" ذهول ورهبة "
أميلي نوتومب
ترجمة ثناء حسين عباس
مراجعة د. نوفل نيوف
الرواية
هذه الرواية "ذهول ورهبة" هي نقد ساخر للمجتمع الياباني عامة ولعلاقات العمل في شركة يابانية خاصة، تشد الكاتبة من خلاله القارئ حتى آخر كلمة في الكتاب. ففي بداية عام 1990 تعيّن الراوية في شركة يوميموتو، إحدى أكبر الشركات اليابانية. وتكتشف شيئاً فشيئاً السلطة الصارمة القاسية لنظام عمل الشركات هناك. وفي الوقت نفسه تكتشف الأعراف التي تحكم ذلك البلد الشرقي والتي تبدو غريبة عجيبة لمن لا يعيش فيه.
نتيجة خطأ ثم بسبب تصرف أخرق وبعد فشل بمهمة، يبدأ كابوس سقوط الراوية المهني درجة درجة في هذه الشركة حتى تبلغ الإهانة أوجها في تسلّمها، رغم مؤهلاتها العالية، وظيفة منظفة مراحيض. لهاث عبثي نحو الهاوية، كما يحدث في الحياة، تصوره أميلي نوتومب بحسها الساخر المرح الذي يتجلى في كل سطر.
وبين المرح والقلق، حاز هذا العمل الساخر، ذو الأصداء الكافكاوية، الذي يستهدف نقد استبداد الشركات الكبرى، على نجاح منقطع النظير. كما أهّل الكاتبة للحصول عام 1999 على "الجائزة الكبرى للرواية"، التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، أعلى مؤسسة أدبية في فرنسا. وتم إخراج فيلم مقتبس عن هذا الكتاب نظراً لنجاحه الجماهيري الواسع.
الروائية
"المتعة معجزةٌ تُعلّمني أنّي ذاتي"
(أميلي نوتومب، كاتبة بلجيكية)
ولدت أميلي نوتومب في 13 آب سنة 1967 في مدينة كوب في اليابان، وتأثرت بعمق بالثقافة اليابانية. تتحدر من عائلة عريقة في مدينة بروكسل. كان والدها سفير بلجيكا في روما، وحملتها تنقلاته إلى الصين ونيويورك وجنوب شرق آسيا، مخلفة في نفسها شعوراً لا يمحى بالوحدة. تعود إلى بلجيكا في السابعة عشرة من عمرها، وتتابع تحصيلها في دراسة اللغات اليونانية الللاتينية. في عام 1992 حازت روايتها الأولى "نظافة قاتل" على نجاح كبير.
ما تلبث أن تشتاق أميلي إلى بلد مولدها، اليابان، وتعود إليه لتسطّر تجربة فريدة في روايتها "ذهول وارتجاف" التي تُوِّجت عام 1999 بالجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية. اقتبس منها فيلم عام 2003 كما حدث لروايتها الأولى. ومنذئذ تواصل أميلي نوتومب اصدار رواية في كل عام تلقى كل منها نجاحاً باهراً منها: "ما قبل كريستا" عام 2003، و"السيرة الذاتية للجوع" عام 2004، و"حامض كبريتي" عام 2005، "مذكرات سنونو" عام 2006، وأخيراً "لا من حواء ولا من آدم" 2007.
تتصف مواضيعها، كما يتضح من عناوين كتبها، بالتجديد والخيال، وكلماتها بالحساسية والعمق والصدق، وأسلوبها بالأناقة والمرح. ولعل أكثر ما اشتهرت به هذه الكاتبة هو انتقاؤها لكلمات وصور نادرة ومبتكرة، تعكس غنى في اللغة وسعة في الثقافة وجرأة بالطرح.
تُعد أميلي نوتومب من أكثر الكتاب الأوروبييين شهرة وأعمالها من أكثر الكتب قراءة ونجاحاً منذ عقد ونيف. يترقب القراء والنقاد جديدها كل عام كحدث بارز على الساحة الأدبية.
كان السيد هانيدا رئيس السيد أوموشي، والسيد أموشي رئيس السيد سايتو، والسيد سايتو رئيس الآنسة موري رئيستي، ولم أكن أنا رئيسة أحد. نستطيع قول ذلك بطريقة أخرى. كنت تحت إمرة الآنسة موري، والآنسة موري تحت إمرة السيد سايتو، وهكذا دواليك، مع الملاحظة أن الاوامر الآتية من الأعلى إلى الاسفل تستطيع القفز فوق التسلسل المراتبي. وبالتالي كنت في شركة يوميموتو تحت إمرة الجميع.
في الثامن من كانون الثاني لفظني المصعد في الطابق الآخير من المبنى العائد ليوميموتو وشدتني النافذة في طرف البهو كما يجذب المرء هواء كوة مكسورة في طائرة. في البعيد البعيد بانت المدينة ولبعدها شككت أني وطئتها يوماً. لم يخطر ببالي حتى وجوب تقديم نفسي لموظفة الاستقبال. وفي الحقيقة أنه لم يكن في رأسي ولا فكرة واحدة. لا شيء سوى افتتاني الشديد بالهاوية عبر الواجهة الزجاجية.
وأخيراً لفظ صوت أجش خلفي باسمي، التفت. كان رجل في الخمسينات من العمر قصيراً ونحيلاً وبشعاً ينظر إلي بحنق:
_ لماذا لم تخبري موظفة الاستقبال بوصولك؟ سألني.
لم أحر جواباً فلم أجب. نكست رأسي وكتفي ولاحظت أنني خلال عشر دقائق وبدون التلفظ بكلمة واحدة كنت قد تركت انطباعاً سيئاً في يوم دخولي إلى شركة يوميموتو. قال لي الرجل إنه يدعى السيد سايتو وقادني عبر حجرات كبيرة لا تحصى، وقدمني إلى حشود من الناس كنت أنسى أسماءهم بمجرد انتهائه من النطق بها.
أدخلني بعد ذلك إلى مكتب يستقرّ فيه رئيسه السيد أموشي الذي كان ضخماً مرعباً، مما يؤكد أنه نائب المدير.
ثم أشار إلى باب معلناً بنبرة احتفالية أن خلفه يتربع السيد الرئيس هانيدا، ومن البديهي أنه لم يكن يتوجب علي التفكير بلقائه.
وأخيراً قادني إلى غرفة شاسعة كان يعمل فيها حوالي أربعون شخصاً. وأشار لي إلى مكاني قبالة رئيستي المباشرة تماماً، الآنسة موري. كانت تحضر اجتماعاً الآن وستقابلني بعد الظهر.
قدمني السيد سايتو باقتضاب للمحفل. ثم سألني إن كنت أحب التحديات. كان من الواضح أني لا أملك حق الإجابة بالنفي.
_ نعم، قلت.
كانت تلك الكلمة الأولى التي أنطق بها في الشركة فقد اكتفيت حتى الآن بالإيماء.
" التحدي" الذي اقترحه علي السيد سايتو يكمن في قبول دعوة شخص يدعى آدم جونسون إلى لعبة الغولف يوم الأحد القادم..! كان عليّ أن أكتب رسالة بالإنكليزية بهذا المعنى لذلك الشخص.
_ من هو آدم جونسون؟ سألت بحماقة.
تنهد مديري بعصبية ولم يجب. هل كان ياترى من غير المعقول عدم معرفة السيد جونسون؟ أم لعل سؤالي كان تطفلاً؟ لم أعرف الإجابة على هذه الأسئلة، ولم أعرف قط من هو آدم جونسون.
بدت لي المهمة سهلة. جلست وكتبت رسالة ودية: إن السيد سايتو يسعد بفكرة اللعب بالغولف يوم الاحد القادم مع السيد جونسون ويبعث له بتحياته. حملتها لرئيسي.
قرأ السيد سايتو عملي ثم أطلق صيحة ازدراء خفيفة ومزقها قائلاً:
_ أعيديها!
ظننت أني كتبت الرسالة بود زائد أو بتباسط مع السيد جونسون، فكتبت كلاماً بارداً جافاً: إن السيد سايتو قد أخذ علماً بقرار السيد جونسون وبناء على رغبته هو الشخصية سيلعب الغولف معه. قرأ مديري ماكتبت ثم أطلق صيحة الازدراء ذاتها ومزق الرسالة قائلاً:
_ أعيدي كتابتها!
كنت أود سؤاله أين أخطأت، ولكن من الواضح أن رئيسي لا يحتمل الأسئلة كما أكدت لي ردة فعله السابقة عند استفهامي عن السيد جونسون. كان عليّ إذاً أن أجد بنفسي بأية لغة يجب أن أخاطب السيد جونسون الغامض.
وأمضيت الساعات التالية وأنا أسطّر الرسالة تلو الأخرى للاعب الغولف ذاك. كان السيد سايتو يتلقى ثمرة جهدي بالتمزيق ودون تعليق سوى تلك الصرخة التي لا شك أنها لازمة أغنية. وفي كل مرة كان علي اختراع صيغة جديدة.
كان في هذا التمرين شبه ما من جملة " ماركيزتي الجميلة، عيونك الجميلة تجعلني أموت حبا" 1 التي لا تخلو من الطرافة. فأخذت أجرب كل الاحتمالات النحوية محدثة نفسي: " ماذا إذا أصبح (آدم جونسون) فعلاً منصوباً و(يوم الاحد القادم) فاعلاً و(يلعب الغولف) مفعولاً به، أي: "يقبل الأحد القادم بالقدوم بسرور ليجنس لعبة الغولف بطريقة سايتوية". وليذهب أرسطو إلى الجحيم.
كنت بدأت الاستمتاع بذلك عندما قاطعني رئيسي. مزّق الرسالة حتى دون قراءتها وقال لي إن الآنسة موري وصلت.
_ ستعملين معها بعد الظهر وبانتظار ذلك اذهبي وائتني بفنجان من القهوة.
كانت الساعة الثانية بعد الظهر وكانت تشكيلاتي الخطابية قد تملكتني تماماً فلم أفكر أثناءها بأخذ أدنى قسط من الراحة. وضعت فنجان القهوة على مكتب السيد سايتو وقفلت راجعة، فإذا بفتاة شاهقة الطول كالرمح تتجه نحوي.
عندما أتذكر فوبوكي مازلت أرى رمحاً يابانياً أطول من قامة رجل لذلك سَميت الشركة "يومي موتو" ومعناها "أشياء الرمح" وعندما أرى رمحاً أتذكر كذلك فوبوكي الأطول من قامة رجل.
_ آنسة موري؟
_ ناديني فوبوكي.
لم أعد أصغي لما كانت تقوله لي. كان طول الآنسة موري يبلغ متراً وثمانين سنتيمتراً على الأقل وهو طول لا يبلغه إلا القليل من الرجال اليابانيين. كانت هيفاء ورشيقة بشكل مذهل، رغم تصلب ياباني كان عليها مراعاته، ولكن أكثر ما أدهشني تألق وجهها.
كانت تكلمني وكنت أستمع إلى نغمة صوتها الرقيقة والمفعمة بالذكاء. كانت تريني ملفات وتشرح لي ما فيها. وتبتسم. لم أنتبه أنني لم أكن أنصت إليها. دعتني بعد ذلك إلى قراءة الوثائق التي وضعتها على مكتبي الذي يقابل مكتبها، ثم جلسَت وبدأت بالعمل. وبطاعة تامة قلبت الأوراق التي طلبت مني تأملها. كانت تحتوي على تعليمات وتعدادات.
على بعد مترين أمامي، كان مشهد وجهها آسراً، رموشها المسدلة على أرقامها كانت تمنعها من رؤيتي وأنا أتفرس فيها. كان لها أجمل أنف في العالم، ذلك الأنف الياباني، الأنف الذي لا شبيه له بتاتاً، ذو الفتحات الصغيرة والتي يمكن التعرف عليها بين آلاف الانوف... ليس لليابانيين كلهم أنف كهذا ولكن إن كان لأحد مثل هذا الأنف لا يمكن إلا أن يكون من أصل ياباني... لو كان لكليوباترة مثل هذا الأنف لأصاب جغرافية الأرض تغيير مهم.
عند المساء فكرت أنه من السخف التفكير بأن أياً من الكفاءات التي وظفت من أجلها في الشركة لم تُفدني. ففي النهاية ماأردته هو العمل في شركة يابانية وها أنا ذي في إحداها...
كنت أشعر أني أمضي نهاراً رائعاً والأيام التالية عززت هذا الإحساس. كنت مازلت لا أفهم الدور الموكل إلي في هذه الشركة ولم أكن أهتم لذلك. كان يبدو أن السيد سايتو يجدني مروّعة، ولم أكن أكترث بذلك أيضاً. كنت سعيدة بزميلتي، وصداقتها تبدو لي سبباً أكثر من كاف لأمضي عشر ساعات في اليوم بين جدران شركة يوميموتو.
بشرتها البيضاء والملوّحة بآن معاً، هي تلك التي يتحدث عنها الكاتب " تانيزاكي" 2. كانت فوبوكي تجسد الجمال الياباني لدرجة الكمال إذا استثنينا قامتها المدهشة. كان وجهها شبه قرنفلة اليابان القديمة، رمز الفتاة النبيلة في الزمن القديم، وكون ذلك الوجه يكلل تلك الهامة الفارهة إنما يؤهله للسيطرة على العالم.
كانت يوميموتو من أكبر شركات العالم وكان السيد هانيدا يدير قسم الاستيراد والتصدير الذي يشتري ويبيع كل شيء على وجه الأرض. كان فهرس الاستيراد والتصدير في شركة يوميموتو صورة مكبرة جداً عن فهرس " بريفير" 3: فمن جبنة الإمانتال الفنلندية إلى الصودا السنغافورية مروراً بألياف العدسات البصرية الكندية والعجلات الفرنسية والقنب التوغولي... لاشيء كان يفوتها.
كان المال في يوميموتو يتجاوز حدود العقل الانساني. فبعد تراكم عدد معين من الأصفار كانت المبالغ تترك مجال الأرقام لتدخل مجال الفن التجريدي. كنت أتساءل إن كان يوجد في الشركة انسان قادر على الفرح بمليون ين، أو على الحزن لفقد مبلغ مماثل.
كان جميع موظفي يوميموتو كالأصفار لا قيمة لهم إلا وراء الأعداد الأخرى. كلهم، ماعداي أنا فلم تكن قيمتي تصل حتى لقيمة الصفر.
كانت الأيام تمضي وفائدتي في الشركة مازالت معدومة، ولم يكن ذلك يضايقني كثيراً، كنت أشعر وكأنهم نسوني ولم يكن ذلك مزعجاً. كنت أجلس وراء مكتبي أقرأ وأقرأ الوثائق التي أعطتنيها فوبوكي. كانت شديدة التفاهة باستثناء لائحة منها، تحصي أفراد شركة يوميموتو، مسجلة فيها أسماؤهم وتواريخ وأماكن ولادتهم واسم الزوج عند وجوده واسماء الأولاد مع تاريخ ولادة كل منهم. لم تكن هذه المعلومات رائعة بحد ذاتها. ولكن عند الجوع الشديد تصبح كسرة الخبز شهية جداً. ففي حالة البطالة والفراغ التي يعيشها دماغي بدت لي تلك اللائحة مثيرة كمجلة تنشر الفضائح. في الواقع... كانت تلك الورقة الوحيدة التي فهمتها.
ولكي أظهر بمظهر من يعمل بجد قررت أن أحفظها عن ظهر قلب، كان فيها حوالي المئة اسم، أغلبهم متزوج وأب أو أم في اسرة مما يزيد مهمتي صعوبة.
كنت أدرس بجد: كان وجهي تارة منكباً على دراستي وتارة مرفوعاً أردد ماتعلمته في صندوقي الأسود.. وعندما كنت أرفع رأسي كان نظري يقع على وجه فوبوكي الجالسة قبالتي.
لم يعد السيد سايتو يطلب مني كتابة رسائل لآدم جونسون ولا لأي أحد آخر، بل لم يعد يطلب مني إلا احضار فناجين القهوة.
كان شيئاً عادياً تماماً عندما تبدأ العمل في شركة يابانية أن تبدأ بوظيفة الأوشاكومي "منصب شاي الشرف". كنت أقوم بذلك الدور بجدية تامة فهو العمل الوحيد الذي أوكل إلي. وحفظت بسرعة عادات الجميع: فالسيد سايتو يتناول في الساعة الثامنة قهوة، والسيد اوناجي يأخذ قهوة بالحليب مع ملعقتين من السكر في الساعة العاشرة، والسيد ميزونو كوباً بلاستيكياً من الكوكا كل ساعة، والسيد اوكادا يأخذ في الساعة الخامسة شاياً انكليزياً مع القليل من الحليب. أما فوبوكي فكانت تأخذ شاياً أخضر في التاسعة وقهوة في الحادية عشرة وشاياً أخضر في الثالثة بعد الظهر وفنجاناً أخير من القهوة في السابعة، وكانت في كل مرة تشكرني بتهذيب ساحر.
بعد مدة اتضح أن هذا العمل كان العامل الأول في ضياعي.
في صباح أحد الأيام أخبرني السيد سايتو أن نائب المدير سيستقبل في مكتبه وفداً هاماً من شركة صديقة:
_ أريد قهوة لعشرين شخصاً.
دخلت مكتب السيد اوموشي حاملة صينية كبيرة وأديت مهمتي على أكمل وجه بل وأكثر من الكمال: قدمت كل فنجان بتهذيب بالغ مرتلة أرق وأرفع عبارات المجاملة ذوقاً، وأنا أغض نظري وأحني هامتي. لو كان هناك جائزة استحقاق لافضل شاي تشريف لوجب أن تمنح إلي.
وبعد عدة ساعات غادر الوفد وسُمع صوت كالرعد صادر عن السيد أوموشي البدين يصرخ:
_ سايتو - سَنْ 4!
ورأيت السيد سايتو يهب واقفاً بوجه شاحب ويركض باتجاه عرين نائب الرئيس. كان صراخ البدين يدوي خلف الحائط. لم نكن نفهم ما يقول ولكنه لم كن يبدو لطيفاً.
وعاد السيد سايتو بوجه مكفهر وأحسست نحوه بشفقة ساذجة وأنا أتخيل أنه لا يزن أكثر من ثلث وزن غريمه. وهنا ناداني بصوت حانق. تبعته إلى مكتب فارغ وبدأ يكلمني بغضب يجعله يتأتئ:
_ لقد سببت ازعاجاً كبيراً لوفد الشركة الصديقة لأنك قدمت الشاي مستخدمة عبارات توحي بأنك تتكلمين اليابانية بشكل رائع.
_ ولكني فعلاً لا أتكلمها بشكل سيء يا سايتو - سَنْ.
_ اصمتي، بأي حق تدافعين عن نفسك؟ السيد اوموشي غاضب جداً منك، لقد خلقت جواً شنيعاً أثناء اجتماع هذا الصباح: إذ كيف يمكن لشركائنا أن يشعروا بالراحة والاطمئنان أمام فتاة أوروبية تفهم لغتهم؟ اعتباراً من الآن لن تتكلمي اليابانية.
ونظرت إليه مذهولة:
_ عفواً؟
_ أنت اعتباراً من الآن لم تعودي تتكلمين اليابانية، هل هذا واضح؟
_ ولكن حسب معلوماتي، فإن شركة يوميموتو وظفتني بسبب معرفتي للغتكم!
_ هذا لا يهمني، إني آمرك بعدم فهم اليابانية بعد الآن.
_ ولكن هذا مستحيل، لا أحد يستطيع تنفيذ أمر كهذا.
_ هناك دوماً سبيل للطاعة، هذا مايجب أن يفهمه الدماغ الغربي.
"هذا بيت القصيد إذاً". فكرت بهذا قبل أن أتابع:
_ ربما يكون الدماغ الياباني قادراً على إجبار نفسه على نسيان لغة ما، إلا أن الدماغ الأوروبي عاجز عن ذلك.
وبدت تلك الحجة الغريبة مقبولة للسيد سايتو. فقال:
_ حاولي ذلك، أو على الأقل تظاهري بذلك، لقد تلقيت تعليمات بشأنك هل هذا مفهوم؟
كانت لهجته حازمة وعدائية.
لا شك أن تعابير وجهي كانت توحي بالانزعاج عندما عدت إلى مكتبي لأن فوبوكي غمرتني بنظرة رقيقة قلقة. وبقيت منهكة طويلاً أتساءل كيف يمكنني أن أتصرف.
كان من المنطقي أن أقدم استقالتي ولكني لا أستطيع أن أتخذ هذا القرار. من وجهة نظر أوروبية لم يكن في هذا التصرف مايشين ولكن بالنسبة لياباني يعني ذلك إهانة كبيرة. بالكاد مضى على عملي في الشركة شهر ونصف ولكني وقعت عقداً لمدة سنة، فترك العمل بعد مدة قصيرة كهذه سيجلب لي العار أمامهم وأمام نفسي.
ثم أني لم أكن راغبة مطلقاً بالرحيل، فقد عملت جاهدة للوصول إلى هذه الشركة: تعلمت لغة طوكيو في إدارة الاعمال، واجتزت اختبارات عديدة. طبعاً لم أطمح يوماً أن أصبح عبقرية زماني في التجارة الدولية، غير أني كنت دوماً أرغب بالعيش في هذا البلد الذي أقدسه منذ أولى ذكريات طفولتي البريئة.
سأبقى.
كان علي إذاً أن أجد طريقة لتنفيذ أمر السيد سايتو. وقمت بسبر دماغي باحثة عن طبقة جيولوجية خاصة بالنسيان: هل ياترى هناك سراديب في قلعتي العصبية؟ للأسف كان هذا البناء يحوي نقاط قوة ونقاط ضعف ومراكز مراقبة وأخاديد وثقوباً وخنادق ولكن ليس هناك مايصلح لمواراة لغة كنت أسمعها باستمرار. وإذا لم أستطع نسيانها هل أقدر على إخفائها على الاقل؟ لو شبهنا اللغات بغابة هل كنت أقدر أن أخفي خلف أشجار الزان الفرنسية وأشجار الزيزفون الانكليزية وأشجار السنديان اللاتينية أمهات الأرز اليابانية الباسقة والتي يوافقها اسمها تماماً؟
إن لقب فوبوكي "موري" يعني " غابة "، ألهذا السبب ربما كنت أنظر إليها بحيرة؟ ولاحظت أنها مازالت تنظر إلي مستفهمة. ثم نهضت وأشارت لي أن أتبعها. في المطبخ تهالكتُ على كرسي.
_ ماذا قال لك؟ سألتني.
أفضيت لها بما في قلبي. كنت أتكلم بصوت متهدج على وشك البكاء، ولم أعد أستطيع كبح لساني عن التفوه بأشياء خطيرة:
_ إني أكره السيد سايتو إنه حقير وأحمق.
لاحت ابتسامة خفيفة على شفاه فوبوكي:
_ لا، أنت مخطئة.
_طبعاً، فأنت لطيفة لا ترين الشر، ألا تعتقدين أنه حتى يعطيني أمراً كهذا يجب أن يكون...
_ اهدئي، لم يكن أمره هو. لقد نقل لك أوامر السيد أوموشي، لم يكن أمامه خيار آخر.
_ في هذه الحال فإن السيد اوموشي هو الـ...
_ هو شخص ذو مزاج خاص. قالت تقاطعني. ماذا سنفعل؟ إنه نائب الرئيس، لا نستطيع أي شيء حيال ذلك.
_ يمكنني أن أحدث بشأنه الرئيس السيد هانيدا، أي نوع من الرجال هو؟
_ السيد هانيدا رجل رائع، إنه شديد الذكاء والطيبة، ولكن من غير الوارد أبداً أن تشتكي إليه.
كان الحق معها، وكنت أعرف ذلك، من غير الممكن تجاوز رئيس واحد فكيف هذا العدد من الرؤساء. لا أستطيع أن أخاطب إلا رئيسي المباشر وهو الآنسة موري.
_ أنت ملجئي الوحيد يا فوبوكي، أعرف أنك لا تستطيعين أن تفعلي الكثير من أجلي ولكني أشكرك فمجرد انسانيتك تثلج صدري.
ابتسمت فوبوكي.
وسألتها كيف يكتب اسمها فأرتني البطاقة التي تحمل اسمها ومنصبها في الشركة. فنظرت إلى الرموز اليابانية وهتفت:
_ عاصفة الثلج، فوبوكي يعني " عاصفة الثلج "، رائع أن يحمل المرء اسماً كهذا.
_ لقد ولدت أثناء عاصفة ثلجية، فرأى والديّ في ذلك إشارة ما.
واستعرضت في ذهني لائحة أسماء موظفي يوميموتو:" فوبوكي موري، مكان الولادة " نارا " تاريخ الولادة 18 كانون الثاني 1961..." إنها ابنة الشتاء. وتخيلت فجأة تلك العاصفة الثلجية فوق مدينة نارا الرائعة الجمال، فوق أجراسها التي لا تحصى. أليس من الطبيعي أن تولد تلك الشابة الفاتنة يوم تلاقي جمال السماء مع جمال الأرض؟
حدثتني عن طفولتها في مقاطعة كانسي، وحدثتها عن طفولتي التي بدأت في نفس المقاطعة، ليس بعيداً عن " نارا "، في قرية شوكوغاوا، قرب جبل كابوتو. وجعلتني ذكرى هذه الأماكن الأسطورية أشعر بتأثر كبير لدرجة الرغبة في البكاء.
_ إني في غاية السعادة أن نكون نحن الاثنتان من أطفال منطقة الكانساي، فهناك ينبض قلب اليابان العريق.
وهناك أيضاً كان ينبض قلبي منذ ذلك اليوم الذي تركت فيه وأنا بعمر الخامسة الجبال اليابانية إلى الصحراء الصينية. وقد أثر فيّ هذا المنفى حتى أني كنت على استعداد لتقبل أي شيء للعودة إلى هذا البلد الذي طالما اعتقدت أنه بلدي.
وعندما عدنا إلى مكتبينا المتقابلين لم أكن قد وجدت حلاً لمشكلتي، بل كنت أجهل أكثر من ذي قبل المكان الذي أحتله أو الذي سيخصص لي في شركة يوميموتو. ولكني أشعر بسكينة كبيرة لأني كنت زميلة فوبوكي موري.
كان علي إذاً أن أبدو مشغولة دون أن يبدو علي أني أفهم كلمة مما يقال حولي. واعتباراً من تلك اللحظة كنت أقدم فناجين القهوة والشاي بدون أية مجاملة وبدون الرد على شكر الموظفين المرموقين. لم يكن هؤلاء على علم بالتعليمات الجديدة التي أعطيت إلي، فكانوا يدهشون لرؤية الجيشا البيضاء الودودة تتحول إلى فتاة قليلة التهذيب كاليانكي 5.
لم تكن وظيفة الاوشاكومي ويا للأسف تتطلب مني الكثير من الوقت فقررت دون أن أطلب الإذن من أحد أن أوزع البريد. كان الأمر يتطلب أن أدفع عربة حديدية هائلة الحجم عبر المكاتب الضخمة العديدة وأعطي كلاً رسالته. كان هذا العمل يروقني جداً. فمن جهة تشكل قراءة العناوين والاسماء المكتوبة بالرموز اليابانية تمريناً لغوياً بالنسبة لي _ فعندما يكون السيد سايتو بعيداً عني لم أكن أخفي أني أعرف اليابانية. ومن جهة أخرى اكتشفت أنّ حفظي لقائمة أسماء الموظفين لم يذهب هباءً فلم أكن قادرة على التعرف إلى كل الموظفين فحسب، بل كنت أستغل الفرصة لتهنئتهم بأعياد ميلادهم أو ميلاد زوجاتهم او أزواجهم أو أولادهم.
كنت أتقدم باسمة وأقوم بانحناءة مهذبة قائلة: " هذه رسالة لك سيد شيراناي، مع تمنياتي بعيد ميلاد سعيد لصغيرك أوشيرو الذي بلغ من العمر اليوم ثلاث سنوات. " وفي كل مرة كنت أستحق نظرة ذهول شديد.
وكان هذا العمل يتطلب وقتاً لأن علي الحركة في شركة يوميموتو بكاملها التي تمتد على طابقين. كنت آخذ المصعد دائماً مع عربتي الثقيلة التي كانت تعطيني مظهراً لطيفاً. كنت أحب أن آخذ المصعد فبالقرب من المكان الذي أنتظره فيه توجد نافذة واسعة. وكنت ألعب لعبة " الارتماء في الفراغ " فألصق جبهتي على الزجاج وأترك جسدي يهوي ذهنياً، وكانت المدينة شديدة البعد بحيث يتسنى لي قبل الوصول إلى الأرض أن أتأمل الكثير من الأشياء.
كنت قد وجدت طريقي في الحياة، وكان عقلي ينتعش بممارسة هذا العمل البسيط المفيد والانساني والذي يسمح بالتأمل. ووددت لو أقوم به مدى الحياة.
استدعاني السيد سايتو إلى مكتبه. وبخني توبيخاً كنت أستحقه لاقترافي جريمة المبادرة. كنت قد نصبت نفسي في وظيفة دون الرجوع إلى رؤسائي المباشرين. والأسوأ من ذلك أن الموظف الذي يقوم عادة بهذا العمل كان على وشك انهيار عصبي لأنه اعتقد أنه سيطرد من عمله.
_ إن سرقة عمل الآخرين هو تصرف مشين. قال لي السيد سايتو وكان معه الحق.
وأسفت لتوقفي عن عمل كان يعد بحياة مهنية مزدهرة. وعادت مشكلة عملي في الشركة تطرح نفسها.
ثم جاءتني فكرة بدت لسذاجتي لامعة. فخلال تجولاتي في الشركة لاحظت أن كل مكتب كان يحوي العديد من التقاويم التي لم تكن مضبوطة على التاريخ الصحيح فإما أنّ الإطار الأحمر المتحرك لا يحيط بالتاريخ الصحيح أو أن صفحة الشهر الماضي لم تُقلب بعد. ولكن في هذه المرة لم أنس أن أطلب الإذن:
_ هل أستطيع ضبط التقاويم يا سيد سايتو؟
أجابني بالايجاب دون أن ينتبه إلى مايقول. فاعتبرت أنه أصبح لدي حرفة.
كنت أمر كل صباح على كل مكتب وأحرك الاطار الأحمر الصغير حتى التاريخ الموافق. وهكذا صار لدي وظيفة: ضابطة التقاويم. وشيئاً فشيئاً لاحظ الموظفون اختراعي واستقبلوه بمرح كان يتزايد يوماً بعد يوم. فكانوا يسألوني:
_ كيف الحال؟ ألا ترهقين نفسك في هذا العمل المتعب؟
وكنت أجيب باسمة:
_ هذا فظيع، إنني أتناول الفيتامينات.
كنت أحب انهماكي هذا ولكن له سيئة واحدة فهو يتطلب القليل جداً من الوقت ولكنه يسمح لي بأن أستقل المصعد وبالتالي أن أرتمي في الفراغ عبر النافذة. وأكثر من ذلك كان يسلي جمهوري.
ومن هذه الناحية بلغت التسلية ذروتها عند الانتقال من شهر شباط إلى آذار، فلم يعد يكفي تحريك الإطار الأحمر من تاريخ إلى تاريخ بل كان علي قلب لا بل انتزاع صفحة شهر شباط كلياً.
واستقبلني موظفو المكاتب العديدة كما يُستقبل بطل رياضي. وبضربة واحدة صرعت شهر شباط بحركات مسرحية تشبه حركات الساموراي مقلدة صراعاً بلا هوادة ضد جبل فوجي المغطى بالثلج والذي يمثل تلك الحقبة من السنة في تقويم يوميموتو، ثم تركت مكان المعركة بهيئة منهكة وبفخر متواضع لمحارب منتصر وسط تهاليل المعلقين الفرحة.
ووصلت أنباء مجدي إلى مسامع السيد سايتو، فتوقعت حفلة توبيخ بسبب تهريجي. بل وحضّرت دفاعي:
_ لقد سمحت لي بضبط التقاويم. بدأت بالقول حتى قبل أن أتلقى بوادر غضبه.
ولكنه أجابني بلا أي غضب وبلهجة استياء اعتيادية لديه:
_ نعم، تستطيعين المتابعة ولكن لا تقومي بالتهريج فذلك يلهي الموظفين عن أعمالهم.
دهشت لخفة التعنيف، وتابع السيد سايتو:
_ اذهبي وصوّري هذه الأوراق.
ومدّ لي كدسة أوراق من حجم الـ أ4، كانت قرابة الألف صفحة.
وعهدت بالأوراق لحاوية التصوير التلقائي التي قامت بعملها بسرعة ولطف مثاليين. وحملت الأوراق الأصل والمصوّرة.
عاد فناداني:
_ إن تصويرك مائل قليلاً، قال وهو يريني ورقة. أعيديه.
عدت إلى آلة التصوير وظننت أنني ربما لم أحسن وضع الصفحات في حاوية التصوير التلقائي، ففعلت ذلك هذه المرة بعناية فائقة، وكانت النتيجة في تمام الكمال. وعدت أحمل انجازي للسيد سايتو.
_ إنها مازالت مائلة. قال لي.
_ ليس هذا صحيحاً. هتفت.
_ من المعيب قول ذلك لرئيسك.
_ المعذرة، ولكني حرصت كل الحرص على أن تكون في غاية الدقة.
_ ليست كذلك، انظري.
وأشار إلى ورقة فرأيتها خالية من أي عيب.
_ أين هو الخطأ؟
_ هنا، انظري كيف أن التوازي مع حرف الورقة ليس دقيقاً مئة في المئة.
_ هل تعتقد ذلك؟
_ الأمر كما أقول لك تماماً.
ورمى بحزمة الاوراق في سلة المهملات وتابع يقول:
_ هل استخدمت حاوية التصوير التلقائي؟
_ بالطبع.
_ هذا هو السبب إذاً، لا تستخدميها فهي غير دقيقة.
_ولكن يا سيد سايتو بدونها يلزمني ساعات لتصوير هذه الرزمة.
_وأين المشكلة في ذلك؟ قال مبتسماً. فأنت تشكين من قلة الشغل.
وفهمت أن ذلك كان عقابي على موضوع التقاويم.
أقبلت على آلة التصوير كالمقبل على أشغال شاقة، في كل مرة كنت أرفع غطاء الآلة ثم أضع الورقة بانتباه على الزجاج، ثم أضغط على زر التصوير، ثم أتفحص النتيجة. عندما وصلت إلى مكان التعذيب هذا كانت الساعة الثالثة ظهراً، وفي الساعة السابعة مساء لم أكن قد انتهيت بعد. بعض الموظفين كانوا يمرون من وقت لآخر، فإن كان لديهم أكثر من عشر صفحات للتصوير كنت أناشدهم أن يذهبوا إلى الآلة الأخرى الموجودة في الطرف الآخر من الممر.
وألقيت نظرة على محتوى الصفحات التي كنت أصورها. فأوشكت على الموت من الضحك عندما رأيت أنها التعليمات المتعلقة بنادي لعبة الغولف الذي كان السيد سايتو عضواً فيه.
ولكن في اللحظة التالية تملكتني رغبة في البكاء وأنا أفكر بالأشجار البريئة التي كان رئيسي يضحي بها في سبيل معاقبتي. تخيلت غابات اليابان التي شهدتها طفولتي، أشجار القيقب والأرز والجنكة وهي تقطع لغاية وحيدة هي إنزال العقاب بشخص عديم الأهمية مثلي. وتذكرت أن اسم فوبوكي يعني " الغابة ".
ثم جاء السيد تينشي الذي كان يدير قسم منتجات الألبان، وكان له نفس مرتبة السيد سايتو الذي يدير قسم المحاسبة العامة. ونظرت إليه باستغراب: أليس حرياً بموظف رفيع مثله أن يوكل مهمة التصوير لأحد ما؟
وأجاب على سؤالي الصامت:
_ إنها الساعة الثامنة مساء، إنني الموظف الوحيد في مكتبي الذي مازال يعمل. ولكن قولي لي لماذا لا تستعملين التصوير التلقائي؟
فشرحت له بابتسامة متواضعة أني أنفذ تعليمات السيد سايتو الحرفية.
_ أفهم ذلك. قال بنبرة ذات مغزى.
أطرق مفكراً ثم سألني:
_ أنت بلجيكية أليس كذلك؟
_ نعم.
_ عز الطلب، لدي مشروع مهم جداً مع بلدك، هل توافقين على اجراء دراسة من أجلي؟
ونظرت إليه كما ننظر للمسيح المخلّص، فشرح لي أن هناك جمعية تعاونية بلجيكية طورت طريقة جديدة لنزع الدسم من الزبدة.
_ إني من أنصار الزبدة الخفيفة الدسم. فلها مستقبل.
وعلى الفور اخترعت لنفسي رأياً بالموضوع:
_ هذا مااعتقدته دائما.ً
_ تعالي إلى مكتبي في الغد.
وأنهيت تصوير صفحاتي وأنا في حالة نشوة. لقد فتح أمامي طريق مستقبل باهر. وضعت رزمة الأوراق على مكتب السيد سايتو وغادرت بانتصار.
في اليوم التالي وحين وصولي إلى شركة يوميموتو قالت لي فوبوكي بخوف:
_ إن السيد سايتو يريدك أن تعيدي تصوير هذه الأوراق، فهو يجدها مائلة.
فانفجرت ضاحكة وشرحت لزميلتي اللعبة التي كان يلعبها رئيسنا معي:
_ إني متأكدة تماماً أنه لم يلق حتى نظرة على الاوراق الجديدة، لقد صورتها واحدة واحدة مراعية ضبطها بالميلليمتر. لا أعرف كم من الوقت أمضيت في ذلك وكل ذلك من أجل تصوير تعليمات نادي الغولف الذي يلعب فيه.
وتعاطفت معي فوبوكي برقة واستهجان:
_ إنه يعذبك!
فطمأنتها:
_ لا تقلقي إنه يسليني.
وعدت إلى آلة التصوير التي أصبحت أعرفها جيداً، ورميت بالأوراق في حاوية التصوير التلقائي لأني كنت متأكدة أن السيد سايتو سيطلق حكمه عليها دون أن يلقي ولو نظرة على عملي. وابتسمت بتأثر متذكرة فوبوكي قائلة في نفسي: " ماألطفها، من حسن حظي أنها موجودة ".
في الواقع أن لعبة السيد سايتو الجديدة جاءت في وقتها تماماً: ففي الأمس أمضيت أكثر من سبع ساعات في تصوير الأوراق الألف ورقة ورقة، وذلك ماسيعطيني حجة ممتازة اليوم للغياب عدة ساعات في مكتب السيد تينشي. أنهت الحاوية التلقائية عملي في عشر دقائق فحملت الرزمة وهرعت إلى قسم منتجات الألبان. قدم لي السيد تينشي عنوان وأرقام هواتف الجمعية التعاونية البلجيكية.
_ أحتاج إلى تقرير مفصل قدر الإمكان عن هذه الزبدة قليلة الدسم. تستطيعين الجلوس إلى مكتب السيد سايتاما فهو في رحلة عمل.
اسم تينشي يعني " ملاك " ففكرت في نفسي أن اسمه يناسبه بشكل رائع. فهو لم يتح لي فرصة للعمل فقط بل هو أيضاً لا يعطيني أية تعليمات تاركاً لي مطلق الحرية في التصرف وهذا نادر جداً في اليابان. لقد قام بتلك المبادرة دون طلب تصريح من أحد ويعدّ ذلك مجازفة كبيرة من قبله.
كنت أدرك تماماً ماذا يعني ذلك. ولذلك شعرت حالاً بولاء للسيد تينشي لاحدود له، ذلك الولاء الذي يحمله كل ياباني لرئيسه ولكني لم أقدر أن أكنّه للسيد سايتو وللسيد أموشي. كان السيد تينشي قد أصبح فجأة قائدي وزعيمي الحربي. كنت قادرة على القتال من أجله حتى النهاية مثل مقاتل الساموراي.
ورميت بنفسي في معمعة الزبدة قليلة الدسم. غير أن فارق الوقت بين اليابان وأوروبا لم يكن يسمح لي بالاتصال الهاتفي ببلجيكا، فبدأت بالبحث لدى مراكز الاستهلاك اليابانية ووزارة الصحة لمعرفة كيفية تطور عادات السكان الغذائية بالنسبة للزبدة، ومدى تأثير هذه التغيرات على معدلات الكولسترول عند اليابانيين. فتبين بالنتيجة أنهم يتناولون الزبدة بشكل متزايد وأن نسبة السمنة والامراض القلبية تتصاعد في بلاد المشرق الأقصى.
ثم اتصلت بالتعاونية البلجيكية الصغيرة حين سمح التوقيت بذلك، وجعلتني اللهجة المحلية الواضحة في الطرف الآخر من الهاتف أتأثر كما لم يحدث لي من قبل. وأظهر مواطني الفخور بتلقي اتصال من اليابان كفاءة عالية. خلال عشر دقائق استلمت بالفاكس حوالي عشرين صفحة تشرح بالفرنسية الطريقة الجديدة لتخفيف دسم الزبدة والتي تمتلك حقوقها التعاونية البلجيكية.
وكتبت تقرير العصر. بدأت بدراسة للسوق: استهلاك اليابانيين للزبدة وتطوره منذ عام 1950، والتطور الموازي للاضطرابات الصحية المتعلقة بالامتصاص المفرط لدسم الزبدة. بعد ذلك قمت بوصف الطرق القديمة لتخفيف هذا الدسم ثم الطريقة الحديثة البلجيكية ومزاياها الهامة. وبما أنه كان يجب كتابة التقرير بالانكليزية حملت معي عملي إلى البيت لانني كنت بحاجة إلى قاموس لترجمة المفردات العلمية، فلم أنم ليلتي.
وفي اليوم التالي وصلت إلى الشركة قبل ساعتين لكي أطبع التقرير وأعطيه للسيد تينشي دون أن أتأخر عن عملي في مكتب السيد سايتو الذي ناداني حال وصولي:
_ تفحصت الأوراق التي تركتها مساء أمس على مكتبي. لقد أحرزت بعض التطور ولكن لم تبلغي بعد درجة الكمال. أعيدي تصويرها.
ورمى بالرزمة في سلة المهملات.
أحنيت رأسي ونفذت الأمر. كنت أجد صعوبة في مغالبة الضحك. بعد قليل جاء السيد تينشي إلي قرب آلة التصوير، فهنأني بكل الحرارة التي يسمح بها تهذيبه ورزانته الوقورين:
_ تقريرك ممتاز، وأكثر من ذلك كتبته بسرعة فائقة، هل تريدين أن أذكر في الاجتماع من الذي كتبه؟
كان رجلاً ذا شهامة نادرة: إنه على استعداد لارتكاب خطأ مهني فادح لو أني طلبت منه ذلك.
_ إياك أن تفعل يا سيد تينشي، وإلا فستضر نفسك بقدر ماتضرني.
_ أنت محقة. ولكن ربما أستطيع أن ألمّح للسيد سايتو وللسيد أوموشي في الاجتماعات القادمة أنك تستطيعين أن تفيديني، أتعتقدين أن السيد سايتو سينزعج لذلك؟
_ بالعكس، انظر إلى هذه الرزمة من الأوراق التافهة التي طلب مني تصويرها فقط ليبعدني أطول وقت ممكن عن مكتبه. من الواضح أنه يتمنى التخلص مني وسيسعد بأن تقدم له فرصة كهذه. لم يعد يطيقني.
_ إذاً لن تغضبي لو نسبت لنفسي أبوة تقريرك؟
كنت مذهولة من تصرفه إذ لم يكن مجبراً أن يكون على هذا القدر من الاحترام مع موظفة وضيعة القدر مثلي.
_ هيا ياسيد تينشي، إنه لفخر لي أن ترغب في أن تنسبه لنفسك.
وافترقنا باحترام فائق متبادل. كنت أفكر بالمستقبل بثقة. قريباً، ستنتهي توبيخات السيد سايتو التي لا سبب لها، وسينتهي أمر آلة التصوير وكذلك منعي من التكلم بلغتي الثانية.
وبعد عدة أيام اندلعت مأساة مروعة. استُدعيت إلى مكتب السيد أوموشي: وذهبت هناك دون أي توجس، جاهلة تماماً ما يريده مني.
وعندما ولجت عرين نائب الرئيس رأيت السيد تينشي جالساً على كرسي. التفت نحوي بوجه باسم: كانت ابتسامة مليئة بانسانية لم أعرف مثلها في حياتي. كان مكتوباً فيها: " سنعيش محنة فظيعة ولكننا سنعيشها معاً "
كنت أظن أنني أعرف ماهو التوبيخ. ولكن ما جربته أظهر لي مبلغ جهلي. لقد تلقيت أنا والسيد تينشي صراخاً ممسوساً. مازلت أتساءل ما الأفظع فيها الشكل أم المضمون.
أما المضمون فكان سباباً مقذعاً. فقد نُعِتّ أنا ورفيقي في المحنة بأقبح الصفات: خونة، حمقى، افاع، محتالون وكان أسوؤها على الإطلاق هو: فرديون.
وأما الشكل فكان يفسّر العديد من جوانب التاريخ الياباني، وفي سبيل ايقاف هذا الصراخ الفظيع كنت مستعدة للقيام بأسوأ الأفعال كاجتياح مقاطعة المانشوري أو تعذيب آلاف الصينيين أو الانتحار في سبيل الإمبراطور أو قذف طائرتي على بارجة أمريكية أو حتى العمل في شركتين من شركات يوميموتو.
كان الأكثر قسوة في الأمر هو رؤية منقذي يهان بسببي. كان السيد تينشي ذكياً ذا ضمير حي: فهو قد أقدم على مجازفة عظيمة من أجلي، وكان على تمام العلم بعاقبتها، ولم يكن له في ذلك أي مصلحة شخصية بل تصرف فقط بدافع الإيثار. وهاهو يكافأ على طيبته، كان يُمرَّغ في الوحل. كنت أحاول أن أحذو حذوه: فهو يطأطئ برأسه ويحني كتفيه باستمرار. كان وجهه ينم عن الخضوع والخجل، ففعلت مثله. وجاءت لحظة قال له فيها الرجل البدين:
_ لم تكن تهدف في حياتك إلا إلى تخريب الشركة.
وتتابعت الافكار في رأسي بسرعة كبيرة: يجب ألا تعوق هذه الحادثة ملاكي الحارس من الترفيع في عمله، وقذفت بنفسي تحت الأمواج الصاخبة لصرخات نائب الرئيس:
_ لم يكن السيد تينشي يريد تخريب الشركة، أنا من توسل إليه لكي يعهد إلي بملف ما. إنني المسؤولة الوحيدة.
وبالكاد لمحت نظرة الهلع في عيني رفيقي في المحنة تنظر إلي وتقول " الرحمة، اسكتي" ولكن للأسف بعد فوات الأوان. فقد بقي السيد أوموشي فاغر الفم برهة قبل أن يقترب مني ويصرخ في وجهي مباشرة:
_ وتجرئين على الدفاع عن نفسك؟
_ بالعكس فأنا أتهم نفسي وآخذ على عاتقي كل المسؤولية، فأنا الوحيدة التي يجب عقابها.
_ وتجرئين على الدفاع عن هذه الأفعى؟
_ ليس السيد تينشي بحاجة لدفاع فاتهاماتك له غير صحيحة.
ورأيت منقذي يغمض عينيه ففهمت أنني تلفظت بكلمات لا تغتفر.
_ وتجرئين على الزعم أن أقوالي خاطئة، إن وقاحتك تفوق الخيال.
_ لم أكن لأجرؤ على زعم شيء كهذا، إنما اعتقد أن السيد تينشي قال لك أشياء خاطئة ليبرأني.
وبدا وكأن رفيقي في النكبة فكر أننا وصلنا حيث لم يعد يبقى ما نخشاه... فتكلم، وكان صوته يحمل كل إذلال العالم:
_ أتوسل إليك، لا تغضب منها، فهي لا تعي ماتقول إنها فتاة غربية، هي شابة ولاخبرة لها، بينما ارتكبت انا خطأ لا يمكن تبريره. خجلي من ذلك شديد.
_ هذا صحيح، أنت لا عذر لك البتة. صرخ البدين.
_ مهما يكن خطئي عليّ أن أشير إلى جودة تقرير أميلي - سَنْ والسرعة الفائقة التي أنجزته بها.
_ ليس هذا هو المهم، السيد سايتاما هو الذي كان من المفروض أن يقوم بهذا العمل.
_ هو في رحلة عمل.
_ كان يجب انتظار عودته.
_ هذه الزبدة الجديدة والقليلة الدسم مرغوبة حتماً من قبل الشركات الأخرى، ولو انتظرنا حتى يعود السيد سايتاما من رحلته ويعد التقرير لسبقونا إليها.
_ هل تحاول بقولك هذا أن تنتقد جودة عمل السيد سايتاما؟
_ إطلاقاً. ولكن السيد سايتاما لا يتكلم الفرنسية ولا يعرف بلجيكا ولذلك ربما كان سيلاقي صعوبات أكثر بكثير من أميلي - سَنْ.
_ اصمت، إن هذه الذرائع الشنيعة خليقة بشخص غربي.
واعتبرت أنه يبالغ جداً إذ يقول ذلك دون أي حرج أمامي.
_ فلتعذروا يا سيدي احتجاجي الغربي، لقد اقترفنا خطأ ليكن ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن هناك ربحاً منتظراً من هذا الخطأ و....
واقترب السيد أوموشي مني بعينين مرعبتين جعلتاني أتوقف عن الكلام:
_ أنتِ، إني أحذرك، لقد كان أول وآخر تقرير لك، لقد وضعت نفسك في موقف سيء للغاية. اخرجي! لا أريد رؤيتك أبداً.
لم أحتج أن يكرر لي ذلك الأمر الصارخ مرتين. وفي الممر كنت مازلت أسمع صراخ ذلك الجبل من اللحم الآدمي يقابله صمت نادم لضحيته. ثم فتح الباب ولحق بي السيد تينشي. ذهبنا معاً إلى المطبخ مترنحين تحت وطأة الشتائم التي كيلت لنا.
_ اعذريني لأن زججت بك في هذه القضية. قال لي أخيراً السيد تينشي.
_ أرجوك سيد تينشي لا تعتذر، سأبقى كل حياتي مدينة لك، فأنت الوحيد الذي أعطاني فرصتي هنا وكان في ذلك شجاعة وكرم منك، وكنت أعرف ذلك من البداية ولكني عرفت أكثر الآن وقد رأيت ما قاسيته. لا شك أنك اعتقدتهم أرفع من ذلك. لم يكن ينبغي أن تقول لهم إنّ التقرير لي.
ونظر إلي بدهشة:
_ لست أنا من قال لهم. تذكري ماقلناه: كنت أنوي أن أتكلم عن ذلك أمام الإدارة، أمام السيد هاينيدا وبكثير من التكتم: كانت تلك هي فرصتي الوحيدة للحصول على شيء. ولكن قوله للسيد اوموشي لا يمكن أن يقودنا إلا إلى مصيبة.
_ أهو السيد سايتو الذي نقل ذلك لنائب الرئيس؟ يا له من وضيع، بل أحمق، كان يمكنه التخلص مني بشكل يسعدني ولكن عوضاً عن ذلك، كان عليه...
_ لاتتكلمي عن السيد سايتو بكثير من السوء. فهو أفضل مما تعتقدين، ليس هو من وشى بنا. لقد رأيت الورقة الموضوعة على مكتب السيد اوموشي ورأيت من كتبها.
_ هل هو السيد سايتاما؟
_ كلا. هل علي فعلاً أن أخبرك؟
_ نعم يجب ذلك.
وتنهد قائلاً:
_ كانت الورقة تحمل توقيع الآنسة موري.
وكأني تلقيت ضربة هراوة على رأسي:
_ فوبوكي؟ هذا مستحيل.
وصمت رفيقي في المحنة.
_ لا أصدق ذلك! من المؤكد أن ذلك الجبان سايتو هو الذي أمرها أن تكتب هذه الورقة، ليست له حتى الشجاعة الكافية للوشاية بنا بنفسه، فيوكل الآخرين بدسائسه.
_ أنت مخطئة بحق السيد سايتو: فهو خجول ومعقد وبليد قليلاً ولكنه ليس خبيثاً، ولم يكن ليرمي بنا إلى غضب نائب المدير.
_ ولكن أتكون فوبوكي قادرة على فعل شيء كهذا!
واكتفى السيد تينشي بالتنهد مرة أخرى.
_ لماذا تقدم على فعل كهذا؟ تابعت. هل تكرهك؟
_ لا، أبداً، لم تفعل ذلك ضدي أنا. ففي النهاية هذه القضية تضر بك أكثر بكثير مما تضر بي فأنا لم أفقد شيئاً ولكن أنتِ تفقدين إمكانية تقدمك في العمل لوقت طويل، طويل جداً.
_ ولكني لا أفهم، كانت دائماً تظهر لي إمارات المودة.
_ نعم كانت كذلك طالما أن مهامك تقتصر على ضبط التقاويم وعلى تصوير تعليمات نادي الغولف.
_ ولكن ليس من الوارد أن آخذ مكانها!
_ طبعاً، هي لم تخش ذلك قط.
_ وإذاً؟ لماذا وشت بي؟ مالذي يزعجها في أن أعمل معك؟
_ الآنسة موري عانت سنين طويلة لتحصل على المركز الذي تحتله اليوم. لا شك أنها وجدت أنّ من الظلم أن تحصلي على ترقية كهذه بعد عشرة أسابيع من وجودك في شركة يوميموتو.
_ لا أستطيع أن أصدق، يالها من بائسة إن كانت فعلاً كذلك.
_ كل ما أستطيع قوله أنها عانت الكثير الكثير في سنواتها الأولى هنا.
_ وبالتالي فهي تريد أن أعاني نفس المصير، يا لفظاعة ذلك، يجب أن أتكلم معها.
_ هل حقاً تريدين ذلك؟
_ بالتأكيد، كيف تريد أن تتحسن الأمور إذا لم نتكلم عنها؟
_ لقد تكلمتِ الآن مع السيد أموشي عندما كان يمطرنا بسبابه فهل شعرت أن الأمور تحسنت بكلامك؟
_ ماهو أكيد بالنسبة لي أننا إن لم نتكلم عن المشكلة فلا سبيل لحلها أبداً.
_ ومايبدو لي أكيداً أكثر هو أننا لو تكلمنا عنها لجازفنا بتعقيد الأمور حتماً.
_ اطمئن يا سيدي، لن أزج بك في هذه القصص ولكني يجب أن أتكلم مع فوبوكي وإلا مرضتُ.
ردت الآنسة موري على اقتراحي بلطف مندهش. تبعتني. كانت قاعة الاجتماعات فارغة، جلسنا فيها. وبدأت بصوت رقيق وهادئ:
_ كنت أظن أننا صديقتان. لا أفهم.
_ ماالذي لا تفهمينه؟
_ هل ستنكرين أنك وشيت بي؟
_ ليس هناك ما أنكره، لقد طبقت التعليمات.
_ هل التعليمات أهم لديك من الصداقة؟
_ الصداقة كلمة كبيرة، ربما أقول " علاقة طيبة بين زميلتين ".
كانت تنطق بتلك الأقوال الرهيبة بهدوء ساذج لطيف.
_ حسناً، هل تعتقدين أن علاقتنا الطيبة ستستمر بعد تصرفك هذا؟
_ إذا اعتذرت لن أحمل لك ضغينة.
_ لا ينقصك حس النكتة يا فوبوكي.
_ عجيب، تتصرفين وكأنك المعتدى عليها وأنت التي اقترفت خطأ فادحاً.
وأخطأت إذ نطقت بجواب مفيد:
_ غريب، كنت أعتقد أن اليابانيين مختلفون عن الصينيين.
ونظرت إلي بدون أن تفهم، فتابعت:
_ نعم، لم تنتظر الوشاية قدوم الشيوعية حتى تصبح مبدأً صينياً. وحتى الآن في سينغافورة يحث الصينيون أطفالهم على الوشاية برفاقهم الصغار. كنت أعتقد أن اليابانيين عندهم مبدأ الشرف.
جرحت شعورها بالتأكيد، وكان ذلك خطأ استراتيجياً. فابتسمت وقالت:
_ هل تعتقدين أنك في وضع يسمح لك بإعطائي دروساً في الأخلاق؟
_ برأيك يا فوبوكي لماذا طلبت أن أكلمك؟
_ لأنك ساذجة.
_ ألا يمكنك تخيل سبب كرغبتي في المصالحة؟
_ فليكن، اعتذري وسنتصالح.
تنهدتُ:
_ إنك ذكية ونبيهة فلم تتظاهرين بعدم الفهم؟
_ لا تكوني مغرورة، فمن السهل فهمك.
_ هذا حسن، في هذه الحال أنت تفهمين استنكاري.
_ أفهمه ولكني لا أقره. أنا من لديها أسباب للغضب من تصرفك، لقد طمعت في ترقية لم تكن من حقك.
_ لنفترض ذلك، أنها لم تكن من حقي. ماالذي يضيرك في ذلك عملياً؟ حظي الحسن لا يظلمك في شيء.
_ عمري تسعة وعشرون عاماً وعمرك اثنان وعشرون. أشغل منصبي منذ العام الفائت. ناضلت سنوات لنيله، وأنت تظنين أنك تستطيعين الحصول على منصب مواز بعد أسابيع؟
_ هكذا إذاً، تحتاجين أن أتعذب، لا تتحملين أن يكون للآخرين حظ سعيد، هذا سخف.
_ وهل ترين أن تعقيد الأمور كما تفعلين هو دليل نضوج؟ إنني رئيستك، فهل تعتقدين أن من حقك أن تتكلمي معي بهذه الوقاحة؟
_ أنت رئيستي، نعم. ليس لي أي حق، أعلم ذلك. ولكني أردت أن تعلمي مقدار خيبتي، فقد كنت أحترمك جداً.
_ لم يخب أملي أنا، فأنا لا أكن لك أي احترام.
وفي اليوم التالي عندما وصلت إلى شركة يوميموتو أعلمتني الآنسة موري بوظيفتي الجديدة:
_ لن تغيري قسمك، بل ستعملين هنا في هذا المكتب في الحسابات.
_ محاسبة؟ أنا؟ لماذا لا أعمل بهلواناً بالمرة؟
_ محاسِبة هي كلمة كبيرة عليك، لا أعتقد أنك قادرة على أن تكوني محاسِبة. قالت ذلك بابتسامة مشفقة.
أرتني دُرجاً تتكدس فيه فواتير الأسابيع الأخيرة. ثم أشارت لي إلى خزانة رُتبت فيها مصنفات ضخمة يحمل كل منها الأحرف الأولى من أسماء الأقسام الأحد عشر في شركة يوميموتو.
_ عملك سيكون من أسهل المهمات وأنت قادرة تماماً على القيام به - شرحت لي بلهجة تعليمية - ستقومين في البداية بتصنيف الفواتير حسب تواريخها. بعد ذلك تحددين القسم الذي تتبع له كل فاتورة. لنأخذ مثلاً هذه: أحد عشر مليوناً لشراء جبنة الإمانتال الفنلندية _ يا لها من صدفة طريفة، إنه قسم منتجات الألبان. تأخذين دفتر الفواتير وتنسخين في كل عمود التاريخ واسم الشركة والمبلغ. وعندما تنتهين من تدوين وترتيب الفواتير تضعينها في هذا الدّرج.
يجب الاعتراف بأن ذلك لم يكن عسيراً. أظهرت دهشتي:
_ ألا تُدخَل هذه الفواتير إلى الحاسوب؟
_ بلى، سيدخل السيد أوناجي في آخر الشهر كل الفواتير إلى الحاسوب، وعندها سيكتفي بنقل عملك وسيأخذ منه ذلك وقتاً يسيراً.
في الأيام الأولى كنت أتردد قليلاً في اختيار دفاتر الفواتير فكنت أطرح الأسئلة على فوبوكي التي كانت تجيبني بتهذيب مغتاظ:
_ ماذا يعني Reming ltd ؟
_ معادن غير حديدية، لقسم إم إم.
_ ما هو ال Gunzer GMBH؟
_ منتجات كيميائية لقسم سي بي.
وحفظت بسرعة عن ظهر قلب كل أسماء الشركات وأسماء الأقسام التي تتبع لها. كانت تبدو لي المهمة من سهل إلى أسهل. كانت بالطبع مملة تماماً ولكن لم يزعجني ذلك بل سمح لي بشغل تفكيري بشيء آخر. وهكذا كنت غالباً ما أرفع رأسي وأنا أدوّن الفواتير لأحلم وأنا أتأمل الوجه البديع لتلك التي وشت بي.
مرت اسابيع وكان هدوئي يتزايد مع مرور الوقت. سميت ذلك السكينة الفاتوريّة. لم يكن هناك فرق بين مهنة الراهب الناسخ في القرون الوسطى وبين مهنتي: فقد كنت أمضي أياماً كاملة بنسخ أحرف وارقام. لم يعمل دماغي قط بهذا القدر الضئيل من الجهد واكتشف بهذا هدوءاً رائعا.ً إنه زنْ دفاتر الحسابات. وأدهشني تفكيري بأنني لو اضطررت لتكريس أربعين سنة من عمري لهذا العمل ذي البلادة الممتعة لما وجدت غضاضة في ذلك.
أنا التي كنت من الحماقة بحيث قمت بدراسات عليا. هاهو دماغي بلا أدنى تفكير، ينتعش في عملية التكرار الغبي. أعلم الآن أنني موهوبة في المجالات التأملية: فتدوين الأرقام مع النظر إلى الجمال هو السعادة ذاتها.
كانت فوبوكي على حق: أخطأت طريقي مع السيد تينشي، فلقد كتبت ذلك التقرير سُدى، هذا هو الواقع. لم يكن عقلي ينتمي إلى سلالة الفاتحين وإنما إلى سلالة البقرات التي ترعى في مروج من الفواتير بانتظار مرور قطار الخلاص. كم هي ممتعة الحياة بدون كبرياء ولا ذكاء. ودخلت في حالة سبات.
في نهاية الشهر أتى السيد أوناجي وقام بإدخال عملي في الحاسوب. تطلب نسخه لأعمدة الارقام والأحرف يومين فقط. شعرت بسعادة سخيفة لكوني كنت حلقة مفيدة في السلسلة.
أرادت الصدفة، او القدر، أن يترك للنهاية دفتر فواتير سي بي. وكما فعل بالدفاتر العشرة السابقة بدأ بالكتابة على حاسوبه بصمت. وبعد عدة دقائق سمعته يتعجب:
_ لا أصدق ذلك، لا أصدق!
ثم قلّب الصفحات بسرعة متزايدة. ثم أصيب بنوبة ضحك عصبي قوي سرعان ما تحوّل إلى موكب من الصرخات المتقطعة. نظر إليه الموظفون الاربعون في المكتب الكبير بدهشة.
وشعرت بالحرج.
هرعت إليه فوبوكي فأشار لها إلى عدة صفحات من دفتر الفواتير وهو يقهقه بشدة. التفتت إليّ ولم تكن تشارك زميلها ضحكه المرضي. نادتني:
_ ما هذا؟ سألتني مشيرة إلى أحد الأسطر المشبوهة.
قرأتها:
_ هذه... هذه فاتورة لل GMBH.
فاجابت بغضب:
_ ال GMBH، ال GMBH.
فانفجر موظفو المحاسبة الأربعون بالضحك، ولم أفهم لماذا.
_ هل يمكنك أن تشرحي لي ماهي ال GMBH؟ سألتني رئيستي وهي تعقد ذراعيها على صدرها.
_ هي شركة كيميائية نتعامل معها كثيراً.
وتضاعف الضحك. وتابعت فوبوكي قائلة:
_ ألم تلاحظي أن ال GMBH مسبوق دائماً باسم أو بأكثر من اسم؟
_ نعم، وأعتقد أنها اسماء فروعها المتعددة، لذلك فكرت ألا أحشو دفتر الفواتير بتفاصيل كهذه.
حتى السيد سايتو رغم كل خجله أطلق العنان لقهقهته. إلا أن فوبوكي مازالت مقطبة. بل ارتسم على وجهها غضب مخيف مكبوت. ولو كان باستطاعتها أن تصفعني لفعلت. ثم قالت لي بصوت قاطع كالسيف:
_ أيتها الغبية، اعلمي أن ال GMBH هو بالألمانية ما يقابل Ltd بالانكيزية وSA بالفرنسية. والشركات التي خلطتِها تحت اسم GMBH ليس لها علاقة ببعضها إطلاقاً. فكأنك تكتبين Ltd مشيرة إلى كل الشركات الأمريكية والإنكليزية والأسترالية التي نتعامل معها. كم من الوقت يلزمنا لتصحيح أخطائك.
واخترت أغبى وسيلة للدفاع عن نفسي فقلت:
_ يا لها من فكرة غريبة لأولئك الألمان حتى يختاروا هذا الرمز الطويل لكلمة SA.
_ هكذا إذاً، أهو خطأ الألمان أنك حمقاء؟
_ اهدئي يا فوبوكي، لم أكن أستطيع تخمين ذلك.
_ لم تكوني تستطيعين؟ وبلدك يقع على حدود ألمانيا ولا تستطيعين معرفة مانعرفه نحن الذين نعيش في الطرف الآخر من الكرة الأرضية؟
كنت على وشك قول شيء فظيع ولكني وبفضل السماء احتفظت به لنفسي: " ربما يكون لبلجيكا حدود مع ألمانيا ولكن اليابان خلال الحرب الأخيرة كان لديها ماهو مشترك أكثر من الحدود مع ألمانيا ".
ولكني اكتفيت بإحناء رأسي، مهزومة.
_ لا تبقي جامدة هكذا. اذهبي وأحضري الفواتير التي صنفتها أفكارك النيرة في حقل الكيمياء منذ شهر.
وعندما فتحت الدّرج راودتني رغبة بالضحك وأنا أرى مصنف المنتجات الكيميائية الذي بلغ بسبب طريقة ترتيبي حجماً خيالياً. وشرعت مع السيد أوناجي والآنسة فوبوكي بالعمل، واحتجنا لثلاثة أيام لإعادة تنظيم دفاتر الفواتير الأحد عشر. كانت قداستي قد تلطخت تماماً عندما اندلع حدث أشد هولاً من سابقه.
أول علامات هذا الحدث كان ارتجاف منكبي السيد أوناجي العريضين مما يعني أنه على وشك الانفجار بالضحك. ثم بلغ الاهتزاز صدره، ثم حلقه، وأخيراً تدفقت الضحكة، فأصابتني قشعريرة.
وسألت فوبوكي بوجه كمده الغيظ:
_ ماذا فعلتْ أيضاً؟
وأراها السيد أوناجي الفاتورة من جهة ودفتر الحسابات من جهة أخرى، فأخفت وجهها بيديها. وراودتني رغبة بالتقيؤ من التفكير بما ينتظرني.
قلّبوا الصفحات وأشاروا بأصابعهم إلى عدة فواتير، وأخيراً أمسكت فوبوكي بذراعي: وبدون كلمة واحدة أرتني المبالغ التي كتبتها بخطي الذي يصعب تقليده.
_ ما إن يتجاوز عدد الأصفار الأربعة حتى تخطئي بكتابتها، فتضيفين أو تحذفين صفراً على الأقل في كل مرة.
_ مممممم...، هذا صحيح.
_ هل تتخيلين ذلك؟ كم من الأسابيع يلزمنا حتى نجد أخطاءك ونصححها.
_ ليس سهلة كل تلك الأصفار المتتالية...
_ اصمتي!
وجرتني من ذراعي إلى الخارج ودخلنا إلى مكتب فارغ وأغلقت الباب.
_ ألا تخجلين؟
_ أنا آسفة. قلت بانكسار.
_ لا، لستِ آسفة، هل تعتقدين أني غبية؟ لقد ارتكبت تلك الأخطاء الشنيعة لتنتقمي مني.
_ كلا، أقسم لك على ذلك.
_ أعرف تماماً أنك حقدت علي لأني وشيت بك لنائب الرئيس من أجل موضوع منتجات الألبان، فقررت جعلي موضع سخرية من الجميع.
_ ولكني أنا من هي موضع سخرية ولستِ أنتِ.
_ أنا رئيستك المباشرة والكل يعلم أنني أنا من أوكلت إليك هذا العمل. أنا إذاً المسؤولة عن أعمالك وأنتِ تعرفين ذلك جيداً. أنت تتصرفين بوضاعة ككل الغربيين، فتضعين كبرياءك فوق مصلحة الشركة، وللانتقام مني لم تترددي بتخريب حسابات شركة يوميموتو، وأنت تدركين تماماً أن نتائج أخطائك ستقع علي أنا.
_ لم أكن أعرف من ذلك شيئاً ولم أرتكب تلك الأخطاء عن قصد.
_ هيّا، هيّا اعترفي، لا أجهل أنك قليلة الذكاء ولكن لا يمكن لأحد أن يكون على هذا القدر من الغباء ليرتكب هكذا أخطاء.
_ بلى أنا.
_ كفى، أعرف أنك تكذبين.
_ فوبوكي، أقسم لك بشرفي بأني لم أنسخ خطأ عن قصد.
_ شرف، وماذا تعرفين أنتِ عن الشرف؟
_ نعم. اعلمي أن الشرف موجود أيضاً في الغرب.
_ وهل ترين أنه من المشرّف تأكيدك أنك أغبى الأغبياء.
_ لا أعتقد أني غبية لهذه الدرجة.
_ يجب أن أعرف، إما أنك خائنة أو متخلّفة عقلياً، ليس هناك احتمال ثالث.
_ بل يوجد تفسير آخر، هناك أناس عاديون يكتشفون أنهم غير قادرين على نسخ أعمدة من الأرقام.
_ هذا النوع من الأشخاص غير موجود في اليابان.
_ ومن الذي يجرؤ على انكار التفوق الياباني. قلت بمظهر نادم.
_ كان يجب أن تقولي لي إنك تنتمين إلى صنف المتخلفين عقلياً بدل أن تتركيني أوكل إليك هذه المهمة.
_ لم أكن أعرف أنني أنتمي إلى هذا الصنف، فأنا لم أنسخ قط أعمدة من الأرقام في حياتي.
_ غريبة هذه العاهة، فنسخ أرقام المبالغ لا يتطلب أي ذكاء.
_ وهذا هو السبب تماماً، هذه هي مشكلة الناس على شاكلتي، إذا لم يُحرّض ذكاؤنا فإن عقلنا ينام. ومن هنا جاءت أخطائي.
وأخيراً تخلّى وجه فوبوكي عن تعبيره القتالي ليأخذ هيئة استغراب ساخر:
_ هكذا إذاً؟ ذكاء حضرتك يحتاج إلى تحريض، يا للغرابة!
_ بل هو أقل من عادي.
_ حسناً، سأفكر لك بعمل يُحرّض الذكاء. رددت رئيستي التي بدت مستمتعة جدّاً بهذه الطريقة من الحديث.
_ بانتظار ذلك هل أستطيع الذهاب لمساعدة السيد أوناجي بتصحيح أخطائي؟
_ إياك أن تفعلي! لقد قمت بما فيه الكفاية من التخريب حتى الآن.
لا أعرف كم من الوقت احتاج زميلي المسكين لإعادة تنظيم دفاتر الحساب التي تشوهت بجهودي. ولكن احتاجت فوبوكي ليومين لكي تجد لي عملاً بدا لها بمتناول إمكانياتي.
كان مصنف كبير جداً ينتظرني على مكتبي.
_ ستراجعين الفواتير الخاصة بمصاريف رحلات العمل.
_ محاسبة أيضاً؟ مع أني حذرتك من قصور إمكانياتي في هذا المجال.
_ لا علاقة لهذا العمل بالعمل السابق، فهو سوف يحرض ذكاءك. قالت موضحة بابتسامة ماكرة.
وفتحتْ المصنف.
_ هذا، مثلاً، الملف الذي جمعه السيد شيراناي لأجل الحصول على تعويض عن مصاريف مهمة عمله إلى داسلدورف. عليك بتدقيق كل حساباته ورفضها إذا لم تحصلي على نفس النتيجة التي حصل عليها، حتى ولو كان الفارق ينّاً واحداً. ولهذا، وبما أن أغلب الفواتير دفعت بالمارك، عليك أن تقومي بالحساب على أساس سعر المارك في البورصة في التواريخ المذكورة على الفواتير، ولا تنسي أن أسعار البورصة تتغير كل يوم.
وهكذا بدأ أحد أشنع الكوابيس في حياتي. منذ اللحظة التي أوكلت إلي هذه المهمة اختفى مفهوم الوقت من وجودي لتحل محله أبدية العذاب. لم يحدث مطلقاً... مطلقاً أن توصلت في حساباتي إلى النتيجة نفسها، بل ولا حتى إلى ما يقارب المبالغ التي كنت معنية بتدقيقها. فمثلاً، إذا كان الموظف المرموق قد حسب أن شركة يوميموتو مدينة له بمبلغ 93327 يناً، كنت أتوصل أنا إلى الرقم 15211 يناً أو حتى 172045 يناً. وسرعان ما كان يتبين أن الأخطاء من جانبي.
وفي نهاية اليوم الأول قلت لفوبوكي:
_ لا أظن أني قادرة على إتمام هذه المهمة.
_ مع أنه عمل يحرض الذكاء. أجابت بلهجة قاسية.
_ لم أستطع إنجاز أي شيء. اعترفت بصوت مثير للرثاء.
_ ستتعودين عليه.
ولم أتعود أبداً. وتبين أنني عاجزة إلى أقصى درجات العجز عن القيام بهذه العمليات، رغم جهودي المضنية.
انتزعت رئيستي المصنف مني لتبرهن لي مقدار سهولة هذا العمل. أخذت ملفّاً وشرعت تنقر بسرعة خارقة على آلتها الحاسبة التي لم تكن بحاجة حتى للنظر إلى أزرارها. وبأقل من أربع دقائق انتهت:
_ ها أنا أحصل على نفس نتيجة السيد سايتاما تماماً.
ووضعت ختمها على التقرير.
أما أنا فعدت إلى عملي مقهورة أمام هذا الظلم السماوي الجديد. فلم تكن لتكفيني اثنتا عشرة ساعة لإتمام ما تسلّت به فوبوكي خلال ثلاث دقائق وخمسين ثانية.
لا أدري كم من الأيام مرت عندما لاحظَتْ أنني لم أنهِ بعد أي ملف.
_ ولا واحد؟؟ قالت متعجبة.
_ هذا هو الواقع. قلت منتظرة عقابي.
ولسوء حظي اكتفت بالإشارة إلى التقويم قائلة:
_ لاتنسي أن المصنف يجب أن يكون جاهزاً في نهاية هذا الشهر.
كنت أفضل أن تأخذ بالصراخ.
ومرّت أيام أخرى. كنت في جحيم: كانت هطولات غزيرة من الأرقام ذات الفواصل والكسور العشرية تتدفق في وجهي دون انقطاع. كانت تتحول في دماغي إلى طمي عاتم حتى لم أعد قادرة على تمييز الأرقام بعضها عن بعض. غير أن طبيب العيون أكد لي أن العيب لم يكن في نظري.
الأرقام التي كنت معجبة بجمالها الفيثاغوري الهادئ أصبحت عدوتي. والآلة الحاسبة أيضاً كانت تريد لي الشر. ومن بين عاهاتي الحركية ذات المنشأ النفسي كانت هناك العاهة التالية: عندما كنت أضرب على أزرار آلة حاسبة أو حاسوب، لمدة تزيد عن خمس دقائق كانت يدي تصبح دبقة وكأنها غُمرت بالبطاطا المهروسة الكثيفة اللاصقة. فكانت تجمد أربعة من أصابعي كلياً، وتبقى السبابة وحدها طافية قادرة على الوصول إلى المفاتيح ببطء وارتباك مدهشين لمن لا يرى البطاطا الخفية. وبالإضافة إلى ذلك، وبما أن هذه الظاهرة مبطنة بغباء نادر أمام الأرقام، فإن العرض الذي كنت أقدمه أمام الآلة الحاسبة كان يثير الحيرة حقاً. فقد كنت أبدأ بالنظر إلى كل رقم جديد بدهشة توازي دهشة روبنسون كروزو عندما كان يلتقي بساكن على تلك الأرض المجهولة، ثم تحاول يدي الخرقاء أن تنقله إلى الآلة الحاسبة، وللقيام بذلك كان رأسي يتحرك جيئة وذهاباً بين الورقة وشاشة الآلة للتأكد من عدم ضياع أي فاصلة أو صفر في الطريق بينهما، والغريب أنّ هذا التدقيق الدقيق لم يمنعني من الوقوع بأخطاء جسيمة.
ذات يوم بينما كنت أنقر بشكل مثير للشفقة على آلتي، رفعت بصري فرأيت رئيستي تراقبني بذهول.
_ ماهي مشكلتك بالضبط؟ سألتني.
ولكي أطمئنها اعترفت لها بظاهرة البطاطا المهروسة التي تشل يدي. كنت أظن أن هذه القصة ربما تجعلني ظريفة في نظرها. ولكن النتيجة الوحيدة لاعترافي كانت أني قرأت في نظرة فوبوكي الآسرة مامعناه "إنها حقيقة متخلفة عقليّا ً، هذا يفسر كل شيء".
كانت نهاية الشهر تقترب والمصنف مايزال بالسماكة ذاتها.
_ هل أنت واثقة أنك لا تفعلين ذلك عن قصد؟
_ كل الثقة.
_ هل هناك في بلدك الكثير من.... الناس مثلك؟
كنت أول بلجيكية تراها، فأخذتني حمية وطنية دفعتني للإجابة بالحقيقة:
_ لا يشبهني أحد من البلجيكيين أبداً.
_ هذا يطمئنني.
وانفجرتُ بالضحك.
_ هل ترين ذلك مضحكاً؟
_ ألم يخبرك أحد قط يا فوبوكي أنه من المعيب القسوة على المتخلفين عقليّاً؟
_ بلى، ولكن لم يخبرني أحد أنه سيكون في إمرتي واحد منهم.
وتضاعف ضحكي.
_ مازلت لا أرى ما يضحكك.
_ لابد أن ذلك جزء من مرضي الحركي ذي المنشأ النفسي.
_ الأجدر بك أن تركزي اهتمامك على عملك.
وفي اليوم الثامن والعشرين من الشهر أعلنت لها عن قراري بعدم العودة إلى منزلي مساءً فيما تبقى من الشهر.
_ بإذن منك سأمضي الليالي هنا على رأس عملي.
_ هل يكون عقلك أكثر فاعلية في الظلام؟
_ فلنرج ذلك، ربما سيجعله أخيراً هذا الضغط الجديد فعّالاً.
وحصلت بسهولة على تصريحها. فلم يكن من النادر أن يبقى بعض الموظفين كل الليل في مكاتبهم عندما يكون هناك مواعيد محددة يجب التقيد بها.
_ هل تعتقدين أن ليلة واحدة ستكفي؟
_ بالطبع لا، قررت ألا أعود إلى بيتي قبل الواحد والثلاثين من هذا الشهر.
وأريتها حقيبة كبيرة ظَهرية:
_ لقد جلبت كل مايلزمني لذلك.
شعرت بشيء من الثمالة عندما وجدت نفسي وحيدة في شركة يوميموتو. سرعان ما تلاشت إذ أيقنت أن عقلي لايعمل بشكل أفضل في الليل. عملت دون هوادة ولم يتفتق هذا الجهد المضني عن أي نتيجة.
في الساعة الرابعة صباحاً قمت بغسل وجهي بسرعة وغيرت ملابسي، ثم شربت شاياً مركّزاً وعدت إلى عملي.
وصل أول الوافدين من الموظفين في الساعة السابعة. وصلت فوبوكي بعد ساعة. وحانت منها التفاتة إلى خانات الفواتير المدققة ووجدتها مازالت بذات البياض، فهزت برأسها.
ولحقت ليلة سهر أخرى بسابقتها. ولكن الوضع بقي على ماهو عليه، وبقيت الأشياء في جمجمتي على غموضها. كنت رغم ذلك بعيدة جدّاً عن اليأس. كنت أشعر بتفاؤل غير مفهوم يجعلني جريئة. وهكذا كنت وبدون أن أتوقف عن حساباتي، أحدث رئيستي بأحاديث أقل مايقال عنها أنها في غير محلها:
_ في اسمك الأول هناك الثلج. وفي المقابل الياباني لاسمي هناك المطر. يبدو لي ذلك مناسباً. هناك اختلاف بيني وبينك يشبه ذلك الذي بين المطر والثلج. ولكن ذلك لا يمنع أن نكون مركبتين من المادة نفسها.
_ هل تجدين حقاً مجالاً للمقارنة بينك وبيني؟
وضحكْتُ. في الواقع أنني بسبب نقص النوم كنت أضحك لأتفه الأسباب. كنت أصاب في بعض الأوقات بفترات من التعب وبالإحباط، ولكني لم أكن أتأخر عن العودة إلى مرحي الصاخب.
لم يَكُف برميل فراشاتي الليلية عن الامتلاء بالأرقام، فيدعها دماغي المثقوب تتسرب واحداً بعد الآخر. كنت سيزيف 6 المحاسبة، وكالبطل الأسطوري لم أكن أيأس أبداً: فأعود في كل مرة إلى الأرقام القدرية للمرة المئة وللمرة الألف. ولا بد أن أعرّج هنا على ذكر هذه المعجزة: فقد كنت أخطئ آلاف المرات، وكان ذلك سيبدو فظيعاً كموسيقى ناشذة متكررة لولا أن أخطائي الألف كانت متنوعة في كل مرة، فقد كنت أحصل في كل عملية حسابية على ألف نتيجة مختلفة. إنني عبقرية.
لم يكن من النادر أن أرفع رأسي مراراً بين عمليتي جمع لأتأمل تلك التي زجت بي في هذه الأشغال الشاقة. وكان جمالها يذهلني. أسفي الوحيد هو الطريقة الجامدة التي كانت تصفف بها شعرها والتي كانت تأسر شعرها المتوسط الطول في منحنى ثابت ذي تصلب يعني " إنني executive woman ". لذلك كنت أستسلم لتمرين خيالي ممتع: كنت أشعثها ذهنياً. كنت أعيد لذلك الشعر الفاحم السواد حريته. وتقوم أصابعي الوهمية بإعطائه شكلاً مهملاً جذاباً. أحياناً كنت أطلق العنان لأصابعي فأجعل شعرها في حال تبدو فيها وكأنها أمضت ليلة حبّ مجنونة. وكان ذلك المظهر الوحشي يجعلها فاتنة.
وحدث أن فاجأتني فوبوكي وأنا أمارس مهنة الحلاقة الخيالية:
_ لماذا تنظرين إلي هكذا؟
_ كنت أفكر أن نفس الكلمة باليابانية تعني " شَعر" و" الله ".
_ وكلمة " ورق " أيضاً، لاتنسي ذلك، عودي إلى أوراقك.
وكانت حالة الضبابية الذهنية تتفاقم عندي من ساعة لأخرى، ويتضاءل تمييزي بين مايجب أن يقال ومالا يجب أن يقال. وبينما أنا أبحث عن سعر الكورون السويدي في تاريخ 20 / 2 / 1991، أخذ فمي زمام المبادرة في الكلام:
_ ماذا كنت تريدين أن تصبحي في المستقبل عندما كنت صغيرة؟
_ بطلة برمي السهام.
_ ذلك يناسبك تماماً.
ولمّا لم تسألني بدورها السؤال نفسه تابعت حديثي:
_ أنا عندما كنت صغيرة كنت أريد أن أكون " الله ". إله المسيحيين المطلق، ولكني فهمت في الخامسة من عمري أن طموحي هذا مستحيل التحقيق. عندها تنازلت قليلاً وقررت أن أصبح " المسيح " وتخيلت موتي على صليب أمام الإنسانية جمعاء. وفي السابعة من عمري أدركت أن ذلك لن يحدث معي. فقررت أن أتواضع أكثر فأصبح " شهيدة " وتمسكت بهذا الخيار لسنوات عديدة، ولكني لم أفلح في ذلك أيضاً.
_ وبعد ذلك؟
_ أنت تعرفين الباقي: أصبحت محاسبة في شركة يوميموتو وأعتقد أنني لا أستطيع النزول إلى ما هو أدنى من ذلك.
_ هل تعتقدين ذلك؟ سألت بابتسامة غريبة.
وجاءت ليلة الثلاثين إلى الواحدة والثلاثين. وكانت فوبوكي آخر من ترك الشركة، وتساءلت لماذا لم تدعني أذهب بدوري، ألا يبدو جلياً أنني لن أنجح بانجاز ولو بواحد بالمئة من عملي؟
ووجدت نفسي وحيدة. وكانت تلك ليلتي البيضاء الثالثة على التوالي، أمضيها في المكتب الفسيح. كنت أنقر على آلتي الحاسبة وأسجل وأحصل على نتائج تزداد شناعة.
ثم حدث لي شيء عجيب: قفز ذهني إلى الحافة الأخرى، حافة الجنون.
فجأة لم أعد راسية. نهضت. أنا حرة، لم أكن حرة هكذا في حياتي. وتوجهت إلى النافذة العريضة، كانت المدينة المضاءة بعيداً جداً تحتي. أنا أحكم العالم، أنا الله، وقذفت بجسدي عبر زجاج النافذة لأتحرر منه.
أطفأت أضواء النيون، لأن أضواء المدينة كانت تكفي للرؤية بشكل جيد، وذهبت إلى المطبخ لأحضر عبوة من الكوكا وشربتها دفعة واحدة. وعندما عدت إلى قسم المحاسبة حللت رباط حذائي ورميت به، وقفزت على مكتب قريب، ثم من مكتب إلى مكتب مطلقة صيحات فرح.
كنت أشعر بنفسي خفيفة جداً بحيث أن ثيابي أخذت تثقل علي. نزعتها واحداً واحداً وبعثرتها حولي. ثم وقفت على يدي كشجرة إجاص، أنا التي لم أقدر على فعل ذلك في حياتي. وأخذت أتنقل على يدي بين المكاتب المتقاربة. بعد ذلك وإثر قفزة دائرية ناجحة وجدت نفسي جالسة مكان رئيستي.
فوبوكي، أنا الله. حتى لو لم تؤمني بي، أنا الله. أنت تأمرين، وليس هذا أمراً بذي بال. أما أنا، فأحكم. القوة لا تهمني، ولكن الحكم أجمل بكثير. لا يمكنك تخيل مجدي، فالمجد لذيذ: الملائكة تنفخ في الأبواق على شرفي. لم أحظ بمجد في حياتي كما في هذه الليلة. وهذا بفضلك، ليتك تعلمين كم تساهمين بمجدي. حتى الحاكم الروماني بونتي بيلاطُس، الذي سلّم المسيح لليهود، لم يكن يعلم أنه يسعى لانتصار المسيح. هناك مسيح الزيتون وأنا مسيح الحاسوبات. ففي الظلام تنتصب من حولي غابة من الأشجار الحاسوبية الضخمة.
إنني أنظر إلى حاسوبك يا فوبوكي، إنه كبير وعظيم تضفي عليه الظلمة هيئة تمثال في جزيرة باك 7. تجاوزت الساعة الثانية عشرة. إنه يوم الجمعة، يوم جمعتي المقدس، ويوم الآلهة فينوس عند الفرنسيين، ويوم الذهب عند اليابانيين، ولكني لا أجد ترابطاً بين فكرة الآلام المسيحية والمتعة اللاتينية وعبادة اليابانيين لذلك المعدن النفيس.
منذ أن تركت العالم الدنيوي ودخلت العالم الرهباني الياباني فقد الزمن جوهره عندي وتحول إلى آلة حاسبة أعزف عليها أرقاماً مليئة بالأخطاء. أعتقد أن الوقت وقت عيد الفصح، فمن أعلى برجي البابلي أنظر إلى حديقة أوينو وأرى أشجاراً مغطاة بالثلج: إنها أشجار كرز مزهرة... نعم... لابد أنه الفصح.
بقدر مايجعلني عيد الميلاد أشعر بالكآبة، بقدر مايفرحني عيد الفصح. إله يعود طفلاً، ذلك مروع. أما أن يصبح انسان مسكين إلهاً فذلك لا شك أمر آخر. وأعانق حاسوب فوبوكي وأغمره بالقبلات، أنا أيضاً مصلوبة مسكينة، وما أحبه في الصلب هو أنه يبشر بالنهاية. سأرتاح أخيراً من العذاب. لقد أوسعوا جسدي ضرباً بالأرقام حتى لم يعد هناك موضع ابرة حتى لأصغر الأرقام العشرية. سيقطعون رأسي بسيف ولن أشعر بشيء مطلقاً.
إنه لأمر عظيم أن نعرف متى سنموت. لأننا نستطيع تدبير أمرنا بحيث نجعل من اليوم الأخير تحفة فنية رائعة. ففي الصباح سيأتي جلّاديّ وسأقول لهم " لقد أخطأت، اقتلوني، ولكن حققوا رغبتي الأخيرة، لتكن فوبوكي من تقتلني، لتحل عنقي كما لو كنت شجرة الفلفل. فيسيل دمي ويصبح كالفلفل الأسود، خذوه وكلوه، فذاك فلفلي الذي سيراق من أجلكم ومن أجل الجميع، إنه فلفل التحالف الجديد الأبدي... وستعطسون إكراماً لذكراي... "
وفجأة داهمني البرد، ورغم أنني أضم الحاسوب بذراعيّ بكل قوة، إلا أن ذلك لم يعد يدفئني، فارتديت ثيابي. ولما كانت أسناني مازالت تصطك تمددت على الأرض وأفرغت محتويات القمامة فوقي. ثم فقدت وعيي.
سمعت صراخاً فوقي ففتحت عيني ورأيت الفضلات ثم أغمضتهما.
عدت إلى هوتي السحيقة.
ميزت صوت فوبوكي الناعم يقول:
_ هي كذلك... أنا أعرفها جيداً... لقد غطت نفسها بالأوساخ حتى لا يتجرأ أحد على لمسها، حصنت بذلك نفسها تماماً، هذه طريقتها في التصرف... لا كرامة لديها. عندما كنت أقول لها إنها غبية، كانت تجيب أنها أكثر من ذلك... أنها متخلفة عقلياً. تحتاج دوماً إلى الحط من قدرها، لأنها تعتقد أن في ذلك نجاتها، ولكنها مخطئة.
أردت أن أشرح لها أني فعلت ذلك لحمايتي من البرد، ولكني لم أقدر على الكلام. كنت أشعر بالدفء تحت قاذورات يوميموتو، وكنت مازلت أهيم في ظلمات الإغماء.
وبعد قليل بدأت أطفو على سطح الواقع. ومن خلال طبقة من الأوراق المدعوكة والعلب المعدنية وأعقاب السجائر المبللة بالكوكا، لمحت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً.
نهضت مسرعة، ولم يتجرأ أحد على النظر إلي باستثناء فوبوكي التي قالت لي ببرود:
_ عندما تقررين في المرة القادمة أن تتنكري بزي الشحاذين فلا تفعلي ذلك في شركتنا، هناك محطات المترو لهذا الغرض.
تناولت حقيبتي الظَّهرية بخجل شديد وهرعت إلى الحمّامات أغير ثيابي وأغسل رأسي تحت صنبور المغسلة. وعندما عدت إلى المكتب كانت عاملة تنظيفات قد أنهت إزالة آثار جنوني.
_ وددت لو قمت بذلك بنفسي. قلت بحرج.
وعلقت فوبوكي:
_ نعم...ربما كنت قادرة على القيام بهذا العمل على الأقل.
_ أظنك تلمحين إلى تدقيق الفواتير... أنت محقة، إنه عمل يفوق قدراتي... وأعلن لك أمام الملأ أنني فشلت بهذه المهمة.
_ لقد تأخرت بإعلان ذلك.
"هكذا إذن، فكرت في نفسي، كانت تريد أن أقول ذلك بنفسي... بالتأكيد: ذلك أكثر إهانة لي".
_ المهلة تنتهي هذا المساء. تابعتُ.
_ أعطيني المصنف.
وخلال عشرين دقيقة كانت قد انتهت.
أمضيت النهار كالشبح. كنت أحس بجفاف في حلقي، وكان مكتبي مغطى بأكداس الأوراق المليئة بالأخطاء الحسابية فرميتها الواحدة تلو الأخرى. وعندما كنت أنظر إلى فوبوكي وهي تعمل على حاسوبها، كنت بالكاد أستطيع مغالبة الضحك. كنت مازلت أرى نفسي في الليلة الماضية عارية جالسة على لوحة مفاتيح الحاسوب أضمّه بذراعيّ وساقيّ. والآن تضع تلك المرأة الشابة أصابعها على أزرار تلك اللوحة، كانت المرة الأولى التي أهتم فيها بالمعلوماتية.
لم تكف السويعات التي نمتها تحت القاذورات لتخرجني من حالة الاختلاط التي أصيب بها عقلي بسبب الإفراط بالأرقام. كنت أتخبط وأبحث تحت حطام عقلي عن جثث قدراتي الذهنية، ولكني في نفس الوقت كنت أتلذذ بتذوق تلك الاستراحة المعجزة: فللمرة الأولى منذ أسابيع خلتها لا تنتهي، أجد نفسي لا أنقر على الآلة الحاسبة.
وعدت أكتشف العالم بدون أرقام. وبما أنه يوجد ما يسمى الأمية فلا بد أن يوجد ما يسمى أميّة الأرقام لوصف المأساة الخاصة بأناس على شاكلتي.
لقد دخلت التاريخ. قد يبدو غريباً بعد ليلتي الجنونية تلك أن تسير الأمور وكأن شيئاً خطيراً لم يحدث. بالطبع لم يرني أحد أقفز على المكاتب عارية، أمشي على يديّ وأغازل حاسوباً شريفاً، ولكنهم رأوني نائمة تحت محتويات القمامة. في بلدان أخرى كان من الممكن أن أُطرَد بسبب تصرف كهذا. والعجيب أنّ في ذلك بعض المنطق: فالأنظمة الأكثر استبداداً تسبب، في البلدان التي تطبّق فيها، حالات انحراف عجيبة، وبالتالي تكون متسامحة نسبياً مع بعض الظواهر الإنسانية الشاذة الأكثر غرابة. ولن نعرف ما معنى غرابة الأطوار حتى نلتقي بانسان ياباني. فهل نمت أنا تحت القاذورات؟ وماذا في ذلك، لقد رأوا ما هو أغرب من ذلك. إن اليابان بلد يعرف تماماً ماذا يعني أن "يطقّ" الإنسان.
عدت إلى ممارسة لعبة الأعمال المفيدة، ومن الصعب وصف المتعة التي كنت أحضّر بها الشاي والقهوة: فهذه المهام البسيطة التي لم تكن تشكّل لدماغي المسكين أية صعوبات أعادت ترميم عقلي.
عدت أصحح التقاويم بكثير من التكتم، وكنت أحاول جاهدة اتخاذ هيئة المنهمك في العمل طوال الوقت، خوفاً من إعادتي إلى الأرقام.
بكل بساطة ذات يوم وقع حادث ما: لقد قابلت الله. كان نائب المدير البشع قد طلب مني بعض البيرة، وكأنه لا يجد نفسه سميناً كفاية، فأحضرتها له بقرف مهذب. وبينما أنا أغادر عرين الرجل السمين فُتح باب المكتب المجاور: وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الرئيس. فتبادلنا النظر بدهشة: من ناحيتي كان ذلك مفهوماً. فها أنا أخيراً أتمكن من رؤية إله يوميموتو. ولكن من ناحيته كان الأمر أصعب تفسيراً: فهل كان يعرف حتى بوجودي؟ بدا لي أنه كذلك، لأنه تساءل بصوت ذي جمال وعذوبة غريبين:
_ لاشك أنك أميلي - سَنْ؟
وابتسم مادّاً لي يده. عقدت لساني الدهشة فلم أستطع النطق بأي حرف. كان السيد هانيدا رجلاً في الخمسينات من العمر، له قامة نحيفة ووجه نادر الوسامة. يعطي انطباعاً بطيبة كبيرة وسلام عميق. وغمرني بنظرة ود صادقة جعلتني أفقد القليل الباقي من رباطة جأشي.
تركني وذهب، وبقيت وحيدة متسمرة في الممر لا أقدر على الحركة. هكذا إذاً، فرئيس معقل التعذيب هذا، حيث أتجرع كل يوم إهانات دون سبب، وحيث أنا موضع كل أنواع الاحتقار، سيد هذا الجحيم هو ذلك الانسان الرائع، تلك الروح السامية.
كان من الصعب فهم ذلك. فشركة يرأسها رجل عظيم النبل يفترض أن تكون جنة عذبة، مكاناً للازدهار والرقة. ماهذا الغموض؟ هل يمكن لإله أن تكون مملكته الجحيم؟
كنت لا أزال جامدة من الذهول عندما جاءتني الإجابة على هذا السؤال. فقد فتح باب مكتب السمين أوموشي وسمعت صوت ذلك الكريه يصرخ بي:
_ ماذا تفعلين هنا؟ نحن لا ندفع لك أجراً لتتنزهي في الممرات.
وهكذا اتضح كل شيء: ففي شركة يوميموتو الإله هو الرئيس والشيطان هو نائب الرئيس.
أما فوبوكي فلم تكن شيطاناً ولا إلهاً، إنها يابانية وحسب. ليس كل اليابانيات جميلات، ولكن عندما تكون إحداهن جميلة فليس على الآخرين سوى الاحتراس. إن كل جمال يترك أثراً بليغاً في النفس، ولكن الجمال الياباني أبلغ أثراً. أولاً، لأن تلك البشرة الزنبقية وتلك العينان العذبتان وذلك الأنف بفتحتيه الدقيقتين المميزتين وتلك الشفاه ذات المحيط الواضح الرسم وتلك الحلاوة الغريبة في القسمات، كل ذلك من شأنه أن يطغى على أبدع الوجوه.
وثانياً، لأن طريقة حركاته وسكناته تجعله أنيقاً كتحفة فنية لا يدركها العقل الإنساني. وأخيراً، فإن جمالاً قاوم شدائد جسدية ونفسية عديدة، وكثيراً من الضغوط والقمع، والمحرمات العبثية والعقائد والخنق والتخريب والسادية والمؤامرات والإهانات... جمال كهذا هو معجزة بطولية.
ليس لأن المرأة اليابانية ضحية، الأمر مختلف تماماً، وليست هي الأكثر بؤساً بين نساء الأرض أبداً. فسلطتها كبيرة، وأنا في موقع من يعرف ذلك عز المعرفة. كلا: فإذا شعرنا بالإعجاب تجاه المرأة اليابانية _ ويجب أن نعجب بها _ فذلك لأنها لا تقدم على قتل نفسها. فالتآمر على مُثلها العليا يبدأ منذ نعومة أظفارها، ويُصبّ الجبس في دماغها: " إذا لم تتزوجي في الخامسة والعشرين من عمرك، سيكون لديك الكثير من الأسباب لتشعري بالخجل "، " إذا ضحكت فأنت سطحية "، " إذا تركت وجهك يعبّر عن شعور ما فأنت سوقية "، إذا ذكرت وجود شعرة في جسدك فأنت مقزِّزة "، " إذا قبلك صبي على خدك أمام الملأ فأنت ساقطة "، " إذا استمتعت بالأكل فأنت خنزيرة "، " إذا أحسست بمتعة النوم فأنت بقرة "، الخ. لو لم تكن هذه المبادئ تستهدف النيل من العقل لكانت طريفة.
في النهاية مايراد أن يقال لليابانية عبر هذه العقائد أنّ عليها ألّا تأمل بشيء جميل في حياتها. لا تأملي بالمتعة لأنها تبيدك. لا تأملي بالحب لأنك لا تستحقينه، فمحبوك سيحبونك لما يتصورونه عنك وليس لحقيقتك أبداً. لا تأملي أن تحمل الحياة لك أي شيء لأنها في كل سنة تمر تأخذ منك أشياء. ولا تأملي حتى بشيء كبساطة الطمأنينة، فليس لديك من المبررات مايجعلك مطمئنة.
تأمّلي بالعمل، ولكنك بسبب جنسك الأنثوي لا تملكين أية فرصة لترتقي في عملك، ولكن اطمحي إلى خدمة مؤسستك. العمل سيكسبك مالاً لن تجني منه أية فرحة ولكنك تستطيعين به زيادة قيمتك في حال الزواج مثلاً، فلستِ من الحماقة بحيث تعتقدين أن أحداً يمكن أن يريدك لقيمتك الذاتية. فيما عدا ذلك يمكنك أن تأملي بالعيش طويلاً، وليس لذلك أية أهمية، ويمكنك أن تأملي ألا تذوقي العار وتلك غاية بحد ذاتها. وهنا تنتهي قائمة آمالك المشروعة.
وهنا تبدأ لائحة واجباتك العقيمة اللا متناهية. يجب أن تكوني كاملة، لسبب وحيد هو أن ذلك أضعف الإيمان. فلن يعطيك الكمال شيئاً إلا أن تكوني كاملة وليس في ذلك فخرٌ ولا متعة.
لن أقدر أبداً على تعداد كل واجباتك، فليس في حياتك دقيقة واحدة غير محكومة بواحد منها. فمثلاً حتى عندما تكونين معزولة عن العالم في المرحاض لقضاء حاجة متواضعة كإراحة مثانتك، عليك الانتباه لئلا يسمع أحد موسيقى تدفق ساقيتك: لهذا عليك بسكب الماء بلا توقف منذ دخولك.
ذكرت هذا المثال كي تفهمي مايلي: إذا كانت حتى أكثر مجالات حياتك حميمية وتفاهة تخضع لتعليمات صارمة، فالأجدر بك أن تتخيلي حجم الضغوط التي ستثقل على لحظات حياتك الحاسمة.
هل تحسين بالجوع؟ كُلي القليل لأن عليك أن تبقي نحيفة، لا للتمتع برؤية الناس يلتفتون إلى قامتك في الشارع، فلن يفعلوا، ولكن لأنه من المعيب أن يكون لديك استدارات.
من واجبك أن تكوني جميلة، وإذا ما بلغت ذلك فإن جمالك لن يجلب لك أية متعة. والمجاملات الوحيدة التي يمكن أن تتلقيها ستأتي من غربيين، وكلنا نعلم كم هم مجردون من الذوق الرفيع. وإذا ما حدث أن نظرتِ إلى جمالك أمام المرآة فليكن عن خوف لا عن متعة، لأن جمالك لن يجلب لك سوى الرعب من فقدانه. إذا كنت فتاة جميلة لن يصبح لك شأن عظيم؛ وإن لم تكوني فتاة جميلة، فأنت أحقر من لا شيء.
من واجبك أن تتزوجي، ويفضل أن يكون ذلك قبل عمر الخامسة والعشرين، وهو تاريخ انتهاء صلاحيتك. ولن يقدم زوجك لك الحب إلا إذا كان معتوهاً، وليس من المفرح أن يحبك معتوه. وفي جميع الأحوال فسواء إن أحبك أم لم يحبك فلن تري ذلك: ففي الساعة الثانية صباحاً سيعود إليك رجل مرهق وغالباً ثمل ليرمي بنفسه على سرير الزوجية الذي سيغادره في السادسة صباحاً دون أن يكون قد تلفظ بكلمة.
من واجبك أن يكون لك أطفال تعاملينهم كآلهة حتى الثالثة من عمرهم، السن التي تطردينهم فيها من الجنة بضربة واحدة، وتزجين بهم في الخدمة العسكرية التي ستستمر من عمر الثالثة حتى الثامنة عشرة، ثم من الخامسة والعشرين حتى موتهم. أنت مجبرة إذاً أن تلدي كائنات ستكون تعيسة بقدرما تلقت في سنواتها الثلاث الأولى من أفكار عن السعادة.
هل تجدين ذلك مروعاً؟ لست أول من اعتقد ذلك. فمثيلاتك فكرن بذلك منذ عام 1960 ولكن كما ترين، لم يُفد ذلك في شيء. فالعديد منهن ثُرنَ، وأنت قد تثورين أنت أيضاً في المرحلة الوحيدة الحرة من حياتك بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين. ولكن في الخامسة والعشرين ستلاحظين أنك لم تتزوجي بعد وستخجلين. عندها ستتخلين عن زيك الغريب لترتدي طقماً أنيقاً، وجوارب شفافة بيضاء وحذاء شنيعاً، وستحولين شعرك الرائع المنسدل إلى تسريحة مشوهة، وستسعدين إن أرادك أحدهم زوجاً كان أم صاحب عمل.
وفي حال تزوجت عن حب، وهو احتمال بعيد جداً، ستكونين أكثر تعاسة لانك سترين زوجك يتعذب. من الأفضل لك ألّا تحبيه: سيجعلك ذلك لا مبالية أمام زوال مثله العليا، فزوجك مايزال يملك تلك المثل. مثلاً، جعلوه يأمل أن تحبه امرأة يوماً، لكنه سيرى بسرعة أنك لا تحبينه. وكيف تستطيعين أن تحبي أحداً وقد جمّد الجبس قلبك؟ لقد فرض عليك الكثير الكثير من الحسابات بحيث لم تعودي قادرة على الحب. وإذا ما أحببت أحداً فذلك يعني أنهم أساؤوا تربيتك. في الأيام الأولى من زفافك ستتظاهرين بأشياء كثيرة. يجب أن نعترف بأنه ما من امرأة يمكنها التمثيل بمثل مهارتك.
من واجبك التضحية من أجل الآخرين. ولكن لا تظني أن تضحيتك من شأنها أن تُسعد أولئك الذين تهبينها لهم. سوف تسمح لهم بألا يحمرّوا خجلاً منك. لا أمل لك بإسعاد نفسك ولا بإسعاد الآخرين.
وإذا نجا قدرك بمعجزة من إحدى هذه المحتّمات، فلا تستنتجي من ذلك أنك انتصرت، بل استنتجي أنك مخطئة. وعلى كل حال سرعان ما ستدركين ذلك بنفسك، لأن وهم انتصارك لايمكن إلا أن يكون مؤقتاً. ولا تستمتعي باللحظة الحاضرة، دعي هذا الحساب الخاطئ للغربيين. ليست اللحظة الحاضرة بشيئ ذي بال، حياتك نفسها ليست بشيء ذي بال، وأية مدة زمنية تقل عن عشرة آلاف سنة ليس لها أية قيمة.
إن كان يعزيك ذلك، فلا أحد يعتبرك أقل ذكاء من الرجل. أنت لامعة، وهذا واضح جداً للجميع، حتى للذين يعاملونك بذلك الاحتقار. ولكن رغم ذلك، إن فكرت بذلك فهل تجدينه بالأمر المُعزّي؟ على الأقل لو كنا نعتبر أنك أقل من الرجل لسهُل شرح الجحيم الذي تعيشينه، ولاستطعت النجاة منه بالبرهان على تميز عقلك حسب القواعد المنطقية. ولكنا نعرف أنك مساوية له، لا بل متفوقة عليه: فجحيمك إذاً عبثي، وهذا يعني أنه لا سبيل للخروج منه.
بلى، هناك سبيل واحد، لك كامل الحق فيه، إلا إذا كنت قد ارتكبت حماقة الدخول في الدين المسيحي: لك حق الانتحار. فهو، كما نعرف في اليابان، فعل في غاية الشرف. ولكن إياك أن تعتقدي أن الآخرة هي إحدى تلك الجنان المرحة التي يصفها الغربيون الظرفاء، فليس هناك ماهو رائع في الجانب الآخر. وكتعويض عن ذلك فكري بما هو يستحق التفكير: سمعتك ما بعد الموت. فهي ستتألق إذا انتحرت وستكون فخراً لأقاربك. ستحوزين على موقع مميز في مقبرة العائلة: وذلك أجلّ الآمال التي يمكن لآدمي أن يحلم بها.
طبعاً تستطيعين ألا تنتحري. ولكن عند ذلك، عاجلاً أم آجلاً، لن تستطيعي التحمل وستسقطين في عار ما، ستتخذين عشيقاً أو تتعاطين النهم، أو تصبحين كسولة... وماأدراك ماذا بعد. فقد لاحظنا أن الانسان، والمرأة بشكل خاص، لا يستطيع العيش طويلاً دون أن يغرق في إحدى تلك العيوب المتعلقة بالمتعة الجسدية. ونحن إن كنا نحذر من الانزلاق في تلك المتعة فليس ذلك من قبيل نزعة طهرية: فما أبعدنا عن ذلك الوسواس الأمريكي.
في الحقيقة، يجب الابتعاد عن المتعة لأنها تسبب التعرق. ولا يوجد ما هو معيب أكثرمن العرق. فإن أنت تناولت بسرعة كبيرة طبقك من المعكرونة الساخنة، أو إن استسلمت لجنون الجنس، أو إذا أمضيت شتاءك ناعسة قرب الموقد، فسوف تتعرقين. وعندها لن تدعي لأحد مجالاً للشك بسوقيتك.
لا تترددي بين الانتحار والتعرق. فبقدر ماهي رائعة إراقة دمك بقدر ماهي كريهة إراقة عرقك. وإذا أقدمت على قتل نفسك فلن تتعرقي أبداً وسيختفي قلقك إلى الأبد.
لا أظن أن مصير الرجل الياباني أكثر مدعاة للحسد. بل حتى أني في الواقع أظن العكس. فالمرأة اليابانية على الأقل يمكنها الخروج من جحيم المؤسسة التي تعمل فيها إذا تزوجت، لأن عدم العمل في شركة يابانية هو بنظري غاية لذاتها. ولكن الرجل الياباني ليس انساناً مخنوقاً. لم يُدمَّر فيه كل أثر للمُثل منذ نعومة أظفاره. إنه يتمتع بأحد الحقوق الانسانية الأساسية وهو حق الحلم والأمل. وهو لا يحرم نفسه من ممارسة هذا الحق. فيتخيل عوالم سحرية يكون فيها سيّداً مطاعاً وحرّاً.
أما المرأة اليابانية لا تملك مثل هذا الملاذ إن كانت حسنة التربية _ وتلك غالباً حال غالبيتهن العظمى. لقد انتُزِعت منهن هذه الموهبة الجوهرية. ولهذا أُعرب عن اعجابي العميق بكل امرأة يابانية لم تقدم على الانتحار. فمجرد البقاء على قيد الحياة يُعدّ من جانبها فعل مقاومة فيها شجاعة نزيهة بقدر ما هي عظيمة.
كنت أفكر بذلك وأنا أتأمل فوبوكي.
_ هل يمكننا معرفة ماتفعلين؟ سألتني بلهجة فظّة.
_ إنني أحلم، ألا يحدث لك هذا أبداً؟
_ أبداً.
ابتسمْتُ. أصبح السيد سايتو الآن أباً لطفل ثان، ومن إحدى عجائب اللغة اليابانية أننا نستطيع ابتكار أسماء ليس لها نهاية من كل أقسام الكلام. ومن بين تلك الغرائب التي تمنحها الثقافة اليابانية هناك أمثلة أخرى، فأولئك اللاتي لا يحق لهن الحلم يحملن أسماء تدعو للحلم مثل فوبوكي. فالأهل يبيحون لأنفسهم أرق الأشعار الغنائية عندما يتعلق الأمر بتسمية فتاة. بينما عندما يتعلق الأمر بتسمية صبي فإن الابتكارات الأسمائية غالباً مايكون لها شناعة مضحكة.
ولهذا، وبما أنه لم يكن هناك أكثر شرعية من انتقاء اسم لولده على شكل فعل، فإن السيد سايتو سمى ابنه " تسوتوميرو " يعني " عَمِلَ ". والتفكير بأن هذا الصبي الصغير قد ابتلي بمثل هذا البرنامج كهوية له كان يبعث فيّ الرغبة بالضحك. تخيلت، بعد عدة سنوات، الصبي عائداً من المدرسة، وأمه تصرخ فيه: " يا عَمِلَ، اذهب واعمَل! " ماذا إذا غدا عاطلاً عن العمل؟
كانت فوبوكي كاملة. عيبها الوحيد أنها بلغت التاسعة والعشرين من عمرها وليس لها زوج. ولا شك أن هذا الموضوع كان يُخجلها. ولكن إذا أمعنا النظر في ذلك، عندما لا تجد امرأة في هذا الجمال زوجاً لها فذلك لأنها كاملة حقاً. ولأنها طبقت بحماس مطلق القاعدة السامية التي سُمّي بها ابن السيد سايتو. منذ سبع سنوات وعملها يبتلع كل وجودها. ولقد أثمرت جهودها، فهي ارتقت في مهنتها إلى حد ندر أن يصل إليه كائن انثوي. ولكن ببرنامج يومي حافل كبرنامجها كان من المستحيل أن تتزوج زواجاً مناسباً. ولا يمكننا لومها لأنّها تعمل كثيراً. فعند اليابانيين لا يعمل الانسان أبداً كثيراً. هناك إذاً لا منطقية في النظام الخاص بالنساء: فالعمل الحثيث الذي يجعل منهن كاملات يفضي بهن إلى تجاوز سن الخامسة والعشرين بلا زواج، وبالتالي إلى عدم الكمال. إن قمة السادية في هذا النظام تكمن في تناقضه: فاتباع تعاليمه يقود إلى عدم اتباعها.
هل كانت فوبوكي خجلة من عزوبيتها التي طالت؟ لا شك في ذلك. فقد كانت فكرة الكمال متسلطة عليها حتى أنها لا تسمح لنفسها بأي تجاوز للتعاليم العليا. كنت أتساءل إن كان لديها عشاق عابرون، ولكن من المؤكد أنها لم تكن لتفاخر بجريمة خرق- الناديشيكو (الناديشيكو هي الزنبقة وترمز للحنين إلى المثل الأعلى: الفتاة اليابانية العذراء) 8. وأنا من تعرف تفاصيل جدول أعمالها اليومي لا أدري كيف كان يمكن لها أن تقوم ولو بمغامرة عابرة بسيطة.
كنت أراقب تصرفها عندما كانت تتعامل مع رجل عازب، وسيماً كان أم بشعاً، شاباً أم عجوزاً، لطيفاً كان ام كريهاً، ذكياً ام أحمقَ، لم يكن ذلك يهمها بقدر مايعنيها ألا يكون أدنى منها مرتبة في شركتنا أو شركته. كانت رئيستي تصبح فجأة على قدر من الرقة فيه من التصنع ما يجعلها تكاد تبدو عدوانية. فتتحسس يداها بعصبية فائقة حزامها العريض الذي كان غالباً ماينزلق على خصرها الشديد النحافة، فتعيد الحلقة المُنزاحة التي تتوسطه إلى الأمام. وكان صوتها يصبح عذباً حتى يكاد يشبه الأنين. وكنت دعوت هذا المشهد في قاموسي الخاص بـِ " الطقوس العرائسية للآنسة موري ". كان من المضحك أن أرى جلادتي تتعاطى مثل هذه الحماقات التي كانت تنتقص كثيراً من جمالها ومن أناقتها. وفي الوقت نفسه لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي من شعور بالانقباض وأنا أرى الذكور الذين تقوم أمامهم بمحاولات الإغراء المثيرة للشفقة، وهم لا يفطنون إليها ولا يعيرونها أي التفات. كنت أشعر أحياناً برغبة بأن أهزهم وأصيح بهم:
_ هيّا، كن أكثر لطفاً، ألا ترى الجهد الذي تبذله من أجلك؟ أوافقك أن ذلك ليس في مصلحتها، ولكن ليتك تعلم كم هي جميلة عندما لا تقوم بهذه التصرفات. بل حتى إن جمالها كثير عليك، ويجدر بك البكاء من شدة الفرح لأن جوهرة مثلها تهتم بك. أما فوبوكي فكم كنت أود أن أقول لها:
_ كُفي عن ذلك! هل تعتقدين حقاً أن استعراضك السخيف سيجذبه؟ إنك أجمل بكثير عندما تشتمينني وتعاملينني أسوأ معاملة. ما عليك إلا أن تتخيلي أنه أنا، كلميه وتصوري أنك تكلمينني وكوني قاسية متكبرة...قولي له إنه متخلف عقلياً... لا يصلح لشيء... وسوف ترين أنه لن يبقى بلا اكتراث. كنت بشكل خاص أرغب أن أهمس بأذنها:
_ أليس من الأفضل ألف مرة أن تبقي عازبة حتى آخر أيامك من أن تتحملي هذا التافه الشاحب الذي لا يصلح لشيء؟ ماذا ستفعلين بزوج مثله؟ وكيف لك أن تشعري بالخجل من عدم الزواج بأحد أولئك الرجال، وأنت الرائعة الشامخة الجمال وتحفة هذا الكون؟ إنهم جميعاً تقريباً أقصر منك قامة، ألا ترين في ذلك إشارة ما؟ فأنت سهم أطول من أن يناسب رماة السهام البائسين أولئك.
وعندما كان يغادر الرجل- الفريسة، كان وجه رئيستي يتحول بثانية من الغنج إلى أقصى البرودة. ولم يكن من النادر عندها أن تلتقي عيناها بنظرتي الماكرة، فتزم فمها بحقد.
كان يعمل في شركة صديقة ليوميموتو رجل هولندي في السابعة والعشرين من عمره اسمه بييت كرامر. ورغم كونه أجنبياً فقد تبوأ مرتبة تضاهي مرتبة معذبتي. ولما كان طوله يبلغ متراً وتسعين سنتيمتراً اعتقدت أنه مرشّح مناسب لفوبوكي. وفعلاً، عندما كان يمر بمكتبنا كانت تنطلق في طقسها العرائسي المسعور فتدير حزامها وتضبطه مرات.
كان كرامر إنساناً لطيفاً، ذا مظهر حسن، وكان يناسب فوبوكي لأنه كان هولندياً: فهذا الأصل شبه الجرماني كان يجعل انتماءه للعرق الأبيض أقل اشكالية.
قال لي ذات يوم:
_ أنت محظوظة بالعمل مع الآنسة موري، فهي لطيفة للغاية.
أضحكني هذا التصريح، وقررت استخدامه فأعدته على مسامع زميلتي وأنا أبتسم ابتسامة ساخرة عند ذكر " لطافتها " وأضفت:
_هذا يعني أنه يحبك.
فنظرت إلي باستغراب:
_ هل هذا صحيح؟
_ قطعاً، أنا متأكدة. قلت مؤكدة.
وبقيتْ مرتبكة عدة لحظات. هذا ماكانت تفكر به: " إنها من العرق الأبيض وتعرف جيداً عادات البيض. إنها المرة الوحيدة التي يمكنني أن أثق بها، ولكن لا يجب أن تعرف ذلك أبداً ".
واتخذت هيئة باردة وقالت:
_ هو صغير جداً بالنسبة لي.
_ هو أصغر منك بسنتين، وحسب التقاليد اليابانية هو فرق مثالي لتكوني له حسب تلك التقاليد "الزوجة والأخت الكبرى". واليابانيون يعتقدون أن هذا الزواج من أفضل الزيجات: فالمرأة بهذا تملك من الخبرة أكثر من الرجل فقط بالقدر الذي يسمح لها أن توفر له الراحة.
_ أعرف ذلك، أعرف ذلك.
_ في هذه الحال، ما الذي لا يعجبك فيه؟
فسكتت، وكان واضحاً أنها تقترب من حالة تشبه الثمالة.
وبعد عدة أيام أُعلِن عن قدوم بييت كرامر، فاجتاح المرأة الشابة انفعال رهيب.
ولسوء الحظ كان الجو شديد الحرارة، وكان الهولندي قد خلع سترته وزينت قميصه تحت الابط هالات عريضة من العرق. ورأيت ملامح وجه فوبوكي تتغير. حاولت جاهدة أن تتكلم وكأنها لم تلحظ شيئاً. ولكن طريقة كلامها كانت تبدو أكثر تكلفاً وغرابة لأنها كانت تضطر لقذف رأسها إلى الأمام عند النطق بكل كلمة بهدف إخراج الكلام عنوة من حلقها. تلك التي عرفتها رائعة الجمال، هادئة المظهر كانت في هذه اللحظة لا تختلف بانفعالها في شيء عن هيجان ديك في حالة تحفّز.
وبينما هي مسترسلة في هذا التصرف المثير للشفقة، كانت تنظر خفية إلى زملائها. أملها الأخير هو ألا يكونوا قد رأوا شيئاً: واأسفاه، كيف لنا أن نعلم إن كان أحد ما رأى شيئاً؟ بل كيف ندرك أن يابانياً بالأخص قد رأى شيئاً؟ كان يرتسم على وجوه موظفي يوميموتو المرموقين تعبير ودّ جامد يميز عادة اللقاءات الرسمية بين شركات صديقة.
والأكثر طرافة في الأمر أن كرامر لم يلحظ شيئاً من الفضيحة التي ارتكبها ولا من الأزمة الداخلية التي كانت تخنق الآنسة موري البالغة اللطافة. وكانت الفتحتان الأنفيتان لموري تخفقان بشدة ولم يكن من الصعب معرفة سبب ذلك، إذ أنهما تتحسسان الهواء لمعرفة ما إذا كان العار الإبطي قد اكتمل كليّاً. وعندها قام صاحبنا الهولندي على غير علم منه بحركة ألغت مساهمته في ازدهار العرق الأوراسي: كان قد لمح منطاداً دعائياً في السماء فهرع إلى النافذة العريضة. وبهذا التحرك السريع انفلتت في الجو المحيط باقة من الجزيئات ذات رائحة نفاذة نشرها الهواء الناجم عن الركض في أنحاء الغرفة. لم يعد هناك أدنى شك الآن: فعرق بييت كرامر ذو رائحة نتنة.
ولم يستطع أحد تجاهل ذلك بين موظفي المكتب الشاسع. أما الاندفاع الطفولي للشاب أمام منطاد دعائي يعبر بشكل دوري سماء المدينة فلم يبد أنه أثّر بأحد.
وعندما غادر الأجنبي المعطّر كانت رئيستي شاحبة كمن نزف دما،ً مع أن مصيرها كان سيزداد سوءاً فيما بعد. وبدأ السيد سايتو رئيس القسم بالهجوم:
_ لم أكن أستطيع البقاء دقيقة واحدة زيادة.
كان بقوله هذا أعطى تصريحاً بالنميمة، فسارع إليها الآخرون حالاً:
_ هل يدرك هؤلاء البيض أن رائحتهم كرائحة الجثث؟
_ لو استطعنا افهامهم أن رائحتهم كريهة لحصلنا على سوق مذهل في الغرب لمزيلات العرق الجيدة فعلاً.
_ ربما استطعنا مساعدتهم على تخفيف فظاعة رائحتهم، ولكننا لا نستطيع أن نمنعهم من التعرق، هكذا هو جنسهم.
_ نعم، فعندهم حتى النساء الجميلات يتعرقن.
كانوا في غاية الفرح والحبور، ولم يخطر ببال أحد منهم أن أقوالهم قد تزعجني. في البداية أسعدني ذلك، فهم ربما لا يعتبروني من العرق الأبيض. لكني سرعان ماصحوت: لئن كانوا يتفوهون بهذه الأقوال أمامي فما ذلك إلا لأنهم لا يحسبون لي أي حساب.
لم يكن أحد منهم يتخيل ما يعني ذلك المشهد لرئيستي: فلو أن أحداً لم ينتبه لفضيحة الهولندي " الإبطية " لكانت استطاعت التغاضي عن تلك العاهة الوراثية في خطيب المستقبل. أما الآن فهي تعلم أن أية علاقة مع كرامر مستحيلة، لأنها ستكون أخطر من تشويه سمعتها ذاتها، إنها ستفقدها كرامتها. وعليها أن تحمد الله على أن أحداً، ما عداي أنا اللاشيء، لا يعرف بالمشاريع التي كانت تعوّل على هذا العازب.
وعادت إلى عملها شامخة برأسها وهي تصر على أسنانها. وبالنظر إلى صلابة قسماتها فهمت كم كانت تعقد من آمال على هذا الرجل: وكنت أنا ضليعة بهذا الأمر، فهل كانت تفكر جديّاً به لولاي؟
معنى ذلك إذا كانت فوبوكي تتألم فالتبعة الأكبر تقع علي. وقلت لنفسي إن ذلك من شأنه أن يسعدني ولكني لم أشعر بأي سعادة.
كان قد مضى أكثر من اسبوعين على تركي لوظيفتي في المحاسبة، عندما وقعت المأساة.
يبدو أنني كنتُ منسية في شركة يوميموتو، وهذا أفضل ما يمكن حدوثه لي، حتى أني كنت قد بدأت بالاستمتاع بذلك. ولم يكن يتراءى لي من أعماق طموحي المعدوم بشكل لا يُصدق مصير أفضل من البقاء جالسة إلى مكتبي أتأمل تتابع الفصول على وجه رئيستي. إن تقديم الشاي والقهوة، ورمي نفسي من النافذة بانتظام، وعدم استعمال الآلة الحاسبة، نشاطات كانت تشبع حاجتي الأكثر من هزيلة في ايجاد مكان لي في الشركة.
كان من الممكن أن تدوم تلك الراحة الرائعة إلى الأبد لو لم أرتكب ما ينبغي تسميته حماقة.
فقد كنت في النهاية أستحق هذا الوضع. حاولت جاهدة أن أبرهن لرؤسائي أن رغبتي الصادقة بالعمل لم تكن تحول بيني وبين التسبب في الكوارث. ويبدو أنهم فهموا ذلك الآن لأن سياستهم الضمنية تقضي بشيء من قبيل "يجب ألا تلمس تلك الفتاة شيئاً" ولقد كنت في مستوى هذه المهمة الجديدة.
ذات يوم سمعنا من بعيد صوت الرعد في الجبل: كان ذلك صراخ السيد أوموشي، واقترب الصوت الهادر، فتبادلنا النظرات وتوجسنا شراً.
تداعى باب قسم المحاسبة كسدّ متآكل تحت ثقل الكتلة اللحمية لنائب الرئيس الذي تدحرج نحونا. توقف في وسط الغرفة وصرخ بصوت غول يُطالب بطعامه:
_ فوبوكي - سَنْ!
وعرفنا من الذي سيُذبح قرباناً للسمين ذي الشهية التي تشبه شهية معبود قرطاجي. وبعد ثوان تلا شعور الناجين مؤقتاً بالارتياح قشعريرة جماعية كتعاطف صادق.
وانتفضت رئيستي واقفة حالاً وتسمرّت. كانت تنظر أمامها مباشرة، أي في اتجاهي ولكن دون أن تراني. كانت رائعة في خوفها المكتوم وهي تنتظر مصيرها. واعتقدت للحظة أن أوموشي سيخرج سيفاً من بين ثنيات بطنه ويقطع رأسها. ولو حدث ووقع قربي فإني سألتقطه وأحبه حتى آخر أيامي.
"ولكن لا، قلت في نفسي، إنها أساليب عصر آخر. سيقوم كعادته باستدعائها إلى مكتبه ويوبخها توبيخ العصر."
ولكنه فعل ما هو أفظع من ذلك. هل كان يا ترى مزاجه أكثر سادية مما هو في العادة؟ أم هل لأن ضحيته امرأة، بل امرأة رائعة الجمال؟ فهو لم يوبخها توبيخ العصر في مكتبه بل في مكانها هنا، أمام أربعين موظفاً في قسم المحاسبة. ولا يمكن تخيّل موقف أكثر إهانة لأي كائن بشري، وخاصة لأي ياباني، وخاصة للآنسة موري الفاتنة والمعتدة بنفسها، من هذا الذل أمام الملأ. إذ كان واضحاً أن ذلك الوحش يتعمد إذلالها.
تقدم منها ببطء وكأنه يتلذذ مقدماً بتأثير سلطته المدمرة. لم يرف جفن لفوبوكي. كانت في أروع صورة لها على الاطلاق. ثم بدأت شفتاه المجعدتان الملطختان بلعاب أبيض ترتجفان وتطلقان رشقات من الصراخ دون توقف.
يميل سكان طوكيو عادة إلى الكلام بسرعة صاروخية، ولا سيما عندما يتشاجرون، فنائب المدير لم يكفه أن أصله من مدينة طوكيو بل هو فائق السمنة وسريع الغضب وذلك يثقل صوته بجزيئات دسمة من الغيظ: وكان من نتيجة كل تلك العوامل أنني لم أفهم شيئاً من عدوانه الشفهي المتواصل الذي صبه على رئيستي.
ولكن هنا، وحتى لو كانت اللغة اليابانية لغة أجنبية بالنسبة لي، فقد فهمت مايجري: كان أحدهم يفرض على كائن بشري موقفاً مخزياً على بعد ثلاثة أمتار مني، وكان ذلك مشهداً فظيعاً. كنت على استعداد لدفع مبلغ طائل في سبيل إيقافه ولكنه لم يتوقف: كان الصياح الخارج من أحشاء الجلاد يبدو وكأنه لا ينضب. ولكن ما الجريمة التي اقترفتها فوبوكي حتى تنال عقاباً كهذا؟ لم أعرف ذلك أبداً. غير أني كنت أعرف زميلتي، كانت قدراتها وحماسها في العمل وضميرها المهني من نوع فريد. مهما كانت أخطاؤها فهي لا شك طفيفة، وحتى لو لم تكن كذلك، كان على الأقل من الأجدر أن تُراعى القيمة العظيمة لتلك المرأة النادرة الطراز.
لا شك أنني ساذجة بتساؤلي عن خطأ رئيستي. فالاحتمال الأقوى هو أنها لم تُخطىء في شيء. السيد أوموشي هو رئيسها، ومن حقه متى رغب في ذلك، أن يجد حجة تافهة ليشبع شهيته السادية من تلك الفتاة الأشبه بعارضات الأزياء. لم يكن مطلوباً منه تبرير تصرفه.
وفجأة فكرت أنني بصدد مشاهدة حلقة من الحياة الجنسية لنائب المدير، وهو عنوان مناسب تماماً لما يدور هنا. فهل مازال قادراً على مضاجعة امرأة وهو بهذا الجسد الهائل؟ غير أن هذا الحجم، ربما كتعويض، كان يجعله أقدر على الصراخ لدرجة يرتجف معها الجسد النحيل لتلك الجميلة. في الواقع كان يقوم باغتصاب الآنسة موري، وهو إن ترك العنان لغرائزه الوضيعة بحضور أربعين شخصاً فذلك ليضيف إلى نشوته متعة الاستعراض.
كان هذا الاستنتاج صحيحاً تماماً، إذ سرعان مارأيت جسد رئيستي يتلوى، مع أنها صلبة وشديدة الاعتزاز بنفسها. لئن كان جسدها بدأ بالرضوخ فذلك يعني أنها تحت وطأة هجوم من نوع جنسي. وها هي ساقاها تخونانها كساقي عاشقة متعبة: فتسقط جالسة على كرسيها.
لو كنت مترجمة فورية لكلام السيد أوموشي فهذا ماكنت سأترجمه:
_ نعم، إن وزني مئة وخمسون كيلو وأنت وزنك خمسون، فوزننا معاً قنطاران وذلك يثيرني. إن سمنتي تمنعني من التحرك بحرية، لذلك سيصعب علي أن أجعلك تصلين للنشوة، ولكني بفضل كتلتي الحجمية هذه أستطيع طرحك أرضاً وسحقك، وذلك يلذ لي كثيراً، وخاصة تحت نظر هؤلاء الحمقى الذين ينظرون إلينا. أحب أن تتألمي في كبريائك، وأن لا تملكي الحق بالدفاع عن نفسك، أعشق هذا النوع من الاغتصاب.
لعلي لم أكن الوحيدة التي فهمت طبيعة ما يحدث: فقد وقع الزملاء حولي فريسة لحرج شديد. كانوا يحاولون قدر المستطاع الإشاحة بنظرهم وإخفاء خجلهم وراء ملفاتهم أو شاشات حواسيبهم.
كانت فوبوكي الآن مطوية على نفسها. ساعداها النحيلان على مكتبها وقبضتاها المضمومتان تسندان جبينها. بينما كان رشّاش نائب المدير يواصل قصف ظهرها الناحل بشكل منتظم.
لحسن الحظ لم أكن من الحماقة بحيث أستسلم لما يُعدّ في هذا الظرف ردة فعل طبيعية وهو التدخّل. لا شك أن ذلك كان من شأنه أن يزيد مصير الضحية سوءاً، وحدث ولا حرج عن مصيري. ولكن لا يمكن أن أزعم أني كنت فخورة بإحجامي الحكيم هذا عن التدخّل. فقِوام الشرف في غالب الأحيان أن يكون المرء أحمقاً. أليس الأجدر بي أن أتصرف كحمقاء بدلاً من أُلحق بنفسي العار؟ حتى اليوم أحمرّ خجلاً لأنني فضلت وقتئذ الذكاء على الشرف. كان ينبغي أن يتدخّل أحد ما وبما أنه لم يكن هناك أي أمل أن يجرؤ الآخرون على ذلك، فقد كان عليّ أنا القيام بهذه التضحية.
بالطبع، لم تكن رئيستي لتغفر لي لوأنني قمت بذلك، ولكنها مخطئة: أليس تصرفنا على هذا النحو أي النظر إلى ذلك المشهد المخزي دون أن ننبس بكلمة هو أسوأ الحلول؟. أليس الأفظع هو خضوعنا المطلق للسلطة؟
كان ينبغي علي قياس مُدة التعنيف. كان للجلاد قدرة كبيرة على تحمّل الجهد. حتى أنه خُيل إلي أن صرخاته كانت تزداد حدّة مع الوقت. هذا ما يبرهن، إن كانت ماتزال هناك حاجة لذلك، على الطبيعة الهرمونية لذلك المشهد: فكما أن المنتشي تتجدد قواه وتتضاعف إذا ماشاهد هيجانه هو الجنسي، كذلك كان نائب المدير يزداد ضراوة، وصراخه يزداد حدة فيزداد تحت وطأته تهالك المسكينة.
في النهاية جاءت لحظة مثيرة جداً للتأثّر: فكما يحدث في حالات الاغتصاب، تبين أن قوى فوبوكي قد خارت، وكأني كنت الوحيدة التي سمعت صوتها الضعيف كصوت بنت صغيرة في ربيعها الثامن تئن مرتين:
_ أوكورونا، أوكورونا!
وهذا يعني بلغة الأطفال الأكثر شيوعاً عندما يرتكبون أخطاء، والتي تستعملها بنت صغيرة عندما تحتج على والدها، تلك اللغة التي لم تكن الآنسة موري تستعملها أبداً عندما تتوجه إلى رئيسها:
_ لا تغضب، لا تغضب!
توسّل لا طائل منه، كتوسل غزالة لوحش أن يتركها بعد أن قطّع أوصالها ونهش نصفها. وهو في نفس الوقت خرق مُدهش لمبدأ الخضوع وتحريم الدفاع عن النفس ضد ما يأتي من الأعلى. ولاح على السيد أموشي وكأنه تحيّر لسماع هذا الصوت المجهول، غير أن ذلك لم يمنعه من الصراخ بشدة أكبر، بل ربما على العكس وجد في هذا التصرف الطفولي ما يزيد من متعته.
وبعد دهر غادرنا السيد أموشي: إما لأن الوحش ملّ لعبته، أو لأن هذا التمرين المُنشّط أشعره بالجوع إلى سندويشة مضاعفة على طريقة الفوتون 9 بالمايونيز.
كان صمت جنائزي يخيم على قسم المحاسبة. ولم يتجرأ أحد على النظر إلى الضحية غيري. بقيتْ جامدة بضعة دقائق، وعندما تمالكت قواها هرعت خارجة دون التلفظ بكلمة. ولم يصعب عليّ أبداً التكهن بالمكان الذي ركضت إليه: أين تذهب النساء المغتصبات؟ إلى مكان يجري فيه ماء، إلى حيث يستطعن التقيّء، إلى مكان فيه أقل عدد من الناس. والمكان الذي يحقق كل تلك الشروط في شركة يوميموتو هو الحمّامات.
وهناك ارتكبت حماقتي.
غلى الدم في عروقي: كان علي أن أذهب وأواسيها. وعبثاً جهدت أن أحَكّم عقلي وأفكر بالإهانات التي أذاقتني إياها والسباب الذي قذفته في وجهي، إلا أن تعاطفي السخيف كان أقوى. نعم، السخيف، أصِرّ على ذلك: فطالما سأسيء التصرف لكان الأفضل بمئات المرات لو تدخلت بين أموشي ورئيستي، ولكان ذلك على الأقل تصرفاً شجاعاً، أما الآن فإن تصرفي الأخير لم يكن إلا لطيفاً وغبياً.
ركضت إلى الحمّامات. كانت تبكي أمام إحدى المغاسل. لا أعتقد أنها رأتني عندما دخلت، ولكنها للأسف سمعتني عندما قلت:
_ فوبوكي! أنا آسفة، أنا معك من كل قلبي، أنا معك.
وكنت بدأت بالاقتراب منها وأنا أمدّ ذراعاً ترتجف تعاطفاً، حين رأيتها تلتفت إلي بنظرة منذهلة من شدة الغضب، وبصوت متغير بفعل هيجان مرضي، يزأر بي:
_ كيف تجرئين؟ كيف تجرئين؟
يبدو أنني لم أكن في يوم أتمتع فيه بذكاء شديد، إذ بدأت أشرح لها:
_ لم أكن أريد إزعاجك، أردت فقط أن أعبر لك عن صداقتي...
كانت في قمة كراهيتها فدفعت بذراعي الممدود كما تدفع مزلاجاً أو مصراع باب وصرخت:
_ هل تتتفضلين بالسكوت؟ هل تتفضلين بالخروج؟
ويظهر أنني لم أكن أريد ذلك، لانني بقيت متسمرة هناك من الدهشة. فمشت نحوي وكأن في عينها اليمنى هيروشيما وفي اليسرى ناكازاكي، وأيقنت بشيء: وهو أنه لو استطاعت أن تقتلني لما ترددت. وفهمت أخيراً ما كان يجب عليّ فعله: فولّيت هاربة.
وعندما عدت إلى مكتبي أمضيت بقية النهار وأنا أتظاهر بحد أدنى من الانشغال، عاكفة في نفس الوقت على تحليل بلاهتي، وهي تمثل موضوعاً شاسعاً للتأمل.
كانت فوبوكي قد أهينت من رأسها إلى أخمص قدميها أمام زملائها. والشيء الوحيد الذي استطاعت اخفاءه عنا، الحصن الأخير لكرامتها والذي استطاعت حمايته هو دموعها. لقد كانت من القوة بحيث لم تبكِ أمامنا.
وأنا، الفطِنة، ذهبت أتفرج عليها وهي تبكي في مخبئها. فكأني بذلك أردت استنفاد عارها حتى الثُّمالة. وبالطبع، لم تكن قطعاً تستطيع أن تفهم أو أن تتخيل أو أن تسمح أن يكون تصرفي من قبيل التعاطف، ولا حتى التعاطف المغفل.
بعد مرور ساعة عادت الضحية تجلس إلى مكتبها. لم يعرها أحد التفاتة. ولاحت منها التفاتة إلي: كانت عيناها المجففتان تقذفاني بالكراهية. قرأت في تلك النظرة "انتظري وسوف ترين". ثم عادت إلى عملها وكأن شيئاً لم يكن، تاركة لي مهمة تفسير ذلك الحكم.
من الواضح أن تصرفي لم يكن في نظرها إلا محض انتقام. فهي تعلم أنها أساءت معاملتي في الماضي وبالتالي لاشك أن هدفي الوحيد كان الانتقام منها، وما ذهابي لمشاهدة دموعها في الحمّامات إلا جزاء من نوع عملها.
كم كنت أتوق لأصحح لها خطأها، لأقول لها: "أوافقك، كان تصرفي غبياً وأخرقاً، ولكن أتوسل إليك أن تصدقي أنه لم يكن لدي دافع إلا شعور إنساني طيب ونبيل وأبله. منذ فترة حقدت عليك، هذا صحيح، لكني عندما رأيتك تهانين بصفاقة، لم يبق في قلبي مكان إلا لتعاطف بدائي. هل يمكنك الشك، وأنت بهذا الذكاء، أنه لا يوجد في هذه الشركة، لا بل في هذا العالم، أحد يحترمك ويعجب بك ويأسره سحرك مثلي؟".
لن أعلم أبداً بردة فعلها فيما لو كنت صارحتها بذلك.
وفي اليوم التالي استقبلتني فوبوكي هذه المرة بوجه أولمبي الهدوء. "لقد تمالكت نفسها، إنها أفضل الآن" قلت في نفسي.
قالت لي بصوت هادئ:
_ عندي لك وظيفة جديدة، اتبعيني.
وتبعتها إلى خارج الغرفة. وفي الحال خالجني شعور بعدم الارتياح: هل وظيفتي الجديدة خارج قسم المحاسبة؟ ماعساها أن تكون؟ وإلى أين تقودني؟
تيقنت من توجسي عندما لاحظت أننا نسير باتجاه الحمّامات. ولكن لا، فكرت في نفسي، من المؤكد أننا سننعطف في آخر لحظة إلى اليمين أو إلى اليسار لندخل في مكتب آخر. ولم ننعطف لا ميسرة ولا ميمنة. قادتني فعلاً إلى الحمّامات.
"لا شك أنها اصطحبتني إلى هذا المكان المنعزل من أجل أن نصفي حساب موضوع البارحة". قلت لنفسي.
لا، لم يكن الأمر كذلك. أعلنت لي ببرود أعصاب:
_ هذه هي وظيفتك الجديدة.
وبوجه واثق شرعت تريني بمهارة كبيرة الأعمال التي ستكون من اختصاصي من الآن فصاعداً. يتلخص ذلك بوضع اسطوانة "قماش نظيف وجاف" مكان القديم الذي أدّى وظيفته بالكامل في تجفيف الأيدي المبللة، ثم بتجديد مخزون المحارم الورقية في داخل الكبائن، وعليه فقد عهدت إلي بالمفاتيح الثمينة لمستودع صغير توضع فيه مثل هذه الروائع في مأمن من الأطماع التي لا شك أنها كانت ستراود كبار موظفي شركة يوميموتو.
الضربة الموجعة جاءت عندما أمسكت تلك المخلوقة البديعة الفرشاة الخاصة بتنظيف المراحيض لتشرح لي بكل جدية كيفية استخدامها، أكانت تعتقد أني أجهل ذلك؟ كان من المستحيل أن أتخيل يوماً أنني سأرى إلهة الجمال تلك تمسك أداة كهذه، فكيف إذا كانت هذه الأداة صولجاني الجديد؟
بأقصى درجات الذهول طرحت سؤالاً:
_ من أخلف في هذه الوظيفة؟
_ لا أحد، فعاملات النظافة يقمن بهذا العمل مساءً.
_ وهل استقلن من عملهن؟
_ لا، ولكن لاشك أنك لاحظت أن خدمتهن الليلية لا تكفي. فلم يكن من النادر أن يُستخدم القماش الجاف بكامله، أو أن تنفد المحارم الورقية من الكبائن أثناء النهار، أو أن يبقى أحد المراحيض قذراً حتى المساء. ذلك محرج، لا سيما عندما نستقبل موظفين كباراً من خارج شركة يوميموتو.
وتساءلت للحظة عمّا يجعل موظفاً كبيراً يشعر أمام مرحاض لوثه موظف كبير آخر من شركة أخرى بإحراج أكبر مما لو كان لوثه زميل له في نفس الشركة. لم يتسع لدي الوقت للإجابة عن هذا السؤال المتعلق بآداب اللياقة، لأن فوبوكي أنهت حديثها بابتسامة رقيقة قائلة:
_ من الآن فصاعداً لن نعاني من هذه الإزعاجات، بفضلك.
وذهبتْ. فوجدت نفسي وحيدة في مكان ترقيتي الجديد، وبقيت مذهولة، جامدة وقد تدلت ذراعاي. ثم فتح الباب من جديد وظهرت فوبوكي. وكما في المسرح، كانت قد عادت لتزف لي الخبر الأجمل:
_ نسيت أن أقول لك إن عملك يشمل طبعاً حمّامات الرجال أيضاً.
لنلخص الأمر. عندما كنت صغيرة كنت أريد أن أصبح إلهاً. وسرعان ما فهمت أنني أطلب الكثير، فوضعت القليل من الماء المقدس في نبيذي القُدّاسي وتنازلت قليلاً: سأكون المسيح. ولكني سرعان ما أدركت أيضاً أني أتمادى في الطموح فقبلت أن "أعمل" شهيدة عندما أكبر.
وعندما بلغت سن الرشد وطنت نفسي على أن أكون أكثر تواضعاً، وعلى العمل كمترجمة في شركة يابانية. وللأسف، كان ذلك كثيراً عليّ، ووجدت نفسي أنزل درجة لأصبح محاسبة. ولكن سقوطي الاجتماعي الساحق لم يتوقف، فنُدِبت إلى وظيفة اللاعمل، ولكن، لسوء الحظ، وكان يجب أن أتوقع ذلك، فقد كان اللاعمل مازال كثيراً جداً علي. فكان إذاً أن جاء تعييني الأخير: منظفة مراحيض.
من الطبيعي أن يُذهل المرء أمام هذا المجرى القاسي للأمور من الألوهية إلى المراحيض. يُقال عن مغنية أوبرالية عندما تستطيع الانتقال من طبقة عالية إلى طبقة منخفضة في الغناء أنّ سُلّمها النغمي واسع. وأسمح لنفسي هنا أن أشير إلى سُلّم مهاراتي الخارق، والقادرة على غناء كل الطبقات من طبقة الإله إلى سيدة الحمّامات.
وبعد أن مرّت لحظات الدهشة، أول شيء شعرت به هو ارتياح غريب. فميزة هذا العمل أنه عندما ينظف المرء أحواض المراحيض القذرة فلن يخشى السقوط إلى ما هو أدنى من ذلك.
ما حدث في ذهن فوبوكي يمكن بلا شك أن يتلخص كالتالي: "لقد تبعتني إلى الحمّامات، حسن جداً. سوف تبقين فيها".
وبقيت فيها.
أعتقد أن أي انسان مكاني كان سيقدّم استقالته. أي انسان ماعدا الياباني. فقد ابتلتني رئيستي بهذه الوظيفة لتجبرني على التنحي. فالاستقالة إذاً تفقدني كرامتي. صحيح أن تنظيف الحمّامات ليس بالعمل المُشرف، ولكنه أفضل من فقدان الكرامة. كان عليّ أن أختار من بين شرّين الأقل مرارة، فقد وقعت عقداً لمدة سنة، ينتهي في السابع من شهر كانون الثاني 1991، ونحن الآن في حزيران. سأتحمل. وأتصرف كما كانت يابانية ستتصرف.
في هذا لم أُستثنَ من القاعدة: كل أجنبي راغب بالاندماج في اليابان يلتزم باحترام أعراف الأمبراطورية. ومن اللافت للنظر أن العكس غير صحيح أبداً: فاليابانيون الذين يستاؤون من مخالفة الآخرين لتقاليدهم، لا يستنكرون أبداً تجاوزاتهم لأعراف غيرهم.
كنت أدرك هذا الظلم، لكني رضخت له بالكامل. إنّ أغرب التصرفات في حياة انسان تعود غالباً إلى استمرار تأثير افتتان ما حدث في سن صغيرة: فعندما كنت طفلة فتنني جمال عالمي الياباني لدرجة أني مازلت أعيش على هذا المخزون العاطفي. فأمام ناظري الآن تتجسد الفظاعة المهينة لنظام يُنكر كل ما أحببته، ورغم هذا أظل وفية لتلك القيم التي لم أعد أومن بها.
لم أفقد كرامتي. بقيت سبعة أشهر في وظيفة تنظيف حمّامات شركة يوميموتو.
وبدأت حياة جديدة بالنسبة لي. ومهما بدا ذلك غريباً فإني لم أشعر أني بلغت الحضيض. إذ أنّ هذه الوظيفة أرحم بكثير من وظيفة المحاسبة، وأعني هنا عملي في تدقيق نفقات رحلات العمل. فبين استخراج أرقام تزداد انفصامية طوال النهار من الآلة الحاسبة وبين استخراج لفافات ورق التواليت من المستودع، لا أتردد في الاختيار.
لم أكن أشعر بأي صعوبة في العمل الذي أصبح من الآن فصاعداً وظيفتي. فدماغي العاجز كان يفهم طبيعة المشاكل المطروحة عليه. لم يكن ينبغي علي البحث عن قيمة المارك الألماني في تاريخ 19 آذار لكي أحوّل قيمة فاتورة الفندق إلى الين، أو مقارنة نتائج حساباتي بنتائج الشخص المعني ثم التساؤل لماذا حصل هو على ناتج 452 23 وأنا على ناتج 212 499. كان علي أن أحوّل القذارة إلى نظافة، وفقدان ورق التواليت إلى وجود ورق التواليت.
نظافة الحمّامات لا تكون إلا مع نظافة العقل. ولكل أولئك الذين لا بد أن يعتقدوا أن رضوخي مشين أمام قرار حقير، يجب أن أقول مايلي: إنني، أبداً ولا في أي لحظة طوال تلك الأشهر السبعة لم يخالجني احساس بأني قد أُهِنت.
فمنذ أن تلقيت هذا التعيين الغريب دخلت في بعد آخر للوجود: هو عالم السخرية لا أكثر ولا أقل. وأعتقد أني وقعت فيه تحت تأثير منعكس. فلكي أتحمل الشهور السبعة التي سأمضيها هنا كان علي تبديل كل مرجعياتي، وأن أبدّل كل ماكان حتى الآن يمثل معْلماً بالنسبة لي. وباجراء منقذ من طرف مهاراتي المناعية، حدث هذا التبديل الداخلي فوراً. وفي الحال أصبح القذر بالنسبة لي نظيفاً، والعار مجداً، والجلاد ضحية، والكريه مضحكاً.
أصر على الكلمة الأخيرة: فقد عشت في ذلك المكان أكثر مراحل حياتي مرحاً، مع أني شهدت مراحل مرحة أخرى في حياتي. وفي الصباح، عندما كان يقلني المترو إلى عمارة يوميموتو، كانت تجتاحني رغبة بالضحك مما ينتظرني، وعندما كنت أستقر هناك في وزارتي كان علي أن أقاوم ثورات من الضحك الهستيري.
مقابل كل مئة رجل كانوا يعملون في الشركة هناك خمس نساء، ومن بينهن كانت فوبوكي الوحيدة التي بلغت درجة موظف إداري. بقي ثلاث مستخدمات كنّ يعملن في طوابق أخرى، ولم أكن مخولة إلا بمراحيض الطابق الرابع والأربعين، وبالنتيجة كانت حمّامات النساء في هذا الطابق مجالاً مخصصاً لي ولرئيستي.
وبين قوسين أقول إنّ اقتصار امتدادي الجغرافي على الطابق الرابع والأربعين يبرهن، لو كانت هناك حاجة لذلك، على بطلان تعييني في هذه الوظيفة. إذا كان مايسميه العسكريون أيضاً "آثار الفرامل" تمثل إحراجاً للزائرين، فلا أفهم كيف تكون أقل إزعاجاً في الطابق الثالث والأربعين أوالخامس والأربعين منه في الطابق الرابع والرابعين.
لم أروّج لهذه الحجة، فلو فعلت لقالوا لي دون شك: "هذا صحيح، ومن الآن فصاعداً تتبع الطوابق الأخرى لسلطتك"، بينما كانت طموحاتي تقتصر على الطابق الرابع والأربعين.
لم يكن تبديلي للمدلولات محض خيال. فقد أحست فوبوكي فعلاً بالاهانة بسبب ما فسرته بدون شك على أنه مظهر من مظاهر المقاومة السلبية. كان من الواضح أنها عوّلت على استقالتي. وكنت ببقائي أقوم بحيلة خبيثة ويرتد الخزي إليها.
بالطبع، لم تُعبر هي عن هذه الهزيمة بالكلمات، ولكني لمست أدلة عليها.
فقد أتيح لي في حمّامات الرجال أن ألتقي بالسيد هانيدا شخصياً وأحدث هذا اللقاء تأثيراً بالغاً بكلينا: بي أنا لأنه كان من الصعب علي تخيل "الرب" في مكان كهذا، وبه هو لأنه لم يكن على علم بترقيتي هذه.
في الوهلة الأولى ابتسم معتقداً أنني، ببلاهتي الأسطورية، أخطأت ودخلت حمّامات الرجال. لكنه كفّ عن الابتسام عندما رآني أنزع لفافة النسيج الذي لم يعد لا نظيفاً ولا جافاً، وأستبدلها بلفافة جديدة. عندئذ فهم ولم يعد يجرؤ على النظر إلي، وبدا محرجاً جداً.
لم أكن أنتظر أن يغير هذا اللقاء من مصيري شيئاً، فالسيد هانيدا كان رئيساً أطيب من أن يراجع أوامر أحد مرؤوسيه، وخاصة إن كان صادراً عن الموظف المرموق الوحيد الذي ينتمي للجنس اللطيف في شركته. ولكن لدي أسبابي التي تجعلني أعتقد أن فوبوكي اضطرت أن تشرح أمامه سبب تعييني هنا.
ففي اليوم التالي لقيتها في مراحيض النساء وقالت لي بصوت هادئ:
_ إذا كان لديك أسباب للشكوى فعليك تقديمها لي أنا.
_ ولكني لم أشتك لأحد.
_ أنت تفهمين ما أعني.
لم أكن أفهم ماعنته جيداً. ماذا كان علي أن أفعل حتى لا أبدو وكأني أشكو مصيري؟ أن أسارع بالهرب من مراحيض الرجال لأدع الرئيس يظن أنني فعلاً أخطأت بالمكان؟
ولكن أعجبتني جملة رئيستي " إذا كان لديك أسباب للشكوى..." وأكثر ماأحببت في هذه الجملة هو كلمة "إذا": لقد كان من المحتمل ألا يكون لدي أسباب للشكوى.
كان التسلسل الوظيفي يجعل من حق شخصين اثنين انتشالي من ذلك المكان: السيد أوموشي والسيد سايتو.
وكان من البديهي أن نائب المدير لم يكن قلقاً لمصيري. على العكس، كان الأكثر حماساً لتعييني هناك. وعندما لقيني في الحمّامات قال لي بحبور:
_ جميل أن يكون للمرء عمل ما، هاه؟
كان يقول ذلك بدون أي سخرية. لا شك أنه كان يظن أني سأجد في هذه الوظيفة الازدهار اللازم والذي لا يمكن إلا للعمل وحده تحقيقه. فإن ايجاد مكان في المجتمع لمخلوق معاق مثلي يمثل في نظره حدثاً ايجابياً. لا شك أنه كان أيضاً يشعر بالارتياح لأنه لم يعد يدفع لي مرتباً دون أن عمل. ولو أن أحداً قال له إن هذه الوظيفة ربما تسبب لي إهانة لقال متعجباً:
_ ماذا؟ هل هي أدنى من أن تناسب مكانتها؟ يجب أن تعتبر نفسها محظوظة بالعمل عندنا.
أما بالنسبة للسيد سايتو فالأمر مختلف. كان يبدو منزعجاً جداً من هذه القصة، ولكني كنت قد لحظت أنه يموت ذعراً أمام فوبوكي التي لها من السطوة والقوة أكثر منه أربعين مرة. فلم يكن ليجرؤ على التدخل لأي سبب في العالم.
عندما كان يصادفني في الحمّامات كانت ترتسم على وجهه الهزيل ابتسامة عصبية. كانت رئيستي محقة عندما كلمتني عن انسانية السيد سايتو. إنه طيب ولكنه جبان.
إلا أنّ أكثر المواقف إحراجاً كان لقائي بالسيد الرائع تينشي، فعندما دخل ورآني تغيرت ملامحه وبعد دهشة قصيرة أصبح وجهه قرمزياً وهمس:
_ أميلي - سَنْ …
واكتفى بذلك، فقد فهم أنه لم يكن هناك ما يمكن أن يُقال. ولكنه تصرف بغرابة، فقد خرج دون أن يقوم بأي من الأعمال التي خصص لها هذا المكان. لا أدري إن كانت حاجته قد اختفت أو أنه ذهب إلى حمّامات طابق آخر.
وتبينت أنّ السيد تينشي وجد من جديد الحل الأنبل: فقد عبر بطريقته عن احتجاجه على المصير الذي أُلت إليه، فقاطع حمّامات الطابق الرابع والأربعين، لاني لم أره بعد ذلك أبداً. ومهما بلغت ملائكيته فلا يمكن له أن يكون مجرد روح منزهة عن تلك الحاجات.
وسرعان مافهمت أنه كان قد وعظ من حوله أيضاً، فلم يعد بعد ذلك أحد من قسم منتجات الألبان يتردد إلى عريني. ولمست شيئاً فشيئاً تحولاً متزايداً عن الحمّامات الرجالية من قِبل أقسام أخرى.
باركت في سري السيد تينشي. لقد كانت هذه المقاطعة تشكل بالنسبة لي انتقاماً حقيقياً من شركة يوميموتو: فالموظفون الذين اختاروا الذهاب إلى الطابق الثالث والأربعين كانوا يضيعون وقتاً في انتظار المصعد كان يمكن أن يضعوه في خدمة الشركة. يسمى ذلك في اليابان "تخريب": وهو من أخطر الجرائم التي بلغ من بشاعتها أن يستعملوا لها التسمية الفرنسية، لأن على المرء أن يكون أجنبياً حتى يتصور نذالة كهذه.
هذه المساندة تركت أثراً في قلبي وأنعشت هوايتي في فقه اللغة: إذا كان أصل كلمة "بويكوت" (مقاطعة) هو رجل إيرلندي يحمل هذا الاسم، يمكننا الاعتقاد أن أصل اسمه يحمل إشارة إلى "صبي" (بوي)، وبالفعل فإن المقاطعة التي حدثت لوزارتي كانت من قبل الرجال حصرياً.
لم يكن هناك "غيرل كوت" (مقاطعة من النساء). بالعكس، فإن فوبوكي انتابها حماس شديد للتردد على الحمّامات أكثر من أي وقت مضى. وبدأت تقوم بتنظيف أسنانها بالفرشاة مرتين في اليوم: لا أحد يستطيع تخيل النتائج الحسنة لحقدها على صحة فمها وأسنانها. كانت تحقد علي لأني لم أقدم استقالتي، فكانت تستغل الفرص لتأتي وتحدجني بازدراء. كان هذا التصرف يسليني. كانت فوبوكي تعتقد أنها تضايقني بينما كنت بالعكس سعيدة بتلك الفرص العديدة لمشاهدة جمالها الغاضب في هذا الحرملك الخاص بنا وحدنا. لم يعرف صالون للسيدات قط حميمية كتلك التي عرفتها مراحيض النساء في الطابق الرابع والأربعين: فعندما كان الباب يُفتح كنت أعرف حالاً أنها رئيستي لأن النساء الثلاث الاخريات يعملن في الطابق الثالث والأربعين. كنا في مكان مغلق خاص، كمسرح راسيني تلتقي فيه ممثلتان تراجيديتان عدة مرات في اليوم لكتابة حلقة جديدة من مسلسل مشحون بالعواطف العاصفة.
وشيئا فشيئاً أصبح إقفار حمّامات الرجال واضحاً بشكل جلي للعيان، لم أعد أرى هناك سوى شخصين أو ثلاثة مدهوشين، ونائب الرئيس. أعتقد أن هذا الأخير هو من تضايق من هذه الظاهرة ونبه السلطات.
كانت تلك لا شك مشكلة تكتيكية حقيقية بالنسبة لهم: فمن جهة، مهما بلغ من استبداد المسؤولين في الشركة، لم يكن بمقدورهم أن يأمروا كبار موظفيهم بقضاء حاجاتهم في طابقهم بدلاً من طابق آخر. ومن جهة أخرى، لم يكن باستطاعتهم التساهل في أمر هذا العمل التخريبي. وبالنتيجة كان عليهم التصرف، ولكن كيف؟
بالطبع فإن عواقب هذا العمل الشائن وقعت على رأسي أنا. ذات يوم دخلت فوبوكي إلى الحرملك وقالت لي بغضب شديد:
_ لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا، إنك تزعجين من جديد مَن حولك.
_ ماذا فعلت أيضاً؟
_ أنت تعرفين ذلك جيداً.
_ أقسم لك أني لا أعرف.
_ ألم تلاحظي أن الرجال لم يعودوا يتجرؤون على الدخول إلى الحمّامات في الطابق الرابع والأربعين؟ إنهم يضيعون الوقت بالذهاب إلى مراحيض الطوابق الأخرى. وجودك يزعجهم.
_ أفهم ذلك، ولكني لست أنا التي اختارت هذا المكان، وأنت لا تجهلين ذلك.
_ وقحة، لو كان بمقدورك التصرف بما تفرضه اللباقة لما حدثت هذه الأمور.
وعقدت حاجبي دهشة:
_ لا أفهم مادخل لباقتي هنا.
_ إذا كنت تنظرين إلى الرجال الذين يدخلون إلى الحمّامات كما تنظرين إلي الآن، فمن السهل تفسير حرجهم.
وانفجرت ضاحكة:
_ اطمئني فأنا لا أنظر إليهم بتاتاً.
_ لماذا إذاً يشعرون بالإحراج في هذه الحال؟
_ هذا طبيعي، مجرد وجود انسان من جنس مخالف كفيل بجعلهم يشعرون بالخجل.
_ ولماذا لا تستخلصين من ذلك النتائج اللازمة؟
_ أية نتائج تريديني أن أستخلص من ذلك؟
_ أن لا تتواجدي هناك.
وأشرق وجهي فرحاً:
_ هل أنا إذاً معفية من العمل في حمّامات الرجال؟ أوه، شكراً!
_ لم أقل ذلك!
_ لا أفهم، ماذا إذاً؟
_ أعني أن تخرجي بمجرد دخول رجل، وتنتظري ذهابه لتعودي ثانية.
_ حسناً، ولكن عندما أكون في مراحيض النساء لا أستطيع معرفة ما إذا كان هناك أحد في حمّامات الرجال. إلا إذا...
_ إلا إذا ماذا؟
فاتخذت هيأتي الأكثر غباء وبلاهة:
_ عندي فكرة! يكفي أن نضع كاميرا في حمّامات الرجال وشاشة مراقبة في مراحيض النساء، وهكذا أعرف دائماً متى أستطيع الدخول إلى حمّامات الرجال.
نظرت فوبوكي إلي بذعر:
_ ماذا؟ كاميرا في حمّامات الرجال؟ هل يحدث أحياناً أن تفكري قليلاً قبل أن تتكلمي؟
_ ولكن ماذا في الأمر إذا لم يعرف الرجال بذلك؟ أكملت بسذاجة.
_ اصمتي، إنك غبية فعلاً.
_ من الأفضل أن يكون ذلك صحيحاً، إذ تخيلي لو كنت وضعت شخصاً ذكياً في هذه الوظيفة!
_ بأي حق تردين علي؟
_ وماذا أخشى بعد الآن؟ لا تستطيعين تعييني في منصب أقل من هذا.
هنا، كنت قد بالغت في التمادي، واعتقدت أن سكتة قلبية أصابت رئيستي. ورمتني بنظرة كالرصاص:
_ حاذري! أنت لا تعرفين ماذا يمكن أن يحدث لك.
_ قولي لي ماذا.
_ قلت لك حاذري، وتدبري أمرك لمغادرة حمّامات الرجال عندما يدخل أحدهم إليها.
وخرجت. تساءلت فيما إذا كان تهديدها فعلياً أو أنها كانت تدّعي فقط.
وهكذا نفذت التعليمات الجديدة، سعيدة لأن تواجدي سيقل في مكان نلت فيه، خلال شهرين، شرف اكتشاف مزعج وهو أن الذكر الياباني لم يكن لبقاً أبداً. بقدر ماكانت المرأة اليابانية تعيش في رعب اصدار أي صوت من جسدها، بقدر ماكان الرجل الياباني لا مبالياً بذلك.
وبالرغم من قلة تواجدي في حمّامات الرجال لاحظت أن موظفي قسم منتجات الألبان لم يعودوا لعاداتهم في الطابق الرابع والأربعين: فقد استمرت مقاطعتهم بتحريض من رئيسهم. فلتبارك السماء السيد تينشي مباركة أبدية.
في الواقع، منذ تسميتي في هذا المنصب أصبح الذهاب إلى الحمّام موقفاً سياسياً. فالرجل الذي واظب على الذهاب إلى كبائن الطابق الرابع والأربعين كان كمن يقول: "إن خضوعي للسلطة مطلق ولا يهمني إن أهين الأجانب: بل إن هؤلاء لا مكان لهم في شركة يوميموتو." أما من رفض أن يذهب إليها، فقد أراد أن يعبر عن هذا الرأي: "إن احترامي لرؤسائي لا يمنعني من الاحتفاظ بحس نقدي حيال بعض قراراتهم، ومن جهة أخرى أعتقد أنه من مصلحة شركة يوميموتو أن تستخدم الأجانب في بعض مواقع المسؤولية حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين لنا." لم يحدث مطلقاً أن أصبح "بيت الراحة" مسرحاً لسجال فكري بهذه الأهمية الجوهرية.
تشهد حياة كل انسان يومها الذي تتعرض فيه لصدمة نفسية أوليّة تقسم تلك الحياة إلى ماقبل الصدمة ومابعدها، وتكون حتى مجرد ذكرى خاطفة لها كافية لتسمّر الإنسان في رعب لا يعقله، رعب حيواني لا شفاء منه.
كانت حمّامات النساء في الشركة رائعة لأن نافذة كبيرة زجاجية تضيؤها. احتلت تلك الأخيرة مكانة كبيرة في عالمي: كنت أمضي الساعات واقفة هناك، ألصق جبيني بالزجاج وألعب لعبة الارتماء في الفراغ. كنت أرى جسدي يسقط، ويتملكني هذا السقوط حتى أشعر بدوار. ولهذا السبب أؤكد أني لم أشعر بالملل لحظة واحدة في عملي هنا.
وكنت مستغرقة بممارستي للعبة السقوط من النافذة عندما اندلعت مأساة جديدة. سمعت الباب يُفتح خلفي، لابد أنها فوبوكي؛ ولكن لم يكن ذلك الصوت هو الصوت السريع المحدد الذي من عادة جلادتي أن تصدره عندما تفتح الباب. صوت كما لو كان الباب قد انهار. والخطوات التي تبعت ذلك لم تكن خطوات حذاء نسائي دقيق، بل ثقيلة هائجة لإنسان الثلوج القديم أثناء الجماع.
وتم ذلك بسرعة كبيرة، وبالكاد التفتّ لأرى كتلة نائب الرئيس الهائلة تنقض علي.
ذهولٌ لجزء من ثانية ("يا إلهي! رجل _ بقدر ما كان هذا الخنزير الضخم رجلاً _ يدخل إلى حمّامات النساء!") ثم دهر من الرعب.
قبض عليّ كما يقبض كينغ كونغ على الفتاة الشقراء وجرّني إلى الخارج. كنت لعبة بين ذراعيه. وبلغ ذعري ذروته عندما رأيت أنه يحملني إلى حمّامات الرجال.
وهنا مرت في ذهني تهديدات فوبوكي "لا تعرفين ماذا يمكن أن يحدث لك" لم تكن تدّعي فقط إذاً. توقف قلبي عن الخفقان. بدأ عقلي يكتب وصيته.
أتذكر أنني قلت لنفسي: "سيغتصبك ثم يقتلك. طيب، ولكن بأيهما يبدأ؟ ليته يقتلك أولاً". كان هناك رجل يغسل يديه في المغسلة، ولكن للأسف لم يكن حضور شخص ثالث ليغير شيئاً من مخططات السيد أوموشي. فتح باب أحد الكبائن وقذف بي على أحد الأحواض.
قلت في نفسي: "هاقد حانت ساعتك". وطفق يصرخ بتشنج ثلاثة مقاطع. كان رعبي عظيماً فلم أفهم شيئاً: اعتقدت أن هذا الصراخ لا بد أن يكون من طراز "البانزاي" التي يطلقها أبطال انتحاريون في حالة الاعتداءات الجنسية بالتحديد.
في قمة هيجانه، كان يستمر بصراخ المقاطع الثلاثة. وفجأة أضاء ذهني واستطعت أن أميّز قرقرته:
_ نو بيبا! نو بيبا!
ويعني ذلك بالاميركية اليابانية:
_ نو بيبر! نو بيبر!
كان السيد نائب الرئيس قد اختار إذن تلك الطريقة الرقيقة لينبهني أنه لا يوجد محارم ورقية في الكبائن. وهرولت دون أن أنتظر الباقي، حتى وصلت إلى المستودع الذي أملك مفاتيحه، وعدت أعدو بساقين رخوتين من الخوف وبذراعين محملتين بلفافات المحارم الورقية. ونظر السيد اوموشي إلي وأنا أضعها في مكانها، وغمغم بوجهي شيئاً لم يكن بلا شك مجاملة رقيقة، ثم رماني خارجاً واعتزل في الكبين وقد أصبح عنده كل مايحتاجه.
ذهبت ألوذ بحمّامات النساء بروح تحولت لأشلاء، جلست القرفصاء في زاوية ورحت أبكي بدموع لم تتعود الظهور. وكما لو أن الأمر بالمصادفة، كانت تلك اللحظة هي التي اختارتها فوبوكي لتأتي وتنظف أسنانها. رأيتها في المرآة، وفمها مليء برغوة معجون الأسنان، تنظر إلي وأنا أجهش بالبكاء. كانت عيناها تشعّان غبطة. ولمدة ثانية كرهت رئيستي لدرجة أني تمنيت موتها. وفجأة تذكرت تطابق اسم عائلتها مع كلمة لاتينية ملائمة تماماً للموقف، وكدت أصرخ: " ميمينتو موري " 10
قبل ذلك بست سنوات، كنت قد همت بفيلم ياباني اسمه Furyo وكان العنوان بالانكليزية
« Merry Christmas, mister Lawrence ». كانت أحداثه تجري أثناء حرب الباسيفيك حوالي عام 1944. كانت مجموعة من الجنود البريطانيين سجينة في معسكر ياباني. نشأت بين أحد الجنود البريطانيين (دافيد بوي) وأحد القادة اليابانيين (ريويشي ساكاموتو) علاقة تطلق عليها بعض الكتب المدرسية اسم "علاقة متناقضة". وقد وجدت هذا الفيلم الذي أخرجه أوشيما، ربما لحداثة سني آنذاك، مؤثراً جداً، لا سيما مشاهد المجابهة العسيرة بين البطلين. وتنتهي القصة بالحكم بالاعدام على الانكليزي من قبل الياباني.
أحد أكثر مشاهد هذا الفيلم الطويل حلاوة كانت في النهاية، عندما يأتي الياباني ليتفرج على ضحيته نصف الميتة. كان قد اختار لتعذيبه أن يواري جسده في التراب مع ابقاء رأسه فقط فوقه معرضاً للشمس. بهذه الحيلة العبقرية كان السجين يُقتل بثلاث طرق معاً: بالعطش والجوع وبضربة الشمس. وكانت تلك طريقة مناسبة تماماً للموقف لأنه كان للبريطاني الأشقر بشرة قابلة للشواء. وعندما كان هذا الزعيم الحربي يأتي، متصلباً فخوراً، لزيارة مادة "علاقته المتناقضة"، كان وجه المحتضر أشبه بشريحة لحم احترقت بالشواء حتى اسودت قليلاً. كان عمري ست عشرة سنة وبدا لي حينها أن الموت بهذه الطريقة هو برهان جميل على الحب.
ولم أكن أستطيع أن أمتنع عن المقارنة بين هذه القصة وعذاباتي في شركة يوميموتو. صحيح أن العقاب الذي أقاسيه مختلف. ولكني كنت سجينة حرب في معسكر ياباني، وكانت جلادتي على الأقل بمثل جمال "ريويشي ساكاماتو".
سألتها في أحد الأيام عندما كانت تغسل يديها، إذا كانت قد رأت هذا الفيلم فأجابت بالإيجاب. ولا بد أني كنت في يوم أحس فيه بالجرأة لأني تابعت:
_ وهل أحببته؟
_ الموسيقى كانت جميلة ولكن من المؤسف أنه يحكي قصة غير حقيقية.
(دون أن تدري، كانت فوبوكي تمارس مايسمى "مراجعة النفس الهادئة" على طريقة العديد من الشباب في بلاد الشمس المشرقة: إذ لم يكن لدى مواطنيها أي مأخذ على أنفسهم بخصوص الحرب الأخيرة، بل كانت توغلاتهم في آسيا تهدف إلى حماية السكان الأصليين ضد النازية. لم أكن بموقف يسمح لي بمناقشتها). اكتفيت بالقول:
_ أعتقد أننا نستطيع أن نرى فيه صورة ما.
_ صورة لماذا؟
_ للعلاقة مع الآخر، العلاقة بيني وبينك مثلاً.
ونظرت إلي بحيرة وكأنها تتساءل عما تهذر به تلك المتخلفة عقلياً. وتابعت من جهتي:
_ نعم، فبيني وبينك هناك نفس الاختلاف الذي بين رويشي ساكاموتو ودافيد بوي. الشرق والغرب. فوراء الخلاف الظاهر، هناك نفس الفضول المتبادل ونفس سوء التفاهم اللذين يخفيان رغبة حقيقية بالتفاهم.
ورغم أني اكتفيت بتلميحات شبه فلسفية، أدركت أني كنت قد تماديت في القول.
_ لا. قالت رئيستي ببساطة.
_ لماذا؟
ما عساها تجيب؟ كان لديها خيارات كثيرة: "ليس عندي أي فضول نحوك"، أو "ليس لي أية رغبة بالتفاهم معك"، أو "يا لغرورك بمقارنة مصيرك بمصير سجين حرب"، أو "كان بين هذين الشخصين شيء غامض لا يمكن أن أقيسه على نفسي". ولكن، لا. كانت فوبوكي بارعة. فقد اكتفت بأن تجيبني بصوت حيادي مهذب إجابة ذكية تحت ستار اللطف:
_ لا أعتقد أنك تشبهين في شيء دافيد يويشي.
عليّ أن أعترف أنها كانت على حق.
كان من النادر جداً أن أتكلم أثناء الوظيفة التي أصبحت الآن وظيفتي. لم يكن ذلك محظراً، ولكن كان يمنعني من ذلك قانون غير مكتوب. من الغريب أن المرء عندما يمارس مهنة كريهة، تكون وسيلته الوحيدة لصون كرامته هي الصمت.
فعلاً، عندما تثرثر منظفة الحمّامات نعتقد أنها سعيدة بعملها، وأنها في مكانها المناسب وأن هذا العمل يحقق لها ذاتها لدرجة أنه يفتح قريحتها للكلام.
أما إذا سكتت فمعنى ذلك أنها ترى في عملها نوعاً من تعذيب النفس على طريقة الرهبان، فتقوم من خلال صمتها بمهمة تطهيرية طلباً لغفران ذنوب الإنسانية جمعاء.
يتحدث برنانوس عن تكرارية الشر المريرة، ومنظفة الحمّامات تعيش مرارة تكرارية الفضلات، فهي دائماً الفضلات ذاتها وراء أشكال مختلفة مقرفة. وهكذا يعبر صمتها عن استنكارها، كراهبة في دير الحمّامات.
كنت أصمت إذاً وأفكر كثيراً. فمثلاً، رغم عدم شبهي بدافيد بوي كنت أرى أن مقارنتي صحيحة. إذ أن هناك فعلاً وجه شبه بين حالته وحالتي. فلكي توكل فوبوكي إلي عملاً بهذه القذارة لا بد أن تكون مشاعرها نحوي غير واضحة تماماً. لقد كان لديها مرؤوسون غيري، ولم أكن الشخص الوحيد الذي تمقته وتحتقره. كان بوسعها تعذيب آخرين غيري، إلا أنها لم تكن تمارس قسوتها إلا عليّ. لا شك أن ذلك امتيازاً. وقررت أن أرى في ذلك نوعاً من الاصطفاء.
من الممكن أن تترك هذه الصفحات انطباعاً أنه لم يكن لي أية حياة خارج شركة يوميموتو. وهذا ليس صحيحاً. فقد كان لي خارج الشركة عالم أبعد مايكون عن الفراغ والتفاهة. ولكني قررت عدم التطرق إليه هنا. أولاً، لأنني بذلك أخرج عن الموضوع، وثانياً، نظراً لساعات عملي الطويلة في الشركة، كانت تلك الحياة الخاصة محدودة جداً. وثالثاً، لسبب خاص هو سبب انفصامي: أثناء عملي في حمّامات الطابق الرابع والأربعين من شركة يوميموتو أنظف بقايا قذارات موظف مرموق، كان من المستحيل علي التفكير أنه خارج هذا المبنى على بعد إحدى عشرة محطة مترو من هنا، كان هناك مكان يحترمني الناس فيه ويحبونني ولايرون أية علاقة بيني وبين فرشاة مرحاض.
وعندما كانت تلك الحياة الليلية تمر بخاطري في مكان عملي هذا لم أكن استطيع التفكير إلا بما يلي: "لا، أنت اخترعت هذا البيت وهؤلاء الأشخاص، وإذا كنت تشعرين أنهم كانوا موجودين قبل تعيينك الأخير، فهذا وهم. افتحي عينيك جيداً. ماوزن أجساد هؤلاء الأشخاص النفيسين مقابل أبدية بورسلان الحمّامات؟ تذكري صور تلك المدن المقصوفة: الناس موتى والمنازل مهدمة بينما تقف الحمّامات شامخة في السماء، معتلية مواسير منتصبة. عندما يحين يوم الحشر ستتحول المدن إلى غابة من المراحيض. إن الغرفة الحانية التي تنامين فيها والأشخاص الذين تحبين ليسوا سوى خيالات تعويضية في ذهنك. مما يميز الأشخاص الذين يمارسون مهنة مقيتة أنهم يصنعون ما يسميه نيتشه عالماً خلفياً، جنة أرضية أو سماوية يجهدون أنفسهم بالإيمان بها لتعويضهم عن وضعهم البائس. وكلما كان عملهم وضيعاً كانت جنتهم الخيالية رائعة. صدقيني، لا يوجد شيء خارج حمّامات الطابق الرابع والأربعين. كل شيء موجود هنا والآن."
عندها كنت أقترب من الواجهة الزجاجية وأستعرض أمامي محطات المترو الإحدى عشرة وأنظر إلى آخر الخط: لم يكن هناك أي منزل مرئي أو ممكن تخيله، "أرأيت؟ هذا المنزل الهادئ هو ثمرة خيالك".
لم يبق أمامي إلا أن ألصق جبيني بالزجاج وأقذف بنفسي من النافذة. إنني الشخص الوحيد في العالم الذي حدثت له هذه المعجزة: فالذي أنقذ حياتي هنا هو رمي نفسي من النافذة، لابد أن أشلاء جسدي مازالت في المدينة بأكملها إلى الآن.
ومرت الشهور، في كل يوم كان الزمن يفقد قِوامه. فلم أكن قادرة على تحديد ما إذا كان يمر بسرعة أو ببطء. وبدأت ذاكرتي تعمل كسيفون الحمّامات. أضغط عليها مساءً فتقوم فرشاة ذهنية بإزالة أثر آخر الأوساخ. غير أن طقس التنظيف هذا لم يكن مفيداً في شيء، إذ كان حوض دماغي يمتلئ بالقذارة كل صباح.
وكما لاحظ أغلب الفانين، فإن المراحيض تعد مكاناً صالحاً للتأمل. وأنا التي أصبحت راهبة هذا المكان، كنت أجد فيها فرصة للتفكير. وقد فهمت فيها أمراً جللاً: في اليابان الوجود هو الشركة.
لا بد أن هذه الحقيقة سبق وكتبت في العديد من الدراسات الاقتصادية المخصصة لهذا البلد. ولكن شتان بين أن تقرأ جملة في دراسة وبين أن تعيشها. كان في استطاعتي أن أدرك مايعنيه ذلك بالنسبة لأفراد يوميموتو ولي أيضاً.
فلم يكن عذابي أسوأ من عذابهم، هو فقط أحط قدراً. وهذا غير كافٍ لأحسد الآخرين على وضعهم. كان يماثل وضعي بؤساً. في نظري كان المحاسبون الذين يمضون عشر ساعات في اليوم بنسخ الأرقام أشبه بقرابين تقدّم في محراب آلهة عديمة الجلال والغموض. فمنذ الأزل والفقراء يكرسون حياتهم لخدمة حقائق لا يفهمونها، ولكن على الأقل كانوا فيما مضى يستطيعون أن يفترضوا وجود سبب غيبي لهدر حياتهم، أما الآن فلم يعد باستطاعتهم التوهم. إنهم يقدمون حياتهم مقابل لا شيء.
اليابان، كما يعرف الجميع، هي البلد الذي يبلغ فيه الانتحار معدله الأعلى، أما أنا فيدهشني ألا يكون الانتحار أكثر تفشياً من ذلك.
ماذا ينتظر هؤلاء المحاسبون ذوو الأدمغة المغسولة بالأرقام خارج الشركة؟ كأس البيرة الاجباري مع زملاء مساطيل مثلهم؟ ساعات من الميترو المزدحم، زوجة نائمة، وأطفالاً متعبين، نعاساً يغوصون فيه كما يغوص الماء في مغسلة تفرّغ، عُطلاً نادرة لا يعرف أحد منهم كيف يستخدمها... لاشيء في الواقع يستحق اسم حياة. والأسوأ من كل ذلك هو الاعتقاد أن هؤلاء الناس يعتبرون محظوظين على المستوى العالمي...
حل شهر كانون الأول، شهر استقالتي. لعل هذه الكلمة تدعو للدهشة، لأن عقد عملي ينتهي فليس في الأمر استقالة. ومع هذا فهو استقالة. إذ لم أكن أستطيع انتظار مساء السابع من كانون الثاني 1991 لأغادر الشركة مصافحة بعض الأيدي. ففي بلد، وحتى زمن قريب، كان الناس يُستخدمون فيه بصورة دائمة بعقد أو بدون عقد عمل، لا تترك وظيفة ما دون القيام ببعض الشكليات.
واحتراماً للتقاليد كان علي تقديم استقالتي إلى كل مرتبة من التسلسل الوظيفي، يعني أربع مرات بدءاً بأسفل الهرم: فوبوكي في البداية ثم السيد سايتو يليه السيد أوموشي وأخيرا إلى السيد هانيدا.
كنت أتحضر ذهنياً لهذه المهمة، ومن البديهي أنني سوف أحترم القاعدة الكبرى بعدم الشكوى..ومن جهة أخرى، كان لدي تعليمات أبوية: ينبغي أن لا تسيء هذه القصة بأي حال من الأحوال إلى العلاقات الحسنة بين بلجيكا وبلاد الشمس المشرقة...بالتالي ماكان يجب حتى الإيحاء بأن أحد اليابانيين في الشركة أساء معاملتي. إن الاسباب الوحيدة التي كان من المسموح لي ذكرها _ بالطبع كان علي تبرير تركي لمنصب هام كهذا _ هي أسباب تستخدم ضمير المتكلم المفرد. من زاوية منطقية بحتة لم يكن ذلك يجعلني أحتار بالاختيار، لأن ذلك يعني أن أتحمل كل الأخطاء على عاتقي، ولا شك أن مثل هذا التصرف سيبدو مضحكاً، ولكني كنت أفكر من منطلق أن موظفي يوميموتو سيشعرون بالامتنان لسلوكي ذاك لأنه يتيح لهم حفظ ماء وجههم، فيقاطعونني قائلين "لا تتكلمي بسوء عن نفسك، فأنت إنسانة جيدة".
طلبت مقابلة رئيستي فأعطتني موعداً في وقت متأخرمن الظهيرة في مكتب فارغ.. وعند ملاقاتها همس شيطان في أذني " قولي لها إنك كمنظفة مراحيض تستطيعين كسب مال أكثر في شركة أخرى". جاهدت كثيراً لألجم هذا الشيطان، غير أني كنت على شفا ضحك هستيري عندما جلست قبالة الجميلة. ثم عاد الشيطان واختار تلك اللحظة ليهمس بهذا الاقتراح "قولي لها أنك تبقين بشرط أن يوضع صحن في الحمّامات يضع فيه كل من يستعملها خمسين ينّاً".
وعضضت وجنتيّ من الداخل حتى أحتفظ بمظهر جدّي، ولكن ذلك كان صعباً جداً لدرجة أنني لم أتمكن من الكلام.
وتنهدت فوبوكي:
_ نعم، كنت تودين أن تقولي لي شيئاً.
وطأطأت رأسي قدر المستطاع لإخفاء فمي الذي كان يتلوى، مما أعطاني مظهراً خاضعاً أرضى رئيستي.
_ اقتربت نهاية عقدي وأردت أن أخبرك، وبكل الأسف الذي أقدر عليه، أنني لن أستطيع تجديده.
كان صوتي المستسلم الخائف هو صوت مرؤوسة مثالية.
_ أوه؟ ولماذا؟ سألتني رئيستي بجفاء.
ما أروع هذا السؤال! لم أكن الوحيدة التي تمثل دوراً. فعاجلتها بإجابة كاريكاتورية:
_ إن شركة يوميموتو أتاحت لي العديد من الفرص لأختبر قدراتي، وأنا ممتنة لها إلى الأبد، ولكن للأسف لم أستطع أن أكون على قدر الشرف الذي مُنحته.
وتوقفت لأعض من جديد وجنتيّ من الداخل لشدة ماكان يبدو لي ماأقوله مضحكاً. لم يكن يبدو أن فوبوكي ترى ذلك مضحكاً أبداً، فقد قالت:
_ هذا صحيح، لماذا، برأيك، لم تكوني على قدر المسؤولية؟
ولم أتمالك نفسي عن رفع رأسي والنظر إليها بذهول: أيعقل أن تسألني لماذا لم أكن على مستوى الحمّامات في الشركة؟ أيعقل أن تكون حاجتها لإهانتي لا حدود لها؟ وإن كان الأمر كذلك، فما طبيعة المشاعر الحقيقية التي تكنها لي؟
وركزت نظري في نظرها لئلا تغيب عني ردة فعلها وأنا أتلفظ بالشناعة التالية:
_ لأني لا أملك القدرات الفكرية اللازمة لذلك.
ما كان يهمني أن أعرف أيه مهارات عقلية تلزم لتنظيف قذارة المراحيض بقدر ماكان يهمني رؤية ما إذا كان هذا الدليل المضحك على الخضوع قد راق لجلادتي.
غير أن وجهها، وجه يابانية حسنة التربية، بقي جامداً خالياً من التعبير، وكان علي مراقبته بدقة مقياس الزلازل للعثور على تقلص خفيف في فكيها أحدثه جوابي: إنها تستمتع.
لم يكن من المعقول أن تتوقف بعد أن اهتدت إلى طريق المتعة. وتابعت:
_ نعم، أعتقد ذلك أيضاً. ولكن ما هو برأيك أصل هذا العجز في القدرات؟
وطبعاً كان الجواب بديهياً. كنت أتسلى كثيراً بهذا:
_ إنه دونية العقل الغربي بالنسبة للعقل الياباني.
مفتونة بوداعتي أمام رغباتها، وجدت فوبوكي جواباً عادلاً:
_ بالتأكيد هناك شيء من هذا القبيل، ولكن لا يجب المبالغة بشأن دونية العقل الغربي العادي. ألا تعتقدين أن هذا العجز يأتي خاصة من نقص في عقلك أنت؟
_ هذا أكيد.
_ في البداية كنت أعتقد أنك كنت ترغبين بتخريب شركة يوميموتو، أقسمي لي أنك لم تفتعلي حماقتك قصداً.
_ أقسم بذلك.
_ وهل أنت مدركة لقصورك هذا؟
_ نعم، وقد ساعدتني شركة يوميموتو على ملاحظة ذلك.
بقي وجه رئيستي جامداً، غير أني أحسست من صوتها أن حلقها جف. وأسعدني أن أقدم إليها أخيراً لحظة لذة.
_ إذاً، فقد أدت لك الشركة خدمة جليلة.
_ وإني لمدينة لها بالعرفان إلى الأبد.
أعجبني المنحى السريالي الذي أخذه هذا الحديث الذي رفع فوبوكي إلى سماء سابعة غير متوقعة، ففي النهاية كانت لحظة مؤثرة جدّاً.
"أيتها العاصفة الثلجية العزيزة إن كنت استطعت بثمن بخس أن أكون أداة لمتعتك لا تترددي، صبي عليّ ندفك الثلجية القارصة القاسية، وبرَدَك ذا الحواف الصوانية. إن غيومك مثقلة بالغضب، وإني لأقبل أن أكون تلك الفانية الضائعة في الجبل والتي تسكب عليها غضبها. أن أتلقّى في وجهي ألوف القطع الثلجية، لا يكلفني ذلك كثيراً، بل إنه لمشهد جميل مشهد حاجتك لتجريح جسدي بالإهانات والسباب، إنك ترمين قذائفك في الهواء يا عزيزتي العاصفة الثلجية، لقد رفضت أن تُعصب عيناي أمام مفرزتك الموكلة بتنفيذ الإعدام، فقد مضى زمن طويل وأنا أنتظر رؤية متعة في نظرتك."
واعتقدت أنها بلغت كفايتها من النشوة لأنها سألتني سؤالاً بدا لي شكلياً بحتاً:
_ وماذا بعد ذلك؟ ما تنوين أن تفعلي؟
لم يكن في نيتي أن أحدثها عن المسودات التي أكتبها، فخلصت إلى قول شيء غير ذي أهمية:
_ قد يكون بمقدوري تعليم اللغة الفرنسية.
و انفجرت رئيستي بضحكة احتقار:
_ التعليم؟ أنتِ؟ تعتقدين نفسك قادرة على التعليم؟
يا للعاصفة الثلجية، إنك لا تعدمين قذائف أبداً.
وفهمت أنها تطلب المزيد من المتعة، فلا يعقل إذاً أن أجيبها ببلاهة أنني حائزة على شهادة تعليم.
نكست رأسي وقلت:
_ معك حق، يبدو أنني لا أدرك بعد حدود قدراتي تماماً.
_ هذا صحيح، ولكن بصراحة ماهي المهنة التي تستطيعين أن تقومي بها؟
كان عليّ أن أتيح لها الوصول إلى ذروة النشوة.
ينص البروتوكول الإمبراطوري الياباني القديم على أن يخاطب المرء الامبراطور "بذهول وارتجاف". لطالما أحببت هذه العبارة التي تلائم جيداً مظهر الممثلين في أفلام الساموراي، عندما يخاطبون زعيمهم بصوت مذعور بفعل احترام لشخص فوق البشر. فتقمصت قناع الذهول وبدأت أتصنع الرجفان. وثبتّ نظري المليء بالذعر بنظر الفتاة الشابة وأخذت أتأتئ:
_ هل تعتقدين... أن من ال... ممكن أن يقـ..بلوا بي في خخخـ...دمة تنظيف الشوارع؟
قالت بحماس مفرط:
_ نعم أكيد!
وأخذتْ نفساً عميقاً. لقد نجحتُ.
كان عليّ بعد ذلك أن أقدم استقالتي للسيد سايتو الذي حدد لي موعداً في مكتب فارغ أيضاً ولكن خلافاً لفوبوكي كان يبدو محرجاً عندما جلست قبالته.
_ اقتربت نهاية عقدي وأردت أن أعلمكم بكل أسف أنني لن أستطيع تجديده.
وتقلص وجه السيد سايتو عدة تقلصات لم أستطع تفسيرها فتابعت استعراضي:
_ إن شركة يوميموتو أتاحت لي العديد من الفرص لأختبر قدراتي، وأنا ممتنة لها إلى الأبد، ولكن للأسف لم أستطع أن أكون على قدر الشرف الذي مُنحته.
واهتز جسد السيد سايتو الهزيل عدة اهتزازات عصبية، كان يبدو مستاء جداً مما رويته.
_ أميلي - سَنْ...
كانت عيناه تنظران في كل أرجاء الغرفة وكأنهما ستجدان فيها كلمة يقولها. كنت أرثي له.
_ سايتو - سَنْ؟
_ أنا... نحن... أنا آسف، لم أكن أرغب أن تجري الأمور على هذا النحو.
ياباني يعتذر بجدية، يحدث هذا مرة واحدة كل قرن. وأصبت بالذعر لأن السيد سايتو قبل بإهانة مثلها من أجلي. كان ذلك ظلماً إذ لم يكن له أي دور في سقوطي المهني المتتابع.
_ لا يجب أن تأسف، فالأمور حدثت على أحسن مايرام. وقد علمني عملي في شركتكم الكثير.
وهنا بالذات لم أكن أكذب في الحقيقة.
_ هل لديك مشاريع؟ سألني بابتسامة متوترة لطيفة.
_ لا تقلق من أجلي. سأجد لا شك شيئاً ما.
يا للسيد سايتو المسكين! أنا التي عليها مواساته، فبالرغم من صعوده المهني النسبي، كان يابانياً من آلاف اليابانيين العبيد والجلادين الحمقى في آن معاً في نظام من المؤكد أنهم لا يحبونه ولكنهم لن ينتقدوه أبداً بسبب ضعفهم وفقر خيالهم.
ثم جاء دور السيد أوموشي. كنت أموت رعباً من فكرة تواجدي معه لوحدنا في مكتبه، ولكني كنت مخطئة فقد كان مزاج نائب الرئيس ممتازاً. رآني وهتف:
_ أميلي - سَنْ!
قال ذلك على الطريقة اليابانية الرائعة والتي تكمن في تأكيد وجود شخص ما بقذف اسمه في الهواء.
كان قد تكلم وفمه مليء. وحاولت أن أشَخّص ما يأكل من رنة صوته فقط. لا بد أنه شيء سميك يلتصق بالأسنان من النوع الذي يتطلب نزعه عنها دقائق طويلة. ولكنه ليس كثير اللصوق بالحلق حتى يكون كاراميل، ودسمه أكثر من أن يكون شرائط من السوس، وسماكته أكثر من أن يكون مارشمالو. إنه لغز.
ثم انطلقت بلازمتي المكرورة التي حفظتها جيداً.
_ اقتربت نهاية عقدي وأردت أن أعلمكم، بكل أسف، أنني لن أستطيع تجديده.
كانت الحلوى التي يأكلها موضوعة على ركبتيه يحجبها عني المكتب. حمل قطعة جديدة إلى فمه، ومنعتني أصابعه الغليظة من رؤية تلك الحمولة التي ابتُلعت دون أن ألمح منها شيئاً، فانزعجت لذلك.
ولا بد أن السمين لاحظ فضولي نحو طعامه فغير مكان العلبة ودفعها تحت ناظري. ولدهشتي الكبيرة رأيت شوكولا ذات لون أخضر شاحب.
ارتبكت ورمقت نائب الرئيس بنظرة ملؤها التوجس:
_ هل هذه شوكولا من كوكب المريخ؟
وانفجر ضاحكاً. كان يتحوزق بتشنج:
_ كاسي نو شوكوريتو، كاسي نو شوكوريتو!
ويعني ذلك " شوكولا من المريخ، شوكولا من المريخ".
وجدت هذه الطريقة بتلقي استقالتي غريبة بعض الشيء. وكان هذا الضحك الممتلئ بالكوليسترول يحرجني جداً، فقد كان لا يفتأ يتزايد، وتخيلت سكتة قلبية تطرحه أرضاً أمام عينيّ.
كيف كنت سأفسر ذلك للسلطات؟ "جئت لأقدم استقالتي، فقتله ذلك؟" لن يصدق أحد من موظفي يوميموتو هذه القصة، فقد كنت نوعاً من المستخدَمين الذين لايمكن أن يكون رحيلهم إلا خبراً رائعاً.
أما بالنسبة للشوكولا الأخضر فلن يصدق ذلك أحد. لا يمكن أن يموت انسان بسبب لوح شوكولا حتى لو كان لونه كلون الكلوروفيل. ستكون فرضية القتل أقرب للتصديق ولم أكن سأعدم الأسباب التي تدفعني لذلك.
المهم، كان عليّ أن أرجو ألا يموت السيد أوموشي لأنني في هذه الحال سأكون المتهمة المثالية.
كنت أهُم باطلاق المقطع الثاني من لازمتي حتى أقطع عليه عاصفة الضحك هذه، عندما أوضح السمين:
_ هذا شوكولا أبيض بطعم البطيخ الأخضر، وهو من صنع هوكايدو. إنه لذيذ جداً، لقد قلدوا طعم البطيخ الياباني باتقان تام. خذي، تذوقي.
_ لا، شكراً.
كنت أحب البطيخ الياباني ولكن فكرة امتزاج ذلك الطعم مع طعم الشوكولا الأبيض كانت تجعلني أشعر بالاشمئزاز فعلاً.
ولسبب غامض أغضب رفضي السيد نائب المدير فجدد أمره بشكل مهذب:
_ ميشياغات كوداسي.
ويعني ذلك " من فضلك، من أجل خاطري، كُلي "
ورفضت أيضاً.
بدأ ينزل بسرعة من مستوى لغوي إلى آخر:
_ تابيت.
يعني " كلي "
ورفضت.
ثم صرخ:
_ تابيرو.
يعني " اطفحي ".
رفضت.
فانفجر غاضباً:
_ اسمعي. مادام عقدك لم ينته بعد فعليك أن تطيعيني.
_ وماذا يهمك أن آكل أم لا؟
_ وقحة! ليس لك أن تطرحي عليّ أسئلة، عليك فقط تنفيذ أوامري.
_ وماذا أخشى إذا لم أطعْ؟ الطرد؟ ذلك يناسبني تماماً.
في اللحظة التالية أدركت أني تماديت في جرأتي، وكانت نظرة إلى تعابير وجه السيد اوموشي تكفي لأفهم أن العلاقات البلجيكية اليابانية كانت تتدهور. وبدا عليه أن سكتة قلبية وشيكة الوقوع.
ذهبت إلى كانوسّا 11:
_ أرجو المعذرة.
والتقط نفساً ليعود فيزأر:
_ اطفحي!
كان ذلك عقابي. من كان يظن أن تناول الشوكولا الأخضر يشكل حدثاً في مجال السياسية الدولية. ومددت يدي نحو العلبة وأنا أفكر أنه ربما جرت الأمور على هذا النحو أيضاً في جنة الخلد: فحواء لم يكن في نيتها أن تأكل التفاحة المحرمة ولكن ثعباناً سميناً أجبرها على ذلك في إحدى نوباته السادية المفاجئة وغير المبررة.
وكسرت مربعاً مخضرّاً وحملته إلى فمي، كان اللون هو الذي ينفرني، ومضغته... ويا لخجلي إذ وجدت أن طعمه ليس سيئاً أبداً. فقلت رغماً عني:
_ إنها لذيذة.
_ ها ها، إذاً شوكولا المريخ طيبة ها؟
وانتصر. وعادت العلاقات البلجيكية اليابانية ممتازة من جديد.
وبعد أن ازدردت مسبب الحرب تابعت استعراضي:
_ إن شركة يوميموتو أتاحت لي العديد من الفرص لأختبر قدراتي، وأنا ممتنة لها إلى الأبد، ولكن للأسف لم أستطع أن أكون على قدر الشرف الذي مُنحته.
في البداية دهش السيد أوموشي، لا شك أنه نسي السبب الذي جئت أراه من أجله، فانفجر ضاحكاً.
كنت أظن، لسذاجتي الرقيقة، أنني عندما أهين نفسي أمام رؤسائي من أجل الحفاظ على سلامة سمعتهم، وعندما أحط من قدري بتلك الطريقة لكي لا أوجه لهم أي لوم، سألقى بعض الإحتجاجات المهذبة من نوع "بلى، بلى... كنت على قدر المسؤولية".
إلا أنها كانت المرة الثالثة التي ألقي فيها خطابي الفصيح دون أن يستنكره أحد. بل حتى أن فوبوكي لم تكتف بعدم الاعتراض على قصوري بل أصرت على أن توضّح أن حالتي أخطر مما كنت أتصور.
السيد سايتو رغم تضايقه الشديد من الحوادث المزعجة التي حصلت لي لم يشر إلى مبالغتي في الحط من شأني.
أما نائب المدير فلم يكتف بعدم الطعن بادعاءاتي بل تلقاها بموجة من الضحك العارم.
وذكرتني تلك الحالة بقول لأندريه موروا "إذا تكلمت بسوء عن نفسك صدقك الناس".
وسحب الغول من جيبه منديلاً ليجفف دموع ضحكه، ثم _ أمام دهشتي الكبيرة _ تمخط، وهذا يعد من أكثر التصرفات عيباً في اليابان. ترى هل بلغت قلة شأني أن يفرغ الناس أنوفهم أمامي بلا حياء؟
ثم تنهد قائلاً:
_ أميلي - سَنْ!
ولم يضف شيئاً، فاستنتجت أن الحكاية بالنسبة له قد انتهت، فنهضت وحييته وانصرفت لا ألوي على شيء.
لم يبق عندي إلا الرب.
لم أكن في حياتي يابانية حقة قدر ماكنته وأنا أقدم استقالتي للرئيس. فارتباكي أمامه كان صادقاً تعبّر عنه ابتسامة متشنجة تتخللها غصات مخنوقة.
استقبلني السيد هانيدا بكثير من اللطف في مكتبه الشاسع المضيء.
_ اقتربت نهاية عقدي وأردت أن أعلمكم، مع كل أسفي، أنني لن أستطيع تجديده.
_ بالطبع، أفهم ذلك.
كان أول من علق على قراري بإنسانية.
_ إن شركة يوميموتو أتاحت لي العديد من الفرص لأختبر قدراتي، وأنا ممتنة لها إلى الأبد، ولكن للأسف لم أستطع أن أكون على قدر الشرف الذي مُنحته.
رد على الفور:
_ هذا ليس صحيحاً، أنت تعرفين ذلك جيداً، إن عملك مع السيد تينشي بيّن أن لديك قدرات ممتازة في المجالات التي تناسبك.
آآآ، أخيراً!
وأضاف متنهداً:
_ لم يحالفك الحظ، لأنك لم تأتي في اللحظة المناسبة. معك حق بالرحيل ولكني أريد أن تعلمي أنك إذا غيرت يوماً رأيك فستكونين هنا على الرحب والسعة. لست الوحيد الذي سيفتقد وجودك في الشركة.
في هذا كنت متأكدة أنه مخطئ. ولكن ذلك لم يمنعني من التأثر لكلامه الذي كان يقوله بطيبة مقنعة حتى أني أوشكت على الشعور بالحزن لترك هذه الشركة.
وجاء يوم رأس السنة: ثلاثة أيام من الراحة الإجبارية الاعتيادية. بطالة لذيدة كهذه تقلق اليابانيين. يحظّر حتى الطبخ خلال ثلاثة أيام وثلاث ليال. يأكلون طعاماً بارداً أعِدّ مسبقاً وموضوعاً في علب رائعة من الجلاتين اللين.
ومن بين أطعمة الأعياد كان هناك الأوموشي، وهو عبارة عن حلوى بالرز كنت أعشقها من قبل. غير أني هذه السنة لم أقربها لأسباب تتعلق باسمها. عندما أقرّب قطعة من الأوموشي من فمي كنت على يقين أنها ستزأر في وجهي قائلة " أميلي - سَنْ " ثم تنفجر بضحكة دهنية.
وعدت إلى الشركة للعمل ثلاثة أيام فقط. كانت أنظار العالم كله مصوبة إلى الكويت بانتظار الخامس عشر من كانون الثاني، تاريخ انتهاء مهلة الإنذار. أما أنا فكانت أنظاري مصوبة إلى زجاج النافذة العريضة في المراحيض، ولا أفكر سوى بالسابع من كانون الثاني، موعد انتهاء مهلتي أنا.
وفي صباح السابع من كانون الثاني، لم أكن أصدق أنه حلّ، فقد انتظرت طويلاً هذه اللحظة، وكنت أشعر أني أمضيت عشر سنوات في شركة يوميموتو. أمضيت النهار في مراحيض الطابق الرابع والأربعين في جو من التديّن. فقد كنت أقوم بأقل الأعمال وكأنها طقوس كهنوتية. وكدت آسَف لعدم استطاعتي التحقق من قول الراهبة العجوز: "إن أصعب السنوات في الترهب هي السنوات الثلاثون الأولى".
وعند الساعة الثامنة عشرة، وبعد أن غسلت يديّ، ذهبت أصافح أيدي بعض الأشخاص الذين أفهموني بطريقة ما أنهم يعتبرونني كائناً بشرياً. لم تكن يد فوبوكي من بينها. وقد أسفت لذلك، وخاصة لأنني لم أكن أحمل لها أية ضغينة: عزة نفسي هي التي أجبرتني على ألا أسلم عليها. ولكني فيما بعد وجدت هذا التصرف أحمق، لأن تفضيل الكبرياء على تأمل وجه نادر الجمال، كان تقديراً خاطئاً.
وفي الساعة السادسة والنصف عدت للمرة الأخيرة إلى ديري. كانت حمّامات النساء مقفرة، ولم تَحُل بشاعة ضوء النيون بيني وبين الإحساس بانقباض في قلبي: لقد أمضيت في هذا المكان سبعة أشهر من حياتي؟ لا بل من وجودي على هذه الأرض. لم يكن هناك من سبب يدعو للحنين إلى هذا المكان، ولكني مع ذلك شعرت بغصة في حلقي. وبحركة غريزية تقدمت من النافذة وألصقت جبيني بالزجاج وأدركت أن هذا ما سأفتقده: فلم يكن متاحاً للجميع أن يُشرفوا على المدينة من الطابق الرابع والأربعين.
كانت النافذة الحد الفاصل بين الضوء الشنيع والظلام الرائع، بين المراحيض واللانهاية، بين النظيف والمستحيل التنظيف، بين السيفون والسماء. ومادامت النوافذ موجودة فإن أقل كائن بشري شأناً سيكون له نصيبه من الحرية.
وللمرة الأخيرة قذفت نفسي في الفراغ ونظرت إلى جسدي يهوي. وعندما أشبعت تعطشي للسقوط غادرت بناء شركة يوميموتو ولم يرني أحد هناك ثانية قط.
بعد عدة أيام عدت إلى اوروبا. وفي الرابع عشر من كانون الثاني عام 1991 بدأت كتابة مخطوط بعنوان " نظافة قاتل". الخامس عشر من كانون الثاني كان يوم الإنذار الأميركي للعراق، وفي السابع عشر منه اندلعت الحرب. وفي الثامن عشر منه، وفي الطرف الآخر من العالم، أصبح عمر فوبوكي موري ثلاثين عاماً.
ومرّ الوقت كعادته القديمة، ونُشرت لي أول رواية في 1992.
واستلمت في عام 1993 رسالة من طوكيو. كان نصها كالتالي:
"أميلي - سَنْ، تهانيّ لك.
فوبوكي موري"
أسعدتني هذه الكلمات. ولكنها كانت تحوي على تفصيل أفرحني إلى أقصى درجات الفرح: كانت مكتوبة باللغة اليابانية.