ذاكرَة قبل المُونْتَاج
رواية
عماد برّاكة
كلاكيت مرّة ثانية
3
2
1
قطعاً، لن تَنسى هذه الأيام: ثُبّتَت على قاعدة الذاكرة بدقةٍ متناهيَة.
حدَث هذا في بداية يناير.
الشّمسُ بالمواصفات اليومية ذاتها، مكياج مُتدرّج على الأفق، تسريحة أشعّة لا تُناسب عمرها أبداً، نظّارات ترابية لا تحجب عنها الفخامة، تتصدّر قائمة الحضور بنكهةٍ حارقة، خطوات شتوية أنيقة، رشيقة، تنفيذ دقيق لتصميم موضات فصول السنة. الرمال غير لائقة طبّياً، تعلمَت فكّ السلاح والغبينة، تتمدّد في نعومة ولمعان، عبثاً تتشبّث بثوبها الشفاف وتُخفي عاهتها تحت الفستان. الرياح زفير الكواكب، لا تَخضع لقانون، تصطاد في الفضاء العكر بصفاقة، جافّة، مستبدّة، تنهب كل ما تيسّر لها من كثبان، ليتصاعد الغبار متستّراً على ما حدث. صحراء ممتدّة إلى الأبد، فراغ مُمتلئ باللاشيء، حتى النباتات الشوكية لا تغامر في هذا المكان الجافّ. كل شيء هنا محرومٌ من الحياة.
الجوع والعطش لا يعرفان الصبر وحتماً هو ـ الصبر ـ لم يلتق بهما. آلام مميتة تتربّص بكَ أينما تحركتَ، أينما نويتَ. تصرخ بلا صوت، تشير بعينين دامعتين نحو الهدف الذي حدّدتَه بدقة، تزحف على بطنكَ هارباً من فظاعة الشمس وتبرّعات الرمال السخية وهي تُنفق ذرّاتها على جسد يتيم وتَطليه بحُبيبات ذهبية. انصهار المعدن على المسامات مُؤلم. تُواصِل تقليد أبطأ مخلوقات الكون نحو ظلّ الشاحنة المعطّلة، كأنّك رأس سلحفاة عجوز، ببطء تخبّئ جسدك المتقرّح تحت الشاحنة، تتنهّد، تتكوّر حول نفسك من شدة الألم، تُصارعه بمزيد من التألّم، تتقلّب على كل الأوضاع والاحتمالات، ليت لك مقدرة الغوص داخل الأعماق حتى لو ينقطع الذّيل مع الألم، تدور عشوائياً، تتخبّط. تصطدم بجسد «عفاف النور» وعلى صدرها تتمدّد طفلتها، تبذل أقصَى ما لديك من حَنِين، تقترب أكثر، لا حركة، لقد سُحبَت الروح من قائمة الجسد، مساء الأمس على الأرجح، وصدَرَت أوامر التعفّن. مرعوباً، مهزوماً، تتقهقر إلى الوراء، تعجن الرمال بكلتَيْ يديك. تُكوّم أمامك صنوفاً من الحسرات، تلعن حظّك، وبعينين دامعتين تراقب الطفلة وهي تحاول عبثاً إعادة أمّها إلى الحياة ولا تُفلح في استدرار الحليب، أعجزَها غياب الماء حتى عن الصراخ، تتخبّط عشوائياً، كأنها خنفساء انكفأت على ظهرها.
إذا كنتَ راغباً فعلاً في الجلوس لاجتياز امتحان الإنسانيّة: شاهِدْ عينَي طفلة تُحتضَر. غصباً عنك ستلعن الكون برمّته!.
تُفلِت للحظات من الآلام المتكاتفة ليتربّص بصمتك خوفٌ موروث، ترتعش، اقتراب لحظة الغياب إلى الأبد مُرعب. الموت جماد يتحرّك في كل الأماكن، لا يحسّ ولا يرى، لن يفاوض حتى هذه الطفلة. كيف تقاومه وأنفك تشتمّ رائحة الجثث؟؛ وأذناك أصوات الأنين؟. ينهار جسدُكَ عاجزاً عن الحركة. آخر أثر لأقدامك على الرمال كان قبل يومين، عندما حاولتَ مع «جمال عز الدين» و«نزار المكاشفي» استحلاب ماء من «لَديتر» الشاحنة. للأسف كان فارغاً، ساعتها تقيّأ الأمل كل محتوياته. كالرمل زحف اليأس نحوكم. لم يعد هناك متّسع من وقت، الموت يشير بإصبعه نحوك. تتمدّد على ظهرك وتنتظره على عتبة الرحمة.
تتخيّل ردّ فعل «ناهد عبد الهادي» لحظة سماعها الخبر، بيدها كوب ماء بارد بَصَمَت بأناملها على زجاجه النديّ، ليسقط منها بصوت تهشُّم مكتوم على أنفاسه بصرخة حنجرتها، وعلى بلاط أملس يتدحرج منساباً أحدُ أسباب موتك. تسأل نفسك؛ أين تُراها تكون في تلك اللحظة؟، هل ترتشف ماءً بارداً بعد وجبة دسمة؟، ربما هي تحكي عنك لأحد أصدقائها. مهما يكن الأمر فإن حالتها الحياتية، لحظة سماعها نبأ موتك، غير ذات معنى. الذي يهمّك: ماذا هي فاعلة إزاءَ موتك؟. ستبكي بما يتيح لها الحزن من دموع، ورُويداً رُويداً تصبح محفظة المشاعر الفارغة على رَفٍّ هامشي. تكهّنات، اجتهاد ذهني غير موفّق لابتكار حزن غير متناهٍ، كل التداعيات كانت غير جديرة بعظَمة العشق. وهي حتماً لم تَرْضَ غيابك. لا يَغمَض للخوف جفن، ساهرٌ على حراسة ترويعك، وأنت متشبّث بأذيال الحياة ـ حياة أنفقت مصروفها في الوقاية من الأمراض ـ قابضاً بقوة على آخر حبيبات متبقّية لك في العنق الآخَر لساعتك الرملية. الأحداث تعرض نفسها مجاناً على الذاكرة، السينما المتجوّلة. بكرَة الفيلم تدور بصوت ناشف وحشرجة، على رقعة قماش بيضاء تنطبع طبقات من الذكريات فسّخها جفافٌ مُضنٍ لتخرج صوراً متناثرة.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
والدك «سعيد عمران» المحوَلجي* ممددٌ بين قضبان السكة حديد.
كانت الساعة الرابعة عصراً حسب توقيت المحطة، أثَر الظهيرة لم يمّحِ بعد، مناحات العرَق الرتيبة، كتمة تخلّفت في هذا المكان عنوةً، تأخرتَ عن موعد مغادرة رياح الصباح، محض حرارة. كنتَ ضمن أبناء عمّال السكة حديد، وقد تحرّرتم قبل قليل من سور المدرسة باتفاق مسبق على الزوغان من وجبة الغداء بسندوتشات مراهقين أكملتم مضغها في طريقكم نحو مبنى «الملوينة»*، رحتم تعبثون بمحتوياته، تحرّكون عصا التحويلة بقوة إلى الأمام والخلف، كلٌّ يملك عربة «لوري» في ذهنه، يقودها وسط طرقات عصيّة ومُوحلة، دون أن يهمل فرضية المتعة. تتبارون في لعبة البول لأطول مسافة من أعلى المبنى. النتائج متقاربة، المحصلات الأكاديمية ذاتها. تحوّلتم سريعاً إلى المنافسةِ في الألعاب البهلوانية الخطيرة على السلّم اللولبي الخلفي للملوينة تُبدّدون الوقت، وضجر عصريات المراهق، في انتظار وصول قطار «المشترك» الطويل، الذي سينقسم في تقاطع مدينة «الرَّهَد» إلى قطارين؛ أحدهما سيتوجّه إلى مدينة «الأبيّض» والآخر إلى مدينة «نيَالا».
تعرفون القطارات جيداً، بحّة الصفّارة، الإيقاع، الدندنة على القضيب، رقم وابور الديزل، عدد العربات التي يسحبها خلفه. تحفظون هذه الأشياء بدقةٍ أكثر من الواجبات المدرسية.
ترتفع صيحاتكم عالية عندما تمرّ بالقرب منكم الفتيات المراهقات بائعات الأرز قادمات من «حي فلّاتة» بفساتين مزدحمة الألوان، مبتهجات، متخصّرات، وعلى رؤوسهن تحكّرَت أطباق الأرز بتوازن وحكمة. من مغازلاتكم يتصنّعنَ الخجل ويدافعنَ عن عذريتهنّ بضحكات مكتومة وأحضان مُفتعلة.
كان منظر محطة القطار من أعلى مبنى الملوينة هادئاً للغاية، أو يبدو عادياً كسائر الأيام، يحتلّ المسافرون بأمتعتهم ظلّ شجرة اللبَخ الكبيرة بين مكتب التذاكر ومكتب البريد. تمّ هذا الاحتلال منذ الأمس بمؤامرة من الأخبار المتضاربة والتكهّنات حول العدد القليل من عربات الدرجة الرابعة، والأكثر شعبية، التي يجرّها القطار القادم، نفدَت زُوَادتهم وراحوا يلوكون صبراً متآكلاً، أسئلتهم يائسة. يطوف الشحّاذون حولهم، وعبثاً يستدرجونهم نحو وكر الحسَنات. أبناء السبيل على وشك المهانة، يدورون حول محنتهم كأنهم في انتظار تفسير منطقي للآية القرآنية التي ستستخلص لهم نصيبهم من الزكاة. الشمّاسة، أطفال الشمس، بمختلف أعمارهم، ركام من الحرمان، ذاكرة تنزف ولن يفلح المونتاج في علاجها، هروب، ضرب، رفس، اعتقال، جوع وحبس، ملابس قذرة ذات أحجام كبيرة، أو ربما الأجساد تعطَّل نماؤها، يتبادلون إشارات بذيئة، يتقافزون بين أشجار النيم وعربات القطار المهجورة، يقفزون بين أسطح تلك العربات برشاقة فائقة، مؤكّدين نظرية النشوء والتطوّر، مُبذّرين طاقتهم في الضجر، البعض أرْهقه الجوع والعوز، يدسّون أجسادهم الناحلة تحت ظل عربات الوقود «الفنطاز» في انتظار، ربما تكون للحظّ فضلات يجود بها القطار القادم. يطوف الباعة حول ربح مسجون، أصوات بُحّت، حركة آلية، إغراءات لأطفال المسافرين. وابور الوردية*، أو «صعلوك المحطّة» كما تُطلقون عليه، وحده يخدش الصمت والفضاء بدخانه، يتجوّل بين القضبان مترنّحاً مُطلِقاً أصواتاً مبحوحة كأنه مُدمن سكّير، يدخن بشراسة، يراود عربات البضائع بلا خجل، يستدرجها من سكة إلى أخرى استعداداً لدمجها مع القطار القادم.
كان بداخلكَ انفعال مبهم، ومبكّر. سريعاً ما بدّدتَه بصيحات ولعنات غير مُبرّرة، إطلاقاً، تفتعل المتعة بمجهود ذاتي، ترفّ عينك اليسرى. عرض المأساة كان على وشك أن يبدأ. الديكور ظلّ ثابتاً، كما هو، الجمهور يتهامس بكل اعتيادية. لا أحد يتوقع تفاصيل المشهد القادم.
قفز بعضكم من أعلى مبنى الملوينة. دَرْبَكة، دَعْس على الأقدام، ضغط على الحائط، صراع مُميت حول أولوية الوصول إلى الأرض عبر درجات السّلم. الصرخة العالية التي أطلقتها إحدى بائعات الأرْز جعلتكم تتسابقون نحوها في هلع. قبل وصولكم تشكّلَت دائرة بشرية واسعة: تجاهَل جُلّ المسافرين أمتعتهم، عمّال الدريسة*، أيديهم على رؤوسهم، ركّت على أفواههم دهشة، جاء الشمّاسة مِن كلّ فجٍّ عميق، يُخبئون نواياهم خلف ظهورهم، عمال الورشة، مُوظّفّو البريد والتذاكر، الباعة، الشحّاذون يحملون عاهاتهم، وثلاثة من قوات شرطة السكة حديد، ولا تنسَ «عم قووم» الشحاذ العميان، حتى هو استطاع أن يصبح جزءاً من الدائرة البشرية. أصوات همهمات، زوبعة ودَرْبَكة، رعب وابتهالات. توزّعت على وجوه الجمهور أقنعة الذهول، كان المنظر بشعاً للغاية، أدخلتَ رأسك بصعوبة بين الأجساد الملتحمة... كان والدك «سعيد المحوَلجي» ممدّداً بين قضيبَي السكة حديد وساقاه منفصلتان تماماً عن جسده، الدم ينبع بغزارة، لا يتوقّف، يسيل مندفعاً بسرعة من تحت القضيب، يتسرّب بين تشققات الفلنكات*، ينساب نحو أعشاب الخريف. عيناه تحملقان في الدائرة البشرية بلا تعبير، سوادهما يدور على الأطراف، كأنما يبحث عنك، ليشاهدك للمرة الأخيرة، أو أن الذاكرة راحت تتوهّج في النفق الأخير، تفرض عليه إعادةً سريعةً لمسيرته الحافلة بالمرائر، الخيبات، العمل الدؤوب، يتصفّح بُرهاتٍ سعيدةً متفرّقة: صرخة طفله البكر لحظة الإنجاب، لمّة حول نار الشّاي، دفء أسرَة في بَواكير الشتاء، حوافز عمل غير متوقّعة تُصرَف له في مصادفة سعيدة يوم إنجابه الإناث. كانت هناك فرَاشة زاهية الألوان تتمرجح حول زهرة خريفية، تبحث عن توازن يضمن لها سلامة الهبوط، غَيْرَ عابئةٍ بما يحدث، شاهَدها الأطفال فقط. اصطدم أحد الشمّاسة بأسلاك الصّنَفور* مُحدِثاً نغماً حزيناً، لحظتها صفّق عصفور كناري بجناحيه وغادر أسلاك التلفون، وحلّقت معه الروح. كنتَ مذهولاً، مرعُوباً، عقلك أصغر من أن يستوعب المأساة، احتضنك حكمدار الدريسة «الطيب ياسين» وهو ينتحب، أبعَدَك عن المكان، منَعَك من متابعة المشهد، ما زالت بيده خرق بالية حمراء، محاولات فاشلة لوقف النزيف، التفّ رفاقك حولك متجهّمين، الذي حدث يفوق المساحة المحدّدة لذاكرة أيّ طفل، راحوا ينظرون إليك بعيون فارغة، لا يعرفون ماذا هم فاعلون. كان والدك «سعيد المحولجي» يقوم بمهمة مناورة مع «العطشقي» سائق الوردية؛ صعلوك المحطة، لتحويل بعض عربات البضائع من قضيب إلى الآخر، وبينما هو جالس بين عربتين متحرّكتين يحاول رفع الخابور ليفصلهما عن بعضهما البعض سقط بينهما، وبالفطرة وحدها استطاع أن ينقذ الجزء الأعلى من جسده خارج حدود القضيب لتمرّ عجلات العربة الحديدية على فخذيه وتقسمه نصفين، وظلّ ينزف حتى غادرته الروح، هكذا أخبرك شهود العيان، مع التأكيد على شجاعة والدك وصبره.
ــ سبحان الله لم يكن يتألّم!.
أنت أيضاً لم تعد تتألّم من شدة الألم. لا تشعر بالجوع والعطش، تتآكل من الداخل، ممدّداً تحت شاحنة معطلة، مقذوفاً، ملفوظاً، تتوسّل إلى الصحراء أن تكفّ عن هذا العبث، تَغيب عن الوعي للحظات ثم يعود ذهنك ليجمع شمل الذاكرة ويُنتج بعض الصوَر.
في اليوم الأول عندما شعرتم بحجم الكارثة، دبّ الذعر والخوف بين النساء والأطفال، أما الرجال فطأطأوا رؤوسهم: يصْعُب تصديق ذلك. وبرغم هذا تحرّرتَ من خوفك وطمأنت الأنفس، وكأنك وَزّعتَ عليهم، مع المهام، بعض المهدِّئات، تقدّمتَ بعدة اقتراحات، وأصدرتَ بعض الأوامر، جمعتَ كل المؤونة، حتى الأغذية الخاصة من معلّبات وعصائر وبسكويت، وضعتَها داخل شنطة حديدية كبيرة وأقفلتَ عليها بإحكام، أما الماء أوكلتَ به كلاً من «الفاتح الطيب» والشقيقين «وليد ونزار المكاشفي» ليشرفوا على توزيعه حسب الأوامر. لقد أصبحتَ فجأةً صاحب القرار والكلمة. الكل يُثَنّي على اقتراحاتك، قرّرتَ وجبةً واحدةً للكبار ووجبتين للأطفال، وكذلك الماء جرعات معدودة في اليوم.
من بعدها انسحب الخوف والذعر تدريجياً، عادت بعض الحكاوي والقصص لتجد حظّها من التداول في مكان لا يخطر على خيال مؤلفيها، تُروى في طقس ليلي تحت ضوء القمر وهو يزيدها صدقاً وبُعداً إيمانياً، قصص عن الصبر والفرج، أحاجى عن أناس مرّوا بالظروف ذاتها واجتازوا الامتحان بجدارة. كنتَ في قرارة نفسك موقناً بأن هناك نجدة ستأتي لإنقاذكم بلا أدني شك، كما يحدث عادةً في كل الأفلام السينمائيّة التي يسقط أبطالها في مثل هذا المَأزِق، فلا يمكن أن تكون النهاية غير ذلك، خصوصاً وأن معكم أطفالاً. كنتَ أكثرهم تفاؤلاً، والسينما تستلف قصصها من الواقع. ظللتَ مطمئّناً، حتى بلغت مرحلة توزيع معلّبات الصبر، وتاريخ الصلاحية في عدّ تنازُلي متسارع مع دقّات القلوب.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــع
زحفت الطفلة «سناء» نحوك، وراحت ترفس على جسدك، تمنَع عنك إغماءةً أوشكت. بالفِطرة أدركَتْ أن أمها لن تعود مرة أخرى، أو ربما نفّرَتها رائحة التعفّن، ها هي تستنجد بك، راحت تتسلّق صدرك معتمدة على العظام التي برزَت، فيما أنت ممدّد على الرمال، لا تستطيع أن تفعل لها شيئاً، لا تقوَى حتى على احتضانها، تقترب من وجهك، أصبحت هي الأخرى هزِيلة، عيناها غائرتان منزويتان في محجريهما، لونها ذابل... يعُاد في ذهنك تركيب المشهد: لقد لمحتها أول مرة في محطة الشاحنات خارج حدود مدينة «الكُفرة» يحملها والدها منفعلاً، سرق انتباهَك بصوته الحادّ أثناء مشاجرته مع سائق الشاحنة الليبي «يوسف العماري»، خلاف نشب بسبب رفض الأخير أن يشحن له كل أمتعته، مما جعله يهتاج ويتلفّظ بمفردات ليبية داعِرة، فَلَّت في الكلام. كان يحملها على ساعده وهي تتابع، مبتسمةً، حركةَ شفتيه ويده اليمنى التي عبثاً تبارز عدواً مختفياً داخل الفراغ، وعندما لم ينل مبتغاه تخلف مع الأمتعة المتبقية لينتظر شاحنة أخرى في الأيام القادمة، وترَك زوجته وطفلتها تواجهان معكم هذا المصير. تتعرّض في هذه اللحظات لأبشع أنواع زعزعة الإيمان، والطفلة «سناء» تنقّب داخل قمامة صدرك المتقرّح، رضيعة تبحث بفمها الناشف عن كثبان حليب، صنوف من الأحاسيس البشعة، تحتضنها برفق، يخرج من حلقك بكاء أجَشّ، يُرعبها. الموت لا يخلع حذاءه أو يتنحنح عند الدخول، تتساءل ألف مرة: ماذا لو كان في الإمكان الرجوع إلى الوراء، لو أن الأشياء حصَلت على نحو آخر، لو تحدث معجزة، لو تنحْنَحَت السماء، لو يهطل مطر، لو تتحوّل الرمال إلى ماء، لكن أيضاً بعض الأصدقاء ماتوا غرقاً. ذهنك مشوّش يُنتج صوراً مهزوزة ومُهترئة، حاول أن تُعيد المشاهد الأولى.
كان الوقت عصراً، الشمس ذات نكهة شتوية، مائلة نحو انزلاق وشيك، تَستردّ ديون أشعة الظهيرة الحارة، مخلفةً بدايات برودة وكآبة قادمة، عند هذا التوقيت الحزين، تمّ التوقيع على قرار القدَر في قائمة المنفستو التي يحملها السائق، وأعاد مراجعتها ليبدأ الركاب في الصعود إلى الشاحنة التي تحوّلت بفعل مؤامرة مادّية إلى باص بمقاعد حديدية مبطّنة بإسفنج وقماش رخيصين، لم تكن مريحةً على الإطلاق، تحت المقاعد والممرّات كُدّست مقتنيات منزلية وأمتعة لا لزوم لها، وعلى سطح الشاحنة–الباص ينتصب جبلٌ من الأمتعة الأخرى الهامشية؛ جوّالات، براميل، كراسي بلاستيك ملوّنة، أكياس مُعبّأة بملابس وأحذية مستهلكة، وشنط مصنوعة من الصفيح، ونُسجَت عليها حبال لتصبح شبكة عنكبوت هرمة. وقفتَ تدخن مع «وليد المكاشفى» و«الفاتح الطيب» اللذَين تعرفت عليهما سابقاً، واستلفتَ منهما دفعة معنوية لتتعرّف على الشابة السودانية صاحبة بنطلون الجينز والجزمة الرياضية، كان واضحاً أنها «جالية سودانية» ولكن بدون أسرتها، مسافرة لوحدها. دعوة تشجيعية لا تحمل ملصقات تحذيرية. تتحرّك في قلق، ملامح وجهها جاذبة، تعابيرها تعلن عن تربية مختلفة لا وجود فيها لسُلطة ذكر يقمع أنوثتها، دعوة أخرى تفاؤلية، لها ضفيرة شعر تتأرجح على ظهرها أثناء حركتها والقلق. تقترب منها مُحتميَاً بدخان اللفافة، تستدعي خفّة دم محبوسة داخل شرايينك منذ بدايات الغضب، تتشعّب في التعارف أكثر من المسموح به في معلومات البطاقة الشخصية، مستلِفاً عواطف مُزيّفة، شعرَت بنظراتك تنحرف قليلاً وتبدأ في تهديدٍ معلنٍ لمقتنياتها الأنثوية، لذلك بصقَت على وجهك ردوداً بها المعلومة كاملةً وفي اللحظة ذاتها قابلة للانفجار، انسحابك كان تكتيكياً، برغم ذلك ابتلعت كرامتَك بحليب بارد، رجعتَ تطنطن مع نفسك ووصفتَها منحازاً إلى غرورك: تربية سودانيّات في مدن شقيقة.
كنتَ آخِر مَن صعد إلى الشاحنة وهي تتمرجح بصوت بكائيّ لحظة التحرّك، محض صدفة تجد أن المقعد الوحيد في انتظارك كان بجوارها، تردّدتَ قليلاً ثم وضعتَ إحساسك بين قوسين بعد أن أخرجتَ جهاز الكاسيت الصغير ووضعتَ سمّاعاته على أذنيك. جلستَ تدندن في سرّك مع الفنان «الخالدي»*، محاولات فاشلة لإعادة ما نُهِب من كرامة، بعَينٍ حوصاء، وبؤرةٍ أوشكَت على الهروب من المجال البصَري، تتلصّص على ملامحها لحظة غروب الشمس، كانت نحاسية اللون، جفونها فاترة، أرهقتها ذاكرة، تختزن ابتسامة ساحرة على ثغرها، ويا لها من شحمة أذُن!... أجَّجَت نارَك. ولكن يا لغرورك!، يفيض ليضعها في مقارنة غير مُتكافِئة مع «ناهد عبد الهادي»، ذهنك يفك أزرارَه، تملص صوراً على نفس القياس، تكبس عليك صورة حبيبتك وإحساسك منمّل: تنتظرها في توقيت مثالي، خارج حي السكة حديد، بعد أن تمكّن الأصدقاء من سرد حبكة درامية بطلتها «نجوى عبد الفتاح» صديقتها المخلصة، ابتكرْتَ فكرة زوغان لترافقها في توزيع دعوة شفهية على بيوت القَطَاطِي بمناسبة طهور بنات «فتح الرحمن البرّاد»*، تصل معها حتى أخر صَفّ من طابور القَطَاطِي ليستَلِم المهمة «عماد مَنظر»، تسلك معه طريق الجروف، وعند مفازة اصطياد الطيور، يجلس تحت شجرة الشوك يعاين المكان ويرشدها نحو شجرة السدرة حيث تداوم أنت على لهفتك، هيمان، تقودها من يدها ببقايا الرعشة، المجازفة، الخوف، منصة الأخلاق الجانبية، تنحرف بها نحو آخر إصدارات الرومانسية؛ حيث تلك الترعة المتفرّعة من ترهلّات النيل الأبيض في منطقة الحشائش النيلية بعد موعد مغادرة مزارعي الأرز تاركين زوارقهم الخشبية على حافة الترعة، تُجلسها وسط المركب، تفلّيها من الخوف، شَفَتها السفلى أول الأعضاء المبشَّرين بالاسترخاء، تَفتِنُك، تزغرد أشياؤك، تكبح مشاعرها برقرقة عينيها، دمّيعة تَجهرها أشعة المشاعر، تهرب ببصرها المبتلّ نحو أوكار طيور الكناري. تسبح بكما المركب على أعشاب خضراء، لا أثر للماء، كل البحيرة تتلفح أعشاب النيل وتستكين عليها شتى أنواع الطيور، الزورق يسبح مخلّفاً وراءه مساراً من الماء ولكن سريعاً ما تُخفي الأعشابُ الطافحة عورةَ الماء التي بانت. ساعداك على المجاديف، وعيناك لا تفارقان وجهها.
كانت تطلب منك التوقّف في وسط البحيرة لحظة الغروب، تلتصق بك، تدعو الله جهراً أن يجمع إحساسكم في منزل واحد، تذكر الله بنيّتها الصافية وابتهالاتها اليومية، كان العشق ينمو ويكبر، ولكن ما أبشع اللحظات عندما تَشيخ المشاعر وتهرم، عندئذ تخرِّف بجنسٍ لم تمارسه.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تمارس الشاحنة هوايتها في العواء، وتسير ببطء شديد على شارع ترابي واسع نحو نقطة الحدود الليبية، تأوُّه وأنين من شدّة الحمولة، تكاد تسمع صوت عضلات الحديد تتشّنج. عدتَ تتلصّص مرة أخرى على ملامح جارتك في المقعد، لم تكن جليّة إلا بالكاد بسبب زحف الظلمة الماكرة. احتمت الكآبة بالغبار لتندسّ وسط الركاب، لتستفرد بهم: استجواب ذهنيّ تختلج له العينان، وأكيد التواطؤ جاء من انسحاب الشمس لتترك المشهد بإضاءة بائسة.
كنتَ أول مَن نَشَّن سهامه، عن قصد، نحو اللهجة العامّية الليبية، ورُحتَ تسخر منها يمنة ويسرة، مستلفاً آراء صديقك «نصر الدين الترزي»، وَجد الركاب ضالّتهم.
ــ تـ كنكم يا تريس ساكتين؟ هدرزوا.
ــ هيا أعطونا طاسة شاي.
ــ تـ قعمز في المربوعة يا عبيد، الشاي واتى.
ــ جيب معاك كاشيك من الكوجينة.
ــ غير راجي، بشويش، مهناش.
ــ يا راجل اشبح الطريق... والله واعر بُكْلّ.
ــ تـ نوّض يا عبيد يا تمبال.
ــ علاش؟... شن تبي؟.
ــ اشبح هدا ما عندا وين الريح اتدور.
واصَلوا سخريتهم على العامّية الليبية حتى وصلوا إلى حدود اللجان الثورية ونزع البعض قشور الخوف وسبّوا القذافي في مسقط رأسه «سرت». أزاحت الضحكات المجلجلة بعضاً من الغمّ وخفَّفت من وطأة الترحيل الإجباري، جارتك في المقعد شاركَتْ أولاً بالضحك ومن ثَمّ، في لحظة صمت، أطلقَتْ رأياً بلا ساتر يحميه من النقد، وكما توقّعت، لم يجد حظّه من الاستحسان، وحدَك فقط اتفقتَ معها من حيث المدخل: «سلمى عمر» خريجة آداب لغة فرنسية، جامعة سبها، مجبرة أيضاً على مغادرة الجماهرية الليبية العظمى الشقيقة، أسرَتها غادرت قبلها، تخلّفَت لاستخراج شهاداتها، ولأول مرة سترى السودان!. سرَدْتَ لها قصة إبعادك من ليبيا، مُخبِّئاً الإهانات واللكمات في آخر عمق الذاكرة.
يختلف القذافي في وجهة نظر ما مع زعيم أفريقي آخر، مجرد اختلاف رأي عاديّ يحدث بين البشر في كل الأزمان، في اليوم التالي تصطاد الشرطة اللون الأسمر من دون الألوان، وعلى التلفاز ترى المنجّمين يتحدثون عن الاتحاد الأفريقي والعروبة، لا للعبودية، طز.. طز.. في الإمبريالية!.
حتى أغلقتَ التلفاز لم يعد «نصر الدين الترزي» و«محمد التشادي» إلى بيت العزّابة!، لقد اصطادهما أفراد الشرطة وهما عائدان من العمل، لا يُسمح لأحد بأخذ حقوقه ولا مدّخراته ولا حتى ملابسه الداخلية، يتم ترحيلك بما أنت عليه، كأنما أنت صاحب الرأي الرجعيّ المختَلِف، كما يقول «نصرالدين الترزي». يتكرّر هذا المشهد حتى في المملكة العربية المستبدّة، يطردون اللون الاسمر بإذلال وإهانة عن أراضيهم المقدسة، ترسل إليهم شرطة أبابيل لتعتقلهم كأنهم جاءوا لينفّذوا خطة جدّهم «أبرهة» الفاشلة. يتمّ تفريغ الشاحنات من حمولة البشرة السمراء بعد البوابة الأمنية، خارج حدود مدينة الكُفرة، داخل حظيرة مسوّرة بأسلاك شائكة، رداً على ما فعله بهم المستعمر الإيطالي، حظيرة محروسة بشرطة أمنية، تستحيل عليك العودة مرة أخرى، لتواجه مصيرك مع الشاحنات الأكبر حجماً، عابرات الصحراء.
في البداية، عندما تأخّرا عن موعد العشاء، بدأتما أنت و«علي»، الذي تلقّبونه «علي دين»، تلوكان قلقاً حامضاً، غمّ، وهمّ، خوف يَحْرِن في المكان، يناوش صبَايا العبرة، تختنق، تبَعْزِق نصيبك من الصبر بمبرّرات وأعذار واهية.
ــ يا علي دين... تفتكر الجماعة يكونوا مشوا السينما؟.
محاولات فاشلة لإخفاء ما أصابك من ذعر، تحاول الاستماع إلى أغنيات الخالدي ولكنْ للموسيقى طعم آخر في هذه الليلة، حُبّ الناس يتلاشى، و«علي دين» يفقد السيطرة على كبح المشاعر.
في الصباح كانت كل الأزقة الأليفة قد دسّت خطواتك السابقة، عنوةً، من حي سوق الضّلام، شممتَ رائحة الاشتباه تنبعث حتى من المطاعم، خوف يعطّل نموّك، أصوات الباعة تفزع قلبك، بالشارع الأول تنحني لحذائك، تعقد رباطه، محاولة لا بأس بها لإخفاء درجة اللون، تعبر إلى الجهة الأخرى من العَبرة، تحافظ على منسوب دموعك. تصل إلى سوق الأقواس، تذوب في الزحام. دكان نصر الدين الترزي مغلق!، يا الله!، تتسمّر على رصيف من الدهشة، بالقرب منك لافتة كبيرة فوق رأسك مباشرةً «الوطن العربي الكبير من المحيط للخليج»، يجرفك تيار بشريّ، يحجب عنك الاشتباه، تشعر بالارتياح، ولكن لا تأمن شرّهم، بعضهم ينتعل الحسد في خطواته، تسير متوجّساً نحو محطة الحافلات. ضجيج اللهجة في الشارع، معاكسة الفتيات بصيحات مفزعة، انفجار لغم داخل القلب، شظايا الخوف تسري مع كُريات الدم. تُحاذِي مكتب السفريات، تتردّد في الدخول، هل تشتري تذكرةً وتغادر هذه المدينة؟، ولكن ماذا ستفعل مع تلك البوّابات الأمنية؟، تُعرِض عن الفكرة، تتوقّف أمام الشحاذ الأعمى وهو يقف مُسنداً ظهره إلى عمود، تشتري منه بعض الدعوات، تدسّ في راحة يده نصف دينار، يتحسّس العُملة ويطلق عليك دعوات حاسماتٍ تُثلج صدرك، تسير مُرتدِفاً وراءك بعض الطمأنينة، تصل إلى ساحة الحافلات، تقف مكتوف الحظّ، تترجّى نزوات مواقيت حركة المواصلات، تندسّ في إحدى الحافلات متوجّهاً إلى حيّ البركة حيث مقرّ عملك؛ ورشة «الهمالي» للحدادة، تحملق في الركاب بعينيكَ ـ ادفع الأجرة ولا تنتظر باقي الحساب ـ تخمّن العائد من عربون القدر، هكذا يدور ذهنك في حلقة الشؤم، أين المفر؟. مع كل خطوة يصطدم قلبك بزنزانة الصدر طائراً منْتُوفَ الريش داخل قفص، تسير بخطوات مرتعشة حتى تصل إلى شارع «سيدي عبد الجليل»، تتجاوز سينما الهلال دون أن تلتفت إلى ملصق فيلم الليلة، طلاب مدرسة يتجمهرون أمام المقهى المجاور للسينما يتحدّثون جميعاً في لحظة واحدة عن كرة القدم، تمرّ أمامهم مختبئاً بين الصياح والزعيق، تجتاز شركة البريقة بنجاح، وعندما تصل إلى بداية مبنى مصرف الوحدة تشاهد الحارس الذي يقف أمام الباب يُنشّن نظراته نحوك، شَلل متوقّع، تصير عموداً على رصيف، تُلقي بالسيجارة على الأرض وتفتعل الضياع، تَعبر بمشّقة نحو الضفة الأخرى للشارع، تسير محاذياً الخطر، والحارس يَعبر نحوك وبعينيه تصميم لا يخطئ الهدف، تفكر في الهرب، هل تجري وتزوغ تجاه منطقة «الحميضة»؟ أم تتوسّل إليه بمشهد بكائيّ حزين حتى لا يعتقلك؟، يقترب أكثر، يَعترض سيرَك ويقف أمامك مباشرة لتُظلِم الدنيا أمامك للحظة مسجّلةً غيابَ إحدى أهم الحواس، بلعت ريقك، تسمعه على بُعد خطوات، وبصوت فاتر لم تتوقّعه منه:
ــ والنبي لو سمحت، أعطيني ولعة!.
كنتَ على وشك أن تجلس على الأرض حتى لا تسقط، بحث مُضنٍ في كل الجيوب عن الكبريتة اللعينة، السيجارة تتراقص على فمه وأصابعك ترتعش داخل الأماكن المحتمَلة.
ـــ ت كنّك يا راجل ترعش؟.
مفزوعاً وعاجزاً لم تستطع الردّ عليه، لأن لسانك كان من أوائل الأعضاء المتخاذلين، لاذ بالفرار منذ لحظة تفكيرك بالهرب. ناولتَه الكبريتة وطلبتَ منه الاحتفاظ بها، شكَرك بهزّة رأس وعاد إلى موقعه امام المصرف يحرسه دخان كثيف. بمشقّة تواصل سيرَك ببقايا الخوف حتى نهاية شارع «سيدي عبد الجليل»، تنحرف داخل أزقة منطقة «الحميضة». تصل إلى ورشة الحدادة، والحلق جافّ، تشرب ماءً بارداً أكثر مما يسمح به مستودع بطنك، تخدم في صمت، تَلحَم أبواب الحديد، ذهنك معتقل مع «نصر الدين الترزي» و«محمد التشادي» تختار لهما سيناريو بحبكة درامية ساذجة: يُحبَسان لمدة يوم فقط وفي التحقيق سيتغلّب عليهم «نصر الدين» بثقافته الواسعة، ومن ثم سيُطلَق سراحهما اليوم. أكيد عندما تعود مساء ستجدهما في انتظارك، و«محمد التشادي» متشوّق لسرد أحداث المغامرة.لم تستطع تذوّق طعم الأكل، تشعر بحجارة تمرّ بصعوبة عبر الحلق، تتمنى لو كنتَ تملك بطاقةً خارقةً للعادة، صادرة من مكتب اللجان الثورية، تُخرجها لكل من يحاول اعتراض طريقك، أحلام يقظة تتطاير مع شرارات اللحام ثم تنطفئ بأسف، لتعود إلى الواقع وأنت ترصّ في ذهنك فهرس العودة سالماً إلى البيت، وتلحَم أيضاً شوارع متعرّجة وأزقة مظلمة، كي تصل إلى موقع الجزَرة. فعلاً، أصبحتَ كالأرنب الخائف.
تمّ اصطيادك، كما توقّعتَ، في ميدان الشجرة على شارع عمرو بن العاص، كرْفَسُوك موثوق الأيادي، أمطروك بلعنات تُحشّم، حقّروك برَصْعَات استفزازية، رُحتَ تكرّج أسنانك وتهرس دموعك هرساً، ممغوصاً منهم تستأنف سوء حظك، طااااخ، على وجهك، «قعمز» يا ولد «القاحبة»، يرتد عليك الحُكم مُفرْعَناً، تنتصر فقط في خيالك، تخوض معركة مرتجلة ـ كالعادة إنجازات أحلام اليقظة - تتخيل لو يمر الآن من هنا «سالم الأورفلي» ذلك المقدم في الجيش الليبي، الذي خدمتَ عنده كحارس أمين على أسراره، ويتعرّف عليك، ينزل من سيارته، يقترب منك أكثر، ينفجر في عساكر الشرطة عيَاطاً، يعنّفهم، يسبّ الدين لمن اعتقلوك، يصبّ عليهم كوم شتائم، يطلب إطلاق سراحك فوراً، ينتف عنك قشور الذلّة، يأخذك معه بسيارته وأنت تحتضن غنائم نشوة، وترمقهم بكراهية.
تعود إلى الواقع المُذلّ، تلعن ذلك الراكب الذي طلب من سائق الحافلة التوقّف في ميدان الشجرة، عندئذ شاهد أفراد الشرطة اللون المشتبَه به، تمّ القبض عليك مع شاب من دولة غانا الشقيقة أيضاً، بعد أن أجبروكما علي دفع الأجرة كاملة إلى السائق، لتجد صفين من المعتقلين للترحيل، عرَتْهم الحيرة، آثار الذلّ لا تُخفى على أحد، آمالهم مبعثرة، يدور حولهم أفراد من الشرطة، بأسلحة وألفاظ بشعة. رُزمة كراهية مكبوسة داخل غطرسة، كنت تخبئ تحت ملابسك الداخلية كيساً به كلّ ما تملك من مال وشريط كاسيت به ستّ أغنيات تُسمَع قبل الغَمّ وبعد الضجر، وأحياناً عند الكآبة، كانت أقراصاً لمنع آلام الغربة، أخفيْتَها جيداً خوفاً من المصادرة أو النهب.
اندلقَتْ حسرتك تحت قدميك، بالقرب منك جثّة قطّة منتوفة الشّعر؛ جلد يابس هَجَرَه حتى النمل، حظّها يُشبه حظّك، هي أيضاً مرّت من هنا. فترة صمت قليلة وتنفتح عليك أبواب الشماتة، ماذا ستقول لوالدتك؟، باعَتْ أشياء عزيزة عليها من أجل قيمة تذكرة السفر، كيف ستبرّر لها فشلك، حسرة شقيقاتك، ثلاثتهن، ولا تنسَ شماتة أزواجهنّ. والأرض التي خلّصْتَها من بين فَكَّي الحكومة المفترسة، وعَدْتَ والدتك بأن تبني لها بيتاً على طراز منازل السكة حديد. والطامّة الكبرى؛ كيف ستجرؤ وتعود إلى الوطن الذي لعنته جهراً في منتصف الظهيرة، وهل تحمل معك أدوات اعتذار؟. ذهنك تصبح له ضرَّة، أفكار خسيسة مزركشة، تقودك نحو القبو، حيث تنتظرُك المُكايَدة، تحمل فانوس التشّفِّي، إضاءة مقدّمة هطول الحزن. من خلف الرقراق تَبِين صورة «ناهد عبد الهادي» ضبابية، كنتَ تنوى أن تبرهن لها على نجاحك بلا شهادات أكاديمية، وأنك يمكن أن تحقّق معها كل الأحلام التي تمّ توقيعها في حي السكة حديد بشهود أعظم الأصدقاء، أبناء وبنات عمّال وموظفين جاءوا من كل القبائل ليكوّنوا وطناً مُصغّراً، اندماج ينتج عنه حبّ هجين مواظب في دخول كل البيوت، حبّ ظلّ مشتعلاً، شراراته تبعثرَت في كل أنحاء الحي، كنتَ أول مَن دشّن إحساس لذعة اللهب والرفقة مع «ناهد عبد الهادي»، ويلتَفّ حولكما الوفد المرافق للشرارة، يحرسون العلاقة بالتناوب، يفرضون عليها سرية تامة لتشتعل أكثر، وتنمو علاقات أخرى اتخذَت منكما قدوة ولكن بعضها تعثّر في المطبّات ذاتها.
تنهال عليك الضربات والرفسات والشتائم دون أن تعذر موضعاً واحداً، الوجه، البطن، والأنف. كانت الساعة السادسة مساءً والشمس متعثّرة على جدار الأفق متقيّئة اللون الأحمر.
ــ هيا أنت واياه يا قوّاد، تحرّك يا زااامل.
ــ تعال من هني أنت يا موسّخ، تحرّك!.
ــ خوش جووه يا عبيد، زااامل.
ــ طااااااااااخ، ت يلعن دين أمّك، قعمز.
ــ ت بره يا موسّخ.
ــ ت نّوض، هيا صبيّ يا ولد القاحبة.
كدّسُوكم داخل عربة تحوّلَت إلى سجن متحرّك، وأفظع من ذلك أنها كانت أشبه بناقلة اللحوم والأسماك؛ صندوق حديديّ مُحكم بلا أدنى عوامل تهوية، لا يصلح حتى لنقل الحشرات. ضربوكم كحيوانات غير أليفة، صبّوا عليكم ماءاً، كراااااج، وأغلقوا الباب، تصبحون على ظلام قبور، كتلة من اللحم المحترق، أجساد ملتحمة ببعضها البعض حدّ الشعور بالنبض، التحاماً مزرياً. تتحرّك العربة ـ الصندوق الحديدي ـ والعتمة كما هي، سواد يرهق الذاكرة ولا يَتغيّر شيء، الأجساد تتمايل، ترَى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب البشر للبشر لشنيع. ذعر، زوبعة وهيجان، شتائم سواحيلية، وأحياناً بلغةٍ فرنسية، لا تتعدّى حاجز الظلمة، ضرب بالأكفّ على جوانب صندوق الحديد، احتجاج مُجهَض ينزف تحت الأقدام. تزحف العربة على الأسفلت وبرغم ذلك ترجّكم رجّاً، البعض استسلم لهذا المصير، والبعض الآخر فقد القدرة على التفكير. تتذكّر، وأنت محشور بين الأجساد، تعليق «نصر الدين الترزي» آماله على الثورة، تُرَى هل شاهَد ليلة البارحة عصر الجماهير الحقيقي؟.
تشعر بأنك في طريقك لرؤية درجة حرارة الغليان عملياً، الأنفاس سخّنَت المكان، تضاءلت نسبة الأوكسجين، كتمة، روائح تبوّل، قيء، كل الإفرازات تقف على الباب، عرَق لا يستأذن المسام، يُلصق الملابسَ على الأجساد. تتمايل، تصطدم بأحد أركان صندوق الحديد، تتكوّر في مكانك، تَلْبِد، محض صدفة تجد فتحاتٍ وثقوباً تكاد لا تُرَى بالعين المجرّدة، كانت أروع إخفاق قام بها فنّيّ اللحام الفاشل، وضعتَ أنفك مباشرة على هذه الثقوب ورُحتَ تصطاد الهواء اصطياداً، تنكمش داخل نفسك أعمق، ترجع جنيناً داخل رحمٍ حام، محاولة يائسة للتماسُك والتصدّي للحسرة القادمة، تُولِّد داخلك خيبة، تبكي كطفل متكئ على حائط، تجهش حتى الإعياء. تصطَفّ الأسئلة في مسيرةٍ شبة سلمية أمام بوابة ذهنك تطالب بإجابات إصلاحية، لماذا كل هذا الذلّ؟، ماذا فعلتم؟، هل تحدّثتم عن السياسة؟، هل أنتم أقلّ درجة من البشر؟. تستلف الإجابة من مقولات «نصر الدين الترزي»: السُّلطة العربية عارية الضمير، يسيل لعابها السياسيّ من رجرجة مؤخرات النساء وإذلال الكومبارس داخل كواليس معتمة. تشعر بأن الكراهية والضغينة هي أولى صفات البشر. قل هو الله أحد، لا أحد يحبّ أحد. تحسّ بأن الذلّ سيتبعك أينما ذهبت كالظلّ، في وطنك وكذلك الدول الشقيقة، فعلاً دول أشقاء، خرجوا من الرّحم الفاسد ذاته: كما يقول صديقك «نصر الدين الترزي».
أكثر من ساعتين والعربة ـ السجن ـ تسير على الأسفلت، وأنتم محبوسون بلا رحمة ولا تهوية. مقدّمة حزينة لمقابر جماعية. بقدر ما كانت العربة تزحف نحو مدينة الكُفرة تقترب أنت من دائرة الكفر والإلحاد، وصلَت اللعنات حدّ البكاء المرير، أيها الملحد!، كأنما عدالة السماء ردّت عليك سريعاً، تسقط عليك كتلة بشرية مغمى عليها، تصرخ، يتشبّث أنفك بالثقوب الهوائية، تعبّئ رئتيك، تمتلئ المثانة حتى تفيض.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
فيضان من الرّمال مرة أخرى، حُبيبات مُتطفّلة تعرف طريقها إلى أنفك، هل تتركها هذه المرة تعيق مجرى التنفّس وينتهي الأمر بسهولة؟، تخاف!، ليس خوفاً من الموت كفعل، بقدر ما هو خوف من الغياب، بشاعة الرحيل مبكراً، دون فهرس عمريّ يرتّب لانسحاب الروح في خاتمة منطقية، هوَس التخلّي عن إنتاج الذاكرة مؤلم، رعب يكتسح صدرك من فداحة الغياب المعلن، مصادرة الروح بلا تصريح دفن، توقف التفكير عن الأحلام. يَصعُب عليك إدراك معنى أن تتخلّى عن كل شيء وتغيب إلى الأبد. تُفرِغ رئتيك بصعوبة، تحاول أن تنهض، تتكئ على ساعديك، المكان ذاته، تحت الشاحنة، مشهد ثابت لا يتغيّر: الطفلة «سناء» تكوّرَت بالقرب من إطار الشاحنة الضخم وقَلَّت حركتها. هدأت العاصفة قليلاً، هل هناك أحياء يصارعون الموت مثلك؟ ـ تسأل نفسك ـ تحاول أن تتشجّع بالآخرين، تُزيل الرمال عن جفنيك، لا ترى سوى صحراء، ربما كانوا داخل الشاحنة، تتململ في قوقعتك الرملية، هبوبٌ لا تُفرّط في ذرّات الرمال تُحلّق بها في الفضاء، جزء من مهمتها التي فرَضتها عليها الصحراء الكبرى، هي التعتيم الكامل على ما يحدث، غياب الرؤية، لتتضاءل فرص الإنقاذ. قبل أيام كنت تُفضِّل الموت على العودة إلى الوطن خالي المشاعر، بمستقبل مجوّف، مُبعَداً، ومطروداً، أما الآن، عندما بدأ الموت يَقرَع جرس المزاد في قاعة الروح، فقد رُحتَ تدافع عن روحك بشجاعة نادرة، تحافظ على أناقة ذهنك، تُعيد ترتيب الذاكرة مرة أخرى لترسم سيناريوهات جديدة ومتعدّدة حول رَدّ فعل «ناهد عبد الهادي» إزاء موتك، وكيف ستتصرّف في إحساسها، وهل ستهبُ ما ورثته من كنوز الحبّ إلى شخص آخر؟، أيعني هذا أنك لن تعانقها مرة أخرى؟. لم تجد مشاهد مُرضيَة قدر المقام، لذلك قرّرتَ أن تدافع لتلتقيها، تحتضنها، رُحتَ تستدعيها لتخفِّف عنك أشد لحظات الألم:
قبّلتَها خلسة وهي بين أحضانك أمام صالة المغادرة، وباب التاكسي الخلفي مفتوح ضلفة وداع، عناق دافئ استغرق مدة زمنية أطول من الزمن الذي اتفق علية البشر في لحظات الوداع، عناق مستفزّ وصلت به الجرأة إلى أن يستبدل الحليب بالعرق، أجلستَها على المقعد الخلفي منهارة، مُخفيَة بلوزتها المبتلة بالطرْحة، تحاول أن تخبّئ دموعها بمصادر قوة خارجية.
ــ أسامة، لا إله إلا الله...
..........................
مرّرتَ يدَك على خدّها الأيسر، التفت سائق التاكسي ينظر إليك شزراً، لا تدري ماذا يقصد تحديداً: هل ينتظر منك أن تُكمل الشهادة أم تغلق الباب؟. علاقتك بها بدأت منذ أيام المراهقة، هي البنت البكر لمفتش السكة حديد «عبد الهادي شنّان»، لها أخ يصغرها بسنوات، من نصيبهم أكبر منزل في حي السكة حديد، به حديقة أمامية مسوّرة بأشجار نبات الحنّة وبداخلها أشجار عتيقة، منذ أن كان يسكنه مفتش بريطاني، وصالون ضخم معبّأ بالتحَفِ النادرة والمنحوتات الآبنوسية، برغم هذا كانت معجبة ببيتكم الصغير ذي القطّيّة الواحدة، وراكوبة مرتجَلة تحميكم من حرّ الظهيرة، تقضي أوقاتاً طويلة مع شقيقاتك، تتمنّى أن تنام داخل هذه القطّيّة، غرفة أشبه بمقدّمة مركبة فضائية. في البدء كنتَ مراهقاً شرساً، لم تُعِرْها أية انتباهة، مشغولاً فقط بالمحافظة على الصدارة في التنافس حول الزعامة داخل حي السكة حديد، ذلك الحي المدهش، حيّ بيوته متنوّعة في تصميمها وأحجامها، لكن السكان مُتساوون في الظروف والأخلاق والقيم، متداخلون فيما بينهم ببشاشة، سُلْفَة الملح، رتق الحزن، وبسمة معلّقة على حلقوم الباب. أُسَر برغم العوز والحرمان تجدهم يُلحِقون الهزيمة بالمدعو «الجشع»، راضين عن ضريبة القدَر، جذورهم هي الفلنكات التي تربط قضيب السكة حديد بالأرض، كأنكم نشأتم جميعاً في هذا الحي. بيوت لا تغلق أبوابها من الداخل مطلقاً، ولا أحد يستأذن الدخول. بيوت تميّزها عن غيرها حركة النساء الداخلية في عوالم تكافلية لا يفهمها غيرهنّ، حتى أصبحنَ متشابهات، الثياب ذاتها، المجوهرات الفضّية، المشاط، العطور المعتّقة، ونكهة البخور، لدرجة يصعب عليك أن تميّز والدتك من بينهنّ وهنّ عائدات من زيارة المستشفى. بيوت قديمة ومتماسكة لم تخدشها أدوات الصيانة، بفضل «الحمدُ» و«الناس» و«الإخلاص» والأسمنت البريطاني. تلتَفّ كلها حول محطة القطار بحنّيّة وخوف من الدّخَلاء والغرباء، جلّها يطلّ مباشرة على القضبان الحديدية، من الناحية الغربية ترى بيوت القطاطى وعمال الدريسة مصطفّة ثلاثة طوابير بأوامر المهندس البريطاني، ترافقها حمّامات خارجية مشتركة، الكلّ يغضّ البصر إذا ما امرأة حاولت أن تسهم بإفرازاتها البيولوجية، سكّان هذه القَطَاطِي لا يعرف الحسدُ عناوينَهم، لا تهمّهم الغرف الكبيرة ولا تلك الحدائق، يحبّون أصحاب البيوت ولا دخل لهم بالطوب، لا غطرسة ولا عجرفة، حبّ مواظب. في الصفّ الأخير من طابور القَطَاطِى، كانت زوجة العم «زُمبَا»؛ عامل الدريسة، تصنع المريسَة*، ومعظم زبائنها أفراد شرطة السكة حديد، الشراء نقداً وبالملابس الرسمية، في زمن لَمْ تولد فيه الضغينة. وفى المنقلب الآخر مبنى المحطة مُنقسِمٌ جزءَين، به عدد من المكاتب، في مقدمته تعريشة بأعمدة خشبية مطليّة باللون الأخضر وسقف من الزنك والأسبستوس ممتدّة حتى الرصيف، على أركانها جرادل لونها أحمر بها رملة ناعمة تُستخدم طفّايات حريق، يَفتح عليها مكتب الناظر وبجواره مكتب التذاكر ومكتب البريد، وعلى ركنه الخارجي ميزان العفش، ومن خلف هذا الجزء يقع مكتب المفتش وكمندان البوليس، تفصله عن الجزء الآخر شجرة لبَخ ضخمة، والذي يشمل استراحة السوّاقين ومكتب البلاغات وسجن صغير، وعلى يسار المحطة تصطفّ أيضاً منازل كبيرة، للمفتش والناظر والكمندان، وعلى الناحية اليمنى بيوت السوّاقين وعمال الورشة وبوليس السكة حديد وحكمدار الدريسة. في واجهة بيوت القطاطي، وتحديداً على بُعد بضعة أمتار من قضيب هامشي، كانت هناك عربة قطار درجة أولى خرجت عن مسار القضيب أثناء المناورة لتنقلب مرتين وتستقرّ على عجلاتها مرة أخرى بين شجرتَي نيم، تحديداً في مواجهة باب منزلكم. حدث هذا منذ مدة طويلة قبل أن تُولد، واختلفت حولها الروايات، ومع مرور الزمن دُفِنَت عجلاتها الحديدية في الأرض، لتصبح جزء اً لا يتجزّأ من المشهد العام، أحياناً كنتَ تعتقد أنها خرَجت خصيصاً عن خطّ سيرها وتمرّدَت على قانون السكة حديد، لتكون المكان الذي خفق فيه قلبك لأوّل عشق. يُقال إن ناظر المحطة السابق خصَّصها سكناً لبعض عمّال السكة حديد العزّابة، ولكنها الآن مرْتَع مهمّ لأبناء عمال السكة حديد من الجنسين، الأطفال والمراهقين. بعد عودتكم من المدرسة تتسابقون لاحتلالها، تبتكرون المتعة داخلها، تعيشون حولها وداخلها، كأنها هي مركز الكون، مصدر إلهام للألعاب الموسمية، لا تفارقونها إلا عندما تطلق الأمّهات النداءات الأخيرة بعصبية، وويلٌ للمتأخّرين الذين ستكون من نصيبهم وجبة عشاء بمواصفات الغداء ذاتها. كنتم تقدّمون أجمل المشاهد المسرحية، أنتم الممثّلون والجمهور، فعلاً خيال الأطفال أحياناً يفوق الواقع في واقعيّته. بعضكم يمثل أدوار الركاب والبعض الآخر يتقمّص شخصيات عمّال وموظفي السكة حديد، الغالبية تحبّذ أدوار الآباء. «علاء الدين ميرغني» أعلن أنه سائق القطار، حسب وظيفة والده، ودخل غرفة القمَرة* الأولى وينضمّ إليه حاتم ابن العطشقي، وبلا مساعد مخرج يتمّ توزيع باقي الأدوار «زمراوي ود سِت ابُوها» يمثّل دَور الكُمسَاري، يدور داخل العربة ليتأكّد من التذاكر ويتبعه «ياسر عبد الفتاح» ود الشاويش، بالضبط كما يحدث في الواقع «أحمد الطيب» ابن حكمدار الدريسة يتأكّد من صلاحية وسلامة الطريق، ثم يُرسل إشارة معيّنة إلى «حسين الجمرى» ابن الناظر، عندئذ يضرب الجرس معلناً بداية العرض المسرحي، يبدأ التلاحم والتزاحم حول أبواب العربة «نوال» ابنة صول البوليس عبثا تحاول حفظ النظام، زوبعة وهرج، عفش متخيّل يدخل عن طريق النوافذ.
يتسلّق البعض سقف القطار مقلّداً أكثر أنواع الكومبارس فقراً ـ لم تكن تدري أن دَورَك في هذه الحياة أيضاً بلا حوار، أصحاب الأدوار الهامشية سريعاً ما يُسدَل عليهم السِّتار، بلا إعلانات أو صخب ـ الأصغر عُمراً يؤكّدون على واقعية المسرحية، يُطلِقون العنان لحناجرهم يفتحون المزاد على مصرعيه:
ــ علينا جـــاي، هاك المناديل والطوَاقي، مناديل يا...
ــ طعمية وبيض، أرَح، هاك الطعمية السخنة.
ــ بَرِّد بَرِّد، برِّد جوفك، هاك الكَرْكَدي البارد.
«عماد مَنظر» يتأكّد من سلامة الباكم* ويقوم بمهمة والده المسّاح بنظافة القاطرة «علاء الدين» السائق يناكفه بصفاره ترجمتها:
ــ باكم.. باكم.. بـــــــــــــــاكم.
«سيف الدين محجوب»، صاحب القميص الأخضر الوحيد، يشير به استعداداً لمغادرة القطار بعد أن تكون قد انهيتَ مهمة التحويلة ونكّستَ علامة السّنَفور، حينئذ يقوم ابن ناظر المحطة بتسليم «التابلت»* إلى ابن السائق ويتحرّك القطار، ويَسرَح الخيال.
كانت عربة واحدة ولكن من شدة الخيال يتم تقسيمها إلى قطار كامل، القمَرات الأولى من نصيب القاطرة وعربة المنامة*، تليها عربة درجة نوم والدرجات الأخرى حتى عربة الفرملة*، كنتَ تقوم بأدوار متعدّدة، وكذلك شقيقاتك، أحياناً تلعب دَور والدك «سعيد المحولجي» تقوم بتحويل مجرى القضيب للقطار وتنكّس السنَفور، إشارة إيجابية للمرور. لم تكن تعلم أيضاً أن التقمّص سيصبح يوماً ما واقعاً مُعاشاً، كثيراً ما تنتحل دَور مسافر، متسلّقاً أحلام يقظة مجاناً. في إحدى المرات اختارَتك «ناهد عبد الهادي» ابنة المفتش، لتلعب دَور والدها. أنت كنتَ معجباً ببدلته والحزام الفضّي والأزرار اللامعة. هي كانت تقلّد دَور أمها بحرفية مدهشة، اقترحَت عليك الغرفة الأولى المخصّصة للمفتش، وحدّدَت معالم السيناريو، وأنكما ذاهبان في إجازة إلى أهلها، سايرْتَها في اللعبة من أجل الخيال والمتعة والإبداع الفطري. أخرجَت رأسها من النافذة وراحت تشترى لوازم السفر، وتطلب منك دفع الثمن لصغار الباعة، كانت أدوارهم متعدّدة، عندما يتحرّك القطار يصبحون ركّاباً يجلسون على السلالم، وكلما وقف القطار في محطة متخيّلة، أيضاً ينتجون خيالاً مزيجاً، يتحوّلون إلى باعة في مدن أخرى، والمدهش أنهم يعرفون جيداً منتجات كل محطة، تسمع أصواتاً أقرب إلى الصراخ:
ــ علينا جـــــــاي المقَاشِيش... والبرُوش.
ــ حَرْجَل ونَبَق... حَرْجَل ونبق.
ــ مَسَاوِيك، مَسَاوِيك... جبنة جبنة.
وللمزيد من الواقعية يمدّ «طارق عوض» نصفه الأعلى خارج النافذة، مقلداً الكبار:
ــ يا ولد... المحطة دي وين؟.
ــ دي سِنْكَات يا عمّك.
كانت محض لعبة، طلبَت منك أن تبحث لها داخل شنطة متخيّلة عن ملابس لطفلتكما النائمة، متقمّصةً دَور أمها بصوره مذهلة، تُتابِعها وهي تهدهد الطفلة وتشير لك بالصمت حتى لا توقظها، كما تفعل الأم بالضبط، مَشَت على أطراف أمشاطها، وأغلقت باب القمَرة؛ غرفة الدرجة الأولى بهدوء، وعطسَت على وجهك بفكرة إبليسية: أن تستلقيا على السرير الآخر، هكذا يفعل والداها. تتمدّد بالقرب من جسدها البَضّ، مضطرباً، ومنكمشاً على نفسك، خائفاً أن يرَاك أحد الرفاق على هذا الوضع الذي سيُضعف طور المراهقة ويزري بتهوّراتك. تلك الأيام كنتَ في الصف الأول من المرحلة المتوسطة، وهي كانت تحبو نحو المراهقة بملابس الصف السادس ابتدائي، راحت تلتصق بك أكثر، تتأمّلك وتبتسم، استلفَت ذراعك اليسرى تتوسّدها، سريعاً ما سحبتها بمساعدة العرَق، راحت تحكي عن أهل والدتها في أمدرمان، وأنت نتوءات من الخجل، كنتَ على وشك الانتفاض والخروج عن اللعبة برمّتها، وكأنها أحسّت بالارتجال القادم، أو خروجك المفاجئ عن النص، فاحتَوَتك بيدها ودسّت بحذر قُبلة على خدّك الأيسر، وخبّأتْ وجهَها على صدرك، ليداهمك انتصاب مهادن. استمرّ هذا العرض المسرحي قرابة العام، تعلّمتما فيه خلف الكواليس طَعم القُبَل، وبدايات الرّغبة والسعي الحثيث للذة الكبرى. كنتَ تشعر بنبضات قلبها فيما أنت تمرِّر يدك على حلمات صدرها الصغير، شفتاها في متناول فمك، تزدحم أنفاسها أمام باب مُوصَد، تمسك كفّك بيدها البضة وتدسّها عنوةً داخل ظلام فخذيها، حيث المزار المقدّس، تسحب يدَها لتتركك وحيداً تتلمّس الطريق، تربة طينية، خشّنتها النباتات الحديثة، حريق يشتعل، كُرَيات الدم يصيبها الذعر، لا مخارج للطوارئ، تتلمّس بأناملك الخشنة مُحاراً داخل قوقعته، لذة تتصاعد، تتأوه، وتتشبّث بملابسك.
بعدها أصبحتما عاشقين من الدرجة الأولى في حي السكة حديد، واستمرّ العشق ينمو ويتسلق كنبات اللبلاب، تعلّمتما تبادل الرسائل الغرامية، اللقاءات، واللهفة، ولكنها توقفت عن أداء دَورها في المسرحية، لأنها لم تعد طفلة، وراحت تخجل من تلك الجرأة، خاصة بعد دخولها المرحلة المتوسّطة مرتدية فستاناً ضيقاً يُظهر جسداً نامياً بسرعةٍ هائلةٍ ونهدين مكوّرين ومندفعين رغم صرامة سور الوقاية، أعتقد أن سبب هذا التكور السريع هو رضاعتك ثديها منذ نعومة حلماته.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
عندما وصلتم إلى نهاية الحدود الليبية كانت «سلمى عمر» متضامنة معك ضد العنف الذي تعرضتَ له أثناء ترحيلك الإجباري، ولكن لم تُسعفها مفردات سودانية مناسبة تعبّر بها عن هذا التضامن.
ــ الله غالب يا أسامة...
توقفَت الشاحنة على مقربة من «جبل عوينات» حيث نقطة التفتيش الليبية، طَلب منكم أفراد حرس الحدود إخراج كل العفش الذي بداخل الشاحنة. كان الطقس بارداً وجافاً، النعاس ملتصق بالأجساد، الحركة فاترة، هبطتم على رمال العوينات متلفّحين بالبطاطين. كان القمر ساطعاً ومهشّماً من أحد الأطراف، بجهد جهيد تعاونتم وأنزلتم العفش من داخل الشاحنة، استطاع شرطيّ الحدود بإضاءة القمر فقط أن يصادر بعض الأجهزة الكهربائية المستعملة، توسّلات سودانية كادت تصل إلى مرحلة مقايضة الأجهزة بالكرامة، الترجّي ذهب هباءً مع الرياح الجافة، كانت آخر ليلة في السنة، اقترَح عليكم السائق الليبي «يوسف العماري» قضاءها هنا في هذا المكان الدافئ نسبياً بسبب سلسلة جبل العوينات التي تقف متماسكة بكل شجاعة ضد غضب الطبيعة. كان رأياً سديداً وعليه تمّ الاتفاق على الشروع في ذبح الخروف الأول لتجهيز العشاء. لقد زوّدكم مكتب الترحيلات بخروفين وبصل وزيت ودقيق ومكرونة، سريعاً تقسّمتم ثلاث مجموعات حسب مزاج التعارف الأول، أنت اخترتَ أن تكون من مجموعة النار ومعظمهم مدخّنون، وتعرّفت عليهم سابقاً، ومجموعة ثانية بقيادة المهندس «خضر عوض الله» الذي ذبح الخروف وتساعده مجموعته في تقطيع اللحم، والمجموعة الأخيرة كانت من النساء الثلاث وطبعاً معهم «سلمى عمر» لتطيّب الأكل. كأنكم قرّرتم الاحتفال برأس السنة الجديدة، وبطريقة مبتكره. ومنذ تلك اللحمة التي ألَّفَت بين قلوبكم أصبحتم بهذه النعمة أشقاء، انزَاحت كل الضغائن في لحظة، كأنكم أصدقاء منذ زمن، حتى المشاجرات الأولية التي تحدث في كل سفر لتصبح معرفة، كانت حاضرة أيضاً، فعندما تحرّكَت الشاحنة أول مرة حدثَت مشاجرة بين «عادل الجزولي» وزوجته مع «سهير علم الدين» وأولادها حول المقاعد الأمامية، ولكن تدخَّل الركّاب وفى هنيهةٍ انزاح حبّ الذات وتعارفوا وكان بينهم هذا الزاد. الآن هم أصدقاء عمر!. ولو رجعتَ قليلاً إلى الوراء سويعات فقط، ستستعيد الإساءات المتبادلة بين «سهير علم الدين» و«تيسير التجاني» زوجة «عادل الجزولي»، والأن ترى تيسير تدسّ الأكل في أفواه أبناء سهير بحنان مفرط كأنهم أبناء شقيقتها!. كشَف التعارف العشوائي عن صلة رحم متينة بين «جمال عز الدين» و«عفاف النور» ليتبادلا سلاماً بالأحضان أمام بريق من الابتسامات، إنتاج فرح يدفعك بفائض البهجة لتنصب الفخّ حول عشق هارب، وتسأل «عادل الجزولي» إن كانت لديه صلة قرابة مع «ليلى الجزولي» والدة «ناهد عبد الهادي».
ــ والله ما بَقدر أجزم ليك، لأنو في أُسَر كثيرة تحمل اسم الجزولي.
على أنغام الشاي جلستم حول النار، تستمعون إلى حكاوي مسلّية يسردها المهندس «خضر عوض الله» بسخرية لاذعة عن المجتمع الليبي، رافعاً مسند كبريائكم إلى الأعلى. ضحكاتكم كانت تنفيساً واشتفاء، مثلكم مثل كل الجاليات السودانية، كلما عاشوا في بلد سرعان ما يكتشفون مساوئ هذا المجتمع الجديد، مقياسهم هو ثقافتهم الخاصة، يعتقدون أن المجتمع الذي جاءوا يشاركونه الحياة مؤقتاً، يجب علية الامتثال لثقافة أقلّيتهم، الطيبة نوعا ما، والسذاجة المفرطة.
ــ والله يا اخوانّا، ليبيا دي جميلة، بس لو كان ما فيها ليبيين!.
تنوّعت الحكاوي وازدادت الألفة، وراح التعارف يدور حول النار. «خضر عوض الله» من أبناء شندي، مهندس كهربائي، يتحدّث بلباقة، حرَكته أنيقة ولكن فاترة، داهمته شيخوخة مبكرة بسبب مرض زوجته التي توفيت بالسرطان ودفنها في مدينة البريقة، له منها ولدان؛ إيهاب وأوّاب. «سهير علم الدين» من مدينة مدني حي الدباغة، لها تاريخ جمالي مشرّف، طَمَست الغربة معظم معالمه، مترهّلة نوعا ما، دائما مبتسمة، تحبّ الناس مجاناً، ما زال زوجها يمارس مهنته في ليبيا، لها طفلان؛ جمال وعازّة. «حاتم الأمين» من حي الشعبية الخرطوم بحري، أصوله شايقية من «نوري»، ولكنه نشأ في العاصمة، هو الابن البِكر، وجد اهتماماً خاصاً انعكس على شخصيته، فشل في الدراسة والتجارة، تزوّج ابنة خاله ولكنه فشل سريعاً في هذه المهمة أيضاً ليختلق مشاكل أسرية ويسافر إلى ليبيا مُعتّماً على أخباره.
ــ بسم الله، أخوكم وليد المكاشفي، الخرطوم، حي الصحافة.
ــ أنا سلمى عمر، خريجة آداب جامعة سبها، يا اخوَانّا ما تضحكوا، أول مرّة أمشي السودان، ساكنين وين ما عارفة والله!.
كانت ليلة رأس سنة مدهشة، سرقَت منك حتى خوفك من العودة إلى الوطن مجبراً، سرحتَ مع هذا الحبّ الذي خرج من جيوب القلوب وتوزّع بين الركاب كالعيدية. تبادلتم التهاني بالعام الجديد، وأطلقتم العنان للأماني القادمة، متجاوزين كل مجال الحسرة. تحرّكتَ مع المدخّنين نحو ظلمة معكَّرة بقمر لم يكتمل بعد، تشعلون لفافاتكم وتفلتون من مقصّ الرقابة لتسرُدوا حكاوي ممنوعة، تتعالى ضحكاتكم وتصطدم بالجبل. تقترب منكم «سلمى عمر» وسريعاً ما يتحوّل الحديث ليصير عن الجغرافيا وجبل عوينات وحدود الدول الثلاث، تستَلف منك المسجّل الصغير الذي اشتريتَه من سوق الشاحنات بالكُفرة وبه أنغام غربتك «كاسيت الخالدي»، أخذَته ببراءة وغادرَتكم لتترك خلفها آثار إبليس على الرمال. والتفاصيل جاءت من الأصدقاء المدخّنين.
ــ يا مان الزّولة شكلها اتكسّرَت فيك.
ــ يا زول، جازفها والدنيا راس سنة.
ــ يا خوَانّا الزولة دي بريئة جداً.
ــ يا راجل ما تحشّمنا، ت كنك يا عبيد!.
ضحكة عالية، التفَتَ إليها من هُم في دائرة ضوء النار. بعد وصولكم إلى الحدود الليبية أصبح النطق بالعامّية الليبية مصدر متعة، وكأنما هي آخر اللحظات للنطق بها، ومن ثمّة تُدفَن في الرمال وأنتم خارجون من الحدود.
دفنتم أعقاب السجائر على الرمال لتنضَمّوا إلى دائرة النار مرة أخرى، بأذنيك تحاول أن تستمع إلى قصة يسردها «جمعة ناصر»، وعيناك تبحثان عن «سلمى عمر». فكرة الانفراد بها راحت تتسلّق ذهنك، درجة الظلمة مناسبة، الطقس متواطئ، التوقيت، زمن خارج التوقّع، لم تكن حاضره بين أوجه دائرة النار، «الفاتح الطيب» بابتسامات ماكرة يرسل إليك إشارات خفية ينبِّهكَ إلى موقعها، لحظتها أطلقتَ علية في سرّك «الفاتح إبليس»، استلفتَ منه سيجارة أخرى، أشعلتَها مُتدرّجاً نحو موقعها المتواطئ، كانت تجلس على درجة السلّم الأخيرة لباب الشاحنة الأمامي، ولنحول جسدها أفسحَت لك مكاناً يكفى لجلوسك بارتياح، التصقتَ بها أكثر مُبيِّتاً نيّتكَ وراء فكرة الاستماع معها إلى الأغنية، وعندما تأكدتَ أنكما خارج مرمى الأنظار، استلفتَ يدها دون مبرّر، حاولَتْ أن تتملّص، ولكن كانت قبضتك أقوى، فاستسلمَت على مضَض، لكن التفسير الأنسب أنها لم تستسلم للقوة بل لدفء يدك، تكاد تسمع ضربات قلبها بدل الأغنية، وفي اللحظة التي أصبحت قاب قوسين أو قُبلة، سقط جهاز التسجيل منها وهربَت نحو النار. صعدتَ إلى الشاحنة وتمدّدتَ على أقرب مقعد تتوسّد الخجل.
استيقظتَ قبل الشمس مع الأطفال، وجدتَ «سهير علم الدين» ترمي الزّلابيَة على زيت حار، ومن حولها التَفّ الأطفال مستدفئين بالنار والتمَعَت وجوههم بزيت الزّلابيَة، ويرتشفون شاي الحليب، انضممتَ إليهم بعد أن مازحتَهم وناكفتَهم كأنهم أبناء أخواتك، جلستَ تساعد سهير وهي ترمي العجين على الزيت وأنت تقلِّبه لتصطاد التي استوَت، وفي ذهنك تقلّب فكرة الاعتذار لـ«سلمى عمر»، تحاول تخمين الطريقة التي ستتعامل بها معك، تبحث عن كذبة تتوارَى خلفها، ربما ترفض حتى الاعتذار.. أو التعامل، وغالباً ما تستبدل مقعدها، وهنا ستنبعث الرائحة الكريهة، رائحة الفضيحة وتتضخّم أنوف الركّاب ليستنشقوا ما حدث، تلعن «الفاتح إبليس» في سرّك، تشعر بالنكد، صوت «سهير علم الدين» يعيدك إلى جوّ الزّلابيَة.
ــ أسامة، طلّع ديل ما يتحرّقن!.
ــ تعرفي يا سهير، ترجعي من هنا شغلك مضمون شاي بالزّلابيَة.
ــ هههههههه والله لو ما أخواني بمعنَعوني، كنت اشتغلتها يا أسامة.
عندما أدار السائق محرّك الشاحنة معلناً التحرّك، كانت التاسعة صباحاً من أول يناير، كنتَ آخر من صعد إلى الشاحنة متحجّجاً بالتدخين لتعطي «سلمى عمر» خياراتها، ودونما توقّع وجدتَها في المقعد ذاته تترقّب وصولك.
ــ ممكن تقلّل من التدخين شوية.
ــ...........................
ــ عشان صحّتك.
كنست كلّ التوتّر، عادت الضحكة ذاتها، استمعتما معاً إلى الأغاني بالتناوب على سمّاعات الأذن، وعند منتصف الظهيرة، والشاحنة تتمايل، لاإرادياً كنتَ تحتَكّ بها حتى سخن جسدها وعضّت على شفتها السفلى، وداست الزرّ الأحمر الصغير على جهاز التسجيل ليتوقّف مجرى الموسيقى عن أذنيك وتهمس على مكان المكرفون بسؤال مباغت، تسمعه أنت فقط على السماعات وبرغم ذلك التفتّ إلى الركّاب!:
ــ إنت أمس كنتَ عايز تَبوسني، صاح!؟.
..............................
