![]() |
القلاع المتآكلة
محمـــد ســــاري
القلاع المتآكلة رواية 1 تَمدَّدْتُ فوق السرير، وبذهني رغبة لا تقاوَم للغوص في نوم عميق يُنقذني من أرق التفكير في تفاصيل مرافعة يوم الغد. ها قد حان موعد جلسة المحاكمة وأنا في حيرة من أمري. القضية معقّدة وخيوطها لاهبة. قنْبُلة انشطارية موقوتة ننتظر، على أحرّ من جمر الغَضَا، انفجارها بين الفينة والأخرى. وَأَنا على يقين من ألاّ أحَدَ سيخرج منها سالمًا. فليستر الله ويحوّل مجرى الزوبعة الجارفة بعيدًا عنّا. إنّ التِنِّين رابض على حواف النفوس الحائرة، يزأر ويجأر مهدّدًا متوعّدًا، وشواظ نيرانه بدأت تلفح الوجوه. لا أظن أنّ هناك قوةً قادرة على صدّ هجومه أو ثني عزيمته في إضرام النار في هشيم هذا البلد. لا يُروَّض التنّين إلا بقربان. في الخوالي من الأيام، كانت التَضْحية بعَذراء من جميلات القوم. أما اليوم تكفي، فالمؤكّد أنّ حريمًا من الأبكار والقناطير المقنطرة من أضابير الدينار والدولار والأورو غير كافية لترويض هذا المفترس القابع في عتمة الأسوار الخلفية. صَوْتٌ آتٍ من وهاد جوارحي، يهتف لي أنّ الجرح قد عفّن أجزاء أساسية لا دواء لها إلا البتر. إنها أيام شاقّة لن ينجو منها إلا طويل العمر مثلما كانت تقول أمّي، رحمها الله، وهي تحدّثني عن حرب أخرى لا تزال جروحها لم تلتئم بعد. أخْرَجْتُ الجرائد اليومية التي ظلّت في محفظتي طوال النهار دون أن أجد الوقت الكافي لفتحها، ورُحتُ أتصفّحها حينما هزّتني رنّة الهاتف كلسعة كهربائية مباغتة. ماذا يريد منّي هذا المزعج في هذه الساعة المتأخّرة من الليل؟ أيكون مدير الجريدة، يريد التأكّد من عدم تأجيل تاريخ المحاكمة؟ أم والدة السجين؟ لا، لقد زارَتْني اليوم في مكتبي. شكت لي أحوالها للمرّة الألف، كما توسّلت إليّ أن أخلّص ابنها من غياهب السجن، قبل أن تخنقها الدموع وتخفض رأسها خجلًا وعجزًا. ما كان بمقدوري إلا أن طمأنْتها بما جادت به قريحتي من كلمات وعبارات مواسية، رغم علمي بخطورة القضية. نهضت متثاقلًا، رأسي تحجبه غيمة كؤوس البيرة التي تجرّعتها برفقة عصابة آخر الناجين من التديّن الزاحف على البلد في السنوات الأخيرة. كان الصوت مُرتجفًا متقطعًا بداية الأمر، صوت شخص يعرفني جيّدا لأنه ناداني باسمي، ولكنه صوت رجل منهار تحت وقع صدمة مروعة. ـــ ابني... نبيل ابني... يا خويا عبد القادر... أتسمعني... أتفهم كلامي... مرّت ثوانٍ عديدة قبل أن أتعرّف على صاحب الصوت المرعوب. ـــ ابني... أقول لك ابني... هل تسمعني؟ عثرنا عليه ملطّخًا بالدماء... وسكت الأب المفجوع، غير قادر على التلفّظ بكلمة. خيّم بيننا صمت أربك ذهني وشوّش قدرتي على الجواب. أنا أيضًا فقدت كلماتي، لا أعرف ماذا أقول أمام موت ابن صديقي العزيز، لأنّ الأمر يتعلّق بوفاة نبيل، وفاة مرعبة بلا أدنى شك. أعرف رشيد بن غوسَة منذ أزيد من ثلاثين سنة، أيام التكوين في مدرسة المعلّمين. لمْ تكن الحياة ليّنة معه، وهو بدوره كان يركب رأسه ولا يتنازل عن شبر واحد ممّا يعتقد أنه من حقوقه الطبيعية، ولا يحقّ لأحد، مهما كانت سطوته، أن ينزع منها ولو رُبع ملّيمتر. إذا كان قد صُدم بهذا الشكل المريع فمعناه أنه تلقّى الضَربة التي تقصم ظهر البعير. ـــ هدِّئ روعك يا صديقي، ربّما لم يصب إلا بجرح أفقده وعيه... ـــ لا... لا... إنها رصاصة... سمعت دويّها من البيت... رصاصة مسدّس، وليست طعنة خنجر أو ضربة عصًا. تمتمت بذهول: «رصاصة مسدّس». وبسُرعة خارقة، تشكّلت بذهني صور كما لو أنني شاهدتها في فيلم بوليسي. يكون القاتل قد استهدف الأب دون شك، فجرفت الرصاصة الابن. أكيد أنّه كان يَترَصَّده مُتخفّيًا بقرب مدخل المتوسّطة، فتح نبيل السياج الذي أصبح يُغلق بالقفل لتردّي الوضع الأمني، فوقعت الواقعة، ولكن ليس كما أراد لها مخطّطها. كيف نجا رشيد وأصيب ابنه؟ من عادة هؤلاء القتلة أنْ لا يخطئوا هدفهم. هي افتراضات دارت بخلدي، أَوْحَتْها لي عبارة «رصاصة مسدّس»، وأنا أرتدي ملابسي بخفّة لألتحق بصديقي. مشيت بخطّى سريعة وسط المنازل الحديثة البناء، الغارقة في الصمت والعتمة. أغلبها عبارة عن ورشات لا يبدو أنّ بناءها سينتهي قريبًا. الأزقّة مغبّرة وتتبَعثَر على قارعتها بقايا موادّ البناء متراكمةً هنا وهناك. لحسن حظنا أنّ المطر تأخّر عن السقوط هذه السنة. يَوم واحد من المطر وتتحوّل الأزقّة إلى برك موحلة تعيق السير. فعوَض أن نقلق بل ونحزن لغياب المطر، أصبحنا نفرح لاستمرار الصحو، بل ونتمنّى أن يطول الجفاف. ومثلما يقول صَديقي رشيد ساخرًا: ماذا نفعل بالمطر؟ الوديان تصبّ في البحر أو تغور في الرمال. الأرض مهملة، بور لا يخدمها أحد. البطاطا والقمح نستوردهما من كندا. الأولى بنا أن نقيم صلوات استسقاء ندعو فيها الله أنْ يُسقط الأمطار في كندا، بغزارة وبلا انقطاع. هكذا نضمن مصادر رزقنا. فعلًا، إنّ شرّ البلية ما يُضحك. المسافة بين منزلي ومتوسّطة ابن باديس لا تتجاوز الكيلومترين. استبدّ بي الانقباض والقلق. تتَدفّق أمام بصري الشارد صور المأساة مثلما تخيّلتها، فأسرع إلى مغالبتها بصور أخرى، أجتهد في تشكيلها. فيستَجيب خيالي لرغبتي الدفينة، أتخيّل ابن صديقي جريحًا لا يزال يتنفّس، بل أراه مُمدّدًا على سرير المستشفى، مضمّد الجراح، والطبيب يبتسم مزهوًّا لأنّه أنقذ شابًّا كان على شفا حُفرة من الهلاك. كانت ساحة المتوسّطة غارقة في شبه ظلام لا يسمح بتمييز وُجوه الحاضرين القلائل. أعرف المكان جيّدًا ولا أظنّ أنّ تغييرًا ما قد طرأ برغم غيابي الطويل. أعبر عتبة السياج الخارجي، وبصري يتلهّف بحثًا عن الضحيّة. ألقيت التحية. ارتفعت همهمات هامسة لا تكاد تُسمَع. خفَّف الصمت الرهيب المخيّم على الرؤوس من اندفاعي، فأحجمت عن الكلام. وما فائدة الكلمات أمام حقيقة الموت؟ كانت رائحته تزكم الأنوف وتلجم الألسنة. توقّفت لحظة، ألقيت نظرةً فاحصةً حولي. كان رشيد جالسًا على الأرض، مُسندًا ظهره للجدار، يمسك رأسه بيديه. زوجته نصيرة تبكي بصمت وهي جاثمة غير بعيد عنه، بقرب سقيفة المطبخ، تنيرها لامبَة شاحبة النور. اقتربت من صديقي وربّتّ على كتفه. رفَع رأسه بتثاقل وألقى عليّ نظرة منطفئة، لا حياة فيها، دون أنْ يتفوّه بكلمة. أدركت لحظتها أن ابنه قد مات فعلًا. فَكّرْتُ أن أواسيه بالعبارات الدينية الكثيرة التي تقال في مثل هذه المناسبات، حول استسلام المسلم للقدر ونوائب الدهر. ولكنّ معرفتي بقناعات رشيد الفكرية ومنطقه الرافض لكل أنواع الغيب جعلني ألوكها في لساني لحظة قبل أن أبتلعها. مكثت مذهولًا مُتردِّدًا في نوع التصرّف اللائق في مناسبة مأساوية كهذه. وبعد ذلك، اقتربت من مكان الجريمة. يَقِف شرطيان بقرب الجثّة الممدّدة على الأرض، ولا يسمحان باقتراب أحد من الحاضرين منها. تعود آخر مرّة رأيت فيها نبيل إلى أكثر من خمس سنوات، يوم دعاني أبوه إلى تناول قهوة مع مجموعة من الأصدقاء بمناسبة نجاحه في امتحان البكالوريا. إنّ الجسد الممدّد أمامي لا يشبه في شيء تلك الصورة الراسخة في ذاكرتي. هذا الذي أمامي لا يختلف عن الصورة العامة لمناضلي الحركات الإسلامية المتطرّفة: لحية كثّة تغطّي معظم الوجه، حليق الرأس وقميص طويل من النوع الأفغاني، وفوقه سترة من الجلد الأسود، وفي القدمين حذاء رياضي أسود اللون أيضًا. وجنتاه عظميتان وبارزتان، مما يدلّ على أنه فقد كثيرًا من سمنته المعهودة. لاحظت أن يده اليمنى مطويّة تحت خصره وبدا لي كأنها تخفي شيئًا. جرّني الفضول إلى الانحناء قليلًا، ولكنّ الشُرْطي نَهرني مُعترضًا سبيلي: ـــ وين رايَح يا السي محمّد... مَمْنوع الاقتراب... مَمْنوع مسّ جثّة الميّت. ولكنَّني تمكّنت من التعرّف على الشيء الأسود. إنه مسدّس أوتوماتيكي. ما هذا الوضع الغريب؟ ماذا يفعل مُسدّس في يد قَتيل؟ من أطلق الرصاصة إذًا؟ سألت الشرطي عن المسدّس. تفرّسني بنظرة شزراء، ليفهمني أنني أحشر أنفي فيما لا يعنيني. حاوَلْت إقناعه بأنني لسْت شخصًا غريبًا، وأن الشابّ الممدّد أمامنا ابن أعزّ أصدقائي، وإلا لم يكن ليتّصل بي ليلًا. أزعجه كلامي فخاطبني بصبر نافذٍ: ـــ قلت لك ممنوع يا السيّ... ـــ عبد القادر بن صدّوق... محامٍ لدى المجلس وصديق سي أحمد، محافظ الشرطة. ارتخت أسارير وَجْه الشرطي ونظر إليّ مليّا في تلك الظلمة الشفّافة. ربّما كان يبحث في ذاكرته ليستخرج صورة محامٍ يشبهني يكون قد التقى به في أروقة المحكمة. ثمّ بعد لحظة، قال بصوت ألطف: ـــ بالفعل، هذا الشابّ يمسك مسدّسًا بيده اليمنى. يبدو كما لو أنّ الأمر يتعلق بانتحار. ولكن لا يمكن أن نجزم بشيء. على رقبته وصدره دماء خاثرة تحجب أثر الجرح. تشريح الجثّة وحده الكفيل برفع اللبس عن ظروف وقوع الجريمة. أبلغْنا المحافظ وسيحضر بعد قليل، ليتّخذ الإجراءات اللازمة. تملَّكني الذهول ولم أقُل شيئًا. انتحار؟ أيعقل أن يكون ابن سي رشيد قد انتحر؟ لماذا ينتحر نبيل؟ إنّه طالب جامعي من عائلة مستقرّة، يقضم الحياة بملء شدقيه، فلماذا يضع حدًّا لحياته وأمام منزل والديه؟ أفكار تدفّقت عليّ كالسَيل المباغت. لحسن حظّي أنّ اصْطفاق أبواب سيّارة وأصوات متسائلة أنقذتني من غرقي. تدحرج المحافظ باتّجاهنا بخطّى راكضة، محاطًا برجلين، أحدهما بالزيّ المدني يتأبّط محفظة. تحرّك الشرطي الحارس قليلًا، ليفسح المجال للقادمين الذين تحلَّقوا حول الجثّة بهيئات العارفين بأسرار الجرائم. انْحَنى صاحب المحفظة على الجسد الممدّد، حاطًّا ركبته اليمنى على الأرض، مسوِّيًّا نظارته، ضامًّا شفتيه وهازًّا رأسه علامة الحيرة والتفكر، قبل أن يضع يده تحت الرأس ليرفع الجسد بهدوء لتحرير اليد القابضة على المسدّس. وبعد ذلك فتح المحفظة، أخرج قفّازات وكيس نيلون شفافًا. أمْسَك المسدّس، أداره بيده بإمعان قبل أن يرميه في الكيس. ثمّ راح يتأمل الجرح مستعيناّ بلمسات خفيفة من أصابعه. اقتربت من المحافظ الذي يبدو أنه لم يرني بعد. ـــ واش رايك يا السّي أحمد؟ ما هي تخميناتك الأولى؟ التفت إليّ مُندهشا: ـــ آه، أنت هنا يا أستاذ... لم تقل لي إنّك تسكن بالمتوسّطة؟ ـــ لا. لقد اشتغلت هنا قبل التحاقي بالمحاماة. ورشيد بن غوسَة، المدير السابق، من أصدقائي الأعزّاء. ابنه هو الساقط أمامك... هزّ رأسه مفكّرًا قبل أن يضيف: ـــ أين هو الأب؟ نحن بحاجة إلى بعض المعلومات. لم يتحرك رشيد بن غوسَة من مكانه. اكتفى برفع رأسه وتغيير وضعية جلوسه. جال ببصره الذابل على الحاضرين، ثمّ تكلّم بهدوء، كما لو أنه كان يخاطب نفسه. ـــ لا أعرف... لا أعرف ماذا حدث بالتدقيق. حينما عدت إلى البيت حوالى العاشرة ليلًا، وجدت نبيل... سَكت متردّدًا، كما لو أنّه أراد أن يضيف عبارة أخرى، ربّما كلمة ابني، ربّما رحمه الله، لكنه ضغط على أسنانه بقوة وواصل حديثه. وجدته جالسًا في الصالون، على ركبتيه دفتر وفي يده قلم. بمجرّد أن رآني، أغلق الدفتر بحركة فظّة. لم يرُدّ على سلامي. التفت إليّ، نظرة سريعة ثم أدارَ وجهه كما لو أنّه كان يخفي شيئاّ ما. أحسسْت بالارتباك في حركته. على كل حال، ليست المرة الأولى التي نتشاجر فيها، خاصّة منذ أن أطلق عنان لحيته وتعمّم بالشاشيَة ولبس القميص. ولكن هذا المساء، لم ينبس بكلمة. وقف والتحق بغرفته. بعد قليل، وأنا بالمطبخ، سمعته يقرأ القرآن بهمس مَسموع كعادته. التحقت بغُرفَتي وصوت تلاوته لا يزال يُسمَع. زوجتي كانت نائمة. بعد قليل، سمعت صرير الباب وعرفت أنه خرج. هممت بالقيام وإقناعه بعدم الخروج في هذا الهزيع من الليل. ولكنني لم أفعل. منذ سنتين تقريبًا، لم يعد ذلك الطفل الوديع الذي يطيع الأوامر. أضحى عنيدًا، عصبيًّا، مُمانعًا، بل ومُعارضًا لكل ما أقول وأفعل. تخاصمنا مرّة. حاولت أن أفهمه أن الجماعة التي يخالطها لا تحبّ الخير للبلاد والعباد. إنها جماعة ضالّة، تتستّر وراء الدين لخدمة مصالح أمريكا الإمبريالية والممالك النفطية العربية. وجماعات الجهاد الأفغاني تُموِّلها أمريكا الإمبريالية في حربها ضد روسيا الاشتراكية. وما الدين إلا غطاء لإغراء الشعوب الفقيرة المؤمنة بحمل السلاح. الصراع صراع مصالح اقتصادية وليس صراع قناعات وإيمان. اتّهمني بالكفر والزندقة. اتّهمته وجماعته بالظلامية والتخلّف والجمود الفكري. تعالت أصواتنا. تدخلت زوجتي لفضّ النزاع. خرج غاضبًا يومها، متوعّدًا مُهدِّدًا. غاب أيامًا عن الدار. ذاتَ مساء، دخل علينا بلباس أفغاني ولحية تغطّي نصف وجهه. تأملته لحظة ولكنني لم أقل شيئًا. يئست من الكلام. أدركت ليلتها أنّ وضع ابني صار كما المركب الذي تتمزّق الحبال التي تشدّه إلى رصيف الميناء الآمن، فتجرفه الأمواج العاصفة بعيدًا في تيهان لا وجهة له ولا حدّ. انْتظَرت أن يحدّثني فلَم يَفْعل. قلت سأتْرك أمره للزمن، فهو وحده الكفيل بتغيير الأشياء. دافعَت أمّه عنه وبحثَت له عن أعذار. تَعاطفَت معه كَكُل الأمّهات. الأمّ مستعدّة دائمًا لرمي نفسها في النار من أجل ابنها. الحقّ مع الابن دائمًا، وليس مع الأب. تترجّل الأمّ بأبنائها، تثأر لنفسها من غطرسة الزوج. هكذا هُنّ دائمًا. أما أنا فلم يأت بعد اليوم الذي يتحكّم ابني في حياتي الخاصة، ويملي عليّ شروطه. المُهمّ... هذه حياتي الخاصّة وأنا مسؤول عنها، وأتحمّل تبعاتها مهما قست عليّ. قلبي يفيض اليوم ألمًا وغضبًا. أعذروني عن هذه الثرثرة الزائدة. أقلقني خروجه ولكن ما عَساني أنْ أفعل. لو التحقت به، أعرف أنني سأدخل معه في مُلاسَنة كلامية صاخبة لا جدوى من ورائها. بعد القلق، يُصيبني الضجر، ويُغرقني في سهاد عصي الاحتمال. لذلك، أخذت كتابًا من كتب نيتشه العظيم ورحت أغرق فيه هواجسي. لمْ أعرف كم مرّ من الوقت. ربّما قرأت أكثر من عشر صفحات، حينما روّعني دوي طلقة رصاصة. كان الصوت قريبًا جدًا كما لو أنّه وقع داخل الشقّة. اسْتَيقظَتْ زوجتي مفزعة، متلعثمة، تتساءل عمّا حدث، إنْ كان ما سمعَته حقيقة أم من بقايا كابوس مخيف. يبدو أن علامات الدهشة كانت ظاهرة على ملامحي، ممّا ضاعف من روعها وطرد عنها النوم نهائيًا. استرقنا السمع، لعلّ أَصْواتًا أخرى ستكسّر هُدوء الليل. انتظرنا صامتَين. مرّت بعض الدقائق. لا شيء عكّر صفو السكون المخيّم. لا ضَجيج، لا أدنى حشرجة. تعوَّدنا على سماع عيارات نارية ليلًا ولكنها بعيدة عنا، متقاربة، متباعدة، إلا أنّنا ندرك من الوهلة الأولى أنها لا تعنينا مباشرة. ولكن هذه المرّة... نَهضْتُ من فراشي، يشلّني الخوف من وقوع مكروه في عقر داري. جلست على حافّة السرير، وآذاني كلها صاغية. الصمت مطبق. وقفت ونظرت عبر النافذة المطلة على الساحة. كان النصف الأكبر من الساحة غارقًا في ظلام لا يسمح برؤية شيء. ثمّ إنّ زاوية النظر من الطابق الثاني حيث شقتي، ضئيلة تحجبها جدران الأقسام. خرجت إلى الشرفة، اتّكأت على الجدار الفاصل لأوسّع مجال رؤيتي. لا شيء. إنّ حارس المتوسطة غائب منذ ثلاثة أيّام. وصله خبر تعرّض عائلته في تبلاط إلى اعتداء إرهابي. هو الذي أخبرني. كنت عائداّ من عند الخبّاز صباحًا، تعرفون أزمة الخبز هذه الأيام، إذا فاتت السابعة صباحًا، كثر الازدحام وأنا أمقت الازدحام، كانت سيارة كلاديستان تنتظره، وهو يحثّ زوجته وأولاده على الإسراع كي لا تفوته مراسم الجنازة، قال لي إن أحد إخوته اتّصل به منذ قليل، أربعة قتلى من العائلة، ضمنهم أمّه العجوز ذات الثمانين سنة... وحسب الجرائد، كانت مجزرة شنيعة في حقّ دشرة انتفض سكّانها ضدّ دكتاتورية الجماعات المسلّحة... ما هذه المصيبة؟ سكت برهة من الزمن، مُطأطِئ الرأس. خيّم الصمت ثقيلًا ومضجرًا، ولا أحد تجرّأ على قطعه. انتظرنا بصبر. ـــ في ذلك الظلام والصمت، سمعت صوتًا خافتًا يناديني. إنه جاري، المدير الجديد، الذي أطل هو أيضًا من شرفته. كان يشير بيده إلى الأسفل، كما لو أنه أراد أن يريني شيئًا. «ماذا؟» قلت بصوت خفيض. رفع يديه إلى مستوى كتفيه هازًا رأسه بالنفي: «الظلمة... لا أرى جيّدًا...». وهنا اتّخذْت قرار النزول إلى الساحة. اعترضت زوْجتي طَريقي متوسِّلة: «لا تنزل... ربّما كان فخًّا... إرهابيّون يتربَّصون بك، مثلما فعلوا بكثير من أمثالك». قلت: «لقد رأى جارنا شيئًا مريبًا في الساحة، يجب أن أعرف ماذا يحدث». قالت: «لا تُخشّن رأسك... انتظِر الصبح أو اتَّصل بالشرطة». قلت: «لا تخافي. إنني كنت خارج الدار قبل ساعة فقط. لو أرادوا قَتْلي، لما صدّهم عن ذلك أيّ حاجز». مشيت خطوات في الساحة ورفعت رأسي باتّجاه جاري المنحني على جدار شرفته. واصل الإشارة باتّجاه مكان المراحيض. مشيت على رؤوس الأصابع، مستعدًّا للدفاع عن النفس. عند المنعطف، رأيت الجسد ممدّدًا. تعرّفت على ابني مباشرة. ضوء المصباح ينير المكان. صرخت: «نبيل... نبيل...». كان الجسد ملطّخًا بالدماء. نزل جاري مسرعًا. وبعد ذلك، جاءت زوجتي وجارتها. شيء مرعب. الإسلاميون القذرون هم الذين قَتلوه، «إخوته» مثلما يسمّيهم بزهو ساذج. الإخوة القتلة، مثلما هو الحال معهم دائمًا. ليس الأمر بالجديد. منذ الأزل والمسلمون يتقاتلون فيما بينهم، الصحابة تقاتلوا بشراسة ووحشية، من أجل الاستيلاء على الخلافة. يتظاهرون بالوداعة ويحملون في نفوسهم حقدًا دفينًا ضدّ الحياة، ويسلّون سيوفهم عند أدنى خصومة. تبًّا لي ولحبّي الحقير لهذا البلد. لوْ استَمعت إلى عقلي، لكنت اليوم في كندا، بلاد المؤمنين الحقيقيين، مثلما فعل كثير من أصدقائي. إنني أدفع اليوم ثمن حماقاتي في بلاد المجانين والدراويش. سكت رشيد بن غوسَة وخفض رأسه. أنهكه الألم والندم والضغينة. أحسسْت بأن صوته بدأ يرتَجف، ربّما كان على وشك الإجهاش بالبكاء. الصَدمة مباغتة، موجعة، لا يحتملها إلا الصناديد من الرجال، أو المؤمنون المستسلمون كلّية للقضاء والقدر، بلا مناقشة ولا حتى جرأة التساؤل. أمر المحافظ فرقة الحماية المدنية بإجلاء الجثّة باتّجاه المستشفى. ثمّ اقترب من رشيد بن غوسَة وقال: ـــ لك منّي تعازيّ الخالصة يا السّي رشيد. لعلّ الله ينزل عليك وعلى زوجتك الصبر والسكينة. ماذا أقول لك الآن؟ كيف مات ابنك؟ قُتل أم انتحر، لا نعرف. ـــ ابني لم ينتحر... مُستَحيل... قتله أولئك المُجرمون وأبقوا المسدّس في يده لإبعاد الشبهة عنهم. ـــ ربّما... غدًا ستكون لدينا المعلومات الأوّلية التي ستسمح لنا بإيضاح ملابسات الجريمة. سأتّصل بك نهار غَد. السلام عليكم. غادر المحافظ المتوسّطة بخفّة، متبوعًا برجاله الذين كانوا واقفين جانبًا ينتظرون. جلست على يمين صديقي وقلت: ـــ لا تحزَن يا رشيد. لستَ الأول ولا الأخير الذي فقَدَ ابنه. أنتَ أدرَى منّي أنّ هذه الحرب القذرة ستحرق قلوب الجميع. مهما يكن فإن مأساتك أهون من مأساة الكثيرين في هذا البلد الملعون قبل حتى أن تلتئم جِراح حرب الاستقلال. ـــ فعلها أولاد الحرام، المتحكّمون في رقابنا... أخْرَجوا الوحش من قمقمه، غذّوه حتى أضحى غولًا مفترسًا. بعد ذلك تحصّنوا خلف قلاعهم وأحاطوها بالحرّاس والمتاريس، وطلبوا من الشعب المسكين أن يساعدهم في القضاء على الوحش الجبّار. العَسكر من ورائنا والإرهاب أمامنا، فأين المفرّ؟ والشعب ليس له إلا اللسان والدعاء لسماء صمّاء بَخِلتْ عليه حتى بقطرات الماء الضرورية للحياة... ـــ لا ينفع الاتّهام ولا الشتم، ولا اللطم على الخدود. هذه كلّها لا تجدي نفعًا. نحن في زمن «سلّك راسك يا مسكين». القافزون تسلّقوا وتحصّلوا على منازل في القلاع المحصّنة التي ذكرتها. الأذكياء، أصحاب بُعد النظر، دبّروا فيزات وإقامات في البلدان التي حباها الله بالأمن والرفاهية، ونجَوا بجلودهم وجلود أسرهم. أمّا نحن، فلم يبق لنا، مثلما قال لنا صديقنا الزيتوني، إلا شراء سبحة من العاج الخالص ولوك عبارات: الله غالب يا الطالب... فات الأوان يا مسكين... رفع صديقي رأسه وقال: ـــ الله غالب عليك وعلى أمثالك. أمّا أنا فما دامت قطرة دم تسيل بعروقي، لن أستسلم، لا للسلطة العسكرية القمعية، ولا لجنود الظلامية الوحوش. أقاومُهما معًا إلى أن تطلع الروح من هذا الجسد الذي لا يزال يحمل آثار تعذيب جلاوزة الطغمة التي تتسلّط على رقابنا. هممت بمواصلة النقاش، ولكنني أحجمت. ما الفائدة؟ ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة تلك المناقشات الصاخبة التي نبني فيها قصورًا ونهدّمها في غضون لحظات، متصوّرين أننا سننقذ العالم باقتراحاتنا الدونكيشوتية. نقاش مثقّفين لا صلة لهم بالواقع الملموس، ليس إلا. علّمتني مهنتي والقضايا التي أرافع فيها أنّ الحياة أعقد بكثير ممّا نتصوّره، وأنّ الإنسان الفرد تتجاذبه الأفكار المتضادّة والمصالح المتناثرة هنا وهناك والرغبات الدفينة، ليس من الهيّن الإمساك بها. رافقت صديقي إلى بيته، وجلسنا بعض الوقت في الصالون. أحْسَسْتُ بالحرج لأنّ الكلمات خانتني، أنا المحامي الثرثار الذي يملك منها ما يفكّك أعقد المشكلات. لأوّل مرّة، أُدرك عجز الكلمات عن احتواء موقف إنساني عسير. كلّما رست على لساني عبارات أودّ تلطيف الجوّ بها، زحزحتها أخرى قبل حتى أن تتشكّل أصواتها. فيما كنت أتخبّط في شرودي التحقت بنا زوجة رشيد بعد أن فارقت جارتها. لم تنقطع عن البكاء. قَدّمْت لها التعازي، واسترسلت في حديث طويل متشعّب حول الموت والقدر، وعجز الإنسان أمام ما يصيبه من مآسٍ. بدت مستسلمة لقدرها، مُرَدِّدة بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. تَفاجَأْتُ بسعة ثقافتها الدينية. إنّها أستاذة اللغة الإنجليزية، ونادرًا ما سمعتها تتحدّث بالعربية فيما سبق من حديثي معها. تَذكّرْتُ أن رشيد قال لي يومًا، وهو في حيرة من أمره، في جولة قادتنا إلى معرض الكتاب الدولي بالصنوبر البحري، حينما رأى حشود الملتحين يهرولون خارجين وأذرعهم تنوء بثقل الكتب الدينية المجلّدة، إنّ زوجته بدورها أصيبت بفيروس التديّن الجارف. أضحت مداومة على القنوات الدينية السعودية والمصرية، تصلّي بانتظام وتصوم أيّام الاثنين والخميس. أرجَع ذلك إلى مرض سرطان الثدي الذي يلازمها منذ شهور، رغم أن الأطباء والتحاليل تقول باستقرار الداء بل وبالأمل الكبير في الشفاء. في طريق العودة، أسهب، على غير عادته، في ذكر سلوك زوجته الجديد، بحيث أصبح الحديث معها لا يتعدّى الشؤون العادية لمستلزمات البيت. لقد أنهك المرض زوجة صديقي. فقدت كثيرًا من رشاقتها وجمالها. كان وجهها ضامرًا، وعيناها فقدتا من بريقهما الجذّاب. هذه هي الحياة. لا شيء يبقى على حاله. التبدّل والتدهور قانون الطبيعة الأول والأخير. قضينا وقتًا نلوك العبارات المواسية الجاهزة التي عادة ما نردّدها تلقائيًّا في مثل هذه المواقف المفجعة، سواء اقتنعنا بصحتها أم لا، حتى أخرسنا أذان الصلاة الذي كسّر بغتة سكون الفجر القائظ. وقفْت بتثاقل من فرط التعب، غمغمت سلامًا مقتضبًا وانسحبت في هدوء. 2 عين الكَرْمة لم تعد تلك الواحة الوارفة الظلال، الدافئة الحضن، التي آنسْت العيش بين أسوارها الآمنة، منذ اليوم الأول الذي نزلت فيه من الحافلة ذات صباح سبتمبري، أتأبّط محفظة صغيرة تحوي أوّل تعيين لي مدرّسا في متوسّطة ابن باديس. أحْسَسْت يومها بصدري ينتفخ ابتهاجًا وأنا أمشي الهُوَينا، أستنشق روائح أزهار مزارع البرتقال المحيطة، وحواسّي كلّها منتشية، مزهوّة بالعالم الجديد الذي أدخله غازيًا غانمًا، بعد سنوات من البؤس والوجع، عاشت فيها عائلتي ما لا يُحتَمل ولا يُتصوَّر، أتألّم لمجرّد تذكّرها، وأودّ لو أستطيع محوها إلى الأبد. آه على تلك الأيام... تغيّر كل شيء. كبُرَت المدينة واغتنَت، ولكنها فقدت براءتها وطيبتها. أنا أيضًا لم أبق ذلك المعلّم الساذج، مدرّس التاريخ، الذي لا يرى في الناس إلّا مظاهرهم المتودّدة المنافقة. جَرفَتْني الموجة الراجفة الزاحفة. فاستبدلت مهنة التعليم النبيلة الهادئة بمهنة المحاماة المتَشَيْطنة المضطربة. علّمتْني المحاكم الغوص في أغوار نفوس الناس المتقلّبة الأهواء، وكيف يمسخ شره الكسب طيبتهم ويحوّلهم إلى ذئاب شرسة، لا يراعون أي اعتبار، لا السنّ ولا القرابة ولا الأحقيّة الطبيعية للأشياء. زيادة إلى أنّ قراءاتي للتاريخ، وكنت مولعًا بقراءة تاريخ شمال إفريقيا، خاصّة تلك المصائر العجيبة والتقلّبات الغريبة للشخصيات التاريخية، فضّت غشاوة براءتي، وفتحت لي آفاقًا لا يحدّها حدّ. كيف أبقى معلّمًا صغيرًا في متوسّطة لا يذكرها أحَد، رغم تسميتها بواحد من علماء الجزائر الأجّلاء، ما نزال نحتفل بذكرى وفاته كل سنة ونسميه يوم العلم؟ وتساءلت مرارًا لماذا نمجّد دائمًا تواريخ الموت فيما يمجّد غيرنا تواريخ الميلاد؟ لماذا تقديس المآسي؟ أهو بقاء آثار الفكر الشيعي الذي استبدّ ببلادنا عبر الدولة الفاطمية لعشرات السنين؟ أم لكثرة الحروب والتضحيات الجسام التي ترافقها بحيث تغلّبت طقوس الموت على طقوس الحياة؟ لكنّ القطرة التي أفاضَت الكأس، وجعلتني أسْتَعْجل رحيلي من التعليم كانت تلك الإهانة الوسخة التي تعرّضت لها ذات صباح مُمطر. كنْت واقفًا على طرف الطريق أنتظر قدوم الحافلة المتّجهة نحو الجزائر العاصمة. لم يتوّقف المطر طوال الليل، وكانت القارعة المحفورة مليئة ببرك الماء الموحل. انزوَيت جانبًا وبيدي مطريّة أحمي بها، ما استطعت، رأسي ومحفظتي من البلل. فإذا بسيارة يقودها تلميذ سابق في قسمي تمرّ بسرعة فوق بركة ماء على بعد متر فقط من مكان وقوفي، فتلطخت ملابسي بالماء والوحل. انفجرت غاضبًا وشتمت السائق ولعنته وسلالته بصوت لفت انتباه الحاضرين. كُنْتُ مُتيّقنًا أنّه فعلها عمدًا لأنّني سبق أن رأيته قبل قليل مارًّا من الجهة المقابلة. كان تلميذًا فاشلًا ولم يكمل دراسته. أعْرِف أنّه ابن تاجر مرموق في المدينة إذْ رأيته مرارًا يقود شاحنة نقل البضائع. في تلك الصبيحة، عدت إلى البيت لأغيّر ملابسي المبلّلة، وذهني منشغل باهتمام جَدّ عليّ، ولم يسبق لي أن أطلت فيه التفكير. كيف أستطيع امتلاك سيّارة تقيني من الاستفزازات وتعيد إليّ قليلًا من الهيبة؟ لحظتها فقط، انتبهت إلى أنّني لا أملك حتى رخصة السياقة. فقرّرت، لحظتها، الاتّصال في أقرب وقت ممكن بأوّل مدرسة لتعليم السياقة. ولكن أنّى لي بشراء سيّارة ولو قديمة، والراتب لا يفي إلا بضرورات الأكل والملبَس. جهاز التلفاز اشتريته بالتقسيط وقد قام مدير المتوسّطة، وهو ابن عين الكرمة بضماني عند صاحب المحلّ، قريبه من جهة أمّه. في الحافلة، استخرجت كناشي الصغير وقلما وقمت بعملية حسابية، فوجدت أنه يلزمني تقشّف أزيد من عشرين سنة كي أتمكّن من شراء سيّارة صالحة للسير. كنت في الثانية والعشرين من العمر، وهذه الإمكانية مشروطة بعدم الزواج والإنجاب. استبدّ بي هذا الموضوع أيّامًا وليالي وأنا أقلّب جميع تفاصيل الإمكانيات المتاحة حولي. صاح صوت بداخلي: لماذا لا تُجرّب ممارسة التجّارة؟ التجار كلّهم أغنياء. أجابه صوت آخر بأسئلة نافية: وهل أنت أهل لها؟ كيف تنتقل من مهنة أستاذ إلى بائع خضر أو خردوات؟ هذا لا يليق بمقامك، ويحطّ من شرف المعلّم الذي كاد أن يكون رسولًا. ردّ الصوت الأوّل ساخرًا: هذا كلام شعراء، فهم يقولون ما لا يفعلون، وأوّل مزية لهم هي الكذب. ألم يتَملّقوا السلاطين بأوهام كاذبة بهدف الحصول على بعض الدينارات الهزيلة؟ ثمّ إنّ الرسل حباهم الله بالقدرة على التضحية والصبر وتحمّل الظلم والفقر، أمّا أنا فكرهت الفقر وعذاب الحرمان الذي نخر عظامي. هل أقضي بقية حياتي في غرفة الفندق التعيسة برفقة المزلوطين والعاهرات وبائعي الكيف والشيرة؟ بَقيتُ أخطّط لمدّة أسابيع، فلَمْ أجد أمامي من وسيلة إلا مواصلة الدراسة. فترشّحت لامتحان البكالوريا، وتحصّلت عليها بعد محاولتين فاشلتين. ثم التحقت بكلّية الحقوق بجامعة الجزائر. وفرضَت مهنة المحاماة نفسها فرضًا. لاحظت أنّ أساتذة معهد الحقوق الذين يأتون بسيّارات هم محامون في أغلبهم. أما الآخرون، فعادة ما أصادفهم واقفين في محطّات الحافلات، أو يتدافعون معنا من أجل الركوب وضمان مكان ولو وقوفًا. هكذا حدثت قطيعتي مع التعليم والفقر؛ ومع الراحة النفسية أيضًا. المدينة بدورها عرفت تطوّرات هائلة. لمْ تَعد قرية صغيرة مثلما وجدتها أوّل الأمر، بل صارت مدينة بمجسّات بسطت سطوتها على الحدائق الجميلة التي اختفت تدريجيًا. لم يبق شيء من تلك الجنّة الفيحاء، لقد أكلها الخَرسان، وما تبقّى ابتلعته أكواخ الصفيح. فوجئتُ عند دخولي المدرسي الثالث بعدد هائل من الجَرّافات والماكينات والرافعات المكشّرة المزمجرة وعربات النقل المهترئة، وخلّاطات الإسمنت الشاخرة، تتبعثر في فوضى عارمة على الحقل المحاذي للمتوسّطة الذي كان يُستغلّ لزراعة البطاطا. ويتوزّع وسط عجلاتها جيش عرمرم من العمّال، فتيانًا وشيوخًا، يهرولون من حفرة إلى أخرى، يتصايحون ويتقاذفون ببذاءات شنيعة أرغمت المعلّمين على غلق النوافذ حفاظًا على براءة الأطفال، البنات منهنّ خاصّة، لأنّ الأولاد عندنا يتدرّبون على هذه البذاءات قبل بزوغ أولى شعيرات الفحولة على وجوههم. ومن حين لآخر، وبعد أن تكون الشمس قد أجبرت أغلبية العمال على التسلّل إلى أماكن الظلّ لحماية رؤوسهم العارية من إصابات الرعن، تتدفّق سيّارات سوداء أنيقة، وينزل منها رجال مُكَستَمون، مُكرْفَتون، يمسحون الورشة بنظرات استعلاء وتهديد، رافعين أنوفهم باتّجاه السماء. فيركض إليهم رؤساء الورشة الذين يخرجون من جحورهم ناقمين، وعلى أفواههم وأجسادهم عبارات وإشارات الترحيب. يقف الجميع في حلقة معوجّة، يلتفّ حولها بعض الفضوليين. يُصدِر المسؤولون الأوامر بلهجة مهدّدة قبل أنْ يغادروا الورشة، مخلّفين وراءهم غبارًا كثيفًا، وتعليقات استهزاء وقهقهات لا مبالية. حيّ من 450 مسكنًا بعمارات ذات خمسة طوابق. استفادت المتوسطة من أربع شقق، كانت من حظ المُتزوِّجين وأصحاب الدفتر العائلي المليء إلى آخر صفحة. أما العزّاب أمثالي، فلم ترضَ مديرية التربية قبول ملفّاتهم. أسِّس عائلة كما الناس المحترمين، عندئذ تعال نناقش وضعيتك. أين هي الفتاة التي ستوافق على السكن بهذا الفندق الوسخ، السيّئ السمعة؟ أنا لن أقبل الإتيان بزوجتي إلى وكر المنبوذين هذا. لقد دمّرت المشاريع العمرانية جميع المزارع ومعها المناظر الجميلة التي كانت تدخل البهجة في نفسي وتدفئ وحدتي وأنا أتجوّل بين مَسالكها في الأماسي المشمسة. تغيّرت عين الكرْمَة تغيّرًا جذريًا. جاءَها الناس من كل حدب وصوب، وتحصّلوا على سكن وقطع أرضية. التجارة قبل السكن. الطوابق الأرضية محلّات لبيع السلع التي كثرت بفضل سياسة الانفتاح والليبرالية المتوحّشة التي انتهجها الرئيس الجديد. الطابق الأرضي هو الذي يموّل بناء بقية الطوابق. هذا بالنسبة للذي يملك مالًا وخيوطًا بداخل دهاليز الإدارة، أمّا الآخرون، وهم الكثرة الغالبة، فاستولوا على الشعاب والوهاد والمنحدرات المحيطة بالمدينة وعلى ضفاف الوادي القريب، وشيّدوا بيوتًا قصديرية فوضوية، بعيدة عن الأنظار، ويرتزقون كيفما اتّفق: أشغال موسمية في الزراعة والبناء، البيع والشراء في الأسواق المجاورة، السرقة والاعتداءات، التسوّل. شيئًا فشيئًا، غصّت شوارع المدينة برجال غرباء، معظمهم شبّان ضُمَّر، دُكَّن، يتساءلون في كل يوم من أيام الدهر كيف سيكون غدهم، يذرعون الأرصفة أو يسندون ظهورهم إلى الجدران، كما لو أنّ لا شغل لهم إلا انتظار غروب الشمس. نسي الناس اسم الساحة القديم، لتصبح ساحة المكسيك ثم سوق المكسيك. من هذا العفريت الذي اخترع هذه التسمية؟ أكيد أنه مدمن على أفلام الوسترن. قرى تلهبها الشمس، وسكّانها تعساء، حفاة عراة، بالمظلات الدائرية العريضة، لا شغل لهم سوى تقفّي أماكن الظلّ، يترقّبون القادم بعيونهم الذابلة. فلَمْ أعد أشعر بألفة حينما أتجوّل بأزقّة عين الكرمة، أو أجلس في مقاهيها. لا أكاد أتعرّف على أحد. الوجوه غريبة وملامحها شرسة مُتحدِّية. أصحابها على أهبة الاصطدام والمشاجرة مع أوّل احتكاك. في سنوات قليلة، تحوّلت الساحة العمومية الجميلة إلى سوق فوضوي للخردوات والملابس المهرّبة من المغرب. استقرّ بها إسكافيون يبيعون ويخيّطون ويرقّعون الأحذية القديمة. كما برزت مهن تصليح الساعات وبيع البطّاريات الإلكترونية، إلى جانب بيع السجائر والكاوكاو والحلويات المختلفة. ضاقت الساحة بالبائعين، فاستولوا على الأرصفة. فلم يجد المارّة إلّا القارعة للمشي. فلتبحث السيارات عن ممرّ جوّي للمرور، مثلما يقول رشيد ساخرًا كعادته. يتصايحون، يصرخون، يسلكون سُلوكَ الغزاة الذين يستبيحون كلّ شيء. لا قانون ولا سلطة يخضعون لهما. مُتمرِّدون، حاقدون على الحكومة وخطاباتها الواعدة الكاذبة التي هجَّرتهم من قراهم البعيدة، وأسكنتهم في أكواخ هي أقرب إلى زرائب البهائم. وقد ساهمت أسواق الفلاح، تلك المحلّات الكبرى المختصّة ببيع الموادّ الغذائية والألبسة المستوردة بأثمان مدعّمة، وكذا مؤسّسات بيع موادّ البناء، في غرس ذهنية كراهية العمل. تعلّم الناس بسرعة كيف يَغتنون بأقصر السبل وأبسطها. يقف الشخص ساعة في طابور، يشتري سلعة بمائة دينار، يخرج إلى أوّل شارع ويبيعها بضعف ثمنها. اليوم يشتري بمائة دينار، وغدا بمائتين، وبَعد غد بألف. من علب الطماطم المُصبَّرة ودلاء الزيت إلى الإسمنت وموادّ البناء الأخرى. هكذا، في عقد واحد، هجر الناس العمل في المزارع والمصانع، وامتهنوا البيع والشراء المربح. شَدْ مَدْ. لا عقود تُبرَم ولا ضرائب تُدفَع. بعد مدّة، انتبه موظّفو هذه المؤسّسات العمومية إلى الأرباح الهائلة التي يمكن أن يجنوها هم أيضًا. فبدأ الاحتكار والتخزين والتواطؤ مع البائعين. ظهرت الندرة بداخل هذه المحلّات العمومية، لأنّ سلعها تباع قبل حتى أن تعرض على الرفوف. مغارة عليّ بابا، ولكن دون حرّاس، أو بالأحرى حرّاسها تحوّلوا إلى لصوص لخيراتها. هكذا ظهر المفتاح السحري الذي يركض خلفه الجميع: «الشْكَارَة»، كيس أو ظرف من النقود يكمّم الأفواه ويفتح جميع الأبواب المقفولة. عرفت هذه التفاصيل من عمّار الشيفون. كلما رآني ركض نحوي مهلّلًا مرحّبًا، منذ أن أنقذته من ورطة كانت ستدخله السجن لا محالة. يتحدّث بصوت جهوري، مُقهقهًا طوال الوقت، مردّدًا بلا كلل عبارة يلوكها بمناسبة وبغيرها: «اللي عندو الأمير والكاسْكيتة، ايدير أوتوروت في البحر». قبل أن يسترسل في تعداد حيله التجارية وكيفية «شرائه» لأعوان الإدارة والجمارك والشرطة والدرك؛ «كلّهم في جيبي»، دون أيّ تحفّظ، يذكر الأسماء والأماكن والمبالغ المالية المقدّمة. لا حرج ولا خوف ولا أي شعور بلاشرعية أفعاله. هذه هي عين الكرمة اليوم... تصدّعت، تورّمت، تشوّهت، من جرّاء الزحف الريفي الفوضوي. وفوق كل هذا ها هو الإرهاب يغرقها في أوحال جهنّم، برصيد اختراعاته البشعة في زهق الأرواح وتشويه الجثث التي فاقت إنجازات إبليس التاريخية. من قرية تُشعرك بالأمان والاطمئنان من الاحتكاك الأوّل، إلى مدينة يمتدّ عمرانها الخرساني القبيح إلى ما لا نهاية، دون معالم يسترشد بها الزائر، تُدخل في نفسك الكآبة وينتابك الخوف ومعه الرغبة الشديدة في مغادرتها مع أوّل حافلة. قلت إنّ قضيتي قنبلة موقوتة، إنْ تفكّكت خيوطها، ستلطّخ شظاياها الجميع. مُوكّلي مراسل صُحفي يقبع في السجن منذ أكثر من شهرين. التهمة: نشر أخبار مغرضة تمسّ هيئة نظامية. في تحقيق صحفي نشره يوسف عيّاشي في جريدة الأخبار الأسبوعية، تحدّث عن اختفاء بعض الشبان من قرية عين الكرمة، وبالضبط من حيّ البراريك، حيّ البيوت القصديرية، الواقع على ضفاف الوادي، في طرف الجهة الغربية من المدينة. يذكر في مقاله أن بعضهم التحق فعلًا بالجبال للانضمام إلى الجماعات الإسلامية المسلحة، هروبًا من المداهمات الليلية المتواصلة لقوّات الأمن. ولكنّه تحدّث أيضًا عن شخص يُدعى عبد الكريم بو عبد الله، وقال بأن فرقة من رجال الأمن الرسمي اقتحمت ليلًا منزل والديه الواقع في الحي نفسه، واقتادَته باتّجاه مجهول. لم يظهر له خبر إلى اليوم. صَحيح أن الاتّهام جاء على لسان أخيه الذي يقرّ بأن الذين اختطفوه كانوا بلباس رجال الأمن الرسمي، وأن السيّارة التي انتظرتهم خارج البيت كانت هي أيضًا من السيارات الرسمية المعروفة، بل يضيف بأنه تعرّف على وجه أحدهم. لكنّ هذا الأخ اختفى بدوره، ولم أعثر على أثر له، رغم تردّدي الدائم على منزل العائلة حتى أصبحوا في الآونة الأخيرة يرفضون الحديث معي. أمْس فقط، توسّل إليّ والده بعدم إزعاجهم مرّة أخرى، لأنّه يجهل مَصير ابنيه. لقد تعفّن الوضع في المدينة حقًّا. أشْخاص يختفون فجأة. جثث مشوّهة، أحيانًا بلا رؤوس، أو رؤوس آدميين بداخل أكياس، مرمية في الطرقات، وسط أحياء آهلة بالسكان، مذبوحة أو مدروزة بالرصاص. جرائم تُرتكب بإصرار وترصّد ونيّة مبيّتة لإثارة الرعب أو الانتقام. من هم القتلة؟ لا أحد يعرف بالتأكيد. تتحرّر بعض الألسنة في لحظات يقظة الضمير والاندفاع الإنساني، فتهمس بشذرات من الأخبار، ولكنّها سرعان ما تتنكّر لأقوالها إذا سئلت صراحة أو أحسّت بوجود أذن واشية. عشّش الخوف في الرؤوس فأخرس الألسنة وأغمض العيون. «احْفَظ الميم تحفظك، ما اسْمَعْت، ما شَفْت». يتردّد أغلبية المحامين في المُرافعة في مثل هذه القضايا المعقّدة. من يتجرّأ على اتّهام قوّات الأمن صراحة باختطاف الناس وقتلهم؟ أين الأدلّة؟ أين الشهود؟ من يستطيع أن يأتي إلى جلسة المحاكمة ويقول بالفم المملوء والكلمات الواضحة المعبرة، إن الذين اختطفوا هذا أو ذاك هم من رجال الأمن، خاصّة أمام الأخبار المتداولة بأنّ وسط هذه الجماعات المثيرة للرعب رجالًا مسلّحين بـالبنادق «المحشوشة»، وهم ملتحون ويرتدون ألبسة أفغانية، ويقفون في الخلف، يكتفون بإعطاء الأوامر؟ اختلط الحابل بالنابل. من يقتل من؟ من يصدّق من؟ من يتّهم من؟ لذلك يكتفي المحامي بكتابة عريضة يقرأها بسرعة، يؤكّد على غموض القضية وغياب الأدلّة، يتّهم فيها وسائل الإعلام الأجنبية بزرع الفتنة بين أبناء البلد الواحد، وأنّ موكله من المغرّر بهم وقد انساق خلف هذا الادّعاء لقلّة الوعي وعدم إدراك مصلحة الوطن، وفي الأخير يطلب من المحكمة الموقّرة مراعاة الظروف الاجتماعية القاسية التي يمرّ بها موكّله، وتخفيف العقوبة المسلّطة عليه. وجدتُ المقهى المُقابل للمحكمة غاصًّا بالرجال، أغلبهم من زبائن العدالة. تأخّرت هذا الصباح حتى خشيت أن يَفوتني مَوعد انطلاق الجلسة. قمت بزيارة خفيفة إلى دار رشيد بن غوسة التي امتلأت عن آخرها بأفراد الأسرة الذين أتوا من ولاية المدية، زيادة إلى الجيران والأصدقاء. كان رشيد جالسًا على كرسي مدرسي في زاوية من الساحة، هادئًا سارحًا، يكتفي بتمتمة عبارات مقتضبة ردًّا على التعازي. كما لو أنّ ذهنه كان منشغلًا بفكرة خطيرة عطّلت وعيه بما يحيط به. لم يرُدّ على سلامي ومصافحتي إلا بهمهمات عصية الفهم. ويَبدو أنّه فعل كذلك مع بقية المُعزّين لأنهم انزووا جانبًا، أفرادًا وجماعات، يتحدّثون بأصوات خافضة. لذلك لم أطل بقائي معه. أفهَمته أن جلسة المحكمة تنتظرني، وأنّني سأمرّ عليه فور الانتهاء منها مباشرة. جثّة نبيل لا تزال في المستشفى ولا أظنّ أن الدفن سيتم اليوم. ما إنْ عتّبت باب المقهى حتى ارتفع صوت بوعلام سعدون، يدعوني للالتحاق بطاولة جلس إليها أربعة من زملاء المهنة. من كثرة الصخب، أدركت أنهم، وكعادتهم، يخوضون نقاشًا ساخنًا حول حدث سياسي أو رياضي جديد. قال بوعلام متحمّسًا: ـــ ما رأيك في موقف اليامين زَرْوال؟ أليس شهمًا يذكّرنا ببومَديَن؟ لم أفهم قصده. ماذا فعل زروال كي يثير حميّة صديقي الذي أعرف عنه تحمّسه الدائم، بمناسبة وبغيرها، للعروبة وإعلاء شأن الوطنية، ولو عبر منافسات رياضية. أمعنت فيه النظر متسائلًا بإيماءات ظاهرة تنمّ عن جهلي بالموضوع. قال ماطًّا شفتيه من الاستنكار المبطّن: ـــ كعادتك دائمًا، تستصغر عظائم الأمور. لا تقل هذه المرة إنك لم تعجَب بموقف رئيس الدولة الرائع. ـــ ماذا فعل هذا الجنرال المنصّب على رأس طغمة فاشيّة حتى يثير فيك كل هذا الفوران؟ ـــ ماذا فعل؟ ألم تسمع الخبر أم أنّك تتغابى علينا؟ أكيد أنّ شيئًا جديدًا طرأ على الساحة السياسية وأنا خارج مجال التغطية فعلًا. فسارعت إلى التبرير وأخبرتهم بجريمة البارحة. في جَوْق واحد، رفع الرجال عقيرتهم بجئير عريض يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله... إنّا لله وإنّا إليه راجعون... ثمّ ساد صَمْت لمْ يعرف أحدنا كيف يكسر طوقه علينا. أتيتهم بخبر مفجع نغَّص عليهم فرحتهم. حاروا في أيّ اتجاه يواصلون نقاشهم. قال مصطفى الذي تربطه علاقة بالمدير القديم، إذْ كانت زوجته تشتغل أستاذة في المتوسّطة ذاتها قبل أن ترتقي إلى مفتشّة. ـــ يجب أن نؤدّي لرشيد زيارة التعزية مباشرة بعد انتهاء الجلسة. خيّم الصمت من جديد. التفتُّ باتجاه المصرف وطلبت قهوة. بعد تلكّؤ، أحْضرها النادل في كأس مُفلَّل الأطراف. وفي خضمّ ذلك الصمت، كان يؤجّجني الفضول لمعرفة طبيعة الموقف الشهم الذي تحّدث عنه بوعلام سعدون. ما إنْ ارتشفت الجرعة الأولى حتى سألت بنبرة ساخرة. ـــ ماذا فعل زَرْوالك هذا حتى يستحقّ كل هذا التبجيل؟ هل أخرج الشيوخ من سجنهم وأقام معهم معاهدة صلح كصلح الحدَيبية؟ أم أنّه سحب ترشّحه من الرئاسيات وترك المدنيين يخوضونها بحرّية دون تدخّل الجنرالات الذين أعادوه إلى السلطة بعد أنْ أخذ تقاعده؟ ولكنّني تذكّرت فجأة أنّه يقوم بزيارة رسمية إلى نيويورك، للمشاركة في أعمال مجلس الأمم المتّحدة. سهرة الأمس قضيتها برفقة ندمائي في حانة سي شعبان القبائلي، في الطابق الأول لمنزله ذي الطوابق الثلاثة، حيث ألتقي هناك برشيد بن غوسَة، وعبد العزيز الصيدلي، والربيع أستاذ العربية والشاعر في أوقات جنونه مثلما يردّد دائمًا، وعبد الله رائد الجيش المتقاعد، لنغرق أوجاعنا ومرارتنا في كؤوس من البيرة والنبيذ. إنّ ما يجمعنا ويغذّي جلساتنا هي هرمونات الشكوى الدائمة من الحياة الخاصّة والعامّة. نحن الآن في خريف العمر، ومعظم أحلامنا الرائعة التي رافقت حماس السنوات الأولى للاستقلال قد تبخّرت، بل ومُسخت إلى كوابيس تنخر أحشاءنا قبل عقولنا. حانة الخيّام ملجؤنا الوحيد والمفضّل، برغم الجوّ العفن المشبع بروائح القلي والكحول ودخان السجائر لأننا لا نملك بديلًا له. في نهاية كل أسبوع، نتسلّل، فرادى وجماعات، إلى قبونا المفضّل، نتحلّق حول طاولة في زاوية نصف مظلمة، نوصي شعبان بوضع صندوق بيرة جانبًا. ما زال هاجس الندرة يطاردنا، فنتذكّر الأماسي الكثيرة التي يرتفع فيها صوت شعبان المبحوح معلنًا عن توزيع آخر القناني ونحن لا نزال بعد في بداية دروب السكرة. تتعالى أصوات الندماء، مُحتجة، ناقمة. فيشخر فينا بفرنسيته المكسّرة، المغلّفة باللكنة القبائلية بأنّ زمن الندرة قد ولّى، لأنّ الحانة لم تعد ملجأ لتفريغ الهموم. لقد وجد الناس مفرغًا آخر لانشغالاتهم التي لا حلّ لها: المسجد والصلاة. الأزمة الاقتصادية أفرغت جيوب الناس، واليأس من الدنيا بلغ أوجه، فلم تبق إلا بيوت الله. إنها لا تكلّف دينارًا واحدًا زيادة إلى أنها معبر مضمون إلى الجنّة. فيردّ عليه عبد العزيز ساخرًا: ما دام طريق الجنّة يمرّ عبر المسجد، فماذا تنتظر لنزع حذائك الريفي والركوع على زرابيه المغبرّة. يمطّ شعبان شفتيه الغليظتَين ويقول: أنا بربري لا علاقة لي بدين العرب. يقول عبد الله: أنت قبائلي بخيل، تعبد الدينار. لو يتوقّف الناس عن الشرب، سنجدك حتمًا عند مدخل المسجد تبيع السُبُح والمسك والزنجبيل والعطور الشرقية. يَردّ شعبان غاضبًا: أنا أعرف بأنك مدسوس بيننا لتبيعنا إلى الأمن العسكري. أنتَ لم تتقاعد من الجيش، بل غيّرت مكان عملك ليس إلا. ينتفض عبد الله شاتمًا، قبل أن يقف مستعدًا لمغادرة الحانة: «ما دمت عميلًا في نظركم، أقسم أن لا تطأ قدماي مرة أخرى غار الجرذان هذا. نكاية فيكم، سأتوجّه حالًا إلى المسجد، أصلّي وأشي بكم إلى مجانين الله. آتي بهم إلى هذه المغارة العفنة ليضرموا فيها نيران جهنّم ويذبحوكم جميعًا ككباش العيد». يردّ شعبان: «أكيد أنهم وعدوك بمنصب سامٍ في خلافتهم الإسلامية الموعودة. سيعيِّنونك وزيرًا للدفاع. أنا أعرف الكثير من زملائك الضبّاط الذين استبدلوا البذلة العسكرية بالجلابية والشاشية، وتصدَّروا الصفوف الأمامية للمصلّين، طمعًا في ترقيات مقبلة». يتكهرب الجوّ، نتدخّل. نقف جميعًا، نشدّ عبد الله من الذراعين، نتوسّل إليه كي يجلس ويواصل السهرة معنا. يبتعد شعبان وينشغل بتنظيف الكؤوس وتمرير خرقة بالية على الكونطوار. يعود الهدوء إلى طاولتنا. يتدخّل رشيد بكلام بعيد كلّيةً عن موضوع الشجار. ويتواصل الكلام إلى أن تجفّ حلوقنا. يتحوّل النقاش إلى لغط مع تصاعد الحرارة إلى الرؤوس. نفكّك العالم ونعيد بناءه. نصول ونجول في مناقشات وسجالات لا يمنعنا عنها أحد، رغم علمنا بوجود وشاة وعملاء للأمن لا يسمعون ضُراطاّ إلا وسجّلوه أسود على أبيض، وطاروا به إلى ضبّاط المباحث لعلّهم يحظون ببعض الامتيازات أو الترقيات. قال بوعلام كما لو أنّ فمه يمضغ شهد العسل: ـــ الظاهر أنّك تجهل الموضوع فعلًا. لك العذر. فاسمع جيّدًا وعمّر رأسك. لقد رفض اليامين زَرْوال اللقاء الذي عرضه عليه جاك شيراك لأنّه يتنافى والأعراف الدبلوماسية. طلب مقابلته سرًّا، بعيدًا عن عيون الكاميرات، كما لو أنّه سيقابل بينوشي أو تاجر أسلحة. زروال شاوي أصيل لا يعرف أنصاف الحلول. إما أبيض أو أسود. إنها أوّل مرّة يفعلها رئيس جزائري. بومدين لم يفعلها بل استقبل جيسكار ديستان الذي جاء يهيننا في بلدنا بجملته الملغمة: فرنسا التاريخية تحيّي الجزائر الجديدة. ما هذه الهرطقة؟ هل ولدنا في 1962، أم في 1830؟ وقبل هذا التاريخ كنا قبائل نتناطح ونتقاتل من أجل هضاب المراعي والكلأ مثلما يقول مؤرّخوهم المرموقون؟ ـــ اسْمَع جيّدًا يا بوعلام، وسجّل ما أقوله لك ودوّره جيدًا في رأسك الفارغ كالطبل. إنّ جاك شيراك رئيس دولة ديمقراطية، قائمة على مبدأ الاقتراع العامّ. ورئيسنا جنرال معيّن من الجماعة التي قامت بانقلاب عسكري، وأوقفت المسار الانتخابي. فكيف تريد لشيراك أن يلتقي بزروال كما لو أن الرجلين ينتميان إلى نظامين سياسيين متشابهين. يحافظ الرجل على سمعته وسمعة بلده. ثمّ إنّ جنرالات الجزائر تحوم حولهم شبهات تأجيج نار الإرهاب، بل هناك صحف فرنسية تنسب إليهم بعض ما يُقترف من الجرائم في هذا البلد الجريح. ـــ هذه ادِّعاءات أعداء الجزائر. وفرنسا على رأس هؤلاء الأعداء، وهي التي تؤجّج نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد. بل هناك من يتهم المخابرات الفرنسية في مدّ يد العون للجماعات المسلحة، بتمويلهم بالأسلحة والمعدّات الإلكترونية الأخرى. رأس الحربة هو فرانسوا ميتران الذي عمل المستحيل كي تتخلّى الجزائر عن الشرعية التاريخية، شرعية ثورة التحرير التي له معها تاريخ أسود، وتستبدلها بالشرعية الدينية التي ستطمس بطولات هذا الشعب تحت بطولات الزمن الإسلامي الأوّل. لهذا فتح جميع قنواته التلفزية والإذاعية لشيوخ الأصولية الإسلامية، لأنّه كان متيّقنًا من وصولهم إلى السلطة مثلما حدث مع الخميني في إيران. لذلك وقف ضدّ توقيف المسار الانتخابي، ليس حبًّا بالديمقراطية، وإنما لدفن شرعية ثورة التحرير كي لا يذكّره أحد بجرائمه الاستعمارية. ـــ نسيت أنّك عضو قيادي في منظمة أبناء الشهداء. فمِن مهامّك الأساسية أن تسوّد دفتر فرنسا وقادتها وتبيّض سجل الثورة وفاعليها. ـــ أنا أكره فرنسا وأكره ساستها وأرفض زيارتها. أليسَت فرنسا هي التي قتلَت والدي، رحمه الله، بعد تعذيب شنيع دام أكثر من أسبوعين. عندي شهادة زميل له في السجن نجا بأعجوبة. ولهذا ستجدني دومًا أصفِّق لكل موقف يعارض فرنسا الرسمية ويهين ساستها. ولهذا أيضًا أفتخر بما قام به الرئيس الجزائري وإنْ كان جنرالًا وغير منتخب، وسننتخبه في نوفمبر المقبل إن شاء الله. زَروال بربري أصيل، خشِن الرأس مثلنا جميعًا، وعنيد لا يقبل الرضوخ والمساومات الرخيصة. بمجرّد أن بدأ شيراك يملي شروطه، ردّ له الصاع صاعين. هذه هي مواقف الرجال الذين حاربوا الاستعمار فعلًا. أما أولئك الذين أكلوا في قدر العسكر الفرنسي قبل أن يلتحقوا بجيش التحرير، بدافع حسابات تكتيكية براغماتية، فإنهم كانوا يستقبلون الرئيس الفرنسي في رحلات سياحية في الصحراء لصيد الغزال وأكل المشوي. ـــ هذه طفولة سياسية تنمّ عن قلّة التجربة والجهل التامّ بخفايا الدبلوماسية. مع كل هذا الحصار الدولي، يغلق آخر الأبواب المفتوحة. لا يمارس السياسة أصحاب الرؤوس الخشنة، الذين لا يملكون طاقة إدارة الحوار إلى آخره. ألا تعرف مقولة معاوية الشهيرة: لو بقيت شعرة واحدة بيني وبين عدوي لما قطعتها، لأنه سيأتي يوم ربّما أكون فيه بحاجة إليه. هذا الداهية العربي أقام خلافة عظمى لا يزال التاريخ يذكر مزاياها. أما صاحبك، فإنه عسكري لا يحسن إلا فنّ القتال، بل ويخطئ حتى في معرفة عدوّه الحقيقي. ـــ ومن هو العدوّ الحقيقي يا ممثّل حزب فرنسا في الجزائر؟ في تلك اللحظة، وأنا أتأهّب للجواب، ارتفع دَويّ انفجار أخرس ألسنتنا وأصمّ أسماعنا وأرجف أحشاءنا. اشرأبّت الأعناق وامتدّت الآذان صاغية مترقّبة. بعد لحظات وجيزة، تعالت طلقات نارية كثيفة، هدير صفيرها يملأ الجوّ. ومع ذلك لم يتحرّك أحد من مكانه. المفاجأة صاعقة تشلّ الحركة. بعد فوات لحظة الذهول، تحرّك الزبائن في جلبة عارمة. اسْتَفاقوا في وقت واحد وتدافعوا برمي الكراسي والطاولات في فوضى صاخبة وخرجوا يستفسرون بعيونهم المبحلقة عمّا يحدث. رَدّ فعل غريزي يعيدنا إلى لحظة حدوث الزلازل، وما أكثرها، في العشرية الأخيرة، حيث يتدفّق الناس من داخل الديار والمقاهي، وعلى سيماهم رعب يوم الحشر. وقفنا بدورنا في حركات عصبية وأسرعنا بالخروج إلى الرصيف. تواصل الرصاص بوتيرة أقلّ. قال بوعلام سعدون: ـــ لا ليس هذا إلّا اشتباكًا بين الإرهابيين وقوّات الأمن. ـــ يبدو المكان قريبًا جدًا... غير بعيد عن مدخل المدينة. صوّبنا عيوننا باتّجاه شمال ويمين الطريق العريضة الممتدّة لغاية آخر بناية، لعلّنا نبصر علامة تخمد تأجّج حيرتنا. فجأة صمت الرصاص الكثيف. تلته عيارات نارية متباعدة نوعًا ما. كان الهلع يشعّ من نظرات ووجوه جميع الحاضرين الذين شكّلوا مجموعات ثنائية وثلاثية، وراحوا يتكّهنون بما حدث. ولكن المكوث قرب المقهى لم يدم طويلًا. في ثوانٍ معدودة افترق الخلق كأنّ إعصارًا مباغتًا بعثرهم. سَمِعْت شابًّا يقول لرفيقه وهو يجرّه من الذراع: «يبدو أن أصحاب «بولَحيَة» داروها كبيرة هذه المرة. البقاء هنا خطر علينا. بعد قليل، سيتدفّق العسكر كالجراد، والويل لمن يجدونه في طريقهم. كالعادة، سيُنزلون غضبهم على الزوالية أمثالنا». بدوري اقترحت على الزملاء الالتحاق بالمحكمة. قطعنا الطريق مُسرعين، فيما كانت تُطلق آخر الرصاصات. كانت ساحة المحكمة غاصّة بالناس؛ النساء منزويات في ركن وهنّ الأغلبية، محجّبات، منقّبات، وبأيديهنّ قفف وأكياس؛ فيما وقف بعض الكهول بقرب السياج الخارجي. الغَريب أنّ الجميع ساكت، يكتفي بمسح المكان بنظرات متعبة ذابلة. للمحكمة هيبتها. ثمّ إنّهم جاؤوا لحضور محاكمة ذويهم، متمنّين رأفة القاضي لتخفيف العقوبة أو إلغاءها. إنّ الناس عامّة يخافون من العدالة، ويَتصوّرون القاضي ربًّا صغيرًا بيده الحياة والموت. لذلك تراهم يُجهدون أنفسهم ليظهروا صغارًا أمام عيون موظّفي المحكمة، فلا يرفعون أصواتهم إذا سألوا، ويتلقّون الإجابة بالابتسامات وإن كانت مصطنعة، وينصاعون للأوامر بسهولة. اتّجهنا نحو مكتب وكيل الجمهورية. كان برفقة القاضي وكاتب المحكمة. سألت دون مقدّمات: ـــ هل تعرفون ماذا وقع؟ ردّ وكيل الجمهورية: ـــ حاولت الاتّصال بمركز الشرطة ولكن الخطّ مشغول. قال القاضي: ـــ الشاحنة المقلّة للمساجين لم تصل بعد. فيها ثلاثة إرهابيين سيحاكَمون اليوم. سكت وأطرق رأسه مُفكِّرًا. قال المحامي بوعلام سعدون: ـــ أنا مكلّف بالدفاع عن اثنين منهم، متّهمين بتخريب وحرق مقرّ البلدية في الصائفة الماضية. لقد قضيا أزيد من سنة في سجون الصحراء ولكنهما عادا إلى تحريض الشباب بخطاباتهما النارية بمجرّد إطلاق سراحهما. قلت: ـــ الصحافي يوسف عياشي موجود في هذه الشاحنة أيضًا. الله يستَر. أكيد أنّ أذهان الجميع قد استنتجت ما يجب استنتاجه. ولكن لا أحد من الحاضرين تجرّأ على النطق بما يمكن أن يكون قد حدث فعلًا: كمين نَصَبه الإرهابيون لتحرير زملائهم من الحبس. خيّم الصمت ومعه الضجر. امتقعت الوجوه. كان ذهني يغلي بالتكهّنات والتساؤلات. صعدت الحرارة إلى رأسي، فخرجت إلى الساحة لعلّ الهواء الطلق ينعشني قليلًا. إنّ ضغطي في الشهور الأخيرة أضحى مرتفعًا. وقد نَصحني الطبيب بتفادي اللحظات المتأزّمة. قلت له: أتعبَتني المهنة. قال: خذ تقاعدك. قلت: المحامي كالطبيب تمامًا، تطارده هموم المهنة إلى غاية القبر. بمجرّد أن وقفت أسترجع أنفاسي، أسرعت إليّ والدة يوسف عياشي وسألتني مرتجفة: ـــ لماذا لم تصل شاحنة المساجين؟ أربكتني بسؤالها. تردّدت في الجواب. ولكنَّني استعدت رباطة جأشي، نظرت إلى ساعتي، اصطنعت ابتسامة وقلت: ـــ لا تقلقي... لا زال الوقت مبكرًا... ـــ هل صحيح ما يقال من أنها تعرّضت لهجوم الــ... سكتت، جالت ببصرها في نظرة يأس تائهة وطأطأت رأسها. ثمّ أجهشت بالبكاء. لم يعد الناس يعرفون كيف يُسَمّون الجماعات المسلّحة: إرهابيين؟ إسلاميين؟ مجاهدين؟ جماعة الفيس؟ جماعة الجيا؟ قتلة؟ مرتزقة؟ الناس البسطاء حائرون. في الأحياء الشعبية، شاعت تسمية بولحية نسبة إلى اللحى الكثّة التي اشتهر بها الإسلاميون غالبًا. البعض يسميهم الخاوة، تمامًا مثل مجاهدي حرب التحرير. كما شاعت لفظة «اصْحاب الجبل والمحشوشة». أما التسميات الرسمية التي تبثّها نشرات الأخبار عبر الإذاعة والتلفزة، فإنها متغيّرة متقلّبة حسب موازين القوى، من إرهابيين إلى قتلة ومرتزقة، لتنزع عنهم الشرعية الدينية. أما الجرائد المُستقلّة، فلها تسميات أخرى: الأصولية، الإسلاموية الراديكالية، الإرهاب الإسلاموي. يصرّ أصحاب هذه الجرائد على التأكيد على الطابع السياسي والأيديولوجي للجماعات المتمرّدة. الظاهرة معقّدة، وخيوطها متشابكة قد تتجاوز التصنيفات العقلانية. الأحقاد كثيرة ومُتجذِّرة منذ قرون في هذه التربة المتعوِّدة على التمرّد والعنف. أنا أستاذ التاريخ، أعرف تاريخ هذا البلد، قرنًا بقرن، شبرًا بشبر. فلم تخلُ فترة من مظاهر العنف والمواجهات الدامية بين القبائل المتناحرة حول المراعي والأراضي الزراعية، ولا تتوقّف إلا إذا تعرّضت لغزوة خارجية، وقد تتّحد مرحليًّا قبل أن تستأنف طقوسها الحربية. لم تَسُد الدول المؤسِّسة هنا وهناك طويلًا، ولم يمتدّ نفوذها غالبًا خارج أسوار القلعة التي تسكنها العائلة الحاكمة وحاشيتها والجند الحارس. يذكر ابن خلدون، حينما كان قاضيًا ببجاية، أنه كان يخرج برفقة الجنود لإرغام سكان الأعراش المجاورة على دفع الجباية للحاكم. تشتري هذه الأعراش سلمها وحرية بسط نفوذها على مناطق محدّدة بدفع قسط من إنتاجها الزراعي: قمح، شعير، زيت الزيتون، فول، عدس، حمص، صوف... وحينما تَكبُر أطماع الحاكم أو يصيب المنطقة جفاف، تتمرّد القبائل وتشنّ حربًا تأتي على الأخضر واليابس. لغة واحدة، دين واحد، عادات متقاربة جدًا، ومع ذلك لم تتوقّف الحروب يومًا. تُحلّ الخلافات دائمًا بسفك الدماء وقطع الرؤوس. والخلاف الأول هو بسط السيادة على السهول والجبال والوديان. أما ما يُكتَب على الراية من تبريرات، فإنها محاولة لإقناع النفس الأمّارة بالسوء بأنّها منزّهة من المنكرات والمغريات الدنيئة. ثمّ إنّ الإنسان الظّلوم يملك قدرة عجيبة على إلباس الشرّ قناع الخير، وإلباس الخير قناع الشر. يكذب كذبة ضخمة ثم يصدّقها، ويعدّ جيوشًا جرّارة للدفاع عنها. يُبقي على الألفاظ القديمة ولكنه يكسوها بدلالات جديدة، يتغنّى بنبلها وأخلاقها العالية. وكل هذه الحذلقة للحفاظ على ملكيته للأشياء وسيطرته على العباد. تقدّم منّي شيخ ملفوف في جلّابية رمادية قديمة، وعلى رأسه شاشية اسْوَدّ بياضها، يتكئ على عصا ريفية، وحيّاني بذكر اسمي. أكيد أنه يعرفني، ولكنني لم أتعرّف عليه بسرعة. بعد ذلك سألني إنْ كانت جلسة المحاكمة ستقام اليوم. لمْ أجد جوابًا فقلت متسائلًا: يبدو أنّ لك قضية مهمّة اليوم؟ كان صدر الشيخ يغلي غيظًا، فانفجر بمجرّد الاحتكاك: «ذاك الخنزير الذي طلّق ابنتي بثلاث قطات لا تتجاوز أكبرهنّ أربع سنوات، وكنتَ أنتَ حاضرًا يا أستاذ، أظنّك لم تنسَ رغم مرور السنين، رفض ذاك المسخوط أن يدفع الكفالة المالية التي فرضها عليه القاضي. كلّمته مرارًا بالحسنى، ولكن الرجل كالحرباء، لا يستقرّ على رأي. يعد ولا يفي. رفَعنا شكوى ضدّه. في البداية بدا مغترًّا، معتدًّا بنفسه، لا يعير اهتمامًا لأحد. هدّده القاضي بالسجن إنْ لمْ يدفع. انقلب من هيئة ديك إلى هيئة دجاجة. فبكى واشتكى من سوء وضعه المالي. قال إنه بطّال. أنا أعرفه جيدًا، يسكن في البراريك معنا. يشتغل بنّاءً عند الناس. أراه دائمًا عائدًا في المساء بملابسه الملطّخة بالإسمنت والصباغة. يومها أَقْسَم إنّه سيدفع بمجرّد خروجه من عند القاضي. بعد شهر من المواعيد الكاذبة، رمى لنا الحقير ألف دينار. ماذا نفعل بألف دينار؟ لا تكفي حتى لحليب الأطفال. أصبح يتهرّب من لقائي. أبحث عنه في منزله فلا يخرج. يراني من بعيد، يغيّر طريقه. الحلّوف ابن الحلّوف، يحسب أن الدنيا بلا قوانين. يرمي امرأة بثلاث بنات إلى الشارع كما ترمى الكلاب ويظنّ أن لا أحد يحاسبه. هذه المرّة سأطلب مِن القاضي أن يسجنه. رغبتي الآن أن أراه قابعًا في زنزانة مظلمة بضعة شهور، أن يدفع ثمن نذالته. لا نريد أمواله، نحن متعوِّدون على الفقر والجوع. الله سبحانه هو الرازق الساتر...». أثناء إفراغ الشيخ لسخطه، تذكّرت أنني تولّيت الدفاع عن ابنته منذ أزيد من خمس سنوات بطلب من المحكمة. شيئًا فشيئًا، استرجعَت ذاكرتي صورة تلك الفتاة التي لم تتجاوز العشرين من العمر، الملفوفة في حجاب بنّي، تحمل بين ذراعيها رضيعًا، فيما كانت طفلتان صغيرتان مذعورتان تتشبّثان بساقيها. قالت: «يشتمني ويضربني لأتفه الأسباب. يعيّرني بأمّ البنات. صبرت، قلت لعلّ الله سيرزقنا بولد. ولكن منذ ولادة الطفلة الثالثة، هاج وماج وأصبح لا يكلّمني إلا بالسبّ والشتم. بل وأصبح يصبّ غضبه على البنات أيضًا، يركلهنّ ويلعنهنّ بلا سبب». وبّخه القاضي بشدّة ولكن الرجل دافع عن نفسه باتّهام زوجته بالتقصير في الاعتناء به وبعائلته، واسترسل في رصد بعض الخلافات بين زوجته وأمّه وأخواته. لكن القاضي أوقفه وأجّل الفصل إلى جلسة قادمة. لم يفصل القاضي في مسألة الطلاق إلا بعد جلسات عديدة. كان في كل مرّة يؤجّلها إلى موعد لاحق، ويطلب من الزوجين أن يتصالحا حفاظًا على تربية الأولاد. تكرّر الشجار والضرب وأصبحت الزوجة تجرّ بناتها وتلجأ إلى بيت والديها فتمكث هناك أيامًا، بل وأسابيع. الآن، أتذكّر جيدًا صبيحة آخر جلسة، حينما اعترض سبيلي هذا الشيخ عند المدخل الخارجي للمحكمة، وطلب منّي أن أخلّصه من المشاكل التي تنغّص حياته. كان ساخطًا لاعنًا ويداه ترتعدان. قال إنّه سيرتكب حماقة إن تواصل الوضع على تلك الصفة. فعلًا، طلبت من القاضي إعلان الطلاق درءًا لوقوع مكروه من كثرة الشجار بين العائلتين. بَحثْت ببصري عن ابنة الشيخ المطلّقة، فلم أتبيّن ملامحها وسط الحشد المكوّم من النساء المُحجّبات، المُجلببات، الواقفات يترقّبن ما يجدّ من أحداث. في تلك اللحظة، دوّت صفارة إنذار، واقتربت بسرعة من البناية. شرطة، سيّارة إسعاف أم شاحنة الحماية المدنية؟ الصفارات متشابهة، يصعب التمييز بينها. وحدها الرؤوس ارتفعت واشرأبّت باتجاه الطريق، مُستفسرة، مُستقصية، لتزيد الوجوه امتقاعًا والقلوب انقباضاّ. أما الأبصار فإنها وجمت، وأما الألسنة فإنّ أصحابها فضّلوا ابتلاعها، لدرايتهم أنّ أية لفظة يمكن أن تحوّل يومياتهم إلى جحيم لا تطفئه أمواج جميع المحيطات. بعد ذلك مباشرة، خرج كاتب الضبط وأعلن أن الجلسة أُجّلت للأسبوع المقبل. ارتفَعت همهمات وتعالت أسئلة، ولكن الكاتب عاد أدراجه دون أن يمهل أحدًا بالاقتراب منه. تبعته وعدت إلى مكتب وكيل الجمهورية. هناك وجدت الخبر اليقين. إنّه فعلًا كمين نصَبه الإرهابيون عند المدخل الجنوبي للمدينة، وبالضبط في جسر الصفصافة، بقرب حيّ الأكواخ القصديرية. تلتوي الطريق في ثلاث دورات ضيقة، تحيطها أدغال شوكية تلتف حول أشجار الحوْر والصفصاف، تمتدّ عبر مجرى الوادي. الجسر ضيّق لا يسمح إلا بمرور سيّارتين خفيفتين. لذلك تضطرّ الشاحنات والحافلات إلى التوقّف نهائيًا، قبل العبور فوق الجسر. إنّه المكان المناسب لنَصْب كمين مسلّح وإمكانية الانسحاب سهلة بالتسلّل عبر مجرى الوادي حتى غابة الصنوبر في التلّة المقابلة المطلّة على أحراش المتيجة. قال وكيل الجمهورية بعد أنْ نظر إلى ساعته: ـــ خطّة مَحبوكة بإحكام... ولكن أين سيختفون؟ النهار ما يزال في بدايته. بعد قليل ستصل إمدادات الجيش والدرك، سيحوِّطون المكان، وسيمشّطونه مِترًا مترًا. إنهم مجانين فعلًا. انتحاريون... فغمغم الجميع موافقًا. بعد قليل افترقنا. 3 كان اليوم الذي استخرجْتُ فيه شهادة الكفاءة المهنية للمحاماة من أسعد أيامي. أمسَكتُ الورقة التي مدّها لي الموظف بتلهّف، قرّبتها من عينيّ، فبرز اسمي كبيرًا لامعًا ملأ صدري اعتزازًا. رغبت في الانفراد بقراءتها مثلما ينفرد العاشق الولهان برسالة حبيبته. شكرت الموظف النحيف بصدق وحماس، كما لو أنّه أهداني إياها بالمجّان، دون أن أقضي سنوات مضنية، أركض بين المتوسطة في عين الكرمة وكلية الحقوق في ابن عكنون، أقف الساعات الطوال في محطات الحافلات، أترقب ببصري الذابل السيارات المارة لعل سائقها يكون من معارفي. أسهر الليالي في مراجعة الدروس، أتملّق للمدير كي يغضّ البصر عن غياباتي وتأخري المتكرّر. لكن فرحة ذلك اليوم أنستني جميع تلك المشقة، ورحت أنشد مع أبي القاسم الشابي: ومن هاب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر. وأنا أعطيت العهد لنفسي أن لا أبقى بجانب الحفر الموحلة التي تلطخ ثيابي في الصباحات الشتوية. في الساحة، انزويت جانبا وقرأت الوثيقة ببطء، أتملى كل كلمة، أتأكد من عدم وجود خطأ في الاسم وفي تاريخ الولادة. كانت الوثيقة كما الخاتم السحري في حكايات أمّي. حكّ خفيف ويخرج العفريت: شبيك، لبيك، أنا هنا، اطلب ما تريد. سأطلب أيها القمقم... سأطلب... اللّي يحب الزِّين يصبر لعذابُه. أغمضت عينيّ لحظات لأتمتع بالنشوة اللذيذة التي غمرتني. بعد ذلك، أخفيت الشهادة برفق داخل المحفظة وخرجت مزهوًا من الكلية، يتملكني شعور بأنني أملك قوة سأقهر بها الدهر كله. في تلك الأمسية، اشتريت دجاجة محمّرة وقنينة نبيذ، واحتفلت بنجاحي برفقة عشيقتي، العاهرة الساكنة معي في الفندق. كان عليّ بعد ذلك أن أقوم بتربص لمدّة سنة كاملة عند أحد المحامين، قبل أن يُسمح لي بممارسة المهنة. في البداية، اتصلت ببعض الأساتذة المحامين، فاعتذر الجَميع بحجج متنوعة. ومع ذلك شكرتهم بعبارات مؤدّبة، مرفقة بابتسامة عريضة وهزّ الرأس احترامًا لمقامهم. في تلك الأيام، بقيت أتَردّد كثيرًا على الجامعة، أستقصي أحوال زملاء دفعتي. فكُلّما التقيت واحدًا منهم فشل في العثور على تربّص انهال شتمًا وسباًّ على المحامين، واتهمهم بالحسد ووصفهم بالكرش الكبيرة التي لا تشبع. لم أنزعج ولم أيأس. الإنسان بطبعه أناني، يستميت في الدفاع عن مصالحه أولًا وأخيرًا. ما الغرابة إنْ حصّن المحامون قلاعهم وسدّوا الثغرات التي تمكّن الغزاة أمثالنا من قضم جزء من أرباحهم؟ كنْت مُتفائلًا ومُقتنعًا بأنني سأعْثر على محام مُتفهّم يَقبَلني متربصًا عنده. تعلّمتُ من قراءاتي لسير العظماء عبر التاريخ أن الصدفة تتدخل باستمرار في توجيه مصير الأفراد. وهو ما حصل لي فعلًا. كنت أشعر منذ مدّة بضعف البصر، فقرّرت زيارة طبيب عيون. اشتكيت حالي لأستاذ يضع نظارات، فأرشدني إلى مختص مشهور بشارع العربي بن مهيدي، غير بعيد عن ساحة الأمير عبد القادر. كانت العيادة غاصة بالمرضى ومرافقيهم. بقيتُ واقِفًا عند مدخل البهو الضيّق، بقرب مكتب ممرّض الاستقبال. ولكن كعادتي دائمًا، كنت بحاجة إلى تدخين، لمقاومة الضجر الذي ينتابني حينما أتواجد وسط المرضى. ردّ فعل لاإرادي، يذكّرني في كل مرّة بالشهور الشاقة التي كان فيها أبي طريح الفراش، يكاد صدره يتفجّر من كثرة السعال ونحن، أمي وأخي الكبير وأختي الصغيرة، الله يرحمهم جميعًا، نتفرّج عاجزين، ينهشنا الرعب ويرعد أحشاءنا الخاوية. كم كانت قاسية تلك الليالي الشتوية الباردة، حيث كانت قلوبنا تتمزق مع كل كحّة تصدر من أبي المرمي في زاوية الكوخ، يرافق سعاله الحاد المتواصل لحظات نومنا القصيرة. مطر مدرار يأبى التوقف، برد قارص يزرّق الوجوه، جوع تتضوّر له البطون. أخرج بمعية أخي باكرًا، نمشّط ضفّتي الوادي القريب بحثًا عن الحطب الجاف، وعن الحلازن أيضًا. كانت الحلازن غذاءنا الدائم تقريبًا، إلى جانب بعض النباتات البرية مثل السلق والمجِّير والفليو. ذات ليلة، أيقظني صراخ أمّي. بقيت منكمشًا إلى جانب أخي تحت الحائك الصوفي المثقوب الذي نتجاذب أطرافه، أرتجف من البرد والخوف. مع أولى علامات الفجر، خرجت لأُخبر شيخ الجامع وبعض الجيران. دفنّا أبي تحت رذاذ المطر، وأرجلنا تتخبّط في الوحل. لم أبك ولم أشعر بالحزن. انتابتني سكينة مخدّرة. وقفْت تحت المطر أتابع مراسم الجنازة بعيون سارحة، وأقول مع نفسي الليلة سأنام إلى الصبح، سأرتاح من السعال ومن البكاء والنواح. هي أيضًا كانت تصرخ باستمرار ولا تتركنا ننام. وكنت أتمنى لها الموت في قرارة نفسي. وكم بكيت يوم وجدناها، أمّي وأنا، مُلقاة على الأرض بلا حراك، وقد غبنا عنها يومًا كاملًا. تملّكني إحساس بالذنب لشهور عديدة كما لو أنّني كنت قاتلها. إلى اليوم لا يزال هذا الإحساس يؤرقني كلما استحضرت ذاكرتي تلك الأيام القاسية. حكاية قديمة وانتهت. لماذا أحييها اليوم؟ ماذا أصابني؟ منذ ذلك الوقت، نَمتْ في نفسي حساسية شبه عدوانية تجاه المرض والمرضى. أضحَت رؤية شخص مريض تثير في نفسي ألمًا عصيّ الاحتمال. ومُقاومتي الوحيدة هي الهرب. فعدت أكره المستشفيات. وكلما قادتني الظروف مُرغمًا إلى مثل هذه الأماكن استعجلت الخروج. في تلك الصبيحة، وبداخل بهو عيادة الطبيب، قاومت رغبة التدخين دقائق معدودة. ثمّ أخرجت علبة السجائر، وقبل أنْ أفتحَها، انتبهت إلى العيون اللائمة المصوّبة نَحوي. أرجعت العلبة إلى جيب سترتي وخرجت. وقفْت عند المدخل بقرب السلالم أدخِّن بشراهة لا مثيل لها، كما لو أنّ احتراق السيجارة يحرق معه المرض. كان المكان مُعتمًا قليلًا. في لحظة ما، انفتح الباب المقابل وخرج منه رجلان. انغلق الباب، فجلبت انتباهي ملصقة صغيرة مربعة الشكل. فكرت: طبيب آخر. اقتربت وقرأت بالفرنسية: الأستاذ ناصر بن تواتي، محامي لدى المجلس. خفق قلبي واتسعت حدقتا عينيّ. تذكرت مشكلتي. قلت: سأجرّب. استقبلتني كاتبة متوسطة العمر وسألتني عن حاجتي. قلت باختصار: أريد مقابلة سي ناصر. نعم، هكذا، سي ناصر ضربة واحدة، وأنا لا أعرفه لا من عليّ ولا من عائشة. إنها طريقة للإبهار، تعلّمتها في خضمّ تقلبات الحياة. حينما تريد اخْتراق حواجز البوابين والكاتبات لتقابل مسؤولًا، فما عليك إلّا التظاهر بمعرفته ومخاطبتهم بلهجة واثقة، متعالية كما يفعل أصحاب الجاه والسلطة. دون أن تنسى الاعتناء بمظهرك الخارجي، البذلة الأنيقة وربطة العنق المزركشة، لتضفي على هيئتك هيبة ووقارًا، تصدّ عنك العجرفة والاحتقار. وأنا دأبت على ارتداء بذلة وربطة عنق ودهن حذائي جيدًا بالأسود اللامع كلما انتقلت إلى إدارة ما، أو للقاء مسؤول مهما كان صغيرًا. وحينما التحقت بالجامعة، أصبحت البذلة ترافقني مثل المحفظة. وبما أنني كنت كبير السن مقارنة بالطلبة العاديين، فكنت أحظى دائمًا بلقب أستاذ. وكان هذا اللقب يزيدني افتخارًا بوضعي الجديد، ويملَأني غبطة. نَظرَت إليّ الكاتبة متردّدة، كما لو أنها أرادَت أن تسألني عن حاجتي ولكنها لم تفعل. طلبَت مني الجلوس ودخلَت عند سي ناصر. كُنْت مُرتبكًا، حائرًا في كيفية عرض مشكلتي، ألوك جملًا وعبارات، تارة بالفصحى، تارة بالدارجة. ولكن المحامي بخّرها جميعًا حينما ردّ على تحيّتي بالفرنسية ـــ وأية فرنسية؟ ـــ قبل أن يطلب مني الجلوس. أدركت للتوّ أنني أمام محام مُفرنَس. وحَسب عمره الذي قدّرته آنذاك بحوالي خمسين سنة، يكون من الرعيل الأول، من أولئك الذين درسوا في فرنسا. كيف أخاطبه وأنا لا أعرف من لغة فولتير، مثلما يسميها أهل العربية والتعريب في الجامعة، إلا القليل. صَحيح أنني أقرأ بها الجريدة مثلًا، ولكن نطقي بها معوجّ بل ومثير للسخرية. ألست ابن زاوية سيدي عبيد؟ حفظت ما يربو عن العشرة أحزاب من القرآن الكريم. جاء الاستقلال، نزحنا من ريفنا الخالي إلى قرية سيدي اعمر. ولكن عمري الذي تجاوز الثانية عشرة لم يسمح لي بالتسجيل العادي. جَمعونا نحن الذين فاتنا قطار التعليم في قسم واحد، وأدخلوا علينا فرنسية تعلّمنا أبجديات اللغة. كانت جميلة فسلبت عقولنا وأجّجت شهوتنا النائمة. كنا كبار السنّ، نتنافس على التلصّص على أنوثة جسدها الفاتن. المسكينة... كانت تُجهد نفسها لتخطّ الحروف على السبورة بعناية، ونحن لا منظر لنا إلّا الساقين الأبيضين العاريين والنهدين الممتلئين اللذين يهتزان برفق مع كل حركة تقوم بها. تحمرّ وجنتاها كالرمان الطازج حينما تلتفت وتدرك الهدف الحقيقي للعيون البراقة المبحلقة. كان بعض الشياطين في الصفوف الخلفية يمارسون الاستمناء، فيصلنا لهاثهم وتزكم أنوفنا روائح المني الساخن. استبدلوها في منتصف السنة. استخلفها المدير نفسه. جزائري يخاطبنا بلهجتنا. وكان يقضي مُعظَم الوقت في إبداء النصيحة ومعاقبة المشوِّشين. وحينما يغضب، لا تصل إلى سمعنا وسط صراخه ورذاذ بصاقه المتطاير إلّا كلمات الحمير والبغال والرعاة وبائعي السردين. نُطأطئ رؤوسنا، نخفض أبصارنا، نتظاهر بالطاعة، ولكن ألسنتنا تلوك أقذع الشتائم، التي أخجل اليوم من نفسي حين أتذكرها. ومع ذلك تعلمت الحروف وأصبحت أفك الكلمات وأنطقها. في السنة الموالية، طردوا نصف القسم. من حُسن حظي أنّ نتائج الامتحان النهائي أنقذتني من الطرد. التحقت بقسم السَرْتفيكا. سرَّحونا في نهاية السنة. بَقيْتُ سنتَين أتسكع في أزقة القرية، أتسابق مع أقراني من الأطفال البطالين على رمي الكلاب والقطط بالحجارة وسرقة ثمار التين والعنب من حدائق الجيران. أحيانًا ألتحق بالمزارع المجاورة للعمل في جني اللوبيا والطماطم. أعادَتني أمّي إلى زاوية الشيخ المولود، ولكنني وجدت نفسي هرمًا وسط الأطفال الصغار، ثمّ إن طريقة التلاوَة الرتيبة دون فهم أصبحت تثير ضجري، فأخرج وسط الضجيج ولا أعود. اشتكى الشيخ مرارًا من غيابي. ذات مساء، دخل علينا أخي فرحًا وأخبرني بالاستعداد للعودة إلى الدراسة. استخففت بالخبر واستهجنت العودة إلى القسم. ماذا سأفعل وسط الأطفال؟ من الأولى به أن يسعى لإدماجي بصفة دائمة بالمزرعة. نهرني بنظرته الصارمة التي ترعبني دائمًا. كان رحمه الله ذا طبع حاد ولا يكثر الكلام. كان يشتكي كثيرًا من عمل المزرعة ويقول بأنه يليق بالشيوخ والعجائز وليس بالشبان. تجنّد في الجيش مبكرًا، ومات المسكين في ظروف غامضة. كان هو المدبّر في البيت وأمّي لا أذن لها إلا لأوامره. سارعت أمّي إلى الوقوف إلى جانبه. الدراسة هي المفتاح، هي الطريق الصحيح، وأنت حفظت القرآن ودرست سنتين في المدرسة، ألم تتعلّم شيئًا؟ كان أخي وقتها قد التحق بالجيش. لبس بذلته العسكرية وأخذني إلى المدرسة وسجلني في الدروس المسائية التي فُتِحت للكبار المتأخرين أمثالي. وكانت أمي المسكينة تحثّني على الاجتهاد في الدروس لعلّني أنال حظوة امتلاك وظيفة محترمة، يكون راتبها كبيرًا. هكذا استطعت أنْ أكمل دراستي. ما كاد عمري يصل إلى العشرين حتى تمكنت من الحصول على مستوى دراسي سمح لي بالدخول إلى مدرسة تكوين المعلمين. ولكنني متّنت فرنسيتي في سنوات التحضير لشهادة البكالوريا. ومع ذلك، أعي جيدًا أنّ ضعفي فادح في هذه اللغة. كان سي ناصر كهلًا نحيفًا، يرتدي بذلة رمادية دون ربطة عنق، بشنبات رقيقة، أشقر اللون. قلت في نفسي: هذا لا يكون إلا قبائليًا أو جيجليًا. استمع إليّ وأنا أعرض عليه مشكلتي. هزّ رأسه وقال: ـــ أنت من الدفعات المعربة، أليس كذلك؟ أربكني سؤاله وأجبت مسرعًا: ـــ نعم، ولكنني أحسن الفرنسية قليلًا. لا أتكلَّمها بطلاقة ولكنني أقرأ بها بسهولة. ابتسم وقال بنبرة فيها أسى: ـــ الظاهر أنّ التعريب يزحف بخطوات عملاقة. يُقال إنّ كلية الحقوق ستُعرَّب كلية ابتداءً من الدخول الجامعي المقبل. ـــ هذا ما يقال فعلًا. عرفت بعض الطلبة في الأقسام المُفرنَسة كانوا يَحضرون معنا الدروس بالعربية، بل منهم من التحق بالقسم المعرّب رسميًا. مطّ سي ناصر شفتيه وهزّ رأسه قائلًا: ـــ قطار التعريب يجري بسرعة. وعلينا نحن أيضًا أن نحجز مكانًا قبل أن يفوتنا الركب. أخاف أن يحدث لنا مثلما حدث للأقدام السود، فنضطر إلى هجرة هذا البلد. سكت قليلًا وسرح بنظره بعيدًا، كما لو أنّه يسترجع ذكريات حزينة. كنت أتكلم بالعربية الدارجة وأدخل بعض الكلمات الفرنسية رغبة مني في إقناعه أنني فعلًا أحسن لغة فولتير. أما هو فكان يتكلّم بالفرنسية، مُستخدِمًا من حين لآخر كلمات بالدارجة. كان نُطقه للأصوات العربية مثل نطقي للأصوات الفرنسية، مُحرَّفًا، مُثيرًا للضحك. هزّ رأسه بحركة فظّة وقال: ـــ يبدو أنّ وزير العدل الجديد يكره الفرنسية ويستعد لتعريب إدارة العدالة كلها. بالأمس فقط كانت لي قضية في محكمة الحَرّاش، فأوقفني القاضي، شابٌّ لا يتجاوز الثلاثين، لأنني كنت أرافع بالفرنسية، أتتصوّر ذلك؟ قلت له: «لا يوجد قانون يمنع المرافعة بالفرنسية». قال إن تعليمات الوزير الجديد تجبر المحامين على استخدام اللغة الوطنية. قلت: «لماذا تسميها اللغة الوطنية وليس العربية؟». قال متشدقًا مثل جلدة قديمة مُغترّة بأصولها البعيدة: «اسْمع يا أستاذ... نحن قضاة لا نمارس السياسة، نطبق قوانين الدولة الجزائرية، والدولة الجزائرية المستقلة تقول بأن على المحامين المرافعة باللغة الوطنية التي هي اللغة العربية. أما الفرنسية فهي لغة أجنبية، لغة الاستعمار، وأظن أنّ الاستعمار قد خرج من بلادنا». قلت: «الاستعمار حاربناه بلغته. أتعلَم أيها القاضي أنّ بيان أوّل نوفمبر حُرّر بالفرنسية أوّلًا، ولم يعرَّب إلّا لاحقًا وأنّ غالبية زعماء الثورة كانوا من المُفرنسين». قاطعني قائلًا: «لا أريد أن أدخل معك في نقاش سياسي. تكلّم بالعربية أو اسكت. القانون هو القانون». فكّرت قليلًا ثمّ قلت: «سأرافع بالعربية الدارجة. ليست لغة أجنبية على ما أظن؟». ظننت أنّ المشكلة حُلّت، ولكن عندما قدّمت له نصَّ المرافعة ليدمجه داخل الملف، قال: «المرافعات المكتوبة تكون أيضًا باللغة الوطنية». انتفضت كما انتفض بقية المحامين. ولكن القاضي لم يبال. اشتكينا للنائب العام أو الغرّاق مثلما يسميه الناس. قال: «أنا أتفهّم مشكلتكم ولكنّني عاجز عن فعل أيّ شيء. التعليمات هي التعليمات. أُخبِركم أنّ هذا القاضي الجديد له عرّاب كبير في الجيش يحميه. أنتم أدرى بالكيفية التي تُسيّر بها دواليب الحكم عندنا. أنا لا ألعب بخُبز أولادي. أنصحكم بتعلّم العربية أو تَوظيف من يساعدكم في تعريب وثائقكم». عندما خرجنا أسرّ لي محامٍ له مجسّات استخبار غريبة أنّ هذه الخصية الرخوة تتحرك تحت جزمة عقيد، وتؤكّد بعض الألسنة أنه أخو زوجة العقيد الثانية، تلك التي ترافقه في سفرياته الباخوسية إلى عواصم أوروبا. مثلما ترى، أنا درست في زمن فرنسا، وحظ العربية آنذاك حصة واحدة في الأسبوع لا يهتم بها أحد. العربية الدارجة أيضًا لا أتقنها. أنا قبائلي، من مدينة عين الحمّام. وزوجتي كذلك. في البيت لا نتكلم إلا القبائلية. إنني في ورطة حقيقية. هل أغيّر مهنتي في آخر العمر؟ هل ألمّ أغراضي وألتحق بالأقدام السود؟ هم فرنسيون، رجعوا إلى بلاد أجدادهم. أما نحن فأين سنذهب؟ إلى منطقة القبائل؟ سيلحقها التعريب مهما تأخر تطبيقه. اللغة القبائلية لهجة شعبية، لا تُكتب ولا تُـقرأ وغير مُعترف بها رسميًا. سكت لحظة مفكرًا ثم أضاف: ـــ ولكن جابَك ربي في الوقت المناسب. (قالها بالدارجة وردّدت مَعه في سري: جابْني ربي في الوقت المناسب، صَح...) أنتَ تبحث عن تربّص يساعدك على ممارسة المحاماة، وأنا بحاجة إلى من يساعدني على تعريب الوثائق، بل أفكّر بجدّ أن أتعلم العربية. هتفت بحماس وابتهاج: ـــ أنا موافق على الاقتراح. إنها فُرصَة لأتعلم الفرنسية أنا أيضًا. ـــ اتَّفقنا يا أستاذ. ضحكت من كلمة أستاذ وقلت: ـــ الأستاذ هو أنت يا مِتْر. ابتسم بدوره وقال: «مِتْر... أستاذ... ألقاب نبيلة، ولكن قلّ من يستحقها فعلًا». وقف وصافحني، فرأيت الانشراح على محيّاه. كما أدركت أنّه متوسّط القامة وإنْ بدا قصيرًا نوعًا ما بسبب نحافة جسمه. هكذا دخلت المحاماة من بابها الواسع. وكان لقائي بسي ناصر، والآن أقولها باعتزاز واحترام، وبعد مرور أزيد من عشرين سنة من تلك المصادفة الرائعة، حاسمًا في حياتي. معه، تعلمت المهنة وسراديبها، المنيرة منها والمظلمة. تعلّمت أن القانون مطّاط يمكن عجنه بشتى الأشكال. أصبح سي ناصر صديقي وزميلي، نتعاون معًا في قضايا عديدة إلى اليوم. وزادت صداقتنا متانة وتواطؤًا حينما قرّرنا تشكيل هيئة تدافع عن المساجين السياسيين والصحافيين من شتى الاتجاهات. وبقي دفاعنا عن مساجين الحركة البربرية وشيوخ الحركة الإسلامية مرجعًا نعتز به لأنه أعاد لمهنة المحاماة نبلها بعد أن لوّثها أولئك الذين لا يركضون إلا خلف الأموال والموالاة للسلطة الحاكمة. ولا أخفي سرًا إن قلت إنّ تصوّري للمحاماة كان يشوبه كثير من المثالية. في أوّل الأمر، ما كان يُغريني في هذه المهنة جانبُها المادي. وينبغي الاعتراف أنّني ضعفت أمام إغراء المال وإغواء النساء. شيئان َصعب عليّ مقاومتهما. وغرفت ما غرفت من الإناءَين الساحِرَين. ومرّغت كرامتي وشهامتي في أوحالها. ومع ذلك أضرارها أقل بكثير من مغريات السلطة. فلم تغرني السلطة يومًا مثلما أغرت كثيرًا من زملائي، الذين داسوا مبادئهم وظلموا أشخاصًا أبرياء وزجوا بهم داخل السجون، استجابة لأوامر نافذين في دوائر الحكم، فنالوا المناصب العليا، بل منهم من أصبح وزيرًا. الثروة نعم، المتعة نعم، ولكن ليس بإلحاق الظلم بالأشخاص الأبرياء. هكذا تعلمت من سي ناصر. ومع ذلك، فالمُحامي عندي هو الذي يدافع عن المظلومين، عن الضحايا. سبق لي أن رأيت بعض الأفلام تصوّر براعة المحامي في إنقاذ أبرياء من تهم باطلة كادت تزج برؤوسهم إلى المقصلة. وبحُكم وضعي الاجتماعي، كنت دومًا أتعاطف مع الفقراء وأراهم مظلومين دائمًا، وأبحث لهم عن مسببات قاهرة هي التي تجرهم إلى ارتكاب الجريمة. أما المجرمون واللصوص بمختلف أنواعهم، فليخلدوا في ظلام السجون. ولكنني صُدمت من أوّل قراءتي للملفات التي رحت أكتب عرائض الدفاع فيها بمساعدة سي ناصر. أتذكر أنني استنكرت أن يدافع عن سكّير تسبب في حادث سيارة أدى إلى وفاة ثلاثة أفراد من عائلة واحدة: الأب، والأم وطفل في العاشرة من العمر، تاركين وراءهم ثلاثة أطفال صغار. قلت لسي ناصر: ـــ كيف قبلت الدفاع عن هذا القاتل الذي أباد عائلة كاملة؟ ردّ عليّ: ـــ ولماذا لا أدافع عنه؟ ـــ لأنّه مجرم. كان يسوق في حالة سكر متقدّم، وحسب تقرير الشرطة، سيارته هي التي تجاوزت السرعة القانونية واخترقت إشارة التوقّف، وصدمت سيارة العائلة المتوفاة. لهذا، أدخلوه السجن في انتظار محاكمته. ـــ قلتَ إنه أباد عائلة... هناك كثير من السواق لم يكونوا مخمورين، وتسببوا في حوادث أدت إلى إبادة عائلات، ولم يسجنوا ولم يتهموا بارتكاب جريمة. إذا رأينا إلى النتيجة فهي واحدة: زهق أرواح بريئة. ـــ ولكن صاحبنا كان سكران. وأكيد أنه يعرف خطورة السياقة أثناء السكر. ـــ ما الفرق بين مسؤولية هذا السكران ومسؤولية سائق اخترق الضوء الأحمر وتسبب في حادث أدى إلى وفاة؟ هذا السائق يعرف أيضًا خُطورة اختراق الضوء الأحمر أو الخط الأصفر، أو التجاوز في منعَطف. ـــ هذا صحيح. ـــ ومع ذلك، فالشرطة ترمي الأول في السجن وتترك الثاني طليقًا، يعود إلى بيته آمنًا. لم أجد جوابًا. أضاف سي ناصر: ـــ إنها جرائم عصر التكنولوجية التي لم يضبطها القانون جيدًا بعد. إنّ الجريمة في عرف القانون مرتبطة بنيّة إلحاق الضرر بالغير قبل النظر إلى حجم الضرر بعينه. ما يُعرف في لغة القانون بسبق الإصرار والترصد. فمَن يَعتدي على شخص بالسلاح فهو مجرم لأنّه ينوي إلحاق الضرر بخصمه، أما حادثة سيارة، فنية الأذى غير موجودة أصلًا. ما العمل إذا؟ إنها فعلًا مشكلة العدالة، سواء بالنسبة للقاضي أو المحامي. ـــ أفعال الإنسان معقّدة، ويصعب تصنيفها بشكل نهائي في خانة الخير أم خانة الشرّ. خيّم الصمت بيننا لحظة قبل أن يسأل سي ناصر: ـــ وما هي وظيفة المحامي في رأيك؟ ـــ الدفاع عن المظلومين والأبرياء. ـــ أنت متأثر برومانسية فيكتور هيجو. قلت بحماس: ـــ قرأت البؤساء وتمزّق قلبي ألمًا بسبب مأساة جان فالجان. ـــ أقرأت الرواية حقًّا؟ إنّ فرنسية فيكتور هيجو صعبة. ـــ قرأت الكتاب مترجمًا إلى العربية في نسخة لبنانية. ـــ آه... المهم، يجب أن تعرف أن وظيفة المحامي هي الدفاع عن جميع المتهمين بارتكاب جريمة ما، حتى أولئك الذين يعترفون بالأفعال المنسوبة إليهم، ومهما كانت بشاعة هذه الأفعال. والدفاع عن المجرمين لا يعني الموافقة على ارتكاب الجريمة. الدفاع معناه أن توفر للمتهم سبل الدفاع عن النفس، ذلك أن كثيرًا ما تكون التهم مزوّرة وملفقة. أثناء المحاكمة، إن ثبت أن المتهم قد ارتكب الجريمة المنسوبة إليه فعلًا، فينال عقابه طبقًا للقانون. هكذا أصبحت محاميًا. صدق من قال: ربّ صدفة خير من ألف ميعاد. 4 اليوم دفنّا نبيل بعد صلاة العصر. انتظرنا بمصلحة حفظ الجثث بالمستشفى طويلًا. الإجراءات الإدارية كثيرة ومعقّدة. رخصة من هنا، رخصة من هناك. وفي كل مرّة، نستنجد بالبوابين والسكريتيرات للعثور على رئيس المصلحة ليُوَقِّع الوثيقة المطلوبة. كلّهم يتذمرون من كثرة الشغل الذي يخنق أنفاسهم. أنْ تستمع إلى شكاويهم وهم يمسكون القلم بتأفف وقرف (طايْحَة على راسي غير أنا برك، الخدمة يَحَوْسوا عليّ، الصحّ والوا، غير الريح، الفايْدَة ليهم والمصايَب لينا...)، يخيّل إليك أنهم يسيّرون مصنعًا لإنتاج الصواريخ العابرة للكواكب. مرض العظمة بدأ ينخر ذهنية وسلوكيات الرؤساء الصغار. بمُجَرَّد أنْ تُمنَح لأي موظف صلاحية التوقيع، يُمسَخ إلى ثعبان لا وظيفة له إلا اللّدْغ، ولا تسمع على لسانه إلا: «وقتي ثمين ومحسوب بالدقيقة... عندي اجتماع مهم مع سيدي المدير... عندي مهمة خاصة في المديرية...» هذه هي الجزائر. كل واحد يبني جمهورية في رأسه ويسيّرها بقوانينه الخاصة. لمْ نتسلّم الجثة إلا حوالى منتصف النهار، بعد أن تكهربت أعصابنا ألف مرّة وأوشكت على تفجير ما تبقى سالمًا في الجسم. نقلنا التابوت إلى المنزل، أدخلناه إلى الصالون الغارق في كآبة النواح والصدور القانطة والألسنة الراجفة بالدعوات الخاشعة وخرجنا ننتظر في ساحة المتوسطة. كان رشيد بن غوسَة صامتًا، غائبًا عما يحيط به، كما لو أنّه ابتلع قرصًا مخدّرًا. في الصباح أيضًا، لم ينفعل ولم يحتج، هو العصبي الذي تثيره أدنى مشكلة. كان ينتظرني وأنا أجري في الأروقة باحثًا عن الرؤساء الكبار، أسخط وأزمجر وحدي كالمعتوه. حينما تعالى أذان الظهر، نظرت تباعًا إلى ساعتي اليدوية ثم إليه، فلم يحرّك ساكنًا. قلت بصوت مرتفع كي يصل إلى سمعه: ـــ حان الوقت للتوجه إلى المقبرة. فتح عينيه على اتساعهما كمن يستيقظ من غفوة قيلولة، وغمغم كلامًا مبهمًا قبل أنْ يقصد السلالم للصعود إلى البيت. تحركنا بتلقائية غريزية وراءه. الطريق إلى المقبرة مُوحلة ومليئة ببرك مائية. لم يتوقف المطر عن السقوط طوال الليلة الماضية. اسودَّت السماء بالغيوم الكثيفة وجثمت بثقلها على المدينة كأنها ستسحقها بين الفينة والأخرى. البرد أيضًا ضرب خيامه على هذه الهضبة المرتفعة، التي تواجه البحر من جهة الشمال وسهول متِّيجة وجبال الشريعة من جهة الجنوب، وفاجأ الناس الذين لا يزالون يتدثرون بالألبسة الصيفية. تكتئب نفسي أيام المطر من فرط القبح الذي يستفحل فجأة بالمدينة. يعمّ اللون الإسمنتي على الجدران التي لم تجدّد صباغتها منذ عهد نوح، تنتشر الأوحال في الطرقات، وتتباطأ حركة السيارات. ويصبح الانتقال لمسافة صغيرة عقوبة، تثير الأعصاب، وتحرّر الألسنة لتصرخ بالقذائع والشتائم البذيئة تعبيرًا عن السخط المتربّص بأحشائنا. أوقَفنا السيارات على طول الطريق المعبّد. أسرعْت الخطى كي أساعد في حمل التابوت مثلما فعلت في المستشفى. ولكنّني وجدت أمامي شبانًا أقوياء، بعضهم ملتح وبأقمصة إسلاموية، يخطفون التابوت، ويضعونه فوق أكتافهم ويركضون به إلى المقبرة، غير آبهين بالوحل ولا بالبرك المائية المعيقة للسير، مردّدين بأصوات خشنة: لا إله إلا الله... لا إله إلا الله... بدوا لي غرباء. تفرّست في بعض الوجوه لعلّي أجد سحنة أليفة. بلا جدوى. متى انضموا إلى موكب الجنازة؟ هل انتظرونا هنا؟ أم كانوا عند ساحة المتوسطة ولم أنتبه لهم؟ نظرت إلى رشيد لعلّه ينير بصيرتي. ربما كانوا من أفراد عائلته البعيدة: أبناء الإخوة والأعمام والأخوال. فوَجدته كما هو، ملفوفًا بغطاء مأساته. عادت إليّ صورة نبيل وهو مُمَدّد تحت نور المصباح الخافت، بلباسه الأفغاني. ضربة ثلج مفاجئة دقّت برأسي كالحجر. كيف غابت عنّي هذه الحقيقة. حَمدت الله أن رشيد استغلق على نفسه جميع المنافذ وإلا لاشتطّ غضبًا رافضًا حضور قتلة ابنه كما يسميهم، يقتلون الميّت ويبكون في جنازته، أكيد أنه كان سيشتمهم ويطردهم. إنّه انفعالي لا يقيم وزنًا لنتائج تصرفاته. تركت المشيّعين الغرباء يركضون وأبطأت الخطى حذرًا من الانزلاق على الوحل. صحيح أنني ريفي وقد قضيت طفولتي كلها راكضًا بين دروب الوهاد والشعاب الملتوية، الصاعدة الهابطة، ولكن تلك الأماكن وذلك الطفل الشقي لم يعد إلّا صورة موجعة في الذاكرة. تحضرني في حالة الاسوداد والعزلة، شذرات متقطعة متشعبة، ولكنني أنتفض ضد وقاحة مجيئها دون دعوة، فأسدّ جميع المنافذ التي يمكن أن تتسرّب منها. ثمّ إنني أضربت عن زيارة تلك الأماكن منذ أن توفيت أمّي، بعد مقتل أخي الغامض الذي هدّها وطيّر عنها كل رغبة في العيش. كنتُ طفلًا يجرجر قدميه في أحذية بالية مرقّعة لا تقيه لا من البرد ولا من البلل ولا من الوحل، وأصبحت أستاذًا محاميًا أجمع في بيتي ما لا يقل عن ستة أزواج من الأحذية ذات الجودة الرفيعة، ألمّعها لمعانًا قبل أي خروج. ثمّ إنني لم أعد أتعب قدميّ، فالسيارة تقيني عذاب المشي ولو لبضع مئات من الأمتار. أعطيت العهد لنفسي أن أدفن البؤس إلى الأبد. دفنته حقًّا من حيث المظهر، ولكنه أبى أن يفارق ذاكرتي، يسكنني، يؤرقني، يربطني إليه لساعات طوال لا تكاد تنتهي. من يَرَني أتبختر في بذلتي الأنيقة ورَبْطة عنقي الجذابة وحذائي اللامع دومًا، تركبه سوسة الغيرة المدمرة لأنه يتصورني في جنة النعيم. كم هي خادعة المظاهر! إنّ ما بداخل هذه البذلة من أسرار موجعة وذكريات أليمة، لا تمحوها رفاهية سلاطين ألف ليلة وليلة. يبدو أنّ المقبرة أَضْحَت مكانًا مألوفًا لديّ هذه الأيام. الله يستر... أتطيّر من تكرار الأشياء السيئة. أتكون نذير شؤم سيزورني في ليلة لاحقة؟ بالأمس فقط زرتها لحضور جنازة شرطيين من الستة الذين قُتلوا في الكمين. إنهما من مدينة عين الكرمة. أما الآخرون فنُقلت جثامينهم إلى قراهم الأصلية لتوارى التراب هناك. كانت المقبرة غاصة بالأزياء الزرقاء والأسلحة الأتوماتيكية. لم يحضر من السكان إلّا عدد قليل، وهم المتعوّدون على احتلال المقبرة عند أي جنازة، سواء أعرفوا المتوفى أم لا. إنّها واجب ديني عند أغلبية المؤمنين مثلها مثل العبادات الأخرى. يَنْدَرِج فعل مرافقة الميت إلى مثواه الأخير ضمن ذهنية تجارية عصفت بالناس، وأصبحوا يحرصون على جمع أكبر عدد ممكن من الحسنات لضمان الدخول إلى الجنّة. أصبحت جنّة الله هاجس الجميع بعد أن يئسوا من جنة الإنسان. لذلك تجد الناس جميعهم يستثمرون في كل فعل مدرّ للحسنات. فبمجرَّد سماع خبر دفن شخص ما يتركون ما بأيديهم ويسرعون باتجاه الجبانة التي أصبحت تتوسّط المدينة بعد أن كانت في طرفها حينما كانت عين الكرمة قرية صغيرة. الإنسان ضَعيف أمام رهبة الموت، خاصة حينما تكون نتيجة حادث أليم، غير طبيعي، مثل اصطدام السيارات أو جريمة قتل. يرون في هذه الأحداث بصمات القدر القاسية التي تخبط خبط عشواء، فيمكن أن يباغتهم عصفها في أية لحظة. لذلك يتسابقون على الجنائز، فيتحدثون بلا توقف، يحكون حكايات عجيبة غريبة لحوادث وقعت منذ دهر وفي أقاصي الدنيا، كأنما يريدون التطهر من قنط الموت الذي يسكنهم، كأنما بحضورهم الجسدي إلى غاية حافة القبر يستعطفون الموت لعله يستثنيهم إلى حين. أمّا اليوم، فحيّرني غيابهم. قال المحامي بوعلام سعدون، الذي يلقّبه الزملاء بوكالة بوعلام للأنباء لكثرة الأخبار التي يتداولها يوميًا، إنّ الخباز همس له هذا الصباح بخبر صدور فتوى تحرم حضور جنازة أعوان الأمن المغتالين. من أصدر الفتوى؟ يعلم الجميع أصحابها ولكن لا أحد يتجرأ على الإفصاح عن هويتهم. في نهاية مراسم الدفن، أخرَج بعض رجال الشرطة مسدساتهم وراحوا يطلقون الرصاص في الهواء الطلق بحركات عصبية. أهو تهديد بالانتقام أم إبعاد لفائف الرعب التي بدأت تحوم حول رقابهم؟ كانت الوجوه مكفهرة يملأها الغضب، تتطاير شرارات الحقد من العيون. انساق الجميع إلى الاستعداد لإطلاق النار. كادت المقبرة تتحوّل إلى ميدان لتعليم الرمي لولا تدخّل أحد الضباط الذي أوقف الكرنفال. بقيت رائحة البارود تزكم الأنوف لمدّة طويلة. يبدو أنّ أعوان الشرطة كانوا غاضبين من تدخل الجيش في متابعة المعتدين وفشله في القبض عليهم. سي أحمد كان أوّل الغاضبين. قال لي مساء أمس، حينما زرته بمحافظة الشرطة أستفسر عن مصير موكلي يوسف عياشي ذلك أن أخبارًا راجت بهروب جميع المساجين إلا واحدًا وُجد جريحًا فنقل إلى المستشفى. فكّرت في الانتقال إلى المستشفى ولكنني أعرف أنّ الجريح، في مثل هذه الحالات، يوضع تحت الحراسة المشدّدة لأنه أصبح الشاهد الوحيد الذي ينير التحقيق بأقواله. فلم يبق لي إلّا صديقي سي أحمد لعله يتفضّل عليّ ببعض الأخبار المفيدة. تأخّرت عمدًا إلى ما بعد المغرب كي أجده متحررًا من التزاماته التي تكون قد تضاعفت في ذلك اليوم. لم ينتظر أسئلتي. كان التعبُ والانهيار باديَين على عينيه الذابلتين وفي نبرة صوته التي يتخللها ارتجاف ظاهر. «ماذا أقول لك يا خويا عبد القادر؟ هل تستطيع الكلمات وصف البشاعة التي وَقَفتُ عليها هذا الصباح؟ صور كنا نراها في أفلام الرعب. لا تهزنا إلا لحظة ظهورها لأننا نستدرك بالقول إنها مجرد ديكورات مصطنعة، يعود أصحابها إلى القهقهة والثرثرة بمجرد انتهاء التصوير. ولكن هذه المرة، ما رأيته ليس ديكورًا أبدًا. تصوّر... جثث عارية في وضعيات مخزية، مجرّدة من ملابسها الرسمية، ومن أسلحتها، سرقها أولاد الحرام للتمويه بها في الحواجز المزيفة والمداهمات الليلية. أغلبهم مذبوحون ومطعونون بوحشية تدمي القلب. تكاد الرؤوس تنفصل عن الأجساد. الظاهر أنّ الكثير منهم لم يموتوا بالرصاص، فقام المتوحشون بالإجهاز عليهم بالخناجر. لحسن الحظ أنّ رجال المطافئ وصلوا قبل أنْ تلتهب النار كلية في الشاحنة، فأطفأوا الحريق وأنقذوا الجثث من التفحّم. أنا الذي أعتبر نفسي شجاعًا ولا تحركني الفواجع، أعترف أنني صُعقت وصعدت مرارة القرف إلى حلقي، وكادت تفرغ ما بأحشائي. فبَعد أزيد من خمس عشرة سنة في الشرطة، لم تستدرجني الصدفة إلى مشاهدة منظر أبشع مما رأيت. ما هو حجم الحقد الساكن بداخل نفوس هؤلاء كي يجهزوا على المجروحين بتلك الوحشية؟ كان المسلمون الأوائل حسبما نعرف، وقبل صدور قوانين الحرب في العصر الحديث، يحافظون على حقوق الأسرى بحسن المعاملة وتلبية حاجاتهم الأولية. فعلى أيّ قوانين يستند هؤلاء لتبرير تصرفهم؟ وحدهم اللصوص الجبناء يقومون بتصفية الجرحى من الشرطة أو من غيرهم كي لا تكتشف هويتهم. أما هؤلاء، فيقولون إنّهم يطمحون إلى إقامة خلافة إسلامية. فأي خلافة هذه التي تُبنى على أنقاض مثل هذه الجرائم». اغتنمت لحظة سكوت وسألته عن هوية السجين الجريح. ولكنّه لم يجبني، بل واصل حديثه كما لو أنّه لم يسمع سؤالي. «في البداية فكّرت في مطاردة المعتدين مباشرة عند وصولنا إلى جسر الصفصافة. ولكن القيام بإجراءات التحري والأوامر الصاعدة النازلة، شلّت كل حركة. بدأت السيارات السوداء تتدفق وبداخلها ضباط المكاتب يلوكون الأوامر المتضاربة. طنّت آذاننا من غطرستهم الفارغة. تداخلت الصلاحيات. تناقضت التقديرات في تقييم قوة العدوّ والمسالك التي يكون قد اتخذها للانسحاب. لم يشاورني أحد. لم يطلب رأيي أحد. جاؤوا بعبارات من نوع: «سنخرجهم من بطن أمهاتهم. سنقضي عليهم مثلما نقضي على البعوض». ابتسَمت وفكّرت ساخرًا: وهل استطعنا القضاء على البعوض الحقيقي الذي ما إنْ تخيّم العتمة حتى يغزو البيوت، ولم تنفع جميع المبيدات المحلية والمستوردة في سحقه. قبل التفكير في سحق البعوض، علينا بالتفكير في تنظيف الأحياء من القاذورات المتراكمة، لنطهّر الأماكن التي تسمح له بالعيش والتكاثر... قال رائد بكرشه المنتفخة مثل كرش امرأة حامل: «أعرف أنهم يختفون في الأحياء الشعبية، أكواخ القصدير النتنة، أحواش المزارع المحيطة بالقرى والمدن... سنفتش غيران الجرذان هذه واحدًا، واحدًا... وإذا اقتضت الضرورة، سنستعين بالبلدوزر لردمها على أصحابها». خُطب جوفاء، يمليها غضب اللحظة. يريدون القضاء على السكان الفقراء، ويلومونهم على تعاطفهم مع الإسلاميين المتمردين، فلماذا لم يسألوا عن سبب هذا التعاطف؟ لو استمعوا قليلًا إلى مطالب هؤلاء وعملوا على تلبيتها، لما وصلنا إلى هذه الحرب التي لا تريد أن تفصح عن هويتها. جيش فرنسا، وما أدراك ما جيش فرنسا، مائتا ألف عسكري ولوجستيك الحلف الأطلسي خلفها، ومع ذلك لم يتمكن من قهر تمرّد هذا الشعب العاصي بطبعه، وكان عدده لا يتجاوز التسعة ملايين فقير معدوم وجاهل. أما اليوم وقد وصل إلى الثلاثين، إذا اتحد في عصيانه، واستثمر فيه كل طاقته، لن يقهره قاهر وإن امتلك جيش هتلر. انتصَف النهار، ولم يتفق الجمع المهذار بعد على قرار المطاردة. ومما زاد الطين بلّة، بداية سقوط الأمطار. أين سيكون قد اخْتَفى المعتدون؟ كم عددهم؟ أسئلة بلا جواب. خلف المنعطف الذي وقع فيه الكمين، يمتد حي «البراريك»، مئات من أكواخ الصفيح على ضفتي الوادي. والمعروف أنّ سكان الحي من مناصري الإسلاميين، بل إنّ أغلب الناشطين البارزين ومنتخبيهم في مجلس البلدية من سكان هذا الحي أيضًا. بعد مجيء بوضياف، تمّ القبض على أغلبيتهم وزُجّ بهم في محتشدات الصحراء. ولكن منذ أسابيع بدأ الإفراج عنهم... سكتّ لحظة مفكرًا. قلت: ـــ وصلتنا أخبار بأنّ المفرج عنهم تبخروا في الطبيعة. دخلوا في السرّية، مما يعني أنهم التحقوا بالجماعات المسلحة. ـــ نعم... في الأسابيع الأولى، كانوا يوقعون على دفاتر المراقبة بانتظام. ثمّ بدأت الغيابات، الواحد وراء الآخر. بعثنا بالرجال للبحث عنهم في مساكنهم. كانت إجابات النساء مقتضبة: غير موجود. وحينما يلحّ الرجال في السؤال، يأتي الجواب على شكل اتهام مبطّن. «جاء عندكم يوقّع محضر الحضور ولم يعد». أو «جاء رجالكم في الليل وأخذوه بالقوة». فتشنا البيوت، وأقمنا الحواجز للمراقبة، قمنا بمداهمات ليلية، بلا فائدة. لم نعثر على الرؤوس فملأنا السجون بالمشبوهين من ذويهم. ـــ مثل أولئك الذين هُرِّبوا اليوم. ـــ تمامًا... ـــ وقعت العملية في الصباح، كان سهلًا عليكم مطاردتهم والقبض عليهم. جيش، شرطة، درك، قوات خاصة... كل هذه الترسانة ولم تنفع... ـــ للأسف الشديد، كل هذه الترسانة ولم تنفع. ترسانة ثقيلة لا تتحرك إلا بعد ألف أمر. «البابور إذا كثروا فيه الرياس يغرق، أنت مير وأنا مير، شكون يسوق الحمير». هذا هو واقعنا. كثرة الرياس، كثرة الشيفان... الكل يحكم، الكل يصدر الأوامر... في النهاية، لا أحد يتحرك. أمر يناقض أمرًا. أتعرف بأنّ إمدادات الجيش لم تصل إلّا بعد الظهيرة وبداية سقوط الأمطار. صحيح أن عدد الجنود كان كبيرًا. ولكن، من طريقة مشيهم وإمساكهم للبندقية، يدرك أوّل قادم أنّهم من أصحاب الخدمة العسكرية. الطُعْمَة السائغة لمدافع الحرب مثلما يقال. قرابين لجمهورية البطاطا وجنرالات الموز والكيوي. انتشروا بسرعة السلحفاة، الواحد ملتصق بالثاني، الأنظار متجهة إلى الخلف في انتظار غروب الشمس وأمر الانسحاب أكثر مما تستكشف الميدان المغطى بالأجمات والأدغال. توغلت فرقة من الدرك داخل حي أكواخ الصفيح، تسأل السكان إن رأوا شيئًا. طبعًا، كانوا في بيوتهم ولم يروا شيئًا. سمعوا دويّ الرصاص مثلهم مثل غيرهم. أما نحن أهل الدار، فالتزمنا مكاتبنا ننتظر. عسكرَ الجيش في الجسر. أقام حاجزًا لإزعاج المواطنين الذين لا حمار لهم ولا بغل في الصراع الدائر. وأنا أيضًا بدوري أمرت بإقامة حاجز بمدخل المدينة، يزجي رجالنا الوقت بمراقبة صناديق السيارات الخلفية، والتحقّق من هوية السائقين، مع الاقتناع التام بعدم جدواها. نُكثِر من الحواجز في الطرقات الآمنة، لإيهام الناس بقوتنا وننتظر الأوامر التي ستأتي من فوق، مرّة بالهجوم ومرّة بالانسحاب، حسب الأمزجة وموازين القوى». سكت ثانية. سألت: ـــ وهوية السجين الجريح؟ ـــ آه، ذكرتني... إنه طبيب متهم بممارسة عملية إجهاض في عيادته أدت إلى وفاة. امرأة أدخلها أهلها إلى قسم الاستعجال بالمستشفى وهي مصابة بنزيف دموي في أسفل البطن وقد توفّيت بعد ساعات قليلة. اكتشف الأطباء أنها تعرّضت إلى إجهاض قسري فأخبروا الشرطة. أوصلتنا التحريات إلى عيادة الطبيب من خلال الوصفة التي وجدت بحوزة الفتاة وطبيعة الأدوية المسجلة بها. فسجن في انتظار محاكمته. لقد وُجد المسكين مرميًّا على بعد خمسين مترًا من الجسر بداخل الأحراش. في البداية، حَسبناه ميتًا. ولكن أحد رجال المطافئ قال إنّ قلبه لا يزال يخفق. تلقى رصاصات في الصدر وقد نُقل إلى المستشفى للعلاج. ـــ لماذا، في رأيك، عُثر عليه بعيدًا عن الشاحنة؟ ـــ احتمالات كثيرة... يمكن أن يكون قد جرح أثناء الهجوم وأراد الإرهابيون أخذه معهم فسقط واعتقدوه ميتًا فتركوه في مكان سقوطه. لا أتصَوّر أن لا يُسفر الهجوم عن إصابة المساجين. الاحتمال الثاني أن يكون الإرهابيون قد أجبروه على مرافقتهم فرفض وأطلقوا عليه الرصاص كي لا يكون شاهدًا. ينبغي لك أن تعرف أن الإرهابيين لا يوجدون كلهم في الجبال. منهم من يقضي يومه في المدينة وفي الأسواق ويخرج ليلًا في عمليات عسكرية. إنها حرب عصابات، وهي أخطر وأقذر الحروب. لهذا السبب يقضون على جميع الشهود. ـــ يعني أن حياة هذا الطبيب في خطر دائم. ـــ إنه تحت الحراسة وسنعيده إلى السجن بمجرد تحسّن حالته الصحية. ـــ وهل يحميه السجن من الخطر؟ السجن مليء بالإرهابيين. يمكن أن يُقتل بسهولة. ـــ هذا صحيح... ولكن هذا هو واقع الحال، ولا نملك بديلًا عنه. أين ذهب يوسف عياشي؟ تساءلت عن سرّ انضمامه إلى الإرهابيين؟ وكيف يكون مصيره؟ هل سيتحوّل إلى إرهابي مطارد في الجبال؟ لا أعرفه كثيرًا ولكنني تصوّرته مسالمًا، يناضل ضد العنف، مهما كانت الجهة التي تستخدمه. طال الحديث وتشعّب بيني وبين سي أحمد ولكنه لم يخرج عن دائرة هذا الصراع الدموي الذي ترفض الدوائر الرسمية أن تصفه بالحرب، لأنّ الحرب تكون مع عدو أجنبي، مع دولة أخرى، مع شعب آخر. أما والحرب بين أبناء الشعب الواحد، لطالما تغنينا بمتانة وقدسية الوحدة التي تجمعهم، فإنها تسمّى بجميع الأسماء إلا اسمها الحقيقي. ولنا مثل في حرب التحرير التي رفضت فرنسا الرسمية تسميتها بحرب الجزائر إلا بعد مرور خمسين سنة من اندلاعها لأنها كانت تعتبر هذه الأرض وهذا الشعب جزءًا لا يتجزأ من فرنسا. سمَّتها أحداث الجزائر، مثلها مثل أي مظاهرات أو مواجهات بين مدنيين غاضبين وقوات مكافحة الشغب. أما عبارة «الحرب الأهلية» فإنها لفظة ممقوتة، مخيفة، لأنّ الاعتراف بها ينسف الثوابت واليقينيات التي يتشبث بها أي مجتمع وأي نظام حكم. إذا اندلعت حرب بين أبناء العائلة الواحدة، فيتحمّل الأب كامل المسؤولية. إنّ قبول هذه التسمية تعني الاعتراف بالإخفاق الذريع في تسيير شؤون الحكم منذ الاستقلال. أعرف سي أحمد منذ أنْ نُقل إلى المدينة قبل خمس سنوات. هو أيضًا من خريجي كلية الحقوق ومن عشاق النظام والانضباط. يكرّر دومًا مقولة جان جاك روسو: العدالة دون قوة ضعيفة، والقوة دون عدالة مستبدة. مبدأ آمن به ويعمل على تطبيقه في مهنته. وهو من المعجبين بالعقيد هواري بومدين الذي أكنّ له حقدًا دفينًا لأنّ أخي الميلود قُتل بسببه. ولكن سي أحمد نخرته التجارب المريرة، والتبست عليه المفاهيم. أين معالم العدالة؟ وأين حدود القوة؟ ما الفرق بين القوة بمعناها الإيجابي والعنف بشحنته السلبية؟ هل التمرّد على الظلم عدالة؟ وهل يجوز استخدام القوة (أو العنف) في الحصول على المعلومات التي تساعد في القبض على المجرم؟ وهي معضلة يصادفها يوميًا مع اللصوص والمُجرمين، قبل الإرهابيين وعملائهم، الذين توقفهم الشرطة وتستنطقهم في أقبيتها الرطبة. طرحنا هذه الأسئلة مرارًا، وخضنا في نقاش صاخب بحثًا عن الأجوبة المقنعة. لهذا السبب تجمعني وإياه صداقة وثقة تجعلني لا أتحرّج في إبداء مواقفي وشكوكي بكل حرية، كما يفعل هو أيضًا. يَزورني في البيت ليلًا لنَحتسي بعض قناني البيرة ونتحدث عن هموم هذا البلد الذي ما إن يخرج من حرب دامت قرنًا ونيف حتى يدخل في حرب أخرى أوجع وأمرّ. كانت عملية دفْن المرحوم نبيل صعبة بسبب قوة تساقط الأمطار. تبلل التراب والتصق بالمعاول والفؤوس وأصبح استعمالها صعبًا للغاية. ولكن عناد الملتحين فاق كل تصوّر. أرجلهم مغروسة في الوحل إلى الساق، بعضهم حافي القدمين، يدفقون التراب المبلل داخل الحفرة، دون كلل ودون شكوى. لا يرخي أحدهم أصابعه من حول قضيب الفأس إلا تحت الإلحاح القوي. التصقت بجذع شجرة خروب وتابعت المنظر بإعجاب. تخيّلت نفسي وسط ذلك الوحل ببذلتي وحذائي الذي تلطّخ كلية. استبشعت المنظر المتخيل، فمسحته من ذهني كما كنت أفعل مع السبورة أيام الأستاذية. أخيرًا، وبعد أن وضعوا الشاهدَين فوق القبر، تحلقوا حوله وقَرأوا الفاتحة وترحموا على روحه قليلًا، قبل أن ينصرفوا خلسة مثلما جاؤوا. لم يقتربوا من والد المتوفى مثلما فعل أغلبية المشيعين الذين تجمهروا حوله برغم تهاطل المطر لتقديم التعازي. حركات عناق سريعة، عبارات المواساة المنطوقة بصوت خفيض، وينسحب الرجال بخفّة، رؤوسهم داخل أكتافهم في محاولة يائسة للاحتماء من المطر. في لحظة ما، انتبهت إلى حضور محافظ الشرطة وهو يتقدّم بخطى حذرة وسط الطريق الترابي. خفق قلبي لا إراديًا. هل جاء للتعزية أم لغرض آخر؟ رغم هول ما وقع بالأمس، لم تغب عن بالي كيفية قتل نبيل. فالجثة لم تسلّم لنا إلا بعد التشريح الطبي ورفع التقرير إلى الشرطة. اقترب سي أحمد من رشيد وقبله متمتمًا بعبارات التعزية، ثمّ انعزل جانبًا وانتظر. أكيد أنّه يريد أن يكلّمه في أمر خاص. ـــ هل من جديد في قضية المرحوم؟ نظر إليّ محرّكًا رأسه في حيرة ظاهرة قبل أن يجيب: ـــ سي عبد القادر... أنا بحاجة إلى الحديث مع سي رشيد. أعرف أنّ الوضع غير مناسب ولكن مستجدات التحقيق تجبرني على ذلك. ـــ يبدو أنّ الأمر في غاية الاستعجال... ولكن رشيد في وضعية نفسية جدّ حرجة. إنه لم يتلفظ بكلمة طوال اليوم. ـــ أعرف... أعرف... لذلك أعتمد عليك لترافقه إلى مكتبي في أقرب وقت ممكن، قبل أن نضطر إلى استعمال وسائلنا الخاصة. لم ينتظر الجواب. أدار لي ظهره بخفّة والتحق بسيارة الشرطة المتوقفة عند مدخل الطريق الترابي. 5 في السنوات الأخيرة، وبالأخص منذ إحالة رشيد بن غوسَة على التقاعد، تعكّر مزاجه وأضحى ينفجر غضبًا لأتفه الأسباب. والحق أنّ الدنيا لم تكن رَؤوفة به. مشاكل عصية الحل تدفقت على رأسه فجأة كزوبعة رملية صاعقة. كما لو أنّ مصائب الدنيا كلها انتظرت تقاعده كي تتحالف في تواطؤ تآمري لتسوّد أيامه. أتذكر جيدًا نهاية تلك الظهيرة الساخنة. شهر نوفمبر يوشك على الانصرام ولم تسقط قطرة مطر واحدة. حرارة صيفية عنيدة تُنذر بحدوث كوارث مخيفة. أوقفت سيارتي بقرب مدخل المتوسطة، ثلاث ضربات على الزمّارة كالعادة وانتظرت مجيئه. دقيقة، اثنتان، خمس، ولم يظهر. أنَسِيَ موعدنا؟ ولكنه عوّدني على الانضباط في التزاماته. كرّرت الضغط على منبِّه السيارة وأخرجت رأسي قليلًا أسترق النظر إلى شرفة بيته في الطابق الثاني، حيث تعوَّد أن يطلّ ويطلب مني الانتظار لحظة إنْ كان منشغلا بشيء ما. في ذلك اليوم ساد صمت مريب. فَكّرْت أنّه ربّما خرج لشراء شيء ما وسيعود قريبًا. أطفأت المحرك، أشعلت سيجارة وبصري يجوب بين الباب الحديدي الصغير والرصيف المقابل حيث تمتد الطريق باتجاه حيّ سكني به محلات تجارية. أخيرًا، خرج صديقي بخطى متثاقلة، فتح باب السيارة وارتمى على المقعد دون أن ينطق بحرف. قلت: ـــ لا سلام، لا كلام... هل بدأت «المعلمة» تتسيّد وتملي شروطها عليك ؟ نَظَر إليّ بعينين منطفئتين، أدركت من خلالهما أن صديقي في حالة عصبية متدهورة، يُستحسن معها التزام الصمت. أشار إليّ بحركة يد أنِ انطلق، قبل أن يسرح بعيدًا نحو الأفق الساكن. خرَجْنا من المدينة باتجاه الساحل المترامي في الأسفل البعيد، ورشيد منغلق على نفسه لا يريد إطفاء نار فضولي. تدَحْرجَت الأسئلة على لساني ولكنني لكتها لبعض الثواني قبل أن أسحقها بين أسناني. أكيد أنه اختنق مع زوجته ولا يريد أن يبوح بأسرار المشاجرة. كُثُر هم الرجال الساخِطون دومًا على زوجاتهم؛ شكاوى متذمرة من الأنثى القابعة بالبيت، الجاهلة بتشابك متاهات الحياة وتعقدها؛ عند الطفل الثالث أو الرابع تنزع قناع الخروف الوديع، وتخرج مخالبها التي شحذتها طويلًا في الخفاء وتَستأسِد بذريتها، ذلك الحاجز الذي يحميها ضد غطرسة الزوج وتهديداته المتكرّرة بالطلاق. ومع ذلك يتمادى الزوج في اجترار تهديداته التي لا يستطيع تنفيذها، متذرعًا بخشيته من ضياع الأولاد وتشردهم. حينما يَصلني هذا الهذر النوّاح، أستنشق نفحة هواء بملء رئتيّ وأرتخي فرحًا لأنني في منأى عن مثل هذه المصائب. أنْ تكون وحيدًا خير من الرفقة المزعجة. لذلك، تجدهم جميعًا قد أصيبوا بأمراض مزمنة؛ داء السكري، ارتفاع الضغط الدموي، القرحة المعدية وهم لم يصلوا الستّين بعد. كثرة المنغّصات والتوتّرات العُصابية مشتل خصب لفيروسات تدمير الجسد. وجسدي كجلمود صخر تتفتّت عند قدميه جميع الفيروسات. لقد تجاوزت الستّين بقليل وجسدي لم يكشف عنه أي طبيب. لا أعرف الأرق بفضل صديقتي العزيزة التي لا تنزل الأحزان ساحتها، والتي ترافقني الرفقة المنشودة. لها أدين بصحتي الجيدة ونفسيتي المنشرحة دومًا. ـــ هذا الصباح أخذْت زَوجتي عند الطبيب... أيقظني صديقي من سَرَحاتي والتفتّ إليه متلهفًا. ها هو يفك عقدة لسانه. ولكنه لم يكمل. سكت من جديد وواصل النظر إلى الأفق الأزرق الممتد أمامنا في المنحدر. أكيد أنّ مصيبة ثقيلة ألمّت بزوجته، وصعب على لسانه النطق بها. احترمت صمته وواصلت السياقة وآذاني صاغية إلى بقية الاعتراف. ـــ أتعرف ماذا اكتشف الطبيب؟ ـــ خير إن شاء الله. ـــ أيّ خير يا رجل؟ ـــ لا تقلق... لكُل داء دواء. ـــ لا دواء لداء مثل السرطان... ـــ سرطان؟ ـــ نعم سرطان... سرطان الثدي، الورم الخبيث الذي لا يرحم. ـــ هل أنت متأكّد؟ ربّما أخْطأ الطبيب الفحص... أَنتَ أعرَف مني بأطباء اليوم، لا تكوين ولا ضمير مهني ولا هم يحزنون... ـــ لا... الداء ثابت. لقد أخذتها منذ حوالى أسبوع إلى طبيب مختص من خريجي تولوز، من جيلنا نحن، من أولئك الذين كدّوا وجدوا لنيل شهادة طبيب وليس مثل... المهم... كان مُتأكِّدًا من استفحال المرض، ومع ذلك طلب مني عمل أشعة إضافية. في الصباح وبعد فحص الأشعة، سلّمني رسالة خاصة، وقال ناصحًا بنبرة جادة: «لا تنتظر، خذها إلى المستشفى في أقرب وقت ممكن». ولكن زَوجَتي انتابتها هستيريا بكاء ورفضت الذهاب إلى المستشفى رغم توسّلاتي المتواصلة. تركتها مستلقية على السرير تندب حظها التعيس. إنّ الذي حيّرني هو أنها اعتبرت المرض عقابًا من الله. ـــ وماذا اقترفت المسكينة من ذنوب حتى ينشغل ربّ السماوات والأرض بأمر عقابها؟ سكتَ قليلًا، أغمض عينيه كما لو أنه يستذكر شيئًا مسّه المحو منذ زمان بعيد. ـــ حكاية قديمة تعود إلى بداية ارتباطنا... ماذا فعلت نصيرة الوديعة حتى يهزّها الشعور بالندم وتعتبر مرضها عقابًا إلهيًا؟ سؤال أعدت طرحَه على نفسي بإلحاح مُستغربًا وانتظرت التفاصيل التي ستأتي حتمًا. ـــ أتَعرف بأنّ زوجتي بدأت تصليّ. ـــ تصلّي؟ ألم تقل يومًا بأنها مُتعَصرنة ومتحضّرة وتؤمن بالأفكار التقدمية مثلك تمامًا؟ ـــ نعم، هكذا كانت، أو هكذا تصوّرتها. ولكنها تغيّرت بمحور 360 درجة. وأعرف من غيّرها... ليست إلا تلك الصديقة المتجلببة التي تزورها دومًا. أستاذة تشتغل معها في الثانوية. قالت بأنها تتفاهم معها وتتبادلان الزيارات. من طبعي أن لا أراقب زوجتي، ولا أتدخل في علاقاتها مع زميلاتها. ولكن الظاهر أنني أخطأت وتركت الحيّة الرقطاء تعبث بصفاء طبعها. ـــ المرأة عمومًا ضعيفة وسريعة التأثر ولا تجد راحتها إلا بانضمامها الكلي داخل الجماعة. ثمّ إنّ المرأة بهشاشة وضعها وقلة زادها الفكري تخاف من الغيب وتؤمن بالشعوذة وكرامات الأولياء. عندنا في القرية، أيام طفولتي، كانت أمي دائمًا تطلب مني مرافقتها في زيارتها لمقام سيدي المخفي. وهناك نجد باستمرار نساءً ملحفات يجلسن حول الضريح ويجهرن بالدعوات والطلبات الخاشعة الصادقة. «سيدي اشفِ لي وليدي... سيدي زوّج لي بنتي... سيدي ردّ لي رَجلي وانتقم لي من ضرتي اللعينة... سيدي خرَّجني من هذه المصيبة...» كنت أسمع العجب العجاب. وفي طريق العودة أجادل أمّي في اقتناعها الراسخ بأن الولي الصالح يستطيع الاستجابة لجميع الطلبات، وخاصة شفاء أبي وأختي من مرضهما. كان «الشايب» طريح الفراش، وقد أنهكه السلّ، فيما كانت أختي مصابة باختلاجات صرعية. تغضَب أمي بصدق وتأمرني بالسكوت قبل أن تطلب من سيدي المخفي أن يسامحني لأنني صغير وجاهل. هكذا هُنّ النساء... ـــ النساء الأميات، الجاهلات... وأنت تتكلم عن زمن الاستعمار... ـــ المرأة هي المرأة. لا فرق بين الجاهلة والمتعلمة، صدِّقني. ما أراه في المحاكم اليوم، يزيدني قناعة أننا شعب يؤمن بالسحر والشعوذة إلى حدّ النخاع. والمرأة أكثر من الرجل. ـــ ولكن زوجتي ليست كباقي النساء. إنها... سكت رشيد فجأة، كما لو أنه غير مقتنع بما سيقوله عن زوجته. قلت: ـــ ولكن لا تحمل همًّا حول صلاة زوجتك. الصلاة والصوم شعائر دينية يمارسها الجميع. أنا أتذكر أن الناس في قريتنا كانوا جميعًا يصلون ويصومون، بلا استثناء، رجالًا ونساء ومعظم الأطفال. أين الغرابة في هذا؟ ـــ هذه الممارسات الدينية أعرفها أنا أيضًا. وعانيت منها الأمرّين. أتَعْرِف أنّ أبي كان يصر على جمعنا خلفه في صفين، واحدٍ للذكور وواحدٍ للإناث، لأداء الصلاة. وكان يوقظنا عند الفجر بصوته الجهوري وتهديداته المتواصلة لنصلّي معه صلاتي الفجر والصبح. والويل للمتأخرين. كنت البكر، فعليّ الامتثال أولًا وبصرامة كي يقلدني الآخرون. لم يكن الاستيقاظ باكرًا هو الذي يزعجني، بل القيام بالوضوء في أصباح الشتاء القارسَة، الماء كالجليد، وعلينا أن نخرج إلى الساحة، من تحت غطاء الغرف الدافئة إلى قرّ الهواء الطلق، ثم إلى دورة المياه البعيدة في زاوية مظلمة، نتشاجر حول من يدخل قبل الثاني، ونحن ننطّ كعصافير صغار بلا أجنحة، منكمشين اتقاءً للبرد والمطر. كما نضطر في ليالي الصيف إلى الانتظار طويلًا لأداء صلاة العشاء. كنا نقضي النهار الطويل في المزارع ونعود منهكين، لا رغبة لنا إلا الاستلقاء في نوم ثقيل، ولكن أبي بالمرصاد، كجلّاد السجون، يطنّ فوق رؤوسنا مزمجرًا صارخًا. كنا نتحايل أحيانًا في عدم الوضوء، خاصة بين المغرب والعشاء. حينما يقوم، نصطف خلفه، وديعين، خافضي الرؤوس، وإن سألنا عن الوضوء، وهو دائمًا ما يفعل، نغمغم غمغمات مبهمة وفي قلوبنا ارتباك وخوف من أن يكشف أمرنا. ولكن أنى له أن يعرف إن كانت ضرطة أو ضرطتان قد أفلتت من دبر أحدنا؟ معركة صامتة تتكرّر مرات عديدة في اليوم: هو بقوته الجبروتية، وتهديداته القاسية، ونحن بحيلنا المقصودة المتحدية، وهمهماتنا المتذمرة، دون أن يجرؤ أحدنا على التمرّد الصريح أو حتى المناقشة. كان إخوتي الخمسة يقتدون بي، لا يبادرون إلا عندما أخطو الخطوة الأولى، في تواطؤ دفين. أما البنات المسكينات فكنّ يطعن أوامر الأب بخفة الخادمات. بمجرد أن يتنحنح ويخرج ساعته الجيبية يقمن مسرعات للبحث عن الجلابيب والخمارات ويتراصفن خافضات الرؤوس خلفنا. وفي سهرات رمضان، يقودنا كقطيع خرفان إلى المسجد لأداء صلاة التراويح. أبي هو الذي كرّهني بالدين. عشت الصلاة كسخرة يومية أنتظرها كعقاب مقيت. والدراسة هي التي أنقذتني. كان أبي فخورًا بي عندما نلت شهادة التعليم المتوسّط. من حسن حظي أن قريتنا لم تكن تتوفر على ثانوية فسجلني بالقسم الداخلي بـالبُلَيْدة. مع قسوة النظام الداخلي كنت سعيدًا سعادة لا توصف لأنني تخلصت أخيرًا من أداء الصلوات الخمس المفروضة عليّ في البيت العائلي. في الداخلية اكتشفت متعة القراءة. بطبعي لم أكن ميالًا إلى ألعاب الورق التي كان معظم تلاميذ الثانوية يقضون الساعات في مباريات صاخبة، سواء داخل المراقد أو في فترات الراحة بزوايا الساحة والأقسام الفارغة. يدخنون، يتشاجرون، يروون النكت البذيئة، وأحيانًا يلجأون إلى القبضات والركلات والملاكمات لفك خصوماتهم. اكتشفت المكتبة ومعها الكنز الذي لا يفنى. بالصدفة وقعت على جملة في كتاب لألبير كامو يقول بأن نيتشه الفيلسوف الألماني لم يقتل الربّ لأنّ هذا الأخير مات منذ زمن بعيد. مُفاجَأة صاعقة. ما هذا الكلام؟ كيف يموت الربّ وهو الخالد الأبدي؟ هذه الجملة هي التي قادتني إلى فلسفة نيتشه ومن ثمّة إلى كارل ماركس وسيغموند فرويد. فعَكفت على قراءة كتب الفلسفة، وتأملت طويلًا فكرة موت الربّ وخلافة الإنسان له، ليصبح ربًّا على هذه الأرض. إنّ الربَّ الذي كنّا نعتقد بحقيقته وخلوده، ونخاف عقابه وجحيمه، أصبح فكرة من ابتكار الإنسان البدائي لتفسير هلعه من الظواهر الطبيعية. رسخت الفكرة في رأسي وزعزعت قناعاتي السابقة. وكنت شغوفًا بكتب الفلسفة لهذا السبب، أقرأ كتب أعلامها، القديمة والحديثة، من أفلاطون إلى كامو وسارتر، مرورًا بهيغل وماركس وفرويد وهربرت ماركوس. انغلقت الدائرة ولم أتمكن من الخروج منها. ولا أظن أنني سأخرج يومًا. بعد محنة التعليم التي تعرفها، ونيل البكالوريا في ظروف دونكيشوتية، سجلت في قسم الفلسفة، ولكن السياسة اللعينة جرفتني في سنّ مبكرة، في وقت كنت أعتقد أنّني المهدي المنتظر الذي سيغير العالم بتنظيم إضراب أو مظاهرة للطلبة. حكاية طويلة، ربما ستحين الفرصة وأحكيها لك يومًا بتفاصيلها القاسية. سكت صديقي وغرق في صمت جنائزي. احترمت حزنه ولم أزعجه بأسئلتي. في تلك الظهيرة قادتنا جولتنا إلى الميناء. أوقفت السيارة قرب رصيف قوارب الصيد، حيث كان ثلاثة أو أربعة فتيان يغطسون داخل المياه الوسخة بفظاظة وافتخار، محدثين ضجيجًا صامًّا بصيحاتهم ورهاناتهم. اقترَحْت على رشيد أن نشرب قنينة بيرة أو اثنتين عند صديقنا الجيلالي ولكنه رفض بحركة من الرأس. هكذا هو رشيد دائمًا، ينغلق على نفسه ويمسك عن الكلام عندما يكون مغمومًا. ولكنني أدرك أنّه يغلي بداخله لأنني أرى من حين لآخر حركات يديه العصبية المرافقة لغمغمة شفتيه المحمومتين. أثناء العودة، تكلمت كثيرًا، قدّمت ما عندي من نصائح وإرشادات لعلّها تخفف من وطأة مأساته. ثمّ وبلا تفكير مسبق، استرسلت ولأوّل مرّة في سرد شقاء والدي في أسابيعه الأخيرة. كلما تذكرتها انقبض قلبي وانقطعت شهيتي للحياة. ذلك الكوخ المظلم دومًا وأبي ممدّد في زاوية معتمة. سكون رهيب لا يكسره إلّا السعال الحادّ المتواصل. برد ثلجي يرعد المفاصل رغم المدفأة الفخّارية التي تتأجّج بداخلها جمرات فحم مبلل، نتداول الواحد وراء الآخر أنا وأخي لتهويتها والحيلولة دون انطفائها. نقرّب المدفأة من فراش الأب، ولكن الدخان المنطلق منها يكثف سعاله فنبعدها خائفين. وأمي الضامرة المتحركة بخفة كالشبح، تذهب وتجيء، وفي يدها قوارير بها سوائل متنوعة، تجرعها في فم أبي بعناد شرس، وهي لا تفتأ تذكر محاسنها التي أنقذت حياة فلان وعلان، وأبي الشاكي بلا توقف: صدري يغلي، يحترق، يوجع، حلقي مسدود، فرّج يا ربي، بالشفاء أو بالموت. وأنا وأخي نتابع عذابه عاجزين منهارين، نرفع عيوننا إلى السماء مردّدين: آمين يا ربّ العالمين. نحن أيضًا كنا نريد الفرج، ولكن بالشفاء وليس بالموت. أمي تبكي بصمت، وتجرني وراءها لزيارة الأولياء الصالحين والدراويش، تتوسل كراماتهم، منتظرة المُعجزة التي ستأتي حتمًا حسب أقوالها. ولكن معجزة الشفاء لم تحدث. جاء الفرج معجلًا بالموت ولفّ بيتنا بحزن وفقر لا أعرف كيف نجونا منهما. تركنا كما الفراخ حول أمّ تملك إرادة جبّارة ولكن تعوزها الأسلحة الضرورية لمجابهة الفاقة المدقعة. في البداية وصلتنا بعض الإعانات والصدقات من الجيران والعائلة، ولكنها انقطعت مع مرور الأيام. قريتنا معزولة في منطقة جبلية، أرضها غير صالحة للزراعة، وبها نقص فظيع في منابع المياه. من يعيل من؟ كنا أنا وأخي نقطع الكيلومترات راجلين لنصل إلى السهل حيث مزارع المعمرين لنلتقط بعض بقايا الخضر والفواكه، كالبطاطا والطماطم والبصل والفول. في موسم الحصاد، نقضي الأيام في اقتفاء أثر الماكينات الحاصدة لنَلتقط السنابل المهملة. كانت المنافسة شرسة تحت قيظ الشمس الصيفية، عشرات الأطفال والنساء وحتى الرجال يهجمون على الحقل بمجرد ابتعاد الحاصدة والحارس الملوّح بعصاه، لتندس الأيدي وسط عيدان التبن المسنّنة للبحث عن السنبلة الساقطة. كنا نجمع السنابل وندكها في الكيس، بفرح وسرور، ونحن نتخيّل رغيف الخبز الساخن الذي تخبزه أمي وتطهوه على الطاجين، أو داخل الفرن التقليدي، أو الكوشَة مثلما نسميها عندنا. آهٍ على تلك الأيام الشاقة... في تلك الظهيرة، رجعت إلى البيت منهارًا. رغبت في التخفيف عن صديقي آلامَه، فجَرَّني الحديث إلى الغوص في أوجاعي الخاصة التي ما تذكرتها مرّةً إلّا وقضيت بقية اليوم كئيبًا حزينًا، لأنها تذكرني أيضًا بمأساة أخرى، مأساة أختي التي أنهكها الصرع وعذّبها قبل أن يستسلم جسدها الضامر، الهشّ، وتلفظ آخر أنفاسها على الفراش الذي مات فيه أبي والركن المظلم نفسه، وهي زهرة لم تتفتح بعد. في سنة الاستقلال، كان أخي يشتغل في المزرعة بشكل شبه دائم ويتقاضى أجرة، زيادة إلى أنه كان يعود في كل مساء بقفة مليئة بالخضر والفواكه. كلْ يا فقير من ثمار الاستقلال. ولكن أختي فتيحة لم ينفعها الاستقلال، اشتدّ مرضها، وبدأت تسعل مثل أبي، وأمي تركض من مزار إلى آخر، ومن طالب إلى آخر، ومن درويش إلى آخر، ولم تنفع جميع وصفاتهم في التخفيف من ألمها. آهٍ على تلك الصبيحة المشؤومة، تركناها أنا وأمّي بمفردها رغم توسّلاتها الصارخة بأن نبقى معها. ذهبنا عند أحد حفظة القرآن ليكتب لها تميمة يقال بأنّ يده وكتابته مباركة تأتي دومًا بالنتيجة المرجوة. يقطن قرية أخرى تتطلب ساعتين من المشي السريع وسط الأدغال. من سوء حظنا أننا وجدناه غائبًا، فانتظرنا مع الزائرين. قيل بأنه ذهب لحضور جنازة وقراءة القرآن على روح الميت. طال غيابه وطال معه انتظارنا. انشغلت أمي بالحديث مع الحاضرات، في تبادل للحكايات والتفاصيل المؤلمة، وذكر الأولياء الصالحين المفضلين، والوصفات النباتية المجرّبة. انزَويت جانبًا أتابع الحكايات بنصف الأذن، وعيني تراقب الدرب الصاعد لعلّي أرى غندورة الشيخ ليخلصنا من ضجر الانتظار. كان ذهني عند أختي وصراخها يدوّي في صدغيّ. لا أعرف لماذا كنت خائفًا جدًا في ذلك النهار. اقتربت من أمي مرتين مقترحًا عليها العودة، متذرعًا بأن الشيخ لن يعود قبل غروب الشمس. إلا أنها نهرتني في المرة الثانية، صارخة: اقعد في مكانك ساكتًا وإلّا... مشيت قليلًا عبر الدرب الهابط إلى غاية الطريق الكبرى وتمدّدت على ظهري فوق العشب الجاف، أتأمل الغيوم القليلة التي تحركها ريح خفيفة. ما أَطوَل ذلك اليوم! وما ألعنه! يا ليتنا ما ذهبنا عند ذلك الطالب الزنجي الأدرَد وتركنا فتيحة، الزهرة الذابلة، وحيدة تصارع الموت. في طريق العودة، تركت أمي بعيدة ورائي، رغم نداءاتها المتكرّرة بالتروّي في المشي. أنا لم أكن أمشي. كنت أتدحرج عبر الدروب كما لو أنّ شخْصًا يطاردني. كنت ألتفت من حين لآخر، وتكفيني رؤية حايكها الأبيض كي أزيد في السرعة متسللًا منزلقًا وسط الأحراش، وقافزًا فوق الصخور وأكوام التراب. حينما يغيب شبح أمي، لا أقف منتظرًا قدومها، بل أعود القهقرى، صاعدًا هابطًا، وحينما أراها أصرخ بدوري بأن تسرع خطاها، وأستأنف السير بعزم، مبتعدًا قدر المستطاع كي لا تصلني تهديداتها وزمجراتها. خفق قلبي عندما دفعت بابَ الكوخ ولم أسمع أنينًا ولا بكاءً. صحت: «فتيحة... فتيحة... رانا جينا... ما تخفيش...». استمر الصمت مخيمًا كئيبًا. كان عليّ أن أقف دقائق عند مدخل الكوخ كي تتأقلم عيناي مع الظلمة السائدة بداخله. أخيرًا وصلت أمي، لاهثة، صارخة، شاتمة، متوعّدة. رمَت حايكها جانبًا واستلقت على الحصير لتسترجع أنفاسها. اقتربْتُ من فراش أختي أحدّق في شبه الظلمة، انحنيت على جسدها، جحظت عينايَ أمام المنظر المرعب وأطلقت صراخًا مدوّيًا. لن تغيب صورة جسدها من ذاكرتي أبدًا. كلّما تذكرت تلك الوضعية الجسدية المريعة وذلك الوجه المكشّر الجامد والعينين المنفتحتين على اتساعهما والخدوش الحمراء على خديها انتابني الغثيان. كان نصف جسدها مرميًا خارج الفراش، فوق حصير الدوم الخشن. جاءت أمي، هزّتها بعنف وصراخ، ولكن الجسد كان باردًا وجامدًا. أدركنا أنّ الحياة فارقت الجسد وهو في أوج أزمته الصرعية. ضمَّت أمي ابنتها إلى صدرها وأطلقت عويلًا أخرج الجيران المحيطين من أكواخهم، فهرعوا يستفسرون عما حدث. كان مساءً كئيبًا. بكيت كثيرًا. لم أحزن لموت أبي مثلما حزنت لموت أختي. ربّما لأنّ أبي كان شيخًا ومن الطبيعي أن يموت الشيوخ. حكت لي أمي فيما بعد أنّ أبي كان زوجها الثاني، واقترن بها وهو متقدّم في السنّ نسبيًا. طُلّقت من زوجها الأول بعد ثلاثة أشهر من الزواج وهي حامل بأخي الميلود. قالت أمّي بأنه كان متغطرسًا معها ويضربها باستمرار. صبرت في الأسابيع الأولى واشتكت لأمّه، ولكن هذه الأخيرة ساندت ابنها، بل وأظهرت مخالبها هي أيضًا. لم تتحمل أمّي أكثر. استغلوا يتمها لتحويلها إلى خادمة حقيقية. ولكن أمي من النوع الذي لا يرضخ بسهولة. فبدأت تقاوم. بالكلام أوّلًا. وحدث أن تأزمت المشاجرة ذات ليلة، فاستعان زوجها بالعصا، الشيء الذي لم تقبله أمي. قالت بأنها ليست حمارة كي تُضرب بالعصا. فدافعت عن نفسها. كانت قوية ومتعوّدة منذ الصغر على العمل اليدوي الشاق. فاستعانت بقوة ذراعيها لردّ ضربات زوجها. خدشت الزوج المتغطرس من الخدين وأدمتهما. تعالى الصراخ. حضر أفراد العائلة والجيران. فقرّرت أمي في تلك الليلة مغادرة بيتها الزوجي. رجعت إلى بيت عمها ورفضت العودة إلى بيت زوجها، رغم محاولات الصلح التي قامت بها العائلتان بعد هدوء الأعصاب. بَقيَت أمي خمس سنوات وهي مطلقة. لم يتقدّم إليها أحد. اشتهرت بلقب «عيْشة راجل». كيف تتجرأ على ضرب زوجها؟ على الزوجة الطاعة والخضوع. أبي فحّام غريب عن المنطقة. كان يعيش وحيدًا في كوخ جانبي. يصنع الفحم ويبيعه للناس. يبدو أنّ عمي هو الذي اقترح عليه الزواج بأمي. كان مُتقدّمًا في العمر مقارنة مع أمّي. كان فقيرًا ومريضًا دومًا. قبلت أمّي على مضض. قالت بأنها رضيت بالزواج من أجل ابنها. وللتخلص من لوم زوجة عمّها وبناتها الثلاث اللائي بقين بلا زواج، ملمّحات بأنها جلبت إليهن النحس بسلوكها الفظ. سنة الاستقلال لاصقة بذلك اليوم المشؤوم. كلما ذُكر الأول بأفراحه غَطّاه الثاني بأحزانه. تراكمت الذكريات بمآسيها، لتدخل في نفسي سأمًا وسوداوية، فينتابني وهَن يشلّ جسدي. بعد أن افترقنا، عدت إلى البيت منهارًا. تمدّدت على الأريكة وأشعلت التلفزة ورحت أنتقل من قناة إلى أخرى، بحثًا عن فيلم يسرقني من حاضري وماضيّ إلى أن خطفني النوم. من تلك الظهيرة علق بخلدي سؤال أجّج فضولي: ما هي الحكاية القديمة التي جعلت زوجة رشيد تعتقد أن المرض الذي أصابها نزل عليها كعقاب لذنب اقترفته ذات يوم؟ وما طبيعة الإثم؟ صديقي اعتبرها حكاية قديمة يكون قد كَساها النسيان بسمك من الإهمال واللامبالاة. أكيد أنّ الإثم في نظر رشيد ليس هو نفسه في نظر زوجته. في ذلك الأسبوع انشغلت باجتماعات شبه يومية للنظر في كيفية الدفاع عن مناضلين سياسيين أوقفتهم الشرطة وزجّت بهم في السجن، لأنهم تحدّوا قانون منع التظاهر في الشارع، ونظموا تجمعًا في ساحة أول ماي، تنديدًا بسجن أحد قيادييهم، لأنّه أعطى تصريحًا لجريدة فرنسية واتهم فيها النظام باغتيال أحد رموز المعارضة في الخارج. كنا نلتقي في مكتب المحامي سي ناصر، ونبحث عن السبل القانونية التي ستسمح لنا بالتحرك القانوني والنضالي الفعال. لهذا السبب نسيت حكاية رشيد ومرض زوجته تمامًا حتى أنني لم أزره ولم أستفسر عن حاله خلال أسبوعين كاملين. ولا أعرف ما ذكّرني به وأنا أتناول غدائي برفقة زميل في المطعم المقابل للمحكمة، ربّما كانت تلك الزبونة الشبيهة في ملامح وجهها بزوجة صديقي التي جلست في مكان يقابلني مباشرة. ما إن رفعت رأسي عن الأطباق التي كانت توضع أمامي حتى وقع بصري على وجهها. يبدو أنها انتبهت إلى فضولي أو وقاحتي في إطالة النظر إليها، فقامت وغيّرت المكان. أنّبني ضميري مرتَين. أوّلًا عن إزعاج تلك السيّدة، فأنا لست زير نساء، ولا عاشق لأوّل أنثى أصادفها في مكان عمومي. ثانيًا عن لامبالاتي المفرطة. كيف غاب عني رشيد أسبوعين كاملين وأنا على دراية تامة بمرض زوجته الخطير. فقرّرت استدراك الأمر. ـــ أدخلتُها المستشفى بعد عناء كبير. ـــ ولماذا لم تكلّمني؟ كنت استَعمَلت نفوذ وظيفتي واتصلت مباشرة برئيس المصلحة وحتى بالمدير. ـــ تعرفني جيدًا يا سي عبد القادر، أنا أمقت هذه الطرق الملتوية. أكره المحاباة واستغلال النفوذ لأنها تتناقض مع قناعاتي الفكرية والأخلاقية. أن ترى هذا الحشد من الناس البسطاء، الذين يُفترض أنني أساند كفاحهم اليومي ضد ظلم المؤسسات واستبداد أقوياء هذا البلد التعيس، ينتظرون في طوابير مضجرة، مذلّة، يتوسّلون بعيونهم المستجدية كل لابس بلوزَة بيضاء يمر أمامهم، وتأتي أنت في آخر المطاف، بكل عنجهية ووقاحة، وتتقدّم إلى الصف الأمامي لأنّ لك معرفة بمسؤول ما. هذا سلوك يزيد الناس إذلالًا وينمّي شعور الحقد والضغينة في نفوسهم، وأراه سببًا رئيسًا لاستفحال العنف في المجتمع ونموّ الشعور بكراهية هذا البلد والبحث عن الهجرة ولو إلى جهنم... لا أقبل مثل هذه التجاوزات ولا أمارسها مهما كانت الظروف. أدافع عن حقي بشراسة ولكنني أرفض الدوس على حقوق الغير. ـــ أنت تعطي الأشياء قيمة أكثر من حجمها الحقيقي، هذه ليست محسوبية ولا تأخذ حق أحد من الناس. كل ما في الأمر أنك تختصر المسافة لخطورة المرض والاستعجال بالشفاء. ـــ أقول لك صراحة إنّ كراهيتي للحكومة والنظام السياسي عمومًا تضاعف هذه الأيام الأخيرة. بدا لي المستشفى كزريبة بشعة بروائحها الكريهة وركام الأوساخ المرمية هنا وهناك. المراحيض بلا مياه، أبوابها مكسّرة، لا نظافة ولا حياء. المرضى يأتون بأفرشتهم وأغطيتهم وأهلهم يحضرون لهم الأكل يوميًا. أين هي أموال التسيير؟ أين هي الرقابة؟ كأنّك في سوق «الحرّاش»، فوضى عارمة، لا تفرق فيها بين الطبيب والممرّض والمنظف والبواب والزوار المتجولين في الصالات والأروقة. صبيحة كاملة في اليوم الأول كي يقال لنا إنّ الفحص غير ممكن في ذلك اليوم وعلينا بالعودة في يوم آخر. لا يوجد شخص مسؤول يُمْكن أن تتحدّث معه ويوجهك إلى مقصدك. الكل مشغول وغير مستعد للجواب عن استفسارات المرضى وذويهم. الصالة غاصّة بالناس، الواقفون أكثر من القاعدين، المرافقون أكثر من المرضى. المُشكلة أنّ الجميع يشتكي، عمالًا وزوارًا. تسأل مُمرضة، تجيبك بوقاحة بأنها ليست مديرة المستشفى. تبحث عن أي مسؤول، هو بالضرورة غائب أو في اجتماع. إنْ انفعلتَ وبدأتَ تَرفع صوتك، يأتيك الجواب صاعقًا: اذهب واشتكِ عند الوزير أو عند الرئيس. السَفينة بلا رُبّان، تحت رحمة أمزجة البحارة المتناحرين حول ما تبقى من مؤونة. الرئيس... كما لو أنّ للرئيس سلطة... ليس إلا دمية تحركها أياد خفية لجلّادين ومصّاصي دماء، بلا قلب ولا شفقة. لو كانت للرئيس هيبة ما، لما تجرأ هؤلاء على التلفظ بمثل هذا الكلام. نحن في دولة اللاعقاب، اللامراقبة، التسيب المطلق. ثمّ لماذا يعتني الرئيس وحاشيته بمستشفيات الجزائر؟ إنهم ليسوا بحاجة إليها. أي فرد من هؤلاء وعوائلهم يصاب بزكام طفيف تُخصّص له طائرة تطير به فورًا إلى باريس أو جنيف ليعالج في أرقى مستشفياتها، على حساب الخزينة العمومية. هذه هي البلاد التي كافح هذا الشعب المسكين من أجل تحريرها. الشيء الوحيد الذي تغيّر هو حرية النباح والصراخ. ولكن ما جدوى الصراخ الذي يتيه صداه في هاوية بلا قاع؟ ـــ القيم التي تتحدّث عنها اندَثرَت من سلوكياتنا إلى الأبد. دخلنا في دوّامة قانون الغاب، الحوت الكبير يأكل الحوت الصغير، عندك دينار تساوي دينارًا، عندك حبة لِفْت تساوي حبّة لِفْت. لهذا السبب أفتي أنا بجواز استغلال ما لك من النفوذ لحل مشاكلك الخاصة، بشرط أن لا تضرّ بمصلحة الغير، ولا تأكل حقّ الغير، لأنّ هذا يتحوّل إلى ظلم. وأنا مثلك تمامًا أمقت الظلم، وأُسَخِّر وظيفتي من أجل الدفاع عن المظلومين ومهما كان جبروت الظالم. ولكن قل لي: كيف حال نصيرة الآن؟ ـــ تَصوّر بأنني أدخلتها يوم الأربعاء، وحينما زرتها يوم الجمعة قالت بأن لا أحد اهتم بها أو قدّم لها أدنى رعاية طبية. وجدتها جالسة على حافّة السرير تبكي. أصرّت على الخروج فورًا. «اتركني أذهب فأموت في داري» هكذا كانت تردّد في هستيريا تدمي القلب. حَزنْت لحالها وتملكني الغضب ورحت أبحث عن الطبيب، فلم أجد أحدًا. المستشفى مثل الإدارة، يغيب عنه الجميع في عطلة نهاية الأسبوع. قال لي الممرض المداوم إنّ أجهزة الفحص معطلة ولا يستطيعون فعل أي شيء بدون أشعة. حدّثته عن الأشعة التي بحوزتنا، فقال لماذا لم تأت بها مع المريضة. عدت مسرعًا إلى البيت، أخذت الأشعة، فقال يجب انتظار الطبيب المختص الذي سيمرّ يوم الاثنين. أسبوع كامل داخل المستشفى حتى يفحصها الطبيب. كيف تحافظ على هدوئك وعقلك؟ قال لي الممرض إنه من مصلحة المريض أن يقوم بالأشعة المطلوبة في العيادات الخاصة إذا أراد التعجيل بالعلاج والشفاء. ـــ أنا في خدمة صديقي، إذا احتجت إلى أموال، فلا تتردّد لحظة. أعرف أنّ ثمن هذه الأشعة باهظ جدًّا وأجرة التقاعد ضعيفة. تُمتَحن الصداقة في الأيام العصيبة. أرجوك، لا تخجل ولا تدخل حساباتك المعوجّة بيننا. مثلما تعرف، أنا غير راسي وراس الطباخ، ومداخيلي تكفيني وزيادة. ـــ شكرًا عبد القادر... إلى حدّ الساعة، الحمد لله... مَستورة... لازمت رشيد في تلك الأيام ملازمة الظل للشجرة. فكنت أذهَب معه إلى المستشفى باستمرار، وأتصل بالأطباء والممرضين كي يوفروا الراحة اللازمة لزوجته. ولكن مع الأيام تدهورت حالتها الصحية مما اضطره إلى نقلها إلى جناح بيار وماري كوري بمستشفى مصطفى باشا في العاصمة، المتخصص بأمراض السرطان. وهناك أجريت لها عملية جراحية لبتر نهدها الأيسر. لم أرَ صديقي منهارًا يائسًا كما في يوم إجراء العملية. انتظرنا طويلًا في حديقة المستشفى. هناك اكتشفت رجلًا ذا طبع هشّ ورهافة حسّ تعصف بها أول نسمة ريح باردة. يخفي تحت مواقفه الصلبة في الفكر والسياسة ضعفًا إنسانيًا رهيبًا. تكلّم طويلًا، وكانت الدموع تملأ عينيه وتخنق الشهقات جمله المتقطعة المتملّصة من ذاكرة موجعة. لم يكن زواجه بنصيرة زواجًا عرفيًا تقليديًا. عشقها بكل جوارحه منذ تلك الصبيحة التي رآها تتقدّم نحو الطاولة التي كان يديرها داخل الجامعة، كي تسجّل نفسها في حملة التطوع الشتوية لصالح الثورة الزراعية. فتاة في العشرين، منطلقة، شعرها يتدفق على كتفيها كريش الطاووس، الابتسامة بريئة، بلا حسابات، سروال جينز آخر موضة. قالت دون مقدمات ولا تردّد: ـــ هذا مكتب الطلبة المتطوعين؟ ـــ نعم تفضّلي... نحن في الخدمة يا مادموزيل. ـــ سمعت بأنكم تنظمون رحلات إلى الصحراء. ـــ نعم ولكن ليس للفسحة. إنه تطوّع لصالح الثورة الزراعية. الإقامة ليست سياحة، بل عمل وجهد متواصل. ـــ أعرف. أعرف... أنا بنت الريف ومتعوّدة على الحياة الشاقة... أنا... أنا طالبة في قسم الإنجليزية، عرفت من بعض الطلبة أنكم تخرجون إلى الأرياف، وتتحدثون مع الفلّاحين وتشرحون لهم قوانين الثورة الزراعية... أنا... أنا معجبة ببومدين والاشتراكية، وأريد أن أخرج معكم في عطلة الشتاء، فذلك خير من العودة إلى قريتي والمكوث في البيت. لقاءٌ دام دقائق معدودات، ولكن صورة نصيرة وأريحيتها وصراحتها ملكت جوارح رشيد وجعلته يطارد ظلها في سلالم وأروقة بنايات كلية الآداب والعلوم الإنسانية. في الحافلة التي قادت فرقة الطلبة إلى مدينة وَرْقَلة، جلس إلى جانبها في مقعد خلفي وحدّثها طويلًا عن التطوع والثورة الزراعية والاشتراكية. كانت تستمع بأدب، وتطلق صيحات تعجّب وتتدخّل باستمرار عبر أسئلة فضولية. فتاة تقضم الحياة بملء شدقيها، نهمة للمعرفة وعفوية في تصرفها. خلال إقامة دامت أسبوعين، كانت نصيرة تعبّر عن انبهارها في كل لحظة، أمام الكثبان الرملية الذهبية اللون، المتموّجة، وواحات النخيل الوارفة الظلال وسواقي المياه المنسابة برفق وهدوء. تتحدّث مع الفلاحين بلا خجل فتربكهم، تجعلهم يخفضون عيونهم حياءً واحتراماّ، ويبتسمون متسائلين عن هوية هذه القادمة من عند بومدين، هكذا يتصوّرون، ويندهشون لمعارفها حول الفلاحة، حينما تقيم مقارنات بين فلاحة الأرض في الشمال وبين ما يقومون به في الجنوب. ما زاد إعجاب رشيد بها تواضعها وبساطة حياتها. لا تشترط رفاهية معينة ولا تتأفّف من أي عمل. مِقدامة، مُبادِرة، والابتسامة لا تفارق ثغرها. هكذا وصفها رشيد وعيناه غائبتان تحلقان في تلك المزارع التي ما انفك يذكر أسماءها: رويسات، بني ثور، حاسي بن عبد الله، حاسي الفقاعة، عين الناقة، وادي النخلة... مَلكَت قلبه وجوارحه، وأدرك في تلك الرحلة أنها حبيبة العمر وأنه لن يجد عنها بديلًا. لذلك عمل المستحيل لاستمالة قلبها. حدّثها عن نفسه وطفولته وأحلامه وقناعاته. وكم كان يبتهج ويكاد يطير من الفرح حينما توافقه الرأي أو تخبره بأنها هي أيضًا عاشت ظروفًا مماثلة في طفولتها، في تلك القرية الصغيرة في منطقة القبائل الصغرى. لن ينسى أبدًا تلك الليلة التي وجد فيها نفسه برفقتها وحيدَين، في قاعة المطعم الكبرى. كان متعوّدًا على السهر، يخصِّص ساعة أو أكثر للقراءة. فيما كان ينسحب بقية الطلبة إلى الغرف للراحة والنوم، كان هو يفضل الالتحاق بالمطعم في الجهة الأخرى من الساحة الكبيرة، يجلس إلى طاولة، يخرج الكتاب من جيب سترته العريضة ويغرق في مضامينه الرحبة. فاجأته ذات ليلة وهي تقف عند رأسه أولًا بصوتها العذب. «ماذا تقرأ؟»، ودون أن تنتظر الجواب، جلست قبالته. قمر في ليلة تمامه ينزل عليه ويملأ صدره ضياءً وسعادة. كانَت في قميص نوم وردي زادها بهاءً، الشعر مسترسل، والشفتان محمرّتان، وثغرها المتبسّم دومًا. انبهر أوّلًا، وبدأ يشرح لها فحوى الكتاب. يتذكره جيدًا، رواية يشار كمال «ميمَد النحيف». طفل فقير ضامر يتمرّد على ظلم مالك أرض مستبد. يرفع السلاح ويستقر بأحراش الجبال المجاورة. تقع أحداث القصة في الأناضول، منطقة شاسعة بتركيا. ثم بخجل وباختصار، قصّ عليها قصّة الحب الرائعة بين ميمَد وحبيبة طفولته التي هرّبها إلى الجبل معه ليخلصها من براثن ذلك المستبدّ. ثمّ قرأ لها بعض الفقرات ليتخلص من ارتباكه. كان ينظر إليها بتلهف عجيب كما لو أنّ جنّية من طينة غير بشرية تقابله. الغريب أنها لم تتحجّج بأي عذر لسبب قدومها، كأن تقول إنّ أرقًا أصابها وخرجت إلى الساحة فرأت الضوء في المطبخ وجاءت تبحث عن الماء، أو أي عذر آخر. جاءت وجلست كما لو أنّ موعدًا مسبقًا تمّ بينهما. طيّبة وساذجة لا مكان لحسابات مكيافيلية في سلوكها. في لحظة ما تفطّن رشيد إلى خلوّ المكان واحتمال أن يصادفهما أحد الطلبة، فيسيء الظن بهما بل ويتهمهما باستغلال التطوّع لممارسات غير أخلاقية. وكان رشيد من القياديين الذين يسهرون على إعطاء وجه نظيف لحملات التطوّع للردّ على انتقادات المحافظين والرجعيين والإسلاميين، من الطلبة وغيرهم، الذين أطلقوا ادعاءات كثيرة لتشويه التطوّع، وأوّل هذه الانتقادات أن تلك الأسفار والرحلات هي في الحقيقة فرصة لممارسة الرذيلة لأنّ المرأة عند الشيوعيين ملك مشاع بين الرجال، ولأنّ الفتيات المشاركات كلهن فاجرات يبحثن عن المتع الرخيصة. تدفّقَت جميع هذه الأفكار في رأس رشيد دفعة واحدة، كما لدْغة حنش يخرج من تحت الطاولة. فقام فجأة وأوقف اللقاء الرائع بينهما متذرعًا بتأخّر الوقت وعليهما أن يأخذا حقهما من النوم استعدادًا لأشغال نهار الغد. بدا الانزعاج جليًا على ملامح نصيرة التي أوّلَت إيقاف رشيد المفاجئ للجلسة الهادئة الرائعة إلى عدم رغبته في مواصلة رفقتها. غمغمت «ليلة سعيدة» وانسحبت بخفّة فيما انشغل رشيد بإطفاء أضواء المطبخ. في تلك اللحظة لم ينتبه رشيد إلى غضب نصيرة. اتّضح له الأمر في الغد حينما تجاهلته تمامًا. حينما يكلمها تكتفي بإجابات مقتضبة. كانت الحملة في نهايتها. انشغل رشيد بإعداد التقرير الذي سيُقدّم للسلطات الولائية في آخر اجتماع قبل المغادرة. طبعًا أدرك رشيد سبب فتور جميلة أحلامه. ولم يجد الفرصة المناسبة لإزالة السحابة التي سقطت فجأة بينهما في تلك الليلة الليلاء. في حافلة العودة، أسرعت نصيرة إلى الركوب، فحجزت المقعد الأوّل خلف السائق مباشرة. مكان مكشوف لا يسمح بالأحاديث الثنائية الخاصة. ومع ذلك بقي يروح ويجيء من عمق الحافلة إلى مقدّمتها، ويفتعل أحاديث مع السائق ومعها حول مجريات السفر وخصوصيات القرى والمدن التي يَعبرونها. عند محطة الوصول تبخّرت نصيرة دون وداع. كم كانت أيام بقية العطلة طويلة ومضجرة. قرّر أن يزيل اللبس عند أوّل لقاء، ويشرح لها سبب وقوفه الفظّ في وقت غير لائق تمامًا. في يوم العودة، لبس أحسن ما له من ملابس، تعطّر، أخذ معه رواية يشار كمال ليهديها لها وينصحها بقراءتها، ووقف ينتظر مجيئها بتلهف واجترار العبارات التي سيستقبلها بها، متخيلًا المكان المناسب للمصالحة الحاسمة. تأخّرَت عن الوصول. أجّجه الخوف والضجر، فراح ينتقل بين الأروقة والقاعات وباب الدخول الرئيسي، وعيناه كالكاميرا الماسحة التي لا يفلت منها شيء. أخيرًا برزت كهلال العيد. كانت تمشي الهوينا، غير مستعجلة، كما لو أنّها فقدت شهية الرجوع إلى الجامعة، بعد خيبة الأمل في علاقتها مع رشيد. حينما رآها، ابتهج، ازدادَت خفقات قلبه، وركض مهللًا مرحبًا، موضحًا بأنه ينتظر مجيئها منذ أن فتحت الجامعة أبوابها. فكان ردّها كما شلّال ماء بارد في صباح شتوي: «ولماذا تنتظرني كل هذا الانتظار؟ لقد انتهت حملة التطوّع وكل واحد يعود إلى دراسته». ارتبك رشيد، تلعثم، تبخّرت الجمل الجميلة التي فتلها فتلًا لرفع اللبس الذي ما فتئ ينغّص أيامه الأخيرة، ولكن إصراره تغلّب على جميع العوائق. في ذلك اليوم أسرّ بحبه إلى نصيرة. أخرجها من الجامعة ومشى برفقتها على طول الشارع المشرف على الميناء، أعادها إلى تلك الليلة واستخدم جميع بلاغته لمدحها والإعلاء من شأن جمالها، ووصف لها سهاده بعد فراقهما حيث قضى بقية الليل يعيد شريط جلستهما ويسرح بخياله بعيدًا في عوالم الحب والعشق الساحرة. كما أطال في وصف قلقه وعذابه في الأيام الأخيرة، وكم فكّر بأن يزور قريتها ويبحث عنها ولكنه خاف من عائلتها والعواقب التي ستترتب عن مثل هذا الفعل المجنون. وقفا متكئين على الحاجز المعدني الصغير المقابل لباخرة ركاب «الهقار» الراسية، منتظرة رخصة الإقلاع إلى مرسيليا، وأفضى بما بداخله من حب عاصف لبنت الريف المبتسمة، المعتزّة بكبريائها. بمجرد أن أحسّت شبه رَفْض منه، انسحبت خلسة، دون ضوضاء. كان يحدّثها دون النظر إليها. يسرح ببصره إلى الأفق الأزرق الممتد أمامه أو يسافر داخل خياله مرفقًا كلامه، ولكنه لحظة إعلان حبّه، توقف لحظة، استدار كلية باتجاهها، أثبت نظره في عينيها العسليتين، وقال: «أحبّك نصيرة... أحبّك، منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها. أريدك أن تصدِّقيني... لم أقل هذا الكلام لأي فتاة قبلك، ولن تسمعه فتاة أخرى من فمي مرة أخرى. لا تمر دقيقة واحدة دون أن تكوني حاضرة في مخيلتي». احمرّت وجنتا نصيرة، طأطأت رأسها قليلًا ولم تجبه. بل انقطعت عن الكلام لفترة طويلة. انتابه الارتباك والشك. واصل العاشقان طوافهما بشوارع الجزائر الوسطى. ثمّ رافقها إلى غاية حيّ البنات بابن عكنون، ومكث قرب مدخل السياج لأكثر من ساعة في زاوية شبه مظلمة، غير مبالٍ بالنظرات المستنكرة أو الحاسدة. كان رشيد يشعر بجسمه أخف من ريش الحمام، بدا له أنّ حركة واحدة من ذراعيه ستحوّلهما إلى جناحين سيحلقان به في السماوات السبع. لم يشعر بالوقت يمر ولا بالجوع ينخر أحشاءه. صدق القائلون بأن العشاق يتغذّون بالحب والهواء. في تلك الوقفة أسرّت نصيرة بحزنها وأوجاعها. قالت إنها بكت بصمت في تلك الليلة ولم يغمض لها جفن. ولكن كبرياءها أمدّتها بقوة الصبر وتجاوز شجن العشق. عادت إلى الجامعة وقد تمكنت من كَيّ جرحها. لم تتلفظ بكلمة حبّ، ولكن تلك الاعترافات أخبرت رشيد أنها متعلقة به، ولكن خجلها واحترام الأعراف جعلها تمتنع عن المبادرة بالبوح بحبها. هكذا كان اللقاء، وهكذا كان الحب. دام سنتين رائعتين، كان الحبيبان يلتقيان في رحاب الجامعة ويغوصان في دروب الحديث المتشعب، والكلام الغزلي الممتع. يكفي أن يجلسا جنبًا إلى جنب، كي تغمرهما السعادة. ولكن للجسد انجذاباته التي لا تقاوم. عويل داخلي أقوى من عويل الجوع والألم، لم ينجح في مقاومته إلا يوسف وبمشيئة ربانية. ولكن لحكاية الأنبياء منطقها الخاص يختلف كلية عن المنطق الذي يتحكم في حياة البشر. كانت البداية لقاءات مختلسة داخل قاعات السينما، عرفا لذة القبلة ورحيقها العسلي، ليس إلا. يبقيان معًا لأطول مدّة ممكنة. يرافقها إلى غاية مدخل الحي الجامعي الخاص بالبنات، يقف معها في ركن منزوٍ، يكاد الجسدان يتلامسان، وهما يحترقان شهوة. تعبث الأصابع، بَعْضها ببعض، في التحام شديد إلى حدّ الوجع، لعلها تطفئ قليلًا من اللهيب المتنامي بداخل الجسدين. المجتمع صارم في مراقبته ولا يسمح باختراق الممنوعات جهرًا. إذا بُليتم فاستتروا، ولكن أين يستتر المرء في هذه المدينة التي لا تخلو شوارعها وأزقتها لحظة واحدة من المتسكعين والفضوليين؟ كانت العلاقة ستَبْقى على هذا المستوى من العذرية والسحرية الحالمة لولا صدف الحياة وعمى الأبصار وصيحات الجسد العصية المقاومة. لرشيد صديق يملك شقة في حي «ترولار»، غير بعيد عن الجامعة المركزية، شقق تخصّص للمتزوجين من الطلبة. حَدث أن دعاه صديقه لحضور عيد ميلاد زوجته، وهي طالبة أيضًا ومناضلة في حركة التطوع الطلابي. حضر الحفل برفقة نصيرة، فكانت بداية لعلاقة ودّية بين زوجة صديقه وحبيبة قلبه. فتكرّرت الزيارات وتقاربت. وكلّما وجد رشيد نفسه بداخل الشقة كبرت أحلامه وتمنى لو يستطيع امتلاك مثلها، والعيش مع نصيرة في عش دافئ يؤوي أحلامهما. ولا يذكر كيف تدحرجت به صروف الأيام ليجد نفسه يختلي بنصيرة داخل الشقة، في غياب صديقه وزوجته، ليقضي بها ليلة نهاية الأسبوع. طاف العصفوران بشوارع الدزاير، مُندسَّين وسط زحمة ظهيرة الخميس، ينطّان من محل لآخر، من حديقة الحرية إلى إسكوار صوفيا، ثمّ يقرران مشاهدة فيلم في قاعة سينما دنيازاد، فيلم مصري غنائي، حول الحب ومعيقاته الأبدية. تصوّرا نفسيهما في صورة الممثلين العاشقين، فكبر إصرارهما على مقاومة ما يفرقهما، والعمل على توطين حبهما، ولا يوطّن الحب إلا التحام الأجساد المحمومة. التحقا بالشقة فرحين كما لو أنّهما سيزفّان عروسين فعلًا في تلك الليلة. أعَدَّت نصيرة عشاءً خفيفًا، وسهرا معًا يقطفان من ثمار الحكايات تحسبًا للحظة الحاسمة التي كان كل واحد من العاشقين يترقبها بملء جوارحه. جاء الالتحام بطيئًا، متردّدًا، خائفًا، ولكن الحب القائم منذ سنتين فجّر جميع الأقفال، وتعانق الجسدان في رعشة جنونية راجفة لإحراق الجمرة المتأججة كلية. الجسد سرّ دفين يندفع صاحبه إلى كشف أغواره مهما بدت العواقب مهدّدة. فضّ رشيد بكارة عشيقته في تلك الليلة. شهقت نصيرة وذرفت دموعًا صامتة عندما اكتشفت آثار الدم بين فخذيها. انكمشت في حضن رشيد وبقيت لاصقة به، كما لو أنها أحسّت فجأة بهول هشاشتها. طمأنها رشيد بأنهما سيتزوجان قريبًا، سيذهب لخطبتها من والديها، وسيقضيان شهر العسل في أجمل مدينة بأوروبا. كانت أصداء الأحلام تمتد خافقة لتعانق السماء وتواصل السفر إلى ما لا نهاية. منذ تلك الليلة، أصبح العاشقان يستغلان أدنى فرصة لاختلاس لحظات يغطسان في نشوة الالتحام الجسدي الراعش، فيندفعان كفرسين جموحين لاكتشاف متع الجسد إلى حدّ الثمالة، إلى حدّ امتصاص رحيق آخر جمرة. ولكنّ للسعادة ثمنًا، كما في المآسي اليونانية، يكون في غالب الأحيان قاصمًا للأحلام والأوهام واللامبالاة. ذات صباح جاءت نصيرة بوجه شاحب، لا تكاد تنطق كلمة دون أن تعترضها رغبة الانفجار بالبكاء. ـــ أنا خائفة يا رشيد... خائفة... سيقتلني أبي إن عرف ما حدث. عشرة أيام وأنا أترقب في كل لحظة... لا شيء... لم أعد أعرف النوم ولا شهية الأكل... اعْترَف رشيد بأنه لم يدرك سبب هلع حبيبته إلا بعد لأي. ضرب صدغه من الغيظ إلى حدّ الوجع. كيف لم يفكّر في الأمر؟ كيف غاب عنه أنّ أية علاقة جنسية بين رجل وامرأة قد تخصب بحمل وإن كانت اغتصابًا. زوبعة صاعقة جرفتهما وأخرجتهما من جنّة النعيم، تمامًا كما وقع مع آدم وحواء في بداية الخلق. أين إبليس الذي وسوس لهما بأكل ثمار التفاحة دون ترخيص؟ عليه أن يتدخل إذًا لإنقاذهما من الفضيحة الوشيكة الذيوع. كان على رشيد أن يعمل أوّلًا للتخفيف من هلع المفجوعة. ـــ لا تقلقي... تأخير بسيط في موعد الدورة الشهرية. كثيرًا ما يحدث مثل هذا الخلل عند المرأة التي تعرف علاقات جنسية مكثّفة... عوَض أن تهدأ نصيرة، انفجرت بالبكاء: ـــ واش ادّاني... واش ادّاني... أنا مهبولة... مهبولة... فغرقت في هستيريا هذيانية أدخلت الرعب في نفس رشيد، وجعلته يتعرّف على الوجه الضعيف من شخصية عشيقته. كان يراها ذات شخصية قوية، لا مبالية، ولكنه يكتشفها هشّة، تنهار عند أوّل صدمة. ومَع ذلك تفهَّم هلعها لأنّ المصيبة التي وقعت فيها، إن افتضحت، ستقضي عليها حتمًا. فكان عليه أن يأخذ المسألة بجد، ويبحث لها عن حلّ يحافظ على سمعة عشيقته وشرفها. في ذلك اليوم، دعاها إلى مطعم هادئ وأجهد نفسه لإقناعها بأنّ المسألة ليست بالدرامية التي تتصورها. كان يردّد بين الفينة والأخرى بأنه سيقف إلى جانبها، ويتحمّل معها المسؤولية كاملة. ولكن شتّان بين الأحلام والوعود المعسولة وبين مرارة الواقع وشروطه المستحيلة. في تلك الليلة خطّط رشيد لجميع الاحتمالات الممكنة. فلم يعثر على ربع واحد قابل للتطبيق. فكّر طويلًا في الزواج، ولكن زواج ليلة تدابيره سنة، مثلما يقول المجربون، وهذا حينما تكون الظروف مساعدة والشروط موفّرة. أما وحالته المادية وعلاقته بعائلته في الحضيض الأسفل، فالزواج قد يتطلب قرنًا وأزيد. إنه سباق ضد عقارب الساعة. أسابيع معدودة وتنكشف الفَضيحة. رقّ قلبه لوضع حبيبته إنْ تسرَّب الخبر إلى عائلتها، أكيد أن ردّ فعل أفرادها سيكون في منتهى الشراسة والعدوانية. يعرف حرص العائلات على الشرف المرتبط بعذرية المرأة. لا يطهَّر الشرف إلا بإراقة الدماء. إنها القوانين الأبدية التي سنّها الأجداد ولا يُسمَح لأحد المساس بها. كان عليه أن يتصرّف بسرعة. لكل مُشكلة حل، ومن بحث وجد. هكذا كان يفكّر. عند الساعة الثامنة صباحًا، كان يدّق باب شقة صديقه الزبير. قالت زوجته: ـــ قبل أي مبادرة، يجب أن تتأكّد نصيرة أن الحمل ثابت، وليس مجرّد تأخير. لذا ينبغي أن نقوم بتحاليل مخبرية. اليوم سأتصل بصديقة طبيبة شارَكت معنا في حملات التطوع تعمل بمستشفى باب الواد. ـــ وإذا ثبت الحمل، ماذا سنفعل؟ ـــ لا تسبق الأحداث... لكل أوان كلام. شبّه رشيد فترة انتظار صدور نتيجة التحاليل بفترة انتظارنا المؤرق نتيجة العملية الجراحية في حديقة البناية المقابلة لجناح بيار ماري كوري. صوت دفين يهمس من بعيد أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مزحة يتسلى بها الدهر، سينقشع ضبابها بعد ساعات قليلة لتعود المياه إلى مجاريها الأصلية. فيخفق قلبه ابتهاجًا ويقسم أن يوقف كل علاقة جنسية مع عشيقته إلى غاية ترتيب أمور الزواج. فيَرى نفسه يتقدّم لخطبتها، يقابل أباها الذي يرحّب بعريس ابنته، ينظم عرسًا صغيرًا للأصدقاء المقربين فقط وبعض إخوته، قبل أن يطير برفقة وردته العطرة إلى باريس أو روما لقضاء شهر العسل. ولا تكاد تكتمل هذه الصور حتى يدوّي صوت آخر، جهوَريًا مجلجلًا، يعيده إلى مرارة مصيبته. فيرى البطن ينتفخ ككرة مِمْرغية، ليشوّه جسد عشيقته، تتدحرج الصور المرعبة، صور وجوه أفراد عائلة نصيرة، حاملين الشواقير والهراوات وهم يتوعدون بإراقة دماء تلك الفاجرة الزانية التي دنّست أنوفهم بوحل الرجس. يرتجف جسد رشيد، يهزّ رأسه لطرد الكوابيس اللعينة. يبَحلق في الأفق، ويصرخ في وجه الأشباح المهدّدة: «لا أترككم تمسّون شعرة واحدة من حبيبتي... سأحْميها بحياتي، سأضمها إلى صدري وأطير بها إلى بلاد لا يحاسبنا فيها أحد على أفعالنا، بلاد تبارك الحب وترعاه». يقف متحدِّيًا، يمشي خطوات، ثم يعود إلى مكانه. ومع ذلك تقبّل نتيجة التحاليل الإيجابية بسعة صدر بل وبابتسامة أمل عريضة. يشعر بقوّة جبّارة تتسرّب إلى جوارحه، قوّة سيصعق بها كل معتدٍ على وردته العطرة. تدحرجَت به الأيام أيضًا ليجد نفسه في القطار الليلي المتوجِّه نحو وهران برفقة عشيقته وفي جيبه عنوان عيادة طبيب يقوم صاحبها بعمليات الإجهاض بطريقة سرّية. الحمل في أسبوعه الخامس، ولا مجال لتمديد الخطر أكثر. يحتلان مقعدًا خلفيًا، صامتَين، حائرين، يفكران بالغد المجهول. أكّدت لهما زوجة الزبير أنها تحدّثت مطولًا مع إحدى الطالبات التي أجهضت عند هذا الطبيب منذ حوالى ثلاثة أشهر فقط وأعطت لهما جميع المعلومات اللازمة. فلا داعي للخوف إطلاقًا. العملية بسيطة وللطبيب شهرة فاقت الحدود، تأتيه النساء من كل حدب وصوب ليسقط الجنين غير المرغوب فيه. صحيح أنّ ثمن العملية مرتفع جدًّا، ولكن رشيد استطاع جمع المبلغ بدون عناء كبير. كانت ليلة الرحلة طويلة ومضجرة. انكمشت نصيرة على نفسها، غطّت رأسها بخمار بنّي، أغمضت عينيها واستسلمت لهواجس مصيبتها. كانت من حين لآخر تغفو بضع دقائق ولكنها تستيقظ فجأة، مفزوعة، منتفضة بكامل حركات جسدها، كما لو أنّ كابوسًا يطاردها ويخرجها من نومها عنوة. فكانت حينئذ تتشبّث بذراع رشيد بقوة الغريق حينما يشدّ بطرف طوّافة. أما رشيد فلم يغمض له جفن. استهلك علبة سجائر كاملة. حاول تزجية الوقت بالقراءة ولكن ذهنه كان مشوّشًا ولم تتمكن الحروف السوداء برغم سحرها أن تجذبه إليها وتغريه بعجائبها. يتذكّر رشيد بأن وهران الباهية بدت له في ذلك الفجر الشتوي قبيحة منفّرة، بخلاف ما يقال عنها. كان المطر يسقط رذاذًا خفيفًا. الجدران رمادية كئيبة والبنايات عملاقة تئن تحت السماء السوداء الواطئة، الخانقة للأنفاس. في الواقع، لم تكن عيون رشيد تبحث إلا عن اسم الشارع المقصود. أما نصيرة، فلفّت رأسها كلية بخمارها، شدّت ذراع جلّادها وتركت نفسها تقاد إلى المقصلة. حينما نادت الممرّضة اسمه، رفع رأسه متثاقلًا، يتساءل ببصر متلهف. ـــ الطبيب يريدك. وقف وتبع المرأة الثخينة التي فتحت الباب وتركته يدخل. استقبلته روائح كحول وأدوية حادة. الطبيب رجل في منتصف الأربعين، أشقر اللون، حليق بأناقة، يضع نظارات فضية اللون، تخاله أوربي الأصل، يجلس خلف مكتب كبير، فيما كانت نصيرة مكوّمة على أريكة جانبية، مطأطئة الرأس حياء. أكيد أنها قامت بمجهود نفسي شاق كي تتعرى أمام رجل آخر وإن كان طبيبًا، وتسلم له فخذيها وفرجها للعبث والتدنيس. وقد أسرّت له باشمئزازها من تعرية نفسها أمام الطبيب وفضّلت أن تقوم طبيبة بعملية الإجهاض. قال الطبيب: ـــ الحمل طبيعي والجنين في وضعية جيّدة. تلعثم رشيد ولم يعرف بأي جواب يردّ. أضاف الطبيب: ـــ نفضل إجراء عمليات الإجهاض للحالات المضرة بصحة الأم أو الجنين. ما هذا الكلام؟ لطمة قوية يتلّقاها رشيد. أيرفض الطبيب إجراء عملية الإجهاض؟ ما العمل إذًا؟ كل هذا السفر وهذا الأمل ليعودا خائبين؟ ماذا سيفعلان بالجنين بعد فوات الأوان؟ ـــ جئنا من العاصمة... جئنا خصِّيصًا عندك... حدّثتنا عنك فتاة عالجتَها منذ حوالي ثلاثة أشهر... تنحنح الطبيب وتفرّس رشيد بنظرة من تحت نظارته: ـــ احّحمْ... ألا يمكن لكما الاحتفاظ بالجنين؟ ـــ تفهَّم وضعنا يا سيدي الطبيب، نحن طلبة وحالتنا المادية ليست على ما يرام. ومشاكل الزواج، مثلما تعرف، تتطلب إجراءات طويلة، خطوبة، إحضار العائلات، العرس الذي لا يتم إلا في الصيف... إلى أن يتم توفير كل هذه الشروط، يكون الطفل قد وُلد... كيف تواجه المسكينة عدوانية أهلها حينما يعرفون بأنها حملت دون زواج؟ لهذه الأسباب جميعها جئناك من بعيد لعلك تجنبنا الوقوع في فضيحة ستقتلنا. وبعد ذلك، سيكون لدينا الوقت الكافي لإقامة عرس الزواج بكل راحة وطمأنينة. ـــ طيّب، طيّب... أظن أن معك المبلغ الكافي لإجراء العملية... ودون انتظار، قام رشيد مسرعًا، وأخرج رزمة الأوراق النقدية من جيب سترته وحطّها أمام الطبيب. ـــ شكرًا سيدي الطبيب... لا ننسى لك هذه الخدمة أبدًا. سحب الطبيب كمية الأوراق باتجاه درج ثم وقف قائلًا: ـــ اطمئن... العملية ستُجرى دون أدنى خطر على... على صديقتك. هي ستَبقى عندنا إلى غاية الساعة الرابعة زوالًا. أما أنتَ فإنها مناسبة لاكتشاف مدينة وهران. أظنّ أنك تزورها لأول مرة. أكيد أنها ستعجبك. مشى طويلًا تحت رذاذ المطر، غير مصدّق أنّ الثقل الجاثم على صدره منذ أيام سيزول بعد سويعات قليلة. تجوّل بين الأزقة الغاصة بالمارّة، دخل إلى محل «الأروقة الجزائرية» ذات الطوابق الثلاثة، متسللًا بين الرفوف المكدّسة بالسلع. اشترى قارورتي عطر، واحدة لعشيقته والثانية له. دخل الأسواق الشعبية وانشغل بضجيجها وحركة البيع والشراء، مُتخَلِّصًا من ضغط همومه لبعض الوقت. ثمّ بالصدفة اكتشف واجهة البحر المقابلة للميناء، اتكأ على الحاجز الواقي وسرح في أحلام جميلة. لقد تخلّص من الكابوس الذي نغّص أيامه الأخيرة، فليمنح لنفسه فسحة ابتهاج وإن كانت وهمية. ذرع رصيف الواجهة ذهابًا وإيابًا مرات عديدة. شعر بالجوع يقضم أحشاءه، فكّر في أكل صندويتش، ولكنه لم يفعل. سَينتَظر خروج نصيرة من العيادة وسيذهبان معًا إلى مطعم للاحتفال بالتخلص من الورطة التي وقعا فيها. عاد إلى عيادة الطبيب على الساعة الثالثة. قادته الممرضة الثخينة إلى غرفة جانبية صغيرة، حيث كانت تنام نصيرة برفقة فتاة أخرى. وجدها نائمة، ولكن بمجرد جلوسه على حافّة السرير فتحت عينيها هلعة. نطقت اسمه وأجهشت بالبكاء. ـــ أين أنت يا رشيد؟ تأخرت كثيرًا... ـــ احترمت كلام الطبيب الذي قال إنك ستخرجين على الرابعة. ـــ الطبيب... إنّه جزّار وليس طبيبًا... ـــ جزّار... ـــ نعم جزّار... جزّار... وأجهشت بالبكاء ثانية. اقترب منها رشيد وضمّها إلى صدره متمتمًا: ـــ لا تخافي... انتهى كل شيء... ورطة وقعنا فيها وسوف لن تتكرّر... ـــ قلت لك إنه جزّار حقيقي... آلمني كثيرًا... لا أعرف ماذا أدخل بداخلي، ولكنني أحسست بآلة حادة تمزق أسفل بطني... ـــ ألَم تكوني مخدّرة؟ ـــ نعم ولكن التخدير خفيف جدًا. كنت أحسّ وأسمع، ولكنني لا أستطيع التحرّك، حتى صراخي لم يخرج. عذاب وحشي أن تحس بشخص يعبث بجسدك، يؤلمك وأنت عاجز عن ردّ الفعل، عن إيقافه، عن الدفاع عن نفسك. كانت تنفجر بكاء وراء كل جملة. ولم يجد رشيد الكلمات المناسبة للمواساة. فاكتفى بضمها إليه ومسح دموعها بأصابعه. عند الساعة الرابعة، جاءت الممرضة، أعطت لهما وصفة الدواء وطلبت منهما مغادرة العيادة. لم تقوَ نصيرة على الوقوف إلا بشقّ النفس. كيف تواجه المدينة وهي في هذا الوهن المُشلّ للسيقان؟ فقدت كثيرًا من الدم، ويتطلّب تعويضه وقتًا طويلًا. عند مدخل العمارة، أجلسها على درج وذهب يبحث عن غذاء يمنح لها القوة لمواصلة السير. كان عليهما العودة إلى العاصمة في قطار الليل، الذي ينطلق عند الساعة التاسعة مساءً. أين سيذهبان طوال هذه الساعات في هذا البرد وتحت المطر؟ أكلت علبة ياوورت وتفاحة، وقامت في تثاقل، متكئة على ذراع رشيد، تخطو أمتارًا وتجلس دقائق، إلى أن وصلا إلى محطة القطار. جلسا على مقعد وانتظرا. أراد أن يأخذها إلى محلّ شواء قريب، فامتنعت. كثرة الحركة قد تسبب حدوث نزيف دموي. ذهب مسرعًا، اشترى دجاجة مشوية، ولكنها لم تأكل إلّا القليل برغم إلحاحه العنيد. أخيرًا، حان موعد السفر. ما إنْ انطلق القطار حتى تمدّدت، واضعة رأسها على فخذ رشيد، وغرقت في نوم عميق. بقي رشيد جالسًا طوال السفر ولم يتحرك كي لا يوقظها. كانت بحاجة ماسة إلى الراحة. استيقَظت في محطة الأصنام عندما توقف القطار وطفق المسافرون يصعدون داخل القاطرة في صخب صامّ، فسألت: كم الساعة؟ ردّ رشيد: الواحدة صَباحًا. قالت: متى سنصل؟ ردّ رشيد: نامي، لا يزال السفر طويلًا. كان صوتها هادئًا، ونبراته خالية من ارتعاد الخوف. عند محطة آغا، اكترى سيارة أجرة وأوصلها مباشرة إلى إقامة البنات، دون أن ينسى التوقف عند صيدلي وشراء الدواء. ثم التحق بغرفته ونام يومًا وليلة دون انقطاع. قال رشيد بأن ذلك السفر من أقذر أسفار حياته. وهو لا يحب وهران لأنها تذكّره دومًا بحادثة الإجهاض. شيء ما تكسّر بينه وبين نصيرة التي فقدت ابتسامتها المعهودة ومرحها العفوي. أصبح وجهها قاتمًا. كسا حركاتِها شيءٌ من العدوانية المبطنة. كانت تلتقي برشيد وتقضي معه الساعات ولكنها رفضت الاختلاء به. امْتنَعَت عن الذهاب إلى شقة صديقيهما وقالت صراحة بأن تلك العلاقة كانَت مصدر المصيبة التي عصفت بهما. لو صبرا وانتظرا قليلًا، لأقاما عرسًا رائعًا، مثلهما مثل جميع المحبين. ظهر اللوم على لسانها، وبدأ الندم ينغّص سعادة أيامها. ولكن رشيد كان فحلًا ولم يتخلّ عنها. أحبها حقًا وحقيقة وعمل المستحيل كي يسعدها. بعد أيام جاءت عطلة منتصف السنة، فسافر إلى قريتها والتقى بأبيها وطلب منه يد ابنته. استقبَله الأب بحفاوة، وقال إنه لا يعترض ما دامت ابنته هي التي أعطته عنوان منزله، ما يعني أنها راضية. ولكن الخطوبة لا تُرسم إلّا بحضور عائلته وقراءة الفاتحة. منطق مقبول، هي عادات الناس في تزويج بناتهم. المشكلة أنّ لرشيد عداوة مع أبيه منذ تلك المشاجرة العنيفة حول الصلاة. كان الأب كعادته مع أولاده حينما كانوا صغارًا، يجمعهم خلفه عند كل صلاة. طبعًا، لم يعد رشيد يصلّي منذ انفصل عن العائلة للدراسة. وكان في كل مرة يتذرع بالتعب وعدم الوضوء وأنه سيصلي بمفرده. ولكن في إحدى المرات، واجهه أبوه بصرامة. ـــ أنا أعرف أنك لم تعد تصلي... أنت تعرف أنّ تارك الصلاة عندنا مرتدّ وكافر. وأنا لا أريد لابني أن يصبح كافرًا، يكون مصيره جهنم والعياذ بالله. لهذا، فأنت أمام خيارين، إما أن تعود إلى رشدك وتستأنف صلاتك مثلك مثل إخوتك، وإما أنت لست أبني وأنا لا أعرفك وطعامي محرّم عليك. طبعًا اندفع رشيد وعارض موقف أبيه واتهمه بالتخلّف وأن الجنة والنار أوهام بشرية لا علاقة لها بالحقيقة. انفجر الأب غاضبًا وطرده من البيت. ومن ذلك اليوم، لم يعد رشيد إلى دار والديه إلا مرتين، ولم يمكث إلا بضع ساعات، تحدث قليلًا مع أمّه وبعض إخوته وأخواته. وفي كل مرة تلحّ الأمّ عليه أن يطلب الاعتذار من أبيه، فقد فعلها في لحظة غضب، وكان اقتراحه تهديدًا ليس إلّا، تصوّر أنه سيعود إلى جادّة الصواب. فلم تخطر على باله أنه سوف يغادر المنزل إلى غير رجعة. فهو دائمًا يدعو له بالهداية في صلواته. كيف يعود إليهما بعد غياب أربع سنوات بل أكثر، ليس شوقًا إلى رؤيتهما وإنما ليطلب منهما خدمة، ليخطبا له امرأة. هل سيتحايل على صهره ويقود معه بعض الأصدقاء وعجوزًا تمثّل دور الأم وشيخًا يمثّل دور الأب؟ المشكلة أن رشيد لا يحب النفاق وازدواج الشخصية. ليست له موهبة في التمثيل. في صبيحة أحد الأيام، استقل الحافلة وعاد إلى قريته. استقبلته الأم بالدموع واللوم الشديد. توفّي أبوه منذ ستة أشهر بعد مرض دام أسابيع. لم يخبروه لأنّ أباه رفض رفضًا شديدًا وقال بأنه لن يغفر للذي يخبره أبدًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة. اختار العاقّ طريقه، فليتحمّل مسؤوليته بمفرده. وطاعة الوالدين واجبة في شرائع الدين، بل تأتي في مقدمة الواجبات الكبرى للمؤمن. لذلك امتنع إخوته عن إخباره، لا بمرضه ولا بموته. طلبت منه أمّه البقاء إلى الغد ليزورا معًا قبره. اعترف رشيد بأنه لم يحزن لموت أبيه. لم تكن تربطه به عاطفة قوية. علاقتهما منذ الصغر هي علاقة سيّد بعبده. الأب يأمر ورشيد يطيع. لا يتذكر يومًا خاطبه أبوه برفق وحنان. أوامر، صراخ، توبيخ، ولا ينتظر من أبنائه عمومًا إلا انصياعهم لأوامره، والويل للعاصي. العصا لمن عصى، هو السيّد الجبار الذي لا يقبل أن يناقشه أحَد. أمّ رشيد مسكينة، مغلوبة على أمرها، هي التي كثيرًا ما لطمها زوجها أمام أولادها لأنها تجرأت وناقشته في أمر ما. أمّه، الياقوت، عانت الويلات السبع من غطرسة الزوج المُستبد. لا تجد حريتها وفطرتها إلا أثناء غيابه. بمجرد دخوله، تتحوّل إلى شبح ذليل، تسرع إلى تلبية طلباته بخفة الكلب الوفي. ذهب لزيارة قبره تلبية لرغبة أمّه، ولكنه لم يطلب منه المغفرة مثلما ألحّت عليه. قال لها بأنه لم يظلمه. الصلاة مسألة فردية بينه وبين الله. أبوه هو الذي طرده من البيت. لمْ يرد رشيد المشاجرة معه ثانية، لذلك لم يعد. في تلك الزيارة بقي مع أمّه ثلاث ليالٍ كاملة، تحدّث معها في شؤون العائلة والحياة قبل أن يخبرها برغبته في خطوبة فتاة تعرّف عليها بالجامعة. رحّبت الأم بالمبادرة، ولكنها اشترطت انتظار مرور سنة قبل إقامة العرس. أعاد ربط العلاقة مع أمّه وعائلته، وأصبح يزورهم بين الفينة والأخرى، ولم يفاتحه أحد في مسألة الصلاة. هكذا وجد رشيد نفسه يأخذ أمّه وبعض إخوته وأخواته لترسيم الخطوبة. عاد في الأسبوع الموالي مع صديقين شاهدين لتسجيل عقد الزواج ببلدية قرية أهل عروسه، ليستخرج الدفتر العائلي، ويخطّ درب حرّيته مع عشيقته الأولى والأخيرة. نسي رشيد تلك الأيام العصيبة، إذ أسّس مع نصيرة عشًّا زوجيًا سعيدًا. ولكن المصائب لحقته في أواخر حياته. وبقيت حادثة الإجهاض مخزونة في لاوعي نصيرة، لتتفجّر عند إصابتها بمرض سرطان الثدي، لتقلب حياتها رأسًا على عقب، حيث تحوّل إلى إثم تسبّب في عقابها في الدنيا قبل الآخرة، فغرقت في تديّن مؤنّب للضمير شرخ العلاقة الغزلية الجميلة التي عاشتها مع رشيد. رشيد لا يفيض في اعترافات ذاتية والبوح بهمومه إلا حينما نكون بمفردنا. أمّا في الجلسات العامّة مع الأصدقاء، فيكتفي بالخوض في مسائل السياسة والفكر وتعليقات حول ما قرأه في الكتب والجرائد أو ما شاهده في التلفزيون أو سمعه في الإذاعة. ليس مثل ربيع الشاعر الذي كلّما جاء الحديث عن الصحة أقحم زوجته، وهي طبيبة أسنان تشتغل لحسابها، أو عبد الله الذي كلّما جاء ذكر التعليم والمدرسة كانت زوجته حاضرة، وكلامها القول الفصل (وهي مديرة مدرسة). أمّا شعبان فيلتحق بنا ليصرعنا بأخبار ابنه المهندس في أحد مخابر البحث في فرنسا. في ذلك الانتظار الطويل، وفيما كانت نصيرة ممدّدة تحت رحمة مشارط الجرّاح ومعاونيه، فاض رشيد في سرد همومه وبالأخص ما تعلّق بخلافه مع زوجته. «أوّل مظاهر العودة إلى التدين عند زوجتي صوم رمضان. تذرّعت بكون جميع زميلاتها في الثانوية صائمات، وأنهن سيحتقرنها إن اكتشفن أنها لا تصوم. تزامن ذلك مع انتشار ظاهرة التحجب عند النساء، تحت تأثير دعوة الإخوان المسلمين الذين تكاثروا في سلك التعليم. هي لم تتحجّب ولكنها شيئًا فشيئًا لفظت جميع الألبسة العصرية وأضحت تغطّي كامل جسدها باستثناء الرأس. وفي الأيام الباردة، تلفّ خمارًا على رأسها وحول رقبتها. وصل الأمر بغطرسة هؤلاء إلى داخل الأقسام. تجرّأ تلميذ من أولئك الملتحين، وسألها لماذا لا تلبس الحجاب مثل بقية نساء المسلمين. لولا إجابتها الصارمة وتهديدها إياه برفع شكوى إلى المدير إنْ تمادى في التدخل في حياتها الخاصة، ربما لانتقل إلى أنواع أخرى من الضغط. مثلما تعرف يا سي عبد القادر، أنا ملحد، كافر بدين المسلمين، لا أصوم ولا أصلّي. ومع ذلك لم أعترض على صومها بشرط أن تتركني آكل على هواي ودون أن تسمعني تلك النصائح المبطّنة بالعودة إلى حضن التديّن. صحيح أنّني لم أكن أتصوّر أبدًا أنها ستتخلى عن طبيعة حياتنا لتعتنق أخرى. كنت أعتَبرُها متشبّعة مثلي بقناعات عصرية لأنها لم تناقشني يومًا في هذه المسائل. الحق أنها كانَت تحضِّر لي الأكل في شهر رمضان دون تردّد ودون انزعاج يُذكَر. وأنا بدوري عملت على تسهيل مهمّة صيامها. فلا أطلبها إلى الفراش نهارًا مثلما كنت أفعل في الشهور الأخرى. اعتبرت الأمر عاديًا يدخل في القناعات الفردية. ولكنني انزعجت كثيرًا حينما رأيتها تلبس الحجاب وتستعدّ للصلاة، فتذكرت طفولتي واستبداد أبي. ومع ذلك ما كان بوسعي أن أقف ضدها أو أفرض عليها سلوكًا معينًا. بطبعي أمقت المستبدين فلا أتصور نفسي ألبس عباءتهم وأمسك سوطا لجلد الغير. هذه المرة ناقشتها في الأمر. قلت لها إن الصلاة والدعاء إلى الآلهة الساكنة في السماء عادات وثنية ابتكرها الإنسان في مرحلة ضعفه وجهله. أما اليوم، وقد غزا الإنسان الفضاء ولم يجد لا آلهة ولا سماوات، ولا مكان الجنّة والنار، فلمن تصلّي ولمن تصوم؟ لو كان الله حقًّا موجودًا لرقّ قلبه لحالة البشرية ولأنقذ المؤمنين، وأغلبهم من المسلمين، من الفقر والظلم. تحوّلت أوروبا إلى جنّة بفضل عمل الإنسان وليس بفضل استجابة الله لدعائهم، لأنهم لفظوا الدين جانبًا منذ عصر الأنوار. أما نحن فما زلنا في عصر الظلمات ونتصوّر الله شيخًا جليلًا يملك في يديه مفاتيح الجنّة والنار، ويحيطه جيش من الملائكة التي تسجّل في دفاتر ضخمة مواقف وأقوال كل فرد على وجه المعمورة. نَحن في مجتمع متخلّف تحكمه الخرافات والجهل والفقر. والناس يتشبّثون بالعبادة كآخر بصيص نور قد يعوّضهم عن حرمان الحياة هذه التي أدارت لهم ظهرها. إنهم في إسْت الدّنى قابعون، مثلما يقول صديقنا الشاعر. فحرَدوها بدورهم واعتصموا بحبل الله في انتظار أن يُعجِّل بنقلهم إلى جنته الموعودة. الغريب أن زوجتي لم تناقشني. استمَعت إليّ في صمت، ثمّ قامت إلى شغلها المنزلي. هي تعرف أنني عصبي نوعًا ما، دون أن أكون عدوانيًّا، لذلك تتجنّب إثارتي. سبق أن تشاجرنا حول مسائل منزلية تافهة، فلا أنتبه حتى أجد نفسي أرفع صوتي صارخًا. فتصمت وتنسحب. ولكنني دائمًا أعود إلى هدوئي بسرعة وأستلطفها معتذرًا عمّا بدر مني. ولأبيّن حسن نواياي، أخرج واشتري لها هدية. فكانت عواصفنا زوابع خفيفة لا تدوم أكثر من بضع ساعات. المشكلة أنها انْعزلت وانكمشت على نفسها. فأضحى الكلام بيننا قليلًا ولا يتعدى ما يتعلّق بشؤون البيت والأولاد. هي التي لا تعرف من العربية إلا الأبجديات، أصبحت تقتني كتبًا صفراء وتعكف على قراءتها. ومع ذلك لا تحدّثني بما تقرأ، رغم فضولي وأسئلتي المتكرّرة. مرة قالت: «هذه شؤون العبادة والدين وأنت لا تؤمن بها. فماذا تفيدك معرفتها؟». لقد أصابت، ماذا تفيدني هذه المعرفة الآتية من القرون الوسطى؟ كي أجادلها وأدحض حججها وأعيدها إلى حظيرتي؟ وها هي اليوم تصاب بهذا المرض الخبيث كما لو أنها تنبّأت بوقوعه وسارعت إلى حصانة نفسها بوسائل وهمية لمعرفتها الأكيدة بفشل جميع الوسائل الطبية والعلمية. لهذا السبب تجدني أتألم لحالها وأتحسّر على حالي. علاقة حبّ وألفة دامت قرابة الثلاثين سنة تنهار في لحظات، مثل قصر رملي، دون أن نملك بأيدينا حلًّا لتفادي السقوط في عمق هاوية بلا قاع». 6 ـــ قضية المرحوم ابنك معقّدة، يا السِّي رشيد. حطّ محافظ الشرطة، سي أحمد، الملفّ الذي كان يتصفّح أوراقه وثبّت نظره في وجه الأب المفجوع، الجالس بجانبي مقابل المكتب العريض. أحسست أنّ في الأمر رائحة دخان مريبة. لم يتمّ استدعاء رشيد بن غوسَة لغرض بروتوكولي. مات الشاب المسكين ووُورِيَ التراب، فماذا تريد الشرطة عند أبيه؟ أضاف المحافظ بصوت حازم: ـــ لقد أثبتت تحرّياتنا أن المسدّس الأوتوماتيكي الذي وُجد في يد ابنك ملك للشرطي المغتال قبل أربعة أشهر في سوق المكسيك. هذه هي حفرة الأفاعي إذًا... من سيخرجنا منها؟ قال رشيد: ـــ قلت لك أوّل أمس إنّ هؤلاء الكلاب قتلوه وتركوا المسدّس بين يديه لغرض ما. والآن عرفنا السبب. سيُتّهم ابني بقتل الشرطي، ويخرجون هم من الجريمة كالشعرة من العجين. ـــ المشكلة أنّ الطبيب الشرعي أقرّ بأن طبيعة الوفاة أقرب إلى عملية الانتحار منها إلى اعتداء من الغير. إنها شبيهة بواقعة انتحار شرطي حدثت عندنا منذ شهر. ربّما وصلكم الخبر؟ لقد تحدّثت عنه الصحافة بإسهاب لتُشهِّر بالانهيارات العصبية التي طالت سلك الشرطة منذ بداية الصراع الدموي مع الإرهابيين وما تلاها من استقالات وانتحارات. ردّ رشيد بنرفزة ظاهرة في ارتعاد أصابعه: ـــ أنا لا أصدق رواية الانتحار... ابني لم ينتحر... ساد صمت بيننا. قال المحافظ: ـــ الإرهابيون بحاجة ماسّة إلى الأسلحة. يُبيدون عرشًا كاملًا من أجل بندقية صيد. فكيف يتركون مسدسًا آليًا من آخر طراز وبعبوة مليئة بالرصاص؟ نحن شبه مقتنعين بأنّ ابنك قد انتحر. ولكننا نَجْهل السبب. من خلال لباسه، يبدو أنه كان ينتمي إلى الجماعات الإسلامية. استدعيتك لتُحدّثني عن ابنك. ماذا تعرف عنه؟ عن علاقاته؟ عن أصدقائه؟ سنبعَث فرْقة تفتش أغراضه في بيتك لعلّه ترك وثائق تفيدنا في التحقيق. طأطأ رشيد رأسه مغمغمًا: «الطامّة الكبرى... في آخر عمري يتحوّل ابني إلى إرهابي... وبيتي مأوى للإرهابيين...». ـــ لم نقل ذلك بعد. نريد أن نعرف كيف وصل مسدّس شرطي مقتول إلى ابنك؟ ونطلب منك مساعدتنا. تدخّلت قائلًا: ـــ يا سي أحمد، أنا أعرف عائلة رشيد منذ سنوات ولا أظن أنّ لها علاقة مع هؤلاء المجرمين. ـــ ومن اتّهم العائلة بشيء؟ نحن نتكلّم عن الابن وقد مات وانتهى أمره. ما نريده هو معلومات توصلنا إلى قتلة الشرطي. وهذا المسدس هو خيطنا الوحيد الآن. هَيّا سي رشيد تكلّم... بعد صمت ثقيل، قال المحافظ: ـــ حدثني عن أصدقاء ابنك ؟ أقصد الأصدقاء الملتحين. ـــ الأصدقاء الملتحون؟ لا أعرفهم ولا أريد معرفتهم. ـــ لا تستعجل... فكّر قليلًا... ربّما... طأطأ رشيد رأسه مفكرًا بضع ثوانٍ: ـــ آه، صحيح... فيه واحد قصير القامة، شديد السمرة، بشاشية وبالطو فوق عباءة. رأيته مرّة واقفًا قرب سياج المتوسطة المغلق. كانت الساعة حوالى السادسة مساءً. سألته عن حاجته. قال بأنه ينتظر نبيل. تفحّصني من تَحت العين كما لو أنّه كان يضمر شيئًا مريبًا. سألت ابني في المساء عن هويته. قال: صاحبي. قلت: وهل يدرس معك في الجامعة؟ قال: وما يَهُمّك من أمره، صاحبي وخلاص. ـــ منذ متى حدث هذا اللقاء؟ ـــ منذ بضعة شهور فقط. ـــ وهل رأيته بعد ذلك؟ ـــ لا... ولكن ذات مرة، حينما عدت إلى البيت مساءً، قالت لي زوجتي بأنّ نبيل سيتغيّب بعضة أيام. وحينما سألتها عن السبب، قالت إنّه ذهب مع ياسين لزيارة جدّه من أمّه في منطقة البويرة. فسألت عن هوية ياسين هذا؟ قالت: ذلك الكحلوش الذي عادة ما يأتي للبحث عنه. قلت: أتَعرفينه؟ قالت: استقبلته مرّة مع نبيل. كان ينتظره بالساحة، وبما أنني كنت قد حضّرت فطورًا جيدًا، طلبت منه أن يدعوه للأكل. فصعد وأكل مع نبيل في المطبخ. وهو الذي كان يزوّده بالكتب الدينية. يبدو شابًّا مهذّبًا ومؤدّبًا. زوجتي المسكينة تنخدع كثيرًا بالمظاهر. منذ أن بدأت تصلّي أصبح جميع من يرتدي عباءة وشاشية ملكًا في عيونها. ولا تعرف أنّ أقذر الشياطين يأتون في هيئة ملائكة. ـــ معنى كلامك أنّنا يجب أخذ أقوال زوجتك أيضًا. ستنير تحقيقنا. ـــ ربّما... يَهمّني أنا أيضًا معرفة ملابسات وفاة ابني. في ذلك المساء، رفض رشيد الرجوع إلى البيت. اقترحت عليه الانزواء في حانة بعيدة لا يعرفنا فيها أحد. ولكنه رفض أيضًا. طلب مني أن لا أتوقف عن السير. داهمنا الظلام ونحن نجوب الطريق السريع المؤدّي إلى المطار. سيّارات قليلة وحواجز أمنية كثيرة. ثمّ عدنا عن طريق البحر. كم هي جميلة شوارع العاصمة ليلًا حينما تكون فارغة؟ أضواء تتلألأ على مدى البصر والسيارة تنساب بهدوء كما لو أنها تحلّق في فضاء سينمائي ساحر. في البداية التزم رشيد الصمت، كما لو أنّ ضوء النهار يلجم لسانه ويكبح ذاكرته. عندما استقرّ الليل وحجب الظلام الأفق البعيد، انشرح صدره وانفتحت شهيته للكلام. «آه يا نبيل... حطّمتني في كبري وأنا الذي اعتبرتك سندًا لي حينما تتدحرج بي الأيام. كنت دائمًا طفلًا خجولًا، لا تكثر الكلام، بخلاف أختك الكبرى الثرثارة البارعة في قص أدنى تفاصيل حياتها. تكبرك بأربع سنوات وقد اعتنت بك كثيرًا وأنتَ صغير، إلى حدّ أنّها لقّنتك عادات أنثوية. فلم تكن تتشاجر أو تتخاصم مع أولاد المدرسة أو الجيران. طفل ذكي وتلميذ مجتهد في دروسك. كنت دومًا متفوقًا في الامتحانات... حتى تلك الصائفة الملعونة. ماتت أمي المقهورة، ذهبنا لحضور الجنازة هناك في قرية أولاد موسى. تركتك عند أعمامك لتقضي بقية أيام العطلة. هم الذين ألحّوا، وأنت أيضًا كنت تريد البقاء. ويا ليتَني ما قبلت. ولكنني قلت ستتعرّف على العائلة وحياة الريف. ستركض قليلًا في البراري والشعاب والأودية، ستترجّل... كنت مخطئًا. نسيت نهائيًا تلك العادات التليدة. قلت إنها ذهبت مع صاحبها. ولكن قلة انتباهي واستعجالي بالعودة جعلني لا أرى انتشار العباءات والشواشي واللحى الكثّة المغبرّة على ذقون المشيّعين. تأسلمت القرية أكثر من ذي قبل. تركتك في عرين الضباع وعدت إلى بيتي أواصل قراءة الفلسفة وجريدة لوموند. تغيّر المجتمع من حولي وأنا لاهٍ بما يأتيني من الغرب من تمرّد كلّي على نواميس المجتمعات القديمة؛ تحرّر المرأة، تخلّي الرجال والنساء عن إقامة عقد الزواج والعيش معًا بلا تلك القيود الأخلاقية المرتبطة بالزواج الرسمي، حرّية المعتقد إلى حدّ إقامة جمعية للملحدين وجمعيات ديانات جديدة مثل السينتولوجيين وأبناء الشمس وغيرهم، الزواج المثلي بين النساء وبين الرجال... كل صباح أفتح القنوات الفرنسية لأتملى ذلك المجتمع المتفتح المتطور، الزاحف نحو الجنّة فوق الأرض، وأصِبت بالعمى عما يحدث حولي من تعصب وعودة قسرية جارفة لنمط العيش القديمة، لمجتمعات بداية التاريخ، مجتمعات يتعلق أفرادها بما تدرّه السماء من أوهام وكوارث طبيعية، الابتهالات الجماعية التي تتوسّل السماء أن تمطر ذهبًا وفضّة، فيما تعجّ الأرض وباطنها بخيرات نرفسها بأقدام عمياء حاقدة ونمر غير عابئين. هجر الناس خدمة الأرض واستقرّوا في المساجد يطلبون السماء ليل نهار لتمطرهم خبزًا وماء، وقد أمطرتهم يومًا بوهم عظيم رأوا فيه اسم الله يحلّق في فضائها الشاسع. هذيان رهيب أغرق الناس في هاوية بلا قاع. وعندما لم تأت الجنّة التي طالما تشوقوا إليها رفعوا السيوف لقطع رؤوس بعضهم البعض وأضرموا النار في ما تبقى من حقول وغابات. من الجنّة الموعودة سقطنا في جحيم مرعب لم يعشه شعب آخر قبلنا، ولا أظنّ أن شعبًا آخر سيعيشه بعدنا. هكذا يا ابني أدخلوك إلى حفرة الأوهام وأصبحت ذراعًا لهم وسهمًا، ضدّ أبيك وضدّ نفسك أخيرًا. أنا أيضًا كنت في حفرة خرافة كبيرة حينما اعتقدت أنّنا أشبه بالشعوب الأوربية، وسنبني جنّة فوق أرضنا الجدباء. خاصة حينما انهارت مؤسسات الدولة الاشتراكية وانهار تعريب التعليم باسم محاربة بقايا الاستعمار والعودة إلى الجذور. والتعريب حتمًا يجرّ معه الإسلام. المجتمعات العربية الأخرى تملك حصانة أيديولوجية في ثقافتها العربية كما تملك فقهًا دينيًا مُتجذّرًا في العائلات فلا يفلت أولادهم منهم بسهولة. أما عندنا، فالاستعمار دمّر أسس الثقافة العربية والفقه الإسلامي. خرجت العائلات من عتمة الاستعمار وهي ترزح تحت أمّية الجهل الكلّي. فكانت العودة إلى العربية وإلى الإسلام بحماس مبالغ فيه. فراح الناس يعانقون كل حرف عربي بقدسية بليدة، كما يؤمنون بكل داعية يلبس عمامة وعباءة يأتيهم من المشرق العربي، بغضّ النظر عن نواياه السياسية والمصلحية. في تلك الفسحة الديمقراطية التي تلت مظاهرات أكتوبر الغاضبة، انجرفت كل جهة تصرخ بحقيقتها. ولكن الحقيقة الوحيدة المغرية للغريق في الوحل هي المعجزة. وتشبّث الناس بمعجزة الدراويش التي حوّلت جميع الأنظار إلى السماء التي حتمًا ستُحلق بنا إلى فضائها السحري. ولكن السماء بقيت صمّاء. فحدث ما لا يتصوَّر. حدث ما لا يحدث. «صْرا اللي ما صْرا عند حتى قوم». انتظرْت يومَ عودتِك بغبطة كبيرة. قلت سيحكي لي عن قرية طفولتي وأزقّتها المتربة ورائحة أوديتها ونباتاتها. ولكنك عُدت عبوسًا منغلقًا كما لو أنّ جنًّا سلب منك روحك. كانت عيناك هاربتين متملّصتين، ولسانك بخيلا لا يكاد ينطق بكلمة إلا بَعد خروج الروح. ماذا حدث؟ لم تكد تجلس معنا بعض الدقائق حتى فتّشت في حقيبتك الصغيرة وأخرجت سجّادًا وانعزلت بغرفتك تصلّي. ماذا فعلوا بمخك الصغير؟ أودعتك طفلًا مرحًا وعدت إليّ شيخًا متزمتًا. عوّدوك على الصلاة. أصبحت مداومًا على أدائها. ناقشتك في الأمر ولكن أمك دافعت عنك وواجهتني بحججي. الصلاة اختيار فردي لا يخصّ إلا صاحبه. وبما أن المسجد غير بعيد عن المنزل، فأضحيت تلازمه صباح مساء. لم أكن أبالي. في تلك الفترة كنت أشتغل مفتّشًا تربويًا، فكثر غيابي عن البيت. ثلاث ولايات متباعدة، وكنت حريصًا على زيارة جميع مؤسّساتها التعليمية مهما كانت طبيعة المناخ وصعوبة التضاريس. بلا سيّارة، أستقلّ الحافلة والقطار، وأقضي الليل في مراقد التلاميذ. إنها مهنتي وأدّيتها على أحسن ما استطعت. وتركتك للأفاعي تعبث بك، تعجنك على مقاس قاذفات الصاروخ لتضحّي بك في أوّل مواجهة مع قوات الأمن. أولى مظاهر التغيير عندك اللباس وعدم حلق الذقن. وكانت نتائجك الدراسية في السداسي الأوّل كارثية. تقضي مُعظم أوقات فراغك في المسجد. تستيقظ مع أوّل أذان الفجر لتلتحق بالمسجد ومن ثمّة إلى الثانوية. في المساء لا تعود إلى البيت إلا بعد صلاة العشاء، وأحيانًا تتأخّر أكثر من اللزوم. وحينما أسألك عن سبب التأخير، لا جواب لك إلا: كنت مع أصحابي في الجامع. وبّختك مرارًا وأفهمتك أهميّة الدراسة وإحراز شهادة ترتزق بها وتصون لك كرامتك. ومع ذلك أعدت السنة. استدركت الأمر بعد ذلك ولكن المشكلة ليست في الدراسة. الإنسان يعيش بأي حرفة وإنْ كانت حرفة كنّاس الطرقات أو حمّال في الأسواق. لا أنسى أبدًا تلك الصبيحة التي تخاصمنا فيها فعلًا. كان أوّل يوم من شهر رمضان. حينما رأيتني أتناول فطوري في المطبخ، صرخت في وجهي مرعوبًا كما لو أنك وقفت على عفريت بقرنين. في السنوات الماضية، كنت تتناول فطورك الصباحي معي دون أي إشكال. قلتَ: «إخوتك كلهم يصومون ويصلّون... كنا نجتمع عند كل صلاة في صف واحد ونصلّي جماعيًا. جوّ عائلي رائع». بعد تردّد، أضفت مستنكرًا: «لماذا لا تستغفر ربّك في صبيحة هذا اليوم الأوّل من رمضان الكريم، فتأخذ حمّامًا وتلتحق بالمسجد لأداء الصلاة مثلما يفعل جميع المسلمين؟». هكذا، أضحى ابني الذي ربّيته منذ الصغر على أفكار التنوير والتحرّر من الذهنيات الغيبية، ينقلب عليّ ويعطيني دروسا بمجرد أن مكث أيامًا في قرية نائية لا تزال تتخبّط في الجهل والفقر وعصر الأساطير. طبعًا صرخت في وجهك، وحذّرتك من تكرار مثل تلك النصائح الحمقاء. أوّل ردّ فعل قمت به أنك امتنعت عن تناول الطعام معي. أصبحت تنتظر خروجنا من المطبخ كي تنفرد بأكلك. كثر غيابك عن المنزل. أين كنت؟ في المسجد مع أصحابي. بيتك وعائلتك الجديدة... أما بيتنا فأصبح مرقدًا، فندقًا للنوم، لا غير. أحيانًا أناديك، أجلسك بقربي وأحدّثك عن الحياة والفكر والحداثة والتاريخ. تتظاهر بالاستماع حينًا، ثمّ تقف مُتذرّعًا بمراجعة دروسك وتفارقني. زاد تطرفك منذ أن دخلت الجامعة. في أيامنا، كانت الجامعة معبدًا للمعرفة والعقل والتنوير، فأضحت اليوم وكرًا للتطرف والجهل والتعصّب والخرافات البائدة. في منتصف السنة الأولى، حينما دخلت علينا بقميص أفغاني ولحية عَتْروس، تأمّلتك غير مصدّق عينيّ، وقلت لك: «ما هذا الكرنفال؟»، قلت بنبرة اعتزاز: «هذا لباس إسلامي». قلت لك: هذا ليس لباس المسلمين، إنما لباس الأفغان التقليدي. وما أبعدنا عن بلاد الأفغان. المسلمون مُتفرِّقون عبر كامل الكرة الأرضية، ولكل بلد لباسه التقليدي. لا يوجد لباس يسمّى بالإسلامي، بل يوجد اللباس الخليجي والإيراني والماليزي والباكستاني والمغاربي... نظرت إليّ نظرة سخط واحتقار والتحقت بغرفتك وأدرت قفلها معلنًا بصراحة عن غلق باب النقاش. ماذا فعلت لك حتى تربّت بداخلك تلك الكراهية التي طالما قرأتها في عينيك؟ كراهية ضدّي وضدّ نفسك، كراهية دفعتك إلى الانتحار. هل ضاقت بك سبل الحياة إلى حدّ لم تعد تطيق تحمّلها؟ من أين أتيت بذلك المسدّس؟ من أعطاه لك؟ هل تحوّلت إلى قاتل بلا قلب، أنت الخجول المسالم؟ آه... يكاد رأسي ينفَجر من كثرة الأسئلة وغياب الأجوبة عنها...». لم يتوقف رشيد عن لوم نفسه لأنه عجز عن حماية ابنه من الأصولية الجارفة. كان عليه أن يقف إلى جانبه، أن يتفهّم انقلابه المفاجئ، أن يجادله بتطرّف أقلّ وبلا فظاظة. ها هو يعيد سُلوك أبيه معه. كان أبوه صارمًا كأشجار البلوط المنتشرة في الجبال المحيطة بقرية أولاد موسى. لا يعرف لليونة عنوانًا. هي عنده مقترنة بالمرأة. قلب المرأة هو الذي يلين ويضعف ويقدّم تنازلات. فخسر ابنه إلى الأبد. مات ولم يرَه ثانية. أكيد أنه تألّم في أواخر حياته. يكون قد عاتب سلوكه مثلما يفعل رشيد اليوم. عاطفة الأبوة قوية عصية على الانطفاء. وإن كان الآباء عندنا لا يجهرون بمكنون قلوبهم؛ يرونه ضعفًا، وانتقاصًا من رجولتهم. لم يكن ممكنًا لأبيه أنْ يتراجع عن قراره. لو فعل لانهارت هيبته في عينيه أوّلًا قبل أن تنهار في عيون أبنائه وزوجته. ولكن ربما لو استمع رشيد إلى نصائح أمه وتوسّلاتها واقترب من أبيه وحاول تليين موقفه بعبارات تصالحية، للان قلب الأب وتنازل عن شرطه القاسي. تصرّف رشيد مثل أبيه تمامًا ولكن في الاتجاه النقيض. اشترط عليه أبوه أداء الصلاة أو قطع صلة الرحم بينهما. هو أيضًا اشترط على ابنه ترك الصلاة وإنْ بطريقة متدرّجة. هو كان قوي الشخصية واستفاد من ظروف مساعدة وتمكّن من العوم بمفرده إلى أن خرج إلى شاطئ آمن. لكن ابنَه نبيل ضعيف الشخصية زيادة إلى أنّ حظّه أسقطه في جحْر الأفاعي. ظروف المجتمع التسعيني غير ظروف المجتمع السبعيني، فعصفت به عصفًا، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. ولكن معرفتي بطبع رشيد الحادّ وتصلّب مواقفه، توحي إليّ بأنه لو تشكّلت جماعات ماركسية مسلحة في عهده لالتحق بها دون أن يمنح لنفسه عُشر ثانية للتفكير. ما الفرق إذًا بين صرامة الأب القروي الذي ليس له من التعليم إلا بضع سور قرآنية ومبادئ عامّة في أداء فروض العبادات وتصلّب الابن المتعلّم الذي درس الفلسفة بالجامعة؟ ما أعرفه هو أنّ التصلّب والتزمّت يتماشيان مع الجهل والمعرفة القليلة، أما المعرفة الواسعة فيُفترض أنها تمنح صاحبها سعة الصدر والتسامح وتفهّم الغير. ولكن الظاهر أن المسألة أعقد من هذه الثنائية البديهية. يجب البحث عنها في طبائع الأفراد وظروف معيشتهم وتشكيل شخصياتهم أثناء مراحل الطفولة. ما أسعد طفولتك يا رشيد وأنت تجد فوق رأسك تاجًا صلبًا كصَدَفة واقية تعفيك شرّ الجوع والبرد وتحميك من غطرسة الأقوياء! يا ليتَني عشت تحت سطوة مثل هذا الأب! كنت سأقبل جميع شروطه، بل وسأتطوّع لمزيد من الأفعال المحبّبة لديه. لم أعرف من أبي إلا تلك الصورة المفجعة وهو ممدّد على حصير رثّ مُقمّل، ورعب ذلك السعال الحادّ الذي يبقيني يقظًا، سجين العتمة، وعُرضَة لوساوس مخيفة، وأنا منكمش في ركن الكوخ المثلج، أرتعد كعصفور مكسور الجناحين تحت رذاذ المطر. وأمّي الشجاعة، المقدامة، المبادرة لإعطاء الأوامر والتي تحدّث أبي بثقة نفس، بل وبنبرة صاحبة النفوذ الحقيقي. لم أشاهد الخنوع في سلوك أمّي ولا الاستبداد والغطرسة عند أبي. حينما عدت من المقبرة، أحسَست بعزلة رهيبة. وفي الأيام الموالية، كنت كلما رأيت رجلًا يمسك طفلًا صغيرًا من يده ويجرّه خلفه امتلأت عيني بالدموع وشعرت بانقباض يخنقني. أعود إلى البيت وأحتمي بأمّي. ولكن أمّي لا تذهب إلى السوق ولا إلى الأعراس ولا تتجوّل في الأزقّة. حتى تلك الزيارات المتكررة إلى الأولياء الصالحين ومقرئي القرآن لم تعد تقوم بها. ربّما كفرت هي الأخرى بكراماتها لأنها لم تنقذ زوجها من الموت. أما أخي الكبير فكان يغيب منذ الفجر إلى غروب الشمس. يشتغل في المزارع البعيدة، ونترقّب عودته بفارغ الصبر لتخطف أمّي قُفَّته قبل أن ينزع حذاءه ليستريح؛ تفرغ محتواها على الحصير باحثة عن خضر للطهو. الشيء الوحيد الذي كان مُتوَفّرا باستمرار هو الخبز. وكنت أنا المكلّف بأخذ القمح أو الشعير إلى طاحونة أعمَر أوعلّوش مرّة في الأسبوع. تساعدني أمّي على رفع الكيس وحطّه جيدًا على كتفي، والسير قدمًا لأكثر من ساعة كي أصل إلى المقرّ الرئيسي للقرية حيث توجد الطاحونة. كم كان قلبي يمتلئ ابتهاجًا حينما أسمع هدير محرّكها الصاخب من بعيد، حتى قبل أن ألج الزقاق الصاعد باتّجاهها. ذلك أن الصمت يعلن عن تعطّل في محرّكها، فنضطر إلى انتظار وقت طويل كي يقوم عمّي أعمر بإعادة تشغيلها وأحيانًا نترك عنده الأكياس إلى اليوم التالي. أمشي المسافة الطويلة دون أن أستريح أو أنزّل الكيس عن كتفي. مَن سيساعدني على إعادته إلى دكّته؟ أدحرجه بفظاظة وسط القارعة قبل أن أجرّه وأركنه خلف طابور الأكياس، وصوت عمّي أعمَر يصرخ محذّرًا من تمزيق الكيس. يتصاعد غبار الدقيق وسط الهدير. والطاحوني النحيف المغطّى بالغبار الأبيض وبعمامته المتدلية على كتفيه باستمرار ينتقل بخطًى ثابتة بين أعلى وأسفل الطاحونة. بذراعَين عاريَين مشعرين قويين يرفع الكيس عن الأرض ويصعد به السلم الصغير، يدفق القمح أو الشعير في فوهة الطاحونة قبل أن ينزل بخفّة ويتفقّد طبيعة الدقيق الساقط كشلال داخل الكيس. أجلس على الرصيف المقابل، أسترجع أنفاسي. ويكون سفر العودة أبطأ وأثقل وأطول من سفر الذهاب لأنّه عادة ما يتمّ وسط الظهيرة تحت الشمس اللاهبة، زيادة إلى أن كوخنا يقع في أسفل هضبة مرتفعة عن وسط القرية. المجيء يكون عبر منحدر يسهّل المشي. أما الصعود فيَحتاج إلى طاقة إضافية، وأنا جوعان أستمع إلى قرقرة أحشائي. الدرب مليء بالحفر والأحجار والغبار صيفًا، وبالوحل شتاءً. كنا نشقى جميعًا لتوفير لقمة الخبز. تعلّمت أمّي على كبرها حرفة صناعة المكانس. فكنت أرافقها إلى الأحراش المحاذية للهضبة كي نقلع الدوم. نحمل الجريد إلى البيت، نجفّفه، قبل أن تعكف أمّي على تحويله إلى مكانس تبيعها للجيران. وإن لم نتمكّن من تسويقها في المنازل المجاورة لنا، تحزمها أمّي في رزمة، أذهب بها إلى سوق القرية. «بعْها ولو بزُوج دورو. إنْ لم تبعها في السوق، دقّ على أبواب البيوت، أنتَ صغير، لا تحجب منك النساء، تفاوض معهنّ، لا تخجل. كل البيوت بحاجة إلى مكانس، ستجد حتمًا من تشتري واحدة أو اثنتين». هكذا كانت أمي تلقّنني الدرس وهي تساعدني على وضع الكنز على كتفي. رويدًا رويدًا، استرجعت الثقة بنفسي وبالحياة. أصبحت مائدتنا الصغيرة تكاد تمتلئ بالأكل، بل وتلحّ أمّي عليّ أن نكمل ما تبقّى في الصحن الفخاري الكبير من فتات. «سيحاسبنا الله على التبذير وربما قطع رزقه عنّا». تقنع أمّي بالقليل ولكن تقلّبات الدهر طبعت في نفسها خوفًا دفينًا من عودة أيام البؤس، فتجدها تدّخر ما أمكن بل وتتصدّق على من هم أفقر منّا. «ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. دير الخير تجد الخير. دير الشرّ تجد الشرّ». ما أروَع حكم أمّي. علّمتها الحياة أنّ الأيام لا تستقر على حال مهما طال. وما أصابنا جرّاء مصيبة أخي بعد أن اعتقدنا جميعًا أن أيام البؤس ذهبت بدون رجعة، لهو الدليل القاطع على صحّة تخوّفاتها. وقد أورثتني هاجس الخوف من شبح الأيام العجاف ونوائبها المباغتة. أتذكّر جيدًا تلك الظهيرة التي عاد فيها أخي الميلود إلى البيت مبكرًا على غير عادته. كنت عائدًا من الطاحونة، أجرّ قدميّ عبر الدرب الصاعد باتجاه منزلنا، جسدي ينوء تحت ثقل كيس دقيق القمح، ولم أتفطّن لاقترابه منّي إلا حينما تفاجأت بالكيس يُنزع منّي بقوة. تصوّرته لصًّا يخطف منّي قوت عائلتي، فتشبّثت أصابعي بالخيش مع نموّ عزيمة بداخلي للدفاع عن ثروتي بحياتي. ولكن صوته المقهقه طمأنني: «خلّ عليك... أعرف بأنك مُتعب وجائع...». رفع الكيس بيد واحدة ورماه على كتفه. الحقّ أنّ أخي قوي البنية، مُتعوِّد على الأعمال الشاقّة. ثمّ مدّ لي كيسًا صغيرًا كان في يده الأخرى، وصعدنا الدرب. ارتخى جسدي وانتابني ابتهاج لا يوصف. سقطت النجدة عليّ كهلال العيد الذي ينقذنا من شقاوة أيام الصوم في الفصول الحارة. رأيت أخي عملاقًا يمكن أن يحملني أنا أيضًا على الكتف الثانية. انتعشت روحي وأحسست بقوّته تسري في عروقي، فتبخّر تعبي واقتفيت أثره باعتزاز وحزم. أوّل شيء لفت انتباهي لباسه النظيف الذي لا يلبسه إلا أيام الذهاب إلى السوق. لم يعد من العمل إذًا. أين كان واليوم ليس يومَ سوق؟ ما إنْ عتّب باب الفناء الصغير حتى صاح: ـــ ياما، ياما... خلاص قبلوني... تركَت أمّي ما بيديها، وقفت وأطلقت زغرودة حادّة. ما هذا الخبر الذي جعل أمّي تعبّر عن فرحها بهذا الحماس الفيّاض؟ عانقته بحرارة: ـــ مبروك عليك يا وليدي... متى ستلتحق بالثكنة؟ الثكنة؟ سيصبح أخي عسكريًا. وأمّي على علم بنيّة الميلود للتجنيد في الجيش. حطّ أخي كيس الدقيق وطلب منّي أن أعطيه كيسه الصغير. ـــ أبشروا... هذا يوم عظيم، يجب أن نحتفل به. بعد يومين سأكون في البليدة. أين تقع هذه البليدة؟ أكيد أنّ أخي سيغيب عنّا طويلًا. انتابني وهن مفاجئ. تبخّرت تلك القوة التي ملأتني عند لقاء أخي في الدرب الصاعد. رأيت نفسي وحيدًا مع أمّي، مثل جرو مع أمّه الضعيفة التي تنبح عند سماعها لأيّ جلبة، متصوّرة أنها خطر على رضيعها. جلس أخي مزهوًّا وفتح الكيس وأخرج منه قطعة حلويات ومدّها لي: ـــ كُلْ يا قدور... هذه «ميل فاي»... ميل فاي أو بَغْرير بالعسل الحارّ؟ غير مهمّ. لو جاءت في وَقت آخر لالتهمتها في مضغة واحدة. اغْرَوْرَقَت عيناي بالدموع وركضت خارج البيت. لحق بي أخي وخفّف من روعي. ببضع كلمات رسم لي الحياة السعيدة التي تنتظرنا بعد التحاقه بالجيش. لن نبقى في هذا الكوخ. سنرحل إلى القرية وربّما إلى المدينة، وسأدخل المدرسة. مسحت دموعي وأكلت الميل فاي الذي إذا حضر على طاولة ما طارت بي ذاكرتي إلى تلك الظهيرة السعيدة الحزينة. لقد تغيّرت حياتنا فعلًا بعد تجنّد أخي في الجيش. في البداية، غاب عنّا أسابيع ولم نعرف عنه أيّ شيء. واصلت بيع المكانس وأخذ الدقيق إلى الطاحونة وصيد العصافير. كلّما سألت أمّي عن سبب طول غياب أخي طمأنتني: سيعود قريبًا إن شاء الله. بدت لي الأيام بلا نهاية. وكنت كلّما عدت من القرية وباشرت الصعود باتجاه منزلنا التفتّ مرارًا خلفي لعلّني أراه قادمًا في بذلة عسكرية مهيبة. حدث أنّي صادفت بعض العسكريين في أزقّة القرية، فكنت أختلس النظر إليهم وأتصوّر أخي بدلهم. أخيرًا جاء. نزل علينا دون إخبار مسبق. لم تكن دشرتنا آنذاك تعرف الرسائل ولا ساعي البريد. وصل بعد غروب الشمس بقليل. فمُنذ ذهاب أخي، أصبحنا نغلق الباب مع غروب الشمس، نشعل شمعة، نتعشّى، وننام. نزل صوته علينا دافئًا كما أشعّة الشمس الصباحية. قفزت لفتح الباب. قال مازحًا: ـــ أتنامون مع الدجاج الآن؟ كان في لباسه العسكري، شامخًا كفارس أحلامي. حطّ حقيبته الكبيرة عند عتبة الباب وتعانقنا بحرارة تنعش الروح. تبخّرت كآبة الكوخ وظلمته وصمته. ـــ لقد أتعبني السفر وأشعر بجوع يقضم أحشائي. قالت أمّي شبه آسفة: ـــ لم نكن ننتظر قدومك يا الميلود يا وليدي... نحن أكلنا ما تبقّى من الصبح... ولكن اصبر رُبع ساعة، سأخبز لك رغيف فطير كما تحبّه. ـــ لا تتعبي نفسك، ياما. جئتكم بعشاء فاخر. كيف أعود بعد أزيد من شهرين فارغ اليدين؟ فتح الحقيبة وأخرج منها ما لذّ وطاب: خبز الرومي أبيض لامع، دجاجة مشويّة لا تزال دافئة، جبن، زيتون، برتقال، زجاجة ليمونادة وحلويات ميل فاي. أشعلنا شمعة أخرى وملأنا المائدة بكل تلك المأكولات اللذيذة وغرقنا في جلسة ما عرفت أمتع منها قطّ. بعد ذلك أخرج الملابس الجديدة لي ولأمّي. لبستها مزهوًّا وأنا أتخيّل نفسي أمشي في أزقة القرية مرفوع الرأس، دون خجل مثلما كنت أفعل مع ملابسي القديمة المرقّعة في الركبتين والمؤخرة. نمت بها في تلك الليلة سعيدًا أحلّق فوق غيمة تدفعها ريح خفيفة منعشة. مكث معنا أخي عشرة أيام كاملة. ولأوّل مرّة، كنت أستيقظ في الصباح وأجده في البيت. سافرنا سويًّا إلى سوق القرية، تجوّلنا وسط الحشد والسلع المعروضة على الأرض مثلما يتجوّل الرجال، بافتخار وشموخ. اشترينا أشياء كثيرة: أوانيَ مطبخية، خضرًا طازجة، ثلاثة كيلوغرامات من التمر وخمسة لترات من زيت الزيتون وعلب حلويات من نوع البسكوي. أثناء العودة، روى لي بعض تفاصيل حياته في الثكنة: التدريبات الميدانية، الرمي بالأسلحة، الأصدقاء، ومدينة البليدة الكبيرة التي يتيه المرء في شوارعها. قال إنّه، بعد عودته مباشرة، سيتعلّم سياقة السيّارة. كنت أستمع إليه وخيالي يحوّل الكلمات إلى مشاهد أجسّدها أمام بصري في الدرب الصاعد وأفتح عينيّ على اتّساعهما كي أراها حقًّا وحقيقة. سألته متلهّفًا: ـــ وهل ستشتري سيّارة؟ ـــ نعم... ولماذا أتعلّم السياقة إذًا. ـــ ولكن السيّارة لا تسير في هذا الدرب ولا تصل إلى بيتنا. فأين ستتركها؟ ـــ ومن قال لك إننا سنبقى هنا؟ قريبًا سنرحل إلى القرية. لقد كلفت أحد معارفي ليبحث لنا عن منزل هناك. تخيّلت نفسي جالسًا إلى جانب أخي داخل سيّارة وهي تجري بنا عبر الطريق السريع. ولكن عطلة أخي انتهت بسرعة. وعدنا أنا وأمّي إلى يومياتنا الكئيبة. أذهب صباحًا إلى زاوية الشيخ أحفظ القرآن مع شلّة من أطفال المساكن المجاورة. لم تعد أمّي بحاجة إلى صناعة المكانس لأنّ أخي ترك لنا مالًا كثيرًا. تقاربت زيارات أخي. أحيانًا يصل مع الغروب ويفارقنا عند الفجر، ودائمًا يفرحنا بمقتنياته التي أخرجتنا فعلًا من العوز الذي سوّد أيامنا طويلًا. ذات يوم، بعد منتصف النهار بقليل، دخل علينا كزوبعة رملية، وأمرنا بجمع أمتعتنا للرحيل. السيّارة تنتظرنا أسفل الدرب الصاعد. ارتبكت أمّي في بداية الأمر. أمطرته بأسئلة كثيرة. أين سنرحل؟ ولمن نترك كوخنا؟ وهل سنأخذ جَميعَ ممتلكاتنا؟ ولكن أمام إصرار أخي وحماسه وابتهاجه لممنا ما استطعنا حمله واقتفينا أثره باتجاه المجهول. كان منزلًا صغيرًا من غرفتين وفناء، جدرانه من الحجر والطوب وسقفه من الزنك، وسط مجموعة صغيرة من البيوت، تقع في أعلى زقاق الطاحونة. بمجرّد أن مررنا بقربها، تمنّيت أن لا يكون البيت بعيدًا كي أتخلّص من سلك تلك المسافة الطويلة وكيس القمح على ظهري. منزلنا الجديد به كهرباء أدخَلت الدفء على ليالينا، وطردت الخوف والانقباض الذي كان يخنقني كلّما خيّمت العتمة. كما تخلّصنا من دخان نار الحطب ومتاعب أمّي في تأجيج لهبها بالنفخ المتواصل على جمرها بحيث كان وجه المسكينة دائمًا ملطّخًا باسوداد الفحم. اشترى لنا أخي قارورة غاز البوتان وفُرنًا صغيرًا بثلاثة مواقد. في الأيام الأولى من حياتنا الجديدة، كانت أمّي تردّد دائمًا: ـــ كنّا مدفونين يا قدّور يا ابني. موتنا خير من حياتنا. الله يطوَّل عمر ابني الميلود الذي أخرجنا من تحت التراب إلى الضوء. عشنا في ذلك المنزل سعداء. التحقت بالمدرسة ضِمن أقسام المتأخّرين. أصبح عندي أصدقاء من أبناء الحيّ، نلعب معًا، نتشاجر أحيانًا، ولكن للخصومة وقتًا قصيرًا دائمًا، ونعود إلى ضجيجنا الصاخب في دروب القرية وأزقّتها. أما أمي، فانْدمَجت بسرعة. تمكّنت من ربط علاقات جيرة مع عدد من النساء، تتبادل معهن الزيارات، تجالسهن في أحاديث هامسة طويلة. أخيرًا أشرقت الشمس علينا وابتسمت لنا الدنيا. ولكن دوام الحال من المحال. يبدو أن النحس قد وضعنا تحت حراسته المشدّدة، فبمجرّد ابتعادنا قليلًا عن حقل رؤيته رمى مجّساته المرعبة ليرجعنا إلى حضنه. صَبيحة ذات يوم غائم، وفيما كنت خارجًا من الدار قاصدًا الطاحونة، وعلى كتفي كيس القمح، توقفت مركبة عسكرية غير بعيدة عن منزلنا. نزل عسكري ووقف يجوب المكان بنظرة فاحصة. خفق قلبي بشدّة. كلّما رأيتُ عَسكريًا حضرت هيئة أخي ببذلته الخضراء المهيبة. أيكون هو؟ من بعيد، العساكر متشابهون. وقفت أنظر بإمعان، مُستعدًّا لحطّ كيس القمح. الآن أصبحت كبيرًا ويمكنني رفع الكيس وإنزاله بسهولة والركض باتجاهه. بمجرّد أن رآني العسكري، تقدّم نحوي كمن عثر على شيء ثمين. ـــ يا ولَد... تعال... أنزلت الكيس واقتربت منه بخطوات متردّدة. لماذا أخاف؟ إنه عسكري مثل أخي. ربّما يكون أخي هو الذي أوصاه أن يَمرّ بمنزلنا لغرض ما؟ ولكن القادم كان من رجال الدرك الذين نصادفهم يومَ السوق. ـــ تسكن هنا؟ ـــ نعم. ـــ أين منزل الميلود أوصَدِّيق؟ قلت بصوت خشن، فخورًا بأن أكون أخا الميلود الذي جاءت سيّارة الجدارْميَة تبحث عن بيته، مشيرًا بأصبعي إلى الباب: ـــ هنا... أنا أخوه... ـــ اذهَب وقل لأمك بأننا نريد رؤيتها. ركضْت: ـــ يَمّا... يَمّا... جدارْميَة بَعثهم خويا لعندك. خرجت أمّي هلعة كما لو أنها توّقعت الصدمة. اقترب منها الدركي. وصلني صوته ولكنني لم أدرك فحوى كلامه. فجأة أطلقت أمّي صرخة مدوّية، وراحت تضرب صدرها بيديها. ركضت نحوَها مرعوبًا. جلسَت أرضا تبكي وتردّد: «وليدي مات... الميلود مات... علاش يا ربّي، علاش... الميلود... الميلود...». بقي الدركي واجمًا في مكانه. التحق به زميله الذي كان في الأندروفير، واقترب من أمّي: ـــ ما تبكيش يا امّا... هذا مكتوب ربّي... ولكن أمّي لم تعد تسمع إلا لنواحها. تناجي ابنها بصوت يُقطِّع القلب. ارتميت في حضنها وبدأت أبكي بدروي. جاءت جارتنا لالة خيرَة وأمسكت أمّي من الذراع، أوقفتها برفق وأدخلتها إلى فناء الدار وهي تحثّها على الصبر والرضا بالقدر. بعد مدّة قصيرة، امتلأ بيتنا بالمعزّيات من سكّان الحيّ اللائي تدفّقن على منزلنا بمجرد تلقّيهنّ الخبر المفجع. كما وقف بعض الرجال من الجيران أيضًا قرب الأندروفير يتساءلون بعيونهم عمّا حدث. اقترَب عمّي موح صاحب الدكان الوحيد في الحيّ من أحد الدركيَّين: ـــ كيف مات الميلود؟ تردّد الدركي قليلًا ثم قال باقتضاب: ـــ قيل لنا بأن دبّابة انقلبت به أثناء التدريب. انتظر البقال وبقية الرجال مزيدًا من التفاصيل، ولكن الدركي طأطأ رأسه وسكت. بعد قليل، أضاف: ـــ ستصل جثّة المرحوم اليوم. لقد اتّصلنا بمصالح البلدية لتحضير مراسم الدفن. قال البقّال: ـــ رحمه الله... كان شابًّا طيبًا ويحبّه الناس جميعًا. إنا لله وإنّا إليه راجعون. ارتفع صوت جماعي: آمين. كما تمتمت شفاه كثيرة ترتّل سورة الفاتحة. قبل منتصف النهار بقليل وصلت شاحنة عسكرية تحمل نعش أخي. تحدّث معهم الدركيان قليلًا قبل إنزال التابوت وإدخاله إلى فناء الدار. ارتمت أمّي على الصندوق الخشبي محاولة رفع غطائه، ولكنه كان مُسمّرًا. قال عسكري: ـــ مَمنوع فتح الصندوق. قالت أمّي وسط دموعها: ـــ أريد رؤية ابني... الميلود... ابني... ـــ أوامر الجيش، يا امّا. لا يمكن... اختنق صَوْت العسكري ولم يكمل. رأيت الدموع تملأ عينيه. خفض رأسه، وبقي واقفًا قرب التابوت. دُفن أخي، أو بالأحرى الصندوق الذي قيل لنا إن بداخله جثّة الميلود، في تلك الظهيرة. لم يفارق العساكر الصندوق لحظة إلا بعد ردمه تحت التراب في مقبرة القرية. بعد ذلك ركبوا شاحنتهم وذهبوا. تضامن سكّان الحيّ معنا. بقي بيتنا عامرًا لأكثر من أسبوع. جاء أفراد عائلة أمّي متأخّرين، إذ لم يصلهم الخبر إلّا بعد يومين، أي يوم السوق. يقطنون بعيدًا في أعالي الجبال ولا يأتون إلى القرية إلا مرّة في الأسبوع. أمّا عائلة أبي، فلا نعرف منها ولا فردًا واحدًا. على حسب ما قالت أمّي، فإنّ أبي كان يشتغل فحّامًا متنقلًا، ولم تعرف له عائلة منذ أن تزوّجته. قال لها بأنه ينحدر من منطقة سعيدة، وأنّ الركض خلف لقمة العيش هو الذي أوصله إلى هذه الجبال النائية. حينما تقدّم لخطبتها كانت أمّي مطلّقة منذ سنين ومعها ابنها الميلود، وتسكن عند عمّها. وقد مات ذلك العمّ قبل أن يقرّر زوجها، أي أبي، الهجرة ويستقرّ بنا في ذلك الكوخ الذي عشت فيه طفولتي الأولى. كانت وفاة أخي فاجعة صاعقة. انهارت أمّي كما تنهار شجرة البلّوط الضخمة حينما تُقطع من أسفل الجذع. لم تجفّ دموعها أبدًا. تتذكّر الميلود ليل نهار. كما أصبحت تشتكي دومًا من ألم في رأسها، تقاومه بشدّ جبهتها بمنديل مبلّل بالخلّ والليمون. لم تمرّ أيام قليلة إلّا وانتشر خبر مهول: الميلود قُتِل في معركة وقعت في ضواحي البليدة بين طائرات هواري بومدين ودبّابات بعض عقداء الجيش الذين أرادوا الإطاحة به، والثأر لبن بلّا الرئيس الذي أزاحه بومدين من الحكم وأدخله السجن. لأوّل مرّة أسمع اسم بومدين وبن بلاّ. سمعت هذا الكلام عند البقّال. كان الرجل يتكلّم وعندما رآني سكت. ولكنني كنت قد التقطت الخبر. سألت أمّي. ولكن أنّى للمسكينة أنْ تعرف. هي أيضًا سمعت مثلما سمعت. قالت: «وما الفائدة من كل هذا؟ الميلود مات... والميّت لا يعود... والذين قتلوه عقابهم عند الله... نحن ناس فقراء ولا حول لنا ولا قوة... ماذا بيدنا أن نفعل سوى التضرّع إلى الله وانتظار شفاعته؟...». أمّي سكتت واستسلمت، أما أنا فلا. كنت أريد أن أعرِف ماذا حدث لأخي. أيامها كنت أتابع الدروس الليلية وقد تفتّحت قريحتي على القراءة والكتابة. أوّل شيء فعلته، اشتريت جريدة الشعب لعلّي أجد خبرًا عن تلك الحرب التي قتلت أخي. لم أجد شيئًا من هذا. كانت صفحاتها مليئة بصور وأقوال هواري بومدين، رئيس مجلس الثورة. لا ذكر لبن بلّا ولا لأولئك الذين دبّروا انقلابًا عسكريًا ضدّه. بعد مدّة توقّفت عن شرائها. كنت أنزعج من رؤية صورة بومدين مبتسمًا، رافعًا ذراع الانتصار، فيما كان أخي على مترين تحت التراب. وكنت مقتنعًا أنه قاتل أخي. تجرّأت مرّة وسألت عمّي موح بعد أن فرغ حانوته من الزبائن: ـــ عمّي موح... أصحيح ما سمعته أنّ أخي قُتل في حرب بين بومدين وبن بلّا؟ اهتزت شاشية البقال وجحظت عيناه: ـــ من أين أتَيت بهذا الكلام يا شقي؟ ـــ سمعت رجلًا يحكي هنا قبل أيام أنّ طائرات بومدين قصفت دبّابات كانت زاحفة باتّجاه العاصمة ومات فيها عدد كبير من الجنود، بمن فيهم أخي. سكت البقّال مليًّا، التفت يمنة ويسرة، تنحنح ثمّ قال: ـــ اسْمَع جيدًا يا ابني... لا تصدّق ما يرويه هؤلاء الثرثارون الذين لا شغل لهم إلا نشر الشائعات... أنت صغير وهذه الأمور كبيرة عليك. أخوك مات وهو مكتوب ربّ العالمين. حينما يحين الأجل، تسقط الورقة. تعدّدت الأسباب والموت واحد. لهذا أنصحك بعدم النبش وطرح السؤال مرّة أخرى. اهتمّ بدراستك وعملك، واعتنِ بأمّك المسكينة. أنت سندها الوحيد الآن. سمعت أنها مريضة. الله يشفيها. هذا خير لك ولنا جميعًا. سكتّ وانصرفْت. عمّي موح رجل يَحظى باحترام الجميع. لا يتكلّم كثيرًا ولكنّ لأقواله وزن ذهب. تدحرجت بنا الأيام مُزمجرة عاصفة. انقطع مصدر رزقنا فجأة. عادت أمّي إلى صناعة المكانس. رفضَت أن أساعدها في قلع الدوم أو بيعه «هذا شغل نساء. أما أنتَ، فابحث لك عن شغل رجال». فكانت تبكّر لتعود إلى كوخنا القديم، تقلع الدوم بمفردها، وتتركه يجفّ قبل أن تعود إليه بعد أيام لتصنع المكانس في المكان عينه. أحيانًا ألتحق بها هناك لمؤانستها، فأحمل رزمة المكانس ونعود رويدًا رويدًا إلى منزلنا بالقرية. كانت الدروس المسائية تنطلق عند الساعة الخامسة بعد الزوال وإلى غاية الثامنة. فيبقى لي كامل اليوم شاغرًا. اشتغلت بعض الوقت في مزرعة للمجاهدين؛ عمل موسمي ينتهي بانتهاء جمع المحصول. الأجرة زهيدة ولكنني أعود دائمًا ببعض الخضر والفواكه. العمل شاقّ ووسخ ولا آفاق من ورائه. ولا أعرف كيف جاءتني فكرة التجنّد في الجيش. كشفت الأمر لأمّي. صرخت كما لو أنّ أفعى لدغتها. «أتريد أن تقتلني؟ ألا يكفينا ما وقع لأخيك؟ اللعنة على نقودهم... اللعنة على اليوم الذي دخل الميلود إلى الثكنة... الفقر أرحَم من الوضع الذي أنا فيه. الفقر لا يقتل أبدًا. نحن غلبة نقنَع بالقليل. ارمِ هذه الفكرة من رأسك». فعلًا لفظت الفكرة من رأسي نهائيًا. 7 أيقظتني دقات خفيفة على الباب. استرقت السَمْع مليًّا لرفع اللبس. أتكون دقات حقيقية أم بقايا أصداء حلم كئيب؟ لقد صارت لياليّ في الأيام الأخيرة أرقًا في بدايتها ونومًا مضطربًا متقطّعًا تتخلّله كوابيس مرعبة في أواخرها. تعالى دويّ الضربات. تتابعت على وتيرة واحدة، خفيفة نوعًا ما، كما لو أن صاحبها كان حذرًا لا يريد إيقاظ غير صاحب البيت. رميت الغطاء عن جسدي، ضغطت على زرّ المصباح وألقيت نظرة ناعسة على الساعة الحائطية. الثانية والربع صباحًا. غَمْغمْت بغضب: «ماذا حدث من جديد؟ أتكون جريمة أخرى قد وقعت؟ ألا يمكن لصاحب المصيبة الجديدة أنْ يَنتَظر إلى الصبح؟». عند الباب، شلّتني المفاجأة وأخرست لساني. برغم الظلمة السائدة عند المدخل، تعرّفت على يوسف عياشي، موكّلي السجين الذي فرّ يوم الهجوم المسلّح على شاحنة الشرطة. وجمت ولم أبادر لا بالكلام ولا بالفعل. اكتَفَى الهارب بابتسامة مغتصبة قبل أن يقول متلعثما: ـــ معذرة سي عبد القادر... الظروف... إنني بحاجة إليك... ـــ أين أنتَ يا شقي؟ ماذا فعلت؟ لقد أوقعت نفسَك في مصيبة كبيرة. ـــ الظروف سي عبد القادر... الظروف... حينما سأحكي لك، ربّما ستجد لي أعذارًا وتساعدني. ـــ ادخل واحكِ لي قصّتك. ـــ لا، ليس هنا. البس ثيابك وتفضّل معنا. ـــ معكم؟ من أنتم؟ أنت لست وحدك؟ ـــ لا تخف سي عبد القادر... هم يريدون الحديث معك... أنت محامٍ، والقضية أعقد ممّا كنّا نتصوّر... ـــ آتي مَعَك إلى أين؟ ـــ مكان آمن لا يَبعد من هنا كثيرًا. أطرقت برأسي لثوانٍ أفكر في هذا الاقتراح الغريب. أهي طريقة لاستدراجي وقتلي؟ لا... أنا محامٍ، وليست لي عداوة معهم. هم يحترمون المُحامين لأنهم دافعوا عن شيوخهم يوم زجّت بهم السلطة العسكرية في السجن وكنت واحدًا منهم. أكيد أنهم بحاجة إلى مُحامٍ يدافع عنهم. ولكن ما عسى المحامي يفعله بعد اغتيال ستّة أعوان شرطة؟ إنّ في المسألة سرًّا زاد من تأجيج فضولي. فقلت: ـــ ادخل يوسف... دقائق وأنا عندك. ـــ يعطيك الصحّة، سي عبد القادر. أنتظرك هنا. كان رجلان مُسلّحان ومُلّثمان ينتظران في الزقاق. بمجرّد أن وطئت أقدامنا القارعة المُحفّرَة انطلقا مسرعَين كعدّاءَين مُصرَّين على الفوز بمسابقة. كان أحدهما يدير رأسه من حين لآخر ليتأكّد من أننا نقتفي آثارهما. ظلمة حالكة تخيِّم على الحيّ. اتّصلت مرارًا برئيس البلدية السابق كي تقوم مصالحه بتنصيب المصابيح العمومية. قال بأنه قدّم مشروعًا مفصّلًا إلى مصالح الولاية يخصّ تعبيد أزقّة الحيّ وتبليط الأرصفة والإنارة العمومية. ولكن الولاية لم تحرّك ساكنًا. الولاية... ما هي إلا قلعة متعفنة تُحصّن أسوارها بتكديس الملّفات، وتسطير القوانين المُعجزة، وإقامة أسوار من أعوان الأمن والبوّابين عند كل طابق. ويسمّون هذه الإجراءات البيروقراطية هيبة الدولة. إنه إرهاب الدولة الضعيفة التي عجزت عن إخراج البلاد من التخلّف والفوضى، برغم الثروات المكدّسة في خزائن البنوك العمومية والحسابات البنكية الشخصية. حفظ رئيس البلدية الأسطوانة، وأضحى يكرّرها على مسمعي كلما ذكّرته بوعوده. ولكن منذ اغتيال بوضياف ـــ هذا المناضل الرومانسي الساذج الذي أخرجوه كالسحرة المردة من عرين شيخوخته ليعيد قطارهم إلى السكّة الآمنة ـــ ونشوب هذه الحرب التي عجزنا عن تسميتها والتي سنعلّق على أجنحتها الدامية لفائف جميع إخفاقاتنا وأحقادنا ونزواتنا المكبوتة ـــ على كل، نحن متعوّدون على رمي اللوم على غيرنا، أنا الملك وغيري الشيطان، حتى وإن كان أخي وابن عشيرتي، ألقاه صباح مساء وسط حشود السوق أو اصطفّ إلى جانبه خلف الإمام ـــ، نصبوا شخصًا جديدًا على رأس البلدية، يقال بأنه دركي متقاعد، فتوقّفت جميع المشاريع. شَخْصيًا لم أعد أهتمّ بالموضوع. تعوّدنا على الأوحال والبرك المائية والظلمة. أصبح شغلنا الشاغل الحفاظ على حياتنا. أنْ نَبقى على قيد الحياة، رأسمال ثمين أنسانا رفاهية الحياة الحديثة التي وفّرتها التكنولوجيا والاكتشافات العلمية. تقهقر رهيب يعيدنا إلى نمط العيش الاستعماري. فصِرنا نحمد الله بكرة وأصيلًا على أنّ قلوبنا لا زالت تخفق، وأننا كل مساء نعود إلى ديارنا سالمين. ويبدو أنّ الوضع سَيزيد سوءًا إذ أضحَت المصائب تلاحقنا إلى غاية منازلنا. يُقتَل ابن صديقي عند باب الدار، وأُخرَج أنا في هزيع الليل لأقاد إلى مكان مجهول. الله يستَر ويسلكها على خير. مشيت عشرات الأمتار وأنا لا أبصر شيئًا أمامي. غرقت قدماي في برك مياه وأوحال كادت تسقطني أرضًا. توقّف المطر ولكن البرد لا يزال لاسعًا. أنا لا أخاف من الظلمة ولا تثير في نفسي الريب، بل تلفّني العتمة بسكينة واقية لأنها تحميني من العيون العدائية. بعد ذلك تأقلم بصري مع الظلام وأصبحت أمشي بأريحية أشدّ، وأتجنّب العقبات المتناثرة في الطريق. التصق يوسف عياشي إلى جانبي كما لو أنه يخشى هروبي. حذَّرني مرارًا من الوقوع في برك المياه. يمتدّ الحيّ السكني عبر منبسط شاسع قبل أن يميل نحو الهبوط. المنازل غارقة في صمت مهيب. يبدو أنّ معظمها غير مسكونة لأنّ بناءها لم يكتمل بعد. عند أسفل الجدران تتناثر أكوام من الرمل والحصى المُستَخدمَين لتحضير الإسمنت المسلّح. تَوقَّف الملّثمان عند مدخل بناية في طور البناء، تتشكّل من طابقين. أخرج أحدهما مصباحًا كهربائيًا صغيرًا وأضاء لنا الطريق. في الطابق الأول، على اليمين، ظهر ضوء خافت في نهاية الرواق. صالة كبيرة تضيئها شمعتان مثبتتان على الأرضية الإسمنتية في ركنين متقابلين، بداخلها أربعة رجال جالسين على زرابيّ يتجاذبون أطراف الحديث. تناهت إليّ أصواتهم وأنا أصعد السلّم. كانوا ينتظروننا. وقفوا عند وصولنا وسلّموا مرحبين. «أهلًا وسهلًا بالأستاذ...» تكررت العبارة أكثر من مرّة. أشار لي أحدهم إلى مكان للجلوس. تردّدت بسبب حذائي المبلّل الموحل. نزعته ونزعت الجورب المبلّل وارتميت على الفراش الإسفنجي. أتعبني المشي. يبدو أنني كبرت وتمدّنت ولم أعد أتحمّل المشي الطويل، مثل سابق عهدي. لحق بي يوسف واتّخذ مكانه إلى جانبي. جلست وانتظرت. خفضت رأسي بضع لحظات لأخفي اضطرابي. هم الداعون وإليهم يعود فتح الجلسة. رفعت عينيّ وسرحت بنظري على الوجوه الملتحية، أتساءل في قرارة نفسي: من هم الفارّون من السجن ومن هم المعتدون على الشرطة؟ ماذا حدث للطبيب بالضبط؟ كيف تنسجم في هؤلاء شراسة القتل مع تلك الابتسامات والقهقهات التي استقبلوني بها؟ رحماء بينهم وقساة على أعدائهم. من هم أعداؤهم تدقيقًا؟ تنحنح رجل أكلت لحيته كامل وجهه مُكسّرًا الصمت السائد. حوقل وبسمل وكرّر عبارة الترحيب بي. ـــ يا أستاذ، نحن نقدّرك لأنّك محامي شيوخنا المبجّلين. نقدّر شجاعتك في الدفاع عنهم، رغم الظروف الصعبة وجبروت الطغاة الذين يتَحكَّمون برقاب هذا الشعب المؤمن المسكين المغلوب على أمره. ربّما تساءلت لماذا دعوناك إلى هذا المكان؟ فلأنه آمن ويمكننا الحديث بكل راحة واطمئنان. دعوناك لنعرّفك على الحقيقة، الحقيقة كما يحبّها الله ورسوله الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، وليس كما يزيّفها ويلفقها الطغاة من أهل الشرطة والجيش، الذين ستحرقهم نار جهنّم والعياذ بالله. نحن دعاة خير ولا نحبّ العنف. ولكن السلطة الطاغية هي التي أجبرتنا على استخدامه ورفع السلاح في وجهها. وهذا دفاع شرعي عن النفس. والبادئ أظلم. أنا قضيت أربعة عشر شهرًا في معتقل بالصحراء. إقامة قاسية لا أراك الله ولا أنزلها على كافر، فما بالك بمؤمن. منطقة لا يزال بها أثر القنبلة النووية التي فجّرتها فرنسا الاستعمارية، وليس مستبعدًا أن نكون قد تعرّضنا لإشعاعاتها الضارّة التي تسبّبت بإصابة السكّان بأمراض سرطانية خطيرة. سكت لحظة، وضع راحة يده على لحيته وأنزلها عبر ذقنه إلى أن لم يبق بين الأصابع إلا بعض الشعيرات. أسندت ظهري إلى الجدار وشبّكت ساقيّ كما كنت أفعل وأنا طفل أتعلم القرآن في الزاوية، بحثًا عن الجلسة المريحة ومستعدًّا لهضم هذه الحقيقة التي سيمطرها عليّ كبيرهم. أضاف: ـــ ومَع ذلك لست هنا لأحكي عن نفسي لأنني سلّمتها قربانًا لبارئها الجبّار، ولم تعد متع الدنيا تثير في نفسي أدنى رغبة. كلُّ شغلي هو كيف أعيد الاعتبار إلى هذه الأمّة الجريحة التي يتحكّم في رقابها طغاة زنادقة لا مكان لهم إلا في جهنّم والعياذ بالله. جئنا بك لنحدّثك عن صديقنا يوسف، موّكلك، أعانه الله، وأخرجه من هذه المصيبة. هو وحيد أمّه المريضة، وأبوه رحمه الله كان من جماعة الشهيد بويعلي، وقضى سنوات قاسية في السجن قبل أن يموت قهرًا وبؤسًا وحسرة على هذه الأمّة الضالة. حينما كتب يوسف قائلًا بأنّ رجال الشرطة هم الذين اختطفوا المغفور له الشهيد عبد الكريم بوعبد الله وقتلوه ورموا جثّته في ساقية قرب وادي الصفصافة، صدق ولم يكذب. صدق لأننا أعطيناه الخبر اليقين. ولعلمك سيّدي الأستاذ أن عبد الكريم لم يكن من جنودنا. كان تاجرًا يشتغل وفق شرع الله. أخوه الذي أمامك، الأخ عبد حميد هو حقًّا من رجالنا، أمّا أخوه فلا. سأتركه يحكي لك القصّة من أوّلها لتعرف حقيقة هذه الطغمة التي تستعبد المؤمنين الطيّبين وتزوّر الحقائق وتلفّق التهم الباطلة للأبرياء، وتحرّض الناس على الدعاة الأتقياء مثلنا. تفضّل الأخ عبد الحميد، تكلّم، احكِ للأستاذ كل ما تعرفه من تفاصيل. تحرّك الرجل الذي على يمينه وسوّى جلسته استعدادًا للكلام. كان شابًّا نحيفًا، بلحية لا تتجاوز أيامًا قليلة. رأسه حليق، عيناه غائرتان، أنفه طويل ومسنّن كأنف طائر كاسر. يرتدي سروالًا عسكريًا وسترة جلدية ويمسك فوق ركبتيه بندقية كلاشنيكوف. تساءلت إنّ كان السلاح من غنائم الاعتداء على الشاحنة الناقلة للمساجين. التزَمْت الصمت. ما جدوى السؤال؟ ـــ شوف يا أستاذ، أقول لك الحقيقة، كل الحقيقة، من أوّلها إلى آخرها. ما نشره يوسف في الجريدة صَحيح مائة بالمائة. الشرطة هي التي قتلت أخي كريم رحمه الله. ربّما ستقول لي هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. عندنا البرهان وعندنا الشهود. وأنا واحد منهم. ومعي من أبناء الحيّ الكثير. أوقفته قائلًا: ـــ هل أنت وهؤلاء الذين تتَحدّث عنهم مستعدّون للإدلاء بشهادتكم أمام القاضي يوم المحاكمة؟ تدخّل كبيرهم قائلًا، وابتسامة استنكار ترتسم على شفتيه: ـــ صلِّ على النبي يا أستاذ. تمتمت عبارة «عليه الصلاة والسلام» بصوت لا يكاد يُسمَع. أضاف بعد صمت: ـــ هل تثق في عدالة هؤلاء الطغاة؟ القاضي المسكين ما هو إلّا دمية بين أيديهم. سيحكم بما يُؤمَر. ـــ مهما قيل عن ظلم العدالة في بلادنا، ولكن إن توفّرت شروط الدفاع الجيّد والأدلة الدامغة والشهود، فإن القاضي سيحكم بالقانون وليس بالأوامر. قال عبد الحميد متوتّرًا نوعًا ما: ـــ «يا أستاذ، دعني أحكِ لك ما وقع بالضبط بين أخي والشرطي فاتح بن سلامة وهو ابن حيّنا ورفيق الصبا. كان أخي يشتغل جواهريًّا، يبيع ويصلّح حليّ الذهب والفضّة. فبعد أن اشتغل سنوات عند صائغ في ضواحي ساحة الشهداء بالعاصمة، فضّل أن يستقلّ بنفسه، فاكترى محلًّا في سوق المكسيك وفتح الله عليه بحيث ازدهرت تجارته بفضل الصيانة، خاصّة أنه بارع فيها منذ كان صغيرًا. أصْبَح مُعيل عائلتنا وظهرت نعمة الله علينا، لولا ذلك الجشع الحقير الذي أدخل الأفاعي إلى جحرنا الآمن. كنت بداخل المحلّ عندما دخل علينا فاتح برفقة رجل قال إنه صديق عزيز من منطقة القبائل يشتغل معه في سلك الشرطة. كان النهار يوشك على الغروب ونحن على أهبة الغلق. فيما كان فاتح يتبادل الأخبار مَع أخي كريم، لاحظت أنّ ذلك الصديق قام بغلق الباب الذي كان منفتحًا قليلًا. وبدا على ملامحه امتقاع قلق وريبة. قال فاتح: «هذا صديق عزيز، توفّيت أمّه رحمها الله وتركت مجوهرات قديمة، فأراد بيعها لتنتفع العائلة بنقودها. فقُلت إنّ هذه التجارة لا يُتقنها إلّا حبيبي كريم، الذي أكلنا الملح معًا منذ الطفولة. نحن لا نعرف شيئًا عن قيمة الذهب ووزنه. خِفْنا إنْ نحن اتّصلنا بصائغ لا نعرفه، يشتريها منا بنصف ثمنها في السوق. لهذا قصدناك. أنت رجل فحل ولا تشتغل في الحرام». بعد ذلك أسرع الرجل إلى إخراج منديل من جيب سترته الجلدية، وحطّه فوق المصرف الخشبي. عاين أخي السلعة المعروضة أمامه: أساور، سلاسل، خواتم، أقراط، قلادة من النوع النادر، صناعة زمان. بعض القطع لامعة، أما بعضها الآخر فيبدو عليها أثر الاستعمال. كان بعضها مكسّرًا أو مُعوجًّا. قال أخي: «هذه كمّية كبيرة وأنا مثلما تعرف يا فاتح أشتغل في الصيانة أكثر من البيع والشراء». تدخّل الصديق قائلًا: «أنا لا أطلب منك أن تدفع لي مقابلها فورًا. خذ وقتك، بعها وبعد ذلك نتفاهم. أنت صاحب ثقة. الرجال بالرجال. أوصلني إليك صديقي فاتح، وأنت تعرفه جيدًا. لمَ التسرُّع إذًا وأنا لا أزور أهلي إلا مرّة في الشهر إن سمحت الظروف». سكت أخي برهة من الزمان، مطّ شفتيه علامة التفكير مثلما يفعل دائمًا، ثمّ قال: «اتفقنا. أعطني قليلًا من الوقت. وزرني من حين لآخر. كلما بعت قطعًا منها أعطيتك مقابلها». هكذا كان الاتّفاق في البداية. ولمْ نشكّ لحظة بأنّ الذهب المودع عند أخي ليس إرثًا عائليًا وإنما غنيمة السرقة والسطو على المنازل». ذهلت من هول الخبر. وكدْت أطلب من عبد الحميد أن يعيد عليّ الجملة الأخيرة. ولكنني لم أحرّك ساكنًا. هَدِّئ أعصابك يا قدّور... الليل طويل ومفاجآته قاصمة. تركتُه يُكمِل قصّته: ـــ «بعد أقلّ من أسبوع، وهذه المرّة لم أكن حاضرًا، أخي هو الذي أخبرني، عاد الشرطيان برفقة رجل ثالث، ومعه منديل غاص بالمجوهرات الذهبية والفضّية. قال فاتح بأن الرجل الثالث يريد بيع مجوهرات عمّته الأرملة التي تنوي زيارة البقاع المقدّسة. حينها بدأ الشكّ يخامر أخي. في المساء روى لي كريم إلحاح فاتح كي يحتفظ أخي بالمجوهرات برغم أنه لم يتمكّن من بيع الدفعة الأولى. طبعًا كانت المبرّرات أن مراقد ثكنة الشرطة حيث يبيتون غير آمنة، وقد يتعرّض صديقه للسرقة، والمجوهرات أمانة في رقبته وهي ملك لعجوز في السبعين، أرادت أن تطهّر حياتها بحجّة تجعلها تفارق هذه الحياة الدنيا وهي مطمئنة على لقاء ربّها طاهرة من أي ذنب. ومع ذلك صدّق أخي تلك الحكاية وأبقى المجوهرات عنده. وبدأ فاتح يتردّد باستمرار على المحلّ. يثرثر لحظة ويسأل عن مصير الأمانة المودعة عند أخي. كريم رجل نزيه ولا يكذب. إنه أخي وأنا أعرفه جيدًا. هو كبير العائلة ومثالها في الأخلاق والسلوك القويم. بعد أيام تمكّن من تسويق بعض القطع وطلب من فاتح أن يخبر صاحبها كي يأتي لتسلّمها. ولكن فاتح ألحّ على إيصال المبلغ بنفسه، بحجّة أن الخروج من الثكنة أصبح صعبًا للغاية بسبب ما يحدث من اعتداءات ضدّ رجال الشرطة. قدّم أخي المبلغ على مضض دون أن يجرؤ على إمضائه وصل استلام. تكرّرت العملية مرّات عديدة، رغم أن المبالغ لم تكن كبيرة. ذات مرّة جاءه الرجلان دون مرافقة فاتح، وطلبا منه مبلغ المبيعات. قال أخي إنه أعطاها لزميلهما. لم يصدّقه الرجل القبائلي. طلب منه مبلغًا ماليًّا، سُلفة يقتطعها من ثمن المبيعات المستقبلية. قال بأنه في أمسّ الحاجة إلى المال. تذرّع بسفر مستعجل إلى قريته بمنطقة القبائل وهو مفلس لا يملك دينارًا، والأجرة الشهرية لم تُصَب بعد. ما كان على أخي إلّا أن استجاب مكرهًا. فأعطى له تقريبًا كل ما كان عنده من أوراق نقدية. في ذلك المساء، جاء إلى البيت غاضبًا، شاتمًا، ناقمًا على فاتح. خرجنا وبحثنا عنه في منزله العائلي. قال لنا أخوه إنه غائب منذ أكثر من أسبوع. تعقّدت المسألة وأضحى أخي في ورطة حقيقية. في تلك الأيام، انتشر خبر مفاده أن منازل كثيرة تعرّضت للسطو ليلًا، وأن اللصوص الملثّمون يستخدمون المسدّسات لتهديد أصحابها وإجبارهم على إخراج ما عندهم من المال والمجوهرات. المال والمجوهرات فقط... ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، وسهلت عملية إخفائه. عبّر لي أخي عن توجُّسه من إثارة الشكوك حول مصدر تلك الحليّ حينما يعرضها للبيع. لسان الناس كلهيب النار، لا فرز ولا تمييز. تسري الاتّهامات والقذف والاغتياب على ألسنتهم مثلما يسري شهد العسل في الحلوق. خفّفت من مخاوفه بالقول إنّ المجوهرات التي بحوزته أصحابها معروفون، ومن رجال الشرطة. فلا داعي للقلق. كنت مخطئًا على طول الخطّ. بعد أيام قليلة، وبالصدفة، حوالي العاشرة صباحًا، وأنا مارّ قرب منزل عائلة فاتح رأيته خارجًا، متسرّعًا، متلّصصًا، كما لو أنه يتهرَّب من لقاء أحد ما. حينما رآني، تلعثم، أدخل رأسه بين كتفيه، وابتسم ابتسامة متثعلبة، وأسرع إلى عناقي والتعبير عن غبطة سعادته بلقائي. ذكّرته بسلوك صديقيه تجاه أخي، ولماذا لم يعطهما حقّهما. تَصَنّع الدهشة، وأقسم برأس أمّه المريضة أنه قد سلّم الأمانة لأصحابها، وأنه مستغرب لما حدث. ولكنه سيتّصل بهما، وينهي المشكل بسرعة. وبعد ذلك، اعتذر باستعجال الالتحاق بالثكنة، وافترقنا. كان الكذب والنفاق يقطران من أنفه. ومع ذلك صدّقته، وقلت مع نفسي إنّ الخديعة لن تأتينا من عنده، هو صديق طفولتنا وابن حيّنا. ربّما يكون قد وقع سوء تفاهم بينه وبين الغريبَين. فعلًا في ذلك المساء، زار فاتح محلّ أخي، ليستعطفه ويعتذر عمّا بدر من صديقه الذي له مشاكل عائلية أثَّرت على سلوكه. في ذلك اليوم، أصرّ أخي على إرجاع المجوهرات إلى أصحابها. ولكن فاتح أقنَع أخي بالاحتفاظ بها، بل أغراه بالتلاعب بالأسعار. قال له بصريح العبارة إنه يملك كامل الحرّية في اقتطاع ما يريده من ثمن بيع المجوهرات. الرجلان لا يعرفان ثمن الذهب، فلا مانع من رفع نسبة أرباحه. ثمّ أضاف أنه لا يعرف الرجلين إلّا كزميلين في العمل، ومن ثمّة فهو يجهل إن كانت حكايتهما في اكتساب الذهب صحيحة. ومع ذلك، فإنها فرصة لكريم كي يحقّق أرباحًا إضافية. البيع والشراء تجارة، والتجارة أساسها الربح. المُهمّ أن فاتح الخبيث تصرّف كالشيطان مع أخي ليقنعه بفائدة استمرار تعامله معهم. بل وَعدَه بمجوهرات أخرى. الحَقّ أن أخي طمع ولم يعلم أنه وقع في حلبة ذئاب مفترسة. أصبح، هو القانع بالقليل، يخطّط لنسج شبكة عنكبوتية رهيبة. فاتّصل بمعارفه السابقين من بائعي الذهب والفضّة، وبدأ يسوّق سلعته التي تراكمت في صندوق خزانته. وكان فاتح يأتي باستمرار إلى المحلّ ويقبض المبالغ المالية، على أساس تسليمها لأصحابها. الأمانة دين في رقبة المسلم. وقد خان هذا الماكر الأمانة. كنّا، أخي وأنا، نائمَين على آذاننا، ولم نكتشف الحقيقة إلّا بعد فوات الأوان، حينما جاء القبائلي يطلب حقّه من المال. جاء غاضبًا مُخاصمًا وأظهر عدوانيته منذ أن عتّب الباب. قال لأخي: «أنت تقول إنك سلّمت المال لذلك الخبيث، وهو يقسم أنه لم يتسلّم دينارًا واحدًا. من أصدّق؟ هذه مؤامرة مدبّرة ضدّي، نسجتما خيوطها معًا. ولكن من يلعب معي بالنار يحترق». أخرَج مسدّسه وهدّد أخي بالقتل إنّ لم يسلّمه مبلغ كامل المجوهرات في ظرف أسبوع. أخرج أخي دفتر الحسابات وكاشف القبائلي بالمبلغ الذي سلّمه لفاتح ليوصله إليه. أقسَم الرجل أن فاتح لم يعطِه شيئًا. ومَع ذلك، سلّم أخي لذاك الشرطي المبتزّ ما كان لديه من مال كي يتّقي شرّه مثلما قال لي. بَعْد يومين، عاد برفقة الرجل الثالث الذي أمطر أخي بالشتائم والتهديد بالقتل. واشترط الرجلان أخذ حقّهما عن كامل المجوهرات. دافع أخي عن نفسه، أخرج ما تبقّى من مجوهرات من صندوق خزانته وطلب منهما استرجاعها. طبعًا رفض الغريبان رفضًا قاطعًا. أكثر من هذا، هدّد القبائلي أخي بالزجّ به في السجن بتهمة سرقة المجوهرات. قال بأنّ كثيرًا من المواطنين جاؤوا إلى محافظة الشرطة يشتكون من تعرّض منازلهم إلى السرقة. لقد بدأت التحرّيات لمعرفة هوية اللصوص. تكفي إشارة بسيطة منه كي تداهم قوة الأمن محلّه والقيام بتفتيشه. حينذاك، كيف يبرّر امتلاكه لتلك الكمية من الذهب المستعمل؟ في ذلك المساء، جاء كريم إلى البيت مرتعدًا من الخوف. قصّ عليّ يومه بالتفصيل. أمامه مهلة أسبوع واحد فقط لدفع كامل مستحقّات الرجلين. ما العمل؟ فكّرنا جدّيًّا في غلق المحلّ وانتظار الاتّصال بفاتح، ربّما أثمرت وساطته بحل يُرضي الطرفَين. اقتنعنا في تلك الليلة أن الذهب مسروق، وأن الشرطيَّين ومعهما فاتح هم اللصوص الفعليون. اقترحْت على كريم أن يذهب إلى محافظ الشرطة ويحكي له ما وقع. ولكن بعد الأخذ والردّ، اقتنعنا بعدم جدوى مثل هذا المسعى. ثلاثة شرطيين سيتحالفون ضدّه. أقوالهم ضدّ أقوالنا. زيادةً على أنّ المجوهرات التي بحوزة صندوق أخي دليل مادّي ثابت ضدّه. مصيبة حقيرة وَقَعْنا فيها ولا نعرف كيف نفكّ خيوطها. اتّخَذ كريم قرار تسويق المجوهرات عند معارفه من الصائغين أو عند بائعي الذهب غير الرسميين المنتشرين في بعض أزقّة العاصمة. ثلاثة أيام كاملة وهو يجوب تلك الأسواق السرّية. العرض كثير والطلب قليل. الذهب لا يباع بسرعة، خاصّة المستعمل منه وغير المطبوع، وغياب فواتير مصدر شرائه. كما بَحث عن ورشات صائغين ليبيع لهم المجوهرات على شكل ذهب خام، يقوم أصحابها بتذويبه وإعادة صناعته من جديد. ولكنه لم يجد مشتريًا برغم السعر الزهيد. ثمّ إنّ كثرة التفتيش في الحواجز الأمنية التي تكاثرت بسرعة مذهلة بدأت تشكّل خطرًا فعليًا على حامل مجوهرات بلا فواتير. اعترف لي أنه نجا من بعضها بأعجوبة. يصعد أعوان الأمن إلى داخل الحافلة ويقومون بتفتيش حقائب المسافرين. يُنزلون المشبوهين ويذهب بهم الشكّ إلى حدّ الكشف عمّا في الجيوب. لحسن حظ كريم أنه كان وسيمًا يعتني بهندامه، ومتعوّدًا على حَلْق لحيته كل صباح. عادات اكتسبها من عمله عند صائغ عصامي علّمه حسن معاملة الزبائن وحسن استقبالهم، ومعظمهم من النساء، ممّا كان يُبعد عنه الشبهة عند كل تفتيش. تواصلت زيارة الشرطيين إلى محلّه، وفي كل مرّة يحتدّ النقاش، وتكبر الاتّهامات والتهديدات. بقي فاتح غائبًا كما لو أنّ الأرضَ ابْتعَلتْه. كنّا نتردّد على منزل عائلته تقريبًا يوميًا. كشف لنا أحد جيرانه أنه نُقل إلى منطقة بومَرداس، ولم يعُد يأتي لزيارة عائلته إلا خلسة، لبضع سويعات في النهار أو في الليل. بلغ السيل الزُبى، فنفد صبر كريم. وفي وسط احتدام النقاش واجههما بالحقيقة المرّة. قال لهم: أنتم اللصوص الحقيقيون الذين كنتم تسطون على منازل الناس ليلًا وتسرقون المجوهرات. ليس عندي ما أعطيه لكم سوى إرجاع السلعة المسروقة. ها هي... أخرجها ووضعها فوق المصرف الخشبي. خذوها وافعلوا بها ما شئتم. أما مال القطع التي تمكّنت من بيعها، فإنه عند زميلكم فاتح. هو الوسيط بيننا، تفاهموا معه. ضميري مرتاح. سلّمت له المبالغ كاملة. الله يشهد أنني لم آخذ إلّا حقّي الشرعي الناتج عن عملية البيع، لا أكثر ولا أقلّ. ولكن مع من تتكلّم؟ اتّهموا أخي بالتواطؤ مع ابن حيّه فاتح. قال أخي بأنّ فاتح غاب كلّية عن الحيّ، وهو موجود في الثكنة معهم. حينها أكدوا له نقله إلى منطقة أخرى، وليس لهم من وسيلة كي يتّصلوا به. قال أخي: ومن أين لي أن آتيكم به؟ ردّ عليه أحد الرجلين: دبِّر رأسك، نحن نريد مالنا وكفى. قال أخي: خذوا ذهبكم واتركوني في حالي، وإلا أقسم بالله العلي العظيم أنني سأشي بكم إلى وكيل الجمهورية. قهقه الشرطي القبائلي واعترف قائلًا: «إنك عرفت الحقيقة وأنت شريك معنا بتسويق الذهب المسروق. إنْ تكلّمت سنقوم بتصفيتك قبل أن يبدأ التحقيق معنا. لا تنس أننا رجال شرطة، وتهمتنا بالسرقة عصية الهضم، قد لا يصدّقها أحد. وأنت لا تملك دليلًا واحدًا ضدّنا. نحن لا نعرفك ولا علاقة لنا بك. أمامك خياران لا ثالث لهما: تعطينا حقّنا من المال أو نحجز لك تذكرة في أوّل رحلة إلى جهنّم. لم نعرّض حياتنا للخطر من أجل هذه العظام التي لا يقبل بها كلب جائع. نعود إليك مساءَ الغد، وهو آخر إنذار. بعد ذلك، الشامي شامي، والبغدادي بغدادي». «لم يفتح كريم المحلّ نهار الغد. سافر إلى العاصمة لعلّه يجد حلًاّ عند معارفه من الصائغين. بلا جدوى. عاد في المساء منهكًا يائسًا. يعرف بأنّ تهديد اللصوص ليس كلامًا يتبخّر في الهواء. خاصّة أنه عرف حقيقتهما وهدّدهما بالتبليغ عنهما. خرجنا في جنح الظلام وقصدنا منزل فاتح. طبعًا لم نجده. لمْ يَعد يزور عائلته إلا نادرًا. عملها النذل واختفى عن الأنظار. في تلك الفترة، تشكّلت السريّة الأولى من الجيش الإسلامي للإنقاذ في حيّ البراريك. وكنت أحد أعضائها. كنا نخطّط لأوّل عملية عسكرية نقوم بها ردًّا على غطرسة الطغمة العسكرية وزبانيتها الذين زجّوا بإخواننا في سجون الصحراء. بَدأت تصل دفعات أوائل المسرّحين، فيحكون لنا عن الظروف القاسية والإهانات البشعة التي تعرّضوا لها في تلك المخيّمات اللعينة. العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم. جاءت الفرصة مواتية. ففكرت فورًا في الثأر لأخي كريم. يجب اغتيال الشرطيين. يكون الثواب مضاعفًا إن شاء الله. نخلِّص الأمّة من طاغيَين ومن لصّيَن. أمّا مصير فاتح، فسيكون لنا معه حساب مختلف. كاشفت إخواني في السريّة فاتفقنا على نصب كمين للشرطيين في مدخل الزقاق الذي يتواجد فيه محلّ كريم. أقنعت أخي بفتح محلّه وإعطاء الرجلين موعدًا عند الغروب. أنا أعرف أحدهما، ويسهل عليّ التعرّف عليه. انتظرت مجيئهما وأنا أروح وأجيء وسط الحشد. سوق المكسيك مثلما تعرف غاصّ بالمتسوّقين في كل وقت. كان معي مسدّس أوتوماتيكي أخفيته في جيب سترتي. أدّيت الخدمة العسكرية وأعرف استخدام السلاح. من سوء حظّنا أن الذي حضر هو ذاك القبائلي فقط. تعرفت عليه من النظرة الأولى. جاء يمشي الهوينا، واثقًا من خلوّ المكان من أيّ خطر قد يداهمه. عند مدخل الزقاق مباشرة، انشغل بالنظر إلى الملابس المعروضة، في واجهات المحلّات وعلى الرصيف. لقد اطمأنّ على أخذ مبلغ من المال من عند أخي، وها هو ينتقي سلفًا الأشياء التي سيشتريها. اقتفيت أثره، توقّف عند ركام أحذية رياضية معروضة فوق حصير رثّ، انحنى، تناول زوجًا أبيض اللون، ماركة أديداس، وراح يقلّبه ويلمسه بيديه، قبل أن يسأل البائع عن ثمنه. انتهزت فرصة انشغاله وأخرجت المسدّس وأطلقت عليه رصاصتين في الظهر، من جهة القلب، مثلما أوصاني أخونا عبد الجبّار. (صمت قليلًا وألقى نظرة إلى كبيرهم الذي افتتح جلستنا، فعرفت أنه يقصده). أحدَث دويّ الطلقتين هلعًا كبيرًا بين الحاضرين. بمجرّد مرور لحظة الذهول، وإدراك ما وقع، راح الناس يركضون في جميع الاتجاهات. طفق الباعة المتجوِّلون يجمعون سلعهم كيفما اتفق ويَبتَعدون عن السوق بأسرع ما يمكن. أنا أيضًا، لم أتأخّر. تأكّدت فعلًا من موت الشرطي، أخذت مسدّسه ومحمل الذخيرة، وأسرَعت الخطى باتجاه نقطة الانسحاب مثلما خطّطناها في اجتماع السريّة. في تلك الليلة، لم أبت في الدار. ولكن في الغد، أخبرنا أحد أفراد تنظيمنا، أولئك المكلّفون بالحراسة وجمع الأخبار ومراقبة التحركات، أن محلّ أخي كان مغلقًا طوال النهار. في الليل، تسلّلت إلى منزلنا، بهدف نصح كريم بالعودة إلى العمل لإبعاد الشبهة. الغلق قد يثير الشكوك. ولكن كريم أفهمني بأنني ارتكبت خطأ جسيمًا حينما قتلت واحدًا فقط من الشرطيَين. بقي الثاني على قيد الحياة. ومنه سيأتي الشرّ كله. سيحتاط لنفسه، لأنه يعرف مصدر الضربة. أكيد أنه سيفكّر في الانتقام. غابت عنّي هذه الفرضية. أعتَرف بأنني حينما كنت على أهبة إطلاق النار على الشرطي، لم أفكّر في قضية أخي إطلاقًا، بقدر ما تحمّست لإرضاء أميرنا عبد الجبّار. هو الذي وافق على أدائي لهذه المهمّة المقدّسة، وكان عليّ أن لا أعود مطأطئ الرأس، أجرّ خلفي ذيل الهزيمة. وفعلًا، جئته شامخ الأنف، غانمًا منتصرًا، لأُدخِل سريتنا ضمن السرايا النشطة لجيشنا الإسلامي المظفّر. مرّت أيام هادئة. بعد غياب أيام قليلة عن العمل، وبما أنّ لا أحد سأل عنه، ولا جاءت الشرطة تحوم حول محلّه، فتح كريم محلّه من جديد. ركبه الخوف من الانتقام. في تلك الفترة، توقّفْت عن المبيت في المنزل العائلي. عادت المداهمات الليلية إلى حيّنا. أعوان الشرطة... الدركيون... نصف ملّثمين بحيث يصعب التعرّف عليهم. يبحثون عن إخواننا. يفتّشون المنازل، يستنطقون أفراد العائلة، مزمجرين، غاضبين، شاتمين. الغريب أنهم لم يتوقّفوا عند منزلنا. لم أكن عنصرًا خطيرًا مسجّلًا في دفاترهم. لم أُسْجَن ولو مرّة. كان أخي دائم الخوف من تلك المداهمات الليلية. أحيانًا، يفضّل المبيت في محلّه. بل فكّر مرارًا في السفر إلى مدينة أخرى، فتح محلّ بيع المجوهرات في العاصمة أو البليدة. ولكن أسعار كراء المحلات لاهبة، تكوي نارها عن بعد. كان توجّس أخي كريم في محلّه. ذات ليلة، جاءت فرقة من زبانية النظام وأخذته معها. لم يفتشوا المنزل ولم يستنطقوا أحدًا. طلبوا منه الخروج. أكّدت مصادرنا في الحيّ أن الشرطة لم تأخذ أحدًا في تلك الليلة، ولم تداهم منزلًا آخر. دخلت سيّارة الشرطة الرسمية إلى الحيّ حوالى منتصف الليل، وتوقّفت قرب باب منزلنا. نزل منها رجلان بزيّ فرق التدخّل السريع، مُلثّمَين بالأسود. قال أبي بأنه سمع أوّلًا دقّات قوية على الباب الحديدي، ثمّ اسم عبد الكريم بوعبد الله، يتردّد مرّتَين. وقف الرجلان عند العتبة ولم يدخلا. بمجرّد ظهور كريم، أمسكه شرطي من ذراعه بقوة، كما لو أنه يعرفه، فدفعه إلى داخل السيّارة، مُغمغمًا تهديدات مُبهمة. وصلني الخبر في صبيحة اليوم الموالي. أدرَكت مباشرة أن اختطافه لا علاقة له بمحاربة الإرهاب مثلما يقولون. لو كان كذلك، لبحثوا عنّي. أما كريم، فإنه تاجر بعيد عن الصراع السياسي الدائر. لماذا يُختطف ليلًا؟ كان على الشرطة أن تتقدّم إلى محلّه الذي يقضي فيه طيلة يومه وتقوده إلى محافظتها أمام أعين الناس. ولكنها لم تفعل كذلك لنوايا مبيّتة. اتّصلت بأبي في بداية الظهيرة وطلبت منه أن يسأل عنه في محافظة الشرطة. قيل له إنهم لم يوقفوا شخصًا بهذا الاسم. عاد خائبًا. والدي رجل مسكين قهرته الدنيا. قضى حياته يشتغل عاملًا موسميًا في المزارع مقابل أجرة زهيدة. لا يعرف من الإدارة إلا البلدية. لذلك لم يجرؤ على مواجهة الشرطي الذي قال له إنهم لم يسجنوا شخصًا بالاسم الذي ذكره. بعد أربعة أيام، جاء رجال الشرطة في سيّارة رسمية إلى منزلنا، عند العاشرة صباحًا، يبحثون عن كريم بوعبد الله بائع المجوهرات. وحدها أمّي كانت بالبيت. قالت لهم إنّ ابنها كريم مسجون عندهم وقد جاءت الشرطة ليلًا وأخذته معها. استغرب الشرطي أوّلًا ثمّ أنْكر أن تقوم الشرطة بتوقيف الناس ليلًا، إلا إذا تعلّق الأمر بالمجرمين الفارّين. أفهمها بأنّهم يبحثون عن عبد الكريم بوعبد الله الذي يشتغل صائغًا في وسط المدينة. قصدوا محلّه فوجدوه مغلقًا، فجاؤوا للبحث عنه في منزله. إنه مطلوب في تحقيق جارٍ حول سرقة مجوهرات. أصرّت الوالدة بأن فرقة من الشرطة مثلهم جاؤوا في منتصف الليل وأخذوه معهم. ومنذ تلك الليلة، لم يعرفوا عنه أي خبر. اكتفى الشرطي بترك استدعاء باسم أخي، وأكّد على حضوره المستعجل إلى محافظة الشرطة. لم تفهم أمّي شيئًا. حينما زرتها في الليل، وجدتها منهارة، لم تكفّ عن البكاء. مَن هم الذين اختطفوا كريم إن لم يكونوا من أعوان الشرطة؟ الشرطة منقسمة إلى فرق متعدّدة. إن الذين جاؤوا في النهار يمثّلون الهيئة الرسمية. أما زوّار الليل، فينتمون إلى ما يُسمّى فرق مكافحة الإرهاب، التابعة للأمن العسكري بكل تأكيد. في صبيحة الغد، عادت الفرقة نفسها وقامت بتفتيش المنزل. لم يعثروا على شيء. طلبوا مفاتيح المحلّ. بحثت أمّي في جيوب ملابس كريم، وأعطتهم المفاتيح. بعد ساعات قليلة، عادوا إلى المنزل بعدد أكبر وفتّشوه ثانية بدقة أكبر. كان أبي قد عاد إلى البيت، فأخذوه معهم. عَرَفنا بعد ذلك أنهم فتّشوا محلّ كريم واكتشفوا بقايا المجوهرات المسروقة. أصبح أخي سارق مجوهرات، أو على الأقلّ معاون اللصوص في تسويق السلع المسروقة. عند الغروب، أطلقوا سراح أبي وجاؤوا يبحثون عنّي. وبما أنني كنت غائبًا، وقد أوصيت الجميع في المنزل بالقول إنني هاجرت إلى فرنسا للعمل، أخذوا بدلي أخي الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر. قضى المسكين جزءًا كبيرًا من الليل في الاستنطاق العنيف. أرادوا معرفة ما إذا كان قد رأى أشخاصًا زاروا كريم، أو سلّموه أمانة ما. أخي الصغير منشغل بدراسته ولا يعلم شيئًا عن مشاغلنا نحن الكبار. في اليوم التالي، أخذوا أمّي وأختي الكبرى واستنطقوهما طوال النهار. قالوا لأمّي بأنهم وجدوا المجوهرات المسروقة داخل محلّ ابنها وأنّهم عرضوها على أصحابها الذين تعرّفوا عليها. صمدت الوالدة ولم ترضخ لتهديداتهم وإغراءاتهم. ولكنها عادت إلى البيت منهارة، مشوّشة البال. بكرها كريم الذي تعتزّ بأخلاقه العالية يُصبح لصًّا ويبيع مجوهرات مسروقة؟ خبَرٌ رفضَت أمّي تصديقه. طبعًا لم أعترف لها بالحقيقة. أقنعتها أنّ كريم ربّما راح ضحية شخص أودع عنده تلك المجوهرات للبيع على أساس أنها إرث عائلي. لأيّام عديدة، لم تتوقّف الشرطة عن إزعاج العائلة. تكرّرت زيارتها المباغتة في جميع آناء الليل وأطراف النهار. تارة تكتفي بالسؤال عن أخي الهارب في نظرها، وتارة تقوم بتفتيش المنزل، خاصّة في الليل. لم يكن بمقدوري أن أفْعل شيئًا. أصبحت في الجهة الأخرى المضادّة لهم تمامًا. خفت إنْ أنا قدّمت شهادتي حول الشرطيَين، وخاصّة أنّ الذي أعرفه قد قتل غير بعيد عن محلّ أخي، سيتحوّل السهم باتّجاه صدري. طبعًا انتشر الخبر في الحيّ بأن كريم ضالع في السطو على المنازل المسروقة. بدأت الألسنة تلوك الشائعات والافتراضات. ومَن يكون شريكه المثالي غير أخيه عبد الحميد؟ أصبَحْت أنا أيضًا لصًّا في عيون أهل الحيّ، ومطلوبًا من الشرطة التي لم تتوقّف عن مداهمة منزلنا بحثًا عني. قال الشرطي لأبي بعد أن كرّر أنني قد هاجرت إلى فرنسا ولا داعي للبحث عني: «لا تكذب علينا يا شيخ وأنت في هذا العمر. كيف يسافر ابنك إلى فرنسا وهو لا يملك جواز سفر؟ لا أثر لاسمه في سجلّات جوازات السفر. نحن مقتنعون بأنّ ابنك عبد الحميد قد التحق بالإرهابيين برفقة أخيه كريم. جمعوا المال ليقدّموه للجماعات الإسلامية المسلّحة بغرض شراء السلاح وقتل الأبرياء. لكنّهما سيقعان في أيدينا عاجلًا أم آجلًا». خفض أبي رأسه وسكت. ما عساه يقول أمام هذه الآلة الساحقة العليمة بكل شيء؟ بعد أيام قليلة، نزل على رؤوسنا الخبر الصاعق كزلزال مهول. اكتُشف كريم مقتولًا ومرميًّا في حفرة بوادي الصفصافة. كانت جثّته متعفّنة. اكتشفها أحد الفلاحين بالصدفة. أنا متأكّد بأن الشرطي الثالث وبمعية فاتح، هما اللذان اختطفا كريم وقتلاه ورميا بجثّته في ذلك المكان. حينها قرّرت قتل فاتح حتى وإن اختفى في بطن أمّه. وسنترصّد حركاته يومًا بعد يوم، أين سيذهب؟ سنخرجه من عين إبليس وسنذيقه علقم الخيانة. كان كريم أخي تاجرًا نزيهًا يعيل عائلته، ويؤدّي فرائضه بانتظام، فدخل عليه ذلك الإبليس ليشوّه سمعته وسمعة العائلة، ثمّ يقتله بتلك الطريقة البشعة. أضحت عائلتنا عرضة للاستنكار والاحتقار. الفقر ليس عيبًا أبدًا، ولكن السرقة واللصوصية عار يلصق بالجبين ولا يُمحى. انْضمَمت إلى الجهاد لأُعلي من سمعتها الطيّبة، ولكن تهمة السطو على البيوت وسرقة مال ومجوهرات الناس دنّست عائلتنا في عيون أهل الحيّ. وأنا أريد بهذه الحكاية أن أعيد الاعتبار لسمعة أخي والعائلة، تغمّد الله روحه وأدخله فسيح جنانه. ويوسف مُستعدّ للتعاون معك وفق ما تقترحه علينا. أنت محامٍ محنّك وتعرف كيف تعالج القضايا العسيرة». سكت عبد الحميد عن رواية قصّة أخيه. أطرقنا رؤوسنا جميعًا وسرح كل واحد منا في وادي أفكاره اللجّاجة. أعتَرف أنني ذُهلت من تفاصيل الحكاية رغم أن مهنتي كشفت لي ما هو أغرب منها. ولكن تحالف جماعة من رجال الشرطة على تكوين عصابة لصوص للسطو على المنازل عصيّة على التصديق. هذا ليس لأنني أعتبر رجال الشرطة مثاليين في السهر على احترام وتطبيق القوانين، أغلبهم من الشبّان المتمردين، المشاكسين، الذين لا يتردّدون عن خوض مغامرات قد تؤدّي بهم إلى التهلكة. وهُم يعرفون سلفًا أن سلك الشرطة مهنة متاعب وقد يتركون في غِمارها جلودهم. بعيدة عنّي هذه الفكرة بُعد الأرض عن السماء. وإنما الشائع بين رجال هذه الفئة اكتساب المال بطرق أخرى مثل ابتزاز أصحاب شاحنات نقل البضائع والحافلات الخاصّة، والطاكسيات السرّية، أو تقديم خدمات بالمقابل مثل إرجاع رخص السياقة التي يسحبها زملاؤهم عند ارتكاب المخالفات. قد يذهب بعضهم إلى حماية تجّار المخدرات، البارونات منهم أو مسوِّقي الكمّيات الصغيرة للمستهلكين، مقابل عمولة قارّة. أمّا السطو على المنازل، فإنّه فعل نادر، لم أسمع بمثله من قبل. ومع ذلك، قرّرت بداخلي مواصلة التحرّي مع محافظ الشرطة. أكيد أنّ بجعبته معلومات قد لا يبخل بتسريبها لصديقه المحامي. أيقظني كبيرهم من غفوتي التأملية: ـــ ما قولك يا أستاذ؟ رفعت بصري باتّجاهه، هززت رأسي بتؤدة وقلت: ـــ المسألة معقّدة وخيوطها مِجسّات سامّة قد تلسعنا. سارع إلى الردّ كما لو أنّ جوابه كان جاهزًا: ـــ لا تشغل بالك بأخينا عبد الحميد. إنه من جنودنا، ونحن قد اخترنا طريقنا، مدركين أننا إمّا منتصرون أو هالكون. ولكننا نريد منك أن تظهر للعيان جرائم الشرطة ضدّ الأبرياء. يقتلون ويعلّقون الجريمة بلحانا. أنت دافعت عن شيوخنا وقد عرفت الظلم الشنيع الذي تعرّضوا له والاتّهامات الباطلة التي ألصقت بهم وهم اليوم يقبعون في غياهب السجن زورًا وبهتانًا. يمكن لنا أن نصدر بيانًا ونتهم فيه هؤلاء الزبانية بقتل عبد الكريم بوعبد الله، ولكن لا أحد سيصدّقنا. نَحن طرف في الصراع، وكل ما نقوله يُعتبر دعاية لنا وتشهيرًا بأعدائنا. أما أنت المحامي، حينما تقف في المحكمة وترافع بالأدلّة الدامغة، ستنقل الصحافة أقوالك، أقصد الصحافة العالمية وليس الأوراق الوسخة التي توزّع علينا كل صباح. آخر جريدة محترمة، تلك التي كان يوسف يشتغل بها، وقد تمّ منعها وتشميع مقرّها مباشرة بعد نشر المقال المذكور. رأيُنا أنّ هذا ممكن التحقيق وفائدته إن شاء الله ستكون جمّة وتعود علينا بخير عارم. واجهني بنظرة ثاقبة وابتسامة واثقة منتصرة. سكت وانتظر الجواب. خيّم الصمت أكثر من ذي قبل. طأطأت رأسي مفكرًا، مُدركًا أن العيون جميعًا مصوّبة نحوي، والآذان مشنّفة صاغية لما أقول. أخيرًا، رفعت بصري ثانية باتّجاه عبد الجبّار هذا وقلت: ـــ مثلما قلت لكم، المسألة معقّدة والفصل فيها يحتاج إلى دراسة دقيقة لجميع خيوطها. ـــ ادرُسْها على مهلك يا أستاذ... يوسف وعبد الحميد تحت تصرّفك متى شئت لتزويدك بالمعلومات اللازمة. خذ وقتك وأعطِنا الحلّ المناسب. المهمّ إظهار الحقيقة. ثقة جيشنا المظفّر بحول الله وعونه فيك كبيرة. تنحنح ووقف بتثاقل، مُتّكئًا على بندقيته. انتهت المقابلة وحان وَقْت الافتراق. وقفت بدوري مستندًا إلى الجدار. شعرت بتنميل في ساقي اليمنى التي كانت مطويّة. كدت أفقد توازني. صافحَني بحرارة وخرج متبوعًا برجاله، بعد أن أوصى عبد الحميد بمُرافقتي. انتظرني هذا الأخير برفقة يوسف حتى لبست جواربي وحذائي، فغادرنا المكان. انقشع الظلام وزحف ضياء الفجر مخاتلًا بلا إخبار. مشينا عشرات الأمتار في صمت، ثمّ بادر يوسف عياشي إلى طرح سؤال ربّما قضّ مضجعه لليالِ طوال: ـــ ما رأيك لو أسلّم نَفْسي إلى الشرطة؟ توقّفت عن المشي. واجهت يوسف، أمسكته من الكتفين وقلت له: ـــ زرني غدًا أو بعد غد إلى البيت ليلًا وسنتدارس معًا قَضيّتك. أضاف كما لو أنه لم يسمع ردّي: ـــ أقول لهم بأنّ الذين اعتدوا على شاحنة المساجين هم الذين اختطفوني بالقوة وأبقوني محجوزًا عندهم كلّ هذه الأيام. ما رأيك يا أستاذ؟ هلْ يُصدّقون قصّتي ولا يخضعونني إلى التعذيب مرّة أخرى مثلما فعلوا معي سابقًا. كان الخوف باديًا عليه في ارتعاد صوته ونظرته الهلعة. طمأنته بما اسْتَطعْت من كلمات. في واقع الأمر، كنت متعبًا وقلقًا وبحاجة ماسّة إلى الانفراد بنفسي. إنّ بحوزتي الآن معلومات خطيرة قد تعرّض حياتي لخطر حقيقي لو كشفت عنها. أعرف إرهابيين ومكان اختبائهم. كما أعرف هوية قاتل شرطي. إنّ عدم الكشف عن أسمائهم يُعدّ في نظر القانون جناية قد تدخلني السجن. عدم التبليغ عن الجريمة جريمة. شعرت بصداع يلفّ صدغيّ، يُثقل بصري ويشوّش أفكاري. كرّرت دعوتي ليوسف كي يزورني في البيت، ثمّ طلبت من مرافقيّ أن يعودا إلى ملجئهما والتحقت بمنزلي بخطى وئيدة وبذهني تتلاطم الأفكار تلاطم أمواج المحيط الهائج. 8 برغم الرغبة الشديدة في النوم، لم يغمض لي جفن. تلبّدت أفكاري بتوجّس رهيب. ركّبت سيناريوهات متنوّعة وأجهدت خيالي لتكون نهاياتها مفرحة، أو على الأقلّ بدون خسارة موجعة. من حسن حظّي أن اليوم عطلة نهاية الأسبوع. سألتَحِق عند الزوال بموعدي مع ندمائي لنُغرق همومنا في الصفراء المنعشة التي ما إن تسرى في حقولنا حتى تلفّنا سرّاءٌ راجفة. تذكّرت صديقي رشيد. مرّ أكثر من أسبوع منذ أنْ دفنّا نبيل المسكين. يُقال إنّ حرقة الأب عند فقدان ابنه من أوجع الصدمات على الإطلاق. رشيد بحاجة إلى صبر أيّوب وطاقة فرعونية لتجاوز محنته. ولكن الأيام كفيلة بردم جمرات الأوجاع تَحت ركام رماد النسيان. يقول دستويفسكي إن عظمة الإنسان الأولى تكمن في قدرته العجيبة على التأقلم مع أوضاعه الجديدة مهما كانت قاسية. يتكلّم الرجل عن تجربة مرّة بعد أن دارت به دوائر السياسة اللعينة، ورمته في جحيم سجون سيبريا. وفاة نبيل لغز لا زال يُحيّرني. وعلى رشيد أن يصفّي حساباته مع ذكرياته المؤلمة أيضًا. لم أتّصل به منذ جولتنا الليلية في شوارع العاصمة. ماذا جدّ من أحداث؟ مباشرة بادرَت إلى ذهني فكرة زيارته. ألقيت نظرة إلى الساعة الحائطية. العاشرة والربع. وقت مناسب جدًّا. كما أنّها فرصة لأتخلّص من هواجسي المؤرقة. أطلّ رشيد من الشرفة كعادته وطلب منّي الصعود إلى شقته. استقبلني بابتسامة حزينة وجملة ترحيب مقتضبة. أدركت أنّ الصدمة لا تزال باركة على صدره. ساد بيننا صَمْتٌ مزعج لبعض الثواني. في ردّ فعل شبه غريزي، استرسلت في حديث عن القدَر وقسوته على البشر. الكلام يجرّ بعضه بعضًا مثلما يقول القدماء. بطبعي أمقت أن يجمعني الصمت بجليس ما. لذلك تجدني في مثل هذه الجلسات أبادِر فورًا بأي كلام يتدفّق على لساني، وأنا مقتنع بأنه سيكون مفتاح نقاش ومشهِّيًا لغيري في الدخول إلى الحلبة. ولكن المفاجآت مع رشيد قاصمة لليقينيات. ألقى عليّ نظرة عالم إلى فأره الرابض في القفص، وقام إلى رفّ كُتبٍ معلّق عند زاوية من الصالون، تناول دفترًا بنيّّ اللون، تصفّحه مليًا قبل أن يسلّمه لي. ـــ هذه يوميات نبيل. ـــ يوميات؟ وأين وجدتَها؟ ـــ في غرفته... أنسَيت بأنّ محافظ الشرطة قال لنا بأنه سيبعَث برجاله ليفتشوا أغراضه لعلّهم يجدون معلومات تفيدهم في التحقيق. ـــ آه نعم. اعذرني يا صديقي، كنت منشغلًا جدًّا هذه الأيّام. سأحكي لك عن الغرائب التي وقعت لي. ولكن ما إنْ وجدت وقت فراغ حتى قصدتك دون أدنى تأخير. ـــ هذا ليس لومًا، إنّه مُجرّد تنبيه، لا أكثر. مشاغل الدنيا اللعينة لا تنتهي. أنا أيضًا تلقّيت رسالة عجيبة بالأمس. سأريها لك فيما بعد. هذا دفتر ابني نبيل، عثرت عليه وسط كتبه. كان يسجل فيه ما يَجول بخاطره. ومثلما ترى، لقد أخفيته عن الشرطة. سي أحمد هو الذي ركّب الدودة في رأسي. فجئت مباشرة وفتّشت خزانته. بقيت غرفته مثلما تركها. لا أنا ولا أمّه امتلكنا الشجاعة الكافية لتنظيم أغراضها. كانت أمّه تقف عند الباب وتغرق في استرجاع ذكرياتها مع كبدها مثلما تسمّيه، وحينما يعصرها الألم تتقدّم خطوة، تتناول أوّل لباس له يصادفها، وتلصقه على وجهها وتخرّ وسط الأنّات والآهات. ليس لديّ ما أقول ولا ما أفعل. أنا أيضًا، في الأيّام الأولى، لولا كرامة الرجولة التي شدّت أزري لتمرّغت على الأرض ورحت أصْرُخ بجؤار يوقظ الأموات. أنتَ ما عندك أولاد، ربّما لا تدرك ثقل الأهوال التي يتركونها عند غيابهم. أنت تعرفني جيّدًا، ليس من عادتي أن أشتكي من صروف الدهر، برغم أنّ الحياة لم تكن رؤوفة بي. ولكن هذه المرّة، انهارت مقاومتي كجلمود الصخر الذي حطّه السيل من علٍ، مثلما يقول الشاعر الجاهلي. إنها الضربة التي تقصم ظهر البعير، ولا أظن أنني سأبرأ منها. صَحيح أن ابني مات وانتهى أمره، ولا ينفع العويل والندم. لعب به هؤلاء الدراويش القذرون وقادوه إلى حتفه. ها هو دفتره، أريد منك أن تقرأ ما فيه، به اعترافات قاسية تخصّني وتخصّ العائلة، ولكن أنت صديقي وتعرف ما بداخل القِدْر. فيه أيضًا تفاصيل كثيرة عن علاقاته بأولئك الدراويش. لقد غسلوا مخّه منذ زمن بعيد وأنا لا خبر. أعي الآن أنّني ارتكبت حماقة قاتلة يوم قبلت بوظيفة مفتّش عامّ. كانت غياباتي طويلة ومتكرّرة. ضاع ابني بسببي، كما ضاعت ابنتي أيضًا. صَحيح أنها نجت بنفسها واستقرّت في كندا. ولكنها تركت لنا فراغًا مهولًا. ولا أخفي عنك أنني حينما أتذكّرها يطير عنّي النوم ويشتعل صدري بحزن لا تطفئه جميع أفراح الدنيا. ومع ذلك رفضت إخبارها بوفاة أخيها. قل لي بربّك ماذا ستفعَل في بلد القتلة هذا؟ تقول في رسائلها النادرة إنها مستقرة في عملها بمخبر بيولوجي ذي سمعة عالمية، وسعيدة في حياتها الجديدة. هذا يكفي لإدخال الطمأنينة إلى قلبي وقلب أمّها. انْظر إنْ كان الدفتر يحوي فعلًا معلومات من شأنها مساعدة الشرطة في تحرّياتها. أنت محامٍ ومُتعوّد على دراسة الملفات. يسرّني مساعدة قوّات الأمن للقضاء النهائي على هؤلاء الأصوليين القتلة، واستئصال جذورهم من على وجه هذه الأرض، أو نفيهم إلى أقاصي الصحراء. أستغرب لماذا يطلقون سراحهم الآن؟ لو بقي بوضياف على قيد الحياة، لأبادهم عن بكرة أبيهم. ـــ وهل جاءت الشرطة للتفتيش؟ ـــ جاءت وفتّشت ولكنها لم تجد شيئًا مفيدًا لها. قلّبت الدفتر بين يديّ. تآكل غلافه الكرتوني على الأطراف. يكاد اللون البنّي يُمحى برسومات وخَربَشات وأشكال هندسية متنوّعة بالأسود والأزرق. إنها رُزنامة سنوية من طبع الشركة الوطنية للكهرباء والغاز. صفحة لكل يوم من أيام السنة. يعود تاريخها إلى أكثر من خمس سنوات. أكثر الصفحات فارغة. قلّة فقط هي المملوءة بخطّ صغير رديء ولكنه مقروء في عمومه، كُتب بألوان متباينة. كثيرة هي الصفحات التي تحوي تمارين في الرياضيات والفيزياء وأشعارًا وأقوالًا مأثورة منقولة من الكتب المدرسية. قال رشيد: ـــ أتذكّر جيدًا أنني أعطيته هذا الدفتر وهو في السنة الثانية ثانوي، سنة النحس والفشل. ذهبت لدَفع فاتورة الكهرباء فالتقيت هناك بمناضل نقابي من قدماء الرفاق، أدخلني إلى مكتبه وثرثرنا في موضوعات شتّى. عند افتراقنا، فتح خزانة وسلّمني رزنامة حائطية ملوّنة ودفترين من هذا النوع. احتفظت بواحد لي، أسجّل به مواعيد زياراتي التفتيشية، والثاني لابني نبيل. كنّا في أواخر شهر جانفي. أتذكّر التاريخ لأنني سافرت بعد ذلك مباشرة إلى الأغواط، الولاية الجديدة التي أضافوها لي بعد ولايتي المدية والجلفة. قارّة كاملة وعُم بحرك أيّها المفتّش المسكين. لا سيّارة تنقلك ولا فنادق محترمة تؤويك. الحافلة مثلك مثل «الغاشي» وغرف مراقد المتوسّطات المغبرّة. في أحسن الأحوال، يستضيفك مدير أو أستاذ في بيته. في تلك السنوات اكتشفت وضع البلد الحقيقي. وتضاعف حقدي على السلطة الحاكمة. حينما أخبرت رفيقي القديم بوظيفتي الجديدة، تنهّد وقال بأنه يحسدني. إنها فرصة للسفر وتغيير الجوّ من مناخ المكاتب الرطبة وغبار الملفّات الخانق. قلت مازحًا بأن الدفتر ملائم لتسجيل يوميات رحلاتي مثلما فعل ابن بطوطة وماركو بولو. ـــ أو لتدوين المذكّرات؟ ألم تفكّر في تسجيلها؟ أنت مناضل محنّك في حزب سرّي، وعرفت السجن وتعذيبه. أضِف إلى كل هذا وصفك للجزائر العميقة وأوابدها الخارقة. بلا شكّ ستكون شهادة نافعة للأجيال القادمة. ـــ أما زلت تحلم بأن هذا البلد سَيَعرف الازدهار والرفاهية ذات يوم؟ أوهام سرابية جرفتنا يومًا وتشبّثنا بتلابيبها مثلما يفعل الغريق بلوحة خشبية مهترئة، يظنّها سفينة نوح. انظر حواليك، وسترى بأننا دلفنا دهليزًا معتمًا لا مخرج له. ـــ دعنا من أفكارك السوداوية. لقد قلت لي منذ لحظة إنك تلقيت رسالة غريبة. ـــ آه ذكّرتني. عاد إلى رفّ الكتب وتناول ظرفًا وسلّمه لي. جاءه من مديرية التربية. ماذا يريدون منه؟ هل يطلبون منه العودة إلى العمل؟ أمام تلكّئي في فتح الظرف، قال رشيد: ـــ اقرأ لتَرى بعينيك أوابد هذا البلد مثلما تسمّيها، هذا البلد الذي تتوسّم فيه الخير. فتحت الظرف، وضعت الرسالة أمام بصري وقرأت. رفعت رأسي منذهلًا: ـــ ما هذا؟ ـــ مثلما ترى... يريدون طردي من الشقّة التي تؤوي عائلتي بعد ما يزيد عن ثلاثين سنة خدمة. قل لي بربك كيف تريدني أن أكنّ بذرة حبّ لهذا البلد؟ فعلًا كان التهديد بالطرد واضحًا. «نطلب منكم إخلاء الشقّة الوظيفية فورًا لأن مديرية التربية بحاجة إليها لإسكان الموظّفين الجدد». مصيبة أخرى تقع على رأس رشيد المسكين. غاب عن بالي هذا الوضع. قلت: ـــ وطبعًا لا تملك سكنًا آخر تنتقل إليه. ـــ مهلًا يا صديقي، أتريد أنت أيضًا طردي قبل الأوان. ـــ إذا كانت الشقّة فعلًا وظيفية، فيسهل على مديرية التربية استخراج قرار الطرد من المحكمة. حينئذ، لا يبقى أمامك إلّا إخلاؤها، بإرادتك أو بالقوّة العمومية. دافعت ذات مرّة عن قضية مشابهة تمامًا. ومن حسن حظّ صاحبها، وهو مراقب عامّ، اشتغل في ثانوية ما يزيد عن العشرين سنة، أنّه سبق له أن أودع ملفًّا لطلب السكن ببلديته الأصلية، وشاءت الصدف أن يكون رئيس البلدية من أقربائه، فأعطاه سكنًا، أيام كانت السكنات توزّع مثل أكياس الحليب. أمّا اليوم وبعد عشر سنوات من الأزمة الاقتصادية الخانقة واندلاع الحرب الأهلية المدمّرة، لقد توقّفت مشاريع البناء، بل وتوقّفت الأشغال حتى في تلك العمارات التي بدأت تخرج من الأرض. فأين سترحل في حالة تعنّت مدير التربية وإصراره على إحالة القضية إلى المحكمة؟ وأنا لا أمزح إطلاقًا. أعرف ضابطًا متقاعدًا من الجيش قضى صائفة كاملة تحت الخيمة مع عائلته في ساحة العمارة التي سكن شقّة بطابقها الرابع لأكثر من عشر سنوات. دقّ على جميع المكاتب واستعطف عددًا لا يحصى من المسؤولين ولكن لا أحد تمكّن من إسكانه. عند حلول البرد والأمطار، لمّ أثاثه وعاد إلى منزل والديه في قرية نائية، لم يزرها منذ عقود. ـــ لا تتصوّرني بالسذاجة التي تجعلني أجهل قانونية السكنات الوظيفية. هذا السكن وظيفي وغير وظيفي في آن واحد. شرط السكنات الوظيفية أن تكون بداخل المؤسّسة، ولها مدخل واحد يستخدمه الموظّفون والسكّان معًا. أما هذه الشقق الأربع التي تقع في الطابق الثاني، فلها مدخل مستقلّ. القضية ليست وليدة اليوم. هذه مكيدة جديدة، يكون قد خطّط لها ذلك المقتصد الجديد الذي نُقل إلى المتوسّطة لأسباب تأديبية، يقول العارفون بأنها متعلّقة بتبذير أموال عمومية من خلال إقامة صفقات تجارية مشبوهة. ويقال أيضًا بأنه يملك قصرًا في ضواحي البليدة. قبل عشر سنوات، حينما ظهر قانون التنازل عن أملاك الدولة، بادرنا بتكوين ملفّ وقدّمناه إلى المصالح الإدارية المعنية بالبيع. فتَحْنا بابًا خلفيًّا يُخرِج مباشرة إلى الشارع، وأقمنا سورًا بيننا وبين فناء المتوسّطة. فأصبحت سكناتنا مستقلّة وتخضع لقانون التنازل الجديد. جاءت لجنة مختصّة وعاينت المكان وأعطت موافقتها على الشراء. ولكن البيروقراطية معشّشة في دواليب مؤسّساتنا، فتأخّرت عملية التسوية. ويبدو أن أيادي خفيّة تعمل على إحياء القضية من جديد طمعًا في طردنا والاستيلاء على السكنات. صَحيح أننا أعدنا فتح الباب الداخلي المؤدّي إلى ساحة المتوسّطة تحت إلحاح المدير الجديد، بحجة تسهيل أداء وظيفته بعد تردّي الوضع الأمني، ولكن هنا يموت قاسي مثلما يقول صديقنا شعبان. ـــ أنت تتكلّم عن أربع سكنات، فهل تلقّى أصحابها رسائل بالإخلاء. ـــ على حسب علمي، أنا الوحيد الذي تلقيت مثل هذه الرسالة. ـــ ألا يزال البقية يشتغلون في سلك التعليم؟ ـــ السكن الذي على يميني مغلق منذ خمس سنوات أو أكثر. أنت تعرف صاحبه جيّدًا. كان من أوائل الأساتذة في هذه المتوسّطة، فانتدب إلى فرنسا لتدريس اللغة العربية. كان في السنوات الأولى يقضي العطلة الصيفية معنا، ثمّ انقطع عن المجيء منذ حوالى سنتين. أكيد أنه استقرّ في فرنسا بشكل نهائي. والحقّ معه، ماذا يفعل في هذا البلد الذي يُخرج عمّاله من السكن بمجرّد إحالتهم على التقاعد. أمّا السكن الذي على يساري، فباسم معلّمة عانس، استقدمت كامل عائلتها بعد وفاة أبيها، وهي تعيش مع أمّها وإخوتها الأربعة. أما الشقّة الرابعة، فهي للمدير الذي خلفني، مراقب عامّ سابق بهذه المتوسّطة، سألته يومًا عنك، قال إنه لا يعرفك. ربّما التحق بها بعد رحيلك. ـــ أنا غادرت المتوسّطة منذ نصف قرن يا حبيبي، فمن يتذكّر دينصورًا يكاد ينقرض؟ المُهمّ، أنصحك بالتحرّك لإيجاد حلٍّ لتسوية وضعية مسكنك هذا قبل فوات الأوان. لي معارف في مديرية أملاك الدولة. سنذهب معًا للسؤال عن ملف سكناتكم. ـــ سأقوم بدورة استقصائية هذا الأسبوع وأخبرك بالوضع. حينذاك، سنرى ما يمكن القيام به. في جميع الأحوال، لن يُخرجني أحد من هنا ما دمت حيًّا. في تلك اللحظة، أطلّت زوجته من باب الصالون، وألقت تحية ترحيب. كانت ملفوفة في خمار أسود، عيناها جاحظتان من فرط البكاء والسهاد، وجهها شاحب كحبّة ليمون. وقفت أسألها عن حالها وصحّتها. لم تكد تنطق بجملتين حتى اغرَورَقت عيناها بالدموع، فسكتّ. خفضت رأسها لحظات ثمّ انسحبت باكية. رقّ قلبي لحالها، فاعتذرت لرشيد، متحجّجا بمواعيد شغل لا تقبل التأخير، وغادرت منزل صديقي، أتأبّط الدفتر وبداخلي فضول يستعجلني بكشف محتواه. الجمعة 4 فيفري ماذا أفعل بهذا الدفتر؟ قال أبي: «يفيدك في تمارين الرياضيات والفيزياء». أية رياضيات وأية فيزياء؟ كرهت الدراسة والثانوية والأساتذة وكل شيء. أبي أيضًا بدأت أكرهه. لماذا لا يصلّي ويصوم مثل جميع المسلمين؟ ألا يخاف من عذاب القبر ومن نار جهنّم؟ في الجمعة الماضية، عندما بدأ الخطيب يصف عذاب القبر وعزلة الميّت وخوفه من عزرائيل، ملاك الموت، وهو وحيد يسمع خطوات المشيّعين تخفت وتبتعد، هزّتني رعشة خوف رهيبة. لم أنهِ الصلاة إلا وأنا خرقة بالية. أصلّي قيام الليل وأؤدّي الصلوات في وقتها، وأستغفر الله ليل نهار كي يعفو عنّي. قال لي ياسين بأن الله يغفر الذنوب جميعها عندما يتوب الإنسان. نلتقي في المسجد يوميًا، عند صلاتي الفجر والعشاء. الساعة الآن تقترب من منتصف النهار. إنه وقت الالتحاق بالمسجد لأداء صلاة الجمعة. ياسين ينتظرني. ألَحّ عليّ كي أحضر مبكّرا لأنّ الشيخ محفوظ سيأتينا من البليدة لإلقاء خطبة الجمعة. ويصرّ ياسين على الجلوس في الصفوف الأمامية. الثلاثاء 18 فيفري اليوم طردني معلّم الفيزياء من القسم مع ثلاثة زملاء. المُراقب العامّ، عندما قلنا له بأننا كنا في المسجد لأداء صلاة الظهر، سكت وتركنا نمرّ إلى الطابق الثاني. أمّا أستاذ الفيزياء اللعين، فقد صرخ في وجهنا، كما لو أنه رأى عفريتًا يدخل القسم. حاول ياسين إفهامه بأننا لم نكن نلعب وإنما كنا نؤدّي واجبًا دينيًّا، ولكنه لم يترك له الفرصة للكلام. طردنا وأغلق الباب بعنف. أظن أنّه من صنف أبي، أعداء الدين، الشيوعيين الملحدين. لكنّي رأيته ذات جمعة في ساحة المسجد بعد انتهاء الصلاة. صلاة المنافقين، بالجمعة والأعياد، ليس إلا. عُدْنا إلى المراقب العامّ، ولكنه قال لنا إن أستاذ الفيزياء متشدّد وصارم ولا يقبل من يتدخّل في عمله. اقتَرَح ياسين أن ننتظره خارج الثانوية ونشرح له موقفنا. بمجرّد أن اعترضنا سبيله، قال لنا بغضب ظاهر: «لا تهمّني مشاكلكم ولا قناعاتكم الدينية. من أراد الدراسة، فليلتزم بالوقت والانضباط. سأغضّ البصر عن حادثة اليوم. لو تتأخّرون مرّة أخرى، سوف أطردكم من قسمي نهائيًا. أعذر من أنذر». وبعد ذلك انصرف مسرعًا. أما أستاذة العربية فلم تقل شيئًا. سكتت حتى التحقنا بأماكننا ثمّ واصلت الدرس دون أي تعليق. هي لا تلبس الحجاب ولكنها أستاذة طيّبة، دائمة الابتسام والنجاح عندها مضمون للجميع. كيف نلتزم باحترام أوقات الصلاة، خاصّة صلاتي الظهر والعصر؟ لا أعرف. سيجد لنا ياسين حلًّا. الاثنين 7 مارس صباح اليوم، عند الثامنة، تجَمَّعنا في ساحة الثانوية. عندما دقّ الجرس، سارع بعض التلاميذ إلى تنظيم الصفوف للدخول إلى الأقسام، ولكن جماعتنا تصدّت لهم بالمرصاد. الدراسة اليوم ممنوعة. جاء المراقب العامّ يستفسر عن السبب، فقلنا له إننا لا نتكلّم إلا مع المدير. بعد ربع ساعة، جاء المدير مسرعًا، وعلى وجهه علامات الهلع. تقدّم إليه ياسين نافخًا صدره وخاطبه بنبرة آمرة، واثقًا من انتصاره: «نطلب منك أن تفتَح لنا قاعة للصلاة داخل الثانوية». خفض المدير رأسه لحظة، مطّ شفتيه حائرًا، ألقى نظرة دائرية إلى التلاميذ الواقفين، القلقين، المُنتظرين ردّ فعله. أخيرًا قال: «ألهذا السبب تضربون؟ المسألة سهلة ولا تحتاج إلى كل هذه الفوضى. التحقوا بالأقسام الآن وسأدرس الموضوع وإن شاء الله سنجد حلًّا مناسبًا لمشكلتكم». اندهشنا من سرعة استجابة المدير لاقتراحنا، فأوقفنا الإضراب. قضى ياسين اليوم مبتهجًا. لقد حقّقنا انتصارًا عظيمًا. سنعلي كلمة الله داخل الثانوية، مثلما تعلى في المساجد. السبت 12 مارس طردونا اليوم جميعًا، أقصد جميع الملتحين. عند الثامنة، وجدنا المدير والمراقب العامّ عند سياج المدخل الرئيسي. فتحوا الباب الجانبي الصغير فقط، وبدأوا الفرز. فمنعوا دخول كل من يحمل اللحية ولا يلبس مئزرًا. قال المدير: «هذه مؤسّسة تربوية لها قوانينها. يجب حلق اللحية وارتداء المئزر. الثانوية ليست سوقًا لكل من هبّ ودبّ». بعد ذلك أغلقوا الباب. طبعًا كنت ضمن المطرودين بسبب اللحية والقميص الطويل. اللحية سنّة نبوية ولم نكن مستعدّين للتنازل عنها. بدأنا نصرخ ونردّد شعارات سياسية ودينية، تلك الشعارات الرائجة في المظاهرات الصاخبة التي كنّا نراها بين الآونة والأخرى تجوب شوارع المدينة. جاءت الشرطة. حضر ضابط بنجمتين على الكتف. قال إنه من صالحنا احترام القانون والعودة إلى الدراسة. وهو لا يريد تكسير مستقبلنا بإدخالنا السجن. التهديد بالسجن أدخل الذعر في قلوب التلاميذ. وَحده ياسين واجَهه بشجاعة مدهشة. أنا لا أملك جرأته. رفع صوته وصرخ بأنه لا يخاف سجنهم ولا يحترم قانونهم لأنه يتناقض مع الشريعة والقانون الربّاني. فورًا أمر الضابط بتوقيفه. هجم عليه شرطيان وأركباه عنوة في داخل سيّارتهم. ركضنا هاربين. التحق كل واحد بمنزله. ولكن في المساء وجدت ياسين في المسجد. قال بأنهم أبقوه إلى الرابعة مساء. عنّفوه واستنطقوه طويلًا. فلولا تدخّل بعض الإخوة النافذين الذين يعرفونه، لبات الليلة في الزنزانة. كان ياسين فخورًا بتمرّده. في تلك الليلة بقينا طويلًا أمام المسجد نستمع إلى ياسين وهو يقصّ علينا تفاصيل اعتقاله. الجمعة 18 مارس رفضنا حلق اللحى، ورفض المدير السماح لنا بالدخول. ليس الكل طبعًا. تمكّن بعض الآباء من الضغط على أبنائهم وأعادوهم إلى الدراسة مثل البنات، بالمئزر والوجه الحليق. لحسن حظّي أنّ أبي غائب منذ أكثر من أسبوع. حاولت أمّي إقناعي بالعدول عن تعنّتي، ولكنني لم أمتثل لنصيحتها. هي أيضًا أستاذة ولكنها في ثانوية بعيدة. تخرج عند السابعة صباحًا ولا تعود إلا مع المغرب. لم يصلها خبر طردنا إلا بعد ثلاثة أيّام. غابت عن العمل، أيقظتني باكرًا وطلبت منّي أن أهيِّئ نفسي للذهاب إلى الثانوية. بقيت في الفراش ورفضت الانصياع إلى أمرها. هدّدتني بأبي. قالت إنه سيسقط الدار على رؤوسنا إنْ تماديت في عصياني. قال ياسين إن هذه الحادثة اختبار لقوّة إيماننا ومدى تشبّثنا بديننا. ينبغي أن نقاوم مثلما قاوم أبطال فيلم الرسالة. لم يرتدّوا عن دينهم برغم وحشية وبشاعة التعذيب. يَجب أن نقتفي أثرهم، أن نكون خير خلف لخير سلف. اليوم أوّل أيام العطلة الربيعية. عاد أبي مساء أمس. جاء متعبًا ونام باكرًا. الآن أسمع صوته في المطبخ. أكيد أنّ أمّي حكت له كل شيء. لا أريد لقاءه. أعرف ماذا سيقوله لي. إنه يكره الإخوان المسلمين أو «الخوانجية» مثلما يسمّيهم. ومع ذلك فهو والدي ولا أسْتطيع عصيانه. أمرنا الله بطاعة الوالدين. ولكن ياسين قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإن كان هذا المخلوق أحد الوالدين. ياسين لا أب له، يعيش وحيدًا مع أمّه. كانت تشتغل منظّفة في المتوسّطة ثمّ مرضت وانقطعت عن العمل. يسكن بعيدًا في حيّ البراريك. لا تسأل عن غيابه ولا عن دراسته. يفعل ما يريد. لا أحد يقيّد حرّيته. إنه محظوظ. لا يملك أبًا يهدّده بكسر رقبته وطرده من البيت. سأبقى في الفراش حتى موعد صلاة الجمعة. ولن أتناول فطوري. سآكل الكسكسي الذي يُوزَّع على الفقراء عند ساحة المسجد. السبت 19 مارس قامت القيامة بالأمس. تأخّرت عمدًا مُتمَنّيًا أن أجد أبي نائمًا. ولكنّه انتظرني. وجدت الباب مغلقًا بالمزلاج. أرهبتني قسمات وجهه الداكن، الغضوب. أردت الالتحاق بغرفتي ولكنّه جرّني إلى قاعة الحمّام وأمرني بحلق لحيتي. لقد أعدّ لي جميع أدوات الحلاقة. ماذا أفعل؟ أطرقت برأسي ساكتًا. فأمطرني بوابل من النصائح والأفكار الهدّامة التي تنتقد جماعتنا وتقلّل من شأنهم. ولكنّي أغلقت أذنيّ وأعدت إلى ذهني صورة زيد وهو يتألّم تحت ثقل الصخر الجاثم على صدره. عليّ أن أقاوم أيضًا. رفعت رأسي وقلت: «أنت كافر ولا يحق لي طاعتك». فصفعني صفعة كادت تسقطني أرضًا. زمجر غاضبًا جائرًا، وهمّ بضربي ثانية لولا تدخّل أمّي التي كانت متربّصة في البهو تنتظر حدوث الكارثة. دفعها أبي بقوّة، قائلًا: «اتركيني كي أربّي هذا الولد العاقّ قبل فوات الأوان». أقسم أنه سيطردني من البيت إنْ رفَضت حلْق لحيتي والعودة إلى الدراسة. لم يكن أمامي خيار آخر. حلقت لحيتي مُرغَمًا، جرحت خدّي وذقني أكثر من مرّة. وبعد ذلك، أجلسني قبالته في الصالون وخاطبني بلهجة مغايرة، فيها كثير من اللطف. أطرقت برأسي ولم أنطق بكلمة. خطاب طويل حول الدراسة والمستقبل والتطرّف الديني والأحزاب التي تخلط بين الدين والسياسة، ومسؤولية الأولياء في تربية أولادهم، وأشياء أخرى كثيرة. في حقيقة الأمر، لم أكن أصغي إليه إلا بنصف أذن، كنت أفكّر في موقف ياسين حينما يراني حليقًا. أكيد أنه سيغضب عليّ ويحتقرني. قرّرت أن أبقى في البيت طوال العطلة. وأنا مدرك أنّ أبي سيأخذني بنفسه إلى الثانوية يوم العودة. الجمعة 24 أفريل وحده ياسين رفض حلق لحيته وعدم العودة إلى الدراسة. لم أعد ألتقي به كثيرًا. أصبح أبي يحرس تحركاتي بشدّة. منع عليّ المسجد. سمح لي بصلاة الجمعة فقط. يقف عند رأسي صباح مساء، ويسأل عن دروسي. أضحت غياباته قصيرة. وقفت أختي فريدة، الطالبة في الجامعة، إلى جانبه. أصبحت هي الأخرى تأتي نهاية كل أسبوع وتساعدني على تحضير تمارين الرياضيات والفيزياء. ولكنّي لا أفهم شيئًا. قال أستاذ الفيزياء لأبي بأنّي ضيّعت السنة ويستحيل التعويض. أختي فريدة أحبّها، تدلّلني كثيرًا وتستجيب لجميع طلباتي منذ أنْ كُنْتُ صغيرًا. في الصائفة الماضية وقع بيننا أوّل خلاف حينما رفضْت أن أرافقها إلى شاطئ البحر مثلما تعوّدت أن أفعل. أطلقت ضحكات عالية حينما قلت لها حرام على المرأة أنْ تذهب إلى البحر. قالت: «أنت أيضًا أصبَحْت تفتي. كل واحد في هذا البلد يفتي لنفسه. أنا أقول بأن السباحة حلال للمرأة». حاولت مناقشتها. ولكنّها هزّت كتفيها وخرجت. أبي أعطى لها الحرّية الكاملة. لا يسألها أين ذهبت ولا من أين جاءت. وحدها أمّي تنصَحها بعدم التأخّر، والرجوع إلى البيت قبل غروب الشمس. أختي لا تعمل إلا برأيها وأبي يوافقها على طول الخطّ. الخميس 2 جوان شاركت اليوم في مظاهرة صاخبة بشوارع العاصمة. تغيّبت عن الدراسة وذهبت مع ياسين باكرًا. أخفَيت قميصي داخل محفظتي خوفًا من أن يراني أبي. لم أعد أجد راحَتي إلا أثناء غيابه. تكفّل ياسين بإخفاء المحفظة عند موسى الحلّاق الذي أغلق دكّانه وذهب معنا. لبست قميصي وشاشيتي البيضاء واتّخذنا أمكنتنا داخل الحافلة مع الأوّلين. سفر مجّاني، ذهابًا وإيابًا، لكل من أراد المشاركة. امتلأت الحافلة الكبيرة عن آخرها، ولم يتمكّن المتأخّرون من الركوب. غصّت ساحة أوّل ماي، مكان انطلاق المظاهرة باتّجاه ساحة الشهداء، بمئات الحافلات بأرقام جميع الولايات. آلاف المناضلين بالقميص الإسلامي واللحية. خجلت من وجهي الأمرد. متى أجد حرّيتي الكاملة لأطلق العنان للحيتي مثل غيري من الإخوان المسلمين؟ وجدنا صعوبة كبيرة في التحرّك. جرّني ياسين وسط الحشد العظيم ليريني الشيوخ. لمحناهم من بعيد. الجميع يتلهّف لرؤيتهم ومصافحتهم. ولكنّ جدارًا من الحراس الشداد الغلاظ يمنع الاقتراب منهم. ضاع ياسين وسط الازدحام ولم أعثر عليه إلّا بعد أكثر من ساعة. قال بأنّه تمكّن من التسلّل إليهم ومصافحتهم. ياسين محظوظ وله شجاعة كبيرة. مشينا طويلًا ورفعنا حناجرنا بالشعارات التي كان الجميع يرّددها. (عليها نحيا وعليها نموت: الشريعة، الشريعة... لا دستور لا ميثاق: القرآن، القرآن...) «هذه الجماهير قوّة جبّارة، سترفع الجبال إن نحن أمرناها بذلك»، مثلما قال أحد الشيوخ في خطبته بساحة الشهداء. أدركت اليوم أنّي لست وحدي. امتلأ صدري بَهجة واعتزازًا بما أقوم به، برغم اعتراض أبي. في طريق العودة، قال ياسين إن تجمّعًا عظيمًا سيُنظّم في الأيّام المقبلة في ساحة أوّل ماي ويدوم إلى غاية تأسيس الخلافة الإسلامية. وموعدها قريب إن شاء الله. وسيكون الجميع سُعداء، وسنقضي على جميع أعداء الدين. تساءلت عن مصير أبي وأختي ومكانتهما في هذه الخلافة. هل هما حقًّا أعداء الدين؟ يجب إقناع أبي بالكفّ عن شيوعيته والدخول إلى الإسلام. يجب أن أفعل قبل قيام الخلافة. مهما يكن، لا أريد الشرّ لوالدي ولا لأختي. قال ياسين بأن الخلافة ستقطع رؤوس جميع الكفّار والنساء المتبرّجات. عليّ بإقناع أختي بلباس الحجاب وعدم الذهاب إلى البحر. هي الآن في الجامعة. العطلة الصيفية على الأبواب، وهي متعوّدة على السباحة في البحر مع الرجال. إلهي أعنّي على إعادتها إلى الطريق القويم. الثلاثاء 11 جوان اللهمّ اغفر لأَبي عدم صوم رمضان. كنت أعْرف أنه لا يصوم. ولكنّي هذا الصباح عندما رأيته في المطبخ يشرب قهوته، ونحن في الشهر المبارك، لم أتمالك نفسي وصرخت في وجهه أنه كافر وأن الله سيرميه في جهنّم. كان في مزاج رائق. ما أدهشني أنه لم يغضَب مثل عادته. طلب منّي الجلوس، وراح يشرح لي فلسفته الملحدة. طبعًا لم أسمع. أنا لا أسمع إلى وساوس الشيطان. الشيطان اللعين هو الذي ينطق على لسانه. كان يتكلّم وأنا أكرّر تلاوة التعويذتين بصمت. ثمّ اغتنمت لحظة توقّفه ليشعل سيجارة ويرتشف قهوته، وقفت متحجِّجًا بالذهاب إلى الثانوية، رغم أننا أنهينا الفصل الدراسي ولم يعد حضورنا واجبًا. أخاف أن يُقطَع رأسه عند قيام الخلافة. ربّي ساعدني على فتح قلبه المغلّف بالآيات الشيطانية! الأحد 16 جوان ما هذه البلايا التي تتساقط على رأسي؟ في الليلة الماضية، كنت بمفردي في الصالون أطالع كتابًا. أبي غائب. قال إنه ذاهب إلى الأغواط في جولة تفتيشية أخيرة. وأختي في الحيّ الجامعي بالعاصمة. أمّي نائمة في غرفتها. سئمت من القراءة ولم أكن أشعر بحاجة إلى النوم. فتحت التلفاز ورحت أغيّر القنوات لعلّي أعثر على فيلم يسلِّيني. فجأة زلزلتني صورة فيلم إباحي. امرأة صارخة الأنوثة تشرّع ساقيها وتمنح فرجها لذكر منتصب يلجها بقوّة. ارتعد كامل جسدي. صوت آتٍ من الأعماق يصرخ «حرام... أغلق...» ولكنّ جسدي مشلول لا يستجيب. صعقتني المفاجأة. لم أر امرأة عارية في حياتي ولا كيف تتمّ المضاجعة بين الرجل والمرأة. في ثوانٍ معدودة صعدت الحرارة إلى جسدي وشعرت بذكري ينتصب. بهرتني الصورة الملوّنة المثيرة أمام بصري المبحلق المذهول. خفت أن تستيقظ أمّي أمام آهات الشبق التي كانت المرأة تتأوّه بها بأعلى صوتها وتصمّ بها الصالون. أمسكت التليكوماند وخفضت الصوت ولكنّي لم أجد بداخلي الإرادة الكافية لتغيير القناة. كان كامل جسدي يرتعش، رعشة خوف في البداية ثمّ رعشة لذّة. كان القذف ممتعًا ومؤلمًا في آنٍ، وكدت أصرخ كما تصرخ تلك العاهرة في التلفاز. بعد ذلك وجدت نفسي منهارًا على الأريكة، ألهث كما لو أنني جريت مسافة طويلة. لا يزال الرجل يضاجع تلك المرأة، في وضعية حيوانية، مثل الكلاب تمامًا. كان يأتيها من الدبر، والعياذ بالله. قمت مسرعًا وأطفأت التلفاز. ثمّ أسرعت إلى بيت الحمّام لأغتسل من البلل اللعين. لا يكفي الوضوء العادي. أعرف أنّ الأزواج يغسلون كامل جسدهم. فغسلت كامل جسدي بالصابون. ثمّ غسلت تبّاني لأطهِّره من رائحة المنيّ اللاصقة به وهي ذات نكهة خاصّة قد تفضحني. عدت إلى الصالون، استغفرت وطلبت من الله أن يغفر زلّتي. أخذت المصحف ورحت أقرأ. ولكن صورة المرأة العارية انتصبت أمام بصري وحجبت الآيات، منعتني من القراءة. أغمضت عينيّ ولعنت الشيطان الوسواس الخنّاس. ومع ذلك، بقيت صورة المرأة ماثلة أمام بصري كما لو أنّ أحدًا ألصقها فوق عينيّ. فجأة تذكّرت أنني أغلقت التلفاز وهو مبرمج على تلك القناة الشيطانية. لو تفتحها أمّي في الصباح، ستكتشف جريمتي. أشعلت التلفاز مرة أخرى. ألا تشبَع هذه العاهرة من المضاجعة؟ يا للهول، يضاجعها رجلان، واحد من الفرج والثاني من الدبر. لعنة الله عليها وعليهما معًا. ومع ذلك لم أغيّر القناة. انتصَب ذكري مرّة أخرى، وأحسست بحرارة المتعة ترعشني ثانية. ولكن هذه المرّة تمكنت من السيطرة على حواسّي وشهوتي وغيّرت القناة ثمّ أطفأت التلفاز. هذه هي قناة إبليس التي ما فتئ بعض الزملاء يتحدّثون عنها. هي عار وفحش كبير ومن يشاهدها يرتكب كبائر الذنوب. قمت وصلّيت ركعتين، وطلبت المغفرة من الله. ومع ذلك لم يكن خشوعي صافيًا. كانَت صُور تلك المرأة وعريها تمرّ على ذهني كالطيف اللذيذ، أبعده تارة، ويهجم عليّ تارة أخرى. دخلت في فراشي وأطفأت النور، فهجمت عليّ تلك الصور ثانية، وملكت حواسّي بكاملها، فوجدت يدي، بلا إرادة منّي، تنزلق باتّجاه ذكري المنتصب الدافئ، فأعصره عصرًا إلى أن يرتعش جسدي في لذّة مخدّرة. انكمَشت بداخل فراشي في تمدّد لذيذ لم أعشه قبل اليوم. وقاومت الصَوتَ الرهيب بداخلي الذي كان يأمرني بالنهوض والاغتسال من التلوّث والنجاسة. كنت في حالة بين الحلم واليقظة. ولا أعرف كيف غلبني النوم. ولكنّ ليلتي كانت مضطربة. أتذكّر أنّ تلك الصور باتت تهزّني وسط أحلام وكوابيس مخيفة مرهقة. عندما فتحت عينيّ كان نور النهار يَسْطع بداخل غرفتي. جلست على سريري وإذا بذهني يستحضر ما حدث لي ليلة البارحة. تملّكني الخجل والخوف والشعور بالذنب معًا. كيف أواجه يومي هذا؟ كيف أخفي ما حدث لي؟ كما لو أنّ الناس جميعًا سيقرؤون فضيحتي على ملامح وجهي بمجرّد الخروج إلى الشارع. تسلّلت إلى قاعة الحمّام واغتسلت مراعيًا أن لا أحدث أيّ صوت كي لا تنتبه إليّ أمّي. ليس من عادتي الاغتسال في الصباح الباكر. قد تشكّ في أمر ما. ثمّ شربت قهوتي بخفّة وخرجت. لم أذهب إلى الثانوية. بحثت عن ياسين، فلم أجده. بقيت أحوم بضواحي المسجد إلى أنْ ظهر. حكيت له ما وقع لي. قال بأنه سمع كثيرًا عن قناة إبليس هذه ولكنّه لم يرها. لا يملك في منزله إلا هوائيًا صَغيرًا يسمح بالتقاط القناة الجزائرية فقط. فقلت له إنّ أبي ركّب هوائيًا خاصاًّ كي يشاهد القنوات الفرنسية. أبي مولع بالسياسة. تجده دومًا منكبًّا على جريدة أو مجّلة، أو يتابع تلك الحوارات والمناقشات في القنوات التلفزية وحتى في الإذاعة. استحثّني ياسين كي أحكي له تفاصيل ما رأيت. وبمجرّد استعدادي لاسترجاع تلك الصور، أحسست بحرارة تصعد إلى وجنتيّ وبذكري ينتصب. خَجلت من نَفسي، وخفت أن يلاحظ ياسين ذلك التغيّر على وجهي. فقلت له إنني لمْ أرَ منها إلا بعض الثواني ثمّ غيّرت القناة. قال إنّه لو كان في مكاني لحطّم ذلك الهوائي. أفهمته أنّني وقعت على تلك القناة بالصدفة ولم تكن بنيّة مبيّتة. ثمّ إنّ أبي سيهدّم المنزل على رأسي إن أنا كسّرت الهوائي. هو لا يعرف أبي، لذلك يتجرّأ على مثل هذا الكلام. أمّه امرأة أمّية، مريضة، يتعَنْتر عليها مثلما يحلو له. رفض حلق اللحية والعودة إلى الدراسة، ولم تقل له شيئًا. حينما سألته، قال إنها لم تسمع أصلًا بالحادثة. فلا زالت تعتقد أنه يواصل دراسته. ثمّ إنهم فقراء، بلا أدنى مورد. فلولا خالته التي تتفضّل عليهما بصدقاتها، لماتا جوعًا. فقد وجد تلك الحادثة مناسبة سانحة للتوقف عن الدراسة والبحث عن العمل. اقترح عليه مَطّال له مستودع لتصليح وصيانة صفائح السيّارات تشغيله. إنه أحد الإسلاميين البارزين. وقد يبدأ العمل قريبًا. الجمعة 17 جويليه منذ تلك الليلة، تغيّرت نظرتي إلى المرأة. أصبحت عيوني تخترق الثياب وتتخيّل الملامح الجسدية، وبالأخص النهدين والفخذين وما تحت السرّة. أصبحت أعيش مشكلة حقيقية. لهذا يأمرنا الله بغضّ البصر والمنع عن مصافحة المرأة، كما يأمر المرأة المؤمنة بلباس الحجاب الشرعي كي لا يثير جسدها فتنة الرجال. تفاقمت مشكلتي بعد عودة أختي إلى المنزل بمناسبة العطلة الصيفية. أختي فريدة غير مبالية. لا تضع على جسدها إلا فساتين شفّافة وقصيرة، تكشف كتفيها وساقيها. أخجل من النظر إليها والجلوس بقربها. أصبحت أتفادى الحديث معها. صَحيح أنّ حرارة الصيف خانقة، ولكن ما العمل؟ رفضت رفضًا قاطعًا حينما اقترحت عليّ أن تراجع معي بعض دروس الرياضيات والفيزياء. كان عذري مقبولًا إلى حدّ ما. بما أنني سأعيد السنة، فلا داعي للإرهاق المسبق. سيكون لديّ الوقت الكافي لاستدراك الأمر طوال السنة الدراسية. ولكنّ العذر الحقيقي أنني لم أعد أطيق الجلوس بقرب أنثى، وإن كانت أختي. أكثر من هذا، أصبحت، بين آونة وأخرى، تحت ضغط غريزة الجسد القاهرة، أختلي بنفسي في قاعة الحمّام وأستمني برغم علمي أنّ هذا حرام وعقابه عند الله شديد. بعد ذلك، أغتسل جيدًا وأكثر من الصلاة. بدأت أبحث في كتب الفقه عن موقف الدين من هذا الشقاء القاهر لإرادة الرجل الشابّ. كلّهم يقترحون الزواج لحلّ المعضلة. ولكن أنّى لي أن أتزوّج وعمري لم يتجاوز الثامنة عشرة ولم أنهِ دراستي بعد. الصوم، هناك من اقترح الصوم. بدأت أصوم. ولكنّ الصيام ليس سهلًا في فصل الصيف، حيث الحرارة المرتفعة والأيّام الطويلة التي تصل إلى أكثر من أربع عشرة ساعة. إنني في ورطة لا مخرج لها. أصبحت أخاف من مشاهدة الأفلام، وإنْ كان الفيلم في القناة الجزائرية. كلّما وقف رجل بإزاء امرأة قفزت تلك الصور اللعينة إلى ذهني. الحلّ هو الإكثار من قراءة القرآن والصلاة. * * * أغلقت الدفتر وسرحت في مشكلة نبيل المسكين. مشكلته كانت مشكلتي ذات يوم. أنا أيضًا اكتشفت شهوة جسدي بالصدفة. حينما انتقلنا من كوخنا في تلك الهضبة الملعونة وسكنّا في قرية سيدي أعْمَر، وبإيعاز من جارة لنا، أصبحت أمّي تذهب إلى الحمّام الواقع في الجهة الأخرى من القرية. طلبَت مني مرّة أن أمرّ عليها في الحمّام لأخذ حقيبة الملابس والفُوَط وإرجاعها إلى الدار لأنها ستذهب إلى عرس زفاف برفقة جارتها. كنت طفلًا نحيلًا، قصير القامة نوعًا ما، فلم تمنعني العجوز المسيّرة للحمّام من الدخول إلى القاعة الكبرى حيث تستريح النساء ويغيّرن ملابسهنّ. كانت المفاجأة لاسعة. أجساد أنثوية فاتنة متناثرة هنا وهناك. وجَمت مبحلقًا في ذاك الحريم، أتملّى البشَرات البيضاء والوردية والسمراء نصف العارية، بل أكاد أجزم اليوم، وفي هذا العمر الذي لم يعد جسد المرأة سرًّا عليّ بعد أن جرّبت الأنواع والأعمار كلها، أنّ معظم الأجساد كانت عارية تمامًا. أو هكذا رَسخت الصورة في ذاكرتي. والآن أرى أمامي تلك الأجساد الأنثوية الجميلة تتحرّك بغنج ودلال، حيث تعتزّ كل أنثى بجمال مفاتنها بعد أن أخضعت جسدها لساعات طويلة لحرارة الغرف الساخنة والتنظيف بأعطر الصوابين. تتسلَّى الفتيات والشابّات من النساء بتسريح الشعر الأسود المسترسل ومشطه بعد أن حرّرنه من طوق وقيد الخمار اللاصق به طوال أيام السنة. شدّني ذلك المشهد الحريمي المثير بحيث لم أسمع صوت أمّي يناديني، حتى قرصتني العجوز المسيّرة من خدّي ونبّهتني إلى ما ينتظرني. ثمّ سمعتها تقول لامرأة أخرى، وأنا أحمل الحقيبة واتجه نحو الخروج، «هؤلاء الأطفال شياطين، تجدينهم لم يخرجوا من الأرض بعد ومع ذلك عيونهم عيون رجال. كم مرّة أقسمت أنني لن أترك طفلًا يعتّب الباب، ومع ذلك أنسى نفسي وأتركهم يدخلون». أنا أيضًا بقيت صورة الحمّام تطاردني أيّامًا وهي التي أيقظت شهوة جسدي وأصبحت أجلد عُميرَة كلما أشتاق إلى الجلد، ويا له من جلد ممتع، دون أن يعتريني شعور بالذنب. الحقّ أنّ ثقافتي الدينية لم تكن تتجاوز حفظ بضع سور من القرآن. ولم يكن سيدي المولود، معلّم القرآن، يحدّثنا كثيرًا خارج تحفيظ الآيات والسور. كلّما كان ينصحنا به قبيل الخروج هو طاعة الوالدين وتجنّب الكذب والسرقة. وفعلًا بقيت هذه الخصال راسخة في سلوكي. فلا أكذب على أحد ولا أسطو على مال غيري حتى وإن شعرت بضرورة ملحّة أو بإغراء شديد. في ذلك العهد، كانت دور البغاء منتشرة في جميع المدن تقريبًا. وما إن يبلغ الشابّ ويشعر بحاجة جسده إلى ملامسة المرأة حتى يجد الطريق الزلج المعبّد باتّجاه نساء الماخور. أتذكّر جيدًا يوم ضاجعت أوّل امرأة. صديقي الجيلالي هو الذي أخذني هناك. كنت في مدرسة تكوين المعلّمين بخميس مَلْيانة وأنا في العشرين من العمر، قوي العضلات، بشرة سمراء داكنة، زادتها شعيرات الشلاغم واللحية سوادًا بحيث كنت أبدو أكبر من عمري الحقيقي. ارتبكت قليلًا عندما أشرفت على البهو العريض الغاصّ ببائعات الهوى، يعرضن أجسادهن الفاتنة المفتنة، ولكن جرأة وإقدام الجيلالي الذي عيّن امرأة له وامرأة لي، أنقذ الموقف. فتبعت المرأة إلى غرفتها وأنا أجتهد لطرد الاضطراب الذي تملّكني. ما إن أغلقَت الباب، حتى قالت: «يا الله، نحِّ سروالك». وبعد ذلك ارتمت على ظهرها فوق السرير، فتحت ساقيها على مصراعيهما وقالت: «هيّا خفّ روحك». شلّت تفكيري باستعجالها المبتذل. كانت أوّل مرة أضاجع فيها امرأة. حاولْتُ النَظَرَ إلى الكنز السرّي المعروض أمام بصري، ولكن النور كان خافتًا إلى حدّ لم أر الشيء الكثير. انتابتني برودة قلّصَت من حرارة جسدي وأحسست بقضيبي يذبل ويرتخي. ولكن ما إن ارتميت على جسد العاهرة البضّ حتى عادت إليّ رغبتي. وما هي إلّا ثوانٍ مَعدودة بعد أن أولجت ذكري في فرجها الدافئ حتى قذفت في رعشة راعدة. فدفعتني ثمّ أشارت إلى ركن شبه مظلم وقالت: «ها هو الماء في الدلو واغسل...». تقزّزت من كلامها. ما هكذا تتكلّم المرأة وإنْ كانت عاهرة. خرجت وبي شعور بالاشمئزاز. استبدّ بي الندم والغضب. حينما رويت قصّتي مع تلك العاهرة للجيلالي، قهقه بصوت عالٍ وقال: «وماذا كنت تنتظر من قحْبَة تتاجر بفرجها؟ أن تقرأ عليك أشعار نزار قباني أو المعوِّذتَين؟ هذا مكان للنيك، ليس إلا». لم أندهش من جواب مرشدي إلى الماخور، فهو معروف ببذاءاته الدائمة، ولا يكاد ينطق جملة إلا ويزيّنها بلفظة فحش مقذعة، لا تكاد تخرج عن دائرة ما تحت الحزام. وهذا الفحش منتشر إلى حدّ ما وسط الرجال وبَين الأولاد المراهقين، بحيث صار مبتذلًا ومقبولًا. أمّا أن تتدفّق هذه الألفاظ الوسخة على لسان امرأة، فكان أمرًا غريبًا وجديدًا عليّ. ولا يزال الأمر عندي كذلك. ومَع تلك التجربة الأولى التي أثارت بنفسي التقزّز، وكادت تكرّهني في مضاجعة المرأة إلا أنّي وجدت نفسي أعود إلى ذلك الدرب الضيّق بعد أيام قليلة فقط. عدت مرّة ومرتين وثلاثًا وأربعًا حتى اختلط عليّ الحساب. فاكتشَفْت أنّ المقيمات في سجن الشهوة ذاك يختلفن في كيفية الاستقبال وطرق المعاملة واختيار الألفاظ لمخاطبة الزبائن. هناك من تسألك عن حالك وصحتك وبلدك ومهنتك، وأحيانًا حتى إن كنت متزوّجًا أم لا. ولا ترى في كلامها بذاءة ولا خروجًا عن الأصول والتقاليد. بل تذهب الحفاوة ببَعضِهنّ إلى غسل قضيبك بالماء الدافئ المعدّ سلفًا ومساعدتك على ارتداء ثيابك كقفل الأزرار مثلًا. ومضاجعة المرأة ليس مماثلًا عند جميع النساء مثلما يقول صديقي الجيلالي. ليس تفريغًا للشحنة الزائدة من المنّي. في هذه الحالة، يكفي الاستمناء. لكل عاهرة طريقتها في تهييج شهوتك واقتراح وضعية الولوج. لذلك يصرّ المتعوّدون على زيارة المواخير على انتظار عاهرة بعينها برغم شغور الأخريات وإلحاح المسيّرة العجوز على استعجالهم (واش حَبِّيت تخطب؟) والدعاية للواقفات والجالسات (ها هي السلعة، خيّر واختار إذا كنت فْحَلْ وقادرْ). استهجنت تماطلهم في بداية الأمر، ثمّ عرفت السرّ وبطل استغرابي فأصبحت مثلهم، أتماطل وأنتظر أن تخرج مَحظيّتي. ولكنّي عرفت كل هذه المسائل بالتفصيل الدقيق عندما أعارني عمّار ـــ زميل آخر عربدنا معًا لسنوات، وقد وافته المنية في الأربعين من العمر بعد مرض خبيث خطفه عنّا في شهور قليلة ـــ كتاب الروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي، ولا زلتُ أتذكّر جملته الافتتاحية الرائعة «الحمد لله الذي جعل اللذة الكبرى للرجال في فروج النساء وجعلها للنساء في أيور الرجال». وقد صادفت قراءة هذا الكتاب معرفتي بزَهرة السطايفية، زميلتي في الفندق الرثّ الذي سكنت فيه سنوات الأستاذية. فلولا أنها عاهرة تمارس البغاء جهارًا نهارًا لاتَّخَذتها خليلة لي. ولكن أنّى لرجل مثلي، تربّى في مجتمع محافظ، يعتبر المرأة الزانية أوسخ من حظيرة خنزير، أن يفكّر حتى في الاقتران بواحدة من هذا الصنف. كنت أصعد إلى غرفتها في الطابق الخامس والأخير كلّما استبدّت بي الغلمة. فلم تصدّني مرّة، حتى وهي حائض. تعرف كيف تبرّد شهوتي بالمداعبة ومصّ الأصلع المنتوف. كم مرّة باغتتني الشهوة وقذفت شحنتي في فمها. لا تنزعج ولا تغضب. تقوم وتغتسل وتغسل الأعور المزبوق، قبل أن تواصل حكاياتها التي لا تنتهي. عندها مخزون من الحكايات حول الناس وحول عائلتها وطفولتها. هي من مدينة العلمة، أو سانت آرنو مثلما تسمّيها دائمًا. لم يتجاوز مستواها التعليمي بضع سنين في المرحلة الابتدائية. هي مثلي تمامًا، تجاوزها قطار التعليم. الخلاف أنّي استدركت الوضع بفضل التعليم الليلي وبفضل أخي الميلود. انحدرت عائلتها من الريف مع زحف الريفيين نحو المدن في السنوات الأولى للاستقلال. اغتصبها عسكري في السابعة عشرة من العمر. وعدها بالزواج ثمّ اختفى. وحينما جاء أحد الأقارب من قريتهم الريفية لخطبتها، رفضت رفضًا قاطعًا، فبكت وحرَدت وقاومت إلى أنْ رضخ الوالدان، خاصّة الأب الذي لم يقطع علاقته بقريته فداوم على زيارتها بسبب وبدونه. أوّلًا، خشيت الفضيحة وما يستتبعها من إهانة ومذلّة لها وللعائلة بأسرها. ثانيًا، رفضت العودة إلى حياة الريف، والأشغال المنزلية الشاقّة وصيانة زرائب الغنم وخِمَمَة الدجاج وطهو الأكل والخبز بالحطب، وليس بالغاز مثلما هو الحال عندهم في المدينة. عبّرت لها عن موافقتي بخصوص العذر الثاني لأنّ الحياة في الريف شاقّة فعلًا، وأنا أحتفظ بذكرى سيّئة لتعاسة أمّي وتذمرّها الدائم من الفحم الرديء والحطب المبلّل والدخان الحارق للعيون. بعد هدنة شهور قليلة، ارتبطَت بعسكري آخر من عنّابة. كانت تذهب معه إلى مدينة سطيف ويكتري لها غرفة في الفندق وتظلّ معه طوال النهار. ثمّ أصبحت تبيت الليل معه، وتختلق أكاذيب على والديها، تتعلّق بمواصلة دراستها وتعلّم حرفة الخياطة. كان العسكري عنيفًا معها، خاصّة عندما يفرط في الشرب. وصل به الأمر إلى حدّ طردها من الغرفة في منتصف الليل، واصفًا إياها بأقذع الأوصاف: قحبة، خَمْجة، كَحْلوشة (وهي شديدة السمرة) موسّخة... فهجرته وجاءت إلى العاصمة. وأمام الحاجة، دخلت في ممارسة أقدم وأبسط مهنة في التاريخ مثلما يقولون. كنت نزيهًا معها ولم أعدها بشيء. أدفع ثمن استمتاعي رغم رفضها المتكرّر. كانت تقول دائمًا: «نحن جيران، والجار مثل القريب، نخدمه دون مقابل». ثمّ تضيف بعد قهقهة متخابثة: «أنت معلّم فقير، دَخِّر نقودك قد تنفعك في تأسيس أسرة». وعند إصراري، تأخذ نصف المبلغ، متذرّعة بأنها قد ملأت جيوبها من كثرة الزبائن الأثرياء وسخاء عطاياهم. وطبّقت معها بعض وضعيات النيك، استقيتها من كتاب النفزاوي، قبل أن تروج كتب الصور الخلاعية ومن بعد ذلك أفلام البورنو في أيامنا عبر شلّال القنوات التلفزية المتدفّق علينا برغم معارضة أكثرية الناس في الظاهر. أما الباطن وما يُمارَس في الخفاء، فلا يعلم أسراره إلا الله. كثرت الإغراءات وانعدمت وسائل إشباعها القانونية، فغرق الناس في الانحرافات التي تنخر حياتهم من الداخل مثل الدودة المُسوّسة. فأصبحت اليوم قضايا الاغتصاب وجرائم الجنس تملأ صفحات الجرائد وأروقة المحاكم. اغتصاب الأطفال ظاهرة جديدة لم تكن معروفة سابقًا. كما تمتلئ المستشفيات بالرضّع غير الشرعيين. ولم تعد دور الأيتام القليلة تتّسع لاستقبالهم وتربيتهم. أما الذين يُكتشفون داخل أكياس مرمية في المزابل، والذين ماتوا بفعل الخنق أو قُطّعت أطرافهم إربًا إربًا، فأمر يثير القرف وينادينا إلى فتح نقاش صريح حول هذه المعضلة. إنّ غلق دور البغاء خطأ فادح، ارتكبته السلطة تحت ضغط الخطاب الديني المتطرّف الذي لم يجد من مشاكل الناس إلا دور البغاء التي لا يمثّل عدد قاطنيها حتى واحدًا في المائة من المجتمع، ولكنها كانت تقي الآلاف من ارتكاب جرائم أفظع وأشنع. ناهيك عن انتقال الأمراض الجنسية المعدية. كم مرّة فتحت نقاشًا صاخبًا مع زملائي المحامين في أروقة المحاكم حول الجرائم الجنسية، واقترحت عليهم القيام بمبادرة باتّجاه المجتمع والدولة لإعادة فتح دور البغاء. هي شرّ لا بد منه، شرّ يوجد في جميع المجتمعات. والأمم المتحضّرة تقنّن مثل هذه المهن المُهمّشة، وتسنّ لها قوانين تخضع لها حتى لا تفلت من رقابتها. أمّا نَحن، فنمارس سياسة النعامة البليدة، ونتوهّم أن باستطاعتنا تغطية الشمس بالغربال. نتشبّث بخطاب أخلاقي وهمي، يستند إلى حكايات عتيقة، معظمها مختلق ويُنسَب إلى عوالم تتباين عن واقعنا تباين الأبيض عن الأسود. ما مَصير الآلاف من الأطفال المهملين في دور اليتامى؟ أليسوا قنابل موقوتة تُدعّم الإجرام والتطرّف وقد تنفجر يومًا على أنوف الجميع؟ زيادة على الأمراض الجنسية المعدية والجرائم الجنسية المتفاقمة يومًا بعد يوم، تلك التي تفكّك وتعفّن المجتمع من الداخل، وقد تكون نتائجها على المدى الطويل مدمّرة. كل ما تقوم به مصالح الأمن هو مطاردة الأزواج في الأماكن العمومية والفنادق الخاصّة والعامّة، باسم محاربة الرذيلة وتطهير المجتمع من الآفة الاجتماعية. فتقوم بزجّهم في السجون، كالمجرمين. وقد رافَعْت للدفاع عن كثير من أرباب عائلات محترمين، لا يستحقّون تلك الفضيحة والبهدلة، وقد ساقتهم ظروف قاهرة ولحظات ضعف إلى إقامة مثل تلك العلاقات غير القانونية. لم تكن علاقتي مع المرأة علاقة جنس وشهوة جسدية فقط، بل عصَف بي الحبّ أيضًا وغرقت في دواليبه اللذيذة المؤلمة. كانت مؤجّجة عشقي محامية قبائلية صهباء، التقيت بها أوّل مرّة في محكمة عزازقة حيث قادتني قضية إرث عائلي متشابك. كنت أيّامها أشتغل في مكتب سي ناصر قبل أن أستقلّ بمكتبي الخاصّ. اشتغلت معه أكثر من ستّ سنوات. كان ذلك اليوم أوّل زيارة لي لولاية تيزي وزو وأوّل عهدي بسياقة السيّارة. خفق قلبي حينما رأيتها في مكتب وكيل الجمهورية وعرفت أنها المدافعة عن خصوم موكّلي. تبادلنا بعض عبارات المجاملة قبل أن تنسحب. امرأة في مقتبل العمر، مُتوسِّطة القامة، ممتلئة غير مُفاضة، تمامًا مثلما يشتهيها قلبي. أنا أكره النحيفات لأنّهن يذكّرنَني بأمّي وبنساء قريتنا الفقيرات، الشقيّات. كان فمها مرسومًا كالعنقود وشعرها الأشقر يسافر مع الريح مثلما يغني العندليب الأسمر الذي ملأ كياني في ذلك العهد الساحر. كست حُمرَة شفّافة وجهها والنمش زادها بهاءً وجمالًا. طلبْت تأجيل الحكم لاستكمال الملفّ. ولكنّ هدفي الباطن هو إمكانية رؤيتها مرّة أخرى. وبما أن القضية عائلية، اقترحت عليها النظر في إمكانية حلّها بالتراضي. اتّفقنا على عقد جلسة عمل. حدّدنا الموعد، فتطوَّعت بالمجيء إلى مكتبها بوسط مدينة عزازقة. وتوصّلنا بالفعل، بعد أربع جلسات، إلى حلّ أرضى الطرفين. عشت في تلك الأسابيع حلمًا رائعًا. كنّا في فصل الربيع، وكان الجوّ دافئًا وضياء الشمس ساطعًا دون ضرر للبصر ولا إرهاق للجسد. الربيع في منطقة القبائل من أروع الفصول، وللأسف الشديد لا يدوم طويلًا. ما إن ينتصف شهر ماي حتى تلتهب حرارة الصيف وتلتهم الخضرة المنعشة لتحوّلها إلى غبار يزكم الأنوف ويجفّف الحلوق. المسافة بين الجزائر العاصمة وعزازقة تتجاوز المائة كيلومتر، ومع ذلك لم أشعر بالتعب ولا بالملل. فكانت تلك القبائلية الصهباء ترافقني في تخيّلاتي الرائعة، فأركّب سيناريوهات يندهش لها مخرجو أفلام هوليوود. أثناء الجلسات، كنت أحاول باستمرار الابتعاد عن تفاصيل القضية التي كنا نجتمع من أجلها، وأخوض في مسائل حياتية تخصّني لعلّي أستميلها لتحكي لي حياتها هي أيضًا. ولكنها كانت حريصة على الحفاظ على الجوّ العملي، ثمّ تعتذر بانشغالات أخرى، ومع ذلك، راح حلمي يكبر يومًا بعد يوم، مثل فطير أشبع سقيًا وحرارة. ذات يوم، وبعد أن اتّفقنا على تفاصيل حل قضيتنا، استجمعت قواي وفتحت لها قلبي وطلبتها للزواج. فجاء ردّها كحمّام بارد في عزّ الشتاء، حيث صارحتني بحقائق كنت أجهلها. أوضحت لي بأنّ عائلتها تنتمي إلى أشراف القبائل، المعروفين بالمرابطين. وفي عرف هذه العائلات أنها لا تزوّج بناتها لغير أبناء المرابطين مثلها. لهذا السبب، فهي لا تفكّر أصلًا في إقامة علاقة مع رجل لا ينتمي إلى عائلة قبائلية مرابطة. ثمّ أضافت: «أنا لا أرفضك أنت كشخص لأنني لم أرَ في تعاملي معك إلا الخير وسمات الرجل الطيّب الشهم. هذه عادات أجدادنا وأعْرافهم وما عليّ إلّا احترامها والانصياع إلى نواميسها. أنا أحترمك ولا أرى فيك أي عيب يحول دون خلق حياة زوجية سعيدة، ولكنّ عائلتي لن تقبل أبدًا أن تزوّج ابنتها لغريب. لا أريد الدخول في صراع معها». فحاولت مناقشة صهبائي الفاتنة، باستحْضار الروابط الدينية والعادات والتقاليد المتشابهة والحداثة والتعليم والانتماء إلى البلد الواحد الذي ضحّى القبائل والعرب معًا بأغلى الأرواح، دون جدوى. أضافت أنّ المرأة القبائلية لا يمكنها الخروج عن طاعة والديها أبدًا. إذا فعلت، يكون أهون مصيرها الطرد والنبذ. وفي أغلب الحالات، تعاقب عقابًا شديدًا، قد يصل إلى القتل. لم أستسلم بسهولة، بل أخرجت كل ما عندي من حجج ليلين موقفها وتسمح لي بمقابلة والدها. ولكنها حسمت النقاش وأجهزت عليّ بضربة واحدة، حينما قالت إنها مَخطوبة منذ الصغر إلى قريب لها يدرس الآن في فرنسا، وتنتظر عائلته عودته لترسّخ الخطوبة وعقد قران الزواج. طبعًا، أخرست لساني بذلك الاعتراف القاسي. فعدت أجُرّ أذيال الخيبة، وأبحث عن مهدئات أسَكّن بها ألمي. بقيت شهورًا عديدة مريضًا لا أصدّق ما حدث لي. فعدت إلى فندقي الرثّ أبحث عن زهرة السطايفية. هي أيضًا غادرت الفندق ولا يعرف أحد عنوانها الجديد. فلم أجد من مسكّنات لأوجاعي إلا المومسات، حيث أصبحت أطوف بسيّارتي في شوارع العاصمة عند الغروب لألتقط إحداهنّ، فأدعوها إلى مطعم للعشاء قبل أن أختلي بها بشقّتي الجديدة. ولم أرغب ثانية في إقامة علاقة حبّ مع أية امرأة أخرى. 9 ليلة أمس، زارني الصحافي الهارب يوسف عياشي. لم أتوقّف عن التفكير في قضيته وكنت أتوقّع مجيئه بين ليلة وأخرى. يبدو أنه كان يراقب تحركاتي. سافرت إلى العاصمة وتأخّرَت عودتي إلى ما بعد العاشرة ليلًا. وما إنْ تخلّصت من ثقل ملابسي الخارجية ولبست بذلتي الرياضية المريحة التي أفضّلها على أية منامة وإن كانت من الحرير الصافي، حتى سمعت دقّات خفيفة على الباب. فعرفت أنّه هو. ربّما وقع ذلك صدفة، أو ربّما تفادى تجاوز الوقت الملائم للنوم كي لا يوقظني مثلما فعل في المرّة الماضية. جاءني بمفرده. لم أسأله. عندما فتحت الباب ودعوته للدخول، لم يتردّد. لم أغلق الباب مباشرة لأنني انتظرت أن يتبعه شخص ثانٍ وربّما ثالث. أكيد أنّ حارسًا مرافقًا يختفي في ركن معتم ويحرس المكان. كان الارتباك باديًا على حركات جسمه. وجنتاه عظميتان وبارزتان برغم اللحية القصيرة التي غطّت معظم وجهه. أدخَلته إلى الصالون وطلبت منه أن يَسْتَريح إلى غاية إعداد قهوة تبعد عنا النعاس والإرهاق. سألته إن كان بحاجة إلى أكل، فقال إنه تعشّى قبل قليل فقط. ارتَشَف الجرعة الأولى بصوت مسموع، حطّ الفنجان على المائدة، نظر إليّ مليًّا، مطّ شفتيه، حكّ صدغه بظفر سبّابته وقال: ـــ إنّي غارق في مصيبة لا يقدّر هولها إلا الله، لا أميّز فيها رأسي من قدميّ. كنت أوّل أمس عند أمّي المسكينة. مزّقت قلبي ببكائها وشكواها. ألحّت عليّ كي أسلِّم نفسي إلى الشرطة. شدّتني رغما ًعنّي إلى غاية الفجر، وهي تحكي وتبكي. وفي كل مرة أتحرّك بنيّة مغادرتها، تسبقني إلى القسم والإلحاح الشديد كي أبقى إلى جوارها: أين تذهب في هذا الهزيع من الليل؟ أين تبيت وأين تأكل؟ دَعني أشْبَع من رؤيتك. قد يخطفك الموت، أبعده الله عنّا، وتبقى جمرة حارقة في قلبي. فأذكّرها بأن الشرطة تبحث عنّي وقد تداهم المنزل في أية لحظة، مثلما فعلت أكثر من مرّة. ولكنها تجيبني بين شهقتين: «أطلب من الله أن يأتي بالشرطة في هذه اللحظة كي تقبض عليك، فالسجن أرحم من الموت. أفضّل زيارتك مرّة في الأسبوع والتحدّث إليك ولو لخمس دقائق، على أمل أن تخرج وتعود إليّ، فأزوّجك وأعيش آخر أيامي مع أحفادي، عوض زيارة قبرك صباح كل جمعة والعودة منها متهرّئة، يائسة، مثل قربة بالية فارغة». ما زال صوتها النوّاح يرنّ في أذنيّ: «أتريد أن يقتلوك بالرصاص مثلما حصل مع أبيك، وأنت في ريعان شبابك؟ كان أبوك رحمه الله أرعن، لا يسمع نصائح أحد. فأكل رأسه وهو لم يتجاوز الثلاثين، وتركني وإياك بمعية أمّه المريضة، نتخبّط وسط بؤس لا يليق حتى بالكلاب. حكت لي جدّتك بأن زوجها قُتل في حرب منطقة القبائل التي اندلعت بعد الاستقلال مباشرة. حكت لي جدّتك يومًا قصّة زوجها بكامل تفاصيلها. قالت: «التحق زوجي أحمد بالمجاهدين أربع سنوات قبل الاستقلال وقضى معظمها في منطقة القبائل. كنّا نسكن في حوش قديم من التراب والزنك في أولاد رَحْمون بالضاحية الغربية لمدينة الثنيّة أو مينرفيل مثلما كانت تسمّى في زمن فرنسا. في صائفة الاستقلال، حينما بدأت أفواج المجاهدين تهبط من الجبال، عاد إلينا كالسبع، ببذلة عسكرية مهيبة وبندقية مات 45 على كتفه. ورَحّلنا أنا وأمّه إلى منزل رومي فاخر. استبشرنا خيرًا بالاستقلال وقلنا ها هي حياة العزّ والرفاهية تغمرنا أخيرًا. ولكن للأسف الشديد لم تدم تلك الحياة طويلًا. كان حلمًا جميلًا تحوّل إلى كابوس نغّص علينا حياتنا وأعادها إلى أسوأ ممّا كانت عليه أيّام الاستعمار. اندلعت الحرب في منطقة القبائل، فأخذ زوجي رشاشه والتحق بأصدقائه المجاهدين ثانية. كانت تصلنا أخبار متناقضة عن فحوى المعارك الطاحنة في أعالي هضاب القبائل. وكنا نرى يوميًا جحافل العساكر بالمدرّعات والشاحنات تتّجه صَوْب جُرجُرة. بعد شهور قليلة، توقّفت الحرب وابتهجنا لعودة زوجي أحمد. انتظرناه طويلًا بقلوب خافقة وآمال زاهية. ولكنه لم يَعد. اتّصل أخوه ببعض المجاهدين في تيزي أوزو، ولكن لا أحد دلّه على شيء. تمسّكنا طويلًا بأمل رُجوعه، بلا جدوى. بعد شهور بدأت أخبار تلك الحرب تنتشر. قيل إنّ جيش العقيد هواري بومدين تغلّب على جيش العقيد مُحَنْد ولحاج، وقتل منهم المئات، ودفنهم في مقابر جماعية دون صلاة الجنازة ولا حتى تحديد هويتهم، مثل البهائم المصابة بداء الكوليرا. يئسنا من الانتظار وقرأنا الفاتحة على روحه. لو توقّف الأمر عند هذا الحدّ لحمدنا الله واقتنعنا بالمكتوب. الموت قدر على كل إنسان، ولكلٍّ أجله المعلوم. كنّا نسكن في ذلك المنزل الجميل الذي تحيطه كروم على مدى البصر، أمّه، ابني عبد الرزاق وأنا، وأخوه ناصر الذي التحق بنا بزوجته وأولاده، لحمايتنا أثناء غياب أخيه مثلما قال لنا. ذات صباح، جاءت جماعة من الرجال قالوا إنهم مجاهدون وطلبوا منا إخلاء المنزل فورًا. أفهمَهم سِلفي ناصر أن زوجي أيضًا مجاهد وهو الذي أسكننا في هذا المنزل. قال أحدهم: «إنّ الذي أسكنكم في هذا المنزل لم يعد مجاهدًا لأنه خان الثورة والشهداء عندما رفع السلاح ضد جيش التحرير الوطني، وهو يُعدّ في قائمة الحركة وأعداء الثورة والوطن». خرجْت إليهم وبكيت وتوسّلت، ولكن قلوبهم كانت قاسية كالحجر. أرغمونا على الخروج. ولم يتمكّن ناصر المسكين من فعل شيء. فأعادنا إلى كوخنا القديم. ناصر، لا حَول له ولا قوّة. كان يعرج قليلًا من قدمه اليُسرى ويجد صعوبة في المشي. يشتغل عاملًا موسميًا في المزارع المحيطة بمينرفيل. أنا أيضًا، وأمام الفقر، اشتغلت في المزارع التي أصبحت ملك المجاهدين. وكم بكيت وتأسّفت على تهوّر زوجي. فلو بقي معنا في ذلك المنزل الجميل، لكان على قيد الحياة، ولأصبح مالكًا لإحدى هذه المزارع الخصبة. كنت أخفي اسمي ونسبي، خوفًا من أن يطردوني من العمل. إنها نصيحة سِلفي. كان ابني عبد الرزّاق في السادسة من العمر حينما التحق أبوه بالثورة. بعد سنوات قليلة من الاستقلال، أصبح شابًّا قوي البنية مثل أبيه تمامًا. فمنعني من العمل. وراح يشتغل هو أيضًا في المزارع. تحسّنت حياتنا نوعًا ما. وكنّا على الأقلّ لا نعرف الجوع ونشتري ملابس جديدة. ولكن اللعنة لحقت بنا مرة أخرى. في عهد بومدين، حينما بدأ الناس يتحدّثون عن جمع رُفات الشهداء ودفنها في مقابر خاصّة بها، وإعطاء علاوات لأراملهم وأبنائهم، تحرّك ابني عبد الرزاق لمعرفة مصير أبيه. كبر وأصبح يفهم في السياسة. بدأ يتحرّى ويسأل عمّا وقع. أقام الدنيا وطاف بكل مكان، ولم يتوقّف عن الاتّصال بمن لهم دراية بما وقع في تلك الحرب المشؤومة. فعرف الحقيقة مثلما كان يقول. بعد ذلك، بدأ يتّهم عسكر بومدين بقتل أبيه. وذهب إلى قسمة قدماء المجاهدين وطلب منهم أن يسجّلوا أباه في قائمة الشهداء. طبعًا رفضوا وقالوا إنّهم لا يجمعون الخونة مع الشهداء في خندق واحد. تخاصَم معهم وشتمهم كما شتم هواري بومدين وقال إنه مجرم وقاتل عبّان رمضان والعقيد شعباني. من أين كان ابني يأتي بكل تلك الأخبار عن الثورة؟ لقد تعلّمت منه أشياء كثيرة لم أكن أسمع بها قطّ، رغم أنني عشت فترة الحرب. فكان كثيرًا ما يعود إلى البيت غاضبًا شاتمًا ولا يتوقّف عن التهديد والوعيد. بعد أيّام قليلة، اقتحم رجال الأمن العسكري منزلنا ليلًا وأخذوا ابني. كدت أموت في تلك الأيّام وأنا أسأل عنه في محافظات الشرطة ومقرّات الدرك، ويقولون إنهم لا يعرفون عنه شيئًا. بل هناك من قال بأن جماعة من المجرمين هي التي ربّما اختطفت ابني لأسباب تتعلّق بالمتاجرة بسلع ممنوعة. حجزوه لأكثر من شهر. حينما أطلق سراحه وعاد إلى البيت، لم أكد أتعرّف عليه من فرط التغيّر الكبير الذي طرأ عليه. لقد فقد اثنتين من أسنانه العلويّة وملابسه متّسخة وممزّقة. عاد إلينا نحيلًا كالمسمار. بقي منعزلًا في البيت لشهور، وهو لا يتوقّف عن الشتم والتهديد بالانتقام. رفَض أن يحكي لنا تفاصيل اعتقاله. ولكن يبدو من خلال الحقد الذي أصبح يكنّه لكل ما يرمز إلى نظام بومدين أنهم أهانوا كرامته وعذّبوه أكثر ممّا كانت تفعل فرنسا مع الجزائريين. نصحه عمّه بالهجرة إلى مكان بعيد حيث لا يعرفه أحد، ويكفّ عن اتّهاماته الخطيرة، لأنّ بومدين رجل قوي وله زبانية قساة قد لا يخرج من زنزانتهم إذا اعتقل ثانية إلا جثّة هامدة، أو معوّقًا لا يقدر حتى على المشي. غاب ابني لأسابيع معدودة ثمّ عاد ذات صباح بشاحنة ونقلنا إلى حيّ البراريك هذا. وأسْرَعْت إلى تزويجه كي يستقرّ نفسيًا ويكفّ عن النبش في ماضٍ نريد محوه نهائيًا من ذاكرتنا». وأضافت أمّي: «ومع ذلك، لم يستسلم أبوك. بقي يسأل ويبحث ويتّهم صراحة بومدين بقتل أبيه مع مئات من المجاهدين في حرب بلاد القبائل وعدد لا يحصى من السياسيين أمثال خيضر وكريم بلقاسم، وسجن العشرات من المفكّرين الذين ندّدوا بالانقلاب العسكري ضد بن بلّا. كان يذكر أسماء كثيرة، ولكن ذاكرتي لم تحتفظ بها. مثلما تعرف يا ولدي، أنا لم أدخل المدرسة ولم أتعلّم مثلك. لذلك يصعب عليّ فهم هذه الصراعات التي كان أبوك يتحدّث عنها. هو أيضًا، لم يدرس وقتًا طويلًا حسب ما حكى لي. ولكن هو رجل، يخرج ويلتقي بالناس ويتعلّم. زيادة على أنه يقرأ الجرائد والكتب. أما أنا فولية مسكينة، ماكثة بالبيت، لا شغل لي إلّا الطبخ وغسل الملابس والاعتناء بك، إذ كنت رضيعًا آنذاك. أعترف اليوم أنني كنت معجبة بشخصية بومدين الذي كان أبوك يكرهه ويتّهمه بقتل أبيه والاستيلاء على الحكم بقوّة الدبابات. حينَما كان يجدني أستمع إلى خطاباته التي كانت تُبثُّ باستمرار في الإذاعة، يغلق المذياع ويصرخ في وجهي بشتائم لا أعرف إنْ كانت موجّهة لي أو لخصمه اللدود. وبمجرّد ظهور حركة العصيان التي كان يقودها بويَعلي في أحراش أعالي تبلاط، سارع أبوك إلى الانضمام إلى المتمرّدين. كان يغيب أيّامًا وحينما أسأله، يقول إنه يثأر لأبيه. ناقشته يومًا، مبدية شكوكي في انتصاره على جيش بومدين، فغضب ووصفني بالمرأة الساذجة لأنني أصدّق أكاذيب ذلك المجرم. فراح يتكلّم كلامًا كبيرًا وغامضًا لم أهضمه. وبعد ذلك، أمرني بكتمان السرّ وعدم البوح به لأحد. وإذا سُئلت، سأقول إنّ زوجي يشتغل في عنّابة. ومع ذلك، عدنا إلى الموضوع مرّات عديدة، أمّه وأنا. وعبَّرنا عن مخاوفنا أن يلقى مصير أبيه، ويتركنا، امرأتَين ورضيعًا، بلا عائل ولا حامٍ يحمينا. ذكّرته أمّه بحادثة طردهم من المنزل الرومي الجميل الذي أسكنهم أبوه فيه عند الاستقلال، وكيف عادوا إلى حياتهم المزرية بعد أن عرفوا الرفاهية. قد يحدث لنا أسوأ ممّا وقع لهم. ولكن مع من تتكلّم؟ قد يسمعك الأطرش ويراك الأعمى، أما أبوك فلا يسمع إلا ما يقوله له رأسه الخشن، ولا يرى إلّا ما يريد رؤيته هو. كنتَ أنت في عامك الثاني. بعد ذلك، سمعنا بمقتل شرطي يوم عيد الأضحى في مدرسة الشرطة بالصُمعة. كان أبوك غائبًا. بعد أيّام قليلة، اقتحمت الشرطة منزلنا وفتّشوا الغرفتين والمطبخ شبرًا شبرًا. قالوا لجدّتك إن أباك قتل شرطيًا وسرق أسلحة، وربّما خبّأها في بيته. أخذونا إلى مركز الشرطة واستنطقونا لساعات طويلة. لم يعد أبوك إلى البيت مرّة أخرى. قتلوه بالرصاص في أعالي الشريعة. أتوا بجثّته ورموها عند باب المنزل. قام بعض الجيران بدفنه عند الغروب في المقبرة العمومية. بكت جدّتك طويلًا على موت ابنها بتلك الطريقة المهينة، بعد أن فقدت زوجها ولم تعرف له قبرًا تزوره في الأعياد وتترحّم على روحه. لم تفرح المسكينة يومًا في حياتها. ماتت كمدًا وغبنًا بعد شهور قليلة. وها هي المُصيبة تلحق بنا مرّة أخرى. وها أنت تقتفي أثر أبيك، وتلتحق بالعصابات المتمرّدة. وسيكون مصيرك مثل مصير أبيك وجدّك: ستموت بالرصاص وتُدفن كالغريب. لهذا أطلب منك يا بنيّ أن تفكّر جيدًا في إنقاذ نفسك من الهلاك. سنوات قليلة في السجن وتخرج. أنت متعلّم، وتستطيع أن تجد مهنة شريفة، تعيلك وتعلينا بعيدًا عن المصائب التي قادنا أبوك إليها». هكذا تكلّمت والدتي المسكينة وقطّعت قلبي وبكيت معها. بعد صمت قصير، أضاف: «جئتك يا أستاذ كي تجد لي مخرجًا من هذه المصيبة التي وقعت فيها». التزَمْت الصمت أنا أيضًا. ذكّرتني قصّة أبيه بأخي الميلود الذي قُتل هو أيضًا في حرب أخرى، كان بومدين أحد أطرافها. لا زال صوت ذلك العريف، عمّار، الذي التقيت به بعد سنوات بحكم المهنة، يتماوج في مدّ عاصف بداخل ذاكرتي: «خدعونا، الله يخدعهم. تقاتلوا من أجل الكرسي وجرُّونا معهم، برغم أنّنا لا نصيب لنا وسطهم، لا معزة ولا نعجة، ولا حتى دجاجة. كان الميلود من زملائي الأعزّاء. تدرّبنا معًا على قيادة وتشغيل الدبّابات في حاسي بَحبَح بضواحي الجلفة. كنا فخورين بمهنتنا العسكرية وبالراتب الذي نتلّقاه كل شهر. أنا أيضًا أنحدر من عائلة فقيرة، من سيدي لَعْجَل... أكيد أنك لا تعرفها. قرية مهملة، عرضة لصقيع البرد والرياح المزمجرة في الشتاء ورمضاء حارقة في الصيف وزحف الجراد في الخريف. لا أظن أنها مسجّلة في خريطة الجزائر. تجنّدت في الجيش بحثًا عن لقمة خبز. لم يكن يخيفنا التعب ولا البرد ولا الحرارة. نحن أطفال الحرب التحريرية، ومعتادون على الجوع والعطش والعري. فوجدنا في الجيش الملابس الدافئة والأكل الوفير والأمن. كنا نجتهد لإرضاء رؤسائنا، نستميت في تعلّم الرمي وإتقان التدريبات العسكرية، للدفاع عن الوطن الذي ضحّى من أجل تحريره من نير الاستعمار الغاشم مليون ونصف المليون من الشهداء. حينما نسرّح ونخرج إلى المدينة، كنّا نمشي برؤوس مرفوعة معتزّين ببذلنا الواقية الحامية من أي خطر. وكنّا نرى علامات الافتخار والغيرة في عيون الناس الذين نحتك بهم. وكنا سنقاد إلى جهنّم بلا أدنى تذمّر ولا تأفّف، لأننا مقتنعون بأننا حماة الوطن، مثلما علّمونا. الشهداء حرّروا هذا الوطن الغالي بدمائهم، وأنتم خلفاؤهم لحمايته من أي تدخّل أجنبي. عبارة تردَّد علينا صباح مساء. مسؤولية عظيمة أن توكل إليك حماية الوطن. وهو ما فعلناه حينما كسحنا الهضاب والسهول بدبّاباتنا الروسية الهائجة. قال لنا الضبّاط: «عاصمة الوطن في خطر، يجب الإسراع إلى إنقاذها». فتحمسنا وأسرعنا لإنقاذها. طبّقنا الأوامر. زحفنا بالدّبابات إلى غاية سهل قريب من مدينة العفرون، وانتظرنا وصول الدعم من الغرب الجزائري. كنت وأخاك الميلود داخل دبّابة واحدة. ولم نكن ندري بأنّنا كنا ضحية أطماع فردية، دبّرها ضبّاط الثورة أنفسهم، الهدف منها الإطاحة ببومدين والجلوس في مكانه. ذات فجر، حينما رأينا الطائرات الحربية تغطّي السماء وتمطرنا بالقنابل، لا أخفي عنك أنني تصوّرتها طائرات فرنسية عادت لتحتلّ الجزائر ثانية. حاولنا الدفاع عن النفس ولكنّ نيرانها ألهبت الدبّابات. أصيبت دباباتنا بقنبلة، اشتعلت فيها النار. قُتل الميلود بداخلها. أُصِبت بشظايا في جهتي اليمنى، في الذراع والساق معًا. خرَجْت من الدبّابة بشقّ الأنفس، زحفت وسط النيران، لا أكاد أرى شيئًا بين الدخان ودوّي القنابل. الكل كان يصرخ ويجري. لم نعرف ماذا يحدث لنا. قُتل من قُتِل، جُرح من جُرح، هَرب من هرب، فوضى عارمة. لم نجد أحدًا يأمرنا بما نفعل. نحن عساكر بسطاء، لا نتحرّك إلا تحت الأوامر. بقيت في مكاني أئِنّ في صمت. لم أقوَ على الحركة. قبل منتصف النهار، حاصرتنا قوّات عسكرية كبيرة. كانوا جزائريين مثلنا تماماّ. بل هناك من تعرّف على زميل له في ثكنة سابقة أو تدريب مشترك. سلّمنا أنفسنا. تحرّرت الألسن وعرفنا الحقيقة. كنّا ضحايا صراعات فردية ولا دخل لنا بها، لا من قريب ولا من بعيد. وهذا ما قلته بالحرف الواحد لضبّاط الأمن العسكري الذين استنطقوني على فراش المستشفى. أنا لم أعذّب. سمعت أنّ كثيرًا من الضبّاط عُذّبوا أشنع تعذيب. إنهم أقرب إلى الرؤوس الكبيرة المدبّرة لعملية الانقلاب، فأكيد أنهم يعرفون بعض الأسرار عمّا وقع. أفرغت ما بجعبتي من الجلسة الأولى. أنا دخلت إلى الجيش ولا أعرف القراءة ولا الكتابة. ولا أفهم في السياسة. ما كان يَهُمُّني هو عمَلي في صيانة الدبّابات وتنظيفها. فأطلقوا سراحي بعد شهرين من الحجز، وأعادوني إلى الثكنة. نقلوني إلى تندوف بأقصى الصحراء. طبعًا عرفت الحقيقة بعد شهور قليلة. كيف قتلوا العقيد سعيد عبيد وقالوا بأنه انتَحر بإطلاق رصاصة، بعد إدراك فشل محاولة الانقلاب. وكيف هرب العقيد الطاهر الزبيري برفقة مقرّبين له عن طريق البرّ عبر ولايات تيزي أوزو وجيجل وسكيكدة ومنطقة الأوراس إلى تونس. إنه صراع عقداء الثورة الذي استمرّ بعد الاستقلال. كل عقيد يرى نفسه أجْدَر من غيره بقيادة الجزائر. وبما أنهم عساكر لا يعرفون إلا لغة السلاح، فكان أسلوبهم الوحيد هو الانقلاب العسكري. وكنّا نحن، الجنود البسطاء، مثلي ومثل أخيك الميلود، الطعمة المناسبة لفوّهات المدافع. قُتل المئات من الجنود في ذلك القصف الرهيب، كما خرج العشرات بعاهات دائمة، ناهيك عن الضباط الذين قضوا سنين طويلة في السجون والنفي. كنت من المحظوظين إذ نجوت بجلدي، رموني إلى الصحراء ونسوني هناك أزيد من عشر سنين. ولم أرقَّ إلى رتبة عريف إلّا بعد مجيء الشاذلي بن جديد، حيث عفا عن جميع الذين تمرّدوا على بومدين». جزائر بومدين ليست فقط جزائر الثورات الزراعية والصناعية والثقافية والطبّ والتعليم المجانيَّين، إنها أيضًا جزائر القمع الشرس ضدّ المعارضة السياسية السرّية، وتمرُّد الطلبة والانقلابات العسكرية والصراعات الطاحنة بين الإخوة الأعداء التي خلّفت آلاف الأموات والجرحى والمساجين، ودمّرت سعادة عائلات عديدة كانت ترى في الاستقلال نهاية البؤس والخوف والتشرّد. عمّار البلاندي، مثلما يسمّيه زملاؤه في الثكنة، قضى سبعة وعشرين عامًا وسط الدبّابات. تعلّم الميكانيك حتى أصبحت المحرّكات لعبة أطفال بين يديه الخشنتين. ولكنّه خرج من الجيش مثل محرّك قديم تآكلت جميع أجزائه ــ كما قال لي أثناء حديثه ـــ يتأوّه من كل جهة: السكّري، ضغط الدم، أوجاع في البطن وفي ساقه اليمنى التي لا تزال تحتفظ ببعض شظايا الانفجار، ومع ذلك، كان بشوش الوجه دائمًا، ولا يتوقف عن سرد حكايات سنوات تجنيده وتنقّلاته الكثيرة عبر ثكنات الصحراء والهضاب العليا. كنت أزوره كلّما قادتني مستلزمات الشغل إلى البليدة حيث استقرّ بعد تقاعده. اشتَرى قطعة أرض وبنَى منزلًا من طابقين في الضاحية القريبة من المدينة. وحينما سألته لماذا البليدة بالذات؟ قال: «أتريدني أن أدفن نفسي وعائلتي في جُحر الجراد الذي ولدت فيه؟ أنا جرّبت الصحراء والهضاب العليا، وأقول لك إنّ الحياة خارج المدن الشمالية الكبرى شاقّة ولا طعم لها. أمّي التي قضت حياتها في سيدي لَعْجَل، وهي قد تجاوزت السبعين، استحلت العيش هنا، وأصبحت تستبشع زيارة مسقط رأسها ولو لأيّام قليلة، رغم أنّي في البداية وجدت صعوبة لإقناعها بالمجيء والاستقرار معي بعد وفاة الوالد». ـــ هل عندك حلّ يا أستاذ؟ أيقظني يوسف عياشي من تأملاتي. ـــ لا توجد مشكلة إلا ومعها حلّ. لقد فكّرت في الموضوع طويلًا. يبدو أنّ أمّك على حقّ. يجب أن تسلِّم نفسك إلى الشرطة. سمعنا مؤخّرًا عن قانون يُحضّر في الدوائر العليا، يعطي بعض الامتيازات للإرهابيين الذين يتوقّفون عن رفع السلاح ضدّ الدولة والمجتمع، ويسلّمون أنفسهم لقوّات الأمن. وقد تستفيد من مزايا هذا القانون الذي سيَصدر قريبًا حسب أقوال بعض القضاة في المحكمة العليا. ـــ أنا موافق. متى تريد أن أسلّم نفسي؟ هل سأذهب بمفردي أو ستأتي معي؟ ـــ لا تتسرّع. لا تخلو العملية من خطورة. لو تعلّق الأمر بالشرطة وحدها لهان الأمر. محافظ عين الكرْمَة صديقي، وسيساعدك بكل تأكيد. ولكنّ الشوكة السامّة هي الأمْن العسكري، هذا الجهاز السرّي الخطير هو الذي سيشرف ويسيّر مثل هذه العمليات. رجاله قساة لا يفرّقون بين الصديق والعدوّ، يشتغلون تحت أسماء وهيئات مزوّرة، مقرّاته قلاع حربية يمارسون بداخلها أبشع أنواع التعذيب ضدّ معارضي السلطة والوجوه التي لا تجلب رضاهم. صَحيح أنّ الوضع تغيّر قليلًا بعد مظاهرات أكتوبر 88، ولكنّ الجوهر بقي هو نفسه. طارت بعض الرؤوس البارزة، أدخلوا تعديلات في تنظيم المؤسّسة، استحدثوا مسمّيات جديدة، ولكنّ التركيبة البشرية والممارسات البائدة لا تزال على حالها. تمامًا مثل لعبة الشطرنج، نغيّر ألوان البيادق وأحجامها، وقد نستبدل لاعبًا أو اثنين، ومع ذلك يبقى قانون اللعبة واحدا. ثمّ إنّي لا أظنّ أنّ السلطة تقدّم مثل هذه التنازلات بلا مقابل. ولا تنس أنّك متورِّط في عملية قتل ستّة أعوان من الشرطة. ـــ ولكنني بريء من قتلهم. كنت سجينًا داخل الشاحنة، وقع الهجوم من الخارج وقادوني عنوة معهم. خفت أن يقتلوني. لو بقيت داخل الشاحنة، ربّما تعرّضت للقتل من طرف الشرطة نفسها. أنا لست مسؤولًا عن قتلهم أبدًا. ـــ هذا تفسيرك أنت، ولكن قد يمنح غيرك تفسيرًا آخر للحادثة. دعنا نفكّر جيّدًا في الموضوع. فلا تتصوّر أنّهم سيستقبلونك بالورود، ويعيدونك إلى السجن كما لو أنّ شيئًا لم يحدث. أكيد أنّك ستخضع لاستنطاق شديد، ويعدّون لك محضرًا مفصّلًا حول ما حدث لك. سيُجبرونك على تزويدهم بجميع الأخبار التي بحوزتك: أسماء الأشخاص الذين كُنْت معهم وأماكن اختفائهم، وأشياء أخرى قد لا تخطر على بال. ماذا سيكون موقف الجماعة المسلّحة منك بعد هذه الوشاية؟ ـــ أنا تعبت وكرهت العيش وسط هذه الجماعة. الآن، جئتك بلا إذن منهم. كلّهم يريدونني أن أحمل السلاح وأشاركهم في القتل والتخريب. يقومون بكثير من الخراب المجّاني. قبل أيّام قليلة، قاموا بحرق جميع شاحنات وحافلات بلدية وادي الرمان. ما الفائدة؟ عبّرت عن تذمّري ورفضي لهذا التخريب للأمير. إنه قريب لنا ويعرف أمّي كما يعرف قصّة والدي. إنه الوحيد الذي يرفض أن أنضَمّ إلى سرايا القتال. ويرى أنّ بإمكاني مساعدتهم بالعمل الصحفي. هو من جماعة الإخوان المسلمين القدماء، دخل السجن بعد أحداث أكتوبر 88، حيث شارك في مواجهات الإسلاميين مع قوّات الأمن. قضى سنة ونصف السنة في سجن سركاجي، وهناك تعرّف على مساجين من جماعة الملياني، أحد رفقاء بويعلي. حينما سُجنت، اتّصل بأمّي فرقّ قلبه لشقائها. لذلك يريد مساعدتي. فقال إنّه هو أيضًا ضدّ التخريب من حيث المبدأ، ولكنه شرّ ضروري، سيأتي بالنفع للحركة على المدى الطويل. إنها استراتيجية إضعاف مؤسّسات الدولة الكافرة، ليُرهبوا رجالها ويُشعروهم أنهم يستطيعون ضرب قواعدها في أي وقت يريدون وفي أي مكان يختارون. ولكنه طلب منّي أن أمتنع عن إبداء رأيي ضدّ ما تقوم به جماعتهم كي لا أخلق عداوات مع أعضائها. قال لي: «حربنا حرب قذرة ضدّ سلطة العسكر، وكل الوسائل مباحة، حتى غير الشرعية منها. ما يُخرَّب اليوم، سنعيد بناءَه بعد اعتلائنا السلطة وتأسيس الخلافة الإسلامية». والجميع واثق من قرب تأسيس هذه الخلافة الإسلامية. متى وكيف؟ الله أعلم. شخصيًّا، لا أرى معالم هذه الخلافة ولا كيف ولا متى ستكون. ـــ مشكلة الخلافة أو الدولة الإسلامية فكرة طوباوية فيها كثير من الغموض، يتحدّث الناس عنها كثيرًا، ولكن لا أحد يعطيك حقيقتها، تمامًا مثل البنك الإسلامي. الهدف واحد لجميع البنوك: تحقيق الأرباح. الاختلاف في الوسيلة المتّبعة. هي كلها مسمّيات متنوّعة لشيء واحد: الاستيلاء على الحكم وجميع المزايا المادّية والمعنوية التي ترافقه. لا أكثر ولا أقلّ. ـــ المُهمّ يا أستاذ، أنا لم أتِ إلى هنا لمناقشة قيام أو عدم قيام الخلافة الإسلامية. أنا أريد حلًّا لمشكلتي فقط. ـــ نعم، نعم... مثلما تعرف، الكلام يجرّ بعضه بعضًا. عد إليّ بعد أيّام قليلة، أكون قد جمعت الأخبار اللازمة عن هذا القانون الجديد، وأكيد أننا سنجد مخرجًا مشرّفًا للمعضلة التي أنت فيها. وقف ووقفت معه. رافقته إلى الباب، وذهني مشغول بتفاصيل تخصّني أنا. ودّعته على أمل اللقاء به لاحقًا. ولم أكن أدري أنني أراه لآخر مرّة. كانت مسألة تسليمه تؤرّقني بسبب الاستنطاق الذي سيتعرّض له. وأكيد أنه سيفرغ ما بجعبته. وسيذكر اللقاء الذي حصل بيني وبين جماعته في تلك الليلة. أنا محامٍ، يمنع عليّ القانون التعامل السرّي مع متمرّدين، قاموا بمجزرة رهيبة قبل أيّام قليلة. فكان عليّ أن أبلّغ عنهم فور عودتي مباشرة. والتبليغ معناه الوشاية، والوشاية تسمّى خيانة، والخيانة عقابها القتل. وعدم التبليغ تواطؤ مع المجرمين، وهي جريمة تعاقب بالسجن. وقعت في ورطة حقيقية، ولا أرى مخرجًا سليمًا لها. عدت إلى الصالون مشوّش الذهن. وقع بصري على دفتر نبيل، تناولته، قلّبت الصفحات، ورحت أقرأ: السبت 23 سبتمبر اليوم تحقّقت سعادتي... استلمت غرفتي في الإقامة الجامعية. بها أربعة أسرّة. لم أرَ إلا مقيمًا واحدًا. دخل مسرعًا، حطّ حقيبته وخرج. يبدو أنّه طالب قديم متعوّد على المكان. تجوَّلت قليلًا بين العمارات المحيطة بسور عالٍ، عليه أسلاك شائكة. مثل ثانويتنا تمامًا. دخلت النادي، فلم يعجبني. ضَجيج ودخان وناس لا أعرفهم. أخيرًا تخلّصت من الجوّ العائلي القاتم. أصبح أبي مثل الدرَكي عند رأسي. ساءت علاقتي به منذ أن أحيل إلى التقاعد. يقضي أيّامه لاصقًا في الصالون، يشاهد التلفزيون أو يقرأ الجريدة. وين رايح؟ وين كنت؟ كأنني ما زلت أرضع أصبعي. أختي فريدة، لا يعاتبها على شيء. تخرج، تدخل، تتغيّب، تسافر، تذهب إلى البحر. هي حرّة كالرجل. وأنا الرجل، يقيّد حركاتي كالسجين. لوْلا أمّي المسكينة لبقيت هنا حتى عطلة الصيف. أوصتني بأنْ لا أتغيّب طويلًا. إنها مريضة مرضًا خطيرًا قد يودي بحياتها. لم أسألها. كنت أعرف. سمعت أحاديث أبي في الأسابيع الأخيرة حينما كان يقودها إلى المستشفى، ويعود متذمّرًا ساخطًا. المسكينة أمّي... لماذا يقع عليها المرض؟ هي طيّبة ومؤمنة. كان الأولى بهذا المرض الخطير أن يعصف بأبي الكافر. هو الذي يستحقّ عقابًا كهذا. لعلّه يرجع إلى طريق الصواب، فيصوم ويصلي. أبي يتصوّر نفسه فرعونا لا يُصيبُه شيءٌ من بلايا الدنيا. لذلك لا يشعر بحاجة إلى الإيمان، وطلب العناية من الله. سأقوم وأصلّي ركعتين وأطلب من المولى أن يشفي أمّي ويسلّط العقاب الشديد على ذلك الفرعون أبي. لا، سأطلب له الهداية. مهما تجبّر وقسا عليّ، فإنّه والدي. وقد أوصى تعالى باحترام الوالدين. الثلاثاء 14 أكتوبر فرحة لمْ تدُم إلا أيّامًا معدودة. رفقائي بالغرفة طلبة من بلاد القبائل، يتَخاطبون فيما بينَهم بلغة لا أفهمها. ثمّ إنّهم لا يُصلّون ولا يحترمون المصلِّين. كنت في أيّامي الأولى أستَيقظ باكرا وأصلّي الفجر والصبح في الغرفة. ولكنّ أحدهم صرخ في وجهي أن الغرفة للنوم وليست مسجدًا. تملّكني غضب شديد ولكنّي لم أقل شيئًا. هُم ثلاثة وأنا وحدي. انقطعت عن أداء الصلاة في الغرفة. ثمّ إنّهم يستقبلون أصدقاءهم في الليل ويسهرون في لغط وقهقهات وحديث صاخب بلغتهم إلى أبعد من منتصف الليل. فلا أستطيع النوم ولا مراجعة الدروس أو قراءة ما تيسّر من الذكر الحكيم. مِن طبعي أنّي لا أحبّ المواجهة. فكان لا بدّ لي من أنْ أتخلّص من هذه الرفقة المزعجة. لازَمْت مصلّى الإقامة، وتعَرّفت على بعض روّاده، فعبّرت لأحدهم، وهو من الملتحين، جمعتني معه الصدفة في حديث عابر، عن تذمّري من شركائي في الغرفة. فردّ عليّ مباشرة: «ما رأيك لو تسكن معنا؟» قلت: «ألا أزعجكم؟» قال: «بالعكس، تبدو شابًّا مؤمنًا ومؤدّبًا، وجماعتنا من الإخوان الذين يلتزمون بشرْع الله». وافقت على الفور. حدث التغيير بسرعة لم أكن أتصوّرها أبدًا. الآن عثرت على ضالّتي. حقًّا، إنّ جَميع المُقيمين في غرفتي الجديدة ملتزمون بشَرْع الله: لحية حسب السنة النبوية الشريفة، قميص شرعي، احترام مواقيت الصلاة... زيادة إلى أنّ المناقشات لا تحيد قيد أنملة عن القرآن والسنّة. كما أصبحت أحضر الحلقات الدينية التي تقام في المصلّى من حين لآخر. أحيانًا يأتي خطباء من خارج الإقامة لإلقاء الدروس. علماء صغار السنّ، طلبة في سنواتهم الأخيرة، ولكن، ما شاء الله، يبحرون في علوم الدين وتاريخ الصحابة وذكر مناقب الفقهاء وفتاواهم. تعلّمت قواعد عديدة كنْت أجهلها. تجرّأت مرّة وطرحت سؤالًا على أحدهم، فأجابني بلطف وإطناب، دون أن يرفع بصره عنّي. هؤلاء هم المؤمنون الذين يرتاح إليهم قلب المسلم. سأحدّث ياسين عنهم. أكيد أنّه سيتوق إلى رؤيتهم. الجمُعة 4 ديسمبر قضيت عطلة نهاية الأسبوع في عين الكرمة. اشتقت إلى رؤية أمّي. بكت طويلًا وهي تعاتبني على طول غيابي: «كبرت ونسيت أمّك»، هكذا كانت تردّد وهي تمسح دموعها. أمّا أبي فعوض الترحيب بي، والسؤال عن أحوالي الدراسية، راح يسخر من لباسي: لباس الدراويش ولحيتي: لحية العتروس. همَمت بأن أقول له إنّ عمري الآن عشرون سنة، ولي الحرّية التامّة في اختيار اللباس الذي يناسبني، ولكنّي خفت من مواجهة جديدة. فخفضت رأسي وغادرت المنزل. ذهبت عند صديقي ياسين. يشتغل في ورشة تصليح وصيانة هياكل السيّارات. جلسنا في المقهى المجاور وتبادلنا أطراف الحديث. هو أيضًا عاتبني على غيابي الطويل. قال إنه لولا كثرة الشغل لأتى بنفسه يبحث عنّي في الجامعة. كلّمني عن الانتخابات التي ستنظّم بعد أسبوعين. في الأيّام الأخيرة، كان موضوع الانتخابات مِحْوَر مناقشات ساخنة بين الإخوان في الإقامة. قال ياسين إنّه سجّل اسمي في البلدية كي تُحضّر لي بطاقة الناخب، وأصرّ على حضوري كي أنتخب على قائمة الشيوخ. حينما أبديت فتوري وتردّدي في المجيء، غضب وأمرني بالحضور لأنّ مصير الإسلام يتوقّف على هذه الانتخابات التي ستمهّد الطريق نَحو إقامة الخلافة الإسلامية. بعد صلاة الجمعة، رافقني إلى محطّة الحافلات. قال إن غيابي سيؤثّر على صداقتنا، وإنّه يعتبره بمثابة خيانة عظمى وتواطؤ صريح مع أعداء الدين. فلم يفارقني إلا بَعْد أن وعدته بالحضور. الثلاثاء 3 مارس ليلة أمس، اقتحمت الشرطة الإقامة، أغلقت المصلّى وأقفلت أبوابه بسلاسل من حديد. كما اعتقلت الطالب الإمام الذي كان يصلّي بنا ويلقي الدروس. إنه شابّ لطيف ودمث الأخلاق، ولم أفهم لماذا سُجن. ربّما بسبب معارضته للرئيس الجديد الذي استقدموه من المغرب. سَمعْته أكثر من مرّة في دروسه يتهجّم عليه، حيث قال إنه من قدماء الشيوعيين، وإنّ الذين أجلسوه على كرسيّ الرئاسة لصوص ومرتشون. أنا لا أعْرفُه ولم أسمع عنه يومًا. يردّد أبي في كلامه أسماء بعض الشيوعيين، ولكنّ هذا الاسم لم يخدش أذني أبدًا. قرأت في جريدة أنه مجاهد كبير وهو الذي فجّر حرب التحرير وأتى بالاستقلال. تعلّمنا في دروس التاريخ الشيء الكثير عن ثورة نوفمبر وعن قادتها البارزين. كلّهم ماتوا شهداء، قتلهم الجيش الفرنسي. ولم يكلّمنا يومًا أساتذة التاريخ عن هذا الرجل. من أية مغارة أخرجوه؟ هل حقًّا كان من كبار مفجّري ثورة الاستقلال؟ هل هو شيوعي مثلما قال الإمام؟ لا أعرف. أشياء كثيرة تغيّرت داخل الإقامة الجامعية. أصبحت الحراسة مشدّدة عند باب الدخول. استظهار البطاقة... تفتيش الأمتعة... ممنوع الدخول بعد العاشرة ليلًا. منذ أسبوع وأنا أبيت وحدي في الغرفة. غاب زملائي الأربعة، الواحد وراء الآخر. اعتُقل فريد، الطالب الذي خلّصني من رفقتي الشيطانية، منذ أكثر من شهر في المشادّات العنيفة التي وقعت عند باب الجامعة، حيث تظاهر الطلبة وأرادوا الخروج إلى الشارع. منعتهم الشرطة ولكنّهم كسّروا الحاجز الأمني وساروا في الشارع. حينذاك اعتقلت الشرطة جميع الذين تمكّنت من الإمساك بهم وزجّت بهم داخل السجن. كان فريد ضمن هؤلاء. كنت حاضرًا في ذلك اليَوم، ولكنّي بقيت في الصفوف الخلفية، أكتفي بالتفرّج. وحينما هجم رجال البوليس على الطلبة وبدأوا يضربون بالعصي، انسحبت إلى داخل قاعات الدرس. انتظرت إلى أن هدأ الوضع وعدت إلى الإقامة. أنا أكرَه العنف، وأخاف أن أُجرَح. عندما أرى الدم يسيل من جسدي، أرتعد وتصيبني دوخة قد تؤدّي بي إلى الإغماء. أمّا مصطفى، المقيم الثاني، وهو من مدينة الأخْضَريّة، فقال لنا أحد الإخوان إن العسكر جاؤوا إلى منزل والديه واختطفوه، فلا أحد يعرف مصيره. أمّا سيد علي، المقيم الثالث، والذي لم يكن يبيت معنا إلا يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وهو من مدينة شرشال، توقّف عن الدراسة كلّية، وانشغل بتسيير محلّ والده، حفاظًا على سلامته، مثلما قال لي حينما جاء ذات صباح ليأخذ أمتعته الشخصية. أما عبد الرؤوف، فهو الذي بحث عنّي داخل الجامعة لأجمع له ما ترك في الغرفة من أغراض خاصّة وكتب. قال إنّ أعوان الأمن منعوه من الدخول إلى الإقامة لأنّه ساكن غير رسمي، كلاندَسْتان مثلما نسمِّيهم. طالب في قسم الإعلام الآلي، لم يستفد من الغرفة لأنّه يسكن في بلكور وسط الجزائر العاصمة. كان يشتكي دومًا من ضيق المسكن العائلي: غرفتان لأحد عشر فردًا. أخوه البكر الذي تجاوز الأربعين، تزوّج واستولى على الشرفة التي كان ينام فيها مع أخوين آخرين، تاركين الغرفة الثانية لأخواته الخمس. فأين ينام؟ في المطبخ؟ في رواق المدخل؟ غاب أكثر من أسبوع. تصوّرت أنه اعتقل بدوره. حكى لي كيف تشاجر مع أعوان الأمن الذين طالبوه ببطاقة الدخول الرسمية. ركب رأسه وأراد أنْ يدخل بالقوّة. هاتفوا الشرطة، جاءت وزجّت به في السجن مثلما تفعل مع اللصوص والسكارى. قال إنه قضى ليلة في زنزانة تعبق بعفونة القيء والبول. أقسم أنّه سيترك هذا البلد عند أوّل فرصة. الهجرة هي الحلّ لمشكلته. وجاء الحديث عن زملائنا في الغرفة، فقال إنهم من مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والرئيس الجديد يشنّ حملة شرسة ضدّهم. لقد نقل الآلاف إلى محتشدات بالصحراء. قال لي متحسّرًا: «إنّ حال البلد لا يبشّر بخير. فهو على فوهة بركان قد ينفجر على رؤوس الجميع بين الفينة والأخرى. الحلّ الوحيد الباقي لمن أراد أن يعيش ولا يُغدَر برصاصة طائشة أو يتفتّت جسده إربًا إربًا بفعل تفجير جنوني هو الهجرة، الابتعاد بمسافة سبعة بحور، مثلما تقول جدّتي، عن هذا البلد اللعين. ومن يتصوّر أنّه سيغيّر الوضع برفع السلاح، فهو واهم ولا يعرف شيئا عن العسكر الذين يسيّرون هذا البلد بقبضة من حديد». كان منفعلًا، يتكلّم بصوت خفيض ويلتفت حواليه. بدا عليه الخوف. أكيد أنّ الليلة التي قضاها في الزنزانة العفنة تركت في نفسه صدمة كرّهته بهذا البلد. سمعت أبي يتحدّث مرّة مع صديقه المُحامي عن مرارة السجن وبشاعة التعذيب. هو أيضًا عرف الاعتقال في شبابه. لهذا يكره الحكومة والعسكر وكلّ ما تعلّق بأجهزة الأمن. بمجرّد ذكر السجن، يقشعرّ بدني. لا أعرف هل سأتحمّل عذابه لو أعتقل بدوري؟ أكيد أنّي سأنتحِر في الليلة الأولى. سئمت البقاء في الغرفة بمفردي. هذا الخميس، سأزور أمّي. وأسأل عن ياسين. في المرّة الماضية، وجدت الورشة مغلقة. ولم أعثر على ياسين. وأنا لا أعرف مسكنه في حيّ البراريك. هذه المرة سأقصده في منزله. توقّفت عن القراءة. تذكّرت قصّة صديقي رشيد عن تفاصيل اعتقاله أيامَ كان في الجامعة، ينشط في نقابة الطلبة. أتذكّر أنّي كنت عنده في البيت. لهذا وصل حديثه إلى مسمع ابنه نبيل. ما زالت نبرته المليئة بالغضب والضغينة تملأ أذنيّ كأنني أسمعه الآن. «كيف تريدني أن أنسى القمع والذّل اللذين سلّطهما عليّ زبانية بومدين خلال أسبوعين كاملين من الاعتقال السّري. اختطفوني عند مدخل حيّ بن عكنون الجامعي، عند الساعة الحادية عشرة ليلًا. في ذلك المساء، سهرت مع مجموعة من الأصدقاء في حانة أبي نواس. شربنا وتحدّثنا كثيرًا في السياسة، وبالأخص حول إضراب الطلبة الذي شلّ الكلّية منذ أزيد من شهر، ومشروع تكوين اتّحادٍ للطلبة مستقلٍّ عن السلطة. في تلك السنة، عرفَت الجامعة اضطرابات متواصلة: توقّف عن الدراسة، تجمّعات يومية داخل وخارج المدرّجات، محاولات للخروج إلى الشارع، صدام ومُشادّات جسدية بين الطلبة. أقطاب أيديولوجية عديدة تتصارع للاستحواذ على قيادة نقابة الطلبة: الشيوعيون، التروتسكيون، أصحاب النزعة البربرية وأغلبهم من منطقة القبائل، البعثيون الرافعون شعار التعريب، الإخوان المسلمون الذين كانوا قلّة آنذاك... حلبة صراع اختلط فيها الحابل بالنابل. وكنت مع اليسار الشيوعي دون أن أكون مُهيكلًا في حزبهم. كان رفيق غُرفتي مناضلًا من حزب الطليعة الاشتراكية. اكتشفت ذلك بمحض الصدفة ذات صبيحة ممطرة. رجعت إلى الغرفة لأخذ مطريتي فوجدته يرتّب نسخًا من جريدة صوت الشعب، بداخل مظاريف لتوزيعها. لقد سبق لي أنْ قرأت بعض الأعداد التي كانت بحوزته. قال لي إنّ زميلًا له في معهد علم الاجتماع هو الذي أعارها له. وجدت الأمر عاديًّا، إذْ كثير من المجلّات والكتب الممنوعة كانت تتداول بسرية بين الطلبة، مثل كتاب حرب الجزائر لإيف كوريير بأجزائه الأربعة الذي يكشف أسرارا رهيبة عن حرب التحرير، أضحت اليوم متداولة يعرفها القاصي والداني. ولكن في تلك الصبيحة، اكتشفت أمره، إذ ارتبك بمجرّد دخولي وحاول إخفاءها تحت كتب دراسية كانت في متناول يده. لم أقل شيئًا في تلك اللحظة. تظاهرت بعدم الانتباه، أخذت مطريتي وخرجت. ولكن في المساء، تطرّق إلى الموضوع بمحض إرادته ليشرح لي أنّه مناضل في الحزب السرّي، وكُلّف بتوزيع بعض أعداد المجلّة. الواقع أنّ ذلك الطالب، واسمه عزيز على ما أذكر، كان كتومًا للغاية، لا يتحدّث كثيرًا، ولم يتدخّل يومًا بإلقاء كلمة أو إبداء رأي في جمعيات الطلبة. كان يكتفي باتخاذ مكان في آخر الصفوف والتفرّج على ما يحدث. لذلك لا يمكن لأحد أنْ يشكّ في انتمائه إلى حزب سرّي معارض للنظام. أمّا أنا فكنت متهوّرًا مندفعًا لا أحسب حِسابًا لأحد. فاقترحْت مساعدته في توزيع المجلّة. أصْبَحْت أحمل بضع نسخ في محفظتي، وكلّما تناقشت مع طالب أو طالبة ووجدت أنه يوافق على أفكاري أو جزء منها أعطيته نسخة. حذّرني رفيقي مرّات عديدة ونصحني بالاحتياط. المخابرات تعشّش في الجامعة ويتنكّر رجالها في ثوب شيوعيين وتروتسكيين وبعثيين وإخوان مسلمين، يتسرّبون وسط التنظيمات الطلّابية لاختراقها وتوجيهها أو تكسيرها. ولكنّ بداوتي تغلّبت على سلوكي. ما في قلبي على لساني دومًا. الشيء الذي جَنى عليّ في علاقتي مع أبي، كما جنى عليّ في نضالي النقابي. لا أعرف النفاق وإخفاء حقائقي في باطني، والتكتّم على الشيء. ودفعت الثمن غاليًا. في تلك السنة، تعلّمت الشرب. كنت ألتقي بانتظام، مساء كل يوم سبت، بمجموعة من الأصدقاء في حانة من الحانات الكثيرة المنتشرة وسط العاصمة. مغارات نصف مظلمة، نلجأ إليها ابتداءً من وسط الظهيرة، نحجز طاولة في ركن منزوٍ، نطلب صندوقًا من البيرة ونغرق في نشوة ومتعة الأحاديث السياسية والأفكار الثورية والماركسية. ما أروع تلك الأحاديث ! نستحضر جميع الأسماء الثورية اللامعة عبر العالم: ماركس، إنجلز، لينين، ستالين، تروتسكي، روزا لوكسامبورغ، تشي غيفارا، كاسترو، ماو تسي تونغ، ماياكوفسكي، لوركا، نيرودا، مظفّر النوّاب، مارسيل خليفة، بشير حاج عليّ، كاتب ياسين، إلخ... كنّا أسْياد العالم، نفكّكه ونركّبه مثلما يحلو لنا. وحينما تصعد حرارة البيرة إلى الرؤوس، يصبح الحديث ضجيجًا وهذيانًا. يتسابق الجميع على الكلام. يريد كل واحد إقناع الآخرين بصواب رأيه. في تلك الليلة، أوصلني أحد الأصدقاء بسيّارته إلى باب الحيّ. نزلت مترّنحًا لا أكاد أرى أين أضَعُ قدميّ. وحينما تقدّم نحوي رجلان وطلبا منّي مرافقتهما، حَسبْتهما من أعوان حراسة الحيّ، وأنهما يرفضان دخولي لأنّ بوادر السكر ظاهرة على سلوكي. حاولت الاحتجاج، قلت إنّي لم أشرب إلا بضع قنانٍ من البيرة، وإنّي واعٍ تمام الوعي بما أفعل، وإنّي لست عنيفًا ولا عدوانيًا، وسألتحق بغرفتي دون إزعاج أحد. ولكن الرجلين لم يكثرا معي الكلام. كانا طويلي القامة ومفتولي العضلات. أركباني بينهما داخل سيّارة كانت متوقّفة بقرب السياج، وانطلق السائق نحو مقرّ مجهول. بعد كيلومترات قليلة، قاما بتقييد يديّ وبتعصيب عينيّ. دام السفر أكثر من ساعة. غفوت قليلًا داخل السيّارة. ثمّ أحسست بهما يقودانني عَبر سلالم ملتوية لأرمى على أرض إسمنتية باردة. فكّوا قيدي ونزعوا العصابة عن عينيّ وتركوني لحالي. وجَدت نفسي في زنزانة ضيّقة يضيئها نور خافت يأتي من الرواق الخارجي عبر كوّة زجاجية مثبتة في أعلى الجدار بقرب السقف. تَصَوّرت نفسي في محافظة الشرطة، وقد سجنوني بسبب السكر. لذلك لم أقلق. كنت أشعر بصداع خفيف في الرأس وعطش حارق في الحلق. فتمدّدت على فراش إسفنجي تعبق منه رائحة عفنة بحثًا عن النوم. ولكن بمجرّد أنْ أغمضت عينيّ لثوانٍ مَعدودة، انفتح الباب ودخل ثلاثة رجال بقامات مديدة وأجساد ضخمة. وبلا أدنى كلام ولا جواب على أسئلتي، قادوني عنوة إلى غرفة مجاورة، أجلسوني على كرسي ووجّهوا نحو عينيّ نورًا ساطعًا يعمي البصر. فبدأ الاستنطاق، بلا عنف في البداية. حينها عرفت أنّي بين قبضة الأمن العسكري. بغتة، طارت السكرة عنّي كلّية وأدركت هول وضعيتي. طبعا كنت أعرف بعض الشيء عن هذا العالم السرّي الرهيب، من خلال قصص وحكايات عن معارضين سياسيين سُجنوا وعُذّبوا أشنع وأبشع تعذيب. وقد قرأت كتاب السؤال لهنري علاق الذي يروي فيه التعذيب الذي سلّطه عليه المظلّيون الفرنسيون، وكذا كتاب التعسّف للمناضل الشيوعي والشاعر بشير حاج عليّ الذي يروي فيه بالتفصيل التعذيب البشع الذي تعرّض له عند اعتقاله، بعد أن عارض الانقلاب العسكري الذي قاده هواري بومدين ضدّ الرئيس بن بلّا. لا أخفي عنك يا صديقي عبد القادر أنّي أصبت فجأة بانهيار كامل قوّتي، وكدت أسقط أرضا من رهبة المفاجأة والخوف من هذه الدهاليز المرعبة. تمالكت نفْسي واستمعت إلى الأسئلة بعناية جيّدة، كي أعرف ما هي التهم الموجّهة إليّ. تمحورت كلها حول إضراب الطلبة وهوية الحزب الذي يقف وراءه. اتّهموني مباشرة بالانتماء إلى حزب الطليعة الاشتراكية. وحينما أنكرت، أحضروا محفظتي، فتحوها واستخرجوا منها عددين من جريدة صوت الشعب. نسيتها تمامًا. قلت إنّ صديقًا هو الذي تركها عندي. طالبوني باسم الصديق ومهنته وعنوانه. تلعثمت، ارتبكت. هل أشي برفيق غرفتي؟ أين الرجولة والشهامة؟ لو فعلت لأصبحت خائنًا. والخيانة عندنا فعل مشين، مرتبط بالعهد الاستعماري. الموت أفضل من الوشاية وإن كانت مع سلطة الاستقلال وليست مع سلطة الاستعمار. يريدون أسماء المحرِّضين على الإضراب وعناوين الأماكن التي نجتمع فيها. أدرَكت أنّي وقعت في ورطة لن أخرج منها سالمًا مهما كان موقفي. الكلام والتعاون، رغم أنّي لا أعرف الشيء الكثير، أو الإنكار والصمت ومثلما تعرفني، رأسي خشن لا يلين بسهولة. في البداية جادلتهم في أفكار عامّة حول الإضراب وحرية الطلبة في تشكيل تنظيماتهم الخاصّة مثلما يحدث في بلدان العالم المتقدّم. ساروا معي في الخطّ، وجرّوني إلى حلبتهم: لو كانت تنظيمات الطلبة مستقلّة وذات طابع نقابي اجتماعي وتربوي لما تدخّلت السلطة لمنعها، بل كانت ستدعمها بالمال والمقرّ والتجهيزات اللازمة لتؤدّي نشاطها في ظروف ملائمة. ولكنّ السلطة تعرف معرفة يقينية أن هذه النقابات الطلّابية فروع مقنّعة لأحزاب سياسية سرّية هدفها قلب النظام، تنشط في الخارج وتتلقّى دعمًا من دوائر استعمارية وأمبريالية تكنّ عداءً للجزائر. طبعًا أنكرت كل اتّصال بأيّ جهة خارجية عن الجامعة. فلم يصدّقوني. فأتوا لي بملفّ سجلّوا فيه جميع تحرّكاتي، ومعظم أقوالي في تدخّلات الجمعيات العامّة التي كنّا ننظّمها باستمرار. اندهشت لتلك التفاصيل، أنا نسيت الكثير منها. طبعًا كنت أستخدم ألفاظ الفكر اليساري والثورة الاشتراكية وأندّد بقمع نظام الطغمة العسكرية، وأستشهد بأقوال ماركس ولينين. لقد سرَّبوا مخبرين وسط الطلبة يأتونهم بكل صَغيرة وكبيرة. ذُهلت عندما كشفوا لي أنّني أحتفظ في غرفتي بأعداد من جريدة صوت الشعب، لسان حال حزب الطليعة الاشتراكية، وأنّي أوزّعها على الطلبة سرًّا. يفتّشون الغُرَف إذَن في غياب أصحابها. وهذا يعني أنّ إدارة الحي متواطئة معهم. كدت أخْبرهم بأنّني لست إلا ساعي بريد، وأنّ زميلي في الغرفة هو الذي كان يأتيني بها. ولكنّي وجَدت الفعل جبنًا ووشاية. ثمّ إنّ زميلي لم يجبرني على شيء، بل ما فتئ ينصحني بأخذ الحيطة. كنت أوزّع صوت الشعب بمحض إرادتي. كيف أتخلّى عن رجولتي وأحمّل زميلي جميع التهم؟ ليس هذا السلوك من شيمي. انْغَلق الطوق حول رقبتي ولم أجد ما أدافع به عن نفسي غير الصمت. أضحى الإنكار مزحة باردة تثير الشفقة. فالصمت على الأقلّ يحافظ على كرامتي وكبريائي. ولكنّ الحفاظ على الكبرياء له ثمن باهظ دفعته من لحمي ودمي ووجداني. في اليوم الثالث، تغيّرت اللهجة: «الوسيلة الوحيدة التي ستمكنّك من الخروج من هنا هي قول الحقيقة». والحقيقة عندَهم تعني الوشاية بالشخص الذي أمدّني بتلك الأعداد من الجريدة الممنوعة. كيف أجمع بين الحقيقة والخيانة؟ لذلك قرّرت أن لا أكشف للجلّادين عن أية حقيقة. الحقيقة قيمة نبيلة لا تلازم إلا السلوكات النبيلة أيضًا، مثل الشجاعة والبطولة والتضحية. أمّا الخيانة والوشاية والجبن فهي من الصفات المنبوذة، لذلك قرّرت أن لا أمارسها مهما كان الثمن الذي سأدفعه. بدأ الترهيب والتهديد بالقتل. قال أحد المستنطقين: «يسهل علينا التخلّص منك بقتلك ورمي جثّتك في بئر مهجورة ولن يعثر عليك أحد. ولكننا لا نريد موتك لأنّنا متيقّنون أنّك الحلقة الهشّة في هرم مُعارضي النظام. نعرف أنّك لست من هؤلاء الذين يخطّطون للإطاحة بالنظام. أنت وجدت نفسك معهم بالصدفة. ومردّ هذا إلى اندفاع الشباب والحماس الرومانسي الذي يراودك باعتبارك شابًّا تحبّ الخير لبلدك ومجتمعك. نريد منك اسمًا واحدًا، اسم الذي أعطاك هذه النسخ لتوزيعها، ونطلق سراحك في الحين. وفي المقابل، نمكّنك من امتيازات عديدة. نستطيع تنصيبك على رأس نقابة الطلبة، وتدبير سكن لك كي تتزوّج بتلك الشقراء الجميلة التي تلازمك باستمرار. هي تحبّك ولا يرتاح لها بال إلا عندما تكون إلى جانبك، حتى وأنت منصرف عنها في نقاشات سياسية». أعترف بأنّي صدّقت كلامهم في لحظة ما، وكدت أنصاع لأمرهم وأنطق باسم زميلي. ولكنّ صورة جارنا موسى الذي اشتغل في مركز لاصاص الفرنسي وسمعته السيّئة التي لحقت حتى أبناءه، وكنّا ننعتهم بأولاد الحركي ولحّاس صحون العساكر الفرنسيين، وثبت إلى ذهني فجأة، ورأيت نفسي أمشي متخاذلًا داخل الجامعة وأصابع الاتهام تشير إليّ: ها هو الخائن القذر، ها هو البيّاع اللعين. فأمسكت لساني واتّخذت قرارًا بعدم إخبارهم بأي معلومة، فبدأ التعذيب. نقلوني إلى الطابق التحت أرضي. فعرفت أنّ اللحظة العصيبة قد وصَلت. قيّدوا يديّ إلى ظهري، وأرقدوني على حافّة حوض مليء بمياه ملوّثة بموادّ التنظيف، فبدأ جلّادهم بتعذيبي. الغريب أنّه كان ضامر الجسم وقصير القامة، ونصف أسنانه الأمامية مفرّمة، بحيث يتحوّل كلامه إلى صفير لا يكاد يُفهم. يمسك رأسي ويغطسه داخل المياه القذرة حتى أكاد أختنق. يخرجها لبعض الثواني، مغمغمًا بصوت كاد يثير ضحكي لولا الوضع المأساوي الذي كنت فيه: «تهْذَر ولا ما تهذَرش...» وحينما لا أجيب، يعيد إدخال رأسي داخل الحوض. كرّر العملية مرّات عديدة، وهو يصرخ: «تهذَر بلا يمّاك...» لم يتحمّل صمتي. من أكون أنا حتى لا يستطيع إنطاقي؟ كل واحد يصل إلى هنا لا بدّ أن يتكلّم. قانون غير قابل للنقض. في تلك اللحظات المؤلمة، تذكّرت مقولة «أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم»، فقلت بأن أفضل سبل الهجوم في مثل تلك المواقف هو الصراخ والشتم والضرب إنْ أمكن. ففاجأت الجلّاد بضربة من قدمي اليمنى صارخًا: أولاد الكلب، خنازير، أولاد القحاب... فهجم عليّ ذلك الشَنْبَنزي باللكمات والركلات التي كانت ستقضي عليّ لولا تدخّل رفاقه. فقيّدوني من القدمين وغيّروا طريقة التعذيب. تناول ذلك القزم مقبض فأس من ركن وانهال على ظهري بقوة حاقدة، كما لو أنني قتلت أمّه. يبدو أنه متخلّف عقليًّا، أتوا به لهذه المهمّة القذرة بالذات. مهما كان حقدي على إنسان، فلا أستطيع التصرّف إزاءه كما فعل معي. تَحت كل ضربة أشعر بجسدي يتفكّك إلى أشلاء، ومع ذلك لم أتوقّف عن الصراخ والشتم، والشنبنزي لم يتوقّف عن الضرب حتى وقعت أرضًا، نصف مغمى عليّ. فتركوني مرميًّا على الإسمنت وخرجوا. حينما استيقظت، وجدت نفسي أرتعد بردًا. أسناني تصطكّ بقوة. فمي جافّ يكاد يخلو من الريق. كانت الغرفة شبه مظلمة، يتسلّل إليها نور من رواق عبر نافذة زجاجية مرتفعة تحت السقف مباشرة، ولا أعرف هل نحن في الليل أم في النهار. انكمشت على نفسي وبقيت أسترق السمع لعلّي أدرك أصواتًا أو جلبة معيّنة. كان الصمت مطبقًا كأنّي داخل قبر. فرحت أستمع إلى أوجاع جسدي. كنت جائعًا ومرهقًا. بعد مدّة، دخل حارس، فكّ قيد يديّ، وحطّ أمامي قطعة خبز يابس تستطيع أن تصرع به شخصًا، وحساء باردًا أكثره مياه ملوّثة. أولاد الزنى شحّوا عليّ حتى في الأكل. أخذتني العزّة بالنفس وقرّرت أن لا ألمس خراءهم. ليكن ما يكون. الموت أهون من الإذلال. فغرقت في التفكير حول الموت، هذا الغول الحتمي الذي سيلتهمنا جميعًا في لحظة ما من حياتنا. وخطرت ببالي أسماء العظماء الذين مرّوا فوق هذه الأرض وهم الآن يرقدون في جوفها. رأيت نفسي حشرة لا قيمة لها أمامهم. فلماذا يخيفني الموت إذًا؟ المصيبة إذا عمّت خفّت. في أسوأ الأحوال، إنْ افترضت أنّي سأخرج من هذا القبو جثّة هامدة، سيضاف اسمي إلى القائمة الطويلة لأولئك الذين وقفوا ضدّ الظلم واستعباد الإنسان، وماتوا من أجل قضية نبيلة، أفضل من موت مجّاني في حادث سيّارة أو في المستشفى وعلى طاولة عمليات. استعذبت الموت وانتظرته بفارغ الصبر. وتخيّلت ما سيقوله رفاقي بعد موتي. أكيد أنهم سيثنون على سلوكي ويتّخذونني مثالًا في النضال والتضحية. عاد الحارس وأيقظني من تخيّلاتي. وحينما رأى أنّي لم أتناول طعامي، هزّني بقدمه وأمرني بالأكل. نظرت إليه وبصقت على الصحن وصرخت: هذا الخراء، كُلْه أنت أو خُذْه لأمّك ! خرج دون أي ردّ فعل. بعد قليل، دخل رجل الاستنطاق متبوعًا بالشنبنزي ورجلين آخرين. وقف عند رأسي وعلى شفتيه تكشيرة هزء: «الظاهر أنّ الأكل لم يعجبك. المسألة في غاية السهولة. تتعاون معنا ونحضر لك ما تشتهي نفسك من مأكولات، وعلى الفور: دجاجة مشوية، شربة فريك، تفّاح، موز، حلويات... اطلب ونحن في الخدمة». صرخت في وجهه: «روحوا تقَوْدوا بكم بخْرَاكم». أطلق قهقهة ساخرة وقال: «آه، فهمت... تريد أن تموت... سنحقّق لك ما تريد». التفت إلى زبانيته وقال بصوت آمر: «أعيدوه إلى الحوض، وعذّبوه إلى أن تخرج روحه...» هجم عليّ أولئك الوحوش وقيّدوني رغم مقاومتي اليائسة. كنت واهنًا لا قوّة لي. ومع ذلك لم أتوقّف عن الصراخ والشتم. كلّما أخرج الشنبنزي رأسي من تحت الماء، تعالى صراخي وشتمي مع تنفّسي. فأضْحى يطيل إبقاء رأسي تحت الماء أطول مدّة ممكنة حتى ضاق تنفّسي وتغلغلت المياه القذرة إلى حلقي بحيث لم أعد أجد الوقت إلا للتنفّس والسعال القوي الذي يمزّق حنجرتي. كادت روحي تخرج فعلًا. بعد ذلك، أمر بوقف التعذيب، فرموني على الأرضية الإسمنتية. سَمعته يهدّد ثانية: «هذه المرّة رأفت بك، ولكن في المرة المقبلة أغادر الغرفة وأتركهم يقتلونك». لم أردّ على تهديده، كنت منشغلًا باسترجاع تنفّسي الطبيعي. سمعت صَفق الباب الحديدي. فأغمضت عينيّ وغرقت ثانية في هواجسي حول الموت وتشعّباته الموجعة. ثمّ أخذني النوم ورأيت نفسي في أعلى شجرة، تشبه صَنوبَرة طفولتي، تلك التي كنا نصعد إلى قمّتها بحثًا عن أعشاش الطيور، وعند جذعها الأسفل تجمّع حول الشنْبَنْزي، وهو يرقص ابتهاجًا، مجموعة من الأشخاص، يصيحون، يتدافعون ويحرّكون أيديهم باتجاهي، أعناقهم مشرئبّة، ورؤوسهم نحو السماء وأنا واقف على غصن يتمايل قاب قوسين أو أدنى من السقوط. لم أفهم أقوالهم ولا ماذا يريدون منّي. تعرّفت على وجوه الجلّادين ووجه رفيق غرفتي، ووجوه بعض أصدقائي. أحرّك لساني لأسألهم ماذا يريدون منّي ولكنّ الصوت لا يخرج من حلقي. وخلفهم، هناك، في حفرة نصف مظلمة، رأيت حبيبتي تتشبّث بيديها بالحافّة الترابية وتنظر إليّ بحزن. الغريب أنّ الوجه الوحيد الذي كان واضحًا كل الوضوح هو وجهها. كان وجهًا جميلًا ولكنّه حزين ومبلل بالدموع. في تلك اللحظة، تكسّر الغصن وسقطت في الهاوية. استيقظت في تلك اللحظة، أتصبّب عرقًا وألهث من الاختناق. بقيت لحظة طويلة مشوّش الذهن، أتشبّث بتلك الصور، في محاولة لاسترجاع صفائها. ولكنّها كانت تتملّص وتتبخّر شيئًا فشيئًا. أعادني العطش إلى جسدي، فأحسست بجوع يقطّع أحشائي. بحثت ببصري عن ذلك الصحن، فكان هناك في مكانه. زحفت باتّجاهه، وأفرغت محتواه في بطني. أكلت الخبز بنهم. ومع ذلك بقي بطني يقرقر من الفراغ المهول. انكمشت على جسدي وغرقت في أفكار متلاطمة. في تلك اللحظة، تعالى صوت المؤذّن لصلاة الفجر، بعيدًا، ليعيدني إلى طفولتي وصراعي مع والدي. فكّرت في الله وعظمته القادرة على كل شيء. فلماذا يترك هؤلاء الوحوش يعذّبونني بتلك الطريقة المهينة للكرامة البشرية؟ ماذا فعلت أنا غير مبادرات غايتها تحسين الوضع البشري؟ فأين هو هذا الربّ الذي يصف نفسه بالخيّر وبحبّ الإنسان، فلماذا يترك بشرًا يستعبدون بشرًا آخرين؟ لا أخفي عنك أن عزلتي كانت قاصمة في ذلك الفجر، أحسست بنفسي وحيدًا، مضطهدًا، مقموعًا، ولا أحد ينقذني أو يواسيني في مأساتي. تذكّرت مأساة الملك أوديب وتعنّت الآلهة الإغريق على تشويهه وتنجيسه بأبشع جريمتين في عرف البشر جميعًا: قتل الأب والزنى مع الأمّ. فلجأ إلى فضاء الملعونين، الذي لا تطأه قدم الخير أبدًا. كنت في قميص أوديب، أصرخ مأساتي وحدي، دون معين. ولا أخفي عنك أنني كفرت بجميع الآلهة والأديان في ذلك الفجر اللعين، وتشبّثت ببرومثيوس سارق النار من عند الآلهة وإعطائها للبشر. فتخيّلت نفسي برومِثيوس منقذ البشرية من غطرسة الآلهة. ولكنّني وجدت أنّ الإنسان يتحوّل إلى ربّ قاس وظالم على أقرانه حينما يعتلي عرش السلطة. تذكّرت مقولة لفرويد: «ينحدر البشر جميعهم من سلالة قاتل» وهو يقصد قابيل الذي قتل أخاه هابيل، أثناء تفسيره للعنف والجريمة عند البشر. هل الجريمة مـتأصّلة في الإنسان وقد تلازمه أبد الدهر ممّا يعني استحالة استئصالها من حياة البشر حتى وإنْ بنينا له جنّة فوق الأرض؟ المهمّ أنّ أفكارًا كثيرة راودتني في ذلك الفجر، تلاطمت، تناطحت، بداخل جسدي المنهك، الضعيف. وبعد ذلك غرقت في نوم لذيذ، تمنيت أن لا أستيقظ منه أبدًا. فكانت هذه الأفكار دَوائي الفعّال ضدّ التعذيب اللاحق، فقاومت تعذيبهم بعناد فولاذي. جرّبوا مَعي أنواعًا أخرى من التعذيب، بالأخصّ الكهرباء والخوذة الألمانية. يدخلون رأسي داخل دلو حديدي إلى غاية الكتفين، يأخذون مطرقة أو عصًا ويضربون على الدلو. فكان صدى الدويّ الأصمّ يرنّ في أذنيّ ويترك وجعًا رهيبًا في أذنيّ وصدغيّ. ومع ذلك لم أتكلّم، بل كنت أصرخ وأشتمهم وأمّهم وسلالاتهم بالكلام القبيح البذيء، فيضاعفون الضرب، إلى أن يغمى عليّ. يعودون بعد أن أستيقظ من إغمائي لمواصلة قذارتهم اللاإنسانية. إنهم يراقبون تحركاتي بالثانية. فأصبحت ألعب معهم لعبة القطّ والفأر. أتصنّع الإغماء بسرعة، ولا أستيقظ إلا عندما يحصرني البول، بل أصارحك أنني بلت في سروالي أكثر من مرّة، كي أبقى نائمًا أطول وقت ممكن. ما عادت تهمّني نظافة جسدي، كنت متّسخًا مثل جرذ المزاريب، تنبعث من جسدي وملابسي روائح نتنة، تخنق النفس. تفطّنوا لحيلتي، فأضحوا يدخلون عليّ في جميع الأوقات ويجرّونني بفظاظة نحو آلة التعذيب. ومع ذلك قاومت ببسالة أوّل من اندهش لها هو أنا. الآن، وبعد ثلاثين سنة من تلك الحادثة القذرة، حينما أتذكّر، أستغرب كيف تمكّنت من الصبر وتحمّل كل ذلك التعذيب على جسدي وروحي، ولم أستسلم ولم أشِ بأيّ اسم. في نهاية الأمر، أركبوني ذات ليلة داخل شاحنة معصب العينين، بملابسي الممزّقة العفنة، ورموني بعد ساعتين من الدوران في ساقية طريق جانبي. كانت ليلة ممطرة وباردة. مشيت في الظلام إلى غاية إسطبل أبقار ونمت وسط كومة من التبن. صاحب المنزل الذي أيقظني عند الفجر رفع عصاه في وجهي في البداية لأنه حسبني لصًّا. ولكن عندما كلّمته مدّعيًا أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية، رقّ لحالي، فأطعمني وتصدّق عليّ بملابس نظيفة. طلبت منه بعض الدينارات لركوب الحافلة، وغادرته شاكرًا. عدت إلى الحيّ الجامعي، مأواي الوحيد. فلم أجد زميلي. انتظرته فلم يأتِ. بحثت عنه في الجامعة، لا أحد دلّني على عنوانه. جاءني ذات صبيحة يوم عطلة في زيارة لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، وقال بأنّه دخل في الحياة السرّية بأمر من قيادة حزبه، بعد أنْ قام الأمن العسكري بحملة توقيف ضدّ الطلبة المشاركين في الإضراب، وكنت أنا من أوائل الموقوفين. فحينما غبت الليلة الأولى ساوره الشكّ، إذ ليس من عادتي المبيت خارج الحيّ الجامعي. بحث عنّي في اليوم التالي، فلم يعثر على أثرٍ لوجودي. خاف على سلامة نفسه واختفى عند صديق، ثمّ سافر إلى مدينة أخرى لم يذكر اسمها، وهو الآن مقيم في منزل مناضل آخر. شكرني لأنني لم أذكر اسمه. لو وشيت به لفتّشوا منزل عائلته ولكنّهم لم يفعلوا. اقترح عليّ مأوىً سرّيًّا إنْ أردت، مأوىً بعيدًا عن جميع الشكوك، زاوية في منطقة القبائل. عرفت فيما بعد أن تلك الزاوية كانت لفترة ما مقرًّا لطباعة جريدة صوت الشعب، ذلك أن عضوًا قياديًا ينحدر من تلك الزاوية التي كان جدّه قيّمًا عليها. فقلت لزميلي بأنّي نلت نصيبي من السجن والتعذيب، ولا أظنّ أنّ الأمن العسكري سيوقفني مرّة أخرى لأنه أدرك خشونة رأسي وأنه لن يستخرج من لساني حرفًا واحدًا. حطّ ذلك الزميل مبلغًا ماليًا على الطاولة، قائلًا بأنه مساعدة بسيطة لتجاوز محنتي، وذهب مسرعًا. كانت أيّامًا عصيبة حقًّا علّمتني الحرص والاحتياط وعدم التصرّف باندفاع غير مدروس. طبعًا كسّر القمع البوليسي والعسكري مشروع إقامة نقابة طلّابية مستقلة. تسرّب الانتهازيون وأعوان الحزب العتيد إلى احتواء النقابة، فأسّسوا نقابة طلابية موالية للسلطة. فكّرت في إمكانية رفع دعوى قضائية ضدّ الذين اختطفوني. اتّصلت بمحامٍ، ضحك وقال: «وهل تعرفهم؟ وهل ستتعرّف على القبو الذي حجزوك بداخله؟ ماذا تقول للقاضي؟ سيتّهمك بالجنون ويأمر بإيقافك وزجّك في مستشفى الأمراض العقلية. ثمّ هل تتصوّر أن للقاضي حرّية إصدار الحكم ضدّ مخابرات الأمن العسكري؟ سيخطفونك ثانية وهذه المرّة سيخفونك عن الأنظار نهائيًا. ابتعد عن السياسة واهتمّ بدراستك، خير لك. بل أنصحك بالابتعاد عن الجامعة والبحث عن عمل ما. إن فيروس السياسة حينما يلتصق بشخص ما، يلوّثه إلى حدّ التعفّن. والجامعة في هذه الأيّام مَشْتَل خصْب يُغذي جميع الفيروسات المهلكة». فكّرت في مصيري أيّامًا. أهملت الدراسة. ابتعدت عن نشاطات الطلبة. كان مجرّدُ التفكير بأنّي سأعود يومًا إلى ذلك القبو الجهنّمي يرعبني. كما رفضت رفضًا قاطعًا التعامل مع أجهزة المخابرات. اتّصل بي ذات مساء شخص لا أعرفه قدّم نفسه كموظّف سامٍ في الرئاسة، وتجاذب معي حديثًا حول الحياة النقابية والتنظيمية في وسط الطلبة. بدا أنه يعرف عنّي أشياء كثيرة، واقترح مساعدتي إنْ أنا أردت قيادة التنظيم الطلّابي. بل وعدني بالحصول على سكن. لم أجادله كثيرًا. أدركت أنه بُعث خصّيصًا لتجنيدي عميلًا للأمن العسكري. الوشاية ليست من شيمي. إنه سلوك حقير، لا يليق بي وبأخلاقي وبنظرتي إلى الحياة. كنت أفضّل التجنّد كعسكري في الجيش أو حتى في المخابرات على أن أندس وسط زملائي الطلبة وأخطّ تقارير سرّية عن نشاطهم. مهنة مشينة ومهينة. أنا رجل ريفي صريح، ولساني لا يقبل الازدواج والكذب. لو كنت كذلك، لما تخاصمت مع أبي حول الصلاة وتعرّضت إلى الطرد من المنزل. لو كنت منافقًا ذليلًا للعبت على الحبلين، لأوهمته أنّني أصلّي واصطففت خلفه مثلما يفعل أغلب الناس خلف الإمام تفاديًا للنقد والتهميش. ولكنّني لم أفعل لأنّ ذلك السلوك في عيني سلوك حقير لا يليق بالرجل، الرجل مثلما أتصوّره وأحبّه، وأريد أن أكونه في حياتي. اعتذرت للرجل بعبارات لا لبس فيها. كان بقائي في الجامعة ومحيطها سيجرّني حتمًا إلى العودة إلى النشاط الطلّابي والمشاركة في التجمّعات والاعتصامات مع كل ما يترتّبه من صدام مع أجهزة الأمن. لاحظت أنّي كنت مراقبًا من وجوه ليست غريبة عنيّ. أجد باستمرار شَخصًا يراقبني عن بعد. يسافر معي في الحافلة، ويدخل معي إلى قاعة السينما وأنا برفقة نصيرة. انزعجت إلى حدّ الغضب والرغبة في المواجهة. ولكنّ نصيرة هي التي كانت تعقّلني وتحثّني على عدم الاكتراث، وخلق فضائح في الشارع بشجار ليس في صالحي. رويت لها ما حدث معي في ذلك الاختطاف المرعب، دون ذكر جميع التفاصيل. إن كرامة الرجل لا تسمح له بحكاية ما يذلّه. هناك خطوط حمراء نتوقّف عندها حفاظًا على هيبة شخصياتنا. نتحمّل ثقلها وعفونتها بمفردنا، بل نعمل المستحيل لمحوها من الذاكرة كي لا تتغلّب علينا الرغبة في سردها في لحظات ضعف أو انتقام رمزي، أو تنديد متأخّر لا يأتي بأية فائدة. الحقّ أنّ نصيرة هي التي ساندتني في تلك الظروف الحالكة، وأقنعتني بالبحث عن العمل. ولا أعرف كيف اهتديت إلى الدخول إلى معهد تكوين المعلّمين. تدحرجت بي الأيّام حتى وجدت نفسي بوظيفة قارّة وراتب شهري يقيني من العوز ويحفظ كرامتي. أنهت نصيرة دراستها، هي أيضًا، توظّفت في ثانوية، فتزوّجنا بسرعة، دون حتى أن نملك سكنًا قارًا. هكذا ابتعدت شيئًا فشيئًا عن السياسة اللعينة التي أذاقتني العلقم. هذه هي قصّتي مع النظام البوليسي العسكري الذي حارب الشيوعيين وغذّى معاقل الإخوان المسلمين، ومكّنهم من تأسيس قوّة ستدمّره عاجلًا أو آجلًا. نظامنا البليد مثل ذلك الرجل الذي ربّى ذئبًا في بيته، وتصوّر أنه سيروّضه ويمسخه إلى كلب يحرسه، فانقلب الذئب عليه وأكله. سيعصف الإسلاميون بهذا النظام القذر ويأكلون رأسه عن قريب». إنه لتعذيب قذر حقًّا. الشيء المحيّر في هذه القصة المؤلمة هو كيف يتجرّأ جزائري على تعذيب جزائري آخر بمثل هذه البشاعة التي تذكّر بالقمع الاستعماري؟ من لا يعرف أنّ العربي بن مهيدي، بطل الثورة وشهيدها، قد مات تحت تعذيب المظلّيين الفرنسيين؟ ومن يجهل أن جميلة بوحيرد، ومعها مجاهدات أخريات تعرّضن للتعذيب الجسدي بل وللاغتصاب، وهو أكبر إهانة ومذلّة للمرأة؟ فبقي فعل التعذيب عارًا يدنّس تاريخ فرنسا الاستعمارية، وقد ندّد به كبار المثقّفين الفرنسيين في حينه، واعتبروه جريمة ضدّ الإنسانية. فكيْف إذًا تأتي حكومة جزائرية خرجت من رحم ثورة التحرير، ضدّ الظلم والاستعباد، لتمارس ضدّ مواطنيها، وإن كانوا معارضين لحكمها، مثل هذا التعذيب الوحشي؟ هل نَصف الجلّاد بالوحش ونخرجه من سلالة البشر لنرفقه بالحيوانات المفترسة؟ ولكنّ الحيوان المتوحّش لا يُشهر أنيابه ومخالبه إلا عند الدفاع عن النفس أو تحت سطوة غريزة الجوع. ولا يمكن بأيّ حال أن نعتبر فعل التعذيب دفاعًا عن النفس ولا وقع تحت سطوة الغريزة. هل يؤدّي الدفاع عن السلطة بأصحابها إلى استخدام جميع الوسائل ضدّ معارضيها بما في ذلك الوسائل الدنيئة، والتي تتنافى كلّية مع القيم الإنسانية وحفظ كرامة البشر؟ ظاهرة القتل للاستيلاء على السلطة معروفة ومنتشرة في التاريخ العربي الإسلامي، وكذا التاريخ البشري. هل السلطة مرتبطة أصلًا بالعنف والقمع، ما يبرّر وجود أجهزة الأمن؟ هل الحقّ التاريخي مع الفوضوي باكونين الذي طالب بإلغاء الشرطة والعسكر والحدود الجغرافية بين البلدان؟ وهل غياب الشرطة يحثّ اللصوص على التوقّف عن السرقة، أم يدخل المجتمعات في أدغال من الفوضى تعيدها إلى وضعها الحيواني الأول؟ هل القتل ميل طبيعي عند الإنسان مثلما يقول سيغموند فرويد في مقولته المشهورة: « كلّنا ننحدر من سلالة قتلة »؟ تقول قصص الخلق إن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب الغيرة، لأنّ الله تقبّل هدية هابيل عوض هديته. مات هابيل دون أن يتزوّج. أما قابيل فعمّر طويلًا وأنجب ذرّية كثيرة. هكذا إذن تنحدر سلالة البشر جميعها من قابيل ابن آدم، قاتل أخيه. الشيء الذي يعني أنّ قتل الإنسان لأخيه الإنسان متوارث منذ فترة الخليقة الأولى. وتكثر جرائم القتل بين الأقرباء في المجتمعات التقليدية التي لا تزال تعيش تحت نظام القبيلة وعلاقات الروابط الدموية، ممّا يعني أيضًا أنّ بشاعة القتل صفة باقية في الإنسان تهيمن على سلوكه في ظروف معيّنة، ولم تندثر برغم حكمة الأديان والفلسفات التي تدعو إلى المحبّة والإخاء ونبذ العنف والضغينة، وثورات البشر من أجل عدالة اجتماعية واحترام اختلاف الرأي والمعتقد وحرّية التعبير عنهما. ولكن العنف يكثر في بعض المجتمعات ويقلّ في بعضها الآخر. فكيف نفسّر انتشار العنف في الجزائر وعبر جميع الفترات التاريخية؟ لا يخلو عصر من الصدامات الدموية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، لأغراض ذاتية مصلحية أو موضوعية سياسية واجتماعية. هل نقبل بفكرة أن العنف فطري، وراثي، في الإنسان الجزائري، مثلما خلصت إليه مدرسة التحليل النفسي الاستعمارية، المعروفة بمدرسة الجزائر في نتائج بحوثها خلال النصف الأول من القرن العشرين. برّرَت هذا الموقف من ظاهرة انتشار القتل بين الجزائريين من العرب والبربر، من خلال قضايا المحاكم المعالجة. فلاحظوا أن الجزائري يلجأ إلى العنف، بل والقتل في أدنى الخصومات التي يمكن أن تُحلّ بقليل من الحوار وضبط انفعال النفس. إنّ سكان الجبال مولعون باستخدام البندقية لأنّ تلوّث أيديهم بالدماء يمسّ بشرفهم. أما سكّان السهول فسلاحهم المفضّل هو الخنجر الذي لا يتردّدون عن اللجوء إلى خدماته عند أدنى صدام. لاحظ هؤلاء الأطبّاء أن معظم الجثث التي عاينوها في غرف حفظ الأموات والتي قُـتلت بالخنجر مشوّهة إلى حدّ غريب، حيث تحوي عددًا كبيرًا من الطعنات، القصد منها ليس القتل، ذلك أن طعنة أو طعنتين كافيتان لذلك. أما الطعنات الأخرى فلا تفسّر إلا بوجود رغبة دفينة عند المجرم في تعنيف وتشويه الجثّة، تتجاوز بكثير الدفاع عن النفس وشلّ حركة الخصم. مثلما حدث في الهجوم على شاحنة المساجين منذ أيام. حكى لي سي أحمد، محافظ الشرطة، أن جثث المقتولين من رجال الشرطة مشوّهة بالرصاص وطعنات الخنجر بشكل مروّع. ما حجم الحقد الدفين في صدور هؤلاء القتلة؟ إن مجرّد تحرير السجناء لا يفسّر وحده تشويه الجثث بطعنات الخنجر. لقد ردّ فرانز فانون على هؤلاء الأطبّاء الذين كانوا في يوم ما أساتذة له أن هذا العنف لا يفسّر إلا كردّ فعل ضدّ العنف الاستعماري المتواصل خلال أزيد من قرن. العنف يوَّلد العنف. وهل يولّد السلم السلم؟ هل كان رشيد عنيفًا حتى قوبِل بالعنف؟ الظاهر أنّ المسألة أعقد بكثير من أن تُربط ارتباطًا وثيقًا بالصراع الدائر بين البشر، وردّ فعل طرف على طرف. الغريب أنّ الجزائريين عند استقلال بلدهم لم يجدوا من يقلّدونه إلا فرنسا. هل هي ظاهرة المَغلوب المهووس بثقافة الغالب مثلما يقول ابن خلدون؟ من هو الغالب ومن هو المغلوب بين روما العسكرية وأثينا الفكرية الأدبية؟ الجزائر المجاهدة الشهيدة وفرنسا الحداثة والفكر التنويري؟ عند الاستقلال سارع الحكّام الجدد، وأغلبهم من ذوي التعليم الفرنسي، إلى بناء نظام لا يختلف عن النظام الفرنسي الرئاسي المركزي اليعقوبي، إذْ أبقوا على جميع القوانين الإدارية وهياكل المؤسّسات، بل راحوا يتفنّنون في الارتقاء بتقليده حتى في تعذيب مواطنيهم أبشع ممّا كان يقوم به الاستعمار. أصبح الفرنسي نموذجًا وسيطًا للارتقاء إلى الحضارة والتمدّن. لا يبلغ الجزائري نشوة السعادة إلا إذا أتقن تقليد الفرنسي، في الرطانة بلغته، وتعليم أبنائه في مدارسه ـــ لم تتغلغل اللغة الفرنسية فعلًا إلا بعد الاستقلال وبدعم من المدرسة الجزائرية ـــ واستيراد بضاعته (أتقن التجار اللعبة، فأضحوا يروّجون لأي سلعة بأنها من «ماركة فرنسية» إذا أرادوا تسويقها بسرعة وبأثمان مرتفعة)، كما لا يكون السفر سفرًا إلا إذا كانت وجهته باريس أو أضعف الإيمان مرسيليا. هكذا أصبح الفرنسي ـــ المستعمِر المستغِل المُتجبِّر ـــ نموذجًا للرقي والحضارة بعد الاستقلال. كيف نفسّر هذه المفارقة؟ من المفترض أنّ قرنًا ونصف قرن من الاستعمار والقمع والظلم يخلف عاطفة حقد وكراهية تجاه الفرنسي. ولكن ما حدث هو العكس تمامًا. أصبح الفرنسي هو الأب بالمعنى الفرويدي للكلمة. أب نريد قتله ليس لأننا نكرهه ولكن لأنّه منعنا من التقدّم والرقيّ (من الاقتراب من الأنثى التي نرغبها). فنزيحه عن طريقنا كي يخلو لنا المجال ونأخذ مكانه (الذكر الفحل)، ونمارس أفعاله، أي نقلّده ونصبح مثله. وما النكات الكثيرة التي تمثّل هواري بومدين في موضع الفحل الذي يغتصب الجزائرـــ المرأة إلا دليلًا على هذا التصوّر. على غرار ذلك الفلّاح الساذج الذي طلب من بومدين، وهو يزور إحدى القرى النائية، السماح له بمرافقته إلى الحمّام. داخل الحمّام، سأله بومدين: ما قصدك يا هذا ؟ أجاب الرجل بعفوية الريفي الساذج: أريد رؤية الأير الذي تنيك به هذا الشعب المسكين. وما أبرع الجزائريين في ابتكار أمثال هذه النكات ! هل يتَدَعّم العنف بطبيعة المناخ والتضاريس؟ مناخ متقلّب بين شتاء بارد جدًّا وصيف حارّ جدًّا. تضاريس أغلبها جبال وروابٍ يصعب العيش وسطها، برغم أنها تشكّل أماكن مناسبة للحماية في حالة الحروب وما أكثرها، سواء ضدّ عدوّ محلّي أو أجنبي. هل نوافق ابن خلدون الذي قال إن النملة في المناطق الباردة أكثر نشاطًا وحيوية من نملة الأقاليم الساخنة؟ المؤسف أنّ علماءنا أيضًا يستوردون النظريات الفكرية التي تشرّح المجتمعات وتصنّفها وتفسّرها، فيقرؤون بها مجتمعاتنا، عوض البحث عن آليات مستقلّة تغوص في خصوصيات مجتمعاتنا لتفسير معالمها وكيفية اشتغالها وتطورها عبر التاريخ. أغلب الكتب التي تؤرّخ لهذه البلاد كتبها أوروبيون رافقوا الغزو الاستعماري. فعدنا لا نرى مُجتمعنا إلا بعيون هذه المقاربات. ربّما هذا ما أدى إلى ترسيخ احتقار الذات ومعها جميع إنجازات الجزائريين، باستثناء فعلي البطولة الحربية والاستشهاد في ساحات الوغى. كأننا لسنا قادرين إلا على الحرب وما تخلّفه من انتصارات وتضحية بالأرواح. غرقْت في تساؤلات لا أوّل لها ولا آخر. انتابني صداع وضجر، أعاداني إلى حاضري. انتبهت إلى أنّ دفتر نبيل لا يزال بين يديّ. لا تزال صفحات أخرى لم أقرأها. وأثناء تصفّحي، لاحظت أن أوراقًا قد مُزّقت في نهاية الدفتر، وأثر التمزيق حديث العهد. صفحات قليلة تمكّنت من عدّها لأنّ الدفتر مُشكّل من كراريس شبه مدرسية، ملصقة الواحد إزاء الثاني. فيسهل عدّ الصفحات المقابلة التي لا تزال لاصقة. أربع صفحات. من مزّقها؟ نبيل؟ رشيد الذي اكتشف سرًّا لا يريد إفشاءه؟ فقرّرت مواصلة قراءة ما تبقّى ثمّ التحرّي في أمر الصفحات الممزّقة. ولكن قبل ذلك، عليّ بتحضير قهوة تبعد عنّي هذا الصداع اللعين. قمت إلى المطبخ وتناولت إبريق القهوة، بريس، الذي لم يُغسَل منذ أيام. لاحظت داخل الحوض صحنًا وكؤوسًا ومغارف متّسخة. اللعنة على الكسل الذي تملّكني هذه الأيام ! سأغسلها صباح الغد. اتّجهت يدي بعفوية نحو المكان الذي أضع فيه علبة القهوة المطحونة، فتذكرت لحظتها أنها كانت فارغة هذا الصباح، ونسيت شراء علبة أخرى. اللعنة على ذاكرتي الخربة ! ماذا أفعل الآن والليل قد أرخى سُدوله عليّ بثقل همومه منذ زمن طويل؟ أين أجد حانوتًا مفتوحًا يزوّدني بعلبة قهوة في هذه الليالي المرعبة التي أصبحت تجبر الناس على التخندق في منازلهم بمجرّد غروب الشمس، خوفًا على أرواحهم وممتلكاتهم المهدّدة ؟ بقيت لحظات تائهًا حائرًا، غارقًا في كأس قهوتي الغائبة. بعد ذلك، عدت إلى الصالون وأنا أخطّط كيف أتزوّد بكمّ كبير من السلع الضرورية ابتداء من نهار الغد. أمسكت بالدفتر الملقى على المائدة بحركة عصبية، والتحقت بغرفتي. كان السرير غير مرتّب، تماما مثلما تركته هذا الصباح. الظاهر أنني شخت ولم أعد أعتني بترتيب وتنظيف البيت. ينبغي عليّ البحث عن عجوز أكلّفها بهذه المهمّة، وإلا سيتحوّل منزلي إلى مزبلة ومأوى للجرذان. تمدّدت على السرير ورحت اقرأ: أوت 92 عدت البارحة من رحلة شاقّة إلى الجنوب. ذهبت برفقة ياسين إلى الصحراء لزيارة عبد الجبّار. إنّه جار خالته في حيّ الكاليتوس حيث تعوّد على زيارتها منذ الصغر. قال ياسين إنّ علاقة قديمة تربطه بعبد الجبّار وبكامل أفراد عائلته. كما أسرّ لي بأنّه ينوي طلب يد أخته الصغرى. لقد جسّت خالته نبض الأمّ التي لم تمانع من حيث المبدأ. ولكنّه ينتظر إطلاق سراح أخيها كي يتقدّم لخطبتها رسميًّا. أنا أيضًا أعرف عبد الجبار. كان يأتي من حين لآخر ليلقي دروسًا دينية في مسجد النور. فكان ياسين هو الذي يستقبله ويُصرّ على ملازمته طوال مدّة مكوثه بيننا. ولا يتوقّف عن طرح الأسئلة حول الدين والسياسة وأشياء أخرى أستغرب من أين يأتي بها. كان عبد الجبّار يفرض الاحترام والهيبة بقامته المديدة ولحيته الكثّة المصبوغة بالحنّاء وعباءته الناصعة البياض. اعتقلته قوات الأمن في مارس الماضي ونُقل إلى سجن بالصحراء. كانت أمّه ترغب في زيارته ولكن زوجها رفض مرافقتها. قال ياسين إنه كان حاضرًا حينما سمعها تشتكي لخالته. فاقترح أن يرافقها لأنّه هو أيضًا اشتاق إلى رؤية صديقه ومعلّمه عبد الجبّار. ولكن ياسين يضمر غرضًا آخر، ألا وهو كسب ودّ الأمّ التي سيخطب ابنتها. وشرح لي أيضًا أنّ عبد الجبّار هو الطفل الوحيد وسط أخوات كثيرات. بعضهنّ متزوّجات ولهنّ أطفال. الأب مُحرَج من أفعال ابنه. إنه غير راضٍ عن انضمام ابنه إلى حزب الإسلاميين، لأنّه ينتمي إلى منظمة قدماء مجاهدي ثورة التحرير. هذا الامتياز سمح له بأنْ يتولّى منصبًا مهمًّا في مطحنة الكاليتوس حيث يشتغل وهو لا يكاد يفكّ حروف الأبجدية. له صداقات عديدة في وسط قدماء المجاهدين، يستعين بخدماتهم عند الضرورة. مما مكّنه من بناء منزل كبير ذي طابقَين. قال ياسين إنّ زوج خالته أيضًا من قدماء المجاهدين، وحصل على امتيازات عديدة: قطعة أرض، موادّ بناء بأسعار مدعّمة، رخصة استغلال الطاكسي منحها لأحد أبنائه، وأشياء أخرى لا يعلمها إلا الله. حينما اقترح عليّ ياسين مرافقته إلى الصحراء، لم أتردّد لحظة. إنها فرْصَة لأتخلص من الجوّ العائلي القاتم. تشاجرت مع أختي حول لباسها المتبرّج وذهابها إلى البحر للاستحمام مع الرجال. إنها شرسة وتدافع عن نفسها كما القطّة التي تحرس صغارها الرضّع ضد أدنى خطر. لذلك فضّلت مقاطعتها، فلم أَعُد أكلِّمها. وحينَما تخاطبني أو تطلب مني أن أشتري لها بعض اللوازم، أتصنّع الصمَم. في البداية كانت تعيد طلبها بكثير من الإلحاح. كدْت أضعف أمام تودّدها ورقّة أسلوبها ولكنّي قاومت، بالصمت حينًا، وبالخروج من البيت حينًا آخر. تدخّلت أمّي مرة: اذهب واشترِ لأختك ما طلبته منك. قلت: ولماذا لا تَخرُج وتشتري بنفسها ما تريد؟ قالت: أنت رَجُل يسهل عليك الخروج، أمّا هي... قلت: هي ماذا؟ قالت: هي امرأة... أتريد لأختك أن تظل خارجة وداخلة أمام أعيُن الجيران؟ قلت: لماذا لا تقولي هذا الكلام حينما تذهب إلى البحر بمفردها مثل الرجال، أم إنّ البحر بعيد عن أعيُن الجيران ؟ سكتت أمي ولم تجب. آخر مرّة كلمتني أختي ولم أجبها، شتمتني وعيّرتني بأبشع الأوصاف. ومع ذلك لجمت لساني وزممت شفتيّ. فانقطعت عن مخاطبتي. هكذا أحسن. لم أخبر أبي بسفري. أعرف أنه سيبدأ بأسئلته البوليسية التي ستنتهي به حتمًا إلى إشهار فيتو الرفض في وجهي. صحيح أنّ موانعه قلّت منذ أنْ التحقت بالجامعة. ولكننا الآن في عطلة. ماذا سيكون جوابي إنْ سألني عن وجهة سَفري، وهو حتمًا سيسأل؟ اكتفيت بإخبار أمّي في آخر لحظة دون التوقّف عند التفاصيل. وعند إصرارها على معرفة مقصدي، قلت: «سأرافق ياسين إلى أهل والدته في منطقة البويرة. يومان أو ثلاثة، لا أكثر...» ألقت عليّ نظرة ريب حنونة ودعت الله أن يحفظني ويرافقني في سفري ويحميني من كل سوء. تحدّد السفر ليلًا. انطلقت الحافلة مع الغروب باتجاه الجنوب. أحضرَت والدة عبد الجبّار قفّتين ضخمتين، ثقيلتين. خمّنت أن بداخلها أطباق أكل وملابس. عرفت فيما بعد أنها خصّت واحدة لابنها المسجون والثانية لنا، بها كل ما تشتهي نفس المسافر. لأوّل مرة أرى خالتي يامنة. امرأة بدينة، متوسّطة القامة، ترتدي حجابًا بنّي اللون، ونقابًا من نوع العِجارة البيضاء على وجهها. شكرتنا كثيرًا ودعت لنا بالنجاح وطول العمر على قبولنا مرافقتها في هذا السفر الشاقّ. كانت الحافلة غاصّة بالمسافرين، أغلبهم من الجنوب، يُعرفون من خلال بشرتهم السمراء الداكنة والجلّابية البيضاء والزرقاء والرأس المغطّى بالشاش. رجال كثر وقليل جدًا من النساء. غرق معظمهم في النوم بمجرّد انطلاق الحافلة. أكيد أنّ العاصمة بضجيجها ومشاكلها قد أتعبتهم. أما أنا، فلم أكُن مُستعدًّا للنوم. بداخلي هواجس كثيرة ومخاوف تنغّص راحة بالي. بخلاف ياسين الذي بدا كما لو أنّه في نزهة على شاطئ البحر. كان مبتهجًا ويعلّق على كل صغيرة وكبيرة. اتخذنا أماكننا في الصفّ الخلفي للحافلة. جلست بقرب النافذة الزجاجية لأُسلّي بصري بالمناظر. كان احتياطًا عبثيًا إذ غابت الشمس كلية بعد حوالى ساعة من بداية الرحلة، بالذات في مضيق الشفّة، والحافلة تعرّج بنا عبر الدورات المتثعبنة، صاعدة باتّجاه أعالي مدينة البليدة. الطريق إلى المَدِيَة أعرفها، وقد سلكتها أكثر من مرّة حينما كنت أزور أعمامي وأنا صغير، قبل أن يقرّر أبي مقاطعة أهله بعد وفاة الجدّة. جبال شامخة مشجرة ومضيق عميق مهيب يثير الرعب. عند بعض الدورات، بدا لي كما لو أنّ الحافلة ستسقط في عمق الوادي، فتنتابني رعشة ترعد أحشائي وتملؤني ذعرًا. فألقي نظرة إلى بقية الركّاب، أجدهم هادئين، ساكنين. حينئذ، تعود إليّ رباطة جأشي، فأهدأ بدوري، وأواصل النظر إلى تلك المنحدرات المخيفة. توقفت الحافلة مرارًا عند الحواجز العسكرية. يصعَد عسكري ويلقي نظرة دقيقة، يتفحّص الوجوه، يتقدّم وسط الرواق الضيّق، يطلب بطاقات التعريف من بعض المسافرين، يتأمّلها لحظة ثمّ يُرجعها لأصحابها، قبل أنْ يأمر السائق بمواصلة السفر. في منتصف المضيق، وعند مدخل النفق الطويل، توقّفنا طويلًا عند حاجز الدرك الوطني. أنزلوا جميع الركّاب الرجال، وقاموا بتفتيشنا والتأكّد من هويّاتنا. أوصانا ياسين بعدم الإفصاح عن حقيقة سفرنا. اتفقنا على إجابة واحدة. طرح الدركي السؤال على ياسين أوّلًا. ردّ بأنّه سيزور ابن جارتنا التي بقيت داخل الحافلة، الذي جُنِّد مؤخّرًا للخدمة الوطنية. ثمّ وجّه لي السؤال نفسه. اكتفيت بالقول إنّني معه. نظر إليّ الدركي مليًّا، ماطًّا شفتيه. ارتعدت أوصالي قليلًا. هل شكّ في شيء ما أم إن جوابي لم يعجبه؟ ضغطت على أسناني وحوّلت بَصري باتجاه الغابة المتدرّجة نحو الأعلى والتي بدأ الظلام يلف أسفلها. ولكن الدركي ردّ لي بطاقة التعريف وانتقل إلى مساءلة الرجل الواقف بجانبي. مكثنا واقفين صامتين طول مدّة التحقيق وتفتيش الحقائب التي استمرّت حوالى نصف ساعة، قبل أن يطلقوا سراح الحافلة ونتمكن من مواصلة السفر من جديد. كنت في البداية أصغي بنصف أذن إلى ثرثرة ياسين وأمّ زوجته المقبلة، ذلك أنّ بصري كان يتابع المناظر الغابية التي تتتالى كما فيلم وثائقي حول الطبيعة. ولكن الظلام خيّم بسرعة، ولم أعد أرى شيئًا. فعدت مرغمًا إلى حديث مرافقيّ. كانت الأمّ تلقي لومًا لطيفًا على ابنها عبد الجبار: «لم أفهم ما هو الإسلام الذي يريده أصحاب بولَحْية. نحن مُسلمون منذ وُلدنا. لا أحد منعنا من الصلاة، ولا من الصوم، ولا من الحجّ. بل أنا ممنونة للدَولة التي منَحت لنا، زوجي وأنا، حجّة مجّانية. فلولاها لما تمكّنّا أبدًا من زيارة البقاع المقدّسة، والتبرّك بمقام نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم. كم مرّة ردّدت هذا الكلام على ابني عبد الجبّار. فيقول: هذا كلام كبير على المرأة التي خلقها الله لتطيع زوجها وتعتني بشؤون البيت وتربية أولادها. أمّا مسائل الدين فهي للرجال. يقول إن الإسلام ليس فقط صلاة وصومًا وحجًّا. يحدثني عن الشريعة الإسلامية، ويغرق في كلام كبير لا يستوعبه مُخّي. ما أفهمه هو أنّ الذي يريد أن يكون مسلمًا، عليه أن يلتزم بالفروض الخمسة ويبتعد عن ارتكاب الحرام. ولا أظنّ مؤمنًا لا يفرق بين الحلال والحرام. زَوجي عبد القادر، وهو الذي جرّب الحياة وخالط الناس، يقول بأنهم يمارسون السياسة، وهم يتستّرون تحت غطاء الدين. وهذا أيضًا كلام كبير لا يستوعبه مخّي الصغير. كنت دائمًا أدعو الله في صلاتي أن يُبعد الشرّ عن ابني. قلبه أبيض ولا يحبّ الشرَّ لأحد. لماذا يعاقب بالسجن وفي أقصى جنوب البلاد؟ ألا توجد سجون في الشمال؟ في تلك الليلة المشؤومة، حدث ما لا يتصوّره عقل المؤمن. أرعبونا، الله يرعبهم. كأننا مجرمون أو قتلة. حاصروا البيت في منتصف الليل وكادوا يكسِّرون الباب علينا لولا زوجي الذي سارع إلى فتحه. كسروا علينا الحرمة، الله يلعنهم. حاول زوجي منعهم من الدخول، فدفعه أحد الدركيين حتى كاد يسقطه أرضًا. قال لهم زوجي إنه من قدماء المجاهدين وليس من حقّهم الدخول إلى منزله بالقوّة. ردّ عليه أحدهم: لو كنت حقًّا من قدماء المجاهدين لربّيت ابنك على احترام المجاهدين والشهداء، ولما قام ابنك بشتم المجاهد الكبير رئيس الدولة الذي فجّر الثورة لتنعموا بالاستقلال اليوم. في تلك اللحظة أطلّ ابني من غرفته وقال للدرَكي: لو كان هذا الطاغية مجاهدًا كبيرًا لما قبل الجلوس على كرسي غيره والموافقة على السطو على سلطة الشعب. ردّ عليه الدركي: أنت هو زعيم الشياطين الذين أرادوا تدنيس وطن الشهداء والثورة. هيّا، أمسكوه وقيّدوه. هجم عليه ثلاثة رجال وأمسكوه من الذراعين. لم يكن ابني خائفًا، بل واجههم بشجاعة وأنفة. قال لهم: سآتي معكم إلى حيث تريدون... اسمحوا لي فقط بارتداء ملابسي. ولكنّ الملاعين دفعوه إلى خارج الدار بجلابية النوم. كان الجوّ باردًا وممطرًا. ركضت إلى غرفته وأمسكت بمعطفه الشتوي وخرجت خلفه إلى الشاحنة المنتظرة في الزقاق. وكم ارتحت حينما رأيته يرتدي المعطف قبل أن يجلس وسط مجموعة من الرجال الموقوفين مثله. هدأ هلعي عند رؤية المسجونين الآخرين. المصيبة إذا عمّت خفّت. لن يتحمّل ابني عذاب السجن بمفرده. لم ننم تلك الليلة. اجتمعنا في الصالون حتى أذان الفجر، صامتين في أغلب الوقت. ما عسانا نفعل غير الانتظار والبكاء؟ هدّأ زوجي من خوفنا قائلًا إنّه سيتّصل بمعارفه نهار الغد، وسيطلق سراح عبد الجبّار في أقرب وقت. ولكنّ جميع مساعيه فشلت. الطامّة الكبرى أنه لم يتمكّن حتى من معرفة مكان احتجازه. لقد شاعت أخبار مرعبة في تلك الأيام، وتكلّم الناس عن اكتشاف جثث متعفّنة على حافة الطرقات. خفت أن يكون ابني قد قُتل ورُمي في مكان مجهول. ذات يوم، أسرّ شخص لزوجي أنّ الموقوفين نُقلوا أوّلا إلى الثكنات، وبعد ذلك إلى سجون بالصحراء. فعاد إليّ الأمل والنوم، إذ كنت أستيقظ دائمًا وسط الليل وأغوص في حسابات لا أوّل لها ولا آخر. عند كل صلاة أدعو الله أن يُرجع لي ابني حيًّا. وها قد استجاب لدعائي...». سكتت العجوز وسرح بصرها بعيدًا. ربّما كانت تسترجع ذكريات عزيزة عليها، أو تتخيّل لحظة لقائها المرتقب مع ابنها المنفي إلى أقاصي الدنيا. خيّم الصمت للحظات قصيرة. وبعد ذلك، تكلّم ياسين، مخاطبًا إيّاها. هو أيضًا، نطق بكلام كبير على المرأة الطيّبة. عاد إلى موضوعه المفضّل، الخلافة الإسلامية، ثمّ أضاف إليها الشريعة والقرآن كمصدر وحيد للتشريع وفقه الأئمّة ونبذ الديمقراطية والقوانين الوضعية والعلمانية، باعتبارها كفرًا وخروجًا عن الدين، وأفكار أخرى، تعوّدت على سماعها في الشهور الأخيرة. أحسَست بأنّ خالتي يامنة ضجرت من كلامه ولم تعرف كيف توقفه. تململت لحظات، ثمّ اعتذرت قائلة: «اسمح لي يا ياسين يا وليدي، أنا متعبة، لم أنم جيّدًا ليلة البارحة». فأمالت خمارها على عينيها وأرخت جسدها قليلًا، مُستعدّة للنوم. سكت ياسين لحظة. نظر إليّ، مُستَعدًّا لمواصلة حديثه. ولكنني استدرت باتجاه النافذة، وغرقت من جديد في أفكاري وذكرياتي. غادرنا المنعرجات الجبلية وانقطعت الهزّات الفظّة التي كانت تخضّنا وتبعد عنّا النوم. رويدًا رويدًا، خيّم الصمت وسط المسافرين ولم أعد أسمع إلا هدير المحرّك الرتيب. بين الفينة والأخرى، كانت مصابيح التجمّعات السكّانية والقرى التي تقطعها الحافلة تقطع حبل تفكيري وتعيدني إلى حاضري. نور شاحب ينزع ستار الظلمة عن أرصفة فارغة، وأحيانًا عن مقاهٍ فتحت أبوابها لاستقبال المسافرين. وبعد ذلك خطفني النوم. أيقظتني خالتي يامنة بلكزات من كوعها واسمي يُكرَّر على لسانها. فتحت عينيّ على ضوء الفجر الباهت وجلبة خفيفة يحدثها المسافرون وهم يتأهّبون للنزول. كانت المحطّة عبارة عن منبطح رملي كبير مقابل بناية واطئة مدهونة بزرقة شاحبة. انزوينا جانبًا نتساءل بعيوننا عمّا سنفعله. كان ياسين هو المرشد العارف بكل شيء. قبل أن تشرق الشمس بنورها الصيفي الساطع، كنّا قد ركبنا حافلة أخرى برفقة أربع عائلات جاءت من مناطق مختلفة، قاصدة زيارة أبنائها المسجونين. الحافلة مهترئة تتمايل يمينًا وشمالًا كما لو أنها ستنقلب عند أوّل دورة. كنت لا أزال مدوّخًا وبحاجة إلى مزيد من النوم. الحرارة خانقة تُقوي الإحساس بالوهن والضجر. تمتدّ حولنا على مدى البصر أراضٍ حجرية رملية اللون، تزيد نور الشمس سطوعًا ولمعانًا يتعب العيون. حطّتنا الحافلة عند مدخل قرية صغيرة أغلب منازلها من الحجر والطوب لا يختلف لونها عن لون الرمال المحيطة بها. ما إنْ وطئت أقدامنا الأرضية الرملية حتى تقدّم إلينا رجل ملفوف في عباءة زرقاء لا يكاد يظهر من وجهه إلا عيناه السوداوان، يعرض علينا خدماته. كان على دراية بسبب قدومنا إلى بلدته البعيدة. لم يترك لنا وقتًا للسؤال. ركبنا في تويوطا قديمة، تئنّ من كل مكان. قالت والدة عبد الجبّار والدموع تكاد تخنقها: ـــ ما هذا المنفى الذي أُرسِل إليه ابني؟ كيف يستطيع الناس العيش في هذه القفار؟ ردّت امرأة أخرى: ـــ مثلما ترَيْن يا أختي الكريمة... كأنّ البلد بأسره يفتقر إلى سجون حتى يُنفوا إلى هذه الأراضي الخالية؟ تدخّل شيخ آخر من خلف الحافلة: ـــ هذا ظلم يتجاوز ظلم الاستعمار... أخي إمام يؤمّ المصلين ويشرح لهم كتاب الله في دروس الجمعة، ومع ذلك سجنوه ونفوه إلى هذه القفار... كثرت التدخّلات، واحتدّ النقاش بين العائلات حول مصير أبنائها، وراح كل فرد يتلهّف لرواية قصّته كما لو أنّها كانت تحرق لسانه فلفظها عند أوّل شرارة. انشغلت بالحوار الدائر ونسيت الحرارة وطول المسافة. يقع السجن داخل ثكنة عسكرية، وسط منبسط رملي عند أسفل هضبة صخرية، تحيطها أسلاك شائكة. بها قليل من البيوت الصلبة المبنية بالحجارة والقرميد، والباقي عبارة عن خيام عسكرية تمتدّ إلى عمق أسفل الهضبة. قام عساكر الحراسة بأخذ بطاقات الجميع وتفتيش القفف والحقائب. ثمّ أدخلنا عسكري تحت سقيفة مغطّاة بالزنك وطلب منّا الانتظار. بدأ المساجين يصلون تباعًا، مسرعين، وهم يركّزون أنظارهم للتعرّف على ذويهم. أعادت اللقاءات بعث بريق الابتسامات والفرحة على الوجوه الحزينة العابسة التي رافقتني منذ الصباح. أطلقت امرأة زغرودة قوية بمجرّد اقتراب ابنها منها. ارتفعت الأصوات غير مبالية بالعساكر المحيطين بالسقيفة. كان عبد الجبّار تقريبًا آخر من ظهر. قام ياسين من مكانه وبدأ يلوّح بيديه. قالت أمّه وهي تتفّحصه بعد عناق طويل: الحمد لله الذي أبقاني على قيد الحياة كي أراك أمام عينيّ. ثمّ انتقينا مكانًا منزويًا وجلسنا على الرمل وعيوننا على عبد الجبّار. لقد هزل كثيرًا وبدا لي أكثر طولًا. لم تتوقّف أمّه من إمطاره بأسئلة دقيقة عن إقامته وطبيعة أكله، قبل أنْ تشير إلى القفّة المخصّصة له وتعدّ له أنواع الأطعمة التي أحضرتها له. أمّا عبد الجبار، فما فتئ يكرّر أنه بخير ولا ينقصه شيء إلا رؤية العائلة والأحباب. روى لنا باقتضاب شديد مراحل انتقاله من ثكنة إلى أخرى، ومن شاحنة إلى أخرى، قبل أن يُزجّ مع آخرين في طائرة عسكرية باتّجاه الصحراء. ولم يكن في كلامه أنين شكوى أو علامات ضغينة ما، بقدر ما كان يردّد بأنّ ما وقع له بلية تهجير لا يخّصها الله إلا لعباده المؤمنين الصادقين المدافعين عن دينه. لم تدم الزيارة طويلًا. بعد عناق الوداع، قال ياسين: ـــ سنعود بعد شهر إن شاء الله. ـــ ردّ عليه عبد الجبّار: ـــ لا تتعب نفسك أخي ياسين... لن نمكث هنا أبد الدهر. نحن بخير والحمد لله، وستنتهي محنتنا عن قريب. هناك بوادر الانفراج تلوح في الأفق. قالت الأمّ بتلهف: ـــ إن شاء الله يا وليدي... إن شاء الله... ثمّ افترقنا. عاد عبد الجبّار إلى خيمته بخطًى متثاقلة، مائلًا قليلًا باتّجاه اليد التي تحمل القفّة، وأبصارنا تلاحقه إلى أن اختفى. كانت الحافلة التي جاءت بنا تنتظرنا تحت الحرارة الخانقة وسائقها منكمش فوق الرمل، يحتمي بشريط ظلّ لا يكاد يتّسع لجسده النحيل. كانت وجوه الزوّار أكثر انشراحًا وألسنتهم أكثر انطلاقًا. لقد زال الهمّ الذي كان يسوّد أيامهم. سينقلون أخبارًا سعيدة إلى أفراد عائلاتهم الذين ينتظرون عودتهم بقلق وترقّب، وخوف من المفاجآت غير السارّة. كانت العودة أقصر وأريح من الذهاب. عدنا إلى محطة المدينة وأخذنا الحافلة الليلية باتّجاه الجزائر العاصمة. كنت متعبًا وبحاجة إلى النوم. تركت ياسين يصول ويجول في أحاديث متشعّبة مع أمّ زوجته المفترضة وغرقت في سبات عميق. وضعت دفتر نبيل جانبًا. كانت هذه آخر الصفحات المكتوبة. زوّدتني هذه اليوميات بمعلومات كثيرة عن نبيل وأفكاره وأصدقائه، ولكنها بقيت خرساء عن ظروف وملابسات مقتله. تناولت الدفتر من جديد ودقّقت في أثر الصفحات الممزّقة. من مزّقها؟ هل مُزّقت بعد أن مُلئت باعترافات حرجة؟ أم لاستخدامها لأغراض أخرى لا علاقة لها بالموضوع؟ كيف لي أن أعرف؟ سأحدّث رشيد، ربّما عثر عليها وسط أغراض ابنه. 10 كرّت الأحداث في عين الكرمة بوتيرة مخيفة، كما لو أنها تحالفت مع شيطان مارد لاجتثاث جميع مظاهر البهجة من وجوه الذين أعرفهم. أنا أيضًا غرقت في دوّامة تفكير، رفضت أن تفتح لي ولو كوّة ضئيلة من أمل الانفراج. كانت أولى هذه اللعنات الزاحفة بلا إخبار ولا رحمة تلك التي أصابت زوجة صديقي رشيد. وجدته ينتظر داخل مكتبي عندما وصلت عند التاسعة والنصف صباحًا. كاتبتي تعرفه، وكنت قد أوصيتها أن تسمح لبعض الزملاء، من بينهم رشيد، بالانتظار في الصالون الصغير داخل مكتبي. أرائك جلدية بنّية اللون تحيط طاولة واطئة بها جرائد ومجلّات، وعلى الجدار مكتبة صغيرة بها مجلّدات في القانون والأدب والتاريخ. إنّ زيارات رشيد عادة ما تتمّ عند نهاية الظهيرة، لأنها زيارات صداقة، لا علاقة لها بالشغل. فكنت أصرف الزبائن بسرعة، وأضع الملفات جانبًا، لنسترسل في أحاديث لا أوّل لها ولا آخر، قبل أن نقرّر الخروج سويًّا إلى أقرب مقهى، أو القيام بجولة في السيارة إلى غاية الطريق البحري. طبعا، أدركت أنّ حالته النفسية كانت في الحضيض. إنه صديقي وأنا أعرف متى يكون مبتهجًا ويبتسم للحياة، ومتى يكون مكفهرًّا، ليس بينه وبين الانفجار إلا خطوات معدودة. لم أسأله. اكتفيت بالترحيب وذكر آخر الأخبار التي استقيتها من عناوين الصفحات الأولى للجرائد التي تمحورت في معظمها حول عملية تفجير سيّارة مفخّخة عند مدخل ثكنة بمنطقة الأخْضَريَة. ولكنه لم يبادر، مثل عادته، بشتم الإرهابيين الإسلاميين الذين يتسبّبون في خراب البلاد وإبادة المواطنين البسطاء وإن كانوا من رجال الشرطة والجيش. أمّا الجنرالات المتسبّبون بهذه الأزمة فيعيشون في قلاع محمية، بعيدة عن كل أذى. الغريب في الأمر أنّه بدأ حديثه بالاعتذار عن هذه الزيارة الصباحية المباغتة. وهذه ليست من عاداته. حينها أدركت أنّ مصيبة أخرى ألمّت به. قلت: ـــ «أنا لم أشرب قهوتي بعد. هيّا بنا عند سي رابح البليدي يعصر لنا اثنتين مثل القطران نفتح بهما عيوننا، ونطرد نعاس الليالي المؤرقة. جابك ربّي في الوقت المناسب. لي مشكلة طيّرت عنّي النوم وأريد عرضها عليك لعلّك ترشدني إلى حلّ». في المقهى، بمجرّد جلوسنا، صاح صاحب المقهى المكرّش، الواقف خلف المصرف الخشبي المهترئ، باتّجاه النادل: يا وْلَد، شوف الأساتذة واش يشربوا... اقفز... أتانا النادل الشابّ بفنجانين من قهوة بريس. قلت، وأنا أبسط الجريدة أمام عيون صديقي الذابلة: ـــ ماذا يريد هؤلاء؟ أيبنون الدولة الإسلامية على ركام جُثث القتلى وعويل الأرامل وبكاء الأيتام؟ كل صباح، لا نستيقظ إلا على أخبار الاغتيالات والتفجيرات والحرق والخراب والتدمير... نظر إليّ رشيد وقال بنبرة يأس واستسلام: ـــ وماذا تنتظر من مثل هؤلاء الدراويش؟ لا يصلحون إلا لحفر القبور وترتيل قرآنهم على الموتى. يصنعون جهنمًا هنا كي يستطيعوا إقناع الناس بفحوى جنّتهم الموعودة هناك. ماذا ينفع الكلام الآن؟ الطاعون جاثم على رؤوسنا، والكوليرا تزحف عبر أقدامنا. ومثلما قلت لي أنت منذ أيام: القافزون دبّروا فيزات وفرّوا بجلودهم إلى أوروبا وأمريكا. أمّا نحن... سكت وطأطأ رأسه. لم يمسّ فنجان قهوته. تمّليته لحظة. لقد شاخ صديقي. بدا لي أن صلعته اتّسعت والتهمت ثلثي جمجمته. وجهه محفور بتجاعيد عميقة، عيناه محاطتان بازرقاق داكن. ـــ يبدو أنّ أحوالك ليست على ما يرام هذه الصبيحة... كأنه كان ينتظر سؤالي ليُفرغ أوجاعه. ـــ زوجتي في غرفة الإنعاش بالمستشفى. أدخلتها نهار أمس. بقيت هناك حتى منتصَف الليل، ولكنها لم تسترجع وعيها بعد. ـــ كيف حدث هذا؟ بدت لي حينما رأيتها في المرّة الماضية في صحّة جيّدة. ـــ في الظاهر فقط. كنْتُ أتوقّع أن تتدهور حالتها الصحّية إلى ما هي عليها اليوم. مُنذ وفاة نبيل، فقدت شهية الأكل. كأنها مضربة عن الطعام. كم مرّة نبّهتها إلى أنّ جسدها أضحى جلدًا وعظامًا. ولكنها تهزّ كتفيها ولا تجيب. أضربَت عن الكلام أيضًا. لم يعد شيء يشدّها إلى الحياة. كأنه نوع من الانتحار المتعمّد. ـــ لا تقل مثل هذا الكلام، يا رشيد. هي مؤمنة، وتعرف أن الانتحار محرّم شرعًا. فلا أظنها تفكّر فيه أصلًا. إنّ وفاة ابنها الوحيد صدمة ليس من السهل تحمّلها. أمّي أيضًا توفّيت بعد سنوات قليلة من مقتل أخي الميلود. كانت لا تكفّ عن البكاء والحديث عنه، بمناسبة أو بغيرها. أنا أيضًا، عملت المستحيل، وكنت صغيرًا وقتها، كي تتخّلص من حدادها، تنسى ذكر ابنها وتعيش حياتها مثل جميع الناس. كانت أمي غاضبة وناقمة على الذين قتلوا ابنها. تتوعّدهم يوميًّا بعقاب جهنّم، وتدعو الله والأولياء أن يثأروا لها، وإن في الآخرة. وكنت أذكِّرها بأنّها ليست الوحيدة التي فقدت ابنًا في عزّ شبابه. هكذا هي الحياة، الموت حاضر باستمرار بين البشر. ولكنّها تردّ بغضب: «الميلود لم يمت موتًا طبيعيًّا. لقد قتلوه. ولن أسمح لهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لو مات بمرض ما، لقلت قضاءً وقدرًا، أما أن يقتلوه، فهي جريمة يعاقبهم الله عليها ويحرقهم في قاع جهنّم مثلما أحرقوا قلبي». ولم يتحمّل قلبها الضعيف، فخانها قبل أن تردم الأيام ذلك الحزن. ثمّ لا تنسَ أن زوجتك مصابة بسرطان، ربّما كانت مضاعفات المرض هي التي أدخلتها في هذه الغيبوبة. ـــ ربّما... لقد أخبرت الطبيب بذلك. قال إنّ الشيء المستعجل الآن هو إخراجها من حالة الغيبوبة. بعد ذلك، سينظر في ملابسات سرطانها. قبل يومين، رأيتها قد عصبت رأسها بمنديل، وحينما سألتها قالت دوْخة خفيفة. اقترحْت أخذَها عند طبيب، فردّت عليّ بأنها كرهت الأدوية والمستشفيات. لم أعد ألحّ كثيرًا. أضْحت عَنيدة، تنكمش على نفسها ولا تردّ على كلامي. في صبيحة أمس، خرجت إلى السوق لبعض المشتريات، وحينما عدت، وجدتها ملقاة على بلاط المطبخ، بلا وعي. رششتها بقليل من الماء، لعلّها تستيقظ. بلا جدوى. اتّصَلت بمصلحة المطافئ، قالوا إنّ سيّاراتهم في مهمّة نقل جرحى حادث مرور، وقع في الطريق السريع المؤدّي إلى البحر. لعنتهم وسيّاراتهم وأقفلت الخطّ. استعنت بجاري. بصُعوبة كبيرة، تمكّنّا من نقلها إلى المستشفى. قال الطبيب: انخفاض كبير في السكّر، مما أدّى إلى الإغماء. فهمت من كلامه المقتضب أنّ حالتها خطيرة. ـــ هيّا بنا إلى المستشفى... لعلّها تكون قد استيقظت... كانت زوجة رشيد راقدة على سرير في صالة الإنعاش، وقنّينة المصل معلّقة على يمينها، وعلى وجهها جهاز التنفّس الاصطناعي. وقفت مع رشيد قرب الزجاج الفاصل، ننظر إليها نظرات حسرة وعجز. دخلتْ ممرّضة، وقفَت بقربها لحظة، تفقّدت الأجهزة الطبّية، سوّت فراشها برفق ثمّ اختفت عبر باب خلفي. بَقيْنا واقفَين، صامتَين، تائهَين، لا نعرف إنّ كان من واجبنا البقاء هنا أو مغادرة المكان، ذلك أن حضورنا كغيابنا، لا يزيد شيئًا ولا ينقص من حالة المريضة. أنقذنا وصول امرأتين من صديقاتها. تبادلت واحدة منهما حديثًا مقتضبًا مع رشيد. ابتعدت قائلًا: ـــ أنتظرك داخل السيّارة. في حقيقة الأمر، كنت أستعجل مغادرة جناح الإنعاش. كانت روائح الأدوية الحادّة التي تلفّ تلك الأروقة، بجدرانها ذات اللون الأزرق الباهت، تثير في نفسي حالة غثيان وشعورًا بالاختناق. أسرعت الخطى وخرجت إلى الحديقة أستنشق الهواء بملء منخريّ كأنني كنت تحت الماء أو في غرفة عابقة بالدخان. أعي بأنها حالة نفسية تلازمني منذ الصغر ولم أفعل شيئًا للتخلّص منها. زاد قنوطي وأنا أتصوّر نفسي مريضًا وممددًا داخل واحدة من هذه الغرف الكئيبة. أكيد أنني سأموت في الليلة الأولى. كانت أمّي رحمها الله تقول عند ذكر الموت: «اللّي حبّو ربي يدِّيه في النوم». هي فعلًا فارقت الحياة أثناء نومها. في تلك الليلة، استيقظت على شخير غريب ولكنّي لم أدرك فحواه. استرقت السمع طويلًا، حتى سمعتها تنطق بالشهادتين بصوت راجف ضعيف. قمت مفزعًا، ولكنّ الموت كان قد خطفها. حرّكتها بقوّة، صرخت بأعلى صوتي. كانت جثّة هامدة. جلست على الأرض أبكي. أبكي موت أمّي وأبكي يتمي المبكّر. قمت وأغمضت عينيها. انتظرت أذان الفجر وأخبرت الجيران الذين قاموا بواجب الدفن. حينما رويت قصّتي لرجال الحيّ، قالوا إنّ قلبها ربّما توقّف عن الخفقان. ماتت أمّي إذن بسكتَة قلبية. دقائق معدودة وخرجت الروح. أتمنّى أن يكون موتي مماثلًا لموت أمّي العزيزة، حتى لا أتعذّب مثل هذه المسكينة النائمة في غرفة الإنعاش. منذ قرابة أربع سنوات وهي في رحلات عذاب إلى المستشفيات. تعذّبت وعذّبت معها زوجها. ولكن هل لنا أن نختار لحظة موتنا وكيفية حدوثه؟ لا تدري نفس بأيِّ أرْضٍ تموت. الموت يحوم حول رؤوسنا هذه الأيام. أيّ موت أفضل، أبرصاصة في القلب تنقلك إلى العالم الآخر في ثوانٍ معدودة، أم بإقامة شاقّة داخل غرفة مستشفى كئيب، تنتظر مجيئه بفارغ الصبر، فيمتنع ويتدلّل عليك ساخرًا من عدم صبرك واستعجالك بالرحيل؟ تطلبه ليل نهار ولا يستجيب لدعائك. فتضطرّ، مثلما فعلت المسكينة، إلى الاستنجاد بوسائل مساعدة، كعدم تغذية هذا الجسد المترهّل، المتشبّث بوهم الخلود. هل الخوف من مثل هذه الوضعية المقعدة هي التي دفعت بالكاتب الأمريكي همنغواي إلى اختيار الانتحار، وبرصاصة واحدة منقذة؟ شجاعة أم جبن؟ بطولة أم خيانة للحياة التي احتضنته بعنفوان لا مثيل له؟ من سيُسعفني بجواب يشفي غليل فضولي؟ كيف يكون ردّ فعلي إذا عجز جسدي عن أداء وظائفه الطبيعية؟ هل أقتفي خطوات همنغواي؟ أم أستسلم ذليلًا لمشرحة الأطبّاء يحوّلونه مخبرًا لدروسهم؟ أيقظني رشيد من تخيّلاتي الكئيبة بالوقوف قرب باب السيّارة قائلا: ـــ أكثّر خيرك يا سي عبد القادر... أنا سأبقى هنا... عد إلى مكتبك، أعرف بأن شغلًا كبيرًا ينتظرك... سأتّصل بك هذا المساء. مع السلامة. لم ينتظر إجابتي. ابتعد باتّجاه الحديقة المقابلة لموقف السيّارات. في واقع الأمر، لم يكن لديّ ما أقوله له. أنا أيضًا، أصبت بعدوى الكآبة والحصر. فبدت الحياة بلا مذاق ولا طعم. برغم الجوّ المشمس والمناخ الدافئ، كان جسدي باردًا وكليلًا. أشعلت المحرّك واندفعت السيّارة باتّجاه سياج الخروج، فيما كان رشيد يتهيّأ للجلوس على مقعد معرّض للشمس، في عمق الحديقة. ابتعدت عن المستشفى وأنا أتصوّر نفسي ممدّدًا على منبسط هضبة طفولتي تحت الشمس الدافئة، أتابع تحليق طيور الزرزور وأسترق السمع إلى الحشرجات والزقزقات المتعالية حولي. امتلأ صدري حنينًا إلى قريتي، مسقط رأسي، فقلت يجب أن أزورها يومًا، وعن قريب. عدت إلى المكتب وانشغلت بدراسة الملفّات واستقبال بعض الموّكلين. ولكنّ مشكلة يوسف عياشي وما سمعته من عبد الحميد عن حكاية الشرطي فاتح بن سلامة وزميليه مع أخيه الصائغ الذي اختفى عادت إلى ذهني، ومنعتني من مواصلة عملي. ملاذي الوحيد هو سي أحمد، محافظ الشرطة. أكيد أن لديه اقتراحات مفيدة. وجدته واقفًا عند سلالم مدخل مقرّ المحافظة، برفقة زميل له. فقال بصوته الجهوري المازح: ـــ كنت أبْحَث عن شخص يدفع لي ثمن الغداء... جابك ربّي في الوقت المناسب. ـــ وأنا جئت لهذا الغرض... هيّا بنا عند سي عبد الحميد الجيجلي... ما رأيك في دوّارة ولا دُبارَة حارّة؟ ـــ دقيقة واحدة وأنا لك... دخل مسرعًا عبر الرواق العريض واختفى. عدت إلى سيارتي وانتظرت. دقائق قليلة وارتمى على المقعد بجانبي: ـــ هيا حرّك روحك... راه الجوع قطّعني. استمع إلى قصّتي مليًّا، ثمّ ارتشف جرعة من قهوته بصوت مسموع وقال: ـــ وتخفي عنّا كل هذه الأخبار الخطيرة يا سي عبد القادر... ـــ كنت في حيرة من أمري، فقلت سأمنح لنفسي وقتًا للتفكير قبل أية مبادرة. ـــ إنّ قضية السطو على المنازل حيّرتنا فعلا. في البداية تلقّينا شكاوى عديدة من مواطنين قالوا إنّ منازلهم تعرّضت للسرقة في غيابهم. قمنا بالتحرّيات اللازمة. خصّصنا دوريات ليلية للحراسة. ومع ذلك لم نصل إلى أية نتيجة. فجأة توقّفت عمليات السرقة، وكدنا نطوي الملفّ. أنت تعرف أنّ السرقة أصبحت اليوم في آخر اهتمامات الشرطة أمام تنامي العمليات الإرهابية. ماذا تساوي سرقة أمام جرائم القتل والنهب والتخريب؟ كدنا ننسى القضية لولا أنّ شخصًا مجهولًا اتّصل بنا، بواسطة الهاتف، وأخبرنا أنّ الصائغ عبد الكريم بوعبد الله يبيع مجوهرات مسروقة. ذهبنا إلى المحلّ، فوجدناه مغلقًا. بحثنا عنه في منزل والديه، فلا أثر له. اضطررنا إلى اقتحام المحلّ بالقوة، كسّرنا الباب واكتشفنا المجوهرات المسروقة، أو ما تبقّى منها. أحضَرنا أصحابها وتأكّدنا من فعل السرقة. كثّفنا البحث عنه باعتباره الدليل الوحيد الذي سيوصلنا إلى بقية أعضاء العصابة. قال لي أحد الأعوان إنّ أهله قالوا إنّ رجالًا بلباس الشرطة داهموا منزلهم ليلًا وأخذوا ابنهم إلى وجهة مجهولة. طبعًا لم نصدّق كلامهم. اعتبرناه دعاية مغرضة ضدّنا. أو على الأرجح، تمويه من جماعتهم لإبعاد الشبهة عنه، أو ربّما يكون زملاؤه في السرقة هم الذين انتقموا منه لخلاف حول الغنيمة، الشيء الذي يحدث كثيرًا. وكنّا مقتنعين أنّه التحق بالجماعات المسلّحة. عندما اكتشفت جثّته، طوينا الملفّ نهائيًّا. الجريمة أيضًا بقيت مجهولة ولم نعرف شيئًا عن ظروف ارتكابها ولا عن فاعليها. يا سي أحمد، تتحدّث الصحافة في الأشهر الأخيرة كثيرًا عن عمليات اختطاف لأشخاص يقوم بها رجال بلباس رسمي للشرطة أو للدرك. ولا يخفى عنك أنّنا تحت قانوني حالة الطوارئ ومنع التَجوُّل، وأنّ أجهزة أمن الدولة تعمل في سرّية تامّة وقد تبرّر التجاوزات بحالة الحرب غير المعلنة التي تعيشها البلاد. ولا أظنّك جاهلًا بمثل هذه التجاوزات الخطيرة؟ هزّ محافظ الشرطة رأسه ومطّ شفتيه، ثمّ ارتشف جرعة أخرى من قهوته. ـــ أنت محامٍ وأدرَى منّي بكيفية تسيير دواليب مؤسّسات الأمن. أنا هنا أقوم بتسيير محافظة شرطة تسهر على أمن المواطنين، ونعمل ما بمقدورنا لحمايتهم من أي تجاوز أو تعسّف. لا يسمح لنا القانون بتفتيش منزل، مثلًا، دون أخذ تصريح من وكيل الجمهورية، ولا بتوقيف شخص دون أمر المحكمة بالبحث عنه، إلا إذا ضُبط متلبّسا باختراق القانون. أجهزة أمن الدولة ليست عصابات خارجة عن القانون. من مهامّها الدستورية أن تسهر على احترام القوانين ولا ترّد على الجريمة بالجريمة. ما هو الفَرْق إذًا بينَها وبين عِصابات المجرمين؟ هكذا أفهم وظيفة الشرطة وأسهر على تأدية مهمّتي بحيث لا تتناقض مع قناعاتي. أمّا ونَحْن في حالة الطوارئ، فالحاكم الفعلي هو الجيش. وللجيش عمود فقري كان يسمّى بالأمن العسكري ثمّ تغيّرت تسميته إلى مديرية الاستخبارات والأمن. هو جهاز مستقلّ عن الشرطة، يعمل في الخفاء، بعيدًا عن الرقابة القضائية. لذلك فأنا مثلك، أجهل ما بداخل هذه العلبة السوداء وما تفعله أو تنوي فعله من خير أو شرّ للبلاد. هم الذين قرّروا تنظيم الانتخابات، ثمّ رأوا أنّ من مصلحة البلاد أن يلغوها. هم الذين أقالوا الرئيس واستقدموا رئيسًا جديدًا، وأعلنوا حالة الطوارئ ومنع التجوّل. أنا مثلك تمامًا، صدّقني، أقرأ الجرائد وأتساءل عن صحّة وعدم صحّة ما يُنشَر. كما أتساءَل عن المصدر الذي تستقي منه الصحافة هذه الأخبار المخيفة. ـــ ما يُشاع هو أنّ كثيرًا من الصحافيين يتعاملون مع أجهزة المخابرات. ولسنا ندري بالتأكيد مَن يستثمر في الثاني، ويستخدمه لصالحه ؟ الصحافيون لانتشار مبيعات جرائدهم وملء حساباتهم البنكية، أم المخابرات لترويج ما تريد ترويجه وتشويه ما تريد تشويهه؟ ـــ إنها حرب إعلامية واستخباراتية شرسة، تغيب فيها جميع القيم الإنسانية، وتهيمن الدعاية الكاذبة والأخبار التي لا أساس لها من الصحّة. ـــ وهل ما يحدث عندنا حرب إعلامية فقط أم هي حرب نرفض تسميتها وتشخيصها؟ أحداث مرعبة تقع هنا وهناك وأنت في موقع محافظ شرطة تقف إزاءها مشدوهًا وتتساءل كباقي المواطنين. ـــ هذا هو الواقع يا سي عبد القادر، أصبحنا «خضرة فوق عشاء». تجاوزتنا الأحداث. لم تعد لدينا القدرة على التمييز بين الخرفان والذئاب. كلهم خرفان وكلهم ذئاب. أقول لك بصراحة، لقد امتلأت غيضًا ويأسًا، وأفكّر بجدية في طلب التقاعد والانعزال بعيدًا عن جميع هذه المآسي التي تفاجئنا كل صباح وتزيدنا غمًّا وهمًّا. ـــ إنها رغبتنا جميعًا. ولكن أين لنا أن نعثر على هذه الواحة الآمنة لانتظار ختام أيامنا في راحة وهناء؟ ـــ الحقّ معك. تملك عائلتي أرضًا في أعالي جبال البليدة، مساحتها ليست كبيرة، ومع ذلك قد تصلح لتقاعد مثالي. ولكن الجماعات الإسلامية المسلّحة بدأت تستقرّ بها وتفرض على السكّان الولاء والطاعة، بل وتجرّدهم من ممتلكاتهم. فبدأت بعض العائلات تهجرها خوفًا على بناتها من السبي والزواج الإجباري. أمّا الذين رفضوا مغادرة أراضيهم، فتسلّحوا للدفاع عن ممتلكاتهم. وأخي واحد منهم. هل تراني أعود إلى هناك؟ كمن خرج من السجن ليقع عند بابه. ولكنني سأنتهز أوّل عطلة لزيارة أحراش طفولتي. كم اشتقت إلى روائح تلك الغابات والحديث إلى أهلها. سكت سي أحمد عن الكلام، وتنهّد بعمق. تشعّب الحديث وابتعد عن الهمّ الذي جئت من أجله. تساءلت مع نفسي إنّ كان سي أحمد صادقًا حقًا في اعترافه بجهل ما يحدث حوله. أم هي طريقته في حسن التخلّص من الأسلئة الحرجة، يمليها واجب التحفّظ وعدم إفشاء أسرار خطيرة قد تلطّخ سمعة المؤسّسة التي ينتمي إليها. عدت إلى الموضوع من زاوية أخرى. ـــ والشرطي فاتح بن سلامة، إنه ابن عين الكرمة ومن قاطني حيّ البراريك، وصديق الصائغ، ألا يمكن الوصول إليه لمعرفة الحقيقة؟ ـــ احتمال معقول، ولكن مَن المتهوّر الذي سيحرّك اتهامًا بهذه الخطورة؟ أنا خارج دائرة اللعبة. لا تنتظر منّي أن أحرّك أصبعًا أو أن أتلفّظ بكلمة في هذا الموضوع. أوّلًا لأنّ هذا الشرطي الذي ذكرته لا ينتمي إلى مصلحتي. وصلتني بعض أخباره بالصدفة. ينتمي إلى الفرق المتخصّصة في التدخّل السريع لتفريق المظاهرات، وهي مصلحة مستقلّة عنّا. ما أعرفه أنّه نُقل مع زميل له من عين الكرمة لأسباب تأديبية. لقد تشاجَر الرجلان داخل الثكنة، ولولا تدخّل زملاء آخرين لحدثت جريمة قتل. عرفت قصّته من خلال صديق له، ابن هذه المدينة أيضًا، مفتّش يشتغل معي، طلب منّي التوسّط لدى مدير الثكنة كي لا يُنقَل إلى مكان آخر. لقد برّر الشجار بالحالة الاجتماعية الصعبة التي يعيشها: سكن غير لائق، أب مريض باستمرار، طلاقه بعد شهور قليلة فقط من الزواج... ولكنّ الأحداث تسارعت ولم أفعل شيئًا من أجله. ـــ ربّما كان الشجار مع رفيق السرقة حول الغنيمة؟ ـــ ربّما... ومن أين لنا أنْ نعرف؟ وقد قلت قبل قليل بأنّ الشُرطي الثاني الذي اغتيل في سوق المكسيك شريك في السرقة. تلك الجريمة أيضًا بقيت مجهولة. وقد ألصقها الجميع في ظهر الإرهاب. ربّما كان أحد أفراد الجماعات الإسلامية المسلّحة هو الذي ترصّده وقتله كي يستولي على مسدّسه. وهي عادة قديمة استخدمها المجاهدون الأوائل حينما بادروا إلى قتل رجال الشرطة والدرك من الفرنسيين للاستيلاء على الأسلحة. لقد تعلّم أولادنا الدرس من عليّ لابوانت في معركة الجزائر. ـــ والشرطي الثالث؟ قد يكون هو الشخص الذي تخاصم معه فاتح بن سلامة؟ ـــ الله أعلم. ربّما هو الشرطي المغتال؟ يحتاج الأمر إلى تحقيق. وقعت كل هذه الأحداث في أيّام متقاربة. ـــ هذه مسألة بسيطة. يمكن التأكّد منها. ـــ نعم ولكن هل تظنّ أنّ الرجلين، وإنْ تخاصما إلى حدّ التهديد بالقتل، سيفشيان سرّهما؟ المجوهرات المسروقة وُجدت عند الصائغ، وقد وُجدت جثّته متعفّنة داخل ساقية. إنه الشاهد الوحيد. ـــ يوجد شاهد آخر، عبد الحميد أخو الصائغ. ـــ وهل تريد أن نأتي بإرهابي ليشهد ضدّ شرطي؟ أخرستني حجّته. ما وجدت شيئًا أضيفه للدفاع عن قضيتي. في الواقع لم تكن قضية الشُرطي السارق هي التي تشغل بالي. عرّج بنا الحديث إلى مسائل أخرى فاقت مداركنا. في حكايتي أهملت عمدًا تفصيلًا يخصّني: انتقالي ليلًا إلى مكان اختفاء جماعة عبد الجبار. الخوف... الحذر... لا أعرف... نقطة حساسة جدًّا ولا أريد توريط نفسي منذ البداية. قلت له إن يوسف عياشي وعبد الحميد بوعبد الله زاراني في بيتي ليلًا مرّة واحدة دون تكرار. ساد صمت بيننا لحظات ثقيلة. انشغلت بارتشاف جرعات أخرى من قهوتي. ـــ برأيك سي أحمد، ماذا أقول للصحفي الهارب إذا زارني مرّة أخرى؟ ـــ من الأفضل أنْ يسلّم نفسه للعدالة. أقنعه بذلك. إنّ وضعية الهارب من السجن ليست في صالحه أبدًا. أنا مثلك أيضًا سمعت بقانون يحضّر في الدوائر العليا سيمنح عفوًا للإرهابيين الفارّين الذين يسلّمون أنفسهم لقوّات الأمن. سأتقصّى الأمر لمزيد من المعلومات. هممت بإطلاعه على بقية خيوط قصّتي. تشكّلت الكلمات الأولى على لساني. ومع ذلك لم أفعل. صوت في أعماقي يصدّني. لماذا أرمي بنفسي في جحر الأفاعي؟ وهروبًا من غواية إفشاء سري، وقفت مُعتذرًا بالذهاب إلى المرحاض. عند عودتي، كان سي أحمد واقفًا يتحدّث مع صاحب المطعم، فدفعت الحساب وخرجنا. قبل المغرب بقليل عدت إلى المستشفى. قصدت جَناح الإنعاش لأستفسر عن صحّة زوجة رشيد. في مدخل الرواق صدّتني منظّفة عجوز كانَت تمسح الأرضية. ـــ انتهى وقت الزيارة يا سي محمّد... دعني أنظّف براحتي... الأرضية متّسخة دومًا، أنتم داخلون، خارجون، وفي أحذيتكم الوحل والتراب، والمدير يتّهمنا بالتقصير ويهدّدنا بالطرد... عدت أدراجي إلى سيّارتي. أكيد أنّ رشيد ليس هنا. سأبحث عنه في منزله. 11 ما إنْ دخلتُ مكتبي حتى واجهتني الكاتبة بالخبر الصاعق: ـــ أسَمِعْت الخبر يا أستاذ؟ بحلقت في شفتيها، أستحثّها على الكلام، لتنطق بالفاجعة الجديدة. ـــ محافظ الشرطة... قُتِل هذا الصباح بقرب منزله. ـــ سي أحمد... مُستحيل... من أين لك هذا الخبر؟ ـــ إنّه على جميع الأفواه... عندي صديقة تسكن في عمارة قريبة من تلك التي يسكن فيها المحافظ. تشتغل موظّفة في مصلحة الضرائب. التقيت بها قبل قليل وهي ذاهبة إلى العمل. لا تزال تحت الصدمة. قالت بأنها سمعت طلقات الرصاص من بيتها. لأوّل مرّة تسمع دويّ الرصاص عن قرب وبهذه الكثافة. كانت تتكلّم وتلتفت حولها. قالت إن أصحاب بولَحْي هم الذين قتلوه. هي لم ترَ شيئًا. ولكنّ الكثير من الجيران رأوا الإرهابيين من نوافذهم وشرفاتهم. عندهم اللحية ويلبسون القميص. إنّ الذي أطلق الرصاص قصير القامة وأكحل البشرة. قالت صديقتي، وهي مصفرّة الوجه وتلتفت يمينًا وشمالًا من شدّة الخوف، بأنّ جارة لها أكّدت أنّ ذلك الأكحل القصير قد رأته يحوم بين العمارات في الأيام الأخيرة برفقة أحد أبناء الحيّ. القتلة عند أبواب ديارنا ونحن لا خبر ولا علم. قتلوه مع ثلاثة أعوان داخل السيّارة وسرقوا أسلحتهم وهربوا. من يحمينا يا أستاذ ما دامت الشرطة لم تستطع حماية نفسها؟ الحمد لله أنْ ليس أبي ولا أحد إخوتي شرطيًّا. قبل حوالى شهر قتلوا واحدًا في سوق المكسيك، وفي الأسبوع الماضي قتلوا ستّة عند مدخل المدينة... الله يستَر ويبقي العواقب سليمة... هؤلاء كالقدر المحتوم، لا يوقف زحفهم أحد... لفّني وجوم شلّ قدرتي على الكلام. تركت كاتبتي تناجي رعبها ودخلت مكتبي. خلال ثوانٍ، استرجعَت ذاكرتي صور جلستنا نهار أمس، وسي أحمد يجلس قبالتي ويأكل بشهية مغرية، ويتحدّث بصوته المدوّي. سُبحان مغيّر الأحوال ومنزّل الأهوال. بالأمس القريب كان يدبّ نشاطًا وحيوية ويبرمج مشاريع مستقبلية، وها هو اليوم جثّة هامدة، ستمدّد في عمق مترين طبقًا شهيًا للديدان والنميمة والاغتياب. استرخيت على الأريكة وصور الأمس وأخرى كثيرة تصطرع في مخيّلتي. أخبار مفجعة تتساقط عليّ كاسحة مؤلمة. صرخة الكاتبة صائبة: من يحمينا إذا كانت الشرطة لم تتمكّن من حماية نفسها؟ أهذا عَقد الموت والدمار بعد عَقد «من أجل حياة أفضل» المزيّن بالموز والكامومْبير؟ قبل أيام معدودة، سقط نبيل برصاصة لسنا ندري إلى الآن كيفية توجيهها إلى جسده النحيل. أهو انتحار حقًّا مثلما خلص إليه تشريح الجثّة؟ أم هناك سرّ لا نعرفه؟ وبعده مباشرة وقعت مجزرة شاحنة المساجين، ستّة قتلى في ظروف بشعة؛ أنا بدوري أُجبَر على الخروج في منتصف الليل لأساق إلى عرين المتمردّين وأسمع ما لا يصدّقه عقل لأصبح حلقة في سلسلة رهيبة من الأحداث التي لم نكن نراها إلا في السينما وتخصّ مجتمعات أخرى بعيدة عنّا بعد الأرض عن السماء؛ لم أعد متفرجا مثلما كنت، أقف خلف الحلبة وأتسلّى بمآسي غيري؛ جُرجِرت إلى ساحة الوغى رغمًا عنّي؛ كيف سيكون مصيري؟ الله يستَر. وها هي نصيرة المسكينة تسقط في غيبوبة قد لا تستيقظ منها أبدًا، تاركة زوجها شاردًا حزينًا لا يعرف ماذا يفعل بخريف حياته. زرته في بيته مساء أمس. وجدته غارقًا في حزن يائس. حاولت مواساته بحديث أردته بعيدًا عن الأحزان والأشجان، ولكنه كان ينظر إليّ باستغراب صامت تارة، وتارة أخرى يردّ عليّ بعبارات لا علاقة لها بموضوع حديثي. لم يكن يسمع كلامي. كان سجين مناجاة نفسية قاصمة تهدّه من الداخل. فجأة انفجر ببكاء مرّ. كان يشهق بصوت مسموع. بكاء هستيري مزّق قلبي، يرافقه هذيان متقطّع لم أفهم منه إلا اسمّي ابنه وزوجته، وبعض الألفاظ المعبّرة عن فشل حياته بل وانتهائها. ما فائدة الكلام في مثل هذه الحالات؟ أدرت بصري والتزمت الصمت، مكتفيًا باختلاس نظرات مباغتة. انتابني شعور بالخجل كما لو أنّني كنت أشاهد صورًا مخلّة بالحياء. تلصّص فاضح ومفضوح. كان في عري وضعف نادرَين عند أيّ رجل. لقد انهار كلّية واستسلم ولم يعد قادرًا على مقاومة الطوفان المتدفّق للمشاعر الجيّاشة التي كانت تعصره وتوجعه منذ وفاة ابنه. انزعجت من حضوري، لا فائدة من ورائه، فضول ليس إلا. بدوري استولت عليّ رغبة جارفة في البكاء، كما عدوى الزكام. أغمضت عينيّ في محاولة منّي لمقاومتها. قمت واتّجهت إلى الحمام، غسلت وجهي مرارًا بماء بارد منعش. عدت إلى الصالون. كان رشيد لا يزال مطأطئ الرأس، يشدّ رأسه ووجهه بكلتا يدَيه ويبكي. بقيت واقفًا أنظر إليه بحزن. فكّرت بأن أطلب منه الكفّ عن البكاء، والقيام بغسل وجهه بالماء البارد مثلما فعلت. قد يسترجع هدوءه وصفاء ذهنه. مجرّد فكرة فقط. لم يسعفني لساني على النطق. ثمّ، وبلا أدنى كلمة وداع، مشيت نحو الباب الخارجي وغادرت منزله بذهن تتلاطم بأليافه آلاف الصور والعبارات. قضيت ليلة مضطربة. سهاد مضجر، ثم نوم متقطّع، وكوابيس سوداء، تقاطعت فيها جميع هذه الوجوه الحزينة، بما في ذلك وجه أمّي المسكينة. ولم أكن أدري أنّ الأيام ستخبّئ لي ما هو أفظع. ـــ يا أستاذ... يا أستاذ... رفعت رأسي نحو الكاتبة. كانت واقفة على بعد متر من الأرائك، وبذراعها رزمة أوراق. ـــ عندك جلسة في المحكمة اليوم. نظرت إليها بشرود، شكرتها وطلبت منها أن تضع الملفّ على المكتب. ألقيت نظرة ذابلة إلى ساعتي الحائطية. التاسعة والربع. نسيت تمامًا تاريخ الجلسة الأسبوعية للمحكمة الابتدائية. تناولت الملفّ، ورّقْت بعض الوثائق: خلاف بين مالك لمنزل قديم وبين مستأجر رفض دفع الإيجار بحجّة أنه قام بتصليحات وترميمات خسر فيها أموالًا كثيرة. فوكّلني صاحب المنزل برفع دعوى قضائية لاسترجاع حقوقه. انشغلت بالمآسي التي حدثت حولي ونسيت دراسة الملفّ جيّدًا. سأطلب التأجيل. القضية ليست مستعجلة. كما يمكن الوصول إلى حلٍّ قد يُرضي الطرفين دون المرور من خلال حكم قضائي. بفناء المحكمة، رأيت زملائي المحامين، وعددهم ثلاثة، واقفين يتبادلون أطراف الحديث بصوت خفيض ووجوه منقبضة. فعرفت أنّ خبر اغتيال محافظ الشرطة وأعوانه يخيّم على محيّاهم. أنا أيضًا كنت حزينًا وبحلقي غصّة تكاد تخنقني، ولست مجبرًا على تصنّع هيئة عابسة مثلما أفعل عادة، احترامًا للجوّ العامّ، حينما لا تعنيني الفاجعة بشكل مباشر. أنا لا أتعاطف مع جميع الناس. لو فعلت لما عرف ثغري أيّ ابتسامة على طول السنة. المحاكم مليئة بالمآسي. أغلب المتقاضين يشعرون بأنفسهم ضحايا ويتفنّنون في إبراز العناصر التي تضرّروا منها. وخاصّة عند النساء، تمتلئ العيون بالدموع قبل أن ينطقن بالعبارات الأولى. بمجرّد اقترابي منهم، ارتفع صوت بوعلام سعدون، أو وكالة بوعلام للأنباء، مثلما يسميّه الزملاء مازحين، لكثرة أخباره الجديدة. ـــ أسمعت الخبر؟ ـــ نعم... للأسف الشديد... بالأمس فقط كان المرحوم معي في مطعم الجيجلي. قضينا أكثر من ساعة نتجاذب أطراف الحديث. ـــ الرجل الطيّب... باغتوه في الصباح الباكر عند الخروج من بيته. الظاهر أنّ كل يوم على السابعة صباحًا، تتوقّف سيّارة الشرطة أمام العمارة التي يسكن فيها في الطابق الأخير لتأخذه إلى مقرّ العمل. يقول شهود عيان إنه بمجرّد انطلاق السيارة للخروج من الموقف الذي يتوسّط العمارات، انبثق رجلان كانا بداخل سيارة متوقّفة خلف العمارة المقابلة. الغريب أن لا أحد انتبه إليهما. كان أحدهما مسلّحًا برشّاش كلاشنيكوف وخيّط المركبة بوابل من الرصاص. جاءهم من أمام سيّارتهم، ولم يتمكّنوا من أيّ رد فعل. قُتل الجميع في الحين. تقدّم المجرمان وفتحا أبواب السيارة واستوليا على جميع الأسلحة. بعد ذلك، هربا بسيّارتهما في اتّجاه مجهول. سأل أحد المحامين: ـــ كيف يُعقَل أن تباغَت دورية شرطة بهذه السهولة ولا تتمكّن من الدفاع عن نفسها؟ ردّ بوعلام بنبرة العارف الواثق من صحّة معلوماته كعادته دائما. ـــ قلّة التجربة وضعف التكوين يا صديقي... ما عليك إلا أن تنظر إلى هيئة رجال شُرطتنا. أجساد مشحّمة ومُتخمة لا عمل لها إلا إزعاج المواطنين والتعسّف في تطبيق القانون. لا يستطيع أفضلهم أن يقبض على سارق شابّ خطف حقيبة امرأة في الشارع. يتفنّنون فقط في مطاردة سوّاق الطاكسي وتجّار الخضر والفواكه، لابتزازهم. قال المحامي الثاني: ـــ هذه معضلة الشرطة في زمن الأمن والرخاء. تعسّف وتبجّح وابتزاز. ما يبقى في الوادْ غير حْجارُه. جاء وقت الحساب. اللّي دارها يخلّصها. ـــ لا تشمت يا سعيد، قال بوعلام سعدون. المحافظ رجل طيب ونزيه... ـــ أنا لا أقصد الرجل... سمعته طيّبة... أنا أتحدّث عن جهاز الشرطة ككل. لجميعكم قضايا لمواطنين يشتكون من تعسّف رجال الشرطة، أليس كذلك؟ ـــ لكل حديث مناسبة، ومناسبة اليوم للحداد والترّحم ليس إلا. اذكروا محاسن موتاكم. ـــ ومع ذلك دعني أخبرك أنه كان على الشرطة أن تأخذ احتياطاتها للتأقلم مع الظرف الجديد. أظنّ أن عنصر المفاجأة كان حاسمًا. تأخّر العنف في الوصول إلى عين الكرمة مقارنة مع بعض المدن الأخرى. عندنا أخبار بأنّ أغلب الذين سُرِّحوا من سجون الصحراء التحقوا بالجبال وشكّلوا جماعات مسلّحة للانتقام من السلطة التي زجّت بهم في المحتشدات، مثلما فعلت فرنسا مع سكّان الجبال التي انتشر فيها المجاهدون، وأعلنوها مناطق محرّرة. هذا عنصر أساسي في استفحال العنف الإرهابي هذه السنة. اكتسب الإرهابيون تجربة أكثر في قنص ضحاياهم، فيما بقيت الشرطة تجرّ أذيالها من نكسة إلى أخرى. ـــ هذا صحيح، قلت موافقًا. كان المحافظ يمشي بلا حراسة ولا حتى أيّ احتياط، كأننا لا زلنا في سنوات العزّ والرخاء. بالأمس فقط، وجدته واقفًا عند مدخل المحافظة يتحدّث مع زميل له، ثمّ رافقني إلى المطعم بمفرده، ولا أظن أنّه كان يحمل معه مسدّسًا للدفاع عن نفسه في حالة تعرّضه لأيّ اعتداء. قال المحامي الأوّل، بنبرة استنكار وغضب: ـــ أمر غريب وغير مفهوم... يحصد الرصاص يوميًّا عشرات القتلى وأخبار التخريب والتفجير تملأ صفحات الجرائد، وتبقى شرطة عين الكرمة تجول وتصول كأنها في سويسرا أو في السويد. هكذا نحن المحامين دائمًا، نحبّ المرافعات الصاخبة وتوجيه الاتهامات الرنّانة. ربّما كانت مرافقتنا الدائمة لمآسي المجتمع تجعلنا نرى الشرّ والضرّ والنقص في كل مكان. إنّ سي أحمد يستحقّ كلمة طيبة. لذلك تدّخلت قائلًا: ـــ إنّ الذي ليس في بطنه تبن لا يخاف من النار... هذه حالة سي أحمد... شرطي نزيه ويسهر على تطبيق القانون ولا يظلم أحدًا. لا يملك حتى سيارة، إنه الدليل على عدم استخدام نفوذه لكسب أموال بالطرق المنحرفة، مثلما يفعل غيره. قال بوعلام سعدون: ـــ كان المرحوم مثالًا في أداء واجبه، أنا أشهد على ذلك. لا يُذكر إلا بالخير. بخلاف الكثير الذين كنزوا ثروات طائلة في سنوات قليلة، كما لو أنهم وضعوا اليد على مغارة علي بابا. ارتفع صوت كاتب المحكمة يعلن بداية الجلسة، فاتّجهنا متتابعين إلى القاعة الكبرى. قرّرت عائلة سي أحمد دفنه في مسقط رأسه، هذه القرية الصغيرة في أعالي جبال البليدة التي كان يحلم بقضاء تقاعده بين شعابها. أصرّ عدد كبير من رجال الشرطة على مرافقته إلى مثواه الأخير. فشكّلنا موكبًا مهيبًا. في البداية تردّدت في الذهاب إلى تلك الأدغال غير الآمنة. أخبار مخيفة تتدفّق من هناك لتزلزل أحشاءنا، وتصدّ أقدامنا عن وطء أرضها. يُشاع أنها مناطق شبه محرّرة، تتحكّم فيها جماعات مسلّحة، تفرض طغيانها على أهلها وهم من القرويين والفلّاحين الذين لا بصل ولا ثوم لهم في هذا الصدام الدموي. مداشر نائية، خالية من أي هيئة أمنية رسمية. لا شرطة ولا درك. وحدها وحدات الجيش تقوم بدوريات متباعدة للمراقبة، وحدات عسكرية استعراضية، غير ذات فعالية. موكب طويل وثقيل من السيّارات والشاحنات الغاصّة بعساكر المشاة الذين تدرّبوا في عهد الأمن والاستقرار تدرّبًا سطحيًّا لم يتعلّموا منه حتى كيفية استعمال بنادقهم، ووفق تكتيك الحرب التقليدية البالية. أمّا وهم في ميدان، تضاريسه وعرة وغابية وجبلية، والعدوّ عبارة عن عصابات مسلّحة مختفية بين مجاري الوديان ودروب الأدغال، فيتحوّل هؤلاء المجنّدون لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية إلى طُعمَة سائغة للقتل والذبح والسلخ والنهب. تجوب هذه المواكب الطرق الجبلية في هدير صاخب، تُسمع وتُرى على بعد كيلومترات عديدة. ومن الطبيعي أن يَختفي المتمردّون في جحورهم وينتظرون مرورهم آمنين مطمئنّين. وكم قرأت في الصحف عن كمائن نصبها الإرهابيون في مثل تلك الطرق الجبلية ضدّ مثل هذه المواكب العسكرية وانتهت بمجازر يندى لها الجبين. أوّل ما شدّ انتباهي عند وصولي، برفقة بوعلام سعدون إلى ساحة العمارة، هو عدد الرجال المدنيين المسلّحين. إنهم كبار السنّ نوعًا ما ولا يبدو أنهم من رجال الشرطة أو الدرك أو الجيش. مدنيون عاديون يحمل أغلبهم بنادق صيد. جاؤوا في شاحنتين صغيرتين من نوع مازدا، من تلك المستعملة لنقل البضائع. عرفت أنهم جاؤوا من مسقط رأس سي أحمد، دوار صغير باسم سيدي مرزوق. قدّمنا تعازينا لأخويه وصافحنا جميع الرجال المرافقين لهما. أحدهما شبيه بسي أحمد كقطرتي ماء، غير أنّه أقل نحافة. كان يلبس سترة عسكرية بالية وعلى رأسه عمامة رمادية اللون. على وجهه شلاغم كثّة تتدفّق على شاربيه، ولحية رقيقة زادت من اسوداد سحنته. على كتفه بندقية عسكرية من نوع سيمينوف. هي الوحيدة من بين بنادق صيد وبنادق ذات مضخّة تزيّن أكتاف بقية الرجال. كان يقف في شموخ وكبرياء. لا تبدو على ملامحه بوادر الحزن الكئيب والانهيار اللذين عادة ما يلفّان وجوه الذين فقدوا أقارب لهم. الجميع ساكت يتابع حركة السيارات ووصول المشيّعين تباعاّ. في عمق الساحة رجال وأطفال يتابعون المشهد في صمت. أكيد أنهم سكّان العمارات المجاورة الذين أصرّوا على حضور إخراج الجثمان من منزله. لا أظنّهم سيرافقوننا. هم هنا للتعبير عن تعاطفهم وتضامنهم مع عائلة القتيل. أو ربّما حضروا من باب الفضول، إذ ليس لديهم ما يفعلونه. إنها طبيعة هذا الشعب المولع بالفرجة المجّانية والتلصّص على حياة الناس، فرجة ستفجّر حكايات عجيبة غريبة سيَملأون بها أيامهم ولياليهم. اغتنمت خلوّ المكان من المشيعين الجدد واقتربت من مجموعة المدنيين المسلحين: ـــ أهلًا وسهلًا بكم... أتمنّى أن لا يكون السفر قد أتعبكم... ارتفعت همهمات كثيرة لم أفرز منها إلا كلمات: لا باس... والو... الحمد لله... اقتربت أكثر من شقيق المرحوم. ـــ سي أحمد صديق عزيز... بكينا كثيرًا لفقدانه... ردّ بصوت خفيض دون أن يحطّ بصره عليّ بشكل مباشر: ـــ الله يرحمُه... مكتوب ربّي... هذه هي الحياة... كلّنا رايْحين ليها... ارتفعت أصوات شبه هامسة: الله يرحمُه ويوسّع عليه... ـــ قبل يومين فقط حدّثني المرحوم عن اشتياقه لسيدي مرزوق وأهلها. قال إنّه لم يزرها منذ مدّة طويلة. ويتمنّى من صميم قلبه لو تسمح له الظروف بزيارتها قريبًا. تنهّد الأخ وقال: ـــ الموت كان يناديه... هكذا مع جميع المهاجرين... حينما يشتدّ الشوق في قلوبهم، هذا يعني أنّ أحد أفراد العائلة ممّن لا يزالون في مسقط الرأس سيخطفه الموت، غالبًا ما يكون أحد الوالدين. استغربت من هذا التفسير الغيبي ولكنني لم أعلّق. ـــ سي أحمد تعب من الشغل وأراد أن يستريح في قرية طفولته. كلنا نحنّ إلى أرض ولادتنا ونشأتنا. ربّما لا تشعرون بهذا الحنين أنتم الذين لم تغادروا قراكم قطّ. ـــ عندك الحقّ... أنا لم أغادر قريتي وأرض أجدادي إلا لفترة الخدمة العسكرية. وكنت أنتظر فترات التسريح على أحرّ من الجمر، وأعود حالًا إلى سيدي مرزوق... ـــ كانت حالة البلاد آمنة... ليس مثل اليوم... ـــ عندك الحقّ... اليوم الحالة صعبة... أنا نفسي نصحت المرحوم خويا بأنْ لا يأتي إلى سيدي مرزوق... ولم أكن أتصوّر أبدًا أنّ الموت سيلحقه إلى هنا. نحن الذين كنّا مهدّدين بالقتل في أية لحظة. أما أنتم في المدينة، فاعتقدنا أنكم في آمان الله وقوّات الأمن. ـــ هذا ما كنا نتصوّره... ولكن العنف والقتل طالا الجميع في هذا البلد... ـــ من أجل هذا رفعنا السلاح ضدّ الطغيان. قرّرنا حماية أنفسنا بأنفسنا. أقول لك بصراحة، كنّا في جحيم لم نكن أبدًا نتصوّر أننا سنقع فيه يوما. كانت قريتنا جنّة من الهناء. صحيح أننا فقراء ولكنّ الفقر لم يقتل أبدًا. نفلح أرضنا وهي لا تبخل عنا أبدًا. كنت أحطّ رأسي على المخدّة إلى الصبح. لا خوف ولا قلق. نترك ماشيتنا في البراري ولا يتعرّض لها أحد بالسوء. فجأة سقط علينا هؤلاء المردة لا نعرف من أين. جاؤوا ذات ليلة وكنّا نقيم عرسًا لتزويج أحد أبنائنا. أزيد من عشرة مسلّحين، وطلبوا منا إسكات صوت الدربوكة وغناء وزغاريد النساء. استغربنا أمرهم. دعوناهم إلى العشاء، فأكلوا ثمّ خطبوا فينا. أنا قلت لهم بصراحة: شأنكم هذا ليس شأننا. إذا عندكم مشكلة مع أصحاب الدزاير، اذهبوا إلى الدزاير. ما دخلنا نحن؟ ذهبوا في تلك الليلة، واعتقدنا أن المسألة منتهية. ولكنّهم عادوا إلينا، وبأعداد كبيرة. وبدأ بعض شبابنا ينضمّ إلى جماعتهم، فانقسم أهل سيدي مرزوق. ولكنّ تجبّر هؤلاء فاق جميع الحدود. اعتدوا على ممتلكاتنا، أجبرونا على دفع الأموال لهم. اشتكينا إلى رجال الدرك مرارًا ولكنهم لم يفعلوا شيئًا. كانت فرقتهم تأتي أثناء النهار، تسأل السكّان وتنتقل هنا وهناك قبل أن تعود إلى مقرّها قبل غروب الشمس. انتظرنا طويلًا تدخّل الجيش ليخلّصنا من هؤلاء المُتجبّرين على رؤوسنا. ولكنّه لم يفعل شيئا أيضًا. قاموا ذات مساء بخطف فتاة كانت بقرب الغابة تلتقط الحطب ولاذوا بالفرار. تجمّعنا بسرعة وقرّرنا البحث عنها واسترجاعها بالقوّة. ولكنّهم صدّونا بأسلحتهم وقتلوا منّا شابًّا في مقتبل العمر. حينذاك لم يبق أمامنا إلا إخراج أسلحتنا، وحراسة منازلنا. اشترينا بعض البنادق أيضًا ووقفنا وقفة رجل واحد لنحمي شرفنا وممتلكاتنا. الآن، لا أحد من هؤلاء الأنذال يتجرّأ على الاقتراب من ديارنا. الموت ولا قبول الذلّ والمهانة. نحن في أراضينا منذ الأزل. فرنسا وما أدراك ما فرنسا لم تركعنا، ويأتي بعض العتاريس لإركاعنا. هذا لا يمكن أن يحدث. وقد اتخذنا قرار دفن أخي أحمد في مسقط رأسه تحدّيًا للخوف الذي استفحل عند الناس. سندفنه في أرض أجداده ومن ولدته أمّه واقفًا، فليقترب منّا وير كيف يتصرّف رجال سيدي مرزوق. أدخل الرجل الطمأنينة إلى قلبي. سأسافر مطمئنّ البال. ثمّ إنّ رجالًا كثرًا من شرطة عين الكرمة سيرافقوننا وهم مسلّحون. طلبت من شقيق سي أحمد، وعرفت أن اسمه عبد القادر مثلي، أن يسافر معي في سيّارتي. فوافق بابتسامة عريضة. فرصة ليحكي لنا عن الحياة في الريف الآن، في هذه الظروف الاستثنائية. أنا ابن الريف ولكنّه ريف الاستعمار والسنوات الأولى للاستقلال. أما تزال أحوالهم تعيسة مثل عهدي بها؟ أم أصابتها رياح التحديث التي طالما تغنّى بها نظام بومدين؟ كان المحامي بوعلام سعدون يرافقني. اتفقنا مساء أمس حينما وصلنا خبر نقل جثمان المحافظ إلى مسقط رأسه على حضور جنازته أينما كانت. بوعلام رجل شجاع ولم يطرح مسألة الأمن في تلك الهضاب البعيدة عن عيون وأفواه بنادق قوّات الأمن. مرافقة سي أحمد إلى مثواه الأخير مسألة أخلاقية ورجولة بالنسبة إلينا. انطلق الموكب الجنائزي قبل العاشرة صباحًا. كان رجال سيدي مرزوق أوّل من قفزوا إلى سيّاراتهم ليتقدّموا سيّارة الإسعاف التي تقلّ الجثمان. رجال بوجوه سمراء داكنة، ضامرة، وعيون ثاقبة وحركات خفيفة متعوّدة على التنقّل في التضاريس الوعرة. ألبستهم أيضًا تنم عن حياة ريفية متواضعة، مغبرّة وقديمة، بعضها مفكّكة خيوطها مفقودة أزرارها. ولكنّهم يقفون ويتنقلون في كبرياء وثقة بالنفس. رجال غير متعوّدين على الخضوع والاتّكال، يكتفون بالقليل الذي يجنونه بقوّة سواعدهم، مستعدّون للتضامن مع الغير دون انتظار أيّ مقابل. تلك هي حياتهم التي أعرفها وأراها اليوم في هيئة وسلوك هؤلاء. سار الموكب بسرعة. سيّارتي في الوسط، تتدحرج خلف السيّارات الأولى. انصبّ اهتمامي على عدم الابتعاد عنها دون الاكتراث بهوية القرى والمدن التي نقطعها. خيّم الصمت في البداية إلا من تعليقات مقتضبة كان يبديها بوعلام سعدون الجالس بجانبي كلما مررنا عبر قرية أو حاجز أمني. حواجز الشرطة والدرك والجيش تتناثر عبر الطريق، عند مداخل ومخارج التجمّعات السكّانية. كان الموكب يعبر بعضها بسرعة، أما عند بعضها الآخر فنضطرّ إلى التوقّف في طابور جانبي ليتأكّد الأعوان من صحّة الوثائق التي يقدّمها مرافق سائق سيّارة الإسعاف. عند نقطة مراقبة للجيش، وقف عريف مدّة طويلة مع المدنيين المسلّحين، وتفحّص بعناية بعض رخص حمل السلاح. نزل مفتّش محافظة شرطة عين الكرمة وتحدّث معه بعض الوقت، قبل أن يسرِّحوا موكبنا. بعد أزيد من ساعة من السير، غادرنا سهل متيجة المنبسط وبدأنا الصعود باتّجاه الجبال. الطريق ضيّقة وملتوية وضفافها مشجّرة بحيث تغطّي الرؤية كلّية. شعرت بالانقباض وعادت إلى ذهني حكايات الحواجز المزيّفة التي تقيمها الجماعات المسلّحة. سألت عنها عبد القادر الجالس في المقعد الخلفي مع رفيق له، وعلى ركبتيهما بنادقهما المصوّبة فوهاتها باتّجاه أعلى الزجاج. قال: ـــ يقيمون الحواجز في الطرق الفرعية المؤدّية إلى القرى الصغيرة، لابتزاز السكّان والبحث عن المجنّدين في الجيش خاصّة. منذ حوالى شهر، ذبحوا شابًّا في العشرين من العمر عاد إلى أهله بعد إنهاء الخدمة العسكرية. لقد سُرِّح من الجيش، أين سيذهب المسكين؟ قال شهود بأنّ الذي أخرجه من الحافلة شخص يعرفه جيّدًا، ابن دشرته. بمجرّد أن رآه، صوّب محشوشته إلى صدره وقال له: «ها قد وقعت في أيدينا يا خادم الطغاة...». دافع الشابّ عن نفسه وقال إنّ رجال الدرك هم الذين أخذوه عنوة وإنه خرج نهائيًا من الجيش، ومع ذلك لم تنفع توسّلاته. صعد إرهابيون آخرون إلى الحافلة وأرغموا الشابّ على النزول، وأمروا السائق باستئناف السفر. بعد يومين وُجد الشاب مذبوحًا غير بعيد من ذلك المكان. لا يبعد عنا كثيرًا، سنصل إليه بعد ربع ساعة. بعد ربع ساعة؟ ضربة خنجر قد لا تؤلمني مثل هذه العبارة. ها قد وصلنا إلى قاع الأفاعي. الله يستر ويخرّجنا بسلام. قال صديقه، رجل ضامر وأصلع، في الأربعين من العمر: ـــ أنا وقعت في أربعة حواجز مزيّفة. كنت داخل الحافلة. ينتظرون دائمًا اقتراب المغرب ليخرجوا من معاقلهم. إنهم من منطقتنا ويعرفون الناس. لذلك يكتفون بأخذ الأموال والبحث عن المجنّدين في الجيش مثلما قال عبد القادر. مرّة تشاجرت مع ابن قريتنا، أعرفه جيّدًا، وقف عند رأسي وقال لي: فرّغ واش في جيبك. قلت له: تعرفني جيّدًا وتعرف ما في جيبي. قال: أنا لا أعرفك ولا تهمّني وضعيتك. الجميع يدفع، ولا نستثني أحدًا. قلت له: لماذا لا تذهبون إلى العاصمة وتأخذون أموال الطغاة الذين قلتم إنكم تحاربونهم؟ حينذاك ارتفعت أصوات كثيرة من بين المسافرين يؤيّدون قولي. ارتبك الإرهابي وتراجع إلى الوراء. لم يكن ينتظر هذه المواجهة. عرفنا أنهم جبناء وليسوا بالشجاعة التي يتظاهرون بها. في ذلك اليوم قرّرت أن لا أسكت عن الضيم والتحقير. حينما سمعت بتكوين فريق للمقاومة، تطوّعت وطلبت السلاح. أدّيت الخدمة العسكرية في الـ75 وشاركت في معركة امْقالَة ضدّ الجيش المغربي، ولا زلت قادرًا على استخدام السلاح وخوض الحرب. نحن هنا في أرضنا ولا نسمح لأحد أن يخرجنا منها. ذهلت لإرادة هؤلاء في الدفاع عن أمنهم وممتلكاتهم. قال بوعلام: ـــ يعطيكم الصحّة... أنتم جزائريون فحول، ومعروف عن الجزائري أنّه لا يقبل الحقرة ولا الذل. قال عبد القادر: ـــ أنا أيضًا خضعت لعملية ابتزاز في البداية. شخص يعرفني حقّ المعرفة. ولكنّني عفّرت وجهه في التراب. انضمّ إلى الجماعات المسلّحة، وجاءني ذات ليلة يطلب منّي المال. عندي خمس بقرات وخمّ صغير للدجاج. لا أخفي عليكم أنني في البداية أعطيته خمسة آلاف دينار اتقاءً لشرّه. وقلت أنّه سوف يبتعد عنّي. ولكن لم تمرّ ثلاثة أشهر حتى عاد يطرق بابي ويطلب المزيد من المال. كبرت كرشه وطلب منّي خمسة ملايين سنتيم ضربة واحدة. حاولت إقناعه بأنّني لا أملك هذا المال، وأنني أعطيته بما فيه الكفاية. تصوّر... قال لي: بع أبقارك ودجاجك وادفع لنا أموالها. قلت له: وكيف سأعيل عائلتي؟ قال إنّ هذه ليست مشكلته. هدّدني وعائلتي بالقتل وحرق منزلي وماشيتي إن لم أدفع له المال خلال أسبوعين. وضع لي السكّين في الرقبة، ولم أعرف كيف أتصرّف. بقيت ثلاثة أيّام بلا نوم، أفكّر في حلّ. فكّرت في بيع كل ما عندي والهروب إلى البليدة. في آخر عمري أصبح أجيرًا عند الناس وأنا طول عمري سيّد نفسي ومالي. ثمّ إنّني في قريتي كالسمكة في البحر، إن خرجت منها اختنقت. ماذا سأفعل في المدينة؟ أحجز مكانًا على الرصيف وأبيع السجائر والكاكاو كما يفعل أصحاب الأذرع المكسّرة. كل هذا وزوجتي وأولادي لا يعرفون شيئًا. قلت لهم فقط إنّ زوّار الليل يطلبون المال والمؤونة. فاتحت أخي الأكبر في الموضوع، هو معلّم في المدرسة التي تقع في مركز سيدي مرزوق. يجب أن تعرفوا بأنّ سيدي مرزوق مجموعات سكنية متباعدة نوعًا ما، كل عائلة تملك قطعة أرض وتفلحها. المركز به مدرسة مع مسجد عتيق وبعض حوانيت الموادّ الغذائية وحلّاق وميكانيكي للسيارات وقطاع صحّي مغلق منذ افتتاحه قبل أربع سنوات. يبعد منزلي عنه ثلاثة كيلومترات، باتّجاه الغابة. لذلك يسهل على الإرهابيين المجيء عندي. جاء عندي إلى البيت وتناقشنا طويلًا حول الموضوع. فقرّرنا أن نقاوم، أن نتّصل ببعض الجيران الذين نثق بهم وأنْ نتصدّى لهذا الابتزاز. في ظرف يومين كنّا أكثر من ثمانية رجال، مستعدين لإقامة الحراسة ليلًا ومواجهة أيّ مداهمة. كل واحد يعسّ حَوْشه، وعند أي حركة مشبوهة، عليه بإطلاق النار ليسعفه الآخرون. جاء ابن الكلبة ذات ليلة، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة. وبدأ ينادي: يا سي عبد القادر... يا سي عبد القادر... هل حضّرت الأمانة. ابن الزانية، أمانة أمّه أودعها عندي. كنت ممدّدا فوق سقف المنزل لأنّني سمعت كلامًا ووقع خطوات تنحدر من الجهة الجنوبية المحاذية للغابة. جاء رفقة رجلين، مطمئنًّا لأخذ المال. كنت مستعدًّا للقتل من أجل الحفاظ على شقاء عمري وإرث والدي. طلبت منه الدخول إلى الحوش. تقدّم واثقًا إلى غاية الوسط وتوقّف. كأنه اشتمّ رائحة خطر ما. لم أترك له الوقت ليتنفّس. رصاصة واحدة أردته قتيلًا. ركض مرافقه باتّجاهه لينقذه، فأطلقت رصاصة ثانية. للأسف الشديد لم أصبه. ولكن جاري أعمَر لم يخطئه. ركض الخنزير هاربًا خلف منزلي مُحتَميا بالسور. ارتفع نباح الكلاب في جميع المنازل. ردّ عليّ بعض الرجال بإطلاق الرصاص، معلنين عن قدومهم لمساعدتي. سبق أن أخبرتهم بما وقع لي. وقفت بكل طولي وصرخت باتّجاه دار سي اعمر: «الحلّوف راه جاي عندك». ما هي إلا دقائق حتى انطلقت رصاصات أخرى من ناحية منزل جاري. وسمعت صوته ينادي: رانا اقْضينا على الحلّوف... رانا اقْضينا عليه... ما هي إلا لحظات حتى تحلّق رجال مجموعتنا المسلّحون حولي وجاري سي أعمر في حوش منزلي. مدّدنا القتيلين الواحد إزاء الآخر، جرّدناهما من سلاحيهما والذخيرة التي بحوزتهما. كنّا منتشين بانتصارنا. روينا تفاصيل معركتنا بافتخار واعتزاز. تأكدّنا ليلتها أننا رجال شجعان لا يقهرنا أحد. ومع ذلك واصلنا الحراسة. عاد كل رجل إلى موقعه، خوفًا من هجوم مباغت. ربّما كانت بقية المجموعة تنتظر في مكان قريب. قضيت الليلة أطوف وسط منازل سيدي مرزوق، أتبادل التشجيعات والتهاني مع أهل القرية. وفي كل بيت، أجد الشاي والكسرة السخونة، وفي بعضها الفتائر والبغرير بالعسل. عادت إلينا حكايات المجاهدين ضدّ الاحتلال الفرنسي، تلك التي عرفناها صغارًا من أفواه آبائنا وأمّهاتنا. وكان والدي رحمه الله من بين صناديد المجاهدين في الولاية الرابعة ومن بين رفقاء الشهيد سي أمحمَد بوقرة. في اليوم التالي، عندما حضرت فرقة الدرك الوطني، قلت للضابط إنّني سأحتفظ ببندقية غنيمتي، هذه التي تراها بين يديّ الآن: نصف رشاش، سيمينوف روسي، ملقّم بعشر رصاصات. سأردّ بها هجوم كتيبة من الإرهابيين. بنادقنا قديمة، ذات طلقتين فقط. رفض الدركي في البداية. قال إنّ البندقية مسروقة ويجب التأكّد من رقمها التسلسلي لمعرفة صاحبها الأصلي. ناقشته في الأمر طويلا إلى أنّ استسلم مبتسمًا. قال لي: أنت فحل ومولى ذراع، تستحقّ أكثر من هذا. خذها وأنا أتصرّف. منذ ذلك اليوم وهي ترافقني في كل مكان، تأكل وتنام معي. أعتني بها أكثر ممّا أعتني بجسدي. سكت المقاوم عن الكلام، ورأيته في المرآة الارتدادية يلمس بندقيته بلطف كما يفعل الرجل مع عشيقته. سلك الموكب الطريق الصاعد نحو أعالي الجبال بمحاذاة وادٍ مغطًّى بأغصان الأشجار. دورات كثيرة قد تحدث صداعًا وغثيانًا في الجسد الهشّ. انشغلت أنا بالسياقة في القارعة الضيّقة، فيما كان بوعلام يتابع المناظر الجبلية المذهلة. تركنا الطريق الولائي ودخلنا طريقًا بلديًّا محفّرًا. دورات ملتوية يضطر خلالها الموكب في كل مرّة إلى خفض السرعة إلى حدّ التوقّف. فكّرت أنها أمكنة مناسبة لإعداد الكمائن. خفق قلبي. تذّكرت حديث الرجل الجالس خلفي. كثّفت بصري لعلّي أرى شيئًا مريبًا وسط الأشجار وخلف الصخور. ولكنّ السياقة منعتني من التركيز. عند دورة ضيّقة جدًّا، نطق المقاوم قائلًا: ـــ هنا في هذه الشعبة، قتلوا ذلك الجندي المسرّح... وراح يعيد تفاصيل حكايته، مشيرًا بيده إلى منحدر باتّجاه الوادي. قلت في نفسي: أهذا وقت هذه الحكايات يا رجل؟ ربّما كنت أنت متعوّدًا ومحصّنًا ضدّ الخوف، أما نحن فلا... قال بوعلام ربّما ليتغلّب على الرهبة التي تلفّ الجوّ: ـــ وتسلكون هذه الطريق صباح مساء ؟ ـــ لا خيار لنا، قال عبد القادر. أين تريد لنا أن نعيش؟ هذه أرضنا ومكان رزقنا. وما كتبه الله لنا فأهلًا وسهلًا به. قال المقاوم الثاني: ـــ في المدّة الأخيرة أصبح الجيش يمرّ من هنا كثيرًا. سمعنا بأنه سيبني ثكنة في هضبة في أعالي سيدي مرزوق لمراقبة تحركات الإرهابيين. حينذاك سيضطرّ الإرهابيون إلى مغادرة المنطقة إذا أرادوا النجاة بجلودهم. الآن أهل القرية تقريبًا كلهم مسلّحون. ولم يعد الإرهابيون يتجرؤون على مداهمة منازلنا مثلما كانوا يفعلون في البداية. خيّم الصمت من جديد. تباطأ السير. انكشفت الطريق وأصبحنا لا نرى إلا أراضي مزروعة وبعض المنازل المحاطة بتين الصبّار. نقترب إذًا من سيدي مرزوق. فعلًا قد وصلنا. بدت مئذنة المسجد من بعيد. دخلنا وسط كثافة سكّانية قلّصت من الأراضي الزراعية. في ساحة القرية، بمحاذاة المسجد، تجمهر عدد كبير من أهل القرية ينتظرون وصول الموكب الجنائزي. توقّفت السيّارات ونزل منها الرجال بتثاقل. كان السفر متعبًا ومضجرًا في آن واحد. تسارع السكّان إلى نقل التابوت إلى داخل المسجد. كانت الساعة تشرف على الواحدة. التحق الجميع بقاعة الصلاة. التفتّ ولم أجد بوعلام. أيكون قد دخل للبحث عن قاعة الوضوء؟ رجل ملتزم بالصلاة، ولا أظن أنّه سيتأخر عن أداء صلاة الجنازة على روح سي أحمد. بقيت واقفًا وسط رجال الشرطة المرافقين، أنظر إلى الهضاب المجاورة. ارتفع صوت المؤذّن لصلاة الظهر، رتيبًا، مكسّرًا الصمت والرهبة الساكنة في نفوسنا. اقترب شيخ من مجموعتنا وقال إنّ المسجد يتوفّر على قاعة وضوء لمن أراد الصلاة. تلقّى عبارات كثيرة شاكرة. ولكن لا أحد تحرّك. أعرف أنّ الكثير من الذين لا يصلّون، مثلي، يتحرّجون من مثل هذه المواقف التي يهرع فيها الكل إلى الصلاة. الصلاة عند أغلبية القرويين فعل عادي، غير مفكّر فيه أصلًا. ولا تمنعهم صلاتهم من ارتكاب بعض الموبقات، كشرب الخمر مثلًا إن توفّرت مناسبة شربه. ولا يجدون تناقضًا بين الفعلين. بل هو من شرور الحياة التي لا بدّ منها. عند انتهاء الصلاة أحضر السكّان قصعات من الكسكسي وحطّوها على الأرض داعين الناس إلى الأكل. أتى شابّ بواحدة إلى مجموعتنا. أعرف أنّها أُعدّت خصّيصًا بالمناسبة وللمشيّعين الذين جاؤوا من بعيد. كنت جائعا ولم أتردّد عن تناول مغرفة والانحناء على القصعة. ومثلي فعل رجال الشرطة. كان الأكل لذيذًا حقًّا. بعد أن وقفت ومسحت فمي، رأيت صديقي بوعلام يخرج من المسجد ويتّجه نحو شخص قادم وقصعة فوق رأسه. رأيته يحدّثه، فحطها الرجل عند قدمي بوعلام، فتحلّق حولها المصلّون المتأخّرون. بعد ذلك، أخرج التابوت محمولًا على الأكتاف وقصد دربًا جانبيًا خلف المسجد. لا تبعد المقبرة إلا حوالي كيلومتر أو أقل. تقع على هضبة أعلى من سكنات القرية. مشيت ببطء برفقة بوعلام. تسابق الناس على حمل التابوت ووضع الجثمان داخل القبر الذي أعدّ منذ الصباح الباكر. حينما بدأ المشيّعون بردم التراب، تقدّم بوعلام وشقّ لنفسه طريقًا إلى غاية القبر، فتناول معولًا وبدأ يدفق التراب داخله. لم أفعل مثله. بقيت في مؤخّرة الموكب أتفرّج في صمت وتأمّل لهذه الحياة الغريبة. لماذا يصرّ الناس على الدفن في مسقط الرأس وأرض الأجداد؟ ما الفرق؟ بعد سنوات، سيُردم القبر ويُنسى. هنا أو هناك ما الفائدة؟ كلها أرض الله مثلما يقولون. وصلتني كلمات إمام المسجد حول الحياة والموت والجنّة والنار. كلمات نسمعها عند تشييع كل جثمان. عندما بدأ الناس يفترقون، بحثت عن عبد القادر شقيق المرحوم سي أحمد وقدّمت له التعازي ثانية، وأبديت إعجابي بما يقوم به أهل سيدي مرزوق من أفعال للحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم. بعد ذلك، ركبت وصديقي بوعلام السيّارة، وانطلقنا عائدَين عبر المنحدر الملتوي باتّجاه السهل، صامتين، يلوك كل واحد منّا أفكاره وهواجسه. من قتل محافظ شرطة عين الكرمة؟ من هو ذلك الأكحل القصير القامة؟ فجأة انبثقت جملة من عمق دهليز ذاكرتي تلّفظ بها يومًا رشيد، حينما سأله المحافظ عن رفقاء ابنه نبيل: أهو الكحلوش القصير الذي كان يأتي للبحث عنه في البيت؟ أهو ياسين، الصديق الذي تحدّث عنه نبيل كثيرًا في يومياته؟ بغتة اشتعلت شمعة أخرى لتكشف لي وجه «الكحلوش القصير». في تلك الليلة التي التقيت فيها بجماعة عبد الجبّار، خيُّل إليّ أن شخصًا بهذه الأوصاف كان يجلس على يمين عبد الجبّار، منكمشًا في سترة جلدية سوداء، وعلى رأسه «بوني» أسود اللون أيضًا. أتذكّر جيّدًا الآن، إنه هو. وحده بريق عينيه النفّاذتين في تلك الظلمة الشفافة يخون حضوره. لم ينطق بكلمة طوال جلسة اللقاء. كان يتحرّك من حين لآخر ليسوّي جلسته. يبدو أنه كان ضجرًا من طول الجلوس. ولاحظت أنّه قفز قفزة سِنَّوْر بمجرّد أن أعلن عبد الجبّار نهاية المقابلة. وكان أوّل من التحق بالخروج. هل هو ياسين صديق نبيل؟ أغلب الظن أنّه هو. يجب أن أتأكّد مع رشيد، لقد رآه مرّة. هل أبقى مكتوف اليدين أمام ما وقع؟ هل يبقى قاتل سي أحمد حرًّا طليقًا ليضيف إلى ضحيّته قائمة من الضحايا الأخرى؟ ليس من المروءة أن أبقى صامتًا. الرجال في سيدي مرزوق يواجهون الموت عند كل لحظة، ومع ذلك لم يستسلموا. ممَّ أخاف أنا؟ لا زوجة تترمّل ولا أطفال قد يصيبهم شظف العيش وفاجعة اليتم. سأتّصل فور عودتي بالمفتش وأكشف له عن مكان اختفاء جماعة عبد الجبّار وهوية الكحلوش القصير القامة. سأفعل ولا أكترث بالعواقب... 12 الجمعة 28 سبتمبر . العاشرة ليلًا... اللعنة على هذه الحياة... اللعنة... اللعنة... ماذا سأفعل الآن؟ ياسين يقول اقتله، إنه كافر وزنديق... اقتله تتقرّب به إلى الله وتضمن مكانًا في الجنّة. الجنّة يا نبيل، الجنّة... الجنّة ليست كالأرض... الجنّة بها كل ما لذّ وطاب... بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... أكل وشرب ونساء يا نبيل، نساء، جوارٍ، حور العين... ألا يكون دخول الجنّة إلا بقتله؟ لقد عافت نفسي هذه الدنيا. يحدّثني عن الأكل والشرب والنساء. أليسَت الجنّة إلا أكلًا وشربًا ومضاجعة حور العين؟ أليسَت إلا شهية للجسد؟ جسدي أنا أصبح لا يشتهي شيئًا. بالأمس فقط طبخت أمّي طجين الدجاج بالزيتون والجزر وملأت لي صحنًا كبيرًا لأنها تعرف محبّتي وشهيّتي لهذا الطبق. كانت الفرحة والابتسامة تضيئان وجهها المشرق: «كُل يا نبيل يا ابني، حضّرته خصِّيصا لك. أراك قد ضعفت هذه الأيام ولم تعد تأكل مثل سابق عهدك. كُل يا ابني وإذا لم تشبع سأزيدك». نظرْت إلى فخذ الدجاج وحبات الزيتون وقطع الجزَر بلامبالاة أدهشتني، أنا الذي كنت ألتهم نصف القدر بمفردي، استعجل أمّي حينما أشمّ رائحة هذا الطبق وهو لا يزال على النار. كيف تنقطع نفسي فجأة وترفض ما كنت أحبّه؟ ما السبب؟ ويحدّثني ياسين عن الأكل في الجنّة وأنا لم آكل ما هو موجود في الحياة الدنيا. وحور العين، كيف هي حور العين؟ أنا أكره الجنس وأكره النساء. قهرت رغبتي بالصلاة والصوم وذكر الله. تبخّر كل شيء... كل شيء... منذ شهر تقريبًا أخبرت ياسين بنيّتي في الانضمام إلى جماعتهم. أخذني عند عبد الجبّار. لم أرَه منذ زيارتي إلى الصحراء قبل أزيد من سنة. عرفت عن طريق ياسين أنه خرج من السجن. ولكن لم تتَح لي فرصة رؤيته. مشينا طويلًا بين منازل نصف مبنية، في حي الدوز صالوبار الجديد. قال لي ياسين إنّ معظم أفراد الجماعة يعيشون داخل تلك البناية الكبيرة وهي ملك لأحد الأثرياء غادر عين الكرمة إلى فرنسا. تفاجأ عبد الجبّار برؤيتي. قال ياسين: هذا هو نبيل الذي حدّثتك عنه. أتتذكّر، كان معي حينما زرتك في الصحراء. سألني عن أحوالي باقتضاب. دخلت في الموضوع مباشرة وكرّرت أمامه رغبتي بالالتحاق بجماعتهم. قال: ودراستك؟ قلت: أيّ دراسة يا أمير؟ كرهت الدراسة والأهل، وأريد أن أكون جنديًّا من جنود الله. نظر إليّ مليًّا، هزّ رأسه، مسح لحيته ثمّ قال: مرحبًا بك معنا. ولكن ليس اليوم. حينما نكون بحاجة إليك، سنبعث لك مع ياسين. ثمّ انعزل مع ياسين في غرفة جانبية. سمعت صوته يرتفع كما لو كان غاضبًا. عاد ياسين بعد قليل منغلق الوجه. أدركت أنّ خلافًا ما حدث بين الرجلين. هل وبّخه بسببي؟ لم يقل ياسين شيئًا. ودّعني على بعد مسافة قصيرة من مخبئهم، وقال لي بأنه سيغيب بضعة أيام وسيتّصل بي بعد عودته. يجب أن تقتله، هكذا قال ياسين عند عودته بعد خمسة أيام. إنْ فعلت ستثبت لنا بأنك جدير بأن تصبح جندا من جنود الله. وأنا ضمنتك عند الجماعة ودافعت عنك. أصارحك أن بعض الإخوة اعترضوا على انضمامك إلى جماعتنا. قالوا إنّك ابن كافر وشيوعي. فكيف لابن كافر أن يكون داخل جماعة مؤمنة. قلت لهم بأنك لست على دين أبيك وأنّك على ديننا ومستعدّ لتضحّي بأغلى ما عندك لإرضاء جماعتنا. عبد الجبّار أيضًا دافع عنك، وذكّرهم بأنك تجشّمت عناء السفر إلى الصحراء في عزّ الصيف. فلا تخيّب حسن ظنّي بك. أنا أعتبرك من أعزّ أصدقائي، من أيّام المدرسة الابتدائية. كيف سأريهم وجهي إنْ أنت خذلتنا وأخفقت في تأدية أوّل مهمّة تُسنَد لك. إن نجحت في أدائها بأفضل الطرق ستصبح واحدًا منّا إلى الأبد. سيستقبلك أفراد جماعتنا بالأحضان. ستصبح أميرًا أنت أيضًا. اليوم، التقينا بعد صلاة الجمعة وذهبنا معًا إلى طَحْطَحة وادي الصفصافة. أخرج المسدّس من جيب سترته الجلدية السوداء، اقترب من شجرة الكاليتوس الضخمة وصوّبه باتّجاه الجذع وقال: «تقترب منه هكذا، على بعد متر، ثمّ ترفع المُسدّس وتطلق النار. المسألة بسيطة، لا تأخذ منك دقيقة واحدة. هذه الليلة، لا تنس... عبد الجبار يعتمد عليك ويثق بقدرتك على أداء المهمّة على أحسن وجه. ألم تقل لي إنه يذهب كل يوم جمعة إلى الحانة ليشرب الخمر والعياذ بالله. الخمر من المحرّمات الكبرى، وجزاء شاربها القتل. قد يعود مخمورًا ويكون قتلك له تقرّبًا إلى الله، إنك ستخلّص البشرية من كافر زنديق وأجرك عند الله عظيم». ثمّ اقترب منّي وحطّ المسدّس في يدي وقال: «اضغط هنا وتخرج الرصاصة، رمش عين وأنت أصبحت جندِيا من جنود الله ومن المبشَّرين بالجنة. ندخلك إلى جماعتنا، وتصبح واحدًا منّا». كيف أقول له إن الكافر الزنديق الذي يريدني أن أقتله هو أبي؟ أيقتل الولد أباه بهذه السهولة؟ ياسين يتيم الأب ولا يعرف ماذا يعني الأب عند أيّ شخص. تربّى مع أمّه فقط، ويكره أباه ويشتمه بأقذع الشتائم. قال لي مرارًا بأنّ أباه طلّق أمّه ولم يكن قد تجاوز الرابعة من عمره. أبوه أيضًا كان يسكر ويأتي إلى البيت ويضرب أمّه كل ليلة. حكت له أمّه كل شيء بعد أن كبر. لذلك بدأ يصلّي وهو صغير كي لا يصبح سكّيرًا مثل أبيه. قال بأنه هو أيضًا سيقتل أباه بمجرّد معرفة مكان إقامته. جاءت به أمّه إلى حيّ البراريك بعد سنة من طلاقها، حينما وجدت عملًا كمنظّفة بمتوسّطة عين الكرمة. كانوا قبل ذلك يسكنون في بيت من الصفيح بضاحية موزاية. ولا تعرف أمّه شيئًا عن وجهة أبيه. يقال بأنه تزوّج امرأة من عنابة وسافر معها. قال ياسين بأنه سيتّصل بجماعة الإخوان من عنابة للبحث عنه، وبمجرّد معرفة عنوان إقامته، سيتكفّل شخصيًّا بتصفيته وبعثه إلى جهنّم بسرعة البرق. ياسين يستطيع قتل أبيه بلا أدنى تردّد. إنه حاقد عليه لأنّه رماه مع أمّه وهو صغير، وعاش فقيرًا ويتيمًا. ماذا أقول عن أبي الذي لم يرمني مثل أب ياسين؟ لم أعش فقيرًا ولم أعرف الحيف مثل ياسين. ولكنّه كافر ولا يصلّي ويشرب الخمر. قال ياسين إنّه مرتدّ لأنّه وُلد في عائلة مسلمة ثمّ ارتدّ عن الإسلام. والمرتدّ مصيره القتل. ولكن لماذا أكلّف أنا بقتله؟ لم أناقش المسألة مع ياسين؟ لم تكن لي الجرأة الكافية لذلك. لماذا لم يتكفّل هو بالمهمّة؟ وأمّي المسكينة... مريضة... وحيدة... من يعتني بها؟ أبي لم يقصّر من هذه الناحية. يرافقها دائمًا إلى الأطبّاء والمستشفى، يشتري الدواء ويسهر على أن تتناوله في أوقاته المحدّدة. كم مرّة سمعته يذكّرها بأخذ دوائها، وهي تتململ من الألم وتعبّر عن استيائها من كثرة الأقراص التي تتجرّعها يوميًّا بلا فائدة. ماذا سأفعل ؟ سيعود أبي بعد قليل... هل سأنفّذ أوامر ياسين وعبد الجبّار؟ في البداية قبلت دون تردّد. تصوّرت الأمر سهلًا. سأمسك المسدّس بيدي وأطلق النار. مثلما يحدث في الأفلام. تخيّلت نفسي مرارًا أقف أمامه وأشهر المسدّس في وجهه وأقول متحدّيًا: «حانَت ساعتك أيّها الكافر... تشهّد قبل أن أطلق النار... تشهّد لعلّ الله يشفق عليك وينجيك من جهنّم..." وكم مرّة تخيّلت أنه نطق بالشهادتين وأسلم وتاب ولم أطلق الرصاص. لقد نجا والدي من نار جهنّم. ولكن في أغلب الأحيان، لا أراه يفعل، بل أراه يزيد طغيانًا وكفرًا. شيئًا فشيئًا، أضحت العملية تخيفني وترعد جسدي بمجرّد التفكير فيها. يصرخ صوت بداخلي موبّخًا: أنت مجنون يا نبيل. كيف تسمع لكلام أولئك المعتوهين وتقتل أباك؟ أيقتل الأولاد آباءهم؟ الأولاد يقدّسون آباءهم ويقتدون بهم ويفتخرون بهم. يردّ عليه صوت آخر مدوّيًا: إنّه كافر مرتدّ، وجزاؤه القتل، وحظوتي عند الله ستكون عظيمة. عندما افترقنا قبل المغرب، اقترب منّي ياسين، ألقى عليّ نظرة صارمة شلّت حركاتي وقال: هذه الليلة... لا نريد تأخيرًا... عبد الجبّار ينتظرنا قبيل صلاة الفجر. سأنتظرك هنا ابتداء من منتصف الليل. عندنا مهمّة أخرى سننفّذها غدًا صباحًا، وستكون أنت جنديًّا معنا. ستشارك معنا في أول عملية جهادية لك. نحن جنود الله الجدد ولنا غزواتنا التي لا تقلّ أهمّية من غزوات بدر وأحد وغيرهما من غزوات المسلمين الأوائل. سنتقرّب إلى الله برؤوس أخرى من الكفرة الطغاة. أسمعت جيّدًا ما أقوله لك؟ أمسكني من كتفيّ وثبّت بصره في بصري: هذه الليلة، لا تتأخّر، أنتظرك هنا، لن أتحرك من هذا المكان إلى حين عودتك. اذهب الآن والله معك، يحميك ويعينك مثلما يحمي جماعتنا ويعينها. ماذا أفعل الآن؟ ها هو أبي قد دخل والتحق بغرفته. حينما فتح باب الصالون، هممت بإخراج المسدّس من جيب سترتي وإطلاق الرصاص عليه. عقلي يأمرني بأنْ أفعل. ولكنّ قلبي يرفض ويشلّ جسدي. لم أسمع ما قاله لي. أهو سلام أم كلام آخر؟ لا أعرف ولم أعد أعرف. قلبي منقبض، وأشعر بأحشائي تتمزّق. لأقم الآن وأر ماذا بإمكاني أن أفعل. أقتله... لا أقتله... أقتله... لا أقتله... وياسين ينتظرني... ماذا أقول له؟ رأسي يغلي وبصري مشوّش... سأخرج حالًا... لا أستطيع البقاء هنا... لا أستطيع..." ضغطت بأصابعي على الأوراق بقوّة، وأغمضت عينيّ من شدّة الحزن والغضب معًا. آلمني وضع نبيل الضعيف الذي وقع فريسة سائغة في أيدي أولئك الحاقدين، الذين لم يجدوا من بين جميع العمليات الإجرامية إلا أن يأمروه بقتل أبيه. هل فكر عبد الجبّار، القاسي القلب، لحظة في أن يقتل أباه؟ لا أظنّ. لو فكّر ثانية واحدة لما كلّف نبيل بهذه الجريمة البشعة، ولجنّبه الانتحار. نعم لقد انتحر نبيل لأنّه رفض قتل أبيه. صوّب الرصاصة المخصّصة لرشيد باتّجاه صدره. رفض أن يعود إلى ياسين بدون تنفيذ المهمّة. أيّ سيطرة روحية كان يمارسها عليه ياسين؟ عجز عن مناقشته ورفض المهمّة القذرة التي كُلِّف بها. لنبيل شخصية هشّة، وهو خجول إلى حدّ الخضوع المطلق لهيمنة ياسين. فتحت عينيّ وأبصرت رشيد الجالس قبالتي. كان منهارًا وبصره يسرح بعيدًا. فاتحته في الموضوع نهار أمس، ونحن عائدان من المستشفى حيث تركنا نصيرة زوجته على حالها، دون أدنى تغيير. تحدّثنا عن مقتل محافظ الشرطة وهوية القتلة. أيكون ياسين هو ذلك الكحلوش القصير القامة؟ قال إنه رآه منذ أكثر من سنتين مرّتين لا أكثر، وبمحض الصدفة. نعم، أسمر اللون إلى حدّ الزنوجة ومعروف بنشاطه مع الإسلاميين. فقد طُرد من الثانوية لأنه رفض تحليق لحيته. فأشرت إلى الصفحات الناقصة في دفتر نبيل. قال إنّه لم ينتبه ولكنه سيبحث عنها. اتّصل بي في ساعة متأخّرة من ليلة أمس واخبرني بعثوره على الأوراق الممزّقة. سألته عن فحواها، فقلّل من شأنها. ولكنني أحسست بأنّ هناك جديدًا حينما قال دون مبرّر في سياق كلامنا: ابني المسكين، خدعته تلك الوحوش الضارية. ثمّ فجأة أوقف المكالمة، وأدركت أنّه متأثّر وهو على حافّة الانفجار بالبكاء. أصبح رشيد سريع البكاء. أين ذلك الكبرياء الذي كان يمنحه منظر رجل قويّ لا تهزّه نوائب الدهر، ويستطيع مواجهة مصائب الدنيا كلها بمفرده. يتحدّث بثقة وأنفة، يناقش بقوة الصوت ومتانة الحجّة. انهارت جميع هذه الصفات، ولم يعد إلا خرقة ذابلة قد تعصف بها أول هبّة ريح. ضعف وشحب وانسحبت عيناه داخل محجريهما بشكل ملحوظ. ـــ راح نبيل ضحية براءته وصدق نواياه، قلت بنية التخفيف عن حزنه. كان يحبّك برغم الاختلاف الكبير بينكما. حاصره أولئك الحثالة القتلة، ولم يجد وسيلة للتخلّص منهم إلا وضع حدّ لحياته. رفع رشيد رأسه. عيناه مبلّلتان بالدموع. ومع ذلك قال بصوت متهدّج: ـــ كنت متأكّدًا أنّهم قتلوه... أليس هذا قتلًا... من هو الوحش الذي تبادرت إلى ذهنه هذه الفكرة الجهنّمية؟ كيف نطلب من ولد أن يقتل أباه؟ ولماذا لم يبادروا هم إلى قتلي؟ أكنت هدفًا بعيد المنال أم أنّهم أرادوا التخلّص منه بهذه الطريقة البشعة؟ ولكنّني سأنتقم منهم واحدًا واحدًا. (هنا ارتفع صوته وزأر غاضبًا) سأقتلع جذورهم النتنة التي تعفّن البلد. سأفعل فيهم أكثر ممّا فعل هتلر في اليهود. أنا أيضًا أستطيع حمل السلاح وإطلاق النار. سأشكّل مليشيا مسلّحة وسأطاردهم حتى وإن اختفوا في فروج أمّهاتهم. سمعت بأنّ جماعات الدفاع الذاتي تتشكّل هنا وهناك. سأنضَمُّ إلى واحدة وأنتقم لابني نبيل... سأنتقم لك يا نبيل يا ابني... سأنتقم... خنقته الدموع وسكت. أخفى وجهه بين يديه وأجهش بالبكاء. ـــ دع عنك مثل هذه الأفكار المدمّرة يا خويا رشيد... نصيرة بحاجة إليك الآن. إنها مريضة ومنهارة نفسيًّا وبحاجة إلى من يقف معها ويعيد لها طعم الحياة من جديد. أمّا مصير هؤلاء القتلة، فلا تقلق ولا تحمل همًّا. ستأتيك أخبارهم عن قريب. بالأمس فقط اتّصلت بنائب محافظ الشرطة، المفتّش سليمان، أمددته بالمعلومات التي بحوزتي والتي حدّثتك عنها. وقال لي بأنّهم أوقفوا مجموعة من شباب عين الكرمة الذين يشكّلون القاعدة الخلفية للإسلاميين المسلّحين، أولئك الذين تجدهم يوميًّا مسمّرين في الأرصفة وفي مداخل العمارات يراقبون الداخل والخارج. بطّالون ومن عائلات فقيرة، ومع ذلك يرتدون ملابس فاخرة آخر صيحة. من أين تأتيهم الأموال إنْ لم يكونوا يتلقّونها من هذه الجماعات؟ أموال تسرّبها لهم المخابرات العالمية وجماعات الإخوان المسلمين عبر العالم. أكّد لي أنّهم تحصّلوا على أخبار ستوصلهم حتمًا إلى جُحر هذه العصابة القاتلة. لا يمكن لدم سي أحمد وأعوان الشرطة الآخرين أن يذهب هدرًا. لذلك أنصحك بالتزام الهدوء والتحلّي بالرزانة وترك الأجهزة الأمنية تؤدّي مهامّها. يبدو أنها أفاقت من غفوتها وستردّ الصاع صاعين وسينتقل الخوف إلى الجهة المقابلة. ـــ أنا الذي سأزرع الرعب في صفوف هؤلاء الدراويش... وقف يكرّر هذه الجملة وهو يضغط على أسنانه، ويلوّح بقبضته في الفضاء. أصبح البيت ضيّقًا لاحتواء الغضب الساكن بأحشائه. وقفت بدوري وقلت: ـــ هيّا بنا نقم بجولة بالسيّارة عبر طريق البحر... البحر مهدّئ للأعصاب وأحسن ناصح... هيا بنا... ركنت السيّارة في مكانها المعتاد على بعد أمتار قليلة من مدخل العمارة التي بها مكتبي. منير، حارس السيّارات، كان غائبًا على غير عادته. تعوّدت أن يستقبلني كل صباح بابتسامة عريضة تكشف عن سنّه الأمامية المفرّمة في الفكّ السفلي متبوعة بتحيّته المفضّلة: بونْجور مَتْر. ربّما كانت الجملة الفرنسية الوحيدة التي يعرفها ويلوكها بلكنة محرّفة، مزعجة لأذني لأنها تذكّرني بنطقي السابق الذي لم أتخلّص منه إلّا بعد جهود مضنية. وكم مرّة قلت له مازحًا إنّني أفضّل: صباح الخير أستاذ. ومع ذلك يصرّ على عبارته التي يملأ بها فمه باعتزاز كلّما رآني أخرج من السيّارة. إنّه غير متعوّد على الغياب. «ما تكسّرش راسك عمُّو... راني هنا مَلِّي يطلّع ربي النهار حتى يدِّيه» مثلما يحلو له أن يكرّر على مسامعي كل صباح. يذرع الرصيفَين، ذهابًا وإيابًا، وعينه على سيّارات المحامين والأطبّاء وزبائنهم. بالعمارة مكاتب مهنية وعيادات طبّية كثيرة وأصحابها أسخياء معه. الزقاق أيضًا كان فارغًا. ما إنْ عتّبت أدراج السلّم الخارجي للعمارة حتى سمعت صوته ينادي: ـــ يا مَتْر... يا مَتْر... التفتّ ورأيته يركض وسط القارعة ويلوّح بيديه. ـــ يا مَتْر... تعال تر ما لم يحدث أبدًا في عين الكرمة... الشرطة قضت على ستّة إرهابيين وعرضت جثثهم في الساحة... توقّف عند أسفل السلالم لاهثًا. نظرت إليه باستغراب أنتظر مزيدًا من التفاصيل. ـــ هناك... في ساحة أوّل نوفمبر... جثث الإرهابيين ملقاة على الأرض... ألا تريد أن تراهم؟ الساحة تغلي برجال الشرطة... ـــ أأنت متأكّد ممّا تقول؟ ـــ مثلما أقول لك يا مَتر... كنت هناك... هيّا تر بعينيك... ودون أن ينتظر جوابي، عاد أدراجه مسرعًا. تأهّبت لمتابعته ثمّ انتبهت إلى المحفظة الثقيلة المليئة بالملّفات التي تتدلّى في يدي اليمنى. سأحطّها بداخل مكتبي أوّلًا. ما إنْ رأتني الكاتبة حتى قامت من مكانها والتأثّر بادٍ على لهجتها: ـــ يا سي عبد القادر... جئت في الوقت المناسب. خفت أن أبقى وحدي. انظر إلى يدي، إنّها لا تقوى على مسك القلم. رأيت جثث الإرهابيّين وهم ينزلونها من داخل شاحنة ويرمونها على الأرض. رأيتهم بالصدفة. ليتني ما مررت من هناك. كنت أريد أن أشتري علبة مناديل ورقية من كشك ساحة أوّل نوفمبر، فوقعت معهم وجهًا لوجه. آه لو تراهم يا سي عبد القادر؟ إنهم مخيفون بلحاهم الطويلة وملابسهم الملوّثة بالدماء والتراب. أدرت وجهي عنهم وهربت مسرعة. لم أجد الشجاعة الكافية للاقتراب منهم. ربّما هم الذين قتلوا محافظ الشرطة وهجموا على شاحنة المساجين. ـــ ربّما... مجانين لا يقدّرون عواقب وخطورة أفعالهم. هل يتصوّرون أنّ بإمكانهم اغتيال رجال الشرطة بلا عقاب؟ سأذهب إلى هناك لأرى بنفسي... ـــ أتتركني وحدي يا سي عبد القادر؟ ـــ لا تهوِّلي الأمر... أنتِ هنا في مكان آمن. أغلقي الباب ورائي. لن أتأخّر... كنت أتوقّع حدثًا من هذا النوع. كان المفتّش سليمان عند لقائي به أوّل أمس واثقًا من إمكانية القضاء على الجماعة المسلّحة التي نغّصت حياة الشرطة في عين الكرمة. لقد زارهم ضبّاط سامون من الشرطة وجهاز المخابرات وأسمعوهم من بذيء الكلام ومن التهديدات ما يجعلهم يفقدون لذّة الراحة والنوم لأيّام طويلة. لم أستغرب نبأ القضاء على جماعة عبد الجبّار. كان أمرًا محتومًا بعد اغتيال المحافظ. تهجّموا على الشرطة في عقر دارها. ضربة موجعة زلزلت أركانها. فمن الطبيعي أن يكون ردّ الفعل سريعًا وقويًّا يُذهل الأبصار ويُدمغ العقول. ما أدهشني هو عرض جثث القتلى في الساحة العمومية. تصرّف صبياني وغير محسوب العواقب. سلوك عصابات متحاربة، لا يليق بهيئة نظامية تحتكم إلى دولة القانون. عرس الانتقام أم استعراض القوة ؟ كرنفال بائس يسيء لسمعة وهيبة الشرطة أكثر ممّا يعيد لها الاعتبار. خرجت مسرعًا وقصدت ساحة أوّل نوفمبر راجلًا. انتشر الخبر مثل النار في الهشيم. الناس يهرولون نحو الساحة من جميع الاتجاهات وعلامات الدهشة وعدم التصديق تكسو وجوههم. يريدون التأكّد ممّا سمعوا بأعينهم. كيف لهذه الجماعات المسلّحة التي قيل عنها في الشهور الأخيرة إنّ المئات من المتطوّعين يفدون إليها من كل حدب وصوب وإنها تملك عتادًا حربيًّا يفوق عتاد الجيش، كيف لها أنْ تنهزم بهذه السهولة؟ أليست هي الواعدة بقرب يوم الفتح العظيم وقيام دولة الخلافة؟ يتبادل الناس، همسًا وجهرًا، أخبارًا عن انتشار مهول لجنود ملتحين في الأحراش المجاورة لعين الكرمة. يتداول الفلّاحون وسكّان الأرياف المجاورة حكايات عجيبة غريبة عن تحركات جنود الليل. تارة هم مجاهدون سيعيدون للدين مجده الضائع. وتارة أخرى هم أشبه بقطّاع الطرق، يداهمون التجمّعات السكّانية المعزولة ويتعسّفون على أهلها بالسلب والنهب. أين الحقيقة من الدعاية والتهويل؟ أغلب الناس ببّغاوات في ثوب دونكيشوتات، يردّدون ما سمعوا، مع تنويعات وإضافات لإسناد أدوار لهم، وإن كانت عبارة عن شهود بالسمع فقط، عن جهل، عن خوف، عن تبجّح، عن سذاجة، وربّما عن غريزة فطرية في رواية القصص، والتلذّذ بتحريفها وإسنادها إلى أنفسهم. تجمُّعٌ كبير من الرجال وحتى الأطفال وبعض النساء يحيط نصب الشهداء. رجال الشرطة منتشرون في أرباع الساحة. سيّارات الشرطة بأنواع مختلفة، وشاحنة المطافئ مركونة وسط القارعة. كان التجمهر يسدّ الرؤية. حاولت اختلاس النظر بين الأجساد المكتظّة. بلا فائدة. فاضطررت إلى استعمال ذراعيّ لشقّ ممرّ نحو الحلبة. فضول داخلي يقضم أحشائي ويحثّني على الاستعجال. مشهد غريب حقًّا أعاد إلى ذهني مشاهد أفلام الوَسْتَرن التي كنّا نشاهدها في شبابنا، تلك الأفلام الغاصّة بجثث القتلى، فوق أرضية ترابية ورملية وتحت شمس حارقة لصحراء كاليفورنيا ونيفادا. ستّة أجساد ممدّدة بعشوائية، مرميّة كيفما اتّفق. ألبستها متّسخة بالتراب وملطّخة ببقع حمراء وسوداء. أغلب الوجوه ملتحية ومشوّهة بجروح تنمّ عن المشادات الضارية التي وقعت بين الطرفين. يحيطها شرطيون باللباس الميداني الأزرق اللون، يمسكون بنادقهم الرشاشة في وضعيات المتأهّبين للهجوم أو لردّ الفعل الشرس عند أيّة حركة مشبوهة. وجوههم ملثّمة بكاغولات صوفية سوداء. وحدها العيون البراقة تتحرّك يمينًا وشمالًا، وتمسح المكان بدقّة أجهزة الليزر. يقفون وقفة المنتصر، الرؤوس مرفوعة شامخة والصدور منفوخة والأقدام راسخة على التربة المبلّلة. يبدو أن مطرًا قليلًا سقط أثناء الليل. لقد صحا الجوّ هذا الصباح. شمس خريفية شاحبة تدفئ الساحة ولم يبق في السماء إلا غيوم رمادية غير مهدّدة، تطردها ريح خفيفة باتّجاه الأفق الشرقي. اقتربت من الجثث وبي رغبة جامحة للتعرّف على هوية المقتولين. تتلاطم بذهني مشاهد عدّة: عبد الجبّار بقامته المديدة ولحيته الفحمية الكثّة، وهو يحدّثني بلهجته الواثقة داخل تلك الغرفة نصف المظلمة، وعبد الحميد النحيل وهو يقص عليّ قصّته العصية التصديق، ثمّ وهو يمشي أمامي وأنا أتبعه برفقة يوسف عياشي وسط البرك المائية والأوحال. اختلطت الصور والمشاهد، تلك الآتية من عمق الذاكرة وتلك المعروضة أمام بصري. تكاد جميع الوجوه تتشابه تقريبًا، سمراء داكنة وعليها جروح ودماء مخثّرة، بحيث يتطلّب التعرف عليها الاقتراب منها أكثر. ومع ذلك كانت جثّة عبد الجبّار ماثلة تتصدّر الوسط. ها هو إذن القائد الذي أراد أن يؤسّس لنظام سياسي وأخلاقي جديد بالحديد والنار. هل آمن حقًّا بإمكانية انتصاره على نظام دولة قائم منذ ما يزيد على نصف قرن وباسم شرعية أكتسبت الإجماع الدولي في وقتها؟ أم أنّ الحقد أعماه إلى حدّ أضحت رغبة الانتقام معه هي المسيّرة والموجّهة لجميع أفعاله؟ ربّما كان اليأس من الحياة هو الذي حثّه على استعجال الموت، لإيمانه المطلق بأنّه سيُقتَل في الدفاع عن الإسلام، وينال بذلك صفة الشهيد الضامنة للدخول إلى الجنّة؟ لماذا لم أناقش معه هذه المسألة في تلك الليلة لأقف عند القناعات العميقة التي كانت تحرّكه؟ أمور أساسية كثيرة نمرّ عليها مرور الكرام دون التعمّق في فتح مسالكها ولا ندرك جهلنا بها إلا عند فوات الأوان. هل نقول الكلام نفسه عن أولئك الذين رفعوا السلاح ضدّ فرنسا العظمى وهم جماعات قليلة العدد والعدّة؟ من كان يتصوّر أنّ أولئك الأفراد المسلّحين ببنادق صيد قديمة سيتحوّلون إلى أبطال هوميروسيين يلتف حولهم آلاف الجنود، ويحظون بدعم شعبي ودولي أرضَخ أمبراطورية استعمارية على التفاوض وتسليم إقليم شاسع بسعة الجزائر بعد أن عمّرته قرابة قرن ونصف؟ هل سلّم هؤلاء حياتهم مسبقًا قربانًا لاستقلال بلادهم؟ أم أنّ المسألة عبارة عن رهان تراجيدي يؤدّي حتمًا إلى طريقين متضادّين، لا ثالث لهما: الانتصار أو الموت. وكل من وضع قدميه داخل هذه السكة يرى نفسه منتصرًا وميتًا في آن واحد. ولكن ما هي الغريزة المحرّكة المهيمنة: غريزة الحياة مع الانتصار أم غريزة الموت، وإن كان مسلك هذا الأخير يؤدّي بدوره إلى حياة أخرى مؤجّلة إلى حين. وهل يتشابه الوضعان: التضحية في سبيل الوطن والتضحية في سبيل الدين؟ بالأمس كان الوطن يتداخل مع الدين؟ كانت التضحية مزدوجة. أمّا اليوم فالوطن للجميع، أمّا الدين فقد اختلطت مشاربه وتريد هذه الجماعة أن تحتكره لنفسها، فرفعت السلاح ضدّ الوطن. وانتفض الوطن يدافع عن نفسه وعن دينه الأوّل. حتمًا سينتصر الوطن على الدين، مثلما حدث في أوروبا. الوطن للجميع، مستوطنين ووافدين. أمّا الدين فإنه عرضة للأهواء ومتغيّرات الزمن. اقتربت أكثر. أردت رؤية الوجوه. تقدّم مني شرطي ملثّم كما لو أنّه خاف من شيء ما. ولكنّه لم ينطق بكلمة. نظرت إليه نظرة أرفقتها بحركة من اليدين قصدت بها طمأنته، ثمّ جثوت بقرب جثّة قصيرة معفّرة أيضًا بالدماء والتراب، ملقاة جهة اليمين، تكاد تلتصق بأخرى. كان الرأس مهشما كما لو أنّه ضُرب بآلة حادّة. انحنيت أكثر. كانت البشرة أقرب إلى السواد. أهو ياسين الكحلوش؟ أهو قاتل نبيل؟ أكيد أن خبر مقتله سيقلّل من ضغينة وحزن رشيد وربّما أبعد عنه نهائيًّا فكرة حمل السلاح التي راودته في الأيام الأخيرة. فجأة اقتحمت امرأة الحلقة الضيقة وهي تصرخ: وليدي يوسف... يوسف وليدي... تنحّيت جانبًا بفظاظة كادت تفقدني توازني وتسقطني أرضًا، لأنها ارتطمت ناحية جهتي. تعرّفت عليها بسهولة من خلال حجابها الرمادي. ماذا تفعل هنا والدة يوسف عياشي؟ لماذا تنادي باسم ابنها كما لو أنه هنا وسط الجثث؟ فجأة رأيتها ترتمي على جثة وتصرخ: قتلوا وليدي يوسف... قتلوا وليدي يوسف... لم يتحرّك أحد من رجال الشرطة. وقفوا واجمين. شلّتهم المفاجأة. رأيت الذهول والذعر على الوجوه المحيطة التي التفتت كلها باتّجاه المرأة الباكية. كدت أنسى أنّ يوسف كان يعيش مع هذه الجماعة. ألم يسلّم نفسه للشرطة بعد؟ لماذا لم يتّصل بي ثانية؟ هل منعه أصحابه من تسليم نفسه؟ تهاطلت أسئلة متتالية عليّ دون أن أجد لها جوابًا. مكثت مشدوهًا أتابع نواح المرأة التعيسة. ها هو ابنها الوحيد يُقتل بالرصاص كما قُتل أبوه منذ عشر سنوات. هل هو حقًّا ابنها؟ ربّما وقع خطأ وارتمت على جثّة أخرى. ولكن هل يخطئ إحساس الأمّ في التعرّف على ابنها؟ تقدّمت نحوها بتؤدة، وبادرت إلى محاولة إبعادها. نظرت إليّ بوجهها الذي فقد كل علامات الحياة، تختزل في محيّاه مأساة البشر بأسرها. تعرّفت عليّ، فتشبّثت بتلابيب سترتي صارخة: ـــ قتلوه يا سي عبد القادر... قتلوه... ـــ هدِّئي روعك يا أختي... ربّما ليس هو... ـــ انظر إليه جيّدًا... أنت تعرفه... انظر... أليس يوسف ابني؟ ارتفعت قليلًا عن الجثّة. إنه هو حقًّا. كان وجهه سليمًا من أيّ خدوش. قليل من التراب فقط. ولكنّ صدره ملطّخ بدماء ملوّثة بالتراب والحصى. ربما أصابه الرصاص في الصدر. أضافت وسط البكاء: ـــ جاء عندي منذ أسبوعين... قال لي: سأذهب غدًا عند الشرطة وأسلّم نفسي... كيف أجده مقتولًا هنا ؟ أليس من المفروض أن يكون بين أيدي الشرطة؟ ارتمت من جديد على جثّة ابنها باكية. هممت بالانحناء عليها لإبعادها. تردّدت، ماذا أقول لها؟ مأساتها هاوية بلا قاع. جرّبت وضعًا مشابهًا مع رشيد ونصيرة. تعجز الكلمات عن المواساة. ماذا نقول لأمّ تكتشف فجأة ابنها مقتولًا ومرميًّا في ساحة عمومية كمجرم نبذه المجتمع في حياته ومماته؟ وهي التي آمنت ببراءته وباحتمال نجاته. بعد لحظات قليلة تدَخَّل شرطيان لإبعادها. اعترضَت وقاومَت إلى أن أغمي عليها. جاء رجال المطافئ بنقّالة وحملوها إلى سيّارتهم. أنا أيضًا كنت منهارًا وحزينًا. لم أتصوّر أبدًا أن يكون يوسف عياشي من بين الضحايا. إنه البريء الوحيد ضمن المقتولين. لماذا لم يسلّم نفسه مثلما قالت أمّه؟ أيكون اليوم الذي قرّر تسليم نفسه فيه قد تزامن مع يوم اغتيال محافظ الشرطة؟ لقد مرّ أسبوعان من تلك الحادثة أيضًا. أيكون وقوع اغتيال ذلك اليوم قد أبعد عنه نهائيًّا فكرة تسليم نفسه؟ أم أنّ صديقه عبد الحميد قد أقنعه بالبقاء ضمن صفّ الجماعة؟ ربّما هدّده بالقتل إن فعل؟ من يَعرف؟ أيكون قد سلّم نفسه للشرطة فأجبر على الاعتراف والتعاون معها وأخذها إلى مخبأ أصحابه، وهناك تلقّى الرصاصات القاتلة؟ بعد الشيء الذي سمعته عن قصة الصائغ مع الشرطيين اللصوص، تصبح جميع الاحتمالات ممكنة. إنها حرب قذرة. حتمًا ستنبعث منها أنتن الروائح، وستبقى محلّقة في الفضاء، تخز الضمائر وتصدّها عن مجابهة حقائقها العفنة. للأسف الشديد، مات يوسف عياشي وسيُدفن سرّه معه، مثلما دُفن سرّ عبد الكريم الصائغ. بعد دقائق معدودة من حمل الأمّ إلى سيّارة الإسعاف، تدفّق عدد كبير من رجال الشرطة الملثّمين وبدأوا في طرد الجمهور الذي ما فتئ يتزايد. ثمّ باشروا بنقل الجثث ورميها داخل شاحنة اقتربت قليلًا من النصب التذكاري. وبعد ذلك تجمّعوا وسط الساحة وطفقوا يطلقون الرصاص في الهواء الطلق ويرفعون قبضات أيديهم إلى الأعلى. أحدث الرصاص هلعًا بين المتجمهرين الذين افترقوا مهرولين أسرع ممّا جاؤوا. التحق رجال الشرطة بسيّارتهم وغادروا المكان تحت صيحات النصر. أنا أيضًا لم يبق لي ما أفعله في الساحة. جرجرت قدميّ واهن القوى وأنا أبذل قصارى جهدي لإدخال قليل من الصفاء إلى ذهني المشوّش. تطاردني وجوه وصور وأسئلة تزيدني حيرة وضجرًا وحزنًا. تذكّرت يوم دخولي الأول إلى عين الكرمة، وفي محفظتي ورقة التعيين في متوسّطة ابن باديس، وكلّي ابتهاج ورغبة عارمة في قضم الحياة بملء شدقيّ، ممتلئًا بالأحلام الجميلة والمشاريع الشهية، فاستقبلتني كفارس عريس جاء راغبًا في المصاهرة. أين عين الكرمة تلك، الهادئة، الآمنة، المضيافة؟ هل ستعود يومًا ومتى تعود؟ |
الساعة الآن 08:02 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها