عرض مشاركة واحدة
الصورة الرمزية gogo
gogo
:: منتسب جديد ::
تاريخ التسجيل: Oct 2019
رقم العضوية : 184
المشاركات: 170
:
:
:  - :
قديم 10-19-2019, 02:12 PM
# : 1
gogo
  • معدل تقييم المستوى : 10
  • الإعجاب:
    افتراضي شرح زاد المستقنع - جزء سادس
    http://www.shamela.ws
    تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة



    الكتاب: شرح زاد المستقنع
    المؤلف: حمد بن عبد الله بن عبد العزيز الحمد
    [الكتاب مرقم آليا]
    قالوا: ويستحب له هذا – أي ما تقدم – أو ما في معناه، لكن إن دعا بدعاء مباح فلا بأس بذلك من غير أن يتخذ ذلك سنة فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء ولا غيره.
    قال: (وإن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني)
    " إن حبسني حابس " يعني منعني من الوصول إلى المناسك مانع من مرض أصبت به أو عدوٍ أو نحو ذلك فمحلي حيث حبستني، فإذا قال مثل هذه العبارة فحصل له شيء فإنه يحل من حجه ولا شيء عليه، فلا يجب عليه هدي الإحصار.
    قالوا: لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله: إني أريد الحج وأنا شاكية " أي مريضة " قال: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) ، وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيت) (2) .
    قالوا: فهذا يدل على مشروعية الاشتراط، وهذا سواء كان للشخص عذر يحتمل وقوعه أم لم يكن، فإن هذا المشهور في مذهب الحنابلة.
    واختار شيخ الإسلام أن ذلك لا يشرع إلا للخائف، فإن اشترط الخائف نفعه ذلك.
    كرجل مريض يُخشى أن يؤثر عليه المرض ويمنعه من الحج فيشترط إن حبسه حابس أن محله حيث حبس فحينئذٍ متى ما ثقل عليه المرض فلم يستطع أن يمضي إلى الحج وقد أحرم فيه فإنه يحل ولا شيء عليه.
    وقبل ذلك: لو كانت البلاد خائفة فاشترط ثم كان في الطرق ما يخل بأمنها بحيث أنه لا يستطيع المضي لأداء الحج فإنه يحل ولا شيء عليه.
    وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ولا أمر به أصحابه، وإنما أمر به من كانت شاكية خائفة أن تمنعها شكايتها من تمام حجها، فعلّمها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاشتراط، وهذا هو القول الراجح.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [3 / 417] ومسلم [4 / 26] .
    (2) أخرجه النسائي [2 / 20] . الإرواء رقم 1009، 1010.
    (11/49)
    ________________________________________
    فيستحب ذلك لمن كان خائفاً كالمريض والخائف ونحوهما فيستحب لهم ذلك وينفع لهم ذلك، فإن حدث لهم مانع فإنهم يحلون ولا شيء عليهم.
    أما الآخر فإنه لا يشرع له ولا يترتب عليه هذه الأحكام لأن هذا فعل غير مشروع فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية.
    والحمد لله رب العالمين
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأفضل الأنساك التمتع)
    الأنساك ثلاثة: التمتع والقران والإفراد
    فالتمتع والقران يجمع فيهما بين العمرة والحج، والفرق بينهما أن التمتع يتحلل منه المعتمر ثم يهل بالحج في أشهره، وأما القران فإنه يقرن بينهما من غير تحلل.
    فعلى ذلك التمتع: هو الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج بتمتع بينهما، فيقول في الميقات: لبيك عمرة، ثم يؤدي مناسك العمرة ثم يتحلل الحل كله ثم يهل بالحج – وهذا كله في أشهر الحج – وعليه فإذا أهل بالعمرة في رمضان ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل به فليست بمتمتع، فإن التمتع عند أهل العلم الجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج.
    وأما القران فهو أن يهل بالعمرة والحج معاً، فيقول عند الميقات: " لبيك عمرة وحجاً " أو " لبيك عمرة في حجة " ويفعل مناسك الحج ولا يتحلل بينهما، فلا يتحلل إلا إذا رمى الجمرة يوم النحر.
    وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج مفرداً فلا يدخل فيه عمرة.
    فالتمتع هو: الإهلال بالعمرة والحج في أشهر الحج يتحلل بينهما، والقران بغير تحلل.
    وأما الإفراد: فهو أن يهل بالحج منفرداً متجرداً عن العمرة.
    وقد قال المؤلف: " أفضل الأنساك التمتع "
    اعلم أن جماهير العلماء على أن المسلم مخير بين هذه الأنساك الثلاثة فإن شاء أهل متمتعاً وإن شاء أهل قارناً وإن شاء أهل مفرداً.
    (11/50)
    ________________________________________
    واستدلوا: بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل " وهذا هو القران " ومن أراد أن يهل بالعمرة فليفعل " وهذا هو التمتع " ومن أراد أن يهل بالحج فليفعل) (1) وهذا هو الإفراد)
    وذهب ابن عباس رضي الله عنه – وهو مذهب ابن حزم من الظاهرية ومال إليه ابن القيم – إلى أن التمتع واجب، وذكر ابن القيم في زاد المعاد أربعة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أمره بالتمتع لأصحابه في حجة الوداع.
    فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كانوا – أي أهل الجاهلية – يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة بأصحابه صبيحة رابعة مهلين أمرهم أن يهلوا بعمرة أي أن يقلبوا حجهم إلى عمرة " فيعتمرون ثم يحلون ثم يحجون) فقالوا: يا رسول الله: أي الحل؟ فقال: الحل كله (2) .
    __________
    (1) أخرجه مسلم تحت باب بيان وجوه الإحرام في مذاهب العلماء في تحلل المعتمر والمتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 143] ، وأخرج البخاري بعضه باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي رقم 1786.
    (2) أخرجه البخاري باب التمتع والقران والإفراد بالحج، رقم 1564، ومسلم باب جواز العمرة في أشهر الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 225] .
    (11/51)
    ________________________________________
    وثبت في الصحيحين عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما قدم مكة أمر أصحابه فقال: (أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدِمْتُم بها متعة فقالوا: يا رسول الله كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم ولولا أني سقت الهدي لفعلت الذي أمرتكم به ولكن لا يحل منى حرام حتى يبلغ الهدي محله) (1)
    وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا الحج) (2) – الحديث – وفيه: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: (اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه هدي)
    فهذه أحاديث صحيحة فيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهلوا بعمرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه في ذلك فدل ذلك على وجوبه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري، باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي رقم 1568، ومسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع. صحيح مسلم بشرح النووي [8/ 166] .
    (2) البخاري باب التمتع والقران والإفراد، رقم 1561، مسلم في بيان وجوه الإحرام (مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع) ، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 147، 154] .
    (11/52)
    ________________________________________
    قالوا: وأما ما استدل به الجمهور من حديث مسلم عن عائشة فإن هذا كان قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه قال ما تقدم: (من أحب أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل) (1) فلما قدم مكة أمرهم بأن يهلوا بعمرة كما تقدم من حديثها نفسها، فإنها قالت في الحديث المتفق عليه المتقدم: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لا نذكر إلا حجاً) إلى أن قالت: (فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال لأصحابه: اجعلوها عمرة) (2) فنسخ النبي صلى الله عليه وسلم التخيير المتقدم.
    فهذه أحاديث ظاهرة في وجوب ذلك.
    وسلك شيخ الإسلام مسلكاً آخر وارتضاه الشنقيطي في أضواء البيان فقال: هذا الوجوب الذي دلت عليه الأحاديث المذكورة كان على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أما غيرهم فإن ذلك يستحب لهم ولا يجب.
    واستدل: بما روى أبو داود في سننه من حديث الحارث بن بلال عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فقيل له: (ألنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لكم خاصة) (3) لكن الحديث فيه الحارث بن بلال وهو مجهول.
    __________
    (1) سبق برقم 68
    (2) سبق قريباً.
    (3) أخرجه أبو داود باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة رقم 1808.
    (11/53)
    ________________________________________
    ويعارض هذا الحديث حديثاً متفق عليه وهو ما ثبت في الصحيحين عن سراقة بن مالك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل للأبد) (1) وزاد مسلم: (فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) (2) فهذا حديث متفق عليه فلا يعارض بالحديث المتقدم، وفيه الحارث بن بلال وهو مجهول.
    واستدل شيخ الإسلام أيضاً: بما ثبت في مسلم عن أبي ذر أنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) (3) ونحوه عن عثمان في مسند أبي عوانة بإسناد صحيح.
    والجواب على هذا: أنها أقوال صحابة فلا يعارض بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما سئل (ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد) فيدل على أن هذا رأي منهما رضي الله عنهما.
    __________
    (1) أخرجه البخاري في باب عمرة التنعيم من كتاب العمرة، وفي باب الاشتراك في الهدي والبدن..، من كتاب الشركة، وفي باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، من كتاب التمني، ومسلم في باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 165، 178] ، وابن ماجه في باب فسخ الحج.
    (2) سبق برقم 5
    (3) أخرجه مسلم في جواز التمتع من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 203]
    (11/54)
    ________________________________________
    فالراجح: ما ذهب إليه ابن عباس من الصحابة من وجوب التمتع (1) ، وأن الواجب على المسلم أن يتمتع بالعمرة إلى الحج.
    وأفضل المناسك في المشهور عن الحنابلة هو التمتع، وهم يقولون – كما تقدم – بالتخيير بينه وبين القران والإفراد.
    والتمتع عندهم أفضل للأحاديث المتقدمة فإنهم حملوها على الاستحباب.
    وظاهر ذلك أن هذا مستحب مطلقاً لكن ذكر شيخ الإسلام أن نص الإمام أحمد وغيره من الأئمة الأربعة على أنه إن أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة أخرى فإن ذلك أفضل، ودليل هذا ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح أن عمر بن الخطاب قال: (إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحرموا بالعمرة في غير أشهر الحج أتم لحج أحدكم وعمرته) (2)
    __________
    (1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المتخصرات ما نصه: " واختار شيخ الإسلام رحمه الله والشنقيطي أن ما كان للأبد هو مشروعية التمتع يعني كونه قد أهل بحج فيفسخ إلى عمرة هذا إلى يوم القيامة – إلى الأبد – وأما وجوب الفسخ الذي هو وجوب التمتع فإنه خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كانت المتعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة) ، ونحوه عن عثمان رضي الله عنه بإسناد صحيح عند أبي عوانة.
    والمعني يدل على ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون كما تقدم في حديث ابن عباس المتفق عليه} أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور {، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابه أن يعتمروا) فكان الفسخ إلى عمرة واستحباب التمتع، إلى الأبد، وأما وجوب ذلك فهو خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان على هذا أبو بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون الناس عن المتعة. وهذا القول الذي عليه الجماهير هو الأولى وأفضل الأنساك هو التمتع من غير إيجاب " اهـ.
    (2) زاد المعاد [2 / 209]
    (11/55)
    ________________________________________
    فالإمام أحمد نص على أن من أراد أن يفرد كلاً منهما بسفر فإنه هو الأفضل، فإذا جمع بينهما فإن الأفضل هو التمتع أما إن أراد عمرة منفردة بسفرة منفردة، وحجة منفردة بسفرة منفردة فإن هذا أتم لحجه وعمرته كما ورد ذلك عن عمر.
    والصحيح ما تقدم: وهو وجوب التمتع وقد ثبت عند الطحاوي عن عمر بإسناد جيد، وقال ابن القيم: صح عن عمر من غير وجه أنه قال: (لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت مع حجي عمرة) فيحتمل أن يكون هذا ناسخاً لقوله.
    قال: (وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه)
    فلابد أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع اتفاقاً.
    ومثل ذلك في المشهور من المذهب وهو أصح قولي العلماء: لو أحرم في رمضان وفعل المناسك في رمضان فإنه لا يعد متمتعاً، كرجل أحرم في آخر نهار رمضان وفعل المناسك ليلة العيد أو صبيحة العيد أي في شوال فإنه ليس بمتمتع، لأن الإحرام وهو ركن من أركان العمرة، قد وقع في غير أشهر الحج، ولا تكون العمرة في أشهر الحج حتى تكون العمرة كلها في أشهر الحج، وهنا قد وقع الإحرام في غير أشهره.
    ولابد أن يهل بالحج في عامه ذلك، فإن أهل في عام آخر فليس بمتمتع، فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في أشهر الحج ثم مكث بمكة سنة حتى أتى الحج القادم فأهل بالحج فليس بمتمتع.
    وقد روى البيهقي بإسناد حسن – كما قال النووي – عن سعيد بن المسيب قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا) .
    ويدل على ذلك أيضاً الآية الكريمة: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فظاهر الآية الموالاة بين الحج والعمرة، فإن اعتمر في سنة وحج في أخرى فليس ثمت موالاة. فالتمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وأن يكون الحج في العام نفسه الذي اعتمر فيه وإلا فليس بمتمتع، وبالتالي فليس عليه دم.
    (11/56)
    ________________________________________
    فلو أن رجلاً أهل بالعمرة في غير أشهر الحج ثم مكث في مكة إلى الحج فأهل بالحج فليس بمتمتع وليس عليه حينئذٍ دم هدي التمتع، ولو أنه أهل بالعمرة في أشهر الحج لكنه لم يحج إلا في عام آخر فإنه ليس عليه دم؛ لأنه ليس بمتمتع، وقد قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي (1) } وهو في هاتين المسألتين السابقتين ليس بمتمتع وهذا مما اتفق عليه أهل العلم.
    قال: (وعلى الأفقي دم)
    الأفقي: هو من ليس بحاضر المسجد الحرام.
    فإذا تمتع حاضر المسجد الحرام فلا هدي عليه بلا خلاف بين العلماء، أما من لم يكن حاضراً للمسجد الحرام فعليه هدي.
    وحاضر المسجد الحرام: هو من كان في الحرم أو بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
    ودليل المسألة قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}
    والحاضر للمسجد الحرام هو المكي ومن بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
    أما المكي فلا إشكال في أنه حاضر المسجد الحرام، وأما غيره فلأنه في حكم الحاضر له ولذلك صلاته صلاة حضر، فمن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة أو هو في موضع لا تقصر فيه الصلاة فإن صلاته حضر لا سفر.
    وهنا فروع في هذه المسألة:
    الفرع الأول: إذا اعتمر من ليس أهله حاضري المسجد الحرام في الحج ثم أنشأ سفراً آخر ثم رجع من سفره بحجة فهل يجب عليه الهدي أم لا؟
    مثال: رجل سافر إلى مكة معتمراً في أشهر الحج لكنه لم يمكث في مكة بل سافر سفراً تقصر فيه الصلاة كأن يسافر – مثلاً – إلى الطائف أو إلى خارج البلاد ثم يأتي من هذه البلدة التي سافر إليها ويأتي مهلاً بحج، فهل يجب عليه الهدي؟
    قولان لأهل العلم:
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (11/57)
    ________________________________________
    1- القول الأول، وهو مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يجب عليه الهدي، على خلاف بينهم في هذا السفر. فمنهم من قال: هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة – كما هو مذهب الحنابلة –، ومنهم من قال: بل الميقات، فإذا ذهب إلى الميقات ثم رجع حاجاً فلا هدي عليه، وهذا مذهب الشافعي، ومنهم من قال: بل إذا رجع بلده خاصة كما هو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من قال: إذا رجع إلى بلده خاصة أو ما يماثله مسافة وأولى من ذلك إذا كانت المسافة أكثر.
    إذاً: هم متفقون على سقوط الهدي بتنوع السفر لكن اختلفوا في السفر.
    2- وذهب الحسن البصري واختار ذلك ابن المنذر: إلى أنه لا يسقط عنه وإن رجع إلى بلدته أم إلى ما هو أبعد منها.
    ومنشأ الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في الآية في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي … ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فاختلف أهل العلم في " ذلك " هل الإشارة إلى التمتع أو إلى الهدي؟
    أ- فهل هي إشارة إلى التمتع، فيكون التمتع غير مشروع لحاضري المسجد الحرام، فيكون المعنى: ذلك التمتع المذكور إنما يشرع لمن لم يكن حاضر المسجد الحرام، أما من كان حاضراً له فليس له أن يتمتع.
    ب- والقول الثاني: أن الإشارة راجعة إلى الهدي أي ذلك الهدي المشروع إنما يشرع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام فتمتع فليس عليه هدي.
    فمذهب الأحناف وهو اختيار البخاري: أن الإشارة راجعة إلى التمتع ولذا يقول الأحناف بعدم مشروعية التمتع لحاضري المسجد الحرام.
    ومذهب جمهور العلماء: إلى أن الإشارة إلى الهدي أي ذلك الهدي وما ينوب عنه من الصيام إنما يكون لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وذلك لأنه ترخَّص وترفَّه بأن جمع بين نسكين في سفر واحد، فلما جمع بينهما في سفر واحد أوجبنا عليه الهدي لترخصه في ذلك.
    (11/58)
    ________________________________________
    أما المتمتع من حاضري المسجد الحرام فليس له سفر فلم يترفه حينئذٍ فليس عليه هدي.
    وقد استدل من قال بأنها راجعة إلى التمتع قالوا: يدل على ذلك أن لفظة " ذلك " قد جمعت بين اللام والكاف وهما إذا اجتمعا في اسم الإشارة فإن ذلك يدل على البعد والمذكور البعيد هو التمتع، فإنه قد ذكر قبل الهدي فهو أبعد.
    قالوا: والقرينة الثانية أن الله قال {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} فأتى باللام –والتمتع له – والهدي عليه، فلم يقل ذلك " على " أي ذلك الهدي على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. فدل على أن المراد بذلك التمتع الذي له وله أجره وثوابه أما الهدي فهو عليه واجب.
    وأجاب الجمهور على ذلك فقالوا:
    أما الإتيان بـ"ذلك " التي تفيد الإشارة إلى البعيد فإنه معلوم في لغة العرب أنها تأتي للإشارة إلى القريب وهذا مشهور في استعمالهم.
    قالوا: ولفظة " اللام " تأتي بمعنى على، كقوله تعالى {ويخرون للأذقان} أي عليها، وقوله: {وتله للجبين} أي على الجبين.
    قالوا: والأصل في الإشارة كالضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الهدي.
    والذي يتبين لي أن الأقوى ما ذهب إليه الأحناف واختاره الإمام البخاري: وأن الإشارة تعود إلى التمتع؛ وذلك لأن لفظة " ذلك " في الأصل إشارة إلى البعيد، وكونها إشارة إلى القريب خلاف الأصل وخلاف الظاهر.
    ولأن اللام في الأصل كما ذكره الأحناف واختاره البخاري، وأما كونها تكون بمعنى " على " فإن هذا خلاف الأصل فهو نوع تأويل.
    (11/59)
    ________________________________________
    ولذا فالراجح – كما أنه الأحوط -: ما ذهب إليه الحسن البصري وهو اختيار ابن المنذر: من أن من سافر سفراً بين عمرته وحجته سواء كان هذا السفر يقصر فيه الصلاة فحسب أو كان أبعد من ذلك بأن يرجع إلى بلدته أو نحو ذلك مما تقدم فإن عليه أن يهدي لعموم قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وحقيقة التمتع هو الجمع بينهما في أشهر الحج، وقد قوى هذا القول الشنقيطي في أضواء البيان.
    الفرع الثاني: هل يشترط أن ينوي في عمرته في ابتدائها أو في أثنائها أنه يريد الحج وأنه سيتمتع أم لا يشترط ذلك؟
    رجل ذهب في شوال معتمراً فلما تحلل نوى أن يمكث في مكة حتى يأتي الحج فيحج فهل هو متمتع فيجب عليه الهدي أم ليس بمتمتع حتى ينوي في عمرته التمتع؟
    وبصورة أخرى: هل يشترط له وهو في الميقات وقد قال لبيك عمرة أن ينوي أنه سيتمتع سواء كان ذلك في مبتدأ تلبيته أو كان ذلك في أثناء العمرة وقبل أن يحل أم لا يشترط ذلك؟
    المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك شرط وهذا عندهم كما يكون في الجمع بين الصلوات، فشرط عندهم كما تقدم أن ينوي الجمع في الصلاة الأولى.
    واختار الموفق أن ذلك ليس بشرط، وهذا هو القول الراجح فإنه لا دليل على اشتراطه، ولأنه قد تمتع بالعمرة إلى الحج فدخل في عموم الآية، واشتراط النية أثناء العمرة لا دليل عليه.
    وعليه فلو ذهب معتمراً من غير أن ينوي أن هذه العمرة سيتمتع بها إلى الحج فلما أحل نوى أن يحج فبقي في موضعه حتى الحج أو رجع إلى بلدته فإنه متمتع وعليه الهدي.
    الفرع الثالث: هل الهدي واجب على من جمع بين نسكي الحج والعمرة، ولكن أحدها له والآخر لغيره؟
    كمن جمع بين الحج والعمرة بأن كانت العمرة له والحج عن غيره، فهل عليه الهدي أم لا؟
    قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة.
    (11/60)
    ________________________________________
    والمشهور في مذاهبهم: وجوب الهدي عليه؛ نظراً للفاعل فإن الفاعل واحد، والنسك قد حصل من قِبَل فاعل واحد فوجب عليه الهدي.
    وقال بعض العلماء وهو قول في مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة خلافاً للمشهور في مذاهبهم، قالوا: لا يجب عليه الهدي؛ نظراً لأن أحد النسكين له والآخر ليس له.
    والأظهر هو الأول؛ فإن النظر إنما يكون للفاعل فإنه واحد والآخر له، وإنما أهدى ثوابه لغيره، فإن الأصل أن هذا الفعل له لكنه أهدى ثوابه لغيره، ولا شك أن هذا هو الأحوط.
    واعلم أن القران باتفاق أهل العلم داخل في حكم التمتع في باب الهدي، فالقارن يجب عليه أن يهدي، والصحابة يطلقون على القران تمتعاً كما في غير حديث ثابت عنهم كما في الصحيحين وغيرهما.
    وقد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين – عن أزواجه وكن قارنات؛ ولأنه قد جمع بين النسكين فأشبه المتمتع الجامع بينهما – وهذا كما تقدم – مما اتفق عليه العلماء.
    استدراك:
    التمتع يجب على من لم يسق الهدي، فلو أن رجلاً ساق الهدي ثم تبين له الإيجاب فإنه لا يجب عليه حينئذٍ لأنه ساق الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الهدي لم يحل، بل الواجب على من ساق الهدي أن يكون قارناً ولا يجوز له أن يتمتع.
    مسألة:
    رجل اعتمر في أشهر (1) الحج ثم مكث في مكة ونوى الحج فهل يجب عليه أن يتمتع فحينئذٍ يأتي بعمرة؟
    فإن قلنا بوجوب التمتع فإنه يجب عليه أن يخرج إلى الحل فيأتي بعمرة لوجوب التمتع.
    وإذا نظرنا إلى جهة أخرى وهي أن العمرة ليست بمشروعة لمن كان في مكة سواء كان آفاقياً أو مقيماً قلنا: إنه لا يشرع. وهذا - فيما يظهر لي – أقوى؛ وذلك لأن هذا الفعل ليس بمشروع والأمر به يناقض مقصود الشارع من عدم مشروعية الاعتمار لمن كان في مكة وكان آفاقياً أو غيره.
    __________
    (1) لعلها: في غير أشهر الحج، بناء على عدم اشتراط النية.
    (11/61)
    ________________________________________
    فالذي يظهر لي أن يقال: أنه ليس بواجب عليه، وحينئذٍ فيكون التمتع واجباً لمن كان خارجاً عن مكة.
    وهذا ظاهر في اختيارنا المتقدم في قوله " ذلك " وأن التمتع لا يشرع لمن كان حاضراً المسجد الحرام – لكن هذا قد ينظر في الاستدلال به – بأن هذا ليس حاضراً للمسجد الحرام وإن كان فيه حينئذٍ؛ لأنه ليس مقيماً في المسجد الحرام فإقامته مؤقتة فليس له حكم المقيمين بل في حكم المسافرين فليس أهله حاضري المسجد الحرام، لكن الاستدلال السابق هو الأظهر وهو أن يقال: إن العمرة من مكة ليست بمشروعة والأمر بها ينافي مقصود الشارع من عدم مشروعيتها.
    فإن قيل: عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع لم يستثن المكيين؟
    فالجواب أن يقال: ظواهر الأحاديث أن هذا كان لغير المكيين فإنه قال: " فلما قدمنا مكة "
    ثم أيضاً: الأدلة الأخرى التي تدل على عدم مشروعية العمرة على أهل مكة تدل على أن ذلك إنما يوجه لغيرهم.
    كما أن الغالب أن من كان معه لم يكن من أهل مكة بل من أهل الآفاق.
    والحمد لله رب العالمين
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة)
    إذا حاضت المرأة المتمتعة فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة.
    (11/62)
    ________________________________________
    فإذا لبت المرأة بعمرة على أنها متمتعة – حينئذٍ – تطوف بالبيت وبالصفا والمروة وتحل ثم تهل بالحج، لكن إن طرأ عليها الحيض قبل الطواف بالبيت، والمرأة ممنوعة من الطواف بالبيت – كما سيأتي دليله – فحينئذٍ إن بقيت منتظرة طهرها حتى تطوف لعمرتها فات عليها الوقوف بعرفة، فمثلاً في صبيحة اليوم الثامن أهلت بعمرة عند الميقات فأتاها الحيض، والحيض يمكث معها عدة أيام بحيث أنها لا تطهر قطعاً إلا بعد الوقوف بعرفة وهي لم تهل بالحج بعد، فإذا انتظرت حتى تطهر لتطوف بالبيت لعمرتها فاتها الحج فحينئذٍ تدخل الحج على عمرتها وتكون قارنة، فتقول: لبيك حجاً، وتكون حينئذٍ جامعة بين الحج والعمرة، وحينئذٍ تقف بعرفة وتفعل المناسك كلها وتطوف بالبيت إذا طهرت.
    ودليل هذه المسألة ما ثبت في مسلم عن عائشة أنها أهلت بالعمرة فلم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فلما كان يوم النفر قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) [صحيح مسلم بشرح النووي: 8 / 156]
    ويلحق بها كل من خشي فوات الحج من المتمتعين، فلو أن رجلاً قال: لبيك عمرة ثم طرأ عليه عارض منعه من الطواف بالبيت حتى خشي فوات الوقوف إن طاف وهو لما يطوف بالبيت فإنه حينئذٍ: يدخل الحج على العمرة ويكون حينئذٍ قارناً.
    فهذه المسألة إدخال الحج على العمرة، والحديث دليل ظاهر في ذلك.
    وهنا مسألة بعكس هذه المسألة: وهي مسألة إدخال العمرة على الحج.
    رجل أهل بالحج مفرداً ثم بدا له أن يدخل العمرة فيكون قارناً " وقد يكون محتاجاً لذلك " بحيث أنه لا يمكنه التمتع كأن يكون قد ساق الهدي تبرعاً وقد أفرد الحج فأحب أن يدخل العمرة فيكون قارناً فهل يجوز ذلك؟
    قال الحنابلة: لا يصح منه ذلك، واستدلوا: بأثر عن علي بن أبي طالب رواه البيهقي والأثرم وغيرهما.
    (11/63)
    ________________________________________
    وقال الأحناف: يصح منه ذلك، وهذا القول أصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يقلبوا حجهم إلى عمرة ولا شك أن مسألتنا أولى بالجواز من تلك المسألة، فإن إدخال العمرة على الحج مع بقائه أولى من إبطال الحج وإثبات العمرة.
    مسألة: حكم من أهل بالنسك مبهماً؟
    وصفة الإبهام أن يقول: أهللت أو لبيت بمثل ما أهل به فلان أو لبى به فلان، فهذا هو الإهلال المبهم.
    وحكمه الجواز بدليل: ما ثبت في الصحيحين بأن أبا موسى الأشعري: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت؟ فقال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، فأمرني بالطواف بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: أَحِلَّ) (1) .
    مسألة:
    يقاس على الإهلال مبهماً، ما إذا نوى نسكاً مُطْلِقاً ذلك، فنوى نسكاً مطلقاً، كأن يدخل في النسك هكذا على نية الإطلاق فيقول: " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك.. .. " من غير أن يقيد حجاً أو عمرة أو حجاً وعمرة، فقد نوى الدخول في النسك لكنه لم ينو أن يكون متمتعاً ولا قارناً ولا مفرداً، فهذا جائز باتفاق العلماء قياساً على المسألة السابقة.
    وحينئذٍ: فإنه يصرف نسكه إلى أيها شاء.
    لكن المستحب له أن يعين كما تقدم من حديث مسلم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على التعيين فقال: (من أحب أن يهل بالحج فالعمرة فليفعل ومن أحب أن يهل بالحج فليفعل ... ) (2) الحديث فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد استحب لهم التعيين.
    قال: (وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك ….)
    __________
    (1) أخرجه البخاري في باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، وباب يحل المعتمر من كتاب العمرة، و..، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي. المغني [5 / 97] .
    (2) سبق برقم 68
    (11/64)
    ________________________________________
    وهل المستحب له أن يكون ذلك عند مسجد الميقات أو يكون ذلك إذا أتى البيداء " وهي الموضع المرتفع وهو داخل الميقات "؟
    ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا وفي هذا:
    أما أنه على البيداء، فقد ثبت هذا من حديث أنس بن مالك في البخاري قال: (حتى إذا استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبحه وهلله ثم أهل بالحج والعمرة فأهل الناس معه) (1) وهو أيضاً ثابت في البخاري من حديث ابن عباس.
    وأما أنه أهل عند المسجد: فهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ما أهل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (2)
    بل أنكر أن يكون قد أهل على البيداء وقال: (بيداؤكم هذه التي تكذبون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد) (3) رواه مسلم، وفي البخاري أنه قال: (حتى استوت به راحلته قائمة) أي عند المسجد.
    فإذاً: الأحاديث اتفقت على أن المستحب له أن يهل بالحج أو العمرة إذا استوت به راحلته.
    ومن الصحابة من روى أنه أهل عند المسجد، ومنهم من روى أنه أهل عندما استوت به راحلته على البيداء.
    والجمع بينهما: أن يقال: كل منهما حدث بما رأى. فابن عمر رآه يهل عند المسجد، وأنس وابن عباس رأياه يهل وقد استوت به راحلته على البيداء، وكل قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال.. رقم 1551، 1545؟
    (2) أخرجه البخاري باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة رقم 1541، ومسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91]
    (3) مسلم باب إحرام أهل المدينة، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 91]
    (11/65)
    ________________________________________
    فعلى ذلك المستحب له أن يهل إذا استوت به راحلته عند المسجد، وكذلك يهل إذا استوت به راحلته على البيداء، وقد تقدم أن المستحب أن يهل إذا استوت به راحلته، وهو ثابت في الأحاديث المتقدمة في الصحيحين من حديث ابن عمر، وفي البخاري من حديث أنس، وفي البخاري من حديث ابن عباس.
    وفي البخاري سنة أخرى وهي أن يستقبل القبلة عند التلبية فقد ثبت هذا في البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: (وهو مستقبل القبلة) (1)
    قال: (لبيك اللهم لبيك … إلى قوله: لا شريك لك)
    لبيك: من لبى في المكان أي لزمه واستقر به، والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها غير خارج عنها إلى معصيتك.
    وثنيت لإفادة التكثير أي أنا مقيم إقامة بعد إقامة، فأنا ملازم لطاعتك مجيب لأمرك سامع لخطابك.
    فالتلبية هي: الإقامة على طاعة الله تعالى وعدم الخروج عنها إلى معصيته، وثنيت للتكثير.
    وقوله: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وهذه الجملة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر (2) ، وهي أيضاً ثابتة من حديث غيره من الصحابة.
    وثبتت الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم عليها: ففي النسائي من حديث أبي هريرة: (لبيك إله الحق) (3) وفي ابن خزيمة: (إنما الخير خير الآخرة)
    وهل يجوز له أن يزيد في التلبية؟
    لا حرج في الزيادة، فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم شيئاً) (4)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الإهلال مستقبل القبلة رقم 1553.
    (2) أخرجه البخاري [1 / 360] ومسلم [4 / 8] الإرواء رقم 1097.
    (3) رواه النسائي رقم 2752، في باب كيف التلبية.
    (4) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/66)
    ________________________________________
    ومن ذلك ما ثبت في مسلم عن عمر أنه كان يقول: (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل) (1)
    وفي أبي داود: أن الصحابة كانوا يقولون: (لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج) (2)
    وفي البزار من حديث أنس: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً)
    فهذه الألفاظ ثابتة عن الصحابة، ولا بأس بالزيادة على ذلك.
    وهنا مسائل:
    المسألة الأولى: متى يقطع التلبية؟
    في هذه المسألة تفصيل:
    فإن كان قارناً أو مفرداً فإنه يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، ففي الصحيحين عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (3) ، وفي ابن خزيمة: (قطع التلبية مع آخر حصاة)
    لكن يستثنى من ذلك: إذا دخل الحرم، فإنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
    ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري أن ابن عمر: (كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ثم بات بذي طوى حتى يصبح ثم يغتسل ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك) (4) وفي الموطأ: من فعله، وفيه: أن ذلك كان في الحج.
    أما إن كان معتمراً أو متمتعاً فإنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم، فإذا دخل الحرم أمسك عن التلبية حتى يهل بالحج يوم التروية، فإذا أهل بالحج أعاد التلبية.
    وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، وما ذكرته هو مذهب الإمام مالك وهو مذهب ابن عمر كما تقدم في الأثر المتقدم.
    وهو صريح عنه في البيهقي في المعتمر، أن عطاء بن أبي رباح سئل متى يقطع المعتمر التلبية؟ فقال: قال ابن عمر: (إذا دخل الحرم، وقال ابن عباس: إذا استلم الحجر) .
    __________
    (1) أخرجه مسلم، باب التلبية وصفتها، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 88] .وأبو داود في باب كيف التلبية.
    (2) رواه أبو داود في باب كيف التلبية دون قوله (ذا الفواضل) ، لعله في باب آخر منه. [2 / 404] .
    (3) أخرجه الجماعة، الإرواء رقم 1098.
    (4) رواه البخاري باب الاغتسال عند دخول مكة رقم 1573.
    (11/67)
    ________________________________________
    فمذهب ابن عمر أن المعتمر أو المتمتع: أنه إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
    ومذهب ابن عباس وهو مذهب جمهور العلماء أنه لا يقطعها إذا دخل الحرم بل إذا استلم الحجر عند الطواف فإنه يقطعها، وفي الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: (يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر) (1) لكن الحديث فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف الحديث والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
    فعندنا أثران متعارضان: أثر ابن عمر وأثر ابن عباس.
    ومذهب ابن عمر وهو مذهب المالكية - هذا المذهب - أشبه بالسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم – وكان قارناً – كان يمسك عن التلبية إذا دخل الحرم فيشبهه المعتمر إذ لا فرق بين المعتمر وبين القارن في مثل هذه المسألة.
    فالعلة التي من أجلها قطع القارن أو المفرد – قطع التلبية ثابتة قطعاً، وإن لم تعلم لكنها - ثابتة قطعاً لنفي الفارق في المتمتع.
    فالأصح أن المعتمر إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية.
    المسألة الثانية: أنه يستحب له الإكثار من التلبية، ففي الترمذي والحديث حسن بشواهده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الحج فقال: (أفضل الحج العج والثج) (2)
    والعج: هو رفع الصوت بالتلبية.
    والثج: هو النحر.
    وفي الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ملبي يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) (3)
    قال أهل العلم: ويستحب له أن يلبي متى تجددت به حال، فإذا هبط وادياً لبى وإذا صعد لبى وإذا التقى برفيق لبى ودبر الصلوات يلبي وإذا نزل في موضع لبى، وإذا ركب راحلته لبى فكلما تجددت به حال لبى.
    __________
    (1) أخرجه الترمذي رقم 919، باب ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة، من كتاب الحج.
    (2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 827.
    (3) أخرجه الترمذي باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، رقم 828.
    (11/68)
    ________________________________________
    وفي مسند الشافعي بإسناد جيد: (أن ابن عمر: كان يلبي راكباً ونازلاً ومضطجعاً) .
    وفي ابن أبي شيبة أن السلف كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع: (دبر الصلاة وإذا هبطوا وادياً أو علوه وإذا التقوا بالرفاق)
    ويدل على هذا ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: لبى عند المسجد ولما استوت به راحلته على البيداء لبى.
    المسألة الثالثة: حكم التلبية؟
    فيها ثلاثة أقوال:
    الأول: وهو مذهب الحنابلة والشافعية: أنها سنة، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها أصحابه.
    الثاني: وهو مذهب بعض المالكية وبعض الشافعية: أنها واجبة فعلى من تركها دم. واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها وأمر بها وقال: (لتأخذوا عنى مناسككم) (1) .
    الثالث: أنها ركن من أركان الحج لا يصح الإحرام إلا بها، وقد تقدم البحث في هذا القول في مسألة سابقة وترجيح أن التلبية ليست بركن من أركان الحج.
    والذي يظهر لي من هذه الأقوال: القول الثاني: وأن التلبية واجبة بدليل: ما ثبت عن الخمسة عن خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) (2) فهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب.
    فعلى ذلك: الواجب عليه أن يلبي ولو مرة فإن ترك التلبية فعليه دم، كما هو مذهب بعض الشافعية وبعض المالكية.
    قال: (يصوت بها الرجل)
    مستحب للرجل أن يرفع صوته بها وأن يجهر، بل يستحب له أن يبالغ ففي البخاري: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا يصرخون بها صراخاً) (3) من حديث أنس.
    __________
    (1) أخرجه مسلم [4 / 79] ، وغيره، الإرواء 1074؟
    (2) أخرجه أبو داود باب كيف التلبية، والترمذي باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، والنسائي. المغني [5 / 101] .
    (3) أخرجه البخاري باب رفع الصوت بالإهلال، وابن ماجه. المغني [5 / 102] .
    (11/69)
    ________________________________________
    وفي ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم) [الفتح: 3/477]
    فيستحب رفع الصوت بالتلبية والمبالغة في ذلك.
    قال: (وتخفيها المرأة)
    لأن ذلك مظنة الفتنة، ولذا أجمع العلماء على أن المرأة لا يشرع لها أن ترفع صوتها بالتلبية كما حكى الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر وغيرهما، فقد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن ترفع صوتها بالتلبية.
    لكن يستثنى من ذلك: إن كانت في موضع لا يخرج منه صوتها إلى أجنبي؛ فإن النساء شقائق الرجال في الأحكام الشرعية وإنما استثنيت هنا؛ لأن رفعها لصوتها مظنة الفتنة أما إذا كان الموضع ليس فيه إلا رفيقاتها ومحارمها فإنه يستحب لها ما يستحب للرجال فإن النساء شقائق الرجال.
    أما إذا كان مظنة أن يخرج الصوت لأجنبي فإنه لا يشرع لها، وهذا بإجماع أهل العلم.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: محظورات الإحرام
    محظورات الإحرام: أي ممنوعاته، أي المحرمات بسبب الإحرام.
    قال: (وهي تسعة حلق الشعر)
    وهنا ذكر المؤلف الحلق، ولا خلاف بين العلماء في أن إزالته بغير الحلق كالتقصير أو إذهابه بالنُورة أو نحو ذلك أنه له حكم الحلق.
    وهنا عمم الشعر كله فقال: " حلق الشعر " فيدخل شعر الرأس وشعر الإبطين والشعر الذي يكون في الوجه وفي سائر الجسد.
    والله عز وجل نص في كتابه الكريم على حلق الرأس فقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله (1) } وقاس جمهور العلماء – على حلق الرأس – إزالة غير شعر الرأس مما يكون على البدن كشعر الإبطين وغيره.
    واستدل جمهور العلماء على هذه المسألة – أي إدخال غير شعر الرأس – في حكم شعر الرأس. استدلوا:
    أولاً: بحكاية الإجماع على ذلك – فقد حكاه الموفق في المغني – وأن الشعر كله أو سائره له حكم شعر الرأس.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (11/70)
    ________________________________________
    وثانياً: بالقياس على حلق الرأس بجامع الترفيه، فإن حلق الرأس علة المنع فيه – عندهم – الترفه، فيقاس على ذلك إزالة بقية البدن بجامع الترفه، هذا هو مذهب جماهير العلماء.
    - وذهب الظاهرية إلى القول بأن شعر البدن لا يلحق بشعر الرأس.
    وهم لا يقولون بالقياس، وإن القياس الذي ذكره جمهور العلماء فيه نظر فإنا لا نسلم أن العلة من النهي عن حلق الرأس هي الترفه فإن الترفه قد يكون بإبقاء الشعر لا سيما لمن اعتاد ذلك. ثم إن المحرم يجوز له كثير من الترفه كالاغتسال ونحوه.
    والأظهر أن العلة هي تعلق النسك بشعر الرأس، فإن الحلق أو التقصير نسك من أنساك الحج والعمرة فهو واجب من واجبات الحج فنهى الشارع أن يؤخذ منه شيء بحلق أو تقصير حتى يوفر لينسك به الحاج في أوانه، فهذه هي العلة الظاهرة.
    وأما ما ذكروه من الإجماع فإن كان صحيحاً فلا كلام في هذه المسألة وإلا فإن حكاية الإجماع فيها عسر، وكما قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، لا سيما في هذه المسائل التي ليس فيها نصوص ظاهرة فهي من الإجماعات الظنية.
    وفي رواية عن الإمام مالك: أنه لا فدية في حلق شعر البدن سوى شعر الرأس وأوجبها في حلق الرأس، والمشهور من مذهبه وجوب الفدية.
    ومذهب الظاهرية أقرب إلى النظر إلا أن يصح الإجماع المتقدم، وقد تقدم التنبيه على أن كثيراً من الإجماعات التي يحكيها كثير من الفقهاء فيها نظر.
    ولا يصح فيما يذكره كثير منهم إلا ما كانت عليه نصوص ظاهرة من الشريعة. ومن المستبعد أن يجمع أهل العلم على مسألة كهذه ونجد الخلاف في مسائل فيها نصوص شرعية، فنرى الخلاف فيها منتشر ومثل هذه المسألة أولى ألا يثبت فيها الإجماع والله أعلم.
    قال: (وتقليم الأظافر)
    هذه كالمسألة السابقة فجماهير العلماء حكوا الإجماع في هذه المسألة كما حكاه ابن المنذر والموفق وأن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.
    (11/71)
    ________________________________________
    واستدلوا: بالقياس على الشعر: كما أن المحرم ينهى عن حلق الشعر وتقصيره والعلة من ذلك الترفه فإنه ينهى عن تقليم الأظافر للترفه، فالجامع بين المسألتين هو الترفه.
    وقد تقدم النظر في هذا التعليل وأن الأصح في العلة التي من أجلها الشارع نهى عن حلق الرأس إنما هو النسك وليس الترفه وحكاية الإجماع فيها ما فيها كما تقدم.
    وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا فدية في تقليم الأظافر – مع أنه قال أنه محظور من محظورات الإحرام – ففرق بينه وبين حلق الرأس.
    الحاصل من هذا: أن جماهير أهل العلم على أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام.
    قال: (فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم)
    هذا هو الحلق أو التقصير أو الإزالة أو التقليم الذي تثبت به الفدية.
    وقول المؤلف هنا: " فعليه دم " موهم، والعبارة الصحيحة أن يقال: " فعليه فدية " فليس مراده الدم حتماً، وإنما مقصوده الفدية من دم أو إطعام أو صيام – كما سيأتي تقريره.
    فمن حلق ثلاثة شعرات أو قصرها من رأسه أو شيء من بدنه من موضع واحد أو من مواضع مختلفة أو قلم ثلاثة أظفار من يديه أو رجليه أو بعضها من يديه وبعضها من رجليه فإن عليه الفدية.
    قالوا: لأن الثلاثة هي أقل الجمع.
    1- فأقل الجمع الذي يصدق عليه أنه شعر ثلاثة، هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
    2- وقال المالكية: إذا حلق ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية، أو قلم ما يزول به الأذى ويحصل به الترفه فعليه الفدية.
    3- وقال الظاهرية: إن فعل ما يصدق عليه أنه حلق فإن عليه الفدية فما صدق عليه أنه حلق، أو ما صدق عليه أنه تقليم، وهم لم يبحثوا في مسألة التقليم لكن هذا من باب قياس مذهبهم وإلا فإنهم لايقولون بالفدية أصلاً في تقليم الأظافر.
    (11/72)
    ________________________________________
    قالوا: إذا حلق من رأسه ما يثبت به أنه حلق بحيث أنه إذا فعله وجب عليه أن يحلق الجميع فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه فقال: (احلقوه كله أو اتركوه كله) (1)
    وهذا هو أظهر المذاهب، فهو ظاهر في الحلق لكنه في التقليم مشكل.
    قال فقهاء الحنابلة والشافعية: فإن أخذ شعرة واحدة فعليه فدية طعام مسكين، وإن أخذ شعرتين فعليه فدية مسكينين.
    قالوا: لأن ما ثبت الضمان بجملته فليثبت الضمان في أبعاضه، فإذا ثبت في الثلاثة فدية فيجب أن يثبت في الأبعاض، ومثل ذلك الأظافر.
    وعن الإمام مالك رواية: إلى أنه لا يثبت الإطعام ولا غيره فيما دون التحديد، وهو عنده ما يزول به الأذى، فلا فدية عليه لأن النص إنما ورد في حلق الرأس وهذا – أي أخذ شعرة أو شعرتين ليس بحلق، ولا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية.
    ولو قلنا بتقليم الأظافر فالذي يظهر لي أن يقال: ما يصدق عليه أنه تقليم، ولا يقال إنه يصدق عليه أنه تقليم في الأظفر والأظفرين ونحو ذلك، بل لا يقال ذلك إلا إذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره فإذا أخذ الشيء الكثير من أظفاره صدق عليه أنه مقلم عرفاً.
    وعلى القول بما ذهب إليه الظاهرية لا يشكل على هذا الكلام في مسألة الأظافر فإنا لا نحتاج إلى ذلك، وهذا قد يكون مما يبين صحة هذا القول، إذ الشريعة مع الحاجة إلى مثل هذه المسائل لم تبين شيئاً من مثل هذه الفروع مع حاجة الناس إليها.
    وقد استدل الفقهاء بقياس، استدلوا به على النهي عن حلق بقية شعر البدن وتقليم الأظافر، وهذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهي المضحي أن يأخذ شيئاً من شعره أو بشرته.
    قالوا: فيقاس على ذلك المحرم في الحج.
    __________
    (1) رواه أبو داود وأصله في الصحيحين.
    (11/73)
    ________________________________________
    وهذا قياس مع الفارق أيضاً، فإن المضحي لا ينهى عن الطيب ولا ينهى عن كثير مما ينهى عنه المحرم في النسك، والعكس أيضاً فإن المحرم في النسك لا ينهى أن يأخذ شيئاً من بشرته بجرح أو نحو ذلك وينهى عن ذلك المضحي، فيثبت بينهما بالأدلة الشرعية فوارق وحيث ثبت ذلك فلا يصح القياس.
    قال: (ومن غطى رأسه بملاصق فدى)
    من غطى رأسه بشيء ملاصق كالعمامة أو الطاقية أو وضع على رأسه خباء فيستر رأسه أو نحو ذلك مما يغطي الرأس فإنه يفدي وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.
    وتغطية الرأس في الجملة من محظورات الإحرام بإجماع العلماء، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل ما يلبس المحرم من الثياب فقال: (لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس شيئاً من الثياب مسه ورس أو زعفران) (1) والشاهد قوله: " ولا العمائم ولا البرانس ".
    وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الذي وقصته راحلته فمات: (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) (2)
    فهذه الأدلة تدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه سواء كان هذا المغطى لباساً معتاداً كالعمائم ونحوها أو كان غير معتاد كأن يضع على رأسه خماراً أو شيئاً من ذلك.
    فإن حمل على رأسه شيئاً فما الحكم؟
    قولان لأهل العلم:
    مذهب الحنابلة والمالكية: أنه لا حرج في ذلك؛ لأنه لا يقصد به من ذلك الستر، فإن هذا الفعل لا يقصد منه في الأصل ستر الرأس وإنما يقصد منه حمل هذا الشيء.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 47، …] ومسلم [4 / 2] وغيرهما، الإرواء [1012] .
    (2) أخرجه البخاري [1 / 319، …] ومسلم [4 / 23، 26] وغيرهما، الإرواء [1016] .
    (11/74)
    ________________________________________
    مذهب الشافعية: أنه لا يجوز له هذا وأن عليه الفدية لأنه سترٌ وتغطية.
    والأصح هو الأول، لأن المقصود منه اللباس، ما يقصد به ستر الرأس وتغطيته وأما هنا فلا يقصد منه ذلك.
    فإن كان في محمل كأن يكون في هودج أو سيارة أو نحو ذلك أو كمن يحمل الشمسية فما الحكم في ذلك؟
    المشهور في المذهب أنه لا يجوز له ذلك وعليه الفدية؛ قالوا: لأنه بحكم تغطية الرأس.
    2- وذهب الشافعية إلى أن ذلك لا بأس به، واستدلوا بما ثبت في مسلم عن أم الحصين أنها حجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قالت: (فرأيت أسامة بن زيد وبلالاً أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه فوق رأسه يستره من الحر حتى رمى الجمرة) رواه مسلم [صحيح مسلم بشرح النووي: المجلد الثالث: 9 / 45، 46]
    ثم إن هذا – بدليل هذا الحديث – ليس في حكم التغطية الملاصقة للرأس، فليس في حكم التغطية التي هي من جنس الملبوسات ألا ترى أن الشارع نهى المحرم أن يغطي بدنه بالقمص والسراويل ونحوهما وأمره أن يغطيها بالأُزر والأردية ونحو ذلك فهذا من جنس ذلك.
    فإنه ليس النهي عن مجرد التغطية، بل النهي عن التغطية الملاصقة التي هي بحكم الملبوسات.
    وقد أجمع أهل العلم على أن من دخل قبة أو داراً فإن ذلك جائز ولا فدية عليه.
    ودليل ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر وهو حديث طويل وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضربت له قبة بنمرة) (1) .
    مسألة:
    هل يجوز للمحرم أن يغطي وجهه أم لا؟
    روايتان عن الإمام أحمد:
    الرواية الأولى: وهي المشهورة عند الحنابلة: أنه يجوز له أن يغطي وجهه لعدم الدليل الوارد في النهي عن ذلك.
    قالوا: وأما الحديث الذي رواه مسلم وفيه: (ولا تغطوا وجهه) (2) - في حديث الذي وقصته راحلته فمات – فإن الحديث لا يصح إذ هو ليس في الرواية المتفق عليها.
    __________
    (1) رواه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) سبق برقم 103.
    (11/75)
    ________________________________________
    الرواية الثانية: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه لا يجوز له أن يغطي وجهه وهو من محظورات الإحرام، إلا أن الإمام مالكاً لا يرى فيه الفدية.
    واستدلوا: برواية: (ولا تغطوا وجهه) وهي ثابتة في صحيح مسلم في حديث الذي وقصته راحلته فمات وهي رواية ثابتة في مسلم ولا مطعن فيها.
    ثم إن القياس يدل عليها فإن أهل العلم نهوا المرأة عن تغطية وجهها إلا إن كان ثمت أجانب، ولا يجوز لها أن تغطي وجهها في خيمتها حيث لا يراها أجنبي، وإحرامها في وجهها – كما سيأتي بيانه – ولا فرق بين الرجل والمرأة في مثل هذه المسألة بل الرجل أولى فإن المرأة في الأصل واجب عليها أن تغطي وجهها عند الأجانب بخلاف الرجل فإنه لا يغطي وجهه مطلقاً فكان أولى بهذه المسألة.
    فالقياس يدل على ذلك، فإذا كانت المرأة منهية عن تغطية وجهها فالرجل أولى من ذلك. فالصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب الأحناف والمالكية أنه لا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه.
    قال: (وإن لبس ذكر مخيطاً فدى)
    المخيط هو الثوب المفصل على البدن أو على شيء منه.
    والواجب على المحرم أن يلبس إزاراً ورداءً، فنهى عن القمص والسراويلات ونحوها من الثياب المفصلة على البدن، ومثل ذلك الخفاف والجوارب.
    فإن لبس إزاراً ووضع فيه إبراً أو خيطاً أو شوكاً ونحو ذلك فأصبح على هيئة الملبوس – فإنه كما ذكر ذلك صاحب المغني وغيره – يكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام لأنه حينئذٍ يكون في حكم المخيط، والنظر يقتضيه لأنه أصبح في حكم المخيط.
    مسألة:
    إن لم يجد نعلين فلبس خفين فهل يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين؟
    قولان لأهل العلم:
    القول الأول، وهو مذهب الجمهور: أنه يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
    واستدلوا: بحديث ابن عمر المتقدم وفيه: (فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) (1)
    __________
    (1) سبق برقم 102
    (11/76)
    ________________________________________
    القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم قالوا: لا يجب عليه ذلك بل يلبس الخفين ولا شيء عليه.
    واستدلوا:
    بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بعرفات فقال: (من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) (1)
    قالوا: وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم هنا فلم يأمر بقطع الخفين حتى يكونا أسفل من الكعبين.
    قال جمهور العلماء: هذا حديث مطلق وحديثنا حديث مقيد فيقيد المطلق بالمقيد.
    فأجاب الحنابلة وقالوا: حديثنا الذي استدللنا به قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ومعه المدنيون والمكيون وسائر الناس ممن حج من جهات كثيرة من العرب، وأما حديث ابن عمر الذي استدللتم به فإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر أي منبره في المدينة)
    فالنبي صلى الله عليه وسلم حدث بحديث ابن عباس على مشهد الناس عامة وحدث بحديث ابن عمر على مشهد الناس خاصة، ولو كان واجباً قطع الخفين إلى أسفل الكعبين لبينه النبي صلى الله عليه وسلم في المشهد العام، فدل ذلك على أنه منسوخ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فيمتنع على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث الناس بقيد في مجتمع خاص ثم يحدث بغير قيد في مجتمع الناس العام.
    وقد يقال: أنه إذا قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فإنهما يكونان بحكم النعلين بل هما نعلان – وحينئذٍ – يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب العزيمة، أما حديث ابن عباس فيكون من باب الرخصة.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من أجاب السائل من كتاب العلم، وفي كتاب الصلاة، وفي باب لبس الخفين للمحرم و.. من كتاب الحج. ومسلم باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة من كتاب الحج، وغيرهما. المغني [5 / 77] .
    (11/77)
    ________________________________________
    فالصحيح ما ذهب إليه الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه لا يجب عليه أن يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
    مسألة:
    حكم الهِمْيان والمِنطَقة؟
    الهميان: هو ما يوضع فيه النقود مما يكون على الحقو.
    المنطقة: هو ما يوضع على الإزار فيشد به على الحقو.
    اختلف العلماء في حكمهما:
    قولان لأهل العلم – هما قولان في مذهب أحمد:
    الأول: أنه لا يجوز ذلك إلا أن يحتاج إليهما في النفقة.
    الثاني: وهو مذهب الجمهور: أنه يجوز مطلقاً سواء احتاج إليه في النفقة أم لا.
    وهذا القول أظهر؛ فإن المنطقة، والهميان كانت مشهورة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها حكما، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
    ثم إن الهميان والمنطقة شبيهة بالنعلين ونحوهما من الألبسة فليست مما يفصل على العضو تاماً. ولا شك أنه إذا أمكنه أن يتخلى عنهما وأمكنه أن يشد إزاره بغير ذلك فإن هذا أولى وأحوط.
    وعلى قول الحنابلة: لو لبسهما لغير حاجة فقد فعل محظوراً وعليه الفدية، والصحيح مذهب الجمهور.
    مسألة:
    هل يجوز للمحرم أن يلبس الساعة ومثل ذلك الخاتم؟
    الذي يظهر لي أنه لا بأس بذلك، وأن هذه من الأمور المشهورة وهي ليست من الألبسة التي تعم البدن أو عضواً منه كالألبسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. فالأظهر الجواز وهي شبيهة بحكم المنطقة.
    والحمد لله رب العالمين
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن طيب بدنه أو ثوبه)
    هذا محظور من محظورات الإحرام: الطيب.
    فمن طيب بدنه أو ثوبه فدى وهذا بالإجماع لأنه قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.
    (11/78)
    ________________________________________
    والدليل على أن الطيب من محظورات الإحرام، ما تقدم من حديث من وقصته راحلته فمات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تحنطوه) والحنوط أخلاط من الطيب، وفي رواية للبخاري: (ولا تقربوه طيباً) (1)
    قال: (أو أدهن بمطيب)
    إذا ادهن أو استعط أو اكتحل بشيء من الأدهان المطيبة كدهن ورد ونحو ذلك فإن عليه الفدية، لأنه قد قرب طيباً فإن هذا الدهن مطيب وحيث ادهن به فإنه يكون حينئذٍ قد مس طيباً، أما إذا ادهن بدهن ليس من الأدهان المطيبة فلا حرج في ذلك إجماعاً.
    قال: (أو شم طيباً)
    كذلك إذا شم الطيب قصداً فإن عليه الفدية؛ وذلك لأن المقصود من الطيب رائحته، وهذا يحصل بالشم فإذا شمه قاصداً فإنه يكون قد فعل هذا المحظور.
    فالمقصود من الطيب هو رائحته بدليل أنه لو مسه بيده وكان يابساً لا ينتقل إلى اليد بالمس كما لو مس قطع كافور أو نحو ذلك فإنه بالاتفاق ليس بفاعل لمحظور لأن اليد لم يعلق فيها شيء من الطيب فلا يؤثر هذا المس.
    وهنا: إن أكل أو شرب طعاماً فيه شيء من الأطياب كالزعفران أو نحوه؟
    قولان لأهل العلم:
    القول الأول: وهو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية قالوا: أنه يكون قد فعل محظوراً.
    قالوا: لأن المقصود هو الرائحة فإذا أكله أو شربه فظهرت الرائحة من فيه فإنه حينئذٍ يكون قد حصل المقصود من الطيب بخلاف ما لو ذهبت الرائحة بالطبخ فإنه لا حرج في ذلك إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
    القول الثاني: وهو مذهب الأحناف والمالكية: أنه ليس بمحظور سواء وجدت الرائحة أم لم توجد لأنه استحال بالطبخ عن كونه طيباً إلى كونه مطعوماً.
    والقول الأول أظهر؛ لأن العلة فيه أصح والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
    __________
    (1) البخاري [1 / 319..] ومسلم [4 / 23..] وغيرهما، الإرواء 1016.
    (11/79)
    ________________________________________
    فسواء وضع الطيب على بدنه أو ثوبه أو أكل طعاماً فيه نوع من الأطياب فظهرت هذه الرائحة من فيه ولم يذهبها الطبخ بل بقيت ظاهرة في فيه فالأصح – حينئذٍ - أنه يكون قد فعل محظوراً لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والمقصود من التطيب هو الرائحة وقد ظهرت الرائحة من فيه.
    مسألة:
    وهنا: إن كان الطعام الذي قد أكله فيه رائحة طيبة ليست برائحة الأطياب، لكن هذا الطعام ليس طِيباً في الأصل بل فيه هذه الرائحة الطيبة فباتفاق أهل العلم أنه ليس بفاعل محظوراً من محظورات الإحرام وأنه لا بأس بذلك كأن يأكل فاكهة أو نحو ذلك.
    وليس معنى ذلك أنه لو استخرج من بعض الأطعمة طِيباً واتخذه الناس طِيباً أنه ليس طِيباً يقع - المكلف بقربه - في المحظور. بل متى اتخذ الناس شيئاً من الأطياب ولو كان من بعض الأطعمة كما يوجد الآن في الأطياب التي تكون من فاكهة أو نحوها فإن هذا طيب لأن الناس قد اتخذوه طيباً.
    لكن الرائحة الموجودة في بعض الأطعمة هذه لا حرج فيها ولا يكون قد فعل محظوراً، أما لو وضع الطيب في طعام وهو مما يتخذه الناس طيباً فلم يذهب بالطبخ بل بقيت رائحته ظاهرة فإنه حينئذٍ يكون قد فعل المحظور بقربه الطيب.
    قال: (أو يتبخر بعود أو نحوه)
    هنا كذلك لأن هذا تطيب والمقصود من التطيب الرائحة ولا شك أن البخور يبقي رائحة في الثياب وفي البدن.
    قال: (وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً ولو تولد منه أو من غيره أو تلف في يده فعليه جزاؤه)
    المحظور السادس من محظورات الإحرام وهو قتل الصيد البري.
    والأصل في تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} (1) وقال تعالى: {أُحل لكم صيد البر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} (2)
    __________
    (1) سورة المائدة 95.
    (2) سورة المائدة 96.
    (11/80)
    ________________________________________
    فصيد البر محرم على المحرم، وقد بيَّن المؤلف الصيد الذي يحرم على المحرم فقال: " صيداً مأكولاً " فإذا كان الصيد غير مأكول فإنه ليس بمحظور، بل ليس بصيد فهذا القيَّد في الحقيقة قيد إيضاحي، وإلا فإنه من المعلوم أن غير المأكول لا يسمى صيداً اتفاقاً.
    " برياً ": هذا قيد يحتاج إليه فإن الصيد منه ما يكون برياً ومنه ما يكون بحرياً، وسيأتي استثناء الصيد البحري ودليله، فالصيد المحرم إنما هو الصيد البري.
    ويدخل في ذلك طائر البحر الذي يقع على البحر فإنه صيدٌ بريٌ إجماعاً.
    قال: " أصلاً ": هذا قيد يحتاج إليه، فإنه قد يكون الحيوان متوحشاً وهو في الأصل مستأنس كأن يتوحش إبل أو بقر ونحو ذلك قد سكن في البر وهو في الأصل من الحيوانات المستأنسة فهذا ليس بصيد اتفاقاً للنظر إلى أصله فإنه أصله أنه مستأنس وليس بصيد.
    والعكس بالعكس أيضاً: فإذا كان الحيوان برياً متوحشاً كغزال أو حمار وحشي أو نحو ذلك فهذا متوحش في الأصل فهو صيد فإذا استأنس فإنه يبقى صيداً برياً للنظر إلى أصله.
    فكونه مستأنس استئناساً طارئاً ويتوحش توحشاً طارئاً هذا لا يؤثر في أصله، فالنظر إنما هو إلى الأصل.
    " ولو تولد منه ومن غيره ": أي من المتوحش الذي هو الصيد وغيره من هو ليس بصيد تغليباً لجانب الحظر.
    فلو تولد هذا المصيد من حيوان متوحش وغيره كما يقع من التوالد بين مثلاً الفرس والحمار الوحشي فهذا المتولد منهما أهو صيدٌ أم لا؟
    قال هنا: " ولو تولد منه ومن غيره "
    ظاهر كلام المؤلف الإطلاق والتعميم.
    والمسألة فيها تفصيل: فإن المتولد منه – أي من المصيد – وهو البري المصيد ومن غيره قسمان:
    القسم الأول: ما تولد من وحشي ومن حيوان مأكول. كأن يتولد من حمار وحشي ومن فرس فإنه حينئذٍ يكون مأكولاً لأن أصلَيْه مأكولان.
    (11/81)
    ________________________________________
    فإذا صيد فإنه – تغلباً لجانب الحظر – لأن أحد المتولد منهما صيد وهو الحمار الوحشي فتغليباً لجانب الخطر إن صيد فعلى من صاده الجزاء وقد فعل محظوراً من محظورات الإحرام، وهذا مذهب أكثر أهل العلم تغليباً لجانب الخطر.
    القسم الثاني: أن يتولد من الوحشي ومن غير الوحشي لكنه غير مأكول، كأن يتولد مثلاً من حمار وحشي وحمار أهلي.
    فظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أنه إذا صيد ففيه الجزاء، وهذا فيه نظر؛ لأنه محرم الأكل فإن أحد أصليه غير مأكول وما كان كذلك فإنه محرم الأكل؛ وبهذا يقول الحنابلة تغليباً لجانب الخطر ومع أنه غير مأكول عندهم – مع ذلك - قالوا: بأنه لا يجوز صيده ومن فعل فعليه الجزاء. وهذا فيه نظر، ذلك لأنه ليس بصيد إذ الصيد هو المأكول وهذا ليس بمأكول وبهذا قال بعض الحنابلة.
    قال: (أو تلف في يده)
    فإذا أمسك رجل صيداً فلم يقتله لكنه بحبسه إياه قتله فتلف في يده فإن عليه الضمان وهو الجزاء لأنه بإمساكه له يكون قد قتله فقد أتلفه في حال إحرامه.
    بل إذا أشار إلى أحد بقتله أو أعان أحداً ولو بإعطائه السلاح أو أمر أحداً بقتله فإنه إن فعل ذلك فقد فعل المحظور وعليه الجزاء، وإن كان هذا المشار إليه أو المعان أو المأمور بالقتل حلالاً – أي ليس بمحرم -.
    ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة صيد أبي قتادة الحمار الوحشي وكان حلالاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وكانوا محرمين -: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء) فقالوا: لا فقال: (فكلوا مما بقي من لحمه) (1) وثبت في الصحيحين أنه قال لهم: (ناولوني السوط فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء) .
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 457] ومسلم [4 / 16] وغيرهما، الإرواء 1028.
    (11/82)
    ________________________________________
    فإذا أعان أو أشار أو أمر فلا يحل له أن يطعم منه شيئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب جواز الأكل على السؤال المتقدم فقال: (هل أحد منكم أمره أو أشار إليه بشيء) فلما قالوا لا قال: (فكلوا مما بقي من لحمه)
    كذلك لا يحل له أن يأكل منه إن صيد من أجله، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما أهدى إليه الصَّعب بن جَثَّامة حماراً وحشياً وكان صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودَّان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) (1)
    وثبت عند الخمسة إلا ابن ماجه والحديث حسن - إن شاء الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم) (2) وله شاهد من قول عثمان كما في الموطأ بإسناد صحيح أنه رضي الله عنه: (أهدي إليه صيد فقال: لأصحابه كلوا فقالوا: وأنت ألا تأكل؟ فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي) (3) . وهذا مذهب جمهور العلماء.
    فلو اشترى صيداً مذبوحاً لم يصد من أجله فلا بأس بأكله، أو أُهدي إليه صيد من غير أن يُتقصد في الأصل بالصيد فلا حرج في ذلك.
    وإن صاد المحرم صيداً فإنه بحكم الميتة له ولغيره، فهو ميتة، وهذا باتفاق العلماء لقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فسماه تعالى قتلاً، فدل على أنه ميتة.
    قوله: " فعليه جزاؤه " سيأتي بيانه في الكلام على الفدية.
    قال: (ولا يحرم حيوان إنسي)
    __________
    (1) أخرجه البخاري [4 / 26، 28] باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً، ومسلم [1193] باب تحريم الصيد للمحرم. زاد المعاد [2 / 163]
    (2) أخرجه أبو داود [1851] باب لحم الصيد للمحرم، والنسائي [5 / 187] والترمذي [849] ، زاد المعاد [2 / 165] .
    (3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 790.
    (11/83)
    ________________________________________
    الحيوان الإنسي كأن يذبح إبلاً أو شاة فلا بأس بذلك بإجماع العلماء لأنه ليس بصيد، فالحيوان الإنسي المأكول ليس بصيد فإذا ذبح فلا حرج في ذلك.
    قال: (ولا صيد البحر)
    فصيد البحر لا يحرم على المحرم بالإجماع.
    إلا ما اختلف فيه أهل العلم من صيد البحر إن كان في الحرم وسيأتي ذكره، وقد قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً}
    قال: (ولا قتل محرم الأكل)
    لا يحرم قتل محرم الأكل، فيجوز له ذلك، فلا تعلق للإحرام بقتل شيء من غير مأكول اللحم، وإنما الحكم يتعلق بمأكول اللحم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية وأن الإحرام لا دخل بشيء من قتل ما هو غير مأكول اللحم.
    وذهب المالكية: إلى أنه يحرم عليه ذلك وعليه جزاؤه.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب والحدأة والغراب - زاد مسلم: الأبقع - والفأرة والكلب العقور) (1)
    وفي رواية في الصحيحين: (من قتلهن فلا جناح عليه)
    والمسألة في الأصح من قولي العلماء فيها تفصيل:
    فيقال: أما هذه التي أمر الشارع بقتلها فإنه لا شك بجواز قتلها وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فهو خارج عن محل النزاع.
    ويقاس عليها في المشهور عند أهل العلم كل ما هو مؤذٍ، فكل ما يتأذى منه الآدمي وفيه عدوان وأذية كالحية ونحو ذلك فإن هذا يقاس على الخمسة المذكورة في الحديث فتقتل.
    وإنما محل النزاع في هذه المسألة ما ليس كذلك – أي ليس من هذه الخمس المذكورة في الحديث ولا مما يقاس عليها مما فيه أذية وعدوان – ففيه لأهل العلم قولان:
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب ما يقتل المحرم من الدواب من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب. وغيرهما. المغني [5 / 115] .
    (11/84)
    ________________________________________
    1- مذهب الحنابلة والشافعية: أنه يجوز قتلها ولا أثر للإحرام في شيء من ذلك، لكن مذاهبهم تدل على أنهم لا يريدون التعميم بل يستثنون من ذلك ما دلت الأدلة الشرعية على النهي عن قتله كالضفدع ونحو ذلك. وإنما مرادهم أنه لا تعلق للإحرام.
    بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه القتل أما إن كانت هناك أدلة شرعية تحرم فإن المحرم هو تلك الأدلة وليس هو الإحرام. بمعنى: أن الإحرام لا يحرم عليه قتل الصيد البري.
    2- وذهب المالكية إلى أن عليه فدية إن قتله، ويكون قد فعل محظوراً من محظورات الإحرام.
    واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا جناح عليكم في قتلهن) فإن مفهومه إثبات الجناح في قتل غيرهن.
    وما ذهب إليه المالكية أصح، لكن في غير الفدية.
    فالصحيح أنه لا يجوز له القتل وهو محرم لمفهوم هذا الحديث، فإن هذا الحديث مفهومه تحريم ذلك، لأنه قال: (يُقتلن في الحل والحرم) ومفهوم ذلك أن غيرهن لا يقتل في الحل ولا في الحرم.
    وكذلك قوله: (لا جناح) مفهومه يدل على إثبات الجناح في قتل غيرهن.
    وأما إثباتهم الفدية أو الجزاء فهو محل نظر، فإن الله عز وجل إنما أثبته في الصيد فقال تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} وهذه التي قلنا بتحريم قتلها على المحرمين ليست من الصيد إذ هي ليست بمأكولة، فلا تدخل في هذه الآية وإنما هي داخلة في الحديث المتقدم.
    فالراجح: وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجوز للمحرم أن يقتل شيئاً إلا أن يكون فيه أذية وعدوان، لكن إن قتله فلا جزاء عليه، لكنه يكون قد فعل محرَّماً.

    ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه.
    وقال بعض الحنابلة: لا يضمن، ويحرم.
    قال: (ولا الصائل)
    (11/85)
    ________________________________________
    فإذا صال شيء من الصيد عليه أو على شيء من ماله أو نحو ذلك فخشي الضرر واحتاج إلى قتله وعلم أنه لا يندفع هذا الضرر المظنون في بدنه أو ماله أو نحو ذلك، إلا بقتل هذا الصيد فإنه يجوز له أن يقتله دفعاً للصائل. باتفاق أهل العلم، وذلك لأنه باعتدائه التحق بالحيوانات المؤذية المعتدية التي أمر الشارع بقتلها كالكلب العقور المؤذي الذي يجرح.
    ولا جزاء في قتله لأن فعله بإذن شرعي وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
    لكن إن قتله مضطراً إلى أكله كأن يضطر إلى الطعام ولا طعام فاضطر إلى أن يقتل الصيد فيأكله فعليه الجزاء، لكن هذا الفعل جائز منه.
    وإنما قلنا بالجزاء هنا ولم نقل به هناك لأن قتله هنا لمصلحة له، أما هناك فهو دفع مفسدة.
    كما أن من حلق رأسه لدفع الأذى عن رأسه كان عليه الفدية بنص القرآن فكذلك من قتل الصيد لمصلحة نفسه فعليه الجزاء لأن هذا لمصلحة نفسه.
    والحمد لله رب العالمين
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية)
    فلا يجوز للمحرم أن يعقد نكاحاً لا لنفسه ولا أن يكون ولياً أو وكيلاً عن غيره، فلا يحل للمحرم أن يكون أحد المتعاقدين في النكاح سواء كان أصالة عن نفسه كالزوج البالغ الذي ينكح نفسه أو كان ذلك بوكالة عن غيره أو ولاية على ابنة له أو ابن أو نحو ذلك، فلا يحل له أن يعقد لنفسه (1) بالنكاح.
    ولا يدخل في هذا ما إذا كان شاهداً أو من يكون قائماً على عقد النكاح من القضاة أو غيره فإنه لا بأس أن يكون محرماً.
    إلا أن يكون أحد المتعاقدين محرماً فلا تحل الشهادة ولا يحل لأحد من أهل الشرع أن يعقد لهما. فالمراد هنا: أن يكون أحد المتعاقدين أو من ينوب عنهما بوكالة أو ولاية، أن يكون محرماً، فهو لا يجوز والنكاح باطل.
    __________
    (1) في الأصل: نفسه.
    (11/86)
    ________________________________________
    ودليل ذلك: ما ثبت في مسلم عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينكح المحرم) أي لا يعقد لنفسه (ولا يُنكح) أي لا يعقد لغيره بولاية أو وكالة أو نحو ذلك (ولا يخطب) (1) .
    فهذه أمور محرمة، وذلك لأنها من مقدمات الجماع، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} والرفث: هو الجماع ومقدماته. وأما كونه يبطل – أي النكاح – فللنهي عنه، والقاعدة: أن المنهي عنه فاسد أو باطل إلا أن يدل دليل على تصحيحه.
    وقد ثبت في الموطأ: أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه " (2) أي أبطله أو أفسده، وقد ذهب جمهور العلماء إلى ذلك.
    وذهب الأحناف إلى أن النكاح يصح ولا حرج فيه.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين: عن ابن عباس: قال (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) (3) قالوا: ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يدل على جوازه.
    والجواب عن هذا أن يقال: إن ابن عباس في هذه الرواية الصحيحة عنه قد خالف صاحبة القصة وهي ميمونة، وخالف السفير بينهما وهو أبو رافع.
    فقد ثبت في مسلم عن ميمونة قالت: (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال) (4) .
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 163] .
    (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 777، باب نكاح المحرم.
    (3) أخرجه البخاري باب تزويج المحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب تحريم نكاح المحرم من كتاب النكاح. المغني [5 / 162] .
    (4) أخرجه مسلم [1411] وأبو داود وابن ماجه وأحمد، زاد المعاد [3 / 373] .
    (11/87)
    ________________________________________
    وفي المسند وسنن الترمذي بإسناد صحيح قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما) (1) .
    فلا شك أن روايتهما أولى من رواية ابن عباس، فإنه لم يكن صاحب القصة، ولم يكن الرسول بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين صاحبة القصة ومعلوم أن صاحب القصة روايته أصح ممن يرويها عنه.وأيضاً من له اتصال بالقصة كأبي رافع أولى ممن ليس له اتصال كابن عباس.
    أضف إلى ذلك أن ابن عباس قد تحمل هذه القصة ولم يكن بالغاً ولا شك أن من تحملها وهو بالغ كميمونة وأبي رافع أولى وأصح ممن تحملها وهو غير بالغ وإن كان رواية غير البالغ تحملاً لا أداء صحيحة، لكن هذا حيث لم يخالف رواية من بلغ. فعلى ذلك: هو وهمٌ من ابن عباس كما قال ذلك الإمام أحمد وغيره.
    ولا يؤثر هذا في رواية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن روايتهم على التصحيح مطلقاً، ومن حفظ الله للشريعة أنه إن كان من وهم مع صحة السند إلى الصحابي فإنه يثبت عن صحابي آخر ما يبين الوهم منه حفظاً من الله عز وجل للشريعة كما في هذا المثال في هذه المسألة.
    وجمع بعض أهل العلم بين حديث ابن عباس وحديث ميمونة: بأن مراد ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، كما قال الشاعر: * قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً *
    ولم يكن محرماً بحج أو عمرة وإنما كان في البلدة الحرام أو في الشهر الحرام، فالمقصود أن الراجح ما حدثت به ميمونة عن نفسها، ويمكن أن يجاب عن حديث ابن عباس بالجمع المتقدم الذي ذكره بعض أهل العلم – والله أعلم –.
    إذاً: الصحيح أن المحرم لا يجوز له أن ينكح ولا أن ينكح.
    __________
    (1) أخرجه أحمد [6 / 393] ، والترمذي [841] . على أن أبا عمر ابن عبد البر أعله بالانقطاع بين سليمان بن يسار وأبي رافع، زاد المعاد [3 / 373] .
    (11/88)
    ________________________________________
    " ولا فدية ": فإذا حدث منه ذلك فالنكاح باطل، ولا فدية عليه لأنه لا دليل على الفدية، ولأن الأصل براءة الذمة منها.
    فإن الفدية تتعلق بالذمة، والأصل براءة ذمة المكلف إلا بدليل يدل على شغلها، وهنا الذمة خالية فإشغالها يحتاج إلى دليل ولا دليل وكذلك في الحديث المتقدم لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفدية وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك عمر لما أفسد نكاح من تزوج وهو محرم لم يأمره بالفدية.
    قال: (وتصح الرجعة)
    فإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً – لا طلاقاً بائناً يحتاج إلى عقد جديد، بل طلقها طلاقاً رجعياً – فإذا راجعها قبل انتهاء عدتها فلا بأس بذلك وإن كان محرماً؛ وذلك لأن الرجعة إمساك وليست بنكاح مبتدأ، فلا حرج فيها وهو مذهب جمهور العلماء. لكن لو بانت منه فلا يحل له أن يعقد عليها وهو محرم لأن ذلك ابتداء نكاح.
    والخطبة هل تصح أم تحرم؟
    قولان، أظهرهما التحريم؛ لتحريم مقدمات الجماع، وهو قول ابن عقيل.
    قال: (وإن جامع المحرم …)
    الجماع من محظورات الإحرام قال تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
    والرفث: هو الجماع ومقدماته.
    والفسوق: اسم للمعاصي كلها.
    الجدال: هنا الجدال بغير حق إما بغير علم أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين له، فالمراد به: المراء بغير حق.
    وقد أجمع العلماء – خلافاً لبعض المذاهب الشاذة – أجمعوا على أنه ليس شيء من محظورات الإحرام مفسداً للحج سوى الجماع، فقد أجمعوا على أنه مفسد للحج إن كان قبل التحلل الأول، وأما إذا كان بعد التحلل الأول فلا يفسده اتفاقاً.
    قال هنا: (وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام)
    (11/89)
    ________________________________________
    " فسد نسكهما " أي المجامِع والمجامَع، فكل وطءٍ سواء كان وطأً في الأصل مباح كوطء الرجل زوجته، أو محرم كالوطء في قبل أو دبر محرم كل ذلك يدخل في الجماع المفسد للحج.
    وسيأتي البحث إن شاء الله في النسك الذي يثبت به التحلل الأول وأن أصح أقوال العلماء في ذلك: أن ذلك برمي جمرة العقبة يوم النحر.
    فعلى هذا القول – وهو الراجح – فإذا جامع قبل رمي الجمار فإن الحج يفسد ولا يجزئه عن حجة الإسلام، ويمضي فيه فيجب عليه الاستمرار فيه وهذا من جنس الاستمرار في الصوم فإن الصائم إذا أفطر بحيث لا يجوز له أن يفطر فإنه يمسك فيما بقي كما تقدم، وهنا كذلك فيمضي في الحج وهو حج فاسد ويجب عليه أن يقضيه في العام المقبل وجوباً على الفور لأنه أصبح فرضاً عليه وحيث كان كذلك وجب عليه أن يحج من العام المقبل ويجب أن ينحر بدنة (بعيراً أو بقرة) .
    فدليل ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث مرسل، أما الآثار فهي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو، كما ثبت ذلك عنهم في البيهقي: أن ابن عباس: (سئل عن الجماع قبل التحلل الأول؟ فقضى بفساد نسكهما ومضيهما فيه وأن يحجا عاماً آخر وأن يهديا كل واحد منهما بدنة) ونحوه عن ابن عمر وابن عمرو، والإسناد جيد ولا يعلم لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعاً.
    وأما الحديث المرسل فقد رواه ابن وهب بسند جيد إلى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى بذلك) ومراسيل سعيد بن المسيب أصح المراسيل.
    هذا إن كان قبل التحلل الأول.
    وأما إذا جامع بعد التحلل الأول: فإن إحرامه يفسد في المشهور من المذهب وعليه شاة.
    فيفسد إحرامه، فحينئذٍ يذهب إلى التنعيم أو إلى موضع آخر من الحل فيحرم منه إحراماً جديداً ثم يأتي ببقية أعمال الحج، وعليه أن يذبح دماً فيذبح شاة، وهذا المشهور في المذهب.
    (11/90)
    ________________________________________
    ونازع بعض الحنابلة في الاكتفاء بإفساده للإحرام وقالوا: بل الواجب عليه أن يعتمر وهو المنصوص عن الإمام أحمد وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام.
    بمعنى: أنه يجب عليه أن يذهب إلى التنعيم أو موضع آخر من الحل فيهل بعمرة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يأتي ببقية أعمال الحج.
    ونازع الشافعية كونه يكتفي بأن يذبح شاة وقالوا: عليه بدنة. قالوا: لأنه جماع في الحج فأشبه الجماع قبل التحلل الأول وهو ما زال محرماً بالحج ولم يثبت له التحلل التام فحينئذٍ يجب عليه أن ينحر بدنة.
    وأما الحنابلة فقالوا: إنما أوجبنا عليه شاة لأنه جماع لم يفسد الحج فلم يجب فيه بدنة.
    والصحيح ما ذهب إليه الشافعية في المسألة الثانية، وما اختاره شيخ الإسلام في المسألة الأولى وهو المنصوص عن الإمام أحمد.
    ودليل ذلك: ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: أن ابن عباس سُئل عمن جامع امرأته بعد التحلل الأول فقال: (يعتمر ويهدي) وفي رواية: (يعتمر وينحر بدنة) (1) ولا يعلم له مخالف.
    فعلى ذلك: الراجح: أن الرجل إذا جامع امرأته - أو جماعاً محرماً - بعد التحلل الأول فيجب عليه أن يعتمر فيذهب إلى الحل فيحرم بعمرة ثم يأتي فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ثم يأتي بعد ذلك ببقية أعمال الحج وعليه بدنة. وهذا للأثر الصحيح عن ابن عباس الذي لا نعلم له فيه مخالف فإنه قضى على من جامع بعد التحلل أنه يعتمر وظاهر ذلك أنه اعتمار حقيقي تام، وهو الجامع للإحرام من الحل والطواف بالبيت وبين الصفا والمروة والتقصير.
    وأما إذا جامع في العمرة:
    __________
    (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 867، 868، باب هدي من أصاب أهله قبل أن يُفيض.
    (11/91)
    ________________________________________
    فإن جامع قبل طوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة ففيه ما تقدم من الجماع قبل التحلل الأول: فعمرته فاسدة وعليه أن يتمها وأن يعتمر من قابل وعليه بدنة كالحج تماماً، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، ولها أحكام الحج بالاتفاق في مسائل المحظورات والفدية وغير ذلك.
    وأما إذا كان الجماع بعد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وقبل التقصير فإن العمرة صحيحة وعليه أن يذبح شاة فما فوقها.
    فقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن ابن عباس قال لمن جومعت قبل أن تقصر أي بعد طوافها بالبيت وسعيها بين الصفا والمروة، قال لها: (أهريقي دماً، فقالت: أي دم؟ فقال: (بدنة أو بقرة أو شاة) قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: (بدنة) فالشاهد أنه قضى بأنه يجزئ عنها أن تذبح شاة فقد خيرها بين أن تنحر بدنة أو بقرة أو أن تهدي شاة ولا يعلم له مخالف.
    قال: (وتحرم المباشرة)
    المباشرة هي: الاجتماع مع المرأة أو نحوها بما دون الجماع أي دون الوطء بقبل أو دبر، وهي محرمة اتفاقاً قال تعالى: {فلا رفث} والرفث: هو الجماع أو مقدماته.
    ولأن الشارع نهى المحرم عن عقد النكاح فالنهي عن المباشرة أولى وهذا باتفاق العلماء.
    قال: (فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه)
    فإذا باشر فأنزل فإن الحج لا يفسد، وذلك لأن الأصل في المحظورات أن فاعلها لا يفسد حجه، ولا نص ولا إجماع يدل على الإفساد بالمباشرة. فالإجماع والآثار عن الصحابة إنما دلت على أن الجماع مفسد ولم تدل على المباشرة، والأصل في محظورات الإحرام ألا تفسد النسك.
    فليست المباشرة بمعنى الجماع ولم ينص عليها ولا إجماع على ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُفسد نسك من نكح وهو محرم، فكذلك المباشرة.
    قال: (وعليه بدنة)
    هذا هو المشهور في المذهب، وهذا من باب القياس على الجماع، فكما أن الجماع تجب فيه بدنة فكذلك المباشرة إذا أنزل فيها فيجب فيها بدنة بجامع الإنزال.
    (11/92)
    ________________________________________
    وذهب الشافعية وهو أصح: إلى أنه لا يجب عليه بدنة، بل الواجب عليه فدية الأذى إما أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين أو أن يصوم ثلاثة أيام، وهذا أرجح، فلا دليل على وجوب البدنة، ومحظورات الإحرام لا يجب فيها الدم وإنما يجب فيها الفدية حيث دل الدليل على الفدية فيها، أو كانت بمعنى ما دل عليه الدليل فالأصح مذهب الشافعية وأن من باشر فأنزل فعليه فدية الأذى، وأما البدنة فلا دليل يصار إليه في هذه المسألة، ولم أر آثاراً عن الصحابة يصح في هذا الباب.
    أما إذا لم ينزل:
    فقال الحنابلة: عليه أن يذبح شاة.
    وقال الشافعية: عليه فدية الأذى، وهو أصح ما تقدم.
    قال: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض)
    ذِكْر المؤلف لهذا فيه إشكال، فإن المذهب ما تقدم ولا يحضرني كلاماً لهم في أن من باشر فيجب عليه أن يحرم، ولعل هذا إدخال للمسألة التي لم تذكر هنا، وهي إذا ما جامع بعد التحلل الأول فإنه يحرم من الحل لطواف في الفرض في المشهور من المذهب، وتقدم أن الراجح أنه يعتمر اعتماراً تاماً (انظر الدرس الذي بعده) .
    واعلم أن ما دون المباشرة من القبلة والمس ونحو ذلك للمرأة بشهوة أن ذلك كله محرم ومحظور من محظورات الإحرام - فإن ذلك من مقدمات الجماع – ومقدمات الجماع داخلة في الرفث المنهي عنه.
    فإن فعل فعليه – في الأصح – فدي الأذى – على القول بإثبات الفدية عليه – فإن الأصح أنه لا يجب عليه دم خلافاً لبعض الحنابلة، والراجح أن عليه فدية الأذى كما هو المشهور عند الشافعية.
    فعلى ذلك: يدخل في الرفث الجماع والمباشرة وما دونها من القبلة أو المس أو تكرار النظر حتى يمذي أو ينزل أو نحو ذلك فكل ذلك داخل في الرفث المنهي عنه.

    مسألة:
    من أفسد عمرته، فهل يهل بها من الحل أو من حيث أهل (1) ؟
    أما آثار الصحابة في هذا: فان ابن عباس ذكر – كما في البيهقي -: (أنهما يهلان بها من حيث أهلاَّ)
    __________
    (1) أي من الميقات أو غيره.
    (11/93)
    ________________________________________
    فالأظهر أنه يهل بها كما وجبت عليه لأن هذا من باب القضاء والقضاء يحكي الأداء.
    مسألة:
    إذا كانت المرأة مكرهة على الجماع فهل يفسد حجها؟
    الظاهر في المذهب هو فساد نسكها، وأن البدنة على من أكرهها (انظر آخر باب الفدية) [انظر ص67]
    والراجح في هذه المسألة: أن نسكها لا يفسد لأنها مكرهة، ومن فعل شيئاً من المحظورات مكرها فإنه لا يترتب عليه حكم، بل هو كما لو لم يفعله، فإن المحظور ينهى عنه حيث كان ذلك بتعمد من المكلف أما إن كان من غير تعمد فإنه في حقيقة أمره ليس بمخالف للشرع.
    فالصحيح أنها إذا أُكرهت فلا شيء عليها ولا يفسد نسكها.
    والحمد لله رب العالمين.

    تقدم ذكر محظورات الإحرام وهي تسعة:
    1- حلق الشعر ... ... 2- تقليم الأظافر
    3- تغطية الرأس والوجه ... …4- لبس المخيط للذكر
    5- مس الطيب ... ... 6- قتل الصيد …
    7- عقد النكاح ... ... 8- الجماع
    9- المباشرة
    تقدم الإشكال في قول المؤلف: (لكن يحرم من الحل لطواف الفرض)
    وقد تقدم أن في هذه العبارة نظراً وأنها في مسألة لم يذكرها المؤلف - وهي مسألة الجماع بعد التحلل الأول – ورأيت ذلك مذكوراً في الروض المربع في شرح زاد المستقنع، وأن المؤلف أدخل هذه المسألة على المسألة المذكورة في المتن، وهذا الإدخال عن طريق الوهم أو الخطأ.
    قال: (وإحرام المرأة كالرجل)
    إجماعاً فالمرأة فيما يحرم عليها هي كالرجل في كل ما تقدم من المحظورات فليس لها أن تتطيب وليس لها أن تقتل الصيد وليس لها أن يُعقد نكاحاً تكون طرفاً في هذا العقد وكذلك الجماع والمباشرة، فكل ما تقدم من المحظورات ليس مختصاً بالرجل وإنما هو للمرأة أيضاً وهذا بإجماع العلماء، إلا ما سيأتي استثناؤه.
    قال: (إلا في اللباس)
    فالمرأة في اللباس ليست كالرجل.
    فقد تقدم أن الرجل ينهى عن لبس المخيط من قميص وعمامة وسراويل وغير ذلك.
    (11/94)
    ________________________________________
    أما المرأة فحكمها بخلاف الرجل فلها أن تلبس من الثياب ما شاءت من المعصفرة أوغيرها من الألوان، فليس حكمها كحكم الرجل في أنها لا يجوز لها أن تلبس المخيط، فعلى ذلك تلبس الخفاف والجوارب والسراويل والقمص ونحو ذلك. وهذا بإجماع العلماء وقد ثبت في البيهقي بإسناد صحيح: أن عائشة قالت: (المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً فيه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تتلثم وإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها)
    قال: (وتجتنب البرقع والقفازين)
    والبرقع: مشهور معروف فتتجنبه المرأة، وتجتنب القفازين وهما أيضاً مشهوران، فالبرقع للوجه، والقفازين لليدين.
    ودليل ذلك: ما ثبت في البخاري من حديث ابن عمر المتقدم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) (1)
    والنقاب معروف: وهو غطاء للوجه يكون الاعتماد فيه على الأنف وأولى منه بالحكم البرقع، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على النقاب ليدخل في ذلك بظهور ووضوح فإنه أولى منه في هذا الحكم.
    إذاً: تجتنب المرأة اللباس المختص بالوجه كالبرقع والنقاب وتجتنب أيضاً اللباس المختص بالكفين وهما القفازان.
    قال: (وتغطية وجهها)
    أي تجتنب المرأة المحرمة تغطية الوجه، فليس لها أن تغطي وجهها وإن كان ذلك بغير البرقع والنقاب، كأن تسدل ثوبا على وجهها كما هو مشهور عندنا.
    فليس لها أن تغطي وجهها إلا أن يكون هناك أجنبي فإنها تغطي وجهها عنه، أما إن لم يكن هناك أجنبي كأن تكون في هودجها، أو خيمتها أو أن يكون معها محارمها فحسب فإنه ليس لها أن تغطي وجهها فإن فعلت فقد فعلت محظوراً من محظورات الإحرام.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب ما ينهى من الطيب للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد، وأبو داود، المغني [5 / 154] .
    (11/95)
    ________________________________________
    ودليل ذلك: - أي تغطية المرأة وجهها إن كان هناك أجانب – فقد ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال ونمتشط قبل ذلك في الإحرام) وفي موطأ مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر) .
    وفي المسألة أثر مشهور لكن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف الحديث، وهو ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: (كان الركبان ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفت) (1)
    وقد تقدم الاستدلال بالأثرين المتقدمين، وكذلك ما تقدم عن عائشة وهو قولها: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فهذه آثار عن هاتين الصحابيتين ولا نعلم لهما مخالف في هذه المسألة.
    أما مسألة: أن المرأة إن لم يكن هناك أجنبي فلا يجوز أن تغطي وجهها ويجب أن تدعه مكشوفاً: فدليل ذلك: عند أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)
    قالوا: فهذا الحديث يدل على أن المرأة إحرامها في وجهها، وأنه ليس لها أن تغطي وجهها بالنقاب، وذكر النقاب إشارة إلى غيره مما يغطى به الوجه.
    وقد صح عن ابن عمر – كما في البيهقي – بإسناد صحيح: أنه قال: (إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه)
    وهذا المذهب هو مذهب فقهاء الأمصار، حتى قال الموفق: (لا يعلم بين أهل العلم في هذه المسألة خلاف) فهي مسألة متفق عليها عند أهل العلم.
    ولكن ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى إطلاق جواز السدل، وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام، واختيار تلميذه ابن القيم: وأنه يجوز لها أن تسدل جلبابها على وجهها مطلقاً سواء كان ذلك في حضرة الأجانب أم لا.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود باب في المحرمة تغطي وجهها، وأحمد، والبيهقي باب تلبس الثوب.. من كتاب الحج، المغني [5 / 154]
    (11/96)
    ________________________________________
    قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الألبسة المختصة بالوجه كالنقاب والبرقع، وأما مجرد تغطيته بأي شيء كأن تسدل ثوبها على وجهها فإنه لا حرج في ذلك.
    وأنكر شيخ الإسلام ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إحرام المرأة في وجهها) وقال: " إنما هو قول لبعض السلف "، وهو كما قال فإنه قد رُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا يصح، وأما قول شيخ الإسلام: أنه قول لبعض السلف.
    فنعم هو لبعض السلف، لكنه ليس كأي أحد من السلف بل هو إلى ابن عمر ممن يحتج بقوله حيث لم يكن له مخالف ولم يخالف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    إذا علم الخلاف في هذه المسألة: فليعلم أن منشأ الخلاف في هذه المسألة – أي باعث الخلاف – هو: هل الشارع نهى المرأة عن النقاب والبرقع لكون النقاب والبرقع لباساً مختصاً بالوجه [فيشبه القميص في حق الرجل] وحينئذٍ لا يحرم على المرأة إلا اللباس المختص به، أم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النقاب والبرقع لكونه غطاءً للوجه فيحرم عليها كل غطاء وكل تغطية؟
    أما الجمهور فقد سلكوا المسلك الثاني.
    أما شيخ الإسلام في ظاهر قوله، وهو قول ابن القيم ومذهب بعض الحنابلة فقد سلكوا المسلك الأول.
    قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن اللباس المختص بالوجه وهو النقاب والبرقع، ولم يمنع من تغطية الوجه فأشبه ذلك المحرم فإنه ينهى أن يلبس القميص ويجوز له أن يغطي بدنه بإزار ورداء.
    وأما الجمهور فقالوا: - كما تقدم – أنه نهى عن التغطية مطلقاً. ومسلك الجمهور أصح مما ذهب إليه بعض الحنابلة.
    (11/97)
    ________________________________________
    فإن النساء في اللباس لسن في حكم الرجال، فإن المرأة يجوز لها أن تلبس القمص وأن تغطي رأسها بالألبسة المختصة بالرأس وتلبس الخفاف والجوارب ونحو ذلك، فليست كالرجل، فلا يحرم عليها شيء من الألبسة، ولو كان المقصود من النهي عن البرقع والنقاب أنه لباس لجاز لها كسائر الألبسة، فدل على أن المقصود من ذلك إنما هو تغطية الوجه.
    ولأن الغالب في النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يضعن ألبسة مختصة بتغطية الوجه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
    كما أنه لما سئل عما يلبس المحرم نهى عن العمائم، ولم يكتف بذلك عند أهل العلم بل قالوا: وإن غطى رأسه بخرقة فإنه لا يجوز له ذلك فالمقصود النهي عن تغطية الرأس.
    ثم إن قول ابن عمر صريح في ذلك، فإنه قال: (إحرام المرأة في وجهها) ولا نعلم أثراً صريحاً يخالف أثره.
    وأما قول عائشة: (فإن شاءت أسدلت ثوبها على وجهها) فإنه من المعلوم أن المرأة لا تسدل ثوبها على وجهها إلا أن كان هناك أجنبي، وإلا فإنها لا تشاء ذلك أصلاً إلا على أحوال نادرة، على أن هذا ليس صريحاً في المخالفة كما تقدم.
    إذن: الراجح مذهب جماهير العلماء وقد حكى اتفاقاً أن المرأة إحرامها في وجهها، فإذا غطت وجهها من غير حاجة فإنها تكون فاعلة محظوراً من محظورات الإحرام.

    فرعٌ:
    إن غطت المرأة وجهها فهل يجب عليها أن تضع عوداً أو شيئاً من ذلك يمنع مسَّ هذا الثوب لوجهها؟
    قال بعض فقهاء الحنابلة وهو القاضي من الحنابلة: يجب عليها ذلك فإن مسَّ هذا الثوب شيئاً من بشرة الوجه فإن عليها الفدية.
    وأنكر هذا الموفق، وبيَّن أن كلام الإمام أحمد لا يدل عليه، وأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على ذلك، وبيَّن رحمه الله أن المسدول في الغالب لابد أن يمس الوجه، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان يدل على اشتراط ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام، وهذا هو الراجح.
    (11/98)
    ________________________________________
    قال: (ويباح لها التحلي)
    فيجوز للمرأة أن تتحلى فتلبس السوار والقرط ونحو ذلك والخاتم ونحو ذلك من الحلي كل ذلك جائز إذ لا دليل يدل على منعه بل إلحاقه باللباس ظاهر، فلا حرج في ذلك.
    وهنا مسائل فيما يباح للمحرم:
    المسألة الأولى: يباح للمحرم أن يتاجر في حال إحرامه وأن يصنع ويتكسب ولا خلاف بين العلماء في ذلك، وقد قال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} .
    المسألة الثانية: أنه لا بأس بالاغتسال للمحرم، وقد ثبت في الصحيحين أن أبا أيوب الأنصاري: (سئل عن الغسل للمحرم؟ فأمر أن يصب على رأسه الماء فصب على رأسه الماء فجعل يحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل) (1) أي وهو محرم. وقد قال ابن عباس – كما في البخاري معلقاً -: (ويدخل المحرم الحمام) (2) أي المغتسل. ولا بأس أن يغتسل بسدر أو صابون - غير مطيب – أو قطمي ونحوه من المنظفات لا بأس بذلك، ودليله ما تقدم في من وقصته راحلته فمات وهو محرم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر) (3) مع كونه نهى أن يخمر وأن يمس طيباً، ومع ذلك فقد أمر أن يغسل بماء وسدر فدل على أن السدر ونحوه من المنظفات ليس من محظورات الإحرام.
    المسألة الثالثة: أنه لا بأس من أن يحك رأسه أو بدنه، وفي البخاري معلقاً: (ولم ير ابن عمر وعائشة في الحك بأساً) (4)
    المسألة الرابعة: أنه لا بأس أن يقتل القمل ولا فدية في ذلك وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
    وذهب المالكية إلى أنه يحرم قتله وفيه الفدية.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الاغتسال للمحرم، من كتاب جزاء الصيد، ومسلم باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 125] .
    (2) ذكره البخاري باب الاغتسال للمحرم.
    (3) متفق عليه، سبق برقم 103
    (4) البخاري باب الاغتسال للمحرم.
    (11/99)
    ________________________________________
    أما ما ثبت في الصحيحين: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الفدية على كعب بن عجرة (1) ، فإن ذلك ليس للقمل الذي في رأسه، وإنما ذلك لحلقه الرأس.
    وكذلك لأنه مؤذٍ فأشبه ما تقدم مما يقتل في الحل والحرم.
    المسألة الخامسة: فيما يباح للمحرم: أنه يباح نظر المحرم إلى المرآة ولا يكره ذلك وهو المشهور في المذهب، خلافاً لمن منعه أو كرهه، وفي البخاري معلقاً: (أن ابن عباس جوزه) (2)
    المسألة السادسة: أنه يجوز للمحرم أن يحتجم، فقد ثبت في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) (3) وفي رواية: (في وسط رأسه) وفي رواية للبخاري: (من شقيقة كانت به) .
    وفي قوله: (وسط رأسه) يدل على أنه أخذ شيئاً من رأسه للحجامة.
    قال الفقهاء: وعليه إن أخذ شيئاً من رأسه الفدية. وفيه نظر، فإن الحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتدى ولو افتدى لنقل إلينا ذلك.
    وهذا يدل على ما تقدم من رجحان خلاف ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أخذ شيء من الرأس فيما لا يعد حلقاً أنه لا تجب فيه الفدية.
    فإن أخذ الشيء اليسير للحجامة - شيء يسير - لا تجب فيه الفدية والنبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه ولابدّ أنه أخذ شيئاً من الشعر حيث لا يمكن الاحتجام إلا بذلك ولم ينقل لنا أنه افتدى.
    والنص الوارد إنما هو في حلق الرأس، وهذا ليس بحلق تام له.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب قول الله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى..} .. ومسلم باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى..، المغني [5 / 116] .
    (2) ذكره البخاري باب الطيب عند الإحرام من كتاب الحج قبل رقم 1537.
    (3) أخرجه البخاري باب الحجامة للمحرم من كتاب المحصر وجزاء الصيد.. ومسلم باب جواز الحجامة للمحرم. المغني [5 / 127] .
    (11/100)
    ________________________________________
    فالحجامة جائزة، ومثله الفصد والجرح في الرأس أو سائر البدن أو العمليات الجراحية، وسحب الدم ونحو ذلك، فذلك جائز للمحرم لا حرج عليه في ذلك.
    المسألة السابعة: فيما يباح للمحرم:
    يباح للمرأة المحرمة أن تكتحل أو تضع في يديها أو رأسها الحناء، والرجل يجوز له الاكتحال والاختضاب فيما لا يعد تشبهاً.
    فلا بأس للمرأة والرجل أن يكتحلا ويختضبا، الرجل فيما يختص به والمرأة فيما يختص بها.
    ولا دليل يدل على المنع عن ذلك للمحرم، والأصل في الأمور الإباحة.
    مسألة:
    المرأة يجوز لها أن تغطي يديها بالعباءة ونحوها غطاءً مؤقتاً لكن هل تغطي يديها في غير حضرة أجانب؟
    ينبغي لنا مما تقدم أن نقول بالنهي عن ذلك وأن نلتزم به وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب طائفة من أصحابه أن المرأة لا تغطي يديها إلا إذا كان هناك أجنبي فتغطي يديها بثوبها " أي عباءتها " خلافاً للمشهور في المذهب.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: الفدية
    الفدية والفَدي والفَِدَاء بمعنىً.
    وهو ما يعطى في افتكاك أسير ونحوه، واستعير هنا: في إنقاذ المحرم من تلبسه بمحظورات الإحرام.
    قال: (يخير بفدية حلق أو تقليم أو تغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة)
    فهذه هي الفدية، وقال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (1)
    صيام: صيام ثلاثة أيام.
    " أو صدقة ": إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أقط أو شعير أو نحوه، فإن كان براً فإنه مدٌ منه - من الحنطة -، ومثل ذلك الأرز فإنهما بدرجة واحدة في القيمة، فيطعم كل مسكين نصف صاع من تمر أو نحوه، أو ربع الصاع من البر أو الأرز أو نحوهما.
    " أو نسك ": أي ذبح شاة.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (11/101)
    ________________________________________
    وقول المؤلف: " أو ذبح شاة " معطوف على قوله: " أو إطعام " وهو معطوف – أي قوله: " أو إطعام " - على قوله: " بين صيام ".
    فيخير بين أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من الطعام من التمر ونحوه أو ربع صاع من الأرز أو الحنطة ونحوهما، أو يذبح شاة.
    والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي ذكره نص على نصف الصاع من التمر وجعل الحنابلة مداً من البر يجزئ عن نصف صاع من التمر وهو كما قالوا، فإن الكفارات ككفارة اليمين وغيرها كذلك يجزئ فيها مد الحنطة عن نصف الصاع من غيره.
    والخيار الثالث: أن يذبح شاة.
    أما الآية الكريمة فهي آية مجملة ليس فيها عدد الأيام التي تصام ولا عدد المساكين الذين يطعمون وما هو مقدار إطعامهم، وليس فيها بيان النسك أهو دم شاة أم دم بدنة أم دم بقرة. لكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك وهذه من منازل السنة مع القرآن أن يبيَّن مجمله.
    فقد ثبت في الصحيحين: أن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمَّل يتناثر على وجهي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ذلك أتجد شاة؟ قلت: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) (1)
    وفي رواية: (ثلاثة آصع من تمر) أي لكل مسكين نصف صاع من تمر.
    وظاهر الحديث وجوب الترتيب بين الدم وبين الإطعام والصيام فإنه قال: (أتجد شاة؟ قال: لا قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) لكن هذا الترتيب ليس على الإيجاب بل على الاستحباب بدليل ما ثبت في الموطأ بإسناد صحيح: (أي شيء فيها فعلت أجزأ عنك) (2) وهو مذهب جمهور العلماء.
    __________
    (1) أخرجه البخاري ومسلم، سبق برقم 130.
    (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي 947، باب فدية من حلق قبل أن ينحر.
    (11/102)
    ________________________________________
    وبدليل التخيير في الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم له أولاً بذبح شاة لأن ذلك أفضل.
    والآية القرآنية والحديث النبوي في مشروعية الفدية لمن حلق رأسه معذوراً من مرض ونحوه. وألحق جمهور العلماء في حلق الرأس: تغطية الرأس وتقليم الأظافر والتطيب ولبس المخيط فرأوا أن من فعل أحد هذه الأربع فعليه الفدية الواجبة على من حلق رأسه. هذا أولاً.
    ثانياً: ألحقوا بالمعذور غيره، فالآية والحديث نص في المعذور فألحق جمهور العلماء في المعذور غيره، فلو فعل ذلك تعمداً بلا عذر عالماً بالحكم أو لبس مخيطاً متعمداً عالماً بالحكم أو نحو ذلك فإن عليه الفدية.
    واستدلوا: بالقياس.
    وفي النفس مما ذهب إليه الجمهور شيء.
    وقد ذهب الظاهرية واختاره الشوكاني: أن ذلك – أي الفدية – خاص بحلق الرأس وهو للمعذور فقط.
    أما الظاهرية فإنهم لا يرون القياس، وحينئذٍ: فردهم على الجمهور هو إبطال القياس من أصله، ولا شك أن قولهم باطل في لغي القياس، لكن القياس هنا فيه نظر، فإن المحظورات الأربعة لا تشبه حلق الرأس فإنه نسك يتعلق به واجب من واجبات الإحرام وهو الحلق أو التقصير بخلاف بقية المحظورات التي ذكروها فإنه لا يتعلق بها واجب كما يتعلق ذلك بالحلق فهو نسك يوفره المسلم ليقوم بحلقه أو تقصيره في يوم النحر، وعند طوافه وسعيه للعمرة. والقياس مع الفارق غير صحيح.
    وأما إلحاقهم غير المعذور بالمعذور فهو – أيضاً – قياس مع الفارق فإن المعذور غير عاصٍ لله ولا إثم عليه، بخلاف غير المعذور فإنه قد فعل ما نهى الله عنه على وجه يأثم به، فلا شك أن قياس العاصي على المطيع قياس غير صحيح.
    ومع ذلك فإن الأحوط في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وإلا فكما تقدم ففي القياس الذي ذكروه نظر.
    ما تقدم هو فدية الأذى.
    (11/103)
    ________________________________________
    ثم انتقل المؤلف إلى الكلام على جزاء الصيد، وقد تقدم الكلام على الصيد وتحريم قتله للمحرم، وهنا في بيان جزاء الصيد. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره}
    جزاء الصيد الذي دلت عليه هذه الآية بالخيار أيضاً بين ثلاثة أشياء:
    الأول: أن ينظر إلى هذا الصيد الذي صاده وما يماثله من النعم من بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فينظر ما يماثله ويحكم بالمماثلة ذوا عدل من المؤمنين، فيحكمان بأن هذه البهيمة من النعم عدل لهذا الصيد.
    مثال ذلك: النعامة يماثلها عند أهل العلم الإبل - وسيأتي الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله - فحينئذٍ يذبح هذا المثيل ويوزع على فقراء الحرم: {هدياً بالغ الكعبة} هذا هو الخيار الأول.
    الثاني: {أو كفارة طعام مساكين} بيان ذلك: أنه إن شاء ذبح هذا المثل وجعله هدياً بالغ الكعبة، وإن شاء قوَّم هذا المثل فيشتري بقيمته طعاماً من أرز أو نحوه ثم يوزع على المساكين لكل مسكين نصف صاع.
    فمثلاً: قومنا – البعير – في المثال المتقدم فوجدناه يساوي ألف ريال فاشترينا بالألف ريال مئة صاع من التمر فإنه يوزعه على 200 مسكين. فالمقوّم إنما هو المثل وليس الصيد هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة والشافعية.
    وذهب المالكية إلى أن الذي يقوم هو الصيد نفسه.
    واستدل المالكية على أن المقوم الصيد: قالوا: لأنه هو الأصل وهو المتلف فيجب ضمانه إما بمثله أو بقيمته وحيث أنا لم نأت بالمثل فعلينا أن نأتي بقيمته نفسه.
    (11/104)
    ________________________________________
    واستدل أهل القول الأول على أن المقوم هو المثل قالوا: لأن المقصود من الكفارة أن تكون عدلاً بين هذه الأشياء، فكان ينبغي أن تكون مساوية للمثل لا مساوية للأصل، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {أو عدل ذلك صياماً} فدل على أن هذه الكفارات الثلاث المخير فيها أن المقصود فيها أن تكون على هيئة متساوية متقاربة.
    قالوا: ولأن الواجب في الأصل المثل فحسب أما هنا فإنه لما وقع الخيار بين هذه الثلاثة الأشياء، كان التساوي هو الأنسب فيها.
    وأما ما ذكرتموه أنتم – أي المالكية – فحيث كان ذلك مع العجز عن المثل، لأن الواجب هو المثل، فإن عجز عن المثل انتقل إلى القيمة، وهنا على خلاف ذلك: فإنا نأتي بالقيمة مع قدرتنا على المثل.
    والأظهر ما ذهب إليه الحنابلة، فإن تعليلهم أظهر.
    ثم إن الحاجة – فيما يظهر لي – تقتضي ذلك فإن تقويم الصيد فيه مشقة ظاهرة بخلاف بهيمة الأنعام فإنها مشهورة في التقويم عند الناس، فالناس يعرفون أقيامها ويقدرونها تقديراً ظاهراً بخلاف الصيد فإن في تقويمه شيئاً من المشقة، فكان الأنسب أن يعود التقويم إلى المثل، وكما تقدم فإن في قوله تعالى: {أو عدل ذلك صياماً} تنبيهاً إلى المثلية بين هذه الكفارات الثلاث بين المثل وبين الإطعام والصيام.
    الثالث: {أو عدل ذلك صياماً} ينظر عدد المساكين الذين يمكن إطعامهم، فيصوم بعددهم أياماً.
    فمثلاً: بلغوا مئتين كما في المثال السابق فيصوم مئتي يوم، {ليذوق وبال أمره} : أي ليذوق نتيجة عدوانه على ما نهى الله عنه من حرمه أو على فعل هذا الأمر المحظور عليه.
    قال المؤلف – في بيان ذلك -: (وبجزاء صيد بين مثل إن كان أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعام فيطعم كل مسكين مُداً " أي من البر " أو يصوم عن كل مدٍ يوماً)
    والمقصود بالمد هنا: مدٌ من حنطة، فإن بقي بعض مدٍ فلا يصوم بعض يوم لأن اليوم لا يتجزأ بل يجبره فيصومه تاماً.
    (11/105)
    ________________________________________
    وهل يجوز له أن يجمع بين الإطعام والصيام، كأن يطعم بعضاً ويصوم بعضاً؟
    لا يجوز له ذلك فإن الكفارات لا يجمع فيها بين شيء وآخر، فليس له أن يصوم بعض الأيام ويطعم بعض المساكين بل الواجب عليه أن يختار شيئاً من هذه الكفارات، كما هو ظاهر القرآن وهكذا في سائر الكفارات.
    قال: (وبما لا مثل له بين صيام وإطعام)
    إن كان هذا الحيوان المصيد لا مثل له، يعني قرر أهل العدالة فبينا أنه لا مثل له فحينئذٍ يبقى له خياران تقدم الخيار الأول فيكون ذلك بين الإطعام والصيام، وحينئذٍ فإن المقوم هو الصيد بحسب الاستطاعة، فيقوم الصيد نفسه لأنه لا مثل له فلا يمكن أن نرجع ذلك إلى شيء معدوم فأرجعناه إلى الموجود حينئذٍ للحاجة إلى ذلك ولتعيين ذلك.
    فيقوّم الصيد ويشترى بقيمته طعاماً يطعم به المساكين لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من تمر وغيره، أو يصوم عدل ذلك أياماً.
    مسألة:
    لو صاد غزالاً ثم استطاع أن يأتي بغزال مثله فإنه لا يجزئ عنه بل لابد أن يماثله من بهيمة الأنعام لأن هذا من جنس الهدي والهدي لابد أن يكون من بهيمة الأنعام لا غيرها، كالأضاحي وكالدم الذي يكون في الحج لا يكون إلا من جنس بهيمة الأنعام.
    والحمد لله رب العالمين.
    * ثبت في البخاري معلقاً أن عائشة أذنت لحاملي هودجها بلبس التُّبّان ولم تر عليهم شيئا. [التُّبّان: بضم المثناة وتشديد الموحدة، سروايل قصير بغير أكمام. فتح الباري لابن حجر: 3/ 465]

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما دم متعة وقران فيجب الهدي)
    أي يجب الهدي تعييناً فليس ثمت خيار كما هو في فدية الأذى وفي فدية جزاء الصيد.
    بل الواجب عليه أن يهدي في التمتع والقران قال تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وتقدم أن القران داخل في حكم التمتع باتفاق العلماء، كما أن القران تمتع في لغة العرب، وتدل على ذلك آثار الصحابة كما تقدم.
    (11/106)
    ________________________________________
    قال: (فإن عدمه فصيام ثلاثة أيام)
    إن عدم الهدي فلم يقدر عليه مع قدرته على ثمنه – كأن يكون قادراً على الثمن لكن لم يجد هدياً يشتريه بهذا الثمن – أو كان غير قادر على ثمنه وهذا هو الغالب.
    والعبرة في قدرته عليه أثناء حجه وتمكنه من ذبحه أو نحره فلو كان قادراً عليه عند رجوعه إلى بلده فهو صاحب قدرة مالية في بلده لكنه أثناء الحج لم يتيسر له ثمن يمكنه أن يشتري به الهدي فإنه في حكم غير القادر أصلاً، فإن العبرة في الواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها وهذه قاعدة في كل واجب مؤقت، فالواجبات المؤقتة العبرة في القدرة عليها أثناء وقتها.
    ونظير ذلك: غير القادر على الطهارة المائية أثناء وقت الصلاة فإنها تسقط عنه إلى التيمم لعجزه عنها أثناء الوقت وإن كان قادراً عليها بعد خروج الوقت كأن يكون يعلم حضور الماء بعد خروج الوقت، أو يعلم وصوله إلى بلدته بعد خروج الوقت فإن العبرة إنما هي في قدرته على هذا الواجب المؤقت أثناء الوقت وهنا كذلك: فإن العبرة في قدرته على الهدي أثناء الوقت الذي ينحر به الهدي وهو يوم النحر وأيام التشريق.
    قال: (فصيام ثلاثة أيام والأفضل كون آخرها يوم عرفة)
    قال تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} فإن كان غير قادر على الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، والأفضل كون آخرها يوم عرفة.
    إذاً: يصوم يوم عرفة ويومين قبله وهما يوم التروية واليوم السابع، هذا هو الأفضل له وفي ذلك آثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
    فمن ذلك ما ثبت عن علي – في مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة – أنه قال في تفسير هذه الآية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} قال: (قبل يوم التروية يوم، ويوم التروية، ويوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق)
    (11/107)
    ________________________________________
    ونحوه عن ابن عمر في مصنف عبد الرزاق ابن أبي شيبة وعن عائشة في موطأ مالك: أنها قالت: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هدياً ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فمن فاتته هنا فهن أيام التشريق)
    فهذه آثار عن علي وابن عمر وعائشة، وفيها أن الأفضل أن يصوم يوم عرفة ويومين قبله.
    وكره الشافعي صيام يوم عرفة لكراهية النبي صلى الله عليه وسلم واستحب أن يكون آخر الأيام يوم التروية.
    فعلى ذلك يصوم اليوم السادس والسابع والثامن.
    والقول الأول أظهر للآثار المتقدمة عن الصحابة.
    ولما في ذلك من الكلفة على الحاج من أن يتقدم يومين قبل يوم التروية، فإن المشروع في حقه أن يهل يوم التروية بالحج لكن استحب الصحابة أن يتقدم يوماً ليكون صيامه في الحج.
    أما تقديمه بيومين فإن في ذلك كلفة على الحاج، وموافقة آثار الصحابة أولى وهو المشهور عند الحنابلة.
    قال: (وسبعة إذا رجع إلى أهله)
    ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، فالواجب عليه أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، فإذا رجع إلى بلدته وأقام عند أهله صام سبعة أيام.
    لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) (1) وهذا بيان للآية المتقدمة: {إذا رجعتم} : أي إذا رجعتم إلى أهلكم كما بينته السنة في الحديث المتفق عليه المتقدم.
    إذاً: المشروع في حقه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج يكون آخرها يوم عرفة، وأن يصوم سبعة إذا رجع إلى أهله. هذا هو المختار فهو صيام الفضيلة.
    أما صيام الإجزاء، فقد اختلف أهل العلم في وقت الإجزاء لصيام الثلاثة أيام، وفي وقت الإجزاء لصيام سبعة أيام.
    أما صيام ثلاثة أيام:
    فقال الحنابلة: يجوز أن يشرع فيها إذا أحرم بالعمرة.
    __________
    (1) متفق عليه.
    (11/108)
    ________________________________________
    رجل أراد أن يتمتع بالعمرة إلى الحج أو يقرن وهو غير قادر على الهدي فأحرم في اليوم الرابع من ذي الحجة، فيجوز له أن يشرع بصيام الثلاثة أيام من ذلك اليوم.
    وإذا تحلل من العمرة فيجوز له أيضاً أن يشتغل بالصيام قالوا: لأنه قد أحرم بأحد نسكي التمتع، فالتمتع له نسكان: عمرة وحج فكما أنه يجوز له أن يشرع بالصيام إذا أهل بالحج اتفاقاً، فالعمرة كذلك لأنها أحد نسكي التمتع.
    وذهب المالكية والشافعية: إلى أنه لا يجوز له أن يشرع بالصيام إلا إذا أحرم بالحج ولا يجزئه.
    فعلى ذلك: أثناء إحرامه بالعمرة لا يجزئه الصيام.
    وأما القارن فإنه لا إشكال على أنه يجوز له لأنه إذا أحرم بالعمرة فإن الحج أيضاً داخل في إحرامه فإنه يحرم بهما جميعاً.
    واستدلوا: بالآية فإن الله قال فيها: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فعين الله عز وجل الحج للصيام: ولا يكون في الحج حتى يحرم به.
    وهذا القول هو الظاهر، وهو الموافق لظاهر الآية الكريمة وأما كون العمرة أحد نسكي التمتع: فإن هذا غير كافٍ في الإجزاء لمخالفة ذلك للآية الكريمة أولاً.
    ولأنه لا يصدق عليه التمتع حتى يشرع بالحج إهلالاً فإذا أهل به فإنه يصدق عليه أنه قد تمتع بإهلاله بالحج.
    فالراجح ما ذهب إليه المالكية، والشافعية: وأنه ليس له أن يصوم إلا إذا أحرم بالحج.
    وهو فيما يظهر لي الموافق للآثار المتقدمة عن الصحابة كما قالت عائشة: (الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد الهدي من أن يهل إلى يوم عرفة) (1) فظاهر ذلك أنه من إهلاله بالحج وهو كما تقدم ظاهر الآية القرآنية.
    وظاهر الآية القرآنية أنه ليس له أن يصوم بعد ذلك لأن التلبس في الحج ينتهي بيوم النحر، ويوم النحر ليس من أيام الصيام مطلقاً فظاهر الآية: أن الصيام محصور من الإهلال بالحج وينتهي يوم عرفة فإذا فاته يوم عرفة انتهى صيام الثلاثة أيام.
    __________
    (1) تقدم ص64
    (11/109)
    ________________________________________
    لكن السنة النبوية رخصت في ذلك فقد ثبت في البخاري عن عائشة وابن عمر أنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) (1)
    وأيام التشريق فيهن أفعال للحج لكن ليس فيهن تلبس بالحج فإنه ينتهي الإهلال بالحج في يوم النحر عند رمي الجمرة وحينئذٍ لا يكون في الحج لكن بقيت أحكام متعلقة بالحج.
    ولعله لتعلق هذه الأحكام رخص في ذلك.
    إذاً:أيام التشريق يجوز له أن يصومهن وكونهن لسن من الأيام التي يكون المسلم متلبساً في الحج فيهن، هذا حيث دلالة القرآن وأما السنة النبوية فإنها قد زادت على ما ورد في القرآن.
    وأيضاً المعنى يدل على ذلك وهو بقاء أفعال للحج ثابتة في أيام التشريق.
    وأما صيام السبعة الأيام:
    فالمشروع في حقه كما تقدم أن يصومها إذا رجع إلى أهله.
    لكن الخلاف في هل يجوز له أن يصوم قبل ذلك كأن يصوم في مكة أو في طريقه؟
    قولان لأهل العلم:
    1- القول الأول: مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة: يجزئه ذلك وحملوا الآية الكريمة على أنها رخصة.
    وعللوا ذلك بأن السبب قد وجد فسبب الصيام موجود وهو عدم وجود الهدي في وقته، وحيث وجد سببه فإنه يجزئ الصيام وأما الآية القرآنية فهي رخصة.
    والمعنى يدل على ذلك فكونه يصوم إذا رجع إلى أهله هذا رخصة من الله ليكون ذلك أهون عليه وأسهل في حقه لكن لا مانع أن يصوم قبل ذلك لوجود سبب الحكم وهو عدم الهدي
    وقالوا: نظير ذلك الصيام للمسافر فإن الله عز وجل قال: {فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} فظاهر ذلك أنه إن سافر فلا يصوم ويصوم عدة من أيام أخر، لكن هذه الآية رخصة بدلالة السنة النبوية، بل قد يكون الصيام أفضل كما تقدم في كتاب الصيام. والمقصود أنه يجزئ بلا خلاف أن يصوم في السفر لوجود سبب الحكم وهو رمضان.
    __________
    (1) أخرجه البخاري: [4 / 211 – فتح] . الإرواء رقم 964
    (11/110)
    ________________________________________
    2- الشافعية إلى أنه لا يجزئ ذلك – فلا يجزئه أن يصوم في الطريق ولا في مكة – وذلك للآية القرآنية وللحديث النبوي.
    والأصح: ما تقدم وأن الآية رخصة بدليل وجود سبب الحكم وهو عدم وجود الهدي ثم، ولأن المعنى يقتضي ذلك فلا فائدة من تحديد ذلك برجوعه إلى أهله إلا سهولة ذلك على المحرم أما لو تكلف الصيام فإنه لا حرج عليه في ذلك، وهذا يشبه كما تقدم الصيام في السفر في رمضان.
    إذن: يجوز له أن يصوم هذه السبعة في مكة أو في طريقه لكن المشروع في حقه وهو الأحوط أيضاً ألا يصوم إلا إذا رجع إلى أهله.
    واعلم أن الآية القرآنية في صيام الثلاثة أيام والسبعة مطلقة غير مقيدة بتتابع ولا تفريق، فله أن يفرق وله أن يتابع ويجمع ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك لأن الآية مطلقة ليس فيها التقييد بالتتابع ولا التفريق.
    قال: (والمحصر إذا لم يجد هدياً صام عشرة ثم حل)
    المحصر: هو من منع من تمام النسك، كأن يختل الأمن في مكة أو نحو ذلك فلا يتم نسكه، وسيأتي الكلام على هذا في باب مفرد.
    والمحصر عليه الهدي لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} أي إذا منعتم وحبستم عن المناسك فتحللوا من إحرامكم - بحج أو عمرة، تحللوا منه - بهدي تنحرونه أو تذبحونه فإذا ذبح أو نحر الهدي فإنه حينئذ يتحلل من الإحرام.
    فإن لم يجد المحصر هدياً: صام عشرة أيام ثم حل قياساً على المتمتع فكما أن المتمتع إن لم يجد هدياً فإنه يصوم عشرة أيام كما تقدم فإن المحصر يصوم عشرة أيام. ولم يقيد المؤلف هنا بالحج أو في غيره؛ لأنه ليس بمتلبس بالحج، فيصوم عشرة أيام ثم يتحلل فليس له أن يتحلل إلا بعد أن يتم الصوم.
    قالوا: بدل هدي التمتع صيام عشرة أيام، فكذلك بدل هدي الإحصار صيام عشرة أيام أيضاً.
    وذهب المالكية والأحناف: إلى أنه لا يجب عليه أن يصوم عشرة أيام بل إذا لم يجد الهدي فإنه يتحلل.
    قالوا: لأن الله لم ينص على ذلك.
    (11/111)
    ________________________________________
    قلت: ولأنه أيضاً ليس بمعنى المنصوص.
    أما قولهم أن الله لم ينص على ذلك: فإن الله قال في الآية الكريمة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب على غير القادر صياماً بخلاف المتمتع فإنه أوجب عليه الصيام بعد ذلك.
    لكن هذا القول من المالكية والأحناف يمكن أن يجاب بأن كونه غير منصوص عليه غير كاف في رد الحكم، فإنه – عندنا – بمعنى المنصوص عليه، ولذا قسناه على ذلك، ولذا قلنا: " وهو ليس بمعنى المنصوص " فإن ثمت فارق.
    والفارق فيما يظهر لي: إن هدي التمتع هدي موجبه فعل المناسك وأما هدي الإحصار فإن موجبه ترك المناسك، ولا شك بالفارق بين الفعل والترك، فإن المحصر تارك للنسك، وأما المتمتع فهو بفعله النسك وجب عليه الهدي وأن يجبره بعد ذلك ببدله إن عجز عنه، وحيث ثبت الفارق فإن القياس لا يصح، فإن المحصر تارك للنسك متحلل منها، وأما المتمتع فهو متحلل من فعلها، فهو ليس بمنصوص عليه ولا بمعنى المنصوص.
    ثم إن في ذلك – في الصيام – مشقة وكلفة، فإن كوننا ننهاه أن يتحلل حتى ينتهي من صيام عشرة أيام لا شك أن في مثل هذا كلفه ومشقة، وهذا فارق آخر بين المسألتين، فإن المتمتع إذا رجع إلى أهله وهو متحلل يصوم سبعة أيام ولا حرج عليه في ذلك ولا مشقة.
    أما المحصر فإنه ليس له أن يتحلل حتى ينتهي من هذا الصيام وذلك لأن المسألتين بينهما فارق، فإن هدي التمتع يفعل بعد التحلل، وأما هدي الإحصار فإنه يفعل للتحلل فلا يتحلل حتى يفعله فيشقه الصيام، فليس للمحصر - على قول الحنابلة - أن يتحلل حتى يصوم عشرة أيام وهذا فارق آخر بين المسألتين.
    فالصحيح ما ذهب إليه المالكية والأحناف من أن هدي الإحصار ليس له بدل بل إذا لم يجد الهدي فإنه يحل ولا شيء عليه.
    قال: (ويجب بوطء في فرج في الحج بدنة، وفي العمرة شاة)
    تقدم البحث في هذا في مسألة الجماع (1) .
    قال: (وإن طاوعته زوجته لزماها)
    __________
    (1) انظر ص52.
    (11/112)
    ________________________________________
    إن طاوعت الزوجة زوجها على الجماع فإنه يجب عليها البدنة أو الشاة على التفصيل المتقدم في حق الرجل.
    وذلك لأن كليهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فلم يجزئ كفارة أحدهما عن الآخر، والكفارة لحق الله تعالى، وكلاهما مكلف وقد فعل ما يوجب الكفارة فوجبت في حقه – أي المكلف – وحينئذٍ فيجب في حق المرأة وإن قام الزوج بها عن نفسه لأن المرأة مكلفة وقد فعلت ما يوجب الكفارة.
    وقد تقدم أثر ابن عباس الذي لا يعلم له مخالف من الصحابة وفيه أنه أوجب الهدي على كليهما – أي على الزوج والزوجة –. الأول نظر، وهذا أثر ابن عباس لا يعلم له مخالف.
    وظاهر قوله: - أي المؤلف – أن الزوجة إن كانت مكرهة فإن الفدية لا تجب عليها وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة خلافاً للمالكية في هذه المسالة.
    فالمشهور في المذهب أنه لا فدية عليها – إن كانت مكرهة - قالوا: لأنها مكرهة وقد عفي لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه.
    قال الحنابلة: ولا يجب ذلك على المكره وهو الزوج أو غيره، فالمكره لا يجب عليه الفدية.
    وقال المالكية: بل يجب على زوجها فدية ويجب عليه أن يدفع من ماله ما يحججها به في السنة الأخرى لأنه هو المفسد لحجها.
    أما قولهم أنه يجب عليه أن يعطيها نفقة للحج، فهذا ظاهر لو قلنا بإفساد الحج؛ لأن هذه الغرامة حق لآدمي فهي امرأة قد فسد حجها بسبب غيرها فواجب على هذا الغير أن يقوم بالنفقة التي تكفيها في الحج لأنه هو المتسبب لذلك.
    وأما الكفارة فلا لأنها حق الله تعالى يجب على المكلف حيث توفرت الشروط فيه وهي لم يتوفر فيها شروط الإيجاب؛ لأنها مكرهة.
    فإذاً: مذهب الحنابلة أصح من مذهب المالكية وأنها إذا أكرهت فليس عليها فدية ولا على زوجها فدية.
    والمذهب على أن المرأة المكرهة يفسد حجها وهو مذهب المالكية كما تقدم في (1) .
    وذهب الشافعية وهو الراجح إلى أن المرأة إذا أكرهت على الجماع لا يفسد حجها.
    __________
    (1) بياض في الأصل.
    (11/113)
    ________________________________________
    وذلك لأنها لإكراهها لا فعل لها فالمكره لا فعل له، وإنما أفسد الحج بالجماع لأنه فعل من المكلف خالف فيه أمر الله أو اقترف فيه نهي الله عز وجل.
    وحيث كان مكرهاً فإنه لا فعل له فلا يعد مخالفاً، ولأن الله تجاوز عن هذه الأمة ما أكرهت عليه.
    ولا يجب عليها بدنة لما تقدم، ولأن الكفارة مترتبة على الفعل المتقصد المتعمد وهنا لا تقصد ولا تعمد بل لا ينسب إليها فعل.
    مسألة:
    رجل رجع من الحج ولم يصم ثلاثة أيام – وهو لم يجد هدياً – فهل يقضيها إذا رجع إلى أهله؟
    قال الجمهور عليه أن يقضيها.
    واختلف هل عليه دم أم لا دم عليه؟
    2- والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا يقضي ويكون آثماً لتفريطه وهذا يرجع إلى مسألة سابقة، وهي إذا أمر الشارع بأمر له وقت محدد فخرج وقته فهل أمره السابق متضمن للقضاء بعد الوقت أم لا؟
    قال الجمهور: لا يتضمن ذلك، فأمر الشارع بالشيء المؤقت لا يستلزم قضاءه بعد خروج وقته لفوات مصلحة الشارع، فإن الشارع قد رأى مصلحة في فرضيته في ذلك الوقت فإخراجه عن وقته إلى وقت آخر من باب القضاء هذا يحتاج إلى دليل جديد.
    لكن جمهور العلماء خالفوا هذه القاعدة التي هم يقولون بها خالفوها لبعض الأدلة كحديث: (دين الله أحق بالقضاء) ونحو ذلك.
    والذي يظهر البقاء على هذه القاعدة إلا بدليل ظاهر، فإن عليه أن يستغفر ويتوب لكن السبعة الأيام لا تسقط عنه بل ينبغي فعلهن لأن وقتها ما زال، ولا شك أن الأحوط له أن يصوم.
    والحمد لله رب العالمين.

    فصل
    هذا فصل في شيء من أحكام الفدية
    قال: (ومن كرر محظوراً من جنس ولم يفد فدى مرة)
    كرر محظوراً من جنس واحد كأن يلبس مخيطاً في اليوم الأول من أيام الحج، ثم يلبسه في اليوم الثاني ولم يفد بينهما.
    أو أن يتطيب متفرقاً لا متتابعاً بأن يكرر التطيب، ولم يفد بين ذلك، فإنه يفدي مرة، فيكفيه عن هذه الأفعال ذات الجنس الواحد ما لم يتخللها فدية يكفيه فدية واحدة.
    (11/114)
    ________________________________________
    قالوا: لأن الله عز وجل أطلق في فدية الأذى ولم يفرق فيمن حلق رأسه متتابعاً، أو فيمن حلقه متفرقاً بأن حلق ثم حلق.
    وأشبه ذلك إقامة الحدود الشرعية، فإن الرجل إذا تكرر زناه بامرأة أو قذفه لرجل ولم يقم عليه الحد فإنه لا يقام عليه الحد إلا مرة واحدة فهنا كذلك.
    إذاً: إن فعل فعلاً من محظورات الإحرام من جنس فكرره في نسكه كأن يكرر في حجه لبس المخيط مرتين أو ثلاثاً، أو أن يفعله متتابعاً، فيستمر في نسكه كله لابساً لثوبه أو أن يفعله ثم يخلعه، أو أن يخلعه ثم يلبسه مرة أخرى فإذا لم يتخللها كفارة فإنه لا يفدي إلا مرة واحدة، أشبه ما يكون هذا بإقامة الحدود.
    وأشبه أيضاً الأيمان فإن حلف يميناً ثم حنث فيها فحنث فحنث فكرر ذلك فإنه لا يكفر إلا مرة واحدة.
    وظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه إذا فدى فإنه يلزمه أن يفدي مرة أخرى وثالثة وهكذا.
    فلو أن رجلاً لبس ثوبه في يوم التروية ثم فدى (فذبح أو صام أو أطعم) ثم لبسه في المساء أو في الغد فإنه عليه فدية أخرى.
    قالوا: لأن المحظور الثاني وإن كان من جنس الأول لكنه صادف إحراماً خالياً من فعل محظور تجب فيه الفدية.
    ففعله للمحظور مرة ثانية أو ثالثة صادف إحراماً خالياً من محظور موجب للفدية فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه.
    إذن: إذا فعل محظوراً من جنس واحد وكرره فلا يخلو من حالين:
    الأولى: أن يتخلل ذلك فدية، بمعنى: يفعل المحظور ثم يفدي ثم يفعله مرة ثانية فتجب عليه الفدية مرة أخرى لأن فعله الثاني صادف إحراماً خالياً من فعل موجب للفدية، فلا موجب حينئذٍ لإسقاط الفدية عنه كما لو زنى فأقيم عليه الحد ثم زنى مرة أخرى فإن الحد يقام عليه مرة أخرى.
    الثاني: ألا يتخلل ذلك فدية، فإنه ليس عليه إلا فدية واحدة لأن الله عز وجل لما أمر بالفدية أطلق فمن فعل هذا المحظور فواجب عليه أن يفدي وظاهر هذا الإطلاق ثبوته بالتفرق كثبوته بالتتابع فأشبه ذلك إقامة الحدود.
    (11/115)
    ________________________________________
    هذا إذا كان المحظور المكرر من جنس واحد.
    أما إذا لم يكن المحظور من جنس واحد فقال المؤلف هنا:
    (من فعل محظوراً من أجناس فدى لكل مرة بخلاف صيد)
    " ونعود بعد ذلك إلى الكلام على قول (بخلاف صيد) "
    رجل فعل محظورات مختلفة الأجناس، كأن يلبس مخيطاً ويتطيب ويغطى رأسه فإنه يجب لكل محظور فدية لأن الأجناس مختلفة.
    قالوا: وقد دلت الأدلة – وقد تقدم البحث في هذا – على إيجاب الفدية على كل جنس فلا موجب حينئذٍ لإسقاطه باجتماعها. كما لو قذف وزنى وسرق فإن هذه الحدود تقام عليه كلها لاختلاف أجناسها فكذلك هنا.
    وقد استثني من المسألة الأولى الصيد، فلو أن رجلاً صاد ثم صاد ثم صاد، فيجب عليه لكل صيد جزاؤه، سواء فدى بين ذلك أم لم يفد، بل لو فعله دفعة واحدة فإن عليه الجزاء، وهذا لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ، فظاهر ذلك أن المثلية في نوعه وفي تعدده.
    فإذا أوجبنا في نعامة بدنة، فظاهر الآية أن في النعامتين بدنتين، وفي الثلاث ثلاثاً، وهكذا، فإنه قال تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} فظاهر هذا أن المثلية ثابتة بالنوع الذي يحكم به ذوا عدلٍ، وثابتة بعدده.
    فإنه لو ذبح عشراً من الصيد ثم كان الجزاء واحداً فإن المثلية ليست بثابتة حينئذٍ، فلابد للمثلية من النوع والعدد.
    قال: (رفض إحرامه أو لا)
    يجب عليه إن تعددت المحظورات من أجناس مختلفة، أو فعل محذوراً واحداً من جنس فيجب عليه الكفارة، وإن قال: أبطلت إحرامي ونويت الخروج من النسك، وهذا المراد بقوله: " رفض إحرامه أو لا " فإذا رفض إحرامه فإن الفدية واجبة عليه وذلك: لأن رفضه لا حكم له، وهذا بخلاف سائر العبادات، فإن الحج لا يبطل بنيته الخروج من النسك، باتفاق العلماء بخلاف سائر العبادات، وهذا من فوارق الحج عن سائر العبادات أنه لا يبطل بقصد المكلف وإرادته إبطال النية.
    (11/116)
    ________________________________________
    وذلك لأنه إن فعل مفسداً للحج فإنه لا يخرج من الحج بذلك، فإذا جامع المحرم فإنه – وإن قلنا بفساد النسك – فإنه يبقى مستمراً به لا يخرج منه، فإفساده للحج لا يخرجه من الحج فأولى من ذلك إبطال النية.
    ورفض الإحرام لا يفسده باتفاق العلماء.
    ولذا: إذا حدث له جنون أو إغماء في أثناء حجه أو عمرته فإن زوال العقل هذا لا يخرجه من الحج ولا يفسد حجه بذلك، فلو أُغمي عليه يوم عرفة – وسيأتي – فإن وقوفه يصح.
    قال: (ويسقط بنسيان فدية لبس وطيب وتغطية رأس دون وطء وصيد وتقليم وحلق)
    هذه المحظورات فرق بينها المؤلف وهو مذهب الحنابلة فقالوا: المحظورات من حيث الفدية قسمان:
    الأول: نوع يسقط الفدية فيه النسيان والجهل والإكراه.
    الثاني: لا تسقط الفدية بهذه الثلاثة.
    وضابط ذلك: أن ما فيه إتلاف كالصيد، والوطء، لأن الوطء قد يكون فيه إتلاف وهو إذهاب بكارة المرأة ويلحق بذلك ما لو كانت ثيباً، والصيد فيه إتلاف الصيد، وحلق الرأس فيه إتلاف الشعر، فما كان فيه إتلاف فإنه لا يسقط بنسيان ولا إكراه ولا جهل.
    وما لم يكن فيه إتلاف كالطيب، واللبس وتغطية الرأس فإن الفدية تسقط فيه بالجهل والإكراه والنسيان.
    قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
    قالوا: ولما ثبت في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق " أي طيب " فقال: يا رسول الله ما تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخلع هذه الجبة واغسل عنك أثر هذا الخلوق واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك)
    قالوا: فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية وقد لبس الجبة وتطيب وذلك لجهله.
    (11/117)
    ________________________________________
    قالوا: وإذا ثبت هذا في الجهل فسائر الأعذار كذلك من نسيان وإكراه. وفي الحديث المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالفدية لجهله وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلو كانت الفدية واجبة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها.
    قالوا: وأما ما فيه إتلاف من وطء وصيد وحلاق ونحوه فإنه لوجود الإتلاف فيه يستوي عمده وسهوه، فلا فرق بين نسيان وإكراه وجهل وبين تعمد وعلم وذكر.
    وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. قالوا: تسقط الفدية في هذا.
    ولم أرهم ينصون في اختيارهم على الوطء والظاهر أنه كذلك – اختاروا أن الفدية تسقط وإن كان الإتلاف ثابتاً قالوا: لأن الإكراه والنسيان والجهل عذر ثابت فيهما جميعاً وتفريقكم بين الإتلاف وغيره تفريق غير معتبر، وذلك لأن الإتلاف إنما يستوي عمده وسهوه إذا كان في حق الآدمي أما إذا كان في حق الله عز وجل المبني على المسامحة فإنه لا يستوي عمده وسهوه للمعنى فإن مقصود الشارع من المكلف ترك المحظور وعدم مخالفة الشرع ومشاقته في فعله وحيث فعله على وجه النسيان والإكراه والجهل فإنه ليس هناك مخالفة للشرع سواء كان ذلك بما فيه إتلاف أو لم يكن مما فيه إتلاف.
    إنما الإتلاف معتبر في حقوق الآدميين حفاظاً لحقوقهم أما حقوق الله عز وجل فهي مبنية على المسامحة.
    ومما يدل على ذلك: تقييد الله عز وجل إيجاب الجزاء في الصيد بالتعمد فقال تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم}
    وهذا قيد لابد من اعتباره، ومفهومه أنه إن لم يقتل على وجه التعمد وذلك يكون بالنسيان أو الإكراه أو الجهل فإنه لا حرج عليه في ذلك، والصيد إتلاف فهكذا سائر ما يقع فيه إتلاف، وهذا القول الراجح.
    فعليه: يشترط لوجوب الفدية لفعل المحظورات كلها سواء كانت فيها إتلاف أم لم يكن فيها إتلاف: يشترط ثلاثة شروط:
    (11/118)
    ________________________________________
    العلم: وضده الجهل فإن كان جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بنوع الشيء ودخوله في التحريم فإنه لا شيء عليه لجهله.
    الذِكر: وهو ضد النسيان.
    التعمد: فلابد أن يكون متعمداً، أما لو كان مكرهاً فإنه لا شيء عليه.
    قال: (وكل هديٍ أو إطعام فلمساكين الحرم)
    مساكين الحرم: هم أهل الحرم والواردون إليه ممن تحل لهم الزكاة لفقرهم فكل هديٍ فإنه لمساكين الحرم، قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} وقال تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} .
    ومثل ذلك الإطعام فكل إطعام كالإطعام في الصيد مثلاً فإنه يكون لمساكين الحرم. قالوا: قياساً على الهدي بجامع النفع المتعدي للمساكين، فالإطعام نفعه متعدي للمساكين فأشبه الهدي.
    وقال الجمهور خلافاً للحنابلة: بل الإطعام حيث شاء؛ لأنه قد ورد على هيئة الإطلاق، وما ورد على هيئة الإطلاق فإنه يفعل حيث شاء المكلف، قال تعالى: {أو كفارة طعام مساكين} ولم يقيد ذلك بأن يكون لمساكين الحرم.
    ويمكن أن يجاب عن قياس الحنابلة بثبوت الفارق، وهو ما في الهدي من نحره وذبحه الذي هو من إظهار شعائر الله فكان ذلك مختصاً في الحرم، ولما كان كذلك كان لمساكينه، ففرق بين الإطعام وبين الذبح، فإن الشارع متشوف إلى فعله في الحرم وحينئذٍ فيكون لمساكينه.
    ولا شك أن الأولى والأحوط أن يصرف الطعام إلى مساكين الحرم.
    قال: (وفدية الأذى واللبس ودم الإحصار حيث وجد سببه)
    رجل وهو في طريقه إلى مكة فعل محظوراً من محظورات الإحرام، فإنه يفعله حيث وجد سببه، فإذا أراد أن يذبح شاة أو يطعم فإنه يتصدق به على المساكين الذين في ذلك الموضع، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعب بن عجرة أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين وكان ذلك في الحديبية لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن يكون في مساكين الحرم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
    (11/119)
    ________________________________________
    وكذلك إطلاق الآية في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فالآية أطلقت وظاهر ذلك أنه يفعل حيث وجد سببه لتشوف الشارع إلى المسارعة في فعل الكفارات والفِدى وغيرها.
    ودم الإحصار كذلك، فإذا أحصر الرجل في موضع وهو ليس في الحرم ومنع من إتمام نسكه قبل أن يدخل الحرم فإنه يذبح الهدي حيث أحصر.
    ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما أحصروا نحروا في الحديبية.
    ولإطلاق الآية القرآنية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يقيد ذلك سبحانه بأن يكون في مكة.
    وحينئذٍ فالقاعدة أن يقال: الفِدى والهدي الذي له سبب، يفعل حيث وجد سببه، فما كان سببه الإحصار يفعل حيث وجد سببه، والفِدى بأن يفعل حيث وجد سببه.
    والإطعام في مكة وفي غيرها حيث وجد سببه إلا أن يقيَّد الله عز وجل في كتابه أو يقيد رسوله صلى الله عليه وسلم قيداً يدل على فرضيته في موضع ما كهدي المتمتع والقارن فإن الله أوجبه في الحرم، ومثل ذلك جزاء الصيد فإن الله قيَّده بقوله: {هدياً بالغ الكعبة}
    قال: (ويجزئ الصوم بكل مكان)
    الصوم يجزئ في كل مكان، سواء كان صوم جزاء الصيد: {أو عدل ذلك صياماً} أو صوم فدية الأذى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}
    وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم قالوا: لأنه لا معنى لتخصيص الصوم في مكان معين، وذلك لأن نفعه غير متعدٍ، فلا يتعدى إلى المساكين أو غيرهم، إنما هو خاص بفاعله فلا معنى أن يقيد بمكان ما.
    والآيات القرآنية الواردة في هذا الباب: قد وردت مطلقة قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فأطلق وقال سبحانه: {أو عدل ذلك صياماً} فأطلق أيضاً، وظاهر ذلك أنه يفعله حيث شاء.
    قال: (والدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عنها بقرة)
    (11/120)
    ________________________________________
    حيث وجب الدم سواء كان ذلك على التخيير كما يكون في فدية الأذى – فإن الواجب دم أو صيام أو إطعام – أو كان ذلك في ترك واجب من واجبات الحج فإنه يجب عليه دم – كما سيأتي ذكره إن شاء الله – فالدم شاة.
    قال تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم النسك بقوله في حديث كعب بن عجرة المتفق عليه بقوله: (أو ذبح شاة) وقال تعالى: {فما استيسر من الهدي} فيصدق ذلك على الشاة فالدم شاة أو سبع بدنة ويجزئ عن البدنة بقرة.
    فالدم شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة.
    أما الشاة فقد تقدم الاستدلال عليها.
    وأما البقر والإبل فقد ثبت في مسلم عن جابر قال: (اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة فقيل له: أيشترك في البقرة؟ فقال: ما هي إلا من البدن) (1)
    وثبت في مسلم عن جابر قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة) (2)
    وليس كل بقرة أو بعير أو شاة تجزئ، وسيأتي شروط ما يهدى ويضحى ونحوه.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: جزاء الصيد
    تقدم في درس سابق ذكر بعض مسائل الصيد، وما فيه من الجزاء.
    وهنا مسألة: - تقدم ذكرها – إذا أشار المحرم أو دل على صيد فهل عليه الجزاء مع ثبوت الإثم أم لا يثبت إلا الإثم؟
    في هذه المسألة صورتان:
    الصورة الأولى: أن يدل المحرم حلالاً.
    الصورة الثانية: أن يدل المحرم أو يشير إلى محرم مثله.
    * أما الصورة الأولى: وهي ما إذا دل المحرم حلالاً على صيد فصاده المحل:
    1- قال الحنابلة: عليه مع الإثم الجزاء فيجب عليه الجزاء – أي على الدال المحرم -.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67] .
    (2) أخرجه مسلم باب الاشتراك في الهدي وإجزاء البدنة والبقرة عن سبعة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 67]
    (11/121)
    ________________________________________
    قالوا: لأنه قد حرم عليه أن يأكل منه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ فقالوا: لا قال: فكلوا مما بقي من لحمه) (1)
    قالوا: فيترتب على تحريم الأكل وجوب الجزاء.
    وهذا ليس بظاهر، فإنه لا يظهر بترتب الجزاء على تحريم الأكل، فإنه من صيد لأجله يحرم عليه الأكل ولا يترتب على ذلك جزاء اتفاقاً ما لم يكن منه دلالة أو إشارة.
    قالوا: ولنا دليل آخر، وهو أن الضمان لا يجب على المُحِل وهو المباشر للصيد، فلا يجب عليه الضمان لأنه محل، والضمان إنما يجب على المحرم، ومن باشر الصيد محل فينتقل الضمان إلى المتسبب وهو هذا المحرم الذي دل أو أشار.
    وهذه قاعدة سيأتي ذكرها في الكلام على الحدود، وهي: أن الضمان يجب على المتسبب إن لم يمكن أن يكون على المباشر.
    كأن يرمي رجل رجلاً عند أسد فيأكله، فإن الضمان لا يمكن أن يكون على المباشر فحينئذٍ يلزم المتسبب، وهذه قاعدة.
    قالوا: فهنا كذلك.
    هذا هو مذهب الحنابلة، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
    2- وقال الشافعية: لا يجب عليه الجزاء بل عليه الإثم فحسب.
    قالوا: لأن الله عز وجل إنما رتب الجزاء على قتل الصيد والصيد لم يقتل، لأن فِعل المحل للصيد ليس بقتل للصيد، فقد صاده من غير أن يكون ذلك قتلاً، فهو صيد صحيح، ولذا يجوز للمحل أن يأكله فهو ليس بمقتول، فهو صيد حينئذٍ.
    وهذا القول أظهر، لأن القاعدة المتقدم ذكرها وإن كانت صحيحة وهي وجوب الضمان على المتسبب إن لم يمكن وجوبه على المباشر فهنا نقول: أصل الضمان لا يترتب، لأن الضمان إنما يترتب على قتل الصيد والصيد لم يقتل وإنما ذبح ذبحاً صحيحاً شرعياً.
    والقتل إنما هو حيث كان على هيئة غير شرعية، والمحل إذا دله المحرم على صيد فصاده فهو حلال للمحل حرام على المحرم فدل على أنه غير مقتول، وهذا القول هو الأرجح.
    __________
    (1) سبق برقم 111.
    (11/122)
    ________________________________________
    * أما الصورة الثانية: وهي فيما إذا دل المحرم محرماً مثله على صيد فقتله:
    1- قال الحنابلة: يشتركان في الجزاء أي المتسبب والمباشر.
    قالوا: لأن كليهما قد فعل المحظور، فهذا قد فعل المحظور بالقتل وهذا قد فعل المحظور بالإشارة والدلالة.
    2- وقال المالكية والشافعية: يجب الجزاء على المحرم الذي قتله مباشرة وأما المتسبب فعليه الإثم فحسب.
    وهذا هو الراجح، لأن الضمان يجب على المباشر ولا يجب على المتسبب إلا إذا لم تمكن إضافته إلى المباشر فإنه حينئذٍ يضاف إلى المتسبب وهنا يمكننا أن نضيفه إلى المباشر فيغلب جانب المباشر على المتسبب.
    قال تعالى في كتابه الكريم: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم}
    * جمهور أهل العلم على أن المثلية في الصورة والخلقة، فمن صاد صيداً فعليه مثله صورة وخلقة من النعم وهي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وهذا تقريب لا تحقيق، فهو تقريب؛ لأن التحقيق متعذر، فالمسألة مسألة تقريبية.
    وفي قوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} هل يشترط في الهدي الذي هو من جزاء الصيد، هل يشترط فيه ما يشترط في الهدي الذي هو واجب على المتمتع من السن ونحو ذلك من الشروط؟
    آثار الصحابة تدل على خلاف هذا، فقد فرضوا العناق والجفرة ونحوها وهي لا تجزئ في الهدي ولا في الأضحية، هذا الذي يدل عليه إجماع الصحابة.
    فهو في حكم الهدي في كونه يكون لمساكين الحرم، ولا يشترط ما يشترط في الهدي من السن ونحوها.
    وقد قال تعالى قبل ذلك: {يحكم به ذوا عدل منكم}
    لا خلاف بين أهل العلم أن ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فإنه يجب العمل به.
    كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن في الضبع كبشاً) (1) كما ثبت هذا في أبي داود وغيره والحديث صحيح.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع، رقم 3801. الإرواء 1050، 1051.
    (11/123)
    ________________________________________
    وجمهور أهل العلم على أن ما حكم به الصحابة كذلك، وهذا راجع إلى الاحتجاج بآثارهم هذا ما لم يعلم لهم مخالف.
    أما إذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه جزاء في ذلك فإنه يحكم به ذوا عدل من أهل المعرفة والخبرة، فيحكم من أهل العدالة اثنان لهم معرفة وخبرة وفطنة في باب التماثل بين الصيد وبين جزائه من النعم.
    ولا يشترط أن يكونا علماء بل يكفي كونهم عدولاً ثقات لهم خبرة وعلم بذلك، هكذا طريقة الحكم.
    وإن لم يكن للصيد ما يماثله كبعض الطير والجراد فإنه يقوَّم ويشترى بقيمته طعاماً ويهدى إلى مساكين الحرم – كما هو مذهب الحنابلة،ومذهب الجمهور أن الإطعام لأهل الحرم وغيرهم، وقد تقدم البحث في ذلك – أو يصوم عدل ذلك.
    قال: باب جزاء الصيد
    قال (في النعامة بدنة)
    النعامة: طير معروف وهي تشبه البعير إلى حد كبير في هيئته وحجمه ففيها بدنة وهي البعير.
    قضى بذلك عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية كما في سنن البيهقي. والمراد بالبدنة هنا: الإبل.
    قال: (وحمار الوحش وبقرته والأيَّل والتيتل والوعل بقرة)
    هذه كلها من الأوعال وهي ما يسمى عندنا بـ تيس الجبل، أو " الْبِدَن " فهذه فيه بقرة. قضى بذلك ابن عباس كما في سنن البيهقي (1) .
    قال: (والضبع كبش)
    كما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم كما في سن أبي داود (2) .
    قال: (والغزالة عنز)
    حكم بذلك عمر كما في موطأ مالك والبيهقي بإسناد صحيح أنه قضى في الغزالة بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة. (3)
    والجفرة: ما له أربعة أشهر من أولاد المعز.
    والعناق: أكبر من ذلك يصل إلى ستة أشهر إلى دون الحول وهي أنثى المعز.
    ففي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة.
    __________
    (1) الإرواء 1049.
    (2) في كتاب الأطعمة كما سبق.
    (3) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي رقم 941، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش. وانظر الإرواء 1052، 1053، 1054.
    (11/124)
    ________________________________________
    قال: (والوبر والضب جدي)
    الضب: قضى به عمر كما في البيهقي.
    والجدي: ما له ستة أشهر من ذكر المعز.
    فالضب فيه جدي.
    قالوا: ويقاس عليه الوبر، أما الأثر فهو وارد في الضب.
    قال: (واليربوع جفرة)
    اليربوع معروف: وهو ما نبدل ياءه جيماً (الجربوع) هذا فيه جفرة وهي ما له أربعة أشهر من أولاد المعز وقد تقدم أثر عمر الدال على ذلك.
    قال: (والأرنب عناق)
    لأثر عمر المتقدم.
    قال: (والحمامة شاة)
    هذا ما قضى به ابن عباس فيما رواه البيهقي ابن عباس: (جعل في حمام الحرم على المحرم والحلال في كل حمامة شاة) (1)
    ولكن المماثلة بينهما التي ذكرها أهل العلم فيها شيء من الغرابة قالوا: الحمامة تعُبَّ الماء كما تَعَبُّه الشاة.
    فالحمامة إذا شربت الماء فإنها تضع منقارها في الماء ثم تمصه مصاً كما تفعل الشاة، بخلاف غيرها من الطيور فإنه يأخذ القطرة ثم يرفع رأسه حتى تنزل ثم يعيده مرة أخرى وهكذا.
    لكن هذه المماثلة – فيما يظهر لي – لا يترتب عليها مثل هذا الحكم وهو باب المماثلة.
    لكن يشكل علينا قضاء ابن عباس رضي الله عنه فإنه قد قضى بذلك ولا يعلم له مخالف، لكن ذهب الإمام مالك إلى تفصيل في هذه المسألة فقال: هذا خاصٌ في حمام الحرم، وأما غيره مما يصيده المحرم من الحمام في غير الحرم فإن فيه الثمن أي القيمة.
    ويعضد ذلك: ما ورد عن ابن عباس في البيهقي في بعض الروايات عنه والسند صحيح قال: (وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه إذا صاده المحرم)
    فظاهر ذلك أن كلامه المتقدم خاص بحمام الحرم، وأما غيره من الحمام فإنه لا يلحقه هذا الحكم.
    وهذا قوي لأن المماثلة بين الشاة والحمامة بعيدة جداً، لكن كونها تجب في حمام الحرم قويٌ لعظم الخطأ فتعظم العقوبة فلعل ذلك من ابن عباس من هذا الباب.
    __________
    (1) الإرواء 1056.
    (11/125)
    ________________________________________
    فالذي يظهر لي ما ذهب إليه المالكية من التفصيل: أما حمام الحرم فيجب فيه شاة كما قضى بذلك ابن عباس تغليظاً لهذا الفعل، وأما غيره من الحمام فإن صاده المحرم فلا يجب فيه إلا القيمة فيشترى بقيمته طعام ويهدى إلى مساكين الحرم، وتقدم.
    مسألة:
    رجل وجبت عليه شاة فأهدى بدنة، فإن ذلك يجزئه لأنه فعل ما يجب وزيادة، فمن تطوع خيراً فهو خير له.
    مسألة:
    الظاهر أنه يجوز نقل الهدي ونحوه عن مساكين الحرم إذا كانوا مكتفين.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: صيد الحرم
    أي الحرم المكي: ويتبعه المؤلف أيضاً بذكر حكم صيد الحرم المدني.
    قال: (يحرم صيده على المحرم والحلال)
    يحرم صيد الحرم وهذا بالإجماع، فلا يجوز للمسلم - أن يصيد بالإجماع - أن يصيد صيد الحرم محلاً كان أو محرماً.
    وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تُلتقط لقطته إلا لمن عرَّفها ولا يختلى خلاها " وهو العشب الأخضر الرطب " فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم " لقينهم " أي لصانعهم، يوقد به النار لصنعته " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا الإذخر) (1) وهو عشب معروف هناك.
    فهذا الحديث وغيره يدل على تحريم مكة – وهذا بإجماع العلماء وأن صيدها حرام على المحل والمحرم.
    قال: (وحكم صيده كصيد المحرم)
    فحكم صيد الحرم كحكم صيد المحرم، وقد تقدم البحث في مسألة صيد المحرم في تحريم ذلك وأنه يثبت فيه الجزاء قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ... } فعلى ذلك كل ما يثبت من الجزاء فيما تقدم البحث فيه من وجوب المثلية أو القيمة أو الإطعام والصيام كل ذلك ثابت في صيد الحرم للمحرم والمحل، وهذا باتفاق العلماء.
    ويدل على ذلك الأثر والقياس:
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 401،..] ومسلم [4 / 109] . الإرواء رقم 1057.
    (11/126)
    ________________________________________
    أما الأثر: فهو ما تقدم عن ابن عباس من إيجابه في حمام الحرم شاة على المحرم والمحل، وهو في البيهقي بإسناد صحيح.
    وأما النظر: فهو قياس صيد الحرم على صيد المحرم بجامع أن الصيد ممنوع لحق الله فيهما. فالصيد ممنوع لحق الله تعالى على المحرم، وممنوع لحق الله أيضاً عليه وعلى المحل في صيد الحرم.
    فقد اتفق أهل العلم على ثبوت الجزاء في صيد الحرم على التفصيل المتقدم في النعامة بدنة وفي الضبع كبش ... وهكذا.
    وفي قوله: (وحكم صيده كصيد المحرم)
    ظاهره أن الصيد المائي في الحرم جائز، كأن يكون في العيون أو المياه التي في الحرم – أن يكون فيها- شيء من صيد الحرم، فظاهر كلام المؤلف جواز اصطياده وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا من باب القياس فكما أن المحرم لا يحرم عليه صيد البحر فكذلك هو والمحل في الحرم.
    والرواية الثانية عن الإمام أحمد: وهي أصح: أن صيد البحر محرَّم في الحرم أي الصيد المائي في العيون ونحوها.
    وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) و" صيد " جمع مضاف فيفيد العموم أي كل صيدها، فيدخل في ذلك الصيد المائي.
    وقياسهم قياس مع الفارق: فإن المحل يجوز له أن يقطع الشجر ويحش الحشيش وأما في الحرم فلا يجوز له ذلك فثبت بينهما الفارق.
    والقياس مع الفارق غير صحيح.
    إذاً: أصح قولي العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الصيد المائي لا يجوز صيده في الحرم المكي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفر صيدها) .
    قال: (ويحرم قطع شجره وحشيشه الأخضرين إلا الإذخر)
    يحرم قطع شجر الحرم – أي شجره النابت فيه بغير فعل من الآدميين كالشجر البري، فما ينبت فيه من الشجر البري وليس من صنع الآدميين لا يجوز بالإجماع أن يعضد ولا أن يحش الحشيش الأخضر وذلك للحديث المتقدم في قوله: (ولا يعضد شوكها) .
    فالشوك مع ما فيه من الأذى لا يجوز أن يعضد فالشجر أولى من ذلك وهذا باتفاق العلماء.
    (11/127)
    ________________________________________
    وكذلك الحشيش وهو العشب الأخضر النابت في الحرم مما هو ليس من صنع الآدميين لا يجوز للمحرم أو المحل أن يحتسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يختلى خلاها) والخلا هو العشب.
    وهنا قال: (الأخضرين) فيخرج من ذلك اليابسان فيجوز أن تقطع الشجرة اليابسة التي لا حياة فيها، وأن يحتش الحشيش اليابس الذي لا حياة فيه لأنه ميت فلا قيمة له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يختلى خلاها) والخلا إنما هو الرطب لا اليابس فلا بأس بقطعه ما كان يابساً.
    ويجوز بلا خلاف بين العلماء أن ينتفع بما يكون من الأغصان الساقطة أو الحشيش المقطوع في الأرض وإن كان رطباً ما دام مقطوعاً لأنه انتفاع بلا قطع، والنهي إنما هو عن قطعه.
    ولا بأس أيضاً أن يؤخذ ما يكون من احتياجات الناس من النباتات الطبيعية كالسنا أو المساويك أو غير ذلك لا حرج في ذلك لأن الحاجة ثابتة إليه فلا حرج فيه كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر فقد استثناه النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس إليه ويقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النباتات الطبيعية وما يحتاج إليه الناس من النبات أو الشجر الذي يقوم به حاجاتهم. والظاهر أن مرادهم بالحاجة ما يلحق الحرج بتركه، فهذا ضابط الحاجة.
    قال: " إلا الإذخر ": وقد تقدم دليل ذلك في المتفق عليه من قول العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال: " إلا الإذخر " وتقدم أنه يقاس عليه ما يحتاج إليه الناس من النبات الطبي كالسنا وما يحتاج إليه الناس من السواك ونحوه.
    واعلم أن الكمْأة: تستثنى من ذلك لأنها ثمرة، ولأنه لا أصل لها في الأرض كالنبات من عشب أو شجر، فعلى ذلك يجوز أخذ الكمأ.
    واختلف أهل العلم في رعيه، فهل يجوز له أن يطلق غنمه أو إبله ترعى في الحرم أم لا؟
    قولان لأهل العلم:
    (11/128)
    ________________________________________
    أصحهما جوازه: وذلك لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأرسلت الأتان ترتع) (1) وكان ذلك في منى، ومنى من الحرم؛ ولأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأتون بالهدايا من إبل وبقر وغنم فلم يكونوا يربطون أفواهها أن تأكل من حرم الله عز وجل، ولو كان هذا ثابتاً لنقل إلينا.
    ولأن الحاجة إليه – أي للرعي – شبيهة بالحاجة إلى الإذخر بل أعظم فعلى ذلك الرعي جائز، لكن لا يجوز له أن يحتش لها بل يطلقها ترعى في الحرم.
    هل في قطع شجر الحرم واحتشاش حشيشته هل فيه الجزاء؟
    قال جمهور الفقهاء: فيه الجزاء.
    ا) قال الحنابلة والشافعية: الدوحة " وهي الشجرة الكبيرة " فيها بقرة، والشجرة الصغيرة فيه شاة، وما دون ذلك فإنه يقوّم، كالحشيش فإنه بقيمته.
    واستدلوا: بأثر ابن عباس أنه قال: (في الدوحة بقرة، وفي الجزْلة " وهي الشجرة الصغيرة " شاة)
    وهذا الأثر قال الألباني في إرواء الغليل (2) : " لم أقف عليه " وهو كما قال، وقد نظرت باحثاً عن هذا الأثر فلم أجده وإلا لو صح لقلنا به فإنه أثر صحابي لا يعلم له مخالف.
    فعلى ذلك العمل به متوقف على تصحيحه، وتصحيحه متوقف على النظر في سنده، ولم يعزه الحنابلة إلى كتاب من الكتب المشهورة فينظر فيه كما تقدم.
    ب) وقال الأحناف: جزاؤه قيمته، فيقوم ثم يتصدق بقيمته.
    ودليل الجمهور على ثبوت الجزاء فيه: القياس على الصيد.
    قالوا: كما أن الصيد يجب فيه الجزاء فكذلك قطع الشجر واحتشاش الحشيش يجب فيه الجزاء؛ بجامع أن كليهما مما يمنع في الحرم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب سترة الإمام سترة لمن خلفه،من كتاب الصلاة، رقم 493، ومسلم باب سترة المصلي من كتاب الصلاة، صحيح مسلم بشرح النووي [4 / 221] .
    (2) الإرواء رقم 1060.
    (11/129)
    ________________________________________
    2- وذهب المالكية واختار ذلك ابن المنذر إلى أنه لا جزاء فيه وذلك لأن الضمان يحتاج إلى دليل ولا دليل يدل عليه، والأصل براءة ذمة المكلف من أن يلحق به غرامة مالية.
    والأظهر ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الضمان قياساً على الصيد بجامع أن كليهما ممنوع في الحرم، ولما سيأتي في الكلام على شجر الحرم المدني من ثبوت السلب فيه، فأولى من ذلك أن يثبت في حرم مكة الجزاء.
    والأصح من قولي الجمهور: ما ذهب إليه الأحناف من وجوب القيمة فيقوم ما قطع أو احتش.
    * واعلم أن القطع الذي يترتب عليه الجزاء إنما هو القطع المتلف، وأما إن قطعه ثم نقله إلى موضع آخر فلم يتلف الشجر فإنه لا يترتب عليه الجزاء حينئذٍ.
    ولا يجوز له أن ينقله إلى خارج الحرم لأن ذلك مظنة لإتلافه.
    واعلم أن الأغصان تلحق الأصل فلو أن شجرة في طرق الحرم جذرها، وأغصانها تخرج إلى الحل فإنه لا يجوز أن يقطع شيء من أغصانها لأنها تبع لأصلها وأصلها في الحرم (1) .
    قال: (ويحرم صيد المدينة)
    صيد المدينة يحرم لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور) (2)
    وفي مسلم: (لا يقطع عِضاها " وهو الشجر ذو الشوك " ولا يصاد صيدها) (3)
    وفي مسند أحمد وأبي داود وتمامه لأحمد: والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا يقطع فيها شجرة إلا أن يَعْلِف رجل بعيره) (4)
    __________
    (1) قال في المغني [5 / 189] : " وإن كانت في الحل وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان.. ".
    (2) أخرجه البخاري ومسلم، الإرواء 1058.
    (3) مسلم وأبو نعيم وأحمد، الإرواء 1058 [4 / 251] .
    (4) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي كما في الإرواء [4 / 251] .
    (11/130)
    ________________________________________
    فالمدينة يحرم صيدها فلا ينفر فضلاً عن أن يقتل، وكذلك حشيشه كل ذلك محرم على التفصيل المتقدم في الكلام على حرم مكة من أن ذلك إنما هو في الأخضر الرطب لا في اليابس الميت، وأن ذلك فيما لم يكن للآدمي فيه فعل بخلاف ما يكون للآدمي فيه فعل فإنه جائز.
    قال: (ولا جزاء)
    فمن فعل بأن صاد صيداً أو احتش حشيشاً أو قطع شجرة في حرم المدينة فإنه لا جزاء عليه.
    قالوا: لأن ثبوت التحريم لا يستلزم ثبوت الجزاء فالأصل براءة الذمة من أن يلحقها شيء من الغرامة المالية، فهو محرم ولا يجب عليه الجزاء.
    والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولما ذكر حرمها قال: (فمن آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولم يذكر جزاءً وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، هذا هو المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أهل العلم.
    وعن الإمام أحمد: أن من وجد فاعلاً لذلك فله سلبه، أي فله أن يأخذ ثيابه وما معه من متاع وما معه من آلة صيد وما على يديه من خاتم وساعة ونحو ذلك ولا يبقي عليه إلا ما يستر به عورته وهذا هو الثابت في السنة الصحيحة.
    (11/131)
    ________________________________________
    فقد ثبت في مسلم أن سعد بن أبي وقاص: (ذهب إلى البقيع فرأى غلاماً يقطع من شجر الحرم فأخذ سلبه، فأتى أهل الغلام يسألونه سلب غلامهم فقال: والله لا أعطيكم شيئاً نفلنيه النبي صلى الله عليه وسلم) (1) وهو أيضاً في أبي داود بلفظ: (إن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن شجر المدينة وقال: من قطع منه شيئاً فلمن وجده سلبه) (2)
    إذاً: لا جزاء عليه لكن لمن وجده حاكماً أو محكوماً له سلبه وإنما المحكوم حيث لم يترتب على ذلك مفسدة أما إذا ترتب مفسدة فلا. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الراجح من أقوال العلماء.
    لكن إن لم يؤخذ منه سلبٌ فلا جزاء عليه وعليه الاستغفار والتوبة.
    قال: (ويباح الحشيش للعلف وآلة الحرث ونحوه)
    فيباح الحشيش للعلف بأن يحتشه ليعلف دوابه.
    إذن: يفارق حرم مكة بجواز احتشاش العلف للبهائم.
    ودليل ذلك: ما تقدم في مسند أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يقطع من شجره إلا أن يعلف رجل بعيره) (3)
    قال: " وآلة الحرث ونحوه " فيجوز أن يقطع من الشجر ما يستخرج منه الخشب لآلة الحرث التي يحرث بها وهي تحتاج إلى أخشاب كالرحل وغيره.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة.. من كتاب الحج، ولفظه: " أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً أو يَخْبِطُه، فسلبه، فلما رجع سعدٌ جاءه أهل العبد،فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم،فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبى أن يرد عليهم " صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 138] .
    (2) أخرجه أبو داود باب في تحريم المدينة من كتاب الحج رقم 2038 باللفظ المذكور وهو (من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه) ، ورقم 2037 بلفظ (من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه) .
    (3) سبق قريباً.
    (11/132)
    ________________________________________
    واستدلوا: بما ذكره صاحب المغني وغيره أن الإمام أحمد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما حرَّم المدينة قالوا: يا رسول الله: إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وليس لنا أرضاً سواها فرخص لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القائمتان) وهي مقدمة الرحل ومؤخرته، أي ما يوضع على الناقة مما يتكئ عليه في مؤخرته، وما يستمسك به في مقدمته، (والوسادة والعارضة والمَسَدَّ) (1) والوسادة والمسد خشب يوضع في البكرة التي يستسقى بها الماء " والعارضة: خشب يوضع سقفاً للمحمل " وما سوى ذلك فلا يعضد ولا يؤخذ منه حطباً.
    والحديث ذكره صاحب المغني – كما تقدم – ناسباً إياه إلى الإمام أحمد ولم أجده في المسند، وهكذا قال المعلق على كتاب المغني أنه لم يجده في المسند والاحتجاج به متوقف على النظر إلى إسناده ولعله في شيء من كتب الإمام أحمد سوى المسند.
    لكن حاجة الناس من أهل المدينة ثابتة لذلك، فإن حاجتهم إلى ذلك أعظم من حاجة أهل مكة لاحتياجهم إلى الحرم بخلاف أهل مكة فإن الأمر يتسع لهم أعظم من أهل المدينة فيما سوى الحرم. ولأن حرم المدينة مخفف عن حرم مكة كما تقدم من أنه لا جزاء في صيد صيده ولا في احتشاش حشيشه ولا قطع شجره إلا ما ورد من السلب وهو ليس من باب الجزاء على الإطلاق، وإنما قد يقع له، فإن لم يقع فلا جزاء، فلا شك أن حرم المدينة أخف من حرم مكة.
    فعلى ذلك: إن احتاجوا إلى شيء من الأخشاب أو الحشيش ونحو ذلك فذلك جائز لهم.
    قال: (وحرمها ما بين عَيْر إلى ثور)
    __________
    (1) المغني [5 / 193] .
    (11/133)
    ________________________________________
    عير: جبل في جهة الميقات، وأما ثور: فهو جبل خلف جبل أحد من جهة الشمال، فهذا " أي ثور " من جهة الشمال، وعير من جهة الجنوب وبينهما نحو أربعة فراسخ وهي تساوي اثنا عشر ميلاً أي نحو عشرين كيلو متراً أو نحو ذلك. هذا من جهة الشمال والجنوب. وأما من جهة الشرق والغرب: فالحرتان، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم من حديث أنس: (إني أحرم ما بين لابتيها) (1) واللابتان هما الحرتان.
    فما بين الحرتين من جهة الشرق والغرب، وما بين جبل عير وثور من جهة الشمال والجنوب هذا هو حرم المدينة.
    فعليه حرم المدينة بريدٌ في بريد أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ أي اثنا عشر ميلاً في اثني عشر ميلاً.
    وأما حرم مكة فهو ظاهر فالأميال موضحة له ومبينة.
    مسألة:
    هل يجوز أخذ سلب الجاهل؟
    الجاهل إن صاد الصيد وهو محرم في الحرم فإنه لا جزاء عليه لجهله لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً …ليذوق وبال أمره} فدل على أنه عالم بالحكم فأولى من ذلك هنا، فلا يجوز سلبه.
    مسألة:
    حديث: (يا أبا عمير ما فعل النغير) (2)
    هذا دليل يعارض الحديث المتقدم فإن ظاهره جواز الصيد في الحرم؟
    الجواب عن هذا: أن يقال: يحتمل أن يكون هذا قبل الحكم، فعندنا أحاديث ظاهرة ومحكمة في تحريم صيده فلا نتركها لمثل هذا المحتمل، ويحتمل أن يكون ممسكاً خارج الحرم ومحبوساً في الحرم، وهو جائز عند الحنابلة أن يمسك الصيد في الحل ثم يحبس في الحرم فهو جائز وقد تكون حاجة الناس إلى ذلك، فيجوز ذلك لأنه ليس مصيداً في الحرم.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب فضل المدينة … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 140] .
    (2) أخرجه البخاري باب الانبساط إلى الناس.. وباب الكنية للصبي.. من كتاب الأدب، ومسلم باب استحباب تحنيك المولود من كتاب الآداب، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، المغني [5 / 194] .
    (11/134)
    ________________________________________
    وجعل الحنابلة هذا فارقاً بين صيد الحرم المدني وصيد الحرم المكي، وأن صيد الحرم المكي يجب أن يترك وإن صيد في الحل، فمن دخل الحرم ومعه صيد فيجب أن يفلته.
    والظاهر أن هذه المسألة كتلك؛ لأنه لا فارق بين المسألتين لأن النهي إنما هو عن صيد الحرم نفسه وهذا ليس صيد الحرم وثبوت الإمساك فيه ليس بصيد ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
    فعلى ذلك هذه القصة دليل على ما ذهب إليه الحنابلة من أن إمساكه في الحرم وقد صيد في الحل هذا جائز فيه.
    ويحتمل ما تقدم وأنه قبل التحريم فإن هذا الطفل قد صيد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر هذا أنس بن مالك.
    مسألة:
    ثبت لنا أن المحرم لابد وأن يتوفر فيه الشروط حتى يثبت عليه الجزاء.
    لكن هل هذا في صيد الحرم؟
    قال فقهاء الحنابلة: إذا صيد في الحرم فإنه يثبت الضمان مطلقاً وإن كان صائده كافراً أو صغيراً غير مكلف أو غير عاقل؛ والنظر يقتضي ذلك، لأن التحريم ليس بالنظر إلى المكلف وإنما بالنظر إلى حرمة المصيد وحفظه.
    فليس هذا بالنظر إلى المكلف كما يكون ذلك في تحريم الصيد على المحرم، فإن الصيد حلال ما دام خارج الحرم لكن حرم على المكلف الذي قد أحرم.أما هذا فهو صيد محرم لمعنى في المكان فهو قد ارتبط بمعنى في المكان خارج عن المكلف فعلى ذلك يجب الضمان مطلقاً وإن كان من صاده صغيراً أو غير مكلف.
    وقد ذكر الموفق هذه المسألة ولم يذكر خلافاً بين أهل العلم فيها.
    مسألة:
    رجل أراد أن يستظل تحت شجرة لها أغصان فاحتاج إلى أن يقطع من أغصانها – وكان ذلك في الحرم – فما الحكم؟
    فيه تفصيل: إن كان يلحقه الحرج بترك الاستظلال في هذا المكان فنعم. وإن لم يكن يلحقه حرج فلا.
    مسألة:
    الثمار في الحرم يجوز قطعها لأن هذا لا يؤثر في أصلها كما تقدم في المساويك ونحوها.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: دخول مكة
    (11/135)
    ________________________________________
    هذا الفصل في سياق ما يستحب للمحرم من السنن عند دخول مكة في صفة طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة وحلق رأسه أو تقصيره، فقال المؤلف هنا.
    : (يسن من أعلاها)
    أي يسن لداخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يدخل من أعلاها وهو الحجون وهو كداء، فيستحب أن يدخل منه سواء كان في طريقه أو لم يكن في طريقه فيسن له أن يعدل إليه.
    ويستحب له أن يخرج من أسفلها وهو كدي وهو في سمت شعب الشاميين، ودليل هذه السنة: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها) (1)
    وفي الصحيحين عن ابن عمر: قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من كداء " وهو الحجون " ثم خرج من الثنية السفلي " (2) وهو كدي ") .
    وظاهر ذلك كما تقدم أنه يستحب له ذلك ولو كان بأعلى مكة أو أسفلها عادلاً جائراً عن طريقه فإنه مستحب له تكلف ذلك.
    وقال بعض الشافعية: بل لا يستحب ذلك. وإنما كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاتفاق.
    وهذا ضعيف، ولذا نظر فيه النووي فقال راداً على هذا القول: إن الآتي من المدينة ليس في طريقه الحجون " كداء " فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدل إلى أعلاها فليس هذا في سمت طريقه فيكون قد فعله على وجه الاتفاق، بل قد عدل عن طريقه وتكلف الدخول من أعلاها.
    ثم هذا هو الأصل فيما ينقله الصحابة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون على وجه الاستحباب لا على وجه الاتفاق.
    قال: (والمسجد من باب بني شيبة)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من أين يخرج من مكة من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية..المغني [5 / 210] .
    (2) أخرجه البخاري باب من أين يدخل مكة وباب.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب دخول مكة من الثنية.. المغني [5 / 210]
    (11/136)
    ________________________________________
    أي يسن دخول المسجد من باب بني شيبة: روى ذلك الطبراني عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل من باب بني شيبة) (1) وإسناده ضعيف لكن له شواهد يرقي به إلى درجة الحسن.
    فلذا: يستحب لمن دخل البيت أن يدخله من باب بني شيبة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فينظر فإن كان باب بني شيبة في سمت طريقه أعلى مكة فإنه يقوى أن يكون هذا قد وقع من باب الاتفاق إذ لا مزية لباب بني شيبة على غيره من الأبواب ولا يسن معنى لذلك بخلاف دخوله من أعلاها وأن يأتيها مشرفاً عليها، فإن ذلك أعظم في نفسه، بخلاف الخروج منها فيكون شبيهاً بذهاب الرجل إلى العيد يأتي من طريق ويرجع من طريق آخر.
    قال: (فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد)
    يستحب عند فقهاء الحنابلة: إذا دخل البيت فرآه أن يرفع يديه وأن يقول ما ورد وهو قوله: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وزد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبراً) (2) روى هذا الحديث البيهقي في سننه بإسناد ضعيف معضل. فعلى ذلك: لا يستحب لعدم الدليل الصحيح فيه.
    قال الشافعي: " ليس في رفع اليدين عند رؤية البيت شيء فلا أستحبه ولا أكرهه) قال البيهقي: (ولعله لم يعتمد عليه لانقطاعه) فعلى ذلك لا يقال بالاستحباب لضعف الحديث.
    لكن صح عن عمر بن الخطاب كما في البيهقي بإسناد جيد: أنه كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام) (3) .
    ومعلوم أنه يستحب له ما يستحب للمساجد من تقديم الرجل اليمنى وذكر ما ورد عند الدخول والخروج منه، لأنه مسجد فاستحب له بل هو أولى من غيره باستحباب ذلك.
    قال: (ثم يطوف مضطبعاً)
    __________
    (1) السنن الكبرى للبيهقي [5 / 72] ، المغني [5 / 211] .
    (2) ترتيب مسند الشافعي [1 / 339] ، المغني [5 / 212] .
    (3) ترتيب مسند الشافعي [1 / 338] ، المغني [5 / 121] .
    (11/137)
    ________________________________________
    صفة الاضطباع: أن يضع وسط رداءه تحت عاتقه الأيمن ويرد طرفيه على عاتقه الأيسر – فحينئذٍ -: ينكشف عاتقه الأيمن، هذا مستحب في طواف القادم وطواف المعتمر.
    ودليله: ما ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح عن يعلى بن أمية قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت مضطبعاً ببرد أخضر) (1) وفيه أنه لا حرج في لبس غير الأبيض في الإحرام وإن كان المستحب هو الأبيض.
    وهو مستحب في الطواف خاصة فلا يشرع في بقية المناسك كالسعي بين الصفا والمروة وغيره لأن هذه الصفة صفة غير معتادة، فوردت في الطواف للقادم والمعتمر وقياس غيره عليه لا يصح؛ لأن هذه الصفة غير معتادة ولم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها في طوافه بين الصفا والمروة لذا لما سُئل الإمام أحمد عن ذلك قال: (ما سمعنا) أي ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك في سعيه بين الصفا والمروة، والأصل في العبادات التوقف.
    فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً أعاد إحرامه إلى هيئته الطبيعية، وثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمر أنه قال: (فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله " أي ثبت " الإسلام ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (2)
    __________
    (1) أخرجه أبو داود في باب الاضطباع في الطواف، وابن ماجه باب الاضطباع، والترمذي باب ما جاء في استلام الحجر. المغني [5 / 216] .
    (2) باب في الرمل من كتاب المناسك. المغني [5 / 217] .
    (11/138)
    ________________________________________
    ففي هذا الأثر: أن مشروعيته – أي الاضطباع – كانت لإظهار قوة المسلمين أمام الكفار وكان ذلك في عمرة القضية في السنة الثامنة للهجرة، وسميت قضية لأنها كانت قضاءً لعمرة الحديبية التي أحصر عنها النبي صلى الله عليه وسلم " فكان الكفار يقولون: يأتيكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب " وكانت يثرب معروفة بالحمى فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهر للكفار جلد المسلمين وقوتهم فأمرهم بالرمل في الأشواط الثلاثة وبالكشف عن المناكب في الطواف كله، فإن في ذلك كله إظهاراً للجلد.
    ومع ذلك قال عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك: لأنه لا مانع أن يستحب الشيء لمصلحة ثم يبقى استحبابه بعد ذلك فإن فيه تذكيراً لنعمة الله عز وجل بعد أن كان المسلمون ضعفاء وينظر إليهم الكفار أنهم ضعفاء فاحتاجوا إلى أن يظهروا قوتهم، وكانوا كذلك – بعد أن كانوا – على ضعف، فيتذكر المسلم كذلك ما كان عليه المسلمون من الضعف السابق لقوتهم.
    قال: (يبتدئ المعتمر بالطواف للعمرة والقارن والمفرد للقدوم)
    هذا هو السنة والمستحب للقادم مكة حاجاً أو معتمراً أن يكون أول شروعه بالاشتغال بالطواف فلا يسبق ذلك اشتغال بشيء من العبادات من قراءة قرآن أو ذكر أو تحية مسجد أو نحو ذلك بل يستحب له أن يتعجل بطوافه بالبيت.
    فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (1)
    فالمستحب للمعتمرين أن يشرعوا بطواف عمرتهم ومثل ذلك المتمتع الذي أول نسكه العمرة يشرع بطواف عمرته، والقارن والمفرد طوافهم حينئذٍ طواف القدوم فيطوفون بالبيت طواف القدوم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً فكان طوافه طواف القدوم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري، ومسلم باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 220] .
    (11/139)
    ________________________________________
    قال: (فيحاذي الحجر الأسود بكله)
    يقف محاذياً للحجر الأسود بكل بدنه وذلك ليستوعب البدن البيت كله – أي حتى يكون البدن قد طاف على البيت كله -.
    وحينئذٍ إذا انتهى من الشوط الأول وشرع في الثاني يكون البدن قد طاف على البيت كله. ولا أعلم بين أهل العلم خلافاً في فرضية ذلك، وأن الطواف لا يجزئ إلا بأن يستوعب البيت كله بالطواف.
    قال: (ويستلمه)
    إذا حاذى الحجر فإنه يستلمه واستلام الحجر مسحه باليد.
    وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) (1)
    ففيه مشروعية استلام الحجر الأسود ومشروعية استلام الركن اليماني، فالحجر الأسود والركن اليماني هما الركنان اليمانيان لأنهما من جهة اليمين.
    قال: (ويقبله)
    لما ثبت في الصحيحين: أن عمر قبَّل الحجر وقال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (2)
    فإن استلمه بيده فقبلها فذلك سنة ففي صحيح مسلم: (أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم يقبلها ويقول: ما تركته مذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله) (3) والأفضل هو تقبيل الحجر لأن ذلك مباشرة للتقبيل لكن حيث كان فيه شيء من الزحام أو لتطبيق هذه السنة أحياناً فإنه يقبل يده، ولذا قال:
    (فإن شق قبَّل يده)
    أي قبل يده بعد الاستلام؛ لأنها يد استلمت فاستحب تقبيله، فانتقل ذلك إلى تقبيلها، فاستحب - لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم – أن تقبل.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الرمل في الحج والعمرة، ومسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف. المغني [5 / 226] .
    (2) متفق عليه. البخاري باب تقبيل الحجر رقم 1610. ومسلم باب استحباب تقبيل الحجر … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 16، 17]
    (3) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 15] .
    (11/140)
    ________________________________________
    قال: (فإن شق اللمس أشار إليه)
    فإن شق استلامه بيده فإنه يشير إليه، فقد ثبت في البخاري عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير فكان كلما مرَّ على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبَّر) (1)
    ولا يستحب تقبيل هذا الشيء من يد مشيرة أو عصا قد أشير به لأنه لم يمس الحجر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبله، لأنه لم يباشر اللمس وإنما أشير به فحسب.
    فإذن: إن شق فإنه يشير بيده أو بعصا ونحوه ولا يقبل ذلك لأنه لم يرد، ويكبَّر " يقول: الله أكبر ".
    ويستحب له أن يستلمه بشيء كأن يكون على بعير أو يكون هناك بعدٌ عن الحرم أو زحام ويمكنه أن يمد إليه شيء فإنه يُمس هذا العصا ونحوه الحجر ويقبله.
    فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت على بعير فكان يستلم الحجر بمِحْجن " (2) وهو العصا المعكوف.
    ونحوه في مسلم من حديث أبي الطفيل وفيه: (ويقبل المحجن) فهذه من الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من تقبيل مباشر أو استلام باليد أو استلام بعصا ونحوه وتقبيله، كل ذلك ثابت عنه عليه الصلاة والسلام.
    وثبت عن عمر: أنه كان يلتزمه ففي مسلم: (أنه – رضي الله عنه – قبَّله ثم التزمه وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كان بك حفياً " (3) أي معتنياً ")
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من أشار إلى الركن.. باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج، وفي كتاب الطلاق، كما أخرجه الترمذي وغيره، المغني [5 / 214] .
    (2) أخرجه البخاري باب استلام الركن بالمحجن رقم 1607، ومسلم باب جواز الطواف على بعير وغيره من كتاب الحج.
    (3) باب استحباب تقبيل الحجر.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 17] .
    (11/141)
    ________________________________________
    وإن سجد عليه فحسن فقد صح عن ابن عباس كما في البيهقي: (أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه) (1)
    فهاتان الصفتان ثابتتان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
    قال: (ويقول: ما ورد)
    وقد تقدم ورود التكبير في حديث ابن عباس: (أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبَّر) (2) أي يقول: " الله أكبر "
    وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبله ببدنه فالاستقبال بالبدن لا أصل له ولو كان ثابتاً لنقل، بل كان يشير إليه وهو ماشي.
    ووردت التسمية عن ابن عمر، ففي المسند بإسناد جيد: (أن ابن عمر كان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر)
    قالوا: ويستحب له أن يقول: (اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البيهقي من حديث عبد الله بن السائب والحديث إسناده ضعيف فلا يحتج به.
    فإذن: الوارد عند الإشارة أو الاستلام قول: " بسم الله والله أكبر "
    أما الركن اليماني فلا يستحب فيه إلا الاستلام، فلا يستحب فيه تقبيل اليد ولا تقبيله مباشرة ولا يستحب أن يقول: " بسم الله والله أكبر " لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه.
    ويستحب له بين الركنين أن يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (3) كما ثبت ذلك في أبي داود بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول بين الركنين:: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
    __________
    (1) البيهقي باب استلام الركن اليماني بيده من كتاب الحج.. المغني [5 / 226] . الإرواء رقم 1112.
    (2) أخرجه البخاري باب التكبير عند الركن من كتاب الحج، رقم 1613.
    (3) أخرجه أبو داود باب الدعاء في الطواف من كتاب المناسك رقم 1892.
    (11/142)
    ________________________________________
    ويشتغل في الطواف بما أحب من ذكر ودعاء وقراءة للقرآن أو صمت أو نحو ذلك، يشتغل بما أحب من التعبد لله بالعبادات القولية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نوع معين من الدعاء خاصٌ بالطواف أو بشيء من مواضعه سوى ما تقدم من قوله بين الركنين.
    قال: (ويجعل البيت عن يساره)
    وهذا بإجماع العلماء ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) (1) ولا يصح الطواف إلا به.
    قال: (ويطوف سبعاً)
    لا يجزئه خمساً ولا ستاً، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم)
    قال: (يرمل الأفقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً)
    الآفاقي: وهو غير المكي – القادم من الأماكن البعيدة – سوى أهل مكة فالآفاقي يستحب له الرمل في الطواف.
    والرمل: هو إسراع المشي مع تقارب في الخطا بلا وثب، فلا يستحب له الوثب، والوثب لا أصل له، بل الرمل مشي سريع مع تقارب في الخطا هكذا عرَّفه الموفق وابن مفلح والنووي وغيرهم من أهل العلم وهو المعروف في لغة العرب.
    والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة الأولى كلها إن كان آفاقياً، أما أهل مكة فلا يستحب لهم ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه للقادمين فلا يلحق بهم غيرهم.
    وهو مستحب في طواف العمرة وطواف القدوم فلا يستحب في طواف الإفاضة ولا في غيرها مما يطوفه الحاج، فقد ثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (لم يرمُل النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه الذي أفاض فيه) (2) أي في طواف الإفاضة.
    والرمل مستحب في الأشواط الثلاثة دون الأربعة الأخيرة، لما ثبت في مسلم عن ابن عباس قال: (رمَل النبي صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثم مشى أربعاً) (3)
    __________
    (1) سبق ص38
    (2) أخرجه أبو داود باب الإفاضة في الحج رقم 2001.
    (3) أخرجه مسلم باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 9] .
    (11/143)
    ________________________________________
    فإن قيل فما الجواب عما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة ويمشوا بين الركنين) (1)
    فالجواب عن هذا: أن يقال: هو في عمرة القضية، وأما حديث ابن عباس فهو في حجة الوداع. فحديث ابن عباس هو [آخر] الأمرين عنه صلى الله عليه وسلم.
    فإن فاته الرمل في الشوط الأول فعله في الثاني والثالث، وإن فاته في الأول والثاني فعله في الثالث، وإن فاته في الثلاثة لم يفعله في الأشواط الباقية لأنها سنة فات محلها فهي مشروعة عند ابتداء الطواف في الأشواط الثلاثة فإن فاتته فلا يشرع له أن يفعلها في الرابع والخامس.. .
    قال: (يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة)
    هذا جواب عن سؤال وهو أن يقال: هل استلام الحجر إنما يستحب في الشوط الأول أم هو مستحب في الأشواط كلها وكذا استلام الركن اليماني؟
    فأجاب بقوله: أنه يستحب في كل مرة أي في الأشواط السبعة كلها.
    ودليل ذلك: ما ثبت في النسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوافه) (2) لكن لا يستلمه عند نهاية الشوط السابع لأنه ينتهي الطواف بوصوله إلى الحجر الأسود.
    مسألة:
    في الرمل تستثنى المرأة فلا يشرع لها ذلك لما فيه من منافاة لسترها وكذلك في الإسراع في المسعى بين العلمين الأخضرين لما فيه من منافاة سترها.
    ورد في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: (إنك رجل قوي فلا تؤذِ الضعفة أشر إليه وكبر) روى في المسند ورأيت فيه شيئاً من الجهالة لكن المعاني الشرعية تدل على ذلك فإن فيه أذية للضعيف.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 13] والبخاري باب كيف كان بدء الرمل من كتاب الحج رقم 1602.
    (2) أخرجه النسائي في باب استلام الركنين في كل طواف من كتاب المناسك رقم 2947.
    (11/144)
    ________________________________________
    ولا سيما إذا كان فيه اختلاط نساء فإن الفضيلة تكون للإشارة حيث كان فيه مشقة.
    * ظاهر قول عمر: (مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم) (1)
    فظاهر ذلك أنه قد خفي عليه رمل النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف في حجة الوداع وإن كان الظاهر أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون خفي عليه فاجتهد رأيه فأصاب.
    قاعدة:
    الرمل والاضطباع خاص للآفاقيين في طواف العمرة والقدوم فقط.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ترك شيئاً من الطواف … لم يصح)
    " شيئاً " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم فإن ترك طوافاً أو بعضه.
    فإن ترك شيئاً من الطواف ولو كان يسيراً، كأن ينصرف من الطواف قبل خطوات يسيرة من وصوله إلى الحجر الأسود فإن طوافه لا يصح ولا يجزئه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد طاف بالبيت سبعاً وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} وما كان من الفعل هكذا فإنه له حكم ما بينه أي حكم المجمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) فلا يجزئه إلا أن يطوف بالبيت أسبوعاً – أي سبعاً.
    قال: (أو لم ينوه)
    طاف بلا نية فإنه لا يجزئه ذلك لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة تشترط فيها النية فكذلك الطواف – هذا مذهب الحنابلة –.
    واعلم أن الطواف الخارج عن الحج والعمرة وهو طواف التطوع يشترط فيه نية لأن هذا الطواف عبادة والعبادات شرطها النية وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) – ولا نزاع في هذا بين أهل العلم وإنما النزاع بين أهل العلم في شرطية النية لطواف الحج والعمرة سواء كان طواف إفاضة أو طواف قدوم أو طواف عمرة أو طواف وداع، هل يشترط فيه النية أم لا؟ أي هل يشترط له فيه خاصة أم يكتفي فيه بنية الحج العامة؟
    __________
    (1) سبق ص84
    (11/145)
    ________________________________________
    قال الحنابلة: أنها شرط، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) .
    وذهب الشافعية إلى أن النية ليست بشرط، لكن يشترط ألا ينوي غير نسكه. فإن نوى غير النسك لم يجزئه ذلك كأن يطوف حول البيت بقصد البحث عن أحد من الناس أو نحو ذلك فإنه هنا قد نوى البحث عن هذا الشخص بغير نية للطواف أصلاً أو نية منافية للطواف.
    واستدلوا: بأن الحج كالصلاة فكما أن الصلاة تكفي نيتها لركوعها وسجودها وقيامها وقعودها فلا يشترط أن يجدد نية لكل ركن من أركانها، فكذلك الحج يكتفي بنيته أي بنية الحج - وهو الدخول في النسك تكفي - عن الطواف والوقوف بعرفة والسعي ونحو ذلك من المناسك.
    وهذا القول هو الراجح وهو مذهب أكثر العلماء فكما أن الصلاة تكفي نيتها عن نية أفعالها التي أجزاء منها فكذلك الحج فإن نيته وهي نية الدخول في الإحرام تكفي عن أفعال الحج.
    وبدليل أن أهل العلم أجمعوا على أن الواقف بعرفة الناسي يجزئه وقوفه فكذلك هنا.
    وتفريق من فرّق بين الوقوف بعرفة وبين الطواف: بأن الوقوف بعرفة مجرد مكث وأما الطواف ففعل، فهو تفريق غير مؤثر لأن الوقوف بعرفة وإن كان مجرد مكث فهو عبادة من العبادات والعبادات لا تصح إلا بنية وإن كانت مجرد مكث.
    فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه أكثر العلماء من أن أفعال النسك. " وأفعال الحج والعمرة " ومن ذلك الطواف لكن بشرط أن [لعل الصواب: ألاّ] ينوي غير نسكه، فإن نوى غير النسك كأن يطوف باحثاً عن غريم أو شخص أو نحوه فإنه لا يجزئه ذلك. فالطواف نية الحج تكفي عنه ولا نقول: إنه لا يحتاج إلى نية أصلاً.
    قال: (أو نسكه) (1)
    __________
    (1) قال في الشرح الممتع [7 / 289] : " أو نسُكَهُ: أي أو لم ينو نسكه لم يصح … ".
    (11/146)
    ________________________________________
    ويصح أيضاً: " أو نكَّسه " فإن التنكيس في الطواف لا يصح إجماعاً بل الواجب في طوافه أن يجعل البيت عن يساره فلو جعله عن يمينه لم يصح إجماعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف جاعلاً البيت عن يساره وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    وإن لم ينو نسكه، بأن لم يبين النسك، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة وأن من أحرم إحراماً مطلقاً فإنه يجزئه ذلك لكن يجب عليه أن يعينه بعد ذلك إما حجاً وإما عمرة.
    فلو نوى رجل الدخول في النسك " أي الإحرام المطلق " ولم يعين أهو حج أم عمرة ثم طاف قبل التعيين فإنه لا يجزئه هذا الطواف لأن العمل يجب فيه التعيين وهنا لم يعين فواجب في النية تعيينها أهي للعمرة أم للحج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فهو لم ينو بعد أنسكه حج أم عمرة وحينئذ لا يجزئه ذلك لأنه لم يعين، وفرض تعيين نية العبادة، لحديث (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
    كأن يكون رجل أحرم مطلقاً نسكه فلم يعينه لأنه غير واجد المال يشتري به هدياً وهو يرجو حصوله قريباً فيحرم إحراماً مطلقاً، فإذا حصل له أهل بعمرة حتى يكون متمتعاً وإلا أفرد.
    قال: (أو طاف على الشاذروان)
    الشاذروان: وهو ما فضل من جدار الكعبة وهو ما يحيط بالبيت، فيما يرتقيه بعض الناس عند التزام جدران الكعبة – وهو لا يصل إلى المتر.
    فلو طاف مضطراً على الشاذروان فهل يجزئه ذلك أم لا؟
    1 – قال المؤلف: لا يجزئه؛ وذلك لأن الشاذروان وهو ما فضل من جدران الكعبة من البيت فهو جزء من البيت، وفرض عليه أن يطوف حول البيت كله، فإذا طاف على الشاذروان أو بعضه فإنه لا يصدق عليه أنه طاف على البيت كله فلم يجزئه ذلك.
    2-وقال شيخ الإسلام: بل يجزئه وذلك لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له فلو طاف على الشاذروان فإنه يصدق عليه أنه طاف على البيت لأن الشاذروان ليس من البيت بل هو عماد له.
    (11/147)
    ________________________________________
    وما ذكره شيخ الإسلام أظهر، وذلك: لأن الشارع استحب استلام الركنين اليمانيين؛ لأنهما أركان البيت وأطرافه ولم يستحب استلام الركنين الشاميين لأن الحجر من البيت وقد قصرت النفقة الخالصة من الإثم بقريش فلم يدخلوها في بناء الكعبة وإلا فإن حجر إسماعيل من البيت، ولذا لا يستلم الركنان الشاميان لأنهما من البيت وليست بأركان له.
    فالصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أن الشاذروان ليس من البيت بدليل استحباب استلام الركنين اليمانيين فهما أركان الحرم وأطرافه، ولو كان الشاذروان من البيت لم يكونا أطرافاً له وأركاناً بل كانا منه. ومع ذلك فإن الأحوط هو عدم فعل ذلك لقوة الخلاف في هذه المسألة.
    واعلم أن الحجر من البيت، فقد ثبت في مسلم أن عائشة: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِجْر؟ فقال: هو من البيت) (1) .
    والحِجْر: ما يكون في الجهة الشامية من البيت، وقد قصرت – كما تقدم – النفقة الخالصة من الإثم على قريش فبنوه على هذه الهيئة غير الكاملة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – كما في الصحيحين -: (لولا حدْثان قومك بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) (2) فمن طاف على الحِجْر أو فيه فلا يجزئه الطواف لأنه لم يطف بالبيت كله ولذا قال المؤلف.
    قال: (أو جدار الحجر)
    لأن جداره من البيت ولذا لم يشرع أن يستلم أركانه من جهة الحِجر ولا أن يستلم جدار الحجر لأنه من البيت وليس ركناً له.
    قال: (أو عرياناً)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم باب جدر الكعبة وبابها، من كتاب الحج، المغني [5 / 230] ، وصحيح مسلم بشرح النووي [9 / 96] .
    (2) أخرجه البخاري باب فضل مكة وبنيانها 1586، ومسلم باب نقض الكعبة 1333، 398، من كتاب الحج.
    (11/148)
    ________________________________________
    فشرط في الطواف ستر العورة قال تعالى: {يا بني آدم حذوا زينتكم عند كل مسجد (1) } وقد نزلت هذه الآية في الطواف على هيئة غير ساترة كما ثبت في مسلم عن ابن عباس أن المرأة كانت تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: ومن يعيرني ثوباً تجعله على فرجها فنزل قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ، وثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث مؤذناً يؤذن في حجة أبي بكر بالناس قبل حجة الوداع: ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) (2) فمن طاف عرياناً فإن طوافه غير صحيح لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي لفساد ذلك.
    قال: (أو نجساً) .
    هذه مسألة اختلف فيها العلماء وهي من طاف بالبيت نجساً أو محدثاً حدثاً أكبر أو أصغر فهل يصح طوافه أم لا؟
    بمعنى: هل يشترط الطهارة بقسميها: الطهارة من الأحداث والأنجاس في الطواف أم لا؟
    1- ذهب جمهور أهل العلم إلى اشتراطها من الحدث والنجس في الطواف فيشترط كونه طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر ومن النجس فلو طاف جنباً أو غير متوضئ أو عليه نجاسة لم يجزئه ذلك.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم البيت أن توضأ ثم طاف بالبيت) (3) قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم)
    واستدلوا: بما رواه النسائي والترمذي وغيرهما: عن ابن عباس مرفوعاً: (الطواف بالبيت صلاة فمن نطق فيه فلينطق بخير) (4)
    __________
    (1) سورة الأعراف 31
    (2) أخرجه البخاري 369، 1622، ومسلم [8 / 146] نووي.
    (3) أخرجه البخاري باب الطواف على وضوء رقم 1641، ومسلم. سبق ص84.
    (4) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الكلام في الطواف، والنسائي رقم 2922 عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام ". وانظر الإرواء رقم 121، والمغني [5 / 224] .
    (11/149)
    ________________________________________
    قالوا: فلما كان الطواف صلاة فيشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة من الأحداث والأنجاس.
    2- واختار شيخ الإسلام وهو قول في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وهو مذهب طائفة من السلف: إلى أن ذلك ليس بشرط، بل هو مشروع مستحب.
    واستدل: بالأصل فإن الأصل فيه عدم اشتراط ذلك.
    وأجاب عن أدلة الجمهور:
    أما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فالوضوء فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب أما قوله: (لتأخذوا عني مناسككم) فإن الوضوء خارج عن المناسك، فأنتم - أي الجمهور – لم توجبوا الاضطباع ولا الرمل ولا غير ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه وهما أولى بالإيجاب من الوضوء الخارج عن المناسك.
    والاضطباع والرمل من سنن الطواف بالإجماع فأولى من ذلك الوضوء الخارج عن الطواف وأما الحديث – حديث ابن عباس - فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بل هو موقوف على ابن عباس، قال شيخ الإسلام: (أهل العلم لا يرفعونه) .
    قلت: ونحوه عن ابن عمر في النسائي (1) .
    ولكن هذا الجواب يمكن أن يقال في رده: إنه قول صحابي اشتهر ولا يعلم له مخالف فيكون إجماعاً.
    والجواب عن ذلك هو ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه – من أن قول الصحابي هنا -: (الطواف بالبيت صلاة) لا يقتضي اشتراط ما ذكرتموه بدليل أن استقبال القبلة ليس بشرط في الطواف، والحركة الكثيرة المبطلة للصلاة لا يبطل الطواف اتفاقاً، وبدليل جواز الأكل والشرب فيه، وبدليل جواز الكلام فيه وغير ذلك مما ينهى عنه في الصلاة.
    __________
    (1) برقم 2923.
    (11/150)
    ________________________________________
    فكل هذه المنهيات والشروط التي في الصلاة من استقبال قبلة ونحوها ليست ثابتة في الطواف بالاتفاق فيتعين أن يكون مراد الصحابي أنه في حكم الصلاة في الإقبال على الله عز وجل والتعبد له، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماكث ينتظر الصلاة هو: (في صلاة) (1) مع أنه لا يشترط عليه ما يشترط على المصلين وهو مع ذلك في صلاة.
    أو أن الطواف يجتمع هو والصلاة في كونهما حول البيت فكما أن المصلي يتوجه إلى القبلة فإن الطائف يتعلق طوافه بالبيت وهذا هو الجامع بين الطواف والصلاة، والمفارقات بينهما كثيرة جداً. وحيث كانت كذلك فلا يمكننا أن نلحق ما اشترطه الجمهور والمفارقات على هذه الطريقة وعلى هذه الكثرة.
    فالراجح: ما اختاره شيخ الإسلام من أن الطهارة من الأحداث والأنجاس ليست شرطاً في الطواف.
    مسألة:
    طواف الحائض هل يصح أم لا؟
    1- ذهب جمهور أهل العلم إلى أن طوافها لا يصح.
    واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت بسرف وكانت قد أهلت بعمرة فأمرها أن تهل بالحج: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) (2) وفي رواية لمسلم: (حتى تغتسلي) قالوا: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف يقتضي فساده.
    2- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن طواف الحائض صحيح محرم وعليها إن فعلت الدم.
    قالوا: لأنها إنما نهيت عن ذلك مع جواز سائر الأنساك لها – لكون الطواف بالبيت، والحائض تنهى عن دخول المساجد والمكث فيها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الحائض من الطواف بالبيت ليس لمعنى الطواف لكن لمعنى المسجد وطوافها في المسجد يلزم منه أن تكون ماكثة ولابد منه ومكثها محرم.
    __________
    (1) متفق عليه، صحيح مسلم بشرح النووي [5 / 666] .
    (2) رواه البخاري [1 / 83 …] ومسلم [4 / 30] وأبو داود والنسائي والترمذي، الإرواء رقم 191.
    (11/151)
    ________________________________________
    فحينئذ: إن طافت فطوافها صحيح لأن النهي لم يتعلق بالطواف بل تعلق بالمكث في المسجد وهو أمر خارج، فتكون حينئذ آثمة.
    3- واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن طواف الحائض لا يصح إلا لضرورة.
    قالوا: لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها كما يسقط عن العريان ستر عورته في الصلاة، فإنه إذا لم يجد ثوباً يستر به عورته فإنه يصلي عرياناً، فكان واجباً عليها ألا تطوف إلا وهي طاهرة فعجزت عن ذلك واضطرت فيجوز لها حينئذ أن تطوف للضرورة.
    وجمهور أهل العلم: يقولون: إذا خشيت الحائض فوات رفقتها مثلاً فإنها ترجع إلى ديارها محرمة فلا تفعل شيئاً مما يحرم على الحاج ثم تأتي بالطواف بعد ذلك.
    ولا خلاف بين أهل العلم أن طواف الإفاضة ليس له وقت محدد ينتهي فيه فلو طاف الإفاضة بعد شهر ذي الحجة فإنه يجزئ عنه اتفاقاً.
    وإنما اختلف أهل العلم في وجوب الدم فيه:
    فأوجبه المالكية: إذا أخره إلى بعد شهر ذي الحجة.
    وأوجب الأحناف الدم فيه إذا أخره عن أيام التشريق.
    وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا فيه الدم مطلقاً.
    فعلى ذلك مذهب الجمهور أنها إذا اضطرت فإنها لا تطوف بالبيت بل ترجع ثم تطوف بعد ذلك ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين.
    واختار شيخ الإسلام صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك.
    (11/152)
    ________________________________________
    ومما يؤيد صحة طوافها إذا اضطرت إلى ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أسماء بنت عميس: (أنها نفست في ذي الحليفة فأمرها أن تحرم وتغتسل) (1) ولم ينهها النبي صلى الله عليه وسلم عما نهى عنه عائشة من ألا تطوف بالبيت حتى تطهر وذلك لأن ذلك فيه مشقة ظاهرة عليها فإن النفاس في الغالب يطول وهي قد نفست ولم يبق من ذي القعدة إلا أربعة أيام، فلم يبق ليوم النحر إلا نحو أربعة عشر يوماً، والنفساء لا تطهر غالباً في مثل هذه المدة، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بما أمر به عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر لمشقة ذلك.
    وأظهر الأقوال – فيما يتبين لي والعلم عند الله عز وجل - ما ذهب إليه الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: أن طوافها صحيح مطلقاً لكنها آثمة وحينئذ إذا اضطرت فلا إثم.
    وذلك لأنه لا معنى يقتضي نهيها عن الطواف وهي حائض، وقد فارقنا بين الطواف والصلاة – فلا معنى يقتضي أن تنهى عنه إلا أن الطواف بالبيت وفي المسجد والحائض نهيت عن المكث فيه، والله أعلم. والأظهر ألا دم عليها لعدم الدليل.
    قال: (ثم يصلي ركعتين)
    وهما ركعتا الطواف فيستحب له إذا انتهى من طوافه أن يصلي ركعتين.
    ودليله: ما ثبت في مسلم من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين بـ {قل هو الله أحد} ، و {قل يا أيها الكافرون} ثم رجع إلى الركن فاستلمه – وفي رواية النسائي: (بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) – " (2) . والواو لا تفيد الترتيب.
    واختلف أهل العلم في هاتين الركعتين أهما سنة أم واجبتان؟
    __________
    (1) صحيح مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، سبق ص24
    (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي باب القراءة في ركعتي الطواف رقم 2963.
    (11/153)
    ________________________________________
    1- فذهب جمهور العلماء إلى أنهما سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يفيد وجوباً.
    2- وذهب الأحناف إلى وجوبهما وبجبران يوم.
    واستدلوا: بقوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد استظهرها صاحب الفروع.
    قالوا: هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
    والصحيح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.
    أما استدلال الأحناف بالآية ففيه نظر، لإجماع العلماء على أنه لا يجب أن يصلي الركعتين خلف المقام فلا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى، حكى هذا الإجماع ابن المنذر وغيره، وأن له أن يصليهما في أي موضع شاء، وقد ثبت في البخاري معلقاً: (أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى ركعتين بذي طوى) (1) والشاهد من هذا الأثر أنه يجوز له أن يصلي ركعتي الطواف في أي موضع شاء، فثبت لنا أنه لا يجب عليه أن يتخذ مقام إبراهيم مصلى بالإجماع، فتعين أن يكون الأمر للاستحباب في الآية.
    إذن: يسن له أن يصلي ركعتين بعد طوافه، ويستحب له أن يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وبقل هو الله أحد.
    * فإن كرر الطواف بأن طاف سبعاً ثم سبعاً فله أن يصلي سنة الطواف لكل أسبوع أن يصليها بعد هذه الأسابيع.
    بمعنى: طاف أسبوعاً ثم أسبوعاً ثم صلى أربع ركعات ركعتين للأسبوع الأول، وركعتين للأسبوع الثاني، فلا بأس بذلك روى ذلك البيهقي عن عائشة رضي الله عنها ولأنه لا تشترط الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بدليل فعل عمر المتقدم فإنه قد صلى بذي طوى.
    فعلى ذلك: إذا طاف سبعاً ثم سبعاً ثم جمع الركعات بعد الانتهاء من الطواف فصلى لكل أسبوع ركعتين فإن ذلك يجزئه، والمستحب له أن يتبع كل أسبوع ركعتيه.
    وهل تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف كأن يطوف سبعاً ثم يصلي مكتوبة فهل يجزئ عن ركعتي الطواف؟
    __________
    (1) ذكره البخاري باب الطواف بعد الصبح والعصر قبل رقم 1628.
    (11/154)
    ________________________________________
    قال الحنابلة: يجزئه كما أنه يجزئه في ركعتي الإحرام الفريضة – وقد تقدم – أن الحنابلة يستحبون ركعتي الإحرام فإذا أحرم فيستحب له أن يصلي ركعتين فإذا صلى الفريضة أجزأت عن ركعتي الإحرام وكلاهما سنة شرعت للنسك، فركعتا الطواف وركعتا الإحرام شرعتا للنسك فتجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما تجزئه المكتوبة عن ركعتي الإحرام.
    وفي هذا نظر، فقد ذهب جمهور العلماء وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه: إلى أن المكتوبة لا تجزئه وذلك لأن ركعتي الطواف مقصود لذاتهما فلم يجزئ عنهما المكتوبة أشبه ذلك ركعتي الفجر فإنهما لا يجزئ عنهما قضاء أو فريضة فهما مقصودتان لذاتهما فكذلك هنا. أما ركعتا الإحرام على القول بهما – فإنهما غير مقصودتين لذاتهما بل المقصود هو الصلاة فإذا صلى فريضة أو نافلة مقيدة أو مطلقة فإنه يجزئه لأن المقصود هو الصلاة أما هنا فإن المقصود هو سنة الطواف.
    فإذاً: لا تجزئه المكتوبة عن ركعتي الطواف كما هو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو مذهب جمهور أهل العلم.
    قال: (خلف المقام)
    استحباباً فليس من شرط ركعتي الطواف أن يصليا خلف المقام بل لو صلاهما في موضع آخر أجزأه إجماعاً، وقد تقدم ما رواه البخاري معلقاً في صحيحه: (أن عمر طاف بالبيت ثم ركب فصلى ركعتين بذي طوى) .
    وهنا مسألتان في الطواف:
    المسألة الأولى:
    وأن الموالاة شرط من شروط الطواف عند جمهور أهل العلم. فليس له أن يوجد فاصلاً بين طوافه يثبت أنه قاطع في العرف وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف موالياً وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    قالوا: فإن حضرت فريضة فإنه يتوقف عن الطواف ويصلي الفريضة ثم يتم طوافه – هذا مذهب جمهور أهل العلم – وخصه المالكية بالفريضة.
    وعدى الحنابلة والشافعية كل فعل مشروع يخشى فواته كصلاة الجنازة ونحوها. قالوا: لأنه فعل مشروع أثناء الطواف فلم يبطله كاليسير.
    (11/155)
    ________________________________________
    وذهب الحسن البصري: إلى أنه إذا قطعه لفريضة أو صلاة جنازة ونحو ذلك أنه يجب عليه أن يستأنف الطواف من جديد. وهذا القول أقيس وأظهر؛ وذلك لأن الواجب في الطواف الموالاة وكونه يكون معذوراً بقطعه لصلاة الفريضة فإن هذا العذر إنما يكون لجواز القطع مع منافاته للموالاة، فكونه يقف لصلاة الفريضة هذا ينافي ما فرض من الموالاة فإنه حينئذ تنقطع الموالاة. وهو إنما يكون معذوراً لخشية فوات الفريضة أما أن يكون هذا العذر يصحح طوافه فلا، فإن ذلك قاطع.
    فما ذهب إليه الحسن البصري – فيما يظهر لي – أقيس فيجب عليه حينئذ أن يستأنف، لانتفاء الموالاة بصلاة الفريضة أو غيرها فإن الموالاة شرط وقد انتفت حيث قطعها بقاطع سواء كان هذا القاطع مشروعاً على وجه الفريضة أو مشروعاً على وجه الاستحباب أو لم يكن مشروعاً.
    (وهنا في أثر البخاري معلقاً عن ابن عمر (1) أنه صلى الفريضة ثم أتم طوافه، قال شيخنا: قول المالكية) .
    وعلى القول بأنه لا يستأنف كما هو مذهب جمهور أهل العلم إذا قطع طوافه فهل يبتدئ بالطواف من الحَجَر أم من الموضع الذي وقف عنده؟
    قولان لأهل العلم:
    المشهور عند الحنابلة أنه يبدأ من الحَجَر.
    وقال بعض العلماء: بل يبدأ من الموضع الذي وقف فيه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وهو القول الراجح.
    وهذا متفرع على الترجيح في المسألة السابقة، فلو رجحنا ما ذهب إليه الجمهور فإن هذا أقيس، لأن الطواف عبادة واحدة فسواء قطع الطواف لأمر لا يوجب الاستئناف من أول الطواف أو من أثنائه فالطواف عبادة واحدة فهذا هو الأقيس والأظهر.
    المسألة الثانية:
    أن طواف المحمول والراكب لعذر كمرض ونحوه صحيح بلا خلاف بين العلماء.
    __________
    (1) ذكره البخاري باب إذا وقف في الطواف، الفتح [3 / 565] .
    (11/156)
    ________________________________________
    ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة قالت: (شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (1) .
    أما طواف غير المعذور راكباً أو محمولاً فاختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال: هي روايات عن الإمام أحمد:
    الرواية الأول: أن الطواف لا يجزئه قالوا: لأن الطواف بالبيت صلاة فكما أن الصلاة لا تصح من الراكب غير المعذور فكذلك الطواف لا يصح من الراكب غير المعذور.
    الرواية الثانية: وهو مذهب المالكية والأحناف: قالوا: يجزئه لكن عليه دم لأن الطواف ماشياً واجب فيجب في تركه الدم.
    الرواية الثالثة: وهي مذهب الشافعية: يجزئه ولا شيء عليه وهو اختيار ابن المنذر وهذا القول الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: (طاف وهو راكب على بعير له) (2) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معذوراً في ركوبه عذراً يجيز ذلك وإنما مجرد درء مفسدة لا تصل إلى أن تكون عذراً، فقد ثبت في مسلم عن ابن عباس – وهو سبب ركوب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرجت العواتق من البيوت " أي في محبته " ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب والمشي والسعي أفضل) فالمشي والسعي أفضل لكن إن ركب لغير عذر فإنه يجزئه؛ ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
    والحمد لله رب العالمين.

    فصل
    قال: (ثم يستلم الحجر)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب المريض يطوف راكباً من كتاب الحج رقم 1633، ومسلم باب جواز الطواف على بعير.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 20] .
    (2) سبق ص85
    (11/157)
    ________________________________________
    إن أتم طوافه بالبيت سبعاً وصلى ركعتي الطواف فيستحب له أن يرجع إلى الركن فيستلمه، وقد تقدم حديث مسلم الدال على ذلك وهو حديث جابر وفيه: (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) (1) .
    قال: (ويخرج إلى الصفا من بابه)
    وهو باب الصفا وهو باب بني مخزوم وإنما يخرج منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا فليس هذا لتميزه عن سائر الأبواب بفضله وإنما لكونه أقرب الأبواب إلى الصفا.
    وقد كانت الصفا والمروة خارج المسجد، وباب بني مخزوم باب يدخل منه إلى المسجد ويخرج منه إلى الصفا والمروة فلم تكن الصفا والمروة في المسجد ومن هنا جاز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة مع أنها تنهى عن دخول المسجد لأن الصفا والمروة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، فلم يتسع بناء المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام، لتدخل فيه الصفا والمروة كما اتسع في الأزمنة المتأخرة فدخلت فيه.
    قال: (فيرقاه حتى يرى البيت ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد)
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/158)
    ________________________________________
    يرتقي على الصفا وهو جبل صغير، فيرتقيه حتى يرى البيت، فلا يزال في صعوده حتى يتمكن من رؤية البيت فيستقبل القبلة ويكبر ثلاثاً ويقول ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ابدأُ بما بدأ الله به، فرقي الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله " أي قال: لا إله إلا الله " وكبَّره) وفي النسائي: (وكبره ثلاثاً) ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك، فعل هذا ثلاث مرات) (1) فالذكر الوارد بعد أن يرقى الصفا ويرى البيت ويستقبل القبلة يقول: " لا إله إلا الله " الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بما شاء ثم يعيد الذكر مرة ثانية ثم يدعو ثانية بما أحب ثم يعيده ثالثة.
    قال: (ثم ينزل ماشياً إلى العلم الأول ثم يسعى سعياً شديداً إلى الآخر ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا)
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/159)
    ________________________________________
    بعد أن يرقى الصفا ينزل ماشياً حتى يأتي العلم الأول وهو العلم الأخضر الذي هو علامة ابتداء بطن الوادي فيسعى سعياً شديداً حتى يصل إلى العلم الثاني وهو علامة انتهاء بطن الوادي فإذا انتهى من ذلك مشى حتى يأتي المروة ويقول ما قاله على الصفا. وتمام القطعة من حديث جابر الذي تقدم سياقها قال: (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا " أي عن بطن الوادي " مشى حتى أتى المروة ففعل في المروة كما يفعل في الصفا) (1) .
    وظاهره أنه يجمع بين الذكر الوارد والفعل الوارد فيرقى المروة حتى يرى البيت ويستقبل القبلة ويقول: الذكر الوارد كما في الصفا. وفي النسائي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الوادي إلا شداً) (2) والمراد هنا بالوادي بطنه وهو ما بين الميلين.
    ويستحب له أن يقول: ما ورد عن ابن مسعود في البيهقي بإسناد جيد أنه كان يقول بين العلمين: (اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز الأكرم) .
    واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن المرأة لا يستحب لها أن تسعى بين الميلين ولا أن ترمل في الأشواط الثلاثة الأولى في الطواف وفي البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (ليس على النساء سعي في البيت " وهو الرمل " ولا بين الصفا والمروة) .
    واعلم أن السعي بين الصفا والمروة المجزئ هو ما يكون بين الجبلين " الصفا والمروة " بحيث أنه يستوعبهما أي يستوعب ما بينهما بالسعي من غير اشتراط رقي فإن الرقي مستحب وليس بواجب فالواجب عليه أن يضع عقبه على طرف الصفا ثم يمشي حتى يصل إلى طرف المروة ثم يعود سبعة أشواط.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) أخرجه النسائي رقم 2980.
    (11/160)
    ________________________________________
    فالواجب عليه أن يسعى بين الصفا والمروة أما رقيه فهو مستحب وهذا باتفاق أهل العلم. واعلم أنه لو ترك شيئاً فيما بين الصفا والمروة من السعي لم يجزئه، فلو ترك ذراعاً أو نحوه فإن سعيه لا يجزئه لأنه لم يستوعبهما في الطواف بين الصفا والمروة.
    قال: (ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا يفعل ذلك سبعاً)
    كذلك في رجوعه من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه فيسعى بين الميلين ويمشي ما بين المروة إلى الميل الأول وما بين الميل الثاني إلى الصفا يمشي كما تقدم في شوطه ما بين الصفا إلى المروة فكذلك في شوطه بين المروة إلى الصفا.
    قال: (ذهابه سعية ورجوعه سعية)
    فما بين الصفا والمروة سعية، وما بين المروة والصفا سعية أخرى، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (طاف بين الصفا والمروة سبعاً) (1)
    فإذن: ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، وإيابه من المروة إلى الصفا شوط – وهذا باتفاق العلماء.
    قال: (فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول)
    فلو أنه بدأ من المروة إلى الصفا فإن هذا الشوط لا يحسب ويسقط ولا يجزئ عنه، وذلك لأن الواجب عليه والفرض أن يبدأ من الصفا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وفعله بيان لمجمل القرآن وفي النسائي: (ابدؤوا بما بدأ الله به) (2) فإذا ابتدأ من الصفا أجزأه، أما إذا ابتدأ من المروة فإنه لا يجزئه الشوط الأول ويحسب له الشوط الثاني الذي هو من الصفا إلى المروة فيجب عليه أن يزيد شوطاً لسقوط الأول وعدم إجزائه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 409 …] ومسلم [4 / 53] ، الإرواء رقم 1104.
    (2) أخرجه النسائي باب القول بعد ركعتي الطواف رقم 2962، من كتاب المناسك.
    (11/161)
    ________________________________________
    فإذن: إذا ابتدأ بالمروة فهذا الشوط لا يجزئه لأنه على خلاف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (1)
    قال: (وتسن فيه الطهارة والستارة والموالاة)
    فالطهارة من الأحداث والأنجاس سنة بالاتفاق – في السعي بين الصفا والمروة فلو أنه طاف بين الصفا والمروة جنباً أو محدثاً حدثاً أصغر أو امرأة حائضاً أو كان عليه شيء من الأنجاس في ثوبه فإن سعيه مجزئ بالاتفاق.
    كذلك الستارة فليس أيضاً شرطاً أن يستر عورته وهذا باتفاق أهل العلم.
    قال: (والموالاة) فالموالاة سنة وكلام المؤلف هنا موهم فإن المراد بالموالاة هنا الموالاة بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فليس شرطاً أن يبادر بالسعي بعد طوافه بالبيت فلو طاف في البيت في أول النهار وسعى في آخره يجزئه اتفاقاً لأنه قد فعل ما أمر الله به من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وإن كان المستحب له أن يوالي بين الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة هذا مستحب له لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وليس واجباً بالاتفاق.
    وأما الموالاة بين أشواط السعي، فإنها شرط في السعي – وهو مذهب الحنابلة وغيرهم من أهل العلم – فهي شرط من شروط السعي على التفصيل المتقدم في الطواف.
    قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وقد طاف الأشواط السبعة موالياً، فإن قطعها بفاصل عرفي فإنه يجب عليه أن يستأنف إلا ما تقدم استثناؤه فيما إذا حضرت الصلاة المكتوبة أو فعل مشروع، على خلاف بين أهل العلم كما تقدم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [5 / 221] في الصلح: باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم [1718] في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة. زاد المعاد [5 / 224] .
    (11/162)
    ________________________________________
    واشترط الحنابلة أيضاً النية فهي شرط من شروط السعي وتقدم النظر في هذا وأن الراجح أن أفعال الحج كلها لا تجب فيها النية المستقلة بل نية الإحرام في أول الحج تجزئ عن النية لأفعال المناسك كلها.
    قال: (ثم إن كان متمتعاً لا هدي معه قصر من شعره وتحلل)
    لما ثبت في مسلم قال: (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي) (1) فالمتمتعون يقصرون ويحلون، وأما القارنون والمفردون فإنهم لا يقصرون ولا يتحللون بل يتحللون في يوم النحر. وفيه أن المستحب للمتمتع أن يقصر رأسه ولا يستحب له حلقه توفيراً للحج ولأن الصحابة هكذا فعلوا، كما في الحديث المتقدم.
    واعلم أن التقصير المجزئ هو التقصير الشامل كله لعموم الرأس، ولا يقصد من ذلك أن يشتمل كل شعرة فإن هذا لا يسع الناس فعله إذ لا يمكن للشخص أن يعلم دخول كل شعرة في التقصير إلا بالحلق، لكن المقصود أن يقصر من عموم رأسه بحيث يظن ظناً غالباً أن هذا التقصير قد شمل الرأس كله، هذا هو المشهور عند الحنابلة.
    خلافاً لمذهب الشافعية وأنه يجزئه أن يأخذ من ثلاث شعرات.
    فالصحيح مذهب الحنابلة، لقوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (2) وقوله: {رؤوسكم} عام للرأس كله، فواجب أن يعم الرأس كله حلقاً أو تقصيراً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه كله وفعله بيان للأمر فيعطى حكمه.
    واعلم أن التقصير المجزئ هو أخذ الشيء من جميع الشعر الذي يصدق عليه أنه تقصير وإن قل سواء كان أنملة أو أقل منها.
    __________
    (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) سورة الفتح 27.
    (11/163)
    ________________________________________
    والمستحب له أن يبدأ بالجهة اليمنى ثم اليسرى في الحلق والتقصير ففي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: (خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) (1) وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيامن في شأنه كله.
    قال: (وإلا حلَّ إذا حج)
    إذا كان قارناً أو مفرداً فإنه يتحلل إذا حج أي إذا فعل أركان الحج.
    والمقصود من الكلام هنا: أنه يتحلل إذا رمى الجمرة أي يتحلل في يوم النحر، وإلا فإنه لا يصدق عليه أنه حج حتى يأتي بالطواف، وسيأتي البحث إن شاء الله في المنسك الذي يثبت به التحلل الأول.
    ويمكن أن يكون مراد المؤلف هنا: التحلل التام، فإنه لا يكون له التحلل التام بحيث أنه تحل له محظورات الإحرام كلها حتى النساء حتى يتم الحج كله أي أركانه وإلا فإنه يبقى شيء من واجباته كالرمي والمبيت ليالي التشريق وسيأتي إن شاء الله في موضعه.
    قال: (والمتمتع إذا شرع في الطواف قطع التلبية)
    تقدم البحث في هذا (2) ، وأن الراجح أنه يقطع التلبية إذا دخل الحرم كما هو مذهب ابن عمر.
    مسألة:
    السعي كالطواف في باب الركوب، بل أولى بالحكم لما تقدم من أن بعض أهل العلم يرى أن الطواف بالبيت صلاة، بخلاف السعي فإنه لا يقال فيه هذا، وقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه بين الصفا والمروة لكي يراه الناس كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) .
    مسألة:
    قراءة الآية: {إن الصفا والمروة..} الظاهر لي أنه لا يستحب له ذلك إلا عند دنوه من الصفا أول مرة من غير أن يكررها في الأشواط الأخرى وأما قول جابر: (ثم فعل على المروة ما فعل على الصفا) فإنه لا يدخل فيه لأن هذا الذكر قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل رقيه على الصفا كما أن المعنى يقتضي ذلك.
    مسألة:
    __________
    (1) مسلم، باب السنة يوم النحر من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] .
    (2) سبق ص37.
    (3) الإرواء رقم 1118.
    (11/164)
    ________________________________________
    إذا سعى الشوط السابع فهل يدعو بعد نهايته ويقول الذكر أم لا؟
    الأظهر عندي والله أعلم أنه لا يقول ذلك لأنه هناك ينتهي سعيه كما ينتهي الطواف عند الحجر الأسود فلا يشرع له الاستلام ولا الإشارة فالأظهر هنا كذلك لأنه قد رقى المروة ثلاثاً فدعا، وفي الصفا أربعاً فهذه سبع. والمسألة اجتهادية، والقول بأنه يشرع له ذلك له محل من النظر لكن الذي أميل إليه أنه لا يشرع له ذلك.
    مسألة:
    هل يجزئ الطواف بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أم لا؟
    جمهور العلماء على أنه لا يجزئه ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه.
    وذهب أهل الظاهر وهو مذهب عطاء بن أبي رباح من التابعين وهو مذهب بعض أهل الحديث إلى أنه يجزئه.
    واستدلوا: بما رواه أبو داود أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: سعيت قبل أن أطوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج) (1) وكما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي في البيت حتى تطهري) ويدخل في ذلك السعي فدل على أن السعي لا يشترط لصحته أن يسبق بطواف.
    وهذا القول فيه قوة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على الاستحباب، ومن طاف وسعى فقد فعل ما يجب عليه وما تقدم من الحديثين يدلان على أنه يجزئه.
    ومع ذلك فإن الأحوط له ألا يشتغل بالسعي قبل اشتغاله بالطواف والله أعلم.
    والحمد لله رب العالمين.

