منتديات روضة الكتب

منتديات روضة الكتب (http://raudabooks.com/vb/index.php)
-   الروايات العربية والعالمية (http://raudabooks.com/vb/forumdisplay.php?f=44)
-   -   اللعنة (http://raudabooks.com/vb/showthread.php?t=8349)

AshganMohamed 01-17-2020 02:21 AM

اللعنة
 
رواية

اللعنة
شروق إلهامى


مراجعة : أحمد سليم



(1)


فتحت الباب بهدوء حتى لا أزعج أهلى النائمين، لم أضء النور، دخلت وأغلقت الباب برفق.
- لسة بدرى يا باشا.
باغتنى الصوت فجأة فى الظلام، إنه صوت أبي، فتحت النور فالمواجهة فى الظلام ليست أمراً محبباً لي، فوجدته جالساً على الكرسى ويتضح من جلسته أنه كان ينتظرني من فترة طويلة.

- إزيك يا بابا .. إيه اللى مسهرك كدا ؟
- مستنيك
- خير يا بابا .. فيه حاجة ؟

وقف أبي وهدوء ملامحه وصوته يبدوان كالهدوء الذي يسبق العاصفة .

- كنت فين ؟
- مع أصحابى
- بقولك كنت فين مش مع مين.
- عادى كنا بنتمشى فى وسط البلد.
- وسط البلد .. جميل .. وبعدين ؟
- وبعدين إيه ؟



- بص .. أنا ما فياش حيل طويل ومش هافضل أشد الكلام منك كلمة كلمة .. إنت عاجبك حالك دا ؟
- ما تخلى الكلام للصبح يا بابا.

ويبدو أنها كانت تلك القاضية .. علا صوت أبي بغضب قائلا :

- الصبح .. وأنت بتصحى الصبح ؟ .. ما انت هاتدخل دلوقتى تفتح الزفت بتاعك وتقعد على النت لبعد الفجر وتنام وتصحى على آخر النهار تاكل وتجرى على اصحابك الصايعين ومش هاشوف وشك.

كان طبيعى نتيجة لهذا الانفجار أن يستيقظ كل من في البيت وأظن جيراننا أيضا استيقظوا. ثوان ووجدت معنا كلا من أمي التي استيقظت لتعرف سبب هذا الضجيج واخوتى الذين خرجوا من فراشهم ليشاهدوا الأخ الأكبر فى مذبحة المماليك تلك. وبالطبع أنا صامت لأن أى كلمة أو أى عذر أو تعليل للحالة أو أسلوب حياتى لن يكون سوى جدلا فارغا سيزيد من حالة غضب أبي وسيطيل من زمن هذا الموقف السخيف فقررت أن أصمت وأنا أدعو الله أن ينتهى ذلك سريعا ... ويبدو أن السماء كانت مفتوحة والله قد قبل دعائى فدفع بملاكه الساكن فى بيتنا لينهى الأمر .

- أمي : صلي على النبي يا أبو أحمد .. الساعة 3 الصبح ومش هانصحى الجيران على صوتنا تعالى نام والصباح رباح .




ثم نظرت لي قائلة بصوت هادئ:

- وانت نام دلوقتى علشان عايزة أكلمك فى موضوع بكرة وما ينفعش سهر بعد دلوقتى.

نظرت لأبي المحدق فيّ بغضب وأومأت دون كلمات وتوجهت لغرفتى غير مبال بأحد .

أبي محق وأنا أُقدر غضبه ولكني غير قادر على فعل شيء، لقد ذهبت لمئات الشركات وهناك جملة يبدو أنها محفوظة قد سمعتها منهم جميعا " أسبوعين وهانتصل بيك نحدد لك ميعاد الأنترفيو " وقد صدق البعض منهم والباقى لا .. كما أن من قابلتهم كانت مقابلاتهم عقيمة عابثة، لا أدري أهي للبحث عن موظفين حقا أم مجرد وسيلة لاستغلال الوقت بمرح لهم ؟ أنا....

ترررن ترررن ... ترررن ترررن ... ترررن ترررن

طال رنين الهاتف ولم يرد أحد، يبدو أنهم ناموا، فرددت أنا:

- آلو .. مين معايا ؟
- .............
- خير !
- ............


- و ما حدش كسر الباب ؟
- ............
- طيب احنا جايين حالا

أغلقت الهاتف و طرقت باب غرفة أبي بقوة حتى سمعت صوته يسمح لى بالدخول.

- بابا إلحق عمتى آمال.
- مالها ؟
- فيه دخان خارج من بيتها.
- دخان ؟ .. مين قالك ؟
- جارتها اتصلت و قالتلى دا .

قام أبي بسرعة و بدأ يبدل ملابسه و أمى تشاهده فى ذهول صامت.

- و ما حدش خبط عليها أو كسر الباب أو اتصل بالمطافي ؟
- جارتها بتقول لي انها كانت بتتكلم في التليفون معاها من ربع ساعة وفجأة عمتي قالت لها إلحقيني أنا باتحرق فجريت علي شقتها وخبطت كتير وما سمعتش رد وجوزها مش فى البيت عشان تقولوا يكسر الباب وهى مش هاتخبط على حد فى ساعة زى دى وقالت انها اتصلت بالمطافي قبل ما تتصل بينا بس ماحدش جا.

- طيب تعال معايا.


من حسن الحظ أنى لم أبدل ملابسى بعد، ركبت السيارة وقدتها أنا لضعف نظر أبي ليلا ، وقدت بأسرع ما يمكننى دون أن أصل لحد الخطر.

عمتى آمال هى امرأة فى الخامسة والخمسين من عمرها عندها بنتان زوجتهما و سافرا مع زوجيهما .. إحداهما لأحد بلاد الخليج والأخرى لليبيا. أما ابنها فأنهى دراسته وأستغل بيع أبيه للبيت الذى يملكونه فى الشرقية وأخذ المال وسافر ليعمل ويعيش بألمانيا .. ويبدو أن أولادها كانوا الرابط الأخير بينها وبين زوجها فبعد سفر بناتها طلقها وتزوج من أخرى صغيرة السن ولكن ترك لها الشقة مع التزام بمبلغ مالي جيد شهريا كنفقة لها.

يبدو أن تلك وسيلتة لشكرها على عمرها معه .. هو على كل حال رجل ثرى نوعاً ما والشقة والمبلغ لن يكلفاه شيئا، ولكنه تركها للوحدة والندم والذكريات والأحزان.

وصلنا لأسفل المبنى الذي تسكن به فتركنا السيارة صف ثان وركضنا إلى شقتها بالدور الرابع وكان من الواضح أن المطافيء لم تأت بعد.

باب شقه عمتي من الطراز القديم جدا الذي به جزء زجاجي خلفه أسياخ حديديه ملتويه في شكل زخرفي والجزء الغير خشبي هذا كان ليتبينوا منه من الطارق (قبل اختراع العين السحريه) لذا كسرت الزجاج ومددت أصابعي بصعوبة شديدة بين الحديد لفتح الباب من الداخل بالضغط علي المزلاج، كنت سأكسر الباب لكن أبي منعني لتجنب الضجيج في هذا الوقت، فعلت ما أمر به رغم حيرتي واعتراضي ففتحت الباب ودخلنا،



كان هناك دخان أبيض كثيف يخرج من غرفة نومها مع رائحة غريبة لم أشم مثلها من قبل. دخلنا الغرفة ولكن الدخان كان يمنع رؤية أى شىء .. ظل أبي يناديها وأنا فتحت الشباك لأخرج الدخان .. ومرت نصف دقيقة حتى بدأت ملامح الغرفة تظهر وأذهلنا ما رأيناه حينها .. كانت الغرفة فارغة .. ولا يوجد أثر للنيران إلا علي الفراش وغطائه المحترق وعدة احتراقات خفيفة على الكرسي بجانبه كالاحتراقات التى تنتج من سقوط عقب كبريت أو سجارة على قماش. غطاء الفراش كان معظمه محترقا وهناك تراب كثير عليه والجزء غير المحترق منه مرتفع قليلا عن الفراش وكأنه يخفى شيئا أسفله.

اقتربت ببطء وحذر من السرير مشدوها من غرابة أن يحترق غطاء فراش دون أن تأكل النيران الغرفة أو على الأقل السرير.

خرج أبي من الغرفة ليبحث عن عمتى فى باقي الشقة بعد أن أطمأن أن عمتي ليست فى الغرفة التى حدث بها الحريق .. ولكننى ظللت فى مكانى أتأمل الفراش .. انتابنى فضول أن أعرف ماذا يخفى الجزء غير المحترق من الغطاء تحته .. مددت يدى بهدوء وحذر وكل ما يجول برأسي أن هناك شىء متأهب تحته ينتظر حتى ينقض على من يكشفه. اللعنة علي أفلام الخيال العلمي المرعبة التي أشاهدها. رفعت الغطاء بسرعة وأنا أقفز للخلف حتى أتحاشى هذا الشىء الذى يتأهب لي.

و لكن .. لم يحدث شيء .. فقط تناثر بعض التراب الذى كان على الغطاء نتيجة لرفعي له بسرعة. اقتربت من الفراش بهدوء وأنا أنظر بذعر لما كان مختبئا تحت الغطاء ..



كانا ساقين متجاورين غير متصلتين بجسد ما. ساقين ذوي ركبتين محترقتين وباقيهما لم يمسسه خدش . ساقين يرتديان جوربي عمتي المزركشة التي لا تنام بدونهما ولطالما ضحكت عليها وعليهما حين كنت أنام عندها.

تركت نفسي لأسقط علي أقرب كرسي بعد أن وهنت ساقاي حتي عن إيقافي. ماذا يحدث ؟ ما هاتان الساقان ؟ أتلك دعابة سخيفة ما ؟ لو كانت كذلك كيف أتت عمتي بهاتين الساقين والدخان الأبيض والرائحة الغريبة تلك ؟ وإن لم تكن، أحقا عمتي احترقت والباقي منها فقط ساقاها ؟ أكان آخر كلماتها " أنا أحترق " ؟ هل يمكن أن يحترق أي شخص ويعبأ بأن يخبر أحدا تليفونيا بذلك بدلا من الانشغال بإطفاء ذاته والصراخ ؟ نعم هي كانت مدخنة مؤخرا وربما سقطت السيجارة علي الفراش فأشعلته ولكن ليس بتلك السرعة يحدث الأمر، والساقان أعلاهما محترق فقط وباقيهما سليم فكيف ؟ كما أن ليس بتلك السرعه تصل لدرجة التفحم تلك. تفحم .. أهذا التراب الذي أثرته برفع الغطاء هو رماد عمتي ؟


لم أتمالك نفسي من الذعر ولم أناد أبي لأخبره عن ظنوني وهواجسي تلك ولكن فاجأني هو بصوته قائلا :


- أحمد عمتك شكلها مش هنا .. تعال بسرعة .. أمك اتصلت بيا بتقولي أنها بتتخنق.


(2)

جالسين في العزاء الثاني وصبي صغير يوزع القهوة علينا لتعب أمي، مر أسبوع على وفاة عمتي .. ساقيْها أو آخر ما تبقي منها ألصقت فيها في الأوراق الرسمية تهمة الانتحار حرقاً، و تم تجاهل مهاتفة الجارة التي تلقت استغاثة وتشكيكي لهم في أمر الانتحار حرقاً الذي لن يحدث بتلك السرعة وبهذا الشكل من قبل، حتي الطبيب الشرعي الذي حاولت التقرب منه أكثر لأفهم كان مندهشا ولكن لعدم وجود أدلة علي أي شيء سوي الاحتراق بالاضافة إلى سجائرها تم الأمر بهذا الشكل.


أبي يجلس في زاوية الغرفة ولا يسلم حتي على المعزيين فأنوب عنه وأعتذر لهم متحججاً بأنها كانت أخته المقربة ، والحقيقة إنه لم يكن له أخوات سواها وكان يزورها كل شهر ويتصل بها أسبوعياً فقط كما يستلزم الواجب في نظره. هو صامت من اليوم الذي تلى زيارتنا الليلية لها. يومها رحل أبي مسرعا لينقذ أمي بعد أن طلب الشرطة وتركني مع السيقان التي نبهته بها فلم يتقبل إنها لعمتي واتصل بالشرطة ليحققوا في الأمر وتركني في الشقة خوفاً من أن يسرق الشقة أحد بعد أن كسرنا زجاج بابها. عدت للغرفة أتأمل مجدداً وأنا غير واثق مما رأيت - أو هذا ما أأمله – ومثلما توقعت الأسوء لمشاهدتي الخيال العلمي تعلمت الحذر من الأفلام البوليسية، شخص عاطل وفاشل مثلي ماذا يتوقع أحد منه سوى تحقيق نفسه في صورة أبطاله المفضلين المحبوسين خلف الشاشة؟





لطالما بقيت عند عمتي في صغري فهي قريبتي الوحيدة من جهة أبي والوحيدة ككل التي تسكن العاصمة مثلنا .. ومؤخراً كانت ملاذي كلما طردني أبي أو قمت بمصيبة ما فاختبأت عندها .. لذا لم يقلقوا علي في البيت أبداً حين أختفي لعدة أيام. كان سعد ابنها كأخي وصديقي المفضل حتي هرب من جحيم البطالة الذي أعيشة يومياً وتركني بوعد أن يساعدني لألحق به يوماً ما ويبدو أن هذا اليوم لم ولن يأتي أو أن سعد نسي وعده.


أدري أن الشرطة ستأخذ وقتا حتى تأتي وسينحونني جانباً لمعاينة الغرفة وفي النهاية سيتذكرونني فقط للأسئلة التي لا تنتهي، لذا دخلت المطبخ وفتحت درجا معينا أدري أن عمتي كانت تضع بها قفازاتها البلاستيكية التي كانت تستخدمها أثناء التنظيف وعدت للغرفة بسرعة وبدأت في التنقيب بحرص بحيث لا أترك بصمات أو أحرك الأشياء الأساسية من أماكنها حتي لا أؤثر في نتائج التحقيق أو أطأ بقدمي علي رماد عمتي الحبيبة، فضولي كان أقوي مني وما حدث أغرب من أن يصدقه عقل ومؤكد لن أراه في حياتي مستقبلاً، وعلي كل حال كان ذلك سدى فوضعت القفازات في جيبي حتي لا تكون دليلا مضللا يقود لي وجلست في انتظار الشرطة.


الأيام التي تلت ذلك أكد الطبيب الشرعي أن الساقين لعمتي وأعلن أنها ماتت محترقة ثم بدل السبب من حادثة غير مقصودة لانتحار بعد أن علم من الجارة أنها كانت تشكو الوحدة وتتمنى الموت، بعد فترة جاء زوج عمتي استلم الشقة دون أن يأبه بما حدث، وأقام عزاء لم يحضره سواي انا وبعض الجيران وهو نفسه لم يحضره كأنه قد انهي به كل التزاماته نحوها.


وأبي طوال الوقت مع أمي التي دخلت في غيبوبة بلا سبب منذ هذا اليوم الشنيع وتفاجأ بموت أخته بعدها بأربعة أيام – تمكنت وقتها من زيارة أمي - فأصر أن يقيم العزاء مجدداً في بيتنا وغالباً ذلك لشعوره بالذنب لتقصيره نحوها في حياتها وعدم التعرف عليها أو الوقوف معها – مع جثتها – بعد موتها.

غياب أمي عن البيت يشعرني بحالة من النقص والفراغ الذي أكده أبي بصمته، بعد أربعة أيام من حجزها تمكنت بصعوبة من زيارتها وهالني شحوبها ولم أصل مع الأطباء الحائرين لسبب لغيبوبتها رغم أنها كانت في كامل صحتها – كما أظن – قبلها.


أبلغتهم أن آخر كلماتها كانت أنها تشعر بالاختناق وكان صوتها به استغاثة ولكن ما زادهم كلامي إلا تخبطاً, وحيرة إخوتي لأننا في فترة إجازتهم الدراسية كانوا يأتون لها يوميا من الصباح الباكر مع بداية موعد الزيارة حتي نهايته.


ندى أختي في العشرين من عمرها كانت تأتي تتأمل أمي فقط في صمت وحزن ثم بعد أيام أيقنت أن الوضع قد يطول فبدأت تحكي لها يومياً عن أحوالنا وكأنها واعية، أما عادل أخي الصغير في التاسعة كان في البداية يبكي فوق ذراعها ثم بعدها أصبح يبكي في حضن ندى ثم حين لم يتبدل الحال أصبح يجلس صامتا فقط. تلك التفاصيل حكت ندى لي بعضها وعشت بعضها معهم. كنا جميعاً نرحل في الثالثة بعد انتهاء وقت الزيارة لنعود للمنزل لتبدأ ندى في تغطية غياب أمي سواءا في الطعام أو النظافة بكل أشكالها.





لاحظت طوال العزاء - الذي امتد لثلاث ساعات رغم توافد الرجال علي الصالة ورحيلهم أن هناك شاب يرتدي جينز وقميص أسود وعيناه فاتحة - لم أحدد لونها لبعده عني - ينظر لي، لا أعرفه ولم ألتقه في حياتي من قبل، أتي أول المعزين وظل جالساً محدقاً بي دون أن يبالي بأحد حتي أنهيت دوري في تغطية أبي وأفقت من شرودي الذي طال. قام حين انتبهت له وأظهرت له أني مندهش من تحديقه وتوجه لي وسلم علي قائلاً "البقاء لله" ورحل تاركاً في يدي وريقة ملفوفة بدقة كانت بين أصابعه حتى لا ينتبه لها أحد فدسستها في جيبي حتي انتهي العزاء تماماً بعد نصف ساعة ورحل الناس ودخل أبي لغرفته في صمت كالمعتاد فدخلت غرفتي وفتحتها ووجدت مكتوباً بها بخط أحمر وبشكل مبعثر كلاما جعلني أنزل ركضاً وأنا أسب نفسي على عدم قراءتها مبكراً وكان ما توقعته قد حدث والشارع فارغاً تماماً من الناس فعدت مجدداً وأعدت قراءتها وأنا أحاول أن أفهم شيئاً ولكن بلا جدوى فكل ما هو مكتوب كان :



" أمك كانت مع عمتك فاتخنقت ... عايز تعرف إيه اللي حصل وتنقذها إفتح مخك وهاتلاقي في نفسك اللي ماتتخيلهوش بس لازم تعرف إنك هاتهد حياتك القديمة كلها .... حصلني " .




(3)

أسبوع آخر مر، وبقيت أمي علي حالها، وبقي أبي في صمته، وأصبح بيتنا كبيت الأموات، وأنا كما كنت قديماً أستيقظ ظهراً وأهرب من البيت يومياً حتي بعد الواحدة صباحاً فأعود وهم نائمين.

لا أستغل صمت أبي للاستمرار في أسلوب حياتي المرفوض منه ولكن ما هي البدائل المتاحة والوضع صار أسوء الآن بغياب أمي وعمتي ملاذيّ في الحياة.

كنت أزور أمي من وقت لآخر فأقابل إخوتي اللذَين لا أشاهدهما في البيت، أخي ينظر لي بغضب وكأنني السبب فيما آل إليه بيتنا، وأختي عيناها فيها صمت حزين لم أجرؤ أبداً علي كسره خاصة مؤخراً، أما أبي فلا أقابله أبداً ولحالة الصمت التي أصبحنا عليها لم أسأل عنه إخوتي. فقط أستمع إلى صوت أنفاسه أثناء النوم في بعض الليالي التي أعود فيها وأنا مشتاق لرؤيته. وحدة وفراغ أشد يحيط بي – ومؤكد إخوتي كذلك – الآن ولكني في أوهن حالاتي خاصة بدون صديق أو شخص أحكي معه عن أي شيء أو أفكر معه بصوت عال .

لم أعد أجلس مع أصحابي منذ اليوم الذي تلا يوم العزاء، فقد سألتهم جميعاً حين التقيتهم على المقهي مساءاً عن الفتى ذي العيون الفاتحة فلم يفدني أحد، وحين حكيت لهم عما حدث وأفكاري وجدت في عيونهم نظرات شفقة جرحتني، فقررت ألا أجلس معهم لفترة حتي أجمع شتات نفسي.




جلست لثلاثة أيام متتالية بعدها في الشارع في مكان غير واضح لعلي أجد هذا الفتي الذي قد يعود قاصدني مجدداً رغم تجاهلي له في المرة السابقة، وكان مكاني هذا ليحجبني عن عيون أبي أو إخوتي إذا نزلوا في أي وقت من البيت، ولكن لم يحجبني عن باقي الجيران الذين أقسم بعضهم علي ضياع عقلي بعد مرض أمي وموت عمتي والعزاء المتأخر جداً مع انعزال أبي وصمته وامتناعه حتي عن الرد على أي سلام يوجه له من أي من جيراننا.


قرأت الورقة مئات المرات فلم أصل لشيء ثم جائت لي فكرة فلم أتردد، ذهبت إلى خطاط لعله يقول لي أي شيء مثال نوع الحبر يدل علي كذا أو أن الخط يدل علي شيء من التخبط أو أنه خط أنثي أو أي مما نسمع عنه في أفلام الجاسوسية فنظر لي بدهشة وقال لي أنها مجرد وريقة كُتب فوقها بسرعة بقلم جاف أحمر تلك الجملة ولا يوجد فيها شيء مميز أو مريب، فزادني إحباطاً.


مؤخراً لاحظت تأخر ذهاب إخوتي لأمي فلم يعودوا يذهبون من الصباح الباكر بل تحرص أختي علي تنظيف البيت وإفطار أبي ثم تحضر طعام الغداء وتتركه في المطبخ بحيث إن جعت آكل منه بشكل مباشر وهم في المستشفي، ثم وهما عائدان من المستشفي يقف الأمر علي تسخينه فقط وليس إعداده من البداية.





فاستغللت أنا هذا ولم أعد للبيت وبقيت في الشارع وحدي في المقهي الجديد الغريب الذي اعتدته للهروب من أصدقائي، ثم ذهبت لأمي مع بدإيه موعد الزيارة ورغم عني حكيت لها كل ما حدث وأنفعلت ووضعت رأسي علي صدرها وأنا أجهش بالبكاء.

وظللت هكذا لفترة حتي هدأت تماما ثم بدأت أنصت فسمعت صوت نبضاتها بداخلها وليس في هذا الجهاز السقيم ذي الصافرة المرعبة فشكرت الله علي أنها مازالت علي قيد الحياة رغم الغيبوبة تلك وانه ما زال هناك أمل في استيقاظها.

رفعت رأسي ونظرت نحوها وبدأت أنتبه لما لم ألاحظه من قبل، وجودها علي تلك الأجهزة التي تغذي جسدها إجبارياً أعاد التورد إلى وجنتيها والحيوية لوجهها الشاحب مؤخراً في اخر شهر قبل الحادثة. أتذكر أني سألتها مرة في تلك الفترة لم هي شاحبة هكذا فقالت "إرهاق البيت .. لا تهتم" ليتني أهتممت يا أمي لربما كنتِ معي الآن. كم أشتاقك يا أمي، لم أعرف قيمتك لي ولعائلتنا إلا بعد هذا الغياب القاسي، آسف. ثم اقتربت من أذنها وقلت ضاحكاً "ربما تاخرت ولكني أكتشفت سرك أنت وعمتي الله يرحمها يا أمي ."

ولدهشتي ارتفع صوت جهاز النبض بشكل متسارع أخافني فركضت خارج الغرفة لأنادي أي طبيب حتي جاء أحدهم معي بسرعة وأعطي أمي مهدئاً فعاد صوت الجهاز يدق برتابة كما السابق فسألت الطبيب بقلق عما حدث، فقال "اضطراب في نبضات القلب ولكن الحمد لله تم تداركة" ثم خرج مبتسماً قائلاً "أحسنت عملاً " وتركني وحدي في الغرفة مع أمي الممددة أمامي في غيبوبة تخفي أكثر مما تعلن.




جلست في زاوية الغرفة أرمق أمي في صمت، هل تسمعني ؟ وهل بعد المهدئ إذا أكملت كلامي ستسمعني مجدداً ؟ وهل التوتر هذا ناتج عما قلت أم مجرد مصادفة ؟ نظرت إلى ساعة يدي ووجدت أن الوقت مر بسرعة وكاد أخوتي أن يأتوا لذا رحلت في عجل وأنا أنوي أن أكتشف ما حدث مهما تكلف الأمر.


نظرت في ساعتي بعد أن غادرت المستشفي، أنها الثانية عشرة ظهراً، مؤكد إخوتي في طريقهم للمستشفي حالاً وأبي حمل صمته معه لعمله الذي لا أدري كيف هم فيه صابرون عليه بوضعه الأبكم هذا. وصلت للمنزل في سرعة، كم هو رائع وهو فارغ صباحاً، يمكنني أن أفعل كل ما أرغب الآن، أشعر بالجوع ولكنني سأؤجله حتي أنهي مهمتي.


توجهت لمكتبة البيت وتفحصت كتبها بحثاً عن أي كتاب عن موضوع غير مألوف فلم أجد سوي الكتب الدينية وكتب مدرسة أخي وكتب كلية أختي وبعض الروايات القديمة التي كانت تقرأها أمي أمامي وتقرأها أختي الآن، وفي الضلفة السفلية مجموعات عليها غبار من شرائط الفيديو والكاسيت الذي لم يعد يستخدمها أحد الآن ولكنها تمثل التراث والتاريخ لوالديّ فلم يتخليا عنها أبداً.






خرجت من المكتبة والغبار يملأ كفيّ فغسلتهما لأن المرحلة الثانية تحتاج دقة ولا يجب أن يبقي فيها أي أثر. دخلت غرفة أبويّ وبحثت في كل أدراجها وضلفها وقلبت الصناديق التي تحت السرير والتي فوق الدولاب وخرجت من تلك العملية خالي الوفاض لا أحمل سوي ابتسامة واسعة، بعد أن شاهدت صور العائلة منذ طفولتنا حتي الآن وتذكرت الكثير من الذكريات التي أشعرتني أن حياتي لم تكن فارغة كما كنت أظن.


بعد فشل المرحلة الأولي والثانية من عملية البحث فهناك مرحلة ثالثة ولكنها ليست هنا رغم أن لدخولها يجب أن أبحث في البداية هنا. دخلت لغرفتي ركضاً وقلبت أدراجي تحت السرير والتي تحتوي أسراري من أيام الإعدادية ولم أفتحها منذ سنوات لبقائي منذ الفتره الجامعية في الخارج أكثر مما في غرفتي ، كنت أبحث عن شيء صغير لن يظهر بسرعة فقلبت الدرجين علي الأرض وبدأت في إعادة محتوياتهما بسرعة وأنا أدرك أن ما أبحث عنه سألتقطه وألاحظه هكذا أسرع وقد كان. علبة سوداء قطيفة معطرة حتي الآن برائحة الريحان كما هي رائحة كفي عمتي عاشقة هذا النبات المعطر شُرفَتِها دائماً.


فتحتها و أخرجت منها مفتاح شقتها الذي أعطته لي من سنين للجوء لبيتها ودخوله في أي وقت حتي لو كانت مسافرة أو نزلت لتشتري أي شيء، لا أظن زوجها يقيم فيها مجدداً بعد وفاتها أو أجرها بهذة السرعة.









وضعت المفتاح في جيبي وتركت باقي محتويات الادراج علي الارض ولكن قبل أن أترك الغرفة وجدت طرف ورقة أحمر يبرز من تحت وسادتي فسحبته، وجدته ظرف أحمر متوسط الحجم بداخله ورقة وصورة قديمة تجمع عمتي بأمي وأختي وهي رضيعة – و قد عرفتها من ردائها الوردي التي أصرت علي الاحتفاظ به حتي الآن بدون سبب مقنع - وفتي صغير ملون العينين رأيت شبيهه الكبير في العزاء ومكتوب علي ظهرها "سري للغاية".



أما الورقة فبها كلام كثير بالخط الأحمر وقبل أن أقرأ سمعت صوت الباب يغلق بشدة رغم أني لم أسمعه يفتح قبلها، ثم علا صوت انكسار زجاج بشكل مدوي .







(4)


أصلح الرجل الزجاج ثم نقدته ماله وانصرف دون سؤال، نظر أخي لي وعيناه كلهما أسئلة ولكن غضبه مني منعه من التحدث معي، لست رائقاً مزاجياً لأحل هذا الأمر، أما أختي فظلت تنظر لي في ترقب فلم أفهم لنظراتها سبب ولم أسألها لأن ما حدث كان ما زال يشغل بالي، ماذا أعاد أبي مبكراً من عمله ؟ ولماذا كان غاضباً هكذا ؟ لقد أغلق الباب بشدة فكسر زجاجه والباب كان متداعيا بالفعل، حدثته أمي من قبل كثيراً عن تغييره قبل أن نستيقظ يوماً ونجد أنفسنا مسروقين لأن الباب قد نُزع من مكانه بسهولة.


خرجت من غرفتي وقتها علي صوت انكسار الزجاج فوجدت أبي ينظر له باندهاش، أو بالأصح بعيون فارغة وبنظرة سطحية كأنه لا يعي كيف حدث هذا وحين سمع صوت باب غرفتي جفل، أظنه لم يكن يظنني سأكون في البيت أو مستيقظاً الآن وظل ينظر لي لثوان بنفس نظرة السمكة ثم انتبه وعادت لعيونه نظرة الغضب الكظيم وقال لي أول كلمة ينطقها منذ أمد : "صلحه" ثم دخل غرفته مجدداً وأغلقها بنفس القوة والعنف وتركني في حيرتي.


اتصلت بحسين صديقي، والده لديه محل زجاج – وكنت قد استعنت به في تصليح باب عمتي بعد ان رحلت الشرطة وقبل أن يأتي زوج عمتي - فقلت له ما حدث ولأنه يعرف باب بيتي جيداً فتكفل هو وأحد العمال عندهم بالمحل بالأمر.




وأثناء تنظيفي للأرض وكنس الزجاج المكسور والمنثور علي الأرض وصل إخوتي وسألتني أختي عما حدث وقبل أن أجيب كان حسين قد أرسل الرجل لتركيب الزجاج فقلت لها : "بعدين" ودخل أخي بتأفف لأبي وأخذ منه المال المطلوب بعد أن طلبت منه ذلك وأعطاني المال دون كلام وجلس في جانب الغرفة يشاهد الرجل أثناء تركيب الزجاج حتي رحل.

تذكرت ما كنت سأفعلة ولكن قبل أن أنزل تمسكت أختي بأن نتناول غداءنا معاً فجلسنا علي المنضدة كلنا حتي أبي مجتمعين كما لم يحدث منذ زمن ولكن في صمت وبدون أمي.

أختي كانت تنظر لي من وقت لاخر وما زالت نظراتها بها كلام لا أدريه، نظرت لها نظرة طويلة لعلي أفهم شيء ولكنها ظلت تنظر لي وتحولت نظراتها لنظرات رجاء أشعرتني بمدي غبائي، ولم نكف عن حوار العيون الغير مفهوم ذلك إلا حين وجدنا أبي وأخي ينظران لنا بدهشة في البداية ثم عادت نظرات أبي لغضبها السابق وغادر المنضدة في حنق لم أفهم سببه فشكرت اختي علي الطعام – مما أدهشها – فقد شعرت أنها تعاني بدون أمي وبغضب أبي وغيابي ورعاية أخي فقررت في نفسي أن أحدثها وأفهم منها ما كانت تريدني أن أعرفه دون كلام وأسألها أيضاً أن كانت تدري شيئاً عن الصورة التي وجدتها ولكن حين أعود من مهمتي التي تأجلت هكذا كثيراً وأنا لا أدري أو أضمن أي شيء هناك بعد، فساعدتها في إدخال الأطباق للمطبخ ودون العودة لغرفتي المقلوبة تركتهم ورحلت في عجل .
..............................................


دخلت شقة عمتي في هدوء، كنت أتسلل علي السلم كاللص الخائف من أن يراه أحد، لم أرغب في أن أقابل أحدا ويسألني عن سبب مجيئي بالرغم من وفاة عمتي. ومع ذلك قد حضرت الإجابة مسبقاً وهي "لكي آخذ بقية أشيائي من المنزل" ومعظم الجيران يعرفونني ويعرفون أنني كثيراً ما أكون هنا فلن يشككوا في حجتي، ومع ذلك تمنيت ألا يراني أحد. الشقة شبه مظلمة ولا يكسر حدة الظلام سوي شعاع الشمس الغاربة المقتحم بشكل خجول متسرسب من بين ثنيات خشب ضلفات نافذة الصالة وكاسر لظلام المكان ومحوله لغرفة بديعة دافئة ذات أضواء برتقالية وصفراء وحمراء داكنة خفيفة مرسومة بفن علي الأرض والحوائط المواجهه للنافذة ، هل تدركين أيتها الشمس أن حرارة لافحة مثلك – أو أقل منك أكيد ولكن ليست واهنة - أحرقت صاحبة هذا المنزل والإنسانة الأقرب إلي من أهلي ؟ ألا تشعرين بالخجل فتلملمين خيوطة شعاعك عن هذا المنزل وتتركينه لظلامة وبرود فقدان صاحبته ؟

نزعت نفسي من أشجاني بصعوبة لأستغل الضوء الباقي لوقت قصير في مهمتي – وهي أكيد أهم من أشجاني – خوفاً من أن يحل الظلام فأضطر لفتح نور يكشفني أو الأستعانة بضوء كشاف اشتريته في طريقي احتياطاً ولكني أشك بمقدرته علي مساعدتي فلم أكن لصاً أو شبل كشافة من قبل لأتعلم التكيف مع ضوء ضعيف وخاصة في عملية بحث.

لاحظت إضاءة خفيفة مشابهة لما في الصالة في غرفة الأطفال التي طالما نمت بها ولكن لم أهتم لدخولها لإغلاق النافذة بإحكام خوفاً من الذكريات و أن أدفن نفسي أكثر في أشجاني وشوقي لعمتي.



كالعادة أعرف طريقي فقد عشت في هذا البيت أكثر مما عشت في بيت والدي، عمتي تضع كل أوراقها الهامة فوق دولابها القصير، حذرتها من قبل من احتمالية أن تتآكل الأوراق وحدها بفعل الزمن أو بواسطة فئرأن فضحكت بشدة وقتها وقالت أنها لا يوجد فئران في بيتها وأنها تضعهم في أكياس بلاستيكية وتغلقهم بإحكام، ولم تدعني أراهم عن قرب أبداً أو أساعدها في إضافة أوراق إليهم. جذبت كرسي التسريحة الصغير ووضعته بجانب الدولاب لبعده عن السرير وصعدت عليه لأجد شتى الصناديق فوق الدولاب، والعامل المشترك الوحيد بينهم هو التراب. حاولت جذب أحدهم ولكنه كان شديد الثقل، كيف لم يكسر هذا سقف الدولاب ويسقط علي الملابس، تخوفت من أن أجذبه بشدة فيختل توازني علي الكرسي الصغير وأسقط ويسقط فوقي، ومع هذا الثقل لن أندهش بوجود تلفاز قديم أو مكنسة كهربائية قديمة بداخله، عقدة التخزين التي عند جميع المصريات. حاولت مع الصندوق الذي بعده ولكن بمجرد أن حركته سمعت صوتاً كأصوات فناجين تتراقص فتصطدم برفق في بعضها دون أن يصل اصطدامها هذا لحد الكسر، حاولت أن أجرب حظي مع الصندوق الثالث ولكنه كان بعيدا عني وثقيل قليلا فلن يمكنني من مكاني هذا أن أحمله بتحكم فكان علي النزول لتحريك الكرسي قليلاً ولكني لحمقي تكاسلت فتشبثت في طرف الدولاب ورفعت رجلي من علي الكرسي لأحمله بهم وأزيحه قليلا ثم أعود إليه ولكن شتان بين وزني قديماً والآن فاهتز الدولاب للأمام وكأنه سيسقط فوقي بحمله من الصناديق التي أصدرت صوتاً مكتوماً لتحركها.


صدمت - من المفاجأة- دون قصد الكرسي بقدمي اليمني المطوحة في الهواء لتعلقي فأسقطته علي جانبه فلزم علي أن أترك الدولاب وأقفز حتي لا يسقط فوقي.


نزلت علي الأرض وآلمتني قدمي قليلاً ولكن ذلك أفضل من الفضيحة التي كانت ستحدث لو سقط الدولاب، وحمدت الله أن صوت تحرك الصناديق فوقه واهتزازه لم يكن ليُسمع أحد خارج نطاق الشقة، وضعت الكرسي في المنتصف أمام الدولاب وعدت لأدفع الصناديق وأعيدها لمكانها ولا أظن أن التراب الذي تناثر منها للأرض سيثير أي من يدخل المنزل مستقبلاً فالمحققون أنهوا عملهم ومؤكد سيزيد عليه الكثير حتي يدخل أحد للبيت سواء ليؤجره أو يعيش فيه من العائله. دفعت الصندوق الأول لأعيده بقوة لثقله والثاني برفق حتي لا أكسر ما بداخله والثالث كان ثقيلا أيضاً فدفعته بقوة وصرفت نظر عن كونه يحوي أوراقاً أما الرابع فكان صغيراً وثقيلا قليلا ولكنه رفض الدخول للآخر .

في البداية حين لاحظت كونه علي طرف الدولاب رغم صغره ظننت ذلك لقصر عمتي فهكذا يكون في المتناول أسهل ولكن الآن فهمت ما خفي عليّ، لقد كان يخفي شيئاً خلفه، لذا نزلت من علي الكرسي ووضعت الكرسي في مواجهته علي الأرض وصعدت فوقه حتي أتمكن من السيطرة بالكامل من الصندوق الصغير الثقيل وأنزلته للأرض لأجد خلفه علبة قديمة سوداء قطيفة متربة وضخمة قليلاً تشبه العلب التي كانت تضع فيها النساء قديماً مصوغاتهن، هل هذا المكان التي رأته عمتي الأنسب لإخفاء مصوغاتها ؟ وهل لهذا لم تدعني أساعدها لنقل أي شيء من أو إلى مكانها السري فوق الدولاب ؟ هل لم تكن تأتمنني ؟ كنت سأنزل غاضباً لولا أني لاحظت طرف ورقة يبرز من جانب العلبة لذا نحيت ظنوني كلها وجذبت الصندوق وجلست علي السرير جهة الشباك لألحق بشعاع الضوء الأخير للشمس حتي لا أضطر لأخذ الصندوق معي، فتحته في رفق فوجدت أكياساً ملفوفة علي أوراق بداخلها فعرفت أن تلك أوراق عمتي التي ذكرتها سابقاً، سمعت صوتا خفيفا لحركة باب لا أدري آتية من أين ؟ ربما باب شقة الجيران أو الهواء حرك أحد أبواب الشقة، لن أجعل أعصابي في مهب الريح، نظرت للأكياس مرة أخري فأخرجتهم من العلبة وفاجأني ما رأيت.



الكيس الأول يحتوي ورق والثاني يحتوي صور مربعة بإطارين أبيض كصور كانت تخرج من كاميرات فورية قديمة تدعي بولورويد ، والكيس الثالث والأخير وما فاجأني بشدة يحوي أظرفاً حمراء مثل الذي وجدته في غرفتي . قبل أن أفضه سمعت صوت تكة زر وأخافني قربها فاخذت الأكياس ووضعتها بجيبي وقبل أن أغلق العلبة القطيفة لاحظت خاتم ودبلة في كيس صغير آخر ولكني لم أقربهم فليست السرقة من شيمي ولو ارتبطت هاتان الحلقتان باللغز الذي أعيش به.



كان ضوء الشمس قد زال تقريباً لذا أعدت بصعوبة كل شيء لمكانه، العلبة وأمامها الصندوق وكرسي التسريحة وانتبهت بصعوبة أكثر لأن تكون خطواتي كلها فوق السجادة ولم أقرب التراب المتناثر علي طرف الدولاب حتي لا أترك أي أثر وخرجت في هدوء من الغرفة وورابت بابها ولكن وجدت أن باب غرفة الأطفال مفتوح علي مصراعيه وهذا أكثر مما كان حين جئت، فإذا سلمت بأن الهواء حركه فما سبب النور الخفيف الذي يخرج من الغرفة وكأن الليل لم يحل ؟ اقتربت بحذر و أنا أعلم بخطأ وحمق ما أفعله ولكني لم أمنع فضولي وحاولت أن أنظر خلسة لأستبين ما بالداخل ولكن فاجأتني يد قوية دفعتني للحائط الذي اختبأ خلفه وفي الظلام لم أتمكن من معرفة صاحبها .



( 5 )

ضحك بصوته المبحوح قليلاً وقال وهو يعطيني لكمة خفيفة في كتفي

- هو انت ؟ ... يا شيخ خضتني .. أنا قلت حرامي.

نظرت لسعد غير مصدق عيني ، أنه لم يأت في أي من جنازتي والدته فمتي حضر ؟

- انت جيت إمتى يا سعد ؟
- النهاردة الصبح
- و ما اتصلتش بيا ليه ؟
- كنت هاتصل بس كنت تعبان قوي، وصلت نمت علي طول وصحيت علي صوت كركبتك، كنت بتعمل إيه ؟
- هاحكيلك علي كل حاجة بس قولي الأول ... انت ازاي ماتجيش جنازة مامتك ؟
- ماهي ظروف البلد وقفت الطيران قال إيه إضراب فاتحبست ترانزيت يومين في بلد ما اعرفش أهلها بيتكلموا ازاي لغاية ما اتفك الحصار ؟
- يومين ؟ أمك ميتة بقالها فترة
- و هو حد فيكم فكر يبعت لي يقولي ؟ دا أنا باتصل بيها زي عادتي كل أسبوع لقيتها ما بتردش وما اعرفش لأبويا رقم ودخت عقبال ما وصلت لنادية ونهى اخواتي والاتنين كانوا زيي ما هي العيلة حبلها اتفرط خلاص بس المهم اني خدت رقم باباك منهم واتصلت بيه فندى أختك هي اللي حكت لي كل حاجة وبصراحة اتصدمت .. أنا كنت عارف أن أمي مكتئبة ووحيدة وكنت بحاول اخفف عنها بتليفوني الأسبوعي بس ما تخيلتش أبدا ان الموضوع ممكن يوصل معاها للانتحار .


- مش عارف يا سعد ... فيه حاجات مش تمام في الموضوع دا .
- لأ بالراحة عليا ... بص تعالي نعمل شاي ونتكلم وتحكيلي الموضوع من الأول و تفهمني
- يبقي تيجي عندنا وعلشان نعرف نتكلم كويس بعيد عن حفرة الذكريات المتربة دي.

......................


تجلس ندى بالقرب من والدتها ثم تقترب بشدة من أذنها وتهمس:
- ماما أحمد عمال بيلف وأنا مش قادرة أسكت أكتر من كدا، اللي مسكتني اني خايفة من رد فعله اللي مش هاعرف احتويه لوحدي زيك، ومش هيسامح بابا أبدا .

يدخل عادل من الباب وينظر لاخته بعيون متسائلة
- هي ماما ممكن تسمعنا يا ندى ؟

تعتدل ندى وتنظر لأخيها الصغير بحنان

- آه أكيد .. بكرة لما تصحي هتلاقيها بتحكيلنا كل اللي قُلناه.
- بجد .. طيب يا ماما سعد رجع و أخد سريري .. هو مش عندُه سرير في بيته ؟






- عيب يا عادل ، إسمة أونكل سعد دا قد أبيه أحمد
- ما هو أنا زعلان كمان من أبيه أحمد
- ليه يا عادل ؟

ينظر لأمه الراقدة وتدمع عيناه فتأخذه ندى في حضنها

- لأ يا عادل .. ماما تعبت علشان ربنا كتب كدا ومحدش سبب في ده .. إدعيلها بس تخف بسرعة.
- ما هو لو كان موجود هو ولا بابا كان لحقها.
- و يسيبوا عمتو يعني ؟
- ما هي كانت ماتت بقى .. أنا كنت باخاف منها أصلا
- إدعي لربنا يا عادل يخفف ماما ويرحم عمتو وما تتكلمش تاني كدا
- حاضر


.................................................. .





في غرفه أحمد، تمدد الشابان على السريرين وقال أحمد في شرود.


- الواد ابو عيون زُرق دا هيجنني ... ازاي يبقي فيه صورة قديمة ليه وهو صغير مع أمي وأمك وأختي و ما نعرفش عنه حاجة ... أنا ما كنتش هاعرفه لولا عينيه المميزين دول.
- سيبك منه .. انت قلت كان في ورقة مع الصورة، فينها ؟
- انت جدع .. أنا كنت نسيتها أصلا
- فالح
- أنا معايا ورق كتير من عندكم في البيت كمان
- دا انت قلّبتنا بقى
- أنا ما أخدتش غير الورق يا سعد علشان افهم أمك ماتت ازاي.
- خلاص ما تزعلش كدا أنا كنت بهرج معاك، هات الورقة اللي كانت مع الصورة الأول وبعدين نشوف الباقي.


يعبث أحمد في جيبه ثم يخرج ورقة بيضاء مطوية عدة مرات ويفتحها برفق فيخطفها سعد ويفتحها بسرعة ويقرأ بصوت عال غير مبال باعتراض أحمد.





"صغيري .. كم تمنيت أن أصارحك ولكنك طالما كنتَ بعيداً ومنزوياً تبكي حظك السيء والذي لم يكن في أيدينا شيء لتغييره فمفتاحك معك وعليك أن تجده بنفسك، بعد أن ساعدتنا في إخفائه قديماً. وحين تجده عليك أن تعلم إنك مثلنا ولكن لسنا كلنا كذلك وهناك ممن ليس منا سيحسدك على ما لديك وهناك منا من ينكر ما ستجده أو يحاربه أو لا يدرك كيف يتعامل معه وسيبحث دائماً عن وسيلة لإقناعك بأنك ملعون وسيقلب حياتك جحيماً فانتبه. بقربك يا أحمد ملاكاً منك ولكن واسع الأفق ليدلك عما تبحث عنه ولكن لن تعرفه إلا اذا وسعت أفقك واقتربت أكثر أو حين تجد مفتاحك فيصدمك الأمر، فاحذر يا صغيري ... أمك نبيلة ."

- منزوي و مفتاح انا خفيته زمان وجحيم ؟
- لأ و فيه ملاك كمان، شوف الهنا
- بطّل تريقة بس، بذمتك انت فهمت حاجة ؟
- آه فهمت ، أمك بتقول لك اعمل نسخة علي مفتاح البيت
- يا شيخ اتلهي ... غير كدا من إمتى أمي بتمضي بإسمها
- وانت كنت بتقرا الجوابات اللي هي بتبعتها لحد علشان تعرف هي بتمضي بإيه؟
- صح .. هي لما بيبقي فيه حد جايب جواب ولا أي وصل كانت بتخليني أنا أو اختي اللي نستلم ونمضي.
- طيب قوم دور على أي جوابات تانية ليها لأي حد .
- أنا قلبت الشقة وما قابلنيش حاجة زي كده، كمان هي أمي سابت الجواب دا تحت مخدتي من قد إيه ؟
- اسأل نفسك .. هو مين بيروق الأوضة هنا ؟
- ماما أو ندى

يسمعا طرقات علي الباب وتدخل ندى لتدعوهم للغداء وتخرج في صمت بعد أن احمرت وجنتاها حين التقت عيناها بعيني سعد .

- مش كنا جيبنا سيرة عشرة جنيه ؟
- و انت كنت هتعمل إيه بالعشرة جنية يعني ؟ أكيد كنت ها تجيب أكل و آدي الأكل جا يلّا قوم .

....................................


يجلس الفتي ذو العينين الفاتحتين في كرسي بجانب سرير نبيلة مرتدياً معطف الطبيب وينظر لها شذراً

- انتِ ازاي طاوعك قلبك تعملي كدا في ابنك ، دا لو حد غريب ما كنتيش ها تتعاملي بالقسوة دي معاه، وازاي قدرتي تتعايشي مع بابا وهو ناكر شيء لما اشتركت أنا معاه في نكرانه نكرني أنا ؟ بجد مش هسامحك.

نزع المعطف وألقاه علي الكرسي الذي كان يجلس عليه وخرج من الغرفة في هدوء كظيم كالذي يسبق العاصفة ولم تمر لحظات وارتفع صوت الجهاز الموصل بنبيلة في إشارة تحذيرية لتناقص دقات القلب بشكل متدهور وسريع, أسرع من استجابة الأطباء وركضهم نحو الغرفة بجهاز الإنعاش الكهربائي, حتي أصبح الصوت صفارة متواصلة لا تدل سوى علي النهاية.


(6)

يجلس أحمد وأبوه وابن عمته حول أمه السابحة في الغيبوبة متجهمين، بينما تبكي ندى بصمت وهي تحتضن عادل في محاولة يائسة لتخفيض صوت بكائه حتي لا يثور أبوها عليه، بعد أن أخبرهم الطبيب باستمرار تدهور حالة الأم بدون أسباب واضحة وأن عليهم التواجد معها بأقصى حد ممكن لاحتمالية أن تكون تلك أيامها الأخيرة بالحياة.
ويبدو أن ما كانت ندى تخشاه لمعرفتها الجيدة بطباع أبيها قد حدث، فقد انفجر صارخاً بهم دون أن يأبه لكونه في المستشفى.

- أمكم ما ماتتش لسة علشان العياط دا كله

تفاجأ سعد وعادل بتلك الثورة فنظر سعد مندهشاً لأحمد الذي لم يتأثر إطلاقاً بما حدث، وأمتنع عادل عن البكاء راغماً نفسه مع استمرار تساقط الدمع من عينيه واضطراب نفسه الذي كان مسموعا لسرعته وثقله مما زاد من غضب الأب فنظر له بنظرة نارية فاخذت ندى اخاها لخارج الغرفة.


نظر الأب نحو الأم ثم دفن رأسه في ذراعها مما أدهش سعد وأحمد وما لبثت ثوان وارتفع صوت بكائه ونشيجه بحرقة وأحمد مستمر في تأمله باندهاش فضغط سعد علي ذراع أحمد وأشار له نحو الباب فقاما في هدوء وتركا الغرفة. ولكنهما لم يجدا ندى أو عادل مما أقلق سعد فطمأنه أحمد بأنها مؤكد اخذت عادل لكافتيريا المستشفي لتهدئ من روعه.




صمتا قليلا ثم تكلم أحمد في شرود دون أن ينظر لسعد وكانت نظراته كمن يشاهد أشياءاً بعيدة.


- أنا أول مرة أشوف بابا كدا
- طبيعي يا ابني .. دا مش غريب
- لا غريب .. بابا في الفترة الأخيرة قبل موت والدتك كان حاد جدا مع ماما ، تقريبا كان كل كلامهم خناق .
- آديك قلت .. قبل موت أمي .. مش سهل يا أحمد أخته ومراتة يروحوا ورا بعض كدا من غير ما يهزوا أعصابه .. دا إن ما كسرهوش حجم الخسارة.
- بمناسبة هز الأعصاب ... إيه برود الأعصاب اللي نازل عليك دا و لا كأن أمك ماتت .
- انت مش قادر علي أبوك ها تطلعهم عليا أنا ؟ عموما يا سيدي أنا جاي مصر بس علشان ازور قبرها وعديت مرحلة الانكسار دي من فترة.
- غريبة
- قوم نجيب حاجة ناكلها و نجيب لأبوك كمان .. إحنا داخلين علي المغرب وماحدش داق لقمة من الصبح, و بالمرة نطمن علي اخوك وأختك.


.................................................. ............



رفع روؤف رأسه من على ذراع زوجته وأخذ ثوان ليتمالك نفسه ومسح وجهه المبتل بذراعه ثم التفت حوله فوجد الغرفة فارغة فتنفس الصعداء ثم قام وتوجه للثلاجة الصغيرة في زاوية الغرفة وأخذ منها زجاجة مياة معدنية صغيرة وشربها كلها ثم ألقاها في القمامة وعاد لكرسيه مجدداً بعدما حركه قليلاً بحيث يواجه في جلسته زوجتة ثم أغمض عينيه وبدأ يكلمها بغضب.

- نبيلة .. أنا عارف أنك سامعاني .. مش عارف بس لأ دا أنا متأكد كمان. لو كان حسن هو السبب في اللي إنتي فيه أنا هاقتله .. قلت لك الواد دا مش ها ييجي منه غير المشاكل وما صدقتينيش .


صمت قليلاً ثم بدأ يكلمها بهدوء .


- ما احنا كنا عايشين مرتاحين ليه فتحتي الأبواب القديمة ؟ صدقتيني دلوقتي لما قلتلك الطريق دا آخرته سودا .. آدي آمال ولعت وانتي كنتي هتروحي مني بسببها .. عرفتي دلوقتي أن الموضوع حب وخوف عليكي وعلى عيالنا مش إنكار وتكبر زي ما بتقولي. أرجوكي كفاية هروب وارجعيلي .


شرد قليلاً و دون أن ينتبه سالت دمعة وحيدة من عينيه فنظر لزوجته بحب .




- أنا بحبك يا نبيلة ولولاكي كنت حصلت صالح، وحبيتك أكتر لما احترمتي رغبتي وبعدنا عن الطريق دا واهتمينا بعيلتنا وخلاص .. آه زعلان منك لأنك كنتي بتسيبي أحمد عند آمال كتير بس سعد هو اللي كان بيخليني ما اتكلمش في الموضوع دا واقول الواد لوحده واخواته بنات وابوه مش مهتم بيه فمفيش مشكلة انه يبقي مع أحمد، بس بصراحة أنا فرحت لما سافر وكنت عارف ان أحمد مش هيقعد هناك زي الأول بعدها ولا آمال هاتجرؤ تنطق بكلمة ليه علشاني. حتي بعد ما رجع دلوقتي مطمن ومش فارق معايا بعد موت آمال. كدا صالح وآمال ماتوا وأنس سافر وهاخلّي حسن يرجعله تاني مهما كان سبب مجيه والسر مش هيخرج هنا عني وعنك وهيموت معانا.

