عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية gogo
gogo
:: منتسب جديد ::
تاريخ التسجيل: Oct 2019
رقم العضوية : 184
المشاركات: 170
:
:
:  - :
قديم 10-19-2019, 02:12 PM
# : 1
gogo
  • معدل تقييم المستوى : 10
  • الإعجاب:
    افتراضي شرح زاد المستقنع - جزء سابع
    http://www.shamela.ws
    تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



    الكتاب: شرح زاد المستقنع
    المؤلف: حمد بن عبد الله بن عبد العزيز الحمد
    [الكتاب مرقم آليا]
    هذا هو النوع الثاني مما يثبت به البيع، فالصيغة الأولى: الصيغة القولية، والصيغة الثانية: الصيغة الفعلية، وهي المعاطاة، سواء كانت من الطرفين أو من أحدهما، مثال كونها من الطرفين أن يضع المشتري الثمن ويأخذ السلعة، بحيث تكون السلعة معروفة الثمن، فهنا وقعت المعاطاة من الطرفين، ومثال المعاطاة من المشتري أن يقول البائع للمشتري خذ هذا الثوب بدرهم، فيضع الدرهم عند البائع ويأخذ الثوب، فهذه معاطاة من طرف واحد وهو المشتري، ومثال المعاطاة من البائع أن يقول المشتري أعطني هذا الثوب بدرهم، فيعطيه إيه من غير أن يقول قبلت، أو رضيت، فهذه معاطاة من البائع، فسواء كانت المعاطاة من الطرفين أو من أحدهما فهي جائزة، قالوا: لحصول المقصود بها من الدلالة على الرضا، وقد قال تعالى {إلى أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، والمقصود حاصل بالصيغة الفعلية كما هو حاصل بالصيغة الفعلية، قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يصح عنهم أنهم كانوا في تبايعهم يأتون بالصيغة القولية، قالوا: ولو ثبت لنقل نقلا شائعا فدل على أنهم كانوا يتعاملون بالمعاطاة، ثم لو ثبت شيء من الأدلة يدل على وجود القبول والإيجاب في شيء من عقودهم فإن غالب عقودهم إنما هي على صورة المعاطاة المتقدمة، قالوا: وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولو كانت الصيغة القولية شرطا في البيع لنقل لنا ذلك نقلا ظاهرا شائعا مشهورا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبينه للأمة بيانا واضحا إذ يتعلق بأمر مهم في حياتهم ألا وهو البيع، وعند الشافعية لا يصح البيع بالمعاطاة مطلقا، وعند الحنفية يصح في المحقرات فقط، والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية أن البيع بالمعاطاة جائز، فالخلاصة أن هناك صيغتان يثبت بهما البيع:
    (13/6)
    ________________________________________
    الصيغة الأولى: الصيغة القولية: وهي صيغة الإيجاب والقبول، ويشترط أن يكون الإيجاب متقدما على القبول، إلا أن يكون القبول فعل أمر أو فعلا ماضيا مجردا عن الاستفهام ونحو ذلك، ويشترط ألا يكون هناك فاصل عرفا بينهما، ويشترط أن يقع القبول في نفس المجلس الذي وقع فيه الإيجاب، ويشترط أن يكون القبول موافقا للإيجاب.
    الصيغة الثانية: صيغة المعاطاة، وهي الصيغة الفعلية، ويثبت بها البيع لدلالتها على الرضا.

    قوله [ويشترط التراضي منهما]
    سيذكر المؤلف شروط البيع وهي سبعة شروط لا يصح البيع إلا بها.
    الشرط الأول: التراضي منهما.
    قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} ، وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما البيع عن تراض) (1) [جه 2185] ، فلا يصح البيع إلا بالتراضي بين الطرفين، ولذا قال المؤلف:

    قوله [فلا يصح من مكره بلا حق]
    بيع المكره لا يصح لعدم الرضا، فإذا انتفى الرضا فلا بيع صحيح، وهو مذهب الجمهور، وهناك قول آخر بأنه يحتمل الصحة وثبوت الخيار عند زوال الإكراه، وهو مذهب الأحناف بناء على أنه تصرف فضولي، ففي المسألة قولان، وقيد المؤلف ذلك بقوله (إلا بحق) فإن أكره بحق فإن البيع صحيح، كأن يكره السلطان أحدا على بيع شيء من ماله لوفاء دينه، فهذا الإكراه غير مؤثر في العقد، فالعقد صحيح.
    __________
    (1) - وهو في سنن أبي داود (3458) بلفظ: (لا يفترقن اثنان إلا عن تراض) ، وفي سنن الترمذي (1248) بلفظ: (لا يتفرقن عن بيع إلا عن تراض)
    (13/7)
    ________________________________________
    وكره الحنابلة الشراء من المكره، وهذه المسألة تسمى بيع المضطر، مثال ذلك: رجل أكرهه السلطان على ضريبة من المال، فباع شيئا من ماله لبعض ليسدد الضريبة، فالشراء من هذا المكره مكروه، وقال شيخ الإسلام يجوز بلا كراهة، قال: لأن امتناع الناس من شراء ما يبيعه أشد ضررا عليه، لأنه متوعد بما يضره في نفسه أو أهله أو ولده إلا إن دفع ذلك المال الذي أكره عليه، فإذا امتنع الناس من الشراء منه كان في ذلك ضررا عليه، ولا دليل على الكراهة، بل الظاهر هو خلاف ذلك، وهو عدم الكراهية، فالصحيح جواز ذلك، إلا أن يكون في امتناعهم من الشراء زوال للإكراه عنه فيمتنعوا ليزول الإكراه.
    * واعلم أن من المسائل التي تترتب على هذا الشرط بيع التقية أو بيع التلجئة، وهي أن يبدي المتعاقدان بيعا وهما غير مريدين له في الحقيقة، لكن من أجل التقية يريدان البيع، كأن يخشى ظالما فيظهر البيع على أحد من الناس وهما في الباطن غير مريدين للبيع، فهنا البيع باطل ولا يصح على ما بيناه، لعدم الرضا منهما، وقال الشافعية يصح البيع، والصحيح هو مذهب الحنابلة لما سبق من الأدلة، وهناك مسألة أخرى شبيهة بها وهي فيما إذا أظهرا ثمنا في العقد وهما يبطنان بينهما ثمنا آخر في السر، فإن العمدة على ما أبطناه لأن الرضا مرتبط به، فهما لم يتراضيا إلا على هذا الثمن الذي اتفقا عليه في الباطن، ومثل ذلك في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة وهو المشهور في المذهب خلافا لقول أبي الخطاب بيع الهازل غير الجاد، فلا يقع بيع الهازل، بل هو باطل، وذلك لانتفاء الرضا، فإن الهازل غير راض بالبيع لكن بشرط أن يكون هناك دليل أو قرينة تدل على الهزل في البيع، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) [ت 1184، د 2194، جه 2039] فدل على أن الجد جد والهزل هزل في سواهن.
    (13/8)
    ________________________________________
    قوله [وأن يكون العاقد جائز التصرف]
    هذا هو الشرط الثاني وهو أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف.
    والعاقد: يشمل البائع والمشتري، فيشترط أن يكون البائع والمشتري جائزا التصرف، وجائز التصرف هو: الحر المكلف الرشيد، وعليه فالعبد لا يصح تصرفه وذلك لأن ما في يده من مال لسيده فلا يصح أن يتصرف إلا بإذن سيده، وأن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا، كما يشترط أن يكون رشيدا، أي يحسن التصرف في ماله، ودليل ذلك قول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليه أموالهم} فقوله {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في بعض التصرفات المالية ليثبت لكم حسن تصرفهم في المال، وقوله {حتى إذا بلغوا النكاح} دليل على البلوغ، أي اشتراط البلوغ، وقوله {فإن آنستم منهم رشدا} أي ظهر منهم الرشد في التصرف، وهذا يدل على اشتراط العقل والرشد في التصرف، فإن غير العاقل لا شك أنه ليس برشيد، فهذه الآية دليل على اشتراط التكليف والرشد، فجائز التصرف هو الحر المكلف الرشيد، ولذا قال المؤلف:

    قوله [فلا يصح تصرف صبي وسفيه]
    الصبي لأنه غير بالغ، والسفيه لأنه ليس برشيد، وليس المراد بالسفيه غير العاقل.

    قوله [بغير إذا ولي]
    فلا بد من إذن الولي، وعلى هذا فيصح تصرف الصبي بإذن وليه، ويصح تصرف السفيه بإذن وليه، ويصح تصرف العبد بإذن سيده، أما العبد فظاهر، فإن صاحب المال هو السيد، وقد أذن له بالتصرف في ماله، وأما الصبي والسفيه فلقوله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، فهم لم يثبت بعد رشدهم، ومع ذلك قد أمر الله بابتلائهم واختبارهم وهذا لا يكون إلا بالإذن لهم بشيء من التصرف ليثبت رشدهم، فدل هذا على جواز تصرفهم بالإذن، وعن الإمام أحمد أنه يصح تصرفهم ويكون موقوفا على إجازة الولي، وهذا القول فيه قوة.
    (13/9)
    ________________________________________
    ولكن ليس للولي أن يأذن لهم بما يكون فيه ضرر عليهم لأنه مؤتمن، بمعنى أن يأذن لهم في أمور يغلب على الظن نجاحهم فيها، وعدم خسارتهم فيها، وعدم لحوق الضرر بهم.
    ويستثنى من ذلك أيضا الشيء اليسير عرفا كشراء بعض الأطعمة أو شيء من ذلك، فيجوز تصرف الصبي المميز وغير المميز والسفيه بغير إذن الولي، وذلك لأنه لا ضرر فيه عليهم، فلا بأس أن يتصرف الصبي أو السفيه بما هو يسير عرفا من غير إذا الولي، وهذا يختلف باختلاف البلدان والأزمان.

    قوله [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة]
    هذا هو الشرط الثالث: وهو أن تكون العين مباحة النفع لغير حاجة.
    فهنا ثلاثة أوصاف:
    1- النفع، وهذا احتراز مما لا نفع فيه كالحشرات ونحوها.
    2- أن تكون مباحة، وهذا احتراز من بيع المحرم كالخمر والخنزير والأصنام والصور والميتة ونحوها.
    3- ألا تكون إباحتها لحاجة، فإن كانت لحاجة أو لضرورة أي أن الأصل أنها محرمة لكن أبيحت لحاجة أو ضرورة، فلا يجوز بيعها،كالكلب، فإنه يجوز اقتناؤه لحاجة، وكالميتة فإنه يجوز أكلها لضرورة، ومع هذا فلا يجوز بيعها، فإن اختل شيء من هذه الأوصاف الثلاثة لم يصح البيع.

    قوله [كالبغل والحمار ودود القز وبزره]
    دود القز الذي يستخرج منه الحرير، وبزره أي ولده، وذلك للمآل، فإنه ينتفع به في استخراج الحرير في المآل أي بعد تربيته، وهذا كله للتمثيل.

    قوله [والفيل]
    لأنه ينتفع به منفعة مباحة لغير حاجة.

    قوله [وسباع البهائم التي تصلح للصيد]
    كالفهد، فهو يصلح للصيد، فيجوز بيعه.
    * وهل يجوز بيع الهر؟
    1- قال جمهور أهل العلم يجوز ذلك.
    (13/10)
    ________________________________________
    2- وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه وهو مذهب طائفة من التابعين واختاره شيخ الإسلام وابن القيم أن ذلك لا يجوز، ودليله ما ثبت في مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور - أي الهر - فقال: (زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك) [م 1569] أي نهى عنه، وظاهر النهي التحريم، وحمله الجمهور على الكراهة التنزيهية لا الكراهة التحريمية، وأنه ليس من اللائق بيعه، ولكن هذا ليس بصحيح، إذا الأصل هو حمل النهي على ظاهره، وقد قرن بالكلب، والكلب محرم كما سيأتي، وهذا هو الراجح.

    قوله [إلا الكلب]
    فلا يجوز بيعه، وإن كان كلب صيد، وذلك لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود الأنصاري قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) [خ 2237، م 1567] وتقدم حديث جابر في مسلم، والنهي يقتضي التحريم، ولا فرق بين ما يجوز اقتناؤه ومالا يجوز اقتناؤه، وأما ما رواه النسائي في حديث جابر المتقدم وفيه (إلا كلب صيد) [ن 4295، 4668، وهو في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة (1281) وقال الترمذي عقب روايته للحديث:" قال أبو عيسى هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه وقد روي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولا يصح إسناده أيضا "، ويقصد بحديث جابر، حديثه الذي في سنن النسائي] فإن هذه اللفظ منكرة كما بين ذلك الإمام النسائي نفسه، وعليه فلا يجوز بيع الكلب مطلقا، وهو مذهب جمهور الفقهاء، فالكلب فيه منفعة مباحة لكن لحاجة، فيخرج من الضابط المتقدم.

    قوله [والحشرات]
    لأنه لا منفعة فيها، فلا يحل بيعها، وفي ذلك أكل للمال بالباطل.

    قوله [والمصحف]
    وشك أن إدخال المؤلف للمصحف بحرف العطف على هذه الصورة غير لائق، والذي ينبغي أن يفرده بجملة فيقول: ولا يصح بيع المصحف.
    (13/11)
    ________________________________________
    وهذا هو المشهور في المذهب أنه لا يجوز بيع المصحف، وهو أحد الروايات الثلاث عن الإمام أحمد، فعن الإمام أحمد ثلاث روايات:
    الأولى: وهي موافقة للمشهور من المذهب، وأنه لا يجوز بيع المصحف.
    الثانية: أن ذلك جائز مع الكراهة، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي.
    الثالثة: أن ذلك جائز بلا كراهة، وهو المشهور عند الأحناف.
    واستدل القائلون بالنهي عن ذلك بما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر أنه قال:" وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف " [المصنف 8 / 112، برقم 14525، وسنن البيهقي 6 / 16] وقال ابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق:" اشترها ولا تبعها " [المصنف 8 / 112، برقم 14521] ، قالوا: ولما في بيعها من ابتذالها، ولا يجوز ابتذال المصحف.
    وأما القائلون بالجواز فقالوا: قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) [خ 5737] ، قالوا: فيدخل في عموم ذلك بيع المصحف، فإنه يأخذ أجرا على كتابته، فقد كتب المصحف وجلده، واشتغل بإصلاحه، قالوا: ولا ابتذال في بيعه، فإن بيعه لا يعني ابتذاله، نعم إن كان على الصور المبتذلة فلا يجوز ذلك، وأما مطلق البيع فإنه ليس فيه ابتذال، قالوا: ولعل كراهية الصحابيين - ابن عمر وابن عباس - إنما هو لخشية ابتذالهما، وقال بعض العلماء: لعل هذا النهي منهما لقلة المصاحف وقتئذ، فيكون بيعها بأسعار غالية مرهقة للناس، فأمر بإعطائها من غير بيع لها يرهق الناس، من أجل حصولهم على المصاحف، بخلاف الأزمنة المتأخرة التي كثرت فيها طباعة المصاحف، وأصبحت تباع بأسعار مناسبة، فحينئذ المعنى الذي من أجله كره ابن عمر وابن عباس بيع المصاحف غير موجود، وهذا هو الأصل، فإن الأصل في البيوع الحل، وأرجح الأقوال هو جواز بع المصحف، وهو رواية عن الإمام أحمد كما سبق، وهو مذهب الأحناف، لكن على وجه لا يبتذل.
    (13/12)
    ________________________________________
    قوله [والميتة]
    الميتة لا يجوز بيعها، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال - صلى الله عليه وسلم - لا هو حرام) [خ 2236، م 1581] ، وقوله (لا هو حرام) أي البيع، فبيع الميتة حرام، ولا يجوز ولو كان المشتري مضطرا لها، لكن إذا كان مضطرا لها ولم يعطاها إلا ببيع فله أن يشتريها فدعا للضرورة، فإنه إذا جاز أن يأكلها دفعا للضرورة فأولى من ذلك أن يشتريها دفعا للضرورة.
    كذلك في المصاحف على القول بتحريم بيعها، فيجوز للمحتاج إلى المصحف أن يشتريه من بائعه، لأنه محتاج إليه، فجاز الشراء إذا لم يعطاه إلا ببيع.

    قوله [والسرجين النجس]
    السرجين: هو ما نسميه بالسماد، وهو ما يوضع لإصلاح النبات، فالسرجين النجس يحرم بيعه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: (أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام) فدل على أن النجس لا يجوز بيعه، ومن ذلك السرجين، أما الانتفاع به فجائز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم أقرهم على الانتفاع به، ونهاهم عن البيع.
    وتقييد المؤلف له بـ (النجس) يدل على أن السرجين الطاهر يجوز بيعه كروث الإبل والبقر والغنم وغيرها من مأكول اللحم، فإن روثه طاهر، وعليه فيجوز بيع السرجين الطاهر لأن فيه منفعة.

    قوله [والأدهان النجسة والمتنجسة]
    (13/13)
    ________________________________________
    فالأدهان النجسة لا يجوز بيعها لما تقدم: لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شحوم الميتة فقال: (لا هو حرام) ، وقوله (المتنجسة) فالأدهان النجسة والمتنجسة لا يجوز بيعها، والفرق بينهما أن الأدهان النجسة هي النجسة بأصلها، أما المتنجسة فهي التي طرأت عليها النجاسة، كدهن طاهر وقعت فيه نجاسة، فالأدهان المتنجسة يحرم بيعها على المذهب، وهذا بناء على أن الدهن المتنجس لا يمكن تطهيره، وتقدم أن المائعات تطهر ويمكن تطهيرها، وعليه فيجوز بيعه، أي المتنجس، لإمكان تطهيره، وقد سبق هذا في كتاب الطهارة، وعلى هذا فالراجح أن الأدهان المتنجسة لا حرج في بيعها.

    قوله [ويجوز الاستصباح بها]
    أي بالمتنجسة لا النجسة، والاستصباح بها أي جعلها مادة لاشتعال النار في المصابيح، فيجوز على هذا استعمال الأدهان المتنجسة دون النجسة في الاستصباح، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب الحنبلي، وقول في المذهب الشافعي جواز ذلك، وأنه لا حرج فيه، فيجوز الاستصباح بالأدهان النجسة، ودليل ذلك ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في شحوم الميتة (لا هو حرام) أي البيع، وأقرهم على الانتفاع بها كما تقدم، فدل هذا على جواز الانتفاع بالدهن النجس أو المتنجس، أما الأكل فإنه محرم، وأما الانتفاع بها في غير ما نهى الشارع عنه فهو جائز.

    قوله [في غير مسجد]
    (13/14)
    ________________________________________
    فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في غير المسجد، وذلك لأن الدخان يتحلل من هذا الدهن المتنجس فيكون في المسجد، والمسجد يجب أن يصان من النجاسات، فليست العلة أنه نجس موضوع داخل الإناء، فإن هذا لا يؤثر، فهذا يشبه النجاسة الباطنة في بدن الآدمي، لكن عندما يوقد فإن الدخان يتحلل منه فيكون في جو المسجد شيئا نجسا، والواجب أن يطهر المسجد من كل النجاسات، والراجح هو أن هذه المسألة مبينة على مسألة سابقة وهي أن ما يتحلل من النجاسة ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالمتحلل من النجاسة ليس بنجس، وعليه فإن الدهان المتحلل من هذا النجس أو المتنجس ليس بنجس، بل هو مادة أخرى، فهو دخان وليس دهنا، وعليه فيجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة في المساجد، ومثل ذلك على الراجح الأدهان النجسة.

    قوله [وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه]
    هذا هو الشرط الرابع: وهو أن يكون التصرف من مالك أو من يقوم مقامه.
    أي أن يكون التصرف من مالك للسلعة والثمن أو من يقوم مقامهما، والذي يقوم مقامهما إما ولي أو وصي أو وكيل أو ناظر.
    فالوكيل: هو النائب عن الحي.
    والوصي: هو النائب عن الميت.
    والناظر: للوقف خاصة.
    والولي: هو القائم على من لا يجوز تصرفه بماله كاليتيم.
    ودليل ذلك ما ثبت في المسند وهو عند الخمسة بإسناد صحيح من حديث حكيم بن حزام أن قال: (سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق قال: لا تبع ما ليس عندك) [حم 14887، 14888، ت 1232، ن 4613، د 3503، جه 2187] ، فدل على أن البيع لا يصح إلا من مالك أو من يقوم مقامه.

    قوله [فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله بغير إذنه لم يصح]
    (13/15)
    ________________________________________
    وهذا ما يسمى بتصرف الفضولي، فإذا باع ملك غيره بغير إذنه، كأن يبيع عمرو مالا لزيد بغير إذن زيد، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه، كأن يكون عنده دنانير أو دراهم لزيد فاشترى سلعة من السلع لزيد، فإن هذا التصرف يسمى تصرف الفضولي، ولا يصح، وعليه فالبيع باطل، وهذا هو مذهب الشافعي والحنابلة، واستدلوا بحديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ، وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى صحة البيع بشرط الإجازة، فإذا أجازه بأن قبل البيع أو الشراء فإن البيع يكون لزيد، وإن لم يقبل ذلك فإن البيع يبطل، وهذا القول هو الراجح، ودليله ما رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح) [حم 18867، خ 3643، جه 2402، د 3384، ت 1258] وهذا هو تصرف الفضولي، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجازه على ذلك وأقره، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن بيع الفضولي وإن كان البيع من غير المالك فإنه بيع صحيح لكنه موقوف على الإجازة، ويلزم بشرط الإجازة من صاحب المال، فإن لم يجزه فإن البيع يبطل، ويجاب عن استدلال أهل القول الأول بحديث حكيم بأن حديث عروة يصح أن يكون مخصصا للمسألة السابقة، وأن من باع ما لا يملك فإنه يتوقف اللزوم على إذن المالك، والمعنى يدل على هذا، فإن المنع إنما هو لحق المالك، وحيث أجازه فقد أسقط حقه ورضي به.

    قوله [وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا]
    (13/16)
    ________________________________________
    بمعنى أنه عقد صفقة ذكر فيها الثمن، وهو ينوي أن تكون السلعة لغيره، ولم يسمه في العقد، ولم يكن بعين مال ذلك الغير، مثاله: رجل اشترى بيتا، ونوى أن يكون لزيد، وقال: اشتريته بعشرة دنانير، وكانت هذه العشرة في الذمة، وليست بعين مال زيد، ولم يسم زيدا في العقد، فإنه يصح له بالإجازة، وإلا لزم المشتري بعدمها ملكا، فيصبح هذا المبيع له إن أجاز، وإلا لزم الفضولي فيكون ملكا له.
    وقول المؤلف هنا: (ولم يسمه) ظاهره أنه لو سماه فقال اشتريت هذه الدار لزيد بعشرة دنانير، فإن المسألة تكون كالمسألة السابقة فلا تصح مطلقا، وهذا هو المشهور من المذهب، وظاهر كلام صاحب المقنع أنه إذا سماه في العقد فكذلك وهو الظاهر، فيرجع فيه إلى إجازة من اشترى له في الذمة سماه أو لم يسمه، فإن أجازه كان ملكا له، وإلا فإنه يلزم المشتري.
    * مسألة:
    إن وكل رجلين في بيع سلعة، فباع كل واحد منها بثمن مسمى فالبيع للأول، لأن الوكيل الثاني زالت وكالته بانتقال ملك الأول عن السلعة، وصار بائعا ملك غيره بغير إذنه.

    قوله [ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق بل تؤجر]
    هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وغيرهم، فهو مذهب جمهور العلماء، أن ما فتح من الأرض عنوة فأوقفه الإمام على المسلمين فإن بيع الأراضي لا يجوز، وإنما يجوز بيع المساكن وكذلك إجارتها، وهذه كأرض مصر والشام والعراق مما أوقفه أمير المؤمنين عمر على المسلمين، ولم يقسمه بين الناس فكان وقفا، وقد أجمع العلماء على أن بيع المساكن وإجارة البيوت فيما فتح عنوة أنه جائز ولا بأس به، قالوا: وهؤلاء الصحابة لما سكنوا هذه البلاد كانوا يبيعون المساكن من غير نكير فكان ذلك إجماعا، وما زال المسلمون يتبايعون مساكن أراضي العنوة فلا نكير فكان ذلك إجماعا، قالوا: وإنما الأرض لا يجوز بيعها لأنها وقف، والوقف لا يباع ولا يوهب.
    (13/17)
    ________________________________________
    وقال الأحناف: بل يجوز بيع الأراضي أيضا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام، وذلك لأن الوقف فيها ليس كالوقف الذي لا يجوز بيعه، بل هو وقف عام، يقصد منه إعطاء من كانت بيده الخراج عليها، فالمقصود أن من كانت بيده ينتفع بها فإنه يعطي بيت المال خراجها، ولذا جاز فيها التوارث، مع أن الوقف لا توارث فيه، وهذا القول هو الراجح، قال شيخ الإسلام:" وعليه عمل الأمة " ا. هـ، فالصحيح أن أراضي العنوة كأراضي مصر والشام والعراق يجوز بيعها، كما يجوز بيع المساكن وإجارتها.
    * مسألة:
    الصحيح من أقوال أهل العلم أن مكة قد فتحت عنوة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) [خ 104، م 1354] لكن اختلف العلماء في رباع مكة، هل يجوز بيعها وإجارتها أم لا يجوز؟ والمراد بالرباع: المنازل.
    القول الأول: وهو مذهب الجمهور من الأحناف والمالكية والحنابلة أن ذلك لا يجوز، فالبيع والإجارة غير جائزين، بل صاحب المنزل أحق به ما دام محتاجا إليه، فإذا استغنى عنه فليس له أن يبيعه ولا أن يؤجره، واستدلوا بما رواه الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مكة كلها حرام، وحرام بيع رباعها وحرام أجرته) [كم 2 / 35] ونحوه عند سعيد بن منصور في سننه عن مكحول مرسلا، قالوا: ومكة حريم البيت الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد تحجيره، وعليه فإن احتاج ما في يده سكنه، وإلا بذله للمحتاج إليه.
    (13/18)
    ________________________________________
    القول الثاني: وهو قول الشافعية، أنه يجوز بيعها وإجارتها، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قال: (يا رسول الله أين تنزل غدا إن شاء الله - وذلك زمن الفتح - قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل) [خ 4283، م 1351] وفي رواية: (من رباع أو دور) [خ 1588، م 1351] ، فدل هذا على أن عقيلا تصرف فيها ببيع، وكذلك قال: (هل ترك لنا) فدل على أنها لو تركت لكانت له ولقرابته، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) [م 1780] وذلك ما دخل مكة، فأضاف الدار إليه، والأصل أنها إضافة ملك، قالوا: وأما ما استدللتم به فالحديث الذي رواه الحاكم فيه عبيد الله بن زياد وهو ضعيف، وأما الثاني فهو مرسل، والمرسل ضعيف، فلا يعارض بهما ما استدللنا به.
    (13/19)
    ________________________________________
    القول الثالث: وهو الوسط، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز بيع الرباع ولا تجوز إجارتها، فالبيع جائز لأنها ملك له بدلالة الحديثين الذين استدل بهما الشافعية، وأما الإجارة فمحرمة، قالوا: لما في ذلك من التضييق على الحجاج والزائرين، فمكة دار منسك، والذي يأتيها ممن يحتاج إلى استئجار فيها إنما هو في الغالب الحجاج والزائرين، قالوا: وقد قال عمر - رضي الله عنه - كما صح ذلك عند في مصنف عبد الرزاق وقد ثبت ذلك عنه من غير ما وجه أنه قال:" يا أهل مكة لا تضعوا على بيوتكم أبوابا حتى يدخل البادي " [مصنف عبد الرزاق 5 / 147، برقم 9211] والبادي: هو من أتى من خارج الحرم، وهذا الأثر يدل على أنهم ليس لهم أن يمنعوا البادي من سكنى لا يحتاجون لها، وهذا القول هو الراجح، فلا يحل لأحد أن يؤجر فيها لقول عمر، وقول الصحابي يخصص عموم الأدلة ولما في ذلك - أي في إجازة الإجارة - من التضييق على الحجاج والزائرين، وأما البيع فجائز لأنها ملك لأصحابها، والأصل في البيوع الجواز، ولما استدل به الشافعية من الأحاديث وقد تقدمت، لكن إن رأى الإمام أن المصلحة تقتضي الإذن بالإجارة فلا بأس، كأن يرى أن أهل مكة لا يصلحونها للسكنى إلا بالإجارة فلا بأس أن يأذن لهم فيها.

    قوله [ولا يصح بيع نقع البئر]
    إذا حفر رجل بئرا، فسقى منه بهائمه وزرعه، وفضل من ذلك فضل زائد عن حاجته فليس له أن يبيعه، وبيعه محرم، والمال الذي يكسبه منه محرم، لأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، وقد ثبت في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) [حم 2956، د 3488، بلفظ: (وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) ، وفي الصحيحين: (قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) ]
    (13/20)
    ________________________________________
    ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع فضل الماء) [م 1565] ، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ) [خ 2354] ، وظاهر الحديثين العموم سواء كانت البئر والعين في أرض مملوكة له أو في أرض غير مملوكة له، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار) [د 3477 بلفظ: (المسلمون شركاء في ثلاث في الكلأ والماء والنار) ] وثبت في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث لا يمنعن الماء والكلأ والنار) [جه 2473] ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة) [حم 6635] فلا يجوز لأحد أن يمنع غيره فضل مائه، لكن إن حازه فوضعه في ظرف أو جعله في ساقية أو بركة ونحوه فله بيع هذا الماء، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) [خ 1471، م 1042] فدل هذا على أن الحطب - وهو من الكلأ وهو مما لا يجوز بيع فضله - إذا جز ثم وضع في حبل فكان حزما فإنه يجوز بيعه، وكذلك الماء، وليس له أن يمنع أحدا من أن يدخل أرضه ليأخذ من الماء الفاضل عن حاجته، وذلك لأنه حق لهذا الداخل فليس له منعه، إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليه كأن يكون في محل محوط، ويكون فيه شيء من أمواله، ويخشى عليها من الضياع أو السرقة، فحينئذ له أن يمنع الناس ليحتاط لماله وعوراته، فلا يلزمه نفع غيره بضرر نفسه.
    * مسألة:
    هل يملك نقع البئر بملك الأرض؟
    قولان هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه لا يملك لإطلاق الأدلة.
    (13/21)
    ________________________________________
    قوله [ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك]
    كذلك ما نبت في أرضه من عشب أو شجر أو كلأ أو شوك، فإنه لا يحل له أن يمنع غيره منه للحديث المتقدم (الناس شركاء في ثلاث) وهو أحق به لكونه في أرضه، وليس له أن يبيع فاضله، وليس له أن يمنع أحدا من الناس من فضله، لكن إن كان ذلك الكلأ لا يكفيه فله منع الناس منه، واستثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما إذا قصد استنباته لأن له عملا فيه، كأن يحرث أرضه للكمأة.

    قوله [ويملكه آخذه]
    إذا أخذ الماء أو الكلأ فإنه يملكه بأخذه، وحينئذ يجوز له أن يتصرف فيه كما شاء.

    قوله [وأن يكون مقدورا على تسليمه]
    هذا هو الشرط الخامس من شروط البيع: وهو أن يكون المبيع مقدورا على تسليمه.
    ويدل لهذا الشرط حديث حكيم بن حزام: (لا تبع ما ليس عندك) ولما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الغرر) [م 1513] ، وكون البائع يبيع شيئا وإن كان ملكا له لكن لا يقدر على تسليمه فإن هذا غرر، وقد نهى عنه الشارع، وقد باع ما ليس عنده، فليس هذا المبيع مقدورا على تسليمه وقد مثل لهذا المؤلف فقال:

    قوله [فلا يصح بيع آبق]
    الآبق: هو العبد الهارب من سيده، فلا يجوز أن يبيعه لأنه غير مقدور على تسليمه.

    قوله [وشارد]
    هو الجمل الشارد، فلا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه.

    قوله [وطير في الهواء]
    لأنه غير مقدور على تسليمه.

    قوله [وسمك في ماء]
    (13/22)
    ________________________________________
    والعلة في ذلك قد تقدمت، ظاهر كلام المؤلف وإن كان المشتري قادرا على تحصيله، فإنه لا يجوز، كأن يبيع العبد الآبق على من يقدر على تحصيله، ويكون ذلك مع الفسخ إن عجز عن الحصول عليه، فظاهر كلام المؤلف النهي عن هذا، وهو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة وهو قول لبعض الحنابلة وهو صاحب الإنصاف أن بيع غير المقدور على تسليمه للقادر على تحصيله جائز، وإن عجز عنه فله الفسخ، لأنه لا غرر في هذا، وهذا القول هو الراجح، فإنه لا غرر في ذلك، حيث باعه شيئا يمكنه أن يحصله، وعلى هذا فغير المقدور على تسليمه قسمان:
    1- غير مقدور على تحصيله، فهذا لا يجوز بيعه قولا واحدا.
    2- مقدور على تحصيله، فهذا يجوز في أصح القولين.
    وقياسا على بيع المغصوب على من يقدر على أخذه من غاصبه، فسيأتي كلام المؤلف في جوازه، فكذلك هنا، فإن المقدور على تحصيله وهو غير موجود يشبه المغصوب، فكلاهما غير مقدور على تسليمه، ومقدور على تحصيله.
    وتقييد المؤلف في قوله (وطير في هواء وسمك في ماء) هذا حيث كان لا يقدر على تسليمه، أما إذا كان يقدر على تسليمه ولو بمشقة فإن ذلك جائز، كأن يكون الطير في برج مغلق يمكن أن يسمك به فيه لكن مع المشقة، أو يكون السمك في موضع محصور، فهذا يقد على تسليمه، فيجوز بيعه، حتى مع وجود المشقة، وعلى هذا إذا كان يقدر على تسليمه بمشقة فإن ذلك جائز.

    قوله [ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه]
    (13/23)
    ________________________________________
    المغصوب لا يجوز بيعه، لاختلال هذا الشرط، وهو القدرة على التسليم، فإن غير المقدور على تسليمه فيه غرر، واستثنى المؤلف أن يبيعه على غاصبه، فإن باعه على غاصبه فإنه يجوز، لكن بالشروط المتقدمة، ومنها شرط الرضا، أما إذا كان مكرها ملجئا إلى ذلك فلا يجوز، واستثنى بيع المغصوب على القادر على أخذه، كالأمير ونحو ذلك، فذلك جائز لأن المشتري لا غرر عليه، ويثبت له الفسخ، لأننا إذا أثبتنا البيع عليه بدون فسخ كان في هذا غررا، فقد يحصله وقد لا يحصله، فيكون حينئذ معرضا للخسارة، فيكون في ذلك غرر ظاهر.

    قوله [وأن يكون معلوما برؤية أو صفة]
    هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوما.
    لأن بيع المجهول فيه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، كما نهى عن بيع حبل الحبلة كما في الصحيحين [خ 2143، م 1514] وهو نتاج النتاج للجهالة كما سيأتي، فعليه يشترط أن يكون المبيع معلوما بأي طريق من طرق العلم، وذكر المؤلف هنا الرؤية والصفة.
    أما الرؤية فيرى إما رؤية كاملة أو يرى بعضه الدال عليه، كأن يرى ظاهر الصرة - كومة الطعام - الذي يستدل به على الطعام نفسه، أو يرى وعاء التمر فينظر في أعلاه فيستدل بأعلاه على أسفله، ويستدل بظاهر الصرة على باطنها، فهذا جائز.
    ويشترط أن تكون الرؤية مقارنة للبيع أو سابقة له بزمن لا تتغير فيه السلعة تغيرا ظاهرا غالبا، كالدور والعقارات والمركوبات، وإن كان تغيرا يسيرا يعفى عن مثله فهذا لا بأس به، ولا يؤثر، وذكر المؤلف الرؤية ومثلها الشم والذوق ونحوها من طرق المعرفة، فالطيب يعلم بالشم، وبعض المطعومات تعرف بالتذوق، كالعسل والسمن ونحو ذلك، وعليه فالشرط أن يعرف السلعة، أي يعرفها معرفة لا يلحقه بها غرر.
    (13/24)
    ________________________________________
    أما الصفة فهي أن يوصف له المبيع وصفا منضبطا بما يؤثر في اختلاف الثمن، أي بالوصف المؤثر في الثمن، ودليل جواز بيع الموصوف في الذمة جواز بيع السلم، وسيأتي الكلام عليه، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، ولأنه يحصل به العلم ولا غرر فيه.

    قوله [فإن اشترى ما لم يره]
    فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له لم يصح، لاختلال هذا الشرط، فإن المبيع غير معلوم، إذا لم يره، ولم يوصف له.
    * مسألة:
    إن اشترى ما لم يره ولم يوصف له، لكن ذكر له جنسه، كأن يبيع عليه سيارة بعشرة آلاف، ولم يرها ولم توصف له، فعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام في موضع وضعفه في موضع آخر كما في الاختيارات أنه يصح، وعليه فله الخيار إن رآه، فإن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، والحاجة داعية إلى مثل هذه المعاملة، والضرر مدفوع بالخيار، ويكون النماء من العقد.

    قوله [أو رآه وجهله]
    أي رأى المبيع لكنه قد جهل ما هو، كأن يرى وعاء من طعام، فيباع الطعام في هذا الوعاء، فلا يدري نوعية الطعام الذي في الوعاء، ولا قدره، فإن ذلك لا يجوز للجهالة أيضا، وقوله (ولم يره) يغني عن هذه الجملة فإن فيها تكرارا، فالمقصود بالرؤية رؤية المبيع.

    قوله [أو وصف له بما لا يكفي سلما لم يصح]
    هذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي أنه يصح بما لا يكفي سلما، وهذه المسألة متعلقة بمسألة يأتي فيها البحث في باب السلم، وأن من شروط السلم صفته، وسيأتي الكلام عليه في بابه، والضابط المقصود في هذا الباب أنه متى وصف بوصف منضبط يعلم به المبيع فإن البيع صحيح.

    قوله [ولا يباع حمل في بطن]
    (13/25)
    ________________________________________
    للجهالة، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع حبل الحبلة) أي نتاج النتاج، بمعنى أن نبيع نتاج نتاج بهيمة الأنعام، وفي مسند البزار والحديث حسن لشواهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المضامين والملاقيح) [مجمع الزوائد 4 / 104، الطبراني في الكبير 11 / 230، برقم 11581] ، والمضامين ما في بطون الأنعام، أي الحمل، والملاقيح ما في ظهور ذكورها، وقد: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل) [خ 2284] أي عن نزوه، فإن بيع نزوه لا يجوز، فذلك كله بيع محرم.
    إذن لا يجوز بيع الحمل في البطن، ومثله الأمة فلا يجوز بيع حملها وهو في بطنها وذلك للجهالة والغرر.

    قوله [ولبن في ضرع منفردين]
    بيع اللبن في الضرع لا يجوز لما فيه من الغرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها، ولا اللبن في الضروع " [مصنف بن أبي شيبة 5 / 222، كتاب البيوع - بيع اللبن في الضروع] ورواه البيهقي مرفوعا ولا يصح [سنن البيهقي 5 / 340] والصواب وقفه على ابن عباس.
    (13/26)
    ________________________________________
    وقوله (منفردين) أي لا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الشرع منفردين، أما لو باع الأم وحملها، والبهيمة ولبنها، فذلك جائز لأنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، فبيع اللبن في الضرع منفردا لا يجوز، واستثنى شيخ الإسلام خلافا لجمهور العلماء بيع اللبن الموصوف في الذمة وإن شرط المشتري أن يكون من بقرة أو غنمة معينة، فإذا اشترى من صاحب غنم لبنا موصوفا في الذمة من غنمة أو بقرة معينة فذلك جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، وهو كما قال، فإنه لا غرر فيه، فإذا أعطاه اللبن الموصوف في الذمة أعطاه ثمنه، وإلا فسخ البيع، واستثنى أيضا ما يوجد في هذا الزمان من استئجار البقر أو الغنم أو الإبل وقت الدر، فتستأجر للبنها، فهذا جائز، قال: لأنه لا غرر فيه، فإن قيل: قد لا تدر عليه شيئا؟ فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية أن الغالب أنها تدر، وكونها لا تدر هذا شيء نادر، فلا يترتب على مثله غرر، كاستئجار الأرض لغرسها وزرعها، فإنها قد لا تنبت، ومع ذلك فإنه يجوز استئجارها لأن الغالب هو أن يخرج زرعها وشجرها، وقياسا على الظئر وهي المرضعة، وذكر شيخ الإسلام هذا قولا لبعض أهل العلم، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر لما تقدم إذ لا غرر فيه، فعليه لا يجوز بيع اللبن في الضرع إلا في الصورتين التين استثناهما شيخ الإسلام.
    والذي نهي عنه إنما هو بيع الموجود في الضرع لأنه لا يعرف مقدار ما وقع عليه البيع فإنه يخلفه غيره على وجه لا يتميز به ما وقع عليه البيع عما لم يقع عليه، فيكون في ذلك غرر.

    قوله [ولا مسك في فأرته]
    (13/27)
    ________________________________________
    الفأرة: هي الوعاء، أي ولا مسك في وعائه، والمسك معروف وهو نوع من الطيب بل هو أفضل الطيب، فالمسك لا يجوز أن يباه في وعائه الذي خلق فيه، لما في ذلك من الغرر، فإن قدر المسك وكميته مجهولة، فيكون في ذلك غرر، واختار ابن القيم ووجهه صاحب الفروع وجها واحتمالا في المذهب أن ذلك جائز، قال ابن القيم: لأن أهل الخبرة يعرفون باطنه بظاهره، فإنهم يستدلون بمعرفة الظاهر على الباطن، ولأن اشتراط الرؤية بإزالة وعائه عنه يعرضه إلى شيء من الفساد، بذهاب شيء من رائحته ورطوبته، وما ذكره ابن القيم ظاهر في هذا وهو الراجح (وفصل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة فقال: إن بيع على أهل الخبرة فجائز، وإن بيع على غيرهم فلا يجوز، فإن الغرر يزول ببيعه على أهل الخبرة دون غيرهم) ، والراجح ما تقدم وعلى ذلك فبيع الذهب في الأرض أو النفط في الأرض أو نحو ذلك على قول ابن القيم يجوز، لأن أهل الخبرة يستدلون على معرفة ما في الباطن بما عندهم من الآلات والأجهزة، وعلى المذهب فإن ذلك محرم، والصواب أنه جائز.

    قوله [ولا نوى في تمره]
    فالنوى فيه منفعة مباحة لغير حاجة، فإنه قد يطعم، وقد يستخدم لبعض الاستخدامات، لكن في مثل هذا الزمن ثبت أنه لا قيمة له، فإن بيعه محرم، لأنه في الحقيقة لا قيمة له، إلا أن يكون مطعوما للدواب ونحوها فذلك جائز، والمقصود أن بيعه في التمر منهي عنه، لما في ذلك من الغرر، إذ لا يدري قدر النواة، وهل هي صغيرة أم كبيرة، والراجح جوازه لأن أهل الخبرة يعرفون ذلك، فهم يعرفون قدر النواة المعتاد من كل نوع من أنواع التمر، فلا يكون في ذلك غرر، والمشهور في المذهب أن بيعه لا يجوز وهو في تمره، أما إذا استخرج فإن ذلك جائز لمنفعته.

    قوله [وصوف على ظهر]
    (13/28)
    ________________________________________
    فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، لما في ذلك من الغرر، وذلك لأنه يزداد نموا فيكون في ذلك غرر، وقد تقدم الأثر عن ابن عباس في هذا، وقوله:" لا تبتاعوا صوف الغنم على ظهورها "، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول لبعض الشافعية أن ذلك جائز بشرط أن يجز في الحال، وهذا هو الراجح لأنه إذا جز في الحال فلا غرر.

    قوله [وفجل ونحوه قبل قلعه]
    أي من أنواع الحضروات التي يكون مأكولها في باطن الأرض ولا يظهر منها إلا شيء من الورق ونحوه مما ليس بمطعوم كالبصل والفجل ونحوها، فهنا قال: لا يجوز بيعه قبل قلعه، وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية أن ذلك جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن أهل الخبرة يستدلون بما يظهر منه فيعرفون الباطن، ولأن اشتراط ذلك سبب في إفساده، وعليه فيجوز بيع هذه الأطعمة، وعلى تفصيل الشيخ عبد الرحمن المتقدم يقال: بيعها على غير أهل الخبرة لا يجوز، لما فيه من الغرر.
    واتفق أهل العلم على أن المطعومات التي هي في وعاء ويؤدي اشتراط رؤية ما في باطنها إلى فسادها فإن بيعها في وعائها جائز، كبيع الرمان ونحوه، فإن اشتراط رؤية ما في داخلها يفسدها فيجوز باتفاق أهل العلم بيعها وهي في وعائها.

    قوله [ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة]
    (13/29)
    ________________________________________
    وهذه المسألة محل اتفاق بين العلماء، والملامسة: أن يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، أو نحو ذلك، والمنابذة أن يقول: أي ثوب نبذته عليك فهو لك بكذا، ونحوه كأن يقول ما طرحته عليك من السلع فهو علي بكذا ونحوه، فهذا البيع محرم وباطل باتفاق أهل العلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الملامسة والمنابذة) [خ 5819، م 1511] وهو من الغرر وقد نهى الشارع عن الغرر وبيع الجهالة، ومثل ذلك بيع الحصاة، ففي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحصاة) [م 1516] كأن يقول ارم بهذا الحصاة على أي سلعة أو على أي شاة أو نحو ذلك فهي لك بكذا، أو ارم بهذه الحصاة من موضعك فإلى أي مسافة وقعت من الأرض فهي لك بكذا ونحو ذلك، وهذا أيضا غرر وجهالة.

    قوله [ولا عبد من عبيده ونحوه]
    كأن يقول أبيعك عبدا من عبيدي أو شاة من شياهي أو أرضا من أراضي أو نحو ذلك، فلا يجوز ذلك للجهالة، فإن العبيد تختلف أسعارهم وكذا الشياة وكذا الأراضي، فيكون فيه جهالة، وظاهر كلام أبي الخطاب من الحنابلة أن القيمة إذا تساوت فإن ذلك جائز، فإذا كان عنده قطيع من الغنم كل شاة فيه تساوي مائة درهم، فقال: أبيعك شاة من هذه الشياة بمائة درهم، فلا بأس بذلك، إذ لا غرر، أو قال: أبيعك سيارة من هذه السيارات أو خيلا من هذه الخيول بكذا، وكانت السلع متساوية القيمة، فهذا جائز، وما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر إذ لا جهالة ولا غرر، إلا أن يكون لهذا المشتري غرض صحيح كأن يكون غرضه شاة حاملا أو شاة سمينة وهو يريد الذبح، وهي متساوية القيمة لكن هذه شاة حامل، وهذه شاة سمينة، وهو له قصد في الذبح أو له قصد في النماء أو نحو ذلك فحينئذ لا يجوز للجهل، إذ يفوت مقصوده حيث أعطي غير ما يريد فيكون في ذلك جهالة.
    (13/30)
    ________________________________________
    إذن ما ذهب إليه أبو الخطاب ظاهر حيث تساوت القيمة ما لم يكن هناك غرض صحيح له، كما سبق، وينبغي أيضا جواز ما كان الغرر فيه يسيرا كما إذا كانت القيم متقاربة.

    قوله [ولا استثناؤه إلا معينا]
    فإذا قال أبيعك هذا القطيع من الغنم إلا بعضه، لم يصح، لأنه لا يدري قدر هذا القطيع، ولا يدري هل هو كثير أم قليل، وحينئذ تثبت الجهالة والغرر، ولذا ثبت في السنن بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن المحاقلة والمزابنة وعن الثنيا إلا أن تعلم) [ت 1290، ن 3880، د 3405، وأصله في مسلم دون قوله (إلا أن تعلم) ، م 1536] أي عن الاستثناء إلا أن يعلم.
    وعلى هذا فإن علمت الثنيا - أي الاستثناء - فإن ذلك جائز، كأن يقول بعتك هذا القطيع إلا هذه الشاة، فحينئذ لا جهالة ولا غرر.
    فإن قال: بعتك هذه الشياة إلا شاة، فتعود المسألة السابقة:
    فإن كانت القيم مختلفة فلا يجوز للغرر.
    وإن كانت القيم متساوية فننظر هل لهذا المشتري غرض صحيح في شيء منها، فإن كان له غرض صحيح فلا يصح للجهالة، وإن لم يكن له غرض كأن يكون هدفه التجارة، والقيم متساوية فحينئذ يصح البيع كما تقدم.

    قوله [وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجدله وأطرافه صح، وعكسه الشحم والحمل]
    (13/31)
    ________________________________________
    إذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها، أو جلدها، أو شيء من أعضائها فهذا جائز، وذلك لأن المستثنى معلوم، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثنيا إلا أن تعلم، والثنيا هنا معلومة، وحينئذ فإذا تم البيع فإن ذبح هذه الشاة فإن الآخر يأخذ ما استثناه، وإن أبى أن يذبحها فإنه يعطيه قيمتها، وعلى هذا فاستثناء شيء ظاهر من الحيوان المأكول اللحم جائز، وعكسه الشحم والحمل، فالشحم لا يجوز استثناؤه، لأنه مجهول، فلا يدري قدره، هل هو قليل أم كثير، فإنه ليس بمشاهد، وعليه فإن قدره كأن يقول لي من شحمها كذا، فإن هذا جائز، إذ لا جهالة فيه، لكن إذا أطلق فقال: إلا شحمها، فلا يجوز لأن الشحم غير معلوم القدر، وكذلك الحمل، فإذا باعه شاة حاملا فقال: أبيعك هذه الشاة إلا حملها فلا يجوز، وهذا هو المذهب، وعن الإمام أحمد وهو قول إسحاق أن ذلك جائز، وأن الصفقة إنما وقعت على شاة لا حمل فيها، فكأنه يقول: إن الحمل لا أبيعك إياه، وإنما أبيعك شاة خالية من الحمل، فأقدرها لك على أنها لا حمل فيها، فلم يقع البيع على الحمل بل هو استبقاء للحمل في ملكه، فلا يكون من باب بيع الحمل، وعلى هذا لو قال: بعتك هذه الشاة إلا حملها فإن ذلك جائز، وهذه الرواية عن الإمام أحمد أصح من الرواية المشهورة عنه.

    قوله [ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ]
    وهذه المسألة محل وفاق، ومثل ذلك البيض، فما يكون مأكوله في جوفه يجوز بيعه من غير رؤية، لأن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، ولأن النظر في الطعام وهو في جوف قشره فيه إفساد له، فيكون ذلك جائزا لا حرج فيه، فإن خرجت فاسدة فلا رجوع في البيع ما لم يكن هناك شرط في ذلك.

    قوله [وبيع الباقلاء ونحو في قشره]
    (13/32)
    ________________________________________
    وكذلك يجوز بيع الباقلاء وهو الفول ونحوه كالحمص والجوز واللوز، فهذه المأكولات التي تكون ذات لب وقشر لا يشترط في بيعها النظر في لبها، بل تباع في قشرها من غير أن ينظر في اللب، لما تقدم من دعاء الحاجة إلى ذلك، ولأن في إزالة القشر إفسادا لها.

    قوله [والحب المشتد في سنبله]
    ويجوز بيع الحب المشتد وهو ما زال في سنبله، وذلك لما ثبت في سسن الترمذي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحب حتى يشتد) [ت 1228، د 3371، جه 2217، ونحوه في الصحيحين] ظاهره أن بيعه إذا اشتد جائز مطلقا، ولو كان في سنبله.

    قوله [أن يكون الثمن معلوما]
    هذا هو الشرط السابع من شروط البيع: أن يكون الثمن معلوما.
    والثمن ما دخلت عليه الباء، وهو في الغالب من النقدين، وقد تقدم أن المبيع يشترط أن يكون معلوما، فكذلك الثمن، لأن الثمن هو أحد العوضين الذين وقع عليهما عقد البيع، فكما أن المثمن يشترط فيه العلم، فكذلك يشترط في الثمن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، واختار شيخ الإسلام صحة البيع وإن لم يسم الثمن وله ثمن المثل كالنكاح، ثم قال المؤلف مرتبا على ذلك:

    قوله [فإن باعه برقمه..... لم يصح]
    (13/33)
    ________________________________________
    أي إن قال: أبيعك هذا الثوب بالرقم المكتوب عليه، فعليه ورقة مكتوب فيها السعر، يقول المؤلف هذا لا يصح، قالوا: لأن الرقم مجهول، سواء كان مجهولا للبائع أو للمشتري أو مجهولا لهما، أما البائع فقد يكون لا يحيط بأسعار السلع التي عنده أو أن تكون هذه السلعة جديد حضورها، وقد كتب البائع عليها سعرها، وأما المشتري فجهالته ظاهرة بالرقم المكتوب على هذه السلعة، قالوا: فلا تجوز للجهالة، وعن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام أن ذلك جائز، قال: لأن الرقم المكتوب على السلعة هو الثمن الذي يشتري به الناس، أي قد رضي الناس بهذا الشراء، وبهذا الثمن، وحينئذ فإن هذا المشتري يسعه ما يسع الناس، فإنه يرضى بما يرضى به الناس، وهذا أمر ظاهر، فإن المشتري يرضى في الغالب بالسعر الذي يشتري به الناس، وما ذكره شيخ الإسلام ظاهر، حيث ثبتت هذه العلة التي ذكرها وهي حيث كان الرقم مما يشتري به الناس، وهذا إنما يكون في السلع التي يتعاطاها أكثر الناس وسعرها معروف لديهم كما في أقوات الناس ونحو ذلك، وأما ما ليس مشهورا عند الناس، فإن قبول طائفة من الناس للشراء به لا يعني قبول غيرهم، ففيه جهالة وغرر حينئذ، فمثلا الألبسة تختلف أسعارها، وهذا الذي يبيعها برقمها، يقبل قوله طائفة من الناس، فلا يعني هذا قبول سائر الناس لقوله، وحينئذ يكون فيه جهالة وغرر، فالأظهر ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة إلا أن بكون مما هو مشهور عند الناس سعره وقبوله بهذا السعر فإن المشتري يرضى غالبا بما يرضى به عامة الناس.

    قوله [أو بألف درهم ذهبا وفضة]
    أي قال: بعتك هذا الثوب بألف درهم ذهبا وفضة، والمعنى: بعتك هذا الثوب بخليط من الذهب والفضة تساوي ألفا، فهنا القيمة هل هي معلومة أم مجهولة؟
    (13/34)
    ________________________________________
    إذا نظرنا إلى أنها محددة بالدراهم قلنا إن القيمة معلومة، فألف درهم، تساوي مائة دينار، فالدرهم عشر الدنانير، فإذا أعطى البائع تسعمائة درهم وعشرة دنانير فهنا أعطاه ذهبا وفضة تساوي مجموعها ألفا، إذن الجهالة ليست في القيمة، وإنما الجهالة هنا في الثمن، هل هو ذهب أم فضة، مع عدم تحديد مقدار كل منهما، فلم يحدد قدر الذهب، ولم يحدد قدر الفضة، وقد يكون له قصد في الذهب دون الفضة، لكن لا يظهر في هذا جهالة، فإن البائع إذا رضي بهذا فإنه قد رضي بهذه القيمة بغض النظر عن المعطى له هل هو ذهب أم فضة، فلا يتبين النهي عن مثل هذه الصورة، بخلاف ما إذا قال: بعتك بألف ذهبا وفضة، فحينئذ لا يدري ما القيمة، فقد نعطيه تسعمائة وتسعا وتسعين درهما، ودينارا واحدا، وقد نعطيه تسعمائة وتسعة وتسعين دينارا ودرهما واحدا، فالقيمة حينئذ مختلفة، ومثل ذلك لو قال في وقتنا الحاضر: بعتك بألف دولار وريال، والدولار أكثر من الريال، وحينئذ لا يدري أيهما أكثر فثبتت الجهالة والغرر، بخلاف الصورة الأولى.
    ووجه صاحب الفروع الصحة ويلزمه النصف ذهبا وفضة، وفيه نظر، لعدم ثبوت الرضى.

    قوله [أو بما ينقطع به السعر]
    (13/35)
    ________________________________________
    كأن يقول: هذه السلعة يوقف بها في المزاد، ويزداد عليها، فما وقفت عليه هذه السلعة فأنا أشتريها من ك بالثمن الذي تقف عليه، فقال المؤلف هنا: لا يجوز، لما فيه من الجهالة والغرر، فقد تباع بألف، وقد تباع بمائة ألف، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد جواز هذه الصورة، وذلك لما تقدم من العلة السابقة، فإن الثمن الذي تقف عنده هذه السلعة هو الثمن الذي تستحقه عند الناس، فيكون راضيا بسعرها الذي يشتري به الناس، وفي هذا نظر ظاهر، وذلك لأن هذه المحال التي يتزايد فيها على السلع تختلف القيم فيها اختلافا بينا ظاهرا، بحسب اختلاف عدد الراغبين في السلعة، فأحيانا يقلون وأحيانا يكثرون، فإن كثروا فإن هذه السلعة سيزداد سعرها، وحينئذ يكون فيه غرر وجهالة، كما أنه مدعاة للعداوة والبغضاء والاختلاف ونحو ذلك، فينهى عنها سدا لهذه الذريعة، فالأظهر هو ما ذهب إليه الحنابلة من النهي عن هذه الصورة خلافا لما اختاره شيخ الإسلام وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، واختاره ابن القيم، وقال:" إنه لا نص في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ينهى عنها، وإن الناس يتبايعون بها في كل عصر ومصر " ا. هـ.
    أما تعامل الناس بها فهذا لا يدل على جوازها، وأما أنه لا يمنعها نص من كتاب ولا سنة، فإن المانعين يقولون هما غرر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر.

    قوله [أو بما باع زيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح]
    (13/36)
    ________________________________________
    أي قال: بعتك هذه السلعة بما بعته على زيد من الناس، فهنا لا يجوز إذا جهلاه أو جهله أحدهما وذلك للجهالة والغرر، وقال بعض العلماء إن ذلك جائز واختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد، وذلك إن كان هذا المشتري ممن يثق بشرائه، بمعنى: رجل أراد أن يشتري سيارة، وهناك رجل معروف بمعرفته بقيم السيارات، فقال البائع: قد اشتراها مني فلان بثمن ما، فأنا أبيعك نفس السلعة بنفس الثمن الذي اشتراها مني به، فالأظهر جواز ذلك، لأنه لا دليل على الحرمة، وهو يشبه التوكيل، كما لو قال رجل لآخر: اشتر لي سيارة بالثمن المناسب لها، فاشترى السيارة له بالثمن المناسب لها فيجب أن يقبل ذلك، ومسألتنا هذه فيها شبه من مسألة الوكيل، ولأن هذا هو سعرها المعقول، وقد رضي بذلك ولا غرر منه، والجهالة إنما ينهى عنها لما فيها من الغرر، وحيث لا غرر، فيجوز حينذاك.
    * مسألة:
    إن قال: بعتك هذه السيارة بألف، فهل يصح هذا البيع أم لا؟
    الجواب: إن كان هناك نقد غالب في البلد، أو لم يكن هناك سوى نقد واحد، فإن البيع صحيح، ويحمل هذا المبلغ عليه، فإن قال: بعتك بألف، فيحمل على الريالان في المملكة العربية السعودية، لأنها في النقد الغالب، ومثل ذلك وأولى إن لم يكن هناك إلا نقد واحد، أما إن كان هناك أكثر من نقد متداول، وكل من هذه النقود غالبة في تعامل الناس فهنا لا يصح للجهالة.

    قوله [وإن باع ثوبا أو صبرة أو قطيعا كل ذراع أو قفيز أو شاة بدرهم صح]
    (13/37)
    ________________________________________
    الصبرة هي كومة الطعام، والقفيز: عدد من الأرطال، ومثال ما ذكره المؤلف: إن كان عنده قماش، فقال: أبيعك هذا القماش كل متر بكذا، فهما قد جهلا أو أحدهما قدر الأمتار من هذا القماش، لكنهما يعلمان المبيع والثمن، فكل متر بدرهم، وكل قفيز من الصبرة بكذا، وكل شاة من القطيع بكذا، وهو يريد بعيه كله، فالصفقة قد وقعت على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، وعلى الطعام كله، فالبيع صحيح، لتوفر الشروط في المبيع، فالمبيع معلوم، والثمن معلوم أيضا، ولا يؤثر الجهل بقدر العدد المشترى، فهذه جهالة غير مؤثرة لأن المبلغ معلوم والسلعة معلومة.

    قوله [وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم..... لم يصح]
    الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن المسألة السابقة الصفقة قد وقعت على الصبرة كلها، وكذلك على الثياب كلها، وعلى الشياة كلها، أما في هذه المسألة فقد وقعت على البعض، كأن يقول: أبيعك بعض هذا القطيع كل شاة بدرهم، وأبيعك من هذا القماش كل ذراع بدرهم، وأبيعك من هذه الصبرة بعضها كل قفيز بدرهم، قالوا: لا يجوز ذلك، لأن هذا البعض قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وحينئذ حصلت الجهالة، وقال بعض الحنابلة: هو جائز، وهو اختيار ابن عقيل، وذلك لأن الثمن معلوم، والمبيع معلوم،فلا جهالة، وكونه يجهل هل الأقل هو المشترى أم الأكثر هذا غير مؤثر كما أن جهالة أذرع القماش فيما إذا باعه كله غير مؤثرة، فكذلك هنا ولا فرق، وهذا الذي عليه عمل الناس اليوم في الأسواق، فإنه عندما يأتي إلى الطعام ليشتريه يقول: تأخذ كل قدر كذا من هذا الطعام بكذا، وهذا جائز ولا بأس به، فإنه لا جهالة فيه.
    قوله [وبمائة درهم إلا دينار وعكسه]
    (13/38)
    ________________________________________
    إذا قال: أبيعك هذه الصبرة بمائة درهم إلا دينار أو عكسه بأن يقول أبيعك هذه الصبرة بمائة دينار إلا درهم، قالوا: هذا لا يجوز، لأن المستثنى منه مجهول، وهو الدينار في المسألة الأولى، والدرهم في المسألة الثانية، وكون المستثنى منه مجهولا يصير الشيء كله مجهولا أيضا، ويترتب على ذلك أن يكون الثمن مجهولا، وظاهر قول الخرقي من الحنابلة أن ذلك جائز، وهذا هو الظاهر، فإن قدر الدينار معلوم، ولعل هذه المسألة عندهم على أن الدينار مجهول، لا يعرف قدره بالدراهم، فإذا كان كذلك منع، وأما إذا كان قدر الدينار من الدراهم معلوما فإن هذا لا جهالة فيه، وعلى هذا فالصحيح أنه إذا كان قدر الدينار والدراهم معلوم جاز ذلك.

    قوله [أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه ولم يقل كل منهما بكذا لم يصح]
    إذا باع سلعتين في صفقة واحدة، إحداهما معلومة، والأخرى مجهولة يتعذر العلم بها، فباعهما بثمن واحد ولم يخبر المشتري ثمن كل سلعة فإن البيع لا يصح للجهالة، كأن يبيع فرسا وما في بطن فرس أخرى بمائة دينار، ولم يقل هذه بكذا وهذه بكذا، فحينئذ يكون البيع غير صحيح للجهالة بالثمن.
    قال الموفق:" ولا أعلم بطلانه خلافا " ا. هـ

    قوله [فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه]
    (13/39)
    ________________________________________
    صورة هذا: إن لم يتعذر علينا علم هذا المجهول، كأن يقول: أبيعك هذه الفرس وفرسا أخرى بالبيت من غير وصف لها بمائة دينار، فالأولى معلومة والأخرى مجهولة، فالبيع غير صحيح للجهالة، لكن هذه المجهولة يمكن التعرف على قيمتها فيذهب فيراها ويعرف قيمتها، وعلى هذا فالبيع باطل للمجهولة، وصحيح للمعلومة، وحينئذ يصح في المعلوم بقسطه من الثمن، فنقوم المعلومة، ونقوم المجهولة بعد أن نراها، فإذا وجدنا مثلا أن ثمن المعلومة ثلاثين دينارا، وثمن المجهولة يساوي ستين دينارا، فنسبة المعلومة للثمن الثلث، ونسبة المجهولة للثمن الثلثان، وكان السعر بينهما مائة دينار، فعلى هذا يكون ثمن المعلومة الثلث، وهو ثلاثة وثلاثون دينارا.
    وهذه المسألة تسمى تفريق الصفقة، وهذه هي الصورة الأولى منها.
    ومثل ذلك إذا باع عبدا مشاعا كما قال المؤلف بعد هذا:

    قوله [ولو باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء صح في نصيبه بقسطه]
    وهو قول الجمهور وأحد الوجهين عند الشافعية، والمشاع ما كان الاشتراك فيه بكل جزء من الأجزاء، مثاله: رجلان يملكان عبدا، لكل واحد النصف، فباع أحدهما العبد بلا إذن الآخر، أو كانا يملكان أرضا مشاعة بينهما لكل منهما النصف، فباع أحدهما كل الأرض دون إذن الآخر، أو كان لكل واحد منهما نصيبه الذي ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كأن يكون عندهم عشرة آصع من التمر، هذا له خمسة، وهذا له خمسة، وقد بيعت هذه الكومة من التمر مجتمعة، وهذا كله بلا إذن الآخر، فالحكم أنه يصح في نصيبه بقسطه.
    مثاله: له من العبد النصف، فباعه بدون إذن صاحبه، فيقوم هذا النصف، ويقوم النصف الآخر، ويكون له نصف الثمن، فيدفع المشتري نصف المثمن له فيتملك نصيبه، وأما النصف الآخر فيبقى في ملك الأول.
    وهذه هي الصورة الثانية من مسائل تفريق الصفقة، أما الصورة الثالثة فذكرها المؤلف بعد هذه:
    (13/40)
    ________________________________________
    قوله [وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبدا وحرا، أو خلا وخمرا صفقة واحدة صح في عبده وفي الخل بقسطه]
    مثاله: أخذ عبده وعبد غيره فباعهما معا، وقال: هذان العبدان بمائة دينار، أو أخذ عبدا وحرا، فباعهما بثمن واحد، والحر لا يصح بيعه، أو أخذ خلا وخمرا فباعهما بثمن واحد، فهنا قال المؤلف: (صح في عبده) أي الذي يملكه، (وفي الخل) ، لكن كيف نقوم ما صح بيعه؟
    أما في الحر فإنه يقدر لو كان عبدا، وهذه في الحقيقة مشكلة، لأنه قد لا يرضى بذلك، بمعنى أنه يؤخذ هو والعبد فيقال كم يساوي هذا العبد في السوق، قالوا: خمسين دينارا، وكم يساوي هذا الحر لو كان عبدا، قالوا: مائة دينار، فصار العبد نصف الحر، فنصيب العبد الثلث من الثمن.
    وإن كانت المسألة من عبدين فكذلك، يقال: كم يساوي هذا العبد - أي الذي هو ملك له - فيقال: خمسون دينارا، فيقال: كم يساوي هذا العبد الآخر - وهو العبد الذي بيع بدون إذن صاحبه - فيقال: مائة دينار، فحينئذ يكون نصيبه من الثمن الثلث.
    وأما الخمر فإنه يقوم خلا، لأن بيع الخمر محرم، والخمر ليس له قيمة شرعا، فينظر في قيمة الخل، ثم في قيمة الخمر لو كان خلا، ويقوم الخل بقسطه كما سبق.

    قوله [ولمشتر الخيار إن جهل الحال]
    هذا المشتري الذي تبعض عليه المبيع والسلعة ثبت له الخيار، بشرط أن يجهل الحال، فله أن يلتزم البيع، ويأخذ السلعة مبعضة، فإنه إذا اشتري الشيء على أنه تام فإذا به مبعض فله أن يقبله وله أن يرده، هذا إن جهل الحال، ولأنه إنما رضي على الصورة المتقدمة، فلم يثبت رضا على الصورة المتأخرة.
    * وهل له الخيار إن علم الحال؟
    (13/41)
    ________________________________________
    الجواب: ليس له ذلك، لأنه دخل على بصيرة، وهذا ما قيده المؤلف بقوله (إن جهل الحال) فظاهره أنه إذا علم الحال فلا، وذلك لأنه دخل على بصيرة، فإذا اشترى خلا وخمرا ويعلم أن هذا خمر، لا يجوز بيعه، فليس له بعد ذلك الخيار، بل هو ملزم بشراء الخل لأنه قد دخل على علم وبصيرة.
    ولا خيار للبائع في المشهور في المذهب، وقال شيخ الإسلام يثبت له الخيار أيضا، ذكره عنه في الفائق وهذا ظاهر إن جهل الحال ولحقه ضرر، والشركة عيب.

    فصل
    قوله [ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني]
    واتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني، واختلفوا هل يصح البيع أم لا يصح على قولين، فقال المالكية والحنابلة لا يصح، وقال الشافعية والأحناف: يصح.
    قوله (ممن تلزمه الجمعة) احتراز ممن لا تلزمه، كالمرأة والعبد ونحوهما.
    قوله (بعد ندائها الثاني) لا الأول.
    والدليل على هذه المسألة قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فأمر الله عز وجل بترك البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وأمر الله تعالى هذا يدل على أن تعاطي البيع والشراء حرام، وما كان محرما فهو فاسد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) [خ تعليقا، م 1718] فالبيع محرم وباطل، أما تحريمه فلقوله تعالى {وذروا البيع} وأما بطلانه فلأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقال الشافعية والأحناف: هو صحيح، ولكن هذا القول ضعيف، لأن المنهي عنه فاسد كما سبق.
    (13/42)
    ________________________________________
    * وهنا قال المؤلف (بعد ندائها الثاني) فدل على أن البيع بعد النداء الأول جائز، وهو كما قال، فإن الله تعالى قال {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} والنداء لصلاة الجمعة عند نزول هذه الآية كان هو النداء الثاني، وأما الأول فإنما هو سنة عثمان - رضي الله عنه - للمصلحة الراجحة في عهده، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    ** أما إذا كان المتعاقدان ممن لا تلزمهما الجمعة فإن البيع صحيح، لكن لو أن امرأة باعت على من تلزمه الجمعة فالبيع باطل وهو محرم، لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، فهي إذا باعته بعد نداء الجمعة الثاني فقد أعانته على المحرم، وهو محرم.
    *** يستثنى من ذلك ما إذا كانت له إليه حاجة يلحقه الحرج بتفويته فهذا جائز، كمن اضطر إلى طعام أو شراب أو كسوة، أو اضطر أهل الميت إلى شراء كفن أو نحو ذلك، ويخشون على الميت إن تأخروا في شراء كفنه وحنوطه ونحو ذلك، فهذا جائز، لأن الضرورات تبيح المحذورات.
    **** وظاهر قوله تعالى {وذروا البيع} البيع كله قليله وكثيره، فلا يستثنى من ذلك شيء، فالبيع كله محرم، وإن قل، ومن كان يسكن في بيت بعيد عن المسجد، ويحتاج إلى سعي قبل النداء، فإنه يحرم عليه البيع بقدر ما يحتاج إليه من السعي، فإن المسألة السابقة حيث كان يدرك ذكر الله من نداء الجمعة، فإذا سمع النداء فسعى أدرك الذكر الواجب - وهو الصلاة فقط أو الصلاة والخطبة -، أما هنا فإن بيته بعيد بحيث لا يستطيع إدراك الجمعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
    ***** مسألة: ما حكم البيع بعد الأذان في الصلوات الخمس؟
    ظاهر كلام المؤلف جواز ذلك، والمسألة لها صور في المذهب.
    (13/43)
    ________________________________________
    1- الصورة الأولى: أن يكون ذلك مع تضيق وقت الصلاة بأن لا يبقى من الوقت إلا ما يسعها، مثلا يكفي لصلاة الظهر لإدراك ركعة خمس دقائق، فلو استمر في عقد البيع إلى أن تضيق الوقت بحيث لم يبق منه إلا ما يدرك به الصلاة فلا يجوز البيع والشراء في هذه الحالة، وهل يصح البيع أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما أنه لا يصح لأنه كالمسألة السابقة في صلاة الجمعة.
    2- الصورة الثانية: ألا يضيق الوقت، فالمشهور من المذهب جواز ذلك، والقول الثاني في المذهب وهو قول لبعض الحنابلة أن ذلك لا يجوز، وهو الأرجح، لأن الجماعة تفوت، فالصحيح أنه إذا نودي للصلاة فلا يجوز البيع والشراء، لأن البيع ذريعة إلى تفويت صلاة الجماعة، وهي واجبة، لكن البيع يصح لأن الأصل صحة البيع والقياس على الجمعة مع الفارق، فالجمعة آكد ولأن صلاة الجمعة تفوت بخلاف الجماعة.
    فإن قيل: لماذا ذكر الله في الآية صلاة الجمعة فقط؟
    فالجواب أنه لبيان القصة الواقعة وسائر الصلوات مثلها، فالراجح أنه ينهى عن البيع والشراء بعد الأذان مطلقا كما سبق.

    قوله [ويصح النكاح وسائر العقود]
    (13/44)
    ________________________________________
    كالرهن والهبة وغيرها من العقود، فهي صحيح بعد نداء الجمعة الثاني، قالوا: لأن الله قال {وذروا البيع} فلم يذكر الله غيره، ولأن وقوع غيره وقوع قليل، فلا يكون ذريعة إلى تفويت ما يجب على المسلم من السعي لصلاة الجمعة، وقال بعض الحنابلة وبعض المالكية وغيرهم وهو القول الثاني في هذه المسألة: إن سائر العقود كالبيع، أي غير جائزة، وذلك لأنها مشغلة عن السعي الواجب، فأشبهت البيع، سواء كان وقوعها قليل أم كثير، فإن قلة وقوعها وكثرته لا يغير الحكم، وفيه مشغلة، فالنكاح وإن كان قليلا فإنه يشغل المرء عن تلك الصلاة المعينة، فهو وإن لم يكن ذريعة إلى ترك جميع الصلوات، لكنه كان ذريعة إلى ترك تلك الصلاة المعينة، وأما تنصيص الله تعالى على البيع دون غيره فلأن الواقعة التي نزلت لها الآية كان فيها البيع، فإنه لما أتت قافلة وذهب لها بعض الناس وتركوا الصلاة نزلت الآية، فالراجح أن سائرا العقود كالبيع، وذلك لأنها مشغلة عما يجب على المرء من الذهاب إلى الصلاة، فيحرم تعاطيها ولا يصح.
    وقد يتساهل في بعض العقود التي لا تشغل عن صلاة الجمعة كعقد الهبة، لأنه لا يكون فيه انشغال عن الصلاة، فقد يفعله الإنسان وهو في المسجد.

    قوله [ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمرا]
    لا يصح بيع العصير كعصير العنب ممن يتخذه خمرا، فإذا علمت أن المشتري يصنع منه الخمر فلا يجوز لك، لقوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، واختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب وصوبه صاحب الإنصاف وهو الراجح أن ذلك ليس متعلقا بالعلم، بل حتى بالظن، فإن ظن أنه يتخذه خمرا حرم البيع.

    قوله [ولا سلاح في فتنة]
    (13/45)
    ________________________________________
    فإذا وقعت فتنة بين المسلمين كأن يقع قتال بين طائفتين على وجه الفتنة فإن بيع السلاح حرام، لأن هذا السلاح سيستخدم فيما لا يحل، وأما بيعه على الطائفة العادلة وطائفة الإمام فذلك جائز، لأن استخدامهم له استخدام مباح.
    ويعلم مما سبق أن بيعه على قاطع الطريق أو على الفرقة الباغية أو على المسلمين عامة في قتال الفتنة محرم، لأن الله تعالى يقول {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، وفي الطبراني لكن إسناده ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلاح في الفتنة) [سنن البيهقي 5 / 327، معجم الطبراني الكبير 18 / 137، مجمع الزوائد 4 / 87، 108] والحديث على ضعفه فإن قواعد الشريعة تدل عليه.

    قوله [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه]
    لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر لأن ذلك إذلال للعبد المسلم، واحتقار له، والذلة والصغار تكونان على الكفار، وقد قال تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، فالمؤمن هو العزيز، والكافر هو الذليل.
    واستثنى من ذلك ما إذا أعتق عليه، كأن يكون ذا رحم محرم، كأن يبيع العبد لأخيه الكافر، فإنك إذا بعته فإنه يعتق عليه، ويتبين من هذا أن هذا حيث يكون للمسلمين سلطة على هذا الكافر الذي سيشترى أخاه الرقيق، بحيث أنه يلزم كالذميين الذي يحكم فيهم بحكم الشريعة الإسلامية، فيجوز بيع العبد المسلم على الكافر إذا كان يعتق عليه، لأن في ذلك طريق إلى تحريره وإزالة الرق عنه، ومثل ذلك إذا علق الكافر إعتاق عبد فلان على ملكه له، فقال: إن ملكت عبد فلان فهو حر، فيجوز بيع العبد عليه لأن في ذلك تحريرا له من الرق، والخلاصة أنه لا يجوز بيع العبد المسلم على الكافر إلا إذا كان ذلك البيع طريقا لتحريره.

    قوله [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه ولا تكفي مكاتبته]
    (13/46)
    ________________________________________
    مثال ذلك: رجل كافر يملك عبدا كافرا، ثم أسلم هذا العبد وبقي السيد الكافر على كفره، فإنه يجبر على إزالة ملكه إما ببيع أو بهبة أو بإعتاق، والمقصود أنه لا يبقى تحت ملكه، لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ، ولأن في ذلك ذلة وصغار على هذا المسلم.
    * وهل تكفي مكاتبته؟
    قال المؤلف: لا تكفي مكاتبته، وذلك لأن المكاتبة مبقية لملك السيد عليه، فإن المكاتب رقيق وقن حتى يتم ما عليه من ثمن الكتابة، وقد يعجز فيعود قنا، وحتى إن لم يعجز فإنه عبد حتى يؤدي ما عليه.
    ** ولا يقر الكافر على بيع العبد المسلم بشرط الخيار، كأن يسلم العبد ثم يبيعه سيده الكافر بشرط الخيار ثلاثة أيام ونحوها، فهذا لا يجوز لأن الكافر بإمكانه فسخ العقد خلال الثلاثة أيام، بل عليه أن يبيعه بيعا تاما لا خيار فيه.

    قوله [وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة ويقسط العوض عليهما]
    إذا جمع بين بيع وكتابة في صفقة واحدة، فقال لعبده: كاتبتك وبعتك بيتي هذا بعشرة آلاف، فلا يصح البيع، بل تصح الكتابة فقط، لذا قال المؤلف: صح في غير الكتابة، أي صح البيع في غير الصورة التي فيها البيع مع الكتابة، فلو جمع بين البيع والصرف، أو بين البيع والإجارة، أو بين البيع والنكاح صح الجميع، أما إن جمع بين البيع والكتابة فإن البيع غير صحيح، والكتابة تصح، قالوا: لأن هذا العبد رقيق له، وإنما وقعت الكابة أثناء عقد البيع، فالكتابة والبيع مقترنان، فلم تسبق الكتابة البيع، فكما لو باع على قنه فلا يصح فكذلك هنا، فالشرط عندهم أن تكون الكتابة سابقة، فلو قال: كاتبتك، وثبتت الكتابة، ثم قال: بعتك بيتي، صح لأنه أصبح مكاتبا، والمكاتب يصح أصل تصرفه بقيود، وإلا لما تمكن من سداد الدين الذي عليه من المكاتبة.
    (13/47)
    ________________________________________
    والقول الثاني في المسألة وهو الوجه الثاني في المذهب وقيل هو المنصوص عن الإمام أحمد أن ذلك جائز، وأن اقتران المكاتبة بالبيع لا تؤثر على البيع، فإنه أثناء البيع أصبح ممن يصح تصرفه في الجملة، قالوا: وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقتك وجعلت عتقك صداقك) [خ 4200، م 1365] فإن الأمة لا صداق لها، وهي ملك سيدها، يطؤها من غير ما صداق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أصدقها وأعتقها في عقد واحد صحيح، فهنا كذلك، والراجح أن مثل هذه الصيغة صحيحة، فكما أن السيد يجوز أن يبايع مكاتبه بعد ثبوت الكتابة، فكذلك يجوز له أن يبايعه أثناء الكتابة، ومعلوم أن آثار البيع إنما تترتب بعده.
    * وأما البيع والصرف فمثاله أن يقول: خذ هذا الدينار وأعطني هذه السلعة وخمسة دراهم، فهذا فيه بيع وصرف، وكلاهما صحيح.
    وكذلك بيع وإجارة، كأن يقول: ابتعت منك هذا الرقيق وأؤجر عليك هذا البيت بعشرة آلاف، فهنا صفقة واحدة وهي صحيحة.
    ومثل ذلك لو قال: أبيعك داري وأنكك ابنتي بكذا وكذا، فالبيع والنكاح كلاهما صحيح.
    ومثله البيع والخلع، كأن تقول الزوجة: أخلع نفسي منك وأشتري هذا البيت بكذا، فالبيع والخلع صحيحان، فهذه الصور كلها جائزة، لأن الأصل في المعاملات الحل، ولا دليل يدل على المنع.
    ** على القول بعدم جواز الجمع بين البيع والكتابة تكون المسألة من مسألة تفريق الصفقة، التي تقدم شيء من صورها، والمراد من تفريق الصفقة أن بعضها يصح، وبعضها يبطل، فإذا قال: كاتبتك وبعتك هذه الدار بعشرة آلاف دينار، وقلنا إن البيع لا يصح كما هو المشهور من المذهب، فحينئذ نقسط الثمن على العبد وعلى الدار، فنقوم العبد والدار أولا، فلو قومنا العبد بخمسمائة دينار، وقومنا الدار بألف دينار، فنسبة العبد وقسطه هو الثلث، فتكون قيمة المكاتبة نحوا من ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين دينارا، كما تقدم.
    (13/48)
    ________________________________________
    وقوله (ويقسط العوض عليهما) أي على البيع والكتابة، فيحذف قسط البيع لأنه باطل، ويبقى قسط الكتابة، كما تقدم.

    قوله [ويحرم بيعه على بيع أخيه كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة وشراؤه على شرائه كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة]
    هنا مسألتان، الأولى: بيعه على بيع أخيه، والثانية: شراؤه على شرائه، وكل ذلك محرم، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) [خ 2139، م 1412] فهذا نهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع الرجل على بيع أخيه، والشراء بيع.
    والحكمة من هذا النهي ما فيه من إثارة العداوة والبغضاء والضغائن بين المسلمين.

    قوله [ليفسخ ويعقد معه]
    وذلك لبقاء الخيار في البيع، فما زال الخيار باقيا، سواء كان خيار المجلس كأن لم يتفرقا، ومثله خيار الشرط، فما زال الخيار باقيا بحيث يمكن لأحدهما أن يفسخ، فإذا أعطي البائع على هذه السلعة ثمنا أكثر، أو أعطي المشتري هذه السلعة بثمن أقل والخيار باق فإنه يفسخ البيع مع الأول، ويعقده مع الثاني، لقلة الثمن أو زيادته بالنسبة للبائع، وقال ابن رجب: يحرم مطلقا، سواء كان في زمن الخيارين أم لا، وهو قول ابن تيمية وابن القيم وهو الراجح، لما يترتب عليه من العداوة والبغضاء، ولأنه قد يحتال على الفسخ بطريقة ما.

    قوله [ويبطل العقد فيهما]
    فالعقد باطل لأن الشارع نهى عنه، وما نهى عنه الشارع فإنه فاسد، فالنهي يقتضي الفساد.
    (13/49)
    ________________________________________
    * وأما حكم سومه على سوم أخيه، فهو محرم أيضا، ففي البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يسم المسلم على سوم أخيه) [خ 2727، م 1408، واللفظ لمسلم] فدل هذا على أنه محرم، ولكن ليس مطلق السوم محرم، فإن من السوم ما هو جائز، وقد دلت الأدلة على جوازه، وهو ما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر، فلم يثبت الرضا الذي يتم بعده البيع، أما إذا ثبت الرضا وركن بعضهما إلى بعض وما بقي بينهما إلا العقد فإن السوم يكون محرما، فأما سومه على سوم أخيه قبل ثبوت الرضا وقبل ركون أحدهما إلى الآخر فهو جائز، وهو ما يسمى بالمزايدة، وقد اتفق العلماء على جوازه، وهو مشهور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    ** وإذا سام رجل سوما محرما، وثبت به البيع فهل يصح البيع أم لا؟
    البيع صحيح، كما هو المشهور من المذهب، والفارق بين هذه المسألة والمسألة السباقة أن النهي في المسألة السابقة يعود إلى ذات العقد، وأما هنا فإنه يعود إلى أمر آخر خارج عنه.
    *** هنا مسائل:
    المسألة الأولى:
    أنه لا يجوز أن يبيع حاضر لباد، والمراد بالبادي من هو من خارج البلدة سواء كان حضريا أم بدويا، فمن أتى من خارج البلدة فلا يجوز لأحد من داخل البلدة أن يكون سمسارا له، يبيع له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد) فقيل لابن عباس ما قوله (ولا يبع حاضر لباد) قال:" لا يكون له سمسارا " رواه البخاري ومسلم [خ 2158، م 1521] .
    وعلة هذا مصلحة أهل السوق، فإن أهل السوق عندما يأتي أحد من خارج بلدتهم فإن بيعه يكون أرخص من البيع الذي يكون بين أهل البلدة، فيكون في هذا سعة لهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه في مسلم: (لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) [م 1522] .
    * ويحرم ذلك بخمسة شروط، ويبطل البيع كذلك:
    (13/50)
    ________________________________________
    1- أن يقدم البادي بسلعته للبيع، فإن قدم لغير البيع كأن يقدم لاحتكارها أو لأكلها أو لإهدائها ونحو ذلك فلا بأس أن يكون الحاضر له سمسارا، وذلك لأن المصلحة في ذلك لأهل السوق، ولأهل البلد، فإنه لم يأت للبيع، فإذا أتي أحد من أهل البلدة وأقنعه بالبيع فإن في ذلك مصلحة لأهل السوق.
    2- أن يبيعها بسعر يومها، أي أن يكون مراده بيعها بسعر يومها، أما إذا كان هذا البادي يريد أن يبيعها بأكثر من السعر أو يريد أن يتربص بها حتى يكون لها السعر المناسب فحينئذ يكون قد احتاط لنفسه فلا بأس والحالة هذه أن يكون هناك من الحضر واسطة بينه وبين الناس في بيعها، وذلك لأنه احتاط لنفسه فهو لا يريد أن يبيعها بأي سعر، بل يريد بيعها بالسعر المناسب.
    3- أن يكون جاهلا بالسعر، أما إذا كان عالما عارفا بأسعار السلع فإن توسط أحد الحاضرين بينه وبين الناس جائز، وذلك لأنه وسيط لا يؤثر.
    4- قالوا: أن يقدم الحاضر إليه، فإذا قدم هذا البادي على الحاضر وطلب منه أن يكون سمسارا فإن ذلك جائز، لأنه يكون بذلك قد احتاط لنفسه، وفي هذا نظر فإن الحديث المتقدم ينهى عن ذلك، فالراجح أنه ليس له ذلك لدخوله في عموم النهي المتقدم، وقد يرجح قول الحنابلة ما سيأتي من وجوب النصح للبادي إذا استنصح الحاضر.
    5- قالوا: أن يكون بالناس حاجة للسلعة التي معه، فإن كانت من السلع التي لا يحتاج الناس إليها، وليست من أقواتهم فيجوز أن يكون سمسارا، ولم يذكر الإمام أحمد - كما قال الحنابلة - هذا الشرط، والحديث يخالفه فإن الحديث عام.
    فالشروط عند الحنابلة للتحريم والبطلان خمسة، وتقدم أن الشروط الراجحة ثلاثة شروط، وأما الشرطان فعموم الحديث يدل على عدم اعتبارهما، والمعنى يدل على ذلك فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضا) يدل على عدم اعتبار هذين الشرطين
    ** وهنا فرعان:
    (13/51)
    ________________________________________
    الفرع الأول: هل يجوز أن يشتري الحاضر للبادي؟
    1- قال الحنابلة يجوز ذلك، وذلك لأن النهي إنما ورد في البيع.
    2- ونقل عن الإمام أحمد وهو قول طائفة من التابعين كمحمد بن سيرين أن ذلك منهي عنه، ودليل ذلك ما رواه أبو عوانة في صحيحه - كما في الفتح - عن محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك فقلت له: لا يبع حاضر لباد، أنهيتهم أن تبيعوا أو تشتروا لهم؟ قال: نعم، أي نعم نهينا أن نبيع أو نبتاع لهم، فيكون الشراء منهي عنه أيضا، ولأن الشراء داخل في معنى البيع كما تقدم، ولأن المعنى أيضا ثابت وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) .
    والصحيح أنه لا يجوز للحاضر أن يشتري للباد إذا توفرت الشروط المتقدمة، أما إذا كان عالما بالسعر محتاطا لنفسه فإنه يجوز له أن يكون سمسارا له كما تقدم في شروط التحريم.
    الفرع الثاني: هل يجوز أن يشير على البادي؟
    قالوا: إن استشاره فيجب عليه أن يشير عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا استنصحك فانصحه) [م 2162] وهذا ظاهر، فإنه إذا استشار فقد احتاط لنفسه وواجب حينئذ أن ينصح له.
    - وهل يجب عليه أن ينصحه من غير استنصاح؟
    في المسألة نظر، قال صاحب الفروع:" ويتوجه النصح " لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) [م 55] والراجح خلاف هذا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى أن يبيع الحاضر للبادي أو يشتري له ليرزق الله بعض الناس من بعض، ولا شك أن النصيحة له تقوم مقام البيع والشراء له، ويمكن أن يقوي هذا الدليل شرط الحنابلة الذي تقدم ذكره، وهو جواز البيع له والشراء إذا قدم هو على الحاضر، فإنه حينئذ يكون قد احتاط لنفسه، فكما لو استنصح فيجب له النصح.
    المسألة الثانية:
    (13/52)
    ________________________________________
    وهي عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تلقوا الركبان) ، والركبان: هم الذين يجلبون السلع إلى أهل البلد من غير أهلها، ولا يجوز لأحد من أهل السوق أن يتلقاهم خارج السوق فيشتري منهم أو يبيع لهم أيضا، لحديث (لا تلقوا الركبان) ، وهذا لمصلحة الركبان، فقد يكون الثمن في السوق أقل من الثمن الذي بيع عليهم، وقد يكون الثمن في السوق أكثر من الثمن الذي اشتري به منهم، فلم يتركوا حتى ينظروا في سعر السوق، فكان ذلك محرما.
    ولكن البيع يصح مع خيار الغبن، فهم إذا قدموا السوق فهم بالخيار، فإن ثبت الغبن عليهم فهم بالخيار، إن شاءوا فسخوا البيع، وإن شاءوا أبقوه، لحديث مسلم: (لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) [م 1519] أي إذا أتى صاحب السلعة السوق فهو بالخيار إن شاء أمضى وإلا فسخ.
    والنهي عن تلقي الركبان ما لم يصلوا إلى السوق فإذا وصلوا إلى السوق فيجوز أن يتلقاهم في أعلى السوق، لأن غاية النهي هو دخلوهم السوق، لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر: (لا تلقوا السلع حتى يهبط بها أصحابها إلى السوق) [خ 2165] .
    المسألة الثالثة:
    وهي مسألة التسعير، فلا يجوز للسلطان أن يسعر على الناس، وهو ظلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح لما قال بعض الصحابة: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى يوم القيامة وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة دم ولا مال) [حم 11400، ت 1314، د 3451، جه 2200] ، فهذا يدل على تحريم التسعير، وأنه ظلم.
    ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا يضر بالناس؟
    (13/53)
    ________________________________________
    الجواب: ذهب بعض الشافعية إلى استثناء التسعير حينئذ، وأنه جائز، فيجوز للحاكم أن يتدخل فيما إذا غلت الأسعار غلاء فاحشا بحيث يتضرر بذلك عامة الناس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [جه 2340، 2341] ولأن في ذلك مصلحة عامة، بل دفع لمفسدة عامة، وإن ترتب على ذلك فوات مصلحة خاصة، فإن التسعير فيه فوات مصلحة خاصة، وأما الغلاء الفاحش فإن فيه مفسدة عامة، ودفع المفسدة العامة أولى من جلب المصلحة الخاصة، وكذلك تحمل المفسدة الخاصة أولى من تحمل المفسدة العامة، وهذا القول هو الصحيح.
    قال ابن القيم: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر لهم تعسير العدل.
    المسألة الرابعة:
    مسألة الاحتكار، والاحتكار: هو أن يدخر السلعة حتى يغلو ثمنها فيبيعها، وهو محرم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في مسلم من حديث معمر بن عبد الله: (لا يحتكر إلا خاطيء) فقيل لسعيد فإنك تحتكر، قال سعيد: فإن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر. [م 1650]
    * قال الحنابلة ويحرم الاحتكار بثلاثة شروط:
    1- الشرط الأول: أن يكون المحتكر قوتا، فإن كان المحتكر غير قوت فيجوز ذلك، قالوا:لأن سعيد بن المسيب وهو الراوي عن معمر كان يحتكر النوى - أي نوى التمر - والخبط - وهو علف الدواب - والبذر - أي بذور النبات -، وفي المسند أن سعيد بن المسيب كان يحتكر الزيت، قالوا: ولا يعقل أن هذا الإمام يخالف روايته إلا وأن هذا خارج عن روايته، وقد ثبت أن معمر بن عبد الله كان يحتكر، قالوا:فدل هذا على أن المحتكر الممنوع احتكاره إنما هو القوت، وذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وهو اختيار الشوكاني إلى ذلك محرم، وهذا هو الراجح لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) ، وأما الجواب عن فعل معمر بن عبد الله وسعيد بن المسيب فيتضح في الشرط الثاني الذي اشترطه الحنابلة.
    (13/54)
    ________________________________________
    2- الشرط الثاني: ألا يكون للناس في المحتكر حاجة، وعلى هذا يحمل احتكار معمر واحتكار سعيد، وأن احتكارهما ليس في الناس حاجة إليه، فلا يتضرر الناس باحتكارهما، فيجوز للشخص أن يحتكر القوت وغيره إن لم يكن للناس فيه حاجة، إذ لا ضرر على أهل السوق في ذلك، وهذا الشرط واضح وصحيح، ويدل عليه فعل معمر وفعله يخصص ما رواه، ورأي الصحابي ولا سيما راوي الحديث أو فعله مما يخصص روايته، كما أن المعنى يدل على ذلك، إذ لا ضرر في احتكار ما يحتاج إليه الناس سواء أكان من أقواتهم أم من غيرها
    3- الشرط الثالث: أن يشتريه من البلد، فإذا جلبه من خارج البدل أو صنعه بنفسه أو كان هذا من مزرعته فإن هذا جائز، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الجالب مرزوق والمحتكر خاطيء) [جه 2153، فيه علي بن سالم بن ثوبان، وعلي بن زيد بن جدعان، وكلاهما ضعيف] والراجح خلاف ما ذكروه، فإن الحديث
    أولا: ضعيف.
    ثانيا: لا فرق بين احتكار ما لم يجلب واحتكار ما يجلب من خارج البلد، فما دام أن في الناس حاجة إلى ذلك ففي احتكاره تضييق عليهم، وعلى يظل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحتكر إلا خاطيء) على عمومه، فإن الصور التي استثناها الحنابلة داخلة في عموم النهي، فليس لأحد أن يحتكر شيئا وإن جلبه من خارج البلد، لأنه بذلك قد قدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.

    قوله [ومن باع ربويا بنسيئة واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة]
    قوله (من باع ربويا بنسيئة) كأن يبيع طنا من قمح بألف ريال إلى سنة، فهذا بيع جائز، والربوي هو البر، وبيع البر بالدراهم والدنانير جائزة، فهنا باع كذا صاع من بر بكذا من الدراهم إلى أجل معلوم.
    (13/55)
    ________________________________________
    قوله (واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة) بأن قال لما حل الأجل أعطني بدل الدراهم شعيرا أو برا أو تمرا أو غير ذلك، فهذا لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو بيع البر بالبر نسيئة، والذريعة إلى المحرم محرم، وهذا هو المشهور من المذهب.
    وقال الموفق يجوز مطلقا ما لم يكن حيلة على الربا.
    وقال شيخ الإسلام يجوز عند الحاجة أما عند عدم الحاجة فلا يجوز، أما كونه لا يجوز عند عدم الحاجة فلأجل سد الذرائع الموصلة إلى الربا، وأما كون يجوز عند الحاجة فلأن الشريعة قد أتت لنفي الحرج ورفعه، والقاعدة كما ذكر ابن القيم أن ما حرم تحريم سد الذرائع فإنه يجوز عند الحاجة إليه، لأن تحريمه ليس تحريما أصليا، وإنما لكونه ذريعة إلى غيره، وحيث احتيج إليه فإن تحريمه يزول حينئذ.
    وهذا هو أصح الأقوال، وهذا ما لم يكن تواطؤ منهما أو احتيال (1) .

    قوله [أو اشترى شيئا نقدا بدون ما باع به نسيئة لا بالعكس لم يجز]
    مثاله: اشترى فرسا بألف دينار نقدا، كان قد باعها على هذا البائع سابقا بألف وخمسمائة دينار نسيئة، فهذا لا يجوز، فإذا اشترى شيئا نقدا بدون ما باعه به نسيئة فهذا لا يجوز، وهو مذهب الجمهور خلافا للشافعية، وهذا هو بيع العينة.
    __________
    (1) - قال في الشرح الممتع:" بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، ونأخذ هذا أيضا من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن ربح ما لم يضمن) أي نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك، فمثلا: باع عليه برا بمائتي ريال إلى سنة، ولما حلت السنة قال ليس عند إلا تمر، فقال أنا آخذا التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهما، فهذا لا يجوز، لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه " ا. هـ
    (13/56)
    ________________________________________
    وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيعتين في بيعة) [حم 9301، ت 1231، 1309، ن 4632]
    ولأبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) [د 3461] أي إما أن يأخذ رأس ماله، أو الربا.
    وفي سنن أبي داود والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [د 3462] فهذه هي صورة بيع العينة، أن يبيع الشيء إلى سنة بكذا - أي نسيئة - ثم يشتريها قبل السنة بأقل من الثمن الذي باعه به، فأصبحت السلعة حيلة فيها للوصول إلى عقد ربوي محرم، فكأنه أعطاه ألف دينار، على أن يردها عليه ألفا وخمسمائة، فالسلعة غير مقصودة لذاتها.
    ولذا قال ابن عباس كما روى ذلك الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن أن ابن عباس سئل عن رجل باع حريرة بمائة واشتراها بخمسين، أي باعها بمائة مؤجلة واشتراها بخمسين حاضرة، فقال:" دراهم بدراهم وقعت بينهما حريرة ".
    وقال أيوب رحمه الله كما في كتاب الحافظ محمد بن عبد الله كما في تهذيب السنن:" يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أخذه على جهته كان أسهل ".
    وروى الدارقطني والبيهقي بإسناد حسن وقد حسنه غير واحد من أهل العلم وقال فيه ابن القيم إنه محفوظ عن زوج أبي إسحاق السبيعي أنها دخلت على عائشة، فدخلت أم ولد لزيد بن أرقم فقالت: إنها باعت غلاما لها على زيد بن أرقم بثمانمائة درهما نقدا، ثم اشتريتها منه بستمائة دراهم نقدا،، فقالت عائشة:" بئسما اشتريت وبئسما شريت، أخبري زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إن لم يتب " [سنن البيهقي 5 / 330، سنن الدارقطني 3 / 52] والأثر إسناده حسن، فهذه بيعة العينة.
    (13/57)
    ________________________________________
    * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فله أوكسهما أو الربا) دليل على أنها بيعتان، خلافا لما ذهب إلى الشافعي من أن صورة بيع العينة أن يقول أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا نسيئة، أو بكذا وكذا نقدا، فيتفرقان قبل أن يعينا أحد الثمنين، وحمله الشافعي على أن يقول: بعتك هذا العبد بألف دينار حالة أو بألفين إلى سنة، قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت.
    وهذه في الحقيقة أولا: بيعة واحدة وليست بيعتين، ثانيا: هذه الصورة ليس فيها ربا، وقد قال: (فله أوكسهما أو الربا) ، وإنما هي بيعة جهالة، فالثمن غير معلوم.
    وكذلك يقال في قول سماك وهو من رواة هذا الحديث:" أن يبيع الرجل مع الرجل فيقول: هو علي نساء بكذا وكذا، ونقدا بكذا وكذا " فهذا فيه ما في القول المتقدم، فإن هذه صفقة واحدة، وبيع العينة بيعتان في بيعة.
    أما إن باع السلعة نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا فلا حرج فيه اتفاقا. (1)
    ** فإن تواطآ على بيع العينة فالبيع كله باطل، البيعة الأولى، والبيعة الثانية، كأن يقول أبيعك هذه السيارة بثلاثين ألفا إلى سنة، وأشتريها منك غدا بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الأولى والثانية كلاهما باطل، لأنهما محرمتان جميعا، وما نهى عنه الشارع فهو فاسد، فإن لم يتواطئا على ذلك، فالبيعة الأولى صحيحة، قال شيخ الإسلام إنه قول عن أحمد، ومثال ذلك: رجل باع سيارة على الآخر بثلاثين ألفا إلى سنة، ثم اشتراها منه من غير تواطؤ منهما ولا اتفاق بخمسة وعشرين ألفا، فالبيعة الثانية باطلة لنهي الشارع عنها، وأما الأولى فهي صحيحة، إذا لا دليل على إبطالها.
    __________
    (1) - انظر الفتاوى (19 / 498)
    (13/58)
    ________________________________________
    *** صور بيع العينة ما ذكره ابن القيم في تهذيب السنن فقال:" والصورة الرابعة للعينة وهي أخت صورها أن يكون عند الرجل المتاع لا يبيعه إلا نسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة جاز، وهو نص الإمام أحمد " وهذا ما يقع فيه كثير من الناس، مثل أن يشتري سيارة ولا يفكر أن يبيعها نقدا بل نسيئة، فهذا من صور العينة، وباين هذا أن صاحب البيع النسيئة فقط قصده الثمن فلا قصد له في السلعة أصلا، فهو يتوصل بهذه السلعة ليبيع المال أو الدراهم بأكثر منها، وأما صاحب النقد والنسيئة فهو تاجر من التجار، قال ابن عقيل معلالا نص الإمام أحمد على هذه المسألة:" وهذا لمضارعته الربا فإنه يقصد الزيادة غالبا "، وذكر شيخ الإسلام أن مثل هذا البيع وهو ألا يبيع الإنسان إلا نسيئة أنه بيع على أهل الضرورة والحاجة، فإن هذه السلعة لا يشتريها في الغالب إلا من يتعذر عليه النقد، وهم أهل الضرورة والحاجة، وأما من يبيع نقدا ونسيئة فهو تاجر من التجار وهو يبيع على الناس عامة، المضطر منهم وغير المضطر، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد في جهالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يباع على المضطرين) [حم 939، د 3382] فهذه الصورة على الراجح من صور العينة المحرمة.
    **** مسألة التورق.
    ومسألة التورق تخالف بيع العينة، بأن المشتري لا يبيعها على بائعها الأول، بل يبيعها على شخص آخر، وصورتها: أن يحتاج رجل إلى دراهم، فيشتري سلعة بنسيئة إلى سنة بأكثر من ثمنها نقدا، ثم يبيعها على غير البائع الأول لأنه إذا باعها على الأول فهي بيع العينة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد:
    الرواية الأولى: وهي المشهور عند الحنابلة وهو قول الجمهور أن ذلك جائز، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، لقول الله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، فهذا بيع والأصل في الحل.
    (13/59)
    ________________________________________
    الرواية الثانية: وهي التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول عمر بن عبد العزيز أن ذلك محرم، قال شيخ الإسلام: لأن الأمور بمقاصدها، فهو لم يشتري السلعة إلا قاصدا للثمن، قال رحمه الله:" إذا أتى الطالب ليأخذ دراهم بدراهم أكثر منها - أي هذا هو مقصده - وأعطاه الآخر فهو ربا ولا شك في تحريمه، بأي طريق كان، لأن الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى "، وروجع رحمه الله مرارا - كما ذكر ذلك ابن القيم - وهو يقول بالتحريم ويأبى أن يقول بالحل.
    وما ذهب إليه قول قوي، فإن ذلك ذريعة إلى الربا المحرم، وهذا المشتري للسلعة لم يقصدها بل قصد الثمن، ولا عبرة بالأشياء الظاهرة، وإنما العبرة بالمقاصد والنيات وهو قصده الثمن، وهي ذريعة لفتح الباب المتقدم، فالأظهر ما اختاره شيخ الإسلام وأن التورق محرم خلافا للمشهور عند الحنابلة، وذلك لأن الأمور بمقاصدها ولا عبرة بالظاهر.
    وقوله (لا بالعكس) : تقدمت صورة بيع العينة، وهي أن يبيع الشيء بنسيئة ثم يشتريها نقدا بأقل من ثمن المبيع، وقال هنا لا بالعكس، فعكس هذه المسألة يجوز، والعكس له صورتان:
    الصورة الأولى: وهي أن يبيع الشيء نقدا ثم يشتريه نسيئة بأكثر، مثاله: رجل عنده دار، واحتاج إلى دراهم، فقال لرجل أبيعك هذه الدار بخمسين ألفا نقدا، على أن أشتريها منك بسبعين ألفا نسيئة، فظاهر كلام المؤلف جواز هذا، وهذا ضعيف جدا، وهو مروي عن أحمد أنه يجوز بلا حيلة، والصحيح التحريم، وهو المشهور عند الحنابلة، وهو اختيار ابن القيم، لأنه لا فرق بين هذه الصورة وصورة العينة المتقدمة إلا باللفظ، فلا وجه للقول بجوازها.
    (13/60)
    ________________________________________
    الصورة الثانية: وهي الصور الثانية للعكس المذكور، وهي جائزة كما قال المؤلف، وهي إذا باع الشيء نسيئة إلى سنة بعشرة آلاف، ثم اشتراها نقدا بعد شهر أو شهرين بعشرة آلاف أو أحد عشر ألفا، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، فهي جائزة، وليس فيها حيلة على الربا، ومثال آخر: باع سيارته بنسيئة إلى سنة، ثم رغبتها نفسه فاشتراها بأكثر من ذلك أو بمثله فهذا جائز ولا إشكال فيه.

    قوله [وإن اشتراه بغير جنسه..... جاز]
    مثاله: رجل باع سيارة إلى سنة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بعشرة آلاف دولار، فهنا يجوز، وهذا على القول بان جنس الريالات غير جنس الدولارات.
    وصورة أخرى: باعها بثلاثين ألف ريال إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بكذا طن من القمح، فيجوز، بل قال الموفق: لا أعلم خلافا في جوازها، بمعنى باع الشيء نسيئة، ثم اشتراه بعد ذلك بعرض، فهذا جائز، أما الصورة الأولى فاختار الموفق التحريم، وأنه لا يجوز وهذا هو الظاهر، لأنه باع الشيء نسيئة بدراهم واشتراه بدنانير، وليس هناك فرق بين الدراهم والدنانير، فأحدهما يقوم مقام الآخر، فهما أثمان للأشياء، ويتوجه في الصورة الثانية إن لم يكن فيها إجماعا التحريم إذا كانت قيمة العرض أقل من ثمن النقد، فإنه لا وجه للقول بجوازه، ومثاله: باعه السيارة بثلاثين ألف ريال، ثم اشتراها بكذا طن من القمح، تساوي خمسة عشر ألف ريال، فلا وجه للقول بالجواز، وهذا في الحقيقة حيلة، لأن هذا الغرض له قيمة من الدراهم والدنانير، فباع بالدراهم والدنانير، فيكون كأنه اشتراه بنقد أقل من النقد الذي باعه به.
    [قلت: تحريم هذه الصورة بناء على ما سبق، من اعتبارهم العينة متحققة دون مواطئة، والصحيح كما مضى أن العينة لا تكون عينة إلا باشتراط مسبق بين الطرفين، والله أعلم] .
    (13/61)
    ________________________________________
    إذن إذا اشتراه بغير الجنس الذي باعه فهو جائز عند الحنابلة، ومنع الموفق ابن قدامة الجواز فيما إذا كان نقدا، ويظهر المنع فيما سوى ذلك، إلا أن يكون ثمن الغرض مساويا أو أكثر.

    قوله [أو بعد قبض ثمنه]
    مثاله: باعه هذه السيارة بعشرة آلاف إلى سنة، فلما سدد هذا المشتري القيمة، اشتراها منه بخمسة آلاف أو ستة آلاف، فهذا جائز، ولا إشكال في جوازه إذ العلة المتقدمة قد زالت وما يخشى من الربا قد زال.

    قوله [أو بعد تغير صفته]
    مثاله: باع سيارة بعشرة آلاف إلى سنة، ثم اشتراها بعد ستة أشهر بثمنها الذي يستحقه، وقد تغيرت صفتها، فبعد أن كانت تساوي عشرة آلاف أصبحت تساوي ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، فسبب شرائها بثمن أقل أنه قد تغيرت صفتها، مثل أن تكون قد استخدمت ونزل سعرها، فالنقص بسبب تغير الصفة، ولا بد ألا ينظر إلى قضية التأجيل، فإن نظر إلى قضية التأجيل كان ذلك ممنوعا كما تقدم.

    قوله [أو من غير مشتريه]
    مثاله: رجل اشترى سيارة بالتقسيط، ثم باعها على شخص آخر، فهل للبائع الأول أن يشتريها من هذا المشتري الجديد؟ الجواب: لا مانع من ذلك لزوال العلة المتقدمة.
    [قلت: هذا على شرط عدم وجود الاتفاق بين الأطراف الثلاثة، وإلا حرم] .

    قوله [أو اشتراه أبوه أو ابنه جاز]
    فإذا اشتراها أبوه أو ابنه أو مكاتبه أو نحو ذلك جاز، لأنه لم يشتريها هو، والنهي الوارد فيما إذا اشتراه هو، وليس هذه ذريعة إلى الربا كما تقدم، إلا أن يكون حيلة على ذلك ليتملكها هو - أي الأب مثلا - ثم يأخذها من أبيه بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهذه حيلة فلا تجوز، فإذا اشتراها أبوه أو ابنه فهم أجانب عن البيع فلا إشكال في جواز ذلك، لكن إن كان ذلك حيلة على الربا فهو محرم كما تقدم.

    باب الشروط في البيع

    الفرق بينه وبين شروط البيع من عدة أوجه:
    1- أن شرط البيع من وضع الشارع، وأن الشرط فيه من وضع المتعاقدين.
    (13/62)
    ________________________________________
    2- أن شروط البيع كلها صحيحة، وأما الشروط في البيع فمنها الصحيح ومنها الباطل.
    3- أن شروط البيع تتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزومه.
    4- أن شرط الشارع لا يسقط، وشرط العاقد وهو الشرط في البيع لمن شرطه أن يسقطه.
    وتعريف الشرط في البيع: هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما لا يقتضيه العقد، والذي يقتضيه العقد هو أن تكون السلعة ملكا للمشتري، والثمن ملكا للبائع، وأن يسلم كل واحد منهما الآخر ما له بعد تمام العقد، أما مثال الشرط في البيع فهو أن يشترط أحدهما على الآخر حملان المبيع أو أن يبيع عبدا بشرط أن يعتقه.
    والأصل في الشروط الحل، إلا أن يدل دليل على بطلانه كما قرر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) [خ 2168، م 1504] فلا يحرم من الشروط إلا ما دل الشرع على بطلانه نصا أو قياسا.
    (13/63)
    ________________________________________
    واعلم أن المعتبر عند الحنابلة من الشروط ما كان في صلب العقد أي مقارنا للعقد، بمعنى أن يشترطاه أو يشترطه أحدهما أثناء العقد، فإن كان الشرط سابقا للعقد فليس بمعتبر، ولا يلزم المشروط عليه الوفاء به، مثاله: قيل لرجل: هل تبيع بيتك؟ قال: أنا لا أبيعه إلا بشرط أن أسكنه شهرا، ثم سكتا سكوتا فاصلا، ثم عقدا البيع، ولم يذكر البائع ذلك الشرط، فحينئذ لا يعتبر الشرط عند الحنابلة، وهذا القول ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام أن الشرط السابق للعقد كالمقارن له، قال صاحب الفروع:" ويتوجه كنكاح " أي كما أن النكاح يعتبر فيه الشرط السابق وإن لم يقارن العقد فكذلك في البيع، وهذا هو الراجح، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن بشواهده: (المسلمون على شروطهم) [ت 1352، وذكره البخاري معلقا مجزوما به] وهذا شرط، ولأن العاقد المشترط لم يبع هذه السلعة إلا بهذا الشرط، فهو لا يرضى بانتقالها عن ملكه إلا بهذا الشرط، فكان عدم وجود الشرط مخلا بالرضا في العقد، والذي هو من شروط البيع.

    قوله [منها صحيح كالرهن المعين]
    أي أن الشروط في البيع منها الصحيح المعتبر كالرهن، كأن يقول: أنا أبيعك هذه السلعة بشرط أن أرهن بيتك أو سيارتك أو نحو ذلك، فهذا شرط صحيح، كذلك إذا اشترط ضامن كأن يقول أبيعك بشرط أن تأتي بضامن، فإن لم تأت بضامن فلي الفسخ، فكذلك هذا شرط صحيح.

    قوله [وتأجيل الثمن]
    كأن يقول: أشتري منك هذه السلعة بشرط أن أعطيك ثمنها بعد شهر، فهذا شرط صحيح.

    قوله [وكون العبد كاتبا أو خصيا أو مسلما والأمة بكرا]
    هذه شروط صحيحة لأنها لا تخالف كتاب الله.

    قوله [ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهرا]
    مثاله: أن يقول أبيعك داري بشرط أن أسكنه شهرا ونحو ذلك، فهذا جائز.

    قوله [وحملان البعير إلى موضع معين]
    (13/64)
    ________________________________________
    قوله (معين) أتى بهذا القيد لأنه لو قال (إلى موضع) فإن فيه جهالة، والجهالة ممنوعة، فلا بد أن يكون الأجل معلوما، والموضع في الحملان معلوم، وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله، قال: بعنيه بوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك) [خ 2718، م 715] ، فهذا شرط صحيح.

    قوله [أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله]
    قوله (تفصيله) التفصيل غير الخياطة، فالتفصيل هو أن يقطع الثوب حتى يتهيأ للخياطة، والشروط التي ذكرها المؤلف شروط صحيحة، لأنها لا تخالف كتاب الله، ولأنها لا تحالف مقتضى العقد، فإن وفى المشروط وإلا فلمن اشترط الفسخ.

    قوله [وإن جمع بين شرطين بطل البيع]
    (13/65)
    ________________________________________
    ولذا قال المؤلف (وإن اشترط على البائع حمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله) ، فلو اشترط الحمل والتكسير لم يصح فهما شرطان، هذا هو المشهور من المذهب، وأنه إذا شرط شرطين فإنه لا يصح، وإن كان كل شرط بمفرده صحيحا، وقد روى الخمسة والحديث حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) [حم 6633، ت 1234، ن 4611، د 3504، جه 2188] والشاهد في قوله (ولا شرطان في بيع) ، قالوا: فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين شرطين في بيع، وإن كانا شرطين صحيحين، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، لأنه لا يخالف كتاب الله، قالوا: ولا مانع فيه، فإن صحة الشرط لا يبطلها صحة شرط آخر، فهذا شرط صحيح، وهذا شرط صحيح، وكلاهما معتبر، فإذا اجتمعا لم يبطلاه كما لو انفردا، والمعنى يدل على ما قالا، وهذا لا يخالف كتاب الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) قالوا: وليس في كتاب الله ما يدل على إبطال هذه الشروط، وأجابوا عن حديث: (ولا شرطان في بيع) أن المراد به البيعتان في بيعة، وهي بيع العينة، ويدل على هذا أن في موضع هذه اللفظة في مسند أحمد (ولا بيعتين في بيعة) [حم 6879] قالوا: البيعتان في بيعة شرطان في بيع، لأن كل بيعة شرط، فإذا تبايع الاثنان فالبيع بينهما شرط لأن كلا منهما التزم بهذا البيع كما هو ملتزم بالشرط، فالبيع شرط، وهذا القول هو الراجح، إذ لا معنى للنهي عن هذا البيع الذي فيه شرطان صحيحان.

    قوله [ومنها فاسد يبطل العقد]
    فهذا الشرط يبطل العقد، فليس الشرط باطل فحسب، بل الشرط والبيع باطلان، ومثاله:
    (13/66)
    ________________________________________
    قوله [كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا آخر كسلف وقرض وبيع وإجارة وصرف]
    قوله (كسلف) السلف هو السلم، وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن.
    فلا يحل بيع سلف، بأن يقول: أبيعك هذه الدار بشرط السلم بيني وبينك، بأن تعطيني عشرة آلاف وأعطيك بعد سنة كذا وكذا من القمح، والراجح جوازه ما لم يكن حيلة إلى الربا، وأما الحديث فالسلف فيه هو القرض كما قال البغوي وغيره، ولا محذور في الجمع بين السلف والبيع ما لم يكن حيلة إلى الربا، وصورة اشتراط القرض في البيع، أن يقول: أبيعك واشترط أن تقرضني مائة ألف، فهذا قالوا: لا يجوز لأنه قد اشترط عقدا في البيع، كذلك بيع وإجارة، كأن يقول: أبيعك بشرط أن تؤجرني هذه الدار، أو صرف كأن يقول: لا أبيعك إلا بشرط أن تصرف هذه المائة دينار إلى دراهم، وكذلك إذا قال: لا أبيعك حتى تشاركني في الأرض أو نحو ذلك، فهذا كله يبطل العقد، فإذا عقدا مع البيع عقدا آخر، فالبيع باطل والعقد الآخر باطل.
    وهذه الصور التي ذكرها المؤلف هي مسائل مجتمعة ذات أحكام متفرقة على الصحيح، لا كما قال المؤلف من أنها يبطل بها العقد مطلقا، أما البيع والقرض فإن ما ذهب إليه المؤلف ظاهر، فإن فيه ربا أو ذريعة إلى الربا، وهو بمعنى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل بيع وسلم) فهو ذريعة إلى الربا الذي نهى عنه الشارع، وكذلك إذا قال: أبيعك كذا بشرط أن تقرضني، فهذا يكون من القرض الذي جر نفعا فهو ربا، فعقد القرض إذا دخل في البيع فإنه لا يصح ويبطل العقد.
    أما ما سوى ذلك فالصحيح أنه جائز، وهو مذهب الإمام مالك، إذا لا دليل على المنع، فإذا قال: أبيعك هذه الدار على أن تشاركني في كذا، أو قال: أبيعك هذه الدار على أن تنكحني ابنتك، أو قال: أبيعك هذه الدار على تستأجر بيتي، فهذا كله جائز، إذ لا دليل على المنع، والأصل في المعاملات الحل.
    (13/67)
    ________________________________________
    واستدل الحنابلة بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، قالوا: وهاتان بيعتان في بيعة، والصحيح أن البيعتين في بيعة هي بيع العينة كما تقدم عن ابن القيم وشيخ الإسلام وغيرهما، وأما هنا فليس كذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فله أوكسهما أو الربا) وليس هذه في مثل الصور المتقدمة.

    قوله [وإن شرط ألا خسارة عليه]
    مثاله أن يقول: سأشتري منك هذه السلعة بشرط ألا خسارة علي، فإن بعتها بخسارة فهي عليك، أي على البائع، فهذا لا يصح، قالوا: لأنه يحالف مقتضى العقد، فإن مقتضى العقد أن الشخص يملك السلعة إذا اشتراها وكونه يربح أو يخسر هذا أمر راجع له، وأما السلعة فإنها تملك بالبيع، فلا يصح أن يشترط ألا خسارة عليه، ولأن الخراج بالضمان فالضمان عليه وعلى ذلك فالخسارة عليه والربح له.

    قوله [أو متى نفق المبيع وإلا رده]
    مثاله: قال للبائع: أنا أشتري منك كذا من البر وأبيعها، فإن نفقت، وإلا رددتها عليك، أو رددت الذي لم ينفق عليك، قالوا: هذا لا يصح للمعنى المتقدم من أنه يخالف مقتضى العقد.

    قوله [أو لا يبيع ولا يهبه ولا يعتقه]
    مثاله: أن يقول: بعتك هذا العبد بشرط ألا تبيعه، أو بشرط ألا تهبه، أو بشرط ألا تعتقه، فهذا كله باطل، لأن مقتضى العقد أن يتصرف البائع بسلعته كيف شاء، فإذا اشترط عليه ألا يبيع أو ألا يهب أو ألا يعتق فهذا يحجر عليه.

    قوله [أو إن عتق فالولاء له]
    (13/68)
    ________________________________________
    مثاله: أن يقول بعتك هذا العبد، لكن اشترط عليك إن أعتقته أن يكون الولاء لي، فهذا الشرط باطل، ودليل بطلانه ما ثبت في الصحيحين في قصة بريرة لما أرادت عائشة أن تشتريها، فاشترطوا على عائشة أن يكون الولاء لهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما لولاء لمن أعتق) فإنه لا عبرة بهذا الشرط، ومنه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)
    قوله [أو أن يفعل ذلك]
    مثاله: أن يقول له: أبيعك هذا السلعة بشرط أن تبيعها أو بشرط أن تهديها أو بشرط أن تعتقه، لكنه استثنى العتق فقال: (إلا إذا شرط العتق) فإذا قال: أبيعك بشرط أن تعتقه فهذا صحيح، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الشارع يتشوف إلى العتق ويرغب فيه، فإذا اشترط العتق فهو شرط صحيح، وقال بعد ذلك:

    قوله [بطل الشرط وحده إلا إذا شرط العتق]
    فالمسائل السابقة كلها يبطل فيها الشرط وحده، وأما البيع فيصح، ويكون المشترط بالخيار، إن شاء أمضى، وإن شاء فسخ، فإذا اشترط مثلا ألا يبيعه، فهذا الشرط باطل، ويصح البيع الأول، وللمشترط الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخ.
    (13/69)
    ________________________________________
    أما مسألة اشتراط الولاء فما ذهب إليه الحنابلة هو الصحيح، فالشرط باطل، لأنه شرط يخالف كتاب الله، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، فإن تراضيا عليه فلا عبرة بتراضيهما على شرط يخالف كتاب الله، وأما سوى ذلك مما ذكروه فاختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد أن هذه الشروط صحيحة، فإذا قال: أبيعك بشرط أنه ما لم ينفق أرده عليك، أو بشرط ألا خسارة علي أو نحو ذلك مما تقدم فالشرط والبيع صحيحان، بشرط أن يكون للبائع قصد وغرض صحيح لا مجرد التحجير على المشتري، مثال ذلك: رجل عنده جارية، ويكره أن يتملكها أي أحد، ويجب أن يتملكها من هو مستحق لها، فقال: أبيعها عليك بشرط ألا تبيعها، أو بشرط ألا تبيعها إلا وأن أكون أنا أحق بالبيع بالثمن نفسه، أو ألا تبيعها إلا على من يتصف بكذا وكذا ونحو ذلك، أو أن يكون الشرط في مصلحة المبيع نفسه، كأن يقول أبيعك عبدي بشرط ألا تبيعه لفاسق، فهذه الشروط صحيحة لأن لها غرضا صحيحا، ولا دليل على القول ببطلانها، واختيار شيخ الإسلام هو الصحيح، إن كان هناك غرض صحيح كما سبق، أو مصلحة للمبيع، فإذا تراضى المتعاقدان فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) .
    لكن إن قال أشتريه منك بشرط ألا خسارة علي فلا يظهر أن في هذا قصدا صحيحا، فإن قضية الخسارة والربح ليس لها ارتباط باحتياط المكلف لنفسه، فالأظهر في مثل هذا أن ذلك الشرط غير صحيح، وعلى كل حال فالراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام وأنه إذا كان هناك غرض صحيح فإنه يصح.

    قوله [وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح]
    (13/70)
    ________________________________________
    مثاله: إذا قال البائع للمشتري بعتك هذه السلعة بألف درهم مؤجلة إلى ثلاثة أيام بشرط أنك إذا لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام فالبيع رد، قال المؤلف هنا: (صح) لحديث: (المسلمون على شروطهم) وهذا شرط فيجب الوفاء به، فإن لم يوف به بطل البيع، كما أن الأصل في الشروط الصحة، وهو لا يخالف كتاب الله، وهذا كما لو باع واشترط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي الكلام عليه وأنه من الخيار الجائز، وهذا نظير المسألة الأولى وقد أجازه الشرع.

    قوله [وبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد..... لا يصح]
    إذا قال بعتك إن جئتني بكذا، أو قال: بعتك إن رضي زيد، فهذا بيع معلق، وليس بيعا منجزا، فلا يصح وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن البيوع تكون منجزة لا معلقة، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن أحمد جواز ذلك، وأن البيع المعلق صحيح، وقد دلت القاعدة المتقدم ذكرها وهي أن الأصل في العقود الحل، وهذا عقد من العقود، وهذا التعليق لا يخالف كتاب الله، فلا وجه للمنع، والبيع مما تعارف عليه الناس، سواء كان منجزا، أو معلقا، فلم يحدد لنا الشارع التنجيز في البيع، بل أطلقه، فيرجع إلى ما تعارف الناس عليه، وهذا القول هو الصحيح، وعلى ذلك إذا قال: أتعاقد أنا وإياك على هذا البيع لكن بشرط أن يرضى أبي أو أمي فإن لم يرض فلا بيع، فهذا جائز على الصحيح.

    قوله [أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك لا يصح البيع]
    (13/71)
    ________________________________________
    هذه صورة ثالثة مما لا يصح فيها البيع، وهي رجل اشترى سلعة ووضع رهنا عند مالك السلعة، وقال: إن جئتك بالثمن إلى عشرة أيام وإلا فهذا الرهن لك، أي هو ملك لك، وهذا في الحقيقة بيع معلق، فهو كالصورتين السابقتين، لأنه باعه هذا الرهن بشرط أن يكون البيع لهذا الرهن معلقا، والشرط الذي يقتضي تعليق الرهن هنا هو أنه إذا لم يأته بالثمن إلى عشرة أيام، فكأنه يقول: الرهن إن لم آتك بالثمن إلى عشرة أيام هو لك، فهو بيع معلق، ويستدل الحنابلة على عدم جواز هذه الصورة فضلا عما سبق في الصورتين السابقتين بما رواه الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يَغْلَقْ الرهن عن صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] أي لا يؤخذ منه فيتملك من قبل المرتهن، وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد بل فعله الإمام أحمد أن ذلك جائز، واستدلوا بما تقدم وهو أن الأصل في العقود الحل، وهذا بيع للرهن على سبيل التعليق، فهو كالصورتين السابقتين التين تقدم جوازهما، قالوا: والحديث إنما ينهى عن أن يغلق عليه من غير رضا منه كما كان في الجاهلية، فإن الرجل إذا وضع الرهن ثم لم يأت بالثمن فإنه يؤخذ منه قهرا، فيتملكه المرتهن، فهذا كان من عمل الجاهلية فنهى عنه الشارع، وليست هذه المسألة من هذا الباب، فإن الرهن هنا لم يغلق من صاحبه، بل هو قد أغلقه على نفسه بشرطه الذي اشترطه، والمسلمون على شروطهم، وهذا القول هو الصحيح، لكن إن لم يكن الغبن فاحشا، فإن كان فاحشا فالراجح ما ذهب إليه الجمهور لا سيما إن غلب على التأخير.
    * هل يجوز بيع العربون وإجارة العربون؟
    (13/72)
    ________________________________________
    وصورة هذه المسألة أن يشتري الرجل السلعة من أحد الناس ويقول: لي الخيار ثلاثة أيام، وهذا مبلغ عندك فإن اشتريت السلعة أكملت لك المتبقي من الثمن، وإلا فإن هذا المبلغ المقدم لك، وهي صورة مشهورة عند الناس، وتسمى بالعربون، وفيها قولان لأهل العلم:
    1- قال الجمهور إن هذا محرم، لأنه أكل للمال بالباطل، فلا حق له بأكله، وروى أبو داود في سننه وهو في موطأ مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العربان) [حم 6684، د 3502، جه 2192] أي العربون.
    2- وقال الحنابلة بيع العربون جائز، ومثله إجارة العربون بأن يدفع شيئا للمؤجر ويقول إن عزمت على الاستئجار وإلا فهذا الثمن لك، وقد لا يقع بينهما عقد، ويقول هذا المال، وأنا أفكر وأتأمل فإن عزمت على الشراء أكملت ما تبقى من الثمن، وإلا فإن هذا المال لك، واستدلوا بما رواه البخاري معلقا وذكره صاحب المغني وذكر أن الإمام أحمد احتج به، وأن الإمام أحمد قيل له: أتذهب إليه؟ فقال: لم، وهو قول عمر، والأثر:" أن نافع بن الحارث عامل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مكة اشترى دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا " [خ تعليقا (كتاب الخصومات - باب الربط والحبس في الحرم) ] ولا يعلم له مخالف، قالوا: وأما الحديث الذي ذكره الجمهور فإن إسناده منقطع، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة كالإمام أحمد، قالوا: وليس هذا بأكل لأموال الناس بالباطل، فإنه إنما يأخذ المال بسبب تربصه انتظاره، وبقاء السلعة بيده من غير بيع، فإنه يتربص وينتظر حتى يعزم هذا المشتري على الشراء، وقد لا يعزم فيكون قد تربص بهذه السلعة بدون أن يقدر على بيعها، فهذا ليس من أكل أموال الناس بالباطل، فإنه قد تعود عليه مصلحة وقد يلحق به الضرر بسبب التربص، قالوا: ولأن الأصل في المعاملات الحل، وهذا القول هو الصحيح.
    (13/73)
    ________________________________________
    قوله [وإن باعه بشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ]
    مثاله: إذا قال هذه السلعة أمامك، وأنا بريء من كل عيب مجهول، ليبطل عليه خيار العيب، فإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا يكون له الخيار، قال المؤلف: (لم يبرأ) بل للمشتري إذ وجد السلعة معيبة بعد ذلك حق الخيار، فله إما الفسخ أو الإمضاء مع الأرش، وذلك لأن خيار العيب إنما يثبت بعد البيع، ولا يثبت قبله، وهو إنما يثبت بعد الاطلاع على العيب، وهذا هو المشهور عند الحنابلة، وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية: يبرأ إلا أن يكون قد علم بالعيب فلا يبرأ، أما إن كان هذا القائل جاهلا بعيوب هذه السلعة ولا يعرف عيوبها فيقول: أن أبيعك هذه السلعة وأنا لا أعرف هل فيها عيب أم لا، وأريد أن تبرأني من كل عيب مجهول، فإن شئت تشتريها هكذا، وإلا فلا أبيعها عليك، وهو صادق من حيث كونه لا يعلم إن كان فيها عيب أم لا، فإن هذه التبرئة صحيحة معتبرة، وذلك لأن الطرف الآخر قد أسقط حقه ولم يقع غش ولا خداع ولا غرر من البائع.
    أما إذا قال: أنا بريء من كل عيب مجهول، وكان البائع عالما بوجود عيب فإن هذا لا يقبل ولا يعتبر، بل الخيار ثابت، وذلك لأن هذا غش وخداع وغرر، فكان الخيار ثابتا، وما قاله رحمه الله ظاهر، فإنه إذا لم يعلم شيئا من العيوب فإنه لم يقع منه ما يقتضي جواز الفسخ للآخر وقد أسقط الآخر حقه، وأما إذا كان عالما بالعيوب فإنه قد غش وخدع، فعند ذلك يثبت الخيار للآخر، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه والبيهقي بإسناد صحيح أن ابن عمر - رضي الله عنه - باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء لم تسمه لي، فاختصما إلى عثمان، فقضى على ابن عمر أن يحلف له، لقد باعه العبد وما به داء يعمله، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فصح عنده، فباعه بألف وخمسمائة.
    (13/74)
    ________________________________________
    أما إذا سمى العيب ومع ذلك اشتراها وبرأه من العيب فإن الخيار لا يثبت بعد ذلك، وذلك لأنه قد أطلعه على العيب فرضي به وأسقط حقه في الخيار.

    قوله [وإن باعه دارا على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر أو أقل صح]
    مثاله: إذا قال أبيعك هذه الدار وهي عشرة أذرع، واتفقا على ذلك، فبانت تسعة أذرع أو بانت أحد عشر ذراعا، صح البيع، وما كان من زيادة فللبائع، وما كان من نقص فعليه، فإذا كان هناك زيادة فيؤخذ من الأرض عشرة أذرع ويترك الباقي للبائع، وإن كان هناك نقص فعليه الثمن الفارق، فمثلا باعه عشرة أذرع بألف درهم، فبانت تسعة أذرع، فإنه يعطيه مائة درهم، والبيع صحيح لأن الشروط قد توفرت.

    قوله [ولمن جهله وفات غرضه الخيار]
    مثاله: إن قال المشتري أنا أجهل أنها تسعة أذرع وأظنها عشرة أذرع، وغرضي يفوت، فإني أريد أرضا قدرها كذا وكذا من الأذرع، وهذه الأرض التي اشتريتها لا تفي بالغرض، فإن له الخيار، وإن أعطاه الثمن الفارق، فإن له رفضه وفسخ البيع، وذلك لفوات غرضه.
    * فالبيع صحيح، لكن هل يثبت له الخيار؟
    إن جهل وفات غرضه فله الخيار، وهذا الخيار بفوات غرضه، وشرطه الجهل، لأنه إذا دخل على بصيرة فليس له الخيار، فإنه دخل على علم ومعرفة فلا يحق له والحالة هذه الفسخ، أما إذا كان جاهلا لكن لم يفت غرضه فإنه حينئذ يلزم بالبيع ولا يثبت له الخيار، لأن البيع قد لزم، وليس له غرض معين بما حدده.

    باب الخيار
    الخيار اسم مصدر من اختار، والمصدر اختيارا، والخيار: هو الأخذ بخير الأمرين بين الإمضاء والفسخ.

    قوله [وهو أقسام، الأول: خيار المجلس]
    (13/75)
    ________________________________________
    قالوا: وهو خيار مكان التبايع، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا) [خ 2079، م 1532] وفي الصحيحين أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحد منهما البيع فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] فهذان الحديثان يدلان على ثبوت خيار المجلس، أو خيار عدم التفرقة.
    وظاهر ما تقدم أن الخيار يثبت في مكان البيع، وأنهما إن لم يكونا في مكانه، وإن لم يتفرقا فإن الخيار ينتهي، لأنه مرتبط بعدم مفارقتهما للمكان، هذا هو ظاهر كلامهم، وظاهر الحديث خلاف هذا، وأنهما إذا كانا جميعا فالخيار باق، فلو كانا في سفر وهما في سيارة فالخيار باق، مع أن السيارة تنتقل من موضع إلى موضع، أما إذا تفرقا فإن البيع يمضي ولا فسخ.
    ولم يقل بخيار المجلس الإمام مالك احتجاجا بعمل أهل المدينة، والحديث حجة عليه، ولا يصح حمل الحديث على تفرق الأقوال لأن الأقوال مجتمعة بالإيجاب والقبول لا متفرقة، وتأويلهم البائع بالسائم ضعيف جدا لأن الأصل الحقيقة أولا، وثانيا: أن الخيار للسائم معلوم لا يحتاج إلى بيان، والقول بخيار المجلس هو قول سعيد بن المسيب وهو إمام أهل المدينة في عصره، فكيف يقال إن إجماع أهل المدينة على خلافه.

    قوله [يثبت في البيع والصلح بمعناه]
    (13/76)
    ________________________________________
    أما في البيع فظاهر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار) ، وقوله (والصلح بمعناه) أي الصلح الذي بمعنى البيع، وهو الصلح الذي يتم بعوض، كأن يقر رجل لآخر بسلعة قد اختلفا فيها، فيأخذ صاحب السلعة من المقر عوضا عن سلعته، فيقول مثلا: هذه سلعتك وأصالحك عليها بأن أدفع لك كذا وكذا، فهذا صلح بمعنى البيع، وذلك لاشتماله على العوض، فهو بيع فثبت فيه الخيار.
    فالحديث ورد في البيع فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات.

    قوله [وإجارة]
    كذلك الإجارة يثبت فيها الخيار، فإن استأجر شيئا، وقلنا إن الإجارة من العقود اللازمة، فإن الإجارة بعوض، فهي بيع، لكنه بيع منفعة، ففيها معنى البيع، لاشتمالها على العوض، فإذا اتفقا على أن يستأجر منه هذه الدار ستة أشهر، بعشرة آلاف، وهما بعد لم يتفرقا، فأراد أحدهما الفسخ فله ذلك، ولكل منهما الخيار.

    قوله [والصرف والسلم]
    فكذلك يثبت فيهما الخيار، لأنهما بيع.

    قوله [دون سائر العقود]
    كالرهن والحوالة والضمان والشركة والمساقاة والمزارعة (على القول بأن العقد فيهما جائز وليس بلازم وهو أحد الوجهين في المذهب) والهبة والوقف والوصية وغير ذلك من العقود، فهذه العقود لا يثبت في خيار المجلس، وذلك لأن هذه العقود إما أن تكون غير لازمة، أي عقود جائزة، والعقد الجائز لا يحتاج إلى الخيار فهو جائز، فللشص أن يمضيه وله أن يفسخه من غير أن يحتاج إلى خيار، كعقد الشركة، فلكل واحد منهما الفسخ فلا يحتاج إلى خيار، وهذا باتفاق العلماء، ومنها - أي مما تقدم - ما هو عقود لازمة لكن لا عوض فيها كالوقف والوصية، فهي عقود لازمة ولا عوض فيها، ولذا فلا تلحق بالبيع، وقد نص الشارع على البيع فليحق به ما هو في معناه، وحيث كان العقد اللازم لا عوض فيه فإنه ليس في معنى البيع، وعلى هذا فسائر العقود ليس فيها خيار.
    (13/77)
    ________________________________________
    وحكى الوزير الاتفاق على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود غير اللازمة كالشركة ولا في العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض كالنكاح.

    قوله [ولكل من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما]
    فلكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما، وعلم من كلام المؤلف أن المرجع في التفرق إلى العرف، وذلك لأن كل ما لم يضع الشارع له حدا فإنه يرجع فيه إلى العرف، فالشارع قال: (ما لم يتفرقا وكانا جميعا) فيحتاج إلى تحديد التفرق، بأي شيء يكون؟ فلم يضع الشارع لنا حدا فيه، فالعرف يكون هو الحد.
    فإذا كانا في غرفة فخرج أحدهما منها فهو تفرق في العرف، وكذلك إذا كان في فضاء كأن يكونا في السوق فإذا استدبر أحدهما الآخر فمشى خطوات يسيره فالعرف يقول هذا تفرق، وإذا كانا في سفينة أو سيارة فكان أحدهما في أعلاها والآخر في أسفلها فهذا تفرق في العرف، وهكذا.

    قوله [وإن نفياه أو أسقطاه سقط]
    إن نفياه قبل العقد فقال أحدهما أريد أن نتعاقد على هذا البيع بشرط ألا خيار بيني وبينك، فقال الآخر: رضيت، فهذا صحيح، وإسقاطه يكون بعد ثبوت العقد.

    قوله [وإذا أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر]
    (13/78)
    ________________________________________
    ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أو يخير أحدهما الأخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) [خ 2112، م 1531] ولأنه حق لهما لمحض مصلحتهما، فإذا أسقطاه أو نفياه أو أسقطه أحدهما فإنه يسقط، أما الآخر الذي لم يسقط حقه فإنه لا يسقط، ويدل لهذا أيضا ما رواه الخمسة إلا ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البائع والمبتاع بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار - أي عقد فيه خيار - ولا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله) [حم 6682، ت 1247، ن 4483، د 3456] أي ليس لأحدهما أن يبادر الآخر بالمفارقة خشية أن يستقيل الآخر البيع، أي يرجع فيه بحق الخيار الذي هو له، فهذا لا يجوز، وهو الصحيح في المذهب، أما إذا فعل ذلك بغير نية تضييع حقه في الرجوع عن البيع فلا شيء في ذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات) ، وأما ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - كما في البخاري أنه باع مالا له بالوادي بمال لعثمان بخيبر، قال: فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع، فالجواب عنه من وجهين:
    الوجه الأول: أن يقال: لعله لم يبلغه النهي.
    الوجه الثاني: أنه بادره لطول مجلس عثمان - رضي الله عنه - فإنه كان الخليفة.
    فإن فارقه خشية أن يستقيله فقد قال الحنابلة: ويثبت التفرق بذلك، في هذا نظر، بل الأظهر أن التفرق لا يثبت، لأنه تفرق غير شرعي، فهو تفرق منهي عنه، وما دام منهيا عنه فهو فاسد، لا عبرة به، وعلى هذا يثبت الخيار ولا يثبت التفرق لما سبق، وإذا جوزنا ذلك وقلنا إن التفرق يثبت فإننا بذلك نفتح بابا لمثل هذا الفعل، فالأصح أنه لا يثبت التفرق ويظل الخيار كما هو.
    (13/79)
    ________________________________________
    ومما لا يقع فيه الخيار العتق، فإذا اشترى رجل من آخر رقيقا يعتق عليه، أو يقول المشتري: إذا اشتريت فلانا فهو حر، فإذا اشتراه فإنه يعتق مباشرة ولا خيار، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، ومثل ذلك الكتابة، فلو أن رجلا كاتب مملوكه على كذا وكذا من الأقساط يدفعها له شهريا أو سنويا، فليس للسيد الخيار في مثل هذا العقد، وإن كان بمعنى البيع، وذلك للعلة السابقة، وهي تشوف الشارع إلى العتق، قالوا: ومثل ذلك إذا كان متولي طرفي العقد واحد، كرجل وكل من بائع أن يبيع له، ومن مشتري أن يشتري له، فهنا لا خيار، إذ لا يمكن إثبات الخيار لتعذر التفرق في الشخص الواحد.
    وقال بعض أهل العلم من الحنابلة: بل يثبت الخيار، ويكون الخيار ما دام في المجلس الذي أوقع فيه العقد، والذي يظهر هو القول الأول، وان هذا إنما حيث كان طرفا العقد شخصين، لئلا تخرج السلعة من صاحبها إلا بعد الرضا التام، وحيث كان واحدا فإن هذا لا يحتاج إليه، إلا أن يكون الخيار له بالنظر في مصلحة كل من الطرفين الذين تولى عنهما البيع والشراء فقد يكون في القول الثاني قوة.
    * وهل يورث الخيار؟
    فيه قولان في المذهب، ومثاله: إذا مات الرجل في مجلس الخيار، فهل يورث خياره أم لا؟ فقال بعضهم إنه لا يورث، لأن الموت أعظم فرقة، وهذا هو المشهور من المذهب، وقال بعض أهل العلم إنه يورث، وهذا هو القول الثاني في المذهب، وذلك لأن الخيار حق له فيورث كسائر الحقوق، والقول الأول أظهر لأن الأصل لزوم البيع والموت أعظم فرقة.

    قوله [وإذا مضت مدته لزم البيع]
    أي إذا تفرقا في مدته لزم البيع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع) ، فمراد المؤلف بقوله (وإذا مضت مدته) أي مدته التي تقدمت أنها معتبرة بحسب العرف، وهو التفرق العرفي بالأبدان.
    (13/80)
    ________________________________________
    قوله [الثاني: أن يشترطاه في العقد مدة معلومة ولو طويلة]
    هذا هو النوع الثاني من أنواع الخيار، وهو خيار الشرط.
    والفارق بين خيار المجلس وبين خيار الشرط أن خيار المجلس من وضع الشارع، وأما خيار الشرط فهو من وضع المتعاقدين، فخيار الشرط خيار وضعي، وأما خيار المجلس فهو خيار شرعي.
    وخيار الشرط يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، ويدل عليه قول الله تعالى {أوفوا بالعقود}
    وقوله (أن يشترطاه) ظاهره أنهما لو اشترطاه قبل العقد فليس بمعتبر، وأنه يشترط أن يكون في صلب العقد، فلو قال رجل لآخر: لو بعتني سلعتك على أن يكون الخيار لي شهرا، فقال الآخر بعتك، فقال: قبلت، فشرطه هذا ليس بمعتبر، لأنه ليس في صلب العقد، وإنما يكون معتبرا إذا قال: بعني على أن يكون الخيار لي لمدة شهر، ثم يقول: قبلت، والراجح في هذه المسألة نظير المسألة السابقة، وأن هذا داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وهذا عام في الشروط كلها، سواء كانت في صلب العقد أم قبله، وتقدم الاستدلال بمزيد أدلة على هذه المسألة في الشروط في البيع، فقد تقدم أن الشروط في البيع في المشهور من المذهب لا تصح إلا في صلب العقد، وتقدم أن الراجح أنها تصح قبله.
    وكما أن خيار الشرط يصح في صلب العقد، فيصح أثناء مدة الخيار، سواء كان الخيار خيار شرط أو خيار مجلس، فإذا قال: بعتك هذه السلعة على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، فقال: قبلت، فقبل أن تتم المدة قال: أريد أن يكون الخيار شهرا، فإن ذلك مقبول لأن البيع لم يجب بعد، ومثل هذا في خيار المجلس، بأن قال قبل أن يتفرقا: اشترط الخيار لمدة شهر، وكانوا لم يشترطوا ذلك في العقد، فإن ذلك جائز.
    (13/81)
    ________________________________________
    وقوله (مدة معلومة ولو طويلة) ولو كانت شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين، فإن ذلك يصح، فلو اشترى من آخر بيتا، وقال لي الخيار سنة، فذلك جائز، قالوا: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، إلا أن يكون مما لا يبقى إليها في العادة، وقال الأحناف والشافعية: لا يصح إلا ثلاثة أيام، قالوا: لأن الأصل إمضاء البيع، ولم يثبت لنا خيار في الشرع أكثر من ثلاثة أيام، كما في خيار التصرية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المصراة: (فله الخيار ثلاثة أيام) وكذلك أثبته للمسترسل كما في سنن الدارقطني والبيهقي أن له الخيار ثلاثة أيام، قالوا: فهذا أقصى حد لمدة الخيار في الشرع فلا نزيد عليه، وقال المالكية: الأصل أنه ليس له الخيار إلا ثلاثة أيام، إلا أن يحتاج إلى هذا كأن تكون السلعة من السلع التي لا يكفي فيها ثلاثة أيام، أو يكون عنده سفر أو مرض أو نحو ذلك مما يعيقه عن النظر في السلعة، فهنا يمكنه أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام بحسب المدة التي يحتاج إليها، وأظهر المذاهب فيما يظهر مذهب الحنابلة، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) ، وأما خيار التصرية وأنه أقصى خيار ثبت في الشرع ففرق بين ما وضعه الشارع، وما وضعه المتعاقدان، فإن خيار الشرط من وضع المتعاقدين، فما دام أنهما قد تراضوا على مدة معلومة، فإن ذلك جائز.
    (13/82)
    ________________________________________
    وقوله (معلومة) يدل على أنها لو كانت مجهولة فإن الخيار لا يصح، وعليه فيكون له الخيار فورا، فإن شاء فسخ وإلا أمضى، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، فلو قال: بعتك على أن يكون لي الخيار مدة من الزمن أو حتى يأتي فلان، ونحو ذلك فإنه لا يصح، ومثله لو كان على التأبيد، كأن يقول لي الخيار أبدا، لما في ذلك من الجهالة والغرر، وقال المالكية: يصح البيع ويحد لهما من الزمن مدة تكفي للخيار، وتجربة المبيع في العادة، فيضع لهما القاضي مدة تكفي لتجربة المبيع وللمشاورة، وهذا يختلف من سلعة إلى أخرى، وقال شيخ الإسلام يثبت لهما الخيار ثلاثة أيام لأنه هو الخيار الذي ثبت عن الشارع كما في حديث التصرية، وهذا هو أظهر الأقوال، وذلك لأن الشارع قد وضع هذه المدة في الخيار، على أن قول المالكية له وجه وقوة.

    قوله [وابتداؤهما من العقد]
    فإذا قال كل منهما لي الخيار ثلاثة أيام، فإن هذه المدة تبتديء من العقد، وهذا ظهر.

    قوله [وإذا مضت مدته أو قطعاه بطل]
    إذا مضت مدة الخيار فإنه يبطل ويثبت البيع، وتحديد المدة في الخيار يجوز مع الاختلاف، فيجوز أن يشترط البائع له ثلاثة أيام، ويشترط المشتري له عشرة أيام، لأن ذلك حق لهما، فإذا مضت مدة أحدهما أو مدتهما فإن الخيار يبطل ويثبت البيع.
    وقوله (أو قطعاه) بأن قال كل منهما ليس بيننا خيار، فهذا جائز، ويبطل به الخيار، ويثبت معه البيع، لأن هذا حق لهما، فإذا قطعاه فقد أسقطا حقهما برضاهما، ويجوز أن يسقط أحدهما حقه في الخيار دون الآخر.

    قوله [ويثبت في البيع والصلح بمعناه]
    (13/83)
    ________________________________________
    فخيار الشرط يثبت في البيع كخيار المجلس، والمسلمون على شروطهم، ويثبت في الصلح بمعناه، وهو الصلح بعوض، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يثبت في مثل الصرف والسلم وغيرهما من العقود اللازمة ذات العوض التي تقدم ثبوت خيار المجلس فيها، واختار بعض الحنابلة ثبوت خيار الشرط فيما يثبت فيه خيار المجلس وهذا هو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم) .
    قال شيخ الإسلام:" ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة " ا. هـ
    فإن قيل: إن الصرف يشترط فيه التقابض، فيكف يثبت فيه الخيار؟
    فالجواب: لا إشكال في ثبوت الخيار مع التقابض، فكل منهما يقبض ماله، وما تعاقدا عليه، ومع ذلك فالخيار ثابت وليس هذا من الربا في شيء، فالصحيح أن كل ما ثبت فيه خيار المجلس فإن خيار الشرط يثبت فيه ولا فرق، وقد أثبت الشارع خيار المجلس في مثل هذه العقود فدل على جواز أصل الخيار فيه فإذا أثبته المتعاقدان لأنفسهم برضا منهم فإنه يثبت لهم.

    قوله [والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد]
    يثبت خيار الشرط في الإجارة في الذمة مطلقا، والإجارة في الذمة هي الإجارة على بناء حائط أو على عمل بمزرعة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك، فيثبت الخيار لأن المسلمين على شروطهم، وليس فيه المحذور الذي ذكر الحنابلة في مثل الصرف والسلم.
    وقوله (أو على مدة لا تلي العقد)
    فالخيار في الإجارة على مدة معينة فيه تفصيل:
    فإن كانت على مدة لا تلي العقد فالخيار صحيح، كأن يكونا في الخامس من محرم فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة، وابتداؤها من أول شهر صفر، على أن يكون لي الخيار لمدة عشرين يوما، فهنا الخيار واقع في مدة لا تلي العقد، لأن العقد لا يثبت إلا في أول صفر، والخيار يكون قبله فيكون صحيحا.
    (13/84)
    ________________________________________
    أما إن كانت على مدة تلي العقد فإن ذلك لا يصح، كأن يكونا في الخامس من محرم، فيقول: آجرتك بيتي لمدة سنة على أن يكون ابتداء المدة من الآن، ولي الخيار ثلاثة أيام، فهذا لا يصح، لأن الخيار في مدة تلي العقد، قالوا: لأنه حينئذ ينتفع بهذه العين المستأجرة في مدة الخيار، فكيف يثبت الخيار مع انتفاعه بها، ففي ذلك تفويت لشيء من الانتفاع، وهذا هو المشهور في المذهب، وقال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن هذا جائز، وأن هذه المدة التي انتفع بها المستأجر تحسب عليه بأجرة المثل، بمعنى: استأجر منه هذا البيت اليوم، وقال لي الخيار سبعة أيام، واستفاد من البيت خلال السبعة أيام، وفي خلالها أراد الفسخ، فحينئذ يعطي المستأجر المؤجر أجرة المثل للأيام التي انتفع بها، وحينئذ لا يفوت عليه شيء، وهذا هو الصحيح أن الإجارة بنوعيها - الإجارة في الذمة أو الإجارة على مدة يجوز فيها خيار الشرط ويثبت.

    قوله [وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح]
    فإذا قال أحدهما: لي الخيار ثلاثة أيام، وأما أنت فلا خيار لك، أو قال: أنا لا خيار لي، فهذا جائز، لأنه حق لكل منهما، فمن أثبته فلنفسه، ومن نفاه فعليها، فلا يشترط أن يكون الخيار ثباتا لهما جميعا.

    قوله [وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله]
    (13/85)
    ________________________________________
    إذا قال: أبيعك هذه السلعة ولك الخيار إلى الغد أو إلى الليل، فإن الخيار يسقط بأول جزء منه، فإذا قال: إلى الغد، فإنه يسقط بأذان الفجر، وإذا قال: إلى الليل فإنه يسقط بأذان المغرب، وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أن الغد كله يدخل وأن الليل كله يدخل، أما أهل القول الأول فقالوا: إن لفظة (إلى) لانتهاء الغاية، فإذا قال: إلى الغد فإنه ينتهي ويكون ذلك بأوله، وقال الأحناف هي بمعنى (مع) كما قال تعالى {وأيديكم إلى المرافق} أي مع المرافق، والراجح أن (إلى) بمعنى (حتى) فهي لانتهاء الغاية، فإن الحد يباين المحدود، وأنت إذا قلت: بعتك هذه الأرض من هذا إلى تلك الشجرة، فإن الشجرة لا تدخل لأن الحد غير المحدود، وأما إذا كان الحد من جنس المحدود فإنه يدخل، كقوله تعالى {إلى المرافق} ، فإن المرفق من اليد، ولذا من حيث اللغة ما ذهب إليه الحنابلة أقوى، والصحيح في هذه المسألة عدم الرجوع إلى اللغة، ولكن المرجع هو العرف، فما تعارف عليه الناس فهو المعتبر، وذلك لأنه عندما يتلفظ بتلك اللفظة إنما يريد ما هو معروف عند الناس، فمثلا الباعة في الأسواق إذا قالوا: لك الخيار إلى الغد، فليس مرادهم بالغد أذان الفجر، وإنما عندما تفتح الأسواق ونحو ذلك، فالراجح أن العبرة في ذلك بالعرف.

    قوله [ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه]
    لكل من له الخيار الفسخ ولو كان الآخر غائبا أو ساخطا، فلا يشترط أن يلتقيا ليخبره بالفسخ، لأنه حق له فله الفسخ متى شاء، وكذلك إن كان الآخر ساخطا.
    (13/86)
    ________________________________________
    وظاهره أن الفسخ يثبت ولو لم يرد الثمن، كأن يأخذ البائع عشرة آلاف على هذه السلعة، ويشترط المشتري له الخيار، ثم يقول المشتري في زمن الخيار: أنا فسخت البيع، فظاهر هذا أن الفسخ يثبت وإن كان المبيع ما زال في يده أو كان الثمن ما زال في يد الآخر، وهذا لا شك أنه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فقد يجحد، وقد يأبى دفع هذا المال، ولذا فعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وصوبه في الإنصاف أن الفسخ يثبت برد الثمن، وذلك سدا للذريعة، وعلى هذا ففي المثال السابق لا يثبت الفسخ إلا بأن يرد المشتري السلعة إلى البائع، ويرد البائع الثمن للمشتري، لئلا يكون هذا ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل.

    قوله [والملك مدة الخيارين للمشتري]
    فالملك مدة خيار الشرط وخيار المجلس للمشتري، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه السبعة: (من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [حم 4538، خ 2379، م 1543، ت 1244، ن 4636، د 3433، جه 2211] فدل على أن المبتاع إذا اشترط المال الذي بيد العبد فهو له، واللام للتمليك، فدل على أن البيع الثابت فيه الخيار يثبت فيه ملك كل واحد منهما لما في يد الآخر، وإن كان الفسخ ثابتا للآخر، فالبائع مالك للثمن وإن كان الآخر له الفسخ، والمشتري مالك للسلعة وإن كان البائع له الفسخ، للحديث المتقدم، ويترتب على هذه المسألة:

    قوله [وله نماؤه المنفصل وكسبه]
    فإذا نما المبيع نماء منفصلا فهو لهذا المالك الذي هو تحت يده، مثلا: اشترى شجرا، وكان الخيار مدة سنة، فأثمر الشجر، فإن الثمر للمشتري، ما دام الخيار ثابتا، وكذلك الكسب، فلو اشترى عبدا، فإن كسبه يكون له مدة الخيار، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح [حم 23704، 25468، ت 1285، ن 4490، د 3508، جه 2243] .
    (13/87)
    ________________________________________
    فالخراج: أي ما يخرج من الشيء من ثمر أو كسب ونحوه.
    بالضمان: أي لمن كان الضمان عليه.
    والضمان مدة الخيار عن السلعة التي بيده، وإن كان الآخر له حق الفسخ، وعلى هذا فالنماء المنفصل والكسب يكون لمن كان الثمن أو المبيع بيده.
    وأما نماؤه المتصل فلم يذكره المؤلف، وهو للبائع، وهذا هو المشهور، وهو مذهب جماهير أهل العلم، وحكي إجماعا، فمثلا: رجل اشترى شاة فبقيت عنده لمدة شهر أو شهرين وكان الخيار فيها مدة سنة، فسمنت الشاة، فهذا السمن ليس للمشتري، وهو وإن كان في ملكه لكنه نماء متصل، ويثبت تباعا مالا يثبت استقلالا، واختار شيخ الإسلام أن النماء المتصل للمشتري أيضا وهذا القول هو الراجح، لعوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الخراج بالضمان) ، ولأنه نما في ملكه، وحينئذ يقوم المبيع، ففي المثال السابق تقوم الشاة لما كانت هزيلة وقت البيع، وتقوم لما كانت سمينة عند الفسخ، ويدفع الفرق للمشتري، فإذا كانت وهي هزيلة تساوي ثلاثمائة، فلما كانت سمينة أصبحت تساوي خمسمائة، فهنا يدفع البائع للمشتري مائتين.
    قال الأحناف والمالكية: الملك مدة الخيار للبائع، قالوا: لأن الخيار مانع من ترتب آثار العقد عليه، وعليه فالنماء مدة الخيار للمالك، والراجح ما تقدم لأن العقد صحيح فتترتب آثاره عليه والخيار إنما يمنع لزوم البيع.

    قوله [ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع وعوضه المعين]
    فلا يصح لأحدهما أن يتصرف في المبيع، فمن أخذ السلعة فليس له أن يتصرف فيها، بمعنى أن ليس له أن يبيعها ولا أن يهبها ولا أن يتبرع بها، فكل هذا محرم، لأن حق الآخر في الفسخ يسقط بمثل هذا التصرف، ولا يجوز إسقاط حقه في الفسخ، وعن الإمام أحمد أن البيع يصح، ولكنه يكون موقوفا على إجازة الآخر، وهذا هو الراجح كما تقدم في تصرف الفضولي، وهذا أولي من تصرف الفضولي.
    (13/88)
    ________________________________________
    وقوله (وعوضه المعين) لأن عوضه الذي يكون في الذمة لم يثبت عليه العقد، فالعوض المعين كقوله: بعتك هذه الدار بهذا الشيء، فهذا الشيء المعين لا يصح التصرف فيه ولا يجوز، لكن لو قال: بعتك هذا الشيء بعشرة آلاف، فله أن يتصرف فيها لأن العشرة آلاف غير معينة، فالواجب عليه متى ثبت البيع أن يعطيه عشرة آلاف، وعلى ما تقدم يصح التصرف حتى لو كان معينا ويكون موقوفا.

    قوله [بغير إذن الآخر]
    أما إذا أذن الآخر فلا إشكال في جوازه، مثاله:رجل اشترى سلعة من آخر، وكان بينهما الخيار، وقال له: أريد أن أبيعها أو أهبها، فوافق الطرف الثاني، فإن له ذلك، ولا إشكال في جواز هذا.

    قوله [بغير تجربة المبيع]
    أما إذا تصرف تصرفا للتجربة فذلك يجوز، كأن يذهب بها إلى السوق فيزايد عليها مزايدة ليعرف ثمنها، كذلك لو ركب الدابة ليعرف سيرها، فهذا جائز لأن مثل هذه التصرفات هي المقصودة من الخيار، لأن الخيار إنما وضع لمثل هذا.

    قوله [إلا عتق المشتري]
    (13/89)
    ________________________________________
    مثاله: رجل اشترى عبدا، وقال للبائع لي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الأول أعتقه المشتري، قالوا: فإنه يعتق العبد، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة، وهو مذهب الجمهور، والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أن الخيار لا يسقط وإن كان العتق يسري ويصح لكن الخيار لا يسقط، وحينئذ يقوم العبد في اليوم الذي أعتق فيه ويعطى البائع حقه، فلا يؤدي تصرف المشتري إلى فسخ العقد، بل للبائع الخيار، فإن شاء أن يرضى بمثل هذا البيع، وإن شاء لم يرض، وهو إن لم يرض فإن العبد يصح عتقه لكن ينظر في اليوم الذي أعتق فيه كم يساوي، واختار الشيخ السعدي أن العتق لا يصح، وهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة، وأنه يكون أيضا - وإن لم يكن هذا من كلام الشيخ السعدي - موقوفا على الإجازة، وعلى هذا فالأصل أنه لا يصح ولا يجوز، وذلك لأن الشارع وإن كان متشوفا إلى العتق لكنه متشوف إليه بأن يكون بطريق شرعي، وأما أن يكون بغير طريق شرعي فهذا لا يجوز، العتق بطريق غير شرعي يفوت حقوق الآخرين، وكوننا نقومه يوم البيع هذا فيه نظر، فقد يكون وضع الخيار لنفسه لكونه مترددا في بيع هذا العبد وهو يرغب فيه، فالراجح أن العتق لا يثبت وإن كان الشارع متشوفا إليه، ويكون العتق موقوفا على إجازة البائع.

    قوله [وتصرف المشتري فسخ لخياره]
    هذا إذا كان الخيار له وحده، مثاله: رجل اشترى بيتا وقال لي الخيار ثلاثة أيام، أما البائع فلا خيار له، ثم في اليوم الأول باع البيت، فحينئذ يكون تصرفه فيه ببيع أو هبة إسقاط لحق نفسه في الخيار، وهذا ظاهر، لأن تصرفه دليل على رضاه، وهو أظهر من مجرد اللفظ.
    (13/90)
    ________________________________________
    كذلك أيضا تصرف البائع يدل على الفسخ، مثلا: قال رجل أبيعك هذه الدار ولي الخيار ثلاثة أيام، ولك الخيار أيضا، فالخيار لهما جميعا مدة ثلاثة أيام، ثم بعد يوم أتى البائع نفسه فباع بيته، فهذا البيع يصح، لأنه له الفسخ، ويكون هذا البيع إبطالا لحق المشتري في الخيار والبيت.
    هذا ما قرره الموفق في المغني ورجحه ابن عقيل وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد الوجهين في المذهب، والوجه الثاني أنه ليس بفسخ لأنه لا يملك، والراجح الأول.

    قوله [ومن مات منهما بطل خياره]
    هذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن الخيار أمر نفسي يختص بالشخص نفسه، لا يعتاض عنه بغيره، وقال الشافعية والمالكية بل يثبت الخيار للورثة، وهذا هو الراجح، وذلك لأن الخيار حق مالي فيدخل في الإرث، فالشخص يرث كل ما هو للموروث.

    قوله [الثالث: إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة]
    هذا هو النوع الثالث من أنواع الخيار وهو خيار الغبن، فإذا غبن أو خدع غبنا يخرج عن العادة أي غبنا فاحشا فله الخيار، فليس الغبن العادي خيار، لأنه أمر يقع في العادة، فليس فيه الخيار إلا أن يشترطه على الصحيح كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر رجل له أن يخدع في البيوع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا بايعت فقل: لا خِلابة) [خ 2117، م 1533] وهذا عام في كل خداع سواء أكان خداعا مما يجحف به أو ممالا يجحف به، فإذا شرط فقال: لا خلابة أو لا خداع فإن الخداع اليسير يثبت فيه الخيار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون على شروطهم)
    (13/91)
    ________________________________________
    فإذا غبن غبنا يخرج عن العادة فإن البيع يصح مع خيار الغبن، فله أن يسمك ولا أرش له، وله أن يرد، وإن اختار الإمساك فلا أرش له لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر الأرش كما في تلقي الجلب، وهو من خيار الغبن، ولذا نص فقهاء الحنابلة وغيرهم على أنه لا أرش في خيار الغبن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكره في تلقي الجلب.

    قوله [بزيادة الناجش]
    فالغبن له ثلاث صور عند الحنابلة في المشهور من المذهب:
    الصورة الأولى: تلقي الجلب، فإنه يثبت فيها خيار الغبن.
    الصورة الثانية: زيادة الناجش، والنجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري، والنجش محرم، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن النجش) [خ 2142، م 1516] .
    وقال جمهور العلماء إن البيع المسبوق بنجش بيع صحيح، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد أن البيع باطل، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، والنهي يقتضي الفساد، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وأن البيع صحيح لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، بل إلى أمر خارج عنه، وهو النجش أي المزايدة المحرمة، ولأن الضرر الواقع على المغبون يدرأ بالخيار، فيقال له لك الخيار إن شئت أمسكت، وإن شئت رددت، ومثل ذلك ما لو قال البائع: قد اشتريتها بكذا وهو كاذب، فإن هذا من النجش، وهنا وإن كان الزائد هو البائع، فلا فرق بين أن يكون الزائد هو البائع أو غيره، لأن المقصود أن السلعة قد أعطيت غير سعرها المفترض لها ففي هذا غرر على المشتري.

    قوله [والمسترسل]
    وهذه هي الصورة الثالثة من صور الغبن عند الحنابلة.
    والمسترسل: هو الجاهل بالقيمة، الذي لا يحسن المماكسة أي المكاسرة، فهو الذي يطمئن ولا يستوحش من هذا البيع لجهله بالقيمة، وهو لا يحسن المماكسة، ومثله البائع الجاهل بقيمة المبيع.
    (13/92)
    ________________________________________
    وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي كان يخدع في البيوع: (إذا بايعت فقل لا خلابة) فهذا المسترسل يثبت له خيار الغبن.
    وظاهر كلام المؤلف وهو المشهور من المذهب أن خيار الغبن لا يثبت إلا في هذه الصور الثلاث المتقدمة، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب إنه يثبت في كل غبن، فأي بيع يثبت فيه غبن فإن الخيار يثبت فيه، وعليه فلو اشترى شخص يحسن المماكسة بسعر، وغلب على ظنه أمانة البائع ووثق به، وكان عليه غبن فإن الخيار يثبت له إذا تبين له أنه قد غبن، وعلل ذلك القول بان المتعاقدين يدخلان في البيع على أن يتعوض كل واحد منها بقيمة المثل، أو بزيادة أو نقص لا إجحاف فيه، وعليه فإذا كان هناك زيادة فاحشة وإن لم يكن من الصور الثلاثة المتقدمة فإن البيع يخرج إلى معاوضة خارجة عما هو شرط في الضمن، فإن كلا منهما كأنه يشترط على صاحبه الأمانة وأن يبيعه بثمن المثل، ولأنه كما تقدم فإن الشخص وإن كان يحسن المماكسة فقد يغلب على أمره، ويقد يغره البائع، ولذا فالراجح هو ما اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي وهو قول في المذهب، لأن الشارع لا يفرق بين المتماثلات، بل يجمع بينها بحكم واحد.
    * مسألة:
    قال شيخ الإسلام:" يحرم تغرير المشتري، بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبا منه " ا. هـ

    قوله [الرابع: خيار التدليس]
    التدليس مأخوذ من الدُّلْسَة، وهي الظلمة، والمراد بها اصطلاحا: أن يظهر المبيع على صورة أفضل منه في الواقع، والتدليس محرم فإنه خداع والخداع محرم.

    قوله [كتسويد شعر الجارية أو تجعيده]
    تسويد شعر الجارية بعد أن أصبح أبيضا، وتجعيده أي يجعله مجعدا وهو ضد المسترسل، قالوا: لأنه إذا جعد شعر الجارية فإنه يدل على القوة، فكأنه يدل على شباب وقوة الجارية، وهذا تدليس.

    قوله [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]
    (13/93)
    ________________________________________
    الرحى معروفة، فيجمع الماء ثم يرسله عند العرض على المشترين، فيندفع الماء بشدة فيتحرك الرحى بشدة، وحينئذ يكون في هذا تدليس، لأن هذه ليست سرعتها الحقيقية، وهذا محرم.
    ومثل ذلك التصرية، والتصرية أن يحبس اللبن في الضرع عند بيع الشاة ونحوها إظهارا لكثرة لبنها، والحديث فيه هو الأصل في النهي عن التدليس وهو الأصل في ثبوت خيار التدليس، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إنشاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر) [خ 2150، م 1515] وفي صحيح مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) [م 1524] ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشا، فدل على عدم ثبوت الأرش في خيار التدليس، وأن من ثبت عليه التدليس فهو بالخيار إن شاء أمسك ولا أرش، وإن شاء رد.
    وأما صاع التمر الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مقابل لهذا اللبن الذي شربه، وهو الذي كان في هذه الشاة عند بيعها، ولذا فإذا رد الشاة على حالها من غير ما تغير فإنه ليس عليه أن يرد صاعا من تمر، وإنما يرد معها صاعا من تمر إذا استعمله.
    قال الموفق: وله الخيار متى علم التصرية، وهو الصحيح في المذهب، وقال بعض الحنابلة من حين البيع، فإذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام، وهو أظهر، وأبعد عن الخصومة.

    قوله [الخامس: خيار العيب: وهو ما ينقص قيمة المبيع]
    كأن يبيع عبدا على أنه كامل الأعضاء فيثبت أنه أقطع اليدين، فهذا عيب ينقص الثمن، فيثبت به خيار العيب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخ المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له) [جه 2246] ، والضابط فيه ما ينقص قيمة المبيع عادة، وعليه فاليسير عادة لا خيار فيه.
    ثم ضرب أمثلة لذلك فقال:

    قوله [فإذا كمرضه وفقد عضو أو سن أو زيادتهما وزنا الرقيق وسرقته وإباقه وبوله في الفراش]
    (13/94)
    ________________________________________
    هذه كلها عيوب في المبيع من باب التمثيل.

    قوله [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]
    قوله (بعد) احتراز مما لو علم قبل العقد، لأنه يكون حينئذ قد دخل على بصيرة، فلم يكن له الخيار.

    قوله [وهو قسط ما بين الصحة والعيب أو رده وأخذ الثمن]
    فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد فله الخيار، وعلى هذا فله أن يمسك ويأخذ الأرش، أو يرد ويأخذ الثمن، والأرش هو قسط ما بين الصحة والعيب.
    مثاله: باع عبدا على أنه كامل الأعضاء بمائة وعشرين، ثم العبد أنه أقطع، فنقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت أن تمسك ولك الأرش، وإن شئت أن ترد ولك الثمن، فإذا اختار الإمساك مع الأرش فهنا يقوم العبد لو كان صحيحا، فلو فرضنا أننا قومناه وهو صحيح بخمسة عشر ألفا، وقومناه وهو معيب بعشرة آلاف، فأصبح القسط بين ثمن الصحة والعيب الثلث، فثلث المائة والعشرين هو أربعون، وعلى هذا فعلى البائع أن يرد أربعين للمشتري، وهو أرش ذلك العيب.
    وقد قال بإثبات الأرش الحنابلة، وقال الأحناف والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أنه لا أرش، فإن شاء أمسك ولا أرش له، وإن شاء رد، واستدل أهل القول الأول بأنه قد فاته جزء من المبيع فاستحق الأرش مقابل ذلك الجزء الفائت عليه، وقال أهل القول الثاني: إن هذا الشيء الفائت نظير الشيء الفائت في مسألة التدليس، فإنه إذا باعه العبد على أنه كاتب فبان غير كاتب فأنتم لا تقولون بأنه له الأرش، لأن هذا من باب التدليس،فكذلك العيب، وأما كونه قد وقع عليه الغرر المتحقق بذلك فإنه يدفعه بخيار العيب، فيرد السلعة وله ثمنه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن سعدي، لأن الشارع لم يذكر الأرش في المصراة وثبت بها خيار التدليس مع فوات صفة فيها يقدر بمال، فكذلك هنا وهو خيار العيب.
    (13/95)
    ________________________________________
    لكن إن تراضيا على ذلك فلا بأس، كأن يقول البائع: لا تفسخ وخذ هذه الدراهم، فيقبل المشتري فلا بأس.

    قوله [وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش]
    وهذا ظاهر، وأهل القول الثاني الذي يقولون إنه لا أرش يثبتونه إن تعذر الرد، فهو الآن لا يمكنه الرد، وفي المبيع عيب، فحينئذ لا بد وأن يثبت له الأرش لأن عدم إثباته له يفوت حقه، ومثل ذلك ما إذا أعتق العبد، كرجل اشترى من هو قريب له قرابة لا يحل معها أن يكون رقيقا له، كأن يشتري أخاه، فإنه يعتق عليه، فحينئذ لا خيار، فإذا ثبت أن فيه عيبا ينقص الثمن فله الأرش لتعذر الرد، ومثل هذا لو تلف المبيع وفيه عيب، فإنه يجبر بدفع الأرش بتعذر الرد عليه، فلا يمكن تحصيل حقه حينئذ إلا بهذا الأرش لأن الخيار قد فاته.

    قوله [وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند وبيض نعام فكسره فوجده فاسدا فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره]
    هذا في بيع ما لا يعلم فساده وصلاحه إلا بكسره، فإذا اشتراه فكسره ليعلم حاله أهو فاسد أم صالح، فوجده فاسدا فله أن يمسكه وله الأرش وهذا على القول بثبوت الأرش وتقدم بحثه، وإن رده فإنه يرد أرش كسره على البائع، لأن قشره له قيمه، فما دام أنه قد كسره فهذا الكسر له قيمته، هذا إذا كان الكسر مؤثرا، أما إذا كان الكسر غير مؤثر في قيمته فلا أرش حينئذ.
    (13/96)
    ________________________________________
    والأرش يختلف حينئذ باختلاف التقويم، فإن التقويم يختلف، فإنه في الصورة الأولى - أي التي يمسك فيها المشتري مع أخذ الأرش - يقوم المبيع صحيحا، ويقوم فاسدا غير مكسور، وأما في الصورة الثانية - أي التي يرد فيها المشتري السلعة ويدفع الأرش للبائع - فإن القشر يقوم غير مكسور، ثم يقوم وهو مكسور، وهذا هو المشهور في المذهب، والصحيح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن البيع لا خيار فيه أصلا، وذلك لأن البائع لم يقع منه غرر ولا خداع فإن هذا أمر باطن، إلا أن يشترط، فإذا اشترط أن يكون سليما صحيحا فحينئذ له الخيار لأن المسلمون عند شروطهم، وكذلك الناس يحتاجون إلى التبايع على هذه الصورة المجهولة فلا خيار إلا أن يشترطه.
    والكسر - على القول بثبوت الخيار - لا أرش فيه لأنه مأذون فيه، ولا يمكن أن يتعرف على ما في باطنها إلا بهذا الكسر، إلا أن يكون الكسر خارجا عن العادة وخارجا عما يحتاج إليه فحينئذ إن أعادها فعليه أرش قيمة ما أفسد، وعليه فالكسر الذي أذن فيه إنما هو قدر ما يحصل به الاستعلام كما قرر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.

    قوله [وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن]
    لأن قشره لا قيمة له، فهنا صورتان:
    الصورة الأولى: إذا كان القشر له قيمة، كما في المسائل السابقة.
    الصورة الثانية: إذا كان القشر لا قيمة له، فليس فيه أرش، بل هو بالخيار إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ولا أرش، لأنه لا قيمة أصلا لهذا القشر، والصحيح ما تقدم أنه لا خيار له إلا أن يشترطه.

    قوله [وخيار عيب متراخ ما لم يوجد دليل الرضا]
    (13/97)
    ________________________________________
    فخيار العيب متراخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة فوجد فيها عيبا فله الخيار على التراخي، إن شاء غدا، أو بعد شهر أو بعد سنة ما لم يوجد دليل الرضا، كأن يؤجره أو يهبه أو يبيعه ونحو ذلك، فإذا تصرف فيه تصرفا يدل على الرضا فلا خيار له، لأن هذه التصرفات دليل على رضاه بالعيب، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول الجمهور، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن خيار العيب على الفور، فمتى علم بالعيب فإنه عليه أن يرده فورا إلا أن يكون له عذر بالتأخير، وإن لم يفسخ بالبيع ثابت حينئذ وليس له الحق في الخيار، قالوا: لأنه سكوته وتراخيه دليل على رضاه، ولأن التأخير قد يلحق الضرر بالبائع، وهذا القول هو الراجح، فالصحيح أن خيار العيب على الفورية لا على التراخي، وأنه متى ثبت عنده العيب فعليه أن يرده ما لم يكن له عذر، ومثل ذلك خيار الغبن والتدليس فإنه على الفور للمعنى المتقدم، ونزيد دليلا وهو أن الأصل في البيوع هو اللزوم والخيار خلاف الأصل، ولأن هذا التراخي في الغالب يورث عداوة وبغضاء وخصومة ونحو ذلك، فالراجح أن خيار العيب على الفورية، ومثله خيار الغبن والتدليس، وقال الحنابلة: بل خيار الغبن والتدليس على التراخي أيضا والصحيح ما تقدم.
    ويستثنى من ذلك ما نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بيع المصراة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت له الخيار ثلاثة أيام، فإن قيل: فلم لا نثبت الخيار في التدليس ثلاثة أيام؟
    فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر ثلاثة أيام لأنها هي المدة الكافية للتعرف هل هذه تصرية أم طبيعة منها، ولذا فإنا نمهل كل من احتاج إلى مهلة ليتعرف على هذا المبيع، وتحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيار التدليس ثلاثة أيام يدل على أنه ليس على التراخي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حدده بأيام والتراخي يخالف ذلك، فإنه ليس محددا.
    (13/98)
    ________________________________________
    قوله [ولا يفتقر إلى حكم ولا رضا ولا حضور صاحبه]
    فهذا الخيار لا يفتقر إلى شيء من ذلك لما تقدم في مسألة شبيهة بهذه المسألة، لأن هذا حق له فمتى فسخ فإن الفسخ يثبت ولا يشترط أن يحضر إلى حاكم ولا أن يرضى الطرف الثاني ولا أن يحضر صاحبه عند القاضي إذا أراد الفسخ ولا غير ذلك.

    قوله [وإن اختلفا عند من حدث العيب فقول مشتر مع يمينه]
    إذا اختلفا عند من حدث العيب فهذا يقول حدث عند البائع، وهذا يقول حدث عند المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذا هو المشهور من المذهب، وعللوا ذلك بقولهم: إن الأصل عدم قبض هذا النقص، والعيب نقص، فالأصل أن المشتري لم يقبض المبيع كاملا، وقال جمهور العلماء القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة من العيب، ولأن الأصل هو لزوم البيع ولا خيار فيه، والمشتري مدعي للعيب وأنه حاصل عند البائع، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا القول هو الصحيح، وأما قولهم إن الأصل أنه لم يقبضه كاملا، فإننا نقول إن الأصل أنه قد قبضه كاملا، فإنه قد تم البيع، ووقع المبيع في ضمانه فالأصل أن قبضه كان كاملا.

    قوله [وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين]
    إذا كان العيب لا يحتمل إلا أن يكون عند أحدهما كأن يكون العيب أصبع زائدة في العبد، فحينئذ بلا شك أن هذا العيب موجود في ملك البائع، فلا يقبل قوله إذا ادعى نفيه، لأن الأصل أن هذا موجود من الخلقة وأنه لا يمكن أن يوجد بعد ذلك، أو أن يكون فيه جرح طري لا يمكن أبدا أن يكون إلا بعد العقد، فإذا ادعى المشتري أن هذا الجرح كان قبل العقد فلا يقبل منه ذلك، لأن هذا الجرح لا يمكن إلا أن يكون أثناء ملكية المشتري فحينئذ يقبل قول المشتري في الصورة الأولى، وقول البائع في الصورة الثانية ولا نحتاج إلى يمين فالحق واضح.
    * مسألة:
    إذا حدث عيب آخر في ملكية المشتري؟
    (13/99)
    ________________________________________
    مثاله: رجل اشترى سلعة معيبة، لم يعلم بعيبها، فلما أخذ المبيع في ملكه حدث له عيب آخر غير الأول، فهل يثبت له الخيار إذا علم بالعيب الأول أم ينتفي الخيار لثبوت العيب الآخر؟
    قولان لأهل العلم هما روايتان عن الإمام أحمد:
    1- الرواية الأولى: أنه ليس له الخيار لأن البائع يتضرر حينئذ بإعادة هذا المبيع إليه وفيه عيب آخر، فليس له حينئذ الخيار، بل له الأرش لأن الرد متعذر.
    2- الرواية الثانية: أن له الرد، لأن الأصل هو بقاء الخيار ما دام أن العيب موجود، ولا يسقط حقه في الخيار لوجود عيب آخر في ملكيته، ويدفع الضرر عن البائع بأن يعطيه أرش هذا العيب الذي حدث جديدا، وهذا القول هو الراجح، فإن الأصل ثبوت الخيار، ولا دليل على إسقاطه، وكونه يتجدد عنده عيب فنقول يرد المبيع ويدفع الضرر المتجدد على البائع بأن يعطيه الأرش.

    قوله [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]
    تخبير الثمن أي الإخبار به، بأن يقول هو علي بكذا وما أبيعه إلا بكذا، وستأتي صوره، فإذا ثبت أن إخباره بالثمن كان خلاف الواقع وهو كذب أو غلط منه فإن الخيار يثبت فيما سيذكره المؤلف.
    وقوله (أو أكثر) هذا وهم من المؤلف، وهذه العبارة ليس لها أصل في كتب الحنابلة، ولا يمكن أن يكون الإخبار بأكثر من الثمن.

    قوله [ويثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة]
    التولية: أن يبيعه السلعة برأس مالها، فيقول هذه السلعة لك برأس مالها وهو عشرة آلاف.
    الشركة: أن يبيع السلعة بقسطه من رأس المال، بأن يكون المشتري شريكا له، فيقول هذه الأرض التي مساحتها مائة متر بمائة ألف، ولك نصفها من الثمن أي خمسون ألفا.
    المرابحة: أن يبيعه السلعة برأس مالها مع ربح معلوم، كأن يقول: هذه السلعة علي بعشرة، وأربح عليها درهمين فهي باثني عشر.
    (13/100)
    ________________________________________
    المواضعة: بعكسها، فهي البيع برأس المال مع خسارة معلومة، كأن يقول: هذه السيارة علي بألف، واضع عليك منها مائة فتكون تسعمائة، فهذه الصور الأربعة هي صور التخبير بالثمن.

    قوله [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]
    فلا بد في جميعها أن يعرف المشتري رأس المال، وكذلك البائع، وإنما ذكر المشتري دون البائع لأنه هو الذي يجهل الثمن في العادة، وسبب ذلك أنهما إن لم يعرفا رأس المال أو كان أحدهما لم يعرفه فإن البيع فيه جهالة، وشرط في البيع أن يكون ثمنه معلوما، إذن أثبت المؤلف الخيار في هذه الصور، فمن بيع عليه على سبيل التولية فقيل له: السعة علي بألف وهي لك بالألف أيضا، فتبين أن البائع كاذب أو مخطيء في خبره، فقال المؤلف: يثبت له الخيار، أي للمشتري، فله أن يفسخ البيع، وله أن يمضيه، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأحناف، وأما المشهور عند الحنابلة - خلافا لما ذكره المؤلف، وهذه من المسائل التي خالف فيها المؤلف المشهور من المذهب - أن الخيار لا يثبت هنا، وإنما يأخذ المشتري الفارق بين رأس المال الحقيقي ورأس المال الموهوم، ولا حاجة لنا إلى الخيار، فإن الخيار إنما يثبت لدفع الضرر عن المشتري، وهنا المشتري لا ضرر عليه، بل قد حصل على ماله، ولا شك أن رضاه بالسلعة ظاهر، وهو أولى من رضاه بها حيث كان الثمن أكثر، فإن قد خبر أن الثمن أكثر فرضي فإذا وجد أن الثمن أقل وأعطي الفارق فإنه لا ضرر عليه، وعليه فلا حاجة إلى هذا الخيار، ولأن الأصل في البيوع اللزوم لا الخيار، فنبقى على الأصل، وهذا القول هو الراجح، وأن الخيار لا يثبت في هذه المسائل بل يعطى المشتري الفارق بين رأس المال الموهوم وبين رأس المال الحقيقي.

    قوله [وإن اشترى بثمن مؤجل.... ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]
    (13/101)
    ________________________________________
    إذا قال مثلا: هذه السيارة رأس مالها بعشرة آلاف، وظاهر هذا أن ذلك نقدا، ولم يبين لها أنه نسيئة، ومعلوم أن البيع بالنسيئة يختلف عن البيع بالنقد، فالثمن في النسيئة أكثر، فإذا لم يتبين له ذلك فلا شك أن هذا تغرير بالمشتري، فحينئذ له الخيار بين الإمساك والرد، وقال بعض الحنابلة: بل لا خيار له، وأنه يأخذها بالثمن المؤجل، فلا يدفع له هذا نقدا بل يأخذه على التأجيل، وهذا بعيد، وذلك للفرق بين الثمن المؤجل والثمن المنقود، فعندما نقول للمشتري ادفع بثمن مؤجل فإننا حينئذ نلزمه بزيادة على الثمن، ثم ليس كل أحد يرغب في التأجيل، فهذا في الحقيقة فيه ضرر، وإنما يسلك هذا المسلك المحتاج، فلا يلزم بهذا البيع، كما أن كثيرا من الناس لا يرغب أن يكون في ذكته شيء من المال لأحد من الناس، فالراجح ما ذكره المؤلف، وأن له الخيار بين الإمساك والرد.

    قوله [أو ممن لا تقبل شهادته له]
    (13/102)
    ________________________________________
    كأبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، فإن الشخص إذا اشترى من أبيه سلعة أو من ابنه أو من زوجته فإنه قد يأخذها بثمن أعلى من ثمنها المعتاد محاباة لهؤلاء، ومثال ذلك: أن يشتري السلعة من والده بخمسة عشر ألفا وهي تساوي أقل من ذلك، فهذا لا يجوز، أي لا يجوز أن يبيع السلعة بعد ذلك ويخبر المشتري أنه قد اشتراها بخمسة عشر ألفا، لأن هذا ليس هو ثمنها الحقيقي، بل هذا الثمن قد دخله المحاباة كما سبق، وعلى ذلك لو باع تلك السلعة على شخص، فإنه يثبت له الخيار، فلا بد أن يبين له أن قد اشتراها من أبيه أو ابنه أو زوجته ونحو ذلك، ومثل ذلك لو اشتراها محاباة من غير هؤلاء كأن يشتريها من صديق بثمن أعلى من ثمنها محاباة له، ومثل ذلك إذا اشتراها في موسم لها يرتفع سعرها فيها وقد ذهب ذلك الموسم، أو يشتريها برغبة مختصة به، كأن تكون له دار، وبجوارها أرض ملحقة بها، فيشتري تلك الأرض بثمن مرتفع، رغبة منه أن لا يسكن فيها شخص لا يرغب في سكناه بجواره، فإذا أراد أن يبيع تلك الأرض فيما بعد فلا بد أن يقول رأس مالها كذا، واعلم أني قد اشتريتها لرغبة مختصة بي وهي كذا وكذا، حتى يكون المشتري على علم بأن رأس المال المذكور وقعت فيه زيادة، فلا يقع في غرر وجهالة.

    قوله [أو بأكثر من ثمنها حيلة]
    لو أن رجلا اشترى من آخر سلعة بثمن أكثر من ثمنها المعتاد، وكان البيع بينهما بيعا صوريا للاحتيال على الناس، ثم باعها على هذا الثمن وأنه هو رأس مالها ولم يبين ذلك للمشتري فهنا يثبت للمشتري الخيار.
    أو كان اشترى السلعة حيلة لاستخلاص حقه كأن يكون له على زيد ألف درهم، فيشتري منه سلعة تساوي ثمانمائة ويقول: هذا مقابل ما في ذمتك، ويكون البائع مماطلا.

    قوله [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]
    (13/103)
    ________________________________________
    كذلك إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبره بالثمن، ومثاله: أرض بعضها على الشارع العام، وبعضها على شارع ليس بعام، يرتفع به الأرض، فقال هذه الأرض التي مساحتها ألف متر اشتريتها بمائة ألف، ولك بعضها المحدد بخمسين ألفا، وكان هذا النصف يختلف عن النصف الذي هو سبب لرفع سعرها، فإن في ذلك غررا.
    وهذا كله يكون في أشياء أبعاضها غير متماثلة، أما لو كانت أبعاضها متماثلة كأن يكون عنده طن من الشعير أو نحوه فيقول: هو علي بكذا وأبيعك نصفه بقسطه من الثمن، وأبعاضه لا تختلف فحينئذ لا حرج لعدم الغرر.

    قوله [وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار..... يلحق برأس ماله ويخبر به]
    مثاله ذلك: رجل اشترى من آخر دارا وكان الاتفاق على أن يكون ثمنها ألف درهم، وأثناء ما هم في مدة الخيار سواء كان خيار مجلس أم خيار شرط هم أحدهما بالفسخ فزيد في ثمن السلعة أو نقص منه من أجل ألا يقع هذا الفسخ، مثلا: اشتراها وكان الثمن المتفق عليه ألف درهم فهم المشتري بالفسخ أو خشي البائع أن يفسخ المشتري فقال: قد وضعت عنك مائة درهم، فحينئذ ثمنها تسعمائة درهم، أو خشي المشتري أن يفسخ البائع فقال: أزيدك مائة درهم، فأصبح ثمنها مائة وعشرة دراهم، فلا بد أن يخبر المشتري من أراد أن يشتري منه السلعة بعد ذلك بأن ثمنها كان كذا ثم آل إلى كذا.

    قوله [أو يؤخذ أرشا لعيب]
    فالثمن الذي يؤخذ أرشا لعيب لا بد وأن يخبر به، مثاله: اتفقا على أن هذه السيارة بعشرة آلاف، ولزم البيع، ثم ثبت فيه عيب، وقلنا بالأرش، فكان الأرش ألفا، فيكون رأس مالها تسعة آلاف، فإذا أراد المشتري أن يبيع السيارة بعد ذلك فيجب أن يخبر من سيشتريها منه أن سعرها كان كذا ثم آل إلى كذا، ومثل ذلك:

    قوله [أو جناية عليه]
    وكل هذا إذا كان في مدة الخيار، والعيب خياره عندهم على التراخي.
    (13/104)
    ________________________________________
    ومثال هذه الصورة: أن يكون له عبد قد اشتراه بمائة مثلا، فيجني عليه جناية تنقصه، وكانت هذه الجناية بخمسين، فلا يصح أن يبيعه برأس ماله ويقول إن رأس ماله هو مائة.
    ومثله في مسائل السيارات إذا حدث فيها صدم أو نحو ذلك فلا بد أن يخبره، وإن كان قد أخذ ثمنا وأصلحها به، لأن السيارة تنقص بحدوث الصدم فيها.
    أما إن كانت هذه الجناية لا تنقصه فلا حاجة لأن يخبر المشتري بها، لأنها لا تؤثر في الثمن، فيخبره برأس مالها الأصلي فقط.

    قوله [وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يلحق به]
    مثاله: اشترى سيارة بمائة ألف، ولزم البيع، ثم جاء البائع بعد مدة وقال به قد وضعت عنك ألفا من ثمن السيارة، فهذا لا دخل له في ثمن المبيع، لأنه يشبه الهبة، فالبيع لازم، وهو على ما اتفقا عليه، وما وقع بعد لزوم البيع أمر خارج عن ثمن المبيع، فلا حاجة إلى أن يخبر من اشتراها منه بعد ذلك بما حصل من البائع الأول.

    قوله [وإن أخبر بالحال فلا بأس]
    فإذا أخبر ببعض التفاصيل التي لا تؤثر في رأس المال فإن هذا أمر حسن، لأنه أبلغ في الصدق، فلو قال: إن البائع بعد أن تم العقد ولزم البيع وضع عني كذا، ونحو ذلك فإن هذا أحسن، وهذا أيضا قد يرشد المشتري إلى أن البائع الأول قد وقع عنده شيء من التردد في سعرها، وأن فيه شيئا من الغلاء، أو لحقه شيء من التورع عن بيعها بهذا السعر أو نحو ذلك.

    قوله [السابع خيار لاختلاف المتبايعين]
    هذا نوع آخر من الخيار، وهو خيار اختلاف المتبايعين، فإذا اختلف المتبايعين فإن الخيار في الجملة يثبت، وسيذكر المؤلف صورا من هذا.

    قوله [فإذا اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيحلف البائع أولا ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا، ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر]
    (13/105)
    ________________________________________
    فإذا اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فالبائع يقول: بعته إياه بعشرين، والمشتري يقول اشتريته منك بعشرة، فقد اختلفا ولا بينة، أما إذا كان مع أحدهما بينة كشهود أو نحو ذلك فإنه يعمل بها، لكن حيث لا بينة أو كان مع كل واحد منهما بينة فتساقطتا فإنهما حينئذ يتحالفان، فيحلف البائع فيبدأ به، قالوا: لأن الحق في جانبه أولى، فإن السلعة بعد التحالف ترجع إليه وهو ربها أولا، وصاحبها سابقا فهو أحق بها، ولا شك أن مثل هذا لا أثر له، فإنه لو حلف المشتري فإن هذا تقديم في الألفاظ لا يترتب عليه تغير في الأحكام، ومثل هذا إنما يكون من باب الأولوية وليس بواجب كما هو المشهور في المذهب، ولا دليل يصار إليه في وجوب أن يحلف البائع أولا، فيحلف البائع أولا: ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا، وهنا يقدم النفي على الإثبات، وعن الإمام أحمد أنه يقدم الإثبات على النفي، وأيضا هذه المسألة ليس فيها ما يقتضي إيجاب تقديم أحدهما من نص أو قياس، فإذا وقع النفي أو الإثبات فقد حصل المقصود، ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ولكل منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، إذن لا يقع الفسخ بمجرد التحالف، بل إذا رضي أحدهما بعد هذا التحالف فإن البيع يقر، وهذا شبيه بتعارض البينات، فإن البينات إذا تعارضت فهذا لا يوجب الفسخ، ولذا إذا رضي أحدهما بعد ذلك فإن البيع يقر على ما هو عليه، فإن لم يرض أحدهما بقول الآخر فإن البيع يفسخ، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن القول قول البائع أو يترادان، فلا تخرج السلعة منه إلا بثمن يرضاه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة فالقول قول البائع أو يتتاركان) ، وفي رواية (والسلعة قائمة) لكن هذه الفظة معلولة لا تصح، أما ما يذكره بعض الفقهاء في هذا الحديث من زيادة لفظ (تحالفا) فلا أصل له في كتب الحديث كما قرر
    (13/106)
    ________________________________________
    هذا غير واحد من أهل العلم كالرافعي وابن حجر والألباني.
    هذا إذا كانت السلعة قائمة، لقوله (يترادان) ، فإن كانت تالفة فقال المؤلف:

    قوله [فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها]
    إذا كانت السلعة تالفة أي غير قائمة فإنهما يرجعان إلى قيمة مثلها وقت العقد، فينظر في قيمة المثل ثم يعطيه المشتري للبائع.
    وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم - أي قيمة المثل - يثبت ولو كانت قيمة المثل أكثر من الثمن الذي رضي به البائع، مثاله: اختلفا فقال البائع ما بعته بمائتين بل بثلاثمائة، وقال المشتري ما اشتريته بثلاثمائة بل بمائتين، فقومت السلعة وكان قيمتها أكثر من ثلاثمائة، ومعلوم أن البائع قد رضي بالثمن الذي حالف المشتري عليه فزادت القيمة على هذا الثمن، لأن البائع والمشتري كلاهما متفقان على أن السعر لن يزيد على ثلاثمائة، فظهر أن السعر أكثر من ثلاثمائة، فقال شيخ الإسلام: يتوجه أنه إذا كانت القيمة أكثر من الثمن الذي رضي به البائع ألا يستحق القيمة، لاتفاقهما على عدم استحقاقه للزيادة، وهذا هو الظاهر فإن هذا التقويم إنما هو لإزالة هذه الخصومة التي وقعت بينهما، وكون القيمة تثبت بأكثر مما وقع عليه الرضا فإنه يكون خلاف المقصود، فالأظهر ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وأن البائع يستحق قيمة المثل إذا كانت قيمة المثل مساوية أو أقل من القيمة التي رضي بها البائع، فإن كانت أكثر فإنه لا يعطى إلى هذه القيمة التي رضي بها، لأنه يقر أن العقد قد وقع عليها، ولا يريد أكثر منها، فكان إعطاؤه أكثر من الثمن زيادة على ما أقر به.

    قوله [فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر]
    إذا اختلف في صفة هذه السلعة التالفة فالقول قول المشتري، فإذا اختلفا فقال البائع: أنا بعت عليك العبد وكان كاتبا، وقال المشتري: لم يكن العبد كاتبا، فالقول قول المشتري، وهذا ظاهر لأنه غارم ومنكر، والقول حينئذ قوله، والبينة على الآخر.
    (13/107)
    ________________________________________
    هذا هو المشهور من المذهب في أصل هذه المسألة، وهي ما إذا كانت السلعة قائمة، وعن الإمام أحمد وهو قول الشعبي أن القول قول البائع، ففي المسألة السابقة القول قول البائع ولا يتحالفان، وهذا القول هو الراجح، ولكن بشرط وهو أن يثبت الخيار للمشتري، فيتحالف البائع أنه باعه بالثمن الفلاني، ولم يبعه بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن قبل المشتري فذاك، وإلا فله الفسخ، ودليل هذا ما ثبت في مسد احمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث صحيح وله طرق كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا اختلف المتبايعان ولا بينة، فالقول قول البائع أو يتتاركان) [حم 4431، د 3511، ت 1270، 4648، جه 2186] ، فهذا الحديث أثبت الخيار للمشتري كما أنه أثبت للبائع القول، ومن كان القول قوله فاليمين يمنيه، كما هو مقرر، وعلى ذلك فالراجح وهو ظاهر الحديث أن القول قول البائع، والمشتري له الخيار، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ.

    قوله [وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهرا وباطنا]
    (13/108)
    ________________________________________
    إذا قال أريد أن أفسخ العقد فإنه ينفسخ ظاهرا وباطنا، ظاهرا أي في ظاهر الحكم، وينفسخ باطنا أي في حقيقة الأمر، وعليه فلو كان أحدهما كذابا، فإنه له أن يتصرف في هذه السلعة أو في هذا الثمن - الذي فسخه من الأجر بغير حق - كما يتصرف في سائر ماله، وهذا هو المشهور من المذهب، واختار الموفق ابن قدامة التفصيل في هذه المسألة فأما الصادق فإنه ينفسخ عقده ظاهرا وباطنا، وأما من علم كذب نفسه فإن البيع ينفسخ في حقه ظاهرا كما تقدم، وأما في الباطن فإنه يكون ظالما مغتصبا آثما، وليس له أن يتصرف فيه، وتصرفه فيه تصرف بغير وجه حق، لأنه ملك مال غيره بطريق غير شرعي، وهذا هو الظاهر، وعليه فلو تبين له خطأ نفسه، وأنه ظن خلاف الواقع فإن عليه أن يذهب إلى الآخر ويستبيحه، أو يرجع إليه السلعة لأنها قد فسخت عليه بغير وجه حق، فكان ذلك حقا له، فيجب أن يعاد إليه حقه.

    قوله [وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه]
    اختلفا في أجل، بأن قال المشتري اشتريته منك على أجل، وقال البائع بل بعته عليك حاضرا لا آجلا، كأن يتفقا على عشرة آلاف، فادعى المشتري أنها مؤجلة، وقال البائع بل هي نقدا، أو اختلفا في شرط، فقال البائع أنا اشترط لنفسي الخيار شهرا، وقال المشتري بل لم تشترط ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول من ينفيه، أي من يقول لا أجل ولا شرط، سواء كان بائعا أو مبتاعا، وذلك تمسكا بالأصل، فإن الأصل في البيع أن يكون بلا أجل ولا شرط.

    قوله [وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا وبطل البيع]
    تبايعا على أرض مساحتها 500 متر، ثم اختلفا، فقال البائع أنا بعتك الأرض التي في الموقع الفلاني، وقال المشتري بل التي في الموضع الآخر، فاختلفا في عينها، فإنهما يتحالفان ويبطل البيع، وذلك إن لم يرض أحدهما بقول الآخر فهي كالمسألة السابقة، أي كما إذا اختلفا في الثمن.
    (13/109)
    ________________________________________
    والصحيح في هذه المسألة كالمسألة السابقة أن القول قول البائع مع يمينه، ثم المشتري بالخيار، إن شاء رضي وإن شاء فسخ البيع، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلف المتبايعان) وهذا عام في كل اختلاف بينهما.

    قوله [وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض والثمن عين، نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن]
    إذا تبايع رجلان، فقال البائع: أنا لا أسلم السلعة حتى يسلمني الثمن، وقال المشتري أنا لا أدفع الثمن حتى أستلم السلعة، وهذا إنما يقع حيث خيف الخيانة أو المماطلة أو نحو ذلك فحينئذ للمسألة صور:
    الصورة الأولى: إذا كان الثمن عينا أي معينا وليس في الذمة كأن يقول: بعتك هذه السيارة بهذه العشرة آلاف، فهنا الثمن عين، فالحكم أنه ينصب عدل من قبل القاضي الشرعي يقبض منهما السلعتين - المبيع والثمن - ويسلم المبيع ثم الثمن لجريان العادة بتسليم المبيع ثم الثمن، وهذا الترتيب لا يظهر أنه على الوجوب بل هو على الأولوية، فلو سلم صاحب الثمن أولا قبل صاحب السلعة فلا حرج.

    قوله [إن كان دينا حالا أجبر بائع ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس]
    هذه هي الصورة الثانية: وهي إذا كان الثمن دينا أي في الذمة كأن يقول: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فالثمن في الذمة أي ليس معينا، ولا يريد أنه مؤجل، بل هو دين أي في الذمة، فهو متعلق في ذمته، فهنا الحكم فيه تفصيل:
    (13/110)
    ________________________________________
    1- أن يكون حالا، فإنه يجبر البائع على التسليم ثم المشتري، فإن قيل لم قدم البائع بالدفع قبل المشتري؟ فالجواب: لأن العقد قد تعلق بعين السلعة، وأما الثمن فقد تعلق بذمة المشتري، وما تعلق بالعين فهو أولى، هكذا قال الحنابلة، ولا يخفى ما فيه، فإن المسألة حقوق لهما، ولا فرق بين أن يكون معينا وبين أن يكون في الذمة، وعليه فإذا سلم هذا قبل هذا أو هذا قبل هذا فلا حرج، لكن إذا ترتب على التقديم خصومة فإنه يقدم صاحب السلعة لتعلق الحق بعينها، ولأن العادة جرت بإعطاء السلعة قبل الثمن، وأما إذا لم يتقدم خلاف ولا خصومة فلا إشكال في مخالفة التقديم الذي ذكره الحنابلة.

    قوله [وإذا كان غائبا في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره]
    2- أما إذا كان المال غائبا في البلد، بمعنى اتفقا على البيع والمال غائب في البلد، كأن يقول البائع: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال المشتري قبلت، فهنا الثمن ليس حالا، ولكنه في الذمة، فإذا قال المشتري المال ليس معي الآن فمعناه أن المال الآن غائب، وليس هو مؤجل، لكنه غائب في الذمة، فالحكم أنه يعطى المبيع، أي تؤخذ السلعة من البائع وتعطى للمشتري ثم يحجر عليه فيمنع من التصرف في هذا المبيع ويمنع من التصرف ببقية ماله إن كان مؤثرا في إيصال الحق إلى صاحبه.

    قوله [وإن كان غائبا بعيدا عنها والمشتري معسر فللبائع الفسخ]
    فإن كان هذا المال الذي هو في الذمة غائبا بعيدا عنها أي عن البلد التي هو منها أو كان المشتري معسرا أي ليس عنده مال الآن وقد اتفقا على أن يكون الثمن حاضرا فللبائع الفسخ، لأن في ذلك ضررا ظاهر عليه.
    (13/111)
    ________________________________________
    وأولى من هذا أن يقال: إنه إنما باع بشرط أن يكون المال حاضرا يدفع إليه في نفس المجلس، أما والمال غائب بعيدا عنه فإنه لم يبايع على هذا، ولذا فالصحيح أن المال مطلقا إذا كان غائبا عن المجلس فليس على البائع أن يسلمه، وليس للقاضي أن يلزمه بالتسليم، وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الظاهر، لأنه قد يكون عليه ضرر أو مماطلة فليس عليه أن يخرج السلعة إلا على الشرط الضمني لهذا البيع، والشرط الضمني أنه إنما باعه على أن يعطيه ثمنها حاضرا وألا يؤخره تأخيرا يخالف ما تضمنه العقد من إعطائه في المجلس، فهذا هو القول الراجح كما تقدم، وعليه فيحبس البائع السلعة على الثمن.
    وقال شيخ الإسلام:" وللبائع الفسخ إن ظهر من المشتري مماطلة " وصوبه في الإنصاف وهو كما قالا، فإن المماطلة ضرر، وحيث كان المشتري مماطلا فإن الخيار يثبت لأن الخيار يثبت لدفع الضرر.
    وقول المؤلف (والمشتري) الواو بمعنى (أو) .

    قوله [وثبت الخيار للخلف في الصفة ولتغير ما تقدمت رؤيته]
    هذا نوع آخر من الخيار وهو خيار الحلف في الصفة، أي أن يصف له المبيع ثم يتبين أنه على غير ذلك، فله الفسخ لضرر، وقد تقدمت القاعدة السابقة وهي أن الخيار يثبت مع الضرر، وكذلك يثبت الخيار لتغير ما تقدمت رؤيته، مثاله: رأى فرسا عند البائع، ثم بعد يومين أو ثلاثة قال: بعني ذلك الفرس، فباعه وكان قد طرأ عليه تغير، وقد تقدم أن الرؤية يشترط فيها أن تكون مع العقد، وقبله بوقت لا يتغير فيه المبيع، فإذا ثبت تغير المبيع فإن هذا غرر فيثبت له الخيار للحوق الضرر به كما تقدم.

    فصل

    قوله [ومن اشترى مكيلا ونحو صح ولزم بالعقد]
    (13/112)
    ________________________________________
    من اشترى مكيلا ونحو كالموزون أو المعدود أو المذروع، وظاهر كلام المؤلف عموم الحكم في الأطعمة وغيرها، فكل مكيل أو موزون أو مذروع أو معدود سواء كان مطعوما أو غير مطعوم، فإذا اشترى منه شيئا فإنه يصح ويلزم بالعقد، وهذا ظاهر، وذلك لأنه بيع قد توفت فيه شروط البيع فهو بيع صحيح ولازم ما لم يكن خيار كما تقدم.

    قوله [ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه]
    وهذا هو المراد هنا، فمن اشترى طعاما أو نحوه سواء كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه، وسيأتي الكلام على القبض إن شاء الله.
    ودليله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه) [خ 2133، م 1526] ونحوه من حديث ابن عباس وفيه أن ابن عباس قال:" أحسب كل شيء كالطعام " [م 1525] وهذا من قياس الصحابة وهو من أصح القياسات.
    وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه) [حم 14892، حب 11 / 358 برقم 4983، هق 5 / 313، طب 3 / 196] ، وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه، قيل لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) [خ 2132، م 1525]
    وعن الإمام أحمد أن هذا الحكم خاص بالطعام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع طعاما) وهذا القول ضعيف، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - (من ابتاع طعاما) هو من باب ذكر بعض أفراد العام، وهو لا يدل على التخصيص كما تقدم، وقد تقدمت أدلة عامة تدل على أن الحكم عام في كل مبيع كما في حديث حكيم بن حزام: (إذا ابتعت بيعا) ، ولأن غير الطعام كالطعام، فإن العلة ثابتة فيه كثبوتها في الطعام، ولذا قال ابن عباس:" أحسب كل شيء كالطعام "
    (13/113)
    ________________________________________
    والعلة والله أعلم كما بينها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن البائع قد يمتنع عن تسليم المبيع أو يماطل أو يجحد أو يحتال، ولا سيما إذا ثبت له أن المبتاع قد ربح في بيعه.
    وقول الحنابلة بالمنع من التصرفات كلها كما قيده المؤلف هنا بقوله: (ولم يصح تصرفه فيه) فإن هذا منع من كل تصرف، فليس له أن يهبه أو يؤجره أو نحو ذلك، هذا ما ذكره المؤلف وهو أحد القولين في المذهب والمشهور في المذهب، واختاره شيخ الإسلام أن المنع مختص بالبيع، وأن له أن يهب أو يحيل به ونحو ذلك وله الإجارة كذلك، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البيع خاصة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في سنن أبي داود وقد تقدم الحديث: (ولا ربح ما لم يضمن) فهو في ضمان البائع كما سيأتي تقريره، فنهى الشارع إن أن يربح فيه وهو ليس في ضمانه، والربح إنما يكون بالبيع، وهذا للمفسدة المتقدمة، وإن كانت الإجارة فيها ربح لكنه ليس في معنى البيع، ولا يلجأ - في الغالب - البائع إلى جحود أو مماطلة أو نحو ذلك لتصرف المشتري بالإجارة، وهذا القول هو الراجح، وأن للمبتاع أن يتصرف قبل القبض بأي تصرف كان سوى البيع، لأن الشارع نهى عن البيع، وليس سوى البيع بمعناه.

    قوله [وإن تلف قبله فمن ضمان البائع]
    إذا تلف قبل القبض فمن ضمان البائع، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث السابق قال: (ولا ربح ما لم يضمن) ولذا نهى المبتاع عن البيع لأنه ليس في ضمانه، ويده لم تقع عليه بعد، والضمان إنما يكون على ما وقعت عليه اليد، فالضمان على البائع، فمثلا: تبايعا سلعة، وقبل أن يقبضها المشتري تلفت، فهذا في ضمان البائع، وعليه فيرجع المشتري بثمنه على البائع، لأنها ليست في ضمانه.

    قوله [وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع]
    (13/114)
    ________________________________________
    إذا حصل للمبيع كالدار ونحوها آفة سماوية، كأن ينزل المطر على الطعام فيفسده، وذلك قبل أن يقبضه المشتري، فإن البيع يبطل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع ليس في ضمانه.

    قوله [وإن أتلفه آدمي خير مشتر بين فسخ وإمضاء ومطالبة متلفه ببدله]
    إذا أتلفه آدمي سواء كان المتلف البائع أو غيره خير المشتري بين الفسخ، لأنه قد تلف وهو في ضمان البائع، فله أن يفسخ، وله أن يمضي البيع لإمكانيته إتمام البيع، ثم يطالب متلفه ببدله، لأنه ملك له بالبيع، لكنه ملك غير مضمون، فبالنظر إلى أنه غير مضمون يمكنه فسخه، وحينئذ يرجع بالثمن على البائع، وبالنظر إلى الملكية فهو مالك له فيرجع على المتلف بمثله إن كان مثليا أو بقيمته إن كان مقوما.

    قوله [وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه]
    قوله (وما عداه) أي ما عدا:
    1- المكيلات.
    2- الموزونات.
    3- المعدودات.
    4- المذروعات، بالإضافة إلى:
    5- الموصوف الذي لم ير.
    6- ما كانت رؤيته متقدمة على العقد.
    فهذه الست لها الحكم المتقدم وهو أنه لا يجوز بيعها إلا بعد قبضها.
    وإنما ألحقوا الموصوف وما رؤي رؤية متقدمة بالمكيلات ونحوها بجامع حق التوفية، فإن المكيل لا بد أن يقبضه المشتري بما اتفقا عليه من الكيل، فلا بد أن يعطى حقه وافيا كاملا في المكيل بالصاع، وفي الموزون بالكيلو، وفي المعدود بالعدد، وفي المذروع بالذرع، ولا بد أن يستوفي حقه كاملا، وكذلك المبيع بالصفة فإنه لا بد أن يعطيه المبيع على الصفة التي اتفقا عليها، وكذلك المعقود عليه عقدا برؤية متقدمة، فلا بد أن يستوفى، بأن يعطى المبتاع هذه السلعة كما كان رآها بالرؤية المتقدمة، فهذه الست لا يحل للمبتاع أن يتصرف فيها حتى يقبضها، وأما ما عداها فإن له أن يتصرف فيه قبل قبضه، كالأرض وكالدار، وفيما يباع جزافا.
    (13/115)
    ________________________________________
    والمبيع جزافا (1) صورته: بيعه كومة من الطعام من غير أن يذكر له كيلها، فهذه الصور السابقة يجوز للمشتري أن يتصرف فيها قبل القبض، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، ولعلهم يستدلون بمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر وابن عباس: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) وفي رواية (حتى يقبضه) ، فكأن عندهم النهي إنما هو فيما يحتاج إلى استيفاء، وهذا إنما يكون في الأشياء الستة التي سبق ذكرها، وذهب الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام إلى أن هذا الحكم ليس خاصا بهذه الست بل هو عام فيها وفي غيرها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حتى يقبضه) ، والحقيقة أن الاستيفاء ليس هو القبض، وعليه فيكون الحكم حتى يستوفيه وحتى يقبضه، ويدل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: (كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم) [خ 6852، م 1527] ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم [د 3499] ، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام جزافا وهو ليس بمكيل، ومع ذلك فقد نهى أن يباع حتى ينقل من موضعه - أي موضع البائع - إلى موضع المبتاع، لأن العلة الثابتة فيما يحتاج إلى استيفاء ثابتة أيضا فيما لا يحتاج إلى استيفاء، فالعلة الثابتة في الست المتقدمة ثابتة في غيرها.

    قوله [وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه]
    __________
    (1) - بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها جائز، نص عليه أحمد، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لأنه علم ما اشترى بالرؤية التي هي أبلغ الطرق فلا يحتاج إلى معرفة المقدار.
    (13/116)
    ________________________________________
    قوه (فمن ضمانه) أي من ضمان المشتري، فما عدا المبيع بكيل ونحوه - وهو ما تقدم من الأصناف الستة - هو من ضمان المشتري، وذلك لأنهم يرون أنه يجوز له أن يتصرف فيه، وأن يربح فيه، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن ربح ما لم يضمن) فدل هذا على أن ما عدا الأصناف الستة هو من ضمان المشتري لأنه ربح فيه، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لا يحل له أن يربح فيه، لأنه ليس بضامن، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ليس في ضمانه، فليس له أن يربح فيه.

    قوله [ما لم يمنعه البائع من قبضه]
    إذا قلنا إنه في ضمان المشتري ولكن منعه البائع من قبضه فإنه يكون في ضمان البائع، لأنه غاصب له، فكان في ضمانه، كما أن الغصب في ضمان الغاصب، وهذا على القول بأنه من ضمان المشتري، وأما على القول بأنه في ضمان البائع كما تقدم ترجيحه فلا فرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة فالكل من ضمان البائع.
    لكن إن بذله البائع فأبى المشتري استلامه، فهو من ضمان المشتري.

    قوله [ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك]
    فما بيع بكيل يكون قبضه بكيله، والمكيل يكون بالصاع، وما بيع بوزن يكون قبضه بوزنه، وذلك بالكيلو والرطل ونحوهما، وما بيع مذروعا فقبضه بالذرع وهكذا، وعن الإمام أحمد أنه لا بد من قبض ذلك، فإن مجرد الكيل والوزن والذرع والعد ليس بقبض، فلا بد من أن يخلي بينه وبين السلعة، وهذا القول هو الراجح، فإن مجرد الوزن والذرع والكيل والعد ليس بقبض ما دام في يد البائع، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: (كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام - وهذا يشمل الطعام الجزاف والمكيل - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه) [خ 2124، م 1527] وعليه فمجرد الكيل والوزن والعد ليس بقبض، وإنما هو استيفاء.
    (13/117)
    ________________________________________
    قوله [وفي صبرة وما ينقل بنقله]
    الصبرة: هي الكومة من الطعام، وقبضها يكون بنقلها لأنها لم تبع كيلا بل بيعت جزافا، وقبضها في العرف بنقلها، وكما تقدم في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر وفيه الأمر بنقلها.

    قوله [وما يتناول بتناوله]
    أي ما يعطي باليد فقبضه يكون بإعطائه باليد، وهذا هو القبض عرفا فيه.

    قوله [وغيره بتخليته]
    فالأرض والدار والمركوبات ونحو ذلك قبضها يكون بتخليتها من غير مانع، فإذا خلى بينه وبينها وليس ثمت حائل فهذا هو قبضها عرفا، وعلى هذا فالقاعدة أن القبض هو ما يثبت أنه قبض في العرف.

    قوله [والإقالة فسخ]
    الإقالة: هي أن يأذن البائع بإرجاع السلعة إليه بثمنها، أي بعد لزوم العقد، فالإقالة فسخ، وهي سنة مستحبة، وفي سنن أبي داود: (من أقال مسلما بيعة أقال الله عز وجل عثرته) [د 3460، جه 2199] ، وهي فسخ وليس بيعا، أي إزالة ورفع، وهذه حقيقتها، وعليه فتجوز قبل قبض المبيع، وهذه هي مناسبة ذكر الإقالة هنا، وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أن الإقالة بيع، لأنها نقل الملك بعوض على جهة التراضي، والراجح الأول، وهي فسخ للعقد من حين الفسخ، وهو المذهب واختاره شيخ الإسلام، وعليه فيكون النماء للمشتري.

    قوله [تجوز قبل قبض المبيع بمثل الثمن]
    فإذا قلنا إن المشتري ليس له أن يبيع السلعة حتى يقبضها، وقلنا إن الإقالة ليست بيعا، فإنها جائزة قبل أن يقبض السلعة.
    وظاهر كلام المؤلف أن البيع إلى البائع قبل القبض غير جائز، ولذا ذكر الفسخ، فلو أن رجلا اشترى سلعة من آخر، وقبل أن يقبضها هذا المشتري رغبت نفس البائع فيها، وقال اشتريها منك بأكثر، فهل يجوز هذا؟
    (13/118)
    ________________________________________
    ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ولذا أجازوا الفسخ هنا، فظاهره - وقد صرحوا به - أن إرجاع السلعة إلى البائع قبل القبض على سبيل التبايع غير جائز، وفي هذا ضعيف، ولذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية جواز ذلك، وذلك لأن العلة السابقة منتفية، فإن الشارع إنما نهى عن بيع السلع قبل قبضها خشية الجحود والمماطلة وامتناع البائع من تسليم السلعة، أما والسلعة بيده - أي بيد البائع - فإن هذا انتفاء للعلة المتقدمة، وعليه فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام أن البيع على البائع جائز قبل القبض لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
    إذن الإقالة فسخ، ولو قلنا إنها بيع كما هو مذهب بعض أهل العم كالإمام مالك فالحكم كذلك، على أن الصحيح أن الإقالة فسخ لأنها لا تعدوا أن تكون إزالة ورفعا للبيع، وليست بيعا مستأنفا.
    * وهنا على المذهب تجوز الإقالة قبل القبض بمثل الثمن، لأنها إن لم تكن بمثل الثمن بل كانت بأكثر منه أو بأقل فإنها بيع، لأنها أصبحت هنا معاوضة.

    قوله [ولا خيار فيها ولا شفعة]
    فلا خيار فيها لأن الخيار إنما يثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وكذلك لا يثبت فيها شفعة لأنها إنما تثبت في البيع والإقالة فسخ وليست بيعا، وسيأتي الكلام على الشفعة في بابها.
    * مسألة:
    حكم الإقالة بعد نداء الجمعة الثاني؟
    الحنابلة ذكروا أنها جائزة، وفي هذا نظر، وذلك لأنه ليس المقصود قضية التبايع بل المقصود الانشغال عن الجمعة، ويقع في الإقالة ما يقع في البيع من الانشغال عن صلاة الجمعة، وهذا أمر ظاهر.
    * هل تكون الإقالة حيلة على الربا؟
    الجواب عن هذا أن يقال إنها لا تكون حيلة على الربا مطلقا وذلك لما تقدم من أن الإقالة لا تصح إلا أن يكون الثمن واحدا، فلا تسمى إقالة مع ربح، لأن الإقالة تبرع، فلا تكون بأقل من الثمن ولا أكثر، فإن كانت بأقل من الثمن أو أكثر فهي بيع وليس بإقالة.

    باب الربا والصرف
    (13/119)
    ________________________________________
    الربا في اللغة: الزيادة، قال تعالى {فإذا أنزلنا عليا الماء اهتزت وربت} ، وأما اصطلاحا: فهو زيادة في شيء مخصوص، ويتضح هذا التعريف في الكلام على أحكام الربا إن شاء الله.
    وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فمنه قوله تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها - أكل الربا) متفق عليه [خ 2767، م 89] وفي صحيح مسلم عن جابر قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) [م 1598] أي في الإثم، ونحوه في البخاري من حديث أبي جحيفة [خ 5962] ، وآكل الربا: أي آخذ الزيادة، وهو المتاجر بالربا، وموكله: هو دافع الربا، وكاتبه وشاهديه كذلك في الإثم، لأنهم قد أعانوا على الإثم، وقد قال تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
    والصرف: بيع نقد بنقد، أي بيع دراهم بدراهم، أو بيع دراهم بدنانير، اتحد الجنس أو اختلف.

    قوله [يحرم ربا الفضل في مكيل وموزون بيع بجنسه]
    يحرم ربا الفضل باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) رواه مسلم [م 1587] فهذا الحديث صريح في ربا الفضل، وهو كما عرفه المؤلف بقوله (في مكيل أو موزون بيع بجنسه) كأن يبيع برا ببر، فالطرف الأول يدفع مائة صاع، والآخر يدفع تسعين صاعا، فهذا من ربا الفضل، فليس فيه تأخير، بل فيه حلول، لكن فيه فضل.
    (13/120)
    ________________________________________
    وروى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) [خ 2179، م 1596] فإن قيل: هذا الحديث مفهومه أن ربا الفضل جائز، وفي لفظ لمسلم: (إنما الربا في النسيئة) [م 1596] .
    فالجواب أن يقال: لا يعارض منطوق قوله - صلى الله عليه وسلم - بمفهوم قوله، فإن حديث عبادة بن الصامت منطوقه يدل على تحريم ربا الفضل، وأما هذا الحديث المتفق عليه فمفهومه يدل على واز ربا الفضل، فلا يعارض المنطوق بالمفهوم كما هو متقرر في علم الأصول، وعليه فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ربا إلا في نسيئة) أي أعظم الربا وأقبحه وأشده هو ربا النسيئة، والأمر كذلك كما إذا قيل لا عالم في المدينة إلا زيد، فلا يعني أنه ليس هناك في المدينة عالم سواه، ولكن المقصود أنه أعلم أهل المدينة، وهنا كذلك، وإنما حرم ربا الفضل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فتحريمه من باب سد الذرائع، وأما ربا السيئة فتحريمه تحريم أصلي.
    وقوله (في مكيل) الكيل يكون بالصاع، والوسق، ونحو ذلك.
    وقوله (وموزون) الوزن يكون بالميزان، كما يكون عندنا بالجرامات، وفي زمن متقدم بالأرطال.
    وظاهر كلامه في قوله (في مكيل) أنه سواء كان الكيل مطعوما كالبر والتمر والشعير، أو كان غير مطعوم كالأشنان - وهو من المواد المنظفة -، ومثله كثير من الأدوية، فإن ك ذلك يجري في حكم ربا الفضل، والموزون كذلك سواء كان مطعوما كالسكر واللحم واللبن ونحو ذلك، أو كان غير مطعوم كالذهب وفضة، وهذا هو المذهب.
    واعلم أن أهل العلم جميعا أجمعوا على تحريم الربا في الأصناف الستة المتقدمة في حديث عبادة، وهي: الذهب والفضة والبر والقمح والشعير والملك والتمر، فقد أجمعوا على تحريم ربا النسيئة فيها، وكذلك ربا الفضل في قول عامتهم كما تقدم، واختلفوا هل يقاس عليها غيرها أم لا؟
    (13/121)
    ________________________________________
    فقال الظاهرية وهو اختيار بن عقيل من الحنابلة إنه لا يقاس عليها غيرها، أما الظاهرية فجريا على قاعدتهم في نفي القياس، وهي باطلة، وأما ابن عقيل فإنه قد خفيت عليه العلة، فبقي هذا الحكم مختصا بالأصناف الستة، وذهب جماهير العلماء إلى القول بالقياس، أي إلحاق غيرها كاللحم واللبن وغير ذلك، واختلفوا في العلة الجامعة التي تثبت في الفرع ليثبت له حكم الأصل:
    1- فقال الحنابلة والأحناف: العلة في الذهب والفضة هي الوزن، وفي الأصناف الأربعة الباقية هي الكيل، فقالوا كل مكيل أو موزون سواء كان مطعوما أم غير مطعوم فإنه يحرم فيه الربا، وعليه فيجوز بيع المطعوم المعدود كالبيض بالبيض فضلا.
    2- وقال المالكية في علة الأصناف الأربعة أنها الاقتيات والادخار، وأن القوت هو ما يبني عليه الآدمي بدنه من الأطعمة المهمة والأصلية، والمدخر هو ما يدخر إلى الأمد المبتغى منه عادة، ولا يفسد بالتأخير، كما يكون هذا في البر ونحوه، بخلاف الفواكه ونحوها فإنه لا يدخل في هذا، وفي معنى الاقتيات إصلاح القوت كملح ونحوه، وهذه علة ربا الفضل عندهم، وأما ربا النسأ فالطعم على غير جهة التداوي.
    3- وقال الشافعية العلة هي الطعم، سواء كان اقتياتا أو تفكها أو تداويا، فكل مطعوم سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن مكيلا ولا موزونا، وسواء كان قوتا أو مدخرا أو لم يكن كذلك، واستدلوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الطعام بالطعام) كما في بعض روايات حديث عبادة [م 1592] ، وأجيب عنه بقول معمر - رضي الله عنه - كما في مسلم:" وكان طعامنا يومئذ الشعير " [م 1592] ، فعليه قوله: (الطعام بالطعام) أي الشعير بالشعير.
    (13/122)
    ________________________________________
    4- وعن الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والطعم، فإذا كان مكيلا مطعوما فإن الربا يثبت فيه، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بقيد: وهو أن يكون هذا الطعام قوتا أو ما يصلح القوت، وهذا هو أصح المذاهب، وهو أن العلة هي الكيل مع كونه قوتا أو ما يصلح القوت، وذلك لأن الأصناف الأربعة كلها قوت، أو ما يصلح القوت، وهذه العلة في الحقيقة هي العلة المؤثرة، فإن هذه أطعمة للناس، والناس يحتاجون إلى الطعام، ويتضررون بحسابه عليهم بالزيادة والنسيئة بما لا يتضررون فيما سواه، كما أنهم يتضررون بالأطعمة التي هي قوت لهم - وقد قام طعامهم عليها - بما لا يتضررون بغيرها من الأطعمة، وما ذكره المالكية من الادخار لا يظهر أن هذا مؤثر لتضرر الناس الأطعمة التي لا تدخر وهي قوت لهم كاللحم ونحوه، فأصح المذاهب ما هو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو جمع بين ما ذكره الشافعية والحنابلة والأحناف، فإن العلة عند الأحناف والحنابلة هي الكيل، وعند الشافعية هي الطعم، فجمعت فيها هذه الرواية وأضافت ما اشترطه المالكية وهو أن يكون قوتا، ومثله ما يصلح القوت، وقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الملح، هو ليس بقوت وإنما هو مما يصلح القوت، فهذه هي العلة في الأصناف الأربعة لكن بشرط الادخار.
    وأما العلة في الذهب والفضة فعلى أقوال عند أهل العلم:
    1- فقال الحنابلة - كما تقدم - إن العلة هي الوزن، فكل ما كان موزونا فيجري فيه الربا بنوعيه، وإن لم يكن ذهبا ولا فضة، وهذا هو مذهب الأحناف أيضا، فالحنابلة والأحناف يتفقون في العلة في الأصناف كلها.
    (13/123)
    ________________________________________
    2- وقال الشافعية والمالكية: العلة هي الثمنية، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، قالوا: العلة هي الثمنية وذلك لأن علة الوزن ليست بمؤثرة، وإنما قلنا إن الكيل مؤثر في الأصناف السابقة لأنه لا يمكن الحكم بالتفاضل بين الأشياء ومعرفة الفوارق بينها إلا بالكيل والوزن، ولذا سيأتي أن شيخ الإسلام لا يفرق بين الكيل والوزن في الأصناف المتقدمة، وأن الربا يجري فيها وإن كانت بالوزن لا بالكيل، فإن قضية الوزن ليست بمؤثرة لكن يعرف بها التماثل من عدمه، فالذهب والفضة نقدان، فهما قيم الأشياء وأثمانها، فهي العلة الحقيقية في الذهب والفضة، كما أن العلة في الأصناف الأربعة أنها قوت، فهي قوت أو ما يصلح القوت، ولو قلنا إن العلة هي الوزن لما كان هناك ربا في تعاملات الناس اليوم، لأن النقود اليوم لا توزن بل تعد عدا، وهذا مما يضعف القول بأن العلة هي الوزن.
    والأوراق النقدية فيها علة الثمنية، فعليه هي أجناس ربوية تتعدد أجناسها بتعدد جهات إصدارها، فيجري فيها نوعا الربا، وهذا ما قررته هيئة كبار العلماء.

    قوله [ويجب فيه الحلول والتقابض]
    أي يجب أن يكون حالا مقبوضا، حالا في مجلس العقد، ومقبوضا أي يدا بيد، فإن تقابضا في غير مجلس العقد فإن ذلك لا يحل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة) إلى أن قال: (يدا بيد) ، ولا بد كما تقدم أن يكون مثلا بمثل، فليس له أن يبيع برا وإن كان رديئا ببر طيب، أو بالعكس مع التفاضل، فهذا لا يجوز.

    قوله [ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا، ولا موزون بجنيه إلا وزنا ولا بعضه ببض جزافا]
    هذه ثلاث صور ينهى عنها:
    الصورة الأولى: قوله (ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا) ، فالبر يكال بالصاع، فلو باعه بالوزن - والمشهور في زماننا أنه بالوزن - فهذا لا يجوز، فلا يجوز بيع البر بالبر إلا أن يكون الحساب بالكيل.
    (13/124)
    ________________________________________
    الصورة الثانية: قوله (ولا موزون بجنسه إلا وزنا) فالسكر يوزن بالكيلوجرامات، فلو باعه الصاع فذلك لا يجوز، ولو علم التساوي بينهما.
    الصورة الثالثة: قوله (ولا بعضه ببعض جزافا) فإذا قال: هذه كومة من التمر أبيعها عليك بهذه الكومة من التمر وهما لا يعلمان قدر كل كومة، فهذا لا يجوز.
    أما الصورة الأخيرة فلا إشكال في النهي عنها، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثلا بمثل) فالبيع جزافا ليس فيه تحقق المثلية، بل كال منهما جاهل بالمقدار، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.
    وأما المسألتان الأوليان وما بيع المكيل جنيه وزنا، وبيع الموزون بجنسه كيلا، أي أن يبيع البر بالكيلوجرامات بدل أن يبعه بالآصع، ويبيع السكر بالآصع مكان الوزن، فهذا جائز، وهو مذهب المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام، وذلك لثبوت التماثل، والتماثل ثابت سواء باعه بالكيل أم بالوزن وهذا ظاهر.

    قوله [فإذا اختلف الجنس جازت الثلاثة]
    إذا اختلف الجنس كأن يبيع برا بشعير، جازت الثلاثة لعدم اشتراط التماثل، فلو باع ما يكال بالوزن، أو ما يوزن بالكيل، أو باعه جزافا فهذا كله جائز، فإذا قال: هذه الصبرة من الشعير أشتريها منك بهذه الصبرة من البر فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل، وعلى الترجيح المتقدم فلا إشكال في ذلك.

    قوله [والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا كبر ونحوه]
    البر له أنواع، والتمر له أنواع، والشعير كذلك، فالجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعا.

    قوله [وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان]
    الأدقة جمع دقيق، وهو معروف، وهو الطحين.
    (13/125)
    ________________________________________
    والأدهان كدهن الذرة ودهن الزيتون ودهن السمسم، فهذه فروع الأجناس، فتعطى حكم أصلها فتكون جنسا، فعليه لا يجوز أن يباع طحين بطحين من البر إلا مع التماثل والتقابض، لا يجوز أن يباع خبز البر بخبز البر إلا مع التماثل والتقابض، ولا يجوز أن يباع دهن البر بدهن البر إلا مع التماثل والتقابض، وذلك لأن فروع الأجناس لها حكم الأصل. (1)

    قوله [واللحم أجناس باختلاف أصوله]
    فلحم الضأن والمعز هذا جنس، ولحم البقر جنس آخر، ولحم الإبل جنس ثالث، فالعبرة باختلاف أصوله، فهذه فصيلة المعز، ويدخل فيها الضأن ونحوه، وهذه فصيلة البر، ويدخل فيها الجواميس ونحوها، وهذه فصيلة الإبل فيدخل فيها أنواعها، فبيع لحم الإبل بلحم البقر يجوز بشرط التقابض، أما المفاضلة فهي جائزة لأن الأجناس هنا مختلفة، وأما بيع لحم البقر بحم البقر فلا يجوز إلا بالتقابض والتماثل لأنه جنس واحد.

    قوله [وكذا اللبن]
    فاللبن يتبع أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، وهكذا.

    قوله [واللحم والشحم والكبد أجناس]
    فاللحم جنس، والشحم جنس آخر، والكبد جن آخر، وهكذا بقية أجزاء الحيوان، فإنها أجناس مختلفة، وذلك لأن لكل منها اسم وحقيقة تختلف عن اسم وحقيقة الآخر، وعليه فبيع اللحم بالكبد يشترط فيه التقابض فحسب، وأما بيع اللحم من جنس واحد فلا بد فيه من التماثل والتقابض.

    قوله [ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه]
    __________
    (1) - واختار شيخ الإٍسلام ابن تيمية أن ما صنع من الأجناس فإن خرج عن كونه قوتا خرج عن كونه ربويا، وهذا بناء على أن العلة مشتملة على جزء الاقتيات، وإن لم يخرج عن كونه قوتا فهو جنس مستقل ليس تابعا لأصله، وعليه فيجوز أن يبيع الخبز بهريسه، والزيت بالزيتون، والسمسم بالجريش، انظر الاختيارات الفقهية ص 188، وسيأتي من شرح الشيخ حفظه الله.
    (13/126)
    ________________________________________
    أي أنه ليس له أن يبيع لحم إبل ببعير، ولا لحم البقر ببقرة، أو لحم الغنم بغنمة، ونحو ذلك، وذلك للجهل بالتماثل، وتقدم أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ويدل عليه ما رواه مالك في موطئه بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع اللحم بالحيوان) [ك 1316] ، وله شاهد عند البيهقي من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -[هق 5 / 296، برقم 10349] ، وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، والعلة كما سبق هي الجهل بالتماثل.

    قوله [ويصح بغير جنسه]
    فلو باع كذا كيلو من لحم الإبل بضأن أو معز فهذا جائز إذا كان يدا بيد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فيجوز هذا ولو مع التفاضل، أما النسيئة فلا يجوز سواء كان بجنسه أم بغير جنسه، ويدل لهذا ما رواه الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) [حم 19630، ت 1237، ن 4620، جه 2270، د 3356] ، قال شيخ الإسلام:" إذا كان المقصود اللحم وإلا فلا " فإذا كان المقصود هو اللحم فإنه لا يجوز ذلك، وذلك لما تقدم في العلة في الربا وأنها هي القوت، فإذا كان المقصود هو اللحم فيحرم وإلا فيجوز، ولذلك ثبت في المستدرك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشترى البعير بالبعيرين وبالثلاثة، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة) [كم 2 / 56، د 3357] وذلك لأن المقصود ليس هو اللحم، وإنما المقصود هو الركوب، وهذا جمع بين الأدلة، فعليه لا يجوز
    بيع الحيوان - بقصد اللحم - بالحيوان.

    قوله [ولا يجوز بيع حب بدقيقه ولا سويقه]
    (13/127)
    ________________________________________
    فلا يجوز له أن يبيع الحب كالبر بالدقيق وهو طحينه، وذلك للجهل بالتماثل، والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز وزنا، وهذا هو الظاهر، فإن التفاضل إنما يقع في الكيل، وأما بالوزن فإن التماثل يعلم، وإنما يقع التفاضل في الكيل لأن الدقيق سيكون أكثر بكثير من الحب لوجود مسافات بين الحبوب، وعلى هذا فالراجح هو الرواية عن الإمام أحمد أن بيع الدقيق بحبه جائز إذا ثبت التماثل بالوزن.
    وقوله (ولا سويقه) والسويق هو أن يضعه على النار حتى يأخذ شيئا من الحمرة، ثم يوضع عليه شيء من الزيت والماء ونحو ذلك، فلا يجوز له أن يبيع الحب بالسويق، ولا يجوز أن يبيع الدقيق بالسويق لعدم معرفة التماثل، لأن السويق قد أضيف إليه شيء من السمن أو من الماء، وقد وضع على النار فلا يثبت حينئذ التماثل.

    قوله [ولا نيئه بمطبوخه]
    لا يحل له أن يبيع النيء بالمطبوخ، فمثلا بيع الحنطة بالهريس أو بيع البر بالخبز هذا لا يجوز لعدم معرفة التماثل.

    قوله [وأصله بعصيره]
    فالأصل مثلا الزيتون، فلا يجوز أن يباع بعصيره وهو زيت الزيتون، لعدم معرفة التماثل، والزيتون قالوا هو مما يجري فيه الربا، وزيته فرع عنه، والفرع له حكم الأصل.

    قوله [وخالصه بمشوبه]
    فلو باع حنطة خالصة بحنطة مشوبة فهذا لا يجوز، وذلك للجهل بالتماثل، أما إذا كان الشائب يسيرا بحيث لا يؤثر فإنه يجوز للعفو عن اليسير.

    قوله [ورطبه بيابسه]
    فلو باع مثلا رطبا بتمر فهذا لا يجوز، ويدل عليه ما ثبت عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا يبس، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك) [حم 1518، ن 4546، ت 1225، د 3359، جه 2264] ، والعلة ما تقدم وهي الجهل بالتماثل.

    قوله [ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة]
    (13/128)
    ________________________________________
    يجوز بيع الطحين بالطحين، فيجوز بيع طحين الشعير بطحين الشعير، بشرط أن يستويا في النعومة، لكن لو كان أحدهما فيه خشونة فلا شك أن التماثل لا يكون حينئذ معلوما.

    قوله [ومطبوخه بمطبوخه]
    يجوز أن يبيع المطبوخ بالمطبوخ، كالسويق بالسويق أو نحو ذلك.

    قوله [وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف]
    يجوز بيع الخبز بالخبز إذا استويا في النشاف، أما إذا كان رطبا كالخبز الرطب مع الخبز اليابس فذلك لا يجوز لعدم معرفة التماثل.

    قوله [وعصيره بعصيره]
    فيجوز أن يبيع زيت الزيتون بزيت الزيتون بشرط التماثل.

    قوله [ورطبه برطبه]
    كأن يبيع رطبا برطب، فهذا جائز بشرط التماثل، فهذه الأجناس الربوية لا يحل بيع بعضها إلا إذا ثبت التماثل.
    وقد نهى الشارع كما في الصحيحين عن المحاقلة والمزابنة، فالمزابنة: بيع الرطب على رؤوس النخل بالنخل - إلا ما سيأتي استثناؤه من العرايا - وبيع العنب على شجره بالعنب، فلا يجوز ذلك لعدم معرفة التماثل، وأما المحاقلة: فهي بيع الحب بعد أن يشتد في سنبله، بحب من جنسه، أما إذا باعه بشيء ليس من جنسه كأن يبيع برا في سنبله بشعير فهذا جائز لعدم اشتراط التماثل.
    ** مسألة بيع العرايا.
    (13/129)
    ________________________________________
    اعلم أن العرايا جائزة بشروط، والعرايا جمع عرية، والعرية ما أفرد عن الجملة، أي ما أفرد عن شبيهه ونظيره في الظاهر، وقد دلت الأدلة الشرعية على الرخصة في العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر خرصا كيلا عند الحاجة إلى ذلك، بشروط سيأتي ذكرها، ففي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا) [خ 2193، م 1539] أي أجاز العرايا بشرط أن تباع بخرصها كيلا، فيأتي من عنده معرفة وخبرة بما يؤول إليه أمر الرطب إذا جف، فيقول هذه الأربعة آسق من الرطب إذا جفت فإنها تساوي ثلاثة آسق من النمر، فنعطيه ثلاثة آسق من التمر ويأخذ المشتري أربعة آسق من الرطب، ويجوز ذلك بشروط:
    الشرط الأول: أن يكون المشتري محتاجا إلى ذلك ولا نقد عنده، فإن كان غينا قادرا على أن يشتري الرطب بماله فلا يجوز ذلك، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، وإنما جاءت العرايا لرفع الحرج، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) [م 1539] فدل على أن الغرض من إباحة العرية هو أكلها رطبا.
    الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رخص في العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) [خ 2382، م 1541] والشك من الراوي كما دل عليه رواية مسلم ورواية ابن حبان، وقد تقدم النهي عن المزابنة، فالأصل هو التحريم، وحيث ورد الشك فإن اليقين هو الأقل وهو فيما دون خمسة أوسق، وأما خمسة أوسق فلا تجوز لأنها مشكوك فيها، والأصل هو التحريم.
    الشرط الثالث: التقابض، وذلك لأنه بيع ربوي بربوي، ولا يجوز بيع الربوي بالربوي إلا أن يكون ذلك تقابضا وتماثلا، وقد جوزنا عدم العلم التام بالتماثل، فبقي التقابض.
    (13/130)
    ________________________________________
    الشرط الرابع: أن يأكلها رطبا، فإن أكلها تمرا فلا يجوز، لأنها أجيزت للحاجة.
    وهل هذا خاص في الرطب مع التمر، أم يدخل فيه العنب والزبيب كأن يشتري عنبا في شجرة بزبيب؟
    قال الحنابلة: هو خاص في التمر مع الرطب، وقال المالكية: مثله في الحكم العنب مع الزبيب، وهذا هو الصحيح.

    قوله [ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما]
    هذه مسألة مد عجوة، والمد: هو ربع الصاع، والعجوة: تمرة مشهورة، وهي من تمر المدينة، وصورة هذه المسألة: أن يباع مد عجوة ودرهم بدرهمين، فهذا الدرهم ربوي بيع بجنسه، فدرهم بدرهم أو درهم بدرهمين ومع أحدهما شيء آخر، وهو هنا مد عجوة، وكذلك لو باع ذهبا بذهب وحرز، أو باع فضة بفضة ونحاس، ونحو ذلك، أو باع فضة ونحاس بفضة ونحاس، فهذا كله لا يجوز، ودليل هذه المسألة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث فضالة بن عبيد قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تباع حتى تفصل) [م 1591] ، فهنا ذهب بذهب وخرز، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حتى يفصل، أي حتى يميز الذهب من الخرز، فيعرف مقدار الذهب، ويعرف مقدار الخرز، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن هذه المسألة يستثنى منها ما إذا كان الجنس المتميز أكثر من الجنس المختلط، أي الجنس المنفرد أكثر من الجنس المختلط، فحينئذ تكون الزيادة في المنفرد مقابل هذا الجنس الزائد، ومثال ذلك: باع عشرة دنانير بقلادة فيها تسعة دنانير وخرز، فحينئذ تسعة دنانير بتسعة دنانير، ودينار مقابل الخرز، وكذلك إذا باع مائة صاع من التمر بتسعين صاعا من التمر وكذا صاعا من الشعير أو الأقط، فهذا جائز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وذلك لأن الأصل في البيوع الحل، ومن باع تسعة دنانير
    (13/131)
    ________________________________________
    بتسعة دنانير، والدينار الزائد يقابله الخرز الزائد فإن هذا ليس فيه شيء محرم، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تفصل للمعرفة، وقد ثبت المعرفة، فإذا بيع المختلط بما هو منفرد، وكان المنفرد متميزا وأكثر من المختلط فهذا جائز وليس فيه حيلة على الربا، وهذا القول هو الصحيح، وعليه فإذا كان الجنس منفردا فيجوز أن يباع بجنس مختلط بشرطين:
    الأول: أن يكون المنفرد أكثر من المختلط.
    الثاني: ألا يكون هذا حيلة على الربا.

    قوله [ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى]
    لا يجوز أن يباع مائة صاع من التمر الذي أخرج نواه، بمائة صاع من التمر ذي النوى، وذلك لعدم التماثل، والشرط في البيع التماثل.

    قوله [ويباع النوى بتمر فيه نوى]
    النوى عندهم جنس ربوي لأنه يكال، فإذا باع نوى بتمر فيه نوى كأن يبيع مائة صاع من النوى بخمسة آصع من التمر الذي فيه نوى فذلك جائز، وذلك لأن النوى في السلعة الثانية ليس مقصودا، بل المقصود هو التمر، وهذا باتفاق العلماء، فإذا بيع ربوي بسلعة أخرى فيها ربوي من جنسه، وكان هذا الربوي الذي من جنسه ليس بمقصود في البيع فإن ذلك جائز.
    إذن المسألة السابقة وهي بيع ربوي بربوي من جنسه ومعهما أو مع أحدهما شيء زائد، وهي مسألة مد عجوة، هذا إن كان الربوي في السلعتين مقصودا، أما إذا كان الربوي في السلعتين أو في أحدهما ليس بمقصود فإن ذلك جائز،ومثله بيع دار فيها شيء من الذهب بذهب، فالمقصود بالبيع هو الدار وليس الذهب، فهذا جائز باتفاق أهل العلم، واختار أيضا شيخ الإسلام وذكر أنه ظاهر المذهب بيع السيف المحلى بالذهب بذهب، وبيع السيف المحلى بالفضة بفضة، فإن الفضة في السيف وكذلك الذهب ليس بمقصود، بل المقصود هو السيف فيجوز ذلك.

    قوله [ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف]
    (13/132)
    ________________________________________
    اللبن ربوي، والصوف عندهم ربوي لأنه موزون، والصحيح ما تقدم أن العلة ليست هي الوزن، بل العلة هي الثمنية، فإذا باع لبنا وصوفا بشاة ذات لبن وصوف، فيجوز ذلك، لأن المقصود هو الشاة نفسها ليس اللبن ولا الصوف الذي عليها، وهذا باتفاق أهل العلم كما تقدم.

    قوله [ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -]
    تقدم أن الحنابلة يعللون الأصناف الأربعة بأنها مكيلة، والذهب والفضة بأنهما موزونان، فإن قيل كيف يعرف المكيل وكيف يعرف الموزون؟ أي ما هي الأشياء التي تكال فيثبت فيها الربا، وما هي الأشياء التي توزن فيثبت فيها الربا؟
    فمثلا: الصوف والحديد والنحاس هل هو موزون أم مكيل، ولا شك أن هذه المسألة لها أهمية، هذا على القول بما ذكروه من أن العلة هي الكيل والوزن، وإذا عرفنا أن هذا مكيل وهذا موزون فيجوز أن أبيع هذا بهذا، أي المكيل بالموزون، لأنه يجوز عندهم بيع المكيل بالموزون، فقال المؤلف إن مرد الكيل لعرف المدينة، وليس المراد ما هو قدر الصاع، بل المقصود ما هو المكيل، وما هو الموزون، فمرد الكيل لعرف المدينة، ومرد الوزن لعرف أهل مكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة) [ن 2520، د 3340] والحديث إسناده صحيح، فالصوف يوزن عند أهل مكة، وكذلك الذهب والفضة ونحوها، والمائعات تكال بالصاع، وكذلك التمر والبر، هذا في عرف أهل المدينة، فعرفنا الآن أن البر يكال لأن أهل المدينة يكيلونه، وأن الذهب يوزن لأن أهل مكة يزنونه.

    قوله [وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه]
    (13/133)
    ________________________________________
    فما لا عرف له في مكة والمدينة فإنه يعتبر عرفه في موضعه، فإن كان مكيلا اعتبر، وإن كان موزونا اعتبر كذلك، فيرجع فيه إلى عرف أهل البلد، فإذا اختلف أهل البلاد فيه، فمنهم من يقول: هو مكيل، ومنهم من يقول هو موزون، فإنه يحكم بالغالب، فإن لم يكن ثمت غالب فإنه ينظر إلى شبهه بما هو مكيل أو بما هو موزون فيلحق به، فمثلا الجواهر شبيهة بالذهب والفضة فحكمها الوزن، والذرة شبيهة بالأرز فحكمها الكيل، وهذا كله على قول مرجوح في مسألة الوزن، والراجح أن الحكم راجع إلى مسألة الثمنية في الذهب والفضة، وقضية الكيل الذي يترجح أن المقصود فيها هو القياس، فسواء كان القياس بالكيل أو بالوزن فإن المقصود هو ما يعرف به التماثل، سواء كان بكيل أم بوزن، وقد تقدم قول مالك وأن العلة في الأصناف الأربعة هي الاقتيات والادخار ولم يذكر الكيل، لكن الكيل يحتاج إليه والوزن يحتاج إليه لمعرفة التماثل من عدمه.

    فصل

    قوله [ويحرم ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا كالمكيلين والموزونين]
    يحرم ربا النسيئة بإجماع العلماء، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) ، والنسيئة من النساء بفتح النون وهو التأخير، فربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة الربا، وعلة الربا على المذهب الكيل والوزن، فلو باع بر بشعير ثبت فيه ربا النسيئة، لأن كلا منهما مكيلا، ومن باب أولى إذا باع شعيرا بشعير، وكذلك لو باع ذهبا بفضة، فهما جنسان اتفقا في علة الربا وهي الوزنية على المذهب.
    (13/134)
    ________________________________________
    وقوله (ليس أحدهما نقدا) هذا في باب الموزونات، فمن الموزونات عند الحنابلة النحاس والحديد والسكر ونحو ذلك، فلا يجوز - على القاعدة السابقة - بيع السكر بالدراهم، أو بيعه بالدنانير نسيئة، لأن السكر العلة فيه الوزن، فهو ربوي، وكذلك الدنانير والدراهم، فاتفقا في العلة، فاحتاج المؤلف إلى استثناء ما إذا كان أحدهما نقدا، لئلا ينسد بهذا باب السلم، وهو نوع من الديون في الموزونات، وهذا مما يدل على ضعف هذه العلة التي ذكروها، وهي علة الوزنية، فاحتاجوا إلى مثل هذا الاستثناء، وإلا فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد وهي أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية.

    قوله [وإن تفرقا قبل القبض بطل]
    مثاله: اشترى ذهبا بفضة، وتفرقا ولم يتم التقابض، فإن البيع بطل، لأن الشارع قد اشترط التقابض، وحينئذ فهذا البيع قد خلا من شرط الشارع، وكل ما خلا من شرط الشارع فهو باطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .

    قوله [وإن باع مكيلا بموزون جاز التفرق قبل القبض والنسأ]
    فإذا باع مكيلا كبر بموزون كذهب جاز التفرق قبل القبض لأن التقابض ليس بشرط، لأن العلة قد اختلفت، فالبر علته أنه قوت، والذهب علته الثمنية، وعلى قول الحنابلة البر علته الكيل، والذهب علته الوزن، فإذا اختلفت العلة جاز التفاضل والنسأ وهذا بالإجماع، ويدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رهن درعه عند يهوي على شعير أخذه لأهله) فهنا اشترى الشعير بالدراهم المؤجلة، وهذا كما سبق محل إجماع بين أهل العلم، وعلى هذا فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) مقيد بالأجناس ذات العلة المتحدة، فصار عندنا الآن ثلاثة أنواع:
    (13/135)
    ________________________________________
    النوع الأول: بيع ربوي بجنسه، فلا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة كبر ببر.
    النوع الثاني: بيع ربوي بجنس آخر يتحد هو وإياه في العلة، فيجوز فيه النسيئة دون التفاضل.
    النوع الثالث: بيع ربوي بجنس ربوي آخر يخالفه في العلة فيجوز فيه النسيئة والتفاضل إجماعا.
    * وهل يجوز بيع فلوس نافقة - أي غير كاسدة، بل يتعامل بها على أنها أثمان للأشياء - بدراهم أو دنانير نسيئة أم لا؟
    قولان لأهل العلم، فذهب الجمهور أن بيع الفلوس النافقة بالدراهم جائز مع التفاضل إذا كان حالا، والفلس ما يساوي سدس الدرهم، ويصنع من غير الذهب والفضة، بل هو من جنس آخر، وهو موزون، وعلى الراجح هو ثمني، فعليه هو جنس ربوي، فإذا بيع بالدراهم أو بالدنانير مع التفاضل فهذا جائز لأن الأجناس مختلفة، وإذا اختلفت الأجناس جاز البيع، ولا يظهر أن الفلوس موجودة عندنا، وذلك لأن الأوراق والمعادن كلها في الحقيقة ذات مرجع واحد، فإنها بنفسها ليس لها قيمة، وإنما القيمة في مرجعها، وليس مرجعها ذهبا ولا فضة ولا شيئا محددا، وإنما ترجع إلى القيمة المادية للبلد، ويختلف هذا باختلاف نمو هذه البلدة من بترول أو معادن أو نحو ذلك، وعلى ذلك فهذه المعادن التي بأيدينا لا يظهر أنها جنس آخر، بل هي من جنس الريالات، فهذه أوراق وهذه معادن، ومرجعها واحد، ولو قلنا إن مرجعها مختلف فإنه يجوز فيها التفاضل كما يجوز في الفلوس النافقة، والصحيح خلاف هذا، فإن الصحيح أن مرجعها واحد، فإنه ينظر ما عند أهل البلدة من قدرة مادية ويؤذن لهم بقدرها من الصرف من الريالات، سواء صرفوها معادن أو ريالات، وساء كانت الريالات الورقية ذات درجة واحدة أو درجات مختلفة، وقد تقدم ترجيح ما ذهب إليه بعض أهل العلم وهو ما يفتي به هيئة كبار العلماء أن الريالات والدنانير والدولارات وغيرها أجناس مختلفة بحسب اختلاف جهات مصادرها، كما تقدم في كتاب الزكاة، فيجوز فيها
    (13/136)
    ________________________________________
    التفاضل دون النسيئة.
    فهذه الفلوس النافقة التي كانت تصنع قديما لها قيمة معدنية بذاتها، وليست ذهبا ولا فضة بل هي جنس آخر، وعليه فيجوز فيها التفاضل بالذهب والفضة لأنها جنس آخر، وإنما الكلام هنا في جواز بيعها نسيئة، فهل يجوز بيع الفلوس النافقة بالدراهم أو بالدنانير نسيئة؟
    قولان لأهل العلم، ومنشأ الخلاف هو هل الفلوس النافقة أثمان أم عروض؟ فإن قلنا هي أثمان فلا يجوز بيعها نسيئة بالدنانير أو بالدراهم، كما لا يجوز بيع الدراهم بالدنانير نسيئة، وهذا القول هو المشهور من المذهب وهو قول المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى، والقول الثاني أنها عروض وليست أثمانا، وحينئذ فيجوز بيعها نسيئة كما يجوز أن يشتري ثيابا بدراهم نسيئة فهي عروض، وهذا مذهب الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة، وذكره صاحب الفروع اختيارا لشيخ الإسلام، والقول الأول هو الراجح فإنها أثمان، فالحكم للغالب عليها أنها أثمان، فيباع بها ويشترى كما يباع ويشترى بالذهب والفضة، فالحكم الغالب عليها هو الثمنية، وعليه فلا يجوز بيعها بالدراهم ولا بالدنانير نسيئة، أما التفاضل فجائز.
    ** مسألة:
    المصوغ المباح من الذهب والفضة كحلي النساء ونحو ذلك مما يجوز للرجل كالخاتم من الفضة ونحوه، هل يجوز بيعه بالدراهم والدنانير تفاضلا - ولا إشكال في الدراهم - ولكن في الدنانير في مسألة التفاضل، والدراهم والدنانير في مسألة النسيئة، أم لا يجوز؟
    وهذه المسألة توجد في أسواق الناس، فهل يجوز للرجل أن يشتري من بائع الذهب الحلي بدراهم إلى سنة، وهل يجوز أن يشتري منه هذا الحلي بذهب تبر مع تفاضل، فمثلا: يقول هذا الذهب عندي اعتبره تبرا ولا تعتبره مصاغا لأنه مستعمل، فخذ هذا الذهب وزنه كيلو جرام على أنه تبر، وأعطني تسعمائة جرام من الذهب المصاغ، فهل هذا جائز؟
    (13/137)
    ________________________________________
    اختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذا، ودليل شيخ الإسلام على جواز التفاضل والنسيئة أن الذهب بالصنعة قد خرج عن كونه ثمنيا، كما أن الفضة بالصنعة قد خرجت عن كونها ثمنية، فإن الذهب ليس بثمني ما دام مصوغا، بل هو من جنس عروض التجارة، وليس من الثمنية، ولذا لا يشترى به ولا يباع إلا مع أهله المختصين به من أهل الذهب والفضة الذين يعيدونه إلى أصله، فإنه لا شك أن صاحب الذهب المصنع لا يمكنه أن يبيعه بذهب غير مصنع مع التماثل، فإنه حينئذ يذهب قيمة أجرة صنعته، وحينئذ فيحتاج صاحب الذهب إلى أن يأتيه بدراهم، وقد يكون في هذا مشقة، وربا الفضل يباح عند الحاجة كما أجازته الشريعة في العرايا، فإن قيل إن الذهب المصنع شبيه بالتمر الرديء ومع ذلك فإن التمر الرديء لا يجوز بيعه بالتمر الجيد؟ فالجواب أن بينهما فرقا، فإن التمر الرديء، الرداءة فيه صفة خلقية، أي من خلقته، وليس هذا من صنع الآدمي، وأما هذه الصنعة فإنها صنعة آدمي، ويحتاج إلى أن يأخذ عليها أجرا، أضف إلى هذا ما تقدم من العلة في الأمور الربوية، فإن الحلي المصنع ليس بثمني، فيشبه الجواهر ونحوها، فإنه قد خرج عن كونه ثمنيا، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وابن القيم هو الراجح، فعليه يجوز بيع الذهب المصوغ بالذهب وبيع الفضة المصوغة بالفضة مع التفاضل، قال صاحب الإنصاف:" وعليه عمل الناس "، والنسيئة كذلك جائزة لما تقدم، وقيده شيخ الإسلام بقيد ظاهر وهو ألا يكون بقصد ثمنيتها، فإن اشترى رجل من آخر ذهبا مصوغا إلى سنة بأربعين ألفا، وقصد الثمنية فلا يجوز، وأما إن قصد كونها حليا فلا بأس، وهذا لحديث فضالة، فإن قوله (فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) يدل على أنه قصد الثمنية، وأما ما رواه البيهقي عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فجاءه صائغ فقال: إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه على قدر عمل يدي، فنهاه عن ذلك
    (13/138)
    ________________________________________
    وقال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب عنه: أنه كان يصوغ الذهب إلى دنانير، وهذه الصنعة غير مراعاة اتفاقا للمصلحة العامة المقصودة من ضرب الدراهم والدنانير، ولو روعيت لفسدت المعاملة ولا يعقل أن يأمره بإهمال صنعته فإن في ذلك إضاعة للمال، وأما إنكار أبي سعيد على معاوية بيعه آنية من فضة في مسلم، فإن ذلك لتضمنه مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان.
    وقد التزم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في غير الذهب المصوغ من فروع الأجناس بهذا القول، ومعلوم أن فروع الأجناس لها حكم أصولها، كالخبز من الدقيق ونحو ذلك، فالتزما بهذه القاعدة فقالا: ما تكون فيه صنعة آدمي من الأجناس إن خرج عن كونه قوتا كالنشا الذي يصنع من الحنطة فإنه خرج عن كونه قوتا، وعلى هذا فليس بربوي، لزوال علة الربوية وهي الاقتيات، وإن لم تزل عنه العلة الربوية بل ثبتت فيه فهو جنس آخر منفرد بنفسه، فالخبز جنس، والحنطة جنس آخر، وهكذا فروع الأجناس، فعليه يجوز بيع زيت الزيتون بالزيتون، وبيع الخبز بالحنطة، وهذا لما في ذلك من صنعة الآدمي وعمله، فيحتاج إلى أجرة، لكن مع النسيئة لا يجوز لأن العلة الربوية متفقة.
    وقوله (جاز التفرق قبل القبض) أي وإن كان التبايع ليس نسيئة، وقد اتفقا على أن يكون الثمن حالا، فتفرقا قبل القبض فهذا جائز، والنساء إذا اتفقا على التأخير.

    قوله [وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء]
    (13/139)
    ________________________________________
    وذلك لذهاب العلة الربوية، فيجوز النساء ويجوز التفاضل في الثياب والحيوان ونحو ذلك، ودليل هذا ما رواه أبو داود في سننه والحاكم والدارقطني وغيرهما والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) [سبق تخريجه]
    والعلة على القول الراجح كما تقدم هي الثمنية في الذهب والفضة، والقوت في الأصناف الأربعة الآخر، والأظهر كما تقدم أنه متى أمكن التماثل فإنه لا يجوز ربا الفضل سواء كان بكيل أو وزن أو عد، فالريالات التي عندنا الآن لا توزن وإنما تعد فيقع فيها الربا، وكذلك لو قدر وجود بعض الأقوات وكان الطريق فيها غير الكيل والوزن فإن الحكم واحد لكونها قوتا، ولأن الضرر المترتب على جواز الربا فيها هو نفسه المترتب على غيرها مما هو مكيل أو موزون، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات.

    قوله [ولا يجوز بيع الدين بالدين]
    وهذا محل إجماع بين أهل العلم، وروى الدارقطني بإسناد ضعيف ضعفه الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الكاليء بالكاليء) [قط 3 / 71، كم 2 / 57، هق 5 / 290] أي الدين بالدين، وصورة هذا أن يبيع على الرجل سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعه هذا الثمن بثمن آخر مؤجل، فيقلب عليه الدين بدين، فهذا لا يجوز، ولو زاد عليه الثمن مع التأجيل فهذا هو ربا الجاهلية وهو من أقبح الربا.
    (13/140)
    ________________________________________
    قال الحنابلة: ولا يصح المقاصة وهي عندهم من بيع الدين بالدين، وصورتها أن يكون على زيد لعمرو مائة دينار، ولعمرو على زيد ألف درهم، فيقول كل منهما للآخر أبرؤ ذمتك وتبرؤ ذمتي، فيتصارفان ولم يحضرا شيئا، فقال الحنابلة هذا لا يجوز، وذلك لو كان له على الآخر مائة صاع من الشعير وللآخر عليه خمسة آصع من البر، فقال أسقط الذي علي وأسقط الذي عليك، قالوا: لا يجوز ذلك، لأنه من باب بيع الدين بالدين، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب الأحناف والمالكية واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز وهو الراجح، لأنه لا محذور شرعي فيه، وفيه إبراء للذمم، والشريعة متشوفة إلى ذلك، فهذا القول هو الصواب، وقد تقدم ضعف حديث نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذه المسألة لا إجماع فيها.

    فصل
    قوله [ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]
    (13/141)
    ________________________________________
    تقدم تعريف الصرف: وهو بيع نقد بنقد، كبيع دراهم بدنانير والعكس، أو بيع الفلوس النافقة بالدراهم والدنانير، فهذا هو الصرف، ومنه بيع الريالات بالدولارات، فإذا تصارفا الدنانير والدراهم والجنسان مختلفان، فإذا تفرقا قبل قبض الكل أو البعض يبطل العقد فيما لم يقبض، فإذا افترقا قبل قبض الكل فالعقد باطل كله، وإن كان في البعض فهو باطل فيما لم يقبض، مثاله: تصارفا مائة درهم بمائة دينار، فافترقا قبل أن يتقابضا في الكل، فالعقد كله باطل، وإذا افترقا قبل قبض البعض فأعطاه هذا خمسة دنانير وأعطاه الآخر خمسين درهما، وبقي على عقدهما خمسة دنانير تقابلها خمسون درهما، فيصح العقد في البعض دون ما تبقى، لتوفر الشروط في البعض، وتكون هذه المسألة من تفريق الصفقة التي تقدم الكلام على بعض صورها، أما الباقي فالعقد باطل لعدم توفر شروط الصحة، ومن شروط الصحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) .

    قوله [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين]
    (13/142)
    ________________________________________
    كسائر السلع، وتقدم ذكر هذا، فإذا قال: بعتك هذا الشيء فإن البيع يكون قد وقع على هذا الشيء نفسه، بخلاف ما لو قال: بعتك ما وصفه كذا وكذا، فحينئذ لا يتعين، فمثلا إذا قال: ابتع عليك هذه العشرة دنانير بهذه المائة درهم، فحينئذ قد عينت الدراهم والدنانير، فتتعين فتكون الصفقة واقعة عليها بعينها كسائر العقود، فإذا قال: اشتريت منك هذه الشاة فإنها تتعين وتكون هي المبيعة، فلا بد أن يعطيه إياها، لأن العقد وقع عليها، بخلاف ما لو قال: اشتريت منك شاة وصفها كذا وكذا، وهذا مذهب جمهور العلماء أن الدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، وقال بعض الحنابلة لا تتعين، لأن المقصود واحد وهو رواية عن أحمد ومذهب الأحناف، والقول الأول أظهر من حيث التعليل، لكن ذلك في زمانهم وأما في زماننا فإن المقصود واحد لأن الدنانير والدراهم في القديم لتعيينها قصد، ففيها الرديء والجيد، والمشوب والخالص.

    قوله [فلا تبدل]
    هذه من فروع المسألة، فلا تبدل لأن العقد قد وقع على عينها، فهي بمجرد العقد أصبحت ملكا للمشتري بعينها، وأصبح الثمن ملكا للبائع بعينه، فحينئذ لا يصح تبديله.

    قوله [وإن وجدها مغصوبة بطل]
    فلو ثبت أن هذه الدراهم مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، وذلك لأن البيع على عينها لا على وصفها، فثبت أنها مغصوبة فحينئذ يبطل البيع، لأن السلعة قد ثبت أنها غير مملوكة، وما دامت غير مملوكة فلا يصح أن يصرف هذا بها، وعلى القول بأنها لا تتعين يجوز تبديلها وإن كانت مغصوبة صح البيع، ووجب البدل في ذمته.
    قوله [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد]
    (13/143)
    ________________________________________
    إذا وجد الدينار فيه عيب أو هذا الدرهم فيه عيب فلا يخلو هذا العيب: إما أن يكون من جنسه - أي من جنس المعيب - وإما أن يكون من غير جنسه، فمثال ما كان فيه عيب من جنسه سواد في الفضة، وبياض في الذهب أو نحو ذلك، وأما ما كان فيه عيب من غير جنسه كأن يكون فيه شيء من النحاس أو أن يكون نحاسا أو تبين فيه غش، فهنا العيب ليس من جنسه، فإذا كان العيب من جنسه أمسك أو رد، فهو مخير بينهما، وليس فيه أرش إذا أمسك، لأنه إذا ثبت الأرش فهو ربا، لأن التفاضل محرم، وتقدم عدم ثبوت الأرش أصلا ولا دليل على ثبوته، وإن كان العيب من غير جنسه فحينئذ يبطل العقد، فلا خيار، وذلك لأنه قد ثبت أن العقد كان على غير المسمى، والرضا إنما وقع على أنه ذهب فبان أنه نحاس أو فضة أو حديد فليس هناك رضا.

    قوله [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقا بدار إسلام وحرب]
    فالربا محرم على المسلم مطلقا، سواء كان مع مسلم أو حربي أو ذمي، وسواء كان في دار حرب أو إسلام، لعمومات الأدلة الشرعية، فقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولا يحل للمسلم أن يكون طرفا في ربا، وأما ما روي أنه لا ربا بين أهل الحرب وأهل الإسلام فالحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب لأن أموالهم مباحة، والجواب: أنها مباحة قهرا، وأما أخذها بمعاملة وعقد فيجب أن يوافق الشرع، ولما يترتب على ذلك من المفاسد في هذا العصر من ترك أموال المسلمين في البنوك الربوية التي بأيدي الكفار، ويقال أيضا لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام لأن الأمان على ماله أن يؤخذ قهرا، وفي الربا رضا منه.
    * مسألة:
    إذا باع سلعة بدراهم إلى شهر، فلما جاء الشهر أراد أن يدفع دنانير بدل الدراهم فهل يجوز؟
    الجواب يجوز ذلك بشرطين:
    (13/144)
    ________________________________________
    الشرط الأول: أن تكون بسعر يومها أي يوم القبض.
    الشرط الثاني: ألا يتفرقا بينهما شيء.
    ودليل ذلك ما ثبت في الخمسة عن ابن عمر قال: قلت يا رسول الله: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه، وأعطي هذه من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا باس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء) [حم 6203، ن 4582، د 3354، ت 1242، جه 2262] والحديث الصحيح فيه وقفه على ابن عمر، ولكن الأدلة الشرعية تدل على هذا الحديث، أما قوله (ما لم تتفرقا وبينكما شيء) فإن هذا شرط في الصرف، وهو إذا حل الوقت فقال أريد أن أعتاض عنها دنانير بدل الدراهم فهذا صرف، ولا بد في الصرف من التقابض، وكونها بسعر يومها لئلا يربح ما لم يضمن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ربح ما لم يضمن) .

    باب بيع الأصول والثمار

    الأصول جمع أصل وهو ما يتفرع منه غيره، كالدار والأرض والشجر، فالشجر أصل يتفرع منه الثمر، والأرض كذلك يتفرع منها ما فيها من غرس وبناء ونحوه، والدار يتفرع عنها ما فيها من بناء وأبواب ونحو ذلك، والثمار: جمع ثمر كالتمر ونحوه.

    قوله [إذا باع دارا شمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمورين والخابية المدفونة]
    فإذا باع رجل دارا أو وهبها أو أوقفها أو أوصى بها أو أقر بها فكل هذا في حكم البيع، فإذا باع دارا فإن هذا يشمل أرضها وبناءها وسقفها والباب المنصوب والسلم والرف المسمرين أي الذين قد وضعا بالمسامير، والخابية وهي وعاء الماء إذا وضع في الأرض، وقيد الخابية بالمدفونة ليخرج ما لم يكن مدفونا كوعاء الماء الذي ليس بمدفون فإنه لا يدخل في هذا الحكم.

    قوله [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر]
    (13/145)
    ________________________________________
    ما هو مودع فيها من كنز وحجر فإنه لا يدخل في الدار، لأن اللفظ لا يتناوله، فلا يملك بمجرد البيع، فمن باع دارا وفيها كنز فإن المشتري لا يملك هذا الكنز، لأن اللفظ لا يتناوله.

    قوله [ومنفصل منها كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح]
    فإن هذه وإن كانت من مصلحة الدار لكنها منفصلة عنها، فالضابط عندهم فما يدخل فيما يباع من الأصول: أن يكون من مصلحة الدار ومتصلا بها، فإن لم يكن من مصلحتها ولا متصلا بها أو كان من مصلحتها وهو غير متصل بها فإنه لا يدخل في البيع، والوجه الثاني في المذهب أن المفتاح ونحوه كالقفل يدخل، والصحيح أن الحكم في ذلك راجع إلى العرف، فما دخل في اللفظ عرفا فإنه يثبت ملكه بالبيع، لأنه كالشرط، وقد تقدم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، فمثلا إذا قال بعتك هذه الدار، فإن العرف يدل على دخول الأرض والبناء والأبواب والأقفال والمفاتيح ونحو ذلك مما هو متصل بها ومن مصلحتها، والعرف لا يدخل الفرش ولا الأثاث، لكن إن اشترطه المشتري فالمسلمون عند شروطهم.

    قوله [وإن باع أرضا ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]
    قوله (ولو لم يقل بحقوقها) إشارة إلى خلاف، فالوجه الثاني في المذهب أنه إن لم يقل بحقوقها فإن غرسها ونحوه لا يدخل، إذن في المسألة قولان في المذهب:
    القول الأول: أنه إذا قال بعتك هذه الأرض فإن غرسها وبناءها ونحوه يدخل وإن لم يقل بحقوقها.
    (13/146)
    ________________________________________
    القول الثاني: أن ذلك لا يدخل إلا أن يشترطه، فإن قال: اشتريت منك الأرض بحقوقها أو بما فيها أو قال البائع بعتك الأرض بحقوقها أو بما فيها دخل ما سبق وإلا فلا، والراجح ما تقدم من أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان العرف يقضي بأن بيعها - أي الأرض - يدخل فيه ما سبق فإنه يدخل فيه، وإلا فلا، والعرف حاليا لا يدخل الشجر، فمن باع أرضا وفيها شجر، فإن العرف لا يدل على أن الشجر داخل في البيع، إلا أن تكون الأرض أرضا زراعية، أما إذا كانت أرضا للبناء فلا يدخل فيها، لكن لو قال: بعتك هذا البستان أو بعتك هذا الحائط فإنه يدخل فيه ما فيه من شجر ونحوه.
    * وهل يدخل فيه ما يكون منصوبا فيه من خيام ونحو ذلك؟
    الجواب ما سبق من أن مرجع ذلك إلى العرف، لكن لو اشترطه فالمسلمون على شروطهم.

    قوله [وإن كان فيها زرع كبر وشعير فلبائع مبقى]
    إذا كان في الأرض بر وشعير فإنه يبقى للبائع إلى أول وقت الحصاد، هذا إذا لم يشترطه المشتري، فإذا أتى أول وقت الحصاد فإنه يجبر على حصاده، وهذا هو القول الأول في المذهب، وأنه يجب عليه أن يحصده أول وقت الحصاد ولو كان في الانتظار خير للزرع، والقول الثاني في المذهب أنه يبقى إلى كماله وتمامه لأن العادة قد جرت بذلك، فالعادة قد جرت بأن الزرع لا يحصد حتى يكمل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وهذا هو أحد القولين عند الحنابلة، وهو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.

    قوله [وإن كان يجز ويلقط مرارا فأصوله لمشتر والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]
    (13/147)
    ________________________________________
    إن كان يجز مرارا كالبرسيم مثلا، أو يلقط مرارا كالقثاء مثلا، فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان للبائع وذلك لأن ما يجز ويلقط مرارا يلحق بالشجر من نخيل ونحوه، وذلك لأنه زرع ليبقى، فهو كالنخيل يتكرر جذاذه، فكما أنهما لو تبايعا في الأرض نخيل عليه ثمر، فالثمر للبائع، والنخيل للمشتري، كما سيأتي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

    قوله [وإذا اشترط المشتري ذلك صح]
    فلو اشترط المشتري الجزة واللقطة الظاهرتين صح، فالمسلمون على شروطهم.

    فصل

    قوله [ومن باع نخلا تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ]
    من باع نخلا تشقق طلعه، فهو متهيء للتأبير، فلم يبق إلا أن يؤبر، والتأبير هو التلقيح، فمن باع نخلا تشقق طلعه فإنه يبقى للبائع إلى الجذاذ، فله الثمر مبقى إلى أول الجذاذ، وبمجرد ما يبدأ الناس يجذون يؤمر هو بالجذاذ، والصحيح ما تقدم أنه يبقى إلى كماله.

    قوله [إلا أن يشترطه المشتري]
    فإن اشترط المشتري فإنه يكون له، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] قالوا: وإنما علق الشاعر الحكم بالتأبير لأنه ملازم للتشقق غلابا، فإذا تشقق فإنها تؤبر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن الحكم منوط بالتأبير، وذلك لظاهر الحديث المتقدم، ولأن التأبير يقع به فهل من المكلف بخلاف التشقق، فإنه لا فعل لمكلف فيه، وهذا القول هو الراجح وهو أن الحكم منوط بالتأبير، فإن باع نخلا وهو مؤبر فالثمرة للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، وإن باعه ولم يؤبر بعد وإن كان متشققا فإن الثمرة للمشتري، والمذهب يعلق هذا بالتشقق، والراجح ما اختاره شيخ الإسلام.

    قوله [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]
    (13/148)
    ________________________________________
    فكذلك تشقق ثمرها، فإنه إذا باعها تكون الثمرة للبائع، ,إن لم يتشقق فإن الثمرة للمشتري، ولم نعلقه بالتأبير لأنه لا تأبير فيه، والقياس حيث أمكن فهنا يلحق به قياسا حيث تشقق.

    قوله [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]
    فما ظهر من نوره أي من زهره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه أي وعائه كالورد والقطن فإن له نفس الحكم، فمن باع تفاحا أو مشمشا فإن كان قد خرج من نوره فهو للبائع، وإن لم يخرج من نوره فإنه للمشتري كالثمر المتشقق من النخل.

    قوله [وما قبل ذلك والورق فلمشتر]
    أي ما قبل التشقق والخروج من النور والخروج من الوعاء فإنه يكون للمشتري، وكذلك الورق والأغصان، فإنها للمشتري لأنها تبع للشجر، وقد ثبت الحكم للأشجار فورقها وأغصانها تابعة لها، وأما الثمر فما كان قبل التشقق أو التأبير في النخل فإنه للمشتري، وما كان بعد التشقق من سائر الثمار وبعد التأبير في النخل خاصة فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.

    قوله [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه]
    (13/149)
    ________________________________________
    لا يباع النخل وهو رطب حتى يبدو صلاحه، ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه، فأما صلاح الثمر فبأن ينضج، فهذا هو بدو صلاحه، وهذا يختلف باختلاف الثمر، فمنه ما يكون باحمراره أو اصفراره، ولذا قال أنس لما قيل له ما زهوها قال:" أن تحمار أو تصفار "، والعنب جاء فيه حديث عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) [حم 12901، ت 1228، د 3371، جه 2217] وهذا في العنب الأسود، وما لم يكن له علاقة باللون فإذا تهيأ لأن يطعم ويؤكل فهذا هو بدو صلاحه، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها) قيل: ما بدو صلاحها قال:" أن تذهب عاهتها " وهو من قول ابن عمر، فهو مدرج كما ثبت في بعض الروايات [خ 1486، م 1534] ومعنى " أن تذهب عاهتها " أي تذهب عنها الآفة السماوية المحتملة قبل نضجها، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري ومسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه) [خ 2199، م 1555] فالعلة هي أن الثمرة قد تمنع فتأتيها آفة سماوية قبل بدو صلاحها فبم يستحل البائع مال أخيه، وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهو) قيل وما زهوها؟ قال - وهو من قول أنس كما بينته بعض الروايات -: أن تحمار أو تصفار [خ 2196، 2197، م 1555] فهذه الأحاديث تدل على أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها محرم، وأن بيع الحب قبل اشتداده محرم أيضا، وهذا باتفاق العلماء.

    قوله [ولا رطبة ولا بقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل]
    الرطبة هي البرسيم، والقثاء هو الخيار، فلا يجوز بيع البرسيم والقثاء وكذلك الباذنجان ونحو ذلك دون الأصل حتى يبدو صلاحها.
    (13/150)
    ________________________________________
    قوله [إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]
    فما يتكرر جزه أو يتكرر لقطه كالبرسيم والقثاء ونحوه لا يباع إلا جزة جزة أو لقطة لطقة، فيقول: أبيع عليك هذه الجزة، فإذا اشتراها، ثم نمت الجزة الأخرى باعها، وهكذا فيما يلقط، فبيع اللقطة الأولى يكون إذا خرجت وكذلك الثانية والثالثة وهكذا، وعليه فليس له أن يبيع البرسيم أو نحوه الذي قد بدا صلاحه الموسم كله، فمثلا: يأتي إلى مزرعة البرسيم فيقول: أبيع عليك هذا البرسيم تجزه ما شئت يعني كلما نبت منه شيء جززته، وهكذا حتى ييبس، وهكذا في القثاء ونحوه، فهذا لا يجوز، قالوا: لأنه معدوم، فالجزة الثانية معدومة، والبيع إنما يكون في الموجود لا في المعدوم، ولأن هذا المعدوم فضلا عن كونه معدوما فإنه لم يبد صلاحه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع هذه الأشياء حتى يبدو صلاحها، واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز ذلك، وأنه يجوز أن يبيع المقثاة حتى ييبس ويجوز أن يبيع البرسيم حتى ييبس وذلك بعد بدو الصلاح، قالوا: لأنه لا غرر في ذلك، فإن أهل الخبرة يستدلون بجنس هذا الزرع على طيب ما يجز منه أو يلقط، وعلى كثرته ونحو ذلك، قالوا: ولأن في المنع من هذا حرجا ومشقة، ومثل هذه المسائل تجوز عند المشقة والحرج، قالوا: ولأنها لا تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، فإن هذا فيما يمكن الانتظار فيه حتى يبدو الصلاح، فلا يكون في ذلك مشقة ولا حرج، وأما هنا فإن بدو الصلاح فيه متكرر، فيشق انتظاره، وما ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه هو القول الراجح في هذه المسألة دفعا للحرج، كما أنه يمكن أن يقال لأهل القول الأول: ماذا تقولون في بدو الصلاح في بعض ثمر النخلة الواحدة؟ فالجواب: أنهم يقولون اتفاقا يجوز بيعها إذا بدا صلاح بعض ثمرها دون الآخر، وذلك لأن النهي عن بيعها حتى يبدون صلاحها كلها فيه
    (13/151)
    ________________________________________
    مشقة، فإن الانتظار فيه مشقة، وكذلك على الراجح إذا بدا صلاح بعض النخل أو نحوه من نوع واحد، فإنه يحكم للباقي بالحكم نفسه إذا كان في بستان واحد، فيجوز بيعه حينئذ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعي، وعن الإمام أحمد أنه يمنع حتى يبدو صلاح كل الثمر، والصحيح هو ما تقدم وذلك دفعا للحرج، ويقال هنا كذلك في المسائل التي تقدم فيها اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
    وقوله (إلا بشرط القطع في الحال) فإذا باع ثمرة لما يبدو صلاحها أو حبا لما يشتد بعد أو باع رطبة أو قثاء ولما يبدو صلاحها بشرط القطع في الحال فإن هذا جائز، وذلك لزوال العلة المتقدمة وهي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت لو منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه) ، وهناك شرط آخر، وهو شرط قد تقدم في شروط البيع وهو أن يكون مما ينتفع به، أي يحصل به الانتفاع سواء بأن يكون طعاما للآدميين أو طعاما للبهائم أو نحو ذلك، فهذا كله جائز، والعلة قد زالت، وهذا هو مذهب الجمهور.

    قوله [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]
    إذا باع زرعا أو ثمر نخل فالذي يجب عليه حصاد الزرع وجذاذ ثمر النخل والذي يجب عليه أن يلقط هو المشتري، قالوا: لجريان العادة بذلك، فالعادة محكمة في مثل هذه المسائل، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وحينئذ فإن كان العرف عن أن ذلك على البائع فإنه يعمل به إلا أن يشترط أحدهما خلاف العرف، كأن يكون العرف على أن الجذاذ على المشتري، فيشترط المشتري أن يكون على البائع فالمسلمون على شروطهم.

    قوله [وإن باعه مطلقا أو بشرط البقاء.... بطل]
    (13/152)
    ________________________________________
    إذا باع الثمر مطلقا قبل بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال فالبيع باطل لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد، وكذلك إذا باع الثمر قبل بدو الصلاح واشترط المشتري البقاء، أي بقاء الثمر حتى يبدو صلاحه، فهذا الشرط يخالف الشرع، فهو باطل والبيع باطل، ويستثنى من هذا ما تقدمت إشارة المؤلف إليه في قوله (دون الأصل) فإذا باع الأصل فإن الثمر يتبع، وإن لم يبد صلاحه، فلو أن رجلا باع نخلا وكان الثمر لم يبد صلاحه فذلك جائز، وهذا باتفاق أهل العلم، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.

    قوله [أو اشترى ثمرا لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]
    إذا قال: أنا اشتري منك هذا الثمر قبل بدو صلاحه بشرط أن أقطعه في الحال، فلم يقطعه في الحال بل تركه حتى بدا صلاحه فالبيع باطل، وذلك لأن الشريعة إذا نهت عن الشيء نهت عنه وعن ذرائعه الموصلة إليه، ولا شك أن عدم إبطال مثل هذا العقد يؤدي إلى بيعه قبل بدو صلاحه من غير أن يشترط قطعا في الحال، وعليه فالثمرة تعاد إلى البائع والثمن يعاد إلى المشتري.

    قوله [أو جزة أو لقطة فنمتا...... بطل]
    إذا باعه جزة أو لقطة لم يبد صلاحها بشرط القطع في الحال فلم يقطعها في الحال بل تركها حتى نمتا فإن البيع يبطل لما تقدم.

    قوله [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]
    مثاله: قال أبيعك هذا الثمر الذي قد بدا صلاحه من هذه النخلة، فلم يلقط ما بدا صلاحه، وبدا صلاح بقية الثمر فاختلطا، فالحكم أن البيع باطل، هذا ما ذكره المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد، والصحيح في مذهب الحنابلة أي المشهور عندهم وهو ظاهر المذهب أن البيع صحيح، ولا دليل على بطلانه، وذلك للقدرة على تسليمه، ولأنه ليس فيه نهي يقتضي فسادا، وحينئذ ينظر فيما نما، فإن علم قدره أخذه البائع، فإنه نما في ملكه، وإن لم يعلم قدره تصالحا على شيء، فإن لم يتصالحا فلكل منهما الفسخ.
    (13/153)
    ________________________________________
    قوله [أو عرية فأتمرت بطل]
    اشترى عرية فأتمرت فيبطل البيع، لأن الشارع إنما أجازها ليؤكل رطبا كما تقدم في قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يأكلونها رطبا) ، والشريعة إنما أجازتها للحاجة وهي أن تؤكل رطبا، فإذا أخرت حتى أتمرت فإن ذلك لا يجوز، ويكون البيع باطلا.

    قوله [والكل للبائع]
    فكل هذه الأشياء للبائع، فالعرية إذا أتمرت تعود إلى البائع، وحينئذ يرجع عليه المشتري بالثمن، وكذلك كل ما تقدم بطلانه فإنه يكون للبائع لأن البيع باطل، وحيث كان باطلا فإنه يرجع إلى البائع، وأما المشتري فله ما دفعه ثمنا.

    قوله [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة أو اشتد الحب جاز بيعه مطلقا]
    فإذا بدا صلاح الثمرة واشتد الحب جاز بيعه مطلقا، ودليل ذلك ما تقدم من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ومفهومه جواز بيعها بعد بدو صلاحها، ولأن الأصل في البيوع الحل.

    قوله [وبشرط التبقية]
    إذا قال بعد بدو صلاح الثمر أشتري منك هذا الثمر بشرط أن يبقى حتى يكمل صلاحه حتى يجذ في الأوان المناسب له، فهذا جائز، والمسلمون على شروطهم، وقد تقدم أن البستان إذا بدا الصلاح في نخلة من نخلاته فيجوز بيع ثمره كله، ولا شك أن المشتري يحتاج إلى إبقاء الثمر في النخيل التي لم يد صلاح ثمرتها بعد، وربما أيضا احتاج إلى تبقية ما بدا صلاحه من الثمر حتى يكون نضجه أتم وأحسن، وهذا كله جائز، والمسلمون على شروطهم.

    قوله [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]
    فللمشتري التبقية إلى الحصاد والجذاذ وإن لم يشترط ذلك لجريان العادة بذلك، والشرط العرفي كالشرط اللفظي، وله أن يبيعه كذلك لثبوت القبض، فإن التخلية كما تقدم قبض.

    قوله [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]
    (13/154)
    ________________________________________
    إذا اشترى منها لثمر واشترط تبقيته أو أبقاه إلى أوان الحصاد والجذاذ فإن السقيا واجبة على البائع لجريان العرف بهذا، لكن لو اشترط البائع أن السقيا تكون على المشتري فالمسلمون على شروطهم.
    وقوله (وإن تضرر الأصل) أي بالسقي.

    قوله [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع]
    إذا أصابت الثمر أو الزرع بعد بيعه آفة سماوية فذلك منضمان البائع لا المشتري، والمسألة فيها قولان:
    القول الأول: أن هذا منضمان البائع، كما هو مقرر في المذهب، وهو مذهب المالكية.
    القول الثاني: أنه من ضمان المشتري لأنه قد تم البيع، وقد أقبضه المبيع، فكان من ضمان المشتري، وهذا هو مذهب الشافعية، والصحيح هو القول الأول لدلالة السنة عليه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو بعت على أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تستحل مال أخيك بغير حق) [م 1554] وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بوضع الجوائح) [م 1554] ولذا قال المؤلف: وإذا تلفت بآفة سماوية رجع - أي المشتري - على البائع بالثمن، وذلك بشرط ألا يقع من المشتري تفريط، أما لو وقع منه تفريد وتأخر بالجذاذ فخرج الوقت المعتاد للجذاذ وحصلت آفة سماوية فحينئذ الضمان على المشتري لتفريطه، لأنه فوت على البائع الانتفاع بالثمر.
    واعلم أن قول المؤلف (وإن تلفت بآفة سماوية) يعود على الثمرة، كما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وأن وضع الجوائح مختص بالثمرة دون الزرع، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام والمجد ابن تيمية أن الزروع مقيسة على الثمار، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وهذا المعنى ثابت في الزروع كما هو ثابت في الثمار، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو مقتضى القياس الصحيح.
    (13/155)
    ________________________________________
    قوله [وإن أتلفه آدمي خير المشتري بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]
    هذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو اختيار أبي الخطاب من الحنابلة أن التلف الحاصل بغير آفة سماوية يكون الضمان فيه على المشتري وهو الراجح، وذلك لأن الآفة السماوية لا يمكن للمشتري أن يرجع على أحد بثمنه، فحينئذ يكون ذلك أكلا للمال بالباطل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بم تستحل مال أخيك بغير حق) ، وقد سبق أن هذا إذا لم يكن هناك تفريط من المشتري.
    أما ذا كانت الآفة غير سماوية فإن المشتري يمكنه أن يتدارك حقه بالرجوع إلى المتلف، فحينئذ نبقى على الأصل في الضمان، وأن الضمان يبقى على المشتري عند القبض، وقد تقدم أن البائع إذا باع الثمر وخلى بينه وبين المشتري فإن الضمان يكون على المشتري، وإنما استثنت الشريعة الجوائح للمعنى المتقدم، وقال بعض الحنابلة: إن ما قد يحدثه سارق أو لص أو عسكر أو نحو ذلك مما يشبه الآفة السماوية، وهذا أيضا راجح، فالصحيح أن التف إذا كان من آدمي يمكن الرجوع عليه فإن الضمان على المشتري، أما إذا كان من آدمي لا يمكن الرجوع عليه كالسارق والعسكر ونحوهما فهذا يشبه الآفة السماوية.
    قوله [وصلاح بعض الشجر صلاح لها]
    فإذا صلح في الشجرة بعضها فهذا الصلاح للشجرة كلها، وعلى هذا فيجوز أن يبيعها، وقد تقدم ذكر اتفاق أهل العلم عن ذلك.

    قوله [ولسائر النوع الذي في البستان]
    فإذا صلح بعض الشجر من النوع فإن سائر النوع قد بدا صلاحه فيجوز بيعه، كما هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية، وتقدم الكلام على هذه المسألة.

    قوله [وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر وفي العنب أن يتموه حلوا]
    قوله (أن يتموه حلوا) أي أن يلين ويكون كالوعاء اللين المملوء ماء.

    قوله [وفي بقة الثمار أن يبدو فيها النضج ويطب أكله]
    وقد تقدم الكلام على هذا.
    (13/156)
    ________________________________________
    قوله [ومن باع عبدا له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]
    لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ابتاع عبدا وله مال فماله لذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع) [خ 2379، م 1543] فإذا اشترطه المشتري فقال: اشتريت العبد وماله، فإنه يكون له.

    قوله [فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا]
    إذا اشترى رجل عبدا ومعه مال، واشترط هذا المال وكان هذا المال هو مقصود المشتري بالبيع أي له قصد فيه فحينئذ لا بد من توفر شروط البيع ومنها العلم، فإذا كان مجهولا لا يدري ما هو المال الذي مع العبد فلا يصح البيع، وهكذا سائر شروط البيع.
    وقوله (وإلا فلا) أي وإلا يقصد المال الذي معه فلا يشترط شروط البيع، وذلك للقاعدة الشرعية القائلة: يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، كما إذا باع الشجر وعليه ثمر لم يبد صلاحه فالبيع جائز، لأنه يثبت تبعا مالا يثبت استقلالا، وهاهنا باع عبدا وله مال، والمال مجهول وهو غير مقصود فالبيع صحيح لما تقدم.

    قوله [وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري]
    من باع عبدا فثياب الجمال أي التي تكون على العبد من ثياب الزينة ونحوها فإنها للبائع، وذلك لأن العادة لم تجر ببيعها معه، فإذا باع عبدا وعليه حلي من فضة وثياب جميلة تعد زينة فهذا كله للبائع، وأما ثياب العادة كثياب المهنة والخدمة التي تكون عليه وما يلبسه لستر العورة مما هو معتاد فهذا يدخل في البيع لجريان العادة ببيعه، ومثله لو باع سيارة وفيها أشياء معتادة يتسامح بمثلها فتدخل في البيع، وإلا فلا.

    باب السلم
    السلم والسلف مترادفان، فالسلم لغة حجازية والسلف لغة عراقية، وسمي السلم سلما لتسليم الثمن في مجلس العقد، وسمي سلفا لتقديم الثمن على المثمن، ففيه معنى السلف، والسلم عرفه المؤلف بقوله:

    قوله [عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد]
    (13/157)
    ________________________________________
    كأن يقول: أبيع عليك كذا وكذا صاعا من البر، وصفته كذا وكذا - أي من جيده أو رديئه ونحو ذلك - بألف ريال حاضرة الآن، فهنا قد باع موصوفا في الذمة مؤجلا بثمن مقبوض في مجلس العقد، إذن فهو عقد على موصوف في الذمة، ولك أن تقول: هو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، والمسلِم - بكسر اللام - هو دافع الثمن، وهو في الغالب التاجر، والمسلَم إليه - بفتح اللام - هو صاحب الحاجة، وهو دافع السلعة، وغالبا ما يكون صاحب حاجة، فإن السلم من بديلات الربا، والمسلَم فيه - بفتح اللام - هي السلعة المؤجلة الموصوفة في الذمة.

    قوله [ويصح بألفاظ البيع والسلف والسلم]
    يصح بألفاظ البيع - كل لفظ من ألفاظ البيع -، فلو قال: بعتك مائة صاع من البر إلى سنة بمائة دينار حاضرة، فهذا يعتبر سلما، لأن السلم من أنواع البيع، فيصح بأي لفظ من ألفاظ البيع، وقد تقدمت ألفاظ البيع، فلو قال: بعت أو اشتريت أو نحو ذلك صح، ويصح أيضا بلفظ السلم، كأن يقول: أسلمتك مائة ريال في هذا المجلس على أن تعطيني كذا صاعا من البر إلى سنة، ويصح بلفظ السلف كأن يقول أسلفك كذا وكذا من الدنانير على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة.

    قوله [بشروط سبعة]
    وهذه الشروط سوى شروط البيع التي تقدم ذكرها.

    قوله [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع]
    الصواب أن يقول: من مكيل وموزون ومذروع، أو كمكيل وموزون ومذروع.
    فالشرط في المسلم فيه وهي السلعة أن تكون مما تنضبط صفاتها، من مكيل كالبر، أو موزون كالحديد مثلا، أو مذروع كالقماش، فهذه تنضبط صفاتها، أما إذا كانت لا تنضبط صفاتها، فهذا لا يجوز السلم فيه، لأنه يفضي إلى المنازعة، وما يفضي إلى المنازعة فهو ممنوع شرعا.

    قوله [وأما المعدود المختلف كالفواكه]
    الفواكه معدودة، وتتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا.

    قوله [والبقول]
    (13/158)
    ________________________________________
    أي من الخضروات ونحوها كذلك، فالبقول مما يباع جزافا فهو كذلك، لأنه يتفاوت تفاوتا ظاهرا يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، ولو قالوا: تعد بالحزمة ونحوها فإن الحزمة تختلف عن بعضها البعض اختلافا ظاهرا، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن ذلك جائز، وأنه يوزن وزنا، وهذا هو الراجح، فإنه إذا وصف الفاكهة أو البقول ثم اتفقا على الوزن فإن ذلك جائز، ثم أيضا الحزم ونحوها أو الفواكه وإن اختلفت فإن هذا الاختلاف يسير وهو معفو عنه دفعا للحرج والمشقة، فالذي يظهر أن مثل هذا التفاوت اليسير لا بأس به، ودليل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما ثبت عنه في الصحيحين: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) [خ 2239، م 1604] وفي رواية البخاري: (من أسلف في شيء) [خ 2241] وهي لفظة عامة تدخل فيها الفواكه والبقول وغيرها.

    قوله [والجلود]
    فالجلود لا يجوز فيها السلم، لأنه يحصل فيها التفاوت، وذلك لأن أطرفها تتفاوت، فإن أطرافها ليست منضبطة كما يكون هذا القماش ونحوه، بل تكون متفاوتة.

    قوله [والرؤوس]
    أي رؤوس الحيوانات كذلك، لأنه يقع فيها التفاوت، ومذهب مالك وهو رواية عن أحمد أن هذا يجوز فيه السلم، وذلك لأن مثل هذا التفاوت في الحقيقة تفاوت معلوم لا تقع بمثله المنازعة، فهو تفاوت يسير.

    قوله [والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم]
    القماقم: جمع قمقم، وهو ما يسخن به الماء، فهذا كذلك لا يجوز فيه السلم، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز، لأن التفاوت في الحقيقة تفاوت يسير، ولأنه يمكن أن ينضبط في الوصف.

    قوله [والأسطال الضيقة الرؤوس والجواهر]
    (13/159)
    ________________________________________
    فالجواهر لا يجوز فيها السلم، لأنها تختلف اختلافا ظاهرا وتتفاوت تفاوتا بينا، وذلك في شكلها وعددها وصفتها وضوئها ونحو ذلك، وعن الإمام أحمد أن السلم في الجواهر جائز، ومرجع هذا ما تقدم: فإذا أمكن ضبطها فإنه لا إشكال في جواز السلم فيها، وتدخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في شيء معلوم) ، ومرجع هذا إلى أهل الخبرة بالجواهر، فإذا كانت الجواهر يمكن أن تنضبط ولا يقع النزاع في السلم فيها فلا مانع منه.

    قوله [والحامل من الحيوان]
    فالحامل من الحيوان لا يجوز السلم فيه، فلا يجوز أن يقول مثلا: اشتريت منك ناقة حاملا إلى كذا بكذا، قالوا: لأن الحمل مجهول غير متحقق، فقد تلد وقد لا تلد، والرواية الثانية عن الإمام أحمد أن السلم في الحيوان الحامل جائز، وهذا هو الراجح، وذلك لأن السلم بيع، وكما جاز بيع الناقة أو الشاة أو غيرها وهي حامل مع الجهالة، فكذلك هنا، لأنه ثبت تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، والأصل معلوم فلا عبرة بجهالة الحمل.

    قوله [وكل مغشوش]
    كاللبن المشوب، والجواهر المشوبة، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز السلم فيه، وهذا ظاهر، فإن وجود الغش فيه يجعله غير منضبط، وليس المقصود الغش الممنوع، وإنما المقصود أنه مشوب فيه شيء، أي أن تكون العين غير خالصة، بل قد أضيف إليها شيء آخر، فهذا لا ينضبط ويقع الخلاف في مثله، لكن لو ثبت لنا أنه يخلط به غيره بطريقة ثابتة في العرف متميزة ظاهرة فحينئذ لا يقال إن هناك ما يمنع، فلو أسلم في لبن مشوب، وكان العرف يقضي بقدر ما يكون من الخلط، فإنه لا مانع حينئذ من السلم فيه للقاعدة العامة.

    قوله [وما يجمع أخلاطا غير متميزة كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه]
    (13/160)
    ________________________________________
    أي يجمع أخلاطا غير متميزة، والغالية: هي أخلاط الطيب، فإن هذا لا يجوز السلم فيه لعدم الانضباط، والذي يظهر أنها تكون معلومة، لأن أهل الخبرة يعرفونها إذا كانت الأخلاط على أقدار محددة معينة بحيث يتميز بعضها عن بعض، وحينئذ يجوز السلم فيها، وعلى العموم فهذا داخل تحت القاعدة العامة أنه إن أمكن ضبطها فلا مانع من السلم فيها وإلا فلا، وكذلك المعاجين كالأدوية التي تكون من المعاجين، والذي يظهر أن تلك المعاجين يعرفها أيضا أهل الخبرة، فيميزون بينها أخلاطها.

    قوله [ويصح في الحيوان]
    يصح السلم في الحيوان، وقد صح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن يأخذ منه كذا وكذا من الدراهم على أن يعطيه مائة شاة أو نحوها، فهذا جائز، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استسلف من رجل بكرا) [م 1600] فهذا جائز للحديث، ولأن الحيوان مما ينضبط.

    قوله [والثياب المنسوجة من نوعين]
    إذا كانت الثياب منسوجة من نوعين فيجوز السلم فيها، كأن ينسج من القطن والكتان، فهذا جائز لأنها متميزة، ولا يظهر أن هناك فرقا بين ما تقدم المنع منع في المعاجين والغالية وبين ما يكون من هذا النسيج الذي يكون من القطن والكتان.

    قوله [وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها]
    وما خلطه غير مقصود كالجبن فإن فيه الأنفحة، وهي غير مقصودة، وكذلك خل التمر، فالتمر فيه خل، وهذا الخل غير مقصود، وكذلك السكنجبين، وهي كلمة فارسية وهي سكر فيه خل، ونحوها كالخبز وفيه ملح، فالملح في الخبز والخل في السكر والخل في التمر والأنفحة في الجبن هذه غير مقصودة فيصح السلم فيها.

    قوله [الثاني: ذكر الجنس والنوع]
    فيقول: من التمر مما نوعه كذا كالعجوة ونحوها.

    قوله [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهرا]
    فلا بد أن يذكر له كل وصف يختلف به الثمن اختلافا ظاهرا، وليس أي اختلاف يذكر، فاليسير لا يذكر.
    (13/161)
    ________________________________________
    قوله [وحداثته وقدمه]
    كذلك حداثته وقدمه، فإن الحديث والقديم يتفاوت بهما الثمن تفاوتا ظاهرا.

    قوله [ولا يصح شرط الأردء أو الأجود]
    فلا يصح أن يقول: بشرط الأجود أو الأردء،قالوا: لأنه ما من جيد إلا هناك ما هو أجود منه، ومن رديء إلا هناك ما هو أردأ منه، وقال الموفق بل شرط الأردء يجوز، لأنه يمكن أن يعطيه ما هو خير منه وأجود منه، فحينئذ لا إشكال، وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إن العادة في مثل هذه الألفاظ أن مراده أجود ما يكون معروفا عندهم، أو أردأ ما يكون عندهم، وحينئذ فيحمل على العرف فلا مانع من تصحيح هذا الوصف وحمله على العرف، ولا شك أنه في التمر ما يسمى في عرفنا أجود، وكذلك أردأ، وقد تقدم أن ألفاظ المتعاقدين تحمل على العادة والعرف، فالأظهر أن مراده بالأجود والأردأ ما هو معروف عن المتعاقدين، فيكون ذلك ظاهرا، أما إن ترتب عليه منازعة أو نحو ذلك فلم يكن متميزا فإنه يمنع منه درءا للمنازعة كما سبق.

    قوله [بل جيد ورديء]
    فإذا قال: جيد، ورديء، فهذا جائز.

    قوله [فإن جاء بما شرط]
    فإن جاء بما شرط فقد أوفى بما عليه، وحينئذ فيجب على المسلم أن يقبله.

    قوله [أو أجود منه من نوعه]
    كذلك يجب عليه أن يقبله إن أتاه بما هو أفضل، إذ امتناعه عن القبول عناد ومكابرة فلا يكون مقبولا.

    قوله [ولو قبل في محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه]
    فإذا أتاه به قبل الوقت المتعاقد عليه، كأن يقول إلى سنة فيأتيه به بعد ستة أشهر، فحينئذ يجب عليه القبول، لأن هذا أفضل وأولى بالقبول، لكن بقيد وهو ألا يكون في قبضه عليه ضرر، فإن كان في قبضه ضرر كأن تكون من الفاكهة أو الأطعمة التي تفسد، ولا يستطيع أن يتصرف بها إلا في الموعد المحدد، أو أن يكون في موضع يخشى على ماله فيه، أو نحو ذلك فحينئذ لا ضرر ولا ضرار فلا يلزمه القبول.

    قوله [الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يعلم]
    (13/162)
    ________________________________________
    وهذا هو الشرط الثالث، ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ، ولأن الوزن المجهول والكيل المجهول والذرع المجهول فيه غرر لأنه من بيوع الجهالة، وقد تقدم النهي عن بيع ما يجهل، وأن الشرط في الثمن والمثمن أن يكونا معلومين، وعليه فلو كان الوزن غير معلوم كأن يتفقا على وزن ما، أو على كيل ما، أو على ذرع ما، من غير أن يكون معلوما فلا يصح، فالشرط أن يكون معلوما أو متعارفا عليه، أي معلوم بالعرف أن المكيلات تكال بالصاع الذي قدره كذا، والموزونات توزن بالوزن الذي قدره كذا، ونحو ذلك من العرف، وهذا الشرط هو محل اتفاق بين العلماء.

    قوله [وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح]
    فالبر مثلا يكال، فإن كان السلم فيه بالوزن أي بالكيلو مثلا أو بالطن لم يصح، وكذلك السكر مثلا فإنه يوزن، فإذا أسلم فيه بالكيل لم يصح، وكذلك المذروع، وهذا مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأنه قد قدر بغير مقياسه الأصلي فلم يصح، فالمكيلات تكال، والموزونات توزن، والمذروعات تذرع وهنا قد اختل ذلك فلم يصح بيعها سلما، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد واختار ذلك الموفق ابن قدامة أن ذلك جائز، لأن المقصود هو معرفة قدره، وهذا حاصل بالوزن في المكيلات، وبالكيل في الموزونات، وبالوزن في المذروعات، وهذا القول هو الراجح.

    قوله [الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن]
    (13/163)
    ________________________________________
    هذا هو الشرط الرابع، وهو أن يذكر أجلا معلوما، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم) ، والأجل إذا لم يكن معلوما فهو مجهول، والجهالة غرر، فلا بد وأن يكون معلوما له وقع في الثمن، فإن كان الأجل لا وقع له في الثمن كاليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك فلا يجوز السلم، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني كذا وكذا صاعا من البر غدا أو بعد غد أو مساء فهذا لا يجوز، لأن هذا الوقت اليسير لا وقع له في الثمن، وإنما الشهر والشهران هي التي يكون لها وقع في الثمن، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وقال الأحناف: يصح إن كان نصف يوم، وهو الراجح، وسيأتي ما يدل عليه.

    قوله [فلا يصح حالا]
    فلا يصح السلم حالا، فلو قال: أسلمك مائة دينار على أن تعطيني ألف صاع حالة غير مؤجلة، فهذا لا يجوز، قالوا: لأن السلم والسلف فيهما معنى التأجيل، فإن السلم تعجيل للثمن وتأجيل للمثمن، وهكذا معنى السلف، فإذا أسلم حالا لم يصح، وقال الشافعية وهو رواية عن أحمد يجوز، وهو وجه عند الحنابلة، وعليه فيكون بيعا، وهذا القول هو الراجح، فهو إذا لم يكن سلما لأن معنى السلم مفقود فيه فهو بيع، والأصل في البيوع الحل، وإذا ثبت هذا فإن المسألة السابقة أولى، فإذا جاز أن يكون المسلم فيه حالا غير مؤجل، فأولى منه جواز تأجيله يوما أو يومين أو ثلاثة.
    * وقد اختلف أهل العلم هل السلم على خلاف القياس، أي هو في الأصل محرم لكن الشريعة أباحته للحاجة أم أنه بيع من البيوع وليس مستثنى للحاجة؟
    قولان لأهل العلم:
    1- المشهور عند الحنابلة أنه على خلاف القياس، وأنه في الأصل ممنوع، وإنما أجازته الشريعة للحاجة، ولذا منعوا من الصورتين السابقتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) .
    (13/164)
    ________________________________________
    2- والقول الثاني أن بيع السلم بيع من البيوع، فهو لا يخالف القياس، وأما حديث: (لا تبع ما ليس عندك) فإنه محمول على أحد احتمالين:
    أ- المحمل الأول: أن يكون المراد به بيع العين غير المملوكة، كأن يقول: أبيعك هذه السلعة المشار إليها بكذا وكذا، وهي غير مملوكة له.
    ب- المحمل الثاني: أن يبيع موصوفا في الذمة غير موثوق بتسليمه، بل يمكن أن يسلم ويمكن ألا يسلم، فهذا لا يجوز لأن من شروط البيع القدرة على التسليم.
    ولا شك أن الأصل في أحكام الشريعة أنها عزيمة لا رخصة، فالأصل في الأحكام أنه لا تخالف القياس، وهذا ما قرره ابن القيم في أعلام الموقعين، وهو اختيار شيخ الإسلام، فالصحيح أن السلم بيع من البيوع، ولا شك أن كثيرا من تفصيلات الفقهاء في هذا الباب مبنية على أصلهم وهو أن السلم يخالف القياس فيشترط فيه ما لا يشترط في البيع، والصحيح ما تقدم، لأن الشريعة لم تنه عن بيع الموصوف في الذمة الذي هو موثوق من تسليمه غالبا، ومن ذلك بيع السلم.

    قوله [ولا إلى الحصاد والجذاذ]
    لو قال له: أبيعك أو أسلمك أو أسلفك مائة ألف ريال الآن على أن تعطيني كذا طنا من البر إلى الحصاد أو الجذاذ أو نحو ذلك مما هو معروف عند الناس عادة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يختلف، وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو القول الراجح، وذلك لأنه معلوم في العادة، والتفاوت اليسير لا يؤثر، فالتفاوت اليسير كالأيام والأسبوع لا يؤثر، والحاجة داعية إلى ذلك، وهكذا لو قال إلى أن تصرف لنا الدولة أو نحو ذلك فالمذهب أن ذلك لا يجوز، والصحيح جوازه لما تقدم.

    قوله [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما]
    (13/165)
    ________________________________________
    لا يجوز السلم إلى يوم لما تقدم من أن اليوم ليس له وقع في الثمن، وتقدم أن هذا القول مرجوح، واستثنى المؤلف فقال: إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم، كأن يعطي البقال مالا ويأخذ منه مدة شهر أو سنة حتى ينفد هذا المال، فهذا سلم لأنه قدم الثمن وأجل المثمن، قالوا: هذا يجوز إذا كان يأخذ منه على هيئة أقساط لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وتقدم أن أصل هذه المسألة جائز، وإن لم يكن هذا مما يؤخذ كل يوم.

    قوله [الخامس: أن يوجد غالبا في محله]
    أي في أجله، وهذا هو الشرط الخامس، وهو أن يؤخذ غالبا في محله، فإذا اتفقا على أن يسلمه المسلم فيه - أي السلعة - إلى سنة في الشتاء، وكانت هذه السلعة لا تؤخذ في الشتاء إلا نادرا ووجودها إنما يكون في الصيف كبعض الفواكه فهذا لا يجوز، وكذا العكس، وهذا باتفاق العلماء كما حكى هذا الموفق ابن قدامة وغيره، وذلك لأنه غير مقدور على تسليمه حينئذ، ومن شروط البيع القدرة على التسليم.

    قوله [ومكان الوفاء]
    هذه اللفظ من المؤلف مراده فيها إذا باع ثمر بستان بعينه ونحوه فإن هذا لا يجوز، وذلك لأن هذا الثمر قد يتلف، فإذا قال مثلا: أسلمك مائة ألف ريال، على أن تعطيني قمح بستانك الفلاني هذه السنة، فلا يجوز هذا، وذلك لما تقدم من أنه قد يتلف فيكون في ذلك غررا، وهذا باتفاق العلماء، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز عند بدو الصلاح واختاره طائفة من الحنابلة وهو الراجح، لأن السلم بيع من البيوع، وبيع الثمر وقد بدا صلاحه جائز، فقد أمن الآفة غالبا، فعلى هذا إذا باعه ثمرة بستان معين سلما ففي المسألة تفصيل وقد سبق.
    وكلمة (مكان الوفاء) مراد المؤلف منها ما تقدم، كما بين ذلك الشارح، ولكن هذه اللفظة لا يفهم منها هذا المراد، فهذه اللفظة فيها خطأ، ولفظة (مكان الوفاء) سيأتي الكلام على المسألة المتعلقة بها.

    قوله [لا وقت العقد]
    (13/166)
    ________________________________________
    فلا يشترط أن يكون المسلم فيه موجودا في وقت العقد، وهذا ظاهر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترطه ولا معنى لاشتراطه، فمثلا الفاكهة الفلانية نضجها في الصيف، فاتفقا في الشتاء على السلم فذلك جائز، لأن هذا وقت عقد لا وقت وفاء.

    قوله [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]
    إذا تعذر المسلم فيه، كأن يعطيه عشرة آلاف درهم على أن يعطيه إلى سنة كذا وكذا صاعا من الرطب، فكان الآخر قد حصلت له آفة سماوية فلم يمكنه أن يعطيه رطبا، فحينئذ قد تعذر كله، وكذلك إذا تعذر بعضه كأن يتفقا على مائة صاع، ولم تنتج بستانه إلا خمسين صاعا، فله أن يصبر فمتى قدر المسلم إليه فإنه يعطيه حقه سواء كان هذا من هذه السنة أو من السنة الثانية، وله الفسخ أيضا، وحينئذ إما أن يكون الفسخ للكل أو للبعض، فإن كان قد أسلمه بعض الثمرة فالفسخ يكون للبعض، وإن كان لم يسلمه شيئا منها فإن الفسخ يكون للكل، فليست (أو) هنا للتخيير وإنما هي للتنويع.
    قوله (ويأخذ الثمن الموجود) فإذا كان الثمن موجودا فإنه يأخذه، (أو عوضه) فيأخذ عوضه إن لم يكن الثمن موجودا، فمثلا اتفقا على أن يدفع له مائة ألف ويعطيه الآخر بعد سنة كذا طنا من القمح، ثم تعذر عليه الكل، ولم يشأ المسلم الصبر وشاء الفسخ، فيقال: هل الثمن موجود، فإن كان موجودا أخذه، وإن لم يكن موجودا أخذ عوضه، فإن كان مثليا أخذ مثله، وإن كان غير مثلي أخذ قيمته، لأنه قد يكون السلم على غير الدراهم ونحوها، فقد يسلم على كذا وكذا من الشياة، فحينئذ يعطيه مثلها، وإن لم تكن مثلية فإنه يعطيه قيمتها، ويأتي إيضاح هذا في باب ضمان المتلفات.

    قوله [والسادس: أن يقبض الثمن تاما]
    (13/167)
    ________________________________________
    فالشرط السادس أن يقبض الثمن تاما قبل التفرق، فمثلا اتفقا على ألف ريال بكذا صاع من البر إلى سنة فلا بد أن يأخذ المسلم إليه دراهمه في المجلس قبل أن يتفرقا، وهذا هو مذهب الجمهور، قالوا: لأن السلم والسلف لا يثبت إلا بهذا، فإن السلم تسليم الثمن والسلف تقديم الثمن، فإن لم يتقدم الثمن ولم يسلم في مجلس العقد فإنه لا يكون سلما ولا سلفا، وحينئذ فالسلم والسلف مستثنى من حديث: (لا تبع ما ليس عندك) ، وقال المالكية: بل يصح، وهذا القول هو الراجح، لما تقدم، فإن السلم من أنواع البيوع، وهو إن لم تكن هنا سلما فهو بيع، فنحن إن سلمنا أنه ليس بسلم لأن السلم يقدم فيه الثمن في مجلس العقد فإنه بيع من البيوع، فإن قيل: قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وهذا بيع الدين بالدين، فإنه إذا قال: أبيعك ألف ريال غدا أسلمها لك، على أن تعطيني كذا وكذا بعد شهر فهذا من بيع الدين بالدين، فالجواب: أن ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن بيع الدين بالدين لا يصح، وإنما صح الإجماع على النهي عن بيع الدين بالدين في بعض صوره، وقد تقدم ذكر الصور المنهي عنها، وهنا قد ثبت الخلاف فلا إجماع، ثم إن الأصل في البيوع الحل، وهذه الصورة ليس فيها ما يفسدها، بل كل من المتعاقدين له مصلحة في شغل ذمته بما شغلها به، وليس هذا داخلا في الأصناف الربوية فيكون ربا، وعلى هذا فهو حلال.

    قوله [معلوما قدره ووصفه]
    هذا ظاهر، وقد تقدم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، فإن كان الثمن مجهولا فهذا بيع غرر، وقد نهى الشارع عن الغرر.

    قوله [قبل التفرق]
    تقدم الكلام على هذا.

    قوله [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه]
    (13/168)
    ________________________________________
    هذا مبني على اشتراط ثبوت القبض في مجلس العقد، فإذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد فإن عقد السلم يكون باطلا، وإن كان قد قبض بعضه فيصح في المقابل له، ويبطل فيما عداه.

    قوله [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه صح]
    صورة هذه: قال أعطيك مائة ألف ريال في على أن تعطيني مائة طن من القمح، فقال الآخر: نعم بشرط أن تكون خمسين طنا في أول الحصاد، وخمسين طنا في آخر الحصاد، أو خمسين طنا في شهر كذا ونحو ذلك، فهذا جائز، وعكسه كذلك: أي كانا جنسين ولهما أجل واحد، وصورته أن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني خمسين طنا من القمح وخمسين طنا من الشعير إلى سنة، فهنا أسلف في جنسين إلى أجل واحد، وهذا جائز.

    قوله [إن بين كل جنس وثمنه]
    هذا في المسألة الثانية، وهي ما إذا كان الجنسان لهما أجل واحد، فلا بد أن يبين قدر كل جنس وأن يبين ثمنه، وقوله (بين كل جنس) هنا حذف، والتقدير: إن بين قدر كل جنس، كما تقدم في المثال السابق، لأنه إن لم يبين قدر كل جنس فإنه يقع في بيع الجهالة، فقد يكون تسعين طنا من الشعير، وعشرة أطنان من القمح، وقد يكون العكس، وهذه جهالة، وقوله (وثمنه) أي كذلك لا بد أن يبين ثمن كل جنس، فيقول: خمسين طنا من القمح بكذا، وخمسين طنا من الشعير بكذا، فإنه قد يقع فسخ كما تقدم، فقد يعجز أن يعطيه ما وعده به فيكون الفسخ حينئذ، فإذا لم يبين ثمن كل جنس وقع في الجهالة عند الفسخ.

    قوله [وقسط كل أجل]
    (13/169)
    ________________________________________
    هذا في المسألة الأولى، وهي إذا كان الجنس له أجلان، فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة طن من القمح على قسمين الأول يكون شهر كذا، والقسم الثاني يكون شهر كذا، ولم يبين نصيب كل شهر من الأطنان، فهذا فيه جهالة، فقد يعطيه خمسة أطنان في الشهر الأول، ويدخر خمسة وتسعين طنا في الشهر الثاني فيقع حينئذ نزاع وجهالة، فلا بد من أن يبين فيقول مثلا: في الشهر الأول أعطيك خمسين طنا، وفي الشهر الثاني أعطيك ثلاثين أو نحو ذلك.

    قوله [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين]
    فلو قال: أعطيني مائة ألف ريال على أن أعطيك داري هذه إلى سنة، فهذا لا يجوز، والصحيح جوازه لأن هذا لا يعدو أن يكون بيعا من البيوع، والأصل في البيوع الحل، وإذا تلف فإن عليه عوضه، أي مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن كان مقوما، وهو قد باع ما يملك فلا يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبع ما ليس عندك) .

    قوله [ويجب الوفاء موضع العقد]
    هنا مسألة: وهي أين يكون الوفاء؟ هل يأتي المسلم إليه بالسلعة إلى المسلم؟ أو يأتي المسلم إلى المسلم إليه ليأخذ السلعة؟ قال المؤلف: يجب الوفاء موضع العقد، قالوا: لأن مقتضى العقد يدل على هذا، فمقتضى العقد أن يكون محل التسليم هو محل العقد، وهذا هو المشهور من المذهب، والراجح أن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس مثلا أن يذهب صاحب المال إلى مزرعة المسلم إليه ليأخذ الحب أو الثمر فإن الناس على عرفهم، وكذا العكس.

    قوله [ويصح شرطه في غيره]
    فيصح أن يشترط الوفاء في موضع آخر غير موضع العقد، والمسلمون على شرطهم.

    قوله [وإن عقد ببر أو بحر شرطاه]
    إذا كان العقد في البر أو في البحر فحينئذ لا بد أن يشترطا موضعا للوفاء، قالوا: لأن الموضع الذي هما فيه لا يمكن أن يوفى فيه، فلا بد من الشرط، وحيث قلنا إن المرجع إلى العرف فلا إشكال في هذا.
    (13/170)
    ________________________________________
    قوله [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه]
    لا إشكال في هذا، فقد تقدم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيع قبل القبض، وهكذا في السلم فلا يجوز بيع المسلم فيه، فإذا قال مثلا أعطني مائة ألف ريال على أن أعطيك كذا طنا من القمح إلى سنة، ثم جاء شخص إلى المشتري بعد يوم أو يومين فقال: أنا اشتري منك الأطنان التي عندك لفلان إلى سنة، وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح مالم يضمن، وهو لم يضمن هذا ولم يقبضه.
    * لكن هل يجوز بيعه إلى المسلم إليه قبل قبضه؟
    كأن يقول: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع من البر إلى سنة، وبعد شهر أو شهرين قال المسلم إليه: أنا أريد أن تبيعني ما في ذمتي لك، فاتفقا على شيء من الثمن فذلك جائز على الصحيح، والمذهب لا يجوز، والصحيح جوازه كما تقدم في اختيار شيخ الإسلام في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأن بيعه على بائعه جائز، فإذا باع المسلم على المسلم إليه ما أسلم فيه فهذا جائز، ما لم يكن فيه ربا كما تقدم، وبشرط ألا يربح فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن.

    قوله [ولا هبته]
    فلا تصح الهبة، وظاهر كلام المؤلف أن هذا عام في المسلم إليه وغيره، وهذا غير صحيح، فإنه عند الحنابلة أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه فذلك جائز، لأن هذا إبراء لذمته، وهذا هو الصحيح في المذهب، والمراد هنا هبته إلى غيره، لا هبته إلى المسلم إليه، وقد تقدم أن شيخ الإسلام يختار أن المنهي عنه قبل القبض هو البيع فحسب، وأما الهبة ونحوها قبل القبض فهي جائزة، وهذه المسألة تدخل فيها إذ لا غرر في ذلك.

    قوله [والحوالة به ولا عليه]
    (13/171)
    ________________________________________
    والحوالة به أي بالسلم، والحوالة عليه أي على المسلم فيه، مثال الصورة الأولى: رجل أخذ مائة ألف ريال على أن يدفع مائة صاع من البر إلى سنة، ثم قال لمن أعطاه المال: أنا أحيلك على فلان وأبريء ذمتي، فقالوا: هذا لا يجوز الحوالة به، وأيضا لا يجوز الحوالة عليه، ومثاله: هذا الرجل الذي دفع مائة ألف ريال على كذا طن من القمح، هناك أحد يريد منه دين، فقال: تأخذها من فلان قمحا بعد سنة، فقالوا: هذا لا يجوز، قالوا: لأن دين السلم غير مستقر، فقد يفسخ البيع، وهذا ضعيف، فإن الأصل هو عدم فسخه، والأصل هو ثبوته، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد واختيار بعض الحنابلة واختار هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، فالصحيح أن الحوالة فيه جائزة، وذلك لأنه دين، فأشبه سائر الديون.

    قوله [ولا أخذ عوضه]
    فإذا قال: أعطيك مائة ألف ريال على أن تعطيني كذا طنا من القمح، فلما جاء الوقت قال: أريد أن أعتاض عنها بكذا وكذا من البر، أو قال أعتاض عنها بكذا وكذا من الدراهم، قالوا: هذا لا يجوز، وقد تقدم أنهم يجيزونه في غير هذه المسألة في الديون كما ثبت في حديث ابن عمر، أما في السلم فلا يجوز عندهم، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) [د 3468، جه 2283] والحديث فيه عطية العوفي وهو ضعيف، وقال الإمام مالك بل يجوز هذا وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح، وقد تقدم أثر ابن عمر الذي روي مرفوعا وموقوفا والصواب وقفه.

    قوله [ولا يصح الرهن والكفيل فيه]
    (13/172)
    ________________________________________
    هذه مبنية على المسألة السابقة، فلا يصح الرهن لأنه بذلك يصرفه إلى غيره، فالفائدة من الرهن أنه إذا لم يسلمه فإنه يستوفي حقه من الرهن، وهو بذلك يكون قد صرفه إلى غيره، والكفيل فائدته أنه يضمن، فإذا لم يأت المسلم إليه بالمسلم فيه فإنه يدفع - أي الكفيل - من ماله للمسلم، فحينئذ يكون قد صرفه إلى غيره، والراجح ما تقدم من جواز العوض فيه، فيجوز الرهن والضمان والكفالة فيه كغيره من الديون.

    باب القرض
    قوله [وهو مندوب]
    القرض لغة: القطع، واصطلاحا: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله، والقرض مندوب كما قال المؤلف، فهو مستحب من المقرض، وهو مباح من المقترض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) [م 2699] ، وروى الإمام أحمد وابن ماجة والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن السلف - أي القرض - يجري مجرى شطر الصدقة) [حم 3901، جه 2430] .

    قوله [وما يصح بيعه صح قرضه إلا بني آدم]
    أي إلا الرقيق عبدا كان أو أمة، فكل ما صح بيعه صح قرضه من دراهم ودنانير وبر وقمح وحيوان وغير ذلك، واستثناء العبد والأمة هو المشهور في المذهب، قالوا: لعدم النقل في هذا، والوجه الثاني في المذهب هو جواز إقراض الرقيق عبدا كان أو أمة، واختاره الموفق ابن قدامة وهو الراجح، إذ عدم نقله ليس بمؤثر لأن الأصل في المعاملات الحل، فلا يشترط فيها النقل، وكثير من المسائل التي هي في باب العقود والمعاملات لم تنقل، فلا يعني هذا أنها لا تحل، وإنما يشترط النقل في تحريمها، ومنع منه المالكية والشافعية في الأمة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى وطئها، وأباحوه إن كان المقترض من محارمها، والراجح ما تقدم، ذلك لأنه بالقرض قد ملك هذا الرقيق عبدا كان أو أمة.
    (13/173)
    ________________________________________
    وظاهر كلام المؤلف أن المنافع لا يجوز إقراضها إذ لا يصح بيعها كما تقدم في المذهب، فالمنافع كالعمل في حصاد أو السكنى في بيت أو نحو ذلك ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز إقراضها لأن بيعها لا يصح، واختار شيخ الإسلام أن إقراض المنافع جائز، كأن يقول: أحصد معك اليوم وتحصد معي غدا، أو يجذ معك رقيقي اليوم بشرط أن يجذ معي رقيقك غدا، أو يقول: أسكني دارك اليوم وأسكنك داري غدا، فهذا جائز على الراجح لأن الأصل في المعاملات الحل.

    قوله [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه]
    يملك القرض بقبضه، فإذا قبضه فقد ملكه، فلا يلزمه أن يرد عين القرض، بل الذي يلزمه أن يرد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان مقوما، وذلك لأنه ملك بالقبض، وهذا ظاهر لأنه إنما أقرضه ليملكه فينتفع به، وقد رضي المقرض بذلك فكانت هذه العين ملكا للمقترض يتصرف فيها كما يتصرف في سائر ملكه فلا يلزمه أن يرد عينها، فمثلا اقترض منه بكرا من الإبل، وبقي عنده هذا البكر حتى أتى الأجل الذي يقضي فيه الدين، فلا يلزم المقرض أن يقضيه هذا البكر، بل له أن يعطيه غيره.

    قوله [بل يثبت في ذمته حالا ولو أجله]
    (13/174)
    ________________________________________
    فبمجرد القرض يثبت البدل مثلا إن كان مثليا، أو قيمة إن كان متقوما، ويكون حالا ولو أجله، فللمقرض أن يطالبه متى شاء، وإن كان الاتفاق بينهما أنه على أجل، كأن يتعاقدا بينهما على أن يكون الوفاء بعد سنة، فللمقرض أن يطالبه قبل ذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب الجمهور، قالوا: لأن القرض يمنع فيه التفاضل فيمنع فيه التأجيل أيضا كالصرف، فالصرف يمنع فيه التفاضل والتأجيل فكذلك القرض، وهذه العلة ضعيفة، ولهذا ذهب المالكية إلى جواز التأجيل، وأنه يكون ملزما فلا يحق للمقرض المطالبة قبل الأجل، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولأن الله أمر بالوفاء بالعهد، ولأن المقرض قد أسقط حقه برضاه بذلك الأجل فلا يحل له المطالبة به، وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والجواب عما ذكره أهل القول الأول أن يقال: هناك فرق بين الصرف وبين القرض من جهتين:
    1- الجهة الأولى: أن الصرف بيع، فهو معاوضة، وأما القرض فهو تبرع وإحسان وإرفاق فبينهما فرق والقياس مع الفارق باطل.
    2- الجهة الثانية: أنكم تجيزون عدم مطالبة المقرض للمقترض، وهذا تأجيل ولا تجوزونه في الصرف، فلو أن رجلا أعطى آخر دراهم صرفا، فلا يحل التأخير سواء اشترطاه أم لم يشترطاه، وأما هنا فإنه لو أقرضه مائة ألف فإنه يجوز له أن لا يطالبه بل يؤجل مطالبته، وهذا فرق بينهما.

    قوله [فإن رده المقترض لزمه قبوله]
    هذا ظاهر، فإذا رده المقترض كما أخذه سليما من العيب فإنه يلزمه أخذه ولا يلزمه المقرض بالبدل، فمثلا: استقرض منه حيوان، ثم من الغد أرجعه إليه، فيلزمه أن يقبله إذ لا ضرر عليه في قبوله إلا أن يكون فيه عيب فله رده، وإنما أوجبنا البدل في الذمة لأنه في الغالب يتصرف بهذا الشيء الذي استقرضه فيلزمه المثل أو القيمة على ما تقدم.
    (13/175)
    ________________________________________
    قوله [وإن كانت مكسرة أو فلوسا فمنع السلطان المعاملة بها فله القيمة وقت القرض]
    أي إن كانت الدراهم مكسرة أو فيها قص وتكسير ونحو ذلك، أو كان هناك فلوس فمنع السلطان منها فله القيمة وقت القرض، مثاله: رجل أقرض الآخر دراهم مكسرة - أي لا يعرف وزنها فهي دراهم مكسرة - فعند الرد يلزم برد المثل لأنها لها مثل، وكذلك إذا منع السلطان الناس من التعامل بالدراهم المكسرة فله القيمة وقت القرض، وقال بعض الحنابلة: بل يعطي قيمتها عند تحريم السلطان لها، وذلك لأن المتعلق في ذمته هو المثل، حتى منع السلطان التعامل بها فانتقل حينئذ إلى البدل وهو القيمة، فلزمته القيمة من وقت تحريم السلطان لها، وهذا القول هو الراجح.

    قوله [ويرد المثل في المثليات]
    وهذا ظاهر فالمثليات كالموزونات مثلا يجب أن يرد مثلها، كأن يأخذ مائة صاع من القمح فيرد إليه مائة صاع من القمح.

    قوله [والقيمة في غيرها]
    إذا لم يكن الشيء مثليا كبعض الجواهر فإنه يرد إليه قيمتها.

    قوله [فإن أعوز المثل فالقيمة إذن]
    أي إن تعذر المثل فالقيمة إذن، أي القيمة حينئذ أي حين الإعواز، ومثاله: كان الواجب عليه كذا وكذا من الطعام الفلاني، وكان يمكنه أن يعطيه مثله، فتعذر المثل فحينئذ تجب القيمة، فهل نقول تجب القيمة عند وقت القرض كالمسألة السابقة، أو نقول: تجب القيمة عند وقت الإعواز والتعذر؟ قالوا: عند التعذر، وذلك لما تقدم فالقيمة إنما وجبت في ذمته عندما تعذر مثلها، وأما وقت القرض فكان المتعلق بذمته هو المثل نفسه، فيكون المؤلف قد فرق بين المسألتين من غير ما فرق مؤثر، والفارق بين هاتين المسألتين أن المسألة الأولى: قالوا: الدراهم والفلوس تتغير تغيرا سريعا وتختلف اختلافا كبيرا في الزمن، وهذا في الحقيقة ليس بمؤثر، فإنه يمكننا أن نضبط قيمتها في اليوم الذي تعذر فيه، وهو تحريم السلطان لها.

    قوله [ويحرم كل شرط جر نفعا]
    (13/176)
    ________________________________________
    فكل شرط جر نفعا فهو حرام، وروى الحارث بن أبي أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل قرض جر نفعا فهو ربا) والحديث إسناده ضعيف جدا، لكن له شواهد من أقوال الصحابة، فقد روى البخاري معلقا عن عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة:" إنك بأرض الربا بها فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا " [خ 3814] فهذه هدية مالية فكان ذلك ربا، ونحوه في المنع من الهدية عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد صحيح، وأما رفع ذلك فلا يصح.
    وقد اتفق العلماء على القول به، وأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، كأن يقول له: أقرضك مائة ألف ريال إلى سنة على أن تسكني دارك أو على أن تعمل لي أو نحو ذلك فهذا لا يجوز.

    قوله [وإن بدأ به بلا شرط...... جاز]
    مثاله: اقترض رجل من آخر مائة ألف ريال، فلما أتى وقت الوفاء أعطاه زيادة على ذلك عشرة آلاف ريال فهذا جائز، فإذا أعطاه مع الوفاء أو بعده فهذا جائز إذا لم يكن هناك مواطأة بينهما، وقد ثبت في مسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرا، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم أجد إلا خيارا رباعيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطه إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء) [م 1600] فهذا مع الوفاء فهو جائز، وقد اتفق أهل العلم على جوازه، والسنة تدل عليه.

    قوله [أو أعطاه أجود]
    كما تقدم في حديث أبي رافع.

    قوله [أو هدية بعد الوفاء جاز]
    أي أهدى إليه هدية بعد الوفاء فهذا كله جائز، وأما الهدية قبل الوفاء فلا تجوز للحديث المتقدم، وتقدم أثر عبد الله بن سلام.

    قوله [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز إلا أن ينوي مكافأته أو احتسابه من دينه]
    (13/177)
    ________________________________________
    إذا تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء فهذا لا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فإذا كان بينهما تهاد من قبل فاقترض أحدهما من الآخر شيئا وأهداه هدية فهذا جائز، لأن جريان العادة بينهما بذلك قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى، أما إذا لم تجر العادة بينهما بذلك فلا يحل للمقرض أن يقبل منه الهدية، لكن إذا نوى أن يكافئه عليها فهذا جائز، لأن هذا القرض لم يجر نفعا زائدا، بل جر نفعا مقابلا بنفع آخر، ويجوز أن يقبل الهدية في حالة أخرى وهي ما إذا نوى احتسابه من دينه، أي ينوي أن ينقص الهدية من الدين، فهذا جائز.

    قوله [وإن أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه]
    مثاله: إذا أقرض زيد عمروا مائة ألف ريال في بلدة - وتقدم أن مكان الوفاء هو مكان العقد في السلم وأن الراجح أن ذلك راجع إلى العرف - فهنا إذا أقرضه أثمانا فطالبه ببلد آخر لزمه، لأنه لا ضرر عليه بدفعها، وهو واجب عليه.

    قوله [وفيما لحمله مؤونة قيمته إن لم تكن ببلد القرض أنقص]
    (13/178)
    ________________________________________
    هذه الأثمان التي تقدم ذكرها لا تحتاج في حملها إلى مؤونة، لكن لو كانت أشياء تحتاج في حملها إلى مؤونة كأن يكون قد أقرضه طعاما أو حيوانا أو نحو ذلك ثم طالبه به في بلد آخر فقال هنا: الواجب عليه القيمة، وذلك لأن نقل الطعام أو الحيوان إلى هذه البلد الأخرى تحتاج إلى مؤونة فلم يلزم ذلك، وإنما يلزم بالقيمة، لأن القيمة لا ضرر بها، والقيمة مرجعها إلى البلد الذي يجب عليه أن يقضيه فيها، فمثلا أقرضه حيوانا وطالبه في الخارج، وكان قد استدان منه الحيوان في الداخل، والحيوان هنا يساوي خمسمائة ريال، وفي الخارج يساوي ألف ريال، فإنه يعطيه قيمته هناك، وإن كان لا شك أن الأصلح له أن يقبل ويعطيه إياه مثليا، ولذا قال المؤلف: إن لم تكن ببلد القرض أنقص، فإن كانت ببلد القرض أنقص فإنه يلزمه، مثلا: كانت تساوي في بلد القرض خمسمائة ريال، وتساوي في البلد الآخر أربعمائة ريال، فإنه حينئذ لا ضرر عليه بل له نفع أن يعطيه إياها كذلك، وذلك لأنها ببلد القرض أنقص، كذا قال المؤلف، والعبارة الصحيحة كما قال الشارح (أكثر) ، وعلى هذا فإذا كان القرض أثمانا فطالبه بها في بلد آخر فإنه يلزمه أن يعطيه إياها، إذ لا ضرر عليه في ذلك، وأما إن كان غير أثمان وفي حملها مؤونة فلا تخلو من حالين:
    الأولى: أن يكون ثمنها في بلد القرض أكثر فحينئذ يلزمه أن يدفع المثل، إذ لا ضرر عليه في ذلك بل فيه نفع له.
    الثانية: أن يكون ثمنها في بلد القرض مساويا أو أنقص فحينئذ لا يلزمه ذلك، بل الذي يلزمه أن يدفع القيمة.
    * مسألة السفتجة.
    (13/179)
    ________________________________________
    السفتجة هي لفظة أعجمية، وصورة المسألة: أن يعطي الرجل الآخر مالا في هذه البلدة، ويأخذ من وكيله ما يقابله في بلد آخر، مثلا: يقول أنا أريد السفر إلى العراق، وفي العراق وكيل لصاحبه، وهذا لما كانت الطرق غير آمنة ويخشى على المال، فيقول لصاحبه: أنا أعطيك ألف وتكتب لي ورقة إلى وكيلك هناك فيعطيني مائة ألف، فما حكم ذلك؟
    1- منع الجمهور من هذه المعاملة لوجود النفع، وقد تقدم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
    2- وذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام إلى جواز ذلك، وذلك لأن هذا القرض لم يجر نفعا ماديا، بل هو نفع غير مادي، فلكل منهما مصلحة، وليس هذا النفع جنس الهدايا ونحوها التي ورد النهي عنها.
    ** مسألة:
    " ضع وتعجل "، وهي أن يقول الرجل لمن له عليه دين، ضع عني شيئا من الدين وخذا لمال الآن، فمثلا: الأجل كان إلى سنة، والمال عشرة آلاف ريال، فيقول ضع عني ألفا وخذ تسعة آلاف الآن قبل أوانها، أو العكس بأن يقول المقرض أعطني تسعة آلاف الآن وأسقط عنك الباقي، فهذه المسألة اختلف العلماء فيها:
    1- جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف منعوا مثل هذه المعاملة.
    (13/180)
    ________________________________________
    2- عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن هذا جائز، وحكاه شيخ الإسلام قولا في مذهب الحنابلة، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث لا في المنع ولا في الإجازة، وأما ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله للمقداد: (أكلت الربا يا مقداد وأطعمته) [هق 6 / 28] وما روي عنه في قوله لبني النظير: (ضعوا وتعجلوا) [هق 6 / 28، طس 1 / 338 برقم 821، قط 3 / 46] والخبران رواهما البيهقي وكلاهما لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال الصحابة فيها متعارضة فعن ابن عمر المنع كما في سنن البيهقي [هق 6 / 28] وعن ابن عباس الجواز كما في سنن البيهقي أيضا [هق 6 / 28] والإسناد إليهما صحيح.
    وحجة الجمهور أن هذا النقص يقابل الأجل، قالوا: فأشبه الربا، فالربا الزيادة في مقابل الأجل، وكذلك هنا النقصان في مقابل الأجل، وأما حجة أهل القول الثاني فهي أن الأصل في المعاملات الحل، وهذه معاملة فتكون مباحة، قالوا: وأما قولهم إن النقصان هنا يقابل الأجل فأشبه الربا وذلك لأن الربا زيادة في مقابل الأجل فضعيف جدا، وذلك لأن الربا زيادة واستغلال وأكل للمال بالباطل، وأما مسألة ضع وتعجل فإن فيها إرفاقا وإبراء للذمة ومصلحة أيضا، وهي نقصان المال المطلوب لا وليس زيادته، والربا زيادة فيكون هذا من باب إعطاء حكم الشيء لنقيضه، فقد أعطوا حكم الربا لنقضيه، والصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وعليه عمل الناس اليوم.

    باب الرهن
    الرهن لغة: الدوام والثبوت.
    وفي الاصطلاح عند فقهاء الحنابلة: توثيق دين بعين، هذا هو تعريفهم، وسيأتي بيانه، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى {فرهان مقبوضة} ، وفي البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاما ورهن درعه عنده [خ 2916، م 1603] وقد أجمع العلماء على جواز الرهن.
    (13/181)
    ________________________________________
    والحكمة منه توثيق الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن وحفاظا على حقه فكذلك يوثق بالرهن.
    إذا علم هذا فليعلم أن ما تقدم من تعريف الحنابلة للرهن فيه نظر، فإن الحنابلة لا يرون الرهن إلا بالعين، ولذا قال المؤلف:

    قوله [يصح في كل عين]
    أما إذا كان الرهن دينا أو منفعة فلا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، فلا بد أن يكون عينا، كأن يقول: أقرضني مائة ألف ريال وأضع عندك داري أو أرضي رهنا، فإذا أتى وقت الوفاء وتعذر الوفاء فإن الرهن يباع، ويستوفى حقه منه.
    فلا بد أن يكون عينا كما هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن المقصود منه استيفاء حق المرتهن ببيعه إن تعذر الوفاء، وعليه فإذا كان دينا أو نحوه فإن ذلك لا يجوز، والقول الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن كل ما يحصل به التوثيق يصح أن يكون رهنا، سواء أكان ذلك عينا أو دينا أو منفعة، لأن المقصود هو التوثيق، ويحصل التوثيق بالدين والمنفعة.
    ولذا قال بعض الحنابلة - وهو خلاف المشهور من المذهب - يجوز أن يكون الرهن دينا على المرتهن للراهن، مثال ذلك: إذا كان لزيد على عمرو مائة صاع من البر إلى سنة، فأراد زيد أن يستدين منه، فيقول زيد لعمرو مثلا: أستدين منك مائة ألف ريال على أن يكون الذي عليك رهنا.
    (13/182)
    ________________________________________
    واختار الشيخ السعدي جوازه في عامة الديون التي في الذمم، فلو قال: أرهنك الدين الذي لي في ذمة فلان، وهذه الأوراق التي تثبته، ويكتب له بذلك، فإن هذا صحيح لحصول التوثيق به، كذلك لو كان منفعة كأن يقول أنا قد استأجرت هذه الأرض الزراعية مدة خمس سنوات، فهي الآن في يدك، فأجرها على من شئت واحفظ المال الذي ينتج من إجارتها رهنا للدين الذي علي، فهذا يصح، وقاعدة المذهب أن الرهن من باب المعاوضات فعليه لا يصح رهن إلا ما يجوز بيعه، وعلى القول المتقدم وهو اختيار الشيخ السعدي أن الرهن ليس من باب المعاوضات بل هو من باب التوثيقات، وباب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات، فالمقصود منه التوثيق وليس بيعا، وستأتي بعض المسائل التي يرجحها الحنابلة ويصححون الرهن فيها، مع أن البيع لا يصح فيها، كرهن الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه لا يجوز بيعه، لكنهم يصححون رهنه.

    قوله [يجوز بيعها حتى المكاتب]
    فالمكاتب يجوز أن يكون رهنا، وصورة الرهن فيه، أن يكون ما يأتي به من أقساط شهرية يدفعها للمرتهن، ويبقى عقد الكتابة على ما هو عليه، فيعمل ليحرر نفسه، فإذا أمكنه أن يحرر نفسه كانت هذه الأقساط المجموعة رهنا عند المرتهن، وإن لم يمكنه فيبقى هو رهن أيضا لأنه يجوز بيعه، وما جاز بيعه جاز رهنه، وعلى القول المتقدم وهو الراجح فإن هذا ظاهر لحصول الثقة بذلك عند المرتهن، والقول الثاني في المذهب أن المكاتب لا يصح رهنه، وذلك لأن مقتضى الكتابة أن يكون حرا بعمله، فهو يذهب إلى أي موضع شاء للعمل، ومن شروط الرهن عند الحنابلة استدامة القبض، ولا شك أن بقاء المكاتب عند المرتهن يخالف مقتضى عقد الكتابة، والصحيح ما سيأتي من ترجيح أن استدامة القبض ليس بشرط، وعليه فلا مانع من أن يكون المكاتب رهنا، ويعمل كيف شاء.

    قوله [مع الحق وبعده]
    قوله (مع الحق) كأن يقول أقرضني مائة ألف وأضع بيتي رهنا عندك.
    (13/183)
    ________________________________________
    وقوله (بعده) أي بعد أن يتفقا على البيع وهما يكتبان الدين يقول: بشرط أن تكون دارك رهنا عندي، فهذا جائز لعموم قول الله تعالى {فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولحصول المقصود من الرهن، وظاهر كلام المؤلف أن الرهن قبل الحق لا يصح، وصورته لو قال: أضع عندك داري رهنا على أن تقرضني بعد شهر كذا وكذا من الدراهم، فالمشهور من المذهب أن هذا لا يجوز، وعللوا ذلك بأن الرهن لاحق للحق، وهنا كان الرهن سابقا له، فالرهن المقصود منه توثيق الحق، فالحق سابق، وهذه علة ضعيفة، وذلك لأن التوثيق حاصل وإن كان الرهن مدفوعا قبل الحق، والأمور مع عللها، فالعلة من الرهن التوثيق، وهي حاصلة سواء أكان الرهن قبل الحق أو معه أو بعده، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك واختيار أبي الخطاب من الحنابلة، فالصحيح أن الرهن قبل الحق صحيح، فإن استقرض منه وإلا فإنه أخذ حقه، ولا دليل يدل على المنع والأصل في المعاملات الحل.
    [قلت: إلا أنه إن رهنه قبل الحق لم يكن واجبا، إلا مع ثبوت الحق –والله أعلم-] .

    قوله [بدين ثابت]
    أي دين مستقر، أما إذا كان الدين عرضة للزوال فلا يصح الرهن فيه، والديون نوعان:
    1- دين مستقر: كأن يقول أقرضني مائة ألف، أو بعني هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة.
    2- دين غير مستقر: كدين الكتابة، فإنه يمكن للمكاتب أن يعود إلى سيده ويقول أريد أن أقطع الكتابة وأعود عبدا، ويمكن أن يعجز المكاتب عن سداد دين الكتابة، فهو دين غير مستقر.
    (13/184)
    ________________________________________
    قالوا: فالرهن إنما يصح في الدين المستقر، فليس للسيد أن يقول لعبده أكاتبك على أن ترهنني كذا وكذا، كما أن العبد المكاتب إذا وضع عند سيده رهنا فهذا الرهن ليس بمعتبر لأنه في غير موضعه، وهذا فيه نظر، والأظهر جواز الرهن، لأن المقصود منه توثيق الدين بهذا الرهن للمرتهن، وحينئذ فلا مانع من جوازه والأصل في المعاملات الحل، فلا مانع أن يضع على الدين غير المستقر رهنا، ومتى ما سقط هذا الدين فإن الرهن يبطل، فإذا عجز المكاتب عن الكتابة فإنه يعود قنا، فإن كان المال للعبد كان لسيده، وإن كان ليس للعبد بل هو عارية أو نحو ذلك فإنها ترجع إلى صاحبها، ولا يترتب على هذا أي شيء، والرهن المتقدم حصل فيه توثيق للدين، وهذا هو القول الثاني في المذهب.

    قوله [ويلزم في حق الراهن فقط]
    فالرهن يلزم في حق الراهن، فهو عقد لازم في حق الراهن، وعقد جائز في حق المرتهن، فالمرتهن هو صاحب الدين، فله أن يسقط الرهن لأنه حق له.

    قوله [ويصح رهن المشاع]
    كأن يكون لرجلين أرض يشتركان فيها اشتراكا مشاعا لكل واحد منهما النصف، فله أن يرهن نصيبه أو بعضه، وذلك لأن البيع جائز فالرهن جائز، وحيث قلنا إن الرهن توثيق وليس بمعاوضة فذلك أولى بالجواز.

    قوله [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه]
    هنا مسألتان:
    الأولى: رهن المبيع على ثمنه، فهذا جائز لعمومات الأدلة، فلو قال زيد لعمرو: أشتري منك هذه الدار بمائة ألف ريال مقسطة وتكون هذه الدار رهنا عندك، فمتى ما قضيت حقك أخذتها، وإن لم أعطك حقك فلك أن تبيعها وتأخذ حقك منها، فهذا جائز لعمومات الأدلة.
    (13/185)
    ________________________________________
    الثانية: أن رهن المبيع غير المكيل والموزون جائز قبل قبضه، مثاله: رجل اشترى سيارة، وقبل قبضها رهنها، فهذا جائز على المذهب، وكذلك لو اشترى أرضا ورهنها قبل قبضها فهذا جائز، لكن إن اشترى مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا فإنه ليس له أن يرهنه حتى يقبضه، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا يجوز بيع المكيل والموزون ونحوهما قبل قبضها ولو على البائع في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أن الرهن جائز في كل مبيع قبض أو لم يقبض، وقد تقدم هذا عند نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يقبض، وأن شيخ الإسلام يرى أن سائر العقود سوى البيع لا يشترط فيها القبض، ومن ذلك الرهن فإنه يجوز فيما لم يقبض، ومثاله: اشترى زيد من عمرو دارا، ولما يقبضها بعد، ثم رهنها، فهذا جائز، وذلك لحصول المقصود فإن التوثيق حاصل كما تقدم في كلام الشيخ السعدي.

    قوله [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]
    وهذا ظاهر لأنه لا يحصل به الثقة، فما دام لا يجوز بيعه كالموقوف فإنه لا يصح بيعه فلا يصح رهنه، ولا فائدة من رهنه لأن بيعه لا يمكن فلا يحصل به الثقة، وهذه القاعدة قاعدة أغلبية، وقد تقدم بعض الاستثناء فيها، ولكن متى حصلت الثقة فيما لا يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه، فلو حصلت الثقة في بعض الديون أو المنافع - على القول بعدم جواز بيعها وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من جواز بيعها - فإنه يصح رهنها.

    قوله [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]
    تقدم أن الثمار لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، وأن الحب لا يجوز بيعه قبل اشتداد حبه، فهل يجوز أن يرهن ذلك أم لا؟
    (13/186)
    ________________________________________
    على القاعدة المتقدمة لا يجوز، لأنه لا يجوز بيعها، وقال الحنابلة هنا بل يجوز، وخالفوا قاعدتهم المتقدمة، قالوا: لأن النهي عن البيع قبل بدو الصلاح إنما هو خشية الآفة، وهنا في باب الرهن لو تطرقت إليه الآفة فلا ضرر على المرتهن لأن الحق ثابت بغير الرهن، فالدين ثابت في الذمة، والرهن لا يزيد عن كونه توثيقا للدين، وعلى قاعدتهم المتقدمة فإن هذا ضعيف، ولذا فإن مذهب الشافعية أن ذلك لا يجوز جريا على القاعدة المتقدمة، وأما على أصل المسألة الذي تقدم ترجيحه وهو أن المقصود من الرهن هو التوثيق فإن ذلك جائز، لأن المقصود هو التوثيق، وكون الآفة تصيب الزرع هذا قليل والأصل السلامة، فتحصل المنفعة بالثمر قبل بدو صلاحه وبالزرع قبل اشتداد حبه، ولو حصلت الآفة فالدين باق في الذمة، وعلى هذا فما ذهب إليه الحنابلة راجح هنا على القاعدة المتقدمة من أن باب التوثيقات أوسع من باب المعاوضات.
    وقال هنا (بدون شرط القطع) أما إذا اشترط القطع فجوزاه ظاهر لأنه يجوز بيعه، فيجوز رهنه، فلا إشكال في هذه المسألة.

    قوله [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]
    بيان ذلك: تبايع زيد وعمرو على شيء بثمن يكون دينا في ذمة عمرو، فرهنه شيئا، فهل يلزم الرهن بمجرد العقد أم لا يلزم حتى يقبضه؟
    1- قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يلزم إلا بالقبض، فلعمرو أن يتراجع عن هذا الرهن لأنه لم يقبض بعد، قالوا: لأن الله عز وجل قال {فرهان مقبوضة} فوصف الرهان بأنها مقبوضة بحيث لو لم تكن مقبوضة فلا تكون رهنا، قالوا: ولأن الرهن تبرع من الراهن فيصح الرجوع فيه قبل القبض.
    (13/187)
    ________________________________________
    2- وقال المالكية بل يلزم الرهن بمجرد العقد، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وبقوله {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} ، وهذا قد حصل من عهد وشرط والمسلمون على شروطهم، وأجابوا عن دليل القول الأول أن قوله {فرهان مقبوضة} أن هذا من الله عز وجل لبيان أتم الرهن وأكمله حفاظا على حق الدائن، ويدل لهذا أن قوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فهذه الآية قد أمر الله فيها باستشهاد رجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو استشهد رجلا وامرأتين فإن هذا جائز وإن أمكنه أن يشهد رجلين، فهذا من باب حفظ الحقوق، وليس في الآية أن الرهن غير المقبوض يجوز قطعه، وكيف هذا وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعهد، والشريعة تسد باب الغدر، وأما ما ذكروه من أنه تبرع فيقال: هذا فيه نظر ظاهر بل هو توثيق للدين وشرط، والمسلمون على شروطهم، فليست القضية تبرعا كالهبة ونحوها بل هو توثيق، وهذا القول هو اختيار الشيخ السعدي وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وهو القول الراجح، ثم إن القول الأول يترتب عليه مع الشرط الذي بعده تعطيل كثير من مصالح الناس.

    قوله [واستدامته شرط]
    استدامته بأن يبقى بيد المرتهن، فهذا شرط، فإن قيل: أليس شرط القبض يكفي؟
    (13/188)
    ________________________________________
    فالجواب: لا، فإنه قد يقبضه إياها ثم يرجعها إليه ليتصرف فيها، كأن يقول المرتهن للراهن خذ مزرعتك فتصرف بها، فهذا لا يصح في المشهور من المذهب، وعليه فلا يلزم حينئذ الرهن، فإذا قبضه ثم أعطاه إياه، وقال اتركه عندك فحينئذ لا يبقى الرهن لازما للراهن، فللراهن أن يرجع عن رهنه كما تقدم، وذهب الشافعية أن استدامته ليس بشرط، لأن القبض قد حصل، لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} والشافعية ممن يشترط القبض، وعلى القول بأن القبض ليس بشرط وهو الراجح، فأولى من ذلك الاستدامة، فإن الاستدامة قبض مستمر، فإذا لم يشترط القبض في الابتداء، لم يشترط في أثنائه ولا انتهائه، وقد تقدم الدليل على ذلك، فالصحيح أن الاستدامة ليست بشرط، ويقال إن التوثيق حاصل فيصح الرهن، ولأن مصلحة الناس لا تتم إلا بهذا، فإذا قيل يرهنه ويبقى عند المرتهن فهذا يضيع مصالح كثيرة، فتتعطل المزرعة لأنها بيد المرتهن، وسيأتي مزيد بيان عند قول المؤلف (وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن) .

    قوله [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه]
    بمعنى قبض المرتهن الرهن، ثم أعطاه للراهن، فقال له مثلا: أبق الرهن عندك، فهو لم يتخلى عن حقه في الرهن، بل أبقاه عند الراهن، إما على سبيل الإعارة أو الأجرة أو نحو ذلك، فهنا لا يلزم الراهن بالرهن، بل له أن يتراجع عن الرهن.

    قوله [فإن رده إليه عاد لزومه إليه]
    فإذا رده الراهن إلى المرتهن كأن يستعيره ثم يعيده، فإنه يعود اللزوم إليه، وهذا مبني على القول الذي ذكروه من اشتراط الاستدامة، والصحيح عدم ذلك، وأنه باق حتى لو كان بيده أصلا.

    قوله [ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه بغير إذن الآخر]
    (13/189)
    ________________________________________
    لا ينفذ تصرف أحد منهما - أي الراهن والمرتهن - فيه - أي في الرهن - بغير إذن الآخر، أما الراهن فلأن في تصرفه في الرهن تفويتا لحق المرتهن، فإن المرتهن قد تعلق حقه بهذا الرهن، فإذا تعذر الوفاء باع هذا الرهن وأخذ حقه كما سيأتي تقريره، وكذلك ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن كأن يبيعه أو يهبه أو يوثقه أو نحو ذلك من التصرفات، وذلك لأنه ليس ملكا له، ومن شروط التصرف الملك.
    وهذا كله يستثنى منه ما إذا أذن أحدهما للآخر، فإذا ثبت الإذن فذلك جائز من الطرفين، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فذلك جائز، وكذلك إذا أذن المرتهن للراهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن بالبيع فهذه وكالة في البيع.
    * وهل للراهن أن ينتفع بالرهن أم لا؟
    مثاله: رهن زيد عند عمرو داره على دين اقترضه، فهل للراهن أن ينتفع بهذه الدار بأن يسكنها أو يؤجرها أو يعيرها أو غير ذلك من الانتفاعات؟
    1- القول الأول وهو المشهور من المذهب أن ذلك لا يجوز، فليس للراهن أن يسكن الدار المرهونة ولا أن يؤجرها ولا غير ذلك، قالوا: لتعلق حق المرتهن بها.
    2- وذهب الشافعية إلى جواز سائر الانتفاعات التي لا تضر بالعين، كالسكنى للدار، والركوب للدابة، وعللوا قولهم بأن حق المرتهن إنما هو متعلق بالعين لا بالمنفعة، وحيث انتفع بالعين على وجه لا يضر بها فإن هذا غير ممنوع، كيف والشريعة قد نهت عن إضاعة المال، وفي تعطيلها إضاعة للمال، وهذا القول هو الراجح، ولا دليل على المنع.
    قال الحنابلة: ولا يمنع الراهن من مراعاة المرهون بإصلاحه وسقي أو ترميم أو مداواة أو غير ذلك، فعندما يمنع من الانتفاع بداره المرهونة فإنه لا يمنع من القيام بمصالحها، وهذا لا إشكال في جوازه، وعلل الحنابلة لذلك بأن فيه مصلحة للرهن وللراهن، وليس فيه ضرر على المرتهن، بل فيه منفعة له أيضا، فإنه بذلك تبقى العين صالحة.

    قوله [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم]
    (13/190)
    ________________________________________
    إذا اشترى زيد من عمرو طعاما، ووضع رقيقه رهنا عنده، فهل للراهن أن يعتقه أم لا؟ وإن أعتقه فهل يعتق وينفذ التصرف أم لا؟
    قال الحنابلة لا يجوز له أن يعتقه، لذا قال المؤلف هنا (مع الإثم) ، لأن ذلك تصرف في المرهون، وقد تقدم عدم جواز تصرف الراهن في المرهون، لكن هل ينفذ تصرفه بالعتق أم لا؟
    قال الحنابلة في المشهور عندهم ينفذ تصرفه، وذلك لتشوف الشارع إلى العتق ولسراية العتق.
    وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي وهو قول للشافعي وهو مذهب عطاء بن أبي رباح وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا ينفذ سواء كان المعتق موسرا أو معسرا، وذلك لأن هذا ممنوع ومنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، قالوا: ولأنه متعلق به حق الغير، ففارق المسألة التي أثبت الشارع العتق تشوفا أو سراية، وهذا القول هو الراجح.

    قوله [وتؤخذ قيمته رهنا مكانه]
    على القول بنفوذ العتق فإن هذا الرقيق يقوم ثم توضع قيمته عند المرتهن حفاظا لحقه، فتكون رهنا مكانه، وهذا فيه ما فيه، فإنه قد يكون معسرا فيعجز عن إعطاء القيمة، وقد يكون موسرا مماطلا فيفوت على صاحب الحق حقه.

    قوله [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به]
    (13/191)
    ________________________________________
    إذا وضع عنده رهنا فنما هذا الرهن، كأن يضع عنده شجرا فتثمر أو دوابا فتلد أو رقيقا فيسمن ويتعلم الكتابة مثلا أو نحو ذلك، أو أن يضع عنده عبد يتكسب، وقد تكون هناك جناية على العبد وفيها أرش، فقال المؤلف هنا (نماء الرهن) سواء أكان متصلا أم منفصلا، فالمتصل كالسمن في الدابة، والمنفصل كالثمر والولد، فهذه الأشياء ملحقة بالرهن فتكون رهنا عند المرتهن، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأن النماء يتبع أصله في الحقوق، والأصل مرهون فيكون النماء مرهونا، وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد أن النماء المتصل يتبع الأصل، أما النماء المنفصل فلا، فالثمر والولد والكسب وأرش الجناية كل هذه لا تتبع الأصل، قالوا: لأن الرهن متعلق بالأصل فلا يسري هذا إلى غيره، والأصل هو براءة مال المسلم من أن يتعلق به حق غيره، وهذا القول هو الراجح، فإن هذا المرتهن لا حق له فيما يكون من النتاج ونحوه، بل حقه متعلق بالعين نفسها، وعلى دليل على سراية ذلك إلى كل النماء.

    قوله [ومؤنته على الراهن]
    المؤنة وهي النفقة التي يحتاج إليها الرهن، فما يحتاج إليه الرهن من نفقة ونحو ذلك فإن ذلك يجب على الراهن، فما تحتاج إليه الدواب من طعام أو موضع توضع فيه، وما تحتاج إليه من أجرة راع، وما تحتاج إليه الدار من عناية ونحو ذلك، كل هذا واجب على الراهن، ويدل لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه) رواه الدراقطني والحاكم وصححه [جه 2441 مختصرا بلفظ (لا يغلق الرهن) ، سنن الدارقطني 3 / 32] والشاهد قوله (وعليه غرمه) ، ومؤنة النفقة غرم فتكون واجبة على الراهن، ولأن هذا إنفاق، والإنفاق إنما يجب على المالك، والمالك هو الراهن.

    قوله [وكفنه وأجرة مخزنه]
    (13/192)
    ________________________________________
    إذا احتاج إلى مخزن أو إلى حارس أو نحو ذلك فهذا كله يجب على الراهن، لما تقدم، هذا ما لم يكن هناك شرط، فإذا وجد هناك شرط فالمسلمون على شروطهم، فإذا قال: أضع هذا رهنا عندك لكن عليك أن تقوم بنفقته وكانت النفقة معلومة وليس فيها غرر فهذا جائز، لأن المسلمون على شروطهم.

    قوله [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه]
    الرهن عند المرتهن من باب الأمانات، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وكونه في حكم الأمانة عنده ظاهر، ويدل عليه ما تقدم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (له غنمه وعليه غرمه) فدل هذا على أنه كالوديعة، لكن إن تعدى أو فرط فعليه الضمان، فإذا استخدمه بغير إذن أو فرط في حفظه وصيانته ولم يضعه في حرز مثله، فإنه يضمن لأن الأمين يضمن عند التعدي أو التفريط، فلو رهن عنده تمرا لم يبد صلاحه، فأصابته آفة، فإن المرتهن لا يضمن لأنه لم يتعدى ولم يفرط.

    قوله [ولا يسقط بهلاكه شيء من دينه]
    وهذا ظاهر جدا، وبيانه لو أن الرهن هلك، فإن الدين يبقى، وذلك لأن الدين متعلق بالذمة، ولا يزيد الرهن عن كونه وثيقة لحفظ الحق، فإذا حصل له تلف فالدين باق في الذمة، كما لو حصل للشهود وفاة فالدين باق في الذمة، أو حصل للورقة التي كتب فيها الدين تلف أو احتراق فالدين باق في الذمة، فهذه كلها وثائق لحفظ الحقوق.

    قوله [وإن تلف بعضه فباقيه رهن لجميع الدين]
    وهذا أيضا ظاهر، ومثاله: وضع عنده هذا الثمر الذي لم يبد صلاحه رهنا، فحصل لبعض هذه الثمار تلف، فالمتبقي من هذه الثمار يبقى الرهن فيها، إذ لا دليل على سقوط الرهن عنها.

    قوله [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين]
    (13/193)
    ________________________________________
    مثاله: قال هذا الرقيق رهن عندك على مائة ألف اقرضها منك، فإذا قضاه خمسين ألفا، فلا يخرج من الرهن، فلا يقال إن نصف العبد أصبح ليس مرهونا، بل يبقى حتى يقضيه حقه، وذلك لأن الرهن إنما أخذه عن الدين كله، فلا ينفك حتى يقضي الراهن الدين كله، ولا خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، وقد حكى ابن المنذر الإجماع فيها.

    قوله [وتجوز الزيادة فيه دون دينه]
    يجوز الزيادة فيه أي في الرهن دون دينه، فهنا مسألتان:
    1- المسألة الأولى: حكم الزيادة في الرهن، فقد بين المؤلف هنا جوازها، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة نسيئة، وقال رهنت عندك هذا الدرع، ثم بعد زمن زاده في الرهن فقال: أرهنك هذا الفرس أو هذا السيف، فهذا جائز لا بأس به، لأنه زيادة استيثاق ولا محذور فيه.
    2- المسألة الثانية: وهي في قول المؤلف (دون دينه) أي لا يجوز الزيادة في دين الرهن، مثال هذا: اشترى منه سلعة بثمن مؤجل، ورهنه داره، ثم اشترى منه شيئا آخر بثمن مؤجل، وقال الرهن للدين الأول هو رهن أيضا للدين الثاني، فهذا على مذهب الحنابلة لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن الرهن قد شغل بالدين الأول، والمشغول لا يشغل، وهذا القول هو المشهور من المذهب، وذهب الإمام مالك إلى جواز ذلك، وذلك للمصلحة ولرفع الحرج، وأما قولهم المشغول لا يشغل فهذا صحيح فيما لو كان الرهن لزيد وأراد أن يستدين من عمرو فرهن الرهن الأول له، فإذا كان مشغولا بدين فلا يحل أن يشغل بدين رجل آخر، وأما إذا كان بدين الغريم الأول نفسه فإن هذا لا حرج فيه، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو الراجح.

    قوله [وإن رهن عند اثنين شيئا فوفى أحدهما.... انفك في نصيبه]
    (13/194)
    ________________________________________
    إذا رهن زيد فرسه عند اثنين، كأن يقترض من بكر ألفا، ومن عمرو ألفا، وقال هذا الفرس رهن بالألفين، فالرهن واحد، والراهن واحد، والمرتهن اثنان، فهذا جائز ولا بأس به، ولكن البحث هنا فيما إذا قضى أحدهما فهل ينفك بقدر الدين من الرهن أم لا؟
    قال المؤلف (انفك نصيبه) ، فعليه في المثال السابق ينفك نصف الفرس، وذلك لأنه قد رهنه لاثنين فيكون ذلك بمنزلة عقدين، فكأنه قال: اقترضت منك يا زيد ألفا والرهن نصف فرس، وقال: اقترضت منك يا بكر ألفا والرهن نصف فرس، فإذا قضى لأحدهما انفك نصف الفرس، وهذا يتصور في غير الفرس كما لو رهن طعاما.

    قوله [أو رهناه شيئا فاستوفى من أحدهما انفك نصيبه]
    هنا المرتهن واحد والراهن اثنان، مثاله: اقترض زيد وعمرو كلاهما من بكر، وكل واحد اقترض ألفا، وقال: هذا الطعام رهن عندك على ما علينا من الدين لك، فهنا الراهن أكثر من واحد، فإذا قضى أحدهما الدين فأعطى بكر حقه مثلا فحينئذ له أن يأخذ ما يقابله من الرهن، وذلك لأن الراهن متعدد، وعليه فعقد الرهن أصبح بمنزلة عقدين.

    قوله [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفى دينه]
    إذا اشترى منه أرضا إلى سنة، وقال: هذه السلعة رهن عندك، فإذا حل الدين ومضت السنة، وامتنع من وفاء دينه، كأن يقول: لا أوفي لك حقك، أو يدعي الإعسار، أو يماطل أو نحو ذلك فهنا المسألة فيها تفصيل:
    (13/195)
    ________________________________________
    1- إن كان الراهن قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين، والعدل هو من يختارانه لكي يكون الرهن عنده، فقد لا يرضى الراهن بأن يكون الرهن عند المرتهن، بل يقول الرهن بيد فلان، فهذا هو العدل، فإن كان الراهن قد أذن للمرتهن ببيعه أو أذن للعدل فله أن يبيعه، وليس له أن يبيعه بدون إذن، وسواء كان الإذن قديما في العقد أو جديدا فلا حرج.
    2- إن لم هناك إذن للمرتهن قديم ولا جديد فحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين وإعطاء الحق أو بيع الرهن، فإن لم يفعل - أي لم يعطه حقه ولم يبع الرهن - فإن الحاكم يبيع الرهن ويعطي المرتهن حقه.
    3- فإن تعذر هذا كأن يكون في بعض البلاد التي ليس فيه قضاة يقضون بالشرع وقد وضع الراهن عند المرتهن هذا الرهن وأبى أو يوفيه حقه فالحكم كما ذكر شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم أن المرتهن يضعه في يد ثقة دفعا للتهمة ويبيعه هذا الثقة ويشهد على البيع وعلى الثمن ثم يأخذ المرتهن حقه، وما ذكره المؤلف وما ذكره شيخ الإسلام عن بعض أهل العلم هو مقتضى العقد، فإن الرهن إنما وضع لهذا القصد، وإلا فلا فائدة منه ولا يحصل به الاستيثاق.

    فصل

    قوله [ويكون عند من اتفقا عليه]
    إذا اتفق الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن عند فلان من أهل العدالة فإن الرهن يكون عنده، وذلك لأن المسلمين على شروطهم.

    قوله [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد]
    إذا أذنا - أي الراهن والمرتهن - للعدل الذي اتفقا على أن يكون الرهن عنده إذا أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد.
    (13/196)
    ________________________________________
    أما الراهن فإذنه ظاهر الاعتبار لأنه المالك، وأما المرتهن فإذنه معتبر كذلك، لتعلق حقه بالرهن، ولذا فإن له أن يمتنع عن بيع الرهن يثمن بخس يضر به، فمثلا: لو أراد العدل أن يحابي أحدا في بيع الرهن، وكانت هذه المحاباة تنقص السعر بصورة تؤثر على حق المرتهن في استفاء دينه فله أن يمتنع عن قبول مثل هذا، وحاصل المسألة أن العدل ليس له أن يبيع إلا بنقد البلد أي بالنقد الرائج النافق، وأما إذا كان النقد لا ينفق وهو من النقد الكاسد فلا، وذلك لأنه وكل عنهما فليس له أن يبيعه إلا بما هو أحظ، فمثلا: في هذه البلدة دراهم كاسدة ودراهم نافقة، فإنه لا يبيعه بالدراهم الكاسدة بل يجب عليه أن يبيعه بالدراهم النافقة لأن ذلك هو الأحظ، وسيأتي بيان أن الوكيل يجب عليه أن يتعامل بالوكالة بما هو أصلح وأحظ.

    قوله [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن]
    إذا قبض العدل الثمن بعد بيع الرهن، ثم تلف هذا الثمن بيده من غير تعد ولا تفريط فإن الضمان يكون على الراهن، لأن هذا العدل يده يد أمانة، ويد الأمانة لا ضمان عليها كما تقدم تقريره.

    قوله [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل]
    (13/197)
    ________________________________________
    صورة هذه: أخذ هذا العدل الثمن، ودفع إلى المرتهن ولم يشهد، فأنكر المرتهن أن يكون قد أخذه منه، ولا بينة، فإنه يكون من ضمان العدل، لأنه قد فرط، فالواجب عليه أن يقضي دين الراهن للمرتهن بصورة تكون مبرأة لذمته، وهنا لم تبرأ ذمته، وهكذا الوكيل أيضا، ولذا قال المؤلف (كوكيل) ، فلو أعطيت رجلا مثلا مائة ألف ريال، وقلت له: أعطها فلانا عن ديني، فأعطاه ولم يشهد ثم أنكر الآخر وقال: أنا لم آخذ منه شيئا، فالضامن هو الوكيل لأنه قد فرط، واليد الأمينة لا ضمان عليها إذا لم تتعد ولم تفرط، وعليه ففي مسألتنا يرجع المرتهن إلى الراهن ويقول: أعطني حقي، ويرجع الراهن في العدل ويطالبه بالمال.

    قوله [وإن شرط ألا يبيعه إذا حل الدين]
    إذا قال: هذا رهن عندك لكن اشترط عليك ألا تبيعه إذا حل الدين، فهذا الشرط باطل، لأنه يخالف مقتضى العقد، فمقتضى العقد - أي عقد الرهان - أن يبيعه وإلا فلا فائدة منه.

    قوله [وإن جاء بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده]
    (13/198)
    ________________________________________
    صورة هذه المسألة أن يقول: هذه الدار رهن عندك على ثلاثمائة ألف ريال، وإذا مرت سنتان ولم آتك بهذا المبلغ فالدار لك، فقال المؤلف: لا يجوز هذا، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بحديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، ولا يغلق أي لا يخرج عن صاحبه، قالوا: فهذا يدل على أنه ليس له أن يشترط هذا الشرط، فإن قاله فالشرط باطل لكن الرهن صحيح، والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قال ابن القيم:" ولم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وليس فيه مفسدة ظاهرة بل هو بيع معلق بشرط "، إذن هم تمسكوا بالأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وهذا كأنه بيع معلق بشرط، فكأنه قال له أبيعك هذه الدار بثلاثمائة ألف ريال إن لم آتك بحقك إلى سنتين، أما الجواب عن الحديث المتقدم فقد أجابوا عنه بأن الشريعة قد أبطلت ما كان عليه أهل الجاهلية من أن مقتضى العقد يفيد هذا، فمقتضى العقد عندهم يفيد أنه من لم يأت بالحق فالرهن له وإن لم يشترط، وأما اختيار شيخ الإسلام وتلميذه فإنه يكون بمقتضى الشرط لا بمقتضى العقد، ثم إنه لم يغلق عليه بل هو الذي أغلقه على نفسه، فهو قد وضع شرطا على نفسه، والمسلمون على شروطهم، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق) معناه أنه لا يغلق على سبيل القهر كما كان في الجاهلية، وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذة ابن القيم هو القول الراجح.

    قوله [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده وفي كونه عصيرا لا خمرا]
    يقبل قول الراهن في أربع مسائل، ومن كان القول قوله فاليمين يمينه:
    (13/199)
    ________________________________________
    1- المسألة الأولى: إذا اختلفا في قدر الدين، كأن يثبت لنا أن هذه الدار رهن عند زيد لعمرو، كلنهما اختلفا في قدر الدين، فقال زيد هذه الدار قد وضعها عمرو عندي مقابل مائة ألف أريدها منه، وقال عمرو بل مقابل درهم واحد يريده مني، فالقول قول الراهن، فعليه يعطيه درهما ويأخذ داره، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه منكر، فهذا يدعي أن له في ذمته مائة ألف، والراهن يدعي أن في ذمته درهما، والأصل براءة الذمة، والقول قول المنكر، أكثر، أما إذا كانت قيمته أقل من الدين فالقول قول الراهن، وصورة هذا: وضع عنده دارا، وقال إني لم أرهنه هذه الدار إلا على مبلغ عشرة آلاف، وقال المرتهن بل على مائة ألف، والدار تساوي مائة ألف، فحينئذ القول قول المرتهن، وذلك لأن الأصل أن الرهن يكون بقدر الدين لأنه وضع للاستيفاء، والأصل أن المرتهن لا تسمح نفسه برهن شيء إلا أن يكون هذا الرهن يمكن استيفاء الحق منه، لكن لو قال الراهن: هو لا يريد مني إلا عشرة آلاف، وقال المرتهن أريد منه مائة ألف، والدار لا تساوي إلا عشرة آلاف، فحينئذ لا يقبل قول المرتهن، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام، فإن قيل الأصل ما ذكره الحنابلة من أن القول قول المنكر، فالأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والحنابلة أدخلوا هذه المسألة في القاعدة السابقة، فالجواب: أن هذا الأصل متروك هنا، وذلك لقيام القرينة الظاهرة على الخلاف، والقاعدة أنه عند وجود القرينة الظاهرة فإننا نترك الأصل.
    (13/200)
    ________________________________________
    2- المسألة الثانية: إذا اختلفا في الرهن، مثاله: قال الراهن أنا لم أرهنك إلا هذه الدار، وقال المرتهن أنت رهنتني هذه الدار وهذه الدار، فالقول قول الراهن، وذلك لأن الأصل مع المنكر فالقول قوله، والأصل براءة ماله من تعلق حق الغير به، لكن يجب أن يستثنى ما تقدم وهو أن يقال إلا أن تقوم قرينة ظاهرة تدل على صدق المرتهن، فإننا نترك الأصل وتكون اليمين مع المرتهن.
    3- المسألة الثالثة: يقبل قول الراهن في رد الرهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن المال في القوت المحدد بينهما، ثم ادعى المرتهن أنه أعطاه الرهن، وقال الراهن لم يعطني الرهن، فالقول قول المنكر وهو الراهن، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فيقال للمرتهن هل عندك بينة أنك أعطيته الرهن، فإن لم يأت ببينة فيقال للراهن احلف أنك لم تأخذ منه الرهن، فإذا حلف فيبقى هذا في ذمة المرتهن.
    4- المسألة الرابعة: يقبل قول الراهن في كونه عصيرا لا خمرا، مثاله: قال الراهن أنا أعطيته الرهن عصيرا، وقال المرتهن بل أعطاه لي خمرا، فالقول قول الراهن لأن الأصل السلامة من الخمر، فمعه الأصل، ومن كان الأصل معه فاليمين يمينه.

    قوله [وإن أقر أنه ملك لغيره أو أنه جنى، قبل على نفسه وحكم بإقراره بعد فكه إلا أن يصدقه المرتهن]
    قوله (أقر أنه ملك لغيره) مثاله: قال خذ هذه الدار عندك رهنا على مائة ألف أقترضها منك، ثم بعد يومين أقر أن هذه الدار اغتصبها من فلان، فالحكم أنه يقبل على نفسه فتكون هذه الدار لفلان لأنه قد أقر بها له، أما المرتهن فإن الرهن يبقى في يده ثم إذا أخذ حقه أعطاه من أقر له به، إذن يبقى هذا الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه، وذلك لأن إقرار الراهن إنما يكون على نفسه.
    (13/201)
    ________________________________________
    ومثل ذلك لو أقر أنه جنى، كأن يقول: خذ هذا العبد رهنا عندك، ثم قال: أقررت أنه جنى، وإذا جنى العبد فإن المجني عليه يمكن من رقبته، أي له حق أن يبيعه ويأخذ حقه إذا كان مالكه معسرا كما سيأتي تقريره، فهل يخرج العبد من الرهان ويمكن المجني عليه من رقبته، أم نقول إقرارك على نفسك، فهذا العبد قد ثبتت عليه الجناية، ويبقى عند المرتهن حتى إذا ما قضي الدين فإنه يمكن منه، فيعطى العبد للمجني عليه؟ الجواب: الثاني، أي أنه يبقى عند المرتهن حتى يستوفي حقه، ثم يعطى الجاني.
    ويستثنى من هذا ما إذا صدقه المرتهن، فقال أنا أقر بذلك، وأن هذا المال هو لبكر وليس لزيد، فقد أقر على نفسه فحينئذ يخرج الرهن منه.
    وقال بعض الحنابلة في أصل المسألة وهي ما إذا أقر الراهن أن الرهن ملك لغيره أو أنه قد جنى إنه يبطل الرهن.
    والذي يظهر أن المسألة فيها تفصيل وهو أن يقال:
    1- إذا كان بإقراره متهما فإنه يكون إقرارا على نفسه فقط، ويبقى الرهن عند المرتهن حتى يأخذ حقه من الراهن.
    2- وأما إذا كان بإقراره غير متهم، فإن الإقرار يلحق المرتهن.
    وصورة هذا إذا أقر به لزوجه كأن يقول أنا رهنتك هذا الشيء وهو لزوجتي، وقد قهرتها عليه وهي غير راضية، فالآن هو متهم بتضييع حق الآخر، فالحكم أنه يبقى عند المرتهن حتى يقضي الراهن ما عليه، وأما إن لم يكن متهما كأن يقر لأجنبي ويبعد أن يقع بينهما شيء من المواطأة فحينئذ يبطل الرهن، ويتوجه أن يلزم الراهن بإعطاء المرتهن حقه أو يوضع رهنا جديدا، لأن الرهن يؤخذ من المرتهن ويدفع إلى من أقر له به.

    فصل

    قوله [وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته بلا إذن]
    (13/202)
    ________________________________________
    للمرتهن وهو من بيده الرهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب، فله أن يركب الظهر وأن يحلب الدر بالمعروف بما لا ينتهك المركوب ولا يضعف المحلوب بقدر نفقته، ودليل هذا ما ثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) [خ 2512] وهذا الحديث فيما يظهر يمكن الاستدلال به على مسألة سابقة وهي عدم شرط استدامة القبض، فإنه قال (وعلى الذي يركب) والغالب أنهما طرفان رهان ومرتهن، فلا يحتاج إلى هذا العموم إذا كان في يد المرتهن فحسب، فدل هذا على جواز أن يكون بيد الراهن وأن هذا لا يخل بصحة الرهن، والمقصود هنا الاستدلال هذا الحديث على أن من ركب أو شرب فإن عليه النفقة، وأن المرتهن يجوز له وإن لم يأذن الراهن يجوز له أن يركب المركوب كالجمل والفرس ونحوهما بنفقته، وهل السيارة مثل ذلك؟ هذا في الحقيقة لا يقع في السيارة لأنها لا تحتاج إلى نفقة إلا مع السير فيها، لكن المثال الأوضح هو الجمل والفرس ونحوهما من الدواب المركوبة، والمقصود أن من أنفق فله الركوب سواء كان راهنا أو مرتهنا بإذن الراهن للمرتهن أو بغير إذن، وهذا قد اتفق عليه العلماء لثبوت الحديث فيه، واتفقوا على أن ما يحتاج إلى مؤنة كالدار ونحوها فإنه ليس للمرتهن أن ينتفع به، وذلك لأن الرهن ملك للراهن، والانتفاع به تبع للملك، ونماؤه تبع للأصل، فليس للمرتهن أن يركب السيارة ولا أن يسكن الدار إلا بإذن الراهن.
    واختلف العلماء في العبد ونحوه مما يحتاج إلى نفقة واجبة، هل له حكم المركوب والمشروب أم ليس له هذا الحكم؟
    (13/203)
    ________________________________________
    1- فالمشهور من المذهب أن العبد ونحوه ليس للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الراهن، وأنه إن أنفق عليه فإن كان على وجه التبرع فليس له أن يرجع على الراهن، وإن أنفق عليه نية الرجوع فله أن يرجع على الراهن على تفصيل سيأتي ذكره في المذهب.
    2- وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي ثور أن له أن ينتفع به مقابل النفقة قياسا على المركوب ومشروب الدر، وذلك بجامع أن كليهما نفقته واجبة، بخلاف الدار فإن مالكها له أن يهملها ويعطلها من غير أن يقول بإصلاحها أو عمارتها، وأما العبد والحيوان فإنه يجب على مالكه أن ينفق عليه، وهذا القول فيما يظهر راجح، فإن النفقة واجبة فيه، فإذا أنفقها عليه فيجوز له بمقابل هذه النفقة أن ينتفع به بالمعروف من عمل وتكسب ونحو ذلك.

    قوله [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع ولو لم يستأذن الحاكم]
    إذا أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن من الراهن مع إمكان استئذانه، كأن ينفق على رقيقه أو زرعه أو شجره من غير أن يستأذن الراهن مع إمكان الاستئذان فإنه لا يرجع، فيكون حكمه حكم التبرع، قالوا: لأنه لا يخلو من حالين:
    الأولى: أن يكون هذا الإنفاق منه بنية التبرع فحينئذ ليس له أن يرجع ويطالب بما أنفق.
    الثانية: أن يكون بنية الرجوع فليس له الحق أيضا لأنه مفرط فهو قادر على الاستئذان متمكن منه ومع ذلك لم يستأذن.
    (13/204)
    ________________________________________
    لكن إن تعذر الاستئذان فله أن يطالبه بحقه لأنه غير قادر على الاستئذان، وحينئذ لا يكون مفرطا، ولو لم يستأذن الحاكم، فليس بشرط أن يستأذن الحاكم في النفقة، وذلك لما يترتب عليه في الغالب من تفويت مصلحة الرهن حتى يأذن الحاكم، ولأنه لا دليل على اشتراط إذنه، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه له الرجوع مطلقا ما لم ينو التبرع، ودليل هذا أنه نائب عن صاحب الحق فكان له أن يطالب كسائر من ينوب عن الغير في أداء الحقوق، فهنا ناب عن صاحب الحق فيما لا يجب عليه فكان له أن يطالب بالحق، وقد قال الله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} وهذا محسن فجزاؤه أن يحسن إليه، وأما أن يمنع من إعطائه حقه فليس هذا من الإحسان، ولأن الله تعالى قال {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} وقال {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقيد الله سبحانه هذا بالاستئذان، فأوجب الله على الوارث أن يعطي المرضعة أجرتها ولم يقيد ذلك بإذنه له بالرضاع، بل أوجبه بمجرد الرضاع، وهذا القول هو الراجح.

    قوله [وكذا وديعة ودواب مستأجرة هرب ربها]
    فالوديعة كذلك كالرهن، فإذا كان عند رجل وديعة، وكانت هذه الوديعة تحتاج إلى نفقة واجبة، كأن يضع عنده رقيقا أو حيوانا وديعة أو نحو ذلك فإذا أنفق عليه بغير نية التبرع ففيه الخلاف المتقدم، فليس له الرجوع إن لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، وإذا استأذنه وأذن له فيجب عليه أن يعطيه حقه، فالوديعة لها حكم الرهن على التفصيل المتقدم، وكذلك إذا استأجر دوابا فهرب ربها وتركها فهي في حكم الوديعة لأنها أصبحت أمانة في يده، فإذا أنفق عليها فعلى التفصيل المتقدم.

    قوله [ولو خرب الرهن فعمره بلا إذن رجع بآلته فقط]
    (13/205)
    ________________________________________
    فإذا وضع عنده دارا رهنا فخربت هذه الدار فعمرها وأحضر لها خشبا وحديدا ونحو ذلك، فالحكم أنه له ثمن الآلة من خشب وحديد وليس له أن يأخذ أجر المعمرين ولا أجرة الماء ولا الطين ولا نحو ذلك، ودليل ذلك أن هذه النفقة نفقة غير واجبة على الراهن فليس واجبا على الإنسان أن يصلح داره إذا خربت، فإذا أصلحها المرتهن فقد فعل أمرا لا يكون فيه نائبا عن أمر واجب عن آخر، وقال القاضي من الحنابلة: بل على الراهن أن يعطيه عوضه، وله أن يطالب بالحق لأن في ذلك مصلحة الرهن، فهذا الرهن قد تعلق به حق المرتهن، ولا شك أن فساده فساد لهذه الوثيقة، ظاهر كلامه أن ذلك مطلق، سواء كان هذا الإصلاح يترتب عليه حفظ حقه أم لا، وفصل ابن رجب الحنبلي تفصيلا وقال هو متوجه قواه صاحب الإنصاف أنه إذا كان هذا الخراب يمكن أن يستوفي من الرهن قيمة الدين مع وجوده فليس له أن يرجع، مثال ذلك: أعطاه هذه الدار رهنا، فحصل فيها خراب، وكانت رهنا على عشرة آلاف، ولو بيعت وهي خربة فإنها تباع بعشرة آلاف، فإنه حق المرتهن الآن محفوظ من غير أن يصلحها، فإذا أصلحها فليس له الرجوع لأنه تصرف تصرفا لم يؤذن له فيه أولا، وليس واجبا على الآخر أن يصلح هذا الشيء، وأما إذا كان الرهن لا يستوفى ببيعه الدين بعد وقوع الخراب فيه، فإذا أصلحه أمكن أن يبقى ويستوفى منه الدين، أو خشي أن يخرب شيئا فشيئا حتى تذهب قيمته فلا يمكن أن يستوفى منه الدين فإذا أصلحه والحالة هذه فإنه يمكنه أن يرجع، وهذا التفصيل تفصيل قوي كما ذكر صاحب الإنصاف، وقد أفتى شيخ الإسلام فيمن أصلح وقفا أنه يأخذ نفقته من غلته، وعلى هذا يمكن أن تخرج هذه المسألة المتقدمة على كلام شيخ الإسلام.
    (13/206)
    ________________________________________
    باب الضمان

    الضمان لغة: من الضمن، فهو مشتق من الضمن، ضمن الشيء ضمنا (1) .
    واصطلاحاً: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، وسمي ضمانا لأن ذمة الضامن تصير في ذمة المضمون عنه.
    ومثال الضمان: اقترض زيد من عمرو عشرة آلاف، فضمنه بكر، أي التزم أن تكون ذمته منشغلة بالدين كذمة عمرو، فقد ضم ذمته إلى ذمة عمرو في التزام الحق الواجب على عمرو.
    وعليه فإن الضمان من الإحسان، والله يحب المحسنين، ويسمى ضمينا وكفيلا وزعيما وقبيلا.

    قال [ولا يصح إلا من جائز التصرف]
    لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، وقد تقدم تعريف جائز التصرف وهو المكلف الرشيد، فلا بد أن يكون جائز التصرف وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه، وعليه فلا يصح ضمان صبي ولا سفيه ولا نحو ذلك، لأنه غير جائز التصرف.

    قال [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت]
    لرب الحق وهو الدائن، له (2) أن يطالب من شاء منهما، فله أن يطالب الضامن أو المضمون عنه.
    فعندنا: ضمان (3) وقد تقدم تعريفه.
    وضامن وهو من تبرع بالتزام حق مالي على غيره.
    وعندنا (4) مضمون عنه وهو المدين أو المستقرض.
    ومضمون له: وهو صاحب الدين.
    فللمضمون له أن يطالب من شاء منهما - فله أن يطالب الضامن، وله أن يطالب المضمون عنه (5) - في الحياة وفي الموت.
    أما في الحياة فظاهر، وأما في الموت فمن التركة.
    وظاهره أن له أن يطالب الضامن (6) وإن كان المضمون عنه صاحب يسار وغنى (7) وعدم مماطلة، وإن كان هذا بعد الممات، وعليه فيرجع الضامن إلى المضمون عنه بالحق الذي أخذه منه المضمون له.
    __________
    (1) العبارة الأخيرة وهي " ضمن الشيء ضمنا " ليست في المطبوع.
    (2) ليست في المطبوع.
    (3) في المطبوع: فهنا الضمان.
    (4) ليست في المطبوع.
    (5) الجملة المعترضة ليست في المطبوع.
    (6) في المطبوع: الضمان.
    (7) ليست في المطبوع.
    (14/1)
    ________________________________________
    وهذا هو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الدين قد تعلق بذمتيهما جميعا.
    وعن الإمام مالك وقواه ابن القيم (1) واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الثاني في هذه المسألة: أنه ليس له أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، قالوا: لأن الضمان كالرهن فهو توثيق للدين، والرهن إنما يجوز أن يباع على راهنه إن تعذر استيفاء الحق، أما مع القدرة على استيفاء الحق فإنه لا يباع كما تقدم تقريره، قالوا: وكذلك الضمان فإنه توثيق للدين، ولأن الضامن محسن، وقد قال تعالى {ما على المحسنين من سبيل} (2) فليس لنا سبيل عليه وهو محسن إلا أن يتعذر الحق، ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الثابت على غيره مع قدرة من عليه الحق أن يقضي الحق عن نفسه، فهذا من المستقبح جداً.
    وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وأما تعلقه في ذمة الضامن فهو معلق كتعلق الدين بالرهن، فهو إنما يكون حين يتعذر الوفاء (3) .
    إلا أن يكون هناك شرط أو عرف، فإن كان هناك عرف أو شرط فالمسلمون على شروطهم (4) .
    فلو قال: تضمن فلانا، لكن لي أن [أ] طالب أيكما شئت، أو كان العرف جارٍ على هذا (5) .

    قال [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه]
    __________
    (1) كذا في المطبوع، وفي الأصل – المذكرة -: ابن القيم الجوزية.
    (2) سورة التوبة.
    (3) في المطبوع: وأما تعلق الدين بذمة الضامن فهو كتعلق الدين بالرهن.
    (4) في المطبوع: ويستثنى من ذلك ما إذا شرط أو كان العرف جاريا بجواز مطالبة أيهما.
    (5) في المطبوع: فلو قال الدائن للضامن: تضمن فلانا لكن لي أن أطالب أيكما شئت، فرضي، فإن له أن يطالب أيهما شاء لأن المسلمين على شروطهم.
    (14/2)
    ________________________________________
    هذا ظاهر، فمتى برئت ذمة المضمون عنه وهو المدين فإن ذمة الضامن تبرأ أيضا، لأن الحق ثابت في ذمة الضامن تبعا، فإذا ذهبت عن الأصل تبعها تبعتُها (1) ، فحينئذ يسقط ذمة الضامن أيضاً.
    وأما العكس فلا، ولذا قال (لا عكسه) .
    فإذا ديَّن رجل آخر مالا، وطلب عليه ضمينا، ثم أبرأ صاحب الحق الضمين فلا تبرأ ذمة المضمون عنه، لأن ذمة الضامن كالرهن، فالدين ثابت في ذمة المستدين أو المستقرض ولا يعدو الضامن إلا أن يكون وثيقة للدين،فإذا سقط فإنه يسقط الحق الذي في ذمة المضمون عنه، فإن إبراء التبع لا يعني إبراء الأصل، وهذا أيضا ظاهر لا إشكال فيه.

    قال [ولا تعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه ولا له]
    فلا تعتبر ولا يشترط أن يعرف الضامن المضمون عنه، فلو قال بعض الناس لبعض التجار: " أيَّ أحد تقرضه فأنا أضمنه لك " فهو جاهل بالمضمون عنه، فهذا جائز، وذلك لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا تشترط فيه معرفة المضمون عنه، ولا دليل على اشتراط ذلك.
    ولذا فإنه لا يشترط أيضا رضى المضمون عنه، فإن ضمنه من غير رضى المضمون عنه فهذا جائز أيضا، ولا خلاف بين العلماء فيه، وهو كما لو أدى الدين عنه.
    فلا يشترط رضى المضمون عنه، كما لو أدَّى الدين عنه، فلو كان لزيد عند عمرو ديناً، فقضاه بكر من غير أن يستأذن زيداً الذي في ذمته الدين، فإن الذمة تبرأ، فمن باب أولى صحة الضمان، إذا كان لو قضى الدين عنه من غير إذنه جاز، فأولى من ذلك جواز الضمان عنه.
    __________
    (1) في المطبوع: فإذا ذهب عن الأصل تبعها تابعها.
    (14/3)
    ________________________________________
    ولذا جاز الضمان عن الميت كما في حديث سلمة بن الأكوع في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجنازة فقالوا: يا رسول الله صل عليها، فقال: هل عليه دين، فقالوا: نعم، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: يا رسول الله صل عليه وعليَّ دينه [خ 2291] (1) .
    وفي هذا الحديث ما يدل على أن المضمون له لا يشترط رضاه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر أبا قتادة على الضمان من غير إذن المضمون له أي صاحب الحق، وكذلك لا يشترط معرفة الضامن للمضمون له، كأن يقول: " اقترض من أي أحد شئت من التجار والضمان عليَّ "، ويكتب له ورقة بذلك، فهذا جائز.
    [فعندنا أمور لا تشترط:
    1- معرفة المضمون له.
    2- رضى المضمون له.
    3- معرفة المضمون عنه.
    4- رضى المضمون عنه] (2)

    قال [بل رضى (3) الضامن]
    هذا هو الذي يشترط، وهو رضى الضامن، وذلك لأنه تبرع بالتزام الحق فاشترط فيه الرضا.
    فإن كان الضامن مكرها فلا يصح؛ لأنه تبرع بالتزام حق مالي في ذمته، فاشترط رضاه، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.

    قال [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم]
    مثال هذا: إذا قال زيد لعمرو: اذهب إلى فلان واقترض منه ما شئت من المال والضمان علي، أو قال: أي ثمن يقرضك إياه فلان فالضمان علي، أو اشترِ (4) هذه السيارة ومهما بلغ ثمنها فضمانها علي، فهذا جائز لأنه يؤول إلى العلم؛ لأن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوما، والذمم لا تعلق بها حقوق غير معلومة.
    __________
    (1) أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب (3) إن أحال دين الميت على رجل جاز (2289) ، وكتاب الكفالة،باب (3) من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع (2295) .
    (2) العبارة التي بين القوسين هي في المطبوع دون الأصل.
    (3) في الأصل: رضا.
    (4) في الأصل والمطبوع: اشتري.
    (14/4)
    ________________________________________
    وكذلك يجوز ضمان ما لم يجب، كأن يقول له: اقرض فلاناً ومتى ما أقرضته فالضمان علي، فقد ضمن الشيء قبل وجوبه.
    ودليل هذا قول الله تعالى في قصة يوسف - وشرع من (1) قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه - {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (2) ، أي أنا به ضمين، أي أنا ضمين بحمل البعير، وهذا قبل أن يجب الحق، فإن الحق لا يجب إلا بعد أن يؤتى بهذا الصاع، فإذا أتانا بالصاع وجب حمل البعير، فضمنه قبل وجوبه. (3)
    قالوا: وحمل البعير يختلف كثرة وقلة فكان مجهولاً.
    ثم إن الأصل في المعاملات الحل ولا غرر في هذا ولا ضرر.

    قال [والعواري]
    العواري جمع عارية، والعارية في المشهور من المذهب مضمونة، والبحث هنا على المشهور من المذهب وأنها مضمونة، وسيأتي الخلاف في ذلك في بابه إن شاء الله.
    فمثلا: ذهب زيد إلى عمرو وقال أعرني سيفك، فقال: حتى تأتي بضمين، فالضمان يصح، وذلك لأن العارية مضمونة، فالأصل مضمون فيصح في الفرع، فيصح الضمان في الأشياء المضمونة، فهنا العارية مضمونة، فلما ثبت الضمان على الأصل جاز في الفرع، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
    وأما إذا قلنا: إن العارية ليست بمضمونة فلا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان لم يثبت في الأصل فلا يثبت في الفرع من باب أولى.
    فإذا كان من بيده الشيء لا ضمان عليه، فكيف الضمان في غيره، ومثل ذلك المغصوب، لذا قال:
    [والمغصوب]
    فالمغصوب يثبت فيه الضمان، فلو اغتصب زيد من عمرو شيئا فطالبه به، فله أن يأبى أن يخليه حتى يأتيه بضمين، فإذا أتى بالضمين تركه، وذلك لأن الأشياء المغصوبة مضمونة لأن اليد يد تعد، واليد المتعدية ضامنة فالفرع كذلك.

    قال [والمقبوض بسوم]
    هذا يصح فيه الضمان.
    __________
    (1) كذا في المطبوع، وفي الأصل: شرع ما قبلنا..
    (2) سورة يوسف.
    (3) في المطبوع: فلا يجب حمل البعير إلا إذا أتي بالصاع، وهنا ضمن حمل البعير قبل وجوبه.
    (14/5)
    ________________________________________
    وصورته أن يذهب مثلا إلى السوق ويسوم شيئا، ثم يقول: دعني حتى أستشير فيه وأريه بعض الناس أو نحو ذلك فهذا هو المقبوض بسوم، فليس مقبوضا ببيع، بل بسوم.
    فيَد هذا القابض ضامنة، فلو تلف سواء كان بتعد منه أو لم يكن فإنه يضمن، ذلك لأن هذا القبض قبض معاوضة، وما كان قبض معاوضة فإن الضمان يثبت فيه.
    فإذا قال: أنا لا أقبضك إياه حتى تأتي بضمين يضمنك حتى ترجعه إليَّ، فالضمان صحيح معتبر.
    وأما إن قبضه من غير سوم فلا يصح الضمان، لأن هذا يكون من باب الأمانات، لأنهما حيث لم يتساوما على شيء فلا معاوضة بينهما، وحينئذ فلا يصح الضمان فيه لأنه غير مضمون على الأول.

    قال [وعهدة مبيع]
    عهدة المبيع لغة: الصك الذي يكتب فيه البيع.
    والمراد به هنا عند الفقهاء ضمان الثمن عن المشتري للبائع، وضمانه عن البائع للمشتري.
    مثال ضمان الثمن عن المشتري للبائع: أن يقول: أعط فلاناً هذه السلعة التي تبايعتما عليها وإن لم يسلمك الثمن فهو في ضماني.
    ومثال ضمان الثمن عن البائع للمشتري: أن (1) يقول للمشتري: أعطه ثمنه فإن ثبت أن السلعة ليست له وأنه مغتصب لها أو أنها معيبة فالضمان عليَّ.
    فالضمان هنا صحيح عند جماهير أهل العلم لعمومات الأدلة، ولأن الأصل في المعاملات الحل.

    قال [لا ضمان الأمانات بل التعدي فيها] (2)
    لا يعتبر ضمان الأمانات، فلو قال: ضع هذا الشيء أمانة عندك بشرط أن تأتيني بضمين فلا يصح هذا، لأن الأمين ليس بضامن، فلو تلفت في يده من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه، فإذا كان الأصل لا ضمان عليه فكيف يثبت الضمان للفرع (3) .
    ولأن هذا تحايل إلى مخالفة الشريعة، فإن الشريعة أبطلته على (4) الأمين، فإذا أجزناه في الفرع كان في هذا تحايلا على الشريعة.
    __________
    (1) في الأصل: كأن.
    (2) في المطبوع: [لا ضمان الأمانات كوديعة] .
    (3) في المطبوع: في الفرع.
    (4) في المطبوع: لغت الضمان عن.
    (14/6)
    ________________________________________
    فعليه: الأمانة لا يصح الضمان فيها؛ لأن يد الأمين لا تضمن، فإذا كان هذا في الأصل، فالفرع من باب أولى.
    [بل التعدي فيها]
    أي يصح الضمان في التعدي فيها، كأن يقول: أضع هذه الأمانة عندك بشرط أنها (1) متى تُعديت عليها أو فرَّطت، فإن الضمان عليه، فهذا صحيح.
    أو حصل للأمانة عند الأمين - حصل لها - تلف بتعد أو تفريط فطلب صاحب الحق ضمينا لحقه فهذا صحيح؛ وذلك لأن الأمانات تضمن بالتعدي، فإذا كانت تضمن بالتعدي أصلا فيجوز الضمان عليها فرعا.
    إذاً: هذه المسألة ليس البحث فيها في مسألة ضمان الأمين، أو في مسألة ضمان الغاصب أو في مسألة ضمان المستعير، أو ضمان القابض بسوم أو البائع أو المشتري، بل في الضمانات على ذلك، فيكون الضامن طرفاً آخر ليس هو البائع، وليس هو المستعير ولا الغاصب ولا الأمين، بل هو طرف آخر يكون ضامناً للمستعير أو ضامناً للغاصب أو للقابض بسوم ونحو ذلك.
    والقاعدة: أنا ما فيه ضمان فيا لأصل فيصح الضمان فيه في الفرع، وما لا، فلا.
    والحمد لله رب العالمين.

    الدرس السادس والستون بعد المئة
    (يوم السبت: 21 / 4 / 1416 هـ)

    فصل
    هذا الفصل في الكفالة

    الكفالة لغة: المراعاة والعناية، ومنه قوله تعالى {وكفَّلها زكريا} (2) ، وأما في اصطلاح الفقهاء فهي التزام رشيد إحضار بدن من عليه الحق لصاحب الحق، وهي من الإحسان إلى الناس كما تقدم في الضمان.

    قوله [وتصح الكفالة بكل عين مضمونة]
    كالعارية مثلا، فقد تقدم أن المشهور من المذهب أنها مضمونة فيثبت فيها الكفالة، فلو قال مثلا: لا أعيرك هذه العين حتى تأتي بكفيل فهذا صحيح، فكل عين تضمن فإن الكفالة تصح فيها كما تقدم في الضمان.

    قوله [وببدن من عليه دين]
    فمن وجب في ذمته حق مالي للغير فإن الكفالة تثبت فيه.

    قوله [لا حد ولا قصاص]
    __________
    (1) في المطبوع: أنك.
    (2) سورة آل عمران.
    (14/7)
    ________________________________________
    فلا تصح الكفالة في الحدود ولا في القصاص، وذلك لأن الحد والقصاص لا يستوفى إلا من الجاني، فلا يمكن أن يستوفى من غيره فلم ثبت فيه الكفالة، فإذا وجب عليه حد زنا أو سرقة أو قتل فلا تثبت في هذه الأمور الكفالة، وإذا وجب عليه قود في النفس أو قصاص في شيء من الأعضاء فكذلك لا تثبت فيه الكفالة لأنه لا يمكن أن يستوفى من الكفيل، وقد روى البيهقي بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا كفالة في حد) [هق 6 / 77] والحديث إسناده ضعيف، ويكفي ما تقدم من العلة الظاهرة في النهي عنه.
    * وقد اختلف أهل العلم في الكفالة هل يثبت فيها غرم أم لا؟ بمعنى إن تعذر على الكفيل إحضار مكفوله، فهل يضمن الحق الثابت في ذمة المكفول أم لا؟ قولان لأهل العلم:
    1- القول الأول: وهو مذهب الشافعية والأحناف أنه لا يغرم، قالوا: لأنه إنما التزم بإحضار بدنه ولم يلتزم بإعطاء الحق المالي الواجب عليه.
    2- القول الثاني: وهو مذهب المالكية والحنابلة أنه يغرم، واستدلوا بما رواه الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الزعيم غارم) [ت 1265، د3565، جه 2405] قالوا: والواجب عليه أن يؤدي ما التزمه من إحضار بدنه، والكلام حيث تعذر ذلك، وإنما أقيم مقام الرهن أي الكفيل فكان فيه ما في الرهن من استيفاء الحق، فدل على أنه يضمن ويغرم، وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم، وعليه وعلى القول الراجح الذي تقدم من أنه ليس لرب الحق أن يطالب الضامن إلا بعد تعذر الاستيفاء من المضمون عنه، على هذا القول لا فرق بين الضمان والكفالة إلا أن الكفالة فيها إحضار بدنه وأما هناك فإنه يلزم بأن يأخذ الحق من صاحبه الذي هو عليه، فإن تعذر فإنه يعطى الحق من الضامن ثم يرجع هو على المضمون عنه.

    قوله [ويعتبر رضى الكفيل]
    (14/8)
    ________________________________________
    لأن الكفالة التزام بحق فاشترط فيها رضى الملتزم وهذا الق هو أن يحضر المكفول به على ما وقع عليه الاتفاق.

    قوله [لا المكفول به]
    فليس شرطا أن يرضى المكفول به بالكفالة، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: كالضمان، فكما أن الضمان لا يشترط فيه الرضى من المضمون عنه فكذلك ف الكفالة لا يشترط الرضى من المكفول به، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية أنه يشترط رضى المكفول به، قالوا: لأنه يلتزم بحق، والحق الذي يلتزم به هو أن يتجاوب ويتطاوع مع الكفيل إذا جاء لإحضاره، فإن الكفالة عقد يلتزم فيه المكفول به أن يحضر مع الكفيل متى أراد ذلك على ما وقع عليه الاتفاق، فكان قد التزم بحق، وهذا لا بد فيه من الرضى، وهذا القول هو الراجح.
    وليس بشرط رضا المكفول له، لأنها وثيقة غير مقبوضة فلم تشترط فيها الرضى كالضمان، وقد تقدم أنه لا يشترط في الضمان إذن المضمون له فكذلك هنا ولا فرق بين الأمرين.

    قوله [فإن مات.... بريء الكفيل]
    إذا مات المكفول به بريء الكفيل، وهذا هو المشهور من المذهب، وفي المسألة أقوال ثلاثة:
    القول الأول: أنه يبرأ مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء، قالوا: لأن الحضور قد سقط بالموت، فلا يمكن أبدا أن يحضره وقد مات، وهو إنما تكفل بإحضاره.
    القول الثاني: أنه لا يبرأ مطلقا، وهو قول مالك واختيار شيخ الإسلام، قالوا: قياسا على الرهن والضمان، فإن الضامن لا يبرأ بموت المضمون عنه، وكذلك الرهن، والمقصود استيفاء الحق كما سبق.
    القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة أن في هذه المسألة تفصيل، فإن توانى وقصر وفرط حتى مات فإنه لا يبرأ، وأما إذا لم يكن منه ذلك فإنه يبرأ، وهذا القول هو أعدلها.
    فهناك فرق بين الرهن والكفالة، فإنه في الأصل إنما التزم بإحضاره، وهذا أمر يسقط بالموت، ويستثنى من هذا ما إذا فرط وقصر وأهمل.

    قوله [أو تلفت العين بإذن الله تعالى]
    (14/9)
    ________________________________________
    كذلك إذا تلفت العين بإذن الله، مثلا: أخذ عارية فتلفت بقدر الله تعالى، الكفيل يبرأ وذلك لأنه ما دام أنها تلفت فحينئذ لا يجب شيء على من وقع التلف عنده، وعليه فإن الكفيل يبرأ أيضا، وأما إذا تلفت بفعل الآدمي فإن الكفيل لا يبرأ، وذلك لوجوب بدلها على المتلف، فما زال للمكفول له الحق، لأن البدل قائم، وعليه فتبقى الكفالة.

    قوله [أو سلم نفسه بريء الكفيل]
    إذا سلم المكفول به نفسه فإن الكفيل يبرأ، وذلك لأن المكفول به إذا سلم نفسه فقد قام بما يجب على الكفيل، فأدى الواجب عن الكفيل، فإذا حضر بنفسه فقد حصل المقصود.
    ويبرأ الكفيل أيضا إذا أحضر المكفول به في المجلس المتفق عليه في الأجل المحدد وذلك لأنه قد قام بما يجب عليه، وكذا قبل الأجل من غير أن يتضرر المكفول له.
    * مسألة:
    قال شيخ الإسلام السجان كفيل، أي القائم على شان السجن كفيل، وعليه فإنه يجب عليه أن يحضر البدن فإن لم يحضر البدن فإن الضمان عليه، وقال بعض الحنابلة بل السجان ليس بكفيل، إنما هو وكيل على الحفظ، وهذا القول هو الراجح، فهو وكيل على الحفظ، وذلك لأنه ليس بملتزم بإحضار البدن، وإنما هو ملتزم بحفظه في الموضع الذي هو فيه، فهو لم يلتزم إلا بالحفظ، كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو اختيار بعض الحنابلة، فهو وكيل في الحفظ، وعليه فإن فرط فعليه الضمان، وإن لم يفرط فلا ضمان عليه.
    ** مسألة:
    (14/10)
    ________________________________________
    المشهور من المذهب أن كفالة المعرفة كالكفالة تماما، وكفالة المعرفة أن يأتي مثلا بعض الناس إلى بعض التجار ليشتري، فيقول: هل يعرفه أحد منكم، فيقول أحدهم أنا أعرفه، فحينئذ يكون كفيلا له، وعليه فيلتزم بإحضاره في الموعد المتفق عليه، فإن لم يحضره فإنه يضمن، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي التفصيل في هذه المسألة فقال: إن عرفه باسمه وموضعه ونحو ذلك فقد قام بما يجب عليه، فإنه إذا قال: أنا أعرفه، فليس فيه إلا أنه يعرفه أي يعرف اسمه ويعرف وصفه، فليس في ذلك إلا هذا، فإن عرفه وإلا فإنه يضمن، وهذا القول هو الراجح، فإنه إذا ضمنه ضمان معرفة فليس فيه أنه يلتزم بإحضار بدنه، بل غاية هذا أن يلتزم بتعريفهم إياه اسما ومحلا ونحو ذلك، فإن قام بما يجب عليه وإلا فعليه الضمان لأنه فوت الحق عليهم.
    *** إذا كان المكفول به في الحبس فإن هذا يكفي عن إحضاره، فلو قدر أنه كان محبوسا في الوقت المحدد فهل يكفي أم لا بد من إحضاره؟ الجواب: أنه يكفي هذا ولا يجب أن يحضره كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:" وليس أحد من الأئمة يأمر بإحضاره لأنه متمكن منه "

    باب الحوالة
    الحوالة في اللغة: من التحول وهو الانتقال، أما في الاصطلاح الفقهي فهي: نقل حق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأركان الحوالة أربعة:
    1- المحيل: وهو المدين الأول، أي من عليه دين.
    2- المحتال: وهو من له دين، أي هو صاحب الحق.
    3- المحال عليه: وهو المدين الثاني، فهو من عليه دين للأول.
    4- المحال به: وهو الدين الذي في ذمة المحيل.
    (14/11)
    ________________________________________
    والأصل في الحوالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم وإذا أبتع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه [خ 2287، م 1564] وفي وراية أحمد: (إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) [حم 27239] ، وهو عقد إرفاق وذلك لما فيه من إبراء الذمم، فهذا الذي في ذمته الحق تبرأ ذمته بنقل الحق الذي في ذمته إلى شخص آخر، وهي استيفاء وليست ببيع، كما يقرر هذا فقهاء الحنابلة، ويقرره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحوالة في سياق الوفاء فقال: (مطل الغني ظلم) فهذا فيه ما لا يجوز من فعل الغني من المماطلة، ثم قال: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، ويدل عليه أيضا عدم اشتراط رضى المحتال، والبيع من شروطه الرضى، كما قال تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فالحوالة استيفاء وليست بيعا.

    قوله [لا تصح إلا على دين مستقر]
    هذا هو الشرط الأول من شروط الحوالة، أن تكون على دين مستقر، فعليه يجب أن يكون المال المحال عليه مستقرا في ذمة المحال عليه، مثاله: ثمن المبيع وبدل القرض، فهما دينان مستقران في الذمة غير قابلين للسقوط في الأصل فتصح الحوالة فيه، أما إذا كان الدين غير مستقر كدين المكاتب فهو دين غير مستقر لأنه عرضة للسقوط فللمكاتب أن يبطل العقد - أي عقد الكتابة - ويرجع قنا أو يعجز عن أداء الحق الذي عليه فيعود قنا، وهكذا سائر الديون غير المستقرة لا يصح الحوالة عليها، وذلك لأن مقتضى عقد الحوالة أن يلتزم المحال عليه بالدين الذي قد أحيل عليه به، وإذا كان الدين غير مستقر فإنه عرضة للسقوط فكيف تبرأ ذمة الأول وتتعلق به ذمة الثاني والدين غير مستقر فحينئذ يكون قد التزم والدين ليس بلازم.

    قوله [ولا يعتبر استقرار المحال به]
    (14/12)
    ________________________________________
    إن قيل هل يشترط استقرار الدين المحال به أم لا؟ الجواب: لا يعتبر، وبيان هذا: إذا كان المكاتب الذي عليه لسيده دين في ذمته مقابل الكتابة، فهود دين غير مستقر، فللمكاتب أن يحيل سيده إلى أحد لهذا المكاتب عليه دين مستقر، فإن لا يعتبر أن يكون الدين المحال به مستقرا، وذلك لأن تسليم الدين جائز، وللمحيل أن يسلمه أو يسقطه، فإذا كان التسليم جائزا كانت الحوالة جائزة.

    قوله [ويشترط اتفاق الدينين جنسا ووصفا ووقتا وقدرا]
    هذا هو الشرط الثاني من شروط الحوالة، وهو أنه يشترط اتفاق الدينين، الدين الأول هو الذي في ذمة المحيل، والثاني هو الذي في ذمة المحال عليه، فيشترط أن يتفقا جنسا، فهذا ذهب وهذا ذهب، فإن كان أحدهما ذهبا والثاني فضة فلا يجوز، وكذلك أن يتفقا وصفا، فهذا رديء وهذا رديء، وهذا جيد وهذا جيد، وهذا صحيح وهذا صحيح، وهذه مكسرة وهذه مكسرة، ويشترط أن يتفقا وقتا، فهذا حال وهذا حال، وهذا مؤجل إلى شهر وهذا مؤجل إلى شهر، ويشترط أيضا أن يتفقا قدرا، فيحيل بخمسة على خمسة، أو بعشرة على عشرة، أما لو أحال بخمسة على ستة فلا يجوز، قالوا: لأن الحوالة عقد إرفاق فإن كان فيها فضل فقد خرجت عن موضعها، وقد تقدم قول الجمهور أن بيع الدين بالدين منهي عنه، ولا يتبين المنع من هذا، فهذا وإن خرج عن كونه حوالة فلا يخرج عن كونه بيعا، فيشترط فيه ما يشترط فيه البيوع، فإذا جرى على قواعد البيوع فلا يتبين أنه فيه منعا، وكونه بيع دين بدين فقد تقدم أنه ليس كل صور بيع الدين بالدين محرمة، وإنما حرم الشارع منها ما كان فيه الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية، وأيضا فإن بيع الدين بالدين فيه إشغال للذمم وهنا في مسألتنا فيها إبراء للذمم.

    قوله [ولا يؤثر الفاضل]
    (14/13)
    ________________________________________
    بيان هذا، إذا كان على أحذ من الناس عشرة آلاف، ويريد منك فلان خمسة آلاف، فقلت: أحيلك بخمسة آلاف على خمسة آلاف من العشرة التي لي في ذمة فلان فلا يؤثر هذا الفاضل لأنه يبقى لربه، وذلك لأنهما قد اتفقا في القدر وأما الفاضل فيبقى لرب المال.

    قوله [وإذا صحت]
    أي إذا صحت الحوالة فتوفرت فيها شروطها، وتقدم شرطان، وسيأتي شرط رضا المحيل.

    قوله [نقل الحق إلى ذمة المحال عليه وبريء المحيل]
    فيبرأ المحيل بالحوالة، وهذا هو مقتضى عقد الحوالة فيلتزم المحال عليه بالدين الثابت للمحتال على المحيل.

    قوله [ويعتبر رضاه]
    إذا يشترط رضا المحيل، فليس للدائن أن يلزم المدين بالحوالة، وذلك لأن الحق واجب عليه من غير تحديد جهة، فالواجب أن يعطي صاحب الحق حقه من غير أن يتعين عليه جهة، وإذا ثبتت الحوالة من غير رضاه فقد عينت عليه جهة وألزم بما ليس بلازم له.

    قوله [لا رضا المحال عليه]
    لا يشترط رضا المحال عليه، وذلك لأن المحيل هو صاحب الدين، فله أن يستوفي الحق الواجب له في ذمة المحال عليه بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه فكان كالوكالة بل أولى.

    قوله [ولا رضا المحتال على مليء]
    (14/14)
    ________________________________________
    لا يشترط رضى المحتال، وهو الذي حول حقه من ذمة إلى ذمة، فلا يشترط رضاه إذا أحيل على مليء، وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول ابن جرير وأبي ثور، وقال الجمهور بل يشترط رضاه، وحجة الحنابلة حديث: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) قالوا: وهذا يدل على وجوب قبول الحوالة، وحيث وجب قبولها فإن الرضا ليس بشرط، وأما الجمهور فحملوا الحديث على الاستحباب وقالوا: هو واجب له في ذمة هذا فلا يلزم بأن ينقل إلى ذمة أخرى، والصحيح وجوبه لأن نقله لا ضرر عليه فيه، كما لو أعطى حقه قبل حلول الأجل ولا ضرر عليه فإنه يلزم بقبوله، هذا إذا أحيل على مليء، والمليء هو القادر بماله وقوله وبدنه، كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله، فالقادر بماله هو القادر ماليا على الوفاء، والقادر بقوله هو الذي لا يماطل، والقادر ببدنه هو من يمكن أن يحضر مجلس الحاكم أي القاضي، وأما إذا كان لا يمكن إحضاره إلى مجلس القاضي كأن يحال على والده مثلا أو إلى أحد لا يمكنه أن يحضره إلى مجلس القاضي فإن الحوالة حينئذ لا تلزم المحتال.

    قوله [وإن كان مفلسا ولم يكن رضي به رجع]
    (14/15)
    ________________________________________
    أي إذا كان المحال عليه مفلسا أو مماطلا ولم يكن المحتال قد رضي به رجع، أما إذا أخبره بأنه مفلس أو مماطل فرضي فليس له الرجوع، فالكلام في المسألة السابقة إذا كان مليئا، فإذا كان مليئا فلا يشترط رضا الدائن، وأما إذا لم يكن مليئا فيشترط رضاه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل) وهذا لم يحل على مليء، وهذا لم يحل على مليء فله أن يفسخ الحوالة، وظاهره ولو كان جاهلا، وهذا هو المشهور من المذهب، بمعنى أحيل على أحد فظنه مليئا ولم يعلم أنه غير مليء فالحوالة صحيحة، وليس له أن يرجع، وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه أنه إن كان جاهلا مغررا له فإن الحوالة لا تثبت لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، وهذا هو الراجح.

    قوله [ومن أحيل بثمن مبيع أو أحيل به عليه فبان البيع باطلا فلا حوالة]
    من أحيل بثمن المبيع أو أحيل بثمن المبيع عليه، فأصبح ثمن المبيع في المسألة الأولى محالا به، وفي المسألة الثانية محالا عليه، مثاله: إذا اشترى زيد من عمرو سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، فقد تعلق في ذمة المشتري ثمن المبيع، فحينئذ إن أحيل بهذا الثمن الثابت في ذمة المشتري فبان أن البيع باطل بأن تكون السلعة محرمة أو نحو ذلك فحينئذ تبطل الحوالة، وكذلك لو قال البائع لأحد الناس لي على عمرو ألف ريال مقابل سلعة قد بعتها عليه إلى شهر، فأنا أحيلك على هذا الثمن لتستوفي ما في ذمتي لك، فبان أن البيع الذي باعه التاجر على المحال عليه باطل، فإنه الحوالة هنا باطلة، وذلك لأن الحوالة مبنية على لزوم الثمن، وحيث بان أن البيع باطل، فإن الثمن لم يلزم أصلا، وعليه فالحوالة باطلة.

    قوله [وإذا فسخ البيع لم تبطل]
    (14/16)
    ________________________________________
    إذن إذا بطل البيع بطلت، وإذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، وبيان هذا: اشتريت سلعة وكان البيع صحيحا، وكان الثمن إلى شهر، وكان في ذمة شخص لي دين إلى شهر، فأحلت البائع إلى ذلك الشخص، ثم ثبت أن في السلعة التي اشتريتها أمر يثبت الفسخ، فالحوالة هنا لا تبطل، وظاهره مطلقا سواء كان الفسخ بعد القبض أو قبل، بمعنى أحال عليك وأعطيت المال الذي في ذمتك لهذا المحتال، ثم ثبت العيب أو كان هذا قبل القبض، وذلك لأن الثمن لازم أثناء عقد الحوالة، وليس كالبيع الباطل، فإنه ليس بلازم، وإن ظن لازما، فهو في الظاهر لازم لكنه في الباطن ليس بلازم لأن البيع باطل.

    قوله [ولهما أن يحيلا]
    للبائع أن يحيل المشتري لمن أحاله عليه، وللمشتري أن يحيل البائع لمن أحاله عليه، وهذه إنما تكون قبل القبض، وصورة هذا: اشتريت هذه السلعة منك بألف ريال إلى شهر، وقلت: أنا أريد من فلان ألف ريال إلى شهر فخذها منه، ثم فسخ البيع قبل أن تقبض، إذا الحوالة ثابتة، فما هو المخرج منها، المخرج منها أن يقول ذلك الشخص الذي أحلت عليه للبائع: قد أحلتك على فلان فيعود علي، ومثال المسألة الأخرى إذا قال البائع لأحد من الناس أنا أريد من فلان ألف ريال مقابل سلعة قد اشتراها مني، فخذ دينك منها، فالحوالة قد ثبتت، لكن قبل أن يقبض فسخ البيع، فالآن قد برئت ذمة أحدهما، والدين قد انتقل إلى ذمة شخص آخر، فللآخر أن يحيل عليه مرة أخرى هذا إذا كان قبل القبض، أما إذا كان بعد القبض فإنه يرجع عليه بالثمن، مثاله: أحاله على شخص أجبني، ثم قبض المال من هذه الشخص الأجنبي ثم فسخ البيع فإنه يرجع عليه بالثمن.
    (14/17)
    ________________________________________
    * وهنا مسألة: وهي إذا اختلفا فقال أحدهما قد وكلتك، وقال الآخر بل أحلتني، فالقول قول مدعي الوكالة، وذلك لأن الوكالة فيها إبقاء الحق، وأما الحوالة ففيها نقل الحق، والأصل هو إبقاء الحق، فمن ادعى الوكالة فالقول قوله، والبينة على الآخر.

    باب الصلح

    الصلح في اللغة: قطع المنازعة، أما في الاصطلاح فهي: عقد لازم يتوصل به إلى قطع المنازعة بين المتخاصمين، والبحث هنا في الصلح في الأموال، وقد دلت الشريعة على ثبوت الصلح فقال تعالى {والصلح خير} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} ، وروى الترمذي من حديث عمرو بن عوف وله شاهد من حديث أبي هريرة والحديث صحيح بطرقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) [حم 8566، د 3594، حب 11 / 488، برقم 5091، كلهم من حديث أبي هريرة، ت 1352، جه 2353 من حديث عمرو بن عوف] والصلح نوعان:
    1- صلح على إقرار.
    2- صلح على إنكار.
    (14/18)
    ________________________________________
    وهذا الفصل سيكون في الصلح على الإقرار، والصلح على الإقرار هو أن يقر المدعي عليه بالدعوى ثم يتصالحا على أن يسقط بعضه إن كان دينا أو يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضها، مثال الأول: ادعى أن له في ذمته ألف ريال، فأقر المدعي عليه بذلك، ثم وضع عنه المدعي مائة ريال قطعا للمنازعة، ومثال الثاني: أن يدعي عليه أن هذه الدار التي هو سيكنها له، فيقر المدعي عليه بذلك، ثم يتصالحا على أن يترك له المدعي شطرها هبة، ومثال الثالث: أن يقر له بهذه الدار، ثم يتصالحا على أن يعطيه عوضا عنها كأن يعطيه بستانا أو أرضا أو نحو ذلك، وقد روى البخاري في صحيحه أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك قال يا كعب، قال لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي حدرد: قم فاقضه) [خ 471، م 1558] فهذا من الصلح على الإقرار، فقد وضع عنه شيئا من الدين الذي أقر به.

    قوله [إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح]
    قوله (أسقط) أي من الدين، وقوله (وهب) أي من العين، فإذا أقر له بدين أو أقر له بعين فأسقط من الدين أو وهب البعض من العين وترك الباقي صح، وهذا مذهب جماهير العلماء لما تقدم في حديث كعب بن مالك، وليس فيه إلا أن صاحب الحق قد تنازل عن شيء من حقه برضى منه فكان ذلك جائزا.

    قوله [إن لم يكن شرطاه]
    (14/19)
    ________________________________________
    أي إن لم يكن الصلح مشروطا، فإن كان الصلح شرطا فلا، فإذا قال: لا أعطيك حقك إلا أن تضع عني بعضه أو لا أتنازل عن العين التي هي لك حتى تهبني بعضها أو حتى تأخذ عوضها، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الصلح أحل حراما، وذلك لأن هذا الدين أو العين ملك له، وكذلك ما يراد دفعه العوض عنه كل هذا ملك له فإذا أجبر على شيء من ذلك فقد أجبر على أخذ شيء من حقه بغير رضا منه، وكان من أكل أموال الناس بالباطل.
    * وهل يجوز - إن لم يكن عن شرط - أن يكون بلفظ الصلح؟
    مثاله: أقر زيد لعمرو بأن في ذمته له مائة ألف، فقال زيد: قد صالحتك على عشرة آلاف، أو قال: صالحني على عشرة آلاف من غير شرط فصالحه، فهل يجوز ذلك؟
    1- قال الحنابلة: لا يجوز ذلك، وذلك لأن لفظ الصلح هنا يقتضي المعاوضة، فكأنه قال: لا أعطيك حقك حتى تصالحني على كذا، وإن لم يكن هذا حقيقة الأمر لكن اللفظ يقتضيه.
    2- وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد بل يصح ذلك، قالوا: لأن لفظ الصلح لا يقتضي المعاوضة في الأصل، وإنما يقتضي قطع المنازعة، وهذا هو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد وهذا هو الراجح، لأن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فحقيقة الأمر أنه لا شرط ولا معاوضة، فلا يؤثر هذا اللفظ.

    قوله [وممن لا يصح تبرعه]
    أي بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه فلا، ومعنى العبارة: إن لم يكن شرطاه وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، فإن كان ممن يصح تبرعه فهو جائز، فإذا كان الصلح من ولي أمر اليتيم فلا يصح، لأنه ولي لليتيم ولا يصح تبرعه، فهذا المال ليس له بل هو لليتيم، ولا مصلحة فيه لليتيم، فإنه إسقاط حق من باب الإحسان إلى الخلق فهو هدية أو هبة أو صدقه، وهذا ليس لولي اليتيم، لكن إن كان الحق لا يقدر عليه، ويخشى إن لم يصالح أن ينكر الخصم، فإن له أن يتبرع بشيء من مال اليتيم حفاظا على مصلحته.
    (14/20)
    ________________________________________
    قوله [وإن وضع بعض الدين الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط]
    مثاله لو قال: أنا أريد أن أحسن إليك بشيئين:
    الأول: أحسن إليك بوضع بعض الدين عنك، والثاني: أؤجله لك، فمثلا عليه دين حال بألف ريال، فقال: أضع عنك الشطر وأؤجله إلى شهر، فقال هنا: صح الإسقاط دون التأجيل، أما صحة الإسقاط فما تقدم، فقد تنازل عن شيء من حقه برضاه من غير معاوضة، وأما التأجيل فلا يصح لأن الشيء الحال لا يتأجل، وقد تقدم الكلام على هذا في باب القرض، وتقدم اختيار مذهب مالك في هذه المسألة وأن الدين يتأجل بتأجيله، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فالصحيح أن الإسقاط يصح والتأجيل يصح، وهذا هو الراجح.

    قوله [وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالا.... لم يصح]
    مثاله: عليه في الذمة عشرة آلاف إلى سنة، فقال الدائن: أعطني خمسة آلاف حاله وأبرؤ ذمتك، فقد وضع شطرها، فهذا لا يجوز، وقد تقدم البحث في هذه المسألة وهي مسألة: ضع وتعجل، وأن الراجح جوازها كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

    قوله [أو بالعكس]
    الذي يظهر أن العبارة تكرار للمسألة السابقة، وعليه فهي وهممن المؤلف، فإن العكس أن يقال: إن الصلح عن الحال ببعضه مؤجلا، كأن يكون عليه مائة ألف حالة، فيقول: أعطني خمسين ألفا إلى سنة، فتكون المسألة هي التي تقدم ذكرها في قوله (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط فقط) ، وفي موضع هذه الكلمة يذكر الحنابلة هذه المسألة كصاحب الأصل وهو المقنع، وغيره من كتب الحنابلة.

    قوله [أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه أو يبني له فوقه غرفة.... لم يصح]
    (14/21)
    ________________________________________
    وسبب عدم الصحة هو المعاوضة، فإذا أقر أن هذه الدار له بشرط أن يسكنها إلى سنة، أو قال له المدعي: أصالحك عن كذا وأقر لي بهذه الدار فهذه معاوضة على الحق المقر به، أو قال: هذا الحق الثابت لي اعطني إياه وأصالحك على أن تسكنه سنة أو تبني فوقه غرفة أو نحو ذلك، فهذا لا يصح للمعاوضة، فإنه قد حرم حلالا، فإن هذا مباح له، وحرم عليه إلا بعوض، سواء كان العوض سكنى أو بناء أو نحو ذلك.

    قوله [أو صالح مكلفا ليقر له بالعبودية]
    رجل حر، وقال له: أقر لي بالعبودية وأعطيك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأن فيه تحليل ما حرم الله، فإن الله حرم العبودية على الحر، وهذا فيه تحليل ما حرم الله.

    قوله [أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح]
    إذا قال لامرأة أقري لي بأني زوج لك ولك كذا وكذا، فهذا لا يصح لأنه استباحة فرج قد حرمه الله بغير طريق شرعي.

    قوله [وإن بذلاهما له صلحا عن دعواه صح]
    إذا قالا نحن نبذل لك العوض واترك هذه الدعوى فهذا يصح، مثاله: قال هذا الذي ادعى عليه العبودية وطلب منه الإقرار بها قال: أنا أعطيك العوض، ولا تدعي على هذه الدعوى، فإنه قد يتوصل إلى دعواه بالشهود ونحو ذلك، كذلك قالت هذه المرأة التي يدعي عليها الزوجية قالت: أنا أعطيك العوض ولا تدعي علي هذه الدعوى فإن هذا يصح، لأنه ليس فيه تحليل ما حرم الله، فإن العوض يعتق به العبد، والمال يفارق به الزوجة كما يكون في الخلع فلم يكن فيه تحليل ما حرم الله، ولكن في الباطن يحرم عليه إن كان بغير حق، لأن أكل لأموال الناس بالباطل.

    قوله [وإن قال أقر بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح]
    (14/22)
    ________________________________________
    هذه من الحيل التي تخفى على الناس، إن قال: أقر لي بديني وأعطيك منه النصف، ففعل هذا وأقر صح الإقرار لا الصلح، أما الإقرار فيصح لأنه حق ثابت قد أقر به، فلم يصح إنكاره، وأما الصلح فلا يصح لأنه حق ثابت له فلم يعط هذا الحق إلا بعوض فكان العوض باطلا.
    * مسألة: هل يصح الصلح على شيء مجهول أم لا؟
    في المسألة تفصيل:
    - فإن كان هذا المجهول لا يمكن التوصل إليه فإن الصلح يصح.
    - أما إذا كان يمكن التوصل إليه ومعرفته فإن الصلح لا يصح.
    مثال الأول: إذا كانت هناك مواريث مجهولة، أو كانت هناك أراضي لا يدرى حدودها ولا يميز بينها ولا يمكن معرفة هذا، فتصالحا على شيء وتراضيا عليه، فلا بأس بذلك، للحاجة الداعية إليه، ولما فيه من إبراء الذمم، وإعطاء ما يمكن إعطاؤه من الحق، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود بإسناد حسن من حديث أم سلمة قالت: (جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته أو قد قال لحجته من بعض فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما - أي حديدة تسعر بها النار - في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لأخي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه [حم 26117، د 3584] ففي الحديث دلالة على جواز الصلح على شيء مجهول لا يمكن معرفته.
    وأما إذا كان المجهول يمكن معرفته فقولان في مذهب الحنابلة:
    القول الأول: هو الجواز.
    (14/23)
    ________________________________________
    القول الثاني: هو المنع، مثال هذا: إذا صالح الورثة زوجة أبيهم على شيء من المال لتتنازل عن حقها من الإرث وهي لا يعلم قدر حقها، لكن يمكن معرفته بحصر مال مورثها، فهل يجوز هذا؟
    قولان في المذهب، وأصحهما المنع من ذلك، لأنه معاوضة فأشبه البيع، وبيع المجهول لا يجوز إلا عند الحاجة إليه، ولأن فيه غررا ومخاطرة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر.

    فصل
    تقدم الكلام على الصلح على الإقرار، وهان فصل في الصلح على الإنكار، أي أن يصالح المدعى عليه المدعي مع عدم إقراره، فهو لا يقر بالدعوى التي ادعيت عليه في ماله لكنه يصالح المدعي قطعا للخصومة وصيانة للمال وإبراء للذمة، مثال ذلك: أن يعدي عليه أن هذه الدار ليست له، وهي في يده، فيصالح المدعي على شيء من المال يعطيه إياه أو شيء مما تقدم ذكر كأن يهبه بعضها إن كانت عينا أو يعطيه عوضا، فهذا هو الصلح على الإنكار، وجمهور أهل العلم على القول به، ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلح جائز بين المسلمين) ولما تقدم من جواز الصلح الذي بمعنى البيع وهو أن يدعي عليه أن هذه الدار ليست له فيقر بذلك لكن يقول: صالحني على أن تأخذ موضعها بستاني فهذا جائز باتفاق أهل العلم فكذلك الصلح على الإنكار، ومنع الشافعية من الصلح على الإنكار وقالوا: لا يجوز، لأنه عاوض على شيء لم يثبت له، فإن المدعي لم يثبت حق له على المدعى عليه، فإن المدعى عليه لم يقر، فيكون هذا المدعي قد أكل مال أخيه بالباطل، وقد عاوض عما لم يثبت له، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) ، قالوا: وهذا قد أحل حراما، فإن مال المسلم محرم، وهذا الصلح قد أحله، والجواب عند جمهور العلماء عما ذكره الشافعية هو كالتالي:
    (14/24)
    ________________________________________
    أما قولهم إنه عاوض على ما لم يثبت له، فالجواب: أنه عاوض على شيء قد ثبت عنده، فهو يعلم أن الحق له، وقد ادعى ذلك، وهو يعتقد أن الحق له، ولذلك عاوض عنه، هذا في جهة المدعي، أما في جهة المدعى عليه فإنه قد دفع ما دفع قطعا للخصومة وإبراء للذمة وتركا لليمين التي يطالب بها، فلم يكن في ذلك شيء مما ذكره الشافعية، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما) فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ الصلح الذي يتوصل به إلى تحليل الحرام، فهو ما زال محرما، ومع ذلك فإن هذا الصلح يتوصل به إلى تحليله، فهذا الصلح محرم وممنوع، كأن يتوصل بالصلح إلى حل الربا أو تعبيد الحر أو تحليل البضع ونحو ذلك، وعليه فما ذهب إليه جمهور العلماء من الأحناف والمالكية والحنابلة هو القول الراجح في هذه المسالة خلافا لمذهب الشافعية.

    قوله [ومن ادعى عليه بعين أو دين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح عليه بمال صح]
    قوله (بعين) كأن يعدي عليه أن هذه الدار التي بيده ليست له، وإنما لفلان، وقوله (دين) كأن يدعي عليه إنسان أن له عليه ألف ردهم ونحو ذلك، أو يدعي عليه أن اشترى سلعة بثمن مؤجل إلى شهر ولم يدفع الثمن بعد، وقوله (فسكت) أي ولم يقر، فهو صلح على عدم إقرار سواء كان على إنكار أو سكوت، والسكوت بمعنى الإنكار فإنه لم يقر به، وقوله (وهو يجهله) أي يجهل ثبوت هذا الشيء، فهو يظن أنه لا يثبت، وقوله (ثم صالح عليه بمال صح) فإذا صالح بمال كأن يقول هذه الدار التي ادعيت أنها لك أصالحك عليها بمائة ألف ريال، أو أصالحك بأن أعطيك بعضها فهذا يصح، وهو الصلح على الإنكار وتقدم دليله، وأن هذا القول هو مذهب جمهور العلماء.

    قوله [وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح ويؤخذ منه بشفعة، وللآخر إبراء فلا رد ولا شفعة]
    هنا مسألة: وهي هل الصلح على الإنكار بيع أم لا؟
    (14/25)
    ________________________________________
    أي هل هو بيع فتثبت فيه أحكام البيع، أم ليس بيعا فلا تترتب عليه أحكام البيع؟
    المسألة ذات جهتين:
    1- الجهة الأولى: جهة المصالح - بكسر اللام - وهو المدعى عليه.
    2- الجهة الثانية: جهة المصالح - بفتح اللام - وهو المدعي.
    أما المدعى عليه فليس الصلح في حقه بيعا، وإنما دفعه إبراء للذمة، وليس فيه معاوضة.
    أما في حق المدعي فإنها معاوضة، لأنه يعتقد أن هذه الدار له، فعاوض عنها بكذا من الدراهم، فكأن هذا بيعا في حقه، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان الصلح على شيء من هذه الذي يثبت الادعاء فيه، فإن هذا يكون استرجاعا لا معاوضة، ففي المثال المتقدم ذكر وهو مثال الدار، فإذا قال: أصالحك على أن أعطيك جزءا منها فأعطاه الجزء، فلا يكون معاوضة في حق المدعي وذلك لأن الأمر لا يعدو أن يكون استرجاعا للحق، فهو يعتقد أن الدار له، وقد استرجع بعضها فلا يكون هذا فيه معنى المعاوضة، وإنما تكون المعاوضة حيث كان ما وقع عليه الصلح فيه شيئا آخر سوى هذه العين التي اختلف عليها.
    إذا ثبت هذا فإن الصلح في حق المدعي يترتب عليه أحكام البيع، وأما الآخر فلا تترتب عليه أحكام البيع، وعليه فإذا وجد المدعي عيبا فله أخذه مع الأرش على القول به كالبيع، وله أن يفسخ الصلح كالبيع، ويتثبت فيه الشفعة، وسيأتي الكلام عليها، وأما المدعى عليه فالصلح في حقه إبراء.

    قوله [وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطنا وما أخذه حرام]
    إذا كان أحدهما كاذبا في الدعوى، سواء كذب في الدعوى أو كذب في الإنكار فلا يجوز له ما أخذه، فالمدعى عليه إذا كان كاذبا وسكت أو أنكر فبقي له شيء من هذه الدار فلا يحل له هذا البعض وهو يعلم كذب نفسه، وكذلك المدعي لو ادعى على شخص شيئا وهو يعلم كذب نفسه فأخذ مالا مصالحة فما أخذه يعتبر حراما، وهو في حكم الغصب، وهو من أكل أموال الناس بالباطل.

    قوله [ولا يصح بعوض عن سرقة وقذف]
    (14/26)
    ________________________________________
    رجل ثبت عليه السرقة أو ثبت عليه حد القذف فهل يجوز الصلح فيه؟
    الجواب: لا يجوز الصلح فيه، وذلك لأنه حق لا يعتاض عليه، فليس من الحقوق التي يؤخذ عليها العوض، فمثلا: إذا ثبت قذف رجل لآخر، فقال المقذوف أصالحه على كذا من المال، أو قال المسروق منه أصالحه على كذا من المال، فهذا لا يجوز ولا يصح الصلح فيه.
    وأما القصاص والقود فيصح الصلح فيه وذلك لأنه حق يعتاض عليه في الدية، فإذا ثبت القصاص ولم يرض أولياء المقتول بالدية فلأولياء القاتل أو للقاتل أن يعرضوا عليهم أكثر من الدية ولو كان ذلك أضعافا مضاعفة، وذلك لأن القصاص حق يعتاض عنه.

    قوله [ولا حق شفعة]
    حق الشفعة لا يحوز فيه الصلح، مثال هذا: ارض فيها شراكة، فباع أحد الشركاء نصيبه من الأرض المشترك فيها، فتثبت الشفعة للطرف الآخر، فله الحق أن يشتري هذا الجزء المباع على ما سيأتي تفصيله في باب الشفعة، فحق الشفعة ثابت للشريك، فهل يجوز لهذا الشريك أن يعتاض عن حق الشفعة بمال؟
    الجواب: لا يجوز ذلك، قالوا: لأن الشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك ولم تشرع للاستفادة المالية، قالوا: وكذلك الخيار فليس له أن يبيع حقه من الخيار، كأن يكون الخيار بينهما مدة شهر، فيقول أسقط حق الخيار بكذا وكذا، قالوا: كذلك لا يجوز هذا، وذلك لأن الخيار إنما شرع لأن يختار ما هو أحظ له، لا ليستفيد منه استفادة مالية، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والقول الثاني: أن ذلك جائز لأنها معاملة والأصل في المعاملات الحل، وكون الشارع لم يشرعه إلا لدفع الضرر لا يعني هذا أن الاستفادة المالية لا تجوز، وهو حق له، وقد اختار لنفسه احتمال الضرر من الشريك ورضي بذلك مقابل المال فلم يمنع من ذلك، وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو الراجح.

    قوله [وترك شهادة]
    (14/27)
    ________________________________________
    لا يجوز الصلح على ترك الشهادة، سواء كانت شهادة حق أم شهادة باطل، مثال شهادة الحق: قال به أصالحك على ألا تشهد علي، وهي شهادة حق فيها إثبات حق مالي عليه، أو فيها إثبات قصاص أو نحو ذلك، فهذا محرم، لأنه كتمان للشهادة، وقد حرم الله كتمانها، وإذا كانت الشهادة بالباطل فلا يجوز الصلح عليها، لأنه يكون قد أكل مال أخيه بالباطل، مثاله: إذا قال: أصالحك على ألا تشهد علي، وكان هذا الشاهد يريد أن يشهد عليه شهادة زور، فقال: لا تشهد علي وأعطيك كذا وكذا صلحا، فهذا لا يجوز، وذلك لأن الشاهد يأكل المال بالباطل، ولا يظهر هنا أن هذا محرم، مع حرمة ذلك على الشاهد، وذلك لأن فيه دفعا للضرر عن نفسه.

    قوله [وتسقط الشفعة والحد]
    بيان هذا، إذا قال له: أسقط حق الشفعة ولك كذا وكذا، أو قال الشريك أصالحك على ألا شفعة لي وأعطني كذا وكذا من المال، فهذا الصلح محرم كما تقدم، وهل تبقى الشفعة، قالوا: لا، بل تسقط عنه الشفعة، فليس له بعد هذا الصلح المحرم حق في الشفعة، والعوض الذي أخذه يرده على صاحبه، أما سقوط الشفعة فلأنه رضي بإسقاط الشفعة بهذا المال الذي عرض عليه، وأما رد العوض فلأنه صلح باطل، والقول الثاني في المسألة في مذهب الحنابلة أن الشفعة لا تسقط، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأنه إنما رضي بإسقاط الشفعة مقابل هذا المال، فإذا ثبت أنه لا حق له في هذا المال، على القول بذلك فحينئذ ينتفي رضاه، فهو إنما رضي بشرط العوض، وحيث لا عوض فلا رضى، وحيث لا رضى فالشفعة لا تسقط، وعلى القول بصحة الصلح في الشفعة وهو الراجح كما تقدم فلا إشكال في هذه المسألة.
    (14/28)
    ________________________________________
    قالوا: وإذا ثبت الصلح في حد السرقة أو قذف فإن الحد يسقط ويرد العوض على صاحبه، أما سقوط الحد فلأنه رضي بإسقاطه، وأما رد العوض فلأن الصلح باطل، والجواب أن يقال: إنه إنما رضي بإسقاطه حيث ثبت العوض وأما إن لم يثبت العوض فلا رضا، وهذا على القول بأن الحد حق للآدمي كحد القذف، والصواب أنه حق لله تعالى وللآدمي، فلا يسقط بإسقاط الآدمي له، فإذا أسقط المقذوف حقه فإن الحد لا يسقط لبقاء حق الله عز وجل، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب الحدود، وعلى هذا فالصحيح أن الشفعة يثبت فيها الصلح، وأن الحدود إن كان يعتاض عنها كحد القصاص فإن الصلح يثبت فيها، وأما إن كانت لا يعتاض عنها كحد القذف وحد السرقة فلا صلح فيها كما سبق بيانه.
    * واعلم أن صلح الأجنبي عن المنكر صحيح سواء كان بإذن المنكر أو بدون إذنه، مثال هذا: ادعى زيد على عمرو أن الدار التي بيد عمرو له، فصالح أجنبي وهو بكر، صالح زيدا على كذا وكذا من المال، مقابل ترد هذه الدعوى وقطع هذه الخصومة عن عمرو، فإن هذا الصلح جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أو لم يأذن، وقد تقدم فيما مضى ما إذا صالح المدعى عليه عن نفسه، وإذا صالح الأجنبي عنه فإن هذا جائز سواء أذن بذلك المدعى عليه أم لم يأذن، وذلك لأن الصلح فيه إبراء للذمة وقطع للخصومة فأشبه قضاء الدين عنه، وتقدم أن قضاء الدين عنه جائز أن أم لم يأذن.
    ** وهل يرجع عليه أم لا؟
    الجواب فيه تفصيل:
    - إذا أذن له المدعى عليه بالمصالحة عنه، ولم ينو هذا الأجنبي التبرع بل نوى الرجوع، فإنه يرجع عليه فيأخذ حقه ويكون كالوكيل.
    (14/29)
    ________________________________________
    - وأما إذا لم يؤذن له بذلك وتصرف من غير إذن فإنه لا يرجع مطلقا سواء نوى التبرع أم لم ينوه، لأن هذا الصلح غير لازم للمنكر فإنه يمكنه أن يدفع هذه الخصومة باليمين فلم يكن هذا الصلح لازما في حقه، فحينئذ لا يلزمه أن يعطي الأجنبي ما دفعه من المال في هذا الصلح، لأنه قد تصرف عنه بما لا يلزمه، فلا يجب عليه كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه.

    قوله [وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله]
    هنا في أحكام الجوار وهي داخلة في مسائل الصلح، لأن الصلح يجوز في مسائل منها يأتي ذكرها إن شاء الله، أو أن يكون هذا من باب ذكر الشيء مع ما يناسبه.
    فإذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله، لأن مالك القرار مالك للهواء، فمن ملك أرضا فإنه يملك هواءها، وتقدم هذا في باب بيع الأصول والثمار، فإذا غرس جاره شجرة في ملك نفسه فخرجت أغصانها إلى قرار أرض جاره أو هوائها وطالبه الجار بإزالة ذلك فإنه يجب عليه أن يزيلها، ولذا قال المؤلف هنا (أزاله) ، هذا إذا كان يطلب منه ذلك، وهل يجبر على هذا أم لا؟
    قولان في المذهب:
    القول الأول: وهو المشهور من المذهب أنه لا يجبر، قالوا: لأنه هذا ليس من فعله.
    القول الثاني: وهو الراجح أنه يجبر على هذا، لأنه وإن لم يكن من فعله فهو من فعل ملكه، وهذا الشجر في ملكه، والشجر غير مكلف فكان التكليف لاحقا للمالك، فعليه أن يزيله، فإن أجبره الحاكم فلم يفعل فترتب ضرر بعد مطالبة الجار فإنه حينئذ يضمن لأنه قد تعدى والمتعدي ضامن.

    قوله [فإن أبى لواه إن أمكن وإلا قطعه]
    (14/30)
    ________________________________________
    فإن أبى أن يزيله فإنه يلويه، أي يلوي الجار الغصن الذي خرج على أرضه، يلويه إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن فله أن يقطعه وليس له أن يقطعه مع إمكان ليه، فإن قطعه مع إمكان ليه فإنه يضمن لأنه متعدي والمتعدي ضامن، إذن يلويه فإن لم يمكنه فإنه يقطعه ولا ضمان عليه حينئذ للحوق الضرر به، وكان هذا كالصائل الذي لا يدفع إلا بالقتل.
    كذلك عروق الشجر إذا دخلت في أرضه فكذلك لأن الشخص يملك الأرض وقرارها، ولا يجوز لصاحب الملك أن يضع في ملكه ما يتضرر به جاره، كأن يغرس فيه أثلا أو أن يضع فيه تنورا، أو يضع فيه حماما فيه بخار بحيث يلحق الجار ضرر، فهذا لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) [حم 2862، جه 2340] فهو يتصرف في ملكه بما شاء في حدود ما أباحه الله، لكن ليس له أن يفعل في ملكه ما يكون فيه ضرر على جاره.

    قوله [ويجوز في الدرب النفاذ فتح الأبواب للاستطراق]
    الدرب النافذ هو الذي ثبتت فيه الملكية العامة وليست خاصة، فله أن يفتح عليه الأبواب للاستطراق أي لتكون طريقا، فهذا جائز ولا خلاف فيه جوازه، لأن هذا لا يضر بالمجتازين والحاجة داعية إليه، وما زال المسلمون يفعلونه قديما وحديثا من غير نكير.

    قوله [لا إخراج روشن وساباط]
    (14/31)
    ________________________________________
    الروشن: كان موجودا قديما ويوجد أيضا في البيوت المسلحة، وهو أن يضع شيئا من الأخشاب ونحوها فتمتد إلى الخارج ثم يبني عليه ما يقارب المتر أو المترين ونحوه، أما الساباط فهو أن تمتد الأخشاب حتى تصل إلى الجدار المقابل سواء كان جداره أو جدار غيره ثم يبني عليه، فلا يجوز أن يضع الروشن والساباط، قالوا: لأن الهواء ملك لغيره، فإذا بناه فقد بناه على ملك غيره، ولأنه قد يضر بالمجتازين بالسقوط، فقد يسقط، ولأنه - لاسيما الساباط - يسد الهواء، ويمنع دخول الضوء، قالوا: فلا يجوز إلا بإذن السلطان، فإذا أذن فإنه يجوز ذلك، لأن السلطان نائب المسلمين، وهو حق للمسلمين، فإذا أذن فيه السلطان وهو نائبهم جاز، وعن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء أن ذلك جائز حيث لا ضرر، وأما المذهب فإنهم يمنعون منه مطلقا سواء كان فيه ضرر أم لم يكن، قال الجمهور: يجوز ذلك إذا لم يكن فيه ضرر، لأن الطريق يسلكه المارة ويجلسون فيه، فكذلك يجوز هذا، واجب الحنابلة بأن المشي في الطريق إنما وضع الطريق له، لم يمنع منه، ولأن الجلوس في الطرقات لا يدوم ولا يمكن التحرز منه بخلاف هذا، وما ذهب إليه الحنابلة أظهر وأنه يحتاج إلى إذن السلطان، وذلك لأن هذا الهواء ملك عام للمسلمين فاحتيج إلى إذنهم، والسلطان هو نائبهم، وبناءه بغير إذن تصرف في ملك الغير، ولأنه قد يقع فيه ضرر، ولا شك أن فتحه من غير إذن السلطان قد يترتب عليه مفاسد كثيرة، فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة.

    قوله [ودكة]
    (14/32)
    ________________________________________
    الدكة هي المكان المرتفع يبنى عند الدار ويجلس عليه، وهذا لا يجوز، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز، كما قال ذلك الموفق، فلا يجوز هذا سواء كان الطريق واسعا أو ضيقا لأنه تصرف في الملكية العامة، وأما إذا أذن السلطان فإنه يجوز لأنه نائب المسلمين، ولا ينبغي للسلطان أن يأذن إلا إذا لم يكن هناك ضرر بالمارة، بل إذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز ولو أذن السلطان لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)

    قوله [ولا ميزاب]
    لا يجوز أن يوضع الميزاب، بحيث يصب في الطريق، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه يزلق الطريق، ولأنه قد يؤذي المارة فيصب عليهم، وعليه فيحتاج إلى إذن من السلطان، والقول الثاني في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن ذلك جائز، قالوا: لأن الحاجة داعية إلى وضعه لأنه يدفع الضرر عن البيت، وعادة الناس جارية على وضعه قديما وحديثا ولا نكير فيه، وكونه يزلق ويؤذي المارة فإن هذا ضرر ضعيف بالنسبة إلى الضرر الذي يقع في بيوت الناس، وكون الزلق في الطريق هذا يقع مع الأمطار ومع سيل الماء من البيوت وهذا يقع غالبا، فيكون حدوث هذا في ضمن حدوث غيره، فالذي يظهر أنه لا يحتاج إلى إذن من السلطان لأن الحاجة داعية إليه، والعادة جارية به.

    قوله [ولا يفعل ذلك في ملك جاره ودرب مشترك بلا إذن المستحق]
    فليس له أن يضع في هواء جاره روشنا ولا ساباطا ولا ميزابا ولا دكة ولا غير ذلك، وذلك لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه فلم يحل، كذلك الدرب المشترك لا يحل له أن يفعل فيه مثل هذا، بل يتوقف هذا على إذن المشارك لأن فيه ملكية للغير فاحتيج منه إلى الإذن، فإن أذن فهذا جائز.

    قوله [وليس له وضع خشبة على حائط جاره إلا عند الضرورة إذا لم يمكنه التسقيف إلا به وكذلك المسجد وغيره]
    يجوز له أن يضع خشبة على حائط جاره بشرطين:
    (14/33)
    ________________________________________
    الأول: ألا يكون في ذلك ضرر على الجار، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
    الثاني: أن تكون هناك ضرورة لذلك، أما إذا كانت حاجة فلا، فإذا كان يمكنه أن يضع الخشب على غير جدار جاره كأن ينصب خشبا فيضعها عليه أو أن يضع جدارا آخر فإنه ليس له أن يفعل ذلك - هذا هو كلام المؤلف - وكذلك المسجد وغيره كالوقف من باب أولى، لأنه إذا ثبت في حق الآدمي المبني حقه على المشاحة ففي حق الله المبني على المسامحة أولى، ودليل هذه المسألة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره) متفق عليه من حديث أبي هريرة [خ 2463، م 1609] وظاهر الحديث عدم اشتراط الضرورة، فالحديث عام في الضرورة وغيرها، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة، وأن الجار له أن يغرز خشبه على جدار جاره حيث لا ضرر على الجار، وإن لم تكن هناك ضرورة، وهذا القول هو الموافق لظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فالصحيح أنه لا يشترط الضرورة، بل ذلك جائز حيث لا ضرر لعموم الحديث، وقال جمهور العلماء: لا بد من الإذن، وحملوا الحديث على الكراهية، وأن له أن يمنع لكن يكره له المنع، وهذا يخالف ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ظاهر قوله التحريم، قال الجمهور: ليس له أن يضع خشبه على جدار جاره عند الضرورة مع عدم الضرر إلا بإذن الجار، واستدلوا بالأحاديث العامة في أنه لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس منه [حم 20172] والجواب: أن هذا الحديث عام، والحديث الذي استدل به الحنابلة خاص، فيخصص عموم هذا بهذا، إذن له أن يغرز الخشبة في جدار جاره من غير إن حيث لا ضرر سواء أكانت هناك ضرورة أم لم تكن.

    قوله [وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه]
    (14/34)
    ________________________________________
    إذا انهدم جدارهما المشترك، أو خيف ضرره أي خيف أن يسقط كأن يظهر فيه انهدام أو شيء من الاعوجاج ونحو ذلك، فطلب أحدهما من الآخر أن يعمره معه فإنه يجبر على ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وقال الأحناف والشافعية لا يجبر على ذلك، أما دليل أهل القول الأول فهو حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وانهدامه يضر بالجار، واستدل أهل القول الثاني بعلة وهي أن هذا الجار الذي لم يشأ أن يبني جداره لا يلزمه أن يبنيه، والجدار لا حرمة له، فلم يجب عليه أن ينفق عليه، فالنفقة غير واجبة في بنائه وإصلاحه ونحو ذلك، وما ذكروه صحيح حيث كان الجدار له وحده، أما وله مشارك فلا يظهر تعليلهم، وعليه فالراجح هو القول الأول، ويؤيده ما سبق ذكره في الرهن وأنه يلزم بالنفقة على الرهن حيث كان هناك ضرر على الآخر، وهنا كذلك.

    قوله [وكذا النهر والدولاب والقناة]
    كذلك النهر إذا احتاج إلى إصلاح فإن كل من يستفيد من هذا النهر فإنه يلزم بهذا الإصلاح، وهذا يتضح في الأنهار التي تحتاج إلى إصلاح وتعمير وحفر، وذلك لأنه شيء مشترك فأشبه المسألة المتقدمة، فإن الحقوق متعلقة به، بخلاف ما لو كان منفردا، كذلك الدولاب، وهو الذي تديره الدابة للسقي بمعنى: يكون في البئر أو عند النهر فتديره الدواب فيسقي منه الناس، فالدولاب إذا احتاج إلى إصلاح فكذلك كما يكون في الجدار، وكذلك القناة، وهي ما يشق من النهر مما يكون مجرى للماء، أي يجري إلى بعض مزارع الناس أو إلى بيوتهم، فكذلك إذا احتاج إلى إصلاح فإنه يجبر الآخرون، لأنه حق مشترك، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .
    (14/35)
    ________________________________________
    ومن هذا الحديث يؤخذ أن الجار إذا كان منزله عاليا فإنه يؤمر بوضع سترة تمنعه من الإشراف على جيرانه، وأما إن كانت البيوت متساوية في العلو ويشرف بعضها على بعض فإن السترة يشترك فيها، وذلك لما تقدم في الجدار المشترك، فهنا ما دام أن البيوت متساوية فإن السترة يشترك فيها، فإذا أراد بعض الجيران عمل سترة فإن له أن يطالب بقية الجيران بوضع السترة لأنه حق مشترك.
    * مسألة:
    هل يجوز أن يقول الجار لجاره: آذن لك أن تجعل الأغصان تمتد، ولكن آخذ منك جزءا من ثمرها أو آخذ منك كذا وكذا من الدراهم؟
    الجواب: هذا جائز، فإن قيل: امتداد الأغصان مجهور، فأصبح المصالح عنه مجهولا فلا يجوز، فالجواب: أن هذا المصالح عنه مجهول لا يمكن العلم به، فأشبه الإرث الدارس، وحيث كان المصالح عنه مجهولا يحتاج إليه ولا يمكن معرفته فإن الصلح جائز كما تقدم في مسألة شبيهة بهذه، وفي المسألة قولان في المذهب، فالمشهور من المذهب المنع منه لأن المصالح عنه مجهول، والقول الثاني أنه جائز، قال الموفق: " واللائق في مذهب أحمد صحته " ا. هـ.

    باب الحجر

    الحجر لغة: المنع، وفي اصطلاح الفقهاء: منع الإنسان من التصرف في ماله، والحجر نوعان:
    1- حجر لحظ النفس، كالحجر على الصبي في ماله.
    2- حجر لحظ الغير، كالحجر على المفلس.
    وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه حجر على معاذ في ماله وباعه في دين كان عليه) [هق 6 / 48، قط 4 / 230] وعليه العمل، وله شاهد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من فعله، رواه مالك في موطئه أنه حجر على رجل من جهينة [ك 1501، كتاب الأقضية] والعمل على هذا عند أهل العلم، وفيه حفظ للحقوق، فالحجر على الغير فيه حفظ لحقوق الغير من الضياع، فالحجر على المفلس فيه حفظ لحقوق الدائنين من الضياع، كما أن في ذلك إبراء للذمة من هذا الدين، والحجر لحظ النفس فيه حفظ لمال المحجور عليه من الضياع.
    (14/36)
    ________________________________________
    قوله [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به وحرم حبسه]
    مثاله: رجل مدين سواء كان عن قرض أو عن ثمن مبيع أو نحو ذلك، ففي ذمته ديون لا يقدر على وفائها فهو معسر، فتحرم مطالبته بالدين لإعساره ويحرم حبسه، ودليل ذلك قول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فأوجب الله إنظاره فحرمت المطالبة وحرم حبسه، ولما ثبت في مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلا أصيب في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فأفلس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) [م 1556] فدل على أنهم ليس لهم مطالبته وأنه ليس للحاكم أن يحبسه، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) [ن 4689، د 3628، جه 2427] أي مماطلة الغني تحل عرضه أي أن يقال: مطلني، وتحل عقوبته: أي الحبس، قال ذلك سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري قال:" عرضه أن يقول: مطلني، وعقوبته: الحبس " [خ كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس] ، ومفهوم هذا الحديث أن غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته، فعليه: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به، وحرم حبسه، وأما إن كان معروفا بالغنى أو كان قد اشترى شيئا عن عوض، كأن يشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم ادعى الإعسار، فإنه يحتاج إلى بينة تثبت إعساره، لأن الأصل بقاء هذا المبيع الذي قد اشتراه بثمن، والأصل أيضا بقاء غناه، فهو معروف بالغنى، فإذا ادعى الإعسار لم يقبل ذلك إلا أن يأتي ببينة، فإن لم يأت ببينة فإنه يحبس، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن البينة على الإعسار أن يشهد شاهدان، فإن شهد اثنان على أنه معسر فإن ذلك
    (14/37)
    ________________________________________
    يكفي، وعن الإمام أحمد وهو مذهب بعض الحنابلة وبعض الشافعية وهو اختيار ابن القيم أنه لا يكفي لإثبات إعساره إلا ثلاثة، فإذا شهد ثلاثة ممن يخبر حاله على أنه معسر فإن الإعسار يثبت، ودليل هذا ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش) [م 1044] ، فإذا كان هذا في المسألة وفي جواز إعطاء الزكاة، فأولى من ذلك ما يسقط به أداء الدين، فلا شك أن الاحتياط في قضاء حقوق الناس أولى من المسألة ومن إعطائه شيئا من الزكاة، وهذا القول هو الراجح، وأن البينة المثبتة للإعسار يشترط أن يكون ثلاثة ممن يخبر حاله.

    قوله [ومن له مال قدر دينه لم يحجر عليه وأمر بوفائه]
    من ماله قدر دينه فإنه لا يحجر عليه، إذ لا فائدة من الحجر، فالمقصود من الحجر حفظ حقوق الناس، وحيث إن ماله قدر دينه فلا فائدة من الحجر، وفي بعض الشروح:" ومن له قدرة على وفاء دينه "، فلا يحجر عليه إذا لا فائدة من الحجر وهو قادر، لكن يؤمر بالوفاء وذلك لأن مطله ظلم، والواجب على الحاكم أن يمنع الظلم والمماطلة.
    (14/38)
    ________________________________________
    واعلم أن المفلس الذي يحجر عليه عند الفقهاء كما هو المشهور عندهم هو من دينه أكثر من ماله، وعليه فإذا كان دينه قدر ماله فإنه لا يحجر عليه، وقد تقدم أن في بعض النسخ كما في بعض النسخ من الروض:" ومن له قدرة "، هذا هو المشهور في مذهب الفقهاء، وفي هذا نظر، فإن العلة التي يحجر بها على من كان دينه أكثر من ماله هي تعلق حقوق الغرماء ذوي الديون الحالة، وهذه العلة ثابتة أيضا فيما إذا كان ماله قدر دينه، ولذا قال بعض الحنابلة:" وكذلك إذا كان قدره ولا كسب له وليس له ما ينفق على نفسه سواه "، وهو كما قال لما تقدم، والأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، فحقوق الغرماء متعلقة بماله حيث كان دينه قدر ماله كأن تكون عنده حلي تساوي عشرة آلاف، وعليه دين يساوي عشرة آلاف، وليس له طريق يتكسب به، فنفقته من هذه الحلي أن يبيعها، فإنه يحجر عليه، أما إذا كان له كسب آخر يأكل منه وينفق منه على نفسه، أو كانت له صنعة ينفق على نفسه منها فإنه كما قال الفقهاء، إذن إذا كان لا مال له سوى هذا المال الذي تعلقت به ديون الناس فإنه يحجر عليه، وعلى هذا فالراجح هو ما ذكره بعض الحنابلة من أن المفلس من كان دينه أكثر من ماله، أو قدر ماله ولا كسب له سواه.
    * وهل للغريم أن يمنع مدينه من السفر أم لا؟
    وبعبارة أخرى: هل لا بد أن يستأذن المدين الدائن عندما يريد السفر؟
    المسألة فيها تفصيل:
    الحالة الأولى: أن يكون قدومه من سفره قبل حلول الأجل المتفق عليه، فهنا ليس للدائن أن يمنع المدين من السفر، إلا أن يكون السفر سفرا غير آمن كسفر الجهاد ونحوه فله أن يمنعه، إلا أن يقيم ضمينا أو رهنا.
    الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد حلول الأجل، فهنا يشترط الاستئذان لتعلق حق الغريم، إلا أن يقيم رهنا أو ضمينا.

    قوله [فإن أبى حبس بطلب ربه]
    فإذا أبى الوفاء فإنه يحبس بطلب رب المال فإنه حقه.
    (14/39)
    ________________________________________
    قوله [فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه]
    إذا أصر وأبى أن يقضي صاحب الحق حقه فحينئذ يباع ماله عليه ويعطى صاحب الحق حقه، لأن هذا من منع الظلم ومنع الظلم واجب، ودليل حبسه حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) وهذا لي منه، ولأنه كما قال صاحب الإنصاف:" الغالب أن الحقوق لا تستخرج إلا به - أي بالحبس - أو ما هو أشد منه في الأزمنة المتأخرة " ا. هـ وظاهر كلام المؤلف وغيره من الحنابلة أنه يحبس مطلقا ولو عارض ذلك حق آخر، كأن يكون أجيرا فيكون في حبسه تضييع حق مؤجره، أو أن تكون زوجة فيكون في حبسها تضييع لحق زوجها، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إذا عارضه حق آخر فإنه لا يحبس وذلك لأنه يمكن أن يجبر على إعطاء الحق بغير حبس، فكان هذا الإجبار بغير الحبس تحصيل للحقين، فيحصل الزوج حقه من زوجته، ويحصل الدائن حقه من مدينه بغير حبس، وهذا هو الظاهر إن أمكن ذلك، فإذا أمكن أن يحجر على المرأة في بيتها وأن تحبس في بيتها فتمنع من الخروج وكان في استطاعة الزوج منعها من ذلك، وكذلك إذا كان هناك قدرة على حبس الأجير ومنعه من غير أن يحبس في غرفة ونحو ذلك فأمكن حفظ حق الغريم من غير أن يكون هناك حبس وأمكن جبره على إعطاء الحق فإن ذلك هو الأولى.
    (14/40)
    ________________________________________
    والحجر لا يثبت إلا بحكم الحاكم، وهذا قول الحنابلة وعليه فله أن يتصرف قبل حجر الحاكم عليه، وإن كان هذا التصرف يضر بغرمائه، فمثلا: رجل مدين، وقد استوفت الديون أمواله، فتصدق بشيء من ماله أو أوقفه أو أهداه أو تصرف فيه بأي شيء من التصرفات التي تضر بالغرماء فصريح كلام الحنابلة أنه ينفذ تصرفه ويصح، وإنما لا ينفذ إذا حكم الحاكم بالحجر عليه، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الحجر يثبت قبل حكم الحاكم متى توفرت دواعيه، فإذا توفر داعي الحجر فليس له أن يتصرف ولا تنفذ تصرفاته، فإذا كان الرجل مدينا وكان في تصرفه ضرر على الدائنين فإن هذا التصرف لا ينفذ، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما في من حفظ حقوق الناس، فلو أعتق لم ينفذ عتقه، ولو تصدق لم تنفذ صدقته وهكذا سائر الأحكام، وحكم الحاكم بالحجر لا يعدو أن يكون إظهارا لمنعه من التصرف وإلا فهو ممنوع من التصرف قبل ذلك، لأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما والعلة ثابتة قبل حكم الحاكم.

    قوله [ولا يطلب بمؤجل]
    وهذا ظاهر، فإن المؤجل لا يجب أداؤه إلا عند حلوله، فإذا لم يحل فإن أداءه غير واجب، وعليه فلا يطالب به لأنه ليس بواجب.

    قوله [ومن ماله لا يفي بما عليه حالا وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم]
    لما تقدم من حديث معاذ وأثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وتقدم أن العمل عليه عند أهل العلم، فمن كان ماله لا يفي بما عليه من الديون الحالة فإنه يحجر عليه، بسؤال غرمائه أو بعضهم، لأنهم أصحاب الحق، وتقدم القول بأنه يحجر عليه قبل حكم الحاكم لتعلق حقوقهم بذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.

    قوله [ويستحب إظهاره]
    أي يستحب إعلان وإظهار ذلك، ليكون تصرف الناس معه على بصيرة، فيظهر ويبين لئلا يغتر به الناس، فيتصرفون معه تصرفا يضر بهم.
    (14/41)
    ________________________________________
    قوله [ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر ولا إقراره عليه]
    إذا حجر عليه فإنه لا ينفذ تصرفه في ماله، وذلك حق الغريم، فلو أعتق لم ينفذ، ولو وهب أو أوقف وقد حجر عليه فإن هذه التصرفات لا تنفذ، وكذلك لو أقر فإن إقراره يمنع منه وذلك لتعلق حق الغرماء بماله، فيمنع من الإقرار ولا ينفذ إقراره، وظاهر كلامه أن عدم نفوذ تصرفه وإقراره أن ذلك بعد الحجر وأما قبل الحجر فإنه يصح، والصحيح أنه لا يصح لا قبل الحجر - أي حجر الحاكم عليه - ولا بعده، إلا أن الإقرار يصح قبل الحجر إذا أمكن كأن تكون هناك قرائن تدل على ثبوت هذا الإقرار وصحته فإنه يقبل لما فيه من تحصيل حق المقر له، فإذن المشهور من المذهب أن تصرفه بعد الحجر ممنوع والصحيح أنه يمنع من التصرف قبل حكم الحاكم بالحجر وبعده كما تقدم.

    قوله [ومن باعه أو أقرضه شيئا بعده رجع فيه إن جهل حجره وإلا فلا]
    إذا باع رجل على هذا المفلس شيئا بثمن مؤجل، أو أقرضه شيئا ولم يعلم أنه محجور عليه، فإنه أن يرجع فيأخذ حقه منه، وذلك لأنه معذور بجهله.
    فإن قيل: ألا يكون مفرطا لأنه لم يسأل أهو محجور عليه أم لا؟
    فالجواب: أن الأصل عدم الحجر، فالأصل هو صحة التصرف ونفوذه.
    (14/42)
    ________________________________________
    ومن باعه شيئا قبل الحجر ثم وجد سلعته قائمة بعينها بعد الحجر عليه فهو أحق بها من سائر الغرماء، مثاله: رجل باع رجلا سلعة بثمن مؤجل إلى شهر، وبعد أسبوع أفلس الرجل، وحكم عليه بالحجر، فوجد هذا الرجل سلعته قائمة بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان فإنه أحق بها من سائر الغرماء، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به) [خ 2402، م 1559] هذا إذا لم يكن فيها زيادة ولا نقصان، فإن كان فيها زيادة كأن يكون عبدا فيعلمه الكتابة، أو أن يكون فيها نقص كأن يشتري سلعة فيتصرف فيها تصرفا ينقصها كطعام ونحوه يؤخذ منه شيء يسير، فقد اختلف أهل العلم، هل له الرجوع أم لا حق له في الرجوع فيكون أسوة الغرماء يأخذ قسطه من الدين كما يأخذ سائر الغرماء قسطهم من الدين؟
    قولان لأهل العلم:
    1- قال الحنابلة لا رجوع له، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ماله بعينه) وهذا لم يدرك ماله بعينه بل أدركه وفيه زيادة أو نقص.
    (14/43)
    ________________________________________
    2- وقال المالكية والشافعية بل يرجع، وحينئذ إن كانت السلعة فيها زيادة فإن هذه الزيادة تقوم ويدفع قيمتها للغرماء، وإن كان فيها نقص فيشارك الغرماء بقدر هذا النقص، كأن تكون السلعة سعرها قبل هذا النقص مائة ألف، وبعد النقص أصبحت تساوي ثمانين ألفا، فيشارك الغرماء بعشرين ألفا، فيكون كما لو كان عليه عشرون ألفا فحسب، والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لثبوت الزيادة والنقص، ولأن الأصل أنها أصبحت ملك للمدين وكل ملك لهذا المدين فالغرماء فيه أسوة، وهم مشتركون فيه، وهذا خلاف الأصل فتعين البقاء على ما ورد، فهو استثناء فتعين البقاء على ما ورد، ولأنه إذا قبض شيئا من الثمن فهو أسوة الغرماء، فكذلك إذا تغير المبيع بزيادة أو نقص، فلو أنه مثلا باعه سلعة بمائة ألف إلى سنة، وأعطاه مقدما خمسة آلاف ثم أفلس هذا المشتري، وحجر عليه فحينئذ لا رجوع لهذا البائع وإن وجد سلعته قائمة بعينها، لا زيادة فيها ولا نقصان، فكما أنه إذا كان هناك استلام للثمن فلا رجوع فكذلك إذا كان هناك تغير في المبيع بزيادة أو نقص، ودليل أنه إذا استلم شيئا من الثمن فلا رجوع له ما رواه أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعه فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) [د 3520] والحديث اختلف في وصله وإرساله، والصواب أنه مرسل، كما رجح هذا أبو داود وغيره، لكن لكل شطر من الحديث شاهد، أما الشطر الأول وهو الذي فيه أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع له فله شاهد عند الإمام أحمد من حديث الحسن عن أبي هريرة [حم 10415] ، وأما الشطر الثاني الذي فيه أنه إذا مات فإن البائع أسوة الغرماء - وهي مسألة أخرى - فلها شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي هريرة [جه 2361] وفيه اليمان بن عدي وهو ضعيف لكن حديثه يصلح أن يكون
    (14/44)
    ________________________________________
    شاهدا.
    فهذا الحديث فيه مسألتان:
    المسألة الأولى: أنه إذا قبض شيئا من الثمن فلا رجوع.
    المسألة الثانية: أنه إذا مات المشتري المفلس وانتقل الحق إلى الورثة فلا رجوع بل يكون أسوة الغرماء.

    قوله [وإن تصرف في ذمته أو أقر بدين أو جناية توجب قودا أو مالا صح]
    تقدم أنه ليس له أن يتصرف في الأموال التي ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها، مثاله: عنده مزرعة ودار ودكان ثبت الحجر عليها، فليس له أن يتصرف فيها ببيع أو هبة أو هدية أو نحو ذلك، لأن مقتضى الحجر منعه من ذلك، ولما في ذلك من الإضرار بحقوق الغرماء، فقد تعلقت حقوق الغرماء بهذه الأموال التي قد ثبت الحجر عليها، ومثل ذلك الإقرار، فلا يجوز، فلو قال هذه الدار - التي ثبت الحجر عليها - لفلان فلا يقبل إقراره، وأما هنا فالأموال التي أقر بها أو التي باع بها قد تعلقت في الذمة، فإذا اشترى في الذمة أو اقترض أو أقر أو نحو ذلك فهي تصرفات صحيحة، وذلك لأنه أهل للتصرف، وهو جائز التصرف، وإنما حجر عليه في ماله لا في ذمته، فالحجر ثابت في هذه الأموال التي قد احتيط لحقوق الغرماء بالحجر عليها، وأما ما يكون في الذمة فإنه خارج عن هذا، فه أن يشتري في الذمة وأن يوصي وأن يقترض وغير ذلك، ولا يطالب هذا المقرض ولا هذا الدائن بحقه في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها، وغنما يطالب بعد الحجر وذلك حقوق الغرماء، ولذا قال المؤلف بعد ذلك:

    قوله [ويطالب به بعد فك الحجر عنه]
    فلا يطالب إلا بعد فك الحجر عنه، لأن هذا الحجر ثابت لحقوق الغرماء، وأما هذا الغريم الذي قد ثبت حقه بعد الحجر فلا حق له في هذه الأموال التي ثبت الحجر عليها.

    قوله [ويبيع الحاكم ماله]
    فيبيع الحاكم هذه الأموال بالأحظ له، فيبيعها بثمن السوق بأفضل ما يكون، فلا يتعجل البيع بل يحتاط له في البيع، فيبيعها من غير عجلة، لأن العجلة في الغلاب تنقص من ثمنه.
    (14/45)
    ________________________________________
    قوله [ويسقم ثمنه بقدر ديون غرمائه]
    مثال هذا: عليه من الديون مائتا ألف، والدائنون أربعة، لكل واحد منهم خمسون ألفا، فكل واحد منهم يريد منه الربع أي بنسبه (25 %) ، فإذا بعنا ماله فتحصل نه مائة ألف فلكل واحد منهم (25 %) أي ربع المائة ألف، فكل واحد منهم يأخذ خمسة وعشرين.

    قوله [ولا يحل مؤجل بفلس]
    إذا أفلس الرجل وثبت الحجر عليه فإن ديونه المؤجلة لا تحل، وذلك لأن التأجيل حق له، فلا يسقط بفلسه، فطالما قد اتفقا على أن الدين لا يحل إلا بعد سنة، أو سنتين ثم أفلس فإن هذا لا يعني أن يحل الدين بفلسه.

    قوله [ولا بموت إن وثق الورثة برهن أو كفيل مليء]
    (14/46)
    ________________________________________
    إذا مات فلا يحل دينه المؤجل، مثال هذا: اقترض رجل من آخر مائة ألف إلى سنة، ثم توفي بعد يوم أو يومين، فلا يحل هذا الدين بل يبقى مؤجلا كما اتفقوا علبه قبل الموت لكن لا بد أن يوثق برهن أو كفيل مليء، فيقال للورثة: إما أن تعطوه حقه، وإما أن توثقوه برهن أو كفيل مليء حفاظا على حقه من الضياع، لأنه إذا مات من عليه الدين وانتقل ماله إلى الورثة فإن هذا مظنة ضياع الحق، ومظنة المضارة بصاحب الحق فلا بد أن يحتاط له، وقال جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد أن الدين المؤجل يحل بالموت مطلقا، وللدائن أن يمنع التوثيق فيقول أنا أريد حقي ويمنع التوثيق برهن أو كفيل، قالوا: لأن هذا الدين إما أن يتعلق بذمة الميت، وإما أن يتعلق بذمة الورثة، وإما أن يتعلق بعين المال الموروث أي بعين التركة، قالوا: أما تعلقه بذمة الميت فهو ممتنع، لأن ذمته قد خربت بالموت، فالمطالبة متعذرة، ولا يمكن أن يعلق بذمة الورثة لأن الدائن لم يرض بذلك، فتعلقه بذمتهم يحتاج إلى رضى، ويحتاج إلى أن يلتزموا، وهذا لم يثبت فكان ذلك ممتنعا، أما إذا التزموا بذلك ورضي به فهذا شيء آخر، ولكن المقصود أن تقع المسألة من غير هذا، وأما تعلقه بعين المال فهذا ممتنع، لأننا إذا علقناه بعين المال فقلنا مثلا: حقه متعلق بهذه الدار التي ورثها الميت فحينئذ يتضرر الميت ببقاء الدين معلقا به، والميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه، ويتضرر أيضا الدائن بتأخير حقه مع احتمال تلف هذه الأعيان أو التلاعب في هذا المال، فيتحمل الضرر عليه، والورثة لا ينتفعون بذلك لأنهم يمنعون من التصرف بهذه الأعيان لتعلق حق الدائن بها، فلا يتعلق بعين المال، فإذا كان لا يتعلق بذمة الميت ولا بذمة الورثة ولا بعين المال تعين أن يكون حالا غير مؤجل، فالراجح أنه يحل بموت الميت، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد.
    (14/47)
    ________________________________________
    قوله [وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه]
    وهذا ظاهر، ففي المسألة السابقة: الغرماء أربعة، فثبت غريم خامس، فلا بد وأن يكون له نصيب من القسمة، فيأخذ قسطه، فتعود المسألة حينئذ بعد أن كان لكل واحد منهم الربع يكون لكل واحد منهم الخمس، هذا إذا كان نصيبه كنصيب سائر الغرماء، وهذا كما لو قسمت التركة على ورثة فثبت أن هناك وارث أو هناك وصية فإننا نعود إلى المسألة من جديد فنعطي كل ذي حق حقه.

    قوله [ولا يفك حجره إلى الحاكم]
    لا يفك حجرا إلى الحاكم، هذا إن بقي عليه حق، وذلك لأن هذا الحجر قد ثبت بحكمه فلم يفك إلا بحكمه، وأما إذا لم يبق عليه شيء فإن الحجر ينفك تلقائيا، بمعنى أنه بمجرد ما يقضي ما عليه من الديون ولا يبقى عليه حقوق فحينئذ يفك عنه الحجر من غير حكم الحاكم، وذلك لزوال موجبه، فإن الموجب للحجر هو تعلق حقوق الغرماء، وقد زال هذا التعلق فحينئذ يزول الحجر من غير حكم الحاكم.
    * مسألتان:
    المسألة الأولى: هل يلزم المفلس بالتكسب والعمل لقضاء دينه حيث لم تفي أمواله بقضاء ديونه؟
    قولان لأهل العلم:
    القول الأول: وهو المشهور من المذهب أن المفلس يلزم بذلك حيث كان له قدرة على التكسب والتحرف، فليزم بالعمل ليقضي أصحاب الحقوق حقوقهم.
    القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه لا يلزم بذلك.
    (14/48)
    ________________________________________
    واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في سنن الدارقطني بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (باع حرا قد أفلس في دينه) [قط 3 / 16، هق 6 / 50] أي باع منافعه، وهذا من باب المجاز لامتناع ذلك في الشريعة، وهذا كقوله تعالى {واسأل القرية} أي اسأل أهلها، فقوله (باع حرا) أي باع منافعه، أي أجره، وهذا يدل على أن يعمل ويتكسب ليقضي دينه، ويستدل على ذلك بأن الشريعة قد دلت على وجوب إعطاء صاحب الحق حقه، وإنما عذر المعسر لإعساره، أما وهناك وسيلة لقضاء الدين فإنه لا عذر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد، فإعطاء الحق لصاحبه واجب، ووفاء الدين واجب، والتكسب والعمل وسيلة إلى ذلك فهو قادر على هذه الوسيلة فوجبت عليه.
    واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والصحيح هو القول الأول لقوة أدلتهم كما تقدم، وأما الآية فالمراد به العاجز عن قضاء دينه من ماله ومن تكسبه، فهو المعسر أما إذا كان قادرا على قضاء الدين بتكسبه فليس بمعسر، فالمعسر هو العاجز عن قضاء الدين، ولا يعتبر معسرا إذا كانت عنده قدر على التكسب.
    المسألة الثانية: أنه ينفق على المحجور عليه من ماله بالمعروف، وينفق على من ينفق عليهم ويعولهم بالمعروف أيضا أثناء الحجر، ويترك له بعد الحجر ما ينفق على نفسه وعياله بالمعروف، هذا إذا لم يكن له قدرة على التكسب، وأما إذا كان له قدرة على التكسب والإنفاق على نفسه وعياله فإنه لا يترك له شيء من ذلك، واختلف أهل العلم هل يترك له مسكنه أم لا؟
    على قولين:
    القول الأول: أنه يترك له مسكن لائق به بالمعروف، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
    القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يباع عليه ويكترى له.
    (14/49)
    ________________________________________
    أما دليل أهل القول الأول من أنه لا يباع عليه مسكنه فقالوا: لأن المسكن من الحاجيات، فأشبه النفقة المتفق عليها، فإن النفقة بالمعروف من الحاجيات، ويمكن أن يعطى من النفقة ما يدفع عنه الجوع ويذهب عنه الظمأ، ومع ذلك يترك له ما يطعمه بالمعروف وكذلك الكسوة، وهي من الحاجيات فكذلك المسكن.
    وأما أهل القول الثاني فاستدلوا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) ، قالوا: فقوله (خذوا ما وجدتم) عام فيدخل فيه المسكن، وأجاب أهل القول الأول عن استدلالهم بهذا الحديث بأنها قضية عين فيحتمل ألا مسكن له، ثم إن قوله (خذوا ما وجدتم) إنما هو فيما تصدق عليه به، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقوا) فتصدق الناس، ثم قال: (خذوا ما وجدتم) أي من الصدقات التي تصدق عليه بها.
    فالأظهر هو القول الأول، وأنه يترك له ما يسكنه بالمعروف، ولكن هل يستثنى من ذلك ما إذا كان قد استدان فاشترى مسكنا أم لا يستثنى منه؟
    استثنى هذا بعض الحنابلة، وقوى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذا القول، بل قد قوى مذهب المالكية والشافعية، وتقدم أن قول المالكية والشافعية مرجوح في هذه المسألة، ولكن هل ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الحنابلة صحيح؟
    الجواب: هذا فيه قوة حيث كانت هناك قرينة تدل على أنه كان محتالا مبطلا، وقد اشترى هذا المسكن ثم قال إنه معسر، فهذا قد تلاعب بأموال الناس وأراد أن يصل إليها بالطرق الباطلة، فإذا اشترى السكن مستدينا ثم ادعي الإعسار فإذا كانت هناك قرينة تدل على احتياله فإن الشريعة قد أتت بإبطال الحيل، فحينئذ يعامل بنقيض قصده فيباع بيته ويعطى غرماؤه كل منهم يأخذ قسطه كما تقدم تقريره.

    فصل في المحجور عليه لحظه
    قوله [ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظهم]
    (14/50)
    ________________________________________
    يحجر على السفيه، وهو البالغ العاقل المكلف لكنه ليس حسن التصرف بالمال، بل عنده تبذير وتلاعب بالمال، فهذا هو السفيه كما تقدم تقريره في شروط البيع، وليس المراد من في عقله شيء من النقص بل المراد من عنده سوء تصرف في المال، ويحجر كذلك على الصغير أي غير البالغ، ويحجر على المجنون أي غير العاقل، وهذا هو النوع الثاني من أنواع الحجر وهو الحجر لحظ النفس، والفرق بين الحجر لحظ النفس والحجر لحظ الغير أن الحجر لحظ النفس عام في عين المال وفي الذمة، فيحجر عليه ولا يتصرف في ماله ولا في ذمته، وأما المحجور عليه لحظ غيره فإن الحجر على المال، وأما الذمة فإنه يتصرف فيها كما تقدم تقريره.

    قوله [ومن أعطاهم ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا]
    (14/51)
    ________________________________________
    إذا أعطى شخص أحدا من هؤلاء الثلاثة - السفيه أو المجنون أو الصغير - ماله بيعا أو قرضا رجع بعينه، فإن أدرك ماله فإنه يرجع به، فالبيع غير صحيح، فإذا أدرك ماله وإن كان فيه تغير فإنه يأخذه، وهذا ظاهر لأن البيع عليهم باطل لا يصح، فالمبيع راجع إلى صاحبه، وإن أتلفوها لم يضمنوا، لأنه مفرط حيث عاملهم بالبيع أو القرض سواء علم بالحجر أم لا، لأن الحجر عليهم مظنة الشهرة فلم يعذر فيه بالجهل، فقد فرط حيث لم يتبنه لذلك، وعليه فإذا أتلفوا المال ولو كنوا متعمدين فإنهم لا يضمنوه في أموالهم، وظاهر كلامهم أن هذا عام في هؤلاء ومنهم السفيه، والذي يظهر أن الحجر على السفيه ليس مظنة الشهرة، فهو رجل عاقل مكلف لكن عنده سوء تصرف في المال، فمعرفة الحجر عليه ليس مظنة الشهرة، فالذي يظهر وهو قول لبعض الحنابلة عبر عنه صاحب الإنصاف بقوله:" قيل " أن البائع أو المقرض أو نحوهما إذا جهل أن هذا سفيه فإن السفيه يضمن، لأنه عاقل مكلف قد يسلط على مال غيره من غير تفريط من هذا الغير فكان ضامنا، وأما إذا دخل على بصيرة فهو الذي قد مكنه من التصرف في ماله وإتلافه فلا يضمن.

    قوله [ويلزمهم أرش الجناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم]
    في المسألة السابقة حيث كان التعامل فيه تسليط، أي قد سلطهم على ماله، وأما إذا كان التعامل ليس فيه تسليطا كالعارية والوديعة فإن المعير والمودع لم يسلط المستعير ولا المودع على ماله، بل قد جعله عند هذا عارية، ليستفيد منها ثم يعيدها من غير إفساد لها، وجعل هذه وديعة عنده، فهي أمانة، فإذا وضع وديعة أو عارية عند أحد من هؤلاء الثلاثة فأتلفها فهل يضمن أم لا؟
    قولان في المذهب:
    القول الأول: أنه لا ضمان، وذلك لأنه لما أعارهم وأودعهم فقد مكنهم من التصرف فيها وإتلافها.
    (14/52)
    ________________________________________
    القول الثاني: أنهم يضمنون، وذلك لأنه لم يمكنهم من التصرف فيها، فهو لم يسلطهم عليها، وإنما جعلها أمانة أو عارية وليس في هذا تخويل لهم في التصرف فيها، والذي يظهر هو القول الأول وذلك لأنه بهذا قد سلطهم على ماله ومكنهم منه، وهذا في غير السفيه، فالسفيه مكلف، والحجر إنما يكون في التصرفات المالية، والأمر هنا ليس كذلك، فقد وضعت عنده عارية وهذه أمانة فلا يحل له أن يتصرف فيها، فإذا تصرف فقد اعتدى، فالذي يظهر أن السفيه يضمن مطلقا، حتى لو علم الآخر أنه سفيه محجور عليه، وذلك لأنه لم ينه عن مثل هذا، وإنما نهي أن يتصرف في ماله، وهذا ليس من التصرف في المال، والآخر وهو المودع أو المعير لم ينه عن إيداع السفيه ولا عاريته، إنما نهي عن التعامل معه بالبيع والشراء ونحو ذلك.

    قوله [وإن تم لصغير خمس عشرة سنة...... زال حجرهم]
    إذا كمل الصغير خمس عشرة سنة فيكون حينئذ بالغا، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني - وفي رواية (ولم يرني بلغت) وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) [خ 2664، م 1868، حب 11 / 30، برقم 4728، بلفظ (عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت ... ) ، قط 4 / 115، بنفس لفظ ابن حبان] فهذا يدل على أن من تم له خمس عشرة سنة فهو بالغ، وهذا هو فهم الراوي، والراوي أعلم بما روى، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي.
    وقال مالك: ليس للتكليف سن محددة، بل يعرف ذلك بالاحتلام ونحوه وأما السن فلا، وقال أصحابه إذا بلغ سن سبع عشرة سنة، وقال أبو حنيفة كذلك في الأنثى، وفي الذكر إذا بلغ ثماني عشرة سنة أو تسع عشرة سنة، وهذه الأقوال لا دليل عليها، والراجح هو القول الأول للحديث المتقدم.
    (14/53)
    ________________________________________
    قوله [أو نبت حول قبله شعر خشن]
    وهو نبات شعر العانة، وهو علامة على البلوغ، ودليل ذلك ما رواه الأربعة بإسناد صحيح عن عطية القرظي قال: (عرضنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - - أي اليهود - يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) [حم 18299، ت 1584، د 4404، ن 4981، جه 2542] فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نبات الشعر الخشن حول القبل جعله علامة من علامات البلوغ، وذلك لأن الصبي لا قتل كما تقدم في كتاب الجهاد، وهنا لم يقتلوا فدل على أنهم غير بالغين، وشعر العانة يكون خشنا، وأما غير الخشن فإنه قد ينبت في الطفل وغيره.

    قوله [أو أنزل]
    إجماعا، فإذا أنزل فبالإجماع يثبت له البلوغ، قال تعالى {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} أي الاحتلام، فهذا دليل من القرآن، وقد أجمع أهل العلم على ذلك وأن من أنزل وإن كان ابن عشر سنين أو أقل أو أكثر فهو بالغ، فالبلوغ يكون في أحد هذه العلامات الثلاث، ولا يشترط اجتماعها، ولا - كما يظن بعض الناس - أنه لا بلوغ إلا إذا تمم خمس عشرة سنة، بل البلوغ يكون بأحد هذه العلامات الثلاثة، وهذه العلامات يشترك فيها الذكور والإناث، إلى أن قال المؤلف
    قوله [..... وتزيد الجارية البلوغ بالحيض وإن حملت حكم ببلوغها]
    فالحيض علامة على بلوغ المرأة بلا نزاع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) [حم 24641، جه 655، د 641، ت 377] فالحائض بالغ، وإن كانت بنت عشر سنين، وكذلك الحمل بلوغ، لأنه لا حمل إلا بماء، ولا ماء إلا بإنزال، فإذا حملت المرأة فهذا دليل على أنها قد أنزلت وأن لها ماء إذ لا حمل إلا بماء كما تقدم.

    قوله [أو عقل مجنون ورشد]
    (14/54)
    ________________________________________
    إذن إذا تم للصبي خمس عشرة سنة أو نبت شعر عانته أو أنزل أو عقل مجنون، فإذا عاد المجنون إلى علقه ورشدا، أي رشدا جميعا، أي عقل هذا وبلغ هذا وثبت لهما الرشد، لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فاشترط الرشد مع البلوغ، فإذا بلغ الطف ورشد، وعقل المجنون ورشد فحينئذ يزول حجرهم.

    قوله [أو رشد سفيه زال حجرهم]
    أي بلغ ولم يرشد ثم رشد، فحينئذ يزول حجرهم، للآية الكريم المتقدمة {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
    قوله [بلا قضاء]
    أي لا يشترط القضاء، فلا يشترط أن يحكم القاضي بأنهم قد رفع عنهم الحجر بل يرتفع عنهم تلقائيا، فلا ينتظر فيهم حكم الحاكم خلافا للإمام مالك، وذلك لإطلاق الآية الكريمة المتقدمة، فإن الله تعالى قال {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ولم يقيد الله عز وجل الدفع بحكم الحاكم، بل أمر الأولياء بأن يدفعوا إليهم أموالهم بمجرد ما يزول عنهم الحجر، وأما مالك رحمه الله فإنه اشترط حكم الحاكم وقال: إن معرفة البلوغ والرشد تحتاج إلى اجتهاد، فكان هذا إلى نظر الحاكم، وفيما ذهب إليه رحمه الله نظر، وهو أن يقال: إن معرفة البلوغ والرشد من الأمور المشهور والمعروفة عند الناس، والأولياء الذي خولهم الله حفظ أموال من تحت أيديهم يعرفون مثل هذه الأمور، وثانيا: إن الله تعالى قد خول الأولياء فقال {فإن آنستم} وقال {فادفعوا إليهم} فهي مسؤولية الأولياء لا مسؤولية الحاكم.
    (14/55)
    ________________________________________
    أما إذا كان الشخص رشيدا فأصيب بالسفه فحكم الحاكم بحجره لسفهه، فالمشهور من المذهب أن هذا الحجر لا يزول إلا بحكم الحاكم، وذلك لأنه قد ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه، وقال أبو الخطاب من الحنابلة بل يزول من غير حكمه لزوال علته، والأول أولى احتياطا للمال أولا، وثانيا: أن هذا الأمر قد يتعجل فيه ويسارع فيه فكان مرجع ذلك إلى الحاكم، ولأنه أيضا قد تحدث له بعض التصرفات المالية وقد حكم الحاكم بالحجر عليه فيقع نزاع وخصومة فيمكن أن يقال: إن الحاكم حكم بالحجر عليه فلا يصح تصرفه، والمتصرف قد بنى تصرفه معه على أنه أصبح رشيدا فيقع النزاع والخصومة بين الناس، فالأولى أنه حيث ثبت بحكم الحاكم فلا يرتفع إلا بحكم الحاكم وهو المشهور في مذهب الحنابلة.

    قوله [ولا ينفك الحجر قبل شروطه]
    فلا ينفك الحجر عن الصبي حتى يبغ ويرشد، ولا ينفك عن السفيه حتى يرشد، ولا ينفك عن المجنون حتى يعقل ويرشد، فلا ينفك عنهم قبل الشروط، وإن أصبح الصبي شيخا وإن تزوجت المرأة، فإن هذا لا يغير في الحكم شيئا، فلا ينفك الحجر قبل الشروط التي اشترطها الله عز وجل بقوله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}
    قوله [والرشد الصلاح في المال]
    (14/56)
    ________________________________________
    هذا هو الرشد، قال تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} والصلاح في المال ضد الفساد فيه، والفساد هو السفه والتبذير فيما لا فائدة فيه في دين ولا دينا، وأولى منه أن يذره فيما هو حرام من شرب خمر أو غناء أو مجون أو نحو ذلك، وقال الشافعية وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة: الرشد هو الصلاح في المال والصلاح في الدين، وعليه فالفاسق وإن كان رشيدا في تصرفه في ماله فإنه يحجر عليه، قالوا: لأن الفاسق غير ثقة في تصرفه في ماله، والراجح هو القول الأول، وهو أن الفاسق غير محجور عليه، ما دام راشدا في تصرفاته المالية، وذلك لأنه لا تلازم بين الفسق والسفه في المال، فإن الفاسق ثقة في تصرفاته المالية لما في ذلك من حظ نفسه، نعم إذا تصرف في ماله تصرفا يقتضي سفها فهذا يدل على أنه غير راشد في تصرفاته المالية، كأن يتصرف في ماله بمقتضى فسقه تصرفات فيها تبذير في ماله، لكن إن كان راشدا في تصرفاته المالية فلا وجه للحجر عليه، ثم إنهم يقولون إن أعطى ماله وهو عدل رشيد في التصرف في ماله ثم طرأ عليه الفسق فلا يحجر عليه، بخلاف ما إذا طرأ عليه تغير في التصرفات المالية بأن أصبح غير رشيد فإنه يحجر عليه، ففرقوا بينهما، فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الرشد هو الصلاح في المال.

    قوله [بأن يتصرف مرارا فلا يغبن غالبا]
    (14/57)
    ________________________________________
    وذلك بأن يعطى مالا ويقال له: بع أو اشتر أو غير ذلك مما هو لائق، ثم يكرر هذا مرارا حتى يتبين لنا أنه لا يغبن في الغالب، لكن إن وقع منه غبن أحيانا فلا بأس به، فإن هذا يقع للراشد في تصرفاته فقد يغبن أحيانا، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان لا يغبن غالبا فإنه لا يحجر عليه، وليس أيضا أي غبن، بل المراد الغبن الفاحش أي بأن لا يغبن غبنا فاحشا غالبا، أما لو غبن غبنا غير فاحش فهذا غير مؤثر، فإن الرشيد لا يسلم منه الغبن اليسير، كأن يشتري الشيء الذي يساوي مائة وعشرة يشتريه بمائة وعشرين.

    قوله [ولا يبذل ماله في حرام]
    فإذا كان تبذير المال في الأمور المباحة سفه، فتبذيره في الأمور المحرمة أولى بالسفه، كأن يبذر ماله في الفجور وشرب الخمور ونحو ذلك فلا شك أن هذا يحجر عليه.

    قوله [أو في غير فائدة]
    كذلك إذا كان يصرف ماله في غير فائدة كما تقدم تقريره، فهذا يدل على سوء تصرفه في المال، فيقتضي حجرا عليه، فإن كان تصرفه فيما ينفعه في الآخرة ولكنه يضر في الدنيا بمن يعول فكذلك يحجر عليه، كأن ينفق أمواله في أوجه البر إنفاقا يضر بمن يعول، وهذا يدل على سفه لأنه قد قدم ما هو مستحب على ما هو واجب، ومثل ذلك إذا كان وحده فهو لا يعول أحدا، ومع ذلك أنفق ماله وهو لا يثق بصبر نفسه، وعدم تطرقه إلى ما لا يحل من سؤال ونحوه، فكذلك يحجر عليه، لأنه أدخل على نفسه الضرر بمثل هذا التصرف وهذا سفه.

    قوله [ولا يدفع إليه حتى يختبر]
    لقول الله تعالى {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم، وقد تقدمت طريقة الاختبار.

    قوله [قبل بلوغه]
    (14/58)
    ________________________________________
    فهذا الاختبار يكون قبل البلوغ، فمثلا: رجل عنده يتيم مقبل على البلوغ، فيأمره ببعض التصرفات التي لا تضر بماله، ويثبت بها معرفة رشده من سفهه، وهذا حيث كان مميزا مراهقا، أي يكون هذا قبيل البلوغ، لأنه هو الذي يمكن أن يتعرف على مثل هذا فيه، وليس المراد قبل البلوغ بوقت طويل، أي بمجرد التمييز مثلا، ولذا لو قال المؤلف (قبيل البلوغ) لكان أولى، فالمميز المراهق الذي يعرف المصالح والمفاسد وما يكون فيه صيانة لماله ونحو ذلك، فهذا هو محل الاختبار، ودليل كون الاختبار قبل البلوغ قوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} فسمى المبتلين: يتامى، واليتيم هو غير البالغ، فالبالغ لا يسمى يتيما، ولأنه قال سبحانه {حتى إذا بلغوا النكاح} فدل على أن هذا الاختبار يكون قبل بلوغهم.

    قوله [بما يليق به]
    لا بد أن يكون هذا الاختبار بما يليق به، فلا يختبر الأمير الذي قد ترك والده إرثا، لا يختبره بأن ينظر بيعه وشراءه، لأنه ليس من أهل التجارات، وإنما يعطى شيئا من المال وينظر في تصرفه فيه، فإن تصرف فيه بما فيه فائدة لنفسه في دينه أو دنياه فهو رشيد، وابن التاجر ونحوه يعطى مالا ويؤمر فيه بيع أو شراء ليتعرف على ضبطه في شرائه ورشده فيه، وهكذا.

    قوله [ووليهم حال الحجر الأب]
    فالأب هو الولي، وذلك لكمال شفقته وحرصه على صيانة مال ابنه والحفاظ على مصلحته، وهل للجد ولاية؟
    (14/59)
    ________________________________________
    المشهور من المذهب أنه لا ولاية له، وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي أن الجد له ولاية، وهذا أصح، لقول الله تعالى {واتبعت ملة آبائي إبراهيم} الآية، فسمى الله الجد أبا، ولقول أبي بكر - رضي الله عنه -:" الجد أب " [حم 15675، خ 3658] ولما له من النصيب الكبير الذي يقارب ما للأب من الشفقة والحرص على مصلحة ابن ابنه، فالجد على الراجح يكون وليا، واختار شيخ الإسلام رحمه الله أن سائر العصبة أولياء، فيقدم أقربهم له، لما لهم من الولاية التي اقتضت الإرث في الشرع، فكانوا أولياءه في ماله، ولما لهم من الحرص على مصلحته لوجود هذه العصوبة بينهم وبينه.

    قوله [ثم وصيه]
    أي ثم وصي الأب، أي نائبه بعد الممات، الوكيل يكون في الحياة، والوصي بعد الممات، فإذا توفي الأب وأوصى لفلان من الناس بالولاية على ابنه فهو أولى من غيره، وهل يقدم عليه الجد وسائر العصبة على القول بولايتهم؟
    استظهر صاحب الإنصاف تقديمهم على الوصي، والذي يظهر خلاف ذلك، وأن الوصي أولى منهم، وذلك لأن الوصي نائب الأب، فقام مقام الوكيل، فكما أن الوكيل هو النائب عن الأب في الحياة وهو أولى من الجد وغيره في الولاية، فكذلك بعد الممات فهو النائب عن الأب، ولأن كمال شفقة الأب لا يشبهها شيء، واختياره لهذا الوصي يدل على أن هذا الوصي له قيام كبير في هذا الباب لأولاده وأن هذا الوصي قد يكون أكمل شفقة من سواه.

    قوله [ثم الحاكم]
    أي القاضي، وذلك لما له من الولاية العامة، فالحاكم له الولاية العامة والقاضي نائب عن الإمام الأعظم، فإن لم يكن ثمت قاضي شرعي فيقوم مقامه أمين، فيختار أمين يقوم مقامه بالولاية، إذا الأولى بالولاية الأب فالوصي فالجد فالعصبة أقربهم فأقربهم ثم الحاكم فإن لم يكن فيختار أمينا قويا في حفظه وصيانته، يقوم مقام الحاكم في حفظ المال.

    قوله [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ]
    (14/60)
    ________________________________________
    فلا يتصرف الولي إلا بالأحظ والأصلح، لقول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فإذا كان يريد أن يبيع له عقارا فلا يتعجل في بيعه، بل يتريث حتى يكون ذلك أحظ له، وعليه فلا يحل له أن يعتق من ماله ولا أن يهب ولا أن يهدي، ولا أن يحابي كأن تكون هذه الأرض تساوي مائة ألف فيشتريها من صديقه بمائة وعشرة آلاف لليتيم، فهذا لا يجوز، وإن تصرف بمثل هذه التصرفات فهو ضامن لأنه متعد، فالأمين يضمن بالتعدي أو بالتفريط، أما إذا غبن في شراء شيء غبنا يسيرا يقع مثله فهذا لا يؤثر.

    قوله [ويتجر له مجانا]
    فإذا أرد أن يبيع ويشتري له بهذا المال، فإنه يبيع ويشتري مجانا، فليس له أن يأخذ على التجارة له شيئا، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لا يحل أن يعقد لنفسه، فهو عندما يعقد العقد التجاري بينه وبين اليتيم إنما يعقد لنفسه ولا يحل هذا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول لبعض الحنابلة أنه يستحق الأجرة على ذلك، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن هذا التصرف التجاري خارج عن حفظ المال، وصيانته والإنفاق على اليتيم، وقد قال تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وهذا قربنا لمال اليتيم بالتي هي أحسن فلا مانع منه، وأما قولهم إنه ولي فلا يعقد لنفسه فلا دليل على هذا ولا مانع شرعي يقتضي ألا يعقد لنفسه، بل لو كان هذا العقد لنفسه هو الأصلح فهو الأولى به، فلو أنه مثلا أراد أن يبيع أرضا لموليه فوقف السوم على مائة ألف، وكان أحظ له لكنه يرغب بها، فزاد شيئا من المال فاشتراها منه فلا يظهر أن هناك مانع لأن هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن.

    قوله [وله دفع ماله مضاربة بجزء معلوم من الربح]
    (14/61)
    ________________________________________
    فله أن يتفق مع رجل آخر على أن يتاجر بمال اليتيم بجزء معلوم الربح، إما النصف أو الربع أو غير ذلك مما يكون فيه مصلحة لليتيم، فهذا جائز لأنه قائم على مصلحته ونائب عنه في التصرف فجاز أن يعقد له مثل هذا العقد، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن المسألة التي قبلها هو الذي يتاجر بالمال بنفسه، وأما هنا فهو يعقد لغيره، فالمتاجر غيره وهو يعقد لهذا الغير، وكلاهما جائز كما تقدم.

    قوله [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته أو أجرته مجانا]
    (14/62)
    ________________________________________
    لقول الله تعالى {ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} فله أن يأكل من مال يتيمه، قالوا: وقدره الأقل من كفايته وأجرته مجانا، فيقال: قدر أجرتك بالمعروف لو أننا أردنا أن نعطيك أجرة على هذه الولاية، فقال: كل شهر ألف ريال، هذه الأجرة على حفظ المال وصيانته، وهذا يرجع إلى كثرة المال وقلته وما فيه من تجارات ونحو ذلك، ويقال له بعد ذلك: ما كفايتك؟ فإن قال: ألفا ريال، فيقال له: خذ ألف ريال لأنه الأقل، وإن قال الأجرة خمسة آلاف، وكفايتي ألفا ريال، فيقال: خذ ألفي ريال، إذن يأخذ الأقل من كفايته وأجرته، قالوا: لأنه إنما يأخذ المال بهما، فاشترط اجتماعهما ولا يجتمعان إلا في الأقل، فهو يأخذ المال لأجرة عمله، ويأخذ المال لحاجته وكفايته، فيجتمعان في الأقل لا في الأكثر، والذي يظهر وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل وهو صريح قول بعض الحنابلة أنه يأكل بالمعروف، وهو ظاهر الآية الكريمة، وعليه فلو كانت أجرته أقل أو أكثر والذي يكفيه بالمعروف هو كذا، فإنه يأكل بالمعروف سواء كان ما يأكله أكثر من أجرته أو أقل، ولأن المسألة ليست قضية إجارة، بل هي قضية ولاية فيها معنى الأمانة ونحو ذلك من الحفظ، وهو لا يأخذ عليها مع غناه، بل يأخذ مع فقره، فجاز له الأكل بالمعروف وإن كانت أجرته أقل، وذلك للآية الكريمة المتقدمة، ولما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رجلا قال للني - صلى الله عليه وسلم -: إني فقير وإن لي يتيما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر - أي متعجل، فتتعجل بالأكل قبل كبر اليتيم - ولا متأثل) [ن 3668، د 2872، جه 2718] مؤجل للمال، فتأخذ شيئا زائدا عن الكفاية، وظاهره أنه يأكل ما يكفيه مطلقا سواء كان ذلك أقل من أجرته أو أكثر منها.

    قوله [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال]
    (14/63)
    ________________________________________
    يقبل قول الولي أبا كان أو وصيا، والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال، فإذا اختلف الولي والمولي - أي المحجور عليه - فالقول قول الولي أو الحاكم، فإذا اختلفا في النفقة في قدرها، فقال الولي: أنفقت عليه في هذه السنوات التي قد حجر عليه فيها ألف درهم، وقال المولي المحجور عليه بل لم ينفق علي إلا خمسمائة، فالقول قول الولي فيحلف أنه أنفق عليه كذا وكذا، إلا أن يأتي المحجور عليه ببينة تدل على صدق قوله، أو أن يكون الظاهر يخالف قول الولي كأن يدعي إنفاقا زائدا لا يتحمله الواقع فحينئذ يكون الظاهر موفقا لقول المحجور عليه، فمثلا: ادعى المحجور عليه أنه لم ينفق عليه عشرة آلاف، وادعى الولي أنه أنفق عليه عشرة آلاف، وكان الواقع يوافق قول المحجور عليه، والظاهر يخالف قول الولي فحينئذ يكون القول قول المحجور عليه وذلك لوجود القرينة.
    كذلك إذا اختلفا في الضرورة، فمثلا باع الولي عقارا للضرورة، وادعى المحجور عليه بعد فك الحجر أنه قد باعه لغير ضرورة، وقال الولي بل بعته لضرورة فقد احتاج لبيع هذا العقار لأجل الكسوة ونحوها، فالقول قول الولي لأنه أمين.
    (14/64)
    ________________________________________
    كذلك إذا اختلفا في الغبطة، وهي المصلحة، فمثلا باع الولي عقارا وادعى أنه باعه لمصلحة، وخالفه المولى فقال: بل لا مصلحة، ولا غبطة، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، والمشهور من المذهب أن بيع الغبطة هو البيع الذي فيه مصلحة، وقال بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين في المذهب: بيع الغبطة أو يزيد الثمن الثلث فأكثر على بيع المثل، كان يكون شيئا يستحق مائة ألف فيبيعه بمائة وأربعين ألفا، وقال القاضي من الحنابلة: بيع الغبطة ما فيه زيادة ظاهره سواء كانت الثلث أو أقل، والصحيح أن بيع الغبطة ما فيه مصلحة سواء كانت زيادة ظاهرة أو غير ظاهرة، لعموم قول الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} وبيع شيء من عقاره فيه مصلحة للمولي هذا من قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن، فهو جائز، وهو المشهور من المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
    وكذلك التلف، فإذا ادعى الولي أن المال قد تلف عنده، وأنكره هذا المولي وقال بل هو قد أتلفه أو قد غيبه وجحده أو نحو ذلك، فحينئذ القول قول الولي لأنه أمين، وهذا كما تقدم ما لم تكن قرائن تخالف قول الولي.
    (14/65)
    ________________________________________
    وكذلك إذا اختلفا في دفع المال، فقال الولي: أعطيته المال بما بلغ رشده، وقال المولي: لم يعطني شيئا، ولا بينة فالقول قول الولي لأنه أمين، وقال ابن رجب في القواعد:" ويحتمل أن يكون القول قول المحجور عليه ما لم يكن هناك بينة "، وقواه صاحب الإنصاف، وهو الذي يظهر، وذلك لأن الأصل عدم الدفع فالأصل هو بقاء المال عند الولي وحيث ادعى الدفع فهو ادعاء لنقل المال من يده إلى يد موليه، فإذا لم يكن له بينة فالأصل هو البقاء، ويده يد أمانة في مدة مكث المال عنده، وعليه فالذي يظهر أن القول قول المولي، لأن الأصل هو بقاء المال، لكن إن أشهد على دفع المال للمولي فإنه يقبل قول الولي للبينة، فإن لم يأت ببينة فيلزمه أي الولي أن يدفع المال إلى المولي في الظاهر، وإن كان في الباطن قد دفعه.
    هذا - أي ما ذكره الحنابلة في هذه المسائل كلها - حيث كان الولي متبرعا، وأما إذا كان الولي غير متبرع بل يأخذ مقابل ولايته أجرة، كأن يضع الوالد وصيا لولده مقابل أجرة من المال يأخذها، فحينئذ ليس القول قول الولي في المشهور من المذهب، وذلك لأنه منتفع، فيده ليست يد حفظ وصيانة فحسب، بل يد انتفاع، وحيث كان الأمر كذلك فالقول قول المولي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في الكلام على الوديعة إن شاء الله.

    قوله [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له وإلا ففي رقبته كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلفه]
    (14/66)
    ________________________________________
    إذا استدان العبد، فإنه يلزم الدين سيده إن أذن له، وذلك لأن السيد قد غرره حيث أذن له، وأما إن لم يأذن له سيده فإنه يتعلق الدين في رقبة العبد، وحينئذ يقال للسيد اختر أحد أمرين: إما أن تسلم العبد للدائن، وإما أن تفديه، والفداء يكون بأقل الأمرين، إما بقدر الدين، وإما بقدر القيمة، مثال هذا: استدان عبد بلا إذن من سيده مائة ألف، فيقال للسيد: إما أن تسلم العبد وإما أن تفديه، وطريقه الفداء ما يستحق العبد، فوجدناه مثلا يستحق عشرة آلاف، فنقول: تعطي الدائن عشرة آلاف وتحرر عبدك من الدين، فتختار أقل القيمتين، وذلك لأن المال متعلق برقبته فلم يلزم سيده بأكثر من ذلك، وظاهر ذلك علم المتعامل أم لم يعلم، وعن الإمام أحمد أنه معامله إذا علم فلا يتعلق الحق برقبة العبد، وذلك لأنه دخل على بصيرة، وهذا هو الظاهر، وذلك لأن العبد لا يصح تصرفه في المال، فإذا دخل معامله معه على بصيرة من أمره فقد غرر بنفسه فلم يتعلق ذلك في رقبة العبد.
    وقوله (كاستيداعه) إذا وضع عند عبد وديعة فأتلفها فإن الحق يتعلق برقة العبد، فيقال للسيد إما أن تسلمه، وإما أن تفديه، فلو فرض أن الأمانة تساوي ثلاثين ألفا، وأن العبد يساوي أربعين ألفا، فإن السيد حينئذ يدفع له ثلاثين ألفا لأنها هي الأقل.
    قوله (وأرش جناية) إذا اعتدى العبد وجنى، فتتعلق الجناية في رقبته، فإما أن يسلمه إلى المجني عليه، وإما أن يفديه السيد، وطريقة الفداء، مثلا وجدنا الجانية تساوي عشرة آلاف، والعبد يساوي خمسة آلاف، فيعطون خمسة آلاف، فلا يلزم السيد بشيء زائد.
    قوله (وقيمة متلف) إذا أتلف العبد شيئا، فإن الحق يتعلق في رقبته، فإما أن يسلم السيد العبد، وإما أن يفديه بأقل الأمرين كما تقدم.
    وهنا مسائل متعلقة بالحجر:
    * المسألة الأولى:
    (14/67)
    ________________________________________
    أن لولي الصبي ونحوه أن يأذن له بالتصرف بما جرت به العادة من صدقة يسيرة كأن يتصدق بالدرهم والدرهمين ونحو ذلك، وكأن يشتري الطفل شيئا من اللعب ونحوهما من أمور اللهو فهذه قد جرت بها العادة فيسمح بمثلها، وكذلك أن يشتري طعاما بلا إسراف.
    ** المسألة الثانية:
    أن للزوجة أن تنفق من بيت زوجها ما جرت به العادة بالسماح بمثله بلا إذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة فلها أجرها بما أنفقت وللزوج أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا) [خ 1425، م 1024] ولأن جريان العادة بمثل ذلك يجري مجرى الإذن.
    أما إذا منعها من ذلك أو علمت منه المنع لشح ونحو ذلك أو شكت في رضاه فليس لها ذلك، كما أنه ليس لها أن تخرج من بيته ما لم تجر العادة بمثله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره والحديث صحيح: (لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيب نفس) [حم 20172] ، وهذا مال زوجها فلا يحل إلا بطيب نفس، فإن أذن فذاك وإلا فلا.
    *** المسألة الثالثة:
    هل يحجر الزوج على زوجته الرشيدة الحسنة التصرف في المال أم لا؟
    على ثلاثة أقوال للعلماء هي روايات عن الإمام أحمد:
    (14/68)
    ________________________________________
    الرواية الأولى: وهي الرواية المشهورة في المذهب أنه ليس له أن يمنعها، بل تتصرف كما شاءت، فلو أنفقت المرأة مالها كله من غير إذن زوجها بل مع منعه فها ذلك، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين: (أن ميمونة - رضي الله عنها- أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: أوفعلت؟ قالت نعم قال أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) [خ 2592، م 999] قالوا: فقد أعتقت هذه الوليدة من غير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تصدقن ولو من حليكن) [خ 1466، م 1000] فأمرهن بالتصدق من حليهن ولم يشترط استئذان أزواجهن.
    الرواية الثانية: وهي مذهب مالك أن الزوج يمنعها مما زاد على الثلث، وأما ما نقص فلا يمنعها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: (الثلث والثلث كثير) [خ 2742، م 1628]
    الرواية الثالثة: أن له أن يمنعها مما قل عن الثلث، ومما زاد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) [حم 6643، ن 2540، د 3547] وفي لفظ: (لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها) [حم 7018] والحديث حسن، قالوا: والحديث عام فيما قل عن الثلث وفي الثلث وفيما زاد عن الثلث، فالحديث عام، وفيه رد على مذهب مالك، فلا تتصرف المرأة بأي شيء من مالها إلا ما جرت به العادة، وهذا القول هو قول الليث بن سعد وطاووس من التابعين، وهذا القول هو أرجح الأقوال.
    (14/69)
    ________________________________________
    أما الجواب عما استدل به الإمام مالك فقد تقدم، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الأول فإنه لا مانع من أن تكون ميمونة علمت إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في العتق ويندب إليه، ويبعد أن تعتق ميمونة وهي تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره هذا، وأنه لا يأذن فيه، ولذا أرشدها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو خير، فظاهر الأمر أنها علمت إذنه في ذلك، وإن لم يكن إذنا خاصا في هذا، ولذا قالت:" ولم استأذنه " بل قد علمت إذنه العام، لا سيما وهو يحث على عنق الرقاب، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقن ولو من حليكن) فكذلك حيث علمت المرأة الإذن العام من زوجها، ولا يعقل أن يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء أن يفعلن شيئا يكون فيه معارضة لطاعة الأزواج، والحديث المتقدم حديث صريح في المسألة ولا شك أن الحديث المحكم مقدم على الحديث المتشابه، فالراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية الثالثة وهو مذهب الليث بن سعد وطاووس.

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    باب الوكالة
    (14/70)
    ________________________________________
    الوكالة بفتح الواو وكسرها، والأشهر الفتح، وهي لغة: التفويض، وأما اصطلاحا: فهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، والقاعدة أن كل حق لله تعالى أو لآدمي فالنيابة فيه مطردة كما قرر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، إلا ما لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له، فكل حق من حقوق الآدمي من طلاق وبيع وشراء وصلح وغير ذلك وكل حق لله تعالى من تفرقة الزكاة، وتفرقة الصدقة وتفرقة الكفارة ونحو ذلك فإنها تدخلها النيابة، إلا إذا كان لا يحصل المقصود إلا بفعل المكلف له كما يكون هذا في إقامة الحد، فإن المقصود منها عقوبة المجرم، وكذلك في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وغيرها، فالمقصود هو فعل المكلف لها فلا تحصل فيها الوكالة.
    والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فلقول الله تعالى في سورة الكهف في قصة أصحاب الكهف حيث قال بعضهم لبعض {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف} وأما السنة فكما تقدم في حديث عروة البارقي وتوكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - له شراء الأضحية) (1) وكذلك توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب في جمع الصدقة كما هو ثابت في الصحيحين، وكذلك توكيل معاذ بن جبل في أخذ زكاة أهل اليمن، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جواز الوكالة، والحاجة داعية إليها، فإن الإنسان يحتاج إلى أن يوكل غيره في شيء من شؤونه من بيع وشراء ونحو ذلك، والشريعة قائمة بتحصيل المصالح ومن ذلك الإذن للمكلفين بالوكالة.

    قوله [تصح بكل قول يدل على الإذن]
    __________
    (1) 1– مسند الإمام أحمد (18867) البخاري (3643) أبو داود (3384) الترمذي (1258) ابن ماجه (2402) .
    (14/71)
    ________________________________________
    فكل قول يدل على الإذن بالتصرف فإن الوكالة تثبت وتصح معه، فإذا قال له: بع لي هذا البيت، أو اشتر لي هذا البيت، أو أذنت لك بأن تبيع هذا الشيء ونحو ذلك من الألفاظ القولية الدالة على الوكالة فإن الوكالة تثبت فيها.
    وظاهر كلام المؤلف أنها لا تثبت بالفعل، وهو المشهور في المذهب، فلو أعطى أحداً ثوباً وكان إعطاؤه له مفهماً له أنه يوكله بخياطته أو بتغسيله فإن الوكالة لا تثبت بذلك، والصحيح أنها تثبت بالفعل، وهو ظاهر كلام القاضي من الحنابلة واستظهره صاحب الفروع، وهذا القول هو الراجح كالبيع، ولأن المقصود التعرف على الرضى وذلك يحصل بالفعل كما يحصل بالقول، فالمقصود أن هذا الفعل قد دلنا على أن هذا يريد أن يوكل وأنه راضٍ بذلك، وهذا هو الإيجاب.

    قوله [ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه]
    ما تقدم هو الإيجاب، والإيجاب ما يصدر عن الموكل، وأما القبول فهو ما يصدر عن الوكيل، فيصح القبول من الوكيل على الفور والتراخي، فمثلا قال له: بع لي هذه الدار، فقال: قبلت فوراً، أو كان قبوله متراخياً كأن يبلغه بعد زمن أن فلاناً قد وكله فرضي بهذه الوكالة، كأن يكتب له ورقة فلا تصل إليه إلا بعد شهر أو شهرين أو نحو ذلك، فلا يشترط في القبول الفورية، وذلك لأن الإيجاب دل على الإذن فالإذن باقٍ لا رافع له، فلا يؤثر فيه التراخي، ويصح القبول بالقول وبالفعل الدال عليه، فإذا قال: قبلت هذه الوكالة، أو أخذ السلعة وكان أخذه لها دليلاً على رضاه بهذه الوكالة فإن الوكالة تثبت.
    وتصح الوكالة مؤقتة كوكلت سنة، أو بشرط نحو إذا جاء الشتاء فافعل كذا.
    قوله [ومن له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه]
    (14/72)
    ________________________________________
    فمن له التصرف في شيء فله أن يكون موكلا وله أن يكون وكيلا، فمثلا: الرجل له أن يطلق زوجته، فله أن يوكل غيره في الطلاق، ويجوز أن يوكل غيره بالبيع أو بالشراء ونحو ذلك، لأن هذه التصرفات صحيحة منه فصح أن ينيب غيره فيها، وكذلك يصح أن يكون وكيلا فيها، لأنها لو كانت له لصح التصرف فيها، فهذا الرجل لو كان متزوجا لصح طلاقه، فالصفات المشترطة في صحة الطلاق متوفرة فيه، ولو كان متزوجا لصح طلاقه فيصح أن يكون وكيلا في الطلاق، لذا تقدم في التعريف اشتراط جواز التصرف في الوكيل والموكل.

    قوله [ويصح التوكيل في كل حق آدمي]
    إجماعاً.
    قوله [من العقود]
    كعقد البيع وعقد الصلح وعقد العارية وغيرها، وذلك لأنه يصح له أن يتصرف فيها فجاز له أن يوكل وقد تقدم ذلك.

    قوله [والفسوخ]
    كالإقالة والخلع، فيجوز أن يوكل من يخالع زوجته، ومن يقيل بيعا له ونحو ذلك.

    قوله [والطلاق والرجعة]
    فيجوز له أن يوكل من يطلق عنه أو يراجع عنه.

    قوله [ويملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه]
    كذلك يجوز التوكيل في تمليك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه، كأن يضع وكيلا عنه في تملك ما يصطاد، أو تملك ما يجتث، وفي إحياء الموات ونحو ذلك، وذلك لأنها حقوق آدمي له التصرف فيها فجاز أن يوكل.

    قوله [لا الظهار واللعان والأيمان]
    ولا النذور، وذلك لأنها متعلقة بعين الشخص فلم يصح التوكيل فيها.
    والظهار يقول له: وكلتك في أن تظاهر عني. فيقول: أنتِ على زوجكِ كظهر أمه عليه، وهذا منكر من القول وزور كسائر المعاصي.
    قوله [وفي كل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات]
    (14/73)
    ________________________________________
    فكل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات فيجوز التوكيل فيه كأن يوكل من يذكي عنه أضحية أو من ينحر عنه، كما ثبت في مسلم (1) من توكيل علي بذلك. ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته، ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ويجوز ذلك في العبادات المالية.
    وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم فإن النيابة لا تصح فيها، وتقدم التفصيل في مسألة الحج والكلام عليها.
    والأصل في حقوق الله أنها لا تدخله النيابة، ولا يجوز له في المشهور من المذهب إن وكل في الصدقة أن يأخذ منه لنفسه إذا كان من أهل الصدقة وذكر في الإنصاف احتمالاً بالجواز والأظهر الأول لما فيه من التهمة ولأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى غيره. لكن هل يجوز له أن يدفع منه لوالده وولده وزوجته فيها وجهان والأظهر المنع للتهمة.
    قوله [والحدود في إثباتها واستيفائها]
    كذلك تصح الوكالة في الحدود في إثباتها وفي استيفائها أي في إيقاعها على المجرم المعاقب، فيجوز للحاكم أن يوكل من يقوم بالنظر في الأدلة التي تثبت الحد على المتهم، ويجوز له أن يوكل من يستوفي الحدود فيقيمها على أربابها، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) (2)
    فقوله (فإن اعترفت) فيه توكيل في إثبات الحد، وفي قوله (فارجمها) فيه توكيل في استيفاء الحد.

    قوله [وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل إليه]
    هنا ثلاث صور:
    الصورة الأولى: أن يقول الموكل: وكلتك ولك حق التوكيل، ونحو ذلك فباتفاق العلماء له أن يوكل للإذن فيه.
    الصورة الثانية: أن يمنعه من التوكيل، فيقول: وليس لك حق التوكيل، أو أنت منهي عن التوكيل، فباتفاق العلماء ليس له أن يوكل.
    __________
    (1) 1 – مسلم (1317) .
    (2) 1 – البخاري (6828) مسلم (1698) .
    (14/74)
    ________________________________________
    الصورة الثالثة: أن يوكله من غير إثبات للإذن ولا نفيه، كأن يقول: وكلتك، من غير أن يقول: لك الحق في التوكيل، ولا أن يقول: ليس لك الحق في التوكيل، ولها ثلاث حالات:
    الحالة الأولى: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه مما يتولاه هذا الوكيل، أي مما يناسب ويليق بمثله، ولا يعجز عنه، فحينئذ ليس له أن يوكل، وذلك لأن صاحب الشأن لم يأذن بالتصرف عنه إلا لهذا الوكيل فليس له أن يعدي الوكالة إلى غيره حيث لا إذن، مثال ذلك: أن يوكل شريفا من أشراف الناس وسيدا من ساداتهم على جبي الصدقات، فهذا من الأعمال التي تليق بمثله ولا يعجز عنها.
    الحالة الثانية: أن يكون هذا الشيء الموكل فيه ليس مما يتولاه مثل هذا الوكيل أو يعجز عنه ولا يقدر عليه، فحينئذ إيقاع الوكالة مع علم الموكل بهذا يدل على أنه أراد منه أن يوكل من يقوم بهذا العمل، فإذا أسدى الخليفة إلى أمير من الأمراء أن يبني له شيئا أو يحمل له شيئا معينا إلى موضع، فهذا لا شك أنه لا يليق بهذا الأمير، وحينئذ فتوكيل الخليفة له يدل على أنه إنما أراد القيام بهذا الشأن بالوكالة، أو كان يعجز عنه كأن يكون صناعة من الصناعات ويعرف أنه لا يحسن هذه الصناعة ولا يتقنها، وليس من أهلها فحينئذ يكون مراد الموكل القيام بها ولو كان هذا بالوكالة.
    الحالة الثالثة: أن يكون هذا الوكيل قادرا على البعض عاجزا عن الكل، كأن يعطيه عملا كبيرا كالقيام بأعمال كثيرة يعلم الموكل قطعا أن هذا الوكيل لا يمكنه القيام بهذه الأعمال كلها إلا ومعه من يعينه على ذلك، فهل يجوز له أن يوكل؟
    (14/75)
    ________________________________________
    المشهور من مذهب الحنابلة والشافعية أن له أن يوكل مطلقا، بمعنى أن له أن يخرج عن القيام بهذا العمل بالكلية ويوكل غيره بالقيام به، والوجه الثاني في مذهب الحنابلة والشافعية أنه لا بد وأن يكون طرفا فيه، فلا بد أن يقوم ببعض العمل وأما أن يوكل فيه كله فلا، فله أن يوكل فيما لا يستطيع، ويقوم هو بما يستطيع، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأننا لا نخرج عما دلت عليه الوكالة من قيامه هو – أي الوكيل – بها إلا بقرينة تدل على ذلك، وهنا القرينة إنما دلت على عدم قيامه بالعمل كله، لا على عدم القيام ببعضه، فإنه يمكنه أن يقوم ببعضه، وإنما دلت على أنه يحتاج إلى وكلاء معه، وعليه فيضع معه وكلاء، وأما أن يتخلى عن العمل بالكلية ويضع وكلاء فلا.

    والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    قوله [والوكالة عقد جائز]
    فالوكالة عقد جائز، أي لكل من الوكيل وموكله الفسخ بغير رضى الآخر ما لم يكن هناك ضرر، فإن كان ضرر فلا يجوز، فالوكالة عقد جائز، وذلك لأنه من جهتيهما لا يقتضي لزوما، أما الموكل فلأن هذا من جهة إذنه، فالوكالة متعلقة بإذنه، وأما الوكيل فلأنها متعلقة ببذل نفع منه، وهذا ليس بلازم، فكانت الوكالة من العقود الجائزة.

    قوله [وتبطل بفسخ أحدهما]
    لما تقدم فهي عقد جائز فإذا فسخها أحدهما فإن الوكالة تبطل.

    قوله [وموته]
    وكذلك جنونه، وذلك لأن من شرطها أن يكون الموكل والوكيل جائزا التصرف، والميت ليس له أهلية التصرف فبالموت تبطل الوكالة، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، فمات زيد، وهو الموكل قبل البيع فإن هذه الوكالة تبطل، لأن أهلية التصرف تبطل بالموت، وكذلك إذا جن لأن المجنون ليس له أهلية التصرف.

    قوله [وعزل الوكيل]
    (14/76)
    ________________________________________
    فتبطل الوكالة بعزل الوكيل، فإذا عزل الموكل وكيله بطلت الوكالة، فمثلا: قال وكلتك على أن تبيع هذه الأرض، ثم عزله فإن الوكالة تبطل، وذلك لأن ذلك حق له، والوكالة عقد جائز ولا يشترط في هذا العزل رضى الوكيل، لأنه حق للموكل ولو لم يرض الوكيل.
    وظاهر كلام المؤلف وهو المذهب سواء علم الوكيل بالعزل أو الموت أو لم يعلم، فإذا وكل زيد عمروا ببيع أرض له، ثم عزله وأشهد على عزله، ولم يعلم الوكيل بالعزل، أو مات الموكل ولم يبلغه موته فإنه ينعزل، وعليه فتصرفاته - أي تصرفات الوكيل - تكون باطلة، ففي المثال السابق لو باع الأرض وهو لم يعلم بموت الموكل أو عزله له فإن البيع باطل إلا أن يجيزه الموكل، كما تقدم في تصرف الفضولي من أنه موقوف على الإجازة، وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، وذهب الأحناف إلى أنه ينعزل بالموت لا بالعزل، والمراد إذا لم يعلم بذلك، وأما إذا عزله بعلمه وعلم بالعزل فلا خلاف بين العلماء في بطلان الوكالة، لكن إذا مات الموكل ولم يعلم والوكيل وتصرف، فإن تصرفاته باطلة، وإذا عزله الموكل ولم يعلم الوكيل بالعزل فإن تصرفاته تكون صحيحة، وعن الإمام أحمد أنه لا ينعزل لا بالموت ولا بالعزل إلا بالعلم، قالوا: لثبوت الضرر، فإن هذا الوكيل يتصرف بتصرفات من بيع وشراء ونحو ذلك، فإذا قلنا إنها ليس نافذة كان في هذا ضرر لتعلق حق ثالث، فعليه تصح تصرفاته قبل العلم وصوبه صاحب الإنصاف، وأرجح هذه الأقوال فيما يظهر القول الأول، وهو القول بأنه ينعزل بالموت قبل العلم، وينعزل بالعزل قبل العلم، والتصرفات باطلة وموقوفة على الإجازة، وهذا لما تقدم من التعليل القوي وهو أن فسخ الوكالة لا توقف على الرضى فلم يتوقف على العلم، ولأنه إنما أذن له بالتصرف بهذه الوكالة، وهنا قد بطلت الوكالة بالعزل فلم يصح التصرف، إلا أنه يستثنى حيث كان هناك تغرير من الموكل وعلم أنه أراد التغرير
    (14/77)
    ________________________________________
    فحينئذ تثبت هذه الوكالة ولا تبطل. وإذا عزل الوكيل كان ما في يده أمانة لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط.
    وهل يضمن الوكيل إذا تصرف بعد عزله وقبل علمه أم لا؟
    قولان في المذهب القول الأول: أن الوكيل يضمن هذه التصرفات، وهو غاية في الضعف، وذلك لمخالفته لقواعد الشريعة وأصولها فإنه لم يفرط، وقد تصرف تصرفا بناء على بقاء هذه الوكالة، ولم يقع منه أي تفريط فلا وجه لتضمينه.
    القول الثاني في المذهب: أنه لا يضمن مطلقا وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لم يفرط، فعلى ذلك إذا تصرف الوكيل بعد عزله وقبل علمه فالتصرف باطل لبطلان الوكالة بالعزل، وهذه التصرفات موقوفة على الإجازة على ترجيح قول تقدم ذكره وهو أن تصرف الفضولي صحيح مع الإجازة، ولا يضمن الوكيل لعدم تفريطه، ويتوجه تضمين الموكل إذا كان قد غرر به لأنه هو المتعدي بالتغرير. ولا تقبل دعوى الموكل العزل لوكيله بعد تصرفه لتعلق حق الغير به إلا ببينة لكن يستثنى الطلاق ويدين.
    هل تبطل وكالة الثاني بموت الوكيل الأول أم لا؟
    إذا قال الموكل للوكيل: وكلتك ولك الحق في التوكيل، فوكل غيره فمات الوكيل، فهل تبطل هذه الوكالة أم لا تبطل؟
    فيه تفصيل:
    1- أما إن قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عني فوكل عنه، فالوكيل الجديد وكيل عن صاحب المال، وحينئذ فإذا مات الوكيل الأول فلا تبطل الوكالة.
    2- وأما إذا قال له: وكلتك ولك أن توكل عن نفسك من شئت، فوكل عن نفسه من شاء ثم مات فإن الوكالة تبطل، لأن هذا اللفظ مقتضاه أن الوكيل الجديد وكيل عن الوكيل الأول.
    (14/78)
    ________________________________________
    وكذلك العزل: فليس له العزل في الحالة الأولى، وله العزل في الحالة الثانية، فإذا قال: وكلتك وأذنت لك أن توكل عني، فليس له العزل، لأنه إذا عقدها مع الوكيل الجديد فحينئذ يكون هذا الوكيل قد ارتبط بالأول، وأما إذا قال له وكلتك وأذنت لك أن توكل عن نفسك، فوكل عن نفسه فله أن يعزل لأن هذا وكيل عنه.

    قوله [وحجر السفيه]
    إذا حجر على السفيه بطلت الوكالة، وذلك لأن السفيه غير جائز التصرف فليس له أهلية التصرف، وحينئذ فإن كان طرفا في الوكالة فتبطل الوكالة، بخلاف الحجر على المفلس، فإن الوكالة لا تبطل إذا كان طرفا فيها، وذلك لثبوت أهلية التصرف له كما تقدم، لكن إن كانت الوكالة في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها فتبطل الوكالة، وذلك لأن هذه الوكالة قد تعلقت بما لا يجوز التصرف فيه، فهو لا يجوز له أن يتصرف في أعيان ماله التي ثبت الحجر عليها، فلا يصح حينئذ أن يوكل فتبطل الوكالة، وأما كونه وكيلا أو موكلا في أشياء أخر ليست من هذا الباب، كأن يوكل في نكاح أو طلاق أو أن يوكل في بيع أو شراء أو نحو ذلك فهذه الوكالة صحيحة لأنه جائز التصرف.

    قوله [ومن وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده]
    من وكل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده، وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، فإذا قال الموكل لوكيل وكلتك أن تبيع داري، فهل للوكيل أن يشتريها؟ أو قال وكلتك أن تشتري لي دارا فهل له أن يبيع له داره؟
    الجواب: لا يجوز ذلك، فلا يجوز أن يكون بائعا ولا مشتريا، وكذلك لا يجوز أن يدخل ولده أو زوجته وسائر من لا تقبل شهادته له ممن يتهم فيهم، وذلك لعلتين:
    الأولى: أن العرف هو بيع الشخص من غيره لا من نفسه، فكانت الوكالة كذلك، فالوكالة ترجع إلى العرف، فإذا قال بع لي هذه الدار، فالأصل في هذا البيع أن يكون بيعا على غيره، وحينئذ فالوكالة ترجع إلى هذا.
    (14/79)
    ________________________________________
    الثانية: التهمة من ترك الاستقصاء في الوصول إلى الثمن المناسب، فهنا العلتان أوجبتا المنع من أن يكون الوكيل طرفا في البيع والشراء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وعن الإمام أحمد أن ذلك جائز، بشرط أن ينادي عليها ويكون المنادي غيره، ويشتريها بسعر أكثر مما وصلت إليه في المناداة، وحينئذ فتدفع التهمة المتقدمة من ترك الاستقصاء.
    ولا يظهر أن هذا كاف لدفع التهمة، فإن قد يبيعها في أيام لا تصل فيه السلعة مع النداء إلى ثمنها المناسب، وإن زاد عليه كما هو معلوم في بيع السلع، فالمقصود أنه متى استقصى وجعل لها سعرها المناسب ثم زاد على ذلك فإن ذلك يكون دافعا للتهمة المتقدمة، وأما العلة الأولى وهو أن العرف أن البيع يكون بيع الرجل من غيره لا من نفسه، فالجواب عن هذا: أن مقصود الموكل يحصل بهذا البيع بل مقصوده يحصل وأعظم منه إذا باع الموكل لنفسه، فإن مقصوده أن تباع هذه السلعة بثمن مناسب لها، فإذا بيعت بهذا الثمن المناسب وزيادة فإن مقصوده يحصل بل يحصل أعظم منه، فالذي يظهر هو هذا القول، وأنه متى استقصى استقصاء ظاهرا واشتراها بأعلى مما تقف عليه سوما فإن هذا البيع صحيح، وكذلك الشراء لما تقدم، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي، ومثل ذلك الولي على اليتيم والحاكم، فإذا احتاج الولي إلى بيع شيء من مال موليه اليتيم ووصل سعره في السوق إلى سعر ما بعد الاستقصاء ثم اشتراه فإن هذا الشراء جائز، لعدم وجود التهمة، ولقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} .

    قوله [ولا يبيع بعرض ولا نسأ ولا بغير نقد البلد]
    (14/80)
    ________________________________________
    ليس للوكيل أن يبيع بعرض، فإذا قال: بع لي هذه الشياة، فباعها الوكيل بإبل أو بثياب أو نحو ذلك فهذا لا يجوز، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فإن عقد الوكالة يقتضي أن يبيعها بدراهم أو دنانير، فإذا باعها بعرض فإن هذا البيع لا يصح، فهو إنما أذن له ببيع يقتضيه عقد الوكالة، وكذا إذا باعها نساء أي بتأخير، فإذا قال: بع لي هذه الدار بمائة ألف، فباعها بمائة ألف ريال إلى شهر، فالبيع باطل، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضي ذلك، فهو يقتضي أن يكون الثمن حالا لا مؤجلا، وكذلك إذا باعها بغير نقد البلد، فكذلك البيع يكون باطلا، لأن مقتضى عقد الوكالة أن يبيعها بنقد البلد، وعليه فالبيع باطل، وحينئذ يكون من تصرف الفضولي، وتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا أجاز الموكل وقال رضيت بهذا البيع وإن كان بغير نقد البلد أو رضيت به وإن كان بعرض أو رضيت بتأخير الثمن فيكون البيع صحيحا وإلا فهو باطل.

    قوله [وإن باع بدون ثمن المثل]
    فمثلا كأن يقول له بع لي هذه السيارة، وكان سعرها مثلا عشرة آلاف، فباعها بتسعة آلاف.

    قوله [أو دون ما قدره له]
    فهاتان مسألتان في البيع، والمسألتان اللتان بعدهما في الشراء.

    قوله [أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل]
    كأن يقول: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا، وسعر مثلها كان عشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.

    قوله [أو بأكثر مما قدره له]
    كأن يقول له: اشتر لي سيارة وصفها كذا وكذا بعشرة آلاف، فاشتراها له بأحد عشر ألفا.

    قوله [صح البيع وضمن النقص والزيادة]
    (14/81)
    ________________________________________
    إذن البيع صحيح، يضمن الوكيل النقص في مسألتي البيع، ويضمن الزيادة في مسألتي الشراء، وذلك لأنه مفرط، إلا إذا كان الغبن الذي غبن به غير فاحش فإنه معفو عنه هذا إذا لم يقدر له ثمنا للبيع أو الشراء، وهذا هو المشهور من المذهب، وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق وهو مذهب الشافعي أن البيع لا يصح، وعليه فعلى القول بوقف تصرف الفضولي على الإجازة يكون موقوفا على الإجازة وإلا فهو بيع باطل، وذلك للعلة المتقدمة، وهي أن عقد الوكالة لا يقتضي هذا، فعقد الوكالة يقتضي أن يشتري له سيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، أو أن يبيع له السيارة بثمن مثلها أو بما حدده له، وما زاد أو نقص فهو غير مأذون فيه، وحينئذ يكون تصرفه خارجا عن مقتضى الوكالة، وهذا القول هو الراجح وعليه فهذه البيوع باطلة إلا أن يجيزها الموكل.والراجح المذهب لأن الوكيل لم يخالف في أصل العقد فقد باع بإذن الموكل ولا ضرر على الموكل إلا بالنقص ويضمن له.
    قوله [وإن باع بأزيد]
    كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف فباعها بأحد عشرة ألفا.

    قوله [أو بع بكذا مؤجلا فباع حالا]
    كأن يقول بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فباعها بعشرة آلاف حالة، فهذا يعتبر خيرا للموكل.

    قوله [أو اشتر بكذا حالا فاشترى به مؤجلا]
    كأن يقول اشتر بعشرة آلاف هذا الشيء حالا، فاشتراه بعشرة آلاف مؤجلا، فهذه كلها فيها خير للموكل، فعقد الوكالة وإن لم يقتضيها لكن فيها خير، وقد تقدم حديث عروة البارقي الذي رواه البخاري وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع أحدهما بدينار، فهو قد اشترى الشاتين بدينار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكله أن يشتري شاة بدينار، فهذا فيه خير وإن لم يقتضيه عقد الوكالة فكان جائزا، لكن بشرط وهو ألا يكون فيه ضرر فيهما ولذا قال:
    قوله [ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا]
    (14/82)
    ________________________________________
    أما إذا كان فيهما ضرر كأن يلحقه ضرر بحفظ المال كأن يقول: بع لي هذه السيارة بعشرة آلاف مؤجلة، فيبيعها بهذا الثمن حالا ويضره أن تكون هذه العشرة آلاف معه الآن ويخالف مقصوده فإنه لا يريد حفظ المال في هذا الوقت، وفي المسألة الأخرى له مقصوده بكون الثمن الذي يدفعه حالا فحينئذ لا يصح التصرف لأنه خالف عقد الوكالة، والمشهور من المذهب أنه يصح وإن كان فيه ضرر، فإذا قال بع لي هذه السلعة بعشرة آلاف إلى سنة، وهو لا يريد المال الآن فباعها بهذا السعر حالة فإنه يصح وإن كان عليه ضرر، والصحيح خلافه لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وإنما صححناه حيث لا ضرر لأن هذا البيع يحصل به أعظم من المقصود وأعظم من المراد فلا يتوجه المنع منه مطلقا، وأما حيث كان هناك ضرر فحينئذ يكون قد خالف عقد الوكالة على وجه يضر به، وما ذكره المؤلف هو أحد القولين في المذهب.

    والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    فصل
    قوله [وإن اشترى ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله]
    (14/83)
    ________________________________________
    إذا اشترى الوكيل ما يعلمه معيبا، فقد اشتراه على بصيرة فإنه يلزمه، لأنه قد اشتراه على بصيرة، ولأن عقد الوكالة يقتضي شراء السليم، فإن رضي موكله فحينئذ يكون للموكل لرضاه، هذا إن كان الشراء في الذمة من الوكيل للموكل، وذلك لأنه قد نوى الشراء له، وأما إذا كان هذا الشراء بعين مال الموكل كأن يقول: اشتر لي بهذه الدراهم دارا، فاشترى له دارا معيبة فلا يصح في المذهب، وهذا يرجع إلى تصرف الفضولي والخلاف فيه، وقد تقدم أن الصحيح أن تصرف الفضولي موقوف على الإجازة كما هو أصح الأقوال في هذه المسألة، إذن إذا تصرف الوكيل له في الذمة تصرفا لا يقتضيه عقد الوكالة فرضي به الموكل فيصح ذلك لأنه قد نوى الشراء له، أما إذا كان بعين مال الموكل فلا يصح، والصحيح ما تقدم من أنه موقوف على الإجازة، فإن رضي الموكل فالبيع صحيح، ويكون من باب تصرف الفضولي.

    قوله [فإن جهل رده]
    فإذا جهل الوكيل هذا العيب الموجود في السلعة فإنه يرد هذه السلعة، لأنها معيبة، والوكيل يقوم مقام موكله فهو نائب عنه، فكما أن الموكل له الرد بالعيب فكذلك الوكيل.

    قوله [ووكيل البيع يسلمه ولا يقبض الثمن بغير قرينة]
    مثاله: وكل زيد عمروا في أن يبيع له سيارة، فإن عمروا وهو الوكيل يقبض المشتري السيارة، وذلك لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، فقد وكله في البيع ومقتضى عقد الوكالة أن يسلم هذه السيارة للمشتري، ولكن هل يقبض الوكيل الثمن من المشتري عن موكله أم لا؟
    قولان في المذهب:
    (14/84)
    ________________________________________
    القول الأول: وهو المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف من أنه لا يقبض الثمن بغير قرينة، فليس له أن يقبض الثمن لأنه إنما وكله في البيع ولا يقتضي هذا إلا تسليم المبيع، وأما قبض الثمن فلا يقتضيه عقد الوكالة، وهو قد يوكل بالبيع من لا يثق به في القبض، إلا بقرينة تدل على أنه أراد منه أن يقبض الثمن، كأن يعطيه سلعة ليبيعها في سوق هو غائب عنه، فمقتضى هذا أن يستلم الثمن.
    القول الثاني: أنه يقبض الثمن مطلقا، وفيه ضعف لمخالفته عقد الوكالة كما تقدم.

    واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن مرجع هذه المسألة إلى العرف والعادة، وذلك لأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي وما ذكره الشيخ قرينة عرفية فإن أعطاه حلياً ليبيعه فيقبض الثمن لوجوب التقابض فهي قرينة شرعية.

    قوله [ويسلم وكيل المشتري الثمن]
    فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن للبائع كالمبيع، فكما أن لوكيل البائع أن يسلم المبيع، فلوكيل المشتري أن يسلم الثمن، لأن عقد الوكالة يقتضي هذا، وهل يقبض وكيل المشتري السلعة المبيعة أم لا؟
    على ما تقدم في قبض وكيل البائع الثمن.
    قوله [فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه]
    إذا أخر وكيل البائع تسليم المبيع أو أخر وكيل المشتري تسليم الثمن بلا عذر وتلف ضمنه، لأنه قد تعدى بالتأخير، والمتعدي ضامن.

    قوله [وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحا.... لم يصح]
    إذا وكله في بيع فاسد فإن هذا البيع لا يصح لأن الموكل لا يصح له أن يبيع هذا البيع الفاسد، فكذلك الوكيل، فلو وكله أن يشتري له خمرا أو أن يبيع له خمرا فإن هذا البيع فاسد كما هو فاسد من موكله، ولو وكله في بيع فاسد فباع صحيحا كأن يشتري له شيئا غير محرم كأن يشتري به إبلا أو بقرا أو خلاً فلا يصح، لأنه لم يأذن له بذلك.

    قوله [أو وكله في كل قليل وكثير.... لم يصح]
    (14/85)
    ________________________________________
    إذا قال: وكلتك في كل قليل وكثير، فطلق نسائي إن شئت، وأنفق مالي إن شئت وهبه إن شئت فأنا قد وكلتك في كل قليل وكثير قال هنا (لم يصح) وذلك لما فيه من الغرر، فقد يطلق عليه كل نسائه وقد ينفق عليه كل ماله ففيه غرر، وقال ابن أبي ليلى من الفقهاء وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بل يصح هذا، قالوا: لأنه إنما وكله لتمام ثقته به، وطمأنينته إلى اختياره، ولأنه لو قال به بالتفصيل لجاز هذا، فلو قال: وكلتك في طلاق نسائي صح، ووكلتك في هبة مالي صح، فكذلك يصح إجمالاً، وهذا القول هو الراجح، وذلك لما تقدم ولأن المصلحة قد تقتضي مثل هذا، كأن يكون عنده سوء تصرف فيوكل من يقوم على مصالحه
    .قوله [أو شراء ما شاء]
    كذلك إذا وكله في شراء ما شاء كأن يقول له: اشتر ما شئت، فيقول: هذه مائة ألف اشتر لي بها ما شئت، فهذا لا يصح.

    قوله [أو عينا بما شاء ولم يعين لم يصح]
    كذلك إذا قال اشتر لي هذه السيارة بما شئت من المال فهذا لا يصح لما فيه من الغرر، وعن الإمام أحمد وهو اختيار طائفة من أصحابه أنه يصح، لما تقدم تقريره، وهو أنه اختاره لكمال ثقته به ولطمأنينته إلى اختياره، ولعلمه أنه لا يختار إلا الأصلح وحينئذ فمثل هذا جائز والأصل في المعاملات الحل.

    قوله [والوكيل في الخصومة لا يقبض والعكس بالعكس]
    فمن وكل في خصومة فليس له أن يقبض كأن يقول الموكل لوكيله أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك في الخصومة عني أي عند المحاكم ونحو ذلك، فهل يقبض المال الذي يخاصم عليه؟
    (14/86)
    ________________________________________
    الجواب: لا يقبضه، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، فعقد الوكالة إنما هو في الخصومة لا القبض، ولأنه قد لا يثق به في القبض مع ثقته في الخصومة، وقوله (والعكس بالعكس) أي إن وكله في القبض فله الخصومة، فإن قال أنا أريد من فلان عشرة آلاف وقد وكلتك أن تقبضها منه، فماطل أو جحد المدين فللوكيل الخصومة، وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني في المذهب أنه ليس له الخصومة وهو الراجح، وذلك لأن عقد الوكالة لا يقتضيه، وهو قد يثق به في القبض لأمانته ولا يثق به في الخصومة لعدم معرفته بطرق إثبات الحق، فإذا قال وكلتك أن تقبض حقي، فماطل أو جحد المدين فليس له أن يخاصم عن موكله، إلا مع القرينة كأن يوكله في قبض مال في ذمة أحد من الناس يعلم الموكل أنه جاحد وأنه مماطل، فمماطلته وجحده قرينة على أنه أراد منه أن يخاصم عنه، فالراجح أن من وكل بالقبض فلا يعني ذلك أن له الخصومة عن موكله إلا أن تكون هناك قرينة.

    قوله [واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته إلا أن يقول الذي قِبَلَهُ]
    إذا قال له وكلتك أن تقبض حقي من زيد، فحينئذ له أن يقبضه من زيد أو من وكيله لأن الوكيل يقوم مقام الموكل.
    وهل له أن يقبضه من ورثة زيد؟
    (14/87)
    ________________________________________
    قال المؤلف هنا ليس له أن يقبضه من ورثة زيد، لأن عقد الوكالة إنما في القبض من زيد، وليس فيه القبض من ورثة زيد، وأما الوكيل فإنه يقوم مقام زيد، إلا أن يقول قبله، فإذا قال: وكلتك أن تأخذ حقي الذي قِبَلَ زيد أي الذي من جهته فحينئذ يأخذه ولو من ورثته لدلالة اللفظ، واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه إن قال اقبض حقي من زيد فله أن يقبضه من ورثته وذلك لأن مراده تحصيل الحق سواء كان من زيد أو من وكيله أو من ورثته، وهذا هو الظاهر من مراده إلا أن يصرح كأن يقول: اقبض حقي من زيد نفسه لا من ورثته فحينئذ ليس له أن يأخذه من ورثته، وما ذكره الشيخ رحمه الله هو الظاهر لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني.

    قوله [ولا يضمن وكيل في الإيداع إذا لم يشهد]
    إذا قبض الوكيل الثمن ثم أودعه أي جعله وديعة عند فلان من الناس ولم يشهد أنه قد أودعه إياه، ثم أنكر المودع عنده فهل يضمن هذا الوكيل؟
    قال: لا يضمن، وذلك لأنه لا فائدة من الإشهاد وعليه فإنه لا يكون مفرطا.
    وهذا يرجع إلى مسألة اختلف فيها أهل العلم وهي: إذا ادعى المودع عنده الرد، فقال: قد رددت الوديعة، فهل يقبل فوله حينئذ فعليه اليمين، أو لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على الرد؟
    قولان لأهل العلم:
    فالجمهور على أنه يقبل قوله مطلقا، أي قول المودع عنده، فإذا اختلف المودع والمودع عنده في رد الوديعة فالقول قول المودع عنده مع يمينه، وعليه فلا فائدة من الإشهاد، فلو أن المودع أشهد على أنه وضع هذا المال وديعة عند فلان، ثم ادعى أنه قد ردها إليه فإنه يقبل قوله فلا فائدة من هذا الإشهاد، وعليه تنبني هذه المسألة في المذهب.
    (14/88)
    ________________________________________
    والقول الثاني: وهو مذهب مالك أنه إذا كان هناك بينة في الإيداع فلا يقبل قول المودع عنده في الرد إلا ببينة، بمعنى وضعت عنده وديعة، وأشهدت على الوديعة فحينئذ لا يقبل قوله في الرد إلا ببينة، وذلك لأن المودع إنما وضع البينة أولا خوفا من الجحود فحينئذ يراعى قصده، وهذا هو المشهور في مذهب مالك، ولذا فعن الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة أي مسألة الباب وهو قول لبعض الحنابلة أن الوكيل يضمن إذا لم يشهد فإذا حصل الوكيل ما وكل به ثم جعله وديعة عند رجل ولم يشهد ثم أنكر هذا المودع عنده فإن الوكيل يضمن وذلك لتفريطه، لأنه لو أشهد لم يقبل قول المودع عنده إلا ببينة وعليه فيكون مفرطا. ولأن المودع عنده قد ينسى فينكر الوديعة.

    فصل
    قوله [والوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده بلا تفريط]
    فالوكيل يده يد أمانة، فإذا تلف شيء في يده وهو لم يفرط فحينئذ لا ضمان عليه، فإذا تسلم الوكيل الثمن ثم حصل له تلف أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك فحينئذ لا يضمن لأنه لم يفرط بترك ما يجب ولم يتعدِ في فعل مالا يجوز كأن يستعمل ما وكل في بيعه فيتلف والتفريط كأن يضعه في غير حرز.

    قوله [ويقبل قوله في نفيه]
    أي في نفي التفريط، فلا نقول هات بينة على أنك لم تفرط، بل متى ادعى أنه لم يفرط وحلف على ذلك فالقول قوله لما تقدم.
    قوله [والهلاك مع يمينه]
    فإذا ادعى الوكيل هلاك المال فكذلك يقبل قوله لأنه أمين وحينئذ فعليه اليمين.

    قوله [ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو لم يلزمه دفعه إن صدقه ولا اليمين إن كذبه]
    إذا ادعى رجل أنه وكيل لزيد في قبض حق زيد من عمرو فما الحكم؟
    (14/89)
    ________________________________________
    لا يلزم عمروا أن يدفع الحق إن صدقه، وذلك لأنه يحتمل أن ينكر زيد، ويقول أنا لم أوكله وحينئذ فيتضرر عمرو بالرجوع عليه، ولا يلزمه اليمين إن كذب الوكيل، فاليمين لا تلزم عمروا لأن اليمين إنما تلزم حيث كان النكول عنها نافعا مثبتا للحق فلا يلزم أن يقول والله إنك كاذب وأنه لم يوكلك.

    قوله [فإن دفعه وأنكر زيد الوكالة حلف وضمنه عمرو]
    فإذا دفع هذا المدين الحق إلى الوكيل، وأنكر زيد الوكالة وقال: أنا لم أوكله، فإن زيدا يحلف لأنه مدعي عليه ويغرم عمرو، وذلك لأن الحق باق في ذمته حتى يسلمه إلى صاحبه، وهو لم يسلمه إلى صاحبه فيبقى في ذمته، ويرجع عمرو على هذا الوكيل بحقه.

    قوله [وإن كان المدفوع وديعة أخذها]
    مثاله: وضع زيد عند عمرو وديعة، فقال: هذه الحلي وديعة عندك، فأتى شخص وادعى أنه وكيل عن زيد في قبض الحلي فقبضه هذا الوكيل، فحيث وجد زيد الحلي فإنه يقبضها في أي موضع وجدها، فإذا وجده في يد هذا الوكيل أخذه، وإذا وجده في يد المشتري من هذا الوكيل أخذه، لأنه عين حقه، وقد انتقل عنه بغير حق فلم يكن هذا الانتقال معتبرا، هذا إذا كان عين الوديعة أو نحوها إن كان باقيا، أما إذا كان تالفا فإنه يضمن أيهما شاء.

    قوله [فإن تلفت ضمن أيهما شاء]
    فإن شاء ضمن هذا الوكيل المدعي للوكالة، وإن شاء ضمن المودع عنده، أما تضمين المودع عنده فلأنه قد فرط في إخراج هذه الوديعة من يده بغير إذن شرعي، فيكون مفرطا وعليه فيكون ضامنا، وأما تضمين القابض المدعي للوكالة فلأنه أخذ الشيء بغير حقه، فقد أخذ شيئا لا يستحقه فيكون ضامن
    والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    باب الشركة
    (14/90)
    ________________________________________
    الشركة يصح فيها هذا الضبط على وزن (سرقة) ، ويصح على وزن (نسعة) بكسر النون وسكون السين، ويصح على وزن (تمرة) ، والشركة هي كما عرفها المؤلف:

    قوله [وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف]
    فالشركة نوعان:
    الأول: شركة أملاك واستحقاق.
    الثاني: شركة تصرف أو عقود.
    فالشركة الأولى وهي شركة الأملاك أو الاستحقاق هي أن يشترك اثنان في عين أو منفعة، كأن يشترك زيد وعمرو في أرض لهما لكل واحد منهما النصف مثلا، أو يشتركان في منفعة ونحوه، وشركة الاستحقاق كل منهما له حق التصرف في نصيبه لأنه ملكه، وأما نصيب الآخر فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذنه، وحينئذ فيكون تصرفه فيه كتصرف الفضولي موقوف على الإجازة، فإذا ورث اثنان أرضا لكل واحد منهما النصف فباعها أحدهما بغير إذن الآخر فإن البيع يصح في نصيبه لا في نصيب الآخر، وصحة البيع في نصيب الآخر موقوف على الإجازة كتصرف الفضولي، وهذا هو النوع الأول من أنواع الشركة.
    أما النوع الثاني وهو ما يبحث فيه في مسائل هذا الباب فهو شركة التصرف أو شركة العقود ولها أنواع كثيرة يأتي ذكرها.

    قوله [وهي أنواع: شركة العنان]
    شركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، وذلك لأن الشريكين في تصرفهما في مال الشركة كفارسين على فرسين قد تساويا في السير، فكان عنان، وهو السير الذي يرتبط باللجام ويمسك به الفارس، كل واحد منهما مساو لعنان الآخر فكذلك في الشركة كل منهما يتصرف، هذا يتصرف من جهة بملكه، ومن جهة أخرى بالوكالة.

    قوله [وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم]
    كأن يدفع هذا عشرة آلاف، وهذا عشرة آلاف، ويشترك فيها بدنان فأكثر، ولا بد أن يكون المال المشترك فيه معلوما، إذ الجهالة غرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر.

    قوله [ولو متفاوتا]
    (14/91)
    ________________________________________
    فلا يشترط التساوي في المال المشترك فيه، فلو دفع أحدهما عشرة آلاف والآخر عشرين ألفا فهذا جائز، فلا يشترط التساوي لحصول المقصود بذلك، وعدم ترتب الغرر، ولأن الأصل في المعاملات الحل.
    قوله [ليعملا فيه ببدنيهما]
    أو يعملان ببدنيهما أو بأبدان من ينيبانه.
    فكلاهما يعمل فيه، فيشتركان في المال، ويشتركان في العمل، ولو كان العمل متفاوتا ما دام معلوما.
    أو يعمل أحدهما ويكون له من الربح أكثر من ربح ماله نظير عمله كالإبضاع في المذهب وهو أن يعطي المال لمن يتجر به والربح كله للدافع والراجح أنه يصح وهو وجه في المذهب لأنه أسقط حقه من الربح برضاه وهو مذهب المالكية.
    قوله [فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما]
    فكل الشركاء ينفذ تصرفهم في هذا النوع من أنواع الشركة، فإذا اشترك زيد وعمرو ودفع كل واحد منهما عشرة آلاف فكل واحد منهما يتصرف بهذا المبلغ، فيتصرف في نصيبه لأنه مالك له، ونصيب الآخر لأنه وكيل عنه، ولذا قال:

    قوله [بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه]
    لأن هذا هو مقتضى هذا النوع من أنواع الشركة، فيتصرف كل واحد منهما بالمال بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب الآخر، ولا يحتاج إلى إذن لأنه مقتضى عقد الشركة، فكل يتصرف بما فيه مصلحة الشركة، أما إذا كان التصرف تصرفا في غير مصلحتها كأن يتصرف في قرض أو عتق أو في محاباة أو في تبرع فهذا لا يقتضيه عقد الشركة فليس له أن يتصرف في هذا الباب، إلا أن يأذن الطرف الآخر، فإن تصرف ضمن.
    (14/92)
    ________________________________________
    وعلى كل واحد منهما أن يقوم بما تجري العادة بتوليه إياه، فكل واحد منهما يقوم بالعمل الذي تقتضي العادة أن يقوم مثله بمثله، فإذا اشتركا في بيع قماش فطيه ونشره وإدخاله وإخراجه من الدكان هذا يقتضيه العقد، ويتولى الشريك مثله، فإذا استأجر الشريك أجيرا لشيء من هذه الأعمال فعليه الأجرة، لأن مقتضى عقد الشركة أن يقوم هو به، فإن قام به غيره فعليه الأجرة، وليست الأجرة من مال الشركة.
    وأما إن كان من الأعمال التي لا تقتضي العادة قيامه بها، كأن تكون الشركة في عدة دكاكين وهما شريكان ومعلوم أنهما لا يمكن أن يقوما بالإشراف والبيع في هذه الدكاكين الكثيرة فحينئذ إذا استأجر أجراء ليقوموا بهذه الأعمال فيكون ذلك - أي أجرتهم - من الشركة.
    أما إذا كانت العادة تجري - كما يوجد عندنا - بمجرد الإشراف عليه ومتابعته للعمال فإذا أتى بأحد يشرف عنه فعليه هو الأجرة، لأن العادة جارية بأن الإشراف يكون على الشريك أو على الشريكين، وأما الأجراء والعمال فإن العادة جارية على أنه لا يتولاه مثله وحينئذ فتكون الأجرة من مال الشركة.

    قوله [ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين ولو مغشوشين يسيراً]
    فيشترط أن يكون رأس المال من النقدين من الدراهم والدنانير المضروبين، ولو كان فيهما غش يسير فلا بأس، فلو كان في الذهب غش يسير من فضة فهذا لا يؤثر، وذلك لأن هذا الغش اليسير لا يمكن التحرز منه، وهذا في القديم لما كانت تضرب الدراهم والدنانير وهو لمصلحة تصليب النقد، وأما إذا كان الغش كثيرا فلا يصح حينئذ المشاركة بها، وذلك لما فيه من الغرر. والمضروب هو الذي جعل نقداً.
    (14/93)
    ________________________________________
    والمذهب يقتصر في شركة العنان على أن يكون مال شركة العنان من الدراهم والدنانير المضروبة، ولا تصح الشركة في العروض، فلو اشتركا في قماش أو ثياب أو أراض عقارية فهذا لا يجوز، وعللوا ذلك: بأن عروض التجارة من القماش والثياب ونحوها أسعارها تزيد وتنقص فلا تكون منضبطة، فإذا أراد أن يفترق الشريكان فحينئذ قد يستوعب نصيب أحدهما المال كله، فمثلا: اشتركا في أراض في حائل وأراض في الرياض، وبعد عشر سنوات أصبحت قيمة الأراضي في الرياض أضعافا كثيرة، ونزلت قيمة الأراضي في حائل فإذا قيل يشتري لهذا أرض في الرياض وللآخر أرض في حائل فقد يستوعب الأول الربح كله أو أكثره فلا يصح الشركة فيها للغرر لأن القيمة غير منضبطة، وذهب الإمام مالك وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو اختيار الإمام محمد بن عبد الوهاب وصوبه صاحب الإنصاف واختيار طائفة من الحنابلة أن الشركة في العروض جائزة، قالوا: لأن الأصل في المعاملات الحل، وأما ما ذكرتموه من الغرر فإنه يندفع بتقويمها عند العقد، وتكون دراهما عند الفراغ من الشركة أو بطلانها، فإذا اشتركا - كما في المثال المتقدم - في أراضي في مناطق مختلفة أو بعروض أو نحو ذلك فإنها تقوم ويكون رأس كل واحد منهما هو هذا، وحينئذ فلا غرر، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.

    قوله [وأن يشترطا لكل منهما جزءا من الربح مشاعا معلوما]
    فيشترط لكل واحد منهما - أي من المتشاركين - جزءا من الربح مشاعا، كالربع والثلث أو النصف ونحو ذلك، وهذا باتفاق العلماء دفعا للغرر، وذلك لأنهما لو قدرا دراهم محدودة في كل شهر فقال: لهذا ألف درهم كل شهر، وللآخر الباقي فهذا فيه غرر، وقد يربح أضعافا مضاعفة، وقد لا يربح شيئا، فيكون في ذلك غرر، وهذا من الميسر المنهي عنه.

    قوله [فإن لم يذكرا الربح.... لم يصح]
    (14/94)
    ________________________________________
    لأن المقصود من الشركة الربح وعليه فإن لم يذكر الربح لم تصح.
    فإذا تشاركا ولم يذكرا الربح لم يصح البقاء على عدم ذكر الربح، وحينئذ فيقسم لكل واحد منهما نصيبه على قدر ماله كما قرر ذلك فقهاء الحنابلة، فعندما يتشارك اثنان في تجارة، كل واحد منهما دفع النصف، ولم يقدرا ربحا فيكون ربح كل واحد منهما النصف، ويتخرج على قول شيخ الإسلام في مسألة شبيهة في فساد الشركة، يتخرج على قوله في تلك المسألة أن كل واحد منهما يعطي نصيبه على قدر النفعين بمعرفة أهل الخبرة، وهذا هو الذي يقتضيه العدل، بمعنى أن كل واحد منهما يعطى على قدر نفعه المالي أولا، وعلى قدر نفعه البدني ثانيا، وأما الحنابلة فقد أعطوا على قدر النفع المالي وأهملوا النظر إلى النفع البدني، فالعدل أن يعطى كل واحد منهما على قدر النفعين النفع المالي، والنفع البدني، وهذا القول هو الراجح.
    وعليه - وهو قول الحنابلة وغيرهم - لو أنهما تدافعا مالا كل واحد منهما دفع النصف، وكان الجزء المشاع لأحدهما أكثر من النصف فهذا جائز نظرا للنفع البدني، وذلك لأنهما تراضيا وتشارطا عليه والمسلمون على شروطهم وهو كما تقدم مقتضى العدل.
    فإذن إذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين ولكلٍ منهما أن يرجع بأجرة نصف عمله.
    قوله [أو شرطا لأحدهما جزءا مجهولا]
    فلو قال لك البعض ولي البعض فهذا مجهول، فلا يجوز ذلك للغرر.

    قوله [أو دراهم معلومة]
    فإذا قال لك ألف ريال أو أكثر أو أقل فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر.

    قوله [أو ربح أحد الثوبين لم تصح]
    (14/95)
    ________________________________________
    إذا قال لك ربح أحد المالين ولي ربح الآخر، كأن يشتركا في مال، وهذا المال في موضعين، فبعضه هنا وبعضه في بلدة أخرى، فقال أحدهما: لي الربح الذي يكون في هذه البلدة، ولك الربح الذي يكون في البلدة الأخرى فهذا لا يجوز، وذلك لأنه غرر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر، فقد يربح هنا ولا يربح هناك، وقد يكون العكس.

    قوله [وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة]
    كذلك المساقاة وسيأتي الكلام عليها، والمزارعة والمضاربة وهي نوع من أنواع الشركة، يشترط أن يكون الربح فيها جزءا مشاعا معلوما باتفاق العلماء دفعا للغرر.

    قوله [والوضيعة على قدر المالين]
    الوضيعة هي الخسارة، فتكون الخسارة على قدر المالين، مثاله: اشترك اثنان فدفع أحدهما ثلث المال والآخر ثلثاه وكان لكل واحد من الربح النصف فالخسارة تكون بقدر المال لا بقدر الربح، وهذا باتفاق العلماء، وهذا هو العدل وذلك لأن الخسارة متعلقة بالمال لا بالربح، فالخسارة لا تعلق لها بالربح، فعلى ذلك من له الثلثان من الربح فالخسارة عليه بقدر الثلثين، ومن له الثلث تكون الخسارة بقدر الثلث نظرا لتعلق الخسارة بالمال نفسه. فإن شرط عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله فسد الشرط وحده لمخالفته مقتضى العقد، وكذا لو شرط ضمان المال لو تلف فهو شرط فاسد، أو شرط أن لا يفسخ الشركة مدة بعينها.
    فعلى ذلك الشروط في الشركة كالشروط في البيع والنكاح:
    شرط صحيح كأن يشترط أن لا يتجر إلا في كذا.
    2- شرط فاسد مفسد للعقد وهو ما يعود بجهالة الربح.
    3-شرط فاسد غير مفسد للعقد كأن يشترط ضمان المال أو لزوم الشركة بأن لا يفسخ مدة معينة.

    قوله [ولا يشترط خلط المالين]
    (14/96)
    ________________________________________
    فلو اشتركا في مال متميز فهذا جائز لا حرج فيه، فلو اشتركا في أراضي عقارية، هذه في جهة وهذه في جهة أخرى فهذا جائز، أو على المذهب حيث لا يجيزون العروض لو اشتركا في دراهم ودنانير ولم يخلطاهما بل تاجر في هذه بجهة، وفي هذه بجهة أخرى فلم تختلط هذه الأموال بل هي متميزة هذا جائز فلا يشترط خلط المالين، وذلك لأن المقصود من هذه الشركة هو الربح سواء كان المالان مختلطين أم متميزين فلا أثر لذلك، ولأن الأصل في المعاملات الحل.

    قوله [ولا كونهما من جنس واحد]
    فلو اشتركا في دنانير ودراهم فهما جنسان مختلفان وهذا جائز للعلة المتقدمة وهي حصول الربح فالربح حاصل وإن كانت الأجناس مختلفة، وعلى القول الذي تقدم ترجيحه لو اشتركا في ثياب وقماش أو اشتركا في أطياب مختلفة فهذا كله جائز، وفي المذهب حيث كانت الدراهم والدنانير لا تزيد ولا تنقص، أما والدراهم تزيد وتنقص فهذا يشكل على المذهب، فلو اشتركا في ريالات ودولارات فالريالات قد تنقص والدولارات قد تزيد أو بالعكس فكانت كالعروض، وحينئذ فالصحيح أنها لا بد أن تقوم ما دام أنها تزيد وتنقص فيقال الدولارات كل دولار يساوي أربع ريالات، وحينئذ نجعل الريالات دولارات أو نجعل الدولارات ريالات، لا بد من هذا، وذلك لأنه في القديم الدراهم لا تزيد ولا تنقص إلا زيادة يسيرة جدا، أو نقصان يسير جدا، وأما في الوقت الحاضر كما قرر هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنها تختلف وتزيد وتنقص فلا بد من تقويمها دفعا للغرر.

    والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
    فصل
    قوله [الثاني: المضاربة]
    والمضاربة جائزة بالإجماع كما حكاه ابن حزم الظاهري رحمه الله.
    (14/97)
    ________________________________________
    وتسمى بالقراض والمقارضة، وقد ثبتت في موطأ مالك عن عمر وعثمان وحكيم بن حزام (1) ولا يعلم لهم مخالف، ويدل عليها الأصل فإن الأصل في المعاملات الحل، والمضاربة من الضرب في الأرض، لأن المضاربة فيها ضرب في الأرض في السفر للتجارة.

    قوله [لمتجر به ببعض ربحه]
    فالمضاربة هي دفع مال لمتجر به ببعض ربحه المشاع المعلوم، وصورتها: أن يدفع رجل مالا معلوما لآخر ليعمل به الآخر ويأخذ - أي الآخر وهو العامل - مقابل عمله وتجارته جزءا معلوما مشاعا كالربع والنصف ونحو ذلك، إذن فالمال من أحدهما والعمل من الآخر، بخلاف شركة العنان فإن كان منهما منه المال والعمل، وفي شركة المضاربة لا بد أن يكون الربح مشاعا معلوما كما تقدم من اتفاق أهل العلم على ذلك، فلو قال ببعض الربح لم يصح لما فيه من الغرر، فإن قال: خذ هذا المال فاتجر به والربح كله لك فالمذهب أنه قرض، وذلك لأنه دفع المال ولا ربح له فيه فكان قرضا وهذا هو المشهور من المذهب، وعليه فيضمنه كما يضمن القرض، وذهب المالكية إلى أن هذا العقد صحيح في باب الشركات، فيبقى قراضا أو مقارضة أو مضاربة ولا يكون قرضا، قالوا: لأن الآخر قد دخل على أنه لا ضمان عليه، ونحن إذا جعلناه قرضا فإنه يضمن، وإذا جعلناه شركة فإن العامل لا يضمن، وهو قد أخذ المال على أنه شريك لا على أنه مقترض، وعليه فيكون قوله والربح لك هبة منه، وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وذلك لأنه لم يدخل على أنه ضامن وأن هذا العقد قرض، ولا بد في العقود من الرضى، فتكون مضاربة والربح هبة.

    قوله [فإن قال: والربح بيننا فنصفان]
    إذا قال خذ هذا المال فاتجر به والربح بيننا، فنصفان لكل واحد منهما نصف، وذلك لأن قوله: والربح بيننا فيه إضافة للمال من غير ترجيح فقد أضاف المال إليهما من غير ترجيح فكان لكل واحد منهما النصف.
    __________
    (1) 1 – الحاكم (1396- 1397)
    (14/98)
    ________________________________________
    قوله [وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثه صح والباقي للآخر]
    إذا قال: خذ هذا المال فاتجر به ولي الربع، أو ولي الثلث أو قال: خذ هذا المال فاتجر به ولك الثلث أو ولك ثلاثة أرباعه، ولم يذكر نصيبه في الأمثلة التي ذكر فيها نصيب الآخر، أو لم يذكر نصيب الآخر في الأمثلة التي ذكر فيها نصيبه فهنا يكون الحكم الصحة، فهي شركة صحيحة، ويكون الباقي للآخر، كما قال تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} ولم يذكر نصيب الأب لأنه مفهوم باللفظ أي وللأب الباقي كما هو معلوم.

    قوله [وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل]
    إذا اختلف المضارب والعامل لمن المشروط فلعامل، فإذا ذكر في العقد أن الثلث لأحدهما، والباقي للآخر فاختلفا فكل منهما يقول للآخر الثلث لك، وبينة بينها فيكون المشروط للعامل، وذلك لأن العامل هو الذي يحتاج إلى ذكر نصيبه وذلك لأن الآخر وهو المضارب حقه متعلق بالمال، وما ذكره الحنابلة هنا متجه فهو تعليل صحيح، لكن حيث لم يشهد العرف بخلافه، أما لو شهد العرف بخلافه فيعتبر العرف كما قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله.
    والآن في البنوك – في وقتنا الحالي - لرب المال.
    قوله [وكذا مساقاة ومزارعة]
    إذا اختلفا في المشروط في المساقاة والمزارعة فالحكم واحد، فإذا اختلفا في النصيب المشروط أهو لصحاب المزرعة أم للمزارع، أهو لصاحب النخل أم لمن تولاها بسقي ونحو ذلك وهو العامل، فإذا اختلفا في ذلك فإن النصيب المشروط يكون للعامل ما لم يشهد عرف بخلافه.
    (14/99)
    ________________________________________
    وإذا اختلفا في قدره فحينئذ القول قول المضارب، فإذا ادعى العامل أن المشروط هو النصف، وأنكر هذا المضارب وقال: بل المشروط هو الثلث فالقول قول رب المال، وذلك لأنه منكر والعامل مدعي، فرب المال ينكر أن يخرج من ماله هذا النصيب الزائد عن الثلث، والآخر يدعيه، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وعليه فيحلف المضارب أنهما قد اتفقا على الثلث لا النصف فإن حلف حكم بقوله.

    قوله [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض فإن فعل رد حصته في الشركة]
    مثال هذه المسألة: اتفق زيد وعمرو على أن يعمل له عمرو بماله، ثم اتفق عمرو مع بكر على أن يعمل له عمرو بماله، فهل يجوز ذلك؟
    هنا لا يخلو من حالين:
    1- أن يكون هذا العقد الجديد للمضارب الآخر مضرا بالأول.
    2- ألا يكون مضرا به.
    فإن كان مضرا بالأول كأن تكون المضاربة الأولى ذات مال كثير وتحتاج إلى أن يستفرغ وقته بالعمل فيها، فحينئذ لا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ضرر ولا ضرار) ، ولأنه دخل معه على عقد مقتضاه أن يفرغ وقته للعمل لأنه مال كثير يحتاج إلى تفرغ، لكن إن رضي الأول بذلك وقال: رضيت وإن كان علي ضرر فحينئذ يكون قد أسقط حقه فلا بأس بذلك.
    أما إذا كانت المضاربة الجديدة لا تخل بالمضاربة الأولى فلا بأس بها.
    (14/100)
    ________________________________________
    فإذا فعل المضارب مضاربة جديدة مضرة بالأول ولم يرض الأول ردت حصته في الشركة أي رد الربح الجديد في الشركة الأولى، فيرد ربحه الذي يكون في الشركة الثانية إلى الشركة الأولى، قالوا: لأن هذا المال - أي الربح الجديد - قد استحق بمنفعته وهي - أي منفعته - للشركة الأولى، فيكون الربح للشركة الأولى، وهذا هو المذهب، وقال الموفق ما حاصله إن الشركة الأولى لا تستحق هذا المال وهذا الربح، بل تكون للعامل، وإن أضر ذلك بالشركة الأولى، وذلك لأن رب المال في الشركة الأولى ليس له في الشركة الثانية لا عمل ولا مال، فلم يستحق شيئا من الربح في الشركة الثانية، وغاية الأمر أن هذا الرجل العامل قد تعدى حيث دخل في الشركة الثانية على وجه يضر بالأولى، فكما لو ترك العمل وكما لو اشتغل لمصلحة نفسه وتعدي العامل لا يوجب عوضاً، وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح، فحينئذ يكون العامل قد تعدى.
    وأما إذا ضارب بمال الشركة الأولى وأدخل مال الشركة الأولى في الشركة الثانية فلا إشكال أن هذا الربح يكون للشركة الأولى، فمثلا أعطاه مائة ألف على أن يعمل فيها، فدفع عشرة آلاف منها لأحد يعمل له فلا شك أن الربح الناتج من هذه العشرة آلاف راجعة إلى الشركة، لأن رب المال في الشركة الأولى له في الشركة الثانية مال أيضا، وإن كان بغير إذنه فلا يجوز له أن يضارب بغير إذنه وعليه فالضمان على العامل، فلو دفع العامل بعض مال المضاربة فحصل تلف بالمال فإن العامل يضمنه لأنه قد تعدى.

    قوله [ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما]
    (14/101)
    ________________________________________
    مثاله: دخلا في الشركة هذا منه المال، وهذا منه العمل، فلا يقسم الربح، كأن يعطيه مائة ألف على أن يعمل بها، فأصبحت بعد سنة مائة وعشرون ألفا فالربح وهو عشرون ألفا لا يقسم إلا برضى الطرفين، أما إذا انتهى العقد فلا إشكال في القسمة، فلا يقسم الربح مع بقاء العقد إلا باتفاقهما وذلك لأن بقاء الربح مع رأس المال يكون وقاية له، فإذا اتفقا على القسمة أو كانت مشروطة فالسلمون على شروطهم.

    قوله [وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه]
    إذا تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أي بعد التصرف في هذا المال الذي وقعت عليه الشركة، فإنه يجبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه، والتنضيض هو رده إلى النقد، فإذا رد المتاع إلى نقد، فهذا هو التنضيض، كأن تكون ثيابا فتباع وتحول إلى نقد، فإذا حصل تلف في رأس المال أو خسارة جبر من الربح قبل قسمته وقبل تنضيضه فينزل التنضيض مع المحاسبة منزلته مع المقاسمة، وهما إذا اتفقا على المشاطرة أو على أخذ جزء مشاع أو نحو ذلك فقد اتفقا على ذلك من الربح، وحيث حصل في رأس المال شيء من النقص فحينئذ لا بد أن يجبر من الربح والمتبقي بعد رأس المال هو الربح، وهذا ظاهر لأن الاتفاق في القسمة إنما هو بعد رأس المال، أما إذا حصلت فيه خسارة أو تلف بعد المقاسمة أو بعد تنضيضه ومعرفة كل واحد منهما ماله، فحينئذ لا يجبر رأس المال، وذلك لأن المضاربة قد انتهت، فتكون الخسارة قد وقعت بعد المضاربة، وإن كانا قد أنشئا مضاربة جديدة فتكون هذه الخسارة ف المضاربة الجديدة لا في المضاربة الأولى، فإذا كان رأس المال مائة ألف، والربح مائة ألف، وبعد القسمة أو بعد التنضيض والمحاسبة لم يكن فيه أي خسارة فكان لكل واحد منهما خمسون ألفا في هذا المال، وهما قد نويا مضاربة جديدة فحينئذ إذا حصلت خسارة أو تلف في رأس المال فتكون في الشركة الجديدة.
    (14/102)
    ________________________________________
    فإن تلف رأس المال أو بعضه قبل التصرف انفسخت في التالف وكان رأس المال الباقي كالتالف قبل القبض، أما بعد التصرف فقد دار في التجارة وشرع مما قصد بالعقد من التجارة المؤدية إلى الربح.
    وهنا مسائل في باب المضاربة:
    * المسألة الأولى:
    أن الشركة - أي شركة المضاربة - إذا فسدت فللعامل أجرة المثل، فإذا حصل فساد في الشركة كأن لا يذكر في الشركة سهم العامل فحينئذ تكون شركة فاسدة فما الحكم؟
    قال الحنابلة له أجرة المثل، فيقال: قدروه عاملا أجيرا، وقدروا له ما يأخذه فيأخذه، وقال شيخ الإسلام بل له نصيب المثل أي أسهم المثل كالنصف، بمعنى أن يقدر هذه شركة من الشركات، ويقدر هذا مال قدره كذا، وهذا عامل عنده من الحرفة كذا، ومن المهارة الشيء المعين فنقدر نصيبا له كذا وكذا فيأخذه، وهذا هو العدل كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
    ** المسألة الثانية:
    هل يجوز للعامل أن يتعامل بهذا المال نسيئة؟
    مثلا: أعطاه مائة ألف، وقال: اتجر بها في القماش، فهل له أن يبيع شيئا من القماش نسيئة أم لا؟
    قال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لما فيه من المخاطرة، فإن النسيئة فيها مخاطرة، فلا يجوز أن يدخل بهذا المال فيما فيه مخاطرة، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد بل يجوز هذا، لأن هذا مما يعتاده التجار، والعادة محكمة، والإذن العرفي كالإذن اللفظي، وما ذكروه راجح حيث كان عرفا، أما إذا لم يكن عرفا فذلك لا يجوز وعليه الضمان لما فيه من المخاطرة، وأما إذا أذن في رب المال فهذا لا إشكال فيه.
    والعامل في المضاربة أمين لأنه متصرف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه كالوكيل بخلاف المستعير فإنه يختص بالنفع وعليه فلا يضمن – العامل – إلا مع التعدي والتفريط.
    والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    بسم الله الرحمن الرحيم
    (14/103)
    ________________________________________
    وبه نستعين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
    فصل
    قوله [الثالث: شركة الوجوه]
    أي الشركة بالوجوه، والمراد بالوجه: الجاه، أي الشركة التي سببها الجاه، وصورتها أن يشترك اثنان فأكثر بأخذ شيء من الأموال في ذمتيهما ويتاجران بها ويكون الربح بينهما وهم يأخذون هذه الأموال في الذمة على ثقة التجار، ولا يشترط أن يشتركا في البيع والشراء، فإذا قال كل واحد منهما أنت وكيل لي وكفيل بالثمن الذي آخذه فإن الحكم يثبت، أو اتفقا على أن يكون بينهما شركة وجوه، إذن شركة الوجوه حقيقتها أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن الآخر وكفيلا له، فإذا اتفقا على هذا فاشترى زيد بضاعة ثم باعها فيكون تصرفه في هذه السلعة شراء وبيعا يكون عن نفسه أصالة وعن عمرو وكالة، ويكون الربح بينهما على ما اتفقا عليه، وكذلك إذا اشترى عمرو شيئا من السلع ثم باعها فشراؤه وبيعه فيه تصف عن نفسه أصالة، وعن زيد وكالة، وزيد كفيل له، فلا يشترط أن يكون البيع والشراء بينهما بالسوية.
    وقد أجاز هذا النوع الحنابلة والأحناف، ومنع منها المالكية والشافعية، قالوا: لأنه لا مال فيها ولا عمل، فهما لا مال لهما، بل المال في الذمة فهذه الشركة مبنية على الذمم، ولا عمل فيها أيضا، وكل منهما يعمل بهذا المال الذي يأخذه ثم يتصرف فيه تصرفات تجارية ويكون الربح بينه وبين الآخر، وقال الحنابلة والأحناف: بل هي صحيحة لأن الأصل في المعاملات الحل، وليس فيها غرر يمنعها، ولأن حقيقتها كما تقدم أن كل واحد منهما وكيل عن الآخر وكفيل له، وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح إذا لا مانع منها.

    قوله [أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما فما ربحا فبينهما]
    (14/104)
    ________________________________________
    كأن يكون اثنان لهما وجاهة، والناس يعرفونهم ويثقون فيهم، فيقولان: نضع بيننا شركة كل منا يشتري ما شاء - بناء على شروط يضعونها - ويبيع، ويكون وكيلا للآخر، والآخر كفيل له، ثم يكون الربح بينا، فهذه الشركة حقيقتها وكالة وكفالة، والوكالة جائزة، والكفالة جائزة، والأصل في المعاملات الحل.

    قوله [وكل واحد منهما وكيل صاحبه وكفيل عنه بالثمن]
    فكل واحد منهما يكون وكيلا عن صاحبه، وكفيلا عنه بالثمن، وهذا هو مقتضى عقد الشركة أي شركة الوجوه، وعليه فلا يشترط في عقد الشركة التنصيص على ذلك، لأن هذا هو مقتضى العقد.

    قوله [والملك بينهما على ما شرطاه]
    فالملك والربح أيضا كما سيأتي يكون على ما شرطاه، كأن يقول هذه الأموال التي تأخذها وأنا آخذها لي الثلث ولك الثلثان، أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم، كذلك الربح ولذا قال المؤلف:

    قوله [والربح على ما شرطاه]
    فإذا قال: الربح بيننا مناصفة أو نحو ذلك فالمسلمون على شروطهم.

    قولهم [والوضيعة على قدر ملكيهما]
    لما تقدم، فالخسارة مرجعها المال لا الربح، فإذا كان لكل واحد منهما من المال النصف، ولأحدهما من الربح الربع، وللآخر ثلاثة أرباع، فتكون الوضيعة بالنظر إلى الملك، وعليه فتكون الوضيعة في المثال المتقدم على كل واحد منهم قدر النصف، وهذا باتفاق أهل العلم في شركة العنان وهنا كذلك.
    ولا يشترط ذكر جنس ما يشتريانه ولا قدر ولا وقت.

    قوله [الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما]
    (14/105)
    ________________________________________
    هذا هو النوع الرابع، وهي شركة الأبدان أو الأعمال، وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، فيجتمع عامل وعامل ويقولان: ما يكون بيننا من العمل والربح يكون شركة بيننا، فيكون الربح بيننا على ما يتفقان عليه، كما يقع هذا في الورشات كورشات النجارة وغيرها، وقد اتفق القائلون بشركة الأبدان اتفقوا على جوازها فيما إذا كان الشريكان صنعتهما واحدة، واختلفوا فيما إذا كانت صنعة كل واحد مختلفة كأن يشترك تاجر وحداد أو نحو ذلك؟
    فذهب الحنابلة إلى صحة الشركة، وقال المالكية لا تصح، وعللوا المنع بقولهم إن مقتضى الشركة أن يكون العامل الآخر الشريك ضامنا، بمعنى: أتى رجل ليعمل له هذا الشريكان صنعة، فاتفق معهما، فلم يقم صانعها بها، فإنها تلزم الآخر وهو الشريك، فإن الشريك ضامن، وهذا مقتضى الشركة، وعليه فإذا كان الشريك لا يتقن هذه الصنعة التي اتفق شريكه مع أجنبي على صنعتها فحينئذ لا يتمشى هذا مع كونه ضامنا، وأما دليل الحنابلة فهو الأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، وأجابوا عن دليل المالكية بأن كونه ضامنا لا يلزم منه أن يقوم هو بالعمل، بل يمكن أن يستأجر أجيرا ليعمل هذا العمل، أو أن يتبرع له متبرع بهذا العمل، فلا يشترط أن يقوم هو بهذا العمل، قالوا: ويدل على هذا أنكم تقولون - أي المالكية - إذا كان العمال أحدهما أمهر من الآخر فإنكم تصححون الشركة، مع أن الأمهر إذا لم يقم بهذا العمل فإن من دونه من العمال لا يمكنهم أن يقوموا به كما أراد الطالب، فإذا جاز هذا فإذا اختلفت الصفة فكذلك، وهذا القول هو الراجح، والحاجة داعية إلى مثل ذلك فإن المصانع الكبيرة وورشات السيارات ونحو ذلك تحتاج إلى عدة مهن، وقد يشتركون فيها مع اختلاف مهنهم.

    قوله [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله]
    كما تقدم لأن هذا هو مقتضى عقد الشركة وهو الضمان.

    قوله [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]
    (14/106)
    ________________________________________
    تصح في الاحتشاش بأن يحتشوا ويكون الربح بينهما على ما شرطاه، وكذلك الاحتطاب وسائر المباحات، كأن يشترط أصحاب السيارات التي تحمل السلع في حمل البضائع وتكون الأرباح بينهم على ما يشترطون.
    والقول بشركة الأبدان هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام، وقال الشافعية وهو اختيار ابن حزم من الظاهرية إن شركة الأبدان لا تصح، وذلك لما فيها من الغرر، وقد نهت الشريعة عن الغرر، فإنه إذا اشترك العاملان فقد يعمل أحدهما ولا يعمل الآخر، فيربح هذا ولا يربح الآخر، فتكون فيها مخاطرة وقمار، واستدل أصحاب القول الأول ما رواه النسائي وغيره من حديث ابن مسعود قال:" اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء (1) لكن الحديث إسناده منقطع، وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح لأن الأصل المعاملات الحل، وأما ما ذكره أهل القول الثاني من ثبوت الغرر فإن الغرر ليس مطردا في مثل هذه الشركة، ثم هو غرر يسير إن حصل، لكن إن كان الغرر ظاهرا فيتوجه المنع كما ذهب إليه الشافعية.

    قوله [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه]
    فإذا مرض أحد الشريكين فالكسب بينهما على ما شرطاه، وحينئذ هناك ضرر يلحق الصحيح فإنه يعمل ويشارك في ربحه الآخر، فيدفع هذا الغرر بما ذكره المؤلف في قوله (وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه) وإلا فله الفسخ، فله أن يفسخ هذه الشركة إن أبى أن يقيم مقامه.
    __________
    (1) النسائي (3937) أبو داود (3377) ابن ماجه (2288)
    (14/107)
    ________________________________________
    وظاهر كلام المؤلف أنه إن ترك العمل غير معذور فإن الكسب لا يكون بينهما بل لا كسب ولا ربح، وهذا هو أحد القولين في المذهب، وذكره الموفق في المغني احتمالا، والقول الثاني وهو الصحيح في المذهب وليس براجح من حيث الدليل أن له نصيبه من الربح وهذا قول ضعيف، وذلك لأن المسلمون على شروطهم، وهما قد دخلا في هذه الشركة على أن يعملا فيها، فلم يعمل الآخر فأخل بالشرط فلم يستحق من الريح شيئا.
    وإذا طلب أحد الشريكين الأجرة فيلزم المستأجر أن يعطيه إياها وذلك لأنه شريك يتصرف في هذه الشركة عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة، وله أي للمستأجر لطالب الصنعة أن يعطي الأجرة أيهما شاء لأن كل واحد منهما يتصرف عن نفسه أصالة وعن شريكه وكالة.
    ولا تصح شركة الدلالين لأن الشركة لا تخرج عن الوكالة والضمان ولا وكالة هنا لأنه لا يمكن توكيل أحدهما على بيع مال الغير، ولاضمان لأنه لا دين يصير من ذمة واحد منهما ولا تقبل عمل وأما مجرد النداء وعرض المتاع وإحضار الزبون فيجوز الاشتراك فيه.
    قوله [الخامس شركة المفاوضة: أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة]
    فيقول نشترك أنا وأنت في شركة الأبدان وشركة العنان وشركة الوجوه والمضاربة وهي جائزة، لأنها إذا صحت الشركة منفردة صحت على جهة الاجتماع والأصل في المعاملات الحل.

    قوله [والربح على ما شرطاه والوضيعة بقدر المال]
    كما تقدم.

    قوله [فإن أدخلا فيها كسبا أو غرامة نادرين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]
    إذا قال: أنا وإياك مالنا واحد، فما ربحت فبيني وبينك، وما خسرت فعلي وعليك، وإذا أتاك إرث فلي ولك، وإذا وجبت عليك دية فعلي وعليك، وإذا حصل عليك ضمان جناية أو غصب أو نحو ذلك فعلي وعليك، وإذا حصل أي ربح من الأرباح فلي ولك، وهكذا فهذا لا يجوز لأنه فيها غرر.

    والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    (14/108)
    ________________________________________
    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    باب المساقاة

    المساقاة: مفاعلة من السقي، وسميت مساقاة لأن أهم ما يكون فيها هو السقي، والمساقاة هي: دفع شجر إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه على جزء مشاع معلوم من الثمرة، فهي دفع شجر ولو لم يغرس إلى من يقوم بسقيه والعمل عليه من تأبير ونحو ذلك، مثاله: أن يدفع زيد بستانه الذي فيه نخل أو نحو ذلك إلى آخر ليقوم هذا الآخر بسقيه وتأبيره وإصلاح شأن الثمر والاهتمام به وله الربع مثلا من الثمار، والأصل في المساقاة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عامل أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) [خ 2286، م 1551] فهذا هو الأصل في المساقاة أو المفالحة، فالشجر هنا لبيت المال، وعامل عليه ولي المسلمين - صلى الله عليه وسلم - في عهده عامل عليه أهل خبير من اليهود على أن يعملوا عليه ولهم شطر ثماره.

    قوله [تصح على شجر له ثمر يؤكل]
    فتصح المساقاة على شجر له ثمر يؤكل، كشجر النخيل أو شجر العنب، وظاهره أن الشجر إذا كان له ثمر لا يؤكل فإن المساقاة لا تصح فيه، وذلك كالقَرظ الذي تدبغ بها الجلود، أو غيرها من الأشجار ذات الثمار المقصودة المنتفع بها لكنها لا تؤكل سواء كانت ثمارها خشبا أو دواء أو غير ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني في المذهب وهو مذهب المالكية أن المساقاة تصح على كل شجر ذي ثمر مقصود سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وهذا القول هو الراجح، وذلك للقياس الصحيح على ثمر النخيل بجامع الانتفاع بالثمر، ولأن الأصل في المعاملات الحل ولا دليل يمنع من ذلك.
    وألحق الموفق رحمه الله وهو قول طائفة من أصحاب الإمام أحمد الحقوا ما يقصد ورقه أو يقصد زهره كالورد والياسمين ونحو ذلك، وهو قياس صحيح والأصل في المعاملات الحل.

    قوله [وعلى ثمرة موجودة]
    (14/109)
    ________________________________________
    كذلك تصح المساقاة على ثمرة موجودة، بمعنى غرس نخلا فأثمر هذا النخل ويحتاج إلى عناية وعمل، فله أن يساقي عليه أحداً ليعمل له حتى يتم نضج هذه الثمار، فهذا جائز لأن الأصل في المعاملات الحل.

    قوله [وعلى شجر يغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة]
    كذلك تصح المساقاة على شجر يغرسه، كأن يقول هذه أرضي وهذا نخلي فاغرس النخل في أرضي واسقها واعمل عليها ولك النصف أو الثلث أو نحو ذلك، فهذا جائز، وذلك لأنه لا فرق بين المسألة السابقة وهذه المسألة إلا مزيد عمل من العامل، حيث إنه هنا يزيد عمله بالغرس وهذا لا يمنع من الصحة وتسمى بالمناصبة.
    وقوله (بجزء من الثمرة) أي بجزء من الثمرة مشاع معلوم، أما لو قال له: بجزء من الثمار، ولم يكن مشاعا فإنه لا يصح، فلو قال هذه مائة نخلة اغرسها في هذه الأرض ولك ثمار هذه النخيل العشر أو لك ثمار هذه النخيل العشرين أو لك ثمار نخيل هذه الجهة أو لك ثمار هذا النوع فهذا لا يجوز، وكذلك لو قال: لك ستون وسقا أو نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز لما فيه من الغرر، فقد ينتج هذا النوع ولا ينتج النوع الآخر، وقد تنتج هذه الجهة ولا تنتج الجهة الأخرى.

    قوله [وهو عقد جائز]
    أي لكل منهما - لمالك الشجر وللعامل - أن يفسخ فهو عقد جائز بين الطرفين، فمثلا اتفقا على أن يعمل له في بستانه الذي فيه نخيل، والثمار بينهما مناصفة، فلما مضى شهر قال رب المال: أنا أريد الفسخ، فله الفسخ، أو قال العامل: أنا أريد الفسخ فله الفسخ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
    القول الأول: هو هذا القول وأن المساقاة والمزارعة عقد جائز بين الطرفين، وهو المشهور من المذهب.
    (14/110)
    ________________________________________
    القول الثاني: وهو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الجمهور أن عقد المساقاة عقد لازم بين الطرفين فلا يجوز للمالك ولا للعامل أن يفسخ، وهو اختيار شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
    القول الثالث: وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه عقد لازم من جهة المالك وجائز من جهة العامل، فالمالك ليس له أن يفسخ إلا برضى العامل، وأما العامل فيجوز له أن يفسخ ولو لم يرض مالك الشجر.
    أما أهل القول الأول فاستدلوا بحديث ابن عمر وفيه رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل خبير: (نقركم فيها على ما شئنا) [خ 2338، م 1551] قالوا: فهذا يدل على أنها عقد جائز والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم فيها وهو نائب المسلمين على ما يشاء، قالوا: كالمضاربة، والمضاربة بالاتفاق عقد جائز، فكذلك هنا.
    وأما أهل القول الثاني الذين قالوا أنها عقد لازم فقاسوها على الإجارة، فالإجارة عقد لازم فكذلك عقد المساقاة بجامع أن فيهما كليهما العوض والكسب، قالوا: وإذا لم تكن عقدا لازما فإن في ذلك ضررا، فقد يعمل العامل عدة أشهر ثم بعد ذلك يقول له فسخت، وحينئذ يتضرر العامل، ولا ضرر ولا ضرار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    وأما أهل القول الثالث فقالوا: الضرر إنما يلحق العامل، فلا ضرر على المالك، فجعلناه لازما في حق المالك، حتى لا يتضرر العامل، وأما العامل فهو عقد جائز من جهته.
    (14/111)
    ________________________________________
    وأجاب أهل القول الأول عما استدل به أهل القول الثاني من قولهم بأنها إجارة قالوا: فرق بين الإجارة والمساقاة، فإن الإجارة نوع بيع، فهي بيع للمنفعة، وليس كذلك في المساقاة، بل المساقاة أشبه بالمضاربة فكلاهما فيه نوع اشتراك، فالمضاربة يدفع المال ويعمل الآخر، وهنا في المساقاة يدفع الشجر ويعمل الآخر، قالوا: وأما الضرر الذي يقولون إنه يلحق العامل فهو مدفوع بما يذكره المؤلف:

    قوله [فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة، وإن فسخها هو فلا شيء له]
    فإما أن يكون الفسخ قبل ظهور الثمرة أو بعد ظهورها، فإن كانت الثمرة قد ظهرت فقد ثبت حق العامل، وله نصيبه من الثمرة التي ظهرت، وأما إذا كانت الثمار لم تظهر بعد فلا يخلو من حالين:
    الأولى: أن يكون العامل هو الذي فسخ، فإذا فسخ هو فقد أسقط حقه فلا شيء له، وذلك لأن العقد فيه أنه يعمل حتى تظهر الثمرة، وله نصيب من الثمار، وحيث لم يصبر حتى تظهر الثمار فلا شيء له، والمسلمون على شروطهم.
    الثاني: أن يكون الفسخ من جهة المالك، فندفع الضرر الذي يكون على العامل بأن نعطيه أجرة المثل، فمثلاً: اشتغل خمسة أشهر وأجرة مثله كذا وكذا، فيعطيها إياه المالك.
    وفيما ذكروه نظر، فإن إعطاء العامل أجرة المثل فيه نظر، فهما قد تعاقدا على أن يكون للعامل نصيب مثله مساقاة لا إجارة، وهو إنما اشتغل هذه المدة على أن له ما شرط له من الربع أو الثلث أو نحو ذلك، فإعطاؤه أجرة المثل يخالف الشرط، والمسلمون على شروطهم،
    [قلت (محمد بن خليفة) : والذي يظهر لي والله أعلم أنه يأخذ من سعر الثمر الذي كان سيعطاه على قدر عمله، ويأخذه حين يُجنى الثمر؛ لأن العقد كان على هذا، وأخذه حالا فيه أجحاف بحق صاحب الشجر، والله أعلم] .
    (14/112)
    ________________________________________
    والذي يقوى والله أعلم ما ذهب إليه الجمهور من أنه عقد لازم، وذلك لأن الله أمر بالإيفاء بالعقود في قوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وقال {وأوفوا بالعهد إن العقد كان مسؤولا} وهذا عقد وعهد فهو عقد لازم، فالأصل في العقود اللزوم، إلا أن يأتي دليل يدل على عدم لزومها كما يكون هذا في الوكالات وفي الشركات فإنها وكالة، وكما يقع في التبرعات فهي عقود جائزة بدلالة الأدلة، وأما غيرها فيبقى على الأصل، ولأن المسلمين على شروطهم، وهذا قد دخل على شرط وعقد فيجب أن يوفي به، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) فيجمع بينه وبين الأدلة التي استدل بها أهل القول الثاني بأن يقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم فيها على ما شئنا) أي من السنوات، فأنتم تعملون هذه السنة، وسنوات بعدها نقركم على ما شئنا، فالصحيح ما ذهب إليه الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول لبعض الحنابلة وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
    وعليه فهل يشترط تحديد سنة أو سنتين أو نحو ذلك أو لا يشترط؟
    المشهور عند الشافعية أنه يشترط، فإذا لم تحد سنوات فهي مساقاة فاسدة، وقال أبو ثور من الشافعية وهو صاحب اجتهاد: لا يشترط التحديد، وحينئذ تكون هذه المساقاة على سنة، فإذا دخل من غير تحديد فحينئذ تكون على سنة، وهذا القول هو الراجح، ويدل عليه أن الثمار تظهر كل سنة، ولا يلحق الضرر حيث أبطل العقد أو فسخ بعد سنة، وقد ظهرت ثمار سنة وأخذ نصيبه، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لأهل خبير سنة ولا سنتين بل قال: (نقركم فيها على ما شئنا) فهذا يدل على عدم اشتراط التحديد ولأنها عقد جائز كالوكالة وهو المذهب. وتملك الثمرة بظهورها فعلى العامل تمام العمل إذا فسخت بعده وله بيعها إن كان غرساً لا ثمراً حتى يبدو صلاحه.

    قوله [ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة من حرث وسقي وزبار]
    (14/113)
    ________________________________________
    الزبار كلمة غير عربية، والمراد بها قص الغصون من شجر العنب، لأن في بقائها أثراً على الثمر.

    قوله [وتلقيح وتشميس وإصلاح موضعه]
    أي إصلاح موضع التشميس.

    قوله [وطرق الماء وحصاده ونحوه]
    هذه الأعمال تلزم العامل، إذن كل ما يكون فيه صلاح الثمرة فهو واجب على العامل، وقوله (وحصاد ونحوه) كذلك ما يحتاج إليه من آلة الحصاد ونحو ذلك.

    قوله [وعلى رب المال ما يصلحه]
    الضمير في قوله (ما يصلحه) يعود إلى المال، أي عليه ما يصلح المال.

    قوله [كسد الحائط]
    فإذا كان الحائط فيه انهدام أو نحو ذلك فيجب على رب المال أن يسده.

    قوله [وإجراء الأنهار]
    فعندما يكون هناك نهر فيحتاج إلى أن يحفر في الأرض ليوصل ماءه إلى هذا البستان فهذا واجب على رب المال.

    قوله [والدولاب ونحوه]
    الدولاب: آلة يستخرج بها المال، ومثلها عندنا: المكائن ونحوها، هذه كلها واجبة على رب المال، إذن ما يتصل بالأصل فهو واجب على رب المال، وما يتصل بالثمر ويصلحه فهو واجب على العامل، هذا كله حيث لم يشهد عرف بخلاف ذلك، إذا شهد العرف بخلاف ذلك فالشرط العرفي كالشرط اللفظي، فإن كان العرف على أن إصلاح المكائن مثلا يكون على العامل فهو عليه، وإذا كان الحصاد أو الجذاذ إذا كان العرف يشهد أنه على رب المال فهو عليه وهكذا، كذلك إذا كان هناك شرط لفظي فإنه يعمل به.
    الله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم

    فصل

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد

    فصل

    قوله [وتصح المزارعة]
    (14/114)
    ________________________________________
    المزارعة: هي دفع أرض إلى آخر ليزرعها على جزء من الزرع مشاع معلوم، والفرق بين المساقاة والمزارعة أن المساقاة في الشجر، وأما المزارعة فهي في الزرع من قمح وشعير وذرة ونحو ذلك، وتصح المزارعة كما هو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وإسحاق ابن خزيمة وأبي ثور وغيرهم من أهل العلم، ودليل صحة المزارعة من السنة ما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عمر حيث عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فقوله (وزرع) يدل على صحة المزارعة، وذكر البخاري في صحيحه معلقا هذه المعاملة عن طائفة كثيرة من الصحابة فقال رحمه الله:" عن أبي جعفر - الصادق - قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين، وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا " (1) قالوا: ولا يعلم لمن تقدم من الصحابة مخالف فكان إجماعا.
    __________
    (1) البخاري: كتاب المزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه.
    (14/115)
    ________________________________________
    وقال الأحناف والشافعية بل لا تصح المزارعة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهي عن المحاقلة) (1) وفي أبي داود بإسناد صحيح من حديث زيد بن ثابت نحوه وفيه أنه سئل - أي زيد - عن المحاقلة فقال: (أن يأخذ الأرض على نصف وثلث وربع) (2) واستدلوا بحديث رافع بن خديج في البخاري وغيره أنه قال: (نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نحاقل بالأرض على الثلث والربع والطعام المسمى) (3) وبما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله وهو نحو حديث رفع بن خديج وفيه أنه قال (كان فيها - أي في المدينة - رجال لهم فضل أرضين فأرادوا أن يؤجروها بالثلث والربع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها فإن أبى فليمسك أرضه) (4) قالوا: فهذه الأحاديث تدل على النهي عن المحاقلة وهي المزارعة.
    والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، للحديث المتقدم وهو حديث ابن عمر في مزارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خبير، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني فيقال:
    إما أن يكون هذا في أول الإسلام حيث كانت الحاجة داعية إلى المنح والإحسان، ولم يكن ذلك تحريما، ولذا ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك وإنما قال: يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما) (5) فتحمل الأحاديث المقدمة على أنها في أول الإسلام، وهذا وجه.
    __________
    (1) البخاري: 2186 - مسلم: 1539.
    (2) أبوداود: 3407.
    (3) البخاري: 2344 - مسلم: 1548.
    (4) البخاري: 2341 - مسلم: 1536.
    (5) البخاري: 2330- مسلم: 1550.
    (14/116)
    ________________________________________
    والوجه الثاني أن تحمل على المخابرة الجائرة أي المزارعة الجائرة الظالمة التي لا تكون على جزء معلوم، ويدل لهذا ما ثبت في مسلم من حديث رافع بن خديج وهو ممن روى في النهي عن المخابرة فإنه قال لما سئل عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: (لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الماذيانات - وهي أطراف السواقي - وأقبال الجداول - الجدول هو النهر والمعنى: أوائل النهر - وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) (1) [م 1547] وفي الصحيحين عنه أنه قال: (كنا أكثر الأنصار حقلا، قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك) (2) فهذا يدل على أنهم كانوا يتفقون على أن هذا له، وهذا للآخر، أي هذا النصف مثلا من هذه الجهة لي، والنصف الآخر وهو الجهة الفلانية لك، وهذا هو المنهي عنه، فالصحيح جواز المزارعة، والقياس الصحيح يدل على ذلك، فإنه لا فرق بينهما وبين المساقاة التي تقدم ذكرها.

    قوله [بجزء معلوم النسبة]
    كأن يقول: بثلث ما يخرج أو ربعه أو نحو ذلك، فلا بد أن يكون جزءا مشاعا معلوما، لكن لو قال: لي ما يخرج في هذه الجهة، ولك ما يخرج في الجهة الأخرى، أو لي طعام فسمى كذا وكذا من الآصع أو نحو ذلك فلا يجوز هذا.
    هل يجوز أن يستأجر الأرض على هذه الصفة؟
    فيقول: أريد أن استأجر منك أرضك بثلث ما يخرج منها، وعليه فإذا لم يزرع هذه الأرض فإن عليه أن يأتي بالثلث الذي يخرج منها عادة، بأن ينظر غلة الأراضي التي تشبهها ثم يعطي ثلثه، فهل هذا يصح؟
    __________
    (1) مسلم: 1547.
    (2) البخاري: 2332- مسلم: 1547
    (14/117)
    ________________________________________
    المشهور من المذهب جوازه، ومنع منه الجمهور، واحتجوا على المنع بأن الإجارة لا بد أن تكون الأجرة فيها معلومة، وهنا الأجرة ليس بمعلومة فقد يكون الثلث الذي يخرج منها قليلا وقد يكون كثيرا، والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من جواز هذه المسألة، وذلك لأنها إن أنبتت الأرض وأخرجت زرعها فأخذ الثلث فلا فرق حينئذ بين الإجارة والمزارعة إلا بالألفاظ وهذا ليس بمؤثر، وإن لم تنبت فإن الثلث معلوم في العادة فليس بمجهول، فإن أهل الخبرة يعلمون القدر الذي تخرجه في العادة وحينئذ فقسطه معلوم فلا جهالة.

    قوله [مما يخرج من الأرض لربها أو للعامل والباقي للآخر]
    فإذا قال رب المال: لي النصف فحينئذ يتعين الباقي للعامل، وإن قال العامل: لي النصف فحينئذ يتعين لرب المال الباقي.

    قوله [ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض وعليه عمل الناس]
    (14/118)
    ________________________________________
    هذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وأحد الروايتين عنه وهو اختيار الموفق والمجد ابن تيمية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أن البذر لا يشترط أن يكون من رب الأرض فلو كان من العامل فهذا جائز، فلو اتفقا على أن يكون البذر من العامل في المزارعة، أو أن يكون الشجر من العامل في المساقاة فهذا جائز، والقول الثاني وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز ذلك، وأنه يشترط أن يكون البذر من رب المال، فإن كان البذر من العامل فهي مزارعة فاسدة، وإن كان الغراس من العامل فهي مساقاة فاسدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، واستدل أهل القول الأول بما تقدم من أثر عمر بن الخطاب فإنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر - وهو النائب عن المسلمين - فلهم الشطر، وإن جاءوا - أي العمال - بالبذر فلهم كذا، فهذا هو قول عمر وفعله ولا يعلم له مخالف، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عامل أهل خبير وكانوا هم العمال لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم شيئا من البذور ولم ينقل هذا، ولو كان مثل هذا ثابتا لنقله رواة هذا الحديث، فلما لم ينقلوه كان الظاهر أن ذلك لم يكن منه - عليه الصلاة والسلام -، وأما أهل القول الثاني فقالوا: إن المضاربة يكون رأس المال فيها من رب المال، فكذلك البذر وكذلك الغراس فلا بد أن يكون من رب المال كالمضاربة، فاستدلوا بالقياس على المضاربة، والقياس حيث خالف ما تقدم من الأثر والسنة فهو قياس فاسد ثم إن هناك فرقا وهو أن رأس المال يرجع إلى صاحبه في المضاربة وأما البذر فلا يرجع إلى رب المال، بل ترجع إليه أرضه والربح، فكان بين البذور والمال فرقا، وعليه فالراجح هو القول الأول، وعليه فإذا كان بينهما شرط لفظي على أن يكون البذر من أحدهما فهو عليه، وإن كان هناك عرف فإنه يحكم به.
    (14/119)
    ________________________________________
    مسألة:هل يجوز أن يقول رب المال أو العامل - على القول به - أنا أدفع البذر ولكن إذا أخرجت الأرض فآخذ قيمة البذر ثم يكون الربح بعد ذلك بيننا؟ كأن يضع طنا من القمح بذرا، ثم تخرج الأرض مائة طن، فيخرج طنا على أنه هو البذر فيأخذه دافع البذر ويقسمان الباقي
    المشهور من المذهب المنع من ذك، قالوا:لأنه قد لا ينتج شيء، إلا ما يماثل البذور، فيكون هذا كما لو اتفقا على آصع معلومة، هذا فيه غرر، وأجازه شيخ الإسلام قياساً على المضاربة، وألحقه برأس المال.
    كذا الكلف السلطانية ما لم يكن هناك عرف يقضي بخلاف ذلك، فإذا كان السلطان يأخذ شيئا من رب المال على هذا الربح كأن تكون ضرائب فتخرج هذه الضرائب ثم يقسمان الربح ما لم يكن هناك عرف بخلاف ذلك.قال شيخ الإسلام ويتبع في الكلف السلطانية العرف مالم يكن هناك شرط.
    مسألة: هل يجوز أن يؤجر الأرض بطعام معلوم؟ كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها بخمسين طنا من القمح، ويزرعها قمحاً أو يزرعها شعيرا؟
    لهذه المسألة صورتان:
    الصورة الأولى: أن يكون الطعام المسمى من جنس ما يزرع، كأن يقول: استأجر منك هذه الأرض لأزرعها قمحا وأعطيك كذا طنا من القمح، فهذا لا يجوز، وهو رواية عن أحمد وهو مذهب مالك، والجمهور على جوازه، والصحيح هو المنع وذلك لأنه ذريعة إلى التحايل على تحديد آصع معلومة في الزارعة، وهذا ممنوع منه، وفيه غرر كما تقدم، ولذا تقدم حديث رافع بن خديج في الصحيحين: (نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نحاقل بالأرض على النصف والربع والطعام المسمى)
    الصورة الثانية: أن يكون الطعام من جنس آخر، كأن يستأجر الأرض ليزرعها قمحا ويعطيه أجره من الشعير أو غيره فلا وجه للمنع من هذا، فإن ذلك يشبه كراء الأرض بالذهب والفضة وليس هناك محذور وهو مذهب الجمهور ومنع منه المالكية، والصحيح هو جوازه
    (14/120)
    ________________________________________
    باب الإجارة

    الإجارة في اللغة: مشتقة من الأجر، وهو العوض، وأما في الاصطلاح فه ي عقد على منفعة مباحة معلومة من عين أو عمل بعوض معلوم مدة معلومة.
    فقولنا (عقد) أي بين المتعاقدين المؤجر والمستأجر.
    وقولنا (على منفعة مباحة معلومة) كسكنى الدار مثلا، أو ركوب الراحلة أو نحو ذلك.
    وقولنا (من عين) كالدار للسكنى أو للبيع فيها أو نحو ذلك، سواء كانت العين معينة أو موصوفة، كأن يقول: أجرتك وأكريتك هذه الدار، أو موصوفة كأن يقول: أجرتك دارا سعتها كذا، وفيها من الغرف كذا ونحو ذلك.
    وقولنا (عمل) كأن يستأجر على أن يحمل له طعاما أو يبني له حائطا، أو نحو ذلك.
    وقولنا (بعوض معلوم) كأن يكون عشرة آلاف.
    وقولنا (مدة معلومة) كسنة أو سنتين أو نحو ذلك.
    وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على صحة الإجارة، أما الكتاب فقوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ، وأما السنة فمن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه - استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا - أي ماهرا في الدلالة -) [خ 2263] وقد أجمع أهل العلم على صحة الإجارة، والحاجة داعية إليها فإن الإنسان يحتاج إلى المنافع المتصلة بأعيان مملوكة لغيره، فيحتاج إلى سكنى الدار، وإلى أحد يحمل له، وإلى رحلة يركبها، وقد لا يكون مالكا لذلك، فيحتاج إلى هذه المنافع التي أعيانها مملوكة لغيره، فأجازتها الشريعة، وهي قائمة على رفع الحرج وتحصيل المصلحة، ولا شك أن الإجارة عقدها عقد مصلحة وحاجة.
    والإجارة بيع للمنفعة، وعليه فيشترط فيها ما يشترط في البيع، ومن ذلك أن يكون المتعاقدان جائزي التصرف.

    قوله [تصح بثلاثة شروط: معرفة المنفعة]
    إما بالعرف أو بالوصف، وقد ضرب المؤلف هنا ثلاثة أمثلة للعرف فقال:

    قوله [كسكنى دار]
    (15/1)
    ________________________________________
    فإذا أراد أن يستأجر دارا ليسكنها فإن كيفية الانتفاع بها بالسكنى معروفة بالعرف، ولذا فليس له سوى ما دل عليه العرف، فليس له أن يجعلها مخزنا للطعام، أو أن يضع فيها دوابا أو غير ذلك، وله أن يكرم فيها ضيفه ونحو ذلك، لأن العرف قد دل عليه، وإن كانت هذه الدار فيها مساحة، وقد قام العرف على جواز وضع الدواب فيها فإنها توضع.

    قوله [وخدمة آدمي]
    فعندما يستأجر عاملا ويقول: أريد أن تعمل عندي شهرا، فإن تحديد زمن هذه الخدمة من الليل والنهار معروف في العرف، فإنه يكون من صلاة الفجر - مثلا - إلى المغرب في عرف بعض الناس أو بعض العمال، وهذا يختلف باختلاف الأزمان واختلاف العمال.

    قوله [وتعليم علم]
    فإذا استأجره لتعلم منه علما سواء كان علما شرعيا أو كان علما دنيويا - وسيأتي الكلام على أخذ الأجرة على العلم الشرعي -، فإذا استأجره ليتعلم منه علما فهذا معروف في العرف.
    وقد تكون المنفعة معروفة بالوصف وذلك إن لم يكن هناك عرف، فإذا استأجره لبناء دار أو حائط، ونحو ذلك فإنه يحدد له طوله وعرضه وطريقة البناء ومواد البناء التي يختلف باختلافها البناء ونحو ذلك، وإذا أراد أن يستأجره لحفر بئر حدد له عمقها وعرضها وطولها ونوعية الأرض ونحو ذلك، والمقصود أن تكون المنفعة المستأجرة معلومة محددة إما بعرف أو وصف، ودليل ذلك أن الإجارة بيع، فهي بيع منفعة، ومن شروط البيع معرفة المبيع، وهنا كذلك من شروط صحة الإجارة معرفة المنفعة المستأجرة.

    قوله [الثاني: معرفة الأجرة]
    كالبيع، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن معرفة الثمن في البيع شرط، فكذلك في الأجرة، كأن يقول: استأجرت منك هذه الدار بعشرة آلاف كل سنة.

    قوله [وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما]
    (15/2)
    ________________________________________
    فيصح أن يستأجر أجيرا ليعمل له وتكون أجرته هي سكناه وطعامه وكسوته، فهذا جائز، وكذلك يجوز أن يستأجر مرضعة وتكون الأجرة طعامها وكسوتها، ودليل ذلك قول الله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فعلى المولود له وهو ولي الرضيع أن يكسو وأن يرزق المرضعة، وليس هذا للزوجة، لأن الله عز وجل قد جعل أجرة للرضاعة، وكذا أوجبه على الوارث غير الزوج فقال تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} ، فدل على أن هذا الرزق والكسوة من الزوج ليس بسبب الزوجية، وإنما هو بسبب الرضاع فهو أجرة على الرضاع، وكذلك الأجير كما تقدم، وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف جدا - فإن فيه بقية بن الوليد وفيه سلمة وهو رجل ضعيف جدا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن موسى قد أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) [جه 2444] والحديث لا يصح، لكن الأجير يقاس على الظئر.
    فإن قيل هذه الأجرة مجهولة، وقد شرطنا في الأجرة أن تكون الأجرة معلومة؟
    فالجواب: أنها ليست مجهولة، بل هي معلومة، فإن مرجع ذلك إلى العرف، والعرف يدل عليها، فيمكننا أن نحدد هذه الكسوة وهذه النفقة بالعرف.
    * هل يجوز أن يستأجر دابة وتكون الأجرة علفها أو أن يحدد لها شيئا من المال مع تعليفها، كأن يقول: استأجر منك هذه الدابة وأجرتها أن أعلفها عنك، أو يقول: وأجرتها كل يوم درهم، وأن أعلفها عنك، فهل يجوز ذلك؟
    الجواب: منع الحنابلة من ذلك في المشهور عندهم للجهل، قالوا: علفها مجهول، سواء كان منفردا بالإجارة، أو كانت هناك أجرة مضافة إليه، وعن الإمام أحمد أنه يصح، وهو اختيار شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وهو القول الراجح، وذلك لأن هذا معروف بالعرف، فالعرف يقوم مقام التسمية، فكما أجزناه في الظئر وفي الأجير فكذلك في الدابة.

    قوله [وإن دخل حماما أو سفينة أو أعطى ثوبه قصارا أو خياطا بلا عقد صح بأجرة العادة]
    (15/3)
    ________________________________________
    قوله (قصارا) القصار هو من يفصل الثوب من غير خياطة،
    [قلت (محمد خليفة) : بل القصار هو من يدفع إليه القماش أو الثوب ليقصره؛ لأن من الثياب ما يقصر بالغسيل، فلا يمكن خياطتها إلا بعد أن تقصر، فتدفع مثل هذه الأقمشة إلى القصار ليقصرها، فيغسلها، ويدقها بالعصا، وينشرها، ويكويها، ولعله أن يصبغها أحيانا ليغير من لونها حسب ما يطلب منه، ثم بعد ذلك يدفعها للخياط ليخيطها.
    أفادني بما ذكر الأستاذ أبو طريف محمد النميري، والله أعلم]

    فإذا وضع ثوبه عند قصار أو خياط، أو ركب سفينة أو سيارة من الرياض مثلا إلى حائل ولم يتفق على أجرة، أو أجر حمالا يحمل له طعاما ولم يسميا أجرة، فإنه يصح بأجرة العادة، وذلك لأن جريان العرف بالشيء يقوم مقام التسمية.

    قوله [الثالث: الإباحة في العين، فلا تصح على نفع محرم كالزنى والزمر والغناء وجعل داره كنسية أو لبيع الخمر]
    أو لبيع الأشرطة المحرمة من غناء أو فيديو أو غير ذلك من الأشياء المحرمة، فهذا لا يجوز ولا تصح الإجارة، وذلك لأن الشريعة من قصدها إزالة هذه المنكرات، والإذن بالإجارة فيها وتصحيحها ينافي مقصود الشرع المتقدم، ولقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ، ولأنه لعن في الخمر من لعن ومنهم حاملها، فهو أجير يحمل الخمر، ومع ذلك لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذن فالشرط الثالث: هو الإباحة في العين، فعلى ذلك إذا استأجر رجل دكانا لبيع الخمر أو أشرطة الغناء أو نحو ذلك فتبين للمؤجر أن ذلك محرم فيجب عليه أن يبطل العقد، وإن اتفقوا سنوات، وإن كان استلم الأجرة، مع أن عقد الإجارة عقد لازم لا يجوز لأحد من الطرفين فسخه، لكن هنا هو عقد باطل، وذلك لأن النفع غير مباح.

    قوله [وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه]
    (15/4)
    ________________________________________
    فيجوز أن يؤجر حائطه لوضع أطراف خشب معلوم، لأن الأصل في العقود الحل، وهذا نوع من أنواع الإجارة، وكذلك لو كان عنده دكان، فاستأجر أحد منه أن يضع عليه شيئا من الخارج أو نحو ذلك فيجوز له أن يؤجر، وذلك لأنه أجر منفعة معلومة.

    قوله [ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها]
    لا تؤجر المرأة نفسها بعمل من الأعمال بغير إذن زوجها، وذلك لما في عملها من تفويت حق الزوج، فلم يكن لها أن تعمل عملا إلا أن يأذن لها زوجها فيه.

    فصل
    تقدمت شروط المنفعة المستأجرة، وهذا الفصل في شروط العين المؤجرة، أي العين المشتملة على المنفعة، فعندما يستأجر دارا ليسكنها، فالسكنى منفعة، والدار هي العين، وعندما يستأجر جملا ليحمل عليه، فالجمل هي العين، والمنفعة هي الحمل، وعندما يستأجر امرأة للرضاع، فالرضاع هو المنفعة، والمرأة هي العين.

    قوله [يشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة]
    هذا هو الشرط الأول: وهو معرفة العين المؤجرة برؤية أو صفة.
    وذلك لأن المنفعة تختلف باختلاف العين، فعندما يستأجر دارا ليسكنها وهو لا يعرف ما في هذه الدار من غرف ولا يعرف مساحتها ونحو ذلك فلا شك أن هذا مؤثر في اختلاف الأجرة فاشترط ذلك.

    قوله [في غير الدار ونحوها]
    (15/5)
    ________________________________________
    فالدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا تكفي الصفة، بل تشترط المشاهدة والرؤية، فإذا قال: أريد أن أكريك داري التي مساحتها كذا، وعدد غرفها كذا، وموقعها كذا، ونحو ذلك فقال: رضيت، فهذا لا يجوز، ولا تصح الإجارة، قالوا: لأن الدار ونحوها مما لا يصح فيه السلم لا ينضبط بالوصف، وقد تقدم أن المشهور من المذهب أن السلم لا يصح إلا في المكيلات والموزونات والمذروعات، وأما المعدودات وغيرها مما لا ينضبط فلا يصح فيه السلم، لأن السلم بيع على الصفة، وقد تقدم أن الراجح أن ما يكون الاختلاف فيه اختلافا يسيرا، والتفاوت فيه تفاوت يسير فالسلم فيه جائز، ولو لم يكن مكيلا أو موزونا أو مذروعا، فهنا كذلك في باب الإجارة، فعندما يصف له الدار وصفا بينا ظاهرا ثم يستأجرها على هذا الوصف التام الظاهر - وإن كان يقع فيه شيء من التفاوت اليسير - فهذا ليس بمؤثر، فهذه جهالة يسيرة يعفى عن مثلها.
    إذن هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة في باب السلم، فالصحيح أن كل ما ينضبط بالصفة وإن كان الانضباط فيه ليس تاما بل مع التفاوت اليسير فإن الإجارة فيه جائزة كالسلم، أما إذا كان التفاوت كثيرا مما تقع بمثله المنازعة فلا يجوز ذلك كما في السلم.

    قوله [وأن يعقد على نفعها دون أجزائها]
    هذا هو الشرط الثاني: وهو أن يعقد على نفعها دون أجزائها.
    (15/6)
    ________________________________________
    بمعنى أن الإجارة لا تؤثر على أجزائها، فلا يتلف من هذه العين شيء، كسكنى الدار والحمل على الجمل ونحوه، لكن لو كانت الإجارة على شيء من أجزائها كأن يستأجر طعاما للأكل أو شمعا ليشعله أو صابونا لغسل اليدين به أو نحو ذلك فلا تجوز الإجارة فيه، فلا تصح الإجارة في أي شيء يستنفذ شيئا من الأجزاء بل لا بد أن تكون مختصة بالمنافع، ولا يريدون ما يحصل من التلف اليسير، فإن سكنى الدار يحصل فيها تلف يسير، فهذا ليس هو المقصود، بل المقصود أن يكون هذا العقد يقضي على شيء من أجزائها، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب جمهور الفقهاء، واختار شيخ الإسلام جواز هذا، واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد من المتأخرين، وهذا القول هو الراجح، وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، ولو سلمنا - ونحن نسلم بهذا - أنها ليست إجارة لأن الإجارة تكون على المنفعة مع بقاء العين وعدم استهلاكها لكن لا مانع من ذلك، فهي وإن لم تكن إجارة لكن لا دليل على المنع منها، ولذا قال شيخ الإسلام:" هي إذن بالإتلاف وليست إجارة وهذا سائغ "، أي أن يأذن بإتلاف ماله مقابل مال يدفع إليه فهذا سائغ، وهي ليست بإجارة، لكنها عقد صحيح لا تستهلك فيه العين كلها فيكون بيعا، وإنما يستهلك فيها بعض العين، ويأخذ المؤجر حقه مقابل هذا الاستهلاك.

    قوله [فلا يصح إجارة الطعام للأكل ولا الشمع ليشعله ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر]
    (15/7)
    ________________________________________
    أي في المرضعة فذلك جائز، أما لو استأجر من رجل إبلا أو بقرا أو غنما ليأخذ لبنها في وقت درها فقال الحنابلة وهو مذهب الجمهور لا يجوز ذلك، وذلك لأن الإجارة على المنفعة، وهنا وقعت على العين، فإن اللبن عين، فليست الإجارة على منفعة، وقال بعض أهل العلم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو اختياره رحمه الله، واختيار تلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن ذلك جائز، قياسا على الظئر، فكما أن الظئر يجوز لها أن تؤجر لبنها للطفل فكذلك يجوز في هذه المسألة، قالوا: واللبن هنا مع بقاء الأصل كالمنفعة مع بقاء الأصل، فاللبن هنا يستهلك والأصل باق، فإن الأصل هو البقر - مثلا - باق، واللبن يستهلك فأشبه هذا المنفعة، فإن المنفعة تكون مع بقاء الأصل، قالوا: وبالقياس على المساقاة فإنه يؤجر أرضه ونخله ويأخذ الآخر ثمرها بكراء من ذهب أو فضة، وهنا كذلك فإنه يستأجر هذا البقر أو الغنم ويأخذ لبنها، بل تطرق الإجارة إلى الأرض أعظم من تطرقها إلى لبن هذه الشاة أو لبن هذه البقرة، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، وليس مع المانعين دليل يمنع كما أن الأصل في العقود الحل.

    قوله [ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعا]
    إذا قيل: أنتم عندما تكرون أرضا أو تؤجرونها يدخل فيها ماء بئرها، وعندما تكرون أرضا للزراعة يدخل في ذلك ماء بئرها، ويدخل في ذلك الماء الذي في الأرض وهي أعيان، فلماذا لو تقولوا بالمنع فيها، فهي كاستئجار الحيوان لأخذ اللبن في وقت دره، فأجابوا هنا: أنهما يدخلان تبعا، ويثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا، وهي قاعدة صحيحة، وعلى القول الراجح المتقدم الذي اختاره شيخ الإسلام لا إشكال في هذه المسألة.

    قوله [والقدرة على التسليم]
    هذا هو الشرط الثالث: أن يكون مقدورا على تسليمه كما يشترط هذا في البيع.
    ولا شك أنه إذا أجر ما لا يقدر على تسليمه فإن ذلك غرر.
    (15/8)
    ________________________________________
    قوله [فلا تصح إجارة الآبق والشارد]
    فلا تصح إجارة العبد الآبق أي الهارب من سيده وكذلك لا تصح إجارة الشارد أي الجمل الشارد وهذا ظاهر.

    قوله [واشتمال العين على منفعة]
    هذا هو الشرط الرابع: وهو أن تكون العين مشتملة على المنفعة.
    فعندما يستأجر منه عينا على أن ينتفع بها ولا نفع فيها فلا شك أن ذلك لا يجوز، وذلك لأن المقصود هو استيفاء المنفعة، فإذا لم تكن المنفعة ثابتة في هذه العين فحينئذ لا يمكن استيفاؤها، فعندما يكريه جملا عاجزا عن الحمل لكي يحمل عليه فلا يمكنه أن يستوفي ذلك، فكان ممنوعا ولذا قال:
    قوله [فلا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل، ولا أرض سبخة لا تنبت]
    فلا يجوز له أن يؤجر أرضا سبخة لا تنبت لأن هذه العين لا نفع فيها ولا يمكنه أن يستوفي نفعها، كذلك عندما تكون البهيمة زمنة أي فيها عاهة فلا يمكن أن تؤجر ولا تصح إجارتها وذلك لأن المنفعة لا يمكن استيفاؤها.

    قوله [وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذونا له فيها]
    هذا هو الشرط الخامس: وهو أن تكون المنفعة للمؤجر مملوكة له أو مأذونا له فيها.
    (15/9)
    ________________________________________
    ولم يقل: العين، وذلك لأن الإجارة تقع على النفع، فمتى كان مالكا للنفع فله أن يؤجر، فمثلا ناظر الوقف لا يملك الوقف لكنه يملك منافعه فله أن يؤجر، والمستأجر لدار مثلا لا يملك الدار لكنه يملك منفعتها فله أن يؤجرها، وكذلك عندما تكون هذه الأرض مملوكة لغيره وقد وكله بتأجيرها، فهو لا يملك العين بل يملك النفع، وهو نائب عن المالك فله أن يؤجرها، فعلى ذلك إذا أجر رجل دارا لا يملك منفعتها فلا تصح إجارتها، وذلك لاختلال هذا الشرط، والإجارة كالبيع فكما أن البيع يشترط فيه أن يكون من مالك، فكذلك الإجارة، وعلى ما تقدم ترجيحه من صحة بيع الفضولي مع الإجازة فكذلك الإجارة، فإذا أجر دارا وهو لا يملك منفعتها فأجاز مالك المنفعة ذلك فتصح الإجارة لأنه تصرف فضولي أجيز، فهو صحيح خلافا للمشهور من المذهب كما تقدم في البيع.

    قوله [وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضررا]
    إذا استأجر أرضا أو دارا أو جملا أو نحو ذلك فهل له أن يؤجر؟
    الجواب: باتفاق العلماء له أن يؤجر، وذلك لأنه مالك لمنفعتها المدة المتفق عليها، ولكن هل له أن يؤجرها بثمن أكثر؟
    الجواب: له ذلك، وذلك لأنه متصرف في ملكه، فالمنفعة ملك له، فله أن يؤجرها بما شاء.
    ولكن هل له أن يؤجرها مع ضرر أكثر؟
    الجواب: ليس له ذلك، مثاله: استأجرت أرضا لتزرع فيها قمحا، فهل لك أن تؤجرها لمن يزرعها أرزا؟
    الجواب: ليس لك ذلك لأن الأرز يستهلك الأرض أكثر من استهلاك القمح لها، وكذلك إذا استأجرتها لتزرع شيئا من الخضروات فليس لك أن تؤجرها لمن يزرعها قمحا لأن القمح يستهلك الأرض أكثر، وكذلك إذا استأجرت دارا لتسكنها فليس له أن تؤجرها لما يضر بها، كأن تؤجرها محلا أو نحو ذلك، وذلك لأنك لا تملك ذلك، فأنت عندما استأجرت الأرض لتزرع القمح، هل لك أن تزرعها أرزا؟
    (15/10)
    ________________________________________
    الجواب: لا، ليس لك ذلك، لأن المنفعة المأذون لك فيها أقل ضررا، فإذا كان هذا فيك، فكذلك فيمن يقوم مقامك، أما إذا أجرها بنفس الضرر أو أقل فلا بأس.

    قوله [وتصح إجارة الوقف]
    وذلك لأن نفعه مملوك للموقوف عليه، فإذا أوقفت دارا على أولادك فنفع هذا الوقف مملوك للأولاد، فإذا أجر، فالإجارة تقع على منفعته وهي مملوكة للمؤجر.

    قوله [فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ وللثاني حصته من الأجرة]
    إذا أجر الوقف ثم مات هذا المؤجر، فإنه يتنقل إلى من بعده في المرتبة فما الحكم؟
    مثاله: قال هذا البيت وقف على زيد فإن مات زيد فهو وقف على عمرو، فإذا أجره زيد سنة، فلما مضى شهر مات، فهل تنفسخ الإجارة؟
    قال المؤلف: لا تنفسخ الإجارة لأن زيدا لما أجره كان مأذونا له في ذلك، وكان ذلك تحت ولايته، فكان له أن يؤجره كما أنه لمالك غير الوقف أن يؤجر ملكه، فإن مالك غير الوقف إذا أجر ثم مات فإن الإجارة لا تنفسخ كما سيأتي، فجعلوا إجارة من بيده الوقف كإجارة مالك الشيء غير الموقوف، والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختيار ابن عقيل من كبار الحنابلة أنه ينفسخ، قالوا: لأنه أجر هذا الوقف في وقت ملكه للنفع، وذلك وقت حياته، وأجره في غير ملكه وهو ما بعد موته، فليس له أن يؤجره في غير ملكه، فقد انتقل إلى طبقة أخرى، وهذا القول هو الراجح، والفرق بين إجارة المالك لغير الوقف وبين إجارة المالك لمنفعة الوقف ظاهرة، والقياس مع الفارق لا يصح، ويمكن أن يكون الفرق من وجهين:
    الأول: أن ملكية المالك لغير الوقف أقوى من ملكية مالك نفع الوقف، فإن ملكية المالك تثبت على العبن والنفع، وأما الوقف فالموقوف عليه لا يملك إلا نفعه.
    (15/11)
    ________________________________________
    الثاني: أن المؤجر المالك لغير الوقف له أن يأخذ المال - أي الأجرة - ويكون في ملكه من أول الإجارة، وأما المالك لنفع الوقف فإنه يؤخذ من تركته كما قرر ذلك الحنابلة - فيما سيأتي -، بمعنى: أجره ثم بعد شهر مات هذا المؤجر، فلا يملك من هذه الإجارة إلا مدة شهر، وأما المالك الآخر فلو أخذ المال أي الأجرة قبل الموت فهو مالك لها، فاختيار شيخ الإسلام هو الراجح وبه يحفظ حق الموقوف عليه، فإن المدة قد تطول عليه.
    فإن قلنا: لا تنفسخ، فكما قال المؤلف هنا (للثاني حصته من الأجرة)
    إذا أجره الموقوف عليه الأول لمدة سنة بعشرة آلاف ريال، وأخذ فيها خمسة آلاف ريال، ومات بعد ستة أشهر، فللموقوف عليه الثاني الخمسة الآلاف الباقية، لأن النفع في هذه المدة الباقية أصبح ملكا له، وليس للموقوف عليه أن يستسلف الأجرة كما قال شيخ الإسلام، وذلك لأنه لا يملك منفعتها المستقبلة، وبالتالي لا يملك أجرتها المستقبلة، فإذا اتفق معه على الإجارة خمس سنوات وأخذ الأجرة مع العقد فما يدريه أنه سيعيش ويبقى له الوقف هذه السنوات المقبلة، فإنه لا يملك إلا منفعتها الحالة، فعليه: يأخذ الأجرة أقساطا، فإذا أخذ الموقوف عليه الأول الأجرة كاملة وكان الاتفاق على سنة ثم مات بعد شهر، فالمشهور من المذهب أن الموقوف عليه الثاني يرجع إلى تركة الموقوف عليه الأول، فإن لم يجدها قالوا: تسقط، وذلك لأنه لا يمكن الرجوع فحينئذ تسقط، وهذا فيه تضييع حق كما تقدم، وليس له أن يفسخ، لأن الأول قد أثبت هذا العقد، والراجح كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام وهو أحد الوجهين في المذهب.

    قوله [وإن أجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح]
    (15/12)
    ________________________________________
    فإذا أجر داره التي يغلب على ظنه بقاؤها مدة طويلة إذا أجرها مدة طويلة صح، كأن يؤجر بيتا له يغلب على ظنه بقاؤه عشرين سنة يؤجره عشرين سنة، فهذه الإجارة صحيحة، وذلك لأن الأصل في العقود الحل، ولا محذور في هذا العقد، وإذا صح لسنة أو سنتين أو نحوهما فإنه يصح أكثر من ذلك ولا محذور فيه.
    * هل يجوز للوكيل المطلق أن يؤجر الدار ونحوها - التي قد وكل في إجارتها - مدة طويلة يغلب على الظن بقاؤها فيها؟
    منع نم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف أن الوكيل لا يؤجر السنين الطويلة وإنما يؤجر السنة والسنتين ونحو ذلك، وصوب صاحب الإنصاف وقال:" لا يظهر أن الشيخ تقي الدين يمنع من ذلك " صوب أنه إذا كان في ذلك مصلحة جاز ذلك، ويعرف ذلك بالقرائن، فإذا ظهر للوكيل أن في إجارة الدار المدة الطويلة مصلحة للموكل فإنه لا مانع من هذا، وهذا يقع عندنا في مثل استئجار الدوائر الحكومية أو الشركات ونحو ذلك، فإنها في الغالب تحتاج إلى استئجار مدة طويلة ويكن فيها مصلحة، فمثل هذا لا يمنع منه، فالعرف وإن لم يجر به فإن الوكالة تكون فيما فيه مصلحة، وهنا فيه مصلحة ويغلب على الظن بل يتيقن أن هذا الموكل لا يمنع من هذا، وعلى القول بأنه يمنع من ذلك فإنه موقوف على إجازته.
    إذن لصاحب الدار أن يؤجر داره مدة طويلة يغلب على الظن بقاء الدار فيها، وأما الوكيل فليس له أن يؤجر إلا ما جرت العادة له كسنة أو سنتين أو نحو ذلك، إلا أن تكون هناك مصلحة ظاهرة فإن ذلك جائز ولا حرج فيه.

    قوله [وإن استأجرها لعمل، كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث، أو دياس لزرع، أو استأجر من يدله على طريق، اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف]
    (15/13)
    ________________________________________
    فإذا استأجر من يدله على طريق أو استأجر جملا أو نحوها لتحمل أو استأجر بقرا لدياس الزرع أو لحرث الأرض ونحو ذلك فإنه يشترط أن يعلم هذا العمل ويعرف بما لا يختلف فيه، وذلك لأن المعقود عليه هو العمل، فاشترط العلم به كالبيع، فكما أنه يشترط العلم بالمبيع في عقد البيع، فيشترط أيضا العلم بالعمل في عقد الإجارة، فإن الإجارة نوع من أنواع البيع.

    قوله [ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة]
    لا تصح الإجارة على عمل من الأعمال التي يختص أن يكون عاملها من أهل القربة، وأهل القربة هم المسلمون، والأعمال التي يختص بها أهل القربة هي الأعمال التي لا تقع إلى على جهة التعبد كالأذان والإقامة والصلاة والحج وغير ذلك من الأعمال الصالحة، أما إن كان العمل لا يختص أن يكون من القرب كبناء المساجد مثلا فإن باني المسجد قد يبنيه لله عز وجل وقد لا ينوي به التعبد، وكتعليم علوم اللغة، فإنه من نوى بها التعبد كانت عبادة، ومن لم ينو بها التعبد لم تكن عبادة وهكذا.
    (15/14)
    ________________________________________
    فمثل هذه يجوز أن يأخذ عليها الأجرة بلا خلاف بين أهل العلم، وإنما وقع الخلاف على أخذ الأجرة على الأعمال التي لا تختص بأن يكون فاعلها نم أهل القربة، ولا خلاف بين العلماء أن الرزق الذي يكون من بيت مال المسلمين كالرواتب التي تكون للخلفاء والقضاة والعلماء وغيرهم لا خلاف بينهم أن هذا جائز عند الحاجة، وأما إذا كان آخذه غنيا غير محتاج إليه فقولان لأهل العلم كما حكى ذلك شيخ الإسلام، والجمهور على الجواز، ويدل عليه جواز أخذ الغنيمة للمجاهد الغني، فقد تقدم في كتاب الجهاد أن المجاهد الغني يجوز له أن يأخذ الغنيمة وأن يعطى من النفل فكذلك هنا وهو مذهب جماهير العلماء، وهذا هو الأظهر، ولا نزاع بين أهل العلم على أن الأعمال التعبدية اللازمة كالصلاة والصوم والحج عن النفس وغير ذلك أنها لا تجوز فيها أخذ الأجرة وذلك لأنه لا نفع للغير فيها، فنفعها لازم لصاحبها فلا وجه لأخذ الأجرة عليها، فإن أخذ الأجرة إنما يكون عوضا عن نفع يقع للغير، وهنا لا نفع يقع للغير، واتفق العلماء على أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية لأنها نوع تداوي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري [خ 5737] ، واختلف أهل العلم في أخذ الأجرة على ما سواه مما تقدم، أي أن يأخذ أجرة من الناس لا من بيت المال على قضاء يقضيه بين الناس، أو على عقد الأنكحة لهم، أو على تعليم الناس القرآن أو السنة أو الفقه ونحو ذلك من العبادات المتعدية، فمنع من ذلك الأحناف والحنابلة، واستدلوا بما رواه أبو داود وابن ماجة والحديث حسن لغيره عن عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن، فأهدى له قوسا، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: (إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها) [حم 22181، د 3416، جه 2157] وله شاهد عند ابن ماجة من حديث أبي بن كعب بإسناد ضعيف [جه 2158]
    (15/15)
    ________________________________________
    وآخر بإسناد لا بأس به من حديث أبي الدرداء عند البيهقي [هق 6 / 126] وعلى ذلك فالحديث حسن لطرقه أولا، ولشواهده ثانيا، وهذا السوط وإن كان هدية لكنه مقابل لهذا النفع حيث علمه شيئا من القرآن فكان بمعنى الأجرة، وأجاز المالكية والشافعية أخذ الأجرة على ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد، واستدلوا بحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) قالوا: فنقيس هذه المسائل المختلف فيها على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وأجاب أهل القول الأول بأن أخذ الأجرة على الرقية باب آخر، فإن الرقية نوع من أنواع الطب، فكان أخذها كالطب، فإن فيها مداواة، لما فيها من العمل من نفث وغير ذلك، واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخاطب المرأة: (ملكتكها بما معك من القرآن) [خ 5030، م 1425] فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - صداق هذه المرأة أن يعلمها ما معه من القرآن، فيكون صداقها هو تعليمها القرآن، فدل هذا على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وأجاب أهل القول الأول عن هذا الدليل بأن هذا من باب الإكرام له لا من باب الصداق، وهذا الجواب ضعيف، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له كما في رواية مسلم: (فعلمها القرآن) [م 1425] فدل على أنه ليس لإكرامه فحسب بل ليعلمها القرآن، وأجابوا عنه أيضا بأن هناك فارقا بين عوض النكاح وعوض الأجرة، فعوض النكاح لا يجب تسميته عند العقد ولها مهر مثيلاتها، وأما الإجارة فكما تقدم أنه يشترط فيها تسمية الأجرة، وهذا التفريق ضعيف، وذلك لأننا نجيز على الراجح الإجارة إذا لم تسم حيث كان هناك عرف، فإذا استأجر شيئا ولم يذكر في العقد أجرته وكان له أجرة في العرف فإن الإجارة تصح، إذن لا يصح رد على هذا الحديث الصحيح، وفيه جواز أخذ الأجرة على العمل الصالح، والقول الثالث في هذه المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ
    (15/16)
    ________________________________________
    الإسلام أنه جائز عند الحاجة، وهذا القول هو الراجح وبه تجتمع الأدلة، فإن قوله: (ملكتكها بما معك من القرآن) إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان هذا الرجل فقيرا لا يملك شيئا، فهو محتاج، وبهذا القول تحصل المصالح، وتدرأ المفاسد، ولذا استحبه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، استحبه وفضله على العمل عند السلطان، وعلى أن يتدين وهو لا يدري هل يقضي دينه أو يموت وأمانات الناس في عنقه، إذن عن الإمام أحمد ثلاث روايات:
    1- الرواية الأولى: المنع مطلقا، وهو مذهب الحنابلة والأحناف.
    2- الرواية الثانية: الجواز مطلقا، وهو مذهب الشافعية والمالكية، وفيه ما فيه من المفاسد حيث يبخل أهل العلم وأهل النفع المتعدي الديني بما معهم إلا بمال.
    3- الرواية الثالثة: وهو اختيار شيخ الإسلام أنها جائزة عند الحاجة، ومما يدل على هذا قول الله تعالى في ولي اليتيم {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} ، وقد روى الإمام أحمد بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا) [حم 15103] وهذا من أدلة المنع، ولكن عند عدم الحاجة كما تقدم.

    قوله [وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والخط ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها]
    (15/17)
    ________________________________________
    هذا في الأشياء الواجبة على المؤجر، والحاكم في ذلك هو العرف، فما يذكره المؤلف من التفاصيل حيث كان العرف يوافق هذا، وأما حيث كان العرف لا يوافقه فلا يصح كما قرر هذا صاحب الإنصاف، والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم من أهل العلم، فالأولى هو الحكم بالعرف في مثل هذه المسائل، إذ لا دليل من الشرع يدل على ذلك، وليس هناك شرط لفظي فرجع إلى الشرط العرفي، فمثلا عندنا الكهرباء والمياه هذه واجبة على المستأجر، وأما إصلاح الدار إذا انهدم منها شيء فهذا واجب على المؤجر.
    وقوله (ورحله) أي ما يخمل عليه
    وقوله (والشد عليه) أي شد هذه البضاعة ونحو ذلك، فهذا واجبة على المؤجر.
    قوله (وشد الأحمال) أي البضائع.
    وقوله: (والمحامل) وهي الشقتان اللتان تكونان على شقتي البعير للحمل.
    قوله (ولزوم البعير) فمثلا وهم في الطريق قال المستأجر أريد أن أقضي حاجتي، فالذي يلزم البعير هو المؤجر.

    قوله [فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة]
    البالوعة لعلها أشبه ما يكون بما يسمى عندنا بالبيارة، وهي حفرة تحفر في الأرض فتجتمع فيها مياه الأمطار ومياه المستحم، ونحو ذلك من المياه الفائضة في الدار، وقوله (والكنيف) وهو محل قضاء الحاجة، ويلزم المستأجر لأنها نتيجة فعله واستخدامه بهذه الدار، وهذا إذا تسلمها فارغة، أما إذا تسلمها غير فارغة فهنا بالمشاركة، وإذا تسلمها فارغة فإنه يسلمها فارغة، والعرف يقضي بهذا.

    فصل

    قوله [وهي عقد لازم]
    فالإجارة عقد لازم لأنها نوع من أنواع البيع، وعليه فلا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين مع عدم رضا الآخر، قال تعالى {يا أيها الذي آمنوا أوفوا بالعقود} فهي عقد لازم يجب إيفاؤه، وعليه فليس لأحد من الطرفين أن يفسخه كالبيع، إلا في وقت الخيار، فإن فيه خيارا كالبيع، خيار مجلس وخيار شرط.

    قوله [فإن أجره شيئا ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له]
    (15/18)
    ________________________________________
    وهذا هو المشهور من المذهب، فإذا أجرة شيئا كأن يؤجره دارا ويكون الاتفاق على مدة سنة، ثم منعه كل المدة فلم يمكنه من الانتفاع بها أو منعه بعض المدة كأن يخرجه منها بعد ستة أشهر مثلا فلا شيء له، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لأنه لم يسلمه ما تشارطا عليه، فإنهما قد تشارطا على المدة كلها فلم يوف بشرطه، ولم يسلمه ما عقد عليه من الإجارة فلا شيء له، ولو كان المستأجر قد انتفع بها بعض المدة كأن يستأجرها سنة ثم يجبره على الخروج منها بعد ستة أشهر، فلا شيء له لأنه لم يسلمه ما اتفقا عليه، وقال الجمهور: بل له الأجرة بقسطه، وهو رواية عن الإمام أحمد، فمثلا: إذا أجره داره سنة بعشرة آلاف، ومكنه من الانتفاع ستة أشهر ثم أجبره على الخروج فإن المؤجر يملك من الأجرة نصفها فله خمسة آلاف، وهذا القول هو القول الراجح، وذلك لأن المستأجر قد انتفع بهذه العين المؤجرة هذه المدة على وجه المعاوضة فكان عليه قسط ذلك من العوض، لكن يتوجه ما ذهب إليه الحنابلة فيما إذا لم يكن له نفع بهذه الإجارة، كأن يستأجر حمالا أو غيره على عمل فيعمل له بعض العمل على وجه ولا ينفعه، بل قد يكون عليه فيه ضرر، كأن يتفقا على حمل شيء من المتاع من بلدة إلى أخرى فيحمله إلى بعض الطريق في موضع يضر بالمستأجر أو لا ينفعه فحينئذ لا يتوجه أن يكون له أجرة، لأن المستأجر لم ينتفع، أما لو كانت البضاعة مثلا تحمل من جدة إلى حائل فحملها له إلى المدينة وهناك من يحملها له من المدينة إلى حائل بأجر أقل بسبب قصر المسافة فإنه يترجح ما ذهب إليه الجمهور لأنه قد انتفع بهذا العقد على وجه المعاوضة فكان عليه الأجرة.

    قوله [وإن بدأ الآخر قبل انقضائها فعليه]
    (15/19)
    ________________________________________
    إذا بدأ الآخر - وهو المستأجر - قبل انقضائها فعليه أي الأجرة، فإذا استأجر دارا لمدة سنة ثم خرج منها بعد بضعة أشهر ولم يستوف المدة المتفق عليها فعليه الأجرة كاملة، وهذا هو مقتضى عقد الإجارة، فإن مقتضاه أن المستأجر يملك المنفعة هذه المدة، والمؤجر يملك الأجرة، وعليه فإذا تحول المستأجر عن الدار قبل انقضاء المدة فإن للمؤجر الأجرة كاملة، وذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الإجارة.

    قوله [وتنفسخ بتلف العين]
    فالإجارة تنفسخ بتلف العين، فإذا استأجر جملا ليركبه فمات الجمل فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة.
    وهل يجوز للمؤجر أن يبيع العين المؤجرة؟
    الجواب: يجوز هذا إذ لا محذور فيه، فمثلا أجر عمرو زيدا داره لمدة خمس سنوات، ثم أراد أن يبيعها، فالبيع صحيح، وتبقى الإجارة على ما هي عليه فلا تنفسخ، لأن المستأجر مالك للمنفعة تلك المدة، لكن إن لم يعلم المشتري بالإجارة فله الفسخ كما تقدم في كتاب البيع.

    قوله [وبموت المرتضع]
    تقد استئجار المرضعة، وقد قال تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإذا استأجر ولي الطفل - الذي يحتاج إلى رضاع - إذا استأجر ظئرا لترضع طفله، ثم مات المرتضع، فإن الإجارة تنفسخ، وذلك لأن هذه المنفعة وهي منفعة الرضاع لا يمكن استيفاؤها.

    قوله [والراكب إن لم يخلف بدلا]
    (15/20)
    ________________________________________
    كذلك إذا مات الراكب ولم يخلف بدلا، فإذا استأجر دابة ليركبها من بلدة إلى أخرى فمات المستأجر ولم يخلف وارثا بدلا عنه يقوم بالانتفاع بهذه العين، فإن الإجارة تنفسخ في أحد قولي المذهب، قالوا: لأن فيه ضرر، فإن المستأجر لا ينتفع بها ولا تورث عنه، والمؤجر يمنع من التصرف بها، فتبقى هذه العين عاطلة لا ينتفع بها، وهذا أحد القولين في المذهب وهو اختيار الشيخ السعدي، والقول الثاني في هذه المسألة وهو المذهب أن الراكب إذا مات ولم يخلف بدلا فإن عقد الإجارة لا ينفسخ، قالوا: لأن عقد الإجارة عقد لازم كما تقدم، والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول، لثبوت الضرر، ولأن هذه العين تبقى عاطلة لا ينتفع بها.
    فالذي يتبين والله أعلم في هذه المسألة أحد الوجهين في المذهب وهو أنه إذا مات الراكب ونحوه ولم يخلف بدلا ينتفع بهذه العين المؤجرة فإن عقد الإجارة ينفسخ، وذلك لأن خلاف هذا يبقى هذه العين عاطلة، فلا يمكن للمكري - أي المؤجر - أن يتصرف بها، والمكتري لا نفع له بها.

    قوله [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه]
    فإذا اتفق زيد مع الطبيب على أن يقلع ضرسه، وكانت الأجرة كذا وكذا، فانقلع الضرس قبل قلع الطبيب له فحينئذ تنفسخ الإجارة، وقوله (أو برئه) كأن يقول للطبيب أنا اتفق معك على أني إن شفيت من هذا المرض فلك عشرة آلاف، فشفي من الغير طب، أو بطريق آخر من الطب سوى هذا الطبيب الذي اتفق معه، فحينئذ تنفسخ الإجارة، فلا شيء للطبيب وذلك لما تقدم حيث إنه لا نفع للمستأجر بها، فلا يمكنه استيفاء المنفعة المعقود عليها.

    قوله [لا بموت المتعاقدين أو أحدهما]
    (15/21)
    ________________________________________
    المتعاقدان هما المؤجر والمستأجر، فإذا ماتا أو مات أحدهما فإن الإجارة باقية لازمة، لا تنفسخ لأنها عقد لازم، فإن قيل هناك ضرر؟ فالجواب: أنه لا ضرر فإن المستأجر موروث، ومن إرثه ملك المنفعة في هذه الأجرة، فينتفعون بهذه الدار إما بسكناها أو بتأجيرها، فليس هناك ما يبطل كون عقد الإجارة عقدا لازما هنا، ويخرجنا عن الأصل في الإجارة.

    قوله [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه]
    كاحتراق بضاعته مثلا، فمثلا: استأجر جملا فضاعت نفقته، أو استأجر دكانا فاحترقت بضاعته، فإن الإجارة ثابتة فلا تنفسخ، وذلك لما تقدم من أنها عقد لازم فهي كالبيع، ويمكنه حينئذ أن يؤجر هذه الدار أو يؤجر هذا الجمل ونحو ذلك، وكذلك لو استأجر سيارة ليركبها وضاعت نفقته التي منها هذه الأجرة التي تدفع إلى صاحب السيارة فإن الإجارة تثبت لأنها عقد لازم كالبيع.

    قوله [وإن اكترى دارا فانهدمت الدار أو أرضا لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي]
    فإذا استأجر دارا ليسكنها فانهدمت هذه الدار، أو استأجر داكنا ليعمل به فانهدم هذا الدكان أو استأجر أرضا ليزرعها أو ليغرس فيها نحلا ونحو ذلك، أو غار الماء الذي فيها، أو انقطع أو غرقت، فإن الإجارة تنفسخ في الباقي، وذلك لأنه لا يمكنه أن ينتفع بهذه العين، قالوا: إذا انهدمت لا يمكنه أن ينتفع بها بعد انهدامها، والأرض إذا غار ماءها وقد استأجرها ليسكن فيها فلا يمكنه أن ينتفع بها، فلا يمكنه أن يستوفي المنفعة، فأشبه هذا بتلف العين، ولكن ما مضى فعليه الأجرة، فمثلا: استأجر دارا لمدة سنة، فانهدمت بعد ستة أشهر فعليه أجرة ستة أشهر، وذلك لأنه انتفع بها على وجه المعاوضة فقد استوفى منفعتها فعليه الأجرة، ولا وجه لإسقاطها.

    قوله [وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى]
    (15/22)
    ________________________________________
    كأن يستأجر عبدا ليعمل له مدة معلومة، أو استأجر جملا ليركبه فوجد في هذه العين عيبا، فللمستأجر الفسخ كالبيع، فإذا استأجر شيئا فوجده معيبا أو حدث به عيب عنده فإنه بالخيار إن شاء أمضى المدة وإن شاء فسخ، فإن أمضاها فهل يكون له أرض أم لا؟
    مثاله: استأجر دارا بعشرة آلاف، فوجدها معيبة بحيث إنها لا تساوي مع العيب إلا ثمانية آلاف فإن شاء فسخ، وإن شاء أمضى، فإن أمضى فهل يأخذ الألفين أرشا؟
    تنبني على المسألة السابقة في خيار العيب، وقد تقدم أن المذهب أن له الأرش، وأن الراجح أنه لا أرش له، ومع ذلك إن المشهور في المذهب هنا أنه لا أرش له، وقياس المذهب أن له الأرش كالمسألة السابقة، والصحيح ما تقدم في تلك المسألة وفي هذه المسألة المتفرعة عنها فلا أرش له.
    (15/23)
    ________________________________________
    فإن تبين بعد مضي مدة أن بها عيبا كأن يستأجرها بعشرة آلاف، ثم تبين له أن فيها عيبا يجعل إجارتها تساوي ثمانية آلاف بهذا العيب، فإذا سكنها ستة أشهر ثم تبين له العيب فعلى المذهب لا أرش له هنا، وحينئذ فإذا أراد الفسخ فإنه يدفع خمسة آلاف أجرة الستة أشهر، وإن شاء أن يمضي بعشرة آلاف، وفي هذا فيما يظهر نظر، وذلك لأن هذا الأرض يدفع عنه الضرر هنا بخلاف المسألة المتقدمة، فإنه قد استوفى المنفعة هنا في هذه المدة وفيها هذا العيب، فحينئذ عليه ضرر حيث إنه استأجر معيبا على أنه غير معيب، وقد استأجره بأجرة غير المعيب، وليس هذه كالمسألة المتقدمة، فهنا لا يدفع الضرر عنه إلا بحساب الأرش، فالذي يظهر أنه لا يدفع قسط الأجرة على أن السلعة غير معيبة، بل يدفع القسط على أن السلعة معيبة، فمثلا: استأجر دارا مدة ثمانية أشهر، ثم تبين له أن فيها عيبا، فالثمانية أشهر لغير المعيبة لعشرة آلاف، وللمعيبة بستة آلاف، فعلى المذهب إن أمضى فإنه يدفع العشرة آلاف، وهذا فيه نظر، فإنه لا يندفع عنه الضرر إلا بإعطاء هذا الأرش الفارق بين ثمنها معيبة وثمنها غير معيبة.

    قوله [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ]
    الأجير نوعان:
    1- أجير خاص.
    2- أجير عام مشترك.
    (15/24)
    ________________________________________
    فالأجير الخاص هو من يختص المستأجر بنفعه مدة معلومة، فعندما يستأجر عاملا للزراعة أو للتجارة أو نحو ذلك لمدة شهر أو شهرين أو نحو ذلك فهذا الأجير نفعه خاص بالمستأجر، فإذا جنى هذا الأجير جناية خاطئة لم يتعد فيها ولم يفرط فتلف مال المستأجر أو بعضه فإنه لا يضمن، كأن يستأجر عاملا للمزرعة فيعمل على مكائنه فيفسدها من غير أن يتعدى ولا يفرط، فإنه لا ضمان عليه، كالوكيل والمضارب ما تقدم، فهو نائب عن المالك في منافعه، فإن منافع هذا الأجير مملوكة لمستأجره، فهو نائب لهذا المستأجر في تصريف منافع نفسه على حسب ما يأمره به هذا المستأجر، فإذا حصل شيء من التلف بغير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمن كالوكيل والمضارب.

    قوله [وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم إن عرف صدقهم]
    البيطار هو طبيب البهائم، والطبيب هو الطبيب المعروف، وهو في العرف الحادث يراد به كما ذكر ابن القيم الطبيب الطبائعي، وأما في اللغة فهو أعم من ذلك، فإن الحجام والكواء ونحو ذلك يقال لهم طبيب، فعلى ذلك كلهم يدخلون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي والحديث حسن: (من تطبب وهو لا يعلم بطب فهو ضامن) [ن 4830، د 4587، جه 3466] فالطبيب بكل أنواعه سواء كان طبيبا للآدميين أو للبهائم أو حجاما أوكيميائيا أو كواء أو نحو ذلك فإنه إذا لم تجن يده وعرف حذقه في الطب فإنه لا يضمن، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (من تطبب ولا يعلم بطب فهو ضامن) وظاهره أنه إذا كان يعلم بالطب فإنه لا يضمن، ولأن هذا الفعل مأذون له، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ذكره المؤلف هنا بالاتفاق، فإذا لم تجن يده وهو طبيب حاذق فإنه لا يضمن، وكذلك إذا صرف دواء وهو حاذق وهو غير مخطيء في ذلك بل صرفه صرفا صحيحا ومع ذلك ترتب عليه ضرر ولم يقع منه تفريط ولا تعدي فإنه أيضا لا يضمن.
    (15/25)
    ________________________________________
    قوله [ولا راع لم يتعد]
    فالراعي إذا لم يتعد ولم يفرط في حفظ ما تحت يده من البهائم فإذا حصل شيء من التلف فإنه أيضا لا يضمن لأنه أمين والأمين غير ضامن.

    قوله [ويضمن المشترك ما تلف بفعله ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له]
    الأجير المشترك: هو من لا يختص أحد من المستأجرين بنفعه، بل نفعه يشترط فيه بحيث إنه يعمل لعدة أشخاص في وقت واحد، كخياط الثياب أو مصلح السيارات ونحو ذلك، فإذا حصل عنده تلف ولم يتعد ولم يفرط فإنه يضمن في المشهور عند الحنابلة، وذهب بعض الحنابلة وهو مذهب الشافعية ومال إليه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يضمن، وهذا القول هو الراجح، واستدل أهل القول الأول بما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:" أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، ويقول: لا يصح الناس إلا بهذا " لكن الحديث إسناده منقطع فلا يصح، ولذا ضعفه الشافعي وغيره، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني، وذلك لأنه لم يحصل من تعد ولا تفريط، وهو مأذون له بهذا العمل فترتب على عمله المأذون له فيه تلف من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه.
    وقوله (ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله) مثاله: لما خاط الثوب وضع الثوب في حرز مثله، أي في محل يحفظ فيه الثوب عادة، فسرق الثوب، أو حصل له تلف بغير فعل منه، فحينئذ لا يضمن وذلك لأنه أمين والأمين لا يضمن ـ فالثوب الآن أصيح أمانة عنده.
    (15/26)
    ________________________________________
    وقوله (ولا أجرة له) فلا أجرة له في هاتين المسألتين كلتيهما، فإذا حصل في الثوب تلف بفعله أو حصل له تلف وهو في حرزه أو بغير فعله فلا أجره له في هذه المسائل، وذلك لأنه لم يسلم ما اتفقا عليه، واختار ابن عقيل من الحنابلة وقواه صاحب الإنصاف واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن له الأجرة، وذلك لأن الأجرة في مقابل العمل وقد حصل العمل، وهذا هو القول الراجح، فالاتفاق على أن يخيط له هذا الثوب مثلا، وقد خاطه فإذا حصل له تلف من غير تعد ولا تفريط منه أو حصل له تلف في حرزه فإنه يستحق الأجرة لأن الأجرة عوض عن عمله.
    وقوله هنا (ولا يضمن ما تلف من حرزه) أي من غير تعد ولا تفريط، قالوا: فإذا حبس الثوب على الأجرة ثم حصل فيه تلف فإنه يضمن، كأن يقول له: لا أعطيك الثوب حتى تدفع الأجرة فحصل له تلف فإنه يضمن، وذلك لأنه قد تعدى بعدم إعطائه الثوب ونحوه في الوقت المحدد.
    وهذا ينبني على أن حبس الثوب ونحوه المعمول فيه على الأجرة أنه تعد، والصحيح أنه ليس بتعد كما هو اختيار ابن القيم رحمه الله، فإنه قرر أن هذا العمل من هذا الأجير قائم بهذه العين المستأجرة، والعمل يجري مجرى الأعيان، بدليل ثبوت العوض في الأعمال كثبوتها في الأعيان، وحينئذ فله أن يمتنع من تسليم عمله المرتبط بهذا الثوب حتى يستلم العوض، فلم يتعد.

    قوله [وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل وتستحق بتسلم العمل الذي في الذمة]
    (15/27)
    ________________________________________
    إذا اتفق زيد وعمرو على أن يعمل زيد لعمرو في داره في إصلاح ما انهدم منها، واتفقا على أن يكون العمل لمدة شهر، فيجب الأجرة بمجرد العقد، أي تثبت الأجرة بمجرد العقد كما يثبت الثمن، وكما يثبت الصداق، فبمجرد ما يعقد الرجل على المرأة يجب صداقها، أي يثبت ويلزم، وبمجرد ما يشتري السلعة فإن ثمنها يثبت ويلزم، ولكن هذا الأجير لا يستحق المطالبة بها حتى يسلم العمل الذي في الذمة، ولذا قال (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة) ، وفي البخاري يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) [خ 2270] وفي ابن ماجة والحديث حسن: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) [جه 2443] إذن يملك الأجير المطالبة الأجرة عند تسليم العمل الذي في الذمة، وأما إذا كانت الإجارة على عين فإنه يملك المطالبة عند تسليم العين، فإذا استأجرت دارا لتسكنها فسلمك المؤجر الدار وأعطاك مفتاحها وأخلاها لك فأنت الآن متمكن من الانتفاع بها، فحينئذ يملك هو المطالبة بالأجرة، ولا ينتظر حتى تستوفي المنفعة إلى سنة أو نحو ذلك، بل يطال بالأجرة بمجرد تسليمك العين، وذلك لأنه بتسليمه العين قد مكنك من الانتفاع بها، وأنت قد ملكت المنفعة من حينئذ فكانت الأجرة مطالبا بها من حينئذ كالبيع.
    وقوله (إن لم تؤجل) فالأجرة واجبة بالعقد لكن إن اتفقا على تأجيلها فالمسلمون على شروطهم، فإن قال: لا أعطيك الأجرة حالة، بل الأجرة مؤجلة إلى سنة فالمسلمون على شروطهم.

    قوله [ومن تسلم عينا بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل]
    إذا تسلم دارا ليسكنها بالإجارة لكن هذه الإجارة إجارة فاسدة كأن يؤجره دارا، ويكون المؤجر غير جائز التصرف مثلا، ثم فرغت المدة فحينئذ ماذا يلزم المستأجر؟
    (15/28)
    ________________________________________
    يلزمه أجرة المثل، فإذا اتفقا على أن تكون الأجرة عشرين ألفا وأجرة المثل عشرة آلاف فلا يعطيه إلا عشرة آلاف، وكذا العكس، وهذا هو المشهور في المذهب، وذلك لأنها إجارة فاسدة فحينئذ لا تعتبر الأجرة المذكورة فيها، وقياس المذهب كما قال القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن الواجب هو الأجر المسمى قياسا على النكاح، فكما أن النكاح الفاسد إذا ذكر فيه صداق فيجب الصداق المسمى فكذلك هنا بل أولى، وذلك لأن الأجرة مقصودة في الإجارة بخلاف الصداق في النكاح فليس بمقصود كقصد الأجرة في الإجارة، فإن هناك مقاصد أخرى للنكاح هي أعظم من مقصد الأجر بخلاف الأجرة في الإجارة فإنها هي المقصودة، وهذا القول هو الراجح.

    باب السبق
    السبق بتسكين الباء هو المسابقة، وبالفتح السبق هو العوض الذي يجعل للسابق من المتسابقَين أو المتسابقِين.
    قوله [يصح على الأقدام]
    أي تصح المسابقة على الأقدام، فالمسابقة على الأقدام جائزة، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق عائشة [حم 23598، د 2578، جه 1979] وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه سابق بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأنصار فسبقه.
    ** وهنا مقدمة فيما يجوز من اللهو: اعلم أن اللهو ثلاثة أنواع:
    1- النوع الأول: اللهو المفضي إلى ما نهى الله عنه من الصد عن ذكر الله، والعداوة والبغضاء وغير ذلك وهذا محرم لا يجوز، فكل لهو يفضي إلى ما نهى الله عنه فهو محرم لا يجوز، قال شيخ الإسلام:" وكل فعل أفضى كثيرا إلى ما حرمه الله فإن الشارع يحرمه ما لم تكن هناك مصلحة راجحة ".
    (15/29)
    ________________________________________
    وذلك لأنه يكون سببا للشر والفساد، ولذا حرمت الشريعة النرد وهي ما تسمى بالطاولة عند العامة، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده بدم خنزير ولحمه) [م 2260] وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنردشير فقد عصى الله رسوله) [حم 19027، د 4938، جه 3762، ك 1786] وهذان الحديثان عامان في النرد سواء كان على عوض وهو القمار أو على غيره، والتشبيه المذكور في الحديث المتقدم وهو قوله: (فكأنما صبغ يده بدم الخنزير ولحمه) هذا التشبيه متناول للعب بالنرد سواء وجد الأكل أم لم يوجد، فاللعب بالنرد محرم وذلك لأنها سبب للشر والفساد والعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله، وأولى من ذلك الشطرنج في مذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف والحنابلة، وتوقف الشافعي في حكمها، وللشافعية قولان من إباحة وتحريم، هذا إذا لم يكن فيها عوض، فإذا كانت فيها عوض فلا خلاف بين العلماء في تحريمها وأنها من القمار، والصحيح هو التحريم مطلقا سواء كانت بعوض أم لم تكن بعوض وذلك لثبوت تحريم النرد، والشطرنج أولى من ذلك، فإن صدها عن ذكر الله أعظم، وإلقاءها للعداوة والبغضاء أكثر فكانت أولى بالتحريم، فإنها تستغرق - كما قرر الشيخ الإسلام - تستغرق فكر لاعبيها حتى لا يشعر بنفسه ولا يشعر بمن حوله فهذا مماثل أو أشد من الخمر، وروى البيهقي سننه وصححه شيخ الإسلام أن علي بن أبي طالب:" مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " [هق 10 / 212] وروى ابن أبي شيبة بإسناد منقطع أنه قال:" الشطرنج من الميسر " [مصنف ابن أبي شيبة 6 / 191 برقم 10]
    (15/30)
    ________________________________________
    2- والنوع الثاني: هو اللهو الذي يكون فيه منفعة ولا مضرة فيه فهذا جائز كما قرر هذا شيخ الإسلام، وقد روى الترمذي في سننه وصححه ورواه ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق) [حم 16849، ت 1637، جه 2811] وروى النسائي في سننه الكبرى نحوه من وجه آخر في كتاب عشرة النساء وفيه: (وتعلم السباحة) [5 / 303] فهذه من الحق وفيها نفع فهي جائزة، وإن كان لا نفع فيها فهي من القسم الباطل الذي يذهب على العبد وقته، وقد يكون من النوع المحرم الذي تقدم ذكره،
    وللحنابلة وجهان في اللعب الذي لا يعين على عدو هل يكره أم لا؟
    قال صاحب الإنسان الإنصاف:" والأولى الكراهية اللهم إلا أن يكون له بذلك قصد حسن ".
    3- النوع الثالث: ما كان معينا على ما أمر الله به في قوله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فهذا من اللهو المستحب.
    وإذا كان من اللهو المستحب فيجوز فيه السبق وهو الجعل، وإن كان من اللهو المحرم فلا يجوز مطلقا لا بجعل ولا بغير جعل، وإن كان من اللهو المباح أو المكروه فلا يجوز فيه الجعل ويجوز بغير جعل.
    قوله [يصح على الأقدام]
    فتصح المسابقة على الأقدام كما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة.
    قوله [وسائر الحيوانات]
    من البغال والخيل والفيلة وغيرها.
    قوله [والسفن والمزاريق]
    كذلك تصح في السفن والطائرات كما في هذا الوقت وتصح في المزاريق وهي جمع مزراق وهو الرمح، وهكذا كل ما تقدم ما فيه نفع وليس فيه مضرة الراجحة.
    قوله [ولا تصح بعوض إلا في إبل وخيل وسهام]
    فلا تصح بعوض أي بجعل إلا في إبل وخيل وسهام، لما رواه أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) [حم 9788، ت 1700، جه 2878] .
    (15/31)
    ________________________________________
    (في خف) : أي في الإبل، (حافر) : أي في الخيل، (نصل) : أي في القوس، فهذا الحديث يدل على أن الجائزة لا تحل على شيء من المغالبات وأنواع الملاهي التي تقع في المسابقات إلا في هذه الأنواع الثلاثة التي تعين على الجهاد إعانة ظاهرة وهي سباق الخيل، وسباق الإبل، وسباق الرمي، وأما غيرها فلا يجوز فيها السبق أي الجعل، فالمسابقة على الأقدام والمصارعة ونحو ذلك هذه كلها لا يجوز فيها السبق.
    * واختلف أهل العلم هل يقاس على هذه المسابقة ما فيه إعانة على ظهور حجة الإسلام وبراهينه من علوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة؟ قولان لأهل العلم:
    القول الأول: منع من ذلك جمهور علماء.
    القول الثاني: أجازه الأحناف، وهو اختيار شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
    وما ذكروه هو الراجح، وذلك لأن القياس قياس صحيح بل هو من باب قياس الأولى، فإن الدين قائم على الحجة والبرهان، وقائم على السيف والسنان، وقيامه بالحجة والبرهان أعظم، وإنما يحتاج إلى السيف والسنان إذا وقف أمام الحجة والبرهان وعورض، فتبين من هذا أن الحجة والبرهان القائمة على العلم النافع الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة أحق بجواز هذا السبق.
    ** واعلم أن السبق فيها جائز سواء كانت من أجنبي كالإمام أو نائبه أو غيرهما كأن يضعه أحد من أرباب الغنى، فيضع مالا لسباق الخيل أو لسباق الإبل أو الرمي فهذا جائز للحديث المتقدم وهو عام سواء كان من المتسابقين أو من غيرهما، فهنا المتعلق محذوف فيفيد هذا العموم، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
    فإذا وضع الجائزة أجنبي سواء كان الإمام أو نائبه، أو وضعه غيرهما خلافا لما ذهب إليه الإمام مالك، فإنه يمنع أن يكون من غير الإمام أو نائبه، ولا دليل على التفريق، أو كان الواضع أحد المتسابقين فهذا جائز.
    (15/32)
    ________________________________________
    أما إذا كانت الجائزة من المتسابقَين كليهما أو من المتسابقِين كلهم فمنع من ذلك جمهور العلماء، قالوا: لأن كليهما يكون إما غانما أو غارما وهذا قمار، والقمار محرم، بخلاف ما لو وضعها أحدهما دون الآخر فإن هذا الواضع يكون غارما أو غانما، وأما الآخر فإنه إما أن يكون غانما أو سالما، قالوا: ويجوز حينئذ أن يضع المحلل، فإذا تسابق زيد وعمرو ودفع هذا ألفا ودفع الآخر ألفا فأدخلا بينهما ثالثا لا يضع شيئا فهذا جائز بشرط ألا يؤمن سبقه بحيث لا يكون حيلة إلى تحليل ما حرم الله، قالوا ودليل هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أدخل فرس بين فرسين لا يأمن أن يسبق فلا بأس، وإن أمن فهو قمار) [حم 10179، د 2579، جه 2876] واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جواز هذه الصورة التي نهى عن الجمهور بغير محلل، قالا: إذا تسابق على خيل أو إبل أو سهام أو على علوم شرعية كما تقدم فيجوز أن يشارك كل واحد من المتسابقين بالسبق، قالا: لأن القمار أكل للمال بالباطل، وهذا ليس بأكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، فإن فيه إعانة على ما أمر الله به عز وجل من الجهاد في سبيله، وأجابوا عن حديث أبي هريرة المتقدم بأن إسناده ضعيف فهو من حديث سفيان بن حسين وسعيد بن بشير عن الزهري، ورواية سفيان بن حسين عن الزهري ضعيفة، وسعيد بن بشير ضعيف الحديث، قالوا: ورواه الثقات عن الزهري عن سعيد بن المسيب من قوله، فهو من قول سعيد بن المسيب، وهذا القول هو القول الراجح، فإن القمار أكل للمال بالباطل وهذا ليس أكل للمال بالباطل بل هو أكل للمال بالحق، واستدلوا بما روى أحمد في مسنده بإسناد جيد: (أن أنس بن مالك قيل له هل كنتم تراهنون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نعم لقد راهن النبي - صلى الله عليه وسلم - على فرس يقال له سبحة فسبق
    (15/33)
    ________________________________________
    فهش له وأعجبه) [حم 12216] والإسناد جيد، قالوا: وروى أحمد في مسنده:" أن أبا عبيدة قال: من يراهنني، فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال - أي الراوي - فسبقه فرأيت عقيصتي -] ضفائره - أبي عبيدة تنقزان وهو خلفه على فرس عربي " [حم 346] قالوا: والمراهنة مفاعلة، فإذا قال من يراهن أي من يقابلني في الرهان فيدفع هذا ويدفع هذا، وروى الترمذي وصححه والحديث صحيح:" أن أبا بكر - رضي الله عنه - راهن قريشا على غلبة الروم على الفرس " [ت 3194] فدل هذا على أن المراهنة جائزة.

    قوله [ولا بد من تعيين المركوبين]
    فلا بد من تعيين المركوبين سواء كانا فرسين أو ناقتين أو نحو ذلك، ولا بد من تعيين الرماة، ولذا قال بعد ذلك:

    قوله [والرماة]
    وذلك لأن المقصود من المسابقة بين الخيل وبين الإبل معرفة سرعة عدوها، فالمسابقة متعلقة بالمركوب، وإذا لم يعين المركوب فقد يكون المركوب مما يؤمن سبقه، وحينئذ يكون هذا من أكل المال بالباطل، والمسابقة في الرمي المقصود منها معرفة حذق الرماة، فتعلقها بفعل الرماة، فاشترط أيضا تعيين الرماة.

    قوله [واتحادهما]
    فلا بد من تعيين المركوبين واتحادهما، بأن يكونا عربيين أو أن يكونا هجينين، فلا بد أن يكونا من نوع واحد، وهذا هو المشهور في المذهب، والوجه الثاني في المذهب أنه يجوز أن تكون من أنواع مختلفة، والحاكم في هذه أنه إذا حصل المقصود من المسابقة بان كانت هذه الخيول وإن اختلفت أنواعها كل واحد منها لا يؤمن سبقه فكان فيه الفائدة المرجوة من التدريب على الجهاد في سبيل الله، فذلك جائز، وأما إذا كان بين نوعين مختلفين وأحدهما يؤمن سبقه فإن هذا ممنوع منه لأنه لا فائدة من السباق هذا، وهذا هو الراجح في هذه المسألة.

    قوله [والمسافة]
    (15/34)
    ________________________________________
    فلا بد من تحديد المسافة، وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل التي قد ضمرت من الحيفاء - وهو موضع خارج المدينة - إلى ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) [خ 7336، م 1870] قال ابن عمر في رواية للبخاري:" بين الحيفاء وبين ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، وبين الثنية ومسجد بني زريق ميل " [خ 2868] وإضمار الخيل بأن تسمن ثم بعد ذلك لا تطعم إلا قوتها، وتوضع في بيت وتجلل أي تغطى حتى تعرق فيخف لحمها، ثم إن المسافة إذا لم تحدد فإن هذا يفضي إلى الخلاف والتنازع للجهالة، وإزالة الجهالة المفضية إلى النزاع واجب.

    قوله [بقدر معتاد]
    فلا بد أن يكون القدر معتادا ليحصل المقصود، وإلا فإن الغرض يفوت، فمثلا: الرمي الطبيعي مائة وخمسون مترا تقريبا، فإذا زاد عن هذا فإنه يفوت الغرض لأنه لا يصل إلى الهدف إلا نادرا، كذلك الخيل أو الإبل إذا وضعت مسافة بعيدة جدا لا تصل إليها في العادة فإنه حينئذ يفوت الغرض المقصود.

    قوله [وهي جعالة لكل واحد فسخها]
    (15/35)
    ________________________________________
    السبق جعالة في المشهور من المذهب، ويأتي الكلام على الجعالة، وبين ابن القيم في كتابه الفروسية الفارق بين الجعالة والسبق بما يدل على بطلان كون السبق جعالة، فإن بينهما فروقا منها: أن الجاعل للجعل إنما يجعله لنفع نفسه، فإذا ضاع له مال يقول: من يحصل لي هذا المال أعطيه كذا وكذا، فهو يقصد بدفع هذا الجعل نفع نفسه، وأما في السبق فهو يوفيه لمن يعجزه ويقهره ويغلبه، ومنها: أن الجعالة يجوز أن يكون العوض والمعوض مجهولين، فيجوز أن يقول: من أتى بعبدي الآبق وهو مجهول فله كذا وكذا، فالمعوض وهو العبد الآبق مجهول، ويجوز أن يقول القائد في الحرب: من دلني على حصن فله ثلث ما فيه من الغنيمة، والغنيمة التي فيه مجهولة، وهذا كله لا يجوز في باب السبق، بل يشترط أن يكون السبق معلوما وأن تكون المسافة والمركوب والرماة معلومين، فدل على أن السبق ليس بجعالة، كما أنه ليس بإجارة، وليس بشركة، وليس بنذر، كما بين ابن القيم أنه نوع مستقل له حكمه الخاص، فلا يؤخذ أحكامه من أحكام غيره، وهنا الحنابلة قالوا: هو جعالة، وعليه فلكل واحد منهما الفسخ، فمثلا: اتفق زيد وعمرو على المسابقة، وأن يكون بينهما سبقا قدره كذا وكذا، سواء دفع واحد منهما كما هو مذهب الجمهور، أو دفعا كلاهما، فلما شرعا في السباق ولما يتبين الفضل لواحد منهما فيجوز لكل واحد منهما الفسخ، فيجوز قبل الشروع، وبعد الشروع ما لم يتبين أن لأحدهما فضلا، أما إذا تبين أن لأحدهما فضلا فله الفسخ، وأما الآخر فليس له الفسخ، لأنه قد ظهر ما يكون مرجحا لجانب الآخر، فحينئذ إذا جاز له الفسخ ففيه إسقاط لحق الآخر، وهذا هو المشهور من المذهب وهو مذهب أبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي أن عقد السبق عقد جائز، والقول الثاني للشافعية وهو وجه في المذهب أن هذا العقد عقد لازم، فإذا شرعا فيه فليس لأحدهما أن يفسخ، قالوا: قياسا على عقد الإجارة،
    (15/36)
    ________________________________________
    والقياس على عقد الإجارة هنا ضعيف، للفارق بين عقد الإجارة وبين السبق، قالوا: الجامع بينهما أن في كليهما يشترط أن يكون العوض والمعوض معلوما كما تقدم، والجواب: أنه قياس مع الفارق، فبينهما فروق منها أن الإجارة يشترط أن يكون العمل المطلوب فيها مقدورا على تسليمه، وليس هذا في باب المسابقة، فإنه قد سبق وقد لا يسبق، وهناك فروق أخرى، ومع ذلك فالذي يتبين والله أعلم هو رجحان هذا القول لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود إلا ما استثني، وإن كان يتوجه - والله أعلم - أنهما إذا لم يشرعا فيه فيتوجه القول الأول، وهو جواز الفسخ، لأنه لا يجوز أن يأخذ أحد مال أخيه بغير طيب نفس منه، وحيث لم يشرعا في السباق فلم يترتب على ذلك عمل من الآخر.

    قوله [وتصح المناضلة على معينين يحسنون الرمي]
    المناضلة هي المسابقة في الرمي، وقوله " على معينين " كما تقدم فيشترط أن يعين الرماة، وقوله " يحسنون الرمي " فإن كان بعضهم لا يحسن الرمي فإن هذه من المسابقة التي يؤمن فيها السبق، فيكون هذا من أكل أموال الناس بالباطل.

    باب العارية

    العارية: تضبط بتشديد الياء وتخفيفها، وهي من العري، وهو التجرد، وسميت بذلك لتجردها من العوض، وعرفها المؤلف بقوله:

    قوله [وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه]
    أي بعد استيفاء النفع، فهذه العين التي أعيرت كالدار مثلا إذا انتفع بها هذا المستعير واستوفى نفعها فإن هذه العين تبقى بعد استيفاء هذا النفع المتبرع به، وهي مشروعة بالإجماع.
    * واختلف أهل العلم هل تجب العارية أم لا؟
    (15/37)
    ________________________________________
    فذهب جمهور العلماء إلى أنها مستحبة غير واجبة، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث طلحة بين عبيد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي بعد أن ذكر له هل على شيء غير الزكاة لما سأله عما يجب عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا إلا أن تطوع) قالوا: فدل هذا على أن العارية ليست واجبة فلو كانت واجبة لأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لما سأله: هل علي غيرها، والقول الثاني في هذه المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام أن العارية واجبة أي مع غنى مالكها وحاجة الآخر إليها، ودليل هذا ما ثبت في مسلم من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي مستو - تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها ليس فيها يومئذ جماء - أي التي لا قرن لها - ولا مكسورة القرن، قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) [م 988] والشاهد في قوله: (وإعارة دلوها) ، ويدل لذلك أيضا قول الله تعالى {ويمنعون الماعون} ، وقد روى أبو داود والنسائي في سننه الكبرى بإسناد حسن عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إعارة الدلو والدر " [ن كبرى 6 / 522، د 1657] فهو لا يتضرر بهذه الإعارة ولا تفوته مصلحة بها فذم على المنع، وما اختاره شيخ الإسلام في هذه المسألة قوي، والجواب عن حديث الأعرابي أن يقال: إن العارية من الأمور الطارئة، فقد يملك الإنسان ما يعيره وقد لا يملكه، وإذا ملكه فقد يكون هناك من هو محتاج إليه وقد لا يكون، وهو كما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عن الصلاة: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، مع دلالة الشرع على وجوب صلاة
    (15/38)
    ________________________________________
    الكسوف، فعلى ذلك القول الراجح هو اختيار شيخ الإسلام.
    ** والعارية تبرع بالنفع وعليه فلا تصح إلا من جائز التصرف، هكذا يقرر الفقهاء، وهذا على القول باستحباب العارية، وأما على القول الراجح وهو وجوب العارية لا يتبين هذا، فإن هذا تبرع واجب، فهو واجب في ماله فأشبه الزكاة ونحوها.
    *** وكل قول أو فعل يدل على الإعارة فإن العارية تثبت به، فإذا قال: أعرتك، فهو قول يدل على العارية فيثبت به، وكذلك إذا قال: أعطيتك راحلتي لتسافر بها ثم تعيدها إلي بلا عوض فهذا قول يدل على العارية، وكذلك إذا قال: أعرني كذا، فدفعه إليه ولم يتلفظ فإن هذا الفعل يدل على الإعارة.

    قوله [وتباح إعارة كل ذي نفع مباح]
    كالدلو والقدر والفأس والراحلة والدار وغير ذلك، فكل ذي نفع مباح تباح عاريته لدلالة الأدلة الشرعية على مشروعيتها، وحيث كان النفع مباحا فإنه داخل في العقود، والأصل في العقود الإباحة.

    قوله [إلا البضع]
    أي الفرج، فإنه لا تصح عاريته، كأن تكون له أمة فإنه لا تصح إعارة بضعها وذلك لأن الفرج لا يباح إلا بما جعله الله سببا لإباحته.

    قوله [ولا عبدا مسلما لكافر]
    فلا يجوز أن يعير عبده المسلم لكافر ليستخدمه، فإن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.

    قوله [وصيدا ونحوه لمحرم]
    فليس له أن يعير صيدا لمحرم، ولا نحوه كأن يعيره مخيطا أو نحوه، وذلك لأن المحرم ممنوع من إمساك الصياد، وممنوع من لبس المخيط، فإذا أعاره صيدا أو ثوبا مخيطا فقد أعانه على الإثم، وقد قال الله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}

    قوله [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم]
    فليس له أن يعير أمة شابة أي يفتتن بها، ليس له أن يعيرها لأجنبي عنها ذكر، وذك لأنه لا يؤمن عليها، أما إذا أعارها إلى امرأة أو محرم لها كأن يعيرها عمها أو خالها فذلك جائز لا بأس له.
    (15/39)
    ________________________________________
    * المشهور عند فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور أن المعير له أن يسترد العين المعارة متى شاء إلا أن يأذن بشغلها بشيء يتضرر المستعير برجوعه فيها، فلو أعاره راحلة فله أن يرجع فيأخذها قبل أن ينتفع بها المستعير، لكن لو كان قد أعاره هذه الراحلة لينقل بضاعة له إلى موضع فليس له أن يرجع وهذه الراحلة بمفازة من الأرض بحيث يتضرر المستعير برجوعها، وكذلك لو كانت سفينة في لجة البخر، وذلك لأنه يتضرر بالرجوع، وهذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب الجمهور، كالقرض تماما، فهذه المسألة مبنية على مسألة القرض التي تقدم ذكرها، ولذا فمذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد أن العارية إن عين لها أجل معين فإذا قال: استعير منك هذه السيارة شهرا فليس للمعير أن يرجع مدة هذا الشهر، فإن لم تذكر مدة فإنها تبقى عند المستعير فينتفع لها كما ينتفع بمثيلاتها عادة، فمثلا إذا استعار منه شيئا من أدوات البيت، فالعادة أن أدوات البيت تمكث إلى اليوم واليومين ونحو ذلك، إذن على القول الثاني في هذه المسألة أنهما إذا عينا لها مدة فإنها تتعين، فإن لم يعينا لها مدة فيرجع إلى العرف، وهذا القول هو الراجح، لقول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وهذا عقد فيجب أيفاؤه، وتقدم أن هذه المسألة مبنية على مسألة القرض، وتقدم أن الجمهور على أن القرض لا يتأجل بتأجيله، وتقد أن هذا قول مرجوح، وأن الراجح ما ذهب إليه المالكية من أنا لقرض يتأجل بتأجيله.

    قوله [ولا أجرة لمن أعار حائطا حتى يسقط]
    هذه المسألة تنبني على المسألة السابقة، مثاله: رجل أعار الآخر أن يضع خشبا على حائطه، فوضع المستعير خشبه على هذا الحائط وبنى، فهل له الرجوع؟
    (15/40)
    ________________________________________
    الجواب: ليس له الرجوع، وذلك لأن هذا البناء سينهدم، فإنه قد وضع الخشب ووضع عليه البناء، فإذا رجع في هذه العارية فإن هذا الآخر يتضرر، فليس له الرجوع، وقد تقدم أن الفقهاء يقيدون جواز الرجوع بحيث لم يأذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير برجوعه، وهنا يتضرر المستعير، إذن ليس له الرجوع، وهل له أن يأخذ عليه الأجرة؟
    الجواب: ليس له أن يأخذ عليه الأجرة، وذلك لأن العارية باقية، والعارية لا أجرة فيها، فليس له أن يقول إما أن تهدم بيتك وإما أن تعطيني أجرة، وذلك لأن العارية قد انعقدت، والرجوع ممنوع منه بسبب الضرر، وإذا سقط الحائط فيجوز له حينئذ أن يمنع من هذه العارية، فيرجع فيها، وذلك لأن البناء قد تهدم، فلا ضرر في الرجوع.

    قوله [ولا يرد إن سقط إلا بإذنه]
    فلا يرد الخشب إن سقط الجدار إلا بإذن صاحب الجدار، وذلك لأنه لم يأذن إذنا جديدا، فالإذن قد ذهب بسقوط الجدار.

    قوله [وتضمن العارية بقيمتها يوم أتلفت ولو شرط نفي ضمانها]
    (15/41)
    ________________________________________
    فالعارية مضمونة بقيمتها يوم تلفت لأنه هو يوم فواتها على معيرها، فالعارية مضمونة وإن لم يتعد ولم يفرط، وإن كانت مثلية فالضمان بالمثلي وإلا فبقيمته، ولو شرط نفي ضمانها فإنها تضمن، فلو قال المستعير بشرط ألا أضمن، فإنه يضمن ولا يعتبر هذا الشرط، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، واستدلوا بما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) [حم 19582، ت 1266، د 3561، جه 2400، ن الكبرى 3 / 411] قالوا: فهذا يدل على أن اليد يجب عليها ما أخذت حتى تؤديه إلى مالكه، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود من حديث صفوان ابن أمية: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه دروعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة) [حم 27089، د 3562] والحديث فيه شريط بن عبد الله، وله شاهد من حديث جابر في مستدرك الحاكم [كم 3 / 48، 49] فالحديث حسن، فإذا تلفت العارية بغير تعد ولا تفريط فإنه يضمن كأن تأتيها آفة من السماء ونحو ذلك، وهنا احتراز لا بد منه: وهو أن المراد بالتلف غير التلف الذي تقتضيه استعارتها، مثاله: عندما يستعير ثوبا ليلبسه فإنه لا بد أن يحصل لهذا الثوب شيء من التلف فإن الثوب يبلى، وهكذا سائر الأشياء المستعارة، فهذا التلف الذي يقتضيه الاستعمال لا ضمان فيه وإن أتى على الشيء المعار كله، وذلك لأن الإذن باستعمال هذه العارية متضمن للإذن بإتلافها عادة، والقول الثاني وهو مذهب الأحناف، وهو أن العارية غير مضمونة، واستدلوا بما رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى والحديث صحيح لطرقه، وصححه ابن حبان وغيره: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليعلى بن أمية: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا، فقال: يا رسول الله أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟ فقال: بل عارية مؤداة) [حم 27089، د 3566، حب 11 / 22، ن الكبرى
    (15/42)
    ________________________________________