تهرُب ببصرك نحو الصحراء، لا شيء جديد يذكر، المنظر لا يتغيّر، تتأمّل أظافر أصابعك بلا معنى، تعضّ على الذي نبَت أطول، كانت محاولة فاشلة لتقليم الخجل. هي لا تزال ممسكة بالجهاز وتدوس على الزر الأحمر، تنتظر الإجابة أم تستعدّ لسؤال آخر؟، وعندما تأخّرَت إجابتك، أو ربما كانت تنوي عرقلة اعتذارك القادم، همست مرة أخرى على مكرفون الجهاز:
ــ طيّب ليه ما أصرّيت عليّ شديد؟.
عندئذٍ شعرتَ بأن مؤخّرَتك ستتنفّس بصوت مسموع، ووقفَت رجولتك مستندةً على خصيتين.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تستند إلى مرفقيك، تحاول النهوض، لا تقوَى، تنظر حولك، المكان ذاته تحت الشاحنة، يتغيّر الزمن فقط، ممدّداً على الرمال تسأل نفسك: من هو الذي يتحدّث نيابة عنك، والـمُلمّ بكل التفاصيل؟، هل كنت غائباً عن الوعي وذهنك فقط ينتج الصوَر أم كنت تحلم؟، هل أنت فعلاً على قيد الحياة؟، ربما كنت ميتاً، وهذه إجراءات روتينية تحدُث بعد الموت مباشرة. رأيتَ نفسك تتجوّل داخل صالة باردة ورحبة، بها أناس تعرف بعضهم ولكن لا تتذكّر أين التقيتهم، كانوا يَتبعونك بدقة رغم خطواتك السريعة، توقفتَ أمام والدك، كان يرتدي ملابس المحولجي ذاتها، تقف أمامه مباشرة فيُزيح وجهه عنك، وعندما نويتَ أن تصافحه، زجرَك وأمَرك بالعودة إلى البيت فوراً، رجعتَ تتأمل الصالات الأخرى بمتعة، تنبعث منها روائح منعشة، أماكن لا تشبه الواقع، ربما أنت في نفق البرزخ، إذَن تَوَقّعْ أنك الآن في صالة انتظار الموت، تَفَقّدْ ما تبقّى لك من حسَنات، من الأفضل أن تشحن السيئات، وما تبقى احمله على كتفك. تسمع النداء الأخير وفي جيبك الخلفي تدسّ بعض المعاصي وبيدك اليسرى تخفى المؤامرة.
ــ على الإخوة الركاب المسافرين إلى طرابلس الرجاء التوجه نحو البوابة رقم «5».
لا تزال بقايا «ناهد عبد الهادي» عالقة بملابسك من شدّة العناق، هي الوحيدة التي شيّعَتك، وستظلّ الوريث الشرعيّ لإحساسك.
كنتَ تقريباً أول مَن أنهى إجراءات الجوازات والسلامة الجوية، في عجلة من أمرك ترغب في أن تكون أول مَن يدخل الصالة رقم «5» لتحتفل بقدرتك الفائقة على تهريب المؤامرة دون أن ينتبه إليها رجال الأمن والجمارك، وسريعاً ما بحثتَ عن ركن قصيّ وجلست خلف المقاعد، تختلس هفوةً من مندوبة الخطوط الجالسة على حافة المكياج، مستهزئة بشروط الجمال وتدعو إلى الشفقة، لتنفّذ العملية بدقة وحذر، وكانت لحظة مراجعة حدّة الأظافر كفيلة بإتمام المهمة، راحت المندوبة تسنّ في سلاح أناملها الأبيض، وبسرعة فائقة فتحتَ أزرار البنطلون وأفرغتَ مثانتكَ على البلاط اللامع، سائل أصفر اللون برغوة بيضاء ينساب وتتّسع رقعته كالوباء نحو المقاعد الأخرى. هربتَ لتجلس بعيداً عن ﭬـايروس هذا الوباء، جلستَ مبتسماً في سرّك، واصلتَ إنهاء المهمة، جالساً تكيل الشتائم، طبعاً في سرّك: «وطن جاحد، حاقد، قذر، لن أعود إليه مرةً أخرى»، أو كما قال صديقك «هشام النور»: «وطن كبير، متعدّد الأعراق يتحكّم به لصوص، وطن كلما حاول أن ينهض يتكئ على بندقية»، تمتمتَ بالشتائم وأنت تخرج من البوابة الأخيرة نحو الطائرة:
ــ تفووووووو عليك...
... على أسفلت المطار، مع لعنات بذيئة، ابتداءً من هيئة علماء المسلمين حتى الحرس الجمهوري، ولم تسلم من لسانك حتى الصحف غير المنحازة. تبصق عنوة على زجاج باص المطار، والركّاب مشغولون بمراقبة الطائرة، مع كل خطوة على السلّم تزداد اللعنات حدة وحقداً، تتّسع رقعة العداوة أكثر، تجلس على مقعد قرب النافذة، تتابع آخر لحظات لظهيرة الخرطوم: كان المنظر كئيباً، رِهَاب يسوّر حدود المطار، طقس بائس، غبار متعدّد الذرّات يحجب الواقع الحقيقي. تحسّ بأنك في مأمن من الوحوش والدجّالين هارباً من ذئاب يسيل لعابهم دماً، يصدّرون الأمل ويستوردون النفاق: الوداع يا وطناً أضحى لسادةٍ وعبيد.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تتأوّه، كالوحوش تنهش حبّات الرمال لحمكَ عبر التقرّحات، ظهرك بلا جِلد يحميه من آفات الأرض التي تترقّب حركة البندول داخل صدرك. بصعوبة تنقلب على اتجاه يدكَ اليمنى، يصطدم وجهكَ بذرات رمال أخرى تحملها رياح جافة، تصفعك أيضاً على تقرّحات خدّك، عقابك لم ينتهِ بعد، وكأنما يحدث لك هذا لأنك أسأتَ إلى الوطن، أو لأنك قررتّ عدم العودة إليه مرة أخرى، افتريتَ عليه. أنت بحاجةٍ ماسّة إلى مراجعة نفسك، ولكن هيهات، لقد فات الأوان، ها هو يرفض دخولك إلى أراضيه، يحول دون وصولك إلى حدوده، حتى وصل به الأمر إلى رفض فكرة أن يضمّ جثمانَك داخل ترابه، لكنك في حالة مزرية للغاية، لم تعد أحاسيسُكَ تستجيب ولا ينتابك تأنيب ضمير، تجتهد فقط لاستدعاء صور «ناهد عبد الهادي» إلى ذهنك، ولكن الفكرة تنحرف.
انحرفَت العربة ـ السجن ـ من شارع الأسفلت وتوقّفت، فتح أحد أفراد الشرطة الليبية الباب الحديدي لتسقط الأجساد المنهكة على الأرض كأنها أكياس قمامة وتتكوّم فوق بعضها البعض، أنين، صراخ، وبرغم ذلك انهالت عليكم العصيّ بلا رأفة.
كان الوقت ليلاً، والمكان إحدى البوابات الأمنية على طريق بنغازي الكُفرة، نزلتَ مُستوفيَ الشروط، متبولاً على ملابسك، منهاراً، لا تقوَى على الحركة، لتسقط على الأرض، حاولتَ النهوض، متفادياً الإساءات والشتائم، لتسقط مرة أخرى راكعاً على ركبتيك، طااااااااخ، ضربة غاضبة لينكفئ وجهك على التراب، يهجم عليك حذاء أسود غليظ يمزّق عضلات صدرك، تنهض ولا يتوقّف الضرب. أحد أفراد الحرس يصرخ بصوت مبحوح:
ــ بالكلاش يا فرج... بالكلاش...
تنطلق رصاصات في اتجاه الظلام ترعب الجميع، كان صوتها مدوياً، وقفتم جميعاً مذعورين، لا تدرون ماذا سيحدث؟. الذي حدث بكل بساطة حسب رواية الجناة: حاول أحدكم أن يهرب نحو الظلام، تعقّبته رصاصات مضيئة أردته قتيلاً بلا حراك. هل من سؤال؟.
أصابكم الرعب بعد تلك الرصاصات، وقفتم صفاً واحداً حسب الأوامر خلف برميل ماء قذر، سُمح لكم بجرعات قليلة، لتتركوا شيئاً للإبل ألعابرة. تم اختيار بعضكم عشوائياً لدفن جثة السجين، كان من دولة غانا، متزوّج وله طفلتان ـ كما فهمتَ لاحقاً من أصدقائه ـ قُبِض عليه معكم في ميدان الشجرة، وبالتهمة ذاتها: عائدٌ من عمله ببشرة سوداء!. ها أنت تسترجعه في ذهنك الآن. عبثاً كان يشرح وضعه، ظروفه الأسرية، ينطق مفردات ليبية مكسّرة، زوجته وطفلتاه حتماً في انتظاره، يَستجدي العطف، عندما لم تسعفه اللغة، تقمّص دَور صغرى طفلتيه وهي تنتظره أمام الباب، تُفرغ جيوبه وبأنامل صغيرة تهجم على الحلوى، مزيداً من الشرح، يصطدم بعقول متحجّرة وقلوب خاوية من الرحمة، بكاء كالأطفال، ولم يَنَل سوى ضرب وشتائم، بخلوا عليه برؤية طفلتيه، والآن يمنعون عنه حقّ البقاء في هذا الكوكب الصغير. بعد دفنه أمروكم بالصعود مرة أخرى إلى داخل الصندوق الحديدي، دخلتم والخوف يسبقكم إلى العتمة، ولكنك فقدتَ موقعك الإستراتيجي، ضاعت منك الثقوب التي أخفق فيها فنيّ اللحام كأنه كان متواطئاً معك كزميل مهنة، تجاهد للوصول إلى ركن الصندوق، ولكن لا وجود للفراغات، تظلّ محبوساً بين أجساد، بدأ الهواء يتضاءل مرة أخرى، ولا أحد يحتجّ، لا أحد يتجرّأ ويضرب بكفّه على حديد العربة، الخوف يتنامى، وخاصة عندما تسرّب خبر بين الأنفاس الحارة: بأن من يغمى عليه أو تسوء حالته، ستتمّ تصفيته ودفنه في الصحراء، الكلّ قاوم من أجل البقاء. برغم وضعك المزرى إلا أنك دافعت عن روحك بشجاعة.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تعود إلى الوضع القديم، تنقلب على ظهرك الدامي، عبثاً تحتمى من لسعات الرمال، ربما كان إصرارك على البقاء في ذلك الصندوق الحديدي بمثابة تمرين قاس لهذا الصراع غير المتكافئ مع الموت، اكتسب جسدك مقاومة جريئة ضد العطش والجوع.
يبدو لك أن الموت هو حياة تفقد الذهن والذاكرة، تحسّ بأنك على مدخل غيبوبة، صوت «ناهد عبد الهادي» يهمس في أذنك: لا تستسلم!، لا يمكن أن تكون هذه النهاية، استيقظ، افعل شيئاً!.
كانت رافضة مبدأ الغربة جملة وتفصيلاً، لا لشيء سوى أن قلبها ينبض على إيقاع خطواتك. لم تكن تتحمل غيابك مطلقاً، أنت أول مَن اكتشف أنوثتها، لذلك تظلّ تدور حول جاذبيتك، وفي اعتقادها البدائي، من خلفية العشق الأول، أنت الوحيد الذي تمتلك تلك الخاصية، بيَدك فقط تلك المفاتيح، لذا يظلّ العشق الأول، والجنس الأول غير مدرَجين على قائمة الاعتيادية، يصعب تكرار تلك اللذات الممتعة، تظلّ مبيّتة النّية داخل الذاكرة، تُستدعَى للمساءلة في حالات اليأس أو ارتكاب الحماقات. يَدُك بيَدِها وأنتما تسيران خارج حي السكة حديد، تُسلّفها التوازن لتخطو بأقدامها المثيرة فوق القضيب ـ سكة القطار ـ وأنت تتجاوز الفلنكات، نحو الصّنفور الأول، مدخل القطارات، ومضات مشرقة، أحلام يقظة تُرضى الطرفين. استمرّت علاقة الحب بينكما كإضاءة عمود النور، لا تنطفي أبداً، يدعم توهّجها أصدقاؤك وحتماً صديقاتها، ولا تنسى شقيقاتك، ثلاثتهنّ، يحملن إليها خطاباتك لحظة انشغالك، تصلك الردود مفعمة بالحب. عندما يكون بينكما لقاء، يَحدُث استنفار كامل في حي السكة حديد، وكأنما سيزور المنطقة وزير. صديقك ياسر ابن الشاويش عبد الفتاح، كانت لديه موهبه في الحسّ الأمني منذ صغره، وفي ما بعد كانت كلية الشرطة هي المصير الذي ينتظره، وما زال حتى الآن في الأمن الداخلي. كان يقوم بتأمين اللقاء بينكما ويحدّد المكان المناسب، بعد أن يوزّع الأصدقاء على الأماكن المهدّدة والثغرات، بعض أبناء عمال الدريسة بقيادة «إسماعيل جمعة» يرابطون في المحطة لمراقبة حركة المفتش عبد الهادي، وإذا خرج من مكتبه، لسببٍ ما، تنطلق الصفافير، لتنبّه ياسر «سوسوة» المختبئ فوق الملوينة، ويقوم الأخر بنقل الإشارات إلى حارس اللقاء العشقي الخاص «عماد» ابن الأمباشا* التوم خلف الله والملقّب «عماد مَنظر»، أطلق عليه هذا اللقب أستاذ عبد الرحيم النصري في المدرسة، فهو يجلس داخل الفصل كأنه تمثال، لا يشارك، لا يجاوب، ليس لديه الاستعداد أن يفتح فمه، يظلّ محبوساً ببرواز، لذلك اغتاظ منه الأستاذ:
ــ إنت يا عماد قاعد مَنظر بس؟.
أما «حسين الجمري» ابن الناظر، ومعه سيف وطارق أولاد عم عوض المحوَلجي، فمهمّتهم مراقبة منزل المفتش من الناحية الأمامية، خوفاً من حركة مباغتة تقوم بها «ليلى الجزولى» والدة ناهد، ويقف «زمراوى ود ستّ ابُوها» حارساً «ديدبان» على الباب الخلفي لمنزل المفتش، أما «عصام عبد الفتاح» مدبّر الفكرة فيجلس بكل براءة على عتبة باب منزلهم ويراقب الأحداث بعد أن حدّد اللقاء خلف هنكر محلج القطن المهجور، وشقيقته نجوى جاهزة تنتظر أوامره في حالة فشل الخطة، أو حدَث ما ليس في الحسبان، تستلم نجوى المهمة وتتأبّط ناهد وتبتكر أكاذيب لا تخطر على بال. أحياناً لا يخبرونك بتفاصيل الخطة، مهمّتك فقط تنحصر في انتظارها في المكان المحدّد ومراجعة أحاسيسك. في إحدى المرات كان الموعد أيام امتحاناتها وكانت ممنوعة من الخروج في المساء، تم إخبارك بالمكان والزمان المحددين، كنتَ تنتظرها على عتبة شفتيكَ أمام عربة درجة أولى الخارجة عن قانون السكة حديد، نوَاة حبكما، كانت المفاجأة أن رأيتها ترتدي فوق فستانها جلابية عصام وعِمّة والده عبد الفتاح مُخفيةً شعرها الأسود الغزير، دخلتما إلى عتمة العربة، نزعت عنها العمامة ليَبين شعرها أشدّ سواداً من الليل، وجهها دائري مضيء كقمر اختلّ توازنه ليظهر فجأة في ليلة مسترخية على عتمتها، لم تكن تحمل مواصفات سودانية تقليدية، يقال إن لها جذوراً تركية من ناحية أمها «ليلى الجزولي». لونها كالمَنقَة السنّارية، عيناها واسعتان تنحدر تحتهما أنف حادة، أسنان بيضاء متساوية كعربات القطار المحلّي، لم تفتح فخذيها وهي طفلة لتعبث بها أم سَلَمة الدايَة، لذلك كنتم في السابق تطلقون عليها «الحلَبيّة الغَلْفة»، لكن الآن لا أحد يجرؤ ويقول هذا اللقب حتى بينه وبين نفسه، انمحى تماماً. الحب يزيل حتى الأورام الخبيثة. تسمع ضربات قلبها فقط، تكاد تبتلعها قُبلة واحدة، تحاول التعمّق أكثر، تحاول أن تنزع عنها جلابية صديقك، لتقترب أكثر نحو جسد معلّب، تستدرجها نحو وكر الشهوة، تذكّرها بتك الأيام عندما كانت حلمات صدرها تنمو فوق ربوة، لم تكن دفاعاتها بالتصدّي أو القوة، بل بالمنطق الأخلاقي. برغم المغامرات التي تقوم بها من أجل الحب، لكنها أصبحت، بعد تلك الطفولة المشاغبة، ملتزمة دينياً. بعد كل لقاء تعود إلى البيت، تغتسل وتصلّي وتبتهل لله أن يجعلك من نصيبها في الحلال، تكسر لك مجاديف شهوتك بالدين. تجازف بتوصيلها إلى البيت، ولكن ليس قبل أن يتم تأمين المكان من رفاقك، والتأكّد من حديقة بيت المفتش وحركة الشارع. كانوا أصدقاء مخلصين، مجازفين، يستلفون لمبة إشارة مرور القطارات الليلية، وهي فانوس ذو غطاء زجاجي مُزدوج يمكن تحويله ليصبح على اللون الأحمر أو الأخضر، وحينها تنطلق إشارات الأمان، ويصير اللون أخضر، تمسك بيدها للتحرّك بمحاذاة السكة الحديدية، تدخل بها محطة الأمان. تموت هي من الضحك، عندما تخبرها بأن أصدقاءك هم الذين هشّموا لمبات حديقة المفتش لدواعٍ أمنية.
بعد وفاة والدك المفجعة تغيّبتَ عن المدرسة لفتره من الزمن، تضامَن معك كل أبناء عمّال السكة حديد، رسموا تعابير حزينة على وجههم يتنافسون في التقرّب منك، معظمهم شاهد الحادث البشع، بعضهم صبّوا التراب على الدم الذي لوّن الفلنكة، وعجنوها بفضلات القطارات من الزيوت، محاولات لإزالة الشبهات التي تتعقّب الذاكرة، بالفطرة فقط، يستدرجونك للعودة لى حياتك الطبيعية. أما ناهد، كمعظم البنات اللائي التفَفنَ حول شقيقاتك، فقد كانت تتأمّلك من خلف رموش مبتلّة كلما شاهدتَها في بيتكم، وكانت تقضي معكم في بيتكم أوقاتاً طويلة دون خوف من والدتها. موت والدك أربك حي السكة حديد بكاملة، النساء لا يغادرن والدتك إلا في المساء، الرجال والأطفال والأصدقاء يأكلون وجباتهم تحت ظلّ شجرتَي النيم أمام باب بيتكم. لقد خفّفوا عنك وطأة الحزن. تمّ توصيل إنارة لعربة درجة أولى التي تعلمتَ فيها الحب، مكان إضافى للمعزّين من الرجال فهي تقابل باب منزلكم، يظلّ معك أصدقاؤك حتى وقت متأخّر من الليل مستمتعين بحالة سفر مؤجّل، والبعض ينام معك دون مساءلات أسرية، بالفطرة استطاعوا أن يحوروا الفاجعة تدريجياً إلى لحظات شيّقة، أنتجت غراميات. تنتظرون البنات ومعهن شقيقاتك يأتين بالعشاء و«ناهد عبد الهادي» فاكهة المساء، تلتفّون حول عشاء بسيط وغالباً ما يكون فائض وجبة الغداء. تضعونه داخل إحدى غرف عربة الدرجة الأولى في طقس يمطر بهجة، ليتراجع الحزن مُفسحاً المجال للحكاوى والذكريات، وضحكات يتمّ خنقها قبل أن تفضحكم. استطاع أبناء هذا الحي أن يحوشوا عنكم إحساس الافتقاد، حتى شقيقتك الصغرى نجاة، التي أصابها حزن مميت بسبب ارتباطها العميق بوالدها، ها هي عادة تضحك وتشارك في الحكاوي. يبدأ الحزن كالجبل ويدمّره الأصدقاء ليتركوا لك حجراً صغيراً لا تراه الا بالإحساس المجرّد. بمؤامرة محبوكة ينسحب الجميع ليجلسوا أمام عربة القطار درجة أولى المضيئة بالكامل، وكأنها متوقّفة في إحدى المحطات، ليتركوا لك مساحة حبّ مع ناهد. لولا سكّان هذا الحي العظيم لما استطعتَ أن تتجاوز أنت وأسرتك هذه المحنة.
أما زملاء والدك فتعاطفوا معك بالكامل، شعرتَ بأنك ابن لعدة آباء، ولكن نشبَت بينهم نقاشات ومشادّات كلامية وصلت حدّ الخصومة بسببك. من جهةٍ كان المفتش عبد الهادي وناظر المحطة يؤكدان على أهمية مواصلتك الدراسة، مهما حدث، وكانت هناك مجموعة أخرى بزعامة «الطيب ياسين»؛ حكمدار الدريسة، وبعض السوّاقين، و«عم عوض»؛ أكثر الناس حبّاً لوالدك، تتذكّر كيف بكى يوم الحادث حتى أغمِيّ عليه، كانوا من جهتهم مرعوبين من فكرة إبعادكم عن الحي، بعد عدة شهور ستكون أنت وأسرتك مجبرين على مغادرة منزل الحكومة، ومغادرة حي السكة حديد إلى الأبد، لذلك اقترحوا أن تَترك المدرسة ويتم تعيينك محوَلجياً في مكان والدك وبذلك تحافظ على البيت وترعى أسرتك. وإزاء إصرار المفتش على أنك ما زلت طفلاً، ومن المحال أن تواجه مسؤولية أكبر من عمرك، التجأ الفريق الآخر لمخاطبة نقابة هيئة عمال السكة حديد، بخطابات مأساوية، شرحوا الظروف، وكيف مات «سعيد المحوَلجي» أثناء أدائه عمله. ليتم بعدها تحوّر كامل لشخصيتك، من طالب بالصف الثالث من المرحلة المتوسطة، إلى عامل في هيئة السكة حديد في مهنة محوَلجي، مراهق يتحوّل إلى عامل وربّ أسرة!.
بمهارة شديدة استطاع الخيّاط «عبد الرازق الأطرش» أن يعدّل ملابس المحولجي الأب لتصبح على مقاس الابن، بدأتَ التدريب كأصغر محوَلجي يمرّ على هيئة السكة حديد، دخلتَ مبنى الملوينة، ليس كطفل يعبث بالتحويلة بل لتتعلّم أسرار المهنة.
تتذكّر أنك كنتَ تُمثّل هذا الدّور؛ دَور المحولجي، أثناء الألعاب اليومية، ها هي المسرحية تصبح واقعاً، تَخرج إلى العمل في توقيت خروج رفاقك إلى المدرسة، وأنت بملابس العمّال التي لونها كشاي الحليب يتأمّلونك في حسد، لم يعد لديك واجب مدرسي، ولا ينتظرك الذلّ في طابور الصباح. تتسكّع مع شقيقاتك بخطوات بطيئة على الفلنكات، في انتظار أن تنضمّ إليهنّ «ناهد عبد الهادي» في طريقهنّ إلى المدرسة، أصبحَت مُتمسّكة بك أكثر، وتفخر بتضحيتك من أجل شقيقاتك، تتأمّلك بإعجاب وأنت، من جيب سرّيّ، تُناوِل شقيقاتك مصروف الفطور.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تستعيد وعيك، يبدو أن الشمس نهضت قبل قليل، بصعوبة تفتح إحدى عينيك، تتأكّد من أنك تحت رحمة يوم جديد من العذاب، يخطئك الموت مرة تلو الأخرى، أو أنت الذي تُفلِت منه بأعجوبة، حتماً سيجد فرصته المناسبة لينشّن عليك أثناء غفوة أو إغماءة، بالطبع سيجد التوقيت المثالي للّدْغة الحاسمة. الموت ليس كقطّاع الطرق ليختار الليل فقط، لكنه يستبعد مواجهتك أثناء اشتعال ذاكرتك، ربما يخطئ هدفه مرة أخرى، أو يَهاب أن يصبح جزءاً من منظومة الذاكرة، لذلك لا أحد سيتذكّر كيف قضى نحبه، الموت لا يغامر بسُمعته، يحافظ على مَكره، ويبدو لك كثعبان يختبئ داخل الرمال، تشعر بحركته حولك. لم تعد تدري من أين يأتي الألم، ظهرَت تقرّحات عديدة على جسمك، حتى عينك الأخرى أصبحت متورّمة، إنها مرحلة التعفّن التدريجي للجسد، الفم غائصٌ داخل لحية بنت أيام عديدة، ربما قريباً تبدأ العناكب في نسج شباكها حول فمك استعداداً للوليمة القادمة، العينان حفرتان صغيرتان، عظام بارزة يكسوها جلد ناشف، الشكل العام يحاكي جثّة محنّطة. عاصفة رملية أرسلَتْها رياح الصباح، حبّات الرمال تتساقط عليك، ليتها كانت حبّات مطر، رمال تعبئ حفر الجسد، كأنما قرّرَت الطبيعة دفنك، ركام من الأسف والحنين، قلبك يهَضْرِب من الخوف، فكرة أن تصبح تحت التراب مرعبة، تزحف بمزيد من الآلام نحو إطار الشاحنة لتختبئ من العاصفة، بالأحرى لتختبئ من الموت الذي يتربّص بك.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــع
حتى اليوم الثالث كانت الشاحنة تسير ببطء واحتراس: كأنها تخشى أن تقع في كمين. حسب توقّعات السائق «يوسف العماري» وأكّد عليها المهندس «خضر عوض الله»: في نهاية اليوم الثالث تصلون إلى نقطة الحدود السودانية.
كنتَ نائماً، ممدّداً على الممشى لتترك المقعدين لسلمى عمر، عندما توقّفت الشاحنة فجأةً في وسط كثبان رملية فضّية لامعة من شدّة القمر الذي أكمل ترميمه وأصبح بدراً وأوشك على السقوط، حجمه كان أكبر من المعتاد، تضاريسه واضحة، تكاد ترى حتى الصحاري والجبال، إضاءته مبهرة تحاكي شمس الخريف، في البدء اعتقَدَ الجميع أنها نقطة الحدود، ولكن الانبهار بالمنظر طغَى على علامة الاستفهام، انتشر الركّاب ورؤوسهم نحو السماء، مشكّلين دائرةً غير مقصودة وأفرغوا مثاناتهم خارج محيطها، كأنهم جزء من تفاصيل لوحة سريالية لم تكتمل بعد، حينها أخبركم السائق بأنه متعب وستقضون الليلة في هذه الرمال الفضّية وتواصلون غداً صباحاً رحلتكم نحو الحدود السودانية. كانت إضاءة القمر قوية وباستطاعتك أن ترى عقارب ساعتك تُشير بوضوح إلى الواحدة بعد منتصف الليل، انسحَب النعاس من المشهد بعد أن دبّت حيوية في الأجساد، غالباً ما يكون مصدرها هذه الأشعّة المنعكسة من القمر، حتى الأطفال استيقظوا مندهشين بهذا القمر، بدا لهم في خيالهم الصغير مركبةً فضائيةً جاءت في غزوة مباغتة إلى كوكب الأرض، نفضوا نعاسهم بأسئلة متوالدة، قطعاً لم يجدوا إجابات مُرضيَة. كان الطقس بارداً نوعا ما، إنه طقس الصحراء الكبرى؛ بارد ليلاً وحارّ جاف نهاراً. قرّرتم تجهيز وجبة عشاء خفيفة من الساردين والجبنة والفول، تعاونتم في إخراج بعض الأخشاب التي وضعتموها لحالات الطوارئ فوق سقف الشاحنة، لتكتشفوا اختفاء الخروف الثاني، وبعد بحث سريع وتمحيص تأكّد أنه سقط في الصحراء أثناء تمايُل الشاحنة معه أيضاً شنطة «الفاتح الطيب» التي ربط الخروف عليها بالصدفة، أو ربما هي التي سقطت وسحبت معها الخروف، لحظتها أعلنتَ من أعلى الشاحنة:
ــ يا جماعة الخروف التاني وقع، ومعاهو شنطة الفاتح إبليس!.
كانت الحسرة مختصرة، لم تخص الخروف، والضحكة عالية تكاد تصل حدود القمر، فقط الأطفال هُم مَن سرحت عقولهم مع روح الحيوان المسكين الذي سيتوه في هذه الصحراء بلا ماء، رغم أن مصيره كان الذبح، ولكن إحساس الموت تدريجيا مؤلم جداً.
النساء ثلاثتهنّ طيّبنَ الفول وخاطر «الفاتح الطيب» في افتقاده حقيبته، ولكن سريعاً ما عادت السخرية والضحكات، لتزيد الألفة على ضوء القمر، وخاصة بعد أن اعترف الفاتح بأن شنطته ليست بها سوى ملابس قديمة متّسخة، وكان من الأجدر بها أن لا تتبعه، وخيراً ما فعلت، لترتفع الضحكات العامرة، مختلطة بكحّة سجاير وآثار برد. أشعلتم ناراً كبيرةً للتدفئة وأخرى للشاي التفّ حولها الأطفال والنساء، ورُحنَ يجهّزنَ سندوتشات بخبز فقَدَ تماسُكه، ولكن كان لها مذاق خاص، والإحساس بمتعة الأكل لا يأتي إلا في لحظات نادرة، وهذه لحظة لا تتكرّر، مجموعة من الركّاب في مكان لم تطأه أقدام من قبل، مكان لا مُنتَمٍ، أشبه بسريالية «سلفادور دالي»، كأنكم تتعرّضون الآن لجاذبية متبادلة بين الأرض والقمر، صحراء لامعة، لا تدري مَن مِنهما يضيء الآخر؛ الرمال أم القمر. جلستم مُلتفّين حول نار متراقصة على أنغام الحكاوي والخرافات التي أبدعها وحي المكان. لحظات ممتعة صبّت خرسانتها على ذاكرتكَ، لن تنسى هذه المتعة أبداً. انزوى السائق الليبي «يوسف العماري» وحيداً كعادته مستلفاً ناراً صغيرةً ليغلي عليها الشاي الأسود المكرّر ويستحلب رغوته، أنت من داهمتَه في خلوته بعشاء خفيف، رفَضَه بحجة النوم، ولكن إصرارك على مشاركته في الخبز والماء جعلك تتناسى حقدك وكراهيتك لأفراد الشعب الليبي فهُم أيضاً مغلوبون على أمرهم، نَشِّنْ سهام الضغينة نحو منفّذي السُّلطة فقط. جلستَ بالقرب منه وارتشفتَ شاياً أسود لتحثّه على الأكل، راح فمه يلوك الطعام ببطء وذهنه مهموم، برغم بهجة المكان، لم تفهم ماذا به؟، لم تكن بك رغبة في تسلُّق ذهنه، ومن المحتمل أن يكون مرهقاً فقط، وبلا سابق ثِقَة بينكما راح يتلو عليك اعترافه بأنه تاهَ عن الطريق منذ الأمس وظلّ يدور في صحراء لا فكاك منها، لذلك فضّل التحرّك في الصباح ليتمكّن من الرؤية جيداً، مؤكّداً أنه سيعثر على طريق الشاحنات المتجهة نحو نقطة الحدود السودانية، واستحلَفك أن لا تخبر أحداً من الركّاب حتى لا يتذمّروا.
ـــ ورأس أمّك ما تكلّمش حد، باهي!.
ـــ باهي.
لم تنزعج لحظتها من فكرة التوهان، أولاً أنت لست متشوّقاً لرؤية الوطن، ولست ذاهباً في عطلة لرؤية الأهل، بل مطروداً ومبعَداً ومُذَلّاً، ثم ثانياً هذا السائق من أبناء مدينة الكُفرة وهم خبراء في هذه الصحراء.
مع تبادل الإضاءة المتفق عليه، استلمَت الشمس نوبتها في الإضاءة النهارية، حينئذ تحرّكت بكم الشاحنة وهي تتمايل وتئن حدّ البكاء المرير، كان البعض نياماً داخل الشاحنة والبعض الآخر، الذين افترشوا الرمال الفضية، نهضوا مُلملِمين فضلات النعاس داخل بطاطينهم ليواصلوا أحلامهم مع ذلك الإيقاع المترنّح.
وحدك تعلم أن السائق تاه عن الطريق، لاشعورياً رُحت تبحث معه عن إطارات قديمة ملقاة على الرمال، أو آثار شلوخ على وجه الرمال لشاحنات مرّت حديثاً، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهي أنت والرمال معاً، رياح جافة ومتواطئة تلحَس حبّات الرمال، وتخبّئ كل الاحتمالات. وحدهم الطوارق؛ أبناء الصحراء، يفهمون لغة الصحراء ومؤامراتها، وأن مَن يدخلها لن يكون آمناً، كل عناصر الطبيعة تتكاتف من أجل رد الاعتبار والدفاع عن عذرية الصحراء. غفوتَ على كرتونة «سلمى عمر» حتى منتصف اليوم لتستيقظ بصداع مؤلم، أشعلتَ عدة لفافات غير عابئ بصدور الآخرين، تأمّلتَ الصحراء، بلا معنى، رمال ممتدة إلى حدّ العين المجردة، سماء فارغة، طقس متقلب. أصبح المنظر مملاً بعد اليوم الرابع، والجلوس داخل الشاحنة أكثر إملالاً. نعاس تصل به الجرأة حدّ الانتصاب، وبلا وضعية مريحة للنوم، تُمدّد قدميك في كل الفراغات الممكنة، بيدك تمسّد انتصابك الكاذب، يزداد عناداً وإصراراً متمسّكاً بإثارة لم تخطر على ذهنك، لكنه مع ذلك يحاول إقناعك، تلتفت إلى جارتك «سلمى عمر» وهي الأخرى استنفذت كل الحيل والتجارب لوضعية مريحة لرأسها، استعانت حتى بشنطة يدها كوسادة لتصطدم بفشل لا يعيق الأمل في البحث عن نجاحات الغفوة. تدسّ انتصابك الكاذب بلا شهوة، يلتفت إليك المهندس «خضر عوض الله»:
ــ الزّول دا ما بعرف يسوق ولا شنو؟، نحن من أمس كان نكون دخلنا الحدود.
كنتَ على وشك أنت تعترف له بأن السائق ضلّ الطريق، وعلى غير توقّع تستجيب لذاكرتكَ وتنجذب إلى مجال إحدى مقولات صديقك الفيلسوف «نصر الدين الترزي»؛ أحد الذين سطوا جهراً على ذاكرتك: «لا تُفشِ سرّ إنسان مهما تدهورَت علاقتك به، ربما تشعر بمتعة، ولكنها حتماً ستكون خصماً عن إنسانيتك».
ــ احتمال يكون مشى بطريق تاني.
فكرة إبعادك عن ليبيا تفرض نفسها وتتعرّى أمام ذهنك، حتماً ستصاب بالندم، تكرِّج على أسنانك بُغيَة دهسها قبل أن تتنامى، ولكن هيهات. تلك الصور والذكريات تركتَها هناك داخل كيس تحت سرير «محمد التشادي»، تهرب من الفكرة لتَسقط في فخّ الذاكرة التي تقودك بلا دليل إلى منبع الإغراء ذاته. يَبين أمامك بيت العزّابة في أحد الأزقّة المتفرّعة من شارع سوق الضّلام، غرفة يتيمة تفتح على صالة كئيبة، وهي الأخرى تقودك إلى حوش مربّع معروش بالسماء فقط، يوجد به مطبخ مرتجل وحمّام مريض مرضاً مزمناً وهو دوماً في حالة تقيّؤ. بيت تسكنه روائح الصراصير والفئران مختلطة برائحة الرطوبة والمجاري المنتهية الصلاحية، وأحياناً روائح نفّاذة تنبعث من جحور الفئران والصراصير، مصدرها مواد كيمائية فتّاكة تثير غضب الأعداء فقط، وتَظهر حشود من الحشرات المختلفة والمتضامنة تتسلّق الحائط، في مسيرة سلمية تُدين محاولة الإبادة الفاشيّة. كتابات وخربشات على كل الحيطان، بالطباشير والأقلام والفحم، وأحياناً رسومات بلا موهبة، ومقاطع من أغانٍ لامست إحساس الغربة، أسماء، عناوين، تذكارات بتواريخ متعددة، استياءات ذات أبعاد مختلفة، عبارات محبطة، لم يتركوا مساحة يتنفّس منها الأسمنت. كتابات تعبّر عن الحالة النفسية للسكّان الذين مرّوا على هذا المنزل من قَبلك. كان سريرك مرتبة إسفنجية مسلولة وملوية تحت سرير «محمد التشادي»؛ أقدم الساكنين والخبير بتاريخ المنزل وبعض السكّان السابقين. لديه تلفزيون ملوّن وﭬـيديو ماركة «قاريونس» ودائماً يؤكد: «إنه ماركة فيليبس لكنه تجميع ليبي»، أحياناً تشاهد معه أفلاماً جنسية مستهلَكة ومشوّشة تثير الغضب أكثر من الإثارة الجنسية. شخصيته بسيطة، وهو مثلك لم يكمل تعليمه، ولكنه كان يجيد اللهجة الليبية بصورة مدهشة، طويل، أجلح، ذو عينين صغيرتين تصبحان كفَتحات الأزرار عندما يضحك، لا يخاف مطلقاً، يتعارك مع الليبين حتى لو كانوا مجموعة، يلفّ حول بطنه أحجِبة مصنوعة من جلد البقر، يرتديها وهو خارج من الحمّام كالحزام الناسف، لديه حكاوي ومغامرات في تشاد يكرّرها دائماً بلا قصد، سريع النسيان، تغتاظ منه، عندما يحكي لك قصةً يَقترب من وجهك أكثر من اللازم بينما يتطاير من فمه الرذاذ. وُلد في السعودية وعاش بها حتى سنّ السابعة، ذات يوم رفض والده أن يَشتري له كرة قدم فأخبر دورية الشرطة التي كانت تمرّ بالقرب من البناية: بأن أسرته تعيش في هذا المنزل دون إقامة، في اليوم ذاته تم ترحيلهم إلى تشاد، بكى في مطار «إنجمينا» بحسرة وتمرّغ بالتراب. نادراً ما يغضب.
كان سرير الخشب المرتجَل من نصيب «علي دين» حتى لحظة افتراقكما يوم تمّ اصطيادك في ميدان الشجرة، لم تكن تعلم ما اسم والده، انطبع عليه هذا الاسم «علي دين» منذ الأيام الأولى التي دخل فيها مدينة بنغازي، ليس غازياً بل باحثاً عن مكان آمن، تنقّل في السكن بين بيوت عزّابة مختلفة، وذاع صيته، لا ينادي أحداً باسمه، دائماً يناديك «يا دين»، في بادئ الأمر تشعر بأنه غاضب وينوي على الشرّ، ولكن سرعان ما يَضحك. شخصيّة متقلّبة ودائماً على حافة الانهزام، محبوس داخل ماضٍ بتهمة حسرة، لا يكفّ عن سخريته، كثيراً ما تشاجر معه الذين لم يفهموا طبيعته، لذا هو في حالة ترحال دائم من مكان إلى آخر، وظلّ مشهوراً بـ«علي دين. ». حتى أنت، عندما جئت إلى هذا المنزل أول مرة كضيف، أثار دهشتك عندما داهمك في عقر إرهاقك وتعبك:
ــ يا دين، تشرب شنو؟، عصير ولا شاي؟.
انفجر «محمد التشادي» في ضحكة مجلجلة عرّفتك بهذه الشخصية غريبة الأطوار: مدمن عرَقي، وأحياناً حاملُه وبائعُه إذا وجد فرصة، ولكنه يهاب الشرطة الليبية حدّ التبول على ملابسه، هزيل الجسد يستدعى الشفقة، يَبدو لك سكراناً في كل الأحوال، حتى إذا لم يشرب، دائماً يكرش بيسراه مؤخّرة شعره، وله نظرات مريبة، وأحياناً يبدو شارداً بذهنه، ويلتفّت بسرعة مع أية حركة، كأنما يتوقّع أن يحدث شيء ما، لديه مقدرة هائلة على التصرّف عند المواقف الحرجة، ويبتكر تصرّفات لا تخطر على البال ليزوغ من كمين الشرطة اليومي. في إحدى المرّات، عندما كان يعيش في بحبوجة وترف وعائداً بسيارته وهو سكران من مدينة «إجدابيا»، أوقفه عسكريّ البوابة الأمنية لمدينة بنغازي وأجبره على النزول من السيارة وإحضار أوراقة الثبوتية، ولم يكن «علي دين» يحمل أيّ مستند، ترجّل بثبات تام رغم حالة السّكر ومشى بخطوات عسكرية قوية مقلّداً طلاب الكلية الحربية في احتفالات التخرّج وطاااااخ بقَدمه اليسرى على الأرض محدِثاً غباراً أمام العسكريّ الذي بلا رتبة عسكرية:
ـــ تمام سعادة الرائد.
لم يستطيع العسكري إخفاء ابتسامته وشعوره بالعظمة والنشوة، وبالنبرة العسكرية ذاتها خاطب «علي دين» متقمّصاً رتبة الرائد:
ـــ إلى الخلف دُور، صحيت يا ولدي، باهي سوق سيارتك وروح.
ترَى فوق سريره مباشرة صورة معلقة داخل برواز كبير: هو وخطيبته قبل عشر سنوات، يرتدى بدلة وشَعره كثيف، وجهه متفائل، وخطيبته تقف بفستان أنيق ملتصقة به ويدها على صدره، تتلصّص على ضربات قلبه، تتكهّن بهذا المصير المجهول، إذ لم يعد ليكمل مراسم الزواج كما وعدها، إخفاقات متتالية، قطع الأخبار وترك الاحتمالات في خانة المهملات. إذا كنتَ زائراً جديداً فإنه يجتهد بشتى السبل في استدراج أنظارك نحو الصورة كي تسأله عنها، ليسخر من فكرة الزواج. له صديقة تشاديه زوجها متوفى، ينفق عليها وعلى أطفالها بسخاء، لا يدّخر شيئاً لنفسه، لم تكن دوافعه من منطلق ديني، إطلاقاً، كريم للغاية حدّ التبرّع مجّاناً بكل ما يملك، ويحدث هذا بلا شك عندما يكون سكراناً. ينام مع صديقته الأرملة يوم الخميس فقط، ولا ينسى مناكفته المعتادة مع «محمد التشادي»:
ــ آها الليلة الخميس يا دين، ماشي أنوم مع بتّكم دي، قالت: تشاد ما فيها رجال!.
يغلق الباب خلفه مبتهجاً بضحكاتكم التي تتبعه حتى نهاية الزقاق. غيابه كان مؤثراً، يخلق داخل البيت حيوية وفرحاً، نكهة تعليقاته تغيّر طعم مرارة الغربة، ومع بزوغ فجر الجمعة يعود إلى بيت سوق الضلام، تلتقيه في المطبخ وهو يعدّ قهوته على أنغام أغاني الحقيبة.
ــ شنو يا علي دين جاي الدّغش؟، طرَدوك ولا شنو؟.
يضحك بصوت أشبه بالصهيل فتخرج الكلمات من فمه تائهة وتتبعثر مع بقايا الضحكة:
ــ تعرف، النسوان ديل ما دين حجَر كمان، أوعَى تقابل مرَة صاحية من النوم.
كنتَ تنام في مرتبة الإسفنج على أرضية الغرفة، تضعها بين سريرَي «محمد التشادي» و«علي دين»، أما «نصر الدين الترزي» فينام عادة في الصالة على كنبة مهترئة يضع من فوقها بطّانية، لا يتكلّم كثيراً ولكنه في حالة تفكير مستمر، عندما يتحدّث لصوته ذبذباتٌ تُداهم الذاكرة السمعية، حينها تستدعي كلّ موظفي الذاكرة بمن فيهم عجائز الأرشيف ليُرشدنك إلى هذا الصوت المألوف، لقد سمعته أكثر من مرة. هيئته تفرض عليك الاحترام. نحيل، عيناه واسعتان، ذو بشره سمراء داكنة، مجتهد في كل ما يقوم به، أحياناً كنتَ تذهب معه إلى دكان الخياطة، يعمل بنَهم، لا يكلّ ولا يَتعب، يحيك الملابس بحرفية عالية تعلّمها من والده أيام العطلة المدرسية، أخبرك أن والده كان الخيّاط الوحيد في «الجزيرة أبا» كان يحيك الجلاليب الأنصارية فقط، واصل مع والده الخياطة حتى بعد دخوله الجامعة، ولكن، لأسباب سياسية لم يصرّح لك بها، فُصِل منها، ليسافر إلى مصر ويلتحق بجامعة الزقازيق، وهناك أيضاً دخل في صراعات سياسية وصلت إلى حالة التربص والمداهمة داخل الشقق.
بعد التخرّج قرّر عدم العودة إلى الوطن حتى لا يُعتقل كمعظم زملائه. انطوائي، شحيح الحوار، لذلك من الصعب التعرف على شخصيته، برغم ميوله اليسارية إلا أنه لم يُفلت من الجلباب الأنصاري، ظل ملتزماً دينياً، لا يفرّط في صلاته أو صومه، مطلقاً. في شهر رمضان يبتكر طقوساً دينية تكاد تُزيل رائحة البيت الكريهة، يحترمه الليبيّون في هذا الشهر شدّما احترام، فقط في في رمضان، لأنه شهر الإيمان، يصطفّون خلفه في صلاة التراويح، يتودّدون إليه وكأنه سيتوسّط لهم عند الرحمن. وفى أول أيام العيد يعود في أذهانهم إلى مكانته الطبيعية «العِبيد الخيّاط». دائماً تجده يقرأ كتباً سميكة حتى وقت متأخّر من الليل، و«علي دين» لا يكُفّ عن مناكفته وهو سكران في طريقة إلى الحمّام:
ــ إنت يا دين، قراية الكتب دي ما دخّلتك السجن!، ما بتتوب؟.
أنت أيضاً كنتَ أحياناً تجامله في السهر لتكتب رسائل إلى والدتك وشقيقاتك، تفتح أشواقك المعلبة وتصبّها على ورق أبيض وتضعها برفق داخل مظروف، وترسلها عبر البريد والحظّ، تكتب عليها عنوان زوج شقيقتك سلوى الذي يعمل بمؤسسة الأقطان. سترسِل خطابات خاصة أخرى بالعنوان ذاته إلى شقيقتك «نجاة سعيد» ولن تنسى أن تكتب: ومنها مشكورة إلى العزيزة ناهد عبد الهادي ـ يجدها بخير، ولا تنسى أيضاً الشكر الأجزل لساعي البريد حتى تحفزه للإخلاص في مهنته، لكن عبثاً كنتَ تختزن المشاعر على السطور، وبلا جدوى تتبرّع بجزء من أموالك لمصلحة رواتب موظفي البريد. أربعة أعوام من المراسلات، لتصلك رسالة يتيمة من شقيقتك «نجاة» عن طريق أحد القادمين، عندها عرفتَ أن خطاباتكَ ضاعت هباءً منثوراً.
كانت رسالة حزينة، بين سطورها تندسّ العَبرة، حفظتَها في ذهنك إلى الأبد.
عزيزي وأخي الغالي
أسامة
تحية طيبة
لك مني عاطر التحايا والأشواق القلبية، علها تصلك وتجدك على ما يرام. والله العظيم مشتاقة ليك شوق لا يوصف ولا يقدر، وشنو يعنى عامل تقيل، ولا عشان خلاص يا أسامة بقيت مغترب.
عزيزي:
بالمناسبة أنا رسلت ليك ثلاث رسائل ولم يصلني منك رد حتى الآن، إن شاء الله يكون المانع خير. والله شفقانين عليك، خاصة الوالدة، تتصور يا أسامة بقت كل يوم تذكرك وتبكي، وإنت عارف أمي وخوفها عليك، كان ممكن ترسل خطاب سريع تطمئنا عليك، المهم عليك الله أكتب لينا كل أسبوع خطاب، ورسل إن شاء الله بالبريد.
عزيزي:
ما عارفين لقيت شغل ولا لسع، ساكن وين؟ والبعمل ليك الأكل منو؟. الوالدة بتسلم عليك وبتدعي ليك في كل صلاة، ربنا يوفقك. وقالت ليك عافية منك دنيا وآخرة.
عزيزي أسامة:
طبعاً إنت كنت حاضر عقدنا أنا ومصطفى، إتزوجنا قبل سنتين، وعندي ولد صغير طالع يشبهك، مش بقولوا الولد خال، سميناهو على أبوي الله يرحمو جدو. نتمنى تجينا في إجازة قريب عشان تشوفو، أما بخصوص الوالدة هي بخير وعافية وساكنة معاى في البيت، بس مشكلتها شفقانة عليك.
عليك الله بعد يصلك الخطاب دا، طوالى رسل رد سريع عشان هي تطمن شوية.
عزيزي:
في الختام ما أوصيك على المراسلة، وأرجو أن تتقبل سلام الأهل جميعاً.
نسيت أكلمك، البركة في الجميع، المفتش عبد الهادي أبو ناهد اتوفى قبل شهور، مشينا أنا وأمي حي السكة حديد عزيناهم، بعدها رحلوا وأخبارهم انقطعت.
سلوى وأولادها بسلموا عليك، كنا معاهم أمس، مبتهجين، بنتها روان امتحنت الشهادة السودانية وأحرزت نسبة 91%.
عزيزي:
بلغ تحياتي لجميع أصدقاءك.
ملحوظة:
زواج صاحبك ياسر عبد الفتاح الأسبوع الجاي، ح يتزوج رشيدة بت الصول، تتذكرها؟.
أستودعك الله
أختك أبداً ودوماً نجاة سعيد
تنتفض من غفوتك مذعوراً، شيء ما قد حدث، صراخ النساء والأطفال، هلع، فزع، ودربكة، أصوات الرجال لم تكن أقل رعباً لكنهم تستّروا على إيقاعات قلوبهم المختلفة مستنجدين بأسماء الله الحسنى لدوزنتها، ثوان معدودة، كانت كفيلة باستعادة التوازن وتجاوز حالة الرعب، تخرج بجسدك عبر النافذة متهيئاً لسقوطٍ دامٍ، لتُفاجأ قدماك بملامسة الرمال. كادت الشاحنة أن تنقلب، ومالت على الجهة اليسرى حتى أوشكت على ملامسة الرمال، وفى ثوانٍ، وبلا مخارج طوارئ، كنتم حفاةً على الرمال لتجدوا أن الشاحنة قد حطّمت سواعدها التي تسندها إلى الإطارات.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تستعيد وعيك ببطء من إغماءة أو غفوة، لم يعد الفرْق مهماً، هدأت العاصفة الرملية قليلاً ولكن ما زالت الرؤية منعدمة من الطرفين، عيناك الرمليتان وذرّات الغبار التي تبحث عن استقرار مبدئي، تستند إلى ساعدك وتصرخ من الألم، تُزيل بعض الرمال المتراكمة على الجفنين والأنف، تفتح مجرىً ضيقاً للأكسجين ليمرّ عبر الفراغات بين حبّات الرمال، تعود ممدّداً، محتمياً من الأعداء خلف إطار الشاحنة. عناصر الصحراء، بتحالفها المبرَم، تتربّص بك، ويبدو أنها تتوعّدك بهزيمة نكراء، ريح الشيطان، أعاصير أسطوانية قوية تتراقص بإيقاع شرقي، تتطاول على السماء، تدور حول الشاحنة بكراهية، لتقتلعها وتقصف بها، ومن ثمّ تستفرد بك وتكنس الروح. بفطرتها، وبالدعم غير المحدود من الملائكة، اختبأت الطفلة «سناء» خلف إطار الشاحنة قبل صدور الأوامر للرياح، اختبأت منذ ليلة أمس، متوقعة حرب الصحراء الكبرى، وصارت الآن قبراً مبدئياً، ولولا إيقاع ربوَتها الرتيب لوضعتَ على جانبيها شواهد في الحال. موت بعض الركاب لم يشفِ غليل هذه الصحراء، لو كان بإمكانها أن تفعل ستحجب عنك حتى الهواء. تتذكر ملامح بعض الركّاب، وخاصة المبعَدين الذين كانوا متعاطفين معك ويمنعون عنك الإحباط. لم يكن بمقدورك أن تفعل لهم شيئاً، ولا أن تزوّر توقيع القدر. تحاول عبثا إنقاذ ملامحهم من النّسيان. تعاين المكان من حولك، هل من حركة لأحد؟، يستعيد ذهنك بعض الصور. عساك تتقدّم قليلاً في معرفة ما حدث:
قبل مغيب شمس اليوم الخامس مِن تحرّككم من سوق الشاحنات بمدينة الكفرة، تعطّلت الشاحنة وكادت أن تنقلب على يُسراها لولا تلك الكثبان الرملية، لا أحد يتذكر كيف خرج، ولكن فجأة في لحظات كنتم حفاة على الرمال تتفقدون بعضكم البعض، ومن ثم رُحتم تنظرون إلى السائق الليبي: ماذا هو فاعلٌ بكم في هذا الموقف العصيب، لينهار هو الآخر بعد أن تفقد العطل وعجز ذهنه عن التفكير، لم يكن أمامه سوى الاعتراف للجميع بأنه ضلّ الطريق منذ يومين!. هبط عليكم صمت كأنكم اتفقتم عليه سلفاً، صمتٌ يشبه صمت الموت، ومن ثمة ـ وعلى الاتفاق المسبق ذاته ـ انفجرَت على وجهه الشتائم واللعنات، ألفاظ داعرة لم تُراعِ الأطفال ولا النساء، خرَجت من لاوعي الغضب، شتائم تكفى لاستفزاز عائلته بحالها، وقف بلا تعبير، مزروعاً بقدميه الحافيتين على الرمال، متفادياً قدر الإمكان الأيادي التي تصارع الفراغ لأن يظلّ مصدر قوّتها مشلولاً داخل الأفواه. وبعدها تحوّلت الانفعالات الغاضبة إلى حوارات ثنائية تدعم بعضها البعض، هرج واستياء، لا أحد يسمع الآخر إلى نهاية السطر، كلّ يفكر في جملة حمقاء غير مفيدة، قرارات عشوائية لا تُقنع حتى أصحابها، النساء يتحدثنّ صراخاً، الأطفال وقفوا متجهّمين، كانت مفازةً رطبةً وهشّة، لتفرض نفسَك وشخصيتك في تلك اللحظة، كنت أقل منهم غضباً، أنت وحدك كنتَ تعلم أن السائق ضلّ الطريق، لذلك تحدثت بهدوء مُستلفاً نبرات «نصر الدين الترزي» قعّرت الكلام، التأكيد على الحروف أثناء خروجها، صوت جهوري استلفتَ به انتباه الجميع، أو ربما كانوا أساساً في حاجة إلى قائد يمسك بزمام هذه الأسرَة التي انفلَت عقدها. راح صوتك يلملم الانفعالات المتناثرة، لم يكن في نيّتك البحث عن سيطرة، كنتَ فقط تريد أن تكون مختلفاً لحظة هذا الهرج، الكل راح يتابع كلماتك، وَجّهتَ أنظارهم نحو العطل الذي أصاب الشاحنة، ومن الممكن الشروع في إصلاحها بدلاً عن المهاترة والصراخ، للخروج من هذا المأزق. استشرْتَ السائق المنبوذ، فاقترح تخفيف الحمولة والتخلي عن الأشياء التي ليست ذات أهمية، وأن يتمّ تحويل جُلّ الحمولة إلى الناحية اليمنى، لأن الريَش الحديدية التي تحمل الشاحنة على الإطارات من الناحية اليسرى قد تهشّمَت بالكامل. لم يجد اقتراح السائق تجاوباً من الركاب، خصوصاً «عادل الجزولي» الأحمق، لقد حمّله المسؤولية بالكامل.
ــ أساساً إنت مُتحرّك بحمولة قَدُر دي ليه؟.
كان لا بدّ أن تتحرّك الشاحنة، وأنتم تائهون في صحراء لا حدود لها حتى الآن، لذا حسمتَ الأمر بشكل قاطع، وعدت تسيطر على أذهان الركاب، أخبرتَ السائق أنه بالإمكان التخلّي عن الأشياء غير المهمّة هنا في الصحراء، بشرط أن يتكفّل مع مكتب الترحيلات في مدينة أمدرمان بتعويض لكل الركّاب، وَجَد هذا الرأي القبول والاستحسان، ومنذ تلك اللحظة تخلّيتَ عن دَور الكومبارس، لتصبح بطل الرحلة. تعاونتم جميعاً بهمّة زائدة في إفراغ الشاحنة من الحقائب والأمتعة غير المهمة، بعد أن طلبتَ من «سلمى عمر» أن تسجّل على دفترها اسم الراكب وجَرْد كل الأشياء التي تبرّع بها للصحراء، حتى يكون التعويض منصِفاً للجميع، لم تكن تعلم حجم الإهانة التى وجهتَها إلى الصحراء. أصبحتَ فجأةً صاحب الرأي السديد، الكلّ يستشيرك في كل صغيرة وكبيرة، وعاد المرح يتأبّط الأمل، كل التفكير منصَبّ الآن في مقدرة الشاحنة على التحرك وعبور هذه الصحراء، أو ربما كانت النفوس منشغلة بحجم التعويضات المرتقبة، والتي ربما تستر عورة العودة الإجبارية، وبتبذير مشروع في أحلام اليقظة. حتى الأطفال شاركوا في إنجاز المهمة، بمرح، ومنهم من وهب راضياً أشياء عزيزة على ذاكرته. كنتَ تعمل تحت ضغط العدّ التنازلي، وتحثّ الجميع على إنجاز المهمة قبل مداهمة الظلام، استرجعت العائلة مزاجها سريعاً، وراح «الفاتح الطيب» من أعلى الشاحنة يبصق بتعليقاته الضاحكة، يذكّر الجميع بحقيبته التي سقطت قبل يومين مع الخروف، وبسخريةٍ يطلب من «سلمى عمر» أن تكتب على كرّاستها: كانت بها بدلة عرسه وكل مستلزمات العروس.
ــ آها يا جماعة! عشان ضحكتو على شنطتى، جاني تعويض من مافي.
ــ الله يجازي مِحَنَك يا الفاتح، كتَلتَنا بالضحك.
تردّ علية «سهير علم الدين» وهي تضحك ودموعها تسيل من تقطيع البصل، أنتَ من طلبت منها البدء في تجهيز وجبة عشاء، لأن الركّاب يقومون الآن بمجهود جبّار يستحقون عليه وجبة دسمة، وقرّرتَ سلفاً ان يكون المبيت هنا في هذا المكان، حتى لو استطاعت الشاحنة التحرك، يجب عليكم التحرك نهاراً، ليست لديك رغبة في المزيد من المجازفات. السائق الليبي «يوسف العماري» تجاهل تلك الإهانات والشتائم، ولأول مرة ينسجم مع هذه العائلة، راح هو الآخر يعمل بكل ما يملك من جهد، وعلى الأرجح كان دافعه الإحساس بمسؤوليته عن ما حدث. وبعدها صعد على مقعده وأدار المحرّك، والجميع في ترقب وابتهال لله، وبلا توقّع تحركت الشاحنة بسهولة، ليصفّق الجميع وتطلق «عفاف النور» زغرودة عالية في قلب الصحراء، تقبّلتَ التهاني من كل الركاب على هذا الإنجاز. تَشعر بالزهو ولكن تُخفي إعجابك بنفسك بمزيد من الآراء وتوزيع المهام. الفرح بداخلك يمتدّ إلى كل الأعضاء، أخيراً!، بدأتَ تجلب الأنظار إليك، تستعيد الثقة في نفسك، تعود بك الذاكرة إلى أيام حي السكة حديد:
تُصدر هيئة السكة حديد كشف التنقّلات السنوية عادةً في أيام العطلة المدرسية، ليتمكّن العامل أو الموظف من الانتقال بأبنائه دون أن يتأثروا بالغيابات المدرسية. أعتقد أن هذا الإجراء جزء لا يتجزأ من الميراث البريطاني. وعندما تغادرون حي السكة حديد إلى آخر يخرج كل السكان لوداعكم، النساء يذرفنَ دموعاً صادقة مع والدتك ويطبعنَ قُبَلاً ممزوجة بلُعابٍ ودموعٍ على وجنتيك، سرعان ما تزيلها بكفّك خوفاً من أن يشاهدها أصدقاؤك الذين اصطفّوا على رصيف المحطة، ليس لديهم ما يقولون، يقفون بلا تعبير، حتماً ستفتقدهم، لكن لا أحد كانت لديه المقدرة على التفوّه بالمشاعر، تقليد النساء غير وارد، إطلاقاً. عندما انتقلتم إلى البيت الجديد في حي سكة حديد، أول ما لفت انتباهك عربة درجة أولى التي غادرت القضيب عنوةً لتستقرّ على مقربة من منزلكم الجديد. فتيات الحي سارعنَ في نجدة شقيقاتك. جئنَ يحملنَ المكانس وزعّافات الغبار، ساعدنَ في النظافة وترتيب المنزل، ولكن ثرثرتهنّ كانت أكبر من حجم الغبار، وكالعادة حذّرنَ شقيقاتك من الاختلاط والتعرّف على التوأم بنات العطشقي «يوسف مرغني»، ثرثرتهنّ جعلتك تغادر المنزل. من بينهن كانت «الحلبية الغَلْفة» ناهد عبدالهادي. لم تتذكّرها في ذلك اليوم، إلا في ما بعد عندما كانت علاقة الحبّ تمرّ بفترات الملل، كنتما تحاولان، دائماً، استرجاع الذاكرة إلى ما قبل التوهّج والعشق، ويَنشُب بينكما خلاف: مَن الذي كان يخطّط لاستمالة ودحرجة مشاعر الآخر؟. تتّكئ على شجرة النيم وتتأمّل عربة الدرجة الأولى، ويحاول ذهنك المتواضع أن يعرف لماذا غادرَت القضيب؟، وكيف حدث ذلك؟، هل طُردَت من المحطة، وهي غير جديرة بالسفر؟. كان أولاد حي السكة حديد يراقبونك عن كثب، بعضهم يختبئ خلف الحمّامات الخارجية المشتركة، والبعض الآخر يترصّدون حركتك من داخل عربة الدرجة الأولى، يراقبون حتى إيماءاتك، كأنك هابط من كوكب آخر، ويتوقّعون منك ردّ فعل عنيف، وبعدها يبدأون في استعراض مواهبهم وقدراتهم بألعاب خطرة، أو ربما يُفسحون لك المجال لدخول عالمهم بشروط جزائية. هكذا يحدث دائماً في البداية عندما تأتي لتعيش في حي السكة حديد. كان اثنان منهم في عمرك تقريبا؛ «إسماعيل جمعة» و«ياسر عبد الفتاح» ويبدو أن هذا الأخير انتزع صفة الزعامة في الحي، واضحاً كان ذلك، يُصدر الأوامر، ويفرض رقابة على الجميع. وهو أيضاً من حفز ساعده الأيمن «إسماعيل جمعة» على اكتشاف سرعة نبضات قلبك، انتابَك بعض الخوف وهذا الصبيّ يتدحرج بجسده المنتفخ نحوك، ويلتفت يمنةً ويسرةً ليرى عدد الأعين التي تراقب المشهد، ويبتسم متذوّقاً طعم الانتصار في نزال ينتظر قرع الجرس، الكل حبس أنفاسه، يراقبون هذه المعركة غير المتكافئة. ظللتَ ثابتاً في مكانك مستنداً على شجرة النيم، وقف أمامك ليُرهِبك بلا مجهود عضليّ، ثم اختفى وراء ساق الشجرة من خلفك وراح يمثّل أنه ينكح مؤخرتك من خلف ساق الشجرة، لحظتها ارتفعت الضحكات من كل الاتجاهات التي كانت تترصّد المشهد، مما زاد من غيّه فرَاح يقلّد حركة مضاجعتك في خياله، لم يكن يتوقّع تلك الضربة القاضية، لقد فاجأتَه أثناء تمايُله بلكمة قوية على وجهه ليسقط على الأرض، ويتغيّب الأسبوع الأول من المدرسة، ومن بعدها أصبحتَ أنت الزعيم، وأصبح هو من أقرب الأصدقاء إليك!.
هنا أيضاً أصبحت زعيم هذه الرحلة، ولكن دون اللجوء إلى القوة، فقط بما تعلّمتَ من «نصر الدين الترزي»، بالتفكير والرأي المنطقي، وجاءك تفويض الزعامة يحبو على ركبتيه من الإشادات التي أطلقها كلّ من «الفاتح الطيب» والأشقاء أبناء المكاشفي «وليد» و«نزار» إضافةً إلى «سهير علم الدين»؛ أكثر الركاب شعبية على الإطلاق. قرّرتَ لهم المبيت في هذا المكان والتحرك صباحاً، حتى يتمكن السائق من الرؤية الجيدة والعثور على الطريق المؤدية إلى الحدود السودانية. إحساس غاية في المتعة وأنت ترى الآخرين يوافقونك الرأي ويستشيرونك حتى في الخصوصيات. متعة لم تكن تتوقّعها أن تأتي في هذا المكان.
راحت «سلمى عمر» تُتابعك بإعجاب في كل خطواتك، تتقرّب منك بإستراتيجية سطحية، تُلقي عليك بأسئلة ساذجة، ضمنياً كانت تعرض عليك مشاعرها مُدانةً بعشق لم يُنطق فيه الحكم بعد، تتستّر على الشروع في مقتل إحساسها لتعترف أنوثتها. تجاهُلك غير المقصود يزيدها تعلّقاً بك أكثر، كما قال «نصر الدين الترزي»: تفقد المرأة شخصيتها عندما تتعرّض لحالة حبّ.
وزّعتَ مهام المرحلة القادمة، طلبتَ من النساء، ثلاثتهنّ إضافةً إلى «سلمى عمر»، أن يجهّزن الأكل، وإذا كنّ في حاجة إلى مساعدة عاجلة أوكلتَ إلى «جمعة ناصر» و«عادل التجاني» تحريك «اللّقمة» على النار، مجموعة أخرى لإشعال نار التدفئة. تتحرّك لتطمئنّ على الأوضاع ومن خلفك «الفاتح إبليس» ينتزع من الركّاب بعض الضحكات، أخبرَتك «سهير علم الدين» بأنه لا توجد لحمة للملاح لذلك ستسخدم المرقة والتونة:
ــ ح نعمل ليكم ملاح ويكة رهيب، بالتونة.
ــ التونة والدحي، تانى يا سهير؟.
هكذا تخرج تعليقات «الفاتح الطيب» تُهدي الجميع ضحكاتٍ تُزيل الغم وتُلهي عن التفكير في الوضع الراهن. صُبّت اللقمة على ثلاث صوَاني كبيرة لتبرد وتجمد، ومن ثمّ دُلق عليها ملاح ويكة، سائل لزج، حار الملمس، نكهته شهية، طعمه نادراً ما يتكرّر، أقسم الجميع أنهم لم يتذوّقوا أجمل من ذلك الطعام في حياتهم، تمّ لحس الصوَاني حتى انعكست عليها صورة القمر، ولترشيد المياه طلبتَ منهم لحس الأصابع، وقبل أن تُكمل جُملتَك كان البعض على وشك التهام اليد بالكامل. بعدها جلستم دائرةً حول النار ترتشفون شاياً معكَّراً بحليب بودرة، وتتأمّلون القمر، كان أقرب من ليلة أمس، وكأنما راحَ يَسقط ببطء نحوكم، أخذ الكل يراقبه عن كثب، التركيز عليه مدة زمنية طويلة جعل البعض يعتقد ويقسم أنه يرى بداخله حركة ما. أشعلتَ سيجارة ماركة رياضي وتمددتَ على الرمال، بدأتَ الآن تشعر بالتعب، تتأمّل دخان السيجارة المتصاعد، تتذكر «نصر الدين الترزي». «هو سجاير وضار بالصحة، يسمّوه رياضي؟!، يعنى خلاص الأسماء انتهت؟»، يَبين وجهه ساخراً أمامك، أين هو الآن يا ترى؟، لقد افتقدته، تمنّيتَ لو كان معك في هذه الرحلة. ولن تنسى «علي دين»، نادراً ما غاب عن الذاكرة، جالس كعادته على كرسى الكآبة، يطبخ رغم الحسرة والمحن، يَستخدم توابل فرح يسبّك بها غربة لا تنوي أن تخمد نارها. نشأ وترعرَع في حي شعبى، سكّانه محبوسون داخل قائمة إحباط بأقلّ التكاليف، مستمرّون في إنتاج متعة الحياة بصبر وأعجوبة، يأكلون وجباتهم القليلة من فائض الصُّدفة، صوت التجشُّؤ لا يُسمع في تلك البيوت الفقيره. بعد أول زياره له إلى الوطن، احتفى به كلّ الحي. عدّل ملامح البيت القديم لتُصابَ أسرته بوَحَم طلبات مرهِقة، ويصبح مصدر حسدٍ للحيّ الفقير. هدَّ بيت الطين وبناه بالطوب الأحمر والأسمنت، تغيّرَت المعالم وطالت حتى سكّان البيت، تخلّصوا من الموروثات الفقيره، زحفت العلاقات نحو أحياء تسكنها غطرسة، وأبوابها متكبّرة.
خطبوا له بنت خالة المنحدرة من تلك البيئة المتعجرفة، ألزَموه بتنفيذ زواج مرهق، زواج من طرف واحد، راح يستهلك حتى المخزون الصحّي، يَستدعي عناصر طقس الدم كافةً لفحص نسبة التوهان، أرسَل حتى نصيب تذاكر السفر، عمل مستمرّ بلا عطلة، حتى داهمه ملل كئيب، قرّر المقاطعة والتوحّد، والبحث عن مصالحة النفس والأمان. يصل بالشجاعة إلى ذروتها بعد أن يرفع الكأس ويبتسم:
ــ دا يا دين اسمو كاس المصالحة الوطنية.
يعترف بأنه كان مرتشياً لسنوات أثناء عمله في أمانة المرافق العامة، استلم أموالاً متستّراً على تجاوزات، عمل موظف حسابات في شركة « تبستي» للمحركات، مختلساً مع المدير أموالاً سائبة، ركب أحدث السيارات، كان يسكر مع ضبّاط الشرطة ويحترمونه، يقدّمون له التحية منتظرين يده السخيّة، أما الآن فإنهم يقدّمون له التهمة متنظرين يده المتلبسة بأواني الجريمة. يصف بحسرة وضعه سابقاً ومتعة هذه المدينة. تتذكّر لحظاتك الأولى.
عندما دخلتَ مدينة بنغازي أول مرة كان منظرها بديعاً، من نافذة الحافلة شاهدتَ مجمعات سكنية غاية في المعمار، عمارات عالية، من أعلى الجسر تتأمّل فندقَيْ «تبستي» و«أوزو»* يطلّان على بحيرة متقابلين في تحدّ واضح وحرب معلنة من أجل جذب الزبائن، أو كما قال نصر الدين الترزي: «مواقع معارك حربية خاسرة بين الطرفين الليبي والتشادى، على أشلاء الجثث، تسمّى الفنادق». توقفت الحافلة في محطة الجنسية، حيث مجمع الحافلات، ليترجّل كل الركاب منها، وأنت وقفت تشتبه في الجميع، تركز على اللون الأسمر، تبحث عن ملامح سودانية ترشدك إلى العنوان، لم يكن لديك عنوان بالمعنى الواضح، فقط اسم أحد أقارب والدتك، له سنوات طويلة في هذه المدينة، سيكون من السهل الوصول إليه، فقط لو يمرّ أحد أبناء وطنك من هنا!. للأسف لا يمرّ سوى الزمن. ظللتَ تدور حول محطة الحافلات ممنّياً نفسك بلقاء أحدٍ ينتشلك من هذا الموقف. يدخل الظلام ليتشابه عليك البقر، تتقدّم نحو الإضاءة التي أمامك، حيث شارع سوق الأقواس، الكل يتأمل المحلات التجارية والبضائع المعروضة ومؤخّرات الفتيات بالطبع. وأنت ضائع وسط هذه الزحمة، تُتابِع الوجوه فقط، لمحتَ خيّاطاً سودانياً لا غبار على سودانيّته منكفئاً بجدّية على ماكينته كأنها طفلته الوحيدة وهو يهدهدها. سالَمْتَه وسألته عن اسم الشخص الذي تبحث عنه، أجابك بالنفي ورجع يواصل الحياكة والهدهدة. تشعر بالإحباط وشيءٌ ما يسدّ الطريق على مجرى الحلق، قاب قوسين أو دمعة، ها أنت ترى أحد أبناء بلدك المتعجرفين. تبرّعتَ بجزء من كرامتك وسألته أسئلة أخرى قصدتَ بها اقتحامه داخل أصوله السودانية، ولكنه أجاب عليها أيضاً وهو يشدّ الخيوط ويقطعها بأسنانه الحادة، حينئذ قرّرتَ المغادرة.
ــ يا زول ماشي وين؟، إنت مجنون؟، الدنيا ليل.
ــ أشوف يمكن ألقى لي زول يعرفو.
ــ قعمز يا راجل، توّه نخلّص الجلّابية دي، تمشي معاي البيت، وبُكرة نسأل عنّو، باهي؟.
ــ باهي.
جلستَ تُتابع الخياطة وتطرد النعاس من أمام وجهك، وصوت ماكينة الخياطة الرتيب يزيد من توسيع فتحة فمك الذي يبتلع الهواء بألم، تثاؤبات متوالدة.
نصر الدين الحاج أو «نصر الدين الترزي» كما يلقّبونه، شخصية متعددة المواهب، من أعظم الذين تركوا أثراً على حياتك، لا يُدهشك إلا عندما تتعرّف عليه عن قرب، مثقّف جداً، متواضع، خريج جامعة الزقازيق، من أبناء الجزيرة أبا، كان معتقلاً في أحد سجون طرابلس وأُطلِق سراحه منذ مدة في عفو شامل من القذافي في ما عُرف باسم «أصبح الصبح». اعتقله أعضاء اللجان الثورية، رُصِدَ أولاً من خلال تردّده المتواصل على المسجد لأداء معظم أوقات صلاته، وبعدها داهموه متوقّعين أنه عضو في إحدى الخلايا الإسلامية، فتّشوا كل كتبه ورسائله ليكتشفوا أنه عدوّ للحركات الإسلامية، ولكن اعتقلوه بتهمة أخطر: وجدوه مُعلّقاً بقلم الرصاص على هوامش الكتاب الأخضر بعبارات وآراء تنتقد «النظرية العالمية الساذجة»، حسب تعبيره، فاعتقلوه بتهمة الإساءة إلى قائد الثورة، وحُكم عليه بالإعدام، ولكن أُجّل التنفيذ، لأسباب لا يعلمها أحد.
ظلّ في السجن مدة طويلة، وخلالها كان قائد الثورة يعدّل في نظريته وينتقدها أحياناً، وكأنما سلّمه أحدهم نسخة «نصر الدين» واطّلع على الهوامش وراح يتّفق معها ويؤكّد عليها. وهنا بدأ «نصر الدين» يثور داخل السجن، ويؤكّد لسجّانيه أنه محبوس من أجل هذه الآراء التي يصرّح بها القذافي الآن، فما كان من إدارة السجن إلا أن أحالته إلى مستشفى قرقارش للأمراض النفسية والعقلية.
استضافك في تلك الليلة في بيت العزّابة بشارع سوق الضلام، لتتعرّف على «محمد التشادي» و«علي دين» ومن بعدها صرفتَ نظرك عن قريب والدتك. أصبحتَ أحد سكّان المنزل ذي الرائحة الغريبة. تعلّمتَ من «نصر الدين الترزي» كيف تفكر، وكيف تجيد عملك، وكيف تصبح شخصاً إيجابياً، وتحبّ الآخرين ولا تنتظر مقابلاً. هو من وَجَد لك فرصة العمل في ورشة الهمالي للحدادة، وبإصراره وعزيمته أصبحتَ فنيّ لحام ماهر. اصطِيدَ قبلك بيومين، وعندما وصلتَ إلى سوق الشاحنات بالكُفرة، برغم الإعياء والإرهاق كان أول شيء سألتَ عنه بعد الماء «نصر الدين»، بحثتَ عنه بلا جدوى، حتى أصبح اللقاء به ضمن أفضل أمنياتك.