    هنا فوائد:
    الفائدة الأولى: ثبت في البيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه " أي في وقوفه على الصفا والمروة.
    وظاهر كلام الحنابلة – كما قال صاحب الإقناع – أن رفع اليدين لا يشرع.
    __________
    (1) رواه أبو داود باب فيمن قدم شيئاً قبل شيء في حجه، رقم 2015.
    (11/165)
    ________________________________________
    واستحبه بعض الحنابلة، قال صاحب الإقناع: وهو الظاهر للخبر. ووهم من عزاه إلى مسلم تبعاً للبيهقي، والبيهقي إنما عزاه إلى مسلم لأن أصل الحديث في مسلم أما لفظة رفع اليدين فإنما هي ثابتة في حديث جابر في سنن البيهقي بسند الإمام مسلم.
    الفائدة الثانية: أنه ثبت عند النسائي من حديث جابر لفظة: " وحمده " (1) أي وحمد الله عز وجل، ولذا ذكرها الحنابلة في الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظة: " الحمد لله على ما هدانا " أي من الذكر.
    فيحمد الله عز وجل – كما يهلله ويكبره ويحمده بهذا اللفظ أو غيره من الألفاظ التي هي من الحمد.
    3- الفائدة الثالثة: ثبت في حديث جابر في المسند: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب إلى زمزم فشرب منه وصب على رأسه ثم رجع إلى الركن واستلمه) ففيه مشروعية الشرب من ماء زمزم بعد طواف القدوم أو طواف العمرة.
    الفائدة الرابعة: أنه ثبت في حديث جابر أيضاً في النسائي لفظة: (يحي ويميت) (2) (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) فهذه الزيادة ثابتة في النسائي من حديث جابر.
    باب صفة الحج والعمرة
    قال: (يسن للمحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية)
    يوم التروية: هو اليوم الثامن من أيام ذي الحجة، فيستحب للمحلين وهم أهل مكة الذين يريدون الحج أو الآفاقيون الذين أتوا لعمرة وتحللوا منها وهم المتمتعون دون القارنين والمفردين من الآفاقيين فإنهم إنما يحرمون من مواقيتهم كما تقدم، أما أهل مكة ممن أراد منهم الحج أو الآفاقيون الذين تحللوا من عمرتهم يستحب أن يكون إهلالهم بالحج يوم التروية وسمي يوم التروية لتروية الناس المياه فيه استعداداً لبقية أيام الحج.
    __________
    (1) سنن النسائي رقم 2974.
    (2) أخرجه النسائي باب الذكر والدعاء على الصفا رقم 2974.
    (11/166)
    ________________________________________
    ودليل استحباب الإهلال يوم التروية من مكة: ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (1) أي في منى.
    ولذا قال المؤلف هنا: (قبل الزوال منها)
    أي قبل الزوال حتى يصلي الظهر بمنى، فقبل زوال الشمس يسن له الإهلال بالحج ليصلي الظهر بمنى، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: (ويجزئ من بقية الحرم)
    يجزئه أن يهل بالحج من بقية حرم مكة وإن خرج من بنيانها كأن يهل من الأبطح أو من منى فإنها من الحرم فيجزئه ذلك لأن ذلك كله ميقات أهل مكة، فالحرم كله ميقاتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة) فلا يجوز له أن يهل بالحج من الحل كأن يهل من التنعيم ونحوه لأنه بحكم أهل مكة وأهل مكة يهلون من مكة من بنيانها أو حرمها.
    ومما يدل على جواز الإحرام من خارج البنيان مادام في الحرم ما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فأهللنا من الأبطح) وهو موضع من الحرم خارج بنيان مكة أما إذا أحرم من الحل فلا يجوز له ذلك كما لو أحرم خارج الميقات.
    قال: (ويبيت بمنى)
    استحباباً اتفاقاً فهو من المستحبات لحديث جابر المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) (2) فصلى العشاء والفجر بها فقد بات بها – وهو مستحب بالاتفاق لأنه ليس فيه إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد، وفعله المجرد لا يقتضي إيجاباً كما تقدم.
    قال: (فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة)
    أي إذا طلعت الشمس من يوم عرفة سار إلى عرفة.
    __________
    (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/167)
    ________________________________________
    إذاً: يمكث بعد صلاة الفجر حتى إذا طلعت الشمس ارتحل إلى عرفة فقد ثبت في حديث جابر الطويل بعد ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى قال: (ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة ثم ارتحل ولا تشك قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام كما كانت تصنع في الجاهلية فأجاز " أي أجاز المشعر الحرام " حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركبها حتى أتى بطن الوادي " وهو بطن عرنة " فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة " أي طريق المشاة " بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) (1) .
    قال: (وكلها موقف إلا بطن عرنة)
    فلا يجزئ الوقوف به، وهو الموضع الذي خطب به النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في ابن ماجه والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن وادي محسِّر) (2) وهذا باتفاق العلماء.
    قال: (ويسن أن يجمع بين الظهر والعصر)
    كما تقدم هذا في جمعه بين الظهر والعصر في بطن عرنة، وظاهر الحديث أنه لا يجهر بالقراءة فليست جمعة بل هي ظهر فيسر بالقراءة.
    __________
    (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
    (2) أخرجه النسائي باب الموقف بعرفات من كتاب المناسك، رقم 3012.
    (11/168)
    ________________________________________
    وظاهر الحديث أن الجمع مشروع للمكيين وغيرهم فكل من وقف بعرفة من المكيين وغيرهم فإنه يشرع له الجمع، كما أنه يستحب له أن يتعجل الصلاتين في ذلك اليوم، فقد ثبت في البخاري: أن سالم بن عبد الله بن عمر قال للحَجاج: (إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة، فقال ابن عمر وكان حاضراً: صدق) (1) فصدقه في أنها سنة. ويستحب له أن يجمع – كما تقدم بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين.
    قال: (ويقف راكباً عند الصخرات وجبل الرحمة) .
    كما تقدم في حديث جابر وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) (2) ولا يشرع بالإجماع – كما حكى الإجماع شيخ الإسلام – أن يصعد الجبل فإنه ليس من السنن بالإجماع.
    قال: (ويكثر من الدعاء بما ورد)
    وقد ثبت في الترمذي والحديث حسن لشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (3) .
    فإن قيل هذا ثناء وليس بدعاء؟ فالجواب بما قاله سفيان بن عيينة لما سئل عن ذلك: فاستشهد ببيتين لشاعر في هذا المعنى:
    فأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياءُ
    إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه الثناءُ
    فهذا الثناء بمعنى الدعاء، أي إنما أثنيت عليك لتكفيني حاجتي فهو تعريض بالدعاء.
    إذن: يستحب له أن يكثر من قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب قصر الخطبة بعرفة من كتاب الحج، رقم 1663.
    (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب الحج.
    (3) أخرجه الترمذي رقم 3585.
    (11/169)
    ________________________________________
    ويستحب له أن يرفع يديه بالدعاء كما صح ذلك في النسائي عن أسامة بن زيد قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فرفع يديه) (1) أي في الدعاء.
    ويستحب له أن يستقبل القبلة في دعائه سواء كان راكباً أو قاعداً كما تقدم في حديث جابر الثابت في مسلم ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم (استقبل القبلة) (2) .
    ويوم عرفة يوم عظيم يعتق الله فيه من النار أكثر ما يعتق في سائر الأيام ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم فيقول: ماذا أراد هؤلاء) (3) وهو من أعظم الأيام وأحبها إلى الله كما أنه من أيام عشر ذي الحجة ويستحب له أن يغتسل في هذا اليوم كما صح هذا عن علي في سنن البيهقي بإسناد صحيح فهو من الأيام الفاضلة التي يشرع الاغتسال فيها.
    قال: (ومن وقف ولو لحظة)
    فمن وقف ولو لحظة أجزأه ذلك. وليس المراد الوقوف الحقيقي بل لو كان قاعداً أو مضطجعاً أو مر مروراً منها أي يجاوزها إلى غيرها فإنه يجزئه لأنه بمعنى الوقوف هنا، إذ الوقوف هنا بذاته ليس بمعتبر فلو مر مروراً منها إلى غيرها فإن هذا المرور يجزئه ولو كان ذلك لحظة.
    ودليله: ما روى الخمسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (4) فظاهره لما يصدق عليه الإدراك وإن قل.
    في الحديث أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج بل هو الحج فهو ركن الحج الأعظم وقد أجمع أهل العلم على أنه ركن من أركانها.
    قال: (من فجر يوم عرفة إلى فجر يوم النحر)
    __________
    (1) أخرجه النسائي رقم 3011.
    (2) أخرجه مسلم، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (3) أخرجه مسلم باب فضل يوم عرفة من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 117] .
    (4) أخرجه أبو داود [1949] والنسائي والترمذي وابن ماجه. الإرواء رقم 1064.
    (11/170)
    ________________________________________
    هذا بيان من المؤلف لطرفي الوقوف بعرفة من حيث الوقت، فهو من طلوع الفجر الصادق يوم عرفة ما لم يطلع الفجر من يوم النحر.
    ودليل ذلك: ما ثبت عند الخمسة من حديث: عروة بن مضرس الطائي: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله فسأله عن الوقوف بعرفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه " أي صلاة الفجر من يوم النحر بمزدلفة " ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) والشاهد قوله: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) وما قبل الزوال يصدق عليه النهار.
    ووافق جمهور العلماء الحنابلة على الإجزاء ليلاً قبل طلوع الفجر من ليلة النحر.
    ونازعوا الحنابلة في إجزائه قبل زوال الشمس من يوم عرفة فقالوا: لو وقف ضحى عرفة لم يجزئه ذلك.
    واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إنما أتى عرفة لما زالت الشمس وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليلاً أو نهاراً) ولأن من وقف ليلاً فإنه فعل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فلم يقف ليلاً ومع ذلك يقولون بإجزائه. فالحديث إنما يدل على استحباب ذلك.
    إذن: يستحب له ألا يقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس لكن لو وقف قبل زوالها وبعد طلوع الفجر يوم عرفة فإنه يجزئه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لعروة: (ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) .
    وقوله: (أو نهاراً) يصدق على أي جزء من أجزاء النهار من يوم عرفة لكن المستحب له ألا يأتي يوم عرفة إلا بعد زوال الشمس.
    قال: (وهو أهل له صح حجه وإلا فلا)
    __________
    (1) أخرجه أبو داود 1950 والنسائي والترمذي وابن ماجه، الإرواء رقم 1066.
    (11/171)
    ________________________________________
    فلابد أن يكون أهلاً له، فإن لم يكن أهلاً له كغير البالغ أو غير العاقل ونحوه ممن ليس أهلاً للحج فإنه لا يجزئه عن حجة الإسلام كما تقدم البحث فيه.
    قال: (ومن وقف نهاراً ودفع قبل الغروب ولم يعد قبله فعليه دم)
    إذن: الواجب عليه أن يقف إلى الغروب، فإذا أتى بعد زوال الشمس أو قبل زوالها فإنه ليس له أن يفيض إلا بعد غروب الشمس.
    قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا مذهب جمهور العلماء بوجوبه.
    وفي هذا نظر، ولذا سيأتي اتفاقهم على أنه لو وقف ليلاً فإنه ليس عليه شيء من ذلك ولذا قال المؤلف هنا:
    (ومن وقف ليلاً فقط فلا)
    رجل لم يأت إلا بعد غروب الشمس فوقف ساعة من الليل ثم رجع فإنه ليس عليه دم – على أن الأول موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف نهاراً وهذا كذلك فقد وقف نهاراً، أما هذا فلم يقف إلا بالليل ومع ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه لا دم عليه. واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1)
    قالوا: ولم يوجب عليه النبي صلى الله عليه وسلم دماً.
    والصحيح أنه إذا أفاض قبل غروب الشمس فلا دم عليه أصلاً وهو رواية عن الإمام أحمد وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه للاستحباب بدليل ما تقدم من أن من وقف بعرفة ليلاً فلا شيء عليه فأولى من ذلك ومن وقف نهاراً وأفاض قبل غروب الشمس هو أولى ألا يوجب عليه الدم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبه في حديث عروة لما قال: (ووقف قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) (2) .
    فالصحيح مذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وأن من أفاض قبل غروب الشمس فإنه مع مخالفته للسنة النبوية لكنه لا شيء عليه ويجزئه.
    ويجزئه الوقوف عند جمهور أهل العلم.
    __________
    (1) سبق ص103.
    (2) سبق ص104.
    (11/172)
    ________________________________________
    ومذهب المالكية أنه لا يجزئه وهذا أعظم بعداً من القول المتقدم فإن كونه يقف في النهار فنقول لا يجزئه لأنه أفاض قبل غروب الشمس وأما إذا وقف ليلاً فإنه يجزئه هذا أبعد عن الترجيح من القول المتقدم.
    إذن: إن وقف بعرفة أي ساعة من ليل أو نهاراً أجزأ عنه ذلك للحديث المتقدم لكن إن أفاض قبل غروب الشمس من يوم عرفة فجمهور العلماء على أن عليه دماً.
    ومذهب المالكية أن وقوفه لا يعتد به.
    والصحيح هو مذهب الجمهور من الاعتداد به، ومذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا دم عليه لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولأنه أولى مما اتفق عليه العلماء من عدم إيجاب ذلك عليه إذا وقف ليلاً.
    أما إذا خرج من عرفة ثم رجع قبل غروب الشمس، فإنه لا يجب عليه دم، لأنه أدرك الطرف الأخير من النهار وهو غروب الشمس أدركه بعرفة، فكما لو أتى قبل غروب الشمس فوقف إلى غروب الشمس فإنه لا شيء عليه بالاتفاق، فكذلك إذا وقف نهاراً فخرج ثم عاد قبل غروب الشمس فأدرك غروب الشمس فإنه لا شيء عليه.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة)
    فقد ثبت في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم وفيه: (فلم يزل وافقاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص فأردف أسامة بن زيد وشنق للقصواء الزمام) (1) فهنا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض إلى مزدلفة من عرفة بعد أن غربت الشمس وهذا هو المستحب، بل هو الواجب عند جمهور العلماء وقد تقدم أن الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد عدم وجوب ذلك فالمشروع له ألا يفيض إلى مزدلفة حتى تغرب الشمس.
    قال: (بسكينة ويسرع في الفجوة)
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتاب الحج.
    (11/173)
    ________________________________________
    فينبغي أن يكون بسكينة بلا إسراع ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ) (1) والعنق: هو ما بين الإسراع والإبطاء، " نصَّ " أي أسرع.
    وفي البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بالإيضاع) (2) أي ليس بالإسراع، وفي مسلم من حديث جابر أنه كان يقول بيده: (أيها الناس السكينة السكينة) (3) فالمستحب أن يكون سيره إلى مزدلفة بسكينة وتؤده إلا أن يجد فجوة فلا بأس أن يسرع.
    قال: (ويجمع بها بين العشاءين)
    أي بمزدلفة بين العشائين كما ثبت هذا في حديث جابر في صحيح مسلم قال: (فأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر) (4) فالمستحب له في ليلة المزدلفة أن يجمع بين المغرب والعشاء.
    قال: (ويبيت بها)
    أي بمزدلفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عن مناسككم) وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اضطجع حتى طلع الفجر) .
    * واختلف أهل العلم في المبيت بمزدلفة هل هو ركن أو واجب أو مستحب؟
    ثلاثة أقوال لأهل العلم:
    القول الأول: أنه ركن فلا يصح الحج إلا به، فمن لم يبت بمزدلفة فلا حج له.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب السير إذا دفع من عرفة من كتاب الحج وفي كتاب الجهاد، وكتاب المغازي، ومسلم باب الإفاضة من عرفات.. من كتاب الحج، وأبو داود، المغني [5 / 277] .
    (2) أخرجه البخاري باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 277] .
    (3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (4) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/174)
    ________________________________________
    واستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم لعروة بن مضرس: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) (1) .
    قالوا: فدل على أن من لم يشهد الصلاة ليلة مزدلفة ولم يقف فإن حجه لا يتم وتفثه لا يقضى. هذا مذهب طائفة من السلف وهو مذهب الأوزعي وابن خزيمة وابن جرير الطبري.
    القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء: أنه واجب يجبر بدم.
    واستدلوا: بما روى الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) (2) .
    قالوا: فدل هذا على أنه يدرك الحج وإن فاته المبيت بمزدلفة فظاهر الحديث أن من أدرك عرفة ليلاً قبل طلوع الفجر بدقائق ثم أذن عليه الفجر وهو بعرفة ثم أفاض إلى مزدلفة فإن حجه يصح.
    فهذا الحديث ظاهره عدم ركنية المبيت بمزدلفة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح حج من أدرك عرفه قبل طلوع الفجر ومن أدركها على هذه الهيئة فإنه لابد أن يفوته المبيت بمزدلفة.
    قالوا: وظاهر الحديث وجوب صلاة الفجر فيه، وأنتم لا تقولون بهذا بل تجيزون للظعن والضعفة وغيرهم أن يفيضوا قبل حطمة الناس قبل أذان الفجر كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ولو كان ركناً من أركان الحج – أي شهود صلاة الفجر – فيه لما قلتم بالترخيص للضعفة من النساء وغيرهن أن يفيضوا قبل طلوع الفجر.
    وأنتم تقولون: أن من نام عن صلاة الفجر فلم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس فإنه يدرك المبيت وإن لم يصل صلاة الفجر.
    __________
    (1) سبق ص104.
    (2) أخرجه أبو داود باب من لم يدرك عرفة 1949، والترمذي باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج 889، والنسائي في الحج باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة 210، 3047، وابن ماجه في الحج باب من أتى عرفة قبل الجمع، 3015.
    (11/175)
    ________________________________________
    فإذن: أنتم لا تقولون بظاهره، فإن ظاهره أن من صلى وشهد صلاة الفجر مع الإمام فهو الذي يصح حجه ويقضي تفثه.
    القول الثالث: وهو مذهب بعض أهل العلم من الشافعية: إلى أن المبيت بمزدلفة سنة وليس بواجب. قالوا: لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله لا يدل على الوجوب.
    وأصح الأقوال هو مذهب جمهور أهل العلم أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم، وأن من فاته فإن حجه صحيح لكنه يجبر ما فاته بأن يهريق دماً.
    بدليل ما تقدم من إذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن أن يدفعن من مزدلفة قبل أذان الفجر ورخصته بذلك، ولا شك أن الرخصة والإذن إنما يوجه إلى الواجب إذ لا يقال فيمن أذن له بترك رخصة: رخص له بذلك أو أذن له بذلك، فإن هذا إنما يقابل الواجب.
    فهذه الأحاديث ترد على من قال بسنية المبيت بمزدلفة، فرخصة النبي صلى الله عليه وسلم وإذنه إنما يتوجهان إلى ما ثبت وجوبه، وأما ما ثبت استحبابه فإن الإذن والترخيص ثابت فيه أصلاً فلا يحتاج إلى إذن وترخيص.
    قال: (وله الدفع بعد نصف الليل)
    مطلقاً سواء كان معذوراً كضعفة الرجال وكالنساء ونحوهم من المعذورين الذين يشق عليهم أن يدفعوا مع الناس في حطمتهم، أو كان من الأشداء الذين لا يثقل عليهم ذلك فكلهم لهم الدفع بعد نصف الليل – هذا مذهب الحنابلة، ومذهب الشافعية أيضاً.
    ومذهب المالكية أوسع من ذلك فإن مذهبهم جوازه إن مكث قدراً يكفيه لصلاة المغرب والعشاء وإنزال رحله وهذا لا يتجاوز الثلث ساعة ولا يصل إلى النصف ساعة فإذا قدر نصف ساعة فإنه يجزئه ذلك وله أن يدفع.
    (11/176)
    ________________________________________
    وقال الأحناف: لا يجوز له أن يدفع إلا بعد طلوع الفجر. وهذا القول الراجح إذ لا دليل على ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية فضلاً عما ذهب إليه المالكية. فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) وإذنه وترخيصه للضعفة يدل على وجوب المبيت وعدم الترخيص والأذن للأقوياء. وقياس الأقوياء على الضعفاء: قياس مع الفارق.
    ولذا قال ابن القيم فيما ذهب إليه الحنابلة: ولا دليل له من كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
    قلت: بل الأدلة الشرعية تخالف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن للظعن، ولغيرهن من الضعفة أن يدفعوا وأما غيرهم فإنهم يبقون على وجوب المبيت، فليس لهم أن يفيضوا أو يدفعوا قبل طلوع الفجر.
    ثم – أيضاً – الضعفاء من النساء والرجال ممن يجوز دفعهم قبل الفجر لا يجوز دفعهم إلا إذا دخل الثلث الأخير من الليل كما دلت عليه الآثار أيضاً.
    فمن ذلك: ما ثبت في الصحيحين: أن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمولاها (هل غاب القمر) والقمر إنما يغيب ليلة المزدلفة وهي ليلة العاشر من ذي الحجة إنما يغيب في ثلث الليل الأخير فقال: لا، فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر فقال: نعم، قالت: فارتحل لي، قال: فارتحلنا حتى أتت الجمرة فرمتها ثم صلت الفجر في منزلها فقلت لها: يا هَنْتاه " أي يا هذه " لقد غلسَّنا " أي بكرنا " فقالت: كلا أي بني، أذن النبي صلى الله عليه وسلم للظعن) (1) أي بما تقدم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل.. من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء من كتاب الحج. وأحمد والبيهقي. المغني [5 / 285] .
    (11/177)
    ________________________________________
    ولا شك أن امتناعها عن الذهاب قبل مغيب القمر يدل على أن الإذن إنما كان عند غيابه وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة " أي ثقيلة " فأذن لها، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأدفع بأذنه أحب إلي من مفروح به) (1) وفي رواية: (فأصلي الصبح فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس) فدل على أن هذا الدفع يكون بوقت يكفيها أن تصل إلى بيتها أو منزلها بمنى فتصلي فيه الصبح ثم ترمي الجمرة.
    وفي الصحيحين: أن ابن عمر: كان يقدم ضعفة أهله ليلة مزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون " أي يبدؤون السير " قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فيصلون منى لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك فإذا قدموا منى رموا الجمرة فيقول ابن عمر: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2) فهؤلاء أيضاً إنما كانوا يدفعون قبل صلاة الفجر في الثلث الأخير من الليل بحيث أنهم منهم من يصل لصلاة الفجر ومنهم من يصل بعد ذلك.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج رقم 1681 وأخرجه مسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 38] .
    (2) البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل رقم 1676، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء.. صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 41] .
    (11/178)
    ________________________________________
    إذن الراجح: أنه ليس للضعفاء ولا للضعفة ممن يجوز لهم أن يدفعوا ليلة المزدلفة، ليس لهم أن يفيضوا إلا في الثلث الأخير من الليل فيصلون الفجر بمنى، كما أنه ليس للأقوياء أن يدفعوا قبل طلوع الفجر على الراجح – إلا من احتاج الضعفة إليه، كأن تكون هناك نسوة يحتجن إلى من يدفع معهن من الرجال فيجوز لمن احتجن إليه من الرجال أن يدفعوا معهن فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: (كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من جمع بليل) (1) .
    * متى يكون رمي الجمرة للضعفة ومن معهم من الأقوياء: هل يكون قبل طلوع الفجر أم لا يرمون إلا بعد طلوع الفجر أو لا يرمون إلا بعد طلوع الشمس؟
    ثلاثة أقوال لأهل العلم:
    القول الأول: أن لهم أن يرموا قبل طلوع الفجر، أي الضعفة ومن معهم من الأقوياء هذا مذهب الحنابلة والشافعية.
    واستدلوا: بما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي الجمرة قبل طلوع الفجر) (2) لكن الحديث ضعيف مضطرب ولذا أنكره الإمام أحمد وغيره. فقد استدلوا بهذا الحديث على جواز الرمي قبل الفجر للضعفة وبالقياس الأقوياء.
    القول الثاني: وهو مذهب المالكية والأحناف: أنه ليس للأقوياء ولا للضعفة أن يرموا إلا إذا طلعت الشمس.
    واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة والحديث له طرق وهو حديث صحيح عن ابن عباس قال: (قدمنا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة أُغَيْلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا، فجعل يلطخ أفخاذنا " أي يصرفها بلين " ويقول: أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) (3) .
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من قدم ضعفة أهله بليل من كتاب الحج، ومسلم باب استحباب تقديم دفع الضعفة.
    (2) أخرجه أبو داود باب التعجيل من جمع رقم 1942.
    (3) أخرجه أبو داود [1940] والنسائي [2 / 50] وابن ماجه [3025] والترمذي [1 / 169] وأحمد الأرواء رقم 1076 [4 / 276] .
    (11/179)
    ________________________________________
    القول الثالث: هو ما اختاره ابن القيم فقد اختار قولاً جمع فيه بين الأحاديث الثابتة في هذا الباب.
    فقال: أما الضعفة فيجوز لهم أن يرموا بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وليس لهم قبل طلوع الفجر. واستدل بالآثار المتقدمة بحديث أسماء، وحديث ابن عمر، وحديث عائشة فكل الآثار المتقدمة الثابتة في الصحيحين فيها أنهم كانوا يرمون بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فإن أسماء رمت ثم صلت الفجر في منزلها وعائشة تقول: (فأصلي الصبح فأرمي الجمر، قبل أن تأتي الناس) (1) وظاهره أن هذا هو ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لسودة. وهكذا أيضاً أثر ابن عمر فإنهم يقدمون لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا – وقدوم أولهم لصلاة الفجر – رموا الجمرة ويقول: (أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أولئك) (2)
    قال فهذه الأحاديث تدل على أنه يجوز للضعفة أن يرموا بعد طلوع الفجر ولا شك أن ثمت فارق ظاهر بين طلوع الفجر وبين ما قبله فإن طلوع الفجر ثبت به دخول ليوم النحر الذي من مناسكه رمي جمرة العقبة أما قبل طلوع الفجر فإنه لم يدخل بعد هذا اليوم والرمي إنما هو من مناسك يوم النحر.
    قال: أما الأقوياء فليس لهم وإن دفعوا مع الضعفة ليس لهم أن يرموا حتى تطلع الشمس لحديث ابن عباس المتقدم فإنه كان من الأقوياء الذين قدمهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الضعفة ثم نهاهم وقال: (أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس) وهذا القول هو الراجح وبه يكون الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب.
    قال: (وقبله فيه دم) .
    فإذا وقع [لعلها: دفع] قبل نصف الليل فعليه دم.
    إذن: يخرج على قولنا المتقدم: أن من دفع قبل طلوع الفجر من الأقوياء فإن عليه دم والضعفة إذا دفعوا قبل ثلث الليل الأخير فعليهم دم، لوجوب المبيت بمزدلفة ولا يحصل المبيت إلا بما تقدم
    قال: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله) .
    هذه مسألة:
    __________
    (1) سبق ص108
    (2) سبق ص108
    (11/180)
    ________________________________________
    إذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فلم يأت قبل ذلك فعليه دم لفوات المبيت.
    (لا قبله) : إذا أتى قبل أذان الفجر فإنه لا دم عليه.
    فإذن: إذا أتى قبل أذان الفجر فلا دم عليه، وأما بعد الأذان فعليه دم. وذلك لأنه قد ترك واجباً من الواجبات، ويلزمه الدم سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً لأثر ابن عباس وسيأتي.
    قال: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه)
    إذا صلى الصبح بمزدلفة أتى المشعر الحرام وهو جبل " قَزَح " (1) وهو جبل معروف هناك، وهو ما يسمى بالمشعر الحرام.
    ومزدلفة كلها يثبت فيها هذا الاسم على وجه العموم كما صح ذلك عن ابن عمر فقد قال: (المشعر الحرام المزدلفة كلها) لكن هذا الجبل يثبت فيه هذا الاسم على وجه الخصوص فيقف عند المشعر الحرام فيدعو الله ويكبره ويهلله ويحمده ويوحده فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (– بعد أن صلى الصبح – ركب القصواء فأتى المشعر الحرام فوقف عنده فاستقبل القبلة فدعاه " أي دعا الله " وكبره وهلله ووحده) (2) وعند أبي داود: (فحمد الله فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس) (3)
    لذا قال المؤلف هنا: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر فيرقاه)
    ورقيه ثابت في حديث جابر من رواية أبي داود ولحديثه قال: (فرقي عليه) (4)
    قال: (أو يقف عنده)
    __________
    (1) في معالم السنن [2 / 478] : " قُزَح: بضم ففتح، موضع وقوف الإمام بمزدلفة، بزنة عمر، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعدل ".
    (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
    (3) أخرجه أبو داود باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 1905.
    (4) باب صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج رقم 1905.
    (11/181)
    ________________________________________
    فإذاً: إن وقف عنده أو رقى عليه فكل ذلك حسن لكن المستحب أن يرقى عليه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم -: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في بيوتكم ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) (1) وقوله: " هاهنا " أي عند المشعر الحرام.
    قال: (ويحمد الله ويكبره ويقرأ: {فإذا أفضتم من عرفات} الآيتين)
    ولم أجد دليلاً يدل على استحباب قراءة هاتين الآيتين عند الموقف.
    قال: (ويدعو حتى يسفر)
    أي حتى يسفر الجو، ثم قبيل طلوع الشمس يدفع إلى منى.
    قال: (فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر)
    ومحسر: وادي بين مزدلفة ومنى، وسمي محسراً: من حسر، أي أعياه وأتعبه، وسمي بهذا الاسم: لأنه أعيا الفيل وأتعبه فحصل له إعياء في ذلك الموضع فسمي محسراً من حسر، وفيه قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} أي وهو كليل متعب.
    فإذا بلغ محسراً أسرع رمية حجر أي يسرع مسافة قدرها رمية حجر – كما صح ذلك عن ابن عمر في موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يسرع فيه رمية من حجر) (2) ، واستحباب الإسراع ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: (فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً) (3)
    قال: (وأخذ الحصى، وعدده سبعون بين الحمص والبندق)
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 195] .
    (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب السير في الدفعة رقم 889.
    (3) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج.
    (11/182)
    ________________________________________
    أي أخذ الحصى في طريقه غداة العقبة وذلك لمصلحة التعجل بالرمي عند الوصول إلى جمرة العقبة، حتى لا ينشغل بجمع الحصى عند الوصول إلى الموضع الذي يرمي فيه، فيستحب له قبيل وصوله المرمى أن يجمع الحصى من أي موضع شاء من مزدلفة أو من غيرها فليس هناك موضع يتعين استحبابه وقد ثبت في النسائي عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة العقبة " أي فجر غداة اليوم الذي ترمي فيه جمرة العقبة ": هلمَّ القط لي قال: فلقطت له حصيات مثل الخذف " وهو الحصى الصغير الذي يمكن وضعه بين السبابتين ليرمي به " فأخذهن من يده ثم قال: بمثل هؤلاء وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (1)
    والشاهد أن الحصى كحصى الخذف.
    ثم قال المؤلف هنا: (بين الحِمَّص والبندق)
    الحمص: معروف ولعله بنصف أنملة الأصبع الصغرى، والبندق كذلك.
    فبينهما يكون حصى الخذف.
    وقوله: (عدده سبعون) : ظاهره أنه يجمع سبعين من ذلك الموضع، وهذا فيه نظر.
    بل الأظهر أنه يجمع لكل يوم في يومه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجمع غداة العقبة أي لجمرة العقبة وأما غيرها من الجمرات فيجمع لها في أيامها.
    وعدد الجمرات التي ترمى في الجمرات كلها على وجه التمام سبعون حصاة.
    في اليوم الأول (العاشر من ذي الحجة) : سبع.
    وفي اليوم الحادي عشر: إحدى وعشرون.
    وفي الثاني عشر كذلك.
    وفي الثالث عشر كذلك.
    فيكون مجموعها سبعين حصاة. يجمعها من أي موضع شاء، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم قد أمره أن يلقطها في طريقه غداة العقبة وهي بين الحمص والبندق – كما تقدم –
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة)
    __________
    (1) أخرجه النسائي باب من التقاط الحصى رقم 3057 من كتاب المناسك بلفظ: " هات القط لي، فلقطت … قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو … ".
    (11/183)
    ________________________________________
    ومنى: شعب بين جبلين وهي بين حدين هما: جمرة العقبة ووادي محسر، فجمرة العقبة ووادي محسر ليسا من منى باتفاق العلماء كما نص على ذلك الموفق وابن القيم وغيرهما.
    والحنابلة ذكروا أن وادي محسر وجمرة العقبة ليسا من منى ولم يذكروا في هذه المسألة خلافاً، وهو المشهور عند أهل العلم وقد ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح أن عمر قال: (لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة) (1) فدل على أن ما وراء العقبة ليس من منى، ولا يعلم لهم مخالف وكذلك وادي محسر.
    ومما يدل على أنه ليس من منى، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مَّر به حرك قليلاً وهي سنته صلى الله عليه وسلم في الأماكن التي وقع فيها بأس الله عز وجل وعذابه كما فعل ذلك في مروره بديار ثمود، ولا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يسرع فيه ويتعجل – لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد لله به. وأما ما ذكره الشيخ الألباني: أن محسراً من منى استدلالاً برواية في صحيح مسلم في حديث الفضل بن عباس من سياق فعل النبي صلى الله عليه وسلم من قول الفضل وفيه ذكر مروره بوادي محسر قال: (وهو من منى) .
    والأظهر إن هذا من قول بعض الرواة وليس من قول الفضل بن عباس إذ لا يمكن أن يكون هذا الموضع الذي يشرع الإسراع به والتعجل بمروره لا يمكن أن يكون منسكاً يتعبد الله به. وهذا هو المشهور عند أهل العلم وقد ذكره الأزرقي عن عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، قال ابن القيم – في وادي محسر: (وهو برزخ بين منى ومزدلفة) وهو – كما تقدم – رمية بحجر أي ثلاثمائة أو أربعمائه متراً ونحو ذلك.
    فعلى ذلك منى: حداها جمرة العقبة ووادي محسر، وأما من الجهتين الأخريين فتحفها الجبال فيهما.
    قال: (رماها بسبع حصيات)
    __________
    (1) الموطأ براوية يحيى بن يحيى الليثي، باب البيتوتة بمكة ليالي منى رقم 919.
    (11/184)
    ________________________________________
    كما ثبت في مسلم من حديث جابر قال: (فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) (1) ويستحب أن يجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ويستبطن الوادي – وذلك عند رمي جمرة العقبة – لما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى الجمرة بسبع حصيات وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (2) .
    قال: (متعاقبات)
    أي واحدة بعد واحدة، فإن رماها دفعة واحدة لم يجزئه لأنه خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف هديه وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (3) فلا يجزئه ذلك وكانت له رمية بحصاة واحدة، فالواجب فيها متعاقبات لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    * الأظهر أنه يجب ألا يقطع بينها بفاصل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
    وفي قوله: (فرماها) فيه اشتراط الرمي وأن الإلقاء والطرح لا يجزئ، فلابد أن يفعل ما يصدق عليه أنه رمى، فلو ألقاها إلقاءً أو طرحها طرحاً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: إنما رماها رمياً فلا يجزئ إلا ما يصدق عليه الرمي وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وهذا باتفاق العلماء وإلقاؤها أو طرحها خلاف هديه، وكل ما كان خلاف هديه فهو رد على صاحبه.
    قال: (يرفع يده حتى يرى بياض إبطه)
    هكذا ذكر بعض الحنابلة وأن ذلك مستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولم أر ما يدل على ذلك من السنة لكن فعل ذلك حسن لأنه أمكن في الرمي وأتم وأما ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا دليل عليه لكن ذلك أعظم في التمكن من الرمي فيستحسن.
    __________
    (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) أخرجه البخاري باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، من كتاب الحج رقم 1749، ومسلم
    (3) سبق ص98
    (11/185)
    ________________________________________
    إذن: يستحسن له أن يرفع يده ثم يرمي بالحجر ولا نقول إن هذا سنة لا سيما تقييده بأن يرى بياض إبطه لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: (ويكبر مع كل حصاة)
    لما تقدم في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (1) أي يقول الله أكبر.
    قال: (ولا يجزئ الرمي بغيرها)
    فلا يجزئه أن يرمي بغير الحصى فلو رمى بغير الحصا كالمدر أو الكحل أو ذهب أو فضة أو نحو ذلك مما ليس بحجر ولا يسمى حجراً فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بالحصى، فقد أمر ابن عباس أن يلقط له حصيات، وقال: (بمثل هؤلاء) (2) أي فارموا، فهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وكل فعل يخالف هديه فهو رد.
    ومثل ذلك لو رمى بحجر كبير فإنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: رمى بحصى الخذف وقال: (بمثل هؤلاء وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرمي بأكبر من حجر الخذف وذكر أنه غلو في الدين، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو فاسد، وهو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد، فالنهي يقتضي الفساد.
    قال: (ولا بها ثانياً)
    ليس له ولا لغيره أن يرمي بحصاة قد رمى بها وذلك لأنها استعملت في عبادة، فأشبه ذلك الماء المستعمل في الوضوء فإنه لا يجوز الوضوء به في المشهور من مذهب الحنابلة.
    وقال الشافعية: له أن يرمي بحصاة قد رمى بها، كأن يأخذ من المرمى حجراً فيرمى به ثانياً.
    __________
    (1) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبخاري، سيأتي ص114.
    (2) سبق ص111
    (11/186)
    ________________________________________
    قالوا: لأنه يصدق عليه اسم الرمي، فهو حصى وقد رمي به وأما كونه يأخذه من المرمى ولا يأخذه ابتداءً من الأرض فهو خلاف الأولى لكنه رمي مجزئ، وأما ما ذكره الحنابلة من قياسه على الماء المستعمل في الوضوء، فالراجح في هذا الأصل: أن الوضوء بالماء المستعمل جائز ولا حرج فيه مع أنه – كما تقدم – خلاف الأولى.
    فالصحيح أنه لو أخذ حصاة من المرمى قد رمى بها هو أو غيره فإن ذلك يجزئه لكن الأولى له أن يأخذها من الأرض ابتداءً فيرمي بها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    واعلم أنه لا يجزئه الرمي إلا أن تقع الحصاة في المرمى باتفاق العلماء، وأنه لو رماها فلم تقع في المرمى فإنه لا يجزئه باتفاق العلماء، لأن الواجب هو رمي الجمرة وهنا لم يقع ذلك منه فلم يجزئه. ولو رماها فوقعت على موضع صلب ثم تدحرجت فوقعت في المرمي أو ضربت حائطاً ووقعت في المرمى فإنه يجزئه؛ لأن ذلك فعله، فهذا كله من فعله فقد رماها وكانت نتيجة رميه وقوعها في المرمى فيجزؤه ذلك.
    أما لو كانت بفعل غيره فإنه لا يجزئه.
    واعلم أنه لا يجزئ الرمي إلا أن بيقين أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمى، أما لو شك في ذلك فإنه لا يجزئه لأن ذمته لا تبرأ إلا بيقين أو غلبة ظن، فالواجب عليه أن يرميها رمياً يتيقن أو يغلب على ظنه سقوطها في المرمي أما إذا شك فإن الأصل عدم وقوعها فيه.
    واعلم أن الرمي واجب باتفاق العلماء وقد ذهب، بعض العلماء إلى ركنيته، والصحيح هو وجوبه فهو واجب يجبر بدم، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    قال: (ولا يقف) .
    (11/187)
    ________________________________________
    فلا يشرع له أن يقف، بل يرمي ثم يذهب عن جمرة العقبة فلا يقف عندها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها لا في يوم النحر ولا في أيام التشريق، بخلاف الجمرة الصغرى والجمرة الوسطى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عندهما كما سيأتي في حديث ابن عمر في البخاري أما جمرة العقبة فلم يقف عندها. فلا يشرع الوقوف ولا الدعاء ولا ذكر، بل ينصرف عنها ولا يقف.
    قال: (ويقطع التلبية قبلها)
    أي قبل الرمي، فيقطع التلبية قبل أن يرمي الجمرة وذلك لحديث الفضل وفيه: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) (1)
    فالمشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء أنه يقطع التلبية قبل اشتغاله برمي الجمار.
    وذهب إسحاق إلى أنه يقطعها عند آخر حصاة، لما ثبت في صحيح ابن خزيمة بإسناد حسن من حديث الفضل وفيه: (فقطع التلبية مع آخر حصاة) .
    والذي يظهر لي هو صحة القول الأول، وأن هذه اللفظة منكرة فإن الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر مع كل حصاة) (2) وهذا يدل - كما قرر هذا البيهقي والموفق، يدل - على أنه قطع التلبية قبل اشتغاله بالرمي إذ لا يمكنه الجمع بين التكبير والتلبية أثناء الرمي.
    قال: (ويرمي بعد طلوع الشمس)
    يرمي جمرة العقبة، لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رمى الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (3) أي أيام التشريق كان يرمي بعد الزوال وأما جمرة العقبة فقد رماها ضحى أي بعد طلوع الشمس.
    قال: (ويجزئ بعد نصف الليل)
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 390،..] ومسلم [4 / 71] وغيرهما، الإرواء رقم 1098.
    (2) أخرجه البخاري باب يكبر مع كل حصاة، ومسلم باب رمي جمرة العقة.. من كتاب الحج. المغني [5 / 297] .
    (3) أخرجه مسلم باب بيان استحباب الرمي من كتاب الحج. المغني [5 / 294] .
    (11/188)
    ________________________________________
    أي يجزئه قوياً أو ضعيفاً أن يرمي بعد نصف الليل، وتقدم ضعف هذا القول وأن الراجح أنه إن كان من الأقوياء فلا يرمي إلا بعد طلوع الشمس وإن كان من الضعفاء فبعد طلوع الفجر.
    واعلم أن أهل العلم قد أجمعوا على أن رمي جمرة العقبة يمتد إلى غروب الشمس حكى الإجماع ابن عبد البر ويدل عليه ما ثبت في البخاري: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: رميت بعدما أمسيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (1) والمساء: من زوال الشمس إلى أن يشتد الظلام.
    وقيل: إلى نصف الليل.
    والمشهور هو الأول.
    واختلفوا في الرمي ليلاً هل يجزئ أم لا؟
    الحنابلة قالوا: لا يجزئ أن يرمي ليلاً، ومن فاته الرمي نهاراً فغربت الشمس ولم يرم، فإنه يرمي من الغد بعد زوال الشمس – أي في اليوم الحادي عشر -.
    وقال المالكية والشافعية: يجزئه أن يرمي ليلاً إلا أن المالكية قالوا: عليه دم فهو عندهم من باب القضاء لا من باب الأداء وأما الشافعية فهو عندهم من باب الأداء ولا دم عليه.
    استدل الحنابلة: مما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: (من نسى رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) والإسناد إليه صحيح.
    وأما حجة المالكية والشافعية: فاستدلوا: بحديث البخاري المتقدم ففيه أن السائل لما قال: (رميت بعدما أمسيت قال له: النبي صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) قالوا: والمساء يصدق على جزء من الليل كما أنه يصدق على جزء من النهار باتفاق أهل اللغة.
    فإن ما قبل اشتداد الظلام بعد غروب الشمس هو من المساء اتفاقاً قالوا: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق، وباب إذا رمي بعدما أمسى من كتاب الحج. المغني [5 / 295] .
    (11/189)
    ________________________________________
    وأجاب الحنابلة عن استدلال الشافعية بهذا الحديث قالوا: السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فثبت لنا أن سؤاله موجه إلى المساء في النهار، وهو ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ويوم النحر ينتهي بغروب الشمس والحديث فيه أن السائل سأله يوم النحر، فدل على أنه قد رمى في مساء النهار، فإن المساء قسمان 1- مساء نهار 2- ومساء ليل.
    فمساء الليل بعد غروب الشمس إلى أن يشتد الظلام، وأما مساء النهار فهو من زوال الشمس إلى غروبها.
    فالسؤال قد وقع في اليوم الذي يدل على أن السؤال إنما كان في النهار.
    ويدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل في ذلك اليوم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (1) .
    وللفارق بين هذين المسائين فإن مساء الليل تبع لليوم الحادي عشر، فإذا غربت الشمس دخلت ليلة إحدى عشرة وأما ما قبل غروب الشمس فهو من الليل العاشر وهو يوم النحر فالأظهر أن في استدلال الشافعية بهذا الحديث نظراً.
    واستدلوا – أيضاً – بما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد زوج ابن عمر نفست فتخلفت هي وصفية في المزدلفة فأتيتا بعد غروب الشمس فأمرهما ابن عمر أن يرميا ولم ير عليهما شيئاً) (2) فهذا يدل على جواز الرمي ليلاً.
    والذي يظهر لي – والله أعلم – قوة ما ذهب إليه الشافعية لثبوت هذا الأثر عن ابن عمر صريحاً.
    وأما أثره السابق: فالذي يظهر لي أن ذلك في أيام منى وأن من نسى رمي الجمار في أيام منى، فإنه لا يرمي ليلاً وإنما يرمي بعد زوال الشمس من الغد – على رأى ابن عمر وسيأتي الكلام عليه في موضعه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الفتيا على الدابة عند الجمرة من كتاب الحج وأخرجه مسلم باب جواز تقديم الذبح على الرمي … من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 54، 56] ، المغني [5 / 321] .
    (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب الرخصة في رمي الجمار رقم 931.
    (11/190)
    ________________________________________
    فالجمع بين أثري ابن عمر: أن الأثر الأول في رمي الجمار أيام التشريق وذلك لأن أيام التشريق وقتها واحد، فكلها إذا زالت الشمس رميت، فأُمر بجمعها، وسيأتي الكلام على جمعها ومذاهب أهل العلم في ذلك، فالمراد جمار أيام التشريق بدليل الجمع في قوله: (من نسى رمي الجمار) (1) أي جمرة العقبة والجمرة الوسطى والجمرة الصغرى.
    وأما أثره الآخر فهو دال على جواز الرمي ليلاً لاسيما للمعذورين وهكذا في ازدحام الناس وحطمتهم فإنه يقال بهذا المذهب.
    وحينئذ فالأحوط ألا يرمي إلا نهاراً، لكن ينبغي أن يوسع في هذا حيث كانت هناك حطمة وزحام شديد فإنه يوسع في هذا كما تقدم عن ابن عمر في امرأته لما تخلفت وابنة أخيها فإنه أمرهما أن يرميا ليلاً.
    هناك أثر عن ابن عباس: أن الحجر الذي يرمي فيقبل (2) أنه يرفع وهو ثابت عن ابن عباس لكن هل المراد رفع معنوي أو حقيقي – هذه مسألة أخرى.
    الجبال التي تحف منى: ما أقبل فهو من منى وما أدبر فليس منها، أما الذي في رأس الجبل لا مقبل ولا مدبر: فالأظهر أنه ليس من منى لأن الحدود في الأصل ليست منها لكن الناس في هذا الوقت لا يمكن إلا أن يخرجوا من منى فهذا باب آخر، لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها.
    ولا شك أن الموضع لا يكفي فيحتاجون أن يكون في مواضع أخرى من المواضع التي تتصل بمنى. فإذا اتصلت المواضع بمنى فقد امتدت فإن لها حكم منى، كما أن الناس إذا صلوا في المسجد فامتدت صفوفهم خارج المسجد فهم في المسجد، فكذلك منى فإذا اتصلت في الخيام ولو كان ذلك خارج منى فإنه يجزئ لأن الواجبات تسقط عند العجز عنها ولأن المشقة تجلب التيسير ولا يتكلفون أيضاً الخروج من خيامهم إلى المبيت في الليل بمنى لما في ذلك من الكلفة عليهم.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله: (ثم ينحر هدياً إن كان معه)
    __________
    (1) سبق ص116
    (2) لعلها: فيضل.
    (11/191)
    ________________________________________
    سواء كان الهدي واجباً كهدي التمتع والقران، أو كان هدياً مستحباً كهدي المفرد، فمن كان معه هدي فإذا رمى الجمرة استحب له أن يهدي فالترتيب: أن النحر أو الذبح يكون بعد الرمي.
    دليل ذلك حديث جابر في مسلم قال – وقد ذكر رميه لجمرة العقبة – قال: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما غبر وأشركه في هديه) (1) .
    قال: (ويحلق أو يقصر من جميع شعره)
    السنة في باب الترتيب أن يكون الحلق أو التقصير بعد النحر ففي مسلم من حديث أنس بن مالك قال: (ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ …) (2) الحديث ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أولاً ثم نحر ثانياً ثم حلق ثالثاً.
    واعلم أن الأفضل بإجماع العلماء هو الحلق، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: اللهم ارحم المحلقين والمقصرين فدعا لهم في الثالثة) (3) ولأن الله قدم الحلق على التقصير في قوله: {محلقين رؤوسكم ومقصرين (4) } فالحلق أفضل من التقصير وقد تقدم الكلام على التقصير وما يجزئ فيه وأن ما يصدق عليه اسم التقصير من تعميم الشعر كله. فالجزء الذي يصدق عليه مسمى التقصير يجزئ عنه سواء كان بقدر أنملة أو أقل من ذلك.
    واختلف أهل العلم في الحلق أو التقصير هو نسك أم أنه إطلاق من محظور؟
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (2) أخرجه مسلم باب بيان أن السنة يوم النحر …، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 52] .
    (3) أخرجه البخاري [1 / 433] ومسلم [4 / 80، 81] وغيرهما. الإرواء رقم 1084.
    (4) سورة الفتح.
    (11/192)
    ________________________________________
    1- فقال جمهور العلماء: هو نسك، ولذا قال المؤلف بعد ذلك: (والحلق والتقصير نسك) فهو نسك من أنساك الحج كالرمي والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك.
    ودليل ذلك قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين والمقصرين) فدل ذلك على أنه نسك وعبادة في الحج.
    ويدل عليه بظهور أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان منكم ليس قد أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليتحلل) (1) فدل على أن التحلل مترتب على الحلق أو التقصير وأنهما نسك من أنساك الحج.
    2- وقال الإمام أحمد في رواية عنه: هو إطلاق من محظور كالتطيب، فكما أن المحرم يجوز له إذا تحلل أن يتطيب وأن يفعل ما شاء من محظورات الإحرام مما ليس محرماً في الشريعة فكذلك حلق الرأس فهو مجرد إطلاق من محظور من محظورات الإحرام.
    واستدل الإمام أحمد في هذه الرواية غير المشهورة عنه، بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري والحديث تقدم لفظه: وفيه: أنه أهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال: " حُل " (2) ولم يذكر حلقاً ولا تقصيراً.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 425] ومسلم [4 / 49] وغيرهما، الإرواء رقم 1048.
    (2) أخرجه البخاري باب الذبح قبل الحلق من كتاب الحج، و…، ومسلم باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من كتاب الحج، والنسائي وغيرهم. المغني [5 / 97، 305] . سبق ص35.
    (11/193)
    ________________________________________
    والصحيح هو القول الأول وأن الحلق أو التقصير من مناسك الحج بدليل الأدلة المتقدمة وأما حديث أبي موسى فإن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يأمره بالتقصير صراحة وقد أمر به غيره من الصحابة كما تقدم في حديث ابن عمر ثم أن قوله: " حل " أي افعل ما يترتب عليه التحلل من حلق أو تقصير أي افعل ما تكون به حلالاً ولا يكون حلالاً حتى يحلق رأسه أو يقصر.
    فالصحيح ما ذهب جمهور العلماء وهي الرواية المشهورة عن الإمام أحمد أن الحلق نسك.
    قال: (وتقصر منه المرأة أنملة)
    الأنملة هي: رأس الأصبع من المفصل الأعلى.
    فالمرأة لا يشرع لها أن تكثر من التقصير بل ينبغي لها أن تقصر أنملة أو نحو ذلك، فلا ينبغي لها أن تبالغ بالتقصير.
    وتقييد المؤلف هنا بقدر أنملة ليس المراد أن هذا هو الواجب عليها بل المقصود إنها لا تبالغ بل يكون قدر أنملة أو نحو ذلك، لكن لو أخذت نصف أنملة أو أقل من ذلك أو أكثر فإنه يجزؤها.
    فتقييده بالأنملة لبيان عدم مشروعية المبالغة في أخذ الشعر فإن المرأة المستحب لها هو توفير شعرها لا تقصيره.
    وأما الحلق فهو محرم بالإجماع ولا يشرع للمرأة في الحج وفي الترمذي وغيره والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى المرأة أن تحلق شعرها) (1) وفي أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير) (2) .
    قال: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء)
    إذا رمى الجمرة وحلق – فالنحر ليس في هذا الباب، فإن النحر لا يثبت على المفرد ونحوه، ولأن بدله تمتع من ترتيب التحلل عليه - فإذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء.
    وهنا مسألتان:
    __________
    (1) أخرجه الترمذي باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء من كتاب الحج رقم 914.
    (2) أخرجه أبو داود باب الحلق والتقصير من كتاب المناسك رقم 1984، 1985.
    (11/194)
    ________________________________________
    المسألة الأولى: أن هذا هو المشهور في المذهب وأن من فعل نسكين من ثلاثة فإنه يتحلل التحلل الأول، فإذا فعل النسك الثالث حل التحلل التام، والأنساك الثلاثة هي الرمي والحلق والطواف.
    والسعي داخل في هذا الباب مع الطواف وإنما لم يذكروه لأن السعي أيضاً ربما فعله مع طواف القدوم. فإذا فعل نسكين من ثلاثة حل التحلل الأول، فإذا فعل الثالث حل التحلل التام وهذا مذهب الشافعية أيضاً.
    واستدلوا: بما روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (1)
    قالوا: فذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا نسكين ولا شك أن الطواف أولى منهما، فهما من الواجبات (الحلق والرمي) ، والطواف ركن فهو أولى منهما قالوا: فدل على أنه لو رمى وطاف أو حلق وطاف فكذلك لأن الطواف أولى منهما.
    وذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أنه إذا رمى الجمرة فقد حل وإن لم يحلق.
    واستدلوا: بما روى النسائي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء) (2) والحديث صحيح، وله شاهد عن ابن الزبير في مستدرك الحاكم. وصحح هذا القول الموفق ابن قدامة. (3)
    وأجابوا عن دليل أهل القول الأول: بأنه حديث ضعيف فإن فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث، وهو كما قالوا فإن الحديث ضعيف.
    فعلى ذلك الراجح: ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب الإمام مالك واختاره الموفق – أنه إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء. فإذا تم له أنساك الحج فحلق وطاف، وسعى المتمتع فإنه يحلل التحلل التام.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود باب في رمي الجمار من كتاب المناسك، وأحمد. المغني [5 / 308] .
    (2) أخرجه النسائي باب ما يحل للمحرم.. من كتاب المناسك، وابن ماجه باب ما يحل للرجل إذا رمى.. من كتاب المناسك.
    (3) المغني [5 / 310] .
    (11/195)
    ________________________________________
    والقياس أن يقال أيضاً: أنه لو حلق فقط أو طاف فقط فإنه يحل التحلل الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب التحلل على رمي الجمرة وهو نسك من أنساك يوم النحر، فالقياس إثباته في أي نسك من أنساكه، فلو حلق فكذلك أو طاف فكذلك أو سعى فكذلك، لكن الأولى ألا يتحلل التحلل الأول حتى يرمي الجمرة وإلا فالقياس أنه لو طاف فحسن أو حلق فكذلك فإنه يحل التحلل الأول بجامع أنها كلها أنساك من أنساك الحج.
    2-المسألة الثانية قوله: (إلا النساء)
    قال الحنابلة: إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً أو عقداً.
    وعن الإمام أحمد أنه لا يحرم إلا الوطء من الفرج لأنه أغلظ المحظورات فهو الذي يفسد الحج به وأما مقدماته من مباشرة أو مس ونحوها فإنها لا تحرم.
    وفي هذا نظر، فإن الشارع إذا نهى عن الشيء نهى عن ذرائعه الموصلة إليه فمقدمات الجماع ينبغي أن ينهي عنها لأنه إذا حرم الشيء حرمت ذرائعه الموصلة إليه.
    وذكر شيخ الإسلام عن الإمام أحمد – وهو داخل في عموم الرواية المتقدمة – أن عقد النكاح جائز، واختاره رحمه الله وهو مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد أنه يجوز له عقد النكاح وأن الداخل في ذلك إنما هو الجماع ومقدماته أما مجرد عقد النكاح فإنه لا حرج فيه.
    وفيما ذهب إليه شيخ الإسلام قوة، إذ قوله (إلا النساء) إدخال العقد فيه بُعد، فإن العقد ليس فيه شيء من مجانسة النساء ولا مباشرتهن ولا جماعهن فيكون كما لو كانت معه امرأته من غير أن يمسها أو يباشرها أو يجامعها.
    فمجرد العقد الظاهر أنه يدخل في عموم قوله (فقد حل له كل شيء) (1) أما لفظة " إلا النساء " فهي ثابتة في الوطء وأدخلنا مقدمات الوطء لأنها ذرائع موصلة إلى الوطء نفسه.
    ومع ذلك فإن الأحوط هو الامتناع من العقد أيضاً لا سيما مع قصر الوقت فإنه بتمام المناسك في ذلك اليوم يحل له الوطء والعقد على النساء اتفاقاً.
    __________
    (1) سبق قريباً.
    (11/196)
    ________________________________________
    فإذن: ذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: استثنوا عقد النكاح ولم يروه داخلاً في قوله: (إلا النساء) ورأوا أن المنهي عنه إنما هو الجماع ومقدماته، وأما عقد النكاح فإنه لا حرج فيه.
    إذن: الأظهر أنه إذا رمى الجمرة فإنه يحل له كل شيء إلا النساء وطأً أو مباشرة أو قبلة أو مساً وأما العقد فالأظهر عدم دخوله والله أعلم.
    قال: (والحلق والتقصير نسك)
    تقدم هذا وأنه هو المشهور في المذهب.
    قال: (ولا يلزم بتأخيره دم)
    أي لا يلزم بتأخيره عن أيام منى دم.
    أما تأخيره في أيام منى فلم أر خلافاً بين أهل العلم في أنه لا يجب عليه الدم.
    وأراد المؤلف هنا: أن ينبه على اختيار الحنابلة أن تأخير الحلق عن أيام منى كأن يحلق مثلاً في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة أو بعد شهر ذي الحجة فلا يلزمه دم.
    1 - هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (1) فأطلق الله عز وجل فذكر ابتداء الحلق وأنه إذا بلغ الهدي محله ولم يذكر – سبحانه – وقت انتهائه فأطلق ذلك فحينئذ يكون لا مدة لانتهائه، كالطواف فكما أنه يجوز له أن يطوف في اليوم الخامس عشر ونحو ذلك ولا شيء عليه فكذلك الحلق.
    2-وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أن من تأخر في الحلق فلم يحلق حتى فاتته أيام منى فعليه دم.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (11/197)
    ________________________________________
    وهذا القول – فيما يظهر لي – قوي وهو مقتضى كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في مسألة الطواف فإنه نظر في قول الحنابلة وغيره من جواز تأخير الطواف عن أيام منى، وأن ذلك لا يجوز، وذلك لأن أيام منى هي أيام الحج، والحج عبادة مؤقتة {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج} (1) فكون الله عز وجل لم يقيَّد وقتاً لانتهاء الحلق في الآية المتقدمة لكنه سبحانه وقت للحج في قوله: {الحج أشهر معلومات} فالحج له أيامه التي يفعل فيها، ومقتضى ذلك أنه لا يجوز تأخيره عن أيامه.
    فالراجح أنه لا يجوز تأخيره عن أيام منى وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وأنه يجب عليه دم وهو مذهب بعض الحنابلة.
    وعلى ما تقدم من ترجيح مذهب المالكية أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه، فإنه على ذلك إذا أخر الحلق عن شهر ذي الحجة فعليه دم وقبله لا دم عليه، ومع ذلك فالأحوط أنه: إن أخره عن أيام منى فعليه دم لأن أيام التشريق هي آخر أيام الحج في التعبد وفعل المناسك.
    قال: (ولا بتقديمه على الرمي والنحر)
    لو أن رجلاً حلق قبل أن يرمي، أو حلق قبل أن ينحر فلا دم عليه ولا حرج في ذلك.
    ودليله ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: (يا رسول الله! حلقت قبل أن أذبح فقال: اذبح ولا حرج، فقال رجل: يا رسول الله! ذبحت قبل أن أرمي فقال له صلى الله عليه وسلم: ارم ولا حرج) (2) .
    وفي مسلم: فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) (3) .
    وحينئذ فإن هذا يكون ترخيصٌ دلت عليه سنة، وإلا فإن ظاهر قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} أنه لا يجوز له أن يحلق حتى يبلغ الهدي محله وأن الواجب عليه أن يهدي ثم يحلق لكن استثنت السنة هذا في يوم النحر.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (2) سبق ص115
    (3) سبق ص115
    (11/198)
    ________________________________________
    واعلم أنه يستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر، ففي البخاري من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب الناس يوم النحر) (1) .
    وليس هي خطبة العيد، لأنها إنما تشرع لأهل الحاضرة والمقيمين.
    ويستحب له أن يعلمهم مناسكهم فيه، ففي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن معاذ قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ففتحت أسماعنا له حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ رمي الجمار فوضع أصبعيه السباحتين " أي بعضهما على بعض " وقال: بحصى الخذف) (2) .
    ويستحب أن يكون ضحى لما ثبت في أبي داود من حديث رافع المزني قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حتى ارتفع الضحى وهو على ناقته الشهباء وعلي يعبِّر عنه " أي يبلغ عنه " والناس بين قاعد وقائم) (3) .
    فإذن المستحب للإمام أن يخطب الناس يوم النحر فيعلمهم مناسكهم.
    وفي ابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قلم أظافره بعد التحلل)
    والحمد لله رب العالمين.

    فصل
    قال: (ثم يفيض إلى مكة ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة)
    يطوف القارن والمفرد بنية طواف الزيارة.
    وأما المتمتع فإنه يطوف طواف القدوم ثم طواف الزيارة فيما نص عليه الإمام أحمد.
    فقد نص – رحمه الله تعالى – على أن المتمتع والقارن والمفرد إن لم يطف طواف القدوم يستحب لهما أن يطوفا طواف القدوم يوم النحر ثم يطوفا طوافاً آخر وهو طواف الزيارة الذي هو ركن الحج.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب الخطبة أيام منى رقم 1739.
    (2) أخرجه أبو داود باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى من كتاب المناسك، رقم 1957 بلفظ: " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن.. السبابتين
    (3) أخرجه أبو داود باب أي وقت يخطب يوم النحر رقم 1956 بلفظ: " رأيت … على بغلة شهباء … ".
    (11/199)
    ________________________________________
    واستدل رحمه الله تعالى: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة – وهو القارنون – فلم يطوفوا إلا طوافاً واحداً) (1) فاستفاد - رحمه الله – من هذا الحديث مشروعية طواف القدوم للمتمتعين ثم يطوفون بعده طواف الزيارة.
    واستحبه للقارنين والمفردين الذين لم يطوفوا للقدوم لما قدموا مكة.
    قال الموفق رحمه الله تعالى: (ولم يوافق أبا عبد الله أحد على هذا) (2) ، فجمهور العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه على خلاف هذا القول، وأن المتمتع لا يشرع له في الحج إلا طواف الزيارة وهو طواف الحج الأكبر أما طواف القدوم قبله فلا يشرع له، وكذلك لا يشرع للقارنين الذين طافوا طواف القدوم، لا يشرع لهم أن يطوفوا قبل طواف حجهم طوافاً آخر قالوا: ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولأن طواف القدوم يشبه تحية المسجد ومن اشتغل بالفرض سقطت عنه تحية المسجد بل لم تشرع له.
    __________
    (1) أخرجه البخاري، باب كيف تهل الحائض.. وباب طواف القارن من كتاب الحج رقم 1638، ومسلم باب بيان وجوه الإحرام وباب بيان حج الحائض من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 140] .
    (2) قال في المغني [5 / 315] : " ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد الله على هذا الطواف.. ".
    (11/200)
    ________________________________________
    وأما الحديث الذي استدل به الإمام أحمد رحمه الله فقالوا: هو السعي بين الصفا والمروة أي أن المتمتعين لم يكتفوا بالطواف بالبيت يوم الحج الأكبر بل ضموا إلى ذلك السعي بين الصفا والمروة فكان للمتمتعين في ذلك اليوم طوافان طواف بالبيت يشتركون به مع المفردين والقارنين، وطواف آخر تفردوا به وهو الطواف بين الصفا والمروة – ولا شك أن السعي بين الصفا والمروة طواف كما قال تعالى في كتابه الكريم: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (1) .
    إذن قالوا: قول عائشة - أن المتمتعين لما رجعوا من منى طافوا طوافاً آخر، قالوا - هو الطواف بين الصفا والمروة وأما طوافهم الأول فهو طوافهم مع القارنين والمفردين وهو الطواف بالبيت.
    والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء كما تقدم.
    وقول المؤلف: (بنية الفريضة) : تقدم الكلام على شرطية النية في الطواف وكلام أهل العلم في ذلك.
    (طواف الزيارة) يسمى طواف الزيارة لأنه زيارة من منى إلى مكة كما أنه يسمى بطواف الإفاضة لأنه يقع بعد الإفاضة من منى ويسمى – أيضاً – بطواف الركن وذلك لأنه ركن من أركان الحج ويسمى طواف الصدر لأنه يفعل بعد الصدور من منى: فهذه أربعة أسماء له.
    وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وقد قال تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق (2) } وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل عن صفية أم المؤمنين فقيل له: إنها حائض فقال: أحابستنا هي؟ فقيل له: إنها قد أفاضت يوم النحر " وطافت طواف الإفاضة " فقالوا: اخرجوا) (3) أي اخرجوا من مكة.
    فظاهر هذا أنها لو لم تطف طواف الإفاضة لحبستهم حتى تطوفه فدل على أنه ركن من أركان الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا وأنه ركن على المفرد والقارن والمتمتع.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (2) سورة الحج.
    (3) أخرجه البخاري: 3 / 173، ومسلم [4 / 93] وغيرهما، الإرواء رقم 1069.
    (11/201)
    ________________________________________
    وأما الطواف الآخر الذي استحبه الإمام أحمد فهو إضافة طواف قبله هو طواف القدوم استحبه للمتمتعين مطلقاً وللقارنين والمفردين الذين لم يشتغلوا به عنـ[د] قدومهم مكة.
    وخالفه جمهور أهل العلم فلم يستحبوا ذلك ولم يوافقه أحد من أهل العلم على مشروعية هذا.
    قال: (وأول وقته بعد نصف ليلة النحر)
    هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وأن طواف الزيارة يبدأ وقته إذا انتصف الليل من ليلة النحر.
    واستدلوا: بحديث أم سلمة المتقدم وقد تقدم تضعيفه وإنكار الإمام أحمد له.
    وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بطلوع الفجر وهو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف يوم النحر وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر) أي طاف طواف الإفاضة ثم رجع إلى منى) (1) .
    فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف طواف الإفاضة يوم النحر كما في حديث ابن عمر، وحديث غيره كحديث جابر في مسلم (2) ، ولأنه من عبادات يوم النحر فلم يجزئ إلا به وقد تقدم نحو هذا في الرمي.
    فعلى ذلك من طاف قبل طلوع الفجر فإنه لا يجزئه ذلك سواء كان من الأقوياء أو الضعفة.
    فالراجح أن أول وقته طلوع الفجر يوم النحر.
    قال: (ويسن في يومه)
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج، وأبو داود، قال محققا المغني: " أما حديث ابن عمر فلم يروه البخاري، انظر اللؤلؤ والمرجان 2 / 73، وتحفة الأشراف 6 / 155 " ا. هـ. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في باب الزيارة يوم النحر رقم 1732: " وقال لنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه طاف طوافاً واحداً ثم يقيل ثم يأتي منى، يعني يوم النحر، ورفعه عبد الرزاق أخبرنا عُبيد الله " ا. هـ.
    (2) باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من صحيح مسلم.
    (11/202)
    ________________________________________
    أي المستحب أن يكون في يوم النحر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم.
    قال: (وله تأخيره)
    أي تأخيره مطلقاً.
    قال جمهور العلماء له تأخيره ما بقى حياً، لأن الله عز وجل قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} ولم يبين وقتاً لانتهائه.
    وإنما اختلفوا في لزوم الدم بتأخيره.
    فأوجبه الأحناف إذا ذهبت أيام منى.
    وأما المالكية فأوجبوه إذا انسلخ شهر ذي الحجة ولم يطف.
    وأما الحنابلة والشافعية فلم يوجبوا الدم مطلقاً، وتقدم النظر في هذا في الدرس السابق.
    وما ذهب إليه ابن حزم في هذه المسألة – فيما يظهر لي – قوي جداً فإنه قد ذهب إلى أن أشهر الحج لا تصح أفعال الحج إلا بها، فإذا [خرجت] أشهر الحج فإن أفعال الحج لا تصح ولا تحل، فإذا خرج شهر ذي الحجة فلا يصح الإتيان بالطواف ولا غيره من أركان الحج – وهذا هو ظاهر القرآن فقد قال تعالى: {الحج أشهر معلومات} أي وقت الحج أشهر معلومات، ومعلوم أن العبادة لا تصح بعد خروج وقتها. فما ذهب إليه مذهب قوي والله أعلم.
    قال: (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم)
    يسعى بين الصفا والمروة يوم الحج الأكبر قسمان من الناس:
    القسم الأول: المتمتعون، فإنهم مطلقاً يسعون بين الصفا والمروة.
    القسم الثاني: القارنون والمفردون إذا لم يسعوا عند قدومهم، هذا مذهب جمهور العلماء وأن القارن والمفرد إنما يجب عليه سعي واحد، فإذا سعى عند قدومه أجزأه عن السعي يوم الحج الأكبر، وإن تركه عند قدومه فطافه يوم الحج الأكبر أو بعده فإنه يجزئه ذلك.
    ودليل هذا حديث عائشة المتقدم وكانت قارنة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يسعك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) (1) .
    __________
    (1) سبق ص34.
    (11/203)
    ________________________________________
    وأما المتمتعون فجمهور العلماء على أنه يجب عليهم أن يطوفوا بالصفا والمروة طوافين طواف لعمرتهم وطواف لحجهم: (المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة) أي يجب عليهم سعيين سعي لحجهم وسعي لعمرتهم.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة المتقدم وفيها أنها قالت في المتمتعين: إنهم طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر " (1) تقدم سياقه.
    واستدلوا: بما رواه البخاري في صحيحه، قال البخاري: قال أبو كامل الفضل بن حسين ثم ساق بسنده إلى ابن عباس وفيه: أن ابن عباس قال: (وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج - فهم متمتعون إذ القارنون والمفردون ما زالوا على إهلالهم المتقدم من ميقاتهم - فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي) (2) .
    وعن الإمام أحمد واختار هذا ونصره شيخ الإسلام: أن المتمتع لا يجب عليه إلا سعي واحد بين الصفا والمروة فإذا سعى للعمرة أجزأ ذلك عن الحج.
    واستدل رحمه الله بما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) (3) .
    __________
    (1) سبق ص121 برقم 286.
    (2) ذكره البخاري باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام} رقم 1572 قال: " وقال أبو كامل فُضيل بن حسين البصري حدثنا عثمان بن غياث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن … ثم أَمَرَنا عشية التروية … ".
    (3) أخرجه مسلم باب بيان وجوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر المتمتع، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 162] .
    (11/204)
    ________________________________________
    قالوا: وهذا في المتمتعين كما هو في القارنين والمفردين بدليل أن جابر كان من المتمتعين فقد ثبت في مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه قال: (فقربنا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب - أي بعد العمرة - فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (1) إذن جابر كان من المتمتعين.
    وأجاب شيخ الإسلام عن حديث عائشة المتقدم بقوله: (قيل: إنه من قول الزهري) أي قوله: (فطاف الذين تمتعوا بعد أن رجعوا من منى طوافاً آخر) فما بعده قيل إنه من قول الزهري.
    ولا شك أن هذا التعليل لا يصح فإن هذا الحديث ثابت في الصحيحين فلا يرد بمثل هذا، وهو قوله: (قيل إنه من قول الزهري) .
    كما أن الأسانيد الثابتة في هذا الحديث يرد هذا، والأصل ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعلل بمثل هذا القول المحكي المضعف بقوله " قيل ". فعلى ذلك حديث عائشة حديث صحيح متفق عليه فلا يعلل بمثل هذا.
    وأما حديث ابن عباس فأعل بأن البخاري لم يسمعه من أبي كامل الفضل بن حسين، فإنه قال في صحيحه (قال أبو كامل) ولم يقل: حدثنا فعلى ذلك هو منقطع.
    والصحيح أن مثل هذه اللفظة: (قال) أنها إما أن تكون من باب العنعنة كما هو مذهب جمهور العلماء ولذا غلطوا ابن حزم في رده حديث المعازف، فإنه لما ضعف حديث المعارف لقول البخاري: " قال " ردوا مقالته تلك وقالوا: إن هذا من باب العنعنة، وأبو كامل من شيوخ البخاري وقد عاصره معاصرة كثيرة فهو من شيوخه فإذا قال: (قال) فكما لو قال: (عن) والبخاري ليس معروفاً بالتدليس اتفاقاً فعلى ذلك تحمل روايته على السماع.
    وإنما صرفها إلى مثل هذه العبارة؛ قيل: لأنه أخذ هذا عرضاً أو بمناولة أومذاكرة – فلم يصرح بالتحديث لذلك – هذا أولاً.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب بيان جوه الإحرام، مذاهب العلماء في تحلل المعتمر، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 160] .
    (11/205)
    ________________________________________
    ولو سلمنا أنه معلق فإن معلقات البخاري صحيحة حيث جزم بها، فإن القاعدة عند أهل العلم أن ما جزم به البخاري من المعلقات عما كان من الطبقات العليا أنه صحيح إلى من جزم إليه، فكيف إذا كان المجزوم عنه به من شيوخه لا شك أنه أولى بالقبول.
    على أن الحديث ثبت موصولاً فقد رواه مسلم خارج صحيحه موصولاً ورواه الإسماعيلي في مستخرجه موصولاً، ورواه عنه البيهقي في سننه موصولاً، فالحديث ثابت موصولاً.
    فعلى ذلك الحديث صحيح ثابت قطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لتضعيف الحديث.
    وأجاب أهل القول عن حديث جابر فإنه مشكل في هذا الباب أجابوا عنه بأن مراده القارنون بدليل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قارناً فإنه قال: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً) (1) قالوا: فهذا المحكي عن جابر إنما كان في القارنين.
    وهذا فيه نظر – أي هذا الجواب – لما تقدم من قول جابر في روايته الأخرى قال: (فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بالصفا والمروة) (2) فدل على أنه في المتمتعين.
    وحينئذ يكون الخروج من هذا بالترجيح لا بالجمع فيقال:
    عندنا إثبات ونفي فابن عباس يثبت الطواف بالصفا والمروة وكذلك عائشة فإنها تثبته وأما جابر فإنه ينفي ذلك ولا شك أن المثبت مقدم على النافي وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، فحفظت لنا عائشة وابن عباس أن المتمتعين قد طافوا بالصفا والمروة طوافاً آخر، وأما جابر فقد نفى ذلك، ولا شك أن المثبت مقدم على النافي.
    والوجه الثاني من الترجيح: أن يقال: قد ثبت حديث عائشة في الصحيحين وأما حديث جابر فهو في مسلم ولا شك بترجيح أحاديث الصحيحين على أحاديث مسلم.
    كما أن حديث ابن عباس ثابت في البخاري فهو مرجح على حديث جابر حيث هو ثابت في مسلم.
    __________
    (1) سبق ص124
    (2) سبق أنه أخرجه مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 161] .
    (11/206)
    ________________________________________
    الوجه الثالث: أن يقال: إن إثبات السعي بين الصفا والمروة للمتمتعين يوم الحج الأكبر ثابت عن صحابيين ونفى ذلك ثابت عن صحابي واحد ولا شك أن ترجيح ما ثبت عن راويين أولى من ترجيح ما ثبت عن راو واحد.
    على أن رواية أبي الزبير – وهو نوع آخر من أنواع الترجيح، رواية أبي الزبير - التي فيها أن جابر حكى ذلك عن المتمتعين فيها كلام لبعض أهل العلم حيث وردت بالعنعنة، ونحن وإن كنا لا نقر هذا القول في أحاديث مسلم التي لم يرد ما يخالفها فيقتضي إنكارها لكن في مثل هذا الموضع قد يقال بمثل هذا حيث إن هذه الرواية تخالف ما ثبت في الصحيحين فإن قوله: (فقربنا النساء) قد ورد من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة، بخلاف حديثه الأول فقد ورد بالتحديث ولا شك أن قوله: (ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً) يمكن حمله - جمعاً بينه وبين حديث ابن عباس وعائشة - على أصحابه القارنين كما تقدم، لكن منعنا هذا سابقاً ورود هذه الرواية، لكن ورودها من حديث أبي الزبير عن جابر بالعنعنة يجعل في النفس شيئاً من هذه الرواية.
    وهنا وجه آخر من أوجه الترجيح: وهو أن العمرة يثبت بعدها التحلل التام من لبس الثياب ومس النساء ونحو ذلك فانفصلت انفصالاً تاماً عن الحج فوجب للحج سعي آخر حيث هو منسك آخر منفصل عن المنسك الأول وهو العمرة.
    فعلى ذلك الأرجح مذهب جمهور العلماء خلافاً لإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
    وما ذهب إليه الجمهور هو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد كما أن هذا القول أحوط فهو متعلق بركن – على الأرجح – من أركان الحج وهو السعي بين الصفا والمروة.
    قال: (ثم قد حل له كل شيء)
    (11/207)
    ________________________________________
    أي حتى النساء، فإذا طاف بالبيت القارن أو المفرد وطاف وسعى المتمتع فقد حل له كل شيء ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (ثم طاف بالبيت – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ثم حل له كل شيء حرم عليه) (1) .
    وأما أن المتمتع لا يحل التحلل التام حتى يسعى فلقول ابن عباس في الحديث المتقدم – في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) ففيه أنه لا يتم حجهم إلا بعد السعى بين الصفا والمروة.
    وإنما تحل النساء بتمام الحج.
    قال: (ثم يشرب من ماء زمزم)
    لما ثبت في حديث جابر في سياقه لصفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم أتى بنى عبد المطلب وهم يسقون فناولوه دلواً فشرب) (3) وذلك بعد طوافه للإفاضة.
    قال: (لما أحب) .
    لما أحبه من خير الدنيا والآخرة ففي مسند أحمد وسنن ابن ماجه والحديث حسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماء زمزم لما شرب له) (4) .
    قال: (ويتضلع منه)
    أي يشرب حتى يرتوي حتى يبلغ الماء أضلاعه أي ارتواءً.
    واستدلوا: بما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم) (5) لكن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: (ويدعو بما ورد)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب من ساق البدن معه.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب الدم على المتمتع من كتاب الحج، المغني [5 / 314] .
    (2) سبق ص124 رقم 295.
    (3) صحيح مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (4) أخرجه أحمد [3 / 357، 372] وابن ماجه [3062] وغيرهما الإرواء [1123] وقال الألباني رحمه الله: " صحيح ".
    (5) أخرجه ابن ماجه [3061] الإرواء رقم 1125.
    (11/208)
    ________________________________________
    وذكروا في هذا: أنه يقول: (اللهم اجعله لنا علماً نافعاً ورزقاً واسعاً ورياً وشبعاً وشفاء من كل داء اللهم اغسل به قلبي واملأه من حكمتك) ، ولم يرد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما روى بعضه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه وإسناده لا يصح. فليس هذا وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن ابن عباس لكن إن دعا به فهو دعاء حسن.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ثم يرجع فيبيت بمنى ثلاث ليال)
    أي يرجع من مكة إلى منى.
    وقد تقدم أنه يفيض إلى مكة ضحى فيطوف بها طواف الزيارة فهل يستحب له أن يصلي الظهر بمنى أو يستحب له أن يصليها بمكة؟
    ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) (1) ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى.
    لكن في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم قال: (فصلي الظهر بمكة) (2) .
    والجمع بين الحديثين فيما ذكره النووي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صلى الظهر بمكة ثم صلاها تطوعاً بأصحابه بمنى " كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف مرتين في حديث تقدم فصلى المكتوبة بطائفة ركعتين ثم صلاها بطائفة أخرى ركعتين.
    فهنا كذلك وبهذا يجمع بين الحديثين.
    (فيبيت بمنى ثلاث ليال) : ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر أي ليالي التشريق، وهذا لمن تأخر.
    أما من تعجل فإنه يبيت ليلتين ليلة الحادي عشر والثاني عشر وينفر من منى إذا رمى بعد زوال الشمس من اليوم الثاني عشر.
    __________
    (1) أخرجه البخاري تعليقاً في باب الزيارة قبل النحر من كتاب الحج وقال: " ورفعه عبد الرزاق "، ومسلم باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر من كتاب الحج. المغني [5 / 324] ، سبق ص123
    (2) مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    (11/209)
    ________________________________________
    والمبيت بمنى واجب من واجبات الحج ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته) (1) فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له لعذره يدل على أن من لا عذر له يجب عليه أن يبيت بمنى إذ ضد الرخصة العزيمة: فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يدل على أن هذا الحكم وهو المبيت بمنى عزيمة على غيره من الحجاج.
    قال: (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف بسبع حصيات ويجعلها [عن] يساره ويتأخر قليلاً ويدعو طويلاً، ثم يرمي الوسطى مثلها ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها)
    (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخَيْف) وهو مسجد مشهور، فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف وهي أبعد الجمار عن مكة، فرميها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة.
    (ويجعلها عن يساره) إذا رماها بسبع جعلها عن يساره أي أخذ ذات اليمين، وليس هذا في الحديث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله لكن لعلهم إنما استحبوا ذلك من باب استحباب التيامن فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن.
    (ويتأخر قليلاً) : أي يسهل فيأخذ مكاناً سهلاً ويتأخر عن الناس وعن حطمتهم وزحامهم.
    (ويدعو طويلاً) فيدعو الله بدعاء طويل يرفع يديه ويستقبل القبلة.
    (ثم الوسطى مثلها) فيأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة ثم يأخذ ذات الشمال.
    ففي الجمرة الأولى يأخذ ذات اليمين أما هنا فيأخذ ذات الشمال أي يجعل الجمرة عن يمينه ثم يسهل مستقبل القبلة كما تقدم ويرفع يديه قائماً ويدعو دعاء طويلاً.
    (ثم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه) أي يجعل الجمرة عن يمينه ليكون مستقبلاً للقبلة.
    __________
    (1) أخرجه البخاري في باب سقاية الحاج وباب هل يبيت أصحاب السقاية.. من كتاب الحج، ومسلم باب وجوب المبيت بمنى.. من كتاب الحج. وأبو داود وغيرهم، المغني [5 / 325] .
    (11/210)
    ________________________________________
    (ويستبطن الوادي ولا يقف عندها) أي يكون في بطن الوادي ولا يكون في أعلاه.
    (ولا يقف عندها) بدعاء ولا غيره.
    وفي قول المؤلف هنا أنه يجعلها عن يمينه نظر، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم في الصحيحين أن ابن مسعود رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه وقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) (1) .
    فلا يستحب له أن يستقبل القبلة وليس في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ثم يرميها بسبع حصيات يكبر الله أثر كل حصاة.
    ودليل هذه الصفة في الرمي ما ثبت في البخاري عن ابن عمر: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا - أي القريبة إلى الخيف - بسبع حصيات يكبر الله إثر كل حصاة ثم يسهل (2) - ولم يذكر أنه أخذ ذات اليمين لكن تقدم أنه يمكن القول باستحباب هذا استدلالاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يعجبه التيامن) - فيستقبل القبلة ويقوم طويلاً ويرفع يديه يدعو ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال ثم يسهل فيقوم فيستقبل القبلة فيرفع يديه.. طويلاً يدعو ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ثم يقول: (هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله " أي الرمي ") وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة عند رمي جمرة العقبة ولا غيرها وثبت كما تقدم في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه رمى جمرة العقبة جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه.
    __________
    (1) سبق ص112
    (2) أخرجه البخاري باب رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى من كتاب الحج رقم 1752.
    (11/211)
    ________________________________________
    وفي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن ابن عمر (كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة) ، وفي موطأ مالك بإسناد صحيح: (أنه كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ويحمده ويدعو) (1) .
    قال: (يفعل هذا في كل يوم من أيام التشريق)
    في اليوم الأول من أيام التشريق وهو اليوم الحادي عشر، وفي اليوم الثاني وهو اليوم الثاني عشر وفي اليوم الثالث وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
    قال: (بعد الزوال)
    لحديث جابر المتقدم وفيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ضحى وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) (2) .
    وفي البخاري عن ابن عمر قال: (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) (3) .
    هذا هو مذهب جمهور الفقهاء: وأن الرمي لا يصح إلا بعد زوال الشمس لا في اليوم الأول من أيام التشريق، ولا في اليوم الثاني وهو يوم النفر الأول، ولا في اليوم الثالث وهو يوم النفر الثاني، لا يجوز ولا يجزئ الرمي قبل الزوال لأنه يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان على خلاف أمره فهو رد.
    وقال إسحاق: يجزؤه أن يرمي قبل الزوال في يوم النفر الثاني أي يوم 13.
    وهو قول أبي حنيفة، وخالفه في ذلك صاحباه، وهو مروي عن ابن عباس عند البيهقي بإسناد ضعيف وهو قول طاووس – أنه يجوز له أن يرمي في اليوم الثالث عشر قبل زوال الشمس.
    وذلك: لأن يوم النفر الثاني لا يجب في الأصل مبيت ليلته ولا الرمي إلا لمن اختار التأخر فخففوا في ذلك.
    __________
    (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 922 بلفظ: " كان يقف عند الجمرتين الأوليين وقوفاً طويلاً يكبر الله ويسبحه ويحمده ويدعو الله ولا يقف عند العقبة ".
    (2) أخرجه مسلم باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الحج وأبو داود، والبخاري معلقاً باب رمي الجمار من كتاب الحج.
    (3) أخرجه البخاري باب رمي الجمار، من كتاب الحج رقم 1746.
    (11/212)
    ________________________________________
    ولا شك أن هذا فيه نظر فإنه وإن خفف فيه لكن هذا بالاختيار أصلاً، وحيث اختار فإنه يجب عليه مبيت تلك الليلة ويجب عليه الرمي وحينئذ يجب عليه أن يكون رميه بعد زوال الشمس.
    - وعن الإمام أحمد وهو رواية عن أبي حنيفة: أنه يجوز له أن يرمي في يوم النفر الأول أيضاً قبل زوال الشمس وأن المتعجل يجوز له أن يرمي قبل زوال الشمس.
    والمشهور عن الإمام أحمد وفاق جمهور أهل العلم في هذه المسألة وهو القول الراجح إذ لا دليل يدل على هذا القول ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) يدل على أنه لا يجزئ الرمي إلا بعد زوال الشمس في الأيام الثلاثة كلها.
    وهذا هو الصحيح وهو مذهب جمهور العلماء إلا ما تقدم من رواية عن بعضهم وإلا فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الرمي لا يجزئ إلا بعد الزوال في الأيام الثلاثة كلها إلا ما تقدم من مذهب أبي حنيفة في اليوم الثاني من أيام النفر وخالفه فيه صاحباه.
    * وأما آخر وقت الرمي: فينبني على المسألة السابقة وهي هل ينتهي الرمي في يوم النحر إلى غروب الشمس أو يجوز الرمي ليلاً وحيث قلنا بجوازه ليلاً فهل فيه دم أم لا؟
    وتقدم أن أقوى المذاهب أن الرمي بالليل جائز وأنه لا شيء على من رمى ليلاً إلا أن الأحوط – كما تقدم – هو عدم ذلك وهو أن يرمي نهاراً، وفي ذلك سعة لكن إن احتاج إلى الرمي ليلاً فلا بأس ولا دم عليه.
    فالصحيح أن وقت الرمي في أيام التشريق من زوال الشمس ويمتد ليلاً لكن الأحوط ألا يرمي إلا نهاراً.
    قال: (مستقبل القبلة)
    أما إذا كان هذا في الدعاء فقد تقدم الحديث.
    (11/213)
    ________________________________________
    وأما استقبال القبلة عند رمي الجمار وهو ظاهر قول المؤلف هنا فإنه لا دليل عليه وهو المذهب وهو نص الإمام أحمد وأنه يستحب له عند رمي الجمار كلها أن يستقبل القبلة، ولا دليل يدل على ذلك فلم أر حديثاً يدل على استحباب ذلك، بل تقدم أن جمرة العقبة لا يستحب فيها هذا بل المستحب أن تكون القبلة عن يساره كما في حديث ابن مسعود (1) . فالأظهر هو عدم استحباب ذلك.
    قال: (مرتباً)
    فيجب عليه أن يرميها بالترتيب فيرمي الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة.
    فإذا نكسها فإنه لا يجزؤه ذلك – إلا في الأولى - لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) وقال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) (2) وهديه أنه رمى الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة.
    قال: (فإن رماه كله في اليوم الثالث أجزأه ويرتبه بنيته)
    أي رمى جمرة العقبة في يوم النحر (هذه سبع حصيات) ورمي اليوم الحادي عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثاني عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) ورمى اليوم الثالث عشر (وهذه إحدى وعشرون حصاة) – إذا رماها – وهي سبعون حصاة في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأه لكن يجب عليه كما ذكر المؤلف أن يرتبه بنيته.
    فيبدأ باليوم الأول فيرمي جمرة العقبة ثم يرمي الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الأول، ثم يرمي الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن الثاني، ثم الجمرة الأولى فالوسطى فالعقبة عن اليوم الثالث، لأن الشارع قد رتب ذلك وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) هذا هو المشهور في المذهب (3) .
    إذن يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عن الأيام قبله. هذا باتفاق العلماء.
    __________
    (1) تقدم ص112.
    (2) سبق ص98.
    (3) في أسفل المذكرة ما نصه: " والأظهر عند شيخنا أنه لو رمى الجمرة الصغرى عن اليوم الأول، فالثاني فالثالث ثم الوسطى كذلك، فلا بأس ".
    (11/214)
    ________________________________________
    واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (رخص لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وما بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر) (1) فجمعوا بين اليوم الحادي عشر والثاني عشر.
    وفي رواية لأبي داود: (يرموا يوماً ويدعوا يوماً) (2) فعلى ذلك: إذا رمى في اليوم الثاني عشر عنه وعن اليوم الحادي عشر مرتباً أجزأه، وإذا رمى في اليوم الثالث عشر عنه وعن الثاني عشر والحادي عشر أجزأه ذلك باتفاق العلماء، لهذا الحديث الثابت.
    لكن اختلفوا هل هذا من باب القضاء أم من باب الأداء؟
    1- فقال الجمهور: هو من باب الأداء فعلى ذلك لا دم عليه لأنه قد فعل العبادة في وقتها.
    ويشبه هذا: الوقت الضروري للصلاة، فعند اصفرار الشمس مثلاً يجوز صلاة العصر ويجزئ لأهل الأعذار، وهو وقتها وليس من باب القضاء بل من باب الأداء.
    وقال الأحناف: هو من باب القضاء فعليه دم.
    والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب على رعاء الإبل وقد جمعوا لم يوجب عليهم دماً، ولأن ابن عمر – كما تقدم (3) – فيمن نسى رمي الجمار حتى غربت الشمس أنه يرمي من بعد الزوال ولم يوجب عليه ابن عمر شيئاً.
    فعلى ذلك الراجح أنه لا دم عليهم.
    لكن الأظهر أن ذلك لا يجوز وأن الواجب عليه أن يرمي كل يوم في يومه لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لتأخذوا عني مناسككم) ويشبه هذا كما تقدم الوقت الضروري للصلاة، فإنه لا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العشاء حتى ينتصف الليل، لكن إن صلاها بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر فإنه وقت أداء لا وقت قضاء والصلاة تجزئه ولا شيء عليه. فهذا من هذا الباب.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود [1975] والنسائي [2 / 50] والترمذي [1 / 179] وابن ماجه [3037] ، الإرواء رقم 1080.
    (2) أخرجه أبو داود [1976] .
    (3) تقدم ص115
    (11/215)
    ________________________________________
    وجمهور العلماء لا يرون جواز الجمع في الرمي إلا تأخيراً فليس له أن يرمي في اليوم الحادي عشر عنه وعن الثاني عشر بل لا يجزئه إلا أن يكون ذلك من باب التأخير.
    وظاهر الحديث إجزاء ذلك وقد صرح به طائفة من شراح هذا الحديث فإن الحديث قال: (يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين) (1) فأطلق فدل ذلك على أنه يجوز تقديماً وتأخيراً.
    كما أن هذا مقتضى قولهم – أي إجزاء ذلك – فإنهم قالوا: وقتها وقت واحد، ومقتضى ذلك جواز التقديم كالتأخير، فكما أن صلاة الظهر يجوز أن يصليا تأخيراً لأنه وقت لهما للعذر، فكذلك يجوز أن يصليا تقديماً لأنه وقت لهما.وهذه قاعدة الشريعة في الصلاة فينبغي أن تكون في باب الرمي، فيجوز للعذر تقديم الرمي.
    وظاهر مذهب الحنابلة أنه يجوز له أن يرمي يوم النحر كذلك أي أن يدخله في هذا، فلو رمى في اليوم الثالث عشر عن يوم النحر وأيام التشريق أجزأه ذلك، هذا مذهب الحنابلة.
    والأظهر أن يوم النحر يوم مستقل بنفسه، يدل على هذا أنه له وقت يخالف الوقت الذي يشرع فيه الرمي في بقية الأيام فإن وقته ضحى ووقت بقية الأيام إذا زالت الشمس ففارقها في الوقت. ولما تقدم عن ابن عمر في أمره زوجته وبنت أختها أن ترمي ليلاً (2) وأما أيام التشريق فإنه رأى أن ترمي من الغد (3) لتوافق الوقت المشروع للرمي لأن أيام التشريق كاليوم الواحد وأما يوم النحر فهو يوم مستقل بوقته.
    فالأظهر أن يوم النحر لا يدخل في هذا، وهو مذهب بعض العلماء واختاره الشنقيطي في أضواء البيان، فليس لأحد أن يؤخره إلى الغد فإن أخره فعليه دم.
    فالصحيح: أن رمى جمرة العقبة في يوم النحر لا يدخل وقتها في وقت الرمي للجمار في أيام التشريق بل وقتها مستقل، بدليل مفارقتها له في أنها ترمى ضحى وأما أيام التشريق فإنه يرمي بعد الزوال ولما تقدم من تفريق ابن عمر.
    __________
    (1) تقدم قريباً.
    (2) تقدم ص116
    (3) تقدم ص115
    (11/216)
    ________________________________________
    * واعلم أنه لا يجزئه إلا أن يرمي سبع حصيات كل جمرة من الجمار وهو مذهب جمهور أهل العلم فإن رمى بست أو خمس لم يجزئه ذلك خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
    فالمشهور عند الحنابلة: أنه يجزئه أن يرمي الجمرة خمس حصيات أو ست، فإن أنقص عن السبع حصاة أو حصاتين أجزأه ذلك.
    وعن الإمام أحمد: أنه يجزؤه إن أنقص حصاة، فإذا رمى ستاً فإنه يجزئه.
    والمشهور عنه جواز إنقاص الحصاة والحصاتين.
    ودليل هذا: ما رواه النسائي وأحمد عن سعد قال: (رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضهم يقول رميت بست حصيات فلم يعب بعضهم على بعض) (1) .
    وأما دليل جمهور العلماء فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    وأما هذا فهو أثر عن بعض الصحابة ولم يثبت لنا أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخالف به سنته – وهذا القول هو الراجح وأنه لا يجزئه إلا أن يرمي كل جمرة سبع حصيات فإن أنقص حصاة لم يجزئه ذلك، فشرط الرمي أن يكون بسبع حصيات.
    قال: (فإن أخره عنه أو لم يبت بها فعليه دم)
    (إن أخره عنه) : أي أخر الرمي عن أيام التشريق فقد تقدم أنه يجزئه أن يرمي في اليوم الثالث عشر عن الثاني عشر والحادي عشر عند جمهور العلماء.
    __________
    (1) أخرجه النسائي باب عدد الحصى التي يرمى بها الجمار من كتاب المناسك رقم 3077
    (11/217)
    ________________________________________
    لكن إن أخره فرماه بعد أيام التشريق كأن يرميه في الرابع عشر من ذي الحجة فعليه دم؛ لأن العبادة فعلت في غير وقتها فلم يجزئ فيكون تاركاً لشيء من النسك، ومن ترك شيئاً من النسك فعليه دم كما صح ذلك عن ابن عباس في موطأ مالك أنه قال: (من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً) (1) .
    وهذا هو حجة جمهور العلماء في إيجاب الدماء، فليس في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أثر عن ابن عباس لكنه حجة لأنه لا يعلم مخالف.
    فمن ترك من نسكه شيئاً من رمى أو غيره أو نسيه فعليه أن يهريق دماً.
    قوله: (أو لم يبت بها) : أو لم يبت بمنى بل بات بمكة لغير عذر فعليه دم لما تقدم من ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل بالبيتوتة عن منى (2) قالوا: فترخيصه يدل على إيجاب المبيت، وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس (3) يدل على العزيمة في المبيت، فهي شيء من النسك ومن ترك شيئاً من النسك فعليه أن يهريق دماً.
    قال: (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب)
    فمن أراد أن يتعجل فيكتفي بالمبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر ورميهما فعليه الخروج من منى قبل غروب الشمس.
    قال: (وإلا لزمه المبيت والرمي من الغد)
    فإلا يخرج قبل غروب الشمس، فغربت عليه الشمس ولم يخرج من منى فإنه يلزمه أن يبيت بمنى تلك الليلة وأن يرمي من الغد بعد زوال الشمس.
    __________
    (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي، باب ما يفعل من نسي نسكه شيئاً رقم 950 ولفظه: عن عبد الله بن عباس قال: " من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً، قال أيوب: لا أدري قال: ترك، أو نسي ".
    (2) تقدم ص130
    (3) تقدم ص127
    (11/218)
    ________________________________________
    ودليل هذه المسألة: قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه (1) } فجعل اليومين ظرفاً للتعجل واليوم ينتهي بغروب شمسه فإذا غربت الشمس انتهى اليوم ولا شك أنه إذا تعجل وقد غربت الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق فإنه لم يتعجل في اليومين.
    فإذن: التعجل في اليومين رخصة لمن خرج من منى قبل غروب الشمس أما إذا غربت عليه الشمس ودخل الليل من ليلة الثالث عشر فإنه يجب عليه المبيت والرمي بعيد زوال الشمس، ولما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح عن ابن عمر: قال: (من غربت عليه الشمس من وسْط أيام التشريق " وهو اليوم الثاني عشر وهو يوم النفر الأول " فلا ينفر ثم ليرم الجمار من الغد) (2) .
    ولا يعلم له مخالف وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وأن من غربت عليه الشمس فلا يجوز له التعجل بل يجب عليه أن يبيت بمنى تلك الليلة ويرمي الجمار بعد زوال الشمس وذلك لأن التعجل رخصة لمن لم تغرب عليه الشمس.
    * واعلم أن ما تقدم من إجزاء الرمي - أي الجمع فيه - في اليوم الثالث عشر للمعذورين وأنه لا دم عليه لحديث البيتوتة بمنى لرعاء الإبل وكانوا معذورين في ذلك – يلحق به كل معذور من مريض أو نحو ذلك وخائف فوات مال.
    وهذا له صور، فإن كثيراً من النساء يشق عليهن أن يرمين في يوم النفر الأول، وهنَّ يرون التأخر إلى اليوم الثالث عشر فلا حرج عليهن ألا يرمين في الثاني عشر ويؤخرنه إلى الثالث عشر للعذر فإن الزحام في ذلك اليوم شديد، ولا شك أن الرمي بعد غروب الشمس محل حرج في النفس فيؤخر ذلك إلى بعد زوال الشمس من الغد.
    __________
    (1) سورة البقرة 203
    (2) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب رمي الجمار من كتاب الحج رقم 925 بلفظ: " من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ".
    (11/219)
    ________________________________________
    فالمقصود من ذلك أن هذا الحكم يصدق لرعاء الإبل وغيرهم من المعذورين كالمرضى ومن خاف فوتاً في ماله أو نحو ذلك فإنه يجوز له أن يؤخر في الرمي.
    ويستحب للإمام أن يخطب الناس في وسط أيام التشريق لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في وسط أيام التشريق) (1) فيستحب للإمام أن يخطب في الحادي عشر بالناس فيعلمهم المناسك في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر وفي طواف الوداع ونحو ذلك من المسائل.
    فإذا تعجل أو تأخر فيستحب له أن يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح وهو المحصّب ويرقد رقدة ثم يطوف طواف الوداع.
    فقد ثبت في البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب – أي ليلاً – فطاف بالبيت) (2) وهو طواف الوداع.
    وحكمة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يظهر فيه شعائر الإسلام من إقامة الصلوات في ذلك الموضع الذي تقاسم فيه الكفار على الكفر من مقاطعته عليه الصلاة والسلام ومقاطعة من آمن معه وناصره من بني هاشم في الشعب الذي حوصروا فيه ومنعوا من أن يباع لهم شيء من الأرزاق، فأراد أن يظهر في هذا الموضع هذه الشعائر الإسلامية ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة " وهو المحصب " حيث تقاسموا على الكفر) (3) والمحصب أقرب إلى منى منه إلى مكة.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يطوف للوداع]
    __________
    (1) أخرجه أبو داود باب أي يوم يخطب بمنى من كتاب المناسك.
    (2) أخرجه البخاري باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح من كتاب الحج رقم 1764
    (3) أخرجه البخاري باب نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ومسلم باب استحباب النزول بالمحصب [1314] من كتاب الحج، زاد المعاد [2 / 294]
    (11/220)
    ________________________________________
    إذا أراد الحاج الخروج من مكة فيجب عليه قبل خروجه أن يطوف للوداع، ويسمى طواف الصدر، ويسمى بطواف الوداع؛ لأنه آخر العهد بالبيت، فهو توديع له من جنس توديع القريب أقاربه عند سفره.
    وسمي بطواف الصدر؛ لأنه يقع عند صدور الناس متوجهين من مكة إلى بلادهم، كما أن طواف الزيارة فيما تقدم يسمى طواف الصدر عند بعض أهل العلم؛ لأنه يفعل عند الصدور من منى إلى مكة.
    ولا مشاحة في التسمية؛ لوجود العلاقة بين المسمى وتسميته في اللفظين كليهما.
    وفي قول المؤلف " إذا أراد الخروج " ما يدل على أن من لم يرد الخروج سواء كان مقيما في مكة أو بدت له الإقامة فيها أنه لا يشرع له طواف الوداع، ولا يجب عليه؛ لأنه إنما شرع للمفارقين لا للملازمين، فإن الوداع لا يقع من ملازم مقيم وإنما يقع من مفارق.
    ودليل طواف الوداع: ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض " (1) ، أي آخر عهدهم بالبيت طوافاً، فإن السعي إنما يشرع في حج أو عمرة، وهذا بالإجماع، وأن المراد هنا إنما هو الطواف.
    ثم إن السعي بين الصفا والمروة لم يكن في البيت، بل هو خارج عنه.
    ففي هذا الحديث دليل على وجوب طواف الوداع لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الصحابي: " أمر الناس ".
    وفي قوله: " إلا أنه خفف عن الحائض "، ما يدل على وجوبه؛ لأن السنة مخفف فيها أصلاً، فلا تحتاج إلى تخفيف عن طائفة، فدل هذا على أن طواف الوداع واجب.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب طواف الوداع، ومسلم باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض من كتاب الحج، المغني [5 / 337]
    (11/221)
    ________________________________________
    وليس بركن من أركان الحج، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل عن صفية؟ فقيل: هي حائض، فقال: (أحابستنا هي؟) فقيل: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر، فقال: (اخرجوا) (1) ، أي اخرجوا من مكة، فدل هذا على أن طواف الوداع ليس بركن، إذ لو كان ركنا لما أمر بخروجها مع الناس مع بقاء هذا الركن عليها.
    قال: [فإن أقام أو اتجر بعده أعاده]
    وقت طواف الوداع هو انتهاء الحاج من جميع أموره ومناسكه، بحيث أنه يريد الخروج من مكة ومفارقتها؛ لقول الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم "، فهو إنما يشرع حيث أراد الخروج من مكة وانتهى من جميع أموره، وهذا المعنى الذي تفيده كلمة الوداع، فالوداع إنما يكون عند المفارقة، فإذا أراد المسافر بأن يفارق ودَّع إخوانه وأهله.
    فعلى ذلك: إذا طاف طواف الوداع ثم أقام أو اتجر بعده، فيجب عليه أن يعيده؛ لأنه واجب توديعاً، وهنا لم يفعله توديعاً، بل قد فعل بعده ما ينافي التوديع من إقامة أو تجارة أو نحو ذلك، وقد قال الصحابي: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت "، وهذا ليس آخر عهده بالبيت.
    وقال الأحناف: بل متى فعله في وقته – بعد النفر -، فلو أقام بعده فلا حرج.
    وهذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما شرعه بحيث يكون آخر العهد، وحيث لم يكن آخر العهد فإنه يجب أن يعاد. فالراجح مذهب الجمهور خلافاً للأحناف.
    ولا خلاف بين أهل العلم أنه إن وقع له شراء لحاجة أو قضاء حاجة من الحوائج في طريقه فإنه لا يجب عليه أن يعيده، كأن يشتري.. للطريق ونحو ذلك، فإن هذا لا ينافي الوداع، فلا يبطله، ولا يجب عليه أن يعيده؛ لأن هذا في عرف الناس لا ينافي التوديع، فإن المودع ربما اشترى حاجة أو قضى غرضاً في طريقه قبل خروجه.
    قال: [وإن تركه غير حائض رجع إليه فإن شق أو لم يرجع فعليه دم]
    __________
    (1) أخرجاه، تقدم ص122
    (11/222)
    ________________________________________
    في قوله " غير حائض ": ما يدل على أن الحائض لا يجب عليها طواف الوداع، بل لا يصح منها.
    ودليل ذلك ما تقدم من قول الصحابي: " إلا أنه خفف عن الحائض "، وفي حديث صفية ما تقدم من قوله (أحابستنا هي) ، فلما قيل له: إنها طافت للزيارة، قال: (اخرجوا) .
    فدل هذا على سقوط طواف الوداع عن الحائض وأنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، بل يسقط عنها، وإن كان طهرها قريبا، فما دام أنها انتهت من حجها ومناسكها وأرادت الخروج، فإنه لا يجب عليها أن تنتظر حتى تطهر، بل قد خفف عنها ذلك.
    وكذلك النفساء، فأحكام الحائض ثابتة للنفساء مما يجب ومما يسقط، باتفاق العلماء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة وقد حاضت: " لعلك نفست "، ومن ذلك سقوط طواف الوداع عنها.
    قوله: " وإن تركه رجع إليه ": فإن تركه ممن يجب عليه، فإنه يرجع إليه؛ لأنه واجب، فيجب عليه أن يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (1) ، وهو مستطيع فلا مشقة عليه في الرجوع. [انظر الكلام في آخر هذا الدرس]
    قوله: " فإن شق ": فإذا شق عليه ذلك، كأن يكون قد بعد بمسافة قصر أو كان دون مسافة القصر، لكن فيه مشقة عليه، كأن يكون مريضاً يشق عليه تحمل المسافة مرة أخرى، أو أن يكون قصد رفقة يخشى فواتهم، فإنه لا يجب عليه الرجوع.
    وعندهم المسافة البعيدة هي مسافة القصر فما فوق، وأما القريبة فهي دون مسافة القصر.
    فإذا شق عليه ذلك، فإنه لا يجب عليه الرجوع ويجب عليه دم، أو كانت المسافة بعيدة، فعليه دم.
    " أو لم يرجع ": أي كانت المسافة قريبة ولا مشقة عليه في ذلك فلم يرجع، فإنه يجب عليه دم؛ لأنه تارك لشيء من نسكه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [4 / 422] ومسلم [7 / 91] وغيرهما، الإرواء [155] .
    (11/223)
    ________________________________________
    إذاً: من لم يرجع سواء كان معذوراً أم لم يكن معذوراً فعليه دم؛ لعموم قول الصحابي: " من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فعليه دم " (1) ، فقوله: " أو تركه " شامل للمعذور وغيره.
    قال: [وإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأ عنه وداعاً]
    فإذا أخر طواف الإفاضة بعد النهاية من مناسكه من منى في اليوم الثاني عشر أو في اليوم الثالث عشر، فطاف طواف الإفاضة، فيجزئه عن طواف الوداع. أي يجزئه أن يخرج بعد هذا الطواف الذي هو طواف الإفاضة، يجزئه أن يخرج إلى بلده من غير أن يشتغل بطواف الوداع. فلا يجب عليه شيء ولا يعد تاركاً لشيء من نسكه؛ وذلك لأنه مأمور أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ذلك، فطواف الوداع ليس مقصوداً لذاته، بل المقصود أن يودع البيت بطواف، وقد ودعه بطواف وهو ركن من أركان الحج، فأجزأ ذلك عنه، لكن بشرط ألا ينوي أن يكون للوداع، فإن نوى أنه للوداع لم يجزئ عن طواف الزيارة؛ لأن طواف الزيارة ركن من أركان الحج، فلابد وألا ينوي بنية تنافيه، وحيث نوى أنه طواف للوداع فإن هذا ينافي كونه للزيارة، وقد تقدم أن نية الحج تجزئ عن الطواف وغيره من مناسك الحج، لكن بشرط ألا ينوي نية تنافي ذلك، وحيث نوى طواف الوداع، فالنية حينئذ تنافي كونه طواف الزيارة، فلا يجزئه.
    إذاً: إذا نواه طواف زيارة أو اكتفى بنية الحج، فإنه يجزئه طوافاً للزيارة ويسقط عنه طواف الوداع إن خرج من مكة بعد هذا الطواف. أما إذا نواه طوافاً للوداع فإنه لا يسقط عنه طواف الزيارة؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج مقصود لذاته فلابد له من نية يختص به أو من نية للحج عامة له ولغيره من غير أن يصدر من المكلف نية تنافيه.
    قال: [ويقف غير الحائض بين الركن والباب]
    أما الحائض فلا يجوز لها أن تقف في البيت؛ لأنها ممنوعة من دخول المساجد.
    __________
    (1) تقدم ص132
    (11/224)
    ________________________________________
    فيشرع أن يقف بين الركن – وهو الحجر الأسود – والباب، وهو ما يسمى بالملتزم، فيستحب له أن يقف عنده فليتزمه واضعاً وجهه وصدره وذراعيه وكفيه عليه التزاماً.
    لما روى أبو داود في سننه من حديث المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما بسطاً، وقال: " هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل " (1) .
    لكن المثنى بن الصباح ضعيف الحديث، لكن للحديث شاهد عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن صفوان وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف أيضاً، وله شاهد موقوف عن ابن عباس عند البيهقي وعبد الرزاق في مصنفه وفيه ضعف، فهذه شواهد لعلها ترتقي إلى تحسينه.
    وهو مشروع عند أهل العلم من الحنابلة والشافعية وغيرهم.
    إذاً: يستحب له أن يلتزم هذا الموضع وهو ما بين الركن والباب.
    قال: [داعياً بما ورد]
    لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم أر هذا يصح عن أحد من الصحابة في هذا الباب، فلم يصح عنهم دعاء مخصوص في هذا الباب.
    لكن ذكروا عن بعض السلف كما ذكر هذا صاحب المهذب قال: " وقد روي هذا عن بعض السلف ".
    فذكر الشافعية والحنابلة دعاءً طويلاً في هذا الموضع، وهو مذكور في المغني وفي الروض المربع وفي سائر كتب الحنابلة والشافعية، ومطلعه: " اللهم هذا بيتك وأنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك حملتني وسخرت لي ما خلقت.. " (2) إلى آخره، وهو دعاء طويل.
    لكن هذا الدعاء لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه وإنما ذكروه عن بعض السلف، ولا بأس بالدعاء به، فهو من عموم الدعاء الحسن، لكن من غير اعتقاد أنه سنة بألفاظه، بل هو من عامة الدعاء الذي لا بأس أن يدعى به في هذا الموضع وغيره.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود باب الملتزم من كتاب المناسك، وابن ماجه، المغني [5 / 342] .
    (2) المغني [5 / 343] .
    (11/225)
    ________________________________________
    فالمقصود من ذلك: أنه يلتزم ويدعو بما شاء.
    قال: [وتقف الحائض ببابه فتدعو بهذا الدعاء]
    أي تقف بباب الحرم فتدعو هذا الدعاء، لأن الحائض ممنوعة – محذور – عليها دخول البيت، وحيث كان ذلك، فإنه لا يجوز لها أن تدخل البيت فتلتزم هذا الموضع فتدعو بهذا الدعاء، وحينئذ فتدعو عند بابه.
    وهذا ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمر به صفية ولا غيرها من نساء المؤمنين اللاتي أصبن بالحيض، لم يأمرهن بالوقوف عند الباب ودعاء الله بهذا الدعاء ولا غيره. فالصحيح أنه لا يقال باستحبابه.
    قال: [وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبري صاحبيه]
    أما إذا كان هذا من غير شد للرحال فنعم، فإن أفضل زيارة لقبر هي زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة قبور أصحابه لاسيما الشيخين، فلا شك بفضلية زيارة القبور وأن أخص القبور بالزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ومن ذلك أبو بكر وعمر، فعلى ذلك: إن كان ذلك من غير شد رحل، فإنه من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.
    وأما إن كان بشد رحل، فإنه لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (1) . فلا يجوز شد الرحال إلى غيرها من المواضع تعبداً، لكنه يقصد المدينة وعبادة الله في حرمها، فإن زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الصحابة لاسيما الشيخين فهو فعل يتقرب به إلى الله.
    ومن البدع أن يتمسح بقبره، فقد قال الإمام أحمد: " أهل العلم كانوا لا يمسونه " أي لا يمسون القبر ولا الحجرة الشريفة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [1 / 299] ومسلم [4 / 126] وغيرهما، الإرواء رقم 970.
    (11/226)
    ________________________________________
    كما أنه لا يستقبل القبر بالدعاء، فإذا دعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم استقبل البيت. وحكى شيخ الإسلام النهي عن ذلك باتفاق أهل العلم.
    كما أنه من البدع أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عند قبر أحد من الناس، فإن هذا من البدع، كما نص على هذا شيخ الإسلام، وأنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة، فإن هذا من العبادة، والقبور لا تتخذ معابداً ومساجداً يعبد الله فيها.
    وإنما يدعى لأهل القبور، فإن دعا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالشفاعة والوسيلة، فإن هذا دعاء حسن، ودعا لأبي بكر وعمر برفعة الدرجات ونحو ذلك فهو دعاء حسن، أما أن يدعو لنفسه عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه أو غيرها من القبور فهو من البدع المحدثة.
    وما يذكره بعض الفقهاء من الأحاديث في هذا الباب لا أصل له، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حج فزار قبرى بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي وصحبتي) رواه الدارقطني وغيره ولا أصل له، بل هو حديث باطل، وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب هي أحاديث باطلة ضعفها شيخ الإسلام وغيره، فلا أصل لهذه الأحاديث.
    ولا ارتباط لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم بالحج. والله أعلم
    مسألة:
    من خرج ولم يطف طواف الوداع؟
    هل نقول: فات وقته ويلزمه الدم، أو لا نقول: فات وقته، بل هو مطالب به؟
    وكوننا نقول: إنه إذا خرج من مكة ولم يطف فإنه قد فات الوقت، وحيث قلنا بوجوب الدماء في ترك شيء من الواجبات، فنقول: بأنه يجب عليك الدم، هذا في الحقيقة قوي؛ لأن العبادات إذا فات وقتها فنحتاج إلى دليل آخر يدل على مشروعية قضائها والوقت هنا هو التوديع، فحيث خرج من مكة من غير أن يفعل هذا، فقد فات الوقت، وحينئذ إن قلنا بالدماء في ترك الواجبات كما هو مذهب ابن عباس وغيره ومذهب الجمهور، فنقول: إنه يجب عليه الدم وإن أمكنه الرجوع.
    (11/227)
    ________________________________________
    لكن يقوى القول أنه إن كان معذوراً بجهل أو نسيان أنه يسقط عنه كما أن الحائض يسقط عنها ولا تنتظر لعذرها، فكذلك، فهذا القول قوي ولم أر أحداً من أهل العلم ذكره، فهو فعل قد فات موضعه ومحله ولا دليل على قضائه.
    إلا أن يصح أثر قد ذكر في هذا الباب في سنن سعيد بن منصور: أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع "، فإن ثبت هذا، فإنه يقوي القول بالرجوع لثبوت هذا الأثر عن عمر.
    والحمد لله رب العالمين.
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات)
    فإن كان من أهل المدينة ومن أتى على المدينة فميقاتهم ذو الحليفة وهكذا البلدان الأخرى، ودليل هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة) (1) فهذه المواقيت مواقيت للحج والعمرة.
    قال: (أو من أدنى الحل من مكي ونحوه)
    هذا إذا كان مكياً سواء كان مقيماً في مكة من أهلها أو كان من الزائرين لها، فإن ميقاتهم هو أدنى الحل من التنعيم أو الجعرانة أو الحديبية أو غيرها مما هو من الحل، فميقاتهم الحل في العمرة.
    وأما ميقاتهم للحج فمن مكة كما في الحديث: (حتى أهل مكة من مكة) (2) .
    قال: (لا من الحرم)
    فليس للمكيين أو من نزل مكة من غير المقيمين أن يهلوا من الحرم ليس لهم ذلك بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم كما ثبت ذلك في الصحيحين (3) .
    فإن أهلّ من الحرم، فكما لو أهلّ بالحج والعمرة من كان من أهل المواقيت من دونها – أي كما لو أهل المدني من المدينة لا من ذي الحليفة فإنه يجزئه ذلك، فالإهلال صحيح مجزئ وعليه دم.
    وكذلك إن أحرم المكي من الحرم، فعليه دم لأنه لم يحرم من المواقيت فيكون قد ترك واجباً من واجبات العمرة فعليه دم.
    __________
    (1) تقدم ص18
    (2) تقدم ص18
    (3) سبق ص19
    (11/228)
    ________________________________________
    ولا يستحب كما قرر هذا شيخ الإسلام ولا يشرع: أن يعتمر المكي أو غيره من النازلين بمكة أن يعتمروا من التنعيم خارجين إليه للعمرة فالعمرة إنما تشرع للقادمين – أي بأن يأتي من خارج مكة قادماً إلى مكة فيعتمر أما أن يتكلف الخروج من مكة للعمرة فليس بمشروع ولا مستحب.
    ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم – وقد اعتمر مراراً وحج حجة الوداع لم يتكلف هذا، فلم يخرج من مكة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره ليعتمر منه خارجاً من مكة وكذلك أصحابه من المكيين وغيرهم لم يصح عن أحد منهم مع توافر الهمم لنقل ذلك – لم يصح عنهم الخروج من مكة لأجل العمرة لا إلى التنعيم ولا إلى غيره.
    ومن هنا أسقط العمرة - من أوجبها، أسقطها - عن المكيين كما تقدم، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من أهل العلم ولذا قال ابن عباس – كما في مصنف ابن أبي شيبة وغيره: (يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت) ونحوه عن عطاء إمام أهل زمانه في المناسك فإنه كان يقول: " يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت " رواه ابن أبي شيبة.
    وقال طاووس – كما رواه سعيد بن منصور كما حكى ذلك شيخ الإسلام قال: " لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون، قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج أربعة أميال وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتى طواف فكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء ".
    ولذا لما سئل عطاء وهو إمام أهل مكة – كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه: أنه سئل فقيل له: " أأعتمر من الشجرة " أي من الحديبية أي من شجرة الرضوان فقال: لا ".
    (11/229)
    ________________________________________
    فالعمرة خروجاً من مكة إلى الحل ليست بمشروعة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لعائشة بها تطييباً لخاطرها بعد مراجعة كثيرة منها للنبي صلى الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيحين – فلم يأمرها بها ولم يستحبها لها وإنما استأذنته وأكثرت عليه فأذن لها وكانت تقول في مصنف عبد الرزاق – فيما حكاه شيخ الإسلام: " لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلى من العمرة التي اعتمرت من التنعيم " وهي عمرة مجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم – أذن لعائشة بها لكنها ليست بمستحبة.
    قال: (فإذا طاف وسعى وقصر حل)
    إجماعاً فإذا طاف وسعى وقصر أو حلق حل، وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في سياق عمرتهم في حجة الوداع.
    قال: (ويباح كل وقت)
    أي في أشهر الحج وغيرها.
    وأما ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أنها لا تشرع في أشهر الحج قد أبطله الإسلام بل عُمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في أشهر الحج، فله أن يعتمر في أشهر الحج وغيرها بل لو اعتمر في يوم عرفة أو في يوم النحر من ليس متلبساً بحج لأجزأه ذلك إذ لا دليل يدل على المنع من ذلك.
    وأفضلها العمرة في رمضان كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) (1) وفي مسلم: (تقضى حجة أو حجة معي) .
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب عمرة في رمضان وباب حج النساء من كتاب الحج، ومسلم باب فضل العمرة في رمضان من كتاب الحج، وأبو داود. المغني [5 / 17] .
    (11/230)
    ________________________________________
    وله أن يكررها في السنة مراراً، فلو اعتمر في كل شهر أو في كل شهرين فإنه لا بأس بذلك لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (1) متفق عليه. فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيد.
    وقال فيما رواه الترمذي: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) (2) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن العمرة بعد عمرة أخرى تصح من غير توقيت إلا ما تقدم استثناؤه من أن يعتمر خارجاً من مكة فإن هذه عمرة غير مشروعة، فلو اعتمر بعد أيام يسيرة أجزأ ذلك.
    إلا أن الإمام أحمد قال: (لابد للعمرة من حلق أو تقصير وفي عشرة أيام يمكن الحلق) وروي هذا عن أنس كما عند الشافعي: " أنه كان إذا حمَّم رأسه - يعني إذا خرج بحيث يمكن حلقه - فإنه يعتمر ".
    لكن الحديث المتقدم مطلق فله أن يكرر ذلك ما شاء شريطة ألا يقع ذلك منه خروجاً من مكة بحيث يخرج من مكة ليعتمر أما إن اعتمر قادماً من بلدته ثم رجع إلى بلدته فمكث فيها أياماً ثم عاد فاعتمر فلا مانع من هذا.
    قال: (ويجزئ عن الفرض)
    يجزئ عمرة التنعيم وعمرة القارن: يجزئ عن الفرض أي يجزئه عن العمرة الواجبة عليه وكذلك العمرة المفردة – فإنها تجزئه عن العمرة الواجبة وقد تقدم ترجيح المذهب أن العمرة واجبة وذلك لأنه عمرة صحيحة فأجزأت عن العمرة الواجبة، فالواجب عليه أن يعتمر وقد اعتمر ففعل ما يجب عليه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري في أول باب العمرة من كتاب الحج، ومسلم باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة من كتاب الحج.المغني [5 / 16] .
    (2) أخرجه الترمذي باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة من أبواب الحج، والنسائي باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة. المغني [5 / 19] .
    (11/231)
    ________________________________________
    فعمرته مع تمتعه وعمرته مع قرانه أو عمرته من التنعيم وأولى من ذلك عمرته إن أفردها كل ذلك يجزئه عن العمرة الواجبة ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وكانت قارنة قال: (طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك) (1) .
    قال: (وأركان الحج الإحرام والوقوف)
    الإحرام: تقدم تعريفه وهو نية الدخول في النسك وهو ركن وتقدم دليله وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) (2)
    " والوقوف " بعرفة وهو ركن وتقدم دليله.
    قال: (وطواف الزيارة والسعي)
    فطواف الزيارة ركن وتقدم دليله وكذلك السعي فإنه ركن.
    واعلم أن مذهب جمهور العلماء أن السعي ركن من أركان الحج وهو رواية عن الإمام أحمد وهي المشهورة عنه.
    وذهب الأحناف وهو قول طائفة من الحنابلة كالقاضي والموفق: أنه واجب يجبر بدم، وهو رواية عن الإمام أحمد.
    أنه سنة وهو رواية عن الإمام أحمد.
    فعن الإمام أحمد في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ثلاث روايات.
    أما من قال: إنه سنة، فاستدل بقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (3) فنفي الجناح يدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس بواجب.
    وهذا دليل باطل أبطلته عائشة رضي الله عنها – كما في الصحيحين – فقالت لعروة: (بئسما رأيت) (4) عندما استدل بهذه الطريقة ولو لم يكن هذا التفسير باطلاً لما قالت فيه عائشة هذه المقالة.
    وبيان بطلان هذا التفسير من أوجه:
    __________
    (1) سبق ص34
    (2) أخرجاه. وقد تقدم.
    (3) سورة البقرة.
    (4) أخرجه البخاري باب وجوب الصفا والمروة وجُعل من شعائر الله من كتاب الحج رقم 1643، ومسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 23] .
    (11/232)
    ________________________________________
    الأول: أن الله قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} فجعله من شعائره، وشعائر الله وشعائر الحج لا يجوزان أن تحل قال تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} والطواف بين الصفا والمروة من شعائره ومن شعائر الحج ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
    الثاني: أن الله عز وجل لم يقل: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} كما بينته عائشة في روايتها فإنه قال: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ولو كان المقصود هو نفي الإيجاب لقال: {ألا يطوف بهما} أي لا إثم عليه ألا يطوف فلا يقال: لا إثم عليه أن يطوف إذ قطعاً السعي بين الصفا والمروة لا إثم فيه، لكن البحث هل يثبت الإثم في تركه وعدم الطواف أم لا؟
    فهذا هو محل البحث، ولو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما.
    الثالث: إن سبب نزول هذه الآية هو تحرُّج وقع من بعض الأنصار – كما ثبت هذا عن عائشة في روايتها، فكان الجواب لرفع الحرج والجناح، لأن السؤال وقع من أناس تحرجوا ورأوا الجناح في الطواف بالصفا والمروة لاعتقاد كانوا يعتقدونه في الجاهلية فأتى الجواب ينفي الجناح بناءً على سؤالهم وموافقة له كما لو قال قائل: هل من جناح في أداء الصلوات المكتوبة؟ فإن الجواب لا جناح في أدائها. فلا شك ببطلان هذا القول، والأدلة الشرعية تبطله كما سيأتي.
    وأما دليل من قال بالركنية وهو قول الجمهور.
    (11/233)
    ________________________________________
    - ما ثبت في مسلم عن عائشة قالت: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة) (1) والشاهد هنا: أن عائشة أثبتت أن الطواف بين الصفا والمروة سنة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ورتبت على ذلك بالفاء، وأقسمت على أن الله عز وجل لا يتم حج من لم يطف بالصفا والمروة، وحيث رتبته بالفاء فدل على أن هذا الحكم منها فيترتب على هذه السنة وأنها من السنن المفترضة فيكون قولها له حكم الرفع.
    - وكذلك ما تقدم من قول ابن عباس: (أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا) (2) فرتب تمام الحج على الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة فدل على أنه لا يتم الحج إلا بهما.
    - ما ثبت في المسند والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) .
    - وكذلك قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقد تقدم طريقة الاستدلال بهذه الآية.
    - ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (لتأخذوا عني مناسككم) .
    أما دليل من قال بالوجوب وهم من الأحناف ومن وافقهم فهي هذه الأدلة لكن قالوا: هي لا تدل إلا على الوجوب.
    وهذا ضعيف فإن الأدلة أو بعضها تدل على الركنية كما تقدم والصحيح أنها تدل على الركنية فالراجح مذهب جماهير العلماء وهو ركنية السعي في الحج والعمرة.
    قال: (وواجباته: الإحرام من الميقات المعتبر له، والوقوف بعرفة إلى الغروب)
    مجرد الوقوف ركن لكن الوقوف إلى الغروب هذا واجب وتقدم أن هناك رواية عن الإمام أحمد عنها أنه سنة.
    __________
    (1) أخرجه مسلم باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن.. من كتاب الحج، كما أخرجه البخاري في باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج من كتاب العمرة. المغني [5 / 238] .
    (2) سبق ص124
    (11/234)
    ________________________________________
    قال: (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى ومزدلفة إلى بعد نصف الليل، والرمي والحلاق والوداع)
    كل هذا تقدم دليله فهذه واجبات الحج (1) .
    قال: (والباقي سنن)
    فالاضطباع والرمل وغيره.
    ومن ذلك طواف القدوم فهو سنة عند جمهور العلماء.
    وذهب المالكية إلى وجوبه.
    والأظهر قول الجمهور.
    قال: (وأركان العمرة، إحرام وطواف وسعي)
    قوله: " الإحرام " ليس المراد الموضع، بل المقصود نية الدخول في النسك.
    قال: (وواجباتها: الحلاق، والإحرام من ميقاتها)
    فهذه واجبات العمرة.
    ولم يذكر المؤلف طواف الوداع من واجبات العمرة وهو ظاهر كلام المؤلف وظاهر كلام غيره من الحنابلة أن طواف الوداع ليس بواجب في العمرة.
    قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عدة عمر ولم يثبت أنه طاف للوداع ولا أمر به ولو كان ذلك ثابتاً لنقل إلينا ولأن الأصل هو براءة الذمة من أن تتعلق بواجب من الواجبات.
    - وذهب بعض أهل العلم: إلى أن طواف الوداع واجب في العمرة.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائل في عمرة الجعرانة: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) (2) قالوا: فهذا يدل على أن كل ما يصنع في الحج فيجب أن يصنع في العمرة.
    __________
    (1) تقدم ص127، 106، 117، 134
    (2) أخرجه البخاري باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج من كتاب العمرة، رقم 1789، ومسلم باب ما يباح لبسه للمحرم بحج أو عمرة من بداية كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [8 / 76] .
    (11/235)
    ________________________________________
    قالوا: وإنما استثناء الوقوف بعرفة والرمي وغير ذلك من مناسك الحج التي لم نقل بوجوبها في العمرة لأنها بالإجماع لا تشرع في العمرة فأخرجها الإجماع، ولأن العمرة متعلقة بالبيت فحسب ولا تعلق لها بغيره بخلاف الحج فإنه يتعلق بالبيت وبغيره فشرعت له تلك المناسك أما العمرة فإنما يشرع لها ما يتعلق بالبيت مما هو ثابت في الحج وطواف الوداع كذلك. وروى الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت) (1) لكن الحديث فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف الحديث.
    وهذا الاستدلال فيه قوة.
    والأقوى – فيما يظهر لي – استدلالاً: أن يقال: إن طواف الوداع لا تعلق له بالحج كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية – فإنه لا تعلق له بالحج أصلاً حتى يختص به دون العمرة بل هو متعلق بالبيت توديعاً له.
    بدليل: أن من طافه ثم أقام فإنه يبطل ويجب عليه أن يعيده. وبدليل: أنه إنما يشرع له إذا أراد الخروج ولو لم يكن ذلك منه إلا بعد سنين طويلة بخلاف مناسك الحج فإنها مشروعة في أيام الحج بالاتفاق، فإن سائر واجبات الحج وأركانه وسننه إنما تشرع في أيام الحج، وأما طواف الوداع فإنه يشرع عند إرادة الخروج ولو كان ذلك بعد شهر ذي الحجة، فدل على أنه لا ارتباط له بالحج وإنما ارتباطه بتوديع البيت للناسكين، والمعتمر ناسك كما أن الحاج ناسك، وهذا المذهب مذهب قوي فيما يظهر لي وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (2) والله أعلم (3) .
    أما إذا اعتمر ثم خرج مباشرة فإنه لا يجب عليه طواف الوداع باتفاق العلماء.
    قال: (فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه)
    __________
    (1) أخرجه الترمذي باب ما جاء من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت من كتاب الحج رقم 946.
    (2) لقد توفي بالأمس، رحمه الله تعالى وغفر لنا وله ورفع درجته.
    (3) انظر ص145
    (11/236)
    ________________________________________
    رجل لم ينو في حج أو عمرة فإنه لا تنعقد نسكه؛ لأن الأعمال لا تصح إلا بالنيات: (إنما الأعمال بالنيات) (1) فإذا لم ينو الحج أو العمرة فإن حجه أو عمرته لم ينعقدا ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، بل هي من مسائل الإجماع.
    قال: (وإن ترك ركناً غيره لم يتم نسكه إلا به)
    أي إن ترك ركناً غير الإحرام من الأركان الأربعة للحج أو الأركان الثلاثة للحج (2) ، فترك الطواف أو السعي في الحج أو العمرة أو ترك الوقوف في الحج لم يتم نسكه إلا به لأنه ركن ولا تصح العبادات ولا تتم إلا بأركانها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – لما قيل له – أن صفية حاضت فقال: (أحابستنا هي) (3) ؟ وهذا أيضاً باتفاق العلماء.
    قال: (ومن ترك واجباً فعليه دم)
    من ترك واجباً سواء كان ذلك سهواً أو جهلاً فإن عليه أن يجبره بدم عند جماهير العلماء.
    ودليل ذلك ما تقدم عن ابن عباس أنه قال: (من نسى من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً) (4) ولا خلاف من أحد من الصحابة لابن عباس فلا يعلم له مخالف، وحيث كان ذلك فقوله حجة، ولأن مثل ذلك له حكم الرفع فإنه لا يعقل أن ابن عباس يوجب الدماء في مسائل كثيرة من مسائل الحج في واجباته من غير أن يكون عن نص من النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما لا يدرك بالاجتهاد وحيث كان كذلك فإنه له حكم الرفع وهذا الأثر اشتهر عن ابن عباس ولا يعلم له مخالف فيه فيكون حجة وإجماعاً.
    فإذن: من ترك واجباً من واجبات الحج ساهياً أو جاهلاً أو متعمداً فإن عليه دم، هذا إن لم يتمكن من الفعل، فإن تمكن فعليه أن يفعل فإن لم يفعل فعليه دم.
    __________
    (1) متفق عليه، وقد تقدم.
    (2) لعل الصواب: العمرة.
    (3) تقدم ص122
    (4) تقدم ص132
    (11/237)
    ________________________________________
    أما من ترك واجباً من الواجبات عاجزاً عنه معذوراً شرعاً في تركه كمن لم يتمكن من المبيت بمزدلفة لازدحام الناس أو نحو ذلك فإنه لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
    إن قال قائل: لم فرقنا بين هذه المسألة ومسألة سابقة وهي مسألة الفدية فقلنا: أن من فعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه وهنا نقول من ترك واجباً ناسياً أو جاهلاً فعليه دم؟
    فالجواب: أنا فرقنا بمفرق وهو أن هذه واجبات وهذه محرمات فهذه أوامر وهذه نواهي فالأوامر مازال المكلف مطالباً بها وأما النواهي فإنها إن وقعت منه فقد وقع في المنهي عنه فكما لو لم يقع منه حيث كان ناسياً أو جاهلاً، وأما الأوامر فإنه لا يزال مطالباً بها فحينئذ يجبر هذا بالدم.
    فمن فعل أمراً محرماً منهياً عنه ليس كمن ترك واجباً.
    ولذا فرقنا في مسألة سابقة بين من صلى وعليه نجاسة فقلنا: صلاته صحيحة، وبين من صلى ولا وضوء عليه فقلنا: صلاته باطلة لأن هذا من باب الأوامر وهذا من باب النواهي.
    قال: (أو سنة فلا شيء عليه)
    فمن ترك سنة من السنن كالاضطباع والرمل وغيرهما فإنه لا شيء عليه وهذا باتفاق العلماء.
    والحمد لله رب العالمين.

    تقدم في الدرس السابق تقوية ما ذهب إليه بعض أهل العلم من وجوب طواف الوداع في العمرة كوجوبه في الحج، وأن أظهر الأدلة على هذا ما قرره شيخ الإسلام: في أن طواف الوداع ليس من واجبات الحج بل من واجبات البيت توديعاً له وحينئذٍ فلا فرق بين الحاج والمعتمر، بدليل أن من أراد الخروج من مكة شرع له ذلك ولو كان خروجه بعد خروج شهر ذي الحجة.
    وبقي الحديث عن دليل ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عمرتين أو ثلاثاً ومع ذلك فإنه لم يطف طواف الوداع ولم يأمر به ولو كان ثابتاً لنقل إلينا.
    (11/238)
    ________________________________________
    فالجواب عن هذا: أن طواف الوداع أو الصدر إنما شرع في حجة الوداع كما يدل على ذلك سياق الحديث، فإن الناس كانوا ينصرفون إلى كل جهة فأمروا في حجة الوداع أن يكون آخر عهدهم بالبيت. فدل هذا على أن طواف الوداع إنما شرع في حجة الوداع، فلا يرد ما تقدم بما يستدل للحنابلة به مما تقدم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرعه في حجة الوداع.

    باب: الفوات والإحصار
    الفوات: مصدر فات أي سبق فلم يُدرك هذا لغة.
    أما اصطلاح: هو عدم إدراك الوقت بعرفة أي يدخل في يوم النحر ولم يقف بعرفة، فهو لم يدرك عرفة فهذا هو الفوات.
    أما الإحصار فهو في اللغة: المنع والحبس.
    وفي الاصطلاح: منع المحرم من إتمام نسكه، كأن يمنع من الوقوف بعرفة أو من طواف الزيارة، أو يمنع من الحج كله أو العمرة كلها، فهذا هو الإحصار.
    أما الفوات: فهو عدم إدراك عرفة فهو خاص بعرفة.
    وأما الإحصار: فهو عام في عرفة وغيرها، كما أنه عام في الحج والعمرة فهو شامل لهما.
    قال: (من فاته الوقوف فاته الحج)
    من لم يدرك عرفة قبل أذان الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
    ودليله ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح - وتقدم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) (1) فمفهوم الحديث أن من لم يدرك عرفة لم يدرك الحج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
    قال: (وتحلل بعمرة)
    فمن فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة.
    فهو قد نوى النسك ونسكه نسك حج ففاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر.
    قال: (ويقضي)
    أي يقضي من العام القادم.
    قال: (ويهدي إن لم يكن اشترطه)
    أي يهدي من العام القادم إن لم يكن اشترطه أي إن لم يكن قد قال: (فمحلي حيث حبستني) فمن اشترط فلا يجب عليه قضاء ولا هدي وإنما الحكم فيمن لم يشترط ذلك.
    __________
    (1) تقدم ص103
    (11/239)
    ________________________________________
    إذا فاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر ويجب عليه في العام القادم أن يحج ويهدي مع حجه عن تلك الحجة التي فاته الوقوف بها.
    ودليل هذا: ما ثبت في موطأ مالك بإسناد صحيح: أن عمر سأله من فاته الوقوف بعرفة فقال: " اصنع كما يصنع المعتمر - وطف واسع وحلق أو قصر - ثم قد حللت فإذا كان من قابل فاحجج واهد ما تيسر من الهدي " (1) ولا يعلم له مخالف بل وافقه زيد بن ثابت كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح – فلا يُعلم لهما مخالف -.
    وفي قول المؤلف: (ويقضي) إطلاق منه سواء كانت هذه هي حجة فريضة أو حجة تطوع فيجب عليه أن يحج من قابل ويهدي وهذا مذهب جمهور العلماء.
    وعن الإمام أحمد ومالك لكل منهما رواية أخرى: على أنه لا يجب عليه ذلك في التطوع، فإذا كانت تطوعاً فلا يجب عليه القضاء أما إذا كانت فريضة فيجب عليه الحج من قابل لا من باب القضاء لكنه من باب الأمر الأول المتعلق به فهو ما زال مطالباً بحجة الإسلام ولم يحج بعد حجة صحيحة.
    فإذن: إن كانت حجة فريضة وفاته الوقوف بعرفة فلا خلاف بين أهل العلم أنه يجب عليه الحج، وذلك لأن حجته تلك لا يجزئ عنه فما زال مطالباً بحجة صحيحة مجزئه.
    وهل يجب عليه الحج من قابل؟ – على الخلاف بين أهل العلم في هل يجب الحج على الفور أو على التراخي.
    أما إن كان الحج الذي قد أفسده الفوات إن كان تطوعاً فهل يقضي أم لا؟
    قولان:
    قال الجمهور: يجب عليه القضاء من قابل.
    وعن الإمام أحمد ومالك: أنه لا يجب عليه القضاء.
    قال أهل القول الأول:
    __________
    (1) الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي باب هدي من فاته الحج من كتاب الحج رقم 865. والبيهقي باب ما يفعل من فاته الحج من كتاب الحج، المغني [5 / 426] .
    (11/240)
    ________________________________________
    يجب عليه القضاء لظاهر الآثار فإن أثر عمر المتقدم ظاهره أنه عليه الحج من قابل مطلقاً ولم يستفصل عمر أهي حجة تنفل أو حجة فريضة، فلم يستفصل وأعطى حكماً عاماً فدل على أن الحكم يشمل الحجة التي فات الوقوف فيها وهي تطوع كما أنه شامل للحجة التي فات الوقوف فيها وهي فريضة.
    قالوا: ولأن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1) فالحج يجب بالشروع فيه، وحيث وجب بالشروع فيه، فإذا فاته الوقوف في هذه السنة فيجب عليه أن يأتي به في سنة أخرى كالنذر.
    وأما حُجة الإمام أحمد في الرواية غير المشهورة عنه: فهي أن الشارع لم يوجب الحج إلا مرة واحدة، وحيث كان ذلك فلا يوجب عليه حجة أخرى.
    والراجح هو القول الأول لقوة دليله، فإن الله عز وجل قال: {وأتموا الحج والعمرة لله} وحيث فاته الوقوف وقد شرع في الحج فإن الحج لازم في ذمته واجب عليه، فحيث لم يتمكن منه هذه السنة فإنه يجب عليه في السنة الأخرى.
    ثم عندنا ذاك الأثر عن عمر ولم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ولا أثر يخالفه ولا حديث يخالفه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالراجح أنه يجب عليه القضاء مطلقاً.
    مسألة:
    إذا فات رجل الوقوف بعرفة فهل يجوز له أن يختار البقاء على إحرامه إلى السنة القادمة. فيقول: أنا نويت الحج وأريد إبقاءه ولو كان ذلك إلى السنة القادمة. هل يجوز له هذا؟
    1- قال الحنابلة: يجوز له هذا قياساً على العمرة، فكما أن العمرة يجوز أن يبقى محرماً بها السنة والسنتين والثلاث فكذلك الحج.
    2- وقال جمهور العلماء وذكره الموفق احتمالاً: لا يجوز ذلك ولا يجزئ بل يجب عليه أن يتحلل منه بعمرة كما تقدم.
    __________
    (1) سورة البقرة.
    (11/241)
    ________________________________________
    قالوا: لأن الحج لا يجزئ إلا بأشهره، فأشهر الحج هي مواضع إحرامه أي حج السنة نفسها، فلابد وأن يحرم في أشهر السنة نفسها. وهنا قد أحرم في أشهر ليست في تلك السنة التي يقع فيها الحج. والعمل والعبادة لا تصح قبل وقتها. ولابد وأن يكون الإحرام – كما تقدم ترجيحه – في أشهر الحج للحجة نفسها.
    وهذا فرق بين الحج وبين العمرة، فإن العمرة – كما تقدم – تجزئ في كل وقت فله في كل وقت أن يحرم بها. وأما الحج فليس له أن يحرم به إلا في أشهره.
    ولظاهر الآثار فإن الصحابة – كما تقدم في أثر عمر، أمره أن يتحلل بطواف وسعي وحلق أو تقصير – ظاهر الأمر الوجوب.
    فالصحيح خلاف الحنابلة في هذه المسألة وأنه إذا فاته الوقوف فليس له أن يبقى محرماً إلى السنة القادمة بل يجب عليه أن يتحلل بعمرة كما هو مذهب جمهور الفقهاء.
    قال: (ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حل)
    إن صده عدو عن البيت أهدى " أي نحر أو ذبح هديه " ثم حل أي تحلل.
    رجل أحرم بحج أو عمرة ثم منع عدوٌ له عن أن يتم نسكه من حج أو عمرة فإنه ينحر الهدي ويتحلل.
    لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
    ولم يذكر المؤلف الحلق، وهو أحد القولين في مذهب الحنابلة وأن الحلق أو التقصير لا يجب على المحصر.
    قالوا: لأن الله لم يشترطه فقد قال تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يذكر حلقاً أو تقصيراً.
    وقال بعض الحنابلة وهو أحد القولين في المذهب واختاره أكثر أصحابه: يجب عليه الحلق، وهذا هو الراجح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقد ثبت في البخاري عن المسور بن مخرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك، ونحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) (1)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد
    (11/242)
    ________________________________________
    وذلك لما أحصر كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه) (1)
    فقد نحر ثم حلق وأمر أصحابه بذلك، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن من فرض أو استحباب أو تحريم أو كراهية أو غير ذلك من الأحكام كما هو باتفاق أهل العلم.
    فعلى ذلك فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حلق رأسه وأمر بالحلق.
    فأصح القولين في المذهب وهو اختيار أكثر الحنابلة: أن الحلق واجب فمن أحصر فيجب عليه أن ينحر ثم يحلق وليس له أن يحلق قبل أن ينحر لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}
    وإنما استثنى ذلك في يوم النحر للحرج فقدم الحلق على النحر وجاز ذلك كما تقدم في الحديث المتفق عليه رفعاً للحرج فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر في ذلك اليوم إلا قال: افعل ولا حرج (2) .
    أما في المحصر فإن ظاهر الآية الكريمة: أنه ليس له أن يحلق رأسه قبل أن ينحر.
    وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجب عليه القضاء، فمن أُحصر فالواجب عليه أن ينحر ويحلق ولا يجب عليه الحج في السنة المقبلة، إلا أن تكون هذه الحجة حجة فريضة فيجب عليه الحج من قابل للأمر الأول. وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن المحصر لا يجب عليه القضاء. واستدلوا بطريقتهم السابقة في الاستدلال بالآية في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ولم يوجب قضاء.
    وعن الإمام أحمد أن القضاء واجب عليه.
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب ما يلبس المحرم، وباب متى يحل المعتمر وباب من قال ليس على المحصر بدل من كتاب المحصر وجزاء الصيد، ومسلم باب بيان جواز التحلل بالإحصار من كتاب الحج. المغني [5 / 195] .
    (2) تقدم ص115
    (11/243)
    ________________________________________
    فعن الإمام أحمد روايتان ودليل الرواية الثانية: ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كُسر أو عُرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1)
    ولقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فهذا قد نوى الحج فوجب عليه أن يتمه وحيث لم يمكنه الإتمام في هذه السنة فإن عليه أن يحج في السنة القادمة كما تقدم في استدلالهم في المسألة السابقة.
    والنص المتقدم ظاهر في هذا والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق ولم يفرق بين حجة الفريضة وحجة النافلة. فمن أحصر في فريضة أو نافلة فإن عليه أن يحج من قابل، وهذا هو الأرجح. فالراجح أن المحصر يجب عليه أن يحج من قابل، وهو رواية عن الإمام أحمد.
    قال: (فإن فقده صام عشرة أيام ثم حل)
    أي فقد الهدي فإنه يصوم عشرة أيام ثم يحل.
    فعندهم أنه يسقط عنه الهدي لبدلٍ وهو الصيام - وليس له أن يتحلل حتى يصوم؛ لأنه بدل عن الهدي، ولا يتحلل حتى ينحر الهدي – هذا هو المذهب.
    وقد تقدم هذا وأن الراجح أنه يسقط عنه الهدي لا إلى بدل كما هو مذهب بعض أهل العلم، فقد تقدم ذكر هذه المسألة في باب سابق.
    فالراجح: أن من عجز عن الهدي فإنه يسقط عنه لا إلى بدل لأن الله لم يذكر البدل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
    وتقدم إبطال قياسهم على هدي التمتع في باب سابق. (انظر باب الفدية)
    قال: (وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة)
    أي رجل لم يُصدَّ عن البيت فيمكنه أن يطوف ويسعى ولكنه صُد عن عرفة التي هي ركن الحج.
    فحينئذٍ حكمه: أنه يتحلل بعمرة ولا هدي عليه ولا قضاء.
    فلو أن رجلاً قال: لبيك حجاً فلما أتى مكة أُحصر عن الوقوف بعرفة فحينئذٍ نقول: اقلب حجك إلى عمرة فطف بالبيت وبالصفا والمروة وحلق أو قصر ولا شيء عليك.
    __________
    (1) تقدم ص5
    (11/244)
    ________________________________________
    وهذا ظاهرٌ فإنه تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة وقد أهلوا بالحج أمرهم أن يقلبوا إهلالهم بالحج إلى عمرة وحيث جاز هذا بلا إحصار فإنه مع الإحصار أولى.
    أما إن حبس وصد هذا عن الطواف بالبيت، أي وقف بعرفة ورمى وحلق لكنه منع وصد عن الطواف – عن طواف الإفاضة -.
    قالوا: يبقى محرماً أبداً حتى يطوف بالبيت.
    إن منع من الطواف وحبس عنه فإنه لا يمكنه أن يتحلل بعمرة كمن فاته الوقوف وحينئذٍ فليس له أن ينقل النسك وما تقدم قلبٌ للنسك لأنه يمكنه أن يقلبه من حج إلى عمرة، أما هنا فلا يمكنه أن يقلبه إلى عمرة لأن المنع متعلق بالبيت.
    فحينئذٍ: عليه أن يبقى محرماً أبداً حتى يتمكن من الطواف بالبيت ولو بعد سنوات طويلة.
    لكن هل له أن يتحلل كما يتحلل المحصرون فيذبح هدياً؟
    قالوا: ليس له ذلك. قالوا: لأن الإحصار إنما ورد من الإحرام التام وهو الذي يكون المحرم فيه ممنوعاً من جميع المحظورات وهذا يكون قبل التحلل الأول.
    قالوا: وهذا هو الإحصار المشروع.
    أما هنا فإنه ليس بإحرام تام لأنه قد حل التحلل الأول لوقوفه بعرفة ورميه جمرة العقبة ولم يبق محظوراً عليه إلا النساء، والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام أما وقد بقي عليه طواف الزيارة فقد حل التحلل الأول فإنه لم يرد الشرع فيه، هذا مذهب الحنابلة.
    وهذا لا شك أنه ضعيف.
    ولذا ذهب الشافعية: إلى أنه يتحلل كما يتحلل المحصرون، فيذبح ثم يحلق.
    قالوا: لأن الآية عامة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} فالآية عامة في كل محصر سواء كان الإحصار قبل عرفة أم بعدها.
    فمن أحصر ومنع سواء كان الإحصار بعد عرفة أو قبلها، بعد التحلل الأول أو قبله، فإن ذلك كله داخل في عموم الآية.
    والمعنى يقتضي هذا، ثم إن التحلل من الإحرام الناقص أولى من التحلل من الإحرام التام، وهذا القول هو الراجح وفيه ما فيه من رفع الحرج.
    (11/245)
    ________________________________________
    فعلى ذلك: الصحيح ما ذهب إليه الشافعية وأن من صُد عن طواف الزيارة فإنه ينحر هديه ثم يحل.
    فالصحيح أنه إن منع عن شيء من أركان الحج فإنه لا يبقى محرماً بل يتحلل من ذلك.
    ومثل ذلك المرأة الحائض: لو قلنا أنها ليس لها أن تطوف بالبيت وهي حائض ضرورة كما هو مذهب الجمهور. فالصحيح أنها تتحلل بعد هدي تذبحه وأنها في حكم المحصرين – كما هو مذهب الشافعية.
    أما أن يمنع عن شيء من واجبات الحج فإن التحلل لا يقع، لأن التحلل إنما يكون لفعل المحظورات إن لم يقع له التحلل التام أو التحلل الناقص – على الراجح – والواجبات تجبر بالدماء فليس محلاً للتحلل وحينئذٍ فمن أحصر عن واجب من الواجبات كأن يحصر عن طواف الوداع كان عليه دماً في المشهور في المذهب.
    وفي إيجاب الدم – فيما يظهر لي – نظر لأنه عاجز عنه وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، – وهم يقولون بوجوب الوقوف بعرفة من زوال الشمس إلى غروبها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن من فاته الوقوف بعرفة نهاراً وأدركه بشيء من الليل فمع فوات الواجب الذي هم يقولون به لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه دماً فهنا كذلك.
    فالأظهر أنه لا دم عليه، فمن أحصر عن شيء من مناسك الحج فإنه لا دم عليه ولا شك أن الأحوط هو الدم.
    إذن: المشهور عند الحنابلة أن من منع من شيء من الواجبات فإنه لا يوجه إليه التحلل المختص بالمحصرين لأن حجه يصح من غير فعل هذا الواجب، فإن ترك الواجبات كرمي أو غيره لا يبطل الحج ويجبر بالدم فليس محلاً لتحلل المحصرين وحينئذٍ: فعليه أن يذبح دماً لتركه لهذا الواجب.
    قال: (وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة بقي محرماً إن لم يكن اشترط)
    (11/246)
    ________________________________________
    إذا حصره مرض كأن يكسر أو يعرج أو يصاب بشيء من الأمراض أو نفدت نفقته فلم يبق له ما ينفق منه على نفسه أو نحو ذلك من العوائق المانعة من تمام الحج سوى العدو – فقد تقدم أن العدو عند الحنابلة إن أحصر الحاج أو المعتمر فإنه يكون محصراً،وحينئذ ينحر ويحلق أو يقصر -.
    لكن هنا المسألة: إن كان هذا المعيق ليس عدواً وإنما مرض أو ذهاب نفقة أو نحو ذلك.
    فقال الحنابلة، وهو مذهب الجمهور: يبقى محرماً ولا يكون له حكم المحصرين.
    قالوا: لأن الله قال في كتابه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وهذه الآية نزلت في منع المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة فهي قد نزلت في الإحصار من العدو.
    ولم يلحقوا به غيره. فجعلوا هذه الآية دليلاً على هذه المسألة.
    وصح عن ابن عباس أنه قال: (لا حصر إلا من عدو) رواه الشافعي بإسناد صحيح، ونحوه عن ابن عمر في الموطأ بإسناد صحيح.
    - وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن مسعود وقول طائفة من التابعين كمجاهد والحسن وعلقمة، وهو مذهب الظاهرية ومذهب أبي ثور، قالوا: بل الإحصار عام من العدو والمرض وذهاب النفقة وغيرها من العوائق المانعة من الحج أو العمرة.
    واستدلوا: بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كسر أو عرج فليتحلل وعليه الحج من قابل) (1) رواه الخمسة وإسناده صحيح، وهو دليل على هذه المسألة ظاهر. فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من كسر أو عرج وهما من الأمراض أعطاهما حكم المحصرين.
    قالوا: ولأنه داخل في عموم الآية: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} ومن منعه مرض أو ذهاب نفقة فهو محصر.
    __________
    (1) تقدم ص5
    (11/247)
    ________________________________________
    بل قال غير واحد من أهل اللغة: " الإحصار من مرض والحصر من عدو " وعليه حمل ابن القيم مقالة ابن عباس المتقدمة أي من حيث اللغة فهذه اللفظة " الإحصار " هي في المرض أظهر منها في الأعداء، فعلى ذلك يكون اختيارها في هذه الآية الكريمة تنبيهاً على دخول من منعه المرض من باب أولى لأن لفظة الإحصار أخص في منع المرض من منع العدو، وهذا هو اختيار ابن القيم.
    وأما الجواب على دليلهم فيقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    هذا هو القول الراجح وهو اختيار ابن القيم.
    إذن: اختلف أهل العلم هل يختص الإحصار بمنع العدو أو يعمه ويعم كل حبس ومنع سواء كان من عدوٍ أو من مرض أو ذهاب نفقة على قولين:
    الراجح: أنه عام في العدو وفي غيره وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والنظر الصحيح إذ المعنى ثابت فيه كما هو ثابت في إحصار العدو.
    هذا إن لم يكن اشترط، أما من اشترط فإنه يتحلل ولا شيء عليه فلا دم عليه ولا يبقى محرماً كما ثبت في قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: (اشترطي أن محلي حيث حبستني) (1) وفي النسائي: (فإن لك على ربك ما استثنيتِ) .
    فإذا اشترط فقال: (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) فإنه يتحلل ولا شيء عليه لا هدي ولا قضاء وتقدم الكلام على الاشتراط.
    والمسائل السابقة معروضة فيمن لم يشترط.
    والحمد لله رب العالمين.

    باب: الهدي والأضحية (2)
    الهدي: من الهدية وهو ما يهدى إلى حرم الله تعالى من النعم، وسيأتي الكلام عليه.
    __________
    (1) متفق عليه، وتقدم ص27
    (2) قبل ذلك صفحة بيضاء فيها العنوان بخط عريض وفي الصفحة المقابلة لها وبخط مختلف ما نصه: " هل يجزئ الاشتراك مع من ليس بمضح في بدنة؟ 1- الجمهور على الإجزاء (الشافعية وأحمد..) . 2- مالك قال بعدم الإجزاء، وهو قول، وكذلك لو كان متقرباً بغير أضحية. 3- أبو حنيفة: يجزئ أيضاً … "
    (11/248)
    ________________________________________
    الأضحية: فهي ما يذبح يوم النحر وأيام التشريق من النعم تقرباً إلى الله تعالى.
    وفيها أربع لغات: أضحية: كسر الهمزة، وضمها وتشديد الياء وتخفيفها " (أُضحية – إضحية – أضحيَّة، إضحيّة)
    وهنا لغة خامسة وهي " ضحيَّة " سيأتي الكلام عليها.
    قال: (أفضلها إبل ثم بقر ثم غنم)
    الأفضل في الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، والبحث هنا في الأضحية وسيأتي الكلام على الهدي.
    استدل الجمهور على أن أفضل الأضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم، بالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) (1)
    قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإبل هي الأفضل ثم البقر ثم الغنم " من الضأن أو المعز ".
    وقال المالكية: الأفضل في الأضاحي هو الغنم فهي أفضل من الإبل والبقر.
    واستدلوا: بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) (2)
    والشاهد قوله: " ضحى بكبشين " فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالغنم
    ولما ثبت في الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي أيوب الأنصاري قال: (كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون ثم تباهى الناس كما ترى) (3) .
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب فضل الجمعة من كتاب الجمعة، ومسلم باب الطيب والسواك يوم لاجمعة من كتاب الجمعة، وأهل السنن، المغني [3 / 165] .
    (2) أخرجه البخاري [4 / 25، 451] ومسلم [6 / 77] وغيرهما، الإرواء رقم 1137.
    (3) أخرجه الترمذي [1 / 284] وابن ماجه [3147] وغيرهما الإرواء رقم 1142.
    (11/249)
    ________________________________________
    وهنا ينكر على التباهي في هذا الباب فدل على أنه خلاف الهدي - وهذا القول فيه قوة – فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ضحى بالغنم ولا شك أن فعله أولى في هذا الباب – وبخصوص الأضحية – أولى بالاستدلال من الحديث المتقدم الذي هو ليس مختص بباب الأضاحي.
    فحديث الحنابلة وغيرهم في تفضيل الإبل هو حديث عام يدل على فضيلة الإبل على البقر والغنم وعلى فضيلة البقر على الغنم.
    وحديث المالكية يدل على اختصاص الغنم بالفضيلة في باب الأضاحي فالذي يظهر لي أن ما ذهب إليه المالكية أقوى والله أعلم.
    وأفضل كل جنس أسمنه فأغلاه وسواء كان ذكراً أو أنثى فلا بأس أن يضحي بالأنثى من الإبل أو بالذكر وكذلك في البقر والغنم، وأفضل ذلك أسمنه فاعلاه.
    ففي البخاري معلقاً عن أبي أمامة معلقاً قال: (كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون) (1) ووصله أبو نعيم في مستخرجه.
    وفي أبي عوانة في مستخرجه من حديث أنس المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) (2) عند أبي عوانة: (سمينين)
    وفي بلوغ المرام لابن حجر (3) أن عند أبي عوانة: " ثمينين " فلعلها رواية أخرى غير الرواية التي تقدم ذكرها.
    ولأن هذا من تعظيم شعائر الله، والأضاحي من شعائر الله، وقد قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} فأفضل الأضحية أسمنها فأغلاها.
    قال: (ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن)
    الجذع من الضأن يجزئ من الأضاحي لا من المعز، وبينهما فارق فإن الجذع من الضأن يرد على الأنثى فيلقح بخلاف الجذع من المعز.
    ويعرف الجذع بأنه ينام صوفه على ظهره.
    وقال الحنابلة: وهو ما له ستة أشهر.
    وقال الشافعية: ما له سنة.
    __________
    (1) ذكره البخاري باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين من كتاب الأضاحي، الفتح [10 / 11] .
    (2) تقدم ص152
    (3) كتاب الأطعمة، أول حديث في باب الأضاحي.
    (11/250)
    ________________________________________
    قال ابن الأعرابي: - وهو من أهل اللغة المشاهير -: " الجذع إن كان من شابين أجذع لستة أشهر، وإن كان من هرمين أجذع لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر " فدل هذا على أنه يصح أن يجذع وهو لستة أشهر لكن هذا ليس ثابتاً بل قد يجذع لستة أشهر أو لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، فمتى نام صوفه ويعلم هذا أهل الخبرة من أهل الغنم متى نام صوفه فقد أجذع.
    فالجذع من الضأن هو المجزئ، ولا يجزئ من غيره إلا المسن، ولذا قال:
    قال: (وثني سواه)
    الثني هو المسن فلا يجزئ من غير الضأن إلا المسن، وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان، ومن المعز سنة. لذا قال:
    (وهو ماله من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن الغنم سنة)
    فلا يجزئ جذعاً إلا أن يكون من الضأن.
    ودليل إجزاء الجذع من الضأن ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجذع يوفي مما توفي من الثنية) (1) ، وثبت في النسائي بإسناد جيد عن عقبة بن عامر قال: (ضحينا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن) (2) وهو أيضاً ثابت في الصحيحين نحوه.
    وأما ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن) (3)
    فهذا الحديث يحمل على الاستحباب جمعاً بينه وبين الأحاديث المتقدمة أي: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا المسن إلا إن عسر عليكم ذلك فاذبحوا الجذع من الضأن.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود [2799] وابن ماجه [3140] وغيرهما الإرواء 1146.
    (2) أخرجه النسائي باب المسنة والجذعة، كتاب الضحايا رقم 4382، وهو في صحيح البخاري برقم 5547 في باب قسمة الأضاحي بين الناس من كتاب الأضاحي، ومسلم رقم 1965.
    (3) أخرجه مسلم [6 / 77] وأبو داود [2797] وغيرهما الإرواء 1145.
    (11/251)
    ________________________________________
    إذن: يجزئ الجذع من الضأن وهذا هو مذهب جماهير العلماء، ولا يجزئ من غير الضأن إلا الثنى أو المسن وهو ما له من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتان ومن المعز سنة.
    قال: (والضأن نصفها)
    أي ستة أشهر، هذا هو المشهور في المذهب وتقدم كلام ابن الأعرابي من أهل اللغة.
    قال: (وتجزئ الشاة عن الواحد)
    أي عن الواحد وأهل بيته وعياله. كما تقدم في حديث أبي أيوب في الترمذي وابن ماجه قال: (كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون) (1)
    فالشاة لا تجزئ إلا عن الواحد أي وأهل بيته.
    ويريد المؤلف بقوله " ويجزئ عن الواحد " أي لا يصح الاشتراك فيها بخلاف الإبل والبقر.
    وأما إجزاؤها عن أهل بيته وعياله فإنها تجزئ عند الحنابلة ودليل هذا قول أبي أيوب المتقدم وله حكم الرفع.
    وأما الاشتراك فلا، فإنها لا يشترك بها وإنما يجزئ عن الواحد [و] من اتبعه من أهل بيته وعياله.
    قال: (والبدنة والبقرة عن سبعة)
    تقدم ما يدل على هذا وهو حديث جابر في مسلم في قوله: (نحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) (2) فإذا اشترك سبعة فأقل من ذلك ببقرة أو بدنة أجزأ ذلك عنهم.
    قال: (ولا تجزئ العوراء)
    وهي التي ذهبت إحدى عينيها.
    قال: (والعجفاء)
    وهي الهزيلة الضعيفة التي لا مخ في عظامها.
    قال: [والعرجاء]
    البين عرجها أي عرجها شديد يُضر بها في الرعي ولحاق الغنم في المرعى.
    __________
    (1) تقدم ص152
    (2) أخرجه مسلم باب جواز الاشتراك في الهدي، وإجزاء البدنة.. من كتاب الحج، صحيح مسلم بشرح النووي [9 / 66]
    (11/252)
    ________________________________________
    ويدل على هذا ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها " ودل هذا على أن إحدى العينين إذا كان فيها شيء من البياض من العور الخفيف فإنه لا يؤثر، وإنما المؤثر هو العور البيِّن- والمريضة البيِّن مرضها - أي فيها مرض بيّن مضر ببدنها سواء كان جرباً أو غيره خلافاً لمن قيده من أهل العلم بالجرب فالحديث عام فيه وفي غيره - والعرجاء البيِّن ظلعها - أي عرجها - والكسير - عند النسائي: والعجفاء – - التي لا تنقي) (1) أي التي لا مخ فيها. فهذه الأربع لا تجزئ في الأضاحي، فإذا ضحى بها لم تجزئه.
    قال: (والهتماء)
    وهو التي سقطت ثناياها من أصلها.
    وقال شيخ الإسلام: بل هي التي سقط بعض أسنانها.
    المشهور عند الحنابلة أن الهتماء لا تجزئ.
    وذهب بعض الحنابلة وهو أحد الوجهين لمذهب الشافعية واختاره شيخ الإسلام أنها تجزئ وهذا هو الراجح إذ لا دليل يدل على عدم إجزائها.
    وللحصر المتقدم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر غير المجزئ من الضحايا بأربع فدل هذا على أنها إن سقطت ثناياها أو سقط بعض أسنانها فإنه تجزئ خلافاً للمشهور عند الحنابلة.
    قال: (والجدَّاء)
    من جدَّ الضرع إذا يبس وهي التي يبس ضرعها فلا لبن فيها، فهذه لا تجزئ.
    قالوا: لأن هذا أولى من ذهاب شحمة عينها، فإن العوراء قد ذهبت شحمة عينها فهذه أولى منها بعدم الإجزاء.
    وفي هذا نظر؛ فإن العوراء إنما ورد الشرع بعدم الإجزاء بها لأن عورها يضر برعيها، بخلاف الجداء " التي يبس ضرعها " فإن هذا لا يؤثر في رعيها ولا يؤثر في لحمها والمقصود هو اللحم.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود [2802] والنسائي [2 / 203] والترمذي [1 / 283] وابن ماجه [3144] وأحمد [4 / 284] ، الإرواء رقم 1148.
    (11/253)
    ________________________________________
    فالأظهر أن الجدَّاء تجزئ التضحية بها مع أن الأولى أن تكون سليمة من ذلك لقوله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} وهذا يقتضي اختيار الأفضل.
    قال: (والمريضة)
    تقدم أن المريضة بجرب أو نحوه لا تجزئ، والمراد بالمريضة البين مرضها التي فيها مرض ظاهر مضرٍ للحمها فهذه لا تجزئ في الأضحية.
    قال: (والعضباء)
    وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها – أي أكثر من النصف -.
    قالوا: لا يجزئ لما روى النسائي والترمذي وصححه عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي بأعضب القرن والأذن) (1) .
    - وذهب جمهور العلماء وهو اختيار طائفة من الحنابلة كصاحب الإنصاف واستظهره صاحب الفروع واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي: أن ذلك يجزئ.
    والحديث الذي استدل به الحنابلة يرويه قتادة عن جُري السدوسي عن علي بن أبي طالب، ولم يرو عن جُري إلا قتادة.
    وقال أبو حاتم: " لا يحتج بحديثه " أي بحديث جُري لأنه لم يرو عنه إلا قتادة.
    وتعقب الذهبي قول أبي حاتم المتقدم بقوله: " قلت: لكن أثنيَ عليه " فعلى ذلك حديثه لا بأس به.
    فعلى ذلك الحديث حسن إن شاء الله وقد صححه الترمذي وغيره فقد روى عنه قتادة وتفرد عنه بالرواية لكن أثنى عليه.
    ومن لم يرو عنه إلا راوٍ واحد لكن وثق سواء كان الموثِّق هو الراوي عنه أو غيره فإن حديثه مقبول.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2805 والنسائي باب العضباء من كتاب الضحايا رقم 4377 بلفظ: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بأعضب القرن "، والترمذي رقم 1504 باب في الضحية بعضباء القرن والأذن من كتاب الأضاحي.
    (11/254)
    ________________________________________
    لكن الحديث لا يظهر الاستدلال به على عدم الإجزاء، بل الظاهر أنه يدل على الكراهية، بدليل أن أهل العلم قد أجمعوا على أن التضحية بالخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة، وقد ثبت النهي عنها في حديث صحيح سيأتي أنه يجزئ في الأضاحي مع الكراهية وهنا كذلك فإن هذا لا يعدو إلا أن يكون أثراً في القرن أو الأذن ولا يؤثر هذا في اللحم.
    وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يجزئ بأربع ولم يذكر أعضب الأذن والقرن، فالأظهر حمله على الكراهية.
    فالراجح من قولي العلماء أن التضحية بأعضب الأذن والقرن مجزئ مع الكراهية.
    قال: (بل البتراء خلقة)
    البتراء (1) : هي التي لا أذن لها، وتقييد المؤلف بقوله: " خلقة " موهم أن هذا القيد معتبر عند الحنابلة وليس كذلك بل البتراء عندهم سواء كان ذلك خلقة أو مقطوعاً أنه يجزئ فلو قطعت الأذن كلها أو كان ذلك خلقة فإنه يجزئ في المشهور عند الحنابلة.
    قال: (والجمَّاء)
    هي التي لا قرن لها، وهي مجزئة.
    فالبتراء والجماء تجزئ عندهم ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذا.
    ولأن هذا لا أثر له على لحمها فأجزأت.
    ولا شك أن قولهم بإجزاء مقطوع الأذن وعدم إجزاء ما قطع أكثر الأذن أو أكثر القرن منه لا شك أن هذا فيه نظر ظاهر.
    فعلى ذلك: العيب المتعلق بالأذن أو القرن سواء كان العيب بذهاب شيء يسير من الأذن أو القرن أو بذهاب الشيء الكثير منهما أو بذهابهما كلهما خلقة أو قطعاً أن هذا لا يؤثر في الأضاحي.
    قال: (وخصي)
    الخصي: لا خلاف بين أهل العلم أنه يجزئ.
    وفي أبي داود من حديث أنس المتقدم قال: (موجوءين) (2) من الوجاء وهي الخصاء. فقد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل للحم وأطيب وأسمن.
    __________
    (1) قال في الروض المربع [4 / 223] : " البتراء التي لا ذَنَب لها.. ".
    (2) أخرجه أبو داود [3 / 231] باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795، وأحمد [6 / 8] الإرواء رقم 1147.
    (11/255)
    ________________________________________
    قال: (غير مجبوب)
    فإن ترتب على الخصاء أنه يُجب عضوه " ذكره " فإنه لا يجزئ في المشهور عند الحنابلة، لأنه قد ذهب شيء من أعضائه وهو ذكره.
    وذهب بعض الحنابلة إلى أن الخصاء وإن كان معه جب للعضو فإنه يجوز التضحية به.
    وهذا أظهر، لأنه لا يؤثر في اللحم، لأن عضوه ليس مقصوداً للأكل عادة.
    فالأظهر أن الخصي وإن ترتب على خصائه أن جب ذكره، أنه يجزئ في التضحية.
    قال: (وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف)
    إن كان في أذنه قطع أو قرنه قطع أقل من النصف فإنه يجزئ. وقد تقدم أنه إذا كان القطع أكثر من النصف فهو الأعضب وهو لا يجزئ عند الحنابلة.
    فإن كان القطع نصفاً فأقل فإنه يجزئ عندهم ولا خلاف بين أهل العلم في هذا كما تقدم، فإن قطع شيء من أذنه أو قرنه ولو كان ذلك النصف فإنه يجزئ لكن مع الكراهية.
    ودليل الكراهية عندهم: ما ثبت عند أبي داود والترمذي بإسناد صحيح عن علي قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) (1)
    المقابلة: هي التي قطع شيء من أذنها من جهة مقدم الأذن ويعلق ذلك بها.
    والمدابرة: نحوها لكن القطع من مؤخر الأذن.
    الخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير وهذا يفعل سمة لها.
    الشرقاء: التي في أذنها شق سواء مستديراً أو لا.
    فعلى ذلك: ما كان في أذنها شق أو قطع ولم يصل ذلك إلى أكثر من النصف فإنه عند عامة العلماء أن ذلك لا يؤثر في باب الأضاحي.
    أما إذا كان أكثر من النصف، فالمشهور في المذهب أنه لا يجزئ وهو الأعضب. والصحيح القول بإجزائه.
    كل ما كان فيه شيء من النقص والعيب من بهيمة الأنعام فإنه مكروه التضحية به.
    __________
    (1) أخرجه أبو داود [3 / 237] باب ما يكره من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2804. والترمذي باب ما يكره من الأضاحي من كتاب الأضاحي رقم 1498.
    (11/256)
    ________________________________________
    * النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العوراء البين عورها) وألحق أهل العلم إجماعاً العمياء بها، والسؤال: هو إذا قام صاحبها بإطعامها – أي العوراء أو العمياء – فهل يجزئ أو لا؟
    إذا نظرنا إلى ما تقدم من القاعدة فإننا نقول أنها تجزئ لأنها ذات لحم طيب، وهذا العور أو العمى لم يؤثر في بدنها.
    وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (العوراء البين عورها) قلنا أنها لا يجزئ لأن هذا الوصف بها.
    والذي يظهر لي – والله أعلم – هو القول بالإجزاء لكن مع ذلك الأولى عدم التضحية بها.
    وذلك لأن الأصل في العوراء أن يؤثر ذلك في رعيها لكن إن قام صاحبها برعيها، فلم يؤثر ذلك في رعيها فإن مثل عورها ليس في الحقيقة مؤثر، فذهاب شحمة في عينها غير مؤثر.
    ولا شك أنها مكروهة لأن هذا العيب يؤثر فيها كراهية، كما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك مما هو مشقوق الأذن فأولى من ذلك العوراء وإن سُمنت.
    مسألة:
    هل يُضحي عن الميت؟
    هذه ترجع إلى مسألة: هل تصل الأعمال الصالحة إلى الميت أم لا – سوى الصدقة والدعاء فقد أجمعوا على وصولهما -؟ .
    والذي يظهر لي عدم الوصول، وحينئذٍ هل الأضحية من جنس الصدقات أو لا؟
    فإن قلنا إنها من جنس الصدقات قلنا بإجزائها لأن الصدقة تصل إلى الميت. والذي يتبين لي – والله أعلم – أن الأضحية ليست من الصدقات بدليل أن صاحبها لو لم يتصدق بشيء منها بل أكلها وأطعمها جاره وأهدى فإنها تجزئ. فالمقصود من الأضحية إراقة الدم في ذلك اليوم فلما كان الأمر كذلك – وهو أن المقصود إراقة الدم وهو نسك وعبادة – فإنه ليس صدقة ولا من جنس الصدقات. فالأظهر أنه لا يضحى عنه إلا أن يوصي بذلك.
    (11/257)
    ________________________________________
    والنبي صلى الله عليه وسلم لم يضحي عن أحد من أهل بيته كخديجة وحمزة مع أن المشهور عند أهل العلم أن الأضاحي شرعت في السنة الثانية للهجرة فالأظهر هو عدم مشروعية ذلك، لكن إن أوصى الميت بذلك فإنه يجوز؛ لأنه تصرف بالمال على وجه صحيح.
    مسألة:
    الكبش الأبيض منه أفضل من الأسود كما قال الحنابلة وهو أظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أملح وهو ما فيه بياض وسواد لكن بياضه أغلب لسواده.
    فالأظهر أن الأملح أفضل من الأسود – هذا في الأصل لكن لو كان هذا أسمن من هذا أو أغلى ثمناً من هذا فإنه أفضل.
    مسألة:
    الأضحية لابد أن تكون كاملة فإن كانت مقطوعة الرجل أو نحو ذلك فإنها لا تجزئ لأنها ليست كاملة تامة.
    أما إذا كان مما تقدم مما ليس بمقصود في الأكل عادة وإن كان ربما أكل لكن ليس هو المقصود في الأكل فإنه يجزئ.
    مسألة:
    لابد أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (1) ولابد وأن يكون مستأنساً ومن أبوين مستأنسين، فلو كان وحشياً أو أحد أبويه وحشي فإنه لا يصدق عليه ذلك ولا يجوز أن يضحي به.
    والحمد لله رب العالمين.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والسنة نحر الإبل قائمة معقولةً يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوَهدة التي بين أصل العنق والصدر)
    " الوهدة " هو المكان المطمئن.
    هذه الصفة المستحبة في نحر الإبل أن تكون قائمة قد عقلت يدها اليسرى أي ربطت – فهي قائمة على ثلاثة أطراف – ثم تنحر بحربة في الوهدة التي بين عنقها وبين صدرها.
    ودليل ذلك قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها (2) } قال ابن عباس كما في البخاري: " {فاذكروا اسم الله عليها صواف} أي قياماً " (3) {فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت فهي قائمة.
    __________
    (1) سورة الحج.
    (2) سورة الحج 36.
    (3) ذكره البخاري باب نحر البدن قائمة من كتاب الحج قبل رقم 1714.
    (11/258)
    ________________________________________
    وثبت في البخاري أن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) (1)
    وفي مراسيل أبي داود: (معقولة اليسرى) (2) وهو مرسل فإن عقلت اليمنى فلا بأس لكن العمل بأن تكون المقيدة هي اليسرى أولى لثبوت هذا الأثر المرسل.
    وكونها تنحر في الوهدة فلأن ذلك أسهل لخروج روحها وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) (3) فهذا الموضع أسهل لخروج روحها فيستحب ذلك.
    قال: (ويذبح غيرها)
    غيرها من بقر وغنم، فإنها تذبح ذبحاً لا نحراً.
    وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الكبشين الأملحين بيده ووضع رجله على صفاحهما أي على الجنوب.
    فإذن: تضجع البقرة أو الغنمة على جنبها ثم توضع الرجل على الجنب الذي إلى السماء وذلك إراحة لها لئلا تتحرك فيكون الذبح عليها فيه عسر ومشقة فتوضع الرجل على جنبها وتوجه إلى القبلة استحباباً.
    قالوا: ويستحب – وهذا باتفاق العلماء – أن تضجع على جنبها الأيسر وذلك من أجل أن يكون الذبح من الذابح باليد اليمنى وهذا أسهل للذبح.
    وحينئذٍ: فإن كان أيسراً " أي يذبح بيده اليسرى " فإنه إن أضجعها على جنبها الأيمن فإن هذا أسهل.
    إذن: تضجع إلى القبلة استحباباً ويكون اضجاعها على جنبها الأيسر ليكون ممسكاً بالسكين بيده اليمنى وهذا أسهل لذبحها وفي الحديث: (وليرح ذبيحته)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب نحر الإبل مقيدة من كتاب الحج، رقم 1713.
    (2) في باب كيف تنحر البدن من كتاب المناسك رقم 1767. المغني [5 / 298] .
    (3) أخرجه مسلم باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة من كتاب الصيد، المغني [11 / 516] .
    (11/259)
    ________________________________________
    لكن إن كان الأسهل اضجاعها على جنبها الأيمن فإن هذا حسن ويضع رجله على جنبها البارز عن الأرض لئلا تتحرك البهيمة فيشق عليه الذبح وفي الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .
    قال: (ويجوز عكسها)
    فلو ذبح الإبل أو نحر في البقر والغنم فإن ذلك جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتفق عليه: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) (1) فإذا أنهر الدم بالسكين نحراً أو ذبحاً فإنه يجزئ وإن كان المذبوح محله النحر والمنحور محله الذبح؛ لكنه خلاف المستحب.
    قال: (ويقول: باسم الله والله أكبر)
    " باسم الله " وجوباً وسيأتي الكلام على حكم التسمية على الذبيحة في باب الذبائح إن شاء الله تعالى.
    " والله أكبر " استحباباً، وقد تقدم حديث أنس وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الكبشين الأملحين سمى وكبر) (2) وفي مسلم قال: (باسم الله والله أكبر)
    قال: (اللهم هذا منك ولك)
    ثبت هذا في سنن أبي داود من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا منك ولك) (3) والحديث فيه عنعنة محمد بن إسحاق لكن له شاهد عند أبي يعلى من حديث أبي سعيد.
    وله شاهد آخر عند الطبراني من حديث ابن عباس فالحديث حسن.
    " هذا منك " أي هذا نعمة منك وفضلاً.
    " ولك " أي لك تعبداً ورقاً.
    قال: (ويتولاها صاحبها)
    __________
    (1) أخرجه البخاري باب قسمة الغنم وباب من عدل عشرا من كتاب الشركة، باب ما يكره من ذبح الإبل.. من كتاب الجهاد، وفي باب ترك التسمية على الذبيحة.. وباب ما أنهر الدم من كتاب الذبائح والصيد، وأبو داود وغيرهما. المغني [13 / 265] .
    (2) سبق ص152
    (3) أخرجه أبو داود باب ما يستحب من الضحايا من كتاب الضحايا رقم 2795 ولفظه: " إني وجهت وجهي … اللهم منك ولك … ".
    (11/260)
    ________________________________________
    المستحب أن يتولاها صاحبها وقد تقدم في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبحها بيده، (وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ثلاثاً وستين بيده وأعطى علياً ما بقي وقد أشركه في هديه) .
    فهذا يدل على أن المستحب في الأضحية والهدي أن يتولى صاحبها الذبح أو النحر.
    لكن لو تولاها غيره وكان هذا الغير صحيح الذبح فإن هذا جائز ولذا قال:
    (أو يوكل مسلماً)
    التوكيل إن كان لمسلم فلا خلاف بين أهل العلم في إجزائه، واتفقوا على أنه لو وكَّل وثنياً لذبح أضحيته فإنه لا يجوز ولا يجزئ لأن ذبيحته لا تحل.
    لكن اختلفوا في إجزاء ذبح الكتابي فهل يجوز أن يوكل المسلم كتابياً بأن يضحي له أم لا؟ قولان لأهل العلم:
    أصحهما وهو المشهور عند الحنابلة ومذهب الجمهور: أن ذلك يجزئ.
    قال المالكية: لا يجزئ لأنها قربة وعبادة فلا تصح من كافر.
    والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة، وهو مذهب الجمهور من الإجزاء وذلك لأن الكافر تصح منه القربة عن المسلم أي فعل القربة عن المسلم والقربة تقع للمسلم.
    بدليل أنه يجوز بناء المساجد عمارة من الكفار فيجوز أن يتولى الكافر عمارة المساجد ونحوها، فهنا لا يعدو الأمر إلا أن يكون توكيلاً فليس من باب العبادة، فهذا الذمي لا يتعبد الله بالذبح بل هو موكل، وإنما الذي يتعبد الله بالذبح هو المؤمن بنيته وبماله الذي دفعه في هذه الأضحية، والذمي يجوز أن يتولى فعل القربة إن كان فعلها ليس على وجه التعبد وهنا فعل القربة ليس على وجه التعبد فإنه لا يعدو إلا أن يكون موكلاً بالذبح وهو صحيح الذبح.
    فعلى ذلك الصحيح وهو المشهور عند الحنابلة أنه يجوز ذلك، وإن كان عندهم أن ذلك مكروه خروجاً من الخلاف.
    والأظهر ألا يقال بالكراهية لعدم الدليل على ذلك، والخروج من الخلاف ليس بدليل يقتضي الكراهية.
    قال: (ويشهدها)
    (11/261)
    ________________________________________
    أي يشهدها المسلم أي يستحب للمسلم أن ينظر إليها ذكراً كان أو أنثى واستدلوا بحديث رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: (احضري أضحيتك يغفر لك عند أول قطرة من دمها) (1) والحديث لا يصح، فقد رواه البيهقي وضعفه وهو كما قال.
    قال: (ووقت الذبح بعد صلاة العيد)
    دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) (2) فمن ذبح قبل صلاة العيد فإنها لا تجزئه أضحية وإنما هو لحم لأهله للحديث المتقدم.
    وثبت في الصحيحين من حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضحَّى قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) (3) وظاهر هذه الأحاديث أن الوقت مقيَّد بفعل الصلاة نفسها لا بوقتها.
    فلو أخرت صلاة العيد فلا يجزئ الذبح قبلها وإن ذهب من وقتها ما يكفي لفعلها، وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء.
    - وعن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة وهو مذهب بعض الحنابلة: أنه إذا ذهب من وقت صلاة العيد قدراً يكفي لفعل الصلاة فإنه يجزئ الذبح.
    فإذا دخل وقتها – وهو يدخل بارتفاع الشمس قيد رمح – فإذا فات قدر يكفي لصلاة العيد فإنه يجزئ الذبح بعد ذلك وإن لم يصل الناس.
    __________
    (1) أخرجه عبد الرزاق باب فضل الضحايا من كتاب المناسك، المصنف [4 / 388] ، والبيهقي باب ما يستحب من ذبح النسيكة من كتاب الحج، السنن الكبرى [5 / 239] . المغني [5 / 444] .
    (2) أخرجه البخاري باب من ذبح قبل الصلاة أعاد من كتاب الأضاحي رقم 5561، ومسلم باب وقتها من كتاب الأضاحي، وغيرهما، المغني [13 / 385] .
    (3) أخرجه مسلم باب وقت الأضاحي من كتاب الأضاحي، صحيح مسلم بشرح النووي [13 / 112] ، والبخاري باب الذبح بعد الصلاة من كتاب الأضاحي رقم 5560.
    (11/262)
    ________________________________________
    وهذا خلاف ظاهر الأحاديث، فإن الأحاديث المتقدمة ظاهرها أن الوقت مقيد بفعل الصلاة نفسها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد) فظاهره أن من ذبح قبل الصلاة وإن كان بعد مرور وقت يكفي لفعلها فإنها لا تصح منه وهذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء وهو الراجح.
    لكن إن كان في موضع لا تقام به صلاة العيد فإنه إذا فات قدر ما يكفي لصلاتها بعد دخول وقتها فإنه يجزئ الذبح.
    كمن يكون في بادية أو في سفر فأول وقت الذبح هو مرور قدر يكفي لصلاة العيد بعد دخول وقتها إذ لا صلاة في حقهم، وقبل ذلك لا يجوز الذبح لأن الصلاة غير مشروعة في حقهم والوقت حينئذٍ يقوم مقام ذلك.
    لذا قال: (أو قدره)
    أي أو بعد قدره، و " أو " هنا ليست للتخيير وإنما هي للتفسير فمن كان في الأمصار التي تقام فيها صلاة العيد ولو لم يصل صلاة العيد فإنه لا يجزئه إلا بعد صلاة العيد. وأما إن كان في موقع لا تقام فيه صلاة العيد فقدره أي قدر الوقت الكافي لصلاة العيد.
    قال: (إلى يومين)
    هذا آخر وقتها إلى يومين من أيام التشريق، فعلى ذلك أيام النحر والذبح ثلاثة أيام: يوم النحر واليومان الأول والثاني من أيام التشريق، فعلى ذلك لا يجزئه الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة هذا هو المشهور عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) (1)
    وقال الإمام أحمد: " عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أي القول بأن أيام الذبح ثلاثة أيام (وهذه المسألة في الهدي والأضاحي)
    وذهب الشافعية إلى أن أيام الأضاحي أربعة أيام وأيام التشريق كلها، قالوا: هذه هي أيام النحر.
    __________
    (1) أخرجه البخاري [4 / 27] ، ومسلم [6 / 80] وغيرهما، الإرواء 1155.
    (11/263)
    ________________________________________
    واستدلوا: بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أيام التشريق ذبح) (1)
    قالوا: والحديث إسناده منقطع لكن للحديث شواهد وطرق يرتقي بها إلى الصحة فالحديث صحيح.
    قالوا: وهو مروي عن علي وجبير بن مطعم، ولأنها – أي هذه الأيام – أيام رمي فكانت أيام ذبح أيضاً وهي من أيام الحج والنحر من مناسك الحج، وهذه المسألة في الهدي والأضاحي.
    وما ذهب إليه الشافعية هو الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
    لأن الحديث الوارد في هذا صحيح لشواهده وطرقه، ولأن أيام التشريق كلها أيام رمي وأيام مناسك فكذلك النحر.
    وأما دليلهم الذي ذكروه فإنه ليس بدليل على هذه المسألة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ادخار الأضاحي فوق ثلاث) فهذا الحديث إنما هو في أيام الادخار وأنها ثلاثة أيام.
    فلو ذبح في يوم النحر فليس له أن يدخر إلا في يوم النحر ويومين بعده، ولو نحر في اليوم الثاني من أيام النحر وهو أول أيام التشريق فليس له أن يدخر إلا فيه وفي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق، وهكذا.
    فالمسألة في النهي عن الادخار، فعليه لو ذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فليس له أن يدخر ثلاثة أيام بل يدخر ذلك لليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
    على أن الحديث منسوخ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وتزودوا وادخروا) (2) .
    وإنما نهوا عن الادخار فوق ثلاث لحاجة أصابت الناس في سنة من السنوات فنهي عن الادخار ثم نسخ ذلك.
    __________
    (1) أخرجه أحمد [4 / 82] والبيهقي باب النحر يوم النحر من كتاب الحج..، المغني [13 / 386] .
    (2) أخرجه مسلم باب بيان ما كان من النهي.. من كتاب الأضاحي، وأيضاً البخاري باب ما يأكل من البدن وما يتصدق.. من كتاب الحج. المغني [5 / 446] .
    (11/264)
    ________________________________________
    فالمقصود من هذا: أن ما ذكروه لا يصح دليلاً في هذه المسألة.
    وأما الآثار التي ذكرها الإمام أحمد فإنها معارضة بأثر علي المروي عنه، وبأثر جبير بن مطعم.
    وبالحديث أيضاً فإن الحديث تقدم تصحيحه وهو حديث: (كل أيام التشريق ذبح) (1) فعلى ذلك: الراجح أن أيام التشريق كلها أيام هدي وأيام أضحية.
    قال: (ويكره في ليلتهما)
    أي في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق وفي ليلة اليوم الثاني من أيام التشريق، وأما ليلة يوم النحر فلا يجزئ فيها الذبح كما تقدم.
    وأما ليلة الأول وليلة الثاني من أيام التشريق فيكره فيها الذبح، وإذا قلنا بجواز الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق فكذلك تكره الأضحية أو الهدي في ليلته.
    وفي هذه المسألة قولان:
    الأول، وهو مذهب الجمهور: أن الذبح بالليل يجزئ. قالوا: ولعدم الدليل المانع من ذلك. وإنما كرهناه خروجاً من الخلاف، ولأنه إن ذبح ليلاً فإن اللحم لا يفرق رطباً وإنما يبقى ساعات طويلة ينتظر فيها دخول النهار ليوزع على المساكين أو يهدى على الجيران ونحوهم فكرهوه لذلك.
    الثاني: وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد: أن الذبح لا يجزئ ليلاً.
    قالوا: لأن الله عز وجل قال: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فجعل وقت الذبح الأيام، والأيام جمع يوم، واليوم هو النهار، فجعل الله الوقت للذبح هو النهار وأما الليل فليس وقتاً – حينئذٍ – للذبح.
    وروى الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يضحي ليلاً)
    أجاب أهل القول الأول عن أدلة المالكية:
    قالوا: أما الآية: فإنها في مثل هذا يدخل في اليوم: الليل والنهار، كقوله تعالى: {فتربصوا في داركم ثلاثة أيام} أي بلياليهن وهنا كذلك. فإذا ذكرت الأيام مجموعة دخل ليلها فيها إلا أن يدل دليل على خروج ذلك.
    __________
    (1) تقدم ص162
    (11/265)
    ________________________________________
    وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التضحية ليلاً فإن الحديث لا يصح بل هو متروك فإن فيه راوٍ متهم بالكذب فالحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وما ذهب إليه الجمهور أقوى من أن الذبح ليلاً مجزئ.
    وأما القول بالكراهية خروجاً من الخلاف فقد تقدم رد مثل هذا وأن الخلاف ليس دليلاً على الكراهية، إذ الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل مختص به.
    وأما كونه يوزع رطباً وإذا ذبح ليلاً لا يمكن ذلك، فنعم، وهذا يختلف باختلاف الأزمان فحيث وجد ما يحفظ اللحم ولا يؤثر فيه فإنه لا مانع من ذلك.
    كما أن هذه العلة لا تقوى على الكراهية.
    فعلى ذلك الأولى أن يذبح نهاراً لكن إن ذبح ليلاً فإنه يجزئه ذلك على أن الأحوط هو الخروج من الخلاف في هذه المسألة فيضحي نهاراً. وكذلك فإن في التضحية نهاراً إظهاراً لهذه الشعيرة والله أعلم.
    قال: (فإن فات قضى واجبه)
    إذا خرج وقت الأضاحي بأذان المغرب من يوم التشريق الثالث - على الراجح – وبأذان المغرب من يوم التشريق الثاني – على المذهب -.
    فإذا خرج الوقت فلا تخلو الأضحية من: أن تكون واجبة أو مستحبة.
    فإن كانت التضحية واجبة – وهذا حيث كانت منذورة أو وصية - فإنها تذبح ولو كان ذلك بعد خروج الوقت تحصيلاً لمصلحة تفريقها ويكون ذلك من باب القضاء.
    أما إن كانت التضحية مستحبة: فإذا ضحى بعد خروج الوقت فهي ليست بأضحية، وإنما هي شاة لحمٍ، فإن فرقها على الفقراء والمساكين فهي صدقة من الصدقات.
    إذن: إن كانت نذراً ففات وقتها فإنه يضحي بعد خروج الوقت من باب القضاء.أما إن كانت غير واجبة بل هي تطوع فهي سنة فات محلها فإن ذبحها فهي شاة لحم فإن تصدق بلحمها فهي صدقة من الصدقات. والله أعلم.
    والحمد لله رب العالمين.

    فصل
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويتعينان بقوله: هدي أو أضحية)
    (11/266)
    ________________________________________
    فالهدي والأضحية يتعينان فيكونان واجبتين بعينهما بقوله: " هذا هدي أو أضحية " فإن هذه البهيمة تتعين هدياً أو أضحية باتفاق العلماء لا بالنية.
    (لا بالنية)
    إن نوى أنها هدي أو أضحية فإنها لا تتعين بذلك، وذلك لأن ما أخرجه العبد على وجه القربة لا يثبت إلا بالتلفظ بالتقرب إلى الله عز وجل به لا بالنية المقارنة للشراء، فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين.
    وإنما يثبت التعيين فيما أخرج على وجه القربة بالتلفظ بإخراجه كما لو اشترى رقيقاً بنية إعتاقه أو بيتاً بنية إيقافه فإن العبد لا يتحرر بذلك،
    والبيت لا يكون وقفاً بمجرد شرائه مع النية المقارنة للشراء، فإن قال هو حر أو هذا البيت وقف فإنه حينئذ يتعين العبد حراً والبيت وقفاً.
    فكذلك هنا مما كان على وجه القربة فالنية المقارنة للشراء لا يثبت بها التعيين بل يثبت ذلك باللفظ فإن تلفظ بلفظ من الألفاظ والتي فيها دلالة على إخراج هذه العين من ملكيته لحق الله تعالى فإنه يثبت بذلك.
    ومثل التلفظ تقليد الهدي وإشعاره أو ما يقوم مقام هذا في الأضاحي فإنه يثبت به التعيين.
    والإشعار هو أن تدمى صفحة البعير اليسرى حتى يخرج الدم إظهاراً على أنه هدي، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أشعر بدنه وقلدها)
    والتقليد هو: أن يوضع فيها على سنة القلادة نعال ونحوها.
    وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهدى غنماً وقلدها)
    وإشعار الغنم ليس مشروعاً بالإجماع، وإنما المشروع هو تقليدها هذا في الهدي، وأما الأضحية فلم يرد شيء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    فإذا قلد هديه أو أشعره فإن هذا الفعل يقوم مقام التعيين باللفظ وهذا أصح قولي العلماء، ففي هذه المسألة قولان للحنابلة:
    اختار الموفق أنها إن قلدت أو أشعرت فإنها لا يتعين هدياً إلا باللفظ.
    (11/267)
    ________________________________________
    واستظهر صاحب الفروع أنها تتعين بذلك، وهذا هو الراجح، كمن بنى مسجداً وجمع الناس للصلاة فيه، ولم يقل: هذا مسجد، فإن هذا الفعل منه يقوم مقام اللفظ.
    فهذا المشعر لهديه أو المقلد له يقوم مقام قوله: " هذا هدي "
    كذلك إن وضع شيء من إشعار أو تقليد في أضحيته – وإن لم نقل بمشروعيته – لكن هذا الفعل يقوم مقام التلفظ فكما لو قال: هذه أضحية.
    إذن: التعيين لا يثبت إلا باللفظ أو بالفعل الدال عليه كالإشعار والتقليد.
    قال: (وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها)
    فإذا تعينت البهيمة هدياً أو أضحية فلا يجوز بيعها، لأنها بتعينها خرجت من ملكه وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له التصرف فيها كالوقف وغيره.
    قال: (إلا أن يبدلها بخير منها)
    أي له إن اشترى أضحية من الغنم وعينها ثم رأى غيرها خيراً منها فله أن يبدلها خيراً منها.
    قالوا: لمصلحة ذلك – هذا هو أشهر الوجهين عند الحنابلة.
    والوجه الثاني وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة قالوا: لا يجوز له ذلك لأنها قد تعينت بلفظه أو فعله فليس له والحالة هذه أن يبدلها ولو كان البدل خيراً منها.
    وهذا هو مذهب الشافعية – وهذا هو الأرجح فيما يظهر لي – لأنه بتعينه لها قد أخرجها من ملكيته وأصبحت حقاً لله تعالى فليس له أن يبدلها ولو كان هذا البدل خيراً منها.
    قال: (ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به)
    إن كان جز الصوف من البهيمة أنفع لها كجزه في وقت الربيع ليكون أخف لها في رعيها فله ذلك لكنه يتصدق به. أما إن كان هذا الجز لغير نفع لها فليس له ذلك لأنها حق لله تعالى فليس [له] أن يتصرف فيه إلا بما ينفعه.
    مسألة:
    وهل له أن يركبها؟ قولان لأهل العلم:
    الأول: وهو مذهب الشافعية وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد: أنه ليس له أن يركبها إلا عند الضرورة إليها بمعنى: أن يلجأ إلى ركوبها فلا يجد ظهراً غيرها يركبه.
    (11/268)
    ________________________________________
    الثاني: وهو مذهب المالكية وأحد الوجهين في المذهب: أن له أن يركبها مطلقاً ولو لم يُضطر إلى ركوبها.
    استدل أهل القول الأول: بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ركوب الهدي فقال: (اركبها بالمعروف إذا أُلجئت إليها حتى تجد ظهراً)
    واستدل أهل القول الثاني: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً يسوق بدنةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها) فقال: (إنها بدنة) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها ويلك) في الثانية أو الثالثة.
    والقول الأول أظهر فإن الحديث فيه أخص وأوضح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قيَّد هذا بقوله: (إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً) .
    وهذا الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اركبها) الظاهر أنه كان لا يجد ظهراً غيرها ولذا كان يسوقها.
    فالأظهر أنه له أن يركبها إن اضطر إليها، وهكذا الأضحية إن تعينت، فإذا تعين بدنة يضحي بها فله أن يركبها إذا اضطر إلى ذلك.
    ويتبعها ولدها سواء عُينت وهي حامل أو حملت بعد تعيينها فإن ولدها يتبعها فحكمه حكمها هدياً أو أضحية وهو قول علي بن أبي طالب ولا يُعلم له مخالف كما روى ذلك سعيد بن منصور كما في كتاب المغني.
    وأما شرب لبنها، فإن لم يضر بولدها ولم يضر بلحمها فإنه يجوز وذلك لأنه هو الذي يعلفها ويطعمها ويقوم بشأنها فأشبه المرتهن، فإن المرتهن الذي يقوم بعلف الدابة المرهونة لبن هذه الدابة له مقابل ما ينفق عليها من علف ونحوه فكذلك هنا.
    قال: (ولا يعطي جازرها أجرته منها)
    (11/269)
    ________________________________________
    الجازر لا يعطى أجرته منها، فليس لمن ضَحى له جزار أن يعطيه أجرته من لحمها أو جلدها أو صوفها أو نحو ذلك ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين عن علي قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه أن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها " وهي ما يوضع على ظهورها " وألا أعطي الجزار منها قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيه من عندنا)
    ولأنه إنما أذن له بالانتفاع بها أكلاً أو غيره وأما البيع فلا.
    فعليه: لا يجوز أن يُعطي الجزار منها أجرةً لجزارته لكن إن كان الجزار فقيراً مستحقاً فأعطي منها لفقره وأعطي أجرته من غيرها فإن هذا جائز لا بأس به. أو كذلك أعطي لكونه جاراً أو صديقاً ونحو ذلك مع إعطائه أجرته من غيرها فلا بأس.
    قال: (ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها بل ينتفع به)
    لما تقدم، فإن الشارع إنما أذن له بأن يأكل منها وينتفع بها وأما أن يبيع جلدها فلا يجوز، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعطى الجزار شيئاً منها) ومثل ذلك: البيع، فإن هذا دليل بالتنبيه على النهي عن بيع شيء منها.
    فلا يجوز له أن يبيع جلدها أو صوفها أو نحو ذلك. لكن له أن ينتفع بها، لأنه أجيز له الانتفاع بأكلها فكذلك الانتفاع بجلدها.
    فله أن ينتفع بجلدها وصوفها أو نحو ذلك لكن ليس له أن يبيعه.
    قال: (وإن تعيَّبت ذبحها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين)
    صورة هذه المسالة:
    إذا عيَّن رجل أضحيته وقبل أن يأتي يوم النحر حدث فيها عيب يمنع الإجزاء بها أصلاً كأن يصيبها عرج بيِّن، أو نحو ذلك فإنها تجزئ عنه.
    ومثل ذلك لو أنه عين هدياً على سبيل التطوع ثم حدث له عطب أو شيء يمنع من الإجزاء فإنه يجزئ عنه ولا يجب عليه أن يهدي غيره ولا أن يضحي بغيره.
    (11/270)
    ________________________________________
    وذلك لأنه ليس بواجب عليه فالأضحيه ليست بواجبه في الأصل والهدي – أي هدي التطوع – ليس بواجب وإنما وجب هذا المعين، فالواجب هو هذا المعيَّن، فحيث حدث له تلف أو عيب فإنه لا يجب عليه أن يبدله، فإن الوجوب المتقدم متعين به هو، أما ذمته فهي بريئة من أن يتعلق بها شيء، وإنما التعيين في هذه البهيمة نفسها فإذا حدث بها عيب فإنها تجزئ عنه لأنها تعينت فثبت حقاً لله. فقد خرجت من ملكيته لحق الله تعالى حين عينها، ولا يجب عليه أن يذبح بدلها، لأن ذلك ليس بواجب عليه أصلاً وإنما وجبت هي بنفسها بتعيينها.
    (إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين)
    فإنه يجب عليه أن يذبح بدلها.
    رجل معه هدي واجب فكان أن حدث في هذا الهدي الواجب عيب يمنع من الإجزاء وقد عينه بتقليده أو إشعاره أو بقوله: " هذا هدي " حدث فيه عيب يمنع الإجزاء قبل نحره.
    أو قال هذه أضحية وكان قد نذرها فإنها إن تلفت أو عطبت أو حدث بها ممنع الإجزاء:
    فإن الواجب لا يسقط عنه وذلك لأن ذمته قد تعلقت بها إيجاب شاة أو نحوها سليمة من العيوب سواء كان ذلك بالنذر أو بالهدي الواجب فقد تعلق في ذمته أن يذبح شاة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته لا تبرأ بل تبقى مشغولة.
    وذلك لأن الواجب عليه أن ينحر أو يذبح بهيمة سليمة من العيوب وحيث لم يفعل ذلك فإن ذمته تبقى مشغولة.
    وحينئذٍ: فهل له التصرف بهذا المعيب أم ليس له التصرف به؟
    جمهور أهل العلم أن له التصرف به وهو قول ابن عباس كما رواه سعيد بن منصور في سننه. وذلك لأنه لا يجزئ عنه وقد أوجب الشارع عليه بدله وحيث كان كذلك فإن هذا يكون قد عاد إلى ملكيته وحينئذٍ يكون قد بطل تعيينه.
    فإذن: حيث أوجبنا عليه غيرها فهذا إبطال لتعيينه المتقدم فله أن يتصرف فيها بما شاء من بيع أو أكل أو نحو ذلك.
    (11/271)
    ________________________________________
    وهدي التطوع إن حدث به عطب أو نحو ذلك فإنه ينحر ثم يؤخذ من دمه بالقلائد التي عليه وتلطخ به جوانبه ليعرفه الفقراء، وليس لمن هو سائق لهذه البدن أو رفقته ليس لهم أن يطعمون من ذلك فقد ثبت في مسلم عن دؤيبة أبي قبيصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعثه على البدن فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن عطب شيء منها " أي من هذه البدن وكانت على هيئة التطوع " فخشيت عليها موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها " وهي القلائد التي على رقبتها " في دمها ثم اضرب على صفحتها " أي على جانبها وهذا من أجل معرفة الفقراء لها " ولا تطعم منها شيئاً ولا أحد من رفقتك) (1)
    وهذا لسد الذريعة لكي لا يكون سعي في إعطابها ليأكلها فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمها سائقها ومن كان معه من رفقة.
    قال: (والأضحية سنة)
    لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً)
    قالوا: فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية بإرادة المكلف والواجبات لا تعلق بإرادته، فلا يقال في الواجبات " من أرادها " فإنها لا تعلق لها بإرادة المكلف بل يجب عليه أن يفعلها مطلقاً، يدل هذا على أنها – أي الأضحية – ليست بواجبة، هذا مذهب جمهور العلماء.
    وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنها واجبة على الغني.
    واستدلوا: بما روى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) والحديث الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة – قال الحافظ ابن حجر – وقد ذكر تصحيح الحاكم له قال: " ورجح الأئمة غيره وقفه " وهذا هو الراجح فهو موقوف على أبي هريرة.
    __________
    (1) رواه مسلم في باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق من كتاب الحج. المغني [5 / 439]
    (11/272)
    ________________________________________
    وهو مخالف لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففي سنن البيهقي بإسناد صحيح: (أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان مخافة أن يُقتدى بهما) أي مخافة أن يقتدي الناس بهما فيعتقدون أنها واجبة.
    والقول الأول: هو الراجح، فليس في هذه المسألة إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب.
    وأما الحديث الذي ذكره الأحناف فهو موقوف على أبي هريرة وهو معارض لفعل أبي بكر وعمر، فيبقى فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا يدل على الوجوب.
    قال: (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها)
    فذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الصدقة بثمنها ذريعة لترك سنته، والنبي صلى الله عليه وسلم يختار الأضحية على الصدقة بثمنها فكان يضحي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى ذلك الأفضل أن يضحي؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال: (وسن أن يأكل ويهدي ويتصدق أثلاثاً)
    يسن له أن يأكل ثلثها، وأن يتصدق بثلثها وأن يهدي ثلثها.
    واستدلوا: بأثر عن ابن عمر ذكره الموفق في المغني ولم يعزه وبأثر ابن مسعود ذكره الإمام أحمد فقال الإمام أحمد " نحن نذهب إلى أثر عبد الله) أي ابن مسعود.
    وحيث لم نقف على الأثر، فالذي يظهر لي هو اتباع الإمام أحمد في العمل بهذا الأثر فهو من أهل الحديث ومعرفة الآثار وحيث أنه احتج به وليس عندنا ما يضعفه فالأولى هو اتباع هذا الأثر الذي استدل به الإمام أحمد.
    فعليه: المستحب أن يقسم الأضحية أثلاثاً فيتصدق بثلثها ويهدي – أي إلى الجار والقريب – ثلثها، ويدخر لنفسه ثلثها هذا في الأضحية.
    وأما في الهدي له فالمستحب له أن يأكل شيئاً منه ويتصدق بالباقي، فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر ببضعة من كل بدنة فجعلت في قدر فأكلا منها وشربا من مرقها) أي هو وعلي رضي الله عنه فلم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثلثها بل أخذ ببضعة من كل واحد منها.
    (11/273)
    ________________________________________
    قال: (وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز)
    إذا وضع الأضحية كلها لبيته ادخاراً أو أكلاً فهو جائز بشرط أن يتصدق بجزء منها ولو كان هذا الجزء يسيراً، للإطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الصدقة والأكل فقال: (كلوا وتصدقوا) وحيث أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فأي شيء يصدق عليه أنه صدقة فإنه يجزئ عنه، فلو أخذ بضعة فتصدق بها أجزأ عنه.
    ولو كان ذلك مقدار أوقية أو أقل منها مما يصدق عليه أنه صدقة.
    قال: (وإلا ضمنها)
    إن لم يخرج شيئاً منها، فإنه يضمن هذا الشيء المجزئ فيجب عليه أن يشتري لحماً يتصدق به، وذلك لأن الصدقة فيها واجبة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا) وحيث أكلها أو تزود بها ولم يتصدق بها فإنها تبقى في ذمته فيجب عليه ضمانها فيخرج شيئاً من ماله يشتري به لحماً يتصدق به.
    قال: (ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً)
    لا يجوز لمن أراد أن يضحي سواء باشر الأضحية هو أو باشرها غيره أو كان موكلاً غيره، فليس للمضحي أو المضحَى عنه ليس لأحد منهم أن يمس من بشرته ولا من شعره، وذلك للحديث المتقدم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر) وذلك يكون من إهلال شهر ذي الحجة وهو ثابت في بعض روايات مسلم فإذا دخلت الليلة الأولى من شهر ذي الحجة فليس له أن يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئاً للحديث المتقدم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشرته شيئاً) وفي رواية: (ولا يقلمن ظفراً) .
    وظاهر الحديث كما قال المؤلف التحريم – فإن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره التحريم إلا أن يدل دليل على الكراهية.
    وذهب جمهور أهل العلم إلى كراهية ذلك لا تحريمه.
    الأظهر هو التحريم كما هو مذهب الحنابلة لظاهر الحديث.
    (11/274)
    ________________________________________
    واعلم أن من تعينت أضحيته المستحبة وقد تقدم أنه لا يجب عليه أحد إن حدث بها تلف أو عيب يمنع الإجزاء، لا يجب عليه أن يضحي.
    اعلم أنها إن وقع فيها عيب من فعله فإنه يضمنها لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه.
    فهي يد أمينة، فإن حدث في هذه البهيمة شيء من العيوب بغير فعله فلا شيء عليه.
    وأما إن كان بفعله وتعديه وتفريطه فإنه يلزمه أن يذبح غيرها لأنها تلفت في يده وبتعديه وتفريطه، فهي قد تعينت وتعدى عليها أو فرط في حفظها فوجب عليه أن يضحي ببدلها.
    مسألة:
    وهل الأضحية مشروعة للحاج؟ انظر الجواب في مطلع الدرس القادم " بعد هذا الدرس ".

    والحمد لله رب العالمين.

    تقدم البحث في حكم الأضحية، واعلم أن مذهب جمهور العلماء مشروعية الأضحية في يوم النحر مطلقاً للحاج وغيره، وأن الحاج يشرع له أن يضحي كغيره من المسلمين.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى في حجة الوداع عن نسائه بالبقر) .
    قالوا: فدل هذا على مشروعية الأضحية للحاج كغيره.
    (11/275)
    ________________________________________
    وقال المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها لا تشرع للحاج بل يشرع له الهدي واستدل على هذا الشنقيطي في أضواء البيان بقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} قال: فبهيمة الأنعام المذكورة في هذه الآية الكريمة هي الهدي بدليل أن الله عز وجل ذكر الأذان بالحج إليها فقال: {وأذن في الناس} وقال: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فبين أن العلة من الأذان بالحج أن يشهدوا منافع لهم وأن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومعلوم أن الأضحية لا تحتاج إلى هذا فإن الأضحية تثبت بكل موضع فتبيَّن أن بهيمة الأنعام التي يذكر اسم الله عليها في هذه الآية الكريمة هي الهدايا لا الأضاحي.
    ويستدل على هذا أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه ولا عن أصحابه إلا الهدي في حجة الوداع.
    وأما ما استدل به جمهور العلماء فإن هذه اللفظة وهي لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة، بدليل أنها وردت في بعض الروايات (نحر) وفي بعضها (أهدى) .
    ويدل على هذا أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن قارنات فدل هذا على أن هذا الذبح كان لهدي التمتع بالقران، وأن لفظة (ضحى) من تصرف بعض الرواة.
    فالراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وأن الهدي هو المشروع للحاج دون الأضحية وأن الأضحية لا تشرع له وإنما يشرع له الهدي فإن أحب استقل من الهدي وإن أحب استكثر كما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مئة بدنة وأشرك علياً معه في ذلك.
    وأما الهدي فهو مشروع للحاج وغيره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا وهو غير حاج.

    فصلٌ
    قال المؤلف رحمه الله تعالى: (تسن العقيقة)
    (11/276)
    ________________________________________
    العقيقة من العق وهو القطع، والعقيقة هي الذبيحة تذبح عن المولود، وسميت عقيقة لأنها تقطع أي تذبح، والذبح يكون بقطع الحلقوم وما معه مما تثبت به التذكية فسميت هذه الذبيحة التي تذبح للمولود عند ولادته بالعقيقة.
    " تسن " فالعقيقة سنة وهو مذهب جمهور العلماء، واستدلوا على سنيتها بما ثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين) .
    أما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عنهما كبشاً كبشاً) فإن الحديث ضعيف فالصواب أنه مرسل كما رجح ذلك أبو حاتم الرازي وغيره.
    وفي الترمذي بإسناد صحيح عن عائشة قالت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وإسناده صحيح.
    ولا تجب – أي العقيقة – كما ثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن العقيقة فقال: (إن الله لا يحب العقوق - وكأنه كره الاسم - فمن ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان " متماثلتان متشابهتان في السن والإجزاء وفي السلامة من العيوب " وعن الجارية شاة) .
    قالوا: فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينسك " فعلقه بإرادة المكلف ومحبته، وحيث كان ذلك فإن هذا لا يدل على وجوبه وأنه راجع إلى اختيار المكلف، ولا شك أن الأحكام الواجبة ليست براجعة إلى اختيار المكلف، بل ملزم بها.
    (11/277)
    ________________________________________
    وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب العقوق) يدل على أن هذا الاسم (العقيقة) : يستحب ألا يداوم عليه، والمداومة عليه مكروهة، وإنما قلنا أن المكروه هو المداومة عليه دون إطلاق التسمية هكذا من غير مداومة – إنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: (كل غلام رهينة بعقيقته) فسماها – أي هذه الذبيحة – عقيقة، فدل على أن المكروه هو أن تغلب هذه التسمية على أسمائها الأخرى فتكون هي التسمية السائدة الغالبة أما إن تسمى بهذا الاسم من غير أن تكون هذه التسمية غالبة فلا حرج في هذا، وهكذا تسمية المغرب بالعشاء وكتسمية العشاء بالعتمة فإنها إنما تكره إن كانت ثابتة غالبة على غيرها من الأسماء الشرعية فعلى ذلك تسمى بالنسيكة فإن سميت تارة بالعقيقة من غير أن يغلب هذا الاسم على اسمها الشرعي وهو النسيكة، فإنه لا حرج في هذا، وإنما قلت: إنها تمسى نسيكة لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم الفعل المشتق منها، فقد قال صلى الله عليه وسلم وقد كره العقوق: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه) فدل هذا بالإشارة والتنبيه على أن المستحب أن تسميها بالنسيكة.
    إذن: مذهب جمهور العلماء وهو المشهور عند الحنابلة أن العقيقة سنة وليست بواجبة.
    وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه واختاره أهل الظاهر وهو قول الحسن البصري أن العقيقة واجبة.
    واستدلوا: بما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته يذبح يوم سابعه ويحلق ويسمى) والشاهد قوله: " رهينة بعقيقته " قالوا: فهو محبوس مرتهن بعقيقته فلا فكاك له من هذا الحبس وهذا الارتهان إلا بالعقيقة. وكما أن الرهن يجب أن يفك فكذلك يجب أن يفك رهن هذا الغلام فيعق عنه.
    (11/278)
    ________________________________________
    واستدلوا: - أيضاً – بحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة) وفي الاستدلال بهذين الدليلين – فيما يظهر لي – نظر.
    أما الدليل الأول: فإن الله عز وجل لا يوجب على أحد – إلا أن يكون هذا صريحاً – لا يوجب على أحدٍ ما يكون فكاكاً لغيره إلا أن يرد هذا صريحاً كإيجاب صدقة الفطر على الولد أو من تحت اليد ممن ينفق عليه، وأما أن يوجب هذا لفك رهينة على الوالد فإن في هذا نظراً.
    فالذي يظهر أن هذا لا يقوى على الإيجاب فهو مرتهن ومحبوس بذلك لكن لا يعني ذلك أن هذا واجب على الأب، كما أنه لا يجب على الأب أن يقضي دين ولده الذي توفي وعليه دين مع أنه محبوس بدينه أعظم من هذا الحبس فإن هذا يتعلق بحق الآدمي وأما الأول فغايته أن يكون متعلقاً بحق الله وحقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة فلا يظهر لي الاستدلال بهذا على وجوب العقيقة.
    وأما حديث عائشة: فلا يظهر الاستدلال به على الوجوب فالأمر فيه للاستحباب فيما يظهر، بدليل أنه لو عُق عن الغلام بشاة، فإنه ذلك يجزئ كما سيأتي الدليل عليه، فدل هذا على أن الأمر للاستحباب، فإن الحديث فيه الأمر أن يعق عنه بشاتين وقد دلت الأحاديث على أنه لو عق عنه بشاة، فإن ذلك يجزئ.
    ففي سنن أبي داود بإسناد حسن عن بريدة قال: (كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام نذبح شاة ونلطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة " أي عن الغلام " ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران) فكره الشارع لطخ رأسه بدم العقيقة وشرع حلق رأسه وأن يلطخ بزعفران والشاهد أنه قال: (فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح الشاة) فالظاهر أن الشاة تجزئ لهذا الحديث.
    فالأقوى ما ذهب إليه جمهور العلماء وأن النسيكة سنة مستحبة وليست بواجبة والله أعلم.
    قال: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة)
    (11/279)
    ________________________________________
    لحديث عائشة المتقدم: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة)
    قال: (يذبح يوم سابعه)
    استحباباً لحديث سمرة الذي رواه الخمسة وقد تقدم وفيه: (تذبح يوم سابعه) فإن ذبحها قبل سابعه أجزأت عند جمهور العلماء ولم يجزئ عند المالكية.
    أما جمهور العلماء فاستدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وحيث كان كذلك فإنها إن ذبحت قبل السابع فإنه يفك رهنه كما يفك الرهن بإعطاء الحق قبل أوانه.
    وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل ما صحَّ مما سيأتي من السنة من جواز ذبحها بعد ذلك في اليوم الرابع عشر وفي اليوم الواحد والعشرين، فإذا ثبت هذا – وسيأتي – فإن هذا يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) أنه للاستحباب، ثم إن ذبحها قبل سابعه يحصل به المقصود.
    وأما المالكية فقد استدلوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (تذبح يوم سابعه) قالوا: فقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم للنسيكة يوم السابع فلا يجوز أن يقدم عليه كسائر المواقيت.
    والأظهر ما ذهب إليه الجمهور، لما تقدم، فإن قوله: (تذبح يوم سابعه) للاستحباب بدليل جواز ذبحها بعد يوم السابع ولأن المعنى يقتضي ذلك فالمقصود يحصل بذبحها في اليوم الرابع أو في اليوم الثالث أو في اليوم الأول.
    لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) والرهن يفك متى دفع الحق وإن كان ذلك قبل أجله وأوانه. والله أعلم.
    (11/280)
    ________________________________________
    ويستحب في اليوم السابع: أن يحلق رأسه وأن يلطخ رأسه بزعفران وأن يتصدق بوزن شعره من فضة – هذا إن كان غلاماً ذكراً – ففي المسند بإسناد جيد عن أبي رافع قال: (لما ولد الحسن قالت فاطمة للنبي صلى الله عليه وسلم: أعق عنه؟ قال: لا " وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يعق عنه كما تقدم " ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة) والحديث في الغلام.
    وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته) وقال: (ويحلق) ولأن النساء يكره في حقهن الحلق – وهذا هو المشهور عند الحنابلة وأن الحلق واللطخ بالزعفران بعد الحلق، والتصدق بوزن شعره من الفضة – أنه مختص بالذكور دون الإناث، وهو ظاهر الأحاديث الواردة في هذا الباب.
    وأما التسمية فقد تقدم حديث سمرة وفيه: (ويسمى) وأن ذلك في اليوم السابع، وهذا مذهب بعض الحنابلة.
    قالوا: يستحب أن تكون التسمية في اليوم السابع.
    - وذهب بعض الحنابلة إلى أن المستحب في التسمية أن تكون حين ولادته.
    واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لي الليلة ولد فسميته باسم أبي إبراهيم)
    ولما ثبت عن أنس بن مالك: (أنه ذهب بابن لأبي طلحة حين ولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه بتمر وسماه عبد الله)
    وثبت أيضاً في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سمى المنذر بن الأسود المنذر حين ولد) وهذه أحاديث متفق عليها دلت على أن التسمية مشروعة حين الولادة، وكلا الأمرين جائز لكن الأظهر هو استحباب التسمية عند ولادته لأن الأحاديث الواردة فيه أصح، فإن سمي يوم سابعه فلا بأس.
    قال: (فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين)
    (11/281)
    ________________________________________
    لما روى الحاكم في مستدركه بإسناد جيد أن امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر نذرت إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرت جزوراً، فقالت عائشة: (لا بل السنة عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تذبح جدولاً " أي أعضاء " ولا يكسر لها عظم وأن يكون ذلك يوم سابعه فإن لم يكن ففي أربعة عشر فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين) وفي قولها: " لا بل السنة " ثم ساقته، ما يدل على أنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يثبت ذلك سنة فإنه قول الصحابي لا يعلم له مخالف فيكون حجة.
    فعلى ذلك: إن فات السابع فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الرابع عشر فإن فاته اليوم الرابع عشر فيستحب له أن يتأخر إلى اليوم الحادي والعشرين فإن فات اليوم الحادي والعشرين فإنه يذبحها متى شاء.
    وظاهر إطلاقهم أنها تذبح عنه ولو كان ذلك بعد بلوغه.
    وعند الإمام أحمد أنها إنما تكون عن الصغير أي غير البالغ، وهذا هو الأظهر فإن الأحاديث الواردة في ذلك مقيدة بالغلام والجارية وهما من لم يبلغا. فإن بلغا فليس بغلام وليست هي بجارية.
    فهي مشروعة عن الغلام وعن الجارية وحيث بلغا فهي سنة فات محلها، أما ما رواه الطبراني أن: (النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه) فإنه إسناد لا يثبت وقد أنكره الإمام أحمد.
    واستحب الحسن وعطاء أن يعق عن نفسه إن لم يعق عنه أبوه وقال الإمام أحمد: " لا أقول به ولا أكرهه ".
    الأظهر ما تقدم: وأنه إن بلغ فهي سنة فات محلها، وأما من لم يبلغ وقدر أن يعق عن نفسه فإنه يعق.
    والذي يعق عنه في المشهور عند الحنابلة هو الأب فقط، فلا يجزئ أن يعق عنه غيره.
    وقال الشافعية: بل كل من ينفق عليه، ممن وجبت عليه النفقة فإنه يعق عنه سواء كان أباً أو أخاً أو عماً.
    وذهب بعض أهل العلم وهو اختيارالشوكاني إلى أن العقيقة تجزئ من الأب أو من يجب عليه النفقة أو من غيرهما.
    (11/282)
    ________________________________________
    فمن عق عنه ولو كان العاق بعيداً عنه لا ينفق عليه فضلاً أن يكون أباً فإن ذلك يجزئ.
    واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم: (عق عن الحسن والحسين) وأبوهما علي رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تلزمه النفقة عليهما وهذا هو القول الراجح.
    وما ذهب إليه الحنابلة والشافعية لا دليل عليه، فالراجح أنه إن عق عنه فإن ذلك يجزئ من غير نظر إلى فاعل ذلك سواء كان أباً أو غيره منفقاً أو غيره.
    قال: (تنزع جُدولاً ولا يكسر عظمها)
    " جدولاً " أي أعضاءً، فلا تكسر عظامها، ولذا قال: " ولا يكسر عظمها " أي تنزع اليد، والرجل، والرقبة هكذا عضواً عضواً ولا تكسر عظامها، للأثر المتقدم عن عائشة قالت: " وتذبح جدولاً ولا يكسر لها عظم ".
    وقال المالكية: لا بأس أن تكسر عظامها ولا يقال باستحباب ذبحها جدولاً وعدم تكسير عظامها.
    قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك.
    والراجح القول الأول لصحة الأثر عن عائشة، فإن كان مرفوعاً فكما تقدم وإن كان من قولها فهو قول صاحب لا يعلم له مخالف.
    ولما في ذلك من التفاؤل بأن يكون هذا الغلام سليمة أعضاؤه من أن يقع فيها شيء من الكسر أو العيب أو نحو ذلك.
    وقد استحب الحنابلة أن تطبخ لأن ذلك أيسر مؤونة على الفقير، وهو كما قالوا حيث كان الطبخ أيسر لكن إن كان إعطاؤه إياها لحماً من غير طبخ أحب إليه أي لحفظها وتخزينها فإن ذلك أفضل، فيراعى في ذلك مصلحة الفقير من طبخ أو غيره.
    وفي أثر عائشة المتقدم قالت: (فتأكل وتطعم وتتصدق) أي يأكل صاحب العقيقة فيها ويطعم جاراً أو قريباً ويتصدق على الفقير، فمجراها شبيه بمجرى الأضحية يؤكل منها وتُتصدق ويُهدى.
    فإن تصدق بها كلها أو أهداها كلها أو وضعها لضيف فإن ذلك يجزئ على أنها عقيقة، لأن المقصود هو ذبحها.
    وإن تصدق بها على الفقراء فهو الأولى، بل الأولى من ذلك أن يتصدق ويطعم ويهدي لأثر عائشة المتقدم.
    (11/283)
    ________________________________________
    قال: (وحكمها كالأضحية)
    فيشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية من كونها سليمة من العيوب ذات سن مجزية، إن كانت من الإبل فخمس سنين، وإن كانت من البقر فسنتان وإن كانت من المعز فسنة وإن كانت من الضأن فستة أشهر – وهذا من باب القياس – والجامع أن كليهما نسك فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم نسكاً واستحبها فتقاس – حينئذٍ – على الأضحية.
    قال: (إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم)
    هذا استثناء، فهي في أحكامها كالأضحية لكن لا يجزئ فيها شرك من دم، فليس له أن يشارك غيره في إبل أي في العقيقة فقد تقدم أن السبع من البدن والبقر عن شاة في الأضاحي والهدي.
    قالوا: أما العقيقة فلا، فلو أن له ثلاثة من البنين فأراد أن يذبح جزوراً فيعق به عنهم فإن ذلك لا يجزئ فلابد وأن يكون لكل واحدٍ منهم دماً سواء كان إبلاً أو بقراً أو غنماً فلا يشارك فيها.
    قالوا: لأن مجراها مجرى الفداء فهي فداء عن النفس فكانت النفس بالنفس فهي فداء عن نفس هذا الغلام فلا يجزئ فيها إلا نفساً تامة سواء كانت من الإبل والبقر والغنم.
    وقال جمهور العلماء: بل يجزئ ذلك.
    وهذا أظهر؛ لأن الشريعة دلت على أن السبع من البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة وحيث كان ذلك، وقد تقدم أن العقيقة مقيسة عند أهل العلم على الأضحية فكذلك هنا، فيجزئ السبع من البقر أو الإبل عن الشاة، ويجزئ السبعان عن الشاتين في العقيقة. هذا القول أظهر.
    وأما قولهم: إنها فداء عن النفس فكما تقدم، فإن سبع البدن وسبع البقر يقوم مقام الشاة الواحدة.
    (11/284)
    ________________________________________
    لكن المستحب له أن يذبح شاتين عن الغلام وشاة واحدة عن الجارية وأنها أفضل من السبع مطلقاً بل الظاهر أنها أفضل من البعير أو البقر كاملاً، لما تقدم من قول عائشة فيمن نذرت جزوراً قالت: (لا بل السنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة) ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد ذبح عن الحسن والحسين بكبشين كبشين فالأظهر أن الكبش في باب العقيقة أفضل من الإبل والبقر وإن كانت الإبل والبقر تامة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
    * وهل يجزئه أن يضحي ويدخل العقيقة في أضحية فيذبح ذبيحة واحدة في يوم النحر وأيام التشريق وينوي بها العقيقة؟
    ثلاثة روايات عن الإمام أحمد:
    الأولى: الإجزاء وهو المشهور عند الحنابلة.
    الثانية: عدم الإجزاء.
    الثالثة: التوقف في هذه المسألة.
    وأصح هذه الروايات عدم الإجزاء خلافاً للمشهورة في المذهب لأن لكل منهما – أي العقيقة والأضحية – لكل منهما سبب مختلف عن الأخرى، ولكل منهما مقصد فلم يجزئ أحدهما عن الآخر، هذا هو القول الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد.
    وهم استدلوا بإجزاء النافلة عن تحية المسجد وإجزاء الفريضة عن تحية المسجد.
    وهذا ضعيف فإن تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإن المقصود ألا يجلس حتى يصلي سواء صلى فريضة أو نافلة بخلاف العقيقة والأضحية فإن كليهما مقصود لذاته.
    قال: (ولا تسن الفَرَعة ولا العَتيرة)
    الفرعة هي ذبح أول ولد الناقة.
    والقتيرة: هي الرجبية أي الذبيحة تذبح في رجب وهما من سنن الجاهلية وقد أبطلهما الإسلام.
    ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا فرع ولا عتيرة)
    قال الحنابلة: نفى الشارع سببهما فلا يكرهان وإنما لا يستحبان.
    (11/285)
    ________________________________________
    وفي هذا نظر بل هما مكروهان بل بدعتان وذلك لأن التعبد لله عز وجل بالذبح في أمر لم يشرعه الله بدعة في الدين لكن إن أرادوا أنه إن ذبح أول ولد للناقة للحاجة إلى ذلك لا للتعبد أو ذبح في رجب لا لمعنى رجب وإنما وافق ذلك رجباً كأن يوافق ضيافة أو عقيقة توافق رجباً فيذبحها فلا بأس به وقد صرحوا بذلك، فإن كان هذا مرادهم فنعم.
    وأما إن كان مرادهم أن التعبد لله بذلك جائز ولا يكره لكنه ليس بمستحب فهذا ليس بصحيح، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:" وظاهر الأحاديث المنع "؛ وذلك لأن العبادات مبناها على التوقف.
    فعلى ذلك الفرعة والعتيرة بدعة وهما مكروهان في الشريعة لكن إن ذبح أول ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو ذبح في رجب لحاجته إلى ذلك من غير نية التعبد فلا حرج في هذا.
    مسألة:
    الجنين لا يظهر أنه مستحب أن يعق عنه، لكن إن عق عنه فلا بأس لكن لا يظهر استحباب ذلك لعدم دخوله وظاهر الأحاديث: (كل غلام) وهو ليس كذلك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد)
    وأما إن مات قبل سابعه فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (من ولد له ولد) وقوله: (كل غلام رهينته بعقيقته) يدخل فيه هذا، وفي قوله: (يذبح عنه يوم سابعه) يخرجه من هذا فإنه لم يبلغ اليوم السابع لكن تقدم إن الذبح يوم سابع للاستحباب وأنه لو ذبح قبل ذلك فإنه يجزئ.
    فالأظهر أنه متى ولد فإنه تشرع عنه العقيقة وإن مات بعد ذلك لأنه غلام وولد فيدخل في عموم الأحاديث، وكذلك التسمية لأنها تشرع عند الولادة.
    * الأذان في أذن الصبي، فقد رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة) يعني حين الولادة، والحديث فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
    وأما الإقامة فقد رواها ابن السُني بإسناد لا يصح فالحديث موضوع في الإقامة أما الأذان فالسنة فيه ضعيفة، لكن قال الترمذي: (والعمل عليه عند أهل العلم) فهو مستحب عند أهل العلم.
    (11/286)
    ________________________________________
    وأما التحنيك لا حرج فيه لكن بتمر لا بريق، لكن إن كان بريق مقروء فيه قرآن فقد يقال أنه أمر حسن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحنك بتمر.
    فالتحنيك لا بأس به، أما أن يذهب إلى صالح فهذا من التبرك المنهي عنه، لكن إن كان المقصود ذات القرآن بأن يقرأ فيها شيء أو نحو ذلك فيخرج عن التبرك لكن يبقى معنى آخر وهو إدخال القرآن إلى جوفه، هذا لا دليل عليه.
    ولا تجزئ العقيقة إلا أن تكون من بهيمة الأنعام.
    وقد أشكل قول بعض الأئمة ولعله الإمام مالك قال: " يعق ولو بعصفور " وإنما مراده بذلك المبالغة أي بأنه يعق ولا يترك العق ولو كان بشيء زهيد.
    والحمد لله رب العالمين.
    فهرس الموضوعات
    حكم الحج والعمرة ... … 1، 2
    شروط وجوب الحج ... ... 3، 4
    الفورية في الحج ... ... ... 4
    إن زال الرق والجنون والصبا بعرفة ... … 6
    وفعلهما من الصبي والعبد نفلا ... ... 7
    القادر من أمكنه الركوب ... … 8
    مسألة الدين ... ... … 11
    إن أعجزه كبر أو مرض ... ... 11
    ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام ... … 12
    مسألة: من حج عن غير ولم يحج عن نفسه … 13
    ويشترط لوجوبها على المرأة وجود محرمها ... 14
    شروط المحرم ومن هو؟ ... … 15
    إن مات من لزمه الحج والعمرة ... … 16
    مسألة: التوكيل في حج التطوع مع القدرة … 16
    باب المواقيت ... … 17
    عمرة أهل مكة ... ... … 19
    أشهر الحج ... ... ... 20
    مسألة: إذا أهل بالحج قبل أشهره ... … 21
    إذا أحرم قبل الميقات المكاني ... … 22
    الإحرام لمن لا يريد الحج والعمرة ... … 22
    باب الإحرام ... … 23
    هل يشترط مع نية الإحرام شيء يدل عليه … 23
    سنن الإحرام ... ... ... 24
    وإحرام عقب ركعتين ... ... … 26
    الاشتراط عند الإحرام ... ... 27
    أفضل الأنساك ... ... 28
    وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج ... 34
    من أهل بالنسك مبهماً ... … 35
    حكم التلبية ... ... 38
    باب محظورات الإحرام ... … 39
    حكم الجماع في الحج والعمرة …. 53
    ما يباح للمحرم ... ... 58
    باب الفدية ... ... 60
    فصل في أحكام الفدية ... … 68
    (11/287)
    ________________________________________
    باب جزاء الصيد ... ... 73
    باب صيد الحرم ... ... 76
    باب دخول مكة ... ... 82
    طواف الحائض ... … 92
    إن كرر الطواف فله أن يصلي أربعاً ... 94
    فصل: ثم يستلم الحجر ... ... 96
    فصل: ثم يفيض إلى مكة ... … 121
    وقت طواف الزيارة ... ... 123
    ثم يرجع فيبيت في منى ثلاث ليال ... 127
    فيرمي الجمرة الأولى ... 128
    طواف الوداع ... ... 134
    وصفة العمرة ... … 139
    باب الفوات والإحصار ... 145
    ومن صده عدو عن البيت … 148
    باب الهدي والأضحية ... … 152
    ويتعينان بقوله هدي أو أضحية ... 164

    فهرس الأحاديث والآثار
    أأعتمر من الشجرة … 140
    ابدؤوا بما بدأ الله به ... … 98
    ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 159
    أتاني آت من ربي فقال: صل ... ... … 17، 27
    أتاني جبريل فأمرني ... … 38
    اجعلوها عمرة ... ... ... …. 29
    أحابستنا هي؟ ... ... 122، 135، 144
    إحرام المرأة في وجهها ... ... 56
    أحسنت ... ... ... ... ... 35
    احضرى أضحيتك يغفر لكِ ... … 161
    أحل ... ... ... ... ... …. 35، 117
    احلقوه كله أو اتركوه كله ... ... 41
    أحلوا من إحرامكم بالطواف ... ... 28
    اخرجوا ... ... ... 122
    اخلع هذه الجبة واغسل عنك ... ... 70
    إذا استلم الحجر (ابن عباس) ... ... 37
    إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ... … 136
    إذا رميتم الجمرة فقد حل ... ... 119
    إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم ... … 118
    إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل وإذا لم يجد نعلين … 44
    أذن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة … 15
    أذن لأم سلمة أن تدفع ليلة المزدلفة وأن ترمي قبل طلوع الفجر … 109
    أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء … 155
    أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... 108، 109
    ارم ولا حرج ... … 115، 120
    استأذنت سودة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة ... … 108، 109
    استقبل القبلة ... … 103
    اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ... … 142
    اشترطي أن محلي حيث حبستني ... 151، 27
    (11/288)
    ________________________________________
    اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة … 72
    أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر (ابن عمر) … 20
    اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإذا أدركك … 146
    اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ... … 143
    اغتسال علي يوم عرفة ... … 103
    اغسل الطيب الذي عليك ... ... 25
    اغسلوه بماء وسدر ... ... 42، 58
    أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ... ... 123، 127
    أفضل الحج العج والثج ... ... 38
    افعل ولا حرج ... … 115، 121، 148
    افعلي ما يفعل الحاج غير أنه لا تطوفي ... 92، 100
    ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف ... … 6، 90
    البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ... … 26
    أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل عند إحرامها … 24، 93.
    أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة و … 87
    أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ... … 134
    أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... ... 142، 124
    أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء … 157
    أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل ... 72
    إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون ... 127
    أن ابن عمر كان يستلم الحجر بيده ثم قبل يده … 85
    أن ابن عمر كان يلبي راكباً ونازلاً ... 38
    أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرفعون أصواتهم ... 39
    أن بنت أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ... … 116، 131
    إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون … 96
    أن عبد الله بن عمرو استلم الحجر ثم قام بين الركن والباب ... … 137
    أن عمر أمر رجلاً أن يرجع لطواف الوداع ... ... … 139
    أن عمر طاف بالبيت فركب فصلى بذي طوى … 94
    إنا لم نرد عليك إلا أنا حرم ... ... … 48
    إنا نحن نازلون غداً إن شاء الله في بخيف بني كنانة … 134
    إن تفصلوا بين الحج والعمرة فتحروا بالعمرة (عمر بن الخطاب) … 30
    إن الجذع يوفى مما يُوفي منه الثنية ... … 154
    (11/289)
    ________________________________________
    أن رجلاً تزوج وهو محرم فرد عمر نكاحه ... 50
    انظروا إلى حذوه (عمر رضي الله عنه) ... 16
    إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ و ... ... … 70
    إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم … 159
    إن الله كتب عليكم الحج ... ... 4
    إنما الأعمال بالنيات ... ... 27، 88، 89، 141
    إنما الخير خير الآخرة ... ... 36
    أن سعد بن أبي وقاص ذهب إلى العقيق فوجد عبداً يقطع ... 80
    أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 15
    إنك رجل قوي فلا ... …. 88
    إن كنت تريد السنة فقصر في الخطبة وعجل في الصلاة ... 102
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم ... ... … 59
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر … 19، 139
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل دبر الصلاة ... ... … 26
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل عند المسجد بعد أن صلى … 26
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الفدية على كعب ... … 58، 72
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل من باب بني شيبة ... … 83
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف على بعير كلما أتى الحجر أشار ... 85
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها و ... … 82
    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ... ... 16
    إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات …. 76، 77، 78
    أنه جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ... … 112، 128
    أنه كان يسرع رمية حجر ... ... 111
    أنه كان يشير إلى الحجر بشيء ويكبر ... … 86
    أنه كان يقبل الحجر ويسجد عليه (ابن عباس) ... 86
    أنهما يهلان بها من حيث أهلا ... 54
    إني أحرم ما بين لابتيها ... … 81
    إني لأعلم أن حجر لا تضر ولا ... . 85
    إني لست كهيئتم، إنما صيد (عثمان بن عفان) … 48
    أهريقي دماً ... … 53
    أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المسجد بعد أن صلى ... 26
    (11/290)
    ________________________________________
    أهل دبر الصلاة ... ... 26
    أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة ... … 84، 91
    أي بني لا ترموا حتى تطلع الشمس ... … 109
    أي شيء فيها فعلت ... ... ... 61
    أيما صبي حج ثم بلغ الحنث … وأيما عبد ... … 4، 7
    أيها الناس، السكينة السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع … 106
    بئس ما قلت ... … 141
    بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين فإنما ... … 111
    بسم الله والله أكبر ... … 86
    بل للأبد ... ... … 29، 30
    بمثل هؤلاء فارموا وإياكم ... ... 111، 113
    بني الإسلام على خمس ... ... … 1
    بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … 36
    تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان ... 140
    تجرد لإهلاله واغتسل ... ... 25
    تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال ... 51
    تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ... 50
    تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال (ميمونة) ... … 51
    ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون ... 126
    ثم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ... 117
    ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124
    ثم انصرف إلى المنحر فنحر ... ... 116
    ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب الصفا ... … 96
    ثم رجع إلى الركن فاستلمه ... … 96
    ثم طاف بالبيت ثم حل له كل شيء … 126
    ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ... 102
    ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه ... … 97
    جعل في حمام الحرم (ابن عباس) ... … 75، 77
    حتى إذا استوت به راحلته على البيداء ... … 35، 36
    حتى أهل مكة من مكة ... ... … 18، 16، 17، 101، 139
    حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان … 7
    الحج عرفة فمن أدرك ... ... 103، 105، 146
    حج عن أبيك واعتمر ... ... ... 2
    حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ... … 13
    حجي عنه ... ... 11
    حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16
    حجي واشترطي وقولي: اللهم إن ... 27، 151
    حل ... ... 117، 35
    حلق بالحديبية في عمرته وأمر أصحابه بذلك … 148
    (11/291)
    ________________________________________
    خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ... 99
    خرجنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة لا نذكر إلا حجاً … 29
    خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحال كفار قريش دون البيت ... 148
    خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى ففتحت أسماعنا … 121
    خطب الناس في وسط أيام التشريق ... 134
    خطب الناس يوم النحر ... ... 121
    خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... … 48
    خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت و ... 103
    دخلت العمرة في الحج ... ... … 1، 3، 29
    دخل مكة وعلى رأسه المغفر ... … 22
    دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من كداء و… 82
    دعا أن تنقل حمى يثرب ... ... 17
    ذهب إلى زمزم ... ... 101
    رأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42
    رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى.. 121
    رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بك حفياً ... ... 86
    ربنا آتنا في الدنيا حسنة و ... 86
    رجعنا في الحجة مع النبي وبعضنا يقول رميت بسبع حصيات و ... 132
    رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ... 130، 133
    رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى … 127، 133
    رفع القلم عن ثلاثة ... ... 4
    رفع يديه ... … 100
    ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سعيه بين الصفا والمروة … 100
    رمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ... … 87
    رمى الجمرة يوم النحر ضحى ... ... 114
    رميت بعدما أمسيت ... … 115
    الزاد والراحلة ... ... ... 8
    سئل عن الجماع قبل التحلل الأول (ابن عباس) … 52، 67
    سئل عن الغسل للمحرم ... ... 58
    سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر ... … 44
    صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعاً والعصر.. ركعتين … 26
    صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر … 102
    الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد ... 64
    صيد البر لكن حلال وأنتم حرم ما لم ... 48
    (11/292)
    ________________________________________
    ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين … 152، 153، 160
    ضحينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بجذع من الضأن ... 154
    ضربت له قبة بنمرة ... … 42
    طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون فكانت سنة فلعمري … 142
    طاف بين الصفا والمروة سبعاً ... … 98
    طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعير كلما أتى الحجر أشار …. 85، 96
    الطواف بالبيت صلاة فمن نطق ... … 91
    طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزئك عن حجك وعمرتك … 141
    طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ... .. 95
    عليهن جهاد لا قتال فيه ... ... … 2
    العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور … 140
    عمرة في رمضان تعدل حجة ... … 140
    فأتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء ... ... 106
    فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت و ... 126، 124
    فأرسلت الأتان ترتع ... ... … 78
    فإن لك على بك ما استثنيت ... … 27
    فأهللنا من الأبطح ... … 102
    فأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد ... … 36
    فحجي عنه ... ... . 11
    فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - و ... 99
    فحمد الله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ... … 110
    فرأيت أسامة بن زيد وبلال (أم الحصين) … 42
    فرقي عليه ... ... 110
    فرماها بسبع حصيات ... … 112
    فصلى بمكة الظهر ... 127
    فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا … 121
    فقربنا النساء ولبسنا الثياب ... 124
    فقطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 114
    فكلوا مما بقي من لحمه ... ... 47، 73
    فلما أتى بطن محسر حرك قليلاً ... … 111
    فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول ... 125
    فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ... 101
    فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ... 105
    فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 114
    فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد ... 106
    فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام ... . 64
    في صلاة ... … 92
    (11/293)
    ________________________________________
    فيم الرملان اليوم والكشف عن ... ... 84، 88
    القائمتان والوسادة والعارضة والمسد ... 80
    قبل يوم التروية يوم ويوم التروية … 64
    قد حللت من حجك وعمرتك ... ... ... … 1
    قدمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة أغيلمة ... … 109
    قضى ابن عباس في حمار الوحش و.. ببقرة … 75
    قضى بذلك ... … 52
    قضى عمر في الغزالة بعنز وفي … 75
    قضى عمر وعثمان و.. في النعامة بدنة ... 75
    قضى عمر في الضب بجدي ... … 75
    قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في الضبع كبشاً ... ... 74، 75
    قطع التلبية مع آخر حصاة ... ... 37
    قلم أظافره بعد التحلل ... ... … 121
    قياماً ... … 159
    كان إذا دخل الحرم أمسك عن التلبية ... … 37
    كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمرون في أشهر (ابن المسيب) … 30
    كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته … 152، 154
    كان الركبان ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - … 56
    كانت المتعة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ... 29
    كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة العقبة ضحى، وأما ... … 129
    كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم الركن اليماني والحجر في كل طواف … 87
    كان يذكر الله عند الجمرتين ويكبره ويهلله ... … 129
    كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر ... 28
    كانوا يستحبون التلبية في أربعة مواضع ... 38
    كانوا يصرخون بها ... ... 38
    كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ... … 106
    كان يقف عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة ... 129
    كان يكبر مع كل حصاة ... ... 113، 114
    كفى بالمرء إثماً أن يضيع ... ... … 10
    كلا يا بني، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن ... … 108
    كل أيام التشريق ذبح ... … 162، 163
    كل عرفة موقف وارتفعوا ... 102
    كل عمل ليس عليه أمرنا ... ... 98، 112، 130
    كلوا وتصدقوا وتزودوا ... … 163
    كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ... ... 129
    (11/294)
    ________________________________________
    كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمِّد (عائشة) … 25
    كنا نخمر وجوهنا ... … 56
    كنا نسمن الأضحية بالمدينة ... 153
    كنا نغطي وجوهنا … 56
    كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل (عائشة) ... 24
    كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فرفع يديه ... … 103
    كنت فيمن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله ... . 108
    لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين … 140
    لا ... 140
    لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم أيؤجرون أم يعذبون؟ … 140
    لا إلا أن تطوع ... ... 3
    لا تحجن امرأة ... … 14
    لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة … 154
    لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... ... 138
    لا حرج ... … 115
    لا حصر إلا من عدو ... … 151
    لا وأن تعتمر خير لك ... ... 3
    لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة ... 112
    لا يختلى خلاها ولا ينفر ... … 79، 80
    لا يخلون رجل بامرأة ... … 14، 15
    لا يدخل مكة أحد (ابن عباس) ... … 22
    لا يقطع عضاها ولا ... ... 79
    لا يقطع الوادي إلا شداً ... … 97
    لا يلبس القميص ولا العمائم ... … 42، 43
    لا ينكح المحرم ... … 50
    لبيك إله الحق ... ... 36
    لبيك حقاً حقاً تعبداً ... … 37
    لبيك ذا الفواضل لبيك ذا المعارج ... … 36
    لبيك عمرة في حجة ... ... 27
    لبيك اللهم لبيك ... … 36
    لبيك وسعديك والخير بيديك ... ... 36
    لتأخذوا عني مناسككم ... ... 38، 86، 87، 88، 89، 91، 95، 98، 100، 104، 106، 107، 112، 123، 129، 130، 132، 142
    لعلك نفست ... … 135
    اللهم اجعله علماً نافعاً ورزقاً واسعاً … 127
    اللهم ارحم المحلقين ... ... 117
    اللهم اغفر وارحم فإنك أنت الأعز … 97
    اللهم أنت السلام ومنك السلام ... … 83
    اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء ... … 86
    اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً و ... 83
    اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت علي … 137
    اللهم هذا منك ولك ... … 160
    (11/295)
    ________________________________________
    لما أتى الموقف جعل بطن ناقته القصواء ... 103
    لما فتح المصران (ابن عمر رضي الله عنه) ... 16
    لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت ... … 85
    لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا ... 65
    لم يرمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبع الذي أفاض فيه ... 87
    لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة ... … 37
    لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً … 124، 125، 126
    لو اعتمرت في السنة مرتين لجعلت (عمر بن الخطاب) … 30
    لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة ... .. 90
    ليس على النساء حلق ... ... 118
    ليس على النساء سعي ... ... 97
    ماء زمزم لما شرب له ... … 126
    ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل … 160
    ما أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد ... ... .. 35
    ما كنت أرى الوجع يبلغ بك ما أرى ... … 60
    ما من ملبي يلبي إلا لبي ما عن يمينه وشماله ... 38
    ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً ... … 103
    المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت ... … 55
    المدينة حرام ما بين عير إلى ثور ... … 79
    المشعر الحرام المزدلفة كلها ... ... 110
    معقولة اليسرى ... … 159
    ممن أراد الحج والعمرة ... ... 22، 18
    من أحب أن يهل بالحج ... ... … 28، 29، 35
    من أراد أن يهل بالحج والعمرة فليفعل ... … 28، 29
    من أراد الحج فليتعجل ... ... … 5
    من أطاق الحج فلم يحج فسواء ... ... 1
    من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى ... 22
    من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك ... 22
    من حج البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت ... 143
    من حج فزار قبري بعد مماتي ... … 138
    من ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161
    من راح يوم الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة … 152
    من السنة أن يغتسل عند إحرامه (ابن عمر) … 24
    من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ... … 104، 105، 106
    من ضحى قبل الصلاة فإنما هي شاة ... 161
    (11/296)
    ________________________________________
    من غربت عليه الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى … 133
    من قطع منه شيئاً فلمن أخذه سلبه ... ... 80
    من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ... … 161
    من كان منكم ليس قد أهدى ... ... 117
    من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج ... 5، 149، 151
    من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين … 44
    من ملك زاداً وراحلة فلم يحج ... ... 1
    من نسي رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس … 115، 116، 131
    من نسي شيئاً من نسكه أو تركه فليهرق دماً ... … 132، 136، 144
    موجوءين ... ... 157
    نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ... ... 110
    نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنة عن سبعة والبقرة ... 154
    نعم ... ... ... ... 11
    نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك … 16
    نعم، ولك أجر ... ... 7
    نهى أن يضحى بأعضب القرن ... … 156
    نهى أن يضحى ليلاً ... … 163
    نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث … 162
    نهى المرأة أن تحلق شعرها ... ... 118
    هديك لسنة نبيك (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) … 2
    هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ... … 112، 128، 130
    هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... … 137
    هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ... ... … 58
    هل غاب القمر؟ ... 108
    هل منكم أحد أمره أو أشار إليه … 73، 47
    هن لهن ولمن أتى عليهن ... … 18، 19، 139
    هو من البيت ... .. 90
    وأمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ... 124
    وأن تحج وتعتمر ... ... 3
    واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ... … 93
    وحمده ... … 101
    وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ... ... 18، 17، 19
    وكبر ثلاثاً ... … 97
    وكل ما سوى حمام الحرم ففيه ثمنه ... … 76
    ولا تحجن امرأة إلا ومعها ... … 14
    ولا تحنطوه ... … 45
    ولا تغطوا وجهه ... ... … 43
    ولا تقربوه طيباً ... ... 45
    ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا ... . 56
    ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأساً ... …. 58
    (11/297)
    ________________________________________
    ولم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحدا … 124، 125، 126
    وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين ... 25، 26
    ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ... 18، 16، 17
    وهو مستقبل القبلة ثم يلبي ... 36
    ويدخل المحرم الحمام ... … 58
    وينظر في المرآة ... ….. … 59
    يا أبا عمير ما النغير ... ... 81
    أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما ... … 139، 140
    يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف ... 100
    يحيي ويميت … 101
    يسعك طوافك لحجك وعمرتك ... ... 34، 124
    يعتمر وينحر بدنة ... ... … 53
    يعتمر ويهدي ... …. 53
    يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ... ... 37
    (11/298)
    ________________________________________
    كتاب الجهاد
    * الجهاد: مصدر على زنة فِعال. وهو مصدر فاعل فِعالا، أي جاهد جهادا.
    وجاهد الذي مصدره جهاد هو المبالغة في قتال العدو، فيقال: جاهد فلان أي بالغ في قتال عدوه.فالجهاد مصدر جاهد من جهد أي بالغ في قتال عدوه.
    * وهو في الشرع: جهاد الكفار خاصة.
    فإذن: الجهاد لغة مصدر جاهد إذا جهد عدوه أي بالغ في قتاله.
    والجُهد بالضم والجَهد بالفتح قيل هما مترادفان وقيل بالفتح يعني المشقة، وبالضم يعني الوسع والطاقة وهو المشهور.
    فعلى ذلك الجهاد هو: بذل الوسع والطاقة في قتال أعداء الله من الكفار.
    * فضيلة الجهاد:
    وفضيلة الجهاد متواترة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا أرى داعيا لذكرها لشهرتها وتواترها في الكتاب والسنة.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهو فرض على الكفاية] .
    فالجهاد فرض كفاية.
    فيجب على الأمة الإسلامية أن تجاهد في سبيل الله فإن قام منها طائفة به على وجه يكفي سقط الإثم عن الباقين.
    فإن لم تقم طائفة منهم بذلك أو قامت طائفة على وجه لا يكفي فإن الإثم يعمهم.
    فإذا قامت طائفة بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال هجوما على الكفار ودفاعا عن البلاد الإسلامية فكانت كلمة الله هي العليا وفرض دين الله على العباد سقط الإثم على الباقين.
    وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن فرّطت في هذا. وهذا حيث كانت القدرة.
    * أما مع العجز بأن كان المسلمون ضعفاء فلا عدد ولا عدة يمكنهم أن يجابهوا بها الكفار فإن الواجبات تسقط مع العجز كما قال الله تعالى: [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها] ولكن لاشك أن الأمة إذا فرّطت في الاستعداد وفي التطور المادي وغير ذلك مما يحتاج إليه في مجابهة أعدائها فإذا فرطت في تعاطي الأسباب حتى كانت أمة ضعيفة فلا شك أنها تكون آثمة حينئذٍ.
    إذن الجهاد فرض كفاية. وعليه فلا يجب على كل مسلم أن يجاهد في سبيل الله بل إذا
    (12/1)
    ________________________________________
    قامت طائفة من الأمة بالجهاد في سبيل الله سواء كان ذلك على وجه التبرع منها (1) أو كانوا جندا
    لهم رَزق من بيت المال فإن الإثم يسقط عن الأمة حيث قامت الكفاية.
    ضابط الكفاية:
    والكفاية كما تقدم؛ بأن يترتب على هذا الجهاد ظهور الدين وإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
    أدلة وجوب الجهاد:
    والأدلة كثيرة في كتاب الله على فرضية الجهاد ومن ذلك:
    1 ـ قوله تعالى: [كتب عليكم القتال وهو كره لكم]
    2 ـ وقوله تعالى: [انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فهذه أدلة على فرضية الجهاد.
    الأدلة على أنه على الكفاية لا العين:
    وإنما قلت: هو فرض على الكفاية لا فرض عين لأدلة دلت على ذلك:
    1 ـ منها قوله تعالى: [لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى] أي وعد المجاهد والقاعد.
    2ـ ولقوله تعالى: [وما كان المؤمنون لينفروا كافة] .
    3 ـ وعليه عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فإنه كان يبعث السرايا مع مكثه في المدينة وسائر أصحابه ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ.
    فهذا يدل على:
    أن الجهاد فرض كفاية وهو مذهب عامة العلماء.
    شبهة وجوابها:
    فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم] ؟ فإن هذا يدل على أن من ترك الجهاد فإنه يعذب عذابا أليما، وهذا يدل على أنه فرض عين.
    الجواب من وجهين:
    __________
    (1) ـ بعد إذن الإمام لها بذلك، إلا إذا أصبح عينيا فلا يشترط الإذن، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
    (12/2)
    ________________________________________
    الأول: أن يقال: إن ذلك حيث استُنفر الإنسان، وقد استنفر في هذه الآية: [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض] .. إلى قوله تعالى: [إلا تنفروا يعذبكم] فقد ثبت الاستنفار وحيث ثبت الاستنفار فإن القتال يجب علينا. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وإذا استنفرتم فانفروا { (1) .
    الوجه الثاني:
    أن هذه الآية منسوخة فقد ثبت في سنن أبي داود عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: [إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] [وَمَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ] إِلَى قَوْلِهِ [يعْمَلُونَ] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كَافَّةً] (2) .
    * شروط وجوب الجهاد: ... ...
    واعلم أن الجهاد لا يجب إلا بسبعة شروط:
    الشرط الأول: الإسلام. وهو ظاهر.
    الشرط الثاني: العقل. وهو ظاهر أيضا.
    الشرط الثالث: البلوغ.
    ودليله:
    حديث عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:} رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ { (3) .
    __________
    (1) ـ أخرجه البخاري. وسيأتي تخريجه.
    (2) ـ (د: 2144) ك: الجهاد. ب: في نسخ نفير العامة بالخاصة. وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه على باب: النفير ومايجب من الجهاد والنية.وحسنه الشيخ الألباني في صحيح (د: 2187) . تنبيه: ترقيم الأحاديث كالتالي: (خ وم (محمد فؤاد عبد الباقي، الخمسة (ط. العالمية، وما عدا ذلك يقع التنبيه عليه عند أول إحالة إن شاء الله تعالى) .
    (3) ـ (ن: 3378، د: 3822، ت: 1343، حم: 23553) .
    (12/3)
    ________________________________________
    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي) (1) .
    الشرط الرابع: الذكورية.
    أي أن يكون ذكرا، فلا يجب الجهاد على الأنثى.
    ودليل ذلك:
    ماثبت في البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ {) (2)
    وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ـ بإسناد صحيح ـ عنها قالت: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ:} نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ {) (3)

    الشرط الخامس: الحرية.
    الخلاف في هذا الشرط: العلماء في اشتراط الحرية لوجوب الجهاد على قولين:
    القول الأول:
    أنه لا يجب على العبد، هذا هو المشهور في المذهب كما ذكر ذلك الموفق ابن قدامة في كتابة المغني وغيره.
    القول الثاني:
    __________
    (1) ـ (فتح: 2664، م: 1868) وهذا لفظ مسلم: ك: الإمارة. ب: بيان سن البلوغ. وتمامها: قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَال َ إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ فِي الْعِيَالِ.
    (2) ـ (فتح: 2875) ك: الجهاد والسير. ب: جهاد النساء.
    (3) ـ (حم 24158، جه: 2892) وهو في صحيح (هـ 2345) للألباني.
    (12/4)
    ________________________________________
    وجوبه على العبد. وهو القول الثاني في المذهب. وهو الراجح لعمومات الأدلة الشرعية الدالة على ذلك.وحيث لا دليل يخصص العبد منها.
    نعم. يشترط في الجهاد التطوعي أن يستأذن سيده مراعاة لحق السيد.
    * أما الجهاد العيني فلا دليل يدل على إخراجه من العمومات الدالة على الوجوب على العبد والحر ولا دليل لدى القائلين باستثناء العبد فيصار إليه.
    وعلى ذلك: فلا نشترط الحرية في فرض العين.
    أما الجهاد التطوعي فليس للعبد أن يجاهد إلا أن يستأذن سيده لحق السيد عليه.

    الشرط السادس: السلامة من الضرر.
    فالأعمى والأعرج والمريض لا يجب عليهم الجهاد في سبيل الله وإن تعين على غيرهم لقوله تعالى: [ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج]
    والمراد بالعرج: العرج الفاحش، الذي يؤثر عليه في جهاده في ركوبه وغير ذلك.
    أما مطلق العرج فلا.
    ومثل ذلك المرض، فالمرض الذي يؤثر عليه ويشق عليه معه الجهاد في سبيل الله.
    وأما مطلق المرض فلا.
    وعلى ذلك: إن كان مستطيعا ببدنه فيجب عليه الجهاد، وإلا فلا. فالأعمى والأعرج شديد العرج والمريض شديد المرض لا يستطيعون بأبدانهم الجهاد في سبيل الله. فالشرط السادس هو السلامة من الضرر، وبتعبير آخر: (أن يكون مستطيعا ببدنه الجهاد في سبيل الله) .

    الشرط السابع: وجود النفقة.
    أي أن يكون لديه ما ينفقه على نفسه في آلات الحرب وفي زاده، هذا إذا لم تكن هناك نفقة من بيت مال المسلمين.
    فإن كانت هناك نفقة من بيت المال فيجب عليه أن يجاهد منها.
    فإن لم يكن هناك نفقة فلا يتعين عليه الجهاد لقوله تعالى: [ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون] في الجهاد [حرج إذا نصحوا لله ورسوله] .
    إذن الجهاد يشترط في وجوبه: وجود النفقة أي: القدرة أو الاستطاعة المالية.
    فإن كان معه نفقة تكفيه في جهاده وتفضل عمن يعول وجب عليه الجهاد فعلا.
    (12/5)
    ________________________________________
    وعليه: فإن كان معه نفقة لكنها لا تفضل عمن يعول بحيث أنه يضر بأهله فإن الجهاد ـ حينئذٍ ـ لا يجب عليه.
    *ـ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن العاجز ببدنه عن الجهاد والقادر بماله يجب عليه أن يجاهد بماله.
    الدليل:
    ويدل على ذلك قوله تعالى: [جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله] فأمر سبحانه وتعالى بالجهاد بالمال.
    * وعليه: فيجب على النساء أن يجاهدن بأموالهنّ.
    * وعليه أيضا: إن احتيج إلى مال الصبي للجهاد في سبيل الله فإنه يؤخذ منه أيضا. فهذا من الجهاد المالي. فإذا احتاج المسلمون إلى أموال الصغار وأموال النساء فإنه يتعين إخراج حاجة المسلمين من أموالهم.
    ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أيضا: أنه إذا تعين الجهاد بالمال واحتاج المسلمون إلى المال في الجهاد فإن دفعه إلى القائم على الجهاد مقدم على وفاء الدين.
    قال: لأنه أولى من النفقة حينئذٍ.
    ومعلوم أن النفقة الواجبة عليه على ولده وزوجه وغير ذلك مقدمة على وفاء الدين، فهنا أولى من ذلك.
    ثم إنها ـ حينئذٍ ـ أي إذا احتاج المسلمون إلى المال إنه يعتبر نفقة واجبة مقدمة على وفاء الدين.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وَيَجِبُ إذَا حَضَرَهُ] .
    أي إذا حضر القتال أي الصف؛ فالمسلمون والكفار صافون للجهاد فقد تعين عليه الجهاد وإن كان في الأصل مستحبا له، لكن إذا حضر الصف فإن الجهاد يكون فرض عين في حقه.

    الأدلة:
    1 ـ لقوله تعالى: [يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا] .
    2 ـ وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا تحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير]

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أوْ حَصَرَ بَلَدَهُ عَدُوٌّ] .
    (12/6)
    ________________________________________
    وهي في الأصل في المقنع (أو حضر) بالضد وضبطها بعض الحنابلة (أو حصر) بالصاد.
    أي إذا حصر بلده عدو أو حضر بلده عدو.
    فعلى (حضر) بالضاد يتعين القتال على أهل البلدة وإن لم يحصرهم العدو أي بمجرد ما يحضر العدو لقتال هذه البلدة يتعين على أهلها القتال.
    وعلى (حصر) أي إذا حصل من الكفار الحصار فأحاطوا ببلدة المسلمين فيجب عندئذ على من فيها أن يقاتلوا في سبيل الله.
    لذا فالتعبير بلفظة (حضر) بالضاد ـ كما هو المشهور ـ أولى، وذلك لتعليق الحكم بمجرد حضور العدو سواء حصر أم لم يحصر. فبمجرد ما يحضر العدو لقتال المسلمين فإن الجهاد يكون فرض عين على من فيها من المسلمين.
    فهذه هي الحالة الثانية التي يكون الجهاد فيها فرض عين. وهي أن يحضر العدو بلدا من بلاد المسلمين فيجب على أهل هذه البلد أن يقاتلوا في سبيل الله.
    أما غيرهم من البلدان فلا يجب عليهم الجهاد وذلك إلا أن لا تقوم الكفاية بقتال أهل تلك البلدة. فإذا احتاج أهل هذه البلدة إلى إخوانهم في البلاد البعيدة فجب على أهل البلاد البعيدة أن يعينوا إخوانهم بمن تقوم بهم الكفاية.

    ـ ومثل ذلك من احتيج إليه فإن الجهاد يتعين عليه، كمن يُحتاج إليه في معرفة بعض الطرق في تلك البلدان أو يحتاج إليه في القيادة أو نحو ذلك فإن الجهاد حينئذٍ يكون فرض عين عليه لأن الكفاية لا تقوم إلا بحضوره.
    والدليل:
    على أن الجهاد فرض عين فيما إذا حضر بلده عدو، أنه لا تحفظ الأديان والأعراض إلا بذلك فيتعين عليهم الجهاد. لأنهم إن لم يقوموا به على هذه الصفة فإن الأموال والأنفس والأعراض التي هي الضرورات لكلها تكون معرضة لأيدي العدو.
    ولكن ظاهر كلامهم أنه عين على أهل البلد عامة لا على كل شخص من أهل البلد فإنهم يقولون: تَعَيّنّ على أهل البلد. والظاهر أنه لا يجب على كل شخص منهم.
    (12/7)
    ________________________________________
    فهو إذن عيني نسبي أي عيني بالنسبة إلى أهل البلدان التي حضرها العدو، فهو متعين على أهل البلدة عن سائر البلدان وأما على كل شخص فإنهم لم يصرحوا بهذا.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [أو استنفر الإمامُ] .
    فإذا استنفر الإمام فإن الجهاد يتعين على من استنفرهم الإمام.

    الأدلة:
    1 ـ وذلك لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ:} لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا { (1) فيتعين عليكم أي إذا طُلب منكم النفر فعليكم أن تنفروا وليس لكم أن تتخلفوا.
    2 ـ وقد تقدمت الآية الكريمة والكلام عليها [يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم: (انفروا في سيبل الله) اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا] فإذا استنفر الإمام طائفة أو خصص شخصا بعينه فإنه يتعين عليهم ذلك.
    3 ـ ولأن طاعة الإمام واجبة في مثل ذلك وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ {. (2)
    ـ ذكر المؤلف ثلاثة أحوال يتعين فيها الجهاد.وبقيت حالة:
    4 ـ وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حالة رابعة: وهي إذا كان من الجند الذين جعل لهم الإمام أرزاقا على أن يجاهدوا في سبيل الله من الشُّرَط وغيرهم.
    الدليل:
    __________
    (1) ـ (فتح: 2825، م: 1353) البخاري: ك: الجهاد والسير. ب: وجود النفير.
    (2) ـ (فتح: 7144، م: 1839) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
    (12/8)
    ________________________________________
    فهؤلاء يتعين عليهم الجهاد لما بينهم وبين الإمام من عقد على ذلك.وقد قال تعالى: [يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود] . فالطائفة التي قد جعل لها الإمام أرزاقا على الجهاد في سبيل الله يتعين عليهم الجهاد حيث كان ذلك في العقد.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتمام الرباط أربعون يوما] .
    الرباط: هو الإقامة بالثغور لجهاد الكفار.
    والثغور: هي الحدود التي تكون بين المسلمين والكفار. والمقصود بها الحدود بين بلدة إسلامية وبلدة كافرة محاربة. أي الأماكن والمواضع التي يخيف المسلمون الكفار فيها ويخيف الكفارُ المسلمين فيها.فهذه هي الثغور.
    ـ وسمي رباطا لأن الخيل تربط فيه استعدادا للقتال في سبل الله.
    ـ وأفضل الرباط ما يكون في ثغر هو أشد من غيره خوفا أي احتمال ورود الكفار إلى المسلمين منه أقوى، فهو مخوف أكثر من غيره، ولذلك أي لشدة الحاجة إلى الإقامة فيه فهو أفضل الرباط. فأفضل المواضع التي يرابط فيها ما كان الخوف فيه أشد للحاجة إلى لزومه.
    * فضل الرباط في سبيل الله:
    وقد وردت أحاديث نبوية تدل على فضيلة الرباط في سبيل الله. من ذلك:
    ـ ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ { (1) أي فتنة القبر وهي سؤال منكر ونكير.فالرباط في سبيل الله من أفضل الأعمال.
    * وقد ذكر المؤلف هنا أن تمام الرباط أربعون يوما. فهذا تمامه. لكنه يثبت الرباط بالقليل والكثير فلو أقام ساعة إنه يثبت له رباط ساعة ولكن تمامه أربعون يوما.
    __________
    (1) ـ (م: 1913) ك: الإمارة. ب: فضل الرباط في سبيل الله. من حديث سلمان ـ رضي الله عنه ـ.
    (12/9)
    ________________________________________
    لما روى الطبراني في الكبير عن أبي هريرة (1) ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا:} إن تمام الرباط أربعون يوما {لكن إسناده ضعيف. وإنما يثبت موقوفا على أبي هريرة كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه (2) .
    وعلى ذلك فالمستحب له أن يرابط أربعين يوما لثبوت ذلك عن أبي هريرة وليس ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالحديث ـ كما تقدم ـ ضعيف، لكن هذا لا مجال للرأي فيه وما كان كذلك من أقوال الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ فإن له حكم الرفع، ولذا استحبه الإمام أحمد وغيره.
    __________
    (1) ـ لم أجده عنده في معاجمه الثلاثة من حديث أبي هريرة. والذي في معجمه الكبيرهو عن أبي أمامة [7606] عن مكحول عن أبي أمامة قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تمام الرباط أربعين يوما ومن رابط أربعين يوما لم يبع ولم يشتر ولم يحدث حدثا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " (8/133) ط2/ العلوم والحكم ـ الموصل.تحقيق حمدي بن عبد المجيد. قال الهيثمي في المجمع: وفيه أيوب بن مدرك ضعيف. وقال الألباني في الإرواء في آخر كلامه عليه [1201] وبالجملة فالحديث ضعيف بهذه الطرق، ولم أره الآن من حديث ابن عمر وأبي هريرة.
    (2) ـ (عب 4 / 584) (152) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ نا دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. كتاب فضل الجهاد.) قال الألباني: وهذا سند ضعيف، العسقلاني قال ابن أبي حاتم عن أبيه: (مجهول) (6 / 245) ط1.دارإحياء التراث ـ بيروت)
    الإرواء: 5 / 23 = [1201] . وهكذا جهله الذهبي في الميزان والمغني وجهله ابن حجر في اللسان.
    (12/10)
    ________________________________________
    ـ ولا يستحب لمن رابط أن يحمل نساءه وذريته في المواضع المخوفة لئلا يظفر العدو بذلك الثغر فيستولي على من فيه من نساء المسلمين وذراريهم. فهو موضع مخوف يحتمل في كل وقت أن يظفر فيه العدو. بل إن القول بالتحريم يقوى في تلك المواضع. فلا ينبغي للمسلمين أن يحملوا نساءهم وذراريهم إلى تلك الموضع المخوفة.
    ويستثنى من ذلك أهل الثغر، أي أهل تلك البلدة فإنه لا قرار لحياتهم إلا بذلك. فهم أهل الثغر وسكانه. أما من يأتي إليهم من المرابطين في سبيل الله فليس لهم أن يحملوا نساءهم وذراريهم.
    * الحراسة في سبيل الله:
    ومن الأعمال الفاضلة: الحراسة في سبيل الله.
    1 ـ وقد روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ:} عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { (1)
    2 ـ وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنس بن أبي مرثد الغنوي ـ رضي الله عنه ـ وقد بات يحرسهم ليلة:} أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعد ذلك { (2)
    واعلم أن الجهاد في سبيل الله ـ المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ أنه أفضل الأعمال، فهو أفضل من سائر النوافل.
    الدليل:
    1 ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: (أي الناس أفضل؟) فقال:} مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ { (3) ولاشك أن تفضيل المتصف بهذه الصفة وجعله أفضل من غيره يدل على أن هذه الصفة أفضل من غيرها من الصفات.
    __________
    (1) ـ (ت: 1563) .
    (2) ـ (د 2501) كتاب الجهاد. باب: فضل الحراس في سبيل الله.
    (3) ـ (فتح: 2786، م: 1888) .
    (12/11)
    ________________________________________
    2 ـ وقد ثبت في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ:} إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ:} حَجٌّ مَبْرُورٌ { (1)
    القول الثاني:
    وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن تعلّم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد في سبيل الله
    والظاهر أن العلم تعلما وتعليما نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله (2) وأن تفضيل أحد النوعين على الآخر راجع إلى المصلحة العامة. فإذا كان الاشتغال بالعلم أصلح للأمة من الاشتغال بالجهاد ـ كما في هذه الأزمان ـ فإن العلم أفضل.
    وأما إن كانت الأمة محتاجة إلى الجهاد في سبيل الله وإلى المجاهدين فإن الاشتغال بالجهاد في سبيل الله أفضل من العلم.
    فهما نوعان من جنس واحد. وكوننا نفضل أحدهما على الآخر على الإطلاق فيه نظر، بل هما في درجة واحدة لكن إن اقتضت المصلحة العامة أحدهما فهو أفضل.
    القول الثالث:
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: استيعاب العشر الأوائل من ذي الحجة بالصلاة ليلا ونهارا أفضل من الجهاد في سبيل الله إلا أن يذهب بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.
    __________
    (1) ـ (فتح: 26) ك: الإيمان. ب: من قال إن الإيمان هو العمل.
    (2) ـ لعله يستدل لذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم: " جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ " كما في حديث أنس عند النسائي في المجتبى (ن: 3045) .
    (12/12)
    ________________________________________
    وهو كما قال وهذا استثناء دلت عليه الأدلة الشرعية فقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ {قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ. قَالَ:} وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ { (1) ولذا قيد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ هذا التفضيل بقوله: (إلا ما يذهب فيه النفس والمال) فالجهاد الذي يذهب فيه النفس والمال أفضل من الجهاد في عشر ذي الحجة.إذن استيعاب عشر ذي الحجة بالعمل الصالح من العبادة والصيام والقيام أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال
    ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن الجهاد تعدله أشكال العبادة ليلا ونهارا فمن اجتهد ليلا ونهارا صياما وقياما في غير عشر ذي الحجة فإن عمله يعدله الجهاد في سبيل الله.
    الدليل:
    __________
    (1) ـ (فتح: 969) ك: الجمعة. ب: فضل العمل في أيام التشريق.
    (12/13)
    ________________________________________
    فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟) قَالَ:} لَا تَسْتَطِيعُونَهُ {قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ:} مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى { (1) فمن كان هذا نصيبه من العبادة لا يفتر من الصيام والقيام قائم قانت بآيات الله قد أسهر ليله في العبادة وأظمأ نهاره بالصيام فإن عمله
    يعدل عمل المجاهد في سبيل الله.
    إذن: فاستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهار أفضل من الجهاد في سبيل الله الذي لم تذهب فيه النفس والمال بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
    واستيعاب سائر السنة بالعبادة يعدل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان اثنان أحدهما جاهد شهرا والآخر قد استوعب هذا الشهر بالصيام والقيام فإن عملهما يتعادل بنص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما] .
    إذا كان أبواه: أي والديه مباشرة، الأب المباشر والأم المباشرة.
    وقوله (مسلمين) قيد يخرج ما إذا كانا كافرين.
    وقوله (تطوعا) قيد آخر يخرج ما إذا كان الجهاد فرضا.
    وهي مسألة اتفق العلماء عليها، وأن الجهاد التطوعي لا على المسلم إلا أن يستأذن والديه المسلمين.
    الدليل:
    __________
    (1) ـ (فتح: 2785، م: 1878) واللفظ لمسلم؛ ك: الإمارة. ب: فضل الشهادة في سبيل الله.
    (12/14)
    ________________________________________
    ودليل ذلك ما ثبت الصحيحين: من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ:} أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ {قَالَ: نَعَمْ قَالَ:} فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ { (1) فيحب باتفاق أهل العلم استئذان الوالدين المسلمين في الجهاد التطوعي.
    وأما جهاد الفرض فإن الوالدين لا يستأذنان فيه لأنه فرض فتركه معصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
    * فرع:
    فإن كان والداه كافرين لم يستأذنهما كما هو ظاهر كلام المؤلف وهو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم.
    قالوا: وعليه عمل الصحابة فإنهم كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم الكفار كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وغيره.
    وقالوا: يستبعد أن يأمر الشارعُ المسلمَ باستئذان الكافر في جهاد أهل ملته أو غيرهم من ملل الكفر مع أنه عدو لله ورسوله. فلا يمكن والحالة هذه أن يستأذن المسلم والده وهو كافر عدو لله ورسوله في الجهاد في سبيل الله.
    القول الثاني:
    وقال الثوري: بل يستأذن الوالد الكافر في الجهاد في سبيل الله.
    أدلته:
    واستدل بعمومات النصوص كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {.
    وجه الاستدلال: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسأله عن والديه أهما كافران أم مسلمان مع أن ذلك في الآباء كثير في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ـ كما هو مقرر في أصول الفقه.
    قال: وعلى ذلك يستأذن الوالد وإن كان كافرا.
    الترجيح:
    والذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن المسألة فيها تفصيل:
    __________
    (1) ـ (فتح: 3004، م: 2549) .
    (12/15)
    ________________________________________
    وهو أنه إن كان الوالد له ضرورة أو حاجة إلى ولده بحيث يحتاج إليه للقيام بحقه والنظر في شؤونه فإنه لا فرق بين أن يكون الوالد كافرا أو مسلما إلا أنه يستثنى من ذلك أن يكون الوالد محاربا. فإن كان ليس بمحارب كالذمي الذي يعيش في البلاد الإسلامية أو يعيش في بلدة بيننا وبينها أمان لا حرب وكان له حاجة إلى ولده ومضطرا إليه أو محتاجا إليه حاجة تامة وظاهرة فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه الثوري من وجوب الاستئذان وذلك لعموم الحديث المتقدم.فإن هذا الحديث يحمل على حاجة الوالدين بدليل قوله:} ففيهما فجاهد {أي فيهما فابذل طاقتك ووسعك، فدل هذا على أنهما محتاجان إلى طاقته ووسعه، والشريعة تأتي ببر الوالدين مطلقا سواء كانا مسلمين أم كافرين كما قال تعالى: [وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] فالذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه إن كان الوالدان يحتاجان إلى مجاهدة الولد فيهما والقيام بحقوقهما فإنهما يستأمران في ذلك، هذا إذا كانا معصومي الدم، وأما إن كانا حربيين فلا لأن دمهما هدر فما كان فيه حفظ لأبدانهما غير مراعى شرعا.
    * فرع:
    في حكم استئذان الوالدين إن كان رقيقين: ... ... …
    ـ واعلم أن المشهور في المذهب أن الوالدين الرقيقين لا يستأذنان.
    قالوا: لأنهما لا ولاية لهما، فإن الولاية تنتقل بالرق.
    القول الآخر:
    والوجه الثاني في المذهب هو وجوب استئذانهما وإن كانا رقيقين وهذا هو الظاهر.
    الأدلة عليه:
    1 ـ لعمومات النصوص في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} أحي والداك؟ {قال: (نعم) قال:} ففيهما فجاهد {والحديث عام في الأحرار والعبيد.
    2 ـ ولأن المقصود من ذلك مراعاة حق الوالد
    3 ـ ولئلا يقع في نفسه شيء من الحسرة بفوات نفس ولده أو تعرضه للقتل وهذا ثابت في الرقيق كما هو في الأحرار.
    (12/16)
    ________________________________________
    ولأن الولاية لا أثر لها هنا، فإن الابن القائم بنفسه وهو ولي نفسه فيستأذن والده مع أنه لا ولاية للوالد عليه فالابن البالغ الرشيد القائم بشؤون نفسه لا ولاية لوليه عليه وإن كان والده حرا ومع ذلك فإنه يستأذنه. فانتفاء الولاية لا تعلق له بالحكم هنا ولا أثر لها.
    إذن لا أثر للولاية بدليل أن الأب الحر لا ولاية له على أبنائه البالغين الراشدين، فكون الأب رقيقا لا ولاية له على أولاده هذا ليس بمؤثر في هذه المسألة بل المؤثر كونه والدا، وفي قلبه من الرأفة والرحمة ما يجعل الشارع يراعي ذلك حيث كان الجهاد تطوعيا يمكن أن يُستغنى عن الولد فيه.
    * فرع:
    … في استئذان الجد والجدة: ... ... ... ... ... ... ... ...
    واعلم أن المشهور في المذهب: أن الجد والجدة لا يستأذنان وهذا ظاهر.
    وذلك لأن الأصل هو تصرف الولد في نفسه فله أن يجاهد من غير أن يرتبط بإذن أحد من الناس هذا هو الأصل وإنما استثنى الوالدان لما لهما من الحق الكبير العظيم. ولما يقع في قلوبهما من الحسرة ونحو ذلك حيث تعرض الولد لأذى أو قتل وهذا لا يساويه ما يقع في قلب الجد أو الجدة ولا قياس مع الفارق.
    ـ واحتمل صاحب الفروع وجها آخر وهو: أن أب الأب يستأذن.
    الترجيح:
    والراجح ما تقدم وأن الجد مطلقا سواء كان أب للأم أم للأب فإنهما لا يستأذنان. وكذا الجدة لأم أو لأب لا يستأذنان.
    وذلك لأن الأصل هو تصرف الشخص في نفسه من غير أن يرجع في ذلك إلى إذن أحد. ولا يصح إلحاقهما بالوالدين للفارق.
    * فرع:
    … في جهاد المدين:
    ـ قال أهل العلم: ومثل ذلك من عليه دين ولا وفاء له فإنه ليس له أن يجاهد الجهاد التطوعي إلا بإذن غريمه.
    الدليل:
    قالوا: لأن الجهاد ذريعة إلى الشهادة، والشهادة تفوت بها النفس، وحيث فاتت النفس فات حق الغريم، فليس له أن يقاتل ويجاهد وعليه دين إلا أن يستأذن غريمه.
    الاستثناءات:
    (12/17)
    ________________________________________
    1 ـ ويستثنى من ذلك ما إذا كان الجهاد فرضا فإنه إذا كان كذلك فلا يعارض بوفاء دين ولاغيره.
    2ـ ويستثنى أيضا: إذا كان له وفاء كأن يترك دورا أو عقارا تقابل الدين الذي عليه بحيث إذا استشهد قضي عنه دينه منها.
    فإذا كان له وفاء فله أن يجاهد الجهاد التطوعي من غير أن يستأذن الدائن.
    3 ـ قالوا: كذلك إذا أقام كفيلا أي غارما فإنه يجوز له أن يجاهد من غير استئذان الدائن لكنه يستأذن كفيله الغارم.
    4 ـ وكذلك يجوز له ألا يستأذن غريمه إذا وثّق دينه برهن. فإذا كان الدين موثقا برهن فإن له أن يقاتل من غير استئذان.
    إذن: لا يحل لمسلم أن يجاهد جهادا تطوعيا وعليه دين لا وفاء له مالم يقم كفيلا أو يوثّق دينه برهن أو يكون له وفاء وذلك لئلا يفوت حق الغير.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمام جيشه عند المسير] .
    يجب على الإمام أن يتفقد الجيش، أو نائبه، أو يوكّل ثقة ذا خبرة بالجيش فيتفقده، فينظر فيه عددا وعُدة وينظر في حمله وسلاحه ورجاله، فيتفقد الجيش واستعداده وتهيؤه للقتال في سبيل الله.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنع المخذل والمرجف] .
    المخذّل: هو المثبط عن الجهاد في سبيل الله المزهد فيه، فيمنعه الإمام.
    والمرجف: هو المهوّل قوة العدو والمضعّف قوة المسلمين، الذي يُلقي في قلوب المسلمين الضعف والوهن. فهذا يجب على الإمام منعه من القتال في سبيل الله.
    وهكذا كل من لا يصلح للقتال. كأن يشهد القتال صبي ضعيف البدن. أو أن يشهده رجل هرم يخشى أن يلقي بنفسه إلى التهلكة أو نحو ذلك.
    فينظر الإمام في الجيش فيمنع من لا يصلح لشهوده المعركة من مخذل ومرجف أو غيرهمأ.
    (12/18)
    ________________________________________
    ـ ويوصي الإمام أميره بتقوى الله في نفسه ويوصيه بالمسلمين خيرا بأن يرفق بهم ولا يلقي بهم في التهلكة ويحثه على الإخلاص واتباع السنة في القتال في سبيل الله والاستعانة بالله عز وجل فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ:} اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ.. { (1) الحديث وهو طويل.
    ويعين الإمام القواد ويعين الألوية هذا واجب على الإمام بنفسه أو نائبه أو أن يوكل ثقة من أهل الخبرة بقوم بذلك.
    ـ ويستحب أن تكون الغزوة يوم الخميس لما ثبت في البخاري من حديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (2) .
    __________
    (1) ـ (م 1731) ك: الجهاد. ب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته. وهو عند (حم: 21900و21652، د: 2245، ت: 1542، جه: 2849، مي: 2332) .
    (2) ـ (فتح 2950) ك: الجهاد. ب: من أراد غزوة فورى بغيرها.
    (12/19)
    ________________________________________
    ـ ويستحب أن يكون لقاء العدو في بكرة النهار أي في أول النهار فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عند الخمسة (1) بإسناد صحيح من حديث صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا {قَالَ: (وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ) (2) .

    فإن فاته ذلك فحتى تزول الشمس وتهبّ الرياح فقد ثبت في المسند وعند الثلاثة بإسناد صحيح عن النعمان بن مقرِّن ـ رضي الله عنه ـ قال: (شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ) (3)
    __________
    (1) ـ لم أجده عند النسائي في المجتبى. وهو في الكبرى (5/ 258 من محققة البنداري وسيد كسروي حسن) .
    (2) ـ أخرجه (حم: 14891 و 14896و 15006 و 15007 و 18613 و 18660، ت: 1133، د: 2239، جه:2227،، مي: 2328) .
    (3) ـ (د 2283: ك: الجهاد. ب: في أي وقت يستحب اللقاء.) وهو عند (حم: 22627، ت: 1538) ولم أجده في المجتبى وهو في الكبرى: 5 / 191. المحققة المشار إليها آنفا.
    وهو في البخاري بنحوه (فتح: 3160: ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.)

    من حديث جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ ـ وهو من كبار التابعين ـ في خبر قتال كسرى في خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ في خبر طويل في سبيل الله آخره: فَقَالَ النُّعْمَانُ:.. وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الْأَرْوَاحُ وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ.قال الحافظ في الفتح: (تهب الأرواح) جمع ريح. قوله: (وتحضر الصلوات) في رواية ابن أبي شيبة (وتزول الشمس) وهو بالمعنى.وقال في آخره: وفي الحديث: … وفضل القتال بعد زوال الشمس على ما قبله.. ولا يعارضه ما تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغير صباحا لأن هذا عند المصاففة وذاك عند الغارة. اهـ.
    (12/20)
    ________________________________________
    أي هو مظنة لنزول النصر حيث نزل النصر عند هبوب الريح يوم الأحزاب.
    ـ ويستحب للإمام أن يورّي في غزوة بغيرها. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها (1) .فإذا أراد الشمال سأل عن الجنوب وطرقها وأوديتها وآبارها وغير ذلك وهو يريد الشمال ليكون قتاله لعدوه في الشمال على حين غرة منه من غير أن يكون عن استعداد لأن العدو يكون له عيون في البلد وقد يُخرج الخبرَ المسلم الغِرّ فكانت التورية فيها مصلحة ظاهرة.

    قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وله أن ينفل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده] .
    النفل: هو الزيادة على سهم القسمة. فالمقاتل في سبيل الله له نصيب من القسمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    وهنا للإمام أن يعطي زيادة على القسمة المقررة للمقاتل، فله أن ينفل بالربع بعد الخمس وله أن ينفل الثلث بعد الخمس.
    بيان هذا:
    إذا غزا الجيش في سبيل الله فتقدمت سرايا من سرايا المسلمين فأصابت غنيمة، فإذا أخرج الخمس أعطيت هذه السرية الربع زيادة على سهمها الأصلي في القسمة ثم يكون لها سهمها في القسمة،هذا في البدء.
    __________
    (1) ـ في الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه لتخلفهما عن غزوة تبوك. (فتح: 4418 , م: 2769) وزاد (د) وكان يقول ـ أي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " الحرب خدعة ". وصححه الألباني (د 637) وهي عندهما من غير طريق كعب ـ رضي الله عنه ـ.
    (12/21)
    ________________________________________
    وأما في الرجعة فله أن ينفل السرية الثلث بعد الخمس، بمعنى إذا قفل الجيش راجعا من القتال فذهبت سرية تقاتل بأمر الإمام فأصابت غنيمة فإنه يخرج أولا من هذه الغنيمة الخمس ثم يعطي هذه السرية ثلث الباقي زيادة على سهمها الأصلي من الغنيمة. واختلفت العطيتان لاختلاف الداعي فيهما إلى الإعطاء لأن هذه السرية في البدء والجيش وراءها فهو ظهر لها، وأما في الرجعة فإن الجيش راجع إلى البلاد الإسلامية وهم قد أوغلوا في بلاد الكفار ولاظهر لهم فكان للإمام أن يعطي أكثر مما يعطيهم في البدء.ولأن الرجعة يقع فيها من الكسل ما لايقع في البدء فإنهم في الرجعة يكونون في شوق إلى بلدانهم وأهليهم فيكون في ذلك مشقة أكثر من المشقة التي تكون عليهم في البدء فلذا كان للإمام أن يعطيهم الثلث وليس هذا واجبا لها وهو للإمام.
    الدليل:
    ودليل هذا ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح في حديث حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ يَقُولُ: (شَهِدْتُ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ (1)
    وفي رواية بعد الخمس (2) .
    فيجوز للإمام أن ينفل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] .
    يلزم الجيش طاعة قائد الجيش أو أميره.
    الأدلة على لزوم طاعة أمير الجيش:
    1 ـ قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي ألأمر منكم] .
    __________
    (1) ـ (د: 2370) ك: الجهاد. ب: فيمن قال الخمس قبل النفل.
    (2) ـ عند (حم 16820) عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ وَنَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ.
    (12/22)
    ________________________________________
    2 ـ وفي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ:} مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ يُطِعْ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي { (1) .
    3 ـ وقد أجمع سلف الأمة كما ذكر ذلك ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية على وجوب طاعة أمير الجيش في مواضع الاجتهاد وأن الرأي يترك لرأيه، وبيّن رحمه الله أن مصلحة الائتلاف والجماعة ومفسدة الاختلاف والفرقة أعظم من مسائل جزئية فلا شك أن المصلحة العامة الحاصلة بالجماعة والائتلاف والمفسدة الناتجة عن الفرقة والاختلاف لا تقابل بمسألة جزئية يقع الاجتهاد فيها.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والصبر معه] .
    قال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا] فيجب على من معه من المسلمين أن يصبروا معه وألا يخذلوه فإن في ذلك إضعافا للمسلمين وكسرا لهم كما أن فيه قوة للكفار وإظهارا لهم.
    * مسألة: التجنيد السنوي:
    واعلم أن المشهور عند الحنابلة والشافعية ـ وهي من المسائل التي محلها الدرس الأول لكن نذكرها هنا لوجود شيء من المناسبة بينها وبين هذه المسألة ـ أن الإمام الأعظم يجب عليه أن يجند المسلمين للجهاد في كل عام مرة.
    دليلهم:
    فقد تقدم أن الجهاد فرض كفاية. قالوا: فيجب في كل سنة مرة.
    قالوا: لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتال فكان القتال واجبا في كل سنة مرة.
    المناقشة:
    ولايخفى بعد هذا النظر وعدم الارتباط بين هاتين المسألتين.
    واختاره في المقنع.
    __________
    (1) ـ (فتح: 2957، م: 1835) واللفظ لمسلم.
    (12/23)
    ________________________________________
    فالأظهر: أن الجهاد في سبيل الله يجب بقدر ما تقع به المصلحة للمسلمين وبقدر ما يحصل به للمسلمين من العلو والظهور ولدينه من العلو والظهور ولدينه أيضا من الحجة والبيان فيجب الجهاد بقدر حصول ذلك. ولا شك أن هذا يختلف من زمان إلى زمان.
    فإذا ابتدأت الأمة الإسلامية حياتها من جديد فلا شك أنها تحتاج إلى جهاد طويل متكرر في السنة مرات حتى تستعيد مجدها وظهورها في الأرض.
    بخلاف ما إذا كان لها سلطان ظاهر وقوة ظاهرة في الأرض فإنها قد لا تحتاج إلى الجهاد في السنة بل ربما مضت السنة والسنتان والثلاث من غير أن يحتاجوا إلى قتال وجهاد عام.
    فالمقصود من ذلك أن فرض الكفاية يجب بقدر الحاجة وبقدر ما يحصل به المقصود ومن ذلك الجهاد في سبيل الله.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] .
    لا يجوز للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله وأن يقاتلوا الكفار إلا بإذن الإمام.
    الدليل:
    وذلك لأن هذه المهمة موكولة إليه ففعلها دون إذنه افتيات عليه فهي مهمته وهو موكول بها فإن قام بها أجر وإن ترك أثم.
    أما أن يقوم طائفة من الأمة بالجهاد بغير إذنه فإن ذلك غير جائز لما فيه من الافتيات عليه.
    ولأن ذلك ذريعة إلى شق عصا الطاعة فقد يدّعي طائفة من الطوائف بأنها قد اجتمعت للقتال في سبيل الله وتعدّ لذلك العدة والعدد فتكون في الظاهر مقاتلة في سبيل الله وهي في الباطن خارجة عن طاعة الإمام شاقة لعصا الطاعة فلهذا وذاك لا يجوز أن تقاتل طائفة إلا بإذن الإمام.
    (12/24)
    ________________________________________
    واستثنى المؤلف ما إذا فجأ المسلمين عدو فحينئذ لايجب عليهم أن يستأذنوا الإمام وذلك لتعذر استئذانه حينئذ، ولو تمكن من الاستئذان فإنه تمكنهم يكون بعد فوات المقصود أو كثير منه فلذا إن فاجأهم عدو فلهم أن يقاتلوا من غير أن يستأذنوا السلطان وذلك لتعذر استئذانه في الغالب ولأنهم لو تمكنوا منه فالغالب أن يكون تمكنا بعد فوات المقصود وربما كان هذا بعد استيلاء الكفار على البلاد الإسلامية.
    * لذا قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه (1) ] .
    وهنا مسائل:
    * المسألة الأولى: في جواز تبييت الكفار

    وتبييت الكفار: بأن يغير المسلمون عليهم ليلا على حين غفلة منهم.
    وما يقع من قتل للنساء والذرية حينئذ؛ فما يكون على غير وجه التعمد لا حرج على المسلمين فيه.
    الدليل:
    ماثبت في الصحيحين: عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: (مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ قَالَ:} هُمْ مِنْهُمْ {) (2)
    * ومثل ذلك:
    لو تترس الكفار بالنساء والذرية فللمصلحة ودرء المفسدة يجوز للمسلمين أن يرموا هؤلاء الكفار وإن أصابوا من تترس به من النساء والذرية.
    وأما قتل النساء والذرية على وجه التعمد فلا يجوز.
    1 ـ فقد ثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَخْبَرَهُ: (أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَان ِ) (3) .
    __________
    (1) ـ كلبه بفتح اللام أي شرّه وأذاه.
    (2) ـ (فتح: 3013، م: 1745) .
    (3) ـ (فتح: 3014، م: 1744) .
    (12/25)
    ________________________________________
    2ـ وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما ثبت في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ وتقدم سياق أوله وفيه:} ولا تقتلوا وليدا { (1) .
    والعلة في نهي الشارع عن قتل النساء والذرية مع مافي الشريعة من الرأفة والرحمة أن النساء والذرية لا يقاتلون فلم يقابلوا بالقتل.
    فقد ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ عن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ:} انْظُرْ عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ {فَجَاءَ فَقَالَ: (عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ) . فَقَالَ:} مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ {قَالَ: وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَعَثَ رَجُلًا فَقَالَ قُلْ لِخَالِدٍ:} لَا يَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا عَسِيفًا {) (2)
    أي أنها: لِمَ تُقتل؟! فإنها لم تكن لتقاتل.
    ولذا يقاس على النساء والذرية كل من لا يقاتل من الكفار كالرهبان والشيوخ الهرمين والزمنى وغيرهم ممن لا يمكنهم القتال.
    فكل من لا يقاتل المسلمين من راهب أو شيخ فان أو مريض شديد المرض عاجز عن القتال فإنه لا يقتل لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ما كانت هذه لتقاتل {فدل على أن كل من لا يقاتل لا يُقتل.
    ـ ودل هذا الحديث على أن هؤلاء إن قاتلوا فإنهم يُقتلون فالمرأة أو الصبيان إن رفعوا السيف وقاتلوا فإنهم يُقتلون.
    ومثل ذلك أيضا من كان لهم رأي ومكيدة في الحرب كما يقع هذا للشيوخ أو غيرهم.
    * والمسألة الثانية: في جواز نصب النجنيق
    __________
    (1) ـ سبق تخريجه وهو في مسلم (م 1731) .
    (2) ـ (د: 2295) ك: الجهاد. ب: في قتل النساء.
    (12/26)
    ________________________________________
    فقد روى أبو داود في مراسيله عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصب المنجنيق في الطائف (1) .
    وروى البيهقي أنّ عمرو بن العاص نصب المنجنيق في الإسكندرية (2) .
    وعليه عمل المسلمين في قتالهم.
    والأثر المتقدم وإن كان مرسلا لكن عليه العمل وهو مذهب جماهير العلماء.
    ويشبهه القنابل الموجودة في زماننا فهي شبيهة بالمنجنيق فلا بأس برميها على الكفار.
    تنبيه:
    أما ما يكون إحراقا لهم يشبه هذه القنابل الذرية التي تحدث إحراقا عاما أو أن يكون إحراقا عاديا بالنار فإن ذلك لا يجوز.
    الدليل:
    ما ثبت في البخاري أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ُ ـ حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ فَقَالَ: (لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ {وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ {) (3)
    فالنار عذاب الله ولا يجوز للمسلمين أن يعذبوا بعذاب الله.
    __________
    (1) ـ (المراسيل لأبي داود: ـ صلى الله عليه وسلم ـ 248) قال شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الصحيحين غير ابن يزيد الكلاعي فإنه من رجال البخاري. ثم أورد أبو داود أثرا عن الأوزاعي أنه سأل يحيى بن سعيد عن ذلك فأنكره.وأشار ابن حجر أن العقيلي وصله في الضعفاء في ترجمة عبد الله بن خراش بن حوشب (2 / 797) غير أن العقيلي قال في طرق خبر المنجنيق في ترجمة المذكور: كلها غير محفوظة ولا يتابعه عليها الا من هو دونه أو مثله.
    (2) ـ (هق: 9 / 84) ط. دار الباز بمكة. تحقيق محمد عبد القادر عطا. أورده عن الشافعي في القديم. وأورده كذلك الهيثمي في زوائد مسند الحارث (2 / 684) .
    (3) ـ (فتح: 3017) ك: الجهاد والسير ب: لا يعذب بعذاب الله.
    (12/27)
    ________________________________________
    لكن إن لم يكن الاقتدار على الكفار إلا بذلك أي بالنار ونحوها فإن ذلك جائز باتفاق أهل العلم لمصلحة الأمة، وهي مصلحة عامة وفيها درء المفاسد عنهم من تسلط الكفار وغيرهم.
    * المسألة الثالثة: في ثبوت الرق على النساء والذرية.
    اعلم أن النساء والذرية وإن أصابهم المسلمون بسبي فإنهم يثبت عليهم الرق بمجرد سبيهم.
    فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـأن رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى بني قريظة فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ: (فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ) (1)
    وثبت في الصحيحين ـ من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ. (2)
    فبمجرد ما يحصل السبي للنساء أو الذرية ـ والذرية هم غير البالغين من الذكور والإناث ـ يحصل حينئذٍ عليهم الرقّ.
    * ومثل ذلك من لايُقتل كالرهبان وغيرهم ممن لايقاتل المسلمين فبمجرد ما يحصل له السبي يحصل حينئذٍ التملك على رقبته فيكون رقيقا حيث يكون من جنس الغنيمة.
    وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سبى قوما أوقع الرق عليهم كما تقدم في سبيه نساء بني المصطلق وكانت منهنّ جويرة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
    * المسألة الرابعة: خصال المقاتلة.
    أما المقاتلة فالإمام مخير بين خصال أربع:
    الخصلة الأولى: القتل.
    __________
    (1) ـ (فتح: 4122) ك: المغازي. ب: مرجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأحزاب. (م: 1769) .
    (2) ـ (فتح: 2541) ك: العتق. ب: من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع. (م: 1730) .
    (12/28)
    ________________________________________
    ـ لقوله تعالى: [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب]
    2 ـ وروى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتل يوم بدر ثلاثة صبرا (1) .
    الخصلة الثانية: المنّ. أي أن يطلق من غير مال.
    الخصلة الثالثة: الفداء. أي يفدي نفسه بمال. قال تعالى: [فإما منّا بعد وإما فداء]
    الخصلة الرابعة: الاسترقاق. أي أن يكون رقيقا.
    وقد اتفق العلماء على ثبوت الرقّ على أهل الكتاب.

    * مسألة: في ثبوت الخصال الأربع لعبدة الأوثان
    واختلفوا في عبدة الأوثان، هل هناك خيار رابع في حقهم أم أنه ليس هناك إلا ثلاث خصال.
    القول الأول:
    وهو المشهور عند الحنابلة ألا استرقاق في غير أهل الكتاب والمجوس.
    القول الثاني:
    وهو قول الشافعية ورواية عن الإمام أحمد أن الرق يقع عليهم كغيرهم من عبدة الأوثان إذ لا فرق بين الكفار فيما يثبت من الأحكام إلا أن يدل دليل على تخصيص طائفة منهم بحكم.
    قالوا: ولا دليل يصار إليه في هذه المسألة.
    وهذا القول فيه قوة ـ والله أعلم ـ.
    فتقع الخصال الأربعة على عامة الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم فيخير الإمام بين أربع الخصال كما تقدم.
    وهذا التخيير للإمام ليس على وجه التشهي ولكن على وجه المصلحة العامة. فإن ثبت له أن المصلحة في القتل قتل، وإن ثبت له أن المصلحة في المنّ منّ، وإن رأى أن المصلحة في الفداء فدى، وإن رأى أن المصلحة في الاسترقاق فعل ذلك.
    * مسألة: إسلام الأسير:

    فإذا أسلم الأسير فلا يجوز قتله.
    وهل يثبت عليه الرق أم يبقى للإمام الخيار في الخصال الثلاث؟ أي هل بمجرد إسلامه يكون رقيقا؟ أم يبقى الخيار السابق لكن تسقط خصلة وهي خصلة القتل؟
    القول الأول:
    __________
    (1) ـ (المراسيل: صحفة: 249) قال المحقق الأرنؤوط: فيه زياد بن أيوب ـ شيخ أبي داود فيه ـ من رجال مسلم ومن فوقه من رجال الشيخين.وانظر الإرواء: [1214] .
    (12/29)
    ________________________________________
    قالت الحنابلة بمجرد ما يسلم الأسير فإنه يكون رقيقا وليس للإمام أن يمنّ عليه وليس له أن يقبل منه الفداء.
    قالوا: لأنه لا يجوز قتله فأشبه النساء. فكما أن النساء لا يجوز قتلهنّ فتعين فيهن الرق فكذلك الأسير إذا أسلم يتعين فيه الرق للمنع من قتله قياسا على النساء والذرية ومن يمنع قتلهم
    القول الثاني:
    قالت الشافعية: بل يبقى التخيير لأن تخيير الإمام بين الفداء والمنّ ثابت مع كفره فثبوت ذلك مع إسلامه أولى، فالمسلم أولى أن يمنّ عليه أو يقبل منه فداء من الكافر. وكونه يمنع من قتله ليس هذا للمعنى الموجود في النساء وإنما لثبوت إسلامه.
    الترجيح:
    وما ذكروه أظهر، من أن الكافر إذا أسلم وهو أسير عند المسلمين فإن الإمام يخير بين ثلاث خصال إن شاء جعله رقيقا وإن شاء قبل فيه المال فدية وإن شاء منّ عليه هذا كله تحت خيار الإمام على حسب المصلحة التي يراها.

    * مسألة: هل يصدق الأسير في ادّعاء الإسلام؟
    فإن ذلك لا يقبل منه حتى يأتي ببينة لأن الظاهر خلاف قوله. وقد تعلق برقبته حق الرقّ فلم يسقط هذا الحق بمجرد دعواه، فإن رقبته قد تعلق بها حق الرق أو حق الفداء الذي قد يختاره الإمام فتعلق هذا الحق برقبته يمنع من قبول دعواه إلا أن يأتي ببينة.

    * مسألة: هل يقتل آحاد المسلمين الأسير؟
    وإذا أسر مسلم كافرا فليس له أن يقتله إلا أن يضطره إلى ذلك كأن يدافعه الكافر أو يخشى صولة الكفار فينالوا أسيرهم أو أن يأبى هذا الكافر السير معه أو نحو ذلك مما يكون داعيا لقتله. أما إن لم يكن هناك داع لقتله فليس له أن يقتله. وذلك لأنه بمجرد أسره تعلق به حق الإمام فإن شاء الإمام قتل أو منّ أو قبل الفداء وإن شاء أوقع عليه الرق، فقتْله تفويت لحق الإمام فيه فلم يجز له ذلك.
    * مسألة: في من قتل شيوخ المشركين.
    (12/30)
    ________________________________________
    عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ { (1)
    هنا قسمة ثنائية فقسمهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شيوخ وشرخ والشرخ هم غير البالغين فدل على أن المراد بالشيوخ هم البالغون فيكون هذا من باب التغليب ولأن الشيوخ يقاتلون ونحن ـ إذ استثنيناه من القتل سابقا ـ إنما قيدناه بالشيخ الهرم الذي لايقاتل أما الشيخ فإنه يقاتل وله رأي ومكيدة في الحرب.
    * مسألة: في تترس المشركين بأسرانا
    ـ إذا تترس المشركون بأسرى مسلمين فهل يجوز أن يرموا؟
    الجواب:
    لا يجوز لعصمة دماء هؤلاء المسلمين إلا أن تترتب مصلحة ظاهرة جدا وتترتب على عدم رمي الكفار مفسدة ظاهرة ويُخشى أن يقع في المسلمين من القتل إن لم يقوموا بهذا أكثر مما يقع من القتل لهؤلاء الأسرى الذين هم وهم تحت أيدي العدو مظنة القتل.
    فعلى ذلك: يُنظر إن كانت هناك مفسدة أكبر فإن المفسدة الصغرى تتلاشى مع وجود المفسدة الكبرى.

    * مسألة: في الإغارة قبل الدعوة
    ـ هل للإمام أن يُغِير قبل أن يدعوهم؟
    الجواب:
    ليس للإمام أن يغير قبل أن يدعوهم وهذا شرط تُقيّد به المسألة السابقة.
    فيقال: يجوز للإمام أن يغير على الأعداء ويبغتهم بشرط وهو: أن يكون قد دعاهم إلى الله عزوجل لقوله تعالى: [وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا] ولقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بريدة السابق وقد ذكر دعوتهم إلى الله قال:} فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم { (2) فلا تقاتل طائفة من الكفار حتى تدعى إلى الله وتقام عليها الحجة. لقوله تعالى: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] فليس للأمة أن تقاتل حتى تبين لهم الحق فإن أبوا فإنهم يقاتلون.
    __________
    (1) ـ (د: 2296) ك: الجهاد. ب: قتل النساء.
    (2) ـ سبق تخريجه وهو في (م: 1731) .
    (12/31)
    ________________________________________
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] .
    إذا اقتتل المسلمون والكفار ووضعت الحرب أوزارها وانتهت الوقعة فإن هذه الغنائم يملكها الغانمون وإن كانت الغنائم لم تحز لدار الإسلام وإن كانت لم تقسم فهي ملك لهم.
    وعليه: فإن مات بعض الغزاة فالحق من بعده لورثته في الغنيمة.
    قالوا: لأنه بانتهاء الحرب وغلبة المسلمين تكون الغنائم قد زالت ملكية الكفار عنها ووقعت تحت أيدي المسلمين فكانت ملكا لهؤلاء الغزاة.
    هذا هو المشهور عند الحنابلة.

    القول الثاني:
    لاتملك حتى تقسم، هذا إن كانت لم تحز إلى ديار الإسلام. أما إن حيزت فإنها تملك بمجرد حوزها وإن لم تقسم.
    إذن شرط القسمة أن تكون الغنائم في دار الحرب.
    القول الثالث:
    وأطلق ابن القيم فقال: بل تشترط القسمة مطلقا سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام
    فلا تملك الغنيمة إلا بقسمتها مطلقا وهذا هو أصح الأقوال.
    الدليل:
    ودليل ذلك ما ثبت في البخاري (1) أن وفد هوازن قدموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألونه أموالهم ونساءهم وذراريهم فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} إني كنت قد استأنيت لكم {أي أمهلت وفي رواية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انتظرهم بعد قفوله من الطائف تسع عشرة ليلة.
    (استأنيت لكم) أي تمهلت فلم أقسمها لعلكم ترجعون فتأخذون نساءكم وذراريكم وأموالكم وأما الآن وقد قسمت فلا.
    فدل هذا على أن الغنيمة إنما تملك بعد القسمة لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمهل هوازن بعد انتهاء الحرب وبعد أن حيزت إلى البلاد الإسلامية لم يقسمها فهذا دليل ظاهر للمسألة.
    وعلى ذلك: إن مات قبل أن يقسم سواء كانت الغنيمة في ديار الحرب أو في ديار الإسلام فإن الإرث لا يثبت لعدم الملكية.
    والغنيمة: هي ما أخذ من مال الحرب قهرا بالقتال.
    مصارف الغنيمة
    __________
    (1) ـ (فتح: 2308، 2540، 2608، 3132، 4319) .
    (12/32)
    ________________________________________
    قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] .
    فالغنيمة لمن شهد الوقعة من أهل القتال فقد ثبت في البخاري (1) أن أبان بن سعيد بن العاص قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد خيبر وقد قسّمت فقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اقسم لي) فقال:} اجلس {ولم يقسم له.
    وثبت في مصنف عبد الرزاق بسند صحيح عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة) (2)
    __________
    (1) ـ (فتح: 4238) .
    (2) ـ (عب: 7 / 268) وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (3 / 219) : {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إنَّمَا يُعْرَفُ مَوْقُوفًا كَمَا سَيَأْتِي , لَكِنْ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي مُوسَى {أَنَّهُ لَمَّا وَافَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ - أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ , أَسْهَمَ لَهُمْ مَعَ مَنْ شَهِدَهَا , وَأَسْهَمَ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا غَيْرَهُمْ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ , فَقَدِمَ أَبَانُ بَعْدَ خَيْبَرَ , فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ , وَأَبُو دَاوُد.

    وَأَمَّا لَفْظُ: {الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ} . فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: نَا وَكِيعٌ: نَا شُعْبَةُ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْأَحْمَسِيِّ , أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ. . . فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فَكَتَبَ عُمَرُ: " إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ". وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ , وَالْبَيْهَقِيُّ , مَرْفُوعًا , وَمَوْقُوفًا , وَقَالَ: الصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ , وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ بُخْتُرِيِّ بْنِ مُخْتَارٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ , عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا.
    (12/33)
    ________________________________________
    فمن لم يشهدها فلا حظ له منها، لكن من لم يشهدها لمصلحة الجيش كالعين والرسول والدليل ونحوه فإنه يقسم له.
    دلّ على ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسّم لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وكان قد جلس في المدينة عند النساء.
    * فرع:
    هل يسهم للمرأة؟
    وهي لأهل القتال، فعليه المرأة لا سهم لها، لأنها ليست من أهل القتال.
    وقد ثبت في مسلم أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين ـ أي يعطين من الغنيمة ـ أما سهم فلم يضرب لهنّ) (1)
    __________
    (1) ـ (م: 1812) وهذا لفظه: عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلَالٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْلَا أَنْ أَكْتُمَ عِلْمًا مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ نَجْدَةُ أَمَّا بَعْدُ فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَمَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ وَعَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلَا تَقْتُلْ الصِّبْيَانَ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي مَتَى يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ فَلَعَمْرِي إِنَّ الرَّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْأَخْذِ لِنَفْسِهِ ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا فَإِذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النَّاسُ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ وَإِنَّا كُنَّا نَقُولُ هُوَ لَنَا فَأَبَى عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ.
    (12/34)
    ________________________________________
    أي يعطين من الغنيمة شيئا دون السهم وهو مايسمى بالرضخ أي يرضخ لهن شيء من الغنيمة دون السهم لشهودهنّ القتال.

    * فرع:
    هل يُسهم للعبد؟
    ومثل ذلك العبد فهو لايجب عليه القتال فليس في الأصل من أهله وعليه فإنه لا يعطى سهما بل يرضخ له. لذا ثبت في سنن أبي داود أن عميرا قَالَ: (شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ) قَالَ أَبُو دَاوُد: (مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ) (1)
    أي من متاع الميت فلم يسهم له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

    * فرع:
    هل يُسهم للكافر المشارك.
    ـ ومثل ذلك الكافر فإن شهد الوقعة مع المسلمين فإنه يرضخ له ولا يعطى سهما كما يعطى الغزاة المسلمون. وذلك قياسا على العبد:فكما أن العبد مع قتاله لا يعطى إلا رضخا لأنه ليس من أهل القتال فكذلك الكافر هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الجمهور.
    القول الثاني:
    وهو المشهور في المذهب أن الكافر يسهم له، فيُعطى سهمها من القسمة.
    واستدلوا: بما رواه سعيد بن منصور في سننه أن صفوان بن أمية شهد مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة حنين وهو على شركه فأسهم له.
    الترجيح:
    فأصح القولين هو ماذهب إليه الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب: أن الكافر إذا شهد الوقعة فإنه لا يسهم له.
    * فرع:
    … هل يُسهم للصبي؟
    ومثل ذلك الصبي فإن الصبي يرضخ له ولا يسهم له.

    الدليل:
    __________
    (1) ـ (د:2354) ك: الجهاد. ب: في المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة. (حم: 20935، ت: 1478، جه: 2846) .
    (12/35)
    ________________________________________
    1 ـ يدل على ذلك ما ذكره صاحب الغني وعزاه إلى الجوزجاني وأن الجوزجاني رواه بإسناده وقال فيه: (من مشهور حديث مصر وجيده) فقد جوّد سنده أن تميم بن فٍرَع (1) كان من الجيش الذين فتحوا الإسكندرية مع عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فلم يعطه من الغنيمة شيئا وقال: (غلام لم يحتلم) وكان في القوم أبو نضرة الغفاري وعقبة بن عامر ـ رضي الله عنهما ـ فقالا: (انظروا فإن أشعر ـ أي نبت شعر عانته ـ فاقسموا له) (2)
    فهذا قول عمرو بن العاص وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف.
    2 ـ وكذلك بالقياس على المرأة بجامع أنهما ليسا من أهل القتال
    * مسألة: الاستعانة بالمشركين في القتال.
    وفيها ثلاثة أقوال:
    القول الأول:
    وهو المشهور في المذهب: أن الكافر لا يستعان به في القتال في سبيل الله.
    الدليل:
    __________
    (1) ـ الإكمال لابن ماكولا (7 / 51) .
    (2) ـ رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3 / 217) .
    (12/36)
    ________________________________________
    ما ثبت في الصحيحين (1) : عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهَا قَالَتْ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ:} فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ {قَالَتْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلِقْ (2)

    القول الثاني:
    وعن الإمام أحمد أنه يجوز أن يستعان بالمشرك.
    الدليل:
    ما تقدم من حديث صفوان بن أمية وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعان به وكان على شركه وأسهم له.
    لكن تقدم أن الحديث مرسل ضعيف (3) .
    القول الثالث:
    وقال الشافعي وهو ظاهر كلام الخرقي: أنه يجوز عند الحاجة.
    الترجيح:
    والقول الثالث أظهر الأقوال.
    __________
    (1) ـ لم أجده في البخاري.
    (2) ـ (م: 1817) ك: الجهاد والسير. ب: كراهية الاستعانة في الغزو بكافر.
    (3) ـ تقدم تخريجه فيهما.
    (12/37)
    ________________________________________
    وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} فارجع فلن أستعين بمشرك {هذا حين لم تكن المصحلة ظاهرة في الاستعانة به وأما إذا كانت المصلحة ظاهرة في الاستعانة به وأمن شره فإن الاستعانة به جائزة لا حرج فيها جلبا للمصلحة ودرءا للمفسدة.
    * وأما عند الضرورة فلا إشكال في جوازه فإن المحرمات تباح عند الضرورة إليها.
    إذن: الغنيمة تقسم أسهمها على الغزاة إذا كانوا من أهل القتال، أما إذا لم يكونوا من أهل القتال فلا يعطون أسهما، وإنما يرضخ لهم رضخا أي يعطون شيئا من الغنيمة يقدره الإمام لهم باجتهاده لكن يكون دون أسهم الغزاة.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ثم يقسّم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له وسهمان لفرسه] .

    فإذا حضرت القسمة بين يدي الإمام. فقبل الخمس يخرج السلب.
    والسّلَب: ما يحصله القاتل من مقتوله من أدوات الحرب من مركوب ورحل وسلاح.
    فيخرج أولا.
    الدليل:
    (12/38)
    ________________________________________
    ما ثبت في الصحيحن (1) من حديث سلمة بن الأكوع قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَوَازِنَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَل أَحْمَرَ فَأَنَاخَهُ ثُمَّ انْتَزَعَ طَلَقًا مِنْ حَقَبِهِ فَقَيَّدَ بِهِ الْجَمَلَ ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ الْقَوْمِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَأَتَى جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ ثُمَّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ فَأَثَارَهُ فَاشْتَدَّ بِهِ الْجَمَلُ فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرْقَاءَ قَالَ سَلَمَةُ وَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النَّاقَةِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الْأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ فَنَدَرَ ثُمَّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلَاحُهُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَالَ:} مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ {قَالُوا
    __________
    (1) ـ (فتح: 3051) ولفظه: عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ ثُمَّ انْفَتَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ فَقَتَلَهُ فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ وهو مختصر جدا عن الذي عند مسلم حتى قال الشيخ الألباني ـ بعد إيراده لفظ مسلم ـ وأما لفظ البخاري فهو أبعد عن هذا بكثير. (الإرواء: 5 / 55) .
    (12/39)
    ________________________________________
    : (ابْنُ الْأَكْوَعِ) قَالَ:} لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (1) {
    وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ يُخَمِّسْ السَّلَبَ (2)
    ـ ويخرج أيضا قبل الخمس: ما تحتاج إليه الغنيمة من أجرة لحملها وحفظها.

    * مسألة: هل يخرج الرضخ المتقدم قبل الخمس أم بعده؟
    قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب أحمد والشافعي.
    القول الأول:
    أن الرضخ يخرج قبل أن تخمس الغنيمة.
    قياسا على أجرة الحامل والحافظ للغنيمة.
    القول الثاني:
    أن الرضخ يخرج بعد الخمس.
    قالوا: لأنه أخذ بسبب حضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
    الترجيح:
    والقول الثاني أقيس وهو أن الرضخ لا يخرج إلا بعد الخمس لأنه قد أخذ بسبب شهود الوقعة فأشبه سهام الغانمين.
    إذن: إذا حضرت القسمة فيخرج منها ما يحتاج إليه من أجرة حامل وحافظ ونحو ذلك.
    ثم يخرج منها السلب فلايخمس. ثم تخمس الغنيمة فيخرج خمسها.قال الله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل]
    * قوله [فأن لله خمسه] : ليس لله عزوجل سهم، وإنما المراد: أن هذا الخمس يصرف فيما يرضي الله تعالى. وليس المراد أن هناك سهم لله عزوجل ـ كما قال بعض العلماء ـ يصرف إلى الكعبة أو غيرها.
    ودليل ذلك:
    ماثبت في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن المغنم فقال:} لله خمسه وأربعة أخماسه للجيش {
    __________
    (1) ـ (م: 1754) ك: الجهاد والسير. ب: استحقاق القاتل سلب القتيل.
    (2) ـ (د: 2345) ك: الجهاد. ب: في السلب لا يخمس.
    (12/40)
    ________________________________________
    وثبت في سنن أبي داود عن عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعِيرٍ مِنْ الْمَغْنَمِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ الْبَعِيرِ ثُمَّ قَالَ:} وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذَا إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ { (1)
    والوبر هو ما يقابل الشعر من الغنم ونحوه.
    إذن: الخمس لله والرسول أي فيما يرضي الله تعالى وهو بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصرفه فيما يراه من المصالح وكذلك هو بأيدي خلفائه من بعده يصرفونه فيما يرونه من المصالح هذا هو الخمس الأول (خمس الرسول) .
    إذن: هو لله لأنه يدفع فيما يرضي الله تعالى، وهو للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه تحت يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو السهم الأول: تحت يده يصرفه في مصالح المسلمين.
    السهم الثاني:لذوي القربى.
    أي لقرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم: بنو هاشم بنو المطلب.
    السهم الثالث: لليتامى.
    السهم الرابع:للمساكين.
    السهم الخامس:لابن السبيل.
    فهذه خمسة أخماس. يقسم خمس الغنيمة إلى خمسة أخماس؛ سهم يكون بيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه من بعده فيصرفونه في مصالح المسلمين هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة ومذهب الشافعية وهو أن الغنيمة تخمس خمسة أخماس لكل صنف من هذه الأصناف الخمسة نصيبه.
    القول الثاني:
    ومال الإمام مالك إلى أن يعطى بعض ذوي القربى حقهم منه والباقي يصرفه الإمام فيما يراه من المصالح سواء أنال اليتامى والمساكين وابن السبيل منه نصيب أم لم ينلهم.
    وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم.
    الدليل:
    __________
    (1) ـ (د: 2374) ك: الجهاد. ب: في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه.
    (12/41)
    ________________________________________
    قالوا: لأنه لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن خلفائه من بعده هذه القسمة، ولو كان ذلك ثابتا لنقل نقلا بينا، فهو ما تقوى الهمم وتقوى الدواعي على نقله.
    قالوا: ولأن الزكاة قد وجبت في الأصناف الثمانية ولو صرفت لصنف واحد لأجزأت فكذلك هنا.
    الترجيح:
    وهذا هو الراجح.
    فالخمس يوضع في يد الإمام فيعطى ذوي القربى حقهم منه ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
    * مسألة: كيفية توزيع سهم ذوي القربى
    وفيها قولان:
    القول الأول:
    أن ذوي القربى يعطون منه ـ في المشهور من المذهب ـ للذكر مثل حظ الأنثيين.
    قالوا: لأنه نيل بسبب الأب فأشبه الإرث؛ فإن بني هاشم نالوه بسبب هاشم وبني المطلب نالوه بسبب المطلب.
    القول الثاني:
    وهو رواية عن الإمام أحمد أنهم يعطون بالسوية لا يفرق بين ذكر وأنثى ولا صغير ولاكبير.
    قالوا: لأن الله قد أمرنا بإعطائهم وليس هذا على سبيل الإرث بدليل عدم ثبوت الحجب فيه فإن الابن يأخذ مع وجود أبيه.
    ثم إن سببه هو القرابة والنصرة في بني هاشم، والنصرة في بني المطلب.
    القول الثالث:
    أنهم يعطون بقدر الحاجة وبحسب ما يراه الإمام سواء كان بالتفضيل أو بالسوية.
    وهو مذهب مالك.

    الترجيح:
    والقول الثالث هو الراجح في هذه المسألة وهو اختيار ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ فيعطون على مايراه الإمام، ويعطون قدر حاجاتهم، فيعطى الفقير أكثر من الغني، ويعطى الغني الذي هو صاحب كرم ويجتمع الناس حوله أكثر مما سواه وهكذا..
    فهو شامل لفقيرهم وغنيهم.
    الدليل:
    (12/42)
    ________________________________________
    1 ـ ما ثبت في البخاري والنسائي عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا فَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) . فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما جاءا يسألانه من الفيء لم يعتذر لهما بكونهما أغنياء وإنما اعتذر لهما بأنهما ليسا من بني المطلب وبني هاشم.
    فدل على أن للغني نصيبه في الغنيمة ثابت كالفقير.
    2 ـ وللإطلاق في الآية، فإنها مطلقة لم تقيد سهم ذوي القربى بالفقراء دون الأغنياء.
    هذا هو الخمس.
    ـ إذن: إذا أخرج الإمام الخمس فحينئذ يقسم الغنيمة ويخرج منها النفل فإن النفل يخرج بعد الخمس كما تقدم هذا في نفل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الربع بعد الخمس والثلث بعده.
    وفي مسند أحمد وسنن أبي داود ـ بسند صحيح ـ من حديث معن بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت:} لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الْخُمُس ِ { (2)
    __________
    (1) ـ (ن: 4068) كتاب: الفيء. باب. وأصله في البخاري بأخصر من ذلك. (فتح 3140،3503، 4229، 4068، د 2585، جه: 2872)
    (2) ـ (د: 2273، حم: 15301) .
    (12/43)
    ________________________________________
    فالنفل: هو ما يعطيه الإمام لبعض الغزاة زيادة عن سهمهم.إما لتقدم سرية من السرايا، أو لحسن بلائه وشدة بأسه بالكفار كما أعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل وسهم الفارس كما ثبت في صحيح مسلم (1) .
    ثم يقسم الغنيمة للراجل أي للماشي على رجليه ومثله الراكب على بعير ونحوه يعطى سهما.
    والفارس وهو الراكب فرسا يعطى ثلاثة أسهم؛ سهما له وسهمين لفرسه.
    وذلك لما للفرس من مكانة في العدو.
    الدليل:
    ماثبت في الصحيحن عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا) . قَالَ: (فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ) (2)
    وفي سنن أبي داود (3) للفارس ثلاثة أسهم سهمين لفرسه وسهم له؟
    * فرع:
    …في سهم الفارس الهجين.
    ـ وهل هو في كل فرس سواء كان عربيا أم هجينا؟
    قال جمهور العلماء:
    نعم، سواء كان الفرس هجينا وهو غير العربي أو كان عربيا فإن للفرس سهمين.
    لعموم الحديث.
    __________
    (1) ـ (م: 1807) ك: الجهاد والسير. ب: غزوة ذي قرد وغيرها.
    (2) فتح: 4228) ك: الجهاد. ب: خيبر. (م: 1762) .
    (3) ـ الذي في (د 2358) ك: الجهاد. ب:في سُهمان الخيل. قال أَبُوعَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مِنَّا سَهْمًا وَأَعْطَى لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ زَادَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ.
    (12/44)
    ________________________________________
    القول الثاني:
    وقال الحنابلة في المشهور عندهم:الفرس الهجين أو البرذون له سهم واحد لاسهمان.
    الدليل:
    واستدلوا بما رواه أبوداود في مراسيله بإسناد صحيح عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى الفرس العربي سهمين والهجين سهما (1) .
    وله شاهد مرسل من حديث خالد بن معدان في مراسيل أبي دواد (2) وله شاهد عن ابن عباس كما في المجمع. وعليه فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. وبه يترجح ما قال الحنابلة لأن الفرس العربي أقوى وأعظم نكاية في العدو من الفرس الهجين.
    القول الثالث:
    وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الفرس الهجين إذا عمل بعمل الفرس العربي فإن له سهمين
    وهذا قول قوي ظاهر لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
    إذن الفرس الهجين له سهم، لكن إن عمل كما يعمل الفرس العربي وكان فيه نكاية ظاهرة في العدو فإن له سهمين لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
    ـ هذا إذا كان الفرس قادرا على القتال قويا.
    أما إذا كان مريضا فإنه لا سهم له لأن السهم إنما أعطي لنكايته في العدو أما إن كان مجرد مركوب ولا نكاية له في العدو فإنه لا فرق بينه وبين الجمل فحينئذ لا يسهم له شيء.

    * فرع:
    __________
    (1) ـ (مراسيل أبي داود: ص 227) 287 حدثنا أحمد بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن خالد وزيد بن الحباب حدثوهم المعنى عن معاوية بن صالح عن أبي بشر عن مكحول أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي للعربي سهماه وللهجين سهم) ط. مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرنؤوط. ونقل عن العجلي توثيقه لأبي بشر التابعي.وذكرأن الشافعي رواه في الأم والبيهقي.
    (2) ـ (مراسيل أبي داود: ص 226) 286 حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن خالد بن معدان قال: (أسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعربي سهمين وللهجين سهما) قال المحقق: الشعيثي: صدوق وباقي رجاله رجال الشيخين.
    (12/45)
    ________________________________________
    … في ما يُسهم للفرسين فأكثر.
    إذا شارك بأكثر من فرس فهل يسهم لهما؟ فيها قولان:
    القول الأول:
    قالت الحنابلة: إن كان له فرسان فله أربعة أسهم.
    الدليل:
    ما رواه سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ أنه اقسم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم وللرجل سهما.
    لكن الأثر منقطع.
    القول الآخر:
    قال الجمهور: بل ليس له إلا سهمان لفرس منهما.فليس له إلا نصيب فرس واحد
    الدليل:
    قالوا: لأن الفرس الثاني لا يعدو إلا أن يكون نائيا عن الفرس الأول قائما مقامه ... ... فعلى ذلك لا يكون له إلا سهم فرس واحد.
    وهذا هو القول الراجح.
    * أما إذا كان معه ثلاثة أفرس أو أربعة فاتفق العلماء على أنه لايأخذ على الثالث ولا على الرابع وغنما الخلاف في الأخذ على الثاني.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيشُ سراياه في ما غنمت ويشاركونه فيما غنم] .
    فالجيش المنطلق من بلاد الإسلام إلى بلاد الأعداء تخرج منه سرايا فتغنم فله نصيبه من هذه المغانم فهو يشاركها وهي أيضا تشاركه.فقد تخرج بعض السرايا فيما ينال الجيش غنيمة دونها فلها نصيبها من هذه الغنيمة.

    الدليل:
    1 ـ ما تقدم من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعده للسرايا وهي غنيمة لها دون الجيش ومع ذلك فإن الجيش يشاركها، فإن الثلث أو الربع يخرج بعد الخمس والباقي يشترك فيه بقية الجيش فأشركهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشرك الجيش بما تناله السرية وكذلك العكس.
    ـ ولأن مقصدهم واحد وكلهم قد خرجوا لقتال العدو وهذا ربما أرسل في سرية وهذا بقي في الجيش للمصلحة العامة فحينئذ تشتركون في الغنيمة جمعيا.
    مسائل الغلول

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والغالّ من الغنيمة يُحرّق رحله كله إلا السلاح]
    الغالّ: هو الكاتم شيئا من المغنم على وجه لا يحل له.
    (12/46)
    ________________________________________
    الغلول من كبائر الذنوب. للأدلة التالية:
    1 ـ قال تعالى: [ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة]
    2 ـ وفي الصحيحن (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} هُوَ فِي النَّارِ {فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا) (2) .
    3 ـ وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ـ بإسناد صحيح ـ في حديث عبادة ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} .. فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { (3) .

    * مسألة: ما يُفعل بمال الغالّ.
    القول الأول:
    __________
    (1) ـ لم يرو مسلم قصة كركرة من طريق ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وإنما ذكر قصة مثيلة لها واحتمل الحافظ في الفتح أن تكون قصة البخاري مفسرة لما ذكره مسلم (م: 114) عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ.
    (2) ـ (فتح: 3074) ك: الجهاد والسير. ب: القليل من الغلول.هي غير قصة صاحب الشملة كما قرر ذلك الحافظ (فتح: 4234) .
    (3) ـ (حم: 21641، ن: 3628، جه: 2840) .
    (12/47)
    ________________________________________
    وهنا قال المؤلف: (يحرق رحله كله) أي ما على راحلته من أثاث من أوان وزاد وسرج وغير ذلك ويستنثى من ذلك الحيوان وماله روح.ويستثنى كذلك المصحف وكتب العلم وكذلك الأسلحة هذا هو المشهور عند الحنابلة.
    الأدلة:
    1 ـ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} إِذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ {قَالَ: فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ فَقَالَ بِعْهُ وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ) (1) .
    والحديث فيه: صالح بن محمد بن زائدة وهو منكر الحديث، وقد ضعف الحديث البخاري والترمذي والدارقطني وغيرهم من أهل العلم.
    2ـ وروى أبوداود في سننه: (..قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَرَّقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَادَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ عَنْ الْوَلِيدِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ وَمَنَعُوهُ سَهْمَهُ) (2)
    والحديث: ضعيف أيضا فإنه فيه الوليد بن مسلم وهو شامي عن زهير بن محمد، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة.
    والصحيح أنه من قول عمرو بن شعيب فهو مقطوع عليه، كما رجّح ذلك غير واحد من الأئمة فلا يصح شاهدا للحديث الأول.
    القول الثاني:
    وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام ليس له أن يحرق رحله.
    __________
    (1) ـ (د: 2338) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال. (ت: 1381، مي: 2379) .
    (2) ـ (د: 2340) ك: الجهاد. ب: في عقوبة الغال.
    (12/48)
    ________________________________________
    الدليل: ما رواه أبوداود في سننه ـ بإسناد حسن ـ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيَخْمُسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ) فَقَالَ:} أَسَمِعْتَ بِلَالًا يُنَادِي ثَلَاثًا؟ {قَالَ نَعَمْ قَالَ:} فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ؟ {فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ:} كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ { (1)
    قالوا: فهنا الرجل لم يحرق متاعه.
    قالوا: ولم يصح في تحريق المتاع حديث كما قرر ذلك الإمام البخاري رحمة الله عليه.
    القول الثالث:
    واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم: أن تحريق المتاع جائز من باب التعزير لا من باب الحد.
    أي أنه للإمام أن يعزر بذلك وله أن يعزر بشيء آخر كضربه أو تأنيبه أو غير ذلك كما أنّب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل في القصة المتقدمة.
    __________
    (1) ـ (د: 2337) ك: الجهاد. ب:في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق. ورواه (حم: 6701) وفي آخره: إني لن أقبله حتى تكون أنت الذي توافيني به يوم القيامة.
    (12/49)
    ________________________________________
    وهذا مبني على القول الراجح في مسألة جواز التعزير بالمال. كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ـ في زكاة السائمة ـ:} وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ { (1) وغير ذلك من الأدلة الدالة على هذه المسألة وسيأتي الكلام عليها في باب التعزير إن شاء الله تعالى.
    فالتعزير بالمال جائز وتدخل فيه هذه المسألة فللإمام أن يعزر بتحريق متاعه.
    فإن قيل: هذا فيه إتلاف للمال وإفساد له
    فيقال: نعم، لكن لمصلحة راجحة وهي عظم التنكيل وشدة التأنيب فإن في ذلك تنكيلا ظاهرا به.
    الترجيح:
    وهذا القول الثالث هو الراجح في هذه المسألة واستظهره صاحب الفروع وصوبه صاحب الإنصاف.فالراجح إذن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وأن تحريق المتاع جائز للإمام إن رأى مصلحة شرعية في ذلك.
    * مسألة: وهل يمنع من سهم الغنيمة؟
    الجواب:
    لايمنع من سهمه من القسمة كما هو المشهور في مذهب أحمد وغيره.
    والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه منع من غلّ من سهمه أو استرده منه.
    وهو حق مالي ثابت له فلا يمنع منه بمعصية.
    القول الثاني:
    وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الإمام يمنعه من سهمه.
    وهذا القول ظاهر في باب التعزير المالي. فللإمام أن يعزره بأن يمنعه سهمه. وله أن يعطيه سهمه ويعزره بباب آخر من أبواب التعزير.
    إذن: للإمام أن يمنعه من سهمه تعزيرا له. وهذا داخل في مسألة التعزيز بالمال.

    * مسألة: في توبة الغال.
    __________
    (1) ـ (د: 1344) .
    (12/50)
    ________________________________________
    ـ وقد أجمع أهل العلم على أن الغالّ إن تاب فأراد أن يعيد ما غلّ وكان قبل القسمة والتخميس فإنه يدفعه بيت المال ليخمس ويقسم على الغانمين ليأخذ كل صاحب حق حقه فلبيت المال الخمس وأربعة أخماسه للغانمين.

    * فرع:
    أما إن كان ذلك بعد تخميس الغنيمة وتقسيمها: ففيه قولان:
    القول الأول:
    قال الحنابلة: يدفع إلى بيت المال الخمس. ويتصدق بأربعة أخماسه عن الغانمين.
    وذلك لأنه حق لا يمكن أن يعطى صاحبه فقد أخذ الغزاة نصيبهم ولا يمكن أن يقسم عليهم هذا الباقي بعد الخمس فحينئذ يكون كالمال الذي لا يهدى إلى صاحبه فيتصدق عنه به.

    القول الثاني:
    قال الشافعية وهو اختيار الآجرّي من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف: أنه يدفع كله إلى بيت المال أي كل ما غُلّ يدفعه إلى بيت المال.
    الترجيح:
    والقول الثاني أظهر بناء على المسألة السابقة التي تقدم ذكرها وهي أن الغنيمة لا تملك إلا بعد قسمتها. فالغنيمة حق لبيت المال وملك له حتى تقسم بين الغانمين وهنا لم تقسم الغنيمة التي وقع عليها الغلول فحينئذٍ تكون في بيت المال.
    هذا هو الأظهر وعليه فيرد ما غلّ إلى بيت المال مطلقا سواء كان ذلك قبل أن تخمس الغنيمة وتقسم أو كان ذلك بعد تخميسها وتقسيمها.

    الأراضي المفتوحة (المغنومة)

    الأراضي المفتوحة قسمان: ـ الأول: ما فتح عنوة.الثاني: ما فتح صُلحا.
    والكلام الآن عن:
    القسم الأول: ـ وهي ما فتح عنوة.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإذا غنموا أرضا فتحوها بالسيف خُيّر الإمام بين: قسمها، ووقفها على المسلمين] .
    إذا افتتح المسلمون قرية بالسيف ـ أي بالقتال ـ فإن الإمام مخير بين أن يقسم هذه الأرض بين الغانمين وبين أن يوقفها على المسلمين.
    هذا هو القول الأول وهو المشهور في مذهب أحمد وأبي حنيفة.
    الدليل:
    (12/51)
    ________________________________________
    1 ـ ما ثبت في سنن أبي داود ـ بإسناد صحيح ـ: (عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ النَّاسِ) (1)
    فهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجعل أربعة أخماسها للغانمين، بل جعل النصف للغانمين، وجعل النصف الآخر للمصالح.
    2ـ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: (لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ) (2)
    فعمر ـ رضي الله عنه ـ قد أوقف مصر والشام والعراق لمّا فتحت في عهده ـ رضي الله عنه ـ لمصلحة آخر المسلمين ولم يقسمها على الفاتحين.
    ولم يعلم له مخالف فكان إجماعا.
    3 ـ قالوا: فهذه الأدلة السابقة تبين آية الأنفال وتخصصها، تبين أن المراد بالغنائم فيها ماسوى الأرض من الأموال المنقولة كالذهب والفضة والمواشي والثياب وغير ذلك فيه التي تقسم بين الغانمين. وأما الأرض فللإمام في ذلك الخيرة.
    4 ـ ومما يدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما عدا الأرض أن هذه الأمة قد اختصت بإباحة الغنائم لها، كما في الصحيحين من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي {.
    __________
    (1) ـ (د: 2617) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: ماجاء في حكم أرض خيبر. (حم: 15821) .
    (2) ـ (فتح: 1325) ك: فرض الخمس. ب: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
    (12/52)
    ________________________________________
    قالوا: والأرض أحلت لمن قبله كما في قوله تعالى: [وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها] فكانوا يرثون الأرض ويغنمونها.
    فدل على أن المراد بالغنائم في الآية ما سوى الأرض من المنقول كالذهب والفضة والماشية وغيرها.
    القول الثاني:
    وذهب المالكية والشافعية إلى أن مجراها مجرى القسمة أي فتخمس وأربعة أخماسها للفاتحين فليس للإمام أن يوقفها كلها بل له الخمس وأما أربعة أخماسها فإنه يقسم في الغانمين
    الدليل:
    قوله تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول.
    قالوا: والأرض غنيمة فيخمسها الإمام وأما أربعة أخماسها فإنه يقسمها على الغانمين.
    الترجيح:
    والقول الأول وهو ما ذهب إليه الحنابلة والأحناف هو الراجح لقوة دليلهم ولما أوردوه في الرد على ما استدل به المالكية والشافعية وبه صحت سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنة أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي بيده] .
    هذه هي المصلحة: وهي أن الأرض التي قد أوقفت يضرب الإمام عليها خراجا. وهو مال يدفع سنويا ممن الأرض تحت يده. فيدفعه إلى الإمام. والإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
    قوله: (ممن هي في يده) سواء كان مسلما أم ذمّيّا فيؤخذ هذا الخراج كأجرة على من هي بيده.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] .
    (12/53)
    ________________________________________
    فالإمام يجتهد ويحدد قدر الخراج فيحدده بما هو اصلح باجتهاده بالنظر إلى أحوال الناس وبالنظر إلى الأرض في كونها ذات جصّ قوي أو جصّ ضعيف وباختلاف الأزمنة من زمن لآخر فيقدر الإمام ما يراه مناسبا. لأن الشارع لم يرد فيه تحديد فيرجع إليه فيه فالمرجع في ذلك إلى الإمام فيحدد باجتهاده فيما وأصلح كالجزية تماما.هذا في أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    كل هذا فيما لو فتحت الأرض عنوة وقهرا.
    القسم الثاني: وهي ما فتح صُلحا:
    ـ أما إذا فتحت الأرض صلحا فلا تخلو من حالتين:
    الحالة الأولى:
    أن يصالح الكفار المسلمين على أن تكون الأرض لهم أي للكفار.
    فحينئذٍ تكون الأرض للكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
    الحالة الثانية:
    أن يصالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للمسلمين، ويشتغل بها الكفار ويدفعون خراجها للمسلمين.
    فهذه الحالة لها حكم المسألة السابقة أي الحالة الأولى من جهة أن الأرض تبقى بأيديهم ويعملون بها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين ولم بيعها إلى مسلم أو ذمي ويبقى الخراج ثابتا عليها.
    أما الحالة الأولى: فحينئذٍ إذا أسلم الكفار أو أسلم بعضهم سقط الخراج عمن أسلم وبقيت الأرض ملكا له لا خراج فيها.
    فإذا صالح المسلمون الكفار على أن تكون الأرض للكفار فإذا أسلموا أوأسلم بعضهم فإن الخراج يسقط وذلك لعدم ملكية الأرض للمسلمين أولا.
    ولأن الخراج كالجزية يسقط بالإسلام: فكما أن الجزية تسقط عن الكافر إذا أسلم فكذلك الخراج يسقط عنه فتبقى الأرض على ملكيتها ويسقط عنه الخراج.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رُفع يده عنها] .
    رجل له أرض خراجية ولم يعمرها بزرع أو شجر فإنه يجبر على إجارتها أو رفع يده عنها.
    (12/54)
    ________________________________________
    أي: إما أن يعمّرها وإما أن يؤجرها، وإما أن نرفع يده عنها أي يتركها تقع في يد الأسبق إليها. وذلك لأن في تركها عاطلة تفويتا لحق بيت المال بالخراج.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويجري فيها الميراث] .
    بمعنى أنها تورث لأنها حق فتورث كسائر الحقوق فإذا مات الرجل ورثها أقاربه كسائر ماله لأنها حق له فبموته يجري فيها الإرث.

    بابٌ: الفَيْء
    الخلاصة: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ ما تركوه فزعا وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما أخذ من مال المشرك بغير قتال كجزية وخراج وعشرٍ] .
    العشر: هو مايضرب على تجارة الكفار إذا أدخلوا تجارتهم إلى البلاد الإسلامية.
    وعلى الذميين نصف العشر.
    وعلى الحربيين الذين يدخلون بأمان إلى البلاد الإسلامية ليتجروا فيها أو يدخلوا تجارتهم فيها عليهم العشر.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وما تركوه فزعا] .
    أي لم يقع قتال بين المسلمين والكفار وقد ترك هؤلاء الكفار أموالهم من غير قتال.
    قال تعالى: [ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب]
    فهذا يُعتبر فيئا لا يقسم بين الغانمين فليس له حكم القسمة.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وخمس خمس الغنيمة] .
    تقدم الكلام في هذا عند الكلام على خمس خمس الغنيمة وأنه يكون في يد الإمام يصرفه في مصالح المسلمين.
    وتقدم ترجيح قول الإمام مالك وأن الخمس كله فيء لمصالح المسلمين إلا ما يحتاج إليه ذوو القربى.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ففيء يصرف في مصالح المسلمين] .
    (12/55)
    ________________________________________
    إذن: الجزية والخراج والعشور وما يؤخذ من الكفار بغير قتال وخمس خمس الغنيمة كل هذا فيء يصرف في مصالح المسلمين. فمنه رزق الإمام والقضاء والأمراء والمدرسين وغيرهم وكذا بناء المساجد وإصلاح الطرق وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين وإغناء الفقراء وغيرها من المصالح والحاجيات للمسلمين.
    إذن: الفيء يصرفه الإمام في مصالح المسلمين.
    وهذا في كل مايدخل بيت المال حتى التجارات والمكاسب التي يكتسبها بيت المال ومن ذلك ما في هذه الأزمان من بترول ومعادن وغير ذلك مما يستخرج من الأرض هذا كله فيء يصرف في المصالح الإسلامية.
    الأدلة:
    1 ـ قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كما في سنن البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ: (كل المسلمين لهم حق في الفيء) وقال: (لم يبق أحد إلا له حق في هذا المال إلا ما ملكت أيمانكم من أرقائكم فإن عشت إن شاء الله تعالى لم أُبق أحدا من المسلمين إلا سيأتيه حقه حتى الراعي يأتيه حقه منها ولم يعرق فيها جبينه) (1) والأثر إسناده صحيح.
    2 ـ وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ فِي يَوْمِهِ فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ وَأَعْطَى الْعَزَبَ حَظًّا) (2)

    * ويبدأ بالأهم فالمهم، فيبدأ مثلا بأرزاق القضاة والأمراء والمقاتلة فهذا أولى من البدء بالغني الذي لا حاجة له في المال. وما يبقى فيصرفه في مصالح المسلمين فهو حق لهم يقسمه بين المسلمين غنيهم وفقيرهم من الأحرار.

    باب عقد الذمة وأحكامه..
    الذمة لغة واصطلاحا:
    الذمة: لغة، العهد.
    وفي الاصطلاح: عقد يقيمه الإمام، يقر به الكفار على كفرهم مع إعطائهم الجزية أو التزامهم بأحكام الشريعة في الجملة.
    __________
    (1) ـ (هق: 6 / 351) .
    (2) ـ (د: 2564) ك: الخراج والإمارة والفيء. ب: قسم الفيء.
    ورواه (حم: 22878، 22861) .
    (12/56)
    ________________________________________
    وقوله (يقر به الكفار على كفرهم) أي في حكم الدنيا وإلا فإنهم لا يُقرون عليه في حكم الآخرة.
    فالمعقود عليه هو الذمي. جماعتهم: الذميون.
    هذا هو عقد الذمة.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] .
    فلا يجوز هذا العقد إلا لصنفين من الناس.
    1 ـ الصنف الأول: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى.
    2 ـ الصنف الثاني: وهم المجوس.

    أما صنف الكتابين:
    فدليله قوله تعالى: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فهذا في الجزية على أهل الكتاب.
    وأما المجوس:
    فقد ثبت في البخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها ـ الجزية ـ من مجوس هجر (1) .
    هذا هو المشهور من مذهب أحمد والشافعي وأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس ومن تبعهم أي من تبعهم على دينهم. وإن لم يكن أصلا منهم.
    ذلك لأن اليهود والنصارى من بني إسرائيل فمن تبعهم من العرب والإفرنج أو غيرهم له هذا الحكم وكذلك ديانة المجوس فإنها في الأصل في الفرس ممن كانوا مجوسا من غير الفرس كبعض مجوسية العرب أو غيرهم فإن الجزية تؤخذ منه ولا تؤخذ الجزية ـ في هذين المذهبين ـ من غير هذه الأصناف فهي خاصة في اليهود والنصارى والمجوس.
    لأن الله تعالى قال: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون]
    وقد أمرنا بقتال الكفار، قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة] وقال: [وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة] وليس في ذلك ذكر للجزية.
    قالوا: وأما المجوس فقد ثبت الدليل بأخذ الجزية منهم ماثبت في البخاري وتقدم.
    قالوا: وإنما فرق بين المجوس وعبدة الأصنام أن لهم كتابا فرفع.
    __________
    (1) ـ (فتح 2923) ك: الجزية. ب: الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
    (12/57)
    ________________________________________
    روي ذلك عن علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق (1) غير أن السند لا يصح كما قرر هذا ابن القيم وغيره.
    قالوا: فإذا ثبت أن لهم كتابا فرفع فإن فيهم شبهة أهل الكتاب.
    وعليه: فإن الجزية تؤخذ منهم.
    القول الثاني:
    وقال الأحناف والمالكية: تؤخذ الجزية من الكفار عامة، فكل الكفار مخيرون بين ثلاثة خصال:إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال.
    1 ـ واستدلوا بحديث بريدة الثابت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:} فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال {: وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم {فهنا قد ثبت الحكم على وجه العموم. فإنه قال:} فإن لقيت عدوك من المشركين {قالوا: هذا الحديث عام في كل كافر.
    2ـ قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذها من المجوس وهم عبد النار ولا كتاب لهم.
    أما ما روي عن علي فإنه لا يصح. ولو صح فإن العبرة بالحال. فإنهم في الحال لا كتاب لهم وهؤلاء عبدة الأصنام من العرب ومن قريش وغيرهم كانوا أتباعا لإبراهيم عليه السلام ومع ذلك فأنتم لم تروا الجزية عليهم مع أنهم لهم رسول وقد اتبعوه واتبعوا ما معه من صحف ومع ذلك قد أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المجوس ولا فرق بينهم وبين عبدة الأصنام من العرب أو العجم.
    قالوا: وأما قوله تعالى: [من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية] فإن هذا قيد لبيان الواقع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه هذه الآية وقد فتح الله عليه بلاد العرب وذلك بعد أن أذل الله له عبدة الأصنام وأمر بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا القيد لبيان الواقع حين شرعته الجزية.
    الترجيح:
    __________
    (1) ـ (عب: 6 / 70) ط. المكتب الإسلامي. تحقيق: الأعظمي.
    (12/58)
    ________________________________________
    وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وتلميذه ابن القيم فكل ملة من الملل تخير بين ثلاث خصال:الإسلام فإن أبوا فالجزية فإن أبوها فالقتال لعموم حديث بريدة المتقدم.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه] .
    لا يعقد هذا العقد بين المسلمين والكفار إلا الإمام الأعظم أو نائبه أو أحد قواد جيشه ممن خول لهم الإمام ذلك. وذلك لأن عقد الذمّة من الأمور العامة الموكولة للإمام فلا يجوز الافتيات عليه بعقدها دونه وهذا ظاهر.
    وعليه فلا يجوز ولا يصح أن يعقده إلا الإمام أو نائبه أو من خوله الإمام من قواد الجيش.
    وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية.. الحديث وفيه:} فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أطاعوا فاقبل منهم {فدل على أنّ قائد الجيش يجوز يجوز له أن يعقد هذا العقد دون الإمام إن أذن له الإمام بذلك.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا جزية على صبي ولا امرأة]
    الجزية لغة:
    … مأخوذة من الجزاء؛ لأنها جزاء للكافر وجزاء للمسلم؛ جزاء للكافر على كفره فهي عقوبة على الكفر، وجزاء للمسلم على حفظه دم الكافر وصيانة ماله أي ثواب فهي ثواب للمسلم وأجرة على ما يقوم به من حفظ دم الكافر وماله.
    وهي جزاء على الكافر أي عقوبة له على كفره فإنها إنما تضرب عليه إذا امتنع عن الإسلام.
    الجزية شرعا:
    … مال يؤخذ من الكافر على جهة الصغار عليه بسبب عقد الذمة.
    وقد تقدم تعريف عقد الذمة.

    * أما الصبي فلقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ فيما رواه الخمسة بإسناد صحيح وقيد ذكره في باب (زكاة البقر) ومنه:} ومن كل حالم دينارا أو عدله معافريا { (1) أي من كل بالغ، فهذا يدل على أن غير الحالم وهو الصبي لا تؤخذ منه الجزية.
    __________
    (1) ـ (ت: 566، ن: 2407،د:1345، حم: 21112)
    (12/59)
    ________________________________________
    وأما المرأة فلما ثبت في البيهقي ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد أن يأخذوا الجزية وألا يأخذوها من النساء والصبيان (1) .
    وهكذا كل من لا يقاتل المسلمين من الرهبان المعتزلين في صوامعهم لعبادتهم الذين ليس لهم رأي ولا مكيدة في الحرب.
    وذلك لأن الجزية لصيانة الدم من أن يهدد فإنه يخير بين الإسلام وبين الجزية وبين القتل ومعلوم أن هؤلاء لا يقتلون وعليه فلا تؤخذ منهم الجزية.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا عبد] .
    لأنه مال كسائر مال سيده فكما أن الكافر لايؤخذ منه على مسكنه وعلى تجارته الجزية، فكذلك لا يؤخذ من رقيقه. ولأن العبد لا مال له فلا تؤخذ من العبد وإن كان سيده كافرا. قد حكى ابن المنذر الإجماع على هذا.
    ولكن هنا رواية عن الإمام أحمد: أن الجزية تؤخذ من العبد واستدل: بما روى البيهقي في سننه أن عمر بن الخطاب قال: (لا تشتروا رقيق أهل الكتاب فإن عليهم خراجا) (2)
    لكن السند فيه سفيان العقيلي لم يوثقه سوى ابن حبان.
    والمشهور عن الإمام أحمد أن العبد لا تؤخذ منه الجزية وهو الراجح. لأنه مال فأشبه سائر مال سيده ولأن العبد لا يجب عليه واجب مالي لأنه لا مال له.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا فقير يعجز عنها] .
    فالفقير الذي يعجز عن دفع الجزية لا تؤخذ منه قال تعالى: [لا يكف الله نفسا إلا وسعها]
    وهذا هو مذهب جمهور العلماء للأمة المتقدمة.
    إذن: تؤخذ الجزية من المكلف الذكر الحر الذي هو من أهل القتال.
    فأما غير المكلف وهو الصبي والمجنون وغير الحر وهو العبد، وغير الذكر وهي الأنثى ومن ليس من أهل القتال كالأعمى والزمن والراهب المعتزل في صومعته فهؤلاء لا تؤخذ منهم الجزية لأنهم غير مقاتلين، والجزية إنما شرعت لصيانة دمهم. ودمهم مصون في الأصل فلم تجب عليهم الجزية بعد ذلك.
    __________
    (1) ـ (هق: 9 / 198)
    (2) ـ (هق: 9 / 140)
    (12/60)
    ________________________________________
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن صار أهلا أخذت منه في آخر الحول] .
    أي بالحساب. صورة هذا:
    بلغ الصبي في نصف السنة فإنها تؤخذ منه الجزية في آخر الحول بالحساب فلا يؤخذ منه حينئذ إلا نصف الجزية.
    وذلك لئلا يفرد وحده فيشق. فكوننا ننظر حتى يحول الحول على بلوغه ثم يعطي الجزية منفردا هذا فيه مشقة وذريعة لفوات ذلك إما بإهمال أو نسيان أو غير ذلك.
    بخلاف ماإذا كان لها وقت واحد تجمع فيه من سائر الكفار فإن هذا مظنة لحصولها وعدم فواتها.
    ومن أسلم منهم فإنها تسقط عنه. ولو كان ذلك بعد الحول فلو أن رجلا أسلم أثناء الحول أو بعد مضي الحول وما بقي إلا أن يدفعها لعاملها فإنها تسقط عنه.
    وذلك لأن الجزية تؤخذ مع صغاروالمسلم لا صغار عليه وهي إذلال وعقوبة على الكفر وحيث أسلم فإنه لا يدفعها لأن المسلم لا صغار عليه.
    ـ ومن مات وقد وجبت عليه فإنها تؤخذ من تركته إذا مضى الحول.
    فإن لم يتم عليها حول فبحساب ذلك. فتؤخذ من التركة لأنه حق مالي للمسلمين متعلق بالتركة بعد الموت كسائر الحقوق التي تتعلق بالتركة.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومتى بذلوا الواجب عليهم وجب قبوله وحرم قتالهم] .
    فإذا بذلوا الجزية فلا يجوز القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} فإنْ هم أجابوا فاقبل منهم {وقد قال تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] فجعل إعطاءهم الجزية غاية فيحث أعطوا الجزية فلا يجوز أن يقاتلوا.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمتهنون عند أخذها ويطال وقوفهم وتجر أيديهم] .
    يمتهنون امتهانا بليغا عند أخذها صغارا لهم، فيكون الآخذ جالسا ويكون الدافع قائما مطأطئ الرأس ذليلا.
    (ويطال وقوفهم) فيقال له: انتظر. ويطال وقوفه كثيرا إذلالا لهم وصغارا.
    (وتجر أيدهم) أي لا تؤخذ منهم بسهولة بل تجذب يده جذبا شديدا عند أخذ الجزية منه.
    (12/61)
    ________________________________________
    قالوا: لقوله تعالى: [حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون] أي أذلاء فلا بد وأن يدفعوها على هيئة يكونون فيها أذلاء. هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
    والراجح: خلاف ذلك وأن هذا لا أصل له في كتاب الله ولاسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمل الصحابة فإن هذا لم ينقل عنهم.
    وإنما الصغار المذكور في الآية هو مجرد إذلالهم بإعطائهم الجزية. وقبولهم التزام الشريعة الإسلامية في الجملة فهذا إذلال ظاهر لهم.
    ولذا فإن بني تغلب وكانوا من العرب أبوا أن يعطوا الجزية وقالوا: بل ندفعها صدقة ونقول: هي صدقة. فقبل ذلك منهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بشرط أن تكون ضعف صدقة المسلمين (1) .كما ثبت هذا في مصنف بن أبي شيبة وغيره.فاستنكف هؤلاء عن دفع الجزية لأن مجرد دفعها صغار وذلة والتزامهم أيضا بشريعة أخرى لا يدينون بها صغار وذلة
    وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية وقد أنكر هذا القول النووي في روضة الطالبين وبيّن أنه لا أصل له في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عمل خلفائه الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ. وهو كما قال.
    الترجيح:
    فالراجح هو خلاف هذا، وأن الجزية تؤخذ منهم برفق وإحسان والشريعة تأمر بالإحسان وفي ذلك دعوة لهم إلى الإسلام.
    مبحث: في مقدار الجزية:
    وفيه أقوال:
    القول الأول:
    وهو المشهور عند الشافعية أن الجزية دينار.
    __________
    (1) ـ (خلاصة البدر المنير لابن الملقن: 2/ 356) [2618] أن عمر ـ رضي الله عنه ـ طلب الجزية من نصارى العرب وهم تنوخ وبهرا وبنو تغلب فقالوا نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم فخذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الزكاة فقال عمر هذا فرض الله على المسلمين فقالوا زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدقة ذكره الشافعي وقال قد حفظه أهل المغازي وساقوه أحسن سياق. وانظر (نصب الراية: 2 / 362) .
    (12/62)
    ________________________________________
    لحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ المتقدم، وفيه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا.
    القول الثاني:
    وهو للمالكية: على الغني أربعة دنانير وعلى الفقير دينار.
    واستدلوا بما ثبت في سنن البيهقي (1) ـ بإسناد صحيح ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضرب الجزية: أربعة دنانير أو أربعين درهما ـ وهي عدل الدنانير من الدراهم.
    القول الثالث:
    وهو مذهب الأحناف ورواية عن الإمام أحمد أنه يؤخذ منه ألغني ثمانية وأربعين درهما، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهما، ومن الفقير اثني عشر درهما. وفي ذلك أثر رواه البيهقي في سننه.
    القول الرابع:
    وهو رواية عن الإمام أحمد وهو الصحيح في المذهب ـ كما قال صاحب الإنصاف ـ وهو مذهب الثوري وأبي عبيد القاسم بن سلام: أنها تؤخذ على حسب ما يراه الإمام؛ فمردّ ذلك إلى الإمام.
    لأن هذه المسألة تختلف باختلاف الأزمان واختلاف الناس غنى وفقرا واختلاف أراضيهم وأحوالهم فكان مرجع ذلك إلى الإمام.
    ويدل عليه: اختلاف الآثار المتقدمة. ولذا فإنها ضربت على أهل اليمن دينارا وعلى أهل الشام أربعة دنانير.فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ ضربها على أهل الشام أربعة دنانير كما في الأثر المتقدم وضربها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل اليمن دينارا، ولذا قال مجاهد كما في البخاري لما سئل: (ما بال أهل الشام تؤخذ منهم الجزية أربعة دنانير وأهل اليمن تؤخذ منهم دينارا؟) فقال: (إنما فعل ذلك من أجل اليسار) أي من أجل الغنى. فلما اختلفوا في الغنى اختلفوا في الجزية.

    وهذا يدل على أنه ليس هناك مقدار ثابت بل يختلف باختلاف الناس غنا وفقرا وباختلاف أحوالهم وأماكنهم وهذا القول هو الراجح.
    * مسألة: عقد الذمة عقد باق لا يجوز تغييره.
    هذا هو المشهور في المذاهب.
    __________
    (1) ـ (هق: 9 / 195) .
    (12/63)
    ________________________________________
    وهناك قول آخر اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: وهو أن عقد الذمة يجوز تغييره للمصلحة.
    وهذا هو الظاهر.
    فإذا اختلفت المصلحة باختلاف الأزمان فيجوز للإمام أن ينقض هذا العقد معهم ويعلن الحرب ويمهلهم حتى يستعدوا للحرب. وذلك لأن المصلحة قد زالت.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] .
    يلزم الإمام أخذ الذميين بشرائع الإسلام في النفس وفي المال والعرض؛ في النفس كالقتل والجناية على طرف من الأطراف فالسن بالسن والعين بالعين، فمن قتل ذميا من جنسه قتل به، ومن جنى على ذمي من جنسه اقتص له منه وهكذا.. وكذلك في الأموال في حماية الممتلكات فمن أتلف مالا لآخر فإنه يضمنه. وكذلك في العرض في القذف إذا قذف ذمي ذميا آخر بالزنا أو قذف مسلما فإن حكم الله يقام عليه.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله] .
    تقام عليهم الحدود.
    1 ـ وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما (1) .
    2ـ وفي الصحيحين أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين واعترف فأتي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمر أن يرض رأسه بين حجرين (2) .
    3 ـ وقد قال الله تعالى: [وأن احكم بينهم بما أنزل الله]
    __________
    (1) ـ (فتح: 6320، م: 3211) .
    (2) ـ (فتح: 2236) ك: الخصومات.ب: ما يذكر في الأشخاص والخصومة.َ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (م: 3167) .
    (12/64)
    ________________________________________
    وقيده المؤلف هنا بما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة فإن الحدود تقام على الذميين من قبل الحاكم المسلم إن كانوا يعتقدون التحريم، أما إن كانوا يعتقدون حل الخمر ونكاح المحارم فإن الشريعة لا يُحكم بها عليهم، لكن يُمنعون من إظهاره بين المسلمين لما فيه من أذية المسلمين وإظهار المعصية فإن أظهروه فللإمام أن يعزرهم عقوبة لهم على إظهار المعصية في بلاد الإسلام
    أما مسائلهم التي هي من شؤونهم الخاصة كالأنكحة والطلاق والظهار وغيرها وما ألحق بها من المسائل الأسرية فإنه لا يحكم عليهم بالشريعة الإسلامية إلا أن يتحاكموا إلينا فإن تحاكموا إلينا فللإمام أن يحكم بينهم بما أنزل الله. وله أن يعرض عنهم.
    قال تعالى: [فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا]

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويلزمهم التميز عن المسلمين] .
    فيجب أن يتميزوا عن المسلمين بملابسهم ومراكبهم وأسمائهم وكناهم … فلا يكونوا على هيئة تختلطون فيها بالمسلمين اختلاطا لا يميزون به عنهم. وذلك لأن هذا ذريعة إلى أن يعاملوا معاملة المسلمين، ومعاملتهم معاملة المسلمين محرم،بل لهم معاملة تخصهم ولا يمكن أن يعاملوا المعاملة الشرعية التي تخصهم إلا بأن يكونوا متميزين عن المسلمين، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب.
    ويجب على المسلم أن يعاملهم معاملة الكفار ولا يمكن هذا إلا بأن يكونوا على هيئة يتميزون بها عن المسلمين فوجب أن يميزوا.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولهم ركوب غير الخيل بغير سرج بأكاف] .
    الأكاف: هو كساء يوضع على المركوب.
    والسرج كذلك لكن السرج فيه زينة. ويركبه أهل الشرف والعلو سواء كان علوا جائزا أم غير جائز.
    وأما الأكاف فهو مجرد كساء يوضع على الدابة فتركب.
    (12/65)
    ________________________________________
    فينهى أهل الذمة عن ركوب الدواب التي فيها علو وشرف فإنها قد تكون طريقا إلى خيلائهم وفخرهم على فقراء المسلمين ولأنها مركوبات علو وشرف، وهم ليسوا بأهل علو وشرف. بل هم أهل ضعة حيث خالفوا شرع الله وقد قال تعالى: [وهم صاغرون]
    وفي الدارقطني من حديث عائذ بن عمرو والحديث حسن بشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} الإسلام يعلو ولا يعلى عليه { (1) .
    فينهون عن ركوب الخيل ويؤذن لهم بالجمل والبغل والحمير وغير ذلك من المركوبات وهنا كذلك في هذه الأزمان فالسيارات الفاخرة يمنعون منها وأما ما يركبه أوساط الناس أو دونهم فإن هذا لا حرج عليهم بركوبه.
    إذن: ينهون عن ركوب الخيل وعن وضع السرج لما فيه من العلو والشرف وقد يكون فيه استطالة على ضعفة المسلمين.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس] .
    للعلة المتقدمة فإن المجالس إنما يصدر لها أهل العلو في الدنيا أو أهل الديانة والصلاح أما هؤلاء فليسوا كذلك بل هم صاغرون. ولا شك أن تقديرهم وإكرامهم هذا التقدير والإكرام الزائد حيث يوضعون في صدور المجالس يخالف المقصود. وليس المقصود أن يمتهنوا لكن أن يكونوا في وسط الناس فلا يرفعون على الناس في المجالس فيوضعون في أفضلها بل يجلسون كعامة الناس لأن هذا مجلس شرف وعلو وهم ليسوا كذلك بل هم أهل صغار والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا القيام لهم] .
    فإذا قدموا فلا يجوز القيام لهم للتحية بل يحيي وهو جالس لما في القيام لهم من الاحتفاء بهم والإكرام لهم وهذا يناقض ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من عدم إكرامهم الإكرام الذي يعامل به أهل الشرف والمقام العالي.
    __________
    (1) ـ (قط: 3 / 252، هق:6 / 205، طح: 3 / 257) وحسنه الحافظ في الفتح (3: 220) .
    (12/66)
    ________________________________________
    ولذا ورد في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ { (1) .
    فهذا يدل على أنهم لا يعطون شيئا من الإكرام بل يضيق عليهم الطريق.
    ويقاس على ذلك هذه المسألة وهي أنه لا يقام لهم وكذلك لايصدّرون في المجالس.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا بداءتهم بالسلام] .
    فلايبدؤون بالسلام للحديث المتقدم} لاتبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام {ولاما يشبه السلام كقوله: (كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟) وغير ذلك من الألفاظ التي قد تكون في النهي أعظم أثرا من السلام فإن السلام يلقى على الخاص والعام أما مثل هذه الأسئلة فإنها توجه إلى الخاص فالمقصود أنه لايبدؤهم بتحية إنما يبدؤون هم بالتحية للحديث المتقدم فإذا ابتدؤوه بالتحية أجابهم. قال تعالى: [وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها] إلا أن يُخشى أن يكون في سلامهم شيء من التعريض كما كان يقع من اليهود في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يحييهم بما كان يجيب به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ اليهود فيقول: (وعليكم) . كما ثبت هذا في الصحيحين من حديث عائشة (2)
    * مسألة: في تهنئة أهل الكتاب:
    وهل تجوز تهنئتهم بما يجوز أن يهنّأ به المسلمون؟ كمولود أو ربح تجارة..لا بما لايجوز كالتهنئة بأعيادهم فإن التهنئة بها إقرار لهم على باطلهم فهي باطل.
    لكن إن هنّأهم على أمر جائز في الأصل كتهنئة بمولود أو نحو ذلك أو يعزيهم في مصابهم أو أن يشيع جنائزهم أو يعود مرضاهم، فهل يجوز هذا أولا؟
    قولان، هما روايتان، عن الإمام أحمد.
    الرواية الأولى:
    __________
    (1) ـ (م: 4030) ك: السلام. ب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
    (2) ـ (فتح: 2718،5565،5570،5786 وم: 4027) .
    (12/67)
    ________________________________________
    وهي المشهور في المذهب: أن ذلك لايجوز.
    الرواية الثانية:
    أن ذلك يجوز لمن رُجي إسلامه.وهي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الراجح في هذه المسألة لما ثبت في البخاري أن غلاما ليهودي كان يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعوده فقال له:} أسلم {فأسلم (1) .
    وثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاد أباطالب كما في الحديث المشهور ودعاه إلى الإسلام.
    فلا بأس من تهنئتهم بالأشياء الجائزة وعيادة مرضاهم إن رجي إسلامهم أي إن كان في ذلك مصلحة للدعوة.
    وإلا فإنهم يهجرون في معصيتهم. لكن إن ثبتت المصلحة الشرعية في عيادة مريضهم واتباع جنائزهم وغير ذلك فلا بأس به إن رجي إسلامهم.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ويمنعون من إحداث كنائس وبيع] .
    بالإجماع، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ.
    __________
    (1) ـ (فتح: 1268) ك: الجنائز.ب: إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ولفظه: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".
    (12/68)
    ________________________________________
    وذلك لأن إحداث الكنائس والبيع إظهار لشعيرة الكفر ولا يجوز الإقرار على ذلك، فلا يجوز أن يقروا على شعيرة من شعائر الكفر وإحداث الكنائس كذلك. فلايؤذن لهم ببناء كنائس بناء جديدا. لكن إن كانت الأرض لهم كأن يقع صلح بين المسلمين والكفار فتكون الأرض للكفار فإن ذلك لا يمنعون فيه لأن الأرض لهم، إلا أن يشترط ذلك عليهم المسلمون، فإن اشترط عليهم المسلمون ألا يحدثوا كنيسة ولا بيعة فإنهم يجب عليهم أن يلتزموا بذلك وعلى المسلمين منعهم.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وبناء ما انهدم فيها] .
    إذا فتح المسلمون بلدا وفيها كنائس فأقرت هذه الكنائس على بناياتها يتعبد هؤلاء بها فإذا حصل فيها انهدام فهل يؤذن لهم ببنايتها من جديد؟
    قال المؤلف هنا (يمنعون من اصلاح ما انهدم فيها) وهذا هو المشهور في المذهب.
    والوجه الثاني أن ذلك جائز وهذا هو الأرجح.
    لأن تجديد البناء استدامة لاإنشاء والاستدامة جائزة فهذا الكنيسة يجوز أن تبقى مستمرة مادام أنها كانت موجودة أثناء العقد بين المسلمين وبين الذميين , وتجديد بناياتها إذا انهدمت استدامة وليس بإنشاء.
    وهذا هو مناط المسألة: أن يقال: إذا انهدمت الكنيسة فهل بناؤها إنشاء أو استدامة؟
    إن قلت: هو إنشاء، فإنه لا يجوز لهم لأن هذا كبناء كنيسة جديدة. وهذا لايجوز.
    وإن قلت: هو استدامة ـ وهذا هو الأظهر ـ فإن ذلك جائز لهم، لأن هذا الموضع من الأرض قد أُقر أن يكون كنيسة لهؤلاء الذميين فحيث حصل فيه انهدام فإنه لم يزل موقعا للكنيسة ومعبدا فإذا بني من جديد فلا يعدو الأمر إلا أن يكون استدامة لهذه الكنيسة.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولو ظلما] .
    لو اعتدى بعض المسلمين ـ وهذا أمر لا يجوز ـ فقاموا بهدم كنيسة من كنائس الذميين التي قد أقرها الإمام بالعقد الذي بينه وبين الذميين فإذا هُدمت فلا يجوز أن يبنوها مرة أخرى.
    (12/69)
    ________________________________________
    الأَولى أن يقال بجواز ذلك كما قال صاحب الفروع،لأن هذا استطالة عليهم، وإزالة حق لهم بغير وجه شرعي صحيح فلا مانع من إعادة بنائه مرة أخرى. وقد أزيل ظلما لهم.

    وعلى الترجيح المتقدم وأن بناء الكنيسة بعد انهدامها وإصلاحها استدامة لها لا إنشاء لا إشكال في هذا القول، وأنه سواء كان ظلما أو غير ظلم فإن لهم أن يبنوها من جديد وليس للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك، إلا أن يكون هناك شرط بين الإمام وأهل الذمة أن ما انهدم من الكنائس فإنه لا يبنى، فإنهم يمنعون من ذلك لأن الناس على شروطهم فيمنعون أن يبنوا ما انهدم مادام هناك شرط بينهم وبين الإمام.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن تعلية ببناء على مسلم] .
    لا يجوز أن يقر الذمي على بنيان بيته بحيث يكون فيه علو على بيوت المسلمين للمعنى المتقدم فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن البيوت العالية هي بيوت أهل العلو والشرف وهم ليسوا كذلك فهم أهل ذلة وصغار كما تقدم. بل يمنعون من البيوت العالية مطلقا وإن لم تكن مجاورة لبعض بيوت المسلمين لأنهم بيوت عالية يسكنها أهل الشرف والعلو وهم يمنعون من فعل ما فيه علو وشرف كما تقدم.والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
    واستثنى الحنابلة فيما إذا اشترى الذمي بيتا من مسلم وفيه علو وارتفاع فإن ذلك جائز وهذا قول ضعيف، ولذا قال ابن القيم ـ رحمة الله عليه ـ: إن هذه المسألة أُدخلت في المذهب غلطا محضا وأنها لاتوافق أصول المذهب ولا فروعه. إذ لافرق بين أن يبني الذمي بيتا عاليا شاهقا يعلو به على المسلمين أو على طائفة منهم وبين أن يشتري هذا البيت من مسلم ثم يسكنه على هذه الهيئة. لا فرق بين المسألتين فإن المفسدة حاصلة منهما جميعا
    ومثل ذلك الاستئجار فإن استئجار البيوت العالية ممنوع عليهم.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ولا مساواته له] .
    (12/70)
    ________________________________________
    فإذا بنى بيتا يساوي بيت المسلم ولو كان هذا البيت الذي قد بناه بيت عال فلا بأس ما دام أنه على مساواة البيوت التي قد بناه من حوله من المسلمين.
    الوجه الثاني في المذهب:
    أن ذلك لا يجوز. وهذا هو الأرجح.
    وذلك لأن البيت المساوي لبيت المسلم وفيه علو قد حصل له به العلو والشرف، وهو ممنوع عليه وإن كان ذلك مساويا للمسلمين كما يمنعون من ركوب الخيل وإن ركبها
    المسلمون كما يمنعون من وضع السرج وإن وضعها المسلمون فكذلك يمنعون من البيوت العالية المرتفعة التي إنما يسكنها أهل الشرف والجاه والمنزلة وإن كانت بيوت المسلمين كذلك لأنها بيوت علو وشرف، وهم ليسوا كذلك، وإن كانت أقل مفسدة من البيوت التي هي أعلى من بيوت المسلمين لمنع دخول الاستطالة فيها، فإن الاستطالة ممكنة مادام أن بيوتهم كبيوت المسلمين.
    فإذن يكونون في مركوبهم وفي مسكنهم على درجة دون درجة أهل العلو والشرف.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [ومن إظاهر خمر وخنزير وناقوس وجهر بكتابهم] .
    لأن الجهر بالمعصية محرم فإظهارالمعاصي محرم وفيه أذية للمسلمين فيمنعون من إظهار شرب الخمر ومن إظهار أكل الخنزير أو وضع المسالخ له أو نحو ذلك وبيعه بالمحلات ويمنعون مما ذكره من الناقوس في كنائسهم ومن الجهر بقراءة كتبهم ومثل ذلك وضع الدعايات لدينهم وتأليف الكتب في ديانتهم ووضع إذاعات للدعوة إلى دينهم كل هذا يمنعون منه لما فيه من إظهار دينهم. والشريعة إنما فرضت عليهم ما يمنع إظهار الدين. ولما فيه إظهار شعائر الكفر من قصد إيذاء المسلمين ومجرد إظهارها يخالف مقصود الشارع.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وإن تهود نصراني أو عكسه لم يقرّ ولم يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه] .
    إذا كان تحتنا في بلادنا ذميون يهود ونصارى فانتقل اليهودي إلى النصرانية أو النصراني إلى اليهودية فهل يُقر على هذا؟ فيه ثلاثة روايات:
    الرواية الأولى:
    (12/71)
    ________________________________________
    قال المؤلف: (لا يُقرّ) ، وعليه فإن الإمام يحبسه ويعذبه في نفسه وماله حتى يعود إلى دينه أو يدخل في الإسلام ولا يقتل لشبهة العقد الذي بيننا وبينهم من حفظ دمه وماله لكنه يلزم بأحد الأمرين. وإلزامه أن يرجع إلى دينه قول غريب.
    الرواية الثانية:
    ورد عن الإمام أحمد أنه يلزم بالإسلام فإما أن يسلم وإما أن يبقى على ماهو عليه بالضرب والتأديب وغير ذلك. لأن في إرجاعه إلى النصرانية شيء من الإقرار الظاهر له. وفي إلزامه أن يعود إليها تأييد لها فيبقى الإلزام بالإسلام.
    الرواية الثالثة:
    وعن الإمام أحمد وهو أظهرها أنه يقرّ مطلقا؛ فله أن يرجع من اليهودية إلى النصرانية ومن النصرانية إلى اليهودية أو غيرها من ملل الكفر وذلك لأن العقد الذي بيننا وبينه هو إقراره على الكفر والكفر ملة واحدة.
    ثم في الحقيقة فاليهودي والنصراني وعابد الوثن وعابد النار في الحقيقة ملة واحدة قال تعالى: [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض]
    فالراجح:
    أنه يُقرّ، وأن له أن ينتقل إلى أي دين شاء. لأنه إنما أُقر على الكفر أصلا بالشروط المتقدمة ولافرق بين أن يبقى على ديانته النصرانية أو ينتقل إلى اليهودية أو العكس لافرق بين هاتين الملتين أو غيرهما.
    إذن هنا ثلاثة أقوال أرجحها القول الأخير.
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [فإن أبى الذمي الجزية أو التزام حكم الإسلام أو بغى على مسلم بقتل أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو ذكر الله أو رسوله أو كناية بسوء انتقض عهده] .

    إذا أبى الذمي بذل الجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو كان منه اعتداء على المسلمين بقتل أو قطع طريق أو زنا أو سبّ الله ورسوله أو دين الإسلام أو كتاب الإسلام فإن عهده ينتقض مطلقا، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
    القول الثاني:
    (12/72)
    ________________________________________
    وذهب الشافعية إلى التفصيل في هذا وأنه إن أبى أن يلتزم بالجزية أو أبى أن يلتزم بحكم الإسلام أو فعل ما يناقض عهد الذمة كالقتل فإن عهده يُنقض وما سوى ذلك فإن حكم الإسلام يُقام عليه إن كان حدا أو قصاصا أو تعزيرا. إلا أن يكون قد اشترط فإن هذا الشرط يعمل به بمعنى: إن قيل للذميين أثناء العقد متى ما فعلتم القتل أو الزنا أو آويتم جاسوسا أو نحو ذلك فإن العهد ينتقض ولاذمة لكم فإن الناس على شروطهم.
    فمذهب الشافعية هو التفصيل فإن أبى بذل الجزية أو التزام الشريعة فإن عهده ينتقض وذلك لأنه لا قوام لعهد الذمة إلا بهما. فإن عقد الذمة لايصلح إلا بهما.
    قالوا: وكذلك إذا كان ما فعله يخالف وينافي مقتضى العقد ـ وهو فيما إذا قاتلنا ـ فإذا قاتل الذمي المسلمين أو سعى في قتالهم فإن عهده ينتقض وذلك لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين وحيث وقع من الذميين قتال فإن هذا ينافي ويخالف العقد الذي بيننا وبينهم وهو عقد الذمة الذي مقتضاه الأمان من الجانبين أما ماسوى ذلك فيحكمون بما أنزل الله وهذا هو الراجح إذ لادليل على انتقاض العقد بماذكروه مع إبرامه وثبوته.
    وما ذكروه فإن مثله في الغالب يقع من اعتداء على الأعراض أو على النفوس في المجتمعات الكبيرة.
    وإذا سب الذمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا فإنه يقتل من غير استتابة كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الصارم المسلول وهكذا إن قتل نفسا أو زنا فإنه يقام عليه الحدّ فالأصل هو بقاء عقد الذمة فلا ينتقض إلا بدليل.

    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [انتقض عهده دون نسائه وأولاده] .
    أي عهده هو دون نسائه وأولاده وذلك لأنه لم يحصل منهم ما يوجب النقض وحصوله من عائلهم لا يوجب النقض منهم [لا تزر وازرة وزر أخرى] فلا يكونون حربيين لكون من يقوم بشأنهم قد ينقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين بل يعطي لهم ذمة الله ورسوله.
    (12/73)
    ________________________________________
    * قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى: [وحلّ دمه وماله] .
    (حل دمه) : أي أصبح في حكم الحربيين، لأن حفظ دمه إنما كان للعهد الذي بينه وبين المسلمين وحيث إنه نقض العهد فقد أصبح دمه حلالا لا حرمة له.
    وحينئذٍ فالإمام مخير فيه بين أربعة خصال. القتل والفداء والمنّ والاسترقاق.
    فللإمام الخيار بين هذه الخصال لأنه أصبح كالأسير الحربي.

    (وماله) : أيضا ماله يكون حلالا لأن الحربي ماله حلال وهو حربي.
    فإن قيل: فلم لا يكون لنسائه وأولاده؟
    الجواب: أنه إنما يكون لنسائه وأولاده بسببه، وهنا لم يقع سببه، وسببه هو الموت، فإذا مات انتقل إلى نسائه وأولاده إرثا وهنا لم يمت، هو مال له، فحينئذٍ يتبعه في عدم الحرمة فيكون فيئا لبيت المال. لأنه تبع له ولا ينقل لهم إلا بطريق شرعي من إرث أو غيره وهنا الطريق لم يثبت فبقي المال فيئا.

    استدراكات: ولم يتكلم المؤلف في كتاب الجهاد عن مسألة الأمان والهدنة.
    وسنتكلم عليهما إن شاء الله تعالى تباعا.

    الأمَان
    لغة: من الأمن وهو ضد الخوف، والمستأمَن أو المستأمِن: هو من رفض استباحة دمه وماله ورقه ودخل ديار الإسلام.
    ومن أحب من المشركين أن يسمع كلام الله في البلاد الإسلامية ويتعلم الإسلام فإنه يجب أن يؤمّن. قال تعالى: [وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه] إذا سمع كلام الله فإنه يبلغ مأمنه فيحفظ في طريقه حتى يصل إلى الموضع الذي يؤمن به من المسلمين.

    * وعقد الأمان يصح من كل مسلم مكلف ذكر كان أو أنثى حرا كان أو عبدا بشرط أن يكون مختار أي غيرمكره وبشرط عدم الضرر. هذا هو الأمان الخاص.
    * نوعا الأمان:
    فإن الأمان نوعان خاص وعام.
    فالأمان الخاص: هو أن يؤَمَّن رجل أو طائفة من الناس.
    وأما الأمان العام: فهو ما يقع لحماية الكثرة من الكفار، كأن يقع لبلدة كبيرة أو نحو ذلك.
    (12/74)
    ________________________________________
    فالأمان العام لا يكون إلا من الإمام لأن مثل هذه الأمور أمور عامة فتوكل بالإمام فهو الناظر فيها والاعتداء عليه في عقدها افتيات عليه.
    والأمان الخاص يشترط عدم الضرر على المسلمين ودليل ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمّة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم { (1)
    وما ثبت عن عائشة كما في سنن أبي داود: (إن كانت المرأة لتأخذ على الناس) (2) أي لتأخذ الأمان على الناس.
    ـ وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأم هانيء:} قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء { (3) متفق عليه.
    فإذا أمّن مسلم كافرا فإنه لا يجوز الاعتداء عليه في دمه ولا ماله ... .
    واختلف في المميز العاقل على قولين هما قولان في مذهب الإمام أحمد.
    القول الأول: وهو مذهب مالك.
    أن المميز يصح أمانه لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:} ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم {.
    القول الثاني:وهو مذهب الجمهور.
    أن الصبي لايقع منه أمان. وذلك لضعف يصرفه. ولذا فإن الصبي لايصح تصرفه في ماله فكيف يصح تصرفه في شأن من شؤون المسلمين.
    وهذا هو الراجح.لأن الصبي ضعيف التصرف ولذا يكون عليه الولي في ماله فهنا كذلك لايصح أمانه.
    ـ وإن اعتدى فقتل معاهَدا أو مستأمنا فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق عليها تعزيرا بالغا.
    فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:} من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل { (4) من أخفر أي نقض عهده
    __________
    (1) ـ متفق عليه من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ (فتح: 2943،6258، 6756. م: 2433، 2774) .
    (2) ـ (د: 2383) ك: الجهاد. ب: في أمان المرأة. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ إِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيَجُوزُ.
    (3) ـ (فتح: 344، 2935، 5692. م: 1179) .
    (4) ـ (فتح: 2943، ك: الجزية. ب:إثم من عاهد ثم غدر)
    (12/75)
    ________________________________________
    وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:} مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا { (1)
    الهدنة
    هي عقد يقيمه الإمام أو نائبه مع الحربيين مدة محدودة من الزمن بعوض أو بغير عوض وفيها مسائل:
    * المسألة الأولى: الدُّور دارن
    أن الدور داران؛ دار إسلام ودار كفر.
    فدار الإسلام: هي التي يُحكم فيها بالإسلام.وإن كان أكثر أهلها يهودا أو نصارى.
    وأما دار الكفر: فهي الدار التي لايحكم فيها بشرع الله وإن كان أكثر أهلها مسلمين.
    ودار الكفر قسمان:
    الأولى: دار حرب: وهي التي ليس بين المسلمين وبينها عقد ولا ذمة.
    الثانية: دار عهد: وهي التي بينها وبين المسلمين عهد.
    هكذا قسم الفقهاء الدور.
    فإذا عقد الإمام مع دار الحرب عقدا لمدة زمنية محدودة سواء بعوض أم بغير عوض فهذه هي الهدنة.

    * المسألة الثانية: هل تجوز الهدنة مع الكفار بعوض؟
    لا إشكال أنه يجوز أن يكون العوض من الكفار فإنه من جنس الجزية.
    لكن: هل يجوز أن يكون العوض من المسلمين؟
    القول الأول:
    وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي: أن ذلك لا يجوز.
    وهذا ظاهر؛ فإن فيه ذلة وصغارا. وهو من جنس الجزية ولا يجوز للمسلمين أن يرضوا بالصغار والذلة وقد أظهرهم الله.
    ويستثنى من ذلك ـ كما قرره الموفق وغيره ـ إذا اضُطر المسلمون إلى ذلك فإن الضرورات تبيح المحرمات.
    فإذا خشي المسلمون على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وبلادهم وكان للكفار سطوة وقوة والمسلمون على ضعف فيجوز إقامة الهدنة بعوض من المسلمين من باب الوقوع في المفسدة الصغرى دفعا للمفسدة الكبرى.
    * المسألة الثالثة: في مدة الهدنة
    __________
    (1) ـ (فتح: 2930، ك: الجزية. ب: إثم من قاتل معاهدا بغير جزم)
    (12/76)
    ________________________________________
    ثبت في السنة ـ كما في سنن أبي داود ـ والحديث حسن وفيه عنعنة محمد بن إسحاق ـ لكن صرح بالتحديث في سنن البيهقي من حديث المسور بن مخرمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صالح قريشا عشر سنين يأمن فيها الناس.
    واختلف أهل العلم: هل يجوز الزيادة على عشر سنين؟ على ثلاثة قوال:
    القول الأول: وهو قول الشافعية والحنابلة.
    أنه لايجوز ذلك.
    لأن الله أمرنا بقتالهم قال تعالى: [وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة]
    وغيرها من الآيات الدالة على وجوب قتالهم. والهدنة تنافي القتال فلا يجوز فيها إلا ما وردت به السنة وهو عشر سنين.
    القول الثاني:وهو قول الأحناف.
    وهو جواز الزيادة على عشر سنين. وذلك إن ثبتت المصلحة في ذلك.
    قالوا: لأن وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها عشر سنوات هذا لامعنى له إلا أن في العشر مصلحة حينئذ وإلا فإن هذا العدد لا أثر له.
    وهذا هو الأظهر. وأن إقامة الهدنة مع الكفار أكثر من عشر سنوات جائز وذلك إذا ثبتت المصلحة في ذلك.
    القول الثالث:
    واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ جواز الهدنة مطلقا لكن بشرط أن تكون الهدنة يجوز نقضها وإن كان ذلك ولا بد مسبوقا بإعلام.
    وهذا قوي وذلك لأن العقد والهدنة لازمة، فليس للكفار أن ينقضوا وليس للمسلمين أن ينقضوا. أمّا والعقد جائز فإن هذا لامفسدة فيه فمتى رأى المسلمون من أنفسهم القوة على قتال الكفار فحينئذٍ ينقضون ما بينهم وبين الكفار ويعلنون هذا للكفار لاحرج في مثل هذا العقد.
    (12/77)
    ________________________________________
    فإن رأى الإمام من الكفار أمارات النقض وظهر منهم ما يدل عليه فإن الإمام ينقض عهدهم قال تعالى: [فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] ولكن عليه أن يعلن ذلك وأن يظهره فلا يقاتلهم على حين غرة منهم. قال تعالى: [فإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء] أي انبذ إليهم عهدهم والعقد الذي بينك وبينهم على سواء أي على وضوح وظهور فلا تكن في ذلك خفيا.
    وهو إذا قاتلهم على غير ذلك فإن ذلك في الظاهر خيانة ولا ينبغي للمسلم أن يتصف به إذ الله عزوجل لا يحب الخائنين.
    * فرع: في مدة الأمان
    اختلف العلماء هل يجوز أن يكون عقد الأمان مطلقا، أم لا بد أن يكون مقيدا؟
    الجواب:
    فمنهم من قال: يجوز أن يكون مطلقا.
    ومنهم من منع من ذلك. وقال: غايته سنة. فإذا مضت السنة فإنه يُلزم بالجزية وذلك لأن الله عزوجل أمر بقتالهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا بد وأن يقاتل إلا أن يعطى الجزية وهذا أظهر وأن الأمان لا يكون مطلقا بل يكون عدة يسيرة تقتضيها المصلحة العامة.

    * مسألة: في الهدنة:
    إذا كان في الهدنة شرط يخالف كتاب الله أو يخالف مقتضى العقد فإن الهدنة لا تصح.
    مثال ما يخالف كتاب الله: لو اشترط الكفار أن ترد إليهم النساء المهاجرات قال تعالى:
    [لاهنّ حل لهم ولاهم يحلّون لهم] .
    وإرجاعهنّ إليهنّ ذريعة إلى الوقوع بهن ….
    * ومثال ما خالف مقتضى العقد: أن يشترط أحدهما النقض له , أو يكون لهما كليهما النقض.ومن هنا فإن ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ نوع آخر من الأمان وهو في معنى الهدنة.فلك أن تقول:
    الهدنة نوعان: لازمة، وجائزة.
    والذي يحكم به أنها لازمة أو جائزة مايقع في العقد بين الكفار والمسلمين.
    (12/78)
    ________________________________________
    كتاب البيع

    البيع لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وأما اصطلاحا فقد عرفه المؤلف وسيأتي.
    وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على جوازه، أما الكتاب فقد قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} وأما السنة فالأدلة متواترة على جواز البيع، وقد عقد الأئمة في مؤلفاتهم في الكتب الستة أبوابا في البيع، وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على جوازه، والمصلحة تقتضي ذلك، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض، ولو لم يشرع البيع لوقع الناس في حرج عظيم، ولسلك الناس الطرق المحرمة للحصول على ما في أيدي الناس من الأموال، فكان جوازه دفعا للحرج.

    قوله [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة كممر في دار بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض]
    قوله (مبادلة) المبادلة هي إعطاء شيء في مقابلة شيء آخر، فهذا يعطي الآخر المال، وذلك يعطيه السلعة.
    قوله (ولو في الذمة) سواء كان المال معينا أو في الذمة، والمال المعين: هو المال المشار إليه، كأن يقول: بعتك هذا الثوب، فهذه سلعة معينة، أما لو قال: بعتك ثوبا صفته كذا، فهذا بيع في الذمة، وليس المراد النسيئة، فإن النسيئة فيها معنى التأجيل، ولكن المراد: أن السلعة التي وقع عليها البيع ليست معينة بل موصوفة، ومثل ذلك الثمن، فإذا قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدنانير، فالدنانير التي هي عن الثوب معينة، أما إذا قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دنانير، والدنانير غير معينة، فهي في الذمة، فالمال سواء أكان معينا أم في الذمة فإن التعاقد عليه يقع في البيع.
    (13/1)
    ________________________________________
    قوله (أو منفعة مباحة كممر في دار) فالمنفعة المباحة يقع عليها البيع، مثاله: ما ذكره المؤلف وهو أن يبيع ممرا، فلو أن رجلا بين داره وبين الشارع أرض لرجل آخر، فاشترى منه المرور ليتمكن من الوصول إلى الشارع، فهنا قد اشترى منه المرور، فهو لا يملك الأرض قرارها وهواءها، لكن هو يشتري المرور على هذه الأرض، فلم يقع التبايع على شيء لا مال معين ولا مال في الذمة، وإنما وقع على منفعة مباحة، ومثال آخر: أن يحتاج إلى أن يحفر بئرا في أرض عند داره، فيشتري من جاره هذه المنفعة، فيقول: احفر في أرضك بئرا بكذا وكذا من المال، فلا يكون من باب الإجارة، بل يكون البئر ملك له دائم، ولصاحب الأرض أن يبني فوقه لأنه يملك الهواء، وهذا إنما ملك هذا الحفر الذي حفره وانتفع به، وأما أصل الأرض وهواؤها فإنه لا يملكه، فهذا نوع ثالث، فالنوع الأول: مال معين، والنوع الثاني: مال في الذمة، والنوع الثالث: منفعة مباحة، وحينئذ تكون الصور تسعا، أي ثلاثة في ثلاثة وهي:
    1- مال معين بمال معين.
    2- مال معين بمال في الذمة.
    3- مال معين بمنفعة مباحة.
    4- مال في الذمة بمال معين.
    5- مال في الذمة بمال في الذمة.
    6- مال في الذمة بمنفعة مباحة.
    7- منفعة مباحة بمال معين.
    8- منفعة مباحة بمال في الذمة.
    9- منفعة مباحة بمنفعة مباحة.
    وقد قيد المؤلف المنفعة بكونها مباحة، فدل على أن المنفعة المحرمة لا تجوز، فلو اشترى منه الممر ليكون له حانة خمر، أو دار زنا أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يجوز، لما سيأتي في شروط البيع، وأن الذي يقع عليه العقد لا بد أن يكون مباحا.
    قوله (بمثل أحدهما) كما تقدم فتكون الصور تسعا.
    (13/2)
    ________________________________________
    قوله (على التأبيد) احتراز من الإجارة، فإن الإجارة ليست على التأبيد، فإذا تعاقدا على منفعة أرض سنة أو سنتين أو نحو ذلك فهذا ليس بيعا، بل هو إجارة، فقيده بقوله (على التأبيد) ليكون كل منهما قد ملك ما أخذه ملكية تامة مؤبدة.
    قوله (غير ربا أو قرض) فالربا ليس بيعا، ولذا قال تعالى {وأحل الله البيع وحرم الربا} ففرق بينهما، فدل على أن الربا ليس بيعا.
    وقوله (قرض) فالقرض حقيقته فيه المبادلة المتقدمة، فإنه مثلا يعطيه عشرة دنانير إلى سنة، فيعطيه الآخر مثلها، فهذا فيه مبادلة، لكنه لما كان بغير طريق المعاوضة لم يكن بيعا، فالبيع فيه معاوضة، وأما القرض فإن فيه إرفاقا ورحمة، وليس بمعاوضة، وعلى هذا فالقرض ليس بيعا، وإن وقعت فيه المعاوضة المذكورة.

    قوله [وينعقد بإيجاب وقبول بعده وقبله]
    ينعقد البيع بإيجاب وقبول بعده، أي القبول بعد الإيجاب، والإيجاب هو قول البائع الدال على الرضا بالبيع، كقوله: بعتك، وأما القبول فهو قول المشتري الدال على الرضا بالبيع، كقوله: قبلت.
    وقوله (بعده) فيه أنه يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب، فيقول البائع للمشتري بعتك هذا الثوب بدرهم، ثم يقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول.
    (13/3)
    ________________________________________
    قوله (وقبله) وهذا فيه إطلاق، وتقييده أن يقال أمرا أو ماض مجرد عن الاستفهام أو نحوه، فمثال الأمر أن يقول المشتري: بعني هذا الثوب بدرهم، فيقول البائع: قبلت، فكل لفظ منهما دل على الرضا، ومثال الماضي: أن يقول المشتري: اشتريت هذا الثوب منك بدرهم، فيقول البائع: قبلت، أما إذا كان الفعل ماضيا سبق باستفهام أو نحوه كالتمني فإنه لا يدل على الرضا، كأن يقول المشتري: أتبيعني هذا الثوب بكذا، فيقول: نعم أو بعتك، فقول المشتري أتبيعني هذا الثوب لا يدل على رضاه إذ ليس جازما بالبيع، فقد يخبر بالقبول ولا يرضى، إنما هو مستفهم، ومثل ذلك لو تمنى فقال: ليتك تبيعني هذا الثوب بكذا.

    قوله [متراخيا عنه]
    ينعقد متراخيا عنه، فإذا تراخى القبول عن الإيجاب فلا بأس، فإذا قال رجل: بعتك هذا الثوب بدرهم، فسكت المشتري ثم قال: قبلت: فإذا ذلك يصح لعدم ما ينافي الرضا المشروط، فإن الألفاظ وضعت للدلالة على الرضا، فإذا قلت: قبلت، فإن الرضا ثابت من الطرفين، ولو كان ذلك على سبيل التراخي، لكن قيده بقوله:

    قوله [في مجلسه]
    فلو تفرقا عن المجلس فلا، وذلك لأن تفرقهما عن المجلس من غير أن يتم البيع دليل على عدم الرضا، ودليل على الإعراض عنه، فإذا تفرقا ولم يقع القبول فلا بيع، ومثل ذلك:

    قوله [فإن تشاغلا بما يقطعه بطل]
    فإذا تشاغلا بما يقطع القبول عرفا بطل البيع، كأن يقول بعتك، ثم يتحدثا في أمر خارج عن البيع، ثم قال: قبلت، فلا، وذلك لوجود القاطع، والرجوع في ذلك إلى العرف، فما كان قاطعا في العرف فإن القبول يبطل، ونحتاج إلى استئناف الإيجاب والقبول مرة أخرى.
    (13/4)
    ________________________________________
    ويشترط أيضا موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم، فقال: قبلته بخمسة، أو قال: بعتك هذا الثوب إلى شهرين بمائتي درهم، فقال: قبلت إلى شهر بمائة، فهذا لا يصح، وذلك لعدم موافقة الإيجاب للقبول، فإن الرضا بذلك لم يثبت.

    قوله [وهي الصيغة القولية]
    صيغة الإيجاب والقبول هي الصيغة القولية، ولا يشترط لفظ خاص، بأن يشترط أن يكون اللفظ: بعتك أو قبلت، بل كل لفظ دل على البيع بأي لغة كانت فإن الإيجاب والقبول يتمان به، فلو قال: بعتك أو أعطيتك أو خذ هذه السلعة بكذا، وقال المشتري رضيت أو اشتريت أو تم أو قبلت أو نحو ذلك فكل ذلك مما ينعقد به البيع، وذلك لأن الشارع لم يحدد لفظا معينا، فكان المرجع إلى العرف.

    قوله [وبمعاطاة وهي الفعلية]
    (13/5)
    ________________________________________