ثم أستدرك وقال كمن ينفي كلامه وينكره .

- بس أكيد مش قصدي أنك تموتي دلوقتي ... ما تفهمينيش غلط ... أنا عارف أن أحمد وندى وعادل من حقهم يعرفوا بس تضمني منين انهم ما يحصلوش اعمامهم ويموتوا في الآخر .. أنا عارف إنك مش راضية عن رأيي دا بس آديكي شفتي أنس لما وافقك حصل إيه ... قومي بقي انتي طولتي أوي وهاقولك جملتك اللي كنتي دايما بتعصبيني بيها .. " إحنا مش زيهم يا روحي " .

....................................


يجلس أحمد وندى وعادل في كافتريا المستشفي بعدما أصر سعد أن يستريحوا حتي يشتري لهم الطعام بدلاً من العصير الذي أحضرته ندى لها ولأخيها الصغير قبل حضورهم، ظل أحمد يرمق عادل وأخته في صمت ووجد أن عادل قد توقف عن البكاء وأن ندى تمالكت أعصابها وأصبحا الإثنان مختلفين تماماً عما كانا عليه منذ قليل في الغرفة، و حين لاحظت ندى نظرته المتشككة ابتسمت ابتسامة متكلفة وقالت في تردد :

- أنا حاسة ان ماما هتخف قريب قوي.

فابتسم عادل بفرحة وزادت نظرة أحمد تشككاً ثم قال :
- يا رب

صمتت ندى وأخرجت هاتفها النقال وبدأت تعبث فيه في توتر فقال أحمد بلهجة هادئة
- هو مين اللي روق أوضتي آخر مرة يا ندى ؟

نظرت له ندى في استغراب من السؤال الذي في غير محله وأجابت في دهشة

- أنا.
- ودا كان إمتى ؟
- من3 أيام
- ما لاحظتيش حاجة غريبة ؟
- حاجة غريبة زي إيه ؟
- زي ..


ورن هاتف ندى بشكل مفاجئ أفزعها فانتفضت فزاد شك أحمد أن هناك شيء مريب، نظرت ندى للشاشة ثم ردت بصوت خافت جداً بعد أن التفت نصف لفة فوق مقعدها وأعطت ظهرها لأخيها.


- لسة هنا ... لا ماينفعش .. طيب .. خلاص حاضر.

وضعت ندى الهاتف في حقيبتها وأرتشفت آخر رشفة من عصيرها ثم توقفت وقالت أنها ذاهبة للحمام ووصت عادل بألّا يبتعد عن أحمد وكان ذلك بالتزامن مع حضور سعد بالطعام فاستغرب انصرافها ثم جلس بجانب أحمد و بدأ يفتح أكياس الشطائر بينما أحمد يرمق أخته وهي تبتعد فنظر لأحمد وهو يعطي عادل شطيرته سائلاً إياه :

- هو فيه إيه يا أحمد ؟
- فيه حاجات كتير ما اعرفش عنها حاجة .

ثم مسك يد سعد وهو يفض شطيرة أخري وقام من مقعده .

- لأ استني هاشوف حاجة قبل الأكل، خلي عادل معاك وأنا راجعلك تاني.

وقبل أن يتحرك أحمد من مكانه انقطع التيار الكهربائي عن المستشفي كلها وعم الظلام .



(7)

لم يلبث انقطاع الكهرباء ثوان حتى عمل بشكل تلقائي مولد الطاقة الاحتياطي، نظر أحمد حوله وجد أن كل شيء يسير بتلقائية كأن لا شيء قد حدث ولكن أخته اختفت ولن يسأل عن مكان الحمام النسائي أو يتصل بها بعد ثوان من رحيلها. فأوقف أول ممرضة مرت بقربه وسألها عن أضرار الانقطاع المفاجئ للكهرباء فطمأنته وقالت لا شيء فالمولدات الاحتياطية كثيرة هنا لتكرار انقطاع الكهرباء مؤخراً و أن جميع الأجهزة بالمستشفى تم تزويدها ببطاريات خارجية قابلة للشحن تعمل لمدة 10 دقائق بعد انقطاع الكهرباء لتفادي أية أضرار قد تنتج عن في حالة تاخرعمل المولدات الكهربائية لدقائق فابتسم أحمد وعاد للمنضدة وقد نسى أمر ندى فاستغرب سعد عودتة المبتسمة بعد رحيله المقلق فجلس أحمد موجهاً كلامة لعادل :

- أجيبلك آيس كريم يا عادل ؟

انتبه عادل من شروده الطفولي على كلمة آيس كريم التي لحق بها اسمه فقفز فرحاً موافقاً فاخرج أحمد خمسة جنيهات وأعطاها له وأشار إلى طابور في مواجهته فانطلق عادل فرحاً وأحمد مازال مبتسما .


- إيه الكرم دا يا أحمد والتغيير المفاجيء ، ماشي سرحان راجع فرحان .. خير؟
- لسة فيه أمل يا سعد .





- في الممرضة الحلوة اللي كنت واقف معاها؟
- قصدك إيه ؟
- مش عليا يا أحمد .. دا انت طرت أول ما شُفتها ولولا أن النور قطع كنت خبطتها.
- انت فهمت غلط
- طيب فهمنى انت الصح


حكي أحمد ما قالت له الممرضة وهو فرح ويلتهم شطيرته بسرعة وسعد مبتسم بلؤم ساخر.

- يا راجل .. دا أنا افتكرتك جبت رقمها، تقولي أن أهل مصر مبدعين في حل المشاكل بس شبابها ناقصه الفرصة.. إيه الجديد اللي جبته ما هو دا معروف من زمان .
- أنا فرحان علشان لقيت حد هنا إداهم الفرصة دي، خلي عينك علي عادل هاروح بسرعة أطمن علي ماما وأرجعلك تاني.


....................................



وقفت ندى مع الفتى ذي العينين الزرقاوين في الطابق الذي به غرفة أمها بعيداً عن باب الغرفة بجانب الدرج دامعة العينين تقول بتأثر له وهو مهموم:

- يا حسن ما ينفعش دلوقتي
- لازم أصلح اللى عملته
- بابا لسة جوة
- مش قادر استني أكتر
- انت كدا ها تأذيها
- لأ وبطلي خوف
- ماما حاسة بينا ولو حصل أي شد بينك وبين بابا جنبها ها تتعبها أكتر وهي مش ناقصة
- خلاص قوليله يخرج من الأوضة
- إزاي يعني
- خلاص أدخل أنا
- لأ

لفت خلافهم - رغم انخفاض صوته - انتباه المحيطين ولكن لم يقترب منهم أحد رغم ارتفاع الهمسات بشأنهم، كانت ندى ترى باب غرفة والدتها من بعيد فلاحظت فتح الباب فدفعت حسن للدرج حاثة إياه على الصعود فرضخ على غير رغبة فلم يره أبوها وهو متجه نحو الدرج ونحوها ولاحظ اضطرابها فسألها عن السبب فسألته هي عن حالة والدتها بعد انقطاع الكهرباء فطمأنها ونزل نحو الكافتيريا فتنفست الصعداء ثم انتفضت مذعورة حين وضع حسن يده على كتفها فأبتسم لها بإرهاق ومسك يدها وجرها خلفه بسرعة متوسطة نحو غرفة أمها قائلاً :

- للعلم أحمد كان وراكي وأنا قطعت النور علشان اشغله.
- انت بتهرج ؟ أفرض حد اتأذي ؟ دي مستشفي
- دي كانت ثواني بس لحد ما تبعدي، أكيد هنا عندهم حلول لأن النور بيقطع كتير أصلا ولأوقات أطول.
- اتمني رغم اني مش ضامنة ده في بلدنا .

ثم فتح الباب ليجدوا أمها واعية تحدق بهم فتركت يده وركضت نحوها بعيون دامعة تحضنها وتقبل وجهها ويدها وهي تتمتم بكلمات الحمد وتكرر كلمة "ماما" بينما وقف هو يحدق بهم فانتظرت الأم حتى انتهت موجة مشاعر ابنتها ثم أشارت لحسن بالاقتراب فاقترب في تردد محنى الرأس حتى وصل بجانبها فابتسمت وفي حركة سريعة مباغتة، مسكت أذنه و جذبتها بعنف وهي تعنفه بمزاح

- ينفع كدا يا حسن، كنت ها تموتني علشان غضبان

فقال وهو يتأوه متأسفاً دون أن ينتبه للهجتها المازحة

- والله ما قصدت يا ماما، أنا كنت غضبان آه بس ما انتبهتش خالص للجهاز

تركت أذنه وأحتضنته بحنان هو يكرر أسفه بشكل تلقائي "آسف يا ماما سامحيني" ولم ينتبها لدخول أحمد الذي وقف أمامهم مذهولاً لدقيقة وقد أخرست المفاجأة ندى.

....................................



جلس كل من سعد وعادل وأبوه على طاولة واحدة صامتين، ولكن التوتر كان يعصف بسعد لنظرات خاله النارية التي يحدقه بها من وقت لآخر ولم يستطع أن يكسر هذا الجو مزاح سعد مع عادل عن الآيس كريم أو محاولته الوحيدة للمزاح مع خاله أو كلمات التخفيف والتعزية .

طلب عادل بصوت عال الدخول للحمام فقام سعد ولكن أوقفته إحدى الممرضات التي سمعت طلب عادل أثناء مرورها بجانبهم فعرضت بابتسامة واسعة أن تأخذه لهناك.

إشتد الموقف توتراً برحيل عادل ثم كسر رؤوف هذا الصمت بأسئلة متتابعة لسعد لم يستطع أن يجيبها كلها لأن صمته للتفكير كان كالدعوة لخاله لطرح سؤال آخر دون انتظار إجابة السؤال السابق

- انت إيه اللي أخرك على عزا أمك ؟
- الطيران كان واقف و ..
- انت آخر مرة كلمتها إمتى ؟
- قبل انتحـ .. موتها بأيام.
- إخواتك عرفوا؟
- لأ لسة .
- ما قُلتلهمش ليه ؟
- أصل ..




- انت مصدق إنها انتحرت؟
- مش عارف .
- مش عارف إذا كانت أمك تعملها و لّا لأ ؟
- ........
- هي قالتلك حاجة قبل ما تموت ؟
- حاجة زي إيه؟
- إيه آخر حاجة قالتها لك؟


صاح سعد وهو ينتفض من كرسيه :

- كفايه يا خالي ... موت أمي وخاصة بالشكل دا تاعبني أكتر منك مش معنى اني ساكت وبحاول اخفف عنكم علشان ظروف طنط نبيلة اني مش حاسس بالحزن والدهشة من اللي حصل .. انا قعدت يومين ابكي في المطار زي الاطفال والناس تتفرج عليا ويواسوني بلغات ما اعرف اساميها وما هدّانيش غير خيالي انها في الجنه فبدعيلها كل ما افكر فيها .. وللعلم يا خالي أمي كانت بتشكي منك كتير في تليفوناتها الأخيرة .. إبقي ادعي أنها تسامحك وانت بتصلي ؟

وترك سعد المستشفى غاضباً دون أن يخبر أحداً بوجهته.

....................................





خرج عادل من الحمام فوجد الممرضة ما زالت في انتظاره فابتسم لها ببراءة وسألها عن الطريق نحو الكافيتريا فابتسمت وأشارت له نحو الاتجاة الأيمن وأصرت أن تمسك يده وتعيده بنفسها فرضخ مبتسماً وسار معها، ولم يسيرا سوى خطوات قليلة في الممر الفارغ حتى ظهر فتى من الجهة المقابلة وسار باتجاههما حتى وصل إليهما فكمم فم عادل بشكل مباغت وحمله بقوة وعادا معاً للحمام والممرضة تراقب الطريق


وداخل الحمام الفارغ رش هذا الفتى من بخاخ في وجه عادل الذي استسلم مرغماً لقبضة النوم الإجباري العاتية ثم حمله على ذراعيه الاثنتين كمن يحمل طفله النائم وخرج من باب جانبي للمستشفى بعيداً عن الكافيتريا وما لبثت دقائق حتى رحلت الممرضة أيضاً بعد أن أبدلت ملابسها في الحمام ووضعتهم في حقيبة اليد الخاصة بها الممتلئة بشتى أنواع الأدوية.



....................................





نظر رؤوف حوله منتظراً عودة عادل لفترة أقلقته فتوجه لأقرب عامل وسأله عن الحمام وذهب إليه فلم يجد الصغير مما زاد من قلقه فتوجه لغرفة زوجته ليفتحها بسرعة فيصدمه ما رآه ويمنعه من التكلم بل ويشغله عما أتى مهرولاً لأجله فقد وجد أحمد وحسن جالسين على الفراش في حضن زوجته التي خرجت من غيبوبتها الطويلة وندى تجلس على الكرسي المجاور للفراش. ينتقل بشدة وسرعة بين مشاعر مختلفة من الغضب والسعادة والحيرة وأمام هذا التجمد, تجمد كل شيء في الغرفة فالكل صامتون ناظرون له منتظرين أى رد فعل منه لمدة ثوان مرت كساعات ولم يخرجهم من هذا سوى عيناه اللتان أدمعتا رغم نظراته الغاضبة فابتسمت زوجته نبيلة بحنان مفرط أعاده إلى وعيه فنظر لندى وتكلم بجدية مصطنعة.

- انتِ مشوفتيش عادل ؟

فقام الكل مفزوعا فأمرهم بالبحث عنه بالمستشفى وخرجوا عدا أحمد الذي توقف حين نادته امه و اقترب منها فهمست في أذنه :

- انا سمعتك وعندي ليك كلام كتير .. دور علي أخوك وهنتكلم لما نرجع البيت.

ثم خرج وأصبح رؤوف وحده مع زوجته فتصلب قليلاً أمامها ثم اندفع نحوها واحتضنها بشدة وهي تبادله الهمسات غير الواضحة لأكثر من عشر دقائق ولم يقاطع ضمتهما سوى دخول أحمد وسعد لاهثَين وخلفهما ندى باكية وقالوا بأنفاس متقطعة :

- عادل اختفى من المستشفى كلها.


(8)

دخل أحمد المنزل فلم يجد الحال قد اختلف عما تركه، أمه تبكي وأخته تهدئ من روعها وأبوه يتصل بكل المستشفيات يسأل عنه، أحمد كان منهكاً بعد أن دار على كل الأقسام التي حول المستشفى وبيته بل و دار حول المستشفى كثيراً لعدة أيام لعله يجد أي خيط يستدل به على أي طريق ولكن بلا جدوى.

قبل أن يجلس دق الباب فتوجه له يجر قدميه كمن يحمل أثقالاً وفتح بابه ليجد الشتيتين سعد وحسن الذين تعارفا من خلاله في الأيام السابقة، حتى الآن لم يبتلع بعد موضوع أن حسن أخاه ولكن انشغاله باختفاء أخيه الحقيقي الصغير منعه من رفض أي مساعدة إضافية.

رمق الأب حسن ثم أغلق الهاتف بعنف ودخل يكمل اتصالاته من غرفة نومه، أحمد كذلك لا يبتلع سلوك والده مع حسن والمفترض أنه ابنه البكر .. إقترب حسن من الأم وظل يواسيها مع ندى بينما سعد توجه للكرسي الفارغ وجلس عليه. عشرات الأسئلة تطن في ذهن أحمد ولكن لا يملك إجاباتها ولا الجرأة ليسألها لأي أحد الآن .. هناك شيء مخفي فأمه وأخته وأبوه تقبلوا دخول حسن لحياتهم بكل أريحية وكأنه أمر عادي أن يظهر غريب ويعلن إنه قريبهم بدرجة مباشرة .






أحمد ما زال غاضباً من سعد لرحيله وقت اختفاء أخيه بعدما تركه في رعايته وليس في رعاية أبيه كما أن سعد لو غضب من أبيه كان كلم أحمد قبل أن يرحل هكذا.. أليس هو من وصى قبلها أن يكون متمهلا مع أبيه و أن يتحلى بسعة الصدر، ولكن من يملك الآن في تلك الأزمة العتاب أو الاعتراض على أي شيء ؟

حتى هذا الحسن ذا العيون الباردة كالمحيط يتعامل وكأنه في بيته. نظر لأمه الباكية وحسن وندى المحيطين بها من الجانبين فوجدهما يؤكدان لها بشكل واثق غريب أن عادل سيعود ولكن عليها التماسك ليحدث ذلك.


شعر أحمد كأن كل شيء أصابه الجنون فأشار لسعد بعينه تجاه غرفته فتركا الصالة في هدوء ودخلا الغرفة وأغلقا بابها في هدوء لا داعي له لأن لا أحد انتبه لهما.


.................................................






توقف عادل قليلاً عن البكاء بعد أن أتعبه بلا أي جدوى ليستعيد طاقته لكي يواصل البكاء مجدداً بعدها .. كانت يديه مقيدة خلفه وتؤلمه لأنه جالس على الأرض وظهره مستند على أحد الجدران بشكل غير مريح. وكان أيضاً معصوب العينين ولكن ليس مكمما .. جرب أن ينادي أحداً، يصرخ، يبكي، يتوسل ولكن بلا جدوى فعلم أنه وحده في مكان مجهول مهجور من هذا الصمت المميت من حوله فبكى كثيراً حتى تعب ونام عدة مرات بعد إرهاقه من البكاء المستمر ثم قرر أن يستريح قليلاً من البكاء. وقتها فقط صدمه ما حدث فقد وجد ماصة تُدفع برقة في فمه خاف في الأول فأغلق فمه بشدة ثم سمع بدون صوت امرأة تأمره بالاستجابة بمودة فاستجاب لظمئه وجوعه ووجد أنه يمتص عصير مانجو لذيذ الطعم فشرب الكوب الكبير في دقيقه ثم استجاب للقمات خبز مغموسة في العسل الأبيض شهية فأكلها بلا أي اعتراض حتى شبع فقال في وداعة:
- كفاية شبعت.
ثم صمت قليلاً و أكمل كلامه:
- انتى مين .. و ازاي أنا سامعك من غير صوت ؟
فشعر بلمسة حانية لجبينه ثم سمع خطوات ترحل فهتف منادياً بلا أي نتيجة، حاول أن يتملص من الحبال المقيدة يده أو قدمه فلم ينجح فهتف مجدداً :
- لو انتي طيبة فكي إيدي، دراعي واجعنى قوي
ولكن لم يسمع أي رد ولا حتى صدى لصوته فيأس وابتسم لشبعه ثم انحنى على جانبه وترك جسده يسقط مجاورا للحائط واستسلم لنوم أحن عليه مما سبقه.

.....................


نظرت الأم لباب غرفة أحمد وتأكدت أنه مغلق ثم استنشقت شهيقاً عميقاً وتوقفت عن البكاء ونظرت لباب غرفة نومها الجالس بها زوجها لتتأكد من أنه مغلق كذلك ثم نظرت لحسن وأمائت له بالجلوس في المقعد بجانب ندى ففعل فقربت رأسها منهما وبدأت تتحدث بشكل هامس فشاركاها الحديث بنفس الشكل.
- إنتم متأكدين أنكم هتقدروا ترجعوا عادل ؟
- ندى: إنت شاكة فينا يا ماما ؟
- الأم : لأ .. بس انت بقالك كتير ممنوعة.

ثم نظرت لحسن وقالت بشيء من الذنب واللوم الخفي .
- الأم: وما عرفش حسن وصل لإيه و خايفة انفعاله يئذي حد زى ما حصل لي.
- حسن: و الله يا ماما دا حصل غصب عني وما حصلش قبل كدا معايا خالص.
- الأم: أنا عارفة.
- ندى: سيبيها علينا بس وعادل هيبقى معانا بس إهدي و اشغلي بابا شوية .
- الأم: هو ما بيروحشي الشغل ليه صحيح ؟
- ندى: ما اعرفش يا ماما .. هو مش طايق كلمة من حد أصلاً من يوم ما تعبتِ
- حسن: هو بابا بيشتغل إيه ؟
- الأم: هو أنس مقالكش ؟


- ندى: أنس مين ؟
- حسن: كان مشغول على طول.
- الأم: هو عامل إيه ؟
- ندى: أنس مين ؟

رن جرس التليفون فأوقفهم عن الكلام و لكن لم يطل الرنين مما نبأهم أن أحمد أو أبوه قد رد من تليفون الغرفة .. صمتا منتظرين أي رد فعل أو باب يُفتح و لكن طال الصمت فعادا للكلام:

- الأم: طيب فهموني إيه اللي في دماغكم ؟
- ندى: أنا هاوصل لمكانه
- حسن: و أنا هاتعامل مع اللي خطفوه
- الأم: خد بالك ان أحمد عمل بلاغ والشرطة أكيد هايبقى ليها تخطيطها هي كمان وما ينفعش أي اصطدام معاهم ، انت عارف حساسية موقفك .
- حسن: فاهم .. بجد يا ماما انا حزين من اللي عملتيه فيا انتي وعمي ولولا انه حكالي كل حاجة ما كنتش سامحتك ... بس بابا مش هاسامحه أبدا.
- ندى: هو انا ليا اعمام غير عمتي آمال يا ماما ؟
- الأم : هاحكيلك بعدين.
- حسن: انتم ليه مش معرفين أحمد حاجة ؟




- الأم: لا هو ولا عادل، هو نسّيته من زمان وعادل مفهماه انها مش اكتر من ذكاء انه يقرا أفكار اللي حواليه ومانعاه عنها بحجة انه عيب كأنه بيدخل حمام علي حد بس ساعات بيسألني وبألف في حاجات طفولية علشان يقتنع بيها .. أبوك عامل حظر وآديك شايف اللي حصل لك .. لولا إن ندى معايا كنت هاطق .. دا حتى عمتك آمال اتمنعت أزورها.
- حسن بخبث: هو يقدر يمنعك ؟
- ابتسمت: لأ طبعاً بس لو عرف اني عملت كدا الله أعلم كان نتيجتها هتبقى إيه .. انت عارف الموضوع صعب أصلاً و ما فيهوش ضمانات .

ابتسمت ندى بفهم متأخر فكادا أن يضحكا عليها لولا توتر الجو العام .

.....................

وقف أحمد بجانب نافذة غرفته ينظر للشارع بعيون فارغة بينما استلقى سعد على سريره مغمض العينين. يلتف أحمد وينظر له ويقول بهدوء :
- انت نمت يا سعد؟
- لأ لسة
- تفتكر اللي خطف عادل كان عايز حاجة معينة ولّا مجرد صدفة ؟
- هي الصدفة وصلت في مصر للخطف ؟
- لأ مش قصدي .. بس البلد مش أمان وبنمشي نلف حوالين نفسنا أصلاً




- بلاش مبالغة يا أحمد .. أنا هنا في مصر بقالي فترة ولسة ما اتسرقتش ولا اتخطفت زي ما بتقول.
- نرجع تاني للأهم .. طبعاً انت ملاحظ أن كل حاجة اتقلبت من يوم وفاة والدتك .

يتجهم سعد فيصمت أحمد وبعد دقيقة يقطع سعد هذا الصمت :
- كمل يا أحمد
- أنا آسف
- و انت ذنبك إيه .. عمرها بقى .. الله يرحمها .
- الله يرحمها .. اللي أقصده من ساعتها بتحصل حاجات غريبة، مرض أمي، سكوت بابا، عفريت العلبة حسن اللي اكتشفت في يوم وليلة انه اخويا الكبير والكل عارف وأنا العبيط الوحيد اللي هنا وآخرتها عادل يتخطف .. حتى موضوع خطفه دلوقتي بالذات محيرني .
- انت مش ملاحظ إنك بقيت شكاك قوي يا أحمد؟
- انت مش شايف انت كمان إن كل حاجة غريبة ؟ حتى موت والدتك ماكانش طبيعي ، انت ازاي بتتعامل مع الموضوع بالهدوء دا بعد كل اللي أنا شفته و حكيتهولك .
- طيب نمسك الخيط من الأول .. إيه ملاحظاتك من وفاة ماما ؟
- الموت ماكانش طبيعي .. جارتها قالت أنها كانت بتكلمها في التليفون طبيعي وبعدين .
- انت بتسمّع يا أحمد؟ .. أنا عارف الحدوتة .. وبعدين .. عايزنا نعمل إيه دلوقتي ؟



- أحمد بيأس: مش عارف .
- طيب تعالى نروحلها دلوقتي .
- لأ طبعاً .. مش في وسط مشكلة عادل .
- رجعنا لنقطة الصفر .
- سعد انت المفروض تساعدني مش تحبطني .. أنا على آخري .


ينظر أحمد إلى سرير عادل ثم ينهار في البكاء فيحتضنه سعد بشكل تلقائي صامت لثوان ثم يوقف أحمد بكاءه بصعوبة ويتمالك أعصابه ويبتعد عن سعد وهو يعبث في جيبه بحثاً عن منديل فتصطدم يداه بأكياس بلاستيكية فيخرجها ويتذكرها ولكن قبل أن يفتحها يسمعا جلبة خارج الغرفة وصياح عال وصراخ فيتركها علي المنضده ويهرعا خارج الغرفة ليجدا والد أحمد " رؤوف" يخنق حسن وهو فوقه بعد أن أسقطه علي الأرض ويصرخ فيه بعنف بجملة واحدة و يعيدها والأم تحاول إنقاذه منه وندى تبكي وهي تحاول ولكن بوهن وحسن مستسلم له بطاعة غريبة بينما رؤوف في قمة غضبه ووجهه شديد الانفعال والاحمرار وقد أغرقه العرق والدموع واللعاب وهو لا يتوقف عن الصراخ بهستيرية قائلاً :



- قتلت أبوك يا حسن .. قتلت أنس .




(9)

جرى سعد و أحمد نحو رؤوف ونزعوه بصعوبة من فوق حسن، وأجلسوه على أقرب كرسي فأكمل بكاءه ونشيجه وهو يشهق بعمق وعنف وصعوبة جلسا بجانبه مجهدين بينما انحنت الأم على حسن تتأكد من بقاءه حياً ثم تنفست الصعداء واحتضنته وهما جالسان على الأرض بينما بدأت ندى تهدأ وتتمالك أنفاسها وجلست على الأريكة منهكة وظلوا صامتين جميعهم حتى أنهى الأب بكاءه و اعتدل حسن وأسند ظهره على الجزء الأسفل من الأريكة بجانب ساق أخته وجلست أمه بجانبه بعد أن هدأت كذلك.

وجه الأب الكلام لحسن ودار الحوار بينهما بينما الجميع صامت يتابعهما بهدوء والأم صامتة بغضب بينما تظهر الحيرة علي وجهي أحمد وسعد اللذين فاجأهما الحوار بشدة:

- عايز إيه يا حسن منا بعد ما قتلت أبوك ؟
- أنس مش أبويا و أنا ما قتلتوش
- كداب
- مش هتقدر تكدبني بعد كدا
- نعم ؟
- أنا رحت المستشفى قبل ما اجي مصر ومعايا الدلائل اللي تثبت بنوتي ليك انت
- والكلام دا ما ظهرش قبل كدا ليه ؟ ولا انت كنت مستني لغاية ما يموت أنس علشان ما يكدبش بنفسه اللي انت بتقوله ؟




- عمى أنس أحن وأحسن منك بكتير وبجد كان نفسي يكون هو أبويا ويعيش مع أمي، كتر خيره أواني لما انت بعتني وعمره ما حسسني انى مش ابنه، بعد ما عرفت دا وهو حكالي لما سألته، ما كنتش اقدر اجرحه بتمسكي بيك بعد كل اللي عملته فيا انا وأمي.
- كداب .. و غصب عنه كان لازم يعمل كدا .
- مش معنى ان الكلام مش على هواك هتكدبه .. إسأل ماما و هي هتأكدلك.
- أمك الوحيدة اللي مالهاش إنها تنطق في الموضوع دا أبداً.

نظر حسن بغضب لأمه الصامتة ثم لإخوته الصامتين وخرج من باب الشقة غاضبا وصفقه بشدة خلفه وآخر ما قاله قبلها كان :

- أنا هاثبت لكم ان حياتكم هي اللي كلها كدب .

نظر أحمد لأبيه وأمه الصامتين وهو لا يصدق ما سمعه ثم بشكل تلقائي ركض نحو الباب منادياً حسن وركض سعد ليلحق به وخارج الباب وجد حسن قد وقف فعلاً ينظر لأحمد بغضب وأحمد غير قادر على ترتيب كلماته لتخرج بشكل صحيح .

- بابا .. أخويا .. ماما .. إزاي .. أنس .. مين .. فين

توقف برهة و قد هدأ حسن قليلاً وابتسم لتلعثم أحمد فقال بهدوء :




- أمك و أبوك مخبيين كتير عليك، وانت اللي دفعتهم لدا من قبل ما توعى لو عرفت تخرج منهم بحاجة هتفهم كتير ولو ما عرفتش كلمني، هتلاقي رقمي مع ندي .

ثم تركهما و نزل الدرج و هما واقفان في مكانهما وبعد ثوان عادا للمنزل فوجدا الأب دخل غرفته كالمعتاد ولكن في لحظة دخولهما سمعا صوت إغلاق باب الغرفة بالمفتاح من الداخل وهذا ما لم يحدث من قبل وفهمت الأم أنها تعتبر مطرودة من غرفتها تلك الليلة وعليها أن تنام مع ندى في غرفتها، وهذا أضاع على أحمد أي فرصة للتحدث مع أخته بانفراد، ولا يرى أنه قادر على مناقشة أمه في أي شيء حتى يعود عادل.


أشار أحمد لسعد فدخلا غرفة أحمد مجدداً وجلسا في صمت لثوان ثم بدأ سعد بالكلام.


- حسن أخوك بس أبوك مش معترف بيه وشايف انه ابن أنس و انه قتله أو استني موته علشان ييجي يرمى بلاه عليكم .
- مين أنس ؟
- مش عارف .
- حسن غريب من أول مرة شوفته .
- تفتكر علشان كدا لقينا ليه صورة وهو صغير مع أهلنا ؟




- صح .. انت كدا بدأت تربط الخيوط .. عايز أسأله بقى معنى الكلام اللي كان في الورقة اللى سابها لي
- هي فين الورقة دي دلوقتي ؟


قام أحمد و فتح دولاب ملابسه وبدأ يعبث في جيوب سراويله حتى وجد الوريقة ثم عاد للجلوس مع سعد وأعادا قراءتها فبدلاً من أن تساعدهما على فهم أي شيء زادت اسئلتهما "أمك كانت مع عمتك فاتخنقت .. عايز تعرف إيه اللى حصل وتنقذها، فتح مخك وهتلاقي في نفسك اللي ما تتخيلهوش بس لازم تعرف إنك هاتهد حياتك القديمة كلها .. حصلني"


- قال أحمد بحزن: ما هي اتهدت فعلاً خلاص .. يا ريتني ما نزلت وراك يا حسن.



...............................................






في غرفة متواضعة لا تحوي سوي أريكة قديمة بجانب الجدار فوقها نافذة صغيرة، فراش كبير في الجهة المقابلة وعلي الجدار الثالث بينهما منضدة قصيرة عليها تلفاز صغير مغلق وبجانبه جهاز حاسب آلى متنقل مغلق. تجلس على الأريكة الممرضة التي اختطفت الطفل وعلى الفراش يتمدد الفتي الذي ساعدها. تحدث إليها بصوت خفيض وهو يرمق السقف.

- لأ يا فكرية مش ها يستحمل ؟
- انت بتهرج ..دا حفيد قاسم الهجيني .. وآديك شفته تجاوب ازاي معايا من أول مرة
- دة طفل يا فكرية .
- و النبي يا حلمي إهدي بس وخليني أنا اتعامل .
- أنا اتعامل دي هي اللي لبستنا في قضية اختطاف طفل وهتودينا في داهية
- اتقل وما تبقاش خفيف كدا ... هما هيوصلولنا قبل البوليس دا لو كان بلغوا أصلا .. إحنا مش في إيطاليا والناس هنا لو عرفوا سرهم هاياكلوهم .
- بس ..
- ما بسش ... عادل نايم دلوقتي ... دورك>
- هيخاف
- هو خايف من حالة الغموض اللي حابسينه فيها وبقي عنده قابلية انه يتجاوب مع أي عنصر يساعده.
- لكن أنا مش باساعده .
- و هو ما يعرفش دا .



- هايعرف .
- حلمي ما تعذبنيش معاك واعمل اللي بقول لك عليه .
- ما تكلمينيش باللهجة دي .. أنا مش تحت أمرك .
- مش أمر يا حلمي بس انت متردد وترددك دا بيضيع مننا وقت وبيخسرنا اللي كسبناه
- إحنا ما كسبناش حاجة لغاية دلوقتي، علي العكس احنا خسرنا كل فلوسنا ورا طموح غريب في بالك .
- طموح غريب ! مش دي رغبتك أصلا ؟ ولّا انت فاكر إنك لما هاتروح لهم بشكل مباشر و تصارحهم باللي في بالك ها يشجعوك ؟
- بس الموضوع ما يدخلش فيه أطفال .
- دا كدا بس هتقدر تلفت انتباههم ويسمعوك غصب عنهم وينفذوا كمان اللي انت عايزه ولو مش علي هواهم .
- يمكن كلامك صح بس ..
- بطل الحنية المفرطة دي ... إحنا مش هناكل الولد ... انت عليك بس تلهيه عني وتسيبني أنا ادور علي اللي يفيدنا .
- و تفتكري هايدينا حاجة مفيدة ؟
- علي الأقل هايدينا طرف الخيط وبابنا للدخول وبعدها نكمل لوحدنا .
- اتنين في وقت واحد موضوع متعب قوي .
- مش عايزين أكتر من ربع ساعة ... أنا عارفة هادوّر فين.
- ربنا يستر .

..................................


في غرفة صالة فاخرة يجلس علي الأريكة رجل في الخمسين من عمره ممتلئ الجسد ولكن لا تظهر عليه معالم كبر السن يشاهد التلفاز باهتمام وعلى الكرسي المجاور له تجلس زوجته وهي فتاة في منتصف عمره تتمتع بالجمال والرشاقة، تنظر في مجلة مصورة . بدأت كلامها وهي تخبيء وجهها في المجلة :

- مش هاتكلم سعد يا جميل ؟

يغلق التلفزيون وينظر لها بنظرات ريبة وهي ما زالت تخبيء وجهها خلف المجلة

- انتِ عرفتِ منين انه وصل مصر ؟
- كلمني.
- بأي مناسبة يكلمك ؟
- كان بيسأل عليك .
- و عرف رقم البيت هنا منين ؟ وما اتصلش بيا علي الموبايل ليه ؟ ردي عليا وسيبي الزفتة اللي في إيدك دي .

تأخذ نفس عميق ثم تغلق المجلة وتتحدث بهدوء علي الرغم من ارتفاع صوته قبلها

-


- اسأله هو .. بتسألني أنا ليه ؟ ومادام عارف انه في مصر ما اتصلتش بيه انت ليه ؟ هو مش ابنك برضو ؟
- هو اللي المفروض يتصل .
- يا راجل دا انت ماهانش عليك تعرّفه أن أمه ماتت ولا رحت عزاها حتي .
- ما تفتحيش السيرة دي يا ابتسام .
- أنا ما كنتش هاتكلم بس انت اللي مغلطه رغم انه سأل عليك .
- ما اتصلش علي الموبايل ليه ؟
- سلامة عقلك يا جميل .. انت مش غيرت رقم موبايلك من شهر وقلت مش عايز تعرف حد من حياتك القديمة ؟
- ............
- عموماً أنا اديته رقمك الجديد ولو مش عايز تكلمه ما تردش على أرقام غريبة .. بس ما تنساش قبلها تفتكر إنك ابوه .


وضعت المجلة علي المنضدة الزجاجية الأنيقة التي تنتصف الغرفة وتقابل كلا من الأريكة والكرسي وقامت تاركة الغرفة فأراح ظهره علي الأريكة وأغمض عينيه وتنهد بعمق وحرارة تاركاً فيض من الأفكار والذكريات يركض في باله .


................................




جلس أحمد وسعد علي الأرض في غرفته بعد أن أحكم أحمد إغلاق الباب ثم أخرج وريقات من جيبه فكان منها رسالة حسن الأولي له ورسالة أمه ووضع بجانبهم علي الأرض صورة حسن مع أمه وأخته وعمته والثلاثة أكياس التي أخذها من بيت عمته وكان الكيس الأول يحتوي ورق والثاني يحتوي صور مربعة و الكيس الثالث يحوي أظرف حمراء. و ظل مترددا خائفا أن يقربهم فنظر له سعد باستغراب قائلاً :


- مستني إيه ؟
- خايف .
- من إيه ؟
- مش عارف يا سعد ؟
- و دا يُعقل اللي بتقوله دا ؟
- حاسس اني هالاقي حاجات كتير ما اعرفهاش وبصراحة خايف اعرفها .
- ما انت لازم تعرف علشان تفهم .
- وان ما كنتش عايز ؟
- وتفضل مغيب ؟
- أريح
- قصدك أغبي .
- إيه اللي بتقوله دا ؟
- انت ما كنتش كدا، كنت لماح وذكي وبتحب تعرف كل حاجه، من إمتى الجبن دا ؟


- الخوف يا سعد مش حاجة افرح بيها بس حط نفسك مكاني، ناس بتموت بطرق غريبة وناس بتظهر بعد غياب طويل وناس ما اعرفهاش تطلع قرايبي وأمي كانت هتموت وطلع ان ليها مشكله مع عمي اللي أول مرة اسمع عنه واخويا يتخطف وكله ورا بعض و كلام اسمعه والاقي الكل عارفه و أنا مش فاهم منه أي حاجة. ازاي مش عايزني اخاف من دا كله ؟
- الناس اللي ماتوا اللي هما أمي الله يرحمها ومش هنسكت غير لما نعرف إذا كان الموضوع حادثة فعلاً ولّا ظنونك الغريبة دي. أما موضوع " ناس بتظهر بعد غياب طويل" لو مضايقك وجودي يا أحمد أنا ممكن اقعد في بيتنا أو عند ابويا .
- أبوك ؟ صحيح هو عمو جميل فين وما قابلتوش ليه لغاية دلوقتي ؟
- جبت رقمه من سكرتيرته ومراته الجديدة بس مش هاروح بيته غير لما اتأكد انه هناك .
- اشمعنى ؟
- غير كل حياته القديمة من بعد ما اتجوز ابتسام ، شكله مش عايزنا تاني او مش عايزنا نقربلها .
- أو بيغير عليها .
- من ابنه ؟
- أنا مااعرفش .. بقالي سنين ماشوفتهوش من بعد ما سابكم .
- قصدك بعد ما ساب ماما .

يطرق باب الغرفة فيلملم أحمد جميع ما أمامه ويضع عليهم وسادة لتغطيتهم ويسمح للطارق بالدخول مع نظرات شك وحيرة من سعد له .

(10)
- إيه اللي حصل دا يا آمال ؟
- مفيش .
- لأ في .. دي مش أول مرة .
- مش أول مرة إيه ؟
- إيدك تطلع نار .
- انت بتخرف .. إيه اللى بتقوله ده .
- دة اللي شفته بعينيا .
- انت نمت كويس امبارح يا جميل ؟
- بصراحة لأ .
- ليه ؟
- جسمك كان مولع .
- نعم ؟
- حسيت ان عندك حمى وحاولت أصحيكي فصحيتي قلتي لي سيبنى أنام وكأن مفيش حاجة بس الموضوع شغل دماغي للصبح ولقيتك الصبح صحيتي تمام .
- انت متأكد إنك ما كنتش بتحلم ؟
- انت هاتشككينى في عقلي يا هانم ؟
- مش قصدى بس الكلام اللي بتقوله دا عجيب أوي .
- انت اللي أعجب ومهما تخبي هاعرف سرك .
- بطل هزار .
- أنا مش باهزر وبكرة تشوفي .
فتح جميل عينيه الرماديتين وظل يرمق أمامه بلا تركيز ثم قال لنفسه وهو ينهض
- كدبتي عليا يا آمال .. جزاء الكدب الحرق .
..................................


تحرك مقبض باب الغرفة كثيراً فتذكر أحمد انه أغلق الغرفة فقام وفتح الباب وعاد للجلوس على الأرض، دخلت ندى غرفة أخيها فوجدته جالس على الأرض هو وسعد وبجانبهم وسادة فظنت أن أحمد كان يعبث أو يبحث تحت الفراش عن شيء في أدراجه التي رتبتهم منذ يومين بعدما وجدت نصفها علي الأرض ونسيت أن تسأل أحمد عن سبب ذلك. لم تتحدث أو تقول سبب وجودها بل جلست في صمت بجانبهم وهم ينظرون لها بحيرة وأغمضت عينيها وقالت بصوت منخفض:

- تعرفوا إيه عن أهلكم؟ .. تتخانقوا هنا تروحوا بيت عمتي الله يرحمها تتخانقوا هناك تيجوا هنا وإنتم ما تعرفوش كل الحقايق عن أهل هنا وهنا .. غاويين تنطيط وجري بس .

مسك أحمد ذراعها ففتحت عينيها ونظرت له بشكل لم يعتده من قبل من أخته الهادئة الطيبة الخجولة، لم تنظر له بهذا العمق من قبل، بل لم يتجاوز أي حوار بينهم أكثر من عشر دقائق حتى يتركها ويرحل ، يبتسم سعد قائلاً:

- إيه يا ندى الغموض ده ؟.. بالراحة علينا.. وأهلنا إيه اللي احنا غربا عليهم ؟

نظرت له بغضب قائلة :

- انت بتنكر ولّا بتسأل ؟



- سعد : نعم ؟
- ندي : أصلك لو بتنكر هاقولك انت يا غبي يا كداب .. ولو بتسأل هاتبقى معمي .
- سعد : إلحق أختك يا أحمد.. أنا بس علشانك وعلشان هي بنت خالي مش هارد عليها
- أحمد : انت بتقولى إيه يا ندى ؟ ... لاحظي كلامك .

لم تبال ندى بكلمات أخيها وظلت موجهة كلامها لسعد :

- انت تعرف عمو جميل طلق عمتو آمال - الله يرحمها - ليه ؟
- إيه اللي بتقوليه دا ؟
- طب تعرف بعتم بيت الشرقية ليه ؟
- ندى إهدى شوية و بالراحة فهمينا إيه الكلام دا و قصدك إيه ؟

أخذت ندى نفسا عميقا و قامت و قالت:

- مفيش وقت

مسك أحمد يدها قبل أن تخرج من الغرفة فوقفت فأشار بالصورة و رسالة أمه أمامها فأجابت دون سؤال:

- ماما هي اللي قالتلي احطهملك لو حصلها حاجه .


- مين عمي أنس؟
- ما اعرفش
- انا كنت فين لما اتصورتم الصورة دي ؟
- مع بابا ، ماكانش مآمن لوجودك مع ماما وعمتي وحسن .
- اشمعنى انا ؟ و انت لأ ليه ؟

اعطت ندي ظهرها لهم و قالت و هي تخرج من الغرفه في ضيق

- انا كنت صغيرة قوي زي ما انت شايف ، أحمد بجد مافيش وقت لكل الأسئلة دي .. عادل مخطوف واللي خطفه هو اللي قتل عمتي .

..................................


وجد عادل نفسه يقف في غرفة بيضاء بلا أبواب أو نوافذ، فرح لأنه غير مكمم أو معصوب العينين ولكن سرعان ما أدرك انه محبوس في مكان بلا أي أمل من الخروج منه فشرع يبكي ولكن بعد دقيقتين سمع صوت مزلاج يفتح فتوقف عن البكاء ووجد باباً يُفتح من أحد الجدران ولم يكن واضحاً للونه الأبيض المطابق للون الجدار بشكل هائل ثم وجد يداً تمتد من الباب فتردد قليلاً ثم أغمض عينيه وأمسك بها فتم جذبه لخارج الغرفة حيث وجد حديقة واسعة زاهية الألوان ممتلئة بالورود الملونة والأشجار مختلفة الأحجام والأشكال وفي منتصفها بحيرة صغيرة ممتلئة بالأسماك الملونة .




إبتسم عادل ونظر حوله فلم يجد أثراً لصاحب اليد التي أخرجته ولا أثرً للباب الذي خرج منه فلم يبال وركض نحو البحيرة ونزع حذاءه وجلس على الحافة ووضع قدمه بالمياه وظل يحركهما بمرح ويشاهد الأسماك السابحة بابتسامة واسعة لأكثر من ساعة ثم قام وأخذ حذاءه في يده وسار حافياً يشاهد الحديقة ويركض حيناً خلف الفراشات أو يتوقف يرمق الأزهار ويحاول الاقتراب منها دون أن يضايق النحل على أوراقها لخوفه منه.

سمع عادل صوت رجل يناديه فتلفت حوله وظل يحاول تتبع مصدر الصوت حتى وصل لشجرة ضخمة عديدة الأغصان السميكة ووجد شابا في عمر أخيه أحمد جالسا تحتها فاقترب منه بحذر قائلاً :
- انت مين؟ وإحنا فين؟
- أنا حلمي و إحنا في جنينة .
- و إيه إلى جابني هنا ؟
- ما اعرفش .
- طيب انت بتعمل إيه هنا ؟
- حصلني و أنا أقولك .

خلع حذاءه بسرعة و بدأ في تسلق الشجرة وهو يضحك مما جعل عادل يترك حذاءه ويتبعه وهو سعيد.




(11)

تقف نبيلة على باب غرفتها الموصد و تطرقه بهدوء هامسة بصوت منخفض

- رؤوف افتح الباب .
- .....
- رؤوف لازم نتكلم .
- .....
- ماهي الأمور مابتمشيش كدا وانت عارف كويس ان موضوع الانعزال دا مابيجيبش نتيجة.


يُفتح باب غرفة أحمد وتخرج منه ندى مع ارتفاع نداء باسمها من الداخل دون أن تلتفت له وتقف لثوانٍ ترمق أمها الواقفة أمام باب غرفتها الموصد ثم تتجه لغرفتها ولكن نداء أمها يوقفها وتنظر لها بعيون دامعة.


- مالك يا ندى؟
- أحمد بيستغبى ومُصر يعيش دور الضحية في وقت لازم كلنا نقف جنب بعض علشان نرجع عادل .
- انت عملتي إيه في موضوع عادل أصلاً ؟
- مش عارفة أركز وسط القلق اللي احنا فية دا .





- وحسن ؟
- قفل موبايله بعد ما خرج من هنا ومش عارفة أعمل حاجة خالص.
- خلاص سيبيني و أنا هاعرف أوصل له .



ينفتح باب غرفة النوم بعنف و يخرج رؤوف منها و يمسك ذراع زوجته نبيلة بعنف صائحاً



- تعرفي لو عملتي كدا ... مش هتعرفيني تاني .
- بس دا إبني يا رؤوف و هو اللي ها يرجّع عادل .
- البوليس ها يرجّع عادل و دا كلام نهائي .. فاهمة ؟



..................................




صعد عادل خلف الفتي الضاحك على الشجرة ذات الأغصان الكثيرة السميكة و لكن أثناء صعوده شعر بشيء من الألم في رأسه فتوقف قليلاً ولاحظ الفتى ذلك فزاد من صوت ضحكه ولكن حين لم يجد من عادل تجاوباً نزل وجلس بجانبه على الغصن الجالس عليه وسأله عما به فأشار عادل بعفوية نحو رأسه.


- عندى صداع و بيحصل لي حاجات غريبة .
- حاجات غريبة ازاي؟
- سامع صوت بابا وعياط ماما وندى وأبيه أحمد بيزعق .
- بص قدامك يا عادل .. شايف إيه ؟
- جنينة كبيرة .
- شايف حد من أهلك ؟
- لأ.
- يبقى استمتع بالمكان دا علشان مش هيفضل كتير وبعد كدا هارجَّعك لأهلك .
- بجد ؟ .. دول وحشوني قوى .
- عارف .. يلّا نلعب و أنا هاوصّلك لحد عندهم .

ثم عاد لتسلق الشجرة و تحامل عادل على نفسه رغم ألم رأسه و بدأ يكمل تسلق الشجرة خلفه دون أن ينتبه أن قمة الشجرة تتوارى فوق السحاب.

..................................


يجلس جميل و آمال على مائدة الطعام و حدهما و ينظر جميل في طبقه كثيراً ثم يقول بحزم
- آمال.. إنتِ طالق .
- إيه ؟
- زى ما سمعتي .
- ليه يا جميل ؟ .. بعد العمر دا بسهولة تبيعني ؟
- إنتِ مش حاسة باللي فيا .
- عرفني اللي في بالك .. ولّا أقولك ؟ .. ها اعرّفك أنا .. ابتسام سكرتيرتك الجديدة حركت رجولتك، حسستك بشبابك اللي نسيته .
- آمال خلينا نفترق بهدوء أحسن .
- بعد العمر دا بتقول نفترق بهدوء ؟ .. إنت بتستهبل ؟
- لمي لسانك يا آمال .. أنا عمري ما أهنتك و لا غلطت فيكي فمش على آخر أيامنا نهين بعض كدا .
- طيب فهمني ليه خدت القرار دا ؟ أنا قصرت في إيه .. دا حتى لما بطلت تلمسني استحملت وكملت معاك .
- إنتِ اللي استحملتي ؟ أنا على آخري وساكت .
- طيب اتكلم .. قلي إيه اللي حصل مني علشان تطلقني .. ولّا أقولك، روح أنا مش عايزة أسمعك واتجوز سكرتيرتك ما انتم كلكم بتكبروا و تتهطلوا .
- تاني يا آمال ها تغلطي ؟ بصي يا بنت الحلال .. أنا صبرت عليكي علشان العيال ولو ما خدتيش بالك أنا اهتميت انهم كلهم يعيشوا برة مصر علشان لما أسيبك يبقوا ملهيين بحياتهم أما عن سبب سيبتك ليه، فعلشان انتي مش طبيعية .. مش مريضة ولا مجنونة، بس شيطانة.
..................................



- هي أختك اتجننت يا أحمد ؟ إيه اللي جاب سيرة أمي و أبويا في الموضوع دلوقتي ؟ .. وإيه اللي فكرها ببيت الشرقية أصلاً ؟ دا أنا ما رحتهوش من ساعة ما اتحرق وبابا ما صلحش فيه حاجة لغاية ما طلبت أسافر فباعه واداني فلوسه.
- ما أنا عارف .. بس شكل فيه حاجة حصلت فيه.
- حاجة إيه يا أحمد إنت ها تطاوع أختك في جنانها ؟
- لأ مش جنان يا سعد .. أنا حاسس ان فيه لغز.
- لغز .. إيه يا بني الكلام الكبير دا ؟
- فيه صورة كبيرة واضحة كسروها لعشرين حتة وعليا أجمعهم وأرتبهم علشان أشوف الصورة دي.
- صورة إيه و بازل إيه اللي انت فيه دا ؟ غير كدا هما مين اللي كسروها ؟
- أهلنا اللي ما نعرفهمش ..
- إنت بتخرف.
- مش دا اللي قالته ندى برضو ؟
- أختك تلاقيها متوترة بس علشان عادل.
- يلّا بينا يا سعد.
- على فين ؟
- ها نروح لطنط نادية.



(12)


ظلت ندى تحاول عدة مرات مع هاتفها الجوال ذو الشحن الضعيف القابل للنفاذ بلا نتيجة ثم فتحت دولابها وغيرت ملابسها وفتحت حقيبتها وأفرغتها مما بها من أوراق ومستحضرات تجميل وغيرها ثم فتحت درج دولابها السفلي وأخرجت منه حقيبة سوداء قماشية صغيرة مغلقة فوضعتها في حقيبة يدها دون أن تفتحها ووضعت هاتفها أيضاً وفتحت باب غرفتها بهدوء فوجدت غرفة نوم أبويها مغلقة و أحمد و سعد يخرجان من باب المنزل فانتظرت لدقيقة ثم دخلت غرفة أحمد وأغلقتها عليها وظلت ترمق كل شيء دون تركيز ثم ضايقتها الفوضى التي عليها الغرفة التي لطالما حافظت عليها لمحبتها لأخيها الحاضر الغائب والصامت دوماً.

أغلقت النافذة ووضعت الوسادة على الفراش ورأت الأكياس والأوراق التي تحتها فقرأتهم جميعاً في عجالة ووجهها يبتسم حيناً ويدمع أحياناً وتظهر علي ملامحها إمارات الدهشه ثم تعبيرات الفهم ثم في النهاية أخذت بعضهم ووضعته بحقيبتها ورمقت الباقي بغضب ووضعتهم على السرير قائلة :

- يا ريت بس يفهم و يقدّر .

ثم تراجعت وأعادتهم على الأرض مجدداً ووضعت الوسادة عليهم وخرجت من الغرفة تشعر بالاستياء لنسيانها سبب دخولها لها.


..................................


جلس رؤوف على الفراش تاركاً زوجته على باب الغرفة بعد أن أغلقاها على نفسيهما فنظرت له طويلاً وهو يرمق النافذة المغلقة ثم جلست بجانبه وقالت بهدوء :

- رؤوف أنا عملتلك اللي طلبته طول السنين اللي فاتت أرجوك اسمحلي أنقذ ابننا.
- كدابة يا نبيلة ... لولا موت آمال ما كنتش عرفت إنك لسة زي ما انت .. والله أعلم عملتي كدا كام مرة من غير ما أعرف.
- أيوة أنا زي ما أنا ومش بانكر نفسي بس أقسملك يا حبيبي إني فعلا ما رحتش أي حتة من يوم ما اتجوزنا قبل موت أختك .. ووضعها بس يومها هواللي خلّاني أكسر كلامك.
- أختي ماتت يا نبيلة، وانتِ كنتي ها تحصليها وتسيبوني لوحدي .. أنا العاجز اللي فيكم.
- ما تقولش عاجز.
- لما ما أعرفش أحمي أسرتي أو أحكم بيتي أبقى عاجز يا نبيلة وحسن مش هيعيش وسطنا.
- أنس مات يا رؤوف .. لو رميت ابنك تاني ما حدش هيرعاه.
- ما تقوليش ابني .. حسن زي أنس مش زيي و ما تضحكيش على نفسك وعليا .. أنا سكت زمان لكن لو أصريتي تفتحي الموضوع دا تاني أنا مش هاسكت المرة دي.

..................................



اختفي الفتي الذي يصعد الشجرة فوقه فجأة فأجفل عادل ولكن تشبث بالغصن وتماسك حتي لا يسقط وتوقف عن التسلق وجلس علي الغصن الذي كان يقف فوقه متعجباً من اختفاء الفتي الغريب الذي لم يعد يذكر أسمه، لم يسمع صوت يدل علي سقوط أو إفلات الغصن أوأي شيء ورغم ذلك نظر للأسفل ليتبين إذا كان سقط ففاجأه أنه وجد نفسه ارتفع بشكل شاهق ومرعب لم يتخيل الوصول إليه أبداً ، نظر للأعلي فوجد أن الشجرة تمتد للأعلي بشكل لا نهائي يتخطي السحاب فخاف ولكن انتبه أن الألم الذي شعر به اختفى أيضاً.


شعر بالحيرة وفكر في أن يواصل التسلق ليري نهاية تلك الشجرة العملاقة و ليصل للسحاب الذي لطالما أمتعه شكله من علي الأرض ولم يتخيل يوماً أن يجد وسيلته للوصول إليه بشكل مباشر لا عن طريق طائرة فيراه من خلف النافذة .


ظل يصعد بسعادة وفرح لأن أنفاسه لم تقل وساقيه لم يتعبا كما يصعد سلم منزله، ربما الصعود أصبح أقل تحدياً بعدم وجود منافس، ربما أقل مرحاً بدون تطاير الضحكات وأطراف الحوارإلا أن حلمه للوصول للسحاب كان أقوي من منعه لذا أكمل تسلقه بكل حزم وبدأ يخاطب نفسه ويفكر بصوت عال .







- أبيه أحمد مش ها يصدق اني وصلت للسحاب، ولا أي حد، مش كنت خدت معايا كاميرا
- كاميرا إيه و هو مين اللي كان ها يصورني يعني ما هو عمو اللي مش فاكر اسمه ضاع مش عارف ازاي .
- بس ندى ها تصدقني، وماما كمان، يا رب تكون خفت لأنها وحشتني قوي، بابا مش هيصدق، دا لو سمعني أصلا، بابا بقي غريب قوي .. يارب يخف ويرجع يكلمنا ويضحك معانا زي زمان .



أستغرق عادل في حواره مع نفسه وهو مستمتع بارتفاعه المستمر وظل ينظر للأسفل فلا يرى أي ملامح واضحة وينظر للأعلي فيجد السحاب أقرب فيبتسم ويواصل التسلق ولم ينتبه للغصن الصغير الذي قابله وكان أضعف من أن يتحمل ثقله فانثني بقوة تحت قدمه فوجد عادل نفسه معلقا علي الشجرة بذراعيه بينما ساقيه يرقصان في الهواء من تحته وظل يبحث عن أي غصن آخر ليضع قدمه عليه ففاجأه اختفاء الغصن الذي كان يمسكه بكلتا يديه فصرخ وهو يهوي من ارتفاعه الشاهق .






(13)

وقف أحمد وسعد أمام باب شقة أسود اللون في نفس المبني الذي تسكن به آمال عمة أحمد ووالدة سعد، تردد أحمد قليلاً ثم دق جرس الباب وانتظرا فلم يجدا أي نتيجة، تململ سعد في وقفته بينما أحمد طرق الباب بإصرار مجدداً ولكن بلا أي نتيجة، توجه سعد للسلم بينما دق أحمد جرس الباب مجدداً فقال سعد بعد أن أولاه ظهره وبدأ في نزول السلم ببطء منتظراً أحمد

- مفيش حد يا أحمد .. يلا

دق أحمد الباب مرة أخيرة باستسلام ثم لحق بسعد ولكن بعد خطوته الثانية علي السلم فُتح الباب وظهر رجل في الخمسين مشعث الشعر، ناعس الملامح يتثاءب في منامته بعيون شبه مغلقة فعاد أحمد له بسرعة قائلاً بفرح :

- إزيك يا عمو حازم ... طنط نادية موجودة ؟

ضيق الرجل نظرة عينيه ليتبين من أمامه ثم قال بتعجب :

- لا مش موجودة ... إنت مين يا ابني ؟








قبل أن يرد أحمد عاد سعد ليقف بجانبه قائلاً بابتسام :

- إزيك يا عمو حازم .. أنا سعد ابن جاركم جميل اللي ساكنين في الدور الخامس
- سعد ابن الشيطانة آمال .. إمشوا من هنا لأقتلكم .


وأغلق الباب بعنف في وجههم وقد وقفا يحملقان في الباب في دهشة ثم نظرا لبعضهما بتعجب أنقلب لغضب عند سعد الذي مد يده نحو الجرس فأوقفه أحمد بسرعة .

- سيبني يا أحمد دا راجل قليل الأدب .
- دة راجل كبير يا سعد وشكله بيخرف، عموماً طنط نادية مش هنا دلوقتي ووجودنا زي قلته .


.........................







تجلس فكرية على الأرض واضعة يدها على رأس عادل المستلقي بجانبها بجوار الجدار بينما أمامها هناك كرسي يجلس عليه حلمي مغمض العينين مقضب الجبين كمن يقوم بالتركيز بشدة وتتساقط قطرات العرق بغزارة على وجهه بينما عادل نائم بعمق والعرق يغمره أيضاً.

ظلا هكذا لساعة حتى طرق الباب الخارجي فانتبهت فكرية ورفعت يدها من على رأس عادل وربتت على ساق حلمي فخرج من الحالة التي عليها فأشارت إليه بصمت فأخذ الكرسي وخرجا من باب الغرفة وتوجهت هي لفتح الباب بينما حمل الكرسي للشرفة.

فتحت الباب لتجد ندى تقف أمامها بثبات ظاهري فابتسمت بسخرية قائلة:
- بجد عيلة قاسم الهجيني دي مالهاش حل!

و فاجأها أن رد ندى كان ضربة قوية بحقيبة يدها الثقيلة أسقطتها على الأرض وأفقدتها وعيها.. نظرت ندى حولها فلم تجد أحدا فتخطت فكرية المستلقية على الأرض ودخلت المنزل وخطت خطوة ثم تراجعت وجذبت فكرية لداخل الشقة وأغلقت الباب بهدوء ووقفت ترمق الأبواب التي أمامها لتقرر أيهما تبدأ به ثم بدأت النداء على عادل بصوت هامس فسمعت جلبة خفيفة من الشرفة وقبل أن تتحرك وجدت حلمي يخرج منها ويرمقها ويرمق فكرية بغضب .

.........................

على فراش وثير يستلقى جميل محدقا فى السقف بلا انتباه بينما تعاني رئتيه فى التنفس نتيجة ضغط بطنه الضخم عليها ... دخلت زوجته الشابة ابتسام ونظرت له وهو شارد ثم نظرت لانعكاسها فى المرآة بتحسر، شعرت بألم خفيف فى بطنها فتحسستها وتوجهت نحو الفراش وجلست بجانب زوجها الذى لم ينتبه لها حتى وضعت يدها على يده فالتفت لها وجدها تبتسم له بهدوء .

- خير يا ابتسام ؟
- مالك ياجميل إيه اللى شاغلك ومضايقك كده؟
- مافيش .
- إنت من ساعة ما عرفت ان ابنك رجع مصر وانت مش تمام .
- ما تشغليش بالك انت
- ياجميل بالك هو اللى مشغول على طول ومش عارفة اتكلم معاك
- عايزةإيه يا ابتسام ؟
- ولا حاجة ... مش عايزة أكتر من إنك تحسسنى إنك عايش مع إنسانة مش كرسي
- .....................
- جميل ... انت مقاطع ابنك ليه ؟
- هو كلمك تاني ؟
- لأ ... أنا بسألك بس إيه الجفوة دى مع عيالك ؟
- ما لكيش فيه ... أنا مش كويس معاكى ؟ ... إنسي اللي كان قبلك .


- بس انت ما كنتش كدا قبل طلاق آمال .
- قصدك إيه .
- أنا شغالة معاك بقالى عشر سنين وحنيتك مع عيالك ومعايا هى اللى شدنى ليك .
- ما تنرفزينيش يا ابتسام ... انتى مراتى مش بنتى .
- مش قصدى، أنا قصدى بس اقول إنك بعد طلاقك قاطعت عيالك واتجوزتنى وبقيت حد تانى .
- هو أنا قصرت معاكى ؟
- لا ... بس
- يبقى تسكتى وتحمدى ربنا على اللى انتى فيه ومالكيش فى غيرك .
- طيب فهمنى ليه القسوة دى ... إقنعنى أنى مش السبب .
- إنتى مش السبب .
- يا سلام .
- أخرجى من دماغى يا ابتسام أنا مش ناقصك .
- جميل انت أب .
- مش ابوكى يا ابتسام .
- ابو ابنى يا جميل
- إيه ؟
- أنا حامل .
- أنا مش عايز عيال تانى .. إخلصى منه أحسن ما اخلص أنا منك .


(14)
يعلو جرس باب بيت أحمد كثيرا فتخرج نبيلة من غرفة نومها وتنظر لأبواب غرف أبنائها المغلقة بدهشة ثم تفتح باب الشقة فتجد ساعى البريد وتستلم منه ظرفا أبيضا كبيرا وتمضي باسمها وتستلمه وتغلق الباب وهى مندهشة لهدوء البيت الذى لم يحدث منذ عامين حين اعتاد عادل النوم أمام التلفاز.
دخلت غرفة ندى وجدتها فارغة ثم دخلت غرفة أحمد فوجدتها فارغة كذلك فرفعت صوتها
- رؤوف هما عيالك فين ؟
- ما اعرفش .
نظرت من النافذة المفتوحة فوجدت الشارع غارقا فى الظلام فشعرت بألم فى قلبها فخرجت مسرعة من الغرفة و قد سقط الظرف من يدها بجانب الوسادة على الارض دخلت غرفتها ونظرت لزوجها بقلق وقالت بعيون دامعة :
- قلبى واجعنى .
- إيه اللى حصل ؟
- البيت فاضى .. هى ندى قالتلك انها نازلة ؟
- لأ .. بس بقالنا فترة ما بنتكلمش أصلا وأظنها اتعودت تنزل تجيب طلبات البيت من غير ماتعرفنى .
- انت ما بتروحش شغلك ليه ؟ ... و عيالك ذنبهم إيه فى سكوتك دا ؟ يعنى لا أم و لا أب؟ . غير كدا طلبات إيه اللى ها تنزل تجيبها دلوقتى ؟
- نتكلم بعدين يا نبيلة ... أنا هاتصل بيها اشوفها فين .
.........................
يقف سعد أمام باب شقته فينهره أحمد فى ضيق:
- رايح فين ياسعد ؟ ... مافيش وقت .
- إنت اللى رايح فين يا أحمد ؟ .. أنا تعبت معاك اليومين اللى فاتوا وعايز انام شوية .. دا أنا جاى من سفر.
- يعنى لو حد من اخواتك كان اتخطف كنت هاعرف انام و اسيبك ؟
- طيب عايزنا نروح فين دلوقتى ؟
- لحسن .
- إنت تعرف مكانه ؟
- لأ
- و هاتروحله فين بقى ؟
- ها اكلم ندى أسألها .
يتصل أحمد بأخته فيجد هاتفها مشغولا فيقول بغيظ :
- وقته دا ؟
- إيه ؟
- بترغى مع حد .
- طيب تعالى نستريح جوة ونتصل بيها تاني .
يسمعا صوت خطوات تصعد بثقل على السلم مع صوت شهيق أنثوى عميق فينظرا على السلم ليجدا أمرأة فى منتصف أربعينها تحمل حقيبتين بلاستيكيتين سوداوين يصعبان سيرها فركض أحمد نحوها وحملهما عنها مبتسما ابتسامة و اسعة .
- ازيك يا طنط نادية ... وحشتينا قوي قوي .
ابتسم سعد وفتح باب شقته على اتساعه .
.........................
ينظر حلمى لندى الواقفة بجانب أخته الغائبة عن الوعى على الارض .
- ينفع كدا ؟
- يعنى تخطفوا أخويا وعايزنى أسكت ؟
- ما هو أبوكى هو اللى معقد الدنيا .
- ماهى أختك مجنونة وكلامها ما ينفعش ... أنا مش عارفة إنت ماشى وراها ازاى .
- ما تقوليش ماشى وراها .
- دى اللى وجعتك قوى يعنى .. عادل فين ؟
- ما تقلقيش عليه هو كويس .
- أنا قلت فين مش عامل ايه .
- ندى إهدى ... أنا عايز اتكلم معاكى شوية .
- هتقول إيه جديد يعنى ؟
- بصى احنا ماتكلمناش كتير ومفهمتيش و جهة نظرنا.
- عادل الأول يا حلمى .
- لو ما تكلمناش لا إنتي ولا أخوكي هاتشوفوا أهلكم تاني .
- إنت بتهددنى ؟
- لو ما هديتيش آه ... إسمعى كلامى أحسنلك .
- طيب .
- ساعدينى نحط فكرية على السرير جوة بدل رمية الأرض دي وبعدها نتكلم .
تضع ندى حقيبتها على الارض و تحمل فكرية مع حلمى ويرن هاتفها بصوت مكتوم داخل حقيبتها عدة مرات دون انقطاع ثم يغلق بشكل تلقائى لانتهاء طاقته المشحونة بداخله .
.........................
تجلس ابتسام باكية فى الحمام لأكثر من ربع ساعة تنظر فى المرآة ثم تتحول تعبيرات ملامحها للتعاسة ؟ تشعر بألم فى بطنها فتنظر لها بغضب وتضربها بقوة .
- مش عايزك هاتيجى ليه ؟
تنظر مرة أخرى للمرآة وتبدأ تحدث نفسها فى حوار من طرفين كلاهما هي:
- وهو ذنبه إيه علشان تضربيه ؟
- أضرب مين .. و أنا اتأكدت أصلا انه موجود ؟
- أمّال قلتى لجميل ليه إنك حامل ؟
- إحساسى بيقول لى ان فيه طفل .
- و لو مافيش هتقوليله إيه ؟
- نزلته.
- بالبساطة دي ؟
- هو مش عايزه أصلا .
- إنتِ مجنونة .
- أنا بحبه وكنت عايزة أرجع له شعور الأبوة.
- كدابة ... لو بتحبيه ماكنتيش اتحسرتى على شبابك .
- أنا عايزة ابقى أم .
- إنت مش عارفة عايزة إيه ... أو بالأصح عايزة كل حاجة ... الزوج الغني وجبتيه وعايزة دلوقتى طفل علشان تبقي أم وزوج تشوفى فيه شبابك .
- هو غلط أني أحلم ؟
- دى أنانية مش حلم ... فوقى لا تخسرى كل حاجة .
غسلت وجهها وخرجت من الحمام وذهبت لزوجها مبتسمة قائلة
- إحجز لى عند الدكتور شوقى يا جميل .. ها عمل لك اللى انت عايزه .
(15)

يخرج سعد من المطبخ حاملا أقداح القهوة ويضعهم على المنضدة التى أمام أحمد ونادية فيقول أحمد ممازحا:
- عرفت تعملها ولا الغربة نستك ازاى تعملها بوش ؟
- تصدق خسارة فيك القهوة.
- اشربى يا طنط نادية و قوليله انه ما بيفهمش .
- نادية : شاطر من يومك يا سعد .
- أحمد : طالما طنط نادية شهدت لك نشرب مطمئنين .
- سعد : إنت مالكش قهوة أصلا بعد اللى قلتة بس كرم منى ها سيبك تشرب .
- أحمد : خلاص اشرب الاثنين خليك ما تنامش عليهم يومين وترجع تعيط وتقول مش عارف أنام .
- سعد : ما لكش فيها ... هاشربهم وهانام برضو .
- نادية : طيب لما تخلصوا ابقى تعالولى .
- أحمد : وحشتينا ياطنط .
- نادية : و إنتم أكتر..بقى يا واد مش عارف تتصل تطمن عليا من وقت للتاني ؟ و انت يا أحمد نسيتنى بعد ما سعد سافر ؟ .. عيال قليله الأصل .
- سعد : حقك علينا يا طنط.
- نادية : علشان أمك بس هاسامحكم ... الله يرحمها كانت خيرها على الكل مهما قالوا عنها.
- أحمد : بمناسبة قالوا عنها ... إحنا قابلنا عمو حازم من شوية لما رحنا نسأل عليكى وقال كلام وحش على عمتى آمال .

صمتت نادية قليلا ثم احتست رشفة كبيرة أخرى من قدحها.
- نادية : هو حازم واحد منهم ؟... أنا ما كنتش عايزاكم تقابلوه .
- سعد : من مين يا طنط ... و ليه قال كدا ؟
- نادية : من اللى ما فهموش آمال وتميزها ؟
- أحمد : تميزها في إيه ؟
- نادية : أبوك يا أحمد وأبوك يا سعد وحازم جوزى وكذا حد تاني غلطوا فى آمال كتير وهى استحملت وصبرت وحافظت عليك يا سعد انت واخواتك و على جوزها لغاية ما أعصابها تعبت فما بقتش قادرة تسيطر طول الوقت وطلع عليها اللقب .
- سعد : لقب ؟
- نادية : آه ... اللى سمعته من جوزى ... الشيطانة آمال .
- أحمد : حتى بابا قال كدا ؟
- نادية : لا طبعا ... بس نكرها و مابقاش يسأل عليها غير فين وفين وحاول يبعدك عنها وعن سعد.
- أحمد : إمتى دا ؟
- نادية : لما قالك ان سعد ضايق ندى وإنتم فى ثانوي .
- سعد : أنا فاكر الموضوع دا وزعلت من خالي قوي بعد ما قابلت أحمد و روحنا لندى بعد مدرستها و قالتلك يا أحمد دا ما حصلش أنا لفترة بطلت اروح بيتكم بعدها
- أحمد : طيب ليه حصل دا يا طنط و ليه اللقب ده ؟
- نادية :دا حوار يطول .. فتحوا دماغكم و اعملوا قهوة تانى وهاحكيلكم .
.........................
فى صالة بيت أحمد يجلس رؤوف و نبيلة تتحرك فى الغرفة بلا توقف
- ها يا رؤوف؟ و صلت لإيه ؟
- فضل يرن كثير وبعدين اتقفل خالص .
- وهى ندى ممكن تعمل كده ؟
- إنتى بتسألينى أنا ؟ مش كانت سرك هى ؟
- ما انت قلبت حال البيت لما أنا غبت شوية .
- غبتى ؟ انتى كنتى بتموتى يا نبيلة والموضوع دا ما اتقفلش بس مش وقته دلوقتى الكلام فيه .
- طيب هنعمل إيه ؟
- اهدى بس وها نعرف كل حاجة ... بالنسبة لاسئلتك اللى سألتيها من شوية .. أنا واخد أجازة إجبارى أسبوع .
- إجبارى ؟ ليه كده ؟
- سكوتى ما ناسبش مديري، مش مكفيه اني باخلص شغلى لأ وعايز أرغى معاه
- مش رغى يارؤوف بس أظن انه من حقه لما يسأل يتجاوب، وأنا عارفة عِندك .. لما بتسكت بتحلف ما تنطق ان شالله تستخدم لغة الإشارة أو تكتب الردود فى ورق ولا تتكلم.
- وهو يعنى هايتعب لو قرا ردى بدل ما يسمعه ؟
- و إيه اللى يجبره ؟
- إحتراما لرغبتى .
- أنا باحترم رغبتك لأنى مراتك وحبيبتك وعيالك إجبارى علشان ولادك لكن الشغل ليه نظام تانى، إنت عارف دا كويس، نوباتك مالهاش حد، عموما حمد لله على سلامة صوتك .
.........................

يجلس حلمى و ندى فى الشرفة الضيقة
- ندى انتى عارفة اننا طبيعيين وأنا عارف إنك مؤمنة بدا ... بس ابوكى هو اللى قافل دماغه وناكر نفسه .
- بابا مش زينا يا حلمى.
- نعم ؟ إزاى دى وراثة .
- من أمي .
- أمك ؟ هو فيه عائلات تانية فى مصر كدا غير الهجينى و عزام ؟
- على حد علمى لأ.
- أمك مش من نسل عزام .. أنا متأكد من دا.
- بس حفيدة قاسم الهجينى .
- قاسم ماعندهوش غير محمد ... جدك.
- و زبيدة ؟
- زبيدة مين ؟
- أم أمي .
- أهلك قرايب ؟
- آه .
- و كانت فين زبيدة دي ؟
- من مطرح ما جيت انت .
- إيطاليا ؟
- آه مع أمها .
- فهمينى أكتر .


- اللى حكِتهولي أمي ... إن جدتى زبيدة كان عندها 2 .. هى واخوها صالح
- هو فيه صالح ؟
- اه بس ما أوعاش عليه.
- ليه ؟
- هاتسبنى احكى و لا اجاوب أسئلتك
- إحكى
- قاسم الهجينى جاب ولد وبنت واتصدم لما عرف انه مش زى أي حد .. إحنا بتكلم عن حاجات من 100 سنة فاتت ؟ الناس كان تفكيرها أضيق ... قرر يموت بنته ويعيش ابنه فى الصحرا ويعزله عن الناس ... مراته رفضت وهربت لايطاليا بزبيدة وعاش فعلا فى الصحراء ومات هناك وجدى محمد وقتها جا تاني للقاهرة واشتغل هنا ... لاحظ تميزه بس خاف منه فكتمه جواه كسر ... لكن السر اتفضح فى عياله اللى جم زيه ماعدا بابا .
- اشمعنى ؟
- لعبة جينات بقى .
- و زبيدة إيه اللى حصل لها ؟

قبل أن تجيب ندى فاجأتهم فكرية التى استعادت وعيها ووقفت على باب الشرفة تقطر عيناها شذرا.
- طب ما نجيب اتنين لمون احسن ... كدا يا حلمى .. تسيب أختك وحلمنا وتقعد تحكى مع اللى ضربتها ؟ أنا مش هارحمكم


(16)

تدخل ابتسام إلى البيت فتجد جميل يجلس على كرسى فى الصالة ينتظرها فتبتسم له
- عملت لك اللى انت عايزه ياحبيبى ما تقلقش .
- انتى كدابة .
- ليه بتقول كدا ؟
- أنا كلمت شوقي وقال لى ما كانش فيه حمل أصلا .
وضعت حقيبتها على المنضدة وجلست أمامها .
- أنا كنت حاسة اني حامل
- هو بالإحساس ؟
- آه بالإحساس ؟ ولّا انت فاكر ان الناس بقت زيك كلها ما عندهمش إحساس
- إتلمى يا ابتسام .
- إنت عايز إيه منى دلوقتى؟ .. مش قلت إنك مش عايز عيال و الا هتخلص منى ... آدينى خلصتك من الهم دا على حساب أمومتي .
- أمومتك مين يا ابتسام .. إنت ها تعمليهم عليا ؟ إنت إنسانة مغرورة ما يهمكيش غير نفسك ولو كنتى جبتى عيال كانوا هايتعذبوا معاكى .
- منين تحكم عليا فى حاجة ماشفتهاش بنفسك ؟
- عموما دا مش موضوعنا.
- أمال إيه موضوعنا ؟
- إنك كدبتى .


- كنت عايزة أشوف استعدادك و رد فعلك .
- و عرفتيه ؟
- آه .
- طيب انتِ طالق
- .............................
- لمى هدومك وبكرة بدرى امشى من هنا.
- ليه كدا يا جميل ؟ ولّا انت اتعودت تبدل فى الستات والطلاق سهل عندك ؟
- الكداب عندي مالوش غير اني أبعد عنه .
- الموضوع مش مستاهل دا كله .
- أنا مافيش فى عمري كتير علشان اضيعه على كدبة جديدة .
- كدبة جديدة ؟ قصدك إيه ؟ أنا ما كدبتش عليك قبل كدا.
- لا كدبتى بإحساسك وأناعديتها بس التكرار لأ .
- إحساسى ؟
- إبتسام انت من يوم ما اشتغلتى عندى وانتى طمعانة في فلوسى وعشت دور الطيبة اللى مهتمة بصحتى وأسرتى و دا ما كانش من مهام شغلك وقلت ماشي ولما طلقت آمال اهتمامك زاد أكتر. أنا قاريكى من أول يوم وقلت خلاص اكافيء مجهودك اللى فات وادلعك آخر أيام عمرى واهو الاقى حد يتاوى جتتى بدل ما تعفن فى البيت لو مت لوحدي ... بس كدب تاني لأ .. مش هاسمح ..
.........................

ترشف نادية آخر رشفة من قدحها وأحمد و سعد جالسان أمامها بعيون مندهشة و قد بردت قهوتهما التى نسياها من غرابة ما سمعاه ثم تكلما ببطء بالتوالى
- سعد :أمي بتطلع نار .
- أحمد :أمي بتطير.
- نادية : لأ بتتنقل يا أحمد .
- سعد : أبويا طلق أمي علشان كدا .
- أحمد : عندى خال وعم ما اعرفش بوجودهم أصلا .
- سعد :أمي اللى ولعت فى بيت الشرقية.
- أحمد : بسببى.
- سعد : إحنا غير عيلتنا.
- أحمد : و ابويا .
- سعد : احنا غربا.
- أحمد : قصدك احنا اللى غربا.
- نادية : طيب يا شباب أنا تعبانة .. هاسيبكم تفكروا فى اللى سمعتوه ونتكلم بعدين
- أحمد : ابويا قريب أمي ؟
- نادية : حد بس يساعدنى فى شيل الشنطتين علشان مش قادرة .
- سعد : حاضر يا طنط
- أحمد : إدينى بس رقمك علشان عمو حازم ما يطردناش تاني .
- سعد : رقمك ؟؟ إحنا ما كلمناش ندى تاني يا أحمد
.........................

تدخل نبيلة الشرفة المظلمة وتتصل بندى مجددا فتجد أن هاتفها ما زال مغلقا فتتصل بأحمد وتسأله عن ندى فلم تجده يعرف شيئاً فتأمره بالعودة إلى المنزل ثم تنظر لخارج الشرفة فترى نور الحمام ما زال منيرا فتطمئن لانشغال زوجها فتتصل برقم غير مسجل على هاتفها ولكنها تحفظه وتتكلم بهمس وهى موجهة ظهرها للشقة .
- أيوة يا حسن .
- ....
- معلش يا ابنى حقك عليا .
- ....
- مصيره هايعرف وقريب قوى ما تقلقش .
- .....
- قلقانة على أختك ندى .. ما تعرفش هى فين ؟
- ....
- وانت كنت قافل موبايلك ليه ؟ .. دلوقتى هى اللى موبايلها مقفول ومااعرفش عنها حاجة .. أنا خايفة يكون حصل لها حاجة وانت آخر حد كلمته
- ....
- إزاى يا حسن .. دا هى الوحيدة اللى تقدر تلاقينا مش العكس.
يدخل رؤوف الشرفة وتلتقط أذنه اسم حسن فيصيح دون مراعاة وجوده بالشرفة .
- لو مش شايفة يا نبيلة إني أقدر احافظ على عيالى قوليلى وابقى خلى ابنك ينفعك
ويخرج من الشرفة ثم المنزل مغلقا الباب خلفه بعنف .
(17)
تشعر ندي بحزن غامر يجتاح فكرها، حزن عنيف غير مبرر دفع بالدمع لمقلتيها بغزارة فغامت الرؤيه ولم تعد تري حلمي وفكرية بوضوح، حزن متزايد بمرور الثواني، حزن دفع بأسوء الأفكار في ذهنها ودعاها للتخلص من حياتها ككل فنظرت نحو سور الشرفة بتردد وأخذت تجمع شجاعتها لتقدم علي خطوة ما ولم يمنعها من أفكارها السوداء تلك وجود شخص يشاهد انهيارها العصبي ذلك، ولم يعنِها نداءات حلمي لها أو حواره مع أخته الذي دار بجانبها فلم تعي منه شيئاً لحزنها الجامح .
- بطلي يا فكرية
- خايف عليها ؟
- حرام عليكي البنت لسة صغيرة.
- و ايه المشكله في دا؟
- فكرية بطّلي عِند ماتدمريهاش.
- يبقي تسمع الكلام يا حلمي
- وهتسيبيها ؟
- هي واخوها
- مش ضامنك
- بص يا حلمي .. دعمك ليا من عدمه مش أزمة، انا طموحي ابقي زي بابا وانتقمله ، وان ما شاركتنيش في دا إنت اللي خسران.
- انتقام إيه؟ انتي ما قلتيش ده قبل كدا، وطالما مش فارق معاكي رجعتيني من ايطاليا ليه؟
أبتسمت بمكر وقالت وهي تري ندي تتحسس خطواتها كالضرير بسبب دموعها نحو السور
- شئ في نفس يعقوب
.........................

يدخل سعد من باب شقته المفتوحه بعد أن ساعد جارته نادية وتركها قبل ان تفتح باب منزلها ليتجنب الأحتكاك مجدداً بزوجها فوجد أحمد مضطرباً:
- مالك يا أحمد ؟
- أمي لسة قافلة معايا
- لقوا عادل ؟
- ندي أختفت.
- إيه؟
- مش في البيت وموبايلها مقفول
- مقفول ازاي ؟ انت مش لسه كنت بتكلمها من شويه وقلت انها بترغي مع حد
- دا بابا اللي كان بيتصل بيها فشاغل الخط لكن ماحدش عارف عنها أي حاجه ؟
- و هتعمل ايه ؟
- هاروح البيت.
- ليه؟
- أمي عايزاني في البيت ضروري.
- طيب انا جاي معاك.
- لأ .. الوقت اتأخر وانت تعبان ومش هينفع نعمل حاجه دلوقتي .. الصباح رباح
- ومش هتبلغ حتى ؟
- ويعني البلاغ اللي فات عمل ايه علشان ده يفرق عنه؟ .. بكرا أكيد هيحلها ألف حلال.
- مش مقتنع بس زي ما تحب.
- تصبح علي خير يا سعد.
.........................


تقف نبيله في الشرفة ترمق الشارع المظلم أثناء محاولتها للاتصال بزوجها بلا نتيجة, تشرد وتتذكر أشياءاً مختلفة تجعلها تقطب ثم تبتسم عدة مرات بدون تناسق رغماً عنها، يرن جرس الباب فيخطفها من شرودها ويعيدها لواقعها الغريب فتهرول نحوه وتفتح الباب فتري حسن يقف في خجل فتحتضنه بقوة و يبادلها الاحتضان ثم يغلق الباب ويجلسان علي أقرب مقعدين قابلاهما وتحدثا بسعادة فاضت من ملامحهم:

- وحشتني يا حسن
- وانتي وحشتيني أكتر يا أمي ، ماتتخيليش كنت محتاج لحضنك دا قد إيه بس الظروف اللي جيت عليها حبستني جوا نفسي .
- كله هيعدي .. حمد الله علي سلامتك يا إبني .
- الله يسلمك يا ماما .
- إخواتك مش عارفين نوصلّهم .
- هنوصلّهم، هو احنا هنغلب ؟
- علي قولك ... قلّي الأول ، أنس مات إمتي و ازاي ؟
- يوم موت عمتي آمال.
- ايه ؟
- أنس توأمها يا ماما وانتِ عارفة الرابط دا في عيلتنا لعنة لوحده.
- فعلاً، ده كان بيموت وهي بتولد ازاي هيعيش وهي ميته .
- الأعمار بيد الله .. عمره ماكانش مربوط بعمرها، عمتي آمال لو كانت ماتت طبيعي كان كمل حياته عادي بس عذابها قبل موتها هو السبب في موته .
- انا متخيله الألم اللي حَسه قبل موته .



- انا كنت واقف جنبه شايف جلده بيتحرق ونفسه بيروح ومش عارف اعمله ايه ، واتصلت بالإسعاف في محاولة يائسة لأنقاذه واستعديت لكل الأسئلة للموقف ده بس قبل ما يوصلوا كان اتفحم .
- الله يرحمك يا أنس.
- كان بيحبك قوي لآخر يوم في عمره ... انتي ازاي سيبتيه واختارتي بابا
- ده كلام مش وقته دلوقتي .... عملت إيه وقتها .
- الإسعاف لما جات اتظاهِرت انها كانت مكالمة غلط وماخليتهمش يشوفوه.
- وهو ؟
- جمعت رفاته في برطمان .
- الله يرحمك يا أنس.
- انا جبتلك البرطمان .
- انت بتهرج يا حسن ؟ ومادفنتش البرطمان هناك ليه ؟
- لأ .. أنس يا أمي مالهوش حد هناك بعد ما انا جيت .
- أنس مات يا حسن .
- واضح ان مشاعرك ليه هي اللي ماتت .. ومن قبل موته بكتير .

بكت نبيلة بعنف فهدئت دموعها نظراته الغاضبة الأخيرة واحتضنها متأسفاً معطياً ظهره للباب وحاجباً رؤيته عن والدته فلم يشعرا بدخول أحمد الهادئ ووقوفه لمشاهدتهما و سماعهما .
- أنت ماتعرفش انا حبيت أنس قد ايه وكان ايه في حياتي ، أبوك هو اللي دمر كل حاجة ورغم كدا فتحنا صفحة جديدة كلنا وأخلصت لأبوك لكن هو اللي مصر يمشي الكون بقوانينه هو، رغم انه خارج الدنيا بتاعتنا أصلاً .

(18)

يقف رؤوف علي باب بيت جميل و قبل ان يدق الجرس يُفتح الباب فيتفاجأ هو وأبتسام من تلك الصدفة، كانت عيناها دامعتين ووجهها شاحباً وتحمل في يدها حقيبة سفر فتقف ناظرة له منتظرة أن يقول شيئاً أو يوضح سبب الزيارة:

- أزيك يا مدام ابتسام.
- أزيك يا أستاذ رؤوف.
- هو جميل هنا ؟
- لأ .. خرج من ساعة.
- و ماتعرفيش هيرجع أمتي ؟
- لأ ... عن إذنك.

يفسح لها لتخرج فتغلق الباب خلفها وتتحرك نحو المصعد الكهربائي وهي تتأرجح قليلاً في سيرها نتيجة لثقل الحقيبة فبدون أي كلمة يمسك عنها حقيبتها ويسبقها نحو المصعد المفتوح، وبعد أن يدخلاه يضغط علي زر الطابق الأرضي قائلاً .

- حضرتك مسافرة ؟
- لأ.
- رايحة لوالدتك ؟
- من إمتي الفضول دا يا أستاذ رؤوف ؟
- آسف.


- ماتحرجش نفسك ، مش مستاهلة أسف .. كدا كدا مش هتشوفني تاني.

يصل المصعد للطابق الأرضي فتحمل حقيبتها وتخرج بسرعة وهو في مكانه مذهول من خروجها من باب المبني في نفس توقيت دخول جميل بجانبها بدون أي كلام ثم يركب معه للمصعد صاعدين معاً .
.........................

جلس سعد في غرفته المظلمة علي فراشه واضعاً حاسبه المحمول أمامه ويتصفح عدداً من المواقع الأجنبية والعربية بلا توقف ثم قام وفتح ضوء الغرفة وبحث في حقيبته وأخرج منها دفتر وقلم وبدأ يدون أجزاء من الكلام مما يراه أمامه علي شاشة الحاسب الآلي .

"من أشهر الحوادث الموثوق بها تلك التي حدثت عام 1919م حين وُجد المؤلف الإنجليزي المعروف ( تمبل تومسون ) ميتاً في منزله إثر احتراق نصفه السفلي بشكل كامل وكان من الواضح أن ناراً قوية تسببت في تفحم ذلك الجزء وتقلص عظامه إلى حد كبير ومخيف ... الغريب في الأمر أن تلك النار لم تؤثر على نصفه العلوي رغم شدتها كما لم تسبب احتراق ملابس الضحية او أثاث المنزل ."

"Pyrokinesis, derived from the Greek words πυρ (pûr, meaning fire, lightning") and κίνησις (kínesis, meaning "motion") or ability to create and control and manipulate fire with one's mind. "
"الفيزيائي المعروف ( هارتويل ) كان من شهود العيان الذين حضروا احتراق إحدى النساء في ماساشوسيت بدون سبب واضح ففجأة وأمام أعين الجميع اشتعلت النار في جذع وساقي المرأة ثم سرعان ماتفحمت خلال ثوان معدودة ....
وفي عام 1938م وقعت حادثة احراق مشهوة أمام حشد كبير من الناس في مقاطعة إسكس الإنجليزية, فبينما كانت الفتاة ( فيليس نيو كومب ) خارجة من أحد الفنادق مع مجموعة من المدعوين غمرتها نار مفاجئة أتت عليها خلال دقائق وقد فشل الحاضرون في إخماد النار التي بدا أنها تنبع من داخل جسمها وقد ورد في أوراق المحقق الفقرة التالية: لم يسبق أن شاهدت شيئاً كهذا ... فقد احترقت الفتاة بنار زرقاء ذات منشأ مجهول."
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6( "
"ذهب البعض إلى أن كل خلية من خلايا الإنسان بطارية ، وأن الإنش المكعب قادر على توليد 400 ألف فولت . لكن هذه التفسيرات لا تكفي لتعليل الاحتراق التلقائي .وقال آخرون أن الاحتراق التلقائي نزوة عقلية حين يؤثر العقل على الجسد ويدفعه إلى بناء طاقات كهربائية هائلة , لكن نظرية جازمة حول هذا الموضوع ما تزال بعيدة المنال ."
"العوامل المشتركة لجميع ظواهر الاحتراق الذاتى : النار بدون مصدر لها و لا تقل عن 1500 درجة مئوية. الجسد البشرى هو المتأثر الوحيد و جميع ما حوله سليم وبعض الأطراف سليمة أيضا. معظم الحوادث داخل المنزل لشخص وحيد"
يغلق سعد جهازه وضوء الغرفة و يستلقي علي فراشه مبتسماً قائلاً " ماما انتِ كنتي معجزة" .
.........................


- ممكن أعرف مين أنس بقى ؟
يباغت صوت أحمد أخاه حسن ووالدته نبيلة فيصر حسن علي الصمت ويجلس بينما تأخذ نبيلة دقيقتين حتي تجمع شتات أعصابها بعد بكائها ثم تشير لأحمد بالجلوس وتتكلم بهدوء .
- عرفت حاجه عن ندي أو عادل ؟
- دلوقتي افتكرتي ان ندى وعادل مخطوفين؟
- قصدك إيه يا أحمد؟
- قصدي كان فين عادل وندى في حوار الذكريات اللي كان داير من شوية دا ؟
- إهدي يا أحمد وانا هاحكيلك كل حاجة.
- ومين قال اني عايز اسمع أصلا؟ ... كفايه اللي عرفته قوي للنهاردة.
- عرفت إيه ؟
- عرفت انك مش طبيعية ، عيلتنا كلها مش طبيعية، أو بالأصح ملعونين.
- ملعونين؟
- آه ملعونين ، لما مانبقاش زي الناس الطبيعية يبقى نستاهل الحرق زي عمتي.
- إياك تقول كدا يا أحمد!
- ليه بقى؟
- علشان دا مش كلامك.
- أمال كلام مين؟
- كلام أبوك ... وانت يا أحمد مش زي أبوك.
.........................

فتحت ندى عينيها بصعوبه وهي تشعر بألم في رأسها، كانت جالسة علي الأرض مكممة ومقيدة اليدين والأقدام في غرفة ضوؤها ضعيف. نظرت حولها وجدت عادل ملقٍ علي الأرض بعيداً عنها مقيداً أيضاً ولكنه معصوب العينين غير مكمم وتتقاطر منه حبات العرق بشكل غزير وتظهر على ملامح وجهه أعتي علامات الخوف وبجانبه تجلس فكرية واضعة يدها فوق رأسه ومطبقة جفنيها ومقطبة بشدة .
حاولت ندي التحرك فلم تستطع و ألم رأسها أشتد ثم سمعت صوت حلمي من زاوية الغرفة يحدثها دون أن ينتظر اي رد منها :

- ماتحاوليش يا ندى تتحركي، مش هتعرفي أصلا، أنا آسف اني ضربتك علي دماغك بس ده كان سبيلي الوحيد اني أوقف عملية انتحارك اللي زرعتها فكريه في عقلك و احنا في البلكونة، كان عندك حق، فكرية اتجننت ومش عارف اوقفها.

نظرت ندى لفكرية مندهشة لكلام حلمي عنها كذلك في وجودها.

- لأ هي مش سامعاني، هي جو عقل عادل، أنا حبسته جوه حلمه في وضع واخد كل تركيزه علشان تعرف تفتش كل تفاصيل ذكرياته من غير ما يمنعها، اكيد هتسألي ليه واشمعني عادل، عادل أبسطتكم وأصغركم، ماعندوش مشاكلكم ولا ذكرياتكم فاللي بيحصل في البيت عندكم لسة موجود في باله ودا اللي فكرية بتقلب فيه. ماتخافيش على عادل ..


هي فكرية مجنونة بهدف معين أنا مش عارفه آه لكن مش هتئذيه، هي أكّلته وشرّبته وواخدة بالها منه. موضوع انتحارك الإجباري اللي عملته ماكانش برضه علشان تأذيكي دا بس وسيله ضغط عليا انا علشان ماامنعهاش. هي عارفه اني مستحيل أئذي حد ولا أشوف حد يتئذي قدامي و أسكت، و للأسف ضربتك علشان كنتي أسرع من تراجع فكرية وتفتيتها للفكرة في بالك فكان لازم اوقفك انتي كمان بأني اغيّبك عن الوعي. أنا آسف يا ندى، سامحيني، وحاولي تقدّري اني في نفس المحنة دي معاكم.


انتفضت فكرية فجأة وفتحت عينيها ونظرت لحلمي بذعر:


- وقف حلم عادل يا حلمي، الولد بدأ وعيه يتخدر وممكن مايصحاش تاني .










(19)

بعد سقوط طويل أرهق أعصابه التي توقعت الأسوء لارتفاع الشجرة التي اختفت مع الوقت وجد عادل نفسه معلقاً في الهواء، لم يعد يسقط ولكنه غير قادر كذلك علي العودة للأرض بسلام أو التحليق لأعلى أو التحرك من مكانه، فقط معلق في فراغ يرمق الفراغ، أعجبه الأمر في البداية حين أيقن بفقدانه وزنه واستحاله سقوطه فبدأ يحرك يديه أولا فلم يجد أنه يطير، فجرب أن يحرك يديه وقدميه كأنه يسبح فوجد نفسه في مكانه أيضاً فنظر أسفله فلم يجد أرضاً ونظر حوله وجد الأمر كذلك، هذا الامتداد اللانهائي في اللون الأبيض جعله يظن أنه مات فبدأ يتخيل ما قد يجده في الجنة من حيوانات لم يرها من قبل والألعاب التي حلم أن يقتنيها يوماً وأصحابه الذين لم يقابلهم منذ زمن وأقاربه الذين توفوا ويشتاق إليهم، ثم تذكر عمته آمال وأنها ماتت محروقة فتذكر النار وتذكر كل أخطاءه ولوم أبويه وإخوته من وقت لآخر له علي أخطائه فأيقن بأنه سيدخل النار فبدأ يبكي بهدوء ثم تسارعت الأفكار السوداء في رأسه فزاد بكاءاً ونحيباً بشكل جعل جسده يرتجف بشدة وتمنى أن تكون والدته أو ندى بجواره الآن فهما فقط من يشعر معهما بالأمان وهما وحدهما القادرتان على تصحيح جميع أخطائه مهما فعل، لذا كان يراهما بطلتيه وليستا أخته وأمه.

حين اشتد بكاؤه سمع صوت رعد و بدأت السماء غير واضحة المعالم تمطر فابتلت ملابسه وزاد ارتجافاُ وخوفاً وبكاءاً ثم فاجأه أن جسده بدأ يهدأ ووعيه يغيب ببطء كأنه في سريره وفي طريقه للنوم فبدأ يستسلم لهذا النعاس ومدد جسده رأسياً غير مبالٍ بأنه نائم علي الهواء وابتسم في هدوء وهو يغمض عينيه وكل ما في باله أنه سينام بشكل نهائي وسيذهب الي خالقه لأنه مات. وقال في وداعة :

- تصبحي علي خير يا ماما، تصبحي علي خير يا ندى، أنا مش هاصحي بكرة فماتزعلوش، وسلمولي علي بابا وأحمد وسعد وعمو حسن اخويا الجديد وقولولهم اني بحبهم مهما عملوا، واستغفروا ربنا ليا كتير علشان ماادخلش النار زي عمتو آمال الله يرحمها .

.........................

يجلس رؤوف و جميل في الصالة صامتين ، ينظر رؤوف لجميل بشيء من الحرج ثم يبدأ كلامه بتردد :
- انا آسف اني جايلك من غير معاد.
- ولا يهمك.
- أنا جيت هنا لقيت مدام ابتسام خارجه فساعدتها لتحت لما عرفت انك مش موجود .
- مش مهم.
- مالك يا جميل ؟
- طلقتها.
- نعم ؟
- سيبك منها، خلينا في المهم، ماشوفتكش بقالي زمن.
- ابتسام كانت أحسن تعويض بعد آمال.
- آمال دي أختك.
- ما انا عارف ومعذبني اني من العيلة دي أصلا
- إيه اللي خلاك تفتح القديم ، خوفك كان من آمال وماتت .. ليه بتعذب نفسك؟



- حسن رجع.
- و ساب أنس ؟
- أنس مات.
- إمتى دا؟
- يوم موت آمال.
- تفتكر دا بسببها؟
- أكيد
- طيب هتعمل ايه معاه؟
- مشكلتي مش معاه لشخصه، مشكلتي مع نبيلة.
- الأمومه بقى.
- مش كدا بس ، عادل اتخطف وهي معتمدة ان حسن هو اللي هيعرف يوصل له.
- عادل اتخطف ؟
- آه في المستشفى.
- مستشفى إيه.
- نبيلة كانت بتموت يا جميل.
- إمتى دا كله حصل ومااتصلتش ليه؟
- أنا حليتك من ارتباطك بينا من يوم طلاق آمال .. بس انا محتاجك قوي دلوقت، إحساسي اني لوحدي معجزني قوي.
- بلغت البوليس؟
- آه طبعاً بس انت عارف الأوضاع عاملة ازاي دلوقتي.



- وانا اقدر اعمل لك إيه يا رؤوف؟
- أنا عايزك تساعدني الاقي عادل بأسرع وقت، وعارف ان بعلاقاتك أكيد هتقدر تعمل فرق عن مجرد بلاغ بطفل مختفي .
- طيب استني كدا ... هاجرب حاجة وربنا يسهل .


يخرج جميل هاتفه و يطلب رقم ما:

- إزيك يا حضرة اللواء.
- ..........
- عارف اني مقصر .. حقك عليا.
- ..........
- أنا عايزك في موضوع مهم جداً، فاضي دلوقتي ؟
- ..........
- ألف مبروك ... خلاص مفيش مشكلة .. إحنا جايين لحضرتك بكرة آخر النهار .


.........................





تجلس نادية في غرفتها، تسمع جرس هاتف زوجها النقال بالخارج ثم تسمعه يرد عليه ويتجه للشرفة، تبتسم بهدوء لسذاجة زوجها الذي رغم تقدم سنه يهوي حركات المراهقين ويعشق إثارة غيرتها، وتعشق هي كذلك مجهوده الدؤوب في الحفاظ علي حرارة مشاعرهم فترفع صوتها قائلة:

- سلملي عليها.

فيبتسم لها ويوميء برأسه ويدخل للشرفة فتغلق باب الغرفة عليها بهدوء وبسرعه وتفتح دولابها وترفع بعض الملابس المطوية في الرف السفلي ليظهر من تحتها فراغ يدل علي انكسار جزء خشبي داخل الدولاب ولم تصلحه بل علي العكس عاملته كمكان سري وأخفته بوضع الملابس الغير مستخدمة كثيراُ فوقه وفي كل الأحوال زوجها ليس هو من يرتب الدولاب، بل ترتبه دوماً أمامه لمنع تلك الفكرة من الوصول لذهنه.

تخرج كيس قماشي صغير يغطيه التراب من كل جهه فتحاول إزاحه التراب عنه ثم تدسه في حقيبه يدها الجلدية وحرصت علي أن يكون في أسفل الحقيبة وأغلقتها ووضعتها في مكانها الطبيعي، ثم أمسكت بهاتفها واتصلت برقم ما واستمر الجرس في الرنين دون إجابة من الطرف الثاني حتي فصل فكررت المحاولة عدة مرات دون أي نتيجة ولم يوقفها عن التكرار سوى سماع صوت إغلاق باب الشرفة فأغلقت الهاتف ووضعته في الحقيبة وتمددت علي الفراش وبدأت تقرأ من كتاب كان علي المنضدة بجانبها فدخل زوجها الغرفة فابتسمت فبادلها الابتسام وهو يضع نظارته وهاتفه على المنضدة بجانبه ويستلقي بجوارها :




- إبقي قلّها تتصل بدري، إحنا ناس كبيرة ومابنسهرش.
- إنتِ اللي كبيرة أنا لسة شباب.
- طيب يا عم الشاب بنتك عايزاك تعدي عليها بكرة وتوصلها المستشفى.
- هابقي جد تاني يا نادية.
- آه .. وابقي روح قابل حبيبتك وانت شايل حفيدك الجديد .
- إنتِ حبيبتي.
و قبل جبينها و نام فتنهدت في سعادة وتمنت لو كان أكثر تفتحاً لتتناقش معه في كل ما يشغل بالها و لا تخبيء أي شئ عنه ثم قالت بصوت منخفض:

- هنعمل ايه بقى ، الحلو مايكملش.











(20)

استيقظ أحمد صباحاً من نومه متعب الجسد، كان نومه متعب بشدة فقد استيقظ عدة مرات بسبب هذا الكابوس الممتد الذي ما يلبث يهرب منه بالاستيقاظ حتى يجد نفسه وقع في براثنه مرة أخري بمجرد استسلام عينيه للنوم الذي افتقد التمتع به أو الشعور بوجوده في حياته منذ عده أيام .

سمع أحمد صوت طرقات علي الباب فتهلل وجهه وظن أن ندى عادت فهي الوحيدة التي تطرق باب غرفته فركض نحو الباب سعيداً ليصدمه أن الطارق هو حسن الذي استأذنه في الدخول لغرفته فسمح له علي مضض .

- عايز اتكلم معاك.
- على الصبح كدا؟
- مش انت كنت بتدور عليا اليومين اللي فاتوا؟
- ومابقيتش .
- انا اللي عايز اتكلم معاك يا أحمد .
- طيب استنى بقى اغسل وشي و افوقلك و بعدين نتكلم .
- طيب انا هعمل لنا 2 شاي بلبن.
- انت بتهزر؟
- إنت مش أخويا برضه؟
- ماشي يا حسن .. أعمل اللي انت عايزه .




يخرج أحمد من غرفته الغارقة في الفوضى فيهم حسن بالخروج خلفه ولكن يلمح الكثير من الأوراق علي الأرض ومنهم أظرف حمراء يعرف سرها فلملم الأوراق كلها ورتبها دون أن يطلع عليها ووضعها علي المكتب الفارغ ثم خرج من الغرفة متوجهاً للمطبخ .

................................................

يستيقظ سعد على صوت طرق شديد علي باب الشقة فيهرع نحو الباب متوقعاً مصيبة جديدة فيجد طفلاً صغيراً يقف أمام الباب .

- إيه الدوشة دي كلها ؟
- ماهو حضرتك اللي نومك تقيل.
- نعم؟
- تيته قالتلي مااروّحش غير لما أصحيك؟
- تيته مين ؟ إنت عايز إيه يا ابني؟
- حضرتك عمو سعد؟
- يعني انت مصحيني علشان تسألني؟ تعرف انا لو ماكنتش سعد ولا طلعت عايز سعد غيري هاعمل فيك إيه؟
- مش فاهم .. يعني حضرتك عمو سعد و لا لأ؟
- ايوه انا زفـ ... سعد.
- أتفضل دي واقرا الورقة اللي معاها الأول و اعمل زي ما مكتوب بالظبط .



وضع الطفل كيس قماشي وورقه في يده وركض نحو السلم غير منتظر أي رد فاندهش منه سعد ثم دخل المنزل وأغلق بابه وفتح الورقه وكان بها الآتي :

" صباح الخير يا سعد يا ابني، أنا كنت جايالك بس بنتي ولدت فاضطريت أدّي الحاجة لسامح حفيدي اللي سايباه عند الجيران يديهالك، ووصيته انه لا يسيبها هنا ولا هنا والا هاعلقه ولو قدر يصحيك - ما انا عارفه نومك التقيل- هاجيبله العجله اللي نفسه فيها، المهم ماتفتحش الكيس دا غير مع أحمد، الكلام اللي فيه مهم جدا وأمك كانت مِدّياهولي اقراه قبل ما تموت وكنا بنتكلم فيه قبل موتها، وخد بالك يا ابني من أي حد بيقرب منك ولازم تتأكد من أصله، أحفاد عزام عايزين ينتقموا لأبوهم من عيلتكم ويرجعوا هيبتهم اللي كانت، هما قادرين علي دا بس خايفين من رؤوف أبو أحمد فاحتمال يئذوه فيكم علشان يكسروه .. الكلام دا لازم أحمد و أمه و اخواته يعرفوه .. روحلهم بسرعة . جارتك نادية"

..................................

يًطرق باب شقة حلمي وفكرية بعنف فتهرع فكرية تاركة أخاها يحاول إنقاذ عادل بينما تغرقه ندى بنظرات قلقة دامعة. تغلق باب الغرفة خلفها بإحكام ثم تتنفس بعمق وتتحرك بهدوء وثبات نحو الباب وتفتحه لتجد آخر من كانت تتوقع أن تراه يوماً، خطيبة أخيها السابقة التي كسرت قلبه في وقت متزامن مع نكسة أبيها قبل موته فكانا معاً السبب الذي دعاه ليهجر مصر وبالتالي تذهب معه رغماً عنها لبلاد لا تعرف لغة ساكنيها، نظرت لها شذراً وسألتها بصوت منخفض.

- سبحان الله علي الدنيا الضيقة ، إيه اللي فكرك بينا يا هانم ؟
- لعلمك أنا كنت باجي هنا كتير ومش بالاقي حد؟
- عشر سنين ومازهقتيش ؟ يا صبرك الكبير.
- أخوكي هنا؟
- يا بجاحتك؟ ولسة ليكي عين تسألي عليه؟
- إنتِ إنسانة ماعندكيش قلب ولا إحساس علشان تقدري المشاعر اللي كانت بيننا.
- وطالما المشاعر دي غالية قوي عندك رميتيها في التراب ليه؟ عموما آديكي قلتي "كانت", يعني انسي بقى وانسينا.
- حلمي هنا يا فكرية؟
- مالكيش دعوة.
- أنا مش هامشي من هنا غير لما اقابله ... فاندهيه انتِ أحسن ما أعلّي صوتي واسمّع الجيران.
- طالما انتِ مهووسة بيه كدا كسرتيه ليه؟
- لو نايم هصحيه ولو مش موجود هاستناه.
- امشي من هنا احسنلك.
- يا حلميييي.
- انا حذرتك.
- يا حلميييي .... اااااااااه
- انا قلتلك .... مش فكرية اللي تعندي معاها.
تسقط الفتاه علي الأرض بينما يخرج حلمي من الغرفة فيركض نحوها ويجلس علي ركبتيه
- ابتسام ... ردي عليا يا بسمتي .
................................................
تشعر ندى بشئ من الهدوء بعد أن رأت ملامح أخيها الصغير وهدأت واستكانت، كادت أن تسأل حلمي تفسير ولكن الجلبة التي لحقت بخروج فكرية من الغرفة جعلته يشير لها بالصمت دون أن ينتبه أنها مكممة فمجبرة علي ذلك دون أي شئ. ثم همس في أذنها بكلمة واحدة.
- ماتخافيش.
و ركض للخارج ليتبين ما يحدث، نظرت لأخيها مجدداً فوجدته هادئاً فتمددت علي الأرض ولم تبال بأي شئ وبدأت في الدوران والتدحرج كالأسطوانة حتي وصلت له وظلت تبتعد وتقترب لتصدمه عده مرات ليستيقظ وقد كان لها ما سعت إليه وبدأ يستفيق فابتسمت، كان قادراً على الكلام ولا يراها علي عكس حالها فبدأت تفكر في أنها تحاوره لعلها تحفز طاقته وقد كان فعلاً فقال بصوت هامس :
- انتِ هنا يا ندى .. أنا كنت عارف انك لازم هتيجي.
ثم دار حوارهم بعد ذلك بدون أي كلمات منطوقة.
- حاضر مش هاتكلم بصوت ... بس ازاي احنا بنعمل كدا.
- هاقولك بعدين يا حبيبي .. أول ما نخرج من هنا.
- انا افتكرت اني مت.
- بعد الشر عليك ... لأ انت كويس.
- انا بحبك قوي قوي.
- و أنا كمان يا عادل .. تعرف الناس دي؟
- لأ مااعرفهمش.
- طيب قولي إيه اللي حصل.
- ياه دا انا حصلّي كتير.
- طيب هاسمع الحكاية دي لما نخرج من هنا .. دلوقتي اسكت خالص واعمل انك نايم زي ما كنت وانا هارجع لمكاني وهنشوف هنعمل ايه.
- حاضر.
(21)
يقابل أحمد أمه بعدما خرج من الحمام فيزيح وجهه الجهة الأخرى متوجهاً لغرفته فتقول في أسى

- كدا يا أحمد؟ .. علشان كدا كنت عايزة اكلمك واحكيلك قبل ما تقابل حسن بس موت عمتك هو اللي غير كل حاجة .... يا ريتني كنت مت ولا انك تعاملني كدا يا ابني.

تدمع عيناه وهو موُلٍ ظهره لها ويتحرك بثبات نحو غرفته بينما ينتفض من الداخل حيرة وغضباً من نفسه ومنها ويدخل غرفته، خرج حسن من المطبخ حاملاً صينية عليها ثلاثة أكواب من الشاي باللبن وقبل رأس أمه وهو يشير لها بأخذ كوبها .

- معلش يا ماما، هو غضبان شوية بس لما يهدى ويعرف ويفهم كل حاجه هيعتذرلك بنفسه.
- انت شايف كدا يا حسن ؟
- أكيد.
- ماتعرفش حاجه عن أبوك؟
- هو ماجاش من امبارح؟
- لأ .. وقافل موبايله
- تفتكري اتخطف هو كمان؟
- لأ طبعاً .. هو غضبان هو كمان .. بس دا بقى غضبان علشان عارف.
- عموماً انا هاقعد مع أحمد دلوقتي أحكيله كل اللي اعرفه.
- وانا شوية وهاحصلك وهاكمله واكمل لك الأجزاء اللي واقعة منكم.
- تمام.

يدخل حسن غرفة أحمد دون أن يطرق الباب هذا المرة بالتزامن مع صوت قرع جرس الباب بشدة فتهرع نبيلة إلي الباب متوقعة الأسوء فتجد سعد يلهث بعنف.

- مالك يا سعد؟
- هو أحمد هنا؟
- اه ... مع حسن .
- كويس.
- فيه إيه؟
- عندي كلام كتير ومهم ليهم ؟
- خير يا ابني قلقتني .
- و انتِ كمان لازم تكوني معانا يا عمتو نبيلة.
- عمتو؟ من امتى وانت بتقول لي يا عمتو؟
- من بعد ما عرفت انك قريبتنا.
- وعرفت منين؟
- من ورق ماما الله يرحمها.
- فين الورق دا؟
- معايا.
- أحمد عرف؟
- لسة.
- ازاي؟
- مش مهم ازاي، في حاجة أهم ولازم نتكلم فيها كلنا دلوقتي .. خالو رؤوف هنا؟
- لأ .. ليه؟
- لازم ييجي.
- ما اعرفش عنه حاجه .. قلي بس فيه إيه يا سعد.
- أحفاد عزام.

فقدت نبيلة وعيها بمجرد سماع هذا الاسم فنادى سعد أحمد الذي خرج بسرعة هو وحسن وتفاجآ بما حدث وحملاها معاً نحو الغرفة الأقرب وهي غرفة أحمد ووضعاها علي سرير عادل المنظم منذ عدة أيام لعدم وجوده وجلسا حولها محاولين إفاقتها وأحمد يدعو دامع العينين ألّا تكون تلك بداية غيبوبة أخري وهي حزينة منه .

...................................

في قاعة الإنتظار بالمطار يجلسان متجاوران و عيونهما دامعة.

- انت متأكد يا أنس من قرارك دا؟
- ايوه يا آمال مافيش حل تاني.
- و تهون عليك نبيلة؟
- رؤوف هياخد باله كويس منها.
- بس هي بتحبك انت.
- مع الوقت هتنساني وحب رؤوف ليها هيعوضها.
- ليه القسوة دي يا اخويا .. انت ماكنتش كدا.
- إحنا ماكناش حاجة من اللي فاكرينها ... أبوكي ربى مجموعة أسود تربية قرود.
- وآدينا عرفنا إمكانيتنا .. ليه بقي نتفرق؟



- علشان البلد دي ناكرة اللي احنا عليه.
- مش ناكراه يا أنس، دا جهل بيه بس واحنا قادرين نعالج دا .
- إطلاقاً ، تجربة الناس مع ثروت عزام والدجالين و النصابين هتطاردنا.
- ما هو ماينفعش تتخيل ان الحياة هتبقي بمبي لمجرد انك عايزها كدا.
- لأ يا آمال انتِ برضه مافهمتينيش ... أنا هاروح ادرس و افهم أكتر عن نفسي و عننا قبل ما آجي هنا و اطالب الناس تعرفني أو اجبرهم علي دا.
- و نبيلة ذنبها إيه؟
- ملهاش ذنب وعلشان كدا مش عايز ابهدلها معايا.
- انت قلتلها الكلام دا؟
- لأ.
- وهتسيبها كده مش فاهمه اللي حصل؟
- فهميها انتِ ، انا مش هاقدر ، لو دمعت قدامي بسببي يمكن انتحر.
- يعني بتحبها للدرجة دي و هتكسرها؟

- صدقيني دا لمصلحتها.
- مصلحتها من وجهة نظرك انت.
- إنتي منفعلة بس، مع الوقت هتقدري وهتشوفي بعينك.
- مش قادرة برضه أقتنع.
- المهم تكوني جنبها في الفترة دي.
- بس؟
- أرجوكي يا آمال.
- حاضر يا أنس.



- رؤوف هياخد وقت هو كمان عقبال ما يتقبل انه يعيش معاها وهي شايلة ذكرياتي جواها.
- انا مش عارفة انت ازاي بتفكر كدا.
- انا بأسس لمستقبل أفضل للي جاي بعدينا، إحنا مش عاهة على المجتمع ولازم يتقبلونا
- ما احنا عايشين كويس.
- قصدك مستخبيين كويس، جربي كده تقومي و وتولعي شعلة صغيرة في إيدك هنا، هيعتبروكي مصدر تهديد قومي ومش بعيد يسجنوكي في تلاجة.
- انت قادر تستحمل ان اخوك يتجوز حبيبتك؟
- لأ طبعاً بس هو هيعيشها أفضل مني وهو استحمل اني اخطبها رغم انه بيحبها من زمان زيي ، ماتظلميهوش معانا.
- هو مش زينا.
- هو أخونا يا آمال و اياكي تقولي الكلام دا ولو لنفسك.
- لكن.
- ما لكنش، ولغاية ما رؤوف يقرر انه يتجوزها استأذنك تبقى المرسال بيننا لغاية ما تتعود هي علي غيابي وتستسلم للواقع.
- حاضر ... هتوحشني يا أنس.
- وانتِ أكتر يا آمال .



(22)

تجلس فكرية علي الأريكة ناظرة بإحتقار لأخيها الدامع بجانب محبوبته السابقة الغائبة عن الوعي علي الفراش.

- إيه الشحتفة دي يا حلمي؟ انت ناسي انها سابتك؟
- سابتني علشان خبيت عليها حقيقتي.
- حقيقتك مش حاجة تخوف و لا تذل علشان تسيبك لما تعرفها.
- بس لما تعرفها بعد سنتين من علاقتنا أكيد حقها تقلق عن سبب سكوتي.
- وانت إيه اللي سكتك؟
- خفت انها تسيبني.
- يعني انت خفت انها تسيبك فخبيت فهي زعلت لأنك خبيت فسابتك و انت عاذرها لأنك خبيت .. انت بتلف في طاحونة؟
- اسكتي يا فكرية.
- طيب.
- انتِ عملتي إيه فيها؟
- ...................
- فكرية انطقي.
- مش قلتلي اسكتي؟
- ماتحرقيش دمي ، انا علي آخري منك اصلاً.
- انت اللي علي آخرك وانا اللي دايخة وراك من بلد لبلد من غير ما تقدر.
- أقدر إيه ؟ أقدر جنونك وطموحاتك الغريبة؟
- دلوقتي بقت طموحاتي غريبة؟ وإيه اللي جابك من إيطاليا وطاوعتني ليه؟



- علشان مالكيش غيري و مش هيحميكي من جنانك غيري.
- لأ حنين بجد.
- فكرية إنت عملتي فيها إيه؟
- ماتخافش قوي كدا، انا أمرتها بس تنام علشان اخلص من وشها.
- وبعدين؟
- أدخل حلمها واتكلموا جوا، أنا عندي حاجات أهم دلوقتي انتبهلها ولما تخلص قل لي وانا أصحيها.
- إوعي تعذبي عادل وندى في الوقت دا.
- لأ خلاص مش عايزة أي حاجة منهم، دلوقتي هيلعبوا دور جديد.
- دور إيه.
- سميهم رهاين.
- ماشي يا فكرية ... بس أي حركة غدر هامنعك يغمضلك جفن طول حياتك.
- ما تنفعلش كدا، أنا طموحي أكبر منك آه بس مش غايتي أبداً أذى.
- كويس ان لسه فيكي شوية ضمير.
- يا ريت بس يتقدر دا بعد كدا.
- وقتها نبقى نشوف.

استلقي حلمي بجانب ابتسام و أمال رأسه تجاه رأسها بحيث يتلامسا ثم أغمض عينيه محلقا بداخل حلمها، بينما أخته تنظر له بضيق ولوم صامت. ثم زفرت بضيق وخرجت من الغرفة لتدخل الشرفة بدلاً من الغرفة المجاورة لتجلس بها وتفكر وحدها.

...................................


تأخر حلمي و فكرية فبدأت ندى تخطط لكيفية خروجها هي وأخيها سالمين، ظل أخوها يعبث معها ويعيقها بالتعليق على أي فكرة تخطر في بالها فطلبت منه أن يسمع وهو صامت و لكنها كانت كمن يطلب المستحيل فقد كان سعيد بشدة بكشف خبايا من أمامه دون كلمات فطلبت منه أن يركز أكثر فيمن خارج الغرفة ويعرف فيما يفكرون، لذا انشغل عنها في تركيز قدرته علي غيرها مما ساعدها علي إكمال التفكير في وضعهم .

فكرية تتحكم في الأفكار وحلمي يشكل الأحلام لذا لا خطر من هذا الحوار الهامس بينها وبين أخيها فقط عليهم التمثيل أكثر بنومهم. فكرية أخذت بعض المعلومات الداخلية من عادل ولكن لحسن الحظ كانت ندى تحرص على تجنيب عادل أي نقاش أو احتدام يحدث في البيت عندهم لذا عادل أصبح مورد شديد الضعف في كشف الأسرار وهي واثقة من هذا .

عادل اكتشف قدرته في قراءة الأفكار والتواصل بلا كلمات وينميها الآن لذا عليهم الانتباه له مستقبلاً بشدة أو محاولة جعله ينسى تلك الفترة والتجربة لحمايته من الإضرار بذاته مثل أحمد قديماً، ربما لم تعش الأمر و لا تدري كيف أنسوه ما حدث في بيت الشرقية ولكن تدري أن موقف طفولي غير رشيد في التعامل مع القدرة هو السبب .

هي الوحيدة القادرة علي كشف الأماكن والأشخاص عن طريق لمس آخر ما لمسه وتعقب أثره الإكتوبلازمي. ولكن ما كان لها أن تأتي وحدها خالية من أي وسائل الدفاع لتقع في شباك فكرية الذهنية. كيف الآن ستصل لأي من أخويها أو والدتها لتبلغهم بمكانها. هاتفها المتنقل أخذوه منها أيضاً فلا أي فائدة من كل تلك القدرات والمعلومات التي جمعتها لهم الآن .


وجدت عادل يعود لها بفكره:
- ندى
- أيوه يا عادل
- البنت بس هي اللي برة.
- و فين الولد؟
- مش عارف ... مش لاقيه.
- طيب و البنت بتفكر في إيه؟
- بتقول انها مش عايزة غير انها تاخد تارها من بابا وترجع حلم باباها .. يعني إيه دا يا ندى ؟
- مش عارفة يا عادل.

...................................

أفاقت نبيلة بعد أن وضع أحمد عطراً ذا رائحة نفاذة بالقرب من أنفها فحمد ربه كثيراً وقبل يديها كثيراً متأسفاً لها فقالت مبتسمه بضعف .
- شكلكم كلكم متفقين علي انكم تخلصوا مني .
أحمد و حسن في صوت:
- لا والله أبداً يا ماما.


فأحتضنتهما وأشارت لسعد ليقترب منها أيضاً وضمته في حضنها معهما فأجهش في البكاء فتركا حضن والدتهما له حتى تماسك واعتذر لها فقالت له:
- أمك كانت غالية عليا قوي يا سعد ... الله يرحمها.
فردد الجميع آخر كلمتين وقامت وخرجت من غرفتها واعدة إياهم بتحضير فطار ملوكي يستحقونه جميعاً رغم أي شيء. وخرج سعد خلفها متوجها للحمام فغسل وجهه و عاد إليهم وكأن شيئاً لم يحدث. نظر أحمد علي الأرض فلم يجد الأوراق التي تركها فبحث عنها بعينيه في باقي الغرفه فقال حسن
- أنا رتبتهم وسيبتهم لك علي المكتب.
استغرب أحمد ولكن لم يعلق ثم زاد دهشته حين توجه سعد للمكتب ووضع الكيس القماشي الأسود والورقة فوقهم ونظر لأحمد بابتسامة واسعه قائلاً:
- كدا تقدر تحل البازل اللي كنت بتقول عليه.
- إيه دا ؟
- حتت جديدة من البازل ؟ ولّا انت فاكر ان كل القطع معاك لوحدك ؟
فقال حسن متمماً :
- وماما عندها استعداد تكمل أي جزء ناقص وتساعدنا نفهم الفيلم الهندي دا .
ضحكا جميعاً وارتفع صوت نبيلة من الخارج تدعوهم للخروج من الغرفه ليتناولا الفطور معاً جميعاً .

(23)
تجلس نادية وحدها في غرفه الإنتظار، لم يبد عليها القلق لولادة ابنتها بل كانت شاردة بشدة بعد أن اعتذر زوجها عن الحضور معها لأمر هام فتذكرت حواراً قديماً دار بينها و بين صديقة عمرها المتوفاة آمال.
- بالسهولة دي طلقك ؟
- كفاية عليه ... اتعذب معايا يا آمال.
- ازاي؟
- كدبي عليه وإحساسه الدايم ان في حاجة مش تمام راعبه.
- وماصارحتيهوش ليه؟
- مخه تخين، مابيبقبلش غير اللي بيمسكه في إيده ولو عرف قدراتنا هيعاملنا زي المسوخ.
- للدرجه دي؟
- دا قال عليا شيطانة.
- وهتسكتي علي دا؟
- آه طبعاً، احنا مش جوزنا العيال وسفرناهم؟ كدا خلاص مش لازم اعذبه أكتر.
- وحبك ليه؟
- بقي مش أكتر من ذكريات حلوة لما بافتكرها بادعيله بالخير وخلاص.
- طيب هاتعملي إيه دلوقتي؟
- هو سابلي البيت وبيبعتلي نفقة كويسة ... بافكر أسافر أسبوع في إيطاليا.
- إشمعنى إيطاليا؟
- نبيلة ياما حكتلي عليها وجننتني وناوية أشوفها وبالمرة أشوف أنس وحسن .. وحشوني جداً.
- بيعجبني انطلاقك.
- أمال ايه احنا هنعيش كام مرة يعني؟
...................................
يجلس جميل و حازم و رؤوف في صاله بيت حازم والجدية ترتسم علي ملامحهم جميعاً.
- رؤوف : أنا باشكرك يا حضرة اللواء علي سعة صدرك وتقبلك لمقابلتي رغم الصورة السيئة اللي واخدها عنا.
- حازم : مش موضوع صورة بس صعب بعد العمر دا كله أتخيل ان ده حقيقي ومش خيال علمي بيضحكوا بيه علي دماغ العيال ولّا أدّعي انه موجود في مصر.
- رؤوف : هو مش منتشر قوي في مصر وانا طلبت من جميل يكون موجود علشان يثبت لك بنفسه.
- جميل : انا من امبارح وانا قاعد مع رؤوف وحكالي و كنت زيك بالظبط مش مصدق ، وحسيت قد إيه ظلمت آمال الله يرحمها.
- حازم : طيب احكوا.
- رؤوف : الموضوع مش مستحيل، يقال اننا زمان كلنا كنا كدا بس مع التحضر والتكنولوجيا استغنينا عن حواس كتير، العضو اللي مابيستخدمش لفترة طويله بيعطل، جيل ورا جيل الموضوع دا شبه انمحى إلا من شوية أفراد. هنا في مصر عيلتين بس اللي كدا.
- حازم : يعني فيه غيركم؟
- رؤوف : آه بس المشكلة بقي ان العيلة التانية دي ضميرها نايم فماعندهمش أي مانع يستغلوا دا.
- حازم : قُلّي الأول, ليه انت مش زي عيلتك؟
- جميل : الموضوع راجع للجينات .. عيالي مثلا مش واخدين من امهم.
- رؤوف : ولا انا ولا ولادي .. أنس اخويا و ابنه حسن و آمال ومراتي.
- حازم : و إيه دخل مراتك في الجينات؟
- رؤوف : أصلها بنت عمتي و أخوها لما عرف دا في نفسه انتحر.
- حازم : هو كان غرابته ايه ولّا صفته إيه؟
- رؤوف : كان بيعرف المستقبل.
- جميل : ومات؟
- رؤوف : ماقدرش يستحمل كم الدمار اللي هيحصل أو بالأصح اللي حصل في البلد ووصولنا ليه فرمى نفسه في النيل.
- حازم : ومراتك؟
- رؤوف : بتقدر تبقي في مكانين في نفس الوقت ... بس انا منعتها من دا من قبل ما نتجوز .. أو بالأصح أنكرت ان لينا اي دخل بالسيرك دا و خبيت عن عيالي وأصريت اننا نكون طبيعيين.
- جميل : علشان كدا كنت بتحاول كتير تبعد احمد عن سعد؟
- رؤوف : كنت خايف آمال تحكيله أو تحكي لسعد فيحكيله.
- حازم : أنا اقدر اساعدك في إيه؟
- رؤوف : ثروت عزام.
- جميل : المليونير صاحب شركات العزبة؟
- رؤوف : أيوة.
- حازم : دا مات مفضوح بس أملاكه كلها زي ما هي عقبال ما يرجع عياله من السفر.
- رؤوف : رجعوا.
- جميل : و ماخدوش أملاك ابوهم ليه؟
- رؤوف : عايزين ينتقموا مني الأول علشان انا اللي فضحته.
- حازم : انت متأكد من الكلام ده؟
- رؤوف : زي ما أنا متأكد انهم خطفوا ندى وعادل و قبلها قتلوا آمال .
- جميل : آمال ماتت بنارها .. هي ماكانتش عارفة تتحكم فيها.
- رؤوف : لما بتتوتر بس لكن طول الوقت مسيطرة علي حاستها، انا متأكد ان بنت ثروت هي اللي دست في بالها فكرة انها تولع في نفسها، أفكارها سودا زي ابوها ومش هاسكتلهم ابداً.
...................................

تفتح ابتسام عينيها فتجد أن الظلام يحيط بها من كل الاتجاهات ، تذعر، تصرخ، تقف بصعوبة وتركض بلا هدى فتصطدم بجدار قاس، تقع، تبكي، ثم تسمع موسيقى خفيفة تأتي لها من بعيد فتسير علي هداها في الظلام وهي تمد يدها أمامها حتي لا تصطدم بشي آخر، تسير حتي تصل لمكان لا يميزه شيء عما كانت به وصوت الموسيقى يأتيها من كل الاتجاهات فتيأس وتجلس على الأرض و تعود للبكاء.

- إبتسام.
- حلمي؟
- أخيراً لقيتك.
- انت فين؟
- حواليكي.
- مش شايفاك.
- ولا هتعرفي تشوفيني.
- ليه؟
- علشان هتخافي.
- أخاف؟
- زي ما خفتي زمان.
- انا ما خفتش.
- أمال بعدتي ليه؟
- احتجت افكر بس انت اختفيت قبل ما اقولك ردي.
- ماكانش عندي استعداد ترفضيني.
- كنت غلطان.
- ازاي؟
- انا دورت عليك كتير بعدها يا حلمي وعمري ما فقدت الأمل.
- واتجوزتي غيري.
- انت غبت 10 سنين.
- ليه افتكرتيني بعد ما اتجوزتي.
- انا عمري ما نسيتك.
- ازاي؟
- انت عارف اللي اتجوزته ده يبقي مين؟
- و هاعرف ازاي وليه؟
- ده جميل حشمت اللي كان جوز آمال الهجيني.
- آمال الهجيني مرات ابويا الأولى؟
- أيوة.
- و إيه اللي وصلك ليهم؟
- بادور عليك.
- إنتِ مجنونة .. ده راجل قد ابوكي.
- و انت ظالم ، ظلمتنا بتسرعك.
- انا كانت حياتي بتنهار.
- قصدك علشان موضوع والدك؟
- أيوة.
- وتفتكر كنت هاسيبك بسبب دا؟
- كل حاجة اتهدت فجأة ، كان لازم ابعد علشان استعيد توازني.
- واستعدته؟
- آه.
- طيب انا اتطلقت.
- نعم؟
- إرجعلي يا حلمي.
(24)

أنهي سعد وأحمد و حسن إفطارهم ودخلوا الغرفة بينما حرصت الأم على إعطائهم بعض من الوقت وحدهم بعمل شاي قبل أن تدخل لتجلس معهم لمساعدهتهم في كشف غموض حياتهم.

جلس الثلاثة علي الأرض ووضعوا جميع الاوراق وتراث الماضي في المنتصف وتردد أحمد قليلاً ثم قال أنه سيبدأ من النهاية فأخذ خطاب نادية لسعد الذي تفاجأ أن به جزءاً مطوياً لم يقرأه

"صباح الخير يا سعد يا إبني، أنا كنت جايالك بس بنتي ولدت فاضطريت أدّي الحاجة لسامح حفيدي اللي سايباه عند الجيران يديهالك، و وصيته انه لا يسيبها هنا ولا هنا وإلا هاعلّقه ولو قدر يصحيك - ما انا عارفة نومك التقيل- هاجيبله العجلة اللي نفسه فيها، المهم ماتفتحش الكيس دا غير مع أحمد، الكلام اللي فيه مهم جدا وأمك كانت مدياهولي أقراه قبل ما تموت وكنا بنتكلم فيه قبل موتها، و خد بالك يا ابني من أي حد بيقرب منك و لازم تتأكد من أصله، أحفاد عزام عايزين ينتقموا لأبوهم من عيلتكم ويرجعوا هيبتهم اللي كانت، هما قادرين على دا بس خايفين من رؤوف أبو أحمد بس احتمال يأذوه فيكم علشان يكسروه .. الكلام دا لازم أحمد و أمه و اخواته يعرفوه .. روحلهم بسرعه .. جارتك نادية

ملحوظه : أمك عمرها ما فكرت في الانتحار ولما قالت في التليفون }يعني اموت نفسي احسن{ كانت بتتكلم عن مضايقات الجيران مش أكتر لكن هي كانت بتحب الحياه و السفر فماتظلمهاش وحاول تقدر تميزها ومعاناتها لإخفاءه احتراماً لوالدك واخوها ."

- أحمد : مين أحفاد عزام؟
- حسن : خليني احكيلك من الأول يا أحمد .. جدو محمد والد بابا كان ليه أخت وصديق عمره.

يقطع كلامه دخول الأم حاملة أكواب الشاي و تجلس علي الفراش تنظر لهم و للأوراق بينهم.

- الأم : شباب اللي هتعرفوه دلوقتي هيدمر كل القديم.
- أحمد : حسن قال كده برضه أول مره شفته.
- الأم : قبل ما تقرا تاريخنا لازم تعرف انك مميز زينا واحنا مش معيوبين، احنا مميزين، وابوك نكر اخوك حسن لأنه شايفه مميز زي عمك أنس ومايعرفش انك انت وندى وعادل مميزين كمان حتي لو هو ماكانش كدا.
- احمد : مميز ازاي يعني؟
- الأم : بتختفي.
- أحمد : نعم؟
- الأم : يوم ما كنا في الشرقية أنا وعمتك آمال وانت وندى وسعد اتخانقت مع سعد وضربته فخفت اني اضربك فاختفيت يومين وبقيت وسطنا بتاكل وتشرب وانت متداري وانت مش واخد بالك أصلا اننا مش شايفينك، فعمتك ولعت في البيت وخوفك من الحريق غطى على خوفك من العقاب وجريت برة البيت لحضني.
- سعد : علشان كدا ندى كانت بتسألنا عن الموضوع دا.
- أحمد : وبعدين؟
- الأم : من ساعتها لغيت اني أعاقبك لأي سبب وسبت المهمة دي لأبوك وعودتك ان حضني أمانك فمااحتجتش تختفي تاني.

- أحمد : و ليه ماقلتيش لما كبرت.
- ألأم : أبوك لو كان عرف كان طلقني، دا فاكر لسة ان حسن مش ابنه وعلاقتي بأنس مازادتش عن خطوبة .
- أحمد : للدرجه دي؟
- الأم : ابوك يا أحمد مش كارهنا دا حاسس انه ضعيف وغريب وسطنا.
- أحمد : و ايه تاني؟
- حسن : نرجع للأول تاني علشان الصورة تبقى واضحة، المميزين كانوا جدك محمد ابن قاسم الهجيني و صاحبه عزام اللي عرفه في الصحرا.
- أحمد : صحرا ؟
- حسن : قاسم والد جدك لما لقي عياله مميزين خاف وخبي ده وكان هيوئد بنته ويعزل ابنه عن الناس في الصحرا فمراته خدت بنته زبيدة وهربت بيها لإيطاليا وجدك لقي نفسه مع ابوه لوحدهم ومات ابوه فبقي لوحده وقابل عزام اللي كان كفر من حياة البدو وكان رايح العاصمة فمشيوا مع بعض وبقوا اصحاب واشتغلوا مع بعض.
- الأم : زبيدة أمي رجعت مصر و كانت زي اختك بتعرف تتقفي الأثر فوصلت لأخوها وقالتله كل حاجة فاتصدم بس صدمته الأكبر كانت لما لقى عزام زيه، عزام طلب إيدها واتجوزها وجابوا ثروت وانا و صالح بس عزام كان ضميره ميت وده اللي خده ثروت وبنته فكرية منه من بعده فأصرت أمي على الطلاق وخدتني أنا وصالح.
- أحمد وحسن : عزام جدنا وثروت خالنا ؟
- الأم : أيوه .. وكمان أنا وأبوك أصلا ولاد عم يا أحمد .
- سعد : أنا مش فاهم حاجة.



- الأم : لسة يا سعد دورك ماجاش.
- أحمد : انتم ازاي بالتعقيد دا؟
- حسن : ولا ازاي عايشين مع الأسرار دي كلها؟
- أحمد : وليه مخبيين قرابتكم ببعض؟
- الأم : قدرنا بقى .. وحفاظاً عليكم.
- حسن : ازاي؟
- الأم : غالبا فيه طاقة غريبة بتشدنا لبعض.
- أحمد : بتشد مين لبعض؟
- الأم : المميزين يا أحمد ... من بين كل الناس نقع في عزام.
- أحمد : كملوا.
- الأم : مع الوقت نسيت كل حاجة عن ثروت وعشت مع ماما واخويا صالح
- أحمد : فين اخوكي صالح يا ماما؟
- الأم : كان بيقرا المستقبل فشافه كئيب فانتحر.
- سعد : بالبساطة دي؟
- الأم : كان ضعيف نفسياً على كل الضغط اللي احنا فيه، خصوصاً حالة التعتيم اللي عايشين فيها علشان ماحدش يعرف سرنا.
- أحمد : و إيه تاني يا ماما؟
- الأم : أحفاد عزام مايعرفوش انهم قرايبنا ولا يعرفوا انهم قتلوا امهم.
- سعد : أم مين؟
- الأم : حلمي و فكرية اخواتك من أمك يا سعد.

...................................

يخرج حلمي من الغرفة وينظر حوله فيجد أخته في الشرفة شاردة فيسرع إليها.
- صحي ابتسام من نومها.
- اهدى يا حلمي.
- انتي بتدمري حياتي.
- و انت لاغيني وسايقني وراك.
- قصدك إيه؟
- أملاك بابا كانت هتعيشنا مرتاحين لكن انت اصريت تكتئب وتبعد وتاخدني معاك لصغر سني.
- هيفيد بإيه الكلام دا دلوقتي؟
- ولا حاجة، أنا حبيت بس اقولك اني مابقيتش تحت أمرك.
- ما تقولي اللي في بالك كله يا فكرية.
- أنا هاكلم رؤوف و اقول له عياله فين ولما ييجي هاحبسه في أسوء كوابيسه وهاسيب البيت دا خالص، أنا مش عايزة افتكر حاجة من اللي فات، وهاجري في أوراق استلام ميراثي وخليك انت بقى هايم مع مدام ابتسام في إيطاليا.
- وخليتيني آجي معاكي ليه بقي طالما مش محتاجاني؟
- كنت محتاجاك و الحاجة خلصت خلاص ، أنا ماكنتش فاكرة أي تفاصيل عن عيلة الهجيني فخليتك انت اللي تدلني عليهم من يوم ما انت قابلت آمال في إيطاليا بالصدفة، صحيح .. انا اللي خليتها تولع في نفسها.
- ليه يا فكريه؟
- انا بكره العيلة دي كلها و لولا ان الاتنين اللي جوة دول صعبوا عليا كنت خليتهم يخلصوا على بعض.
- إيه الشر دا؟
- يستاهلوا.
- انتِ نسخة ألعن من بابا، هو استخدم قدرته للنصب وانتِ لتعذيب الناس والانتقام .. صحي ابتسام ومش هتشوفيني في طريقك تاني.
تذهب فكرية للغرفة التي تنام بها ابتسام فيتسلل حلمي بسرعة للغرفة التي بها ندى وعادل.

(25)

ترهق ندى من شدة التفكير بلا جدوى و تصاب باليأس ولكن تحافظ علي صمتها حتي لا تفزع أخاها الصغير .

يفُتح باب الغرفة فتجد حلمي يدخل بسرعة ويندهش من تغيير مكانها ولكن لم يعلق بل اتجه لها وفك قيد يدها ودس في يدها هاتفها المحمول الذي أخذته أخته منها وقال في أذنها بهمس :

- أنا كتبت العنوان في رسالة، حطي رقم أبوكي أو أخوكي وانقذي نفسك، مش هتعرفي تهربي من هنا، فكرية آه مابتقراش الأفكار بس بتزرع سم في الدماغ فلو قفشتك ممكن تخلص المرة دي عليكي وعلى أخوكي .. اسمعي كلامي يا بنت الحلال.

يخرج حلمي بسرعه تاركا إياها في حيرتها التي انتزعت نفسها منها بسرعة لخطورة الوضع ووضعت رقم أخويها أحمد وحسن و أرسلت الرسالة قبل أن تقرأ ما كان بها. احتارت هل تعيد القيود ليديها مجدداً تجنباً للصدام مع فكرية لو عادت, أم تبدأ في فك وثاق قدميها وأخيها و تبدأ في البحث عن مخارج هذا المكان.


............................

ينتفض حسن وأحمد بسبب صوت الرسائل المفاجيء الذي فاجأهم فقاما بسرعة لهاتفيهما وقرءا ما وصل إليهم ونظرا لبعض ولأول مرة يحدث تفاهم بينهم واتفاق بالنظرات فابتسم حسن بسعادة وأحمد بتقبل بوضعه الجديد ثم قال في سرعة:

- أحمد : لسة لينا كلام كتير مع بعض يا ماما بس دلوقتي احنا عرفنا مكان عادل وندى ولازم نتحرك.
- سعد : ازاي وفين؟
- حسن : هنتكلم في الطريق.
- الأم : ربنا يحميكم ليا يا ولادي.
............................

تقتحم الشرطة بيت فكرية وحلمي، تخرج فكرية من الغرفة محدقة بالباب الضيق فيسقط كل عسكري يتخطاه، ينظر حلمي داخل الغرفة فيجد ابتسام قد استيقظت ولكنها لم تعِ بعد بشكل كامل ما يحدث حولها، ينظر لأخته فيجد قطرات العرق تتساقط بغزارة من جبينها ولكنها لم تمنعها في إسقاط أي شخص يدخل المنزل مستغلة صغر حجم الباب واستحالة الدخول من الشرفة أو أي شباك لارتفاع الطابق وتأكدها بأن الشرطة لم تستعد بالهليكوبتر لاقتحام عادي مثل هذا وذلك يعطيها الوقت الكافي لإسقاط القوة البسيطة القادمة لاقتحام مكان غير مسلح والهروب قبل وصول أية إمدادات .. بل وستدرب رأسها على التوسع والتحكم في عده عقول في المرة الواحدة بدلا من عقل واحد لذا ابتسمت بتهكم ولكن فاجأها خروج ابتسام من الغرفة وخروج عادل وندى من الغرفة الأخرى. لم يجرؤ أحد على التحرك أو الاقتراب منها وهم يرونها تسقط الرجال دون أن يقتربوا منها، ولكن فاجأها أكثر أن وجدت الباب يخرج من إطاره ويتجه نحوها فتفادته بصعوبة لتجد الكرسي بجانب الباب يتجه نحوها أيضاً ويدخل حسن وهو يرمقها بعينيه الفاتحتين المحدقتين في عينيها فصرخت.

- إبعد عني يا حسن.
- إنقذي نفسك يا فكرية وبطّلي.
- إنت اللي هتتأذي وانا حذرتك.
- إنتِ اللي بتدمري نفسك زي ابوكي.
- ماتجيبش سيرة بابا.
- أبوكي كان خالي.

بدأت ترتبك وتقل طاقتها بينما يقترب منها حسن خطوة أكثر ويفسح المجال من خلفه لدخول غيره.

- انت بتقول إيه؟
- ثروت باباكي أخو نبيلة أمي، وأمك اللي ماتعرفيهاش من صغرك هي عمتي آمال اللي انتي قتلتيها.
- انت كداب.
- لأ .. عيلتنا هي اللي غاوية أسرار ... صح يا حلمي؟
- أنا أول مرة أسمع الكلام دا.
- يبقي تهدي أختك ونقعد كلنا نسمع.
- والبوليس.
- هانسيهم اللي حصل.
- وإيه يضمنلنا اللي بتقوله؟





يدخل أحمد وسعد ونبيلة خلف حسن بينما بدأت فكرية ترتجف وغير قادرة علي الوقوف فاحتضنها أخوها. يدخل بشكل مسرحي حازم وجميل ورؤوف فيُصدم حازم برؤية عساكره ممددين علي الأرض، ويُصدم جميل برؤية ابتسام وسعد في نفس المكان بينما يُصدم رؤوف لرؤية أسرته كلها هنا. يغلق حسن باب الشقة وقد دخل الجميع.

- أحمد : ممكن نتكلم بصراحه بقي يا بابا؟

يلتفت رؤوف بدهشة نحو أحمد الذي وجد استجابة غريبة ومختلفة من الجميع حوله.

- أحمد : تعرف اني باختفي؟
- ندى : وانا باجيب التايهين.
- عادل : وانا بسمع الأفكار.
- حسن : وانا ابنك وأنس كان خطيب ماما مش أكتر.
- نبيلة : وانك ظلمتني كتير في شكك فيا ومنعك ليا من اني أكون علي طبيعتي سواء كنت انا ولا آمال أختك.
- فكرية : آمال أمي ازاي؟

يحدق جميل بها باستغراب بينما رؤوف مازال في صدمة مما سمع.






- نبيلة : آمال كانت مرات ثروت قبل ما تتطلق وتتجوز جميل.
- حلمي : وازاي بابا يخبي دا عننا؟
- حازم : لأن أبوك أكبر نصاب وكداب في البلد في فترة السبعينيات والتمنينيات وماحدش قدر يمسكه أو يثبت عليه حاجة لقدرته على التحكم في الأفكار.
- حسن : زي بنته اللي افتكرت نفسها هتقهر الكل بدماغها.
- رؤوف : أنا اللي فضحته في الجرايد من غير ما افضح قدرته وعلشان كدا فكرية كانت جاية ليا أنا ... أنا يا بنتي ماكانش غايتي أأذي أبوكي، انا بس كنت عايز اوقفه عن استخدام موهبته غلط، دا كان جوز اختي وابن زميل بابا.
- فكريه : وليه ماقلتوش كده من الأول؟
- أحمد : أنتِ اللي بدأتي بالأذي.
- سعد : وإيه حكاية الأظرف الحمرا والريحان والجوابات.
- رؤوف : دي تفاصيل خيانتـ..
- نبيلة : لو لسة مصدق اللي هتقولة يا رؤوف مش هاعيش معاك تاني.

يًصدم الجميع بكلام نبيلة فيسود الصمت حتي يقطعه جميل.

- جميل : إنتِ إيه اللي جابك هنا يا ابتسام؟
- إبتسام : انت مش طلقتني؟ مالكش تسألني في أي حاجة.
- جميل : بس اقدر اردك و اطلع عينك.
- حلمي : مش مستاهل الموضوع دا كله يا أ.جميل .... أنا باشكرك لاهتمامك بيها في غيابي.
- جميل : و انت مين بقى؟

- حلمي : حبيب زمان وجوزها مستقبلاً ... أرجوك خلي الموضوع ينتهي بهدوء، انت كدا كدا كنت خلاص مش عايزها ... أنا لسه بحلم بيها.
- فكرية : خليك معاها .. أنا اللي مسافرة المرة دي.
- نبيلة : لأ يا فكرية .. عيشي معانا .. جدك محمد رباني أنا وصالح ورؤوف و أنس وآمال وثروت في بيت واحد ... وأنا مش عايزة اننا نتشتت تاني يا بنتي.
- رؤوف : بس يا نبيلة.
- نبيلة : أنا احترمت رغبتك كتير لغاية ما العيال مابقوش عارفين نفسهم وبياكلوا في بعض .. كل الورق القديم في أوضة أحمد روح واقراه علشان تتأكد اني عمري ما كدبت عليك ولا خنتك ولو هتقدر تعيش معانا زي ما احنا فأهلا بيك .. عايز تعيش حالة إنكارك تاني هاسيبلك البيت بس هاخد عيالي معايا .. و انت يا أ.جميل .. آمال احترمتك وحبتك جداً وحاولت تحافظ دايماً عليك من نفسها بس تشبيهك لها بالشيطانة وتشويهها عند الجيران قبل ما تسيبلها البيت قلل منك كتير في نظرها .. أنا آسفه اني بقول لك الكلام دا قدام ولادك بس خلاص مابقاش في حاجة هتستخبى تاني. أما حضرتك يا أ.حازم أظنك كدا بقيت منفتح أكتر على كل من يختلف عنك، كدا مدام نادية هترتاح كتير عن زمان ... شكراً لمساعدتنا في ولا حاجة .. لو صبرتم شوية كنا خلصنا الموضوع من غير المساكين اللي نايمين علي الأرض دول .. عموما فكرية منهكة وسيطرتها شبه زالت عنهم فصحوهم عادي هيصحوا معاكم، ولو حد فيهم فاكر حاجة كلموا ما اظنهاش هتعترض تنسيهم وهيتحل الموضوع ... يلا يا ولادي .

خرج الجميع عدا جميل و رؤوف و حازم الذين وقفوا في دهشة غير مصدقين أياً مما حدث منذ قليل .

(26)

ألقت ندى جسدها على السرير منهكة بعد تلك المغامرة المتعبة التي انتهت بتحررها في استخدام طاقتها و احتواء طاقة أخيها الصغير حتي لا تفسده أو يسيء استخدامها، لم تعد تخاف أي شيء وخاصة أباها الذي ربما سيعود لصمته يومان أخريان ثم يستسلم في النهاية، إنها فقط تتمني ألا يشعره الأمر الآن بالمزيد من العجز ولكن هذا أمر ستتولى أمها العناية به .. تذكرت آخر ما فعلته قبل رحيلها فأخرجت الأوراق من حقيبتها وسعدت أنها أخذتهم مبكرا ولم ينتبه أحمد لنقصانهم قبل أن يحرق مع أمها جميع الأوراق بما فيهم الظرف الأبيض الأخير الذي كان يحتوي بعض الأوراق الرسمية لعمها أنس كعقد شراء شقته وسيارته وأوراق عمله فأرسلوها لأخيه بمصر بعدما نسي حسن ان يأخذهم قبل رحيله .. ستكون تلك الخطابات سرها الوحيد الذي ربما تشاركه لسعد مستقبلا لو شعر بمشاعرها وبادلها إياها، لقد طمأنها تاريخهم قليلاً بشأن هذا الأمر فيبدو أن تلك العائلة لا تتزوج من غرباء، وأن أمر تميزها من عدمه لا يعتبر عائق و أبوها وأمها خير دليل .. إنها فقط تنتظر الوقت المناسب الذي ستتحرك مشاعر سعد لها، وحتى حينها ستظل مع تلك الرسائل.


............................................







عزيزي أنس


لا أدري كيف تمكنت من أن تفعل هذا ؟ لم أعهد منك التلاعب بالقلوب وكنت أظن أني كنت أعلمك أكثر من نفسك .. هل كنت حمقاء؟ وهل مازلت حمقاء لإرسالي لك كلامي هذا؟ أظن أنني كذلك فعلاً ولسبب غير ما سبق. حمقاء لأني مازلت أثق أن حبك لي باقياً بداخلك رغم الرحيل. لقد ترددت كثيراً قبل كتابة تلك الرسالة و داهمتني شتى الأفكار والمشاعر حتي تمكنت من كتابه هذه الكلمات.

حكت لي آمال عما قلته لها بالمطار، وإن قدرت دوافعك فأنا لا أعلم حتي الآن كيف استطعت أن ترحل دوني أو حتى دون أن تودعني ؟ ولكن رغم ذلك أنتظرك فلا تطل الغياب.



حبيبتك نبيلة


............................................





أخويا وحبيبي أنس

يا رب تكون بخير ولقيت الجامعة اللي بتدرس اللي يفيدنا، وحشتني قوي، رؤوف مش مصدق انك سافرت وسيبتنا واحنا مالناش غير بعض، بس كلام بيني وبينك حاساه استريح وبدأ يمارس سلطة غريبة أول مرة أشوفها فيه عليا ويمنعني اني أكون على طبيعتي، غالباً اللي كان مانعه قبل كدا وجودك معانا .. أنا بطلت أناقشه بعد ما تعبت من كتر الخناق .. برضه حاساه بيحاول يقرب من نبيلة بس هي دبلانة قوي وسرحانة على طول وشبه مش حاسة بينا فمامنعتهوش ولا وافقته .. انت عارف نبيلة بالنسبالي إيه, واللي مانعني عن حمايتها منه إنك وصتني أسيبه يعتني بيها وعلشان عارفة انك لسه مش عارف هتيجي تاني ولّا لأ .. هي وحيدة بعد موت اخوها ومالهاش غيرنا وعايشة بانتظارك. ربنا يهون الأيام ويطيب قلوبكم ويداوي جرحكم.



أختك اللي بتحبك
آمال

............................................





عزيزتي نبيلة


أشعر بألمك يا قريبتي وأختي العزيزة، ولكن عليكِ بنسياني فأنا لن أعود، وغاضب بشدة من نفسي لأنني لم أمنع فيض مشاعرك تجاهي أثناء وجودي بمصر وهناك من يحبك من قبلي ويستحقك أكثر مني.

رؤوف يا نبيلة كان دوماً يحبك فلا تبعديه بتمسكك بوهم سيذوب مع الأيام. دعي ما مضي يذهب ويبتعد مثلي وابدئي حياة جديدة، حياة تستحقينها لم أستطع أن أحققها لكِ.


عزيزتي برسالتي تلك أُحلُّكِ من عهدنا وسأعتبرك منذ الحين كآمال أختي وأتمنى أن تقبلي أن تكوني زوجة أخي أيضاً، لن ينسيكِ الماضي سوي أن تخرجي مما أنتِ به. أرجوكِ أستمعي لي ونفذي ما أقوله.


وعديني يا نبيلة أن تحافظي علي نفسك دوماً.

أخيكِ الثاني
أنس
............................................




أخويا وحبيبي أنس


وحشتني كتير يا غالي، مابتكتبليش ليه وتحكيلي أخبارك .. طمني عليك يا أنس .. أحكيلك انا .. اتقدملي شاب وسيم إسم علي مسمي "جميل" وباين من عنيه انه بيحبني .. رؤوف وافق ورغم موافقته اللي فرحتني بجميل إلا إني حسيت انه بيخلص مني .. مش مهم آديني هبعد عنه كمان وارتاح .. واجعلي قلبي اني مش عارفة حاجة عن ولادي بعد ما منعني عنهم ثروت .. جميل عارف اني مطلقة بس ماقولتش ليه ان كان عندي عيال قبله .. أخاف يفتكرني بارمي عيالي وباجري ورا راحتي .. رؤوف ونبيلة كمان سكتوا وماحكوش حاجة احتراماً لرغبتي ... أنا مش عارفة حد بعتلك وقالك ولّا لأ بس رؤوف اتجوز نبيلة من تلات شهور .. هو انا آه مش شايفة لمعة الفرحة اللي كنت باشوفها في عينيها وهي معاك بس شايفة رؤوف بيعاملها كويس وبيحبها قوي رغم انها مابتحبهوش بنفس الدرجة بس في إحساس بالامتنان والراحه معاه.


أختك اللي وحشتها
آمال


............................................



عزيزي أنس


لقد آلمتني بشدة رسالتك السابقة وإنكارك لمشاعرك ودفعي نحو أخيك ونحو معاملة رسمية عائلية .. لذا في رسالتي تلك سأقول كل ما بداخلي وستكون رسالتي الأخيرة لك، فالحب الكبير الذي كان سأطويه كما هو ولن أحرقه بكلمات ستخدش كبريائي إن أعدت قراءة الرسالة ثانيةً .. لقد أطعتك كعهدي بك وقبلت رؤوف وفاجأني قدر المشاعر التي يكنها لي وخبأها احتراماً لك .. لقد تزوجته وهو يعاملني بمودة ورفق ولين ومحبة تفوق الوصف وأشكرك علي أنك نبهتني إليه فقد كنت لا أري سواك والدنيا بها أكثر ليُري ... أنا حامل الآن وإن كان الجنين ولد سأسميه صالح وإن كانت بنت فستكون زبيدة. أتمني ألّا يطول سفرك لتتعرف علي أبناء أخيك.


أختك الثانية
نبيلة


............................................





أخويا وحبيبي أنس

زعلانة قوي منك يا اخويا وماكنتش ناوية اكتبلك تاني وانت مابتردش علي رسايلي .. بس لازم تعرف اللي حصل ... أولاً أنا اتجوزت جميل وعندي دلوقتي سعد وحامل في توأم .. تعالى وشوف ولاد اخواتك وتتعرف كمان علي جميل ... رؤوف بقى وحش قوي يا أنس ... زي مامنعني اني استخدم طاقتي منع نبيلة منع تام يصل للطلاق لو حصل وقال انه عايز يبني أسرة طبيعية .. بقينا مجانين في نظر أخوك أو مش عارفة اوصفلك قصده بس مش طبيعين أو حاجة أقرب للوحوش كدا .. زود كرهي ليه ... لما جاب ابنه الأول رفض يسميه زي نبيلة ما كانت بتحلم وسماه حسن .. قال إيه مش عايز أي أسامي من أسامي العيلة .. حسن طلع بيحرك الحاجة بعقله .. ده مش غريب بالنسبة لعيلتنا بس الغريب ان رؤوف اتهم نبيلة انها كانت ... مش قادرة أغلط فيها ... بص هو قال ان حسن دا إبنك انت.
حسن مولود بعد 7 شهور وكان ضعيف لأن نبيلة كانت ضعيفة جداً والدكاترة قالوا ان الولادة المبكرة هتنقذه وتنقذها لكن رؤوف نسي كل دا أول ما لقي حسن بيحرك الحاجة من غير ما يلمسها وطرد نبيلة وحسن وهما عندي دلوقتي ولما هدي شرط علي نبيلة ان رجوعها يكون من غيره وهي منهارة مش عارفة تعمل ايه .. لو كنت اقدر كنت خليته عندي بس جميل مايعرفش حاجة عننا وربنا يستر لما سعد يكبر شوية مايطلعش زيي ويطلع زي رؤوف فحسن وجوده هنا مستحيل ... أنا مش عارفة اتصرف يا اخويا .. دلني
أختك المحتاسة
آمال
...........................................




أختي االعزيزة آمال


أعتذر لك أولاً لعدم إرسالي لك مسبقاً لعدم استقراري النفسي لأحكي أي شيء أو أكتب الكثير .. لقد كان الأمر عسيراً عليّ في أثناء بحثي هنا عمن يساعدني أو عن الجامعات التي تدرس تلك العلوم ... هنا يا صغيرتي ينكرون الأمر أيضاً وليس كما تخيلت ولكن بشدة أقل عنفاً وأكثر مرونة وقدرة علي التقبل. أخيراً وجدت الجامعة وسأنتقل لأعيش بجوارها وسيكون هناك رقم هاتف لأتصل بك ونحكي بشكل أفضل عن الرسائل ... سأرسل لكِ العنوان والرقم بمجرد استقراري هناك. مبروك لكِ ولنبيلة ولرؤوف الزواج والأولاد. أتمني بشدة أن أراهم وأن أستطع العودة مجدداً ولو مرة لزيارتكم ولكن الأمر صعب.
أما عن حسن فأرسليه لي وسأقوم بتنشأته أنا هنا في جو أرحب حتي لو لم يكن ابني فيكفي أنه ابن أخي وابن نبيلة. واجعليها تعود لبيتها فرؤوف يحبها وهي ستحبه أكيد.


أخيك المحب لكِ دوماً
أنس


تمت


الساعة الآن 10:17 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها