![]() |
نداء الملاك
غيوم ميسو
نداء الملاك رواية غيوم ميسو نداء الملاك غيوم ميسو نداء الملاك رواية ترجمة : حسين عمر سما للنشر المركز الثقافي العربي الكتاب نداء الملاك تأليف العنوان الأصلي للرواية: L’Appel de l’ange By : Guillaume Musso © XO Editions 2011 All rights reserved غيوم ميسو الطبعة الأولى، 2014 الترقيم الدولي: ISBN:978-9953-68-735-3 ©جميع الحقوق محفوظة الناشر المركز الثقافي العربي الدار البيضاء – المغرب ص.ب: 4006 (سيدنا) 42 الشارع الملكي (الأحباس) هاتف: 303339 0522–307651 0522 فاكس: 305726 522 212+ Email: markaz.casablanca@gmail.com بيروت – لبنان ص. ب: 5158 – 113 الحمراء شارع جاندارك – بناية المقدسي هاتف 750507 01– 352826 01 فاكس: 343701 1 961 + Email:cca_casa_bey@yahoo.com الشاطئ أكثر أماناً ، ولكنني أهوى مصارعة الأمواج. إيميلي ديكنسون مقدّمة هاتفٌ محمول؟ في البداية، لم تجدي فيه منفعة حقيقية، ولكن لكي لا تبدين متخلّفة، تنصاعين للابتلاء بجهازٍ من طرازٍ بسيطٍ جداً ذي تقنية متواضعة. في الأيام الأولى، تتفاجئين أحياناً بأنّكِ تثرثرين بصوتٍ عالٍ بعض الشيء في المطعم أو القطار أو على رصيف المقاهي. فعلاً إنّها فكرة عملية ومثيرة للاطمئنان أن تكون عائلتك وأصدقائك دائماً في متناول صوتك. ككلّ الناس، تعلّمتِ أن تكتبي رسائل نصّية قصيرة من خلال النقر على لوحة الأزرار الصغيرة واعتدتِ إرسالها بقوّة وعنف. ككلّ الناس، تخلّيتِ عن مفكّرتكِ الورقية لاستبدالها بنسخته الإلكترونية وخزّنتِ في ذاكرته أرقام هواتف معارفك وعائلتكِ وعشيقكِ وأخفيتِ فيه أرقامك القديمة وكذلك الرمز السرّي لبطاقتكِ الائتمانية التي يحصل لكِ أن تنسيه. حتى وإن كان يلتقط صوراً ذات نوعية رديئة، فقد استخدمتِ كاميرا هاتفكِ المحمول. فقد كان من الظريف أن تحملي معكِ باستمرار صورة مضحكة يمكنك أن تعرضيها على زملائك وزميلاتك. زيدي على ذلك أنّ الجميع يفعل هذا الأمر. تعلّق الجهاز بالعصر: تلاشت الحدود والفواصل بين الحياة الشخصية والحياة المهنية والحياة الاجتماعية. لا سيما وأن الحياة اليومية قد أصبحت أكثر إلحاحاً وأكثر ليونةً وتتطلّب باستمرار التلاؤم مع استخدامك للزمن. * مؤخّراً، استبدلتِ جهازك القديم بجهازٍ جديدٍ أكثر حداثةً: جهازٌ صغيرٌ مذهل يتيح لكِ الوصول إلى رسائلك الإلكترونية وتصفّح الإنترنت وتخزينه بمئات التطبيقات. وهنا أصبحتِ مدمنة على استخدامه. وكأنّه مغروسٌ في جسدك، غدا هاتفك المحمول من الآن فصاعداً امتداداً لذاتك يرافقك حتى في حمّامك ومراحيضك. أينما حللت، نادراً ما تدعين الوقت يمرّ لنصف ساعة دون أن تنظري إلى شاشة هاتفك منتظرةً مكالمة لم تأتِ أو رسالة حميمية أو رسالة من صديق. وإذا ما كانت حاوية رسائلك الإلكترونية فارغة، تنقرين على الأزرار لتتأكّدي من أنّ ليس هناك أيّ رسالة على قائمة الانتظار. كما لعبة طفولتك، يشعرك هاتفك المحمول بالاطمئنان والسكينة. شاشته مريحة ومهدّئة ومنوّمة. يمنحكِ الهدوء في كلّ الظروف ويوفّر لك سهولة الاتصال المباشر الذي يترك كلّ الاحتمالات مفتوحة... * ولكن، ذات مساء، وأنتِ تعودين إلى البيت، تفتّشين في جيوبكِ ثمّ حقيبتكِ وتكتشفين بأنّ هاتفك المحمول قد اختفى. هل ضاع؟ هل سُرِق؟ ترفضين أن تصدّقي ذلك، فتعاودين البحث عنه ولكن دون أن يحالفك النجاح، فتحاولين إقناع ذاتكِ بأنّكِ قد نسيتهِ في المكتب، ولكن... هيهات: تتذكّرين بأنّك قد نظرتِ فيه في المصعد عند مغادرتك العمل – ومما لا شكّ فيه – في المترو وفي الحافلة. اللعنة! في البداية، تغضبين بسبب فقدانك لجهاز الهاتف نفسه، ثمّ تهنّئين نفسكِ بكونكِ قد أمّنتِ على الجهاز ضدّ "السرقة \ الضياع \ الكسر" وأنتِ تحسبين نقاط الوفاء التي سوف تسمح لكِ، منذ الغد، أن يُقدّم لكِ جهازٌ جديد فائق التقنية ويعمل بواسطة اللمس. مع ذلك، حتى الساعة الثالثة صباحاً، يجافيكِ النوم ولا تنجحين في إغماض عينيكِ ... * تنهضين خلسة ودون ضجيج لئلا توقظي الرجل النائم إلى جانبكِ . في المطبخ، فوق خزانة، ستبحثين عن العلبة القديمة والمتآكلة لأعقاب السجائر التي أخفيتها هناك تحسّباً للحالات العصيبة. تشعلين سيجارة منها وترفقينها حيث أنتِ بكأسٍ من الفودكا. تبّاً ... تكونين جالسة، مقوّسة الظهر على كرسيكِ. تشعرين بالبرد لأنّكِ قد تركتِ النافذة مفتوحةً بسبب رائحة السيجارة. تقومين بجرد كلّ ما يحتويه هاتفك المحمول: بعض مقاطع الفيديو، ما يقارب الخمسين صورة، تواريخ تصفّحك لشبكة الإنترنت، عنوانكِ (بما فيه الرقم السرّي لباب مدخل العمارة)، وعنوان والديكِ وأرقام هواتف أناسٍ لا ينبغي أن توجد فيه في الحالة الطبيعية، ورسائل قد تترك الاعتقاد بأنّ ... لا تكوني ذهانية! تأخذين نفساً جديداً من السيجارة وتتجرّعين جرعةً أخرى من الكحول. ظاهرياً، لا يوجد ما يسيء إلى سمعتكِ على نحوٍ حقيقي ولكنّكِ تدركين جيّداً بأنّ المظاهر تكون خادعة. ما يُقلقكِ هو أن يكون هاتفك المحمول قد وقع بين أيدٍ غير أمينة لشخصٍ سيء النوايا. هنا، تشعرين بالحسرة والندم على بعض الصور والرسائل الإلكترونية وبعض المكالمات والأحاديث التي تتعلّق بالماضي والعائلة وبالأموال وبالجنس ... وذلك حينما تدقّق في البحث عنها، حيث يمكن لشخصٍ ما يريد أن يسيء إليك ويلحق الأذى بك أن يجد ما يمكنه أن يحطّم من خلاله حياتكِ. حينها تندمين ولكن الندم عندها لا يُجدي في شيء. ولأنّكِ ترتعشين من البرد، تنهضين لكي تغلقي النافذة، فتلصقين جبينكِ بزجاج النافذة وتنظرين إلى الأضواء القليلة التي لا تزال تشعّ بأنوارها في الليل وأنتِ تقولين في نفسكِ بأنّه قد يكون هناك في الطرف الآخر من الشارع رجلٌ يرنو بعينيه إلى شاشة هاتفكِ المحمول وهو يكتشف ببهجةٍ المناطق الظليلة من حياتكِ الخاصّة ويفتّش بتأنٍّ ودقة في أحشاء الجهاز بحثاً عن أسراركِ الصغيرة المشينة. القسم الأوّل القطّ والفأر الفصل الأوّل تبادل الهاتفين المحمولين هناك أناسٌ قدرهم أن يلتقوا. أينما كانوا وأينما حلّوا يلتقون ببعضهم ذات يوم. كلوديا غالاي نيويورك، مطار جون إف كينيدي قبل أسبوعٍ من عيد الميلاد هي - وبعد ذلك؟ - وبعد ذلك، قدّم لي رافائيل قرطاً من الألماس هديّة من متاجر تيفاني وطلب إليّ أن أكون زوجته. كانت مادلين، وهي تُلصِق الهاتف على أذنها، تتجوّل أمام الكوّات المزجّجة العالية التي تطلّ على مدرج المطار. وعلى بعد خمسة آلاف ميل منها، كانت صديقتها المقرّبة، في شقّتها الصغيرة الواقعة في شمال لندن تستمع بكامل اللهفة إلى تفاصيل مغامرتها الرومانسية في مدينة التفاحة الكبيرة. قالت جوليان: - حقّاً لقد منحكِ الجائزة الكبرى! عطلة نهاية الأسبوع في مانهاتن وغرفة في فندق والدورف (Waldorf) ورحلة تنزّه في عربة حنطور وطلبٌ للزواج على الطريقة التقليدية ... قالت مادلين مبتهجةً: - نعم. كان كلّ شيء رائعاً، كما في الأفلام السينمائية. - هل يمكنك أن تشرحي لي كيف يكون أمرٌ ما (فائق) الروعة، أيّتها السيّدة المتخمة؟ حاولت جوليان بطريقة خرقاء أن تتدارك الموقف، قائلة: - أقصد: ربّما كان هذا يفتقر للمفاجأة. نيويورك، متاجر تيفاني، التنزّه تحت الثلج وحلبة التزلّج في سانترال بارك... هذا أمرٌ غير منتظَر، أمرٌ تقليدي! ردّت مادلين بخبث وشنّت هجوماً مضاداً: - إن لم تخنّي الذاكرة، حينما طلبكِ واين للزواج، كان ذلك أثناء العودة من حانة، في ليلةٍ من ليالي الشرب. كان متخماً بالشراب كما لو أنّه عربة مترو مكتظّة بالركاب في ساعة الذروة وذهب إلى المغاسل لكي يتقيّأ بعد أن طلب يدكِ مباشرةً، أهذا صحيح؟ ردّت جوليان مستسلمةً: - حسناً، لقد كسبتِ هذه الجولة. ابتسمت جوليان وهي تقترب من منطقة الصعود إلى الطائرة في محاولة منها للعثور على رافائيل وسط الحشد الغفير. في بداية عطلة عيد الميلاد تلك، كان الآلاف من المسافرين يستعجلون الخطى إلى بهو المطار الذي كان يطنّ كما لو أنّه خلية نحل. بعضهم كانوا يذهبون للانضمام إلى عائلاتهم بينما كان آخرون يغادرون إلى آخر الدنيا قاصدين أماكن فردوسية، بعيداً عن جو نيويورك الخانق والكئيب. قالت جوليان: - في الحقيقة لم تقولي لي ماذا كان جوابك؟ - هل تمزحين؟ قلتُ له نعم طبعاً! - ألم تعذّبيه بعض الشيء؟ - أعذّبه؟ جولي، لقد قاربت الرابعة والثلاثين من عمري! ألا تعتقدين بأنني قد انتظرت كثيراً هكذا؟ أنا أحبّ رافائيل وأنا أخرج معه منذ سنتين ونسعى لأن يكون لدينا طفل. خلال بضعة أسابيع، سوف ننتقل إلى المنزل الذي اخترناه معاً. جوليان، هذه هي المرّة الأولى في حياتي التي أشعر فيها بأنني محمية وسعيدة. - أنتِ تقولين هذا لأنّه بجانبكِ الآن، أليس كذلك؟ انفجرت مادلين ضاحكةً: - كلا! لقد ذهب لكي يسجّل أمتعتنا. أقول هذا لأنّ هذا ما أعتقده! توقّفت أمام كشكٍ لبيع الصحف. كانت عناوين الصفحات الأولى للصحف المصفوفة إلى جانب بعضها ترسم صورة عالمٍ سائرٍ على غير هدى يربط مستقبلها: أزمة اقتصادية، بطالة، فضائح سياسية، سخط اجتماعي، كوارث بيئية... قالت جوليان بطريقة لاذعة: - ألا تخشين أن تكون حياتكِ مع رافائيل متوقّعة النتائج؟ ردّت مادلين: - هذه ليست نقيصة! أنا أحتاج إلى شخصٍ قويّ وموثوقٍ ومخلص. كلّ شيء من حولنا هشّ وضعيف ومهزوز. لا أريد لحياتي الزوجية أن تكون هكذا. أريد أن أعود إلى بيتي في المساء وأنا متأكّدة من أنني سأجد الهدوء والصفاء في منزلي. أفهمتِ ما أقول؟ قالت جوليان: - هممم.... - ليس هناك ما يستحقّ "هممم" يا جولي. ابدئي إذاً جولتكِ على المتاجر لشراء فستانك لتكوني إشبينتي! - هممم. مرّة أخرى، ردّدت الفتاة الإنجليزية هذه الكلمة ولكن هذه المرّة لتخفي انفعالها أكثر منه لتعبّر عن شكّها وارتيابها. نظرت مادلين إلى ساعة يدها. خلفها، على مدارج الإقلاع، كانت طائرات مائلة للبياض تنتظر في أرتالٍ قبل أن تهمّ بالإقلاع والتحليق. - حسناً، سأترككِ الآن، طائرتي تُقلِع في الساعة الخامسة والنصف مساءً ولم أعثر بعد على ... على زوجي! صحّحت لها جوليان وهي تضحك: - زوجكِ المستقبلي ... متى ستأتين إليّ في زيارةٍ قصيرة إلى لندن؟ لماذا لا تأتين في عطلة نهاية الأسبوع هذه؟ - أرغب كثيراً في ذلك، ولكن هذا مستحيل: سوف تحطّ طائرتنا في رويسي في ساعة مبكّرة جدّاً. بالكاد سيكون لدي الوقت لكي أمرّ على البيت وأستحمّ قبل فتح المتجر. - حسناً قولي إذاً إنّكِ لا تكفّين عن العمل! - أنا بائعة زهور يا جولي! وفترة عيد الميلاد هي واحدة من أكثر فترات عملي! - حاولي على الأقلّ أن تنامي خلال الرحلة. وعدتها مادلين قبل أن تغلق الهاتف: - حسناً! سوف أتّصل بكِ غداً. * هو - لا تلحّي عليّ يا فرانسيسكا: من غير الوارد أن نلتقي! - ولكنني لا أبعد عنك إلا عشرين متراً تحت السلّم الآلي بالضبط... قطّب جوناثان حاجبيه والهاتف المحمول ملتصقٌ بأذنه واقترب من الدرابزين الذي يُشرف على السلّم الكهربائي. تحت السلالم، كانت امرأة شابة سمراء على هيئة السيّدة العذراء تتحدّث بالهاتف وهي تمسك بيدِ طفلٍ يرتدي معطفاً رياضياً فضفاضاً بعض الشيء. كان شعرها طويلٌ وترتدي بنطال جينز واطئ الخصر وسترةً ذات زغبٍ وكذلك نظارة شمسية ذات هيكلٍ واسعٍ تخفي مثل قناعٍ جزءاً كبيراً من وجهها. لوّح جوناثان بيده نحو ابنها الذي ردّ التحية باستحياء. أمر، غاضباً: - أرسلي إليّ شارلي وانصرفي! كلّما يرى زوجته السابقة كان يجتاحه غضبٌ مشوبٌ بالألم. شعورٌ قويٌ لم يكن يستطيع السيطرة عليه ويجعله عنيفاً ومحبطاً في آنٍ واحد. احتجّت بصوتٍ فيه نبرة إيطالية خفيفة قائلةً: - لا يمكنك الاستمرار في التحدّث معي بهذه الطريقة! انفجر غاضباً: - لا تتجرّئي على إعطاء الدروس! لقد اتّخذتِ خياراً عليكِ أن تتحمّلي نتائجه. أنتِ خُنتِ عائلتكِ يا فرانسيسكا! لقد خُنتِنا، شارلي وأنا. - دع شارلي خارج هذا الموضوع! - أدعه خارج هذا الموضوع؟ بينما هو الذي يدفع ثمن خيانتك؟ بسبب طيشكِ ومجونكِ لا يرى والده سوى لبضعة أسابيع في العام! - أنا متأسّ... قاطعها: - والطائرة؟ ثم سأل وهو يرفع صوته: - هل تريدين أن أذكّركِ لماذا يخاف شارلي من ركوب الطائرة لوحده، الأمر الذي يرغمني على أن أعبر البلاد في كلّ عطلةٍ مدرسية؟ - ما حصل لنا، إنّها الحياة... إنّها الحياة يا جوناثان. نحن بالغون وليس هناك طرفٌ لطيف وطرفٌ آخر شرّير. شعر فجأةً بالتعب وهو يلمّح إلى الطلاق الذي وقع بسبب أخطاء زوجته السابقة وقال: - ليس هذا ما قدّره القاضي. مطرقاً في التفكير، ألقى جوناثان نظرة على مدرج المطار. كانت الساعة الرابعة والنصف عصراً ولكن الليل لم يكن ليتأخر عن الحلول. على المدارج المضاءة، كان صفٌّ طويلٌ من الطائرات العملاقة تنتظر الإشارة من برج المراقبة قبل أن تقلع نحو برشلونة وهونغ كونغ وسيدني وباريس ... أردف: - حسناً، كفّي عن الكلام. سيبدأ الدوام المدرسي في الثالث من كانون الثاني \ يناير، سوف أعيد إليكِ شارلي عشيّة بدء الدوام المدرسي. وافقت فرانسيسكا على عرضه: - حسناً. مسألة أخيرة. لقد اشتريتُ له هاتفاً محمولاً. أودّ الاتصال به في أيّ وقت أشاء. انفجر جوناثان غاضباً: - أنتِ تمزحين! هذا غير معقول! لا يقتني طفلٌ في السابعة من عمره هاتفاً محمولاً. اعترضت قائلةً: - سنتناقش في هذا الأمر. - إذا كنا سنتناقش في هذا الأمر، لا يحقّ لكِ أن تتّخذي بمفردكِ هذا القرار. ربّما سنعاود الحديث في هذا الأمر، أمّا الآن، فاحزمي أغراضكِ ودعي شارلي ينضمّ إليّ! انصاعت بهدوء: - حسناً. انحنى جونثان على الدرابزين وغضّن عينيه ليتأكّد من أنّ شارلي أعاد إلى فرانسيسكا هاتفاً ملوّناً صغيراً. ثمّ عانق الصبيّ والدته وبخطوة متردّدة اعتلى الدرج الكهربائي. دفع جونثان بعض المسافرين ليكون في استقبال ابنه. - مرحباً بابا. ارتمى عليه جوناثان واحتضنه بين ذراعيه: - مرحباً يا بنيّ. * هما كانت أصابع مادلين تمرّ منزلقة بأقصى سرعة على لوحة أزرار الهاتف المحمول. كانت تجول، والهاتف بين يديها، أمام الواجهات الزجاجية لمتاجر السوق الحرّة وهي تكتب دون تركيزٍ الرسالة النصية القصيرة لتردّ بها على رافائيل. كان صديقها قد أحسن تسجيل أمتعتهما ولكنّه كان يقف في الدور الآن لكي يعبُر نقاط التفتيش الأمنية. في رسالتها الهاتفية، اقترحت عليه مادلين أن ينضمّ إليها في الكافتيريا. سأل شارلي بتهذيبِ: - بابا، أشعر بالجوع قليلاً. هل يمكنني أن أتناول شطيرة بانينو من فضلك؟ عبرَ جوناثان، وهو يضع يده على كتف ابنه، المتاهة الزجاجية والفولاذية التي تؤدّي إلى بوابات الصعود. كان يكره المطارات، خاصّة في هذه الفترة من السنة – فترة أعياد الميلاد وكانت صالات المطار تذكّره بالظروف المشؤومة التي علِمَ فيها بخيانة زوجته له، قبل عامين - ، ولكن لشدّة فرحته بلقاء شارلي، أمسك به من خصره ورفعه عن الأرض. قال بنشاطٍ وحميّة وهو يتحوّل يميناً ويساراً لكي يدخل إلى المطعم: - شطيرة بانينو لهذا الفتى، شطيرة واحدة! كانت كافتيريا لا بورت دو سييل، الكفتيريا الرئيسة في الضاحية تمتدّ حول فناءٍ تتوسّطه طاولات مختلفة تُعرَضُ عليها تشكيلة واسعة من الأطعمة المحلّية الخاصّة بالمنطقة. تساءلت مادلين وهي تتفحّص المأكولات المعروضة على المائدة: - هل أتناول قطعة من الكاتو بالشوكولا أم قطعة من البيتزا؟ طبعاً ستكون قطعة من الفاكهة أنسب ولكنّها كانت تتضوّر جوعاً. وضعت قطعة الكاتو على طبقها ثمّ أعادتها إلى مكانها فوراً حالما وشوش لها جيميني كريكيت خاصّتها في أذنها بعدد السعرات الحرارية التي تحتويها هذه القطعة من الحلوى. شعرت بشيءٍ من الإحباط ووضعت تفّاحةً في السلّة المصنوعة من أغصان الصفصاف وطلبت كوباً من الشاي ثمّ ذهبت لتسدّد حسابها عند صندوق المحاسبة. خبز سياباتا الإيطالي، بيستو، بندورة مخلّلة وجانبون بارما وجبنة الموزاريلا: سال لعاب شارلي أمام شطيرته الإيطالية. منذ نعومة أظافره، كان يرافق والده إلى مطابخ المطاعم، الأمر الذي منحه نكهة الأطعمة اللذيذة ونمّى فضوله نحو كلّ صنوف النكهات. حذّره جوناثان بعد أن دفع قيمة وجبيتهما الخفيفة: - انتبه لئلا تقلِب طبقك، اتّفقنا؟ وافق الصبيّ بإشارةٍ من رأسه، حريصاً على أن يحافظ على التوازن الهشّ بين شطيرة بانينو وقارورة المياه خاصّته. كان المطعم مكتّظاً بالزبائن. كانت الصالة البيضوية الشكل تمتدّ على طولِ جدارٍ زجاجيّ يطلّ مباشرة على المدارج. سأل شارلي التائه وسط جموع المسافرين: - أين نجلس ، بابا؟ نظر جوناثان بعينٍ قلقة إلى الحشد الكثيف المتلاطم بين المقاعد. بدا واضحاً أنّ هناك من الزبائن ما يزيد على الأماكن المتوفّرة. ثمّ. وكأنّه بفعل السحر، شغرت طاولة قرب الكوّة الزجاجية. قال جوناثان وهو يغمز لابنه: - تقدّم إلى الشرق، أيّها النوتيّ الصغير! بينما كان يُسرع الخطى، دوّى رنين هاتفه المحمول وسط الضوضاء. تردّد جوناثان في تلقّي المكالمة. على الرغم من أنّ يديه كانتا مشغولتين – كانت حقيبته ذات العجلات في يد وطبقه في اليد الأخرى – حاول أن يسحب جهاز هاتفه من جيب سترته، ولكن ... يا لهذا التجمهر! تأسّفت مادلين وهي ترى العدد الهائل من المسافرين الذين يجتاحون المطعم. وهي التي كانت قد أمِلَت في أن ترتاح لبعض الوقت قبل رحلتها، لم تجد حتى طاولةً لتجلس إليها! آخ! صرخت حينما داست مراهقة متحرّرة على قدمها وواصلت سيرها حتى دون كلمة اعتذارٍ. فتاة مزعجة قذرة! قالت في نفسها وهي ترمقها بنظرة قاسية، ردّت عليها الفتاة باحتشامٍ بالغٍ لم يترك مدلوله أيّ شكّ. لم تحظَ مادلين حتى بفرصة الانزعاج من هذا الاعتداء. فقد لمحت طاولة شاغرة ملاصقة للكوّة الزجاجية. حثّت خطاها خشية أن تخسر المحلّ الثمين. لم يكن قد تبقى بينها وبين هدفها سوى ثلاثة أمتار حينما رنّ هاتفها في حقيبتها. هذه ليست اللحظة المناسبة! قرّرت في البداية ألا تردّ على المكالمة ثمّ عدلت عن رأيها: لا شكّ أنّ رافائيل هو ما كان يتّصل بها. أمسكت على نحوٍ مُرتبكٍ بإحدى يديها بالصينية فقالت: - اللعنة، كم ثقيلٌ إبريق الشاي هذا! قالت ذلك بينما تفتّش في حقيبتها لتُخرج هاتفها الغارق بين حلقة مفاتيحها الضخمة ودفتر ملاحظاتها والرواية التي كانت بصدد قراءتها. كانت تتلوّى لكي تضغط على زرّ الجهاز وتضعه على أذنها حينما... * اصطدم جوناثان ومادلين وجهاً لوجه. تطاير كلّ ما على الصينيتين من إبريق الشاي والتفاحة والشطيرة وقارورة النبيذ في الهواء قبل أن يتهاوى ويتناثر على الأرض. فوجِئ شارلي بالصدمة فترك طبقه يسقط من يديه على الأرض وأخذ يبكي. يا للحمقاء! استشاط جوناثان غضباً وهو ينهض بصعوبة. صرخ: - ألا يمكنكِ أن تري أن تدسّين قدميكِ! يا للمعتوه! استشاطت مادلين غضباً وهي تلتقط أنفاسها. احتجّت عليه قبل أن تلتقط هاتفها وحقيبتها ومفاتيحها من على الأرض وقالت: - آه! لأنّ هذا خطأي علاوة على ذلك؟ لا ينبغي تبديل الأدوار، يا عجوزي! انحنى جوناثان على ابنه ليطمئنه ويهدّئه وهو يلتقط الشطيرة المحفوظة بغلافٍ بلاستيكي وكذلك قارورة المياه وهاتفه المحمول. قال حانقاً: - أنا رأيتُ هذه الطاولة قبلكِ ! كنا قد جلسنا تقريباً حينما نزلتِ بسرعة مثل انهيارٍ جليديّ حتى من دون ... - هل تمزح؟ لقد وجدت هذه الطاولة قبلك بكثير! كشف غضب المرأة الشابّة عن لكنة إنجليزية لم تكن ظاهرة إلى تلك اللحظة. - مهما يكن من أمر، أنتِ لوحدكِ بينما أنا معي طفل. قالت غاضبة وهي تكتشف بقعة من النبيذ وقد لوّثت قميصها: - يا له من عذرٍ جميل! لا أرى كيف يمنحك وجود طفلٍ شقي الحقّ في أن تعيدني إلى الداخل وتلطّخ قميصي! هزّ جوناثان، فزِعاً، رأسه ورفع عينيه إلى السماء. فتح فمه لكي يحتجّ، لكنّ مادلين باغتته بسرعة: - ثمّ أنني لستُ لوحدي! أكّدت مادلين ذلك حينما لمحت رافائيل، فهز جوناثان كتفيه وأمسك بيد شارلي، قائلاً: - تعالَ، سنذهب إلى مكانٍ آخر. همهم وهو يغادر المطعم: - بلهاءٌ مسكينة ... * أقلعت رحلة طائرة شركة الخطوط الجوية دلتا من نيويورك إلى سان فرانسيسكو في الساعة الخامسة مساءً. مبتهجاً بلقاء ابنه، لم يشعر جوناثان كيف مضى الوقت. منذ انفصال والديه، كان جوناثان يعاني من خوفٍ شديدٍ من الطائرة. كان من المستحيل بالنسبة إليه أن يسافر بمفرده أو أن ينام خلال رحلة الطيران. فكانت الساعات السبع التي تستغرقها المسافة مخصّصة لتبادل النكات وسرد الحكايات الغريبة والمضحكة ومشاهدة فيلم الحسناء والشارد للمرّة العشرين على شاشة حاسوبٍ محمول مع التلذّذ بعلبٍ صغيرةٍ من المثلجات من مارجة هاجن داز. كان هذا النوع من المثلجات مخصّص لركّاب درجة رجال الأعمال، ولكن مضيفة متفهّمة، استسلمت أمام عذوبة شارلي والسحر الأخرق لوالده، استمتعت بخرق القواعد. غادرة طائرة شركة الخطوط الجوية الفرنسية رقم 29 مطار جون إف كينيدي عند الساعة الخامسة والنصف مساءً. في المقعد الوثير والمريح في جناح رجل الأعمال، - لا شكّ أنّ رافائيل كان قد أحسن تدبير الأمور - ، أدارت مادلين آلة التصوير خاصّتها وبدأت تستعرض صور مغامرتهما النيويوركية. ملتصقين ببعضهما، عاش العاشقان مجدّداً أجمل لحظات رحلة أوّل أيام شهر العسل بابتهاج وسرور. ثمّ غفى رافائيل في حين أنّ مادلين شاهدت بابتهاج، للمرّة الألف، الفيلم الكوميدي القديم، الموعد، للمخرج لوبيتش المعروض على جهاز الفيديو الخاصّ بالمقعد. بفضل الفارق في التوقيت، بالكاد كانت الساعة قد بلغت التاسعة حينما حطّت طائرة جوناثان في سان فرانسيسكو. ما أن خرجا من الطائرة، تخلّص شارلي من قلقه، فنام بين ذراعي والده. في قاعة القادمين، جال جوناثان ببصره بحثاً عن صديقه ماركوس الذي كان يدير معه حانة فرنسية صغيرة في قلب حيّ نورث بيش والذي كان من المفترض أن يأتي لاصطحابهما بالسيارة. وقف على أطراف أصابع قدميه لكي يتبيّنه وسط الحشد. عبّر عن سخطه قائلاً: - كنتُ لأتعجّب لو أنّ هذا الرجل جاء في الوقت المحدّد! بعد أن أعيته الحيلة، قرّر أن يتفقّد هاتفه ليتحقّق إن كان قد تلقّى رسالة. حالما غيّر من وضعية "الطيران" حتى ظهر نصٌّ إضافي على الشاشة: فكّر وهو يعيد قراءة الرسالة القصيرة: - ما هذه الخديعة؟ أيكون مقلباً من ماركوس؟ اعتقد ذلك خلال بضع ثوانٍ، إلى أن فتّش جهاز هاتفه: الطراز نفسه، اللون نفسه، ولكن ... لم يكن هذا جهازه! أتاحت له نظره سريعة على تطبيق البريد الإلكتروني أن يكتشف هوية صاحبة الجهاز. امرأة اسمها مادلين غرين تعيش في باريس. أرغى وأزبد: - اللعنة! إنّه هاتف حبيبة القلب التي صادفناها في مطار جون إف كينيدي! نظرت مادلين إلى ساعة يدها وهي تتثاءب. إنّها السادسة والنصف صباحاً. لم تستغرق الرحلة سوى أكثر من سبع ساعات بقليل ولكن بسبب الفارق في التوقيت، حطت الطائرة في باريس يوم السبت صباحاً. كانت رويسي تستيقظ بسرعة. كما هو الحال في نيويورك، كانت أجواء عطلة عيد الميلاد قد خيّمت على المطار على الرغم من أن الوقت كان مبكراً. سأل رافائيل وهو يقف أمام الأمتعة: - هل أنت متأكّدة من أنّكِ تريدين الذهاب إلى العمل اليوم؟ قالت وهي تشغّل هاتفها لتتحقّق من بريدها: - طبعاً يا عزيزي! لقد أخبرتك بأنّ لدّي العديد من الطلبيات في الانتظار. استمعت في البداية إلى مجيبها حيث كان صوتٌ فاتر وناعس، مجهول تماماً بالنسبة إليها، قد ترك رسالة: "مرحبا جون؛ أنا ماركوس. اوه... لدي مشكلة صغيرة مع سيارتي من طراز L4 : تهريبٌ للزيت والذي ... حسناً، سوف أشرح لك الأمر لاحقاً. أخيراً، كلّ هذا لأخبرك بأنني قد أصل متأخراً بعض الشيء. المعذرة...". تساءلت وهي تغلق الهاتف: - من هو هذا الطائش إذاً؟ أيمكن أن يكون شخصٌ اتّصل برقمٍ خاطئ؟ هممم... خامرها الشكّ، فتفحّصت هاتفها بانتباه وتركيز: كان من الماركة نفسها، من الطراز نفسه... ولكنّه لم يكن هاتفها. صرخت بأعلى صوتها: - اللعنة إذاً! هذا هاتف الأبله الذي صادفته في المطار! الفصل الثاني حياتان منفصلتان من المرعب أن نكون وحيدين حينما نكون اثنين بول موران أرسل جوناثان أوّل رسالة نصّية قصيرة... والتي ردّت عليها مادلين في اللحظة نفسها تقريباً: هزّ جوناثان رأسه بانزعاج ودسّ الهاتف في الجيب الداخلي لسترته. لقد أسخطته هذه المرأة. * سان فرانسيسكو الساعة التاسعة والنصف مساءً غادرت سيارة بيجو 4L قديمة، لونها أحمر غامق الطريق العامّ 101 لكي تسلك المخرج الذي يؤدّي إلى داونتاون. سارت السيارة القديمة مثل عجلٍ على طريق أمبيركاديرو للواجهة البحرية في ميناء سان فرانسيسكو، وهي تعطي الانطباع بأنّها تسير ببطء. عبثاً كانت درجة التدفئة في أقصاها، فقد كان زجاج السيارة مغبشاً بالبخار. قال جوناثان متشكيّاً وهو يتكوّم في المقعد بجانب السائق: - سوف تُخرجنا عن الطريق بكومة الخردة خاصّتك هذه! دافع ماركوس عن نفسه ، قائلاً: - كلا، كومة الحديد خاصّتي تُصدرِ خريراً. لو تعلم كيف زخرفْتها! بدا ماركوس بشعره الملتصق والمنفوش وحاجبيه المشعّثين وذقنه التي لم يحلقها منذ ثمانية عشر يوماً وأجفانه السابلة مثل دروبي، وكأنّه قادمٌ من عصرٍ آخر – عصر ما قبل التاريخ – بل، لبعض الأيام، من كوكبٍ آخر. وهو يتماوج في بنطالٍ من ماركة باجي وقميص هاوايّ مفتوحٍ حتى صرّته، بدا شبحه الكسيح وكأنّه قد عوِّج وفُكّك لكي يُحشى في حُجرة السيارة. وهو ينتعل زوجاً قديماً من أحذية تونغز، كان يقود السيارة بقدمٍ واحدة، كان كاحله موضوعاً على دوّاسة الفاصل والواصل بينما يتعاقب مشط قدمه على الضغط على دوّاسة السرعة ودوّاسة المكابح. قال شارلي بحماسة وهو يهتزّ في المقعد الخلفي: - أمّا أنا، فأحبّ كثيراً سيارة الخال ماركوس! رد عليه ماركوس وهو يغمزه: - شكراً أيّها الصبيّ العزيز! أمره جوناثان: - شارلي! اربط حزام الأمان وكفّ عن التأرجح في كلّ الجهات. ثمّ التفت إلى صديقه: - هل مررت على المطعم بعد ظهيرة اليوم؟ - أوه ... مطعمنا مغلق اليوم، أليس كذلك؟ - ولكنك استلمت البّطات على الأقلّ، أليس كذلك؟ - أيّ بّطات؟ - أفخاذ البّطات والجرجير التي يرسلها إلينا بوب وودمارك كلّ يوم جمعة. - آه! كنتُ أقول في نفسي أنني قد نسيتُ أمراً ما! استشاط جوناثان غضباً: - يا لك من شخصٍ أحمقٍ وعنيد! كيف نسيت الأمر الوحيد الذي طلبت منك أن لا تنساه؟ برطم ماركوس: - هذه ليست كارثة أيضاً... - بل كارثة بالضبط! حتى وإن كان وودمارك شخصاً سمجاً لا يُحتَمَل، فإنّ مزرعته تقدّم لنا خيرة منتوجاتنا. إذا تخلّفت عن موعدٍ حدّدته معه، سوف يكرهنا ولن يرغب في أن نكون زبائنه. اسلك الطريق نحو المطعم: أراهنك على أنّه قد ترك حمولته في الفناء الخلفي للمطعم. طمأنه ماركوس: - يمكنني أن ارى ذلك بمفردي. سأصل أوّلاً إلى المنز... قاطعه جوناثان: - كلا! أنت لست سوى ضنيكٍ لا يمكن الاعتماد عليه، وبالتالي سأتولى الأمور بنفسي. - ولكنّ الصغير منهوك القوى! قال شارلي بمرح: - كلا، كلا! أنا أيضاً أريد الذهاب إلى المطعم! جزم جوناثان وأمر ماركوس وهو يمسح بكمّ قميصه البخار المتكثّف على الزجاج: - هكذا، سوي الأمر. اسلك الشارع الفرعي على مستوى الشارع الثالث. ولكنّ السيارة القديمة من طراز 4L لا تستطيع أن تندفع في خطّ سيرها. فعجلاتها الضيّقة تفتقر إلى التشبّث المحكم بالأرض وقساوة المقود أثناء تغيير الاتجاه كادت أن تتسبّب بحادثٍ. صرخ جوناثان: - هل ترى جيّداً أنّك لا تتحكّم بكتلة الطين هذه؟ اللعنة، سوف تقتلنا! أكّد ماركوس وهو يعدّل اتجاه المقود وسط جوقة من الزمامير المبالغة: - أنا أفعل ما بوسعي القيام به! وهو يصعد شارع كيرني ستريت، استعادت المركبة القديمة شيئاً من التوازن والاستقرار. سأل ماركوس بعد صمتٍ طويل: - هل لأنّك قابلت أختي أنت في هذه الحالة؟ صحّح له جوناثان: - فرانسيسكا ليست سوى أخت غير شقيقة لك. - كيف حالها؟ رمقه جوناثان بنظرة عدائية: - إذا كنت تعتقد بأننا قد أجرينا مكالمة ودّية... كان ماركوس يدرك بأنّ الموضوع حسّاس ولذلك لم يُلحّ. ركّز على قيادة السيارة ليصل إلى جادة كولومبوس ويركن (شبه سيارته) أمام حانة تحمل لوحة مكتوب عليها فرينش تاتش، في زاوية شارع أونيون ستريت وستوكتون ستريت. كما توقّع جوناثان، كان بوب وودمارك قد ترك حمولته خلف المطعم. أمسك الرجلان بالسلال المصنوعة من القصب ليوْدِعاها في الغرفة الباردة قبل أن يتأكّد من أنّ كلّ شيء على ما يُرام في الصالة الرئيسية. كانت حانة فرينش تاتش عبارة عن صالة صغيرة مسدّسة الأضلاع في قلب حي نورث بيش، الحيّ الإيطالي في سان فرانسيسكو. كانت صغيرة ولكنّها حميمية ودافئة وكان المحلّ من الداخل يتمثّل بهيئة حانة فرنسية من طراز ثلاثينيات القرن العشرين: ديكور خشبي، زينة ناتئة ونافرة، أرضية من الموزاييك، مرايا شاسعة من طراز "العصر الجميل" وصور قديمة لكلّ من جوزفين باكر وموريس شوفاليه وميستينغيت. كانت المنشأة تقدّم وجبات فرنسية تقليدية بلا غرور وبلا بهرجة ومظاهر خادعة. على اللوح المعلّق على الجدار، يمكن للزبائن أن يقرأوا العبارة التالية: "مرقّقات الحلزون بالعسل، شرائل البّط بالبرتقال، معجنات تروبيزيه...". وقف شارلي أمام المشرب اللامع الذي يمتدّ على طول الصالة وسأل والده: - بابا، هل يمكنني أن أتناول قطعة من المثلجات؟ - كلا يا عزيزي. لقد تناولت منه كيلوغرامات في الطائرة. ثمّ أنّ الوقت متأخرٌ جداً، كان عليك أن تكون في سريرك منذ وقت طويل. - ولكنّنا في عطلة... تدخل ماركوس: - هيا يا جون، كن راقياً! - آه، كلا، لن تتدخّل في الأمر أنت أيضاً! - ولكن هذا عيد الميلاد! لم يستطع جوناثان أن يمتنع عن الضحك وهو يقول: - صبيّان! أخذ مكانه في نهاية المطعم، خلف طاولة المطبخ المفتوح الذي كان يتيح للزبائن أن يتابعوا جزئياً تحضير الأطباق. سأله ابنه: - ما الذي يطيب لك؟ تحمسّ الصبّي: - مثلّجة من ماركة "السيّدة البيضاء"! بخفّة ومهارة، كسر "الطاهي المحترف" بضعة ألواح من الشوكولا السوداء في قصعةٍ صغيرة لكي يذيبها في وعاء التذويب. سأل ماركوس: - وأنت ماذا ستأخذ؟ - يمكننا أن نفتح قارورة نبيذ ... - إن شئت ذلك. لاحت ابتسامة عريضة على وجه ماركوس. غادر مقعده بمرحٍ وحيوية ليذهب إلى مكانه المفضّل: جوف المطعم. أعدّ جوناثان في الأثناء، وتحت الأنظار الشرهة لشارلي، في كوبِ كرتين من البوظة بالفانيليا ومعها قطعة مرنغ. ما أن ذابت ألواح الشوكولا، مزج معها ملعقة مليئة من قشدة الزُهيرة. سكب الشوكولا الساخنة فوق القشدة المجمّدة وغطّى كلّ المزيج بكريما الشانتيه واللوز المحمّص. قال باللغة الإنجليزية، وهو يغرز مجسّم مظلّة صغيرة فوق قبّة الكريما: - استمتع! استقرّ الأب والابن على طاولة وجلسا جنباً إلى جنب على مقعدٍ ناعم الملمس. التمعت النجوم في عيني شارلي فرحاً، فتسلّح بملعقة طويلة وبدأ يتلذّذ بكوب "السيّدة البيضاء". حينما عاد ماركوس من جوف المطعم، قال مهتاجاً: - انظر قليلاً إلى هذه القارورة العجيبة! - قارورة سكريمينغ إيغل 1997! هل تهذي أم ماذا؟ هذا النوع من القوارير مخصّص للزبائن! ألحّ ماركوس في الطلب: - هيّا! ستكون هذه هديتي في عيد الميلاد. بعد مقاومة شكلية تماماً، وافق جوناثان على أن يفتح قارورة النبيذ الكبيرة. في كلّ الأحوال، كان من الأفضل أن يشرب ماركوس بضعة أكواب من الخمر في المطعم حيث سيبقى على الأقلّ تحت أنظار جوناثان أمّا بخلاف ذلك فسوف يجازف الكندي بالتطواف على الحانات والإفراط في الشراب وتتتالى كوارثه وهو تحت تأثير الكحول. لمرّات عديدة، استغلّ بعض أصحابه في الحانات طيبته وسذاجته لابتزازه في لعبة البوكر وجعله يوقّع على سندات إقرار بديون خيالية اضطرّ جوناثان لتحمّل مشاق كبيرة لتسديدها لاحقاً. أبدى ماركوس إعجابه الشديد بالنبيذ وهو يسكبه في كوبٍ لكي يشربه: - يا لبهاء لون هذا النبيذ العابق بالرحيق! كان ماركوس الطفل غير الشرعي من والد فرانسيسكا ومغنيّة من بلاد الكيبيك والذي لم يرث فلساً واحداً من والده الذي كان رجل أعمالٍ من أثرياء نيويورك. وكانت والدته قد توفّت منذ فترة قصيرة ولم يكن يحتفظ مع أخته غير الشقيقة سوى بعلاقات ضعيفة. مفلساً ومعدماً، كان يعيش في قوقعة من الإهمال، لا مبالياً بمظهره الجسدي وجاهلاً بأصول اللباقة في الطبقة المرفّهة وأصول العيش في الحياة الاجتماعية. كان ينام لاثنتي عشرة ساعة يومياً ويقدّم يد العون للمطعم أحياناً ولكنّ ضغوط الحياة ومواعيد العمل كانت تبدو من غير تأثير عليه. كان ساذجاً إلى حدّ البلاهة وبسيطاً إلى حدّ يبدو معه مغفّلاً، لديه ما يثير الشفقة حتى وأن كانت نتائج عدم إحساسه بالمسؤولية مضنية لتدبير شؤون الحياة اليومية. طيلة المدّة التي استغرقها زواج جوناثان مع فرانسيسكا، لم يرَ في ماركوس سوى معتوهٍ ليس هناك أيّ شيءٍ يجمعه به. ومع ذلك، حينما هجرته فرانسيسكا، كان أخوها غير الشقيق الوحيد الذي سانده ووقف إلى جانبه. حينذاك، رغم وجود شارلي، استسلم جوناثان للانزلاق إلى مهاوي اليأس والاكتئاب. مستسلماً للخمول والعجز، استغرق في أحزانه وبات يتردّد عن قربٍ على السيّدين جاك دانييل وجوني ووكر. لحسن الحظ، وبمعجزة غريبة، وضع ماركوس كسله بين قوسين وللمرّة الأولى في حياته، أخذ مصيره بيديه. فقد لفت نظره مطعمٌ إيطالي متهالك كان قد امتلكه مالكٌ جديد وكافح ليقنع المستثمرين لكي يحوّلوا المكان إلى حانة فرنسية وتسليم أفرانها إلى صهره. أتاحت هذه المبادرة لجوناثان أن يقف على قدميه من جديد. ما كاد ماركوس أن يشعر بأنّ صديقه قد نجا حتى وقع من جديد في كسله الحاد. قال ماركوس وهو يمدّ نحو جوناثان كأساً من النبيذ: - بصحّتك! خلص الفرنسي وهو يُدير جهاز راديو آرت ديكو الذي كان قد اقتناه من سوقٍ للسلع المستهلكة القديمة الرخيصة في باسادينا إلى القول: - إذاً، هذا عيد ميلاد سابق لأوانه. ضبط جهاز الراديو على محطّة لأغاني الروك كانت تبثّ بثّاً حيّاً Light My Fire. انتشى ماركوس وهو يفترش مقعداً في عمق الحانّة ودون أن يُعرَف إن كان يقصد النبيذ الفرنسي أم موسيقى الدورز، قال: - آه! كم رائعٌ هذا! حاول جوناثان من جهته أن يرتاح. حلّ أزرار ياقة قميصه وخلع سترته، ولكن أغاظه أن يرى هادف مادلين المحمول موضوعاً على الطاولة. فتنهّد قائلاً في نفسه: حكاية الهاتف المحمول هذه ستُفقدني حجوزاتي. من بين زبائنه المنتظمين، كان بعضهم يملك في الحقيقة رقمه الشخصي: وهو امتيازٌ أتاح لهم الحصول على طاولة حتى في الأماسي التي يدفّق فيها الزبائن على الحانة. بينما كان ماركوس يمسك بالجهاز، نظر جوناثان إلى ابنه الذي كان يغفو بهدوء على المقعد. ربّما رغب لو أنّه أخذ ما يقارب عشرة أيام من العطلة لكي يعتني على نحوٍ أفضل بأمر شارلي ولكنّه لم يستطع أن يسمح لنفسه بذلك. وقد خرج مباشرة من المأزق المالي الخانق الذي عانى منه لسنواتٍ عديدة خلت وكانت هذه الحلحلة جديرة بأن تحصّنه ضدّ القروض والاستدانة من البنوك وعدم سداد الأقساط وسواها من حالات التخلّف عن التسديد. منهكاً من التعب، أغمض عينيه وتراءت له فرانسيسكا، كما التقى بها مصادفة في المطار. بعد انقضاء عامين على ذلك اللقاء، كان الألم لا يزال حادّاً كما كان. لم يحتمل عذاب تلك اللحظة ففتح عينيه وغبّ شفّة من النبيذ على أمل أن يطرد صورتها من ذهنه. لم يكن قد حظي بالحياة التي كان قد تمنّاها لنفسه، ولكنّها كان هذه هذ حياته. بينما كانت أصابعه الدبقة بالدسم تنزلق على الشاشة الملساء ليستعرض الصور المخزّنة في ذاكرة الهاتف المحمول، هتف ماركوس متعجّباً: - إيه! صاحبة لا بأس بها! أثار ذلك اهتمام جوناثان فمرّر رأسه من فوق شاشة الهاتف المحمول وقال: - دعني أرى. كان من بين الصور المعروضة للمرأة الشابّة بعض الصور المثيرة واللطيفة. كانت في وضعيات إيحائية مخلّدة بالأبيض والأسود: كانت ترتدي فستاناً من الدانتيلا الرقيقة بحمالتين من الساتان وهي ترفع إحدى يديه لتخفي باحتشام أحد نهديها أو تلامس برقّة منحنى وركها. ليس هناك ما هو أكثر خبثاً وشرّانية من أن يضع البعض مقاطع من أشرطتهم الجنسية على مواقع الإنترنت... سأل شارلي وقد صحا من غفوته: - بابا، هل يمكنني أن أرى؟ - كلا، كلا، عُد إلى نومك، هذا لا يصلح للأطفال. في نهاية المطاف، تفاجأ من أنّ فتاة المطار المزعجة، بهيئتها المتصنّعة كامرأة سليطة ووقحة، أنيقة ورشيقة، قد أقامت هي الأخرى حفلتها الصغيرة من الوضعيات الخبيثة. مندهشاً أكثر منه مبتهجاً، ركّز جوناثان نظره على وجه الموديل. ظاهرياً، كانت تتلهّى، متأقلمة مع لعبة الرضا، ولكن خلف ابتسامة وجهها هناك مسحة من الضيق والضجر. لا شكّ أنّ هذا النوع من الصور كان بالأحرى من هلوسات رجلها الذي اعتبر نفسه للحظة هلموت نيوتن . تُرى مَن كان يقف خلف آلة التصوير؟ أهو زوجها؟ أهو عشيقها؟ تذكّر جوناثان بأنّه قد لمح رجلاً في المطار ولكنّه لم يستطع أن يتذكّر ملامح وجهه. قال بلهجة حاسمة وهو يضع الهاتف المحمول تحت أنظار ماركوس الخائبة: - حسناً، هيا، هذا يكفي! حينما شعر فجأةً بأنّه متلصّص، تساءل بأيّ حقّ ينبش في الحياة الخاصّة لتلك المرأة؟! لفت الكندي نظره، قائلاً: - كما لو أنّها فعلت هي الأخرى الشيء نفسه! قال وهو يملأ لنفسه كأساً من النبيذ من قارورة سكريمينغ إيغل: - أنا لا أبالي: ليس هناك أيّ خطر في أنّها تجد هذا النوع من الصور في هاتفي المحمول. إذا كنتَ تعتقد بأنّني قد التهيتُ بالإمساك ببوبول في الصورة... كان لقارورة النبيذ ملحقات شهيّة من فاكهة حمراء وخبزٍ مدهونٍ بالتوابل. وهو يتلذّذ بمذاق المشروب،استعرض جوناثان في ذهنه ما كان يحتويه هاتفه المحمول. في الحقيقة، لم يتذكّر كلّ ما فيه. طمأن نفسه: - في كلّ الأحوال، ليس هناك ما هو حميمي ولا ما هو مشبوه. الأمر الذي انخدع به خداعاً تامّاً. * باريس الساعة السابعة والنصف صباحاً كان الغطاء المعرّق لسيارة من نوع جاكوار XF أحدث طراز يسير في الزرقة الباردة والمعدنية للمتحلّق الباريسي. كانت حجرة القيادة، المزيّنة بالمواد النفيسة – الجلد الأبيض والخشب الجوزي والألمنيوم الصقيل – تُظهر البذخ والراحة والحماية. وفي المقعد الخلفي، كانت أمتعة من نسيج مونوغرام تتواجد بجانب حقيبة غولف وعددٍ من صحيفة لوفيغارو. سألها رافائيل من جديد: - هل أنتِ متأكّدة من أنّكِ ستفتحين متجركِ اليوم؟ صرخت مادلين: - يا عزيزي! لقد سبق لنا وأن تحدثنا كثيراً عن هذا الأمر. ألحّ عليها: - يمكنك أن نمدّد عطلتنا. سأقود السيارة حتى دوفيل، سنمضي الليلة في نورماندي وسنتناول الغداء غداً مع والدي. - هذا عرضٌ مغرٍ، ولكن ... كلا. فضلاً عن ذلك، لديك موعدٌ مع زبون لزيارة موقع البناء. قال المهندس المعماري وهو ينعطف نحو جادة جوردان: -أنتِ من تقرّرين. مرّت السيارة بكلّ من دافير – روشيرو، مونتبارناس، راسباي: وبذلك قطعت جزءاً كبيراً من الدائرة الرابعة عشرة قبل أن تتوقّف في دائرة المنطقة الثالثة عشرة، شارع كامباني- يروميير أمام بابٍ أخضر غامق. -هل آتي هذا المساء لأصحبكِ من المتجر؟ -كلا، سوف أنضمّ إليك بالدراجة النارية. -سوف تتجمّدين من البرد! ردّت وهي تقبّله: -ربّما ولكنني أعشق دراجتي النارية من طراز تريونف! طال عناقهما إلى أن أخرجهما زموّرُ سائق تاكسي مستعجل من شرنقتهما بعنف. صفقت مادلين باب السيارة البرلينية قبل أنّ توجّه قبلة وداعٍ لعشيقها. أدخلت الرقم السرّي لكي تفتح باب رواقٍ يطلّ على باحةٍ مسوّرة بالأشجار. هناك، بمحاذاة الحديقة، كان يقع المبنى الذي استأجرته منذ أن أقامت في باريس. دخلت إلى الشقّة المؤلّفة من طابقين، المثالية للورشات الفنية التي بنيت في الحيّ في نهاية القرن التاسع عشر وقالت وهي ترتجف برداً: -أوووو! درجة الحرارة 15 تحت الصفر هنا داخل البيت! رفعت قاطع سخّان المياه وهي تشعل عود ثقابٍ ووصلت شريط إبريقها لكي تعدّ لنفسها كوباً من الشاي. كانت ورشة الرسم الأصلية قد أخلت مكانها منذ زمنٍ طويل لشقة جميلة مكوّنة من غرفتين مع صالون ومطبخٍ وغرفة نصفيه. ولكنّ ارتفاع السقف وسعَة الكوّات التي كانت تخترق الجدار الرئيس والأرضية الخشبية المدهونة كانت تذكّر بالنزعة الفنية البدائية وتساهم في سحر المكان وصبغته. أدارت جهاز الراديو المخصص لبثّ موسيقى الجاز وتأكّدت من أنّ أجهزة التدفئة تعمل بأقصى درجاتها وبدأت ترتشف الشاي وهي تدندن على إيقاع ترومبيت لويس آرمسترونغ بانتظار أن تتدفّأ الشقّة. استحمّت على عجلٍ وخرجت من الحمّام وهي ترتعش وأخرجت من خزانة ملابسها قميصاً من ماركة تيرمولاكتيل وبنطال جينز وبلوزة فضفاضة منسوجة من الصوف الإنجليزي. حينما أصبحت جاهزة للخروج، قضمت قطعة شوكولاته من كيندر بوينو وهي ترتدي بلوزة رياضية من الجلد وعقدت حول عنقها شالها الأكثر دفئاً. كانت الساعة بالكاد قد بلغت الثامنة صباحاً حينما ركبت مقعد دراجتها النارية الصفراء البرّاقة. كان مخزنها قريباً جدّاً ولكنّها أرادت أن تتجنّب المرور بالمرسم وهي تذهب إلى رافائيل. تطاير شعرها في الهواء وهي تقطع تلك المسافة القصيرة البالغة ما يقارب مائة متر من الطريق التي كانت تعشقها. هنا، كتب رامبو وفيرلين قصائد شعرية، وأحبّ أراغون وإلزا بعضهما وخلّد غودار نهاية فيلمه الأوّل: ذاك المشهد الحزين والمؤثّر للغاية والذي يتهاوى في جان – بول بيلموندو، "وهو يلهث تعباً"، وقد تلقّى طلقاً ناريّاً في ظهره، تحت أنظار خطيبته الأمريكية. لفّت مادلين جادة راسباي وسلكت شارع ديلامبر حتى بلغت متجرها المسمّى "الحديقة العجيبة" والذي تتفاخر به وقد افتتحته قبل سنتين. رفعت الستارة الحديد بشيءٍ من التخوّف. لم تكن قد غابت أبداً مدّة طويلة جدّاً. خلال عطلتها في نيويورك، كانت قد فوّضت مقاليد المخزن إلى تاكومي، تلميذها الياباني الذي أنهى تدريبه في مدرسة بائعي الزهور في باريس. حينما دخلت إلى المحلّ، تنهّدت وتنفّست الصعداء. كان تاكومي قد اتّبع نصائحها حرفياً. كان الفتى الآسيوي قد تزوّد بالبضاعة من سوق رونجيس وكان المتجر مليئاً بالأزهار الطازجة: السحلبية، الخزامى البيضاء، الزنبق، أزهار بنت القنصل، الخَرْبَق، الصُفّير، الميموزا، النرجس الأَسَلي، النبفسج، الأمارلسي. كانت شجرة الميلاد الكبيرة التي زيّناها سويّاً تُضيء بكلّ أضوائها وأحزمة النباتات الطفيلية والحرجية المتدلّية من السقف. بعد أن اطمأنّت، تخلّصت من بلوزتها الصوفية لترتدي صدريتها، جمعت أدوات عملها – مقصّ البستاني، مرشّ السقاية، المعزق اليدوي – وانكبّت بسعادة على المهام الأكثر إلحاحاً وهي تنظّف أوراق شجرة تين وتنقل أصيصاً للسحلبية وتشذّب شُجيرة بونزاي. كانت مادلين تعتبر معرض زهورها بمثابة مكان ساحرٍ وشاعري، فقاعة مناسبة للحلم، ملاذ سلامٍ واطمئنان بعيداً عن صخب المدينة وعنفها. مهما كانت درجة الحزن في حياتهم اليومية، كانت تريد أن يضع زبائنها مشاغلهم جانباً لحظة يتجاوزون عتبة متجرها. كان جوّ متجرها "الحديقة العجيبة"، في يوم الميلاد، فاتناً وساحراً على نحوّ خاصّ، يعيد الزبائن إلى روائح الطفولة وتقاليد الماضي الغابر. ما أن فرغت من "الاهتمامات الأولّية" بالزهور، أخرجت المرأة الشابّة أشجار الميلاد لكي تضعها أمام الواجهة وفتحت متجرها في تمام الساعة التاسعة. ابتسمت حينما شاهدت أوّل زبونٍ لها – في مهنة بيع الزهور، كان قولٌ مأثورٌ قديم يقول: إن كان الزبون الأوّل رجلاً هذا يعني أنّ النهار سيكون سعيداً -، ثمّ عبست أمام طلب زبونها: كان يريد أن يرسل باقة من الزهور إلى زوجته دون أن يترك لها بطاقة تعريفٍ. كانت الاستراتيجية الجديدة الدارجة عند الأزواج الغيورين: إرسال زهور بطريقة مجهولة لرصد ردّ فعل زوجاتهم. إذا عادت الزوجة ولم تتحدّث عن باقة الزهور، فيستنتجون أنّ لديها عشيق... دفع الرجل حسابه وغادر المتجر غير مكترثٍ بترتيب باقة الزهور. كانت مادلين قد شرعت لوحدها بتجهيز باقة الزهور التي سيسلّمها تاكومي عند الساعة العاشرة إلى مصرفٍ في شارع بولار – حينما دوّت أنغام موسيقى أغنية Jumpin’ Jack Flash في المتجر. قطّبت بائعة الزهور حاجبيها. كانت أنغام هذه المقطوعة الموسيقية الشهيرة لفرقة رولينغ ستونز تصدر من جيب حقيبتها الظهرية الذي كان يوجد فيه الهاتف المحمول لذاك المدعو جوناثان. تردّدت في الردّ على المكالمة ولكن إلى حين أن حسمت أمرها انقطع الرنين. استمرّ الصمت لدقيقة إلى أن أشار صوتٌ قصير وخفيض إلى أنّ المتّصل قد ترك رسالة قصيرة. هزّت مادلين كتفيها. سوف لن ترّد على مكالمة لم تكن تخصّها ... كان لديها أمرٌ آخر لتقوم به! ثمّ إنّها لا تبالي كثيراً بذلك النكرة المدعو جوناثان السمج والكريه للغاية. ومن ثمّ ... منقادة بفضولٍ لا يمكن مقاومته، ضغطت على الشاشة الملساء وألصقت الهاتف المحمول على أذنها. ارتفع صوتٌ خشنٌ ومتردّد من الجهاز: كانت أميركية، تتحدّث بلكنة إيطالية خفيفة، تجهد لكي تغالب دموعها. جوناثان، هذه أنا، فرانسيسكا. اتّصل بي من فضلك. يجب أن نتحدّث مع بعضنا، يجب أن... أنا أعرف بأنني قد خنتك، أنا أعرف أنّك لا تدرك لماذا نسفتُ كلّ شيء. جوناثان، من فضلك، افعل ذلك من أجل شارلي وافعل ذلك من أجلنا. أنا أحبّك... سوف لن تنسى ولكنّك سوف تسامحني. ليس لدينا سوى حياة واحدة، يا جوناثان، وقد خُلقنا لكي نقضيها معاً وننجب أطفالاً آخرين. لنستعيد مشاريعنا وخططنا، ولنتابع حياتنا كما كنّا سابقاً. من دونك، لا حياة لي... اختنق صوت المرأة الإيطالية في حزنٍ لا متناهٍ وانتهت الرسالة. خلال عدّة ثوانٍ، ظلّت مادلين ساكنة في محلّها، متأثرةً بما سمعته للتوّ ومأخوذة بالشعور بالذنب. سرت في ذراعيها صرخة الرعب. ارتعشت ثمّ وضعت على الطاولة الهاتف الذي كان لا يزال مشحوناً بالدموع وهي تتساءل عمّا كان يفترض بها أن تفعل. الفصل الثالث في السرّ الجميع لديهم أسرار، يتعلّق الأمر بكلّ بساطة باكتشافها. ستيغ لارسون داس جوناثان على دعسة الفاصل وحوّل إلى الغيار الثالث فأصدرت علبة السرعة زعيقاً حادّاً كما لو أنّ السيّارة ستنطلق من المكان. أمسك بمقود السيارة من طراز 4L : حتى وإن كان البيت قريباً، من غير الوارد أن يدع ماركوس يقود السيارة. كان صديقه مستلقياً على المقعد بجانبه، يغالبه النعاس ثملاً وهو يدندن بمقاطع ماجنة من ألبوم جورج براسينس: عندما أفكّر بفرناند أنتعظ، أنتعظ ... ألقى جوناثان نظرة على المقعد الخلفي وهو يتأكّد بذلك من أنّ ابنه كان لا يزال في بلاد الأحلام، ثمّ أمر: -اخفض صوتك! اخفض صوتك! اعتدل ماركوس في جلسته كي يخفض زجاج باب السيارة واعتذر: -عفواً! عفواً! أخرج الكنديّ رأسه من نافذة السيارة، معرّضاً وجهه للرياح، كما لو أنّ هواء الليل سوف يعينه على استعادة وقاره واتّزانه. لقد تجمّد هذا الرجل تماماً... فكّر جوناثان وهو يخفّف من سرعة السيارة حتى بلغت سرعة حلزونٍ مصابٍ بالربو. سارت السيارة القديمة على الجزء الغربي من شارع فيلبير ستريت، أحد أكثر شوارع سان فرانسيسكو حدّة في صعودها. في مستهلّ الطلعة، أصدرت العربة القديمة هديراً وزعيقاً وأوشكت على التوقّف ولكنّها في نهاية المطاف استعادت أنفاسها لكي تبلغ بمشقّة وعناء قمّة الهضبة، المُنارة بالضوؤ الأبيض لبرج كوايت تاول المطلّ على المدينة. قام جوناثان بمناورة محفوفة بالخطر لكي يركن السيارة على نحوٍ مائل، مديراً عجلاتها نحو داخل الرصيف. بعد أن أرتاح جوناثان لوصوله إلى شاطئ الأمان، أخذ ابنه بين ذراعيه واندسّ في ممرٍّ بين أشجار الأوكالبتوس والنخيل والجَهَنمية. لحق به ماركوس مترنّحاً. كان قد عاد إلى أغانيه الفاجرة التي كان يصدح بها بأعلى صوته. اسكتى أحد الجيران قائلاً: -نحاول أن ننام! أمسك جوناثان بصديقه من كتفه لكي يحثّه على تسريع خطاه. غمغم السكّير وهو يتشبّث بعنقه: -أنت صديقي الحقيقي الوحيد، أنت سندي الحقيقي الوحيد... عانى جوناثان كثيراً لكي يبقيه واقفاً على قدميه، بخطى وئيدة وقصيرة نزل "الرجلان والنصف" دورة السلالم الخشبية التي كانت تنحدر نحو نزلة تيليغراف هيل. كان الدرج يتعرّج وسط نباتات شبه استوائية لكي يبلغ البيوت الصغيرة الملوّنة. كانت هذه البيوتات المشيّدة من ألواحٍ بين أنقاض زلزال عام 1906 والتي بُنيت في الأصل للبحارة والعاملين في أحواض السفن مقدّرة الآن من قبل زبائن من الفنانين والمثقفين الأثرياء. وصلوا أخيراً إلى أمام بوابة حديقة مهجورة وكثيفة حيث كانت الأعشاب الضارّة قد تغلّبت تماماً على شجيرات الفوشية والوردية. قال جوناثان بسلطة ربّ الأسرة: -حسناً، كلٌّ إلى غرفته! جرّد شارلي من لباسه، وأنامه في سريره ثمّ قبّله بعد أن احتضنه. ثمّ فعل الأمر نفسه مع ماركوس، قبّله على الأقلّ. كان عليه ألاّ يبالغ في نهاية المطاف... * أخيراً خيّم الهدوء على جوناثان، فانتقل إلى المطبخ وأخذ قارورة ماء وخرج إلى الشرفة مع حاسوبه المحمول تحت ذراعه. تحت تأثير فارق التوقيت، تثاءب وهو يفرك أجفانه وتهاوى في كرسيٍّ مصنوعٍ من خشب الدلب. -إذاً يا غلام، ألم تنم بعد؟ رفع جوناثان رأسه نحو الصوت الذي سأله: صوت بوريس، الببغاء الاستوائي في البيت. كنتُ قد نسيتُ هذا! كانت ملكية الحيوان تعود إلى المالك القديم للمنزل، وهو رجل غريب الأطوار كان قد ضمّن وصيته أن يتكفّل كل مشترٍ للفيلا بالاعتناء إلى الأبد بطائره المفضّل. كان عمر بوريس يناهر الستين عاماً. وخلال عقودٍ من الزمن، كان صاحبه قد خصّه بساعةٍ من التدريب اليومي على النطق السليم وبذلك لقّنه الآلاف من الكلمات والمئات من العبارات التي ينطقها بوضوحٍ يثير الدهشة. وقد اندمج تماماً مع أسرته الجديدة وأفرح شارلي. كان يتفاهم خاصّة على نحوٍ مذهل مع ماركوس الذي لقّنه كامل مجموعة الشتائم للكابتن هادّوك، لكنّ الحيوان كان مهرّجاً مقدّساً ولم يكن جوناثان يستسيغ مزاجه القذر ولسانه السليط جداً ردّد الطائر: -ألست نعساااااان؟ -بلى، تخيّل، ولكنني متعب جداً لدرجة أنني لا أستطيع أن أنام. أهانه بوريس: -يا لك من رخو! اقترت جوناثان من الطائر الذي كان، بمنقاره المعقوف الضخم وقوائمه ذات البراثن القويّة يعتلي مجثمه. رغم كبر سنّه، كان ريشه نصف الذهبي ونصف الفيروزي يحافظ على بريقه ولمعانه، والزغب الأسود الذي يخطّط محيط عينيه يُضفي عليه مسحة من الفخار والغطرسة. هزّ الطائرُ ذيله الطويل وفَرَدَ جناحيه وهو يُطالب: -أريد تفاحاً وخوخاً وموزاً ... تمعّن جوناثان بالطائر. -لم تأكل الخيار واللُعاع خاصّتك. -اللعاع كريه! أريد صنوبراً، أريد جوزاً، أريد فستق عبيييييييد. -لك هذا، وأنا أريد ملكة جمال العالم في سريري. هز جوناثان رأسه وفتح حاسوبه المحمول. تفحّص بريده الإلكتروني، ردّ على مورّدين للبضائع وثبّت بعض الحجوزات وأشعل سيجارةً وهو ينظر إلى آلاف الأضواء المتلألئة على المحيط. كانت الإطلالة من مكانه على الخليج الصغير رائعة. كانت ناطحات السحاب في حي الأعمال تبرز بوضوح أمام شبح جسر باي بريدج العملاق الذي يمتدّ نحو أوكلاند. تعكّرت لحظة الهدوء تلك برنين غير معتاد لجهاز هاتف: مقطوعة من العزف على الكمان، مقدّمة من معزوفة كابريس لباغانيني حسب معارفه الموسيقية القديمة. هاتف مادلين غرين. إذا أراد أن ينام، عليه ألا ينسى أن يُطفئ الجهاز، لأنّه مع فارق التوقيت، سيكون هناك احتمال أن تتعدّد المكالمات. مع ذلك قرّر أن يتلقّى هذه المكالمة الأخيرة. -مَنْ؟ -أهذه أنتِ، يا جميلتي؟ -اوه... ألستِ متعبة كثيراً؟ أتمنى أنّ سفرتكِ كانت مريحة. -ممتازة. هذا لطفٌ منك أن تهتمّ بذلك. -ولكن ألست مادلين؟ -مقبول! -أهذا أنت، يا رافائيل؟ -كلا، أنا جوناثان، من سان فرانسيسكو. -أنا جوليان وود، سعدت بك. هل يمكننا أن نعرف لماذا تردّ على هاتف صديقتي الأوفى؟ -لأننا استبدلنا هواتفنا المحمولة خطأً. -في سان فرانسيسكو؟ -في نيويورك، في المطار. باختصار، هذا أمرٌ يطول شرحه. -آه حقّاً؟ هذا أمرٌ مضحك... -نعم، لا سيما حينما يحدث هذا مع الآخرين. إذاً أنتِ ... -وكيف حصل ذلك؟ -حسناً، اسمعي، الوقت متأخر وهذا ليس مهماً جدّاً. -آه أجل! على العكس، اروِ لي! -أنتِ تتصلين من أوروبا؟ -أنا أتّصل من لندن. سوف أطلب من مادلين أن تروي لي. ما هو رقمك؟ -عفواً؟ -رقم هاتفك. -..... -لكي أتّصل بمادلين ... -ولكنّني سوف لن أعطيكِ رقم هاتفي أنا لا أعرفكِ! -ولكن بما أنّ مادلين هي التي تملك رقم هاتفك! -اوه، اللعنة! لديك بالتأكيد وسيلة أخرى للتواصل معها! ليس لكِ سوى أن تتصلي برافائيل، تفضّلي! يا لها من ثرثارة! فكّر وهو يستعجل وضع حدٍّ للمحادثة. كرّرت جوليان في نهاية المكالمة: -ألو، ألو. أوه، الوغد! استشاطت غضباً عندما أدركت بأنّه قد أغلق الهاتف في وجهها. * كان جوناثان قد عزم على إطفاء الجهاز حينما حرّضه فضولٌ شديد على أن يشاهد من جديد الصور المخزّنة في الهاتف المحمول. عدا لقطتين أو ثلاث في وضعيات مثيرة، كان القسم الأكبر من اللقطات مكوّنة من صور سياحية، ألبوم حقيقي لذكريات المغامرات الرومانسية لزوجين. كان رافائيل ومادلين يستذكران هكذا حبّهما على ساحة نافون في روما، في زورقٍ في مدينة البندقية، أمام عمارات غودي في برشلونة، متشبثان بالقطارات الكهربائية اللشبونية أو ينتعلان زلاجات التزلّج على الجليد في جبال الألب. الكثير من الأماكن التي كان جوناثان بنفسه قد زارها مع فرانسيسكا أيام حبّهما. ولكن لأنّ سعادة الآخرين كانت لا تزال تؤلمه، لم يفعل سوى التحليق فوق هذا المعرض. بيد أنّه واصل اكتشافاته في الهاتف وهو يستعرض المكتبة الموسيقية لمادلين باهتمام وفضول. بينما كان يتهيّأ ويتوقّع الأسوأ – مختارات من أغاني هابطة، مقطوعات من موسيقى البوب آر أند بي -، قطّب جبينه وركّز أنظاره وهو يكتشف ... كلّ الموسيقى التي يحبّها ويفضّلها: توم وايتز، لو ريد، دافيد بواي، بوب ديلان، نيل يونغ.... مقطوعات حزينة وكئيبة وبوهيمية كانت تغني الخسارة والضياع، موسيقى البلوز الزنجية الأميركية للصباحات الشاحبة والمصائر المحطّمة. كان الأمر مفاجئاً له. بالتأكيد لا يصنع ثوب الراهب ناسكاً، ولكن صعب عليه أن يتخيّل المرأة الشابة المتكلّفة والمتصنّعة، صاحبة حقيبة لويس فويتون التي صادفها في المطار وهي تنغمس في هذه العوالم الأليمة والمعذّبة. دفع جوناثان اكتشافاته إلى ما هو أبعد من المقطوعات الموسيقية، فاطّلع على عناوين الأفلام التي كانت مادلين قد حمّلتها في ذاكرة هاتفها المحمول. فوقع على مفاجآت جديدة: لم تكن هناك أفلام كوميدية رومانسية من قبيل حلقات مسلسل الجنس والمدينة أو حلقات المسلسل الأميركي الكوميدي ربّات بيوت يائسات، وإنّما أفلام طويلة أقلّ شهرةً وأكثر إثارةً للجدل: الفيلم الفرنسي – الإيطالي، التانغو الأخير في باريس، الفيلم الأميركي التصادم، فيلم عازفة البيانو، فيلم راعي البقر منتصف الليل، وفيلم مغادرة لاس فيغاس. ضغط جوناثان على العنوان الأخير: كانت قصّة الحبّ المستحيلة هذه بين مدمن على الكحول انتحاريّ وغانية بائسة فيلمه المفضّل. حينما اكتشف هذا الفيم كان في ذروة نجاحه المهني والعائلي. ومع ذلك بدا له الانحراف الكحولي المتمادي لنيكولاس كيج، الغارق في الكحول والفشل في حياته شبه مألوفٍ. كان فيلماً من النوع الذي يحيي فيكم الجراح ويوقظ فيكم العفاريت القديمة وغرائزكم في تدمير الذات. من نوع القصص التي تُحيلكم إلى مخاوفكم الأكثر سرّية، إلى عزلتكم، وتذكّركم بأن لا أحد في منأى عن السقوط في مهاوي الجحيم. وحسب حالتك الذهنية في لحظتها، قد يُثير هذا العمل فيك الشعور بالغثيان أو يجعلك ترى نفسك أكثر وضوحاً. وفي كلّ الأحوال، يؤثّر فيك تأثيراً صحيحاً. مما لا شكّ فيه أنّ مادلين غرين كانت تمتلك أذواقاً غير متوقّعة. ازداد جوناثان حيرةً وارتباكاً، فاستسلم للبحث في رسائلها الإلكترونية وفي رسائلها القصيرة. عدا عن رسائلها المهنية، كان معظم مراسلاتها عبارة عن رسائل متبادلة مع رافائيل – صديقها، الذي بدا واضحاً أنّه مغرمٌ للغاية وودودٌ جدّاً – وكذلك مع صديقتها المقرّبة – جوليان الشهيرة، السليطة والمهذارة والثرثارة ولكنّها الصديقة الوفية والمرحة. دعت العشرات من الرسائل الإلكترونية المرسلة من مقاولٍ باريسي جوناثان يتوقّع انتقالاً وشيكاً إلى منزلٍ في سان – جيرمان – آن – لاي كان مادلين ورافائيل قد أعدّاه بعناية وحماسة لكي يكون العشّ الأوّل لحبّهما. على ما يبدو، كان الثنائي غارقاً في التأمّلات، إلاّ إذا ... .... وهو يتابع ما ينبغي أن يُسمّى "نبشاً"، وقع جوناثان على المفكّرة الإلكترونية لمادلين ووجد مواعيد منتظمة مع شخصٍ يُدعى إيستيبان. تخيّل مباشرةً بلاي – بوي أرجنتيني محبوباً من الفتاة الإنجليزية. مرتان في الأسبوع، يومي الاثنين والخميس، بين الساعة السادسة والسابعة مساءً، كانت مادلين تذهب للقاء كازانوفا خاصّتها الأميركي الجنوبي! ترى هل كان رافائيل اللطيف على علمٍ بنزوات خطيبته الحسناء؟ كلا، بالطبع. كان جوناثان بنفسه قد تعرّض للحظّ العاثر نفسه ولم يكن قد لاحظ أيّ شيء يحدث حينما اكتشف خيانة فرانسيسكا له، بينما كان يعتقد بأنّ حياته الزوجية بمنأى عن العواصف. كلّ النساء سواء ... فكّر وهو متقزّز تماماً. في الصور، بدا له رافائيل تافهاً بعض الشيء ببلوزته المطروحة على كتفيه وقميصه الأزرق الخشن المثالي. ولكن أمام ناسف السعادة الزوجية الذي كان بلا شكّ إيستيبان، لم يستطع جوناثان أن يمنع نفسه عن الشعور حياله بالشفقة والتضامن الخاصّين بالأزواج المخدوعين. * من بين المواعيد الأخرى، كانت عبارة "جينيكو" ترد على نحوٍ منتظم: الدكتور سيلفي آندريو الذي راجعته مادلين على ما يبدو قبل ستّة أشهر بسبب مشكلة تتعلّق بالعقم. على الأقلّ، هذا ما كان تفترضه رسائل إلكترونية مرسلة من مختبرٍ للتحاليل الطبية التي كانت مادلين قد احتفظت بها. أمام شاشة هاتفه المحمول، شعر جوناثان بأنّه متلصّص ومنحرف المزاج، لكنّ شيئاً ما عند هذه المرأة بدأ يأسره. في الأسابيع الأخيرة هذه، كانت مادلين قد اجتازت الاختبارات الأكثر شيوعاً لكشف عقمٍ محتَمَلٍ: منحنيات درجة الحرارة، أخذ عينات للتحليل، صور إيكوغرافية، صور شعاعية. كان جوناثان هنا في ميدانٍ معروفٍ بالنسبة إليه: فقد كان وفرانسيسكا قد تعرّضا لمشاكل مماثلة وخضعا لهذه الإجراءات والاختبارات نفسها قبل أن ينجبا شارلي. استغرق الوقت الكافي لقراءة النتائج بانتباهٍ وتركيز. حسب ما فهم منها، كانت النتائج إيجابية. كانت مطَمْئنة ولم تكن عملية الإباضة عندها بحاجة إلى التنشيط. حتى عزيزها الحنون قد ارتضى أن يخضع لتحليل نِطافه وكان على رفائيل أن يتأكّد بارتياح من أنّ حيواناته المنوية كانت بالعدد والنشاط الكافيين بما يسمح له بالإنجاب. لم يكن ينقص سوى اختبار وحيد، يُدعى "فحص هوهنر"، لكي تكتمل لوحة التحاليل. لدى تفحّص الملاحظات المخزّنة في المفكّرة الإلكترونية، تبيّن لجوناثان أنّ التاريخ، منذ ثلاثة اشهر، كان قد أُجّل في كلّ مرّة. أمرٌ غريب... كان يتذكّر تماماً حالته النفسية في تلك الفترة، حينما قام هو نفسه بهذا الاختبار مع فرانسيسكا. لا شكّ أن للاختبار المكرّس للتحقّق من التوافق والانسجام بين الزوجين ضغوطات وقواعد إلزامية – يجب أن يُجرى التحليل في اليومين السابقين على موعد الإباضة وعلى الأقلّ بعد اثنتي عشرة ساعة من علاقة جنسية مباشرة غير محمية – ولكن ما أن تتّخذ القرار الحاسم بالخضوع لهذه السلسلة من التحاليل، لا تعود لديك سوى رغبة وحيدة ألا وهي أن تنتهي من إجرائها بأسرع ما يمكن من الوقت حتى تطمئنّ ويرتاح بالك. تُرى لماذا أجّلت مادلين موعد الاختبار لثلاث مرّات؟ انهمك في التفكير العميق في هذا السؤال وهو يعرف تمام المعرفة بأنّه سوف لن يعثر على جوابٍ لهذا السؤال المؤرق والمحيرّ. في نهاية المطاف، ربّما يكون تأجيل هذه المواعيد الملغاة بقرارٍ من الدكتور جينيكو أو برغبةٍ من رافائيل. قاطع بوريس تفكيره، زاعقاً: -هيّا، اذهب إلى النوم، يا هذا! لمرّة واحدة، كان الطائر على حقّ. بماذا يلعب وقد ظلّ ساهراً حتى الساعة الثانية فجراً وهو يتفحّص بإمعانٍ شاشة هاتف امرأةٍ لم يلتقِ بها في حياته سوى لدقيقتين لا أكثر؟ * نهض جوناثان من كرسيّه وهو عاقدٌ العزم على أن يذهب إلى النوم، لكنّ الهاتف المحمول ظلّ يمارس عليه سلطته في الجذب. وإذا عجز عن تركه جانباً، أوصل الهاتف المحمول على شبكة الواي – فاي للإنترنت في المنزل قبل أن يعود ويتفحّص من جديد مجموعة الصوّر المخزّنة في ذاكرة الهاتف. استعرض الوضعيات المختلفة للقطات مادلين إلى أن وجد من جديد الوضعية التي كان يبحث عنها. شغّل الطابعة لكي يطبع تلك الصورة وهو يدخل إلى الصالون. أصدرت الآلة الطابعة وميضاً وصريراً قبل أن تلفظ صورة شخصية بتصميم أميركيّ تجسّد المرأة الشابّة وهي تقف أمام القناة الكبيرة في مدينة البندقية. أمسك جوناثان بالصورة وركّز نظرته على نظرة مادلين. كان ثمّة لغز في ذاك الوجه. وراء الإشراقة والابتسامة المرتسمة على الشفتين، شعر بأنّ هناك صدعٌ ما، شيءٌ ما انكسر مرّة واحدة وإلى الأبد، وكأنّ الصورة كانت تحمل رسالة مضمرة لم يكن قادراً على أن يفكّك رموزها الخفيّة. عاد جوناثان من جديد إلى الشرفة. منبهراً بذلك الهاتف المحمول، كان يحصي الآن مختلف التطبيقات المحمّلة من قبل مادلين – صحف الأخبار، خط مسار قطار الأنفاق الباريسي، النشرة الجوية وأحوال الطقس ... همس وهو يلمس شاشة الهاتف لمساً خفيفاً: -تُرى ما هو سرّكِ، يا مادلين غرين؟ ردّد الببغاء بصوتٍ زاعق: -مادلين غرييييييييييييييييييين. أنير الضوء في البيت المقابل لبيت جوناثان، وصرخ أحد الجيران، شاكياً: -نريد أن ننام! فتح جوناثان فمه لكي يوبّخ بوريس حينما لفت برنامجٌ انتباهه: كانت "مفكّرة نسوية" أودعت فيها مادلين جزءاً كبيراً من حياتها الحميمية. كانت المفكّرة منظمّة بطريقة خاصّة بحيث يحفظ التطبيق في الذاكرة مواعيد الدورة الشهرية المنتظمة ويوضّح أيام الإباضة وتواريخ الخصوبة ويحسب معدّل دورات الطمث الشهرية. كان "سجلاً يومياً" يتابع تطوّر الوزن ودرجة الحرارة والأمزجة والنزوات بينما كانت أيقونات رزينة على شكل قلب تتيح لمن تستعمل هذا التطبيق أن تحدّد الأيام التي أقامت فيها علاقة جنسية. ومن خلال النظر إلى حالة القلوب على المفكّرة، قفزت الحقيقة البديهية إلى عيني جوناثان: كانت مادلين تدّعي بأنّها ترغب في إنجاب طفل ولكنها كانت تحرص على أن لا تمارس الجنس إلا خارج فترات الخصوبة هذه ... الفصل الرابع فارق التوقيت قلب المرأة هو متاهة الأفكار الدقيقة التي تتحدّى العقل الفظّ للذكر المتربّص. إذا أردت فعلاً أن تحظى بامرأة، يجب أوّلاً التفكير مثلها وأوّل ما ينبغي فعله هو غزو روحها. كارلوس رويز زافون خلال هذه اللحظة، في باريس... -تاكومي، يجب أن تسدي إليّ خدمةً. كان رقّاص الساعة الجدارية في المتجر قد رنّ لتوّه ليعلن أنّ الساعة هي الحادية عشرة صباحاً. جاثمةً على كرسيّ، وهي ترفع شعرها بمثبّت للأزهار وقد انخدشت يداها، أنهت مادلين تعليق باقة كبيرة من أزهار النهشية. أجاب الفتى الأجير: -طبعاً، يا سيّدتي. استشاطت مادلين غضباً وهي تنزل عدّة سلالم، وصرخت: -كفّ عن مناداتي بلقب "سيّدتي"! استدرك الفتى الآسيوي خطأه وقد احمرّ خجلاً: -حسناً، مادلين. كانت مناداة معلمته باسمها دون كلفة يخلق نوعاً من الحميمية التي تعكّر مزاجه. -أريدك أن تذهب لكي ترسل طرداً بالبريد. قالت ذلك وهي تمدّ نحوه مغلفاً صغيراً مختوماً كانت قد دسّت فيه الهاتف المحمول لجوناثان. ارتبك الصبيّ: -طبعاً، يا سيّد... أوه عفواً، يا مادلين. أعطته ورقة نقدية من فئة 20 دولاراً وأوضحت له: -سوف ترسله على عنوانٍ في الولايات المتحدة الأميركية. تمعّن تاكومي في العنوان: جوناثان لامبيرور فرانش توش 1606 ستوكتون ستريت سان فرانسيسكو، سي ايه 94133 USA سأل تاكومي وهو يمتطي دراجته الكهربائية التي يستخدمها لتوصيل طلبات الزبائن: -جوناثان لامبيرور... مثل الشيف؟ سألته، بائعة الزهور التي خرجت معه إلى الرصيف، مندهشةً: -هل تعرفه؟ علّق دون أن ينتبه لتصرّفه الأخرق: -يعرفه جميع الناس. ردّت عليه مادلين: -هل هذا يعني أنني ملكة المغفّلات؟ غمغم الصبي: -كلا، اوه... ليس تماماً، أنا ... في الوقت الحالي، أصبح لون وجه تاكومي قرمزياً. كانت قطراتٌ ناعمة من العرق تلتمع على جبينه وكانت عيناه لا تبارح الأرض. حجزته مادلين وقالت: -حسناً، سوف تمارس طريقة الهراكيري في يومٍ آخر، وبانتظار ذلك اليوم، هيا اشرح لي من يكون هذا الرجل. ازدرد الفتى الياباني ريقه: -منذ بضع سنوات، استأجر جوناثان لامبيرور أفضل مطعم في نيويورك. كان والداي قد دعواني إلى هذا المطعم للاحتفال بنيلي لشهادتي الجامعية. كان مكاناً أسطورياً: الانتظار لعامٍ كامل ليصلك الدور على قائمة الحجز ونكهات أصيلة لا يمكن العثور عليها في أيّ مكانٍ آخر. قالت وهي تشير إلى المغلّف: -لا أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بالشخص نفسه. العنوان الذي زوّدني به هو بالتأكيد لمطعم، ولكنّه عنوان مطعم حقير وليس مطعماً من فئة الخمس نجوم. وضع تاكومي الطرد في حقيبته الظهرية وضغط على دوّاسة الدراجة دون أن يسعى إلى معرفة المزيد. -في الحال. أشارت له مادلين بإشارة صغيرة من يدها وهي تعود إلى داخل المتجر. أثارت أقوال صانعها فضولها ولكنّها حاولت أن تستأنف عملها وكأنّ شيئاً لم يكن. منذ أن فتحت المتجر، لم يكن قد فرغ من الزبائن. بالدرجة نفسها لعيد القديس فالانتين، كان عيد الميلاد يوقظ المشاعر: الحب، الكراهية، العزلة، الكآبة. فقط هذا الصباح، كانت قد شاهدت في متجرها عدداً شحيحاً من الشخصيات غريبة الأطوار: أرسل رجلٌ عجوز غاوٍ اثنتي عشرة باقة من الزهور إلى اثنتي عشرة معجبة في اثنتي عشرة مدينة مختلفة؛ امرأة متوسطة العمر أرسلت باقة من زهور السحلبية إلى نفسها لتظهر بمظهرٍ حسنٍ وتتباهى أمام زملائها في المكتب؛ فتاة أميركية أجهشت بالبكاء وذرفت الدمع الغزير لكي توصل إلى عشيقها الباريسي مجموعة منوّعة من الزهور الذابلة لتخبره بهذه الطريقة عن انفصالهما. أمّا بالنسبة إلى خبّاز الحي، فقد طلب على سبيل الهدية لحماته الهائمة شجرة صبّار مكسيكية ضخمة ذات أشواكٍ طويلة وقاطعة... كانت مادلين قد اكتسبت من والدها حبّها لفنّ تنسيق الزهور. مدفوعة بحماسها، تدرّبت في البداية معتمدة على ذاتها قبل أن تلتحق بدروسٍ في مدرسة بيفيرديير لفنون الأزهار، وهي مدرسة شهيرة وعريقة في مجال الأزهار في مدينة آنجر. كانت سعيدة بممارستها لنشاطٍ يترك بصمة متميزة على الأحداث الهامّة في حياة كلّ شخص. ولادة، تعميد، أوّل موعد غرامي، زواج، مصالحة، ترقية في الوظيفة، الإحالة إلى التقاعد، دفن: فالأزهار ترافق الناس من مهدهم إلى لحدهم. انشغلت المرأة الشابة بتجهيز ترتيبٍ جديد ولكنّها تركت ذلك بعد خمس دقائق. لم تستطع أن تُخرج من ذهنها تلك الحكاية التي رواها لها تاكومي. انتقلت خلف طاولة متجرها وانكبّت على محرّك البحث في حاسوبها. كتبت في حقل البحث في محرّك الغوغل "جوناثان لامبيرور"، فحصلت على أكثر من ستمائة ألف نتيجة للبحث! انتقلت إلى البحث في موقع ويكيبيديا. الموسوعة تضمّ مادة طويلة حول الشيف، مرفقة بصورة كانت دون أدنى شكّ تخصّ الرجل الذي كانت قد صادفته بالأمس في المطار، حتى وإن بدا جوناثان في الصورة أكثر شباباً وأكثر فتنةً وجاذبيةً. حائرةً ومرتبكة، وضعت مادلين نظارتها الرقيقة وانكبّت، وهي تمضغ طرف قلم رصاصٍ، على قراءة ما هو ظاهرٌ على شاشة حاسوبها: جوناثان لامبيرور، ولِد في الرابع من أيلول \ 1970، وهو طاهٍ ورجل أعمال فرنسي مارس جلّ أعماله في الولايات المتحدة الأميركية. التعليم: يتحدّر جوناثان، وهو في الأصل من غاسكون، من أسرة عملت في مطاعم شعبية متواضعة وسرعان ما بدأ بالعمل في سنّ مبكّرة جدّاً في منشأة والده، المسمّاة لا شوفاليير، وهي عبارة عن مطعمٍ في ساحة التحرير في بلدة أوش. منذ سنّ السادسة عشرة، دخل في مجال تلقّي المعارف المهنية وضاعف من مستوى خبراته: بدأ بالعمل كنادل مطبخ في مطاعم دوكاس وروبيشون ولونوتر، قبل أن يصبح مساعداً للشيف المحلي الذائع الصيت جاك لارو جدران مطعم باستيد في سان – بول – دو – فانس. الخبرات: الانتحار المفاجئ لمعلّم لامبيرور دفعه إلى أن يتولّى دفّة قيادة الباستيد. وبخلاف كلّ التوقععات، نجح في الحفاظ على المستوى الرفيع للمنشأة وقد أصبح، وهو لا يزال في سنّ الخامسة والعشرين، الشيف الفرنسي الأصغر سنّاً على رأس منشأة من فئة الثلاث نجوم في دليل المطاعم غيد ميشلان. بعد هذه الشهرة، استعان الفندق الفاره هوتيل دي كاب – دانتيب بخدماته لكي يُطلق مطعمه، لا تراتوريا. بعد أقلّ من عامٍ على افتتاحه، حصل مطعم القصر هو الآخر على تصنيف من درجة الثلاث نجوم، جاعلاً بذلك من جوناثان لامبيرور أحد الطهاة الأربعة الوحيدين الذين جمعوا ستّ نجوم في الدليل الشهير. التكريس: في عام 2001 التقى مع فرانسيسكا، ابنة رجل الأعمال الأميركي فرانك ديليلو، التي جاءت إلى فندق أوتيل دي كاب لكي تقضي فيه شهر عسلها مع المصرفي مارك شادويك. تولّدت علاقة غرامية بين الوريثة والطاهي الشابّ وقامت فرانسيسكا بإجراءات الطلاق بعد أقلّ من أسبوعٍ على زواجها، مختلفة بذلك مع أسرتها في حين سرّح الفندق اللازوردي كبير طهاتها من العمل لكي يحافظ على سمعته. غادر الزوجان الجديدان لكي يستقرا في نيويورك وتزوّجها هناك بمساعدةٍ من زوجته، افتتح جوناثان لامبيرور مطعمه الخاصّ والذي سمّاه لا مبراتور، وشيّده في قمّة روكفيلر سنتر. بالنسبة إلى لامبيرور، كان ذلك بداية مرحلة خلاّقة ومبدعة على نحوٍ خاصّ. باستخدام تقنيات ومعدات جديدة مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بنكهات المطبخ المتوسّطي، أصبح أحد مبشّري "المطبخ الجُزيئي". كان نجاحه فورياً ومباشراً. خلال بضعة أشهرٍ فقط، أصبح كبير الطهاة المفضّل لدى نجوم الفنّ ورجال السياسة ونقّاد وخبراء التغذية. في سنّ الخامسة والثلاثين بالضبط، اختير كأفضل طبّاخ في العالم من قبل هيئة خبراء دولية مكوّنة من أربعمائه متخصّص والذين أثنوا على "طبخه المتميّز" وقدرته على أن يقدّم لضيوفه "رحلة ذوقية مدهشة". في تلك الفترة، كان مطعمه يتلقّى في كل عام عشرات الآلاف من الطلبات الواردة من أركان الدنيا الأربعة وكان غالباً يضطرّ الزبون لأن ينتظر لأكثر من عامٍ كاملٍ لكي يحصل على حجز طاولة في مطعمه. الأيقونة الإعلامية: بالتوازي مع عمله ككبير طهاة، أصبح جوناثان لامبيرور ذائع الشهرة في الكثير من البرامج التلفزيونية الخاصّة بالطبخ، ولا سيما في برنامج ساعة مع جوناثان على قناة بي بي سي الأميركية ومن ثمّ برنامج أسرار كبار الطهاة على قناة فوكس، البرامج التي كانت تستقطب في كلّ أسبوع الملايين من المشاهدين والتي سُجّلت فيما بعد في كُتب وأسطوانات مدمجة. في عام 2006 وبدعمٍ ومساندة من السيّدة هيلاري كلينتون، السيناتور عن مدينة نيويورك، شنّ لامبيرور حرباً مقدّسة ضدّ وجبات المطاعم السفرية في التفّاحة الكبيرة. أسفرت لقاءاته مع التلاميذ والآباء والمعلّمين عن التوصّل إلى اختيار مطاعم الوجبات الأكثر توازناً. بفضل ابتسامته الساحرة، وبلوزته الجلدية ولهجته الفرنسية التي لا تُقاوم، فرض الطاهي الشاب نفسه كأيقونة للمطبخ الحديث وانضمّ إلى قائمة مجلة تايم ماغازين للشخصيات الأكثر تأثيراً في العالم. وقد منحته المجلة الأسبوعية بهذه المناسبة لقب "توم كروز الأفران". -هل تبيعين إكسسوارات الزينة خاصّتك؟ -عفواً؟ رفعت مادلين رأسها عن شاشة حاسوبها. مأخوذة بحياة لامبيرور، لم تكن قد أحسّت بأنّ زبونةً قد جاءت ودخلت للتوّ إلى المتجر. -إكسسوارات الزينة خاصّتك، هل تبيعينها؟ كرّرت المرأة ما قالته وهي تشير بيدها إلى رفوف أعشاب الزينة الخشبية المصقولة التي تحتوي على إكسسوارات الزينة: موازين حرارة، قياقب قديمة، أقفاص عصافير، مرايا مبقّعة، قناديل، شموع معطّرة. كذبت مادلين وهي تستعجل رؤيتها تغادر المتجر لكي تستغرق على نحوٍ أفضل في السيرة الذاتية لجوناثان: -أوه... كلا، آسفة، إنّها بمثابة جزء من ديكور المتجر. رجل الأعمال: تأسيس مجموعة امبراتور أسّس لامبيرور، معتمداً على هذه الشهرة الجديدة، مع زوجته مجموعة امبراتور المكلّفة بذكر ماركتها على شكل منتوجات مشتقّة. فافتتح الزوجان بعد ذلك منشأة بعد منشأة: حانات، مطاعم ومشارب، بارات نبيذ، فنادق فخمة... وامتدت إمبراطوريتهم في مجال المطاعم إلى أركان العالم الأربعة، من لاس فيغال إلى ميامي مروراً ببكين ولندن ودبي. وفي عام 2008، ضمّت مجموعة امبراتور أكثر من ألفي موظّف وعامل في أكثر من خمسة عشر بلداً وحقّقت رقماً للأعمال يُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات. صعوبات مالية وانحسار عالم التذوّق: في حين واصل الزبائن بالتدفّق على مطعمه النيويوركي، بات الطاهي الفرنسي هدفاً لهجمات ازدادت شدّة وعنفاً يوماً بعد آخر. اولئك النقاد نفسهم الذين أثنوا قبل بضع سنوات على إبداعه المتميّز وموهبته الفذّة باتوا الآن يلومونه ويأخذون عليه بأنّه قد تشتّت بين منشآته وبأنّه قد أصبح "مجرّد آلة لعدّ النقود". على الرغم من ذلك، ظلّت الموجودات المتعددة لتجمّع مشاريعه عاجزة عن تغطية نفقاتهما المالية فانهارت مجموعة امبراتور تحت الديون ووجدت نفسها على حافة الإفلاس في شهر كانون الأول \ ديسمبر من عام 2009. بعد ذلك بعدّة أسابيع، بعد الانفصال عن زوجته، رمى جوناثان القفّاز وصرّح بأنّه "مرهقٌ من الانتقادات"، "فاقدٌ للإلهام" "متقزّزٌ من عالم التذوّق". في سنّ التاسعة والثلاثين، اضطرّ لامبيرور للتخلّي عن رخصة الاستثمار باسمه، وانسحب نهائياً من المشاريع والأعمال بعد أن طبع المطبخ المعاصر ببصمته. كشفت قراءة نهاية السيرة لمادلين بأنّ الشيف كان قد نشر كتاباً في عام 2005 بعنوان اعترافات طاهٍ مغرم. قادتها عملية بحثٍ جديدة، متبوعة بنقرتين أو ثلاث إلى موقع مشرب ومطعم فرينش تاتش الذي يستثمره حالياً جوناثان في سان فرانسيسكو. لم يكن الموقع فعّالاً على نحوٍ ملحوظ. كان يوجد فيه بعض الأمثلة عن وجبات قيمتها 24 دولاراً: شوبة بصل، نقانق خنزير سوداء بالتفاح، تارت بالتين. لم يكن هناك أيّ شيء فاخر يليق بشخصٍ كان قبل بضع سنوات على رأس أفضل مائدة في العالم. كيف وصلت به الأمور إلى هذه الحال؟ تساءلت مادلين وهي تتجوّل بين شجيرات التنوب والسحلبية. وصلت إلى عمق المتجر، المرتّب مثل حديقة، وجلست، وهي تحدّق في الفراغ، على أرجوحة معلّقة بغصنٍ ضخمٍ مثبّتٍ إلى السقف. انتزعها رنين هاتف المتجر من الاستغراق في التفكير. نهضت متوثبة عن الطاولة الصغيرة ورفعت سمّاعة الهاتف. كان المتّصل هو تاكومي. -هل ما زلتَ في مركز البريد؟ -كلاّ يا سيّد... أوه مادلين. بسبب الإضراب، كلّ مكاتب البريد مغلقة. -حسناً، قبل أن تعود، قم بجولة على مكتبةٍ واشترِ لي كتاباً. هل لديك ما تكتب به؟ ها هو العنوان: اعترافات طاهٍ مغرم للمؤلف... الفصل الخامس لديك بريد إلكتروني الرغبة في معرفة شخصٍ ما معرفة تامّة هي وسيلة امتلاكه، وسيلة لاستغلاله. هذه رغبة مخزية ينبغي التخلّي عنها جويس كارول اوتيس سان فرانسيسكو، منتصف الليل وجّه جوناثان ضربة عنيفة لغطاء النيون المعلّق فوق المرآة في الحمّام. كان من المستحيل أن يغمض له جفن. وكان عنفه هذا نابعٌ من حالة التوتّر والحرائق المشتعلة في معدته والتي لم تكفّ عن تعذيبه منذ أن شرب ذلك النبيذ اللعين. محاطاً بهالة من الضوء الشاحب، نبش في أدراج الصيدلية المنزلية بحثاً عن مضاد للقلق ودواءٍ مهدّئٍ للمعدة. بعد أن وضع يده على هذين القرصين، انتقل إلى المطبخ لكي يبتلعهما مع جرعةٍ من المياه المعدنية. خيّم الصمت على المنزل فقد كان ماركوس وشارلي وحتى بوريس نفسه قد أصبحوا منذ زمنِ طويل بين ذراعي إله الأحلام مورفيوس. بقيت النافذة الشبيهة بالمقصلة مواربة ولكن الطقس لم يكن مع ذلك بارداً. هبّت ريحٌ جاعلة الستارة الخشبية ترتعش بلطف بينما كان بصيصٌ من ضوء القمر يعبر زجاج النافذة لكي ينير شاشة الهاتف المحمول الذي كان جوناثان قد وضعه على طاولة الشراب لشحن بطاريته. لم يستطع جوناثان أن يتمالك نفسه: بكبسةٍ على الزرّ الوحيد، فعّل الجهاز الذي أصبح في الحال مضاءً وبرّاقاً. أضاء القرص الصغير الأحمر اللون، الأمر الذي يشير إلى أنّ مادلين قد تلقّت رسالة إلكترونية. دفعه نوعٌ من الحاسة السادسة المشفوعة بفضولٍ جامح إلى أن يضغط على الأيقونة لكي يقرأ الرسالة الواردة. كانت الرسالة قد أُرسِلت منذ عشر دقائق، وقد بدا الأمر له في غاية الغرابة، إذ كانت الرسالة موجّهة إليه هو ... * عزيزي جوناثان (فلنتجنّب منذ البداية عبارات السيّد لامبيرور والآنسة غرين، هل تمانع في ذلك؟ في المحصّلة، أتصور أنّه إذا كانت الجرأة قد أتتك لكي تقرأ رسالتي، فلا بدّ أنّك أيضاً قد ألقيت نظرةً على صوري وكحّلت عينيك برؤية الصورتين أو الثلاث صور "الفنية" الموجودة في ألبوم صوري. إذاً، أنت رجلٌ شاذّ ومنحرف وهذه مشكلتك أنت ولكن تجنّب قد المستطاع أن تنشرها على صفحات الفيسبوك، لأنني لستٌ متأكّدة من أنّ زوجي المستقبلي سيرتضي هذا الأمر...). عزيزي جوناثان (مكرّر)، أنا أستغلّ الآن فرصة استراحة الغداء (آه بالمناسبة، الآن الساعة تجاوزت منتصف الظهيرة في باريس) لكي أكتب إليك وأنا أتلذّذ في الوقت ذاته بشطيرة ريليت من اللحم محضّرة على طريقة مانس وبعناية خاصّة من بيير وبول العضوين الدائمين في أخوية فرسان ريليت السارتيين والخبّازين المحترفين الذين يقع متجرهم قبالة متجري. أنا جالسة الآن تحت الشمس وإلى طاولتهم العامرة بما لذّ وطاب من المأكولات. وبالتالي فمي مليءٌ بالطعام الشهي ويتناثر فتات الخبز على كلّ أنحاء بلوزتي وبقعٌ من الدهون تلطّخ شاشة هاتفك الجميل: أتّفق معك أنّ هذه ليست وجبة فاخرة ولكنّها لذيذة للغاية. أخيراً، ليس أنت مَنْ سأقنعه بضرورة أن يجيد تقدير ملذات الطعام الفاخر والشهيّ... إذاً يا عزيزي جوناثان، أترك لك هذه الرسالة القصيرة لكي أخبرك بخبرين: خبرٌ سار وآخرٌ سيء: ربّما أنّك تعرف هذا الأمر، ففي بداية هذه العطلة المدرسية، شلّ إضرابٌ هذا البلد الرائع والذي هو فرنسا. المطارات، الطرق السيّارة، وسائط النقل العامّة ومكاتب البريد، كلّها تعطّلت عن العمل. منذ قليل وجد صانعي الشاب، تاكومي أبواب مكتب البريد في جادة مونبارناس مغلقاً وبالتالي من غير الممكن أن أرسل إليك حالياً هاتفك المحمول. أتمنى لك الخير. مادلين. لم يكن ردّ فعل جوناثان متوقّعاّ. بعد اثنتي عشرة دقيقة من ذلك، راودته إجابته على رسالة مادلين: هل تسخرين مني أم ماذا؟ ما حكاية الإضراب هذه؟ إن لم ترسل إليه هاتفه، لم يكن من الوارد أن يرسل إليها هاتفها! وبعد ثلاثين ثانية، عاجلته مادلين برسالة: ألا زلت يقظاً إلى هذه الساعة المتأخرة يا جوناثان؟ أنت لا تنام أبداً، إذاً؟ ألا تكون قلّة النوم هذه سبباً لهذا الخليط من النزق وانحراف المزاج الذي يبدو أنّك تتّسم به؟ أطلق جوناثان تنهيدة طويلة وبعث رسالة جديدة إلى المرأة الشابّة: في الحقيقة، كنتِ قد وعدتني بخبرٍ سار لتعديل مزاجي... جاثمة على كرسيّها الصغير، ازدردت مادلين آخر لقمة من شطيرتها قبل أن تجيب سريعاً بالمثل: هذا صحيحٌ تماماً، ها هو الخبر السعيد: رغم برودة الطقس والإضرابات، الجوّ جميلٌ جدّاً هنا في باريس. بالكاد كانت قد أرسلت رسالتها الإلكترونية حينما لاحظت ورود ردٍّ لم يتأخّر في الوصول إليها. حسناً، هذه المرّة على الأقلّ، لم يعد هناك أدنى شكّ: أنّك تسخرين منّي. لم تستطع أن تكتم ابتسامة على الرغم من قلقها. بمنعها من إرسال جهاز الهاتف إلى صاحبه، وضعها هذا الإضراب في قطّاع الخدمات العامّة في مأزقٍ. لقد جعلها هذا الإضراب تتحمّل عبء مسؤولية لم تكن تريد أن تتحمّله. تُرى هل كان عليها أن تخبر جوناثان عن أمر الرسالة التي تركتها زوجته السابقة التي اتّصلت به من نيويورك لكي تتوسّل إليه أن يعود ويعيش معها من جديد؟ دون قصدٍ منها، كانت مادلين تمتلك معلومة مهمّة لكي تجعله زوجاً ولم يكن هذا يروق لها. طلبت المرأة الشابّة كأساً ثانياً من النبيذ الذي تشربه وهي تراقب حركة المارّة والمركبات من خلال زجاج النافذة. كان شارع ديلامبر، القريب من عدّة لافتات ضخمة، يضجّ بالحيوية وفي عطلة نهاية الأسبوع تلك وينتعش بشراء لوازم عيد الميلاد. على الأرصفة المعرّضة لأشعة الشمس، كانت المعاطف الثمينة للسيّدات الباريسيات والسترات الجلدية الفضفاضة للمراهقين والأوشحة المزركشة وقبّعات الأطفال والكعاب التي كانت تنقر على الأرض والبخار الذي كان يخرج من كلّ الأفواه تختلط وتتمازج في حركةٍ تبعث على الثمالة من الألوان الزاهية والوجوه. أنهت مادلين كأسها من النبيذ وكانت على شيءٍ من الثمالة حينما أمسكت بالريشة – نوعٌ من الكلام – لتكتب الرسالة الأخيرة: عزيزي جوناثان، بلغت الساعة الواحدة بعد منتصف الظهيرة. وصلت استراحة غدائي إلى نهايتها ومن الأفضل لي أن أغادر لأنّني إذا بقيتُ لدقيقة إضافية في هذا المحلّ، أشعر بأنني سوف أنهال على التارت المحشي بالتفاح الكندي مع كريّة من البوظة مع كلّ ما تبقّى من مأكولات. "مجزرة" حقيقية كما يقولون في بلادكم، ولكنّها فعلاً سوف لن تكون نزعة معقولة حقّاً، خاصّة قبل أقلّ من أسبوعٍ على رأس السنة. لا بدّ أنّك ستوافقني على ذلك. يسرّني أن أتحدّث معك ولو بإيجاز وهذا على الرغم من مزاجك السيّئ وفظاظتك وجفائك والتي أدرك تماماً بأنّها تشكّل نوعاً من "علامة المصنع" التي لا بدّ أنّ بعض النساء يجدنها جذّابة. قبل أن أتركك، اسمح لي أن أشبع فضولي وذلك بأن أطرح عليك ثلاثة أسئلة: 1)لماذا يقدّم اليوم مَنْ يُزعَم بأنّه "الشيف الأفضل في العالم" شرحات مشوية في مشربٍ ومطعم بسيط في الحيّ؟ 2)لماذا مازلت يقظاً إلى الساعة الرابعة فجراً؟ 3)هل لا تزال تحبّ زوجتك السابقة؟ * ما كادت مادلين تضغط على زرّ الإرسال حتى أدركت أنّها قد ارتكبت حماقة. ولكن بعد أن فات الأوان... خرجت من مطعم بيير وبول وعبرت الشارع، متثاقلة تحت تأثير النبيذ. صرخ فيها بورجوازيّ بوهيمي، هبطت غرّة شعره على عينيه، وقد كاد أن يصدمها بدراجته: -هيه أنتِ! انظري إلى أين تذهبين، أيّتها الحمقاء! لكي تهرب من الدرّاجة، قفزت مادلين خطوةً إلى الوراء ولكنّها "أوقِفتْ" بفعل زعيق زمّور سيارة رباعية الدفع حاولت أن تتجاوز الدرّاجة من جهة اليمين. تملّكها الخوف وتهرّبت بأعجوبة من الدراجة الرياضية لكي تنتقل إلى الرصيف المقابل وقد انكسر عند مرورها أحد كعبي حذائها الطويل. اللعنة! تنهّدت وهي تهمّ بفتح باب متجرها لكي تلوذ بأمان حديقتها الاستثنائيه. كانت تعشق باريس ولكنّها كانت تكره الباريسيين. حينما شاهدها تاكومي تحت تأثير الصدمة، سألها: -هل أنتِ على ما يُرام، سيّدتي؟ عاتبته لكي تحافظ على رباطة جأشها: -أنت بطيءُ الفهم يا تاكومي! استدرك الفتى الآسيوي خطأه: -عفواً، هل كلّ شيء على ما يُرام يا مادلين؟ نعم، نعم، إنّه فقط هذا الكعب اللعين الذي ... تركت جملتها غير مكتملة ورشّت بعض الماء على وجهها قبل أن تخلع حذاءها وبلوزتها أمام العينين اليابانيتين لمستخدمها. -من العبث أنّ تمعن النظر إليّ بهذه الطريقة الشهوانية، سوف لن أذهب بعيداً في حلفة خلع الثياب هذه. حينما شاهدت أنّ وجه تاكومي قد احمرّ مثل زهرة عود الصليب، ندمت مادلين على تصرّفها بهذه الطريقة ولم تشأ أن يحلّ الجفاء بينهما، فأرادت أن تلطّف الأجواء. -يمكنك أن تذهب لتناول الغداء. خذ وقتك الكافي، سوف أهتم بنفسي بكلّ شيء. بعد أن بقيت وحيدة في المتجر، شغّلت المرأة الشابة بإثارةٍ هاتف جوناثان المحمول. كان قد ردّ على رسالتها: عزيزتي مادلين، إذا كان يمكن لهذا أن يرضي فضولك، ها هو الردّ على أسئلتكِ: 1)بينما كنتُ كذلك ذات يوم، الآن ومنذ زمنٍ طويل، لم أعد "أفضل شيفٍ في العالم". لنقل بأّنه وبأسلوب كاتبٍ قد فقدتُ إلهامي والشغف الضروري لإنجاز إبداعات خلاّقة. ومع ذلك، إذا ما مررتِ بمدينة سان فرانسيسكو مع صديقكِ العزيز رافائيل، لا تحرموا نفسيكما من المجيء إليّ لكي تتذوّقا "الشرحات المشوية" في مطعمنا. شرحاتنا المتميّزة طرية على نحوٍ مدهشٍ وذات مذاقٍ مذهل، أمّا بالنسبة إلى مالينا، فهي في الواقع، عبارة عن بطاطا مقلية بالثوم والريحان والبقدونس. "تشكيلة واسعة من البطاطا الفرنسية"، يزرعها بكميات صغيرة منتجٌ محلّي يجده كلّ زبائننا يستوي ويتقمّر في موعده. 2)صحيحٌ أن الساعة قد بلغت الرابعة صباحاً وأنا لا أزال يقظاً. هل تريدين أن تعرفي ما هو السبب؟ ثمّة سؤالان يشغلان ذهني ويجعلانني لا أستطيع النوم. 3) اذهبي واسخري من نفسكِ. * شارع أوديسا، دخل تاكومي إلى المطعم الصغير الذي اعتاد أن يتناول غداؤه فيه. ألقى التحية على صاحب المطعم ومن ثمّ جلس بعيداً بعض الشيء في القاعة الثانية وهو أكثر هدوءً وأقلّ تفاعلاً مع صاحب المطعم. طلب طبقاً من ميل – فوي البندورة مع جبن الماعز الطازج: وهو الطبق الخاصّ الذي اكتشفته له معلّمته مادلين. منتظراً وصول طبق المشهيّات، أخرج من حقيبته قاموس جيب لكي يبحث فيه عن معنى كلمة "شهواني" التي اكتشفها بحيرة وارتباك. ولكونه كان يقع في الخطأ، راوده فجأةً شعورٌ لا عقلاني بأنّ جميع زبائن المطعم يلقون عليه نظرات اتّهامية. كانت مادلين تسرّ وتسعد على نحوٍ خبيث باستفزازه وجعله يرتاب في يقينياته ومعالمه. كان يتحسّر لكونها لا تعامله بجدّية وتعتبره مراهقاً أكثر مما تعامله كرجل. كانت هذه المرأة تُسحره كما تُسحره زهرة أسطورية. في غالب الأحيان، كانت تبدو له كما لو أنّها "شمسٌ هائلة" وشقراء مثل زهرة عبّاد الشمس، تنشر من حولها نورها وثقتها وحماستها. ولكن، في لحظات معيّنة، كان يمكنها أن تتحوّل إلى سرّ غامضٍ ومحيّر، على صورة زهرة السحلبية السوداء: وهي زهرة نادرة يسعى إليها هواة جمع الأزهار والتي تنمو خلال فصل الشتاء على أشجار النخيل في مدغشقر. * دخل الزبون في اللحظة غير المناسبة. لكي تخدمه، توقّفت مادلين عن كتابة رسالتها الإلكترونية ودسّت جهاز الهاتف في الجيب الصغير لصدريتها. كان مراهقاً عمره بين خمسة عشر وسبعة عشر عاماً له هيئة بيبي روكور مثلما نصادف البعض منهم لدى خروجهم من المدارس الثانوية في الأحياء الراقية: ينتعل خفّاً من طراز كونفيرس ويرتدي بنطال جينز ضيّقاً وقميصاً أبيض اللون وسترةً مقوّسة من ماركة فاخرة وقد شذّب شعره بمهارة من دون أن يمشّطه. -هل يمكنني أن أساعدك؟ شرح لها الفتى وهو يضح الحقيبة الجلدية لغيتاره على كرسيّ: -أنا ... أوه... نعم، أريد أن أشتري زهوراً من فضلكِ. -آه ممتاز. لو أنّك طلبت مني فطائر الكرواسان، لتعذّبت أكثر بكثير. -ماذا؟ -لا أبداً، لا شيء، لا تبالي بالأمر. هل تريد باقة دائرية أم أزهاراً كبيرة؟ -حسناً، في الحقيقة لا أعرف شيئاً عن هذه الأمور. -هل تريدها أعشاب زينة أم أزهاراً ملوّنة؟ رد المراهق وكأنّ مادلين كانت تخاطبه باللغة العبرية: -ماذا؟ بالتأكيد، ليس الأكثر مهارة من جيله، قالت مادلين لنفسها وهي تحاول أن تحافظ على هدوئها وابتسامتها. -حسناً، هل يمكننا الحصول على شيءٍ ما بثلاثمئة يورو؟ هذه المرّة، لم تستطع أن تتمالك تنهيدة: كانت تكره الناس الذين ليس لديهم أيّ إدراك لقيمة المال. في جزءٍ من ثانية، طفت بعض ذكريات طفولتها على السطح: السنوات التي كان والدها فيها عاطلاً عن العمل، تضحيات عائلتها لكي تتاح لها فرصة إكمال دراستها... كيف يمكن أن توجد هذه الهوّة الكبيرة بين هذا الصبي الذي ولِد وفي فمه ملعقة من ذهب وبينها هي حينما كانت صبيّة؟ -حسناً، اسمع أيّها الصبيّ الصغير، أنت لا تحتاج إلى ثلاثمائة يورو لكي تشتري باقة من الزهور. في كلّ الأحوال، ليس في متجري، هل فهمت؟ ردّ الصبي باسترخاء: -نعم، فهمت. -إذا، لمن ستكون هذه الزهور؟ -لامرأة. رفعت مادلين عينيها إلى السماء. -أهي لأمّكَ أم لصاحبتك الصغيرة؟ ردّ الصبي وهو أكثر ارتباكاً: -في الحقيقة، هي لإحدى صديقات أمي. -حسناً، وما هي الرسالة التي تودّ أن توصلها من خلال هذه الباقة؟ -رسالة؟ -بأيّ هدفٍ ستقدّم لها هذه الأزهار؟ هل لكي تشكرها على أنّها قد أهدتك بلوزة بمناسبة عيد ميلادك أم لتقول لها شيئاً آخر؟ -أوه... بل الحلّ الثاني. سألته وهي تهزّ رأسها: -اللعنة، هل الحبّ ما جعلك مغفّلاً أم أنّك دائماً هكذا؟ لم ير المراهق بأنّه من المفيد أن يجيب على سؤالها. ابتعدت مادلين عن طاولة المحاسبة وشرعت بإعداد باقة من الزهور. -ما اسمك؟ -جيريمي. -وصديقة أمّك، كم تبلغ من العمر؟ -أوه... هي أكبر سنّاً منك في كلّ الأحوال. -وبرأيك، كم أبلغ من العمر؟ هنا أيضاً، آثر الصبي أن لا يردّ على سؤالها، ربّما لكي يبرهن لها بأنّه ليس بدرجة البلاهة التي كان مظهره يوحي بها. شرحت مادلين وهي تقدّم له باقة من الزهور: -حسناً، مع أنّك لا تستحقّها، ولكن ها هي أفضل الأزهار. هذه أزهاري المفضّلة: أزهار البنفسج من تولوز، إنّها بسيطة وظريفة وأنيقة في آنٍ واحد. أبدى الصبيّ إعجابه بالباقة: -إنّها جميلة للغاية، ولكن بلغة الزهور، على ماذا تدلّ هذه الباقة؟ هزّت مادلين كتفيها: -دعك من لغة الزهور، قدّم ما تراه جميلاً، وهذا كلّ ما في الأمر. ألحّ عليها جيريمي بالسؤال: -ومع ذلك، ليتكِ تخبريني. تظاهرت مادلين بأنّها تفكّر بالأمر. -في ما أسميته أنت "لغة الزهور"، أزهار البنفسج تمثّل التواضع والخجل ولكنّها ترمز أيضاً إلى الحبّ السريّ، وبالتالي إذا كنت تخشى أن يبدو هذا الأمر غامضاً، يمكنني أن أجهّز لك باقة من الورد الجوري بدل هذه الأزهار. ردّ الفتى وقد أفرج عن ابتسامة عريضة: -كلا، كلا، أزهار البنفسج تناسبني تماماً. دفع قيمة باقة الزهور وفي اللحظة التي غادر فيها المتجر، شكر مادلين على نصائحها. وبعد أن أصبحت أخيراً لوحدها في المتجر، أخرجت هاتفها المحمول واستعجلت في إتمام كتابة رسالتها: أعتذر منك ألف اعتذار يا جوناثان على هذا التطفّل على حياتك الخاصّة بهذه الطريقة التي تفتقر إلى اللطافة. العتب على الكأس الإضافي من النبيذ الذي شربته والذي جعلني أكتب بطريقة أسرع من ظلّي (نبيذٌ أبيض ذو طلاوة من طراز فوفراي بنكهات العسل، والورد والمشمش. لا شكّ أنّك تعرف هذا النبيذ، وفي هذه الحالة، سوف تعذرني ؛-) أعتقد أنّ إضراب مكتب البريد سوف لن يستمرّ إلى الأبد، ولكن تجنّباً للتعرّض لأي مخاطر، سوف أتّصل بشركة نقل خاصّة. لقد اتّصلت بساعٍ للبريد سوف يأتي بعد ظهيرة اليوم ليأخذ هاتفك. حتى مع حساب عطلة نهاية الأسبوع وأيام الأعياد، أكّد لي بأنّك سوف تستلم هاتفك قبل يوم الأربعاء. اسمح لي أن أتمنّى لك أعياداً سعيدة وكذلك لابنك. مادلين. ملاحظة: أنا فضولية، أرجو المعذرة. لقد كتبت لي في آخر رسالة بأنّك إذا كنت لا تزال يقظاً حتى منتصف الليل فذلك لأنّ ثمّة سؤالان يشغلان ذهنك ويمنعانك من النوم. هل من التطفّل إن سألتك ما هما؟ * عزيزتي مادلين، تريدين أن تعرفي ما هما اللغزان اللذان منعاني من النوم. حسناً، ها هما: 1-أتساءل مَنْ يكون إيستيبان. 2-أتساءل لماذا تشيعين الاعتقاد عند المحيطين بكِ بأنّكِ تسعين إلى أن يكون لديكِ طفل في حين أنّكِ تتّخذين كلّ الاحتياطات والتدابير بالضبط لكي لا يكون لديك طفل... * اجتاحت مادلين موجة من الرعب، فأطفأت الهاتف وابتعدت عنه كما لو أنّها تهرب من خطرٍ داهم. لقد علِم بالأمر! هذا الرجل قد نبش في هاتفها النقّال وأصبح يتكهّن حول إيستيبان وحول الطفل! سالت قطرة عرق على طول عمودها الفقري. سمعت قلبها وهو يدقّ في صدرها. ارتعشت يداها وأحسّت أنّها تترنّح على ساقيها. كيف أمكن ذلك؟ مفكّرتها وبريدها الإلكتروني، بكل تأكيد... انحفر فراغٌ هائل غير منتظر في جوفها وكان عليها أن تقاوم لكي لا تنهار وتخرّ أرضاً. كان عليها أن تهدّئ من روعها: بهذه العناصر وحدها، لم يكن بوسع جوناثان لامبيرور أن ينال منها. طالما لم يضع يده على أمورٍ أخرى، لم يكن هذا بالتهديد الحقيقي. ولكن كان يوجد في أحشاء هاتفها النقّال وثيقة كان يجب ألا تُكتَشف بشكلٍ خاصّ. أمرٌ لم يكن من حقّ مادلين أن تحتفظ به. أمرٌ سبق له أن قوّض حياتها وقادها إلى حافة الجنون والموت. من الناحية النظرية، كان سرّها محفوظاً جيّداً. كان لامبيرور منقّباً سيّئاً، لم يكن بارعاً في المعلوماتية، ولا مبتزّاً ونصّاباً. كان يلعب معها ويتسلّى بها ولكن ولو أنّها لم تحذف تلك الوثيقة فسوف تعييه الحيلة ولن يعثر عليها. على الأقلّ، هاذا ما كانت تأمله. الفصل السادس الخيط لأنّهما (كانا) موحّدين بوساطة خيط […] الخيط الذي لا يمكن أن يكون موجوداً إلا بين شخصين على شاكلتهما، شخصان اعترفا بعزلتهما في عزلة الآخر باولو جيوردانو سان فرانسيسكو الساعة التاسعة والنصف صباحاً استيقظ ماركوس بصعوبة. وكأنّه يسير ويتكلّم في النوم، تقدّم حتى وصل إلى الحمّام، دخل إلى حجرة الاستحمام ووقف تحت المرشّ دون أن ينزع سرواله الداخلي ولا قميصه وظلّ ساكناً تحت المياه إلى أن فرغ السخّان تماما. جعله الماء البارد جدّاً يفتح إحدى عينيه وبعد أن تنشّف سريعاً، جرّ نفسه حتى بلغ غرفته ليتبيّن له بأنّ درج ألبسته الداخلية خاوٍ تماماً. كانت كلّ سراويله الداخلية وقمصانه الداخلية مكدّسة في سلّة الغسيل المصنوعة من أغصان الصفصاف. رفع الرجل الكنديّ أحد حاجبيه متسائلاً ومتعجباً. كان جوناثان الذي هدّده لعدّة مرّات بألا يغسل ألبسته الداخلية بعد الآن قد وضع تحذيره موضع التنفيذ! -جون! صرخ شاكياً قبل أن يتحقّق بأنّه كان يوم السبت وأنّ صاحبه يكون في هذا الوقت قد غادر بالتأكيد المنزل لكي يقوم بزيارته الأسبوعية إلى سوق آمباركاديرو. وهو لا يزال شبه نائم، غاص بيده في جبل البياضات المتّسخة وارتدى أول قطع الثياب "الصالحة للارتداء مجدّداً" التي وقعت تحت يده. ثمّ انتقل ماركوس إلى المطبخ وعثر، وهو يتحسّس المكان، على تيرموس الشاي الصيني الذي كان جوناثان يعدّه كل صباح. تهاوى في كرسيٍّ وشرب من التيرموس كأساً من الشاي الأسود. وكأنّ الشراب قد نشّط خلاياه العصبية، دبّ فيه إلهامٌ مفاجئ وتجرّد من ثيابه فوراً وسريعاً لكي يبدأ بغسل ثيابه الداخلية في المجلى باستخدام سائل الجلي. بعد أن عصرها، فتح باب الميكروويف وضبط ساعة التوقيت على ثماني دقائق. فرحاً بنفسه، خرج إلى الشرفة وهو في حالة عري. استقبله الببغاء بوريس: -مرحباً يشرب – من دون – عطش! ردّ ماركوس وهو يدغدغ ريشه: -صباح الخير يا طبقة الهيولى المكسوة بالريش. وكعلامة بارزة على تواطؤهما، حَجَل الطائر وأمال رأسه وفتح منقاره وهو يقدّم له مضغةً مهضّمة من فاكهة مختلطة. شكر ماركوس صديقه ثمّ تمدّد مطوّلاَ تحت أشعة الشمس. وهو يتثاءب ملء فكّيه. زعق به الببغاء: -هيّا تحرّك! هيّا تنشّط! مدفوعاً بتشجيع وتحريض الببغاء، قام ماركوس بما كان يعتبرها مهمّته الأكثر أهمية في ذلك النهار: الكشف على نظام ضخّ المياه الذي يسقي العشرات من نبتات القنّب الهندي المخفية خلص أصص الورود في الحديقة. لم يكن جوناثان يجهل تماماً مزرعته الصغيرة تلك ولكنّه كان يغضّ الطرف عنها. ففي نهاية المطاف، كانت كاليفورنيا تمثّل بمفردها مدينة التسامح والثقافة المضادة. ظلّ ماركوس في الشرفة لوقتٍ إضافي وهو يستمتع بالدفء المشاع. ولأنّه كان قد أمضى القسم الأعظم من حياته وسط الطقس البارد في مدينة مونتريال الكندية، كان يستلذّ ويستمتع على نحوٍ خاصّ بالمناخ الكاليفورني الدافئ. على الهضبة الصغيرة في تيليغراف هيل، كان من الصعب الاعتقاد بأنّ أعياد الميلاد تقترب: كانت الأبواق الذهبية اللون للياسمين قد بدأت بالتفتّح؛ وأشجار النخيل وأشجار الخوخ التزيينية وأشجار الغار الوردي تلتمع وتشرق تحت ضوء الشمس الساطعة؛ وكانت البيوت المشيّدة من الخشب تنتشر تحت البهجة، متوارية وسط غابة كثيفة تزقزق فيها طيور الجواثيم المرِحة وعصافير الطنّان الملوّنة. على الرغم من الوقت الباكر نسبياً، كان بعض المتنزّهين ينزلون على السلالم المزيّنة بالأزهار لدرج فيلبير. على الرغم من الخضرة الغزيرة والأشجار الكثيفة، لم يكن المنزل محميّاً بالكامل من نظرات المارّة. بعض المارة تسلّوا بالمشهد وبعضهم الآخر صُدموا لرؤيته لاكن لا أحد ظلّ بلا ردّ فعل أمام ذاك الأحمق الطائش المشعر الذي كان ينخرط في حديثٍ ماجنٍ مع ببّغاءٍ. لم يُعر ماركوس اهتماماً بذلك إلى أن أخرج سائحٌ جهاز هاتفه لكي يلتقط صورةً ويُخلِّد ذاك المشهد الاستثنائي، فدمدم: -يبدو أن المرء يكون أكثر هدوءً وراحةً في بيته! تذمّر الرجل الكندي من تصرّف السائح وهو يتقهقر إلى داخل المطبخ تماماً في اللحظة التي أشار فيها مؤقّت الميكروويف نهاية عملية "الطهي". بدافع الفضول في معرفة نتيجة العملية، فتح ماركوس باب فرن الميكروويف ليُخرج منه ثيابه. لم تكن قد جفّت فقط، بل وأيضاً كانت ساخنة وطرية! فضلاً عن ذلك تفوح منها رائحة البريوش، ابتهج ماركوس وهو يشمّ بتلذّذ الكومة الصغيرة للبياضات. إلى الثلاجة وفتحها وأخذ ينبش بين محتوياتها من الأطعمة قبل أن يُعدّ لنفسه مزيجاً اعتباطياً منها. على قطعةٍ من رغيفٍ من الخبز المحشو، دهن طبقة رقيقة من الزبدة وفستق العبيد ثمّ غطّاها بطبقة من السردين بالزيت ثمّ وضع فوقها شرائح من الموز. لذيذ! قال لنفسه وهو يُطلق تنهيدة حبور. لم يكن قد أكل سوى بضع لقيمات من شطيرته حينما لمحها. حينما لمح صور مادلين. كانت أكثر من خمسين صورة شخصية مثبّتة بمسامير صغيرة على لوحٍ من الفلّين، معلّقة بوساطة قطع من المغناطيس على أبواب الأدراج المعدنية أو مثبّتة مباشرةً على الجدار. كان من الواضح بأنّ شريكه في استئجار المنزل قد أمضى قسماً كبيراً من الليل في طباعة هذه الصور. كانت المرأة الشابة تظهر في الصور بكلّ وضعياتها وحالاتها: لوحدها، بشكل ثنائي، وجهاً لوجه، بشكل جانبي ... كان جوناثان قد كبّر حجم بعض النسخ من الصور، مركّزاً على عينيها أو على وجهها. حائراً ومرتبكاً، توقّف ماركوس عن مضغ الطعام واقترب من الصور. دون أن يعطي الانطباع بذلك، كان الرجل الكندي يمارس رقابةً دائمة على جوناثان. لماذا تحمّل هذا الإخراج الفني؟ أيّ سرّ يسعى إلى كشفه وراء نظرة مادلين غرين؟ كان ماركوس يعرف في قرارة نفسه هشاشة صديقه وكان يعرف أن "شفاءه" لا يزال مؤقّتاً وغير ثابت. في قلب كلّ رجل، هناك فراغٌ ما، شجّة ما، شعورٌ بالهجران والوحدة. كان ماركوس يعرف بأنّ الشجّة في قلب جوناثان عميقة جداً. وكان يعرف أنّ تصرفّاً كهذا لا ينبئ بأيّ شيءٍ إيجابي. * أثناء هذه اللحظة، على بضعة كيلومترات... سأل شارلي والده: -بابا، هل يمكنني أن أتناول قطعة من اللحم المقدّد؟ إنّه لحم كاوبوي! كان جوناثان، وهو يضع ابنه على كتفيه، يتجوّل منذ ساعة كاملة على بسطات السوق الفلاحي المرصوصة بجانب بعضها في فناء الرصيف القديم للميناء. بالنسبة إلى صاحب المطعم، كانت تلك الجولة طقساً دائماً: كلّ يوم سبت، كان يأتي ويتزوّد بالمؤن الضرورية ويجد الإلهام لكي يُعدّ مكونات وجبة الأسبوع. كانت سوق المزارعين مؤسسة حقيقية في مدينة سان فرانسيسكو. كان يتجمّع حول مبنى فيري بيلدينغ المئات من المزارعين وصيادي السمك ومزارعي الفول في السباخ الذين يبيعون المنتوجات المحلية الناتجة عن الزراعة البيولوجية. في هذا السوق يمكن للمرء أن يعثر على أفضل أصناف الخضار والفاكهة والأطايب والأسماك الطازجة واللحوم الأكثر طراوةً. كان جوناثان يحبّ هذا المكان الذي كان يستقطب حشداً خليطاً: سوّاح وطهاة ومتذوقون بسطاء بحثاً عن المنتوجات ذات الجودة العالية. -من فضلك بابا، يوجد هناك لحمٌ مقدّد! لم يسبق أن أكلت منها أبداً! "أطلق" جوناثان ابنه الذي هرع نحو البسطة. تحمّس شارلي وازدرد كُريّة من لحم العجل الناشف قبل أن يُكشِّر ويبدي تقزّزاً. غمزه جوناثان غمزة ماكرة. وسط مهرجان النكهات هذا، شعر بأنّه في بيته. ريحان، زيت زيتون، جوز، جبن الماعز الطازج، ثمار الأفوكا، كوسا، بندورة، باذنجان، أعشاب الطيب، يقطين، خسّ: كان يفحص يحتسي، يتذوّق، يختار، "الطبّاخ السيء هو الذي يسعى إلى إخفاء النكهة الأصلية لمحتويات الطعام بدل أن يُظهرها". كان جاك لارو الشيف الذي درّبه وعلّمه قد نقل إليه خبرته ومهارته وصرامته في انتقاء المنتوجات واحترام الفصول والبحث عن أفضل المورّدين. في هذا المكان، الحديقة البقولية في الولايات المتحدة الأميركية، لم يكن هذا الأمر صعباً أبداً. منذ زمنٍ طويل، لم يعد الطعام البيولوجي حكراً على الهيبيين. لقد أصبح الآن الغذاء البيولوجي نمطاً للحياة ليس في مدينة فرانسيسكو فحسب، بل وفي عموم ولاية كاليفورنيا. أبقى جوناثان عيناً على ابنه شارلي في حين أكمل قائمة مشترياته بخمس دجاجات جميلة وعشر قطع من سمك الترس وصندوقاً من محار سان – جاك. وتفاوض على عشر قطعٍ من الكركند وخمسة كيلوغرامات من القريدس. مع كل طلب، كان يقدّم لمسؤول البسطة رقم الموقف الذي كان يركن شاحنته الصغيرة فيه لكي يتمكن موظّفو السوق من إيصال البضاعة إليها. صرخ به أحد باعة المحار وهو يقدّم له محاراً: -هيه، يا جوناثان، تذوّق لي هذه القطعة! كانت تلك مزحةً بينهما، لأنّ الفرنسي لم يكن يحبّ العادة المحلية في وضع المحار تحت الماء قبل تقديمه ولم يكن يضع أبداً هذا النوع من القواقع في قائمة وجبات مطعمه. شكره جوناثان وابتلع قطعة، على الرغم من كلّ شيء، المحار مع شريحة من الليمون وقطعة من الخبز. استغلّ تلك الاستراحة لكي يُخرج من جيب بلوزته هاتف مادلين. نظر إلى الشاشة وأظهر خيبة أملٍ خفيفة حينما تبيّن له بأنّ بائعة الزهور لم ترسل ما تبقّى من رسالتها. ربّما كان عليه أن يُرسِل إليها من جديد رسالة قصيرة لكي يعتذر منها؟ ربّما كان قد ذهب بعيداً في ردّه عليها؟ ولكن هذه المرأة تحيّره وتثير اهتمامه كثيراً... هذه الليلة، بعد طباعة الصور مباشرةً، اكتشف اكتشافاً غريباً عندما كان يتفحّص مواصفات الهاتف: سعة القرص: 32 جيجا بايت المساحة المتاحة: 1,03 جيجا بايت المساحة المستخدمة: 96,8% المساحة الشاغرة: 3,2% فاجأته هذه المعلومات. كيف أمكن لذاكرة الجهاز أن تمتلئ بكلّ هذا القدر؟ للوهلة الأولى، كان جهاز الهاتف يحتوي فقط على خمسة أفلام وحوالي خمسة عشر تطبيقاً وخمسين صورةً وحوالي مائتي أغنية و ... وهذا كلّ شيء. وهذه المحتويات ليست كافية لملء ذاكرة الجيل الجديد من الهواتف، والأمر لا يتطلّب أن يكون خبيراً في مجال المعلوماتية حتى يعرف ذلك. والنتيجة؟ لابدّ أن القرص الصلب يحتوي على معطيات أخرى. اتّكأ جوناثان على المتراس المطلّ على الخليج الصغير، وأشعل سيجارة وهو ينظر إلى شارلي المقرفص أمام جحر الأرانب. لا شكّ أنّه لم يكن من المناسب تماماً أن يدخّن في هذا المكان ولكن، لكونه محروماً من النوم، كان يحتاج إلى جرعته من النيكوتين. استنشق نفثةً من السيجارة وهو يردّ بإشارةٍ من رأسه على تحيّة أحد زملائه. لم يكن جوناثان محبوباً من قبل أترابه بهذا القدر الكبير قط إلا بعد أن بات لا يتفوّق عليهم في شيء! حينما كانوا يصادفونه، كان معظم المنتجين وأصحاب المطاعم يلقون عليه التحية بمزيجٍ من الاحترام والشفقة. في هذا المكان، يعلم معظم الناس بأنّه كان: جوناثان لامبيرور، الشيف السابق الأكثر إبداعاً وبراعةً من بين أبناء جيله، موزارت فنّ الذِواقة السابق، المعلّم السابق لأفضل مائدة في العالم. السابق، السابق، السابق... كان كلّ ذلك في الماضي واليوم لم يعد كما كان في شيء، أو يكاد أن يكون كذلك. قانونياً، لم يعد يمتلك حتى الحقّ في افتتاحِ مطعم. حينما اضطرّ لأن يبيع شهادة الاستثمار المسجّلة باسمه، ألزم نفسه في الواقع أن يبقى بعيداً عن أفران الطبخ. لم يكن مطعم فرينش تاتش ملكية خاصّة به ولم يكن اسمه مدوّناً على واجهته ولا حتى على موقع المطعم على الإنترنت ولا حتى على بطاقات الزيارة الخاصّة بالمطعم. في مقالةٍ، أثارة صحافيّةٌ من مجلة كرونيكال مشكلة لجوناثان ولكنّها كانت قد اعترفت بأنّ المقهى الصغير والمتواضع الذي يعمل فيه الآن لم يكن له أيّ شيء من بريق امبراتور. بالمقابل، استفاد جوناثان من هذه المطبوعة لكي يضع الأمور في نصابها: نعم، إنّ مطعمه الجديد لا يقدّم سوى أطباق بسيطة وبأسعارٍ مقبولة؛ كلا، لم يعد على الإطلاق يعدّ أيّ وصفات للوجبات ولم يستعد قطّ إلهامه في هذا المجال؛ كلا، لم يعُد على الإطلاق يسعى إلى الحصول على أيّ مكافأة أو جائزة في مجال الطبخ. على الأقلّ، أصبحت الأمور واضحة وكان لهذه المقالة الفضل في أن طمأنت الطهاة الذين كانوا قلقين من العودة المحتملة للشيف جوناثان لكي يقف خلف أفران المطابخ. نظر شارلي بفضول إلى بسطة رجلٍ آسيوي مسنّ كان يعرض أيضاً ألسنة البطّ وحساء السلحفاة، فسأل والده بإلحاح: -بابا، هل يمكنني أن أتذوّق حبّات صغيرة من الوسابي ؟ -كلا يا صديقي الطيّب. سوف لن تحبّ مذاقه: إنّه مشبعٌ بالتوابل! -من فضلك يا بابا، يبدو أنّه لذيذٌ للغاية! هزّ جوناثان كتفيه، وتساءل مستغرباً، لماذا تحمل إلينا الطبيعة البشرية، منذ نعومة أظفارنا، أن نتجاهل ونرفض النصائح التي تُسدى إلينا؟ -افعل كما تشاء. -نفث نفثةً أخرى من سيجارته وقطّب عينيه بسبب أشعة الشمس. كان العديد من المتنزهين يستخدمون الأحذية المزوّدة بعجلات صغيرة أو يسيرون مشياً على الأقدام أو يستخدمون الدرّاجات الهوائية، ويستمتعون بالطقس المشمس الجميل لكي يتجوّلوا على طول شاطئ البحر. كانت أمواج المحيط الملاطمة تتلألأ في الأفق البعيد، وفي زرقة السماء الصافية، تطوف أسرابٌ من النوارس الانتهازية المتهيّئة للانقضاض على أيّ غداءٍ يمكنها الوصول إليه. كان على شارلي، الملسوع من اللحم المقدّد، أن يكون أكثر حذراً، ولكن اللون الأخضر الجميل للفجل الياباني الفائح كان يوحي له بالثقة. ولذلك ودون حذرٍ أو خشية، ابتلع شارلي حفنةً صغيرة من الحبّات المغموسة بصلصة الخردل و ... -يوك! إنّها لاذعة! صرخ شارلي وهو يقذف من فمه بسرعة ما كان قد ابتلعه. تحت الأنظار اللاهية للعجوز الياباني، التفت الطفل نحو والده. عاتبه لكي يُخفي إغاظته: -كان يمكنك أن تحذّرني! سحق جوناثان عقب سيجارته تحت كعب حذائه وربّت على كتفي شارلي واقتح عليه: -هيّا تعال، سوف أصحبك لتتناول قطعة من الشوكولا. * في الوقت ذاته في باريس ... كانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساءً بقليل حينما دفع ساعٍ للبريد باب متجر مادلين، الحديقة العجيبة. رغم الوقت المتأخّر، كان المتجر لا يزال عامراً بالزبائن وكانت مادلين تحاول أن تخفّف من حركتها وتزيد من سرعتها في العمل حرصاً منها على أن ترضي زبائنها وتُسعدهم. حينما نزع الساعي قناعه، أعطى الانطباع بأنّه قد أُلقي في بعدٍ مختلف. من خلال زهوره ذات الألوان الخريفية وروائحه المختلطة وأرجوحته ومرشّ السقاية المعدني القديم، بدا له معرض الزهور على نحوٍ غريب وكأنّه حديقة المنزل الريفي لجدّته والتي كان قد أمضى فيها معظم أيام عطلاته أثناء طفولته. متفاجئاً بالعذوبة غير المتوقّعة لهذه الجزيرة الطبيعية، شعر بأنّه حقّاً يتنفّس للمرّة الأولى منذ زمنٍ بعيد. تقدّم منه تاكومي وسأله: -هل يمكنني أن أساعدك في شيء؟ ردّ الزائر وقد استيقظ فجأةً من حلمه: -أنا موظّف من شركة فيديرال إكسبرس، لقد طُلِب مني المجيء غلى هنا لكي آخذ طرداً بريدياً. -نعم، هذا صحيح تماماً، ها هو المغلّف. أخذ ساعي البريد الكيس الورقي الذي قدّمه له الفتى الآسيوي. -شكراً، أتمنى لك سهرة سعيدة. خرج الساعي إلى الشارع وامتطى دراجته النارية ذات العجلتين. أدار محرّك الدرّاجة ودعس على دوّاسة الإقلاع وزاد من سرعة الدراجة لكي يذهب إلى الجادة. كان قد ابتعد عن المكان ما يقارب عشرة أمتار حينما شاهد من خلال المرآة العاكسة لدراجته امرأةً تناديه. كبح وتوقّف على الرصيف. حينما وصلت المرأة إليه، شرحت له: -أنا مادلين غرين، أنا التي ملأت الاستمارة على شبكة الإنترنت لكي أطلب منك إرسال هذا الطرد بالبريد السريع ولكن ... -هل ترغبين في إلغاء طلبكِ هذا؟ -نعم وأستردّ طردي، من فضلك. دون أن يثير أي مصاعب أو مشاكل، أعاد الساعي الشابّ الطرد إلى مادلين. بدا جلياً أنّه كان من الوارد أن يغيّر شاحنو الطرود رأيهم في اللحظة الأخيرة. وقَّعت على ورقة إلغاء الطلب ثمّ أعطته ورقة نقدية من فئة 20 يورو بمثابة تعويض عن الضرر. عادت مادلين إلى متجرها وهي تشدّ جهاز الهاتف المحمول إلى صدرها وتساءل إن كانت قد اتّخذت القرار الصائب أم لا. أدركت أنّها باختيارها عدم إرسال الهاتف المحمول إلى جوناثان، كانت تجازف بأن تستفزّه. لو لم تكن تنوي الحديث عنه في الأيام القادمة، لكان لديها الوقت الكافي لكي تعيد إليه جهازه، ولكن في حال سارت الأمور على نحوٍ سيء، أرادت أن تُبقي على إمكانية القدرة على الاتصال المباشر معه. مع تمنياتها بأن لا يحصل ذلك على الإطلاق. * سان فرانسيسكو واصل جوناثان سيره تحت الأروقة المقنطرة لمحطّة فيري بولدينغ. كانت المحطّة البحرية، علاوةً على أنّ عمرها قد بلغ ما يقارب المائة عام، تنتصب بافتخارٍ وشموخ على طول طريق أمبيركاديرو للواجهة البحرية في ميناء سان فرانسيسكو. وقد عرفت زمن مجدها في أعوام العشرينيات من القرن الماضي حينما كانت المحطّة النهائية للمسافرين الأكثر شهرةً في العالم. أما الآن فقد تمّ تحويلها إلى معرضٍ تجاريٍّ أنيقٍ تتتالى فيها، طيلة رحلة خاصّة بالذوّاقين، محلات أجبانٍ احترافية ومخابز ومحلات الأغذية الخفيفة ومموِّنون إيطاليون ومحلات بقالة أنيقة. أنهى صاحب المطعم مشترياته بتشكيلةٍ من الفاكهة الشتوية والعنب والكيوي والليمون والرمان والبرتقال قبل أن يفي بوعده ويقدّم لابنه كوباً شهياً من الشوكولا في أحد المقاهي المفتوحة على الرصيف البحري. ارتاح شارلي بعض الشيء حينما أزال مذاق الخردل الذي أحرق فمه بواسطة نكهة الكاكاو الأكثر عذوبةً. اكتفى جوناثان بشرب كوبٍ من الشاي الصيني الأسود. كانت روحه تهيم في مكانٍ آخر. حينما تجرّع الجرعة الأولى من الشاي، نظر إلى شاشة الهاتف المحمول. لم يكن هناك أيّ رسالة جديدة من مادلين. همس له صوتٌ داخلي بأن يقف هنا. ما الذي كان يقصده؟ ما الذي كان يسعى إلى إثباته؟ ماذا كان يمكن لهذه الاكتشافات أن تجلب له عدا المتاعب؟ ولكنه قرّر أن يتجاهل كلّ هذه التحذيرات. في الليلة الماضية، كان قد فتح بانتظام جميع التطبيقات الموجودة وقد بدا له تطبيقٌ وحيد محلّ شكّ وشبهة: نوعٌ من المخزون الذي يتيح قراءة ملفات ذات حجم ضخم – PDF، صور، مقاطع فيديو – بعد أن تم تحويلها من حاسوبها إلى هاتفها. إذا كانت مادلين تخفي بعض الوثائق في الجهاز – وتحليل ذاكرة الهاتف جعله يضع هذه الفرضية - ، فلا بدّ أن تكون موجودة في هذه الملفات. إلا أنّ هذا التطيبق كان محمياً بكلمة مرور! أدخل كلمة المرور نظر جوناثان إلى العبارة التي ومضت وهي تدعوه إلى إدخال الرمز السرّي. من باب اختبار حظّه، حاول أن يدرج الاسم وكلمة السرّ بالتعاقب: مادلين، غريبن ومن ثمّ كلمة المرور. ولكنّ ما كان عليه أن يحلم بذلك. بعد أن فشلت محاولته الثالثة، نظر إلى ساعة يده وجنّ جنونه لشدّة تأخّره. في عطلة نهاية الأسبوع، كان قد استعان بطبّاخٍ مساعد لكي يساعده في المطعم، ولكنّ الطبّاخ الشاب لم يكن لديه مفاتيح المطعم وما كان عليه أن يعتمد على ذاك الكسول المتهرّب من العمل ماركوس لكي يذهب إلى المطعم في الوقت المحدّد. أمر شارلي وهو يحثّه على ارتداء سترته: -هيّا أيّها الربّان، فلنرفع المرساة! -أوه بابا، هل يمكننا الذهاب لإلقاء التحية على عجول البحر قبل أن نغادر؟ كان الولد الصغير يعشق أن يصحبه والده لكي يرى هذه الحيوانات البحرية الغريبة التي اتّخذت، منذ زلزال عام 1989، من مركز بيير 39 للتسوّق مسكنها الثابت. ردّ عليه جوناثان مع شعورٍ حادّ بالذنب: -كلا يا عزيزي، يجب عليّ أن أذهب إلى العمل، سوف نذهب لمشاهدتها غداً في حوض بوديغا باي، في الوقت نفسه الذي سنذهب فيه إلى صيد السمك في القارب، اتّفقنا؟ صرخ شارلي وهو يقفز من كرسيّه: -اتّفقنا! مسح جوناثان بواسطة منديلٍ ورقي الشاربين اللذين كانت الشوكولا قد رسمتهما أسفل أنف ابنه. كانا قد وصلا للتوّ إلى كراج السيارات حينما ارتجّ الهاتف المحمول في جيب سترته. أخرج جوناثان الجهاز من جيبه ليرى بأنّ اسم ايستيبان قد ظهر على شاشة الهاتف. للحظة واحدة، تردّد في أن يفتح السمّاعة ويردّ بنفسه على المكالمة، ولكنّ مسؤول تسليم الحمولات كان قد استأثر به لكي يساعده في تحميل بضائعه. وجد شارلي المتعة في أن يضع يده في العجين وسريعاً نضد الرجال الثلاثة جميع الصناديق في السيارة الصغيرة ذات البابين من طراز أوستن، وهي سيارة صغيرة تعود لسنوات الستينيات من القرن الماضي مع علاّقات خشبية تحمل شعار المطعم. طلب جوناثان من ابنه قبل أن يدير المفتاح: -اربط حزام الأمان. في الوقت الذي سلك فيه اتّجاه الحي الإيطالي، شبَك الهاتف في الجيب الموجوود في واقية السيارة و ... جائزة اليانصيب! كان ايستيبان قد ترك رسالة! فتح مكبّر الصوت لكي يصغي إليها، ولكن في حين كان ينتظر صوت رجلٍ، كان صوتٌ أنثوي وغنائي يقول: "صباح الخير، آنسة غرين، هنا عيادة الدكتور ايستيبان، أتصل بكِ لكي أعرف إن كان بإمكانكِ أن تغيّري موعد يوم الاثنين لمدّة ساعة واحدة. أشكرك على التكرّم بالاتصال بنا. أتمنى لك عطلة نهاية أسبوع في غاية السعادة". أبدى جوناثان حركة استغراب. فقد اكتشف أنّ ايستيبان لم يكن اسم عشيقٍ من أميركا الجنوبية وإنّما اسم طبيب! مدفوعاً بالفضول! فتح تطبيق باج جونز الموجود في الجهاز قبل أن يلفت ابنه انتباهه ويحذّره: -بابا، انظر إلى الطريق! استجاب لتحذير شارلي: -حسناً أيّها الرجل الطيّب، سوف تساعدني. مبتهجاً بكونه قد أصبح مشاركاً، نقر شارلي على الشاشة اللمسية لكي يدخل معطيات إلى الدليل الموصول على خطّ الإنترنت. بمبادرةٍ من والده، كتب: دكتور ايستيبان، ثمّ باريس، قبل أن يشرع بالبحث. خلال بضع ثوانٍ، أظهر البرنامج نتيجة البحث: لورانس ايستيبان عيادة الطب النفسي 66 مكرّر، شارع لاس كاسيس 75007 باريس وهكذا تبيّن لجوناثان بأنّه كان قد سلك الطريق الخاطئ إلى خيانة مادلين الزوجية، ولكنّه كان قد خمّن إحباطها النفسي وانحراف مزاجها. في صورها، ربّما كانت المرأة الشابّة قد أظهرت كلّ مظاهر السعادة ولكنّ شخصاً يراجع طبيباً نفسياً لمرّتين في الأسبوع نادراً يكون مثالاً للصفاء والهدوء النفسي ... الفصل السابع لامبيرور المعزول كنّا نحن الاثنان نحتاج إلى نسيان المأوى المرحلي، قبل أن نحمل أمتعتنا العدمية إلى ما هو أبعد. (...) كائنان مهزومان ينبشان في عزلتهما. رومان غاري باريس، الدائرة الثامنة الساعة الواحدة صباحاً شقّة في مبنى صغير يقع في حي فوبورغ – دي – رول على ضوء سراج الليل، وهي مستمتعة تماماً بالدفء تحت غطائها الوثير، كانت مادلين تُنهي الصفحات الأخيرة من اعترافات طاهٍ مغرم، كتاب جوناثان لامبيرور الذي كان تاكومي قد اشتراه لها صباح اليوم ذاته. مستلقياً إلى جانبها، كان رافائيل نائماً منذ ساعتين. حينما لحق بها إلى السرير، تمنّى كثيراً أن تختصر زوجته المستقبلية قراءتها أمام احتمال "ملاطفة"، ولكنّ مادلين كانت ملتصقة بالكتاب وبعد أن انتظر كثيراً انتهى رافائيل إلى النوم. كانت مادلين تعشق المطالعة في هدأة الليل. حتى وإن كانت شقّة رافائيل تقع بالقرب من شارع شانزيليزيه إلا أنّه كان ملاذاً آمناً ومحمياً من صفّارات إنذار الشرطة وسواها من الصرخات والضوضاء. التهمت النصّ النثري لجوناثان بمزيج من الانبهار والنفور. كان تاريخ صدور الكتاب يعود إلى عام 2005. وكان لامبيرور يعيش آنذاك عصره الذهبي، مثلما يشهد على ذلك غلاف الطبعة الرابعة الذي يزخر بالألقاب الحماسية والتعظيمية التي كان يتمتّع بها في تلك الفترة: "ساحر النكهات"، "موزارت فن الذِواقة"، "الطاهي الأكثر موهبة في العالم". خلال هذه الأحاديث، كان لامبيرور يشرح عقيدته: الإبداع المطبخي هو فنّ مستقلّ تماماً، مثله مثل فنّ الرسم أو الأدب. بالنسبة إليه، لا يتوقّف فنّ الذِواقة عند إرضاء الحليمات الذوقية وإنّما يشتمل على بعدٍ فنّي. أكثر من كونه طبّاخاً، كان يعرّف نفسه على أنه مبدع، مقارناً عمله بعمل الكاتب أمام صفحته البيضاء، وكان يؤكّد بذلك على أنّه يمارس "فنّ الطبخ على طريقة الكاتب". يقول جوناثان: "في ما وراء العمل المهني البسيط، أريد أن يروي طبخي حكايات ويثير انفعالات وأحاسيس". من هذا المنظور، كان يعود إلى مصادر إبداعه لكي يحدّد جذور فنّه. كيف كانت تتشكّل بديهياته وتصوّراته؟ عبر أيّ عملية كان ينسّق نكهة ما مع نكهة أخرى لكي يحصل على مذاقٍ ونكهةٍ غير معروفتين من قبل؟ أيّ دور كان يلعبه تركيب الطبق وكذلك مظهره الجمالي؟ يقول جوناثان في اعترافاته: "أنا فضولي وأتوق لمعرفة كلّ شيء. أنا أغذّي وأغني نزعتي الإبداعية من خلال زيارة المتاحف ومعارض الرسم ومن خلال الاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة الأفلام السينمائية ومن خلال التأمّل في المناظر الطبيعية ولكنّ مصدر إلهامي الأوّل هو زوجتي، فرانسيسكا. أغلق مطعمي لثلاثة أشهر لكي ألجأ إلى ورشتي في كاليفورنيا. أحتاج إلى هذه المدّة من الزمن لكي أجدّد أفكاري وأحضّر الوصفات الجديدة التي سوف أعرضها في سلسلة لامبراتور في السنة التالية". فوجِئت مادلين بعدد الفصول المكرّسة للأزهار. كان جوناثان يستخدمها بغزارة في طبخه، ويمحور جزءاً من وصفاته حول نكهاتها: براعم السَلَبوت• المخلّلة، رقاقات محمّصة محشوة بكبدة البط مع مربّى الورد، أفخاذ ضفادع ممزوجة بالكراميلا بزهر البنفسج، عصير فاكهة بزهرة الميموزا، وحلويات مَرَنْغ بزهر الليلك، سكاكر بشقائق نعمان نمور.... أحسّت مادلين ببطنها الذي يقرقر. كلّ هذه المطالعة جعلتها تشعر بالجوع! دون أن تثير صخباً، انسلّت إلى خارج السرير ولفّت جسدها بغطاءٍ قبل أن تذهب إلى المطبخ الأميركي الذي كان يطلّ على السطوح. وضعت غلاّية الشاي على النار وفتحت باب الثلاجة بحثاً عن شيءٍ تسدّ به جوعها. هممممم، ليس هناك الشيء الكثير.... وهي تبحث في أدراج الثلاجة، عثرت في النهاية على ما تبقّى من قطعة غرانولا* . بانتظار أن تغلي الماء، قضمت قطعة بسكويت ولجأت إلى ملاحق كتاب اعترافات طاهٍ مغرم والتي تتضمّن بعض الوصفات التي كانت السبب في ذيوع شهرة المطعم النيويوركي للامبيرور. في الفترة التي كان جوناثان يقف فيها خلف أفران المطابخ، كان مطعم لامبراتور يقدّم كلّ مساء رحلة ذوقية منظّمة حول ما يقارب عشرين طبقاً يجري تذوّقها في صحونٍ صغيرة، حسب نظامٍ محدّدٍ يصلح لسيناريو فيلم، تتخلّلها مفاجآت وطرائف. حينما راجعت مادلين قائمة الوجبات، لم تستطع أن تتمالك نفسها وسال لعابها. الوجبة رقم 1 غراتان أذناب السرطانات بالكافيار هشوم قديد الخنزير بجبنة البارميزان بيض مخفوق بالشوكيات وحلوى النوغاتين فطائر أزهار الأكاسيا بالخطمية حبيبات الفول المحمّصة بالثوم في مسحوق الخبز المتبّل فطيرة بصل وزيتون حقيقية على طريقة نيس الوجبة رقم 2 محار سان – جاك المقلي بالمعكرونة مع رزّية باللوز رزّية بالكمأة مع مستحلبها بالشوكولا البيضاء مقادم عجل بلاد الباسك مخلّلة بالياسمين ثنائي أضلاع وشرائح ظهر الخاروف الرضيع بالعسل والزعتر الوجبة رقم 3 جَميدة مارشميلو المطبوخة على نار الحطب أناناس ببتلات زهرة المانوليا فراولة بزهرة السَلَبوت مزيّنة بورق الذهب مَرَنْغ على رغوتها الحليبية زهر الليلك بزيت الزيتون والعسل شرائح الموز بالكاكاو ورزّ بالحليب بزهرة البيلسان ملعقة كراميل برغوة جوزة الهند سكاكر محلاة بغزل البنات أخذت مادلين، وهي تمسك في يدها كوب الشاي، مكانها أمام شاشة حاسوبها المحمول. ومن خلال زجاج النافذة، نظرت إلى ندائف الثلج الشبيهة بصوف الخراف وهي تتساقط مدوّمة على أسطح البيوت المجاورة. عانت المرأة الشابة، رغماً عنها إلى حدٍّ ما، من انبهارٍ متزايد نحو لامبيرور ونحو السرّ الغامض الكامن خلف انسحابه المفاجئ من مشهد فنّ الطبخ والذِواقة. لماذا يختارُ رجلٌ لا يزال في مقتبل شبابه ومكلّلاً بالمجد والفخار وفي قمّة فنّه وعطائه، بين ليلةٍ وضحاها، أن يقضي بمحض إرادته على مهنته؟ لجأت إلى مستخدم الغوغل، فوضعت في خانة البحث اسم "جوناثان لامبيرور" متبوعاً بعبارة "إغلاق مطعمه" ثم أعطت الأمر بإجراء عملية البحث ... * في هذه الإثناء، في سان فرانسيسكو... في الساعة الرابعة من بعد الظهيرة، أرسل جوناثان آخر طبقٍ من التحلية – وهو عبارة عن تارت بسيط محشو بالمشمش ونبتة إكليل الجبل – قبل أن يحلّ صدريته ويغسل يديه. انتهت الخدمة! قال في نفسه وهو يغادر مطبخه. في صالة الطعام، ألقى التحية على أحد الزبائن وانتقل إلى خلف طاولة البار لكي يحضّر فنجانين من قهوة إسبريسو الإيطالية – فنجانٌ لمساعده وآخر لنفسه - أمسك بالفنجانين بين يديه وتحقّق من درجة حرارتهما لكي يكون متأكدّاً من أنّ درجة الحرارة معتدلة وأنّ نكهة القهوة محفوظة. في حي نورث بيش، وهو الحيّ الإيطالي في مدينة سان فرانسيسكو، لم تكن هذه الطريقة في تحضير قهوة الإسبريسو تروق للناس! لم تكن مسألة مهمة بالنسبة إليهم أن يمسكوا بفنجانٍ صغيرٍ لقهوة الإسبريسو أو يستخدموا واحدة من هذه الماكينات ذات الكبسولات والتي توحّد نكهة ومذاق القهوة في كلّ أرجاء المعمورة من شانغهاي في الصين إلى نيويورك في أميركا. خرج، وهو يمسك فنجانه بيده، إلى الشرفة وتأكّد من أنّ شارلي لا يشعر بالضجر ولا يتضايق كثيراً. كان الصبي، على لوحه اللمسي، غارقاً في عالم الديناصورات ولم يُعِر انتباهاً لوالده حينما جاء وجلس إلى جواره تحت إحدى المباخر. أشعل بحذرٍ وتروّ سيجارة وهو ينظر إلى المارّة والأطفال الذين يعبرون حي واشنطن سكوير. كان جوناثان يحبّ هذا المكان وجوّه الخاصّ. على الرغم من أن غالبية سكانه أصبحوا الآن من الأصول الآسيوية، إلا أنّ هذا الحي ظلّ مرتبطاً بإرثه الإيطالي – الأميركي، مثلما تشهد على ذلك عربات بيع المثلجات المتجوِّلة وأعمدة المصابيح الملفوفة بالعلم الثلاثي الألوان "الأخضر، الأبيض، الأحمر" والعديد من المطاعم العائلية التي كان الزبائن يتناولون فيها أطباقاً من المأكولات الإيطالية مثل المعجّنات مع صلصة البيستو وحلويات باناكوتا وتيراميسو. كان للحيّ طابعاً أسطورياً: فقد عاش فيه الكاتب والشاعر الأميركي جاك كيرواك، وعقدت الممثلة مارلين مونرو قرانها في كنيسته، وكان للمخرج فرانسيس كوبولا، مخرج فيلم العرّاب، باستمرار مطعماً فيه بالإضافة إلى مكاتبه. أخرج جوناثان من جيب سترته هاتف مادلين المحمول. لم تكن هناك أي رسالة جديدة من مادلين. فتح التطبيق الملغز وهو عاقدٌ العزم تماماً على أن يتمكّن من اختراق كلمة المرور. أدخل كلمة المرور حسناً، كان من الضروري أن يتصرّف حسب الأوامر. يتوضّح لنا دائماً بأنّ المفتاح الذي يحمي حساباتنا يكون بدرجة أهمية الرقم السري لبطاقتنا المصرفية نفسها. ليكن. وتتكرّر النصائح على مسامعنا لكي نختار كلمة سرّ تكون فعلاً آمنة: أن نتجنّب اختيار الكلمات القصيرة جداً، أن لا نستخدم معلومات معروفة من قبل أقاربنا، أن نختار سلسلة متعاقبة من الأحرف والأرقام والرموز الخاصّة. ومن وجهة النظر هذه، يجري التأكيد علينا بأنّ اختيار صيغة من قبيل "Efv(abu#$vh%rgiubfvoalkus,dCX!" سوف تكون كلمة سرّ مناسبة للغاية بحيث يكان يكون من المستحيل أن يتمّ اختراقها وقرصنتها. ازدرد جوناثان في جرعةٍ واحدة فنجانه الصغير من قهوة الإسبريسو. كان مقتنعاً بأنّ عليه أن يبحث عن شيءٍ بسيط. في حياتنا المعاصرة، علينا أن نتكيّف ونتعامل مع كلّ أنواع الرموز: بطاقات الائتمان، شبكات اجتماعية، حسابات البريد الإلكتروني، إدارة... للوصول إلى أي خدمة، نحن بحاجة إلى كلمة مرور. وكان ذلك عبئاً كبيراً يفوق قدرة ذاكرتنا على التحمّل. وبالتالي، ولتسهيل أمور الحياة، يميل معظم الناس إلى اختيار رموز قصيرة ومألوفة، يمكن تذكّرها بسهولة. وفي تحدٍّ لكل قواعد الأمان، تتمحور اختياراتهم حول تاريخ ميلادهم أو اسم زوجتهم أو أطفالهم، اسم حيوانهم الأليف في المنزل أو رقم هاتف أو سلسلة من الأرقام المتتالية أو الأحرف المتسلسلة. جرّب جوناثان، بشكلٍ منتظمٍ وممنهج وعلى التوالي، "123456" ثمّ "abced" ثمّ "greene" وكذلك رقم هاتف مادلين. كانت النتيجة الفشل في المحاولة. من خلال البحث والتنقيب في تاريخ الرسائل الإلكترونية للمرأة الشابّة، عثر على رسالة مثيرة للاهتمام على نحوٍ خاصّ: ملف طلب رقم المحرّك المرسل من قبل مادلين إلى التاجر الذي كانت قد باعت إليه دراجتها النارية. وكان هذا الملفّ يضمّ إلى جانب أشياء أخرى نسخة عن بطاقتها الشخصية. عرف جوناثان بذلك تاريخ ميلادها، فأدرج بالترتيب الخيارات التالية: "21031978"، "21mars1978"، "21\03\78"، ومن ثمّ جرّب الخيارات نفسها ولكن هذه المرّة باللغة الإنجليزية: "03211978"، "march211978"، "03\21\78" . ولكن الفشل كان حليفه في هذه المرّة أيضاً. قال لنفسه بصوتٍ عالٍ: -فكّر في الأمر! ولأن عنوان البريد الإلكتروني لمادلين كان maddygreene78@hotmail.com فقد جرّب كلمة السر بصيغة maddygreene ومن ثمّ maddygreene78. وكان الفشل مجدّداً. شعر جوناثان بالغضب والكبت يتصاعدان في داخله. شدّد على قبضته بتوتّر وتنهّد. كان أمراً مثيراً للغيظ أن يجد نفسه على أبواب السرّ ويكون غير قادرٍ على الوصول إليه! * وضعت مادلين نظّارة دقيقة لكي تقرأ على نحو أكثر راحةً نتائج البحث التي ظهرت على شاشتها. لامبيرور المنبوذ، لامبيرور المعزول، سقوط لامبيرور: كانت الصحف قد تبارت في اللعب بالكلمات لكي تعلن "تقاعد" جوناثان. نقرت على الرابط الذي يؤدّي إلى المقالة المنشورة في موقع الإنترنت لصحيفة ليبيراسيون. ثقافة 30\12\2009 لامبيرور المخلوع عقد معجزة المطبخ الطليعي مؤتمراً صحافياً مفاجئاً، البارحة مساءً في مانهاتن، لكي يعلن إغلاق مطعمه وكذلك بيع جميع موجوداته. بوجهٍ محبطٍ وقد غزته اللحية وعينين محاطتين بهالة زرقاء وشبحٍ مدوّرٍ للغاية: بهيئة محبطة للغاية، أعلن بابا فنّ الطبخ والذِواقة النيويوركي، الشيف الفرنسي جوناثان لامبيرور، يوم الخميس، الإغلاق الفوري والمباشر لمطعمه، لامبراتور (من فئة ثلاث نجوم في سلسلة ميشلان)، وكذلك بيع جميع موجودات المجموعة التي كان قد أسّسها مع زوجته فرانسيسكا ديليلو. قرارٌ له نتائج وخيمة على الألفي موظّف الذين كانوا يعملون في المؤسّسة. شيفٌ متميّز واستثنائي لقد صُنِّف مطعم لامبيرور، الواقع في النادي الليلي الأسطوري رينبو روم، لمرّات عديدة ونال لقب "أفضل مائدة في العالم" من قبل مجلّة ريستورانت ماغازين البريطانية. كان بعض الناس يرى لامبيرور رؤيوياً ومبتكراً بينما يعتبره آخرون دجّالاً ومشعوذاً وبذلك قسّم عالم فنّ الذِواقة والطبخ منذ ما يقارب عشرة أعوام. إعياء لكي يبرّر قراره المفاجئ، زغم الشيف بأنّه "متعب وفاقد للدافع ومنهوك"، معبّراً بهذه الطريقة عن إنهاكه من جرّاء نشاطه الدائم والمتواصل واضطراره للعمل لثماني عشرة ساعة يومياً و360 يوماً في العام. "أوقفت كلّ شيء. بشكلٍ نهائي"، أوضح لامبيرور، مستبعداً بشكلٍ قطعي إمكانية أن ينخرط من جديد في العمل في مطعم كبير. "لم أعد أحسّ بأيّ متعة في ممارسة فنّي ولا أعتقد أنّ بوسع هذه المتعة أن تعود ذات يوم"، شرح جوناثان الموقف موضّحاً كذلك بأنّه قد ملّ وتعب من النقّاد الذين لم يعودوا يفهمون عمله. مشاكل زوجية أكثر من النقّاد، يبدو أنّ المشاكل الزوجية هي التي عجّلت خياره في الانسحاب من عالم الطبخ. "كنتُ متعلّقاً جداً بزوجتي، فرانسيسكا، وليس هناك أدنى شكّ في أن انفصالنا الحديث العهد قد لعب دوراً في اتخاذي لهذا القرار"، اعترف لامبيرور، رافضاً في الوقت ذاته الإجابة عن كلّ الأسئلة المتعلقة بحياته الخاصّة. مشاكل مالية كما أوضح: "ولكنّ ثوابت مالية كانت أيضاً من مواضيع الخلاف التي دفعت من دون شكّ تقاعدي المحتوم إلى خاتمته". منذ سنواتٍ عديدة، كانت مجموعة لامبراتور قد أنّت في الواقع تحت ديون باهظة، وقد وقعت في شرك نمطٍ اقتصادي يفتقر إلى التنافسية واستثماراتٍ اعتباطية. إذاً، لقد وجد لامبيرور، والسكين على رقبته، نفسه مرغماً على التخليّ عن رخصة الاستثمار المسجّلة باسمه للمجموعة الفندقية الفاخرة، وين إنترتينمنت التي كان عليها أن تستعيد كامل موجودات المجموعة. مستقبل مجهول وهو لم يبلغ بعد الأربعين من عمره، ما الذي سيفعله الآن لامبيرور؟ هل سيستريح؟ هل سيعود إلى جذوره؟ هل سينخرط في رهانٍ آخر؟ بقي الشيف غامضاً فيما يتعلّق بمستقبله. مستعجلاً على وضع حدٍّ لحديثه، ترك مؤتمره الصحافي وهو رجلٌ وحيد، تائه النظرات. كان رجلاً منهكاً ولكن ربّما كان مرتاحاً، في سرّه، لكونه لم يعد يلعب دور "الإمبراطور". نقرت مادلين على رابطٍ آخر: مقالة من موقع نيويورك تايمز كانت تعطي إضاءة جديدة على الواقعة. متلازمة فاتيل كتبها تيد بوكر نُشرت في 30 كانون الأول \ ديسمبر 2009 هل أُصيب الزعيم الأسطوري للمطبخ الطليعي، جوناثان لامبيرور بمتلازمة فاتيل ؟ في الحقيقة الشيف النيويوركي ليس الطاهي الماهر الأول الذي ينسحب على نحوٍ مفاجئ من المسرح بعد خيبة أمل. بدءاً من برنار لوازو وصولاً إلى جاك لارو، عانى العديد من كبار الطهاة قبله من القلق والإحباط الدائم. لقد نجح جوناثان لامبيرور نجاحاً مذهلاً في الجمع بين الإبداع والاعتراف النقدي والمردودية خلال ما يقارب من عشرة أعوام. وهذا التوازن الهشّ هو ما تحطّم هذا المساء. وقد تلت ذلك مجموعة كبيرة من الشهادات التي تعطي للمقالة ملامح سجلّ الوفيات، فقد تحدّث جميع المتكلّمين على لامبيرور كما لو أنّه كان ... ميّتاً. أشاد عمدة نيويورك مايكل بلومبيرغ بالموهبة الرائعة لطاهٍ عظيم أصبح بمرور السنين نيويوركياً متكيّفاً. واستذكرت هيلاري كلينتون "دعم جوناثان لامبيرور الفعّال للأعمال الجارية في المدارس لكي يشجّع التربية برغبة الأطفال". وكان وزير الثقافة الفرنسية، فريديريك ميتيران يحيّي فيه "عبقرية الإبداع في فنّ الطبخ والذِواقة والتي أجادت المساهمة في التوهّج العالمي لفنّ الطبخ الفرنسي". وإلى جانب ردود الفعل الراضية والمشيدة بكفاءة جوناثان، كانت هناك مداخلة مثيرة للدهشة بوضوح: إنّها مداخلة الطاهي الاسكتلندي، آليك باكستر، الذي كان جوناثان قد أزاحه عن عرش لقب أفضل طبّاخ في الكوكب. أخذ باكستر بثأره من جوناثان ولم يخفِ سروره: "لم يكن لامبيرور سوى نيزكٍ عابرٍ في عالم الطبخ. نيزكٌ صنعته وسائل الإعلام والذي ترك نفسه في النهاية لأن يُلتَهَم من قبل النظام الذي دفعه إلى أعالي اللوحات الإعلانية. مَن سوف يتذكّر اسمه بعد عشر سنوات؟". لكن الشهادة الأكثر قوّةً والأكثر شخصانيةً والأكثر حدّةً وإيلاماً كانت تعود إلى كلير ليزيو، وهي إحدى مساعدات لامبيرور، فقد شرحت المرأة الشابّة قائلة: "أنا أعمل مع جوناثان لامبيرور منذ عشرة أعوام. وهو الذي علّمني كلّ شيء. وقد انتقاني بينما كنتُ نادلة في أحد المقاهي ماديسون الذي كان يرتاده كلّ صباح ليتناول فطوره فيه. لم يكن لدي الإذن بالعمل على نحو مشروع وقد ساعدني على تسوية وضعي وسمح لي بأن أعمل في مطعمه. كان رجلاً ذا إرادة قوية وصارماً للغاية ولكنّه كان كريماً وسخياً مع العاملين لديه". غمغمت مادلين قبل أن تستكمل قراءة مقالتها: - أمّا أنتِ يا عجوزتي العزيزة، فلا بدّ أنّكِ كنتِ عشيقة سرّية له ... أكملت كلير شهادتها: "جوناثان مزيجٌ بين القوّة والضعف. إنّه كائنٌ ذو شخصية متطرفة، مليئة بالمتناقضات، يعشق ويحتقر وسائل الإعلام والشهرة. في الأيام الأخيرة هذه، أحسستُ بأنّه محبطٌ للغاية. كان يسعى دون كللٍ ولا ملل، بنشاطٍ فائق وفي ظلّ التوتّر المستمرّ، إلى الكمال الذي تحوّل إلى نوعٍ من العبودية. كان منهكاً، وكان يعمل دون توقّف أو استراحة من الصباح وحتى المساء. تقريباً لم يكن يأخذ ايام عطلة أو إجازات أبداً. وطالما كانت زوجته تسانده وتقف إلى جانبه، كان بمنجى عن الجنون، ولكن حينما هجرته أصبح كلّ هذا عبئاً ثقيلاً لا يمكن تحمّله. لأنّ كل العالم انخدع بجوناثان لامبيرور: تعطّشه إلى المعرفة، طموحه، امتيازاته في نظام النجوم لم تكن من علامات جنون العظمة المفرطة. أعتقد أنّه كان يفعل كل هذا فقط من أجل فرانسيسكا. لكي ينال إعجابها، لكي تحبّه. منذ اللحظة التي انفصلا فيها عن بعضهما، أعتقد بكلّ بساطة بأنّه لم يعد هناك أي شيء يهمّه وأنّ ليس هناك أيّ شيء ذي معنى بالنسبة إليه...". -ماذا تفعلين ساهرةً إلى الآن؟ رجفت مادلين والتفتت كما لو أنّها ظُبطت وهي ترتكب خطاً. كان رافائيل، وهو يرتدي مبذلاً، ولا يزال نعساً ينظر إليها بهيئة غريبة. قالت وهي تغلق على عجلٍ شاشة حاسوبها: -لا شيء، لا شيء. أنا ... أنا كنت أجري حساباتي: الاكتتابات، تأمينات العمل، الحمولات... المهم، أنت تعرف أمور العمل. -ولكن الساعة بلغة الثانية فجراً! شرحت له وهي ترفع نظارتها: -لم أستطع أن أنام، يا عزيزي. شربت جرعة من الشاي الذي أصبح بارداً، ودسّت أنفها في علبة البسكويت، ولكنّها اكتشفت بأنّ العلبة كانت فارغة. انحنى عليها رافائيل لكي يطبع قبلة على شفتيها. مرّر يده على أسفل سرّتها وداعب بطنها. ثمّ غادر فمه فم مادلين لكي ينساب على عنقها. بهدوء وبطء، أسقط إحدى حمالتي قميص نومها الحرير ومن ثمّ الحمّالة الثانية... قوطِعت حميّته الغرامية فجأةً بنغمة جومبين جاك فلاش. ارتعش رافائيل تحت تأثير المفاجأة وتراجع إلى الوراء. نظرت مادلين إلى هاتف جوناثان الذي كان يرجّ بجانب حاسوبها. كانت صورة امرأة سمراء ذات هيئة وقورة، بعينين غامقتين وعميقتين، تظهر على الشاشة. وكانت صورتها تترافق مع اسم: فرانسيسكا دون أن تأخذ وقتاً للتفكير، فصلت مادلين الخطّ. * -بابا، أنا جائعٌ بعض الشيء. رفع جوناثان رأسه عن شاشته. كان منذ ساعة غارقاً في الحيل الملتوية لتفكيره، محاولاً أن يُقرصن الرقم السرّي لمادلين ولكن دون أن يحالفه النجاح. استعرض جزءاً كبيراً من البريد الإلكتروني للمرأة الشابّة، وهو يجمع بصبرٍ وأناة أجزاءً من المعلومات ومحاولاً عند بروز كلّ علامة جديدة أن يعثر على كلمة المرور المناسبة. أعطى جوناثان منديلاً ورقياً لشارلي كي يمسح أنفه الذي يسيل مثل نافورة وقال: -اذهب وابحث عن بلوزة لكي ترتديها يا عزيزي. كانت الشمس قد غابت لتخلي مكانها لضبابٍ أبيض وكثيف يغطي الشوارع والحديقة التي كانت الشرفة تطلّ عليها. لم يكن من العبث أن لُقِّبَت مدينة سان فرانسيسكو بلقب فوغ سيتي، مدينة الضباب، بل كان ذلك أحد الملامح الغامضة بعض الشيء والمشوّشة للمدينة: السرعة التي ينتشر بها ضبابٌ كثيف خلال بضع دقائق ويستطيع أن يغطّي المدينة وجسرها المعلّق غولدن غيت الشهير. حينما عاد شارلي، وهو غائصٌ في بلوزةٍ سميكة ذات ياقة عالية، نظر جوناثان إلى ساعة يده. -سوف لن تتأخّر أليساندرا أكثر، هل يسعدك أن تذهب معها لمشاهدة فيلم ويكيد؟ وافق شارلي على ذلك بإيماءةٍ من رأسه قبل أن يصرخ: -ها هي! وقفز شارلي فرحاً عندما شاهد مربّيته. كانت الطالبة ابنة ساندرو ساندريني، صاحب أحد المطاعم الإيطالية الأقدم في الحي وتجري مجموعة من الدراسات في جامعة بيركلي وكان جوناثان يلجأ إلى خدماتها كلّما يأتي شارلي في زيارة إلى كاليفورنيا. كان يصافح الفتاة ويرحّب بها حينما ارتجّ الهاتف المحمول في يده. نظر إلى الشاشة ليرى مَنْ يظهر عليها وتعرّف على الأعداد المألوفة لرقم هاتف زوجته السابقة! شرحة له فرانسيسكا بصوتٍ محايد بأنّها حينما حاولت الاتصال به، وقعت على امرأة باريسية وقد شرحت لها كيفية تبادل جهازيهما. كانت تريد فقط أن تطمئنّ بأن كلّ شيءٍ على ما يُرام وأن تتحدّث إلى شارلي. قال جوناثان وهو يمدّ سمّاعة الهاتف نحو شارلي: -إنّها أمّك. الفصل الثامن الأشخاص الذين نحبّهم أحياناً، هذا هو الحبّ أيضاً: أن نترك اولئك الذين نحبّهم أن يغادروا. جوزيف أوكونور مقاطعة سوناما ولاية كاليفورنيا صباح يوم الأحد سأل شارلي والده: -أنت لم تعد تحبّ ماما، أليس كذلك؟ كانت سيارة أوستن ذات البابين تسير على طول الشاطئ المقطّع للمحيط الهادئ. كان جوناثان وابنه شارلي قد استيقظا عند الفجر وغادرا سان فرانسيسكو عبر الطريق السريع رقم واحد، وعبرا على التوالي شاطئ الرمل الأسود موير بيش والقرية البوهيمية بوليناس التي كان سكانها يقتلعون ويزيلون منذ عقودٍ من الزمن جميع علامات الإرشاد الطرقية لكي يحموا أنفسهم من السياحة الجماهيرية. أعاد الصبي سؤاله بطريقة أخرى: -إذاً، هل ما زلت تحبّ ماما؟ سأل جوناثان وهو يخفض صوت الراديو: -لماذا تطرح عليّ هذا السؤال؟ -لأني أعرف أنّها تشتاق إليك وتودّ أن نعود ونعيش معاً نحن الثلاثة من جديد. هزّ جوناثان رأسه. كان لا يزال يرفض أن يجعل ابنه يعتقد بأنّ انفصاله عن والدته قد يكون مؤقّتاً. من خلال تجربته وخبرته، كان يعرف بأنّ الطفل يحتفظ في غالب الأحيان في داخله بالأمل الكامن في أنّ والديه سيعودان إلى بعضهما ذات يوم ولم يكن يرغب في أن يحافظ شارلي على هذا الوهم. -انس هذه الفكرة يا عزيزي. هذا الأمر سوف لن يحدث. أبدى الصبيّ ملاحظة: -أنت لم تجب عن سؤالي. ما زلت تحبّها بعض الشيء، أليس كذلك؟ -اسمعني يا شارلي، أنا أعرف بأنّ هذا الأمر صعبٌ بالنسبة إليك وأنّك تتألّم من هذا الوضع. لقد انفصل والدي حينما كنتُ بسنّك هذه. ومثلك تماماً، كنتُ حزيناً لذلك وكنت أعاتبهما على أنّهما لا يبذلان جهوداً لكي يعودا إلى بعضهما من جديد. أنا أوافقك الرأي بطيبة خاطر بأننا كنّا نحن الثلاثة أكثر سعادة حينما كنّا، أمّك وأنا، نحبّ بعضنا. ولكن لسوء الحظّ، إن قصص الحبّ ليست أبدية. هذه هي حال الدنيا. من المهمّ جداً أن تدرك بأن تلك المرحلة أصبحت خلفنا وجزءاً من الماضي وأنّها سوف لن تعود أبداً. -هممم.... -ماما وأنا، كنّا نحبّ بعضنا كثيراً وأنت ثمرة ذاك الحبّ. لا شيء سوى هذا، وسوف لن أندم أبداً على تلك الفترة. -هممم.... لم يكن جوناثان ينتقد أمام ابنه أبداً فرانسيسكا في دورها كأمّ، فإذا كان يمكنه لومها ومعاتبتها على كونها زوجة غير وفيّة، إلا أنّها كانت بالنسبة إلى شارلي أمّاً رائعة. تابع جوناثان وشرح لابنه، وهو يطبّق حرفياً نصائح الأطباء النفسيين التي سبق له وأن قرأها: على العكس من علاقات الزوجين، تستمرّ علاقات الأبوين مع الأطفال طيلة الحياة. ليس لك أن تختار بيننا: سوف تبقى والدتك إلى الأبد والدتك وسوف أبقى إلى الأبد والدك. نحن الاثنان نتحمّل المسؤولية عن تربيتك وسوف نكون إلى جانبك في اللحظات السعيدة من حياتك كما في اللحظات الصعبة والحزينة. -هممم... نظر جوناثان إلى المشهد في الخارج من خلال الزجاج الأمامي للمنزل. كان الطريق، المتعرج والموحش آنذاك، يحاذي طول المحيط. كان المكان بمنحدراته الخشنة والمتآكلة من جراء الرياح يُعطي الانطباع بأنّه في بريطانيا أو إيرلندا أكثر مما لو كان في ولاية كاليفورنيا. أحسّ بأنّه مذنبٌ بكونه لم يُحسن أن يتحدّث إلى ابنه بكلماتٍ أكثر دقّة وصحّة. بالنسبة إلى شارلي، كان الانفصال بين والديه قاسياً وغير متوقّع. كان جوناثان قد حرص إلى هذه اللحظة على ألا يدخل أبداً في تفاصيل علاقته مع والدة ابنه، ولكن هل كان هذا التصرّف هو الحلّ الصحيح والمناسب؟ نعم، بلا أدنى شكَ: كيف يمكن أن يشرح المرء لطفلٍ تعقيدات العلاقة الزوجية والآثار المدمّرة للخيانة الزوجية؟ على الرغم من كلّ شيء، جازف بإعطاء بعض التوضيح: -أنا لا أنكر أيّ شيءٍ من الماضي، ولكن جاء يومٌ أدركتُ فيه بأنّ أمّك لم تعد المرأة التي كنتُ أعتقد بأنّني أعرفها. خلال السنوات الأخيرة من زواجنا، كنتُ عاشق وهمٍ وسراب. هل تفهمني؟ -هممم.... -كفّ عن "هممم" خاصّتك هذه! هل فهمت ما أقصد أم لا؟ ردّ الطفل وهو يكشّر تكشيرةً مضحكة: -لا أعرف تماماً. تباً لي، لماذا أخبرته بهذا؟ ... ردّد جوناثان في نفسه معبّراً عن ندمه. مرّا بقطيعٍ من الأبقار ثمّ وصلا إلى المكان الذي يقصدانه: قرية بودينغ باي الصغيرة لصيادي السمك. كانت القرية التي تقع على بعد ستين كيلو متراً إلى الشمال الغربي من سان فرانسيسكو قد نالت شهرة عالمية منذ أن بدأ ألفريد هيتشكوك بتصوير غالبية مشاهد فيلمه الشهير الطيور فيها. في صبيحة ذاك النهار الشتوي، كانت المدينة الساحلية تحفل بالناس بهدوءٍ. ركنا السيارة في موقف السيارات شبه الفارغ. خرج شارلي من السيارة وجرى على الجسر الخشبي الصغير الممتدّ في البحر لكي يراقب عجول البحر التي كانت تلتمع مذهّبة تحت أشعة الشمس وهي تطلق صيحات الفرح. في الميناء، كانت العديد من البسطات تعرض قشريات بحرية لا تزال تتلوّى بينما كان، تحت مظلات المطاعم، يتأرجح بعض "الرجال الطاعنين في السنّ" في كراسٍ هزّازة وهم يستمتعون في الوقت ذاته بتناول قطعٍ كبيرةٍ من المعجنات وأطباقٍ من حساء "كلام شودر" . وكما كان قد وعد ابنه، استأجر جوناثان قارباً صغيراً ذات قمرة مدبّبة أشبه بزورقٍ صغيرٍ مرسيلي . -هيّا، أيّها البحّار الصغير، افرد شراعك! كانت صفحة الماء هادئة ومثالية للإبحار. ابتعد القارب الشبيه بقشرة الجوز عن الشاطئ ثمّ استقرّ على بُعد ميلين عن الميناء. أخرج شارلي قصبة الصيد خاصّته وبمساعدةٍ من والده علّق دودةً بالصنارة قبل أن يرميها مع خيطها في المياه. تفحّص جوناثان هاتف مادلين ولكن في هذا الجزء من المقاطعة، لم تكن التغطية متوفّرة. أبقى جوناثان عينه اليقظة على ولده وأشعل سيجارة وتذوّق نكهة أوّل نفثةٍ منها وهو يراقب سرب كفيّات القدم التي كانت تحوم حول القارب. من المؤكّد أن هذه الطيور هي التي ألهمت ألفريد هيتشكوك: كانت الطيور من كلّ الأصناف تغزوا وتجتاح المكان – طيور اللورس، طيور الغاق، طيور الشُنْغُب، النوارس – والتي كانت صيحاتها تختلط بأبواق القوارب والمراكب التائهة وسط الضباب. سأل شارلي والده: -قل لي، لماذا تدخّن في حين أنّ التدخين يسبب الموت؟ تظاهر جوناثان بأنّه لم يسمع السؤال وسأل بدوره: -هل هناك سمكة تعضّ على دودة الصنّارة؟ لكن الطفل لم يشأ أن يتخلّى عن حربه المقدّسة ضدّ التبغ، فقال وقد اغرورقت عيناه بالدمع: -أنا لا أريدك أن تموت. أطلق جوناثان تنهيدة. كيف يمكن مقاومة هذا الأمر؟ رضخ لشارلي فسحق عقب سيجارته بعد أن أخذ منها آخر نفثة: -هل أنت سعيد الآن؟ أجاب الصبي وقد استعاد في الحال بشاشة وجهه: -نعم أنا سعيد. * في هذا الوقت، في دوفيل... كان رقّاص الساعة الجدارية في الصالون يشير إلى الساعة السابعة مساءاً. وكانت ألسنةُ نارٍ جميلة تتراقص في المدفأة. وكان رافائيل ووالده يتواجهان من حول طاولة البلياردو. وكانت مادلين، الجالسة على الأريكة الجلدية، تهزّ رأسها بطريقة آلية وهي تصغي بأذنٍ ساهية إلى ثرثرة إيزور – حماتها المستقبلية- في حين كان سولتان، الطبّاخ الإنجليزي للعائلة، يريل،بحنان على حذائه الجديد. خارج المنزل، كان المطر ينقر على الزجاج منذ بداية ما بعد ظهيرة ذلك اليوم. أدارت إيزور فجأةً انتباهها عن مادلين لكي ترفع صوت التلفزيون الذي كان يبثّ في تلك الفترة من نهاية السنة حلقات لا تنتهي من برنامج أخطاء وعثرات، وصرخت باندهاش: -آه! أنا أعشق هذا البرنامج! استغلّت مادلين تلك الفرصة لتنسحب من الأريكة إلى الخارج: -سوف أذهب لكي أدخّن سيجارة! احتجّ رافائيل قائلاً: -كنتُ أعتقد أنكّ قد أقلعت عن التدخين. أضافت إيزور على احتجاج رافائيل وقالت: -هذا سيقتلك، يا عزيزتي. وافقت مادلين على تحذيرها وقالت: -بكلّ تأكيد، هذا صحيح، ولكن من الضروري أن يموت المرء بسببٍ ما، أليس كذلك؟ عند هذا الكلام، ارتدت سترتها المقلنسة المصنوعة من الفرو وخرجت إلى الشرفة. ولأنّ الليل كان قد هبط منذ زمنٍ طويل، فإنّ نظاماً متطوّراً من المصابيح الضوئية كان ينير المنوار الأنجلو – نورماندي الصغير كاشفاً على واجهاته الخشبية والماء الفيروزي لحوض السباحة. سارت مادلين لبضع خطواتٍ على طول الشرفة المغطاة لكي تتّكئ بمرفقيها على الدرابزين. كان المسكن يطلّ على ميدانٍ لسباق الخيل ويوفّر إطلالة رائعة ومؤثّرة على دوفيل. أشعلت سيجارتها وسحبت أوّل نفثة منها. داعبت الرياح بنسائمها وجهها. تأرجحت على وقع صخب البحر، وأغمضت عينيها محاولةً أن تغوص في أعماق ذاتها. كانت الراحة البرجوازية وحالة الاسترخاء والكسل في عطلة نهاية الأسبوع تلك تثير لدى مادلين مشاعر متناقضة ومختلطة: السكينة، الهدوء، التمرّد، الرغبة في الهروب. ربّما مع الاعتياد على ... كانت أعماق الريح بارد وصقيعية. سحبت ياقة سترتها حتى تغطّي عنقها وغطّت رأسها بقلنسوة السترة ثمّ أخرجت الهاتف المحمول من جيبها. كانت غالبية أفكارها تتّجه، منذ هذا الصباح، نحو فرانسيسكا ديليلو التي تحدّثت إليها بالهاتف في الليلة الماضية. مارست تلك المرأة مع سرّها وقصّتها عليها سحراً غريباً. كانت محادثتهما مقتضبة ولكنّها ذات دلالة بما فيه الكفاية لكي تستحوذ على ذهنها طيلة النهار. حينما أدركت فرانسيسكا الموقف، طلبت منها، وهي مرتبكة بعض الشيء، أن تمسح الرسالة التي تركتها على المجيب الآلي لهاتف جوناثان وأن لا تتحدّث عنها له. اعترفت لها بأنّها كانت عبارة عن "لحظة ضعف". وقد تفهّمت مادلين موقفها. فتحت محرك البحث في جهاز الهاتف المتطوّر سمارت فون ونقرت أحرف اسم فرانسيسكا في قسم "الصور" في خانة محرّك البحث. كانت الوريثة، في ريعان شبابها، وبينما كانت تتابع دراستها لعلم الإدارة، عملت عارضة أزياء لصالح دور أزياء كبيرة في عالم الموضة. كانت تواريخ الصور الأولى تعود إلى سنوات التسعينات من القرن العشرين وكانت تُظهرها على منصّات العرض وفي إعلانات تجارية. حسب لقطات الصور، كانت تظهر على هيئات ديمي مور أو كاترين زيتا – جونز أو مونيكا بيلوتشي. ومن ثمّ، ظهرت لقطات عديدة مع جوناثان وهذا دليلٌ على أنّ الزوجين، في سنوات حياتهما السعيدة، لم يتردّدا في استخدام حياتهما الخاصّة في سبيل تنمية مشروعهما. أصبح هطول المطر أكثر غزارةً. رعد البرق، وضربت الصعقة الرعدية قريباً من المنزل، ولكن مادلين الغارقة في فضائها السفلي لم تلمحها. انزلقت أصابعها على الشاشة اللمسية ونقرت على نقشٍ صغير قادها إلى الموقع الإلكتروني لمجلّة فانيتي فير. قبل بضع سنوات خلت، كانت الطبعة الأميركية من مجلة باري ماتش قد خصّصت ست صفحات للزوجين تحت عنوان: "الطبخ، إنّه الحب!" وقد احتوت الصفحات على مقابلة مطوّلة ومجموعة من الصور المثيرة بما فيه الكفاية والتي لم يكن لها سوى علاقة بعيدة بفنّ الطبخ والذِواقة. كان يمكننا أن نرى على واحدة من تلك الصور بأنّ الزوجين قد وشما عبارة مطابقة على لوح الكتف الأيمن. كبّرت مادلين حجم الصورة لكي تتمكّن من قراءة "النقش الكتابي". You’ll never walk alone كان الوشم جميلاً ... شريطة أن يكونا متأكدين من البقاء معاً طيلة حياتهما. لأنّه في الوقت الراهن، مع التراجع الذي حصل، أصبحت الصورة مثيرة للشفقة. قال رافائيل وهو يفتح الباب: -حبيبتي، ستبردين! أجابت مادلين دون أن ترفع عينيها عن الهاتف: -سأعود إلى الصالون يا قلبي! وهي تنتقل من صورة إلى أخرى، قفزت بديهة إلى عينيها. حسب ظهورها منفردة أو برفقة جوناثان، كانت وضعية فرانسيسكا تتغيّر: تتحوّل عارضة الأزياء الرشيقة، الواثقة من قدرتها على الإغراء، إلى امرأةٍ عاشقة عيونها شبيهة بعيون المغنية الفرنسية شيمين بادي. حتى خلف عمليات الإخراج المرسلة إلى الصحافيين، كان الحبّ الذي يجمع هذين الزوجين لا يثير أيّ شكٍّ. تساءلت مادلين وهي تعود إلى الصالون: ما الذي فصلهما عن بعضهما؟ * سأل شارلي وهو يضع قصبة الصيد خاصّته في صندوق السيارة: -لماذا انفصلا عن بعضهما؟ -مَنْ تقصد؟ -والداك؟ عبس جوناثان، أدار مفتاح تدوير المحرّك وبحركة أمر الصبيّ بأن يربط حزام الأمان، غادرت السيارة بوديغا باي وأقلعت باتجاه سان فرانسيسكو. وهو يقود السيارة، فتح جوناثان محفظته لكي يُخرج منها الصورة المبلّلة لمطعمٍ صغيرٍ في المقاطعة. عرض الصورة على شارلي وشرح له: -كان جدّاك يملكان مطعماً في جنوب غرب فرنسا. قطّب الصبي عينيه ليتمكّن من قراءة العبارة وبدأ بتهجئة الاسم: -لا شو – فا – لي – ير . أقرّ جوناثان بحركة من رأسه بصحّة قراءته. -حينما كنت طفلاً، خلال بضعة أشهر، أحبّ والدي امرأة أخرى غير أمّي: مندوبة شركة كبيرة وماركة شهيرة من الشامبانيا التي كانت تموّن مطعمه؟ -صحيح؟ -استمرّ هذا الحب لأكثر من عام. ولأنّ الإشاعات سرعان ما تُشاع في المدن الصغيرة، فقد حرصا على أن يُبقيا حكايتهما طي الكتمان وقد نجحا في ذلك. -لماذا أقدم والدك على هذا الأمر؟ أخفض جوناثان واقية الشمس الأمامية لكي يتحاشى الضوء المبهر لأشعّة شمس الظهيرة. -لماذا يخون الرجال زوجاتهم؟ لماذا تخون النساء أزواجهنّ؟ ترك السؤال معلّقاً لبضع ثوانٍ وكأنّه كان يفكّر بصوتٍ عالٍ: -هناك جملة من الأسباب، على ما أتصوّر: تلاشي الرغبة، الخوف من الشيخوخة، حاجة المرء إلى الاطمئنان على قدراته على الإغراء، الانطباع والإحساس بأنّ مغامرة عاطفية قد لا تفضي إلى نتيجة ... تفسيرات مما لا شكّ فيها أنّها مشروعة ومقبولة. لا يمكنني أن أخبرك بأنني أجد الأعذار والمبررات لوالدي، ولكنني لا أرجمه كذلك. -إذاً، ليس هذا هو السبب في أنّك لم تعد تتحدّث عنه منذ أن مات؟ -كلا يا عزيزي، ليس هذا هو السبب. كان لوالدي أخطاء وعيوب أخرى، ولكن على الرغم من عدم إخلاصه ووفائه، لم أشكّك قط في حبّه لوالدتي. أنا متأكّدٌ من أنّ خيانتها الزوجية قد آلمته كثيراً ولكن العاطفة والشغف أشبه بالمخدرات: في البداية، تعتقد بأنّك تسيطر عليها وتتحكّم بها، ثمّ يأتي يوم، تضطّر لكي تقرّ وتعترف بأنّها هي التي تسيطر عليك وتتحكّم بك... متفاجئاً ومتضايقاً بعض الشيء في آنٍ واحد من هذه الاعترافات، نظر شارلي إلى والده بهيئة غريبة في مرآته الداخلية العاكسة ولكنّ جوناثان كان مسترسلاً في الحديث: -في النهاية، نجح في "الشفاء من تسمّم" هذه المرأة. ولكن بعد ستّة أشهر من نهاية هذه المغامرة العاطفية، لم يجد ما هو أفضل من أن يبوح لوالدتي بخيانته الزوجية. سأل الصبي وهو في غاية الاندهاش والتعجّب: -لماذا؟ -أعتقد أنّه شعر باحتقارٍ للذات وبالذنب. أشعل جوناثان غامز السيارة لكي يَركنها أمام مضخّة بنزين في محطّة وقودٍ قديمة. سأل الطفل وهو يتبع والده: -وماذا حدث بعد ذلك؟ أغلق جوناثان سدادة مخزن الوقود. -توسّل إلى زوجته لكي تغفر له. ولأنّه كان لديهما طفلان، طلب إليها أن يحافظا على الأسرة ولكنّ والدتي كانت قد حُطِّمت من جرّاء هذه الخيانة. كان زوجها قد أفسد حبّهما وخرّب كلّ ما بنياه وبالتالي، رفضت أن تغفر له وهجرته. -مرّة واحدة وإلى الأبد؟ دفع جوناثان ثمن الوقود وعاد إلى السيارة. شرح له وهو يُقلِع بالسيارة: -هكذا كانت جدّتك. -كيف كانت؟ -كانت عاشقة كبيرة، مثالية كبيرة، مهتاجة وشغوفة. أدركت، بقسوة، أنّ أكثر شخص أحبّته في العالم كان قابلاً لأن يكذب عليها ويجرحها. كانت غالباً ما تردّد بأن الثقة بين الزوجين عنصرٌ أساسي في الحياة. تقول بأنّه من دون الثقة لا يكون الحبّ حبّاً حقيقيّاً، وفي هذه النقطة، أعتقد أنّها كانت على حقّ. ولأن شارلي نسي بأنّه مغفّل، لم يستطع الامتناع عن إبداء الملاحظة: -هذا يشبه ما عشته أنت مع ماما. وافقه جوناثان الرأي: -نعم، على مرّ سنوات، لم نكن أنا ووالدتك سوى شخصٍ واحد. نتقاسم كلّ شيء وكان حبّنا يحمينا من كلّ شيء. ولكن ذات يوم ... ذات يوم، رحل الحبّ... وليس هناك أيّ شيءٍ آخر يُقال. هزّ شارلي رأسه بحزن وبما أنّه لم يكن هناك أي شيءٍ آخر لكي يُقال، ظلّ صامتاً حتى وصلا إلى البيت. الفصل التاسع سرٌّ محفوظٌ جيّداً كانت بينهما حميمية سرٍّ محفوظٍ جيّداً. مارغريت يورسينار سان فرانسيسكو يوم الأحد بداية ما بعد الظهيرة فتح شارلي باب البيت ودخل إلى الصالون. -انظر يا عمّي ماركوس! لقد اصطدتُ سمكتين! كان الكندي، مترهّلاً على الأريكة، متربّعاً فيها، يدخن "صاروخاً" ضخماً أشبه بقرنٍ من البطاطا المقلية. قال الصبي وهو يدعك أنفه بأصابعه: -لهذه السيجارة رائحة غريبة. فزّ ماركوس من مكانه قفزاً وأخفى على عجلٍ عقب سيجارته في قاع أصيص الزهر المتربّع على الطاولة المنخفضة. -هيه، هيه، مرحباً أيها الصبي الصغير. لكن جوناثان صعقه بنظرة حادّة. وبدأ مهاجماً: -كم مرّة كرّرت على مسامعك ...؟ دافع الكندي عن نفسه باسترخاء: -حسناً، حسناً، ليست هناك خسائر في الأرواح. -بألاعيبك هذه، أنت تجازف بأن تنزع منّي حضانة ابني، وبالتالي، بلى، هناك خسائر في الأرواح! فتح جوناثان كلّ النوافذ لتهوية المنزل في حين أخرج شارلي من حافظة البرودة سمكةً حمراء اللون جميلة وسمكة كاردو صغيرة كانت لا تزال تتلوّى وتتقافز. قال وهو فخورٌ للغاية بغنيمتيه: -إنّهما طازجتان تماماً! أضاف جوناثان بمكر، لكي يُضحك ابنه الصغير: -نعم، إنّهما ليستا كالخال ماركوس. صحيحٌ أنّه كان لشريكه في السكن مفهومٌ شخصي خاصّ للغاية عن "ثياب يوم الأحد": سروالٌ داخلي مجعّد وزوج من الأحذية تختلف كلّ فردةٍ منهما عن الأخرى وقميصٌ رياضيّ مُزيّنٌ هذه المرّة بورقة قنّب ملصقة على العلم الجامايكي. رتّب جوناثان في الثلاجة ما تبقّى من مؤن تزوّد بها على الطريق ومن ثمّ سأل شارلي: -هل تريد قطعةٌ من الفاكهة؟ -في الواقع، أفضّل لو أنّ الخال ماركوس يعدّ لي شطيرته ثلاثية الطبقات... ردّ بنبرة يخالجها الشكّ. -نعم. قال ماركوس وهو يُخرج من الدرج المواد المعتمدة في إعداد الشطيرة: -اعتبرها أصبحت جاهزة! بعد أن لعق شارلي شفتيه مثل قطّ! تسلّق أحد المقاعد المحيطة بالبار. بواسطة التطبيق، دهن ماركوس بالزبدة القطعة الأولى من الخبز المقطّع الذي رشّ عليه بعضاً من الكاكاو، قبل أن يغطّيها بشريحة أخرى من الخبز المدهون بالحليب المكثّف التي غطّاها بآخر قطعة مغمّسة بشراب القيقب. أخذ شارلي يقضم الشطيرة ويتحدّث وفمه مليء بالطعام راغباً في أن يقول: هذا لذيذ شكراً ولكنّ الطعام أعاق لفظه فقال: -هاشا لَشيش شُكلاً! أعد ماركوس لنفسه شطيرة مماثلة، فخوراً جدّاً بالثناء الذي تلقّاه. -هل أعدُّ لك واحدةً يا جون؟ فتح جوناثان فمه لكي يرفض عرضه – ليس من الوارد بالنسبة إليه أن يتناول ذلك الخليط المشبع بالحريرات – ثمّ عدل عن رأيه. لماذا إدارة الظَّهر لكلّ المتع ولكلّ لحظات التشارك مع ماركوس ومع ابنه؟ ففي نهاية المطاف، كان لدى ابن حميه عيوب، ولكنّه كان يضفي شيئاً من الفرح ولمسةً من الأصالة على منزلهم. وعلى نحوٍ خاصّ، لم يكن له مثيل لكي يُضحك شارلي ويُسعده بينما هو شخصياً، الغارقُ في أحزانه، لم يكن الأب الأكثر وفاءً الذي يمكن لابنٍ أن يحلم به. -هيّا، لم لا في نهاية المطاف؟ قدّم للجميع دورة من الشاي الصيني الأسود قبل أن يدير جهاز الراديو الصغير ويضبطه على تردّد خاصّ بموسيقى الروك الكاليفورنية. فتناولوا شطائرهم على أنغام الأسطوانات الرائجة لكلّ من إيغلز، توتو، وفليتوود ماك. قال جوناثان ممازحاً: -هل تعلم؟ سوف أُدرج "شطيرة تريو الشهيرة للخال ماركوس" في قائمة الحلويات في المطعم. أنا متأكّد من أنّها ستكون مطلوبة ورائجة! بينما شارلي يمزح بمرح وبساطة، رفع أبصاره وقال: -لماذا ألصقت كلّ هذه الصور؟ سأل الطفل هذا السؤال مندهشاً وهو يشير إلى صور مادلين التي كانت تغطّي جدار المطبخ. شعر جوناثان بأنّه قد ضُبِط بالجرم المشهود. منذ يومين، استسلم للانجراف مع الفضول، ولكنّه الآن يشقّ عليه أن يفهم منطق ومعنى تصرّفه ذاك. لماذا كانت حياة هذه المرأة ساحرة ومبهرة إلى هذه الدرجة؟ لماذا اعتقد نفسه مسخّراً لمهمّة ما؟ قَبِلَ احتجاج شارلي وقد ارتاح بعض الشيء لقراره المنطقي: -أنت محقّ، سوف ننزعها عن الجدار. اقترح عليه ابن حميه المساعدة: -سوف أساعدك في الأمر. نهض الرجلان وبدءا في انتزاع الصور التي كانت تغطّي جدران الغرفة واحدة بعد الأخرى. مادلين في البندقية، مادلين في روما، مادلين في نيويورك... -تفضّل، هل رأيت؟ هذا كانتونا... -ماذا؟ مدّ ماركوس نحوه الصورة التي انتزعها لتوّه. كانت مادلين، وهي ترتدي البلوزة الجلدية والقميص، تبتسم أمام قالبٍ من كاتو عيد الميلاد مغروس بتسع وعشرين شمعة. كان الحدث يعود إلى خمسة أو ستّة أعوام. وإذا كانت تبدو أصغر سنّاً على نحوٍ ظاهر، إلا أنّها كانت أقلّ أناقةً وأنوثةً بكثير من المرأة التي التقى بها جوناثان في المطار. في تلك الفترة، كان وجهها مدوّراً أكثر ولديها هيئة فتاة مسترجلة وهالات زرقاء قبيحة تحت عينيها. كانت الصورة الشخصية قد التُقِطَت في مكتبٍ: وتُشاهد في المكتب أضابير كرتونية وجهاز حاسوبٍ قديم بعض الشيء وأقلاماً وأقلام تلوين وزوجاً من المقصّات مرتّبة في قدحٍ على الطاولة. وعلى الرغم من أنّ الصورة لم تكن فائقة الدقّة، إلا أنّه كان يُشاهد على الجدار ملصقٌ لإيريك الملك وهو يرتدي السروال القصير لنادي الشياطين الحُمُر. سال ماركوس: -هل تعلم أين التُقِطَت هذه الصورة؟ -كلا. -حسب رأيي، في مفوضية للشرطة. -لماذا؟ أشار إلى أشباحٍ باللونين الأسود والأصفر تائهة في عمق الشاشة. -الرجلان اللذان يظهران هناك هما من رجال الشرطة. -هذا ليس بالأمر المهمّ! -هل يمكنك تكبير حجم الصورة؟ -اسمع يا ماركوس، نحن هنا لسنا في مسلسل الخبراء التلفزيوني... -حاول القيام بذلك! دون أن يقتنع بذلك، أمسك جوناثان بالحاسوب المحمول الذي كان قد حمّل عليه كلّ صور مادلين. ضغط على الأيقونة المناسبة لكي يفتح برنامج الفوتوشوب واستخدم تقنية الزوم في البرنامج. بكل تأكيد، لم تكن دقّة الصورة فائقةً ولكن مع ذلك كان يمكن مشاهدة المزيد من التفاصيل. في حقيقة الأمر، لم يمكن من المستحيل أن تبدو البقع الصفراء المشوّشة في عمق الشاشة مماثلة للسترات ذات الأشرطة الفوسفورية العاكسة للضوء التي يرتديها بعض رجال الشرطة الإنجليز. ولكن لم يكن الأمر حاسماً وقاطعاً. من خلال تفحّص مختلف أجزاء الصورة، أثار تفصيلٌ آخر فيها انتباهه: الأحرف الثلاثة GMP التي كانت تزخرف ماك مادلين. -GMP؟ هل هذا يعني بالنسبة إليك شيئاً ما؟ فتح جوناثان نافذة محرك البحث وكتب فيها "GMP + الشرطة". كانت النتيجة الأولى للبحث تؤدّي إلى رابط موقع: Greater Manchester police، أي : قوى شرطة مقاطعة مانشستر. -أنت على حقّ، الصورة بالفعل ملتقطة في مفوضية للشرطة. -هل تعرف الكثيرين من الناس الذين يحتفلون بعيد ميلادهم في مفوضية للشرطة؟ ظلّ السؤال معلّقاً لبضع ثوانٍ. كان الجواب يفرض نفسه بنفسه: في ماضٍ ليس ببعيدٍ جداً، كانت المرأة الشابّة شرطيةً! أدرك جوناثان بأنّه قد عثر لتوّه على مفتاح السرّ الذي تخفيه مادلين. ولكن بينما كان يلامس الهدف، طغى عليه الحيرة والتردّد. بأيّ حقٍّ كان يحطّم بهذه الطريقة أسرارها؟ كان في وضعٍ يُمكّنه من أن يعرف بأنّه لا يمكن تحريك الماضي من دون أن يكون لذلك عواقب سيئة و ... -انظر إلى هذا! باستيلائه على الحاسوب، قرّر ماركوس أن يتحقّق من الموضوع بنفسه. على محرّك البحث، كتب: "مادلين + غرين + الشرطة + مانشستر". كانت هناك المئات من النتائج، ولكنّ النتيجة الأولى التي ظهرت كانت عبارة عن مقالة صحافية مأخوذة من صحيفة غارديان: مادلين غرين المحقّقة في قضية ديكسون، تقوم بمحاولة انتحار الفصل العاشر حياة الآخرين إنّ ألمنا الكبير في الحياة يأتي من كوننا وحيدين للأبد، وكلّ جهودنا وكلّ أعمالنا لا تنصبّ سوى على تبديد هذه الوحدة. غي دو موباسان باريس يوم الاثنين، 12 كانون الأول \ ديسمبر الساعة الرابعة والنصف صباحاً كانت ثلوجٌ ناعمة وغزيرة تتساقط منذ بضع دقائق على الدائرة الثامنة في باريس. ونتيجة البرد القارص في تلك الليلة، أصبح حيّ فوبورغ – دي – رول مقفراً وخالياً من المارة. أشعلت سيارة من طراز بيجو بارتنر، بيضاء اللون، غامز الإشارة قبل أن تتوقّف في الرتل الثاني وسط شارع بيري. متدثّرة بسترة ذات قبّعة ضخمة، خرج شبح امرأة من عمارة برجوازية ودلفت إلى الشاحنة الصغيرة. قالت مادلين مشتكية وهي تربط حزام الأمان: -أدر التدفئة، البرد قارسٌ للغاية! أجاب تاكومي وهو يُقلع بالسيارة: -التدفئة في أقصى درجة. هل أمضيت عطلة جميلة يوم الأحد؟ تجاهلت المرأة الشابة السؤال وارتدت قفازاتها الصوفية، إلى حين أن تدفأ قُمرة السيارة. لم يلح عليها تاكومي بالسؤال. نزلت السيارة في شارع آرتوا ومن ثمّ انعطفت إلى اليمين لكي تدخل إلى شارع لا بواتي ومن ثمّ إلى شارع الشانزيليزيه. أحلّت مادلين وشاحها وأخرجت علبة سجائر من جيب سترتها وأشعلت سيجارة منها. -كنتُ أعتقد بانّكِ قد أقلعتِ ... -الأمور جيّدة! لا تتدخّل أنت أيضاً في هذا الشأن! هل تعرف ماذا كان يقول غانبورغ؟ "أنا أشرب الخمر وأدخّن: الكحول تحفظ الفاكهة والتدخين يحفظ اللحوم". ظلّ تاكومي متفكّراً لبضع ثوانٍ قبل أن يبدي ملاحظةً: -أولاً، لقد اقتبس هذه المقولة من همنغواي... -.... وثانياً؟ -ثانياً، لقد ماتا، كلاهما، أليس كذلك؟ -ممتاز: إذا كان هذا الأمر يضايقك، اذهب واعمل في مكانٍ آخر أو أقم عليّ دعوة قضائية بتهمة التدخين السلبي! علّق تاكومي على كلامها بهدوء، قائلاً: -أنا أقول هذا حرصاً على صحّتكِ. أمرت تاكومي وهي تشير إلى مسجّلة السيارة التي كانت تبثّ نسخة يابانية من أغنية كم أحبّك، التي يؤدّيها جوني بنفسه: -اسمع، دعني بسلام وهدوء، هل ترغب في ذلك؟ أرحنِي من هذا الضجيج! أخرج الفتى الآسيوي أسطوانته المدمجة من المسجّلة وأدارت مادلين موجات الراديو إلى أن عثرت على محطّة كلاسيكية تبثّ مجموعة موسيقى وأغاني راقصة من الثمانينات. أراحت الموسيقى أعصابها بعض الشيء. التفتت نحو نافذة السيارة ونظرت إلى الثلج الذي بدأ يتراكم على الأرصفة. عند مستديرة بوابة دوفين، سلك تاكومي المفرق لكي ينتقل إلى الطريق المتحلّق السريع المحيط بالمدينة. كانت مادلين ذات مزاجٍ سيء، مثلما يحصل لها ذلك أحياناً، لكنّ مزاجها المكدّر لم يكن يستغرق وقتاً طويلاً. سيطرت على تثاؤبٍ خفيفٍ. كانت تلك الجولات الليلية على أسواق رونكيس تُبهجها ولكن المزعج في ذلك هو وجوب الاستيقاظ عند الفجر... علاوة على ذلك، لم يكن كل بائعي الزهور يتحمّلون تلك المشقّة. كان قسمٌ كبيرٌ من "زملائهم" يكتفي منذ فترة بأن يستلموا أزهارهم مباشرة في متاجرهم بعد أن يسجّلوا طلبهم عبر شبكة الإنترنت! كانت مادلين قد اقتنعت بأنّ ذلك ليس بالطريقة الصحيحة لممارسة مهنتها وأنّ أولى سمات بائع الزهور الحقيقي تكمن بالضبط في البحث عن المنتج الممتاز. كانت الطريق زلقة بعض الشيء بسبب تساقط الثلوج، لكن ذلك لم يحرم تاكومي من متعته في قيادة السيارة ليلاً وسط باريس. كانت لسلاسة حركة السير شيءٌ من الثمالة واللاواقعية. واصل السير على الأوتوستراد المؤدّي إلى مدينة ليون كما لو أنّه سيذهب إلى أورلي وسرعان ما وصل أمام الموقف المدفوع الأجر لأكبر سوقٍ في العالم للمنتوجات الطازجة. سحرت أسواق رونكيس تاكومي. يقدّم "بطن باريس" نصف كمية السمك، والفاكهة والخضراوات التي تُستهلَك في العاصمة. في هذه الأسواق كان أشهر أصحاب المطاعم وأفضل الحرفيين يتموّنون بالمواد والمستلزمات. في الربيع الماضي، حينما جاء والدا الفتى الياباني في زيارةٍ إلى فرنسا، نظّم لهما أوّل زيارة إلى تلك الأسواق حتى قبل زيارة برج إيفل! كان المكان مؤثّراً: مدينة حقيقية يعبرها الآلاف من الأشخاص، فيها مفوضيتها الخاصّة للشرطة ومحطّتها الخاصّة وفرقها الخاصّة للإطفاء ومصارفها الخاصّة ومزيّنها الخاصّ وصيدليتها الخاصّة ومطاعمها العشرون! كان يحبّ هذا الجيَشان الشعبي، بين الساعة الرابعة والخامسة صباحاً، حينما كان النشاط يبلغ ذروته وسط الحركة النشيطة للشاحنات التي يجري تحميلها وكذلك تفريغها وسط عالمٍ من الروائح والنكهات. في الموقف المأجور للسيارات، مدّت مادلين بطاقتها التي تُستخدَم للشراء لكي تدخل إلى حرم السوق واصطفّت الشاحنة الصغيرة بين جادتي ماريشير وفيليت، في أحد المواقف المغطاة للقطاع المخصّص لزراعة الجنائن والحدائق. اختارا عربة عالية ذات عجلات ودخلا إلى القاعة الواسعة المصنوعة من الزجاج والفولاذ والتي تُخزّن فيها الزريعات والنبتات والزهور. كانت المساحة المؤلّفة من اثنين وعشرين متراً مربّعاً من الجناح سي واحد مخصّصة بالكامل للأزهار المقطوفة. بعد تجاوز الأبواب الأوتوماتيكية، يجد المرء نفسه غارقاً في عالمٍ آخر ويترك اكفهرار الخارج مكانه لسيمفونية من الألوان والروائح. بعد أن استردّت نشاطها بفعل المشهد الجميل، فركت مادلين عينيها واستيقظت على مزاجٍ رائق وجالت القاعة بخطى واثقة. على مساحةٍ توازي أكثر من مساحة ثلاثة ملاعب لكرة القدم، كان ما يقارب خمسين تاجراً من تجار البيع بالجملة يتجاورون في ذلك العنبر الفسيح الذي كانت ممراته تحمل أسماء أصنافٍ من الزهور: ممرّ أزهار الميموزا، ممرّ أزهار السوسن، ممرّ أزهار شقائق النعمان... استقبلها إيميل، المسؤول عن الجناح الذي كانت تشتري منه القسم الأعظم من منتوجها، ورحَّب بها: -مرحباً يا جميلتي! كان إيميل فوشيلفان، بقبّعته المصنوعة من القشّ ومقصّه البستاني وثوبه الخاصّ بالعمل وشاربيه الشبيهين بمقود دراجة هوائية، عبارة عن ورشة كاملة. كان إيميل، الحاضر في أسواق رونكيس منذ افتتاحها في عام 1969، يعرف كلّ أصولها وتروسها. قال وهو يضع بضع قطعٍ في آلة تحضير القهوة: -هل أعدّ لكِ "فنجاناً بلا سكّر"؟ شكرته مادلين بحركة من رأسها. أضاف، وهو يتحدّى بالنظر مرافق بائعة الزهور: -وفنجاناً من الشاي لأجل كاتسوشي؟ ردّ الفتى الآسيوي بشيءٍ من البرود: -أنا أُدعى تاكومي، بل سوف أتناول كوباً من الكابتشينو. لم تخن إيميل شجاعته، فعاد وقال: -وكوباً من الكابتشينو لأجل تساشيمي، كوباً واحداً! أمسك الفتى بكوبه دون أن ينبس ببنت شفة وأخفض رأسه، يائساً ومحبطاً من عدم احترامه من قبل التاجر بالجملة. همست له مادلين بينما توجّه إيميل نحو قادمٍ جديد: -ذات يوم، سيكون ضرورياً أن تعقد العزم على أن تضع قبضتك في خطمه. أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك من أجلك. -ولكن ... هذا رجلٌ مسنّ. -إنّه بضعف طولك وبضعف وزنك! إذا كان هذا هو ما يُطمئنك، فقد استغرق إزعاجه لي بهذه الطريقة لستّة أشهر. في كلّ مرّة كان يراني فيها، كان يناديني روزبيف أو بالإنجليزية. -وكيف كفّ عن إزعاجك بهذه الطريقة؟ -حينما قلبتُ قهوته الفائرة على خطمه. منذ ذلك الحين، أخذ يعاملني وكأنني أميرة. شعر تاكومي بأنّه حائر ومضطرب. في البلاد التي ولِدَ فيها، كان الناس يسعون بأيّ ثمن إلى تجنّب النزاع أو المواجهة أو التصرفات العدائية. -ولكن... لماذا تحدث هكذا تصرّفات في هذا البلد؟ قالت وهي تدعك كأسها الورقي قبل أن ترميه في سلّة للقمامة: -هذا يحدث في كلّ مكان. وإذا أردت رأيي، أنت تحتاج إلى مواجهة هكذا موقف لكي تصبح رجلاً. -ولكنّني رجل، يا مادلين! -نعم، ولكن ليس الرجل الذي تودّ أن تكونه. تركته يفكّر بذلك الأمر لكي تذهب وتلتقي مع بيرانجير، إحدى البائعات اللواتي يعملن مع فوشيلفان والتي جالت معها على مختلف الأجنحة. اشترت حزمتين من أوراق نباتات الزينة وساومت بحدّة على سعر أزهار التوليب وزهر اللولو وزهر الكاميليا ولكنّها ارتخت على ثلاث حزمٍ رائعة من الورود الاستوائية. كانت ترتاح في عملية "المساومة" وتحرص على أن تدفع ثمن الزهور بقيمتها الحقيقية. انشغل تاكومي بتحميل هذه الشحنة الأولى ولحق بمعلّمته في الجناح الخاصّ بالشتلات. بنظرة عين خبيرة، اختارت مادلين أزهار البَغونية وأزهار أذن الفأر في الأصيص بينما استولى صانعها، لضرورات أعياد نهاية السنة، على "نجوم" عيد الميلاد المكوّنة من شجرة البهشية والهدال وزهور بنت القصل وزهور الخُربَق. تركت له أيضاً الشتلات المزيلة للتلوّث والتي تشهد نجاحاً متنامياً لدى المنشآت. ولكنّها كانت تراها مزعجة للغاية وتفضّل أن تأخذ وقتاً أكثر لاختيار زهور السحلبية البيضاء وأعشاب الزينة التي بنتعليها شهرة متجرها وسمعته. ثمّ قامت بجولةٍ سريعةٍ على الجناح الذي يُخزّن فيه "الأدوات" التي تتيح لزبائنها تقديم هدايا مسلّية وقليلة التكلفة: شموع معطّرة، نبتات "لاحمة" ، صباريات صغيرة على شكل قلب، أوراق بُن مغروسة في فناجين قهوة الاسبريسو.... على رفوف التزيين، وضعت عينها على مجسّم ملاكٍ من الحديد المشغول والذي سيكون منتشراً بكثرة في وجهة محلّها. كان تاكومي يسير في إثرها ويُرهف السمع إلى كلام كلّ الموجودين في المكان. رغم نحافة جسمه، كان يسعى إلى أن ينجز على أتمّ وجه المهام الصعبة، وهو يدفع عربةً تزداد ثقلاً عند كلّ محطة جديدة، ويرفع بيدٍ كيساً من تربة الزريعات المشبعة بالسماد العضوي يزن عشرة كيلوغرامات أو غطاء زهرية ضخماً مصنوعاً من الطين المشوي. كانت الريح تهزّ الأجنحة المختلفة ويشاهد المرء من خلال الواجهات الزجاجية الندائف المضيئة التي تتطاير مع الريح في السماء قبل أن تغطّي الرصيف بزبدها الأبيض والبارد. ولتأجيل لحظة مجابهة البرودة الشديدة، تأخرّت مادلين في تلك الشرنقة المُطمئِنة. حرّرها شراء بصلات الربيع – زهور الياقوتية الزنبقية، النرجس الأسلي، زهرة الثلج – من كآبتها. بالنسبة إليها وهي التي تكره فترة الأعياد، كانت بدية فصل الشتاء هي اللحظة الأكثر حزناً في السنة، ولكنّها أيضاً اللحظة التي تحتاج فيها أكثر من غيرها إلى رؤية الحياة وهي تعود. بالنسبة إليها، كانت تلك الفترة بمثابة الوعد الحقيقي لعيد الميلاد... * الساعة السادسة والنصف أعاد تاكومي إغلاق صندوق الشاحنة الصغيرة بحذرٍ واحتراس. كانت الشاحنة الصغيرة تغصّ بالزهور والشتلات. اقترحت مادلين: -هيا تعال، سأدعوك إلى تناول فطورٍ! -وأخيراً سمعنا كلاماً ظريفاً! دفعا باب حانة كوردوليه التي تقع وسط الجناح الخاصّ بالبستنة. من حول طاولة الشراب، كان العديد من الزبائن ينهمكون في نقاشات صاخبة وهم يعيدون صياغة العالم أمام أكوابهم المليئة بالنبيذ الأحمر أو فناجينهم الصغيرة المليئة بالقهوة السوداء، يستغرق بعضهم في قراءة صحيفة لو باريزيان، وآخرون يملؤون خانات شبكة أرقام اليانصيب أو أرقام شبكة المراهنات. دارت الكثير من النقاشات حول الانتخابات الرئاسية المقبلة: تُرى هل سيُعاد انتخاب ساركوزي لولاية جديدة؟ تُرى هل أحسن اليسار اختيار مرشّحة الأمثل؟ جلسا إلى طاولةٍ في مكانٍ قصيٍّ أقلّ صخباً إلى حدّ ما. طلبت مادلين فنجاناً مضاعفاً من قهوة الإسبريسو بينما استسلم تاكومي لرغبته في شطيرة من الكباب المشبع بالدهون. -حسناً، أنت، لديك معدة قويّة جداً! تُلقي عليّ المواعظ بشأن تدخين السجائر، ولكن عليك أن تُراقب نسبة الكولسترول في دمك! برّر الفتى الآسيوي لنفسه وهو يتناول لقمة ضخمة من شطيرته: -أنا منفتحٌ على كلّ الثقافات. نزعت المرأة الشابّة قفازيها وحلّت أزرار سترتها التي أخرجت من جيبها هاتف جوناثان. قال الفتى الياباني وهو يتأكّد من وجود الهاتف: -لم تعيديه بعد. -أنت مراقِب. -أصلاً، هذا الأمر لا يفاجئني. ردّت عليه مادلين بنبرة دفاعية: -وهل هذا يسبّب لك مشكلة؟ -كلا، كنتُ متأكداً من أنّ حكاية لامبيرور تثير اهتمامك وتشغل بالكِ. هدأت من روعها وبدت متردّدة قبل أن تعطيه ورقة كانت قد طبعتها في الليل. -أنت الذي عشتَ في الولايات المتحدة الأميركية، هل سبق لك أن سمعت حديثاً عن هذا الموضوع؟ أفرد تاكومي، حائراً، المقالة وقرأ منها عنوانها الرئيس: تعرّض جوناثان لامبيرور لخيانةٍ من أقرب أصدقائه خلال بضعة أيام، فقد الشيف الأكثر شهرةً من بين أترابه زوجته وفندقه وأقرب أصدقائه. لقد تعرّض إلى خيانة مزدوجة. (المجلّة الشعبية – 3 كانون الثاني \ يناير 2010) قال وهو يضع نظّارته: -لم أكن أعلم أنّكِ تقرئين هذا النوع من الصحف. -كف عن الغمز واللمز، هل تريد ذلك؟ لم تكن الصور الأربع التي كانت مرفقة مع المقالة تترك أدنى شكٍّ في تفسير الموقف. كانت الصور قد التُقِطَت في الثامن والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر من عام 2009 في مدينة ناساو عاصمة جزر الباهاما وتُشاهَدُ فيها فرانسيسكا بصحبة شخصٍ يُدعى جورج لا توليب. وقد صوّر الثنائي من قبل أحد مصوّري البابارازي في زاوية صغيرة من الجزيرة الجميلة التي تُدعى كيبل بيتش. ومع أنّها كانت ملتقطة "خلسةً" إلا أنّه كان للصور جانبٌ جمالي. كانت عارضة الأزياء السابقة، وهي ترتدي ثياباً قطنية شفّافة، تمشي يداً بيد مع عشيقها على طول الشاطئ ذي الرمال البيضاء والمياه الفيروزية والمتلألئة ويفضح سلوكهما مشاعرهما: كانا منسجمين تماماً ويسيران ويتغنّجان كما لو أنّهما لوحدهما في العالم. في الصورة الأخيرة، كان طائرا الحبّ يتعانقان بلطفٍ وحنان على رصيف مقهى من طراز العمارة الكولونيالية. كان لهذه السلسلة من اللقطات جانبٌ من السحر والبريق الذي يذكّرنا بإعلانات كالفن كلين في أعوام التسعينيات من القرن العشرين. ومع أنّ الصحافة الفضائحية، عموماً، تميل أكثر إلى كشف نزوات وانحرافات الذكور، إلا أنّها لم تكن مرنة حيال "مجون فرانسيسكا". لا بدّ من القول أنّ، في هذا العالم المليء بالنفاق والنزعة المانوية، جميع العناصر تجتمع وتتوحّد لكي تعطي لهذه الخديعة ملامحاً من المأساة القديمة. من جهة، المرأة الزانية ذات الجمال الخارق والقاتل والتي تذهب إلى نهاية العالم لكي تخون زوجها مع أقرب أصدقائه. ومن الجهة الأخرى، الزوج الوفي الذي ظلّ في نيويورك لكي يعتني بابنه ويسعى إلى أن ينقذ مطعمه من الخطر المحدق به. أخيراً وليس آخراً، كان دور العشيق قد مُثّل بحضورٍ متميّزٍ من قبل جورج لا توليب هذا. كان الرجل طويل القامة، ذا بشرة سمراء غامقة وجذّاباً وباعثاً على الإغراء. "رجلٌ وسيمٌ"، على الرغم من اسمه المضحك، يشبه في مظهره إلى درجة كبيرة ريتشارد غير في عزّ مجده. حينما كنّا نقرأ المقالة بانتباهٍ وهدوءٍ أكثر، كنّا ندرك أنّ جورج لا توليب كان يعمل كمساعدٍ للشيف جوناثان في مطعم لامبراتور: كان مساعده الأقرب في العمل ولكنّه أيضاً صديقه المقرّب. قبل أن يلتقي جوناثان، كان جورج في الواقع يشارك في العروض الفنية إضافة إلى أنّه يبيع شطائر الهوت دوغ على إحدى العربات المتنقلة الشائعة والمنتشرة بكثرة في شوارع مانهاتن. كان جوناثان يحظى بنوعٍ من الموهبة والفطرة على اكتشاف قدرات الناس. وقد درّب جورج وأهّله إلى أن أصبح مساعده ومنحه بذلك الاستقرار والرفاهية المادية وكذلك وفَّر له سجّلاً مهنياً وسيرة ذاتية تمنحه الضمانة لكي يجد عملاً حتى آخر أيام عمره. ولكي يكافئه على ما قدّمه له، سرق منه زوجته... -ما رأيك بذلك؟ أجاب تاكومي: -أعتقد أنّ النساء أحياناً يكنّ فاجرات. قالت مادلين متذمّرة من ردّه: -إذا كان هذا الأمر يجعلك تتفوّه بهذه الحماقات، أعتقد أنني سأتوقّف عن اصطحابك إلى المطاعم والمشارب و... ولكنّ الفتى الياباني لم يدعها تكمل جملتها: -مهلاَ! هذا الاسم: جورج لا توليب، لقد سبق لي أن سمعته في مكانٍ ما. لم يسبق لنا أن أرسلنا إليه زهوراً بمحض المصادفة؟ -كلا، لا أعتقد ذلك. مع اسمٍ كهذا، لا بدّ أنني كنتُ سأتذكّره! ومن ثمّ، كان ليفاجئني لو أنّه يقيم في باريس ... ولكنّ تاكومي تشبّث برأيه. -هل حاسوبكِ المحمول معكِ الآن؟ تنهّدت مادلين وأخرجت من حقيبتها دفتر ملاحظاتها الإلكتروني الذي تحمّل عليه "قاعدة بيانات زبائنها". وضع تاكومي الشاشة أمامه وأخذ ينقر على الأزرار وكتب "لا توليب". لم تكن هناك حاجة إلى الكثير من الوقت حتى يظهر على الشاشة عبارة: جورج لا توليب مقهى فانفان، 22 مكرّر، جادة فيكتور – هوغو 75116 -أنا من أرسلت إليه باقة من زهر الأضاليا الأرجواني، قبل ثمانية أشهر. إنّه طلبٌ استعانت بنا لتأمينه زميلتك في الدائرة الساسة عشرة، إيزيدور بروكس. وقد نظّمت فاتورة الحساب باسم المطعم، ولذلك لم يعنِ لك اسمه ولقبه أي شيء. -وأنت؟ هل تتذكّره؟ -كلا، لقد اكتفيتُ آنذاك بتسليم باقة الزهور إلى موظّفٍ في المطعم. لم تصدّق مادلين عينيها. لم يكن جورج لا توليب يستثمر مطعماً فحسب، بل كان يعيش في باريس أيضاً. فعلاً، العالم عبارة عن قرية صغيرة... قالت مادلين بلهجةٍ آمِرة: -حسناً، هيا بنا، فلنرفع مراسينا. سوف تكمل تناول شطيرتك من الكباب في السيارة، ولكن احذر جيّداً فالويل لك إن رأيتُ أثراً للدهون على مقاعد سيارتي! -هل سنعود إلى المتجر؟ -أنت، سوف تعود إلى المتجر، أمّا أنا فأعتقد أنني سأقوم بزيارة قصيرة إلى مطعم "فانفان لا توليب" ... -ولكن تحت أيّ ذريعة ستقومين بهذه الزيارة؟ -هذا إذا كنت تعتقد بأنني أحتاج إلى ذريعة لكي أوجّه الكلام إلى رجلٍ ... الفصل الحادي عشر التحقيق في الجوهر، الرجل هو ما يخفيه: كومة صغيرة وبائسة من الأسرار. أندريه مالرو سان فرانسيسكو أعاد جوناثان، مبهوراً بشاشة حاسوبه، للمرّة الثالثة قراءة مقالة الصحيفة. مادلين غرين ، محقّقة قضية ديكسون تقوم بمحاولة انتحار Guardian co. uk- 8 July 2009 شيتام بريدج – بعد شهرٍ من الاكتشاف المحزن والذي قضى على كلّ فرصة في العثور على الفتاة آليس ديكسون على قيد الحياة، حاولت نقيب الشرطة، المكلّفة بالتحقيق، مادلين غرين، البالغة من العمر إحدى وثلاثين عاماً، حاولت هذه الليلة أن تضح حدّاً لحياتها من خلال تعليقها لنفسها بعارضة في شقّتها. لحسن الحظّ، سحبت الفتاة المحقّقة في سقوطها خزانة زجاجية تحطّمت على الأرض، فأيقظت على الفور جارتها في الطابق نفسه، جوليان وود التي هرعَت للتدخّل من أجل إنقاذها. بعد أن تلقّت الإسعافات الأولية، نُقِلَت الآنسة غرين إلى مستشفى نيوتن هيث. وحسب رأي الأطباء، اعتُبِرَت حالتها حرجة ومقلقة ولكنّ حياتها لم تكن في خطر. عواقب تحقيقٍ قاسٍ كيف يمكن تفسير هذا التصرّف المشؤوم؟ هل هو الإحساس بالذنب؟ هل هو فرطٌ في النشاط؟ هل هو عدم القدرة على طيّ صفحة تحقيقٍ قاسٍ؟ هذا في كلّ الأحوال تفسيرٌ معقولٌ ومحتَمَل. لقد اكتشف المدير الأعلى لشرطة مانشستر، هنري بولستير أنّ مادلين غرين كانت متوقّفة عن العمل منذ أن علمت بأمر وفاة آليس ديكسون، البالغة أربعة عشر عاماً، آخر ضحية لهارالد بيشوب. القاتل الجماعي الشهير والذي تمّ توقيفه قبل بضعة أيام من قبل شرطة مقاطعة ميرسيسايد. وسط زملاء الآنسة غرين، اختلطت المفاجأة بالعاطفة. "رغم القيود، كاد جزّار ليفربول أن يوقع ضحيّة جديدة"، بهذه الطريقة، عبّر المحقّق جيم فلاهيرتي عن أسفه حيال زميلته في فريق التحقيق. حكّ جوناثان قفا رأسه: يبدو أنّ مجموع هذه الوقائع المتنوّعة قد ظلّت محلّ إثارة في بريطانيا العظمى على مدى أشهرٍ عديدة ولكنها لم تعبُر المحيط الأطلسي. سأل بعفوية تامّة صديقه: -هل سبق لك وسمعت حديثاً عن "قضية آليس ديكسون" أو عن "جزّار ليفربول"؟ أكّد له صديقه الكندي: -كلا، على الإطلاق. بكل تأكيد. لا داعي للحلم: الناس الذين مثل ماركوس يعيشون في عالمٍ عائم، مقطوعٍ عن الأحداث والأخبار. في عالمٍ لا يزال فيه بيل كلينتون رئيساً ولا يزال جدار برلين قائماً ولا يزال الناس يلعبون فيه لعبة الكرة والدبابيس أو لعبة الباكمان في الحانات... تفرض الفكرة نفسها كبديهية. شغّل جوناثان هاتف مادلين المحمول وأدار البرنامج المحمي بكلمة مرور. أدخل كلمة المرور. كتب كلمة "آليس" وانفتح التطبيق... * كان الهاتف يحتوي على المئات من الوثائق المتعلّقة بشأن "قضية ديكسون": ملاحظات، مقالات، صور، مقاطع فيديو. ويتعاقب ظهورها على الشاشة صورة تلوى الأخرى، كان جوناثان ينقلها إلى حاسوبه لكي يشاهدها فيما بعد. في البداية، اعتقد أنّ هذه الملفات لا تشكّل سوى ملف صحافي ضخم جدّاً يتعلّق باختطاف ومقتل الفتاة المراهقة، ولكنّ كلّما تقدّم في اكتشافه أكثر كلما أدرك لماذا فعلت مادلين كلّ ما بوسعها لكي تحمي هذه المعلومات والمعطيات. كانت الشرطية الشابّة قد صوّرت ونسخت على نسختين كلّ عناصر ملفّ آخر قضية لها من القضايا التي حققت فيها! كنّا نرى فيها على نحوٍ عشوائي ملاحظاتها الخاصّة وعمليات رفع البصمات ومقاطع مصوّرة لمشتبه بهم خلال مراقبتهم اللصيقة، صور ورسومات توضيحية لوثائق الإثبات والعشرات من صفحات التحقيقات حول الجوار. الكثير من الوثائق السرّية الممهورة بخاتم مدير شرطة مقاطعة مانشستر والتي ما كان يجب أن تخرج أبداً من مكاتب مفوضية شرطة أو من محكمة ... حينما شاهد شارلي سلسلة من الصور الدامية تتعاقب على شاشة حاسوب والده، شعر بالقلق وسأل: -ما هذا، يا بابا؟ أجاب جوناثان وهو يدير عنه الشاشة: -لا تنظر يا حبيبي، هذه الصور ليست للأطفال. تحقّق من سرعة تحميل الصور. رغم وجود خدمة واي – فاي، لم يكن الكلام سريعاً وكان يحتاج إلى ساعتين إضافيتين. -اقترح بصوتٍ مبتهج: -هيا تعال! سنلعب مباراة كرة سلّة مع الخال ماركوس. نزلوا إلى ملعبٍ مسيّج يجاور مكتب Levi’s Plaza. جرت المباراة. هاج شارلي ونشط في اللعب وبعد أن سجّل ما يقارب عشرين سلّة عاد إلى البيت منهكاً، خائر القوى. استحمّ وقضم قطعةً من سمكته ونام أمام حلقة من مسلسل Two and a Half Men. حمله جوناثان إلى غرفته. في الخارج، كان الليل قد هبط. كان ماركوس قد أشعل من جديد سيجارته التي يستلذّ بها على الشرفة وكأنّه يدخّن سيجاراً هافانياً وهو يتحادث مع الببغاء بوريس. بحث جوناثان في حُجيرة الثلج في البراد لكي يخرج منها زجاجة فودكا بالكرز كان زبونٌ روسي قد قدّمها له. وهو يفعّل شاشة حاسوبه، صبّ لنفسه كأساً من ماء الحياة ذاك الذي كان قد تمّ، حسب الأصول، تقطيره على فحم شجرة السَنْدَر قبل أن يتمّ تسريبه على طبقة من الماس. هذا الشراب وحسب... تحقّق من أنّ مجموع المعطيات والمعلومات قد حُمِّلَت على القرص الصلب لحاسوبه. لم تكن عبارة عن العشرات وإنّما المئات من الوثائق التي كانت مادلين قد احتفظت بها معها. كانت في مجملها، ما يقارب ألف مستندٍ تشكّل ما يشبخ قطع لعبة بازل محزنة ومأسوية. على ما يبدو، كانت الشرطية الشابّة قد ارتبطت بتلك القضية منذ ستّة أشهر، وهي تعمل عليها ليل نهار إلى أن خسرت فيها صحّتها وعقلها. حكايةٌ قذرة كادت أن تكلّفها حياتها ... فتح جوناثان آخر الصور المحمّلة: كانت لا تُطاق. وحينها وقع في حيرةٍ وتردّد حقيقيين. هل حقّاً كان يملك الرغبة والشجاعة الكافيتين لكي يظهر في حكاية اختفاء ومقتل طفلة؟ كانت الإجابة بالنفي. * مع ذلك، ازدرد كأس الفودكا جرعة واحدة وصبّ لنفسه كأساً آخر وغرق بدوره في الجحيم. القسم الثاني قضية آليس ديكسون الفصل الثاني عشر آليس لقد حصل هذا خلال هذا الصيف الفجّ والطائش. كانت فرانكي تبلغ اثني عشر عاماً. لم تكن تنتمي إلى أيّ نادٍ، ولا إلى أيّ شيءٍ كان في العالم. كانت قد غدت كائناً بلا ارتباط تتسكّع أمام الأبواب وتشعر بالخوف. كارسون ماكولرز بعد ثلاثة أعوام، في الثامن من كانون الأول \ ديسمبر 2008 مفوضية الشرطة في شيتام، شمال شرق مانشستر رفعت مادلين صوتها: -يجب عليك أن تشرح لي الأمر على نحوٍ أوضح لأنني لم أفهم بعد. لماذا انتظرتِ ثمانية أيام حتى تبلّغي عن اختفاء ابنتك؟ كانت إيرن ديكسون، وهي تجلس أمامها شاحبة الوجه ومنكوشة الشعر، تتلوّى في كرسيّها. كانت، سيئة المزاج ومرتجفةً، ترمش بعينيها وتعصر بين يديها الفنجان البلاستيكي لقهوتها. -أنت تعلمين كيف هم المراهقون، اللعنة! يذهبون ويأتون. ومن ثمّ، سبق وأن قلت ذلك: كانت آليس على الدوام مستقلّة، تتدبّر أمورها لوحدها، كانت ... قاطعتها مادلين ببرود وجفاء: -ولكنّها لا تبلغ من العمر سوى أربعة عشر عاماً! هزّت إيرن رأسها وطلبت الإذن بالخروج لكي تدخّن سيجارةً. وافقت الشرطية: -لا مشكلة! قطّبت عينيها وأعلنت عن استراحة. كانت المرأة التي تستجوبها تبلغ ثلاثين عاماً (في سنّها نفسه)، ولكن ينقصها العديد من الأسنان وكان وجهها، المُنار بالنور الساطع للمصباح المدلّى من السقف، ذابلاً من جرّاء التعب والأورام الدموية. منذ ساعة حيث وجدت نفسها في مفوضيّة الشرطة، مرّت إيرن بكلّ المراحل: الدموع أولاً وهي تبلّغ عن اختفاء ابنتها، ثمّ النزعة العدائية والغضب اللذان تغرق المحقّقة فيهما على التوالي وهي تكتشف بأنّها غير قادرة على أن تصيغ جملتين متناسقتين لكي تشرح بهما لماذا استغرقت أسبوعاً كاملاً لكي تعطي الإنذار وتبلّغ عن اختفاء ابنتها. -ووالدها، ما رأيه بالموضوع؟ هزّت إيرن كتفيها. -لقد اختفى منذ زمنٍ طويلٍ جداً ... في الحقيقة، أنا لستُ متأكّدة حتى من هويته. في تلك الفترة، كنتُ أضاجع يميناً وشمالاً دون حذرٍ أو تدابير ... فجأةً، اغتاظت مادلين. فقد عملت لمدّة خمسة أعوام في قسم مكافحة المخدرات وكانت تحفظ هذا السلوك عن ظهر قلب: كان هذا الاضطراب العصبي وهذه النظرة الشاردة من العلامات الصارخة على الحاجة الملحّة إلى المخدّر. كانت الآثار من حول شفتي إيرن هي آثار حروقٍ تركها غليونٌ مصنوعٌ من الزجاج المقاوم للحرارة. كانت السيّدة ديكسون مدمنة على مخدّر كراك المعدّ أساساً من الكوكايين. نقطة على السطر. قرّرت مادلين وهي تمسك ببلوزتها وسلاحها الخاصّ بالخدمة قائلةً: -حسناً، سنذهب إلى هناك، يا جيم! بينما انعطفت مادلين نحو مكتب رئيسها في العمل، اصطحب زميلها في فريق التحقيق إيرن إلى مرآب السيارات وأشعل لها سيجارةً. كانت الساعة قد بلغت العاشرة صباحاً ولكنّ السماء الملبّدة بالغيوم السوداء كانت تعطي الانطباع بأنّ الشمس لم تشرق بعد. * أعلن جيم وهو يغلق هاتفه المحمول: -لقد تلقّينا ردّ الجهاز المركزي للطوارئ. لم تسجّل المستشفيات أي ملفّ باسم آليس ديكسون. ردّت مادلين وهي تغيّر سرعة السيارة: -كنتُ لأراهن على ذلك. انحرفت سيارة فورد من طراز فوكس فجأةً على الطريق المبلّلة. أشعلت السيارة الضوء التحذيري وكذلك صفّارة الإنذار ودلفت إلى الأحياء الشمالية. وهي تمسك بمقود السيارة بيدها اليسرى وتدير مؤشّر الراديو بيدها اليمنى، نسّقت المحقّقة أولى الإجراءات: تعميم صورة آليس على كافّة مفوضيات الشرطة في البلاد والإعلان عن اختفائها للصحافة ولهيئات تحرير الصحف والتلفزيونات والطلب العاجل لتعبئة فريقٍ من الطبّ الشرعي... قال جيم بلهجة شاكية حينما صدمت مادلين على نحوٍ خطير طرف أحد الأرصفة: -سيري بهدوء سوف تجعليننا نتقاذف في الهواء! -هل ترى بأنّنا لم نضيّع بما فيه الكفاية من الوقت؟ -تماماً، لسنا سوى على بعد عشر دقائق من ... -حقّاً؟ إنّك في غاية الحماقة! وصل الشرطيان إلى مفرق أحد الأحياء الشعبية. كان حيّ شيتام بريدج، بصفوف بيوته المشيّدة بالقرميد الأحمر التي تمتدّ على مدى النظر، يجسّد الطراز المعماري للمقاطعة الصناعية القديمة المشؤومة. خلال السنوات الأخيرة هذه، كان العماليون قد ضخّوا الكثير من الأموال في سبيل تجديد الأحياء الشمالية الشرقية ولكن حي شيتام بريدج لم يستفد كثيراً من عملية الترميم هذه. كانت مساكن عديدة مهجورة وأغلبية الحدائق متروكة للإهمال ولم تؤّد الأزمة الاقتصادية التي كانت تخنق الاقتصاد الإنجليزي إلى تسوية الأمور. إذا لم يكن القطّاع في المكان الصحيح داخل الدليل السياحي، ماذا عسانا أن نقول إذاً عن مستودع هيل رود، مجموعة البيوت التي كانت والدة آليس تعيش في أحدها؟ كانت عبارة عن حبيسة حقيقية للبؤس، تعجّ بالجريمة. سارت مادلين مع جيم في إثر إيرن ديكسون بين صفٍّ من الأكواخ الخرِبة المتروكة لمالكي العقارات وللعاهرات ولبائعي مخدّر الكراك. حينما دخلت إلى الكوخ، شعرت مادلين بالتقزّز والغثيان. كانت جدران الصالون مغطّاة بالعفونة تفوح منها رائحة مثيرة للاشمئزاز: الفراش والأغطية ممدودة على الأرض مباشرةً والنوافذ مسدودة بقطعٍ من الكرتون وألواح المعاكس وتفوح رائحة طعامٍ فاسدٍ ... من البديهي أنّ إيرن قد رتّبت شقّتها على هيئة "وكر" لكي تسلب بعض المال من الحشّاشين الذين يستخدمون غرفها. على الرغم من أنّها شكّت في أنّ الشرطة ستدسّ أنفها في بيتها، لم تكلّف نفسها عناء تمويه أنشطتها: كان غليونٌ مصنوعٌ من قصيبة لا يزال مرمياً على حرف النافذة بجانب قوارير الجعّة الفارغة وبجانب منفضة سجائر تحتوي على لفافة استهلك منها ثلاثة أرباعها. تبادل جيم ومادلين نظرة قلقة: نظراً إلى العدد الكبير من العاهات والفاسدين الذين كانوا يتردّدون على المكان، سوف لن يكون التحقيق في القضية بسيطاً وسهلاً. صعدا إلى الطابق العلوي، دفعا باب غرفة آليس و ... * كان المكان يشذّ عن بقية البيت. فالغرفة أنيقة ومرتّبة تماماً وفيها خزانة ثيابٍ ورفوفٌ وكتب. وبفضل جهازٍ ناثرٍ للعطور، كانت رائحة زكيّة للسوسن والفانيلا تفوح وتعبق في الهواء. كان عالماً مختلفاً ... رفعت مادلين عينيها ونظرت بانتباه إلى جدران الحجرة الصغيرة المزيّنة ببطاقات وبرامج العروض المسرحية والموسيقية التي حضرتها آليس: من الأوبرا – كارمن والدون جيوفاني في مسرح لاوري ثياتر - ، عرضٌ مسرحي – عرض الوحوش الزجاجية في مسرح بلاي هاوس، عرض باليه – روميو وجولييت في مسارح بي بي سي فيل هارمونيك أوركسترا. سأل جيم: -أهذه الفتاة كائن من غير كوكب الأر أم ماذا؟ غمغمت إيرن: -نعم، كانت ... كانت دائماً هكذا: كانت دائماً غارقة بين كتبها وألوانها وموسيقاها ... أتساءل كثيراً مّمن اكتسبت هذه الطباع! قالت مادلين في نفسها: ليس منك في كلّ الأحوال. كانت الشرطية منبهرة بما اكتشفت. كانت لوحتان فنيتان تتقابلان على طرفي خزانة الثياب: صورة شخصية لبيكاسو تعود إلى الحقبة الزرقاء ولوحة فيرو الشهيرة لجان هونوريه فراغونار. نظر جيم غلى عناوين الكتب المصفوفة على الرفوف: عبارة عن روايات كلاسيكية ونصوص مسرحية. سألها جيم وهو يقلّب صفحات كتابين: -هل تعرفين الكثير من مراهقات حي شيتام بريدج اللواتي يقرأن الأخوة كارامازوف والعلاقات الخطرة؟ ردّت مادلين شاردة الذهن: -كنتُ أعرف واحدةً منهنّ على الأقل. -مَنْ؟ -أنا ... طردت الذكرى من ذهنها. كانت جراح طفولتها لا تزال مثخنة ولم تكن تلك اللحظة المناسبة لكي تُشفق على قدرها ومصيرها. ارتدت قفازين رقيقين ثمّ فتحت كل أدراج الخزانة ونبشت الغرفة رأساً على عقب. عثرت مادلين في الأدراج على العشرات من علب البسكويت بالكاكاو المحمّص بالفانيلا – من ماركة أوريو – وكذلك قوارير بلاستيكية صغيرة من نيسكويك الحليب بالفريز. شرحت والدتها: -كانت تكاد لا تتغّى سوى على البسكويت الذي تغمسه في الحليب. كانت آليس قد "غادرت" دون أن تأخذ معها أيّ شيء: كان كمانها مطروحاً على سريرها وحاسوبها – وهو حاسوبٌ قديم من طراز ماكنتوش بطُلَت موضته – مرمياً على مكتبها، أمّا دفتر مذكّراتها اليومية الخاصّة فكان ملقياً عند أرجل سريرها. فتحته مادلين بفضول واكتشفت في طياته ورقة نقدية من فئة الخمسين جنيه استرليني مثنية أربع مرّات. التمع وميضٌ منحرفٌ في نظرة إيرن. بدا واضحاً إنّها كانت تلوم نفسها لأنّه لم يخطر في بالها أن تقوم بتفتيش الغرفة قبل عناصر الشرطة. قالت مادلين لنفسها: فالٌ سيئ. لو أنّ الصبية كانت قد هربت، لما تركت مبلغاً كهذا خلفها. الفريق الذي كانت قد طالبت به وصل إلى المكان. طلبت إلى عناصر الطبّ الشرعي أن يقوموا بدراسة المنزل بالتفصيل. رفع التقنيون بواسطة ملاقطهم ومباضعهم وأزاميلهم كمية من العيّنات والأدلّة التي وضعوها أوّلاً بأوّل في أنابيب مسدودة بإحكام. بينما كان رجالها يجولون في الغرف الرئيسة للتحقّق منها، فتحت مادلين مصنّفاً كانت الفتاة المراهقة تحتفظ فيه ببعض واجباتها المدرسية: كانت درجاتها ممتازة وتقييمات أساتذتها تثني عليها وتمدحها. كانت آليس قد شيّدت لنفسها قلعة من الثقافة لكي تتخلّص من حياتها اليومية الكريهة. التعليم والمعرفة كانا بالنسبة إليها بمثابة دروعٍ وتروسٍ لكي تحمي نفسها من العنف والخوف والتفكير السطحي ... * ركنت الآن خمس سيارات للشرطة في حي فارم هيل رود. تبادلت مادلين بعض كلمات مع مسؤول الطب الشرعي الذي أكّد لها بأنّهم قد عثروا على ما يكفي من الشعر في فرشاة الشعر الخاصّة بآليس للحصول على تحاليل الحمض النووي بمواصفات جيّدة. ثم استندت الشرطية إلى الغطاء المعدني لمحرّك السيارة وأشعلت سيجارة وهي تحدّق بنظرة حادّة بصورة آليس. كانت فتاةٌ جميلة، ممشوقة القوام ونحيلة، الأمر الذي يجعلها تبدو أكبر من سنّها. كان وجهها شديد الشحوب يغزوه نمشٌ خفيف يكشف عن أصولها الإيرلندية. عيناها أشبه بحبتي لوز صدئتين تجعلانها شبيهة بلوحات الوجوه التي رسمها الرسّام الإيطالي موديغلياني والتي يمكن أن نقرأ فيها التعب وكذلك الرغبة في إخفاء جمالها لأنّها تدرك أنّ في البيئة التي تعيش فيها سيجلب لها جمالها المنغصات أكثر من التشجيع والمكافآت. ماذا يمكن أن نتأمّل من المستقبل حينما تكون ظروف الانطلاق في الحياة صعبة للغاية؟ كيف يمكن للمرء أن يترعرع في هذه القيعان البائسة من دون أن يصبح المرء بنفسه أبلهاً وسط المدمنين على المخدّرات والفاقدين لملكاتهم العقلية؟ أتكوني قد فررت في النهاية؟ سألت مادلين آليس ذهنياً. أتكوني قد غادرتِ هذا الحيّ القذر الذي لا يُصادف فيه سوى أناسٍ محطّمين من البؤس والمصائب؟ أتكوني قد أردتِ أن تهجري هذه الأمّ المعتوهة التي لم تكن قادرة حتى على أن تخبركِ من هو والدكِ؟ لكن مادلين لم تكن تصدّق هذا السيناريو. كان يبدو لها أنّ آليس فتاةٌ ذكية ومنظّمة. هل انسحبت من المدينة؟ حسناً. ولكن لتذهب إلى أين؟ مع مَنْ؟ ولتفعل ماذا هناك؟ * أشعلت سيجارة جديدة من علبتها. أحيت غرفة آليس في داخلها ذكريات سيرتها الخاصّة، مثلها مثل 90% من الأطفال الذين تربّوا في الحي، كانت لمادلين حياة فوضوية بين أمٍّ مكتئبة ومحبطة وأبٍ مدمنٍ على الخمر. حينما كانت مراهقة، أقسمت على أن تفرّ من هذه الكارثة الإنسانية وأن تذهب لتجرّب حظّها في مكانٍ آخر. كان حلمها الكبير هو أن تعيش ذات يومٍ في باريس! كانت تلميذة مجدّة وقد نجحت في امتحاناتها في القانون ومن ثمّ لاحقها واقع الحي وانضمّت إلى سلك الشرطة وارتقت السلّم الوظيفي بسرعة ولكنّها ظلت ملتصقة برتابة وتعاسة شيتام بريدج. لم تتأفّف من مصيرها وإنّما على العكس. كان عملها يروق لها لأنّه ذو معنى وقيمة: تجنيب الناس أذى المجرمين، السماح لأسر بإقامة مآتمها بالعثور على قتلة أقاربها، وأحياناً إنقاذ حياة الناس. بالطبع، لم يكن عملها سهلاً في كلّ الأيام. هنا كما في كلّ مكان، يُهيمن مزاجٌ سيء على عناصر الشرطة. لا يشعرون بأنّ لا أحد يحترمهم فقط، بل وأنّ وضعهم يجلب لهم إهانات وتهديدات. كانت هذه حقيقة عامّة، ولكنّ كان الشعور بهذه الحالة يزداد في حي مثل شيتام بريدج. كان الزملاء الذين يعملون في هذا الحي يخفون مهنتهم عن جيرانهم ويطلبون من أبنائهم أن يفعلوا الأمر ذاته في المدرسة. كان الناس يحبّون كثيراً رجال الشرطة في المسلسلات التلفزيونية بينما كانوا يبصقون على الذين كانوا يعملون في حيّهم... وبالتالي كان على الشرطي الخضوع لضغطٍ نفسي يومي والمعاناة من عدوانية الناس ومن لا مبالاة رؤسائه في العمل والقبول برؤية سيارته المهترئة والقبول بأجهزة بدائية: كانت العديد من السيارات القديمة لا تتوفّر فيها حتى أجهزة الراديو، وبعض الحواسيب لا تزال تعمل على نظام بينتيوم اثنان... في بعض الأوقات، كان العمل صعباً وقاسياً. إذ يعاني العاملون في سلك الشرطة من الشعور، في دواخلهم وعلى نحوٍ شخصي، بعبثية حوادث مميتة وألم نساءٍ يتعرّضن للضرب، ورعب أطفالٍ مهتوكين وآلام أسر الضحايا. لشدّة استسلامهم للأفكار المحزنة والعيش تحت وطأة الضغط، كان ينتهي الأمر ببعضهم إلى الانهيار. في السنة الماضية، استشاط شرطيٌّ من وحدتها غضباً وقتل، دون سببٍ ظاهر، زعيماً صغيراً للأشرار أثناء استجوابه؛ وقبل ستّة أشهر، أقدمت شابّة متدربة على الانتحار في مفوضية الشرطية باستخدام سلاح خدمتها. وبخلاف الكثير من زملائها، لم تكن مادلين لا خائبة ولا مكتئبة. بقيت بطيبة خاطر في هذا الحي "الصعب" لكي ترتقي على نحوٍ أسرع سلّم التراتبية الوظيفية. لم يكن الجنود القدماء من ذوي الخبرة ولا الشباب الأغرار يخلدون في هذا المكان. كان ذلك يفتح احتمالات عديدة أمام المهنة... وبمرور السنين، حظيت بمكانة خاصّة وكذلك ببعض الاستقلال الذاتي الأمر الذي أتاح لها أن تقوم بالتحقيق في الحالات الأكثر "خطورةً"، والتي كانت أيضاً الأكثر غموضاً والأكثر دمويةً. سألها جيم وهو ينضمّ إليها: -لم تنسحب بمحض إرادتها، أليس كذلك؟ -كلا، لو كانت حالة هروب، لاستطعنا تحديد مكانها ولما تخلّت أبداً عن الخمسين جنيه خاصّتها. -ونظراً إلى ما يمكن أن يكون لإيرن من أموال في حسابها المصرفي، أعتقد أننا نستطيع أيضاً أن نستبعد فرضية اختطافها لطلب فدية. أكّدت مادلين على هذا الرأي وقالت: -هذا مؤكّد، ولكن مع ذلك سوف نجري تحقيقاً حول عصابة الحشاشين المحيطة بها: يمكن لأشخاصٍ من هذا النمط أن يتصرّفوا بدافع من الانتقام أو بدافعٍ من العنف والابتزاز. قال جيم مؤكّداً وكأنّه يريد أن يطمئن نفسه: -سوف نعثر عليها. لسنا في الولايات المتحدة الأميركية ولا في فيلمٍ بوليسي: في إنجلترا الحالية، قضايا اختفاء القاصرات التي لم يتم حلّها نادرة. قبل عامين من الآن، كان جيم ومادلين قد أشرفا معاً على التحقيق حول اختفاء صبي اختُطِف حينما كان يلعب في حديقة منزل والديه. وكان التبليغ عن الحادثة فورياً ومباشراً: وقد تمكّنا من نشر وسائل بحث مهمّة في وقتٍ قصيرٍ للغاية. وتمّ توقيف الخاطف بعد بضع ساعات من الحادثة بفضل إشارة سيارته ومن ثمّ اقتيد إلى التحقيق ليقدّم اعترافاته. قبل أن يحلّ الليل، تمّ العثور على الصبي المختَطَف وهو مقيّد في كوخٍ مهجور ولكنّه على قيد الحياة وفي صحّة جيدة. وهي تتذكّر تلك الحادثة التي تُظهر أهمية القدرة على إبداء ردّ الفعل السريع، دعت مادلين غضبها ينفجر، فلكمت بعنف وحنق بقبضة يدها على الغطاء المعدني لمحرّك سيارة فوكس، وقالت: -اللعنة، يا لها من مغفّلة حمقاء! تنتظر ثمانية أيام لكي تبلّغ عن اختفاء ابنتها! سوف أودعها السجن! في أيّ عملية اختفاء، كانت الساعات الثماني والأربعين الأولى حاسمة. أجل، بعد مرور هذا الحدّ، لا يتمّ العثور على الشخص، ويكون هناك احتمالات كبيرة أن لا يتمّ العثور عليه أبداً. طالبها جيم بالهدوء وهو يبتعد عنها: -هدّئي من روعك! لقد عثرتُ على رقم هاتف الصبية. سوف نرى إن كان بوسعنا أن نتتبّع مكالماتها. من جديد، نظرت مادلين إلى الصورة وغصّ حلقها. كانت ترى في آليس أختاً صغيرة، بل وابنة.... مثلها مثل إيرن، كان يمكن لها أن تَحمل من أحد مغفّلي الحي في سنّ السابعة عشرة، وهي تعود من النادي الليلي ذات مساء سبتٍ، على المقعد الخلفي لسيارة روفر 200. -غمغمت وهي تسأله: -أين أنت؟ وفي حالةٍ قلّما تحصل لها، شعرت بأنّها مسكونة بيقينٍ راسخ: آليس على قيد الحياة، ولكن حتى في هذه الحالة، لم تكن مادلين تخدع نفسها أبداً. الفتاة المراهقة ليست في مكانٍ مريح. وإنّما في الكهف المعتم والرطب لمجنونٍ أو بين براثن عصابة مافيا متخصّصة في تجارة النساء الشابّات وتجارة الرقيق. في كلّ الأحوال، كان ثمّة أمرٌ مؤكّد. كان عليها أن تخاف. أن تخاف على نحوٍ رهيب. الفصل الثالث عشر أيّام الإخفاق الجميع متّهم أو لا أحد متّهم. مايكل كونيللي آخر "شخصٍ" شاهد آليس ديكسون على قيد الحياة، كان ... كان كاميرا مراقبة. كان مقطع الفيديو، المصوّر عند تقاطع بايكل كروس، يُشاهد فيه الشبح الهزيل للفتاة وهي تنزل من الحافلة، وحقيبتها الظهرية على كتفها. تُشاهَد بوضوح وهي تنعطف إلى زاوية الشارع لكي تسلك الممرّ الموازي الذي يؤدّي إلى مدرستها. كان خطّ سيرها يقلّ عن ثمانمئة مترٍ. ومن ثمّ... لا يعود هناك من أثر لأيّ شيء. مرّت أيامٌ عديدة من الصمت ومن اللامبالاة ومن الغموض. لم يشاهد أحدٌ أيّ شيء ولا سمع أيّ شيء. وكأنّ آليس قد تبّخرت. * وككلّ المدن الكبيرة في إنجلترا، كانت مانشستر مزروعة بالآلاف من كاميرات المراقبة. منذ عشر سنوات خلت، كانت سياسة نصب كاميرات المراقبة على نطاقٍ واسعٍ قد غطّت كلّ زاوية من زوايا المدينة. وبذلك يمكن لمواطن أن يُصوّر في اليوم لأكثر من ثلاثمائة مرّة. إنّها وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها لمكافحة الجُنَح والجرائم. على الأقلّ، في خطابات السياسيين، لأنّه، في الحقيقة، كانت الحكاية مختلفة: نظراً إلى انعدام الأرصدة الكافية، كانت الكاميرات غالباً غير صالحة للعمل. صباح يوم ا ختفاء آليس، كانت كلّ الكاميرات التي تغطّي ذاك القطاع إمّا غير موجّهة أو غير مضبوطة وكانت صورها مغبّشة أو غير صالحة للاستخدام... * في الأيام التي تلت اختفاء آليس، عبَأت مادلين مائة وخمسين عنصراً من الشرطة لكي تفتّش الشقق والأوكار والحدائق في نطاق ثلاثة كيلومترات من حول المدرسة. وقد تمّ أخذ شهادة المئات من الأشخاص، تمّ وضع المنحرفين الجنسيين المعروفين تحت المراقبة اللصيقة وجرى تعقّب أثر شاحنة صغيرة بيضاء اللون مشبوهة كان العديد من التلاميذ قد شاهدوها. * ولأّنها كانت مقتنعة بأنّها تتحمّل مسؤولية كبيرة عن اختفاء آليس، وضعت مادلين إيرن ديكسون تحت الرقابة المشدّدة، واستجوبتها لأكثر من عشرين ساعة. كانت إيرن بالنسبة إلى الشرطية مصّاصة دماء مستعبدة تماماً من قبل مخدّر الكراك وقادرة على فعل أيّ شيء في سبيل الحصول على جرعة من هذا المخدّر بما في ذلك بيع ابنتها إلى شبكةٍ للدعارة، لكن إفاداتها لم تكن تحمل شيئاً مهمّاً. بناءً على نصيحة محاميها، طالبت إيرن أن تُخضع لجهاز كشف الكذب – وهي سخرية كبيرة – وتجاوزت الاختبار بنجاح. خرجت طليقة من استجوابها وسمحت لنفسها، على غير العادة، أن تُطلق أمام الكاميرات وبصوتٍ مرتجف نداءً إلى الخاطفين المحتَمَلين. * استطاع قسم المعلوماتية في مفوضية الشرطة أن يُقرصن بسهولة كلمة المرور في حاسوب آليس: Heath – Cliff وهو اسم بطل روايتها المفضّلة مرتفعات ويذيرنيغ. لسوء الحظّ، لم يؤدِّ لا تحليل القرص الصلب ولا محتويات صندوق الرسائل إلى أيّ أثرٍ جدّي. * من خلال تصفّح دفتر مذكّراتها اليومية الخاصّة، اكتشفت مادلين أنّ الفتاة المراهقة كانت قد اعتادت على أن تنظّم الأعمال الصغيرة وهي تكذب بشأن سنّها وبهذه الطريقة كانت تكسب المال لكي تدفع ثمن كتبها وثمن رحلاتها الثقافية. وقد عملت في الأشهر الأخيرة في إحدى حانات اوكسفورد رود في الحيّ الجامعي اسمها سول كافيه. تمّ توقيف صاحب الحانة وجُرِّم بتهمة تشغيل فتاة قاصر، ولكنّه بُرِّئ من القضية المتعلقة بالخطف. * في الخامس عشر من كانون الأول \ ديسمبر، مسح غوّاصون الشاطئ الغربي للمحيط على طول أكثر من كيلومترين بينما مسح آخرون مستنقع روكويل الذي يقع على بعد أربعمائة متر من مدرسة آليس. اكتشفوا العديد من هياكل السيارات من طراز كادي وهيكل درّاجة وثلاّجتين والعديد من الحواجز الأمنية ولكنّهم لم يعثروا على أيّ جثّة. * قام جيم بالتدقيق في كلّ المكالمات الواردة والصادرة في الهاتف المحمول للفتاة. تمّ استجواب جميع المتّصلين بها ولكن إفاداتهم لم تسفر عن أيّ نتيجة تُذكَر. * مرّ عيد الميلاد دون أن يتقدّم التحقيق قيد أنملة. تخلّت مادلين عن عطلتها وبدأت تتناول أدوية لكي تشعر بالنعاس وتستطيع أن تنام لبضع ساعات. لم تكن مادلين مبتدئة في المهنة، فقد كانت تعمل في هذا الحيّ المشؤوم منذ سنوات. سنواتٌ شكّل فيها العنف والرعب جزءاً من حياتها اليومية. سنواتٌ تحمّلت خلالها مناظر مسارح الجريمة وتشريح الجثث والمراقبة الدقيقة لأشخاصٍ من أسوأ الأصناف. سنواتٌ طارت خلالها قتلة وأوقفت مغتصبين وتجّار مخدّرات وأوقفت منحرفين جنسيين وفكّكت شبكات مهرّبي المخدرات. وإذا كان لا بدّ من العدّ والإحصاء، فإنّها قد عملت على ملفات العشرات والعشرات من المجرمين القتلة. قبل ثلاثة أعوام من الآن، كادت أن تفقد حياتها أثناء تبادلٍ لإطلاق النار بين عصابتين من الأشرار: فقد لمستها على نحوٍ خفيف طلقة مسدّس من طراز 357 ماغنوم ومزّقت قليلاً جلد جمجمتها وتركت عليه ندبة كانت تجهد لإخفائها بخصلاتٍ من شعرها. كان التحقيق كلّ حياتها، حتى وإن كان التحقيق يسبّب لها الوسواس والعزلة والتعرّض للخطر الدائم. حتى وإن كان التحقيق يحيلها إلى شبحٍ بالنسبة إلى أصدقائها وعائلتها وزملائها. ولكن في الحالة الراهنة، ألم يكن هذا هو بالضبط الثمن الذي ينبغي دفعه: أن يصبح المرء بنفسه شبحاً لكي يعثر على شبحٍ آخر؟ ... في كانون الثاني \ يناير، تفحّص جيم وفريقه المكالمات الهاتفية الصادرة على مقربة من الدائرة الأقرب إلى المدرسة خلال الساعات التي سبقت والتي تلت اختفاء آليس. وقد تمت مطابقة أسماء الأشخاص الذين أجروا هذه المكالمات مع سجلات الشرطة وتبيّن أن أكثر من مائتين من هؤلاء الأشخاص كانوا معروفين، وفي غالب الأحيان بتهم جنايات وجنح القاصرين. تم أخذ إفادات جميعهم والتحقّق من كيفية استخدامهم للوقت وتفتيش مساكنهم. كان من بينهم رجل في الخمسينيات من عمره، يُدعى فليتشر والش وقد سبق له أن حُكِم عليه بتهمة الاغتصاب لعشرين عاماً وكان يملك سيارة ببابين بيضاء اللون ... * من الناحية الظاهرية، كانت حجّة فليتشر والش مقنعة ولكن لدى تفتيش مرآب سيارته، وجد فريق الكلاب البوليسية آثار دماء في الصندوق الخلفي لمركبته. أرسلت الأدلة إلى قسم الطب الشرعي في بيرمنغهام ووضعت الشرطة والش تحت المراقبة المستمرة ليل نهار بانتظار نتائج التحاليل المخبرية. * في الثالث عشر من شباط \ فبراير، أعلن الناطق باسم شرطة مقاطعة مانشستر بأنّ التحاليل المخبرية لآثار الدماء التي عُثِرَ عليها في سيارة فليتشر والش لا تتيح التأكيد بيقين لا شكّ فيه بأنّها تخصّ آليس ديكسون. * ومن ثمّ تراجع الاهتمام الإعلامي بالحادثة. وتمّ نشر رجال الشرطة المكلّفين بالتحقيق في أماكن أخرى وعلى قضايا أخرى. وراوح التحقيق في مكانه دون أي تقدّم يُذكَر. * ظلّت مادلين تحلم في كلّ ليلة بآليس وظلّت نظرة الفتاة المختفية تلاحقها. تستيقظ كلّ صباح وهي تأمل في أن تعثر على دليلٍ جديد أو بداية أثرٍ قد تمّ إهماله. لطالما كان زملاؤها ورؤساؤها في العمل يعتبرونها على أنّها شرطية صلبة وعنيدة، ولكن في هذه المرّة، زلّت بها القدم. لقد ابتنت على أسسٍ غير مؤكّدة، مبنية من درعٍ واقٍ لم يكن يُقصي شفقة حقيقية. لم تكن قط أفضل حالاً إلا حينما يصبح ألم الضحايا ألمها هي. إنّها مقاربة محفوفة بالخطر ولكنّها مقاربة تجعل منها فعّالة. كان ذلك ما حدث لها مع قضية آليس. منذ اليوم الأوّل، هدّها اختفاؤها. لقد أعادت هذه الصبية إلى أذهانها مراهقتها هي. إنّه تماثلٌ مثيرٌ للارتباك، علاقةٌ غامضة، ارتباطٌ عميقٌ، شعورٌ كانت تدرك بأنّه هدّام ولكنّه شعورٌ لم تحاول حتى أن تقاومه. لم تكن مجرّد مسألة شخصية، كانت أكثر من قضية شخصية. كان اليقين في أنّها الشخص الوحيد الذي يهتمَ حقّاً بمصير الفتاة. الإحساس بأنّها قد حلّت محلّ أمّها وأنّها تحمل على عاتقها مسؤولية اختفائها. في تلك الليلة، قطعت على نفسها وعداً: إن لم تستطع العثور على آليس حيّةً، لن تنجب قطّ أطفالاً... * استبدّ بها العجز. أحياناً، كان الأمر بالنسبة إليها أسوأ مما لو أُخبِرَت بموتها، لأنّها لم تكن تكفّ عن تخيّل ما يمكن أن تكون آليس قد قاسته. تجتاح صورٌ مفجعة ومضنية ذهنها. لكي تتعلّق بشيءٍ ما، ذهبت إلى حدّ استشارة مشعوذ. من خلال لمسه لقطعة ثياب تعود لآليس، أكّد الدجّال بأنّ الفتاة قد ماتت وأعطى عنوان الورشة التي تتواجد فيه جثّتها. كلّفت مادلين فريقاً لكي يقلب المكان رأساً على عقب، ولكن جهودها ذهبت سُدى. * حينما علم رئيسها في العمل بالمنزلق الذي وصلت إليه، نصحها بأن تأخذ بضعة أيامٍ من الراحة. "من الضروري رؤية الحقيقة الماثلة أمامنا: لقد اختفت آليس ديكسون منذ ثلاثة أشهر. هذا أمرٌ مأسوي، ولكن في هذه المرحلة، تدركين جيداً بأن فرصة العثور عليها تكاد تكون معدومة. هناك تحقيقاتٌ أخرى وملفّاتٌ أخرى نحتاج إلى جهودكِ بشأنها ...". * ولكنّ مادلين شعرت بأنّها غير قادرة على العمل على "تحقيقات أخرى وملفّات أخرى". كانت مستعدّة لأن تفعل أيّ شيء لكي تبقي على أملٍ ضعيفٍ في العثور على آليس. * حينها، عقدت العزم على أن تزور الإبليس شخصياً. الفصل الرابع عشر العدو اللدود دائما لدى المرء الخيار، بل إنّ المرء هو حاصل خياراته. جوزيف أوكونور ركنت مادلين سيارتها المهترئة أمام مقهى بلاك سوان، المقهى الإيرلندي العائد إلى آل دويل منذ أجيال عديدة. كانت شيتام بريدج حبيسة صغيرة يقلّ سكانها عن عشرة آلاف نسمة وتقع على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الشمال الشرقي لمركز مدينة مانشستر. كان الحي، الذي كان سكانه في ما مضى بمعظمهم من الإيرلنديين، قد شهد حركات هجرة متعاقبة للهنود والأنتيليين والباكستانيين والأفارقة ومؤخراً للأوروبيين الشرقيين. ولّد هذا الخليط الإثني مزيجاً مدهشاً من الثقافات ولكنّه كان سبباً لحربٍ دموية لا هوادة فيها بين عصابات الأشرار. كان عمل الشرطة فيه صعباً للغاية ومستوى الجريمة فيه مقلقاً جداً. ما أن دخلت إلى المقهى حتى سُئلَت مادلين بصوتٍ مليءٍ بالسخرية والاستهزاء: -مرحاً مادي! أتعلمين بأنّك ما زلتِ تملكين أجمل مؤخرة صغيرة بين كلّ عناصر شرطة مانشستر! التفتت لتشاهد في عمق صالة المقهى داني دويل، وهو يتّكئ على حرف البار أمام كوبٍ من الجعّة الغامقة رفعه باتجاهها. كان محاطاً بحرّاسة الشخصيين الذي قهقهوا مجلجلين على نكتته. قالت وهي تتقدّم نحوه: -طاب نهارك، يا داني، ها نحن نلتقي بعد زمنٍ طويل. كان داني "دوب" دويل زعيم إحدى الجماعات الأكثر قوّة من طبقة اللصوص في مانشستر، إنّه الأب الروحي لسلالة عائلية شهيرة بإجرامها تهيمن منذ خمسين عاماً على المملكة القذرة لشيتام بريدج. مذ كان في السابعة والثلاثين من عمره، نزل مراراً وتكراراً في السجن ويضمّ سجّله القضائي قائمة طويلة من الجرائم: جرائم تعذيب، تجارة مخدّرات، سطو مسلّح، تبييض أموال، قوادة وتجارة الرقيق، عمليات اعتداء على رجال الشرطة... كان داني رجلاً عنيفاً، قادراً على أن يصلب على طاولة البليارد زعيم عصابة منافسة. لقد قتل دوب، مع شقيقه وزمرته، ما يقارب عشرين شخصاً وغالباً خلال جلسةٍ من التعذيب المفرط في قسوته ووحشيته. عرض عليها: -هل أقدّم لك كوباً من الجعّة؟ ردّت مادلين: -أفضّل قدحاً من نبيذ بوردو. إنّ دخولك الكريه إلى سجلّ غينس للأرقام القياسية يكبّلني. سرت هذه الهمهمة المدهشة بين الحرس القريب من دويل. لم يكن أحدٌ يسمح لنفسه أن يتكلّم إليها بهذه اللهجة، ناهيك عن كونها امرأة. نظرت مادلين بازدراء إلى مجمع القادة. كان خليطاً من الحراس المرافقين والرجال الصغار الذين أفرطوا في مشاهدة الفيلمين السينمائيين: الوجه ذو الندبة والعرّاب. حاولوا تقليد شخصيات هذين الفيلمين بوضعياتهم وتعليقاتهم ولكن بقيافتهم المضحكة ولكنتتهم المتخلّفة، لم يكونوا على شيءٍ من رقي آل كورليوني. دون أن يرفع صوته، سأل داني دويل نادل البار إن كان هناك نبيذ بوردو في صندوق المشروبات. -نبيذ بوردو؟ كلا. إلا إذا... ربّما في الصناديق التي نقلها ليام إلى بيت الروسي... أمره دويل: -اذهب وتأكّد! حدّقت مادلين في عينيه. -الجوّ هنا كئيب ومعتم. لنخرج إلى الرصيف حيث الجوّ لطيف. -سألحق بكِ. كان دويل شخصاً معقّداً ومعذّباً. يتقاسم زعامة زمرته مع شقيقه التوأم، جوني، الذي خرج من بطن أمهمها بعده بخمس دقائق ولكنّه لم يقبل قط بوضعه على أنّه الأخ الأصغر. كان جوني يعاني من الشيزوفرينيا الهذيانية وقد احتُجِزَ في مرّات عديدة لمددٍ قصيرة، حيث كان يتعرّض لنوبات عنفٍ طارئة وغير متوقعة إذ تتعلّق حالته بالمنفى النفساني أكثر منه بالسجن. من بين الشقيقين التوأمين، كان جوني الوحش الدموي الذي لطالما اعتقدت مادلين بأنّ ذلك كان جزئياً للاحتفاظ بسيطرته على شقيقه الذي استسلم للانجرار إلى دوّامة العنف هذه. بينما كانوا يصلون إلى صحن الحانة، تقدّم شابٌّ أصهب بنيَّة تفتيش الشرطية الشابّة، ولكنّ مادلين ردّته عن ذلك: -أمّا أنت، فإن لمستني سوف أمزّقك نصفين. بدرت ابتسامة خفيفة من داني ورفع يده في إشارة لكي يهدّئهما ويصرفها من المكان. طلب هو بنفسه من مادلين أن تسلّم له سلاحها وتأكّد من أنّها لا تخفي سلاحاً آخر خلف ظهرها أو على طول كعبها. -لا تستغلّ الأمر وتتحجّح لكي تلمس جسدي! -أنا أؤمّن على خلفياتي: الجميع يعرف تماماً لو أنّ رجال الشرطة قرّروا التخلّص منّي فإنّهم سيطلبون إليكِ أنت أن تقومي بهذه المهمّة القذرة... تحت عريشة لبلابٍ ذات سحرٍ رعوي، جلسا، الواحد منهما قبالة الآخر، إلى طاولة مصنوعة من الحديد المطلي. ولكي يزيل جوّ الفظاظة وعدم اللباقة الذي ساد الموقف، قال دويل: -هل نظنّ أنفسنا في بروفانس أم في إيطاليا؟ ارتعشت مادلين. فليس من السهل أن تجلس قبالة الإبليس. عدا عن أنّ قبل أن يكون الإبليس، كان دوني دويل، زميلها في المدرسة الابتدائية ومن ثمّ في الثانوية، أوّل صبيٍّ تركته يقبّلها ... قال داني وهو يصالب ذراعيه: -أنا أسمعك. كان دويل، ذو القامة المعتدلة والشعر البنّي والوجه الأملس والمربّع، يجتهد في أن يشبه "السيّد جميع". كانت مادلين تعلم بأنّه كان معجباً بالجانب المتقلّب للشخصية التي يؤدي دورها الممثل كيفن سبيسي في فيلم المشتبه بهم المعتادون. كان داني، مرتدياً ثياباً سوداء بالكامل، يلبس بزّة رجالية من طراز إيرمانجيلدو زيغنا تبلغ قيمتها أكثر من ألف جنيه. بخلاف جلازوته، كان دويل في مأمنٍ من السخرية، بل كان له سحر الرجال الذين زهدوا في الإغراء. -جئت لكي أقابلك بشأن آليس ديكسون، يا دانييل. -الصبيّة التي اختفت؟ -نعم. أنا من يقوم بالتحقيق بشأنها منذ ثلاثة أشهر. هل يمكن أن تكون لديك معلومات بشأنها؟ هزّ دويل رأسه نافياً: -كلا، لماذا؟ -هل تقسم لي على أنّك لست أنت الذي وراء كلّ هذه القضية؟ -لأيّ أسباب قد أقوم باختطاف هذه الفتاة؟ -لكي تشغّلها، لكي تستغّلها... -إنّها في الرابعة عشرة من عمرها! أخرجت مادلين صورة آليس من محفظتها. قالت وهي تدسّ الصورة تحت أنفه: -بل عمرها على الأقلّ ستة عشر عاماً. ثمّ أنّها غضّة، أليس كذلك؟ لا تقل لي بأنّك لم تكن تلمسها! لم يتحمّل دويل هذا التحريض. بحركة خاطفة، أمسك مادلين من شعرها وقرّب وجهها لبضعة مليمترات من وجهه ونظر محدّقاً في عينيها. -ماذا تقصدين يا مادي؟ لدي كلّ أخطاء الكرة الأرضية، يداي ملطّخة بالدماء ومكاني محفوظ مسبقاً في الجحيم، ولكنني لم ألمس قطّ طفلةً. صرخت وهي تتحرّر من قبضته: -إذاً، ساعدني! خفّف دويل من توتّره قبل أن يسأل بانزعاج: -ماذا تريدين أن أفعل؟ -أنت تعرف الجميع في الحي ونصف الناس يدينون لك بشيءٍ ما. أنت تحلّ مشاكل الجيران وتحمي التجّار، بل وتتكفّل بتوزيع هدايا عيد الميلاد على الأسر الأكثر بؤساً... ردّ دويل ساخراً: -هذا هو جانبي الروبن هودي. -بالأحرى، أنت تسعى إلى أن يكون جمعٌ من الناس مدينين لك. -هذا أساس العمل التجاري... -حسناً، أريد أن تستخدم شبكتك لكي تحصل لي على معلومات حول اختطاف آليس. -أي معلومات؟ -الشهادات التي قد لا يرغب الناس في أن يقدّموها إلى الشرطة. تنهّد دويل واستغرق في التفكير لبضع ثوانٍ. -مادي ... لقد مرّ على اختفاء هذه الصبيّة أكثر من ثلاثة أشهر. أنتِ تدركين جيدّاً بأنّه سوف لن يُعثر عليها على الإطلاق... اوقفته قبل أن يتابع تقديم موعظته: -لم آتِ إلى هنا لكي أسمع هذه الترّهات. أنت لديك علاقات ببعض الدسّاسين السياسيين والعديد من رجال الأعمال. رجال هم أيضاً مدينون لك بأنّك لم ترسل إلى زوجاتهم أو إلى الصحافة صوراً مشبوهة يظهرون فيها وهم يمارسون المجون مع فتيات المنادمة على الهاتف. أخيراً، أنت تعرف أفضل مني التفصيلات، لأنّك أنت من كنت تدفع لهؤلاء الفتيات... التمعت تكشيرة عصبية على شفتي دويل: -كيف تعلمين بهذا الأمر؟ -أنا شرطية، يا دانييل. أنت تعلم تماماً أن هاتفك مُراقَب منذ أشهرٍ عديدة. دافع عن نفسه وهو يهزّ كتفيه: -هواتف كثيرة. لدي العشرات من الهواتف. -ليس مهمّاً. أريدك أن تستخدم هؤلاء الرجال من ذوي "الياقات البيضاء" في سبيل إعادة تعبئة الرأي العام. جلب النادل زجاجة نبيذ البوردو التي كان قد عثر عليها أخيراً. سأل: -هل هذا يناسب الآنسة؟ قالت وهي تنظر إلى لصاقة الزجاجة: -نبيذ من طراز هوت – بريون 1989! سوف لن نفتح هذه الزجاجة. هذا نبيذٌ فاخر! بإشارة من رأسه، أمر دويل النادل أن يصبّ لهما كأسين من هذه الزجاجة: -كان هذا النبيذ يعود لابن عاهرةٍ من روسكوف يقبع الآن على عمق ستّة أقدام تحت الأرض! وبالتالي، يسعدني للغاية أن أشربه بصحّته! لكي لا تخالف رغبته، غمست مادلين شفتيها في النبيذ وهي تترقّب جواب دويل. -إذا ساعدتكِ في العثور على هذه الفتاة، ماذا سأكسب لقاء ذلك؟ -سوف تكسب رضاً شخصياً، مغفرة من الله على بعض ما ارتكبت من أعمال، نوعاً من التكفير عن ... بدأ دويل يمزح بلطف: -وبجدية أكثر؟ لكي تتحلّى بالشجاعة، شربت مادلين جرعة كبيرة من النبيذ. كانت قد أعدّت نفسها لهذه المساومة. لم يكن دويل يعطي شيئاً بلا مقابل ولذلك لم تأتِ إلى مقابلته إلا كملاذٍ أخير. بدأت مادلين: -في قسم شرطة مانشستر، يخبرنا أحد الأدلاء عن مشاريعك منذ أسابيع عديدة... هزّ دويل رأسه، رافضاً: -أنت تزعمين بأنّ هناك شخصٌ مختَرَقٌ داخل فريقي؟ أنتِ تمارسين الخداع. -لقد أبلغنا عن عملية السطو المسلّح على عربة مصرف بيوترفلاي بأنك الذي تعدّ لها، عملية يوم الجمعة القادم... ظلّ دويل هادئ الأعصاب. -وإذا ساعدتك، هل ستفصحين لي عن اسمه؟ استرخت مادلين في مقعدها وقالت: -لا مشكلة، لقد سبق وحدّثتك عن الأمر كثيراً. تدبّر أمرك بالاعتماد على وسائلك الخاصّة. -تريدين حقّاً أن تعرّضي سمعتكِ للخطر بمجيئكِ إليّ وطلب مساعدتي، ولكنّكِ لست مستعدة لأن تلوّثي يديكِ حتى النهاية، أهذا صحيح؟ -دانييل، من فضلك... إذا أفشيت لك اسم هذه الرجل، سوف يموت قبل هذا المساء. أجاب وهو ينظر إليها بشيءٍ من المودّة المشوبة بالعتب: -ليس هناك أدنى شكّ في ذلك. كانا مرتبطين بعلاقة غريبة. من عداها، لم يكن أحدٌ يناديه قط "دانييل" وكان هو شبه متأكّد بأنّها لم تكن تسمح للكثيرين من الناس بأن ينادوها "مادي". -في هذه الأمور، لا مكان لأنصاف الحلول، يا مادي. إمّا أن تغرقي لكي تساعدي صبيّتكِ، وإمّا أن ترفضي أن تتبلّلي. الأمر لكِ أن تقرّري. -أنت لا تترك لي الخيار. -"دائماً لدى المرء الخيار، بل إنّ المرء هو حاصل خياراته". في أيّ كتابٍ قرأتُ هذه المقولة قبل الآن؟ في واحدةٍ من الروايات التي أرسلتِها إليّ خلال إقامتي الأولى في السجن. كان دانييل يمثّل أمام رجاله دور الإنسان الأمّي، ولكن لم تكن تلك حقيقته. وعلى النقيض من شقيقه، كان يهتمّ بالفن وقبل أن يُعتَقَل، كان قد بدأ بدراسة الاقتصاد والإدارة أوّلاً في لندن ومن ثمّ في جامعة كاليفورنيا. سحبت مادلين ورقة مطوية بأربع ثنيات من جيب سروالها الجينز وأعطتها لدويل. قالت: -حسناً، هذا هو اسم مخبرنا. نهضت لكي تغادر المقهى: طلب إليها وهو يمسك بيدها: -ابقِ لخمس دقائق إضافية. ولكنّها تحرّرت من قبضته. حينها، ولكي يبقيها لبضع دقائق إضافية، أخرج قدّاحةً من جيبه وأحرق الورقة دون أن يقرأ ما هو مكتوبٌ عليها. -حسناً، لقد كسبت الرهان. وافقت على أن تجلس من جديد وقدّم لها كأساً أخرى من النبيذ. سألها وهو يشعل سيجارةً: -لماذا لم تغادري مدينة مانشستر الداعرة هذه؟ كنتِ تقولين دائماً بأنكِ كنتِ تريدين العيش في باريس... -وأنت، لماذا لا تستقرّ في الولايات المتحدة الأمريكية؟ هذه الوكالات العقارية وهذه المطاعم التي اشتريتها في لوس أنجلس بماذا تخدمك؟ في تبييض الأموال؟ تملّص من السؤال وهو يتذكّر: -كنتِ تودّين أن تفتحي متجراً للزهور... -وأنت كنت تقول بأنّك تريد أن تكتب نصوصاً مسرحية! ابتسم دويل بتذكّرها لهذا الكلام. نادي المسرح في المدرسة الإعدادية. في عام 1988، كان عمره أربعة عشر عاماً. -بالنسبة إلي، لقد كُتِبَ كتاب حياتي قبل ميلادي! عندما تولد في حي شيتام بريدج وتُدعى داني دويل، لا يمكنك التهرّب من قدرك. ردّت بشيءٍ من الخبث: -كنتُ أعتقد أنّ لدى المرء الخيار دائماً. ومض نورٌ في نظرة دويل، وتبعت ذلك ابتسامة صريحة حوّلت للحظة ملامح وجهه ومنحته تعبيراً جذّاباً للغاية. كان من الصعب التصوّر بأنّه الرجل نفسه الذي، قبل شهرٍ واحدٍ فقط، قد قطع بالساطور قدمي ويدي رجلٍ أوكراني حاول أن يتجاوزه بالسيارة. كانت تعلم أنّ الخير والشرّ يتعايشان في كلّ فرد. وأنّ بعضهم يكتشفون، باختيارهم أو رغماً عنهم، أسوأ ما بدواخلهم. في تلك اللحظة، تساءلت أيّ رجلٍ كان دانييل سيصبح لو أنّه قد راهن على الجانب المضيء من شخصيته بدل أن يسلك الطريق المتعرجة لهروبٍ إلى الأمام نحو المخرج المشؤوم للغاية. كانت هناك إذاً تلك الثواني القليلة التي توقّف الزمن خلالها. تلك اللحظات القليلة من النعمة حيث كانا يبلغان من العمر خمسة عشر عاماً. حيث كانا يبتسمان معاً. حيث لم يكن دانييل قد قتل أحداً على الإطلاق. حيث لم تكن هي شرطية. حيث لم تكن آليس قد اختفت. تلك اللحظات القليلة حيث لم تكن الحياة بعد مليئة بالوعود. لحظاتٌ قليلة من حيث ... * ثمّ نزل أحد المرافقين إلى الرصيف وانقطع السحر المنحرف. -علينا أن ننصرف، يا معلم، وإلا سوف يضيع منّا الجامايكي. -سألحق بك إلى السيارة. أنهى دانييل كأسه من النبيذ ومن ثمّ نهض. -يمكنكِ أن تعتمدي عليّ في مساعدتكِ، يا مادي، ولكن قد تكون هذه آخر مرّة نلتقي فيها. -لماذا؟ هزّ كتفيه وقال: -لأنني سوف أموت في وقتٍ ليس ببعيد. -أنت تقول هذا الكلام منذ سنوات عديدة. حكّ دويل حاجبيه بإعياء. -هذه المرّة، الجميع يطلبون رأسي: الروس والألبان ورجال الشرطة ومكتب مكافحة تبييض الأموال (OFAC) والجيل الجديد الصاعد في الحي والذي لم يعد يحترم أيّ شيء... -كنتَ تعرف على الدوام أن الأمور سوف تنتهي بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ قال وهو يعيد إليها سلاحها: -عاجلاً أم آجلاً. ثمّ نظر إليها للمرّة الأخيرة وخرجت من فمه كلمات تلقائية لم يكن قد أعدّها مسبقاً: -قُبلتنا... غالباً ما أفكّر بها. أخفضت عينيها. -كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاماً، يا دانييل. -هذا صحيح، ولكنني أريدك أن تعلمي بأنّ تلك الذكرى لا تزال تصاحبني باستمرار وأنّني لستُ نادماً على ذلك. بدورها، نظرت إليه، كان صعباً وقاسياً عليها أن تسمع ذلك الكلام، وصعباً عليها أن تقبل بذلك. كان ذلك مصاحباً بشيءٍ من الإحباط أيضاً ولكن العالم لم يكن أبيضَ أو أسودَ ودفعها الصدق والنزاهة إلى الاعتراف: -وأنا أيضاً، يا دانييل، لستُ نادمة على ذلك. الفصل الخامس عشر الفتاة المفقودة لم تكن تعلم أنّ الجحيم ، هو الغياب بول فيرلين في الأسبوع الذي تلا اللقاء بين مادلين وداني، حضر شهودٌ جدد "بغزارة" إلى مكتب الشرطة، الأمر الذي سمح بإعادة تفعيل الدليل المتعلّق بالشاحنة الصغيرة البيضاء اللون. أكّد ثلاثة أشخاصٍ على الأقلّ بأنّهم قد شاهدوا فتاة شقراء تبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عاماً في عربة خدمية تشبه العربة التي يستخدمها السبّاكون أو الكهربائيون. سمحت شهاداتهم المقدّمة إلى مكتب التحقيق برسم صورة شخصية تقريبية لرجلٍ ذي "ملامح ألبانية" يتراوح عمره بين الثلاثين والأربعين عاماً والذي وافق النائب العام في مكتب الملاحقات القضائية في كرون على عملية بحث وتحرّي واسعة عنه. * وبطريقةٍ سرية، أطلق دويل موقعاً للانترنت، www.alice-dixon.com ، كأساسٍ لشركة مكلّفة بجمع التبرعات لتمويل المئات من اللوحات الإعلانية في محطّات القطارات ومواقف الحافلات والمعارض التجارية في كلّ أنحاء إنجلترا. * في الحادي والعشرين من آذار \ مارس، في ضاحية تويكنهام اللندنية، أثناء بطولة الأمم الستة، تم توزيع اثنين وثمانين ألف مذكّرة بحث لمشاهدي مبارة الركبي بين فريقي إنجلترا واسكتلندا. وفي السابع من نيسان \ ابريل، أثناء مباراة ربع النهائي من بطولة دوري الأبطال التي تقابل فيها فريقا مانشستر يونايتد وإف سي بورتو: عُرِضَت صورة آليس لمدّة دقيقة كاملة على الشاشات العملاقة لملعب أولد ترافورد أمام سبعين ألف شخص ومئات ملايين المشاهدين عبر التلفزيون. * انطلاقاً من هنا، أعطت الشهادات المقدّمة فعلاً نتائج ملموسة. تلقّت مفوضية الشرطة حصّتها من المكالمات الهاتفية المعطِّلة والمختلفة ولكنّ الأدلّة الجديدة تضاعفت: أكّد طبيبٌ بأنّه صادف آليس في يوم اختفائها في القطار الأوروبي السريع، يوروستار، المتّجه نحو بروكسل. وقالت عاهرة أنّها قد "اشتغلت" معها في حي دي فالين، في المنطقة الحمراء من أمستردام، المعروفة بأسواقها الجنسية، وبعروضها في التعرّي وبفتياتها المعروضات في "واجهات زجاجية". وأقسمت امرأة مدمنة على المخدّرات بأنّها قد تقاسمت معها جرعة من المخدرات في ساهو. وأكّد سائقُ شاحنة بأنّه قد شاهدها في سيارة سوداء اللون من طراز مرسيدس على أوتوستراد في بولونيا. وأرسلت سائحة إلى مكتب الشرطة صورة ملتقطة بالقرب من مسبح فندقٍ فاخر في تايلند تُشاهَد فيها فتاة مراهقة تشبه آليس إلى وأرسلت سائحة إلى مكتب الشرطة صورة ملتقطة بالقرب من مسبح فندقٍ فاخر في تايلند تُشاهَد فيها فتاة مراهقة تشبه آليس إلى حدّ التطابق التام، كانت برفقة رجلٍ مسنّ. تم نشر الصورة على الإنترنت وتمت دراستها من قبل الاختصاصيين في علم التشكّل، ولكن تمّ استبعاد هذا الدليل رسمياً. * في رسالة من مجهول، زعم مختلٌّ بأنّه قد اختطف الفتاة واغتصبها ومن ثمّ قتلها، ولكنّه ترك العديد من البصمات التي تسمح بتحديد هويته خلال أيام. وسرعان ما اكتُشِف بأنّه كان معتَقلاّ أثناء اختفاء آليس. * في الثاني عشر من نيسان \ أبريل، في الطابق الثالث من قبل مرآبٍ في حي موس سايد في مدينة مانشستر، تمّ العثور على جثّة ليام كيلروي، وقد ضُرِب حتى الموت بعصا البيسبول. كان الرجل معروفاً بأنّه أحد ضبّاط داني "دوب" دويل. لم يصبح هذا الموت من قضايا الشرطة لأنّ ليام كان أيضاً مخبرهم وورقتهم الأساسية التي كانوا يعقدون الأمل عليها للإيقاع السريع بعرّاب مانشستر. * لم تنم مادلين تلك الليلة. الفصل السادس عشر الصندوق من يغمس يديه بالدم سوف يغسلهما بالدموع مثلٌ ألماني في الخامس عشر من حزيران \ يونيو، وصل طردٌ غريب إلى مفوضيّة الشرطة في شيتام بريدج. كان الطرد موجّهاً إلى النقيب مادلين غرين، مسؤولة قضية آليس ديكسون. كان عبارة عن حاوية محكمة الإغلاق من البلاستيك شبيهة بحافظات البرودة التي يتمّ استخدامها خلال النزهات. فتحت مادلين الصندوق: كان مليئاً بمكعبات ثلج مسحوقة. أبعدت بيديها المكعبات الشفيفة. كانت الطبقة الأولى مائلة إلى البياض، ولكن كلّما حفرت أكثر، كلّما لوّث سائلٌ أحمر الثلج. حينما شاهدت بقع الدم، تسارع إيقاع دقّات قلبها. حاولت جاهدة أن لا ترتعب وتوقّفت لبرهةٍ من الزمن قبل أن تستأنف عملية الكشف. في القاع، كان هناك... قطعة لحم نصف مجمّدة نظرت إليها بتقزّز. ومن ثمّ أدركت أنّها عضوٌ من جسمٍ بشري. كان عبارة عن قلب تمّ تشريحه بفظاظة. قلبٌ بشري. قلب آليس. * هذه المرّة، كان يتوفّر لدى مختبر بيرمينغهام ما يكفي من المادة ولم يكن بحاجة إلا إلى بضع ساعات لكي يثبت بأنّ العيّنات البيولوجية المرفوعة عن القلب المجمّد كانت تتطابق مع آثار الحمض النووي DNA الموجودة في شعر آليس. الآن، لم يعد هناك أدنى شك. لقد ماتت آليس. * في ذلك اليوم، انكسر شيءٌ ما عند مادلين. عادت إلى بيتها كما لو أنّها تسير وهي نائمة، تجرّعت العديد من كؤوس الويسكي وحبتين منوّمتين. في اليوم التالي، لم تذهب إلى عملها ولا في الأيام التالية. خلال ثلاثة أسابيع، ظلّت واهنة القوى، طريحة سريرها، في نوعٍ من السُبات، تائهة بين الكحول والأدوية. كان الواقع قد أصبح بالنسبة إليها لا يُطاق. لم يعد هناك أيّ شيءٍ مهمٍّ بالنسبة إليها. حتى ولا توقيف المختلّ الذي يقف خلف هذه الجريمة. أضاعت رشدها وأصبحت غير قادرة على أن تركّز بذهنها على المستقبل ومستعدة لأن تضغط على زر "إيقاف" حياتها. * في التاسع عشر من حزيران \ يونيو، أعلنت صحيفة صن في أعمدة صفحاتها بأنّه قد تمّ الاتصال مع إيرن ديكسون من قبل شركة إنتاج وأنّها قد تلقّت مبلغاً قدره خمسون ألف جنيه استرليني لكي تُخرج إلى الشاشة قصّة مقتبسة من اختفاء ابنتها. * في السادس والعشرين من حزيران \ يونيو، خلال عملية تفتيش عادية على الطريق، أوقفت شرطة ميرسيسايد رجلاً يدعى هارالد بيشوب. كان الرجل، وهو في حالة سُكر، ينقل عبر الصندوق الخلفي لعربته أدوات حادّة ملطّخة بالدم. زغم في البداية بأنّه قد قطّع خنزيراً بريّاً صدمه بالصدفة في غابة بولاند. ولكن كلماته كانت غامضة ومثيرة للارتياب. تمّ استجواب الرجل واقتيد إلى زنزانة خاصّة بإزالة آثار السُكر في المفوضية الصغيرة لشرطة بريسكوت. حينما بدأ الاستجواب، لم يراود الشكّ رجال الشرطة المناوبين بأنّ أمامهم الرجل الذي تُطلق عليه الصحافة منذ سنواتٍ عديدة لقب "جزّار ليفربول". اعترف بيشوب، خلال جلسة الاستماع إليه، بأكثر من عشرين عملية قتل لنساء شابّات أو مراهقات ومثلها من عمليات اغتصاب ارتكبها خلال الفترة الممتدّة من العام 2001 وحتى العام 2009. كانت المفاجأة كبيرة. سمحت عملية احتجاز بسيطة بشأن تناول الكحول بتوقيف أحد أعتى رجال الجريمة الستاخانوفيين المرعبين الذين عرفتهم إنجلترا. العشرات من عمليات القتل والاختطاف التي ظلّت غامضة وجدت طريقها أخيراً إلى الحلّ. استغرقت اعترافات هارالد بيشوب طيلة الليل. عند الصباح الباكر، كانت آخر عملية قتل نسبها إلى نفسه هي عملية قتل آليس ديكسون. شرح بأنّه قد ألقى جثّتها في نهر ميرسي بعد أن أرسل قلبها إلى مفوضية شرطة مانشستر. * شغلت القضية عناوين الصفحات الأولى في الصحف طيلة أسابيعٍ عديدة. تمّ استجواب بيشوب والاستماع إلى أقواله لعشرات المرات ولكنّ ذاكرته كانت تخونه، وكان يخلط غالباً بين التواريخ ويبقى متردداً وغامضاً حول تفاصيل بعض جرائمه. لدى تفتيش مسكنه، عثر المحقّقون على بقايا من جثث كثيرة لم يكن من الممكن تحديد هوية جميع أصحابها على نحوٍ مؤكّد. * في السابع من تموز \ يوليو، في منتصف الليل، علّقت مادلين غرين حبل مجفّف الشعر إلى العارضة التي تعلو شرفة بيتها. كان يجب لتلك الحالة أن تنتهي. بمساعدة ما تبقّى من الويسكي، ابتلعت كلّ الأدوية المتوفّرة لديها، والت يتتكوّن بشكلٍ أساسي من أقراص منوّمة ومهدّئات. ثم صعدت إلى كرسيٍّ وأمسكت بحبل مجفّف الشعر لكي تُشكّل به حلقة. دسّت رأسها في الحلقة وشدّت العقدة. كان يجب لتلك الحالة أن تنتهي. منذ شهر، اجتاحت صورٌ مرعبة خيالها. صورٌ لا يمكن تحمّلها والتي لم تترك لها أيّ مهلة. صورٌ جعلتها تشعر بالأهوال التي لا بدّ أن آليس قد تعرّضت لها. كان يجب لتلك الحالة أن تنتهي. كان يجب لتلك الحالة أن تنتهي. * فقفزت من الكرسي. الفصل السابع عشر زهرة السحلبية السوداء وحيدةً (...)، أنا دائماً وحيدة \ مهما حصل. مارلين مونرو سان فرانسيسكو يوم الاثنين صباحاً أشرقت الشمس على تيليغرام هيل. انعكست الإشعاعات الأولى للشمس على مقابض الثلاّجة المصنوع من الكروم، معرّضة المطبخ المعتم لنورٍ ساطع. بهر انعكاس السطوع جوناثان فرفع يده إلى وجهه ليتّقي الشعاع. الصباح، فيما مضى... مسّد جوناثان جفنيه وقد أنهكت الليلة البيضاء التي قضاها أمام شاشة حاسوبه قواه. شعر بحرقةٍ في عينيه، وطنّت أذناه وتشبّع دماغه بالأهوال والفظائع. نهض بمشقّة وشغّل آلة إعداد القهوة ولكنّه كملاكمٍ دائخ بعد أن تلقّى سلسلة من الضربات، بقي ما يقارب دقيقة كاملة دون حراك، ونظرته تائهة في الفراغ، تحت تأثير ذاك الغوص في الظلمات والأفكار السوداء. ارتعش؛ كان طيف آليس، المخفور بظلّ مادلين، لا يزال مزروعاً في الغرفة. اختلط في ذهنه كلّ شيء وتشوّش. العته القاتل لجزّار ليفربول، بؤس شيتام بريدج، بقايا الكوكايين، غموض داني دويل، الدم، الدموع، الموت... رغم هذا التقزّز، ومع ذلك لم تكن لديه سوى رغبة وحيدة: أن يجلس أمام الحاسوب لكي يستمرّ في اكتشاف ما تبقّى من وثائق الملف التي لم يفتحها بعد، لكن شارلي سوف لن يتأخّر في الاستيقاظ وقبل أن يعدّ الفطور لابنه، كان يحتاج إلى الاستحمام لكي يغتسل من هذا الجنون. ظلّ واقفاً لوقتٍ طويل تحت رشّاش الماء الساخن وهو يدعك جلده بالصابون إلى حدّ التقشّر لكي يتخلّص من صور الكابوس العالقة بذهنه. آلمته أسئلة معذّبة وألحّت عليه. أيّ فظاعات أذاقها بيشوب لهذه الصبية المسكينة قبل أن يقتلها؟ هل قدّم اعترافات أخرى حول آليس؟ هل اعترضت مادلين من جديد طريق داني وخاصّة كيف تحوّلت شرطية مانشستر العنيدة إلى بائعة زهور باريسية لطيفة؟ * باريس، الدائرة السادسة عشرة الساعة العاشرة صباحاً ركنت مادلين دراجتها النارية من طراز تريونف في موقفٍ مخصّص للمركبات ذات العجلتين، في بداية جادة فيكتور هوغو. نزعت قناعها الواقي، شعّثت شعرها ودفعت باب حانة إيغلون، وهي عبارة عن حانة صغيرة تقليدية ذات نمطٍ شعبي تشكّل علامة فارقة في هذا الحي الراقي. جلست إلى أوّل طاولة بجانب النافذة. كانت تلقي من مكانها نظرة متميزة على كافيه فانفان، مطعم جورج لا توليب الذي تشمخ لافتته المهيبة في الجانب الآخر من الشارع. طلبت فنجاناً من الشاي وقطعة كرواسان ثمّ سحبت حاسوبها المحمول من حقيبتها الظهرية و ... ماذا أفعل هنا؟ حيّرها السؤال وهي تعتمد على النصف الآخر من دماغها. لماذا تخرِج فجأةً عن الخطوط المريحة لحياتها؟ كان مكانها في المخزن، مع تاكومي وزبائنها، وليس في مخبأ أمام مطعم رجلٍ لم تكن تعرفه لا من حواء ولا من آدم. لم تعودي في سلك الشرطة، يا عجوزتي! لم تعودي في سلك الشرطة! كرّرت هذه العبارة في نفسها لكي تقتنع بذلك فعلاً. ولكن هل يمكن للمرء أن يتخلّص نهائياً من مهنةٍ كتلك؟ لبضع لحظاتٍ إضافية، اختارت أن تضع بين قوسين الجانب المنطقي من شخصيتها. كانت تحتفظ في جيبها بمقالة الصحافة الشعبية التي تتحدّث عن علاقة جورج وفرانسيسكا. سلّكي سحاياكِ! أمرت نفسها وهي تفردها على الطاولة. استعرضت الصور من جديد بالتفصيل، الدلائل التي لا يمكن دحضها على خيانة فرانسيسكا الزوجية. كان ثمّة أمرٌ غير سوي في هذه الصور. فيها جانبٌ فنيّ مبالغٌ فيه. وكعارضة أزياء سابقة، كانت فرانسيسكا تمتلك الحاسة السادسة لكي تتّخذ الوضعية وتلعب مع الإضاءة. في حين كانت هذه السلسلة من الصور تُعتَبَر أنّها من عمر صحافي بابارازي، كانت مادلين بخلاف ذلك على قناعة بأنّها، بعيداً عن كونها "مسروقة"، حصيلة إخراجٍ مدروسٍ بعناية. ولكن بواسطة مَنْ؟ وما الغاية منها؟ قضمت قطعة الكرواسان وهي توصل في الوقت ذاته حاسوبها بشبكة الإنترنت. وجدت بسهولة على موقع المطعم رقم هاتف كافيه فانفان. اتّصلت بالرقم وطلبت التحدّث إلى جورج، ولكنّهم ردّوا عليها بأنّ السيد لا توليب لن يكون في المطعم قبل الساعة الحادية عشرة صباحاً. استفادت من الوقت المتبقي أمامها لكي تتقدّم قليلاً في عمليات البحث. كان الموقع على صورة المطعم: حديث وفاخر. بالنظر إلى الاعتمادات، كان المرء يرى أنّ المؤسّسة تخصّ في الواقع مجموعة الفنادق الفاخرة وين إنترتينمنت. المجموعة التي اشترت كلّ فعّاليات لامبيرور ... على قائمة الأطعمة – التي كانت أسعارها فلكية، عرفت بعض الوصفات التي ساهمت في شهرة جوناثان. لم يكن جورج قد سرق منه زوجته، بل وأشهر وصفاته في الطبخ أيضاً! ظالم... أجرت مادلين عملية بحث جديدة حول جورج لا توليب ورست على مدوّنة... غطس. على ما يبدو، كان لا توليب مغرماً بالتصوير تحت الماء. كان موقعه الإلكتروني، المحدّث تماماً، عبارة عن واجهة عرض لمختلف رحلاته ويقدّم المئات من الصور البهية للأسماك المتعددة الألوان والسلاحف العملاقة والمرجان ذات الألوان الفاقعة. كان لا توليب يكتشف العالم منذ سنوات. وقد مارس الغطس في دولة بيليز وفي جزر الهاواي وفي زنزيبار وفي جزر المالديف وفي البرازيل وفي المكسيك. كان كل شيء مصنّفاً ومؤرشَفاً وموضّحاً بالشرح والتعليق. وهي تستعرض صفحات الموقع، توقّفت مادلين عند صورة سمكة نمر قرشٍ رائعة. حسب التاريخ المدّون على الصورة، تمّ تصوير الحيوان الغضروفي في جزر المالديف، في السادس والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر عام 2009. أذهل تاريخ الصورة الشرطية السابقة. حسب الصحيفة الشعبية، كانت الصور الملتقطة مع فرانسيسكا تعود إلى الثامن والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر عام 2009. كانت الصور ملتقطة على شاطئٍ في ناسو في جزر الباهاما. عدا عن أنّ جزر المالديف والباهاما تقع على الأقلّ بعد خمسة عشر ألف كيلو متر من ناحية المسافة، على نقطتين متعارضتين تماماً من الكرة الأرضية... إعادة الربط بين المكانين بواسطة الطائرة ليومين على الأقل كانت ممكنة بالتأكيد ولكنّها صعبة نظراً إلى عمليات العبور والانتقال المختلفة. ولأنّها اقتنعت بأنّها قد أمسكت بشيءٍ ما، سعت إلى تعميق حدسها. وهي تنتقل من صفحة إلى أخرى، لاحظت بأنّ أيّاً من زيارات لا توليب لم تستغرق أقلّ من أسبوعٍ واحدٍ. وهذا أمرٌ منطقي حينما يسافر المرء إلى نهاية العالم لكي يمارس الغطس... والحال أنّ رحلته إلى جزر المالديف لم تستغرق سوى يومين. كان كلّ شيء يدفع إذاً إلى الاعتقاد بأنّ جورج قد قطع على نحوٍ مفاجئ عطلته لكي ينضمّ إلى فرانسيسكا. شعرت مادلين بأنّ شيئاً ما ينهش في أعماق بطنها. حرقةٌ حادّة ولذيذة، قشعريرةٌ حادّة تدلّ عندها على أنّها اكتشفت الدليل الأوّل لتحقيقٍ. لم تعودي شرطية، ردّد عليها صوتها الداخلي. ولكنّها اختارت أن لا تسمعه وخرجت، مبتهجة باكتشافها، لبضع دقائقٍ إلى الرصيف لتدخّن سيجارةً. * سان فرانسيسكو -صباح الخير بابا. ردّ جوناثان وهو يرفع شارلي بين ذراعيه لكي يقبّله ويضمّه قبل أن يُجلِسَه على مقعدٍ صغيرٍ في المطبخ: -صباح الخير يا ولدي الكبير. فرك الطفل عينيه ودسّ رأسه في كوب من الشوكولا الساخنة. دهن له جوناثان بالزبدة شطيرة غطّاها بقليلٍ من عسل الأكاسيا. شكره شارلي وسأله إن كان يستطيع أن يشاهد أفلام الصور المتحركة على الشاشة الصغيرة. في هذا الصباح، كان لدى جوناثان سبباً مقنعاً لكي يجنّبه موعظته المناهضة للكاثوليكية. فردّ عليه وهو يُشغّل بنفسه التلفزيون بواسطة جهاز التحكّم: -طبعاً، يا عزيزي. اقترب شارلي من شاشة التلفزيون. استغلّ جوناثان انشغال ابنه بمشاهدة سبونج بوب لكي يجلس أمام شاشة حاسوبه ويستأنف اكتشاف "ملف ديكسون". من بين الوثائق التي ظلّ عليه أن يستعرضها كان يوجد مقطع فيديو مضغوط شغّله بعد أن أوصل سماعاته. لم تكن الصورة عالية الجودة. مما لا شكّ فيه أنّ الفيلم قد صوِّرَ بكاميرا هاتف محمول أو بكاميرا رقمية تعود إلى أواسط العقد الأخير من الألفية الثانية. ولكن الصوت كان مسموعاً. في المرحلة الأولى، تُشاهد مادلين وهي مغمضة العينين. مستلقية على سرير مستشفى، وتبدو وكأنّها لا تزال في حالة غيبوبة أو على الأقلّ تغطّ في نومٍ عميق. ثمّ يضع الرجل "الكاميرا" على طاولة رأس السرير ويصوّر نفسه بنفسه. كان رجلاً أسمر البشرة، طافحاً بالرجولة، ذا وجهٍ مربّع ونظرةٍ كئيبة ومتعبة. بدأ بصوتٍ غير مميّز: -هذه المرّة، ستخرجين من الورطة، يا مادي... أدرك جوناثان في الحال أنّ الرجل هو داني دويل... * باريس توقّفت سيارة البورش باناميرا قبالة المطعم بعد أن تجاوزت الساعة الحادية عشرة والنصف. خرج جورج لا توليب من مركبته وسلّم المفاتيح للسائق لكي يركن السيارة. قطّبت مادلين عينيها لكي تُمعِن النظر إليه وهي جالسة خلف الواجهة الزجاجية للمقهى. بدا أكبر سنّاً مما هو عليه في الصور ولكنّه لا يزال يبدو في هيئة جيّدة: مظهر أنيق، جسمٌ رياضي. بدت زوالفه مائلة إلى البياض بالتأكيد ولكن ليس بالقدر الكافي لكي ندرجه في خانة "العجوز الوسيم". قرّرت أن تأخذ وقتها وتراقبه. نظراً إلى التوقيت الذي وصل فيه إلى المطعم، كان ممّا لا شكّ فيه أنّ جورج يكرّس وقته للعلاقات العامّة أكثر ممّا يكرّسه لأفرانه. وبالتالي كانت مقتنعة بأنّه سوف لن يتأخّر كثيراً ما أن تنتهي فترة الخدمة. كلّما اقترب موعد الغداء، كلّما امتلأ مقهى إيغلون الصغير الذي وجدت مادلين ملاذاً فيه بالرواد. سألتها صاحبة المقهى إن كانت تودّ أن تتناول شيئاً، الأمر الذي وافقت عليه لكي لا تفقد موقعها للرصد والمراقبة. طلبت طبق اليوم. لم تكن الوجبة وجبة الجانب الآخر نفسها، ولكنّها كانت جائعة كثيراً بحيث أنّها التهمت في بضع لقيمات طبقها من "صاسيجو تولوز بالزعتر وبالبصل المغمّس بالكراميل". نعم، لقد عاودت الاتصال بالواقع على الأرض: المخابئ، المطاحن، التخمينات، وجبات الطعام السريعة والعاجلة... ومع ذلك اقتنعت بأنّها قد وضعت خطّاً على كلّ هذا، ولكنّ الأفكار القديمة كانت تعود بعجلة. ما الذي تسعى إلى أن تبرهنه لنفسها؟ أن تبرهن على أنها لم تفقد بصيرتها؟ على أنّها لا تزال قادرة على فكّ خيوط سرٍّ غامض؟ كان هذا الأمر يحرّضها أكثر ممّا يرعبها. منذ أكثر من عامين، كانت قد جهدت في مسح ماضيها، والآن تخشى أن ينبعث هذا الماضي على حين غرّة، كما لو أنّه ماردٌ يخرج من قمقمه. كانت أشبه بمدمنة مخدّرات أو مدمنة كحول: لم تبرأ تماماً منها ويمكن لها أن تغرق فيها من جديد عند أدنى محاولة. حينما تذكّرت ماضيها، فاضت الدموع في عينيها. إبعاد الحزن وخاصة عدم معاودة التفكير في آليس. كان التحقيق الأخير الذي قامت به قد رمي بها في قاع الهاوية. استيقظت في المستشفى بعد يومين من الغيبوبة من جرّاء محاولتها الفاشلة في الانتحار. حينما فتحت عينيها، كان هاتفها في يدها. ولأنّها كانت لا تزال مذهولة من هول الصدمة، نظرت إلى شاشة الهاتف دون أن تدرك شيئاً. على طاولة السرير الصغيرة، قرب باقة بسيطة من أزهار البنفسج، كان يوجد مغلّف سحبت منه بطاقة زيارة: "يملك المرء دائماً الخيار" اعتنٍ بنفسكِ دانييل عادت إلى هاتفها وتبيّن لها أنّ أحدهم قد استخدم جهازها لكي يقوم بتصوير نفسه. حينما شغّلت التسجيل، ظهر وجه داني على الشاشة. لم يسبق لها أن شاهدته أبداً بهذا القدر من التعب ومن "الإنسانية". بدأ بصوتٍ متعب: -هذه المرّة، ستخرجين من الورطة، يا مادي ... * -هذه المرّة، ستخرجين من الورطة يا مادي، ولكن لن ينجح ذلك دائماً. أنا أعرف عناصر الشرطة: إنّهم لا يختلفون كثيراً عن الأشخاص اللذين مثلي. أنا أعلم بأنّه في نهاية المطاف ستنتهي الأغلبية بسلوك الطريق الوعرة نفسها: طريق الانغماس في الظلمات والعنف والألم والهواجس والموت... أنا أعلم أنّكِ تنامين مع مسدّسك. أنا أعلم أنّكِ مسكونة بالخوف. أنا أعلم أنّ لياليكِ مضطربة ومأهولة بالأشباح والجثث والعفاريت. أنا أعرف حزمك، ولكن أعرف أيضاً هذا الجانب من الاسوداد في داخلكِ. كان موجوداً فيك منذ كنتِ مراهقة ولم يفعل عملك سوى تضخيمه. ولكنّه أيضاً حوّلك إلى كائن أشبه بالميّت. لقد فقدتِ نقاءكِ وعذوبتك ونوركِ. الآن، النور الوحيد الذي يتقد في داخلكِ هو نور ملاحقة الطريدة. في أعماقكِ، لستِ مختلفة كثيراً عن والدة تلك الصبية المتعلّقة بشرّاقة مخدّر الكوكايين. لقد أصبحتِ شريرة، مدمنة تحتاج إلى حصّتها من الملاحقة وعمليات التوقيف لكي تنال حصّتها من الأدرينالين. إنّها ضربتكِ، جرعتكِ، ومضتكِ. هذا هو ما تتباهين به وهذا هو ما ستموتين به... توقّف داني عن الاسترسال، وهو يعطي الانطباع بأنّه يبحث عن كلماته بإشعاله سيجارة. كان في مستشفى حيثُ التدخين بالتأكيد ممنوعٌ بصرامة، ولكن هذا النوع من القوانين، وإن كانت مناسبة لمعشر البشر، لم تكن تخصّ شخصاً مثل دويل. تابع حديثه: -أنت متعطّشة إلى معرفة الحقيقة، ولكن ملاحقة المطلق هذه تنهشكِ من الداخل وسوف لن تتوقّف أبداً. بعد آليس، سيكون هناك موتى آخرون وتحقيقات أخرى ومجرمون آخرون ينبغي حبسهم... وفي كلّ مرة، سوف تشعرين بالمزيد من الكآبة والعزلة والشرود. تريدين أن تلاحقي الشرّ ولكنّ الشرّ ليس له أيّ شيءٍ ليفعله بكِ. سوف يهدّك ويترككِ وحيدة، هذا كلّ ما في الأمر. الشرّ ينتصر دائماً في النهاية، صدّقيني... أنتِ في عداد المفقودين يا مادي. يجب أن تخرجي من هذه الدوّامة قبل أن تهوي إلى هوّة لن تعودي منها. لا أريد أن تكون حياتكِ هكذا. لا أريدكِ أن تدعي نفسكِ تسحقين. ارحلي عن هذا الحي، يا مادي. ارحلي عن هذه المدينة السخيفة. عيشي أحلامكِ . سافري إلى باريس. افتحي متجر الزهور ذاك الذي تتحدّثين عنه منذ زمانٍ طويل! لا تدعيه في حالة وهم. لقد وجدتِ له اسماً، أتذكّر ذلك... ماذا كان الاسم؟ عنوان أغنية فرنسية قديمة، على ما أعتقد: الحديقة الاستثنائية... ظلّت الجملة معلّقة في الهواء. حلّ داني زرّاً من أزرار قميصه وسحب بضع نفثات عصبية من سيجارته وهو يحيد ببصره عن الهدف. فرك عينيه وتنهّد وبحث عن شيءٍ ما ليضيفه وقرّب يده من الجهاز لكي يُطفئه ومن ثمّ عدل عن رأيه. كان على هيئة رجلٍ وقع في ضيقٍ شديد وفي وضعٍ ميؤوس منه. باغتته دمعة تعب وجرت على طول خدّه. مسحها بحركة رعناء تكاد تكون طفولية. لم يكن داني قد بكى كثيراً في حياته. وفي نهاية المطاف، غمغم ببساطة: -أحبّكِ. ثمّ قفزت الصورة قبل أن تتشوّش. وأدركت مادلين فطرياً بأنّ داني قد مات. من على سريرها في المستشفى، نظرت إلى باقة البنفسج ومن ثمّ نظرت من جديد إلى بطاقة الزيارة. وحينما قلبت البطاقة، اكتشفت سلسلة متتابعة من الأرقام. رقم هاتفٍ أدرجته باندفاع لكي تتّصل به. كان رقم مصرفٍ في سويسرا. قدّمت نفسها وعرّفت باسمها فأخبروها بأنّ حساباً قد فُتِحَ باسمها وأنّ مبلغاً من ثلاثمائة ألف يورو قد أودِعَ في حسابها هذا. * سان فرانسيسكو قفزت الصورة قبل أن تتشوّش. خلال بضع ثوانٍ، ظل جوناثان مشدوهاً أمام شاشة حاسوبه، مبدياً رغماً عنه نوعاً من الإعجاب حيال السفّاح. داني دويل هذا ... يا له من رجلٍ غريب... ما الذي حلّ به منذ عامين ونصف؟ في عصرنا المرعب، لا تصمد أغلبية المسائل طويلاً على صفحات الإنترنت وهذه المرّة أيضاً، حمل له محرك غوغل للبحث جواباً شبه موقّت. اكتشافٌ بشع على أبواب مانشستر كانت المقالة تعود إلى 10 تموز \ يوليو 2009. أي بعد تسجيل الفيلم بيوم واحد أو يومين. لم يكن داني يخادع: كان يعلم بأنّه معرّضٌ لخطرٍ مميت. كان الصحافي يشرح بأنّه قد تمّ العثور على جثّة عرّاب الرذيلة داني "دوب" دويل وقد قُطِعَت يداه وقدماه واقتُلِعت أسنانه كاملةً بالكمّاشة. انتقمت عصابة الأوكرانيين منه بقسوة... أشاع هذا الاكتشاف الجديد البرودة في ظهره. عاد جوناثان إلى مكتب حاسوبه. لم يكن قد تبقّى له سوى وثيقةٍ أخيرة لكي يفتحها. كانت الوثيقة عبارة عن ملف JPG: عبارة عن صورة. مرّر المؤشّر على شاشة الحاسوب ونقر على الصورة، فتجمّد الدم في عروقه. * باريس جادة فيكتور هوغو غادر جورج لا توليب المطعم بعد الساعة الثانية ظهراً بقليل. قفزت مادلين على الفور وركبت دراجتها النارية ولاحقت سيارته من كثب لكي لا يغيب عن بصرها. ظلّت تسير في إثره حتى شارع كليمان – مارون في قلب المثلّث الذهبي. توقّفت سيارة البورش لبضع ثوانٍ أمام مكتبٍ عقاريٍ فاخر. عانقته المرأة الشابّة التي انضمت إليه بحماسةٍ وحمية. لا شكّ أنّها إحدى المتعاملات مع المكتب العقاري. كانت المرأة ممشوقة القامة، شقراء، شابّة، ترتدي تنوّرة قصيرة وذات سحرٍ سلافي. مثيرة للشق ولكنّها متميّزة إلى درجة أنّها قادرة على أن تبيع شققاً تبلغ قيمتها ثلاثة أو أربعة مليون يورو لزبائن أغنياء من ذوي المقامات الرفيعة. غادرت السيارة الدائرة الثامنة لكي تصل إلى الضفّة اليسرى وموقف مدرسة الطبّ. ولج الثنائي يداً بيد شارع سان – سولبيس ثمّ انعطف إلى شارع بونابرت قبل أن يدلفا تحت رواق عمارةٍ في شارع آبي. انتظرت مادلين لأكثر من عشرين دقيقة قبل أن تدخل سيّدة عجوز بدورها إلى العمارة. أسرعت في أثرها لكي تتفحّص صناديق البريد. كان أحد صناديق البريد باسم لا توليب. ممّا لا شكّ فيه أنّ جورج يعيش عيشةً باذخة: كان يتوفّر على سيارة جميلة، وعشيقة شابّة، وشقّة في حي سان – جيرمان – دي – بري. وهذا أمرٌ لا بأس به بالنسبة إلى بائعٍ سابقٍ للهوت دوغ. استغرقت استراحتهما الإيروتيكية لمدّة قصيرة: بعد ما يقارب ربع ساعة، كان العاشقان قد أصبحا في الشارع من جديد وعادا بخطى مسرعة إلى موقف السيارات، ومن ثمّ التحق جورج بشريكه في العمل. ومن دون أن يُلاحظ بأنّه مُراقَب ومُلاحق، ذهب إلى حي تيرن عبر جادة واغرام وانعطف إلى شارع نيفا ودلف إلى البوابة الكبيرة المخصّصة لدخول العربات لفندقٍ جميل خاصّ مطلي باللون الأبيض الخافت. منطلقة على الرصيف، توقّفت الدراجة النارية لمادلين أمام لوحةٍ ذهبية للمبنى نُقِشَت عليها بأحرفٍ حديثة: مؤسسة ديليلو. ركنت "الشرطية" دراجتها ليس بعيداً عن صالة بلييل وعادت أدراجها. كان الطقس الغائم قد ترك مكانه للشمس، ولكنّ البرد كان قارساً والبخار ينبعث من فم الشابّة الإنجليزية. كانت في الأحياء الجميلة الراقية حيث محلّات التجّار النهمين: شركة ميزون دو شوكولا، وصالة مارياج فرير للشاي... حريصةً على ألا تشيح ببصرها عن مدخل العمارة، ولكنّها راغبة في أن تتدفّأ، جلست مادلين إلى طاولةٍ في إحدى أشهر صالات الشاي في باريس. كانت طاولة الشراب محاطة بسورٍ ضخمٍ من الرفوف المصنوعة من خشب الجوز مزيّنٍ بالعشرات من العلب المعدنية التي تضمّ أفخر وأثمن أنواع النبيذ. كان المكان يفوح برائحة البخور والياسمين. كانت قائمة أنواع الشاي وفيرة. بشيءٍ من المصادفة، انقادت بشعرية الأسماء واختارت فنجاناً من "سُحب همالايا" مع فطيرة سابليه بالزبدة. كرّد فعل انعكاسي، أخرجت حاسوبها الذي أوصلته بنقطة واي – فاي لكي تتمكّن من الوصول إلى الإنترنت. قادتها عملية البحث التي أجرتها حول مؤسسة ديليلو إلى معرفة أن فرانك ديليلو، والد فرانسيسكا، قد أسّس هذه المنظّمة قبل وفاته ببضع سنوات. وكان يميل إلى مساعدة التلاميذ المتفوّقين ولكن المحرومين من متابعة دراستهم وذلك من خلال تخصيص منح مالية لهم. كان مقرّ هذه الجمعية – وهي واحدة من الجمعيات الأكثر سخاءً في العالم – يقع في نيويورك، ولكن كان لها فرعٌ في باريس حيث يشرف على إدارته ... جورج لا توليب. مطرقةً في التفكير، ارتشفت مادلين رشفة من نقيعها الذي كان بنكهة البندق والعنب المسكي. اشتدّت الملزمة حول لا توليب الذي كانت كلّ الدلائل تتّجه نحوه. بأيّ أعجوبة توصّل هذا الرجل المنطلق من العدم إلى الحصول على رعاية وعطف المجموعة التي "صرفت" جوناثان ورعاية وعطف فرانسيسكا في آنٍ واحد؟ كان كلّ اكتشافٍ من اكتشافاتها يُصعّد من إثارتها درجةً إضافية. كان التحقيق الذي أجرته يُلهمها. لم تعد تفكّر في هذه اللحظة في باقاتها من الزهور أو في أعشابها التزيينية أو في متجرها. لم تعد تفكّر إلا في كشف سرّ جورج لا توليب الذي لم يراودها الشكّ في أنّه أيضاً سر انفصال فرانسيسكا وجوناثان. * بعد ساعتين ونصف كان الليل قد حلّ حينما خرج جورج من مبنى مؤسسة ديليلو. في غضون ذلك، كانت مادلين قد توفّرت على الوقت الكافي لكي تتذوّق العديد من أصناف الشاي المختلفة. سدّدت على عجلٍ حساباً باهظاً لقاء ما شربت ووصلت إلى دراجتها النارية في اللحظة التي وصلت فيها سيارة البورش بأقصى سرعتها إلى جادة كورسيل. يا للعنة! امتطت دراجتها من طراز تريونف وأقلعت بسرعة ولكنّها ما أن وصلت إلى ساعة تيرن، اختفت السيارة عن أنظارها. لا تهلعي. من الناحية المنطقية، كان على جورج أن يعود إلى المطعم من أجل فترة الخدمة المسائية. حالفها الحظّ ! صادفت السيارة البرلينية عند مستديرة إيتوال. من جديد، شعرت بتلك الرجفة من الإثارة الخفيفة. استبدّت بها على نحوٍ متزايد لعبة "التحقيق" الذي أجرته. كان عليها أن تخترق سرّ جورج، أن تفتّش شقّته، أن تستجوبه لكي ترغمه على أن يجلس إلى طاولة الطعام، أن ... توقفي! لم تعودي شرطية! صرخ الصوت في رأسها. كان ذلك صحيحاً: كان الشروع في تحقيقٍ من دون بطاقة الشرطة خاصّتها أكثر صعوبة. من غير الممكن استدعاؤه إلى مفوضية الشرطة أو القيام بتفتيش مسكنه. ولكن في غياب القوة، كان بوسعها أن تستخدم الدهاء وتجد وسيلة للدخول في اتصالٍ معه وكسب ثقته. أيّ شخص؟ تابعت مادلين، التي تلفح الريح وجهها، السيارة على جادة فيكتور هوغو ومن ثمّ توقّفت معها على إشارة مرورية حمراء. لم يعد مقهى ومطعم كافيه فانفان يبعد عن المكان سوى حوالي عشرين متراً. اعثري على شيءٍ ما. الآن. حينما فتحت الإشارة المرورية، أسرعت لكي تصل إلى مستوى سيارة الباناميرا. في نهاية المطاف، سوف لن تجازفين بتهشيم عظامك! ولكن كانت قوّة تدفعها إلى الأمام. لا تتلفي دراجتكِ النارية الجميلة! بينما كانت سيارة البورش تبطئ من سيرها، قطعت مادلين عليها الطريق وداست على الكابح فجأةً لكي توقف عجلتها الخلفية. صدمت واقية السيارة الدراجة النارية في اللحظة التي مالت فيها نحو الأرض. قُذِفت مادلين من دراجة تريونف التي انزلقت على القار وأنهت سيرها عند عمود مصباحٍ كهربائي. تدحرجت المرأة الشابّة على قطران الإسفلت. ارتطمت جمجمتها بالأرض، ولكنّها كانت محمية جيّداً بفضل قناعها الواقي وخُفّفت الصدمة بفضل بطء سير السيارة في لحظة حدوث الاصطدام. أصدرت عجلات سيارة الباناميرا صريراً وقد تركت بعض آثار المطّاط على الإسفلت وتوقّفت على الفور. خرج جورج مرعوباً من وحشه الفولاذي لكي يهرع نحو مادلين. -أنا ... أنا متأسّف! لقد قطعتِ عليّ الطريق! تحقّقت مادلين من جسامة الأضرار: كانت بلوزتها قد اهترأت وبنطالها الجينز قد تمزّق ويداها وساعداها قد انخدشت وجُرِحت. ولكن لم يكن هناك ما هو أخطر من هذه الأضرار. قال جورج وهو يفعّل هاتفه المحمول: -سوف أستدعي سيارة إسعاف. أكّدت وهي تنزع قناعها الواقي: -أعتقد أن هذا لن يكون ضرورياً. شعّثت شعرها وقدمّت له أجمل ابتساماتها. التمع وميضُ رغبةٍ في عيني جورج: شعلة الصيّاد. حينما قبلت باليد التي مدّها نحوها لكي يساعدها على النهوض، أدركت مادلين بأنّها قد توصّلت إلى تمرير إحدى قدميها من الباب. كانت تلك الحلقة رقم 1: استدراج العدو. * سان فرانسيسكو نقر جوناثان على الملفّ الأخير. انفتحت الصورة ملء الشاشة. كانت عبارة عن نسخة الإعلان الصغير المعلّق بآلاف النسخ في الأركان الأربعة للمملكة المتّحدة للإشارة إلى اختفاء آليس ديكسون. في مركز الصفحة، كانت هناك صورة لصبية تبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عاماً، ذات شعرٍ أشقر وقصير، وابتسامة تالفة ووجهٍ في غاية الشحوب مبثورٍ بالنمش. وكان قد تمّ اختيار هذه الصورة لأنّ الصبية المراهقة كانت ترتدي فيها القميص الرياضي الذي كانت ترتديه يوم اختطافها: بلوزة قطنية ناعمة ذات قلنسوة، باللونين الوردي والرمادي من ماركة Abercrombie & Fitch. كنزة رياضية فضفاضة عليها جعلتها مميزّة من خلال خياطة شعار الشرف لفريق مانشستر يونايتد لكرة القدم. من بين وثائق "ملف ديكسون" المختلفة، كان جوناثان قد ركّز على نحوٍ خاصّ على الملاحظات الشخصية لمادلين وعلى الأوراق الرسمية للتحقيق. كانت تلك أوّل صورة شخصية لآليس يستغرق فعلاً وقتاً للتدقيق فيها. ما أن ظهرت الصورة على الشاشة، تقافز قلبه في صدره. اجتاحه موجةٌ من انحراف المزاج. ثمّ التقت نظرته بنظرة آليس وانقبضت معدته. كان يعرف هذه الفتاة. لقد سبق له أن التقى بها. لقد سبق له أن تحدّث معها. مصعوقاً بالقلق والغمّ، أغلق على عجلٍ حاسوبه. تسارع إيقاع نبض قلبه وارتعشت يداه. تنفّس بعمق ليستعيد هدوءه، ولكن لم يحدث شيءٌ من ذلك. صعدت إلى السطح بقوّة ذكرى لقاءٍ ترك في ذهنه ندبةً لا تندمل. حاول أن يبعدها عن ذهنه، لكنّ رجفةً جليدية سرت في جسده كما لو أنهّ يذوب تحت تأثير الخوف. كان عليه أن يُصفّي قلبه من ذلك. الفصل الثامن عشر المنوّم المغناطيسي من بين كلّ المصائب ستكون المصائب التي يلحقها المرء بنفسه الأكثر إيلاماً سوفوكليس سان فرانسيسكو الاثنين 19 كانون الأول \ ديسمبر الساعة العاشرة والنصف نزل جوناثان من القطار الكهربائي على بعد شارعين من غراس كاتيدرال. كانت المدينة غارقة في بياضٍ كثيفٍ يكتم الأصوات ويغلّف الشوارع بشراعٍ من الغموض. غادر شارع بويل ستريت سيرا على القدمين، وسار لما يقارب مائة متر قبل الوصول إلى مستشفى لينوكس. أعلم مكتب الاستقبال: -أنا على موعدٍ مع الدكتورة موراليس وهي بانتظاري. ولأنّه طُلِب منه أن ينتظر في البهو، استرخى في أريكة صالة الانتظار وأخرج من جيبه الورقة التي طبع عليها صورة آليس الشخصية. لم يكن وجه الصبية قد بارح ذهنه طيلة النهار. اجتهد في أن يدفع ذكراها جانباً، في أن يقول لنفسه بأنّه قد أخطأ في معرفة الشخص، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل. حينما صادف آليس ديكسون، كانت سمراء وتدّعي بأنّ اسمها آليس كوالسكي، ولكنّها كانت ترتدي البلوزة الوردية اللون نفسها ويبدو الحزن نفسه في نظرتها. -مساء الخير يا جوناثان. رفع أنظاره نحو فتاةٍ جميلة ذات بشرةٍ كامدة وشعرٍ أسود فاحم، وأجاب: -مساء الخير آنا – لوسيا. كانت الدكتورة تتضوّع أناقةً ورزانةً. ترتدي وهي قصيرة القامة صدريتها الطبية المفتوحة على قميصٍ، على هيئة سترةٍ مطابقة تنمّي على نحوٍ محتشم طيفها اللائق. -هلاّ أتيت معي إلى مكتبي؟ سار في إثرها إلى المصعد بخطى واثقة. قالت وهي تضغط على زرّ الطابق السادس: -لقد مرّ زمنٌ طويل وأنت لم تزرنا. وافقها جوناثان الرأي، قائلاً: -منذ أكثر من عام بقليل. صعدت مقصورة المصعد في صمت. كان قد التقى مع آنا – لوسيا موراليس خلال الأشهر الأولى من وجوده في سان فرانسيسكو. وهي مرحلة عصيبة من حياته. كان إليوت كوبر، وهو طبيبٌ جراح في المستشفى، وزبونٌ دائم في مطعمه وقد بات أحد أصدقائه المقرّبين، هو الذي نصحه بالطبيبة النفسانية موراليس. وقد حذّره الطبيب العجوز: "هي غير قادرة على أن تحلّ مشاكل حياتها الخاصّة ولكنها تجيد مساعدة الآخرين مع أنّها أكثر جمالاً من أن تكون طبيبة نفسية". وقد خضع جوناثان لبعض الجلسات العلاجية التي ارتاح خلالها بعض الشيء ومن ثمّ لم يعد يأتي إليها إلا من أجل الحصول على مضادات القلق، ثم انقطع عن المجيء إلى العيادة نهائياً. لم يكن التحليل النفسي من أجله هو وفي كلّ الأحوال، لم يكن مستعداً بعد لذلك. ذات مساء، بعد بضعة أسابيع من جلسته الاستشارية، التقى مصادفةً مع أنا – لوسيا في حانة نورث بيش. كان المحلّ أقرب إلى مرسى للدرّاجين أكثر منه مقهى كافية كوست. يؤدي على المسرح عازفٌ منفرد على الغيتار أغنية قديمة لفرقة ليد زيبلين للروك وهو يدقّ بإحدى قدميه آلة الكاجون ويقود بالأ×رى جهاز السامبلر. لم يكن جوناثان قد انتهى من حداد زوجته السابقة؛ وكانت آنا – لوسيا قد انفصلت عن صاحبها، وهو تاجرٌ مستأثر وأناني يعيش في الطرف الآخر من البلاد، ولكنّها كانت ميتّمة به. شربا بعض أكواب البيرة وغازلا بعضهما قليلاً ووجدا نفسيهما مهيّئين تماماً لارتكاب حماقةٍ. لدينا جميعاً لحظاتنا في السقوط... قالت لكي تقطع الصمت: -تبدو في حالةٍ لا بأس بها. قال موافقاً: -لقد عشت أياماً أفضل. في الحقيقة، أريد أن أطلب منكِ خدمةً. انفتح باب المصعد على ممرٍّ طويلٍ يؤدّي إلى مكتب آنا - لوسيا: وهو عبارة عن غرفة صغيرة ذات إنارة خفيفة تطلّ على شارع هايد ستريت. -أنا أصغي إليك. - إن كنتُ أتذكّر جيداً، حينما كنتُ أراجعكِ في العيادة، كنتِ تسجّلين جلساتنا العلاجية، أليس كذلك؟ تذكّرت وهي تنقر اسم جوناثان على لوحة مفاتيح حاسوبها: -نعم، ولكنّها جلسات تُحصى على أصابع اليد الواحدة. وحينما وصلت إلى ملفّه، أوضحت له: -لدي تسجيلات ثلاث جلسات. -هل يمكنكِ أن تزوديني بملفات التسجيل؟ -بكل تأكيد، سوف أرسلها لك عبر البريد الإلكتروني على الفور. هذا جزءٌ من العلاج. هل تحتاج إلى أيّ شيء آخر؟ أكدّ وهو ينهض: -شكراً، سيكون الأمر على ما يُرام. -حسناً، سوف لن ألحّ عليك. نهضت واقفة بدورها، نزعت بلوزتها التي علّقتها على مشجبٍ للمعاطف. ارتدت واقياً مطرياً من الجلد الكستنائي اللون والذي جعلها أشبه بعارضة أزياء أكثر منها طبيبة واقترحت عليه: -لقد انتهى دوامي، هل أوصلك؟ -يسعدني ذلك. سار في إثرها إلى موقف السيارات تحت الأرض حتى بلغا سيارة من طراز أودي سبايدر جديدة. -كم معاينة تجرين في الأسبوع حتى يمكنك أن تدفعي ثمن سيارة كهذه؟ قالت وهي تدير مفتاح إدارة المحرّك: إنّها ليست لي. -فهمت: لقد عاد صديقك التاجر. -ألم تعد زوجتك؟ ولأنّه وجد السؤال عبثياً، هزّ جوناثان كتفيه. انطلقت السيارة المفتوحة السقف في شارع بوش ستريت وانعطفت نحو ليفنورث. كانت آنا – لوسيا تحب أن تعيش حياةً خطِرة. استفادت من الخطّ المستقيم لشارع كاليفورنيا ستريت لكي تنطلق فيه بسرعة جنونية. -ماذا تقصدين، بهذا الأمر؟ قالت وهي تخفّف من السرعة: -اعذرني. وهي مطرقة في التفكير، سارت على نحوٍ مستقيم وصعدت بصمت جادة غرانت أفينيو ثمّ جادة لومبارد. بعد برهةٍ، عرَّضت نفسها لخطر محضر ضبط مخالفة : -أنت مثل الكثير من الناس يا جوناثان: ضائع في مناطقك المظلمة. لن تكون حقّاً أحسن حالاً إلا إذا تحرّرت من عبء أشباحك. قال ممازحاً: -الأشباح، يجب ألا يكون هذا عبئاً ثقيلاً. علّقت قائلةً: -ولكنّ القيود التي تجرجرها تزن أطناناً. تأمّل عند هذه الانطلاقة ما تبقّى من المسافة، ثمّ وضعته في قمّة تيليغرام هيل. سألها وهو يفتح باب سيارة السبايدر: -وأنتِ، هل أنتِ أحسن حالاً؟ اعترفت قائلة: -كلا، ولكن هذه مشكلة مختلفة. -حسناً، لن ألحّ عليكِ. أفرجت عن ابتسامةٍ وانطلقت كالإعصار نحو أضواء المدينة. مرتاحاً بالعودة إلى بيته، دفع جوناثان باب المنزل. كان ماركوس نائماً على الأريكة أمام حلقة قديمة من ستار تريك. أطفأ جهاز التلفزيون قبل أن يمدّ رأسه إلى غرفة ابنه لكي يتأكّد من أنّ كلّ شيء على ما يُرام. كان شارلي يغطّ في نومٍ عميق. كان قد خرّ على طاولته الصغيرة للرسم وهو يساعد آنغري بيرد في معركته ضدّ الخنازير الخضراء. أوقف جوناثان اللوحة الإلكترونية غاضباً بعض الشيء. حينما كان في هذا العمر، كان ينام فوق كتابٍ، لا أمام شاشةٍ! تذّكر تلك الأوقات البعيدة التي يستغرق خلالها في قراءة رواية مغامرات تان تان للكاتب البلجيكي جورج ريمي ورواية الفرسان الثلاثة للكاتب ألكساندر دوما وأعمال مارسيل بانيول وجول فيرن ومن ثمّ في مرحلة لاحقة أعمال ستيفان كينغ وجون إيرفينغ. بدا له كلّ ذلك شيئاً من الماضي السحيق. بين التلفزيون وأجهزة المحاورة والحواسيب والهواتف، تغزو الشاشات والشبكات حياتنا منذ نعومة أظفارنا. وذلك في الضّرّاء أكثر منه في السّرّاء. هل غدوتُ عجوزاً مغفّلاً؟ تساءل جوناثان قبل أن يستسلم بدوره لإغراء حاسوبه، جالساً أمام شاشة حاسوبه المحمول لكي يتحقّق إن كانت الرسائل الإلكترونية الواردة من آن – لوسيا قد وصلت إليه. كانت هناك بالضبط ثلاث ملفات mp3 تتعلّق بالجلسات الثلاث التي خضع لها في عيادتها. كان يعرف بالضبط ما يبحث عنه. كان المقطع الذي يرغب في الاستماع إليه موجوداً في بداية الجلسة الثانية. أوصل جهاز الاستماع بالحاسوب وأطفأ الأضواء وجلس على أريكته لكي يصغي إلى التسجيل. خلال الدقائق الأولى من التسجيل، كان يُسمَع على نحوٍ خاصّ صوت آن – لوسيا، المريح إلى درجة لا تُصدّق، الذي ينكبّ على إدخال زبونها في تلك الحالة من الاسترخاء التامّ الذي يضاهي تنويماً مغناطيسياً خفيفاً. ثمّ دخلت في صلب الموضوع: "في الأسبوع الماضي، تحدّث لي عن الأسبوع الأسوأ في حياتك: تلك الأيام القليلة التي خسرت فيها زوجتك وعملك في آنٍ واحد. أسبوعٌ علمت فيه أيضاً بخبر وفاة والدك الذي لم تكن قد كلّمته منذ خمسة عشر عاماً. وقد أخبرتني بأنّك تردّدت طويلاً في الذهاب لحضور مراسم دفنه. ومن ثمّ، في النهاية، استقللت الطائرة إلى باريس، هل هذا صحيح تماماً؟" بعد برهةٍ من الصمت، بدأ جوناثان بسرد اعترافه. منذ عصر هالته الإعلامية، اعتاد على الشاشات التلفزيونية وتدرّب على المقابلات الإعلامية. ولكن منذ عامين لم يعد أحدٌ "يُصغي إليه" وكان هذا أمراً غريباً بالنسبة إليه بحيث يمكن أن ندرك إلى أي درجة كان كلامه وحديثه في تلك الفترة محمّلين بالانفعال وبالألم: "وصلتُ إلى باريس في الحادي والثلاثين من كانون الأول \ ديسمبر في نهاية ما بعد الظهيرة. في تلك السنة، كان الشتاء في غاية البرودة في كلّ أنحاء فرنسا. كان الثلج قد تساقط قبل ذلك بأسبوع، وفي بعض الأماكن، كانت العاصمة لا تزال أشبه بحلبة تزلّج ..." الفصل التاسع عشر (1) ملاقاة طريقك النجاح ليس دائماً دليلاً على التألّق، إنّما هو غالباً المكسب الجانبي من ألمٍ كامن. بوريس سيرولنيك "وصلتُ إلى باريس في الحادي والثلاثين من كانون الأول \ ديسمبر في نهاية ما بعد الظهيرة. في تلك السنة، كان الشتاء في غاية البرودة في كلّ أنحاء فرنسا. كان الثلج قد تساقط قبل ذلك بأسبوع، وفي بعض الأماكن، كانت العاصمة لا تزال أشبه بحلبة تزلّجٍ..." باريس قبل عامين في الحادي والثلاثين من كانون الأول \ ديسمبر عام 2009 استأجرتُ سيارة في المطار، سيارة برلينية ألمانية مريحة كان يُفترض بها أن تكون قادرة على قطع الطريق في ظروفٍ ملائمة. وكنتُ قد استطعت أن أحجز رحلة جوية حتى مدينة تولوز، ولكن بسبب الأعياد، أُجِّلَت مراسم دفن والدي حتى الثاني من كانون الثاني \ يناير، وأثارت فكرة قضاء سهرة رأس السنة جنائزية مع أختي وزوجها الاضطراب لدي. وبالتالي، قرّرت أن أسافر إلى أوش بالسيارة وأن لا أسافر إلا في اليوم التالي مساءً. بانتظار ذلك، بقي لي أن أقضي أربع وعشرين ساعة. لم أكن قد أغمضتُ عيني منذ ثلاثة أيام ونويتُ أن أغرق نعاسي في ليلة طويلةٍ جداً. حلمت بمجموعة من الأقراص القادرة على إزالة الكثير من الآلام ولكنني لم أكن أتوفّر على الأدوية المطلوبة كما لم يكن من السهل العثور على طبيبٍ في ذلك الوقت. قبل كلّ شيء، كان عليّ أن أجد فندقاً، لأنّ الفندق الذي أنزل فيه عادةً، في الدائرة السادسة، كان ممتلئاً ولم تعد فيه غرف شاغرة. أخبرني موظّف الاستقبال بجفاء: في الحالة الطبيعية، حينما كنت أمرّ حتى بشكلٍ مفاجئ، كان مسؤولو الفندق يتدبّرون أمرهم لكي يستقبلوني في أبّهة لأنني كنتُ جوناثان لامبيرور، لأنّه كان شرفاً لهم أن أختار فندقهم، لأنّهم كانوا قد علّقوا صورتي التي أهديتها إليهم في صالونهم الصغير، تماماً بجانب صور الشخصيات المرموقة الأخرى التي نزلت في فندقهم، لكن الأخبار تنتشر بسرعة ولا بدّ أنّ الموظفين قد علموا بأمر "نكبتي"، لأنّه لم يبدِ أحدٌ أدنى جهدٍ لمساعدتي في محاولاتي. كنتُ أعرف الكثير من الزملاء في قطاع الفنادق والمطاعم الفاخرة، ولكنّ مازوخيتي كانت محدودة وكنتُ عاقداً العزم على ألا أمنحهم هدية جَلدي. بعد إجراء بضع مكالمات هاتفية، عثرتُ في نهاية المطاف على غرفة في فندقٍ متواضع، في ساحة شاتو – روج، في زاوية جادة باربيس وشارع بوليه. كانت غرفتي في الواقع "حقيرة"، بل وفي غاية القسوة لا سيما وأنّ البرد فيها كان قارساً. حاولت أن أرفع درجة التدفئة فيها، ولكنّ ذلك لم يغيّر في الأمر الشيء الكثير. كانت الساعة الخامسة مساءً؛ وكان الليل قد هبط. جلستُ على حافة السرير وأمسكت برأسي بين يديّ مطرقاً في التفكير بما آلت إليه حالي. استبدّ بي الشوق إلى ابني وكذلك إلى زوجتي وإلى حياتي. خلال أسبوع واحد، خسرتُ كلّ شيء. قبل ذلك ببضعة أيام، كنتُ أعيش مع أسرتي في طابقٍ علوي من عمارةٍ في شارع تريبيكا في مانهاتن وأدير إمبراطورية وأملك بطاقة الائتمان السوداء ذات الامتيازات وثلاثين طلباً لإجراء مقابلات تلفزيونية في أسبوعٍ واحد... هذا المساء، استبدّت بي الرغبة في البكاء وتهيّأت لقضاء ليلة رأس السنة الجديدة في عزلةٍ في غرفةٍ قذرة. لن تسير لوحدك أبداً... فَرَض قدرٌ مشؤومٌ نفسه عليّ فجأةً. غادرتُ غرفتي لأذهب إلى سيارتي. وأنا أقود السيارة، أدخلتُ عنواناً إلى خدمة تحديد المواقع GPS، شارع مكسيم غوركي في أولني – سوا – بوا، وتابعت السير حسب إرشادات الصوت النسائي للدليل. كانت تتكدّس على المقعد الذي بجانبي الصحف الفرنسية والأميركية التي اشتريتها في المطار. كانت الصحافة الفرنسية التي غالباً ما تجاهلتني خلال السنوات الأخيرة، تكرّس صفحاتها الأولى لوضعي هذه المرّة بقلبٍ عامرٍ بالفرح: لامبيرور المخلوع، لامبيرور المعزول، سقوط لامبيرور... كانت تلك لعبة الصحافة وكنتُ قد أعددتُ نفسي لذلك. وهذا لم يمنع من أنّ هذه العناوين كانت محطّمة لي الآن وتلقّيتها على وجهي كما لو أ،ّها لكمات كثيرة تنهال عليّ. ومع ذلك لم أستطع أن أُقنِعَ نفسي بأنني سوف أسقط يوماً ما. عدا إعداد وصفات وجبات المطبخ، ما الذي أجيد فعله؟ لا شيء أو النذر اليسير... بخسارتي لفرانسيسكا، فقدت الشعلة التي كانت تدفع بي إلى الأمام، الفاصل الذي حوّلني من طاهٍ ذي نجومٍ "عادي" إلى معلّم أفضل مائدة في العالم. كان هناك خمسة وعشرون مطعماً من فئة الثلاث نجوم في فرنسا وقرابة ثمانين مطعماً في العالم، ولكن لم يكن مطعمٌ واحد لديه قائمة انتظارٍ لأكثر من عام لكي يحظى الزبون بطاولةٍ فيه. كان ذلك فقط في مطعمي وكنتُ أعلم بأنّني أدين بذلك لفرانسيسكا. لأنني لم أكن أعمل إلا من خلال هذا: الحبّ الحصري، العاطفة، الحاجة المتواصلة إلى الإغواء. التقيتُ فرانسيسكا حينما كنتُ أبلغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً، ولكنني كنتُ أبحث عنها بدءاً من باحة المدرسة الثانوية. أمضيتُ خمسة عشر عاماً في الأمل في أن توجد امرأة مثلها في مكانٍ ما على الكرة الأرضية. امرأة جميلة مثل كاترين زيتا – جونز والتي قد نضيف إليها دماغ سيمون دو بوفوار. امرأة لديها عشرة أزواجٍ من الأحذية ذات الكعب العالي والساق الطويلة ضمن مجموعة أزيائها ولكنّها قادرة في الوقت نفسه أن تتحدّث معكم عن تأثير موسيقى هايدن على أعمال بيتهوفن أو عن أثر الصدفة في أعمال الرسام بيير سولاج. حينما كانت فرانسيسكا تدخل إلى قاعةٍ كانت تسترق كلّ الأنظار وتأسرها. كانت النساء يرغبن في أن تصبح صديقتهنّ المقرّبة والرجال يرغبون في النوم معها والأطفال ينبهرون برقّتها ولطافتها. كان ذلك أمراً تلقائياً واعتيادياً وعفوياً لا إرادياً. لقد عشنا سنوات حبّنا في ظلّ هذا التوهّج وهذه الحماسة وهذا التقاسم الغريب في المهام: كنتُ أحظى بالشهرة وكانت هي تحظى بالسحر والجاذبية. استمر حبّنا خلال عشرة أعوام في توازنٍ على هذا الإيقاع. * قطعتُ المسافة إلى أولني عبر الطريق المزدوج في عشرين دقيقة. وجدتُ مكاناً في شارع غوركي، ليس بعيداً عن المبنى الذي يقيم فيه كريستوف سالفير. قلتُ وأنا أضغط على زرّ الجرس: -أنا جوناثان. -جوناثان مَنْ؟ -جوناثان لامبيرور، ابن خالتك. كان سالفير ابن أخت والدتي. لم نكن قد التقينا قط قبل أن يتّصل بي في نيويورك، قبل ثلاثة أعوام. خلال العطلة في التفاحة الكبيرة، تمّت مطاردته من قبل رجال الشرطة بعد شجارٍ في إحدى الحانات. لم يكن يعرف أحداً في مانهاتن وقد أفلس تماماً. وبدافعٍ من القرابة العائلية، دفعتُ كفالته القضائية واستضفته لمدّة خمسة عشر يوماً في أحد ملاحق المطاعم بانتظار أن تسوّى قضيته. لعب الرجل معي لعبة المصارحة ولم يخفِ عنّي طبيعة أنشطته في فرنسا: كان يوزّع الكوكايين. أشاع ذلك البرودة في ظهري ولكنّة أكّد لي بأن سجلّه نظيف على الأراضي الأميركية. سألني وهو يفتح لي الباب: -ماذا تفعل هنا؟ أجبته وأنا أهمّ بالدخول إلى الشقّة: -أنا بحاجة إلى أن تسدي إليّ خدمةً. -لم تصب في قصدك، أيها العاهر. لقد عدتُ لكي "أملأ الخزّان"، ولكنني سأخرج مجدّداً. -المسألة مهمّة. -ما الذي تريده؟ -يلزمني سلاحٌ. -تُريد سلاحاً؟ -نعم، أريد بندقية حربية. -هل رأيت وقد كُتِبَ على باب منزلي "متجر أسلحة"؟ أين تريدني أن أعثر لك على بندقية حربية؟ -ابذل جهداً في سبيل ذلك! تنهّد سالفير. -اليوم سهرة رأس السنة، ياللعنة! يحتفل الناس بالمناسبة ولديّ كمية هائلة من الكوكايين عليّ أن أبيعها. عُد إليّ غداً. -كلا، أنا أحتاج إليها هذا المساء! -لا يمكنني أن أؤمّنها لك هذا المساء. عليّ أن أسلّم أكبر كمية ممكنة من الكوكايين في أٌقلّ وقتٍ ممكن. -تذكّر أنني ساعدتكَ حينما كنتَ في ورطة شديدة... -ومَنْ سيعوّضني عن قيمة ما سأفقده من مرابح؟ -قل لي كم يلزمك؟ -سأساعدك إن اشتريت مني ما قيمته أربعة آلاف يورو من الكوكايين. وأضف إلى ذلك ثلاثة آلاف يورو ثمن البندقية الحربية. قلتُ بتهوّر: -حسناً، اتّفقنا. لا أتصوّر أنّك ترفض القبض بالدولار، أليس كذلك؟ حينما غادرت نيويورك، كنتُ قد أفرغت خزنتي وكان معي في جيبي عشرة آلاف دولار من السيولة النقدية. قال لي: -امنحني فرصة ساعة واحدة. يمكنك أن تنتظرني هنا في البيت: خذ قسطاً من الراحة، يبدو على وجهك التعب والإعياء. على الطاولة، عملتُ بنصيحته واستلقيتُ على أريكته. كانت توجد قارورة كونياك مفتوحة. سكبتُ لنفسي قدحاً كبيراً منها ومن ثمّ كوباً ثانياً قبل أن أغفو. عاد سالفير بعد الساعة الثامنة مساءً بقليل. مدّ نحوي مسدّساً من الكروم وله قبضة سوداء وقال: -لقد أخذتُ لك ما وجدتُه. كان المسدّس الحربي ململماً ولكنّه ثقيلاً. كان مخزن المسدّس محشوّاً بخمس خراطيش. -هذا مسدّس سميث آند ويسون موديل 60 من عيار 38 سبيشل. دخلت المعلومة من أذنٍ وخرجت من الأخرى. أعطيته المال وأعطاني علبة بلاستيكية لدنة مغلقة بواسطة سحّاب كانت تحتوي على حوالي عشرين جرعة من الكوكايين. تردّدت في أن أتركها له ولكنني قرّرت في النهاية أن آخذها قائلاً لنفسي بأني سأتلفها لاحقاً. عللت ذلك لنفسي قائلاً: سيبقى هذا على الدوام ما لن يستهلكه أحدٌ. أعرف ذلك، يحصل لي أحياناً أن أكون ساذجاً... الساعة الثامنة مساءً وضعتُ المسدس الحربي والكوكايين في الصندوق الأمامي للسيارة وسلكت طريق الفندق. لم أتحمّل مشقّة تشغيل خدمة تحديد المواقع GPS للتعرّف على الطريق بالاتجاه المعاكس: الطريق الدولية، مخرج شابيل... اللعنة. لقد فوّتت للتو بغباء مفرقاً. كان الكونياك قد أرهقني. فجأةً، لم أعد متأكّداً تماماً من اسم الشارع. بين بوابة كلينيانكور وبوابة كليشي، تابعتُ السير على جادات ماريشو لمسافة خمسمائة متر. لم يكن المكان جذّاباً. كانت مجموعة من المومسات تحت الضوء الباهت للوحات الإعلانية تغري الزبون. تتوقّف بعض السيارات للحظات قليلة: يُنزّل زجاج النوافذ، ويناقش الرجال في سعر ممارسة الجنس أو المنادمة ومن ثمّ، حسب الردّ الذي يتلقّونه، يغادرون برفقة الفتاة أو من دونها. تحوّلت إشارة المرور أمامي إلى اللون الأحمر. فاحتُجزتُ رغماً عنّي أمام موقفٍ للحافلات. نقرت فتاةٌ مشرقية، ترتدي تنورة قصيرة وتنتعل حذاءً جلدياً طويلاً، على زجاج نافذة سيارتي وهي تعرض عليّ مفاتنها. حاولت في البداية أن أتجاهلها ولكنّها أدّت نوعاً من فاصلٍ راقصٍ أشبه بما يُقدّم في ملهى مولان – روج. عيناها كانتا حزينتين وفارغتين. صعبت عليّ وقرّرتُ أن أخفض زجاج نافذة سيارتي لكي أجاملها وأثني على رقصها. أنا أدري، أنا ساذج... * وصلت سيارتا الشرطة كالإعصار لمسافة عشرين متراً خلف سيارتي. في أٌقلّ من ثلاث ثوان، اهتزّ الشارع على وقع صفارات الإنذار المرسلة للأضواء الزرقاء. أخرج رجال الشرطة الدروع الواقية لسواعدهم، عاقدين العزم على المبالغة في الاندفاع مساء حفلة ليلة رأس السنة، وهم يحمّلون الفتيات ويتحقّقون من هوية الزبائن. بينما كنتُ أرفع زجاج نافذتي، فتح شبحٌ نسوي فجأةً باب سيارتي وجلست على المقعد بجانبي. صرخت بارتباك: -اقلع بسيارتك وإلا ستَسجن نفسك! كانت صبية. مراهقة في حدود الخامسة عشرة من عمرها. عاهرة؟ في هذا السنّ؟ صرخت: -أسرِع، اللعنة! في أيّ مأزقٍ وضعتُ نفسي؟ لا بدّ أنّه كان في دمي غرامان من الكحول، وكان معي مسدّس حربي وجريب مليء بالكوكايين في علبتي وفتاةٌ قاصر جالسةٌ في سيارتي. كنتُ سأجد نفسي في السجن وأقضي فيه فترة طويلة. لم أنتظر حتى تتحوّل الإشارة المرورية إلى الضوء الأخضر وانعطفتُ عند أوّل مفرق. الفصل التاسع عشر (2) سلكتُ، بأقصى سرعة، جادة بورت – دي سان – أوين واندفعت بين حركة السير على المتحلّق المحيط بالمدينة. سألت الراكبة: -إلى ماذا ترمين؟ أجابت باللغة الإنجليزية بلهجة مبهمة: -"Just wanna escape these bloody cops" أشعت ضوء سقف السيارة واستغللت بطء حركة السيارة لكي أمعن النظر فيها. كانت فتاة في حدود الخامسة عشرة من عمرها، ذاتُ قوامٍ نحيل شعرها مصبوغٌ باللون الأسود باستثناء بضع خصلات حمراء قرمزية، تنسدل شرابة طويلة جداً دون توقّف فوق عينيها. كانت ترتدي بنطال جينز ضيّق وتنتعل خفّين من الجلد وتلبس قميصاً رياضياً مقلّماً تغطّيه جزئياً بلوزة ذات قلنسوة لونها زهريٌّ ورمادي ومطبوعٌ عليها رمز فريق مانشستر يونايتد لكرة القدم، تلتمع ماسةٌ صغيرة على منخرها الأيسر في حين يتدلّى في رقبتها طوقٌ قروسطي من الفضّة والكريستال الأحمر الرمّاني، يمنحها مكياجها القوطيّ – الكُحل وقلم العين الأسود على البشرة الشاحبة – هيئة جثّة ولكنّه يدلّ أيضاً على اسلوٍ مدروسٍ بدراية. نظرتُ إلى فردتي حذائها: كانتا جديدتين تقريباً. كانت هذه الصبية ترتدي ثياباً من الماركات الشهيرة وتتزيّن بمجوهرات. لم تكن هذه الصبية من فتياة الشوارع، وإنّما مراهقة ثرية. لم أدرٍ ماذا أفعل. لم يكن بوسعي أن أتركها وسط الطريق الدائري. كان عليّ أن أعرف المزيد عن وضعها ولكنّها لم تبدُ كثيرة الكلام. سلكتُ أوّل طريق فرعية تقود إلى محطّة الخدمة لبوابة مونتروي وتوقّفتُ في المرآب. سألتها بالإنجليزية: -ما اسمكِ؟ -وبماذا قد تفيدك معرفة اسمي؟ -اسمعي، أنتِ من صعدتِ إلى سيارتي دون أن أطلب منكِ أيّ شيء، وبالتالي سوف تخفضي من لهجتكِ، اتفّفقنا؟ هزّت كتفيها وأدارت رأسها. ردّدتُ بحزم: -ما اسمكِ؟ تنهدّت قائلةً: -آليس، آليس كوالسكي. -أين تسكنين؟ -لا أرى أنّ هذا يعنيك في شيء. -لماذا خفت من رجال الشرطة، قبل قليل؟ التفتت إليّ: -وأنت لماذا خفتَ منهم؟ بوغتُّ بالسؤال، فدافعتُ عن موقفي قائلاً: -لقد أفرطتُ في الشراب، وهذا كلّ مافي الأمر. في هذه اللحظة، سقط غطاء الصندوق الأمامي الذي لم أكن قد أحكمتُ إغلاقه، فانكشف ما بداخله. أثارت رؤية السلاح الناري والمخدرات الرعب في الفتاة. فتحت الباب كي تهرب من السيارة، مقتنعة بأنّها قد وقعت بين يدي فاعل سوء. ركضتُ خلفها في المرآب وقلت لها: -انتظري، الأمر ليس كما تعتقدين! ردّت عليّ وهي تلجأ إلى محطة الخدمة: -دعني وشأني. أشعلتُ سيجارةً ونظرت إليها عبر الواجهة الزجاجية. جلست على كرسيّ بلا مسند قرب الموزّع الآلي للمشروبات. مَنْ تكون هذه الفتاة؟ عمّا تبحث في فرارها؟ في تلك اللحظة، راودتني الرغبة بعض الشيء في العودة إلى سيارتي والانسحاب والرحيل عن المكان. لم يكن الأمر برمّته يعنيني في شيء. سوف لن أكسب من هذه الحكاية سوى المزيد من المشاكل. تنهدّت ولكنّني قررتُ رغم كلّ شيء أن ألحق بها. كانت محطّة الخدمة مزيّنة بديكورات عيد رأس السنة: كانت هناك الأضواء الإلكترونية الحزينة بعض الشيء وشجرة التنوب المنتوفة وكرات عيد الميلاد البلاستيكية، وتصدح أغنية شائعة وقديمة تعود إلى أعوام الثمانينات من القرن العشرين من الراديو. -هلاّ قدّمتِ لي فنجاناً من قهوة الإسبريسو؟ قالت وهي تهزّ برأسها: -لا أملك نقوداً. أخرجتُ محفظتي لكي أبحث فيها عن نقودٍ. سألتها وأنا أدخل القطع النقدية في آلة تقديم المشروبات: -هل تريدين شيئاً؟ -أريدُ أن تدعني بسلام. حاولتُ أن أقنعها. -اسمعي، لقد انطلقنا من القواعد الخاطئة. -ارحل الآن، سوف أتدبّر أمري لوحدي. -بماذا ستتدبرين أمركِ؟ أنتِ لا تملكين المال ولا تتحدثّين كلمة من اللغة الفرنسية. سوف لن أترككِ في هذه الحال. هذه مسؤوليتي كرجلٍ بالغ. رفعت عينيها إلى السماء ولكنّها وافقت على تلقي النقود التي أعطيتها لها. اختارت من آلة التوزيع قارورة صغيرة من الحليب مع فراولة وعلبة من بسكويت أوريو. بينما كانت تتناول حلوياتها، التقطتُ نسخة من صحيفة مترو كانت مرمية على طاولةٍ. -انظري، ها هي صورتي في الصحيفة. وكما يمكنكِ أن تري، هي ليست في صفحة الحوادث المتفرقة. نظرت إلى المقالة ومن ثمّ رفعت عينيها. -لقد سبق لي أن شاهدتكَ في التلفزيون! في برنامج هاجمتَ فيه بشدّة النباتيين! كانت تشير إلى مناظرة أعارض فيها نشطاء أقوياء كانوا يسعون إلى منع تقديم طبق الكبدة الدسمة في الولايات المتحدة الأميركية. سألت باستفزاز: -إذا كنتَ نجماً شهيراً، ماذا تفعل عند عاهرات يبعن خدماتهن الجنسية لقاء 20 يورو، مساء ليلة رأس السنة، ومعك علبتك المليئة بالكوكايين؟ طلبتُ منها: -حسناً، هيا اتبعيني. فليبارك الله في التلفزيون. أعادت إليها شهرتي شيئاً من الثقة ووافقت، وهي تترك مسافة مناسبة بينها وبيني، على أن تصحبني إلى سيارتي من طراز بي إم دبليو. -قبل كلّ شي، لم أكن زبوناً للعاهرات وأنتِ تعلمين ذلك جيّداً، وإلا لما صعدتِ إلى سيارتي، حتى للهروب من الشرطة... لم تردّ عليّ، وكان ذلك دليلاً على أنّني سجّلت نقطةً. شرحتُ لها وأنا أمسك بالعبوة اللدنة وأرميها في إحدى الحاويات العامّة في المرآب: -ثمّ إنّ هذه المخدرات ليست لي. هذه حكاية معقّدة ولكنني اضطررتُ للقبول بها لكي أحصل على هذا المسدّس. -وما شأنك بهذا المسدّس. ماذا ستفعل به؟ -هو لكي أحمي نفسي به فقط. مما لا شكّ فيه أنّها كانت فتاة أميركية لأنّها قبلت بهذا التوضيح دون أن تحتجّ عليه. -حسناً، الآن حان دوركِ. ستقولين لي مَنْ تكونين وأين تقيمين، وإلا سأستدعي رجال الشرطة. بدأت بالحديث: -لقد ارتكبتُ حماقةً. هروبٌ مؤقّت وهذا كلّ مافي الأمر. أنا أعيش في نيويورك، ولكني أقضي العطلة مع والدي. لدينا منزلٌ على الشاطئ الأزرق. -أين يقع؟ -في كاب – دانتي. أعرف المكان جيّداً. في هذا المكان امتلكت مطعمي "الحقيقي" الأوّل. -كنتُ أريد العودة إلى بيتي ولكنّ حقيبتي سُرِقَت مني في القطار السريع ولم يعد لديّ لا هاتفي المحمول ولا محفظة نقودي. كانت تبدو صادقة، مع أنّه كان هناك شيءٌ مختلٌّ دون أن أعرف لماذا. -اتّصل بأبي أو بأمّي إذا كنتَ لا تصدقني! أعطتني رقماً أدرجته في هاتفي المحمول. بعد رنّة واحدة فقط، ردّت عليّ سيّدة تدعى كوالسكي والتي تلقّت مكالمتي على أنّه فرجٌ. أكّدت لي كلّ الحكاية: كانت ابنتها قد فرّت من البيت بعد مشاجرة بينهما. بدا قلقها واضحاً وجلياً مع أنّها حاولت ألا تُظهر ذعرها. حوّلتُ المكالمة إلى آلأيس كي تُطمئنها. ولأنني لم أشأ أن أكون متطفلاً، خرجتُ لكي أدخّن سيجارة مستنداً إلى غطاء محرك سيارتي، ولكنني سمعتُ الجزء الأكبر من محادثتهما. ظلّتا لدقائق طويلة تتحدّثان عبر الهاتف. اعتذرت لي آليس وذرفت بعض الدموع. حينما حوّلت إليّ أمها من جديد، اقترحتُ على السيّدة كوالسكي أن أوصل بنفسي ابنتها. كان عليّ "أن أسير نحو الجنوب" تماماً لكي أحضر مراسم دفن والدي وكان بوسعي أن أكون في آنتيب عند الضُحى. ترّددت طويلاً، ولكنها انتهت إلى القبول باقتراحي. * كنا نسير منذ نصف ساعة. سلكنا طريق سولي السيّار تحت الغيوم المكفهرّة وندائف الثلج وتجاوزنا إيفري. كانت آليس غارقة في الصحف الأميركية التي تروي تفاصيل جوانب حياتي المهنية والزوجية. قالت وهي تمعن النظر في صورةٍ لفرانسيسكا: -زوجتك جميلة... -هاه، هذه جملة أسمعها على الأقلّ مرّة واحدة في اليوم منذ عشر سنوات.. -وهل هذا يغضبك؟ -لقد فهمتِ كلّ شيء. -لماذا؟ -لو أنّها لم تكن جميلة جدّاً، ربّما لما خانتني. أعطت رأياً أكبر من سنواتها الخمس عشرة: -أعتقد أنّ لا علاقة لهذا الأمر بالموضوع. -بالطبع له علاقة بالموضوع. كلّما تكونين جميلة، كلّما تكون لديكِ إغراءات وبالتالي رغبات. هذه مسألة رياضيات... -ولكن الأمر نفسه ينطبق عليك، أليس كذلك؟ في برامجك التلفزيونية، كنت تمثّل دور الطاهي المثير الذي ... قاطعتها: -كلا! الأمر ليس كذلك. بالنسبة إلي، أنا لستُ هكذا. -لستَ ماذا؟ -أنتِ تزعجينني. قالت: -رأي بنّاءٌ جدّاً. أمام صمتي، أدارت الراديو وأخذت تتنقّل بين المحطات. اعتقدتُ أنّها تبحث عن محطّة تبثّ "موسيقى شبابية"، لكنّ بحثها توقّف على محطة فرانس ميوزيك. وفي الحال، شغفت آليس بالمقطوعة الموسيقية: معزوفة على البيانو رقيقة ومرهفة. قلتُ: -هذه معزوفة جميلة. -شومان، Davidsbundlertanze، المقطوعة 6. اعتقدتُ أنّها تسخر منّي إلى أن انتهت المقطوعة وأعلنت مقدّمة البرنامج: "كنتم تستمعون إلى موريزيو بولليني الذي كان يؤدّي Davidsbundlertanze لروبيرت شومان". -أحسنتِ! تظاهرت بالتواضع: -هذه مسألة سهلة. -لا أعرف شومان جيّداً. في كلّ الأحوال، لم أسمع قط هذه المقطوعات الموسيقية. -إنّها مهداة إلى كلارا وايك، الامرأة الشابّة التي كان مغرماً بها. تركت برهة صمتٍ تمرّ قبل أن تؤكّد: -أحياناً الحبّ يدمّر وأحياناً يتبلور في أعمال فنية رائعة... -هل تعزفين على البيانو؟ صمتت لبرهةٍ قبل أن تجيب. وهو تحفّظُ أبدته لمرّاتٍ عديدة خلال هذه الليلة، وكأنّها كانت تخشى أن ترتكب عملاً أخرقاً أو تستلم للإفراط في الثقة. -كلا، أعزف على الكمان. الموسيقى هي شغفي. -والمدرسة، هل أمورك جيّدة فيها؟ أنتِ في أيّ صفّ؟ ابتسمت: -هذا جيّد، لا تعتبر نفسك مجبراً على إثارة الحديث معي. -وهذا الهروب المؤقّت من البيت، ماذا كنتِ تريدين أن تثبتي من خلاله؟ قالت وقد استغرقت في قراءة الصحف: -هذه المرّة، أنت من تزعجني. * الساعة الحادية عشرة مساءً كانت آليس قد نامت منذ ساعتين ولكنّها استيقظت عند وصولنا قبالة بلدة بون بينما كنّا لا نزال نسير على الطريق الدولية رقم 6 باتجاه مدينة ليون. سألتني وهي تفرك عينيها: -متى موعد دفن والدك؟ -بعد غد. -ما سبب وفاته؟ -لا أعرف أيّ شيءٍ عن ذلك. نظرت إليّ بطريقةٍ غريبة. قلت وقد بقيتُ مراوغاً: -لم نكن نتكلّم مع بعضنا منذ خمسة عشر عاماً. ولكن بما أنني لم أكن أشعر بأنّني مذنب في أيّ شيء، ازدادت ثقتي بنفسي بعض الشيء. -كان والدي يدير مطعماً يُدعى لا شوفاليير، مطعمٌ عاديٌّ جدّاً يقع في ساحة التحرير في أوش. كان يحلم طيلة حياته بأن ينال نجمةً في دليل غيد ميشلان، ولكنّه لم ينجح قطّ في بلوغ ذلك. تجاوزتُ رتلاً من السيارات قبل أن أتابع حديثي: -في صيف سنواتي الأربعة عشرة، عملتُ في المطعم كعامل خدمة. في المساء، بعد أن انتهى دوامي، بقيتُ في المطبخ لكي أجرّب أفكاري. وهكذا أعددتُ ثلاثة أطباق ونوعين من الحلوى والتي رضي والدي، تحت ضغط مساعده، أن يضيفها إلى قائمة الطعام في مطعمه. سريعاً وبفضل تناقل أخبار طبخي همساً، جاء الناس لكي يتذوّقوا على نحوٍ خاصّ هذه الأطباق. الأطباق التي قمتُ أنا بإعدادها. لم يحبّذ والدي أن أضعه في الظلّ. عند بدء العام الدراسي، ولكي يبعدني عن المطعم، سجّلني والدي في مدرسة داخلية في سوفيا – آنتيبولي في جنوب شرق فرنسا. -هذا تصرّفٌ قاس... -نعم. وفي الأشهر التي تلت، منح دليل ميشلان نجمةً للمنشأة العائلية مذكّراً بالإبداعات الجديدة للمطعم! حقد عليّ والدي حقداً كبيراً، كما لو أنني سرقتُ منه أجمل يومٍ في حياته. -يا له من مغفّل! -كانت تلك المرحلة الأولى من القطيعة بيننا. التقطت نسخة تايم آوت نيويورك التي كانت عند قدميها ودلّتني على المقطع الذي أشارت إليه من المقالة. -وهذه الحكاية، هل هي صحيحة أم أنّها أسطورة؟ -يجب أن أقرأ أو أن أقود السيارة، يجب أن نختار... -يقولون بأنّك قد أغويت زوجتك بفضل طبقٍ من حلوى المعكرون ! قلتُ مبتسماً: -هذه قصّة طويلة جدّاً. -اروها لي! -في تلك الفترة، كانت فرانسيسكا قد تزوّجت لتوّها من مصرفي. وكانت في رحلة شهر العسل على الشاطئ الأزرق في الفندق الذي كنتُ أعمل فيه. وقعتُ في حبّها من النظرة الأولى، كما لو أنني التقطتُ فيروساً. في وقت لاحق، خلال السهرة، شاهدتها بالقرب من الشاطئ، من دون زوجها. كانت تمشي بمحاذاة الأمواج وهي تدخّن سيجارةً. سألتها عن حلواها المفضّلة، فقالة بأنّها تفضّل طبق الرزّ بالحليب مع الفانيلا الذي كانت جدّتها تعدّه لها ... -ومن ثمّ ماذا حدث؟ -أمضيتُ الليلة وأنا أتحدّث بالهاتف مع الولايات المتحدة الأميركية. نجحتُ في الاتصال مع جدّتها لكي أعرف الوصفة الدقيقة لإعداد الحلوى وفي اليوم التالي، عملتُ طيلة النهار لكي أعدّ طبقاً من حلوى المعكرون بالرزّ والحليب. أعددتُ من هذه الحلوى ما يقارب اثني عشر طبقاً وقدّمتها لها. وتكفّلت الأسطورة بما تبقّى من الحكاية. أبدت الفتاة إعجابها: -أنت راقٍ جداً. -أشكركِ. مازحتني قائلة: -في العمق، أنت تشبه إلى حدٍّ ما شومان. لكي يثير إعجاب محبوبته، كان يكتب لها ألحان الكونشرتو. وأنت، كنتَ تعدّ لها أطباق حلوى المعكرون! * شالون – سور – ساون، تورنوس، ماكون ... كانت الساعة قد بلغت الثانية عشرة من منتصف الليل حينما أعلنت لنا لوحة طرقية : "ليوم: 60 كم". قالت آليس: -Happy New Year. أجبتها: -سنة سعيدة. -أنا أتضورّ جوعاً... -وأنا أيضاً. سوف نتوقّف للاستراحة في محطّة خدمة لكي نشتري شطائر. صرخت: -شطائر! أنا أحتفل برأس السنة مع الشيف الأعظم في العالم ويريد أن يطعمني شطائر لعينة ملفوفة بورق السلوفان! للمرّة الأولى منذ أسبوع، انفجرتُ ضاحكاً. لم تكن تلك الفتاة تعدم النباهة. -ماذا تريديننا أن نفعل؟ لا يمكنني أن أطبخ لكِ أيّ شيء في السيارة. -هلاّ توقّفنا في مكانٍ ما؟ بعد أن سرنا لمسافة أربعمائة وخمسين كيلو متراً دون أن نتوقّف في استراحةٍ، كنا متعبين. -معكِ حق: نستحق فعلاً أن نأخذ قسطاً من الراحة. بعد عشرين دقيقة من ذلك، سلكتُ مفرق فندق "غار دي بيراش" في مدينة ليون، ومن ثمّ تابعت السير نحو مركز المدينة حيث ركنتُ السيارة في موقفٍ مخصّصٍ لتسليم الطلبات. -اتبعيني. رغم البرد، كانت المدينة تضجّ بالحياة: موسيقى، مفرقعات، فرق المتلفظين بالحماقات، وبلهاء كانوا يغنّون بأصواتٍ عالية أغانٍ بذيئة... قالت آليس وهي ترفع سحابة بلوزتها حتى رقبتها: -لم أحب قط يوم الحادي والثلاثين من كانون الأول \ ديسمبر. -وأنا كذلك. لم أكن قد زرتُ ليون من زمنٍ طويلٍ جداً. حينما كنتُ في السابعة عشرة من عمري، عملتُ لمدّة ثلاثة أشهر كعامل خدمة في مطعم قريبٍ من الأوبرا، في تقاطع شارع لونغ مع شارع بليني. حينما وصلت آليس أمام مطعم فورشيت آغوش أكّدت: -إنّه مغلق. -في الحقيقة، هذا ما كنتُ أتوقّعه. كان صاحب المطعم في الفترة التي كنتُ أغمل فيها قد أهمل وجبات عشاء عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة. في بداية الشارع، كان زقاقٌ ضيّق يمتدّ على نحوٍ منحرف لكي يصل إلى شارع بلاتر. في منتصف الطريق المبلّطة، كنتُ أعرف باباً صغيراً يسمح بالوصول إلى الساحة الصغيرة التي تطلّ على المطابخ. بطبيعة الحال، كان مقفلاً، ولكن في تلك الليلة، كنتُ قد خرقتُ القانون بما فيه الكفاية من المرات بحيث لم يعد الأمر يتوقّف بالنسبة إلي على هذا التفصيل. * كان مطبخ المطعم حديثاً، وفي غاية النظافة والترتيب. حينما نظرت آليس بقلق إلى زجاج النافذة الذي طيّرتهُ في شظايا متناثرة، سألتني: -هل أنت متأكّد بأنّه لن تكون هناك صفّارة الإنذار؟ -اسمعي، لستُ متأكّداً من أي شيء، ولكن إن كان يخيفكِ كثيراً، يمكنكِ العودة إلى السيارة. لكِ الحقّ في أن تكوني جبانة هلعة. دافعت عن نفسها: -كلا، لستُ خائفة! -لأنّه في النهاية أنتِ من أزعجتِني لكي أطبخ لكِ شيئاً ما... نظرت إليّ بتحدٍّ. -حسناً، سأتكفّل أنا بإعداد السباغيتي وأنت سوف تعدّ أطباق حلوى المعكرون، اتفقنا على هذا؟ -أطباق حلوى المعكرون؟ كلا، هذا مستحيل. أحتاج على الأقلّ إلى أربع وعشرين ساعة لكي أعدّ أطباقاً جديرة بهذا الاسم. إن لم نتركها ترتاح في الثلاّجة، سوف... -هاه، لقد فهمت: أنت تخاف المنافسة. أثارتني ملاحظتها بشدّة: -كما تشائين. كيف تنوين أن تعدّي أطباقكِ من السباغيتي؟ ردّت وهي تفتح أحد أدراج الثلج: -صلصة بالريحان. هناك ريحان طازج في الثلاجة. بدأت بتجميع مقادير المواد الداخلة في أطباقها وفعلتُ الأمر ذاته وأنا أشعِلُ الفرن. طلبتُ منها وأنا أشير إلى زبدية من الستانلس: -أعطني "مؤخرة الدجاجة" ! أضحكتها العبارة. كانت ابتسامتها نادرة بقدر ما كانت جميلة. قمتُ بغربلة السكّرَ ومسحوق اللوز والكاكاو داخل الإناء. وهي قامت بوضع الريحان في الماء الفاتر ومن ثمّ قطعت سويقاته لكي لا تُبقي سوى الوريقات التي قامت بتجفيفها على ممسحة من القماش. تردّدت ثم سألتني: -Grana Padano أو Parmigiano Reggiano ؟ أجبتها: - Parmigiano! ثم سألتها بفظاظة وأنا أشاهدها تبشر جبنة البارميزان: -لماذا هربتِ من البيت؟ -لديّ ... لديّ صديقٌ باريسيٌّ صغير كنتُ قد التقيتُ به خلال رحلةٍ مدرسيةٍ إلى فرنسا. أردتُ أن ألتقي به ولكنّ والديّ لم يكونا موافقين على ذلك. بدت منحرفة المزاج وتأخّرت لبعض الوقت في الإجابة عن سؤالي وهي تبحث عن كلماتها، وهي تدعك أنفها وذقنها متجنّبةً النظر إليّ مباشرةً. وهي إشارات كثيرة جعلتني أعتقد بأنّها تكذب. -نحن الاثنين نعرف أنّ هذه ليست هي الحقيقة، أليس كذلك؟ تعلّقت نظرتها بنظرتي، وتوسّلت إليّ بأن لا أسعى إلى معرفة المزيد عن الموضوع. عدتُ إلى وصفتي وسكبتُ الخليط الممزوج بالكاكاو كالمطر على بياض البيض المخفوق بينما كانت هي تجمّع في القصعِة خليط الجبنة والريحان والصنوبر والثوم وزيت الزيتون. حينما أصبح العجين متجانساً، مررته في قمعٍ للتزيين وصنعتُ أقراصاً من العجين. تذوّقت ما أعدّته وأضافت ملحاً وبهاراً ومن ثمّ أضافت مرّة أخرى بعض الزيت وهي تستمر في عملية الخلط لكي تحصل على صلصةٍ مائعة ومتماسكة في آنٍ واحد. -مَنْ علَمكِ أن تعدّي هذا الطبق؟ ردّت بما يشبه البداهة: -تعلّمت ذلك لوحدي. بانتظار أن تستوي قشور البسكويت التي أعددتها، انكببتُ على إعداد صلصة الشوكولا السميكة لتزيين البسكويت بينما كانت هي تغطس السباغيتي بالقمح الكامل في الماء المغلي. في أدراج المطبخ، عثرتُ على شوكولا سوداء ذات نوعية غير رديئة. قضمت آليس قطعةً منها بينما قمتُ بدقّ ثلاثة ألواح منها لكي أعدّ قشدتي. -لا بدّ أن توضَع لعدّة ساعات في الثلاجة لكي تصبح مرهمية ولذيذة. نظرتُ إلى الساعة. كانت الساعة تقارب الثانية فجراً. وضعتُ حلوى المعكرون في الفرن وخفّضتُ في الحال درجة حرارته. سألتني وهي تصبّ لنفسها كأساً من الحليب: -لم تخبرني لماذا أغلقت مطعمك وابتعدت عن كلّ شيء؟ -هذه مسألة معقّدة، لا يمكنكِ أن تفهمي... في تلك اللحظة، فكّرتُ بكواسر شركة وين إنترتينمنت الذين اضطررتُ لأن أبيع لهم كلّ موجوداتي لكي أتجّنب الإفلاس والذي جرّدوني من اسمي وعملي. منذ تلك اللحظة، أصبح من حقّ كل مطاعم مجموعتهم أن تُدرجَ أطباقي في قائمة أطعمتها. حياةٌ كاملة من الإبداع المسروق من قبل مضاربين لا ذمّة ولا ضمير لهم. إفلاس مغامرةٍ كنتُ قد وهبتها جسدي وروحي مذ كنتُ في الثالثة عشرة من عمري... كان سكين من طراز لاغيول طويل بمقبضٍ مصنوعٍ من العاج والآبنوس موضوعاً على الطاولة. أمسكته من مقبضه ورميته أمامي. دار السكين عدّة دورات في الهواء قبل أن يستقرّ في الباب مسبّباً ضجّة مخنوقة. -ليس هناك سوى "لامبيرور" واحد. واللامبيرور هو أنا. دون أن تنبس ببنت شفة، اقتربت آليس من الباب وسحبت منه السكّين في اللحظة نفسها التي أشار فيه رنين موقّت الفرن أنّ حلوى المعكرون خاصتي قد استوت. * سكبتُ قليلاً من الماء تحت ورقة السلوفان وأتاح تصاعد البخار لأن يكون اقتلاع البسكويت من الصينية سهلاً. قالت آليس: -بارع. ساعدتني في تزيين أنصاف قطع البسكويت بسخاء بوساطة صلصة الشوكولا قبل أن يتمّ لصق كلّ قطعتين مع بعضهما لتشكيل قطع حلوى المعكرون. -حتى تكون بنوعية ممتازة، يجب أن نتركها لمدّة أربع وعشرين ساعة في الثلاّجة، ولكننا سنسرّع الأمور وذلك بوضعها لمدّة ساعة واحدة في الثلاجة. خلال تلك المدّة من الزمن، قدّمت لنا آليس صحنين من المعجّنات التي تناولناها بشهيّة مفتوحة. خلال تناول الوجبة، روت لي مجموعة من الطرائف: ومنها أنّ موزارت حينما كان في الرابعة عشرة من عمره كان قادراً على أن ينسخ التوليفة السرّية لمعزوفة آليغري الموسيقية ميزيرير وهو لم يستمع إليها سوى لمرّة واحدة، وأنّ أغنية آداجيو لآلبينيوني لم تكن في الحقيقة لآلينيوني، وأنّ بيكاسو كان في نهاية حياته يمضي توقيعاته مباشرةً على جلد معجبيه لكي يمنع هؤلاء المعجبين من بيع توقيعاته، وأنّ في أغنية Hey Jude لفرقة بيتلز لم تعزف آلات الجوقة إلا في المقطع الثالث لأنّ رينغو ستار كان قد ذهب إلى الحمّامات أثناء العَرض! كانت لهجتها تتغيّر، حينما تكون مرتاحة وعلى ثقة، على نحوٍ خفيٍّ. كانت نبراتها أكثر "غمغمة" وكانت رنّة صوتها تحتجب. وكانت في هذا الأمر تجعلني أفكّر بالأخوين غالاغير وكنتُ على استعدادٍ لكي أراهن بأنّ هذه الفتاة كانت قد عاشت في شمال إنجلترا. ومع أنّها كانت تمتلك ثقافةً موسوعية، لم تكن متزحلقة على الإطلاق، وإنّما فضولية لمعرفة كلّ شيء وتستمتع بتقاسم معرفتها. كانت من نوع الأطفال الذين يحلم بهم كلّ الآباء والأمّهات... الفصل التاسع عشر (3) تابعنا نزولنا نحو الجنوب. خلال ساعتين، كنتُ قد ابتلعتُ مئتين وتسعين كيلومتراً وكانت آليس قد ابتلعت ما يقارب ثلاثين قطعةً من حلوى المعكرون. اشتكت قائلةً: -بطني يؤلمني. -لقد حذّرتكِ من ذلك. توقّفنا في منطقة من الطريق السيّار تماماً قبل إيكس – إن – بروفانس. دفعتُ قيمة وقود سيارتي لدى الصندوق بينما ذهبت آليس إلى الحمّامات. عادت بعد بضع دقائق، شاحبة الوجه وفي يدها العديد من المحارم الورقية. -هل تريدين فنجاناً من الشاي؟ -كلاّ، انتظرك في السيارة. * الشاطئ الأزرق الساعة السابعة صباحاً لوّنت الشمس الساطعة في الأفق السماء بأشرطةٍ وردية. في منتصف الطريق بين مدينتَي نيس وكان، كانت شبه جزيرة كاب – دانتيب تذوب وسط الصخور وأشجار الصنوبر البحرية. بينما كنّا نسير بمحاذاة البحر الأبيض المتوسّط، طلبتُ من آليس: -سيكون عليك أن ترشديني إلى الطريق. تجاوزنا صخرة إيدن روك البهيّة. ثم قادتني آليس حتى آخر بوابّة لزقاق سان – سوسي. في هذا الجوّ البديع والفردوسي، وسط الفنادق الفاخرة ومساكن ذوي المليارات، كان والدا آليس يملكان منزلاً لقضاء عطلتهم. كان السياج قد تُرِكَ مفتوحاً. وعلى مسافة تزيد عن مائتي متر، كان ممرّ مفرش بالحصى يعبر غابةً من أشجار الصنوبر قبل الوصول إلى منزلٍ كبير يعود لسنوات الثلاثينيات من القرن العشرين ويتّجه باتجاه البحر. كانت سيّدة ممشوقة القامة ومتميّزة تنتظرنا على درج المنزل. فتحت آليس البوابة وأخذتا بعضيهما بالأحضان. عرّفت بنفسها وهي تمدّ يدها إليّ: -السيّدة كوالسكي. لا بدّ أنها قد أنجبت ابنتها في عمرٍ مبكّرٍ جدّاً، لأنني لم أعطِها من العمر أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. كان شعرها الأشقر مضبوباً في مشبكٍ متصنّعٍ ونظرتها واضحة وحادّة؛ وملامح وجهها في غاية الرقّة والنعومة، على الرغم من وجود ندبة متميّزة تبدأ من قوس حاجبها وتشقّ أعلى خدّها حتى تصل إلى زاوية فمها. إهانة لم تكن متوقّعة لدرجة أنّه لا تراودنا سوى رغبة وحيدة: معرفة ظروف هذا الجرح. شكرتني على مساعدتي لها وعرضت عليّ تناول فنجان من القهوة ولكنني شرحتُ لها بأنّ لدي موعد. بينما كنتُ أصعد إلى السيارة، لحقت بي آليس لكي تأخذ ما يقارب العشر قطع من حلوى المعكرون التي لم تلتهمها خلال الرحلة. قالت لي وهي تغمزني قبل أن تعود إلى والدتها: -هذه لعصرونيتي. كانت قد قطعت بضعة أمتار حينما التفتت إليّ ونصحتني برزانة: -اعتنِ بنفسك. * انطلقتُ بالاتجاه المعاكس وركنتُ سيارتي أمام الشاطي الذي يدلّ على بداية الطريق الساحلي. أخذتُ المسدّس من صندوق القفازات، وأقفلتُ أبواب سيارتي من طراز بي إم دبليو، ومشيتُ ورأسي مليءٌ بالذكريات. كنتُ قد ولِدتُ في أوش، إلّا أنني عشتُ بعض أجمل لحظات حياتي في آنتيب. في سنّ الرابعة عشرة، أرسلني والدي إلى مدرسة داخلية قريبة من هنا، في سوفيا – آنتيبولي. في سنّ الخامسة عشرة، على سلالم قصر غريمالدي، قبّلتُ جوستين، حبيبتي في سنّ المراهقة. وفيما بعد، في حصن سان – بول – دي فانس ومن ثمّ في فندق كاب قمتُ بإدارة مطاعمي الفرنسية. جعلتني هذه الذكريات التي طفت إلى السطح أرتعش. كان أمراً غريباً أن يقودني القدر إلى مكان أولى نجاحاتي في يومٍ على هذا القدر من الانحراف.... كانت النزهة قصيرة ومحاطةً بمنحدرات مدوّخة. قفزتُ من صخرةٍ إلى أخرى لكي أبقى في أقرب مكانٍ إلى الشاطئ المنحدر الذي يحاذي الأمواج والذي يقدّم إطلالةً فريدةً على المدينة المحصّنة وعلى قمم جبال الألب المغطاة بالثلوج وعلى جُزر ليران. وقفتُ أمام الشمس البرتقالية التي كانت تسود الأفق. كان الجوّ صافياً والمشهد باهراً جداً بقدر ما كان الشعور بالوحدة والقلق ينهشان بطني. كان نهاراً جميلاً للموت. أخرجتُ المسدّس من قرابه. عادت أقوال كريستوف سالفير إلى ذاكرتي: "مسدّس سميث آند ويسون موديل 60 من عيار 38 سبيشل". لدى جميع الناس رأيٌ حول الانتحار. هل هو فعل شجاعة أم فعل جبن؟ لا هذا ولا ذاك بالتأكيد. إنّه مجرد قرار يائس حينما يجد المرءُ نفسه في مأزق. إنّه الملاذ الأخير لخروج المرء من حياته والتخلص ممّا لا يمكن تحمّله. لطالما واجهت، لطالما جابهت. لطالما صارعتُ كلّ شيء، قاهراً قدري وفارضاً حظّي، لكن اليوم، كان الأمر مختلفاً. كان لديّ عدوٌّ لا يمكن مجابهته: أنا ذاتي. العدو النهائي. العدو الأخطر. لم يكن تصرّفي منطقياً في شيء. لم أكن قد خطّطتُ له مسبقاً منذ أشهر عديدة ولكنّه كان يفرض نفسه كردٍّ وحيد على هذه العزلة القاسية التي تلتهمني منذ بضعة أيام وتوْدي بي نحو العدم. فكّرتُ بالصداقة، ولكن لم يكن لديّ أصدقاء قط. فكّرتُ بالعائلة، ولكنني كنتُ قد فقدتُ عائلتي. فكّرتُ في الحبّ، لكنّه كان قد طار. مرّت صورة ابني في ذهني وحاولتُ أن أتعلّق بها ولكن، أحياناً، حتى التفكير بأطفالكم لا يكون كافياً لمقاومة الموت. وضعتُ المعدن البارد للسبطانة على صدغي. لقّمتُ المسدّس ونظرتُ للمرّة الأخيرة إلى الشمس وأخذتُ نفساً أخيراً وضغطتُ على الزناد كنوعٍ من التحرير. الفصل التاسع عشر (4) ضغطتُ على الزناد. ضغطتُ مرّةً واحدة. ضغطتُ مرّتين. ولكنني لم أمت. فحصتُ مخزن الطلقات: كان فارغاً. مستحيل. لقد تحقّقتُ بنفسي من الطلقات الخمس حينما غادرتُ أولني – سو – بوا. عدتُ إلى السيارة وفتحت الصندوق الأمامي للسيارة: لم تكن هناك ذخائر. لم يكن هناك سوى المنديلين الورقيين اللذين أخذتهما آليس من محطّة الخدمة لتمسح بهما يديها. بين بقع حلوى المعكرون بالشوكولا، كانت قد تركت لي كلمة مكتوبةً بسرعة بوساطة قلم لبّادي أزرق اللون. عزيزي السيّد لامبيرور، أخيراً، أريد أن أقول جوناثان. لقد سمحتُ لنفسي أن أسحب الطلقات من مسدسك وأرميها في حاوية القمامة في مرآب محطة الخدمة حينما كنت تشرب قهوتك. لا أعرف لماذا أردتَ أن تحصل على سلاحٍ، ولكنني كنتُ شبه متأكّدة بأنّ هذه فكرةٌ سيئة. كما أنني أعلم بأنّك في هذه الليلة حتى إن كنت على ما لا يُرام، بذلتَ جهداً لكي تُضحكني وتعتني بي. أنا متأسّفة بشأن مشاكلك المالية وبشأن زوجتك. ربّما ستعود الأمور إلى نصابها ذات يوم بينها وبينك. ولكن ربّما أيضاً لم تكن بكلّ بساطة حبّ حياتك. لزمنٍ طويل، لم أكن سعيدة. حينما كنتُ فعلاً حزينة، تعلّقتُ بجملةٍ تُنسَب أحياناً إلى فيكتور هوغو، والتي نسختها على الصفحة الأولى من دفتر يومياتي. كانت تقول: "أجمل سنوات الحياة هي تلك التي لم نعشها بعد". اعتنِ بنفسك، يا جوناثان. آليس. حينما قرأتُ هذه الكلمات، استعادت الحياة فجأةً تفوّقها وانهمرت دموعي، وحيداً، مثل مغفَلٍ، في سيارتي. الفصل العشرون لغز اللحم الحيّ ألمي يأتي من الأكثر بعداً. فلانيري أوكونور سان فرانسيسكو يوم الاثنين مساءً الساعة الثانية فجراً حينما رفع جوناثان السمّاعات عن أذنيه، أدرك أنّ دمعةً تسيل على خدّه. كان ذلك الغوص حتى درجة انقطاع النفس في تعرّجات المرحلة الأكثر حلكةً في حياته صعباً للغاية. هل حقّاً آليس كوالسكي هذه التي كان قد اعترض طريقها هي نفسها آليس ديكسون، ضحيّة جزّار ليفربول؟ عبثاً حاول التحقّق مراراً وتكراراً من التواريخ، كان هناك أمرٌ ما على غير ما يُرام. تلقّت مادلين قلب آليس الممزّق في الخامس من حزيران \ يونيو 2009. وكان المخبر العلمي، بناءً على المعطيات الوراثية، قد حدّد رسمياً بأن عضلة القلب هذه تعود للفتاة المختفية، بل وأكّد التقرير المخبري نتائجه بعبارة "دون أدنى شكّ محتّمل". والحال أنّ جوناثان كان قد التقى آليس كوالسكي ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأول \ ديسمبر 2009. أي بعد تلقّي مادلين للقلب الممزّق بأكثر من ستّة أشهر! نزع سدادة قارورة الفودكا وسكب لنفسه كأساً منشطاً من الشراب. كان لا يزال تحت تأثير صدمة اكتشافه، فحاول أن يضبط نفسه وألا يتسرّع، وهو يُراجع ويدقّق منهجياً في كلّ الأفكار التي راودت ذهنه. الفرضية الأولى: ألا تكون هناك أي علاقة بين الفتاتين اللتين تحملان اسم آليس نفسه. وأنّ الأمر برمّته يتعلّق بمحض مصادفة أو توافق: البلوزة القطنية نفسها، شعار فريق كرة القدم نفسه، الشغف بالموسيقى نفسه، الجسد نفسه. هذا أمرٌ يصعب تصوّره، ولكن لمَ لا... احتمالٌ ثان: أن تكون لدى آليس توأمٌ خفيّ. كلا. هذه فكرة حمقاء. لماذا تعيش واحدة منهما وسط عائلة أميركية ثريّة والأخرى في عائلة محلومة في مانشستر؟ ثمّة خيارٌ ثالث. كانت الفتاتان اللتان تحملان اسم آليس هما الشخص نفسه. وفي هذه الحالة، إمّا أنّ المخبر العلمي قد أخطأ في تحليل الحمض النووي لعضلة القلب (وهذا احتمالٌ نادر)، وإمّا أنّ آليس خضعت لعملية زرع قلب (وهو احتمال أكثر جدارة بالتصديق، دون الأخذ بالحسبان بأنّ القلب الذي وصل إلى الشرطة لم يكن قد تمّ استئصاله وفق القواعد الجراحية، وإنّما تمّ تشريحه بالكامل). احتمالٌ أخير: تفسيرٌ خارق للطبيعة، نوعٌ من التقمّص، ولكن من يُصدّق هذا النوع من الحماقات؟ فكّر جوناثان لدقائق إضافية قبل أن يشعر بالوقت المتقدّم في الليل. ذهب إلى غرفته التي من المستحيل أن يجد فيها سبيلاً إلى النوم. منذ اليوم الأوّل، راوده ذاك الشعور المجنون بأنّ حياة مادلين وحياته قد ارتبطتا بخيطٍ غير مرئي. في هذه الليلة، توصّل إلى تحديد الحلقة المفقودة: آليس. مادلين \ آليس ... كان مديناً بتفسيراتٍ للأولى. كان عليه دينٌ للثانية. الفصل الحادي والعشرون الجانب الوحشي الدّوار، هو شيءٌ مختلف عن الخوف من السقوط. إنّه صوت الفراغ الذي ينادينا من الأسفل فيجذبنا ويسحرنا. إنّه الرغبة في السقوط التي نقاومها بينما نكون قد أُصبنا بالذعر. ميلان كونديرا باريس، مونبارناس يوم الثلاثاء 20 كانون الأول \ ديسمبر الساعة السابعة وعشرون دقيقة مساءً أمام مرآة شقّتها، رتّبت مادلين مظهرها المموّه: تبرّج واحتشام، كعبان عاليان لكي تحدّد خطّ سيرها، فستانٌ خفيف أسود اللون من الحرير الناعم والصقيل. كان كلّ شيء يتلاعب على طول الساقين: لم يكن الفستان طويلاً جدّاً ولا قصيراً جدّاً، يصل إلى فوق الركبةِ تماماً. في هذا المساء، اعتبرت نفسها كما لو أنّها في "مهمّة" وكان عليها، بالمقارنة مع النساء الجذّابات اللواتي يقاطرن على سرير جورج، أن تكون مثيرة فيما لو أرادت النجاح في الإيقاع به. ارتدت المعطف المصنوع من الغبردين الذي أهداه رافائيل لها وخرجت من شقّتها وهي تشعر بأنّها مثيرة وخبيثة بما فيه الكفاية لكي تخدع العدوّ. في تلك اللحظة، كانت السيارات تسير متلاصقةً. رغم شدّة البرد، فضّلت المترو على سيارة الأجرة ودلفت إلى جوف محطّة راسباي. مونبارناس، باستور، سيفر – ليكورب ... كان قطار الأنفاق مزدحماً حيث يعود معظم الركّاب من عملهم ويخرج آخرون لتناول العشاء أو يذهبون لمشاهدة العروض السينمائية أو المسرحية أو الموسيقية ولا يزال آخرون يتسوّقون مستلزماتهم لعيد الميلاد. فتحت مادلين حقيبة يدها: كانت الحقيبة تحتوي على مسدّسها من طراز غلوك 17 – وهو سلاح خدمتها الذي لم تعيده أبداً إلى قسم الشرطة – وكذلك كتاب جيبٍ هو عبارة عن رواية الفارس السويدي للروائي ليو بيروتز، وهو الكتاب الذي نصحها به منذ زمن طويل صاحب المكتبة التي كانت تشتري منها كتبها. كامبرون، لا موت – بيكيه ، دوبليكس، بير – هاكيم ... وقفت مادلين مستندة إلى المقعد المتحرّك ونظرت من حولها. بدا لها أن عدداً متناقصاً من الناس يقرأون في وسائط النقل العامّة. كما في كلّ البلدان الأخرى، كان الناس ينقبون في شاشات هواتفهم المحمولة وهم يتحاورون مع الآخرين ويتسلون بالألعاب ويستمعون إلى موسيقاهم. حاولت أن تستغرق في قراءة الرواية، ولكنّها لم تكن قادرة على التركيز فيها. كان هناك الكثير من الناس، والكثير من التدافع والهرج والمرج، وخاصّة، كان هناك عبء الإحساس بالذنب الذي يُثقِل كاهلها. منذ يوم السبت، كانت تكذب على رافائيل. وكانت أكاذيبها تغدو تدريجياً غير بريئة. هذا المساء، جعلته يُصدّق بأنّها ذاهبة إلى مراسم دفن ابنة إحدى صديقاتها. لحسن حظّها، لم يكن رافائيل شكّاكاً ولا ظنوناً، وإلا لما استغرق وقتاً طويلاً حتى يكشفها. باسي، تروكاديرو، بواسيير، كليبر... كما توقّعت وتأمّلت، لم يتأخّر جورج لا توليب في استعادة الصلة معها. لم تمضِ بضع ساعات على "حادثتهما" حتى اتّصل بها في المتجر وعرض عليها تناول الغداء معه. ولكي تُشوّقه، رفضت في البداية عرضه ولكنّه لحسن الحظّ ألحّ عليها فوافقت مادلين هذه المرّة على أن تتناول العشاء معه. كانت تعرف جيّداً الرجال من أمثال جورج. كانت المقالات النفسانية التي تُنشَر في المجلات النسوية تُطلق على هؤلاء الرجال لقب "الفتّانين القهريين" ولكن في الواقع يُطلق عليهم لقب "الشرهين جنسياً" إنّها مسألة مرادفات ليس إلاّ ... نزلت في نهاية الخطّ رقم 6. ما أن خرجت من المترو، حتى أسرها الانبعاث الخلاب للأضواء. على مدى أكثر من كيلومترين، من كونكورد وحتى ساحة إيتوال، كانت المئات من أشجار أجمل جادة في العالم مزينة بشعلات كريستالية مائلة للون الأزرق. لم يكن حتى بوسع الباريسي الأكثر ضجراً أن يبقى لا مبالياً أمام سحر المشهد. شدّت معطفها على نفسها وسلكت جادة هوش وسارت حتى وصلت إلى مطعم رويال مونسو. استقبلها جورج قائلاً: -أنتِ فاتنة. لم يكن يسخر منها. كانت صالة طعام المطعم تُبهِرُ بأعمدتها المتراصفة وأرائكها الجلدية الصوفية اللون وأثاثها المتميّز: كانت مقاعد البار معدنية وطاولة الشراب شفيفة... بينما كانا يجلسان إلى طاولة في ركنٍ منزوٍ من الصالة، سألها: -هل أحببتِ زينة المطعم؟ هزّت مادلين رأسها بالإيجاب. -هذه ديكورات ستارك الخاصّة. هل تعلمين بأنّها كانت "تزيّن" مطعمي أيضاً؟ كلا، لم تكن تعرف ذلك. بدءاً من تلك اللحظة، لم تعد تتكلّم تقريباً، مكتفية بالبقاء جميلة ومبتسمة، متظاهرة بالإعجاب أمام الاحتفال الغرامي لجورج المبتهج كالشامبانزي. كان حديثه متنوّعاً ويتحدّث نيابة عن كليهما. تكلّم عن رحلاته وعن ممارسته للرياضات الصعبة وعن دافيد غيتا وآرمان فان بيورن اللذين كان "يعرفهما شخصياً" وعن الليل الباريسي الذي يعتبره "كئيباً ومشؤوماً ويكاد يكون مميتاً". -إنّها حالةٌ في غاية الخطورة: لم تعد هناك ثقافة "أصيلة" حقيقية في العاصمة. أفضل المشرفين على العروض الموسيقية الراقصة وكذلك أكثر الماركات إبداعاً هاجرت إلى برلين ولندن. إذا أردتِ فعلاً أن تحتفلي بعيد رأس السنة، اليوم، يجب أن تستقلّي طائرة وتسافري! كانت مادلين تصغي بأذنٍ ساهية إلى تلك الأقوال المبرمجة التي تفوّه بها لمئات المرّات. حينما أحضر له النادل طبقاً من البيض البريشت بالإربيان والفطر، وقطعة من لحم العجل بالعصير والجزر... ، كانت مادلين تتساءل عمّا سيتصوّره جوناثان. بعد تناول كلّ لقمة من حلواها – وهو طبق من حلوى الميل – فوي الاستثنائية بالشوكولا والليمون - ، وافقت على أن تذهب لتشرب "آخر كأسٍ" في منزل جورج. جلست على المقعد بجانب جورج في سيارة البورش التي قرّبها حارس مرآب السيارات. قبل أن يُقلِع بالسيارة، انحنى لا توليب نحو مادلين وطبع قبّلةً على فمها. من المؤكّد أنّ هذا الرجل لا يشكّ في أيّ شيء. ابتسمت له وتظاهرت بأنّها قد أحبّته وبادلته قبلته. * في أثناء ذلك، في سان فرانسيسكو... كانت الساعة الجدارية في المطار تشير إلى منتصف الظهيرة. قبّل جوناثان ابنه ووضعه على الأرض. وفي يده بطاقة طائرة، وضع عينه في عين ماركوس. -حسناً، سوف أأتمنُك على شارلي لمدّة يومين. أليساندرا ستبقى في المدينة خلال العطلة ويمكنها أن تأتي لتقدّم لك العون. أمّا بالنسبة إلى المطعم، فقد ألغيتُ كل الحجوزات حتى نهاية الأسبوع. -هل أنت متأكّد من أنّك ستستقلّ هذه الطائرة؟ -نعم أنا متأكّد من ذلك. -لا أدري تماماً ما الذي سوف تفعله في لندن. -في الحقيقة، سوف أذهب إلى مانشستر. يجب أن ألتقي بشخصٍ هناك وأن أتأكّد من تفصيلين أو ثلاثة... -وهذا الأمر لا يحتمل الانتظار والتأجيل؟ -كلا. -ألا تريد أن تشرح لي الموضوع؟ ظلّ جوناثان يراوغ ويتهرّب من الموضوع: -عليّ دينٌ ويجب أن أسدّده، هناك أشباحٌ يجب أن أطردها، هناك مناطق مظلمة يجب أن أنيرها... -هل لهذا الأمر صلة بتلك السيّدة التي تُدعى مادلين غرين؟ -سوف أشرح لك كلّ شيء حينما أرى الموضوع على نحوٍ أوضح. وحتى تحين تلك اللحظة، اعتنِ جيّداً بشارلي. -بكل تأكيد. -أمّا بالنسبة إليك، يجب أن تحتسي ولا قطرة كحول واحدة، ولا تحضر مومسات إلى البيت، ولا تتعاطى المخدّرات والكوكايين فتثير القرف والتقزّز... -أعتقد أنني قد فهمت. -وبالنسبة إليه هو، يجب أن ينظّف أسنانه صباحاً وظهراً ومساءً، وألا يشاهد أفلاماً أو رسومات متحركة عنيفة ولا أن يحضر تلفزيون الواقع، يجب ألا يتناول السكاكر كل خمس دقائق، ويجب أن يتناول على الأقلّ خمسة أطباق من الفاكهة أو الخضار كلّ يوم وأن يرتدي منامته ويذهب إلى سريره في الساعة الثامنة مساءً. -لقد فهمت. -هل كلّ شيء واضح؟ -مثل عصير النقانق. هذا الجواب الذي ردّ به ماركوس جعل شارلي ينفجر ضاحكاً. ضمّهم جوناثان واحداً بعد الآخر للمرّة الأخيرة قبل أن يعبر منطقة الركوب. أقلعت رحلة شركة الطيران البريطانية المتوجّهة نحو لندن من سان فرانسيسكو بعد الساعة الواحدة ظهراً بقليل. وهو ينظر من خلال كوّة الطائرة، شعر جوناثان بانقباضٍ في القلب. هل كانت فكرة حسنة أن يترك بهذه الطريقة ابنه الذي التقاه فيما مضى لوقتٍ قصير خلال عطلة أعياد الميلاد؟ بالتأكيد لم تكن فكرة حسنة. ومع ذلك، جهد لكي يزيح وساوسه جانباً. في الوقت الراهن، لم يعد بوسعه أن يعود أدراجه. كان لا بدّ له أن يفهم، أن يذهب حتى نهاية هذا اللغز، إلى ما وراء الذكريات والأعذار الكاذبة. بعد مادلين، جاء دوره لكي يواجه شبح آليس ديكسون. * باريس دعا جورج مادلين إلى الدخول أوّلاً في مقصورة المصعد الصغير. أغلق باب المصعد وضغط على زرّ الطابق الخامس وألصق لسانه بفم المرأة الشابة. التصقت إحدى يديه بنهديها بينما سعت الأخرى إلى رفع ثوبها. شعرت مادلين بأنّ حلقها قد تعقّد ولكنها نجحت في تحاشي إظهار تقزّزها. كانت هنا في مهمّةٍ. كانت في مهمّة. كانت شقّة جورج المزدوجة تشغل آخر طابقين في العمارة. كانت الشقّة ذات الطابقين منظّمة على هيئة علّية عصرية ذات ديكورٍ متواضع ملوّنٍ بلمسةٍ صناعية. كان سلّمٌ صاعدٌ مصنوعٌ من الفولاذ يوصل بين الطابقين. نزع جورج معطف ضيفته ومن ثمّ لمس قاطعاً زجاجياً أطلق موسيقى مفاجئة: -هل تحبين هذه الموسيقى؟ إنّها موسيقى Progressive Trance مزجها موسيقيٌّ دانماركي هو: كارل كارل، ملك المسرح البرليني. بالنسبة إلي، أنا أعتبره موزارت الجديد. أمّا أنت، فأنت في منتهى البلاهة، فكّرت مادلين بهذا الكلام وهي تقدّم له أجمل وأروع ابتساماتها. الآن ولم يعد هناك غيرهما، بدأت تشعر بانحرافٍ في مزاجها. دقّ قلبها بقوّة في صدرها . شعرت بشيءٍ من الخوف مما سيحدث. كان جزءٌ منها يودّ لو أنّه كان في مكانٍ آخر، مع رافائيل، وسط الراحة الوثيرة لشقّتها. ولكنّ وجهاً آخر من شخصيتها، كيانٌ داخليٌّ آخر كان يشعر بتحريضٍ محموم تحت تأثير الخطر. اقترحت عليه وهي تنتقل إلى خلف البار: -هل أعدُّ لك كوباً من بينك بيوزي كات؟ لدى سماعه كلمة بيوزي، أفرج جورج عن صيحة رضا. وقف خلف غنيمته ووضع يديه على ردفيها قبل أن يرفعهما إلى صدرها. قالت وهي تتحرّر منه بلطف: -انتظر يا عزيزي، سوف أقلب كلّ شيء! التقطت كوبين لخضّ المشروبات وملأتهما بمكعباتٍ من الثلج. أخرج من جيبه قرصين ورديين مزيّنين بنجمةٍ وقال لها: -عندي هديّة لك! أقراص إيكستازي... أخذت أحد القرصين وغمزته بطريقةٍ مثيرة. اقترحت وهي تتظاهر بأنّها قد ازدردت قرص الأمفيتامين المنّبه: -سيكون عليك أن تخفّف الضوء. هذا الأبله سوف يُحبِطُ خطّتي. سارعت إلى سكب كأسين من الفودكا في أكواب الكوكتيل وأكملت عليهما بعصير الليمون الهندي وبقليل من خلاصة عصير الرمان. استغلت لحظة من عدم انتباه جورج لكي تزيّن مشروبه بجرعة كبيرة من مادرة روهايبنول، وهو منوّمٌ قويّ يُستَخدَم في غالب الأحيان من قبل مرتكبي عمليات الاغتصاب. قالت وهي تقدّم له كأسه من بينك بيوزي كات: -في جرعةٍ واحدة! حمداً لله! لم يتمنّع جورج حتى شرب كل ما في كأسه من شراب، ولكن ما أن أنزل كأسه حتى قلب مادلين على مقعدٍ ملبّسٍ بنسيجٍ أسودٍ وقد نُثِرت فوقه مخدّدات صغيرة مقلّمة بالأبيض والأسود. أمسكت يداه برأس المرأة الشابّة موجّهاً فمه نحو فمها لكي يقبّلها قبلةً تصوّرها بالتأكيد شبقيّة. غطّ لسانه في فمها ورفع ثوبها حتى بلغ سروالها الداخلي الصغير ثمّ حلّ أزرار الجزء العلوي منه وهو يداعب نهديها ويمصّ ويعضّ حلمتيها. شعرت مادلين أنّ قفصها الصدري ينطبق وضاق تنفّسها. كان جسد جورج الملتصق بجسدها ثقيلاً ومزعجاً يبعث حرارةً ورائحة مزعجة. أثار لعابه الساخن والمالح لديها الغثيان والاختناق. استحكم بها جورج الهائج وعضّ عنقها متخيّلاً نفسه في هيئة الأسد قبل التهام الغزال. كانت تختنق وفي الوقت ذاته كانت راضية. لم يرغمها أحدٌ على المجيء إلى هذا المكان. لم يرغمها أحد على البقاء في هذا المكان. كان بوسعها أن توقف اللعبة بكلمة بسيطة أو بصرخةٍ منها ولكنّها لم تفعل ذلك. لكي تقاوم الموقف، ركّزت أنظارها على ما كان يحيط بها مركّزة ذهنها على الصخب الذي أحدثته إحدى فردتي حذائها التي سقطت على الأرض وهي تحدّق في السقف المنار بأضواء السيارات المارّة في الشارع. كان وجه صاحب المطعم ملتصقاً بوجهها. ترك الرجل نهديها لكي يبدأ بعضعضة أذنيها. همس لها: -هل تحبّين هذا؟ اكتفت مادلين بالتأوّه وهي تشعر بنعوظة على وركها. بحركةٍ متسلّطة، أمسك جورج بيدها لكي يضعها على عضوه الذكري. أغمضت مادلين عينها وشعرت بما يشبه طعم الدم في فمها. البحث. المعرفة. الإدراك. التحقيق. كانت تلك هي سلسلتها منذ دخولها إلى سلك الشرطة. شرطيةٌ كانت وشرطيةٌ ستبقى. كانت تلك هي طبيعتها الحقيقية. شيءٌ محفورٌ في داخلها على نحوٍ مزمنٍ كما لو أنّه مرضٌ. كانت أصابع جورج تنزل الآن نحو بطنها وهي تتحسّس فخذيها وتكتشف نموّ عانتها. أدارت مادلين رأسها نحو المرآة الكبيرة في الصالون ورأت عينيها اللتين كانتا تلتمعان في العتمة. طعم الدوّار، غموض العنف، ضرورة تجاوز الحدود: هذا الجانب المشوّه الذي كبتته منذ عامين عاد بقوّة إلى ذهنها مثل كيدٍ يرتدّ على صاحبه. طفت الذكريات والأحاسيس القديمة على السطح. كان هناك خطرٌ إضافي؛ ألا وهو الخضوع الذي يمكن لهذه المهنة أن تخلقه. حينما كانت على صلة بجريمة دم، لم يكن هناك ما ينافس ويزاحم أدرينالين عملها. لا العطل ولا الخروج مع الزميلات ولا ممارسة الجنس. كان التحقيق يجلعها مهووسة بشيءٍ وحيد ألا وهو عملها، كان اللغز الذي يكتنف الجريمة التي تحقّق فيها يتناهشها. في ما مضى، حينما كانت منشغلة بقضيّة مهمّة، كانت "تعيش" في المفوضية وتنام في سيارتها المركونة في موقف السيارات أو حتى في حجرات الاحتجاز. هذا المساء، كان الأمر مختلفاً. على الأقلّ، من الناحية الظاهرية. بالتأكيد، لم تكن هناك جريمة قتل، ولكن حاسّة الشم لديها كانت تقول لها أن تستبسل في مهمّتها هذه. كانت فرانسيسكا قد أصبحت الوسواس المتسلّط على فكرها: ما الذي استطاع أن يدفع هذه المرأة إلى أن تخرّب طواعية حياتها الزوجية وتدمّر بيتها؟ من المؤكّد أنّ سلوكاً كهذا كان يخفي أمراً خطيراً للغاية... لمزيدٍ من الوقت، تمهّلت أصابع جورج على تجاويف جسدها وهي تلتفّ حول النسيج المبلّل لسروالها الداخلي قبل أن تفقد تدريجيّاً خفّتها ورشاقتها. حينما شعرت أنّ جسد "عشيقها" ينهار بقوة عليها، حرّرت مادلين نفسها وسحبت نفسها من الأريكة كغريقةٍ كادت تختنق وتصعد إلى سطح الماء. رقد لا توليب على الأريكة مرهقاً تحت تأثير المخدّر. تأكّدت مادلين من أنّ الرجل لا يزال يتنفّس. كانت تتمنى ألا يؤدّي التفاعل بين المنوّم والمشروب إلى مضاعفات خطيرة للغاية. * الساعة الحادية عشرة مساءً كان عليها ألا تضيّع وقتاً وأن تقوم بعملها في الحال ودون إبطاء. باشرت مادلين عملها بطريقة منهجية ومنظّمة. كانت هذه الشقّة تخفي سرّاً وكانت متأكّدة من هذا الأمر. قبل كلّ شيء أوقفت تلك الموسيقى الصاخبة المصمّة للآذان والتي أوقفت شعرها رعباً وأشعلت كلّ الأضواء وبدأت حملتها في البحث والتفتيش. كانت الشقّة ذات الطابقين كبيرة ولكنّها فارغة نسبياً. أو بالأحرى كان كلّ شيء فيها مرتّباً بانتظام وفي مكانه المناسب. كان جورج رجلاّ يدقّق كثيراً في التفاصيل وبكلّ تأكيد يوظّف مدبّرة للمنزل لكي تقوم بتنظيفه وترتيبه والاعتناء به. كانت لديه خزانة تدفع أيّ امرأة حظيّة إلى الانسياق وراء الاستيهام. كان كلّ شيءٍ في المكتبة والأدراج مرتّباً ترتيباً محكماً: مستلزمات ممارسة الرياضة، أجهزة بثّ الموسيقى من أحدث طراز، المئات من الأسطوانات والأقراص المدمجة، وبعض الكتب الجميلة... قلبت مادلين كلّ الألبسة وفتحت كل ما يمكن فتحه وبحثت في كلّ خبايا المكان وزواياه. هذا النوع من "المهارة" لا يزول. لم تكن تعلم حقّاً عن ماذا كانت تبحث ولكنّها كانت تعرف أنّ هناك شيءٌ ما لا بّد من العثور عليه. هل يمكن لذلك الشيء أن يكون مخبّأ وسط الوثائق القديمة الكثيرة التي يحتفظ لا توليب بها في أضابير أو مصنّفات قابلة للطي؟ تحقّقت من أنّ جورج لا يزال غائباً عن الوعي ثمّ أخرجت مسدّسها من طراز غلوك تحسّباً لأن يستيقظ على نحوٍ مفاجئ وجلست في مكتبه لكي تقوم بفحص وتدقيق الوثائق المتوفّرة: كشوفات حسابات مصرفية، إشعارات ضريبية، فواتير تسديد قيمة الكهرباء، سندات أموال منقولة وغير منقولة. استغرقت هذه العملية في "التقصي" أكثر من ساعة كاملة من وقتها ولكنّها لم تفضِ إلى معرفة أيّ شيء لم تكن تعرفه من قبل. كان صاحب المطعم يملك إيرادات أساسية بحكم إدارته واستثماره لمنشأته ولكن بشكلٍ خاص بكونه مديراً لمؤسّسة ديليو. اغتاظت مادلين لكونها قد عادت بخفّي حنين. كان الوقت يمرّ سريعاً. بقي الحاسوب المحمول المصنوع من الألمنيوم والموضوع على الطاولة المنخفضة في الصالون. فتحت المحقّقة الجهاز بحذرٍ. حينما كانت شرطية، كانت لديها القدرة على تحليل محتويات القرص الصلب باستخدام خدمة خاصّة ولكنّ معارفها الخاصّة في مجال المعلوماتية كانت محدودة. ولحسن حظّها، كان الجهاز موصولاً بالأساس الأمر الذي وفّر عليها ضرورة إدخال كلمة مرور لفتح البرنامج. اكتفت بإجراء مناورتين أو ثلاث مناورات أساسية وهي تبحث في ملفات المكتب وتراجع مجموعة الصور – الحافلة بصور الغطس تحت مياه البحر – وتفحص تواريخ المواقع الإلكترونية. استعرضت سريعاً الرسائل الإلكترونية المحفوظة في علبة تلقي الرسائل ولكنّها لم تجد فيها أيّ شيءٍ هامّ. التحقيق هو الإصرار والمثابرة. دون أن تثبط عزيمتها، فتّشت برنامج إرسال البريد الإلكتروني. كان حساب جورج موسوماً بنظام IMAP. كانت مادلين قد قامت بالإجراء نفسه لعنوانها الخاصّ، الأمر الذي أتاح لها أن تفحص رسائلها الإلكترونية على هاتفها المحمول وعلى حاسوبها الشخصي في آنٍ واحد. لم تكن هناك حاجة إلى أن تكون خبيرة في المعلوماتية حتى تعرف بأنّه، في هذه الحالة، تبقى كلّ الرسائل مؤرشفة ومخزّنة على الخادوم، بما فيها تلك الرسائل التي يعتقد المستخدم بأنّها قد أُلغيت من حاسوبه. وبالتالي سوف تقوم مادلين الآن بجولةٍ في الرسائل المخزّنة في الحساب. كانت هناك الآلاف من الرسائل التي تمّ تلقّيها أو إرسالها منذ سنواتٍ عديدة. أدخلت كلمات مفتاحية مختلفة إلى أن نجحت في عزل البريد الذي تبحث عنه. وكان ذلك الدليل على أنّها تسير في الطريق الصحيح: من: فرانسيسكا ديليلو إلى: جورج لا توليب الموضوع: ردّ: التاريخ: 4 حزيران \ يونيو 2010، 19:47 جورج، أتوسّل إليك أن تتخلّى عن مشروعك في الذهاب لمقابلة جوناثان في سان فرانسيسكو. لقد اتّخذنا القرار السليم. لقد فات الأوان على الندم، كنتُ أعتقد بأنّك قد أدركت من خلال قراءة الصحف... انسَ جوناثان وما حدث لنا. دعه يعيد تكوين نفسه. إذا اعترفت له بالحقيقة، سوف تضعنا نحن الثلاثة في وضعٍ مأسوي وسوف تخسر كلّ شيء: عملك، شقّتك، ورفاهيتك. ف كانت الرسالة مفكّكة لا رابط بين مضامينها ولكنّها كانت هامّة. ممّا لا شكَ فيها، كانت هناك أمورٌ ينبغي الكشف عنها من خلال قراءة ما بين السطور. طبعت الرسالة الإلكترونية ولمزيدٍ من الأمان، أرسلت نسخةً من الرسالة إلى عنوانها الخاصّ. * الساعة الواحدة صباحاً رشّت مادلين الماء البارد على وجهه ومن ثمّ صفعته بضع صفعات. فتح جورج عينيه في اللحظة المحدّدة حيث تلقّى صفعةً جديدة ملء وجهه. -ما هذ...؟ كان جالساً، موثوقاً بربطة عنقه إلى كرسيٍّ في الصالون. حاول ان يحرّر نفسه ولكنّ يديه كانتا مقيّدتين خلف ظهره وكان كلّ كعبٍ من كعبيه معقوداً إلى أحد أرجل الكرسي. على بعد عشرة سنتيمترات من وجهه، كانت سبطانة سلاحٍ آلي مصوبّة عليه وتهدّده. كان يأتمر تماماً بأوامر المرأة التي لم يحاذر في اصطحابها إلى بيته والتي حوّلته إلى "قطعة سجق". -أنا ... أنا أستطيع أن أعطيكِ أموالاً. هناك علبة صغيرة في الخزانة تحتوي في الأقلّ على عشرين ألف يورو. أجابت مادلين وهي تلوّح برزم الأوراق النقدية في وجهه: -نعم، لقد سبق لي أن عثرتُ على أموالك. -ولكن ماذا تريدين غير المال؟ -الحقيقة. -الحقيقة عن ماذا؟ -عن هذا. خفض رأسه ليكتشف بريد فرانسيسكا. -مَنْ... مَنْ تكونين بالضبط؟ كنتُ أعتقد أنّك بائعة زهور وأنّكِ... -أنا المرأة التي تمسك بالمسدس الحربي، هذا كلّ ما في الأمر. -لا أعرف ما الذي يهمّكِ في هذه القضية، ولكنني أنصحكِ بأن... -في وضعك هذا، أعتقد أنّ ليس هناك ما تنصحني به. فلنعد إلى هذه الرسالة الإلكترونية: لماذا كنت تريد الذهاب لمقابلة جوناثان لامبيرور في سان فرانسيسكو؟ كان جورج، وهو في غاية القلق، يتصبّب عرقاً مدراراً. ولكي تحثُه على الكلام، صعّدت مادلين من ضغطها بأن ضغطت بسبطانة المسدّس على جبين صاحب المطعم. قال جورج: -جوناثان، إنّه هو الشخص الذي أدين له بكلّ شيء. لقد أخرجني من الورطة وجعلني أتدرّج في العمل. كان شابّاً وممتلئاً بالطاقة والحيوية. في تلك الفترة، كان فعلاً رجلاً استثنائياً: كان رجلاً كريماً، قادراً على أن يخلّصك من عفاريتك ويجعلك تُخرِج أفضل ما في داخلك... -ولكي تشكره على ذلك وتردّ له الجميل، سرقت منه زوجته؟ دافع عن نفسه بينما كانت اختلاجات وخفقاتٌ تتصاعد في صدره: -الأمر ليس هكذا تماماً! وهل تصدّقين أنّ فرانسيسكا قد تقع في غرام رجلٍ مثلي! كانت مجنونة بحبّ زوجها! بحركةٍ من رأسه، مسح جورج العرق الذي كان يسيل على وجهه. تابع كلامه: -كانا زوجين غريبين ومتحمّسين: كلٌّ منهما معجبٌ بالآخر. كلٌّ منهما يريد إدهاش الآخر. تقاسما مهامهما، فقد تكفّل هو بالأفران وبالمقابلات على شاشات التلفزيون، أمّا هي فتلزم الكواليس وتتكفّل بتوسيع المجموعة وتنميتها. كانت فرانسيسكا تحترم زوجها الذي كانت ترغب في جعله يعرف المطبخ في العالم قاطبةً، ولكن... -... ولكن ماذا؟ -برغبتها في أن تكبر بسرعة فائقة، اتّخذت قرارات استراتيجية خاطئة قادت المجموعة إلى حافة الإفلاس. في الوقت الراهن، كانت أسنان جورج تصطكّ. تغطّي هالات سوداء داكنة أسفل عينيه كما لو أنّها سحابةٌ من الدخان الأسود. بالتأكيد لم يكن خليط شراب الإيكستازي والأقراص المنوّمة خليطاً يُنصَح به. -صورك وصور فرانسيسكا هذه التي ظهرت في صحافة الفضائح، كانت إذن عبارة عن شركٍ وفخّ؟ -بالتأكيد! ذات يوم، قبل عامين، اتّصلت بي من جزر الباهاما. كان ذلك خلال عطلة أعياد الميلاد بالضبط. وأنا كنتُ في جزر المالديف مع أحد أصدقائي لممارسة رياضة الغطس. كانت في غاية الذعر وطلبت مني أن آتي لمقابلتها في ناسو قبل الساعة الثالثة عصراً من اليوم التالي. قالت لي بأنّ الأمر ملحٌّ وعاجل. حاولتُ كثيراً أن أعرف المزيد عن الأمر ولكنّها أكّدت لي بأنّه كلّما عرفتُ أقلّ عن الموضوع سيكون من الأفضل لي. -ما الذي دفعك إلى الموافقة على طلبها؟ -كانت فرانسيسكا معلّمتي ولا يمكنني القول بأنّها فعلاً قد تركت لي الخيار. أنا أتذكّر أنّها كانت ورطة كبيرة: كانت رحلات الطيران مليئة؛ وكان عليّ أن أمرّ بلندن كي أصل في الموعد المحدّد. كنتُ أعتقد بأنني سأعرف المزيد من المعلومات ما أن أصل إلى المكان ولكن الأمر لم يكن كذلك. قامت فقط بإخراج هذه الصور الواهية مع مصوّر بابارازي محلّي وعدنا برحلة الطيران نفسها. -وبعد ذلك؟ -عند وصولنا، كان جوناثان في انتظارنا في المطار. لا أعلم مَن الذي أخبره بالأمر، ولكن الأمر سار في غاية السوء. لكمني على وجهي وتشاجر بعنفٍ مع زوجته أمام الجميع. في اليوم التالي، أعلنا طلاقهما وبيع مجموعتهما. -ألم تخبر أبداً صديقك بالحقيقة؟ -كلا. لقد فكّرتُ في ذلك مرّات عديدة. شعرتُ بالندم. كنتُ أعلم بأنّه في حالٍ سيّئة وبأنّه يعيش بائساً في سان فرانسيسكو. تحدّثتُ عن ذلك مع فرانسيسكا وفي كلّ مرّة كانت تثنيني عن فعل ذلك، لا سيما وأنّ ... -... لا سيما وأنّ مؤسستها كانت تدفع لك بسخاء لكي تلتزم الصمت. دافع جورج عن نفسه: -اسمعي، أنا لم أدّعِ قط بأنني رجلٌ صالح. لم يكن هناك سوى جوناثان مَنْ يعتقد ذلك. -وفرانسيسكا؟ -لا تزال تعيش في نيويورك مع ابنها. منذ وفاة والدها، تهتمّ بشكلٍ رئيس بمؤسستها. -هل لديها رجل في حياتها؟ -لا أدري. تأتي أحياناً بصحبة رجالٍ خلال السهرات الخيرية أو إلى العروض الافتتاحية، ولكن هذا لا يعني أنّها تخرج مع هؤلاء الرجال. حسناً، هل ستحرّرينني، يا للعنة! -اخفض صوتك، من فضلك. إلى ماذا تُلمّح في رسالتها حينما تكتب: "كنتُ أعتقد بأنّك قد أدركت من خلال قراءة الصحف..."؟ -لا أعرف أيّ شيءٍ عن ذلك على الإطلاق! كانت مادلين حذرة ومتيّقظة. عند هذه النقطة، كان هناك كلّ ما يؤكّد بأن جورج يكذب. بعد أن استعاد أنفاسه، بات يهدّد: -أنتِ تدركين جيداً أنّه ما أن تحرّريني، سوف أسارع إلى أقرب مفوضية شرطة و ... -أنا لا أعتقد، كلا. -ولماذا؟ -لأنّ الشرطة هي أنا، أيّها الأحمق! كان عليها أن تهدأ. كانت في وضعٍ محفوفٍ بالخطر. ما هي المرحلة المقبلة؟ أهي وضع سبطانة المسدّس في فمه؟ أم صبّ الماء في مجاريه التنفسية لخنقه؟ أم قطع سلامية من سلاميات إصبعه؟ إنّ رجلاً مثل داني كان ليجعل جورج يتكلّم في أقلّ من خمس دقائق. ولكنّها لم تكن متأكدّة من أنّ داني نفسه كان ليتمنّى أن تنتقل إلى الجهة الأخرى. أمسكت بسكين مطبخ وقطعت أوّل رباطٍ كان يوثِق جورج محرِّرةً بذلك يده اليمنى. قالت وهي تغادر الشقّة: -ستفعل ما تبقّى لوحدك. الفصل الثاني والعشرون شبح مانشستر إنّ سرّاً نحتفظ به هو كإثم لا نعترف به لأحد: ينتشر ويتفسّخ في داخلنا ولا يستطيع أن يتغذّى إلا من أسرارٍ أخرى. خوان مانويل دي برادا يوم الأربعاء في الحادي والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر لندن حطّت رحلة شركة الطيران البريطانية في مطار هيثرو في الساعة السابعة صباحاً وسط الظلام والمطر والضباب. لم يُغظ هذا الطقس "الإنجليزي" جوناثان كثيراً: فهو لم يأتِ إلى هنا لقضاء عطلته. ما أن نزل من الطائرة، حتى صرف بعض الدولارات وذهب إلى مكتب هيرتز لكي يأخذ السيارة التي حجزها في الليلة السابقة عبر شبكة الإنترنت. من لندن، كان يحتاج إلى السير لمدّة أربع ساعات على الطريق السيّار لكي يصل إلى مانشستر. كانت الكيلومترات الأولى من الطريق كابوسيّةً: اعتقد جوناثان بأنّه سوف لن يعتاد أبداً على قيادة السيارة على الجانب الأيسر من الطريق. سرت بعض المشاعر المعادية للبريطانيين في ذهنه (لطالما انتقدنا عجرفة الفرنسيين، ولكن ما رأيكم في شعبٍ يجدّ في رفض اليورو ويستمرّ في قيادة السيارة على الجانب الأيسر من الطريق ويحرّك السبابة والوسطى لرسم إشارة الشرف؟)، ولكنّه رفض هذه التصوّرات العرقية المسبقة. تنفّس وقال في نفسه بأنّه يكفي أن يبقى متنبّهاً وأن يسير بسرعة أخفّ ويركّز ذهنياً. ثمّ وصل إلى مستديرة فكاد أن يخطئ الاتجاه، أراد أن ينير غمّاز الإشارة إلى الاتجاه الذي يوّد أن يسلكه، ولكن بسبب الاتجاه المعاكس للمقابض، أدار ماسحات البلور وكاد أن يصدم سيارته. على الطريق السيّار، سار بحذرٍ وتروٍّ وقد اعتاد تدريجياً على مرّ الطريق على الإشارات. عند محيط مدينة مانشستر أدار خدمة تحديد المواقع GPS وأدخل في جهاز البحث إحداثيات مفوضية شيتام بريدج للشرطة. استسلم للقيادة إلى أن وصل إلى مبنى يميل نحو اللون الرمادي والذي شعر أمامه بنوعٍ من الانفعال والتأثّر. كانت الأماكن كما تصوّرها. هذا هو المكان الذي عملت فيه مادلين، إنّه المكان الذي انتقلت إليه ذات صباحٍ شاحبٍ إيرن ديكسون لتبلّغ عن اختفاء ابنتها... في بهو المدخل، استعلم لكي يعرف إن كان رجل التحرّي جيم فلاهيرتي لا يزال يعمل في هذا المكان. وكما كانت الحالة، سأل إن كان الشرطي يستطيع أن يستقبله. -لدي معطيات جديدة لأخبره بها حول إحدى القضايا التي يحقّق فيها. أغلقت موظفة الاستقبال سمّاعة هاتفها ثمّ دعته لكي يتبعها. اجتازا الصالة الفسيحة المصمّمة في الفضاء المفتوح والتي تذكّر أنه قد شاهدها في صورة عيد ميلاد مادلين. كانت المفوضية غارقة في عملها. خلال كلّ هذه السنوات، لم يكن قد تغيّر أيّ شيءٍ فيها اللهّم إّلا صورة إيريك كانتونا التي اختفت لصالح صورة واين روني. ليس هناك أفضل ممّا قد فعلت، الرجال... أدخلته موظّفة الاستقبال إلى المكتب الذي كان فلاهيرتي يتقاسمه مع نقيبٍ شابّ. -سوف يستقبلك رجل التحرّي القائد. ألقى جوناثان التحية على الشرطي الآخر وتقدّم في الحجرة. كان فلاهيرتي قد استعاد الصورة القديمة للاعب "كانتونا" وألصقها بجانب إعلان حفلة لفرقة كلاش للروك. كانت هذه نقطة جيّدة بالنسبة إليه... كان قد ألصق بالدبابيس العديد من الصور على اللوحة المصنوعة من الفلّين – أعياد ميلاد، احتفالات الإحالة إلى التقاعد، احتفالات متنوّعة ... – والتي تعود كلّها إلى الفترة التي كانت مادلين "لا تزال هنا". أخيراً، في الأعلى إلى اليمين، كانت قد أُلصِقت البطاقة المصفرّة والمهترئة المنشورة آنذاك حول اختفاء آليس ديكسون. لم يكتفِ فلاهيرتي بعدم انتزاعها فحسب، بل وكان قد وضعها إلى جانب صورة شخصية لزميلته السابقة في فريق التحقيق. كان الوضاح بادياً للأنظار: كان للمرأتين نظرة الحزن والكدر نفسها، وكذلك الجمال نفسه وكانتا تعطيان الانطباع بأنّهما كانتا في مكانٍ آخر، في عالمٍ لا يعني أحداً سواهما، في عالمٍ بعيدٍ عن العالم الذي التقطته آلة التصوير. سأله فلاهيرتي وهو يغلق الباب من خلفه: -بماذا يمكنني أن أساعدك؟ ألقى جوناثان عليه التحية. كان للشرطي وجهٌ مليح وشعرٌ أشقر – أصهب، وقوامٌ وبنية ضخمان ووقوران. كان يبدو في الصور "رجلاً وسيماً"، حتى وإن كنا نلاحظ عليه الآن شيئاً من الإهمال. خاصّة بطنه الذي كان يتدلّى من كلّ الجوانب: سوف لن تكون بضعة أسابيع من حمية "ديوكان" بذخاً لكي تعيد إليه قواماً أكثر إغراءً. بدأ جوناثان بالكلام وهو يهمّ بالجلوس: -لدينا إحدى معارفنا المشتركة، يا حضرة النقيب. -مَنْ هي؟ -مادلين غرين. اشتعل وميضٌ خافت في عيني فلاهيرتي. -مادلين... لم تعد تزودني أبداً بأخبارها منذ أن استقالت. كيف حالها؟ -أعتقد أنّها بخير. إنّها تعمل الآن بائعة زهور في باريس. -هذا ما سمعته. تابع جوناثان: -في الحقيقة، أنا لستُ هنا لكي أحدّثك عن مادلين، وإنّما عن آليس ديكسون. ارتبك فلاهيرتي وعبس على نحوٍ تهديدي. في هذه اللحظة، كان التوتّر جليّاً ولم يعد لدى جوناثان أدنى رغبة في أن ينصحه بأن يلتزم بالنظام. -أنت صحفيٌّ لعين تنبش في الغائط، أهذا صحيح؟ -ليس تماماً، أنا شيف. -شيف ماذا؟ --شيف طبّاخ. تفرّسه الشرطي وهدأ بعض الشيء: -في فترةٍ ما، كنت تظهر على التلفزيون، أليس كذلك؟ -نعم، أنا هو. -إذاً ما الذي جئتَ تفعله في مكتبي؟ -لدي معلومة قد تهمّك. نظر الشرطي إلى زميله خفيةً ومن ثمّ ألقى نظرةً على الساعة الجدارية التي كانت تشير إلى الواحدة ظهراً. سأله: -هل تناولت الغداء؟ -ليس بعد. استقللتُ طائرة سان فرانسيسكو ووصلتُ إلى لندن هذا الصباح. -فقط لكي تتحدّث إليّ؟ -نعم، هذا صحيح. -هناك مطعمٌ يرتاده رجال الشرطة يبعد من هنا بشارعين، ما رأيك بطبقٍ من السمك والبطاطا المقلية؟ أجاب جوناثان وهو ينهض لكي يلحق به: -بكل طيبة خاطر. -ولكنني أخبرك من الآن، إنّه ليس مطعم Fat Duck ... * لم يكن الشرطي كاذباً بشأن هذه النقطة. كان المحلّ صاخباً وتفوح منه رائحة القلي والبيرة والتعرّق. ما أن جلس فلاهيرتي حتى دخل في صلب الموضوع: -تبدو ظريفاً، ولكنني أحذّرك في الحال: قضيّة آليس ديكسون أُغِلَقت منذ عامين، مفهوم؟ وبالتالي إذا كنت قادماً لكي تضيّع وقتي بنظريات ملوية أو باكتشافات كاذبة لا معنى لها، سوف أفجّر رأسك في صحنك، هل هذا واضح؟ أجاب جوناثان: -واضحٌ كوضوح الشمس. ربّما لم تكن هذه العبارة هي الأكثر ملاءمةً، فكّر وهو ينظر من خلال الواجهة الزجاجية إلى المطر المدرار الذي تصّبه غيومٌ داكنة وضخمة مثل شلالٍ على المطعم والمشرب. قال جيم وهو يلتهم قطعة كبيرة من السمك المقلي : في هذه الحالة، أنا أُصغي إليك. بدأ جوناثان: -ماذا حلّ بإيرن ديكسون؟ -والدة الصبيّة؟ ماتت السنة الماضية بسبب جرعة مميتة من المخدّرات. لقد أهدرت على المخدّرات الأموال التي أغدقتها عليها كواسر القنوات التلفزيونية. ولا تراهن عليّ لكي أشفق عليها حول مصيرها... -لماذا تمّت تسوية هذه القضية بهذه السرعة الكبيرة؟ -بسرعة كبيرة؟ لقد تلقّينا قلب الصبيّة قبل عامين ونصف، في نهاية ربيع عان 2009، قبل عشرة أيام من توقيف هارالد بيشوب، جزّار ليفربول. حصلنا على دليلٍ على موت آليس واعتقلنا قاتلاً وكبّلناه بالقيود، ألا يكفيك كلّ هذا؟ -لقد قرأتُ أنّ بيشوب قد نسب إلى نفسه بعض جرائم القتل التي لم يرتكبها... -نعم، هذا أمرٌ شائع عند هذا النوع من القتلة الذين يقومون بعمليات القتل الجماعية. كما أننا ما زلنا لا نعلم علم اليقين ما الذي فعله بيشوب. إنّه يتكلّم كثيراً ولكن ليس بالتحديد حول الحالات التي نريد أن نسمعه بشأنها. وحاله حكال الكثيرين من هذا الصنف من المجرمين المتوحشين، هو رجلٌ مراوغٌ تماماً وماهرٌ جدّاً في التخطيط في آنٍ معاً. خلال جلسات التحقيق والاستجواب، كان يتسلّى ويتلهّى مع المحقّقين: يعترف بأمرٍ ما ثمّ يتراجع عن اعترافاته ويتحدّث عن جريمة أخرى. لقد واصلنا تحليل كلّ الجثث التي تمّ العثور عليها في حديقة منزله. لم يتم تحديد الخريطة الجينية لآليس، ولكن هذا لا يعني بأنّه لم يقتلها. تذوّق جوناثان لقمة من السمك المقلي وشعر بالغثيان. شعر بانحرافٍ في مزاجه في هذا المكان الضيّق والحارّ مثل حمّامٍ خانق. حلّ زرّاً من أزرار ياقة قميصه وطلب علبة من المياه الغازية. سأل وهو يفتح سدادة العلبة: -هل لا تزال مغرماً بمادلين غرين؟ نظر إليه فلاهيرتي، مذهولاً، تصاعد عنفٌ خفي في داخله. تابع جوناثان: -هيّا، اعترف بذلك، يا جيم! إنّها فتاةٌ جميلة وذكّية وحيويّة وجريئة، إضافةً إلى ذلك الشقّ الصغير الذي يجعلها أكثر جاذبيّةً. من الصعب ألاّ تُحبّ، أليس كذلك؟ ضرب فلاهيرتي بقبضة يده على الطاولة. -من أين تُخرِجُ هذه ... -يكفي النظر إلى الصور الموجودة في مكتبك. منذ أن غادرت مادلين، كم زاد وزنك. خمسة عشر كيلو غراماً؟ عشرون كيلوغراماً؟ أنت تهمل نفسك. أعتقد أنّ مغادرتها قد أنهكتك وأنّ... قال الشرطي وهو يمسكه من ياقته: -أوقف هذه الحماقات! ولكن ذلك لم يمنع جوناثان من أن يواصل حديثه: -كما أنني أعتقد بأنّك لست مقتنعاً على الإطلاق بأنّ بيشوب هو الذي قتل آليس. لقد احتفظتَ بالإعلان الذي يبلّغ عن اختفائها في مكتبك لأنّك تعتبر أنّ القضية لم تُغلق فعلياً. أنا على يقينٍ بأنّك تفكّر في آليس كلّ يوم، بل وأعتقد أنّك ما زلت تواصل التحقيق من جانبك وأنّك ربّما قد عثرتَ على وقائع جديدة. ليست هناك أدلّة تسمح بإعادة فتح التحقيق في القضية ولكن هناك ما يكفي من العناصر المثيرة لكي تكدّر عليك لياليك... اضطربت نظرة فلاهيرتي. بعد أن أفحمه جوناثان، أرخى عبوسه بعض الشيء. ارتدى جوناثان معطفه ونهض وترك ورقة نقدية من فئة 10 جنيهات على الطاولة. سار لبضع خطوات تحت المطر ثمّ قطع الشارع لكي يحتمي من العاصفة المطرية تحت إفريز مدرسةٍ. ناداه فلاهيرتي وهو يلحق به: -انتظر! لقد قلتَ بأنّ لديك معلومات لتخبرني بها. جلس الرجلان على مقعدٍ خشبيٍّ في منأى عن وابل المطر. كانت أيام عطلة أعياد الميلاد. كانت المدينة المدرسية هادئة وخالية والعاصفة المطرية تضرب بقوّة لا تُصدّق وتصبّ على الحيّ مطراً غزيراً ومدراراً يهدّد بإغراق كلّ شيء. حذّره جوناثان قائلاً: -أنا لستُ بابا نويل. قبل أن أخبرك بما عثرت عليه. أودّ أن أعرف بالضبط إلى أين وصلت تحقيقاتكم. تنهّد جيم ولكنّه وافق على أن يتحدّث عن تطورات التحقيق الذي يقوم به: -أنت محقّ: حتى وان أوقِفَ البحث في القضيّة، فقد واصلتُ خلال أوقات فراغي تفحّص واستكشاف بعض الدروب التي فتحتها مادلين. وعلى نحوٍ خاص دربٌ يتعلّق بمفكّرة الحياة اليومين الخاصّة لآليس والتي لطالما حيّرتنا وأثارت اهتمامنا. -لماذا؟ -لأنّها لم تكن تحتوي إلا على تفاهات، لم يكن فيها أيّ شيء "خاصّ" فعلاً... -هل قمتم بتحليل محتوياتها؟ -نعم، في البداية لجأنا إلى خبير خطوط لدراسة مضمون المفكّرة والذي أكّد صحّة الوثيقة، ومن ثمّ لجأنا إلى أخصّائيّ في الكيمياء. مع أنّه من الصعب جدّاً تحديد تاريخ الوثائق الحديثة، ولكن يمكننا أن نستخلص الكثير من الأشياء من بعض صفحاتها المكتوبة بسرعةٍ. هل كنتَ تعلم على سبيل المثال بأنّ بعض المصنّعين يضمرون في أقلامهم "علامة كيميائية" تَكشف عن السنة التي صُنِعَ فيها الحبر؟ هزّ جوناثان رأسه. تابع جيم حديثه: -يُبلى الحبر منذ اللحظة التي يلاقي فيها الورقة. تتفسّخ مكوّناته إلى مواد أخرى يمكننا تحليلها باستخدام تقنية التحليل الكروماتوغرافي وبفضل الأشعة تحت الحمراء. باختصار، سوف أروي لك التفاصيل. كان تقرير تحليل الخطوط قطعياً: الصفحات مكتوبة بالتأكيد بيد آليس، ولكنّ هذه المفكّرة التي تسرد أحداث تمتدّ على مدى أكثر من سنة كاملة قد كتِبَت دُفعةً واحدة! لم يكن جوناثان متأكّداً من أنّه قد فهم كلّ شيء. أعطى جيم توضيحات أكثر حول اكتشافه: -أنا على قناعة تامّة بأنّ هذه ليست سوى نسخة "منقّحة" قامت آليس بتدبيرها لكي تشوّش على الأدلّة وتزيلها. -أنا أوافقك الرأي في أنّ الأمر محيّر ولكن هذا دليلٌ ضعيف بعض الشيء، أليس كذلك؟ أضاف فلاهيرتي: -هناك أمرٌ آخر. الآلة الموسيقية التي عثرنا عليها في غرفتها. -آلة الكمان خاصّتها؟ -نعم، كانت آليس تتلقّى دروساً منذ ستّ سنوات مع سارة هاريس، وهي عازفة منفردة معروفة جدّاً والتي اختارتها لتعزف بشكل تطوّعي في المدارس. ولأنّها كانت موهوبة، أهدت لها هاريس آلة كمان مصنوعة بحرفية عالية وذات نوعية متميّزة. آلة تقدّر قيمتها بمبلغ يتراوح بين خمسة إلى سبعة آلاف يورو... -ولكنّه لم يكن هو الكمان الذي تمّ العثور عليه في غرفة آليس، أليس كذلك؟ -كلا، لقد عاينت الآلة: إنّها آلة كمان متواضعة للتعليم وهي مصنوعة في الصين ولا تساوي قيمتها كوبيكاً واحداً... هذه المرّة، اضطرّ جوناثان على أن يقرّ بأنّ الواقعة مربكة ومحيّرة. هل يمكن أن تكون آليس قد باعت كمانها قبل أن تختفي؟ في كلّ الأحوال، لم تكن آلة الكمان معها في الصور الملتقَطة من قبل كاميرا المراقبة. اعترف جيم، محبطاً: -عبثاً قلّبتُ هذه العناصر في كلّ الاتجاهات، لا أفهم منطق كلّ هذه القضية. -هلّ تعمّقتم في التحقيق في ما يتعلّق بالقلب؟ -حقاً أنت تعتبرني شرطياً غرّاً! بماذا تفكّر؟ هل تفكّر بعملية زرع؟ -على سبيل المثال... -بالتأكيد تحقّقت من الأمر! لم تكن هذه مسألة معقّدة جدّاً: لا يجري المرءُ عمليةً كهذه في مرآب سيارته والعدد الضئيل للغرزات المتوفّرة يستلزم الشفافية التامّة. لقد قمتُ بإحصاء المراهقات اللواتي تلقّين قلباً جديداً في الأشهر التي تلت اختطاف آليس. لم تكن هناك سوى العشرات من الحالات. تمّ تحديد هويّة كلّ هؤلاء الأشخاص واستجاب الجميع للإجراء الذي اتّبعناه. فتح جوناثان سحّاب حقيبته الظهرية ليخرج منها مغلّفاً بلاستيكياً شفّافاً يحتوي على منديلين ورقيين مخربشين بكتابات وملطّخين بالشوكولا. سأل جيم وهو يحاول أن يقرأ ما هو مكتوب عبر المغلف البلاستيكي الشفّاف: -ما هذا؟ تعرّف إلى خطوط كتابة باتت من الآن فصاعداً مألوفةً لديه. كانت الأسطر الأولى تبدأ بالجمل التالية: عزيزي السيّد لامبيرور، أخيراً، أريد أن أقول جوناثان. لقد سمحتُ لنفسي بأن أسحب الطلقات من مسدسك وأرميها في حاوية القمامة في مرآب محطة الخدمة حينما كنت تشرب قهوتك... -أرسل هذه المناديل إلى مختبركم. حاول أن ترفع البصمات. قال الشرطي بلهجةٍ شاكية: -أخبرني بالمزيد حول الموضوع. -انظر إلى الكتابة على الوجه الآخر للمنديل وسوف تفهم الأمر. قطّب جيم حاجبيه وهو يقلب المغلّف البلاستيكي على الطرف الآخر. كانت كتابة منقوشة بأحرفٍ مزيّنة تظهر وسط كلّ منديل: "محطّات توتال للخدمة تتمنّى لك أن تكون سنة 2010 سنة سعيدة عليك". -هذا مستحيل: في هذا التاريخ، كانت آليس قد ماتت منذ ستّة أشهر! أجاب جوناثان وهو يمدّ نحوه بطاقة الزيارة خاصّته: -اتّصل بي حينما تحصل على النتائج. -انتظر! هل ستعود إلى سان فرانسيسكو؟ ردّ جوناثان كاذباً: -نعم. طائرتي تُقِلع مساءً ولديّ مطعمٌ عليّ أن أديره. نهض وذهب إلى سيارته تحت المطر. أدار محرّك السيّارة وشغّل مماسح البلور وأقلع. كان ذهنه مشغولاً في مكانٍ آخر وأخذ يقلّب المعطيات التي أخبره بها فلاهيرتي على وجوهها. حكاية المفكّرة اليومية الخاصّة هذه، حكاية الكمان... كان غارقاً في أفكاره ولم ينتبه إلى أنّه يسير تلقائياً على الجانب الأيمن للطريق. عائداً إلى الطريق السليم، ظهرت حافلة في وجهه. أطلق جوناثان صرخةً ووجّه السيارة بكلّ قواه ثمّ قوّمها في اندفاعتها. فقد اتّزان السيارة وسحجها وفرّ منها في هلعٍ شديد. ولكنّه ظلّ على قيد الحياة. * باريس، الساعة الرابعة والنصف مساءً صرخ رافائيل: -سوف تذهبين لمقابلة جوليان في لندن! -هكذا، خبط عشواء؟ أجابت مادلين: -هذا الأمر سيريحني. كانا قد تواعدا في مقهى صغير في شارع بيرغوليز في أسفل العمارة التي يقع فيها مكتب رافائيل الهندسي. -ومتى ستسافرين؟ -في بداية الأمسية: قطار يوروستار، رحلة الساعة السادسة وثلاث عشرة دقيقة مساءً. -ولكنّنا على بعد ثلاثة أيام من الاحتفال بعيد الميلاد! حاولت أن تُطمئنه: -لا تقلق بهذا الشأن: سوف أعود في سهرة الرابع والعشرين. -وماذا عن متجركِ؟ أعتقد أنّه لم يسبق قط أن كان لكِ هذا القدر من العمل؟ استشاطت غضباً: -اسمع، لديّ الرغبة في أن أذهب للقاء صديقتي في إنجلترا، هذا كلّ ما في الأمر! لم نعد في أعوام الستينيات من القرن العشرين، ولذلك سوف أستغني عن أخذ الإذن منك. سرعان ما فقدت صبرها، فنهضت وخرجت من المقهى. منذهلاً، سدّد رافائيل الحساب ولحق بها إلى محطّة سيارات الأجرة في جادة غراند – آرميه. أبدى قلقه: -لم أجدكِ قط على هذه الحالة. هل لديكِ ما يشغلكِ؟ -كلاّ، يا عزيزي، لا تبالي بالأمر. أنا فقط أحتاج إلى هذه الإجازة القصيرة، اتفّقنا؟ أبدى موافقته وهو يساعدها في تحميل حقيبتها في الصندوق الخلفي لسيارة الأجرة: -اتّفقنا. هل ستتّصلين بي لدى وصولكِ؟ قالت وهي تعانقه: -بكلّ تأكيد. انحنى على سائق سيارة الأجرة وهو يطلب منه: "محطّة الشمال، من فضلك". أقلعت السيّارة. لوَّحت مادلين بيدها لتودّع رافائيل عبر نافذة السيارة. ردّ عليها المهندس المعماري وهو يرسل لها قبلة الأثير. انتظرت المرأة الشابّة إلى أن وصلت سيارة الأجرة إلى ساحة إيتوال لكي تبلّغ السائق عن وجهتها: -انسَ محطّة الشمال، سوف أذهب إلى رواسي. الموقف رقم 1. قدّمت مادلين جواز سفرها وبطاقة الطائرة لمضيفة شركة الطيران الصينية. في فترة العطل هذه، كانت كلّ رحلات الطيران إلى سان فرانسيسكو محجوزة بالكامل أو باهظة الثمن. لقاء أقلّ من ألف يورو، لم تجد على شبكة الإنترنت إلا هذه الرحلة البسيطة على الشركة الصينية. مغامرةٌ إلى كاليفورنيا سوف ترغمها كذلك على توقّفٍ قصير في بكين! اندلفتُ إلى الممرّ الزجاجي الذي يقود إلى الطائرة. كانت ترتدي بنطال جينز قديم وبلوزة ذات ياقة مدوّرة وكنزة جلدية: جعلتها لعبة مرايا واجهة الرصيف أشبه بشبحٍ لا علاقة كبيرة له بالأنوثة. لم تكن متزيّنة ولا متبرّجة وشبه مهملة لهيئتها. كان زيّها يعكس الفوضى السائدة في ذهنها. حقدت على نفسها لأنّها كذبت على صاحبها. كان رافائيل رجلاً نموذجياً، مسؤولاً وودوداً. يعرف ماضيها ولم يكن يحكم عليها من خلاله. وقد منحها من جديد الإخلاص والثقة. لم يكن لها الحقّ في أن تخدعه بهذه الطريقة. ومع ذلك، لم تتردّد للحظةٍ واحدة في شراء بطاقة طائرة للذهاب إلى الطرف الآخر من العالم بعد ثوانٍ فقط من تلقّيها تلك المكالمة من جيم فلاهيرتي. كان زميلها السابق في فريق التحقيق قد عثر على رقم متجرها واتّصل بها في بداية ما بعد الظهيرة لكي يخبرها بأنّ شخصاً يُدعى جوناثان لامبيرور، وهو رجلٌ يدّعي بأنّه يعرفها، جاء يسأله عن قضية ديكسون. قضية ديكسون ... آليس. لعب هذا الإيحاء الوحيد دور صدمة كهربائية أعطت كلّ معناها لسلوكها خلال الأيام الأخيرة هذه. كانت إشارة من القدر! كان القدر يتلاعب بها منذ البداية حينما بادل بين هاتفها المحمول وهاتف لامبيرور. من خلال تحقيقها حول جورج وفرانسيسكا وجوناثان، عادت نحو آليس! لم يكن أيّ شيء مستبعداً في ذهنها، لم يكن أيّ شيء غامضاً. كانت لا تزال ذكرى المراهقة قويّة جداً. صورةٌ واضحة حاولت عبثاً أن تزيلها عن ذهنها لكي تحمي صحّتها العقلية. جرحٌ في الروح لا يزال طريّاً ولن تستطيع أن نارٍ أن تكويه. لا يتحرّر المرء بهذه السهولة من ماضيه. لا يتخلّص المرء بهذه الطريقة من هذه الرمال المتحرّكة لوساوسه. عادت آليس تبحث عنها. عادت آليس تلاحقها. في المرّة الأخيرة، كان رعب حكاية "القلب" قد جعلها تتخلّى عن متابعة تحقيقاتها. هذه المرّة، كانت مستعدّة لكي تذهب حتى النهاية. دون أن تبالي بالثمن الذي قد يتوجّب عليها دفعه. الفصل الثالث والعشرون المرآة ذات الوجهين لا أدري إلى أين يؤدّي طريقي، ولكنني أسير بشكلٍ أفضل حينما تمسك يدي بيدك. ألفرد دو موسيه يوم الخميس، الثاني وعشرون من كانون الأول \ ديسمبر مطار نيس – كوت دازور الساعة الحادية عشرة وخمس وخمسون دقيقة صباحاً انعكست شمسٌ شتوية ساطعة على إسفلت المدرّج. كان جوناثان قد غادر صباحاً رتابة الجوّ الإنجليزي إلى لطافة مناخ البحر الأبيض المتوسط. ما أن نزل من الطائرة، استقلّ سيارة أجرة للذهاب إلى آنتيب. ولأنّ حركة السير كانت سلسة، تخلّى السائق عن الطريق السيّار لصالح الطريق الإقليمية التي تسير على طول شاطئ البحر. أثناء نزهة الإنجليز، يعتقد المرء نفسه في فصل الربيع أو في كاليفورنيا: كان الرياضيون يمارسون لعبة الجوكينغ والسادة ينزّهون كلابهم في وقت الغداء، والعديد من الموظّفين يتناولون طعامهم الخفيف وهم يتأمّلون في خليج الملائكة الذي يتمدّ أسفل العرائش المظلّلة. خلال عشرين دقيقة، وصلت السيارة إلى آنتيب. عبرت مركز المدينة ووصلت إلى جادّة غاروب. كلّما اقترب جوناثان من هدفه، كلّما شعر بالإثارة تتملّكه.من يقيم في "منزل آليس" اليوم؟ كانت فترة العطلات. هل يمكن أن تكون الفتاة التي التقى بها قبل عامين لا تزال تقضي فيه عيد الميلاد مع والديها؟ حينما وصلا إلى نهاية زقاق سان – سوسي، طلب من السائق: -انتظرني لبضع دقائق. كانت البوابة مغلقة هذه المرّة. اضطرّ لأن يرنّ الجرس مراراً عديدة وأن يتملّق أمام كاميرا المراقبة قبل الموافقة على فتح البوابة. سلك مشياً على الأقدام الممرّ المفروش بالحصى الذي يعبر غابة الصنوبر. كانت روائح الزعتر وإكليل الجبل والخزامى تفوح في الهواء. كانت امرأة في الخمسينيات من عمرها تنتظره على درج مدخل المنزل. كانت تضع وشاحاً على شعرها وفي يدها مضربٌ خشبي وعلى وجهها بعض آثار الأصباغ الملوّنة: بدا واضحاً بأنّه قد أزعجها في خضمّ جلسة تلوين. سألته السيّدة بلهجة نمساوية فظّة جعلتها تشبه رومي شنايدر: -بماذا يمكنني أن أساعدك؟ كانت تُدعى آنا أسكان وكانت تملك هذا المنزل منذ ربيع عام 2001. وهو عقارٌ تقوم بتأجيره لجزءٍ كبيرٍ من السنة، وغالباً تؤجّره أسبوعياً لزبونٍ ثريٍّ روسي أو إنجليزي أو هولندي. لم يُفاجأ جوناثان إلا قليلاً. بهذا تكون آليس قد كذبت عليه: لم يكن "والداها" مالكين لهذا المسكن. ممّا لا شكّ فيه أنّهما قد استأجراه لفترة العطلة الوجيزة. -اعذريني على ازعاجكم، ولكنني أبحث عن عائلة استأجرت منزلكم منذ عامين تماماً. السيد والسيّدة كوالسكي، هل تعرفين شيئاً عن هذه العائلة؟ هزّت آنا آسكان رأسها بالنفي. في معظم الأحيان لم تكن تلتقي مع المستأجرين بنفسها: كان زوجها المغرم بالآليات المنزلية هو الذي يتكفّل بشؤون المنزل بالكامل. كان كلّ شيء يعمل عبر الأرقام السرّية والأشعة الحمراء، من خلال الإدراج في شبكة توجيهية بواسطة برنامج إلكتروني. -لا أعرف ولكن يمكنني التحقّق من الموضوع. أشارت إلى جوناثان أن يلحق بها على الرصيف. رافقته حتى مقصورة دائرية تطلّ على البحر والصخور. كان يوجد بجانب مصطبة وعلى طاولة من خشب الدلب الهندي حاسوبٌ من آخر طراز يبثُ موسيقى هادئة ومريحة للأعصاب. فتحت السيّدة النمساوية طاقة لبرنامج إكسيل والتي تخزّن فيه تواريخ عمليات تأجير المنزل. -السيد والسيّدة كوالسكي، هذا صحيح. إنّهما زوجان أميركيان. استأجرا المنزل لخمسة عشر يوماً بين الحادي والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر 2009 والرابع من كانون الثاني \ يناير من عام 2010. وهذا أمرٌ غريب لأنّهما قدّما تاريخ مغادرتهما: كان المنزل فارغاً مساء الأوّل من كانون الثاني \ يناير. فكّر جوناثان "لقد غادرا بعد عودة آليس ببضع ساعات فقط". -هل لديكِ عنوانهما؟ -قالت بلهجةٍ فيها شيءٌ من الاستهزاء: -كلا، لقد دفعا كامل حسابهما نقداً: تسعة آلاف دولار أرسلاها قبل وصولهما ببضعة أسابيع إلى مكتب زوجي في نيويورك. وهذا ليس أمراً معتاداً ولكنّه حصل مع الزوجين الأميركيين. لديهم "عقيدة الدفع نقداً" هذه. -وماذا عن كفالتهما؟ -لم يطلبا قط سدادها. يا للعنة... -أخيراً، حصلتُ على شيءٍ ما! -مجرّد عنوان على البريد الإلكتروني. كنّا نتواصل معهما عبر هذه الوسيلة. -دون الكثير من الأمل، دوّن جوناثان عنوان البريد الإلكتروني: كان حساباً على خدمة الهوتميل والذي على الأرجح تمّ تسجيله لكي يُستخدَم لمرّة واحدة فقط وسيكون من المستحيل تعقّب أثره. شكر آنا آسكان على تعاونها وطلب من السائق أن يعيده إلى المطار. * الساعة الثانية من بعد الظهيرة توجّه جوناثان إلى مكتب التسجيل في شركة الطيران الفرنسية لكي يشتري بطاقة للرحلة المتوجّهة إلى باريس في الساعة الثالثة من بعد الظهيرة. عبر منطقة الإقلاع وانتظر وهو يقضم شطيرة كلوب – ساندويش في أحد المطاعم البانورامية التي تطلّ على مدارج الطيران. في الأحوال العادية، كان جوناثان يشعر بالضيق في المطارات، ولكنّ مطار نيس كان مختلفاً. كانت قاعة الانتظار الشفيفة على شكل حبّة صنوبر عملاقة من الزجاج على هيئة صحن طائر وتمنح الواجهة الزجاجية إطلالةً مذهلة على غراند بلو "البحر الأبيض المتوسط" وخليج الملائكة والقمم الجبلية الشرقية المغطاة بالثلوج. كان المكان المريح يدعو المرء إلى الحلم. الضوء في كلّ مكان، مثلما هو الحال في عليّة ذات أبعادٍ لا متناهية تحلّق بين السماء والبحر... سحب المطّاط لكي يفتح المفكّرة المغلّفة بالفرو والتي كان قد دوّن عليها مضمون حديثه مع جيم فلاهيرتي. دوّن ما عرفه للتوّ من فم آنا آسكان وهو يدرك تماماً بأنّه لم يحقّق تقدّماً كبيراً. هزّته حكاية آليس ديكسون بدورها بعمق ولكنّه لم يفعل أفضل مما فعله أولئك الذين انشغلوا بالقضية قبله: كلّما حقّق أكثر، كلّما غدا اللغز أكثر تعقيداً وتعدّدت الدروب وتشابكت وتقاطعت. دوّن بعض الملاحظات الإضافية محاولاً أن يوصلها ببعضها من خلال بعض العناصر والمعطيات وهو يستعرض على الورقة كلّ الفرضيات التي مرّت في ذهنه. مستغرقاً في أفكاره، انتظر أن يُذاع اسمه لكي ينهض ويذهب إلى مكتب الصعود إلى الطائرة. مدركاً تماماً بأنّ استنتاجاته تصطدم بحائطٍ مسدود وبأنّه سوف لن يعثر بمفرده على مفتاح اللغز، فرضت بداهةً نفسها عليه: كان عليه الاتصال بمادلين غرين. * مطار سان فرانسيسكو الساعة الثامنة وخمسة وأربعون دقيقة صباحاً بافتخار لا يُخفى، أعلن طيّار شركة الطيران الصينية لركّابه بأنّ الطائرة سوف تحطّ على مدرجها قبل خمس دقائق من الوقت المقدّر لها. لحقت مادلين، وحقيبتها على كتفيها، بحشد المسافرين الذي حضر أمام سلسلة مكاتب الهجرة والجوازات. كانت متغيّرة الأطوار تماماً واستغرقت وقتاً حتى تبيّنت أنّ الساعة لم تكن سوى التاسعة صباحاً. حينما طُلِبَ منها جواز سفرها، أدركت أنّها وسط استعجالها في المغادرة، قد نسيت أن تملأ استمارة نظام السفر الإلكتروني ESTA التي تسمح لها بالدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية! طمأنها الضابط: -لقد كنتِ في نيويورك قبل بضعة أيام. والاستمارة صالحة لمدّة عامين. أطلقت تنهيدة قويّة وتنفّست الصعداء وحاولت أن تهدأ. ولأنّها لم تكن تحمل معها أمتعةً، اتّجهت مباشرةً إلى المنطقة المخصّصة لسيارات الأجرة وأعطت للسائق العنوان الوحيد الذي كان بحوزتها لجوناثان: عنوان مطعمه. كان الجوّ حارّاً ومشمساً ومن الصعب عليها أن تصدّق بأنّها كانت قبل بضع ساعاتٍ فقط في جوّ باريس الماطر والمكفهرّ، بل وفتحت نافذة باب السيارة لكي تتأكّد على نحوٍ أفضل من لطافة المناخ. إنّها كاليفورنيا... لطالما حلمت أن تزور هذا المكان ولكنّها كانت تتصوّر أن ذلك سيكون خلال عطلةٍ، برفقة عشيقٍ لها. لم يكن الأمر كذلك، بل وعلى العكس كذبت على الرجل الذي طلبها حديثاً للزواج. اللعنة... لماذا أفسدُ كلّ شيء؟ كانت قد استغرقت عامين من الزمن لكي تعيد بناء حياة مستقرة وهادئة، ولكنّ هذا الاستقرار الجميل تبعثر كالنثار مع العودة المتستّرة لأشباح الماضي. خلال بضعة أيام، فقدت كلّ معالمها. شعرت بأنّها تائهة وسط مملكة مقلقة لا رجال فيها، مقسّمة بين حياتين لم تعد أيّ منهما حياتها هي. سارت السيارة لما يقارب عشرين دقيقة، وهي تعبر المدينة من الأحياء الجنوبية وصولاً إلى نورث بيش. كانت الساعة تبلغ العاشرة صباحاً حينما أنزلت السيارة مادلين أمام مطعم جوناثان... * في هذا الوقت، في باريس كانت الساعة السادسة مساءً. أقلعت الطائرة من نيس بعد تأخيرٍ عن موعدها: كان إضراب المراقبين الجويّين المفاجئ قد أخّر الطائرة على أرض المطار قرابة ساعةٍ كاملة. ثمّ بعد أن وصلت إلى مطار أورلي اضطرّت لأن تنتظر لما يقارب خمس عشرة دقيقة لكي يتمّ نصب سلّم المسافرين. كان الليل قد حلّ وكان الطقس بارداً والمطر يهطل مدراراً والطريق الدائري مسدوداً؛ وكان سائق السيارة الفظّ يستمع إلى الراديو وقد رفع صوته إلى اقصى درجة دون أن يبالي بزبونه. أهلاً وسهلاً بكم في باريس! (Welcome to Paris!) لم تكن باريس تروق لجوناثان. على العكس من نيويورك أو سان فرانسيسكو أو مدن الجنوب الشرقي، لم تكن العاصمة تلك المدينة التي تروق له. لم يكن يشعر فيها بأنّه في بلده، لم تكن له ذكريات جميلة فيها ولم يرغب قط في أن يربّي ابنه فيها. ما أن انفتح باب أورليانس حتى غدت حركة السير أكثر يسراً. اقترب من مونبارناس. كان قد تحقّق من خلال الهاتف المحمول "خاصّته" من مواعيد فتح متجر مادلين. لم تكن بائعة الزهور تغلق باب متجرها إلا في الساعة الثامنة مساءً. وبالتالي، خلال بضع دقائق، سوف يلتقي بها ويتحدّث إليها. شعر بمزيجٍ من الإثارة والخشية. لم يسبق له قط أن شعر بهذا الإحساس لدى تعرّفه على شخصٍ سوف يقابله لفترةٍ وجيزة. كان يكفي ذلك التبادل بين هاتفيهما لكي يشعر بأنّه مرتبطٌ بها بطريقةٍ قويّةٍ جدّاً. تجاوزت سيارة الأجرة أسد بيلفور في ساحة دانفير – روشيرو، وتابعت سيرها في جادة راسباي ومن ثمّ انعطفت نحو شارع ديلامبر. ها قد وصل، على بُعد بضعة أمتار، لمح الواجهة الخضراء اللوزية للمتجر الذي شاهد صورته على شبكة الإنترنت. كانت شاحنةٌ، متوقّفة أمام مطعمٍ للسوشي، تسدّ الشارع. مستعجلاً للوصول، دفع جوناثان أجرة السيارة وأكمل مشياً بضعة الأمتار المتبقيّة التي تفصله عن المتجر... * سان فرانسيسكو عوضاً عن اللافتة، كان لوح أردواز يتدلّى من باب مطعم فرينش تاتش وقد كُتِبَت عليه العبارة التالية: الزبائن الأعزّاء سوف يُغِلق المطعم أبوابه لغاية 26 كانون الأول \ ديسمبر الجاري نشكر لكم تفهّمكم. لم يُصدق مادلين عينيها: كان جوناثان لامبيرور قد أخذ عطلته القصيرة! ولكنّها لم تقطع اثني عشر ألف كيلومتر في سبيل ... لا شيء؟ يا للعنة! ربّما كان عليها أن تكون أقل اندفاعاً، أن تستعلم قبل أن تقوم برحلةٍ كهذه، ولكنّ جيم فلاهيرتي كان قد أكّد لها أنّ صاحب المطعم قد استقلّ طائرته مساء أمس. عادت وقرأت آخر سطر من الإعلان المكتوب: نشكر لكم تفهّمكم. صرت تحت الأنظار المذهولة لعجوزٍ نحيلةٍ كانت تنزّه كلبها. -تفهّمك! هل تعرف أين يمكن أن تضع تفهّمك؟ * باريس الأصدقاء الأعزّاء، بمناسبة أعياد نهاية السنة، سوف يغلق متجر الحديقة الاستثنائية أبوابه بدءاً من يوم الأربعاء، 21 كانون الأول \ ديسمبر وحتى يوم الاثنين، 26 كانون الأول \ ديسمبر الجاري. أعيادٌ سعيدة للجميع! مادلين غرين + تاكومي فرك جوناثان عينيه غير مصدّقٍ ما رآه: بائعة زهور تغلق متجرها في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد! من الواضح أنّ الفتاة الإنجليزية قد استسلمت لميل الفرنسيين المفرط إلى العطلة! تحوّل انذهاله إلى سخطٍ وغضب. بينما كان يفور غضباً، سمع هاتفه المحمول يرنّ في جيبه. كانت مادلين هي التي تتّصل... * هي: أين أنت؟ هو: هيه! هوه! ألم يعلّموكِ قط أن تلقي التحيّة؟ هي: صباح الخير. أين أنت؟ هو: وأين أنتِ؟ هي: أنا أمام مطعمك، تخيّل! هو: حقّاً؟ هي: أنا في سان فرانسيسكو. قل لي أن تسكن وسوف آتي إليك. هو: ولكنني لستُ في بيتي، بالضبط! هي: ومعنى ذلك... هو: أنا في باريس، أمام متجركِ. هي: .... هو: .... هي: تبّاً لك، ألم يكن بوسعك أن تخبرني بذلك؟ هو: وهل لأنّ هذا خطأي؟ بوسعي أن أردّ عليكِ هذا الثناء، أنا أحذّرك! هي: أنت من بدأت بالبحث والتنقيب في هاتفي! أنت من حشرت نفسك في أمورٍ لا تعنيك! أنت من كشف عن ملفٍّ أفسد حياتي. أنت مَنْ... هو: هذا يكفي! اسمعي، يجب أن نتحدث إلى بعضنا، بهدوء. وجهاً لوجه. هي: على بعد اثني عشر ألف كيلومتر، يبدو لي هذا صعباً! هو: ولهذا السبب سنقوم كلٌّ منّا بخطوةٍ نحو الآخر. هي:...؟ هو: أقترح أن تلتقي في مانهاتن. الوصول إلى هناك يتمّ بسرعة ومع فارق التوقيت، يمكننا أن نكون هناك مساء اليوم. هي: أنت مريض! أوّلاً، الطائرات مليئة وبطاقة ائتماني شبه خالية من الرصيد كما ألفت انتباهك إلى أنّ... هو: هناك رحلة لشركة الخطوط الجوية المتّحدة في الساعة الثانية والنصف من بعد الظهيرة. كنتُ غالباً ما أحجز عليها لكي اذهب وأصطحب شارلي من نيويورك. لدي رزمة من المال وأنا سأقدّم لكِ البطاقة... هي: هل تعلم أين يمكنك أن تثبّت بطاقتك؟ هو: حسناً، من العبث أن تكوني فظّة وتظهري قوّتكِ بالكلام. أرسلي إليّ بدل ذلك رقم جواز سفركِ وتاريخه ومكان صدوره. أحتاج إلى هذه المعلومات لكي أحجز لكِ الرحلة. هي: وكفّ عن التدخّل في حياتي الخاصّة وفي تحقيقاتي! هو: تحقيقاتكِ؟ ألفتِ انتباهكِ إلى أنّكِ لم تعودي شرطية منذ زمنٍ طويل. هي: لا أفهم لماذا تضايقني ولا ما الذي تسعى إلى الحصول عليه. أنت تريد أن تبتزّني، أهذا ما تريده؟ هو: لا تكوني مضحكة، أنا أريد فقط أن أساعدكِ. هي: ابدأ أولاً في مساعدة نفسك. هو: ماذا تقصدين بهذا الكلام؟ هي: أريد أن أقول أنّ حياتك في ورطة حقيقية وأنّ زوجتك السابقة تخفي عنك أموراً. هو: ما الذي يتيح لكِ أن تؤكّدي هذا الأمر؟ هي: أنا أيضاً، قمتُ ببعض تحريّاتي الصغيرة... هو: وهذا سببٌ أضافي لكي نتحدّث مع بعضنا، أليس كذلك؟ هي: ليس لديّ أي شيء لأخبرك به. هو: اسمعي، لدي معلومات جديدة حول آليس ديكسون. هي: أنت أعوه... هو: دعيني فقط أن أشرح ... هي: اغرب عني! * أغلقت سمّاعة الهاتف. حاول أن يعاود الاتصال بها، ولكنّها كانت قد أغلقت هاتفها. يا إلهي! لم تسهّل له المهمّة ... شقّت سلسلة من الومضات الغيوم السوداء ومن ثمّ رعب البرق. ظلّت الأمطار تهطل مدراراً. لم يكن لدى جوناثان مظلّة ولا واقٍ مطري وتشّبع معطفه بالمياه. حاول أن يوقف من بعيد سيارة أجرة، ولكنّه لم يكن في نيويور. سار مغتاظاً حتى موقف محطّة مونبارناس وأخذ مكانه في الطابور. كان الشبح الأسود والوحيد للبرج القبيح يشوّه سماء باريس. ومثل كلّ مرّة يأتي فيها إلى هذا الحيّ، تساءل كيف سُمِحَ ببناء هذا الهيكل الكئيب المتوحش بقدر ما هو قبيح. كان قد صعد لتوّه إلى سيارة الأجرى حينما أعلنت رنّة خفيفة ومرحة عن وصول رسالة قصيرة تردّدت أصداؤها في جيب سترته المبللّة. رسالة قصيرة من مادلين تحتوي على سلسلة من الأعداد والأحرف وكذلك عبارة : "مسلّمة في مانشستر، في التاسع عشر من حزيران \ يونيو 2008". * في مطار شارل ديغول، استقلّ جوناثان رحلة شركة الطيران الفرنسية المغادرة في الساعة التاسعة وعشر دقائق مساءاً. استغرقت الرحلة سبع ساعات وخمس وخمسين دقيقة وحطّت الطائرة في مطار جون كينيدي في نيويورك في الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق مساءً. * غادرت مادلين سان فرانسيسكو في الساعة الثانية والنصف من بعد الظهيرة. وكانت قد تلقّت عبر رسالة إلكترونية البطاقة التي وعدها بها جوناثان. استغرقت المسافة حتى نيويورك خمس ساعات وخمس وعشرين دقيقة. وكانت الساعة قد بلغت العاشرة وخمسين دقيقة حينما حطّت طائرتها في مطار جون كيندي. * نيويورك ما أن نزل جوناثان من الطائرة حتى أخذ يتفحّص على الشاشات مواعيد وصول الرحلات. كانت طائرة مادلين قد حطّت على أرض المطار قبل طائرته بعشر دقائق. ولأنّه لم يكن يعلم أين كانت تنتظره، تردّد في الاتصال بها هاتفياً، ثمّ لمح لافتة مطعم لا بورت دو سييل، وهو المطعم الذي كانا قد اصطدما ببعضهما فيه. ربّما أنّها... اقترب من الكافتيريا ونظر من خلال زجاج الواجهة. كانت مادلين جالسة إلى طاولةٍ أمام فنجانٍ من القهوة وقطعة معجّنات. استغرق دقيقة من الوقت لكي يتعرّف إليها. كانت عارضة الأزياء الأنيقة قد تحوّلت إلى فتاة مدينية عادية. اختفى الماكياج وحلّ زوجٌ من خفاف الكونفيرس محلّ الحذاء الأنيق وأخذت بلوزة جلدية محلّ المعطف الثمين من أزياء برادا العالمية الفاخرة وحلّت حقيبة بحرية مشوّهة مرمية على مقعدٍ محلّ الحقائب الفاخرة من ماركة مونوغرام. كان شعرها المعقود في عفيصة ينساب في خصلات شقراء فيخفي جزئياً ندبةً كما يضفي لمسةً أنثوية على مظهرها الجديد. نقر جوناثان بضربتين خفيفتين ومحتشمتين على الزجاج كما لو أنّه يدقُّ باباً. رفعت بصرها لكي تنظر إليه وأدرك في الحال بأنّ المرأة التي تقف أمامه لم تعد لها أيّ علاقة بالمرأة الشابّة الجميلة والمتأنّقة التي التقى بها يوم السبت المنصرم. كانت ضابطة التحرّي في مانشستر قد طغت على بائعة الزهور الباريسية. قال وهو يقترب من الطاولة: -مساء الخير. كانت عينا مادلين محمرتين من قلّة النوم وتلتمعان من التعب. -صباح الخير، مساء الخير... لم أعد أعرف لا كم هي الساعة ولا في ايّ يومٍ نحن... قال لها وهو يمدّ نحوها هاتفها: -لقد جلبتُ لكِ شيئاً. بدورها، فتّشت في جيبها لكي تُخرج جهاز جوناثان الذي رمته باتجاهه والذي التقطه في الهواء. من الآن فصاعداً، لم يعودا وحيدين. القسم الثالث الواحد للآخر الفصل الرابع والعشرون ما يتركه الموتى للأحياء ما يتركه الموتى للأحياء (...)، هو بالتأكيد حزنٌ لا عزاء له، ولكنّه أيضاً واجبٌ إضافي للحياة، لإتمام ذلك الجزء من الحياة الذي يبدو أنّ الموتى اضطروا لمفارقته ولكنّه يبقى سليماً. فرانسوا شيغ مانشستر مفوضية شرطة شيتام بريدج الساعة الرابعة صباحاً في عتمة مكتبه، زاد جيم فلاهيرتي من استطاعة التدفئة إلى أقصى درجة، ولكنّ جهاز التدفئة المقدمّ مجاناً من قبل الإدارة كان معطّلاً وبات يبعث هواءً بارداً. لا بأس، فهو قد استعاض عن ذلك بوشاحه وسترته الصوفية السميكة والدافئة. كانت المفوضيّة في ليلة عيد الميلاد تلك شبه خالية. كان الليل من جهة التحقيقات والاستجوابات هادئاً: كان البرد الذي يشلُّ شمال غرب إنجلترا صاحب الفضل على الأقلّ في كبح جماح الجرائم والجُنج. أشار رنينٌ حاد إلى وصول رسالة إلكترونية. رفع جيم رأسه نحو شاشة حاسوبه والتمعت عيناه. كان البريد الذي ينتظره: تقرير خبير الخطوط الذي أرسل إليه صورة المنديل الورقي الذي أودعه جوناثان لامبيرور لديه. ليلة أمس، حينما ملأ الاستمارة الرسمية، شاهد طلبه الذي رُفِضَ بذريعة أنّ قضية ديكسون قد أُقِفلَت وأنّ الإدارة لم تعد تملك لا الوقت ولا المال لكي ترصدهما للقضية. فاختار آنذاك أن يسلك طريقاً ملتوية واستدعى إحدى مدربّاته في مدرسة الشرطة: ماري لودج، المسؤولة السابقة لوحدة الكشف "مقارنة الكتابات المخطوطة" في سكوتلاند يارد. وكانت تعمل الآن كمستشارة بأجور باهظة ولكنّها وافقت على أن تسدي له هذه الخدمة مجاناً. قرأ جيم الرسالة وأعاد قراءتها باضطرابٍ وعصبية. كانت خلاصات واستنتاجات التقرير غامضة. هناك احتمالٌ كبير أن تكون الجمل المكتوبة على المنديل الورقي قد كُتِبَت بيد آليس، ولكنّ الكتابة تتغيّر وتتحوّل حينما يتم تكبيرها: كان الخطّ الجديد أكثر "نضجاً" من النماذج المأخوذة من مفكّرة اليوميات الخاصّة، الأمر الذي جعل من الصعب تحديد كاتبه على نحوٍ مؤكّد. تنهّد جيم. هؤلاء الخبراء اللعينون لا يريدون أبداً أن يورطّوا أنفسهم... سُمِع صوتُ ضجيجٍ. دفع أحدهم باب المكتب دون أن يكلّف نفسه عناء طرقه. رفع فلاهيرتي رأسه وغضّن عينيه لكي يتعرّف على زميله تريفور كونراد. قال الشرطي الشابّ وهو يرفع سحّاب بلوزته: -الجوّ باردٌ، هنا! سأل جيم: -هل أنهيت؟ قال كونراد وهو يعيد إليه المغلّف البلاستيكي الذي يحتوي على وثيقة الإثبات، المنديل الورقي الشهير الملطّخ ببقع الشوكولا: -أحذّرك، هذه آخر مرّة تشغّلني فيها طيلة الليل على ملفٍّ تمّ إغلاقه منذ أشهرٍ. رفع هذه البصمات لم يكن أمراً هيّناً، صدّقني... -هل وجدتَ شيئاً يمكن الاستفادة منه؟ -في كلّ الأحوال، لقد عملتُ دون توقّف. لقد حوّلتُ منديلك إلى الخبير. لدي الكثير من الآثار ومن الأجزاء ولكنّ يبقى كلّ هذا أمراً جزئياً. قدّم له الذاكرة المتحرّكة USB وحذّره: -لقد نسختُ لك كلّ البيانات ولكن ثمّة فوضى كبيرة: لا تتوقّع أن تعثر على دليلٍ قاطع. -شكراً، يا تريفور. أبدى المحقّق الشاب تذمّره وهو يخرج من المكتب، قائلاً: -حسناً، أنا أنسحب. بحماقاتك هذه، سوف تعتقد كوني أيضاً بأنّ لدي عشيقة. بعد أن بقي لوحده، أدرج جيم الذاكرة المتحرّكة USB في مأخذ حاسوبه. كان تريفور قد نجح في عزل العشرات من الجزئيات التي بدت اثتنين أو ثلاث منها قابلة للاستخدام. أنزلها جيم على سطح مكتب حاسوبه. كبّر حجم الصور وظلّ لوقتٍ طويل يتأمّل بافتتان تلك الزخارف والخطوط المنسّقة التي ترتسم على جلد أصابعنا وتمنح كلّ واحدٍ منّا فرادته. تعاطى بخشية مع البطاقة الآلية للبصمات. كان يعلم أنّه يغامر بكلّ شيء، ولكنّه في عزلته وسط البرد والعتمة، أراد أن يؤمن بحسن طالعه. قام بمقارنة الصيغ الثلاث مع مئات الآلاف من الصيغ الموجودة في قاعدة البيانات. بدأ الحساب الخوارزمي مسحه بسرعة جنونية. كان القانون في هذا المجال أحد أكثر القوانين صرامةً في العالم: إنّه يفرض الحضور المتزامن لستّ عشرة نقطة من التوافق حتى يمكن التصديق على بصمتين على أنّهما متطابقتان. فجأةً، تجمّدت الشاشة على الوجه الحزين لآليس ديكسون. سرت قشعريرةٌ في جسد جيم: كانت البصمات الموجودة على المنديل الورقي هي بصمات الفتاة المراهقة. جوناثان لامبيرور هذا لم يكن يروي له بدعاً وأكاذيب. في كانون الأول \ ديسمبر 2009، بعد أكثر من ستّة أشهر من اقتلاع قلبها، كانت آليس ديكسون لا تزال على قيد الحياة! شعر بأنّ يديه ترتعشان وأنّ الأولويات تتزاحم في رأسه. سوف يُعيد فتح التحقيق في القضية. سوف يخبر رئيسه ووسائل الإعلام ومادلين بالأمر. هذه المرّة، سوف يعثرون عليها. ليست هناك لحظة واحدة لإضاعتها، سوف... قطع الصوت المخنوق، والمنتشر لإنفجارٍ، صمت الليل. الرصاصة التي أُطِلقَت من قرب، قتلت جيم في الحال. * تسلّل الظلّ عبر النافذة. واصل القاتل، الذي كان يرتدي من رأسه وحتى أخمص قدميه بزّة سوداء، المهمّة التي استؤجِر من أجلها. وضع السلاح الآلي في يدِ جيم ليوهم بأنّه قد انتحر ومن ثمّ، وكما طُلِبَ منه، أخذ الكيس الذي يحتوي على المنديل الورقي وكذلك الذاكرة المتحرّكة USB. ثمّ أوصل قرصاً صلباً صغيراً بحاسوب الشرطي القتيل واستخدمه كي يُرسل إلى الحاسوب فيروس "تشيرنوبل 2012": وهو فيروس خبيث صاعق سوف يقوم خلال وقتٍ قياسي بإتلاف برامج الجهاز وبمسح محتويات قرصه الصلب ويمنع الجهاز المعطوب من التشغيل. استغرقت العملية أقلّ من ثلاثين ثانية. والآن، عليه أن يفرّ ويتوارى عن الأنظار، كان ما ينوف على ثلاثة أرباع المفوضية فارغاً وقد يدخل شخصٌ ما في أيّ لحظة إلى المكتب. كانت فاعلية كاتم الصوت المركّب على مسدّس بريتا نسبية. لقد خفّف وطمس شدّة الانفجار ولكن من دون أن يكتمه إلى حدّ الأزير الخافت الذي نسمعه في أفلام السينما. التقط الشبح سريعاً عدّته. في اللحظة التي كان يتهيّأ فيها للخروج عبر النافذة، سمع هاتف جيم يرتجّ على المكتب. لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة على الهاتف الحديث: ظهر اسمٌ على الشاشة. مادلين الفصل الخامس والعشرون المدينة التي لا تنام الرجال يتحدّثون إلى النساء لكي يستطعيوا النوم معهنّ؛ النساء ينمن مع الرجال لكي يستطعن الحديث معهم جاي ماك إينيرني في الأثناء، في نيويورك... بينما كانت سيارة الأجرة تركن أمام مطعمٍ صغير في غرينتش فيليج، أغلقت مادلين سماعة الهاتف وأكّدت: -لا شيء يمكن فعله: جيم لا يردّ على الهاتف. فتح لها جوناثان باب السيارة. -لا غرابة في الأمر، فالساعة الآن تبلغ الخامسة صباحاً في مانشستر! لا يزال صديقك جيم في السرير، هذا كلّ ما في الأمر... لحقت المحقّقة بالرجل الفرنسي إلى داخل المطعم والمشرب الصغير. منذ لحظة وصولهما، تعرّف صاحب المحلّ على الشيف السابق: -جوناثان! هذا شرفٌ كبير لنا أن تكون هنا، أتعرف ذلك؟ -يسعدني أن أراك مجدداً، ألبيرتو. أجلسهما صاحب المطعم إلى طاولة صغيرة بالقرب من النافذة. قال وهو يتوارى عن أنظارهما: -سأجلب لكما طبقين خاصّين. اتّصلت مادلين من جديد برقم فلاهيرتي، ولكن أيضاً دون أن يحالفها النجاح كما في المرّة السابقة. كان هناك خللٌ ما... -جيم يعمل بلا هوادة. بعد أن علم بما أخبرته، لا بدّ أنّه يمارس كلّ تأثيره لكي يعمل على تسريع تدخّل العامل العلمي. وفي الوقت الحالي، لا بدّ أنّه قد حصل على أولى نتائج محاولاته. -يفصلنا يومان فقط عن عيد الميلاد: الخدمات تسير ببطء. سوف تعاودين الاتصال به غداً صباحاً. وافقته مادلين الرأي: -امممم. في الواقع، في أيّ مكانٍ نويتَ أن تجعلني أنام؟ لأني أخبرك منذ الآن، أنا منهكة و ... -لا تبالي بالأمر: سوف نذهب إلى بيت كلير. -كلير ليزيو؟ مساعدتك السابقة في لامبراتور؟ -نعم، لديها شقّة ليست بعيدة من هنا. لقد اتّصلتُ بها لكي أطلب منها استضافتنا. وقد كانت مصادفة حسنة: هي ليست في نيويورك خلال عيد الميلاد. -أين تعمل، الآن؟ -في هونغ كونغ، في أحد مطاعم جويل روبيشون. عطست مادلين. قدّم لها جوناثان منديلاً ورقياً. قد تكون آليس على قيد الحياة... فكّرت وعيناها تلتمعان. مضطربة بسبب اكتشافات جوناثان، سعت إلى إسكات صوتها الداخلي، وأرغمت نفسها على كبح انفعالها وظلّت ترفض أن تتأجّجذ حماذسة قبل أن تتلقّى أدلّة ملموسة. صرخ ألبيرتو وهو يجلب الطلب الخاصّ بمطعمه: -حاذروا، حاذروا! كان الطبق مكوّناً من قطعتي همبرغر ينزّان دماً وسط الخبز اليابس المزّين ببصلاتٍ ناعمة ومخلّلات وبطاطا مقلية. كان مطعم ألبيرتوس، الواقع في شمال غرينتش فليج، في زاوية ساحة الجامعة والشارع الرابع عشر، أحد آخر المطاعم التي تقدّم وجبات عشاء أصيلة في منهاتن. كان المطعم الشبيه بعربة قطار معدنية، والذي يظل مفتوحاً ليلاً ونهاراً على مدار أربع وعشرين ساعة، يجذب في جوٍّ تقليدي، حشداً متواصلاً من عشاق السهر والاحتفال في أوقاتٍ متأخّرة من الليل الذين يأتون لكي يستمتعوا بالعجّة والهوت دوغ والشطائر والفطائر. وضع الشيف الإيطالي – الأميركي خفّاقة مشروب أمام كل طبق. -هذا المساء، أنتما ضيفيّ، كلا، يا جوناثان، لا تعارضني، من فضلك! بالتأكيد ستكون هذه آخر مرّة، من جهة أخرى... -لماذا إذن؟ قال ألبيرتو وهو يشير إلى إعلانٍ معلّق: -أنا أيضاً، لقد أهلكوني! كان الإعلان يقول بأنّه بسبب الزيادة المفرطة في قيمة الإيجار، يعيش المحلّ آخر أيامه وبأنّه سوف يُغلق أبوابه في الربيع. علّق جوناثان مبدياً تعاطفه: -أنا آسف. -لا تبالي! سوف أفتتح محلّاً ما في مكانٍ آخر. قال ألبيرتو ذلك وقد استعاد مزاجه البشوش قبل أن يتوارى عن الأنظار في المطبخ. ما أن غادر الطاولة حتى انقضّت مادلين على شطيرتها. اعترفت وهي تتناول لقمة من طبقها الخاصّ: -أتضور جوعاً. ولأنّ جوناثان كان هو الآخر جائعاً جداً، لم يتوان عن أن يحذو حذوها. تناولا وجبتيهما بتلذّذ وقد استسلما لسحر وجاذبية المطعم. كان مكاناً خارج الزمن يمزج بمرحٍ عناصر الديكور الفني وقطعاً لامعة من الكروم ومفروشات من الفورميكا. على الجدار، خلف طاولة الشراب، كانت هناك سلسلة من الصور المهداة من قبل شخصيات شهيرة – من وودي آلن وحتى عمدة نيويورك – والتي حلّت في المطعم لتناول طبقٍ من المعجنات أو من آرانسيني. في آخر الصالة، كان جهاز بثّ الأغاني juck – box يبثّ أغنية Famous Blue Raincoat وهي إحدى أجمل أغاني ليونارد كوهين، على الرغم من سوداويتها وكلماتها المبهمة. نظر جوناثان بطرف عينه إلى الفتاة الإنجليزية وهي تلتهم شطيرة الهمبرغر خاصّتها. -هذا أمرٌ غريب، في المرّة الأولى التي رأيتكِ فيها، كنتُ لأقسم اليمين بأنّك من صنف النباتيين وأنّك تكتفين بورقتي خسّ في اليوم. ابتسمت: -لا تنخدع بالمظاهر... كانت الساعة قد تجاوزت الآن العاشرة صباحاً. جلس احدهما قبالة الآخر على مقعدٍ من الفر واستمتعا بتلك اللحظة من الاستراحة. رغم التعب، كان كلُّ منهما يشعر بأنّه قد خرج من حالة سباتٍ شتوي. منذ بضع ساعات، كان أدرينالين جديد يضخّ الدم بسرعةٍ أكبر في شرايينهما. تخلّى جوناثان عن الاسترخاء والبرودة اللذين استسلم لهما منذ عامين. أمّا بالنسبة إلى مادلين، فقد كفّت عن التصديق بأنّ حياتها القصيرة قد تحميها باستمرار من عفاريتها. كانت تلك اللحظة التي تقاسماها، غير الحقيقية إلى حدّ ما، بمثابة "عين الإعصار" خاصّتهما: الهدوء الكبير الذي يسبق عودة العاصفة التي لا يمكنها أن تكون إلا أكثر عنفاً ودماراً. لم يكونا نادمين على خيارهما، ولكنّهما كانا يعلمان أيضاً بأنّ باب المجهول ينفتح أمامهما: الفراغ، إشارات الاستفهام، الخوف... ما الذي سيحدث غداً؟ إلى أين سيقودهما تحقيقهما؟ هل سيجيدان المواجهة أم أنّهما سيخرجان من هذه المغامرة وهما أكثر تشوّهاً؟ رنّ هاتفٌ محمول على الطاولة. أخفضا نظريهما في اللحظة نفسها. كانا قد وضعا تلقائياً هاتفيهما جنباً إلى جنب. كان جهاز جوناثان هو الذي يرنّ ولكنّ اسم "رافائيل" هو الذي ظهر على شاشة الهاتف. قال وهو يمدّ الجهاز نحوها: -أعتقد أنّ المكالمة لك. لقد تجرَأتِ بإعادته إلى مفكّرته! -أنا آسفة. لقد طلب منّي رقمك. هو لا يعلم بأنني استعدتُ هاتفي. ظلّ الرنين متواصلاً. -ألن تردّي على المكالمة؟ -كلا، لا أملك الجرأة على ذلك. -اسمعي، هذه الأمور لا تخصّني ولا أدري عنها بالضبط ما الذي قلتِ له حينما غادرتِ، ولكنني أعتقد بأنّه عليكِ ألا تتركي صديقكِ من دون أخبارٍ عنكِ... -أنت محقّ في ذلك: هذه الأمور لا تعنيك. توقّف الهاتف المحمول عن الارتجاج. نظر جوناثان إلى المرأة الشابّة نظرةً فيها شيءٌ من العتب. -هل هو على علمٍ بأنّكِ هنا؟ هزّت كتفيها نافية ذلك: -هو يعتقد بأنّني في لندن. -عند صديقتكِ جوليان، أليس كذلك؟ هزّت رأسها بالإيجاب. خمّن جوناثان قائلاً: لا بدّ أنّه قد نجح في الاتصال بها. هو يعلم أنّكِ لستِ معها. -سوف أتّصل به غداً. -غداً؟ ولكنّه قد يهلك قلقاً حتى الغد! سوف يتّصل بالمطارات ومفوضيات الشرطة والفنادق... -كفّ عن أفلامك السينمائية! لماذا لا تقول خطّة "إنذار بالخطف" طالما أنّك قد فهمت؟ -أليس لديكِ قلب؟ ألا تشعرين بالشفقة على هذا الرجل المسكين الذي لا بدّ أنّه يشعر بقلقٍ شديدٍ عليكِ؟ -أنت تزعجني! ثمّ انّ رافائيل ليس رجلاً مسكيناً! -حقّاً أنتنّ النساء جميعاً تشبهن بعضكنّ! -إذا كانت لديك مشكلة مع النساء فهذا لا يعني أنّه عليّ أن أدفع ثمن ذلك! -إذا كنتِ لستِ مرتاحة معه، قولي له الحقيقة! -وما هي الحقيقة؟ -حقيقة أنّكِ لم تعودي تحبّينه. حقيقة أنّه لم يكن سوى دولاب التبديل في حياتكِ، العُكاز الذي... رفعت يدها لكي تصفعه ولكنّه أمسك بذراعها متجنّباً الصفعة المحكمة. -أنصحكِ حقّاً أن تهدئي. نهض، ارتدى معطفه، أمسك بهاتفه المحمول وخرج لكي يدخّن سيجارةً على الرصيف. * كان ضوء نيون لافتة المحلّ يلتمع وسط الليل. كان البرد شديداً للغاية وزادته شدّة العواصف الثلجية. ضمّ جوناثان يديه لكي يحمي من الريح شعلة قدّاحته، ولكن العاصفة كانت قويّة جدّاً بحيث اضطرّ لأن يقدحها لمرّتين قبل أن ينجح في إشعال سيجارته. * ظلّ الغضب مستبدّاً بمادلين، فغادرت مكانها وشقّت طريقها إلى أن بلغت طاولة المشروبات لكي تطلب قدحاً مضاعفاً من الويسكي أضافت إليه عصير الأناناس. في جهاز بثّ الموسيقى الذي يعمل بإدخال قطع نقدية juke – box ، كان الصوت العميق والأجشّ لليونارد كوهين قد ترك مكانه لصوت الغيتار الإيقاعي ولأغاني فرقة البيتلز. كان جورج هاريسون يغنّي I Need You. أغنية شائعة جدّاً في "أعوام الستينيات من القرن العشرين"، خفيفة وساذجة والتي كتبها "بيتلز الثالث" لباتي بويد، في فترة حبّهما، قبل أن تتركه من أجل إيريك كلابتون. عادت مادلين وهي تمسك بكأس الكوكتيل بين يديها إلى طاولتها. نظرت عبر زجاج الواجهة إلى ذاك الرجل الغريب الذي لم تتعرّف إليه إلا منذ أسبوع ولكنّه، خلال الأيام الأخيرة هذه، شغل الجزء الأساسي من أفكارها إلى درجة استحواذه عليها. متدثّراً بمعطفه، كان يراقب السماء. منحه الضوء الأبيض لمصباح العمود هيئة مضيئة، طفولية على نحوٍ غامض وكئيب. كان فيه شيءٌ ما مؤثّر وجذّاب. سحرٌ بسيط، وجهٌ يوحي بالثقة. يوحي بشيءٍ من الصدق والصفاء وحسن الطالع. بدوره، نظر إليها وهنا تغيّر شيءٌ ما. ارتعشت وشعرت بأنّ معدتها تُعتَصَر بشدّة. كلّما عانت من ذلك الشعور غير المنتَظَر، تسارعت دقّات قبلها وارتجفت ساقاها وشعرت كأنّ فراشاتٍ تطير في بطنها. باغتها تأثير المفاجأة. تساءلت، مهزوزة تماماً، من أين يأتيها هذا الانفعال الذي سرعان ما يلغي معالمها. لم تعد تسيطر على أيّ شيء. مضطربة، غير قادرة على المقاومة، لم تعد تستطيع أن ترفع نظرها عن نظره. بدا الآن وجهه مألوفاً بالنسبة إليها وكأنّها تعرفه منذ زمنٍ طويل. * أخذ جوناثان نفثةً من سيجارته ثمّ أطلق عموداً من الدخان الأزرق المجمّد بفعل البرد والذي استغرق وقتاً طويلاً جدّاً قبل أن يتبدّد. حينما شعر بأنّ نظرة مادلين مركّزة عليه في الجانب الآخر من الواجهة الزجاجية، أدار رأسه وللمرّة الأولى التقت نظرتهما على نحوٍ حقيقي. هذه المرأة... كان يعلم بأنّ شخصية حسّاسة ومعقّدة تختفي خلف هيكلها الصلب والبارد. وكان الفضل يعود إليها في أنّه خرج من خموده وفتوره. شعر من جديد بتلك الرابطة المستجدّة التي توحّدهما. شرعا في هذه الأيام الأخيرة في تعليمٍ متبادلٍ متسارع. غذّى كلٌّ منهما الآخر بوسواسٍ وأفشيا أسرارهما الأكثر حميمية وكشفا عيوبهما وضعفهما وعنادهما، وكشفا عن نقاط قوّتهما ونقاط ضعفهما. * خلال بضع ثوانٍ، توحّدا في اتّفاقٍ تامّ. انبهارٌ، ومضةٌ ، لحظةُ حياة. بقياس الطريق والمخاطر التي تحمّلاها في سبيل الوصول إلى الآخر، كانا مرغمين تماماً على أن يكونا ثنائياً: كانا روحين توأمين تعارفا وسارا لكي يبلغا المقصد نفسه. الآن، كان بينهما ما يشبه حتميةً، تحالفاً، خيمياءً، شعوراً بدائياً يعود إلى مخاوف وآمال الطفولة. اليقين المدوّخ في أن يكونا أخيراً أمام الشخص القادر على ملء فراغهما وتهدئة مخاوفهما وشفاء جراح الماضي. * رضخت مادلين واستسلمت لهذا الإحساس الجديد. كان إحساساً باعثاً على الثمالة مثل قفزةٍ في الفراغ، دون مظلّةٍ أو مطّاط. فكّرت من جديد بلقائهما. ما كان لأيّ شيءٍ أن يحدث لولا ذلك الاصطدام في المطار. ما كان لأيّ شيءٍ أن يحدث ما لم يتبادلا هاتفيهما خطأً. لو أنّها قد دخلت إلى تلك الكافتيريا قبل ثلاثين ثانية أو بعد ثلاثين ثانية لما التقيا أبداً. كان ذلك قدراً مكتوباً. قدرٌ عجيب اختار أن يقرّبهما من بعض في لحظةٍ حاسمة. نداء الملاك، كما كانت جدّتها تقول... * استسلم جوناثان، جامداً وسط العتمة، لانجرافٍ مجهول ولحريق يلتهم روابط الماضي لكي يرسم ملامح المستقبل. استغرق السحر أقلّ من دقيقة. فجأةً، انقطع السحر. رنّ هاتفه في جيبه. كان رافائيل هو مَنْ يجرّب حظّه من جديد. اختار جوناثان أن يفتح السماعة. دخل إلى المطعم، وذهب إلى طاولته ومدّ الجهاز نحو مادلين: -المكالمة لكِ. عودةٌ قاسية إلى الواقع. * بعد عشرين دقيقة -لا تتصرّفي كالأطفال! سوف تُصابين بالبرد ببلوزتكِ الصغيرة هذه! ازداد البرد شدّةً. سارت مادلين، وهي ترتدي بلوزة بسيطة وسترةً جلدية قصيرة، خلف جوناثان في الشارع الرابع عشر ولكنّها رفضت بعناد أن ترتدي المعطف الذي عرضه عليها. -ستكونين أٌقلّ تعجرفاً حينما تُصابين غداً بالحمّى وترتفع درجة حرارتكِ إلى 40 درجة... عند زاوية الجادة السادسة، توقّف في أحد متاجر سلسلة ديلي لكي يشتري ماءً وقهوةً وكذلك كيساً ضخماً من القماش مليئاً بقطع صغيرة من الخشب والحطب. -كيف عرفتَ أن في البيت مدفأة حطب؟ -لأنني أعرف هذا البيت، تخيّلي. لقد ساعدتُ كلير في شرائه من خلال تكفّلي بالعربون. -كنتما قريبين جدّاً من بعضكما، أليس كذلك؟ -كانت صديقة رائعة، نعم. حسناً، هل سترتدين هذا المعطف أم لا؟ قالت بافتتان وهي تكتشف الحيّ: -كلا، شكراً لك، فعلاً هذا المكان رائع. في مدينة قيد التغيّر المتواصل، كان حيّ غرينتش فيليج يمثّل نوعاً من نقطة ثابتة محمية من الحداثة والعصرنة. حينما جاءت مادلين إلى مانهاتن برفقة رافائيل، مكثا في ميدتاون وزارا تايمز سكوير والمتاحف والمتاجر من حول الجاد الخامسة عشرة. هنا، اكتشفت مدينة نيويورك متحرّرة من ناطحات سحابها. نيويورك أكثر قابلية للسكن من خلال عماراتها البراونستونز الأنيقة ذات الواجهات القرميدية وسلالم المداخل الحجرية التي تذكّر بالأحياء البرجوازية في لندن القديمة. خاصّة، في مقابل الطرق المستقيمة التي تقسّم ما تبقّى من المدينة إلى مربّعات. كانت تكثر في حيّ فيليج الأزقّة المتعرّجة التي تقتفي أثر الطرق الرعوية القديمة، وهي بقايا آثار العصر الذي لم يكن فيه حيّ غرينتش سوى قصبة ريفية صغيرة. على الرغم من برودة الجوّ والساعة المتأخّرة من الليل، كانت البارات والمطاعم الصغيرة لا تزال تضجّ بالناس. في الممرّات المحاطة بالأشجار، صادفا أناساً يمارسون رياضة الركض الفردي بصحبة كلابهم بينما كان طلبة جامعة نيويورك يحتفلون ببداية عطلة عيد الميلاد وهم يغنّون أغاني كريستميس كارولس تحت أضواء أعمدة النور. قالت: -حقّاً إنّها المدينة التي لا تنام أبداً! -نعم، حول هذه النقطة، الأسطورة لا تكذب... بينما كانا يصلان إلى واشنطن سكوير، انعطف جوناثان نحو شارعٍ ضيّق مبلّط كان مدخله محمياً ببوّابة. شرح جوناثان وهو يدرج الرمز السري لكي يفتح الحاجز: -كانت جادة ماكدوغال تضمّ سابقاً اسطبلات الفيلات التي تحاذي الحديقة. يبدو أنّ هذا كان آخر شارع في منهاتن تتمّ إنارته بمصابيح الغاز. تقدّما في الزقاق الطويل والضيّق لما يقارب مائة متر. كان من الصعب عليهما أن يصدّقا بأنّهما في نيويورك، في بداية القرن الواحد والعشرين، لشدّة ما كان للمكان شيءٌ من السحر والابتعاد عن المعاصرة. توقّفا أمام بيتٍ جميلٍ جدّاً من طابقٍ واحد. اتّبع جوناثان توجيهات كليرن ورفع الكوز الفخّاري الموضوع عند حافة الواجهة والذي كان الحارس قد أخفى تحته جرزة من المفاتيح. فعّل القاطع لكي يوصل الكهرباء والتدفئة ومن ثمّ وضع قطعة خشبٍ صغيرة في المدفأة. تجوّلت مادلين في كلّ غرف البيت. كان قد جرى تجديد البيت بذوقٍ رفيع. كان الأثاث معاصراً ولكنّ جرى الإبقاء على بعض عناصر الأصالة مثل الجدران المبنية من القرميد الأحمر، والعوارض النافرة ونورٍ مبهرٍ يُضفي على المكان جانبه الساحر. نظرت الفتاة الإنجليزية الفضولية إلى الصور المعلّقة على الجدران. كانت كلير ليزيو فتاة جميلة ممشوقة القوام ورياضية. ولذلك شعرت مباشرةً بالغيرةِ منها. -ألا تراه أمراً غريباً أن تكون حاضراً في أكثر من نصف الصور المعروضة في البيت؟ سأل جوناثان وهو يُشعل عودَ ثقاب لكي يُضرم النار في قطعة الخشب الصغيرة: -كيف ذلك؟ -أنتما في كلّ مكان: كلير وجوناثان في الأفران، كلير وجوناثان في متجر فيش ماركت، كلير وجوناثان في متجر دين آند ديلوكا، كلير وجوناثان في سوق الأطعمة الطبيعية، كلير وجوناثان يلتقيان مع هذه الشخصية الشهيرة أو تلك ... -إنّها صديقتي. ومن الطبيعي أن تحتفظ بذكرياتنا. -عدا عن والدها، أنت الرجل الوحيد الموجود في كلّ هذه الصور! -هل أنتِ توبّخينني، هنا؟ -من تكون هذه الفتاة؟ هل هي عشيقتك؟ -كلاّ! كم مرّة ستطرحين عليّ هذا السؤال؟ -ومع ذلك، كانت مغرمة بك، هذا مؤكّد. -لا أعلم شيئاً عن ذلك. -أنا أقول لك ذلك. -وماذا يغيّر هذا في الأمر؟ -بعد انفصالك عن زوجتك، لا بدّ أنّك قد تقرّبت منها. فهي شابّة وجميلة كنجمة ويبدو أنّها ذكيّة... -حسناً، هذا يكفي. -كلا، اشرح لي الأمر. -ليس هناك ما أشرحه لكِ. قالت بلهجةٍ فيها تحدٍّ وهي تنحني نحو الأمام: -هل تريد أن أفعل ذلك بنفسي؟ -كلا، لا ضرورة لذلك. حاول جوناثان أن يتراجع إلى الخلف ولكنّ ظهره كان إلى المدفأة وكانت النار قد بدأت بالاشتعال. -ومع ذلك سأقوم بشرح الأمر! كلير ليزيو رائعة: إنّها فتاة رقيقة ولطيفة وجدّية. وربّما كانت الأمّ المثالية لو أنّك فكّرت في أن تُنجِبَ أطفالاً آخرين. كنتَ معجباً بها وتحترمها كثيراً، ولكن... كيف سأشرح الفكرة؟ ربّما كان سهلاً للغاية ومتناسقاً للغاية... اقتربت مادلين منه أكثر ولم تعد الآن شفتاها تبعدان عن شفتيه سوى لبضعة سنتيمترات. تابعت حديثها قائلةً: -والحال أنّه لم يكن هذا ما تبحث عنه في الحبّ، أليس كذلك؟ أنت بحاجة إلى الشغف والضوضاء والغزو. باختصار، كلير ليست المرأة التي تناسبك... تردّد جوناثان في الإجابة. شعر بأنفاس مادلين تمتزج بأنفاسه. وصلت الإثارة إلى ذروتها: -وأنا؟ هل أنا امرأة مناسبة لك؟ ألصق جسده بجسدها وقبّلها. * لم يكن جوناثان قد مارس الجنس منذ انفصاله عن فرانسيسكا. وبالتالي جرّد برعونة المرأة الشابّة من قميصها وتخلّص من بلوزته. فكّكت له أزرار قميصه وهي تعضعض على عنقه. تحرّر لكي يداعب على نحوٍ أفضل وجهها ويتلذّذ بشفتيها. كانت تعبق برائحة طازجة ومؤثّرة للحمضيات والنعناع والخُزامى. التفّ جسد مادلين الناعم والمشيق الأهيف من حوله وسقط الاثنان على الأريكة. تماوجت أردافهما. امتزج جسداهما ليشكّلا منحوتةً متحرّكة بكلّ ما فيها من منحنيات وتقعّرات ماجت وسط تدرّج ضوء القمر. امتزج شعرهما وروائحهما وجلدهما وشفاهما. حدّق كلٌّ منهما في وجه الآخر واستسلما للذّة اجتاحتهما. في الخارج، كانت الحياة تستمرّ، في المدينة التي لا تنام أبداً. الفصل السادس والعشرون الفتاة ذات العيون الشبيهة بعيون موديغلياني Non sum qualis eram . هوراس في هذه الأثناء، في مدرسة جوليارد سكول، المدرسة الفنية الأكثر سحراً في نيويورك صرخت لوريلي وهي تفتح باب الحمّام وتفعّل هاتفها المحمول تحت أنظار شريكتها في الإيجار: -لقد تلقّيتُ رسالة من لوك! سألت آليس، محنية الرأس فوق المغسلة وفرشاة أسنانها في يدها، بكلامٍ غير مفهوم: -ماذا يريد منك؟ -عفواً؟ تمضمضت الفتاة وقالت بفصاحة: -ماذا يريد منك؟ -إنّه يدعوني إلى العشاء غداً مساءً في مطعم كافية لوكسمبورغ! -محظوظة! ألا تجدين فيه شبهاً من ريان رينولدز؟ قهقهت لوريلي وهي تغلق الباب: -في كلّ الأحوال، لديه مؤخّرة صغيرة جميلة. بعد أن بقيت لوحدها، وقفت آليس أمام المرآة ونظرت إلى نفسها وهي تزيل المساحيق عن وجهها بقطعة قماشٍ قطني. عكست لها المرآة صورة فتاةٍ جميلة في السابعة عشر من عمرها، ذات وجهٍ ناعمٍ محاطٍ بشعرٍ أشقر. كان لها جبينٌ عرييضٌ وصافٍ، وفمٌ كيّس ووجنتان عاليتان. كانت عيناها الزرقاوان المخضرّتان تتعاكسان في لونهما مع بشرتها البيضاء الملساء. هنا، في المدرسة، بسبب بنية جسمها واسمها، كان الجميع يعتقد بأنّ لها أصولاً بولونية. كان اسمها آليس كوالسكي. على الأقلّ، هذا ما كان مكتوباً في بطاقتها الشخصية... أنهت زينتها ثمّ لعبت لثوانٍ إضافية مع صورتها في المرآة، وهي تتلهّى بالتغيير السريع في تعابير وجهها. وتماماً مثلما تفعل خلال التمارين التي تقوم بها خلال دروسها في فنّ الدراما، برطمت وعبست باستياء، وهي تلقي نظرة تارة خجولة وأخرى مثيرة. انضمت إلى لوريلي في الغرفة الواسعة التي كانتا تتقاسمانها. مهتاجةً تماماً بسبب موعدها الغرامي المقبل، وضعت الفتاة المغنية المحترفة الأفرو – أميركية ليدي غاغا بسرعة وراحت تجرّب أمام المرآة المتحركة الأزياء المختلفة: ثوبٌ أسود وسترة قصيرة من الصوف الخشن لكي تمثّل دور غوسيب غيرل، ثوب خمري أشبه بالذي ترتديه الغجريات، بنطال جينز من ماركة كلويه فاقع الألوان على غرار كاميرون دياز... اعترفت آليس وهي تتكوّر تحت الأغطية: -أنا منهكة. -هذا أمرٌ طبيعي. هذا المساء، كنتِ ملكة الحفلة الراقصة! كانت مغنية سوبرانو الحسناء تشير إلى عرض نهاية السنة الذي قدّمته طالبات قسمهنّ: عرضٌ تقديمي لـ West Side Story أخذت فيه آليس دور ماريا. -هل حقّاً، وجدتني أودّي دوري بنجاح؟ -كنتِ لامعة! كنتِ موهوبة في الكوميديا الموسيقية كما في العزف على الكمان. تورّدت خدّا آليس وشكرتها. خلال ما يُقارب ربع ساعة، ثرثرت الفتاتان وهما تعيدان تمثيل فيلم السهرة. أدركت آليس فجأةً: -اللعنة، لقد نسيتُ حقيبتي في مشلح قاعة المحاضرات. -لا مشكلة، سوف تستعيدينها غداً، أليس كذلك؟ -المشكلة هي أنّ أدويتي موجودة فيها. -تلك الأدوية التي تأخذينها لتفادي رفض الطعم ؟ أوضحت وهي تتربّع على سريرها: -خاصّة أقراصي المضادّة لارتفاع الضغط. منحت نفسها، وهي حائرة ومرتبكة، بضع ثوانٍ من التفكير ثمّ قرّرت وهي تقفز على أرضية الغرفة: -أنا ذاهبة إلى هناك! ارتدت سروالاً رياضياً فوق قميص نومها مباشرةً وفتحت خزانة ملابسها لكي تأخذ منها بلوزةً. اختارت فطرياً آخر ما وضعته على كومة الألبسة: سترة قطنية ذات قلنسوة وردية ورمادية مطرّزة بشعار نادي مانشستر يونايتد. الأثر الوحيد المتبقي من حياتها السابقة. انتعلت زوجاً من الأحذية الرياضية النسيجية دون أن تبالي بعقد الأربطة. قالت بحزم: -سوف أستغلّ ذلك لكي اتوقّف عند موزّع المشروبات. أرغب في تناول قطعة أوريو وكوباً من حليب الفراولة. سألت شريكتها في الغرفة: -هل ستشترين لي علبة من أقراص العسل؟ -نعم. إلى اللقاء. * خرجت آليس من الغرفة. في الممرّ، كان الجوّ يبعث على الراحة. عشية ذلك اليوم من العطلة المدرسية، كانت أجواء العيد تخيّم على المدرسة الداخلية وكان السكن الجامعي يضمّ أكثر من ثلاثمائة طالب في الطوابق الاثني عشر الأخيرة من مركز لينكولن سنتر: راقصون وممثلون وموسيقيون مستقبليون من خمسين جنسية مختلفة! مع أنّ الساعة كادت أن تبلغ الثانية فجراً، كان التلاميذ ينتقلون من غرفة إلى أخرى. كثيرون منهم يحضّرون حقائبهم قبل أن يغادروا المدرسة في اليوم التالي لكي يقضوا عيد الميلاد وسط أسرهم. ما أن وصلت إلى البهو، طلبت آليس المصعد. بانتظار وصول المصعد، نظرت من خلال النافذة إلى أضواء العمارات المنعكسة على صفحة النهر. كانت لا تزال في نشوة العرض وخطت خطوة راقصة قصيرة. شعرت أكثر من أيّ وقتٍ مضى بشيءٍ من الامتنان والعرفان بالجميل حيال الحياة. ماذا كان سيحلّ بها لو أنّها قد بقيت في مانشستر؟ هل كانت لا تزال على قيد الحياة الآن؟ على الأرجح كلا. هنا في مانهاتن ترعرعت ورغم عقابيل عملية زرع القلب، كانت تعيش حياة المشاهير. أخذت الفتاة الصغيرة في شيتام بريدج هذا المساء الدور الرئيس في عرضٍ للمدرسة الفنية الأكثر فخامة في نيويورك! عبرتها على نحوٍ مباغت قشعريرةٌ ودسّت يديها في جيبي بلوزتها. أحيت فيها السترة القطنية القديمة الوردية اللون ذكرياتٍ وتدافعت في ذهنها صورةٌ من حياتها القديمة: والدتها، حيّها، مدرستها، البؤس، العمارات البالية، المطر، الوحدة المفزعة والخوف الذي لم يبارحها أبداً. اليوم، كانت غالباً ما تضطرب في نومها ولكنّها لم تكن نادمة على قرارها. وسوف لن تندم عليه أبداً. هنا في مدرسة جوليارد سكول، كان الجميع مغرمين بالفنّ والثقافة. وكان الناسُ منفتحين على الأفكار ومتسامحين ومبتكرين ومثيرين. كانت الحياة سهلة والتجهيزات ملائمة للعمل: كان باستطاعتها، لو أرادت ذلك، أن تعيد تمرين العزف على كمانها في منتصف الليل، في صالات كاتمة للصوت موجودة في كلّ طابقٍ من المبنى. كانت المدرسة مجهّزة بالعديد من قاعات المحاضرات وصالات العرض وعيادة للمعالجة الطبيعية ومركزٍ للتنحيف والرشاقة... حينما وصل المصعد في النهاية، ضغطت آليس على زرّ الطابق الثاني عشر حيث تقع صالة الاستقبال الكبرى. كان ركن الصالون لا يزال يضجّ بالطلبة: كان بعض التلاميذ يشاهدون حفلة موسيقية على شاشة عملاقة وآخرون يلعبون البلياردو بينما يتحلّق بعضهم على طول طاولة بار المطبخ المشترك ويتقاسمون قطعاً من حلوى كابكيك من متاجر ماغنوليا باكيري. قالت مغيظة بعد أن تبيّنت أنّ الموزعات الأوتوماتيكية للمشروبات والمأكولات قد فرغت من كلّ شيء: -لا حظّ لي! سأل أحد الحرّاس الليليين: -ما المشكلة يا آنستي العزيزة؟ -لقد انقطعتُ عن بسكويتاتي المقدّسة! كان المكان محروساً لأربع وعشرين ساعة متواصلة من قبل جهازٍ مهمّ. ففي جوليارد، لم يكن من الممكن التهاون في مسألة الأمن: كانت المدرسة تضمّ أطفال دبلوماسيين وأبناء أسرٍ مالكة، بل وابنة رئيسٍ لا يزال يمارس مهامه. قبل أن تعود إلى قمرة المصعد، اشترت آليس مشروبها وعلبة البسكويت من لوريلي. ذهبت هذه المرّة إلى الطوابق السفلية حيث تقع صالات الحفلات الموسيقية. اكتشفت آليس شبحاً غامقاً وضخماً في انتظارها. رجلٌ مقنّع يصوّب مسدساً نحوها. تراجعت إلى الخلف قليلاً وأطلقت صرخةً مخنوقة ولكنّه تقدّم وفتح النار. الفصل السابع والعشرون الأسيرة لا أحد يستطيع أن يلبس القناع إلى الأبد سينيك ضرب سهما المسدّس الليزري آليس في أسفل بطنها وهما يُطلقان شحنات كهربائية تصعقها. انهارت المراهقة في مكانها، وقد انقطعت أنفاسها وشُلّت ساقاها وتوقّف جهازها العصبي. أصبح المهاجم فوقها خلال ثانية. أمسكها من حلقها ودسّ منديلاً بعنف في فمها، قبل أن يكمّمها بقطعةٍ من الشاش. انغلقت أبواب المصعد عليهما. ضغط زرٍّ لكي ينزل إلى قبو المبنى وخلال نزول المصعد ألصق آليس على الأرض. قبل أن تستردّ أنفاسها، بطحها أرضاً على بطنها وربط معصميها وعرقوبيها باستخدام ربطتين لدنتين من النايلون وشدّهما إلى أقصى درجة. وصلا خلال بضع ثوانٍ إلى الكراج السفلي. أمسك الرجل، الذي كان لا يزال يغطّي رأسه بقناعه، بآليس كما لو أنّها حقيبة ورفعها على كتفه. كانت آليس لا تزال مذهولةً تحت تأثير الصدمة، فحاولت برخاوة أن تقاوم ولكنّها كلّما تحرّكت أكثر كلّما كان الرجل يشدّ عليها أكثر. كانت ذراعاه قوّيتان مثل فكّين ثقيلين قادرين على سحق عظامها. كيف استطاع أن يخترق نظاماً أمنياً بهذه الدرجة من الإحكام؟ كيف استطاع أن يعلم بأنّ آليس ستستقلّ المصعد في تلك اللحظة المحدّدة؟ عبر في حلكة الظلام مساحة الكراج إلى أن وصلا إلى سيارة بيك – آب نبيذية اللون من طراز دودج. كانت السيارة بواجهتها المتوحّشة وزجاج نوافذها المصبوغ وكرومها الصقيل وعجلاتها الخلفية المزدوجة ذات منظرٍ مرعب. ألقى الرجل آليس في المقعد الخلفي، منفصلةً عن السائق بلوحٍ من الزجاج الواقي كالذي نجده في سيارات الأجرة. جلس خلف المقود وغادر الكراج دون عوائق بفضل بطاقة ممغنطة إلكترونية. حين أصبح في الخارج، نزع الشخص المجهول قناعه الأمر الذي سمح لآليس أن تلمح وجهه في المرآة العاكسة المركزية. كان رجلاً حليق الرأس له عينان زجاجيتان وخدّان ضخمان رخوان ومصابات بعُدّة وردية. لم تكن قد التقط به من قبل قطّ. انخرطت الشاحنة الصغيرة وسط حركة السير لكي تسلك شارع برودواي قبل أن تنعطف نحو جادة كولومبس أفينيو. * ارتجفت ركبتا آليس ودقّ قلبها بسرعة وبدأت تستفيق بصعوبة من حالة الإغماء التخشّبية التي وجدت نفسها غارقةً فيها من جراء الذبذبات الكهربائية للمسدّس الليزري. رغم سيطرة الخوف الشديد عليها، بذلت جهودها لكي تراقب من خلال النافذة المسار الذي يسلكه خاطفها. طالما كانا يظلاّن في الأحياء "السياحية"، كانت تبقي على شيءٍ من الأمل. حاولت أن تنقر بقدميها على زجاج النافذة، ولكن الرباط الذي كان يشدّ عرى عرقوبيها لم يسمح لها بأن تؤتي بأدنى حركة. وهي في حالة الرعب تلك، كادت أن تختنق بتلك الكمامة التي كانت تقطع تنفّسها. قامت بمحاولةٍ لكي تحرّر يديها، لكنّ الحبال البلاستيكية انغرزت على نحوٍ أليم في معصميها. نزلت السيارة الجادة التاسعة إلى أن بلغت الشارع رقم 42. كانا الآن بجانب مطبخ هيلز كيتشن – مطبخ العفريت. حاولت آليس أن تستمع إلى صوت عقلها: حافظي على هدوئكِ! تنفّسي من أنفكِ! حافظي على برودة أعصابكِ! سوف لن تموت. على الأقل، لن تموت في الحال. لو أراد أن يقتلها، لفعل الرجل ذلك من قبل. كما أنّه بالتأكيد سوف لن يغتصبها. لو أنّ شخصاً معتوهاً أراد أن يُشبع نزوةً جنسية بسيطة، لما جازف وعرّض نفسه لكلّ هذه المخاطر من خلال دخوله إلى مبنى مراقب بهذه الدرجة من الشدّة مثل جوليارد. إذاً، من هو هذا الرجل؟ أثار أمرٌ ما انتباهها: كان الرجل قد حرص على ألاّ يُصيبها في صدرها بسلاحه وإنّما آثر أن يستهدف أسفل بطنها. كان يعلم أنّني قد أجريتٌ عملية زرع قلب وأنّ شحنةً كهربائيةً قريبةً جدّاً من القلب قد تقتلني... من دون أن تعرف بعد دوافع خاطفها، أدركت آليس أنّ ماضيها يمسك بها في هذا المساء. قاد الرجل السيارة بحذرٍ وتروٍّ، ملتزماً يمينه، حريصاً على ألا يتجاوز السرعة المسموح بها لكي يتجنّب أي ملاحقة من قبل الشرطة. وصل إلى أقصى غرب المدينة ونزل نحو الجنوب وهو يسلك الطريق المحاذي للنهر. كانا يسيران منذ أقلّ من ربع ساعة حينما دلفت سيارة البيك - آب إلى نفق بروكلين باتيري. إنّه فالٌ سيء، نحن نغادر مانهاتن... كانا قد عبرا نقطة رسم العبور حينما رنّ هاتف الرجل المجهول. فتح السمّاعة بعد أوّل رنّة بفضل سمّاعةٍ موصولة بمكبّر الصوت، الأمر الذي أتاح لآليس أن تلتقط القسم الأكبر من المحادثة. سأل المتّصل: -كيف تسير الأمور، يا يوري؟ ردّ الرجل المجهول بلكنة روسية واضحة: -أنا في الطريق. لقد سار كلّ شيء كما جرى التخطيط له. -ألم تؤذها كثيراً؟ -لقد اتبّعتُ التعليمات. -حسناً. هل تعرف ما الذي تبقّى عليك القيام به؟ ردّ الرجل الروسي: -نعم. -لا تنسَ أن تفتّشها جيّداً وتتخلّص من سيارة البيك – آب. -فهمت. الصوت في الهاتف... إنّه صوت... كلا، هذا غير ممكن... أصبح كلّ شيء واضحاً الآن. تسارعت دقّات قلب آليس أكثر من ذي قبل، لأنّها أدركت بأنّ الخطر أكبر ممّا تخيّلته من قبل. تحت وطأة الهلع الشديد، كتمت الكمّامة أنفاسها من جديد. بذلت جهدها كي تتنفّس ببطء وهدوء: في مطلق الأحوال، كان عليها أن تقوم بمحاولةٍ ما. هاتفي المحمول! محاولةً ألا تثير انتباه الرجل، تلوّت آليس لكي تُخرِج هاتفها المحمول من الجيب الخلفي لسترتها. لسوء الحظّ، معصماها المقيّدين كانا يجعلان من أيّ حركةٍ أمرً صعباً للغاية. لا سيما تحت رقابة "يوري" شبه الدائمة الذي كان يلقي عليها باستمرار نظرات من خلال المرآة العاكسة. ومع ذلك، وبقوّة الصبر والإصرار، نجحت في أن تحصل على جهاز هاتفها وأن تفتحه. كانت قد أدرجت كيفما كان أوّل رقمين من الرقم 911 حينما ضرِبَت سيارة الدودج بقسوة. تطاير الهاتف من يدي آليس لينطرح تحت كرسي المقعد. شتم الرجل الروسي ببذاءة الشرطي الذي تجاوز إشارة المرور. لم يعد بوسع آليس المحزومة كقطعة سجق أن تفعل أيّ شيء: أصبح جهاز الهاتف بعيداً عن متناول يدها نهائياً. سار لأكثر من خمس عشرة دقيقة إضافية وهما يغوصان في عتمة الليل باتجاه الجنوب. تُرى إلى أين نذهب؟ كانت مقتنعة بأنّهما قد غادرا بروكلين منذ بعض الوقت حينما لمحت اللوحة الطرقية لجادة ميرمايد أفينيو، إحدى الطرق الرئيسة في كوناي آيسلاند. تملّكها أملٌ جارف حينما صادفا سيارة شرطة كانت تقوم بدورية في جادة سيروف أفينيو، ولكنّ الشرطيين ركنا سيارتهما أمام كوخ ناثانز فيموس ليتناولا شطائر هوت دوغ. لم يكونا الشرطيين الذين عليها أن تنتظر منهما أن ينقذاها. انعطف الرجل الروسي إلى زقاقٍ معتمٍ وأطفأ أنوار سيارته. لم تكن هناك سيارات أخرى تُشاهد في الزقاق. تقدّم حتى وصل إلى عمارةٍ خرِبة وأوقف محرك السيارة. بعد أن تأكّد من أنّ المكان فارغ، فتح يوري أحد البابين الخلفيين لسيارة الدودج لكي يُحرّر الفتاة. بضربةِ سكين، مزّق الأربطة التي كانت تعقل عرقوبيها. -تقدّمي! سمعت آليس هدير الأمواج وأحسّب بالهواء المالح يمسح وجهها. وجدا نفسيهما وسط منطقةٍ كئيبة وموحشة، قريبة من المحيط الأطلنطي. كان يسود شبه الجزيرة جوٌّ كئيب، بعيداً عن ناطحات السحاب في مانهاتن وهيجان بروكلين. في بداية القرن العشرين، كانت كوناي آيسلاند تستضيف احتفالاً سوقيّاً ضخماً. وكانت ألعابها الشهيرة بأصالتها تجذب الملايين من السوّاح القادمين من كافّة أنحاء الولايات المتّحدة الأميركية. كانت أراجيحها الدورانية تهتزّ على إيقاع اللازمات الإيقاعية والهيجان ودولابها العملاق هو الأعلى في البلاد، وسكّتها الأفعوانية هي الأسرع وقطاراتها الشبح الأكثر فزعاً وعرضها الغرائبي Freak show يتباهى بأنّه عرض الوحوش الأكثر تشوّهاً وتمسّخاً. كان يمكن للمرء، وهو معلّق بحبل، أن يقفز بالمظلّة من أعالي برجٍ عملاق. ولكن ذلك العصر البهي أصبح بعيداً الآن. في هذه الليلة الباردة من شهر كانون الأول \ ديسمبر، لم يعد للمكان شيءٌ من بهائه وسحره الغابر. منذ أعوام الستينيات من القرن العشرين، كان المكان قد شهد انحداره ولم يستطع أن يقاوم افتتاح ديزني لاند وسواها من المنتزهات الأكثر معاصرةً. واليوم، لم يعد المكان سوى سلسلة من البِوَر والمرائب المسيّجة والأبراج السكنية الشاهقة والكابية. وحدها مجموعة من الأراجيح الدورانية ظلّت تدور خلال أشهر فصل الصيف. فيما كانت لما تبقّى من أشهر السنة تعطي الانطباع بالتفسّخ في مكانها، يتآكلها الصدأ والدَرَن. وضع يوري نصل سكّينه على رقبة آليس وحذّرها: -إن حاولتِ الفرار، سأنحركِ مثل خاروف. * جرّها إلى أرضٍ موحِلة، محمية بأسوارٍ عالية مخربشة يجري فيها رهطٌ من الكلاب الهائجة. كانت كلاب ألمانية بوبرٍ أصفر اللون والتي تلتمع عيونها وسط الظلام. كانت نحافتها تدلّ على نقصٍ مؤكّدٍ في تغذيتها تُظهره من خلال شراستها ونباحها المرعب. وقد شقّ على يوري نفسه أن يُسكت كلابه من صنف الدرواس. قاد آليس بسرعة حتى وصل إلى مستودعٍ مهجور ففتح بابه وأرغم فريسته على نزول سلّمٍ معدني يؤدّي إلى نفقٍ ضيّق. اندفع تيارٌ هوائيٌّ صقيعي معهما إلى المكان الضيّق. كان الممرّ معتماً للغاية بحيث اضطرّ الرجل الروسي إلى إنارة مصباحٍ يدوي. كانت أنابيب ومواسير من كلّ الأحجام تملأ القبو. كما كانت هناك محركّات قديمة وعدّادات كهربائية تتكدّس على طول الممرّ. على أحد جدران القبو، كانت لوحة خشبية مصبوغة تحمل صور العشرات من الوحوش التي تحاكي العرض الأكثر رعباً في البلدة The Scariest Show In Town: كانت عبارة عن لوحة إعلانية لواحدة من تلك القطارات الشبح التي كان المنتزه يعجّ بها قبل خمسين عاماً. على ما يبدو، أنّهما كانا في قاعة الآلات لإحدى الأراجيح القديمة. كانت الإنارة خافتة ويتراقص ظلاّهما على الجدار. انعكس الضوء على برك الماء الراكد. في نهاية السرداب، أثارا مجموعةً من الجرذان الضخمة التي جرت، فزعةً في كلّ الاتجاهات. جرت دموعٌ على خدّي آليس. تراجعت في حركة لا إرادية إلى الوراء ولكنّ يوري هدّدها من جديد بنصل سكّينه لكي يرغمها على أن تسلك سلّماً حلزونياً يقود إلى أعماق السرداب. هناك، مرّا بأكثر من عشرة أبواب حديد تتالى على طول ممرّ مسدودٍ. غرقت آليس وهي تعبر تلك الظلمات في خوفها وشعرت بأنّ هوّة تُحفَرُ في معدتها. في نهاية الممرّ، وصلا أمام آخر مستطيلٍ معدني. أخرج يوري جرزة من المفاتيح من جيبه وفتح باب الجحيم. * كان الجوّ في الداخل بارداً برداً قطبياً والظلام دامساً وتاماً. قرّب يوري مصباحه لكي يعثر على قاطع الكهرباء. نشرت لمبة نيون مغبرة بمشقّة ضوءً خافتاً كشف عن غرفة صغيرة ذات جدرانٍ متقشّرة. فاحت منها رائحة العفونة والرطوبة. كان للكهف المدعم بأعمدة معدنية صدئة سقفٌ منخفض يعطي لأيٍّ كان شعوراً برهاب الاحتجاز. كان المكان يفتقر للشروط الصحية بقدر ما كان يشبه مكاناً إسبارطياً: إلى اليمين، كان هناك وعاءٌ للمرحاض مثيرٌ للاشمئزاز ومغسلةٌ صغيرة قذرة، بينما إلى اليسار، كان هناك سريرٌ معدنيّ قابلٌ للطي. دفع الرجل الروسي كيفما كان آليس إلى داخل القاعة الضيّقة. سقطت على الأرضية المسامية التي جعلت المياه الآسنة سطحها إسفنجياً ومثيراً للاشمئزاز. على الرغم من يديها المكبّلتين، استطاعت آليس أن تنهض وتوجّه بكلّ ما أوتيت من قوّة ركلةً عنيفةً من قدمها إلى ما بين ساقي خاطفها. صرخ الوحشي باللغة الروسية وهو يتلوّى ألماً: -Cволочы ! تراجع إلى الخلف ولكن كان ينبغي أن يتلقى المزيد من الضربات لكي يُطرَح أرضاً. قبل أن تتمكّن آليس من توجيه ضربةٍ أخرى إليه، انقضّ عليها وغرس إحدى ركبتيه في عصعصها لكي يلصقها بالأرض وهو يكاد أن يخلع كتفها. كادت آليس أن تختنق. مرّت بضع ثوانٍ مضطربة، ثمّ سمعت فرقعةً ووجدت نفسها مكبّلة إلى ماسورةٍ سميكةٍ كانت تمتدّ على طول الجدار. وحينما أدرك أن المنديل كان على وشك أن يخنقها، حرّرها يوري من قطعة النسيج التي كان قد غطّى بها فمها. انتابت الفتاة، التي انهمرت دموعها نوبةُ سعالٍ طويلة قبل أن تستعيد أنفاسها، وهي تستنشق بشراهة الهواء المنعش. استعاد يوري شيئاً من غطرسته وهو يستلذّ بالإمعان في إيلام ضحيته. قال ساخراً: -حاولي مرّة أخرى أن تضربيني! صرخت آليس بأعلى صوتها. استخدمت الصراخ كسلاحٍ أخير وهي تعلم علم اليقين بأنّ لا أحد يستطيع أن يسمعها في هذا المكان العميق والمنعزل ولكنّها بذلت كل طاقة يأسها في سبيل تمزيق صمت الليل. استبدّت اللذّة بالرجل الروسي لوقتٍ طويل. كان كلّ شيء يثيره: خوف الفتاة، ضيق المكان وعتمته، والإحساس بالقوّة الذي تنامي في داخله. ولكنّه تمالك رغبته. كان قد قيل له كثيراً بألا يغتصب الصبيّة خلال الأيام الثلاثة الأولى. وبعد ذلك سوف يستطيع أن يفعل بها ما يشاء... * كانت آليس الآن تنهك رئتيها من فرط الصراخ ولكن سرعان ما تحوّلت صرخاتها إلى نوبةٍ من البكاء. ارتأى يوري بأنّ المزاح قد طال كثيراً. نبش في جيبه وأخرج منه بكرةً سميكة من الشريط اللاصق الذي استخدمه لتكميم الفتاة المراهقة. ولدوافع أمنية، ربط من جديد عرقوبي الفتاة قبل أن يتركها لمصيرها وهو يغلق خلفه الباب المعدني. سلك الطريق في الاتجاه المعاكس، حيث سار بمحاذاة صفّ الكهوف وسلك السلّم الحلزوني والنفق الجليدي والدرج الفولاذي. وصل في النهاية إلى السطح وإلى رهط الكلاب التي جوّعها قصداً لكي يبعد فضوليين محتملين. والآن، لكي يزيل الآثار، كان عليه أن يتخلّص من سيارة الدودج. كان لديه احتمال أن يحرقها في بورةٍ، لكن ذلك أمرٌ محفوفٌ بالخطر لأنّه يمكن لذلك أن يُكشَف من قبل دورية شرطة. كان الحلّ الأكثر بساطةً هو أن يتركها في مكانٍ ما من حي كوينز. بحِتاراتها المعدنية من قياس عشرين بوصة وواقياتها المعدنية الشبيهة بمدرّعة، كانت سيارته تمثل الخديعة "والبريق الزائف". وكان صندوقها العالي من النوع الذي يثير اهتمام اللصوص. بالأحرى لو تُرِكَت المفاتيح في لوحة تشغيل السيارة... راضياً عن اتّخاذ قراره، وصل إلى الزقاق الذي كان قد ركن السيارة فيه لكي يتبيّن له أنّ... .... لم تعد السيارة موجودة هناك! نظر من حوله. كان كلّ المكان خالياً. أصاخ السمع. لم يكن هناك ما يُسمَع سوى صخب الأمواج والريح التي كانت تهزّ الأراجيح الدورانية. ظلّ يوري للحظة طويلة جامداً في مكانه دون حراك، مذهولاً وحائراً أمام السرعة التي تمّ بها اختلاس السيارة. هل كان لذلك أن يقلقه أم يُبهجه؟ وعلى نحوٍ خاصّ، هل كان عليه أن يُخبر معلّمه؟ قرّر ألا يقول شيئاً. كان قد طُلِبَ منه أن يُخفي السيارة والسيارة قد اختفت. هذا كلّ ما في الأمر. كان الأمر المهمّ هو الوصول إلى الفتاة... الفصل الثامن والعشرون فرانسيسكا حينما تحبّ شخصاً، تأخذه بكلّ ما له وما عليه، تأخذه بكلّ ارتباطاته، بكلّ التزاماته. تأخذ تاريخه، ماضيه وحاضره. إمّا أن تأخذ كلّ شيء أو لا تأخذ أيّ شيء ر.ج. إيلوري غرينتش فيليج الساعة الخامسة صباحاً استيقظ جوناثان متوثباً وقد وضع رأسه على كتف مادلين. على الرغم من القسوة التي استيقظ بها من غفوته، شعر جوناثان على نحوٍ مدهش بأنّه على ما يُرام. كان الدفء قد شاع في المنزل. وهدير الرياح وغلغلة المدينة يتصاعدان من الخارج. نظر إلى الساعة ولكنّه ظلّ لبرهةٍ مستلقياً، ملتصقاً بالجسد الطري والحامي. ثمّ نهض بعنف وخرج بصمت من الفقاعة الدافئة لحبّه الوليد. ارتدى سترته وبنطاله الجينز قبل أن يُغلِق باب الغرفة كي ينزل إلى الصالون. أخرج من جيب معطفه النسخة المصوّرة التي كانت مادلين قد أعطتها له يوم أمس: البريد الإلكتروني المسروق من حاسوب جورج: من: فرانسيسكا ديليلو إلى: جورج لا توليب الموضوع: ردّ: التاريخ: 4 حزيران \ يونيو 2010، 19:47 جورج، أتوسّل إليك أن تتخلّى عن مشروعك في الذهاب لمقابلة جوناثان في سان فرانسيسكو. لقد اتّخذنا القرار السليم. لقد فات الأوان على الندم، كنتُ أعتقد بأنّك قد أدركت من خلال قراءة الصحف... انسَ جوناثان وما حدث لنا. دعه يعيد تكوين نفسه. إذا اعترفت له بالحقيقة، سوف تضعنا نحن الثلاثة في وضعٍ مأسوي وسوف تخسر كلّ شيء: عملك، شقّتك، ورفاهيتك. ف. جلس جوناثان إلى الطاولة المصنوعة من خشب الجوز التي يجثم عليها الحاسوب. لا بدّ أنّ كلير كانت قد اعتادت على أن تعير شقّتها لأصدقائها. كانت وريقة على شكل فراشة ملصقة على الشاشة تشير إلى كلمة المرور لفتح البرامج كضيف. اتّصل جوناثان بشبكة الإنترنت وأخذ وقته في إعادة قراءة الرسالة. هكذا، لم تكن فرانسيسكا قد خانته مع جورج... كان لا يزال من الصعب عليه تصديق ذلك. لماذا من بين كلّ المسرحيات تم تركيب هذا السيناريو الدنيء والجدير بالإزدراء؟ لحماية أيّ سرٍّ آخر؟ حينما قرأ الرسالة للمرّة الثالثة، وضع إشارة على جملة "كنتُ أعتقد أنّك قد فهمت الموضوع بعد قراءة الصحف...". إلى ماذا كانت تلمّح فرانسيسكا؟ كانت الرسالة الإلكترونية تعود إلى شهر حزيران \ يونيو. كانت مادلين قد أسرّت له بأنّها قد بحثت في مقالات منشورة في الصحف الصادرة في الأشهر السابقة حينما صادفت اسمي فرانسيسكا وجورج ولكنها لم تعثر على دليلٍ ملموس. تثاءب ونهض لكي يعدّ فنجاناً من القهوة قبل أن ينهمك في العمل ويستغرق بدوره في الصحافة الإلكترونية. لا بدّ أن يكون تفسير هذا اللغز كامناً فيها. بعد ساعة من البحث، وقع على مقالة غريبة في ديلي نيوز: جزر الباهاما: العثور على جثّة خبير مالي في جوف سمكة قرش حينما انطلق إلى الصيد في عرض جزيرة كولومبوس، اكتشف قائد رحلة بحرية اكتشافاً مرعباً وهو يمسك بسمكة قرشٍ في شباكه. بينما كان يرفعه إلى قاربه، لفظ القرش قطعة طويلة من العظم كانت تشبه كثيراً عظم العضد. ارتبك الرجل وأخبر خفر السواحل الذين فتحوا بطن الحيوان ليجدوا فيه أجزاءً أخرى من هيكلٍ عظمي لكائنٍ بشري وخاصّة قطعةً من قفصٍ صدري وفكَ. ومن خلال تحليل الحمض النووي للعظام، استطاعت الشرطة الباهامية أن تحدّد هوية صاحب الجثّة. كانت الجثّة تعود لرجل الأعمال الأميركي لويد وارنر، نائب رئيس سلسلة الفنادق الفاخرة وين إنترتينمنت. وكان السيّد وارنر البالغ من العمر خمسة وأربعين عاماً قد توقّف عن إعطاء أي إشارة لوجوده على قيد الحياة منذ الثامن والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر الماضي، حيث شوهِد في مطار نيويورك في متجرٍ صغير للألبسة الجاهزة، لدى عودته من جزر الباهاما مباشرةً. لم يُصدّق جوناثان عينيه. كان لويد وارنر قد مات منذ سنتين ولم يعلم بذلك إلا اليوم! لويد وارنر، المدير المالي لمجموعة وين إنترتينمنت... الرجل الذي عجّل في سقوطه من خلال رفضه إعادة جدولة ديون مجموعة امبراتور. وفي ومضةٍ، طفت ذكريات الأوقات العصيبة على السطح: الحلقة المفرغة للاستدانة، إفلاس مؤسّسته، المصاعب المالية التي تخبّطت فيها فرانسيسكا لكي تقاوم سيطرة وارنر وكواسره، شركاؤهم السابقون، الذين تحوّلوا إلى نهّابين. أتكون زوجته السابقة تلمّح إلى هذه المقالة في رسالتها الإلكترونية إلى جورج؟ أتكون قد لعبت دوراً في موت لويد وارنر؟ ولكن ما الغرض من ذلك، إذا كان هذا العمل لم يمنع على الإطلاق إفلاس مؤسستهما؟ حائراً وقلقاً من جرّاء اكتشافه، طبع جوناثان على عجلٍ المقطع المقتبس من الصحيفة وخربش بضع كلمات موجّهة إلى مادلين على شاشة الحاسوب. ثمّ ارتدى معطفه قبل أن يلتقط مفاتيح السيّارة المعلّقة قرب الباب. * منذ وصوله، كان جوناثان قد وجد سيارة كلير من طراز سمارت اللوزية اللون مركونةً في الزقّاق المسدود. كان البرد يزداد شدّةً. أدار محرّك السيارة الصغيرة وقام بتحمية محرّكها وهو يستمع من محطّة إخبارية إلى عناوين الأخبار: "... تستمر اليوم في كاليفورنيا قضية المكسيكية جيزيبيل كورت، وريثة رئيس عصابة مخدرات. المدعوة "لا مونيكا"، إنّها ابنة عرّاب...". ولكن لم يكن لديه المزاج لأن يحمّل نفسه وزر كلّ مصائب الدنيا. قطع بث جهاز الراديو ودلف إلى شارع غروف ستريت. في تلك الساعة من الصباح الباكر، كانت حركة السير سلسة. سلك الجادة السابعة ومن ثمّ فاريك وشارع كانال ستريت... كان يكتشف الجغرافيا النيويوركية، وهو يجتاز مسافةً كان قد اجتازها لمئات المرّات حينما كان يقيم هنا. وسط حشد سيارات الأجرة الصفراء اللون، رأى سيارة فيراري سوداء في مرآته العاكسة. حتى حينما كان يملك نقوداً، لم يكن مغرماً قط بالسيارات، ولكنّ هذه السيارة كانت مختلفة. كان والده قد أهداه نموذجاً مصغّراً عنها حينما كان طفلاً: سيارة من طراز 250 جي تي كايفورنيا سبايدر ذات قاعدة قصيرة. إحدى أكثر السيارات ندرةً وجمالاً في التاريخ، والتي أُنتجَ منها فقط ما يقارب عشرة نماذج في بداية أعوام الستينيات من القرن العشرين. ما كان أن يدير رأسه حتى تجاوزته السيارة عن يمينه بسرعة صاعقة قبل أن تختفي مندفعةً نحو سوهو. يا له من مريض... على الرغم من أنّ تريبيكا كان أحد الأحياء الأكثر غلاءً، إلا أنّ جوناثان لم يشعر قطّ بالراحة الحقيقية فيه حيث كان يجد المكان مجرّداً من السحر والانسجام. شغل أوّل مكان أتيح له على أطراف العمارة التي تعيش زوجته السابقة فيها. كانت عمارة إكسيلسيور مسكناً مهيباً يتكوّن من حوالي خمسة عشر طابقاً، يعود تاريخ بنائه إلى سنوات العشرينيات من القرن العشرين. كان المتعهّدون قد استولوا مؤخّراً على هذا الفندق القديم ذي الديكور الفني لكي يقوموا بتجديده وتحويله إلى أجنحة مزوّدة بتقنيات فائقة التطوّر مخصّصة لزبائن من أصحاب الملايين. قال وهو يدخل إلى العمارة: -مرحبا إيدي! كان البوّب يرتدي زيّاً للعمل كستنائي اللون ذا شرائط مذهّبة، واحتاج إلى ثوانٍ عديدة لكي يتعرّف عليه. قال وهو يعدل طاقيته: -السيّد لامبيرور! يا لهذه المفاجأة... -أريد أن أقابل فرانسيسكا من فضلك، هل يمكنك إخبارها بأنني في البهو؟ -ولكن الوقت لا يزال باكراً... -أنا مصرّ على مقابلتها، يا إيدي، الأمر فعلاً هامّ. -سوف أتّصل بالسيّدة مباشرةً على هاتفها الخاصّ. كان إيدي بروك، الذي يشبه بجسده المغني الأميركي بي.بي. كينغ، بكلّ معنى الكلمة "الرجل المفتاح" للعمارة، الرجل الذي يعرف أسرار كلّ السكان: شتائم، خِدَع، إساءات، مشاكل المخدرات... حسبما تكون لك علاقات جيّدة أو سيئة معه، قد تغدو حياتك سهلةً للغاية أو تتحوّل إلى جحيم. -حسناً، يا سيّدي، إنها تنتظرك. شكر جوناثان البوّاب بإشارةٍ من رأسه وطلب أحد المصاعد المتجاورة في نهاية البهو. أدرج الرمز الذي يتيح للمصعد أن يتوقّف مباشرةً في شقّة زوجته السابقة التي تفتح أبوابها على موزّع البيت المكوّن من طابقين والمبني من الزجاج والذي يشغل آخر طابقين من العمارة. تقدّم جوناثان حتى وصل إلى الصالون الذي كان عبارة عن حجرة شاسعة الأطراف مبلّطة بحجرٍ طفحي ومفروشة بفرشٍ حديث مصنوعٍ من الخشب الأصهب ومن خشب الجوز. كان كلّ شيء في المكان مرسوماً على نحوٍ ناجزٍ وبسيط. مدفأتان طويلتان ذات تقنية عالية كانتا تقبعان داخل ملحقٍ معدني تلفظان العشرات من ألسنة اللهب بينما كانت نوافذ زجاجية واسعة، مفتوحة على نهر هيدسون، تلغي الحدود بين الداخل والشرفة. بينما كانت الشمس تشرق، كان تمازج الألوان وانعكاسها على صفحة المياه ساحراً، حيث تتمازج الألوان الوردية والبنفسجية والرمادية المائلة إلى البياض. على الرغم من أنّه كان قد عاش في هذا المكان لمدّة عامين، كان جوناثان يشعر بنفسه غريباً فيه الآن. الحديقة الداخلية والشرفة البالغة مساحتها أربعمئة متر مربّع، المشهد المتعاظم، خدمة البواب المتواصلة على مدار الساعة، طاقم الموظفين في البيت، المسبح الدافئ بطول عشرين متراً، ملعب الرياضة، حمّام الساونا... في الفترة التي كان فيها "الإمبراطور"، كان كلّ هذا البذخ يبدو له طبيعياً وعادياً. أمّا اليوم، فكان يشعر بأنّه قد سبق له وعاني من جنون العظمة وبأنّه لم يعد سوى شخصٍ بسيط جاء لزيارة الآلهة في معبدهم. خرجت فرانسيسكا من غرفتها في الطابق العلوي وهي تهرع وسألت بقلق: -ماذا حصل لشارلي؟ -شارلي في صحّة ممتازة. لقد بقي في سان فرانسيسكو مع شقيقكِ. بعد أن اطمأنّت، نزلت السلّم الزجاجي الذي أعطى الانطباع بأنّها تعوم في الهواء. نظراً إلى الوقت، كانت قد ارتدت بالتأكيد بأقصى سرعتها بنطالها الجينز الأسود اللون وبلوزتها ذات الياقة على شكل الرقم 7 المصنوعة من الكشمير الصوفي اللون. ومع ذلك، بدت في هيئة لا تشوبها شائبة. كان لها ذاك اللبس المتعجرف وذاك المظهر الخاصّين بالأناس المنتمين إلى الأسر التي تعيش بثراء منذ أجيال عديدة. كانت ثروتها مطبوعة بخاتم "given, not earned" . ربمّا كان هذا الأمر هو الذي فصلهما عن بعضهما. بينما هو، وعلى النقيض منها، كان قد كسب ثروته... قبل أن يخسرها. سألها وهو يقدّم لها الورقة التي طُبِعت عليها المقالة التي تروي قصّة موت لويد وارنر: -لقد قتلتِه، أليس كذلك؟ لم تكلّف نفسها حتى عناء خفض نظرها لكي تقرأ ما هو مكتوب في الورقة. لم تسأله عمّن كان يتكلّم. ظلّت بكل بساطة ساكنة في مكانها لبضع ثوانٍ قبل أن تجلس على الأريكة وتتدثّر بغطاء. -منْ قال لك ذلك؟ هذا الأحمق جورج؟ كلا ... بالتأكيد ليس... -كيف حدث ذلك؟ أغمضت عينيها، تاركةً الذكريات تتدفّق. بدأت تروي: -كان ذلك في نهاية كانون الأول\ديسمبر، قبل عامين بالضبط من الآن... أنت رافقتني إلى المطار وأخبرتك بأنني سأذهب إلى لندن لزيارة أحد مطاعمنا. كانت تلك كذبة. في الأسبوع الذي سبق ذلك، علمتُ أنّ لويد وارنر سيذهب إلى جزر الباهاما، في ناسو، لكي يتفاوض بشأن عقدٍ يتعلّق بأحد كازينوهاتهم. قررت أن أذهب بدوري إلى هناك لكي أقنعه بالموافقة على إعادة جدولة قرضنا. لدى وصولي إلى هناك، تركتُ له رسالة في الفندق الذي كان ينزل فيه أطلب منه فيها بأن يلحق بي إلى كولومبوس. في تلك الفترة، لم تكن تُدرك حجم الهوّة السحيقة لمديونيتنا. كانت مطاعمنا قد بدأت بالتطوّر ولكن الأزمة الاقتصادية والمالية قضت على نموّنا. أردتُ أن تترك مجموعة وين إنترتينمنت لنا المزيد من الوقت لكي نسدّد ديوننا ولم تكن هناك وسيلة لكي أتحدّث إليه على انفراد في نيويورك. -وهل جاء لمقابلتكِ؟ -نعم. تناولنا العشاء معاً. حاولت أن أقنعه بأن يمنحنا المزيد من الوقت، لكنّه لم يُصغِ إليّ. وبدل ذلك، أمضى السهرة في محاولة إغوائي بوقاحة حتى أنني غادرتُ الطاولة قبل تقديم التحلية. دخلت مدبّرة المنزل إلى الصالون وهي تحمل صينية عليها إبريق شاي وفنجانين. انتظرت فرانسيسكا حتى تخرج لكي تواصل حديثها: -بينما اعتقدتُ أنّه قد غادر، جاء لويد وارنر يلحق بي إلى غرفتي لكي يعرض عليّ صفقة. كان موافقاً على أن يبذل جهداً بشأن ديننا ولكن شريطة أن ... -... أن تنامي معه؟ أجابت بإشارة من رأسها: -حينما طردته من غرفتي، أغلق الباب وارتمى عليّ. كان قد أفرط في الشراب وبالتأكيد تعاطى جرعةً من الكوكايين. صرخت ولكنّ ضجيج عرسٍ كان يملأ كلّ أرجاء الفندق. وأنا أدافع عن نفسي، أمسكتُ بتمثالٍ كان على طاولة بجانب السرير: كان عبارة عن تمثالٍ من البرونز يمثّل جياكوميتي. وجّهتُ ضربة قويّة جدّاً إلى رأسه. انهار على الأر. اعتقدتُ للوهلة الأولى بأنّه قد داخ ولكنّه كان قد مات. عزم جوناثان، مذهولاً، على أن يأخذ مكانه في الأريكة الأقرب إلى فرانسيسكا. وكانت هذه الأخيرة، شاحبة ومتدثّرة بغطائها، تبدو رغم كلّ شيء في غاية الهدوء. أمّا جوناثان، فلم يستطع أن يعرف فيما إذا كان يرتاح لذلك أم أنّه يجنّ حنقاً. كان لغزاً عمره عامين ينحلّ ببضع جُمل. عامان من عدم القدرة على الثقة بأحد لأنّه لم يدرك مقاصد خيانة زوجته... لكونها لم تكن قد خانته. -لماذا لم تطلبي الشرطة؟ -هل تعتقد حقّاً بأنّهم كانوا ليصدّقوا حكايتي في الدفاع المشروع عن النفس؟ بوجود الديون المتراكمة علينا؟ وبوجود الرسالة التي أرسلتها إليه لكي يأتي لمقابلتي؟ -ماذا فعلتِ بالجثّة؟ -نزلتُ إلى الجناح العائم الذي كنّا قد استأجرناه نحن الاثنين. فكّرت في أن أستعين بالمركب الذي تضعه إدارة الفندق تحت تصرّف الزبائن. كان عبارة عن قارب من طراز هاكر كرافت مصنوع من خشب الأكاجو، هل تتذكّره؟ ركنتُ القارب قرب الجسر العائم للجناح ثمّ سحبتُ الجثّة إلى قمرة القارب. كان الظلام دامساً. دعوتُ ربّي ألا أصادف خفر السواحل وذهبتُ لأرمي جثّة هذا ... السافل على بعد ما يقارب عشرين ميلاً من الشاطئ. قبل أن أفعل ذلك، خطر لي أن أحتفظ بمحفظته وهاتفه المحمول. -ألم يلاحظ أحدٌ في الفندق بأنّكِ قد ركبتِ المركب؟ -كلا، كان العرس يشغل انتباه كلّ طاقم العمل في الفندق. هل تراني فظّة؟ أدار جوناثان رأسه مذهولاً لكي يتهرّب من نظرات فرانسيسكا. ولكنّ فرانسيسكا كانت قد عقدت العزم على أن تقول كلّ شيء ولذلك لم تدع الصمت يستمرّ. واصلت الحديث قائلةً: -كنتُ فزعة للغاية. لو لوحِظَ اختفاء وارنر في جزر الباهاما، لوصلوا إليّ سريعاً. فقد شاهدنا العشرات من الأشخاص ونحن نتناول العشاء معاً في المطعم. كانت فرصتي الوحيدة هي أن لا يتمّ العثور على الجثّة في الحال – ولتحقيق ذلك قمتُ بتثقيل الجثّة بواسطة السبيكة المعدنية التي كانت موجودة على متن القارب – وكذلك أن أجعل الناس يعتقدون أنّ وارنر قد عاد إلى الولايات المتحدة الأميركية. ومن خلال التدقيق في رسائله الإلكترونية، وقعتُ على رسالة كانت تدعوه لتثبيت حجز رحلة عودته. فاتّصلتُ بموقع شركة الخطوط الجوية وقمت بملء الاستمارات. كانت حيلة مدبّرة، ولكن كان لا بدّ أن يُشغل أحدٌ جسدياً مكان لويد. ولذلك فكّرتُ في جورج بسبب تشابهه الشديد مع وارنر. -ساعدكِ جورج في تدبير الحيلة؟ -نعم. من خلال نشر فكرة أنّه كان عشيقي. لقد استطعتُ أن أثبتَ وجودي في جزر الباهاما وأدّعي بأنّه هو مَن كان معي في الفندق. ومن هنا جاءت صور المصوّر الباباازي. لا سيما أنّه قد سافر بواسطة وثائق لويد الشخصية في رحلة العودة. وما أن أصبحنا في نيويورك حتى طلبتُ منه أن يجري عدّة عمليات شراء باستخدام البطاقة الائتمانية التي كنتُ قد حصلتُ عليها من جيب سترة وارنر. بعد بضعة أيام من ذلك، حينما تمّ اكتشاف غياب وارنر، كان رجال الشرطة مقتنعين تماماً بأنّه قد عاد إلى مانهاتن. وبالتالي لم يسعَ أحدٌ إلى البحث عنه على شاطئ جزر الباهاما إلى أن تمّ العثور على جثّته بعد ذلك بستّة أشهر. -إلى أين وصل التحقيق، الآن؟ لم تكن فرانسيسكا قد لمست بعد كوب الشاي خاصّتها فأخذت علبة السجائر من ماركة دانهيل المطروحة على الطاولة الخفيضة وأشعلت سيجارة منها. -لا أدري. أعتقد أنّهم قد جمّدوا الملفّ. في كلّ الأحوال، لم يتم استجوابي قط حول القضية بما أنني رسمياً لم أتناول العشاء معه هو وإنّما مع جورج. بعد أن تمالك جوناثان نفسه لوقتٍ طويل، انفجر أخيراً غضبه: -لماذا لم تتّصلي بين أنا، زوجكِ؟ هل كانت ثقتكِ بي ضعيفة؟ أن لا تحدّثيني عن السفر، أمرٌ يمكن التغاضي عنه، ولكن أن تخفي عنّي جريمة قتل! -لكي أحميكما، أنت وشارلي! كي لا أجعلك شريكاً في جريمة قتل! كي لا نذهب نحن الاثنان معاً إلى السجن! كان هناك احتمالٌ كبير جدّاً بأن تفشل خطّتي. فكّر في الأمر: مَنْ كان سيربّي طفلنا لو تمّت إدانتنا؟ تأمّل جوناثان في الحجّة. كان يسير في الطريق وهو معجبٌ جزئياً ببرودة الأعصاب والمنطق المتماسك والذكاء الخارق التي بفضلها نجحت فرانسيسكا في النجاة من القضية وفي حماية أسرتها. هل كان ليستطيع هو أن يُنفّذ هكذا سيناريو؟ على الأرجح كلا. ممّا لا شكّ فيه كان ليتصرّف كمجرم. ممّا لا شكّ فيه كان ليستسلم لفيض انفعالاته... فجأةً، تلاشى الشعور بالعبث والفوضى الذي كان فراقهما قد جعله يعاني منه . ما حدث لهما كان له معنى. ولكن في اللحظة ذاتها، أدرك جوناثان بأنّه ينظر الآن إلى فرانسيسكا على أنّها غريبة. لم يعد يشعر حيالها بأيّ اندفاعٍ ولا أيّ شعورٍ كما لو أنّ حاجزاً لا مرئياً يفصل بينهما نهائياً الآن. الفصل التاسع والعشرون ملاكٌ في جحيم Luctor et emerge مستودع كوناي آيسلاند الساعة الخامسة صباحاً كان الكوخ المعتم، البارد والرطب، يسبح وسط رائحة العفونة. كانت يدا آليس مقيّدتين بإحكام وقدماها مربوطتين بخيطٍ من النايلون ومع ذلك ضغطت بكلّ ما اوتيت من قوّة على قيودها على أمل أن تزيل المواسير الصدئة. ولكنّ الماسورة كانت متينةً وانهارت الفتاة على الأرضية المبلّلة. مزّق نحيبُ يأس حلقها ولكنّها ظلّت مخنوقةً باللاصق الذي كان يكمّمها. لا تبكِ! سرت ارتعاشات في جسدها وكوى البرد كلّ أعضاء جسمها وعضّ على جلدها وتغلغل إلى عظامها. كانت السلاسل الفولاذية تمزّق لحم معصميها مسبّبةً ألماً فظيعاً يسري في جسدها حتى يبلغ رقبتها. فكّري... ولكنّ البرد والضغط النفسي جعلا كلّ تركيزٍ أمراً في غاية الصعوبة. سدّ شعورٌ بالقلق والعجز صدرها. تصاعد صوتٌ شبيه بصوت الأرانب خلف المغسلة الدبقة. رفعت آليس رأسها لترى خطم جرذٍ بحجم هريرة. من جديد، اختنقت صرخة قصيرة في حلقها. فزعاً مثلها، سار الحيوان على طول الجدار المقابل واختفى خلف سرير الميدان. حافظي على هدوئِك... تمالك دموعها وحاولت أن تفتح فكّيها ولكن الشريط اللاصق كان يخدّرها ويُطبق بشدّة على فمها. ومع ذلك استطاعت أن تمرّر لسانها تحت أحد أطراف كمامتها وقضمت بقواطعها طرف الشريط اللاصق إلى أن تمكّنت من تحرير شفتها السفلى. استنشقت بعمق جرعات عديدة من الهواء الفاسد. أصبحت تتنفّس على نحوٍ أفضل ولكن رغم درجة الحرارة المنخفضة، شعرت بنبضات قلبها المتسارعة. أدويتي! أدركت فجأةً أنّها سوف لن تستطيع أن تستمرّ في معالجتها! منذ أن خضعت لعملية زرع القلب، كانت حقيبتها دُرجاً حقيقياً لصيدلية. كانت تعيش حياة شبه طبيعية شريطة أن تبتلع بطريقة صارمة خليطاً محضّراً من الأدوية: طبعاً أقراصاً مضادة لرفض الأنسجة ولكن على نحوٍ خاصّ أقراصاً مضّادة لحالات ارتفاع الضغط وحالات الاضطراب لكي تقاوم ارتفاع ضغطها الشرياني. لطالما حذّرها طبيبها الخاصّ: عدم تناولها لهذه الأقراص قد يُتلف تماماً كليتيها خلال بضعة أيام، بل وخلال بضع ساعات! وقد تنطلق العملية في أيّ وقت، خاصّة في حالة الإصابة بالجفاف. كان حلقها بالضبط جافّاً ومتهيّجاً. كان عليها أن تشرب ماءً لكي تتجنّب تراجع قدرة كليتيها على التصفية. سارت على أطرافها الأربعة، إذ كانت يداها لا تزالان مقيّدتين، ونجحت في التحرّك على طول الماسورة حتى وصلت إلى المغسلة، ولكنّ صنبور الماء كان عالياً جدّاً. مدفوعةً باندفاعٍ جديد، شدّت عضلاتها وبعزيمةٍ لا تلين حاولت من جديد أن تفتح الماسورة. ثمّ كان عليها أن تبتعد عنها بأقصى سرعة: في كلّ دفعةٍ، كانت الملازم المعدنية للقيود تنغرس في لحمها إلى حدّ الإدماء. وهي تفرّ من المعركة، استسلمت للارتخاء على الحائط. مستلقية على الأرض، راودها الشعور بأنّها لم تعد سوى حيوانٍ مكبّل منقادٍ لمشيئة صاحبه. يائسةً وحائرةً في أمرها، أخذت تلعق الماء المتجمّع الذي كان يرشح من الأرضية. في الزاوية المقابلة من القاعة، كان الجرذ يرقبها. * تريبيكا الساعة الثامنة صباحاً كانت الشمس قد أشرقت في سماءٍ صافية كالكريستال. تحت تأثير صدمة ما كشفته له فرانسيسكا، خرج جوناثان من اكسيلسيور، دائخاً بعض الشيء. سار على الرصيف إلى أن وصل إلى سيارته من طراز سمارت كلير. جلس خلف المقود وانطلق باتجاه إيست فيليج، حيث كان قد تواعد مع مادلين. تردّد في الاتصال بها لكي يطمئنّ بأنّه قد وجد ضالته ولكنّه قال في نفسه بأنّها ربّما لا تزال نائمة. لدى وقوفه عند إشارة حمراء في بداية شارع ليتل إيتالي، نظر تلقائياً في مرآته العاكسة وبدهشة كبيرة لمح من جديد الخطوط الرشيقة والأنيقة لسيارة فيراري السوداء وهي في الرتل اليميني خلف سيارته. أمرٌ غريب... قطّب جبينه ليتأكّد من الأمر. من المستحيل أن يُخطئ في ذلك: كانت السيارة نفسها ذات الغطاء المعدني المحني برشاقة، والمصابيح النافرة والواجهة المتوحّشة التي تضفي عليها هيئة شبيهة بهئية الزواحف. استدار إلى الخلف. هذه المرّة كانت السيارة واقفة في مكانها بلا حراك ولكنّ الشمس المنعكسة على واجهة السيارة أبهرت أبصار جوناثان ومنعته من تمييز وجه السائق. أراد أن يتذكّر رقم السيّارة الشبيهة بالعنكبوت ولكنّه ذُهِل بشدّة لعدم وجود لوحة الرقم على السيارة! انتقلت إشارة المرور إلى الضوء الأخضر. أرغمه صوت زموّرٍ على الإقلاع بالسيّارة وتجاوز التقاطع. حينما استطاع أن يلقي من جديد نظرة على مرآة سيارته العاكسة، كانت السيارة الفارهة قد توارت عن الأنظار... * مستودع كوناي آيسلاند سُمِع ضجيج وقع خطوات. فتحت آليس عينيها، متوثّبة من النوم. كم كانت الساعة؟ لِكم من الوقت ظلّت غير واعية؟ أخمس دقائق أم خمس ساعات؟ جعلها البرد ترتعش. شعرت بتنمّلٍ في ساقيها ومزّقت حلقات السلاسل رسغيها. حاولت أن تقف على قدميها، ولكنّها عجزت عن ذلك. شعرت حينئذٍ بأنّها ضعيفة للغاية على أن تسعى إلى المقاومة والدفاع عن نفسها. انفتح الباب محدثاً صريراً وظهر الطيف الضخم ليوري وسط العتمة. صرخ غاضباً حينما تبيّن له بأنّها قد قضمت رباط يدها. -C yчка ! أمسكها من شعرها ولكنّها توسّلت إليه: -أحتاج إلى شرب الماء! أدويتي ليست معي! عليّ خطر أن ... -أغلقي فمكِ! شدّها بعنف إلى الخلف منتزعاً من رأسها خصلةً من الشعر. أدركت أنّ من مصلحتها أن تلتزم السكوت. بدا الرجل الروسي وكأنّه قد هدأ. قرّب وجهه من وجهها وهم يتشمّم رائحة عطر عنقها، مداعباً خدّها بأصابعه الغليظة والدبقة. أحسّت آليس بأنفاسه قرب فمها ولم تستطع أن تكبت تقزّزها. أدارت رأسها وحينذاك لمحت الكاميرا التي كانت في يده. برز الظلّ الأسود والكثيف ليوري تحت الضوء الشاحب للنيون. وعدها قائلاً: -سوف تحصلين على الماء، ولكن قبل ذلك سوف نمثّل نحن الاثنان فيلماً قصيراً معاً... الفصل الثلاثون الوجه المخفي للقمر كلٌّ منّا قمرٌ، بوجهٍ مخفيٍّ لا يراه أحد. مارك توين لوير إيست سايد الساعة الثامنة صباحاً دسّ جوناثان سيارته من طراز سمارت بطريقة عمودية بين سيارتين مركونتين إلى جانب الرصيف ونزل جادة بويري إلى أن وصل إلى الشارع رقم اثنان. بعد أن كان لزمنٍ طويلٍ جدّاً حيّاً سيئ السمعة، غدا الآن حيّ بوير إيست سايد أحد أكثر الأمكنة جذباً للناس بفضل مقاهيه الصغيرة وسلسلة مطاعمه العصرية. دفع جوناثان باب مقهى بيلز، المكان المفضّل لديه لتناول فطوره وغدائه. كان المكان ينمّ عن أصالةٍ ويشع بدفءٍ حقيقي ويزدحم بالناس بين الساعة الحادية عشرة والواحدة ظهراً، بينما يتّسم بهدوءٍ أكبر في الصباح. بحث جوناثان عن مادلين في الصالة المنارة بالأضواء. حول طاولة شرابٍ من الخشب الكاشف اللون، كان العديد من الزبائن البوهيميين والعصريين يلتهمون شطائر البانكيك بالموز ويشربون الكابتشينو. لم تكن مادلين موجودة في المكان فانتابه القلق. أتكون قد ندمت على عناقهما الليلي؟ أتكون قد غادرت بمزاجية ولا مبالاة؟ أتكون قد ... رنّ هاتفه، جاءته رسالة قصيرة تقول: "أنا في الطابق العلوي". رفع رأسه فرآها منحنية فوق السلالم تومئ إليه بإشارةٍ من يدها. بعد أن اطمئنّ، صعد السلالم لكي ينضمّ إليها على طاولتها. كانت جدران المحلّ بيضاء وطاولاته الصغيرة مستديرة وفيها نوافذ زجاجية كبيرة ومصابيح مزخرفة: كانت الصالة مريحة ولطيفة. -هل أنتِ هنا منذ وقتٍ طويل؟ لم يجرؤ على معانقتها وتقبيلها على الرغم من رغبته الشديدة في ذلك. كانت ترتدي بنطال جينز وسترة جلدية لم يسبق أن شاهدها ترتديهما والتي أظهرت نحافتها. -لقد وصلتُ للتوّ. هذا مكانٌ لطيف. أين كنت؟ قال وهو يجلس قبالتها: -كنت في بيت زوجتي السابقة. سوف أروي لك. كانت مادلين تبدو مرتاحة ومع ذلك كانت تتأمّله بحزن كما لو أنّهما قد سبق لهما وأضاعا بعضهما. حاول جوناثان أن يُمسك بيدها ولكنّها سحبتها. التقت نظراتهما، وساد الصمت بينهما طويلاً. وفي النهاية، مرّرت مادلين أصابعها برفق بين أصابعه. الآن بات واضحاً أنّهما كانا يشعران من جديد برغبة متبادلة تجاه بعضهما حتى وإن لم يكونا مستعدّين بعد لكي توصف العلاقة التي تربطهما بعلاقة "غرامية". اقترب منهما نادلٌ يضع نظارة من ماركة غيك ويرتدي قميصاً ذا مربّعات وله شاربان شبيهان بشوارب الغاليِّين بحيث بدا في هيئة عازف هاوٍ للجاز وذلك لكي يأخذ طلبهما. تصفّح جوناثان قائمة الطعام واختار فنجاناً من قهوة الإسبريسو وطبقاً من الكيك الأفريقي المحضّر بالقهوة (مونكي بريد). اختارت مادلين طبقاً ن بيتي فور (بلوبيري كريم كوكي) وقارورة من الحليب. -لقد استعرتُ بعض الثياب من صاحبتك. إنّها ضيّقة بعض الشيء، ولكن... -سوف تناسبك. ثمّ إنّها ليست "صاحبتي"... هل هناك أخبارٌ عن جيم؟ أجابت وقد تجهّمت: -لا جديد. لا يزال هاتفه المحمول على وضعية المجيب الآلي. سوف أتّصل مباشرة بمفوضية الشرطة. بينما كانت تدرج رقم الهاتف، ألقى جوناثان نظرة على نسخة صحيفة نيويورك بوست التي تركها أحد الزبائن على المقعد. كانت الصحيفة تتحدّث في صفحتها الأولى عن القضية التي سمع الحديث عنها من الراديو: فتح قضية وريثة كارتل مخدّرات فُتِحت قضية جيزيبيل كورت اليوم أمام المحكمة الخاصّة في كاليفورنيا. الفتاة التي تُلقّب باسم مونيكا، هي ابنة الراحل ألفونسو كورت، أحد الزعماء التاريخيين لكارتلٍ مكسيكي قويّ، قُتِل على يد عصابة منافسة في آذار \ مارس 2001. كانت جيزيبيل كورت التي كانت تقيم في لوس أنجلوس باستخدام هويّة زائفة قد أوقِفَت قبل ثلاثة أعوام بينما كانت تقوم بالتسوّق في حي روديو درايف للتسوّق. كان قرار الاتهام يأخذ عليها على نحوٍ خاص قيامها بالإشراف على العديد من شحنات الكوكايين المصدّرة إلى الولايات المتّحدة الأميركية وكذلك إقامة شبكة واسعة لتبييض الأموال. وكانت قضيّتها قد أُجِّلَت لمرّاتٍ عديدة، من خلال استغلال محامي مونيكا أصغر ثغرة في الأصول القانونية. توقّف عن القراءة مذ نجحت مادلين في الاتصال بمفوضية شرطة مانشستر. اتّصلت بشريكها السابق في القضية ولكنّ رجل التحرّي تريفور كونراد هو من ردّ عليها: -مادلين؟ يُسعدني أن أسمع صوتِك... -أحاول الاتصال بجيم منذ البارحة مساءً. هل هو موجود في المفوضيّة؟ في الطرف الآخر من الخطّ، لزم الشرطي الصمت طويلاً قبل أن يُفصِح: -لقد مات جيم، يا مادلين. -كيف حصل ذلك؟ لقد اتّصل بي قبل يومين! -أنا متأسّف: لقد عُثِرَ عليه صباح اليوم في مكتبه. لقد انتحر. رفعت مادلين عينين غير مصدّقتين نحو جوناثان وهي تلفظ بصمت كلمة: "مات!" اقترب منها مذهولاً لكي يتابع المحادثة. حاولت المرأة أن تعرف المزيد حول الأمر: -مهلاً، جيم الذي أعرفه ليس من نمط الرجل الذي يقتل نفسه هباءً منثوراً. هل كانت لديه مشاكل شخصية؟ -لا أعتقد. -كيف حصل الأمر، يا كونراد؟ تردّد الشرطي ابن مدينة مانشستر في الردّ على سؤالها. -لا يزال التحقيق جارياً في الحادثة. لا يمكنني أن أكشف لكِ المزيد من التفاصيل. -لا تمثّل دور المغفّل: كان جيم زميلي في فريق التحقيق لمدّة ستّة أعوام! ساد الصمت من جديد. قبل أن يغلق السمّاعة، قال الشرطي: -سوف أعاود الاتصال بكِ بعد خمس دقائق. * تحت تأثير الصدمة، أمسكت مادلين برأسها بين يديها. أثار موت جيم الصاعق باقة من الانفعالات والجراح. أزاحت سريعاً تلك الانفعالات لئلا تفقد صلابتها وتماسكها. مذهولاً للخبر، شعر جوناثان بالحيرة والارتباك. حاول أن يقوم بحركة لطيفة ولكنّ مادلين كانت قد أغلقت السمّاعة. -من المؤكّد أنّ كونراد سوف يتّصل من هاتفه المحمول أو من مقصورة هاتف. كلّ مكالمات المفوضية معرّضة للمُراقبة. أتصوّر أنّه لن يعرّض نفسه للمخاطر. -ألا تصدّقين فرضية الانتحار؟ اعترفت قائلةً: -لا أدري. على كلٍّ، أنت قابلته بعد أن قابلته أنا. استعاد جوناثان في ذهنه لقاءه مع الشرطي وحاول أن يُراجع انطباعاته عنه. -كان متعباً وغضوباً وشغوفاً تماماً بالتحقيق في قضية آليس ديكسون ومستعجلاً للشروع في تحقيقات جديدة. ولكنّ الانتحار حركة غامضة، من الصعب التنبؤّ بها أو ملاحظتها... وأنا في وضعٍ يمكِّنني من معرفة ذلك... رنّ الهاتف المحمول، كان كونراد هو من يتّصل. سأل الشرطي: -حسناً، ما الذي تريدين معرفته؟ -كيف حصل هذا الأمر؟ -أطلق جيم رصاصةً على رأسه في مكتبه، نحو الساعة الرابعة والنصف صباحاً. -من سلاح خدمته؟ -كلّا من مسدّسٍ غير مسجّل. -أولَم تجد هذا الأمر غريباً؟ -أنت تزعجيني، يا مادلين. -كلّ رجال الشرطة الذين ينتحرون يستخدمون سلاح خدمتهم! علّق كونراد قائلاً: -ليس الجميع. أعرف أحدهم شنق نفسه في صالون منزله. لم تكن الضربة متوقّعة ولكن مادلين لم ترتبك. -أخبرني المزيد عن هذا السلاح. -مسدّس بريتا 92 مزوّد بكاتم صوت. -هذا أمرٌ سوريالي! حينما تقرّر أن تطلق رصاصةً على رأسك لن تبالي بإيقاظ الجيران! كادت أن تضيف: وأنا في موضعٍ يمكنني من معرفة ذلك. أفصح الشرطي: -إذا ذهبنا في هذا الاتجاه، هناك تفصيلٌ آخر يثير الشكّ. -أخبرني به. -كان جيم يحمل سلاحه في يده اليمنى. -اللعنة! كان فلاهيرتي أعسراً. قال الشرطي: -هذا أمرٌ مشوِّش ولكنّه لا يبرهن على شيء. -أتسخر منّي؟ -حينما تضع سبطانة السلاح على صدغِك، لا تقرّرين بأيّ يدٍ ستطلقين النار. من الصعب أن تخطئي الهدف أيّاً كانت اليد التي تستخدمينها. التقطت مادلين أنفاسها. -على ماذا كان يشتغل جيم في تلك اللحظة؟ ولكنّ كونراد لم يكن مستعدّاً لكي يفشي كلّ المعلومات ويقدّم كلّ الاعترافات. -لقد أخبرتكِ بما فيه الكفاية حول الحادثة. يجب أن أترككِ الآن. -مهلاً! هل يمكنك أن تحوّل إليّ آخر الرسائل الإلكترونية التي تلقّاها جيم في الساعات التي سبقت موته؟ -هل تمزحين؟ لم تعودي من أهل البيت، يا مادلين! -كان جيم صديقي! -من العبث أن تلحّي عليّ. وحتى إن أردتُ ذلك، لا يمكنني القيام به. -لماذا؟ -منذ هذا الصباح، ضرب فيروس مستخدمنا وأصاب كلّ حواسيبنا القديمة. لم يصل أحدٌ إلى ملفّات حاسوبه. -ابحث عن عذرٍ آخر. -هذه هي الحقيقة، اعتنِ بنفسكِ، يا مادلين. * دفعت كأس الحليب الذي وضِع أمامها للتوّ وطلبت عوضاً عنه فنجاناً من القهوة. ثمّ أخرجت من حقيبتها الظهرية دفتر ملاحظات جوناثان. -لقد جلبت حاسوبك. أريد أن أرى من جديد ملفّ ديكسون. هل أخبرتني بأنّك قد حمّلته؟ سيكون تصفّحه أسهل مما لو كان على هاتفي. شغّل جوناثان حاسوبه. -أتعتقدين أنّ جيم قد قُتِل؟ -لا أعرف أيّ شيءٍ عن ذلك. -أمّا أنا، فأعتقد بأنّه قد اغتيل وأنّ موته مرتبط بما كان قد اكتشفه حول قضية آليس. -لا تتحمّس. لا يزال هناك أسبوعٌ، لم يسبق لك قط أن سمعت حديثاً عن هذه القضية. -هذا هو ما يتيح لي أن ألقي نظرة جديدة عليها. -والتي ستقودك إلى أيّ نتيجة؟... -أنا أعتقد أنّ الشرطة أو الأجهزة السرية قد قامت بكلّ شيء لكي تخفي عملية الخطف هذه. -أنت تخرّف! -هل تريدين وقائع مقلقة ومثيرة؟ كاميرات المراقبة! لقد قرأتُ الملفّ: آنذاك، اثنتا عشرة كاميرا كانت تصوّر الشوارع المحيطة بكليّة آليس. اثتنا عشرة! وكأنّها بالصدفة، كانت كلّها معطّلة في ذلك اليوم. ألا يبدو لكِ ذلك غريباً؟ -هذه نظرية المؤامرة الكبرى. -لقد قابلتُ آليس ستّ مرات بعد أن تلقّيتِ قلبها في حافظة ثلج! -سوف لن نعرف قطّ إن كانت حقّاً هي. -كانت هي! وقد قُتِلَ جيم لأنّه حصل على الدليل على ذلك! -هذا لا يكفي لتأكيد الأمور. يجب تقديم البرهان على صحّتها. -آليس لم تمت، ثقي بي. -لا علاقة للأمر بالثقة هنا. أعاد القول: -آليس لم تمت. وإذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فذلك لأنّها استفادت من عملية زرع قلب. عملية جراحية لا تظهر في سجلّ أي مستشفى. هل تتخيّلين شبكة التواطؤ والتنظيم الضروريين لتنفيذ هذا الأمر؟ من بوسعه أن يدبّر هكذا عملية سوى وكالة حكومية؟ -أنت تُفرط في مشاهدة المسلسلات التلفزيونية. اسمع، كان الجميع يهمل آليس ديكسون حينما كنتُ أجري التحقيق في قضيتها: وأمّها أوّلاً، وهي امرأة بائعة للمخدّرات كانت تعيش في حيّ فاسد. هذه الصبيّة هي ابنتها ولا أرى أن هناك ما تفعله الحكومة بهذا المووع. ازدردت مادلين فنجاناً من القهوة ومن ثمّ، ومثلما فعلت ذلك لمئات المرّات في حياتها الماضية، انهمكت في ملفّ آليس لكي تنعش ذاكرتها. ظهر عرض الاستماع الأوّل للقاتل في مسلسل بيشوب على الشاشة وكذلك صور مختلفة: صور البيت البائس لإيرن التي كانت تتناقض مع صور غرفة آليس المرتّبة تماماً وكتبها وإعلانات حفلتها الموسيقية وعلب بسكويتها من ماركة أوريو وقوالبها من الحليب بالفراولة. ولكنّ صورة جيم ظلّت ملتصقة بذهن مادلين. ماذا فعل بعد لقائه بجوناثان؟ ماذا كانت ستفعل، هي؟ مما لا شكّ فيه أنّه قد طلب تحليلاً تخطيطيّاً ورفعاً للبصمات. وربّما أيضاً تحقيقاً جينيّاً... وهي تنبش في محتويات هاتفها المحمول، عثرت على رقم هاتف تاشا ميديروس، وهي خبيرة في تقنيات الحمض النووي DNA في مختبر الشرطة العلمي في بيرمنغهام. كانت عالمة بيولوجيا متألّقة ولكنّها متسامحة مع الإجراءات. في الماضي، غالباً ما كانت هي وجيم يلفتان انتباهها لأنّها كانت توافق على إجراء تحاليل طارئة دون المرور اضطراراً على الكادر الشرعي. لا بدّ من القول أنّ تاشا كانت تستهلك "على نحوٍ منضبط" بعض الكوكايين وأنّ جيم وحرصاً على الحفاظ على علاقتهما الحسنة كان يعطيها بانتظام بعض الجرعات المصادَرة أثناء عمليات توقيف صغار الموزّعين. علق جوناثان: -قصة غريبة. ردّت عليه مادلين وهي تدرج رقم الهاتف: -الشرطة ليست عالم لعب أطفال! كانت تاشا في عطلة هذا اليوم، في بيتها مع ابنتها، ولكنّها أكّدت بأنّ جيم طلب منها بالفعل إجراء تحليلٍ. كانت مناوبة في الليلة الماضية وأرسلت إليه النتائج عبر البريد الإلكتروني في الصباح الباكر. -ألا تتذكّرين بعد بماذا كان يتعلّق التحليل؟ -كان تحليلاً للمقارنة بين حمضين نوويين. -هل يمكنكِ أن ترسلي إليّ البريد، من فضلك؟ -اليوم، سيكون الأمر صعباً. -الأمر في غاية الأهمية، يا تاشا. لقد مات جيم. أحاول أن أعرف سبب موته. -اللعنة... -سوف أرسل إليكِ عنوان بريدي الإلكتروني. -حسناً، سوف أذهب إلى المكتب مع باولا. سوف تكون النتائج بحوزتكِ في أقلّ من ساعة. * على الحاسوب، كان جوناثان يفحص صور مجازر بيشوب. يُطالب بقاتل آليس دون أن يحمل أدنى دليل. وسط تلك الكمية الكبيرة من الدم والعنف، أدرك جوناثان فجأةً بأنّه بفضل هذه الفظائع كانا مادلين وهو معاً هذا الصباح. من دون اختفاء آليس، لما التقيا أبداً... بينما كانت تعدّل هاتفها لكي تتأكّد من أنّه قد اتّصل بالشبكة، باشرت مادلين بإفراغ ملف التصفية. كان هذا الملف يحتوي على ما يقارب ثلاثين رابطاً مشبوهاً تحتوي على فيروسات من أنواعٍ مختلفة، تحثّها على طلب ساعات فاخرة، أو أقراص لتقوية طاقتها الجنسية أو منتوجات عجيبة قادرة على أن تجعلها تفقد عشرة كيلوغرامات من وزنها خلال عشرة أيام. -انظر إلى هذا! وسط تلك الرسائل غير المثيرة للانتباه، جذبت رسالة إلكترونية انتباهها. كانت قد أُرسِلت إليها قبل أربع وعشرين ساعة من قبل ... جيم فلاهيرتي! تسارعت دقّات قلبه. لماذا تمّت تصفية الرسالة الإلكترونية لجيم بوساطة البرنامج المضاد للفيروسات؟ أتكون بسبب الملفات الملحقة العديدة والثقيلة؟ اطّلعت عليها باضطرابٍ وعصبية: من: جيم فلاهيرتي إلى: مادلين غرين الموضوع: تشريح جثّة التاريخ: 22 كانون الأول \ ديسمبر 2011، 18:36 عزيزتي مادلين، ألم تجدي أيّ شيءٍ غريبٍ في البعض من هذه الصور؟ اتّصلي بي إن وجدتِ فيها ما هو غريب. صديقكِ، جيم. كان يتبع الرسالة نصّ وثيقة في ملف PDF وكذلك العديد من الصور. حوّلت مادلين الرسالة الإلكترونية إلى الحاسوب لكي تشاهد الوثائق ملء الشاشة. كانت الوثائق جميعها ترتبط بتشريح جثّة داني دويل، عرّاب شيتام بريدج. سأل جوناثان بصوتٍ عال: -ما الذي يفعله هذا في هذه الوثيقة؟ انحنى لكي يقرأ تقرير تشريح الجثّة في الوقت نفسه الذي تقرأه مادلين. وبما أنّه كان يعرفه من قبل، كان قد تمّ العثور على جثّة داني في بورةٍ وقد أُطِلَقت رصاصةٌ على رأسه، وقد بُتِرت يداه وقدماه واقتُلِعَت أسنانه. عملية قتل منسوبة إلى عصابة أوكرانية كان زعيمها قد تعرضّ للفظائع نفسها قبل ذلك ببضعة أشهر. كان تقرير الطبيب الشرعي كلاسيكياً: تحديد ساعة الوفاة حسب قساوة الجثّة، توضيح آثار المسحوق حول الجرح، تحليل أعضاء وبعض عيّنات الدم، محتوى المعدة، الحمض النووي DNA . وهي عناصر كثيرة أكّدت بما لا يدع مجالاً لأدنى شكّ هويّة داني دويل. كما هو الحال غالباً في عمليات تشريح الجثث في الجرائم العنيفة، كانت الصور تثير الغثيان والنفور: وجه مزرقّ ومشوّه من جراء التعذيب، قفص صدري مخضرّ مشقوق حتى البطن، أورام دموية بالعشرات التي تبقّع كلّ الجسم. كان داني قد تعرّض للتعذيب ولم يرحل بهدوءٍ وسلام. ولكن ما الذي وجده جيم "غريباً" في هذه الصور؟ تلاعبت مادلين بعيار التكبير لكي تكبّر حجم بعض المناطق من الجسم. قال جوناثان: -لقد انتزعوا حتى قطعةً من أذنه. قطّبت مادلين جبينها وتفحّصت المنطقة التي أشار إليها جوناثان بإصبعه. كان ذلك صحيحاً: كانت قطعة كبيرة من شحمة الأذن اليمنى للجثّة قد انتُزِعَت. ولكنّ هذا الجرح كان يبدو قديماً. والحال أنّ داني لم تكن لديه قطّ أذنٌ مقطوعة، على العكس من ... جوني، توأمه. صرخت: -هذا ليس داني، هذا شقيقه! شرحت الحكاية لجوناثان: خرج الوليدان من بطن أمّهما بفارق خمس دقائق، منافسة الأخوين، عنف وقسوة جوني الذي كان يعاني من الشيزوفرينيا والذي اعتُقِل عدّة مرّات قبل أن ينغمس في الإدمان على الكحول. انكبّت على تقرير تشريح الجثّة لكي تعيد قراءة المقطع المتعلق بتحليل الأعضاء. كان كبد الجثّة مصاباً "بانحلال أنسجة ناجم على ما يبدو عن استهلاك الكحول". إنّه تشمّعٌ في الكبد. -كان داني يشرب من حينٍ إلى آخر كأساً من الكحول ولكنّه لم يكن قطّ مدمناً على الكحول. -كيف أمكن لرجال الشرطة أن يقوموا بهذا الخلط؟ -"التوأمان الحقيقيان" لهما الإرث الوراثي نفسه، الأمر الذي يجعل من المستحيل التمييز بين حمضهما النووي. -هل أنتِ متأكّدة من هذا الأمر؟ -حصلت قضايا عديدة من هذا النوع. خاصّة عملية سرقة حدثت في ألمانيا وعملية تهريب مخدّرات في ماليزيا. في كلتا الحالتين، كان للمشتبه به توأم واضطرّ القضاء للإفراج عنه، لعدم القدرة على تحديد هويّته على نحوٍ مؤكّد. -ولكن إذا كانت هذه الجثّة تعود لجوني... أكّدت مادلين، وهي ساهية: -... هذا يعني أنّ داني على قيد الحياة. طلبا فنجانين جديدين من القهوة. خلال عدّة دقائق، استغرقا في التخمينات إلى أن تلقّت مادلين بريدَ تاشا ميديروس، خبيرة الحمض النووي DNA في مخبر بيرمينغهام. من: تاشا ميديروس إلى: مادلين غرين الموضوع: مادلين، هذه هي نتيجة التحليل الذي كان جيم قد طلب مني إجراءه دون المرور في القنوات الرسمية. أنا حزينة جدّاً عليه. كلّي أمل أن يساعدك هذا التحليل. تاشا حائرة جدّاً، نقرت على الملفّ المرفق بينما كان جوناثان يميل على كتفها ليكتشف الوثيقة معها: كانت الوثيقة على شكل لوحة معقّدة تتكوّن من حوالي خمسة عشر خطّاً في ستّة أعمدة. تضمّ كلّ خانة العديد من الأرقام. احتاجا إلى بضع ثوانٍ ليدركا بأنّ التحليل يتعلّق باختبارٍ للأبوّة. فقفزا إلى آخر فقرة في الوثيقة والتي تذكر النتيجة، وما اكتشفاه جعلهما يصمتان: اختبار أبوّة أجري من دون وجود المادة الوراثية للأم يستند إلى تحليل الحمض النووي DNA الأب المزعوم: دانييل دويل. الوليد: آليس ديكسون. تمّ توضيح مضادات متشابهة في المواضع الصبغوية الخمس عشرة التي تمّ تحليلها. احتمال الأبوّة مرجّح بنسبة 99.999%. قبل موته، كان لدى جيم حدسٌ رائع. بعد ثلاثة أعوامٍ من التحقيق، استطاع ليس فقط أن يثبت بأنّ داني دويل لم يمت فحسب، بل وأنّه والد آليس ديكسون. اكتشافٌ دفع حياته ثمناً له. الفصل الحادي والثلاثون في الأراضي المعادية في الظلمات، لكلٍّ مصيره. جاو كسينغجيان مقهى بيلز لوير ايست سايد الساعة العاشرة صباحاً ارتمت مادلين، مذهولةً، إلى الخلف على المقعد، وقد انتابها فجأةً شعورٌ بالغثيان. بدأ رأسها يدور. لم تكن آليس ولا داني قد ماتا. والأمر الأكثر إدهاشاً: كانت المراهقة ابنة عرّاب الرذيلة، لكنّ جيم قد مات فعلاً؛ وهي بنفسها كادت أن تنتحر. كان عشرات الأشخاص يعملون ليلاً ونهاراً على التحقيق في هذه القضية. لماذا؟ لأيّ سبب؟ فجأةً، شكّكت في كلّ شيء. مَنْ هم الضحايا في هذه الحكاية؟ من هم المذنبون؟ منذ بداية القضية، منذ أن استطاعت أن تنير منطقة مظلمة، ظهر لغزٌ آخر في الطريق، كان يجرّها في كلّ مرّة نحو أرضٍ أكثر خطورة ووعورةً. رفعت عينيها وسعت إلى تلقي المساندة من جوناثان، ولكنّ هذا الأخير، الذي ألصق جبينه بالواجهة الزجاجية، كان منشغلاً بما يراه في الخارج. -أعتقد أنّ هناك من يقتفي أثرنا ويراقبنا. ردّت وهي تقترب من النافذة: -هل تمزح؟ -أترين سيارة فيراري السوداء، المركونة هناك؟ -المركونة أمام موريسون هوتيل؟ -نعم، صادفتها مرّتين هذا الصباح: في المرّة الأولى في تريبيكا ومن ثمّ في ليلت إيتالي. لا توجد عليها لوحة الرقم ولم أتمكّن من تحديد هوية السائق. قطّبت مادلين عينيها. من هذه المسافة، يستحيل أن تمييز أي شبح في داخلها. قالت بلهجة حازمة: -اتبعني. لا تزال هناك ساعة واحدة، لم تكن لتتخيّل للحظة واحدة أن يتمّ التجسّس عليهما، ولكن بعد موت جيم وما اكتشفاه مؤخّراً، باتت ترتاب في كلّ شيء. دفعا قيمة فطورهما ونزلا من الطابق وغادرا المقهى لكي يذهبا إلى سيارتهما. طلبت مادلين منه: -دع مقود السيارة لي. جلست خلف مقود سيارة السمارت وأقلعت. -هل تعتقدين بأنّها سوف تلحق بنا؟ ربّما هذا التحقيق هو ما يجعلنا نهذي... -احكم بنفسك. أراهنك على أنّه سوف ينقلب. وبالفعل، خرجت سيارة الفيراري من مكمنها وسارت "خفيةً" في أثرهما، على بعد حوالي عشرين متراً خلف سيارتهما. أمرت: -لا تلتفت إلى الوراء. واربط حزام الأمان. زادت ابنة المدينة من السرعة وهي تسلك طريق بويري باتجاه كوبر سكوير. فجأةً، دعست مادلين على المكابح وأدارت المقود إلى أقصى اليسار، الأمر الذي جعل السيارة تخرج إلى منتصف الطريق. احتجّ جوناثان وهو يمسك بمعصمه: -أنتِ متهورة! رست سيارتهما على الجانب الآخر من الطريق، بعكس اتجّاه سيارة الفيراري. -أوقفيها وافتحي عينيك! أصبحت الآن السيارتان تسيران باتجاهين معاكسين. حينما تقابلت السيارتان، كان لدى جوناثان نصف ثانية لكي يعرف من هو الشخص الذي يجلس خلف المقود. كانت امرأة شقراء، جميلة جدّاً، مع ندبة على شكل نجمة تمتدّ من قوس حاجبها لكي تشقّ أعلى خدّها وصولاً إلى ملتقى الشفتين... * -ماذا إذاً؟ صرخ جوناثان: -أعرفها! أنا متأكّد من أنّها المرأة التي اصطحبتُ الفتاة آليس إلى بيتها قبل عامين في كاب – دانتيب! -تلك التي ادّعت أنّها أمّها؟ -نعم! نظرت مادلين في المرآة العاكسة. قطعت سيارة الفيراري الطريق نحو الغرب عبر آستور بلاس. انعطفت سيارة السمارت بداهةً، إلى كوستون ستريت. إذا مرّت عبر برودواي، يمكننا أن نطاردها، أليس كذلك؟ -هذه لعبة مسلية. شبكا أصابعهما، وهما يترصدان السيارات بشراهة. بعد بضع ثوانٍ، ظهرت الواجهة الأمامية لسيارة GTO في محور الطريق الذي يعبر المدينة بشكلٍ مائل. انعطفت السيارة نحو سبرينغ ستريت. حادت مادلين عن الطريق في إثرها واختلطت بحركة السير. لا بدّ أنّ السائقة قد لاحظتهما، لأنّ سيارة الفيراري انطلقت بسرعةٍ تركت السيارة الصغيرة في مكانها. -تبّاً، لقد أضعناها! بدا الأمر محتوماً: ماذا بوسع سيارة سمارت أن تفعل أمام سيارة ذات محرّك V12 بقوّة 280 حصاناً؟ ولكن لم تكن مادلين تستسلم بسهولة. رافضة أن يتمّ تجاوزها، زادت السرعة إلى أقصى درجاتها عند تقاطع لافييت. صرخ جوناثان: -احذري! كان بائع متجوّل للهوت دوغ قد أعدّ عربته لكي يعبر الطريق. أطلقت مادلين زمور التحذير منحرفةً إلى اليسار. قفز البائع المتجول ورجع إلى الخلف في حين لامست سيارة السمارت طرف العربة المعدنية التي انقلبت على الأرض وانسكبت على الطريق المعبدّة قطعٌ من النقانق والكاتشب والخردل والبصل المقلي والكرنب المخلّل. حادت السيارة عن الطريق وصدمت الرصيف، ولكنّ مادلين نجحت في السيطرة عليها وضبطت غيار السرعة لتنطلق من جديد بأقصى سرعتها على ديلانسي ستريت. * في الأثناء، في كوناي آيسلاند... أدارت آليس، خائرة القوى على الأرض مثل حيوانٍ مذعورٍ، رأسها بحثاً عن الجرذ، ولكن القارض كان قد فرّ مع يوري. استعرت الحمّى في دمها وغرق جسمها في العرق، فجعل شعرها يلتصق بوجهها وسرت رعشات في طول مفاصلها. انتشرت تشنّجات مؤلمة في بطنها. كما شعرت أنّ قدميها وكعبيها متورمّتان. بعد "الفيلم"، كان الروسي قد غادر، تاركاً إيّاها مكبّلة إلى ذلك الأنبوب اللعين. رغم توسّلاتها، لم يقدّم لها ما يكفي من الماء واكتفى بأن رشّ على وجهها قارورة مياه. بذلت آليس، منهكةً من التعب، جهداً لكي تتلوّى وترفع غطاء كنزتها ذات القبّعة باستخدام أسنانها. كانت تُصاب بالغثيان والدوخة في أدنى حركة. هذه المرّة، أمسك التقزّز بحلقها واستفرغت قيئاً مائلاً للاصفرار. استندت إلى الجدار، غير قادرة على استعادة أنفاسها. تصاعدت اختلاجات في صدرها، وأصبح إيقاع نبضات قلبها مقلقاً. كم من الوقت سوف تستغرق؟ في الوقت الراهن، لم يعد بوسعها أن تخفي الأمر عن نفسها: كانت آلام رأسها التي تدوّم في رقبتها والقضيب الحديدي الذي يضغط على بطنها الدليل على أنّ ضغطها قد تسبّب في قصورٍ كلوي. نظرت إلى حوض المرحاض الذي يبعد عنها لمسافة مترين. منذ عدّة ساعات، كانت ترغب في الذهاب إلى المرحاض، ولكنّها لم تنجح في الوصول إليه. متنازلة عن كلّ وقار وعزّة نفس، تخفّفت في لباسها الداخلي. لم تعد تشعر بالخزي. غرقت بالتأكيد وسط القيء والبول، ولكنّها على الأقلّ تخفّفت من عبءٍ ثقيل. استغرقت هذه الاستراحة بعض الوقت، ثمّ دوّى صفيرٌ مصمٌّ في أذنيها. زاعت رؤيتها وشعرت بأنّ نقاطاً مضيئة تسبح في كلّ الحجرة. كانت تختنق وتستسلم وتهذي. كافحت لئلا يُغمى عليها، ولكنّها سرعان ما غطّت في شبه غيبوبة يكتنفها الغموض. * لوير إيست سايد صرخ جوناثان وهو يشير بإصبعه إلى سيارة الفيراري التي تسير على جسر وليامسبوغ بريدج: -إنّها هناك! كان الجسر المعلّق يمتدّ فوق نهر إيست ريفر لكي يربط لوير إيست سايد مع بروكلين. كان الجسر المطوّق بالسياج والحبال الفولاذية يمتدّ على طول كيلومترين وتسير المئات من السيارات على طرقاته الأربعة. قالت مادلين مخمّنةً: -حركة السير كثيفة، سوف تضطّر إلى التخفيف من سرعتها. في الواقع، كانت سيارة GTO تراوح في مكانها، عالقةً وسط حركة المرور. استعادت مادلين ثقتها بنفسها. وهي تلعب بالنار، خاطرت بالتعرّج السريع بين السيارات وهي تنتقل من رتلٍ إلى آخر لكي تُقصّر المسافة التي تفصلها عن سيارة السبايدر. -خفّفي من سرعتكِ! سوف تهلكيننا! ما أن خرجت من على الجسر، أقلعت السيارة الإيطالية بأقصى سرعتها لكي تسلك أوّل مخرجٍ. ولأنّ مادلين لم تكن تعرف بما فيه الكفاية جغرافية مدينة نيويورك، سألت: -إلى أين سوف نتّجه؟ -نحو ويليامسبورغ. وصلا إلى جادة بيدفورد أفينيو، وهي النقطة الحسّاسة في الحيّ. كانت عمارات قديمة مبنية من القرميد تتتالى مع مبانٍ حديثة فارهة. كان المكان، في خضمّ عملية إعادة البناء، يتعاكس مع الجانب "المُطهّر" من مانهاتن. كانت هناك متاجر الرثاث والمقاهي الصغيرة ومتاجر الفينيل وبقاليات المنتوجات الطبيعية ومكتبات الكتب القديمة: يتساوى فيها كلّ شيء من أصالة وحداثة في آنٍ واحد. تم كبح تقدّم سيارة الفيراري من قبل جوّ القرية السائد في الشارع. كان التجّار قد عرضوا بضائعهم على الرصيف، ومغنّون هواة يثيرون الأعصاب بأغانيهم وقاذفة لهبٍ تقدّم عروضها. الآن، مادلين وجوناثان على بعد أقلّ من عشرة أمتار من سيارة السبايدر. محصورةً من قبل سيارة السمارت، انعطفت سيارة الفيراري إلى اليسار قبل الوصول إلى ماك كارين بارك. لدى الاقتراب من الشاطئ، اجتازا منطقة مستودعات وعنابر وبوَر. كانت الجدران المغطاة بكتابات ورسومات اعتباطية تذكّر بمدينة نيويورك في عصر الفنان الأميركي باسكيات. صرخ جوناثان بينما كانا يتوغّلان في زقاق: -إنّه مسدود! إنّه طريقٌ مسدود. ليس هناك أيّ شيء غير النهر! في الواقع وصلت سيارة الفيراري أمام مستودعٍ للسيارات القديمة. كانت العمارة تطلّ على الأرصفة البحرية، فتمنح إطلالةً غير متوقّعة على برج مانهاتن. سارت سيارة GTO ببطء على رصيف الميناء ومن ثمّ وبسرعة خاطفة دخلت إلى العنبر عبر بابٍ فولاذي واسع. خفّفت مادلين من سرعتها لكي توقف سيارتها على بعد عشرين متراً من مدخل الكراج الذي يحمل اسم ماكوندو موتور كلوب. -والآن ماذا سنفعل؟ قال جوناثان: لقد خُدعنا. لم نكن نحن الذين نطاردها، بل هي التي كانت تطاردنا. أتعتقدين بأنّه كان علينا أن...؟ لم يمتلك الفرصة لكي يتمِّم الجملة. جعلهما زعيق عجلات أن يلتفتا. صدمتهما الواجهة الضخمة لرافعة سيارات وأوقفت سيارة السمارت في البوابة المفتوحة للكراج. دفعتهما الصدمة إلى الأمام. لم تكن مادلين قد وضعت حزام الأمان ولكنّ جوناثان جاء في الوقت المناسب تماماً لكي يجنّب رأسها الارتطام بالمقود. سحبت القاطرة السيارة الصغيرة لعشرات الأمتار إلى أن أدخلتها بالكامل إلى داخل العنبر الذي انغلقت أبوابه عليهما. كان العنبر يمتدّ على أكثر من مائتي متر مرّبع. ويوجد فيها حوالي خمسين سيارة، متراصفة بعضها مقابل الأخرى. تعرّف جوناثان على سيارة بيجو 403 ولكن على ما يبدو كان هذا المستودع مخصّصاً للسيارات القديمة: فورد غران تورينو، شيفروليه كامارو، بليموث باراكويدا... سأل وهو ينظر إلى مادلين: -ألا توجد كسور؟ تساعدا على نحوٍ متبادل لكي ينسلاّ من سيارة السمارت التي كانت تشبه الآن تمثالاً للقيصر أكثر منها سيارة تسير. كانت السيّدة ذات الندبة تقف أمامهما بالقرب من سيارتها الفيراري وتصوّب سلاحاً نحوهما. صرخت بينما كانا يقفان: -التحرّي بليث بلاك من جهاز يو. إس مارشالز! ارفعا أيديكما فوق رأسيكما! جهاز يو. إس مارشالز؟ الشرطة الاتحادية لوزارة العدل... نظر جوناثان ومادلين إلى بعضهما باندهاش، هذه المرأة كانت شرطية! ثمّ التفتا نحو رافعة القطر التي قفز منها شخصٌ إلى الأرض. ببنطالٍ خاصٍّ بالعمل وسترةٍ عسكرية، تقدّم داني دويل نحوهما. -مرحباً مادي! هل تعلمين بأنّك لا تزالين تمتلكين المؤخرة الصغيرة الأجمل من كلّ بائعات الزهور الباريسيات... الفصل الثاني والثلاثون حقيقة داني دويل الأشواك التي تلقيّتها أتت من الأشجار التي زرعتها لورد بايرون رصيف إيست ريفر -أنت وغدٌ حقيقي! كيف استطعت أن تقنعني بأنّ آليس قد ماتت؟ -مادي، هدّئي من روعكِ... -لن أغفر لك ذلك أبداً، يا دانييل! -اتركي لي فرصة الدفاع عن نفسي. سار مادلين وداني على طول رصيف وليامسبورغ. قرب الماء، كانت درجة الحرارة أكثر برودة بوضوح. ولفّت مادلين بلوزتها على خصرها. كان حارسان شخصيان يتكفّلان بحماية المنطقة أوّلاً بأوّل خلال جولتهما، فيسير أحدهما أمامها والآخر خلفها تاركين فاصلاً من عشرة أمتار بينهما. -من هؤلاء الدمى؟ -إنّهما تحريّان من الشرطة الاتحادية FBI يعملان لصالح وكالة مارشالز. متوتّرة الأعصاب، وهي لا تزال تحت تأثير صدمة الحادثة التي تعرّضت لها وما اكتشفته في الصباح، تحدّت مادلين الشرير السابق: -أخبرني أين آليس، الآن! -سوف أشرح لكِ كلّ شيء، ولكن كفّي عن الصراخ، اتّفقنا؟ أخرج داني من جيبه سيجاراً من ماركة سيجاريو، كان سبق له ودخّن منه فأشعله بقدّاحته. بدأ داني يروي الحكاية وهو يجلس على أحد المقاعد الموجودة على ضفّة النهر: -بدأت كلّ الحكاية قبل ثلاثة أعوام ونصف. كان ذلك قبل وفاة والدتي بشهر واحد. لقد أنهت حياتها في مستشفى كريستي هوسبيتال، من جرّاء سرطانٍ في مرحلته النهاية. كنتُ أعلم بأنّها تعيش آخر أسابيعها وكنت أذهب لرؤيتها كلّ يوم. ترك داني ذكرياته الأليمة تطفو إلى السطح. كان قد هزُل وأصبح شعره أطول يحيط بوجهٍ مخدّدٍ ذي ملامح مهزولة. وافقت مادلين على أن تهدأ وأن تجلس إلى جواره. نفث نفثةً من سيجاره قبل أن يتابع: -كلّ مساء، كنتُ أخرج من المستشفى وأنا أكثر يأساً. كنتُ قد اعتدتُ على أن أذهب وأتخلّص من قلقي في مقهى سول كافيه، وهو مقهى إنجليزي مشهور في أوكسفورد رود على بعد مائة متر من العيادة. هناك، شاهدتُ آليس للمرة الأولى. كانت تقدّم المساعدة لطاقم الخدمة فترفع الأكواب والسكاكين والملاعق والشوك. حينذاك، لم تكن قد بلغت الرابعة عشرة من عمرها، وإن كانت تبدو وكأنّها في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرها. كان من الواضح أنّها لم تكن قد بلغت سنّ العمل، ولكن لا أحد اهتمّ فعلياً بهذا الأمر. -هل لفتت انتباهك منذ البداية؟ -نعم، كنتُ محتاراً في تصرّفها: في كلّ استراحة، كانت تجلس إلى طاولة لتقرأ أو لتنجز واجباتها المدرسية. ومن ثمّ، كانت تنظر إليّ بطريقة غريبة، كما لو أنّها تعرفني... -هل تحدّثت معها؟ -في الفترة الأولى، كانت تكتفي بالنظر إليّ، ومن ثمّ، ذات مساء، جاءت توجّه لي الكلام بجسارة. أخبرتني بأنّها تعرف من أكون. ثمّ سألتني ان كنتُ أتذكّر والدتها، إيرن ديكسون... -لم أعرف قطّ أنّك كنت تتردّد على تلك المرأة... -لقد نسيتُ ذلك أنا بذاتي. من جهة أخرى، احتجتُ إلى بضع ثوانٍ لكي أتذكّر وجهها. هذا صحيح، لقد نمتُ مع إيرن ديكسون مرّتين أو ثلاث، قبل ما يقارب خمسة عشر عاماً. كانت فتاة سهلة المنال وتمنح نفسها دون تردّد. كانت جميلة قبل الإدمان على الكوكايين، حتى وإن لم تكن خبيرة أبداً... -أهذا ما أجبت به ابنتها؟ -كلاّ بالطبع. كنت مرتبكاً ولكنّها توجّهت مباشرة إلى الهدف: لقد أخبرتني بأنّها قد سألت والدتها، وأنّها قد أجرت تحقيقها وبأننّي... حسب رأيها والدها. -وهل صدّقتها؟ -حتى قبل أن تخبرني بذلك. كان ذلك بمثابة أمرٍ بديهي. -لماذا؟ هل وجدتها تشبهك؟ -كلاّ، وجدتها تشبهكِ أنتِ. احتدّت مادلين غضباً: -لا تمزح في هذا الأمر يا دانييل! لا تقولي عكس ذلك! أنتِ أيضاً، تعلّقتِ بهذه الصبيّة! لماذا ثابرت بإصرار على هذا التحقيق إن لم تكوني تتعرّفين لا شعورياً على نفسكِ فيها؟ -لأنّ ذلك عملي. لكنّ دويل أصرّ: -هذه الصبية، كانت الفتاة التي ربّما كنّا لننجبها أنتِ وأنا معاً! كانت ذكية، منعزلة، مثقّفة، مختلفة جدّاً عن كلّ البلهاء الذين كانوا يحيطون بي. كانت تواجه كلّ شيء، وتجابه الحياة بشجاعة. بالنسبة إلي، كانت بمثابة هديّة من السماء. -إذاً، اعتدتما على أن تلتقيا؟ -نعم، تقريباً كلّ يوم، دون أن يعلم أحدٌ بالأمر. كان ذلك سرّاً بيننا. تعلّمتُ أن أتعرّف إليها على نحوٍ أفضل ولم أكذب عليها بشأن أنشطتي. لقد منحتني سبباً لكي أستيقظ في الصباح. للمرّة الأولى، كانت لحياتي معنى. -هل كنتَ تعطيها نقوداً؟ -كنتُ أساعدها قليلاً، ولكنني لم أشأ أن أوُقِظَ الظنون والشكوك. كنتُ عازماً على أن أدفع لها أجر دراستها في جامعة جيّدة، بل وفكّرتُ أن أتبنّاها شرعياً، ولكن نظراً إلى عدد الأشخاص الذين كانوا يريدون قتلي، كان ذلك سيعرّضها للخطر. علاوة على ذلك، كانت هناك تلك المشكلة الصحية التي كانت تقلقني... سألت مادلين مخمّنة: -قلبها، أليس كذلك؟ وعيناها مصوّبتين على المياه الزرقاء لنهر إيست ريفر، ردّ داني حزيناً بالإيجاب: -كنتُ أجدها تلهث لأدنى جهد. لم تكن تتشكّى ولكنّها كانت غالباً متعبة وتعرّضت مرّتين لوعكةٍ أمامي. أرسلتها إلى مديرية الصحّة الوطنية "Primary Care Trust". شخّص الطبيب تضخّماً قلبياً ولكن ليس شذوذاً خاصّاً. ولكي أطمئنً تماماً، طلبتُ من الطبيب المختصّ بالأمراض القلبية الذي كان يتابع وضع والدتي أن يجري فحوصاتٍ إضافية. وقد كشفت عن التهاب موسّع في نسيج العضلة القلبية: كان قلب آليس يعمل ببطء. كان المرض قد بلغ مرحلة متقدّمة وكان هناك خطر أن تموت في أيّ لحظة. -هل وافق الطبيب على أن يقوم بمعالجتها تحت اسمٍ زائف؟ -لكلّ رجلٍ ثمنه، يا مادلين. -وتمّ الأمر؟ -في الأشهر الأولى، استجابت آليس جيّداً للأدوية. هبّت الريح. كانت مادلين تعيد شيئاً فشيئاً بناء تسلسل الأحداث، ولكن أسئلة كثيرة بقيت معلّقة بلا إجابة. -هل كانت آليس تعلم فعلاً في ماذا كنت تعمل؟ -نعم، لم أخدعها أبداً. -ألم يسبّب لها هذا الأمر مشكلة؟ -لنقل أنّها كانت ذكية بما يكفي لئلا تنظر إلى الأمور نظرةً مانوية. أبدت مادلين هذه الملاحظة لكي تعاتبه على نيّته، ولكنّها فضّلت ألا تكشفها. -ألم تفكّر في أي لحظة في أن تعود إلى جادة التعقّل؟ -أجل، بالتأكيد! ولكن ماذا تظنّين؟ بأنّ الأمر كان سهلاً؟ بأنّه كان يكفي أن أطقطق أصابعي؟ كنتُ في ورطة: كان رجال الشرطة يتعقّبونني والعصابات المنافسة تريد قتلي وحتّى رجالي الذين كانوا ينتظرون أوّل فرصة لكي يقوموا بخيانتي. -وهل كانت آليس تعي كلّ هذا؟ -أكثر ممّا كنتُ أتصوّر لأنّها هي التي وجدت لي الحلّ. -ماذا تقصد بهذا؟ -ذات مساء، رأيتها تأتي ومعها ملفّ سميك كانت قد أعدّته انطلاقاً من عشرات المقالات المحمّلة على الإنترنت. عبارة عن نصوص قانونية من أحكام القضاء ودراسة حالات: عمل حقيقي لمحامٍ. زعمت بأنّها قد وجدت الصيغة السحرية ليتاح لنا نحن كلينا أن نبدأ حياة جديدة. -وماذا كانت تلك الصيغة السحرية؟ -البرنامج الأميركي لحماية الشهود: WITSCE. الفصل الثالث والثلاثون الشهود يمكن للنائب العام في الولايات المتحدة الأميركية أن يتّخذ تدابير وقائية لشاهد في قضية مرتبطة بنشاطٍ إجرامي منظّم، إذا ما قدّر أنّ الشاهد قد يكون ضحية للعنف أو إجراءات زاجرة. الفصل 3521 من العنوان 18 من مدونة الولايات المتحدة الأميركية. بعد أن تجمّدا من شدة البرد نتيجة جلوسهما الطويل على المقعد، نهض داني ومادلين واستأنفا مشيتهما على طول الرصيف. على الرغم من البرد، لم تخلُ مروج ضفاف نهر إيست ريفر من الناس. كانت مجموعة من المسنّين الذين يحملون شباكاً وسطولاً بلاستيكية وقصبات صيد السمك يتبادلون التهاني بإيجاد ركنٍ تتوافر فيه الأسماك تماماً قبالة منطقة سكاي لاين في مانهاتن ويخرجون بإيقاعٍ جنوني أسماك القاروس المخطّطة وأسماك موسى وأسماك الراقود الصغيرة. كانوا يتحدّثون البولونية والروسية والإسبانية... شرح داني: -في البداية، رددتُ على آليس بأنّ "برنامج حماية الشاهد" خاصّتها ساذجٌ وغير قابل للتطبيق. لم يكن لديّ أيّ شيء لأتبادله معها، كنتُ يائساً. ولكنّها ألحّت قائلةً: "أنا متأكدّة من أنّك تستطيع أن تستفيد من الذي يحرجونك في هذه الحياة". شقّت هذه الفكرة طريقها. في الولايات المتحدة الأميركية، كنّا على مدى بضعة أشهر من الحملة الانتخابية. كان جميع المرشّحين يتحدّثون عن المكسيك حيث كانت حرب عصابات تجارة المخدّرات قد أوقعت عشرات الآلاف من القتلى. وكان الأميركيون يشعرون بالقلق من تصاعد وتيرة انعدام الأمن على مقربةٍ من حدودهم. أحدث انتخاب أوباما تحوّلاً حينما اعترف بمسؤولية بلاده في تجارة المخدّرات لكونه البلد المستهلك الرئيس. حتى قبل أن يبدأ ولايته الرئاسية، التقى نظيره المكسيكي وقد جدّد البلدان نيّتهما في خوض كفاحٍ لا هوادة فيه على مهرّبي المخدّرات. كان ملفّاً ساخناً في فترته الرئاسية: لم تكن لدى واشنطن أيّ رغبة في أن تجد على أبوابها دولة مبتلية بالمخدّرات. سألت مادلين: -وأيّ علاقة لك بذلك؟ تبييض أموال؟ -قبل خمسة عشر عاماً، خلال سنتي الدراسية في كاليفورنيا، قابلتُ جيزيبيل كورت على مقاعد جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس. -ابنة رئيس العصابة هذا؟ اسمها موجود في كلّ الصحف بسبب هذه القضية. -بقينا على تواصل، كان لنا نحن الاثنان ماضٍ عائلي ثقيل. فأولاد المجرمين يفهمون بعضهم. -وقد تفاهمتما لدرجة أنّ كلاً منكما قد استلم شعلة والده المحترم... -لم تكن يدا جيزيبيل ملطّخة بالدماء على نحوٍ مباشر. كانت محاسبة المنظمّة. كانت امرأة تنفيذية محتشمة وذكيّة قامت خلال سنوات بتبيض الملايين من أموال المخدرات من خلال استثمارها في أنشطة مشروعة. -لديك طريقة مذهلة جدّاً في تقديم الأمور... -على مرّ السنين، مع تعزيز مكافحة الأموال المشبوهة، بات من الصعب على تجّار المخدّرات أن يبيّضوا دولاراتهم عبر البنوك والفراديس الضريبية. اضطّرت جيزيبيل للالتفات نحو أنشطة أخرى ووسطاء آخرين. -هنّا استنجدت بك أنت... -نعم، خلال خمسة أعوام، استثمرتُ لصالحها في قطاع التطوير العقاري والفندقي. كنتُ أعرف أنّ وكالات الضرائب الأميركية تحاول أن توقِع بها، ولكنّنا كنا يقظين وحذرين. حينما حدّثتني آليس عن برنامج حماية الشهود، طلبتُ من وكيلي القانوني أن يتّصل بمكتب التحقيقات IRS . -هل عرضت عليهم صفقة؟ -إفلاتي من القصاص وهويّة جديدة لآليس ولي مقابل شهادتي للإيقاع بجيزيبيل كورت. كانوا يحرصون على توقيفها في الولايات المتحدة الأميركية لكي يتمكّنوا من الحجز على ممتلكاتها: حسابات مصرفية، المئات من العمارات، مجموعات فندقية، مكاتب صرافة ووكالات عقارية في كلّ أرجاء كاليفورنيا. -وهل وافقوا بسهولة؟ -كلا، ولكن كان اكلونغرس يستعدّ للتصويت على مساعدة مالية ضخمة بمليار دولار مقدّمة إلى المكسيك. وكانت الشرطة الاتحادية FBI بحاجة إلى عملية توقيف رمزية لتمرير الإجراء على الرأي العام. وقد تطوّرت القضية حتى وصلت إلى المحامي العام الذي انتهى إلى إيجاد اتّفاق مع MI6. -الاستخبارات السرية البريطانية؟ -إنّها هي التي أمّنت ترحيل آليس بإشاعة الاعتقاد بعملية اختطافها. كان من المتفق عليه أنني سأنضمّ إليها لاحقاً. شعرت مادلين فجأةً بأنّها محبطة تماماً: خلال أشهر، كانت تسعى إلى حلّ لغز تحقيقٍ كان جهاز الاستخبارات يحرص على إخفائه. وجدت التفسير لكلّ ما جرى: كاميرات المراقبة التي جرى تعطيلها، غياب الأدلّة والآثار، الشهادات المخادعة والمتناقضة. كان يمكن لها أن تحقّق لعشر سنوات، وما كانت لتتقدّم قيد أنملة. أو ربّما كانت ستنتهي على طريقة زميلها جيم. "تنتحر" في مكتبها... استبدّ غضبٌ واهنٌ بمادلين. حاولت عبثاً أن تكظم غيظها: -لماذا فعلت هذا بي، يا داني؟ لما أوهمتني بأنّك كنت تبحث عنها؟ لماذا أرسلتَ إليّ قلبها؟ -ما أن وصلت إلى مانهاتن، لم تعد آليس تتأثّر بالأدوية. تفاقم قصور قلبها. كنتُ قلقاً للغاية: كانت وحيدة، وتزداد إنهاكاً يوماً بعد يوم وتتفاقم نوبات الرشح والتهاب القصبات. كانت وحدها عملية زرع قلب قادرة على إنقاذها. مارست الضغوط على الشرطة الاتحادية FBI: ليس من الوارد أن أقدّم شهادتي إذا ما ماتت ابنتي. تدبّروا أمرهم في إدراج اسمها على قائمة المتلقين الذين لهم الأولوية وتمّت العملية بسرعة فائقة في إحدى مستشفيات نيويورك. لم تكن تلك الفترة سهلة عليها... سألت مادلين بإلحاح: -ولكن لماذا أرسلت إليّ قلبها؟ اعترف لها بصوته الأجشّ المبحوح من أثر التدخين: -لستُ انا من أرسله إليكِ، وإنّما الذين كانوا يحموننا. لأنّكِ أصبحتِ مزعجة، يا مادلين، كنتِ تقلبين الأرض والسماء لكي تعثري على آليس. كنتِ ستذهبين إلى حدّ إقامة علاقة معي. شعر جهاز الاستخبارات السرية البريطانية MI6 بالرعب من هذا الأمر. وهم الذين كانوا أصحاب فكرة القلب. لكي يتمّ إغلاق هذا الملفّ. -وماذا كان دور بيشوب؟ -بيشوب هذا كان عبارة عن مصادفة. كانت أجهزة الاستخبارات تُدرك بأنّه ذات يوم سيتّهم مجنونٌ نفسه بجريمة آليس. لقد حدث الأمر فقط أسرع مما كان متوقعاً. ومن ثمّ، وكما كان الاتفاق، قمت بإخراج تمثيلية موتي أنا وانضممتُ إليها في نيويورك. -قتلتَ شقيقك! -كلا، قتل جوني نفسه بنفسه. كنتِ تعرفينه: كان مومياءً نخرته المخدّرات، مريضٌ نفسياً وقاتل. لقد اتّخذت خياراتي وكانت آليس أولويتي. بالنسبة إلى الذين يتصرّفون، هناك دائماً ثمنٌ ينبغي دفعه. -دعني من خطابك، أنا أعرفه! وماذا عن جوناثان؟ كيف صادفك؟ خلال عطلة أعياد الميلاد التي تلت، ذهبنا آليس وأنا لكي نقضي بضعة أيام من العطلة على الشاطئ اللازوردي. بعد إجراء عمليتها الجراحية. لم تستطع آليس أن تمنع نفسها من نقر اسمها على محركات البحث لكي ترى المجرى الذي اتّخذه التحقيق حول "اختطافها". عثرت على مقالات عنكِ، عن محاولتكِ الانتحار. أرادت أن يتم إعلامكِ بالسرّ وتطمينكِ ولكنّ بليث بلاك، المارشال المكلّفة بمراقبتنا رفضت ذلك. تقبّلت آليس ذلك على مضض. لدى وصولنا إلى فرنسا، هربت لكي تذهب للقائِك في باريس، ولكن ما أن أصبحت في العاصمة حتى تخلّت عن الفكرة لكي لا تعرّضنا للخطر، وهناك صادفت جوناثان لامبيرور. انقبض قلب مادلين. لم تكن آليس تعرف بوجودها فحسب، بل وسعت إلى الاتصال بها. -منذ تلك الفترة، كان اسماكما على قائمة الشرطة الاتحادية FBI وشرطة الجمارك وكان الإنذار ينطلق تلقائياً حينما كنتما تنتقلان على الأراضي الأميركية. البارحة مساءً، تمّ إخبار بليث بلاك بأنّكما أنتما الاثنان في نيويورك. لا يمكن لهذا الأمر أن يكون مصادفةً. طلبتُ منها أن تضع خطّة لكي تجعلك تأتين إلى هنا. -من أجل إسكاتي؟ -كلا يا مادلين، لكي تقدّمي لي المساعدة. -أساعدك في ماذا؟ -في العثور على آليس. * كانت العمارة المرتّبة كبيتٍ ذي طابقين تطلُّ على الكراج والأرصفة. وكانت التحرّي بليث بلاك قد ألصقت جبينها بزجاج النافذة ولا تشيح ببصرها عن داني ومادلين. أجابت المارشال بإيجاز عن أسئلة جوناثان وظلّت تركّز بكامل قواها على مهمّتها: مراقبة وحماية الشاهد. كان الفرنسي يتأمّل في تفاصيل هذه المرأة الغريبة ذات الجمال اللطيف والأرستقراطي. كانت بشقرتها وأناقتها الباردة تشبه بطلات أفلام هيتشكوك. قامةٌ ممشوقة، فيزون أسود، دروعٌ للفخذين مشدودة من الجلد مفتوحة على ياقة مدوّرة. تحوّل قلنسوات صغيرة شعرها إلى جديلة ملفوفة معقّدة. حينما ينظر المرء إلى وجهها الجميل، لا يمكن له إلا أن يفتتن بنعومة ملامح وجهها ونظرتها المرسومة برقّة ولطف. حتى ندبة الجرح الموجودة على وجهها كانت تُضفي عليها شيئاً من السحر. من دون أن يشوّهها، كانت تلك الشجّة التي تحفر وجهها تمنحها هيئة "امرأة قاتلة" لا بدّ أنّ بعض الرجال كانوا يجدونها مثيرة. بدأ جوناثان: -لا بدّ أن السؤال يُطرح عليك غالباً... وهو تصوّب نظرتها نحو داني، أجابت جوناثان بصوتٍ رتيب: -انفجار قنبلة في العراق في "مثلّث الموت". ثلاثة ميليمترات أخرى وكنتُ فقدتُ عيني... -متى حدث ذلك؟ -قبل ثمانية أعوام. كنتُ مجنّدة متطوّعة. ولو تطلّب منّي أن أفعل ذلك ثانية، لفعلت ذلك. -هل بقيتِ لفترة طويلة في صفوف الجيش؟ -أنا تحرّي حكومي: ملفّي سرّي. ولأنّه ألحّ عليها، قالت في النهاية: -تركتُ صفوف قوات المارينز بعد إصابتي. بقيتُ لمدّة عامين في صفوف كانتيكو ثمّ قمتُ بمهام سريّة في إدارة مكافحة المخدّرات DEA قبل أن أُفصَل من فرقة المارشالات. -أين كانت تلك المهمّات؟ -اسمع يا عجوزي الصغير، أنا مَنْ أطرح الأسئلة هنا، اتّفقنا؟ -أهذا ما تجيبين به في السهرات حينما يهتمّ رجلٌ بكِ؟ استشاطت غضباً: -نحن لسنا في سهرة ولعلمك لست من نوع الرجل الذي يستهويني. -وما النوع الذي يستهويكِ من الرجال؟ رجالٌ من نوع دويل؟ -لماذا تقول هذا الكلام؟ هل أنت قلقٌ على صاحبتكَ؟ -وماذا عنكِ؟ هل أنتِ مهووسة بالقتلة؟ استفزّته قائلةً: -نعم، أكثر من أرباب الأسرة. ولكن إذا أردت معرفة كلّ شيء، فإنّ عملي هو أن أراقب دويل لا أن أنام معه. كانت السمّاعة في أذنها وصرخت ببعض التعليمات لكي تأمر الحارسين بتشديد حراستهما. -هل تعتقدين أنّ داني قد يُستهدَف من قبل المكسيكيين؟ -هذا ليس مستحيلاً، ولكنني لا أعتقد ذلك للحظة واحدة. -لماذا؟ -لأنّه سبق له وأن أدلى بشهادته بطريقة ما. هذه المرّة، اختلط الأمر على جوناثان: -قبل خمس دقائق، قلتِ لي أن جلسة الاستماع إليه قد أُجِّلَت إلى الأسبوع القادم! أوضحت بليث تصريحاتها: -كما يُجيز القانون في مثل هذه الحالة، سجّل داني شهادته حتى قبل بدء الدعوى. شهادة مصوّرة، بحضور قاضٍ ومحامٍ، وتدين جيزيبيل كورت. بدأ جوناثان يفهم المسألة: -إذاً، حتى لو قُتِلَ داني اليوم ... أكّدت بليث: -... هذا الشريط المسجّل سيكون كافياً لإدانة المهرِّبة. الأمل الوحيد للعصابة هو أن يغيّر داني روايته يوم المحاكمة. -ولكن لماذا قد يُقدِم على خطوةٍ كهذه؟ أجابت: -بسبب هذا. بمساعدة جهاز تحكّم، شغّلت شاشة كبيرة مسطّحة مثبتة على الجدار وأدارت فيلماً مصوّراً. الفصل الرابع والثلاثون الفتاةُ في الظلام العقل يبحث والقلب هو الذي يجد. جورج ساند استغرق الفيلم أقلّ من ثلاثين ثانية. كان يحتوي على مقطع موجز للوجه المنهك للفتاة. كانت آليس، مذعورةً، وخائرة القوى على نحوٍ واضح، وعيناها محاطتان بالزرقة، تنظر إلى الكاميرا بحدّة. كان الضوء الشاحب الذي يحيط بها يجعلنا نعتقد بأنّها محبوسة في قبوٍ أو في زنزانة. كان نطقُها مرتجّاً، تتخلّله نوبات بكاء. وهي تحوزق، استطاعت رغم كلّ شيء أن تتوجّه مباشرةً إلى والدها لكي توصل إليه مطالب خاطفيها: Save me, Dad! Change your testimony, please! And we’ll be together again. Right, Dad? ثمّ ابتعدت الكاميرا، لتسمح بذلك بتمييز الشبح الواهن لآليس مقيّدة إلى ماسورةٍ. شرحت بليث وقد أوقفت الصورة: -وصلنا هذا الفيلم هذا الصباح بواسطة ساعي البريد. شدّ داني قبضتيه. شعر بالعجز ونهشه الشعور بالذنب، كان في غاية التشاؤم: -سوف ينقضي على اختطافها اثنتي عشرة ساعة. إن لم نعثر عليها بأقصى سرعة، سوف يقتلونها مهما فعلت. ومن دون أدويتها، هي معرّضة في أي لحظة لخطر قصورٍ كلوي. جلست بليث إلى طاولة حديد مزخرفة وضِعت عليها ثلاثة حواسيب محمولة. أوضحت وهي تحوّل الفيلم إلى أحد الأقراص الصلبة تلك: -لقد حاولنا دون جدوى أن نحدّد مكان هاتف آليس. شاهدت لعدّة مرّات التسجيل وقامت بعزل الشريط الصوتي وأجرت عشرات المحاولات على الشاشة وهي تقوم بالتركيز على أدقّ التفاصيل. مهتمّة بتلك المظاهر التقنية، اقتربت مادلين من الحواسيب. تحدّثت لها بليث عن تفاصيل إجراءاتها: -هناك التاريخ والتوقيت بدقّة في أسفل الفيلم. من خلال متابعة أثر الصوت، قد نكتشف أصواتاً غير مسموعة ظاهرياً: مترو معلّق، ضجيج حركة السير... والتي قد ترشدنا إلى أثرٍ ما. سأل جوناثان: -وماذا عن الكاميرا؟ شرحت بليث: -تبدو الصورة بنوعية جيدّة على الرغم من العتمة. هذا طرازٌ حديث. من خلال بعض المداولات، شغّلت برنامجاً قادراً على تحديد الماركة والموديل. -هذه كاميرا من ماركة كانون ذات بطاقة ذاكرة، وقد طُرِحت في الأسواق قبل أقلّ من عام. سوف أطلب من الوكالة أن تضع قائمة آخر المبيعات في المتجر أو على الإنترنت ولكنّ هذا سيستغرق وقتاً. ثمّ عزلت تفاصيل صورة قامت بإظهارها على كامل الشاشة. قالت وهي تشير إلى صورةٍ مكبّرة لماسورةٍ قُيِّدَت آليس إليها: -ما يثير اهتمامي، هو هذا الأنبوب! إنّه قديمٌ وضخم. من النظرة الأولى، يخال إليّ بأنّ عمر هذا الأنبوب على الأقلّ قرنٌ من الزمان، ولكنّني سوف أتّصل بخبراء قادرين على تحديد تاريخ صنعه بدقّة متناهية. مع قليلٍ من الحظّ، وبمقابلة معطياتنا، قد نتمكّن من تحديد مكان المخبأ. ثمّ التفتت نحو التحرّي الذي كان قد تلقّى مفتاح الذاكرة المتحركّة USB الذي يحتوي على الفيلم. -هل لديك بيانات ساعي البريد، يا كريس؟ من هاتفه، حوّل الرجل الشبيه ببطل فيلم رجال ذوو بزّات سوداء (Man in Black) وثيقة ظهرت على شاشة الحاسوب. -إنّه يعمل لصالح بيغ ميسينجر، وهي وكالة تسليم الطرود تقع بالقرب من وول ستريت، ولكنّه يعمل اليوم عملاً حرّاً. لقد استلم الطرد في تقاطع دوتش وجون ستريت. كان المرسل قد نقل الطرد بنفسه: رجل طويل القامة، ملامحه قوقازية، عريض المنكبين، في الأربعينيات من عمره... لقد سدّد قيمة تسليم الطرد نقداً دون أن يذكر اسمه. -هل لدينا صورته التقريبية؟ -نعم... تيرانس الآن باستجواب المسلّم. -حسناً، أخبره بأن يفعل ذلك بأقصى سرعة! أريد أن أتمكّن من بثّ إشارته خلال عشر دقائق. اعتباراً من الآن، كلّ ثانية تمرّ لها أهميتها! * بعد نصف ساعة من ذلك لا شكّ أن الماتشبوكس يقتبس اسمه من ضيق المكان. الله وحده يعلم كيف ذلك، كان مالك العقار قد نجح في ترتيب الحجرة بحيث يمكن ترتيب ما يقارب عشرين غطاء في قاعة صغيرة حميمة مفتوحة على حديقة صغيرة. جالساً أمام كعكة بالسلمون، ذكّر جوناثان مادلين بمقابلته مع فرانسيسكا. -ما رأيكِ بذلك؟ تحدّث بصدق وهو يروي لها بدّقة الظروف التي قتلت فيها زوجته لويد وارنر وتخلّصت من جثّته قبل أن تجد لنفسها مخرجاً بتواطؤها مع جورج. إنّه إقدامٌ أتاح له ألا يُتّهَم بالقتل، ولكنّه كلّفه زواجه. أجابت مادلين: -أعتقد أنّه بموت هذا الرجل، تخلّصت الكرة الأرضية من نذلٍ آخر. ميلٌ إلى داني دويل... أردفت مادلين قائلة: -أرى أن زوجتك تمتلك برودة دمٍ مهيبة وذكاءً رهيباً. ازدردت آخر لقمة من شطيرتها من جبن الماعز الطازج وشربت جرعة من النبيذ. -وأعتقد بأنّه عليك أن تذهب للقائها. ذُهل جوناثان وخاب أمله. في لحظة واحدة، جعلت مادلين كلّ حكايتهما هباءً منثوراً. -و... ماذا عنّا نحن؟ حدّقت في عينيه. -دعنا لا نكذب على نفسينا: علاقتنا هشّة. ما هو مستقبلنا؟ نسكن على بعد عشرة آلاف كيلو متر من بعضنا، أحدنا فقيرٌ وبائس كالآخر. ستكون هناك باستمرار لحظة تندم فيها على عدم العودة والعيش مع زوجتك وابنك. حاول جوناثان أن يحافظ على هدوئه. -أنتِ لا تعرفين أيّ شيء عن هذا الأمر! ومع ذلك سوف لن ننفصل عن بعضنا بسبب فرضية فاشلة... -لم يعد لديك ما تفعله هنا. لم تعد آليس ديكسون تمثّل أيّ شيء بالنسبة إليك. هذه ليست معركتك. -إنّها تشكّل جزءاً من حياتي مثلما تشكّل جزءاً من حياتكِ! رفع من نبرة صوته هذه المرّة. كان المطعم ضيّقاً جدّاً بحيث التفتت كلّ الأنظار صوبه. كان يكره هذا المكان بطاولاته المتلاصقة ببعضها، والتي لم تكن تفسح مجالاً لا لحرية الحركة ولا للأحاديث الحميمية الخاصّة. -اسمع يا جوناثان، بدأت هذه الحكاية وسط الدم وسوف تنتهي وسط الدم. ليس هناك مخرجٌ سعيد وأنت لستَ متهيّأً لمواجهة هذا العنف. بالنسبة لي، أنا شرطية، وبليث تعمل لصالح الشرطة الاتحادية FBI، داني قاتل، أمّا أنت... -أمّا أنا، فلستُ سوى صاحب مطعمٍ لطيف، أليس كذلك؟ -أنت، لديك عائلة... قال وهو ينهض من مكانه: -كنتُ أعتقد بأنّه قد تكوني جزءاً من عائلتي. وضع ورقتين نقديتين على الطاولة قبل أن يغادر المطعم والمقهى الصغير. كانت هذه هي المرّة الأولى التي تشعر فيها مادلين فعلاً بأنّ رجلاً يُغرَم بها. ومع ذلك لم تحاول أن تتمسّك به. غمغمت: -انتبه لنفسك. ولكنّه كان قد غادر المكان. كانت العصابة التي موّلت عملية اختطاف آليس جاهزة بشكلٍ واضح لفعل كلّ شيء. ولأنّ جوناثان مُسّ بعزّة نفسه، لم يُدرك بأنّ مادلين رفضت أن تجرّه معها إلى نهر الظلماتِ هذا لأنّها كانت تحبّه. * لم تكن محطّة المترو في جادة بيدفورد أفينيو سوى مجموعة من البيوت. دلف جوناثان إلى المحطّة وعاد إلى غرينتش. في منزل كلير، ظلّ لعشرين دقيقة واقفاً تحت مرشّ الحمام، منهكاً تحت تأثير فارق التوقيت وقلّة النوم، يجتاحهُ فيضٌ من الانفعالات والمشاعر المتناقضة. بلغت الساعة الثالثة من بعد الظهيرة. اتّصل هاتفياً بسان فرانسيسكو وتحدّث مطوّلا مع ابنه. لم يكن شارلي يُدرك لماذا لم يكن والده معه عشيّة عيد الميلاد. ولكن ماركوس أظهر بأنّه على قدر المسؤولية واستطاع أن يحلّ محلّه قدر المستطاع في دور الأب الذي لم يحسن جوناثان أبداً أن يلعبه حقّاً. هذه المحادصة مع ابنه أغرقته هي الأخرى في مزيدٍ من الحزن. ولكي يتخلّص من عزلته، ارتدى ثياباً نظيفةً وخرج ليشرب فنجاناً من القهوة في أوّل حانة صادفها في شارع ماكدوغال ستريت. كان يأمل في أنّ الكافيين سوف يعينه على إيجاد أفكار واضحة. طافت لبرهة من الوقت صورة عائلة اجتمعت من جديد في ذهنه على طريقة استعراض الصور كالشرائح المهدّئة للأعصاب. استذكر كلّ لحظات الصفاء والكمال التي تقاسمها مع زوجته السابقة وابنه شارلي. كانت اعترافات فرانسيسكا قد حرّرته من ألم يلازمه منذ عامين ويغرقه في ضبابة كانت تفقده ثقته بنفسه وملامحه. الآن، لديه فرصة لكي يستعيد "حياته السابقة". في النهاية، أليس هذا هو ما كان يريده على الدوام؟ خلال ساعتين، كان بإمكانه أن يستقلّ طائرة إلى كاليفورنيا ويصحب شارلي ويعود إلى نيويورك ويقضي الأعياد مع فرانسيسكا. كان هذا الاحتمال مشجّعاً ويبعث على السلوان. تذكّر جملةً لأحد زملائه: "إنّ شجرةً من دون جذور ليست سوى قطعة حطب". كان يحتاج إلى جذورٍ كي لا تزلّ به قدمه ويتهاوى. ومع ذلك، تلاشت صورة فرانسيسكا تدريجياً واختفت خلف صورة مادلين. لا شكّ أنّ المرأة الشابّة كانت على حقّ: كانت حكايتهما قد بنيت على الريح، ومع ذلك... ومع ذلك لم يكن قادراً على أن يخضع لصوت العقل. كانت مادلين قد شجّت قلبه لتملأه بسمّ الحرمان. بحركة آلية، أخرج قلماً من جيبه وبدأ، وهو يتصبّب عرقاً، ينقش بعض الرسومات والخربشات على الغطاء الورقي للطاولة. بعد ثلاث دقائق، أدرك بأنّه قد تخيّل نوعاً من الحلوى على صورة الفتاة الإنجليزية: حلوى الميل فوي بالكريما الخفيفة المعدّة من الورد والبنفسج مع طبقة رقيقة من العجين المورّق المغطّاة بطبقةٍ من الكراميل بالبرتقال التونسي اللذيذ. كان أوّل من دُهش بذلك. منذ عامين، كان في عطالة تامّة عن الإبداع ولم يكن قد اخترع أيّ طبقٍ جديد. اليوم، انحلّ المزلاج وألهمه الحبّ من جديد. أشاع هذا الاحتمال الهدوء فيه ومنحه الثقة بالمستقبل. لماذا لا يفتتح مطعماً في نيويورك مقروناً بمدرسة صغيرة لتعليم فنون الطبخ؟ وأخيراً وجد مشروعاً ذي معنى. كان جوناثان قد تعلّم من أخطائه وسوف لن يرتكب للمرّة الثانية الحماقات نفسها. انتهى زمن السعي إلى الغرور والخيلاء والجري خلف النجوم والبحث عن التقديس الإعلامي. كانت في ذهنه فكرة إقامة منشأة متميّزة، تقدّم مطبخاً أصيلاً وطامحاً، ولكن ليس في ديكورٍ باذخ. انتهى زمن الأكواب الكريستالية وأطباق المائدة الخزفية المبتكرة من قبل مصمّمين يتبعون آخر صيحات الموضة. سوف لن يقرن اسمه قط بعد الآن بمنتوجات مشتقّة أو بأطباق مجمّدة كريهة تُباع في المتاجر الضخمة. من الآن فصاعداً، سوف يمارس مهنته كفنّان محترف بهدفٍ وحيد ألا وهو الحصول على المتعة ومنحها. غادر المقهى وهو يحمل في داخله بعض خمائر الأمل. ولكنّه كان يعلم بأنّ هذا المستقبل يمرّ حتماً من خلال نجاة آليس ديكسون. أين كان اليوم لو لم يصادف طريق الفتاة؟ مدفوناً تحت الأرض لستّة أقدام، من دون أدنى شكّ. كان يدين لها بالحياة: كان ذلك الدين الأكبر حجماً الذي يدين به على الإطلاق. دينٌ من الدم عقد العزم على تسديده. * الساعة السادسة مساءً. كانت صور اختطاف آليس وأسرها تغزو ذهنه. كان كلّ شيء فوضوياً ومتشابكاً. حاول أن يتذكّر آخر كلماتها، ولكنّه لم ينجح في ذلك. سار حتى وصل إلى الشارع العشرين. حلّ الليل. على الرغم من البرد الذي كان يلفح وجهه، ظلّ يتسكّع في الشوارع، وهو يعيد التفكير في المصير المجهول لآليس. في حياتها التي عاشتها مثل معركة. بقوّتها المتميّزة التي نحتاج إليها لكي تتحرّر من قيودها وتصبح سيّدة حياتها. منذ نعومة أظفارها، كافحت لوحدها، من دون عائلة، ولا أصدقاء، مختارةً على الدوام الطريق الأكثر قسوةً ووعورةً: الطريق الذي لا يمرّ بالحياة الخاملة والذي يجنّبها الاستسلام للانزلاق نحو الهاوية من خلال السيّئين والبُلهاء. مسارٌ من الصعب سلوكه حينما يكون المرءُ بالغاً، لكن حينما يكون المرءُ في الثالثة عشرة من عمره... وصل إلى شرق تشيلسي. الآن، حلّ الليل وتطايرت بعض الندائف الفضيّة اللون، التي حملتها الرياح، تحت المصابيح المعلّقة. حثّه البرد على أن يدفع باب بار لايف أند ديث، وهو بارٌ شهير لتقديم المشروبات. كانت موسيقى اللونج الشعبية تصدح في الأركان الأربعة لصالة الحانة. لم يكن جوناثان يهوى كثيراً هذا النوع من المحلات، ولكنّ الحركات والأحاديث كانت تشعره بأنّه أقلُّ وحدةً. أمّا بالنسبة إلى الموسيقى، فكانت تخلق نوعاً من الفقاعة التي تعينه على التفكُّر، على التدقيق في الأفكار، على التعمّق في أفكاره. آليس... كان عليه أنّ يركّزتفكيره على آليس... أخبره حدسه بأنّ تحقيق بليث بلاك ومادلين سوف لن يفضي إلى أيّ شيء. من جانبه، لم يكن لديه أي وسيلة للاستثمار. لم يكن لديه سوى خلاياه العصبية ونفسيته. حرق الكحول معدته، ولكنّه زاد في حساسيته. طلب كأساً جديدة لكي يحافظ على حيوية انفعاليته. وكمبدعٍ، لطالما راهن على شكلٍ من الذكاء والانفعالات. شيئاً فشيئاً، تلاشى حاجز ذاكرته وعاود مضمون الفيلم إلى ذهنه: النظرة المتألّقة والمتّقدة للمراهقة، هيئتها البائسة، الزنزانة الكريهة، السلاسل التي تكبّل رسغيها، صوتها المرتجّ وكلماتها: Save me, Dad! Change your testimony, please! And we’ll be together again. Right, Dad? حاول أن يُحدِث فراغاً في داخله وأن يدخل في تطابقٍ مع آليس. لم يكن الذعر البادي على وجهها متصنّعاً، ولكن كان هناك أيضاً حدّة في عينيها... على الرغم من الخوف، كان لا يزال ذكاؤها وحيويتها حاضرين في عينيها. كما لو أنّها لم تكن تسعى إلى استدرار الشفقة فحسب، بل أيضاً... إلى تمرير رسالة... كلا، كان ذلك مستحيلاً. لا بدّ أنّ نصّاً قد أٌعطي لها لكي تتلوه أو على الأقلّ إشارات واضحة. كيف يمكن ارتجال شيءٍ ما على بعض الكلمات فقط؟ أمسك بالطبق الورقي الموجود تحت كأس الكوكتيل ودوّن عليه الجمل الأربع: Save me, Dad! Change your testimony, please! And we’ll be together again. Right, Dad? حسناً، وماذا بعد؟ على قول داني، كانت الفتاة مدركة تماماً للمخاطر التي تتربّص بها. كانت تعلم بأنّ خاطفها مكلّفٌ على الأرجح من قبل العصابة المكسيكية. وبالتالي، لم تكن هويّة خاطفها، وإنمّا ربمّا معلومات عن مكان احتجازها هي التي كانت تسعى إلى إيصالها. إلا إذا... راودته فكرة فرضت فجأةً شيئاً من الوضوح. أمسك بالقلم وأعاد تمرير الريشة على الحرف الأوّل من كلّ جملة: Save me, Dad! Change your testimony, please! And we’ll be together again. Right, Dad? كانت الأحرف الكبيرة الغامقة تشكّل على التوالي كلمة من أربعة أحرف: SCAR "النُدبة" باللغة الإنجليزية... الفصل الخامس والثلاثون في الرمق الأخير ثمّة لحظة يمتلك فيها الموت كلّ الأوراق حيث يسحق بضربة واحدة الأوراق الرابحة الأربعة الموجودة على الطاولة. كريستيان بوران وليامزبورغ ماكوندو موتور كلوب الساعة الحادية عشرة ليلاً ساد هدوءٌ خادع البناء الطابقي المطلّ على الكراج. واصلت بليث بلاك ومادلين، الجالستين أمام شاشة الحاسوب، تحليلهما للمعطيات المتوفّرة. بينما كانت الدماء تغلي في رأس داني، الواقف أمام زجاج النافذة، وهو يدخّن سيجارة تلو الأخرى. كان عنصران يقومان بمهام الحراسة: يقف الأوّل أمام باب العمارة، بينما يجول الثاني من حول الكراج وسط القوارير التي تدوّم وسط العتمة. بصوتٍ يكاد يكون غير محسوسٍ، أعلن رنينٌ كرنين المعدن لمادلين وصول رسالة قصيرة. ألقت نظرةً خاطفة على الشاشة: غير مصدّقة تماماً، ظنّت في البداية أنّ هذه خطّة من جوناثان لكي يلتقي بها، لكنّه لم يكن ليستغلّ أبداً مأساةً كهذه... أيمكن أن يكون قد اكتشف حقّاً أمراً ما؟ في هذه الحالة، لِمَ لا أتّصل به هاتفياً بدل الذهاب إليه في حانة؟ -هل ستعيرني سيارتك، يا داني؟ -ستخرجين؟ قالت وهي ترتدي سترتها الجلدية: -سوف أذهب لشراء غرضٍ. أخذت الحقيبة الظهرية التي تحتوي على الحاسوب المحمول لجوناثان وتبعت داني على السلّم المعدني الذي يؤدّي إلى الكراج. تحت مراقبة حارس الفرقة، اجتازا العنبر المكتظَ بالسيارات المجمّعة. قال وهو يشير إلى سيارة بونتياك حمراء غامقة من طراز عام 1964: -خذي هذه. -ألا توجد لديك واحدة أقلّ جاذبيّة؟ أدارت رأسها وقطّبت عينيها بحثاً عن سيارة من طرازٍ أكثر رزانةً. ثمّ اقترحت وهي تشير إلى سيارة بيجو موديل 403: وكأنها سيارة كولومبو! -لماذا ليست هذه؟ ألحّ عليها: -اصعدي إلى سيارة البونتياك! أدركت أنّه من الأفضل ألا تعاند وجلست خلف مقود السيارة الأميركية الجميلة. انحنى داني على نافذة السيارة وشرح لها وهو يفتح واقية الشمس: -أوراق السيارة موجودة هنا. ثمّ أشار إلى العلبة الأمامية قائلاً: -إذا ما صادفتكِ مشكلة... فتحت مادلين باب العلبة الأمامية لترى مقبض مسدّس كولت أناكوندا. أدركت حينها سبب إصرار داني على أن يجعلها تأخذ سيارته الخاصّة. سأل بمزاجٍ سيء: -هل ستلتقين بزميلكِ؟ رفعت زجاج نافذة السيارة غير آبهة بسؤاله. -إلى اللقاء لاحقاً. * كان الليل والثلج يصعّبان من عملية قيادة السيارة. تردّدت مادلين في استخدام تقنية نظام الملاحة لتحديد المواقع GPS في هاتفها المحمول ولكنّها اختارت في النهاية أن تلجأ إلى الطريقة "القديمة". تدّبرت الأمر بسلوك المنعطف الضيّق الذي يتيح لها الوصول إلى الجسر وعبور إيست ريفر لكي تصل إلى مانهاتن. إلى تلك اللحظة، كان أدرينالين التحقيق قد أبقاها يقظةً، ولكن على حين غرّة، شعرت بأنّ التعب والإرهاق المتراكمين قد انقضّا عليها، وأثقلا حركتها وشوّشا أفكارها. في الأيام الثلاثة الأخيرة هذه، لم تكن قد حظيت ببعض الساعات من النوم السيء. شعرت بحرقةٍ في عينيها وانتابتها دوخةٌ خفيفة. قالت متشكّية وهي تحاول تشغيل التدفئة في السيارة: تبّاً، لم أعد في العشرين من عمري! لدى خروجها من على الجسر، تعرّفت على شارع بويري الذي كانت قد سلكته في الصباح أثناء المطاردة مع بليث. سلكت الطريق إلى أن وصلت إلى شارع هوستن ستريت حيث كان التقسيم التربيعي غير الشخصي للمدينة يستعيد حقوقه، جاعلاً التوجيه أكثر سهولةً بكثير. تحقّقت من العنوان الذي حدّده جوناثان لها وانقادت إلى لايف أند ديث. كان الوقت متأخرّاً وحركة السير خفيفة. شعرت بشيء من الراحة حينما وجدت العديد من الأماكن الشاغرة في بداية شارع العشرين، لأنّ عملية صفّ سيارة البونتياك لم تكن جزءاً من المسرّة. عبرت الحانة ووجدت جوناثان جالساً أمام كوبٍ فارغ. سألها بادي القلق: -هل جئتِ لوحدكِ؟ -كما طلبت مني ذلك. -هل من جديدٍ حول آليس؟ -ليس حقّاً. جلست قبالته وحلّت عقدة وشاحها. -ما هذه الحكاية؟ لماذا تزغم بأنّك قد عرفت من الذي اختطفها؟ أجاب وهو يمدّ نحوها الطبق الورقي للكأس: -احكمي بنفسكِ. نظرت إلى الورقة خلال ما يقارب عشر ثوانٍ. -وما معنى ذلك؟ صرخ: -SCAR! الندبة باللغة الإنجليزية. -نعم، شكراً، هذه لغتي الأمّ، أُلِفتُ انتباهك إلى ذلك. -بليث! بليث هي التي خطفت آلي! في كلّ الأحوال، هذا هو ما تحاول أن تجعلنا نفهمه! بليث متواطئة مع المكسيكيين! خفّف ردّ الفعل الأوّلي العابس للمرأة الشابّة من اندفاع جوناثان. سخرت منه قائلةً: -هل تعتقد نفسك في رواية شيفرة دافنشي؟ -هل هذا بالنسبة لكِ عبارة عن مصادفة؟ -أربعة أحرف، هذا لا يعني شيئاً... ولكنّ جوناثان لم يكن مستعداً لأن يستسلم: -فكّري لثلاثين ثانية. -أعتقد أنّ هذا في متناول يدي. -ضعي نفسكِ في مكان المكسيكيين. عمّن كنتِ ستبحثين لكي "يعود" إلى هذه القضية كأولوية؟ -أخبرني! -المارشال المكلّفة بحماية داني، بالطبع! كانت لا تزال تبدو مرتابة في الأمر، ولكنّه تابع حديثه: -في الولايات المتحدة الأميركية، تسعى العصابات المكسيكية إلى اختراق كلّ وكالات حفظ النظام: حراس الحدود، الهجرة والجوازات، الجمارك... ويتزايد عدد الموظّفين الأميركيين الذين يستسلمون للإفساد. والأزمة لم تحلّ أيّ شيء. اعترضت مادلين: -بليث بلاك محبّة لوطنها. -لديها الشخصية المثالية لعكس ذلك! عملت كمدسوسة عند جهاز مكافحة الاتجار بالمخدّرات. بعد لحظة، تفقد معالمك. وحينما تُعرَض عليك ملايين الدولارات، تدوس على الوطنية. لكلّ رجلٍ ثمنه، فكّرت وهي تتذكّر كلمات داني. وإذ استبدّ بها الشكّ، نظرت بنظرةٍ مختلفة إلى الأحرف الكبيرة التي صاغت كلمة SCAR. هل يمكن أن تكون آليس حاضرة الذهن إلى درجة أن تمرّر هكذا رسالة؟ قال جوناثان جازماً: -يجب أن نحذّر داني! إنّه في خطر! أخرجت مادلين هاتفها المحمول الذي كانت قد خزّنت فيه رقم هاتف داني. بعد قليلٍ من التردّد، قرّرت أن ترسل إليه رسالة. -نحن من جهتنا، سوف نسارع إلى إخبار رجال الشرطة، على أمل ألا تكون مخطئاً. حينما انتقلا من دفء الحانة إلى الهواء القارس لليل، كانت سيارة الفيراري السداء تنتظرهما على الجانب الآخر من الطريق... * -إنّها هي! قاما بحركة تراجع إلى الوراء. لا شكّ أنّ بليث قد وجدت مغادرة مادلين مريبةً وشكّت في أنّ شيئاً ما يُدبّر من خلف ظهرها. قرّر جوناثان وهو يعبر الطريق: -سوف أذهب لأرى. -كلا، أنت أبله! واللعنة! قالت مادلين في نفسها. ركضت حتى وصلت إلى سيارة البونتياك، وقد تذكّرت السلاح الموجود في العلبة الأمامية للسيارة. كان الظلام دامساً. وصل جوناثان إلى جانب سيارة السبايدر. كانت السيارة فارغة وكل أنوارها مطفأة وكذلك محرّكها. أين هي؟ أحسّ بحركةٍ من خلفه. كانت السيارة مركونة أمام مدخل مرآب للسيارات يرتفع لعدّة طوابق. ولكي يصل عدد الأماكن المخصّصة لصفّ السيارات إلى أقصى حدٍّ ممكن، كان قد تمّ اعتماد نظامٍ هيدروليكي خلاّق للمصاعد يسمح بصفّ ما يقارب مائتي سيارة عمودياً وأفقياً بجانب بعضها البعض. كانت الرياح تهبّ بقوّة فتصدر صريراً من السلالم المعدنية للهيكل الضخم. كان المكان مخيفاً ويشيع البرد في الظهر. سأل جوناثان وهو يتقدّم بحذر في مرآب صفّ السيارات: -هل من أحدٍ هنا؟ * شتمت مادلين وهي تنظر إليه من بعيد: يا له من مغفّل! أسرعت إلى تدوير محرّك السيارة على أمل "استعادة" جوناثان، ولكن... * تأخّرت كثيراً. دوّى انفجارٌ وأزّت طلقةٌ، مارّة على بعد شعرةٍ من جمجمة جوناثان قبل أن تتطاير على عمودٍ فولاذي. ارتمى على الأرض، متحاشياً مقذوفاً جديداً. على بعد عشرين متراً خلفه، كانت بليث تقنصه!. نهض بوثبةٍ واحدة وجرى مسرعاً دون أن يلقي على نفسه أسئلة وسلك أوّل سلّم في الهواء الطلق في مدخل المرآب. كان يسمع من خلفه صوت وقع خطى المارشال. كانت تطارده، ولكنّ ارتقاء الدرجات الحلزونية كان يمنعها من تسديد طلقاتها. في أعلى السلّم، وجد نفسه أمام حاجزٍ مسيّج بارتفاع مترين. لم يكن لديه خيار سوى أن يعتليه. لم يكن قد مارس الرياضة منذ أشهر، ولكنّ احتمال أن ينتهي صريعاً كان كافياً لأن يمنحه القوّة على أن يتسلّق السياج بطوله بيديه المجرّدتين. لقد اجتاز السياج لكي يجد نفسه... على السكّة القديمة للقطار المعلّق الذي يطل على حي ميتباركينغ ديستريكت، الذي كان فيما مضى حي المسالخ والملحمات. كان الخطّ يسمح سابقاً لعربات البضائع أن تصل إلى المستودعات. ظلّت المنشأة مهجورة لما يقارب ثلاثين عاماً، وقد غزتها الأعشاب والنباتات قبل أن يُعاد ترميمها كمنتزه. كان المنتزه يتحوّل في الصيف إلى جوهرة من الخضرة التي تمنح إطلالةً من علٍ على النهر. هذا المساء، كانت عبارة عن سلسلة من البلاطات الإسمنتية، الباردة والمحزنة... الشارع التاسع عشر، الشارع الثامن عشر... كان جوناثان يركضُ بسرعة. على هذا الجزء، كان خطّ الترام مستقيماً. وبالتالي كان مكشوفاً ويشكّل هدفاً ثميناً. على بعد خمسة عشر متراً خلفه، أطلقت بليث عليه النار لمرّتين. مسّته طلقةٌ مسّاً خفيفاً، بينما فجّرت الأخرى جدار الحماية المصنوع من الزجاج الواقي من جانب نهر هيدسون. لحسن حظّ جوناثان، في تلك الساعة من الليل، كانت الإضاءة قد قُطِعت على طول المسافة لعدم جذب الروّاد غير الشرعيين. * قفزت مادلين حينما سمعت صوت إطلاق النار. من خلف مقود سيارة البونتياك، رصدت عبر النافذة المفتوحة أدنى حركةٍ على السكّة الحديد. حاولت وهي ترفع عينيها نحو الحدائق المعلّقة، أن تخمّن تطوّرات عملية الملاحقة، وهي تسير ببطء على الطريق المعبّدة التي تؤدّي إلى هاي لاين. لمحت خلسةً، عبر المقصورة الزجاجية المطلّة على الطريق، شبح جوناثان وقد تنفّست الصعداء حين عرفت بأنّه لا يزال على قيد الحياة. * استأنف جوناثان تقدّمه. وكان الثلج الذي يعصف ندائف ثقيلة يجعل الأرض زلقة. حوّلت المطاردة اتجاهها الآن نحو اليسار لكي تعبر على نحوٍ مائل الجادة العاشرة، عائمة فوق الأسطح، متعرّجة بين المباني القرميدية، ملامسة الواجهات واللوحات الإعلانية العملاقة. لكي يحافظ المكان على أصالته، اعتُقِد بأنّه من المناسب الإبقاء على قطعٍ كاملة من السكّة المعدنية. كان صفّان من القضبان الفولاذية يمتدّان على نحوس مكشوفٍ وسط الإسمنت. اكتسب جوناثان ثقةً زائدة بنفسه فقفز على حوضٍ للزهور مغروساً بين الإسمنت بقفزةٍ محكمة، لكنّ كاحله التوى حينما انحصرت قدمه في واحدةٍ من العوارض الخشبية. اللعنة! استأنف الجري ولكن هذه المرّة بإيقاعٍ أكثر بطئاً. اقتربت بليث منه ولكن عند مستوى تشيلسي ماركيت كانت البورة الصناعية القديمة تمتدّ داخل نفقٍ على مجموعةٍ من البيوت، الأمر الذي منح الرجل الفرنسي استراحةً قصيرة. * الجادة الرابعة عشرة، واشنطن ستريت... تغلغلت مادلين بين العمارات، محتفظةً بتواصلٍ بصريٍّ مع الهيكل الفولاذي للبورة الصناعية القديمة. حاولت لمرّات عديدة أن تتوقّف عند مستوى السلالم المشرفة على المسار ولكن في تلك الساعة المتقدّمة، كان مدخلها موصداً. وفي النهاية قرّرت أن تذهب إلى نهاية الطريق وركنت سيارتها في موقف غانسفورت بلازا على أمل ألا ينزل جوناثان إلى حين أن تنضمّ إليه. * خرج جوناثان من النفق وهو يلهث. كانت بليث على بعد أقلّ من عشرة أمتار خلفه. اخترق ألمٌ حادّ أسفل أضلاعه. وهو يتصبّب عرقاً، استمرّ في الجري دون توقّف، متعرّجاً بين كتل الأعشاب الضارّة. وصل إلى مستوى سونديك: المنطقة المخصّصة لتعريض الجسم للشمس والتي تواجه فيه كراسٍ طويلة وضخمة مصنوعة من الخشب الطبيعي سكايلاين نيو جيرسي. ولإيقاف تقدّم خصمه، قلب على نحوٍ مقصود كلّ ما وقع تحت يده: الكراسي الطويلة، طاولات الحديقة، أحواض الزهر... طلقٌ ناريٌّ جديد فجّر جرّة من الفخار. مرّت الطلقة بجانبه تماماً، قفز لاهثاً فوق آخر جزءٍ من المسافة. بذل قصارى جهده لكي يجتاز ذاك المعبر إلى بقعة تغطّيها نباتات أكثر كثافةً. منعت الأشجار العالية والأجمات بليث من إطلاق النار. ثمّ انسدّ الطريق من أمامه فجأة. اندفع جوناثان إلى الدرج الذي كان يطلّ على شارع غانسفورت ستريت. اندفعت بليث خلفه. كان هناك آخر سورٍ ينبغي تسلّقه و... لقد تأخّر كثيراً، قفزت بليث تقريباً في الوقت نفسه الذي قفز هو فيه. هذه المرّة، وهو يتعرّج وسط الشارع، كان في موقفٍ ضعيفٍ وليس لديه ما يدافع به عن نفسه. أخذت وقتها لكي تستحكم به. من تلك المسافة، ما كانت لتخطئه. * صرخت مادلين: -توقّفي! ارمِ سلاحكِ وإلا أطلقتُ النار! استدار الظلّ الرشيق لبليث بلاك، مقدّرةً الوضع في رفّة جفن. كانت مادلين تصوّب نحوها مسدّس داني من طراز كولت أناكوندا. دون أدنى تردّد، تجاهلت المارشال التهديد المحدق بها وهرعت نحو جوناثان، ممسكةً بحلقه وواضعةً سلاحها في صدغه. صرخت الأميركية: -إن قمتِ بأيّ حركة، سوف أقتله! ارجعي إلى الوراء! تقابلت المرأتان وكلّ واحدةٍ منهما ثابتة في موقعها رافضة أيّ تراجع. غطّت طبقة سميكة من الثلج، المخفوق بالرياح، ظلّهما اللذين يذوبان في سماءٍ ثقيلةٍ. تراجعت بليث نحو النهر وهي تشدّد من ضغطها على رقبة جوناثان. تقدّمت مادلين خطوةً واحدة إلى الأمام. كانت ندائف الثلج تمنعها من أن تتبيّن جيداً المارشال. صرخت: -إن قتلتهِ، فأنتِ هالكة! سيكون زملاؤكم في الشرطة الاتحادية FBI هنا في أقل من دقيقتين. -للمرّة الأخيرة أقول لك، تراجعي وإلاّ سأقضي عليه! أمّا رجال الشرطة الاتحادية FBI، فلا أبالي بهم، لدي عشرة أبواب خروج لكي أتخلّص منهم. هل حقاً كان لدى مادلين الخيار؟ لو ألقت سلاحها، لما تركتهما بليث على قيد الحياة. لكانت قتلت كليهما. رمشت الفتاة الإنجليزية بعينيها مرّات عديدة واضطربت رؤيها. ظهر التعب والضغط النفسي على السطح من جديد. إنّها اللحظة غير المناسبة. أحسّت بيدها ترتعش. شعرت بأنّ سبطانة المسدّس تزن طنّاً. كان سلاح "رجالي" مصمّمٌ للصيد أو للرماية الرياضية. بهذا السلاح، كان يمكنها أن تقتلع رأس بليث مثلما يمكنها أن تقتلع رأس جوناثان أيضاً... كان يكفي أن ترتكب خطأ بمقدار مليمترٍ واحد لكي تسلك الرصاصة مساراً خاطئاً. وهذه لعبة لا يملك المرء فيها فرصة ثانية. الآن أطلقت رصاصة واحدة. وهي تقوم بتراجعٍ مفاجئ، وضعت مادلين كلّ قوتها لكي تحافظ على ساعدها قوياً وحازماً، مقاومةً بذلك ارتداد المسدّس إلى الوراء. وإذ أُصيبت في جمجمتها، ارتدّت بليث بلاك بعنف نحو الخلف. حاولت أن تتشبّث بجوناثان، ولكنّ جسدها الفاقد للروح هوى في اللحظة التالية فوق الحاجز وغرق في نهر هيدسون. * ازداد هبوب الريح قوّةً، وهي تحمل نعيب صفارات الإنذار لسيارات الشرطة التي هرعت إلى الشارع. كانت مادلين، التي تئنّ تحت عبءٍ ثقيل وتغرق وسط الندائف الثلجية، ترتعش وترتجف. لقد قتلت للتوّ الشخص الوحيد الذي يعرف مكان احتجاز آليس. لقد قتلت للتوّ آليس. كانت، ويدها لا تزال تضغط على السلاح الحربي، لا تستطيع أن تشيح بصرها عن الماء الأسود. أمّا جوناثان، فقد ظلّ جامداً في مكانه بلا حراك، تحت تأثير الصدمة، وقميصه ملطّخٌ بالدم. فجأةً، بدا أنّه يخرج من ذعره. كانت مادلين قبالته تترنّح وتتلوّى ضيقاً وقلقاً. خشية من أن يُغمى عليه، سحبها نحو سيارة البونتياك المركونة في شارع غانسفورت بلازا. أقلع بالسيارة كالإعصار، وهو يراقف من خلال مرآته العاكسة أضواء الفوانيس الدوّارة الزرقاء والحمراء التي لوّنت عتمة السماء. الفصل السادس والثلاثون العثور على آليس إنّ العنصر الوحيد الذي يمكنه أن يحلّ محلّ الاعتماد على الماضي هو الاعتماد على المستقبل. جون دوس باسوس لوير أيست سايد عمارة بالقرب من تومبكينز سكوير بارك الساعة الواحدة فجراً دفع جوناثان باب صالة الاستحمام. كانت مادلين نائمة في مغطس الحمام. وجد روب حمام معلّقاً خلف الباب واقترب لكي يوقظها بلطف. كانت شاحبة ونظرتها فارغة وحركاتها متكاسلة. تركت نفسها، مُطيعةً، لكي يغطّيها جوناثان وتدلّكت بالسترة القصيرة المصنوعة من النسيج الإسفنجي. كان من الخطر الشديد العودة إلى منزل كلير أو النزول في فندقٍ عادي حيث قد يكون من السهل العثور عليهما. بعد أن ركنا السيارة على بعد بضعة شوارع، عثرا على ملاذٍ في غرفة الضيوف الصغيرة هذه والتي تعود ملكيتها إلى آنيتا كروك، وهي سيدّة عجوز بولندية كانت تدير محلاًّ للأغذية في قلب ألفابيت سيتي. كان جوناثان قد شغّل فيما مضى ابنتها بصفة مساعدة شيف في لامبراتور ولم تكن آنيتا قد نسيت ذلك المعروف. ولكي يتأكّدا من أنّه لم يتمّ تحديد مكان تواجدهما، كان لديهما أيضاً هاتفاهما المتروكان في سيارة البونتياك. كانت الأشياء الوحيدة التي احتفظا بها معهما حاسوبهما وسلاح داني الحربي. طُرِق الباب. بينما اندسّت مادلين في قاع السرير، فتح جوناثان الباب لآنيتا. كانت السيّدة العجوز تحمل إليهما صينية غداء توجد عليها زبديتان من حساء الزورك يتصاعد منهما البخار وطبقاً من حساء الخضاء بالطحين والشيلم المخمّر. شكر جوناثان مؤجِّرتهما ثمّ اقترح على مادلين أن تأخذ إحدى زبديتي الحساء: -تذوّقي، سوف ترين، إنّه ... مميّز. أخذت ملعقةً من الحساء الكثيف ثمّ لفظته بنفورٍ وتقزّز: -صحيحٌ أنّه حامض بعض الشيء، ولكنّ المهمّ هو النيّة، أليس كذلك؟ من دون أن تكلّف نفسها حتى عناء الردّ على سؤاله، أطفأت النور وغطّت في النوم. قبل أن يذهب وينضمّ إليها في السرير، اقترب من النافذة ونظر عبر الزجاج. كان الثلج لا يزال يتساقط في إيقاعٍ ثابت. كانت طبقة تزيد عن عشرة سنتيمترات من الثلج المذرور يغطي الطريق والأرصفة. أين تكون آليس في هذه اللحظة ووسط هذا البرد؟ ألا تزال على قيد الحياة؟ هل سينجحان في الخروج من هذا الجحيم؟ كان عليه أن يكون واقعيّاً: كانت الأمور تسير بطريقة سيئة. الآن، جعل موت بليث احتمال الوصول إلى مكان احتجازها مشكوكاً فيه للغاية. عادت كلمات مادلين إلى ذاكرته مثل صدى منذرٍ بعواقب وخيمة: "بدأت هذه الحكاية وسط الدم وسوف تنتهي وسط الدم". لم يكن يعرف بعد إلى أي درجة كانت محقّة في قولها هذا. * مستودع كوناي آيسلاند الساعة الثانية صباحاً وسط صمت الحُجرة الباردة، لم يكن يُسمَع سوى اللُهاث الأجش لتنفّسٍ ضيّق. البرد هو الذي أيقظ آليس من النوم. البرد والألم: ألمٌ مُمزِّق كان يعتصر كليتيها مع أدنى حركة. ممدّدةً على جنبها، وذراعها ملويةً، كانت تكاد تفقد كلّ إحساسٍ بهذا الجزء من جسدها المخدّر تماماً. كان الدم ينبض في صدغيها وتختلط بأوجاع رأسها نوباتُ دوارٍ واختلاجات. سعلت لكي تُصفّي قصباتها الهوائية، وحاولت أن تبتلع ريقها ولكنّها أحسّت بأنّ لسانها قد أصبح صلباً كقطعةٍ من الجبس. لم تعد تدري كم من الوقت مضى منذ اختطافها. بضع ساعات؟ يومٌ واحد؟ أيكون قد مضى يومان؟ كانت ترغب في ان تتبوّل طيلة الوقت، ولكنّ عضلات مثانتها أعطت الإحساس بأنّها مشلولة. شعرت بالاختناق. كان فكرها مشتّتاً، ورؤيتها مشوّشة، والحمى تجعلها تهذي. تصوّرت أن جرذاً عملاقاً على وشك أن يلتهم بطنها بينما يلتفُّ ذيله الطويل ذو القشور على رقبتها لكي يخنقها. * الساعة الثامنة صباحاً -انهض! فتح جوناثان عيناً وجلس بصعوبة. كرّرت مادلين: -انهض! يجب أن نغادر. ظهر وميضٌ بلون الحليب وراء زجاج النافذة. كانت الشمس بالكاد قد أشرقت. تثاءب جوناثان ونهض من السرير بصعوبة. كانت مادلين قد ارتدت ثيابها. بعد تلك الليلة القصيرة من النوم، استعادت أنفاسها وبدت أكثر حزماً من أي وقت مضى. بينما كان يسلك الممرّ الذي يؤدّي إلى الحمّام، رمت له ثيابه. –سوف تستحمّ في يومٍ آخر! ليس لدينا وقت. خرجا إلى الشارع بعد أن تركا بعض الأوراق النقدية لمستضيفتهما. في هذا الصباح، لم يعد ما يغطّي المدينة عشرة سنتيمتراتٍ من الثلج، بل ضعف هذه السماكة على الأقلّ. كانت الندائف الثلجية مستمرة في تساقطها متسبّبة في إبطاء حركة السير. على الأرصفة، كانت الناس تكنّس الثلج من أمام مداخل بيوتها، وكان موظّفون من البلدية ينثرون الملح على الطريق المعبّدة بينما كانت جرّافتان ضخمتان للثلج تدفعان الثلوج المتراكمة على جانبي الطريق في شارع بويري، وهي تُعرِق تحت ركام الثلوج الدرّاجات والسيارات المركونة بطريقةٍ سيئّة في الشارع. ذهبا إلى سيارة البونتياك وأخذا هاتفيهما قبل أن يستأنفا سيرهما نحو مقهى بيلز، مقرّ قيادتهما الجديد. بسبب الثلوج والوقت المبكّر، كان في المقهى القليل من الزبائن. جلسا إلى الطاولة نفسها التي جلسا إليها ليلة أمس وطلبا قهوةً ولبناً رائباً وحبوباً معالجة. ولأنّه لم يكن هناك مركز هاتف، أخرجت مادلين الحاسوب وأوصلته بخدمة واي – فاي. -ما هي القناة الإخبارية المحلية الأكثر مصداقية هنا؟ -جرّبي NY1 News. زارت مادلين موقعهم. انفتحت صفحة الاستقبال على مقطع فيديو –NY1 Minute- والذي كان يوجِز أحداث اليوم في ستين ثانية. وإذا كان ثلاثة أرباع المقطع مخصّصاً لتساقط الثلوج غير المتوقّع والذي يهدّد بشلّ الحركة في مدينة نيويورك، فكان الجزء الأخير يذكر "الاغتيال الغامض، هذه الليلة، لأحد أفراد حرّاس مارشال الولايات المتحدة الأميركية، بليث بلاك، والتي قُتِلَت بطلقةٍ في الرأس. وقد عُثِر على جثمانها في نهر هودسون. كانت هذه المجنّدة السابقة مكلّفة بحماية مواطنٍ كان من المفترض أن يدلي بشهادة هامّة، يوم الاثنين المقبل، خلال قضية بارونة المخدّرات جيزيبيل كورت. وهذا الشاهد الرئيس هو الآن تحت حماية الشرطة الاتحادية FBI". تنفّست مادلين: من المستحيل معرفة ما إذا كانت الشرطة قد أثبتت جرم بليث، ولكن داني على الأقلّ في منجى من الخطر. استغرق هذا الارتياح أمداً قصيراً: كان لا بدّ من العثور على الصبيّة المراهقة، ولم يكن لديهما ظلّ أثرٍ. قالت: -لا بدّ أنّ لدى بليث شريكٌ متواطئ معها. ملأ جوناثان فنجان المرأة الشابّة بالقهوة قبل أن يسكب لنفسه فنجاناً. -يجب استئناف التحقيق من بدايته. من الواضح أنّ بليث، بعد الساعات التي تلت اختطاف آليس، قد حاولت أن تُزيل الأدلّة وأن تضلّل التحقيقات. -بماذا تفكّر؟ -يجب أن نسعى إلى تحديد مكان هاتف آليس النقّال. -ليست لدينا المعدّات الضرورية لذلك. هذا عملُ رجال الشرطة. هزّ جوناثان رأسه. -لم يعد الأمر كذلك اليوم. مع ازدياد سرقات الهاتف المحمول، ينصح الكثير من العمال الميكانيكيين زبائنهم بتفعيل خاصية تحديد المكان عن بعد. لو أنّ هاتف آليس الذكي حديث، سيكون متمتّعاً بالتأكيد بهذه الميزة. كانت مادلين مرتابة في الأمر. -ليس لدينا حتى رقم هاتفها... -هذه الميزة لا تعمل بواسطة الرقم، وإنّما باستخدام عنوان البريد الإلكتروني. أدار جوناثان نحوها شاشة الحاسوب لكي يتواصل على موقع "حدّد مكان هاتفي الذكي" ذي علامة معلوماتية شهيرة. للنجاح في إيجاد الجهاز، كان لا بدّ في الواقع من تقديم عنوان البريد الإلكتروني وكذلك كلمة مرور المشتركة. قالت مادلين عابسةً وهي تشاهده ينقر بأصابعه: -ليس لدينا لا هذا ولا ذاك، بهذه الطريقة سوّيت المشكلة. هذه المرّة، رفع جوناثان من نبرة صوته: -من فضلك، هل يمكنني أن أعرف لماذا كلّما تكون لديّ فكرة، تجدينها فكرة سيّئة؟ -لأننا سوف نضيّع الوقت في سبيل لا شيء ودون نتيجة! -ألفت انتباهكِ إلى أنّه مع ذلك استطعنا أن نُجهِز على بليث بفضلي أنا! ردّت عليه: -ولكن بسببك أنت اضطررتُ لأن أقتلها! هذا هو ما كان يخشاه. كان الشعور بالإثم الذي ينهش في مادلين قد عاودها بقوّة. آثر جوناثان أن يحاول نصحها. -وماذا عن عبارتكِ؟ لقد تخلّص العالم من نذلٍ آخر... اسمعي، مهما حصل، ما كانت بليث لتخبرنا أبداً ولا بأيّ طريقة عن المكان الذي احتجزت آليس فيه. -إذا كان لهذا أن يريح ضميرك... -ما سيمكنه أن يريح ضميري هو أن تقدّمي لي المساعدة في العثور على آليس. أشارت إليه بإصبعها وتهيّأت لأن تقذفه بردٍّ سريعٍ جديد حينما تأكّدت من أنّه لم يكن مخطئاً. قالت متأسّفةً: -تبّاً لنا! نتجادل كزوجين عجوزين! اقتربت من الحاسوب. "الرجاء إدخال اسم المستخدم". -حسناً يا شارلوك، هل لديك فكرة؟ اقترح جوناثان: -يمكننا أن نجرّب حساباً على الهوتميل أو على الجيميل. أو بالأحرى... لماذا لا نجرّب حساب مدرستها الفنية؟ ولأنّها اعتبرت الفكرة مغرية، فتحت مادلين نافذة جديدة لكي تتّصل بموقع مدرسة جوليارد سكول. على ما بدا، كان المعلّمون والموظّفون والتلاميذ يستفيدون من حسابٍ للبريد الإلكتروني تحت الصيغة القاعدية : .name.surname@juilliard.edu فأدخلت مادلين بدقّة: alice.kowalski@juilliard.edu . "الرجاء إدخال كلمة المرور الآن". اعترف جوناثان: -هنا، أقف عاجزاً. -انتظر! وماذا لو أنّها احتفظت بكلمة المرور القديمة؟ -الكلمة التي كانت تستخدمها حينما كانت في الرابعة عشرة من عمرها؟ -الناس تفعل هذا غالباً، أليس كذلك؟ أنا شخصياً، على أيّ حال، لدي كلمة المرور نفسها منذ أمدٍ بعيد. -وما هي؟ -Mind your business! -هيّا، أخبريني! -لا يمكن! -من فضلكِ! تنهّدت: -violette1978. عليّ أن أقوم بتغييرها الآن ... 1978، هو سنة ميلادك؟ -نعم. لماذا، بكم تقدّر عمري؟ أكثر من هذا أم أقلّ؟ ردّ عليها بابتسامةٍ، سعيداً باستعادة تفاهمهما -ماذا كان رمز آليس، سابقاً؟ -Heathcliff، الشخصية الرئيسة في رواية مرتفعات ويذرنغ . أدخل جوناثان كلمة المرور. قال وهو يضغط على زرّ التفعيل: -فلنشبّك أصابعنا. أجرى الحاسوب عملية بحث لبضع ثوانٍ نظرا خلالها إلى بعضهما في صمتٍ، بمزيجٍ من التلهّف والريبة. لم تكن المسألة بهذه البساطة. منذ أن بدأ بهذه القضية، كان الحظّ يُجانبهما. لم يبتسم لهما أبداً. كانت العقبات تتزايد وتتضاعف أمامهما، وفي كلّ مرّة تصبح أكثر استعصاءً على التغلّب عليها، متسبّبةً في عواقب تتزايد مأسويةً. لم يكن من الممكن أن ينجحا. ومع ذلك، نجحا... ظهرت خارطةٌ لمانهاتن على شاشة الحاسوب وومضت نقطة زرقاء محاطةً بهالةٍ على الشاشة: لم يكن هاتف آليس موجودا في نيويورك فحسب، بل وكان أيضاً على بعد أقلّ من ثلاثة كيلومترات من هنا! * وثبا من مكانهما بقفزة وهما يهتفان ويصرخان، وجعلا القلّة من الزبائن الجالسين في المقهى يرفعون رؤوسهم. دقيقتان كانتا كافيتين لاستعادة الأمل. انحنى جوناثان على لوحة المفاتيح لكي يحدّد موقع النقطة على نحوٍ أدقّ: عمارة كبيرة عند تقاطع الجادة الخامسة والشارع الثالث والعشرين. سألت مادلين وهي تكاد تختنق من شدّة الإثارة: -هل تعرف ما هي هذه العمارة؟ -"السوق" الإيطالي قبالة فلاتيرون . حولاّ المعطيات والمعلومات إلى هاتفيهما وخرجا إلى شارع بويري. كانت الثلو تتساقط بغزارة شديدة إلى درجة أنّهما تخلّيا عن سيارتهما. اقترحت: -ما رأيك أن نذهب إلى هناك مشياً على الأقدام؟ -كلا، وسط هذا الطقس الرديء، سوف تستغرق معنا المسافة أكثر من نصف ساعة! من الأفضل أن نحاول تأمين سيارة أجرة تقلّنا إلى هناك. ولكن بسبب العاصفة، كانت الكثير من سيارات الأجرة الصفراء اللون قد بقيت في مرائبها وظلاّ يخوضان المعركة لأكثر من خمس دقائق قبل أن يحصلا على سيارة في شارع برودواي. ما أن جلسا على مقعد السيارة، تفحّصا على الشاشة موقع هاتف آليس. ظاهرياً، لم تكن النقطة قد تحرّكت من مكانها. علّق جوناثان قلقاً: -أتمنى ألا يكون الهاتف المحمول قد تُرك خلفها. -ما هو هذا المتجر الذي حدّثتني عنه؟ -يُدعى متجر إيتالي: إنّه معبد فنّ الذواقة الإيطالي في مانهاتن. هو عبارة عن سوبرماركت ضخم وفاخر. وصلا أمام المتجر الكبير. مقابل ورقة نقدية من فئة 20 دولاراً، وافق سائق سيارة الأجرة الكبيرة على أن ينتظرهما شريطة ألا يستغرق تسوّقهما لأكثر من عشر دقائق. كان المتجر المغطّى قد فتح أبوابه بالكاد، ولكن في ذلك اليوم الذي كان عيد رأس السنة، كان على النقيض من الشوارع يضجّ بالناس. اتبعيني! جالا، وعيونهما مشدودة إلى شاشة هاتفهما، جزءاً من الآلف الأمتار المربّعة من المتاجر والمطاعم وبسطات البضائع المصفوفة بدقّة. كان الهاتف المحمول لآليس يرسل إشارةً كل ثلاثين ثانية، مقدّماً بذلك تحديداً للمكان في وقتٍ حقيقي. كانت القدرة الهائلة لخدمة تحديد المواقع GPS في هاتفها تسمح بأن يتمّ تحديد مكانه بدقّة تصل إلى حدّ عشرة أمتار -من هنا! فتحا طريقهما وسط الزحام وتسلّلا عبر أهرامات الخبز بالخميرة وعلب الريحان الأرزّ بالجبن وأقراص جُبن البارميزان وقطع القديد المعلّقة إلى السقف والمطعم المختصّ بالوجبات النباتية والمطعم المختصّ بتقديم البيتزا... -إنّه هنا! كانا موجودين الآن في الممرّ الذي يضمَ مساند ورفوف أطايب القشدة المجمّدة والقهوة. تحت الضغط والتوتّر، سبرا أغوار العشرات من الأشخاص الذين اكتظّ الممرّ بهم. كانت هناك الكثير من الحركة وكانت الحشود كثيفة والمكان صاخباً. تنهدّت مادلين: -لن يكون الأمر سهلاً. ألن تكون لديك فكرة عبقرية أخرى؟ أخفض جوناثان عينيه نحو شاشه هاتفه. -يتيح الموقع توجيه رسالة على الهاتف المحمول أو إحداث رنينٍ متواصلٍ لمدّة دقيقتين حتى وأن كان الهاتف في وضعية الصمت. -جرّب هذه العملية. قام بتفعيل هذه الميزة وأصاخا السمع. ولكن وسط الضوضاء وجلبة الحشود، كان من المستحيل سماع أيّ رنين، حتى في حجرة على بعد بضعة أمتار. -كن مستعدّاً للمباشرة بالعملية! -ماذا سوف.. دون تردّد، أطلقت رصاصة في الهواء. -الآن! هزّ الانفجار القوي جميع الأشخاص الذين كانوا في المكان. قبل أن تتصاعد الصيحات، خيّمت نصف ثانيةٍ من الذهوب ساد خلالها الصمت شبه المطبق. كانت نصف ثانية كافية لسماع الطنين المديد لرنين الهاتف. قالت مادلين وهي تشير بسبطانة سلاحها إلى فتاة تبيع القهوة الإيطالية على بسطةٍ. فتاة جميلة، بين الثامنة عشرة والعشرين من عمرها. فتاةٌ خلاسية ذات شعرٍ طويل أسود اللون وأملساً. كان الهاتف المحمول يبرز من جيب صدريتها. انقضّت عليها مادلين وجذبتها بقوّة من خلف بسطتها. أمرتها: اتبعينا! أحاط جوناثان ومادلين الصبيّة بالأسلحة ودفعاها كيفما كان واستطاعا أن يغادرا المكان قبل أن تتدخّل أجهزة الأمن. حمداً لله، كانت سيارة الأجرة لا تزال في انتظارهما. حينما لمح السائق مسدّس الكولت، صرخ السائق شاكياً: -هيه، ما هذا؟ صرخت مادلين: -هيّا، انطلق وإلا ستكون الطلقة القادمة لك! ثمّ استدارت نحو الفتاة التي لا تزال تواصل البكاء: -مَنْ تكونين؟ -اسمي مايا. -منذ متى هذا الهاتف بحوزتكِ؟ قالت الفتاة بين شهقتين: -منذ... منذ البارحة صباحاً. -كفّي عن النحيب! من أعطاكِ إيّاه؟ -إنّه هدية من صاحبي أنتوني. -هديّة؟ أوضحت الفتاة: -جهازٌ حصل عليه من عمله. لقد طلب مني ألا أطفئه لأنّه لا يملك الرمز السري لإعادة تشغيله. -وما هو عمله؟ -أنتوني يعمل في كراج السيارات المصادَرة، في كولومبيا ستريت. كراج للسيارات المُصادَرة ... كان مكاناً محتملاً للاحتجاز. أصبح الدليل مثيراً للاهتمام. -هل هو في الدوام اليوم؟ -كلاّ هو في بيت والديه، في حي ستويفيسانت تاون. التفتت مادلين نحو جوناثان، المختصّ في طبوغرافيا المدينة. -المكان ليس بعيداً: في أٌقصى الشرق، بين الشارعين الرابع عشر والثالث والعشرين. نقرت بضربتين على الزجاج الذي يفصلهما عن السائق وسألته: -هل فهمت يا فانجيو ؟ * كان حي ستويفيسانت تاون الذي بني في أعقاب الحرب العالمية الثانية عبارة عن مجموعة من حوالي مائة عمارة صغيرة مشيدّة بالقرميد الأحمر. ولأنّ عقود الإيجار فيه كانت خاضعة للرقابة، فقد سمح لأجيالٍ من المنتمين إلى الطبقة الوسطى – رجال الشرطة ، إطفائيون، معلّمون، ممرّضات – بأن تستمرّ في الإقامة والسكن في قلب مانهاتن على الرغم من ارتفاع أسعار العقارات. باتّباعها لإرشادات مايا، انسلّت سيارة الأجرة بين قضبان المساكن. -إنّه هنا، في الطابق التاسع: الباب الثاني إلى اليمين بعد الخروج من المصعد. -اصعدي معنا. ثمّ أمرت سائق سيارة الأجرة: -وأنت، هيا انصرف من هنا! انصرف سائق السيارة دون أن يطالب بما تبقى من أجرته. انخلع باب الشقّة المستأجرة تحت تأثير ركلة مادلين. لم تكن الشرطية السابقة قد استعادت ردود أفعالها فحسب، بل حزماً كان يُضاهي النزق أيضاً. كانت سهولة انتقالها إلى الفعل التنفيذي يُقلِق جوناثان، وإن كان يعلم بأنّ ذلك هو الشرط اللازم للعثور على آليس. كانت الشقّة خالية باستنثاء أنتوني الشهير الذي كان يستمتع بصباحية دسمة. قبل أن يتمكّن من استعادة أنفاسه، وجد نفسه تحت رحمة السلاح الحربي لمادلين وهو مصوّب نحو خصيتيه. كان الرجل طويل القامة ونحيفاً بعضلات بطنٍ فولاذية ووشومٍ كأنّه مغنّي راب. كان ردّ فعله الأوّل هو إخفاء عضوه الذكري، ولكنّ مادلين أمرته بأن يُبقي يديه مرفوعتين في الهواء. -إذا كنت لا تريد أن أفجّر مامبا السوداء خاصّتك، سوف تجيب عن أسئلتي. مفهوم؟ -مف... مفهوم. -ممّن سرقت هذا الهاتف؟ لوّح جوناثان بالهاتف المحمول تحت أنفه. -لقد عثرتُ عليه! -أين عثرت عليه؟ -في سيارة قمتُ بسحبها بوساطة قاطرتي أوّل من أمس مساءً. -وما نوع تلك السيارة؟ شرح أنتوني: -سيارة دودج ضخمة وجديدة تماماً. كان الهاتف في داخلها. تحت أحد الكراسي في المقعد الخلفي. -وسيارة الدودج هذه، من أين سحبتها؟ -من كوناي آيسلاند. صرح به جوناثان: -كن أكثر دقّةً وتحديداً! أخبرنا باسم الشارع. -لا أعرف المزيد عن الموضوع! بالقرب من الشاطئ. بجانب القطار الشبح القديم. ليس بعيداً جدّاً من تاجر الهوت دوغ. أتذكّر أنّه كانت هناك كلابٌ في الأرض المقابلة تنبح طيلة الوقت... دقّق جوناثان في المخطّط على شاشة هاتفه المحمول. سأل وهو يُشير إلى نقطةٍ على الخريطة: -هنا؟ -أكثر قرباً من البحر. هنا، من الجانب الأيمن... حفظت مادلين الإحداثيات. قالت وهي تخرج من الغرفة: -هيّا بنا إلى هناك! الفصل السابع والثلاثون حمّى في الدم بينما يتلبّد الحيوان وسط العتمة لكي يموت، يبحثُ الإنسان عن الضوء. يريد أن يموت في بيته، وسط بيئته، والظلماتُ ليست بيئته. جراهام جرين كوناي آيسلاند الساعة العاشرة صباحاً كانت آليس مبلّلة من قمّة رأسها وحتى أخمص قدميها. سالت قطرات ضخمة من العرق على وجهها. خفضت رأسها لتتبيّن أنّ بقعةً من الدم كانت قد عبرت بنطلونها على مستوى أسفل بطنها. كانت كليتاها تنزفان. الآن، لم تعد تغتاظ كثيراً. كانت الحمذى لا تزال تنهشها، انتعشت على الرغم من كلّ هذيانها، مستعيدة شيئاً من وعيها. لا تموتي قبل أن تجرّبي كلّ السبل... شعرت بأنّ الوثاق الذي يقيّد كاحليها قد ارتخى قليلاً. ولكن ليس بالدرجة الكافية لكي تتمكّن من تحرير قدميها. كانت ساقاها ثقيلتين. مرمية على الأرض، بذلت جهداً لكي تدفعهما نحو الأعلى وتسندهما إلى حرف الجدار المنخفض والضيّق الذي يسند مغاسل الحمامات. في تلك الوضعية، بدأت بفرك الرباط البلاستيكي بحرف الجدار. كانت الزاوية بالية ومحزّزة، ولكن بعض الأجزاء منها كانت ضامرة بما فيه الكفاية لكي تكشط الخيط. كانت أليس تتصبّب عرقاً وكانت عضلات جسمها مفلوجةً من جرّاء التشنّج، ومع ذلك استمرّت في هذه الحركة من قدميها جيئة وذهاباً لما يقارب ربع ساعة من الوقت إلى أن... انفكّ الرباط اللدن! ثارت حميّة آليس بهذا الانتصار الصغير، فاستعادت بارتياحٍ بعضاً من حرية الحركة. بالتأكيد، كانت القيود لا تزال تربطها إلى الماسورة ولكن لم يعد يبدو لها أيّ شيء مستحيلاً. قرفصت ومرّرت رجلاً على أخرى لكي تنشط ساقيها وتريحهما. رغم الضوء الشاحب، تفحّصت بالتفصيل المواسير الممدودة في القاعة. كان هذا النظام لتمديد المواسير يعود إلى قرنٍ من الزمان على الأقلّ. لاحظت نقطة توصيل بين أنبوبين وقد بدأ الصدأ يصيب معدنها. إذا كان لا بدّ لهذا الأنبوب أن ينفكّ، فهو سينفكّ من عند هذه الوصلة! اتّخذت وضعيتها، وبكعب حذائها الرياضي، ركلت بقوّة وصلة الأنابيب. اهتزّ كلّ البناء، لكن من دون أن ينكسر منه شيء. تحت تأثير الصدمة، زادت الحلقات المعدنية من ضغطها على لحم جسدها، ولكنّها لم تعد تشعر بالألم كما كانت من قبل. سوف ينكسر الأنبوب. كانت آليس متأكدّة من ذلك. لسوء الحظ، أحدث هجومها على سبائك الأنابيب ضجيجاً تردّدت أصداؤه في كلّ أرجاء العمارة. كان عليها أن تحمد الله على أنّ الرجل الروسي لم يكن موجوداً في الممرّات... مهما يكن من أمر، ماذا كانت ستخسر؟ بعزمٍ وإصرار، استجمعت ما تبقى لديها من قوى لكي توجّه سلسلة متتالية من الركالات وفي كلّ مرّة أكثر عنفاً وشدّة إلى وصلة الأنابيب. كان حدسها صائباً: بعد أن قاومت ما يقارب عشر ركلات، انفكّت الأنابيب من عند نقطة ضعفها. أطلقت آليس صيحة غضب وشعورٍ بالحرية. متحرّرة من الحديد الذي كان يكبّلها، التفتت و ... ... كان الشبح المقلق ليوري معلّقاً بإطار الباب. شوّهت تكشيرة مشؤومة وجهه المنتفخ. قال وهو يتقدّم نحوها: -عزيزتي ماتريوشكا ... أطلقت آليس صيحة جنونية وغابت عن وعيها. * مانهاتن خرج جوناثان ومادلين من المجمّع السكني. كانت السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، والعاصفة لا تزال تكسح المدينة. كانت الثلوج تتساقط على نحوٍ متواصل منذ ما يقارب اثنتي عشرة ساعة. تجاوزت سماكة طبقة الثلج المتراكمة الآن ثلاثين سنتيمتراً ولم يكن هناك ما يشير إلى أنّ ذلك سيتوقّف. على العكس تماماً، كانت ندائف ثقيلة وسميكة تتساقط في إيقاعٍ متواصلٍ. وكان المشاة على نحوٍ خاص يجهدون في التقدّم وهم يبطئون من خطوهم تحت وطأة الزوابع الثلجية التي تلسع وجوههم مباشرةً. صرخت مادلين لكي تتغلّب على العاصفة الثلجية: -كيف سنذهب إلى كوناي آيسلاند؟ -فلنجرّب استخدام المترو. هناك محطّة في الجانب الآخر من الشارع. بالنسبة إلى جوناثان الذي عاش لسنواتٍ عديدة في نيويورك، لم يكن الثلج أمراً غير معتاد، ولكنّ لا بدّ أن شدّة العاصفة واتّساع نطاقها قد فاجآ المسؤولين في بلدية المدينة. حتى على الشارع الرابع عشر الواسع جدّاً، كانت حافلة قد توقّفت عن الحركة. وكانت سيارات الأجرة تتزحلق وكان سائق دراجة هوائية قد سقط لتوّه السقوط الذي سيبقى يتذكّره طيلة حياته. كانت جرّافات الثلج والرفّاشات تكنّس بجدٍّ وعناء الطرق والشوارع الرئيسية ولكنّها بدت غير كافية لإزالة الثلوج في الشوارع الفرعية. وبدا واضحاً أنّ فرق الصيانة كانت بحاجة إلى المزيد من الموظفين والعاملين. ولا شكّ أن ذلك كان بسبب أعياد الميلاد. دخل مادلين وجوناثان إلى المحطّة التي كانت سلالمها قد تحوّلت إلى مزلقةٍ حقيقية. قال جوناثان قلقاً: -سوف يشيع الثلج بلبلة كبيرة! سوف تدبّ الفوضى في المدينة في غضون أقلّ من ساعة. على الأرصفة، كانت أعداد المتأخرين تتزايد. وقد تمكّنا بصعوبة من الاندساس في عربة مكتظّة بالركاب. سألت مادلين وهي تنظر إلى ساعة يدها: -هل المكان بعيدٌ من هنا؟ نظر جوناثان إلى مخطّط مسار الطريق المعلَن في القطار: -الخطّ ليس مباشراً. سيتعيّن علينا أن نغيّر المترو في محطة يونيون سكوير. انطلاقاً من هنا، يمكننا أن نكون هناك في أقلّ من ساعة. -وإذا ما ذهبنا بالسيارة؟ -في الحالة الطبيعية، تستغرق المسافة حوالي عشرين دقيقة، ولكن ليس في يومٍ كهذا اليوم. سارت العربة ببطء وتوقفت لمرّاتٍ كثيرة بحيث شعرا بأنّ وقتاً طويلاً جدّاً قد مضى لقطع المسافة بين ثلاث محطّات. ما أن نزلت إلى الرصيف حتى أمسكت مادلين بذراع جوناثان. طلبت منه لكي تخدع كاميرات المراقبة التي من المحتمل أن تكون موجودة في المحطّة: -عانقني! استغلّت عناقهما لكي تدسّ مسدّس الكولت في بنطلون جوناثان. -ماذا تريدين أن أفعل به؟ -أنت ستواصل طريقك بواسطة المترو، أمّا أنا، فسأجرّب حظّي عبر الطريق. -هذا ضربٌ من الجنون يا مادلين! سوف تكون حركة السير مقطوعة عند مخرج مانهاتن. قالت: -لديّ فكرتي. أوّل من يصل إلى هناك سيقوم بما عليه أن يفعله. اعتنِ بنفسك. حاول أن يحتجّ على تصرّفها، ولكنّها لم تترك له مجالاً لذلك. * كانت السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة إلى درجة أنّ المرء ليعتقد بأنّه في عزّ الليل. كان حي يونيون سكوير، الذي يكون عادةً مزدحماً بالناس، شبه مقفر والسيارات القليلة الموجودة في المكان تشعل أضواءها التنبيهية وتسير ببطء وإشارة "خارج الخدمة" تلمع فوق أسطح سيارات الأجرة. ولفتح الطريق كانت سيارة رباعية الدفع لمديرية شرطة مدينة نيويورك NYPD تقطر سيارة متروكة في الطريق. وحدها السيارات الجبلية كانت تستطيع السير على نحوٍ طبيعي. وجدت مادلين سيارة ليموزين عالقة في الثلج بداية جادة بارك أفينيو. توقّفت بجانب السيارة البرلينية وانتظرت أن تتوقّف سيارة الشرطة من طراز فورد إكسبلور لكي تزيح المركبة المتوقّفة. انتظرت اللحظة المحدّدة التي خرج فيها الشرطيان من السيارة رباعية الدفع لكي تجلس على كرسي السائق. صرخ الضابط: -هيه! انطلقت كالبرق. لا بدّ أن هذه المركبة تزن طنين ويبلغ طولها نحو خمسة أمتار. على كلّ حال، كانت في غاية التوازن. ربطت مادلين حزام الأمان وسوّت المقعد والمرايا العاكسة بما يناسبها. كانت تعرف من الآن فصاعداً الحيّ جيّداً وسلكت الطريق باتجاه الجنوب الشرقي. على خدمة تحديد المواقع GPS ، أدخلت الإحداثيات التي كان أنتوني، لصّ كراج السيارات المُصادرة، قد زوّدها بها. هذه المرّة، أدركت بأنّها قد وصلت إلى الهدف. بفضل جوناثان، عرفت بيقين المكان الذي كانت آليس محتَجَزة فيه. اليوم، تُكتَبُ خاتمة تحقيقٍ كان يعذّبها منذ ثلاثة أعوام. بكل تأكيد، كان رجال الشرطة سيسعون إلى اعتراض سبيل سيارتها وكانت سيارات الشرطة جميعها مراقبة ومتابَعة بواسطة القمر الصناعي ويُمكن تحديد مكانها، ولكن هذا ما كانت تسعى إليه بالضبط: أن تجذب أقصى عدد من رجال الشرطة إلى كوناي آيسلاند في حال ما سارت الأمور على نحوٍ سيئ. قطعت مادلين الكيلومترات الأولى من الطريق كما لو كانت في حلم. وهي خلف مقود السيارة الجبلية، شعرت مادلين أنّ المدينة المقفرة ملكها وحدها. ثم أصبحت حركة المرور بطيئة على أطراف بروكلين بريدج. أدارت الراديو على محطّة محلية. كان تحذير البلدية يتكرّر وهو يطلب من السكان تجنّب التنقّل خلال العاصفة. ولكن هذه التحذيرات لم يكن لها سوى القليل من التأثير على سكان نيويورك الذين سوف لن يستسلموا في عطلة عيد الميلاد هذه لمغادرة مانهاتن. أطلقت مادلين العنان للمصباح التحذيري وصفّارات الإنذار. كان التأثير مباشراً. افترقت السيارات بطاعة وانقياد لكي تفسح لها الطريق، الأمر الذي أتاح لها أن تعبُر الجسر بسرعة. عاقدة العزم على الاستفادة من هذا المرور المباشر، سلكت الأوتوستراد 278، وهو الأوتوستراد الثلاثي الطرق الذي يحاذي أرصفة أوبر باي. حتى وإن كان الثلج يعيق حركة المرور، لم تكن السلطات قد أغلقت بعد الجسور والأنفاق. حسب الأخبار، كان يمكن لذلك أن يحصل بين دقيقة وأخرى. بينما كانت السيارة الرباعية الدفع تنسلّ من بين مركبات النجدة، لمحت مادلين لوحة مضاءة تعلن عن ازدحامٍ جديدٍ وشيك لحركة المرور. بعد كيلومترين من المكان، في منطقة كانت الطُرقات تضيق فيها، كانت السيارات تسير ومصدّاتها تلامس بعضها. حاولت أن تستعجل المرور، انحرفت بالسيارة ولامست المَنصف المركزي وتحطّمت المرآة العاكسة للسيارة حينما حاذت بأقصى سرعة جداراً إسمنتياً. اللعنة! هذه المرّة كانت حركة المرور متوقّفة. كانت شاحنة آلية كبيرة عالقةً في الثلج تعيق حركة المرور. دون أن تحتار أو ترتبك، فتّشت السيارة رباعية الدفع. أحد رجال الشرطة كان قد أهمل وترك سلاحه الناري في جيب باب السيارة: مسدّس غلوك 17، السلاح النظامي لرجال الشرطة في مديرية شرطة مدينة نيويوركNYPD. استولت على المسدّس الآلي وتركت السيارة الرياضية على قارعة الطريق. كانت السماء الرصاصية اللون والجدار الذي تشكّله ندائف الثلج والذي يحجب الأفق يمنحان الأوتوستراد مظهراً شبحيّاً. سارت مشياً على الأقدام على الطريق المعبّدة لما يقارب مائة متر لكي تتجاوز مكان الحادث. بفضل مناورات محفوفة بالمخاطر، تمكّنت بعض السيارات من تفادي ذاك المستنقع. سدّدت مادلين سلاحها إلى أوّل سيارة مرّت بها: سيارة أُسرية ببابين يقودها شخص ذو رأسٍ بيضوي وقد رفع على الزجاج الخلفي لاصقة تمجّد حركة تي بارتي (Tea Party). صرخت به وهي تصوّب مسدّسها نحو وجهه: -انزل! لم يترك الرجل مجالاً لتكرّر مادلين الطلب مرّة ثانية وانتظر بحذر أن تنهال عليه السارقة بسيلٍ من الشتائم. داست مادلين من جديد على دعّاسة السرعة. لم يعد لديها لا الفانوس التنبيهي ولا صفّارة الإنذار، ولكنّها أبقت يدها ضاغطة على الزمور. لم تكن قط قريبة من الهدف كما كانت الآن. سكلت منعطفاً ضيّقاً لكي تصل إلى المفرق الذي يؤدّي إلى كوناي آيسلاند. تمايلت السيارة وتوقّفت عجلاتها الخلفية للحظة، ولكنّها تمكّنت من خلال تخفيف السرعة والتحكّم الجيّد بالمقود أن تعدل السيارة وتسيطر عليها. عادت صورة آليس ديكسون الرهينة، كما شاهدتها في الفيلم، إلى ذهنها. حتى وأن خرجت حيّة من هذه المحنة الشديدة، في أيّ حالة جسدية وذهنية ستجد المراهقة نفسها عند الخروج من هذا الكابوس الجديد؟ كانت آليس قد برهنت في السابق عن صلابتها وتوازنها، ولكن أيّ راشدٍ يصبح المرء بعد سلسلةٍ من هكذا صدمات نفسية؟ كيف بوسعها ألا تستسلم للحقد أو الجنون؟ تخلّت عن تلك الأسئلة التي كانت تراود ذهنها حينما وصلت إلى جادة نبتون أفينيو وانعطفت في الزقاق الذي كان أنتوني قد دلّها عليه. * الخط أف لمترو مدينة نيويورك محطّة بارك سلو "قطارنا سيتوقّف لبضع ثوانٍ، حفاظاً على سلامتكم، يُرجى عدم النزول من السيارة... ". نظر جوناثان إلى ساعة يده بقلق. تساءل أين تكون مادلين. حاول أن ينضمّ إليها، ولكن الشبكة كانت غير متوفّرة. كانت المواقف بين المحطّات تزداد ازدحاماً بالناس. بدا واضحاً للعيان بأنّ الخطوط الحديد قد بدأت بالتجمّد وأنّ المحطات كانت تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى وكانت كوناي آيسلاند لا تزال بعيدة... * كان الزقاق الذي دلفت إليه السيارة شبه مسدودٍ بالثلج. أخذت مادلين المسدّس الآلي وتأكّدت من أنّ المذخّر مليءٌ بالطلقات وتركت السيارة ذات البابين في بداية الزقاق. سارت على طول الرصيف وهي تكتشف هذه الأماكن السوريالية. كان المنتزه القديم للألعاب، بعماراته الخرِبة ومراجيحه الصدئة يبدو وكأنّه في نهاية العالم. كانت بعض الورشات التي بدأت بالعمل هنا وهناك توحي بأنّ المنطقة قد يُعاد تأهيلها ذات يوم، ولكن ليس في وقتٍ قريب. وسط العاصفة، كانت شوارع المنتزه خالية ومصدر تهديد. لم يكن يُسمع فيها سوى ضجيج الرياح وأمواجٍ تجعل الهياكل المعدنية تصرّ صريراً. ثمّ فجأةً... جاء صوتُ نباحٍ. تذكّرت ما أخبرها به رجل مستودع السيارات المُصادّرة: أتذكّر أنّه كانت هناك كلابٌ تنبح طيلة الوقت. لقد عثرت على المكان. باعدت مادلين بين لوحين خشبيين لحظيرة من القصب كساهما الصدأ لكي ترى كلباً ألمانياً شعره أصفر وعيناه متّقدتان. كان يُكشّر عن أنيابه في همهمةٍ متواصلة. ذُعِرت لشدّة نحافته. كان كلب المولوس عبارة عن جلدٍ على عظم. أيكون مريضاً؟ أو ربّما أبقاه ألبهٌ ما عمداً في هذه الحالة من التعذيب... أحسّت أن الأدرينالين يجتاحها ويمتزج بالخوف: لم يكن بين الكلاب وبينها ودٌّ كبير. منذ أن عضّها كلب بوكسر في طفولتها، لم تكن تنظر إلى الكلاب سوى من بعيد، مغذّية هلعاً شديداً كانت كلّ كلاب العالم تشعر به في دائرةٍ قطرها ثلاثة كيلو مترات وهي تُصادق على ذلك بنباحٍ عدوانيٍّ كلما مرت من أمامها. كان يمكن الوصول إلى الميدان من خلال حاجزٍ شبكي. أخرجت مسدّس الغلوك من قرابه وأطلقت رصاصةً على القفل لكي تحطّمه. وكما تمنّت، باغت الانفجار كلب المولوس الذي ابتعد عن المكان، طائشاً بعض الشيء. دخلت إلى العقار المؤدّي إلى مستودعٍ مهدّد بالسقوط والتحوّل إلى أنقاضٍ وركام. قبل أن تتمكّن من الوصول إلى هيكل البناء، كان قد انضمّ غلى الكلب زملاءٌ له. كان خمسة حرّاس شرسين يحيطون بها الآن في جوقةٍ للنباح. انقضّ الأوّل عليها وأغلق فكّيه على ساعدها الأيسر. أطلقت مادلين صرخةً مؤلمة وقد شعرت أنّ الأسنان المعوجّة للحيوان قد انغرزت في لحمها. هاجمها كلبٌ آخر على ساقها، الأمر الذي جعلها تسقط في الوحل بينما وثب ثالثٌ على عنقها. وكان هذا أوّل من قتلته. أطلقت رصاصةً على رأسه. ومن ثمّ قتلت الاثنين الآخرين اللذين انقضّا عليها. وفي قمّة الهلع، أردت في نوبةٍ من الفزع الكلبين الأخيرين الذين أسرعا بدورهما نحوها. محاطةً بخمس جثث، استعادت أنفاسها وهي في حالةٍ من التأهّب والاستعداد، جاهزةً لإطلاق النار إذا ما ظهرت وحوشٌ أخرى. غطّت الدماء كلّ مكان من جسمها. أبت أن تنظر إلى جراحها، ولكنّها أحسّت بالألم في ذراعها الذي مُزِّق في عدّة أماكن منه. سأرى فيما بعد. وقفت منتصبة القامة وأطلقت رصاصةً جديدة على قفل العنبر. * صرخت: -آليس؟ كان المستودع غارقاً في الظلام. أخرجت مصباح الجيب من قراب المسدّس وثبّتته على السبطانة. كرّرت وهي تتقدّم ببطء، وأصابعها قابضة على الزناد، والمصباح اليدوي مصوّبٌ نحو الأمام. لاحظت على الأرضية الترابية المخلخلة آثار خطوات تؤدّي إلى سلّمٍ معدني. إذا كان هناك شخصٌ ما يترصّدني، سوف يقتلني مثل أرنبٍ. لماذا لم تنتظر جوناثان؟ لماذا لم تُخبر رجال الشرطة؟ لأنّها كانت مقتنعة بأنّه ليس هناك أدنى ثانية لكي تضيّعها. -آليس؟ صعدت السلّم الذي أدّى بها إلى نوعٍ من النفق المظلم. رفعت مسدّس الغلوك إلى الأعلى قليلاً وهي تكنّس بحزمة الضوء الممرّ الضيّق الذي كانت الرياح تندفع عبره. أحسّت بدماء جراحها تسيل على طول ذراعها، ولكن آنذاك كان الخوف هو أفضل مسكّن للألم. كان السرداب المليء بالأنابيب الحديدية يُستخدم كمستودعٍ للأشياء العتيقة حيث تتكدّس فيه كلّ أنواع القاذورات. لم تستطع أن تمتنع عن الرجفان ذعراً حينما وقعت على اللوحة الإعلانية الخشبية المدهونة والمزخرفة بصور الوحوش المثيرة للاشمئزاز والتي كانت تتواجد في العرض الأكثر رعباً في البلدة The Scariest Show in Town. سارت وسط بركة ماء وسمعت صوتاً شبيهاً بضُغاب أرنب. صوّبت مباشرةً سلاحها نحو الأسفل، ولكنّها لم تجد سوى مجموعةٍ من الجرذان. في نهاية النفق، كان سلّماً حلزونياً يؤدّي إلى الغوص أكثر في الظلمات. صرخت من جديد لكي تستدلّ على آليس بقدر ما كانت تريد أن تمنح الشجاعة لنفسها: -آليس؟ وصلت أمام ما يقارب عشرة أبواب حديد متعاقبة. خلعت أوّل قُفل وجالت بسبطانة مسدّسها الحُجرة التي كانت تفوح منها رائحة الأقفال والعفونة. كانت فارغة. هاجمت على التوالي جميع الأبواب الأخرى: العقاب نفسه والنتيجة نفسها. حتى وصلت إلى آخر باب. كان ضوءٌ شاحبٌ يُخيّم في هذه الحُجرة. كان هناك سريرٌ متنقّل ضيّقٌ جدّاً ولكن ما لفت انتباهها أكثر هو أنّ الحجرة كانت ... تحتوي على أنبوبٍ معدني شبيهٍ بذاك الذي قُيّدت آليس إليه. من خلال البحث والتنقيب في كلّ زوايا الزنزانة، عثرت مادلين على رباطٍ بلاستيكي مقطوع وقطعةً من شريطٍ لاصق والبلوزة الوردية والرمادية التي تخصّ الفتاة المراهقة. جثت على ركبتيها لكي تلتقط البلوزة وتقرّبها من وجهها: كانت مبلّلة بعرقٍ فاتر. نظراً إلى البرد الذي كان يخيّم على هذا السجن، تأكّدت مادلين أنّ آليس كانت موجودة في هذا المكان حتى قبل ربع ساعة من الآن! لقد فات الأوان! لقد وصلت متأخّرة جدّاً! بسبب هذا الثلج اللعين! بسبب افتقارها إلى البصيرة! بسبب فهمها البطيء جدّاً! بسبب... استغرق إحباطها أقلّ من ثانيتين. نهضت مادلين بحيوية وعبرة الممرّ الرطب وهي تقبض على سلاحها لكي تغادر المستودع وهي عاقدة العزم على أن تواصل المطاردة. الفصل الثامن والثلاثون حي ليتل أوديسا قال آنج: -من المؤلم أن يرغب المرء في حماية شخصٍ ما وأن لا يكون قادراً على ذلك. ردّ فالي: -لا يمكننا أن نحمي الناس، يا عزيزي، كلّ ما يمكننا فعله هو أنّ نحبّهم. جون إيرفينغ كانت العربة البيضاء تتقدّم بصعوبة وسط الثلج اللزج في جادة سورف أفينيو. على الرغم من ضرباتها السريعة، كان من الصعب على ماسحات الثلج أن تزيح الندائف التي كانت تصفع واجهة العربة الزجاجية. خلف مقود شاحنته، كان القلق يعتري يوري. قبل ساعةٍ من الآن، ذُهِل لنبأ وفاة بليث بلاك الذي سمعه من نشرات الأخبار. في البداية خشي أن تكون الشرطة تقتفي أثره ثمّ سرعان ما قرّر أن يجني فائدةً من الوضع. باتت آليس بعد الآن تخصّه. حاولت الصبيّة الصغيرة كثيراً أن تغادره بلا استئذان ولكنّها لم تتوفّر على القوّة اللازمة لفعل ذلك. نظراً إلى حالتها، حرص على ألا يتأخّر كثيراً إن أراد أن "يُعيد بيعها" بثمنٍ غالٍ. كان الأخوان تاشينكو قد أعطيا موافقتهما المبدئية لشراء الصبيّة. كان الأوكرانيان اللذان يعملان في ابتزاز الأموال تحت تهديد السلاح والدعارة وتهريب الأسلحة يتدخّلان في كلّ جوانب الجريمة المنظّمة. كانت آليس صغيرة وجميلة ومثيرة وبلا شكّ عذراء. بعد أن يعتنيا قليلاً بأناقة هندامها، سوف يجني المستخدمان مكاسب كبيرة بجعلها تصطاد الرجال. كانت حافلة الفان المغلقة تواصل طريقها بشقّ الأنفس، دون أن تبالغ في الخوض في طبقة الثلج الشبيهة بسجاد قطني سميك. على لوحة القيادة، كانت أيقونة السيدّة العذراء وهي تحمل الطفل يسوع تتجاور مع قبّعة بيزنطية صغيرة تهتزّ تحت تأثير الارتجاجات والصدمات. تنفّس يوري الصعداء حينما وصل إلى جادة برايتون أفينيو. كانت الجادة التجارية الواسعة التي يعلوها المترو المعلّق محميةً جيّداً من العاصفة. قام بنصف جولة لكي يركن عربته أمام متجرٍ للأغذية. قبل أن يخرج من الحافلة، ألقى نظرةً على سجينته. كانت آليس المستلقية على أرضية القسم الخلفي من الحافلة قد عاودها هذيان الحمّى. كانت قد طلبت منه لمرّاتٍ عديدة بعض الماء. سألها: -هل تريدين شيئاً آخر؟ هل تريدين شيئاً لتتناوليه؟ وافقت على ذلك بإشارةٍ من رأسها وبدأت بالكلام: -نعم أريد ذلك من فضلك... خرجت مادلين من العنبر وهي تترنّح وتتمايل. أسرعت لكي تعبر الأرضية التي تناثر فيها جثث الكلاب الخمسة لكي تستفرغ فطورها على الرصيف. كانت معدتها تعتصر ووجهها ينضح بالعرق وفي قلبها غصّة وحنق. ما العمل الآن؟ النهوض. عدم الاستسلام. الكفاح حتى النهاية. كان خاطف آليس يتقدّم عليها بأكثر من ربع ساعة. كان ذلك كثيراً، ولكن لم يكن لذلك أيّ أهمية. لم يكن المرء يرى أمامه لعشرة أمتار فكان من العبث استقلال سيارة. كان من الأفضل لها أن تحتفظ بحريتها في الحركة سيما وأنّها لم تكن تعرف الأماكن جيّداً. نزلت الشارع ووجدت نفسها على السدّ الحاجز قبالة المحيط الأطلسي. كان المحيط هائجاً والمشهد مدهشاً بقدر ما كان غير متوقّعٍ. لم تعد مادلين في نيويورك وإنّما في سيبيريا. سلكت في الحال منتزه شاطئ البحر بأرضيته الخشبية وأكواخه ذات النوافذ الزجاجية المخربشة. كان الكورنيش البحري مقفراً ما خلا بعض النوارس التي تنبش في حاويات القمامة. كانت مبلّلة وأدركت في الحال أنّ ما كانت تعتبره عرقاً هو في الحقيقة دمٌ. في كلّ خطوةٍ من خطواتها، كانت تترك خيطاً رفيعاً من الهيموغلوبين في مسارها. كان فخذها قد أُصيب إصابةً خفيفة، ولكن كان ذراعها المخدوش والمشطوب على طول العضلة هو مصدر النزيف. أعدّت من وشاحها رباطاً مؤقّتاً شدّته بيدها السليمة وأسنانها. ثم استأنفت تقدّمها. * لم يذهب المترو أبعد من الموقف قبل الأخير. هذه المرّة كانت السكك الحديد مكسوة بالجليد تماماً. كان البرد يشلّ كلّ شيء، والثلج يخنق المدينة تحت وطأة معطفٍ ثقيل. عند خروجه من المحطّة فقد وجد جوناثان بعض "إشارات" الشبكة على شاشة هاتفه المحمول. حاول الاتّصال بمادلين ثلاث مرّات ولكنّها لم تفتح الخط. كان لا يزال بعيداً عن مكان موعدهما ولم يكن يعرف أيّ شيء عن مكان تواجدها. أسند ظهره إلى الحائط. وماذا لو... قرّر أن يحدّد مكان هاتف مادلين بالطريقة نفسها التي طبّقها بالنسبة إلى هاتف آليس. فعّل خدمة البحث في هاتفه. "الرجاء إدخال اسم المستخدم" الأمر سهل: كان يحفظ العنوان البريدي لمادلين عن ظهر قلب. "الرجاء الآن إدخال كلمة المرور". كانت قبل ساعتين من ذلك تسخر من هذا الأمر! "violette1978" وانتظر لبضع ثوانٍ قبل أن يرى نقطةً تغمز على شاشة هاتفه. كانت مادلين على بعد أكثر من كيلومترٍ عنه، إلى الجنوب، قرب شاطئ البحر. انتظر بضع ثوانٍ لكي تُحدَّث الصفحة ويدرك أنّ النقطة كانت تأخذ مكانها على المخطّط. * ركضت مادلين وهي تجابه ندائف الثلج التي تلسع وجهها. فضّلت الموت على أن تلقي سلاحها وتستسلم. ليس الآن، ليس قريباً جدّاً. غادرت شاطئ البحر وعبرت موقفاً للسيارات وسلكت أحد الشوارع المؤدّية إلى الشارع الرئيس في حي ليتل أوديسا. كان الحي يقتبس اسمه من الجماعات اليهودية الأولى التي فرّت من روسيا إبّان برامج إبادة اليهود في روسيا القيصرية والتي وجدت شيئاً من التشابه بين خليج نيويورك وميناء البحر الأسود. حدّدت مادلين الأمكنة: كانت موجودة في جادة برايتون أفينيو، قلب الحبيسة الروسية. كانت تمتدّ تحت هياكل المترو المعلّق العشرات من المعارض والمتاجر ذات اللوحات المكتوبة بالأبجدية السيريلية . على الرغم من تساقط الثلج، كان المكان يضجّ بالناس والسيارات تسير بشكل شبه طبيعي. فتحت عينيها، ساعية إلى التقاط تفصيلٍ صغير، إلى إيجاد دليلٍ، سيارة مثيرة للشبهة... لا شيء البتّة. ما أن توقّفت عن الجري، حتى صعقها الألم الشديد. وخصوصاً أنها كانت تسمع الصيحات التي بزّ الروسيُّ الإنجليزيَّ فيها. وكانت هناك أحاديثٌ تتناولها مباشرةً. حينما لمحت صورتها تنعكس على مرآة إحدى الواجهات، أدركت سبب ذلك: كانت سترتها قد فقدت كمّها؛ وكانت الضمادة التي تشدّ بها جرحها قد حُلّت وكانت تنزف دماً. لم تستطع أن تواصل جريها من دون طاقة ومن دون بوصلة وهي تنزف دماً. دخلت إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة التي تشكّل زاوية مع الشارع الثالث. وإذا كانت الرفوف الأولى للبقالية الكبيرة تفيض بالمعجنات والرقاقات المحشوة وكُريات اللحم وشرائح أسماك الحَفشوأطباق محلية أخرى، فإنّ مؤخّرة المتجر كانت مليئة بمنتوجات الزينة. ولكي تُعقّم جراحها، اشترت مادلين قارورة من الكحول بتركيز 70% وكذلك عدّة عبوات من الغاز والقطن. انتظرت أمام صندوق المحاسبة خلف رجلٍ كان يدفع ثمن عبوة من المياه المعدنية وعلبة من البسكويت: طلب الرجل وهو يشير إلى درج الثلاجة الموجودة خلف طاولة المحاسبة: бутылка клубничного молока فتحت البائعة باب الثلاّجة لكي تُعطي لزبونها القارورة الصغيرة للحليب بالفراولة التي طلبها. سمعت مادلين نداءً. نظرت بمزيدٍ من التدقيق إلى علبة معجنات الكوكي: كانت عبارة عن بسكويت مدوّر بالشوكولا، مزيّنة بالكريما البيضاء. إنّه بسكويت أوريو. * قفز قلبها في صدرها. تركت مشترياتها على طاولة المحاسبة لتلحق بالرجل في الشارع. كان رجلاً طويل القامة فظّاً قويّ البنية، أشبه بلاعب ركبي بكرشٍ وخدودٍ ضخمة شوّهتها الكبريتات. وصل بخطى متثاقلة وقويّة إلى عربته البيضاء، المركونة قريباً من المكان. أخرجت مادلين المسدّس من جيبها بهدوء. وكأنّها تودّي حركة صلاة، مرّرت يدها حول مقبض المسدّس وانتظرت إلى أن أصبح الرجل في خط مرمى نيرانها تماماً قبل أن تصرخ فيه: -Freeze! Put your hands overhead! في تلك اللحظة، عرفت جيّداً بأنّها ستقتله لأنّها كانت تدرك تماماً بأنّه سوف لن يرضخ ولن يستسلم. سوف يحاول الهروب مراهناً على حظّه. وهذا ما فعله يوري. فتح باب شاحنته و ... ضغطت مادلين على الزناد، ولكن لم تخرج أيّ طلقة. ضغطت على الزناد مراراً وتكراراً ولكنّها اضطّرت للاستلام أمام القدر، كان مذخّر مسدّسها فارغاً. * كان جوناثان يصعد الجادة التي يوجد فيها المترو المعلّق حينما رنّ هاتفه. كانت مادلين على الطرف الآخر من الخط، تصرخ فيه: -العربة البيضاء! رفع رأسه لكي يرى المرأة الشابّة أمامه على بعد نحو عشرين متراً وهي تقبض على السلاح وتومئ له بإشارات كثيرة لم يدرك من معانيها سوى أنّ عليه التحرك سريعاً جدّاً وأنّ في جيبه مسدّساً وأنّ هذه الحكاية مكتوبٌ لها أن تنتهي وسط الدم. أمسك بمسدّس داني من طراز كولت فلقّمه وصوّبه نحو الشاحنة الصغيرة التي كانت قد أقلعت كالإعصار. ومع أنّه لم يُطلِق في حياته طلقةً واحدة، تتالت حركات التلقيم والتصويب من تلقاء نفسها. رفع السلاح الناري وثبّت يده كي لا ترتجف وسدّد بكلّ ما استطاع من عناية ودقّة وضغط على الزناد. اخترقت الرصاصة الواجهة الزجاجية للشاحنة. انحرفت الشاحنة الصغيرة في عرض الطريق وصدمت المنصف المركزي قبل أن تنقلب وتلتحم مع دعامة هيكل المترو. * كان الدم ينبض في صدغي مادلين. كان الطقس جليدياً ولم تعد تشعر بأيّ ألم. لم يعد يصلها ضجيج الخارج وصخبه وكأنّ غشائي الطبلة في أذنيها قد ثُقبا. وفي حركةٍ أشبه بالتصوير البطيء، ركضت نحو خلفية الشاحنة الصغيرة. وصلت سيارة إطفاء إلى نهاية الشارع. وسرعان ما لمعت الأضواء الدوّارة لسيارات الشرطة والإسعاف. ألقت نظرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار وإذ كانت لا تزال تحت تأثير الصدمة، أحاط بها الحشد بارتياب: أمسك الجزّار بسكينه في يده وفكّ السمّاك عصا البيسبول خاصّته ورفع السبّاخ قضيبه المعدني. سحبت القضيب المعدني من يدي الرجل بحركةٍ حاسمة واستخدمته كقبضة مطرقة لكي تخلع به الأبواب ذات المصاريع للقسم الخلفي من الشاحنة. كم مرّة عاشت هذا المشهد في أحلامها؟ كم مرّة أعادت الفيلم في ذهنها؟ كان ذلك هاجسها. المعنى العميق لحياتها. أن تُنقِذَ آليس. أن تجعلها تولَد من جديد. تحت قوّة الضربات التي انهالت عليها انخلعت في النهاية أبواب الشاحنة. اندفعت مادلين إلى داخل الشاحنة. كانت آليس جامدة، مكبّلة، وثيابها ملطّخة بالدم. لا! لا يمكن لها أن تموت الآن. انحنت مادلين فوقها ووضعت أذنها على صدرها بحثاً عن بنضة قلب. وامتزج دمها بدم آليس. الخاتمة صباح اليوم التالي عكست الشمس المشرقة وسط سماءٍ صافية أشّعتها على المدينة الصدفية وانقطعت مدينة نيويورك، وهي ترزح تحت وطأة ستين سنتيمتراً من الثلج، عن العالم وأغلقت أكوام الثلج المتراكمة الطرق وسدّت الأرصفة. اليوم، سوف تبقى الحافلات وسيارات الأجرة في مرائبها، والقطارات في محطّاتها والطائرات جاثمة على مهابطها. وخلال أقلّ من بضع ساعات، سوف تتحوّل مانهاتن إلى محطّة شاسعة للرياضات الشتوية. واجه الكثيرون من سكان نيويورك وهم ينتعلون زحافات التزلّج على الثلج أو خفاف الجليد البرد على الرغم من الساعة الصباحية المبكّرة ومرح الأطفال وابتهجوا: سباقات الزلاجات على الثلج ومعارك كرات الثلج وصنع رجال الثلج وتزيينهم باكسسوارات مضحكة. نزل جوناثان وهو يمسك قدحاً بيده وعلبة كرتونية بأخرى بخطوات حذرة الرصيف المغطّى بالجليد. كان قد قضى قسماً كبيراً من الليل في مفوضية الشرطة في جلسة تقييمٍ مطوّلة مع رجال الشرطة المحليين ورجال الشرطة الاتحادية FBI الذين باتوا من الآن فصاعداً يتكفّلون بحماية داني. رغم حرصه وحذره، انتهى به الأمر بالتزحلق على المزلقة. وكلاعب توازن، أمسك بمرفق عمود إنارة وفاض عليه السائل الذي أطاح بغطاء قدحه. عبر بخفّة أبواب مستشفى سان جود، المتاخم للحي الصيني وفاينانشل ديستريكت. استقلّ المصعد حتى الطابق الذي تتلقّى آليس فيه العلاج. كان الممرّ يعجّ برجال الشرطة بزيّهم الرسمي والذين كانوا يقومون بالحراسة أمام باب الغرفة. أبرز جوناثان تفويضه قبل أن يدفع باب الغرفة. كانت آليس، الممدّدة على السرير، وفي ذراعها إبرة حقن، تتلقّى العلاج والرعاية الطبية اللازمين. رفعت بصرها نحوه وهي لا تزال مخدّرة بعض الشيء وأشرق وجهها الجميل بابتسامةٍ خفيفة. كانت معجزة إعادة بثّ مايحتاج إليه جسمها من سوائل فعّالة: لقد استعادت آليس لون بشرتها وأظهرت صفاءً وألقاً مذهلين بعد ما عانته وعاشته من أيام عصيبة. أعاد جوناثان إليها ابتسامتها وهو يوجّه لها إشارةً من يده لكي يخبرها بأنّه سوف يعود بعد أن تغادر الممرّضة غرفتها. ذهب جوناثان بعد ذلك إلى الغرفة التي كانت مادلين تتلقّى فيها المعالجة من جراحها. حينما مرّ أمام عربة معدنية، استولى على صينية بلاستيكية ووضع فوقها كوبه المليء بالشوكولا الساخنة. فتح علبته الكرتونية وأخرج منها ثلاث قطعٍ من الكيك المغلّف ورتّبها بطريقة في غاية الترتيب والتناسق. وأخيراً، وجد إكليلاً من الأزهار البيضاء المعلّقة على الجدار فانتشل منها زهرةً من شقائق النعمان وأكمل بها توازن الصينية. قال وهو يدخل إلى غرفة مادلين: -وجبة الفطور! بينما كان يعتقد بأنّ مادلين ستكون وحيدة في الغرفة، وجد نفسه وجهاً لوجه مع الكابتن ديلغاديلو، أحد أركان شرطة مدينة نيويورك المحلية: رجل من أصول لاتينية طويل القامة ذو أسنانٍ بيضاء وملامح قاسية. متأنّقاً في لباسه، مستعلياً بعض الشيء، لم يلتفت إليه الشرطي بأيّ نظرة. قبل أن يغادر الغرفة، أكّد الشرطي: -أنتظر ردّكِ من الآن وحتى نهاية الأسبوع، يا آنسة غرين. كانت مادلين مستلقية في سريرها. وكانت قد أُخضِعت ليلة أمس إلى تخديرٍ عام. وقد سارت العملية على نحوٍ جيّد، ولكنّ المخالب كانت قد انغرزت عميقاً في لحمها وسوف تحمل إلى الأبد علامات وآثار مواجهتها مع الكلاب. سألت وهي تأخذ قطعة من الكاتو: -أهذه لي؟ أكّد لها جوناثان: -فانيليا، شوكولا، مارشميلو. أجود أنواع الكيك في كلّ مدينة نيويورك. -هل ستحضّر لي بعضاً منها ذات يوم؟ أنت تعلم أنني لم أتذوّق بعد شيئاً من الأطباق التي تحضّرها! أكّد لها ذلك بإشارةٍ من رأسه وجلس إلى جانبها على السرير. سألت: -هل رأيت آليس؟ -نعم، رأيتها للتوّ. إنّها تستعيد عافيتها. -وعند رجال الشرطة، هل تسير الأمور سيراً حسناً؟ -أعتقد ذلك، لقد أخبروني بأنّهم أخذوا إفادتكِ هنا، هل هذا صحيح؟ -نعم، من خلال هذا الرجل الذي شاهدته هنا منذ قليل. لن تتخيّل أبداً: لقد عرض عليّ منصباً! اعتقد في البداية بأنّها تمزح، ولكنها أكّدت بحماسة واندفاع: -مُخبرة استشارية لصالح شرطة مدينة نيويورك المحلية! -وهل ستوافقين على هذا العرض؟ -أعتقد ذلك. أنا أحبّ الأزهار كثيراً، ولكن عملي هذا كشرطية مغروسٌ في جلدي، أدمنتُ عليه. هزّ جوناثان رأسه في صمت ونهض لكي يفتح ستائر النافذة. بينما كانت الشمس تغمر الغرفة، اجتاحة رعشة بردٍ جسد مادلين. ماذا سيكون مستقبل حياتهما الثنائية؟ خلال بضعة الأيام هذه، عاشا وسط حمّى الخطر. والمحن التي تغلّبا عليها معاً كانت شديدة للغاية بحيث أنّها سترسم بقوّة حدّاً في حياتهما. لقد تبادلا الأدوار، ومرّت لحظات، كانت حياة كلّ منهما رهن يدي الآخر. لقد تبادلا الثقة وأكملا بعضهما وأحبّا بعضهما. وماذا الآن؟ التحفت بالغطاء ونهضت لتأتي وتقف إلى جانبه أمام النافذة. كانت ستطرح عليه السؤال حالما يأخذ زمام المبادرة: سألها وهو يمدّ نحوها جهاز هاتفه المحمول: -ما رأيكِ بهذا المكان؟ على شاشة الهاتف المحمول، استعرضت صور بيتٍ قديمٍ ذي واجهة مزخرفة بتماثيل التراكوتا الأفريقية المصنوعة من الطين في شارعٍ ضيّق من غرينتش فيليج. -هذا مكانٌ جميل، لماذا تسألني؟ -هذا البيت للبيع. ويمكن أن يتحوّل إلى مطعمٍ جميل. أعتقد بأنني سأخوض هذه المغامرة. تنفّست وهي غير قادرة على إخفاء فرحتها: -حقّاً! حسناً، هذه ليست فكرة سيّئة. حاول أن يضايقها: -وبهذه الطريقة، إن بقيتِ في نيويورك، سوف يمكنني أن أقدّم لكِ يد المساعدة في تحقيقاتكِ. -سوف تقدّم لي يد المساعدة في تحقيقاتي؟ -تماماً، لقد لاحظتُ أنّكِ كنتِ تحتاجين غالباً إلى دماغي المثي لكي تجدي الحلول للأوضاع. وافقته الرأي قائلةً: -هذا صحيح. وأنا بالمقابل، سوف يمكنني أن أساعدك في المطبخ! ردّ وهو يبدي ارتيابه في ذلك: -إحِم... -ماذا يعني (إحِم)؟ أنا أعرف وصفات إعداد الأطباق، تخيّل! هل أخبرتك بأنّ جدّتي كانت من أصولٍ اسكتلندية؟ لقد أودعتني سرً طبقها الشهير من كرش النعجة المحشي. -يا للهول! ولماذا ليس حلوى البودينغ بدهن كلاوي العجل! فتح جوناثان مصراع النافذة الزجاجية الطويلة. متّحدين بتشاركهما المستعاد، خرجا وأكملا دعابتهما الهزلية في الشرفة الصغيرة المطلّة على نهر إيست ريفر وجسر بروكلين. كان الهواء منعشاً والسماء صافية. وهي تنظر إلى الثلج يتلألأ تحت أشعة الشمس، تذكّرت مادلين الجملة التي كانت آليس قد دوّنتها على الصفحة الأولى من دفتر مذكّراتها اليومية الخاصّة: "أجمل سنوات الحياة هي التي لم نعشها بعد". هذا الصباح، كانت ترغب أن تُصدّق ذلك... كلمات شكر إلى : لوران تانغي، متجر مادلين للزهور موجود فعلاً! أو يكاد يكون موجوداً... لقد استوحيته على نحوٍ خاصّ من متجر لوران تانغي الحديقة الخيالية الجميل جدّاً في شارع ميشوديير في باريس. شكراً لوران على كلّ نكاتك وشغفك المُعدي بفنّ الأزهار. بيير هيرمي، شكراً على الوقت الذي منحتني إياه وأنت تشرح لي "آليات وطرائق" صناعة حلوياتك. إن مناقشاتنا غذّت خيالي بشأن الاندفاع الخلاّق لجوناثان. ماكسيم شاتام وجيسيكا، شكراً ماكس على زيارتك الإرشادية إلى "بروكلين برولان". لقد بقيت نزهتنا في الخامس والعشرين من كانون الأول \ ديسمبر 2009 في كوناي آيسلاند السوريالية والمثلجة ذكرى ممتازة خدمت كإطارٍ للفصول الأخيرة من هذه الرواية. قارئاتي وقرّائي الأعزّاء، الذين منذ سنوات عديدة تستهلكون وقتاً في الكتابة إليّ لكي تشاركوني أفكاركم وتحافظوا على الحوار بيننا. "مجهولة المطار" التي ذات يومٍ من أيام شهر آب\ أغسطس 2007 في مونتريال، بادلت سهواً هاتفها المحمول مع هاتفي، زارعة بذلك في ذهني البذرة الأصلية لهذه الحكاية... أماكن وناس بعض القرّاء، الذين يعرفون مدينة مانشستر، سوف يندهشون لأنني جعلت مادلين وداني يترعرعان في شيتام بريدج، في حين أنّ هناك حيٌّ حقيقي يُدعى شيتام هيل. كلاّ، أنا لم أُخطئ هنا وإنّما كنتُ أعاني من الحاجة إلى ابتكار حي لكي أكتب عن طفولتهما: بالنسبة إليّ، الرواية هي عالم موازٍ. وعلى العكس من ذلك، مدرسة جوليارد سكول، مدرسة الفنون المسرحية الخيالية هذه في مدينة نيويورك موجودة فعلاً. إنّه مكانٌ مذهل للفن والثقافة: أيّها الطلبة الذين تملكون فرصةً لممارسة مواهبكم فيها، لا تقلقوا أبداً، فالمشهد المريع الذي عرضته هنا هو ليس سوى محض تخيّل. من بين اللمحات الواردة في هذه الرواية، قد تجدون خلال الببغاء بوريس استذكاراً للكاتب هيرجيه والكابتن الفظّ هادوك، بينما في الواقع هذا اقتباسٌ من أغنية جورج براسينس الشهيرة، فيرناند، (منشورات57)، والتي تمت إعادة تقديمها في افتتاحية الفصل الثالث. كلمة أخيرة. منذ سنوات عديدة، وأنا أدوّن الجمل التي تجعلني أحلم أو أضحك، الجمل التي تهزّ مشاعري أو حتى تترك تأثيراً عميقاً في داخلي. وهذه الجمل تأتي، كتاباً بعد آخر، لكي تدعم ما أحاول أن أنقله عبر فصلٍ أو آخر من فصول الكتاب. يتعلّق بها القراء الفرنسيون والأجانب وأتلقى أعداداً متزايدة من الرسائل تسألني من أين أقتبسها. ولذلك سوف تجدون بعد هذه الكلمات قائمةً بالمراجع. انا سعيدٌ بأن تكون هذه الحواشي أبوباً مشرعة على عالم كاتبٍ آخر. المراجع الفصل الأوّل: كلوديا غالي، وحدها فينيسيا، رويرغ، 2004؛ الفصل الثاني: بول موران، الرجل المستعجل، غاليمار، 1941؛ الفصل الثالث: ستيغ لارسن، الجزء الأوّل من ثلاثية الألفية – فتاة لا يحبّها الرجال- ، ترجمة: ل. غرومباخ، م. دو غوفينان، اكت سود، 2006؛ الفصل الرابع: كارلوس رويز زافون، ظلّ الريح، ترجمة: ف. ماسبيرو، غراسيه، 2004؛ الفصل الخامس: جويس كارول أوتس، الفتاة الزنجية، الفتاة البيضاء، ترجمة: ك. سيبان، منشورات فيليب راي، 2009؛ الفصل السادس: باولو جيوردانو، عزلة الأعداد الفردية، ترجمة: ن. بوير، سوي، 2009؛ الفصل السابع: رومان غاري، نور المرأة، غاليمار، 1977؛ الفصل الثامن: جوزيف أوكونور، ديسبيرادو، ترجمة: ب. ماسكارت و ج. مودال، فيبوس، 1998؛ الفصل التاسع: مارغريت يورسينار، العمل في السواد، غاليمار، 1968؛ الفصل العاشر: غي دي موباسان، العزلة، من مجموعة "السيد بارانت" قصص وحكايات 1884 – 1890، روبير لافون، 1988؛ الفصل الحادي عشر: أندريه مالرو، جوز آلتنبورغ 1948، غاليمار، فوليو، 1997؛ ترجمة ج. تورنيه، ستوك، 2008؛ الفصل الثالث عشر: مايكل كونيللي، الذئب الأخير، ليل، براون اند كومباني، 1995؛ الفصل الرابع عشر: جوزيف أوكونور، ديسبيرادو، ترجمة: ب. ماسكارت وج. مودال، فيبوس، 1998؛ الفصل الخامس عشر: بول فيرلين، "عاشقة الشيطان" من ديوان قديماً وحديثاً، ال جي اف، 2009؛ الفصل السادس عشر: حكمة ألمانية؛ الفصل السابع عشر: مارلين مونرو، مقتطفات، منشورات اس. بوشتال وب. كومنت، ترجمة: ت. صامويو، سوي، 2010؛ الفصل الثامن العاشر: سوفوكليس، أوديب ملكاً؛ الفصل التاسع عشر: بوريس سيرونليك، العار، أوديل جاكوب، 2010؛ الفصل العشرون: فلانيري اوكونور، ألمي يأتي من الأكثر بعداً، ترجمة: هـ. موريسيه، غاليمار، 1969؛ الفصل الحادي والعشرون: ميلان كونديرا، كائن لا تُحتَمَل خفّته، ترجمة: ف. كيريل، غاليمار، طبعة جديدة، 1987؛ الفصل الثاني والعشرون: خوان مانويل دي برادا، العاصفة، ترجمة: ج. اياكولي، سوي، 2000؛ الفصل الثالث والعشرون: الفريد دي موسيه، "إلى أخي العائد من إيطاليا"، قصائد كاملة، ال جي اف، 2006؛ الفصل الرابع والعشرون: فرانسوا شانغ، الخلود ليس مبالغةً، آلبان ميشيل، 2002؛ الفصل الخامس والعشرون: جاي ماك إينيرني، ثلاثون عاماً والغبار، ترجمة: ج. هيوت، ج، -ب. كاراسو، أوليفيه، 1993؛ الفصل السادس والعشرون: هوراس، أوديسا، الجزء الرابع، الفصل الأوّل؛ الفصل السابع والعشرون: سينيكا، عن الرحمة؛ الفصل الثامن والعشرون: ر. ج. إيلوري، وحدة الصمت، ترجمة: ف. بوانتو، سوناتين، 2008؛ الفصل التاسع والعشرون: شعار مقاطعة زيلند الهولندية؛ الفصل الثلاثون: مارك توين، في أثر خطّ الاستواء: جولة حول العالم، الشركة الأميركية للنشر، 1897؛ الفصل الحادي والثلاثون: جاو كسينغجيان، جبل الروح، ترجمة: ن ول. دوتريه، منشورات لوب، 1995؛ الفصل الثاني والثلاثون: لورد بايرون، أسفار شيلد هارولد(1812)، الأعمال الكاملة، ترجمة: ب. ديلاروش، 1938؛ الفصل الثالث والثلاثون: المادة 3521 من الباب 18 من شرعة الولايات المتحدة الأميركية؛ الفصل الرابع والثلاثون: جورج ساند؛ الفصل الخامس والثلاثون: كريستيان بوبان، المسيح المدمّى، منشورات ليتر فيف، 2002؛ الفصل السادس والثلاثون: جون دوس باسوس، ضدّ الأدب الأميركي، نيو ريبوبليك، 1916؛ الفصل السابع والثلاثون: غراهام غرين، الرجل الثالث، ترجمة: م. سيبون، روبير لافون، 1950؛ الفصل الثامن والثلاثون: ون إيرفينغ، تحفة الله، حصّة إبليس، ترجمة: ف. وج. كازاريل، سوي، 1986. المحتويات مقدّمة .................................................. ............... 7 القسم الأوّل القطّ والفأر الفصل الأوّل: تبادل الهاتفين المحمولين............................. 13 الفصل الثاني: حياتان منفصلتان .................................... 31 الفصل الثالث: في السرّ .............................................. 51 الفصل الرابع: فارق التوقيت......................................... 65 الفصل الخامس: لديك بريد إلكتروني ................................ 75 الفصل السادس : الخيط ............................................... 89 الفصل السابع: لامبيرور المعزول ................................... 107 الفصل الثامن: الأشخاص الذين نحبّهم ............................... 125 الفصل التاسع: سرٌّ محفوظٌ جيّداً ..................................... 139 الفصل العاشر: حياة الآخرين ....................................... 147 الفصل الحادي عشر : التحقيق ...................................... 161 القسم الثاني قضية آليس ديكسون الفصل الثاني عشر : آليس ............................................. 169 الفصل الثالث عشر: أيّام الإخفاق ...................................... 181 الفصل الرابع عشر: العدو اللدود ...................................... 189 الفصل الخامس عشر : الفتاة المفقودة ................................. 203 الفصل السادس عشر: الصندوق ....................................... 207 الفصل السابع عشر: زهرة السحلبية السوداء .......................... 211 الفصل الثامن عشر : المنوّم المغناطيسي .............................. 229 الفصل التاسع عشر (1): ملاقاة طريقك ............................... 237 الفصل التاسع عشر (2): ................................................ 247 الفصل التاسع عشر (3) ................................................ 265 الفصل التاسع عشر (4) ................................................ 269 الفصل العشرون: لغز اللحم الحيّ ..................................... 271 الفصل الحادي والعشرون: الجانب الوحشي .......................... 275 الفصل الثاني والعشرون: شبح مانشستر .............................. 295 الفصل الثالث والعشرون: المرآة ذات الوجهين ....................... 311 القسم الثالث الواحد للآخر الفصل الرابع والعشرون: ما يتركه الموتى للأحياء ................... 327 الفصل الخامس والعشرون: المدينة التي لا تنام ......................... 332 الفصل السادس والعشرون: الفتاة ذات العيون الشبيهة بعيون موديغلياني 347 الفصل السابع والعشرون: الأسيرة ......................................... 353 الفصل الثامن والعشرون: فرانسيسكا ...................................... 365 الفصل التاسع والعشرون: ملاكٌ في جحيم ................................ 379 الفصل الثلاثون: الوجه المخفي للقمر ..................................... 385 الفصل الحادي والثلاثون: في الأراضي المعادية ......................... 401 الفصل الثاني والثلاثون: حقيقة داني دويل ................................ 411 الفصل الثالث والثلاثون: الشهود .......................................... 417 الفصل الرابع والثلاثون: الفتاةُ في الظلام ................................ 427 الفصل الخامس والثلاثون: في الرمق الأخير ............................ 439 الفصل السادس والثلاثون : العثور على آليس ........................... 453 الفصل السابع والثلاثون: حمّى في الدم .................................. 471 الفصل الثامن والثلاثون: حي ليتل أوديسا ............................... 485 الخاتمة .................................................. ................... 495 كلمات شكر إلى .................................................. ......... 501 أماكن وناس .................................................. ............. 503 المراجع .................................................. .................. 505 غيوم ميسو نداء الملاك كان في هاتفهما، كلّ حياتهما... نيويورك. مطار كينيدي. في الكافيتيريا المزدحمة، اصطدم رجلٌ وامرأة وحدث شجارٌ تافه بينهما، ثمّ راح كلٌّ منهما في سبيله. لم يكن مادلين وجوناثان قد التقيا من قبل وما كان لهما أن يتقابلا بعد ذلك. ولكن حينما التقطا ما سقط منهما من متعلّقات، تبادلا من دون قصد هاتفيهما المحمولين. حينما أدركا خطأهما، كانا قد ابتعدا عن بعضهما لمسافة عشرة آلاف كيلو متر: مادلين بائعة زهور في باريس، وجوناثان صاحب مطعم في سان فرانسيسكو. بدافع من الفضول، سبر كلٌّ منهما محتوى هاتف الآخر ونبش في أعماق حياته الشخصية: الصور، المحادثات، الملفات، المفكّرة... إلى أن اكتشفا فيها أسراراً كان كلاهما يعتقدان أنّها قد دُفِنَت إلى الأبد... عملٌ يقع بين الكوميديا الرومانسية والحكاية المثيرة إلى درجة الذروة. حبكةٌ روائية بارعة تودّيها شخصيات مؤثرة. خاتمة في قمّة البراعة *** "يفعل السحر فعله. نغوص في عالم ميسو السرّي كطفل، نقفز بكلتا قدمينا إلى مستنقعاته". جريدة لوباريزيان "حبكة رواية على درجة من التشويق لم يبلغها ميسو إلى الآن". شبكة آر تي إل |
الساعة الآن 11:50 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها