يستطيع أداءه؛ ولكن بعد مدة من الزمن، فهل يجوز أن أعطيه الزكاة ليعجِّل قضاء دينه، أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا لم يكن عنده مال يسدد منه دينه، ويفي لسداد دينه فتعطيه، والعبرة بالحال لا بالمآل؛ لأنك لا تضمن بقاءه إلى السداد؛ ولأن مقصود الشرع دفع هم الدين الذي هو ذل في النهار وهم في الليل، فالله رحم هؤلاء الذين ابتلوا بالدين، فجعل تفريج كربهم في الزكاة، فليس وجيهاً أن تتركه إلى أن يسدد دينه؛ لأنك لا تضمن بقاءه؛ ولأنه تضيق عليه مصالحه بسبب وجود الدين، ويهان ويذل بسؤال صاحب الدين، إلى غير ذلك من التبعات والآثار المترتبة على وجود الدين، فشُرعت الزكاة دفعاً لهذا الضرر، فعليك أن تبادر بتسديد دينه من الزكاة، ولكن يشترط: ألا يكون عنده مال يمكن بيعه سداداً لدينه.
    والله تعالى أعلم.
    (97/20)
    ________________________________________
    حكم إخراج الزكاة إلى السعاة وتأخيرها

    السؤال
    قال صاحب الروض رحمه الله: (ويجب على الفور إخراجها مع إمكانه، إلا لضرورة كخوف رجوع الساعي).
    فهل نفهم من ذلك أنه لا يمكن للمزكّي أن يخرجها إلا بإذن الساعي، أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا خصّص الوالي سعاة وجباةً يأخذونها، فإنها لا تُجزي إلا بدفعها للساعي، وقدوم الساعي معتبرٌ شرعاً، ففي الليلة التي قدم فيها الساعي لولد الغنم أو ولدت الإبل أو البقر، حُسِب من العدد، ولا يُشترط حولان الحول على هذا المولود الجديد، وبناءً على ذلك قدوم الساعي له آثار وله أحكام، فالزكاة لا بد من دفعها للساعي والجابي، ولا يجزيه أن يخرجها بنفسه، قالوا: لو عيّن الوالي من يأخذ الزكاة من الناس فجاء إنسان واجتهد وأخرج زكاته بنفسه وجب عليه قضاؤها؛ لأن الزكاة على هذا الوجه مؤقتة ومحددة، ولا يجوز له أن يُقْدِم بإعطائها إلا على الوجه الذي أمره الله من دفعها إلى الوالي أو من يقوم مقامه، وعلى هذا فلا بد من وجود الساعي لأخذ الزكاة.
    وينبغي على أصحاب الأموال أن يؤدوها إليه، سواء كانت من السائمة أو كانت من غير السائمة، كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، وخوف رجوع الساعي: أن يخاف أن يعطي الساعي الآن، ثم يرجع بعد ذلك ويطالبه مرة ثانية، فيؤخرها إلى ذهابه ورجوعه مرة ثانية حتى يستبرئ، فحينئذٍ لا حرج عليه، دفعاً للضرر الذي يأتيه من رجوعه مرة ثانية.
    والله تعالى أعلم.
    (97/21)
    ________________________________________
    حكم احتساب الدين من الزكاة

    السؤال
    إذا كان لي دين على رجل، وعندي زكاة مال فأردت إخراجها، فقمت بإسقاط بعض الدين الذي لي عند الرجل، ويكون ذلك مقابل زكاة مالي، فهل هذا صحيح، أثابكم الله؟

    الجواب
    لا يصح هذا في مذهب جمهور العلماء، فلو كان لك على إنسان دين، وكان الدين -مثلاً- خمسة آلاف ريال وزكاتك خمسة آلاف ريال فلا يجوز أن تحسب هذا الدين من الزكاة، وبناءً على ذلك: يجب عليك إخراج زكاة مالك؛ لأن المراد من ذلك أن تدفع عن نفسك ضرر المطالبة، وعليه فإنه لا بد وأن يكون إعطاء الزكاة على وجه تنتفي فيه التهمة، وهذه يمثل العلماء بها بزكاة التهم، أي: يؤدي الزكاة على وجهٍ فيه تهمة، وبناءً عليه: فإنه لا يصح ولا يجزيه أن يؤدي الزكاة على مديون له عليه دين، ويحتسب ذلك من دينه، والله تعالى أعلم.
    ويقول بعض العلماء: هذا لا يصح؛ لأنه لم يخرج زكاةً أصلاً؛ فإن الإخراج لم يحصل، والإعطاء لم يحصل، وإنما حصل الإعطاء ديناً، ولا يمكن قلب الدين إعطاءً للزكاة؛ لأنه سابق لأوان الزكاة وغير معتد به، وهذا مستقيم أيضاً من جهة النظر، فاعتضد ذلك بوجود التهمة مع وجود السبق للإعطاء، وعليه فلا يجزيه أن يحتسب دينه من الزكاة.
    والله تعالى أعلم.
    (97/22)
    ________________________________________
    مقدار أخذ الولي من مال اليتيم إذا تاجر به

    السؤال
    إذا تاجر الولي بمال اليتيم، فهل يأخذ شيئاً على عمله؟

    الجواب
    إذا تاجر الولي بمال اليتيم فإنه يأكل منه بالمعروف، قال العلماء: يقدَّر له قدر التعب، فمثلاً: فتح متجراً لبيع طعامٍ أو كساءٍ أو غذاءٍ أو غير ذلك، وقام عليه وصار يتولى شئونه وأعماله، يقولون: ننظر إلى أجرة مثله، فلو أننا استأجرنا إنساناً يعمل مثل العمل الذي قام به هذا الولي، وكان يستحق كل شهر -مثلاً- ألف ريال، فيأخذ الولي من مال اليتيم بقدره، وقس على ذلك.
    إذاً: يُحسب له تعبه، ويعطى أجرة المثل، ومرد ذلك إلى العرف وأهل الخبرة.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    (97/23)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [1]
    أهل الزكاة هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فيجب صرف الزكاة إليهم، ولكن هل يجب استيعابهم كلهم؟ وما حكم صرفها لصنف واحد؟ وما حكم صرفها للأقارب؟ هذه مسائل خلافية مذكورة بالتفصيل في هذه المادة.
    (98/1)
    ________________________________________
    أهل الزكاة الثمانية
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله: [باب: أهل الزكاة ثمانية].
    الأهل للشيء: هو المستحق له، تقول: فلان أهلٌ لكذا إذا كان مستحقاً له.
    وقوله رحمه الله: (أهل الزكاة) أي: المستحقون لها وهي فريضته في أموال المسلمين، وقد قسم الله عز وجل الزكاة من فوق سبع سماوات، ولم يكلْ قسمتها إلى نبيٍ مرسل ولا إلى ملكٍ مقرب، الأمر الذي يدل على عظيم أمرها، وما ينبغي من العناية بشأنها.
    وقد عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في كتاب الزكاة لأهميته؛ لأنه بعد بيان الحق الواجب في الأموال، وبيان الأحكام المتعلقة بذلك الحق، شرع في بيان مصارفها، والعلماء يقولون: أهل الزكاة، ويقولون: مصارف الزكاة، والمراد بذلك بيان من المستحق لأخذ الزكاة.
    فقال رحمه الله: (أهل الزكاة ثمانية)، وهذا إجمالٌ قبل البيان، وهو أسلوب من أساليب القرآن والسنة، وفائدته تهيئة السامع والقارئ لما يُذكر، إضافة إلى إحداث الشوق بترتب الجمل بعضها على بعض.
    وعد أهل الزكاة ثمانية هو الذي ورد به النص في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] أي: عليمٌ سبحانه وتعالى بأمر عباده، وعليم بما يشرِّعه لهم، وحكيم في حكمه سبحانه وتعالى وما يكون من تقديره، فختم الآية بما يناسبها، وهو العلم والحكمة؛ وكلتاهما من صفات الله عز وجل.
    وهذه الأصناف الثمانية، حصر الله مصارف الزكاة فيها، والدليل على الحصر أنه قال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60]، (وإنما) أسلوب حصر وقصر، يفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، كأنه يقول: لا صدقة لغير هؤلاء، ولما قال: (إنما) فهمنا بهذا الأسلوب أنه سيخصِّص، وذلك يقتضي أن مصارف الزكاة خاصة، وهو يدل على ضعف تعميم الزكاة في وجوه الخير، وعدم رجحان القول الذي يقول: إن الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً، إذ لو كانت الزكاة تُصرف في وجوه الخير عموماً؛ لما كان لقوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فائدة، ولقال: إنما الصدقات في وجوه الخير، لكن كونه يخص ذلك ويقصره ويحصره في وجوه خاصة من البر، يدل على أنه ليس كل البر، بل أصناف معينة يخص الشرع إعطاء الزكاة بها، فوجب التقيد بها.
    ولأن الذي يقول بجواز صرفها في وجوه الخير عموماً يستدل بقوله سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وهذا اللفظ إذا أُطلق في كتاب الله عز وجل فالمراد به في الأصل الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الذي وردت به نصوص الكتاب والسنة، ويعرف ذلك بالاستقراء والتتبع، ولذلك كان جماهير أهل العلم من الأئمة الأربعة وأتباعهم على أن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية، ولا تُصرف في مطلق وجوه الخير.
    وذهب بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وبعض المتأخرين إلى ترجيح القول الذي يقول بصرفها في وجوه الخير عموماً، وهذا القول مرجوح؛ وذلك أنه يستند إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، وقد بيّنا أن قوله: (في سبيل الله) إذا أُطلق في الكتاب والسنة فالمراد به الجهاد، ومما يدل على ضعف حمل: (في سبيل الله) على العموم أن قوله: (وفي سبيل الله) يحتمل معنيين: إما خاص بمن ذكرنا وهم المجاهدون، وإما عام.
    فإذا قيل بعمومه، فإن العرب لا تعرف إدخال العام بين خاصَّين، وإنما تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص لشرفه وتعطف العام عليه، فتقول: دخل محمدٌ والناس، فتقدم الخاص وهو محمد لشرفه وفضله، ثم تقول: والناس وهو العام، أو تقول: دخل الناس ومحمدٌ، للدلالة على شرفه وفضله، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] فخصَّص بعد تعميم، وهذا هو أسلوب القرآن وأسلوب العرب.
    أما أن تقول: دخل الناس ومحمد والناس، أو تقول: دخل محمد والناس ومحمد، تؤكد ذلك، فهذا لا تعرفه العرب.
    وكذلك تقول: دخل الناس ومحمدٌ وعلي، أو تقول: دخل محمد وعلي والناس، أما أن تقول: دخل محمد والناس وعلي، فلا يستقيم؛ لأنك تدخل العام بين خاصين، فهذا لا يعرف في أساليب العرب، وإنما يعطف العام على الخاص، أو الخاص على العام كما هو معروف بالاستقراء.
    وعلى هذا فإن القول بالتخصيص بالأصناف الثمانية وهو مذهب الجمهور هو الظاهر؛ لما ذكرناه من استقراء نصوص الكتاب والسنة، ولأننا لو قلنا بالتعميم فإن هذا يفوِّت المقصود من التنصيص على الأفراد الخاصة.
    ويختص هؤلاء الثمانية بالمسلمين، فأما الكفار فلا تدفع لهم الزكاة، ولا يجوز صرفها إليهم ولو كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين ولو كانت فيهم أي صفة من صفات أهل الزكاة، فإنما تدفع للمسلمين خاصة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
    وقد جاءت الآية مطلقة شاملة في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، وهذا يدل على أن القرآن قد يُطلق ويريد الخصوص، وأنه ليس كل نص مطلقٍ في القرآن نحمله على إطلاقه حتى نتتبع ونعرف هل هناك إجماعٌ يخصص عمومه أو يقيد مطلقه، أم لا، فهذه الآية لو أخذ أحدٌ بإطلاقها لقال: تُدفع الزكاة للكفار، ولا أحد يقول بذلك، فدل على أن المطلق في الكتاب والسنة ينبغي الرجوع إلى ضوابطه، هل يوجد ما يخصصه إذا كان عاماً، وهل يوجد ما يقيده إذا كان مطلقاً.
    (98/2)
    ________________________________________
    الصنف الأول: الفقراء
    قال المصنف رحمه الله: [الفقراء].
    وهو مأخوذ من الفقر؛ وهو شدة الحاجة، وأصح أقوال العلماء: أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه استعاذ بالله من الفقر، كما في أذكار الصباح والمساء، فكان يقول: (أعوذ بك من الكفر والفقر) فاستعاذ بالله من الفقر، ثم قال: (اللهم أحيني مسكيناً) فدل على أن المسكنة أقلّ من الفقر، ولو كانت المسكنة فوق الفقر وأشد منه لما استقامت استعاذته عليه الصلاة والسلام وسؤاله الله عز وجل أن يحييه مسكيناً، فدل على أن المسكنة دون الفقر.
    ودل أيضاً دليل الكتاب على أن المسكنة دون الفقر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فوصفهم بكونهم مساكين مع أنهم مالكون للسفينة، ومن هنا قال العلماء: الفقر أشد من المسكنة.
    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على جواز صرف الزكاة للفقراء بنص الآية الكريمة، وضابط الفقير: هو الذي لا يجد كفايته بالكلية، أو يجد بعضها ولا تصل إلى النصف فأكثر، هذا هو الفقير.
    ويُعرف الفقر بعدة دلائل: الدليل الأول: معرفتك الشخصية بذلك الفقير، بأن تعرف حاله، وتعرف شدة عوزه وفقره وضيق يده، فإذا كنت تعرفه بنفسك مطّلعاً على حاله، كأخيك وابن عمك وأختك وقريبتك، فلا حرج حينئذٍ في دفع الزكاة إليه.
    وضابط الفقر في هذه الحالة أن تطّلع على نفقته، فتجده لا يجد ما يُنفق على نفسه، وقد يجد ما يُنفق على نفسه لكن لا يجد ما ينفقه على أولاده، فإذا كان يجد طعاماً لنفسه ولا يجد الطعام لأولاده فهو فقير؛ لأن من احتاج فيمن تلزمه نفقته كان كحاجته في نفسه، وعلى هذا يُحكم بفقره، ويجوز لك حينئذٍ أن تدفع له الزكاة بسهم الفقير.
    الدليل الثاني الذي تعرف به فقره: أن يشهد عدلان على فقره وعوزه وشدة حاجته، فإذا شهد عدلان تثق بهما وبشهادتهما أن فلاناً فقير، حلّ لك أن تدفع الزكاة له.
    الدليل الثالث: الأمارات والعلامات الظاهرة التي يغلب على الظن فقره مع سؤاله، كأن يأتيك إنسان ويقول: إني فقير، وأنت تعرف ظواهر حال هذا الإنسان، فترى عليه أثر الجوع، وترى عليه ضعف البدن، وأحواله أمامك تدل على هذا الضعف، وإن كنت لا تعلم على الحقيقة نفقته مثل الحالة الأولى التي ذكرناها، ففي هذه الأحوال كلها تَصرِف الزكاة إليه بسهم الفقير.
    لكن لو أن هذا الفقير جاءك وسألك الزكاة وأنت لا تعلم حاله، فحينئذٍ لا تخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن تقطع بكذبه، أو يغلب على ظنك كذبه، فحينئذٍ لا يجوز لك صرف الزكاة إليه قولاً واحداً، ولو قال إنه فقير، ولو ادعى الفقر ما دمت تعلم أنه ليس بفقير، فلا يحل لك أن تصرف الزكاة إليه، فإن صرفتها إليه بناءً على دعواه أنه فقير، فإنه يلزمك قضاء هذه الزكاة.
    وعلى هذا فلو أخبر الإنسان أنه فقير، وأنت تعلم من حاله أنه كاذب أو عنده ما يسد حاجته، ويخرج به عن وصف الفقر والمسكنة، فإنه حينئذٍ لا يجوز لك دفع الزكاة إليه، وإن دفعتها عن نفسك وجب عليك القضاء، وإن دفعتها وكيلاً عن شخص وجب عليك أن تغرم مثلها وتدفعها للمستحق.
    الحالة الثانية: أن تشك في حاله فلا تدري أهو صادق أو كاذب، وفي هذه الحالة لا يجوز لك أن تدفع الزكاة إليه إذا شككت من حاله، ووجِد ما يحتمل صدقه ويحتمل كذبه، حتى تتحرى وتتأكد أو يغلب على ظنك أنه محتاج، فإن دفعت الزكاة إليه وأنت تشك في فقره وحاجته، فحينئذٍ لا يُجزيك، ويلزمك قضاء الزكاة كما في الحالة الأولى، لأنه لا يجوز الصرف إلا مع اليقين أو غلبة الظن، فإذا كان الإنسان شاكاً، فإننا لن نتيقن صرف الزكاة لمستحقها، والأصل وجوبها، فوجب على من تولاها على هذا الوجه وصرفها على الشك أن يقضيها.
    فهذه حالتان: إذا تيقن الكذب أو شك في صدقه وكذبه.
    الحالة الثالثة: أن يغلب على ظنه صدقه، فإن غلب على ظنه صدقه بوجود دلائل وأمارات تدل على ذلك الصدق جاز له وحلّ أن يدفع الزكاة إليه.
    قوله: [وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية]: أي: وهم الذين لا يجدون شيئاً، فتجده يطوي يومه جائعاً، كقريب لك تراه لا يفطر ولا يتغدى ولا يتعشى ولا يجد طعاماً يأكله يوماً، وأنت تعلم أن السبب في عدم إصابته للطعام عدم وجوده، فيمضي عليه اليوم، وفي اليوم الثاني يصيب بعض الكفاية، ثم اليوم الثالث لا يجد، أو يجد بعض الكفاية، بشرط: أن لا تصل إلى أكثر الكفاية وهي النصف فأكثر، فمثل هذا يعتبر فقيراً، أو يكون عنده دخل، ولكنه نزرٌ قليل بحيث لا يكفيه إذا كان وحيداً، أو يكفيه ولكن لا يكفيه مع أهله وأولاده.
    فلو فرضنا أن دخله في اليوم خمسة أو عشرة ريالات، فإن هذه الخمسة أو العشرة إذا نظرت إليها في قوته في ذلك اليوم لو كان وحيداً فإنها لا تصل إلى أكثر السداد، فتحكم بأنه لو كان دخله العشرة أنه محتاج، لكن بشرط أن لا يكون له دخل آخر بحيث يغلب على ظنك أن هذا الدخل هو الوحيد الذي لا يجد غيره، فحينئذٍ يجوز لك أن تبني على هذا الدليل حاجته وفقره وتدفع الزكاة إليه.
    فضابط الفقير أن لا يجد شيئاً، أو يجد ولكن هذا الوجدان لا يقوم بأكثر الكفاية، فلو كان أكثر الكفاية خمسين ريالاً، وهو يجد الأربعين أو الثلاثين أو خمساً وأربعين ونحو ذلك، فهذا يعتبر فقيراً، وتدفع الزكاة إليه بسهم الفقر، فإن دفعت الزكاة إليه بسهم الفقر قدّرت حاجته إذا كان وحيداً، أو قدّرت حاجته وحاجة من يعول كأولاده وزوجه، فإذا كان خلال السنة احتاج إلى نفقة ثلاثة آلاف ريال، تعطيه من زكاتك ثلاثة آلاف ريال، وقس على ذلك.
    (98/3)
    ________________________________________
    الصنف الثاني: المساكين
    قال المصنف رحمه الله: [والمساكين يجدون أكثرها أو نصفها].
    والمساكين هم الصنف الثاني من أصناف أهل الزكاة، والمساكين: مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة.
    ويقول العلماء: ضابط المسكين أن يجد أكثر الكفاية، ولذلك وصف الله الذين يملكون السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم مالكون للمال، فدل على أن الإنسان قد يملك المال ويُوصف بالمسكنة، فيجوز لك أن تُعطيه الزكاة على قدر ما يسد حاجته، فلو كان هذا المسكين عنده سيارة مثلاً، وهذه السيارة يعمل عليها، ولكنها لا تكفي دخلاً له، أو مصاريفها وكلفَتُها تحمِّله أكثر مما يدخل عليه، أو تستنفذ أكثر ما يدخل عليه حتى لا يصل إلى كفايته أو أكثر الكفاية، حلّ لك أن تُعطيه من الزكاة ما يسد كفايته.
    فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف، ودخله أربعة آلاف استحق أن تعطيه ألفين؛ لأنه في هذه الحالة مسكين قد وجد النصف فأكثر، فتعطيه بسهم المساكين.
    والفرق بين المسكين والفقير: أن الفقير تقدِّر نفقته لأنه لا يجدها، فتعطيه نفقته للعام، فلو كانت نفقته في العام ستة آلاف أعطيته ستة آلاف، ولكن المسكين يجد أكثر النفقة، فتحتاج إلى تقدير وضبط، فلا تستعجل بأن تُخرج له نفقة كاملةً، إنما تنظر وتتحرى وتسأله، فإذا كان دخله ستة آلاف ومصاريفه عشرة آلاف فهو يحتاج إلى أربعة آلاف، فلو أعطيته خمسة آلاف فالألف زائدة عن حاجته، ولذلك يقولون: يغرم المقسِّم إذا أعطى أكثر من الحاجة في المسكين، أو أعطى أكثر الحاجة في الفقير.
    (98/4)
    ________________________________________
    الصنف الثالث: العاملون عليها
    قال المصنف رحمه الله: [والعاملون عليها، وهم جباتها وحفاظها].
    الصنف الثالث: العاملون عليها وهم جباتها وحفّاظها في القديم، ولا يزال إلى الآن يُحتاج إلى جباية الزكاة وجلبها ممن وجبت عليهم، الأمر الذي يحتاج إلى سفر السعاة إلى موارد المياه لعد الإبل والنظر في أموال الناس، وكذلك سفرهم إلى البساتين، وخرصها وتقديرها.
    فهؤلاء هم السعاة الذين يبعثهم ولي الأمر لمعرفة مقدار ما فرض الله عز وجل على الناس، فهم جباة يجلبون الزكاة، وحفّاظ لها يحفظونها.
    فالزكاة تحتاج إلى هذين الصنفين: من يجبي، ومن يحفظها ويقوم عليها، ففي جبي الزكاة يدخل الخارص، وهو الذي يقوم بخرص النخل، ويعرف مقادير ما فيه، وكذلك أيضاً الذين يقومون بجمع زكاة الحبوب والثمار، وعلى هذا فهؤلاء يُعطون نصيبهم، فالخارص لو كانت أجرته ثلاثة آلاف استحق أن يأخذ ثلاثة آلاف، ولو كان غنياً أو كان ثرياً؛ لأن إعطاءه هذا المال أشبه بالإجارة، ولا يُنظر فيه لا إلى فقر أو غنى.
    أما لو كان الساعي فقيراً، فإنه يحتاج إلى تفصيل، فنعطيه أجرته أولاً، ثم ننظر بعد الأجرة هل سدّت الأجرة فقره أو لم تسده، فإن كان يحتاج إلى نفقة ستة آلاف وأجرته كانت ستة آلاف أو سبعة آلاف فقد خرج بأجرة العمل عن وصف الفقر، وحينئذٍ لا يُعطى، وإن كانت أجرته ثلاثة آلاف وحاجته في العام ستة آلاف؛ أُعطي ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف أجرة لسعيه، وثلاثة آلاف لمسكنته أو فقره.
    وعلى هذا فإن السعاة يأخذون من باب الإجارة، ويقدر عملهم ولي الأمر أو من يقوم مقامه، نقدر كم يكون نصيب من عمل هذا العمل، فإذا كان جبى المال من مكان بعيد ومن مسافات بعيدة تحتاج إلى مئونة للسفر، وتحتاج إلى مئونة في الطعام، ومئونة في الحمل، ومئونة في النزول؛ فكل ذلك يقدر ويعطى حقه كاملاً.
    ثم الأموال التي تحفظ بعد جبايتها تحتاج إلى حراسة رعاية، وتحتاج إلى من يقوم على الإبل والغنم والبقر إذا جُبيت ويسوسها، وهم الرعاة، فهؤلاء الرعاة الذين يحفظون الإبل أو البقر أو الغنم التي جُبيت في الزكاة لهم سهم، ولهم نصيب يقدَّر عملهم بالمعروف، يقدَّر أجرة عمل مثلهم، فيعطون من الزكاة على قدر استحقاقهم.
    وهل يُعطى المقسِّم للزكاة، أو لا يعطى؟ قال بعض العلماء: يُعطى إذا نصّبه ولي الأمر، كأن يحتاج لتوزيع المال في بلد، فإذا تولى قاضٍ أو عالم هذا المال، وأراد توزيعه واحتاج إلى من يساعده، فإن هؤلاء الذين يساعدونه يستحقون نصيباً من الزكاة إذا كانوا مولَّون.
    أما لو كان وكيلاً عن شخص، فهذا لا يستحق، كأن يكون عندك زكاة خمسة آلاف ريال ثم تذهب وتعطيه لشخص من أجل أن يوزعها، فيقوم هذا الشخص ويأخذ من هذه الزكاة، فقالوا: لا يأخذ، ولا يستحق؛ والسبب في ذلك أن الواجب عليك أنت أصلاً أن تقوم بدفعها، فإذا دفعتها إلى شخص آخر، فإن احتاج نفقة أو سأل مالاً فأعطه من مالك، أما أن يكون دخيلاً على الفقراء والضعفاء ويُنقص حقّهم في مالك فلا، لأنه بإمكانك أن تقوم بهذا، والأصل فيك أن تتولى توزيعها بنفسك.
    قالوا: فإذا قام الغير بدون إذنٍ فإنه لا يستحق أن يأخذ المال في هذه الحالة، وعلى ذلك فإنه يختص الحكم في العاملين عليها بالجباية ومن يقوم بحفظها.
    (98/5)
    ________________________________________
    الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم
    قال المصنف رحمه الله: [والرابع: المؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامه، أو كفّ شرِّه، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه].
    المؤلفة قلوبهم هم أقوام على الكفر يرجى إسلامهم، أو على الإسلام وتُخشى عليهم الفتنة، فلم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فهؤلاء يعطون ما يكون في غالب الظن سبباً لثباتهم أو دخولهم في الإسلام.
    فأما الصنف الأول وهم الذين على الكفر، ويغلب على الظن أنك لو أعطيتهم من الزكاة أنهم يدخلون، قالوا: يعطون، ويقدِّر الوالي المال الذي يغلب على الظن تأليف قلوبهم به، وحينئذٍ يعطيهم إياه ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا غير محتاجين، من باب إدخالهم في الإسلام وتأليفهم له.
    وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فقسم الغنائم، فأعطى أبا سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى معاوية وأعطى عباس بن مرداس السلمي وعيينة بن حصن الفزاري والزبرقان بن بدر، كل هؤلاء أعطاهم مائة مائة من الإبل، وكل ذلك من باب تثبيتهم على الإسلام وتقوية عزائمهم على الثبات على الدين.
    وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط هذا النوع من أصناف الزكاة، وقال: (إنما أُعطوا وكان الإسلام محتاجاً إليهم، واليوم الإسلام في عزة ومنعة، فمن أراد أن يسلم ومن أراد أن يكفر)، فكأنه رأى تخصيص ذلك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جماهير الصحابة وإجماع العلماء رحمة الله عليهم على مشروعية صرفها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء يرى أنه إذا كان الإسلام في عزة ومنعة ويمكنه كسر شوكة الكفار، أنه لا يصرف هذا المال حتى لا يضر بمصالح الضعفاء والفقراء، ويصبح من أسلم من الكفار أسلم ومن لم يسلم لا يعطى.
    والصحيح ما ذكرناه من العموم؛ لأن الناس على أقسام إذا كانوا كفاراً، منهم من يدخل للإسلام بالقوة ولا يدخله إلا رهبة الإسلام وقوته وشدته، فهؤلاء شرع الله لهم الجهاد، ومنهم من يدخل في الإسلام عن قناعة وعلم، كأن تقارعه الحجة بالحجة كعلماء الملل المخالفة، فإنك إذا ناظرتهم وأقمت عليهم الحجة قد يتقبلون الحق، وكذلك بالنسبة لمن يطلب الحق وينشده ولو كان على الكفر، فهذا تقام عليه الحجة بالبرهان، والأولون تقام عليهم الحجة بالسنان، فإما أن يسلموا وإما أن تضرب رقابهم.
    وأما بالنسبة للنوع الثالث فإنهم يدخلون الإسلام عن طريق المال والإغراء، كأقوامٍ تعلقت نفوسهم بالدنيا، خاصة إذا كانوا على الكفر، فإذا أُعطوا من المال طمعوا في الإسلام أكثر، ولذلك مضى الرجل إلى قومه وقال: (لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه وأرضاه.
    وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإنه لما أعطى عيينة بن حصن الفزاري والزبرقان وأعطى معاوية بن أبي سفيان وأباه أبا سفيان رضي الله عن الجميع، غضبت الأنصار وقالوا: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) فبلغت المقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك اليوم من أشد الأيام على الأنصار، كانت فيه فتنة وامتحان وابتلاء من الله عز وجل لهم، ولكن جعل الله عاقبته إلى خير، حتى إن سعداً رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنهم يقولون كذا وكذا، يريد مقالتهم: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال: أين أنت يا سعد؟ قال: الرجل مع قومه، فإني أجد في نفسي ما يجدون.
    أي: كيف نقاتل عن الإسلام وندافع عنه ثم تقسم الغنائم على أقوام هم حديثو عهد بإسلام، فقال: اجتمعوا لي يا معشر الأنصار.
    فاجتمعوا له في خيمة لا يوجد فيها غيرهم، ثم قال: أفيكم غيركم؟ قالوا: يا رسول الله لا، إلا ابن بنتنا وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه، فقال: ابن بنت القوم منهم.
    ثم قال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ فقالوا: يا رسول الله -وكانوا قوم صدق- أما أهل العلم منا والحلم فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا وشبابنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أوقد وجدتم في لعاعة من الدنيا أعطيها أقواماً أتألفّ قلوبهم للإسلام.
    ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم حبه لهم، وقال: والله لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار وادياً وشعباً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، أما تحبون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به إلى رحالكم خير مما ينقلبون به إلى رحالهم، ثم قال: الأنصار شعاري، والناس دثاري إلى آخر الحديث.
    المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسّم الغنائم وتألف بها هذا النوع، وجعل لهم حظاً في القسم، ولذلك كأن الإسلام يقصد من هذا النوع الذي يرجى إسلامه أن يكون له مطمع في هذا الدين، فإذا دخل ورأى سماحة الإسلام وأخلاقه وشمائله والخير الذي فيه اطمأن قلبه بدون مال، وهذه هي حكمة الشرع، ولذلك يدخل للدنيا، ثم إذا رأى سماحة الإسلام وما في الإسلام من خير، عزف عن ذلك كله ورجا ما عند الله من الرحمة وخاف ما عند الله من العقوبة والعذاب.
    فمقصود الشرع تأليف قلوب أمثال هؤلاء.
    وكذلك لو كان مسلماً ولكنه على اضطراب في إسلامه، أو كان صاحب ثروة في حال الكفر ثم أصبح في حالٍ ضعيف بعد إسلامه، فتعطيه من أجل أن تقويه وتثبته على الدين، فهذا يعطى، ويكون التقدير بحسب الحال والمصلحة التي يغلب على ظنك أنه لو أخذها رُجي ثباته على الإسلام وتمسكه به.
    وقوله رحمه الله: (المؤلفة قلوبهم) لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]، فنص سبحانه وتعالى على هذا الصنف، وهم الذين يرجى ثباتهم على الإسلام.
    وهناك نوع ألحقه العلماء بالمؤلفة قلوبهم لدفع شرهم عن المسلمين، فهؤلاء هم أقوام لهم مكانة ووجاهة، كأن يكونوا عشائر كفر، ورؤساؤهم هؤلاء إذا أسلموا رُجي إسلام من وراءهم، وإذا لم يرج إسلامهم كُفّ شرهم عن المسلمين، أو يغلب على ظنك أنك لو دخلت للدعوة وأعطيت هؤلاء المال سكتوا عنك وأعانوك على الدعوة مع أنهم على الكفر، فيعطون لمصلحة الدعوة ولمصلحة الإسلام، ولا حرج في ذلك.
    (98/6)
    ________________________________________
    الصنف الخامس: المكاتبون
    قال المصنف رحمه الله: [الخامس: الرقاب وهم المكاتبون].
    وذلك لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] والرقاب: جمع رقبة، والمراد بهم المكاتبون كما نص المصنِّف رحمه الله، وهم الأرقاء المسلمون الذين يكاتبون أسيادهم للعتق.
    وقد جعل الله عز وجل من الأبواب التي يُفك فيها الرق عن الأرقاء أن يكاتب العبد سيده، وقد أمر الله عز وجل بذلك أمر ندب واستحباب: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، فهؤلاء يعطون من الزكاة لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
    فيُعطون من الزكاة على قدر ما يكون سداداً لهم وسبباً في فك رقابهم من الرق، فلو كاتب عبدٌ سيده بستة آلاف ثم استطاع أن يسدد ثلاثة آلاف منها فبقيت ثلاثة آلاف، فيعطى ثلاثة آلاف لكي يتمكن من عِتق نفسه، وهكذا لو كانت الكتابة في بداية أمرها، بأن قال له السيد: كاتبتك باثني عشر ألفاً، تدفع في كل شهر ألفاً، قال: قبلت، فهذا عقد كتابة، ففي بداية كتابة العقد جاءك، وقال: كاتبت سيدي على كذا وكذا، جاز أن تعطيه كل ما كاتب عليه وتعتقه، وهكذا لو جاءك في أنصاف الكتابة أو جاءك في آخرها وقد بقيت عليه أنجم وأقساط، أي: أن الحكم لا يختص بحالة دون حالة، وإنما يعطون على نفس السبب الموجب للإعطاء وهو فكهم من الرق، سواءً كان ذلك في أول الكتابة أو في أثنائها أو في آخرها.
    وقوله: [ويفك منها الأسير المسلم]: قال بعض العلماء: قال الله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، وهذا يختص بالأرقاء، ولا يشمل الأسير.
    وقال بعضهم: يقاس الأسير على العبد إذا طلب العتق.
    وهذا القياس لا يخلو من نظر، والأقوى والأحوط أن الحكم يختص بالمكاتبين؛ لأن الله نص عليهم وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، وهذا هو المراد بقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ولذلك يختص الحكم به، وأما فك الأسير المسلم فإنه يفك من ماله إن كان عنده مال، وإذا لم يكن عنده مال فعلى جماعة المسلمين أن يسعوا في فكاكه على الأصل المعروف في الشرع، وإلا من بيت مال المسلمين على حسب وجود القدرة في فكه.
    (98/7)
    ________________________________________
    الصنف السادس: الغارمون
    قال رحمه الله: [السادس: الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى، أو لنفسه مع الفقر].
    قوله: (الغارم لإصلاح ذات البين ولو مع غِنَى) أي: ولو كان غنياً وحالته حال غِنَى.
    والغارم: من الغُرم، والغرم هو الخسارة، ومنه القاعدة المشهورة: (الغنم بالغرم) وهي معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان).
    والغارم هو الشخص الذي يدفع المال للصلح بين المسلمين، فقد كانوا في القديم عندما تقع الفتن بين الناس، وتقع بينهم جراحات، أو يقع بينهم قتل، يأتي رؤساء العشائر كأمراء القبائل ونحوهم للصلح، وقد يكون هذا الأمير من القبيلة كبيراً فيتحمل مائة رقبة، بمعنى أنه يريد الصلح بين الطائفتين، ويكون الذين قتلوا قرابة مائة شخص، فيقول: علي ديتهم، وهذا يعتبر غرماً ويستحق به أن يعان من الزكاة؛ لأنه فعل الخير، وأصلح ذات البين التي هي من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأعظمها أجراً ومثوبة في الدنيا والآخرة.
    فهؤلاء كرؤساء العشائر وأُمرائهم الذين يتولون الصلح بين الناس يُعطون.
    وهكذا لو وقعت خصومة بين اثنين وخشيت أن يقع بينهما أمرٌ لا تحمد عقباه، وقد يكونان من الأرحام والقرابة فجئت تصلح بينهم، وكان سبب الخصومة تلف سيارة، أو تلف دار، وهذا التلف بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فقلت: أنا متحملٌ لها، وتحمّلت الخمسة أو الستة الآلاف، فإنك تعطى من الزكاة؛ لأن هذا لإصلاح ذات البين، وحينئذٍ يشرع دفع الزكاة إلى من غَرِم على هذا الوجه.
    قال بعض العلماء: ومن الغارمين الذين يتحمّلون الديون، كشخصٍ ينفق على أهله وولده، فيتحمل الدين، فهذا الشخص محتاج وأصابه العوز حتى ركبته الديون، وعليه دين عشرة آلاف ريالٍ، أو عشرين ألف ريال، أو ثلاثين ألف ريال، وعندك زكاة، فيجوز دفع الزكاة إليه، لكن الذي يتحمّل الدين يحتاج إلى نظر، فلا تعطِ أحداً مديوناً حتى تسأل عن سبب الدين، وحينئذٍ لا يخلو سبب الدين من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون سبب الدين أمراً محرماً، كذهابه إلى أماكن الفساد وسفره إليها حتى تحمّل الديون، فهذا لا يعطى من الزكاة وجهاً واحداً؛ لأنها معونة على الإثم، والله عز وجل نهى عن التعاون على الإثم، والشرع لا يعين على المحرم، وبناءً على ذلك لا يعطى مثل هذا من الزكاة.
    الحالة الثانية: أن يكون أنفقها في شهوة حلال، أو على وجه السفه، في شهوة حلال كأن يشتري السيارات والبيوت، ويبالغ في الترف وهو ضيِّق المال ضيق اليد، ليس عنده قدرة، ولكنه يتوسع في الشهوات المباحة، وتجد عنده نوعاً من السفه، لا يُحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره، يشتري الشيء بعشرة آلاف وهو يباع بعشرة آلاف فيبيعه بتسعة آلاف، أو بثمانية آلاف، فهذا سفيه، ومثل هذا لا يعطى من الزكاة؛ لأنه أنفقها على وجه السفه الذي نهى الله عن إعطاء المال فيه، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فلو قلنا بمشروعية سداد دينه فكأنه تشريع للسفه، وإعانة عليه، والسفه تبذير الأموال في الشهوات، كما أشار بعض العلماء إليه بقوله: والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال ممكن أن يتزوج ويتحمل الدين، ويكون زواجه بثلاثين ألف ريال سعودي، ولكنه يسرف في زواجه حتى يصل إلى مائة ألف، ثم يقول: أنا مديون، ويزاحم الفقراء والمساكين، فهذا لا يعطى، وإنما يعطى بقدر الحاجة، وينظر إلى قدر حاجته، والدين الذي كان صحيحاً معتبراً شرعاً.
    الحالة الثالثة: أن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، كإنسان يتدين في نفقته ونفقة عياله، جاءك رجل وقال: إني مديون، فسألته عن دينه، فقال: صاحب البقالة له عليَّ ثلاثة آلاف ريال، فتسأل صاحب البقالة وإذا به يقول: هذا الرجل كان يأخذ مني هذه الأموال طعاماً في نفقة أولاده، فهذا لا بأس أن تعطيه؛ لأنه من أهل الزكاة.
    كذلك أيضاً جاءك وقال: إني مديون، قلت له: كم دينك؟ قال: عشرة آلاف، سألت: هذه العشرة آلاف ما سببها؟ قال: استأجرت بيتاً لي بخمسة عشر ألفاً، سددت منها خمسة وبقيت عشرة، تنظر في هذا البيت، هل هذا البيت فيه بذخ وإسراف وكان بإمكانه أن يستأجر بما هو أقلّ، وأسرف واستأجر بما هو أكثر، فحينئذٍ تعطيه بقدر الحاجة، أم أنه قد وضع الشيء في موضعه، فالبيت الذي استأجره لائق به وبأولاده، ولا إسراف فيه ولا بذخ، فحينئذٍ تعطيه من الزكاة.
    الشاهد: أنه لا بد من التحري، وليس كل صاحب دين رفع إليك حاجته وأنه مديون يُعطى من الزكاة، بل ينبغي التحري والتقصي والسؤال، وإلا لو فتح هذا الباب لضاعت أموال الزكاة، وأصبح الرجل يسرف في شهواته وملذاته، ثم يأتي ويقول: إنه مديون.
    فإنما يعطى المديون الذي استدان لطعامه وشرابه وكسائه، أو جاءك مديون وقال: إني مرضت واحتجت إلى عملية، وفعلت هذه العملية، وكلّفتني عشرة آلاف ريال أو خمسة عشر ألف ريال، أو جاء الخبر أن فلاناً أجرى عملية وتحمّل بسببها عشرين ألف ريال، فيُعطى ويسدد دينه، هذه أمور محتاج إليها، وقد تصل إلى الضرورة، فمثل هؤلاء هم الذين يُعطون من الزكاة.
    أما إذا كان كل من قام يدّعي أنه مديون، أعطي من الزكاة لقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] فهذا ليس بصحيح، وإنما يتقيد كما ذكر العلماء بأن يكون دينه على وجه معتبرٍ شرعاً، لا إسراف فيه ولا حرمة.
    (98/8)
    ________________________________________
    الصنف السابع: المجاهدون في سبيل الله عز وجل
    [السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم].
    قوله: (الذين لا ديوان لهم) الديوان: هو العطاء كالراتب ونحوه، فهؤلاء ما دام أن لهم عطاء فلا يُعطون من الزكاة، أما لو تطوّع إنسان بالجهاد في سبيل الله عز وجل وخرج، فقال بعض العلماء: يعطى لسلاحه، وقال بعضهم: يعطى لنفقته وسفره وتجهيزه للغزو، فيجهّز في ملبسه ومركبه، وكذلك آلات جهاده، والقول الثاني أقوى، وشرط ذلك: أن لا يكون لهم ديوان.
    أما لو كان لهم ديوان بأن خصص لهم قدر معين من بيت المال، فإنهم لا يُعطون من الزكاة إلا إذا وُجدت فيهم حاجة من وجه آخر.
    (98/9)
    ________________________________________
    الصنف الثامن: ابن السبيل
    قال المصنف رحمه الله: [الثامن: ابن السبيل المسافر المنقطع به].
    ابن السبيل: نُسب إلى السبيل وهو الطريق، والمراد بابن السبيل المسافر، وشرطه: أن يكون منقطعاً، وتعطيه لرجوعه إلى بلده، لا لإنشاء السفر، ففرق بين إنشاء السفر وبين الرجوع عن السفر، ولذلك يعبّر العلماء فيه ويقولون: المنقطع، والمنقطع هو الذي يريد البلغة إلى داره، وحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون ابن السبيل غنياً بحيث لو رجع إلى بلده كان عنده مالٌ ووفاء لما أعطيته، فقال بعض العلماء: يُعطى للبلغة، ثم يقضي هذا الدين الذي أُعطيه؛ لأنه احتاج بقدر ما يصل إلى بلده، ثم زالت حاجته فوجب عليه السداد.
    وقال بعض العلماء: يعطى وإن كان غنياً ولا يطالب بالقضاء.
    والأول أحوط.
    وأما إذا كان فقيراً هنا وفي بلده، بحيث لو سافر إلى بلده لا يملك السداد، فإنه يُعطى بقدر ما يوصِّله إلى بلده، ويُعطى شيئين: أحدهما: ما يتعلق بمركوبه، والثاني: ما يتعلق بزاده وطعامه ونفقة أكله وشربه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك إذا كان في الطريق منازل ينزل فيها كالمحطات، فإنه يحتاج إلى الاستئجار فيها لنوم وراحة ونحو ذلك.
    هذا بالنسبة لابن السبيل، فإنه يعطى بقدر حاجته التي توصله إلى بلده.
    قال المصنف رحمه الله: [دون المنشئ للسفر من بلده، فيعطى قدر ما يوصله إلى بلده].
    قوله: (دون المنشئ) فلو قال: أريد أن أُسافر؛ لم يُعط، وإنما يُعطى الذي انقطع عن أهله وولده، ويريد أن يرجع إليهم، كأن يكون في سفر ثم تضيع نقوده، أو يأتي بنقود ثم تستنفذ هذه النقود في الطريق ولم يحسب حسابه، أو يأتي وهو على عوز لأمرٍ ضروري ثم ينقطع.
    لكن فصّل بعض العلماء في السبيل، وفرّقوا بين السفر، فقالوا: يُنظر في سفره، فإن كان سفره سفر طاعة أو سفراً مباحاً لا إسراف فيه ولا سفه فإنه يعطى، أما إن كان سفره على وجه السفه أو على وجه الحرمة فلا يعطى.
    وتوضيح ذلك: أنه إذا سافر سفراً مباحاً كالتجارة، ثم لما جاء إلى البلد الذي سافر إليه ضاعت نقوده أو استنفذت بسبب طول البقاء، فهذا يعطى بقدر ما يبلغه.
    وقد يكون السفر واجباً، كأن يسافر لحج وعمرة، وهما عليه فريضة، فيسافر من أجل القيام بفرض الله عليه، فينقطع، فحينئذٍ يعطى.
    أما لو سافر لأمرٍ محرّم فيه عقوق أو ارتكاب محرم فإنه لا يعطى؛ لأنه إعانة على الحرام، والشرع لا يأذن بالحرام، فكأننا إذا أعطيناه أعناه على الحرام.
    وقال بعض العلماء: إنه يعطى إذا كان سفره إلى الحرام وأراد أن يرجع إلى بلده، وظهرت عليه آثار توبته ورجوعه إلى الله، أما إذا كان مستمراً على معصيته واعتدائه لحدود ربه فإنه لا يعطى؛ لأنه آثم في ذهابه ورجوعه، وحينئذٍ لا يعطى على هذا الوجه.
    (98/10)
    ________________________________________
    حكم إعطاء من يستحق الزكاة ما يكفيه هو ومن يعول
    قال المصنف رحمه الله: [ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم].
    قوله: (ومن كان ذا عيال) بعد أن بيّن لنا الأصناف الثمانية، وأراد أن يبين لك أنك إن أعطيت الفقير لفقره، أو المسكين لمسكنته، فينبغي عليك أن تنظر إلى عياله، ومن تلزمه نفقتهم، فقال: (من كان ذا عيال) يعطى قدر نفقتهم.
    فلو أن رجلاً عنده خمسة أطفال وزوجة، وعندك زكاة، وتعلم أن نفقته وحده هي ثلاثة آلاف، ونفقته مع عياله تصل إلى اثني عشر ألفاً، فتعطيه اثني عشر ألفاً؛ لأن من تلزمه نفقته منزَّلٌ منزلته، ومن كان ذا عيال يعطى نفقته ونفقة عياله.
    (98/11)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الزكاة لصنف واحد
    قال المصنف رحمه الله: [ويجوز صرفها إلى صنف واحد].
    أي: ويجوز صرف الزكاة لصنف واحد من هذه الأصناف الثمانية، وهذه مسألة خلافية، قال بعض العلماء: تعمِّم الزكاة على الأصناف الثمانية، فتقسم الزكاة ثمانية أسهم، فلو كان عندك ثمانية آلاف زكاة، تجعل ألفاً للفقراء وألفاً للمساكين وألفاً للغارمين إلى آخره.
    وقال بعض العلماء: يجوز أن تصرف الزكاة لصنف واحد، واحتجوا بحديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فخصّ الفقراء وهم صنف واحد من أصناف الزكاة، ولم يذكر أصناف الزكاة الثمانية، فدل على مشروعية الصرف لوجهٍ واحد من الوجوه الثمانية، وهذا هو الصحيح.
    (98/12)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الزكاة للأقارب
    قال المصنف رحمه الله: [ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مئونتهم].
    أي: كأخيه وأخته، فإن الفقير المحتاج من الأقرباء قد يمتنع الناس من الإحسان إليه لوجود قرابتك منه، فإنهم يقولون: هذا قريب لفلان الغني، ولا يتصوّرون أنك لا تعطيه، فلو حُرم من زكاتك، وحُرم من زكاة الناس فلن يعطى شيئاً، ولذلك يعطى القريب، وهو أحق من غيره وأولى.
    وقال بعض العلماء: إن صرف الزكاة للأقرباء فيه أجرٌ زائدٌ على أجر الزكاة وهو أجر الصلة والإحسان، ولذلك يبتدئ بالقرابة فيبدأ بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحق للأقرباء مقدماً على حق الأبعدين، فيبدأ بالأقارب ويعطيهم، وهذا أفضل وأكمل.
    (98/13)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (98/14)
    ________________________________________
    حكم صرف زكاة الفطر إلى المساكين فقط

    السؤال
    هل أهل الزكاة الثمانية يشملهم زكاة الفطر، أم هي مختصة بالمساكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زكاة الفطر طعمة للمساكين)؟

    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فقد رجّح غير واحد من العلماء تخصيصها بالمساكين، وإذا كانت للمساكين فمن باب أولى أن تكون للفقراء، وذلك أنها شُرعت لإغنائهم عن السؤال يوم العيد وليلته، ومن هنا قالوا بتخصيصها بهذا الصنف من أصناف الزكاة.
    والله تعالى أعلم.
    (98/15)
    ________________________________________
    الفرق بين الزكاة والصدقة

    السؤال
    ما الفرق بين الزكاة والصدقة؟

    الجواب
    الزكاة فريضة، والصدقة نافلة، وقد تُطلق الصدقة بمعنى الزكاة.
    وإنما سمِّيت الصدقة صدقة؛ لأن الإنسان يصدق فيها رغبته في طاعة الله عز وجل، والسبب في ذلك: أن الإنسان بالصدقات يتجاوز حدود الواجب إلى غير الواجب، فكأنه صدق في محبة الله عز وجل، وصدق في التماس ما عند الله من الأجر والمثوبة بإنفاق ماله أو نحو ذلك من وجوه الخير التي يفعلها.
    وعلى ذلك قالوا: إن الصدقة تكون نافلة، والزكاة تكون واجبة، ثم الصدقة تكون في وجوه الخير عموماً، والزكاة لا تصرف إلا لأصنافها الخاصة، والصدقة تكون من جميع الأموال، ولكن الزكاة لا تكون إلا من أموال مخصوصة.
    والصدقة لا تتقيد بوقت، والزكاة تتقيد بوقت، وبناءً على ذلك تفترق الصدقة عن الزكاة.
    وأمر الصدقة أعمّ من أمر الزكاة، ولذلك لا يشترط فيها ما يشترط في الزكاة، ولا تعتبر آخذة حكم الزكاة، حتى قال بعض العلماء: إنه قد يجوز الشيء في الصدقة ولا يجوز في الزكاة، كقول من يقول بجواز أخذ الهاشمي ومن كان من آل البيت من الصدقات العامة، ولا يجوز أن يأخذ من الزكاة، وإن كان الأقوى والأرجح أنهم لا يأخذون من عموم الصدقات.
    والله تعالى أعلم.
    (98/16)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الفقير من الزكاة مع العلم باستخدامه بعضها فيما لا يجوز

    السؤال
    إذا علمت أني إذا أعطيت الفقير من الزكاة أنه سيشتري ببعضها ما ينفعه، وببعضها ما لا يجوز شراؤه، فما الحكم في ذلك؟

    الجواب
    إذا أعطيت الفقير لفقره، وقدّرت المال لحاجته الأصلية التي هي مباحة مشروعة، فإنه يتحمل المسئولية أمام الله عز وجل في إنفاقه على غير ذلك، وقال بعض العلماء وكان بعض مشايخنا يميل إلى هذا القول: إنه يُجتهد في هذا الذي يُخشى أن يصرف المال في الحرام، فإن كان له قريب صالح ديِّن أمين بحيث يكون بمثابة الولي عليه، يستطيع أن يحجره عن هذا الحرام، فيُعطى المال لهذا القريب، ثم يُنفق عليه في حاجته الأصلية، ولا يعطيه عيناً، وإنما يقوم بشراء حوائجه الأصلية بمثابة الحجر عليه.
    والله تعالى أعلم.
    (98/17)
    ________________________________________
    حكم أخذ الوكيل الفقير من الزكاة

    السؤال
    هل إذا كان الوكيل فقيراً وفي حاجة للمال، فهل يجوز له أن يأخذ منه؟

    الجواب
    هذا فيه تفصيل، إذا قال صاحب المال للوكيل: خذ زكاتي وأعطها فقراء بني فلان أو أعطها إلى فلان، فعليه أن يؤديها إلى هؤلاء الفقراء، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئاً؛ لأنه وكيل بالإعطاء، وليس له حظ النظر في الزكاة، ولا يجوز أن يخلِّف منها شيئاً.
    الحالة الثانية: أن يقول له: اصرفها للمحتاجين، أو لك النظر فيها، أو يفوضه في أمر الزكاة، فحينئذٍ يجوز له أن يأخذ منها إذا كان محتاجاً.
    والله تعالى أعلم.
    (98/18)
    ________________________________________
    المخاطب بالزكاة بعد بيع الحب بعد حصاده وبدو صلاحه

    السؤال
    لو باع رجلٌ حبوب المزرعة وقد بلغت النصاب، وذلك عند الحصاد، فمن يدفع الزكاة البائع أو المشتري، أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا باع المالك الحقيقي للمزرعة الحب فإن البيع لا يصح إلا بعد بدو الصلاح، وإذا بدا الصلاح وهو في ملكه، فإنه المخاطب بالزكاة، وحينئذ يجب عليه أن يؤدي زكاته، فالزكاة واجبة على رب البستان وصاحبه، وليس على المشتري؛ لأن رب البستان قد وجبت في ذمته الزكاة ببدو الصلاح في حبه.
    والله تعالى أعلم.
    (98/19)
    ________________________________________
    حكم زكاة من كان لديه أرض يريد بيعها ولم يبعها إلا بعد عشر سنوات

    السؤال
    رجلٌ لديه أرضٌ اشتراها منذ عشر سنوات بنية بيعها بعد فترة، ولم يعرضها للبيع مدة العشر سنوات، ثم عرضها بعد ذلك، فماذا يكون عليه من الزكاة؟

    الجواب
    إذا باعها وتحقق بيعها زكّاها لسنة واحدة على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم، وهو قول طائفة من السلف كـ سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وخارجة بن زيد وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة، واختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة، واختاره بعض أصحاب الشافعي، وهو أقوى الأقوال، أنها تُزكى لسنة واحدة بعد البيع والقبض.
    والله تعالى أعلم.
    (98/20)
    ________________________________________
    حكم زكاة من معه تجارة وعليه دين ينقص النصاب

    السؤال
    رجل عنده محل تجاري، ويقوَّم ما فيه بعشرين ألف ريال، وعليه دينٌ يقدّر بخمسين ألف ريال، فهل عليه زكاة في هذا المحل، مع أنه وقت الزكاة لا يملك مالاً ليزكي به؟

    الجواب
    هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، بعض العلماء يرى أن من كان عليه دين يسقطه مما يملك من الأموال، وبعضهم يرى أنه إذا حال الحول والمال عنده، فإنه مالكٌ لهذا المال، وبناءً على ذلك لا يُعقل أن يمتنع من سداد الناس لحقوقهم ويمتنع من أداء حق الله في ماله، فيخيّر بين أمرين: إما أن يسدد الديون قبل حولان الحول حتى يبرأ من الزكاة، وإما أن تلزمه الزكاة بحلول الوقت، وهذا القول هو أحوط القولين وأولاهما في النظر.
    والله تعالى أعلم.
    (98/21)
    ________________________________________
    حكم البيع في فناء المسجد وأروقته

    السؤال
    ما حكم البيع في فناء المسجد وأروقته؟ وهل هي في حكم المسجد؟

    الجواب
    فناء المسجد ورحبته لا تأخذ حكم المسجد، ولذلك لا تجب فيه تحية المسجد بالإجماع، ومن خرج إليه وهو معتكف بطل اعتكافه، ويجوز للمرأة الحائض أن تجلس فيه، فدل على أنه غير آخذ حكم المسجد، لكن إذا أراد أحدٌ أن يبيع فيه نظر: فإن أدى إلى الضرر، كأن يرفع صوته بعرض السلع وينادي ويصيح فيشوش على المصلين ويكون المسجد صغيراً بحيث يسمعه من بداخله فيمنع، أما لو كان بعيداً والمصلون بعيدون عنه، وهو ينادي بصوتٍ معقول، ولا يتضرر من بداخل المسجد، فيترك الرجل لينال رزقه، خاصة وأنه لا يقف في هذا الموقف إلا وهو محتاج، فمثل هذا لا يُمنع إذا كان لا يشوش على الناس ولا يؤذيهم، أما إذا ضيق عليهم وآذاهم، وأضر بهم، واجتمع الناس به فتضرر الناس في خروجهم من المساجد، ولربما تعثروا أو آذى بعضهم بعضاً، فحينئذٍ يعتبر آثماً شرعاً.
    والله تعالى أعلم.
    (98/22)
    ________________________________________
    حكم الدم الذي ينزل بعد الأربعين للمرأة النفساء

    السؤال
    امرأة قضت الأربعين بعد النفاس ولم تطهر، وإذا طهرت نصف يوم عاد إليها الدم، وهكذا حتى وصلت اليوم السادس والأربعين، علماً بأن هناك علاجاً تستخدمه، فهل يكون هذا العلاج سبباً في استمرار الدم حيث إنه منظِّف لبقايا الدم؟

    الجواب
    هذا السؤال فيه جانبان: جانب شرعي، وجانب طبِّي: أما الجانب الشرعي: فالمرأة إذا أتمت أربعين يوماً في نفاسها فإنه يُحكم بطهرها، وبعد الأربعين إذا رأت الدم فهو دم استحاضة وليس بدم نفاس، إلا في حالة واحدة، وهي: أن ترى دم الحيض بصفاته، فيكون دخل الحيض على النفاس، فتنتقل من النفاس إلى الحيض بعادتها، أما إذا لم تر علامة الحيض والدم مستمرٌ معها فمُضي أربعين يوماً يعتبر دليلاً على انتهاء مدة النفاس، لحديث أم عطية رضي الله عنها أنه: (كانت النفساء تمكث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً)، فإذا خلّفت الأربعين فقد طهُرت.
    وأما بالنسبة للجانب الطبي؛ وهو: هل يكون هذا الدواء سبباً أو لا، فهذا مرده إلى الأطباء ولا يُسأل عنه العلماء، فهم أعرف بدوائهم وما صرفوا من علاجهم.
    أما من الناحية الشرعية فما زاد عن الأربعين فإنه يُعتبر استحاضة، إلا في حالة واحدة هي دخول الحيض على النفاس، فإذا دخل الحيض على النفاس حكمنا بانتقالها من النفاس إلى الحيض، وحينئذٍ تمكث أيام عادتها التي اعتادتها قبل نفاسها.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    (98/23)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب أهل الزكاة [2]
    هناك أصناف لا يجوز دفع الزكاة إليهم، وهم: بنو هاشم وبنو المطلب ومواليهم، وأصول المزكي وفروعه، ومن تجب عليه نفقته، والزوج والعبد ونحوهم.
    ولا يجوز دفع الزكاة إلا لمن يستحقها بصدق، ومعرفة المستحق تتحقق بأمور ذكرها الشيخ في هذه المادة، وذكر فضل صدقة التطوع وبعض ما يتعلق بها من أحكام.
    (99/1)
    ________________________________________
    حكم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب ومواليهم
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي ومواليهما].
    فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله الأصناف الثمانية الذين سمّى الله في كتابه، وأمرنا بدفع الزكاة إليهم، شرع في بيان هذا الفصل المهم، والذي يتعلّق بالصفات التي تمنع استحقاف أخذ الزكاة، فهذه الأوصاف التي سيذكرها المصنف رحمه الله تعتبر مانعة من أخذ الإنسان للزكاة ولو كانت فيه صفة من صفات أهل الزكاة، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً، فإذا وُجد فيه مانع من هذه الموانع فإنه لا تُصرف الزكاة إليه.
    ولما قال المصنف رحمه الله: (ولا تدفع) لا نافية، أي: لا يجوز دفعها لهاشمي، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أنه لا يجوز الدفع إلى هؤلاء الذين سيذكرهم رحمة الله عليه، ويكون هذا دالاً على تحريم الدفع، فمن كان يعلم أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي فدفعها للهاشمي، فإنه يأثم.
    المسألة الثانية: أنه لما قال: أنها إذا دُفعت وعلم الإنسان أنه تحرُم الصدقة والزكاة على هذا النوع، فدفع إلى هذا الممنوع من دفعها إليه، فإنه لا تجزيه الزكاة، ويجب عليه أن يقضي، وتعتبر صدقة من الصدقات النافلة، أما بالنسبة للفريضة فلا تزال في ذمته، ولو كان جاهلاً ثم علم بالحكم؛ فإنه يلزمه القضاء، ويسقط عنه الإثم لمكان الجهل، ولكنه يُطالب بضمان حق الله عز وجل على الأصل المقرر في الجاهل، أن الجهل يوجب سقوط الإثم، ولكنه لا يُسقط الضمان في الحقوق.
    وبناءً على ذلك فإن المصنف رحمه الله حينما نص على حرمة الدفع لمن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دفع الزكاة إليه فكأنه يقرر هذين الأمرين: حرمة الدفع، وأن من دفع لا يجزيه ذلك عن زكاة الفرض وأن عليه القضاء.
    (99/2)
    ________________________________________
    تعيين بني هاشم
    قوله رحمه الله: (إلى هاشمي): هو نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في تحريم دفع الزكاة لبني هاشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحلّ لمحمدٍ ولا لآل محمد)، فأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة دفعها لبطون بني هاشم، ويشمل ذلك: آل العباس، وآل عقيل، وآل علي، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، واختلف في آل أبي لهب -وهم البطن السادس-، هل يجوز أن تصرف لهم الزكاة، أو لا يجوز دفعها إليهم؟ فقال بعض العلماء: آل أبي لهب يعتبرون من آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين لا يجوز صرف الزكاة إليهم.
    وقال بعض العلماء: إن آل أبي لهب يخرجون من هذا المنع؛ لأن أبا لهب كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل ما ذكر الله عز وجل في كتابه من الوعيد الشديد له لتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له على رءوس الناس، فقالوا: خرجوا من هذا؛ لأن المنع للفضل والتكريم، وكان أبو لهب شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم معادياً للإسلام، فخرج من هذا.
    ولـ أبي لهب عتبة ومعتِّب وقيل: معْتِب، اللذان أسلما وشهدا فتح الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهل ذرِّيتهما يمنعان من الزكاة كما يمنع بقية الآل أو لا؟ هذان الوجهان للعلماء رحمهم الله، والأصل يقتضي أن تمنع الزكاة عنهم؛ لأنهم داخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا فهمنا من الآل النصرة مع القرابة، فحينئذٍ لا يدخلون، ولكن الأول أوجه بمقتضى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.
    (99/3)
    ________________________________________
    أقوال العلماء في دخول بني المطلب مع بني هاشم
    قوله: (ولا لمطَّلبي): بنو المطلب هم نسبة إلى المطلب بن عبد مناف وهو أخٌ لـ هاشم، وله أخوان آخران وهما نوفل وعبد شمس؛ لأن عبد مناف له أربعة من الولد وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.
    فالنوفليون والعبشميون، وهم نسبة إلى نوفل وعبد شمس لا يدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرُم الصدقة عليهم بالإجماع، بل يجوز دفع الزكاة إليهم، وآل هاشم يدخلون بالإجماع على التفصيل الذي ذكرناه.
    واختلف في المطلب بن عبد مناف، فظاهر النص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آل المطلب بن عبد مناف داخلون في المنع، وأنهم من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يختاره فقهاء الشافعية، وهو قولٌ عند المالكية، ورواية عن الإمام أحمد اختارها المصنف رحمة الله عليه، فإن آل المطلب بن عبد مناف تحرُم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل النبي صلى الله عليه وسلم.
    واستدل الذين قالوا بأن آل المطلب يدخلون في آل النبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحد) وفي رواية: (لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)، وهذا نصٌ صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار آل المطلب كآل هاشم، وإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ورد بسبب النصرة، فإن هذا لا يقتضي تخصيص الحكم؛ لأن القاعدة في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في مسألة الخُمس، فأدخلهم في خُمس الخُمس، وعدهم من آله وقرابته عليه الصلاة والسلام الذين يصرف لهم خمس الخمس، وقال: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، وقال: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام)؛ لأنهم حُوصروا في شعب أبي طالب مع آل هاشم، فدل هذا النص على أنهم مع بني هاشم كالشيء الواحد، وإذا كان الأمر كذلك فظاهر اللفظ أنهم يُمنعون.
    القول الثاني: ذهب طائفة من العلماء من فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية، وقيل: إنه هو المعتمد في مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد: أنهم لا يدخلون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص الحكم بدخول بني المطلب في مسألة خمس الخمس، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم مع بني هاشم من جهة النصرة لا من جهة العموم.
    والصحيح هو القول الذي اختاره المصنف على ظاهر النص؛ لأن القاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) دل ذلك على أنهم شيءٌ واحد دون تفريق، وكونه يرد لسبب خاص لا يقتضي التخصيص.
    إضافة إلى أمر ثان: وهو أننا لو سلّمنا أن الحديث ورد في مسألة خمس الخمس، فإنه قد جاء في الرواية الأخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يخاطب آله: (إني أرغب لكم عن أوساخ أيدي الناس، ولكم في الخمس غِنَى) أي: أنه جعل في وجود خُمس الخمس غنى عن الصدقات.
    فإذا تأملت هذا الحديث -أن خُمس الخمس غنى عن الصدقات- وآل المطلب هم داخلون مع آل هاشم في خمس الخمس دلّ على أنهم كذلك يمنعون؛ لأن المعنى موجود فيهم، فلو سلم النص الذي يستدلون به على التخصيص، فإننا نقول: علّته تقتضي التعميم.
    وعلى هذا فيحرم دفع الزكاة إلى: آل العباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل علي بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وكذلك آل أبي لهب، على أصح قولي العلماء رحمة الله على الجميع، وهؤلاء كلهم من بني هاشم، ثم يلحق بهم آل المطلب بن عبد مناف، وعلى هذا يحرم دفع الزكاة إلى هؤلاء.
    (99/4)
    ________________________________________
    العلة في تحريم دفع الزكاة إلى بني هاشم وبني المطلب
    لقد علّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن الزكاة تعتبر طُهرة للناس وطهرة لأموالهم، كما قال سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فأخبر أنها طُهرة، فإذا كانت طُهرة فإن آل النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الشرف والمكان ما هم أرفع من أن يقبلوا هذه الطهرة، كما جاء في الخبر: (إنها أوساخ الناس).
    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه رأى الحسن أو الحسين يتناول تمرة من تمرات الصدقة فقال: كخ كخ، إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وعلى هذا فإن تحريم الصدقة عليهم لمكان الشرف؛ ولأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بهذه المزية لمكان قرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
    ولا شك أن لهم الحق ولهم الفضل الذي يجب على كل مسلم أن يحفظه لهم، وأن يرعى لهم الحرمة، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تفضيل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وإكرامهم، وأن ذلك مما يُتقرب به إلى الله عز وجل، ولكن بشرط أن يكون في الحدود الشرعية بعيداً عن الغلو، فلا يجحِف الإنسان بحقهم فيساويهم بعامة الناس كما هو صنيع الجهال والرعاع، ولا يرفعهم عن مقامهم الذي يليق بهم، وإنما يعطيهم الحق، قالوا: إنهم يفضلون حتى في المجالس، فيُكرمون ويجلُّون ويقدَّرون؛ لمكان قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها)، فجعل آله عليه الصلاة والسلام ومن هم منه بمثابته هو عليه الصلاة والسلام قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، ولذلك عظُمت حرمتهم ووجب حفظ حقوقهم.
    (99/5)
    ________________________________________
    شرف الانتساب إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم
    وقوله رحمه الله: (ولا تدفع إلى هاشمي ومطّلبي) قلنا: إن المطّلبي يلحق بالهاشمي على الصحيح، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرفون بإثبات النسب، كأن تكون لهم الشجرة التي تثبت نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده الشجرة التي تثبت النسبة حلّ له أن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرُم عليه أن يقبل الزكاة من الناس، وهكذا الصدقات النافلة على أصح قولي العلماء كما سيأتي.
    وكذلك يعرف كذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بالشهرة والسماع، والقاعدة عند العلماء: أن السماع يثبت النسب، فهناك شهادة تسمى عند العلماء بشهادة السماع والاستفاضة، وهي أن يُعرف أن هذا البيت من آل النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون هناك لقب معروف على مستوى الحي أو على مستوى المدينة يعرف أنه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وينتسب الإنسان إليه، فهذا من القرائن الظاهرة.
    وتعتبر شهادة الاستفاضة والسماع موجبة لثبوت النسب، ولذلك يحكم العلماء رحمهم الله بها في القضاء كما قرر الفقهاء رحمهم الله في باب الشهادة، فإذا استفاض أن فلاناً ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أحكامهم، ولا يجوز لأحد أن يطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو يشكك في أنسابهم، فذلك من الخطورة بمكان، فإن هذا يعتبر من أشد أنواع القذف وأسوئها، أن ينفي نسبة إنسان إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت نسبته أو اشتهاره بين الناس أنه من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين كبائر: أولها: قذفه بإخراج نسبه عن الأصل الصحيح فينسبه إلى غير أهله.
    وثانياً: لما فيه من الأذية لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقذف غيرهم ليس كقذفهم، ولذلك جعل الله عز وجل عظيم الوعيد لمن قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه إذا ثبت واستقر عن الإنسان أنه ينتسب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سرت عليه الأحكام؛ فحرُم إعطاء الصدقة إليه، وحرُم دفع الزكاة له، وحرُم قبوله للصدقات.
    (99/6)
    ________________________________________
    أقوال العلماء في حكم إعطاء موالي بني هاشم وبني المطلب من الزكاة
    وقوله: (ومواليهما): يعني: موالي بني هاشم وموالي بني المطلب.
    المولى: هو العتيق، يكون عند الإنسان عبد ثم يعتقه، فإذا أعتقه فإنه يكون مولى له، وحينئذٍ يقال: مولى بني فلان، وينسب ويقال: الهاشمي مولاهم، يعني نسبته إلى بني هاشم من جهة الولاء.
    وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الولاء، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فأخبر أن الولاء لمن أعتق، فإذا أعتق الهاشمي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني هاشم، ولو أعتق المطَّلبي عبداً فإنه يعتبر مولىً لبني المطّلب، وحينئذٍ فهؤلاء الموالي الذين أصلهم عبيد يعتبرون آخذين لحكم أسيادهم الذين أعتقوهم، فتحرُم عليهم الصدقة سواءً كانت فريضة أو كانت نافلة على الصحيح.
    والدليل على ذلك: أن أبا رافع وكان مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل ولايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة فتح الطائف حينما حاصرها عليه الصلاة والسلام، فنزل رضي الله عنه وأرضاه، ثم أعتقه فكان مولىً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أبي رافع رجلٌ من بني مخزوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذا الرجل المخزومي على الصدقة، فقال الرجل المخزومي لـ أبي رافع: اصحبني كيما تصيب مما أصيب، يعني حتى يكون لك شيءٌ مما آخذه في عمالتي على الزكاة، فقال أبو رافع: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرّم عليه ذلك وقال: (إن مولى القوم منهم).
    فهذا نصٌ صحيح صريح يدل على أن موالي آل البيت لا يجوز صرف الزكاة إليهم، ولا يحل أخذهم لهذه الزكاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم منهم).
    ولما ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (الولاء لحمة كلحمة النسب)، فجعل الولاء لحمة كلحمة النسب، فلما كان آل بني هاشم يحرم عليهم بالانتساب للبيت فكذلك مواليهم يعتبرون منتسبين للبيت من جهة الولاء، فلا يجوز دفع الزكاة إليهم.
    هذا على القول الراجح وهو قول الجماهير؛ لأن بعض المالكية وبعض الحنفية يجيز دفع الصدقة للموالي، وهذا القول يعتبر مرجوحاً، ويعتذر لأصحاب مالك رحمة الله عليهم الذين يقولون بجواز دفعها للمولى بأنه ربما لم يطّلعوا على الحديث الذي دلّ على التحريم، وإلا فالأصل أن الحديث إذا استبانت حجّته للفقيه لم يجز له أن يخالفه.
    وعلى هذا فإنه لا يجوز دفع الصدقة إلى موالي بني هاشم وبني المطلب، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
    (99/7)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الهاشمي والمطلبي من صدقة النافلة
    من ظاهر قوله: (ولا تدفع لهاشمي ومطلبي) أنه لا يجوز دفع الزكاة، لكن يرد سؤال عن الصدقة النافلة، فللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أنها تحرُم عليهم كما تحرم الزكاة الواجبة.
    والوجه الثاني: أنها تحل لهم الصدقة النافلة وتحرم عليهم الصدقة الواجبة.
    واستدل الذين قالوا بحرمة أخذهم من الصدقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، وهذا كلام عام يدل على أن الصدقة على الإطلاق لا يجوز دفعها إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
    ولما في أخذهم الصدقة من الغضاضة والحط من قدرهم، ولذلك قالوا: إنه لا يُشرع أخذهم للصدقة والزكاة الواجبة، وهذا القول هو الذي تميل إليه النفس، وهو اختيار جمعٍ من العلماء رحمة الله عليهم.
    وأما ما ورد من قوله: (إنما هي أوساخ الناس) فهذا ورد ورد تعليلاً لخاص، وإذا ورد التعليل لخاص لم يقتض ذلك تعميم الحكم، بل يُقصر، أي: إنني منعتك من هذه الزكاة الواجبة؛ لأنها أوساخ الناس.
    فالذي يظهر منعهم من الصدقة عموماً لفضل الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لهم من خمس الخمس؛ لأن الله جعل لهم في خُمس الخُمس غناءً عن هذه الصدقة.
    فلو قال قائل: إنه قد يأتي زمان ولا يوجد خمس الخمس؟ قالوا: إن هذا أصل شرعي، وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجد خمس الخمس إلا في حالات الجهاد، وهي أحوال خاصة، ومع ذلك كانوا يعيشون في ضيق وشدة وحاجة، حتى جاءته بنته فاطمة تشتكي له أنها طحنت النوى بيدها حتى مجلت، ومع ذلك لم يحلّ دفع الزكاة إليها.
    وعليه فإنه لا تدفع الزكاة إليهم، وكذلك الصدقة النافلة.
    وبقي

    السؤال
    لو أنه افتقر حتى بلغ إلى مقام الضرورة، هل يجوز له أن يأكل من الصدقة، سواءً كانت نافلة أو واجبة؟
    و
    الجواب
    أما بالنسبة من بلغ إلى مقام الضرورة فقد رخّص له العلماء رحمهم الله إذا خشي الهلاك أن يطعم من الزكاة بقدر الضرورة، وأما إذا لم يبلغ هذا القدر، ولم يصل إلى هذه الدرجة، فإنه يبقى على الأصل الموجب لتحريم أكله لصدقات الناس.
    (99/8)
    ________________________________________
    حكم دفع الزكاة إلى فقيرة تحت غني
    قال رحمه الله: [ولا إلى فقيرة تحت غني منفق].
    الأصل في ذلك أن المرأة إذا كانت تحت زوج أن الزوج مطالبٌ بالإنفاق عليها، فإذا كان زوجها فقيراً وهي فقيرة جاز دفع الزكاة بالإجماع إليها وإليه؛ وذلك لوجود السبب الموجب لصرفها إليهما، لكن لو كانت هي فقيرة وهو غني فإنه لا يجوز دفعها إليها، أي: إلى هذه الفقيرة؛ لأن زوجها سيقوم بحقها.
    فلو أن هذا الزوج كان غنياً بخيلاً، لا ينفق على زوجته ويقتِّر عليها، فهل يجوز الدفع، أو لا يجوز؟ الجمهور على عدم جواز الدفع؛ لأنها إذا أرادت حقها فإنها تطالبه وتقاضيه.
    وقال بعض العلماء: إنه إذا كان بخيلاً جاز دفع الزكاة إليها؛ لأن وجود هذا الغني وعدمه على حدٍ سواء، فغناه لا يفيدها شيئاً، بل إنها تتضرر أكثر؛ لأن الناس يمتنعون من الإعطاء إليها لمكان غنى زوجها، وهم لا يعرفون أنه في الحقيقة مقتِّر ومقصر عليها.
    وقوله: (ولا إلى فقيرة تحت غني) يفهم منه أنها إذا كانت تحت فقير أنه يجوز الدفع إليه وإليها، والعكس يجوز، فلو كانت المرأة غنية والزوج فقيراً جاز دفع الزكاة إلى الزوج؛ لأن الزوجة لا تنفق على زوجها، ولذلك خصّ الزوجة ولم ينص على الزوج؛ لأن الزوج إذا كان فقيراً وكانت زوجته من أثرى خلق الله فلا يجب على الزوجة أن تعطيه من مالها ولا أن تغنيه وحاله حال فقر، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنها ليست مطالبة بالإنفاق على زوجها.
    (99/9)
    ________________________________________
    حكم دفع الزكاة إلى فرع أو أصل
    قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى فرعه وأصله].
    أي: ولا يجوز دفع الزكاة إلى الفرع ولا إلى الأصل.
    والفرع: هو الذي ينبني على غيره، تقول: فروع الشجرة؛ لأنها منبنية على أصلها، وتقول: الجريد فرع النخلة؛ لأنه منبن على جذعها، فالفرع هو الذي انبنى على غيره، والأصل هو الذي ينبني عليه غيره، فالفرع مبني على غيره.
    والأصل مبنيٌ عليه الغير، وعلى هذا يقولون في الإنسان: أصوله آباؤه وأمهاته، الأقربون والأبعدون، فأبوه وجدُّه وإن علا يعتبر أصلاً له، وأمه وجدته وإن علت أصلٌ له، ويشمل ذلك المباشر وغير المباشر.
    الفرع: وهم الذين يلدهم الإنسان، فله عليهم ولادة كابنه وبنته، وإن نزل الابن وإن نزلت البنت كبنت بنت البنت، وابن ابن الابن، كل هؤلاء يعتبرون من الفروع.
    فلا يجوز دفع الزكاة لا إلى الأصول ولا إلى الفروع، والدليل على ذلك السنة الصحيحة التي دلت على أن الفرع مع الأصل كالشيء الواحد، وهذه المسألة نص عليها جماهير العلماء، حتى حُكي الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة لا إلى الفروع ولا إلى الأصول، والدليل على ذلك من السنة الصحيحة حديث فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وبضعة الشيء كالشيء؛ لأنها قطعة منه، فدل على أنها وإياه كالشيء الواحد.
    وأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه لا يجوز أن يصرف الزكاة لأبنائه ولا لبناته؛ لأنه إذا فعل فكأنما يصرف لنفسه، لأنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، وتأكد هذا أيضاً بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، وقال للرجل: (أنت ومالك لأبيك).
    فهذه نصوص صحيحة من السنة جعلت جماهير العلماء رحمة الله عليهم يحكمون بعدم جواز صرف الزكاة للأصول وكذلك للفروع؛ لأن السنة دلت على أن الأصل والفرع كالشيء الواحد، وعلى هذا فلو أعطى أباه أو أمه من الزكاة فكأنه يعطي نفسه، وإنما يجب عليه أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما.
    ولا شك أنه من أعظم العقوق أن يكون الابن غنياً أو تكون البنت غنية -والمراد بالغني من عنده الفضل عن حاجته- ومع ذلك يرى والديه في الفقر والشدة ولا ينفق على والديه، فهذا من أشد العقوق الذي يؤذن بمحق البركة من المال، بل وبمحق التوفيق للإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.
    فلن تجد إنساناً يحرم والديه من فضلٍ أعطاه الله إياه إلا محق الله له البركة فيما أعطاه، وقد يجعل ما أعطاه وبالاً عليه في دنياه أو قد يجمع له بين وبال الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
    ولذلك ينبغي على الإنسان أن لا يبخل بماله على والديه، وإذا استطاع أن يبادرهما بالإنفاق قبل أن يسألاه فذلك من أكمل البر، ولذلك قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، فأصل التقدير: أحسنوا بالوالدين إحساناً، وقال تعالى: {إِحْسَانًا} [البقرة:83] وهذا مطلقٌ في الإحسان، أي: قدر ما تستطيعون من بذل الإحسان، وما يحسُن به حال الإنسان، أي: ما يُحسِن به إلى والديه في حالهما، سواءً بالقول أو الفعل، ولذلك لا يجوز أن يكون عنده المال ويؤدي الزكاة ووالديه في فقر ومسكنة، فهذا يعتبر من العقوق، ونص العلماء رحمهم الله على وجوب قيام الابن بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.
    (99/10)
    ________________________________________
    حكم دفع الزكاة إلى العبد
    قال المصنف رحمه الله: [ولا إلى عبدٍ].
    أي: ولا تدفع الزكاة إلى عبد؛ لأن العبد لا يملك، ولو دفع له انصرفت إلى سيده، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يملك، وعلى هذا فقد أخلى يد العبد من الملكية، وجعل ماله إما للبائع وإما للمشتري، فدل على أنه لا يملك.
    وعلى هذا فلا يتأتى أن يصرف الزكاة إليه؛ لأنه لا يملك، وإذا صرفها إليه فكأنه يعطيها لسيده، فإذا كان السيد محتاجاً جاز دفع الزكاة إليه بوجود الحاجة التي يؤذن بصرف الزكاة بسببها.
    في حالة واحدة يستثنى فيها العبد، وهي إذا كان مكاتباً، وقد بيّنا هذا في قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، فإن الله عز وجل نص على دفع الزكاة للمكَاتَب كما في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فتصرف الزكاة إلى العبد إذا كان مكاتباً لسيده، وأما غير ذلك فإنه لا تصرف الزكاة إليه.
    (99/11)
    ________________________________________
    حكم دفع الزكاة من الزوجة للزوج
    قال المصنف رحمه الله: [وزوج].
    أي: ولا إلى زوج أي: ولا يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها لزوجها، وهذا إذا وجد في الزوج ما يدل على حاجته وفقره ومسكنته، وهذه المسألة للعلماء رحمة الله عليهم فيها وجهان: بعض العلماء يقول: يجوز دفع زكاة الزوجة لزوجها، وأنه لا حرج عليها في ذلك، واستدلوا: أولاً: بعموم الآية الكريمة التي وردت في أصناف الزكاة.
    وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ زينب امرأة عبد الله بن مسعود حينما استأذنته أن تنفق صدقتها على عبد الله وأولاده، فأخبرها أنها إذا تصدّقت على زوجها وأولاده أنها تكون حائزة لأجرين: الصدقة، وصلة الرحم، قالوا: فهذا يدل على أنه يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها.
    والذين منعوا استدلوا: بأن الزوج ينفق على زوجته، وإذا كان الزوج ينفق على زوجته، فكأنها إذا أعطته الزكاة فهي مستفيدة من المال لا شك؛ لأن الزوج إنما يفتقر من أجل الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، وزوجته ممن يعول، فكأنها إذا أعطته الزكاة أعطته لنفسها، فقال بعض العلماء: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لأجل هذه العلّة؛ لأن الزوج ينفق على زوجته من هذا الوجه.
    والذي يظهر والله أعلم أنه يجوز صرف زكاتها إلى زوجها: أولاً: لعموم آية الزكاة.
    وثانياً: أن هناك ما يدل على جواز الصرف عند اختلاف اليد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما غلا القدر بلحمٍ أُعطي لـ بريرة صدقة، وأراد أن يأكل منه قالت عائشة: إنه صدقة، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية)، فأخبر باختلاف اليد.
    فعلى هذا فلها أن تعطيه الزكاة، ثم إذا أنفق عليها ينفق كان ذلك بسبب شرعي وهو الاستمتاع، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فاختلفت اليد، والقاعدة: أنه إذا اختلفت اليد اختلف الحكم باختلاف اليد، وعلى هذا فإنه إنما يستقيم أن لو كان ينفق عليها بدون موجب، وعليه فإنه يجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها.
    وأجابوا عن الوالد مع ولده بأن الاستحقاق وإن كان مختلفاً فورود السنة بالنصية على أنه مالٌ للأب ومالٌ للفرع، يدل على أنهما كالشيء الواحد، ولو أخذه باستحقاق، ففُرِّق بين الوالدين وبين الزوجين من هذا الوجه، فيجوز صرف الزكاة من الزوجة لزوجها ومن الزوج لزوجته، قالوا: ولا حرج في ذلك، وحينئذٍ إذا صرفت زكاتها لزوجها يشترط أن لا تحابيه في قدر الزكاة الذي تعطيه له، فإذا كان يستحق ثلاثة آلاف لم يجز أن تزيد عليها، فإن زادت رجعت الزيادة نافلة، فلو كانت زكاتها أربعة آلاف ريال وزوجها يستحق الألفين فأعطته أربعة آلاف، فألفان زكاة وألفان صدقة، ويجب عليها أن تقضي الألفين؛ لأنه لا يستحق أن تُصرف إليه.
    (99/12)
    ________________________________________
    حكم إعطاء الزكاة لمن لا يستحقها
    قال المصنف رحمه الله: [وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه].
    وذلك كأن يعطيها لإنسان يظنه فقيراً أو مسكيناً وهو غني، ثم بان بأنه ليس بأهل؛ فإنه يجب عليه أن يقضي.
    وهنا ينبغي أن ننبه على مسألة مهمة، وهي أن الواجب على الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة في ماله أن ينظر في حاله، فلا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يعلم بوجود ضعفاء أو فقراء مستحقين للزكاة، أو أن يكون عالماً بأناس مستحقين للزكاة، علماً شخصياً بنفسه، كأن يعرف جيراناً له فقراء، أو يعرف أقارب له فقراء، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يصرف لأي شخص غيرهم؛ لأنه إذا صرفها للغير الذي يشك في حاله كأنه ينتقل من اليقين إلى الشك على وجه يشك في براءة ذمته.
    ولذلك يقول العلماء: إذا علم الإنسان فقراء محتاجين، وجاءه سائل يشك في أمره لم يجُز له أن ينصرف عن اليقين إلى شك، والقاعدة في الشرع: أن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فما دمت قادراً على صرفها على وجه تستيقن منه أنها تصل إلى مستحقها فلا يجوز لك أن تعدل إلى وجهٍ تشك فيه.
    وتفرّع على هذه القاعدة مسائل كثيرة، ومنها هذه المسألة، أنه ما دمت تعلم أن البيت الفلاني فيه فقراء وضعفاء محتاجون، وتعلم حاجتهم وأنهم مستحقون للزكاة، وجاءك من تشك في أمره يسألك لدين أو حادث أو فقر، لم يجز لك أن تنصرف من الأمر الذي تستيقن به صرف الزكاة على وجهها إلى أمر تشك فيه.
    الحالة الثانية: أن لا يعرف الناس بنفسه، ولكن يعرفهم عن طريق الثقات، أو أناس فيهم أمانة وعدالة، ويغلب على ظنه أنهم يوصلون المال إلى مستحقه، فهؤلاء الأشخاص جاءوك وأخبروك أن هناك بيتاً من الفقراء أو المساكين، أو أن هناك شخصاً مديوناً، ويعلمون صدقه وحاجته وفقره، فحينئذٍ تنزّل هذه الحالة منزلة الحالة الأولى، ولا يجوز لك أن تعدل عن هذا الأمر الذي غلب على ظنك فيه وصول الزكاة إلى مستحقها إلى أمر تشك فيه، وتعتبر هذه الحالة لاحقة بالحالة الأولى.
    الحالة الثالثة: أن لا تعلم أناساً، وليس هناك أشخاص تستطيع أن تعتمد عليهم في الكشف والتحري، وجاءك من يسأل، فلا تخلو أيضاً من حالتين: إما أن يمكنك أن تتحرى وتتثبت في أمره؛ فلا يجوز أن تدفع له مباشرة قبل أن تتحرى وتتثبت.
    مثال ذلك أن يقول لك: إنه يسكن في حي ما، فتقول له: اذهب وأحضر لي شهادة من إمام المسجد أو أحضر لي من جيرانك من أعرفه يزكيك أو يشهد بأنك محتاج أو أنك فقير، ففي هذه الحالة إذا أمكنك بالتحري والسؤال أن تعرف جليّة أمره، كان من التساهل والتفريط في حق الله عز وجل أن يُدفع المال إليه مباشرة؛ والأمانة والصدق في القول من العدالة، والله عز وجل يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأخبر بكونه ظالماً وجاهلاً، فكان الأصل أنه ينبغي أن يزكَّى، حتى يغلب على الظن صِدْقُه، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان على ظهر غنى وأصاب ماله جائحة أن يقوم اثنان من ذوي الحجى يشهدان بأن مال فلان قد أصابته جائحة.
    فعلى هذا يكون من التفريط والتساهل أن يأتي الإنسان إلى صدقة واجبة عليه فيعطيها لكل من سأل، ومن جاءه أعطاه، ومن أخبر له صدّقه، فهذا من التساهل والتضييع.
    بل قد تجد أجرأ الناس على السؤال من أكذب خلق الله وأكثرهم حيلة، بل قد تجده يملك من الأموال ما لا يملكه الذي يتصدق عليه، وقد رأينا ذلك بأعيننا، ولا نبالغ فيه، بل وجدنا من يملك العمارة والعمارتين وهو يسأل ويكذب ويدعي أنه محتاج، وقد بنى ثروته وأمواله على السؤال، خاصة في هذا الزمان، عندما تساهل كثير من الأغنياء.
    ولذلك لما تساهل الأغنياء في صرف الزكاة إلى المستحقين عظُمت حاجة الناس، ووجد الضعفاء والفقراء الذين هم في فقر وضعف ومسكنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وضاعت حقوقهم بسبب هؤلاء السؤَّال، والغني يحضر ماله وكل الذي يريده أن يخلص من هذه الزكاة، ويحس أنه من الورع أن يتخلص منها مباشرة، ويعطيها لكل من هب ودب، وهذا لا تبرأ به الذمة، وأنت تعلم أن هذا الزمان فيه الكذب وفيه الغش وفيه التدليس، فتأتي إلى حق الضعفاء والفقراء والمساكين والمديونين والمعسرين، فتتساهل فيه فتعطيه لكل سائل، وتعطيه لكل من يقف عليك، فهذا من التساهل.
    فإن كنت عاجزاً بحثت عمن تثق بدينه وأمانته، بأن تذهب إلى إمام مسجد أو تذهب إلى عالم تثق بدينه وأمانته، فتعتمد عليه بعد الله عز وجل في صرف زكاتك، أما أن تُعطى الزكاة لكل من سأل، ثم إذا بان غنياً عفي منها فلا، هذا من الصعوبة بمكان، ولا شك أنه يضيِّع حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين، وعلى هذا فإنه ينبغي التفصيل.
    أولاً: إن كان الشخص بنفسه يعلم الضعفاء والفقراء لم يَجُز له أن يصرف المال للسؤَّال الذين يشك في أمرهم.
    ثانياً: إذا كان لا يعرف ولكنه يستطيع أن يعتمد على من يثق بدينه وأمانته من أهل العقل والحجى ويسلمهم زكاته وجب عليه ذلك، ولم يجز له أن يعطي الزكاة لكل سائل وهو لا يعرف أهو صادق أو كاذب.
    ثالثاً: إذا لم يمكنه الأمران، وأمكنه أن يعتمد على تزكية إمام مسجد أو تزكية جيران يثق بهم طولب بذلك.
    فإن تعذر عليه في هذه الحالة، ولم يستطع أن يستجلي الأمر بنفسه، ولم يستطع أن يطالبه كأن تكون حاجة نازلة، أو يكون غريباً منقطعاً، كابن السبيل، فحينئذٍ إن دفع له الزكاة على هذا الوجه فإنه يتحرى فيما في وسعه، كأن يسأله: متى قدمت، أو يسأله عن أمورٍ يظهر بها صدقه وكذبه.
    فإذا فعل ذلك وتحرّى وبان خطؤه، فمذهب طائفة من العلماء: أنها تجزيه؛ لأنه اجتهد وتحرّى ولم يكلّفه الله إلا ما في وسعه.
    ومذهب طائفة من العلماء: أنه يلزمه الضمان لأنه قصّر، ولو تحرى لتبيّن له الأمر، ومن قصّر يلزم بعاقبة تقصيره، والتفصيل في هذه المسألة قوي: فإن كان هناك ضعفاء غير هذا الفقير وتساهل في صرفها إلى هذا السائل المشكوك في أمره ضمن، وإلا قوي القول الذي يقول بالإسقاط وببراءة الذمة.
    وقوله: (وإن أعطاها لمن ظنه غير أهلٍ فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه).
    أي: إن أعطاها لمن ظنه أهلاً فبان أنه غير أهل، أو أعطاها لغير المستأهل كأن يعطيها لغني، فلو أعطاها لإنسان يظنه غنياً ثم بان فقيراً فهل تجزي؟ للعلماء قولان: قال بعض العلماء: تجزيه؛ لأنها وصلت للمستحق، وقال بعضهم: لا تجزيه، وهو الصحيح.
    والسبب في هذا: أنه إذا أعطاها لغني فهو مستهتر خارجٌ عن قصد القربة والعبادة بالزكاة، فتخلّفت نية الزكاة المعتبرة، وحينئذٍ تكون هبة لمحض الفضل منه، ولا تكون زكاة شرعية، ويلزمه قضاؤها.
    قال المصنف رحمه الله: [إلا لغني ظنه فقيراً].
    والأصل في ذلك حديث الصحيح في قصة الرجل الذي تصدّق على الزانية وتصدق على الغني، فقيل له: (أما الزانية فلعلها أن تستعف، وأما الغني فلعله أن يتّعظ ويدَّكر)، قالوا: إن هذا يدل على أنه إذا تصدَّق على غني يظنه فقيراً أنه يجزيه.
    وقال بعض العلماء: لا يجزيه؛ لأنه قصَّر، والحديث شرع من قبلنا وهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، والأصل في الشرع أنه يجب عليه أن يتحرى ويسأل، وعلى هذا فلا يجزيه، والحديث وارد في صدقة النافلة، ولا يعتبر دليلاً على جواز الاعتداد بها في صدقة الفريضة.
    (99/13)
    ________________________________________
    فضل صدقة التطوع
    قال المصنف رحمه الله: [وصدقة التطوُّع مستحبة].
    التطوُّع: تفعُّلٌ من الطاعة، ووُصِف التطوع بكونه تطوعاً؛ لأن الإنسان يزداد تقرباً وتحبباً إلى الله عز وجل بفعله.
    وكأنه بفعله لهذه الطاعة غير الواجبة ازداد امتثالاً للشرع؛ لأن الشرع أوجب عليه الفرائض ولم يوجب عليه النوافل، فكونه يفعل النوافل فيه دلالة على قربه من الله عز وجل وحبِّه لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صدقة؛ لأن صاحبها يصدق في حبه لله عز وجل، ويصدق في قصد التقرُّب إليه سبحانه وتعالى.
    وقوله: (مستحبة) أي: مندوب إليها شرعاً، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، والأصل في أنها مستحبة نصوص الكتاب والسنة.
    أما نصوص الكتاب: فإن الله شرّف الصدقات النافلة وفضّلها وعظّم شأنها، حتى وصفها بوصف قلّ أن يصف به غيرها، فقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فجاء بأمرين: أحدهما: أنه وصف الصدقة النافلة بأنها قرض، والله أغنى الأغنياء، ولا غنى فوق غنى الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وصف كون المتصدق بأنه يُقرض الله عز وجل، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!).
    وهذا يدل على أن الصحابة كانوا يتأملون ألفاظ القرآن، وكلّما تأمّلت ألفاظه وتدبرتها وجدت فيها معاني عجيبة، تزيد من خير الإنسان وتزيد من طاعته لله عز وجل.
    فكم من مرة يقرأ الإنسان قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ولا يتأمل، لكنك لو تأملت أن الله ملك الملوك وأغنى الأغنياء سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245]، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ} [التغابن:17]، هذا كله يدل على فضل الإنفاق، فقال: (يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيئاتكم) أي: يستقرضكم وهو غنيٌ عنكم، فلا تنفعه طاعتكم ولا تضره معصيتكم، ولكنه يستقرضكم لأمرين: يرفع من درجاتكم بالحسنات، ويكفر من خطيئاتكم والسيئات، فقال رضي الله عنه: (يا رسول الله! إن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، أشهدك أنها لله ورسوله).
    كان الجيش بكامله والسرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي بجرابٍ من تمر، فستمائة نخلة ليست بالهينة وليست باليسيرة، وقد تكون عناء حياته، وقد تكون رأس ماله.
    فانطلق رضي الله عنه إلى حائطه، فوجد امرأته وهي تجمع التمر من تحت النخل هي وصبيانها، فقال رضي الله عنه يخاطبها: بيني، أي: اخرجي.
    بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتماد إلا رجاء الضعف في المعاد والبر لا شك فخير زاد قدّمه المرء إلى التنادي لكن من المرأة الصالحة المؤمنة، ما قالت له: ضيّعتنا، ولا قالت: أفقرتنا، ولا قالت: ما هذا الذي تفعله، ولا قالت: أمجنون أنت، بل قالت له: بشّرك الله بخير وفرح مثلُك أدى ما لديه ومنح قد متّع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها وخرجت من الحائط بلا تمرة واحدة.
    كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يشترون مرضاة الله عز وجل، ولذلك فضّل الله الصدقة.
    فخرج إلى الحائط، وقطّع عراجينه، وجاء إلى المسجد وعلّق فيه تلك العراجين، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فلما خرج نزل عليه جبريل من السماء بالوحي، فقال كلماته المشهورة عليه الصلاة والسلام: (كم لـ أبي الدحداح من دار فياح وعذق رداح في الجنة) أي: أن الله تقبل صدقته؛ لأنها خرجت بصدقٍ مع الله عز وجل.
    فمن أفضل ما يتقرب الإنسان به إلى الله عز وجل الصدقات، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تطفئ غضب الرب، ونصّ العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا نزلت النكبة بالعبد شرع له أن يتصدّق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (فصلوا وادعوا وتصدقوا)؛ لأن الصدقة تطفئ غضب الله على العبد، والبلاء ينزل بسبب الغضب.
    بل جعل الله عز وجل الصدقة سبباً في دفع بلاء الدنيا والآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عدي: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فإن الله قد يحجب العبد عن النار بسبب نصف تمرة، وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: أنه دخل على عائشة فقصت له قصة المسكينة مع بنتيها: (دخلت امرأة مسكينة على عائشة فاستطعمتها فأعطتها ثلاث تمرات، فأخذت تمرة، وأعطت بنتها تمرة، وأعطت الثانية تمرة، فلما أرادت أن تطعم التمرة التي عندها، وقد أخرجت نواها وأرادت أن تأكلها استطعمتها إحدى البنتين، فأعطتها التمرة ولم تمتنع منها، فلما أعطتها عجبت عائشة رضي الله عنها من كرمها وجودها وإيثارها ورحمتها ببنتها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: أوتعجبين من أمرها، إن الله حرّمها على النار بتمرتها تلك).
    فالصدقة فيها فضلٌ عظيم وثواب كريم، ولذلك ندب الله عز وجل إليها ونص العلماء على استحبابها وتفضيلها، وأفضل ما تكون الصدقة إذا كانت للمحتاج المضطر إليها كالمديون والمعسر، والذي يشتد به الأمر في مخمصة ومجاعة.
    وكذلك إذا كان بائس الحال في نفسه كاليتيم والأرملة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر)، وهذا يدل على فضل الإنفاق والصدقة.
    وقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن الإنسان إذا تصدق أخلف الله عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً) قال العلماء: هذه دعوة ملكٍ لا تُرد؛ لأن الله ما أنزله لكي يدعو هذه الدعوة إلا لتستجاب، قالوا: والخلف له يأتي على وجهين: إما خلف يعجله الله عز وجل له في الدنيا، وإما خلف يدّخره له في الآخرة، والخلف الذي في الدنيا يعجِّله لا ينقص مما عند الله في الآخرة.
    فإذا كان كامل الإنفاق لوجه الله عز وجل ربما ادخر الله له الخلف في الآخرة، فيجده أوفر ما يكون، كما في صحيح مسلم قوله: (إن الإنسان إذا تصدّق بالصدقة تلقاها الرحمن بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فيربيها له وينميها له كما يربي أحدكم فلوه)، ولذلك قالوا: إذا نويت الصدقة فلا تتأخر، لا تقل: إلى الصبح، لا تقل: إن شاء الله غداً يكون خيراً؛ لأن كل لحظة ودقيقة تعتبر زائدة في ميزان حسناتك، وبمجرد أن تضعها في يد الفقير، فإنك في هذه الحالة تعتبر معاملاً لله عز وجل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا قمت بين يدي الله كان خلفك عند الله عز وجل، وعِوضك من الله سبحانه وتعالى، فهي مستحبة، وقد أجمع العلماء على استحبابها، وأنها من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
    (99/14)
    ________________________________________
    حكم تصدق الإنسان بماله كله
    ولكن

    السؤال
    هل يجوز للإنسان أن يتصدق بكل ماله، أم أن هذا الاستحباب مقصور على بعض المال دون بعض؟ قال بعض العلماء: لا يجوز أن يتصدّق بكل ماله؛ لأنه إذا تصدق بجميع المال ضيّع أهله وضيّع نفسه، واضطر إلى الدين، واضطر إلى ذل سؤال الناس، والحاجة إليهم، ولا ينبغي للمسلم أن يورد نفسه هذه الموارد.
    وقال بعض العلماء: يجوز أن يتصدّق بجميع ماله، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر أن يتصدق بجميع ماله.
    والصحيح: أن الناس يختلفون في اليقين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت عنه نصوص قبل فيها من بعض الصحابة كل المال، وجاءت نصوص لم يقبل فيها وردّهم إلى الأقل، فقبل من أبي بكر كل ماله كما في الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الصدقة، قال عمر: وكان عندي في ذلك اليوم فضل مال، فقلت: كنت سابقاً أبا بكر فسأسبقه اليوم، فمضى إلى ماله وقسمه قسمين، فجاء بنصفه يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لأهلك؟ قال: مثله -يعني: أن هذا نصف ما أملك- قال فلم يشعر إلا وأبو بكر قد جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله -يعني: ما تركت لهم من شيء-، فعتِب عمر على نفسه وأنه لن ينافس أبا بكر بعدها في خير؛ لأنه يعلم أنه سيسبقه، بمعنى: أنه لا يعتقد أنه سيصل إلى منزلة أبي بكر فضلاً عن أن يفوقه.
    فأوتي أبو بكر رضي الله عنه من اليقين ما لم يؤته أحد من هذه الأمة بعد نبيه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فضِّل رضي الله عنه وأرضاه على الأمة كلها، بعد نبيها، فهو أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليقينه بالله عز وجل.
    فإذا كان عند الإنسان يقين، وصبر وإيمان وتوكل على الله عز وجل، أن الله لن يخيِّبه، وأن الله سبحانه وتعالى سيربط على قلبه، وأن هذا المال حقيرٌ في عينه، وأنه يريد ما عند الله، ورأى نكبة أو فاجعة تستحق أن يضحي بكل ماله فضحّى؛ فهو على خير، وهذا يجوز، بل هذا من أفضل الطاعات.
    ولذلك أُثر عن بعض الصحابة والتابعين منهم الحسن أنه خرج من ماله مرتين، أي: أنه تصدّق بجميع ماله صدقةً لله عز وجل، خاصة إذا كان عند الإنسان اليقين وقوة الإيمان بحيث لا يندم ولا يضجر.
    أما إذا كان ضعيف الإيمان، أو يُخشى منه أن يندم، أو يُخشى منه سوء العاقبة بأن ينتكس والعياذ بالله فلا، ولذلك لما أراد سعد أن يوصي بماله كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، قال: (يا رسول الله! إن لي مالاً وليس لي وارث إلا ابنة، أفأوصي بكل مالي؟ قال: لا، قال فبثلثيه؟ قال: لا، قال: فبنصفه؟ قال: لا، قال: فبثلثه؟ قال: نعم، الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
    فإذا كان الإنسان عنده ذرية ضعيفة ويخشى عليها المسألة والدين، فحينئذٍ يبقي لهم حقهم الذي فرضه الله عليه أن ينفقه عليهم، ثم بعد ذلك يتصدّق بما زاد عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، ولما أخبره الرجل أن عنده ديناراً، قال: (أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك فلما انتهى من الحقوق قال: عندي غيره، قال: شأنك به) أي: أنفق به حيث شئت، وعلى هذا فلا يجوز أن يعرِّض نفسه لأمرٍ يضعف به يقينه إذا كان ضعيف اليقين.
    ومن هنا خرّج العلماء قبول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصدقات دون بعضها؛ لأن الناس يتفاوتون في كمال الإيمان، وكمال اليقين في الله سبحانه وتعالى.
    ولا شك أنه إذا كمُل يقين الإنسان وعظُم إيمانه بالله جل وعلا فوالله لن يخيب، ولو أطبقت عليه السماوات والأرض وما فيها بالضيق والفقر والشدة لجعل الله له من بينها فرجاً ومخرجاً، والأمر كله مردّه إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، بمعنى: أن يكون عندك قوة إيمان أن الله لن يضيِّعك، وأن الله لن يخيِّبك، وقد رأينا هذا في مشايخنا وعلمائنا، أنه ربما ضاقت على الإنسان منهم الضائقة، ويأتيه المحتاج وليس عنده إلا قوته أو قوت أولاده، فيؤثر على نفسه وعلى ولده، ومع ذلك لا يلبث أن يأتيه الفرج من حيث لا يحتسب.
    ولذلك لما بات أبو طلحة رضي الله عنه مع الضيف كما في الحديث الصحيح، قال لزوجته أم طلحة: (عللي الصبية حتى يناموا، وأطفئي السراج حتى يظن الضيف أننا نأكل، فأكل الضيف حتى شبع، وهو يظن أنهما يأكلان معه ولم يأكلا، فلمّا أصبحا أصبحا طاويين فقيرين، جائعين، ولكنهما قد غفر لهما ذنوبهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما مضى أبو طلحة إليه، قال له: (عجب الله من صنيعكما البارحة)، عجب الله من فوق سبع سماوات لهذا الإيثار، ولهذا الإيمان أكرمتما ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجب صفة من صفات الله جل جلاله.
    وهنيئاً لمن عجب الله له، ولذلك عجب لشاب ليست له صبوة الحرام لعظيم ما قدم من العفة عن الحرام، وعجب لهذين الزوجين لأنهما آثرا على أنفسهما، ونزل قوله سبحانه وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فأثنى عليهما من فوق سبع سماوات، فدل على أن من يقدم ماله ويؤثر على أهله وولده من غير مضيعة أنه على خير وأنه على طاعة وبر، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
    (99/15)
    ________________________________________
    استحباب التصدق في رمضان
    قال المصنف رحمه الله: [وفي رمضان وأوقات الحاجات أفضل].
    في رمضان لفضل الزمان، فأفضل الشهور طاعة شهر رمضان، وأفضل الأيام والليالي طاعة عشرٌ من ذي الحجة، وأفضل الليالي طاعة العشر الأواخر من رمضان، وهذا هو أعدل الأقوال في مسائل التفضيل الزمانية.
    فأفضل الشهور شهر رمضان، والله اختاره من بين الشهور، وأفضل الليالي ليالي العشر، وأفضلها ليلة القدر، وأفضل الأيام العشر الأُول من ذي الحجة، وعلى هذا تستقيم النصوص، ويبقى لكل ذي فضلٍ فضله.
    وأما داخل الأسبوع فأفضل أيامه يوم الجمعة، وحينئذٍ لا يكون هناك تعارض بين النصوص، فيكون التفضيل نسبياً، ففي الأيام نقول: عشرٌ من ذي الحجة أفضل الأيام، وفيها يتقرّب الإنسان بعموم الطاعات والقربات، وأفضل الليالي ليالي العشر، والفضيلة فيها بالإحياء، يعني بالقيام والصلاة، ففضلت عشرٌ من ذي الحجة على العشر الأواخر؛ لأن الطاعات فيها مطلقة، وأما بالنسبة للعشر الأواخر فاختُصّت بالقيام، ولذلك قال: (من قام ليلة القدر) فاختُصَّت بنوع من الفضائل، ولم يبق لها المزية المفضلة المطلقة كعشرٍ من ذي الحجة.
    وأما بالنسبة لرمضان فهو أفضل الشهور، وأما أيام الأسبوع فأفضلها يوم الجمعة، وأفضل أيام السنة على الإطلاق يوم عرفة، وعلى هذا يكون التفضيل نسبياً كما ذكره المحققون من العلماء.
    فأفضل ما يُتصدق فيه شهر رمضان، وقد نص العلماء على فضيلة التصدق فيه لما فيه من فضيلة الزمان، والدليل على تفضيل الصدقات في رمضان ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) يعني أنه لا يتوانى، ولا يتأخر في الصدقات والخير، وإذا أرسل الخير كان أكثر من الريح إذا أرسلت، وهذا يدل على سرعة مبادرته عليه الصلاة والسلام للخير، وعلى هذا قال رضي الله عنه: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن).
    وهذا يدل على أن مدارسة القرآن تزيد من الطاعة والبر والخير، ومن اشتكى ضعفاً في هدايته والتزامه فلينظر ما بينه وبين القرآن في ختمه وتعاهده، فإنه ما نقصت هداية الإنسان إلا وبينه وبين القرآن فجوة، حتى ولو كان يختم كل ثلاث ليال، فتجده قد تغيّر في خشوعه وتدبره للقرآن.
    فـ ابن عباس ينبه على هذا المعنى، يقول: (وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن)، فدل هذا على فضيلة تخصيص رمضان بالصدقات، والصدقات هنا هي النافلة.
    أما الفريضة وهي الزكاة ففيها تفصيل: إن كان الحول يتم قبل رمضان فيحرم التأخير إلى رمضان؛ لأن بعض الناس عن جهل منهم تكون الزكاة واجبة عليه في رجب فيؤخر إلى رمضان، وهذا لا يجوز، بل يأثم بكل ليلة وبكل ساعة؛ لأنه يجب عليه أن يبادر بدفع الزكاة إلى مستحقها، أما لو كانت صدقته واجبة عليه في ذي القعدة، فيعجل في رمضان خاصة لوجود المحتاجين والفقراء، فهذا أفضل، ويكون له فضل التعجيل، وفضل الزمان، أما أن يؤخر الصدقة المفروضة إلى رمضان، وقد وجبت عليه قبل رمضان فإنه لا يجوز.
    (99/16)
    ________________________________________
    حكم الصدقة بما يضر النفس ومن يعول
    قال المصنف رحمه الله: [وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه، ويأثم بما ينقصها].
    قوله رحمه الله: (تسن بالفاضل عن قوته) أي: بالشيء الزائد عن قوته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وبمن تعول)، فيبدأ الإنسان بنفسه وبقوته وقوت عياله، ثم بالنسبة لما وراء ذلك شأنه به.
    وقوله: (ويأثم) أي: يأثم في حال تفضيل الفقير على أهله؛ لأن الله أوجب عليه نفقة أهله وولده، فلا يجوز أن يصرف ما هم بحاجة إليه إلى غيره، ولأنه قد وجب عليه أن ينفق على أهله وذوي قرابته الذين تلزمه نفقتهم، وأما بالنسبة للفقير، فلا يجب عليه أن يتصدق عليه أو ينفق عليه، فحينئذٍ لا يسعه أن يبدأ بالنافلة ويترك الفريضة.
    ولكن استثني من ذلك من كان عنده يقين بالله عز وجل في حدودٍ لا تصل إلى حد الضرر بأهله وولده، كأن يصلوا إلى درجة المخمصة أو الضرورة، فهذا يُعتبر ممنوعاً، أما لو كان في الحدود المعقولة مع أنه يمكن أهله الصبر، أو نزلت فاقة وحاجة شديدة وأراد أن يفضلهم فلا حرج.
    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث ليال، ثم قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فادخروا)، وقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فجعل الدافة؛ وهم أقوام كانوا يأتون ضعافاً من خارج المدينة ويرتفقون في المدينة، فنهى الصحابة عن أن يدخروا فوق ثلاث ليال، وذلك حتى يواسوا إخوانهم الضعفاء، مع أن ادخار الثلاث فيه مزية بإنفاقه على الأولاد وعلى الأهل والتوسعة عليهم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    (99/17)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1]
    صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وقد فرض لحكم جليلة، من أعظمها تقوى الله تعالى، وقد أوجب الله تعالى الصيام عند رؤية هلال رمضان، ومن المسائل المتعلقة بالرؤية: أنها تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، ومنها: هل رؤية كل بلد خاصة به أم أنه يلزم الجميع أن يصوموا الرؤية أي بلد للهلال؟ اختلف فيها العلماء، كما هو مفصل في هذه المادة.
    (100/1)
    ________________________________________
    تعريف الصيام لغةً وشرعاً
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصيام]: تقدم تعريف الكتاب وبيان اصطلاح العلماء رحمة الله عليهم فيه، ومعنى قوله: [كتاب الصيام] أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام؛ فإنه بعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام.
    وهذا الترتيب مستند إلى الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة قرينة الصلاة ثم أتبعها الصيام، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.
    (100/2)
    ________________________________________
    تعريف الصيام لغة
    الصيام في اللغة: أصله الإمساك، تقول: صام عن الكلام إذا أمسك عنه، وصام عن السير إذا وقف، وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عنهما.
    فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل.
    إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.
    (100/3)
    ________________________________________
    تعريف الصيام شرعاً
    أما في الشريعة: فالمراد بالصيام: إمساك مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة.
    فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك.
    بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
    فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص.
    ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين.
    من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار.
    ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
    وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين: المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل.
    والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة.
    لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص.
    وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة.
    أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب.
    ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا.
    فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة.
    أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
    والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها.
    يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص.
    فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل.
    لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر.
    فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.
    (100/4)
    ________________________________________
    الأدلة على وجوب صيام رمضان
    فرض الله عز وجل الصيام بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن صيام رمضان فريضة من فرائض الله عز وجل.
    أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] و (كُتِبَ) بمعنى: فرض، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: أوجبناه وفرضناه.
    وكذلك ثبتت السنة بفرضيته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان) فنص عليه الصلاة والسلام على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام.
    وفي مسند أحمد: (أن رجلاً ثائر الرأس دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) فدلت هذه النصوص على أن صيام رمضان فريضة.
    وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وأنه من الفرائض التي أوجب الله عز وجل على عباده.
    (100/5)
    ________________________________________
    مراحل فرض الصيام
    في أول الأمر فرض على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ صيام يوم عاشوراء بصيام رمضان، وقال بعض العلماء: لا، بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان.
    والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر وقال: (إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان.
    وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين: الأول: نسخ إلى بدل.
    الثاني: ونسخ إلى غير بدل.
    والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف.
    فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل.
    ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح: أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل، وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل.
    وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين.
    وهذا النسخ -نسخ صيام عاشوراء- يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً، وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد.
    وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية، ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات كاملة، وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.
    (100/6)
    ________________________________________
    من حكم الصيام
    قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق: ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر.
    فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
    والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل.
    وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
    فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
    كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج.
    فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنزجر.
    ولذلك الناس على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
    القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام هذا لا يجوز.
    يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه.
    ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية.
    القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
    فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام.
    فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
    وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
    فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم.
    إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة.
    فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
    فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما: الأول: تحصيل فرائض الله.
    الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.
    (100/7)
    ________________________________________
    من أحكام الصيام المنسوخة
    كان الإنسان يصوم -في بداية فرضية الصيام- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غابت الشمس أفطر، فإذا نام ولو بعد مغيب الشمس بلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني، فكانت هذه هي فرضية الصيام في أول الأمر، ثم إن الله خفف ذلك، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].
    والسبب في ذلك: قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته، فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام، فذهبت لتحضر الطعام له فأصابه غشي من التعب والعناء فنام، فجاءت فقالت له: ويلك! أنمت؟ فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً فغشي عليه في منتصف النهار، فخفف الله عز وجل عن عباده، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف.
    فخفف الله عز وجل الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله عز وجل لهذه الأمة إلى قيام الساعة.
    كان الصيام في الأمم الماضية بالإمساك عن الكلام، كما قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] واختلف العلماء في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، فقال بعض العلماء: الشبه في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] من حيث الفرضية، أي: ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم، وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة، وقال بعض العلماء: بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب، ثم نسخت بعد ذلك.
    (100/8)
    ________________________________________
    وجوب صوم رمضان برؤية هلاله
    قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله]: هذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإذا ترك شخص صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر -ولو يوماً واحداً- لم يقضه ولو صام الدهر.
    بمعنى: أن الله لا يعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً، لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل فرض علينا صيام الشهر كاملاً، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل، وأما حديث: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر) فقد خرج مخرج الوعيد، وهو المخرج الذي يسمى بالمبالغة، وله نظائر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فليس المراد به التحديد والقصر.
    بمعنى أن الحج فقط في عرفة وحدها، إنما هو على سبيل المبالغة وقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يقضه صيام الدهر) معناه: أن من أفطر عامداً متعمداً لا ينال فضل صيام ذلك اليوم مهما صام، بخلاف من أفطر لعذر؛ فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم الذي أفطر فيه فكأنه صام رمضان نفسه؛ وهذا لوجود العذر، فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يبلغه مرتبة من كان معذوراً.
    أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن الحقوق واجبة، وأن حقوق الله دين على المكلف، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب فإن عليه ديناً يجب أن يقضيه، وأن يقوم به على وجهه، ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان.
    وقوله: (رمضان) اختلف العلماء فيه، فقال بعض العلماء: هو مأخوذ من الرمضاء، والمراد بذلك شدة الحر، والسبب في هذا: أن العرب كانت تسمي هذا الشهر في الجاهلية نائقاً يقولون: شهر نائق، وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حر وشدة، فسموه رمضان من هذا.
    القول الثاني: أنه سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، وفي ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب) بمعنى: يحرقها ويذهبها، ولكنه حديث ضعيف، بل فيه راوٍ كذاب، ولذلك لا يعول عليه.
    القول الثالث: إن اسم رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وفيه حديث ضعيف.
    وأصح هذه الأقوال القول الأول: أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر؛ حيث إنه حينما فرضه الله على عباده وافق زماناً شديد الحر.
    وفي قوله رحمه الله: [يجب صوم رمضان]: للعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقول: دخل رمضان وخرج رمضان وانتصف رمضان، واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله) وهذا حديث ضعيف.
    والصحيح أنه يجوز أن يقول: جاء رمضان ومضى رمضان وانتصف رمضان؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك، وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والدليل على جواز ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة).
    وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الصحيح قوله أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك: جاء رمضان، وخرج رمضان، وانتصف رمضان، ولا حرج عليك في ذلك، ولكن بعض العلماء يقول: الأفضل أن يقول: شهر رمضان.
    فيضيف لفظ الشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فقالوا: الأفضل أن يضيف كلمة الشهر، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.
    (100/9)
    ________________________________________
    أحكام رؤية هلال رمضان
    قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله].
    (الباء) سببية، أي: بسبب رؤية هلاله.
    والشهور تنقسم إلى شهور شمسية، وشهور قمرية، الشهور القمرية اثنا عشر شهراً، وهي السنة القمرية، وهذه الشهور هي التي رتب الشرع عليها الأحكام، ولم يرتبها على الشهور الشمسية، فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية.
    فمثلاً: في عدة المرأة الآيسة من الحيض؛ إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالشهور القمرية، ولا تعتد بالإجماع بالشهور الشمسية، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ فإنها تحد بالشهور القمرية ولا تحد بالشهور الشمسية، وهكذا صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، تكون بالشهور القمرية، ولا تكون بالشهور الشمسية.
    والشهور القمرية تنقسم إلى شهور كاملة، وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً.
    وشهور ناقصة وهي التي تكون رئي الهلال دالة على نقصانها، فتكون تسعة وعشرين يوماً، فالفرق بينهما يوم واحد، وهو الذي يسمى بيوم الشك.
    والسبب في ذلك: أن القمر له منازل ودرجات، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر، فمعنى ذلك: أن الهلال في هذه الليلة قد دخل الشهر التالي، وبناءً على ذلك تكون منزلته من منزلة الشهر التالي، أما لو سقط قبل الشمس، فمعنى ذلك: أنه قد بقيت له درجة، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً، وبناءً على ذلك: لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الشهور القمرية: الأمر الأول: كمال العدد للشهر السابق، فتتم له ثلاثون يوماً.
    الأمر الثاني: أن يرى الهلال ليلة الثلاثين، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص، وأن عدة أيامه تسع وعشرون يوماً.
    وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] فهو على منازل ودرجات، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك: أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي.
    لكن لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك: أنه قد بقي له درجة فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملة.
    فإذا وجدت هاتان العلامتان حُكم بما يترتب عليهما، من القول بكمال الشهر، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام رمضان، فإذا رُئي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاللام: في قوله صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) تعليلية أي: بسبب رؤيته، فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم، فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء؛ هل يشترط العدل أو لا يشترط.
    (100/10)
    ________________________________________
    إذا غم الهلال
    إذا لم ير الهلال فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن تكون السماء ليلة الثلاثين صحواً، والسماء الصحو: هي الواضحة التي لا غيم فيها ولا قتر، والقتر: هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يجب الرؤية، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة، وترائينا الهلال ولم نره؛ فحينئذٍ -بالإجماع- تعتبر الليلة من شعبان، ولا تعتبر من شهر رمضان ولا يحكم بدخول شهر رمضان.
    الحالة الثانية: وهي أن لا تكون السماء صحواً، أي: فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار، كما يقع في بعض الأحيان حين يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، أو يكون هناك حريق ودخان، فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، فإذا حصل الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا كانت السماء مغيمة، أو كان بها قتر، فإننا نحكم بتمام شهر شعبان، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، أي: أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة، فالحكم عندهم سواء، أي: أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
    ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غم عليكم) فنص على أنه إذا لم يُر الهلال -كأن يكون هناك غيم- فإننا نتم العدة ثلاثين يوماً.
    والدليل الثاني: قالوا: الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً حتى يدل الدليل على أنه ناقص، فالنقص خلاف الأصل، والقاعدة في الشرع: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
    فالأصل: أننا في شعبان، ونشك هل دخل رمضان أو لا، فلما كانت العدة ناقصة نقول: يجب علينا إكمال العدة لأنه الأصل، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً.
    القول الثاني: قالوا: إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه واختاره طائفة من أصحابه، وهو أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر فإنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان، واستدلوا برواية: (فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا) من التضييق، تقول العرب: قدّر الشيء إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] حينما علم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] يعني: ضيق حلق السرد حتى لا يصاب الإنسان إذا طعن أو جرح، فالتقدير هو: التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] أي: ضيق عليه، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] يبسط: بمعنى: يغني، ويقدر: بمعنى: يضيق، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إن غم عليكم فاقدروا له) فمعنى ذلك: أننا نقدر شهر شعبان، أي: نضيق شهر شعبان ولا نعده كاملاً، ونجعله تسعاً وعشرين، ثم ندخل في شهر رمضان.
    واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل؛ فإن وصف الأمية لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وصف شرف، وليس بوصف نقص، على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص؛ فإن هناك فرقاً بين الجهل وبين الأمية؛ فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} [الجمعة:2] فهو وصف شرف لا نقص، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية) يثبت هذا.
    ولذلك الأنسب أن يقال: محو الجهل.
    لا أن يقال محو الأمية؛ حتى لا يظن الناس أنها صفة نقص.
    قال عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) قال الراوي: أشار بيديه ثلاثاً، يعني: ثلاثين يوماً، (وهكذا) أي: أشار ثلاث مرات، قال: ثم قبض إبهامه في الثالثة.
    أي: أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين.
    وقال أصحاب القول الثاني: إنه لما قال: (الشهر هكذا وهكذا) فمعناه: أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون، والشك في الثلاثين، فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم، وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين، ويكون اليوم الثلاثون مشكوكاً فيه، قالوا: فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم؛ لاحتمال كونه من رمضان.
    والذي يترجح والعلم عند الله هو قول الجمهور: وهو أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لا يجب عليهم صيام يوم الثلاثين، والدليل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا يدل على أننا لا نصوم يوم الشك، وهذا نهي تحريم، وإذا ثبت أن الأصل أن يكون الشهر ثلاثين يوماً كما في الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فهذا نص صريح، فالقول الذي يقول: إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى؛ لأنه اعتمد الأصل، وأما رواية: (فاقدروا له) فإن القدر يطلق بمعنيين: الأول: إما أن يراد به التضييق.
    الثاني: وإما أن يراد به الحساب.
    تقول: قدِّر، يعني: احسب لي هذا الشيء، وبيّن لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب، فلما كان قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله: (اقدروا له) على الحساب؛ لأن القاعدة تقول: (أن مبنى الحديث قرينة على معناه) فلما كان الحديث منبنياً على الحساب، وعندنا معنيان للقدر: معنى التضييق، ومعنى التقدير، وهو الحساب، حملناه على معنى الحساب؛ لأن القاعدة في الأصول أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يخالف نصوصاً أخرى، ومعنىً يوافق، وجب صرفه إلى المعنى الموافق.
    فلما جاءنا حديث: (أكلموا العدة ثلاثين) فسّر المراد بقوله: (اقدروا له) أي: اجعلوا لشعبان قدره، فيكون قوله: (اقدروا له) أي: أعطوا شعبان قدره، بمعنى: أكملوا عدة شعبان، فاتفقت رواية التقديم مع رواية الإكمال، وبناءً على ذلك: فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
    (100/11)
    ________________________________________
    رؤية الهلال فرض كفاية
    رؤية الهلال من الأمور المهمة التي ينبغي أن يحافظ الناس عليها؛ وذلك لأن الأحكام الشرعية تتوقف على هذه الرؤية، ومن هنا قال العلماء: إن رؤية هلال الشهور -كرمضان وذي الحجة ونحوها- تعتبر من فروض الكفاية، فلو قصر أهل بلد فيه أتموا جميعاً.
    فتساهل الناس في رؤية الهلال يعتبر من المنكرات، وينبغي على طلاب العلم أن يحيوا هذه السنة؛ فقد كان الناس -إلى عهد قريب- إذا كان يوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين خرجوا إلى الصحراء؛ لإحياء هذه السنة.
    وحبذا لو يسألون أهل الخبرة ويعرفون منازل القمر قبل مغيبه في الأيام التي تسبق أيام الرؤية، حتى يكون عندهم إلمام ومعرفة، ثم بعد ذلك يخرجون لرؤية الهلال، ويعرفون درجاته ومنازله حتى يمكنهم أن يثبتوا هذا الأمر؛ لأنه إذا لم يقوموا بذلك فإنه قد يوجد الهلال ولا يتراءاه الناس، فيضيع حق الله عز وجل، وصيام هذه الأيام مركب على وجود هذه الرؤية.
    وبناءً على ذلك قال العلماء: لا ينبغي التساهل في رؤية الهلال، بل إذا تساهل الناس أو انشغلوا فينبغي توصية أناس ولو بالأجرة؛ لأن فروض الكفايات إذا لم يوجد من يقوم بها شرع إعطاء الأجرة لمن يقوم بهذه بها؛ لكي يثبت به حق الله عز وجل من صيام الأيام المفروضة.
    (100/12)
    ________________________________________
    حكم صيام يوم الشك
    [فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين]: وهذا بالإجماع؛ فإن هذا اليوم هو يوم الشك، وهو يوم يحرم صومه، ويوم الشك هو يوم الثلاثين، وسمي يوم الشك لأن ليلته تحتمل أن تكون من رمضان، وتحتمل أن تكون من شعبان، واليوم نفسه يحتمل أن يكون من رمضان فيصام، ويحتمل أن يكون من شعبان، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه أنه قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أنه يحرم صيام يوم الشك.
    والعلماء مجمعون من حيث الأصل على كراهة الصوم، واختلفوا في التحريم، فكانت أسماء وعائشة رضي الله عنهن يرين الجواز، وأنه لا حرج على الإنسان أن يصوم يوم الشك، ويُعتذر لهما بعدم علمهما بالحديث الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن صوم يوم الشك، وقال بعض العلماء: يجوز صومه مع الكراهة، ولكن ظاهر الحديث أنه حرام وأنه لا يجوز أن يصام، بل قال بعض العلماء: إنه يأثم بدل أن يؤجر.
    وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا نهي، والأصل في النهي أنه يدل على التحريم.
    قال العلماء: حرم النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم الشك؛ لأنه ذريعة للتنطع والغلو، ولما فيه من مشابهة أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فرض عليهم صيام عدد معين من الأيام فزادوا فيها، فلما زادوا فيها ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وهذا على سبيل الشك والوسوسة.
    وقال بعض العلماء: إنما حرم صيام يوم الشك لما فيه من إدخال الوسوسة على الناس، وبناء الشريعة على الوسوسة؛ لأنه ليس من رمضان فيصومه وهو يعتقد أنه من رمضان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) فدل على أنه غير قاصد لرمضان، فكأنه يستثنيه إذا لم يقصد أنه من رمضان، وهذا هو الأولى.
    فالصحيح: أنه لا يجوز صيام يوم الشك، وأن صومه حرام على ظاهر النهي، إلا إذا وافق صوم إنسان، كأن يكون ممن اعتاد صيام الإثنين والخميس، فوافق يوم الشك يوم الإثنين أو يوم الخميس فإنه يصوم ولا حرج، أو يكون من عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فأفطر يوم التاسع والعشرين ووافق أن الثلاثين شك وثبت أنه ليس من رمضان فإذا أحب أن يصومه؛ فحينئذٍ لا حرج.
    وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان من عادته أن يصوم أو نذر نذراً فإنه يصوم ولا حرج عليه، وأما ما عدا ذلك فإنه باق على الأصل الموجب للحرمة والمنع.
    قوله: [وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه]: قوله: [وإن حال]: الحائل: هو الذي يمنع من رؤية الشيء، فإن حال بينه وبين رؤيته غيم أو قتر أو دخان -كأن يكون هناك دخان حريق ونحو ذلك فتملأ سحب الدخان السماء فتحجب رؤية الهلال، وخاصة إذا كان في جهة المغرب، أو كان هناك عجاج من غبار أو نحوه -فهذا كله على ظاهر المذهب- مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه يصام.
    والصحيح: أنه لا يصام كما هو مذهب الجمهور لما ذكرناه من السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقوله: [وإن رئي نهاراً فهو لليلة مقبلة]: رؤية الهلال نهاراً إما أن تكون قبل الزوال أو بعد الزوال، وقد اختلف السلف رحمة الله عليهم في رؤية الهلال نهاراً، فمنهم من قال: إذا رئي الهلال نهاراً قبل الزوال وجب قضاء هذا اليوم، وإذا رُئي بعد الزوال فإنه يكون لليلة التالية.
    ومنهم من قال: إذا رئي قبل الزوال أو بعد الزوال فهو لليلة التالية، وهذا هو الصحيح كما هو مذهب الحنابلة والشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع: أنه إذا رئي في النهار سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال فإنه لليلة القادمة، وأنه لا يعد دليلاً على أن يوم الشك من رمضان، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته) فجعل الصيام على الكمال، فمعنى ذلك: أن الرؤية قد وقعت بالليل؛ لأنه لو رئي في النهار فلا يمكن الصيام، وعلى هذا فيكون قوله: (صوموا لرؤيته) يدل على أن الرؤية إنما تكون بالليل؛ ولأنه إذا رئي نهاراً فلا شك أنه أقرب إلى الليلة التي تلي من الليلة التي مضت باحتساب البداية لا باحتساب النهاية.
    (100/13)
    ________________________________________
    لزوم أهل كل بلد برؤيتهم للهلال
    قوله: [وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم صومه].
    إذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس في ذلك البلد أن يصوموا، فمثلاً: إذا رئي في مكة فيلزم جميع أهل مكة الصيام، وإذا رئي في المدينة فيلزم جميع أهل المدينة وهكذا بالنسبة لبقية البلدان، فإذا رئي في موضع لزم أهله، لكن السؤال إذا تعددت الأمصار كأن تكون رؤيته في المشرق، فهل يصوم أهل المغرب برؤية أهل المشرق أو لا؟ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: كل أهل بلد يرجعون إلى رؤيتهم، فمثلاً: أهل الجزيرة يرجعون إلى رؤيتهم؛ فإن رأوه لزمتهم الرؤية في خاصتهم ولا تلزم أهل الشام ولا أهل المغرب، ولا أهل المشرق، والعبرة في كل مصر وقطر بحسبه، وهذا دليله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قدم عليه كريب من الشام، فسأل كريباً: (متى رأيتم الهلال؟ فأخبره: أنهم رأوه ليلة الجمعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لكنا رأيناه ليلة السبت، فقال: ألا تعتدوا برؤيتنا؟ فقال: لا.
    هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
    ، ففصل رؤية بلده عن رؤية غيرهم، فقالوا: فهذا يدل على أن كل قطر ومنطقة بحسبها، وهذا هو الذي تدل عليه الرواية الصحيحة في قول ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه الأصل؛ لأن المطالع مختلفة، والمنازل متباعدة، بل قد يكون الفرق بين البلدين بقدر يومين؛ فحينئذٍ يصعب أن تلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب.
    ولما وجد التفاوت دل على أنه لا يمكن جعلهم بمثابة المكان الواحد، إذ لو قلت: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته) على العموم، فمعنى ذلك: أن يصوم أهل الأرض كلهم برؤية بلد واحد بل برؤية قرية واحدة، وهذا لا شك أنه غير مراد؛ لأنه قد يكون اليوم في بلد في المشرق ثمانية وعشرين، ويكون في بلد في المغرب يوم ثلاثين، فيكون الفارق يومين، ولا يمكن بحال أن نقول لأهل يوم الثمانية والعشرين أن يصوموا برؤية الذين هم من بعدهم، وعلى هذا قالوا: إن كل بلد يعتد برؤيته.
    القول الثاني: أن رؤية البلد الواحد رؤية للجميع، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: وهذا يدل على أن الجميع تكون رؤيتهم واحدة.
    القول الثالث التفصيل قالوا: إذا تقاربت الأماكن وكانت المنزلة واحدة فإنه يصام برؤية البلد الواحد والعكس بالعكس، وقالوا: لأنهم إذا كانوا في منزلة واحدة أمكننا أن نلزمهم بقوله: (صوموا لرؤيته) أي: نلزمهم بالعموم.
    والذي يترجح -والعلم عند الله- أن لكل أهل بلد رؤيتهم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من قوله: (صوموا لرؤيته) أن رؤية الرجل الواحد في البلد الواحد رؤية للجميع، وليس المراد: أنها رؤية لجميع من في الأرض، ولا يختلف اثنان أن النهار عند غيرنا قد يكون ليلاً عندنا، والنهار عندنا قد يكون ليلاً عند غيرنا، وأن الأماكن تتفاوت يوماً ويومين؛ ولذلك لا يمكننا أن نقول: إن حديث: (صوموا لرؤيته) على العموم.
    قال العلماء: إن العموم قد يخصص بدلالة الحس، ويمثل علماء الأصول لهذا بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] قالوا: وهذا العموم مخصص بالحس؛ لأنها ما دمرت كل شيء، فهي ما دمرت الأرض لأنه قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] وهذا عام يشمل كل شيء في الأرض، ومع ذلك قالوا: هذا العام مخصص بدلالة الحس وبدليل الوجود.
    وكذلك أيضاً دليل الحس عندنا هنا، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن رؤية بلد رؤية للجميع، وهذه المسألة يقع فيها خطأ كثير وخلط كبير، ولذلك تجد المسلمين في مشرق الأرض ينقسمون قرابة ثلاث فرق: فرقة تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة، ففرقه تقول: نصوم مع بلد كذا، وفرقة تقول: لا نصوم لا بكذا ولا بغيره، بل نصوم برؤيتنا.
    والصحيح الذي يظهر -والله أعلم- من خلال النصوص وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقطع النزاع: أن كل أهل بلد ملزمون بالرؤية، فإذا رأوا الهلال فالحمد لله، وحينئذٍ يلزمهم ما يلزم الرائي من صيام ذلك الشهر، وأما إذا لم يروا الهلال فإنهم باقون على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فإن غم الهلال فنجعل لكل بلد رؤيتهم، فمثلاً: يتراءاه أهل المشرق وأهل المغرب كذلك، فإن ثبت عندهم جميعاً فبها ونعمت، وإن لم يثبت أكملوا العدة والكل على خير، أما لو قلنا: إن رؤية بلد هي رؤية لغيره، فإن ذلك سيكون سبباً في النزاع: هل نتبع هذا البلد، أو نتبع هذا البلد؟ وهل نعتد بهذه الرؤية أو بهذه الرؤية؟ فتقع فتن كثيرة بسبب جعل الرؤية الواحدة رؤية للجميع.
    والذي يظهر من خلال السنة وخاصة حديث ابن عباس -الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) -: (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فصار تفسيراً لقوله: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أي: صوموا -يا أهل الشام- لرؤيتكم، وصوموا -يا أهل الحجاز- لرؤيتكم، فجعل لكل أهل منطقة رؤيتهم، وهذا هو الذي يندفع به الإشكال ويزول به اللبس، وحينئذٍ إذا رأوا الهلال عملوا بالرؤية، وإذا لم يروه أكملوا العدة ثلاثين يوماً.
    (100/14)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (100/15)
    ________________________________________
    حكم من مات وعليه صوم

    السؤال
    رجل مات وعليه صوم بعض أيام أفطرها في رمضان من غير عذر، فهل يجوز لورثته الصيام عنه؟

    الجواب
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فمن مات وعليه صوم سواء ترك ذلك متعمداً أو غير متعمد، فإنه يصوم عنه وليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) فهذا يدل على أنه يشرع أن يصوم الولي عن نيته، وهذا على العموم، سواءً كان الميت ترك الصيام ذلك متعمداً أو غير متعمد، والله تعالى أعلم.
    (100/16)
    ________________________________________
    حكم من أفطر أياماً من رمضان لا يعلم عددها

    السؤال
    رجل أفطر في رمضان سابق ولا يدري كم يوم أفطر فكيف يقضي؟

    الجواب
    من أفطر من رمضان أياماً لا يدري عددها، فإنه يبني على التقدير والخرص، نقول له: قدر، فلو قلنا: عشرة أيام؟ فقال: أكثر.
    نقول: عشرين يوماً؟ قال: أكثر.
    نقول: ثلاثين يوماً؟ قال: أكثر.
    نقول: أربعين؟ قال: أكثر.
    نقول: إذاً ستين؟ قال: لا أقل.
    إذاً نقول: خمسين.
    ولو قلنا: خمسين؟ فقال: كثير.
    نقول: أربعين؟ قال: قليل.
    إذاً: نقول: خمس وأربعون.
    وهكذا حتى يصل إلى القدر الذي يغلب على ظنه أنه قد أصاب به القدر الواجب عليه، وهذا يسميه العلماء الرجوع إلى التقدير.
    فإنه إذا تعذر علينا معرفة الحقيقة فإنه يرجع إلى التقدير، ويكلف الإنسان بالتقدير، والسبب في هذا: أن الشريعة تنزل التقدير منزلة اليقين عند تعذر الحساب، ولذلك شرع الخرص كما في النخل، وشرع في المزابنة لأنه يتعذر أن تنزل العرجون وتعلم ما بداخله، وهذا رفق من الله ويسر ورحمة بعباده، والله تعالى أعلم.
    (100/17)
    ________________________________________
    حكم من جامع زوجته وهو صائم تطوعاً

    السؤال
    ما حكم من جامع زوجته في النهار وهو صائم صوم تطوع؟ بالنسبة للجماع للعلماء رحمهم الله فيه وجهان: فبعضهم يقول: إن الصيام إذا وقع فيه الجماع تجب فيه الكفارة فرضاً كان أو نافلة، ومنهم من يقول: النافلة أمرها أخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتطوع أمير نفسه)، فإذا كان هذا المتنفل قبل أن يجامعها استشعر أنه يريد الفطر وأنه قد عزف عن صيامه وجامعها، فإنه لا شيء عليه، وهذا على ظاهر الحديث، كما لو أكل وشرب، والله تعالى أعلم.
    (100/18)
    ________________________________________
    حكم صيام ستٍ من شوال لمن عليه قضاء من رمضان

    السؤال
    هل يجوز لشخص عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؟

    الجواب
    لا حرج أن يصوم الإنسان ستاً من شوال قبل أن يقضي رمضان، والسبب في ذلك: أن قضاء رمضان انتقل إلى الأيام الأخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وبناءً على ذلك يكون قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، وعليه فإنه لو صام هذه الأيام الواجبة عليه بعد أن يصوم الست فإن صيامه صحيح؛ لأنه قد صام ستاً وثلاثين.
    ولو قلنا: إنه يجب عليه القضاء أولاً وكان القضاء مثلاً عشرة أيام تقولون له: صم العشرة الأيام، ثم صم بعدها ستاً قلنا: لماذا؟ قالوا: حتى يصدق عليك أنك قد صمت رمضان، فإذا صام العشرة نقول لهم: هل تعتبرونه قد صام رمضان؟ قالوا: نعم، بعد أن يصوم العشرة يصوم الست، نقول: قد نزلتم العشرة التي هي من شوال منزلة رمضان بالقضاء.
    قالوا: نعم.
    نقول: إذاً لا فرق بين شوال وبين غيره، فهي في القضاء سيان كما أنكم تقولون: إذا صام العشرة من شوال فإنه يعتبر قد صام رمضان كاملاً، فكذلك إذا صامها من رجب أو صامها من جمادى أو صامها من غيره.
    ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان)، وقد كانت تصوم يوم عرفة -كما ثبت في الموطأ- وكانت تصوم الأيام الفاضلة، فدل هذا على أن قوله: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، سواء قضاءً أو أداءً، ولو أخذ هذا على ظاهره، وهو أنه لابد وأن يصوم القضاء أولاً، ثم بعد ذلك يصوم الست فإن المرأة النفساء لا تنال هذا الفضل؛ لأن المرأة النفساء ربما تستغرق رمضان كله، فمتى تقضي؟ هل نقول: إنها لا تصوم الست لأنه لا يمكنها ذلك.
    وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من صام رمضان) المراد به أن يصوم رمضان أصلاً أو يصوم ما يقوم مقام رمضان من القضاء، ويستوي ذلك في جميع شهور السنة.
    وغالب النساء عندهن نقص في رمضان، لمكان العادة إذا كانت تحيض، فإذا قلت: إذا صامت من شوال قضاءً لهذه الأيام تعتبر بمثابة الصائم لرمضان كاملاً، فنقول: شوال وغيره في ذلك على حد سواء، إضافة إلى ظاهر السنة في حديث عائشة رضي الله عنها.
    ثم إننا إذا نظرنا إلى جهة المعنى -كما جاء في حديث زيد رضي الله عنه- وجدنا أن المعنى أن ثلاثين يوماً بثلاثمائة؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها، وستة أيام بستين فأصبح المجموع ثلاثمائة وستين يوماً، فإذا كان هذا هو المعنى فإنه يستوي في الست أن تكون قبل القضاء أو بعد القضاء.
    والله تعالى أعلم.
    (100/19)
    ________________________________________
    حكم نزول المذي في نهار رمضان

    السؤال
    ما حكم نزول المذي في نهار رمضان؟

    الجواب
    المذي لا يخلو من حالتين: الأولى: إما أن يستدعيه الإنسان ويحرك شهوته ويتعاطى أسبابه بالنظر ونحو ذلك من الأمور التي تهيج شهوته حتى خرج منه المذي، فهذا ينقص الله به أجره، ويعتبر من اللغو الذي يؤثر في صوم الإنسان ثواباً، وأما بالنسبة لصيامه، فإن صومه صحيح حتى يخرج منه المني، فإن خرج منه المني فقد أفطر، سواءً أخرجه بمباشرة للمرأة، أو أخرجه باستمناء والعياذ بالله.
    فإن أخرجه بالاستمناء كان له حكمان: أحدهما: بطلان صومه.
    الثاني: حصول الإثم بمخالفة الشرع بالاستمناء.
    أما بالنسبة لبطلان صومه بالاستمناء فلظاهر السنة كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (يدع طعامه وشرابه وشهوته)، فقوله: (وشهوته) مطلق، وإن من الخطأ أن يقول بعضهم بجواز الاستمناء، وبجوازه في رمضان وأنه لا يؤثر في الصوم، ولا شك أن طالب العلم الذي يفتي بهذا: ليس عنده من الورع وخوف الله عز وجل ما يردعه عن أن يأمر الناس بأمر مشتبه؛ فإن طالب العلم إذا تقلد الفتوى وتوجيه الناس ينبغي أن يأخذهم بالورع، وأن يصونهم عن حدود الله عز وجل وأن يحفظهم وخاصة في المسائل التي يكون فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، وتفضي إلى ضرر في دين الناس، فكون الإنسان يتساهل في شهوته على هذا الوجه، ويتعاطاها فإن هذا أمر يفضي إلى استرسال الناس إلى ما فيه الحرمة، ولذلك قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) قالوا: وأقل درجاته الشبهة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) لأنه إذا لم يكن هناك ورع وخوف من الله عز وجل يردعه عن هذا المشتبه فلا يأمن أن يسترسل منه إلى الحرام.
    ولذلك لا يجوز فتح الباب للناس في مثل هذا، كقول بعضهم بجواز الاستمناء؛ لأنه ليس بجماع حقيقي، وبجواز شرب الدخان؛ لأنه ليس بأكل وشرب حقيقي، وأن هذا لا يفطر، وكل ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- تبعات ومسئوليات على صاحبه، فينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) والتفقه: تفعل يحتاج إلى إمعان النظر في الأحكام ودقة النظر في مقاصد الشريعة ومعرفة مراميها، أما أن يأتي ويقول: لا أعلم نصاً، ولا أرى بأساً، وهذا يجوز، وليس فيه أمر ظاهر يدل على تحريمه، وهذا حسب علمه، ولكنه لو أمعن النظر كما أمعن من هو أعلم منه وأتقى لله منه وأورع لوجد الأمر جلياً، فإن الشهوة تحصل بالاستمناء ويجد به اللذة كما يجدها بالجماع، وإن كان في الجماع أشد وأكمل، لكنه يجدها في الاستمناء.
    ولذلك تجده إذا استمنى فإنه لا ينصرف إلى الحرام، ومن هنا قالوا: بإباحته عند الضرورة لا على سبيل أنه مباح بذاته، ولكن من باب ارتكاب أخف الضررين، قالوا: إذا خاف على نفسه الزنا، هل يستمني؟ قالوا: يستمني، لكنه إذا استمنى يكون حينئذٍ آثماً إثماً أصغر من وقوعه في الزنا، ففهم البعض أن الإذن به في حال الزنا إذن به على الإطلاق، وهذا من عدم إمعان النظر في كلام العلماء الأجلاء رحمة الله عليهم، وهذا له أمثلة: لو أنه خير بين حرام قليل وحرام كثير، فإنه لا شك أنك ستصرفه إلى الحرام الأقل، لكن مع ذلك تقول: يأثم بهذا الحرام الأقل، فالمقصود: أن العلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: من يخاف على نفسه الزنا يستمني، فإنما هذا من باب ارتكاب أخف الضررين لا أنه يشرع ويجوز ومباح في دين الله عز وجل.
    وعلى هذا فإنه إذا خرج منه المني يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    (100/20)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [2]
    من الأحكام المتعلقة برمضان: معرفة دخوله وخروجه، وهذا يتعلق برؤية الهلال، لكن تحقق ذلك والعمل به يرتبط بصفات من قال برؤيته، من عدالة ونحوها، ويتفرع على ذلك أحكام مختلفة.
    وقد وضح الشيخ هذه الأحكام في هذه المادة، ثم ذكر من يجب عليه الصوم، ومن يكون معذوراً يحق له الفطر، ومن لا يصح صومه من أهل الأعذار، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بأهل الأعذار.
    (101/1)
    ________________________________________
    صفة من يعتد برؤيته
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويصام برؤية عدل ولو أنثى]: أي: يصام شهر رمضان إذا رآه شخص واحد، والعدل المراد به: من يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
    العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا فإذا كان مجتنباً للكبائر وهي المعاصي الكبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها فهو عدل.
    وقلنا: ويجتنب في غالب حاله؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يسلم من الصغائر، وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله في الحديث:: (إن تغفر اللهم تغفر جما، وأي عبد لك ما ألما؟).
    جماً: أي شيئاً كثيراً.
    وأي عبد لك ما ألما: أي: أي عبد من عبادك لم يصب اللمم وهي صغائر الذنوب.
    فلا يمكن لإنسان أن يسلم من صغائر الذنوب، وصغائر الذنوب لها أمثلة منها: مثل النظرة، وإن كان بعض العلماء يفاوتها بحسبها؛ فالنظر إلى العورة المغلظة ليس كالنظر إلى الوجه، ونحو ذلك.
    فالمقصود أنه إذا اتقى في غالب حاله صغائر الذنوب فهو عدل، أما لو أصر على الصغيرة وداوم عليها فإنه لا يكون عدلاً، ولذلك قالوا: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
    فإن صغائر الذنوب تهلك صاحبها، كما أن الجبال تكون من دقائق الحصى، فإن هلاك الإنسان قد يكون بصغائر الذنوب.
    ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تنظر إلى معصيتك، ولكن انظر إلى من عصيت)، فإذا كان نظر الإنسان إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فإن الصغيرة تصبح في عينه كبيرة؛ لكن إذا استخف بذلك ونظر إلى أنها شيء يسير فقد تهلكه وتوبقه، نسأل الله السلامة والعافية.
    فالعدل هو الذي يتقي في غالب حاله صغائر الذنوب، ويمتنع من كبائر الذنوب، فإذا كان كذلك فهو العدل الذي تقبل شهادته، وهو الرضا الذي يعتد بشهادته، أشار الله إليهما بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فلا يرضى إلا العدل.
    وقوله: (شهد عدل) معناه: إذا شهد غير العدل لم تقبل شهادته، وغير العدل هو الذي يفعل كبائر الذنوب، سواء كانت قولية كأن يكون إنساناً نماماً، أو يكون كثير الاغتياب للناس، فهذا لا تقبل شهادته، وهذه من الكبائر القولية، وأما الفعلية فكشرب الخمر والزنا؛ ولهذا تسقط عدالته ويجب رد شهادته، والسبب ذلك كما يقول العلماء: أنه إذا كان جريئاً على هذه الكبيرة فمن باب أولى أن يجرؤ على الكذب، ومن هنا كان وجود هذه الكبيرة يعتبر دليلاً على أنه غير مأمون؛ لأنه إذا لم يؤتمن على حق الله فمن باب أولى ألا يكون أميناً على حقوق الناس.
    أما الحنفية رحمة الله عليهم فعندهم تفصيل في الفاسق، فيقولون: إن الفاسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فاسق تحصل بفسقه التهمة.
    الثاني: وفاسق لا تحصل بفسقه التهمة.
    فالفاسق التي تحصل بفسقه التهمة: كأن يكون معروفاً بالكذب ومعروفاً بارتكاب كبائر الذنوب.
    والفاسق الذي لا تحصل التهمة بفسقه: كأن يكون إنسان يشرب الخمر ولكنه لا يكذب، وهذا موجود فإنك قد ترى بعض الناس على سمته أنه ليس بمطيع، وتجده من أبر الناس بوالديه، وتجده محافظاً على العهد لا يكذب ولا يغش، فتجد مظهره على أن عنده بعض الإخلال، لكن تجد في نفسه وفي قرارة قلبه مالا تجده عند من يوصف بكونه صالحاً، فقد تجد الإنسان على سمت ظاهره طيب لكنه كذاب أو غشاش أو خائن -والعياذ بالله- أو سارق أو شارب خمر في الخفية.
    فالحنفية رحمة الله عليهم يقولون: العبرة بالأمانة، فإذا عرف بالصدق ولو كان يشرب الخمر أو يزني فإننا نقبل شهادته؛ لأنه لما عرف بالصدق غلب على الظن أنه صادق فيما يقول؛ قالوا: فلا تقوى التهمة في رد شهادته.
    والذي يظهر أنه لا تقبل شهادة من طعن في عدالته، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فأمرنا بالتثبت والتبين والتروي في خبر هذا النوع، فدل على عدم قبوله؛ لأن التثبت والتروي نوع من الرد؛ لأنه لم يقبلها مباشرة، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور: أنه لا تقبل شهادته، سواء كان ممن يغلب على الظن صدقه أو لا يغلب على الظن صدقة.
    (101/2)
    ________________________________________
    مسألة قبول شهادة الفاسق عند انتشار الفسق
    هنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام رحمة الله عليه وأشار إليها ابن فرحون في التبصرة والطرابلسي صاحب معين الأحكام الذي كتبه في مناهج القضاء وهذه المسألة تقول: لو حدث شيء في مكان لا تجد فيه العدل أو قد لا تجد العدل إلا بصعوبة، ثم جاء شهود من هذا المكان الذي أصحابه فساق، فهل نقبل شهادتهم أو لا؟ قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا عم وانتشر فإنه يقبل أمثل الفساق، يعني: ممن يعرف بالصدق، أو يعرف بالانضباط.
    والحقيقة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أصل قوي؛ لأن الحاجة تدعو إليه، وهي التي يسمونها: مسائل عموم البلوى، وهي مفرعة على القاعدة المعروفة: أن الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، فإذا كان الناس في سعة وكان العدول كثيرين فحينئذٍ نضيق على الناس في الشهادة، أما إذا كان الأمر على العكس، أي: كان العدول قليلين فحينئذٍ يتسع الأمر ونحكم بقبول شهادة من هو أمثل.
    (101/3)
    ________________________________________
    شهادة العدل الواحد برؤية الهلال
    فلو جاءنا رجل واحد وشهد أنه رأى هلال رمضان فهل يصام أو لا؟ للعلماء وجهان: الجمهور على أن شهادة الواحد تقبل، وأن هذا ليس من باب الشهادة وإنما هو من باب الخبر، لأن الشهادة لابد فيها من التعدد، ولا تقبل فيها شهادة الواحد، والشرع دائماً يقبل العدد.
    وبناءً على ذلك قالوا: تقبل شهادة الواحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى الهلال وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فصامه وأمر الناس بصيامه؛ فدل ذلك على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان، وفي حديث الأعرابي أنه شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم.
    قال: يا بلال! قم فأذن بالناس أن يصوموا غداً) ولكنه حديث ضعيف، وحديث ابن عمر أقوى منه وصححه غير واحد من العلماء منهم الحاكم وغيره، وهو يدل على أن شهادة الواحد يثبت بها شهر رمضان.
    وإذا قلنا: إن قبول شهادته إنما هو من باب الخبر لا من باب الشهادة فحينئذٍ يقال بقبول شهادة الأنثى، فلو أن امرأة شهدت برؤية الهلال قبلت شهادتهها لكن من باب الخبر لا من باب الشهادة، والفرق بينهما: أن الشهادة يشترط فيها العدد وأيضاً لابد أن يحكم القاضي بها، فيأتي إلى مجلس القضاء ويشهد، ويثبت الدخول بشهادته.
    وكذلك تكون الشهادة بلفظ: أشهد أني رأيت الهلال ويصف رؤيته على وجه تنتفي به التهمة.
    وكذلك يشترط في الشهادة الذكورية، فلا يقبل فيها أقل من شاهدين ويشترط فيها الذكورية، فلا تقبل شهادة الأنثى؛ لأن الأنثى شهادتها على نوعين: إن كانت في الأموال وما يتبع الأموال قبلت شهادتها، وإن كانت في غير الأموال فالإناث لا تقبل شهادتهن؛ لحكمة من الله سبحانه تعالى، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى في آية النور أمرنا باستشهاد أربعة على الزنا فلو كانت المرأة تشهد لقال: أو ثمان، لكن في الأموال في آية البقرة قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فنزل المرأتين منزلة الرجل الواحد، وقال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة:282] في قراءة (فتذكر إحداهما الأخرى) أي: أن شهادتها معها بمثابة الرجل، تذكرها، بمعنى: تنزلها منزلة الذكر.
    والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى جبلهن على العاطفة، وفيهن من الضعف واللين ما جعله الله عز وجل بحكمته لصلاح هذا الكون، فلا يستقيم الكون باثنين بصفات واحدة متماثلة؛ لأن هذا يفضي إلى مفاسد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الله في المرأة العاطفة واللين حتى تقوم على الذرية، فهذا اللين والضعف في مكان كامل وفي مكان ناقص فإذا جاءت المرأة تشهد فإنها لا تستطيع لأن فيها العاطفة.
    ولذلك يقول العلماء: لو أن المرأة خاصمت الرجل فإنها تتكلم بكلمتين أو ثلاث ثم تبكي وتستولي عليها العاطفة، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، والسبب في هذا: أن الله جبلها على هذا حكمة منه سبحانه ورفقاً بالأولاد وبالذرية، فتجد من حنانها وعطفها على ولدها ما لا يستطيع الرجل أن ينزل منزلتها وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى.
    ولما كانت الشهادة تحتاج إلى ترو وتثبت، فالشاهد يرى الدماء ويرى الأشلاء ويرى القطع، فإذا كانت المرأة ضعيفة القلب فإنها لا تستطيع أن تتحمل هذا، ولذلك بمجرد أن ترى هذه الأشياء فإنها تصرخ، ولربما تصاب بشيء في رؤيتها مما يؤدي إلى التأثير في شهادتها، ومن هنا منعت من الشهادة في غير الأموال، وعلى هذا جماهير العلماء رحمة الله عليهم، وظاهر القرآن يدل عليه، فلو كانت شهادة المرأة في غير الأموال مقبولة لنص سبحانه وتعالى على البدلية.
    فالصحيح: أن شهادتهن قاصرة على الأموال وما في حكم الأموال.
    ما في حكم الأموال كالشهادة على الوصية التي تتضمن إثبات مال، فهذه يمكن أن يثبت بها إذا شهدنا بأن الميت أوصى لفلان بنصف ماله أو بربع ماله، أو بثلث ماله، ونحو ذلك، فهذه شهادة وإن لم تكن مالية محضة لكنها آيلة إلى المال، وهي التي يسمونها الشهادة في حكم المال.
    (101/4)
    ________________________________________
    حكم إكمال رمضان عند تبين خطأ الشهادة
    يقول المصنف رحمه الله: [وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال، أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا].
    لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأحكام المتعلقة برؤية الهلال، فبعد أن بين الأحكام المتعلقة بثبوت شهر رمضان ودخوله، شرع في بيان ما يتعلق بالخروج من شهر رمضان، والأصل أن الخروج من شهر رمضان يكون بتمام الشهر ثلاثين يوماً، وذلك أنهم إذا صاموا ثلاثين يوماً فقد تم الشهر، وحينئذٍ يكون ما بعده من شوال قطعاً.
    وأما العلامة الثانية: فهي أن يشهد العدلان لرؤية هلال شهر شوال، فإذا شهد العدلان أنهما رأيا هلال شهر شوال فإن الناس يفطرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شهد عدلان فصوموا، وإن شهد عدلان فأفطروا) فجعل رؤية العدلين موجبة لثبوت دخول شهر شوال وانتهاء شهر رمضان.
    لكن هنا مسألة، وهي: إذا شهد عدل واحد، ثم أكمل الناس العدة ثلاثين يوماً من رمضان ولم يروا الهلال، قال العلماء: هذه أمارة ودليل على خطأ الشاهد، ومن هنا فإنه يجب عليهم أن يتموا العدة لظهور خطأ الشهادة.
    وهكذا الحال في المسألة التي ذكرناها: لو كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شهر شعبان، ولم يتمكنوا من رؤية الهلال، فإن المذهب -على ما قرره المصنف- أن يصام ذلك اليوم، وإن كان الصحيح: أنه لا يصام، لكن على القول بصيامه لو صاموا ثم أتموا العدة ثلاثين، وتراءوا الهلال ليلة الواحد من شوال على تمام الشهر فلم يروه، قالوا: هذا يدل على أن الشهر -أعني: شهر شعبان- يعتبر كاملاً، وحينئذٍ عليهم أن يتموا عدة رمضان ثلاثين يوماً ولا يفطرون.
    وعلى هذا هناك حالتان ذكرهما المصنف: الأولى: أن يشهد عدل واحد، ثم نحكم بدخول شهر رمضان، ثم بعد تمام العدة ثلاثين يوماً نتراءى الهلال ليلة شوال فلا نراه، وعلى هذا تبين لنا خطأ الشاهد الواحد؛ لأن الخطأ في الشاهد الواحد أكثر منه من الخطأ في الشاهدين، وحينئذٍ يلزمون بتمام شهر رمضان ثلاثين يوماً، وهذا على سبيل الاحتياط، وهذه قاعدة: أن بعض العلماء يحتاط في الخروج من شهر رمضان أكثر من احتياطه في دخول شهر رمضان، ولذلك يرون أنهم في هذه الحالة يتمون العدة ثلاثين يوماً حتى يخرجوا من الصوم بيقين.
    الثانية في قوله: (أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا).
    هذا على المذهب المرجوح، وإن كان الصحيح: أنه إذا كان هناك غيم ليلة الثلاثين من شعبان أنه يجب إتمام عدة شعبان ثلاثين يوماً.
    (101/5)
    ________________________________________
    حكم من رأى هلال رمضان أو شوال وحده
    وقوله: [ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله، أو رأى هلال شوال، صام].
    هذه مسألة مفرعة على الشاهد الواحد، فلو أن إنساناً رأى هلال شهر رمضان -أو رأى هلال شهر شوال، فجاء يشهد فلم تقبل شهادته وردت، وهو متأكد أنه قد رأى الهلال- فقد وقع في يقين نفسه أن رمضان قد دخل، ولكن في حكم الشرع الظاهر أن رمضان لم يدخل، فهل نوجب عليه في خاصة نفسه أن يصوم هذا اليوم أو لا يصوم؟ للعلماء مذاهب: منهم من يقول: نوجب عليه الصيام لأنه قد تحقق من دخول شهر رمضان؛ وهو متعبد لله عز وجل بما تحققه، وقد أوجب الله على من رأى الهلال أن يصوم، وهذا قد تحقق من رؤيته وأن هذه الليلة من رمضان، فلا وجه لإسقاط الصوم عنه، قالوا: فحينئذٍ يلزمه أن يصوم.
    القول الثاني: أن العبرة بجماعة المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) قالوا: كما لو أنهم تراءوا الهلال فلم يروه -مع أنه رمضان حقيقة- قالوا: فقد تعبدهم الله عز وجل بالدخول، فحينئذٍ لا نوجب عليه هذا اليوم؛ لأنه ليس من رمضان حكماً.
    والقول الثالث يفصل فيقول: دخول رمضان يوجب عليه الصيام، وفي خروجه لا يفطر احتياطاً.
    وهذا المذهب من أقوى المذاهب -أي: التفريق بين الدخول وبين الخروج- والسبب في هذا: أن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد كما ذكرنا، وأنه من باب الخبر.
    ولذلك نقول: من رأى هلال رمضان وحده -كما لو كان مسافراً فرآه وحده- فبالإجماع أنه يصوم، مع أنه في هذه الحالة لم يثبت شهر رمضان عند الجميع، فنقول: إذا رآه في الدخول وجب عليه أن يصوم؛ لأن الدخول تقبل فيه شهادة الواحد.
    أما الخروج فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فطركم يوم تفطرون) فرد الأمر إلى جماعة المسلمين، ففي الخروج لا نقول له: إنه يفطر، وإنما يبقى مع جماعة المسلمين؛ لأن الفطر للجميع بخلاف دخول شهر رمضان، ولذلك نقول: إنه قد ثبت في ذمته صيام اليوم الأول من رمضان بيقين؛ لأنه قد استيقن برؤية الهلال بنفسه، وحينئذٍ نوجب عليه الصيام دخولاً، ولكننا لا نوجب عليه الفطر خروجاً؛ لأن الفطر مقيد بالجماعة، فيفطر إذا ثبتت رؤيته مع رؤية غيره وحكم بها، ولا يفطر إذا ردت شهادته أو كان شاهداً واحداً ولم تقبل شهادته.
    وهناك مذهب يقول: يفطر سراً، ولكن القول بالتفصيل اعتماداً على السنة أقوى وأظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة ابن عمر وحده في دخول شهر رمضان، فألزم الجماعة بشهادة ابن عمر، فلئن نلزم الشاهد نفسه والرائي نفسه من باب أولى وأحرى، ولكن في الخروج ردنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة المسلمين فقال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لجماعة المسلمين كلهم، كما لو رأى هلال ذي الحجة -مثلاً- ليلة الخميس والناس لم يروه، ثم بعد ذلك أصبح وقوف الناس متأخراً عن وقوفه؛ فإننا نقول: لا يصح وقوفه لوحده؛ لأن الوقوف بجماعة المسلمين، وعلى هذا فإنه يصح أن يصوم وحده ولا يصح أن يفطر لوحده.
    وقد يشكل على هذا مسألة: كيف نحكم بالظاهر ونترك الباطن؟
    و
    الجواب
    أن الشرع يحكم بالظاهر، ويلغي الحقيقة والباطن.
    مثال ذلك: لو أن رجلاً -والعياذ بالله- رأى امرأة على الزنا، وقد رآها بعينه وشهد أنها زانية، أو شهد رجلان أو ثلاثة أنها زانية، فأتي بها إلى القاضي فلم تعترف وأنكرت، فإنه بالإجماع يجلد هؤلاء الثلاثة، ويعتبرون قذفه، والله تعالى يقول: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فوصفهم بالكذب بالنسبة للظاهر؛ لكنهم في الحقيقة والباطن صادقون، ولذلك يعطي الحكم للظاهر، والباطن مرده إلى الله عز وجل.
    ومن أمثلته: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع) فدل على أن حكم الظاهر لا يبيح الباطن، كما أن الباطن لا يبيح حكم الظاهر، وعلى هذا فرقت الشريعة، فما كان الشرع معتبراً فيه بشهادة الواحد -وهو دخول شهر رمضان- فنعتبره ملزماً بالصيام برؤيته، كما لو رآه وحده في الصحراء فإنهم كلهم يقولون: عليه أن يصوم.
    أما بالنسبة لخروج رمضان فقد جاء النص باعتبار الشاهدين، ولم يأت استثناء كالدخول، فالدخول جاء فيه استثناء في حديث ابن عمر، فقبلت فيه شهادة الواحد، وأما الخروج فلم يأت فيه استثناء، فبقينا على الأصل من كونه مطالباً بصيام هذا اليوم الذي هو يوم الثلاثين، والأصل أن الشهر كامل، وعلى هذا يقولون: إنه يقيد بجماعة المسلمين؛ لورود النص بتأكيد الجماعة.
    ففي الخروج ورد النص بتأكيد الجماعة، وفي الدخول ورد النص بالاعتداد بشهادة الواحد، فخفف في الدخول ولم يخفف في الخروج، وهذا هو الذي يسميه العلماء مذهب الاحتياط.
    والاحتياط ينقسم إلى قسمين: الأول: احتياط ينبني على دفع الشبهة والبعد عن الريبة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يربيك إلى ما لا يريبك).
    الثاني: احتياط يكون مستنداً إلى النصوص، فلما جاء النص بقبول شهادة الواحد دخولاً؛ احتطنا وقلنا: يجب عليه الصوم، فكان الاحتياط أن يصوم، بخلاف ما لو قلنا له: أفطر؛ لأنه لو أفطر ربما أفطر يوماً من رمضان، ولكن في الخروج نقول له: يبقى على صيامه، فأصبح الاحتياط هنا مستنداً إلى أصل الشرع، فكان اعتباره أولى وأحرى مع الأصل الذي دل على أنه ينبغي للمسلم أن يخرج من الريبة والشبهة.
    (101/6)
    ________________________________________
    وجوب الصيام على كل مسلم مكلف قادر
    [ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر].
    يلزم: أي: يجب، وهو فريضة الله عز وجل على كل مسلم، فالكافر لا يلزمه صوم بالنسبة له، بمعنى أنه لا يخاطب ولا يصح منه صومه إلا بعد أن يحقق أصل الدين وهو التوحيد، فلو صام الدهر كله وهو لم يوحد الله فلا عبرة بصيامه، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فالكافر لا يعتد بصومه ولا يعتد بطاعته حتى يسلم، فإن أسلم أثناء الشهر وجب عليه أن يصوم ما بقي، ولا يجب عليه قضاء ما مضى.
    وإن أسلم أثناء اليوم وجب عليه الإمساك بعد إسلامه وقضاء ذلك اليوم، وهذا مبني على حديث يوم عاشوراء الذي رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما كان يوم عاشوراء قال: إن الله فرض عليكم صيام هذا اليوم، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) قالوا: فيجب على الكافر أن يمسك بقية اليوم، ثم يقضي هذا اليوم؛ لأنه لما أسلم ولو قبل غروب الشمس بلحظة فقد وجب عليه قضاء هذا اليوم، ولذلك يقولون: إنه يطالب بالقضاء، وأما بالنسبة للأيام التي مضت فإنه لا يطالب بقضائها لوجود الانفصال، وفرق بين المتصل والمنفصل، فإن إفطاره في اليوم نفسه متصل، وإلزامه بقضاء ما مضى من رمضان منفصل؛ فوجبت عليه العبادة المتصلة دون العبادة المنفصلة.
    وقوله: (على كل مسلم مكلف) ويشترط بعد الإسلام أن يكون مكلفاً، والتكليف يكون بالعقل والبلوغ.
    فإذا قيل: مكلف، تضمن ذلك كونه عاقلاً وكونه بالغاً، فلا يجب الصوم على صبي، ولا يجب الصوم على مجنون.
    أما الصبي فالسنة إذا أطاق الصوم أن يعود عليه من الصغر، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه (أنهم كانوا يروضونهم على الصيام، ويعطونهم اللعب يلعبون بها وهم صبيان)، ولكن ينبغي أن يكون مطيقاً لذلك.
    أما إذا كان صغير السن ويتضرر بالإمساك ولو بعض اليوم؛ فإنه لا يحمل فوق طاقته؛ لأن هذا يزعجه ولربما يجعله يكره هذه العبادة، فإنه إذا أطاقها ألفها وأحبها كما أمر الأولياء أن يأمروا صبيانهم بالصلاة لسبع؛ تعويداً لهم على هذه العبادة وترويضاً لهم عليها، فيعود الصبي الصيام من الصغر، كأن يكون ابن العاشرة أو الحادية عشرة، أو يكون دون ذلك إذا أحب هذه العبادة وألفها، وإذا صام فليشجعه وليه على ذلك ويعينه عليه؛ لما فيه من تحصيل مقصود الشرع من تحبيب العبادة لنفسه وتعويده عليها.
    وأما المجنون فلا نطالبه بالصوم، سواء بلغ مجنوناً أو طرأ عليه الجنون.
    وهكذا لو صار كبير السن فأصبح يضيع ويخلط، فإذا أصبح يضيع ويخلط أو كان مجنوناً وحصل له هذا التضييع والخلط أو الجنون أثناء الصوم، فإننا لا نلزمه بذلك اليوم، سواء كان جنونه مسترسلاً أو متقطعاً.
    وإذا كان جنونه متقطعاً بأن طرأ عليه الجنون في نصف رمضان، فالنصف الذي جن فيه ليس عليه قضاؤه، والنصف الذي كان فيه عاقلاً صحيحاً فإنه يطالب بصيامه.
    وإذا أفاق بعد ذلك فلا نطالبه بقضاء الشهر إن كان مجنوناً في الشهر كله؛ لأن المجنون حال جنونه غير مكلف.
    (101/7)
    ________________________________________
    حكم صيام المغمى عليه
    وهل المغمى عليه في حكم المجنون أو في حكم النائم؟ كما يقع الآن في موتى الدماغ فبعضهم ربما يستمر الشهر والشهرين وربما السنة بكاملها، وقد يستمر سنوات وهو تحت هذه الأجهزة وقد مات دماغه، فمثل هذا لا يطالب بصوم، بل لا يطالب أولياؤه لا بقضاء ولا بإطعام؛ لأنه لم يجب عليه الصوم أصلاً، إذا قرر الأطباء أنه قد فقد عقله، فإنه في هذه الحالة لا يطالب بقضاء، ولا يطالب أولياؤه أيضاً بالقضاء أو بالصيام عنه ولا بالإطعام؛ لأنه غير مكلف بالصوم أصلاً.
    وأما بالنسبة للجنون المتقطع فحكمه ما ذكرناه: في حال إفاقته يطالب بالصوم، ويطالب بالقضاء إن أفاق أثناء اليوم، وبالنسبة للأيام التي هو فيها عاقل فإنه يطالب فيها بالصوم.
    (101/8)
    ________________________________________
    اشتراط القدرة في الصيام
    قوله: (قادر) أي: يشترط للصائم أن يكون قادراً على الصوم، فخرج بهذا المريض، فإن المريض لا يلزم بالصوم إذا كان لا يستطيع معه الصوم، سواء كان لا يستطيع بالكلية كأن يخشى على نفسه الموت، أو كان المرض يوجب الحرج والمشقة عليه إن صام.
    فهناك نوعان من المرض: النوع الأول: أن يقرر الأطباء أنه لو صام فإنه سيهلك، كما يقع في بعض الحالات التي يكون فيها فشل الكلى، بحيث يقرر الأطباء أنه في حالة خطرة بحيث لو انقطع عن الماء فإن مصيره إلى الموت والهلاك، وهكذا إذا كان فيه مرض قلب، أو كان حديث عهد بعمليات ويحتاج إلى الاستمرار على دوائها، فمثل هؤلاء يلزمهم ويجب عليهم أن يفطروا؛ لأن تعاطي الأسباب الموجبة للهلاك لا يؤمر به شرعاً، ولذلك قال العلماء: من ترك أكل الميتة وهو مضطر لها حتى مات، يحكم بكونه قاتلاً لنفسه والعياذ بالله؛ لأنه قد تحقق أو غلب على ظنه أنه سيموت فتعاطى أسباب الهلاك.
    وقد أشار شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- إلى هذا القول: أنه لا يجوز للمسلم إذا توقفت نجاته على أمر أن يتعاطى أسباب فوات النفس؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فليس في دين الله ولا في شريعته إلزام إنسانٍ بالصوم على وجه يوجب هلاكه، ولذلك أسقط الله الصوم في حال المرض لمكان المشقة الفادحة؛ فلأن يسقط في حال الخوف على النفس من باب أولى وأحرى.
    وعلى هذا: فإنه إذا كان المرض مخوفاً بحيث يخشى على صاحبه أن يهلك فإنه لا يصوم، وأما إذا كان يجد المشقة والحرج فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم، والأفضل له أن يفطر؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عتب على الرجل أن شق على نفسه بالصوم، وقال: (ليس من البر الصيام في السفر) أي: على من يشق عليه ويحرجه.
    أما لو كان في حال مرضه يطيق الصوم، والصوم عليه يسير بدون حرج، فالأصل فيه أنه مطالب بالصوم، ولا يرخص له.
    مثاله: لو أن إنساناً كسرت يده، لكن كسر اليد لا يتأثر بالصوم، فنقول: إنه يجب عليه أن يصوم إلا في حالة ما إذا كان عنده ألم شديد وتوقف على علاج يسكن له هذا الألم، فرخص بعض العلماء -رحمهم الله- في تسكينه من باب دفع الحرج، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
    إذاً: لابد أن يكون المكلف قادراً، فإذا كان قادراً فإنه يجب عليه، والدليل على اشتراط القدرة قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقوله عليه الصلاة والسلام (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون) فأمرنا أن نتكلف من الأعمال والعبادات ما نطيقه، وقال: (إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع) فالشخص الذي يصوم وهو غير قادر سينتهي به الأمر إلى أن يهلك، أو أن يؤدي العبادة على مضض وسآمة وملل، ولربما يترتب على ذلك ضرر أعظم من تركه للصوم.
    (101/9)
    ________________________________________
    وجوب الإمساك حال قيام البينة برؤية الهلال
    وقوله: [وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
    البينة: مأخوذة من البيان، يقال: بان الصبح إذا اتضح ضوؤه، والشيء البين هو الواضح، والبينة: هي الدليل الذي يظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، فلو أن اثنين اختصما عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً، كأن يقول: لي على فلان ألف ريال ديناً.
    فقال فلان: ليس له عندي شيء، وأنكر.
    فجاء المدعي بشاهدين عدلين، فنقول: هذه بينة أظهرت صدق الدعوى؛ لأنه لما قال: لي على فلان ألف ريال.
    احتمل أن يكون صادقاً واحتمل أن يكون كاذباً، والأصل أن المدعى عليه بريء حتى يثبت أنه مدان بهذا الحق، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى.
    والظهور الغلبة، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] أي: غالبين، فكأن صدق الدعوى وكذبها في منزلة واحدة عند الادعاء، فلما جاء بالبينة أظهرت صدق الدعوى وكشفت وجه الحق، لأنه لما قال: لي على فلان ألف.
    فقال فلان: ليس له علي ألف ريال، التبس وجه الحق، فلما قام الشاهدان انكشف أن الحق مع من قال: لي على فلان ألف ريال.
    فعلى هذا قالوا: إن البينة هي ما يظهر صدق الدعوى ويكشف الحق.
    والأصل في البينة أن تكون بشهادة العدلين على الشروط المعتبرة، لكن قد تكون البينة امرأة واحدة كالشهادة على الرضاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) فقد قبل شهادة المرأة الواحدة، فلو قالت امرأة: أرضعتك وفلانة، فإنه يثبت حينئذٍ أنها أخت لك، وهكذا لو أن امرأة قابلة -وهي التي تشرف على الولادة- شهدت بأن المولود استهل صارخاً، فإن المولود والجنين لا يرث إلا إذا تحققنا من حياته، ولا نتحقق من حياته إلا إذا عاش لحظة على الأقل بعد ولادته، فلو ولد ميتاً لم يكن له شيء، فنحتاج لكي نثبت الميراث له أن يستهل صارخاً، بمعنى: بأن يحدث منه الصوت أو الحركة التي تدل على الحياة حال ولادته على خلاف عند العلماء، فإذا شهدت امرأة واحدة أنه استهل صارخاً قبلت شهادتها في الاستهلال، لمكان الضرورة والحاجة، كما قبلنا شهادة المرضعة.
    وهذه من المسائل التي تكون فيها البينة قاصرة وناقصة، وعلى هذا فالبينة هي: شاهدان عدلان قاما بالشهادة على وجهها بأنهما قد رأيا الهلال ليلة البارحة، وإذا لم ير الناس الهلال فأصبحوا مفطرين في يوم الثلاثين من شعبان، فجاءت البينة وشهدت عند القاضي أنها رأت الهلال ليلة البارحة، وأن هذا اليوم هو الأول من رمضان، فيأمر القاضي بالنداء في الناس أن يمسكوا.
    والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صوم هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء- فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه) فإن هؤلاء الذين أفطروا إنما أفطروا في أول الأمر وهم يظنون أن الصوم غير واجب، بل على يقين بأنهم يفطرون، وكان الصيام تخييراً لا إلزاماً، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، قالوا: فيعذر أهل البلدة إذا لم يروا الهلال أول اليوم؛ لمكان عدم العلم، فإذا علموا وتحققوا فقد تبين أن هذا اليوم يجب عليهم صيامه، فعذروا بالفطر بأوله ولا يعذرون بالفطر في باقيه، فيلزمهم الإمساك بقية اليوم على ظاهر حديث معاوية رضي الله عنه.
    ثم يلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن القاعدة في الشرع: أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بالظن الذي بان أنه خطأ، فهم قد بنوا على غلبة الظن بأن شعبان كامل، ثم تبين أن هذا الظن خاطئ، وقد تحقق أن هذا اليوم من رمضان، فنعذرهم لأن الشيء إذا جاء لعذر يقدر بقدره.
    فجاز لهم أن يفطروا أول اليوم لأنهم معذورون بعدم العلم، فلما زال السبب الذي من أجله عذروا رجعوا إلى الأصل من كونهم مخاطبين بإتمام العدة، وعلى هذا قالوا: يلزمهم الصوم بقية اليوم، ويلزمهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الله أوجب عليهم صيام رمضان كاملاً وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فهؤلاء مطالبون بصيام رمضان كاملاً، وهذا اليوم من رمضان ولا وجه لإسقاطه.
    وقال بعض العلماء: لا يجب عليهم قضاؤه، بل يمسكون بقية اليوم ولا يقضون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بقضاء يوم عاشوراء.
    وهذا مذهب مرجوح، والجمهور على أنهم يقضون، ووجه كونه مرجوحاً: أولاً: يجاب عن حديث معاوية من وجهين: الوجه الأول: أنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء ويحتمل أنه لم يأمرهم، والسكوت عن النقل لا يدل على عدم الوجوب كما هو معلوم في الأصول، وعلى هذا قالوا: إنه قد يكون سكت للعلم به بداهة بأنهم مطالبون بالقضاء.
    الوجه الثاني: أن هناك فرقاً بين استئناف التشريع وبين ثبوته، فقالوا: إن التشريع استؤنف في أثناء اليوم بخلاف بقية الأمة، فإنهم مطالبون بصيام الشهر كاملاً لأن التشريع موجود، وإنما سقط عنهم القضاء لأن التشريع استؤنف؛ ففرق بين كون التشريع مستأنفاً وبين كونه ثابتاً.
    فعلى هذا قالوا: إنه يجب عليهم قضاء هذا اليوم؛ لأن الأصل أنهم مطالبون بصيام ثلاثين يوماً بخلاف أهل يوم عاشوراء، فإنهم لم يطالبوا به في الأصل، وعلى هذا فرق بين الإلزام بصيام اليوم إذا قامت البينة، وبين عدم ورود أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء في حديث يوم عاشوراء.
    (101/10)
    ________________________________________
    وجوب القضاء على من نوى الصيام متردداً
    وقوله: [والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه].
    معنى ذلك: أنه لو أصبح إنسان صائماً يوم الشك، ثم تبين أن هذا اليوم من رمضان، قالوا: يلزمه أن يقضي؛ لأنه صام يوم الشك على نية مترددة، والنية المترددة لا تسقط الجزم؛ فإن الإنسان إذا قال: يحتمل أنه من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، فأنا أصومه إن كان من رمضان ففرض، وإن كان من شعبان فنفل، فأصبحت نيته ليست بمتمحضة للفرض، وقد نوى النفل أثناءها؛ لأنه قال: إن كان من شعبان فنفل.
    فقد أدخل نية النفل عليه، ولا تصح نية الفريضة إلا متمحضة؛ فيلزمه القضاء.
    وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم بالنية في الصوم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) كما هو حديث ميمونة، وهو حديث صحيح، فلما ألزمنا بتبييت النية فكانت النية للفريضة فريضة، ولا تكون مترددة، وهذا قد نوى على التردد فلم تقع نيته وفق النية المعتبرة شرعاً، فألزمه الجمهور بقضاء هذا اليوم، وهذا معنى قول العلماء: يلزم القضاء للجميع.
    لكن لو أن إنساناً رأى الهلال وحده فأصبح ناوياً صيام رمضان، وقدم عليهم وهم مفطرون أول اليوم فأمسك، ثم ثبت بالبينة أنه من رمضان فإن صومه يجزيه، ولا يلزمه القضاء.
    (101/11)
    ________________________________________
    صيام أهل الأعذار بعد زوال الأعذار
    وقوله: [وكذا حائض ونفساء طهرتا].
    أي: وكذا المرأة الحائض والمرأة النفساء، فإنها إذا طهرت أثناء يوم رمضان فإنه يلزمها إمساك بقية اليوم وقضاؤه، وذلك أن المرأة الحائض سقط عنها الصوم أثناء تلبسها بالعذر، والقاعدة في الشرع: أن ما جاز لعذر بطل بزواله.
    فمثلاً: جاز للإنسان أن يسأل الناس إذا أصابته حاجة، فإذا تبرع له الناس حتى سدت هذه الحاجة حرم عليه أن يسأل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يمسك قواماً من عيش) فلما أمسك القوام من العيش رجع إلى الأصل من كون السؤال حرام عليه.
    قالوا: كذلك ما جاز لحاجة وعذر، فإنه قد جاز للمرأة الحائض والنفساء أن تفطر لمكان العذر وهو الحيض والنفاس، فإذا زال العذر وطهرت رجعت إلى الأصل من كونها مطالبة بالإمساك، فيجب عليها أن تمسك بقية اليوم، ثم بعد ذلك تقضي هذا اليوم.
    وهكذا المسافر إذا قدم من سفره، فإن الله قد أباح الفطر للمسافرين إذا كانوا على سفر؛ فإذا قدموا وزال عنهم وصف السفر بقوا على الأصل من كونهم مطالبين بالإمساك بقية اليوم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الإمساك بقية يوم عاشوراء.
    ولذلك فحكم المسافر والمرأة الحائض والنفساء حكم صيام يوم عاشوراء كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وجه للتفريق بالتعليل والنظر، ولذلك يُبقى على الأصل الذي دل عليه حديث يوم عاشوراء، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو أقوى المذاهب وأعدلها، إضافة إلى أنه يرجع إلى الأصل، ويكون أقوى الأقوال في الفقه هو ما يشهد الأصل باعتباره.
    فالأصل أنه مطالب بالإمساك، وهذا شهر إمساك وصوم، ولذلك لا يفرق بين أجزاء النهار كاملة أو ناقصة، فإذا جاز أن يفطر أو يأكل في حالة معينة على صفة معينه، ثم زالت هذه الحالة والصفة؛ وجب عليه أن يرجع إلى الإمساك الذي هو أصل الشهر، فالشهر إنما سمي بشهر الإمساك لكون الصائم يمسك فيه، فإذا جاز له أن يأكل بسفر أو مرض، أو جاز للمرأة أن تأكل لحيض أو نفاس، ثم زال الحيض والنفاس والسفر والمرض؛ رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك.
    وقوله: [ومسافر قدم مفطراً].
    أي: وهكذا لو سافر إنسان وقدم من سفره أثناء اليوم؛ فإنه يلزمه أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه جاز له الفطر أثناء السفر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل المريض والمسافر معذوراً أثناء السفر والمرض؛ فإذا زال السفر وزال المرض رجع إلى الأصل من كونه مطالباً بالإمساك في هذا اليوم.
    (101/12)
    ________________________________________
    حكم من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه
    وقوله: [ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكيناً].
    هذا النوع الثاني ممن يرخص له أن يفطر في شهر رمضان، وهو المريض الذي لا يرجى برؤه من المرض، والكبير أي: الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم.
    فبالنسبة للمريض الذي لا يرجى برؤه كمن به فشل في الكلى، أو معه مرض مزمن لا يمكنه أن يمسك عن الطعام والشراب، فهذا يلزمه أن يطعم؛ فيعدل من الصوم إلى الإطعام، لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] وفي قراءة: (وعلى الذين يطَيّقونه) وفي قراءة: (وعلى الذين يَطوّقونه) والمراد بهذه القراءة أنهم يجدون المشقة والعناء، ويتكلفون ما في طاقتهم ووسعهم للصوم، فهؤلاء أوجب الله عليهم أنه يطعموا المسكين؛ فيعدلون من الصيام إلى الإطعام، ولا يكون الصوم واجباً عليهم لا أداءً ولا قضاءً، فيسقط عنهم الصوم بالكلية.
    والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ لأنه إذا أفطر لا يستطيع أن ينتقل إلى بدل، فالمرض معه والعذر مستديم معه، وهكذا الشيخ الهرم، فإنه يفطر ولا يلزمه أن يقضي، وإنما يعدل هذان النوعان إلى الفطر بدون قضاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليهم الإطعام ولم يوجب عليهم الصيام لظاهر آية البقرة التي ذكرناها.
    وقوله: (أطعم لكل يوم مسكيناً): إطعام المساكين له صور: إن شاء في كل يوم أن يرتب طعامه ويعطيه للمسكين، وإن شاء جمع في آخر رمضان ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، أو مر على الثلاثين وأطعمهم دفعة واحدة؛ لكن لو أنه من بداية رمضان أخذ طعام الثلاثين وفرقه على ثلاثين ناوياً به الشهر كاملاً لم يجزه؛ لأنه لا يجب عليه الإطعام إلا بالإخلال، وذلك بفطره في اليوم، فلا يطعم إلا بعد فطره، ولذلك قالوا: لو أراد أن يطعم عن كل يوم فإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يفطر بعد طلوع الفجر، وحينئذٍ يكون متوجهاً عليه الخطاب بالإطعام، أما قبل الفطر فإنه لا يطعم ولو كان قبل تبين الفجر الصادق.
    وإنما يطعم بعد طلوع الفجر؛ لأنه يتعين عليه حينئذٍ الإطعام، أما لو أطعم قبل فإنه يكون إطعامه حينئذ نافلة ولا يكون فريضة؛ لأن الله لم يوجب عليه الإطعام بعد، كما لو صلى قبل دخول الوقت، وبناء على ذلك قالوا: العبرة بوقت الصوم، فإذا دخل عليه وقت صوم هذا اليوم أطعم عن هذا اليوم، فلو أراد أن يقدم لم يصح ذلك منه، ووقع الإطعام نافلة لا فريضة.
    وأما لو أخر وأطعم عن ثلاثين يوم دفعة واحدة فيأتي على وجهين: إما أن يجمع طعام ثلاثين يوماً ويعطيه لمسكين واحد.
    وإما أن يجمع طعام الثلاثين ويفرقه على الثلاثين.
    فإن فرق طعام الثلاثين على الثلاثين أجزأه، فأما إطعام مسكين طعام ثلاثين يوماً فلا يجزيه إلا عن يوم واحد؛ لأن كل يوم يخاطب فيه بحسبه، فعلى هذا يجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً إذا كان الشهر كاملاً، وتسعة وعشرين مسكيناً إذا كان الشهر ناقصاً، والأولى والأحرى والأفضل أن يطعم كل يوم مسكيناً في يومه، لكن لو أخر إلى آخر رمضان فإنه يجزيه الإطعام، لكن هل يأثم أو لا يأثم؟ قال بعض العلماء: يأثم بالتأخير، ويصح إطعامه.
    وقال بعض العلماء: يجوز له التأخير، لكن القول بإثمه من الوجاهة والقوة بمكان، وبناءً على ذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
    (101/13)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [3]
    صيام رمضان واجب على كل مسلم مكلف قادر، ومن تعذر عليه الصيام فإنه يفطر ويقضي بعد رمضان، ومن أهل الأعذار في رمضان: الحائض، والنفساء، والمريض، والمسافر سفراً يقصر فيه، والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولدهما.
    (102/1)
    ________________________________________
    حكم فطر أهل الأعذار
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد
    (102/2)
    ________________________________________
    الفطر بعذر المرض والسفر
    فيقول المصنف رحمه الله: [ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر].
    ويسن الفطر لمريض؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأمرنا الله عز وجل أن نعدل في حال السفر والمرض إلى الفطر، لكن هل ذلك على سبيل الوجوب أو على سبيل التخيير؟ للعلماء قولان: قال جمهور العلماء: من كان مريضاً أو على سفر إن شاء أفطر وإن شاء صام، فهذا مذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة.
    وقال بعض العلماء: المسافر لا يصح منه أن يصوم، ولو صام في السفر بطل صيامه ويجب عليه القضاء؛ لأن الله يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أي: أنه يجب عليه أن يفطر، ويكون صومه في عدة من أيام أخر، وهذا مذهب الظاهرية.
    والصحيح: مذهب الجمهور؛ وذلك لأن السنة فسرت القرآن وبينت المراد منه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه مسافراً، قال أنس: (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم).
    وفي الصحيح: أن عمرو بن حمزة -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني أطيق الصوم في السفر.
    فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فخيره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلزمه عليه الفطر؛ فدل على أن الإنسان مخير.
    لكن إذا حصل الحرج والمشقة للإنسان في السفر فإنه يعدل إلى الفطر، وقد يجب عليه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام حتى بلغ كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، أقرب إلى مكة منه إلى المدينة، وكراع الغميم هو كراع البحر، أقرب إلى جهة عسفان، المسافة ما بين المدينة وعسفان تقرب من سبع مراحل أو ثمان مراحل، والثمان المراحل: قرابة ثمانية أيام، وكلها كان يصومها عليه الصلاة والسلام، فاشتد الصوم على المسافرين من أصحابه فأفطر عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن أقواماً لا يزالون صائمين، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك العصاة أولئك العصاة) وهذا لأن اليوم كان شديد الحر، عظيم الضرر على المسافرين؛ فكان المنبغي عليهم أن يأخذوا برخصة الله عز وجل عليهم، فصار تكلفهم الصيام فيه حرج ومشقة على النفس.
    ومن هنا قال العلماء: نفرق في المسافر؛ فإذا كان السفر يحرجه ويتعبه ويشق عليه أن يصوم فيه؛ فإنه يعدل إلى الفطر، وقال بعضهم بالوجوب كما ذكرنا، وأما إذا كان يجد المشقة ولا تصل به إلى الحرج فهو مخير بين أن يفطر وبين ألا يفطر.
    أما الحالة الثالثة: وهي أن يسافر وهو مرتاح -كما هو الحال في وسائل السفر الموجودة اليوم- فلا يجد عناءً ولا مشقة، فهل يجوز له أن يفطر؟

    الجواب
    نعم، يجوز له أن يفطر؛ لأن الشرع علق العلة بالغالب، والقاعدة في الأصول في مثل هذه الرخص أنه لا يلتفت فيها إلى نادر الصور؛ لأن نادر الصور أن المسافر يرتاح، والواقع أن المسافر له عناءان وعليه مشقتان: مشقة ظاهرة، ومشقة باطنه.
    أما المشقة الظاهرة: فهي التعب في التحمل والنزول والغربة.
    وأما المشقة الباطنة: فهي مشقة التعب النفسي في بعده عن أهله، وتغربه عن وطنه، وإقدامه على المكان الموحش والأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا جليس، فهذا يرهق النفس ويتعبها وإن كان في الظاهر مرتاحاً مستجماً، فالشرع علق الرخصة بوجود السفر.
    فنحن نقول: من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر، ولو كان في حالة من الراحة والاستجمام؛ لأن الله عز وجل جعل للمسافر أن يفطر بغض النظر عن كونه مرتاحاً أو غير مرتاح، ولا نفرق بين المرتاح وغيره؛ لأن التفريق بين المرتاح وغيره مبني على الاجتهاد والنظر، والقول باعتبار الظاهر من النص أولى وأحرى.
    ولذلك من الخطأ ما يقع فيه بعض الناس من الإنكار على المسافر المرتاح أنه يفطر، وهذا خطأ؛ لأن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر ولم يفرق بين مسافر وآخر، ولذلك لا يجوز لأحد أن ينكر على مسافر إذا أفطر ولو كان في أقصى راحة واستجمام؛ لأن الله عز وجل أحل له ذلك، فلا نلزمه بما لم يلزمه الله عز وجل به، ونقول: هو بالخيار، إن شاء أفطر وإن شاء صام، والأفضل له إذا كان في سفر وكان مرتاحاً أن يصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر؛ ولأن ذلك يبرئ ذمته، وإبراء الذمة أولى من شغلها، فكونه يبرئ ذمته بالعاجل أفضل؛ ولأنه لا يضمن أن يبقى، ولذلك كونه يخلي نفسه من المسئولية والتبعة فهو أفضل له وأولى وأحرى، فعلى هذا قالوا: الأفضل له أن يصوم ولا يفطر.
    (102/3)
    ________________________________________
    الضابط في السفر المرخص فيه بالإفطار
    وقوله: [ومسافر يقصر].
    أي: يباح الفطر للمسافر بشرط: أن يكون سفره سفر قصر، وسفر القصر هو: أن يكون المكان الذي يقطعه في سفره مسيرة يوم وليلة على الإبل المعتادة، وهذا يقرب من خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً، فمن قصد بلدة ومدينة تبعد عن مدينته ما بين خمس وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يباح له أن يفطر، وأما إذا كانت المدينة تبعد عنه أقل من ذلك كسبعين أو ستين كيلو متراً فإنه لا يفطر، ولو كان الفرق يسيراً ككيلومتر أو نصف كيلومتر عن المسافة المعتبرة فإنه لا يفطر، وقد استغرب بعض المتأخرين ذلك وقالوا: كيف تحدد مسافة السفر، فنقول لشخص قصد مدينة تبعد أربعاً وسبعين كيلومتراً لا يفطر، ومن قصد مدينة من خمسة وسبعين كيلومتراً يفطر؟ نقول: هذا تفريق من الشرع، ولذلك لما سئل عبد الله بن عباس عن القصر في السفر من مكة إلى مر الظهران والجموم، قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف.
    فأجاز رضي الله عنه القصر إلى جدة، وكانت تبعد مسافة القصر، والطائف لأنها تبعد مسافة القصر، وعسفان لأن عسفان كان بينها وبين مكة مرحلة، والمرحلة هي مسيرة اليوم الكامل، وهذه مرحلة كاملة كانت بين عسفان ومكة، فأجاز القصر في هذه المسافة ولم يجز دونها، وكان ابن عمر كذلك يقصر إذا ذهب إلى مزرعته بوادي ريم، وريم تبعد عن المدينة فوق السبعين كيلومتراً، وهي مسافة المرحلة الكاملة.
    وعلى هذا فإننا نقول: إن الله عز وجل أباح للمسافر أن يفطر، ولكننا لا نجيز في كل سفر الفطر ما لم يكن هذا السفر معتبراً شرعاً، والسفر المعتبر شرعاً هو ما بلغ مسيرة اليوم والليلة، والدليل على اعتبار الشرع له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) فلو كان ما دون مسيرة اليوم والليلة يسمى سفراً لقال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر ليلة، أو: لا يحل لامرأة أن تسافر نهاراً، أو: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، لو كان كل خروج من المدينة سفراً لقال: لا يحل لامرأة أن تخرج من المدينة، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (أن تسافر) وقيد السفر بقوله: (مسيرة يوم وليلة) أخذ منه جمهور العلماء أن السفر هو مسيرة اليوم والليلة.
    فمن قصد من بلده موضعاً يبعد مسيرة اليوم والليلة وقدره من خمسة وسبعين إلى ثمانين كيلومتراً فإنه يقصر ويفطر.
    ويشترط في هذا السفر ألا يكون سفر معصية؛ لأن سفر المعصية لا يجوز للإنسان أن يفطر فيه؛ لأنه ليس بسفر معتبر شرعاً، فإن بلغ به الحرج والمشقة والضيق حل له الفطر من باب آخر لا من باب السفر.
    والأصل في ذلك: أن الشرع لم يأذن له بهذا السفر، فصار كغير المسافر، وإنما يحل له أن يقصر وأن يفطر إذا كان سفره يعتبره الشرع سفراً، وأما ما لم يعتبره الشرع سفراً فإنه لا يفطر فيه، كالسفر إلى حرام وقطيعة رحم وعقوق والدين، فمثل هذه الأسفار لا يترخص صاحبها فيها، ولا يجوز له أن يفطر ولا أن يقصر الصلاة كما قررناه في باب صلاة المسافر.
    (102/4)
    ________________________________________
    حكم من نوى صيام يوم ثم سافر في أثنائه
    [وإن نوى حاضر صيام يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر].
    هذا مذهب جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم: أنه إذا أقام ثم طرأ عليه السفر في أثناء اليوم، فإنه يجوز له أن يفطر، فلا يشترط في المسافر أن يكون قد بيت النية بالسفر، فلو طرأ عليك السفر أثناء اليوم حل لك أن تفطر بمجرد خروجك من المدينة.
    والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، فوصف الإنسان بكونه على سفر.
    وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جواز الفطر في داخل المدينة، وكان بعض العلماء يقول بجواز الفطر بالنية، وهذا من أضعف المذاهب؛ لأنه يخالف نص القرآن وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نص القرآن الثابت في كتاب الله عز وجل أنه وصف الإنسان بكونه على سفر، والذي على سفر لا يكون مسافراً إلا إذا أسفر، والإنسان لا يقال: إنه على سفر، إلا إذا خرج وأسفر، والإسفار يتحقق بخروجك من آخر عمران المدينة؛ فإذا خرجت من آخر عمران المدينة حل لك أن تفطر، وأما إذا كنت داخل المدينة فإنه لم يتحقق كونك مسافراً.
    ولذلك يقولون: إنه لا يرخص له الفطر إلا إذا جاوز آخر العمران، وقد بينا ضوابط مجاوزة آخر العمران في باب صلاة المسافر في كتاب الصلاة، وبينا ضابط ذلك، وما أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه من كونه أفطر وهو يرى البنيان، قال العلماء في جوابه: إن قوله: إن ذلك من السنة، مراده: أنه لا يشترط أن يغيب عن نظرك رؤية العمران؛ فهناك مسألتان: المسألة الأولى: خروجك من المدينة.
    والمسألة الثانية: إذا خرجت من المدينة هل يشترط أن تغيب العمران، بمعنى أن تبعد وتبعد حتى إذا نظرت لا ترى أثراً للعمران، أم أن العبرة بمجرد خروجك؟ فظاهر ما جاء عن أبي بصرة أنه حينما كان على مركبه وسفينته على دجلة أنه كان يرى العمران، فدل على أن رؤية العمران لا تسقط الرخصة، وهذا صحيح ويقول به الجمهور: أن العبرة بمجاوزتك للعمران، وأن رؤيتك له ولو كنت على متر من العمران جاز لك أن تفطر، فلا يشترط عدم الرؤية، وفرق بين مسألة الرؤية وبين مسألة النية.
    ومما يدل على أن الشرع رخص في السفر؛ أنه أعطى رخصتين: الرخصة الأولى: قصر الصلاة.
    والرخصة الثانية: الفطر في الصوم، وكلاهما من جنس العبادة، ومع هذا فإنه لا يقصر الصلاة بالإجماع وهو في المدينة، ولو كانت نيته السفر، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات، مع أنه ناو للسفر لحجة الوداع، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، فمعنى ذلك أنه إذا أصبح ذلك اليوم وهو ناو للسفر لم يقصر الصلاة، وكذلك في الصوم، لو أصبح وهو ناو للسفر لا يباح له الفطر ما لم يخرج من المدينة ويجاوز عمرانها على الصفة التي ذكرها في باب صلاة المسافر.
    (102/5)
    ________________________________________
    إفطار الحامل والمرضع
    وقوله: [وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط].
    أي: قضتا ذلك اليوم، ولا يلزمهما إطعام.
    والحامل والمرضع لا يخلو في فطرهما من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الخوف على أنفسهما.
    الحالة الثانية: أن يكون الخوف على الولد.
    الحالة الثالثة: أن يكون الخوف على النفس مع الولد.
    فإن كان خوفهما على أنفسهما أو على أنفسهما مع الولد فإنه يباح لهما الفطر والقضاء بدون إطعام، لأن العذر متصل بهما.
    وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا وأطعمتا.
    وهذا على ظاهر آية البقرة، فإن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يرى أنها باقية في الحامل والمرضع: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قال: إن المرأة الحامل عليها أن تطعم المسكين، وهذا في حالة ما إذا كانت مفطرة عن نفسها؛ فخالف جمهور العلماء، والجمهور على أنه إذا أفطرت المرأة الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما فإن الواجب عليهما القضاء دون الإطعام كالمسافر والمريض، لأن العذر متصل بهما.
    أما إذا خافتا على الولد وحده ولم يكن الخوف على النفس؛ فإنه حينئذٍ يلزمهما الإطعام والقضاء عن ذلك اليوم، قالوا: الإطعام لمكان انفصال العذر، وأما بالنسبة للقضاء فلكون اليوم واجباً عليهما بالأصل.
    وقوله: [وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً].
    أي: إذا خافتا على الولد.
    المرضع في بعض الأحيان تكون صحتها طيبة، وهي قادرة على الصوم؛ ولكنها تخاف أنها إن صامت فلن يجد الولد اللبن ويتضرر بصيامها، فقالوا: حينئذٍ يكون فطرها لعلة منفصلة عنها وهو الولد.
    وهكذا بالنسبة للحامل، فإنها تطيق الصوم في نفسها، ولكنها تخشى أن يتضرر الولد، كأن يقول لها الطبيب: إذا صمت في هذا الشهر فإن الولد سيتضرر، فحينئذٍ يكون الخوف على الولد وليس على المرأة الحامل، فيكون العذر في كلتا الصورتين منفصلاً لا متصلاً بالمرأة نفسها.
    (102/6)
    ________________________________________
    حكم من صام ثم جن أو أغمي عليه
    ذكر المصنف رحمه الله مسألة جنون الصائم وإغمائه، وصورة ذلك: أن ينوي الإنسان الصوم لفريضة كرمضان أو نذر أو كفارة، ثم إذا أصبح وهو مغمى، واستمر إغماؤه النهار كله، وهكذا لو أصابه جنون ولم يفق من جنونه إلا بعد مغيب الشمس، فإنه يبطل صومه بهذا الإغماء وبهذا الجنون؛ والسبب في ذلك -كما ذكر العلماء رحمهم الله-: أن النية تزول ويزول منه القصد ولا يستصحب، وإن كانت هناك مسائل يقال فيها باستصحاب الحكم في المغمى عليه والمجنون كالإسلام والردة ونحو ذلك، ولكن هذه المسألة لا يحكم فيها بالاستصحاب، وحينئذٍ يسقط عنه هذا اليوم، فلا يصح صومه ولا يعتد به؛ لمكان فوات النية بزوال الإدراك والشعور.
    وقوله: [لا إن نام جميع النهار].
    اختلف العلماء في الصائم إذا نام جميع النهار: فمنهم من قال: إن النائم يصح صومه، وبناءً على ذلك فلو نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصومه صحيح، بخلاف المجنون وبخلاف المغمى عليه، وهذا التفريق مبني على الأصل؛ وذلك أن الصحابة كانوا ينامون؛ ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانتقاض الصوم بالنوم، والإجماع قائم على أن النوم المعتبر -كالنوم بين الظهر والعصر، والنوم ضحوة، ونوم القيلولة- لا يبطل الصوم، ولكن الخلاف إذا نام أكثر النهار أو نام كل النهار.
    وصحح جمع من العلماء رحمهم الله التفريق بين الجنون والإغماء والنوم، فقالوا: إن النوم لا يبطل، بخلاف الجنون والإغماء.
    وقال بعض العلماء: إذا نام أغلب النهار أو كله بطل صومه؛ وذلك لأن المغتفر في النوم ما كان معتاداً، وما خرج عن العادة فإنه يرجع إلى الأصل، فيكون في حكم المجنون والمغمى عليه؛ فيبطل صومه.
    وقوله: [ويلزم المغمى عليه القضاء فقط].
    أما بالنسبة للمجنون فبالإجماع أنه لا يطالب بالقضاء، فلو أن إنساناً يصيبه الجنون متقطعاً، فجن من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، فإن صومه لا يعتد به حتى ولو صام، ولا يلزمه قضاء هذا اليوم.
    وأما بالنسبة للمغمى عليه فللعلماء فيه قولان: من أهل العلم من يقول: إن المغمى عليه يأخذ حكم المجنون، وبناءً على ذلك لا يلزمه قضاء ولا يصح صومه.
    وقال بعض العلماء: المغمى عليه في حكم النائم، فصومه صحيح.
    والصحيح الذي يترجح -والعلم عند الله-: أن المغمى عليه في حكم المجنون، وبناءً على ذلك يطالب بالقضاء ولا يصح صومه.
    وعلى هذا فما اشتهر في هذه الأيام مما يسمى بموت السرير أو موت الدماغ، فيكون الإنسان قد زال شعوره وليس فيه إلا نبضات قلبه، وحكم الأطباء بموت دماغه، وقد يستمر في جهاز الإنعاش شهوراً وقد يستمر سنوات، فمثل هذا غير مكلف، ولا يلزم بالقضاء، ولا يلزم أهله بالقضاء ولا بالإطعام عنه، بل يسقط عنه التكليف بمجرد موت دماغه وتقرير الأطباء لذلك.
    (102/7)
    ________________________________________
    اشتراط النية في الصيام
    وقوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب].
    شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بنية الصائم؛ والسبب في ذلك: أن الصوم عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية، وبيان أحكام العبادة التي لها نية يستلزم بيان حكم النية وحدودها وضوابطها.
    وينقسم الصوم إلى قسمين: صوم فريضة، وصوم نافلة.
    فكلا القسمين لا يصح إلا بنية، فلو أن إنساناً أضرب عن الطعام واستمر إضرابه يوماً كاملاً، فإننا لا نقول: إنه صائم، ولا يحكم بصومه لا نافلة ولا فريضة؛ لأنه لم يقصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الامتناع، وهكذا لو امتنع عن الطعام والشراب ليخفف وزنه، أو خوفاً من الطعام والشراب أن يضره في جسده، فمثل هذا لو استمر يوماً كاملاً لا نحكم بكونه صائماً؛ لأنه لم ينو التقرب لله سبحانه وتعالى.
    أما بالنسبة للصوم الذي فرضه الله على المكلف: فإنه لا يُجزئه ولا يصح منه إلا إذا بيت النية بالليل، والدليل على ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
    ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أمر بإخلاص العبادة لوجهه، والإخلاص يتوقف على النية، فلا عبادة إلا بنية، والصوم عبادة لا يصح إلا بنية.
    وأما دليل السُّنة: فحديث أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها وأرضاها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُبَيِّتِ النية بالليل فلا صوم له) وفي رواية: (من لم يجمع النية بالليل فلا صوم له).
    ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بعدم صحة الصوم إذا لم يبيت صاحبه النية بالليل.
    وثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والصوم عمل.
    ومن أدلة السُّنة أيضاً: ما ثبت في الصحيح من الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) أي: قاصداً التقرب لي؛ فدل على أنه لا صوم شرعاً إلا إذا قصد أن يترك الطعام والشراب لوجه الله عز وجل.
    ولذلك فضل العلماء الصوم حتى قال بعض فقهاء الشافعية -وهو أحد الأوجه في مذهب الإمام الشافعي -: والصوم أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك هذا الحديث، قالوا: لأن الله تعالى يقول: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) قالوا: وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله: الإخلاص، الذي هو التوحيد، فلما كان الصوم قائماً على الإخلاص وروحه ولبه للإخلاص قالوا: شرُف وفضل على الصلاة من هذا الوجه.
    والصحيح: أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) ولما ثبت في الصحيحين من قوله: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها).
    والصوم ينقسم إلى قسمين: الفريضة، والنافلة: أما الفريضة: فلا تصح إلا بنية وجهاً واحداً.
    وأما النافلة ففيها قولان للعلماء رحمة الله عليهم: منهم من يقول: لابد من تبييت النية في النافلة، فلو أردت أن تصوم الإثنين أو الخميس تقرباً إلى الله عز وجل فلا بد أن تنوي الصيام في ليلة الإثنين وليلة الخميس.
    وقال جمع من العلماء: يصح أن يصوم النافلة وينشئ نيتها وهو لم يجمع النية بالليل، وهو الصحيح؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه قال: (هل عندكم شيء؟ قالت: لا.
    قال: إني إذاً صائم) وهذا في النهار؛ فدل على أن صوم النافلة يجوز أن ينشئ الإنسان صومه من النهار، ولا يجب عليه أن يبيت النية من الليل.
    فلو أصبحت يوم الإثنين وأنت لا تدري أنه الإثنين، ثم قيل لك بعد صلاة الفجر قبل أن تطعم شيئاً: هذا يوم الإثنين، فقلت: إني إذاً صائم؛ صح صومك.
    وهكذا لو أصبحت ولم تجد فطوراً، وكنت قد أصبحت من بعد طلوع الفجر لم تأكل شيئاً، فلما لم تجد طعاماً أو شيئاً تفطر به قلت: إني إذاً صائم أو أستمر بقية يومي صائماً، صح ذلك وأجزأك؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبر حديث أم المؤمنين عائشة مخصصاً لحديث أم المؤمنين حفصة.
    فنقول: الأصل تبييت النية بالليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) لكن يستثنى صيام النافلة لحديث أم المؤمنين عائشة الصحيح؛ فصيام النافلة يجوز لك أن تنشئه بعد طلوع الفجر ولا حرج عليك في ذلك.
    (102/8)
    ________________________________________
    أحكام تتعلق بالنية في الصيام
    قوله: [ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب].
    في نية الصوم مسائل: أولاً: أنها واجبة، ودليل وجوبها ما تقدم من دليل الكتاب والسُّنة.
    ثانياً: هناك فرق بين صوم الفريضة والنافلة، فصوم الفريضة لابد فيه من تبييت النية بالليل، وصوم النافلة يجوز أن تنشئه ولو لم تبيت النية بالليل.
    المسألة الثالثة: إذا قلنا: لابد وأن تبيت النية بالليل، فمن المعلوم أن ليلة الصيام تبتدئ من مغيب الشمس،
    و
    السؤال
    هل تُبَيَّت النية بمجرد مغيب الشمس أم العبرة بما بعد منتصف الليل؟ بعض العلماء يقول: تبييت النية يكون من بعد منتصف الليل؛ لأنك لا تدخل في الليلة القابلة إلا من بعد منتصف الليل، ولذلك قالوا: صح طواف الإفاضة بعد منتصف الليل في ليلة النحر، ولا يصح قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن بعد منتصف الليل، وكذلك بالنسبة للمبيت، قالوا: لابد وأن يكون قد بَيَّتَ النية من بعد منتصف الليل، والعبرة بمنتصف الليل الثاني لا بمنتصفه الأول.
    وقال جمعٌ من العلماء -وهو الوجه الثاني-: إنه يجوز أن تبيت النية بمجرد مغيب الشمس لليوم السابق، وذلك على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين حفصة: (من لم يبيت النية بالليل ... ) والشخص يوصف بكونه بات وبيّت من بعد مغيب الشمس، ولذلك قالوا: لو نوى بعد مغيب الشمس أجزأته النية، وهذا هو الصحيح: فمن نوى قبل منتصف الليل الآخر والثاني فإن نيته صحيحة معتبرة.
    وفائدة هذا الخلاف: أنه لو نوى في النصف الأول ثم نام قبل النصف الثاني، واستيقظ بعد أذان الفجر، فعلى القول الأول الذي يشترط النصف الثاني: لا يصح، وعلى القول الثاني: يصح.
    وعلى هذا فلا بد من تبييت النية سواءً وقعت في النصف الأول أو النصف الثاني.
    المسألة الرابعة: التعيين: إذا عرفنا أن النية لازمة فأنت تقصد في قرارة قلبك أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فهذه هي النية، ثم بعد النية شيء يسمى التعيين.
    والتعيين: أن تحدد صومك فريضة أو نافلة؛ فإن كان فريضة فهل هو عن رمضان أو عن كفارة أو عن نذر؟ فتحدد في تلك النية، فيكون تحديدك وتعيينك للنية ببيان نوعية هذا الفرض الذي تريد صيامه، فإن كنت في رمضان نويت أن تصوم الغد من رمضان، وإن كنت في كفارة نويته صياماً عن كفارة جماعٍ أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو غير ذلك.
    فالمقصود: أن المراد أن تعين هل نيتك لفريضة أو نافلة، ثم إذا عينتها فريضة هل هذه الفريضة لرمضان أو لنذر أو لكفارة أو نحو ذلك من الصيام الواجب، فمعنى تعيين النية: أنه يُعين ما هو المراد من هذا الصوم الواجب إن كان واجباً.
    وإن كان نافلة: هل هي نافلة معينة مقصودة كصوم الإثنين والخميس والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، أم أنه يريد نافلة مطلقة كأن يصوم تقرباً إلى الله عز وجل بغض النظر عن قصد ذلك اليوم المتنفل به، وهذا هو الذي يقصده المصنف بمسألة التعيين، كما أنك إذا صليت أربع ركعات عن فريضة فلا بد وأن تحدد هل هي ظهر أو عصر أو عشاء، فقالوا: يجب عليه تعيين الصوم كما يجب عليه تعيين فريضة الصلاة.
    وقوله: (لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة).
    هذا في رمضان، وقال بعض العلماء: إذا دخل رمضان تنوي من أول رمضان صيام الثلاثين يوماً ويجزئك، وهذا هو مذهب الحنفية رحمة الله عليهم، قالوا: كأن المحل لا يسع لغير رمضان، فعندهم أن صيام رمضان يجزئك أن تنويه من أول الشهر، وتجزئ نية لجميع الشهر؛ لأن رمضان لا يسع لصيام غيره، فالنية لا تنصرف إلا إلى رمضان، قالوا: فلا يحتاج أن يجدد النية كل ليلة.
    والصحيح: مذهب الجمهور؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له) فبين أنه لابد من تبييت النية في الصوم، وهذا شامل للفريضة كما ذكرنا، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بين صيام رمضان ولا غيره.
    قوله: [لا نية الفريضة]: أي أنه لو نوى مطلق الفرض لا يجزيه؛ لأنه لو نوى مطلق الفرض احتمل أن يكون رمضان، واحتمل أن يكون صيام كفارة، واحتمل أن يكون صياماً عن كفارة قتل أو ظهار أو يمين أو نذر؛ ولذلك قالوا: إنه لا يجزيه أن يقول في نفسه: نويت أن أصوم هذا اليوم لأنه فرض، ولا يُبين هل هو فرض عن رمضان، أو فرض عن كفارة، عتق أو ظهار أو نحو ذلك، هذه النية يقولون: فيها نوع من الإبهام، فلابد أن يُعين ما هو مراده بالفرض.
    (102/9)
    ________________________________________
    حكم صيام النافلة دون تبييت النية
    وقوله: [ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده].
    النافلة: خلاف الفريضة، والمراد بذلك الصوم غير الواجب، وهو يشمل النافلة المقصودة أو المعينة، والنافلة غير المقصودة، وهي النافلة المُطلقة؛ لأن الصوم ينقسم نفله إلى قسمين: قسم مقصود، مثل: نافلة الإثنين، ونافلة الخميس، والأيام البيض من كل شهر، وعاشوراء وعرفة، ونحو ذلك من الأيام المقصودة لفضلها أو ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيامها.
    والنافلة غير المقصودة: هي النافلة المطلقة، كأن ينوي تقرباً إلى الله، مثاله: أصبحت في يوم شديد الحر، وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً) فأردت أن تصوم هذا اليوم قربة لله سبحانه وتعالى، فإذا فعلت ذلك فإنه يجزئك؛ لأنها نافلة مطلقة، فتنويها نافلة مطلقة ولا يلزمك التعيين.
    في النوافل المطلقة والمقصودة يجوز إذا أصبحت بالنهار أن تنوي، فلو أن إنساناً لم يعلم أن اليوم هو عاشوراء، أو لم يعلم أن اليوم هو يوم عرفة، وعلم بعد طلوع الفجر فأمسك -ولم يكن قد أكل أو شرب- ونوى أن يتم صومه، أجزأه ذلك؛ لأن النافلة لا يشترط فيها تبييت النية بالليل كالفريضة.
    (102/10)
    ________________________________________
    حكم التردد في النية
    وقوله: [ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه].
    هذه مسألة من مسائل النية، فالنية واجبة، ويشترط فيها التعيين، ويشترط فيها الوقت والزمان، على حسب تفصيل العلماء، فمن لا يشترط أن تكون في النصف الثاني من الليل يقول: أن تكون بالليل، بغض النظر عن كونها في النصف الأول أو الثاني، فهذا يسمى شرط الزمان.
    وهناك شرط وهو: الجزم.
    والجزم: ألا تكون النية مترددة، كأن يقول في ليلة الثلاثين من شعبان: إن كان غداً من رمضان فإنني قد نويت أن أصومه، وإذا لم يكن رمضان فإنها نافلة، أي: يقول في نفسه وقرارة قلبه: سأصبح صائماً؛ فإن كان هذا اليوم من رمضان فهذا فرضي، وإن كان من غير رمضان فهو نافلة وقربة لله سبحانه وتعالى.
    فهذه نية مترددة، والشك والتردد في النية يبطلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات).
    والأصل في النية أن تكون بالجزم، لأن الشخص إذا تردد في نيته لم ينو ولم تثبت، وعلى هذا ليس بناوٍ للفرض ولا للنافلة؛ فلو أصبح واليوم من رمضان فإن نيته بالليل لم تتمحض لرمضان، ولو أصبح واليوم من غير رمضان فإنه يصح نافلة عند من يقول بجواز صوم يوم الشك، وقد بينا أنه لا يجوز ذلك.
    فالمقصود: أن التردد في النية يبطلها، وعلى هذا: لو سألك سائل وقال: لما كانت ليلة الثلاثين بيتُّ النية بالليل لصيام الثلاثين، وقلت في نفسي: إن كان من رمضان فهذا فرضي، وإذا كان من شعبان فهو نافلة وقربة لربي، قال: فأصبحت فإذا باليوم من رمضان، هل صومي صحيح؟ تقول: يلزمك القضاء؛ لأن النية شرط في صحة الصوم؛ لدلالة الكتاب والسُّنة، وثانياً: أن نيتك لم تقع على الوجه المعتبر شرعاً فكأنك لم تنو؛ لأن التردد في النية يبطلها.
    (102/11)
    ________________________________________
    حكم من نوى الإفطار
    وقوله: [ومن نوى الإفطار أفطر].
    هذه مسألة خلافية: قال بعض العلماء: إن نية الإفطار أثناء اليوم كالتردد في النية، فمن نوى أن يفطر فكأنه تردد في النية.
    وبعضهم يقول: لم يصبح متردداً، بل أبطل النية ورفعها، وقالوا: بناءً على ذلك يبطل صومه، وهو اختيار المصنف رحمه الله.
    ومن أهل العلم من قال: إن نية الفطر مغتفرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل) فهذا قد حدثته نفسه ولم يتكلم ولم يعمل.
    وأُجيب عن ذلك: بأن هذا الحديث المراد به: ما يكون من جنس الأشياء التي تبطل بالأقوال والأفعال؛ لكن الإبطال هنا متعلق بعمل القلب، وإذا تعلق بعمل القلب خرج الحديث عن موضع النزاع كما لا يخفى.
    (102/12)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (102/13)
    ________________________________________
    حكم التتابع في صيام كفارة اليمين

    السؤال
    في كفارة اليمين هل يشترط التتابع في صيام الثلاثة أيام؟

    الجواب
    هذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف: هل القراءة الشاذة يثبت بها الحكم أو لا يثبت؟ فبعض العلماء يرى أن القراءة الشاذة توجب ثبوت الحكم، وهذا هو أصح القولين.
    والسبب في ذلك: أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فهذه القراءة في آية المائدة التي في كفارة اليمين ورد فيها التتابع في قراءة ابن مسعود، وهي قراءة شاذة، وكونها شاذة فإن بعض العلماء يقول: إن القراءة الشاذة لا تقبل قراءة كما هو عمل القراء؛ لأن القراءة الشاذة تخالف العرضة الأخيرة التي جاءت من جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يعتد بهذه القراءة عندهم في القراءة، ولا يعتد بها في الحكم.
    وإذا كانت القراءة شاذة فإنهم يقولون: لم يثبت كونها قرآناً ولا كونها سنة، وإذا لم يثبت ذلك فإنها لا توجب ثبوت الحكم، وهذا مذهب الجمهور.
    وذهب الإمام أحمد وطائفة من علماء الأصول إلى أن القراءة الشاذة يثبت بها الحكم.
    ومن أمثلة هذه المسألة: حديث أم المؤمنين عائشة: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن) فهذه قراءة شاذة، بل إنها قراءة منسوخة، وقولها: (وهن مما يتلى من القرآن) أي: كان بعض الصحابة يتلوها ويظن أنها من القرآن، ولم يعلموا بكونها منسوخة في العرضة الأخيرة، هذا معنى قولها: (وهن مما يتلى من القرآن).
    وهذا يقع كثيراً؛ لأن الصحابة كانوا يقرءون القراءات التي نسخت لعدم علمهم بنسخها، ولعدم ثبوتها في العرضة الأخيرة التي عرض فيها جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وهي آخر سنة من حياته صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا نقول: إن القراءة الشاذة فيها جانبان: الجانب الأول كونها قرآناً، وهذا لا يثبت إلا بالتواتر بشروط معتبرة من كونها توافق اللغة العربية، وضوابط أخرى ذكرها أئمة القراءة في اعتبار القراءة، فقالوا: كونها قراءة لا نثبته، فبقي الجانب الثاني: وهو ثبوت الحكم بها، فكون الحكم موجوداً فيها يوجب ثبوته؛ لأنها ثبتت بالنص، فكما أن حديث الآحاد يوجب ثبوت الحكم مع كونه لم يبلغ مبلغ التواتر، كذلك القراءة التي جاءت من طريق الآحاد وهي شاذة توجب ثبوت الحكم، وإن كانت لا توجب ثبوت كونها قراءة.
    وهذا المذهب انتصر له شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع، وتكلم عليه كلاماً نفيساً، وتكلم عليها في مسألة الخمس رضاعات وأجاد وأفاد كعادته رحمة الله عليه، وقرر أن القراءة الشاذة فيها جانبان: كونها قرآناً، وكونها توجب حكماً.
    أما كونها قرآناً فقال: إننا لا نتعبد إلا بما ثبت بطريق التواتر، وهي العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة لكونها متضمنة للحكم فإنه يوجب ثبوت الحكم بها، وحينئذٍ نقول: بأن صيام كفارة اليمين يجب فيه التتابع، فيصوم فيه ثلاثة أيام متتابعة، والله تعالى أعلم.
    (102/14)
    ________________________________________
    حكم تعزير الشاهدين عند تبين الخطأ

    السؤال
    هل يعزر الشاهدان إذا تبين خطؤهما، سواء في شهادة دخول الشهر أو في خروجه؟

    الجواب
    الشاهد لا يعزر إلا في حالة واحدة وهي: أن يتبين كونه زور وكذب، ويتبين كونه شاهد زور أو كذب بإقراره على نفسه، كأن يأتي للقاضي ويقول: إنه شهد كذباً على فلان أنه فعل كذا وكذا وهو لم يفعل، فإذا شهد الإنسان على نفسه بكونه شاهد زور، فحينئذٍ يترتب على ذلك أحكام: أولاً: إسقاط الحكم الذي ثبت بهذه البينة على خلاف عند العلماء، فبعض العلماء يقول: إذا كان رجوعه بعد ثبوت الحكم وقبل التنفيذ فإنه ينفذ، قالوا: لأنه لما رجع عن شهادته طعن في عدالته، ونحن قبلنا شهادته للحكم وهو عدل، فلما رجع بعد ثبوت الحكم شككنا هل هو صادق أو غير صادق، فنبقي الشهادة الأولى؛ لأنه شهد بتزكية الشهود العدول أنه عدل، فقالوا: لا نقبل رجوعه.
    والصحيح وهو مذهب الجمهور: أنه إذا شهد على كونه مزوراً وكاذباً أنه ينقض الحكم.
    والأمر الثاني: يعزر، والتعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فبعض الأشخاص يعزر بالقول وبعضهم يعزر بالفعل، فالذي يعزر بالقول كالتوبيخ، كأن يكون من ذوي الهيئات وممن يعرف بالاستقامة ولكن حصلت منه فلتة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) ففي هذه الحالة يخفف عليه القاضي، ويكون تعزيره بالتوبيخ، كالناس الذين يتألمون بالكلام؛ لأن بعض الناس ينجرح بالكلام أكثر من انجراحه بالضرب والأذية، فيوبخه القاضي ويقرعه.
    والنوع الذي يعزر بالفعل، كأن يأمر القاضي بجلده، فيجلد -مثلاً- عشر جلدات أمام الناس، أو يجلد في الملأ، فيؤتى به ويقيمه أمام باب المسجد ويضربه ويقرعه أمام الناس؛ حتى يكون ذلك تشهيراً له وزجراً لغيره.
    أما الحكم الثالث فهو: التشهير، والتشهير: أن يركب على دابة ويطاف به في الأسواق، وقد فعل هذا السلف الصالح رحمة الله عليهم وأفتوا به.
    فالتشهير أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن الشيخ فلان يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور؛ فلا تصدقوه، فيطاف به في الأسواق تشهيراً له وردعاً له عن العودة إلى مثل هذا الفعل، وزجراً لغيره أن يرتكب مثل ما ارتكب.
    فإذا تبين خطأ الشهود فلا نحكم بتعزيرهم ولا نحكم بأنهم شهود زور؛ لأنهم ربما أخطئوا، والخطأ محتمل في الشهادة، فقد يتراءى له الشيء فيظن أنه هلال، فيحتمل أنه أخطأ ويحتمل أنه زور، ولما وجد التأويل لا يجوز اتهام الناس والوقيعة فيهم مادام أنه يوجد مساغ للتأويل ومساغ لنفي التهمة عنهم.
    فحينئذٍ ما دام أنا وجدنا لهم المخرج من كونهم أخطئوا فإننا لا نوجب تعزيرهم، ولا الحكم بكونهم شهود زور، بل إننا نترك البينة على حالها؛ لأنها زكيت وعدلت وحكم القاضي بكونها على العدالة، فلا ننقض هذا الحكم ولا نوجب كونها زوراً إلا إذا جاء الشاهد وقال إنه تعمد الكذب، وإنه كذب من أجل أن يصوم الناس خطأً، فهذا حكمه حكم شاهد الزور سوءاً بسواء، والله تعالى أعلم.
    (102/15)
    ________________________________________
    لزوم التأكد من غروب الشمس عند الإفطار

    السؤال
    هل إفطار الصائم يتعلق بغروب الشمس أو بأذان المغرب، خاصة إذا رأى الغروب واستبطأ الأذان لاسيما وقد جاء الأمر بتعجيل الفطور؟

    الجواب
    إذا كان الإنسان في مدينة فلا يمكنه أن يتحقق من غروب الشمس، فإنه يعتمد الأذان؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فجعل الأذان دليلاً على دخول الليل، وحينئذٍ يحل الفطر ويجوز للصائم أن يفطر.
    وأما إذا كان في موضع يمكنه أن يرى الشمس ويتحقق من غروبها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم)، فإذا رأى إقبال الليل وإدبار النهار، وهو يعرف أمارات الغروب حل له الفطر.
    أما مجرد غياب الشمس فيحتاج إلى ضبط؛ لأن الله عز وجل يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وإلى الليل: أي مع الليل، وهو أن تمسك جزءاً يسيراً من الليل، وهذا الذي يضبطه البعض بذهاب الصفرة القليلة بعد المغيب، ولذلك قالوا: إن ذهاب هذه الصفرة يتحقق به من غروب الشمس، ولذلك يحتاج إلى إنسان عنده معرفة وعلم، فليس بمجرد أن يرى الشمس كادت أن تتوارى بالحجاب فيقول: غابت الشمس وحل الفطر، بل لابد أن يكون عنده إلمام بالتحقق من غروب الشمس بالصفة المعتبرة، فإذا تحقق بنفسه من مغيب الشمس بالصفة المعتبرة حل له أن يفطر، والله تعالى أعلم.
    (102/16)
    ________________________________________
    حكم الإفطار بالجماع أثناء قضاء صوم رمضان

    السؤال
    إذا كان الصوم قضاءً لأيام من رمضان ووقع الجماع، فهل يلزم المجامع بالكفارة؟

    الجواب
    مسألة الفطر في قضاء رمضان بالجماع، بعض العلماء يقول: إن القضاء يحكي الأداء، والإخلال في القضاء كالإخلال في رمضان؛ لأن الله عز وجل قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فجعل العدة من أيام أخر في منزلة رمضان، وعلى ذلك قالوا: إنه لو جامع فيها فإنه يجب عليه أن يقضي ويجب عليه أن يكفر كما لو جامع في رمضان نفسه.
    وقال بعض العلماء: إنه لابد بأن يكون الجماع في نهار رمضان، فإذا وقع الجماع في أي صوم في غير رمضان فلا يلزم بالكفارة؛ لأن الرجل قال: (هلكت وأهلكت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان) فنص على رمضان، وإنما وجبت الكفارة في رمضان.
    قالوا: فلا ينزل غير رمضان منزلة رمضان لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، وهذا المذهب هو أقوى من جهة النظر، والأول أحوط، والله تعالى أعلم.
    (102/17)
    ________________________________________
    لزوم جماعة المسلمين عند الفطر واجب شرعي

    السؤال
    أشكل علي صوم واحد وثلاثين يوماً لمن ردت شهادته فصام لرؤية نفسه، مع حديث (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وذكر فيه أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فكيف الجواب على هذا؟

    الجواب
    أما بالنسبة لكونه يصوم واحداً وثلاثين يوماً فبطبيعة الحال أنه إذا رأى الهلال في ليلة الثلاثين سيصوم هذا اليوم من يوم رمضان -الذي هو من رمضان- وأما بالنسبة للواحد والثلاثين -وهو يوم العيد بالنسبة له- فقد ألغي من كونه عيداً، وألزم بالبقاء تبعاً، وفرق بين أن نقول: إن شهر رمضان واحد وثلاثون وبين أن نقول: إنه ألزم به تبعاً.
    ومن أمثلة ذلك: من خرج من مدينة وكانت قد تأخرت في الصوم يوماً، وارتحل إلى مدينة أخرى، فإنه يعتد بهذه المدينة فطراً؛ لأنه ملزم بالجماعة، فإذا جلس معهم قد يكون صومه واحداً وثلاثين، فحينئذٍ يلزم بصيام هذا اليوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطركم يوم تفطرون) فجعل الفطر لنا يوم يفطر الناس، فألغي حكم هذا اليوم، وصار واحداً وثلاثين تبعاً لا أصلا.
    أي: أننا لا نلزمه بذلك أصلاً من جهة أن رمضان واحد وثلاثين يوماً، وإنما ألزمناه في حالة فريدة، والقاعدة: أن الأصول العامة إذا ورد ما يستثنى منها فلا يعتبر قادحاً في الأصل.
    فأنت تقول: الأصل عندي أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، لكن هذه الحالة ورد بها نص أنه لا يفطر في الثلاثين، وأنه ينبغي أن يكون مع جماعة المسلمين، فأبقيه أنا لحكم يقصدها الشرع.
    والاستثناء من القواعد العامة لا يعد قادحاً في تلك الأصول، ولا يعد معارضاً لها؛ لأنها أشياء وردت بأسباب معينة لمقاصد شرعية، فحينئذٍ نقول: إنه يلزمه أن يمسك يوم الثلاثين الذي هو واحد وثلاثون بالنسبة له ويتقيد بجماعة المسلمين، وهذا كله لمقصد في الشرع.
    وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: إن الشريعة اعتنت بلزوم الجماعة أيما عناية، وأن أكثر البلاء الذي يجر الناس إلى الشقاء هو الخروج والشذوذ عن الجماعة، ولذلك كان الشرع يربي في الإنسان الانتماء إلى جماعة المسلمين وعدم الشذوذ عنها.
    قال صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا) وقد تدخل المسجد والإمام في التشهد الأخير وقبل السلام بلحظة، فيجب عليك أن تدخل معه؛ لأنه لا يجوز لك أن تشذ عن جماعة المسلمين، فما دام أنها جماعة وهي قائمة في المسجد فأنت ملزم شرعاً بالدخول لظاهر قوله: (ما أدركتم) أي: أي شيء أدركتموه ولو للحظة واحدة قبل السلام فصلوا.
    ثانياً: لما صلى عليه الصلاة والسلام بخيف منى ورأى الرجلين لم يصليا قال: (علي بهما! ألستما بمسلمين -وهما على ظاهرهما وسمتهما ما دخلا المسجد إلا وهما مسلمان-؟ قالا: بلى يا رسول الله، ولكنا صلينا في رجالنا، قال: إذا حضرتما المسجد فصليا مع الناس) وجاء بالرجل حينما لم يصلِ فقال: (ألست بمسلم؟ قال: بلى، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك).
    وهو من حديث عمران في الصحيح.
    وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وقال في الرواية الأخرى: (فلا تختلفوا علي) فكأن مقصود الشرع أن يربي الإنسان على ملازمة الجماعة، وهذا منهج علماء التربية فإنهم يقولون: إن تعويد الإنسان على وتيرة معينة من أقوى الأشياء التي تجعله يألفها بنفسيته؛ بمعنى: أن الإنسان إذا ربيت عنده الشعور بالانتماء للجماعة والحرص عليها، وعدم الشذوذ عن جماعة المسلمين؛ ألف ذلك وأصبح ديدناً له، فعندما تأتي في صيام رمضان وتقول له: إنه يفطر، ويكون العيد له وحده، ويشذ عن جماعة المسلمين في فطره وعبادته، وفي فرحته وسروره، وهو يحس أن عيده هذا اليوم من دون سائر المسلمين؛ فكأنه يتربى عنده إلف الشذوذ والانفراد، لكن حينما تقول له: أنت ملزم بالجماعة، ويجب عليك أن تبقى معها وأن تصوم معها؛ فإنك تربي فيه هذه الملكة.
    وكذلك إذا كان ثلاثين يوماً وهو يمتنع عن الطعام والشراب الذي أحله الله وأباحه له، وامتنع ولم يأكل ولم يشرب، فلو وقف على طعمة من حرام، وقيل له: إن هذا الطعام فيه لحم خنزير، يقول: لا آكل؛ لأنه صار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي حرم الله، وصار عنده إلف أن يمتنع عن الطعام الذي أحله الله له في الوقت حرم الله عليه فيه أن يطعمه، فمن باب أولى أن يمتنع عن الطعام الذي حرمه الله عليه بالكلية، وقس على هذا مما لا يحصى.
    وحينما نأمر أولادنا بالصلاة لسبع فليست القضية قضية صلاة فقط، بل إن الصبي إذا تربى من الصغر والوالد يأمره وهو يأتمر وينفذ أمر الوالد؛ يصبح عنده شعور بالطاعة لوالديه، وشعور بالتبعية للوالدين.
    لكن انظر إلى المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات المسلمة التي تفرط في أمر الأبناء بالصلاة، فيأتي يوم من الأيام وإذا بالابن متمرد بالكلية على والده، وكثيراً ما تجد الشذوذ والعقوق في الابن الذي لم يروض على الصلاة من الصغر، فقل أن تجد إنساناً عنده ابن عاق إلا ووجدته من الصغر لا يأمره بالصلاة؛ لأنك إذا ربيته على الاستجابة لأمر الله عز وجل، والاستجابة لأمرك؛ فإنه يألف ذلك، فكأنها قضايا لها أبعاد لا تقف عند مسألة العبادة فقط؛ ولذلك قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] أي: هناك أمور لا تعلمونها، وهناك حكم وأسرار عجيبة غريبة تعود على الإنسان بالنفع في دينه ودنياه وآخرته.
    فكون الإنسان يربى على الارتباط والانتماء لجماعة المسلمين فذلك فيه مصالح عظيمة؛ لأنه وإن كان فرداً يتضرر بصيام واحد وثلاثين يوماً، لكنه يحقق غايات أعظم وأسمى من كونه يشق على نفسه، وقد تأمر الشريعة بمشقة للفرد لمصلحة تترتب للجماعة، ولذلك كان العلماء رحمة الله عليهم يربون في طلابهم الشعور بالانتماء للعلم ومحبة العلماء، وكانوا يكرهون من طالب العلم كثرة الاعتراضات؛ لأنه حينما يتعود طالب العلم على الاعتراض والنقد وعلى هذا الشعور؛ تجده جريئاً على أئمة السلف وعلى العلماء، صلفاً وقحاً -نسأل الله السلامة والعافية- لا يتورع في كلامه ولا يتورع في تخطيئهم؛ لكن إذا ربيت فيه الشعور بالأدب والإجلال والتقدير لأهل العلم أصبح إذا جاء ليرد على العلماء تحفظ وتوقى، وصان لسانه عن الوقيعة في أعراضهم؛ لأن لديه إلفاً وشعوراً بتعظيم وإجلال السلف الصالح رحمة الله عليهم.
    ولذلك كان بعض العلماء إذا وجد من الطالب هذا الشعور ربما طرده، ولربما أعرض عنه، وهذا معنى قول الإمام مالك رحمة الله عليه: (لا تعلموا أولاد السفلة العلم؛ حتى لا يستطيلوا على العلماء) لأن عندهم الإلف والشعور بذلك، فقد ألفوا ذلك في بيئاتهم وفي مجتمعاتهم، فالإلف له تأثير على نفسية الإنسان، ومن هنا كان من الخطأ الذي يقع فيه بعض المربين وبعض المدرسين أن يأتيه الطالب فينتقد شيئاً فيشيد به أمام الطلاب أنه انتقد، وأصبحنا نعود أبناءنا على الانتقاد، ولربما تجد البحث يقول لك: انقد كتاباً، فربينا فيهم الشعور على الجرأة.
    وقد كان الناس قبل مائة سنة يجلون العلماء، وما وجدنا أحداً من أهل العلم يأتي ويجعل من منهجية تعلميه نقد الكتب والعلماء، ولكن أصبحنا اليوم بمجرد أن يأتي الشاب وعمره ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة- بل بعضهم حديث عهد بهداية- فنقول له: حضر كلمة انقد فيها كتاباً، أو لربما تكون مسابقة في عطلة صيفية أو مركز صيفي على نقد كتاب معين! من الذي ينقد؟! وما هذا الشعور الذي نربيه في الطالب؟ فالذي يتعود على النقد يصبح إلفاً له.
    وابحث عن عالم يكون درسه وعلمه قائماً على نقد العلماء والتجريح فيهم وتتبع عثراتهم، أو تكون كتبه قائمة على نقد العلماء والتجريح في العلماء، إلا وجدت طلابه يسيرون وراءه حذو القذة بالقذة، حتى إن الله ينتقم منه في الدنيا قبل الآخرة، فيسلط عليه من طلابه من ينتقده كما انتقد، ويسل عليه ما سله على علماء المسلمين، لكن من يربي في طلابه حب العلم، ويجعل عندهم الشعور بالانتماء لجماعة المسلمين، والانتماء للعلم والعلماء وإجلال السلف الصالح وإعظامهم وإكبارهم؛ تجد طلابه قد تربوا على حب الله ووده وإجلاله؛ لأنهم ألفوا ذلك وأحبوه واعتادوه؛ فصار ديدناً لهم شاءوا أم أبوا.
    فهذا المنهج ينبغي أن نعتني به كما اعتنى به الشرع، فهذا على شاهد قضية: أننا لا نفطر شذوذاً عن الجماعة، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي وراء عثمان وهو يعلم أن عثمان قد زاد في الصلاة ما ليس منها، ومعلوم أن الزيادة في ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك يصلي وراءه، قالوا له: ألا تجتزي بالركعتين؟ قال: الخلاف شر.
    أي: لا أريد أن أشذ عن جماعة المسلمين.
    وهذا عمر بن الخطاب يقف في وجه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ويقول له: كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)؟! فأصر أبو بكر وقال: (ألم تسمع قوله: إلا بحقها؟! والله لو منعوني عناقاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) فقال عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعملت أنه الحق) فما جاء يشذ ويقول: أيها الناس! أخطأ أبو بكر، أو يؤلف رسالة ويقول: إن أبا بكر قد أخطأ، ويشهر به، لكن اجتمعت الكلمة واجتمع الشمل واتحد الصف؛ فكانت قوة على أعداء الإسلام، فجعل الله رأي أبي بكر عزاً للإسلام والمسلمين.
    ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والعرب مرتدة، فاختار أبو بكر أن ينفذه، فصارت الكلمة مع أبي بكر، فراجعه الصحابة فقال: (والله لا أحل لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: لا أستطيع أن أحل هذا اللواء وقد عقده الرسول صلى الله عل
    (102/18)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [1]
    للصيام مفسدات من ارتكبها فقد بطل صومه، ومنها ما يوجب القضاء مع التوبة إلى الله تعالى، ومنها ما يوجب القضاء مع الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، وقد شرعت الكفارة تكميلاً للنقص الذي يطرأ على أداء الفريضة، مع ما فيها من الزجر عن الوقوع في حدود الله ومحارمه.
    (103/1)
    ________________________________________
    مفسدات الصوم
    بسم الله الرحم الرحيم بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة].
    يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم) أي: يبطله، فبعد أن بين لنا أن الله فرض علينا صيام رمضان، وبين لنا المسائل المتعلقة بهذه الفريضة، شرع رحمه الله في بيان ما يوجب فساد الصوم ويبطله، ويوجب الكفارة؛ لأن ما يبطل الصوم يأتي على صور: الصورة الأولى: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء.
    الصورة الثانية: يفسد الصوم ويلزم صاحبه بالقضاء مع الكفارة.
    وبناءً على ذلك جمع بينهما؛ لأن الكفارة مترتبة على وجود الإفساد للصوم كما هو الحال فيمن جامع أهله في نهار رمضان وهو صائم، فإن إيجاب الكفارة عليه مرتب على كونه أفسد صيامه، فقال رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم -أي: سواء كان نافلة أو فريضة- ويوجب الكفارة) أي: يوجب على صاحبه أن يُكَفِّر، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وكَفَر الشيء إذا ستره، وسمي الكافر كافراً لأنه يستر نعمة الله عز وجل عليه، والكَفْر: هو الستر، ومنه قول الشاعر: فِيْ لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا أي: ستر نجومَها غمامُها، وسمي المزارع كافراً لأنه حينما يبذر البذر يستره ويُغيبه في الأرض.
    وقوله: (الكفارة) عقوبة شرعية، اختلف العلماء رحمة الله عليهم فيها: فبعض العلماء يقول: إن الله شرعها عقوبة للمُخل بالطاعة، كما هو الحال في الصيام فيمن جامع أهله في نهار رمضان.
    ومنهم من قال: شرعها الله جبراً للنقص الموجود في العبادة.
    ومنهم من جمع بين الأمرين فقال: الكفارات تعتبر عقوبات وزواجر ومكملات، فهي عقوبة لمن فعل، وزجرٌ لغيره أن يفعل، وتكميل للنقص الموجود بسبب الإخلال في العبادة.
    ولذلك قالوا: إن من جامع أهله في نهار رمضان جعل الله كفارته عتق الرقبة، وهذا من أبلغ ما يكون، وقالوا: لأنه إذا أعتق الرقبة أعتقه الله من النار؛ وكأنه حينما تقحّم المجامعة لأهله متعمداً مخلاً بفريضة الله تقحّم نار الله عز وجل، فجعل الله الرقبة فكاكاً له من النار، ولذلك ثبت في الحديث: (أن من أعتق يُعتق بمن أعتقه حتى العضو بالعضو) يعتق كل عضو بعضوه.
    ومن هنا قالوا: اشترط الله فيمن قتل مؤمناً خطأً أن يعتق رقبة مؤمنة، ولم يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وقالوا: لمكان العتق، كذلك أيضاً قالوا: نزَّل الله عز وجل عند فقد العتق صيام شهرين متتابعين مكانه؛ فكأن هذا اليوم يقوم مقامه ستون يوماً متتابعة، وهذا يدل على حرمة شهر رمضان، وحرمة الإفطار في شهر رمضان.
    قالوا: ومن هنا تكون الكفارة أشبه بالتكميل للنقص، مع ما فيها من معنى الزجر، فإن الناس ينزجرون، ولذلك جعلت هذه الكفارات جوابر، وجعلت عقوبة، وجعلت زواجر للمكلفين أن يقعوا في حدود الله ومحارمه بالإخلال بالفرائض والواجبات أو الانتهاك للحدود والمحرمات.
    يقول رحمه الله: (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يخل بصوم الإنسان ويوجب بطلانه.
    (103/2)
    ________________________________________
    الأكل والشرب عمداً من مفسدات الصيام
    وقوله: [من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع غير إحليله، أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
    (من أكل أو شرب): أي: من أكل وهو صائم أو شرب، بشرط أن يكون ذاكراً لصومه، فلو كان ناسياً أنه صائم فالجمهور على أن صومه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل أو شرب وهو ناسٍ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) فهذا يدل على أن الناسي إذا أكل أو شرب في نهار رمضان أو غيره فصيامه صحيح؛ والسبب في ذلك: أن النسيان يعتبر عذراً له بنص الشرع، وهذه من المسائل التي يُسقِطُ فيها النسيان الضمان.
    قال رحمه الله: (من أكل) سواءً وقع الأكل كثيراً أو قليلاً، ولو أخذ جزءاً يسيراً من الطعام وجاوز به اللهاة -اللهاة: هي اللحمة المتدلية في أعلى الحلق، وهذه اللهاة هي الفاصل بين أول الجوف وبين الفم- فإنه يحكم بفطره.
    وقوله: (أو شرب): الشرب للمائعات والأكل للجامدات، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولو بقطرة ماء فأحس أنها بلغت الحلق فإنه يفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
    وعلى هذا (من أكل أو شرب) هذا فيه إطلاق، وهو شامل لكل ما يصدق عليه أنه أكل أو شرب، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً، يغذي أو لا يغذي، يحصل به الارتفاق بالبدن أو لا يحصل، وفي حكم الأكل والشرب أن يدخله تداوياً، كما لو بخ على حلقه ذرات من الماء كالبخاخ المعروف للربو، فإن هذه القطرات -وإن قيل: إنها هواء لكنها ماء- تعتبر في حكم الماء، ورطوبتها واصلة إلى الحلق مندية له موجبة للفطر، وهذا قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
    وقال بعض المتأخرين: إنها لا تفطر؛ والسبب في ذلك قالوا: إن هذا هواء؛ ولكن بسؤال أهل الخبرة يقولون: فيه من المركبات ما هو غريب عن الهواء، ولذلك: لو كان هواءً لما كان دواءً؛ لأنه لو كان هواءً مجرداً لكان بإمكان الإنسان أن يتداوى بدونه؛ لأن الهواء داخلٌ إليه لا محالة؛ فدل على أنه دواء، ولذلك قالوا: إن مادته لها جرم كالدخان ونحو ذلك، وبناءً عليه قالوا: لو أنه بخ فإنه يعتبر غير مفطر، وبسؤال أهل الخبرة والرجوع إليهم أثبتوا أنها مواد مركبة تتحلل وتمتص، ثم بعد ذلك يحصل بها رفق البدن والتداوي، وعلى ذلك: فكل ما جاوز اللهاة من ماء أو جامد أو دخان له جرم كالعود والشراب المحرم، كل ذلك يوجب الفطر.
    ومن يفرق ويقول: هذا دواء وهذا هواء، فيحتاج إلى دليل؛ والسبب في ذلك: أن الإجماع منعقد على أن من أخذ قطرة من دواء وقطرها في حلقه فأنه يفطر، فدل على أن كونه يغذي أو لا يغذي لا معنى له، وأن العبرة بكونه يمسك، فإذا جاوزت قطرة واحدة حلقه فقد أفطر، دليلنا على ذلك: السُّنة الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فأنت إذا لاحظت هذا الحديث وتأملته فإن الذي يبالغ في الاستنشاق يحصل منه الغلط اليسير ببلوغ الذرة اليسيرة لحلقه، ومع ذلك قال له: (إلا أن تكون صائماً) ومن هنا أخذ جماهير العلماء على أن قليل المفطر وكثيره على حد سواء؛ وكأن الشرع قصد أن هذا حد لحرمته، لا يجاوزها مطعوم ولا مشروب، بل ولا دخان له جرم، فإذا جاوزها فقد خرج عن كونه ممسكاً صائماً على الوجه المعتبر شرعاً، وعلى هذا حكم جماهير العلماء بفطره.
    وبناءً على ذلك: (من أكل أو شرب) الحكم هنا يشمل كل ما يحصل به الأكل أو الشرب ولو كان شيئاً يسيراً كما قلنا في قطرات الماء اليسيرة أو البخات التي لها ذرات؛ فإنها توجب الحكم بفطره.
    وقوله: (أو استعط) السعوط يكون عن طريق الأنف، فلو أنه استعط عن طريق أنفه سواءً بلغ إلى دماغه كما هو الحال في بعض الأمراض التي يتداوى منها، وكما هو موجود في القديم بحيث يضعون -مثلاً- السمن في أنف الإنسان علاجاً لخياشيمه، فهذا الجفاف الذي يعالج بهذه المادة لو أنه استنشقه إلى أن بلغ الدماغ قالوا: يعتبر منفذاً.
    ودليلنا على ذلك: حديث لقيط بن صبرة، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم من الأئمة الأربعة، على أنه إذا استعط من أنفه ونزل إلى حلقه ووجد طعمه في الحلق أنه يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
    وفي هذا الحديث نقطة تحتاج إلى تأمل، وذلك أن العلماء المتقدمين رحمة الله عليهم ينظرون إلى علة الحكم، يعني: السبب الذي يحكم بكون الإنسان مفطراً به وما لا يعد فطراً، يعني: ما هو الشيء الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالفطر في بعض الأحوال ولا يحكم بالفطر في بعضها؟ العلماء في حديث لقيط بن صبرة على ثلاثة خيارات: منهم من يقول: الشرع يوجب فطر الإنسان إذا تناول الشيء عن طريق معين وهو الفم والمنفذ، ولذلك هذا المذهب يقوم على اعتبار الجهة التي يدخل منها المفطر.
    وبعضهم يقول: لا.
    العبرة بما يدخل إلى البدن بغض النظر عن جهة دخوله، سواء دخل من أعلى البدن أو أسفل البدن، ما دام أنه مادة مفطرة كالمغذيات والأدوية فإنه يعتبر مفطراً.
    ومنهم من قال: يعتبر مجموع الأمرين.
    وفقه هذه المسألة: أنك إذا جئت تتأمل حديث لقيط بن صبرة الذي اعتمده جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وتجد كتب الفقهاء رحمة الله عليهم والفتاوى مشحونة بالفتوى بفطر من دخل جوفه شيء من غير طريق الفم والأنف، وقالوا: لأن حديث لقيط بن صبرة حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالتأثير في الصوم بغير المدخل المعتاد، فإن دخول الماء عن طريق الأنف مدخل غير معتاد، فلو قلت: لابد وأن يكون الشيء الذي يأكله الإنسان ويشربه يقوي البدن ويرفقه، فنرد عليك بقولنا: إن القطرات اليسيرة لا تقوي البدن ولا ترفق به، ونرد عليك أيضاً بقولنا: إن الإجماع حاصل على أن مجرد مجاوزة القطرة الواحدة للهاة يفطر، إذاً: كون المادة بذاتها مادة معينة غير وارد.
    بقي مسألة أن تقول: العبرة بالدخول، بغض النظر عن كون الداخل دواءً أو طعاماً قليلاً أو كثيراً؛ والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من دخول القطرة اليسيرة عن طريق الأنف، فدل على أن الجوف ممنوع أن يصل إليه شيء، وعلى هذا تُفرع فتقول: يستوي عندي أن يصل للجوف من أعلى البدن أو من أسفله.
    وقد يعترض معترض فيقول: لو حقنه بحقنة في العضل فإنها لا تصل إلى داخل الجوف، والمراد بها علاج موضعي لالتهاب أو نحو ذلك.
    يرد عليك ويقول: القطرة إذا دخلت من الأنف في الاستنشاق لا تصل إلى الجوف، وإنما تمتص قبل وصولها إلى الجوف، فكأن الشرع قصد من الصوم الإمساك المطلق.
    ومن هنا نجد الفرق بين مسلك المتقدمين والمتأخرين، فنجد المتقدمين يشددون في وصول الشيء إلى البدن؛ لأن حقيقة الصوم: إمساك، وهذا الإمساك استنبطوه من جهة المعنى؛ فقد يخفى هذا المعنى على بعض العلماء ويقول: لا دليل على كون الكحل يفطر أو على كون القطرة تفطر.
    نقول: لو كان كل أمر يحتاج إلى دليل لم تكن هناك حاجة للعلماء؛ وإنما الفقه أن يفقه ويفهم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فاجتهد العلماء في المسألة من نص، ولم يجتهدوا من رأي مجرد.
    إذ تأملوا حديث لقيط بن صبرة فظهر لهم أنه لا عبرة بالفم؛ لأن الأنف ليس بمدخل لطعام ولا شراب، ودائماً الشرع ينبه بالنظير على نظيره.
    ولذلك الفطر بالفم مدخل معتاد، والفطر بالأنف -أي: بالاستنشاق- مدخل غير معتاد؛ فكأنه لما استنشق ونزل إلى حلقه صار الوصول إلى البدن موجباً للفطر، فقالوا: إذا قَطّر القطارة في عينه فوجد طعمها في حلقه أفطر، وإن وضع الكحل في عينه فوجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه قد وصل إلى جوفه، فهذا هو فقه المسألة.
    فليست المسألة كما يظن البعض أن هذا اجتهاد من العلماء دون وجود دليل عليه ولا نص، والحقيقة من لم يظهر له هذا المعنى ولم تظهر له هذه العلة لا يعده دليلاً حسب اجتهاده ورأيه؛ لكن الأئمة والعلماء المتقدمون رحمة الله عليهم الذين قرروا ذلك وبسطوه وبينوه وشرحوه إنما ركبوه من هذا الحديث، وهو حديث لقيط بن صبرة.
    ولذلك تجد من يقول: إن الإبرة لا تفطر إذا كانت في العضل، قيل لهم: فلو كانت مغذية؟ قالوا: تفطر، فتناقضوا؛ لأنهم إذا قالوا: إن الإبرة تدخل من غير المدخل المعتاد في العضل، نقضه قولهم: إن الإبرة المغذية تفطر؛ فإن قالوا: تفطر لكونها مغذية.
    رددنا بأن الوصول إلى البدن لا يلتفت فيه إلى كونه مغذياً أو كونه غير مغذ.
    وهذه المسألة من جهة النظر والإمعان في حديث لقيط بن صبرة تدل دلالة واضحة على رجحان مذهب جماهير السلف رحمة الله عليهم والأئمة المتقدمين الذين كانوا يفرعون هذه المسألة على حديث لقيط بن صبرة، ومن رجع إلى الشروحات والمطولات يجد ذلك جلياً، ولذلك تتعارض أنظار العلماء في تحديد الوصول إلى الجوف، وتجدهم يختلفون -كما سيأتي إن شاء الله- في ضوابط مفسدات الصوم.
    ومن هنا أقول: لا ينبغي الاستعجال في الحكم على كون الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم يقولون بالمسألة بدون دليل، فقد كان السلف رحمة الله عليهم أورع وأخشى وأتقى لله سبحانه من أن يقولوا في دين الله ما لا علم لهم به.
    وينبغي أن يعلم كل طالب أن الأئمة المتقدمين رحمة الله عليهم أصون وأحفظ لدين الله من أن يتجرءوا على تحليل حرام أو تحريم حلال بمحض الرأي أبداً، فهذا لا يمكن أن يكون من أئمة السلف رحمة الله عليهم، ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله، وقد قرر ذلك شيخ الإسلام رحمة الله عليه في رفع الملام وفي مجموع الفتاوى، وتكلم كلاماً نفيساً في هذا، مبيناً أن الأئمة رحمة الله عليهم اجتهدوا، واجتهاداتهم كانت مبنية على النصوص.
    ولذلك فإن الشرع مبني على الفقه والفهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) فهم يفهمون العلل ويقولون: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إ
    (103/3)
    ________________________________________
    الاحتقان من مفسدات الصوم
    قوله: [أو احتقن] كأن تكون حقنة في الدبر، فهذه قالوا: إنها توجب الفطر؛ لأنها تصل إلى الجوف ويتغذى بها الإنسان ويرتفق بها دواءً وعلاجاً، وكما أنه يرتفق بالدواء من أعلاه، فهو يرتفق به من أسفله، ولذلك قالوا: إنه إذا احتقن بالحقنة من أسفل بدنه فإنه يعتبر مفطراً.
    (103/4)
    ________________________________________
    الاكتحال بما يصل إلى الحلق يفسد الصوم
    وقوله: [أو اكتحل بما يصل إلى حلقه].
    اكتحل: وضع الكحل في عينيه أو إحدى عينيه، (ووصل إلى الحلق) هذا هو الشرط؛ لأنه لو اكتحل قبل غروب الشمس بنصف ساعة ولم يجد طعم الكحل إلا بعد غروبها بنصف ساعة أو بساعة أو بلحظة، فإننا لا نحكم بفطره؛ لأنه لم يصل هذا المفطر إلى المكان إلا بعد انتهاء وقت الصوم، فصومه صحيح.
    ولو اكتحل بالليل ووجد الطعم بالنهار لم يفطر؛ وذلك لأن الدخول كان بالليل، ولا عبرة بالوصول ولا تأثير له؛ لأن الإمساك الذي خوطب به المكلف قد تحقق؛ ولأن حقيقة الصوم الإمساك، ولذلك نجد الجمهور يقولون بالفطر في هذه الأحوال لأنها ليست بإمساك، فالإنسان إذا أدخل الكحل فيعتبر مفطراً إذا وجد طعم الكحل في يومه، أما إذا وجده بعد اليوم أو وضعه في الليل ووجده في النهار فإنه لا يفطر.
    (103/5)
    ________________________________________
    دخول أي شيء إلى الجوف من مفسدات الصيام
    وقوله: [أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير إحليله].
    أو أدخل إلى جوفه أي شيء كان، سواء كان مما يغتذي به البدن أو لا يغتذي به البدن.
    (من أي موضع) أي: سواءً من أعلى البدن أو وسطه أو أسفله، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يوجب الفطر، والدليل على ذلك: ما ذكرناه من حديث لقيط بن صبرة؛ فكأن حقيقة الصوم في الشرع هي الإمساك، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً فليس بممسك، سواء كان الشيء يؤكل أو يشرب أو كان من غير ما يؤكل أو يشرب، فكل ذلك يوجب فطر الإنسان ويحكم بفطره.
    (غير إحليله) والإحليل: هو مجرى البول من الذكر، واختلف فيه، ولما قال: (الإحليل) فهو بالنسبة للرجل، وأما بالنسبة للمرأة فالإيلاج في فرجها يوجب الفطر كالدبر، بخلاف قُبُل الرجل، فاختلف العلماء في الإحليل، فقال بعضهم: إنه لا يصل إلى الجوف، وليس بنافذ إلى الجوف لمكان الرشح الذي يكون عن طريق الكلية، قالوا: وهذا لا يوجب فطره، ومن هنا استثنى المصنف رحمه الله الإدخال عن طريق الإحليل بالنسبة للرجل.
    (103/6)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (103/7)
    ________________________________________
    الإفطار بالنية إذا لم يجد شيئاً يفطر به

    السؤال
    من لم يجد ما يفطر عليه فهل يفطر بالنية؟

    الجواب
    على القول بأن النية تعتبر موجبة للفطر؛ فإنه يجزيه أن يفطر بالنية، بل يجب عليه أن ينوي أنه مفطر، وحينئذٍ يعتبر مفطراً، وقد جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) فيصيب السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من السنة والهدي تعجيل الفطر وتأخير السحور، وعلى هذا فإنه ينوي إذا لم يجد طعاماً وشراباً، كما لو خرج من بيته، وأدركه وقت الأذان وهو في سيارته، وليس عنده طعام ولا شراب؛ فإنه ينوي في قلبه أنه مفطر على هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
    (103/8)
    ________________________________________
    حكم وضع الطعام في الفم ثم لفظه

    السؤال
    من وضع الطعام في فمه وتذكر أنه صائم فلفظ الطعام، ثم وجد طعمه في فمه، فما حكمه؟

    الجواب
    من وضع الطعام في فمه، ثم تذكر أنه صائم ولفظه؛ فإن صومه صحيح، ويجب عليه أن يتمضمض وأن ينظف فمه حتى لا يمازج اللعاب تلك المادة الغريبة عن الفم، ومن هنا: إذا استاك بالمعجون ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يتنظف حتى تذهب مادة المعجون، فإذا مازجت مادة المعجون اللعاب واختلطت به فإن هذا يوجب فطره؛ لأنها مادة غريبة كما لو وضع تلك المادة الغريبة قصداً.
    وعلى هذا: لابد له من المضمضة ومن التنظيف، فإن امتنع من المضمضة والتنظيف وبلع ريقه الذي فيه طعم ذلك الطعام، وفيه مادة ذلك الطعام وجرمه، أو حتى تحلل في ريقه، فإن هذا يوجب فطره، والله تعالى أعلم.
    (103/9)
    ________________________________________
    حكم من بالغ في الاستنشاق جاهلاً بالحكم

    السؤال
    ما حكم من كان يبالغ في الاستنشاق وهو جاهل بالحكم، وكان يجد الماء في حلقه؟

    الجواب
    من كان يبالغ في الاستنشاق ويجد طعم الماء في حلقه فإنه مفطر، ويلزمه قضاء تلك الأيام، والعذر بالجهل عذر في زمان التشريع، وأما بعد استقرار الشريعة فإنه ليس بعذر لإمكان سؤال العلماء، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على أن من بلغ ووجبت عليه عبادة فينبغي قبل أن يفعلها أن يسأل عن كيفية فعلها، فكونه يقصر في سؤال العلماء لا يعد جهله عذراً شرعياً، وعليه القضاء بالتقدير، والله تعالى أعلم.
    (103/10)
    ________________________________________
    حكم استعمال حبوب منع العادة في رمضان

    السؤال
    إذا تناولت المرأة ما يؤخر عادتها لكي تتمكن من صيام رمضان كاملاً، فما حكم ذلك؟

    الجواب
    ترد هنا مسألتان: المسألة الأولى: هل يجوز للمرأة أن تتناول الحبوب التي تؤخر العادة؟ الصحيح: أنه لا يجوز لها ذلك؛ لما فيه من إدخال الضرر على النفس، ولما فيه أيضاً من فوات المقصود شرعاً من حصول النسل، ولما فيه من إرباك العادة واختلالها على وجه قد تصبح المرأة فيه مضطربة العادة، حتى لا تستطيع أن تميز بين كونها حائضاً أو كونها مستحاضة، وتعاطي الأسباب للإخلال لا يجوز، وبناءً على ذلك: أرجح الأقوال في هذا أنه لا يجوز تعاطي مثل هذه الحبوب، وقد ثبت طبياً مؤخراً أنها تضر بالبدن، وأصبح وجود الضرر فيها موجباً لمنعها.
    المسألة الثانية: لو أنها استعملت هذه الحبوب، ومنعت الدم شهر رمضان كاملاً، فهل صومها صحيح؟ أصح الأقوال: أن صومها صحيح؛ وذلك لأن الشرع علق الإبطال بوجود الدم، والدم غير موجود، ولذلك أصح الأقوال أن صومها صحيح، وحجها وطوافها بالبيت على هذا الوجه صحيح، وهو أصح أقوال العلماء المتأخرين الذين تكلموا على هذه المسألة، وبناءً عليه: فإن الدليل على صحة صومها وحجها وصلاتها أن الشرع علق المنع والتحريم على وجود الدم، والدم غير موجود، وبناءً على ذلك يعتبر صومها وصلاتها وسائر عبادتها صحيحاً من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
    (103/11)
    ________________________________________
    حكم مباشرة الزوجة في نهار رمضان

    السؤال
    من باشر أهله في نهار رمضان من غير إنزال، فهل يعتبر مفطراً وعليه الكفارة؟

    الجواب
    من باشر أهله فإنه يعتبر متعدياً لحد الله عز وجل؛ وذلك لأن الغالب في المباشرة أنه لا يأمن معها الوقوع في المحظور، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) ولذلك قال العلماء: ينقص أجره في الصوم بقدر مباشرته، وعلى هذا فإنه لا يجوز له أن يتعاطى هذه الأسباب، وقد قال عليه الصلاة والسلام (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) فالله عز وجل حرم على المكلف أن يجامع أهله، والحمى الذي حول الجماع للصائم أن يباشر أهله فيتجرد هو وزوجته على وجه يحرك الشهوة، وهو صائم في فريضة من فرائض الله عز وجل فلا يأمن معها الإخلال، ولا يأمن معها أن يقع في حد الله عز وجل وحرمته.
    ولذلك: لا يجوز له أن يتعاطى مثل هذه الأسباب، فإن حفظ نفسه ولم ينزل فإن صومه صحيح، ولكنه ناقص الأجر، وقال بعض العلماء: شرعت صدقة الفطر جبراً لمثل هذا النقص، وأما لو أنزل وحصل منه الإنزال دون إيلاج فللعلماء فيه قولان: قال الحنفية والمالكية: عليه القضاء والكفارة؛ لأن الكفارة مرتبة على كونه انتهك حرمة شهر رمضان.
    وقال الشافعية والحنابلة: عليه القضاء دون الكفارة -وهو الصحيح- وإنما يجب عليه أن يقضي ذلك اليوم؛ لأنه بإنزاله لم يمسك على الوجه المعتبر في صومه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وشهوته) ومن أنزل بالاستمناء أو مباشرة الأهل أو النظر إلى الصورة التي تثير شهوته، أو النظر إلى زوجته، أو كثرة تعاطي الأسباب الموجبة للإنزال فأنزل فإن صومه يعتبر فاسداً، وعليه القضاء، والله تعالى أعلم.
    (103/12)
    ________________________________________
    معنى صيام يوم في سبيل الله

    السؤال
    في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله) إلى آخر الحديث هل هذا الحكم خاص بالمرابط، أم هو على العموم؟

    الجواب
    للعلماء في هذا الحديث قولان: قال بعض العلماء: هذا الحديث خاص بالمجاهد في سبيل الله، سواء كان مرابطاً أو كان في حال القتال، وقالوا: السبب في ذلك: أن سبيل الله إذا أطلق المراد به الجهاد، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، فينصرف إلى الغالب المشهور، وقال بعض العلماء: إن قوله: (في سبيل الله) أي: ليس بواجب، وإنما صامه قربة ونافلة لله عز وجل، وقالوا: لأن المجاهد الأفضل له أن يتقوى بالفطر، ولذلك لا يكون صائماً في حال قتاله؛ حتى لا يضعف عن لقاء العدو، ويرجحون من هذا الوجه أن قوله: (في سبيل الله) المراد به النافلة، وكلا الوجهين له قوة وحظ من النظر، وكنت أرجح القول الذي يقول بالتخصيص، ولكن تبين أن الإطلاق أقوى، وإن كنت لا زلت متردداً في ترجيحه، والتوقف في هذه المسألة في نظري هو الذي ملت إليه.
    فالحديث محتمل لكونه في سبيل الله في الجهاد، ومحتمل أن يكون (في سبيل الله) أي: طاعة وقربة لله عز وجل، وكان الذي يترجح عندي من قبل أنه الجهاد؛ وذلك لأنه المعهود في إطلاق الشرع؛ ولأنه لو كان المراد به النافلة المطلقة لقال: من صام نافلة ولم يخص بقوله: (في سبيل الله).
    فهذان الوجهان يقويان أن يكون في الجهاد، ولما ظهر قول من يقول: إن المجاهد يتقوى بفطره على الجهاد، وكان ذلك أبلغ في حصول المقصود من جهاده تعارض القولان عندي، وتوقفت في هذه المسألة حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
    والله تعالى أعلم.
    (103/13)
    ________________________________________
    حكم من أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان التالي

    السؤال
    إنسان لم يصم سنتين قديماً، وهو الآن شارع في القضاء، فهل القضاء كاف أم عليه القضاء والإطعام معاً، أم عليه الإطعام مع التوبة فقط؟

    الجواب
    من أفطر في رمضان فإنه يلزمه القضاء، سواء وقع فطره متعمداً أو لعذر؛ فإذا أفطر رمضان كاملاً لزمه قضاء رمضان كاملاً، ويعتبر القضاء مؤخراً في حقه، فيجوز له أن يؤخر القضاء ما لم يبق على رمضان الثاني بقدر ما عليه من القضاء؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن قضاء رمضان موسع، فإذا ماطل الإنسان وأخر وقصر حتى دخل رمضان الثاني، فجماهير العلماء على أنه يلزمه القضاء مع الكفارة، فيكفر عن كل يوم ربع صاع، وعن كل شهر سبعة آصع ونصف، وعلى هذا: فإنه يحسب الرمضانات التي أخل فيها، ويلزمه القضاء مع التكفير على قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
    والله تعالى أعلم.
    (103/14)
    ________________________________________
    مسألة في حكم حياة الشخص بالتنفس الصناعي

    السؤال
    من مات دماغياً واحتيج إلى الجهاز الذي يستخدمه لوصله بشخص آخر، فهل يؤخذ منه ولا يكون في ذلك إزهاق لنفس مسلمة؟

    الجواب
    هذه المسألة تعتبر من النوازل المعاصرة، وموت الدماغ مسألة تحتاج إلى نظر وعدم استعجال في الفتوى، وذلك لأن مسألة موت الدماغ نفسها لم يتفق فيها الأطباء على ضوابط معينة، فهناك تقريباً ثلاث مدارس في تحديد المفهوم لموت الدماغ، ومع هذا حصلت حوادث يحكم فيها على إنسان بأنه ميت دماغياً، ثم بعد ذلك يفيق، وقد حصل هذا ووقع، وقد اطلعت على بعض الحوادث التي نقلت بأنه حكم بموته دماغياً، وأعرف حتى من أهل العلم والفضل من حكم عليه بالموت دماغياً، وأرادوا أن يأخذوا منه أعضاء للتبرع، ثم تأخر الورثة وحصل بينهم شقاق خلال أسبوع، فشاء الله أن يفيق بعد أسبوع.
    فهذه مسألة ليست من السهولة بمكان، إضافة إلى أن التشخيص والضوابط التي اطلعت عليها من كلام الأطباء في مسألة الموت الدماغي أو الموت السريري، هذه الضوابط لا تتيسر إلا في أرقى المستشفيات، فكوننا نفتي وتكون الفتوى عامة فهذا أمر يحتاج إلى تريث؛ فإنه لابد من الاحتياط لأرواح الناس وعدم الاستعجال في مثل هذه المسائل.
    لكن لو أن شخصين أحدهما ميئوس منه؛ لأن الأمراض تتفاوت ودرجاتها مختلفة، فهناك أمراض ميئوس من علاجها كالسرطانات ونحوها، أو يكون الإنسان في سن يغلب على الظن هلاكه وأصابه مرض قل أن يشفى منه أو الغالب أنه لا يشفى منه، وهناك حالة طارئة طرأت لإنسان مرضه غير ميئوس منه، والغالب أننا لو وضعنا عليه الجهاز فإنه يشفى ويعافى، فحينئذ هل للطبيب أن يسحب الجهاز من هذه الحالة الميئوس منها إلى هذه الحالة التي يمكن علاجها؟ فالجواب: نعم، كما لو دخل مريضان على طبيب وقد أشرفا على الموت، وأحدهما أرجى نجاة من الآخر؛ فإنه ينصرف إلى الذي هو أرجى ويغلب على ظنه أنه يحيا، والسبب في هذا: أن اشتغاله بهذه الحالة الميئوس منها مفض إلى مصلحة مظنونة وضعيفة الحصول، مع فوات مصلحة متيقنة أو غالبة وهي مصلحة الشاب أو الشخص الذي مرضه غير ميئوس منه، لكن إقباله على هذه الحالة التي لا ييئس منها مصلحة غالبة ومصلحة راجحة، تعارضها مصلحة متوهمة، فكان الترجيح؛ لأن الشرع يقدم في المفاسد درء أقواهما وفي المصالح أرجحهما، فإذا تعارضت مصلحتان تقدم أرجحهما، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أكبرهما، والدليل على ذلك أن الخضر كسر السفينة لخوف أن تؤخذ السفينة بكاملها، فقالوا: هذا يدل على أنه إذا تعارضت مفسدة فوات السفينة بكاملها، وكونه يكسر جزءاً منها ويعيبها، يدل على أن الضرر الأخف يَدْفَع ما هو أعظم منه، ويراعى ما هو أغلب ضرراً وأعظم.
    فمثل هذه الحالات التي يغلب على الظن الشفاء والعلاج فيها، مثل: حوادث السيارات، فيدخل المريض وهو في حالة من الخطر ويتوقف علاجه على الأجهزة؛ فإننا نقدمه على تلك الحالة الميئوس منها، ويجوز للطبيب في هذه الحالة خاصة، وهي التي توصلت إليها من خلال البحث -أي: هي الحالة التي يجوز فيها سحب أجهزة الإنعاش عن المريض- أن توجد حالات غير ميئوس منها أو الغالب على الظن علاجها، فإنها تقدم على الحالة الميئوس منها والتي كانت تعالج من قبل، والله تعالى أعلم.
    (103/15)
    ________________________________________
    مسألة الإنصات عند سماع القرآن

    السؤال
    قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] هل الحكم خاص بالصلاة، أم هو عام حتى خارج الصلاة؟

    الجواب
    هذا فيه تفصيل: إذا كان المكان مهيأ لتلاوة كتاب الله عز وجل، كأن يكون في حلق علم وحلق دراسة للقرآن فلا يجوز لأحد أن يجلس في الحلقة وهو يحدث صاحبه؛ حتى لا يشوش على إخوانه، بل ينتحي مع زميله ناحية بعيداً عن هذه الحلق.
    أما لو كان المكان غير مهيأ، كأن يكون الإنسان ماشياً في الطريق، أو سمعه عرضاً في دكان أو بقالة أو نحو ذلك فلا يلزمه أن يستمع، ولكن لو استمع فهو أفضل، والمرد بذلك أن يكف عن الكلام ويصغي، حتى ولو كان يمشي، وهكذا المرأة لو كانت في عملها وشأنها وتصغي لكتاب الله وتستمع له، وتتأثر بالآيات التي فيه فهذا خير، وهي عبادة السمع والقلب.
    فإذا كان الإنسان يريد الأفضل فليستمع، وأما بالنسبة لوجوب الإنصات فهذا في الصلاة من جهة تعين الإنصات، أما في الطريق أو أثناء المرور على حلقة علم لا يلزمه أن يجلس ويستمع، وإنما يلزمه الاستماع والإنصات في الصلاة، وأما خارج الصلاة فالعلماء يفصلون بين المكان المهيأ وغير المهيأ.
    ومن هنا ينبه على مسألة جلوس البعض في حلق العلم يتحدث بعضهم مع بعض وخاصة النساء، وقد اشتكت بعض الأخوات في بعض المساجد من أن بعض النساء يأتين في أثناء حلق العلم أو المحاضرات ويتكلمن ويتحدثن داخل مصلى النساء، ويشوشن على أخواتهن.
    وهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرر، ومن أعظم الضرر أن يأتي طالب العلم أو تأتي طالبة العلم وقد تركت مصالحها وتفرغت لكلام ربها وكلام رسولها عليه الصلاة والسلام؛ تريد أن تستفيد وأن تتعلم، ثم تأتي هذه المرأة لكي تشوش على أخواتها، فهذا من أعظم الضرر، وإني أخشى على أمثال هؤلاء أن تصيبهم دعوة المؤمنين والمؤمنات، والإنسان إذا ظلم أخاه ودعا عليه فإنه لا يعود عليه بخير، فعلى الإنسان أن يبتعد عن أذية إخوانه المسلمين؛ فإذا كان يريد التحدث فليخرج من المسجد أو ينتحي ناحية بعيدة عن الحلق؛ حتى لا يشوش على إخوانه المصلين وكذلك على إخوانه الذاكرين لله عز وجل، سواءً كان ذلك في حلق علم أو في محاضرات أو في قراءة قرآن.
    أو نحو ذلك.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    (103/16)
    ________________________________________
    شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2]
    مما يفسد الصوم ويوجب القضاء: القيء عمداً، والاستمناء، والمباشرة مع الإنزال، والإنزال بسبب تكرار النظر، وهناك خلاف بين العلماء في الحجامة هل تفطر أو لا؟ وهناك أمور لا تفسد الصوم ولا توجب القضاء، ومنها: من طار الى حلقه ذباب ونحوه، ومن فكر فأنزل المني أو احتلم في نهار رمضان ونحوها، وهناك مسائل متعلقة بالشكل في طلوع الفجر وغروب الشمس مبينة في موضعها.
    (104/1)
    ________________________________________
    من مفسدات الصيام
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
    (104/2)
    ________________________________________
    القيء عمداً مفسد للصوم
    لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استقاء فقاء فليقض) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان: الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم.
    أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.
    (104/3)
    ________________________________________
    الاستمناء من مفسدات الصيام
    [أو استمنى].
    الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر: إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل.
    وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم.
    والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني.
    والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة.
    وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر.
    وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر.
    ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً.
    وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني.
    والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.
    (104/4)
    ________________________________________
    المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم
    [أو باشر فأمنى أو أمذى].
    أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً.
    والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء.
    لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية.
    وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.
    (104/5)
    ________________________________________
    الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم
    [أو كرر النظر فأنزل].
    أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟ التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.
    (104/6)
    ________________________________________
    الحجامة من مفسدات الصيام
    [أو حجم أو احتجم وظهر دم].
    أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي).
    فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر.
    وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟ ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث.
    إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً.
    ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم.
    وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم.
    وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) يُخرج على غير الفطر الحقيقي.
    واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا.
    والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) هذا الوجه الأول.
    والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ.
    أي: ويحك كدت أن تصبح.
    كما في حديث ابن أم مكتوم (وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ).
    وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول له: احترقتَ احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق.
    قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه.
    وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: (ثم رُخص في الحجامة) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة.
    إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
    وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس: (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً.
    لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟ قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة.
    وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق.
    وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً.
    [وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].
    يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً.
    ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه.
    وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول.
    [عامداً ذاكراً لصومه فسد].
    (عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر.
    (ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر.
    [عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً].
    (لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: (من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر.
    وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات.
    (104/7)
    ________________________________________
    الأشياء التي لا تفسد الصيام
    [أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو أصبح في فيه طعام فلفظه، أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].
    (104/8)
    ________________________________________
    من طار إلى حلقه ذباب أو غبار لم يفسد صومه
    [أو طار إلى حلقه ذباب].
    كأن يكون الإنسان يتكلم فلا يشعر إلا والذباب قد دخل في حلقه، فقد غلبه، فهذا لا يؤثر.
    [أو غبار].
    فالغبار إذا قصده فإن له جرم ومادة ويوجب هذا الفطر، وقد قررنا هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قطرات الاستنشاق يحظر على الإنسان أن يتعاطى أسبابها في الأنف -في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) -؛ والسبب في ذلك: أن لها جرماً، ويستوي في ذلك القليل والكثير، ولذلك لو أخذ قليلاً من الطين وطعمه وجاوز اللهاة فإنه يفطر بلا إشكال، فكذلك لو قصد الغبار فلعقه، أو فتح فمه له قاصداً دخوله فإنه يعتبر مفطراً، فإذا طار الغبار أو الذباب فدخل حلقه فلا يفطر؛ لأنه مما يشق التحرز منه.
    (104/9)
    ________________________________________
    من تفكر فأنزل المني لم يفسد صومه
    [أو فكر فأنزل].
    قوله: (أو فكر فأنزل) لا يفطر فإنه مما يشق التحرز والتوقي عنه، والأصل في الشريعة أنه لا حرج فيه، فإننا لو قلنا: إن الإنسان إذا فكر فأنزل يجب عليه القضاء فإن هذا مما يشق التحرز عنه كحديث العهد بالعرس ونحو ذلك، كما يكون حديث العهد بالجماع قبل الفجر، فمثل هذا إذا دهم عليه التفكير فإنه يعتبر مما يشق التحرز عنه كمسألة الغبار.
    والمصنف يقصد من هذا أن الفقهاء عندما يأتون بهذه الصور مرادهم أن تأخذ القاعدة والأصل، وهو: أن الفطر يكون بالاختيار، ولذلك انظر في قوله: (لا ناسياً أو مكرهاً) ثم بعد ذلك قال: (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) تأمل قوله: (مكرهاً) ثم أتبع بعدها طيران الغبار والذباب، فتفهم من هذا دقة المصنف وأن مراده أن يجعلك في دائرة معينة، وهي: أن تفرق في الفطر بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه.
    فإذا سألك السائل عن شيء غلبه وشق التحرز عنه فإنه يعتبر في حكم المعذور، وأما إذا كان شيئاً يمكن توقيه وتحفظه منه فإنه يعتبر مفطراً.
    (104/10)
    ________________________________________
    الاحتلام في نهار رمضان لا يفسد الصوم
    [أو احتلم].
    والاحتلام: أن يرى الإنسان وهو نائم ما يحرك شهوته فينزل، فإذا احتلم على هذا الوجه فإنه لا يفسد صومه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: النائم حتى يستيقظ) وقد أجمع العلماء على أن من نام واحتلم أنه لا يجب عليه الفطر، وبناءً على ذلك: إذا تقرر هذا كأن الإجماع يدلنا على أن الشريعة تفرق بين ما يغلب الإنسان وبين ما لا يغلبه، فهذا الشيء الذي هو الاحتلام أو طيران الغبار كأن تمشي في صحراء أو نحوها ولا يمكنك التوقي منه، فهذا كله مما يعفى عنه.
    (104/11)
    ________________________________________
    من أصبح وفي فمه طعام فلفظه لم يفسد صومه
    [أو أصبح في فيه طعام فلفظه].
    وهذا يحصل بعد السحور، فيؤذن أذان الفجر ولا يزال بقايا الطعام في فم الصائم، وخاصة فيما يكون بين الأسنان، فإذا لفظه فإنه لا يؤثر في صومه، لكنه لو بلعه وازدرده فإنه يعتبر مفطراً.
    (104/12)
    ________________________________________
    الاغتسال في نهار رمضان لا يفسد الصوم
    [أو اغتسل].
    أو اغتسل بالماء، فإن الاغتسال بالماء لا يوجب الفطر، ولذلك اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابن عباس رضي الله عنه يجلسان في البرك بين مكة والمدينة يتنافسان أيهما أطول نفساً وهما ينغمسان في الماء؛ والسبب في ذلك: أنه ليس بشرب ولا بأكل حقيقة، ولا في حكم الأكل والشرب.
    وعلى هذا: فإن الانغماس في الماء والسباحة لا يوجب الفطر، وهكذا لو اغتسل فرش الماء وصبه عليه، فإن هذا كله مما لا يوجب الفطر؛ والسبب في هذا: أنه يصب الماء على ظاهر الجسد، وقد دلت الشريعة على أن صب الماء على ظاهر الجسد لا يوجب الفطر، ولذلك من تمضمض وهو صائم بالإجماع لا يفطر؛ لأن الفم من ظاهره، فكذلك إذا صب الماء على ظاهره.
    (104/13)
    ________________________________________
    المضمضة والاستنثار والمبالغة فيها لا تفسد الصوم
    [أو تمضمض أو استنثر، أو زاد على الثلاث، أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد].
    لو أنه تمضمض أو استنشق فله حالتان: الحالة الأولى: أن يتمضمض ويستنشق بدون تكلف، فهذا لا يفطر عند العلماء رحمة الله عليهم في قول الجماهير.
    الحالة الثانية: إذا كان تمضمضه واستنشاقه بطريقة فيها تكلف ومبالغة فللعلماء وجهان: منهم من يقول: إذا بالغ أفطر وهذا يفهم من السُّنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) قالوا: ففي هذه الحالة يعتبر مفطراً، وهذا القول هو أحوط القولين، وهو خلاف ما اختاره المصنف رحمة الله عليه.
    وعليه: فإنه إذا بالغ في المضمضة فغرغر بالماء، فأحس بالماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، وهكذا لو بالغ في الاستنشاق فوجد طعم ذرات الماء في حلقه فإنه يعتبر مفطراً على أصح قولي العلماء؛ لأنه تعاطى السبب للإخلال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السبب، فدل على أنه إذا ارتكب المحظور وخالف النهي أنه يعتبر مفطراً.
    [أو زاد على الثلاث] قالوا: لأن الزيادة على الثلاث تعتبر غير مشروعة، فكأنه إذا زاد عن الثلاث زاد وبالغ، فكما أنه لا يشرع له المبالغة في حال الصيام في الاستنشاق والمضمضة، كذلك أيضاً إذا بالغ فزاد على الثلاث فإنها محظورة شرعاً، كالمبالغة في الاستنشاق المأذون به شرعاً، فيفطر هنا كما يفطر هناك سواءً بسواء لتعاطي السبب.
    (104/14)
    ________________________________________
    من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه
    [ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه].
    استيقظ رجل من الليل فشك هل طلع الفجر فيمسك أو لا زال الليل فيأكل؟ فبالإجماع على أنه يعتبر نفسه بالليل ويأكل ويشرب، وحينئذٍ لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن لا يتبين له شيء، فإذا لم يتبين له شيء مثل أن يقوم في جوف الليل ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع، فيشرب أو يأكل ثم يرجع فينام، ويستيقظ بعد صلاة الفجر فلا يدري حينما قام فأكل أو شرب هل وقع أكله وشربه بعد تبين الفجر فيعتبر مفطراً أو وقع قبل الفجر فهو صائم؟ بالإجماع يعتبر نفسه أنه في الليل، ويحل له الأكل والشرب، وإذا لم يتبين له شيء فصومه صحيح.
    والدليل على ذلك: أن الأصل بقاء الليل حتى يتحقق من أن النهار قد طلع، والله أمرنا أن نبقى على اليقين، والشك لا عبرة به، وأصول الشريعة دالة عليه، ونصوص الكتاب والسُّنة تقتضي ذلك: أن العبرة باليقين، وأن الشك لا يلتفت إليه.
    ومن قواعد الشريعة: (اليقين لا يزال بالشك) وتفرع عليها قولهم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
    فالأصل بقاء الليل، ونحكم بكونه يحل له الأكل والشرب والجماع حتى يتحقق أنه قد أصبح، فينتقل من يقين الحل إلى يقين التحريم.
    الحالة الثانية: أن يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر لا يخلو من صور: الصورة الأولى: أن يأكل ويشرب ثم يتبين له أن الفجر لم يطلع، مثال ذلك: استيقظت فأكلت أو شربت على أن الليل باقٍ، ثم نظرت في الساعة أو سمعت الأذان الأول فقد تبين لك أن الفجر لم يطلع، فحينئذٍ بالإجماع لا يؤثر؛ لأنه أكل وشرب في وقت مأذون به شرعاً.
    الصورة الثانية: أن يتبين له أن النهار قد طلع، فاختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: صومه صحيح.
    وقال الجمهور: عليه القضاء؛ لأنه تعاطى سبباً فيه تقصير؛ فألزم بعاقبة التقصير، وتوضيح ذلك أنه لو تحرى لتبين له أن الفجر قد طلع، فلما قصر فإنه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويلزمه القضاء؛ لأن الله تعالى أوجب عليه أن يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس حقيقة؛ فيُلزم بالقضاء، وهذا هو أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قصر ويلزم بعاقبة تقصيره ويلزمه القضاء.
    (104/15)
    ________________________________________
    من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه
    [لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس].
    لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت.
    بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة.
    وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال: (أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده.
    فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده.
    ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح.
    الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد).
    قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر: الخطب يسير.
    أي: قضاء يوم مكانه.
    وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
    وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: (أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم.
    قال: فدين الله أحق أن يقضى) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق.
    وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى).
    فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء.
    قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه.
    ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه.
    [أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً].
    مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه.
    (104/16)
    ________________________________________
    الأسئلة
    (104/17)
    ________________________________________
    حكم الإفطار لظن الغروب خطأ

    السؤال
    إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟

    الجواب
    إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد وأبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن).
    قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق.
    فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة.
    وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود.
    وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا.
    وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر.
    وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة.
    فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب.
    أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب.
    والله تعالى أعلم.
    (104/18)
    ________________________________________
    الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء

    السؤال
    بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟

    الجواب
    هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به.
    وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه.
    ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء.
    والله تعالى أعلم.
    (104/19)
    ________________________________________
    الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر

    السؤال
    هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟

    الجواب
    الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر.
    لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة.
    والله تعالى أعلم.
    (104/20)
    ________________________________________
    الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان

    السؤال
    ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟

    الجواب
    هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى.
    فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب.
    والله تعالى أعلم.
    (104/21)
    ________________________________________
    حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان

    السؤال
    من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟

    الجواب
    التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها.
    وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات.
    وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر.
    والله تعالى أعلم.
    (104/22)
    ________________________________________
    حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان

    السؤال
    ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟

    الجواب
    من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك.
    الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان.
    وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة.
    وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده.
    فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: (لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب.
    هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة.
    وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب.
    وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة.
    وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل.
    والله تعالى أعلم.
    (104/23)
    ________________________________________