القمر يفرض رأياً غير قابل للنقاش، يستفذ المخيلة ويأمر الذاكرة أيضاً. راحت «سلمى عمر» تلعب مع الأطفال، لقد عاشت كل طفولتها في ليبيا، وتَفهم جيداً نفسية الأطفال وأهمّ لعباتهم المحبّبة، بدأت مع أقرب أصدقائها في هذه الرحلة؛ الطفلين «إيهاب» و«أوّاب»، أبناء المهندس «خضر عوض الله»، وسريعاً انضمّ إليهم الأطفال الآخرون بلعبات ليبية يفهمونها وحدهم، لم تكن بعيدةً في فكرتها عن الألعاب الليلة السودانية، يكمن الاختلاف في التفاصيل والتسميَات، مما جعل الأستاذ المعلّم «نزار بخيت»، من أبناء مدينة رَبَك، ينفعل ويوقفهم عن اللعبات الليبية التي نشأوا عليها:
ــ هييي!، بعد كدا إنتو راجعين السودان نهائي، لازم تتعلّموا لعبات سودانية.
اقترَح على الأطفال، بما فيهم «سلمى عمر»، لعبة الفات الفات، وراح يشرح طريقة اللعبة وقوانينها، الجميع يراقب المشهد، بابتسامات متحفّزة لقهقهة. «سهير علم الدين»، كضحكتها، أوّل من بادر بالاشتراك والتشجيع، ومن ثمة انسجم الأطفال في اللعبة، وانضم إليهم «وليد المكاشفى» كجرعة معنوية أخرى، ليزداد الحماس، وتتعالى الصيحات استهجاناً لقوانين اللعبة المجحفة، وتبدأ الاعتراضات وتشتدّ المنافسة، التشجيع، صيحات تربك صاحب الجبّة، والبعض يعترض على التحكيم، وآخرون يطالبون بالإعادة، ينقسم المشجّعون قسمين، تحتدم المنافسة خارج اللعبة وداخلها.
أصبح المشهد خارج الواقع، لقد تحرّرتم من المجال والزمن، انكمشَت الأذهان داخل أولى الصور، معظمها بلا ألوان، وإمضاءات من شقاوة الطفولة، تخرج من حنايا اللاوعي. ينعتق جسدك من الرمال ويسقط عكسياً على القمر. برشاقة رُحتَ تقفز هنا وهناك مستمتعاً بغياب جاذبية الأرض المُوحِلة، ومزدرياً في اللحظة ذاتها واقعك المرير. قطّاع الطرق يحاولون استنزاف ذاكرتك، تؤكّد على المقاومة، وتحدّد موقع المشهد لتهبط في تلك اللحظة الفخمة في ميدان حي السكة حديد بالقرب من نادى البوليس ومدرسة الخدمات الاجتماعية، تتأمّل القمر الصغير، تنضمّ إلى رفاقك أبناء الحي، كانوا في انتظار هبوطك الاضطراريّ ليَشرعوا في البدء بأحبّ الألعاب إلى نفسك. كنتم أطفالاً متساوين في التغذية والكرامة، في زمن جميل ـ لا أعتقد أنه سيتكرّر ـ عندما شاهدوك احتفوا بك جميعاً، مازَحتَهم بخجل، التفّوا حولك «إسماعيل جمعة»، بجسده الضخم، يحاول رفعك إلى الأعلى بمرح، تتملّص منه، وتستنجد بـ«ياسر عبد الفتاح» أقربهم إلى قلبك. تتأمّلهم واحداً تلو الآخر: «زمراوي ود سِت ابُوها»؛ أسرع كائن بشري رأيته في حياتك، لا أحد يستطيع الإمساك به، شقيقتَاه «مريم» و«عازة»، «ياسر الطيب» الملقّب «ياسر سوسيوه»، «هاشم» و«نوال» و«إشراقة» أبناء الصول، «سيف» و«طارق» أبناء عم عوض المحولجى، «حسين الجمرى» ابن الناظر، و«عماد مَنظر» أيضاً، ولا تنسى شقيقتك و«ناهد عبد الهادي». استحضرتَهم جميعاً وكأنك دعوتهم إلى اجتماع طارئ تحت عمود النور، استجابوا جميعاً إلى دعوة ذهنك، في أمسية خريفية، والضفادع مبتهجة، داخل المياه الراكدة، ترتّل نشازاً، رائحة بخور التيمان، ودخان خشب الطلح يتصاعد من شتى البيوت، رائحة لبن «مقنَّن»، صوت الصراصير المزعج الرتيّب، يختفي بالتكرار.
شاركتَهم كل اللعبات «بربلة برلة»* و«البت يا لبوت»* واختفيتَ بمؤامرة من «ياسر عبد الفتاح» لتختبئ مع «ناهد عبد الهادي» داخل مدرسة البنات. كانت تعرف كل المداخل والمخارج التي لا تخطر على بال المعلمات، اختفيتما أولاً خلف الأزيار متماسكين، ومن ثمّ أدخلَتْك إلى فصل «خنساء» سادس، نفس حُجرة دراستها، وعرّفتك على بعض زميلاتها وصديقاتها وهنّ غياب، وعلى مقعدها رُحتَ تقبّلها، وتكاد تبلع حتى جوّافتي صدرها، وهي مغمضة عينيها في ظلام، ومتشبّثة بقميصك بقوة، وكأنك ستهرب، لتستوعب أجمل الدروس. كانت مجنونه في أفكارها، عندما كانت تستعيد ذكرى هذه القُبلة المدهشة داخل حجرة فصلها الدراسي، وعلى مقعدها بالتحديد، تتخيّل لو أنها فتحت عينيها في تلك اللحظة لترى الوقت أصبح نهاراً ومعلمتها وزميلاتها ينظرن إليها وما زالت شفتاها معلّقتين بجاذبيتك.
قبل أن تكتمل النشوة، راحت «سلمى عمر» تَسحبُكَ من يد ذاكرتك اليسرى لتشارك الركاب في لعبة «شليل»*، وكانت تنبعث منها رائحة الغيرة. دائماً يدهشك «نصر الدين الترزي» بتنبؤات ومقولات حاضرة في كل المواقف، ها أنت تتذكّره من جديد في أحد تصريحاته: «المرأة، في لحظة الغيرة، تستخدم ضِعف القوّة الذهنية التي استخدمها أينشتاين في النظرية النسبية». ويبدو أن «سلمى عمر» استخدمَت قوةً خارقةً لتستطيع أن تقتحم في خيالها مدرسة البنات الابتدائية وتخُرجكَ من فصل سادس «خنساء» لتشارك في لعبة «شليل وينو»!.
اتفق الجميع على أن يصيروا أطفالاً تحت رعاية القمر، بما فيهم المهندس «خضر عوض الله. لقد اعترف لك في هذه الأمسية بأن أجمل ما في هذه الرحلة أنها قرّبته من ابنيه «إيهاب» و«أوّاب» وجعلته صديقاً لهما. وعندما لم تعثروا على عظم لبدء اللعبة، اقترحتَ عليهم أحد مفاتيح صيانة الشاحنة، وكان شكله أشبه بالعظم. كان الأداء في هذه اللعبة رشيقاً وتعبيرياً، غاية في المتعة والبهجة، مقدمة حقيقية لمأساةٍ قادمة لا يعلم بها أحد. ترى هل هذا هو التكنيك المنطقيّ لقدوم المأساة فعلاً؟، أم إنها محض كليشيهات ابتدعتها أفلام الرّعب للتكثيف من حدة بشاعة المأساة؟.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
لَمْ تَعُد تدري كم عدد الأيام التي مرّت عليك وأنت في هذه الحالة المزرية، ممدّداً على الرمال تصارع الموت. تشهد الآن بأمّ عينيك على إحدى المقولات التي يردّدها الأحياء وهم في مأمن مؤقت من الموت «موت الجماعة عرس»، إطلاقاً، بل أشدّ قسوة، أن ترى مَن حولك يختطفهم الموت، وتنتظر دَورك في صراع مؤلم، ربما يكون عُرساً للأحياء من أهل الموتى والمعزّين، إذ يكونون متساوين ومتآزرين في حالة الافتقاد، ربما.
تتألّم بشدة في محاولة العودة للتمدّد على ظهرك مرةً أخرى، تُشاهد عظاماً نبتت على الرمال، جثث عرّتها العاصفة، الصحراء غاضبة أشد الغضب، لا تريد حتى القبور المرتجلة بلا شواهد، ترغب في أن تجعلكم عظاماً متناثرة، ربما يصبح أحد عظامك عظمَ لعبة «شليل»، تبكي بلا دموع، الخوف يقتلك، أنت تعلم أن شهادة الوفاة تصدر تحت توقيع مكتب الذاكرة، ومن بعدها يغلق الباب.
تتخيّل ردّ فعل أمّك عندما يأتيها خبر موتك، إنها تبكي يومياً، لمجرّد انقطاع أخبارك، فماذا هي فاعلةٌ لحظة يبلغها الخبر اليقين، لن تعرف لك قبراً تزوره، ولا شاهداً تتكئ عليه لتذرف دموعها وقليلاً من الآيات القرآنية التي تحفظها. تختزن الوجوه التي تهمّك، شقيقاتك، ثلاثتهنّ، صارخات، باكيات، ربما «نجاة»؛ صغراهنّ، ستسمّي مولودها الثاني عليك. ولا تنسى أن تستعيد وجه من ألهَمَتك العشق، مراهِقة تتفتّح براعمها أزهاراً داخل كفّيك وهي مستلقية بين ضلوعك، متشبّثة بأنفاسك، تستنشق من جسدك عطر السوق الشعبي الباهت. تودّعها أمام باب حديقتهم، وفى اللحظة التي تسلّفك ظهرها مستمتعة بمغامرة اللقاء، وهي تحْبك الكذبة التي ستقابل بها والدتها، برفق وعناية مركّزة تضربها على مؤخرتها، تفزع قليلاً ويغمرها خجل، تكتم ضحكتها وتتوارى في الظلام.
استمرّت ملامح «ناهد عبد الهادى» تُآزركَ في أشدّ حالات اليأس، تداوم معك في هذا الصراع، أحياناً تشعر بها، تَنتَشلكَ من كل إغماءه بقوة، لتستفيق مهتزّ الجسد، كعربة البضائع عندما يصطدم بها «صعلوك المحطة»، ثم تفرض نفسها على ذاكرتك، ربما كانت تشعر بمعاناتك، كثيراً ما تنبت للقلوب العاشقة قرون استشعار.
يوم سفرك إلى ليبيا، كانت معك منذ الصباح، تبرّأت من محاضراتها الجامعية لتلتصق بك في كل خطواتك الأخيرة، يبدو أنها كانت آخر خطواتك على تراب الخرطوم فعلاً. كان وجهها آخر وجه، آخر حضن تسرّبت منه بألم، كان قلبها مقبوضاً من فكرة سفرك، حاولَتْ أن تمنعك بشتى الأحزان والدموع، وأنت لحظتها ابن الخامسة والعشرين حسرة من العمر، خارجٌ من المعتقل تتأبّط العطالة، خرجت بكفالة ووقّعت عليها بخطّ يدك: تتعهّد بأن لا تشارك في أية مظاهرة، ويُستحسن إخلاء الوطن إذا أمكن!.
كانت تستجديك في مكتب وكالة السفر أن تؤجّل الفكرة، هل تهون عليك الرفقة؟، ما ذنب شفتها السفلى تظلّ مكتوفة الشرايين، ولو لحين. وأنت، بأنانيةٍ، لا ترَى أمامك سوى مستودعات اليأس والفقر والمستحيل. غادرتَها دون أن تستلم منها «التابلت»، لتضمن سلامة الطريق. أين هي الآن يا ترى؟، تنهال عليك رمال من الندم، تُدمع الذاكرة، تبْتلّ مفردات ذاك الخطاب الوحيد الذي بعثت به إليك شقيقتك «نجاة»، الخطاب الوحيد الذي استلمته في غربتكَ وحفظتَ كلماته من كثرة ما قرأته. أخبرتك في نهاية الرسالة بأن: عم عبد الهادي المفتش والد ناهد توفي وانتقلت الأسرة إلى الخرطوم وانقطعت أخبارهم.
عند هذا الخبر، كان الإحساس الطافي لحظتها أن ظلّك اختفى عن التضامن ولاذ بالفرار وستستفرد بك المشاعر، وعليها وعليك، حتماً ستشعلها حرائق جبّارة. جبل من الكآبة انهَدّ على رأسك، تنكمش داخل قوقعة، إحساس لزج أن تصبح محطة قطار مهجورة.
أخطأتَ خلال هذا اليوم، عدة مرات أثناء عملك كفنّيّ لحام، أحرقتَ إصبعاً في رِجْلك بالنار، رجعتَ إلى بيت شارع سوق الضّلام، وأنت لا ترى أمامك سوى ظلام وحسرة، تسحب المرتبة من تحت سرير «محمد التشادي» وتتمدّد على ظهرك تنظر إلى سقف الغرفة المتآكل، قشور من الطلاء مشنوقة، منتحرة، جريمة الرطوبة خرائط تحتلّ جزءاً كبيراً وتحاصر المركز. رافضاً كلّ توسّلات «علي دين» لمشاركتهم الأكل، كالعادة تعليقاته تأتيك من الصالة وكانت جديرة بالاهتمام والضحك، ولكنك في حالةٍ يُرثَى لها، ذهنك يسافر على قطار الوحدة السريع، لا يتوقف إلا في محطاتها.
محطة أولى:
على عربة الدرجة الأولى المهجورة التي غادرَت قضيب السكة حديد، تختفيان داخل غرفتكما الخاصة، وأنتما بطلا مسرحية القطار، تغلق الباب بإحكام وترفع زجاج النافذة القاتم، لتصبحا في مأمن من أعين الرفاق وتخرجان عن نص المسرحية بمشاهد رومانسية لن تجيزها الرقابة إطلاقاً، تقبّلها قُبلات طويلة، يكاد ينفذ الدم من وجنتيها، رغم نحافتها في ذاك الوقت ولكنها، تعانقك بقوة وتحتويك على صدرها، تزداد انفعالاً، تحسّ بثمارها تخترق عظام صدرك، تُكمل اللعبة ـ المسرحية ـ وهي مُخفية شفتها السفلى، عاضّة عليها بأسنانها، خوفاً من الفضيحة امام رفيقاتها.
محطة ثانية:
بعد دخولها المرحلة المتوسطة، تمرّان بفترة صمت، هي تعتزل التمثيل واللعب في أوج نجوميّتها وجمالها، بعد أن أصبح جسدها ينمو سريعاً، وتتكون الملامح المبدئية للمرأة، كل منكما يصبح عميلاً مزدوجاً لتسريب الأحاسيس إلى الآخر في شفرة من الخجل، ليعود العشق إلى منظومته التقليدية المتعارف عليها، وتتقهقر ديمقراطية الجسد أمام مراهقة الاحتياط المركزية، لتصبح هتافات مختزلة، جملة على ورق. اشتعلت بينكما الرسائل الغرامية، كلمات مستهلكة، معظمها مستلف من الأغاني الكلاسيكية. تعهُّدات بالحب الأبدي. تصبح قصة الحب جزءاً من تفاصيل حي السكة حديد، الرفاق والرفيقات يدعمونها، كأول تجربة حقيقية تتحقّق في هذا الحي، وبالتأكيد لا يعلم بها أولياء الأمور، نسبة للتعتيم والتأمين الجيد الذي يقوم به «ياسر عبد الفتاح» وشقيقاته.
لقد أهدَتك «نجود عبد الفتاح» كتاب الأغاني الخاص بها ليساعدك على كتابة رسائل حب مفعمة بالمشاعر. نقشتما حرفيكما على لحاء شجرة النيم التي على مقربة من باب بيتكم، لمزيد من التعهّد بالحب.
محطة ثالثة:
أنت أصغر محولجي يمرّ على هيئة السكة حديد بعد وفاة والدك، وهي بالغة الإعجاب بتضحياتك من أجل شقيقاتك، الحبّ يخطو نحو أبواب الجدّية ويفتح المجال ضفتين لأحلام اليقظة، تطلقان الأسماء على أطفالكما، هي ستسمّي الذكور وأنت الإناث، اختلافات في تفاصيل التربية، تشاهدان حياتكما الزوجية القادمة لا محالة، متيّقنين من انحياز الواقع القاطع إلى الحب، يجب على الانتصار أن يصطحب حسن النّية، مجبراً.
في عرض سينمائي ذهني: هي تجلس بالقرب منك داخل الزورق الخشبي وهو يسبح بكما على ترعة النيل الأبيض متخلّلاً الأعشاب، وعصافير الكناري تزقزق حولكما لتؤكّد على واقعية الجنة القادمة في هذا الفيلم الهندي. تتذكّر حتى تلك الأيام العصيبة والنادرة، عندما ينشب بينكما خصام وقطيعة لم تكن تتجاوز اليومين ولكنهما يمرّان ببطء شديد، يتحول حي السكة حديد بكاملة إلى حالة من النكد العام، آنئذ تختفي مصادر المتعة، تتكالب على الأصدقاء هورمونات المراهقة، ضجر، إفرازات، إحساس هُلامي، جوع متعدّد المواهب، ينافسه موجز سندوتشات، اختصار الظهيرة في نوم عميق مزدوج اللعاب، فتور يعقب الاستيقاظ، مكايدة الغروب، واجبات مدرسية مملّة، اللعنة على هذا المساء!، لا أحد يسامر عمود النور، الرفاق يرتدون أقنعة كئيبة، إذا تجرّأ أحد وضحك ترمقه الأعين شزراً، كأنهم يواجهون كارثة قادمة. أخيراً يتدخّل «ياسر عبد الفتاح» و«حسين الجمري» من ناحية، ومن الناحية الأخرى وفد مفاوضات بقيادة «نجوى ونجود» بنات عبد الفتاح، وتبدأ الوسوسة مع شقيقاتك ومناورات تتجاوز صلابة القضبان الحديدية، مشاوير تتأرجح وتتعثّر على الفلنكات، تبتعد عنك، تحرن الخطوات أمامها، عناد متطرّف، استجداءات متكرّرة بين بيتكم وبيت المفتش.
أنت تجلس على عتبة باب المغارب، والذهن هارب، ورائحة بخور «التيمان» تنحرف، مقلّدةً أخلاقيات نكهة «البُمبان». تجلس وفي يدك كباية شاي حليب، تمضغ معها قطعة خبز، يتسرّب منها طعم زيت ملاح البامية، تسبّ حاسة التذوق، ترجم شجرة النيم وتخصّ هدفك الموقّر: رسمة القلب على ساق الشجرة وبها حرفاكما. لا يتماثل الملل إلى الشفاء إلا عندما تجد نفسك تقبّلها وهي مستندة على الشجرة ذاتها، وأنتما تبحثان عن لسانيكما للاعتذار.
محطة أخيرة:
أنت محولجي مفصول عن عملك من أجل الصالح العام، خارج من المعتقل للتوّ، منبوذ، مدان، يائس، وعاطل حتى عن التفكير، ترفض الحسَنات المجانية التي تقدّمها لك أحلام اليقظة. وهي طالبة جامعية في سنتها النهائية، تقترح عليها التوقّف هنا، لتغادر أنت في هذه المحطة الموبوءة، تجرجر أذيال بؤسك، وتبحث عن إجراءات المغادرة لتتركها تواصل وحيدةً بالقطار، تبكي وتتشنّج، تتشبّث بك أكثر، تدسّ في جيبك أقراص منع اليأس، تحتضنك في صالة مغادرة مطار الخرطوم والعهد قائم.
عندما عاد بك القطار إلى الغرفة، كان «علي دين» جالساً على سريره ويتابع مع «محمد التشادي» أحداث مسلسل مصري، توزّعت نظراته بين محاولة قراءة أفكارك والحبكة المصرية، كان واضحاً على وجهك أنك تمرّ بحسرة، ولكنه لم يتمكّن من التسلّق إلى ذهنك لمعرفة مصدرها، ودون أن يتحدث معك، وبلا سابق اتفاق، مدّ إليك كأس عرَقي:
ــ هاك اشرب يا دين.
لم تتردّد مطلقاً، دلقته دفعة واحدة إلى حلقك، كان اعتقادك قبلها أن مذاقه عادي، مثله مثل أي مذاق آخر، كاد صدرك أن ينشطر، واضطرمت في فمك نار كاوية، استبدلت ملامحك بشخص لا يشبهك، وقبل أن تُخرج لسانك من نافذة الطوارئ، ناوَلك الكأس الثاني بسرعة.
رويداً رويداً راح ذهنك يهضم الأفكار السالبة، وعضلاتك ترتخي، تشعر بلذة طفيفة تخطو حثيثاً وراء أفكارك، تحوّم حولك، لأول مرة في حياتك تتجرّع المدعو «الخمر»، وكلما انحسر منسوب العرَقي داخل القنينة، تبدو أكثر استرخاء وتزداد نشوة، ينتج ذهنك صوراً تلقائية وحكاوي بلا دعوة رسمية، لأول مرّة تروي داخل هذا البيت تاريخ حياتك بالتفاصيل.
حكيت بنبرة أُحادية الحزن عن موت والدك، وكيف استلمتَ بعده المهمة الصعبة والمستحيلة، التركة كلها على عاتق الذكَر، مراهق يصبح ربّ أسرة مكونة من الإناث فقط، أُمّ وثلاث شقيقات.
ــ تخيّل يا علي دين، أنا الوحيد في البيت، كنت ببول واقف!، كلهن نساء.
يَطيب لك المقام والاسترسال بالحكاوي، تدلق كأساً إلى جوفك، يفيض أمتاراً مكعّبة من المشاعر والأحاسيس، تنحرف مع جدول العشق، تتصدّى للحشائش اليابسة، بمتعة فائقة تتابع حركة التيار. تنحرف بالقصة نحو «ناهد عبد الهادي»، تحكي عن بدايات العشق الأولى والمغامرات. «محمد التشادي» و«علي دين» ترَكا متابعة الدراما التلفزيونية وراحا يتابعان دراما حقيقية، وبشغف طفولي. كان «نصر الدين الترزي» مستلقياً كعادته على كنبة في الصالة وهو يقرأ كتاباً، ولكن بعد أن بدأتَ تسرد بصدق نادر عن حياتك سرقتَ ذهنه، ظلّ الكتاب مفتوحاً أمامة دون أن ينتقل إلى الصفحة الأخرى. يتابعونك بجدّية نادرة، حواسّهم تقف على الرصيف، إذا ابتلعت ريقك يحبسون أنفاسهم. إذا ذهبت لتبول مستنداً إلى الحائط يظلّون على حافة الترقب، كان السرد مشوقاً، صمت متحمّس للمتابعة، خطواتك عائداً من الحمام تُسمع برهف، إيقاع درامي مشوّق، ينتظرون عودتك لتكمل القصة، «محمد التشادي» من مدمني حالات التشوّق ينتظر في قلق.
حكيت حتى عَجِزَ لسانك عن الكلام من شدة السُّكر، بكيتَ بعدها بحرقة، ثم تقيّأت في الحمّام. وقفتَ مستنداً بظهرك إلى باب الحمام، فارداً يديك ودائساً كفّيك بقوة على الحائط: محاولة يائسة لوقف دوران الحمام، تنتبه إلى نفسك بهذا الوضع الصليبي كأنك تقلّد المسيح، تضحك، تغادر من باب الطقوس لتدخل في شعائر الإسلام وتركع بخشوع على ركبتيك تحت الماسورة: «اقتربوا من الماء وأنتم سكارى»، هي إحدى مقولات «علي دين» القليلة، يبدو لك الوضع غريباً، ماذا تريد أن تفعل؟، تتأكد من أنك راكع على بلاط الحمام، تغمرك موجة من الضحك، تتعذّر عليك السيطرة وإدراك اليابسة، كلما حاولتَ أن تهدأ قليلاً تصطدم بموجة أخرى، وبينما أنت تغسل وجهك، مستنداً بكل جسدك المسترخي إلى الماسورة، تسمع حواراً محتدماً بين «نصر الدين» و«علي دين»، بسببك أنت طبعاً، وكأنه لا يخصّك، مزيداً من الضحك، كأنك تستمع إلى دراما كوميدية على الراديو.
ــ والله حرام عليك يا علي، عايز تعلِّم ود الناس السكَر كمان؟.
ــ يا دين، الزول دا شرب براهو.
ــ يعنى داير تقنعني إنو فتَح القزازة وبراهو شرب؟، إنتَ مدّيت ليهو السكَر.
ــ يا دين حَجَر، الزول دا ما ولد صغير، بعدين هو اشتكى ليك؟.
ــ تعرف؟، لأنك فاشل عايز تعلّم الناس الفشل زيّك.
ــ أنا فاشل؟؟.
ــ وستّين فاشل، ليك أكتر من عشرين سنة في البلد دي، تقدَر تقول لي عملتَ شنو؟.
ــ إنت دَخْلك شنو؟.
ــ دَخْلي عشان أنا المراية البتفضحك, فاشل وما قادر حتى تحاسب نفسك، خطبتَ بت خالك قبل عشر سنوات، وأهي معلّقة على برواز في غرفة بائسة، ما قادر تواجهها وتواجه نفسك، تشرب وتبيع في العرَقي وبس.
ــ أنا فاشل؟، يا ترزي يا بتاع الجلاليب، يا موسّخ يا قوّاد.
ــ عارفك سكران، ما بَجاريك في الإساءة، لكن ما دامْ بتبيع عرَقي أرجع بيعو في بلدك، دي شغلة دايره ليها غربة كمان؟.
تمرّ بينهما أثناء الحوار، كـأنهما شخصان يتجادلان في شارع عام والأمر لا يعنيك البتة، كطفل حديث يكتشف أولى خطواته، ومخبّئاً ضحكة بلهاء، رُحْت تتبرّك وتستند إلى كل الحوائط، تفشل في استعادة التوازن، تصل إلى مجال انعدام المساعدة، تتولّى مهام المركزية، يدور حولك الأثاث البائس لتسقط على سرير «محمد التشادي» الذي كان لحظتها بالمطبخ.
تسمع جزءاً من الحوار الذي يدور عنك، والسرير يدور مفتقداً الجاذبية، تشعر به يَسقط على هاوية، تتشبّث بالفراغ، تنتظر لحظة الارتطام، لتنام في لحظة من التوقّع. وحده «نصر الدين الترزي» استطاع إخراجك من هذه الأزمة، هَوَّن عليك اختفاء «ناهد عبد الهادي»، حكى لك باستفاضة عن تجربته مع المرأة. وبما أنك الحب الأول فسوف تكون الأخير، لأن بالحب الأول شيءٌ من الروح. وأحياناً يؤكّد أن قلب المرأة لا يعترف بالأقدَمية، وفي بعض المرات يعتنق التنجيم، يُصنّف المرأة ويَحوكها على برج العقرب، حتى لو كانت عذراء، ورغم ذلك، كان يقول: «إنها كالحقيقة، كلما حاولت أن تعرف عنها أكثر، ابتعدَت عنك».
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــع
شلّالات من المياه، تتدفّق على الرمال، وتختفي هاربةً في لحظة، ها هو «الفاتح الطيب» يَخرج من بين كثبان رملية كالمارد والماء ينساب من جسده، إنه يحمل الماء!، أسرَع بعض الركّاب والأطفال نحوه، رحتَ تصرخ من الفرح: «أخيراً رجعتَ يا إبليس»، ودون إشعار تظهر معه في هذه اللحظة «ناهد عبد الهادي»، ترجّلَت من قطارٍ وقف في وسط الصحراء، لم يكن هناك ركّاب غيرها، ولكن الغريب في الأمر أن سائق القطار كان والدتك. تتابع «الفاتح الطيب» وهو يصبّ الماء على الرمال ويضحك، تقترب ناهد أكثر، انهض وعانقها!، ترفض حتى مصافحتها، ألم ترَ كيف فعلَت بكَ؟، ظلت والدتك في مكانها ترمقك في حزن، لوِّحْ لها بيدك، ربما لم ترَك، نعم، لا تجيب. أفراد من الشرطة الليبية يهجمون عليك. تستيقظ، تفتح إحدى عينيك، هيكل الشاحنة ما زال فوق رأسك، تنظر إلى الريَش الحديدية التي تحطّمَت، وحطّمَت معنوياتكم.
قَطْــــــــــــــــــــــع
كان القمرُ الشاهدَ الوحيد، عندما اعترَف معظم الركاب بأنها كانت من أجمل ليالي العمر. فعلاً عندما تبدأ الحياة في عدّها التنازلي تصبح ممتعة، تشعر بطعمها وتتذوّق نكهتَها. قمتم بإعادة كاملة لكل ألعاب الطفولة، ضحكٌ لا يتوقّف، ضحكٌ يدمع العين ويلوي الأمعاء، سقوط ممتع على الرمال، سقوط حواجز، التحام الأجساد بدون إثارة، انهزام كامل للضغينة، حبّ تفشّى للأبد وراح يتجوّل في العروق، أصبحتم ركّاباً مسافرين على الرحم ذاته، طقوس أول أسرة بشرية على سطح الأرض، كانت ليلةً لمراجعة أوراق العمر الأخيرة، مراجعة ممتعة استعداداً للامتحان القادم، والقاسي جداً. شَعَر البعض بالتعب والإعياء وتمدّدوا على الرمال الفضية، واختار البعض الآخر الشاحنة هرباً من البرد. تقترب منك «سهير علم الدين» وعلى وجهها تلك الضحكة المنسية، وتهمس:
ــ شايْفَاك ما مقصِّر!، والله سلمى بت ناس، إن شاء الله تبقى من نصيبك.
ــ سهـير، سُوقي أولادك وأمشي نُومي.
شاهَدك جميع الركاب، وأنت تحوي «سلمى عمر» من خاصرتها وترفعها إلى الأعلى عندما أعلنَتْ خطأً أنها عثرت على «عظم شليل»، لقد كانت مُنتشية وهي بين يديك ومرتفعة نحو القمر، وكأنك تتوسّل بها إلى السماء، دعوة خفيفة ترفعها بين كفيك، ابتهالاً. فاجأتْها حركتك المباغتة وأسعدَتْها أيّما إسعاد، أربكت أجندة مشاعرها، ومع ذلك حافظت على أناقة أنوثتها أمام الجميع، قامت بعرْض المشهد النسوي المعتاد، خجل واستحياء، ولكنها راحت تخطّط بذهن ماكر للحظة هادئة معك في هذه الليلة الاستثنائية.
بعد أن استكان جميع الركّاب، ولا صوت يعلو على ضوء القمر سوى بعض الشخير، جلستما تحت الشاحنة في ظلّ ليليّ مختفيَين، حتى عن القمر الساطع، خلف إطار الشاحنة الضخم، متدثرين ببطانية واحدة. كانت ملتصقةً بك حتى النبض، أحرجَتْها رعشة الأنوثة الطافحة ولفّقَتْها زوراً على المدعو «الطقس». مهّدت شفتيها لتك القبلة المؤجّلة وهي تحتضن أدوات الممانعة جيداً، متحفّزة في تزامن مع الرغبة. وعندما تباطأتْ شجاعتك راحت تستدرجك نحو منارة تتحكّم في إضاءتها بالنبض، أيها الزعيم القبطان. راحت تحكي عن خطيبها الذي لم ترَه إلا في الصور، ابن عمتها، ستراه لأول مرة، هو والوطن معاً، وفى محاولة ذكية اعترفَت بأن خطوبتها كانت عباره عن بروتوكول عائليّ ليس إلا، وهي صاحبة القرار النهائي، ومشاعرها محايدة حتى هذه اللحظة. تحدثَت عن خطيبها بامتعاض، من خلال مراسلاته لها، متخلّف، شخصية باهتة استلبَتْها العمّة الشرسة، تُشعل الضوء الأخضر. ترسم لك خطوطاً بيضاء، كخطوط عبور المشاة، إعداداً لخطواتك القادمة، ولكن، على عكس ما تتوقّع، رحتَ تجتاز مخاطر العشق اللحظيّ وتسافر بها نحو زمن جميل، زمن متحكّر في قلب الذاكرة ويسمو بكلّ أناقة على هذا الواقع الحالي، حيث العشق الأول «ناهد عبد الهادي». لحظتها سمعتُما حركة وحواراً على سلّم الشاحنة الخلفي بين «جمال عز الدين» و«جمعة ناصر» وهما يصعدان إلى سطح الشاحنة، وأحدهما منفعل:
ــ ياخي أيّ زول تقول ليهو نعمل كدا، يقول ليك: لا لا، أسامة سعيد قال: كدا.
ــ هو أصلو أسامة دا الله؟.
انتفضتَ من داخل البطانية بلدغة الإساءة تاركاً سلمى وحدها وصعدتَ على سلّم الشاحنة بسرعة، خلفهما مباشرة، لتفاجئ «جمعة ناصر» الذي كاد أن يفقد وعيه ويسقط من أعلى الشاحنة:
ــ طبعاً أنا ما الله يا جمعة!، لكن تعال من الآخر، عايز تقول شنو؟.
كاد النقاش أن يتطوّر إلى تلاحم بالأيدي لولا تدخل جمال عز الدين لإنقاذ الموقف والحفاظ على رونق الليلة. أخذتَ بطّانيتك بعد انسحاب «سلمى عمر»، وجلستَ في مكان بعيد عن الشاحنة تنفخ دخان السيجارة بقوة، عبثاً تحاول إخراج الغضب من صدرك. ظلّ الموقف يدور حول ذهنك، «جمعة ناصر» احتلّ مكان القمر، لا يريد أن يتزحزح من مكانه، لقد عكّر مزاج الدم، كلما دفنته على الرمل مع عقب السيجارة أشعل لك أخرى، والغضب يشتعل، نادماً أشدّ الندم، متحسّراً، على أن لم تقمعه منذ اللحظة الأولى؛ لحظة رأيته في محطة الشاحنات بالكُفرة، تحديداً يوم السفر، عندما أبديتَ رأياً عفوياً لم تكن تقصد شيئاً من ورائه: أن يكون هناك عدد محدّد من الشنط مع كلّ تذكرة، ساعتها انفجر في وجهك، مثله مثل معظم أبناء وطنك، يتصيّدون الآراء الأخرى لقمعها، بلا أدنى سبب، اقتناص المكايدة مُتفشّ ومُعد. حينها دار بينكما عراك بالأيدي، استطعت أن تتفوّق عليه وتُسقطه أرضاً، ووجدت سانحة جيدة لضربه على أنفه، لكن تراجعتَ في اللحظة الأخيرة، بعد أن تدخّل الركّاب وفضّوا النزاع بينكما، وسرعان ما ذابت العداوة يوم رأس السنة عند الحدود الليبية بجبل العوينات.
يبدو أن الزعامة التي انتزعتَها الآن، وبجدارة، هي التي أخرجت غيرتَه من جُحرها، واضح تماما أنه أصبح من أول مُعارضي سُلطتك، ذهنك يفرض عليك أول التحديات في مجابهة الواقع، كيف تتخلّص منه؟، وما هي السّبل التي تبعده عن طريقك؟، لا يمكن أن تفَرّط بعد الآن في هذه الشخصية التي تنامَت حولها هالة من الاهتمام، إنها تُرضي غرورك، تعيد إليك شيئاً مما تم استلابه، أنت صاحب الكلمة والقرار في هذه البقعة من الصحراء. إنها البدايات التي تمرّ بها مراحل تطوّر السُّلطة في أسوأ مكان، من شرنقة بريئة حتى حشرة كاملة مستبدّة ـ شاهد الآن كل الصور القديمة لأبشع المستبدّين على الأرض، عسكريين، دكتاتوريين، لقد عاشوا الطفولة ذاتها، براءة تزحف نحو المصوّر، أعين حالمة تراقب عدسة الكاميرا ـ، إطلاقاً، لا يمكن أن تتخيّل ماذا حدث بعد ذلك، إذَن ماذا حدث؟، لا شيء فقط. فكَّروا بهذه الطريقة التي أنت مقبلٌ عليها الآن.
وصَل بك الغضب أن تعود إليه مرة أخرى إلى سطح الشاحنة، وفضّلت أن يكون معك «الفاتح الطيب» أحد داعمي سُلطتَك لتزجر هذا المفتري «جمعة ناصر» وتهدّده. الأفكار التي جاءت متأخّرة راحت تلومك، وأحياناً تمدّ لسانها لتتحرّك، ولكنك تبصق الفكرة سريعاً على الرمل بلعاب لزج، ربما تهتزّ شخصيتك بهذا التصرف الأحمق. قرّرتَ أن تنال منه في الوقت المناسب، وكلما حاولت أن تدفنه في الرمال ازداد اشتعالاً داخل ذهنك، تصبّ عليه جزءاً من حواراتك مع «سلمى عمر». تتحسّر أنك حدثتها عن «ناهد عبد الهادى»، أنت تعلم جيداً أنها لم تكن تنتظر منك هذا، لقد عرضَت عليك إحساسها بلا مقابل، وقبل يومين قدّمَت لك شفتيها على طبق مرتعش، واثقة من انتصارك على ممانعتها الشرسة، وضح جلياً أنها أصبحت مغرمة بك، تنتظر منك إشارةً فقط لتعْبُر، غير عابئة بما سيحدث، وإن كان الضوء أحمر، عبثاً كانت تقنص زوغان الريح في شبكة. لماذا تلكأتَ عندما استجاب إحساسها؟، هل نسيتَ أنك أنت الذي حاصرْتَ قلعة إحساسها، وجلبْتَ كل الذخائر لاقتحام هذا الإحساس؟. لعلّ الشخصية التي فُرضَت عليك الآن هي التي راحت تتصرّف في إحساسك بدكتاتورية مفرطة، أو ربما هو عشق «ناهد عبد الهادي» عاد ينبض كلما اقتربتَ من الوطن ولا تريد أن تلطّخه بقُبلات عشوائية.
تُشعل سيجارة أخرى وتتأمّل القمر، تُعيد ترتيب صور القصة التي رويتها للركّاب أمسية رأس السنة بجبل العوينات، كيف بدلّتَ المشاهد، حذَفَها ذهنك بعناية ذاتية، وأضَفت من خيالك صوراً لدعم المصداقية، منتجاً ادّعاءات وبطولات لم تحدث إلا في ذهنك. أنت أيضاً، مثلك مثل الآخرين من أبناء وطنك والأوطان الشقيقة، تبحث عن جلب الاهتمام نحوك، وابتكار قصص لم تحدث إلا في الخيال، لا أحد لديه المقدرة على فضّ النزاع الداخلي لشخصيته، من العبث أن تصبح صادقاً أمام الآخرين.
تنعطف الذاكرة نحو مطار طرابلس الدولي، أنت مُنبهر بالمكان، لأول مرة تغادر السودان إلى دولة أخرى وشقيقة. صوت نسائيّ متغنّج يرشد المسافرين، وأحياناً يفقدهم الرّشد، تحاول ان تفهم كلمة واحدة، ولكن بلا جدوى، في بادئ الأمر اعتقدتَ أنهم يتحدّثون لغةً غير العربية، ساعَدك بعض أبناء وطنك من أصحاب الإقامات على الترجمة، واستكمال إجراءات الدخول. تقف مضطرباً أمام شرطي، يتصفّح جواز سفرك، «قعمز» انتظر، انهض، شد الطابور، «خيرك؟»، تحرّك، طاااخ على صفحة جواز السفر. أما في الخروج فقد كانت الضربة على وجهك. أحد أبناء بلدك تبرّع واشترى لك تذكرة الأوتوبيس الصفراء، ثم أرشَدك إلى محل خلف الساحة الخضراء بالمدينة القديمة لتستبدل المئة دولار اليتيمة التي بحوزتك إلى دينارات قليلة وكبيرة الحجم. الطقس ممتع، الشمس هنا مريضة، حَرّ وديع، تتابع خطواتك بلا هدف محدّد. تتملّص من سائق عربة خاصة يستخدمها عربة تاكسي ويحاول اصطيادك بأقلّ سعر، تتفادى الزحام. أمامك مجموعة من الشباب المتمهّلين خلف مؤخّرة حسناء اقتحمت السوق. معظم الناس يرتدون لبسة واحدة ليبية، في ما بعد ستعرف أنهم يطلقون عليها اسم دولة أخرى «سورية»، البعض يرتدي بدلات عسكرية، جنود في عطلة رسمية، عجائز بتجاعيد مؤلمة تمنع القراءة الدقيقة للتعابير الراهنة، يَحتَمون بظلّ مبنى المصرف المركزي، يدخّنون بشراهة، آخر الأنفاس. نسوة متبلّمات بأكفانهنّ البيضاء، يُظهرن عيناً واحدة فقط، وعندما انحنَت الحسناء لقياس حذاءٍ ما، انطلقت صيحات شهوانية تستهدف المؤخرة الدائرية، النساء يتابعن المشهد من خلال العين السحرية، أصحاب التجاعيد يبتسمون بمزيد من التجاعيد لتَبين أسنانهم، صفراء، مهشّمة. سألت عن مطعم سوداني، أحدهم نعت لك اتجاه المكان بشارع الرشيد، ما زالت اللهجة مستعصية، مفردات غريبة الأطوار تخرج بأذيال صوتية، ولكن بالإشارات تفهم الاتجاه، تمرّ بشارع عريض، مزدحم، أيضاً، محلات تجارية على الضفتين وملابس مصلوبة على الجدران، بضائع تحتل الرصيف، فاكهة، خضروات، أحذية تمدّ يد المساعدة لأخرى مُنتعَلة ببؤس على الأسفلت، باعة متجوّلون بعاهات تربوية، يصطدمون بك عنوة، يعرضون عليك الشراء بالقوة. وُجّهَت إليك عدة أسئلة من المارة، كلها عن التوقيت، تأمّلتَ ساعة والدك التي ورثتَها عنه أكثر من سبع مرات، توقّعتَ أن هناك شيئاً ما سيحدث بعد قليل، ولكن في ما بعد ستكتشف أن السؤال عن التوقيت هو عادة ليبية ليس إلّا. حياة صاخبة، أبناء وطنك بائعو «التمباك» كثر على طول الشارع، كلّ أمامه طاولة صغيرة، المسافة بينهم محسوبة كأنهم أعمدة للإنارة، تابَعوك بأنظارهم، قليل مَن ردّ عليك التحية. دلفتَ إلى المطعم، كنتَ جائعاً، أكلتَ فاصوليا وعدس، جلست وقتاً طويلاً لا تدري من أين تبدأ، مشهد أبناء وطنك في الشارع يصبّ عليك مزيداً من الإحباط. ترتدي قناعاً من البؤس والشفقة للمشهد القادم، تقترب من صاحب المطعم، تستجديه أن يجد لك مكاناً تنام فيه حتى الصباح لتغادر إلى مدينة بنغازي، وبإمكانك أن تشتغل أي شيء في هذا المطعم. استضافك أحد عمّال المطعم ليلة واحدة، ولكنه أجبرك أن تستيقظ فجراً لتأتي معه مرة أخرى إلى المطعم وتساعده في النظافة وغسل الأواني في مقابل وجبة فطور مجانية. ومن بعدها جاء صاحب المطعم، متكاسلاً وهو يطرد نعاساً متوارثاً بغضب غير مبرّر على العمال. ظللتَ واقفاً تتصيّد لحظة صفاء في ترعة عكرة. لم يتحدّث معك كثيراً وظلّ متعالياً، اصطحبك بسيارته إلى منزل أحد الليبيين، قدّمك إليه بأنك شخص مسكين، أمين، بعد أن قدّم عروضاً من الطاعة والتبذير في إذلال نفسه بلا معنى، وربما كانت لديه مآرب أخرى، انتظرتَ خارج الـﭭـيلّا الضخمة، ليعود إليك «سالم الأورفلي» يرتدي بدلة عسكرية برتبة مقدّم في الجيش الليبي. هنا يجب أن تلتمس عذراً لصاحب المطعم الذي كان مستمتعاً بإذلال نفسه لهذا المقدم. عندما تقتضي الضرورة يصبح البشر ذيولاً.
أخذك المقدّم بسيارته دون أن يفرّط في شخصيته حتى مدينة «تاجورا»، حيث يملك مصيفاً خاصاً به وعائلته؛ ﭬـيلّا صغيرة تفتح على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وعلى بُعد أمتار منها حمّامات خارجية وغرفة صغيرة منبوذة يَسخر منها البحر ويمدّ لها لسان أمواجه، نصفها معبّأ بأدوات الصيد، كانت من نصيبك، وعلى مقربة من الشاطئ ماكينة تحلية مياه مهجورة رُبط على حديدها كلب مسلول ومُدان، وما إن ما رآك مع سيده حتى راح يؤكّد جدارته واستحقاقه الأكل الذي يُرسل إليه شبهَ يومياً، نبح نباحاً هستيرياً كاد أن يقطع الحبل، فمه موجّه نحو الهدف بعناية، ونظراته موجّهة في اللحظة ذاتها نحو سيّده، كأنه يريد مشاهدة الرّضى عنه، حتى الحيوانات تعلّمَت من الناس النفاق!، كان واضحاً أنه يدّعي هذا الهياج، فما إن انتهره سيّده المقدّم حتى ركع على الأرض متوسّلاً وأخفى ذيله بين رجليه وهو يعتذر بالأنين، فألقيتَ إليه بوجبة دسمة راح يلتهمها والعظام في خبر كان، ولم يعد يُعير حتى ظلك اهتماماً!.
أخبرك المقدّم «سالم الأورفلي» بأن مهمّتك حراسة هذا المكان بما فيه القوارب الثلاثة التي ترسو على الشاطئ مبتهجة هي الأخرى لكن ليس بسبب الزيارة، بل يراودها الموج عن نفسها فتتمنع وتتراقص أمام غرفتك مباشرة. كانت هذه الوظيفة بلا أية إجراءات توظيفية، لم يسألك حتى عن جواز سفرك، مقابل مئة وعشرين ديناراً شهرياً، وسيأتيك الأكل، مثل هذا الكلب، لا تقترب من هذه الـﭭـيلّا مطلقاً!، وعليك أن تغضّ الطرْف عما يجرى بداخلها في بعض الأمسيات، مفهوم؟.
قضيتَ في هذا المكان أياماً متباينة الأحاسيس والمشاعر طغَت عليها أحلام اليقظة، وكنتَ تبكي بمرارةٍ أحياناً إذا عَسعسَ اللّيل. وأنت بين يدَي نقاء البحر، وهو يستجوبك، لحظةَ أول تُهمة غروب، خطرَت على بالك أولاً صورة حبيبتك «ناهد عبد الهادي» استدعيتَها في خيالك إلى هذا المكان لتُوَقّع معك على هذه اللحظة، في غيابها تظلّ لحظة الغروب ناقصة دائماً، ينقصها لون أساسي، ستفعل المستحيل لتكتمل هذه اللوحة، حتى إذا كان عليك أن تصبح مثل هذا الكلب، لتقنع المقدّم بأمانتك، وتحفظ أسراره، فقط، ليبني لك منزلاً صغيراً مع زوجتك ناهد. تمدّ أحلامَك حتى حافة البحر، توقظها صباحاً لتسبحا على الشاطئ، تقبّلها ونصفاكما التحتيّان مغموران بالماء، تحملها بملابسها المبتلّة الملتصقة على جسدها حدّ التعرّي المُدَان، حلمات صدرها عصافير تم اصطيادها بشبكةٍ ألجَمَتْها على تلّتين متشابهتين، لكنها لا تكفّ عن محاولات الانعتاق، تهجم عليها بقُبلة قاضية، تفتح نافذةَ النار على مصراعيها، متعة غير متناهية، تلهث وراء حدود الشهوة الأبدية، تلتهمها وهي تتلوّى، سمكة غادرت المياه للتوّ، تقذف منتجاتك الإستراتيجية على صخرة ملساء ومبتلّة، البحر يتنفّس على وجهك الصعداء. حقاً يشبه الاستمناء أكل الحلوى دون أن تنزع عنها الورقة الخارجية، يظلّ الطعم لذيذاً حتى تتقزّز اللهاة في آخر الأمر. ذاكرَتُكَ تكمل نصف دينها الآخر، تعيشان في الجنة التي طالما حلمتما بها. كلّ شيء يحدث بدقة مهولة في أحلام اليقظة.
تعرّفتَ على الكلب المنافق، وبدأت تنشأ بينكما صداقة يَشُوبها الاحتراس والحذر، كان أبناء المقدّم يطلقون عليه اسم «بوش» نكايةً في الرئيس الأمريكي الأب جورج بوش الذي كان ينبح هو الآخر بأسطوله مهدداً ليبيا برمي الجمرات. يأتي المقدم صاحب المرسى أحياناً مع بدايات الظلام، ويتوقّف بسيارته أمام الـﭭـيلّا لتختفي أنت حسب الاتفاق الشفوي، وتصبح حارساً على بوابة المصيف الخارجية، يأتي بنساء ساحرات الجمال، كأنه يجلبهنّ من البحر، لم تَرَ عيناك مثل ذلك من قبل، نساء، بعضهنّ بفساتين وعطور تستفزّ الجيوب الأنفية، بعضهنّ يأتين بالزيّ الرسمي المثير، لتصبح أنت حارساً على مضاجعة حارسات الثورة والعقيد والمقدّم. ثوريّات فاتنات بالزي العسكري، بأيدهنّ السلطة والسلاح والنشوة. ستعلم في ما بعد أن كل الليبيين يعرفون جيداً، ولكن لا أحد يعترف إلا إذا ستَرَته الحدود: هنّ محظيات القذافي ليس إلا، يتم اختيارهنّ مثل ملكات الجمال بالمواصفات ذاتها، تحت بند حارسات العقيد، وهو مَن يَفضّ عذريّتهنّ ومن ثمّ يَهبهنّ إلى أعوانه المقرّبين، وهذا لا يحدث في ليبيا فقط، إنه مرض مُعدٍ من المحيط إلى الخليج، ولا تُستثنَى حتى المملكة العربية المهينة لحقوق الإنسان.
أما في أيّام الجُمَع والعطلات فهو يرتدي دَور البراءة ويأتي أحياناً مع عائلته وتارةً مع أبناء عمومته، يُبحِرون على تلك الزوارق إلى أن يختفوا عن الأنظار ليعودوا قبل المغيب محمّلين بشتّى أنواع الأسماك، يكون نصيبك منها، أنت والكلب «بوش»، أسماكاً صغيرة الأحجام، لكن طعمها ألذّ، تنظّفها على صخرة الشاطئ وتشويها على النار، تشعر بمتعة غير عادية، في خيالك تُطعِم «ناهد عبد الهادي» في فمها قبل أن تأكل وتتأمّلها على ضوء القمر الذي انعكَس على الماء وعلى وجهها طبعاً، لتصبح جالساً بين ثلاثة أقمار مضيئة.
في تلك الليلة غير القمرية، كانوا قد تأخّروا عن موعد عودتهم إلى الشاطئ، وزحَف الظلام بكل معدّاته ليحتلّ المكان، أشعلتَ النار وأنت تتضوّر جوعاً في انتظار الأسماك. في تلك الأيام كان الأسطول الأمريكي يناور على البحر المتوسط ويهدّد بضرب ليبيا، وهناك احتراس من الإبحار في حدود المياه الإقليمية، تأخّروا بما يدعو إلى الخوف والتوجس، لحظتها وقفت بالقرب من غرفتك سيارة، توقعتَ أنه أحد أبناء المقدم انتابه القلق هو الآخر، لكن دون توقّع ترجّلَت منها سيدة ليبية ناصعة الجمال، تعكّر صفو الليل. شَعرُها أسود يمكن أن يُحدّد به اتجاه الريح، أحياناً يلعب بوجهها والنار في تضامن مستميت مع الظلام، تُحبط خطتَه بأناملها، وقرارات صارمة. تدنو منك وعلى صدرها قنبلتان موقوتتان، تنهض منزوع اللسان والشفتين، بينها وبينك مربط الفرس، تطلق عليك سهامَ أسئلتها، والخوف يستعين، مرتبكة، متوترة، تبحث عن يقين، تستفسر عن التأخير، حينئذ عرفتَ أنها ابنة «الحاج مبروك» صاحب الرِّجْل الخشبية، وهو الشقيق الأكبر للمقدّم «سالم الأورفلي». مؤتمر طارئ للحواسّ، يستعجل لسانُكَ ليبدّد طَعم شكوكها ويطمئنها أن البحر هادئٌ هذه الليلة، تحبو أمواجه بالكاد نحو اليابسة. وقفَتْ أمامك برهةً تتأمّل ظلمة أبدية تجاه البحر عبثاً. فستانها الأسود يقف على ساقين مصبوبتين بعناية فائقة على حذاء أسود انغرَس تلقائياً على الرمال يحميها من احتمالات أية هزّة جسدية أو ارتعاش أو اضطراب، مزيّنة بجواهر لامعة لها رنين. عادت إلى سيارتها، يمنحها وَحل الرمال أنوثةً تشكو الهجران، بعينَيْ نمر جائع تتابع رجّة مؤخرتها. جلست داخل سيارتها وراحت تشعل الأنوار وتطفئها عدة مرات لعلّهم يردّون عليها بإضاءة إذا كانوا على مقربة. سريعاً أعددتَ لها الشاي على الطريقة الليبية، وذهنك يخربش، إلحاح لا يتوقف عن التحرّشات، يدفع بك نحو الهاوية، كلما تملّصتَ منه أتاك بخطة أخرى. مع أول رشفة شاي تركَتْ سيارتها وجاءت لتجلس قرب النار، وأضرَمَت عليك حرائق، وجهها يتلألأ على ضوء اللهب، بنظراتك المريبة تتسلّق ساقيها ويستقرّ بك المقام على قنبلتين موقوتتين بينهما خندق مثلّث يشير إلى ميدان المعركة الفاصلة. تشتهيها حدّ الاستشهاد، تذعن لأول رغبة، تدخل على المؤامرة من باب الحديقة، تستلف أدوات تعارف، برغم صعوبة اللهجة تبدأ بالمجاملات، وراحت هي الأخرى تبدّد قلقها بحب الاستطلاع، تختزل عُزلتَك في شهقة، مُصطدمة بدهشة تمنحها فرصة غنج، متفاجئة، حسب درجة طمأنة البشر، بقدرتك الهائلة على العيش في هذا المكان المخيف. عرفتَ عنها ما يكفي للتفاؤل وأجر المحاولة: مُطلّقة بعد شهور قليلة من زواجها، إذن كلاكما تحت الإقامة الجبرية. كلما تأخّر الوقت تضاعف قلقها واصطكّت الأساور في يديها برنين. برفقةٍ وحنكةٍ تغرز الطمأنينةَ داخل سنّارة، ومن داخلك تتمنّى أن لا يأتوا، وإلى الجحيم!، لم تعد تعبَأ بما سيحدث. شكرَتك على «طاسة» الشاي وعادت إلى سيارتها، راحت تتلاعب بالأنوار وبك أيضاً، أصبحتَ الآن مشدوداً نحوَها بنَهَم، تحوّل ذهنك إلى عضو تناسلي، كل ذرّة في جسدك تدفعك تُجاه المعركة الحاسمة، الرغبة الملتهبة، تفضّل الهجوم والمباغتة، تذهب إليها بحجّة الاطمئنان، مُخفياً ذكورتَكَ خلف فكرة مفخّخة، كانت تمسح دموعها، تفتح باب سيارتها لتجد الفستان الأسود قد تقهقر عن مواقع الحراسة كاشفاً عن فخذين بضّين، بلعت ريقك، ركعت على ركبتيك، محاولة دنيئة لمواساتها، كثعبان يتسلّق شجرة عديمة اللحاء راحت يدُك تزحف على فخذيها، تبحث عن الخندق العظيم، وقبل أن تحدّد رَدّ فعلها إزاء هذا الاقتحام أطبقتَ على فمها بقُبلة طويلة، جاءت مُمانَعتها مصحوبة بتأوّهات، نبَح الكلب «بوش»، كانت القطرة التي فاضت بها كأس النشوة، صفَعَتك على وجهك لتسقط إلى الخلف وتحرّكت بسيارتها بسرعة مذهلة مشعلة خلفها غباراً كثيفاً، بصقتَ من شفتيك بعضاً من الأسف، والرمل. دخلتَ إلى غرفتك وأنت ترتجف من الخوف، إذا أخبرَتْهم حتماً سيقتلونك!.
لم تَنَم تلك الليلة من وطأة التفكير والقلق. يستلم الندم إقامة مؤقّتة داخل ذهنك، تبحث عن خروج. مع بدايات الفجر كنتَ تنتظر المقدّم أمام الـﭭـيلّا طالباً إجازة لمدة يومين، دَفَع لك نصف الراتب رغم أن الشهر اكتمل، لتغادر إلى بنغازي بلا رجعة.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــع
برغم التعب استيقظتم مبكّرين، راحت الشمس تتلصّص خلف الكثبان الرمليّة سارقة من القمر ملابس السهرة لتتركه بملابس داخلية شفافة فقط، فيتقهقر شاحباً، مُخفيَاً عورته من الأشعة القادمة، هواء بارد وجافّ ينشف الأجساد ويطليها باللون الرمادي. رُحتَ تدور بين الجميع، تنفض من بعضهم النعاس، مُمسكاً بشخصيتك الجديدة حتى لا تفلت، تصدر الأوامر إلى المقرّبين منك فقط، تعلم أنهم يفهمونك جيداً، ويدعمونك أيضاً في تقمّص الشخصية، أمَرْت «سهير علم الدين» أن تصنع سريعاً شاياً للأطفال، تقوم بجرد سريع وفحص للعفش الذي سيتخلّف في الصحراء. تتأكّد، تأخذ بعض الأشياء التي يمكن استعمالها وقوداً للنار. كنتَ آخر مَن صعد إلى الشاحنة، لتجد الكل رافعاً يديه بالدعاء حتى الأطفال، والمهندس «خضر عوض الله» يتلو بصوت جهوري دعاء السفر، والتمني يدفع بالمقاعد إلى الأمام، تحرّكَت الشاحنة ببطءٍ مترنحةً على الرمال، وراحت الوجوه تستعيد ملامحها في حذر، لم تَسِر سوى أمتار قليلة حتى تحطّمَت الريَش في الجانب الأيمن لتجلس الشاحنة على مؤخّرتها وتنفتح حناجر النساء والأطفال. ترجّلتم جميعاً حفاة يوم ريح، تدورون حولها كمزار مقدّس، القلوب منقبضة، ثمة خوف عارم يجول بالمكان، شيءٌ ماكر يتربّص. الذين لديهم خبرة بالحديد راحوا يتجادلون حول أفكارهم، بدأت الريح تهبّ على المكان، لا أحد يعلم أنه غضَب الصحراء لقد وَطأت أقدامكم الأماكن المحرمة على الكائنات الحية.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
تشعر بحركة مريبة بالقرب من قدميك تعيد إليك وعيَك، شيءٌ ما يقترب منك ويزيل الغطاء من على ساقيك، ربما هو ذئبٌ جاء ليلتهمك، تغمض عينيك بقوّة لتتفادى معرفة التوقيت المحتمل لأنيابه الشرسة، يخيب التوقّع فتلتفت ببطء والخوف يتصدّر اللائحة، تعود برأسك إلى الوراء، إنها الطفلة «سناء» التي لم تكمل عامها الأول بعد، أصبح وجهها مرعباً، كأنك تنظر إليها على صورة أشعة، عظام بارزة ترتدي جلداً أسود منكمشاً، تتحرّك عشوائياً بلا صوت، هي أيضاً تتعذّب بالأخطاء التي يرتكبها الموت، ترى هل يتعمّد هذه المهلة؟، جثّتان تحت التدريب على كيفية خروج الروح. تتساءل، ألف مرّة ومرة، لماذا تتعذّب هذه الطفلة؟، ما ذنبها؟، تقترب من المادة المنتجة لعنصر الإلحاد، الآن يبدأ إيقاعك في الانفلات، طبول المجتمعات البدائية، الرقصات الهستيرية، إشعال النيران حول الجثّة، تهديد معلن لهدنة القلق، الحلول الجاهزة، الدوران حول الذلّ، شُرب الدم، والتوسّلات، ألوان التضحيات، انهزام مُخزٍ في مجابهة الواقع، تقديم القرابين، استرضاء الآلهة الغاضبة بلا مبرّر، أصابع الاتهام تشير إلى الضحية، لتفقد القبيلة أجمل فتياتها.
هي أجمل بنات الحي، «عماد مَنظر»، برغم غبائه، يُقسِم أن «ناهد عبد الهادي» أجمل فتاة أنجبتها هيئة السكك الحديدية. حتى الفتيات والنساء يتأمّلن جمالها، من أيّ طينٍ خُلقت؟. وجهها يعتقلك في أقل من برهه، تُهمة قابله لتجديد التأمّل، حواجب غزيرة، رموش لا حصر لها ولا عدد، نجلاء العينين، لها وجنة مربكة، شفة سفلى مسترخية عن قصد، حساسية مفرطة، دموعها واقفة على حافة بلَكونة، مستعدّة للانتحار في أية لحظة، جسدها رشيق ويحاصره دلال موروث. ها أنت تستحضرها الآن، تخلقها في ذهنك من تراب بلا ماء. جاءت إلى أطراف المحطة بالقرب من مبنى الملوينة عندما شعرَت أنك بعيد عن مكتب المفتش والدها. لقد كانت تراقبك، وستعترف لك أنها دائماً تراقبك في كل سانحة تجدها، موت والدك على قضيب السكة حديد، بتلك البشاعة والمأساوية، يحتّم عليها المحافظة على العشق، خاصةً أنك مساهم، مستلم، ومواصل في مضاعفة الإرث الحكومي ذاته. تُتابع حركتك وأنت تتنقّل بين القضبان، إشارتك، أيها المحوَلجي الصغير، تحفظها جيداً، تستخدمها لك عندما تنوي إغاظتَك، عند رَفعك الخابور بين العربتين تحبس أنفاسها، تدعو لك في كل سجداتها، إنك تتمدّد بداخلها، تحتلّ معظم صمتها. جاءت إلى أطراف المحطة محتمية من غضبك بشقيقتك «نجاة» وعلى خدّها وجنة ماكرة. كان يوم ظهور نتيجة امتحانات الدخول إلى المرحلة الثانوية، وقد نجحَت بتفوّق كما كنتَ تتوقّع لها. عندما رأيتَهما، أسرعتَ نحوهما والغضب يسبق خطواتك، وانتحيت بهما على سكة قطار هامشية حتى لا يشاهدهما مَن في المحطة، تزفّ لك «نجاة» خبر نجاح «ناهد»، لم تجد تعبيراً مناسباً للفرح الداخلي، تنصاع بسرعة للانفعال والغضب، تضع مشاعرك تحت تصرّف التربية والقيم.
ــ أنا مُش قلت ليك يا زفت ما تَجِي المحطة دي تاني؟.
موجّهاً نبراتك الحادة نحو شقيقتك الصغرى، وفي اللحظة ذاتها يركض قلبك من الفرحة، مبعثِراً نظراتك القاسية تصبح قاب قوسين أو تعانقها، تتشابك رموشها وتبرق عيناها مقدمةً لهطول الحزن، تعُضّ على شفتيها معرقلة خطوات الخريف، ورغم ذلك تدفع الدم نحو مجاري الانتصاب.
ــ مبروك يا ناهد، نتقابل بعدين، أنا شغال.
راحت خطواتك تتجاوز المسافة بين الفلنكات، تخبّ نحو مبنى الملوينة، تصعد السلم بسرعة، تواصل عملك بغناء. وفي لقاء المساء قبّلتها قُبلة طويلة بطعم شاي اللبن. مختبئين قرب شجرة النيم بظلام يضيء بالأحاسيس سمعتما صوت كلّ من «ياسر عبد الفتاح» و«حسين الجمرى»، فزعَت وأصابها شيءٌ من القلق، أخبركما الأصدقاء بأن الوضع غير آمن، وأن المفتش «عبد الهادى» يبحث عنها، وربما تَطرُق والدتها «ليلي الجزولي» على الأبواب بعد قليل ويُكتشف أمرها، طبعاً كانت معهما «نجود عبد الفتاح» لتستلم منك الوردية وتسيران نحو منزل المفتش وهما تُخَطّطان للخروج من هذا المأزق.
ظلّت علاقتك بأصدقائك أبناء عمّال وموظّفي حي السكة حديد متينةً كما هي ولم تضمحلّ بكونك أصبحت عاملاً وانتقلت إلى مرحلة المسؤولية مبكراً، بسوء حظّ فاجع. تقضي معهم الأمسيات تحت عمود النور، ولكن لا ينتظرك واجب مدرسيّ مثلهم، تَعِدهم بعشاء في السوق الكبير يوم أن تغادر شبّاك الصرّاف، مبتسماً تراجع للمرة الثالثة عدّ المرتب. هُم أصدقاء بلا حدود، يلتفّون حول بعضهم البعض، يدافعون عن الحيّ وسكّانه كأنما أصبح ميراثاً لهم، مغامرون لا يخافون. لقد أصبحتَ لهم المدبّر والمخطط الرئيسي لشغب المراهقة، تزفّ إليهم أخبار عربات البضائع التي يفضّلونها وموعد دخولها إلى المحطة، وعن عمدٍ تضع عربات البضائع الخشبية المحمّلة بالبطيخ والمانجو والبرتقال على قضبان بعيدة عن دائرة إضاءة المحطة وعيون الغفير، ليتمكّن الأصدقاء من مجازفتها بسهولة، لم يعد وضعك يسمح بالمشاركة في مغامرات السطو على البطيخ. ولكن عندما تتدحرج من منزلكم في المساء نحو عمود النور، تجد كلّ الرفاق في انتظارك، وكل يجلس على بطيخة كبيرة ومقعدك ينتظر فارغاً، وتجلس على التي هي أكبر حجماً ويبدأ الاجتماع اليومي، تخطّطون للمباراة القادمة مع فريق حي النصر الذي لم ينتصر عليكم مطلقاً، تضعون الحلول البديلة في ما لو تحوّلت كرة القدم إلى معركة حقيقية بعد الهزيمة. وبعد أن تتعاهدوا على الفوز، ترفعون البطيخ إلى أعلى وتُلقون به بقوة على الأرض مع صرخات وتهليلات كأنكم أفراد قبيلة بدائية ما زالت تمارس طقوساً وثنية.
ــ الليلة شكلها حلا وحَمّار.
كنتم تأكلون قلب البطيخة فقط والباقي من نصيب الأغنام.
هذه الذكرى التي أنتَجها ذهنك المشوّش، جعلتك تعود إلى نقطة الإحساس بالعطش، بعد أن فقدتَ الإحساس بكل شيء، تُحرّك لسانك بالكاد مستجدياً اللعاب، عسى تنزّ لهاتك المتقشّفة والمتقرّحة سائلاً لزجاً يُزيل الغبار العالق بالحنجرة، لا تتذوّق سوء طعم الرمل والتراب، ولا يكفّ لسانك عن المحاولة، يتفقّد الطبقة الجيولوجية التي ترسّبت في غياب الطعام. لم تعد تنتظر حملة إنقاذ، لقد فات الأوان، تتمنّى أن يتوقف هذا العذاب فقط. بكل الاحتمالات، تنتظر موتك وذاكرتُك تحوم حول المدعو العطش: يَبصُق المطر حبّاته على سطح القُطّية بإيقاع قويّ غير مدوزَن، ولكن يفرض عليك وشقيقاتك ثلاثتهنّ متعةَ نغمٍ يتمّ التوقيع عليها بإمضاءات البرق، لتصرخوا في لذةٍ من صوت الرعد، تُطالِب أمنياتكم في تلك اللحظة بالمزيد من المطر حتى تتغيّبوا غداً عن المدرسة. على سريرٍ بلا مرتَبة تتزاحم أنفاسكم حول باب القُطّية لمشاهدت الماء ينساب من أعلى الحواف والتمتّع بمنظر حبّات المطر وهي تَسقط على المياه التى احتقنت داخل الحوش بسرعةٍ فائقة، وتبدو المياه هناك كأنها تَغلي، تقفز بأذيالٍ تُذكّرك دائماً بكوابل مبنى «الكُبّانيّة» التي يعمل بها خالك «حسن طه». عندما اصطحبك معه يوماً جلستَ على كرسيّ عالٍ متحرّك والضجر يتلاعب بك وأنت تراقبه بملل وهو منهمك في وظيفته، على أذنيه سمّاعات وبيَديه معاً يَستبدِل أسلاك الهواتف من أخرامها بسرعةٍ فائقةٍ كأنها تتمطّر. تنتظرون بشغفٍ آخِرَ حُبَيبات المطر لتخرجوا حُفاةً إلى الحوش الذي تحوّل إلى بركة ماء، تخوضون بلذّة وأقدام محترِسةٍ من غدر التربة اللزجة. صمتٌ مدهشٌ يَعقب توقُّف المطر، تصبح الأصوات مفخّخة بالصدى، تتعاونون مع والدك لفتح مجرى لتصدير المياه إلى الشارع، شقيقاتك يَستخدِمنَ الجرادل في نشل الماء بهمةٍ وعزم لا يُفقدهنّ متعة السقوط على الطين. فجاةً يصبح الحيّ بكامل أهله أمام الأبواب لتنفيذ المهمة ذاتها: التخلّص من المياه. تُعسكِر رائحة الدعاش في الفضاء وروائح الحيطان وخشب الأبواب المبتلة أيضاً، صارت الإضاءة خافتةً برغم أن الوقت لا يزال عصراً، احتمال أمطار ليلية وارد، منظر قوس القزح نصف دائرة مرسومة بدقة عالية، شريط ملوّن خارج من خلف هَناكِر محلج القطن وطرَفه الآخر يمتدّ إلى ما وراء حي «البنيان»، ليصير قضيب السكة حديد وتراً مشدوداً. تكتسب أصوات الجيران، وهم يتفقدون بعضهم البعض، نبرات جديدة ذات رنين: «التوم خلف الله»، يَسرد بحسرة أخبار رَاكُوبته التي انهارت، «الرضينة»؛ زوجة «عباس الياس»، فقدَت إحدى اغنامها، وبرغم ذلك تَشكر ربّها على نعمة المطر. يخضع عمّال الدريسة في تلك اللحظات لقانون المفاضلة بين الأسرة والواجب، يتحرّكون بلا حوافز مُرضيَة، يخوضون في وحل بلا تذمّر، ينطلقون بالترولّي حاملين معهم الفوانيس وأدوات صيانة قضيب السكة حديد، تاركين منازلهم القَطَاطي عبارة عن مراكب شراعية تسبح في مياه الخريف. وأنتم كذلك؛ الأبناء، تَشفُطون الماء الذي تسرّب إلى داخل عربة الدرجة الأولى، مسرح متعتكم اليومي، ومِن ثمّ تتجمّعون في الفسحة الكبيرة بين بيت الناظر والمفتش، والتي صارت بحيرة، تخوضون بلذّة غير متناهية، البهجة تستدعي حتى الفتيات، تقترب من «ناهد عبد الهادي» تُلامِس قدمها الحافية تحت الماء، تَنتفض كسمكة، كاتمةً صرختها، لتعود بسرعةِ فقدانِ الذاكرة باحثة عن الطُّعم داخل السنّارة، متلذّذةً بالرعشة.
كانت والدتك معجبة بها، وتتمنّى أن تكون من نصيبك، لم تكن تحمل مودة خاصة لوالدة «ناهد»، تقرّبت منها فقط، لزوم الرغبة في نسب قادم. أما شقيقتك الصغرى «نجاة»، التي كانت قبل سنوات ساعي بريد العلاقة ليس إلا، تجرى حافية القدمين وتقفز فوق القضبان قابضة بيدها على تميمة العشق لتوصلها دون مصادرة، فقد تبنّت هذه العلاقة في ما بعد، وأصبحت مشرفةً عليها، وكانت تبكي وتحرَد الأكل إذا ما نشب خلاف بينكما يهدّد استمرار العلاقة، وكثيراً ما كانت سبب الصلح، وهي أيضاً التي أخبرتك في الخطاب الوحيد الذي استلمتَه في غربتك بوفاة المفتش «عبد الهادي» واختفاء أثر «ناهد» بعد انتقالهم إلى الخرطوم.
كانت دائماً تعترف بأنك كنتَ دافعاً قوياً في التحاقها بالجامعة، قليلٌ هم أبناء السكة حديد الذين كان لديهم هذا الطموح، وخاصة الفتيات. كان إكمال المرحلة الثانوية والبحث عن وظيفة أو انتظار النصيب هو الحدّ الذي لم تتخَطّه حتى شقيقاتك ثلاثتهنّ.
هذه الصورة محكّرة بعمق، هذا المشهد غير قابل للنسيان: ظهيرة حرارتها لا تغضّ البصر، أشعة شمس جريئة، عرق ينزّ، يسيل على الجباه، والمحطة مكتظّة بالناس، قليلٌ هم المودّعون، القطار على وشك المغادرة وامتلأ سطحه بالمتهرّبين من قيمة التذكرة وأبناء السبيل، أشقاء القحط، وبعضهم إخوة في رضاعة البؤس. تمدّ رأسها من نافذة قمَرة درجة نوم المخصّصة لابنة المفتش، قمر أطلّ من فلجات السحاب، يهجم كل الجمهور بنظرة جشعة على نافذة الوجه الساحر الذي يبدو أنه لا علاقة له بهذا المكان وهذا الطقس، الشعر الأسود المنسدل يُخفي بعض الملامح ويعيق المتطفّلين، كانت تبكي وتصطاد بمنديلها الدموع، تعضّ على شفتها السفلى تحتفظ لك بآخر قُبلة. وعلى الرصيف قرب نافذتها يقف المفتش والدها ببدلته الرسمية يهمس لها بالوصايا العَشر، الشمّاسة يقتربون حاملين شماتتهم ويتحرّشون بالموقف، يُنتجون تعليقات ساخرة بمفردات خاصة بهم وحدهم، ينتهرهم أحد أفراد بوليس السكة حديد ويهجم عليهم بصوت أجَشّ وجسد مترهّل يزيدهم متعة وضحكاً، يبتعدون قليلاً، ومِن ثَمّ يعاودون الكَرّة مستبدلين الأدوار والأماكن، مستمتعين بالتشفّي، فتاة ناعمة وغيداء تبكي، الحرمان والعوَز يدفعهم إلى التنديد والتنكيل بالقدر. تبحث عنك من خلف زجاج مبتلّ، لقد ودّعتها أمس بخصوصية العشق، وها أنت تقف خارج حدود الرصيف تتّكئ على عمود تعريشة مكتب التذاكر، خانقاً خاصرتك بكلتَي يديك، محاولة يائسة لكسر عنق الغيرة التي راحت تمدّ لك لسانها. تلوّح لك أثناء انشغال والدها بتوزيع شتائمه على الشمّاسة يسرة ويمنة، ترفع لها يدك وتعيدها سريعاً إلى موضعها خوفاً من فقدان التوازن. كنتَ مضطرباً، مرتعشاً. لأول مرة تجرّب أن تعيش بدونها، إحساس غاية في الفظاعة، وأنت ترى وجه حبيبتك في نافذة ويختفى بالتدريج، يخرج القطار من حدود الصنَفور، تتابعه وذهنك معلّق بآخر عربة. الجميع يعود إلى حياته الطبيعية. يلملم المودّعون بقايا مشاعرهم ويغادرون، الباعة منشغلون بأرباحٍ شحيحة تُضاعِف المحنة والعوَز أكثر مما تزيلهما، الشحاذون، بأجسادهم الهزيلة البائسة، يغادرون المحطة محبَطين؛ كلّ يحمل عاهته وما تبقى من كرامة، ينتشرون في اتجاهات مختلفة، محاولات فاشلة للتهرّب من ضريبة القدر. يعود العمّال إلى الشمس والمزيد من العرّق. العاطلون عن العمل ينافسون الشمّاسة على آخر رمق، يجرّدون مقتنياتٍ غير متوقّعة، يطوفون حول القضيب الذي غادرة القطار للتوّ، آملين في العثور على أشياء ثمينة، يتبادلون بقايا أعقاب السجائر، يلحسون بقايا الطعام الملتصق على الأكياس والصحف القديمة، أحدهم يلحس حتى صورة الرئيس التي تشوّهت بزيت الطحنية، صورة منتشرة في الصحف اليومية يَظهر فيها الرئيس مرتدياً نظّارات شمسية ينعكس عليها الجمهور الذى جاء للاحتفاء به ولسان حالها يقول: الشعب في حدقات العيون، يدوسها آخر بقَدَمه المتسخة ليخفي ملامحها. يواصلون البحث المضني والتحرّشات ببعضهم البعض، وإذا انحنى أحدهم ليلتقط شيئاً من الأرض يجد مؤخرته قد استُهدِفَت بلارحمة وتنطلق الصيحات. بائعات الأرز المراهقات يتسكعنّ على قضيب هامشيّ خوفاً من التحرّشات المحتملة في طريقهنّ إلى حي فُور.
وقفتَ منعزلاً عن المشهد تُتابع القطار الذي غاص في إطار عربة الفرملة الأخيرة، تراقبها بحسرة، ذهنك يلتحق بها، تتسلّقها، تريد أن تكون معها في الغرفة الخاصة «القمَرة»، تسافر معها حقيقة، كما الحلم السابق أيام المراهقة الأولى، تحقّق معها مشاهد المسرحية العفوية. تتدرّج نحو الملوينة لمواصلة عملك، يقبض عليك الندم ويبدأ في الاستجواب:
لماذا نكّستَ السنَفور وأعطيتَ الإشارة للقطار بالتحرك؟، أنت مَن وَجّهتَ أنظار القطار نحو القضيب الرئيسي لينطلق مغادراً المحطة، كيف تجرؤ على ذلك؟، ألا تعلم أن حبيبتَك بداخله؟، هل تدَعها تغادر شرايينك بهذه السهولة؟، ألم تكن أنتَ من حفّزها لدخول الجامعة؟، واضحٌ أنك لم تتخيّل فداحة هذا الافتقاد، إذَن أنت ضالع ومتهم بالشروع في غيابها، اخرَس!، لا تبرّر!، والآن تدخُل زنزانة الغيرة المرعبة، لترى بأمّ عينك كيف تُعَذَّب الأحاسيس، حبيبتُكَ بجاذبيتها وجمالها تلفت الأنظار داخل الجامعة، يتملّقها زملاؤها، تكتب إليك رسالة واحدة ثمّ تتوقّف، تتسرّب منك، بانقلاب سِلميّ يسيطر أحد زملائها على مقاليد الإحساس، تخرُج معه في الأمسيات، يُقبّلها داخل السينما، يخاصرها على شارع النيل، وهي بلا رقيب. وأنت ستظلّ هنا في هذا المنفى الإجباري وتنتهي حياتك داخل هذه الملوينة. تضرب النافذة بقبضة يدك وتلعنها جهراً، وتغادر قبل أن ينتهي الدوام الرسمي للعمل. قبل سفرها للالتحاق بالجامعة بيومين اقترحتَ عليها إنهاء العلاقة، لأنها ستصبح غير متكافئة، ربما كنتَ تريد أن تمتحن إحساسها، ساعتها صبّت عليك غضبَها وهدّدَتك وفرضت عليك عقوبات: الحب مقابل الغذاء، ستخبر والدتك وبالطبع شقيقتَك نجاة، تراجعتَ لتقف بالجوار تمدّ يد العون للإحساس.
ظلّت فترةُ غيابها مزعجة، رغم أنها كانت تُراسلك باستمرار، لتزيد الشوق تراكماً، والشكّ لا يكف عن غزواته، يَصرَعك في أوقات الفراغ، تَنتصر عليه برسالة غرامية، تقرأها يومياً أثناء هدنة السلام، تُرتّلها ترتيلاً بُغية الاطمئنان، ولكن تنمو شكوك أخرى، وتتطاول، تنمو سريعاً كحشائش الخريف على سكّة القطار، تدهسها بقلب حديدي مدعوم بخطاب ملتهب، ويعود لينمو على بذور فكرة أخرى.
عندما عادت في أول إجازة لها، دَهَسَت كل الوساوس بقطارها، احتفَلَ معك كل أبناء حي السكة حديد.
كان سفرك إلى ليبيا محاولة أخيرة لإنعاش قصة العشق التي دخلت في غيبوبة بسبب ذبحة الصالح العام، ما زالت آثار الزبد عالقة بفمك، تبصقها لعنات حادة ترقى إلى مستوى الحدث، لعنات حقيقية ومستحَقّة، لكن الظلم لا يكترث، ترفع الدعوات وتجفّ صُحف القدَر. صادروا حتى مهنتك التي ورثتها عن أبيك. تُوَقِّع على شيكات غربة بلا رصيد وتغادر غير مأسوف عليك.
قَطْــــــــــــــــــع
تُفكّر أن تلعن هذه الرمال التي تسعى جاهدة إلى استعجال إجراءات المغادرة، وتحاول أن تُكفّنك بأسرع من القدر وتغلق فتحات الجسد، تتراجع، تتذكّر أنك تحت رحمة هذه الصحراء ولا يحميك من جبروتها إلا هذا الإطار. تحاول أن تتخيّل الحياة بعد غيابك الذي صار الإعلان عنه وشيكاً، ربما تفقد الحياةُ أحدَ عناصرها غير المهمّين بعد قليل، أيعني هذا أن عدد خطواتك على الأرض انتهي؟. لن ترَى أحداً، ولن تعانق أحداً بعد الآن، وآخر ضحكاتك أطلقتَها في هذه الصحراء. ستكون الحياة مستمرّة في غيابك، وتصبح أنت محض ذكرى في أذهان بعض المحبّين، ذكرى مهدّدة بعقوبة النسيان في أية لحظة. راح الخوف يجتاحك مع العاصفة، ترتجف منه، تبكي بلا إمكانات ولا أدوات حزن. تَدخُل في دوّامة من الكآبة، صورة «ناهد عبد الهادى» زورق نجاتك.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــع
كانت فترة غيابها أثناء دراستها بالجامعة باهظة المشاعر، تستلف مواد إغاثة للصبر، ترمى بإشارة الصنَفور إلى الشمس، تُعجّل بانسحابها، كأنك تشطب أحد أهم بنود ميثاق حركة الكون. كانت تمرّ عليك تلك الأيام ببطء، قلق وتوتّر، تنفعل في البيت لأتفه الأسباب، تُبدّد هذا الجحيم بالعمل والمناورات. رويداً رويداً انشأتَ علاقات صداقة جديدة مع زملاء والدك، هم أيضاً كان لهم عالمهم الخاص، تقتحمه، تستمع إلى ذكرياتهم ونكاتهم البذيئة، تضحك معهم، تناكفهم، يغمرونك بحنان أبويّ، وخاصة «عم عوض»، برغم مرور هذه السنوات على وفاة والدك، كنتَ، كلما جمَعكما العمل معاً في مهمة، تقبض عليه متلبّساً بدمعة على خدّه، يمسحها بمنديله الأزرق، ويلعن الشيطان وأمراض العيون.
يداهمك خيالها في المساء، تختلس ذهنك، تنهب جيوبَ أفكارك، تتهرّب من معظم الأماكن التي تُذكّرك بها، تطالب بمستحقّاتها، أو تعيد إليك عربون العشق. تتمشّى على رصيف المحطة أو تسمع حكاية تحت عمود النور، وأحيانا تشاهد التلفزيون في نادى البوليس، تتهرّب من الأصدقاء لأنهم يذكّرونك بها دوماً، وهم يفتقدونها بالتأكيد، وكانت الأسئلة عن أخبارها أحياناً تجعلها مُداوِمةً على ذهنك أكثر من مُداوَمتها على محاضراتها الجامعية. حتى تعرّفتَ على وافد جديد «هشام النور»؛ مهندس وابورات جاء ليستلم ورشة الديزل قادماً من مدينة عطبرة، حديث التخرج، كان أقرب إلى عمرك وسيصبح أقرب إلى قلبك أيضاً، نشأتْ بينكما صداقة سريعة، طريقة كلامه مدهشة، ينتقي مفردات خاصة به ويُجبرك أن تستمع إليه، يختلف عن كل الذين عرفتهم. لقد استطاع أن يَنتشلك من بركة التوهان، بحكاوي يظلّ بخارها متصاعداً حتى لحظة النوم. روَيتَ له حادث موت والدك، والإحساس الذي نَسَجه سكّان هذا الحي المتكاتف حول أسرَتك، وكيف عُيّنتَ كأصغر محولجي في تاريخ السكة حديد. ولم تنسَ أن تحكى له بمتعة عن علاقتك مع «ناهد عبد الهادي» وتبرّع لك بدعم الإحساس المتواصل، وراح يعلّمك كيف تكتب إليها رسائل حبّ مختلفة ومدهشة.
فعلاً كانت مندهشة في إحدى الإجازات، وأنت تتحدث معها متأثّراً بمفردات «هشام النور».
ــ أسامة إنت قاعد تَجِي الجامعة من وراي ولا شنو؟.
ــ قصدِك شنو؟.
ــ بقيت تتكلم زي الطلَبة المثقّفين بتاعين الأركان السياسية!.
تُعرِّفها بالجامعة التي التحقتَ بها حديثاً؛ صديقك المهندس «هشام النور» ليصبح أحد أهمّ أركان العلاقة.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
أصبح الأمل معلّقاً على «الفاتح الطيب» الذي أرسلتَه في مهمة منذ يومين ولا أثر له حتى الآن، وكلما يمرّ الوقت يصبح الركاب أكثر عصبية، ويزداد التذمّر، وتشعر بأنك ستفقد السيطرة عليهم.
«سهير علم الدين»، التي كنت تراها ضاحكة على الدوام، أو بابتسامة منسية على وجهها، أربكَت الجميع فجأةً عندما انفجر حزنها، راحَت تبكي بصوت عالٍ وأجشّ، حاضنة طفليها عازة وجمال اللذين اصابهما الرعب. انتقلت العدوى لحظتها إلى بعض الركاب، ولكن لا صوت كان يعلو على حزنها. وقفتَ متماسكاً بعض الشيء وزجَرتَهم معتمداً على مؤن روحانية مُوزّعاً عليهم معلّبات الصبر نافدة الصلاحية، وعَينُك في اللحظة ذاتها على ظلك الممتدّ فوق الرمال تطعن الخوف، محاولة يائسة لتجاوز العَبْرَة. كانت تبكي وتتوسّل إليكم لتفعلوا شيئاً من أجل أطفالها، بَرَكتَ أمامها على رُكبتيك وأمسَكتَ بكلتَيْ يديها تهزّها بقوة لتتوقّف عن البكاء:
ــ سهير، سهير، اسمعي هنا، كفاية، ما في زول ح يموت، كلنا ح نصل أهلنا.
ــ بس لكن كيف يا ود أمي، وووب علَيّ، أبوهم وَصّاني عليهم، ووووب عليهم.
كانت جالسة على الرمال وطفلاها متكآن على فخذيها وحبّات الرمال عالقة على مجرى الدموع. وظللتَ أنت على ذلك الوضع باركاً أمامها، تحاول إخماد ثورة الرعب. ببطء تتأمّل المشهد المرْبك.
«سلمى عمر» منهارة، لم تعد تحتمل الوقوف، استندَت بجسدها النحيل إلى مقدّمة الشاحنة وهي تنظر بعينين دامعتين نحو الأفق البعيد؛ حيث الشمس منهارة هي الأخرى نحو المغيب، بالقرب منها، وعلى الوضعية ذاتها تقريباً، الطفلان أوّاب وإيهاب ابنا المهندس «خضر عوض الله»، تستطيع رؤية الحسرة داخل عينيهما خالفة رِجْلها على الأخرى. على شنطة الصّفيح الفارغة من المواد الغذائية جلسَت «عفاف النور» تحمل رضيعتها «سناء» على حِجرها تنوح في ألم مرير وتَصف الحالة العامة، ولولا بشاعة الموقف لانفجر الجميع ضاحكين من الجُمَل التي تغادر فمها:
ــ وووووب الليلة وينك يا أبو سناء، ما شُفتَ الحصل علينا، إنتو يا خوَانّا حكومة الإنقاذ دي اسمها إنقاذ لي شنو؟، مُش مفروض تنقذنا؟.
وعلى الطرف الأيمن من الشاحنة «حاتم الأمين» الشايقي مُتكئ إلى يده اليسرى ويعبّئ باليمنى رمالاً وينثرها ببطء، كأنه يحسب لحظاته المتبقية. الشقيقان وليد ونزار أولاد المكاشفي على يمينك مباشرةً، أحدهما جلس يدخّن بلا نكهة، والآخر استلقَى على ظهرة ينظر إلى السماء الفارغة. سائق الشاحنة «يوسف العماري» صعد تلةً رملية هارباً من الموقف برمّته. «جمعة ناصر» و«نزار بخيت» على سقف الشاحنة يتابعان الحركة على خط الأفق يبحثان عن نقطة أمل، ربما يريان «الفاتح الطيب» عائداً بحملة إنقاذ، في عينيهما ترَى انعكاس أشعّة الشمس الأخيرة والأمل المتضائل. داخل الشاحنة جلس «عادل الجزولي» على غضبه يحمل ابنته المريضة، مَدّ رأسه من النافذة:
ــ عليّ الطلاق لو وصلنا الخرطوم، السوّاق دا أدخّلو السجن.
أما زوجته «تيسير التجاني» فقد جلست على سلّم الشاحنة تبكي بصمت. بالقرب منها جلس «جمال عز الدين» منكفئاً على نفسه مُخفياً وجهه بين ركبتيه. جلس المهندس «خضر عوض الله» بعيداً عن هذه التأثيرات وراح يقرأ القران. «فائز مدني» و«عثمان الريّح» تحت الشاحنة يفكّران في أمل معدوم لتحريكها. أما «عادل التجاني»، شقيق «تيسير التجاني» فقد ظلّ يدور حول المشهد مبدّداً رعبه. كانت هذه مقدّمة نموذجية للتراجيديا القادمة.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
أنت الآن محض جثّة في عطلة أيام العيد، أو ربما لحظات لتداوم على موتك المحتوم. كانت الشمس مريضة هي الأخرى، أشعّتها فاترة، أو أنك لم تعد تشعر بها، حتى رياح العاصفة وحبّات الرمال التي تلسعك، لا تشعر بتأثيرها على جسدك، أصبح الألم بلا قيمة، كأنه يخصّ شخصاً آخر، أعضاء جسدك الداخلية رفعت يدَها عن المهمة، ومن المحتمل أن تكون قد أعلنت عن حالة إضراب عام لعدم استلامها وقوداً يحرّك وظائفها. وحده ذهنك يرفض الإضراب ويعلن عن حالة الطوارئ، يَستهلك المخزون الإستراتيجي لإشعال أحلام اليقظة والذكريات.
قَطْـــــــــــــــــــــــــع
استطاع المهندس «هشام النور» أن يَحتلّ الفراغ الذي كانت تتركه «ناهد» بغيابها في الجامعة، تسيران بمحاذاة سكة القطار، تَسرُد له عن إدمانك «ناهد» وأحلام اليقظة، يحدّثك عن الشعر والفنون والموسيقى، أشياء كانت تبدو لك هلاميّة، ليست جزءاً أصيلاً من التداول اليومي، حشائش طفيليّة لا تثمر، إنما تعُيق نمو المحصول فقط، ها هو يشتلها داخل ذهنك، لتتفرّع لوحاتٍ وإيقاعاتٍ ونغماً يفتح نوافذ جديدة، ولأول مرّة تحسّ بهارمونية العشق. يفتح شهيتك للمعرفة. تلعن سوء حظّك في عدم تكملة دراستك، يربّت على كتفك عندما ينهال عليك الغباء وتصفعك الحسرة. يدعوك إلى مشاهدة أفلام تُعرَض على السينما، يشرح لك الدلالات الكامنة وراء فكرة الفيلم وماذا يريد المخرج أن يقول: جعَلك تسخر من الأفلام الهندية الرخيصة الثمن، وجَوّعك لمشاهدة أكثر. تتناول معه العشاء في أحد مطاعم السوق الكبير.
عندما ظهرَت أول لائحة بأسماء العمّال والموظّفين المفصولين من أجل الصالح العام وتمّ إخطارهم بإخلاء منازل الحكومة، لم يكن رَدّ فعلك يرقى إلى مستوي الحدث، برغم أن معظمهم أصدقاء لوالدك، وأن أبناءهم أصدقاؤك كذلك، إلّا عندما التقيت مع «هشام النور» الذي بدا متضجّراً ومنفعلاً بما حدث، برغم أنه لا يعرفهم ولم يعاشرهم جيداً. راح يشرح لك عواقب هذا الفصل التعسّفي، لترَى بأمّ عينك فداحة الحكومة وظلمها، فتَح ذهنك على مصراعيه، لتدخل الأفكار التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية والحقوق، فأصبحتَ مقتنعاً بأنه من أجل الصالح العام للوطن أن يَظلّ هؤلاء العمّال والموظّفون في أماكنهم، لأنهم ببساطة أكفاء لهذه المهن. إنك تشاهدهم يومياً يؤدّون أعمالهم بلا كلَل أو ملل، برغم ضآلة الراتب، لقد أدمنوا هذا العمل، أصبحوا جزءاً لا يتجزّأ من حديد السكة حديد، يموتون إذا فُصلوا عن المحطة والفلنكات، يستثمرون عُطلتهم الرسمية في استنشاق رائحة القطارات، لقد صاروا أسماك السكة جديد، من المستحيل أن يتنفسوا خارج هذا المكان، ولا يمكن لحكومة أن تطرد أبناءها من البيوت ليتشرّدوا بعائلاتهم في الشوارع. صرتَ متضامناً معهم بقوة.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــع
لا أحد منكم استطاع في هذه الليلة أن يرفع رأسه لينظر إلى القمر، وفعلاً عندما تصرخ الأحشاء لا يمكن أن تشعر بالجمال ولا أن ترى ملامحه. لقد نفد الماء تماماً، آخر الجرعات كانت من نصيب الأطفال منذ يومين.
كانت ليلة قاسية، كنتَ شاهداً ومشاركاً وضالعاً في الوقت ذاته، يسألونك عن الحلّ. تتوجّه الأنظار نحوك كلما تحرّكتَ من مكان إلى آخر، هيّا افعل شيئاً!. لقد أرسلتَ «الفاتح الطيب» في مغامرة ولم يعد حتى الآن، وربما لَقِيَ حتفه في هذه الصحراء اللعينة. تسأل نفسك، هل تتوكّل أنت وتذهب للبحث عن ماء أو نجدة؟؛ حتى لا تسمع هذه الأصوات المؤلمة والأطفال يتوسّلون أمّهاتهم جرعة ماء. تحمل بطّانيتك وتبتعد عن الشاحنة ولا يزال صوت بكاء الأطفال يتبعُك سهاماً لا تخطئ أهدافها، تجلس على الرمال، تتلفح البطانية، محاولة فاشلة لتحمي ظهرك من هذا النحيب المتواصل، تُصاب بالعدوى فتنتحب أيضاً، ولأول مرة ترفع يديك إلى السماء تدعو خوفاً من هذا المصير. لم يعد في مقدورك أن تفعل شيئاً. لقد أصبحتَ قائداً لهذه الرحلة الكارثة، كنت مُعجباً بهذه الشخصية ولكن الفشل راح يتربّص بها، لتكرَه هذا الدَّور الذي تلعبه، ما زال بعض الركّاب يثقون بك ويتوقّعون منك حلاً. العطش لا يعطي مجالاً للتفكير، تشعل سيجارةً وتلجأ إلى الحلول الخرافيّة وتتصيّدك أحلام اليقظة: أن تتحرّك في هذا الاتجاه دون أن ينتبهوا إليك، تسير لمدة ساعة فقط، متعقّباً هذا القمر الذي سيدلّك على مكان ما، وتجد شاحنة متوقّفة وصاحبها نائم، توقظه بسرعة وتشرح له الموقف، تعود إليهم في وقت وجيز، تبهرهم الشاحنة بأنوارها، تشاهدهم يقفزون ويرقصون على الرمال من الفرح، تقفز من الشاحنة وأنت تحمل الماء، يلتفّون حولك ويصيحون: الزعيم!. أو ربما تشاهد من هذه الناحية الأخرى أنوار شاحنة إنقاذ يأتي بها «الفاتح الطيب». تتوالد في ذهنك أحلام يقظة تنقذكم في الخيال، يبدو أنك غفوتَ قليلاً لتستيقظ قبل ظهور الشمس بقليل، صراخ الأطفال يملأ الصحراء ألماً ورعباً.
قضيتَ معظم النهار بعيداً عن الشاحنة، تحاول أن تفكّر لتجد مخرجاً أو ترَى شيئاً على الأفق، ولكن في قرارة نفسك تحاول قدر المستطاع الهروب من الأعين المتسائلة والصراخ. تواصل التدخين بلا رحمة. صوت الصراخ يشتد، حتى أصوات النساء ارتفعت ترتعش من الخوف، تهرع نحو الشاحنة، «وليد المكاشفى» يلوّح لك بيده لتُسرع، لم تعد تستطيع أن تركض بقوة، تصل متلاحق الأنفاس، تجدهم ملتفّين دائرة حول «جمعة ناصر»، والنساء والأطفال خارج الدائرة يصرخون في ذعر وخوف، انتهرتَ النساء وأمرتَهنّ بحمل أطفالهنّ والصعود إلى الشاحنة حتى لا يروا هذه اللحظات، تركتَ «حاتم الأمين» يكمل المهمة، تلقائيّاً انفتح لك مجال في الدائرة البشرية لتركع قرب رأسه، كأنه يحاول أن يتكلّم ليقول شيئاً ولكنك لا تسمع غير حَشرجةٍ وزبَد يخرجان من فمه برائحة كريهة. جلس المهندس «خضر عوض الله» إلى يمينه وراح يحاول أن يلقّنه الشهادة. استطاع «نزار بخيت» أن يحلب مثانته ويتبوّل قليلاً على كوب صغير ويصبّ عليه سكّراً ويحاول معه ليترشف قليلاً، إنه مصاب بداء السكّر، بدأ الزبد يخرج بكثافة، وضعتَ رأسه على ساعدك عندما شعرتَ به يختنق، التوَى لسانه وارتمَى خارج الفم بشخير، نظر إليك داخل عمق عينيك، لا تدرى، هل كان يريد أن يعتذر على تلك العداوة أم يعاتبك؟، كأنه يقول لك: ها أنا أُفسِح لك المجال كما تمنّيت، دمعة دافئة تسقط من عينك على جبهته كرصاصة الرحمة، وبعدها توقّف كل شيء.
قَطْــــــــــــــــــــــــــع
للأسف، تخاذَل بعض العمّال المفصولين للصالح العام، أصحاب الوجعة، وانسحبوا من الاجتماع الذي دعا إليه المهندس «هشام النور» داخل ورشة الوابورات، وبرغم هذا التخاذل غير المبرّر تواصل الاجتماع، وكنتَ أكثر حماساً، واتفق الجميع على المضيّ في خطّ حديديّ مُتوازٍ بلا رجعة. كان «هشام النور» هو صاحب الآراء المنطقية، ويتفق معه الجميع، تمنّيتَ أن تكون لك شخصية مثله، قائد ومفكّر. قرّرتم الدخول في اعتصام مفتوح إلى أن يُعاد المفصولون إلى أعمالهم، وعلى أثره انشلّت حركة القطارات في المحطة. حضَر وفد من الحكومة على ترُمبيل* أصفر في مجازفة مع غياب عمّال الدريسة، نزل الوفد ليتجمهر حولهم المعتصمون، قرّروا الاجتماع بكم، ولكن المهندس «هشام النور» اشترَط عليهم إعادة المفصولين أولاً ومن ثمّ يبدأ التفاوض، ولكنهم اعتذروا بأن إعادة العمّال والموظّفين إلى وظائفهم ليست من اختصاصهم، ولا تَدخُل ضمن الأجندة التي يحملونها، لتموت المفاوضات قبل الأجَل. استضافهم المفتش «عبد الهادي» في منزله لوجبة غداء، طبعاً لم تكن «ناهد» موجودة آنذاك، ثم عادوا يتجشّأون خيبتهم الدسمة.
استمرّ الاعتصام في النموّ وتشجّع الناس ببعضهم البعض، لينضم إليهم موظّفو البريد والتلغراف، وموظّفو الخزنة والتذاكر تركوا خوفهم على المقاعد الخشبية والتحقوا بالاعتصام، وحدهم أفراد شرطة السكة حديد هُم من ظلّوا يحرسون وظائفهم ويجادلونكم بالتي هي أحسن. كان الكُمندان «حسن الجاك» على اتصال برئاسة السكة حديد والمديرية على مدار الساعة، ويُقال إنه أرسل برقيات مستعجلة إلى مدير عام الشرطة. ولكن للأسف كان يتمّ الرد على هذه البرقيات بكشف أسماء أخرى تُحَال بدورها إلى الصالح العام، بما فيهم أنت والمهندس «هشام النور».
قَطْـــــــــــــــــــــــــع
حمَلتم جثمان «جمعة ناصر»؛ أحد أبناء مدينة كوستي حي الرديف، وأنت تحتفظ بجواز سفره داخل جيبك وتُخفي دموعك، وضعتموه خلف الشاحنة بعيداً عن أنظار النساء والأطفال، لكنهم لم يكفّوا عن الصراخ والذعر. كان الموقف عصيباً، قبل رحيل الشمس اصطفّت أجسادكم المنهارة، عاونتها على الثبات المؤقّت أقدام حافية دُفنت داخل الرمال، وقفتم خلف المهندس «خضر عوض الله» لتصلّوا على الجثمان. لم تقفوا كمشيعين اعتياديين، لأن المشيعين الطبيعيين عندما يدفنون شخصاً ما يعلمون جيداً أن هذا المصير ينتظرهم يوماً ماً، ولكن في هذه اللحظة هم في مأمن من الموت، لا أحد منهم يتوقّع أنه صاحب القبر التالي وأنه سيُدفَن بعد قليل، يغادرون المقابر وكلّ شيء مؤجل إلى حين. أما أنتم فحالتكم استثنائية، أقرب ما تكونون إلى مجموعة من المسافرين صدَر في حقّهم بالخطأ حكم الإعدام رمياً بالرصاص، وها أنتم تترقّبون الأوامر لكتيبة الإعدام، ارتعاش، خوف وبكاء مرير، لم تستطيعوا إكمال صلاة الجنازة، ركعتم خائرين على الرمال، بدأ الموت يعلن نتائج القرعة، كان المهندس «خضر عوض الله» متماسكاً نوعا ما، أول مَن بدأ بردم الرمال على الجثمان، لم تكن هناك مقدرة على الحفر، نثرتم من فوقه الرمال فقط. بعدها مرّت عليكم لحظات مرعبة، لا أحد استطاع مواجهة الآخر، صراخ الأطفال لم ينقطع، النساء في نحيب مستمرّ. اختفى القمر هذه الليلة، كأنه ارتعَد هو الآخر من خروج أول الأرواح ولاذ بالفرار، ليترك المشهد في حالة من الإظلام ويزيد الخوف رعباً. استطاع «نزار المكاشفي» و«فائز مدني» أن يتمسّكا ببعض الأمل، فأفرَغا معظم الملابس من الشنط وأخذا كل ما طالته أيديهما ليُشعلا ناراً ارتفعت ألسنتها نحو السماء ربما يشاهدها أحد. لم تسرق النار سوى انتباه الأطفال وراحوا يتابعونها من خلف النحيب وهى تشهق لتطول السماء، وفي المنقلب الآخر كانت السماء تردّ بشهب ونيازك تنصهر في أذيال من النيران المشتعلة. عقد الكل آمالهم على هذه النار الأخيرة، ربما يشاهدها أحد، أحد أحد. سمعت «حاتم الأمين» يتمتم بالشهادة وهو في حالة مزرية للغاية، اقتربتَ منه والرعب يكاد يقتلك، جلستَ بالقرب منه ترتعش، تحدّث معك بالكاد، تحرّكَت شفتاه، اقتربتَ من أذنه أكثر، فعلّق على رقبتك وصيته: أن تصل إلى والديه في الخرطوم بحري، حي الشعبية، وتطلب منهما له العفو. أزلت حبّات الرمال العالقة بجفونك من أثر البكاء وهرَبتَ منه بعيداً وأنت تجهش، حتى خرجتَ من دائرة ضوء النار لتصطدم بـ«سلمى عمر» التي أصبحت محض ملابس فارغة، تتمايل في مشيتها، تسقط، تحاول أن تنهض، أمسكت بها من خاصرتها، فألقت بهيكلها العظمي عليك دفعة واحدة، تفوح منها رائحة البول، لقد أفرغَت مثانتها على صحن وشربته ولكنه زادها عطشاً، حملتَها إلى داخل الشاحنة ومَدّدتَها على المقعد الخلفيّ ثم وضعتَ عليها البطانية، حاولتَ أن تجلس بالقرب منها، لكن أنين الأطفال لا يُطاق، أضاءت النار منعكسة على وجوههم فإذا هم أشباح، تركت الشاحنة لتعود وتتفقد «حاتم الأمين» لكنك تقف برهةً أمام «عادل الجزولي» بلا معنى وهو يحمل طفلته المريضة «مي» يخبئها داخل البطانية كاشفاً وجهها فقط، يحاول بشتى السبل أن يمنع عنها الموت.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــع
في اليوم التالي لوصول اللائحة الجديدة بأسماء المفصولين للصالح العام، خرَج كل حي السكة حديد في مظاهرة، الموظّفون والعمّال بأبنائهم وبناتهم، والنساء يهتفنَ أمام الأبواب، هاجم البعض بيت المفتش «عبد الهادي» وكسروا حديقة منزله، لولا تدخّل العقلاء لاقتحموا المنزل من الداخل. سارت المظاهرة لتحتلّ المحطة بالكامل وانضمّ اليها الشمّاسة وجُلّ المسافرين الذين انقطعت بهم سبل الحركة ليفترشوا أرض المحطة، هاهم يعبّرون عن غضبهم، ولا تنس الأطفال إذ كانوا يهتفون صراخاً، مستمتعين بالموقف الغريب، معظم أبناء السكة حديد كانوا يحملون عصيّاً وأغصاناً، متأهّبين لكلّ احتمال. وقف الحشد في غضبٍ على رصيف المحطة، تمّ ارتجال هتافات لا علاقة لها بأصل المشكلة، وجد الشمّاسة ضالّتهم ليعبثوا بالأماكن المحرّمة، صعدوا سلالم السنَفور وصهريج الوقود، كسروا نافذة إحدى عربات البضائع ونهبوا محتوياتها، تسلّق البعض إلى مكتب الناظر في تحدّ سافر لأفراد شرطة السكة حديد الذين حاولوا جاهدين وقف حركة المظاهرة ومنعها من الاقتراب من مكتب المفتش.
خرج كُمندان البوليس من مكتبه وحاول التحدّث في هدوء مع الحشد الذي يغلي من الغضب، ولكن أصابه حجَر على جبينه من أحد الذين يُضمِرون له شيئاً أو الذين حُبسوا ظلماً، لحظتها أطلق الشاويش «جبارة» من بندقيته المتحفيّة النادرة رصاصة في الهواء، خرجت بصعوبة لتشتم الهواء وتتنفّس بصوت هائل، أفزعت طيور الخداري التي كانت بدورها تحتلّ أسلاك التلفون، أطلقت النساء من مقر إقامتهنّ صيحات ذعر وخوف، هربت بائعات الأرز نحو الملوينة، والطيور بمناقيرها المختلفة تقتفي أثرهن لتلتقط آثار الخوف الجانبية. تدخل كلّ من المهندس «هشام النور»، و«الطيب ياسين» و«عم عوض» وصرخوا في وجه الحشد المتظاهر وأمروهم بالهدوء، وأخمدوا النار التي كانت على وشك الاشتعال.
ظلّت النساء متوجّسات يتصيّدنَ الأخبار من صغار الأطفال ويتداوَلنها كبرقيات. تمّ إسعاف الكُمندان، واستمرّت الهتافات تجوب المحطة محاذيةً الرصيف، تصحبها من الخلف حركات بهلوانية من الشمّاسة على قضبان السكة حديد، وتحرَّك البعض «بالترولّي»* الخاص بعمال الدريسة، ليصبح المشهد كرنـﭭـالاً صيفيّاً. بعد تلك الرصاصة الطائشة التي كانت متوقّعة ـ إذ شاهد الكلّ البندقيةَ مصوّبة نحو السماء والمحاولات العقيمة التي قام بها الشاويش جبارة قبل الإفراج عن الرصاصة ـ انضمّت أعداد أخرى للمظاهرة من الأحياء المختلفة، بائعات الأرز نفضن خوفهنّ من أطراف الفساتين المزركشة الضيقة، وتحرّكنَ خلف المظاهرة ومن صدورهنّ يهتزّ الهتاف المثير.
كانت الشمس شبه عمودية وملتهبة، روائح العرَق تفوح في المكان، تمدّدت قضبان السكة حديد بفعل الحرارة لتعبّئ الفراغات كما توقّع لها البريطانيون سابقاً، استمرّت الحناجر تهتف ولكن تضاءلت عزيمتها وراح وقود حماسها ينفد، وبلا توقّع توقّفت عربة جيش وهبط منها أفراد من قوات الأمن يحملون أسلحة حديثة، وأعقبها أخرى بها مجموعة من قوات الجيش التابع للحامية، لحظتها أعلنَت ساعة المحطة تمام الثانية عشرة ظهراً، تراجَع الحشد خلف الرصيف، وكأنما جاءت العربات بالوقود المعنوي، ارتفع الهُتاف بحماس مرّة أخرى.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
كان الوقت منتصف الظهيرة تقريباً، الصحراء الكبرى غاضبة أشدّ الغضب، لقد اقتحمَت الشاحنة كبدَها واستباحت عذريّتها، وأنتم تبوّلتم على رمالها الناصعة، رميتم على وجهها أحذية وملابس قديمة، ها هي الآن تثأر منكم، تدعو مكوّناتها الكيمائية والطبيعية إلى اجتماع طارئ، وتقرّر بالإجماع: لن تخرجوا من هذه البقعة أحياء. كانت الكثبان الرملية أول مَن نفّذ الخطة ساعة الصفر، رغم الدعوات والتضرّعات ودعاء السفر، مدّت نتوءاتها الشمطاء على مسار الشاحنة لتُفقدها السيطرة، هشّمَت سواعدها، أجبرتها على الركوع حتى برَكت خائرة. ظلّ العَجَاج وراء الشاحنة يتابع الأحداث، وسرعان ما ارتفع عالياً معلناً عن الخبر، واستقبلته الأعاصير بشهقات مُتشَفّية ورقصات لولبية وراحت تحوم حول الهدف، تدور بهستيريا حول نفسها مكوّنةً أسطوانات غبار حلزونية لانهائية الحدود تشرئبّ نحو السماء، يعانق بعضها البعض فرحاً بالانتصار. أغلقَت الهَبُوب المجال الجوي بغيوم ترابية، متستّرة على ما سيحدث، مانعة تسرّب الخبر إلى الفضاء. ذرّات الرمال هي مصدر إلهام للعمليات الانتحارية، تستبدل مواقعها في الخنادق، بعضها يزحف بمكر نحو الهدف، والأكثر إيماناً بقيمة الصحراء فجّروا نيوتروناتهم داخل أعين الركّاب.
احتمَى بعض الركّاب بظلّ الشاحنة وتخندق البعض الآخر ببطانية متفادياً حبّات الرمال الطائشة. لحظتها أخرجَت «تيسير التجاني» رأسها من نافذة الشاحنة وهي تصرخ بأعلى صوتها وتولول، انتفض الجميع وهرعتم نحو باب الشاحنة، أول ما خطر ببالك أن ابنتها المريضة «مي» قد فارقت الحياة. ولكن عندما صعدت أول خطوات سلّم الشاحنة رأيت «عادل الجزولي» يحمل ابنته التي تبكي ويغطّى وجه «سلمى عمر» بالبطانية، والشاحنة عنبر أموات، لم تكمل قدَمك نيّتها في الخطوة التالية إلى درجة السلّم، تراجعتَ إلى الوراء ترتعش وتستدير بصعوبة، تشاهد الصحراء تدور أمامك، عبثاً تتلمّس موضع قدم، تتعثّر على الرمال، تجاهد لتستلف توازناً من العدم، يَنهار جسدك على «وليد المكاشفى» يدور بينكما عناق دامع. أصبح الوضع لا يُحتمَل، بؤس ورعب، كأنكم تمثّلون أحد أفلام الرعب المستهلكة: مجموعة من المسافرين، جمَعتكم الصدفة وحدها داخل شاحنة، تدور بينكم مشاحنات ومشاجرات عند بداية الرحلة، ثم تتعارفون بشكل أعمق لتذوب بينكم الحواجز وتصبحون أسرة واحدة، تقدّمون أجمل المشاهد عن متعة الحياة، حتى يتقمّص المُشاهِد جمال حياتكم، تعبّرون بأداء إبداعي، تلفتون انتباه المشاهد، المؤمن، المصدّق، لكي يستمتع بالواقع الذى فرضتموه عليه، وبلا سابق إنذار يتعثّر السناريو على قدمَي المخرج ليفرض عليكم شيئاً مرعباً، شيئاً ما يتخطّف أرواحكم واحداً تلو الآخر، ويبدو أن المخرج لم يعد بمسيطر، راحت «بَكرة الفيلم» تدور وليس بمقدوره أن يفعل شيئاً.
تفتح الصحراء باب العداوة ضلفتين، وتزمجر برياح قوية، هبوب ساخطة تكنس الرمال، راح الكل يصارع الفوضى، الضجّة، انتفاضة الرمال، يتشبّثون بأذيال الحياة، يتعذّر على الصبر أن يبقى معكم، يزوغ بمحتوياته، انعدام الرؤية، لا أمل في الإنقاذ، بكاء منفرد، مرير، الرياح وما تحمله من سلاح يعتقل الجهاز التنفسي.
اصطفّت قوات الأمن سريعاً أمام تعريشة المحطة في مواجهة الحشد بعد أن اعتقلوا ثلاثة من المتظاهرين كانوا يحتمون بظلّ شجرة اللبخ مما زاد من وتيرة الغضب. ارتفعت صيحات استهجان واستنكار، احتجاجات متفاوتة ومتفرّقة، تطالب بإطلاق سراحهم، تصطدم بسحنات صارمة وغاضبة. ظلّت قوات الأمن مُتمترسة في مواجهتكم، أناملهم تعزف في توتّر على أوتار الأسلحة، وجوههم يومئذ عابسة، يكرّجون أسنانهم وقلوبهم خاوية، أشكال لم تألفوها، لا علاقة لها بهذه المدينة البتّة، بينكم وبينهم نبحة كلب، رُحتُم تكيلون لهم الشتائم واللعنات. تراجَع أفراد شرطة السكة حديد إلى الخلف ووقفوا بالقرب من مكتب الكُمندان كالأيتام يتأمّلون المشهد، أما قوات حامية الجيش فقد ظلّوا داخل شاحنتهم، ينتظرون الأوامر. خرَج من خلف السور الأمني ضابط الجيش ومعه الكُمندان وهو معصوب الجبين ليقفا على حافة الرصيف وتهمد الحناجر قليلاً لتستمع، طلبا منكم كتابة عريضة وفضّ هذه التظاهرة، ومغادرة المحطة فوراً، هاج الحشد وكاد أن يفترسهما لولا تدخّل البعض لتهدئة الموقف. حينها طلب الضابط تعيين وفد منكم للتفاوض، تقدّم كلّ من المهندس «هشام النور» وحكمدار الدريسة «الطيب ياسين» ومعهما موظّفة جديدة تعمل في مكتب البريد تسكن حي «البنيان»، ليُعقد اجتماع التفاوض في مكتب الكمندان.
توقّف الهتاف، جلس البعض على الرصيف موَلياً ظهره قوات الأمن وجلس البعض الآخر على قضبان الحديد الملتهبة، احتمى الأطفال بظلّ عربات البضائع، ما زال الشمّاسة يمارسون هوايتهم ويتسلّقون الأماكن المحرّمة ويتحرّشون بقوات الأمن، مستخدمين الإشارات البذيئة، ويطلقون تعليقات وضحكات تحمل جرثومة العدوى ليقهقه جميع المتظاهرين، مُنتَشين بالانتصار المعنوي، بينما ظلّ أفراد قوات الأمن يكتسون الأقنعة الصارمة ذاتها لا يتزحزحون من أماكنهم، كأنهم مخلوقات هبطت من مركبة فضائية، تعابيرهم جامدة، نواياهم تترجمها أصابعهم التي راحت تتحسّس نتوءات الأسلحة بشهوانية عارمة فينتصب الرصاص ويوشك أن يقذف بباروده، في انتظار ما تؤول إليه المفاوضات.
قَطْـــــــــــــــــــــــع
بعد أن هدأت العاصفة قليلاً، دفنتم «سلمى عمر» و«حاتم الأمين» بلا صلاة جنازة، لم تعد لديكم المقدرة على مجابهة الجثث، انسحب الجميع من مواجهة الموقف في حالة من الانهيار التام، تمدّدوا على الرمال ينتظرون أدوارهم، ظللت أنت والمهندس «خضر عوض الله» تنثران التراب على الجثث ووضعتم عليها بعض الشنط الفارغة، لأن الرياح عرَّت جثة «جمعة ناصر»، رُحتَ تصبّ الرمال على وجه «سلمى عمر» وتنتحب، وذهنك يعيد بعض الصور، تبين لك ضحكتها الخجولة وهي تضع يدها اليسرى أمام فمها لتُداري أسنانها الأمامية البارزة، كانت تحكي لك عن شوقها لرؤية الوطن لأول مرة، وعن تلهّفها للتعرّف على أهلها، عكس «حاتم الأمين» الذي كان يرفض هذه العودة الإجبارية، وها أنت تدفن وجهه بالرمال وذهنك يشاهده جالساً قرب النار يرتشف الشاي وأنت تأتي من خلفه لتسخر بتعليق عن شايقيّته، يضحك ويضرب على الرمال بكفه وتدمع عينيه، شايقي، ترعرَع في حي الشعبية، الخرطوم بحرى. كان رافضاً فكرة العودة الإجبارية بشدّة، حاولتما معاً فكرة الهرب من سوق الشاحنات إلى داخل مدينة الكُفرة، وعندما فشلتما، رُحتَ تقنعه بأن أسرته ستستقبله بترحاب.
ـــ تعرف يا أسامة؟، لن يرضى عنك الليبيون ولا السودانيون، نمشي نشوف بلد تانية.
وقفتَ مستنداً إلى كتف المهندس «خضر عوض الله»، ترتعش ركبتاك من الرعب، ورُحتَ تردّد خلفه بصوت بكائيّ سورة الفاتحة، بعدها سمعتَ صوت مشاجرة بين الركّاب أمام الشاحنة، تحرّكتَ ببطء مستنداً إلى الشاحنة لتجد «جمال عز الدين» و«نزار المكاشفي» ممسكَين بالسائق الليبي «يوسف العماري» كأنهما يريدان قتله، وبعض الركّاب حولهم. لقد اكتشفوا أنه يخبّئ ماءً داخل الشاحنة، طلبتَ منهم، وأنت متكئ بجسد منهار إلى مقدمة الشاحنة، أن يتركوه ليجلب الماء الذي يخبّئه، كان الماء في جالون صغير من البلاستيك تحت مقعده، شاهده «جمال عز الدين» اليوم وهو يرتشف منه. أحضَر الماء من المخبأ السرّي، وكأنه حاول أن يهرب، دفعه شيء ما من الخلف، سقط على الأرض، والرمال، كساحرة، دسّت المياه بسرعة وكذلك الدم؛ فقد طعَنَه «عادل الجزولي» بسكّين حادة على ظهره ليسقط بلا حراك أمام دهشة الجميع. الشّمسُ مراهِقة فاجأتها الدورة الشهرية بلا سُحب طبية، كانت شاهد عيان متردّد بحجة الغبار، أخرسَتها المفاجأة، الرمال متعطشة إلى طعم الدم، الركّاب متحسّرون وعابسون، مستعدون لأن يشهدوا ضد الرمال زوراً.
قَطْـــــــــــــــــــــــــــــــــع
جلستَ على رصيف المحطة وسط المتظاهرين، تتابع معهم الاستعراض الذي يقوم به بعض الشمّاسة على سلالم السنَفور وبعضهم شكّل طابوراً منافساً لأفراد الأمن وراحوا يسخرون من وقفتهم ويقلّدونهم بموهبة نادرة حتى في إيماءاتهم، يُصفّق الحشد لهذا الإبداع، بائعات الأرز على القضبان الجانبية يضحكنَ بصرخات والتحامات جسدية. رُحتَ تستحضر «ناهد عبد الهادي» لتحكي لها تفاصيل هذا اليوم عندما تعود في إجازتها التي أوشكت، ستخبرها كيف انتصرتم على الحكومة وأجبرتموها على إعادة المفصولين برغم تخاذل البعض، ستمتعض حتماً من موقف والدها، ولكن ستزداد فخراً بك.
عندما أوشكت عقارب ساعة المحطة أن تشير إلى الثالثة ظهراً، صرَخ أحد أبناء عمّال الدريسة، كان يتسلّق عمود التلفون ملتصقاً به كالوطواط، صرَخ معلناً عن خروج وفد التفاوض من مكتب الكُمندان، وقف الجميع في لحظة واحدة وتزاحموا حول الرصيف، حتى النساء نهضنَ من على عتبات أبواب البيوت في ترقّب، بائعات الأرز تنازلنَ عن حذرهنّ واصطفَفْن خلف الحشد على أمشاطهنّ. عندما وقف أعضاء الوفد الثلاثة وخلفهما الكُمندان والضابط، كاد الحشد يقفز فوق بعضه البعض، تزاحُم، تدافُع وهيجان، دعس على الأقدام، صراع حول الرصيف، ليعلن المهندس «هشام النور» بصوت مبحوح عن الموافقة على طلاق سراح المعتقلين، وفَضّ المظاهرة اليوم، لتعود غداً في مسيرة سلميّة. صيحات، هتافات، وصفير، أُخْرِج الحمَام من المخازن، عبّر المتظاهرون بشكل هستيري، والبعض اجتاز الرصيف، ليصطدموا بقوات الأمن وخرجت ألفاظ بذيئة ردّ عليها الآخرون بعيارات نارية في الهواء. عبثاً حاول أعضاء الوفد المفاوض السيطرة على الموقف. تَصارَع أحد الشمّاسة مع رجل أمن واستولى على سلاحه بشجاعة نادرة، ولكن أمطروه بوابل من الذخيرة ليسقط دون حراك، تدافَع الحشد إلى الوراء بذعر وخوف ليصطدموا ببائعات الأرز وتسقط الأجساد فوق بعضها البعض ومنهم مَن تعثّر على القضبان، صرخات، ذعر وخوف، دم مبعثر على الرصيف. وحدهم صغار الشمّاسة، قفزوا برشاقة فوق الأجساد المتكوّمة ليحتموا خلف عربات البضائع.
عندما تحرّكَت بكم عربة الجيش وأنتم رهن الاعتقال كانت ساعة المحطة تشير نحو الرابعة عصراً، كانت لا تزال هناك أربع جُثث على الرصيف ودم متخثّر يَلمع، زوجة أحد المسافرين جاثية على ركبتيها وتولول، حمَام المخازن يطوف على المشهد من الأعلى. في ما بعد ستقرأ في إحدى الصحف المنحازة بصفاقة، وَصْفاً لانتفاضة المحطة بأنها: فقّاعة صابون ليس إلّا، كان وراءها العملاء والمرتزقة. أطلقوا سراحك بعد أسبوع بعد التوقيع على تعهّد بعدم المشاركة في مظاهرة، وكتبتَ لنفسك تعهّداً بمغادرة الوطن.
قَطْــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
استيقظتُ من غيبوبة أو من غفوة لا أدري بالضبط، بدأتُ أسمع أصواتاً تأتي من بعيد، كأنني أسمعها من داخل بئر، تُرى هل ما زلتُ ممدّداً تحت الشاحنة؟، فتحتُ عينيّ بصعوبة، امتنعَت إحداهما، شيءٌ ما يضغط عليها، رحتُ أرى بعض الخيالات، أو ربما هي أشباح، لم أميّز، أصواتُ لغةٍ مبهمة، هل هؤلاء بَشَر جاءوا لنجدتنا؟، مَن الصوت الذي كان يتحدّث نيابة عني ويَروي الأحداث والذكريات؟، ولكنه يعرف عني كل شيء!، ربما هي ذاكرتي تتحدّث وحدها.
يقترب أحد الوجوه من عيني التي ترَى، ما هذا؟، إنه وجه إنسان، أحاول أن أركّز فيه أكثر، أخفف من كثافة الضوء الداخل إلى شبكية عيني، لتتّضح الصورة، تنجلي الغشاوة، أرى ملامح امرأة، أجتهد أكثر، إنها تشبه أمّي، لا، هي أمّي فعلاً!، ما الذي جاء بها؟، هل هذا حلم؟. حرّكتُ يدي برغم الألم تجاه الوجه، أمسكتُ بها، يا الله!، لقد نجوتُ من الموت إذاً. بدأتُ أشاهد أكثر وضوحاً، أنظرُ إلى الأعلى للتأكّد، كنت كلما أفتح عيني تقع على هيكل الشاحنة، لكن الآن أرى مروحة تدور، نعم لقد نجوت، أعلى يميني تنساب التغذية الوريدية، إني أرَى ماءً، أشعُر بالعطش، أنظر إلى أمّي أتوسّلها ماءً، لا يَخرج مني صوت، لساني لا يتحرّك، كيف أخبرها بأني عطشان، تقترب مني أوجُه أخرى، أحاول أن أُفهِمَهم أنني عطشان، إنهما شقيقتاي «سلوى» و«نجاة»، تتحدّثان، لا أسمعهما جيداً، لا أقوَى على أداء أيّ تعبير، أحملق في الوجوه فقط، الصوت الذي كان يتحدّث داخلي يطمئنني، ينبّهني: أترَى؟، «ناهد عبد الهادي» ليست معهم، وهي التي أنقذَتك، هي التي كانت تُحرّك ذهنَك وترجّ ذاكرتك رجّاً حتى لا تستسلم.
سألتقيها لاحقاً في لحظة خارج قانون التوقّع، صدفة أوشك تاريخ صلاحيتها على الانتهاء.
كنتُ لحظتها عاملاً في مطار الخرطوم، وهي مع زوجها وابنتها مغادرون إلى الخليج بعد إجازة قصيرة. في بادئ الأمر لم أصدّق أنني سأراها مرةً أخرى، وعندما تحقّقتُ من ملامحها رميتُ ما أحمله بيدي حتى لا يعيقني عن مصافحتها، وقفتُ أمام مقعدها مباشرةً، مَددتُ إليها يدي المرتعشة، صافحَتني ببلادة وهي تنظر إلى زوجها، تستنجد به من هذا الكائن المُتطفّل، وقبل أن يتفوّه الأخير، أو يفكّر في أن ينهض من مقعده، عرّفتُها بنفسي، برغم أناقتها عانقتني بالأحضان، كانت رائحتها أنوثةً كاملة الدسم، ارتبكت، يدها داخل كفّي ترتعش كالزرزور الذي فاجأه الخريف، بصعوبة اجتازَت شارع العبرات والحسرات ذي الاتجاه الواحد، أدركَت نفسَها سريعاً قبل فضيحة المشاعر مخبّئة خلف عدساتها الطبّية دمعةً في طورٍ مُعدٍ، تلتفت إلى زوجها:
ــ دا أسامة سعيد، كانوا جيرانّا في حي السكة حديد.
ــ أهلاً.
ركعتُ على ركبتيّ في بلاط صالة المغادرة أمام طفلتها وقبّلتُها نيابة عنها، كان الحوار سريعاً ومرْبِكاً للطرفين، لم ينحرف نحو الماضي، شكرتُها لأنها أنقذَت حياتي، لم تفهم ماذا أقصد، لم يكن هناك وقت لأشرح لها ما حدث، ودّعتُها بالأحضان كما وَدّعَتني سابقاً وأنا مغادرٌ إلى ليبيا.
خرجتُ من المستشفى بعد أن قضيتُ بها عدة شهور، واختفَت الشخصية التي كانت تتحدّث بداخلي. استضافَتني شقيقتي «نجاة» وزوجها، إضافة إلى والدتي التي تعيش معهم، لم أتعافَ تماماً، أصرخ أثناء الليل، أستيقظ مفزوعاً، أحلام مزعجة، أرواح أصدقائي الركّاب كانت تسكن ذهني. تضع والدتي سريرها بالقرب مني، وعندما أنهض مفزوعاً تعيدني إلى وسادتي مرة أخرى. أقضي النهار كلّه مع «سعيد» الصغير أو، ابن أختي «نجاة»، أو «جدّو» كما يطلقون عليه، معه وأناكفه، وعندما ينام، سريعاً ما أبحث عن «نجاة» أو والدتي، أخاف أن أظلّ وحيداً في المكان، ترعبني فكرة الخروج إلى الشارع، عندما أشرب الماء أحسّه سيخنقني وأشهق، يتدفّق على ملابسي كالأطفال، أتلفّت سريعاً حولي، ربما شاهَدَني أحد، أصابَتني حالة من عدم التركيز، أتحدّث مع والدتي في موضوع، ثم أتركه للبدء في آخر.
كنتُ أتوقّع أن يزورني مسؤول كبير في الدولة ويتفقّدني، يعتذر عن ما حدَث، أو حتى رجال الصحافة لأروي لهم القصة، لم يحدث شيءٌ مما توقّعت. أثناء وجودي داخل المستشفى زارني عسكري برتبه عريف، استجوَبني مُسجّلاً أقوالي على محضر التحرّي، رويت له أحداثاً متفرّقة.
أخبرَتني شقيقتي نجاة بحسرة: أن «ناهد عبد الهادي» تزوّجت وسافرَت لتقيم مع زوجها في إحدى دول الخليج، اندهشَت عندما رأتني أتعامَل مع الخبر كأنه لا يخصّني. فعلاً في تلك اللحظة كان لا يهمّني، كنتُ مشوّشاً، ما زال ذهني مع أصدقائي الذين فقدتُهم في الصحراء، أحياناً أحلم أن أعود لإنقاذهم، أتذكّرهم كلما ابتلَع فمي شيئاً، توطّدت علاقتي مع أهلهم، معظمهم زارني في المستشفى والبيت، لم أستطع أن أروي لهم كل التفاصيل. ما إن تعلّمتُ الخروج من البيت وحدي حتى زُرت أسرة «حاتم الأمين» وطلبتُ له العفو من والديه، كانت لحظات قاسية عليهما وأنا أتلو عليهما وصيّته. ردّدت الزيارة إلى معظم الأسَر، حتى أهل «جمعة ناصر» بكوستي حي الرديف وصلتُهم. تحرّكت مع أُسَر الضحايا نلهث وراء التعويضات، من مكتب السفريات إلى القنصلية الليبية، مروراً بالنائب العام ودار القضاء والقدر، مماطلات ووعود، لنستلم مبالغ لا تساوي قيمة الأمتعة التي ضاعت في الصحراء، دعك من الأرواح. حتى الصحف غير المنحازة لم تُنصفنا، صحيفة واحدة نشرت أسماء الضحايا مرفقة بصورة تمّ تحميضها بعد العثور على كاميرا «سلمى عمر»، وكان اسمي بالخطأ ضمن الموتى.
كنتُ على موعدٍ مع مفاجأ ة: أثناء وجودي داخل المستشفى إذا بشخص يزورني، أتمعّنه جيداً، رأيته سابقاً في مكان ما، لم أتذكّره ولكن عندما نظرتُ إلى طفلته التي يحملها كانت هي الطفلة «سناء أحمد الجيلي»، احتضنتها ورُحتُ أبكي حتى أوشكت أن يُغمَى عليّ من الإعياء. بعدها حكى لي والدها الذي تخَلّف في سوق الشاحنات مع الأمتعة التي رفض السائق الليبي أن يضعها ضمن سفريّتنا، بعد ثلاثة أيام وَجَد شاحنة أخرى، وعندما وصل إلى أمدرمان كان يتوقّع وصول زوجته وابنته قبله، ولكن بعد مرور أسبوع، بدأ يراوده إحساس بأن مكروهاً قد أصاب شاحنتنا، ظلّ يرابط يومياً أمام مكتب السفريات، وأصبح يرَى طفلته في منامه تصرخ وتلوّح له بيدها لكن شيئاً ما يجرّها إلى الوراء. وصل به الأمر هو وأشقاؤه وأبناء عمومته إلى تهديد مكتب السفريات، حتى أرسل المكتب شاحنة وعربة رباعيّة الدفع للبحث عن الشاحنة المفقودة، ويبدو أنّ العاصفة الهوجاء لم تَحسب حساباً عندما حمَلت معها بعض الملابس والأشياء وقذفت بها بعيداً، كانت علامات إرشاد للوصول إلى الشاحنة المنكوبة. كان أحد أعمام الطفلة «سناء» برتبة عالية في الجيش لذلك كنّا بعد ساعات من اكتشافنا في العناية المركّزة بمستشفى السلاح الطبي.
زُرتُ حي السكة حديد، لم يتعرّف عليّ أحد، لم أستطيع الاقتراب من أبواب أحد البيوت، كأنني أزورُ معالمَ تاريخية، وقفتُ أتحايل على عَبرتي حتى لا تَفضحني، المكان عبارة عن آثار معركة خاسرة للطرفين، المحطة مهجورة، عربات القطار مهشّمة تقف على قضبان مدفونة، حتى أعشاب الخريف اختفت، صعلوك المحطّة نُفّذت فيه العقوبة الحدّية، قُطِعَت ذراعه اليمنى، تصدّع مبنى الملوينة ونُهبَت محتوياته وراح حمَام المخازن يعشّعش بداخلها، تحوَّل مكتب البريد والتلغراف إلى مطعم بائس، صار مكان استراحة السوّاقيين ورشةً لصيانة السيارات، تحت شجرة اللّبَخ ثلاث بائعات شاي وجمهور من العطَالة منتصرون بإذن قراءة الصحف، الطقس قيّاظ، أصبحت الشمس أشَدّ قسوةً مما كانت عليه. البيوت التي قاومت بشراسة تهالكت أبوابها متّكئة على محنة، اضمحلّت الحوائط، سُحبَت بعض الفلنكات من تحت القضيب واستُخدِمت حتماً في أماكن لا تخصّها، عربة درجة أولى لا أثر لها، بيوت القطاطي خُسف بها لينطرح مكانها شارع أسفلت يؤدّي إلى بيت الوالي. حديقة بيت المفتش قُطعت أشجارها وحُوّلت إلى مكاتب سفريات برّية. لا أثَر للشمّاشة، لا رائحة للأصدقاء. وقفتُ أمام الصنَفور، أسلاكه ممزّقة، بعضها مدفون تحت التراب، انحنيتُ أمدّ لها يد العون، شعرتُ برجفة، زمّة نفَس، اسنَدتُ ظهرى إلى سلّم الصنَفور، لحظتها اقترَب منّي شابّان في مثل عمرى تقريباً، توقّعتُ أنهما من الأصدقاء، كانت تحيّتهما مقتضَبة ثم صوّب أحدهما نحوى أسئلةً متتاليةً عن سبب وقفتي تحت الصنَفور.
ـــ والله عندي ذكريات هنا، جيت اتفقّدها.
ـــ معليش يا أبو الشباب، ممنوع الوقوف والتجوّل في المنطقة دي.
شعرتُ بطعنة حقَارة حادّة ثم بدأَتْ في تحريض الدموع، أخفيتُ وجهي عنهما داخل بُقجة حسرة، تِيه وضياع، غادرتُ المكان. رجعتُ سريعاً وأنا خائف، أرتجف، لا أدري ماذا أصابني؟.
أشتاق أحياناً إلى بيت العزّابة في شارع سوق الضّلام، أستدعي حتى الروائح الغريبة المتقلّبة، أعبّئ بها صدري، وكأنما بها «نيكوتين» يتسرّب إلى مجاري الذهن، يفتح باب صالة الذاكرة الداخلي، ألمَح «علي دين» جالساً وسط الحوش المربّع على كرسي حديد، بيده كأس عرَقي رفيق، وأمامه طاولة صغيرة عليها المكوّنات الأولية لوجبة العشاء، وما زالت أشعّة الشمس تَركّ على حبل الغسيل، أتيقّن لحظتها من أننا موعودون الليلة بعشاء شهي؛ دمعة مُسَبَّكة، وذكريات دامعة، تبدأ متواريةً خلف عقوبة إعدام البصل، ويرفع من حساسيّتها «كاس ضربة البداية»، أو «كاس الثقة» بالنفس، لقد ابتكر «علي دين» هذه التسميَة الجديدة ليلة انفعل فيه «نصر الدين الترزي» وأغلق الكتاب موجّهاً إليه انتقادات لاذعة:
ــ ثِق في نفسك أولاً، عشان تتيح لينا مجال نثق فيك.
ــ إذن يا دين أولاً سأشرب كاس الثقة بالنفس، عشان أستحملك.
إنهما شخصيّتان مختلفتان حدّ التناقض، وفي حالة تصادُم مُتوالد، ولكنْ بينهما حبّ سرّي برتبة رفيعة المشاعر، وُدّ خفيّ لا يَخضع لبروتوكولات الصداقة الطبيعية، لا يُرَى بالإحساس المجرّد، أحياناً كنتُ ألمح وَمضاته في ذروة المناكفة اليومية. لا يحتمل أحدُهما غياب الآخر. تأخُّر «علي دين» أثناء سعيه الليليّ لهاثاً وراء العرَقي يَعتقل ذهن «نصر الدين»، تتبرّأ منه القراءة، يبدأ بالغمغمة، يمرّ الوقت ليكبس عليه القلق، يؤدّي مناسك التوتّر، الطوَاف في الحوش المربّع، السعي بين الباب والصالة، الوقوف بالعتبة، ينفعل، يهيج، ويغتاظ، يرجمه باللعنات، يسخط ويسبّه في الغياب، يَمْعَط منه صفة المسؤولية، حبّ غير معلن، يحيل الأبَ وابنَه الوحيد إلى إحساس متوهّج في لحظة انعدام الجاذبية. أتذكّر اليوم الذي قُبض فيه على «نصر الدين» و«محمد التشادي»، كنتُ مرعوباً فلم أتابع سلوك «علي دين» ولكن في الصباح سمعتُ صوته يجهش داخل الحمام. ودائماً عندما أرَى «علي دين» جالساً وسط الحوش، وأمامه معروضات العشاء القادم، وبيده كأس عرَقي مسجون، تغمرني فرحة طفولية، عبثاً أحاول أن أُخفِي ابتسامتي، أتناول كرسيّاً مُعاقاً أسنده على الحائط مستلفاً له أرجلاً خلفيّة بدل فاقد، وأتّكِئ على مسند من البهجة. تبدأ الدراما الحقيقية بعد أن يُطلق سراح الكأس ويَدلقه في جوفه «كاس المواجهة» لحظتها تكون «الحَلّة» وذاكرته على نار هادئة.
ــ تعرف يا دين معظم الشعوب العربية دي، تعشق القوَادة وإنتاج الضرَر.
يدخل بعدها في مرحلة الحزن الإضافي، يتستّر على دموعه بلعنات داعرة، يصوّبها نحو أهدافٍ غائبة. ظللتُ أستنشق ذكرياتهم يومياً.
تعرّفتُ على أسرة «سلمى عمر» احتضنوني، طوّقوني بإحساس يُنتج العَبرة، رُحتُ أزورهم باستمرار حتى نَمَت بيني وبينهم ضحكة كانت يابسة، تحوّلت حياتهم مثل كل الأسَر السودانية، عليهم أن يكدحوا من أجل العيش، «عم عمر»؛ والدها، شارك شقيقه في محلّ لبيع الإسبيرات، وشقيقتها الوحيدة «هالة عمر» أصبحت موظّفة في إحدى الشركات ونشأت بيننا صداقة. أصبحت أشعر بالراحة في بيتهم، والدتها «سكينة» تغمرني بحنان مفرط، أحياناً لا أجد له مبرّراً، تحتفي بحضوري، تطبخ لي مكرونة بالطريقة الليبية، حتى أصبحتُ جزءاً من هذه الأسرة. في إحدى المرّات وجدتُ «هالة عمر» وحدها في المنزل، حدَث ذلك في يوم ظهيرة مُترهِّلة بكتمَة الحرّ، فتحَت لي الباب وكانت خارجة للتوّ من الحمام، مبتلّة حدّ الاشتهاء، وما إن عرفتُ أنها وحدها في البيت حتى قرّرتُ المغادرة ولكنها أبطأت مفعول النيّة:
ــ تمشي وين؟، ماما عاملة ليك كسرة بملاح رهيب.
دخلتُ معها إلى المطبخ، رُحتُ أتأمّلها بحافة شفتي، كانت رائحة أنوثتها شهيّة، ابتلعتُها قُبلة واحدة، انهار جسدها على صدري وتشبّثَت بملابسي مغمضة عينيها وتهلوس بتمتمات غير مفهومة. قفزتُ على أنوثتها بلا طوق نجاة، سبَحتُ إلى مسافات غير إقليمية، حتّى صدرَت عنها تأوّهات الخطر. دفعَتنا موجةٌ نحو يابسة تقف عليها أقدام القيَم. تزوّجنا سريعاً قبل أن يُداهمنا التردّد، قام والدها بكلّ مراسم الزواج، واعتبرَني ابنه لأنتقل وأقيم معهم في بيت كبير هو ثمرة غربته الطويلة. راحتت عطالتي عن العمل تمدّ أظافرها نحو حياتي الزوجية، أصبحت «هالة» من هُواة الانتقادات، لا تكفّ عن الاقتراحات، أزوغ من مواجهتها، أدُور في الخرطوم بلا هدف، لا شيء يحركّني من الداخل، لا أكترث. ولكن أشعر بقلبي خفيفاً يضخّ الدمَ بلا ضغينة، لم أعد أحمل كراهية لأحد. ذهبتُ في إحدى المرات لرؤية صديقي «عصام عبد الفتاح» الذي أصبح ضابطاً في الأمن الداخلي، وبينما أنا في مكتبة أرتشف قهوتي دخَل علينا أحد أهمّ الذين أحبّهم «هشام النور» يرتدى ملابس أنيقة، ارتميتُ بأحضانه، لكنه تعامَل معي بجفاء واختصَرني في إحساسه، ثم خرَج دون أن يصرّح بسبب زيارته، أعتقد أنه يتعامل معي كمعتوه، أو ربما خاف أن أتسوّله مساعدة، ولكن «عصام عبد الفتاح» أزاح عني الغشاوة:
ــ صاحبك لعبها صاح، أصبح شخصية مهمة في الحكومة والكورة.
لم أُصَب بأيّ رَدّ فعل عدائي تجاه ذلك، ظلّ إحساسي به كما هو.
حاصرَتني زوجتي «هالة» ببطنها المنتفخة في أحد أركان المسؤولية لكي أقابل أحد الأغنياء الجدد، رجل شَبّ على النعمة قبل أن يَشيب، له صلة قرابة مع والدتها، له عدة شركات تحاصر الاقتصاد، ووعَد بتوظيفي، وعندما سألني عن المؤهّلات، لم يَرَ سوى عاهات، طلَب مني تعلُّم قيادة السيارات، وقال إنه سيستخرج لي رخصة قيادة بأسرع ما يمكن، لأستلم سيارة تابعة لإحدى شركاته مهمتها نظافة العاصمة والمباني الحكومية المهمة، شرَح لي وظيفتي بأنها تنحصر في الإشراف على العمّال ومراقبة الجودة وتوزيع مواد النظافة عليهم، في كلّ المرافق الحكومية، لحظتها سألتُه إن كان لديه عمّال نظافة في مطار الخرطوم.
ــ أكيد، عندي عقد لعشر سنوات لنظافة صالة المغادرة والوصول.
أخبرتُه بأني اشتغلت عامل نظافة في مطار بنغازي، وأجيد هذه الوظيفة. اندهش من إصراري على رفض وظيفة مراقب جودة وتمسّكي بمهنة عامل نظافة، وراوده الشكّ في أنني أنوي شيئاً ما، ولكنه وافق في نهاية الأمر بعد أن أوصى بمراقبتي من المشرف على الصالة، لأستلم عملي في اليوم التالي. أوّل ما بدأتُ بتنظيفه كان ذلك الركن الذي تبوّلت به سابقاً وأنا مغادرٌ إلى ليبيا، وأصبحتُ أبدأ منه مسح الصالة. خرجت عفاريت زوجتي وكادت أن تلد قبل يومها عندما عرفت أنني عامل نظافة في المطار، تقيّأت ما بداخلها من ترسّبات، اتهمَتني بأنني معتوه، أو ربما أفكّر في الهروب بإحدى الطائرات، أو ربما أندسّ بين الأمتعة. بعدها أصبحنا كأيّ زوجَين مملّين. تذكّرت حينها «نصر الدين الترزي» عندما قال لي: «نحن جيل لن نتزوّج حبيباتنا ولن نحبّ زوجاتنا». بعدها أنجبنا طفلة جميلة، تشبه شقيقتي «نجاة»، كنتُ أنوي أن أطلِق عليها اسم «ناهد»، ولكن زوجتي اقترحَت أن نسمّيها «سلمى»على خالتها المرحومة، قطعاً لم أعترض، وبعد ذلك بأسبوع فقط التقيتُ «ناهد عبد الهادي» في صالة المغادرة مع زوجها وطفلتهما. كان لقاءً في ظروف غير قابلة للكسر، كان إعادة لمشهد قديم مع استبدال المواقع.
كنتُ دائماً، أثناء نظافة الصالة، أتوقّف عن العمل عند سماعي النداء الأخير للركّاب، أُسرِع معهم لأقف بالقرب من البوّابة، أحتَضن أدوات النظافة، وأصبح كجزء من مراقبي الجوازات أو كأنني تابع لإحدى شركات الخطوط، أوزّع للركّاب الابتسامات، أودّعهم بكلّ صدق، متمنّياً لهم رحلة سعيدة، وأدعو لهم في سرّي: أن لا يُصيبهم مكروه، وكان البعض يتجاوب معي، لكن بعض رجال الأمن وموظفي الجوازات امتعضوا من تصرّفاتي وابتساماتي المجانية، وعندما استفسروا جاءهم الردّ: إنه مريض نفسياً، فتركوني أمارس إنسانيّتي بحرّية، وأصابت جرثومتي بعضهم وخاصة عندما شاهدوا رَدّ فعل المسافرين. فعلاً كما عبّر «نصر الدين الترزي»: «افتَح نفقاً جديداً واترُك أثراً للآخرين ليَتبَعوك». ظللتُ أفعل ذلك بصدق. لم أعد أكرَه أحداً، قلبي ينافس ابتسامات طفلتي «سلمى». في أحد الأيام، طلبوا مني نظافة صالة كبار الزوّار، لأن هناك استقبالاً رسمياً من الحكومة لأحد المفرَج عنهم من سجن قوانتنامو، استطعتُ أن أصافحه بلا ضغينة، أصافحه كآخر المهمّين في هذا الوطن.
لم تكن لديّ إمكانات مادية لشراء حِفَاظات لطفلتي «سلمى»، كي تحافظ على نظافتها، لذلك أجتهد في وظيفتي كعامل للنظافة، علّها تتعلّم أن تحبو وتضع أولى خطواتها على أماكن ليست بها هزائم ولا أوساخ.
.......................
ما زلتُ حتى الآن في مكاني، لا أدري، هل أغادر أم أواصل في نظافة هذا المكان من الأوساخ؟.
والآن قد أتممتُ لكم روايتي، ورضيتُ لكم قراءة ممتعة.
عماد برّاكة
نهاية مارس 2014م
أسلاو، بريطانيا
صورة لبعض ركاب الشاحنة المفقودة بعدسة «سلمى عمر»، نشرَتها إحدى الصحف مرفقة مع أسماء الركاب الذين لقوا حتفهم:
1. خضر عوض الله «مهندس».
2. إيهاب خضر «طفل».
3. أوّاب خضر «طفل».
4. حاتم الأمين «موظف».
5. الفاتح الطيب «مفقود».
6. نزار بخيت «عامل».
7. فائز مدني.
8. سهير علم الدين «ربّة منزل».
9. عازة حيدر «طفلة».
10. جمال حيدر «طفل».
11. جمعة ناصر.
12. أسامة سعيد «عامل».
13. عادل الجزولي «موظف».
14. مي عادل «طفلة».
15. تيسير التجاني.
16. عادل التجاني.
17. عفاف النور «ربّة منزل».
18. وليد المكاشفي.
19. نزار المكاشفي.
20. سلمى عمر «طالبة».
21. يوسف العماري «السائق، ليبيّ الجنسية».
22. عثمان الريح.
23. جمال عز الدين.
حاشية:
• مبنى الملوينة: برج مرتفع في طرفي المحطة، وهو غرفة التحكّم في حركة القطارات، منها يُحدّد للقطار القضيب الذي يسلكه، وبها مفاتيح التحويلة متصلة بأسلاك خارجية.
• المحوَلجي: العامل الذي يحدّد مسار القطارات من كشك الملوينة، وأيضاً يقوم بعملية المناورة مع سائق الوردية داخل المحطة.
• عمال الدريسة: من أهمّ عمّال السكة حديد، يقع على عاتقهم صيانة القضيب يومياً بين المحطات، يتنقّلون بوسيلة نقل مميّزة تسير على القضيب وتسمّى «الترولّي».
• الفلَنكات: مفردها فلَنكة، وهي أخشاب قوية يُثبّت عليها قضيب السكة الحديدية.
• الصنَفور: أو السنَفور أو السيمافود أو السمافور، هو إشارة مرور للقطارات، عمود حديديّ ملتحم بسلّم في أعلى نهايته حديدة أفقية مطلية بلون أحمر وخطّ أبيض، عندما يتمّ تنكيس هذه الحديدة وتصبح على زاوية حادّة يكون هذا إذناً للقطار بدخول المحطة.
• العطشقي: هو الاسم القديم لمساعد سائق القطار، وأحياناً يصبح سائق الوردية.
• الخالدي: مطرب سوداني ذو صوت متفرّد.
• القَطَاطي: مفردها قُطّيّة، مبني مخروطي بناه الإنجليز من الطوب والأسمنت مساكن لصغار موظّفي وعمال وبوليس السكك الحديدية.
• البرّاد: أحد فنيّي ورشة السكك الحديدية ومن مهامه الصيانة.
• المَرِيسة: هي «الجعة»، مشروب شعبي مُسْكر يُصنع يدوياً من الذرة.
• القَمَرَة: غرفة خاصة داخل عربة القطار في الدرجات السياحية.
• البَاكِم: جهاز الهواء الخاص بفرامل القطار، خرطوم ضخم يصل كلّ عربة بالتي تليها.
• المنامة: غرفة استراحة خاصة بسائقي القطار.
• التابلت: مثلّث مربوط على سلك دائري، يسلّمة ناظر المحطة إلى مساعد السوّاق وبعدها يتحرّك القطار، مهمّته التأكّد من خلوّ الخطّ من قطار آخر وسلامة الطريق.
• عربة الفرملة: العربة الأخيرة من القطار... بها جهاز تفريغ الهواء الباكم لمساعدة القطار على التوقف
• الأمباشَا: أو الامباشي رتبة عسكرية «تركية» بقيَت مستخدمة في السودان إلى عهد قريب.
• تبستي وأوزو: منطقتان بين الحدود الليبية التشادية شهدتا معارك بين الدولتين.
• برلة برلة: لعبة أطفال ليلية.
• البت «البد» يا لبوت: لعبة أطفال تقوم على أن يتخفّى أحدهم ويحاول الآخرون العثور عليه.
• شِليل: لعبة أطفال ليلية، يقذفون عظمة صغيرة، ومن يجدها ويصل بها إلى المكان المحدّد هو الفائز.
• الترُمْبيل: عربة ديزل صفراء اللون تسير على طريق القطار، مخصّصة للسفريات السريعة.