![]() |
مصرع إبن السفير
المؤلف في سطور:
- من مواليد 3/3/1955 (رجب 1374هـ ) - تخرج في كلية الصيدلة / جامعة القاهرة سنة 1981م. - حائز على جائزة الشيخ محمد صالح باشراحيل للإبداع الثقافي وذلك عن روايته {صنعاء الوجه الآخر} الصادرة عن دار الهلال المصرية ضمن سلسلتها الشهيرة (روايات الهلال) ، و له عدة إصدارات أدبية أخرى منها ( دكاك الشعر) ديوان شعر ، و (الثائرون العشاق). ملخص عن الرواية : أحداث الرواية أصلا من إبداع الخيال ، عدا ما ذكره الروائي العظيم ليوتوليستوي من أنه : ( على المرء أن يكتب فقط حينما يترك قطعة من لحمه في المحبرة في كل مرة يغطس قلمه فيها ). مع ذلك فالكاتب يحاول رصد أحداث يمانية امتدت من قبيل منتصف سبعينيات القرن العشرين و تحديدا بعد حرب أكتوبر/ تشرين 1973 و لمدة تزيد على السبع عشرة سنة و إن كان ينفذ كثيراً من الشخصي إلى العام و من العام لشخوص أبطال الرواية. و للتقريب فإن عامر مثلاً كبطل رئيسي يتداخل أحياناً وسيرة الكاتب و إن لم يكن هو نفسه في دقيق تفاصيل عيشه و حياته خلال تلك السنوات منذ أن كان طالبا ً يدرس في مصر العربية و علاقاته بزميلات و زملاء له في القاهرة امتدت تأثير تلك العلاقات لما بعد تخرجه وعودته إلى اليمن واشتغاله بأعمال تجارية خلال فترة اقتصادية عصيبة وصراعات ما بعد إعلان الوحدة اليمنية. مصرع إبن السفير «رواية» بقلم الدكتور: إبراهيم إسحاق « على المرء أن يـكتب فقط حيـنما يـتركُ قطعةً من لحمهِ في المحبـرة في كلّ مرّةٍ يـغطسُ قلمه فيــها ». الروائـي الروسي العظيـم: ليــو تولسـتوي حنّا السكران هكذا يجري حوار هامس بعد صلاة المغرب في سوح مسجد الصياد بصنـعآء بين صديقين حميمين قبيل سفر أحدهما في منحة دراسية: - إذا لم يكن معك صديق في المكتب عليك استعارة كتاب.. - أي كتاب؟! - أي كتاب .. القراءة تغني عن الصديق.. - فإذا لم يعجبني؟! - قم باستعارة غيره. - لكني لا أحب الكتب.. أنا سريع الملل.. - يمكنك شراء مجلات من التي تباع على الرصيف في شارع علي عبدالمغني.. - وماذا أعمل بها وهي قديمة؟! - حاول محاكاتها كما أفعل أنا.. - كيف؟! - تكتب مثلها واعمل منها برنامجًاً للإذاعة.. - لكني موظف في قسم الأخبار ولست في قسم البرامج؟! - ألم تقل أن معك في مكتب الإنتربول جهاز راديو مع مسجل؟! - قلت لك أني أسمع أحياناً صوت العرب أو لندن، لكني أشعر بفراغ، لأنه لا أحد معي في المكتب .. الوظيفة المسائية تقتل طموحاتي.. ليس سواي أنا والمدير الذي ليس له دوام ثابت.. - جرب أن تسجل ما يعجبك من صوت العرب أو إذاعة لندن.. - وماذا أفعل بما أسجل ؟!.. - تسمعها حين لا تعجبك برامج يوم آخر.. - وإذا مللت التكرار؟! - سجل على الشريط نفسه برامج جديدة.. هل تشعر بالبرد؟! - فعلاً الجو اليوم بارد، وسوح الجامع أبرد.. خذ هذا الشال على ظهرك.. - وأنت؟! - تكفيني سترة الصوف الميري، والزبيب الأسود من البلاد.. هل أزيدك حفنة زبيب؟! - لا، شكراً.. أترك منه قليلاً لنعطي مختار فقد أغظناه.. - أغظناه؟! - إنه حانق عليك، وأنا قبل خروجي من البنية للجلوس معك تحجج ابن عمك بدرس القرآن مع أنه كالعادة يدردش مع خالك الحاج محسن في بنية المسجد.. - لا يزال خالي يرفع صوته عندما يصلي سنة صلاة المغرب.. - إنه لا يرفع صوته.. هو يجهر فقط بالفاتحة.. - ألا يفسد ذلك صلاته؟! - قد سأله مختار ابن عمك فقال إن سنة الصلاة الجهريه جهرية.. - وما رأيك في هذا الكلام؟! - لا أدري، ولا أريد أن أسافر وابن عمك حانق عليك.. - يحنق حتى يشبع حنقاً، أنت أعز عندي منه ومن كل الناس .. يبدو أنك لا زلت تحس بالبرد، خذ لك قليلاً من الزبيب.. - قلت لك اترك باقي الزبيب لنصالح به مختار.. - إذن ألبس هذا الكاكي الصوف.. - مقاسك أكبر مني.. - شمر الأكمام وسيكون عليك تمام.. متى ستخرج المطار؟! - بعد الفجر!! - سآتي معك.. - ومختار ؟! - دعني أسأله.. ويدخل عبد الرحمن شبيط بنية المسجد، وعامر في انتظاره في عتمة السوح، وسادن الجامع أمام المحراب يسحب خيط مكبر الصوت، وحين يرى دخول عبد الرحمن يلوح بعصاه الرفيعة مهدداً كما يفعل مع الصغار، فيجلس عبد الرحمن في الطرف الأسفل قرب أبيه عند باب المطاهير، وبعيداً عن مختار الجالس في الطرف القصي يتشاغل بدرس القرآن مع الحاج محسن، ويتحلق الأطفال أمام المحراب في انتظار ما سيكون، وترتفع أصواتهم مع بعض من تخلف من صلاة المغرب لصلاة العشاء من الرجال حتى تصل أصوات الجميع وهم مع عبد الرحمن يرددون ماينشده السادن من الدعاء: - ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.. أماالحاج محسن الذي لا يزال في بنية المسجد فهولا يريد إغلاق مصحفه ليرضى السادن ويردد بعده مايردد الآخرون، وكذلك يفعل مختار الذي يتجاهل النظرات البعيدة لابن عمه وعلو صوته قصداً وهو يردد خلف السادن مع الآخرين: - ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.. ويبقى عامر أكثر دفئاً في سوح الجامع، غارقاً في صور متخيلة لسفره إلى القاهرة، تاركاً أمه وخالته في بيت طيني صغير، وراتب أب توفاه الله منذ كان تلميذاً في الإعدادية، وما يتبقى من راتبه في التربية والتعليم بعدما ماتثبت في الوظيفة وقد كان في السنة الأولى متعاقداً، لكن المدير قبل انقضاء سنته الثانية يزعم أنه يريد مصلحته ويسعى ليتم تثبيته وتعيينه لديه في مكتب الوزير، ثم بعد ذلك يرفض ترشيحه لمنحة جامعية في إحدى الدول الشرقية، باقتراح الأستاذ منصور الذي ما إن طرح الاقتراح حتى علا صوت المدير ليسمعه كل من في مكتبه بمن فيهم عامر: - لا، لا ياأستاذ منصور.. لن يذهب الولد إلى المجر، دعنا ننتظر المنح الدراسية إلى مصر.. هل تريد أن يعود لنا شيوعياً وهو أمانة في عنقي؟! أما المدير العام الأستاذ منصور الذي كان عامر تلميذه يوم كان مديراً للمدرسة الثانوية فإنه ينحني قليلا في حالة وقوفه بين كرسي عامر ومكتب المدير، ويهمس بينهما ليسمعاه معاً وهو يقول: - يا أستاذ فتحي نحن الآن نهاية العام وليس لدينا منحة دراسية واحدة إلى مصر .. حرب أكتوبر أجلت كل شيء، واقتراحي منحة المجر أو تشيكوسلوفاكيا لأن كل زملاء عامر قد سافروا.. - إلى روسيا والمجر.. - وحتى إلى مصر.. - الذين سافروا إلى مصر العام الماضي سافروا على حسابهم وأنا قد عملت على تثبيت الولد في وظيفته عندي ليغطي مصاريف دراسته إذا لم نجد له منحة.. ولا ينتهي العام 74 إلا وهناك خمسون منحة دراسية إلى مصر على حساب دولة الإمارات، ويتأكد لعامر أن مديره الأستاذ فتحي يخطط لبقائه بجواره، وأنه لا يريد خروجه حتى من مكتبة لإكمال دراسته الجامعية، وما كان تثبيته في الوظيفة والراتب المزعوم إلا كذبة بائسة انقطع حبلها القصير سريعاً، ولن يكفيه بقية الراتب إذا سافر القاهرة لتغطية جزء من مصاريف الإقامة والدراسة، ويتم الإتفاق مع زميله صلاح والأستاذ منصور مدير عام البعثات على ضم اسمه ضمن المرشحين بعيداً عن أعين المدير حتى يتم الإفلات من رغبته المجنونة في بقائه مساعداً له في إدارة مكتبه العتيق.. - ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.. وينقطع استغراق عامر في سوح المسجد على اللغط المتعالي في مكبر الصوت المرفوع على جانبي المئذنة حتى ينقطع بإقفال الميكرفون فلا يبقى منه إلا النافذ من فتحة الباب المجاور، ويقبل عبد الرحمن من بنية المسجد ضاحكاً ليجلس بجواره ثم يقول: - هل ردت سترة الصوف روحك؟! لكن عامر يسأل: - ما الذي يجري في الداخل؟! - لا شيء سوى أن الحاج محسن يعترض على السادن بزعم أن ترديد هذا الدعاء بالذات لا يجوز... - لماذا وهو في سورة الدخان.. إنه من القرآن؟! - المصيبة أن خالي محسن قال إنه دعاء من لا يستجاب لهم!!.. وتدور بقية الآيات بذهن عامر ليقول: - الآن فهمت؟! - ماذا فهمت - ألم يقل لكم الحاج محسن اقرأوا السورة أولاً؟! - بلى، فماذا فيها؟! - أَنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين.. - لم أفهم!!.. - ثم تولوا عنه وقالوا مُعلّم مجنون.. - يعني؟!!.. - إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنهم عائدون.. - يا الله، هيا.. كفى.. - إلى أين؟! - نصلي العشاء هنا في سوح الجامع، لقد دخل الوقت.. - انتظر قليلاً.. - لو انتظرنا سننتظر طويلاً لأن سادن الجامع سيؤخر أذان العشاء ليغيظ خالي محسن.. هنا لا يدري عامر ما الذي جعله يستحضر هذا الموقف بالذات المثقل بكل هذه التفاصيل وهو في طريقه للملحقية الثقافية بالدقي.. هل هو الجو القارس ذات صباح بارد من شتاء القاهرة الذي ينفذ للعظام بحسب تعبير وليد؟!، أم أنه افتقاد حميمية تلك الصداقة بعد أن دامت سنين طويلة .. مايزيد على سبع سنين كان الجميع فيها مثال وفاء الصداقة، ودفء الزمالة، وحسن الجوار، رغم أن أعز أصدقائه عبدالرحمن شبيط قد ترك المدرسة قبل أن يكمل الثانوية، ليصبح موظفا بدائرة الأخبار في الإذاعة صباحاً،وفي فترة مسائية بوزارة الداخلية في دوام قصير ينتهي غالباً وقت الغروب؟!.. أم أن هذه الذكرى حاضرة دون غيرها كونها حظيت بآخر لقاء له بالمسجد في صنعاء وبعبد الرحمن وابن عمه مختار والحاج محسن وبقية الجيران؟!، أم لأن صلاح زميله في وزارة التربية ورفيقه في المنحة والسفر للقاهرة قد تغير بعد مافرق السكن بينهما وكان أول جامع لهما تحت سقف واحد لأقل من شهر واحد؟!، أم هو قلق لا يعرف له سببا وهو يحاول مدافعته منذ غادر شقة مدينة المهندسين ليتابع – كالعادة- موضوع التحاقه بالجامعة عن طريق الملحق الثقافي اليمني وإدارة الوافدين المصرية.. عموما سوف يتضح له الأمر خلال أيام.. هكذا يقول عامر لنفسه عند دخوله مبنى الملحقية حيث لا أحد سوى عم عبد الله، مثل كل يوم، في انتظار من لديه حاجة لتسجيل جواز سفره في مجمع ميدان التحرير، وحين يدخل مكتب الأستاذ عبد العظيم حيث يجلس هو وصلاحاً كل صباح ليساعداه في ترتيب ملفات الطلبة الجدد، وإعداد كشف المرتبات لا يجد فيه صلاح ولا عم عبد العظيم فيعود مسرعاً للعم عبد الله في البوفيه الصغير جوار مكتب الأستاذ عبد العظيم فيلقاه وهو يعمل كوباً من القهوة: - أ ُمّال فين الجماعة يا عم عبد الله؟! - عندك الأستاذ عبد العظيم في مكتب البيه المدير .. -عندهم اجتماع؟! - لا، الأستاذ عبد العظيم قاعد لوحده.. - والملحق؟! - جه بدري ومشي.. بعد جلوس عامر مع الأستاذ عبد العظيم مساعد الملحق الثقافي يقول له عم عبد العظيم: - شوف يا ابني .. أنا اغتنمت فرصة غياب الملحق بتاعكم في السفارة مع زميلك اللي من الوزارة علشان نتكلم براحتنا.. وحين لا يرد عليه عامر يقول له الرجل منبها : - سامعني يا عامر !! - سامعك ياأستاذ!! - سامعني كويس يا ابني ؟! - كويس جداً يا أستاذ ؟! - أنت عارف انا زي أبوك تمام.. فتزداد حيرة عامر متوقعاً شيئاً لم يتم الإتفاق عليه أثناء إعداد ملفات ترشيح الطلاب اليمنيين التي ستقدم لوزارة التعليم العالي المصرية، ويواصل الأستاذ عبد العظيم كلامه قائلاً: - أنت جيت مصر متوصى عليك، مش لأنك كنت لسنتين في سكرتارية مكتب الوزير زي مافهمت من الأستاذ معين، إنما عشان حاجة ثانية.. يقول عامر وقد خف توترهُ قليلاً : - زي إيه يا أستاذ؟! - مش وقته.. بس عايز أقول لك إن أنا بعد ماشفت رغباتك اللي كتبتها في الاستمارة طنشت الرغبة الأولى، لأن كلية زي علوم سياسية كثيرون يرغبون فيها، والملحقية مش ممكن ترشح أي واحد إلا بشروط مثل إجادة اللغة الإنجليزية.. - هل تعرف يا أستاذ مستواي في اللغة الإنجليزية؟! - مش مهم يا إبني المكتوب في الورق.. اقتصاد وعلوم سياسية حتى المصريين ما بيدخلهاش أي واحد .. حتى الدكاترة اللي بيدرسوا فيها مش أي دكاترة، لأن فيها ناس زي الدكتور بطرس غالي، واحنا عندنا طلبة يمنيين كفاية لمثل هذه الكلية.. عندها يفتح فَرَّاش الملحقية المكلف بمنع المترددين على الملحقية من دخول مكتب الملحق الثقافي الباب؛ فيقف الأستاذ عبد العظيم قاطعا كلامه وعيناه على الباب كما يتناهى لأذني عامر صوت صلاح قبل دخول الملحق الثقافي ماسحاً جبينه في تصنع لافت، فينهض عامر ضاغطا بيده على الأوراق المتكومة أمامه على جانب من طاولة مكتب الملحق الأستاذ معين. يرحب الأستاذ عبد العظيم برئيسه الذي لا يرد إلا متمتما ، ثم يطلب من صلاح الذي يرافقه الجلوس وتسليم المظروف الكبير الذي دخل وهو يحمله للأستاذ عبد العظيم الذي يهمس متسائلاً: - استلموا كل الملفات؟! - قصدك الدفعة الأولى؟!! يقولها الأستاذ معين، ثم يلتفت نحو عامر ليقول بتكلف شديد: - شوف يا عامر.. لقد وضعنا اسمك مع هذه الدفعة للمعرفة التي بيننا من الوزارة أنت وزميلك صلاح.. فيقول صلاح : - عاجزين عن الشكر يا أستاذ.. ثم ينظر مبتسما نحو الأستاذ عبد العظيم، وقبلما يقول عامر شيئا يقول الأستاذ معين : - زميلك صلاح من أجل المجموع البسيط رشحناه للمعهد العالي بالزمالك.. - أحسن مايروح الأرياف ! - ؟!؟ - زي طنطا أو الزقازيق!.. - وأنا ؟! - إحمد ربنا يا ابني.. أنت مثلما قلت لك متوصى عليك.. - المهم يا أستاذ عبد العظيم يحمد ربنا أننا وضعنا اسمه في كلية الصيدلة.. صحيح أنه عمل معنا في إعداد الملفات منذ وصل مع صلاح من صنعاء.. لكن الضرورة والمسئولية جعلتنا لا نذكر له أين سترشحه الملحقية.. وعلى الله تقبل إدارة الوافدين أن يحتل مقعداً في صيدلة القاهرة!!.. ومع أن عامر قد تعامل مع الأمر الواقع بشاجة، إلا أنه لم يتقدم للامتحان في أول سنة دراسية بحجة أن نتيجة القبول في كلية الصيدلة لم تظهر إلا بعد امتحانات نصف العام،لكن الواقع أن هذا هو أضعف الأسباب، أما أقوى سبب فهو أن جميع المواد في صيدلة القاهرة يتم تدريسها باللغة الإنجليزية، بل تأكد له أن بضع كلمات من التي استقرت في ذاكرته من كل السنين التي تعلم فيها لغة إنجليزية في صنعاء لا تمثل أو تُعين بشيء في أول محاولاته لمذاكرة بعض الدروس التي تأخر عن محاضراتها لما يقارب ستة أشهر في إعدادي صيدلة.. ثم إن عامر -وخلافا لغيره من الطلاب الوافدين- لا يذهب هذا العام لقضاء إجازته الصيفية في صنعاء، حيث يعتذر لأمه والخالة ضحى في آخر رسالة بعثها إليهما بأنه يريد الإلتحاق هنا في القاهرة بمعهد للغة الإنجليزية لتقوية لسانه حتى يستطيع مواصلة الدراسة في كلية الصيدلة حيث أن كل مواد الدراسة علمية، ودراستها بالإنجليزية، كما يطلب منهما إرسال كمية من التنباك الممتاز مع أول مسافر لأن له طلب في القاهرة وسيستفيد من بيع أي كمية يرسلونها إليه ولو في حدود الكيلو أو الإثنين في سداد رسوم الدراسة بالمعهد لأن راتب المنحة بالكاد يكفي لتغطية مصاريف الأكل، والماء،والكهرباء، أما الشغالة فقد استغنى عن خدمتها لأنه لا أحد من زملائه قد بقي معه ليشاركه أجرها، ثم إنه يطبخ أحيانا لنفسه، وفي السوق يأكل أحياناً أخرى، ومعظم وجباته من المعلبات أو من البيض المطبوخ مع الطماطم. مع ذلك فهو كلما حاول بعد عودته من المعهد أن يفك طلاسم موضوع في كتاب النبات مثلا فإنه يزداد حيرة وعصبية وإحباطا لأن درس اليوم والبارحة في المعهد- وعلى سبيل المثال- يحكي عن الزلزال ورغم استفادته مفردات جديدة وجيدة لكن لا علاقة لها على الإطلاق بدراسة أوراق النبات أو الجذع والساق، وعلم الأشكال الظاهريه، وعلم وظائف الأعضاء، وتركيب النشا والبروتين والهرمونات.. كل ذلك يجعله عازفا تماماً عن الاتصال من جديد بالمواد العلمية التي عليه تحصيلها لدرجة أنه ينكب على ما يتعلمه في المعهد من اللغة الإنجليزية دون التفات لعلوم الصيدلة وهو في مستوى يدرس معه فيه طلبة و طالبات ذوو ثقافات مختلفة، ومستويات تعليمية متباينة، من كليات ذات تخصصات نظرية وعملية، فهذه أميمة طالبة بالسنة الثالثة في كلية الإعلام، وزمالتها له تهيج شجون رغبته في تغيير تخصصه من صيدلة إلى إعلام، ويزيد من علاقته بها قرب سكنها من شقته التي يملكها صديق له ولولا تلك الشقة لهلك جوعا لأن أقل شقة مفروشه في موسم الصيف، بغرفتين ومطبخ وحمام وصالة على قدر الحال في أي شارع فرعي بحي الدقي، أو مستعمرة اليمنيين بحسب تعبير الأستاذ محمد الدسوقي، لا يقل إيجارها عن مائة وخمسين جنيها في الشهر الواحد وذلك ما يعادل ستة أضعاف راتبه وضعف إيجار أول شقة سكنها مع صلاح وزميلين آخرين في شارع سليمان جوهر، ذلك الشارع السوق الذي لا تهدأ فيه الحركة حتى مابعد منتصف الليل، ثم تعود لتدب فيه من جديد بعد صلاة الفجر حين يشعشع ضوء شمس النهار في الغرفة التي يتقاسمها مع زميله صلاح الجالس الآن أمامه متشفيا لحاله وعدم التحاقه بالكلية التي يريدها، وإن كان صلاح يدعوه بعد خروجهما من مكتب الملحق الثقافي لتناول وجبة الغداء في شقته، متصنعاً مواساته أحيانا، وأحياناً، أخرى يقول له: - إحمد الله أننا لم نغادر القاهرة.. - وما الفرق؟! - هنا نحن أقرب إلى سفارتنا، ونادي الطلبة اليمنيين، وبإمكاننا متابعة مسألة التغيير الذي تريد من صيدلة إلى إعلام.. - ؟!؟.. - ألم تكن تلك إحدى رغباتك؟!! - بلى ، ولكن..؟! - بلاش ولكن هذه ..أكمل سنتك الدراسية وبعد امتحانات هذا العام يحلها ربنا.. سوف نعمل المستحيل لتحقيق هذه الرغبة على الأقل .. لكن صلاح يسافر إلى صنعاء خلسة بعد الإمتحانات نكاية بعامر لمشاحنة جرت بينهما أمام الأستاذ عبد العظيم ، ومع ذلك وبسبب الصلات التي انقطعت بين معارف ومفردات معهد اللغات بمدينة المهندسين وملازم كلية الصيدلة وكتبها، فقد أجل عامر الفصل في مسألة التحاقه بكلية الإعلام حتى عودة صلاح والزملاء الآخرين من صنعاء وتعز مع بداية العام الدراسي الجديد، ولأنه قد استيأس من قدرته على فك طلاسم كتاب النبات أو غيره من المواد الدراسية في إعدادي صيدلة، ولأنه يظن جازماً أنه سيجد أوقات فراغ إذا التحق بكلية الإعلام بعلومها التي يدرّسونها باللغة العربية، فإن أمر تفوقه، لا النجاح فحسب، أمر مؤكد مما سيعوضه عن خسائر وآثار الفشل الذي بالتأكيد سيصيبه مع أول اختبار في كلية الصيدلة، أما التحويل إلى كلية الإعلام فسيوفر له الوقت لإشباع طموحاته الشعرية والأدبية، وما إن يتوافد العائدون من زملائه الطلبة حتى كان صلاح آخر الواصلين بعد أكثر من شهر من بداية ثاني سنة دراسية لا يتقدم فيها عامر لامتحانات كلية الصيدلة، ومع صلاح يذهبان للقاء صاحبهما الملحق الثقافي، ويتم تحرير طلب من الملحقية لتغيير الكلية ليوصله الأستاذ عبد العظيم مع عامر لإدارة الوافدين، ويقتنع عامر أنه لا حاجة له لدعم اتحاد الطلاب فهو اتحاد للقرويين بشعارات قومية كما يرى الأستاذ عبد العظيم، ثم إن عين الأمن المصري عليهم ولا بد أن أمن السفارة اليمنية حينها غير راض عن نشاطهم، ويكون الانتظار لقرار وزير التعليم العالي غير ممل؛ لأن عامر بنصيحة من صلاح، يتابع حضور محاضرات كلية الإعلام التي في الكافتيريا التابعة لها تكون حورية عز الدين أول فتاة يمنية يتعرف عليها وعلى أخيها مراد عن طريق صلاح.. وحورية مثل اسمها إلا أنها بالغة الحياء، قليلة الكلام ربما بسبب النشأة المحافظة لها في الطائف بالسعودية بعكس أخيها، وهي متوسطة القامة قياساً على قامته، نحيلة قياساً على القوام الممتلئ لرفيقتها نسيبة، وقد تعرف عامر عليها يوم أن رافقه صلاح إلى مبنى كلية الإعلام ليأخذ جدول المحاضرات على أساس أن مسألة قبول طلب عامر بالتحويل إليها أمر مفروغ منه.. يأخذان الجدول، ويقول له صلاح وهما يتجهان للكافتيريا: - هذا المبنى للإعلام والسياسة والاقتصاد، والكفتريا أظنها واحدة.. كثيرون من الكليات الأخرى يأتون هنا.. - تمام.. يقولها عامر وهو شارد الذهن بحجم التمام، فيضيف صلاح : - باقي لنا قرار الوافدين بالقبول، وعليك بعدها أن تعرف القسم والمجموعة التي ستكون معها.. وتغوص عينا عامر في وجوه الطلبة والطالبات التي لم ير مثلها منذ وصل هذه المدينة الواسعة الشوارع، المزحومة في كل شيء وبكل شيء، الساحرة للوافدين عليها، الدافئة المشاعر لكل غريب يسكنها.. وجوه ناعمة اللسان، طرية اللحم، صارخة مكياج الفتيات، مختلطة روائح العطور، بل ليس في أي كلية أخرى مثل هذه الروائح والملامح واللسان.. يتذكر أميمة زميلة معهد اللغات بالمهندسين التي لا بد أنها الآن في السنة الرابعة إعلام.. علاقات عامة كما ذكرت له ذات مرة.. يتذكرها حتى تكاد الصورة تقفز في مرايا عيون فتيات السياسة والإعلام ، ثم لا ينتبه إلا وكف صلاح تشده في الكافتيريا قدام مجموعة فتيات مراد عز الدين وحوله شلته من الفتيات مع أخته حورية طالبة الآداب.. بطة، وفيفي، ونور الخليجية من رائحتها، ونهى الشامية من لهجتها، ونسيبة المتسعوده من تابعيتها، والأخريات متشاغلات عن مسألة التعريف والتعارف مع القادم الأسمر النحيل، المخنصر القميص، الواسع فتحة البنطلون أسفل القدم، المسّرح الشعر الطويل.. شعره أسود فاحم، وشعر حورية بني مظفور ومعقود من الجانبين على رأسها وعليه مشبك فضي تلمع في وسطه حبات كريستال وهي تبعث ابتسامة حيية تجامل بها هذه الفتاة أو تلك؛ ويعتذر عامر فلا يقبل تناول شطيرة صلاح خشية ألا يتناولها كما يجب في هذا الجو شديد النعومة ويكتفي بكوب عصير لم يميز في مذاقه إن كان فيه شيء آخر غير السكر والماء، وما إن يحس بمغص خفيف وقد انتصف كوبه حتى يسارع بوضع نصف الكوب المتبقي على أقرب طاولة.. ذاك كان لقاءه الأول بحورية التي تأتي من كلية الآداب لتستأنس بشلة أخيها حتى أوقعها الشعور بالغربة والهروب منها في علاقة صداقة مع نسيبة التي تعد تحضّر الماجستير في علم النفس. بعد أيام يتسلم عامر رسالة من عمه عبد الحميد مع قليل من التنباك من عبد الرحمن شبيط، فما إن فتح الرسالة لم يجد فيها غير خطاب من وزارة الإعلام في صنعاء مع شهادة من الإذاعة بأنه قد عمل بها لمدة سنتين وتوصية بقبوله في كلية الإعلام لكنه لم يجد مع ذلك الخطاب أي رسالة من عمه وهو أمر اعتاد عليه فطوى الورق وقد قرر أن يحملها بنفسه حيث أنه الآن يعرف الطريق جيداً إلى مكتب وزير التعليم العالي، وصباح اليوم التالي يتدبر سيارة أجرة من أمام بوابة الجامعة ليسلم الموظف نفسه الذي سلمه من قبل رسالة السفارة ثم رسالة الملحقية هذه الرسالة الثالثة من وزارة الإعلام، وعلى وقوف قلق يفرد الموظف الرسالة مع التوصية الجديدة بين أصابعه، ثم يبتسم رافعاً بصره ليقول لعامر: - دا أنت كوّستها خالص!!.. ابقى فوت الأسبوع الجاي.. بهذا الرد يظن عامر أنه استحسان من الموظف، لكن صلاح يشرح له المعنى الذي لا يتوقعه وهو أن معنى (كوّستها) مأخوذ من الإسم المعروف في مصر للكوسا، وقصد الموظف تعدد وساطات طلب نقله من كلية الصيدلة إلى الإعلام التي يتواصل حضوره في مدرج محاضراتها، ويتكرر تردده على الكافتيريا بحثاً عن تلك الحورية ولأيام لا يكفيه فيها مايرى من الوجوه ولا يقدر على استبدال ذلك الوجه بأي وجه آخر.. حورية هذه التي عبرت سماوات شبابه كسحابة صيف في لقاء أكثر من عابر وهو يخفي ما في نفسه وبالذات عن صلاح، كما لم يجرؤ أن يسأل أحداً عنها حتى ظهيرة هذا اليوم الذي تلمع فيه عيناه حين تلتقط أذناه ضحكة مراد عز الدين من مكان ما خلفه وهو يستلم كوب الشاي من نادل الكافيتريا.. لا بد إذن أن حورية مع الشلة، ويدور متلفتاً حتى تبعثر الكثير من كوب الشاي في يده يمنة ويسرة فينقل الكوب الساخن مرتبكاً من يد لأخرى متفحصاً الوجوه حتى التقت عيناه بوجه مراد.. أهلاً مراد، يقولها وما يزال بين الوجوه يفتش عن وجهها غير مدرك لما يفعل لكنه لا يكاد يشم رائحتها، وتتلصص أذناه فلا يلتقط لها همساً ولا صوتاً، ويتمنى لو يسأل عنها فلا يجرؤ، ويستند على أقرب طاولة فيختل توازنه، وتقفز فتاة جنز سمراء نحيلة مع بعض الجلوس متصايحين على انفلات كوب الشاي فيقترب مراد من صاحبة الجنز مهوناً عليها المسألة وناظراً نحو عامر مفتعلاً العتاب على مافعل، لكن ماتخلف من ضحكاته على شفتيه لفعل عامر تدعوه لشيء مايخفيه حتى تسكن حركة الشباب، وحين يكرر عامر اعتذاره لصاحبة الجنز: - آسف أشد الأسف يا آنسة.. - آنسة من ياصاحبي!!؟، هذه نور.. - ألا تعرفها؟!.. - ؟!؟!.. - قلت ألا تعرف نور؟!.. - لا؟! - ولا رأيتها أبداً من قبل؟! - ؟!؟! - هذه زميلتك !! - آسف!! - على ماذا؟! - ؟!؟! - هذا وقت محاضرة علي الدين هلال!! - المحاضرة الآن؟! - لأني أعرف جدولك والمجموعات أفضل منك.. لكنها وبخبث تقاطع مراد : - الواقع أنا قليلة الحضور إلا مع مجموعتي، وإذا حضرت محاضرة فأنا في آخر الصفوف.. - ذلك أفضل مكان للدردشة وتصفح مجلات الموضة.. يعقب مراد ساخراً، وتتحرك نور نحو مدرج المحاضرات وهي تقول: - صاحبك دائماً في الأمام ؟!.. فيدفع مراد صاحبه وهو يقول : - هيا.. إلحق بها.. فرصة لقيت لك أصحاب بدلاً عن القلق وشرود نظراتك في وجوه البنات.. وحين تتكرر التفاتة صاحبة الجنز ، وبحاسة حاجته لصديق، يتحرك عامر راكضاً خلفها حتى يجد نفسه مرتعشاً رعشة خفيفة في آخر مقعد من المدرج، ونور تجاور بعض الفتيات، وشاب آخر يستأنس بوجوده في وسطهن، وهي تعود لتشير لعامر بأصابع كفها الأسمر النحيل من تحت خشبة المقعد ليكون بجوارها، فيتحرك متماسكاً حتى يجلس في مكان لا يفصله عن صاحبته البحرانية سوى مسافة بحجم قبضة الكف النحيل. وحين يلاحظ عامر الفوضى في المدرج محاولاً التقاط مايقوله الأستاذ المحاضر، يتبين له أنه ليس علي الدين هلال، فيحاول أن يتأكد من الجدول لكن نور قد أعطته ظهرها، وفخذاها واحدة على الأخرى في نصف استدارة، وصوتها المسموع مع البقية في آخر المقاعد يعطيك فكرة عن الإهتمامات، وتتداخل اللهجات الشابة الباحثة عن مستقر لها ومستودع مايجعل الأستاذ المحاضر يقطع كلامه ويشير بعصا معدنية في يده نحو آخر مقعد، مكرراً إشارته، ومردداً كلماته: - أيوه .. أنت آخر واحد وسط البنات.. - ... - أيوه، اللي لابس أحمر على كحلي !!.. - ... - كنا بنتكلم في إيه ؟! - ... - ياللاه، أنت واللي معاك.. اكتبو أساميكم على ورقة وسلموها لزمايلكم اللي قدامكم وقابلوني في مكتبي بعد المحاضرة.. فتنتقل الورقة المطلوبة بين طلبة آخر المقاعد حتى تستلمها كف عامر وكلهم وقوف، فإذا ما فرغ من كتابة اسمه دفع بعضهم بعضاً إلى خارج المدرج. يتوقف عامر متلفتاً فتسأله نور : -مستني حد؟! -لاَ!! - ياللا نروح المقصف.. -... - وإلا أقول لك.. عندي مشوار لكلية الآداب، هل تأتي معي؟! - والدكتور؟! يقولها عامر وقد أسعدته فكرة مرافقتها لكلية الآداب فعساه يلتقي حوريته.. فترد نور: - أنا لم أكتب اسمي.. لم أكتب أي شيء على الورقة.. - لكني كتبت!! - وأين سيجد الدكتور اسمك ونتيجة قبولك في الكلية لم تظهر بعد!؟.. ومعاً يمضيان، وفي كلية الآداب تقف نور أمام لوحة جدول المحاضرات وتقول: - خذ دفاتري.. حاسب على الشريط.. أعطني ورقة.. فيعطيها ورقة من دفتره، وتكتب ماتريد، وحين تلمحه يتأمل الشريط تقول له وهي تواصل نسخ جدول المحاضرات: - في الشريط حنّا السكران لفيروز، وقصائد لمحمود درويش؟!.. فيحس بشيء من الحرج، وينقل نظراته اختلاساً هنا وهناك متعجباً لماذا محمود درويش وليس نزار قباني: - لقد انتهيت!!.. مالك.. ماذا بك.. هل تبحث عن أحد؟! - لا.. أبداً.. - هيا نتشارك في سيارة أجرة لأن بيت الطالبات في الطريق للمهندسين.. ما يربكه ليس مرافقة فتاة على سيارة أجرة تعرّف عليها صدفة بتدبير من مراد، لكن ما يربكه هو أنه يريد أن يتأكد أولاً مما في جيب بنطلونه من جنيهات مع فكه لتغطية مصروف هذه المفاجأة.. ينحني متصنعاً ربط خيط حذائه بينما هي تسير أبطأ من عامر، وما إن يمد يده ويرسلها في جيبه متحسساً ما بداخله حتى التفتت قليل التفات ثم وقفت في انتظاره مما يضطره للقفز للأمام بخيط حذآء شبه مربوط،معتذراً ومتعثراً يسير، وهي تحسن صنعاً بمتابعة مشيها على رصيف عريض مزحوم رغم ملاحظتها لما يحصل وكأنه يخشى مرافقتها، ورغم احساسه بالحرج إلا أنه يلحق بها مكرراً اعتذاره دون حل لمشكلة تأكده مما في جيبه، وتفتح باب سيارة الأجرة التي أوقفتها، ودون أدنى كلام يرمي جسده في المقعد الخلفي بينما تكون نور في المقعد المجاور للسائق الذي يسألها دون أن يدير بنديرة عداد أجرته : - على فين إن شاء الله؟! - الدقي، عند شارع مصدق، وبعدين المهندسين.. هذا الوضع المقلوب في ركوب سيارة أجرة كما يراه لم ينزعج له، بل على العكس فسيمكنه من تفتيش جيوبه بكل اطمئنان بعد أن لاحظ أنها لم تلتفت نحوه وهو يتخبط في كلامه عن المحاضرة والمحاضر وزيارة كلية الآداب عساه يعرف سبب استنساخ جدول محاضرات لا يعنيها، ومع أن كلامه كان لمجرد الكلام وصرف نظرها عما هو فيه إلا أنه يبقى متوتراً لأنه آخر من سينزل من السيارة، ويبدو أن مافي الجيب لا يكفي أجرة السائق الذي لا يعمل عداد سيارته ليحدد الأجر حتى مع قرشين زيادة كونهما من «الإخوة العرب» ويزيد المسألة تعقيداً في نظره مظهر نور ورائحة عطرها المتجدد.. فليكن أي شيء لأنه إذا احتاج لمبلغ إضافي فسيأخذه من أي زميل في الشقة، أو من زوجة البواب مقابل مجاملتها لاحقاً بشراء أي شيء منها، وفي أقصى الأحوال فالمكوجي ملاذه الأخير، ومهما بالغ السائق فلا يظن أن أجرته ستزيد عن جنيهين . بعد وقوف قصير في أحد الشوارع القريبة من نادي الصيد، يتنفس عامر في المقعد الخلفي بارتياح لأن نور تدفع أجرة السيارة كاملة حتى نهاية المشوار في شارع لبنان، ويزيد من ارتياحه توقعه أن لا تقف السيارة إلا أمام بوابة العمارة تماماً في منظر لا يتكرر كثيراً أمام من يتصادف وجودهم من الجيران وحارس الجراج ورفاق السكن وحتى أم عمر بصندوقها الخشبي المتحرك بغطائه الزجاجي المتسخ المشروخ الذي تحتفظ فيه أرملة البواب ببعض السجائر وحبات البسكويت بجوار صندوق مشروبات غازية رخيصة، أكثر زجاجاته فارغة وهي التي لا يكف لسانها عن الكلام، إلا إذا نامت ونام عمال على بطال كما كان يقول المرحوم زوجها أبو عمر لما ضاق بلسانها الطليق ذات مرة حتى نهرها قائلاً: - هو انتي بلعتي راديو ياوليّه؟!!.. فترد ضاحكة: - يوه يا ابو عمر، هو أنت زيهم ما بيعجبكش كلامي!!! - هم مين يا ام عمر؟!! - إنت عارف همّ مين! وعند وصول عامر بالسلامة لا تكون أم عمر في مكانها المعتاد إلا مقعدها وحاجاتها الأخرى، وحارس الجراج مشغول بغسيل سيارة أحد زبائنه من سكان العمارة، لكن وليد يظهر ملوحاً من خلف زجاج شقتهم الأرضية فلا يطيل عامر مغادرة السيارة، ثم تظهر زوجة البواب ويخرج وليد للشرفة وهي تقول : - خليت بالك كويس يا أستاذ وليد من الحاجات؟! فيرد عليها مازحاً: - هو فيه حاجات أخلّي بالي منها؟!.. شوفي الأول مين هناك.. - شفت ياسيدي.. فيرتاح بال عامر، وترتاح أم عمر على مقعدها المتهالك الذي رافقها مع زوجها لأكثر من ربع قرن، رافعة ساقها الأعجف على مقعدها وهو ملفوف بسروالها الأسود وثوبها البالي، ثم تصلح غطاء رأسها وهي تقول بحدتها المتوقعة: - مادام بتركبوا عربيات ما بتشتروش مننا ليه يا أساتذة !؟.. فيبتسم عامر ويرد عليها: - ما هو كفاية عليك وليد.. - بيشتري وما بيدفعش .. كله ع النوتة.. ويفتح عامر باب الشقة ليجد وليد في استقباله يريد أن يوهمه أن ابن عمه ناصر في غرفتهما المشتركة مع زميلة له يراجعان بعض المحاضرات وأن عليه الانتظار في الصالة، لكن عامر يرتد منفعلاً يريد العودة من حيث جاء، فيلف وليد عنق صاحبه بيده وتعلو ضحكته على خروج ناصر من الغرفة: - هل صدقت؟! - ولماذا لا أصدق؟! - إذن أنت لم تعرف أم عمر حتى الآن.. أين كنت تريد الذهاب.. - إلى أي مكان.. - ادخل يامجنون.. - هل نعمل لنا غداء؟! - وأين أم الخير؟! - روحت زعلانة عندما عرفت أن لا فلوس معنا.. - قالت كفاية علينا سلف.. - هل ماتشتري لنا من الخضار والفاكهة سلف؟! - هي التي تعرض علينا الإقراض طمعاً في مضاعفتنا إكراميتها قبل سفرنا بعد الإمتحانات.. - والميزانية ياوليد؟! - خلصناها زمان .. - كيف خلصتها ؟! - هل تريد إيجار الشقة ولحمة وفاكهة وخضار وحليب بستين جنيهاً؟! - كنت ستصرف على قدر لحافك؟! - لحافكم قصير وسنرى ما ستفعل حين يأتي دورك .. ومن وجبة الأمس تكون وجبة اليوم.. حبوب الفاصوليا البيضاء في أكبر طنجرة طبيخ عندهم، ثم إبريق شاي يتناوب عليه ناصر وعامر أمام شاشة التلفزيون ذي الإثنتي عشرة بوصة بشاشة رمادية يختلط فيها الأسود مع الأبيض في صالة استقبال الضيوف، أما وليد الذي التقط لقيمات على عجل عساه يجد بقية لحم وشراب في شقة عباس ضابط الشرطة وزميله في حقوق عين شمس. يفرك عامر بقية سيجارته السوبر في منفضة من صدف بحر الإسكندرية على دخول عماد رفيق السكن الرابع والطالب بمعهد الصم الذي يتجه نحوهما في صالة الجلوس، ويضع يده الفارغة على جهاز التلفزيون ليسألهما بعدما لـَمَح مافي شاشته الصغيرة : - هذه القناة الثانية؟! فلما لم يجب أحدهما على سؤاله يتحرك بحقيبته غير متأثر بلا مبالاتهما، وما أن يفرغ من صلاته ويعود إليهما حتى يجد القناة قد تغيرت لكنه يسأل: - هل في الإبريق بقية شاي؟! - شوف؟! يرد ناصر باقتضاب مقصود، فيهز عماد الإبريق وهو شبه مدرك أنه لم يبق فيه بقية فيعود ليقول: - اليوم المسلسل الأجنبي؟! فيرد ناصر: - نحن نتابع المسلسل العربي.. - لكني لا أسمع والمسلسل الأجنبي مترجم!! - نحن نتابع مسلسل القناة الأولى.. - لكنكم تشاهدون مسلسلات وأفلام طوال الأسبوع.. - ستة أيام في الأسبوع.. - المهم المسلسل الأجنبي اليوم.. إنها مرة واحدة في الأسبوع.. - نحن إثنان وأنت واحد.. ديمقراطيه.. الأغلبية؟!. - ما رأيك يا عامر ؟! - ؟!... - أنا أدفع حصتي في كل شيء مثلما تدفعون مع إني لا أتناول معكم الغداء إلا يوم الجمعة.. - ونحن ما دخلنا.. كلّم وليد.. لكن عماد يخطو نحو جهاز التلفزيون ليغيره من القناة التي يشاهدونها إلى الثانية، فينهض ناصر بعصبية ويعيده للقناة الأولى، وينظر عماد إليه عاتباً: - ألم أدخل وأنتم تشاهدون القناة الثانية؟! - كنا كما كنا.. - وسألتكم ولم تردوا.. يقولها عماد، ويسحب كرسياً ليضعه قريباً من طاولة التلفزيون بعد أن يعيده للقناة الثانية حتى إذا ما اقترب ناصر ينهض عماد ليمنعه، ويتشاجران، ويمسك أحدهما بالآخر، ويقترب عامر محاولاً فض الإشتباك بينما يضحك ناصر ويعود لكرسيه وهو يقول: - طيب ياعماد .. سوف ترى.. فيحس عامر بالضيق، وينسحب للغرفة المشتركة مع ناصر لأنه لا يريد أن يرى مايتوعد ناصر رفيقهما عماد، ويحدث نفسه شارداً يقلب شريط نور: - القفا محمل.. ويفغر فاه متذكراً أن سائق سيارة الأجرة قد ناوله حين نزوله هذا الشريط مع جدول المحاضرات فربما وقعا من صاحبته ويستغرب لعدم إدراكه الأمر إلى الآن، إلى هذه الدرجة انشغل بنظرات وليد وزوجة البواب؟!.. ويدفعه الفضول وحب الشِّعر للبحث عن جهاز التسجيل فلا يجده، ويفتح باب غرفتهما ليجد عماد مرتاحاً في غاية الإنسجام على كرسيه أمام شاشة التلفزيون، وخلفه يتمدد ناصر على أريكة الصالون مسترخياً يصدر أصواتاً حادة رفيعة يريد إزعاج عماد الذي يستخدم سماعة الصم الذي ما إن يرى عامر ممسكاً بمقبض باب الغرفة حتى ترتفع ضحكته على ناصر ويشير بيده للخلف دون أن يلتفت ثم يقول لعامر ويده تمسك بسماعة أذنه: - صاحبك هذا مسكين.. يعتقد أنه يزعجني بصياحه ولا يدري أني قد أقفلت السماعة.. فينفجر الثلاثة ضحكاً ويعود عامر ليسأل عن جهاز التسجيل فيرد ناصر: - كالعادة في غرفة وليد.. أما قلت لك أقفل الغرفة في غيابنا لأن ابن عمي يتجاهل الفرق بين هذا حقي، وهذا حقك.. عندما يضع عامر شريط نور في المسجل لم يكن يهتم من أين سيبدأ، ويدير الجهاز بدرجة الصوت التي تركها وليد، فيتدفق صوت ينشد شعراً كمن ينوح سكراناً في خمارة أحزانه لكنه ليس صوت محمود درويش: أنبيك عليّا مازلنا.. نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف ما زالت عورة عمرو بن العاص.. وتغمر عامر رعشة العارف بالشعر، المفجوء بهذا الصوت، المختنق بعبرته حد الموت، وعلى شفا سؤال لا تغيب شمسه ولا صداه يندحر باكياً: هل هذا ماتريده نور، أم ما أريد أنا ؟؟!!. يتخلص عامر من تلك الأجواء التي داهمته في شقة المهندسين، ويتصنع الإنصات لصلاح في فيلا شارع مصدق: - إن تحقيق آفاق أفضل لليمن في كل مناحي الحياة مرهون بكفاءة وفعاليات مؤسسات الدولة.. ويتوقف صلاح عن مواصلة القراءة من الأوراق التي بين يديه، بينما يذهب عامر ببصره بعيداً عن صدر نسيبة التي لم تعره اهتماماً ولم تلق له بالاً منذ دخوله عليهما فهو لم يصافحها كما صافح صلاح، ويزيد من تجاهلها له سلبيته وعدم تفاعله مع موضوعها الذي يقرأه صلاح ثم يضع أوراقها على الطاولة ويقول: - شوفي .. أنت تتفننين في الكتابة، كما أنك مثقفة مشهود لها بطول الباع والذراع.. - شكراً، فما رأيك؟! فيبتسم ويقول متخابثاً: - أنا ياستي على قدر حالي وموضوعك مدروس ومكتوب كما قلت بعناية شديدة.. لكنه أكبر من فهمي.. فتسر نسيبة بهذا الإطراء لكنها تستدرك: - لكن الحقيقة أنك لا تدرك الفرق الكبير بين اهتماماتك الآن وكيف كانت عند وصولك من صنعاء .. فيرد عليها مقراً برأيها: - جو مصر لا شك يغير الناس كثيراً.. المهم أن الخلاصة التي فهمتها أنك تأخذين علينا عدم مشاركتنا في أنشطة نادي الطلاب.. - قلت لك يا أستاذ صلاح أن اسمه الآن هو الإتحاد العام لطلاب اليمن وهو أمر قد أصبح واقعاً.. - تريدين الحق.. لا أحد في السفارة أو بين الطلاب يلمس فرقاً سوى في التسمية.. - اعذرني إذا قلت أن ذلك لأنكم في غاية السلبية.. قل لي مثلاً من منكم حضر احتفالنا بعيد الثورة؟! - هل تنافسون السفارة؟! - لا، ولكن... فيقاطعها: - عندك عامر .. صاحبي هذا له أكثر من شهرين وهو يحاول التغيير من صيدلة إلى الإعلام وأنتم لا تساعدوه بأي شيء رغم ما تفعلون لغيره .. هل لأنه إبن صنعاء؟! - خلينا في الجد.. إسأل صاحبك هذا هل حضر ولو مرة واحدة لمقر الإتحاد.. هذه أول مرة ألتقيه فيها.. فيشعر عامر أنها تستفزه بأسلوبها وإنكار أنها قد تعرفت عليه ذات يوم مع حورية ومراد والشلة إياها في كافتيريا كلية الإعلام، ومما يزيد حيرته أن صلاح لا يذكر لها شيئاً عن ذلك اللقاء، لكنه يعود ليقول لها: - لو كنتم تهتمون حقاً بكل الطلبة لعرفت من جارتك البحرانية نور أو من مراد عز الدين أن صاحبي هذا يداوم في مدرجات الإعلام منذ بداية العام .. أليس كذلك؟!.. فلم ينتبه عامر تماماً لما يقوله صلاح، وترد نسيبة وهي تقلب مفاتيحها بين أصابعها كأنها تتجهز للرحيل: - ربما أنت تعرف مراد أكثر مني فهو لا يهتم بما نهتم به.. - طبعاً أعرفه أكثر منك، إنما إذا كان مراد كما تقولين فلماذا تريدين ترشيحه للإتحاد؟! - لأنه عَدَنيّ أصلاً رغم أن مولده في السعودية وسيمثل أبناء عدن في إتحاد يجمع كل اليمنيين.. - والبقية من يمثلون؟! فترد ساخرة: - البقية في العدد القادم .. ثم تنهض وتصافح صلاح، تاركة كفها في كفه لبرهة ثم تقول: - إحمد ربنا أني لم أقل البقية في حياتك.. - هل هذا عزاؤك في الهيئة الإدارية الحالية؟! - والقادمة إن شاء الله.. وترتفع ضحكتهما، ويمضي معها نحو باب شقة الفيلا مودعاً لها على ابتسامة مجاملة باهتة، وشرود وحيرة من عامر، فأين حوريته من كل هذا ؟!، ولماذا يأتي صلاح على ذكر مراد ولم يذكر حورية بشيء؟!، وهل يحس أحد أو يدري بما يخبئ في صدره؟!. يطول قليلاً وقوف صلاح ونسيبة عند الباب في دردشة خافتة، ويصر على مرافقتها حتى باب سيارتها، بينما يسترجع عامر كلمات مظفر النواب في شريط نور فتختلط صورة نور بهيئة حورية بأصداء صوت مظفر النواب الشجي الباكي: ياطير البر، أخذت حمائم روحي في الليل إلى منبع هذا الكون، وكنت عليّ حزين، روحي أتعبها الطين، سيرحل هذا الطين قريباً.. تعب الطين، ثم يسمع عزفاً جميلاً كما يقول نزار، عزفاً لإمرأة تأخذه من يديه، وتريه بلاداً نهود جميلاتها من نحاس، وأجسادهن مزارع بن، وشيء ما كأنه هبة ريح يدفع باب الشقة المفتوح على إثر الخارجين ليطن بانغلاقه القوي كطنين قوقعة في طنجرة نحاس رأسه فلا يقوى على السير لفتح الباب فينتظر قرع الجرس، لكن باب الغرفة الأخرى المضاءة ينفتح على غير انتظار على ضحكة صلاح مع الرائد عباس، ضابط الشرطة وصديق وليد في حقوق عين شمس وكأنه كان يخبئ روحه في كأس الفودكا بعيداً عن فضول نسيبه ووجع الدماغ لمجرد سماع صوتها، لكنها رحلت أخيراً. يقول عباس عند رؤية عامر وهو ينقل كأسه من كف لأخرى ليصافحه: - لو دخلت عندي لما كنت في هذا الحيص بيص.. - وما أدراني أنك في الداخل؟!!.. - الحجة على صاحبك الذي يدخل كاللص من النافذة .. ماذا استفدت ياصلاح من هذه المسترجلة البلهاء؟!.. فيرد صلاح: - لولا اهتمام السفارة بها لكنت قد رميتها من النافذة التي دخلت عليك منها.. - وما الفائدة من رميها من ارتفاع نصف متر، هذه لا يكفيها حتى تموت إلا رميها من برج القاهرة.. تعال نعملها ونخلص!! - نستأذن من السفارة أولاً؟!.. - عدنا للسفارة .. ألم تفهم رسالة الفتاة؟!، هي تريدك عضواً في الإتحاد لأنك من صنعاء.. - عندها عامر فهو من صنعاء؟! - تريدك أنت يا أبله للهيئة الإدارية لتكمل بك العدد.. تريد واحداً من صنعاء وقريباً من مسئولي السفارة، ألا ترى أن ليس لهم إلى الآن أحد في السفارة؟! - هل يريدون السفارة أيضاً.. لقد أحاطوا بالرئيس الحمدي من كل اتجاه؟! - وهم الآن يسعون لإنشاء تنظيم سياسي مقابل جبهة الإشتراكي في عدن.. - يعني جبهة وحرب وتخريب مثل عهد القاضي الإرياني؟! - قلنا لك افهم .. إنهم يريدون تشكيل جبهة سياسية ولو شكلية.. تنظيم مقابل تنظيم تمهيداً للوحدة.. - وهل سيرضى الجيران عن الوحدة؟! - لو لم يكونوا راضين لما أرسلوها إليك.. أليست هنا على حساب السعودية.. - ومثلها مراد.. - وحورية أخت مراد، وكثيرون غيرهم، ولذلك فهي ترشح ذلك الفلتان تكملة عدد مثلك تمام.. - إن كان هذا في مصلحتنا فلماذا الخوف؟! - أن يصدّق الحمدي فيندفع أكثر من اللازم.. - وإذا فعل ؟! - لن يتركوه.. - أتظنهم سيقتلوه؟! - لا تستبعد أي شيء بل إذا تمت الوحدة ربما يدفعوه لتصفية الآخرين.. - لا أظن؟! - تظن أو لا تظن.. أقل شيء سيتم مقايضات الكبار.. - لقد تأخر أصحابك!!؟ - أنت الذي فتح الموضوع.. - والشراب؟! - خلّصناه، وقد أعطيتهم ما يكفي للبيرة والكباب.. - المؤكد أن الكباب هو الذي جعلهم يتأخرون.. ويرن جرس الهاتف، ويرفع صلاح السماعة ثم يقول للرائد عباس: - هذا وليد يقول إنه لم يجد البيرة الألمانية؟!!.. - قل له أن يشتري هنكن هولندية.. - قال إنه لم يجد أي بيرة أجنبية.. لا يوجد غير ستلاّ المصرية.. - هذا أهبل.. قل له.. أو.. أعطني السماعة .. ويتلقف عباس السماعة ويهتف: - يا ابن الناس خذ أي حاجة.. - ... - طيب، ستلاّ أمرنا لله، المهم تأكد أنها طازجة.. طازه والا بلاش.. - ... - مع السلامة.. بس بسرعة.. قل لي... - ... - أقفل السماعة؟!!.. إبن الهرمه.. فلما أحس عامر أن الموضوع فيه بيرة وسهر أراد الرحيل بصوف الرقبة، لكن صلاح يستحلفه أن يبقى ليأخذ سيخ كباب على الأقل بينما يشعل عباس سيجارته الفاخرة ويقول : - أتركه إذا لم يكن له مزاج.. فيهمس صلاح.. - أنا أعرف حساسية عامر إنما ليس بيننا غريب.. أنت وأنا والأفندم ومعنا وليد وممدوح .. زميلي في معهد الزمالك.. هل نسيت؟! وكيف ينسى عامر ممدوح الحطاب، هذا الذي له فلائق كلام لا يعلم مصدرها إلا الله وحده.. إنه حطاب بكل معنى الكلمة .. ألم يسكن معهم في شقة المهندسين لأكثر من شهرين ثم أقنعه وليد بعد مجيء عامر أن ينتقل للسكن مع صلاح في شقته هذه لأنهما يدرسان معاً في الكلية نفسها وشقته رخيصة الإيجار على سعتها وعلو سقفها لقدم بنائها وغرفها العديدة مع حمامين ومطبخ وصالة.. كل ما يخشاه عامر الآن هو أن يصيب ممدوح الدوار والغثيان ويتقيأ كما حصل له ذات يوم في شقة المهندسين وكانت فعلته التي قذفها من فمه لتقع على طاولة المسكين عماد الأصم وهو لم يكمل طعامه بعد وتلك كانت القشة التي دفعت الجميع للإتفاق على التخلص من شراكته لهم في السكن.. ومع ذلك تبقى علاقة الود قوية مع وليد.. ثم كيف يستحمله صلاح مع طيشه وحرص صلاح على الظهور بمظهر الحليم، العاقل، ذي الأناه..سبحان من يجمع الاضداد، ولا يدري عامر أن صلاح قد تخلص من ممدوح أسرع مما تخلصوا منه: - ما رأيك؟! - في ماذا؟! - ألست معنا؟! - معكم!! ويسمع قرعهما الباب، ويدخل وليد يتبعه ممدوح وهما يحملان أكياس زجاجات البيرة المصرية مع لفافات كباب وخبز وسلطات التي يحمل صلاح ما تيسر منها ويسير نحو المطبخ ويعلو صوته منادياً عامر: - هيا يا عامر نعمل لهم مزه.. - أليس معنا سلطات؟! فيرد عباس الذي يدرك مراد صلاح وهو يلاحق قلق عامر بنظراته: - تلاقيها بايتة عند المعلم من الصباح.. خذ يا عامر .. خذ هذه الزجاجة يمزمز بها صلاح وهو يعمل لكم المزه.. فيتراجع عامر حين تمتد يد عباس بزجاجة البيرة، ويصرخ وليد ضاحكاً: - ها أنت تنجست بها الآن.. طهر يدك بالماء والصابون.. هذه مجرد بيرة يا رجل.. ويبتسم عباس، ويضع الزجاجة ليشد ممدوح من خلفه: - أين تريد الذهاب؟!.. الحمام؟!.. إنك لم تشرب بعد ربع الكوب..هل ستفسد جلستنا كالعادة؟! - لا والله يا أفندم.. إنما... - إنما ماذا ؟!، ألا يكفيك أنك جننتهم في المهندسين، وأطاح بك صلاح إلى شقة العجوزة.. فيدخل وليد وعلى شفتيه وشاربه بياض رغوة الستلاّ: - لكنه يا عباس مبسوط في شارع نوال.. رفيقاه من أفضل من عرفت.. فيرد ممدوح: - بالفعل، والله إنهما من أطيب الناس.. ويدرك وليد المغزى، ويشعل سيجارة من علبة عباس وقد عاد ممدوح ليبدأ تخاريفه المعتادة: - تصوروا أني أعرف ماذا يفعلان الآن.. - يعني نزل عليك الوحي.. - لا والله.. صدقوني يا جماعة.. - ومن لا يصدقك غير المجانين !!.. - والله يا فندم.. صدق أو لا تصدق أن التخاطب عن بعد عندي الآن في أقوى درجاته.. - بسببنا أم بسبب البيره؟! - أنتم طبعاً على رأسي.. لكن السبب هو صفاء الذهن، والبيرة الطازجة.. - يبدو يا عباس أن معه فرقة من الجن تبلغه أخبار الناس.. فيقفز ممدوح واقفاً ويقول مستنكراً: - أنا بعد مقلبك الذي شربته في المهندسين لم أعد أصدق بوجود الجن.. - والقرآن يا شاطر!! هل تنكر ما في القرآن؟! فيرد ممدوح وهو يهز رأسه كالواثق من نفسه: - إنها مسألة رمز ليس إلا.. وإلا فما معنى ألف لام ميم.. مجرد رمز.. - خلينا في مسألة الجن.. - مالهم؟! - ما ذا تعرف عنهم؟! - تريد الحق، إنما كنت أمزح، والله لا علم لي بشيء.. - هكذا تمام .. فيقاطعه وليد وهو يفتت عقب سيجارته التي انتهى منها بين أصابعه: - بالله يا فندم علم هذا المخبول شيئاً من علم سيدنا يونس الكاتب.. - ومن هو سيدنا يونس هذا؟! - لا تستعجل وخذ المسألة أولاً وستعرف ما تريد.. فيرشف ممدوح بقية ما في كأسه، ويصب له عباس المزيد حتى تفيض الرغوة إلى خارج كأسه وهو يقول: - حاسب تسكر قبلما أفصل لك حكاية الجن.. - لا والله يا فندم.. ليس مثلي والله من يحب المعرفة واسأل عامر.. فيجيب عامر مازحاً: - وما يدريني.. كنت لا تعود لنا من المكتبة إلا بمجلة الكواكب.. - إن لم تصدقني يا أستاذ عباس إسأل وليد.. - وليد صاحبك وسيجاملك.. - ما علينا.. دعونا مع الجن.. - هل تذكر يا وليد المعلامة.. كانت السور القصار أول ما نحفظ من القرآن.. - تمام.. - كان الأكبر من التلاميذ يعلمون الصغار حتى يحفظوا الآيات عن ظهر قلب.. - ثم يسمّعون ما حفظوه لسيدنا يونس.. - أذكر أنني سمعت سيدنا يونس يقول لأخي وأنا أسمع له سورة الناس، وكان أخي رحمة الله عليه مقرباً عند خالنا يونس الكاتب، هذه السورة يا عبد الله تعرفك حقيقة الجن.. قال أخي وقد تغير وجهه، وحبات عرق أظنها كانت باردة تلمع في وسط جبينه تحت كوفيته..كيف ذلك يا خال؟!.. والله إن المشهد أمامي كأنما حدث البارحة.. - ثم ماذا أجابه الخال؟! - قال سيدنا يونس أطال الله عمره.. تصور أنه جاوز التسعين وما زال بسمعه وبصره حتى اليوم.. - حتى اليوم؟! - وذاكرته أحسن منك ومني.. - المهم ماذا قال؟! - قال إن الله ما ذكر الجن في سورة الناس إلا لأنهم من الناس.. سمعته يسأل أخي الذي زاغ بصره، وشحب وجهه: هل تعرف المجنّة يا عبد الله؟!، فهز أخي رأسه بالإيجاب فقد تيبست شفتاه لما ذكر الخال المقبرة المجاورة للمعلامـة.. لكن خالي يقول: لكنك لا تعرف أهلها.. فيتمتم المرحــوم عبــد الله:كيف لا أعرفهم وقد دفنت معك فيها أكثر من نصف من في قبورها؟!.. فيتحسس الخال عصاه ويهمس وعيناه على التلاميذ: من بين قبور المجنّة ياعبدالله يخرج الجن كل مساء، ويرتعد أخي رحمة الله عليه.. - وأنت ؟! - لم يبق في عروقي قطرة دم، ثم يسأله أخي كأنما قرأ ما في خاطري: يخرجون إلى أين يا خال؟!، فلا يرد الخال بل يعلو صوته ليجمع التلاميذ بين يديه.. - خالك هذا من الدواهي.. ويخرج إليهم صلاح من المطبخ بوعاء كبير فيه مسحوق الطماطم مع قرون الفلفل الحار تاركاً عامر في المطبخ بعد أن ابتلع نصف سيخ الكباب على نصف رغيف عيش بلدي، وزجاجته قد انتصفت، وكوبه ملآن، ويسمعه عامر الذي ينظر للكأس بفضول واستغراق وهو يسألهم عن سبب صمتهم، فيمد يده بسرعة للكوب، ويرشف منه مستطعماً، ويعود صلاح مع وليد وقد عاد كوبه لمحله. يقول عامر لنفسه: -لا فرق كبير مع المشروبات الأخرى سوى بعض المرارة.. بينما يحمل الشابان بقية الطعام يكون عامر أكثر جرأة في رشفة ثانية أكبر من الأولى، ثم يصب للكأس من الزجاجة تعويضاً عن القليل الذي شربه ليرى بعدها صلاح كأنما برز أمامه وهو يقول: - وليد يقول لك تعال لتكمل عشاءك معنا.. ويرتفع صوت وليد المستأنس في الصالة الواسعة: - هيا يا عامر.. أحضر كأسك وتعال قبل أن نأتي على الكفتة والكباب.. فيلحق بهم عامر حاملاً زجاجة البيرة، والكأس وقد أفرغها على عجل في جوفه قبل أن يخرج من المطبخ، وعلى عكس توقعه لا يكترث أحد منهم لمشاركته لهم الطعام والشراب. بعد عودتهما من شقة صلاح، لا يكاد وليد يفتح باب شقة المهندسين حتى يركض عامر المحصور بالبول نحو الحمام دون أن يغلق له باباً، ولأول مرة يبول واقفاً، وقبيل أذان الفجر يستيقظ على امتلاء مثانته والبول يضغط عليها مرة أخرى بعد استغراقه في أهنأ نوم لم يعرف مثله منذ استقر في هذه الشقة.. يفرغ من بوله، ويعود لسريره بكامل ثيابه التي استلقى عليه بها، لكن النوم لا يتأتى وكأنما طار على جناحين من لهب الأقدار، وعلى صوت أذان الفجر ينهض متأملاًَ حاله يريد الخروج من نجاسة الشراب فيقرر الاغتسال، وعلى سجادة الصلاة في صالة الإنتظار غير المضاءة إلا بضوء شديد الخفوت يصدر من صالة الطعام ينتهي من ركعتي سنة الفجر ليغشاه طيف أمه، وفي ركوع الفجر يشتعل موقد نفسه اللوامة على ما فرط في جنب الله بمسايرة الشباب، وإدارة الأكواب، والتمتع بالمزة والكباب ويعلم الله كيف حال الأهل في صنعاء؟!!.. ويسأل نفسه عن طهارة روحه بعد أن طهر بدنه، ويحاول في ركوعه تذكر ما قرأ في ركعته الأولى فلا تسعفه ذاكرته، هي النجاسة إذن لم تَزُل بالغسل وإلا لتذكر وعقل ما يقول في صلاته.. ألا ينهاه القرآن بقوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون؟!.. صلاته إذن فاسدة، فيرتمي باكياً منتحباً.. حانقاً من نفسه، ومن وليد وصلاح، وحين يرفع رأسه غضبان أسفا يرى وليد بقامته النحيلة خيالاً بسرواله القصير، وصديريته البالية، فيسأله : - منذ متى وأنت هنا؟! - !!.. - جئت الآن؟! فيهز وليد رأسه مؤمِّناً، ويزيد غيظ عامر: - لابد أنك لا زلت سكراناً.. - لو سكرت لبكيت مثلك.. - البكاء طهارة للنفس!!.. - وعلامة ندم.. يا عامر أفندي.. يقول وليد عبارته الأخيرة وهو يحك شعره الأجعد المنكوش ثم يخطو ليجلس على الأريكة المجاورة لعامر رافعاً رجله عليها بينما تتدلى رجله الأخرى ليقول لعامر: - ما تعانيه يا صاحبي علامة دين السبعة عشر.. - الدين دين في أي سن.. لقد فعلنا منكراً.. - البيرة ليست حراماً ولا منكراً لأنها علاج للأملاح.. - ما جعل الله شفاءنا فيما حرم علينا.. - ومتى حرمها علينا؟!!.. - في القرآن.. - سآتيك بالمصحف لتريني أين حرمها الله.. - لا تتعب نفسك فأنا أحفظ آيات التحريم.. - بل سآتيك بالمصحف لنقرأ جميع الآيات.. - ويعود عامر بالمصحف ويقول وهو يشعل مصباح صالة الجلوس : - تظننا لا نعرف القرآن مثلك؟!.. كفار يعني؟! - هذا سوء ظن.. - إن سوء الظن من حسن الفطن.. خذ المصحف لتقرأ.. - قلت لك إني أحفظ الآية.. إنما الخمر والميسر... - فيقاطعه وليد ساخراً : - والأنصاب والأزلام.. أنت تقرأ من وسط الآية.. افتح سورة المائدة واقرأ الآية من أولها.. ويبحث عامر في سورة المائدة، ووليد في وضعه السابق رافعاً إحدى رجليه وتكاد إحدى خصيتيه أن تظهر من طرف سرواله وهو يقول: - أول الآية يا أيها الذين آمنوا.. - هذه هي.. - إقرأ.. فيقرأ عامر حتى نهايتها.. فهل أنتم منتهون ثم يقول: - فقال عمر انتهينا.. انتهينا - وقال غيره فسكت وسكتنا.. - لا، لم يسكت.. - إذن واصل.. فيقرأ عامر حتى يقول: - ... فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين.. - وقد بلّغ.. واصل.. - يا لله.. ماذا تريد والأمر واضح!!؟.. - سترى أنه غير واضح إلا بما بعده.. واصل القرآءة لتفهم.. - ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا.. - هل رأيت.. ليس على الذين آمنوا جناح.. - فيما طعموا.. الأمر متعلق بالصيد المذكور في الآية التي بعدها.. - قال فيما طعموا لأن السورة سورة المائدة، وكل مائدة عليها طعام وشراب.. - قلت لك إنها متعلقة بما بعدها.. بآية الصيد.. - إقرأها إذن.. - يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد.. - هل رأيت أن الموضوع الأول يكتمل في أربع آيات بدأها هكذا..يا أيها الذين آمنوا.. - ثم ماذا؟! - ما انتهى الخطاب إلا وقد استثنى.. - بماذا؟! - ليس على الذين آمنوا، ليبين لنا أن الاستثناء متصل بأول الآية.. ثم يبدأ موضوع الصيد بالخطاب ذاته، يا أيها الذين آمنوا.. - ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم.. - لأنه الحرام في المسجد الحرام ولو أراد النهي لقال انتهوا .. فيقاطعه عامر منفعلاً : - قل أتعلمون الله بدينكم.. - تدري!؟؟.. ما قال انتهوا إلا في آية واحدة.. - وهي.. - ولا تقولوا ثلاثة.. انتهوا خيراً لكم.. - لأن ذلك شرك.. - وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.. - من هم؟! - الذين يمرون على الآية وهم معرضون.. - من قال هذا؟! - سورة يوسف.. قصة الشيطان البطّال منذ لفت نظر معلّمه بموضوع الإنشاء في مادة اللغة العربية وهو في الثاني الإعدادي الذي طوره فيما بعد ليصير قصة قصيرة فازت بجائزة وهو في الثالث الثانوي وهو يتمنى لو يكتب قصة قصيرة أخرى لأن الأقصوصة في نظره يمكنها أن تحمل مالا يستطيع الشعر حمله من جمرات الحيرة وقلق التساؤلات.. في الشعر وهو يمارسه منذ سنين قيود رغم جماله ونبل غاياته، وفي الأقاصيص تحرر وسعة فضاء يبلغ به مالا يبلغه الشعراء.. والليلة لا يدري لماذا يستعيد قصة «الشيطان» البطال ويعيد استنساخه قصة من دفتر مذكراته، ثم يأخذ في مراجعتها حتى سرقه الوقت ويثيره ارتفاع رنين جرس الهاتف: - إلى الآن ياولدي وأنت في المكتب؟! - أخرتني أوراق مهمة.. - أهم من أمك وخالتك؟! - لا.. أبداً.. - آمل ألا يكون غياب زوجتك مع العيال هو السبب!! - دقائق وأكون عندكم.. ويحمل مسودة القصة القصيرة الجديدة مع بقية القات، وفي البيت تحاصره أمه مرة أخرى باللوم والعتاب: - إلى الآن والقات يملأ فمك، ونحن في انتظارك دون عشاء؟! - تناولوا عشاءكم فلا نفس لي للعشاء هذه الليلة، كما أن معي أوراقاً يجب إنجازها قبل أن أنام.. - لكنها ليلة الجمعة!!، أم إن جمعتك غير الناس؟! - يا أم جمعتي مثل الناس، لكن البريطانيين لا إجازة لهم اليوم، وضروري أن أرد عليهم وإلا خسرت المناقصة.. هل ترضين لولدك بالخسارة؟! تقتنع أمه بعذره، ومع أنها لا ترضى له بالخسارة إلا إنها تعود حاملة جرة الماء ووعاء معدنياً لتضع الجرّة عليه وهي تقول: - هذا قليل مآء بارد مع البخور، كان أبوك لا يهنأ إلا بشربة المآء مع البخور الذي أصنعه له بنفسي، ومن لي غيرك بعد أبيك لأهتم به.. وتكاد دمعة عامر تطفر من عينيه، ولا يسأل أمه أن تغلق الباب، لكنها تفعل ذلك دون أن يقول، ويعود لقصة (الشيطان البطال)، وعندما يساوره شك في صلاحيتها للنشرمن الناحية الفنية، ينهض لإحضار جهاز التسجيل لإيمانه بأن أفضل طريقة لمراجعتها وإصلاح ما يحتاج من مفرداتها وجملها إلى إصلاح هو تسجيلها بصوته وإعادة الإستماع لها.. يبحث عن شريط تسجيل مناسب فلا يجد في درج الكومادينو إلا الأشرطة التي تخص زوجته، وبينما هو يبحث عن مكان الأشرطة التي تخصه تفتح باب الغرفة الخالة ضحى وتمسك بالمقبض فلا تدخل لتكون في وضع وقوف يعلم معه أن الخالة لا تفعله إلا إذا كان هناك تقريع أو عتاب أو شيء ما آخر مشابه، فيقول لها: - أهلا يا خالة.. ألسنا أهدأ بدون الأولاد؟!.. فترسم الخالة ابتسامة عتاب وتقول: -الأولاد يا ولدي حياة البيت وأمهم سراجنا.. ثم هي فراشك والدفاء.. - تمام!! - ما دام الأمر يا ولدي تمام فلماذا ذهبت زوجتك للمبيت عند أهلها؟! - قالت إن لها مدة من زيارتهم وأن أباها عاتب عليها.. - بل هي العاتبة عليك!.. - هل قالت لك شيئاً؟! - لا.. - فكيف عرفت أنها عاتبة؟! - بإحساس المرأة المجربة.. يا ولدي حافظ على بيتك.. - هل من شيء آخر يا خالة؟! تدرك الخالة أنه لا يريد سماع المزيد، فتصاب بحرج وتقول: -لا، واعذرني للفضول.. لو كان معي ولد ما كان أحب إلي منك.. تصبح على خير.. - وأنتم من أهله.. ويواصل عامر البحث عن شريط تسجيل فلا يجد إلا أشرطة زوجته، وقبل أن يجرب أحدها يستخرج الشريط الذي على الجهاز فتنتابه رعدة من يقابل شيئاً لا يريد رؤيته أو من اكتشف برهاناً كان يظن عدم وجوده.. هذا شريط حورية وعليه اسمها بخطه وقلمه.. فهو إذن أول خيط يفسر كلام خالته ودعوى عتب زوجته وسر اختفاء أشرطته التي جمعها من هنا وهناك ليستعيد بسماعها بعض ذكرياته. - لا أظن أن مثل هذا يسبب غضب زوجتي أو غيرتها، وكلام خالتي مجرد استنتاج.. يكلم عامر نفسه، ويقنعها برأيه، ويضع الشريط البديل من درج أشرطة زوجته ليسجل قصته (الشيطان البطّال) ويراجعها أو يصلح حالها قبل أن يرسلها للنشر. وبعد تسجيلها ومراجعتها يلفها عامر ويضعها في جيب سترته حتى لا ينساها في البيت فهو يريد أن تكون من أول أعماله صباح الغد، ومثل عادة زوجته كل مساء يجد أن أمه قد أعدت له كوب الحليب مع كيس شاي زهرة البابونج ليشربه بعد القات وهو بديل لكوب الشاي الذي يجلب الأرق لكن جفونه لا تذوق للنوم طعماً إلا في غفوة قصيرة حتى يستيقظ بعد التاسعة صباحاً. يتجهز للخروج، ويتحسس أوراق الأقصوصة في جيبه وهو واقف ينقر باب غرفة أمه التي يظنها تغط في نوم عميق لكنها لم تكن هناك ليودعها وتستودعه الله قبل خروجه مثلما يفعل كل صباح، وفي المطبخ لا يجد إلا الخالة ضحى التي تعد فطوره وتخبره أن أمه قد بكرت إلى منزل زوج أخته التي فرج الله عليها بإبنة مثل القمر وسموها كذلك لأنها ما جاءت إلا بعد ثلاثة أولاد ذكور وصهره صادق يتمنى بنتاً لاعتقاده أن البنات يجلبن الأرزاق، وتعود الخالة لتقول: - هيا يا ولدي.. الفطور جاهز.. - شكراً يا خالة، لا نفس لي للفطور الآن.. - الحق ليس عليك بل على مضغ القات طوال الليل.. - وماذا سمت أختي ابنتها؟! - قمر، ألم أقل لك، قمر.. هيا للإفطار.. - شكراً، أنا مستعجل، لقد تأخرت.. - لو تأخذني معك في السيارة لمنزل أختك..تفعل خيراً - أسرعي فقد تأخرت.. وعند مدخل بيت صهره صادق، تلتقي الخالة ضحى بعمه عبدالستار الذي يظن أنها أم عامر فيحييها : - صباح الخير يا لطيفة.. كيف الحال؟! فتمضي الخالة نحو الدار ولا ترد عليه، وعند السيارة يصافح عبد الستار ابن أخيه عامر، ويهنئه بمولود أخته بشرى ثم يدعوه للمقيل في بيته، فلما حاول الإعتذار يقول له عبد الستار: - اليوم إجازة.. ألا ترتاح يوماً من العمل؟! ويلح عليه حتى يتم اتفاقهما على أن يدعو عامر للمقيل في بيت عمه من يريد من الأصدقاء. بعدها يلحق عامر خالته لتهنئة سريعة لأخته لأن أحداً لن يعذره إذا ما ادعى أنه كان مستعجلاً، ويجد أمه في غرفة المعيشة تطلب منه أن ينتظر قليلاً حتى يتم عمل غيار لفراش المولودة وأمها، وتقبل بعد قليل الخالة ضحى لتبادره بانفعال: - عمك هذا مجنون أم بعقله؟! - ماذا فعل يا خالة؟! - يصبّح عليّ ويسأل كيف الحال وليس بيني وبينه أي كلام.. - ربما ظن أنك أمي لطيفة.. - حتى لو ظن أني لطيفة فما يعمل هو وابنه في المحاكم لا يُرضي الله ولا رسوله .. لقد صارت سيرتهم على كل لسان. - الله يصلح الشأن.. ثم يدخل على أخته بشرى المتعبة في غرفتها، ويقبلها في جبينها مهنئاً لها بسلامتها، وتريه أمه مولودة أخته المحمرة الخدين، المطبقة الجفنين، ولا يتم لعامر الذهاب إلى مكتبه إلا بعد استجابته لإلحاح الجميع بتناول الإفطار مع زوج أخته صادق مكررين قول عمه عبدالستار إن اليوم إجازة لكل الناس وهو ليس استثناءاً. أما بعد العصر فلم يكن في مقيل عبد الستار غير من دعاهم عامر.. صديقه الحميم عبد الرحمن شبيط، ووليد رفيق شقة المهندسين، وصهره صادق، مع صلاح الذي ما دعاه عبد الستار إلا لمعرفته أن عامر لن يدعوه للمقيل على طول الصحبة في صنعاء وفي القاهرة، كما إن عبد الستار يريد إشراك صلاح في حل نزاعه مع ابنه سالم، ويريد أيضاً الإيحاء بعلاقته مع رجال مهمين لهم مراكزهم فقد أصبح صلاح مديراً لجمرك المطار ولا شك أن لذلك تأثيره خصوصاً مع عامر كونه يدير مؤسسة تجارية وأصبح وكيلاً معتمداً لعدد من الشركات الأوربية المشهورة، وقد رحب صلاح بدعوة عبد الستار عندما علم أن ابن أخيه ورفيقه القديم سيكون معهم في المقيل فهي فرصة لإظهار مكانته التي أصبح فيها، وأن كل المعاملات تعرض عليه وليس من بضاعة لعامر أو لغيره إلا وهو يمهر مستنداتها بتوقيعه، ولا يتم الإفراج عنها إلا بموافقته. يريد عبد الستار أن يبدأ مقيلاً لطيفاً قبل أن يفتح صلاح موضوع نزاعه مع ابنه سالم، فيبتسم ويقول لعامر: - ماذا معنا اليوم في جعبة شاعرنا الدكتور؟! فيرد عامر بامتعاض: - لا شيء يا عم.. الخوف على أموال الناس يبعث في القلب الفتور والخوف.. فيتدخل صلاح ويسأل: - ولا أقصوصة يا دكتور؟! هي كلمة ألقاها صلاح لا يلقي لها بالا، لكنها تولد رعشة في جسد عامر لأنه لا علم لأحد بأنه أرسل قصته للصحيفة ظهر اليوم عبر الفاكس، واليوم إجازة رسمية.. ترى من الذي أعلم صلاح ولا علاقة لوظيفته بالإعلام؟!، إذن فهو في الأمن مثلما كان يتوقع ومثل عبدالرحمن شبيط وإن كان أمر الأخير معروف.. هل من علاقة أمنية بينهما؟!.. - ألا ترد على سؤال الأستاذ صلاح؟! فيستفيق عامر من خطراته، ويقنع نفسه بعلاقة أحدهما غير المنظورة بالآخر، ثم يرد عليهم: - نعم كتبت مؤخراً قصة قصيرة، يعني أقصوصة ولا زلت أراجعها.. فيقول صهره صادق: - أسمعنا لأننا لو انتظرناك حتى تراجعها لما سمعناها إلا بعد سنة.. - هو صهرك وأنت أعرف به.. - لكنها قصة رمزية وقد تملّون سماعها.. - والرمز أجمل.. - هل تظن أننا لا نفهم؟! - إن كانت في الجيب قرأتها.. وما يدري عبد الرحمن أن القصة في الجيب وهو الذي لم يخلع سترته قصداً ليوحي لهم أنه لن يبقَ معهم حتى آخر المقيل.. ويستخرجها ليقرأها، فيبدي الجميع استحسانهم بعد الانتهآء من قرآءتها إلا صلاح الذي لا يقول شيئاً حتى تنتهي مجاملاتهم ثم يعلق قائلاً: - هذه القصيرة مثل قرن الفلفل الحار، كلما كان أصغر كان لاذعاً أكثر.. فيتخابث عبد الرحمن ويسأل: - كيف يا أستاذ؟! - يعني مثل هذه القصة لو تم نشرها فلن ترضى عنها السفارة الأمريكية.. - الواقع أنني منذ كنت في القاهرة لا أكتب من أجل النشر وصلاح يعرف ذلك.. - لكننا ننشر كثيراً من شعرك ورمزيته ليست كرمزية هذه القصة.. - صحيح فأنا شاعر أولاً، وأنت تعرف ما يرضي الدولة وما يغضبها.. فيحتد مزاج صلاح ويقول: - ومن الذي ذكر الدولة.. أنا قلت السفارة الأمريكية.. تريد يا دكتور أن تقوّلني مالا أقول؟!.. خليك في البزنس أفضل واترك السياسة لأهلها.. - قد تركناها لكم من أيام اتحاد الطلاب في مصر.. - لو أبديت اهتماماً جاداً من يومها لكنت الآن في الإعلام تكتب ما نريد.. فلم ينتبه عامر لقول صلاح ما نريد فعقب مستنكراً: - هل ضروري أن أكون في الإعلام لأكتب ما أريد؟!.. وتدخل عبد الستار وقد فهم الكلام: - ياجماعة دعونا الآن من هذا الكلام.. أعطني يا عامر القصة وسأسلمها بنفسي لشرهان الجمل فهو صديقي.. فيهمس عبد الرحمن القريب من عامر: - سلمها لعمك وأنا سأتابع شرهان.. سوف أكلم من يأمره بنشرها.. ويسلم عامر القصة لعمه عبد الستار، وحتى يقطع الصمت الذي خيم عليهم يقول صلاح : - إبن أخيك هذا يا عم عبد الستار يريد أن يكتب في السياسة دون أن يتحمل غُرْم المشاركة.. فيسأله عبد الستار : - كيف يا أستاذ ؟! - تخيل أننا في أستاد كرة القدم.. الواحد منا هناك إما أن يكون لاعباً أو حكماً أو أنه بين المشجعين يهتف لهذا الفريق أو ذاك.. فيقاطعه عامر : - فإذا كان هناك بين الجمهور واحد لا يهتف إلا للعبة الحلوة.. - في هذه الحالة لا بد أن هذا المتفرج النشاز سيكون في وسط جماعة تتعصب لأحد الفريقين، فإذا جاءت لعبة حلوة من الفريق المنافس وهتف لها صاحبك فلن يلقى غير الإستهجان.. - وإذا استمر؟! - حتماً سيضربونه.. - الأفضل إذن عدم حضور مباريات المجانين.. - فلماذا تكتب للمجانين؟!.. لا بد لك من جمهور ومنافسين، وأنت الآن رجل أعمال، وعليك واجبات نحو من دَفَعَ مصاريف تعليمك.. - أنت تعرف على حساب من كانت المنحة.. - لكنها أصلاً منحة للحكومة اليمنية، يعني لهذا الشعب.. - ألا تكفوا يا جماعة عن السياسة ؟!! يقولها عبد الستار بينما يلاحظ صلاح عامراً وكأنه يستعد للخروج فيتذكر وعداً قطعه لعبد الستار ويقول: - طبعاً أنا لم أقصد إزعاج صاحبي وصديقي عامر.. ثم يلتفت لعبد الستار ويقول: - ماذا عملت مع ابنك سالم ياعم عبد الستار؟!.. إجلس.. إجلس يا دكتور.. لحظة فالموضوع يهمنا جميعاً ويجب أن نتعاون على الخير ونفرمل لسالم ابن عمك، هل يجوز أن يجرجر الإبن أباه في المحاكم؟!!.. فيقول عبد الرحمن: - إجلس يا دكتور وسوف نخرج معاً.. ما هي المشكلة يا عم؟!.. - المسألة يا جماعة بسيطة، كل ما في الأمر أن ابني سالم كأنه لم يعجبه أني أكملت نصف ديني بعد وفاة المرحومة والدته، ومنذ تزوجت وهو يطلع لنا كل يوم بمشكلة، وآخرها الجرجرة في أقسام الشرطة والمحاكم بدعوى أنني أكلت حقوقهم بعد وفاة أمهم رحمة الله عليها مع إني كنت أصرف من جيبي عليه وعلى زوجته طوال السنين التي كانوا فيها عندي.. - كيف يفعل هذا وقد قال رسول الله: أنت ومالك لأبيك؟! ويتدخل وليد المحامي قائلاً : - مثل هذا الكلام لايحل الإشكال.. الزوج من أصحاب الأسهم والأولاد هم من العصبة.. كل واحد له حق لا يجوز إسقاطه، طبعاً بعد إخراج الدين إذا كان هناك دين، ومن بعد وصية يوصي بها الميت.. - إنما لا وصية لوارث!! - المهم يجب سماع جميع الأطراف، هذا إذا كنتم تريدون صلحاً. ويتم الاتفاق على أن يرتب صادق، بحكم علاقته مع سالم، موعداً للقاء في مكتب عامر في مقيل يحضره وليد المحامي، وصلاح مدير الجمرك، وعبد الرحمن إذا أراد.. وقبل أن يغادر عامر مجلسهم يقول صلاح: - والقات عليك يا دكتور، لا تنْسَ.. - المهم يبلغونا بالموعد.. موعد يناسب الجميع.. - أي وقت سيكون مناسباً.. الصلح خير، وعملنا هو لله.. أنا مجرب، صدقني!! وفي السيارة يقول عبد الرحمن : - صاحبك صلاح لئيم يا دكتور.. - لم نعد أصحاب.. - الأفضل أن تبقوا أصحاب.. وجوده في جمرك المطار سيفيدك.. - الذي يخلص لي البضائع يدفع للجميع سواء كان المدير صلاحاً أو غير صلاح ولا فرق عندي.. - يا رجل اعقل.. إن لم يبق صلاح صاحبك ربما يعرقل معاملاتك وهو يبتسم لك.. في هذه البلاد الفلوس ليست كل شيء.. - صدقت!!.. يقولها عامر وهو يريد أن يقفل باب النقاش مع علمه بصحة قول صاحبه الذي يواصل الكلام : - نصيحتي أن تشتري لصلاح قات معتبر وكثير ولا تهتم بالآخرين.. - كيف لا أهتم بكم.. أنت أعز الناس عندي، ووليد عِشْرة عمر ولا يزيد صلاح عنكم شيئاً.. - قلت لك اسمع الكلام، أنا لا يهم، سأشتري لي قات كالعادة.. إعمل حسابك لهم فقط.. صلاح من لؤمه ألزمك بالقات والمكان أمام الجميع.. - عمي عبد الستار ألأم من صلاح.. - كيف؟! - جعلني أدعوكم اليوم للمقيل عنده وكأنها فكرتي لكنه دعا صلاح دون علمي.. - على كل حال موعدنا يعتمد على صهرك صادق.. أرى أن ترتب معه كل شيء .. سأنزل هنا إذا سمحت.. ويمضي عامر نحو المكتب والغيظ من الجميع يغلي في صدره بعد ما نظر للساعة وقد اقتربت من السادسة والنصف مسآءاً، ثم تداهمه الوساوس وأن الجميع على اتفاق.. ثم ماذا سيفعل الآن في المكتب وقد ضاع الوقت؟!.. وهو بهذه الدرجة من الإنفعال؟!.. سيبدأ بجهاز الفاكس إذا كانت هناك أي مراسلات حتى يهدأ باله، سيبدأ بمراجعتها على الأقل وغير مهم لو تأخر في المكتب لأن زوجته مع الأولاد لا زالوا في بيت أبيها بدعوى أنها إجازة وتريد اغتنام فرصة وجود أختها المقيمة في الإمارات لتكون معها أطول وقت ممكن قبل سفرها.. مجرد عذر، ولعل كلام الخالة ضحى عن سبب غياب زوجته كل هذه المدة صحيحاً .. فليكن .. سيتصل بزوجته من المكتب وبالأم لطيفة في منزل صادق ليعرف هل عادت الخالة إلى البيت أم لا.. في مكتبه لا يجد عامر أي مراسلات على جهاز الفاكس سوى أوراق الأقصوصة التي صورها عدة صور خوف ضياع الأصل وها هي بين يديه، ويبدو أنها لن تنشر لأن اهتمام عمه إنما كان ليرى الآخرون أنه مايزال ذا صولة وجولة أو إنه يريد بذلك أن يضغط عليه حيث لن يحاول نشرها إلا إذا ضمن أن عامر سيقف معه في مشكلته مع ابنه سالم، ورغم هذا التصور والهم الذي يعتريه إلا أنه يقطع حيرته بسبب قناعته أنه لم يكتبها أصلاً للنشر وإنما استجابة لرغبته القديمة منذ حاز إعجاب مدرسيه على موضوع التعبير الذي حوله لقصة قصيرة.. إنه لو كتب حتى القصائد وبقلبه هم النشر لعمل للرقباء حساباً، بل ولجعل من نفسه رقيباً على نفسه فلا يخط بالقلم إلا ما يرضي ويسر.. الرقيب كالمجنون في صدر كل كاتب.. إذن فإن ترك المسألة للأيام فهذا أفضل حل تجنباً لصداع التفكير، لأن عمه إما أنه سيعمل على نشرها في أقرب وقت إظهاراً لحسن النية، أو أن..؟!،آه من شرهان الجمل صاحب صاحبه عبد الرحمن الذي قال إنه سيكلمه.. إنما لماذا لم يستوضح من عبد الرحمن، ولماذا لم يؤكد عليه؟! ربما إن تناسى الأمر هكذا أفضل فمعرفة عبد الرحمن وعلاقاته دائماً من أبواب أمنية، وهو بسؤاله كمن يلح في طلبه فكأنه يقدم لهما هدية!!.. يعني- يفسر عامر لنفسه- سيحمل معروفاً عليه سداد ثمنه للرجال الثلاثة لأنه سيكون عليه واجب رد التحية بمثلها أو بأحسن منها، وما هو الأحسن منها أو على الأقل مثلها؟!.. هل سيتحول بعد كل هذه السنين إلى مخبر مثلاً؟! مجرد مخبر يكتب تقريراً يومياً لرئيسه الذي يمكن أن يكون عبد الرحمن أو صلاح أو نحو كائن من كان!!.. ها هم لشدة حرصهم وذكائهم قد تركوا له مرتب الحكومة بل يرسلونه له إلى بيته رغم عدم دوامه وانشغاله بعمله الخاص.. ويفتش في الكيس بحثاً عن بقية قات فلا يجد.. وعلى صمت المكان المطبق يرن جهاز الهاتف بقوة فيفزعه ويحبس دمه ويسمع طرقاً أشد على باب شقه المكتب فتتضاعف ضربات قلبه، ويرفع السماعة صائحاً ومشتتاً بين طرق الباب ورنة الهاتف: - من.. من أنت؟! فيجيبه صوت أمه في الهاتف: - أمك؟!، أنا أمك لطيفة، لماذا تصرخ؟!، ما بك يا ولدي.. أما زلت في المكتب؟! ويرد عليه طارق الباب: - أنا وليد.. إفتح لي الباب يا عامر.. - لحظة.. لحظة سوف أفتح؟!!.. فيسرع صوت أمه: - هي كلمة واحدة إسمعها وسأقفل السماعة.. ولا تنتظر الأم ما سيقول بل تواصل: - زوجتك في بيتهم يعلم الله ما السبب، وخالتي كانت وحدها في البيت.. قالت إنها سمعت قذف حصى على النافذة بعد المغرب فخافت واتصلت بنا وقد أحضرها زوج أختك لتنام معنا.. فهل يرضيك يا ولدي هذا الحال؟! يضع عامر سماعة الهاتف على الأرض في حين يتواصل طرق الباب، ويذهب ليفتحه لوليد المحامي وقد تغير لون وجهه بسبب الطرق في هذا الوقت المتأخر، ولولا اتصال أمه لما عرف أنه متأخر: - تفضل يا وليد.. تفضل.. - هل أنت وحدك؟! فلا يرد عامر الراجف بل يسرع نحو سماعة الهاتف ليجد أن أمه قد أنهت مهاتفته والسماعة تصدر صفيرها في أذنه فيتضاعف تشوش حاله: - خير يا وليد؟! - دعني أولاً أدخل الحمام.. أين الحمام؟! - على يمينك جوار باب الشقة!! ترى ما الذي جاء به؟!.. هذا أمر مزعج..ألم يجد مكاناً للتبول إلا في مكتبي؟!..لابد أنه خارج من فندق سبأ وقد ملأ جوفه بزجاجات البيرة؟!.. ما هذا؟!، يا الله.. وليد إذا تكلم فلن يتوقف..ما هذه البلوى آخر الليل..آخر الليل؟!، كم الساعة الآن؟!..ينظر فيها، ولا يكاد يستبين عقاربها حتى يعود وليد رافعاً سوستة بنطلونه، ثم يضحك وهو يقول: - لو تأخر فتحك الباب دقيقة واحدة لأفرغت بولي على باب مكتبك.. - لا شك في ذلك تعملها كما عملتها في القاهرة.. - أما زلت تذكر؟! - وكيف يمكن أن أنسى ليلة أن رأيت بولك مندفعاً من ثقب مفتاح باب الغرفة.. - لقد ستر الله لأن ناصر ابن عمي لم يكن معنا.. لو كان موجوداً لحصلت مشكلة كبيرة.. - كادت تحصل مع عصام الأصم.. - دعنا نتكلم في الأهم.. - هل تعرف كم الساعة الآن؟!! -كلمتان ليس إلا وسأوجز.. ويتنهد عامر فهو يعرف أن أحد أسباب عدم نجاح وليد كمحامٍ هو كثرة كلامه وقلة عمله رغم علاقاته الواسعة، ويتجاهل وليد تنهيدة صاحبه ويقول: - أليس مع سالم ابن عمك هذا وصية؟! - ألم نتفق يا صاحبي أن يعمل صادق موعداً مع سالم ونلتقي هنا في المكتب؟! - بلى، ولكني أريد الآن أن أفهم بعض الأمور.. - سالم يقول إن معه وصية في الدكاكين مقابل تمريضه هو وزوجته لأمه مدة مرضها والأب ينكر ويقول لا وصية لوارث.. - إذا افترضنا صحة أنه لا وصية لوارث فما ذنب زوجة ابن عمك وهي ليست من الورثة؟! - لأن الوصية كما يقول عمي مكتوبة باسم سالم فقط، وسالم يحتج بأن زوجته مذكورة ضمناً عند ما ذكرت الأم سبب الوصية.. - حتى لو افترضنا أن الوصية لم تذكر إلا سالم فقط فإن حقه محفوظ ، لأن آية سورة النساء واضحة.. للزوج الربع من بعد وصية يوصين بها أو دين، فحتى لو لم تكن تلك وصية فذلك دين لأنه أجر لم يستلمه مستحقوه.. - لكن الوصية لم تذكر الأجر أو الدين صراحة.. إنها مجرد وصية ولا وصية لوارث. - حتى لو صح هذا الكلام فلا يجوز العمل به لتعارضه مع أحكام نصوص صريحة في القرآن.. - أين؟! - في آية سورة البقرة التي تقول إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف.. - قد قال لهم وكيل سالم هذا الكلام فقالوا إن الآية منسوخة!!.. - كيف يقول إن الآية منسوخة؟!.. ما معنى هذا الكلام؟!.. - معناه بطلان حكمها.. يعني عدم جواز العمل بها لأن آية أخرى نزلت بعدها فيها حكم مخالف لحكمها.. - ومن قال إن أحكام آية من القرآن تلغي حكم آية أخرى؟! - الله.. - الله؟!.. عجباً.. أين؟! - في سورة البقرة التي قلت إن فيها آية الوصية للوالدين والأقربين.. - بالمعروف.. - تمام.. - لا مش تمام إذا كنت تقصد الآية التي تقول ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.. - تمام.. - قلت لك لا، مش تمام لأن من معاني الآية الشريعة والكتاب هذا إذا كان معنى النسخ إبطال أحكام سابقة.. - يعني؟! - يعني إن نزول القرآن هو للعمل بأحكامه فيحرم على المسلمين العمل بأحكام شريعة موسى.. - ومن قال بجواز عمل المسلمين بشريعة موسى؟! - ألم يقولوا شريعة من قبلنا شريعة لنا ؟!!. - لكنها محرفة .. - كيف ذلك والله يقول وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله .. - ربما كان التحريف في تأويل الأحكام وفي تفسير الشريعة.. - قد قال العلامة ابن منظور بحصول مثل هذا التحريف حتى في القرآن..؟!!.. فيقاطعه عامر وقد ضاق به : - أنا لا أدري.. - لكني أدري ، ومن يدري حجة على من لا يدري.. هل عندك كتاب الاعتصام؟!. - لا.. إنه في البيت.. لماذا؟! - لو كان الكتاب معك هنا لأريتك ما يقول في آية الوصية من سورة البقرة.. - قل لي أنت ما يقول فلا بال معي ولا طاقة عندي للبحث.. ثم إنها ليست مهنتي .. - المهم إن صاحب الاعتصام يقول بحصول اختلاف بين العلماء وفي آية الوصية وهل نسخت أم لا .. - كيف؟! - قال بعضهم ببطلان الوجوب دون الندب، والبعض قال بنسخ الوجوب والندب.. - والله لا أدري ما تقول.. لقد تأخرنا.. - اصبر بالله عليك فقد قال المؤلف إن هناك من قال بأن الآية باقية بأحكامها.. - قلنا لك قد تأخرت .. تعال للمقيل عندي غداً أما الآن فلم أعد أستوعب شيئاً مما تقول.. وينهض عامر، فينهض لنهوضه وليد لكنه يواصل كلاماً لم تعد أذنا عامر تلتقط منه شيئاً فما بالك بفهم تلك المصطلحات، أمّا ضرب عامر موعداً مع وليد للمقيل غداً فما كان إلا للتخلص منه في هذا الوقت المتأخر من الليل. * * * النساء الثلاث بعد لقاء الليلة الفائتة مع وليد، يقتنع عامر أن لقاءه في مكتبه مع سالم والآخرين لن يفيد بشئ رغم ما يسوقه وليد من حجج لأن الهدف هو الصلح وليس الخروج بحكم شرعي ولأن الناس قد تعاقدوا لأجيال على نفاذ ما اختاروه من الشريعة ولا يبحثون عن جديد ولو كان هو الأصلح والأصح، وفي الصلح تغليب للعرف المستنبط من أحكام الشرع أو للحلول الوسط وقد أحالوا الإثم على من يحرفونه من بعد ما عقلوه، وعلى من يبدلونه من بعد ما سمعوه، وعندما يتناول عامر الغداء مع صادق يروي لصادق بالتفصيل الممل الحوار الذي جرى مع وليد ظناً منه أنه قد استوعبه، وعندما يعلق صادق مستنكراً بأن هذا كلام يميل مجنون أو سكران لا يجيب عامر بأي شيء بل إنه اختصاراً للوقت والكلام يميل عامر إلى أفضلية اقتراح استبعاد وليد وعدم إبلاغه بموعد الاجتماع، فيضيف صادق استبعاد عبدالرحمن لأن تسميته ما كانت إلا من باب المجاملة ودفعاً للحرج، فقد كان معهم في مقيل عبد الستار ولأن الدعوة قد وجِّهت لجميع الحاضرين ولذلك ربطوا حضوره برغبته، وكان آخر ما قاله عامر لصهره: - أنت وما تريد.. تعرف أني مشغول جداً، وعمي يعتمد عليك.. رتب كل شيء ومكتبي تحت أمركم والقات لكم جميعاً على حسابي.. سلام.. يمر اليوم واليومان ثم الأسبوع منذ مقيل عبد الستار ولا يسمع عامر خبراً عن موعد الاجتماع مع سالم، ويغيب صادق في مهمة خارج صنعاء، ويتابع عامر الصحيفة يوماً بيوم فلا يجد أثراً لقصته كما وعد عمه عبد الستار، ولا يرى إشارة من عبد الرحمن الذي وعده بالمتابعة وعصر اليوم في مكتبه يقلب دفتراً قديماً به أرقام هواتف تبدل أكثرها، ويلفت نظره رقم الهاتف الذي أعطته له نور قبل سفرها إلى البحرين في آخر إجازة صيفية يلتقي فيها بها وبكلية الإعلام قبل اضطراره للتسليم بعدم إمكان التحويل من الصيدلة للإعلام.. صحيح أنه لم يهاتف نور إلا مرة واحدة منذ تخرج في كلية الصيدلة وكانت المناسبة عاشوراء محرم الذي لم تكن نور تعرف الكثير من تفاصيل أحداثه الكربلائية رغم معتقداتهم وأسرتها قد نزحت أصلاً للبحرين من المنطقة الشرقية. ذات يوم وكان لم يزل طالباً أراد عامر أن يعيد لنور شريطها الكاسيت بما فيه من قصائد مظفر النواب فقالت له إنها تهديه الشريط ذكرى زمالة وإن لم تدم طويلاً.. حينها لم يتوقع أنه سيلتقيها مرة أخرى مع حورية في مقصف كلية الإعلام قبل انقطاعه تماماً عن تلك الأمكنة.. كان مراد يهرجل مع شلته وبينهم نسيبة، وفي ركن قصي كانتا كحمامتين، أو كورقاء تناجي مطوقة.. وعندما تعمد تجاهلهما فضحه ارتباكه لمرأى حورية لأول مرة بعد طول غياب، وارتعش عندما هلّ صوت نور يناديه.. فلما اقترب قالت: - هل يعني أنك ستترك كلية الإعلام أن تترك زملاءك فيها؟! فيجيب وهو يتلقى صدى صوته كالهائم عند أذنيه: - لا، أبداً..إنه عيش لست أنسى مذاقه، أحلى من السكر.. فلا تترك كلماته التي يظنها أكثر من شاعرية أي أثر على ملامح حورية، وتعود نور لتقول: - ألا تشرب شيئاً معنا؟!.. خذ لك كرسياً.. إجلس معنا.. هذه نور أخت مراد وهي ترشدني في كلية الآداب.. - أهلاً.. سبق أن تعرفت عليها.. لكن حورية لا تعلق على قوله بسابق معرفتها.. فليأخذ الكرسي إذن.. لا بد أنها لم تتذكر لقاء تعارفهما القديم وهذه فرصته لتثبيت اسمه وصورته في عقل وذاكرة هذه الحورية، ولكن من أين المدخل؟!.. يسأل نفسه وهو يجلس مقابل الفتاتين، ثم يستجمع قواه ويسأل نور: - لم تذكري لي لماذا تستعيني بنور في كلية الآداب وأنت في الإعلام.. فترد قائلة: - أولاً لقد اكتشفت أنهم لجأوا للسعودية ويعيشون هناك، ونحن أصلاً من المنطقة الشرقية..وإن نزحنا إلى البحرين - وثانياً.. - أن أسرتها فرت من عدن بسبب مذابح الاشتراكيين، ونحن هربنا بسبب المطاوعة.. القهر مشترك. - يعني لا فرق! - نحن السيف و الدبابة.. - كالمستجير من الرمضاء.. - وهل نسيت مظفر النواب؟! - ذلك ثوري يركض كالوحوش.. - ويحلق كالصوفيين.. - على ذكر الصوفيين، هل سمعت بيوهان فون غوته ؟! - شيعي هو الآخر؟!! - تأثر كثيراً بالصوفيين، وكتب شعراً عن الإمام علي والزهراء.. فتبتسم حورية ابتسامتها الدافئة وتقول: - حورية من أسماء فاطمة.. سمتني أمي حورية من حبها لفاطمة، ولي أخت أصغر مني اسمها زهراء.. يومها عاد عامر يدندن بحرف الفاء من اسم فاطمة في فم حورية وخبأه كلؤلؤة يتيمة.. لفاطمة التي كانت كشامة على جسد النبوة والقيامة، وفاطمة التي نبتت قمحاً بفردوس السلامة.. للعدل موعده، وللأسباط في الدنيا علامة.. دم تزكى، وله الشهادة والكرامة.. وتحط غمامة ذكرى ذلك اللقاء وبين يديه قصته التي تيقن أن صنعاء لن تقبل نشرها فيعود لنفسه ويقول: - وما دامت نور بتلك النورانية، وقد جربت مرارة الإقصاء فلماذا لا يرسل لها قصته لتنشرها.. - في البحرين؟! - ولم لا!! - هكذا، حاف جاف؟! - طبعاً لا .. لا بد من مدخل.. - ومذاكرة وتذكير.. - فليكن مما تذكرنا الآن.. - تذكرنا عدة أشياء؟! - آخر لقاء؟! - فلنختر منه شيئاً واحداً.. - هناك شيء عن شاعر الألمان غوته.. - كان حديثكم عنه خاطفاً، ومن الذاكرة.. - إذن أكتب.. - كَتَبتُ الديباجة.. - وبعض ما جرى في ذلك اليوم.. - كتبناها.. - أكتب أيضاً عبارة غوته ولكن بين هلالين: إذا كان الإسلام معناه تسليم الأمر لله فعلى الإسلام نعيش كلنا ونموت.. - بعدها أكتب أن غوته هو الأديب والروائي الأشهر في تاريخ الأدب الألماني الذي له قصة تروى مع الإسلام.. - أرى أن تختصر.. - لقد كتب الديوان الشرقي.. - الديوان الشرقي للشاعر الغربي.. - وكتب مسرحية عن النبي محمد.. - صلوات الله عليه.. - وصفه فيها بأنه حمل أفكاراً عالمية جديدة ليشيع السلام، والمساواة والإخاء في العالم.. - بدأ كتابة مسرحيته إلا أنه لم يكملها.. - أراد أن يكتب نصاً منصفاً عن رسول الله كهادٍ للناس في صورة نهر يبدأ في التدفق.. - رقيقاً هادئاً.. - ثم لا يلبث أن يندفع في شكل سيل عارم آخذاً معه البشرية نحو البحر المحيط.. - رمز الألوهية.. - استَشْهٍد بشيء منها.. إن نور متشيعة.. - مربط الفرس هنا .. حوار بين فاطمة الزهراء وعلي زوجها.. - لا تطل فتُمَل.. حتى يبقى لقصتك محل.. - قد انتهينا إذن.. - هل ستهاتفها الآن؟! - أتصور أنه أنسب وقت.. - هل أنت مجنون؟! - لماذا؟! ليست ساعة نوم أو طعام؟! - ستقرأ كل هذا الكلام؟! - بالطبع لا.. - إذن ماذا؟! - سأبدأ بالقيل والقال ثم أطلب عنوانها البريدي.. - هل ترد عليك؟! -؟!؟!.. - ماذا؟! - نفس الرد الآلي لثالث مرة.. - الذي يقول؟! - إذا كانت لديك رسالة صوتية اضغط رقم اثنين.. - والفاكس؟! - رقم ثلاثة.. - هل التسجيل بصوتها؟! - صوت نور.. تمام التمام.. - ارسل الأوراق إذن بالفاكس؟! - هكذا عفو الخاطر؟!! - غيّر عزيزتي نور إلى الأستاذة نور!؟ - بل ستبقى عزيزتي نور!! - ضع شيئاً أعلى الورقة الأولى.. - لا أحب ذلك!! - حيرتني؟!! - أنا أكثر حيرة منك!! ويتم إرسال أوراق ثرثرته مع نفسه عن شاعر الألمان غوته مع أقصوصته (الشيطان البطال) دون زيادة أو نقصان.. ورغم انغماسه في أعماله المكتبية لأنه لا سكرتيرة معه حتى الآن ، فإنه لا ينفي انتظاره الأيام الأولى عن مجال ذاكرته حتى ينشغل بعد عودة صهره بانتظار يوم الخميس للقاء المرتقب مع سالم ابن عمه عبد الستار بحضور صلاح وصادق بعد الاتفاق على تجاهل عبد الرحمن ووليد. تتحرك الأيام من السبت نحو مساء الأربعاء ببطء شديد يتأبط قلقاً وتوتراً، ورغم تجاهله يطرق وليد باب مكتبه بعد أذان العشاء بأكثر من ساعة فيتجاهله ثم يسمعه وهو يحشو شيئاً من تحت عقب الباب، فيقوم بإطفاء غرفة المقيل وبعد ما يتأكد باستراق النظر من فتحة صغيرة في طرف ستارة النافذة أن وليد قد غادر المكان وسار في الشارع لحال سبيله يعلو رنين الهاتف الداخلي من غرفة المخازن الأرضية فيرفع سماعته: -لقد ذهب وليد يا دكتور.. - أعرف.. - وقال إنه ترك لك رسالة من تحت الباب.. - سمعته وهو يحشرها.. - يبدو أنه زعلان جداً.. - لكني غير موجود.. - قلنا له ما توصينا به حرفياً لكنه هزأ من كل الذي قلناه لأن سيارتك موجودة جوار باب الشقة.. - لم تعملوا إذن بوصيتي كاملة.. - فعلنا معه مثلما نفعل مع غيره حين لاحظنا أنك طنشت ولم ترد عليه.. - إذن دعه يزعل ويشرب من البحر.. - قد انتظرنا حتى رحل .. هل ستذهب إلى البيت؟! - لا، عندي عمل .. - الوالدة اتصلت بك ولم ترد فرفعنا نحن السماعة.. - كان وليد في باب المكتب.. سأتصل بها ، لا تقلق.. - تصبح على خير، سنقفل المحل.. أرجوك لا تتأخر، ولا تنس الوالدة.. تصبحون على خير.. يقولها عامر لأصحابه في المخازن والضجر يبلغ منه مبلغاً يجعله لا يدري ماذا سيفعل فيما تبقى من الوقت.. يتلوى وهو يتمنى لو يعتذر لوليد، وبدلاً من ذلك يشعل مصباح الحجرة ويسحب ما وضعه وليد.. الورق المكتوب له منزوع من كرتونة سجائر..كتب عليها وليد ما يشعره بأنه حضر.. من أين التقط هذا التعبان ورقته المتسخة هذه لدرجة القذارة.. سخطه وقلة تهذيبه بادية في مفردات خطه الذي بالكاد يقرأ.. عملها ابن اللذين.. لابد أنه ترك شيئاً مشابهاً تحت مسّاحة زجاج السيارة.. هكذا هو وليد يؤكد على وجوده إذا حضر بكل طريقة ممكنة لكن المهم هو التأكيد على صادق بعدم إبلاغ أي أحد غير صلاح، وبالطبع ابن عمه سالم بموعد لقاء الغد في مكتبه خلف فندق تاج سبأ.. وحين يدق جرس هاتف الفاكس في الغرفة الأخرى يهمس: - لعله وليد لشدة الغيظ سيرسل قصاصة ليؤكد ما قاله من وراء باب شقة المكتب.. سيقول: أعرف أنك في الداخل.. فليكن.. أنا في الداخل، وزيادة في النكاية بك سآخذ قصاصتك التي ترسلها عبر الفاكس مهما كنت قاسياً.. وحتى لو علمت أو توقعت أني أسعى لترتيب موعد مع الآخرين بدونك.. ويشعل مصباح المكتب الآخر فإذا الأوراق التي على جهاز الفاكس غير ما يتوقع.. إنها الرسالة نفسها التي أرسلها لنور في البحرين عن شاعر الألمان غوته قد عادت إليه وقد خطت نور تحت بعض عباراتها خطوطاً متسقة.. يقلب الأوراق ويفتش فيها أكثر من مرة فلا يجد أثراً لقصته التي أرفقها مع مذكراته عن غوته فهل تجاهلتها البُنَيّة أم أهملتها؟!.. ولما لم يتأكد من ظنونه أخذ يتأمل عباراته التي وضعت نور خطوطاً تحتها، لكنه يجد أنها في آخر الأوراق قد كتبت عبارة راجعها مراراً فلم يفهم منها شيئاً.. عبارة نور كانت تقول: - يتبين من هذه القصيدة ومن مقطعها الأخير بالذات أن الشاعر يقصد نفسه.. ثم يتبين في ذيل الصفحة هذا التعليق: عزيزي عامر.. بالنسبة للقصة أقترح عليك الاتصال بحورية فهي تعمل في مجلة «الواحة» لديكم.. نور.. ثم تذكر رقم هاتف حورية.. يحمل الأوراق وهو في حال بين السعادة والإحباط، ومتفائل لدرجة القرف من ذاته وما حوله.. حورية بعد كل هذه السنين العجاف؟!، من أين وكيف جاءت من جدة إلى صنعاء.. تقول إنها كانت في الطائف فكيف استمرت العلاقة مع نور؟!، وهل هي متزوجة أم ما زالت عزباء؟، وأين رفيقتها نسيبة، تلك التي كادت أن تورطه ذات يوم في صراع اتحاد الطلبة بالقاهرة وتوسطت بعمه عبد الحميد وجعلته وهو السياسي المترفع يوصي بها مع أنه بعد آخر لقاء بنور وحورية لم يلتق بأي أحد من شلة المهندسين والإعلام والآداب حتى تخرج في كلية الصيدلة بالعافية ويتقدير عام أقل من أن يرضيه.. جيد.. أو بحسب تعبير ممدوح وبعض الخائبين، جيد مرتفع.. تعبير لم يسمعه إلا من مثل هؤلاء وهو لا يحب إطلاقاً أن يسمعه او يكرره لأحد.. لكن ما هذا؟! انتظر قليلاً وراجع رقم هاتف حورية المرسل من نور.. يعود به إلى المكتب وقد كاد أن يخرج منه، ويفتش أوراق نور التي ألقاها على متكأ غرفة المقيل.. هذا هو رقم الهاتف.. إنه رقم هاتف صلاح المدون في دفتره فما علاقته بحورية؟!، وآه لو يعرف ما فعله الليلة، وما ذا سيقول لعبد الستار لو عرف من صلاح بقصة الأقصوصة التي بعثها إلى البحرين.. وزوجته ماذا سيقول لها، وبماذا سيبرر تواصله مع حورية صاحبة شريط حنّا السكران؟!.. كل هذا زيت مصبوب على نار يكاد سواد دخانها يغمر تجاويف نوافذ يومه على تنوع ألوان زجاجها و تلونها.. ويقعد على متكأه، على بقية الصفحات فليس منها في يده إلا الورقة التي عليها رقم الهاتف يريد أن يقابله على الرقم المسجل عنده.. إذن هو رقم صلاح.. ربما.. ربما ماذا؟! عليه أن يتصل بأي أحد الآن ليتأكد.. فليجرب الاتصال بصهره صادق لكن الوقت متأخر.. لا بأس.. عذره أن أمه اتصلت به ولم يرد عليها .. مجرد عذر ومدخل فلا بد من التحقق الآن.. - ألو.. أين زوجك يا أختاه؟! - دخل غرفته لينام.. - أرجوك نادي عليه رجآءً حتى لو اضطررت لإيقاظه.. يوم غد الخميس ولدينا عمل مهم جداً في مكتبي.. عندي أنا.. أخوك يريد أن يستفهم منه ويعرف رأيه في مسألة مهمة وعاجلة.. رجاءً الآن.. - ... - ألو يا صادق.. اعذرني لإزعاجك.. كنت أريد أن أتأكد من رقم هاتف صلاح.. - أنا قد أبلغته بموعدنا غداً ولا داعي للاتصال به.. - لا ، عفوا، أريد رقم هاتف صلاح حتى أؤكد عليه بخصوص وليد.. لقد مر وليد على مكتبي هذه الليلة، وأنا لا أريد مشاكل الله يحفظك.. - خذ الرقم.. ويتنفس عامر الصعداء.. ولكن كيف يختلف الرقم الذي عند صادق..إن ما أرسلته نور من البحرين يطابق تماماً ذلك المدون في مفكرته ؟! هل حقاً هذا هو رقم حورية؟! وينتبه إلى أن صهره ما يزال ينتظر منه قولاً على الهاتف فيقول له: - عفواً.. سؤال أخير يا صادق؟! - أزعجتني الله يسامحك.. قل سؤالك وخلّصني.. - هل تعرف رقم هاتف آخر غير هذا لصلاح؟! - لديه بالتأكيد أرقام أخرى لكنه لا يعطيها إلا للمقربين جداً أو من هم من الوزن الثقيل وأنا بالطبع لست منهم.. - هل هذا الرقم... لصلاح؟! - يا نسبي هذا رقم البيت القديم وهو مؤجر!! - والرقم الذي أعطيتني؟! - يالشدة فضولك، إنه رقم هاتف قصره الجديد قرب فج عطان.. - وبيته القديم ممن يؤجره صاحبك؟! - بيوته كثيرة، ولا تقل صاحبك.. تيقظني من عز النوم ثم تقول هذا الكلام؟!... تصبح على خير.. ويضع عامر سماعة الهاتف بعدما سمع إقفال صهره لسماعته لأول مرة بهذا الشكل المنفعل فيهمس لنفسه: - والله عنده حق.. آه، لقد تأخرت كثيراً ولا أحد في البيت .. الحق على أم الأولاد.. والخالة ضحى.. ربنا يستر.. ويهرع على درجات سلم المكتب، ويسير بسيارته في شوارع خلت من الناس تقريباً، وقد أقفلت معظم المحلات التجارية أبوابها ولم يبق سوى بعض البقالات والدكاكين الصغيرة يتسامر أصحابها لسبب أو لآخر، وتوقفه نقطة تفتيش دون تفتيش، ويتحرك بإشارة مصباح أحد العسكر ولا يتوقف إلا في حوش داره. يبحث عن شيء ليأكله، ويفتح باب الثلاجة يتأمل ما تبقى فيها ، ويتوالى قرع جرس الهاتف فيتوقع أن تكون أمه لأنه هاتف صادق ولم يتحدث معها رغم اتصالها به في المكتب، وأنه كان سيجعل منها عذراً ومدخلاً للحديث المتأخر مع صادق.. لابد أنها هي.. إن لها كل الحق في لومه، ويرفع السماعة ليجد صوت امرأة غير أمه.. الصوت ليس غريباً: - الأستاذ عامر موجود؟! - يتكلم؟! - أنا آسفة فالوقت متأخر لكنني أحاول الاتصال بكم منذ ساعتين ولا أحد يرد!! - معذرة سيدتي.. من المتكلم؟! - أنا حورية.. - الألف لا شيء له؟! - تمام.. فارتبك رغم عفوية الرد وسرعته بلازمـة لها كانت ترددها كلما تقابلا أيام الدراسة، وتأخذه حيرة تشل صوته: - آلو... آلو؟! - ... - أستاذ؟! .. دكتور عامر.. - معك سيدتي!! - الليلة اتصلت بي نور من المنامة، وحكت لي حكاية القصة التي بعثت بها .. قَرَأتْها لي في الهاتف.. - كاملة؟! - كاملة.. إنما ليس هذا هو المهم.. - ما المهم يا سيدتي؟! - أني لا أستطيع المساعدة.. - فيم؟! - في نشرها بالطبع لأني متعاقدة.. نصف وقت، ولا أعرف أحداً وسينتهي عقد عملي مع المجلة نهاية الشهر.. هو عقد لن يتجدد.. - مع ذلك أريد أن أسمع رأيك فيما كتبت.. - أنت في الشعر أفضل، وأظن أن لديك حصيلة لا بأس بها منذ أمسيات الاتحاد حتى قالوا أنك شاعر الاتحاد.. أما تعلم بذلك؟! - سمعته من شخص ما ذات يوم في صنعاء.. - لا أظنك قد قطعت صلاتك بالشعر.. لو حسبنا السنين بالقصائد لكان لديك الآن أكثر من ديوانين.. - لا أدري.. المهم؟! - المهم للقصة أو لأي جديد من الشعر عندك نسيبة.. إنها الآن.. وهذا رقم هاتف المكتب.. وفي المنزل.. - لا .. لا.. يكفي رقم المكتب.. هل هو رقم مباشر؟! - إنه رقم التحويلة، وأظن أن لدى صلاح رقمها المباشر.. هل تذكر صلاح مبارك؟! - صلاح مبارك، نعم ، ولماذا صلاح مبارك؟!! - نحن استأجرنا دوراً في الفيلا التي يملكها.. - في شارع القصر؟! - لا، في الصافية الغربية.. - يمكنني إيجاد رقم الهاتف. - إذن خذ منه رقم نسيبه.. ومن نسيبة تتداخل الشخوص، وما يراه عامر بعد الآن من أفكار لا يراه غيره، ولو قال برؤياه لأنكر الآخرون قوله.. أما ما يلقيه أولئك من جمل وكلمات فإنه يجد لها من التفسيرات المتناقضة التي يقرها غيره وهم يعلمونها وإن أنكروها وكثير من كلامهم يخصه ويتعلق به وإن رمزوا بأسماء وفاعلين أو مفعولين آخرين فهو المقصود دائماً بكلامهم قدحاً كان الكلام أو مدحاً، بل إنه من هذه الليلة ومن تلك المهاتفة بالذات يبدأ رحلة قيل فيما بعد إنها البارانويا أو جنون الارتياب، وما إن يضع سماعة مهاتفته مع حورية حتى تستيقظ من سباتها حوادث ذات ليلة شتائية بردها يابس ومرآها تقدد في ذاكرته رغم قسوة حضورها مع عدد قليل من جمعية محبي صوفيا لورين في قاعة عرض خاصة وغير بعيدة عن سينما مترو وسط البلد في القاهرة.. ربما كان هذا الفيلم هو الوحيد الذي أخرجه لها تشارلي شابلن، ذلك الممثل الكوميدي العظيم الذي وجد عامر ذات يوم في أحد الأكشاك نسخة من مذكراته باللغة العربية، واكتشف في شقة المهندسين التي رحل منها الرفاق السابقون أن النسخة نسختان التصق أحدها بالآخر فكانت معه النسختان -دون قصد- بثمن نسخة واحدة.. مجرد الصدفة جعلته يهدي إحدى النسختين لنور دون أن يُظهِرَ لها علةً أو سبباً وكأنها رد لما أهدته له ذات يوم، لكنها رغبت أن ترد على التحية بمثلها فقامت باستغلال بطاقة دعوتها لحضور فيلم صوفيا لورين وقدمتها إليه مشيرة لعلاقة مخرج الفيلم بالمذكرات المهداة إليها، وهو لا يدري أن البطاقة مهداة لنور من نسيبة، مقرر جمعية محبي صوفيا لورين والدينامو المحرك لها.. ومع أن عامر ليس عضواً في هذه الجمعية إلا أنه قرر مشاهدة الفيلم للوحدة التي يشعر بها، والفراغ الذي كان يتمناه فلما أسفر قَلَبَ ليله إلى نهار موحش .. يبكر مع بطاقته وهو لا يعرف من سيحضر ولا أن نسيبة قد دعت مراد عز الدين لشغفه بعلاقات جديدة، ومعهما حورية الباحثة عن تغيير جو البيت المنغلق كالسجن ولولا مرافقة أخيها لما تم لها ما تريد .. تفاجأ عامر بالثلاثة كما تفاجؤا بحضوره، ودون ترتيب مسبق يتجاور أربعتهم على كراسي صالة العرض الخاصة .. مراد على يمينه مع فتاة وصديقتها اللتين تعرف عليهما للتو، وعلى يساره شقيقته حورية، ثم نسيبة.. أما عامر ففي طرف الصف ليس بعده أحد سوى الممر وسط الصالة. أثناء عرض الفيلم يلاحظ عامر مالا يلاحظه غيره.. حركة قلقة لساقي نسيبة وافتعالها مللاً وعدم رضى رغم ضحكات الجمهور لأحداث الفيلم الكوميدي .. ويبقى المشهد حتى تدس نسيبة ساقها اليمين تحت ساق حورية، ثم تعبث بكفها الراعش وأناملها الغليظة بمؤخر عنق حورية التي ما إن تتجاوز نسيبة حدها، ويتأكد لحورية سوء عملها حتى احمر وجهها غضباً وعلا صوتها: - ماذا تفعلين يا لعينة.. - .... - قذرة .. لعينة ويتناهى انفعالها لأذني أخيها، ويعلو ضحك الجمهور مع ضحكة هستيرية لنسيبة التي ضمت ساعداها وسحبت ساقها لكن مراد قد أقسم أن يعبث بكل عضو في جسد هذه الرعناء بعدما عرف تفاصيل ما حدث.. ولا يجدي ندم حورية لإثارة أخيها لأن مراد الذي تظنه لا يبالي بعِرْض أخته قد تبدل حاله وأخذ يستعمل بعض رفيقاته ليذيب أقراصاً يعلم أثرها وذلك في مشروب يقدمنه لنسيبة كلما صادفنها، حتى إذا ما تيقن من إدمانها تركها لتدمر نفسها وجسدها، ولولا حورية التي أدركت بعد فوات الوقت ما يفعل أخوها بضحيته لما تدارك نسيبة أحد، فقد ألحقتها بمصحة لعلاجها، وتحملت سراً كل مصاريفها حتى لجأت للاستدانة حتى تعافت صاحبتها نسيبة التي لم تنس فعلتها كما لم تنس معروف حورية وما فعلته من أجلها، ولذلك اشمأزت نفس عامر لمّا ذكرت له حورية اسم نسيبة رغم محل حورية الذي لم يزل في قلبه فكيف يتواصل مع هذه الرعناء لنشر قصته مع مالها من سوابق معه، ولا تنقضي كل تلك الصور التي أثارها اتصال حورية إلا مع شعاع الصباح. على مائدة الغداء مع صادق والإرهاق يسد شهية عامر فلا يأكل الكثير يفاجأ بخبر صهره عن إلغاء لقاء الخميس وقد أعد له عدته ليتم عصراً في مكتبه مع ابن عمه سالم بحضور صلاح، ويحاول أن يعرف سبباً للإلغاء فلا يدرك سبباً فيسأل في نزق: - وكل هذا القات الذي اشتريته لمن؟! - ستأكله أنت؟! - هل أنا حمار؟!.. - مؤكد أنك لم تنم ، لذلك فأنت متوتر.. - صحيح، ولكن قل لي لماذا ألغيتم الاجتماع؟! - يبدو أنه سيتم ولكن في مكان غير مكتبك.. - لماذا؟! - هل نسيت ما فعلته مع وليد؟! .. يبدو أنه قد أقنع صلاح أن القسمة على اثنين أفضل من القسمة على أربعة!! - والقات؟! - ما يمكن أن يحصلا عليه من الصلح سيكون أضعاف ثمن القات بما لا يمكن مقارنته.. - تعال للمقيل عندي؟! - في المكتب ؟! - أو في البيت، حيث ما تريد.. - آسف .. سبقت دعوة غيرك .. إذن فهم متفقون، ويرتب عامر لمقيله في بيته .. يمكن هنا قسمة القات لعدة أيام في ورق ألمنيوم فقد كلفه كثيراً.. كان يريدها مناسبة ليظهر حفاوة استثنائية بصلاح لأن حورية مستأجرة لمنزله القديم، وعلاقة صلاح بنسيبة لم تنقطع فهي قائمة منذ زمن الصحبة في القاهرة.. بعد الفراغ من الصلاة يبدأ عامر المقيل على طاولة الطعام، ويبحث عن شيء يقرأه طرداً للملل فلا يصيب إلا مثله أو أشد منه، وقبل أن يحسم تردده في البقاء وحيداً في المنزل أو المغادرة إلى المكتب أو حتى لأي مكان آخر، يرن جرس الباب فلا يجيب مباشرة لكنه يطل أولاً برأسه من نافذة الحجرة ليستطلع من هذا الذي يتواصل قرعه للجرس وخبطه للباب فلا يرى إلا مفاجأة يحسبها كبرى .. حنقه يضيع بسبب المفاجأة .. نسيبة قدام الباب ترفع رأسها عند سماع صوته الغاضب: - أنا يا دكتور .. أنا الدكتورة نسيبة.. تقولها بكل ثقة كأنها فعلاً قد حصلت على الدكتوراه .. ما هذه الجرأة، والبيت خال من كل أحد غيره: - هل ستفتح الباب أم لا !!.. أنا مستعجلة.. وعلى طاولة الطعام نفسها تجلس نسيبة ولكن في الجهة المقابلة، وهو في المطبخ يعد لها كوبًا من الشاي: - ومن الذي يخشى الفتنة مع امرأة لا ينقصها إلا شوارب الرجال؟َ.. - لكنها في هيئة امرأة وزوجتك ليست في الدار.. - ولو .. - ماذا سيقول من يراها تدخل دارك .. الناس لا يرحمون.. هكذا كان يقول لنفسه ويرد عليها.. يصب كوب الشاي لزميلة لم تكن زميلة له أبداً .. ويرى بين يديها أوراقاً يدرك بسرعة البرق أنها أوراقه .. هل دارت هذه الأوراق حتى عادت من المنامة إلى صنعاء؟!، لكن المفاجأة الأخرى كانت اكتشافه من كلام نسيبة أنها الأوراق المرسلة بالفاكس لصحيفة المدار الحكومية: - ثم إن زمالتنا يا دكتور جعلتني أهتم بكتاباتك .. قد فات زمن لكن ما فات إلا الشر.. - عجبي هو عن كيفية وصول الأوراق إليكِ!!! - علاقات يا دكتور .. هل يهمك أن تنشرها ؟! - ما أرسلتها إلا لتنشر !! - قبل أن تسمع رأيي؟! - هل اتصلت بك حورية ؟! - لم أر حورية منذ شهور .. أرسلها لي عمك عبدالحميد - قصدك عمي عبد الستار ؟!؟ - بل سعادة السفير .. عمك عبد الحميد .. أنا لا أعرف عمك عبد الستار إن كان لك عم بهذا الاسم.. - ومن أوصلها لعمي في لاهاي ؟! - لا أدري ولكن المؤكد ... فيقاطعها ساخراً: - علاقات ، على قات .. لا قات في هولندا .. - لماذا لم تقبل مساهمة زوجة عمك .. اعتبرها يا رجل شريكاً كشركائك الآخرين.. - لنبق في موضوع القصة .. - ليس قبل أن تجيب على سؤالي .. - هل أرسلك عمي لهذا السبب؟! - بل للقصة فالحديث عنها يطول.. لماذا رفضت مساهمة نجية زوجة عمك؟! - كنت أفضل أن أسمع السؤال منها شخصياً.. - هل نسيت فضله عليك ؟! - موضوع بيني وبينه .. ما القصة؟!.. ماذا تريدين بالضبط؟! - القصة؟! - ما بها ؟! - أريد نقاشك كزميلة .. كقارئة تخصصها علم نفس .. - وتعمل بالسياسة! - أنت بهذه القصة تعمل بالسياسة .. - لا ، إنها رمزية .. - تتحدث في السياسة كالعاشق المتمني ولا تريد الانتماء!؟ - هل قابلتِ صلاح؟! فتخرج المرأة قَدَمَها العاري من حذائها الفضي اللامع وتهز ساقها وهي تقول: - ألم تقل لك حورية أنك في الشعر أفضل ؟! - ألم تقولي بأنك لم تقابليها منذ شهور ؟! - وأكثر ؟!؟! ويتحرك ليسحب قدمه قليلاً حتى لا يمس ساقها الذي يروح ويجيء: - إذن كيف عرفتِ ما قالت ولم يسمع قولها غيري؟!! - وما يدريك إنه لم يسمعها أحد .. لعل الجن قد سمعوها.. - وأنتِ على اتصال بهم؟! - ألم يستمع للقرآن نفر من الجن؟! - دعينا الآن مع القصة.. - أعطني وقتاً.. أنا الآن في عجلة من أمري.. وتنهض فينهض بعدها، ويركض خلفها، وأمام سيارتها في الشارع يسلمها بطاقة الزيارة التي تحمل اسم المؤسسة والعنوان ويقول لها: - يمكنك الاتصال بي في المكتب.. فتدرك حرجه من زيارتها في بيته وتقول: - أوكي.. تخشاها وهي غائبة !؟ وتنطلق بسيارتها قبل أن يعرف لها عنوانا أو رقم هاتف. يعود للقات، ويزيد عليه مما كان سيدخره، ويمضي نحو المكتب وقد أرخى توتره رغم ما نزل به في الساعة التي مضت، وقد تشتت طيف وليد وصلاح وإلغاء صادق لموعدهم مع سالم، وفي غرفة مقيل المكتب التي لم يزل بها أثر من رائحة دخان سجائر الأمس مع مخلفات القات، متربعاً يفرد ركبتيه، ويمضغ ولا يدرك ما يمضغ من القات، ولا الوقت يحس به وكيف يمر لأنه منذ جلوسه وهو يستعيد دقائق لقائه بنسيبة بأدق التفاصيل التي يسوقها القات إليه سوقاً.. أليست تلك البداية التي كانت منك قد انتهت إليك ؟!، وألم تكن للحورية نصيحة بالاتصال بنسيبة وهاهي تلك قد حضرت لبيتك بقضها وقضيضها إن كان لها قض وقضيض تعرفه من نور أو حورية!!، ولماذا تتخلص نور منه بهذا الشكل وتتخلص حورية من الوظيفة، وهل كان لهذه المتدكترة أثر في قرار الحورية.. يريد استعادة ما عندها لأنها كمن يسعى لابتزازه .. هو سلوك الفشل المغلف بالنجاح والدرجة العلمية، ولو لم يكن له أي تأثير لما سعت على قدميها إلى منزله، والحمد لله إذ لم يكن في المنزل سواه، وسمعته الحسنة عند الجيران ومساعدته لهم بعينات الدواء ستدفع عنه ما يمكن أن يتطاير من شرر الإشاعات .. لكن كيف الوصول إليها ولا رقم هاتف عنده ولا عنوان.. الأفضل اللجوء لحورية التي هاتفته لأن رقمها من رقم صلاح وقد حفرته المفارقة في رأسه حفراً.. لكن ماذا لو هاتفها ورد عليه رجل من أهلها ؟!، لا بأس .. سيدعي أنه يريد صلاح لأنه رقمه أصلاً، أو سيطلب اسماً لا وجود له فيكون ردهم النمرة غلط، ويدير الرقم ويتسمر لا يجيب: - ألو .. ألو .. إنه صوتها ينبع من ثقوب سماعة الهاتف، ويرتعد ليعيد السماعة بحركة لا شعورية إلى محلها.. ثوان يسكن روعه ويعيد الاتصال: - ألو .. ألو .. ألا تريد أو تريدين الكلام؟! - معذرة .. أنا عامر.. - أهلاً يا دكتور.. هل أنت من هاتفني قبل لحظات؟! - لا .. نعم .. خفت أن يرد عليّ شخص غيرك.. - لعلمك في مثل هذا الوقت لن يرد على الهاتف أحد غيري.. - عموماً، تصوري أن نسيبة قد فاجأتني بحضورها إلى البيت!! - أي بيت؟!! - بيتنا طبعاً!! - قلت من هي التي فاجأتك بحضورها؟! - نسيبة .. أقصد الدكتورة نسيبة.. - لكن نسيبة في القاهرة تحضِّر للدكتوراه.. - أعرف، لكنها كانت معي.. - متى ؟! - عصر اليوم.. - لقد حدثتني منذ لحظات.. - وهل ذكرت لك زيارتها لي؟! - لقد حدثتني من القاهرة.. - نسيبة عمران.. - وهل تتحدث عن أحد غيرها ؟!! - زميلتنا في القاهرة؟! - بعينها .. - أليست في صنعاء؟! - لها منذ سافرت أكثر من شهرين!! - وكيف نصحتيني أن أتصل بها؟! - أنا ؟! - نعم؟! - متى ؟! - بالأمس ؟!!.. - لا بد أنك اخطأت الرقم .. هل يعقل هذا الذي يجري؟!، يمكن للرؤيا أن تكون كفلق الصبح لشدة وضوحها، لكن أن تصبح الحقيقة الناصعة صبحاً أسود فهو الجحيم.. جحيم ماذا؟! .. شيء لا يمكن وصفه.. هل وضعت لي نسيبة شيئاً من أقراص الهلوسة لتدمرني كما أراد أن يدمرها مراد؟!، لكني لم أشرب أو أتناول شيئاً سوى مضغ القات حين كانت معي في الدار. ما تمنى عامر قط أن يتهمه أحد بشيء كما يتمنى في هذه اللحظة.. أكبر أمانيه الآن وأقواها في نفسه أن أحداً من جيرانه أو معاريفه قد رآها وتحقق من دخولها بيته وجلوسها معه في وضح النهار وتكون له من الحنكة والجرأة أن يذيع خبرها في كل مكان لترتد الإشاعة إليه فيكون على يقين من حصول ما تنكره حورية .. ولماذا البداية من حورية ؟!.. الحق عليه لأنه اطمأن لها ووثق بها وهو لا يعرفها حق المعرفة، بل إنه لا يعرف عنها لا حق ولا باطل، فلماذا .. لماذا يصدقها ويكاد يكذّب سمعه وبصره وكوب الشاي الذي شربته نسيبة في بيته؟!.. وينطلق نحو البيت ليتحقق مما جرى.. ويعلو صوت المطربة نجاة في تسجيل السيارة تغني لنزار: هنا جريدته في الركن مهملةٌ.. هنا الزفت، يصرخ، ويستخرج الشريط ثم يقذف به إلى الشارع صائحاً: - من وضع هذا الزفت في سيارتي ؟! وحين يرى كل شيء على طاولة الطعام في بيته كما تركه، حتى كوب الشاي وإبريقه وفيهما بقية لم يتمالك نفسه من الصراخ مرة أخرى ثم الدوران حول نفسه، وكم يتمنى أثناء عودته إلى المكتب لو أن شريط الأغنية الذي رماه يدور الآن .. وفي الزوايا بقايا من بقاياه .. آه من بقاياه !!.. سأكمل مقيلي مع الشباب في المخازن، بين الكراتين عسى المرايا تشتعل وتعري وجوه الأنذال وتكشف عوراتهم لتسقط كل شيء فلا تُبقي حتى ورق التوت. - نعم يا محمد .. لم تقل لي رأيك في القصة؟! - قلت إنها ليست لك!! - نعم.. - لكنها بخطك ؟!! - أنت أحب قرائي إلى نفسي!! - أحب أشعارك وأحفظها.. - والقصة ؟! - هناك اختلاف .. ألست معي ؟! - ... - أنا مجرد محاسب فاعذرني.. - بل أريد رأيك ؟! - الحقيقة أني لم أقرأها .. - حتى الآن ؟! - لم تدعني أكمل كلامي .. لم أقرأها جيداً.. - اقرأها مثل التفاهات التي تقرأ .. - تعيّرني لاهتمامي بالرياضة؟! - كل اهتماماتك تافهة .. - الله يسامحك .. - وإن لم يسامح ؟! - ما بك اليوم يا دكتور؟! - مجنون ؟!؟ .. - صلِّ على النبي .. - اللهم صلِّ عليه .. - كلمني فربما حملت بعض همك؟! - قل لي أولاً.. هل تقسم أنك لا تكذب علي ولا تخونني أبداً ولو في ريال واحد؟! - أقسم.. ويتلفت أمين سره وحارس مخازنه يمنة ويسرة ويهمس: - إلعنّي .. اشتمني .. قل أي شيء يا دكتور لكن ليس هنا أمام العمال.. - تعال معي .. وفي المكتب يضيق عامر بنفسه وبصاحبه حتى يأمره قبل أن يجلس.. - الأفضل أن تعود لمحلك .. دع الكلام لوقت آخر.. ويكون أول خاطر يخطر في باله بعد مغادرة صاحبه وأمين مخازنه هو ما ذكرته نسيبة عن رفضه مساهمة نجية زوجة عمه عبد الحميد في رأسمال المؤسسة، فهو أولاً لم يرفض لأن نجية لم تعرض عليه المساهمة أصلاً وإنما سألته فيما يشبه عملية تحقيق عن مصدر رأسمال شركته كيف جمعه وهي العارفة بظروف نشأته ويتمه فقال لها أنه جمع المال من مساهمات مختلفة أقلها في حدود ثلاثة آلاف دولار التي أودعها عبد الرحمن شبيط وأكثرها يبلغ حدود تسعمائة وخمسين ألف ريال أي ما يعادل مائتين وأربعين ألف دولار تقريباً.. وسألته عن شروط المساهمة، وعن مقدار الأرباح، وكيف ومتى يتم توزيعها، لكن نجية لم تعرض عليه أو تطلب منه قبول أي مساهمة لا منها وباسمها ولا باسم زوجها عبد الحميد ولو عرضت عليه المساهمة لما تردد في قبولها.. لكن سؤاله الذي يبقى هو من أين لنسيبة مثل ذلك الكلام وتلك الأفكار.. صحيح أنه يعرف علاقات عمه الواسعة والمتشعبة، وأن له آيادٍ بيضاء عليه وعلى كثيرين من أمثاله الأقارب والأباعد، لكن عمه من النوع المتكتم، وهو قليل الكلام، كثير الابتسام، شديد الانضباط بحكم تربيته العسكرية وتيتمه صغيراً وهو كذلك شديد الوفاء خصوصاً مع من أحسن إليه في يتمه وعوز طفولته بعد وفاة أمه في قريتها التي جاءت منها.. ولنفرض أن نجية هي التي أخبرت هذه المتطفلة الرعناء بالحديث الذي جرى بينهما قبل سفرها هولندا فهل ستخترع نجية كلاماً عن مساهمتها ورفضه لأموال عمته .. إنها اختلاقات نسيبة وفيها زيادات .. ومع أن أصل خبرها معلوم إنما لماذا حدثته وبذلك الأسلوب وكأنها تريد إعلامه أنها تعلم عنه الكثير وبزياداتها تلك كان عليه تصديقها وتكذيب نفسه أو أنها تريد من اختلاقاتها أن توحي له أو تثبّت في رأسه أن لها صلات تمكنها من الوصول لأمثاله وأن تؤثر على علاقاته الخاصة والعامة.. أليس تخصصها علم نفس؟!. وحيداً بعد أن غادر الجميع ينفض عن ذاكرته بعض ما علق من غبار نسيبة وحورية، ويتأمل وهو يفتش بين الأوراق رسالة دعوة مستر ثوريون لزيارتهم في بلجيكا والتي بموجبها سيستخرج تأشيرة (البنلكس) من السفارة الهولندية.. ترى هل ما تزال فكرة السفر مناسبة بعد كل ما جرى.. فكرة السفر أصلاً من بنات أفكاره لأن مدير التصدير هذا جديد في الشركة، ومستر ثوريون لم يفهم حتى الآن لماذا يريد عامر استيراد كمية من الأغذية بحيث تذكر الفواتير سعراً أقل من المتفق عليه وسيقوم بتحويل الفارق عن طريق صرافين محليين.. صحيح إنه قد فهم من مستر ثوريون أن القوانين البلجيكية تمنع توريد أو إيداع أي مبالغ في أي حساب بنكي لأي شركة بلجيكية مالم يكن لها مستند مثل فواتير بيع أو مستندات شحن وبالتالي يصعب قبول اقتراحه بتحويل فارق قيمة البضاعة نقداً عن طريق الصرافة من السوق السوداء، لكن عامر قد قدم اقتراحاً بديلاً وهو أن تُصدر الشركة فاتورتين بكامل قيمة البضاعة بحيث يستعمل عامر إحدى الفاتورتين لفتح الاعتماد البنكي الرسمي وإجراء المعاملات الجمركية والضرائبية، بينما تستعمل الأخرى لتحويل فارق العشرين ألف دولار، مع ذلك لم يفهم مدير الشركة مراد عامر فكان أن اقترح زيارتهم في بلجيكا ليتحملوا هم إقامته لليلتين ويتحمل هو تذاكر السفر. - بالله يا محمد اتصل بنجاة في سفريات حدة واسألها عن سعر تذكرة: صنعاء – بروكسل - صنعاء.. وعندما لا يأتيه محمد بسعر مناسب يضطر للاتصال بنفسه لأنه يتجنب الحديث مع نجاة التي رغم أنه يحصل منها على خصم من عمولة مكتبهم إلا أن الفتاة ذات الأصل اليمني تغمره بمجاملاتها، ولطف أخلاق لا حدود لها، وغالباً ما تدعوه لزيارتها فلا يخرج من مكتبها إلا بتذاكر السفر بالسعر الخاص وهو لا يعود من سفره إلا ويخصها بهدية مميزة لقاء خدماتها ولطف أخلاقها فتنتهز هي أقرب مناسبة لتهديه مما يتلقاه مكتبها من مواد دعائية مميزة، سياحية أو غير سياحية.. وفي كل مهاتفة معها أو زيارة لمكتبها يسمع منها مالا يسمع من غيرها.. المهم أن نجاة تخيره بين السفر مع الخطوط الفرنسية عن طريق باريس إلى بروكسل أو مع الخطوط اليمنية إلى امستردام ومنها على القطار إلى أي مكان في بلجيكا فيقرر السفر عن طريق امستردام لما يمكن أن يتمتع به من رحلة على القطار ولأن عمه عبد الحميد سبق أن دعاه لزيارته في هولندا في آخر لقاء جمعهما في صنعاء .. لقد كانت دعوته صريحة: - ما دمت تسافر أوروبا من وقت لآخر ، لماذا لا تمر علينا في لاهاي؟!. ثم أردف مازحاً: - إنها لا تبعد كثيراً عن لندن.. ربما أعطيك من الاهتمام أكثر من صاحب بروملي.. ويفترّ ثغر العم عن ابتسامة أخرى أوسع وهو يقول: - أعرف حرصكم يا رجال الأعمال، لكن لا تقلق فإن لك على عمك ثمن التذكرة من أي مدينة في أوروبا إلى امستردام .. طبعاً التذكرة من اليمن على حسابك.. ويأتيه الرد بأن عليه فقط إخبارهم عن موعد رحلته وأن يعمل حسابه لأسبوعين في صيف هولندا. - أسبوعان؟! .. أحتاج لألف دولار على الأقل ؟!.. - ربما أكثر؟!.. شمال وغرب أوروبا أسعارها نار.. - سأطلب الحجز في فندق متواضع.. - ليس ضرورياً أن يكون قريباً من مبنى السفارة؟! - ولا من مراكز التسوق.. - لا بد أنهم يتعاملون مع فنادق تمنحهم خصومات.. - ألم يقل لك إنه سيتحمل قيمة التذاكر؟! - وماذا في ذلك ؟! - فليتحمل الفندق أيضاً!! - لا ، ليس إلى هذه الدرجة .. أنت تعرف عمك في مثل هذه المسائل .. - ليس هذا وقت الجدال !! - أسبوعان؟!.. ماذا ستفعل فيهما، وعلاقتك بعمك ليست إلى تلك الدرجة؟! - إجازة سأفعل فيها ما يفعل غيري.. - غيرك يرتب زيارات عمل أخرى.. - سأفكر !؟ - وبمناسبة الكلام عن الإجازة ، زوجتك يجب أن تنهي إجازتها عند حماتك مع الأولاد.. أكثر من أربعين يوماً غياب عن البيت غير لائق بكما.. ماذا سيقول الناس عنك وعنها؟!.. حتى نسيبة لم تَسْلم من لسانها.. أمك قد عادت، وستعود خالتك والكل يلقي اللوم عليك.. وتقتنع زوجة عامر عند مهاتفته لها الليلة بالعودة للبيت قبل سفره وتحرير قائمة بطلباتها مع الأولاد بمناسبة هذه الرحلة الطويلة لكن لها شرط واحد كان يظنه متعلقاً بحورية،فإذا بها تشترط أن يقول لها بكل صدق من هي نجاة التي تناول القات في المكتب معها. يسألها: - هل قرأت رسالتي لمطهر؟! - نعم .. وحتى لا تظن أني أتلصص على خصوصياتك فقد قرأتها بمحض المصادفة .. لقد تركت دفترك مفتوحاً على مائدة الطعام حتى ظننت أنك فعلت ذلك عمداً، وأنا أعتذر لك الآن ليقيني أن المسألة كانت سهواً ومحض مصادفة.. فيقول لنفسه: - معها كل الحق، وأنا أصدقها.. إن صمتها المستميت قد شق عليّ وكاد أن يصيبني بأكثر من عقدة ندم وألم .. ويبقى شرطها لتعود لعشها: من هي الفتاة التي تناول معها القات في المكتب لا ثالث معهما؟!.. كان ذلك مقيل قات اختلى فيه مع نجاة ولم يتجاوز حدود مقيل شرحه في رسالة لصاحبه وشريكه في بعض صفقاته .. مطهر العابد لأن الشكوك قد ساورته بأن مطهر قد عرف بمقيله مع نجاة التي تعرفا عليها معاً فقد تصادف مرورْ مطهر بقرب مكتب عامر ولمح سيارة الفتاة قريبة من المكتب فأراد أن يتأكد من أنها مع عامر في المكتب، لكنه تأكد أن عامر لن يفتح له باب مكتبه أو يرد على مناداته حتى وإن ألح، ففعل مطهر فعلته بأن أفرغ إطار سيارة نجاة، ورغم أنه حلف أيماناً مغلظة أن لا علم له بمن فعل ذلك إلا أن نجاة وعامر يعلمان فجور صاحبهما وكذبه ولو حلف بالطلاق وأقسم بأغلظ الأيمان وقد تعود كل من عرف مطهر أنه بين كل كذبة وكذبة يكذب كذبة ثالثة ولو حلف وأقسم، وقد علمت زوجة عامر بعدها من زوجة مطهر بكل شيء، ورضيت باعتذار زوجهـا عامر وصدقت قطع صلاته بنجاة بل وبكل فتاة غيرها، وعادت لوكرها قريرة العين والبال فهي وحدها من يستطيع تحضير حاجات سفر زوجها. على بوابة مطار سخيبول بأمستردام يكون أحد موظفي السفارة في انتظاره، وعندما يسأله عامر عن الفندق الذي سينزل فيه يجيبه موظف السفارة أن تعليمات سعادة السفير توصي بتوصيله أولاً إلى مبنى السفارة بشارع سورينام، وهناك يستقبله أحمد إبن عمه عبد الحميد لأن الوالد الآن في مهمة خارج السفارة، ويلاحظ عامر أن ابن العم الذي يدرس في بريطانيا قد طالت لحيته قليلاً رغم تهذيبها أما شعر الرأس الحليق فيذكره بما حصل له في (برود ستيرز) .. قرية في مقاطعة (كنت) البر يطانية حيث سكن مع مسز جرمان لستة أسايبع، دارساً مع برنارد الشاب اليافع الفرنسي في مدرسة قريبة للغة الإنجليزية .. ذات ليلة أوصلتهم مع زملائهم حافلة إلى المدرسة في حوالي الواحدة بعد منتصف الليل بعد أن حضروا في أحد مسارح لندن وشاهدوا المسرحية الموسيقية الشهيرة «إيفتّا» وكانت دراجة عامر في انتظارهما ليقودها زميله برنارد الأكثر شباباً، والأقل تدخيناً للسجائر، وقبل بلوغ دار مسزجرمان طلع عليهما من بين الأشجار شباب (ناشيونال فرنت) حالقوا شعر الرؤوس .. سُمرة عامر قد أكدت لأولئك الشباب أنه ليس بريطانياً وبقي عليهم التأكد من جنسية سائق الدراجة الأبيض ذي الأم الهولندية والأب الفرنسي ، فصاحوا به وهم يحيطون بدراجته التي ما تزال تجري مرتعشة: - هل أنت إنجليزي؟ .. فلما رد برنارد بالنفي توجهت لوجهه مع صاحبه لكمات أكف من قيل إنهم من المتعصبين التابعين لجماعة حليقي الرؤوس في الجبهة الوطنية، وسقطا ينزف الدم من أنفيهما ومن الفمين اللذين تورما .. ويسأل عامر ابن عمه على سبيل المجاملة: - أما زلت تدرس الكيمياء في كمبردج؟! فيرد عليه بجفاء لم يتوقعه: - هل يهمك ذلك ؟!؟! ويتلافى عامر مفتتح الكلام الذي لم يعجب ابن السفير فيقول: - اعذرني يا إبن عمي فلنا سنوات لم نتقابل فيها ولم أجد سوى هذا السؤال السخيف لأبدأ معك الكلام.. إذا لم تكن راغباً في الدردشة فإن الحق يقع عليّ لأن يُتمي الذي نشأت عليه لم يوفر لي نباهة من يحظى برعاية الأبوين.. وتبدو شبه استجابة من أحمد عبد الحميد لكلمات ابن عمه فيرد عليه: - قد افترضت فيك الاهتمام بابن عمك وأردت أن أتأكد ليس إلا .. غير أنك أخذت سؤالي بحساسية.. هل لي أن أرد عليك سؤالك .. إذا كان أسلوبي يزعجك فلا داعي للكلام..؟!. - لكننا نحتاج إلى وقت.. لابد من بداية روتينية.. يعني مجاملات.. - حسناً، اعتبرنا قد انتهينا من البدايات، وتجاوزنا الروتين.. وينهض أحمد حين يرى أباه العائد صاعداً لمكتبه، ويضع عامر كوب القهوة من يده ليلحق بابن عمه الذي يشير له ملتفتاً من أعلى السلم بترك حقيبة اليد والصعود خلفه، لكنهما لا يدخلان مكتب السفير إلا بعد أن يؤذن لهما، وبعد قليل ينسحب أحمد مستأذناً أباه ليصلي الفرض في مصلى خارج السفارة، ويأخذ عامر بنصيحة عمه فيرحب بعمل حمام دافئ في مكان خاص ملحق بمكتب السفير ليستعيد نشاطه بعد رحلة استغرقت أكثر من تسع ساعات، ويستعمل من ملابس عمه الداخلية التي يحتفظ بها في مكتبه مع بدلات للطورائ والمهمات المستعجلة، كما أن علاقاته المتميزة والواسعة داخل هولندا وخارجها تجعل من الصعب عليه أحياناً الذهاب لداره الواسعة البعيدة في ضواحي المدينة ليأخذ حمامه، ويحلق لحيته، ويحف شاربه بل يفضل الاستعانة بمصففة شعر مغربية . بعد الحمام يجلس عامر أمام عمه المتشاغل على مكتبه ببعض المراسلات، ونظارته على أرنبة أنفه، ويرفع العم بصره ليسأل ابن أخيه وعيناه تلمع بابتسامته الشديدة الذكاء: - بالتأكيد استفزك الشيخ أحمد بكلامه!! فيتجاهل عامر وصف ابن عبد الحميد بالشيخ فقد يقصد السفير استدراجه ويرد عليه: - لا .. أبداً.. نحن لم نقل شيئاً !! .. - بل قلتم.. عندي من يبلغني بكل ما يدور في السفارة.. وعلى تعجب وإعجاب من عامر بصراحة رجل الدبلوماسية، ضابط الاستخبارات السابق، يواصل عبد الحميد كلامه على إنصات ابن أخيه: - أحمد كان قد قرر ترك الدراسة في جامعة لندن غير عابئ ولا مقدر للجهد الذي بذلته ولا المصاريف التي دفعتها ليدرس هناك .. من حسن الحظ أن أستاذاً جامعياً من أصل باكستاني قد تلقف أحمد وساعد على التحاقه بقسم الكيمياء، ومن سوء الحظ أن الأستاذ نفسه قد غرس في ولدي اتجاهاً دينياً لا يتماشى وما تربى عليه حتى أحبطه.. تصور أن هذا النابغة يريد العودة لبلد لا يعرفه ليستقر في جِبْلة أو صعدة أو زبيد .. حتماً ستصدمه أشياء لا يستطيع فهمها ولا مقاومتها .. بالكاد أقنعته أن يعلق تسجيله في الجامعة بدلاً من أن يلغيه.. ابن عمك في ورطة وأريد معاونتك في إقناعه بالمكوث في القاهرة لبضعة أيام فقد يثوب لرشده .. لنا في القاهرة أصدقاء .. هل تستطيع إقناعه بذلك؟! - حتماً يا عم سأحاول.. - بل ابذل كل جهدك .. أنا أقدر ثقافتك ولباقتك .. إذا لم يكن لديك مانع فأنت ستحل ضيفاً علينا مدة بقائك في هولندا .. بالطبع البيت بيتك، وأنت رجل أعمال، لكن ظرفنا استثنائي .. - والله يا عم أنت تعرف أنك رجل استثنائي في حياتي، ومعروفك مع الأسرة كلها سابق، ولكني لا أدري ماذا سأفعل .. لقد رتبت بعض المواعيد مع الشركة البلجيكية.. فيقاطعه عبد الحميد قائلاً: - وفي باريس وفينا.. أعرف ذلك ، لكن بالإمكان مراجعة أجندة مواعيدك لنرتب لقاءاتك مع أحمد بحيث يبدو الأمر طبيعياً وغير مرتب.. - لكن كيف أبرر له البقاء في القاهرة قبل السفر إلى اليمن؟! - الواقع أني سأرتب له ما يشغل وقته بالكامل في القاهرة .. زيارات للأزهر والحسين والسيدة زينب ليشبع تدينه.. ثم ... خذ هذه القائمة.. - ؟!؟ - هذه قائمة كتب سأطلب منه البحث عنها في القاهرة .. أريد منه أن يشتريها وهي أصلاً في مكتبتي .. لقد قرأتها لكني أتوقع أن يدفعه الفضول لقراءتها .. مثلاً ما هو أول كتاب عندك في القائمة؟! - مسرحية (محمد) لتوفيق الحكيم.. - هذا من أفضل ما كتب عن الرسول .. ماذا بعده؟! - محمد رسول الحرية لعبد الرحمن الشرقاوي .. - وعلي إمام المتقين، ثم ماذا ؟! - الإعجاز البياني .. - لعائشة عبد الرحمن .. بنت الشاطئ .. اخترته لأن الولد يسير بلا منهج في تفسير القرآن.. إنه لا علم له بجهود علماء المسلمين عبر القرون.. أظن تلك تكفي لو قرأها قبل رحلته لصعدة أو زبيد .. ربما يعتدل معها .. حاول أن تسمع منه .. استدرجه وحاوره .. أهم شيء أن تحاوره لتتفهمه.. هو يشكو أن لا أحد يفهمه.. أبوه حاول كثيراً لكنه يضيق بي والواقع أن ضيقي به أكبر.. - أنت تحسن الظن بي كثيراً يا عم .. - بل أنا على يقين من مواهبك .. أنا أتابع أخبارك ليس كابن أخ بل كمثقف وشاعر، ومن جملة ما سأرتب لأخيك أحمد في القاهرة لقاء مع أستاذ في علم النفس.. - هذا قد يجرح مشاعره !!!.. - بل سيجرحها حتماً، لكن سيتم ترتيب الأمر بطريق غير مباشر .. عن طريق طالبة يمنية تعد لنيل الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي وهي صديقة لأم الأولاد.. لأم أحمد وهو قد تعرف عليها.. - لكن أعذرني لو سألت عن مزاجه ؟ - الواقع أحمد ليس من النوع الذي لديه عقدة في التعامل مع المرأة.. إنه من النوع المنفتح على كل جنس ولون لأنه بحكم عملي قد تنقل معي كثيراً في مجتمعات متباينة إلى درجة التناقض حتى قررنا أن يستقر مع إخوته في بريطانيا.. - والأستاذ الباكستاني؟ - تأثيره جاء متأخراً .. سأجعل نسيبة ترتب مواعيده خارج العيادة في جو يشبه الذي سأرتبه معك .. المهم أن يمر عن طريق القاهرة.. لكن اسم نسيبة هو ما لم يتوقعه عامر لكنه أراد سماعه، فلما عرفه لم يستفزه الأمر بل سأل عمه: - وهل يعرف ابنك بأمر هذه المرأة ؟ - أظنك تعرفها؟! - لا أذكر !! - المهم أحمد .. أنا لم أتحدث معه عن أي تفاصيل .. دع أمر هذه المرأة الآن لأني لم أصل لقرار نهائي .. لا تذكر له شيئاً عنها الآن.. - بالتأكيد !! - المهم المبدأ .. فكرة زيارة القاهرة وإيهامه بحاجتي لشراء تلك الكتب، ثم قل له إنني أتمنى لو يضيف إلى قائمتي كتباً أخرى على ذوقه .. مثل هذا الكلام سيشجعه .. - سيعطيه شعوراً بالثقة.. - هو من النوع الذي يخفي مشاعره ولديه من الثقة بالنفس ما يكفيه.. تؤثر في عامر الكلمات الأخيرة لعمه لدرجة يشعر معها بمرارة وألم، لكن أمر نسيبة ودخولها على الخط ينسيه ذلك الشعور.. هل حقاً لم تكن في صنعاء؟.!.. إن لم تكن هي نسيبة التي يعرفها حق المعرفة، وهي من التقاها في داره نهار ذلك الخميس اللعين فكيف عرف صلتها بعائلة عمه، وبأم أحمد تحديداً.. لقد ثرثرت المرأتان عنه وعن تجارته في الغذاء والدواء فهل من قابلها كانت جِنّية في ثوب نسيبة؟!.. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا.. ما هذا الذي يكاد يطيح به ؟!، كيف يتكلف الجلوس مع أحمد ليسمع منه وهو أحوج الناس لمن يسمعه ويفهمه؟!.. ترى ماذا يعرف عمه عنه غير ما قاله أو ألمح إليه ؟!.. ولماذا نزلت عليه الثقة به إلى هذه الدرجة؟!، وكيف بهذه الصراحة وهو الذي كان منذ عرف نفسه يتمنى الربع في المائة من هذا الأسلوب وتلك التلقائية والصراحة.. هل هي الحاجة والطريق المسدود الذي وصل إليه؟!، أم هناك أسباب أخرى غيرها، أم أن هذه تضاف إلى تلك ؟!!. البارانويا الأخرى لا تترك عودة أحمد عبد الحميد من صَلاته فرصة لعامر المنتظر في صالة السكرتيرة ليتأمل أكثر مما تأمل حتى يعودا لسكن السفير الذي اعتذر عن مرافقتهما لضرورة مشاركته في حفل استقبال باعتباره أقدم سفير في لاهاي.. فهو عميد السلك الدبلوماسي أو هكذا يفهم من ابن عمه الذي يقود سيارة هيئة سياسية بمنتهى المهارة والانضباط رغم جواز سفره الأحمر حتى يكاد الإعجاب بأحمد ينافس الإعجاب بأبيه في قلب هذا العامر الغريب رغم كل ما جرى ويجري معهما.. يطول نهار الصيف في الشمال ورغم ذلك فيوم الخميس موعد صيام أحمد مما حال دون تناول عامر وجبة الغداء معه، لكن ابن السفير يستأذن ابن عمه ليذهب في قيلولة قبل الإفطار، بينما تنتهز كريمة بنت عبد الحميد وأكبر عياله الفرصة لتأتي بطفلتها وتجلس مع ابن عمها في الصالون العائلي الأنيق وكأنها تجاذبه أطراف الحديث عن اليمن وأهلها قبل أن تصل بلباقة وذكاء لمراد أبيها حين تقول: - حسناً فعلت بطلبك قهوة بعد الغداء لتستعيد نشاطك.. فيجيبها أنه ما فعل ذلك إلا ليمنع النعاس وفتور البال فقد تواعد مع أبيها أن يتسامرا بعد عودته من حفل الاستقبال، فتقول له كريمة: - أدرك مدى تقديرك لأبي لكن هل لي أن أقترح عليك شيئاً؟! - تفضلي .. - أتصور أن ابن عمك سيشرب كوب الشاي هنا بعد الإفطار.. - كعادته؟! - إذا لم يفعل سندفعه دفعاً ليجلس معك.. - لا أرغب أن يحس بأني ضيف ثقيل.. - سنحل الإشكال بهذا .. وتهز الريموت في يدها لتثير استغرابه ويسألها: - التحكم عن بعد ؟! .. - تماماً.. هذه قناة البي .. بي . سي. أوضح من القنوات الهولندية، سيدخل أحمد وأنت تتابع برامجها، وستقدّر دخوله فتخفض الصوت فيقدّر هو أنك تفعل ذلك لأجله .. ويدور الحديث بينكما مما يجعلك تهتم به أكثر وتغلق التلفزيون تماماً ليشعر أن إنصاتك لكلامه أهم عندك من برامج التلفزيون على أهميتها.. أو تمتعك بها.. - وأحمد عندي فعلاً أهم.. - ولا بأس إن كلفت نفسك عناء محاورة ابن عمك والإنصات إليه حتى يعود عمك.. - سأفعل ما بوسعي!! - إفعل ذلك، ليس من أجل عمك فحسب، بل أيضاً لأجل أختك كريمة ولبن أمك الذي أرضعتنيه .. قد لا تتصور مدى قلقي على أخي المسكين.. - لا تقلقي .. سأبقى أخاك على كل حال.. - بل قلقي لرؤيا تتكرر أكثر من مساء.. - يقولون إن الأحلام استدعاء حوادث من ماضي الإنسان.. - ويقولون إنها إخبار عن غيب.. - عموماً ما يجمع بين ابن سيرين وفرويد القول بأن الأحلام رمز لابد من تفسيره.. - نامت الطفلة .. سأذهب الآن.. وتنجح خطة كريمة حين يخفض عامر صوت التلفزيون حال دخول أحمد حاملاً إبريق الشاي الأخضر الذي يستحضر عامر فوائده ويعددها قصداً، ليسعد أحمد بذلك الحديث ويدعوه لمشاركته فإن الأفكار تتولد بتناول الشاي الأخضر، ويسأله عامر: - النار وليس الأفكار توقد من الشجر الأخضر؟!! - ألا تعرف المجاز في القرآن؟! - أعرف أن الآية في سورة ياسين .. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا.. - فإذا أنتم منه توقدون، والسكر وقود الدماغ الذي يعطيه طاقة للفكر.. فيغلق عامر جهاز التلفزيون ويقول منفعلاً: -لكن العلماء قد قالوا: ناراً أي حطباً أصله من الشجر الأخضر؟! - وكيف فسر العلماء النهي عن استيقاد نار المشركين وقالوا بأن المقصود بالنار هنا الفكر !!؟.. ثم ما تقول في قول الله: فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون؟!.. لكن عامر يبحث عن استفادة من هذا المدخل ليعيد ابن عمه إلى لندن أو يسوقه إلى القاهرة فيقول له: -كنت أحتاج إليك في خدمة تُؤْجَر عليها إن شاء الله.. ستستفيد منها وتفيد .. علمت أن لك اهتماماً متميزاً بالقرآن وعلومه؟ فيرد أحمد ببرود: - وما هذه الخدمة؟!! - سمعت أنك ستسافر القاهرة؟! - أنا لم أقرر بعد .. ما هي الخدمة ؟! - التهذيب في التفسير للحاكم الجشمي.. - هل طبعوه ؟! - لا ، ولكن صديقاً لي يحتاج لإكمال تحقيقه إلى صورة النسخة الموجودة بدار الكتب المصرية.. فيسأله أحمد متهكماً: - ماذا تعرف عن الحاكم ومنهجه في التفسير ؟!! - كما أذكر فإن الحاكم في تفسيره يبدأ باللغة، ثم يتكلم في النحو، وبعدها يأتي إلى المعنى.. - ثم ماذا؟! - كان للحاكم الجشمي أكبر الأثر على الزمخشري في تفسير الكشاف.. - ما هذا أردت رغم جناية الزمخشري على الحاكم الجشمي !! - فما هو قصدك؟! - الحاكم يا دكتور هو في الفقه من الأحناف.. - كان حنفي المذهب؟! - المهم أن أساسه في الفقه مستمد من أبي حنيفة، وأبو حنيفة من مدرسة الرأي.. - مقابل مدرسة الرواية ؟! - والحاكم معتزلي في أصول الدين .. - يعني إنه من الفرقة العدلية.. أنا عدلي بالمناسبة !! - التوحيد أولاً ثم يأتي العدل.. - كيف وهم يقولون العدل والتوحيد ؟! - والوعد والوعيد .. سجع .. تنميق كلام .. ألم تسمع لنداء ذي النون.. - لا إله إلا أنت ؟! - بدأ بالتوحيد .. - سبحانك.. - تنزيه الله عن فعل القبيح، هذا هو العدل.. - سبحان الله.. لكنك لم تفدني .. - في ماذا؟! - هل ستقدم لي الخدمة ؟! - الكتاب المخطوط من دار الكتب بالقاهرة ؟! - بلى .. - لا أظن .. - لماذا ؟! - لأني لن أبقى في القاهرة أكثر من ثلاثة أيام.. إذن فقد استقر أحمد وقرر، ويدهش عبد الحميد لأثر عامر البالغ السريع في إقناع ولده بالسفر إلى القاهرة، ويخفي عامر عن عمه التفاصيل، والعم لا يبحث لكنه يطمع في المزيد ، ولذلك يقترح عليهما بعد صلاة الجمعة وهما في مكتبه بالسفارة أن يرافقاه في رحلته إلى السويد كونه سفيراً غير مقيم هناك بعد أن يقوم مع عامر بتعديل أجندته فهو سيلتقي عصر السبت بالسيد ثوريون، وهو مع ضيفه ضيفان على مائدة عشاء السفير في فندق (كورهاوس) الشهير، وزيادة في إبراز اهتمامه بابن أخيه ترافق سيارة من السفارة مع سائقها عامر إلى الفندق في التاسعة صباحاً ومعه حقيبة يد أنيقة بها لزوم السَّونا والمسبح مع تذكرة الدخول منحة السفير العم لابن أخيه فموعد الاجتماع لن يكون إلا عصراً، ولعامر أن يتمتع بوقته حتى عودة السيارة والسائق ليستقبل ضيفه القادم من بروكسل في محطة القطارات. من مدخل المسبح يتجه عامر نحو حمام (السَّونا)، وعلى فتحة الباب لا يكاد يصدق ما يرى رغم سماعه عنه.. رجال عرايا يستمتعون بالحمام الساخن، فيرتد قليلاً غير متيقن أن لا شيء يستر أي واحد منهم على الإطلاق، ثم يطل مرة أخرى يريد أن يتأكد ويمني نفسه أن يجد أحداً مثله بسروال السباحة على الأقل لكن الشك يقطعه اليقين.. لقد تأكد أن الجميع لا يعبأون بمنظره الغريب وعورته التي لا تبين كما أنهم غير مكترثين وهو متردد وما هم فيه من عري قبيح في نظره، ومع أنه لا يعرف العوم فإن غرقه أهون من الفضيحة .. هكذا يرى المسألة مع أن أحداً هنا لا يعرفه ولا يعيب عليه عريه. المسبح المغلق دافئ يتدرج بما يغمر كاحل الساق من الماء حتى يغمر الأجساد .. وينظر عامر نحو بركة أخرى صغيرة وهو يتمنى لو كان بين هؤلاء الصغار يتعلم السباحة.. ثم ينظر في صفاء مياه المسبح الكبير فيسير في وسطه قليلاً قليلاً باطمئنان حتى يبلغ الماء عنقه، ويتلفت متظاهراً بالاستعداد للسباحة مثل من حوله من الشباب والفتيات حتى تلقّى ابتسامة الفتاة السمراء .. ممتلئة الجسم في تناسق فاتن وأنوثة عذراء طاغية بشعرها الملفوف وقد رآه بعدها ينسدل إلى ما بعد ردفيها، وفي عينيها سواد مذاب من عوسج ليل شرقي بهيم.. هندية؟!،لا ..من سورينام، ويتدفق الموج المصطنع في جولة لم يحسب عامر لها حساباً فيضطرب حاله خلافاً للسابحين المستمتعين وتصبح بطنه كالقربة ملئت بماء.. وبالكاد يمسك بحلقة البلاستيك على جدار البركة، وينظر يسرة ويمنة كمن يحاول صرف الانتباه، وساندرا وسط المسبح تلوّح بيدها فيرد على التحية بمثلها ولا يلبثان أن يترافقا مع أسرتها في يوم إجازتهم وهي لا تدري بما أصابه ولا تعرف أنه لا يجيد العوم أبداً. على شاطئ (سخيفننج) من بحر الشمال في (دن هاخ/ لاهاي) يشتري عامر خمسة أكياس من البطاطس المقلية مع خمس زجاجات كولا، كيس وزجاجة له والباقي لساندرا وعمتها وبنتيها، وتَذكُر له شبهه بالهنود أو السورينام ، ويذكر لها أن راكباً هولندياً على الكرسي المجاور قال له قبل أن تحط طائرتهما في مطار سخيبول/أمستردام أن سحنته وملامحه قد تستفز مشاعر حليقي الرؤوس الهولنديين المتعصبين فتذكّر ما حصل له العام ثمانين في بريطانيا، لكنه برغم حذره من ذلك الشبه قد استوفى الجانب الإيجابي بالتعرف عليها، ويخفي في نفسه ما يخفي فيكفيه صحبتها ولو كانت لساعات معدودة حتى يبلغ الوقت مراده لميثاق قطعة مع أم الأولاد ووعد بالتواصل مع ساندرا وهو يعطيها بطاقته بعد ما أعطته هاتفها مؤكدة عليه ألا يتحرج في الاتصال بها متى شاء وهو لا يدري أن ما تحت صدرها الناهد قلب يتمنى لو كان بلا موعد ليقضي معها نهاراً لا تغيب شمسه وليلاً ساهراً في (كورهاوس) العتيق، وآه من هذا الهوى السُّكْر فيه والصحو سواء . مع ظهور سائق السفارة ينطلقان لاستقبال ضيفه القادم من بروكسل وعندها يبدأ إحساسه بما منحه عمه من رفقة وهيئة تليقان بشبابه وكونه رجل أعمال ليتميز في عيني صاحبه البلجيكي، هذا الشاب الثرثار الذي يقابله لأول مرة ويعجب كيف توفر له السفارة كل هذه التسهيلات، وفي بهو الفندق العتيق يتفهم ضيفه/مدير التصدير مبررات حاجة عامر بأن تصدر شركته فاتورتان الأولى بكمية من غذاء الأطفال تملأ حاوية كاملة وبسعر يعادل حصته الممنوحة من وزارة التموين لكنها لا تمثل سوى نصف القيمة المتفق عليها على أن يدفع بقية القيمة عن طريق الحوالة عبر السوق السوداء بموجب الفاتورة الثانية، وينتهي اللقاء باعتذار مستر ثوريون عن تناول العشاء على مائدة السفير بعد أكثر من ساعتين من الآن.. ويعود عامر ليتسكع قرب الشاطئ حتى يحين موعده مع عمه عبد الحميد، ويقضي ما يقارب المئة دقيقة من الساعتين المتبقيتين في المقهى الذي فتنته فيه نادلته البرونزية البشرة، شقراء الشعر، زرقاوة العينين، وتنورة الميني تجعلها في فتوة ساقيها كلاعبات التنس، وحين تأتيه بكأس بيرة آخر يلذ له أن يقول لها وقد سألها عن اسمها: - لكن فولجا اسم نهر .. نهر أظنه روسي !! فلا تعلق على كلامه بل تمنحه صمتاً وابتسامة تجعل خيالها يزاحم ذاك الذي حفرته ساندرا تحت مفرق شعره الذي ما يزال مثيراً وهو يعود إلى حيث تواعد مع عمه في صالة الفندق. ومثله قبل موعدهم بقليل يحضر السفير عبد الحميد يرافقه ابنه أحمد ورجل ثالث يتم تعريف أحمد به لعامر على أنه صديقه الشيخ مشتاق وقار،مسلم هندي من بنغالور تعرف عليه في بريطانيا لكن ما يثير عجب عامر هو حضور ابن عمه لمكان مثل هذا فيه مشروبات روحية تقدم، ونساء مع رجال كأنه قد نسي قول عمه وتنقله بين القاهرة ونيويورك ولندن حتى لاهاي أخيراً.. لكن لهذا الحضور سبب آخر وهو تغيير أجندة سفرهم إلى السويد .. لقد قرر أحمد عبد الحميد عدم السفر معهما وما زال حواره مع أبيه قائماً حول زيارته للقاهرة واليمن. على مائدة عشاء السفير يقدم النادل كأس نبيذ أبيض لعبـد الحميد ولا يحس عامر بأي رد فعل لأحمد عبد الحميد الذي يطلب لنفسه زجاجة كولا ومثلها لصاحبه الشيخ الهندي وتكون البيرة من نصيب عامر لأول مرة مع عمه وابن عمه الذي يبدو أنه لم يتوقع ذلك من عامر.. فيقطع صمت الجميع قول عبد الحميد: - كنت أتمنى لو كنتما معي في زيارتي للسويد .. هناك مسلمون بدون إسلام.. فيفهم عامر من كلمات عمه أنه قد ألغى مرافقته هو أيضاً، ويضيف عبد الحميد: - للسويديين نظام اجتماعي، وفلسفة اقتصادية كأنما هي التي أرادها محمد.. فيعلق أحمد: - يبدو أن تخلفنا بسبب تخلف فهمنا للإسلام.. - لكن أحمد شوقي قال عن رسول الله: وعلمنا بناء المجد حتى.. فيكمل عبد الحميد ما بدأه عامر: - أخذنا إمرة الأرض اغتصابا!! فيعود أحمد للقول أكثر حدة: - إن عسكرة الدعوة، وعذراً لأبي عن هذا التعبير، هو أخطر أسباب فشلنا في فهم هذا الدين.. - تقصد الجهاد؟! - بل أقصد أحد جوانبه.. صحيح أن الرسول قد علمنا بناء المجد كما قال أحمد شوقي لكن ذلك كان تنفيذاً لأمر من الله واجتهاداً في فهم النص من رسول الله لكننا انحرفنا عن مفهوم العدل وألزمنا الأمة بقتل أو قتال اختص الله به رسول الله دفعاً لصائل أو محارب أو ناكث لا ليدخل الناس كرهاً في دين الله.. - بمعنى؟! - بمعنى ما قاله ابن مسعود، صاحب رسول الله، أن الآية كانت تنزل والآيتان فنحفظها، ونتعلم منها، ثم نعمل بها.. كان عمل الرسول اجتهاداً في فهم النص وهذا عندي هو معنى الناسخ والمنسوخ في سورة البقرة إذا تفضل الأخ مشتاق بقراءتها فهو أحفظ مني.. - ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأت بخير منها أو مثلها.. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير.. يستمع عبد الحميد للحوار مع عامر ويشارك فيه بصمت وهدوء الدبلوماسي، وجَلَدِ العسكري، وصبر الوالد كأنما يريد أن يعلم كيف يتأثر ابنه أحمد، وكيف يؤثر وهو في أعماقه ينبش حزنه بين الرجاء واليأس من حالة ابنه الذي يواصل كلامه قائلاً: - معلوم أن المخاطب في ختام الآية هو الرسول تثبيتاً لفؤاده وتأكيداً لصحة اجتهاده، كما إن الآية تؤكد ثبات النص وعدم تبديله مع إمكان الاجتهاد على اجتهاد الرسول ولكن بعد زمنه بمفهوم سورة العصر.. - وما الذي في سورة العصر؟! - لأن القسم في مبتداها إنما كان بعصر كل مكلف، كأنه يقول وعصرك أيها المكلف، فيكون إمكان نسخ اجتهاد رسول الله بما يتفق ومصالح الأمة بحكم مجتهد أنسأه الله فجعله لاحقاً في زمنه، وأذكر هنا أن من قواعد التفسير عند الحاكم أنه لا يختص بتفسير القرآن الرسول وحده أو السلف دون غيرهم.. - كيف ذلك؟! - الرسول مثلاً في اجتهاده لا بد أن يبين المراد بكلامه، فإذا صح أن يُعرف المراد بكلام الرسول فكلام الله تعالى كذلك.. - هل هذا من كلام الحاكم؟! - نعم.. بل زاد وذكر أن الأمة أجمعت على الرجوع إلى القرآن في الأحكام.. - قال عمر فيما يسمى رزية يوم الخميس يكفينا كتاب الله؟! - لا أعرف مدى صحة هذه الرواية، إنما لأن الاستدلال بالعقليات لا يجوّز القول على الله أنه اختص به الرسول دون غيره من سائر المكلفين، فإذا عرف الإنسان اللغة ووجه دلالة الكلام وجب أن يكون حكمه كحكم الصحابة والتابعين لأنه ليس عصر كعصر.. - يمحو الله ما يشاء ويثبت؟! - وعنده أم الكتاب.. يعني أصله الذي تعهد بحفظه وهذا سر ختم النبيين بمحمد بن عبد الله.. - قد يتعارض هذا مع ذاك ؟!! - لا تعارض البتة لأننا قد جبلنا على حاكمية الأبوة، والله قد نفى أبوة محمد للمسلمين لاختصاصه بأحكام قتال لا تكون لهم من بعده .. فيتدخل عبد الحميد مازحاً: - يعني لا أب لنا؟! - بل قد أثبتها الله لإبراهيم ونفاها عن محمد.. - أين؟! - ما كان محمد أبا أحد من رجالكم.. - ولكن رسول الله وخاتم النبيين؟! - بمعنى أنه ختم بالقرآن الكتب السماوية ولذلك تعهده بالحفظ ونسب فعل الحفظ لذاته لإمكان تحريف الكتاب من أي بشر كان.. - كما في حديث القذة بالقذة؟! فيتسرب الملل لكأس عبد الحميد ليقاطعهم ويقول: - بدأتم كلاماً لا معنى له؟! - صبراً يا أبي .. أذكر لنا شيئاً يا شيخ وقار عن حديث القُذة.. فيُصَبِّر عبد الحميد نفسه بطلب كأس نبيذ آخر ويذكر الشيخ أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنتم، يعني أمته من المسلمين، أشبه الأمم ببني إسرائيل تتبعون آثارهم حذو القُذّة فيفسر أحمد القول: - يعني كما تقدّر كل واحدة منهن على صاحبتها وتقطع.. أكمل يا شيخ مشتاق.. - وفي حديث آخر لتركبُنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة .. قال ابن الأثير: يضرب مثلاً لشيئين يستويان ولا يتفاوتان.. - أظن الكلام قد فُهِم الآن ؟! فيهز عبد الحميد رأسه دفعاً لبلوى الجدل، ويعود عامر ليسأل: - وإبراهيم عليه السلام؟! - هو الذي سمانا المسلمين فالأبوة له لا للرسول.. - ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.. - وإن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ؟.. - وهذا النبي .. - يعني اتباع النبي ممن تبع ملة إبراهيم ؟! ويتحرج أحمد عبد الحميد، وينظر لأبيه الذي سحب كرسيه للخلف قليلاً، ويهمس: - أعرف أنه لا المكان ولا الطعام مناسب لمثل هذا الكلام، ولكن تبقى لي مسألة إذا أذن الوالد !!.. ويعيد أحمد النظر لأبيه بعينين فيهما رجاء فيقول الأب: - قل وأوجز فقد اكتفيت وارتويت .. سأطلب وجبتنا فلا تطل الكلام.. - كان النبي يتلقى القرآن منجّماً .. الآية تتلو الآية حتى قالوا لولا أنزل القرآن عليه جملة واحدة فرد الله عليهم: كذلك لنثبت به فؤادك. - لكن الله قد أشار لاكتمال الدين وكمال التنزيل ؟!. اليوم أكملت لكم دينكم؟!. - بلى اكتمل شرع الله ودينه، وقُبض رسول الله، وانتهى زمن تبعيض النص وتنجيم الكتاب، وحل مكانه وجوب النظر في النص ككل كامل لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض.. كتاب واحد لأمة واحدة .. نص يبدأ بالبسملة في فاتحة الكتاب ويبلغ منتهاه في سورة الناس بالجِنّةِ والناس.. - جاء طعامنا يا بني!! - آخر شيء.. رجاءً يا أبي .. لاحظوا أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية إلا في سورة الفاتحة ولذلك سميت بالسبع المثاني لتثنية آياتها السبع في كل ركوع، فما معنى ذلك ؟!!.. ويبدؤون طعامهم كما بدأه عبد الحميد، وعامر أكثر ما يقلقه استعادة برامج لقاءاته في باريس وفِينّا بعد إلغاء رحلة السويد ثم عودته إلى صنعاء. من مطار أمستردام يسافر عبد الحميد إلى استوكهولم صباح الاثنين كما كان مقرراً له، ويعود عامر بعد وداع عمه لمكتب سكرتيرة السفير لأنها بناءً على توجيهاته ستعيد ترتيب أجندة ومواعيده الذي يتجه بعد أن اطمأن لرمل شاطئ البحر قريباً من (كورهاوس)، وفي المكان ذاته حيث (فولجا) تغمره نشوة الكأس الطازج فيرى الشعر المذهب كغروب شمس على كثبان عنقها البرونزي .. ويتلفت خوف أن يفاجئه أحمد ، كما يستبعد بزوغ نجم ساندرا وحتى وإن ظهرت فسيجد عذراً لوجوده هنا بعدما أكد لها أنه مسافر ذات الليلة يوم أن التقاها في مسبح الفندق، وعند اقتراب فولجا بكأسه الثالث تبلغ جرأته استواءها ويسألها: - هل أنت مرتبطة الليلة؟! - لا؟! - هل تقبلين دعوتي لنقضي السهرة معاً في أي مكان تختارين؟!.. وعلى غير ما يأمل يكون ردها: - لا أستطيع فأنا مصادقة لفتاة girl friend محاورات أحمد عبد الحميد يعود عامر ليحدث نفسه وهو يقطع الطريق إلى حيث لا يدري : - لو كان لفولجا صديق ذكر لهان الأمر.. إنما فتاة تسهر وترقص وتنام مع فتاة مثلها فهذا من العجب.. - ألم تحاول نسيبة مثل ذلك الفعل الشنيع؟! - ذاك شذوذ .. واحدة لا حساب لها، وهنا هي ظاهرة .. يحدث نفسه وكأنه لم يسمع ما قاله عمه عبد الحميد بعد فراغهم من عشاء تلك الليلة: - هؤلاء ناس غير الناس .. لقد تحرروا من كل شيء.. كلما رحت نحو الشمال كان تحرر الناس أكثر وكأن صاحبك قد عناهم حين قال: يريد الخالقُ الرزق اشتراكاً وإن يك خصّ أقواماً وحابى فينظر ابنه أحمد ممتعضاً ثم يقول وهو يصعد خلف أبيه في السيارة التي يقودها مشتاق: - قد خصنا الله وحابى حين جعلنا خير أمة أخرجت للناس.. فيلتفت الوالد السفير وهو يقول: - مع أني ضد التفسير العنصري للدين إلا أن ظني أن صاحبك إنما أراد التذكير بتفضيل بني إسرائيل وبنص القرآن .. وما الاشتراكية الغربية والشرقية إلا من قدح نار بني إسرائيل.. - كل أصولها من كارل ماركس الملحد الذي جعل الدين أفيون الشعوب.. ولأول مرة يرد عبد الحميد بانفعال: - وصرخة المظلومين .. هكذا تمام مقولته.. - سبق أن قلت لكم يا أبي أننا لم نبلغ الفهم الأصح للدين.. نأخذ الصدقات مثلاً على التوزيع العادل لفائض المال.. - عدنا للمفهوم العنصري للدين؟! - كيف؟! - أليست الصدقة حرام على بني هاشم؟! - متى كانت حراماً؟! - يوم استخرج الرسول تمرة صدقة بأصبعه من فم الحسين وقال إنها من أوساخ الناس.. - ما حرمها الله على بني هاشم، ورسول الله أولى الناس بها.. - أولى الناس بأوساخ الناس ؟!!؟ - إنما استكرهها لأنهم كانوا يلمزونه في الصدقات .. تفضل علينا يا مشتاق وذكرنا كيف اغتابه المنافقون.. - ومنهم من يلمزك في الصدقات.. - فاستكرهها الرسول وقد فرضت له أولاً.. أكمل بارك الله لك .. - فإن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون.. - فجعل الله اجتهاد رسوله حكماً كحكم الله.. قل لنا يا شيخ مشتاق ماذا قال عن الصدقات في سورة المجادلة.. - يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة.. - لكن هذه الآية منسوخة ؟! - قلنا لا بطلان لحكم الله.. تعلق الأمر بفعلهم ورضي الرسول فلم يفعلوا وتاب الله عليهم؟! - إلاّ فعل علي؟! - إقرأ يا شيخ.. - أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات، فإذ لم تفعلوا، وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الله ورسوله.. - هنا تأكيد فرض الصدقات كالزكاة وأنها للرسول طاعة كما هي لله عبادة ليجعل حكم اجتهاد الرسول من حكم الله.. - والله خبير بما تعملون.. يكمل مشتاق تلاوته بينما يقترب أحمد من أبيه جوار مشتاق الذي يقود السيارة ويقول: - أرأيت سعادة السفير؟ لكن سعادة السفير يخرج مضطراً عن الموضوع لما يسمعه من تهكم ابنه، كما يشير على عامر سراً بمواصلة حوار أحمد في جو البيت فهو أنسب، وكان ما يريد في ثاني ليلة بعد سفره من حوار تقاصر بين ولده وابن أخيه على كأس نبيذ شمول كالزلال ويتسنى لعامر كتابة بعض محاورات أحمد عبد الحميد لطرافتها وغرابتها، وعلى مذهب أبي حنيفة يرشف عامر من كأسه قليلاً ولا يجرؤ على سؤال ابن عمه لم لا يشرب مما يشرب إن كان يرى رأي الأحناف كما يزعم، وينسى هم سؤاله هذا لشدة طرح أحمد رأيه في نفي صحة الحديث المتعلق بالذباب إذا وقع في الطعام وجب غمسه لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ليس بسبب القذارة التي تتنافى وطهارة الرسول ولكن حجته الحديث الذي يحرم الحشرات باستثناء الجراد، ليس ذلك فحسب، بل يزعم أحمد عبد الحميد أن استثناء أكل السمك من الميتة يعني حرمة أكل ما سواه من طعام البحر كالشروخ أو الجمبري بدلالة كراهة أكلها قياساً على كراهة العقارب من آفات البر، وحفاظاً على التوازن البيئي والأحياء البحرية، وتجريماً للقتل غير الأخلاقي لتلك الأحياء مثل الفقمة أو عجل البحر، ولكون ذلك القتل بغياً لا يقره دين ولا عقل وهو عنده يندرج تحت المفهوم الموسع لحرمة أكل لحم الخنزير .. كيف يا أحمد ؟.. أرجوك.. أريد أن أفهم، فهذا مالم نسمعه في آبائنا الأولين؟!... فيجيب أحمد وقد أسعدته أستزادة ابن عمه: - اسمع يا عامر الحكاية من أولها.. سوف آتيك بمفهوم جديد غير مسبوق لمسألتين فقط من المحرمات إنما بتوسع في الدلالة.. انتظرني واصبر حتى آتيك بأوراقي فقد دونت فيها ما يجعل مسألتي أكثر ترتيباً كما إني بها أتمكن من ذكر الآيات بنصوصها وأحياناً مواضعها ومعها الدلالات في لساننا العربي.. ويستعد عامر بقلم وأوراق، ولا يعود أحمد إلا وقد أفرغ ابن العم كأسه الأخرى في جوفه فيسأله ما زحاً: - هل أزيدك ؟!، عليك أن تختار بين التفسير والنبيذ.. - أختار التفسير بالطبع.. - إذن تصبر ولا تشعل سيجارتك حتى ينتهي الحوار.. - أنا منصت.. أتمنى عليك الأناة حتى أتحقق مما أكتب.. رجاءً .. - لا ترجُ شيئاً.. أكتب ما تفهم ليس إلا .. لن أملي شيئاً.. - مع ذلك أرجوك تمهل حتى أفهم.. - لك على أخيك أن لا أبدأ في فكرة إلا وقد هضمنا الأولى.. - إياك أعني .. أحسن الله إليك.. - على الله القبول.. هل تذكر الحاكم الجشمي فأنا معجب به، متعجب لحاله.. - وكيف أنساه وأنت لم تعطني وعداً بالبحث عن مخطوطته في القاهرة.. - التهذيب في التفسير .. إن القواعد الأساسية للتفسير عند هذا الرجل يمكن إعادتها لأصل جامع واحد وهو أن القرآن مأخذ تفسيره من اللغة.. - بمعنى ؟! - بمعنى أن اللغة هي سبيل معرفة القرآن.. - هل لذلك شروط؟! - ليس من شرط عند صاحبنا سوى العلم بالله.. - بمعنى؟! - توحيد الله، وأنه تعالى صادق لا يجوز عليه الكذب، ولا يفعل القبيح.. - هل ذاك هو العدل؟! - تعرف هذا من قاعدة الحاكم الفكرية العامة، وأن يقف المفسر على اللغة، فكأن اللغة هنا هي الشرط الكافي لفهم القرآن الكريم، ففي قول الله: حاميم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، تدل آيات سورة فصلت هذه عند الحاكم على أن العالِمَ باللغة محجوج به.. ويدل قوله: ﴿لقوم يعلمون﴾ أن التفسير لمن عرف اللغة جائز. ولا يحتاج إلى سماع معناه من غيره، كما يدل على وجوب التفكر فيه وذم المعرض عنه.. - فإلى أي درجة، يا ابن عم، يتكئ المفسر على اللغة ؟! - لست أنا من يقول؟!! - فالحاكم إذن.. - قال في قول الله على لسان الجن محكياً في سورة الجن ﴿إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد﴾ إن القرآن مستقل بنفسه في الدلالة .. هل أنت معي؟! - معك وأفهمك .. استمر ، استمر !! - وقال في قول الله من سورة الشورى ﴿وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها﴾ إنه يدل على أن القرآن يمكن معرفة المراد به بظاهره، أو بقرينة ليصح أن يقع به الإنذار.. هل أزيدك قبل دخولي في موضوع الدم ومعناه الموسع، وحرمة الخنزير من الحيوانات كموصوف لا كاسم جنس ؟!!.. - زدني بالله عليك حتى أتثبت في الفهم.. - قد قال الحاكم نحواً من ذلك في قوله تعالى من سورة العنكبوت: ﴿أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم﴾، وقوله في سورة النساء ﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا﴾، فالبرهان ما دُل على غيره به، والنور ما يُبصر به سواه .. ولا يكون القرآن كذلك إلا وهو دال بنفسه، معروف بلفظه، وقد عُلم أن القرآن إنما نزل بلغة العرب فلا بد أن يعرف تفسيره من عرف هذه اللغة وإلا لما صح وصفه بأنه نور وبرهان.. ألست معي ؟! - بلى ولكن ما قصة الدم والخنزير؟! - في الحديث أحلت لكم ميتتان ودمان، وقلت لك شيئاً عن الميتتين وأما الدمان فالكبد والطحال، وأنت تعرف أنهما ينتجان كريات دم حمراء .. إذا اخطأت صوبني!! - على عيني إن عرفت الصواب، ثم إني في شغل شاغل عن تصويبك.. - إذن فأنت لست معي؟! - بل معك من جهة واحدة وإلا ضيعتني .. - ماهي جهتك الواحدة؟! - الكتابة .. هل تستطيع الإيجاز.. - أكتب ما يحلو .. - دعنا في حرمة الدماء .. - المسألة ليست هكذا لأن دم الإنسان غير دم الحيوان، وإن قلنا الدم هكذا دون إضافة فقد يعني مع الدم المسفوح أشياء.. - مثل ماذا؟! - عضو ينتج الدم كالكبد والطحال.. - هل من شيء غيرهما؟! - كامل جسم حيوان موصوف بصغر حجمه فهو «دم»، وأهل صنعاء يسمون القط «دماً»، فللدم في سورة الأعراف معنى هزال الحيوان ودمامته لمرض كما في انفلونزا الطيور فهاهنا العذاب وحرمة أكلها أو المتاجرة بها.. - اتفق العقلاء على ذلك فهل من آية؟! - يتعذر فهم آية سورة ألاعراف دون هذا؟! - الشيخ مشتاق ليس معنا، هات الآية بالمعنى!! - بل بالنص فإن معي أوراقي .. فأرسلنا عليهم (الطوفان) والجراد (والقمّل) والضفادع (والدم) آيات مفصلات، ومعلوم أن مع الطوفان ينتشر الطاعون، والقمل وسيط، والدم آية من الآيات أي من علامات العذاب والهلاك، وتعدد شكل الوباء فتكتمل الصورة بالدّمةِ وهي كل حيوان ضعيف هالك، والدمّة كالدّمِ أصغر القمّل، وهو الرجل الحقير لأن العذاب نزل به، ويحرم أكل لحم كل حيوان «دُمّ» بالأمراض.. - هذا توسع في المعنى معقول، فماذا عن الخنزير؟! - تقولها مجاملة لكنها تتوافق مع أحكام العقلاء.. - والله ما قلتها مجاملة ولكن ... - لا تقسم وإلا سكت.. قد قاربت نهاية الكلام استطراداً.. - أقسمت أني لا أجامل ؟! ، وإن فعلتها فأنا إذاً من الضالين. - ليس لهذا الحد ولكن .. نحن نعلم أن أصل اسم (الخنزير) من خزر العين وهو انكسار بصرها من وقت خلقها، أو ضيقها أو صغرها.. بل قل هو فتح العين وإغماضها.. ترفرف لا تستقر فهي كحال الموت عند نزع الروح، وهناك مرض يأخذ بمستدق الظهر بفقرة القَطَنِ ويسمى الخُزرة، وفي سورة الأنعام بيان صريح .. قل لا أجد فيما أوحيَ إلي محرماً إلا أن يكون ميتةً، أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير فإنه رجس.. ولأنه بدأ بذكر الميتة تكون دلالة لحم الخنزير أوسع من الكلام عن الحيوان المعروف ويؤكد حرمة لحوم الحيوانات المذبوحة بغياً وعدواناً لقوله: فمن اضطر غير باغ ولا عاد.. - بسّط لي المسألة يحفظك الله.. - سيطول الحديث.. - وإن طال، بالله عليك .. - كما أذكر ففي عام 72 قامت الجمهورية الفرنسية بتفجير نووي على جزيرة فرنسية في المحيط الهادي، وقد تطوع أحدهم واسمه ديفيد بمهمة تحدي هذا النشاط النووي الفرنسي على ظهر سفينة شراعية سماها (فيغا) وقالوا إن معناها (النسر الواقع)، لكن ديفيد رغم فشله في أول محاولة لوقف التفجير النووي الفرنسي قام بمحاولة ثانية العام 73، وفي هذه المرة لم يتركه الفرنسيون.. - ماذا فعلوا؟! - صعدوا ظهر مركبته وضربوه.. - والنتيجة؟! - أصابوا إحدى عينيه بحالة من العمى.. - لم ينفعه أحد!! - الفرنسيون لم يتبينوا أن أحد أفراد الطاقم قد صور الواقعة وقام بتهريب الفيلم ليتم بث خبر احتجاج (ديفيد) وعملية ضربه في كل أرجاء الدنيا حتى أوقفت فرنسا تجاربها عام 75 . . - عفواً، ما دخل هذا فيما حدثتني وفي حرمة لحم الخنزير ؟! - اصبر لتعرف.. - صبرنا!! - كانت تلك لحظة حاسمة لجماعة السلام الأخضر التي أصبحت في نظر الكثيرين رمزاً للبطل الضحية فقد هللوا لديفيد كأنه الملك داوود برز من عمق الصفوف ليقتل جالوت، صورة لم يتوقعها أحد وما سعى إليها حتى أصحاب السلام الأخضر.. لقد أفادتهم بدرجة جاوزت كل التوقعات خاصة في حملتهم الثانية المناهضة لصيد الحيتان.. هل تعرف أن الأفلام التي صورت أساطيل صيد الحيتان بالجرم المشهود تكشف الحقيقة كاملة.. هناك مشاهد يا عامر تظهر صيادي الحيتان وهم يطلقون رماحهم على أناس عُزّل مثلي ومثلك.. - أين كان المعتدى عليهم؟! - كانوا على قوارب من المطاط.. صغيرة .. لكن هل تدري ما كان أسوأ ما في المشهد؟! - قتل أولئك العزّل؟!.. - لا ، لم يقتلوهم، إنها مشاهد الحيتان التي تم اصطيادها .. إن الصور التي تم التقاطها كانت كفيلة بإحداث صدمة عند كل من شاهدها من أي جنس وفي أي عمر، ثم كان التأثير الأكبر عندما حاولت منظمة السلام الأخضر تركيز اهتماماتها على الفقمة أو عجل البحر، والصور التي التقطها أحد النشطاء وهو يحتضن أحد صغار عجل البحر بين ذراعيه، وصيادوا هذا الحيوان المسكين يحيطون به بهراواتهم. - وهل تحرك أحد؟! - لو نتقدم قليلاً لنرى كيف قام فريق دولي مكون من خمسة خبراء مستقلين في الطب البيطري بمراقبة موسم صيد عجل البحر الذي يستخدم جلده من أجل الموضة.. - ماذا وجدوا؟! - وجدوا أن ما يقارب ثمانين بالمائة من الصيادين لا يتيقنون أن الحيوانات التي اصطادوها قد ماتت قبل سلخها.. بل إن هناك ما هو أكثر من هذا.. - ماذا؟!؟! - في أربعين بالمائة من حالات الصيد كان أولئك الصيادون يضربون الحيوان أكثر من مرة بسبب ارتعاشاته بعد تلقيه الضربة الأولى .. أو الطلقة الأولى .. وعند فحص جماجم الحيوانات القتيلة وجد أولئك الخبراء الخمسة أن اثنين وأربعين بالمائة منها كانت سليمة أو تكاد .. هل تعرف ما يعني هذا؟! - لا ؟!! - إن هذا دليل على أنها كانت لا تزال على قيد الحياة عند سلخها.. هل تريد المزيد؟! - لا بالله عليك .. إنها لعنة على البشرية؟! - هذا هو البغي والعدوان وما أُهِلَّ به لغير الله .. قتل الحياة.. تلك خنازير بشرية تريد خنزرة الحياة البحرية ظلماً وعدوانا .. تصبح على خير.. - عجباً لابن عمي هذا!! يقول عامر لنفسه ورأسه على وسادة أرقه، وتأنيب ضميره، وأوجاع قلبه.. لقد حاور كثيراً من الناس وهم على يقين أو شبه يقين، وفي كثير من الأحيان يسير الحديث على بداية مزحة ثقيلة تتقلب بين المتحاورين فلا يلبث أمرها أن ينكشف لتنقشع غمائم التباس الجد بالمزاح، والمغاضبة بالمودة، لكن الحوار مع أحمد –على فائدته- قد طال على غير رغبة منه، واشتد على ذهن متراخ بسبب السفر.. سفره لباريس ثم فينّا، وسفر أحمد إلى القاهرة ثم صنعاء.. ثم هذا العم المسافر الذي يستبطن الإعجاب بولده، وبالأفكار التي تتوقد في صدره ويبعثها ابتسامةً على شفتيه، لكنه يبدي تخوفاً ويسميها شطحات ويخفي قلقاً أن يحسب كلام ابنه عليه ويقلقه مزاج الابن المتقلب، كما يخشى نتائج عدم استقرار ولده خصوصاً في المدة الأخيرة، فلا هو المنتظم في جامعته، ولا بالمتوازن في عواطفه، ثم إنه غير مُنتمٍ ولا متخذ منهجاً سويّاً في توجهاته الدينية. ما يخشاه عامر أن عمته وعمه يصبان زيتاً في صدر ابنهما بكفه هو، ويشعلان مزاجه بلهب عامر الذي أوقده مجاملة لهما ومسايرة لطلبهما .. تسقط دمعة فأخرى على وسادته وبين عينيه من ضوء قنديل الحديقة النافذ من ستارة شفافة، ويتمنى لو ينسى كل الذي دار بينه وبين ابن عمه فأحمد لم يخفف من شطحاته ولا جنّب ابن عمه خياله وتصوراته عند تأوله لفواتح السور لأن ألف. لام. ميم . مثلاً معناها عنده أحمد لوح محفوظ، ونون في سورة القلم تشير إلى (ذي النون) صاحب الحوت الذي نادى في الظلمات، فهل يكفيه الاستغفار لعدم فهم ابن عمه وأحياناً أخرى عدم تصديقه .. هل هو رد فعله على أول لقاء بينهما بعد طول غياب.. والله إن تأولات أحمد ممكنة فلماذا لا يكون العبد الصالح الذي التقاه موسى واتبعه كما في سورة الكهف هو صاحب الحوت نفسه لقول موسى إني نسيت الحوت فهذا من باب الإكتفاء في الكلام فمقصود موسى أنه نسي موعده مع صاحب الحوت ثم أتبعه في البحر سربا؟!! .. ولماذا لا يكون هو إبراهيم نفسه لأنه قد قال على أن تعلمني مما علمت (رشداً ) والله يقول وآتينا إبراهيم (رشده) والصحف الأولى المفسرة للشريعة هي صحف إبراهيم وموسى .. ألا لعنة الله على الشيطان .. الاستغفار وحده غير كاف ولابد من عفو أحمد ومسامحته له على ما اقترفه في حقه .. إنه علم اجتهد فيه ابن العم فلماذا يسميها شطحات.. يكفي أن أحمد صادق مع نفسه فيما يقوله ويعتقده، ونفس أحمد أزكى من نفسه .. يريد عامر أن يصحح لنفسه ويصرح لها بمكنون صدره، وينهض ليشعل ضوء الغرفة وسيجارة على غير رغبة منه بين اصبعيه.. ولكن ما مدى مسئوليته والإثم الذي يتحمله في سوء ظنه بابن عمه؟، كل هذا يجري لعيناً، قادحاً جمرة ندم وألم لا يقدر على الإفلات من مخالبها إلا على شروق الشمس، بينما يكون أحمد قد هنأ بنومه وصحا على خيوط فجره المبكر ليصلي منيباً آيباً، ويعدّ مع أخته كريمة كل شيء للسفر إلى القاهرة، فلا هو اهتم لوداع عامر قبل السفر، ولا عتب عليه لإثارته مالا يريد من المشاعر وما يستبطن في ثنايا دفاتره، وخبيء أضلاعه.. هل هذا وذاك من أمراض النفس.. أمراض العصر التي لم يعد يسلم منها أحد.. حتى البقر صار لها من فنون الجنون.. جنون البقر؟.. أما أحمد فلا يهمه ما يجيء أو يصدر عن الآخرين فهو مطمئن لنفسه، ولا يجد اضطراباً عند غيره، صدّقه أم لم يصدّقه.. وأما عامر فيبقى في المنطقة المحظورة.. منطقة بين الشك واليقين، وإلا لماذا سايرهم في إقناع أحمد بالمرور على القاهرة ومقابلة اللعينة نسيبة التي قيل إنها تحضّر للدكتوراه في علم النفس؟!. وأصلاً لم يعلم عامر بمغادرة أحمد إلا من سكرتيرة عمه التي تبلغ عبدالحميد في استوكهولم بسفر ولده القاهرة وترتيب سفر عامر إلى باريس صباح الغد وعودته مساء اليوم نفسه بحسب رغبته، كما ترتب له سفره إلى فينّا، وعند عودته من باريس يعود في المساء لمنزل السفير بلا عتاب على كريمة لعدم إعلامه بسفر أخيها لعلمه أن الأمر ليس بيدها، وثانياً لأنه في أعماقه راض بأن المسألة قد توقفت عند هذا الحد، وهو من جهته قد أرضى الأسرة بإقناع ابن عمه بالسفر عن طريق القاهرة والتوقف فيها، ومن ناحية أخرى ثالثة فقد خفف سفر ابن عمه دون وداعه شعوره بالذنب ولومه لنفسه لدرجة يحسب أنه بالغ فيها. بعد تناوله عشاءً خفيفاً يحمل قهوته لغرفة نومه التي رقد فيها ابن عمه قبل سفره، ويشعل سيجاراً بعيداً عن أهل الدار لأنه ما من آحد يدخن هنا غيره، لكن كريمة تتبعه لتفاجئه بالسؤال عما إذا كان قد كتب قصة قصيرة وحاول نشرها، وعند ما سألها كيف عرفت قالت: - اسمع يا دكتور.. لو لم تكن أخي في الحقيقة ومن الرضاع، وأنك أقرب إلى نفسي حتى من إخوتي لما أخبرتك أن كلامي قد أخذته من هذه الرسالة بالفاكس.. - فاكس؟!، من من؟ ؟! - من القاهرة يفيد أبي بوصول أحمد في موعده.. هل أقرأ عليك الشيء الذي يخصك؟! - لكن موضوع القصة قديم بعض الشيء ولا يعلمه سوى بعض اللؤماء .. من أرسل الفاكس؟! - لا أدري.. لا إسم عليه!! - هل يمكن أن أراه فربما عرفت صاحبه من خطه ؟!.. - اعذرني .. لا أقدر أن أريك.. - لا .. لا .. قد عرفت الآن.. إقرأي.. - ما يخصك فقط.. - وأنا لا أريد غير ما يخصني .. فتقرأ كريمة: - أما بالنسبة لقصة عامر فقد كان لقائي به ليلة سفري على ضوء رسالتك، والواقع أني سعيت لعدم نشرها لما قد تثيره فالرمز فيها من شخوص قرآنية وقد يتهمونه بالهزء بكتاب الله، والسخرية من قصص القرآن وهذا سيسبب لك حرجاً بكل تأكيد خصوصاً والدولة تدعم عناصرهم لمواجهة المخربين في المناطق الوسطى، كما قد يزيد من مخاطر توجهات ولدك أحمد لعدم قبوله لا من الدولة ولا من تنظيم الإخوان لأسباب تعرفها ولا محل لذكرها هنا!!، علماً بأن عبد الستار قد حاول نشر قصة عامر لولا أنني أوقفته عن طريق صلاح عمران الذي يعلم بسفر عامر وأنه سيحل ضيفاً عليك في هولندا. . وتطوي كريمة الأوراق، ويشرح لها عامر كيف شككوه في نفسه، وفيما رآه بعدما أوهموه أن نسيبة لم تكن في صنعاء، وأنه لم يقابلها البتة، ورغم عودة عمه من رحلة السويد، إلا أن عامر لم يقابله لسفره عصراً إلى فينّا، وفي المطار يقول موظف الجوازات وهو يتلقى عامر بابتسامة ودود: - إذن فأنت دكتور؟! فيرد عامر على الابتسامة بمثلها ويهز رأسها بالإيجاب، فيضع الموظف ختم الإذن بالدخول وهو يقول مازحاً: - صديقي هذا يحتاج لعملية جراحية.. هل تعملها له؟.. فتذهب ابتسامة عامر ويقول: - كان بودي لكني لست طبيباً .. أنا صيدلاني .. إنما .. فيقاطعه موظف جوازات فينّا: - لا عليك إنما كنت أمزح مع صديقي.. لكن موظف جمرك المطار يطلب من عامر فتح حقيبته، فلما فتحها أخرج الموظف كل ما فيها قطعة إثر أخرى ولكن بحرص شديد، وعندما حاول عامر التدخل عندما بدأ الموظف في إعادة المحتويات إلى الحقيبة يرفض الموظف قائلاً: - أنا الذي أفرغتها وواجبي إعادة كل شيء لمكانه، ومثلما كان تماماً.. لكن عامر يلاحظ أيضاً أن هذا الموظف يستبقي كيسي بن مطحون وبعد أن ينتهي من ترتيب حقيبته يسأله عن محتوى الكيسين فيجيبه: - قهوة يمنية .. بن المخاء إذا كنت تسمع عنه!! فلا يعلق موظف جمرك المطار بل يصحبه إلى المطار غرفة تحقيق صغيرة وفيها يستلم موظف آخر الكيسين ويسأله إذا كان بإمكانه أخذ قليل من كل كيس لفحصها، وعندما يتأكد من نتيجة الفحص يسلمه البن وهو يعتذر بلطف بالغ عن الوقت الذي تأخر فيه فيرد عليه عامر: - كنت تؤدي واجبك، وكنت أعرف ما تفعله فقد فعلت أنا ذلك في معمل كلية الصيدلة كثيراً.. ولا يسأله الموظف أكثر من ذلك، وفي خارج صالة الوصول يجد عامر صاحبه مستر هافليك في استقباله، وعلى سيارته (الأوبل) يسأله عامر: - أليس من المفروض أنك الآن في المعرض السنوي للصحة في الخليج؟! - بلى .. سأسافر غداً .. هل تعرف ما الذي أخرني ؟! - لا أدري .. آمل أن لا يكون استقبالي هو السبب!! - بل هو السبب.. هل تدري كم مر على لقائنا في مدينتكم الساحرة.. صنعاء - حوالي سنتين ؟! - ثلاثة وعشرون شهراً حتى يوم أمس .. عموماً ها قد وصلنا فندق بريستول حيث حجزت لك لِيْليان غرفة.. إنها سكرتيرة رئيسي.. مستر هيد نثلر فهو في نظره فندق أثري سيعجبك. في وسط المدينة كما طلبت .. آمل أن يكون مريحاً؟!! - ما دام فندقاً قديماً فلا بد أن يكون مريحاً.. يقولها عامر وهو يتوقع خلاف ذلك، فيقول له هافليك مستدركاً: - لكنه على أي حال لا يضاهي مباني صنعاء القديمة.. إنها مدهشة حقاً.. خذ الآن حماماً ساخناً وسأنتظرك هنا في اللوبي .. عند لقائنا ستصف لي أحد بيوت صنعاء القديمة.. يعود عامر للقاء السيد هافليك بعد حمام ساخن سريع ويقول له حال صعودهما السيارة: - أريد مرافقتك الليلة لأني سأسافر غداً .. سنذهب أولا لصالة رقص شبابية ثم نتناول العشاء في مطعم إيطالي .. أعرف أنك تفضل المطعم اللبناني. . - وفكرة المطعم الإيطالي جيدة.. إنه أقرب المطاعم الأوربية لمزاجي الشرقي؟!! - أريد منك أن تأخذ راحتك.. لا تتحرج من شيء هنا في هذا المرقص، نحن شباب وهن شابات .. لن أفرض عليك ذوقي .. تعال هناك عند زحمة الواقفين.. ماذا أطلب لك ؟! - نبيذ .. نبيذ أبيض.. - وأنا كذلك .. خذ كأسك لنجلس عند تلك الطاولة .. فيها أربعة مقاعد فارغة.. يجلسان معاً .. يثرثران .. يتذكر هافليك طلبه السابق أن يصف صاحبه اليمني بيتاً صنعانياً من داخله لتزجية الوقت .. فيقول عامر: - سأقول لك شيئاً قد تعجب له أو تراه غير ذي بال، لكنه في ظني أهم أسباب تفرد البيت الصنعاني .. فيرد عليه ها فليك وعيناه تطوفان بين حين وآخر بالمكان: - تكلم فكل شيء في مدينتكم عجيب .. إن صنعاء متحف حي فيه يتحرك كل شيء حتى الجماد .. - العادات والواقع عندكم خلاف ما عندنا.. كذلك أسلوب ودوافع بناء البيوت.. عندنا يظنون أن الله يتولى مصاريف البناء والزواج.. - ما علاقة هذا بذاك ؟! - التكلفة المرتفعة، وضآلة الدخل.. - كيف؟! - لا أحد في صنعاء يشتري بيتاً جاهزاً وحتى عهد قريب لم يكن يوجد في صنعاء مقاول واحد بمعنى الكلمة يعني حتى عام 62 .. قبل الثورة سنة 62 لم يكن أحد يبني بيته مرة واحدة.. أغلب الناس هكذا .. - ما علاقة ذلك بتفرد صنعاء؟! - أضرب لك مثلاً..بيت خالي القديم في بستان السلطان.. أَتَذكُر أنك معي قد مررنا قريباً منه عند زيارتك لنا في صنعاء .. لقد أشرت لك بيدي لتراه ولو من بعيد.. - لكنك ما دعوتني لدخول بيت خالك!! - لم يعد البيت لنا .. لقد باعوه.. - إنما كنت أمزح .. لا عليك .. أكمل .. - هل تذكر عدد طوابقه ؟! - أربعة ؟! - نعم غير الملحقات في ساحة الدار.. يسمون أول دور المسروق .. - البيت قديم .. كم عمره ؟! - ليس كثيراً .. أقدم جزء فيه ربما أكثر من تسعين عاماً.. الباقي ما بين أربعين وخمسين سنة.. - لماذا هذه الفروق؟! - طابقان وغرفة من الثالث تشكل أصل البيت الذي اشتراه جدي عندما تمكن من استيطان صنعاء .. الدور المسروق هو الدور الأرضي به مخزن للحبوب ومخزن حطب التنور يقابله مكان البقراو خروف في المناسبات يجاورهما استغلال ما تحت السلم للدور الأعلى.. هناك مطحن حجري يدار باليد .. كل بيت لم يكن يخلو من مطحن للحبوب.. - والمطبخ؟! - يوم اشترينا دار جدي في صنعاء القديمة كان به مطبخ صغير به تنوران، أحدهما كبير تقوم جدتي باستعماله يومياً لخبز أرغفة قمح وشعير، والتنور الصغير لعمل خبز ذرة نسميه القفوع إذا كان من الذرة الشامية.. - أعرفها .. الذرة الصفراء .. - ونسمي المصنوع من الذرة الأخرى الجحين.. - أوه .. إنها مسميات يصعب حفظها .. - في المطبخ أيضاً مسرب بئر مياه سطحية لنزع حاجتهم من الماء .. - وغرفة الطعام ؟! - كانت أولاً في المطبخ .. كنا نأكل في المبطخ قبل أن يتواصل البناء .. لقد أخذت الغرف الأخرى شكلها وحجمها بناء على وقت بنائها، ثم غرض البناء .. - هل ما زال في البيوت بئر الماء، ومطحن الحبوب، والأشياء الأخرى التي سميتها؟! - من الناحية العملية قطعاً لا .. لقد كانت البيوت حصوناً لساكنيها خصوصاً في الحروب وعند حصار المدينة.. هل تعرف من أين جاء اسم صنعاء ؟!.. - لا ؟! .. يقولها هافليك وعيناه ترقبان مدخل المرقص فيجيبه عامر: - قيل أنه مشتق من اسم قديم معناه الحصن .. كانت صنعاء مدينة محصنة من الداخل والخارج.. - والآن ؟!!! - وكانت فاكهتها من بساتينها .. - ما رأيك في تلك الفتاة ؟! - هل تريد دعوتها ؟! - إذا كنت لا تمانع ؟! يتأمل مستر هافليك الفتاتين على صمت عامر الذي يتذكر (فولغا) فتاة المقهى التي رفضت دعوته لأن لها صاحبة girl friend ، فهل يتكرر الموقف ولكن زوجياً هذه المرة، ويقطع صمته هافليك حين يقول: - رأيتهما يدخلان معاً.. ليس برفقتهما أحد .. دعني أدعوهما لتناول الشراب معنا.. كنت تحدثني وأنا في انتظار مثل هذه الفرصة.. تجلس الفتاتان إلى طاولة مضيفيهما، ويرتاح عامر عندما يتأكد أنهما ليستا سحاقيتان أو من بنات الهوى .. بنات الدانوب أشهر من أن يتحدث أحد عنهن.. إحداهن تسأل عن عامر إن كان هندياً.. يضحك هافليك وهو يقول: - نعم .. إنه ابن السيدة غاندي، ابن رئيسة الوزراء .. - إذن هم يقدسون البقر.. - ولا يشربون النبيذ!! .. أليس كذلك أيها السيد المحترم - فلماذا يشربه إذن ؟! تسأل الأولى، وتلتفت الأخرى المجاورة لكرسيه وتسأل عامر: - هل أنت مسلم ؟؟! - نعم .. - يبدو ذلك .. - ولي على مسألة النبيذ كلام.. فيتدخل هافليك: - اعذرني لفضولي، ومزاحي الثقيل.. - لا .. أبداً .. هل ستسمع ردي ؟! - إن لم أكن قد ضايقتك بالسؤال .. - أنا في شوق لسماع دفاع صاحبك .. هل أنت محام ؟! تقولها الثانية مازحة لما تحسه من حرج ها فليك، ويعلو نغم أغنية راقصة أخرى على صمت ثلاثتهم وارتباك عامر فليس هذا هو المكان المناسب لرده، ولعله مع هافليك كان جاداً أكثر مما يلزم، ويبحث عن مخرج فيقول: - على هذا الصخب والطرب لا أظنكم تقدرون على سماع ما أقول؟! - هل تتراجع؟! - هل تقبلا دعوة صاحبي مستر هافليك للعشاء في مكان أهدأ من هذا؟! - بشرط أن نسمع رأيك في الزواج بأربع .. لا تنس إن معنا سيدتان إن يقبلا دعوتنا.. ويتحرك الجميع لأقرب مطعم، ويراجع كل اثنين قائمة الطعام، ويختار عامر مقبلات فحسب، وتأتيهم زجاجة نبيذ معتقة أخرى ليبدأوا حوارهم من جديد . يقول عامر وعلى شفتيه ابتسامة من يعني ما يقول: - في تراث العرب قول عن الخمر والنساء.. - وهو ؟! - قتل الرجال الأحمران.. الخمر والنساء.. - تعني نحن والشراب !؟ لكن هافليك يقاطع ساخراً: - هل هذا هو السبب الذي يمنعكم عن شرب النبيذ؟! - الخمر حرام عند المسلمين على كل حال .. لكن لي رأي مختلف .. - يعني يخالف عقيدتكم ؟! - لست مخالفاً، لكني مختلف.. - ؟!.. - ما أفهمه عن القرآن يختلف كثيراً وهو في نظري موضع جدل كبير .. نص الكتاب في ثلاثة مستويات .. وتسأل إحداهن عن المستوى الأول بينما يبحث عامر في ذاكرته عن هم أحمد ويقول: - في قسم من القرآن وهو كتابنا المقدس نص في موضع نسميه سورة النحل، ومن النحل العسل.. ومنه ومن غيره السكر المسمى سكر العنب.. النص يشير بوضوح للسكر والإسكار وتجارة منتجات النحل والعنب والنخيل.. هذه كلها تحتوي سكريات يمكن عمل المشروبات الروحية منها.. هذا النص في قسم سورة النحل لم يصرح أن الخمر أو النبيذ محرم على الناس.. - ربما يكون التحريم في المستوى الثاني؟! - لا .. أبداً.. هذا النص من الكتاب في قسم يسمى سورة النساء.. المنع فيه لصلاة المسلم وهو سكران حتى يعلم ما يقول.. - ماذا يعني ذلك؟! - يعني عدم جواز دخول المسجد في حال السكر أو بعد معاشرة الأزواج من النساء إلا بعد الاغتسال وأن يعلم ما يقول.. - إذن فلا تحريم ؟! - ربما في المستوى الثالث ؟! - أريد رأيك في النساء ما دام كتابكم قد جمع الخمر والنساء في قسم يتحدث فيه عن النساء.. - لا .. أعذريني حتى أكمل الصورة لأن الكتاب المقدس عندنا هو لكل الناس فهو يبدأ باسم الله وينتهي باسم الناس.. - إذن كلامك سيكون في المستوى الثالث؟! - تفضلوا .. تناولوا طعامكم أولاً.. - بل نأكل نحن وتتكلم أنت ؟! فيضحك ويقول هافليك: - هذا ليس عدلاً.. - إذن نسمع .. - ونؤجل كلام النساء عن النساء بعد تناول العشاء.. ويضحكون، ويضطر عامر أن يواصل الكلام وهو مرتاح لذلك الاهتمام.. فيقول: - المستوى الثالث إنما حرمها عند اقتران شربها بالعداوة وأكل أموال الناس بالباطل.. - وهل يأكل المخمور أموال الناس ؟! - بل الكلام هنا عن الحانات والبارات وكازينوهات الفنادق التي تضج بلعب القمار وتجارة المخدرات والرقيق الأبيض والعبث بالمال والرهان ولغو الكلام المتعصب الذي يقود لخصام وعدوان .. هذا الكلام في قسم اسمه سورة المائدة.. - مثل مائدتنا هذه؟! - أو مثل مائدة العشاء الأخير للحواريين مع السيد المسيح ؟! - أكثر كلام هذا القسم أو هذه السورة من القرآن يتعلق بالمحرم من الطعام على المسلمين، وبطعام المؤمنين من غير المسلمين.. - من تقصد بالمؤمنين من غير المسلمين ؟! - اليهود والنصارى من يؤمن بإله واحد.. - هل يجيز لكم إنجيلكم أكل طعامنا؟! - إنجيلنا اسمه القرآن. . - اعذروني .. - وجودي معكم يبين جواز أكل المسلم من مطبخكم .. ثم يتكلم عن زواج المسلم بنصرانية .. مثلاً الآنسة ماري.. - هل تستطيع الزواج بها دون أن تغير دينها؟! - بالتأكيد، وعقد الزواج مثل أي عقد بين طرفين أول أهم شروطه رضى الطرفين.. - وأنا كنصراني، هل أستطيع الزواج بأختك؟! - دون ذكر أسماء .. أو قرابات .. تستطيع الزواج بمسلمة إذا أعلنت إسلامك وطبعاً بموافقة من تريد الزواج بها.. - يعني ؟! - يعني أن تؤمن بما يؤمن به أي مسلم.. - أنا يجب أن أصبح مسلماً لكي أتزوج منكم، بينما تبقى أنت على إسلامك وتتزوج نصرانية .. أين العدل والحق في هذا ؟! - لقد أصبح الطعام بارداً.. - هل تتهرب من الجواب .. - يقاطعني ويتهمني بعدم الجواب .. سأقول وأوجز.. - لا شك تملك الجواب؟! - الآنسة ماري مثلاً .. لو تراضينا على الزواج .. هي على دينها وأنا على ديني .. أنا كمسلم أؤمن بما تؤمن به .. أؤمن بالله وبعيسى.. وفي الإسلام الرجل هو المسئول عن الأسرة، وفي ظل هذا النظام يحرص الزوج على دين زوجته، وعلى إيمانها، وعلى أداء صلواتها.. - وأنا ؟! يسأل هافليك وقد بدأوا طعامهم، فيجيبه عامر: - لو تزوجت من مسلمة سيعتبرك المجتمع المسئول، وكيف ستعبر عن مسئوليتك وأنت لا تؤمن كنصراني بما تؤمن به زوجتك المسلمة.. أنا لو تزوجت نصرانية إيماني يوجب علي الإيمان بما تؤمن به .. إيماني يضم كل من سبقني .. وإيمان صاحبي يمنعه أو لا يجيز له أو هو لا يبحث فيه عن ما يوجب عليه الإيمان بمحمد وبكتاب محمد الذي يؤكد على الإيمان بعيسى وموسى وإبراهيم .. وبكل النبيين.. صباح اليوم التالي في مكتب مستر هيدنثلر تستقبل عامر السكرتيرة لِيْلِيان ذات الأصل الفرنسي .. سيدة وقورة تقدم له قهوة تركية، وعلى ابتسامة مهذبة ومتقنة تقول له : - هذه من قهوتك التي أهديت لمستر هافليك الذي سافر صباح اليوم إلى الخليج.. - حسبته سيحتفظ بها لنفسه!! - هو لا يحتاج مما أعطيته إلا القليل ولذلك يخشى فساد الباقي .. - والعمل ؟! - في مثل هذه الحالة أنصحك أن تهدي حبوباً غير محمصة من بن المخاء الذي تشتهرون به لأنها تدوم وقتاً أطول.. هافليك أو غيره سيطحن منها بقدر حاجته.. - والنكهة والتحميص ؟! - سيصنعها على طريقته .. - متى جاء بالقهوة وأنا قدمتها له ليلة أمس؟! - مبكراً في الصباح.. لقد انطلق مستر هافليك من (إميونو) .. من مكتبه هنا كما هي عادته.. - ومستر هيدنثلر؟! - سيقابلك مدير التصدير بعد أن ينتهي من مكالمة له عبر المحيط.. قد طلب الاعتذار إليك.. - لا داعي للاعتذار فأنا هنا معك إن لم أعطلك عن أعمالك.. - مهمتي الجلوس معك حتى ينتهي المدير من مهاتفة مكتبنا في الولايات المتحدة.. - هل معكم معامل هناك؟! - بل مجرد مكتب.. - مثل (إميونو) كنت أتوقع أن يكون له معامل إنتاج في الغرب والشرق !! - منتجاتنا حساسة جداً.. لا معامل لنا إلا هنا في النمسا.. السعوديون عرضوا علينا الشراكة كغيرهم لكننا رفضنا .. هاقد وصل المدير .. الرجل طويل القامة، أنيق المظهر ، يمد كفه الأبيض الشثن مصافحاً ومعرفاً نفسه بلقبه وباقتضاب محترم: - هيد نثلر .. - ناصر.. عامر ناصر.. يرد عامر، مقدراً اسمه واسم عائلته، ويتبع صاحبه لمكتبه، وفيه يلاحظ عامر أن طاولة اجتماعهما ليس عليها منفضة سجائر فيقدر أن التدخين غير مسموح، لكن مضيفة يسأله إن كان يرغب في مزيد من قهوة النسكافة، فيعتذر شاكراً ، لكن الرجل يشير لطاولة أخرى ويقول: - لدينا هناك قهوة وشاي في انتظار من يرغب .. لا تتردد في خدمة نفسك .. هناك أيضاً منفضة سجائر إذا رغبت في التدخين .. صحيح أنا لست من المدخنين لكني أدعوك أن تجرب هذا .. سيجار هافانا أقدّم من علبته الفاخرة لضيوفي المتميزين.. - أشكرك .. سأجرب .. أعتذر لأني كنت سبب تأجيل رحلة مستر هافليك.. - لا داعي للاعتذار فسيصل قبل الافتتاح، ونحن نقدر علاقتك برجلنا، كما نقدر اهتمامك وجهودك رغم عدم توقعنا لأي مبيعات في اليمن.. - دعني أكون صريحاً .. أسعار منتجاتكم ليست منافسة - دعنا نتحدث عن المناقصات ما دمت تشير إلى الأسعار - إلى الآن وزارة الصحة هي جهة المناقصات لكل المؤسسات الصحية في اليمن وهذا ما يجعل الكميات كبيرة والمواصفات موحدة.. - لو أنصفتنا شروط الوزارة وتوخت النوعية لبدائل الدم ومشتقاته لما نافسنا أحد .. قل لي من أهم منافس لنا .. الألمان؟! - هناك أيضاً شركة (بيوفارم) الهنغارية!! - لو استطعت إقناع الوزارة أن تضيف لشرط إرفاق شهادة خلو المنتجات من داء الكبد الوبائي شرط إرفاق شهادة بخلو المنتجات من مرض نقص المناعة .. الإيدز.. - هذا ممكن!! - لم أكمل بعد .. ما عدا شركتنا فإن أي منافس لا يملك مركزاً لجمع دم المتبرعين، أو هكذا نسميهم.. - وإلاّ ؟! - هم يبيعون لنا .. هل بإمكانك إقناع من يضع شروط المناقصات العامة أن يضيف هذا الشرط ؟! - عذراً .. شرط ماذا ؟! - شرط استصدار مقدمي العطاء شهادة الجهات الصحية أنه يملك مركزاً لجمع وفحص وتعبأة البلازما ومشتقات الدم الأخرى.. هل ذلك ممكن؟! - فإذا تم لنا ذلك ؟! - لن تجد لك منافساً لأن شركة إميونو هي الوحيدة التي يمكنها عمل ذلك إذا لم يتم التحايل .. إن أهم وأشهر منافسينا في الشرق الأوسط يشترون الفائض من دم المتبرعين للصليب الأحمر لأن الإحتفاظ بقرب الدم الكامل لا يمكن أن يدوم أكثر من بضعة أسابيع .. إنهم يشترونه رخيصاً .. ربما بسعر رمزي ليبيعونه لكم غالياً. - لذلك فسعره منافس؟! - يقال أن هناك تجارة يديرها بعض موظفي الصحة العالمية ؟!.. بعض المتطوعين متورطون؟! - وبالنسبة للعملة ؟! - لا نستطيع أن نقدم عرض سعرنا بالدولار الأمريكي لأسباب أهمها تذبذب أسعار الصرف هبوطاً وصعوداً، والفترة التي تتضاعف عن فترة إعلان الوزارة لتحليل العروض والبت فيها وفتح الاعتمادات .. كما إن ليس من سياستنا البيع بغير الشلن النمساوي .. إنها سياسة عامة.. - عندنا في البنك المركزي الشلن من العملات المساعدة غير الرئيسية.. ماذا عن تقديم عروضكم بالمارك الألماني؟! - لا أدري ولكن .. دعني أسأل : لماذا الإصرار على الدولار الأمريكي.؟! - المسألة ليست مسألة إصرار.. إنه واقع يفرض نفسه ؟! - إشرح لي هذا !! - منذ خرج المصريون من اليمن بعد حرب 67 والريال اليمني في مهب الريح .. لا سند له ، ولا غطاء من الذهب - قد حرر الأمريكان العملة من غطاء الذهب.. - وارتبط اقتصاد العالم بالبترو دولار ؟!! - وأنتم لا بترول عندكم، والقات يجني على البن!! - لذلك ارتبط ريالنا وسياستنا بالريال السعودي .. الريال السعودي وسيط بيننا وبين الدولار .. كل ساستنا وسياساتنا تتأثر بعد 67 بما يجري في الرياض .. - ولا رياض بدون واشنطن.. - حاولت إحدى حكوماتنا الارتباط بواشنطن دون وسطاء فأطيح بها.. - أعرف ذلك .. دعنا نعود لموضوعنا.. أعني علينا إنهاء جلسة عملنا هذه .. من الصعب استمرارنا حتى في أسواق النفط لذلك صرفنا أنظارنا عن توسيع أعمالنا.. ويسحب السيد هيد نثلر علبة أنيقة، يغلفها قماش مخملي ثم يفتحها ليظهر مسكوك ريال مارياتريزا. ويعرضه على ضيفه اليمني قائلاً: - هل تعرف هذا؟! فيتصنع عامر دهشته أو إعجابه وهو يقول: - إنه ريالنا الفضي ما قبل ثورة 62.. الريال الفرانسي !! - إنه مسكوك نمساوي وليس فرنسياً .. هل تعرف المرأة الناهد على وجه هذا المسكوك الفضي ؟! - هي ماريا تريزا ؟!! - ربما تكون أشهر أمبراطورة حكمت النمسا في القرن الثامن عشر .. كان لها إبنة اسمها ماري انطوانيت.. - زوجة ملك فرنسا ؟! - لويس السادس عشر ، وقد تم إعدامها مع زوجها بأيدي الثوار الفرنسيين .. من هنا ربما كانت تسميته بالريال الفرنسي .. هو من شركتنا هدية لك .. هل ترغب في مهاتفة أحد في صنعاء .. أولادك ربما .. لعلك تفتقدهم!!؟؟.. - شكراً.. لقد اتصلت بهم ليلة أمس من الفندق وأعطيتهم عنواني، ورقم الهاتف والغرفة .. أظن الاتصال من اليمن أرخص !؟.. فيبتسم هيدنثلر ويقول: - بل هو من مكتبي أرخص لأنه لك مجاناً.. ثم إن الفندق يحتسب عليك ربما ضعف السعر، وعذراً إن نبهت أن ضيافتنا مقتصرة على الإقامة وأن لك مكالمة دولية واحدة ما بقيت في النمسا وعليك سداد المكالمات الدولية الأخرى وأي مشروبات من الميني بار .. أعرف ما فعلته من ضيافة (هافليك) في صنعاء لكننا مقيدون بنظام صارم .. هافليك سافر صباح اليوم وسيرافقك السيد لوكمان .. إنه رجل بخيل !! - سمعت أنه ثقيل الظل أيضاً؟! - تريد إذن أن تتحرر من رفقته .. أتمنى لك يوماً (حراً) سعيداً .. بالنسبة لرحلة العودة سنؤمن لك سيارة من الفندق إلى المطار .. ألن تهاتف أهلك في صنعاء ؟! .. ويتصل عامر بصنعاء، ويتصادف أن لا يرفع سماعة هاتف الطرف الآخر إلا الخالة ضحى التي لا تكتم خبراً ، ولا تحتفظ بسر، ولا تتأنى مهما كان خبرها. يقول عامر وهو يتجنب أن تحس باستعجاله أو أنه لا يريد الحديث معها: - كيف أنت يا خاله، كيف أحوالكم جميعاً؟!! - نحن جميعاً بخير .. الأولاد ، وأمك، وزوجتك .. كلنا بخير لولا ما سمعناه عن ابن عمك!! - ابن عمي ؟!، خيراً، ماذا به ؟! يقولها وهو يظن أن خبرها متعلق بمن في صنعاء فهم كالذر بحسب تعبير الخالة التي تضم لأولاد عمه أولاد عم أبيه وأولادهم، لكنها تحاول الاستدراك وتقول: - ألم تعلم بما جرى لأحمد؟! - أحمد من؟! - أحمد عبد الحميد؟! - أحمد عبد الحميد من؟! .. إنه في القاهرة ؟! - عظم الله أجرك ! - أجري فيمن؟! وتحاول الخالة الاستدراك مرة أخرى لكن دون جدوى .. لقد وجدوا أحمد عبد الحميد مخنوقاً في حوض حمام الفندق الذي ينزل فيه عادة والده عبد الحميد كلما مر عن طريق القاهرة. رغم تماسك عامر إلا أن أثر الصدمة كان ظاهراً على وجهه وهو يستأذن هيدنثلر في إجراء مكالمة أخرى إلى منزل عمه في لاهاي بحثاً عن تفاصيل بل إنه يلوذ بخيط شك ضعيف أو منقطع فعسى الأمر التبس على الخالة كما يحصل مع كبار السن ولكثرة إسم أحمد في أولاد العم، وعم الوالد، وذراريهم: - ألو.. - . . . - من بجوارك ؟! - . . . - والسيدة كريمة ؟! - . . . - إذن نادي عليها .. أنا عامر أتحدث من فينّا .. - . . . - أسرعي .. رجاءاً .. أنا في الانتظار .. بعد أن يتأكد له الخبر بقليل من التفاصيل وأن عمه عبد الحميد قد سافر إلى القاهرة، طالباً من ابنته كريمة الاتصال بعامر وطالباً سرعة عودته إلى لاهاي والبقاء في داره التي رحل الجميع عنها غير كريمة بُعيد لقائهما ليرافقها فقد تطول أيام الغياب، وكما يتوقع عامر تخبره كريمة أن عمه رابط الجأش، وقد رتب سفره إلى القاهرة كأنه في مهمة رسمية، ورتب سفر أم أحمد مع الأولاد الواصلين من بريطانيا ليرحلوا جميعاً إلى صنعاء.. بل إنه يجري اتصالاً بها من القاهرة ليطمئن على ابنته البكر التي لم يسألها مرافقة أحد لما تعانيه من آلام الغضروف المبرحة وقرار الأطباء بقاءها مستلقية حتى إجراء العملية الجراحية خلال أيام .. وما دام عامر معها فقد اطمأن عبدالحميد إلى أن أحداً من أهلها سيكون بجانبها حتى عودتهم وانقشاع غبار الأزمة والدفن والعزاء .. وفي غرفتها بمستشفى (وست إنده) في لاهاي تبقى كف كريمة الرقيقة المرتعشة ممسكة بكف أبيها بعد اسبوعين من الفراق غير المتوقع، ورحيل أحمد الذي لم يكن في حسبان أحد .. تتحسس أصابعه عساها تستمد من سكينته ورباطة جأشه وهي على سريرها بعد عملية دامت بضع ساعات، ونجية زوجة عبد الحميد في ثياب الحداد السوداء على الجانب الآخر من السرير.. كريمة ما زالت تنتظر وتريد أن تقول شيئاً في لحظة صمت أبيها وابتسامته الدافئة، لكنها تخشى أن تفلت من بين شفتيها عبارة غير مناسبة، وتستمد من عيني أخيها ومرافقها عامر الواقف على طرف سريرها شيئاً فيه دفء الأخ فلولاه في محنتها المضاعفة لقتلتها الغربة، والفراق، ونوبات المأتم الذي غابت عنه. تقول وهي تدير وجهها قليلاً حتى تخفي دمعتها المنحدرة من أطراف عينيها : - أنا لولا أخي هذا لصرعتني الغيبوبة كلما أفقت من المخدر .. كان هذا الوجه أول من رأيت من أهلي بعد إفاقتي من بنج العملية.. وينقطع صوتها الباكي الضعيف ، وتمتد كف نجية تمسح دمعة ابنتها البكر الوحيدة بين الذكور ولا كف تلتقط دمعة الأم الثكلى وتضغط كف عبد الحميد كف أقرب أولاده لقلبه ويقول لزوجته مواسياً ومداعباً: - الحمد لله أننا رضينا لزوجة المرحوم أخي محمد أن ترضع كريمة.. كم يكفي أمك يا عامر من لبن البقرات الهولندية لنعوضها عما أرضعت هذه الشقية.. فتمسح أم كريمة دمعتها في ضحكة باكية وتهمس بصوتها الذي حنذه الحزن وشواه الوجد على فراق أحمد .. البكر من الأولاد الذكور بعد كريمة: - الحمد لله أنه كان معها ليرعى ابنتها سلسبيل، أما حليب لطيفة فلا ثمن له إلا في الفردوس مع أحمد .. هو في الفردوس الأعلى كما قال أبي .. وينقطع الكلام على نشيج المرأتين ، ويرتفع نحيب المرأة المغربية الراقدة على السرير المجاور لكريمة لإحساسها بكل زفرة حرى، وهي تدري بحكاية أحمد، وهي من سهر الليلة الأولى بطولها بجوار كريمة رغم عناية الممرضات، فتنبه لها الجميع، وتحاول كريمة أن ترفع رأسها قليلاً لتشكر هذه المواساة رغم أنها قد عرّفت والديها بأم فادي لحظة دخولهما وما لاقته من إحسانها حتى تمكن عامر من رعاية ابنتها سلسبيل التي لم تزرها إلا نهار اليوم الثاني للعملية، وترسل زفرة أخرى وتقول: - لو كان زوجي هنا لكان أهون من لا مبالاته وهو يعلم بضرورة وجوده وحاجتي إليه.. فيرد عبد الحميد: - زوجك يا بنيتي ترك كل شيء في جده بعد سماعه خبر أخيك وكان حاضراً قبل وصولنا المطار .. لولا زوجك ناصر لما أنجزنا الدفن والعزاء بالصورة التي هوّنت علينا مصابنا.. أنت تعرفين أن أخوتك خواجات قضوا معظم حياتهم خارج اليمن ولا خبرة لأي واحد منهم بصنعاء .. كانت نية زوجك السفر معنا لكنه تأخر مع الأولاد.. الكل أصر على مواصلة العزاء .. سأترك أمك معك الآن وآخذ عامر معي .. أنا أحوج إليه منك .. هيا يا دكتور.. بعدها يتلقى عبد الحميد العزاء من بقية أعضاء السفارة وأصدقاء آخرين من الخارجية الهولندية، وبعض السفارات العربية، والسفير الصيني، والياباني، والهندي، ويصعد من الخيمة التي أقيمت في حديقة الدار إلى الصالون الرئيسي، وتأتيهما الخادمة الإندونيسية ببراد منقوع الزبيب الذي طلبه سعادة السفير الذي يصب منه لابن أخيه أولاً وهو يقول: - رحمة الله على أخي محمد.. أبوك هو من حبب لي منقوع الزبيب، وأحمد أخذها عن عمك، وأضافت لنا مربية هندية في لندن عادة إضافة التوابل .. قرنفل وكاردموم وأشياء أخرى نشتريها ولا نعرف لها إسماً.. ثم يصب لنفسه وهو يقول : - تعرف؟!، كان أحمد يغض الطرف عن شربي كأس نبيذ .. كان يقول إن في حرمته شبهة على مذهب أبي حنيفة، وكان يعتقد بعدم جواز النهي عن منكر قبل أن يعرف الراغب في النهي مذهب وملّة من سينهاه فربما كان سينهاه عن مباح في مذهبه وذلك لا يجوز.. لقد تعلمت عن ذلك الولد الكثير .. - وماذا تم في القاهرة ؟! - لقد رَفَضْتُ تشريح جثته إكراماً لآدميته وعفة دينه؛ وقد تركت الملف بيد السفير اليمني وهو صديق حميم، وأنا أثق في أجهزة التحقيق المصرية، وعلاقاتي لم تزل معهم إلى اليوم.. - هل عرفوا الفاعل ؟! - المشكلة أني كنت أتوقع نهاية تراجيدية لكني لم أتوقعها بتلك البشاعة.. وأين ؟!، في القاهرة ؟! - يا الله !!.. لا أصدق أن أحداً، مهما كانت دوافعه ، يقدم على قتل ذلك الملاك.. - التحقيقات حتى الآن تستبعد دافع السرقة.. الدوافع الأخلاقية أكثر استبعاداً .. حتى نسيبة التي لا يفكر فيها أحد لم يقابلها إلا مرة واحدة في ساحة السفارة، وتبقى الدوافع الأخرى علامات استفهام.. - مثل ماذا ؟!! - خصوم عمك ؟، أعداء الحرية؟، ثم أحمد ؟!.. طبعاً لسنا وحدنا ؟! - لكن لا تقل لي أن لأحمد خصوم!! - تلقيت تهديدات لم تذكره بالاسم أو تشير إليه بالصفة .. لكن الشيء الذي لا تعرفه هو أن ابن عمك كان عضواً نشيطاً في جماعة يرأسها أستاذه البروفيسور الباكستاني، كما كان أحمد متعاطفاً مع حزب العمال البريطاني وكاد يلتحق بعضويته فله علاقات قوية مع أنصار للعمال لا ترضي البروفيسور على نفوره من حزب المحافظين .. قبل شهرين تقريباً كتب لي أحمد خطاباً طويلاً وهو مالم يفعله معي قبلها .. كان نادراً ما يكتب إليّ، وأندر من رسائله شكوى يشكوها في رسائله لأي كان.. هل تريد أن تعرف ما كتب لعمك؟!. . فيقول عامر وهو يقاوم أجفانه أن تنطبقا: - لابد أنه شيء استثنائي؟! فيرد عبد الحميد ويداه ترفعانه من فوق الأريكة: - بل أكثر من استثنائي وسآتيك به.. ويسرع عبد الحميد للدور الأعلى حيث المنامات، ويبادر عامر نحو حوض الحمام الأقرب لينعش وجهه بحفنتي ماء بارد ويعود لمجلسه يمسح شعره ووجهه هامساً كأبيه: - نِعْمَ الطِّيْب الماء .. وتطول قليلاً غيبة عبد الحميد، فتُثقِل رأس عامر سِنةُ نوم المحزون ليدرك ابن عمه القتيل متكئاً على كرسي الخيزران فيسأله مندهشاً لحال حياته.. - كيف حالك يا ابن عم؟! - في أحسن حال .. - ظننتك ميت!! - مثلي لا يموت.. - أين أنت الآن؟! - في فردوس جدتي خديجة تحكي لنا حكاية يونس الكاتب.. هل تعمل معي معروفاً؟! - بكل تأكيد !! - هذا المنديل فيه قطرتان من دمي .. حمراوتان، قانيتان.. سلمه لأبي ولا تريه لأمي، وقل للشيخ إن من يخسر جولة لا يعني أنه قد خسر المباراة .. وتنقشع غمامة النعاس من عيني عامر على حركة المربية الإندونيسية وهي تضع كأساً وإبريقاً على الطاولة أمامه وتقول: - هذا بقية من شراب ابن عمك، أتيتكما به كما أمر سعادة السفير .. سوف يأتي سعادته حالاً.. ويعود عبد الحميد معتذراً وحاملاً في يده ملفاً صغيراً أسود ينزع منه قصاصة ويسلمها لعامر ثم يقول: - هل ذقت الشراب.. هذا هو عنوان الشيخ في (ليفربول)، هل تعرف فحوى رسالة أحمد ؟! فيتناول عامر قصاصة ابن عمه وبه دهشة تتمنى ما يستحيل على غيره فهم مراده بينما يواصل عمه الكلام: - أعذرني لو لم أدعك تقرأ الرسالة فهي طويلة.. ولو أن أحمد ... - ولكن أين المنديل ؟!؟! ويتلعثم عامر لمقاطعة العم الذي لم تلتقط أذناه شيئاً من عامر الذي يستدرك: - وبقية الرسالة .. أعني الشكوى .. لا بأس .. ممّ يشكو أحمد ؟! - يقول إن مناظرةً جرت بينه وبين استاذه البروفيسور غلام ولا ثالث لهما سوى الشيخ مشتاق .. وتتكور كلمات عبد الحميد حتى يحس عامر كأنها لدغة تكهرب بها جسده وقد لسعت ذهنه الناعس تشده بكل اتجاه على نحو يجعل لصوت عمه أصداء تتردد حواليه بينما تضغط أصابعه على قصاصة العنوان بعصبية بالغة حتى قال: - تعني ذلك الشيخ الهندي المسلم الذي كان برفقتنا في كورهاوس؟! - أظنه هو؟! - يظنه هو ؟!!.. ويكاد هم عامر بآفات الدهشة تطحن صدى صوت عمه الملتهب على دقات قلبه، ويواصل عمه الكلام: - هل تدري ماذا كان موضوع المناظرة؟! - القتال؟!.. لا .. لا .. أقصد الجهاد ؟!؟! - أخطأ حدسك هذه المرة !!.. قل شيئاً غيرهما !!؟ فيقول عامر بعصبية يحاول إخفاءها بتصنع الدهشة: - وما يدري الأغبياء أمثالي ؟! لكن العم يتجاهل عصبية ابن أخيه ويقول: - كان للمناظرة شكل واحد، ومبحث واحد، وصوت واحد هو صوت أحمد .. مشاكساً، متفلسفاً، معتنقاً مالم يقله غيره ولا يستفتحه إلا هو.. البروفيسور يحاوره ويستفزه، وصاحبه الشيخ الهندي يتلو ما يطلبه ابن عمك من آيات، وكل ما دار بينهم مسجل في هذا الشريط .. هل تريد سماعه؟! - لكنك لم تذكر لي شيئاً عن الموضوع؟! فينظر العم لساعته، ويمد بالشريط يده نحو عامر، ويقول: - خذ الشريط لتسمعه في غرفتك، وخذ جهاز التسجيل من غرفة كريمة، وفي الصباح نلتقي في مكتبي بالسفارة.. صباح اليوم التالي يلتقي عامر بعمه عبد الحميد على كوب شاي .. مُنفرِدَين في صالة استقبال صغيرة ملحقة بمكتب السفير في مبنى السفارة وبعد أن تضيف لهما السكرتيرة قطعة كعك يأمرها السفير أن لا تدع أحداً يقطع خلوتهما حتى يتم إبلاغها، ثم يقول: - أظنك قد أحضرت الشريط معك؟!! - لم أفهم منه شيئاً.. - ولا ما طلبه أحمد مني أولاً ؟! - ما فهمت من بداية كلامه إليك أنه لا يوجد من هذا التسجيل سوى ثلاث نسخ لا رابع لها.. الأولى ليحتفظ بها أستاذه البروفيسور الباكستاني، وثانية لشيخه مشتاق، وهذه الثالثة أرسلها إليك؟!.. صح.. - إلى متى؟! - حتى تتغير قناعاته أو يقتنع أحد غيره بقناعاته.. - وما هي قناعاته ؟!.. لا حظر بالطبع على سماع الشريط بل على نَسْخه .. - قلت لك لم أفهم شيئاً بسبب مستوى لغتي الإنجليزية رغم الآيات التي رتلها الشيخ مشتاق فهي طبعاً من القرآن.. - وباللغة العربية؟! فيقول عامر وهو يتجنب إظهار توتره وضجره: - وهل من قرآن يُتلى بغير اللغة العربية؟! - أظنك لاحظت، لو استمعت لكل الحديث، أن الآيات يجمعها شيء واحد!! - كنت أبذل أقصى الجهد لأستوعب بقدر ما أعلم من اللغة الإنجليزية، والواقع أني قد رافقتهم حتى نهاية الشريط.. - بكامله على الوجهين!! - نعم، على الوجهين .. الآيات أو معظمها تتحدث عن الزكاة والصدقات؟!.. - وهما عندنا موضوع واحد؟! - ربما ؟!.. يقولها عامر بحذر ويعود عبد الحميد مستفزاً: - عندك كما عند الآخرين خلط بينهما.. - القرآن يسمي الزكاة صدقات.. - ويجعل مصرفها على الفقراء والمساكين.. - والغارمين، وفي الرقاب .. - وفي سبيل الله.. - لكن لأحمد رأي آخر.. - لعلك تساعدني فربما يتأكد لي ما فهمت أو تصححه كما هو فيما سمعت على هذا الشريط!! يقولها عامر ويخرج الشريط من حقيبته لكن عبد الحميد يطلب منه أن يبقيه لديه حتى يصل لمراده، فيعود عامر ليسأل عمه: - هل ستساعدني لأفهم؟! - أو أصحح فهمك ؟! - إن كنت قد اخطأت الفهم.. ألم أقل لك إن حصيلتي في الإنجليزية لا يرقى لمستواك أو مستوى المرحوم؟! - يطرح المرحوم أحمد رؤيته على أساس أن الواجبات المالية التي علينا هي على شكلين مستقل كل واحد منهما عن الآخر، وليس أحدهما بديل عن صاحبه، ولا يحل محله.. ويريد عامر أن يصل لجوهر المسألة فيقول: - يعني الزكاة والصدقات؟! - فالزكاة في نظره هي التي تجب فيما يربو على الأموال الرأسمالية العاملة.. - في كل أنواع التجارة؟! - في كل مال يستثمره صاحبه فتكون له مُدخلات تشكّل رأسمال ينتج عنه مخرجات ذات ربحية، خدمية أو سلعية استهلاكية .. زكاة تلك المخرجات من الأموال يجب دفعها لأولي الأمر بنسبة ربع العشر.. - يعني إثنان ونصف في المائة ؟! - هكذا فهم عمك، وهي نسبة يتم احتسابها على رأس المال العامل ويختلف عند صاحبك حساب رأس المال باختلاف الأنظمة المحاسبية المعمول بها والأعراف التجارية السائدة في منطقة ما.. - والزكاة أمانة ؟!! - بل واجب، يجب مراقبته، ومحاسبة المتقاعس عن دفعه للدولة ظالمة كانت أم عادلة لأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.. - يعني المؤمنون!؟ - ليس ذلك في فهم ابن عمك.. في هذه الآية بالذات يفهم المرحوم أن الصالحين من العباد هم الأقدر على إدارة الدول وسياسة الناس.. لا دخل هنا للإيمان، وحتى الدولة لو استعملت مالاً في الاستثمار وجب عليها سداد الزكاة شأنها شأن القطاع الخاص في الدول ذات الاقتصاد الحر.. - وإن لم تدفع الشركات العامة زكاتها؟! - تكون آثمة.. - ومن يحاسبها.. - المؤمنون.. - وما تعريف المؤمنين في مثل هذا الحال؟! - يقول إنهم الذين لفروجهم وصلاتهم يحافظون، إن الله ما ذكر الزكاة إلا وربطها بالصلاة فصار أداؤها واجباً وجوب أداء الأخرى.. مسئولية الجماعة المؤمنة والأمة القائمة بأمرها المحاسبة على الزكاة ومصارفها.. المسئولية هنا مسئولية شرعية وعامة لا تسقط إلا إذا اعتقدنا بإمكان سقوط صلاة الجماعة في فروض الصلاة الجامعة الخمسة.. - هذا أمر عجيب؟!، إذا كان هذا رأي المرحوم فكيف بأداء نوافل الصلاة ؟! - هذه مثلها مثل الصدقات، وأداؤها أمانة، ولا يجوز محاسبة الدولة للناس عليها إلا من باب الموعظة الحسنة .. هكذا فهمت!! - فعلى من تصرف ؟! - كما فهمت فإن رأي ابن عمك يقول إن نسبة ما يؤخذ للصدقات لا تكون إلا على الأموال التي تنتج ربحاً بعكس الزكاة التي يجب أداؤها على رأس المال رَبِحَ صاحبه أم خسر ما دام بالغاً النصاب ولم يعلن صاحبه الإفلاس.. - ونسبة ما يؤخذ للصدقات ؟! - تحتسب نسبة الصدقات على مقدار النمو في رأس المال أو مما يكتنز من أموال أو يستفاد من عقار، ومصرفها على الثمانية المذكورين في سورة التوبة.. إنما ممن كان لهم علاقة بنمو ذلك الرأسمال.. - سألتك كم نسبتها فأجبت عن شيء آخر!! - كما فهمت فإنها تتراوح بين واحد إلى ثلاثة وخمسة بالمائة .. يعني أن أقلها واحد بالمائة وأعلاها خمسة بالمائة.. وينهض عامر معتذراً بعد ما سمع صوت السكرتيرة من الإنترفون مذكرة السفير بموعد اجتماع، ويبقى الشريط بيد عامر يقلبه وهو يسلم تلك السكرتيرة تذاكر سفره لتؤكد حجز مقعده في رحلة العودة إلى صنعاء. في محل صغير للبيتزا وقريباً من دار السفارة يتمتع عامر بكأس مضاعف من البيرة، ويشعل سيجارته التي يتذكر على نفث دخانها رؤيا ابن عمه القتيل ليلة أمس وهو يوصيه بتسليم أبيه منديلاً عليه قطرتان من دمه، ثم تدركه وخزة تذكر قصاصة عنوان الشيخ التي سلمها له عبد الحميد، ولا تسعفه ذاكرته لتؤكد له المكان اليقين الذي يحتفظ فيها بالقصاصة والعنوان، ويسأل نفسه عن تأويل رؤياه، فلا منديل عنده لأحمد، ولا هو أخبر عمه خشية أن يسخر منه ومما رآه، وهو الآن ليس متأكداً أين دس ذلك العنوان في ليفربول التي لا يظن عامر أن الشيخ الهندي قد عاد إليها لأن أحمد في آخر لقاء معهما في (كورهاوس) قد ذكر لهم استقرار مشتاق في بنغالور بالهند فمن ترى المقصود، وهل لهذه الرؤيا من تأويل؟!.. يجب عليه أن يستدل بنفسه قبل أن يؤخذ عليه من كلامه ما لا يحب أن يسمع، وليبدأ الآن الاتصال بكريمة في دار السفير لتبحث بين ثيابه التي كان يرتديها يوم أمس .. لكنه أول نهار لكريمة بعد المستشفى، كما قد يدفعها الفضول لتقليب المواجع، بل وربما مالا يتوقع فلها ذهن متوقد ورثته عن أب شديد الذكاء، وأم شديدة الفضول ومرضعة تقيس الأشياء بفوائدها، لذا يقرر تأجيل كل شيء لحين عودته في المساء .. حينها سيعيد الاستماع للشريط لعله يمسك بطرف خيط يعينه في تأويل رؤياه.. ويسأل نفسه لماذا يريد عمه بقاء هذا الشريط لديه وفيه ما فيه، ولأحمد تشديد في عدم نسخه وما الفرق بين الاستماع إليه ونسخه خصوصاً بعد وفاة صاحبه فهل هي لا مبالاة من السيد السفير أم إحباط أصابه، أم غير تلك الأشياء فهو لا يدرك مرمى عمه الآن وقد يدركه بعد حين.. في المساء يتيقن أنه بعد عودة كريمة وأم أحمد لا سبيل لاستعادة ساعة لقاء وحديث مفتوح مع عمه الذي ما كان ليفعل ما فعل لولا حدوث ما حدث، أم لعل ذلك هروباً من صدمة موحشة سرعان ما أفاق عمه منها وعاد لما اعتاد عليه.. أم إن العم رأى في ابن أخيه ذكرى الساعات الأخيرة لولده القتيل، فلما أفرغ مكنون صدره سحب ما بسطه لابن أخيه وكأنه يستدرك ما كاد يعطيه ثم رأى أنه لا حق لعامر في أي شيء منذ كان ، وصار نجاحه على كل لسان، فكيف يمنحه الآن ما منعه عنه يتيماً ومغترباً رغم تعاطفه معه يوماً ما، وعطفه على أمه كلما سلبته الأيام دولته، ووضعت منزلته، فيعود لجفائه كلما ردت له الدولة بعض صفوها، وثياب عزها؟، وعموماً هاهو يسترخي على السرير الذي استضاف ابن عمه الشهيد قبل وصوله من صنعاء، والشريط ذاته على جهاز تسجيل كريمة يستعيد به ما دار من حديث وتعليقات من عمه، ولا ينتهي سير الشريط إلا وهو يغط في نوم بلا أحلام تعيد أو تفسر ما رآه. صباح اليوم التالي ستحمله طائرة العودة لأهله وداره، وبعد تسوقه السريع يعود عامر لسكن السفير.. وفي الغرفة التي يبات فيها يجمع ثيابه المبعثرة، ومشطه، وفرشاة شعره وأسنانه مع معجون الأسنان والحلاقة، وأمواسها، وعندما يلتفت ليرى من يقرع باب غرفته تدخل كريمة على عكازها وأثر العملية على خطواتها، وتعطيه كيساً في يدها فيسألها : - ما هذا ؟ فترد: - سلمه لزوجتك .. فيه أشياء لأمي وخالتها، وقطع حلوى، وشوكلاته للأولاد.. وعند ما تحس أن عتاباً سيبدأه عامر على ما حملته على تعبها تقطع كريمة الطريق عليه وتخبره إلى ذلك أنها قد صرفت سيارة الأجرة التي جاء عليها ودفعت حساب السائق الذي كان عامر قد طلب منه انتظاره ليوصله إلى المطار لأنها قد تدبرت له سيارة أخرى من سيارات السفارة وعليه فقط أن يرتب أشياءه دون استعجال .. وساعة وداع كريمة وأمها يلتقط عامر منهما عبارات المجاملة والوداع وتكون آخر كلماته لهما: - اعذراني فقد سافر القلب.. وعلى السيارة التي تغادر (لاهاي) نحو (سخيبول) أمستردام تأخذ عامر غفوة طفل في هندول السيارة على صور استقبال ماما لطيفة وخالتها ضحى وزوجته وأولاده، ملقيةً برؤيا أحمد ووصيته في قيعان عقله اللا واعي، وهو لا يدري أن خادمة سكن السفير قد التقطت قصاصة العنوان لتلقيها في سلة المهملات بعد ما فركتها عصبية أصابعه ليلة سمره مع عمه، وأما المنديل فإنه لا يدري أيضاً بأن كريمة قد استخرجت الشريط من جهاز التسجيل ساعة تسوقه وهي تسترد جهازها المستعار، وحرصاً منها على سلامة شريط أخيها لفته في منديل من درج الغرفة وهما لا يعلمان لحمرة المنديل أن عليه من دم رعاف أحمد قطرتان، وقد وضعتهما داخل كيس الأغراض المرسلة هدية منها لأمه وزوجته مع الحلوى للأولاد. |
الساعة الآن 01:52 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها