![]() |
إيزادورا .. هبة إيزيس
إيزادورا .. هبة إيزيس
رواية ـ 1 - بدهشة المكتشف ونظرة العالم، وقف عالم الآثار المصري، متفحصا بعقله النابه ونظره الثاقب، ذلك الاكتشاف الذي تم على يديه، ظل شاردا وهو يتأمل الموقع ويحدث نفسه: ما أروع هذه المقبرة الصغيرة الفريدة في طرازها، لقد ظلت مدفونة تحت الرمال مع مثيلاتها من قبور الفراعنة لكنها.. بنيت بشكل مختلف لم نعهده من قبل في المباني الجنائزية. يتنهد وينظر حوله في الفضاء الواسع، حيث تناثرت بيوت الأبدية تتحدى الزمن، بقاء وشموخا، آآه..أخيرا يا تونا الجبل تبوحين بأسرارك، وتكشفين بعض كنوزك، ترى كم تخفين من كنوز أثارنا الخالدة، لكم تستهويني هذه المقبرة ذات الحجرتين الصغيرتين التي تضم مومياء تلك الصبية الجميلة الغضة ايزادورا ابنة حاكم الإقليم المسمى الآن محافظة المنيا، بصعيد مصر الأوسط، يفرد ورقة بردي في يده وينظر فيها ويكمل تحكي نقوش المعابد أن هذا الإقليم - كان قديما - يسمى منعت، اختصارا لمنعت خوفو الذي وجد منقوشا على آثار بني حسن. وفي العصر القبطي سمى موني ثم حرف في العصر الإسلامي إلى منيا. يعاود النظر إلى المقبرة محدثا نفسه، سوف أصعد الدرج الذي يكاد يكون رأسيا لأرى ما بداخل المقبرة وألقي السلام على روح صاحبتها، ها هي الحجرة الأولى وقد زينت جدرانها على جانبي الباب المؤدي إلى الحجرة الداخلية، حيث ترقد ايزادورا بقصائد الرثاء التي كتبت باللغة الإغريقية، سوف أقوم بقراءة وترجمة هذه البكائيات. يتوقف الأثري الباحث ويقرأ في همس وقد بدا على وجهه التأثر والتعاطف العميق مع ذلك المشهد الحزين. أيتها الصغيرة الجميلة أيتها الطيبة البريئة والزهرة الناضرة التي ذبلت في ربيع العمر يا ملاكي الطاهر الذي رحل دون وداع لقد أدميت قلب أبيك برحيلك المفاجئ لقد اختطفك حابي بأمواجه الهادرة سامحيني يا ايزادورا - يا هبة ايزيس ها أنت يا حبيبة الفؤاد تنامين في دار الأبدية ترعاك عين الأ لهة وتحرسك روح ايزيس المقدسة يا عطية ايزيس ويبقى أباك مهموما حزينا إلى أن يلحق بك في الأفق الأعلى إن لوعة الفراق تمزق قلبي تدمع عينا العالم الأثري، آآه.. ما أقسى لوعة هذا الأب المكلوم وما أعظم فجيعته في فقد ابنته، يدلف إلى الغرفة الداخلية، فيرى مومياء ايزادورا ممددة على سرير فاخر تعلوه قوقعة جميلة من الجص الأبيض، مزينة برسومات للربة ايزيس، ينظر إلي أعلى ويدقق النظر في سطح المقبرة وجدرانها فيؤلمه ما جرى، ويصيح يا إلهي ماذا فعل لصوص المقابر بدارك يا شهيدة الحب ! لقد اقضوا مضجعك ونقبوا سقف المقبرة المقبب، فانهار علي جثمانك وسريرك الجنائزي حتى تهشم وتهشمت معه مومياؤك، كما سرقوا الكنوز النفيسة التي وضعها الوالد المحزون والأم الثكلى. آآه.. لكم عانيت الظلم في الحياة وفي الممات، حين أقلق اللصوص راحتك، لا سامحهم الله. يضع الباحث يديه في جيوب سترته ويأخذ نفسا عميقا ثم يستطرد: يقول التاريخ المدون أن المقبرة بنيت في عام مئة وعشرين بعد الميلاد في عهد الأمبراطور الروماني ( هادريان ) ثم خرج من المقبرة وهو في ذهول. على حجر كبير قديم وجد قبالة المقبرة، جلس صامتا يفكر ويسترجع في مخيلته قصة هذه الفتاة صاحبة المقبرة، ويصغي إلى صوت التاريخ. وإذا برمال تونا الجبل تحولت إلى مسرح كبير تجري عليه أحداث القصة فاستجمع حواسه وأبحر بخياله عبر التاريخ، وعاد بالزمن إلى الوراء واستغرق في مشاهدة ما يجري أمامه من أحداث. هذا هو الضابط - كريتياس - والد إيزا دورا قبل أن تولد ايزادورا، إنه يجلس صامتا حزينا مكتئبا، وها هو أحد معاونيه يقترب منه ويسأله: ـ سيدي أراك مهموما دائما ولا تبوح لأحد بما في داخلك، هل بوسعي أن أفعل شيئا لمساعدتك ؟ ـ آآه.. لو تعرف ما بداخلي يا برديكاس، لكم أشتاق أن يكون لي ابنا أو ابنة لكي أسعد ببراءة الأطفال، حينما أشاهد الأطفال مع ذويهم أتمنى لو كنت واحدا من العامة ولدي أطفال مثلهم. ـ ولماذا لا تذهب إلى المعابد وتقدم القرابين للإلهة وتدعوها أن تهبك الأبناء. ؟ ـ في العام الماضي حينما زرت أثينا ذهبت وزوجتي بلوتينا إلى معبديّ دلفي والومبيا وقدمنا القرابين للإله زيوس وطلبنا من الكاهنة أن تدعو لنا وتصلي من أجلنا وتعطينا بعض التعاويذ، يتنهد بعمق وأسى، ثم يكمل ولكن.. دون فائدة، ولست أدري ماذا أفعل. ـ أعتقد يا سيدي القائد أن ايزيس المقدسة أولى أن تتجه إليها فهي رمز الوفاء والعطاء. ـ ايزيس !! نعم لقد سمعت المصريين يتحدثون كثيرا عن معجزاتها. ـ إن ايزيس سيدة الربات في مصر، أنصحك بالتوجه إليها. ـ حسنا يا برديكاس، أنت مستشار مخلص، سوف أتوجه من الغد إلى معبد ايزيس مع زوجتي بلوتينا لنقدم القرابين ونؤدي طقوس العبادة، فلكم سمعت عن ايزيس وزوجها وابنها وعرفت أنهم يقدمون الخير للشعب ويساعدون المحتاجين، سأطلب من كهنة معبدها مساعدتي في تحقيق رغبتي والدعاء لي ولزوجي بالإنجاب، فعسى يتحقق حلمي وحلم زوجتي اليائسة. ـ رعتك الآلهة يا سيدي القائد وأنعمت عليك بما تريد. ـ نعم النصيحة يا برديكاس إن ايزيس مقدسة عندنا أيضا ولها معابد في أثينا وروما إن شهرتها لا تخفي.ولذا سأخبر بلوتينا بهذه النصيحة، لا شك أنها ستسعد بذلك، أنا أشعر أنها بحاجة لمن يبعث الأمل بداخلها. ـ أن كل من بالقصر يدعون لك وللسيدة بلوتينا، فلا تيأس من يدري ربما تتحقق الأمنيات قريبا، فكم من المعجزات تحدث دون توقع. ـ صدقت يا برديكاس، فكم من الأمنيات بدت مستحيلة ثم تحققت، وكم من الأمنيات تبدو لنا سهلة قريبة، لكنها في الحقيقة صعبة المنال. ـ تلك هي شئون الحياة يا سيدي القائد، فما يخفى عنا أكثر مما يظهر لنا وتدركه أبصارنا. ـ 2 - جربت بلوتينا كل ما أعده الأطباء من أدوية وكل ما نصح به العرافون من وصفات، فهي تدرك مدى حزن زوجها لعدم الإنجاب وتعلم مدى شوقه للأطفال، وقد مضت سنوات على زواجهما دون أن يرزقا بطفل، لذا خيم الحزن والقلق على حياتهما. في أحد الأيام جلست واجمة حزينة وقد بدا عليها اليأس، وحولها بعض الجواري، فتقدمت منها جاريتها المصرية المخلصة نفرت وأرادت أن تخفف عنها ما بها من همّ قائلة: سيدتي أنا أعرف سبب حزنك فاسمحي لي أن أشور عليك باللجوء إلى ربة الربات ايزيس، وأنصحك بأن تزوري معبدها وتطلبين منها أن تهب لك طفلا جميلا تسعدين به أنتِ وزوجك أصغت بلوتينا لحديث نفرت باهتمام بالغ، وأخذته مأخذ الجد وكأ نها وجدت فيه طوق النجاة، وقررت إبلاغ زوجها بما عزمت عليه حين حضوره . بعد سويعات قليلة أقبل كريتياس فاستقبلته بوجه تغطي قسماته بوادر الأمل، وقصت عليه نصيحة جاريتها المقربة نفرت، نظر إليها متعجبا وأخبرها أن مستشاره برديكاس نصحه بنفس النصيحة ثم علق قائلا: يا محاسن الصدف، كيف نتلقى نصيحة واحدة في نفس الوقت ! فتجبه بلوتينا وقد غمرها أحساس بالرضا والأمل لا بد أنها بركات ايزيس، ليتنا يا زوجي العزيز نذهب إلى معبدها صباحا ونكثر من الدعاء، علها ترفق بحالنا وتستجيب لدعائنا، فقد عرفت من نفرت مدى قوة ايزيس وعظمتها وبهائها إنها ( أم الطبيعة ومنشأها وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله والربة العليا ) وتقول: أيضا أن قوتها السحرية لا تبارى ولا تجارى ولا سيما في العناية بالأطفال. يصغي كريتياس إلى حديث بلوتينا ويضيف معقبا: أعرف أنها أشهر الربات وأقدرهن وأن سلطانها على مريديها قد تعدى حدود مصر إلى بلدان كثيرة مثل روما وأثيوبيا واليونان، ولذا أرجو أن تعدي نفسك للذهاب غدا إلى معبد الربة ايزيس . تجدد الأمل الذي خبا في نفس الضابط وزوجته فقضيا الليل والأحلام تساورهما بتحقيق تلك الأمنية الغالية، ثم يعاودهما الشك واليأس والخوف من المستقبل الغامض، فالأيام لا تعطي للمرء كل ما يتمناه. ـ آآه يا بلوتينا لو تحقق هذا الحلم البديع وأصير أبا بعد أن فقدت الأمل في الإنجاب أو كدت أن أفقده، ـ وأنا لكم أتوق لآن أصبح أمّا، إنه حلم حياتي، وهو حلم كل امرأة في الوجود، لقد مرت سنوات منذ زواجنا، وكلما تمر الأيام ازداد خوفا وقلقا ويتملكني اليأس، ثم يصحو الأمل في داخلي وأشعر أن انتظاري لن يطول وأن الحلم سوف يتحقق قبل فوات الأوان. مع اشراقة يوم جديد نهضت بلوتينا مبكرا، وارتدت ملابسها الرسمية التي اعتادت أن تظهر بها في المناسبات العامة، وأيقظت زوجها، وأمرت الجواري بتجهيز الهدايا التي ستحمل إلى المعبد وتقدم قربانا للربة ايزيس. أمر الجنرال كريتياس بعض العبيد بإحضار العربة التي تقله مع زوجته وبعض الحرس واتجه الركب صوب المعبد. أمام تمثال ايزيس وقف الزوجان خلف الكاهن الأكبر في خشوع ووقار يؤدون طقوس العبادة، بعدها تفرغا للدعاء والمناجاة بصوت خافت. ايزيس ياربة الوفاء والنبل والعطاء أيتها الكاهنة العظيمة والطبيبة الحكيمة والساحرة العليمة أيتها المعبودة المقدسة المعطاءة الخالدة هبي لنا عطية من عطاياك وهبة من هباتك امنحينا ابنا أو ابنة حققي لنا تلك الأمنية ياربة الربات وسيدة الآلهة كانت دعوات الزوجين تصدر عن قلب مفعم بالرجاء، بعد ذلك خرجا من المعبد وركبا العربة وعادا إلى قصرهما وهما يشعران بالسرور والبهجة. شهور قليلة مرت، وشعرت بلوتينا بأعراض الحمل، وأكد الأطباء أنها ستصبح أما بعد شهور معدودة. كادت بلوتينا وزجها يطيران فرحا وأغدق الجنرال كريتياس بالمنح والهدايا والحلوى على العاملين بالقصر، ابتهاجا بالمولود القادم دون أن يعرف إن كان ولدا أو بنتا، هذا لا يهم، المهم أنه سينجب طفلا ويتحقق حلمه بعد طول انتظار، وبعد يأس وقنوط، قريبا سوف يصير أبا، يا لها من أمنية غالية عزيزة الإدراك، شكرا يا ايزيس لقد جعلت المستحيل ممكنا. ـ 3 - بعد مخاض عسير كاد يودي بحياة بلوتينا وضعت طفلة جميلة، بدت وكأنها فينوس وقد بعثت للحياة، أحاطها الأبوان بالحب والرعاية، ورفرفت السعادة عليهما وقررا أن يسمياها ايزادورا - أي هبة ايزيس - صارت هذه الطفلة مصدر سعادة لجميع من بالقصر، فبالغوا في الاحتفاء بها واستبشروا بقدومها خيرا، فهي عطية الربة العليا ايزيس. ولذا نشأت ايزا دورا نشأة مترفة وصالحة في نفس الوقت، وكبرت وأصبحت شابة جميلة تفيض حبا وحنانا على من حولها، وتبدو كحورية رائعة التكوين، بهية الطلعة، رقيقة الشعور، عذبة الحديث. ذات صباح فوجئ الجنرال كريتياس باستدعائه من قبل الوالي، وأبلغه الرسول أن هناك خبرا سعيدا ينتظره، فسافر إلى مدينة الإسكندرية العاصمة، لمقابلة الوالي الذي رحب به وأبلغه أنه تمت ترقيته من ضابط إلى حاكم إقليم منعت تقديرا لجهوده وبتوصية من الأمبراطور الروماني هادريان، الذي يجله كثيرا منذ أن عرفه أثناء رحلته لمصر. وكان كريتياس مرافقا له بحكم عمله، فأعجب به الأمبراطور كثيرا. كان فرح الجنرال كريتياس عظيما بهذا المنصب وهذه الثقة التي أولاه إياها الأمبراطور، وبدأ الاستعداد للسفر إلى مدينة انتونيوبولس عاصمة الإقليم حيث يقيم حاكم الإقليم في قصر منيف على شاطئ النيل الخالد. ودعت ايزادورا صديقاتها على وعد أن تزورهن ويزرنها كلما سنحت الفرصة وتهيأت الظروف. ارتدت أفخر ملابسها ولم تنس القبعة الجميلة الزينة بالورود والخيوط الحريرية، وكذلك فعلت بلوتينا، ثم بدأ الركب في التحرك، واجتمع الناس يلوحون لهم بالتحية. في مقره الفاخر بمدينة انطونيوبولس احتفل الحاكم وأسرته بالمنصب الجديد وأقام وليمة عظيمة دعا إليها وجهاء المدينة وعائلاتهم وكبار الضباط. كان أكثر الناس فرحا وسرورا بهذه المناسبة هي ايزادورا التي ظلت تحييّ الحضور وتتنقل في قاعة الحفل كالفراشة الجميلة، أصبحت ايزادورا موضع إعجاب الضيوف، وتحولت الأنظار إليها بجمالها الساحر وذوقها الراقي، ولفتت انتباه الفتيات والسيدات بشكل خاص بردائها البديع وعقد الكهرمان الذي أهدته إليها أمها، وأوصتها أن تحافظ عليه فهو ذكرى من أثينا، وقد اشترته لها خصيصا أثناء زيارتها لليونان من حانوت خاص مشهور ببيع الأشياء الفاخرة للأمراء وأبناء الطبقة الراقية، لذا كانت ايزادورا تعتز به كثيرا وتحرص عليه. كل من بالحفل يثني ثناء حسنا على ايزادورا ويمتدح جمالها وأدبها ورقتها، ثم يعقب أنها ورثت كل هذه الصفات الجميلة عن أمها، مما يسعد بلوتينا ويجعلها فخورة بابنتها، شديدة الاعتزاز بها. مما دفعها إلى تعليق التمائم في حجرتها ودسها بين ملابسها خوفا عليها من الحسد، فهذا جعران ملكي، وهذه خرزة زرقاء، وتلك عين حورس، بذلك نصحتها نفرت التي لا تشك في أخلاصها وولائها وحبها لايزادورا. وقد داومت نفرت على الذهاب لكاهن المعبد لإحضار التمائم والتعويذات التي تطلبها منه لسيدتها لكي تقيها من شرار الإنس والجن. غير أن ايزادورا الصبية الحالمة لم تكن تدري عن ذلك شيئا، فقد كانت نظرتها للحياة تتسم بالبراءة والطيبة ولا تظن أن أحدا يحقد عليها أو يضمر لها شرا، وحدث أن وجدت بين طيات ملابسها بعض التمائم ففزعت وأسرعت إلى أمها بلوتينا تستفسر عن سر وجود هذه الأشياء الغريبة، وأجابتها الأم: يا ابنتي إنني أخاف عليك من العيون الحاسدة والنفوس الحاقدة، وأنت وحيدتي الغالية. ـ ولماذا يا أمي يحسدون ويحقدون ! إنني أحب الخير لجميع الناس. ـ أنت طيبة وبريئة يا حبيبتي، ولكن ليس كل الناس مثلك، أنت هبة ايزيس وعطيتها وابنتها المباركة يا حبيبة أبيك وأمك. ـ لكم أحب ايزيس الربة العظيمة، وكم حدثتني نفرت عن معجزاتها، حتى أنني أحلم بها كثيرا. ـ 4 - في مدينة انطونيوبولس وأمام حديقة قصره الفاخر، المطل على الشاطئ الشرقي لنهر النيل الخالد، وقف الجنرال كريتياس حاكم إقليم منعت يتأمل النهر وقت الأصيل، وفد انعكست أشعة الشمس الذهبية على صفحة النهر فبدت المياه وكأنها نضار سائل يتماوج في حركة خفيفة متتابعة مع هبوب النسيم، يبتسم كريتياس في عفوية محدثا نفسه: ما أروع هذا النهر وما أعظم قيمته لسكان هذا الوادي، لعله من أهم أسباب نشوء الحضارة في هذا البلد الكريم العامر بالخيرات. يختفي قرص الشمس وتتلون المياه باللون الأحمر، فيتجه ببصره إلى السماء ليرصد ظهور الشفق في صفحة الأفق، تتناهي إلى سمعه أصوات قادمة من جهة النهر، حفيف الأشجار، نقيق الضفادع، اصطفاق المجاديف، شقشقة العصافير وهي تطير في أسراب عائدة إلى أعشاشها، يتبعها أصوات غناء، يعود ببصره إلى صفحة الماء ويدقق النظر فيرى على البعد غلامين يقودان قاربهما، ويحركان مجدافيهما في مهارة فائقة وهما ينشدان الأغنيات والمواويل الشعبية البديعة التي طالما سمعها من أبناء الشعب خاصة في الأعياد والاحتفالات الرسمية. يغني الأول بصوته الرخيم: يا حابيً العظيم ْ - من فيضك العميمْ تخضوضر الأزهار ْـ وتنضج الثمار ْ ويرد الثاني مترنما: يا صاحب العطاءْ - يا واهب النماءْ بمائك الطهورْ - تنتشي الطيـور ْ ثم يصدحان معا: نحن بناة الهرم ْ - وأرضنا مهد النعم ْ فيها الأصالة والكرم ْـ وشعبنا خير الأممْ بعد ذلك يمجدان النيل بدعوات أشبه بالصلوات: ( الحمد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم مصر، صاحب الطبيعة الخفية... الذي يرعى المراعي، والذي خلقه رع ليغذي كل الماشية. والذي يعطي الشراب الأماكن المقفرة النائية عن الماء، ونداه هو الذي ينزل من السماء، محبوب جب، رب السمك والذي يجعل طيور الماء تذهب إلى أعالي النهر ) كان كريتياس يصغي لغناء ودعاء الغلامين في انبهار شديد، وظل يراقبهما حتى مضى القارب بعيدا و غاب عن عينيه، فعاد إلى حديقة قصره يمشي وئيدا. لم يشأ حراسه أن يقطعوا عليه خلوته، وكانوا يراقبونه عن بعد، فقد عرف عنه رغبته في الخلوة بنفسه، حيث يقف أو يجلس صامتا شاردا في حالة من التأمل وكأنه يؤدي عبادة أو مستغرق في تفكير عميق على عادة فلاسفة اليونان. في فناء الحديقة اتخذ له مقعدا وثيرا، بين الأزاهير والرياحين، وتوالت الذكريات على ذهنه، يا إلآهي ما أروع هذه المدينة، لقد أحسن الأمبراطورهادريان صنعا حين اختار هذا الموقع لبناء هذي المدينة الجميلة التي لا تضاهيها جمالا وفخامة في تلك البلاد سوى مدينة الإسكندرية. يمد يده ويقطف وردة حمراء، يستنشق عبيرها قليلا ثم يتابع ذكرياته، يبدو أن هادريان أرادها أن تنافس مدينة الإسكندر. يتنهد ويلتفت يمينا ويسارا فيفهم الجميع أنه أفاق من شروده، فيقبل عليه مستشاره برديكاس قائلا: ـ نعمت مساء سيدي الحاكم. ـ تفضل أيها المستشار الحكيم. ـ ماذا يشغل بال سيدي الحاكم ؟ لقد ظننت أن هناك مشكلة تعكر صفوك. ـ لاشيء يا برديكاس فقط تذكرت الأمبراطور هادريان الذي ابتنى هذه المدينة الرائعة، في هذا الموقع الساحر على ضفاف النيل. ـ يؤكد المقربون من الأمبراطور أنه بناها تخليدا لذكرى غلامه انطونيوبولس الذي مات غرقا قبالة هذه المنطقة، أثناء رحلة نهرية قام بها الأمبراطور هادريان وبصحبته غلامه لتفقد آثار مصر العظيمة. ـ نعم كل ذلك صحيح، ولذا أنشأ هذه المدينة وأطلق عليها اسم غلامه العزيز عليه وجعلها عاصمة للإقليم. ـ أنت دائما تذكره بالخير وتثني عليه كثيرا كلما ذكرته. ـ لا أنسى أنه هو الذي اختارني حاكما لإقليم منعت رغم كونه روما نيا، وأنا من سلالة البطالمة ذات الأصول الإغريقية، تقديرا لمكانتي فقد كنت ضابطا متميزا، لذا كافأني بها المنصب بعد انتهاء خدمتي العسكرية، ضمن مجموعة من القادة العظام بمناسبة عيد تتويجه. ـ أنت أهل لكل تكريم يا سيدي الحاكم، وسجلك حافل بالإنجازات العظيمة والجميع يعرفون ذلك، ليت كل الناس مثلك يحفظون الجميل لمن أسدى إليهم معروفا، إنه وفاء منك، بل هو الوفاء ذاته. ـ صدقت يا برديكاس ليت كل الناس يحفظون الجميل كما أحفظه لهادريان ولكن في هذا الزمان قل العرفان وزاد الجحود. ـ لقد اشتهر هادريان بحبه للعمارة والتشييد والبناء. ـ نعم لذا أقام الكثير من المعابد والسدود والقصور وتفنن في تزيينها بالنافورات والتماثيل كما أنشأ المسارح والحدائق. ـ يبدو أنه كان شاعرا أو فنانا. فيعلق الحاكم: نعم هو كذلك. يستمر الحوار بين الحاكم ومستشاره في مسائل كثيرة وأمور شتى، فقد كان كريتياس يرى في برديكاس أخلص أعوانه وأقربهم إليه ويعده كاتم أسراره الأمين، لذا فهو يستريح للحديث معه ولا يخفي عنه شيئا صغيرا كان أو كبيرا. ـ 5 - مر وقت ليس بالقصير، والحاكم ومستشاره يتحادثان ويتناقشان، فجأة يدخل عليهم أحد الحراس مرتبكا فزعا وهو يصيح: سيدي الحاكم، سيدي الحاكم.. أدركنا يا سيدي. يلتفت كريتياس منزعجا ويسأله في حدة، ماذا بك يا زينون ماذا حدث ؟ تكلم أخبرني. ـ أبناء الإقليم ثائرون ومضربون عن العمل، وهم الآن مجتمعون في الأجورا ويزيد عددهم ساعة بعد ساعة. ـ الأجورا! تقصد السوق اليونانية. ـ نعم سيدي ووصلت إلينا أنباء بأنهم ينادون بمطالب كثيرة، ويزعمون أنها حقوق لهم ولن يتنازلوا عنها أبدا. ولماذا لم يتصرف صاحب الشرطة ؟ ـ يقول أن ما لديه من قوات لا يكفي لردع هؤلاء الثائرين الغاضبين. يتدخل برديكاس في الحديث مقترحا على الحاكم أن يرسل من يتفاوض معهم، بدلا من استعمال العنف وتصعيد الموقف، يصمت كريتياس قليلا ويقلب االفكرة في ذهنه ثم يلتفت إلى برديكاس قائلا: اذهب أنت وخذ معك بعض الوجهاء وحاولوا إقناعهم بالانصراف بالحسنى عسى أن يستجيبوا لكم وتنتهي الأزمة، وبعد عودتك نعقد اجتماعا بحضور صاحب الشرطة لتطلعنا على ما توصلتم إليه. يخرج برديكاس وخلفه الحارس زينون، ويبقى كريتياس يفكر مهموما، ويتساءل ترى ما العمل إذا لم ينصاع هؤلاء المتمردون لنصيحة الوفد الذي أرسلته ؟ في هذه الحال لابد من عقابهم حتى يكفوا عن عبثهم ويعودوا إلى أعمالهم، إنهم مخربون، وراغبون في إثارة القلاقل وتعكير صفو المدينة، كأن العناد سمة من سماتهم، أنهم يشوهون صورتي ويحرجون موقفي عند الوالي، لقد فاض الكيل وأصبح الأمر لا يحتمل. ـ 6 - بينما الحاكم مشغول بما يجري، تدخل الفتاة الجميلة ايزادورا متألقة بردائها الإرجواني ذوالتصميم الإغريقي، فتبدو كزهرة الفل البيضاء تضمها باقة من زهور البنفسج، ينشرح قلب الأب لرؤيتها ويفتح زراعيه لاستقبالها، مرحى يا حبيبة الفؤاد، يا هبة ايزيس العظيمة، حينما تقبلين تقبل الدنيا كلها، وتنزاح عن قلبي الهموم والمتاعب، أنت روضتي الظليلة أستجير بها من هجير الحياة، حينما تشرقين تغرب شجوني المقلقة، أنت ربيع الزمان البهيج، حينما يأتي يمحو كآبة الخريف. تقاطعه ايزادورا في تدلل وتلتقط خيط الحديث، ها أنت يا أبي من ذكر الربيع أولا، والآن جاء فصل الربيع وحان موعد الاحتفال بعيد الطبيعة وتجدد الحياة، وكل صديقاتي مستعدات للتمتع بالطبيعة الخضراء والتنزه في الحدائق وركوب القوارب النهرية، وأنا أريد الذهاب معهن. ـ يا ابنتي إني أخاف أن يصيبك مكروه، فأنت ابنتي الوحيدة، وليس لي غيرك، كما اخشي عليك من الإجهاد والتعب. ـ أرجوك يا أبي اسمح لي أن أخرج مع صديقاتي، أنا لا أحب القيود، دعني استمتع بالحياة والطبيعة الجميلة . ـ وهل رضيت أمك وسمحت لك بذلك ؟ ـ حينما تسمح أنت سوف تقبل أمي فهي تقدر رأيك وأيضا لا تريد أن تغضبني، بل تتمني سعادتي. يمتثل الأب ويرضخ لرغبة ايزادورا، فتقبله وتخرج مسرعة متجهة إلى أمها لتعلمها بموافقة أبيها. عارضت بلو تينا في البداية خوفا علي ابنتها، ولكن أمام إصرار ايزادورا وحرصا على إرضائها اضطرت للموافقة، ثم احتضنتها وقبلتها وأوصتها بالحذر عند ركوب القارب حتى لا تسقط في النهر، أو عند التجول في السوق حتى لا تتوه في الزحام، وعهدت إلى نفرت أن تساعد ايزادورا في ارتداء ملابسها وتزيينها وتمشيط شعرها وأن تصحبها في خروجها للتنزه والتمتع بمشاهدة احتفالات عيد الربيع، وأن تحرص على رعايتها، ولا تغفل عنها لحظة واحدة حتى تعود بها إلى القصر. أومأت الجارية بالطاعة وخرجت بصحبة ايزادورا بعد أن نفذت ما أوصتها به سيدتها. لحقت ايزادورا بصديقاتها من بنات الأسر الراقية وبدأت الفتيات في اللعب والمرح والانطلاق، غير أن الفتاة المدللة ايزادورا كانت تميل إلى التحرر والتمرد على قيود الوصايا المفروضة عليها وكأنها لا تزال طفلة صغيرة لا تحسن التصرف. هي تشعر أن بإمكانها أن تتصرف بمحض إرادتها كالكبار، فقد ضاقت ذرعا بخوف أبويها المبالغ فيه وحرصهما الشديد عليها الذي يزداد يوما بعد يوم دون مبرر، أنها تريد أن تحيا حياة طبيعية من غير حراسة أو رقابة، لذا صارت تتعمد مغافلة مربيتها نفرت وتنطلق بعيدا وتختفي عن أنظارها بين الأشجار أو تستقل قاربا و تبحر في النيل مع صديقاتها، وتظل نفرت خائفة مذعورة تبحث عنها خشية أن يصيبها سوء فتعاقب عقابا شديدا، وربما تدفع حياتها ثمنا لاتهامها بالإهمال والتقصير في حراستها، فكانت المسكينة تكاد تجن حتى ترجع أيزادورا وتعود بها إلى القصر. ـ 7 - عاد المستشار برديكاس ومعه بعض الوجهاء فوجد الحاكم في انتظاره، ومعه صاحب الشرطة وعرض عليهم نتيجة لقائه بالثائرين، وبدأ الحديث قائلا: سيدي حاكم الإقليم، لقد رفض الثائرون الانصراف، ويصرون على تلبية مطالبهم أولا،. ينظر الحاكم إلى الحضور متسائلا: ـ وما العمل الآن مع هؤلاء ؟ فيرد صاحب الشرطة على الفور. ـ أرى أن تسارع فخامتكم بطلب المدد من والي مصر وتوضح له أن الإقليم مهدد بثورة من الفلاحين والعمال، ويجب إخماد هذه الثورة قبل أن يستفحل خطرها ونفقد السيطرة عليها. ـ رأي صواب أيها الضابط، هذا ما سأفعله. ـ حسنا سيدي ولكن يجب التصرف السريع، فالأمر جد خطير، ولا يحتمل الانتظار أو التأخير. يلتفت الحاكم إلى مستشاره برديكاس طالبا منه في حزم أن يكتب حالا رسالة إلى الوالي ويطلب منه المدد السريع، ويبعث بها مع رسول مؤتمن، ويشدد على ضرورة الرد السريع للأهمية القصوى، فيجيب برديكاس: سمعا وطاعة سيدي وسأبدأ التنفيذ فورا. خرج برديكاس لتنفيذ المهمة، ثم وقف صاحب الشرطة يتأهب للانصراف وهو يعلق على ما حدث قائلا: لابد من أخذ هؤلاء المتمردين بالشدة، فهم قوم معاندون متعبون لا ينصاعون إلاّ بالقوة. يوافق الحاكم على مقولة صاحب الشرطة، ويضيف معقبا: المشكلة أنهم يعتقدون أنهم أصحاب حق لأنهم أصحاب البلد الأصلاء ويريدون أن ينازعونا السلطان بل إن بعض زعمائهم يدعي أنه من حقهم أن يكون لهم رأي فيما يتخذه الحاكم من قرارات. يبتسم صاحب الشرطة في سخرية وهو يقول: هذه جرأة لا ينبغي السكوت عليها، أو التسامح معها، كيف لهؤلاء الرعاع أن ينازعوا أصحاب السلطان ويناطحوا سادة القوم ! فجأة يدخل عليهم زينون كبير الحراس منزعجا صائحا: سيدي الحاكم أتتنا أخبار تفيد أن الثائرين سيأتون إلى هنا ويقتحمون القصر. ـ ألم تقل أنهم يجتمعون في الأجورا، وأنهم متمركزون هناك ! ـ أجل سيدي ولكن يبدو أنهم يفكرون في السير إلى هنا، طبقا لما وصلنا من أنباء شبه مؤكدة. ـ دعهم يهتفون ويثرثرون حتى يأتينا المدد، ثم يتجه إلى صاحب الشرطة - موبخا ومؤنبا - كنت في المرات السابقة تحسن التصرف، وتقضي على هذه التجمعات الثائرة، وتخمد الفتنة في مهدها. ـ كان العدد قليلا يا سيدي، أما الآن فما معي من الجند والسلاح لا يفي بالغرض، وهم مصرون على مطالبهم، وما عادوا يهابون التهديد والوعيد، ولكن لا تقلق، فحينما يأتي المدد من عند الوالي سوف نقضي على هذه الشرذمة الضالة، ويعود الهدوء والأمن للإقليم كما كان، أعدك بهذا. ـ سوف نرى. ـ 8 - بات الجنرال كريتياس حاكم الإقليم ساهرا ساهدا لمدة ليلتين متتابعتين في انتظار أن يأتي الفرج، وما أن طلع نهار اليوم الثالث حتى انطلقت أصوات صفارات الإنذار، وجلبة الخيل وحركة العربات الحربية، فعرف أن المدد العسكري قد وصل، هب واقفا وهو يردد لا بد أن أشكر الوالي على سرعة استجابته لطلبنا. على الفورأمر باستدعاء قائد الجيش القادم من طرف الوالي للترحيب به والتباحث معه حول كيفية القضاء على التمرد ووضع الخطة اللازمة لذلك. دخل الضابط الشاب بملابسه العسكرية رشيق القوام، أسمر اللون، وسيم القسمات، يبتسم في هدوء وثقة لم يعهدهما الحاكم في وجوه ضباطه خاصة وقت الأزمات. بادر الضابط بالتحية العسكرية فور دخوله، أشار له الحاكم بالجلوس. كانت ملامحه تدل على أنه مصري، تأمل كريتياس في وجهه قليلا ثم سأله ما اسمك ؟ أجاب الضابط في هدوء اسمي حابي، صمت الحاكم لحظات يفكر وتذكر أن هذا الاسم لقب لنهر النيل الذي يقدسه المصريون لأنه واهب الخصب والنماء ولأنه مصدر حياتهم. بذكائه اللماح أدرك الضابط ما يدور في عقل الحاكم عندما سمع اسمه، فأضاف قائلا: لقد ولدت في موسم الفيضان على الشاطئ الغربي للنهر حيث توجد بلدتي خمنو ومنازل عائلتي لذا أسموني حابي تيمنا بهذا النهر المبارك، ـ حسنا هل تعرف المهمة التي أتيت من أجلها ؟ ـ نعم سيدي علمت أن بالإقليم حركة تمرد واسعة. ـ إذن المطلوب منك ردع هؤلاء المتمردين الذين أقلقوا راحتي وعطلوا حياة الناس، عليك أن تعيد الأمن للمدينة، هذا هو الدور المنوط بك القيام به، ونرجو أن تتمكن من تحقيقه بالتعاون مع صاحب الشرطة. في هدوء وثقة يرد حابي قائلا: ـ سيدي اترك لي هذه المهمة وحدي فأنا أقدر على التعامل مع الثائرين بطريقتي فهم أهل بلدي وأعرف كيف أتعامل معهم، ليس بالقوة وحدها تحل المشاكل، توجد طرق أخرى أكثر جدوى وأعظم نفعا من العنف والقتال فلماذا لا نجربها حقنا للدماء وحرصا على سلامة المجتمع ؟ ـ سوف أفوض لك الأمر في حرية التصرف وفق ما ترى، المهم أن تنهي هذه الأزمة بما يعيد الأمن والهدوء والاستقرار إلى الإقليم، وأتمنى أن تنجح في ذلك، هيا أنجز مهمتك. انطلق حابي وخلفه الفرقة العسكرية التي أرسلها الوالي وعهد إليه بقيادتها. وحينما وصلوا إلى الأجورا مركز التجمع، طلب من الفرقة الوقوف بعيدا انتظارا لأوامره، وتقدم منفردا وتحدث برفق مع الثائرين قائلا: إخوتي وأبناء شعبي أنا واحد منكم، أنا مصري مثلكم، إن عائلي تقيم هناك على الشاطئ الغربي للنهر، حيث ولدت ونشأت وأنتم جميعا أهلي، أخبروني ماذا تريدون ؟ حدثوني عن معاناتكم، وسوف أتولى عنكم توصيل مطالبكم للحاكم وأولي الأمر والمطالبة بحقوقكم وحل مشكلاتكم، ثقوا بي ولنتعاون معا من أجل دفع الضرر عن شعبنا العظيم، وأمن بلادنا وسعادة أهلنا. نظر الثوار إلى بعضهم والدهشة تكاد تعقد ألسنتهم، فهم لم يعتادوا هذا الخطاب وهذه النبرة من رجال السلطة من قبل، هدأت الأصوات الثائرة وتقدم زعماء المتظاهرين إلى الضابط حابي وأوجزوا له مطالب العمال والفلاحين وهي:ـ أولا - كف أيد أتباع الحاكم عن ظلمهم والاعتداء عليهم لأتفه الأسباب. ثانيا - زيادة أجور العاملين في مؤسسات الدولة. ثالثا - تخفيض الضرائب التي يجبيها رجال الحكام من الشعب والتي تفوق طاقة الكثيرين وتثقل كاهلهم . رابعا - إصلاح الطرق والخدمات العامة، ومساعدة الفلاحين في تسويق محاصيلهم. خامسا - تعيين ممثلين عنهم، من بينهم في المجالس والمؤسسات، يعبرون عن مطالبهم، ويكونون حلقة وصل بينهم وبين الحاكم. استمع حابي جيدا ووعدهم أنه سوف يقدم مطالبهم لحاكم الإقليم ويتدارسها مع المسئولين لإقناعهم بعدالتها، وفي حال عدم الاستجابة سيصعدها للوالي ويتولى الدفاع عنها بنفسه ومتابعة تنفيذها مقابل أن يعودوا إلى ديارهم ومزارعهم حفاظا على أرواحهم وحتى لا يتعطل العمل ويتكدر الأمن، وكرر عليهم ما قاله ثم دعاهم إلى الانصراف حتى تستقر الأحوال ويعود الهدوء، وافق الثائرون بشرط أن ينتظروا ليروا نتيجة لقائه وتباحثه مع الحاكم بشأن مطالبهم. حينما عاد حابي إلى حاكم الإقليم عرض عليه مطالب الثوار وشروطهم لإنهاء اعتصامهم، و أخبره أن الحل في استقرار البلد وعودة الأمور إلى سيرتها الأولى يكمن في إجابة مطالب الثوار ما دامت عادلة ومقنعة فمن حقهم الحصول عليها، بل من واجب الحاكم رعاية شعبه وتوفير الحياة الكريمة له، ورفع الظلم عن المظلومين - وتحقيق العدالة بين الرعية، كما يجب على الحكومة التكفل برعاية الفقراء والمحتاجين وتلبية حاجاتهم وخاصة الضروري منها. استمر الحوار و الجدل بين حاكم الإقليم والضابط حابي حتى استطاع الأخير أن ينتزع الموافقة من الحاكم على معظم المطالب مؤكدا أن ذلك كفيل بتجنب البلاد الدخول في معارك بين الشعب والسلطة. تردد كريتياس قليلا، لم يكن مقتنعا بجدوى أسلوب الحوار والخضوع لإرادة الشعب، فذكره حابي أنه وعده بأن يترك له حرية التصرف في هذا الأمر، وأوضح له أنه إذا قوبلت المظاهرات بالعنف وقضي عليها اليوم فسوف تثور من جديد بعد حين، والحل الأمثل هو نزول الحاكم على إرادة شعبه فينال رضاه ويتجنب الكثير من المشاكل والمتاعب التي تنجم عن العناد واستعمال العنف. عاد حابي إلى الثوار وأخبرهم أن الحاكم قبل مطالبهم، وسوف يبدأ من الغد في تنفيذ ما وعد به، وطلب من الجميع أن ينصرفوا إلى شئونهم، وهو ضامن ومتعهد بإتمام الأمر ومسئول أمامهم. هتف الجميع بحياة حابي وانصرفوا واستقر الأمن، ومكث حابي في مدينة انطونيوبولس حتى تتم إجابة مطالب الشعب التي وعده الحاكم بتحقيقها. أعجب كريتياس بحابي وحسن تصرفه، وكيف استطاع هذا الضابط الشاب في ساعات قليلة أن يحل الأزمة ويقضي على الفتنة التي أقلقت راحته وكادت تعصف بالأمن وتطيح بحكومته، لقد انتهت الأزمة دون خسائر بين الشعب الثائر والسلطة، بل على العكس تحسنت العلاقة وزادت الثقة بين الحاكم ورعاياه حتى أنهم هتفوا باسمه شاكرين له تحقيق مطالبهم، لذا عرض الحاكم على حابي أن ينضم إلى حرسه الخاص وسوف يستأذن الوالي كي يسمح بنقله من العمل في حاشية الوالي إلى العمل في معيته ووعده بكثير من المزايا مقابل العمل في خدمته كضابط حراسة. رحب حابي بهذا العرض، فقد كان يريد أن يبقي بالقرب من بلدته وبين أهله وها قد جاءته الفرصة فاقتنصها ورحب بها ووافق على الفور. أرسل الحاكم رسولا إلى الوالي في الإسكندرية ومعه رسالة بدأها بشكر الوالي على استجابته لطلب المساعدة، وفحواها طلب الموافقة على نقل الضابط حابي للعمل في معية حاكم إقليم منعت، وبعد أيام عاد الرسول بالموافقة وأصبح حابي منذ ذلك الوقت ضابطا في حرس كريتياس. كلما تمر الأيام يزداد إعجاب الحاكم بحابي فقد رأى فيه الكفاءة وسرعة الإنجاز والثقة بالنفس دون غرور أو تعالي في معاملة الآخرين، لذا عهد إليه بحراسة أبنته وخاطبه قائلا: اسمع يا حابي إن ايزادورا عندي أغلى من نفسي، لقد أنجبتها بعد سنوات طويلة من الزواج، وبعد أن مللت الانتظار وفقدت الأمل، ولولا قدرة الربة العظيمة ايزيس ما أنجبتها، ولولا ثقتي في أمانتك وإخلاصك ما عهدت إليك بهذا الأمر، لذا أرجو أن تهتم برعايتها وتوليها كل اهتمامك، لا تنس أنها هبة ايزيس. ـ نعم سيدي الحاكم سوف أبذل قصارى جهدي في حراستها والحفاظ عليها، لقد تعودت على القيام بمسئولياتي على أفضل وجه، ولكن أسمح لي أنني مع تقديري لايزيس التي يقدرها المصريون جميعا ومعها كل الآلهة المصرية، فأنا أرى أنهم جميعا مجرد أسباب ورموز لإلّه واحد في السماء هو الخالق والقادرعلى العطاء والآخرون مجرد أسماء لا أكثر، هذا ما تعلمته من قراءة تاريخ جدي اخناتون الذي توصل إلى معرفة أن للكون ربا واحدا ورمز له بقرص الشمس أتون، الذي تخرج منه يدا أدمية توزع الخير على البشر وتضئ الكون بنورها، وقد أنشأ في هذه المنطقة مركزا لعبادة أتون الإله الواحد، لقد عاش جدي اخناتون هنا وتوارثت عائلتي عنه ديانة التوحيد وحتى بعد وفاة صاحب الدعوة وتحول الناس إلى عبادة أمون ظلت بعض العائلات مؤمنة بعقيدة التوحيد سرا وإن اخفت إيمانها خوفا من بطش السلطة، لكن.. الإيمان ظل في أعماقها وإن اختلفت الرموز والتسميات، إن الإيمان بالبعث والحساب والخلود أكبر دليل على الإيمان الروحي بخالق عظيم واهب كل شيء، لذا كان اهتمام المصريين بالقيم الإنسانية العليا والتحلي بالفضائل والأخلاق الحسنة، ـ اعتقد ما شئت يا حابي هذا شأنك، ولكن ما يهمّني أيها الضابط الشجاع أن تكون حريصا على ابنتي دون إزعاجها أو إشعارها بأنني أفرض عليها قيودا، فقط عليك أن تتفانى في الحفاظ عليها وأنا واثق في إخلاصك ومروءتك، وسوف تسهل لك مهمتك المربية نفرت فهي مصرية مثلك وشديدة الحب لايزادورا. ـ 9 - اليوم الاحتفال بعيد الإله تحوت رمز الحكمة والقلم، المدينة مزينة بالأعلام والرايات، وأصوات الأناشيد والتراتيل تعلو في المعابد، وانتشرت فرق الموسيقى والأغاني في الشوارع والميادين، الشعب كله يرتدي ملابس الأعياد، ويحمل باقات اللوتس، احتفالا بالمعبود تحوت مخترع الكتابة والمسيطر على الحروف، والمشرف على تقسيم الزمن، وحامي الكتبة وقلب رع. خرجت ايزادورا مع مربيتها نفرت لمشاهدة هذا المهرجان السنوي الديني كانت شغوفة لرؤية الألعاب السحرية التي يجريها السحرة ويتسابقون فيما بينهم لانتزاع الإعجاب والتصفيق من الجمهور المحتشد في الأجورا، التي تعد سوقا رئيسيا صممت على الطريقة الإغريقية، فكان المصريون يعرفونها بالسوق اليونانية، بينما اليونانيون والرومان يسمونها الأجورا. وقفت ايزا دورا تشاهد ما يجري، ووقف إلى جوارها الضابط حابي بتكليف من والدها دون أن تدري، بينما وقفت نفرت على الجانب الأخر وأمسكت بيد ايزادورا حتى لا تتوه في الزحام، بدت ايزادورا في نظر حابي وكأنها حورية جاءت من الجنة أو ملاك هبط من السماء، كلما التقت عيناه بعينيها دق قلبه بقوة وازداد انجذابا إليها، رأى فيها مثالا فريدا من الجمال والنبل والبراءة، وكان حابي شاعرا رقيق الشعور جياش العاطفة، فأصبحت ايزادورا مصدر إلهامه. انتبهت الفتاة إلى أن هذا الضابط الواقف إلى جوارها يتابعها باهتمام في كل تحركاتها ولاحظت متابعته لها بعد ذلك كلما خرجت من القصر دون جميع ضباط الحراسة الذين تعرفهم، أخبرت مربيتها نفرت التي صرحت لها بأنه ضابط جديد مكلف بحراستها من قبل والدها، كلما تمر الأيام يزداد إعجاب حابي بايزادورا وتعلقه بها فراح يصوغ فيها أشعاره التي تفيض حبا وشوقا وهياما بهذه المخلوقة الرقيقة الوديعة التي يراها ألطف الكائنات وأجملها، وأصبح وجوده إلى جوارها قمة السعادة وغاية المنى. فطنت ايزادورا إلى اهتمام حابي بها، وكم يطيل النظر إليها كأنه لا يرى غيرها، ونظراته تحمل كل معاني الحب والإعجاب، وتدل قسماته على طيبته ونبله فتعلق قلبها الغض بهذا الشاب الذي بدا في عينيها فارسا نبيلا اجتمعت فيه الرجولة والشهامة والعفة والوسامة، إضافة إلى عذوبة حديثه اعتادت نفرت أن تنسحب بعيدا كي تتيح لهما بعض الوقت للخلوة كلما سنحت الفرصة للقائهما وتكتفي بمراقبتهما من بعيد، بعد أن لاحظت التقارب بينها في الطباع والمشاعر، فهي محبة لايزادورا منذ ولدت وكلفت بتربيتها ورعايتها ثقة فيها لإخلاصها وأمانتها وحسن تصرفها، كما أنها ترى في حابي شاب حنون ومحب صادق وشاعر رقيق. أما حابي فقد تغيرت حياته منذ أن وقعت عيناه على ايزادورا أول مرة في السوق اليونانية فاحتلت وجدانه وامتلكت مشاعره، ثم تعددت اللقاءات وباح لها بمكنون فؤاده، وعرف أنها تبادله حبا بحب. اشتعلت الأشواق بين الحبيبين وأصبح كل أملهما في السعادة هو اللقاء عند شاطئ النهر الذي يشعر حابي أنه يرتبط به ارتباطا روحيا لانتسابه الاسمي إليه، إضافة لمنزلة النهر ومكانته في نفوس المصريين جميعا. اقترح حابي على ايزادورا أن يستقلا قاربا صغيرا ويبحران وحدها في النيل بعيدا عن صخب الحياة وضجيجها. سعدت ايزادورا بهذا الاقتراح ورحبت به، وطلبت من مربيتها نفرت أن تنتظرها على الشاطئ حتى تعود من نزهتها برفقة حابي، رفضت نفرت في البداية خوفا عليها وأفهمتها أن هذا يعرضها للعقاب من الحاكم إذا حدث ما لا تحمد عقباه، أو علم بمخالفتها لتعليماته، التي تخالفها سرا حبا وإرضاء لها ولكن في الحدود البعيدة عن الخطر. أصرت ايزادورا على ركوب القارب مع حابي، وعندها أذعنت نفرت ووافقت على مضض وبقيت على الشاطئ تنتظر عودة الحبيبان. ظل حابي يحرك المجداف ويدفع القارب بمهارة أبهرت ايزادورا إلى أن وصلا إلى جزيرة في وسط النهر وتوقفا عندها، وهبطا على أرضها، وفوق العشب وتحت ظلال الأشجار الملتفة وبين الأزهار والرياحين جلس الحبيبان، وبدأ حابي يبثها أشواقه الملتهبة المتدفقة كالجدول الرقراق الذي يفيض حبا وحنانا، تشابكت الأيدي وتلاقت العيون وعزفت القلوب لحن الغزل والمشاعر الجياشة، فيهمس حابي بصوت يملؤه الوجد: ( أيها الفريدة، أنت يا زهرة يانعة ْ طلعت في باكورة سنة سعيدةْ ضياؤها فائق، وجلدها وضاء جميلة العينين عندما تصوبهما. حلوة الشفتين عندما تنطق بهما. شعرها أشقر لامع، وأصابعها كأنها زهرة البشنين ذراعاها تفوقان الذهب طلاوة ساقاها تنمان عن جمالها، تجعل أعناق كل الرجال تنثني عنها لانبهارهم عند رؤيتها ) ظلت ايزادورا في حالة من الصمت الحالم وهي تصغي إلى حابي بصوته الهامس المتقطع من شدة الوجد والوله والهيام بها، ثم أحاطها بذراعيه وضمها إيى صدره وقبل جبينها وثغرها. انتزعت ايزادورا نفسها من حضن حبيبها وهبت واقفة تريد العودة، فطوق خصرها بذراعه وسارا سويا إلى مرسى القارب على طرف الجزيرة وامسك حابي بيدها فخطت داخل القارب وجلست على حافته، حاولت أن تمد يدها وتعبث بالماء، لكن حابي منعها خوفا من سقوطها في النهر، وهنا طلبت ايزادورا من حابي أن يدربها على استخدام المجداف وتحريك القارب بمفردها، فوعدها بذلك في المرات القادمة. على الشاطئ كانت نفرت واقفة تنتظر وقد سيطر عليها الخوف والقلق وهي تتساءل ماذا أفعل لو أصاب ايزادورا سوء؟ سوف يعاقبني الحاكم أبشع عقاب ويقتلني شر قتلة، وراحت تلوم نفسها بشدة و تردد كمن يهذي: لقد أخطأت بموافقتي على إبحارها مع حابي، كان ينبغي أن أكون حازمة في رفضي صلبة، في قراري وهذا لن يغضب الحاكم بل يسعده ويبعدني عن المساءلة، والأهم من ذلك يبعد ايزادورا عن المخاطر، عندما وصل العاشقان إلى الشاطئ وجدا نفرت على هذه الحالة من الفزع، نظرت إليهما بعتاب ثم أقسمت بايزيس إنها لن تسمح بذلك مرة أخرى، نظر الحبيبان إلى بعضهما وضحكا، ثم انصرف كل منهم في طريقه. ـ 10 - تكررت اللقاءات بين حابي وايزادورا، وأصبح النيل وشاطئيه مسرح حبهما، ومكانهما المفضل، وتسترت نفرت على هذا الحب وتلك اللقاءات حبا في ايزادورا وتعاطفا مع حابي، الذي أصبح بطلا في نظر الشعب بعد أن تمكن من إخماد الفتنة وتحقيق مطالب الثوار وانحيازه لأبناء وطنه. ثلاث سنوات مضت هي أجمل ما في حياة حابي وايزادورا جمعت كل ما في عمريهما من سعادة، فبعد عدة مقابلات في القارب، تعلمت إيزا دورا كيف تقود القارب بمفردها وأن تتقن التجديف، بفضل تدريبات حابي وحسن إرشاده، وأيضا بفضل ذكاء ايزادورا ورغبتها في التعلم، وأصبح بإمكانها أن تبحر بالقارب إلى الضفة الأخرى للنهر دون مساعدة، غير أن حابي كان يجلس إلى جوارها ويوجهها وهما يتبادلان الحديث حتى يصلا إلى الشاطئ الآخر ثم يعودان، وأحيانا يجلسان في موضع ما فينشد حابي أشعاره في وصف حبيبته مترنما بصوته العذب: حسناء ُحالمة ٌهفهافة الشَعرِ هيفاءُ فـارعةٌ فتّانةُ الـثغرِ والنجم ُ يرقبها في ثوبها الزهري يصغي إذا هزجت أنشودة البدر ِ من صوتها نسجت، أقصوصة تسري والموج ُيعـزفها ضوّاعة العطرِ يصمت حابي قليلا وينظر إلى ايزادورا متسائلا بصوت مغلف بالحزن: أخشى أن يعرف أباك بحبنا ولقاءاتنا فيقضي علينا، لن يقبل أن ترتبط ابنته بشاب من عامة الشعب، فقد عرف عنه اعتزازه الشديد بأصوله الإغريقية وعائلته الحاكمة، لكم أتمني أن يرضى بي زوجا لابنته، وأعيش على هذا الحلم وذاك الأمل عسى أن يتحقق في يوم ما، ولكن يبدو لي أنه مستحيل. آآه.. يا حبيبتي لو تعرفين كم أخشى الفراق والبعاد. ـ لا تخف يا حابي، سوف أستعين بأمي ومربيتي في إقناع أبي بالموافقة على زواجنا، لا تنسى أنه يثق بك كثيرا وإلاّ ما أوكل إليك أمر حراستي وحمايتي دون جميع الحرس، وهذا ما سهل علينا اللقاء والانفراد، كما أن مربيتي نفرت تعاملنا كأبنائها، وتخاطر بحياتها من أجل سعادتنا، إنها كاتمة أسرارنا، أنت لا تعرف ماذا يمكن أن يحدث لها لو أن والدي اكتشف مخالفتها لتعليماته المشددة بشأني. ـ وإلى أن يقتنع أبوك الحاكم بأمر زواجنا، ماذا ستفعلين يا حبيبتي ؟ ـ سأكتب أسمكَ بين جفوني وأعمـد ُ ألاّ يراه ّأحـد ْ وأنقش رسمكَ بين ضلوعي وأخفيه عن هاويات الحسدْ فشوقي يعانق روح الوجودِ وفوق التراب وفوق الجسدْ يبتسم حابي ويقبل يدها قائلا: ها قد أصبحت شاعرة يا حبة الفؤاد لقد أسرني حسنك الفائق والآن يأسرني صوتك الساحر وحلو حديثك، تصغي نفرت إلى أحاديث الحبيبين في سعادة بالغة وكأنها تعيش معهما قصة حب رائعة طالما حلمت بها منذ أن كانت صبية صغيرة. نظرات الشوق والإعجاب إشارات تسبق الكلمات قبل أن ينطق بها حابي ويصف ايزا دورا بالملاك الحنون الذي ألهمه الشعر. ملاك ٌحنون ٌ، بديعُ الكيان ِ صرفتُ إليكِ، جميعَ الأماني فحين أراكِ تزول شجوني تهونُ أمامي صروف الزمانِ فمن راحتيكِ يضوع ُ العبيرُ وفي ناظريكِ بليغُ المعاني تمد ايزادورا يديها لحابي وتهتف بانفعال، ها أنت من علمني الشعر تعال نغنّي فتحلو الحياة ُ نحاكي ربيعا خصيبَ المغاني نناجي نسيما يرف عـلينا ويزكي شذاه ُ ربوع َالمكانِ نراقب شمسا فترنو إلينا وتهدي شعاعا يزف التهاني حابي - ( مقبّلا يديها ) نعيش هوانا وكل صبانا تحيط اللحونُ بنا والأغاني تعالِ نعانقُ زهرَ الروابي فعمر الزهورِ قصير الثواني وهذا الربيعُ البديعُ تجلّي إلام البعاد ُ!! إلام التواني !! يصمت حابي ثم يقف ويمسك بيد ايزادورا ويعودان إلي القارب ويبحران للجانب الآخر، وعندما يرسو القارب على الشاطئ تنضم إليهم نفرت، ويعود حابي إلى بلدته وتصحب نفرت ايزادورا إلى القصر. صارت نفرت تحفظ أشعار حابي وتستعيدها كلما خلت بنفسها، وكأنها صاحبة قصة هذا الحب الأسطوري الفريد الذي ملأ كيان حابي وايزادورا منذ أن رأى كل منهم صاحبه، يا لها من فتاة رقيقة يانعة كأزهار الربيع، ويا له من شاب حالم وشاعر رقيق، إن كلاهما يليق بالآخر، ولكن من يدري ماذا تخبئ لهما الأيام والليالي !! ـ 11 - الحياة لا تصفو دائما للمحبين، ولا تخلو من الحاسدين الحاقدين، فها هي الجارية الإغريقية رودجين التي تحقد على نفرت وتبغضها لثقة الحاكم كريتياس وزوجه بلوتينا بها حتى أنهما عهدا إليها بتربية ابنتهما الوحيدة، لكن رودجين ترى إنها أحق من نفرت بهذه الثقة لأنها إغريقية مثلهما وليست فلاحة مصرية مثل نفرت، ولكم حاولت الإيقاع بين نفرت وسادة القصر، غير أن محاولاتها جميعا باءت بالفشل، لذا قررت أن تتحين الفرص للانتقام من نفرت وظلت تتجسس عليها وتتابع تحركاتها خلسة، حتى عرفت وتأكدت بتسترها على لقاءات حابي وايزادورا بل تسهيل ومباركة هذه اللقاءات، فكادت تطير فرحا بهذه الأخبار التي جاء بها أحد جواسيسها، الآن أصبحت الفرصة مواتية، ولديها المعلومات المؤكدة لتنتقم من غريمتها نفرت وتزيحها من طريقها إلى الأبد. انتظرت رودجين حتى خلا مجلس الحاكم من الزوار، واستأذنت في الدخول لأمر هام وعاجل وخطير يتعلق بسيدتها ايزادورا، وقصت عليه ما علمت به وما شاهدته بنفسها من تشجيع نفرت لحابي على الانفراد بابنته وقيام علاقة حب بينهما، وأضافت قائلة: إن سيدتي ايزادورا طيبة وبريئة وما زالت صغيرة، ولكن اللوم كله يقع على نفرت الخبيثة هذه الفلاحة التي لا تصلح لتربية أبناء الحكام والسادة وعلى هذا الشاب الذي خان الأمانة ولم يكن أهلا للثقة التي أوليته إياها. ثار كريتياس في وجه رودجين وأنكر عليها ما تقول وذكرها بافتراءاتها السابقة ضد نفرت واتهاماتها لها بغير دليل لمجرد الكيد لها، حقدا وكرها وحسدا منها، لأن نفرت تتميز عليها وتفضلها في كل شييء، ثم نظر إليها وصاح فيها: أنسيت يوم اتهامك لها بالسرقة ثم وجدنا المسروقات في حجرتك ! ويوم ادعيت عليها إفشاء أسرار سيدتها أمام الحرس ثم كذبوك جميعا ! واليوم تأتين بكذبة جديدة !! لكن رودجين أكدت أنها تملك الدليل هذه المرة، وأخبرت سيدها أن بإمكانه التحقق بنفسه مما تقول وحينئذ سوف يتأكد من صدقها، وحرصها على سيدتها ايزادورا من الوقوع في شرك هذا الضابط الفلاح الطامع في التقرب من القصر حتى يحقق مأربه في الحصول على المناصب العليا والمزايا الأخرى، مع أنه من عامة الشعب ولا يليق بابنة الحاكم ذات الأصول الإغريقية العريقة. كظم كريتياس غيظه وغضبه، ونظر إلى الجارية بحدة وتوعدها قائلا: سوف أرجئ حسابك حتى أتحقق مما تقولين بنفسي، فإن ثبت كذبك كالمعتاد سيكون عقابك عسيرا، وإن كان ما تقولين صدقا فسوف يكون لي شأن آخر مع نفرت وحابي، والآن اغربي عن وجهي أيتها اللعينة. خرجت رودجين وهي تبتسم، وتحدث نفسها، لن تفلت نفرت من العقاب هذه المرة، سوف يتأكد الحاكم مما أقول، وسيعرف أنني صادقة وأن نفرت ليست أهلا للأمانة 0 جلس كريتياس حائرا يفكر، هل يعقل ما تقوله رودجين ! لا لا إنها جارية حاقدة لن أنسى مؤامراتها التي ما فتئت تحيكها ضد نفرت بالذات، فمرة تدعي أنها جاسوسة على القصر وأنها تنقل أخبار سادتها إلى خصومهم، ومرة تزعم أنها حينما تصحب ايزادورا في نزهة تتركها تختلط بالعوام والسوقة ومرة تتهمها بالتقصير في مسئولياتها داخل القصر ثم يثبت أن ادعاءاتها كاذبة وأن شكاواها كيدية ولا أساس لها من الصحة. و في كل مرة أوشك أن أفتك بها وأريح القصر من شرها لولا تدخل زوجتي بلوتينا طلبا للصفح عنها حفظا لجميل أمها التي كانت مربية بلوتينا وأخلصت في خدمتها، وقد أوصتها عند موتها برعاية ابنتها رودجين من بعدها، فليس لها أحد غيرها، فأعفو عنها مضطرا نزولا على رغبة زوجتي، ولكن لن أتسامح معها هذه المرة. وقف كريتياس ودار حول مكتبه، وقد بدا الشك يتسرب إلى نفسه، ماذا لو كانت رودجين صادقة هذه المرة، إنها تتحدث بثقة لم أعهدها تتحدث بها من قبل، آآه.. من هذه الماكرة اللعينة، التي لا تكف عن تدبير المكائد وتصيد الأخطاء للآخرين. قرر أن يقطع الشك باليقين، ويقف على الحقيقة بعيدا عن تلك الجارية الخبيثة الحاقدة. أرسل في طلب واحدا من أخلص حراسه، وحينما حضر أمره قائلا: اسمع يا زينون أريد أن أكلفك بمهمة غاية في السرية، وعليك أن تخبرني بما تسمع وترى بكل أمانة وصدق، لا تخفي عني شيئا مهما يكن صغيرا أو كبيرا. ـ مرني بما تشاء سيدي، ما المهمة التي تريد أن تكلفني بها ؟ ـ عليك بمراقبة ابنتي ايزادورا ومربيتها نفرت، في كل مكان خارج القصر، بحيث تكون متنكرا، لا تدع أحدا يراك أو يتعرف عليك، وعد سريعا وابلغني بما عرفت، وإياك أن تنسى شيئا. ـ أمرك سيدي الحاكم، هذه مهمة سهلة، لا تشغل بالك، سوف أكون عند حسن ظنك، وسأعود إليك بالنبأ اليقين. تتبع زينون خطوات نفرت وايزادورا وشاهدهما يتجهان نحو شاطئ النهر فخرج متنكرا في زي صياد، ووقف عند الشاطئ وأمامه قارب صغير، وراح يتتبع خطوات نفرت وحابي وايزادورا ويسمع أحاديثهم، ثم شاهد انفراد حابي بايزادورا بعيدا عن نفرت، وكيف ظل حابي ينشدها أشعاره ويبثها غرامه. عاد زينون في نهاية اليوم ليخبر الحاكم بكل ما سمعه و شاهده بكل دقة. جن جنون كريتياس، وأصدر أوامره بعدم خروج ايزادورا من القصر وسجن نفرت، واستدعاء الضابط حابي للتحقيق معه. ما أن وصل أمر الاستدعاء إلى حابي حتى أدرك أن الأمر جد خطير وأنه بعد الآن لن يستطيع أن يلتقي حبيبته، بل ربما يأمر الحاكم بإعدامه أو التخلص منه بطريقة ما، لذا شعر أن الوقت قد حان ليبادر بطلب الزواج من ايزادورا، وقرر الذهاب إلى الحاكم بصحبة بعض الوجهاء الذين لهم قدرا مرعيا عند الحاكم، هذا الطلب الذي تأجل كثيرا لعل الظروف تكون أفضل، بعد أن وعدته ايزادورا بتهيئة الظروف لإقناع أبيها بفكرة زواجها بمساعدة أمها ومربيتها، الآن لم يعد هناك وقت للتأجيل، ولم يعد هناك أمل في تحسن الظروف، والأهم من ذلك أنه لم يعد يطيق البعاد عن حبيبته. ثلاث سنوات من الحب والسعادة، مرت كأنها سويعات قليلة، وبعدها خيم الحزن والحرمان على الحبيبين، وباعدت بينهما الأيام. ذهب حابي إلى قصر الحاكم بصحبة بعض وجهاء وأعيان المدينة، الذين رافقوه مجاملة له وتعاطفا معه، رغم ثقتهم في رفض الحاكم لعدم التكافؤ. بمجرد أن عرضوا على كريتياس طلب حابي للزواج من ابنته حتى ثار وفار وهب واقفا مستنكرا عليهم مجرد التفكير في هذا الأمر، واتهم حابي بخيانة الأمانة وأنه لم يكن أهلا للثقة التي أولاها له، ثم لوح بيده مشيرا إلى حابي في سخرية وتابع حديثه: لقد نسى هذا الضابط نفسه، كيف يصور له طموحه أن ابنة حاكم الإقليم ذات الأصول الإغريقية والتي تنتمي إلى أسرة بطلمية عريقة أن ترتبط بواحد من أبناء الفلاحين البسطاء، إنه لا يعدو أن يكون حارسا لها وحسبه هذا شرفا. ثم التفت إلى حابي وصاح فيه بلهجة تحذيرية: منذ الآن انتهت خدمتك في حرسي وسوف تنقل للعمل في مكان آخر بعيدا عن المدينة، وإياك من محاولة الاتصال بابنتي أو الاقتراب منها، وإلاّ ستدفع حياتك ثمنا لتهورك. صمت قليلا ثم اتجه إلى الحاضرين وأضاف قائلا: لولا أنني أحفظ له الجميل في القضاء على الفتنة والتمرد فيما مضى لقتلته جزاء جرأته في التطلع إلى المستحيل، وطمعه في أن يأخذ أكثر من حقه، ويصل إلى أكثر مما وصل إليه. حاول الوجهاء تهدئته والدفاع عن حابي وتزكيته والحديث عن مآثره، لكنه رفض مجرد الاستماع إليهم، معتذرا لهم عن عدم قبول وساطتهم رغم تقديره لهم، لكن حابي وقف وتحدث منفعلا موجها حديثه لكريتياس قائلا: إنني لست أقل شأنا من ابنتك، وإن كنت ضابطا صغيرا من أسرة بسيطة إلاّ أنني أنتمي إلي الفراعنة العظام، ملوك الدنيا وصانعي الحضارة الذين دانت لهم الأمم والممالك، إنني ابن مصر العظيمة، التي علمت العالم الحكمة والعلوم والمعارف وتتلمذ فلاسفة اليونان أجدادك الذين تفخر بهم الآن على يديّ كهنتها حكمائها، ولولا حبي لايزادورا ومكانتها في نفسي ما انتظرت لأسمع هذه الإهانة، ثم انطلق خارجا وخلفه الجميع الحضور وهم يأسفون لما حدث. ـ 12 - باتت ايزادورا حبيسة القصر، بأوامر مشددة من والدها لا تستطيع الخروج ولا تكاد تبرح حجرتها الخاصة، وانقطعت الصلة بينها وبين حابي ومربيتها نفرت التي كانت سميرتها وموضع سرها، لذا خيم الحزن على حياتها فشحب لونها واعتلت صحتها. أشفقت بلوتينا على ابنتها، وحاولت التسرية عنها، وأخبرتها أن العشرات من أبناء الكبراء والنبلاء والحكام يرغبون في الارتباط بها وطلب الزواج منها، فما الداعي للتمسك بحابي والإصرار عليه، ذلك الشاب البسيط الذى لا يليق بمثلها، وكان يجب عليها من البداية أن تدرك الفارق الكبير بينها وبينه وبين أسرتها وأسرته. لم تستجب ايزادورا لنصيحة الأم، ولم تكف عن ذكر حابي والبكاء على فراقه والخوف عليه من بطش أبيها إذا ما حاول الاقتراب من القصر وهي واثقة أنه سيحاول. ظلت بلوتينا تفكر وتبحث عن وسيلة للخروج من هذا المأزق الخطير وتلك الأزمة المقلقة التي أحالت حياة ايزادورا إلى جحيم، وكاد الحزن يودي بها إلى التهلكة، وقد تحدثت مرارا مع زوجها من أجل إنهاء هذا الحصار الصارم على ابنتهما، والسماح لها بالخروج لزيارة صديقاتها أو الذهاب للمعبد أو التنزه في الحدائق مع بعض الجواري، لكن الأب رفض بشدة. - رغم توسلاتها - زاعما أن حابي قد يحتال لمقابلتها إن هي خرجت من القصر لذا قررت أن تستعين بمستشاره برديكاس، وأرسلت في طلبه - دون علم كريتياس - وظلا يفكران في إيجاد وسيلة لحل تلك المشكلة. أظهر برديكاس تعاطفا كبيرا مع بلوتينا وشاركها خوفها على ايزادورا، واقترح أن يرسل ابنته ارسنوي لزيارة ايزادورا والحديث معها، ومعرفة ما يدور في ذهنها ومحاولة التخفيف عنها، وخاصة أنها في مثل سنها، علها تفرجّ عنها بعض همومها. وافقت الأم ورحبت بالاقتراح كخطوة أولى، ورأت في ذلك نوعا من التسرية عن ابنتها وإنقاذا لها من العزلة المفروضة عليها. تكررت زيارة ارسنوي لايزادورا، والجلوس معها فترات طويلة، والسير معها في ردهات القصر أو الهبوط إلى الحديقة وتناول الطعام في الهواء الطلق بين الأشجار والأزهار، بدأت ايزادورا تتماثل للشفاء وعادت إليها ابتسامتها، بعد أن وجدت صديقة تثق في إخلاصها وتبوح لها بما تعانيه فتستمع إليها وتقدر مشاعرها، وأصبحت ارسنوي هي التسرية والتسلية الوحيدة في حياة ايزادورا، وتعمقت الصداقة بين الفتاتين، وبعد انصراف ارسنوي تعود ايزادورا إلى غرفتها ولا تغادرها حتى تأتي صديقتها في الزيارة التالية. لاحظت رودجين نزول ايزادورا مع صديقتها إلى حديقة القصر، مخالفة بذلك تعليمات أبيها، فراحت تتلصص عليهما حتى تأكدت من وجودهما معا في الحديقة، وأسرعت لتخبر الحاكم أن مستشاره برديكاس وابنته ارسنوي وزوجه بلوتينا يتآمرون عليه، ويتواطئون ضده ويكسرون أوامره ولا يلتزمون بتعليماته التي أصدرها بشأن ايزادورا، والدليل على هذا هو خروج ابنته مع ارسنوي يوميا بتدبير من الأم والمستشار، ويخفون عليه ما يحدث داخل قصره، مستغلين انشغاله بشئون الإقليم، ثم أضافت قائلة في خبث: من يدري ربما يهيئون لها اللقاءات مع حابي، كما كانت تفعل نفرت من قبل، فلا أحد يعرف إلى أين تذهبان معا بمفردهما ثم تعودان، وكأن شيئا لم يكن. علق كريتياس بهدوء: اتركي الأمر لي، واذهبي أنت لشئونك، بدأ كريتياس في مراقبة ايزادورا وارسنوي بنفسه فرأى الفتاتان تهبطان إلى الحديقة وتتجولان قليلا ثم تجلسان في أحد المواضع المعدة للجلوس يتحادثان، ظل يتابعهما عن بعد حتى عادتا إلى القصر. وقف الحاكم وأشار إلى عدد من العمال والحرس، وسألهم عن خروج الفتاتين فأكدوا جميعا له إنهما لم يغادرا حديقة القصر مطلقا، ولم يقتربا من أبواب السور. عاد إلى زوجه بلوتينا يسألها: كيف سمحت لايزادورا بالنزول إلى الحديقة رغم تحذيره لها بعدم مغادرة القصر؟ ثارت الزوجة في وجهه قائلة: إنها لم تتجاوز حديقة القصر مع صديقتها ابنة مستشارك الأمين وموضع ثقتك أما ترى أن صحتها بدأت في التحسن، بعد الذبول الذي أصابها ؟ هدأ كريتياس وعلم أنها فرية وأكذوبة من مفتريات وأكاذيب رودجين، الماهرة في اختراع الأكاذيب وتلفيق التهم لمن لا يروق لها، فأمر بإلقائها في السجن جزاء ادعاءاتها الباطلة ومؤامراتها التي لا تتوقف، والتي دائما ما تسبب له المشاكل وتجلب عليه المتاعب، وتوقع بينه وبين أعز الناس وأقربهم إليه. دخلت رودجين محبسها بجوار نفرت، التي عنفتها على سوء سلوكها وخبث طباعها قائلة: أنت الآن تذوقين من نفس الكأس التي سقيتني منها ظلما وعدوانا، فجاء الجزاء من جنس العمل، غدا سوف تظهر الحقيقة وتعلن براءتي وأستعيد حريتي، وتبقين أنت هنا أيتها الحاقدة الشريرة. صمتت رودجين ولم تنطق بكلمة واحدة، ولم تجد ما تدافع به عن نفسها بعدما انكشف كذبها وافترائها وأصبح كل من بالقصر يلعنها ويقارن بينها وبين نفرت الطيبة الوفية، حتى بلوتبنا التي اعتادت حمايتها من غضب كريتياس لم تستطع هذه المرة أن تجد لها عذرا وتخلت عنها، خصوصا بعد ما اتهمها زوجها بأنها هي التي أطمعت هذه الجارية بكثرة مساندتها لها والدفاع عنها مما أوصلها إلى اختراع الأكاذيب والتجني على الآخرين وتسببت في إيذاء الكثير من زملائها حقدا وحسدا ليس إلاّ، بدافع من نفسها الشريرة وهوايتها في تدبير المكائد. ـ 13 - ذات مساء وقفت ايزادورا في شرفتها المطلة على حديقة القصر الخلفية، بعد أن خاصم النوم عينيها الجميلتين وأرقها الفكر وبعاد الحبيب. كانت الليلة مقمرة والبدر يتجلى في كبد السماء مرسلا أشعته الفضية الحالمة على القصر والحديقة، فبدت الأشجار تتمايل وتتراقص أغصانها مع هبات النسيم الناعمة في هدوء الليل، تذكرت ايزادورا لقاءاتها مع حابي في ضوء القمر وتحت ظلال أشجار الكروم، تحيط بهما أزهار اللوتس، أخزت نفسا عميقا ورنت إلى القمر الحالم، توهج الشوق في قلبها وتساقطت الدموع من عينيها، لمحت على البعد شخصا يقفز من فوق السور ويتخفى بين الأشجار، حتى صار أسفل الشرفة. لا تدري لماذا لم تفزع من رؤيته، وظل قلبها مطمئنا وكأنها تعرفه، دققت النظر وعرفت أنه حابي، كاد قلبها يقفز من بين ضلوعها، فرحا برؤيته وشوقا إليه ثم خوفا عليه من رؤية حرس القصر له فيردونه قتيلا، أو يمسكون به ويخبرون والدها بحضوره فيفتك به، أصبحت مشاعرها متضاربة بين الفرح به والخوف عليه. حاول حابي التسلق علي الأشجار والأغصان كي يصل إليها، لكنها.. خاطبته راجيه ألاّ يفعل حتى لا يسقط، ونصحته بمغادرة المكان سريعا والعودة من حيث جاء قبل أن يكتشف أمره فيتعرض للأذى، لكن حابي المغامر رفض الانصراف وظل واقفا أسفل شرفة الحبيبة، يناجيها بأجمل عبارات الحب، ويبثها حنينه ولواعج قلبه، مصورا عذابه في بعدها: ( لقد مرت أيام كثيرة لم أرى فيها المحبوبة وقد هجم عليّ المرض، وأصبحت كل أعضائي ثقيلة. وأنيّ مهمل جسمي. فإذا ما حضر إليّ الأطباء، فإن قلبي لا يرتاح لعلاجهم، أمّا السحرة فليس لديهم حيلة، لأن دائي خفيّ ) رغم سعادة ايزادورا برؤية حابي، وكأنه بحضوره قد أعاد لها الأمل في الحياة، إلاّ أنها ألحت عليه بشدة أن ينصرف قبل اكتشاف مجيئه، فما كان منه أمام إصرارها وإلحاحها ألاّ أن ينصرف، على وعد أن يعود إليها كلما لاحت له فرصة تمكنه من الحضور. تكرر مجيء حابي ليلا متسللا ومتخفيا والوقوف أسفل شرفة ايزادورا، ليلقي نظرة على محبوبته بعد أن حرم لقائها، وفي كل مرة كانت ايزادورا تنصحه بعدم تكرار الزيارة خوفا عليه، وتحذره إن رآه أحد سوف يهدر دمه، لكن حابي كان بارعا في التخفي، ولم يكن يبالي بما يمكن أن يحدث له، فكل ما يطلبه في الحياة أن ينعم برؤية حبيبة فؤاده ومليكة روحه. أمست الشرفة الخلفية المطلة على الحديقة هي أغلي الأماكن وأعزها عند ايزادورا فحين ينام الجميع تسهر هي في انتظار مجيء حابي، لا يعرف النوم طريقه إلى جفنيها، إنها على موعد مع فارسها وأمير أحلامها الذي يأتي من مكان بعيد مخاطرا بنفسه في سبيل أن يفوز بنظرة من منها ويملأ عينيه من جمالها الفاتن الباهر، ويمتع أذنيه بصوتها الدافئ الناعم، ويستنشق عطرها البديع الحالم الذي يملأ حواسه ويؤجج أشواقه إليها. هذا كل ما يحلم أن يناله من وقوفه تحت شرفتها. ـ 14 - لم يكن رئيس الشرطة يملك الحكمة وحسن التصرف مثل حابي، فأساء إلى أبناء الشعب، وكان فظا غليظ القلب فانفضوا من حوله، إذ تمادى في التنكيل بالشعب لأتفه الأسباب، وتعنت في جباية الأموال المفروضة عليهم من قبل الدولة، ومن يتعثر في السداد يساق إلى السجن ومن يعترض أو ينتقد يتعرض للعقاب، مما أشعر الناس بالظلم ودفعهم إلى الثورة من جديد واشتعلت الاضطرابات في الإقليم مثلما كانت قبل مجيء حابي، وعمت الفوضى مدينة انطونيوبولس والإقليم كله. سيطر الهم والقلق على كريتياس وأصبح مهددا داخل قصره، ولم تفلح محاولات التهدئة التي قام بها البعض، وأصبح استخدام القوة والبطش هو سيد الموقف ونتج عن ذلك وقوع عدة اغتيالات لكبار رجال الحاكم، بسبب ظلمهم وقسوتهم مما دفع الناس إلى الانتقام منهم، هنا تذكر كريتياس حابي ودوره في تهدئة الثائرين، وكيف استطاع أن يعيد الأمن للإقليم دون إراقة قطرة دم واحدة، وأعطى الحقوق لأصحابها، وحفظ هيبة الحاكم، مما جعل الشعب يحييه ويهتف باسمه، وهذا ما عجز عن تحقيقه كل رؤساء الشرطة والضباط الذين كانوا قبل حابي والذين جاءوا بعده. شعر المستشار برديكاس بحاجة الحاكم إلى حابي وربما ندمه على نقله من خدمته، لذا انتهز الفرصة لمحاولة إقناعه بعودة حابي والعفو عنه إنقاذا للموقف المتأزم، وأثنى على خلقه وإخلاصه في عمله وحكمته في التعامل مع المتمردين، ثم أضاف ما المانع في قبوله زوجا لايزادورا، انه محبوب من الشعب وأرى أنه قادر على وأد الفتنة وإنقاذ البلاد من التخريب، وعودة الأمن والاستقرار للإقليم وخاصة مدينة انطونيوبولس عاصمة الإقليم ومقر الحاكم وقصره المنيف على شاطئ النيل. صمت كريتباس وأصغى جيدا لحديث مستشاره برديكاس ثم وعده بالتفكير الجدي في الأمر. كذلك لم تتوقف محاولات بلوتينا في الدفاع عن حابي، وواجهت زوجها بشجاعة و بصراحة قائلة: إن حب حابي لايزادورا ليس جريمة ولا خطأ، ولابد من مراعاة مشاعر ابنتنا الوحيدة التي تعلق قلبها بهذا الشاب الطيب المخلص الذي لا يقل كفاءة عن أمهر ضباطك، وظلت تتوسل إليه أن يرحم قلب الفتاة الذي كاد ينفطر حزنا وألما على فراق من أحبته، وأنهت حديثها بأن دعته أن يفكر في سعادة ابنته بدلا من أن يجلب عليها التعاسة والعناء، فسعادة ايزادورا أهم كثيرا من التفكير في المال والسلطة والمستوى الطبقي غير أن كريتياس كان عنيدا مستبدا برأيه، فلم يستجب لنصيحة مستشاره أو استعطاف زوجته، وأعلن أنه لن يسمح لحابي بالعودة للعمل في المدينة ثانية، ولن يقبل بزواجه من ابنته، ولن يسمح لايزادورا أن تلتقى به. بعد هذه اللاءات الثلاثة التي أعلنها صريحة، أمر بتشديد الرقابة على ابنته، وتكثيف الحراسة على مداخل القصر ومخارجه، وحرمت ايزادورا من النزول إلى حديقة القصر إلاّ بعد استئذان الحاكم وهو غالبا ما يرفض أو يقبل على مضض بعد توسلات بلوتينا وبكاء ايزادورا، فقد كان يخشى أن تجد ايزادورا وسيلة ما لمقابلة حابي إن هي خرجت من القصر. انهمك الحاكم في اجتماعات متواصلة بعد أن زادت حدة الاضطرابات وأضرب الموظفون عن العمل تضامنا مع العمال والفلاحين بعد ما رأوا ما يتعرضون له من قسوة رجال السلطة وما يقع عليهم من ظلم فادح، وكلما زاد العنف زادت المقاومة، وباتت الأجورا - مركز التجمع - تغص بالآلاف من الثائرين والرافضين ويزداد العدد بها يوما بعد يوم للتعبير عن مطالبهم والهتاف ضد الحاكم، بعد أن كانت مركز الاحتفال بعيد الإله تحوت والمناسبات الشعبية والرسمية، وبعد أن كانت تزخر بالموسيقى والغناء والألعاب السحرية التي يسعد برؤيتها أبناء الشعب إلى جانب أهميتها كمركز للبيع والشراء، فإذا بها صارت مركزا للثورة ضد الحاكم وأعوانه الذين أصبحوا بنظر الثوار أعداء الشعب وناهبي ثرواته وظالمي أبنائه، فكانت الاحتجاجات تهدأ قليلا ثم تثور من جديد، دون أن يلوح في الأفق أي بوادر لحل الأزمة. كان أكثر ما يخشاه كريتياس أن يعرف الوالي بعجزه عن مواجهة الموقف فيعزله من منصب حاكم الإقليم، بعد تكرار الاضطرابات والمظاهرات لذا رفض نصيحة صاحب الشرطة بشأن طلب المساعدة من الوالي كما فعل من قبل قائلا: لقد استعنا بجند الوالي أكثر من مرة حتى أصبح موقفي حرجا يوحي بضعف قدرتي على السيطرة وهذا يسيء لمكانتي وموقعي كحاكم للإقليم. وهذا ما جعل كريتياس يفقد أعصابه في كثير من الأحيان وانعكس ذلك على المحيطين به، ـ 15 - تمر الأيام بطيئة ثقيلة، كأنها سنوات طوال وايزادورا تقف في شرفتها في انتظار حضور حابي، لكنه لا يأتي، تشعر بالإحباط، فقد ضاعت أمانيها سدى وتحولت أحلامها إلى كوابيس مزعجة، يزداد قلقها وخوفها على حابي خشية أن يكون قد حدث له مكروه، أو يكون طرفا في الثورة والتمرد الذي أصبح سمة هذه الأيام، وهذا ما يعرضه لسخط المسئولين وفي مقدمتهم والدها، باتت ليلتها تفكر في طريقة تمكنها من الاتصال به، وكلما خطرت لها فكرة استبعدتها ووجدتها غير صالحة، فكل الطرق مسدودة وكل الأبواب موصدة. أخيرا بعد أن أعياها البحث قررت أن تذهب إليه بنفسها في بلدته حيث يسكن على الشاطئ الأخر لنهر النيل، وليكن ما يكن فالحياة بدونه لا تساوي شيئا، ولكن.. كيف تستطيع تخطي الحراسة المشددة على أبواب القصر ؟ لابد من حيلة بحيث لا يكتشف خروجها، وبدأت تفكر من جديد. أثناء زيارة ارسنوي لها وهي الصديقة الوحيدة التي سمح لها كريتياس بزيارة ابنته بعد أن أصدر فرمانه الأخير بأن تبقى ايزادورا حبيسة القصر دون أن تقرب أبوابه أو تبرح أسواره، ولا تزور ولا تزار، ثم خفف الحصار قليلا بعد نصيحة مستشاره وتوسلات زوجته وسمح لها بالنزول للحديقة مع صديقتها ارسنوي فقط. انشغل الحاكم بالتصدي للمتظاهرين الثائرين المطالبين بحقوقهم التي أهدرها رجاله المتسلطون، بينما تغافل هو وصم أذنيه عن الاستماع إليهم وبحث شكواهم، حتى تفاقم الوضع وبدأ الانفجار. في هذه الأثناء كانت فكرة الهروب من القصر قد اكتملت في ذهن ايزادورا بعد أن استبد بها الشوق إلى حابي، وفكرت أن تستعين بصديقتها ارسنوي وصرحت لها بما تنوي عمله، بعد تردد تعاطفت ارسنوي مع ايزادورا ووافقت على مساعدتها في الخروج من القصر. بعد تفكير وبحث تم الوصل إلى طريقة للخروج دون أن يشك أحد من الحرس أو العاملين بالقصر، فتنكرت ايزادورا في ملابس جارية، وخرجت بصحبة ارسنوي أثناء خروجها بعد انتهاء زيارتها، وسارت خلفها على أنها جاريتها، وكان تنكرها متقنا فلم تلفت أنظار الحرس إليها ولم يشك أيّ منهم في تلك الجارية التي تصحب ارسنوي. خرجت الفتاتان من باب القصر بأمان دون أن يتعرض لهما أحد، وركبت ارسنوي العربة التي كانت تنتظرها خارج القصر وبجوارها ايزادورا في زي جارية وأشارت ارسنوي للسائق أن يتجه إلى شاطئ النهر، فسار بهما حتى وصل للشاطئ وهناك نزلت ايزادورا من العربة وودعت صديقتها وأوصتها بكتمان الأمر، وعادت ارسنوي إلى قصر أبيها بعد أن وعدت صديقتها بكتمان الأمر وحفظ السر. وقفت ايزادورا على الشاطئ الشرقي لنهر النيل تنظر حولها وهي متخفية في زي جارية، رأت بعض القوارب الراسية على مرسى قريب منها، ويقف بجوارها بعض البحارة، فاتجهت إيه واستأجرت منه قاربا ودفعت له عددا من العملات الذهبية على شرط أن يبقى القارب معها طوال الليل وتعيده إليه عند الفجر، فرح الرجل بالنقود الذهبية وأعارها القارب دون تردد متمنيا لها نزهة سعيدة وعودة سالمة. استقلت ايزادورا القارب وأمسكت بالمجداف وأبحرت إلى الجانب الغربي للنيل، كان الوقت قبيل الغروب، ما أن وصلت للضفة الأخرى عند بلدة خمنو وهي بلدة حابي، راحت تبحث عنه و تسأل من تجده في طريقها، فأخبرها أحدهم أنه يأتي كل يوم في مثل هذا الوقت وأشار إلى إحدى الأشجار قائلا: إنه يجلس دائما بمفرده تحت تلك الشجرة باكيا حزينا يناجي القمر وينظم الأشعار، ولا يبرح مكانه هذا حتى ينقضي الليل ويبزغ الفجر فيعود إلى بيته، ثم أضاف: سوف يأتي الآن إنه لا يخلف موعده أبدا. جلست ايزادورا تحت الشجرة، وأن هي إلاّ لحظات قليلة وأقبل حابي، فأذهله منظر تلك الجارية التي تجلس في نفس المكان الذي اعتاد الجلوس فيه وكأنها تنتظره وتترقب حضوره، اقترب منها متعجبا وخاطبها: من أنت أيتها الجارية ؟ وما الذي أتى بك إلى هنا ؟ هل تعرفينني ؟ أزاحت ايزادورا رداء الجارية عن وجهها وألقت بنفسها في حضن حابي وهي تبكي، كانت المفاجأة مذهلة، وكادت الفرحة والدهشة معا يعقدان لسان حابي ويذهبان بعقله. ظل قلبه يخفق بشدة والدموع تتساقط من عينيه فرحا بحضورها وسألها كيف قامت بهذه المغامرة ؟ قصت ايزادورا على حابي كل ما حدث لها منذ أن رأته آخر مرة إلى أن وصلت إليه في هذه اللحظة. ـ لكن يا حبيبتي أنت تعرضين نفسك للمخاطر بتصرفك هذا. ـ فعلت ذلك من أجل أن أراك بعد أن طال انتظاري ويئست من حضورك. ـ لم يكن بوسعي الحضور وكل العيون ترصدني وتحول بيني وبينك. ـ خشيت أن يكون أصابك سوء. ـ وهل يوجد أسوء من البعاد عنك والحرمان من لقائك يا منية النفس ومليكة الفؤاد. طالت الأحاديث والنجوى بين الحبيبين العاشقين حتى انقضى الليل، لم يشعرا بمرور الوقت وكأنهما انفصلا عن الزمن في ليلة مقمرة تجلى فيها البدر وأمسى يرنو إليهما وكأنه حارس أمين يرعى حبهما. مرت ساعات اللقاء سريعة وبدأت خيوط الفجر تظهر في السماء معلنة نهاية الليل، وقدوم الفجر، هنا وقفت ايزادورا وأخبرت حابي أنها لا بد أن تعود الآن كي تصل إلى القصر قبل طلوع الشمس حتى لا يكتشف أمر خروجها، حيث أن الجميع يظنون أنها نائمة. بدا القلق واضحا على وجهها، فقد خرجت متنكرة بصحبة ارسنوي، ولم يشك أحد من الحراس إنها جاريتها ولكن.. كيف تعود وتدخل القصر ؟ هذا ما لم تعمل حسابه، فقد كان كل همها الخروج ولقاء حابي، انتقل القلق منها إلى حابي وانتابه إحساس بأن هذا اللقاء قد يكون الأخير، فعانقها وودعها وداعا حارا، وما أن قفزت داخل القارب حتى ارتجف حابي خوفا وإشفاقا عليها من عبور النهر بمفردها، وخاصة وهي على هذه الحالة من الارتباك فعرض عليها أن يبحر معها لتوصيلها ويتولي هو قيادة القارب، لكي يطمئن على وصولها سالمة، لكن ايزا دورا رفضت خشية أن يكتشف أمر لقائهما. إذا شاهدهما أحد وانتقل الخبر إلى القصر. أمسكت ايزادورا بالمجداف وبدأت الإبحار إلى الشاطئ الشرقي في طريق عودتها بينما ظل حابي واقفا يراقبها وهي تدفع القارب ودموعها تسيل على خديها، والتوتر يسيطر على نفسها وتحركاتها، وكلما نظرت خلفها رأت حابي يلوح لها بيديه فترد التحية وهي تبكي، وعندما وصلت بقاربها إلى منتصف النهر اختفى حابي عن ناظريها، فظلت تلتفت إلى الخلف و تنظر إلى الجهة التي يقف بها ثم تعاود التجديف وتعود وتنظر إلى الوراء مرة أخرى ثم تعتدل وتمضي في طريقها، استمرت هكذا حتى اختل توازنها وسقط المجداف من يديها، انحنت على حافة القارب كي تلتقطه لكن.. الأمواج ألقت به بعيدا فلم تستطع الوصول إليه، مدت يدها في إصرار على الإمساك به فانقلب بها القارب وسقطت في الماء. لم تكن ايزادورا تجيد السباحة أو تعرف فن العوم فغاصت في الماء وابتلعتها الأمواج بعد أن ظلت تصارع حتى خارت قواها وامتلأ جوفها بالماء وسكتت أنفاسها. عندما طلع النهار لاحظ البحار أن قاربه ومجدافه يعومان على سطح الماء، تدفعها الأمواج بدون الجارية التي استأجرتهما فظن أنها ربما نزلت بالشاطئ الأخر وتركت المجداف والقارب فدفعتهما الأمواج، فنزل الرجل وسبح حتى استقل القارب والتقط المجداف وعاد بهما إلى المرسى على الشاطئ وهو في دهشة وتعجب من أمر هذه الجارية المجهولة، وصار يفكر: ترى من هي ! ولماذا لم تعد ! وكيف تركت القارب والمجداف هكذا! لكنه أقنع نفسه أن الأمر لا يهم كثيرا، خاصة أنها دفعت له ثمنا مجزيا من العملات الذهبية، كي يعيرها قاربه لعدة ساعات وها هو قد عاد إليه، لا يهم إذن إن هي عادت أو لم تعد، لا يجب أن يشغل نفسه بأمور الناس. رغم ذلك ظل أمر تلكم الجارية وتصرفها الغريب سرا محيرا يود أن يعرفه بعد أن عجز عن تفسيره. ـ 16 - أشرقت الشمس وانتشرت أشعتها الذهبية على القصر وشرفاته وحديقته، استيقظت بلوتينا من نومها مهمومة خائفة، وضعت إحدى يديها على صدرها والأخرى على رأسها وهي تحدث نفسها: ما هذا الكابوس المفزع !! أي شياطين ألقت إليّ بتلك الأفكار السوداء، ساعديني يا ايزيس، أحفظي ابنتي أيتها الحكيمة المقدسة، آآ..ه يا لها من ليلة ليلاء، أكاد أجن لو تحقق ما رأيته، لا لا إنها مخاوفي تصور لي أشياءَ غريبة، سأذهب إلى حجرة ايزادورا الآن كي يطمئن قلبي. نهضت من سريرها واتجهت إلى الباب لتفتحه، فاستوقفها زوجها عائدا من جولته الصباحية للتريض بين الحدائق وسألها عن مصدر القلق البادي على وجهها فأجابته بصوت خافت: رأيت في منامي أن ابنتي تغرق في النيل وتختفي بين الأمواج ولا أحد ينقذها. صمت كريتياس قليلا ثم ربت على كتفها قائلا: اهدئي اهدئي لا تنزعجي إنها مجرد هواجس وأضغاث أحلام، سوف تجدينها نائمة في سريرها كعادتها كل يوم في هذا الموعد. لكن بلوتينا لم تهدأ ومضت إلي حجرة ابنتها، بينما ظل كريتياس واقفا في انتظارها، طرقت الباب فلم تفتح ايزادورا ولم ترد على الطارق، دفعت الباب واتجهت إلى مخدعها فلم تجدها، زاد قلقها، تجولت في أرجاء الغرفة وملحقاتها ثم اتجهت إلى الشرفة وظلت تنظر حولها بعدها خرجت وصاحت أين ايزادورا ؟ ابحثوا عن ايزادورا، أقبل كريتياس يجري نحوها قلقا مستفسرا. واحتشد الحرس والجواري وكل العاملين في القصر وانطلقوا يبحثون في طرقات القصر وحجراته ثم الحديقة المحيطة به، علها تتجول للتريض أو للتسرية عن نفسها أو جلست تنتظر مجيء صديقتها أرسنوي لزيارتها أو أو، افتراضات كثيرة خطرت ببالهم وهم يبحثون عنها في كل ركن وزاوية دون أن يعثروا لها على أثر، اختفت ايزادورا و لم تظهر، وأكد الجميع أنهم لم يشاهدوها منذ الأمس . أمر كريتياس الجند بالبحث عنها في المدينة كلها وسؤال كل من يعرفها. لم يسفر البحث عن شيء، وأصبح اختفاء ايزادورا لغزا محيرا، ولم تجرؤ ارسنوي أن تصرح بهروبها واتجاهها نحو النهر لمقابلة حابي. هي الوحيدة التي تعرف أين ذهبت ايزادورا ولكنها وعدتها بكتمان السر، ثم إنها قد تتعرض للعقاب هي وأبيها إذا علم كريتياس بمساعدتها لابنته في الهروب والخروج من القصر، لذا لزمت الصمت ولم تبح بشيء. خيم الحزن على القصر ومن فيه، ولم تكف بلوتينا عن البكاء، وترك كريتياس كل مشاغله وتفرغ للبحث عن ابنته التي اختفت في ظروف غامضة ومحيرة للجميع، كل أجهزة الحكم في الإقليم تفرغت للبحث عن ايزادورا. طال البحث، وزاد القلق والخوف على ايزادورا، رصد الحاكم مكافأة كبيرة لمن يعثر عليها أو يدلي بمعلومات توصل لمعرفة مكانها. خرج المنادون يطوفون في شوارع المدينة ويعلنون عن المكافأة الكبيرة لمن يجد الفتاة ثم ويدلون بأوصافها. بعد أيام قلائل حضر إلي القصر أحد الصيادين وطلب مقابلة الحاكم، وأكد أن لديه معلومات هامة عن الفتاة المختفية، أمسك به زينون كبير الحرس وأدخله على الفور إلى الحاكم الذي سأله - في لهفة - عما لديه من معلومات: فأخبره أنه أثناء مزاولة عمله في الصيد عثر على جثة فتاة تطفو على سطح الماء، فقام بانتشالها ولاحظ أن صفاتها تتفق تماما مع الصفات التي أعلن عنها المنادي، فسأله الحاكم وهو يرتجف أذكر لي صفاتها بدقة، فأجاب الصياد إنها بيضاء البشرة، ذهبية الشعر، زرقاء العينين، ترتدي ملابس فاخرة وتدل سماتها على أنها أميرة ولكن.. الغريب في الأمر أنها ترتدي - فوق ملابسها الفاخرة - رداء جارية. هب كريتياس وخلفه الجند والحرس وذهبوا بصحبة الصياد إلى مكان الجثة، وكانت المفاجأة.. إنها جثة ايزادورا ابنة حاكم الإقليم . حمل الحراس الجثة وعادوا بها إلى القصر وهم يبكون ويندبون. انهار كريتياس و بلوتينا عندما شاهدا ابنتهما ممددة أمامهما جثة هامدة بعد أن فقدت حرارة الحياة، وراحت بلوتينا تلقي باللوم على زوجها ذلك الأب القاسي متهمة إياه بأنه السبب في موت ابنتهما حينما فرق بينها وبين حبيبها حابي الشاب الطيب المخلص الذي أحبها بصدق وتعلقت به. انهمر كريتياس في البكاء وشعر بفجيعته ومصيبته في فقد ابنته الوحيدة الغالية التي أحبها أكثر من حياته، والذي كان يظن أنه بتصرفه هذا يعمل لصالحها، ويحافظ عليها، وكلما زاد حزنه زاد ندمه على موقفه من حابي وعدم تقديره لمشاعر الحبيبين البريئة، فكان ذلك سببا في ظلم حابي وتدمير حياته وموت ابنته غرفا. انحنى الوالد المكلوم والأم المحزونة على جثمان ابنتهما المسجى يبكيان بحرقة، ثم تسلم الكهنة جثمان الفتاة وبدأت عملية التحنيط. قرر كريتياس أن يبني لابنته الغريقة مقبرة فاخرة ذات طراز متميز ومختلف عن كل المقابر المعروفة، وإن كانت صغيرة في حجمها مثل صاحبتها الصبية الغضة التي اختطفها الموت في ريعان صباها، وهي لم تتعد التاسعة عشرة من عمرها وفي ظروف مفجعة بكل ما تعنيه الكلمة من الحزن والألم وأوجاع الفراق. لم يكن بيت الأبدية التي تسكنه ايزادورا فاخرا من حيث البناء والزخرفة فحسب، بل أشارت بلوتينا على زوجها قائلة: احك قصة ابنتنا وسجلها على جدران مقبرتها، لكي تقرئها الأجيال القادمة علهم يتعظون ويكفون عن ظلم بناتهم ووأد المشاعر الطاهرة البريئة، احك قصة ايزادورا وسجلها ليحفظها التاريخ، فتعيش في وجدان وقلوب الناس تخليدا لهذا الحب العفيف البريء الذي نما في قلبين نقيين، ذلك الحب الصادق الصامد حتى الموت. ـ سأفعل يا بلوتينا سأحكي قصة ايزادورا الجميلة شهيدة الحب، وسأسجلها شعرا يعبر عما أعانيه من لوعة الفراق، ويظهر طيبة ايزادورا وحبها للخير وللناس. ـ كانت ابنتي رمزا لجمال الشكل والروح، فهي طيبة حنونة بريئة نبيلة. ـ نعم هكذا كانت ابنتي الحبيبة الراحلة، حفظت روحها الآلهة ورعتها ايزيس في عالم الأبدية حيث الخلود. ـ سأودع معها في عالمها الأخير أفخر ثيابها وأغلى حليّها وأنفس عطورها وبديع زينتها وكل ما يليق بعروس السماء كما كانت عروس الأرض، ثم أغرقت عيناها بالدموع ودخلت في بكاء متواصل، بينما جلس كريتياس بجوارها حزينا صامتا لا يجد ما يقوله، ولا يجد ما يعزي به زوجته ولا ما يعزي به نفسه، ولا يعوضهما عن فقد ابنتهما الحبيبة الغالية ايزادورا. عطية ايزيس. ـ 17 - تم بناء المقبرة، ونقل جثمان ايزادورا إلى مثواها الأخير بعد التحنيط ووضع في تابوت فخم صمم على شكل سرير فاخر، وتفنن الأب في كتابة مرثيتين من الشعر الحزين باللغة الإغريقية، تصور الحالة النفسية للأب بعد فراق ابنته، وراح يسجل قصتها للزمان متضمنة تاريخ وفاتها وإنشاء المقبرة - مائة وعشرون بعد الميلاد - ما أسوء هذا التاريخ في حياتك يا كريتياس، ليتني لم أعش ولم أر هذا اليوم، هذى الأشعار الحزينة تنطلق من قلب أبيك يا ايزادورا إنها تنطق باللوعة والأسى والإحساس الطاغي بآلام الفقد والبكاء عليك أيتها الحبيبة الغالية، ثم أفاض الأب في سرد صفاتها فهي، الطيبة، الحنونة، الشفيقة، البريئة، الطاهرة، الفريدة، الحورية الجميلة، بهية الطلعة، قرينة فينوس، عروس السماء، محبوبة الجميع،هبة ايزيس. استغرق كريتياس في وصف ابنته الشهيدة بقلب يعتصر ألما وحسرة، وعيون دامعة، وبداخله شعور قاتل بالذنب لما بدر منه من قسوة عليها والتفريق بينها وبين حابي، وظل يردد وهو ينتحب: كم كنت قاسيا ظالما، فلولا قراراتي الجائرة بحبسها داخل القصر لما هربت، إنني المسئول عن غرقها والمتسبب في موتها، بعد أن حرمتها من الحنان والحب والسعادة. أظلمت مدينة انطونيو بولس بعد أن أطفئت أنوارها ورفعت رايات الحداد السوداء فوق مبانيها، وانعكست مسحة من الحزن على الإقليم كله، فقد كانت ايزادورا محبوبة من الجميع فحزن عليها كل من يعرفها وكل من شاهدها أو سمع بها، وتعاطف معها كل من عرف قصتها . اهتز كيان كريتياس وصحا ضميره النائم، وعاد عدله الغائب بعد أن شاهد أبنته الغريقة ترقد كالزهرة الذابلة رقدتها الأخيرة في بيتها الجنائزي، وقف أمام المقبرة وكأنه في حساب مع النفس، وعاهدها وعاهد نفسه أن يكفر عن ذنوبه السابقة، ويصلح أحوال الناس، عساه بهذا يصير حاكما صالحا وعسى أن ترضى عنه ايزيس وترضى عنه ايزادورا في رحاب الأبدية. بعد ذلك أمر بإطلاق سراح نفرت وعودتها إلى عملها بالقصر بجوار سيدتها بلوتينا كما كانت من قبل، ثم أمر رجالة بإجابة مطالب الثوار ورعاية مصالحهم، وتحقيق العدالة بين أبناء الشعب، ومحاكمة كل من يثبت أنه ظلم أو أفسد أو تخاذل عن أداء دوره، كذلك شرع في تلبية احتياجات الإقليم وتقديم المساعدات العاجلة للمحتاجين، فلعل هذا يسعد روح ايزادورا الطيبة التي كانت دائما تطالبه بذلك وتلح عليه ويا ليته استمع إليها، لكنه.. للأسف اعتاد أن يستخف برأيها معتقدا أنها صغيرة لا تعرف شيئا في شئون الحياة والحكم ومعاملة الناس، ويا ليته تخلى عن عناده واستبداده برأيه واستمع إلى مشورة المخلصين وفي مقدمتهم ايزادورا ومستشاره الأمين برديكاس، ولكن.. هيهات أن ينفع الندم بعد فوات الأوان أمر بالعفو عن حابي وعودته إلى عمله السابق في معيته وعدم التعرض له والسماح له بالدخول عليه في أيّ وقت يشاء، كما أمر بتقديم اعتذارا له عما لحقه من معاناة وظلم وغمط حقوقه. لكن.. حابي رفض العودة إلى عمله في حرس الحاكم، ولم يكن له حاجة عنده تدعوه للدخول عليه، بل لم يعد يرغب في رؤيته بعد ما كان منه. كان موت ايزادورا مرحلة جديدة في حياة كريتياس وفي أسلوب حكمة وأصبحت مأساة فقد ابنته نقمة عليه ونعمة على الشعب، فقد أفاق من غروره وبدأ يستمع إلى الأصوات المخلصة التي تريد الصلاح والخير، ولكن الحزن ظل رفيقا له مقيما معه لا يفارقه أبدا. ـ 18 - علم حابي بموت حبيبته غرقا في النيل أثناء عودتها بعد لقائهما الأخير، فحضر إلى المقبرة باكيا ملتاعا منتحبا وظل مقيما إلى جوارها عدة أيام، لا ينام ولا يأكل ولا يشرب، بل جلس منزويا في أحد الأركان وعيناه على تابوت ايزادورا والدموع تسح منهما بغزارة، إلى أن نهره الحراس وقاموا بإخراجه وإبعاده عنوة، فما كان منه إلاّ أن حضر في اليوم التالي وفي يده شعلة وضعها في المسرجة الموجودة في كوة داخل أحد جدران المقبرة كي تنير لها بيتها الأبدي طوال الليل وتؤنس وحشتها. اعتاد حابي أن يأتي كل يوم إلى المقبرة قبيل الغروب فيشعل المسرجة ويجلس بجوار السرير الجنائزي حيث ترقد حبيبته يناجيها وينشدها أشعاره الممزوجة بالدموع والأسى. أيتها الجميلة النبيلة النائمة في حضن ايزيس أيتها الطاهرة الوديعة كالملاك الحنون يا من أدميت الفؤاد الذي احبك برحيلك لن أنساك حتى نلتقي وتتعانق روحانا ثم ينصرف على أن يعود في اليوم التالي قاطعا مسافة طويلة ومسيرة شاقة سيرا على قدميه كي يشعل المسرجة التي تنير المقبرة. ظل حابي وفيا لحبه طوال حياته، مبقيا على ذكرى ايزادورا الحبيبة التي فقدها، ففقد كل سعادة وطمأنينة وحنان وكل شيء جميل كان يحلم به في مستقبل حياته ’ لم يعد يعنيه من أمر الدنيا شيئا، ولم يعد في حياته ما يشغله سوى هذه السويعات التي يقضيها بجوار حبيبته التي تنام في رحاب الأبدية، لكنه يشعر أن روحها تحس به وتأنس لوجوده لذا لم يتخلف عن الحضور وإضاءة المقبرة تخليدا لهذا الحب النبيل حتى وفاته. وتحولت قصته مع ايزادورا إلى أسطورة حب خالدة يحفظها التاريخ ويرددها العالم، بعد أن كانت حديث مدينة انطونيو بولس. ( تمت بحمد الله ) ( معلومة هامة ) بدأت جامعة القاهرة حفائرها في تونا الجبل - مقبرة مدينة الأشمونيين - بمحافظة المنيا عام 1930 م تحت إشراف عالم الآثار المصري دكتور سامي جبرة الذي ظل يعمل فيها ما يزبد على ربع قرن من الزمان، وتم الكشف عن مدينة كاملة للموتى بها ستون بيتا جنائزيا، وسراديب كمقابر للإله تحوت والإله أبيس، بالإضافة إلى التماثيل والحليّ، ومجموعة كبيرة من أوراق البردي، ويعد البيت الجنائزي رقم ( 1 ) الذي اكتشفته بعثة الآثار هو بيت ايزادورا شهيدة الحب و الملقبة بهبة ايزيس وابنة ايزيس وقد أشرف د. سامي جبرة على ترميمه بعد التخريب الذي أصابه على أيد لصوص المقابر الذين نهبوا كنوز المقبرة، و حكا قصة اكتشافه لمقبرة ايزادورا بتأثر بالغ في كتابه المعنون - في رحاب المعبود توت - ( المؤلفة ) |
الساعة الآن 05:42 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها