منتديات روضة الكتب

منتديات روضة الكتب (http://raudabooks.com/vb/index.php)
-   الروايات العربية والعالمية (http://raudabooks.com/vb/forumdisplay.php?f=44)
-   -   صقر العرب شاهين (http://raudabooks.com/vb/showthread.php?t=7806)

AshganMohamed 11-19-2019 08:16 AM

صقر العرب شاهين
 
هشام الزيتوني


صقر العرب
شاهين









الكــتـاب: شاهين
تـألـيـف : هشام الزيتوني
الطـبـعـة : الأولى 2014
رقـم الإيـداع القـانونـي:
الرقم الدولي:

"حقوق الطبع محفوظة"
طبع: المطبعة السريعة : شارع محمد الخامس، الزنقة 22 رقم 2 القنيطرة
05 37 36 45 58 / 05 37 36 28 09 الهاتف:
05 37 36 64 64 الفاكس:
E-mail : imprimerie-rapidekenitra@hotmail.com

إهداء
إلى بحـر الحنان، إلى من سهرت عيونها الليالي لأنام، إلى من أسبح في بحرها لأغتسل من الهموم وجميع الآلام، إلى من تتسابق الكلمات لذكرها، فتخرج معبرة عن ذاتها...إلى أمي.
إلى الرجل الذي علمني قواعد الحياة فلم أستطع معه صبرا، إلى من أفتقد نصائحه في مواجهة الصعاب، إلى من كان سببا في وجودي...إلى أبي.
إلى أخي وتوأم روحي الذي أشد به أزري وأشركه في أمري، ويؤثت معي بعنفوانه ذكريات طفولة عمري...
إلى إخوتي وأهلي وعشيرتي...
إليكم جميعاً أهدي هذا العمل




اللغز
على سفوح سلسلة جبال الأطلس الكبير، شمال القارة السمراء، حيث ترسم الطبيعة أجمل لوحاتها العذراء، بزرقة سمائها الصافية، إلاَّ من بعض الغيوم البيضاء العابرة التي تُكحلُ عيونها في بهاء، وبغاباتها المترامية الأطراف، ومروجها الخضراء، التي تشق فيها الأنهار والجداول والوديان العذبة بشلالاتها الجميلة طريقاً متعرجا وسط الجبال الشاهقة نحو مصبها في المحيط الأطلسي.
هناك تقع قرية "الكواسر" الصغيرة، المشهورة بتربية مختلف أنواع الطيور الجارحة وترويضها وتدريبها على الصيد، حتى صارت لديهم هذه الرياضة تراثا قوميا وكنزا محلياً، ووسيلة مقرونة لتربية أبنائهم على الصبر، والجلد، والقوة، والحكمة، والذكاء، واحترام الحيوانات وتقديرها، وصارت جزءاً لا يتجزء من تراثهم العريق الذي يضرب بجدوره إلى مئات السنين.
وتشتهر القرية باحتضانها الاحتفالات السنوية بيوم "الكواسر"، الذي سميت القرية على اسمه، وهو أول أيام موسم الصيد بالصقور أواخر شهر سبتمبر، حيث تبدأ عملية التحول التدريجي في المناخ، وتأخذ درجة الحرارة في الانخفاض، مع ما يصاحب ذلك من تغيرات طبيعية، يلاحظ فيها اخضرار النباتات الصحراوية، وانخفاض درجة حرارة المياه، كما تبدأ طلائع الطيور المهاجرة، البرية والبحرية في الوصول إلى البحيرات العذبة، والمحميات الطبيعية، وشواطئ البلاد الدافئة الممتدة من شماله إلى جنوبه.
وفي يوم الاحتفال، يجتمع الصقارون المحترفون والهواة من مختلف البلاد العربية والقرى النائية في أحد الحقول المنبسطة الشاسعة، قبل غروب الشمس بساعات، مدججين بصقورهم المدربة...، معصوبة الأعين، محمولة على السواعد والأكتاف.
فينقسم المشاركون إلى مجموعات تتكون من خمسة متسابقين يصطفون على خط واحد، ثم تطلق فريسة وحيدة في السماء من مكان بعيد، في نفس اللحظة التي تعطى فيها الاشارة لمجموعة الصقور للانطلاق والانقضاض على الفريسة في الجو وإحضارها للمروض، حينها يعتبر الصقار والصقر فائزان بالجولة. حيث تستمر العملية في مجموعات متتالية وعلى مراحل متعددة من التصفيات والنهائيات، من أجل تتويج أقوى وأسرع الصقور بوسام البطولة مع صاحبه في تلك السنة.
ومع غروب شمس النهار، تُنْصبُ خيام المبيت للزوار وتُشعل النيران وسط ساحة القرية، فيلتف من حولها الشعراء والأدباء يتغنون بجمال الطبيعة وعظمة الخلق وشكر الإله، وتبدأ الاحتفالات والأهازيج على إيقاعات قرع الطبول والدفوف والرقصات الفلكلورية الشعبية التي تظهر في تصاميمها وإيحاءاتها العلاقة الحميمية بين الطبيعة والإنسان والحيوان.
ومنذ زمن طويل، اشتهر العم عزام ـ كما يطلق عليه أهل القرية ـ بسيطرته على مسابقات الصيد بالصقور في ربوع البلاد، كما عرف عنه براعته الفائقة، وخبرته الكبيرة في تربية سباع الطير، والمعرفة العميقة والمتميزة بأسرارها وخصائصها.
غير أن حياة الرجل وسيطرته على مسابقات "الكواسر" تغيرت بشكل غريب ومفاجئ، منذ مجيئ حفيده شاهين إلى الحياة قبل اثنتي عشرة سنة. حيث تخلى عن تربية الجوارح والكواسر في أوج شهرته وعطائه، واكتفى بتربية الحمام الزاجل، والعمل في بيته داخل ورشه الصغير، المخصص لصناعة مختلف الأنواع والأشكال من أقفاص الطيور.
وظل هذا التحول الغريب في حياة الرجل الطيب المحبوب من طرف الجميع، لغزا كبيراً عجز أهل القرية عن فهم أسبابه وحل طلاسمه، حيث أفقد معه القرية عامل الجذب السياحي الذي تميزت به، كما أفقدها تربعها على عرش هذه المسابقات، وهيمنتها على باقي الدول والبلدات في مثل هذه الرياضات، فباتت بعض القرى الأخرى تطالب بتغيير مكان الاحتفالات السنوية، ونقلها إلى قراها بسبب تراجع مكانة قرية الكواسر في تربية وترويض الجوارح.
ورغم كل هذا...، لم يكن أحداً يدرك أن الفتى شاهين، وحده من كان يحمل داخل جسمه الصغير، حل هذا اللغز الكبير، بل ولغزاً أكبر مما كان يعتقده جده عزام، أو يتوقعه جميع أهل القرية.
حيث بدأت تظهر عليه منذ ولادته بعضاً من صفات وميزات طيور الجوارح التي أخذت في التطور بصورة خارقة.
فكان جده يعتقد حتى وقت قريب، أنها مجرد قدرات متميزة، قد يشترك مع غيره من بني جنسه في بعض خصائصها، أو قد لاتزيد عن كونها مجرد مواهب خاصة، أو حتى ملكات فردية لدى قلة من بني البشر، ولذلك كان يتابع كل خطوات حفيده وسكناته عن كثب، وهو يعلم أن حدثاً استثنائيا عظيما، سيغير معه علاقة الإنسان بالجوارح يوشك أن يقع.
*****
من أكون...؟
وذات يوم، بمناسبة حلول فصل الربيع، قررت إدارة المدرسة التي ينتمي إليها شاهين، تنظيم رحلة استكشافية إلى قمة أحد الجبال المتوسطة الارتفاع، من سلسلة جبال الأطلس الكبير صعوداً على الأقدام. فرح الأطفال بهذه الرحلة، وتحمس شاهين رفقة أصدقائه وزملائه في الفصل لقضاء ثلاثة أيام من العطلة المدرسية بين أحضان الطبيعة.
ومع الساعات الأولى لصباح يوم الرحلة، اجتمع التلاميذ في باحة المدرسة مع عدد من الأساتذة المسؤولين عن تنظيم الرحلة، في انتظار وصول الحافلة المدرسية المخصصة لنقلهم إلى سفح جبل "البركان"، المقرر صعوده مشياً على الأقدام، من أجل دراسة جيولوجيا المنطقة، والتعرف على بعض خصائصها ومميزاتها في الميدان.
بعد قرابة الساعة والنصف من السياقة في الطريق المتعرج، صعودا ونزولا عبر الوديان والتلال، وفيما ظل معظم الأطفال يتساءلون تارة فيما بينهم عن إمكانية وجود بعض الحيوانات المفترسة، كالذئاب، والثعالب، والدببة في تلك الغابات، وتارة أخرى يرددون مختلف أنواع الأناشيد المدرسية، ويصفقون ويتمازحون فيما بينهم، ظلت فيها أنظار شاهين مشدودة طوال الطريق عبر نافدة الحافلة إلى جمال الطبيعة، وقممها الشاهقة، ووديانها السحيقة، وانتابه معها لأول مرة شعور قوي ورغبة جامحة في القفز إلى الخارج، والتحليق فوق قمم الجبال وبين سفوحها.
على بُعد كيلومترات من نقطة الوصول، أخذت الحافلة في الاِلتفاف عبر الطريق الجبلي الأخير نزولا إلى الممر المؤدي إلى جبل "البركان"، الذي تجلى للجميع في مشهد عرضي بشكله الكامل، حيث انطلقت لرؤيته كلمات الدهشة والإعجاب من أفواه التلاميذ.
وفجأة... ودون سابق إنذار، قفز شاهين من مقعده والتصق بزجاج النافذة وهو يهتف بأعلى صوته:
ــ أُركضا... أُهربا...، سيطلق عليكما الرصاص...، سيطلق القناص عليكما الرصاص.
أرعبت صرخة شاهين القوية سائق الحافلة وجميع الأساتذة والتلاميذ، وتوقفت الحافلة على حافة المنحدر، وهرعت إليه معلمته سارة في هلع، ثم احتضنته من الخلف وهي تربت على كتفيه بحنان، وتنقل نظرها بينه وبين المكان الذي ينظر إليه خارج النافذة، في محاولة منها لفهم ماحدث، واستطلاع الأمر، ومعرفة سبب تلك الصرخة المحذرة.
أخذت سارة تجوب بنظرها في زوايا المكان المتعددة، فلم تلمح أي شيء يثير الدهشة في محيط الحافلة، أو على مستوى نظرها، فقبضت على يديه وهي تضمها بين يديها وتحاول التهدئة من روعه، قبل أن تسأله بصوت منخفض في إشفاق:
ــ ما بك ياعزيزي؟
أجابها بنبرة حزينة والدموع تنهمر من عينيه وهو مايزال ملتصقا بزجاج نافذة الحافلة:
ــ لقد أصاب الصياد الغزال برصاصة قاتلة في رأسها عند سفح الجبل.
نظرت إليه سارة نظرة اِندهاش وهي تسأله من جديد:
ــ أي جبل؟
صمت لحظة، ازدرد خلالها غصة في حلقه قبل أن يجيبها وهو يشير بسبابته نحو سفح الجبل:
ــ جبل "البركان" ذاك...، على ضفة النهر الصغير المحادي له...، بجانب تلك الصخرة.
بدت سارة هذه المرة أكثر اندهاشاً من سابقتها وهي تلاحظ إصراره على تأكيد ما رآه قبل أن تسأله بصوت كالهمس:
ــ أخبرني يا عزيزي، ماذا شاهدت...؟!!
صمت برهة وهو يزدرد غصة أخرى قبل أن يجيبها بصوت مختنق حزين:
ــ رأيت صياداً يختبئُ وراء الأشجار...، ترصد الغزال البري مع صغيره، فأمهلهما لحين أن بدءا في شرب مياه الجدول، ثم صوب سلاحه نحوهما...
وأطلق رصاصته على رأس الغزال الكبير...، فأرداه قتيلا...، في حين فرَّ عِجلُ الغزال خلف الجبل من شدة الخوف.
نظرت سارة عبر زجاج النافذة من جديد نحو المكان الذي يشير إليه وهي تسأله في ذهول:
ــ فعلاً...، هناك عند الجبل جدول صغير، يتشكل مع بداية فصل الربيع نتيجة ذوبان الثلوج المتبقية على قمم الجبال في فصل الشتاء.
لكن هل سبق لك أن زرت هذا المكان من قبلُ مع أحد أفراد عائلتك...؟!
أجابها وهو يرفع نظره نحوها ويومئ برأسه سلبا:
ــ لا...، أبداً...
رسمت سارة على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تحاول احتواء الموقف المبهم بلباقة قائلة:
ــ لكن يا عزيزي... المسافة بعيدة بيننا وبين ذلك الموقع الذي تشير إليه...، فكيف تمكنت من رؤية القناص وهو يصطاد الغزال...؟؟!
حافظ شاهين على نفس نبرة صوته الحزين في الكلام قائلا:
ــ لقد رأيته بوضوح...، كما أراك الآن أمامي...
ومرةً أخرى ارتفعت يداه فجأة والتصق بزجاج النافذة وهو يصرخ:
ــ اُنظري...، اُنظري إليه الآن...، لقد عبر الجدول...، ويقوم بمساعدة صديقه بحمل الغزال...

صمت قليلا وهو يتابع باهتمام بالغ مايحدث وما يعتقد أنه يراه، قبل أن يفتح فمه ويسترسل بغضب:
ــ إنهما يهمان بمغادرة المكان بسرعة...، ويبدو على وجهيهما الذعر والخوف الشديد من انكشاف أمرهما.
حاولت سارة من جديد تمحيص الأمر وتدقيق النظر مع زملائها وبعض التلاميذ في الاتجاه الذي يشير إليه شاهين عند سفح الجبل، فلم يلحظوا أي شيئ من الموقع الذي يقفون فيه.
تبادل الأساتذة نظرات حائرة متوترة بينهم، ثم حاولت سارة تهدئة توتره بإعادة إجلاسه على مقعده بلطف دون أن تؤذي مشاعره المرهفة، في حين طلب الأستاذ إدريس من سائق الحافلة مواصلة الرحلة، قبل أن يميل نحو سارة وهو يهمس في أذنها قائلا بنبرة مفعمة بعلامات الاستنكار والتعجب:
ــ يستحيل رُؤية أي شيء مفصل، أو حركة في ذلك المكان البعيد من هنا، دون استخدام منظار ذو جودة عالية لتكبير الصورة...
ثم رفع كتفيه بشكل خفيف وهو يضيف:
ــ أعتقد أن الأمر لايعدو أن يكون مجرد تهيؤات أو تخيلات نتيجة ضغوطات نفسية، أو مشاكل اجتماعية لدى الفتى...
رفعت سارة حاجبيها وهي تحرك رأسها سلبا بشكل خفيف وكأنها تحاول البحث عن مصوغ لكلامه وما حكى عن شاهين.
ثم عادت إلى مقعدها وهي تسأل إدريس الجالس بجانبها بصوت لا يخلو بدوره من نبرة الاستغراب:
ــ لكن كيف يمكنك تفسير قدرته على وصف المكان بدقة متناهية، دون أن يكون قد زاره من قبل...، بل وقدرته على تمييز ملامح الخوف والذعر لدى الصيادين كما جاء على لسانه.
مال إدريس نحوها قليلا وهو يجيبها بصوت منخفض:
ــ هناك احتمال من أن شاهين يعاني من بعض الأمراض النفسية التي تصاحب الفتيان في هذه المراحل العمرية، والتي تتميز بكثير من التقلبات الفزيولوجية والنفسية...
أو قد يكون ذلك نتيجة حالة من الكآبة الشديدة التي يعاني منها، بسبب بعض المشاكل العائلية...، وما شاهده وحكى عنه، هو فقط نتيجة ذاكرته التصويرية التي قامت بتجميع عقله الباطني لعدد من الصور الطبيعية عبر الرحلة، تمكن من استرجاعها وتكوين مشهد خيالي معين من الصور والأصوات والأشكال، بحيث سيطر عليه، وتسبب له في هذه الحالة المضطربة.
نظرت إليه باهتمام بالغ، وقلق واضح على ملامحها وهي تغمغم:
ــ أتعتقد ذلك...؟
لوح بيديه في الهواء وهو يرد عليها بصوت واثق حاسم:
ــ ساره...، هذا هو التفسير المنطقي الوحيد لما حكى عنه شاهين...، وأنصحك بضرورة مراقبته ومتابعة حالته جيداً في الفصل، وخارج الفصل الدراسي إن تمكنت من ذلك، عن طريق الإتصال بأفراد عائلته لمعرفة أسباب الأزمة ومعالجتها قبل إستفحالها.
استدارت سارة في بطء تنظر الى مقعد شاهين، وهي ترسم على شفتيها إبتسامة صغيرة مليئة بالحنان، الممزوج بالشفقة والخوف عليه، إن صح تحليل زميلها وتفسيره لما حدث. بينما واصلت الحافلة المدرسية شق طريقها الجبلي نحو سفح جبل البركان، في ما خيم على المكان صمت استثنائي، تتخلله بعض الأحاديث الثنائية بين الأطفال، من الذين بدأوا يتهامسون بينهم حول تصرفات شاهين الغريبة...، والمثيرة...، المثيرة للغاية...
*****
وصلت الحافلة الى سفح الجبل، عند الغدير المزدان بدوالي شجر الأرز الصنوبر، والمضاء بأشعة شمس تشق طريقها عبر أغصان الأشجار لتضفي على المكان مسحة فردوسية خارج الزمان، حيث تبدأ من هناك نقطة الانطلاق الجديدة مشيا على الأقدام صعوداً إلى قمته.
همَّ الأطفال مفعمين بحماس شديد لإنزال أغراضهم وحاجياتهم من الحافلة التي أوقفت هدير محركاتها، فاسحة المجال لصفير البلابل وزقزقة الطيور، وخرير المياه الجارية قرب الجبل.
أثناء ذلك طلبت سارة من بقية زملائها متابعة عملية إنزال الأغراض مع الأطفال، ورصِّ صفوفهم من أجل البدء في الصعود، فيما استأذنتهم في بعض الدقائق المعدودة لتفقد المكان وتأمينه من زواياه المختلفة.
ترجَّلت تتفحص الجانب الآخر من الجبل، بمحاذاة الصخور المتساقطة من أعلى قمته أثناء مرحلة نشاطه البركاني السابقة، وفي نفسها شىء آخر تود التأكد منه، لحسم مجموعة من الأفكار المتضاربة في ذهنها...، وقطع الشك باليقين فيما تفكر به في تلك اللحظة وتعتقده.
وما إن اصبحت على الجانب الآخر من الجبل بمحاذاة الجدول المتدفق، حتى شَخَصَ بَصرُها على بقعة كبيرة من الدم الطازج، التي ماتزال تحتفظ بلونها الأحمر الغامق، لون دم الغزال، وهو نفس المكان الذي وصفه شاهين من أعلى المنحدر الجبلي وكان يشير إليه، بل وما زاد من دهشتها واستغرابها الشديد، أن وجدت شاهين قد سبقها إلى نفس المكان، واقفا أمام بقعة الدم، وعلامات الحزن الشديد بادية على وجهه بسبب مقتل الغزال البري، دون أن يستطيع فعل شىء لإنقاذه من رصاصة القناص الغادرة.
إقتربت سارة من خلف ظهره في بطءٍ، والصدمة ماتزال تتملكها، في محاولةٍ لتفسير قدرته على رؤية كل تلك الأشياء التي ذكرها على بعد عدة كيلومترات من مكان الحادث، ثم وضعت يدها على كتفيه في رفق.
إلتفت إليها شاهين، وكأنه كان ينتظر قدومها لتتأكد بنفسها من صدق روايته، فيما اكتفت سارة بمشاهدة بقعة الدم على الأرض دون أن تنبس ببنت شفة، ثم أخذا يتطلعان معاً نحو الغابة المقابلة للجبل، حيث اِتخذ القناصان طريقهما فرارا عبرها...
ــ من أنتما...؟ وماذا تفعلان هنا...؟!!
فاجأ هذا الصوت الجهوري القادم من الخلف كلاً من سارة وشاهين، فاستدارت المعلمة برعب نحو مصدره، وخفق قلبها بشدة، وهي تُحَول شاهين بسرعة خاطفة وراء ظهرها لحمايته من أي خطر محتمل قد يهدد سلامته.
ظهر لهما رجل قوي البنية بزيه العسكري، يمتطي صهوة جواد بني اللون، ويضع قبعة أمريكية على رأسه، وهو يوجه بندقيته الآلية نحوهما، وأصابعه تتأهب للضغط على الزناد.
إمتقع وجه سارة لحظة قبل أن تستجمع قوتها وتستعيد رباطة جأشها وهي تحاول جاهدةً المداراة عن خوفها وتجيبه بشئٍ من الارتباك:
ــ نحن ...، نحن... هنا في رحلة مدرسية جبلية...، من أجل إستكشاف الطبيعة في هذا المكان.
نزل الرجل عن صهوة جواده، وتقدم نحوهما بحذر ممسكاً بلجام فرسه، وعيناه تحومان بشكل دقيق حول المكان. ثم توقف على بعد أمتار قليلة منهما وهو يخفض فوهة بندقيته بعد أن أعاد مسمار الأمان الى وضعه الطبيعي ويقول:
ــ أنا حارس الغابة...، المكلف بمراقبتها وحمايتها من الحرائق، وسرقة الأخشاب، وعمليات القنص الخارجة عن القانون...، لقد سمعت صوت طلق ناري قبل دقائق من الآن...، هل لاحظتما أو شاهدتما أي حركة مشبوهة في أرجاء المكان...؟
تبادلت سارة وشاهين لحظة نظرات حائرة متوترة، قبل أن ترد على سؤاله مغمغمة:
ــ لا... لم نسمع أي طلق ناري...، لكن تلميذي هذا قال أنه شاهد من بعيد قناصاً يطلق الرصاص على الغزال في هذا المكان، فأرداه قتيلا.
عقد الحارس حاجبيه في غضب واضح من عملية القنص التي تحكي عنها، ثم سألها بنبرة تكشف عن عدم إقتناعه بكلامها :
ــ وكيف أمكنه رؤية ذلك ولم يسمع صوت الرصاص...؟
هزت سارة بكتفيها وقالت بصوت أكثر جرأة:
ــ كنا على مسافة بعيدة تقريبا من هنا، داخل حافلة مدرسية تعج بأصوات أناشيد الأطفال وحواراتهم الثنائية، فلم نستطع تمييز صوت الرصاص عن غيره من الأصوات.
رمق حارس الغابة شاهين بنظرات استغراب حادة تشير إلى عدم إقتناعه مرة أخرى من ردها، ثم تقدم وانحنى يتفصح بقعة الدم بأصابعه، ويشتم رائحتها قبل أن يغمغم قائلا وكأنه يحدث نفسه:
ــ بالفعل...، إنها دماء غزال بري...، غير أن هذه فترة تزاوج الحيوانات، حيث يمنع منعا كلياً صيد جميع أنواع الطرائد البرية والطيور...
إستدار الحارس نحو شاهين، ورمقه بنظرة جانبية جامدة حاول من خلالها تقبل روايته على غرابتها وهو يسأله بنبرة لاتخلوا من الاستغراب:
ــ هل تمكنت أيضا من مشاهدة الاتجاه الذي اِتخذه القناص للهرب...؟
رفع شاهين يده يشير بسبابته إلى ممر ضيق كثيف الأعشاب وسط الغابة قائلا:
لقد كانا قناصان...، يترصدان الغزال وراء تلك الشجرة الكبيرة على الجانب الآخر من الجدول، أطلق أحدهم الرصاص على رأس الغزال، ثم قاما بحمله سويا واتخذا سبيلهما في ذاك الاتجاه الضيق، حتى اختفيا وراء الأعشاب الكثيفة والأشجار.
بدا حارس الغابة شديد الانتباه لكلام شاهين...، فامتدت يده الى جانب حزامه العسكري، واستخرج منه جهاز اتصال لاسلكي، ثم ضغط على أحد أزرار تشغيله وهو يقول:
ــ من العميل 101...الى القاعدة...، حول...
بدا الصوت مشوشاً للحظات قبل أن يصبح أكثر وضوحاً ويجيبه زميله على الطرف الآخر:
ــ هنا مركز المراقبة...، أسمعك يا إبراهيم ماذا هناك...؟ حول...!
أجابه حارس الغابة:
ــ أطلب تفعيل نقاط التفتيش على الطريق الفرعي الشمالي ( أ . 2)...، هناك عملية قنص غزال بري غير شرعية...، حول...
انتظر لحظات قبل أن يأتيه الرد:
ــ لقد أصدرت أمرا للسلطات الأمنية بتفعيل الحواجز ونقاط التفتيش، هل من معلومات إضافية حول العملية...؟!!
رد عليه وهو ينظر الى شاهين بنظرات جانبية وكأنه يتحدث بلسانه:
ــ إنهما قناصان مسلحان حسب الشهود...، حول...
رد عليه زميله قائلا بنبرة ممازحة:
ــ يبدو أن يومك هذا سيكون طويلا يا عزيزي إبراهيم...
أجابه بدون تردد:
ــ يبدو كذلك...، لكن المهم هو القبض على هذين الرجلين...، سأحاول تتبع مسارهما.
قالها وهو يغلق جهاز الاتصال، ثم همَّ مسرعا بامتطاء حصانه وهو ينظر الى سارة وشاهين ويستطرد بحزم:
ــ حسنا...، يبدو أننا أمام جريمة قنص غير قانوني...، لقد سلك القناصان الطريق الفرعي وسط الغابة، علي التحرك بسرعة لاقتفائهما.
ثم رفع يده الى رأسه لتحيتهما تحية عسكرية قائلا:
ــ شكرا على المساعدة...، إلى اللقاء...
ثم عبر الجدول الصغير على حصانه واتخذ نفس مسار القناصان إلى أن اختفى وراء الأشجار وأعشاب الغابة الكثيفة.
نظرت سارة إلى شاهين نظرة حب وحنان وهي تبتسم قائلة:
ــ أحسنت يا شاهين...، سيكون كل شيء على مايرام...
ثم امتدت يدها لتمسك يده قائلة:
ــ هيا بنا ننضم بسرعة إلى باقي أفراد المجموعة، أنهم قلقون علينا الآن.
إستأنس شاهين بكلمات معلمتة، وهما يتبادلان نفس ابتسامة الود، ومشيا معاً جنباً الى جنب حتى بلغا الجانب الآخر من الجبل، حيث الجميع في إنتظارهم بقلق، للبدء في المرحلة الثانية من الرحلة صعوداً إلى قمة الجبل.
*****









أسرار الجبل
إتخذ شاهين مكانه في طابور التلاميذ الطويل إلى جانب زميله آدم، خلف زميلتيهما في الصف الدراسي مروة ولينا، في حين تقدم الأستاذ إدريس رفقة زميله عمر الصف، بغية توجيه التلاميذ، وتجنيبهم ممرات المنحدرات الحادة والنتوءات الصخرية، فيما إتخذت المعلمة سارة مع زميلتها مُنى مكانهما في ذيل الطابور، من أجل مراقبة التلاميذ والحفاظ على سلامتهم.
إنطلق الجميع يشقون طريقهم صعودا عبر أحد الممرات الجبلية، التي اتخذت شكل طريق غير معبد بفعل حركة الأقدام عليه من طرف هواة الرحلات الجبلية، وكان قبلها إدريس قد أكد للتلاميذ على ضرورة الالتزام بخط السير الوحيد الذي يتقدمه، وأعطى لهم مجموعة من النصائح التي يجب التقيد والالتزام بها في المسير، لتجنب مخاطر الانزلاق أو السقوط في المنحدرات الخطرة من أجل إنجاح الرحلة.
وعلى علو 800 متر من سفح الجبل، وبعد قضاء قرابة الساعتين والنصف من المشي، شعر خلالها معظم التلاميذ بالتعب والإرهاق، قرر إدريس قائد الفريق إعطاءهم قسطاً من الراحة لشرب السوائل، وتناول بعض الحلويات، حتى يتسنى لهم استعادة نشاطهم وحيويتهم لإكمال الخطة المرسومة، التي تقتضي الوصول في اليوم الأول إلى نقطة النهاية في قمة الجبل قبل أن تودعهم شمس النهار، ثم إقامة مخيم المبيت وتنظيف المكان من الأعشاب والأعواد التي كسرتها رياح الشتاء القوية.
ثم قضاء اليوم الثاني بكامله في القمة بين اللعب والمرح واستكشاف جمال الطبيعة ودراسة بعض الحشرات الجبلية والتعرف عليها، وفي صباح اليوم الثالث، يبدأون رحلة العودة بالنزول إلى سفح الجبل، والانطلاق مجددا بالحافلة المدرسية التي ستكون في انتظارهم بعد منتصف النهار، لتأخذهم إلى نقطة الانطلاق الأولى في المدرسة حسب خطة الرحلة.
بعد أن انتهى الأطفال من تناول الحلويات وشرب المياه، بدا واضحا أن التلاميذ قد تمكنوا من استعادة بعض نشاطهم وحماسهم المعهود.
فأعطى إدريس إشارته للجميع لرص الصفوف والانطلاق من جديد نحو قمة الجبل، التي تبقى على الوصول إليها قرابة 600 متر أخرى، والمرحلة الأكثر خطراً ومشقة في رحلة الصعود نحو القمة.
بعد زهاء ثلاث ساعات أخرى قضاها الجميع بإرادة وعزم كبيرين في صراعهم لتجاوز رطوبة التربة التي أبطأت من حركة تقدمهم، مع قلة نسبة الأكسجين في الهواء على هذا المستوى من الارتفاع، وصل الجميع إلى قمة الجبل منهكي القوى، وقد بلغ منهم التعب مداه، فجلس المعلمون والتلاميذ وقد أسند بعضهم ظهره إلى جدوع الأشجار، فيما استلقى معظمهم على الأرض فوق غطائها النباتي الأخضر الذي إكتسى حلته الربيعية، مزركشا بمختلف الأنواع من الورد والأزهار الجبلية بألوانها المختلفة.
بينما ظل شاهين وحده واقفاً على قدميه عند حافة الجبل، يحوم بعينيه بين الجبال الشاهقة، ويمعن النظر في جمال المشهد الرائع من ذاك العلو المرتفع، دون أن تبدو عليه آثار التعب والإرهاق، قبل أن يثير انتباه كل من المعلمة سارة وزميلتها منى بُعَيدَ وقت قصير من استرجاع أنفاسهما.
كانت منى قد دخلت مع زميلتها في حوار ثنائي حول تصرفات شاهين وقدراته البصرية الهائلة، وهما يتابعانه بنظرهما من مكان جلوسهما، وسارة تعبر لها عن إحساسها العميق من وجود سر غامض وراء كل هذه المشاهد والأحداث.
عندما قطع صوت إدريس عليهما مواصلة الحديث، وهو يدعو الجميع إلى الانضمام إليه ويحثهم على الإسراع في إقامة الخيام وتنظيف مكان المبيت وترتيب أمور العشاء وسهرة المساء، وكذا التنبيه على ضرورة اتخاذ بعض الاحتياطات الأمنية اللازمة ضد بعض الحيوانات المفترسة كالكلاب البرية وذئاب الجبل التي تشتهر بها هذه المناطق قبل حلول الظلام، حيث سيتعذر عليهم القيام بكل تلك الأشغال.
انقسم الفريق إلى مجموعات صغيرة، وانهمك الجميع في تنفيذ المهام التي كلفوا بها، في الوقت الذي انكب فيه إدريس مع فريقة المكون من شاهين وآدم ومروة ولينة على الاهتمام بالجانب الأمني، وإحاطة مكان التخييم ببعض الأجراس المنبهة المربوطة بشريط أحمر، بحيث يشكل ذلك الحاجز الدفاعي الأول حول المخيم، كما يمنع على الجميع تجاوزه دون إذن مسبق من المعلمين المسؤولين عن تأمين المكان.
بعد حلول الظلام، أُشعلت النار من بقايا الحطب الذي تم جمعه من طرف إحدى مجموعات العمل من أجل إنارة مكان التخييم، والتفَّ حولها المدرسون والفتيان، وتناول الجميع وجبة العشاء، والمعلمة منى تحكي لهم تارةً قصصاً قصيرة عن الشجاعة، والبطولة، وحب الطبيعة والحيوانات، وضرورة احترامها وتقديرها، وتارة أخرى يتسابق التلاميذ في البحث في السماء الصافية عن أشكال معينة من الحيوانات، بربط الخطوط الوهمية بين النجوم، وهم يتمازحون بينهم في جو مفعم بالمودة والصداقة حتى ساعة متأخرة من الليل.
بعدها...، استسلم معظمهم للنوم في خيامهم، فيما قام إدريس وعمر بجولة تفقدية أخيرة حول المنطقة بواسطة الأضواء الكاشفة المحمولة يدوياً، ليتأكدوا من إحكام إغلاق مداخل الخيام جيدا ضد الحشرات والهوام.
ثم قرروا التناوب في السهر على حراسة المخيم، لضمان سلامة التلاميذ من أي هجوم ليلي محتمل لحيوانات الجبل المفترسة، في تلك الليلة المقمرة الجميلة. التي يأبى سراجها إلاَّ أن يختفي بين الفينة الأخرى تحت أستار السحاب، في تأني وخجل من مصابيح السماء.
*****
إنتصف الليل، وعمًّ الصمت المطبق الرهيب أرجاء المكان، ووحده عرير الصراصير، ونعيق البوم، ممزوجا بنقيق الضفادع، وأصوات بعض طيور الليل القادمة من بعيد من كان يشق سكينة المخيم.
راح المعلم عمر يتفقد المكان جيئةً وذهابا حول الشريط الأحمر، وقد أشرف على إنهاء نوبة حراسته وتسليمها إلى زميله إدريس.
وفجأة...، شاهد ظلاً لم يستطع تمييز ملامحه يسرع نحو هاوية الجبل، فراعه ما رأى...، خوفاً من أن يكون مكروها قد لحق شخصا ما، أو حالة اضطراب حركي أدت إلى المشي أثناء النوم لأحد تلاميذ المدرسة.
أسرع عمر الخطى نحو حافة الجبل، وحافظ على مسافة بينه وبين ذلك الخيال لحين استطلاع أمره، ثم وجه أشعة مصباحه الكاشف مباشرة نحو ذلك الطيف الواقف أمامه قائلا بحزم:
ــ من هناك...؟
استدار الظل وهو يرفع يده أمام عينيه محاولاً حجب أشعة المصباح القوية قائلا:
ــ أنا شاهين يا أستاذ عمر...
إقترب منه في حذر، ثم سأله بنبرة حادة صائحاً:
ــ لماذا استيقظت في هذه الساعة المتأخرة من الليل...؟؟ وماذا تفعل عند حافة الجبل...؟؟
ألا تعلم أنه من غير المسموح تجاوز السياج الفاصل يا...؟
رفع شاهين نظره إليه وقد انعقد حاجباه قائلا:
ــ سمعت عواء قطيع من الذئاب تقترب أكثر فأكثر باتجاهنا...، فأردت التأكد من أمرهم وتحذيرك لاتخاذ الاحتياطات اللازمة في حالة هجومهم...
سأله عمر بقلق وهو لا يخفي استغرابه:
ــ لكنك كنت نائماً...، وأنا هنا منذ ساعات، ولم أسمع أياً من تلك الأصوات التي تذكر.
نظر شاهين صوب الحافة قائلا بحزم أكبر:
ــ لكنني سمعت عواءها بوضوح، وأستطيع تمييز أصوات الذئاب عن غيرها من أصوات الحيوانات الأخرى...
ثم أردف بصوت منخفض:
ــ إنها تعدو بسرعة في اتجاههنا، و...
صمت لحظة مرهفاً سمعه بدقة قبل أن يسترسل:
ــ لقد وصلت...، وتوقفت عن العدو...، إنها حول المخيم...، إنهـ....
قطع صوت انكسار الحشائش وبعض أغصان الأشجار المتساقطة على الأرض حديثهما، فانتصب شاهين يدقق النظر وسط الظلام الدامس بين الأشجار، وقد حجبت أغصانها الكثيفة وأوراقها ضوء القمر حول جدوعها، ثم أخذ نفسا عميقا من الهواء واستطرد قائلا:
ــ إنهم الآن يتربصون بنا هناك وراء تلك الأجمة...
أجابه عمر بصوت خافت مضطرب:
ــ أنا لا أرى شيئا يا شاهين...، هل أنت متأكد مما تقول...؟
أجابه دون تردد:
ــ نعم يا أستاذ...، إنني أراها بوضوح...
رمقه عمر بنظرة جانبية متوترة وهو يقول:
ــ بوضوح...؟؟!!!
ــ هل تستطيع رؤيتها...؟ لكن كيف ؟....
وقبل أن يكمل سيل أسئلته، سمع عواء ذئب قريب جداً من مكانهما...، فحافظ على نفس نبرة صوته الخافت المبحوح آمراً شاهين هذه المرة وهو يقول:
ــ إذهب واختبئ في خيمتك...، سأتولى أمرها لوحدي...
أجابه بصوت خافت ونبرة حازمة:
ــ لا يا أستاذ عمر...، إنه قطيع يتكون من أربعة ذئاب...، وقد تهاجمك لوحدك من زوايا مختلفة.
حدق فيه عمر وعلامات الاستغراب والتوتر بادية على وجهه وهو يتساءل:
ــ أتستطيع معرفة عددها...؟
أجابه وهو يتراجع إلى الخلف بخطى قصيرة وثابتة:
ــ نعم...، إنني أراها جيداً...،إنها تختبئُ وراء الأعشاب الطويلة...

إتخذ عمر وضعية دفاعية قائلا بصوت يبدو أكثر حزما وتأهباً لمواجهة الذئاب:
ــ أنا لا أرى أي شىء هناك...، لكني بتُ أستطيع تمييز بعض أصوات الحركة غير عادية في نفس الاتجاه الذي تشير إليه.
ثم نظر إلى شاهين مستطرداً وقد انعقد حاجباه بشدة:
ــ أخبرني هل مازالت الذئاب مجتمعة أم بدأت في الانتشار؟
أجابه بدون تردد:
ــ مازالت على حالها...، لكني أعتقد أنها تستعد للهجوم...
ــ حسناً...، أحضر لي عودا مشتعلا من النار من وراءنا...
إنطلق شاهين جرياً نحو النار التي مازالت موقدة منذ المساء، فأخذ لنفسه شعلة وناول الأخرى إلى المعلم عمر...
انخفض عمر في حذر إلى الأرض، ووضع مصباحه الكاشف في اتجاه مكان اختباء الذئاب، من أجل مزيد من الإنارة للمكان، وحمل الشعلة بيده اليسرى وهو يصوب بندقيته باليمنى نحو الغابة، بعد أن فك مسمار حركة الأمان عنها ووضعها على كتفه استعداداً لإطلاق النار.
نظر إليه شاهين قائلا باستعطاف:
ــ سأساعدك على إخافتها بشعلتي....، لكن أرجوك يا أستاذ...، لا تؤذها، ولا تطلق عليها النار مباشرة.
رمقه عمر بطرف عينه مستغربا طلبه وهو يقول:
ــ لكن ماذا لو حاولت التقدم والهجوم المباغت علينا...؟
وبنبرة بدت أقرب للرجاء رد عليه:
ــ إنها حيوانات جائعة فقط...، جاءت تبحث عن الطعام خارج مناطق صيدها...، وما أن تشعر بخطر يهدد حياتها، حتى تعود أدراجها من حيث أتت، وكذلك....
ــ احذر...، احذر...، لقد بدأت التقدم باتجاهنا...
أردفها شاهين وهو يلوح مع عمر بشعلتيهما في الهواء بعدما خرجت الذئاب إلى ضوء القمر من بين الأعشاب وهي تكشر عن أنيابها، وتزمجر زمجرة مرعبة، وقد إنتصب شعر فرائها. في حين أخذ زعيم مجموعة الذئاب بالجثم على الأرض، وطي رجليه الخلفيتين...، استعداداً لبدء الهجوم...، والانقضاض على أحدهما.
بدأت الذئاب تتقدم بخطى ثابتة فيما يشبه نصف حلقة، في محاولة لتطويق الفريستين من جانبيهما ليصبحا بين فكي الكماشة.
استعد شاهين متخذاً وضعية قتال ضد الذئاب، وأخذ يلوح في وجوهها بشعلته يمينا ويسارا، في محاولة لإخافتها وتجنيبها رصاص بندقية عمر.
واصل قطيع الذئاب التقدم نحوهما بثبات، فيما أخذ الإثنان في التراجع بخطوات قصيرة إلى الخلف وقد تحفزت كل ذرة من ذرات جسديهما...، وفي تلك اللحظة بالضبط...، اصطدمت قدم عمر بحجر على الأرض...، فاختل توازنه وترنح على إثره...، ووقع على ظهره أرضا...، وسقطت البندقية من يده على بعد مترين من مكانه.
وقبل أن يستعيد توازنه وسلاحه، كانت تلك العثرة بمثابة إشارة خضراء لقطيع الذئاب، للانقضاض عليهما، وتمزيق أجسادهما...
استوعب شاهين بسرعة الخطأ القاتل الذي وقع...، وأدرك معه بداية الهجوم الشرس عليهما...، فتقدم خطوة أمام المعلم عمر، وزاد من حركة تلويحه بالشعلة في الهواء أمام رؤوس الذئاب، التي كان قائدها قد قفز من مكانه فعلاً...، مكشرا عن أنيابه لتمزيق جسد شاهين بفكه الفتاك...، ومخالبه الحادة.
على بعد سنتيميترات قليلة من جسده، وبسرعة فائقة وليونة بالغة، وثب شاهين من مكانه بخفة ورشاقة كالقط إلى مكان آخر، وهو يستدير في الهواء مفشلاً الهجوم الأول للذئب، ومجنباً لحمه الطري مخالب الذئب الفتاكة...
وما كادت قدماه تستقران على الأرض، حتى باغته ذئبان آخران بالهجوم من جانبيه الأيمن والأيسر...، وبحركة بهلوانية خارقة كتلك التي يقوم بها لاعبو رياضة الجمباز على البساط...، قفز شاهين في الهواء على ظهره، ودار حول نفسه دورة كاملة ليستقر على قدميه من جديد بمهارة بالغة، مجنبا جسده مرة أخرى الهجوم المزدوج للذئبين في وقت واحد...، ومتسببا في اصطدامهما معاً في الهواء...
زادت مراوغاته من غضب الذئاب، فأخذت تزمجر بقوة وهي تحيط به من جميع الجهات، وتستعد لمهاجمته بشكل جماعي هذه المرة.

أخذت الذئاب الأربعة في الجثوم على أقدامها الخلفية، إستعدادا للانقضاض عليه، وما كاد زعيمها يثب من مكانه شاهرا أنيانه ومخالبه الحادة في وجهه، حتى انطلقت من خلفه رصاصتان في الهواء من بندقية إدريس الذي بدا واقفا بعزم أمام هذا المشهد المثير...
وعلى وقع صوت الرصاص القوي الذي هز المكان، وبسرعة البرق...، انسحبت الذئاب مفزوعة من صوت الرصاص المخيف، سالمة بجلدها من معركتها الخاسرة مع شاهين.
وقف عمر يتصبب عرقاً...، ويتنفس الصعداء بعد فرار مجموعة الذئاب بكاملها، فتقدم من شاهين وشكر له موقفه القوي والحازم بعد سقوطه المفاجئ، ثم تقدم إدريس نحوه وهو يثني على شجاعتة، ويبدي إعجابه الشديد بمهاراته وخفته في تجنب مخالب الذئاب، وعزمه على مواجهة الخطر لوحده في اللحظة التي سقط فيها عمر على الأرض...، ثم طلب من الإثنين الخلود إلى الراحة والنوم قليلا، وقد أبدى عزمه على مواصلة الحراسة إلى بزوغ الفجر...، ولحين استيقاظ الجميع.
*****


في صباح اليوم الثاني للرحلة بدا الجميع أكثر فاعلية وحيوية، وقد استعادوا طاقتهم ونشاطهم خلال نومهم في هذه الليلة الطويلة، بعد يوم متعب وشاق من التحدي في صعود الجبل.
تناول الجميع وجبة الإفطار، ثم نظفوا خيامهم، ورتبوا أماكن نومهم، واستعدوا للقيام بجولة استكشافية في زوايا أخرى في قمة الجبل، من أجل التعرف على طبيعة المكان وأنواع الحشرات والكائنات الأخرى التي تعيش في المرتفعات وأنظمة غذاء بعضها.
اصطف الجميع بانتظام، وانطلقوا في عملية البحث واكتشاف الأعشاب، وأنواع الأشجار والحشرات...، إلى أن بلغوا الجانب الآخر من قمة جبل البركان، حيث النتوءات الصخرية الحادة بمختلف أشكالها وأحجامها عند حافة الجبل. هناك توقف إدريس...، وطلب من الجميع عدم الاقتراب من حافة الجبل، درءاً لاحتمال الوقوف على بعض الصخور غير الثابتة وتساقطها إلى السفح...
انشغلت المعلمة منى المكلفة بالجانب المعرفي للرحلة في تلقين التلاميذ ـ الذين شكلوا حلقة حولها ـ بعض الدروس العلمية في كيفية نشوء الجبال والبراكين، ومدى مساهمتها في تشكيل تضاريس كوكب الأرض، وأخذت تستعرض أمامهم بعضا من عينات الصخور البركانية الموجودة في أرجاء المكان، وتحت أقدامهم على قمة الجبل الخامد منذ مئات السنين.
وقبل لحظات من إستكمال عرضها المعرفي للتلاميذ، دوت صيحة قوية بينهم هزت المكان وأرعبت الجميع...
ــ أفعى ...، أفعى....
أوقفت صرخة لينا القوية منى عن مواصلة شرح درسها، وأفزعت الصرخة جميع التلاميذ، قبل أن يتبين لبعضهم أن ذلك لم يكن سوى سحلية جبلية غير مؤذية بلونها الباهت، وذيلها الطويل الذي يشبه ذيل الأفعى.
غير أن الصرخة القوية ولحظة فزع التلاميذ كانت أكبر من استيعابهم لتطمينات أساتذتهم، وهُمْ يحاولون توضيح حقيقة ماجرى وما شاهدته زميلتهم لينا، فانتشر الجميع مذعورين في مختلف الاتجاهات الصخرية الثابتة منها وغير الثابتة.
وقبل أن يستجيب بعضهم لدعوة إدريس وعمر بالتوقف، وعدم الركض نحو اتجاه الحافة الصخرية الخطرة...
وقع أسوء ماكان يخشاه الجميع...، ومالم يرغب في حدوثه أحد طوال الرحلة...، حيث أدى الوزن الإضافي الذي أحدثه تواجد لينا فوق الصخور غير الثابتة على المنحدر، إلى انهيارٍ صخري مفاجئ في جزئه العلوي...
ومعه سقطت لينا نحو الهاوية السحيقة...، وتوقفت أنفاس الجميع...، وخفقت القلوب بشدة...، وعمًّ صمتٌ مطبقٌ رهيبٌ أرجاء المكان.
وقبل أن يستوعب الجميع ماحصل لزميلتهم، ويستفيقوا من هول الصدمة مطلقين موجات من الصراخ والصياح ويجهشون في البكاء، كان شاهين يسرع نحو الحافة التي وقعت منها لينا، غير مبالٍ بما يمكن أن ينطوي عليه ذلك، أو مايمكن أن يسببه له من أذى، أو سقوط آخر في منطقة الانهيارات الصخرية الخطرة.
ثم أخذ يستطلع الوضع ويتفحص المكان بعينيه نحو الأسفل...، وسط تحذيرات وصيحات سارة وإدريس، ودعوته له بالابتعاد عن منطقة الانهيار.
وماهي إلاَّ ثوان معدودة، حتى عاد شاهين مسرعاً نحوهم، يخبرهم أن زميلته لينا لم تسقط بعد في سفح الجبل...، وأنها ماتزال معلقة من لباسها بأحد جذوع الأشجار المنكسرة على الجدار الصخري.
طلب شاهين أن يُأتى له بحبل طويل يربطه بخاصرته وينزل لإنقادها من السقوط، فرفض إدريس الفكرة جملة وتفصيلا، وعقد العزم على أن يكون هو نفسه من ينزل لإنقاذها...، باعتباره المسؤول الأول عن سلامة التلاميذ في هذه الرحلة.
وبحزم وبجرأةٍ في الحديث غير معتادة، وقف شاهين أمام الجميع وهو يرد على إدريس، بأن محاولته في إنقاذها قد تشكل خطرا كبيرا على الإثنين معاً، بسبب وزنه وحجمه الكبير، الذي قد يسبب في إنهيار صخري آخر، يؤدي الى سقوطها الحتمي نحو الهاوية. وأخذ يؤكد للجميع، ضرورة الإسراع في اتخاذ القرار السليم، وعدم تضييع المزيد من الوقت في هذا الحديث الذي لن يكون في صالح الهدف الأكبر، وهو عملية إنقاذ لينا...
حسم إدريس خياره...، واقتنع بكلام شاهين على مضض...، وتحليله المنطقي في إمكانية حدوث انهيارات صخرية أخرى قد تعصف بأملهم جميعا في إنقاذ لينا بسبب وزنه الكبير. فأسرع في إخراج الحبل من حقيبته، وشد وثاقه جيداً بخصر شاهين، في حين أمسك هو بالطرف الآخر للحبل بقوة مع زملائه عمر، وسارة، ومنى، وبعض الفتيان المتطوعين. وأمام هذا المشهد المثير...، تراجع باقي التلاميذ في رهبة إلى الوراء...، وأجهش بعضهم في البكاء وهم ينظرون وينتظرون ماستسفر عنه محاولة إنقاذ زميلتهم لينا.
*****
على بعد أمتار من الحافة السحيقة لجبل البركان، انتصب شاهين برهة يحوم بعينيه في السماء الزرقاء...، وينزل بنظره تدريجيا نحو قمم الجبال الشاهقة المقابلة للجبل، وتأهب وهو يأخذ نفسا عميقا من النسيم العليل الذي بدأ يداعب خصلات شعره على جبينه...، ودونما اكتراث بخطر أو تردد، يمم وجهه صوب المنحدر، ثم انطلق كالسهم عدوا نحو الهاوية الصخرية السحيقة...، التي ما أن شارف على نهايتها بأمتار قليلة حتى زاد من سرعته في الجري...
وقفز الى الأعلى وهو يفرد ذراعيه في الهواء...، كما يقفز هواة الغطس الحر من المرتفعات نحو المياه الراكدة...، محاولا تفادي الوطء على جانب الصخور غير ثابتة في قمة المنحدر...، لتجنب إحداث انهيارات صخرية أخرى فوق رأس زميلته لينا.
هناك في السماء وهو يطير، أبطأ الزمن من حركته أو كاد...، وأصدر شاهين من حيث لايدري صوتا كصوت الصقور أثناء التحليق، وانتابه إحساس عميق بالانتماء للمكان...، وناداه صوت من الأعماق يخبره أنه صار جزءاً من سماء المكان وتلاله وجباله، لا مجرد زائر عابر أو ضيف متطفل عليه...، وراوده شعور غريب لأول مرة...، ولأول مرة فقط....، يخبره بأنه خلق ليطير حراً في عنان السماء...، لا أن يمشي على الأرض فوق الثرى، وأن يحمل بدل يدين مفرودتين وأنامل، جناحين مكسوين بريش قوي يمكنه من التحليق بين السحاب، في رحابة فضاءٍ بلا حدود وبدون قيود.
وقبل أن يسترسل في اكتشاف نفسه، وكأنه يتعرف عليها لأول مرة في حياته، بدأ جسمه يخضع لقانون الأرض وفزياء الجاذبية، وأخذ في السقوط الحر رأسياً نحو السفح...
وبليونة فائقة ومرونة بالغة...، قام بدورتين في الهواء عدل من خلالهما وضع جسمه الأفقي، وضم رجليه إلى صدره قليلا، بحيث تمكنه تلك الحركة من امتصاص قوة صدمة الارتطام بجدار الحافة بعد توقف الحبل عن الانسياب.
أمسك شاهين الحبل بقوة في لحظة الاصطدام، وأسرع بخطى قصيرة وحذرة على الجدار الصخري للاقتراب من لينا المعلقة بين السماء والأرض بعود قصير يابس...
حيث أخذ العود في إصدار صوت طقطقة خفيفة تشير الى قرب لحظة انكساره...
سمع شاهين ذلك الصوت المخيف الذي يشير الى عدم قدرة الغصن على تحمل وزنها مزيدا من الوقت...، فأسرع الخطى وهو مايزال في وضعه الأفقي للوصول إليها.
وعلى بعد مترين من جسدها المتدلي...، إنكسر الجدع...، وانعقد حاجباه بقوة...، وخفق قلبه بشدة.
في اللحظة التي انكسر فيها جدع الشجرة اليابس، وأخذ جسم لينا معها في السقوط نحو الهوة السحيقة، دفع شاهين جسده بكل قوته نحوها، اتخذ وضعا عموديا مقلوبا في الهواء وقد امتدت يده للإمساك بذراعها بكل ما أوتي من قوة، موقفاً بذلك مسيرة سقوطها جثة هامدة بين صخور الجبل ونتوءاته الحادة.
غير أن الخطر مازال قائما، وسقوط الحجارة على رأسيهما من قمة الجبل بفعل عملية احتكاك الحبل مع الصخور غير الثابتة مازال يشكل خطرا حقيقيا على حياتهما معاً.
أمسك شاهين بقوة جسدها المنهك بيده اليسرى وهو يضمها إليه محكماً قبضته عليها، ووضع يده اليمنى فوق رأسها، محاولا حمايتها من الحجارة الصغير والمتوسطة التي بدأت في التساقط عليهما بفعل زيادة الوزن على الحبل، واحتكاكه في القمة مع حافة المنحدر.
وماهي إلاَّ لحظات قليلة حتى بدأت لينا في استعادة وعيها تدريجيا وهي تفتح عينها بصعوبة لمحاولة فهم مايجري حولها...، وبصورة ضبابية شيئاً ما، لمحت جناحاً مفروداً فوق رأسها يحميها من الحجارة الحادة التي تتساقط من الأعلى...، فأخذت تتطلع بصعوبة في ملامح الشخص الذي يمسك بها، قبل أن تتبين هويته وتتعرف عليه، وهي تحاول جاهدة أن تنطق باسمه.
ثم حاولت بعدها استكشاف المكان والمحيط من حولها، وماكادت تدرك عدم وجود أية قاعدة صلبة تحت قدميها...، وتتأكد من أن كل ما بات يربطها بالعالم في تلك اللحظة الحرجة مجرد حبل معلق بين السماء والأرض، حتى أغمي عليها مجددا من شدة الخوف.
في تلك اللحظة، أعطى شاهين إشارةً لإدريس وباقي الأساتذة في الأعلى، من أجل الشروع في سحب الحبل، الذي أخذ في التآكل شيئا فشيئا في جزئه العلوي المحتك مع الصخور الحادة. فيما استمر في حماية رأس لينا من الحجارة المتساقطة بجناحه الذي أثار استغرابه ودهشته بدوره.
لم يدرك شاهين حينها متى وكيف ظهر الجناحان، ولم يستطع الإجابة على الكثير من الأسئلة الغامضة التي راودته ساعتها، فقط إحساس قوي ورغبة جامحة في إنقاذ زميلته لينا من الحجارة الحادة المتساقطة، هي من كانت تسيطر عليه بقوة في تلك اللحظة الحاسمة.
وما أن هدأ روعه قليلا، وانخفض ضغط دمه، وبدأ يطمئن عليها، واقترابهما من بلوغ قمة الجبل، حتى بدأ جناحه في الاختفاء تدريجياً خلف ظهره قبل أن يلاحظه أحد...، ويكتشفوا سره العجيب...
أمسك إدريس جسد لينا المنهك وهو يسحبها إلى الأعلى، ثم حملها بين ذراعيه ووضعها فوق العشب الأخضر بعيدا عن المنحدر لحين استعادة أنفاسها ووعيها، ثم إستدار يستطلع حال شاهين، فوجده واقفا أمامه، والدماء تسيل من جروحٍ على ذراعه الأيمن الذي شكل حاجزا بينهما وبين الحجارة المتساقطة...، كل ذلك وسط صيحات فرح التلاميذ بنجاة صديقتهم لينا، وعناقهم شاهين والتصفيق له بحرارة كبيرة على عمله البطولي في عملية الإنقاذ المستحيلة التي قام بها من أجل زميلته في الفصل الدراسي.
استلقت لينا ممدودة على الأرض، وقد اِلتف من حولها الجميع. وبعد برهة من الزمن...، بدأت في استعادة وعيها تدريجيا بفضل بعض الإجراءات الطبية الأولية في الإسعاف، على أمل من الله في عدم وجود أية كسور أو نزيف داخلي قد يعقد من وضعها، ويصعب عملية تعافيها وإنقاذها، بسبب بعد المسافة بين الجبل والمستشفى.
في حين فتحت سارة حقيبة الإسعافات الأولية، وشرعت في مسح الدم وتعقيم الجروح المتواجدة على ذراع شاهين، الذي بدا أكثر اهتماماً بسلامة زميلته واستعادة وعيها.
أخذت سارة تحدق من تحت خصلات شعرها بغرابة شديدة في عيني شاهين السوداوين، وقد اتسعت حدقاتهما بشكل كبير ومثير للاستغراب، وهي تلاحظ أنَّ قميصه قد قُدَّ من دُبُرٍ بانتظام على مستوى كتفيه، وتحاول جاهدة وضع تصور منطقي يتقبله العقل البشري لحالته الغريبة...، من أجل فهم كل تلك الأحداث الاستثنائية...، الاستثنائية للغاية...
*****

في مساء ذلك اليوم...، وبعد فترة قصيرة من النقاهة والراحة، قامت لينا من فراشها تتمشى بجانب معلمتها وقد استعادت بعضاً من نشاطها، وذلك من أجل الاطمئنان على عدم وجود مضاعفات على جسمها بعد حادث السقوط.
سارت لينا تسأل وتبحث عن شاهين في أرجاء المكان، للتعبير له عن شكرها وامتنانها لانقاذه حياتها، وماهي إلاّ دقائق معدودة، حتى وجدته جالسا فوق إحدى الصخور، مسندا ظهره إلى شجرة كبيرة، يتأمل المشهد الرائع والجميل لغروب الشمس، بلونها الأحمر المتوهج في أفق جبال الأطلس الكبير، وقد أضفت خيوط أشعتها المنكسرة سحراً آخر على مكان التخييم.
اقتربت منه في هدوء من الخلف...، وتوقفت على بعد خطوتين من الشجرة التي يسند عليها ظهره قائلة بصوت متعب:
ــ أتسمح لي بالحديث معك قليلا يا شاهين...؟
قطع عليه صوتها تأمله وشروده في التفكير، فاستدار بسرعة ينظر نحو مصدر الصوت وهو يغمغم:
ــ من....؟ لينا...؟ حمدا لله على سلامتك.
خفضت نظرها إلى الأرض في خجل وهي تفرك أصابعها وتضم يديها أمامها قائلة:
ــ أخبرتني أستاذتنا سارة أنك كنت مصراً على إنقاذ حياتي...، وأود أن أشكرك على كل مافعلته من أجلي...، ولو أنني لن أستطيع أن أوفيك حقك في ذلك أبداً...
فشكراً جزيلاً ياشاهين...
أجابها وهو يهرش شعره بيده اليمنى في خجل من ثنائها عليه:
ــ لاعليك...، كان ذلك واجبا بسيطا.
ــ لا لم يكن الأمر كذلك...
ثم مالت نحوه وهي تأخذ نفسا عميقا وتضيف:
ــ ليس بإمكان أياً كان أن يخاطر بنفسه من أجل الآخرين.
رد عليها وهو يتناول حجرا صغيرا من الأرض ويرمي به نحو الحافة دون أن ينظر إليها:
ــ حسنا يا لينا...، إنسي ماحدث...، المهم أنك بيننا الآن سالمة، وبصحة جيدة...
اقتربت لينا خطوة أخرى نحوه بامتنان ثم قالت:
ــ لكني أود أن أسألك عن شيء حدث معي في الأسفل...
نظر إليها هذه المرة باهتمام قائلا:
ــ تفضلي...
أخذت نفسا عميقا واستطردت قائلة وهي تلوح بيديها في الهواء وكأنها غير مقتنعة بما تتحدث عنه:
ــ لقد خيل إليَّ وكأني رأيتك في المنحدر بجناح بارز من خلف ظهرك يغطي رأسي...، وحينما أردت استطلاع الأمر، ونظرت تحت قدمي...
صمتت قليلا ثم استرسلت بنبرة استغراب واضحة:
ــ لست أدري...!!!
هل رأيت مخالب كمخالب الصقور تخترق حذاءك قبل أن يغمى علي مرة أخرى، أم شُبه إليَّ...؟ وهل كان الأمر مجرد تهيؤات نتيجة خوفي الشديد من المرتفعات... أم ماذا...؟؟
فاجأت كلمات لينا الأخيرة شاهين، وانقلبت ملامحه بشدة، وبحركة حادة، أخذ ينظر في ذهول إلى حذائه الأسود...
وفتح فاه عن آخره بإندهاش بالغ ...
بعد أن لاحظ أربعة ثقوب متفرقة بشكل منتظم في كلتا الحذائين...، وانعقد لسانه عن الكلام...، ولم ينبس بعدها ببنت شفة.
خيًّم صمت مريب بينهما، قبل أن يغمغم شاهين بصوت خافت مبحوح، وكأنه يحدث نفسه باستغراب متسائلا:
ــ مخالب...؟!!! كمخالب الصقور....؟!!! ماذا يحدث لي...؟؟!!
ظل شاهين على تلك الحال برهة من الزمن مشدود النظر إلى حذائه، تائهاً وسط مجموعة من الأفكار والتخمينات، يحاول جاهداً تفسير وفهم ماحدث معه في الأسفل لأول مرة في حياته.
حاولت لينا أن تقنع نفسها، بأن مشاهداتها تلك لاتعدو أن تكون مجرد تخيلات، وصور غير حقيقية نتيجة خوفها الشديد، بسبب تأثير الصدمة على عقلها ونفسيتها على ذلك المستوى الشاهق من الارتفاع، فانطلقت في سبيلها نحو معلمتها سارة التي كانت تنتظرها بعيداً مع منى. بعدما خلفت من ورائها بحراً من الأسئلة يدور في ذهن شاهين، دون تفسير أو جواب شافٍ يخرجه من حيرته وضياعه...، ويخبره عن حقيقة انتمائه...، لعالم الجوارح...؟ أم لعالم الإنسان...؟ أم إلى ماذا...؟!!.....
*****







الحقيقة الغامضة
بعد مرور أزيد من أسبوع عن الرحلة، قررت المعلمة سارة صحبة لينا القيام بزيارة إلى منزل عائلة شاهين، من أجل شكره والتعرف على أهله عن قرب، والاستفسار حول جملة من الأمور التي أثارت انتباهها واندهاشها رفقة زملائها أثناء رحلة الجبل.
وصلت بسيارتها الحمراء الصغيرة إلى قرية الكواسر، وهناك سألت بعض أهلها، فأرشدوها الى بيت العم عزام الذي يتوسط أحد الحقول الزراعية الخضراء، وقد أحاطت به مجموعة من الاسطبلات والحظائر، وأماكن أخرى مخصصة لتربية الصقور ماتزال شاهدة على عراقة العائلة في تربية وترويض هذه الأنواع من سباع الطير.
ركنت سيارتها أمام مدخل المنزل، ثم طرقت بابه الرئيس دون أن يجيبها أحد، فحامت حوله في محاولة لإيجاد أي شخص تتحدث إليه، بعدما أخذ يتناهى الى مسامعها حركة وأصوات في أحد زوايا المنزل الخلفية.
توجهت سارة بحذر نحو مصدر الصوت الذي أوصلها إلى باب ورشة صغيرة، بعدما طلبت من لينا التوقف خلف باب الورش لحين استطلاع الأمر. بداخله وقف شيخ كبير وقَّعَ الزمن بخطوطه على وجهه ليثبت مروره الباسل عليه، بدا لها شيخ متوسط القامة منهمكا في صقل بعض الأخشاب التي تدخل في صناعة الأقفاص، وهو يراقب باهتمام بالغ حركة دوران محور آلته اليدوية بنظارته البصرية ذات الإطار الفولاذي الأسود، الذي اختفت بعض أجزائه بين خصلات شعره الكثيف، وقد أضاءَ المشيب رأسه فزاده هيبةً ووقارا.
رمقهما عزام بنظرة جانبية باردة من تحت نظارته، ثم استمر في صقل قطعة الخشب على آلته اليدوية، فتقدمت سارة نحوه بخطوات قصيرة متوترة وهي تحمل في يدها باقة من الزهور، وتطلب التحدث إليه بأدب ولباقة في الكلام.
استقبل عزام خطابها بهدوء بالغ وببرودته المعهودة، ثم طلب منها الجلوس، وأبدى استعداده لتقديم المساعدة بعد أن أدرك بفراسته وُدَّ زيارتها، نظرت سارت نحو باب الورش وهي تنادي باسم لينا وتطلب منها الدخول. ثم دلفت لينا مبتسمة هي تلقي التحية قائلة:
ــ مرحبا ياعمي...، أنا لينا... زميلة شاهين.
نظر إليها عزام مبتسما وهو يقول:
ــ مرحبا يا صغيرتي، تفضلي...
ثم حول نظره باتجاه سارة وبادرها بسؤال ذكي قائلا:
ــ أعتقد أنكما في المكان الصحيح الذي تبحثان عنه...؟
أومأت برأسها إيجابا وهي تجيبه بقليل من التوتر:
ــ نعم...، أعتقد ذلك...، فقد أخبروني أن هذا هو منزل عائلة شاهين، وأنت جده الذي يقيم معه...، أليس كذلك...؟
أجابها وقد استمر في صقل قطعة الخشب أمامه دون أن يرفع نظره عن محور الآلة الدوار:
ــ إذن، فأنت هنا من أجل شاهين...؟

ــ نعم...، الأمر كذلك...
حامت لينا بعينها حول المكان وكأنها تبحث عن شىء معين تفتقده قبل أن تسأله بنبرة مرح واضحة:
ــ أين هو شاهين...؟ أليس هنا...؟
واصل عزام عمله وهو يغير وضع قطعة الخشب على الآلة ويقول:
ــ لقد غادر مباشرة بعد عودته من الرحلة إلى بيت عمته في قرية القواسم المجاورة لقريتنا...، هناك قرب الشلالات...
ثم نظر إلى سارة هذه المرة من تحت نظارته متسائلا:
ــ ماذا هناك يا ابنتي...؟ هل كل شىء على مايرام في المدرسة؟ أم أن الأمر يتعلق بملاحظات غير طبيعية حول تصرفات شاهين...؟
أخفت سارة اِبتسامة صغيرة على وجهها، وقد فتح هذا السؤال المجال أمامها للحديث بارتياح، واختصر عليها ما كانت قد أعدته من مقدمات وتمهيدات للدخول في الموضوع الذي جاءت من أجله، ثم سألته:
ــ هل أخبرك شاهين ماحصل معنا في الرحلة...؟
أجابها بدون تردد:
ــ لا...، ليس بعد...
ثم أردف وهو يتناول مبرداً خشبياً من فوق الطاولة:
ــ لقد كانت عمته هنا في انتظاره مباشرة بعد عودته من الرحلة، وأخذته معها لقضاء ماتبقى من أيام عطلته المدرسية.
أخذت سارة نفسا عميقا من الهواء ثم أتبعته بزفير طويل، قبل أن تعدل من جلستها وقد اكتسى صوتها نبرة جادة في الحديث وهي تقول:
ــ أنا معلمة شاهين، وجئتُ اليوم لأستفهم عن بعض الأشياء التي حدثت، أو ما يمكن أن يحدث مستقبلا معه، فهناك العديد من الأمور التي جرت أثناء الرحلة تحتاج إلى تفسير منطقي لتقبلها واستيعابها...، ولعلي أجد عندك جواباً لبعض التساؤلات...
تجمد عزام برهة في مكانه دون أن يلتفت إليها...، ثم واصل تغيير وضعية القطعة الخشبية على الآلة وهو يقول ببرودة وهدوء:
ــ مثل ماذا...؟
وضعت سارة حقيبتها اليدوية أمامها ورفعت نظرها إليه وهي تقول بحسم وتلوح بيديها في الهواء:
ــ بداية من قوة بصره الخارق...، وقدرته الهائلة على تمييز الأشياء الصغيرة من بعيد، سواء كان ذلك في الليل أو في النهار...، وكذا اتساع حدقات عينيه بشكل غريب في حالات التوتر الشديد والشعور بالخطر...، إضافة الى حدة سمعه وقدرته الكبيرة على تمييز الأصوات من مسافة كبيرة، علاوة عن شجاعته وبراعته في القفز والمراوغة في الهواء بليونة ومهارة لا نظير لها...
رد عليها وهو يتفرس ملامحها باهتمام بالغ وقد توقفت يداه عن العمل:
ــ هل شاهدته بنفسك وهو يقفز...؟
بدت علامات الاستغراب واضحة على وجهها من هذا السؤال الغريب، فأومأت له برأسها إيجاباُ وهي تقول بحذر:
ــ نعم رأيته...، لماذا...؟؟
بادرها بسؤال مردف وكأنه أمسك بطرف الخيط الذي كان يبحث عنه:
ــ أخبريني كيف كان ذلك...؟؟
صمتت سارة قليلا وقد فطنت إلى أنه يريد أن يجرها بأسئلته إلى معرفة شىء معين يصبو إليه...، فحدقت في لينا برهة بعدما قررت أن تسترسل في الإجابة عن أسئلته، عساها تتمكن من فك طلاسم اللغز المحير:
ــ لقد سقطت لينا في منحدر صخري، فقفز شاهين كالطائر موثوقا بحبل نحو الهاوية دون أدنى ذرة خوف أو تردد.
صمت عزام لحظات استغرق خلالها في تفكير عميق قبل أن يفتح فمه قائلا:
ــ كنت أنتظر هذه الزيارة منذ أمدٍ طويل...، وسأخبرك عن كل ماترغبين في معرفته...
فقط أخبريني أولاً ماذا حدث معه بالتفصيل أثناء الرحلة، حتى أتبين من بعض الأمور التي قد تساعدنا جميعا في فهم جوانب أخرى مما سأخبرك به.
ثم أخذ نفساً عميقاً وأردف قائلا:
ــ وحتى نتمكن على الأقل من إستشفاف مايمكن أن يقع له من تطورات لاحقاً...
صمتت سارة برهة وهي تتطلع في وجهه بقلق واضح، ثم شرعت في سرد جميع تفاصيل الرحلة وما خلفته أفعال شاهين من ارتسامات لدى باقي فريق التدريس وزملائه في الفصل. كما أخبرته عن عملية إنقاده لينا من الموت المحقق، وما ذكرته من أشياء غريبة تعتقد أنها شاهدتها حينما كانت معلقة معه في الحبل على الجدار الصخري.
في تلك اللحظة...، وبحركة مفاجئة...، رفع عزام يده في الهواء طالبا منها التوقف عن مواصلة الحديث، ثم نظر إلى لينا باهتمام بالغ وقد انعقد حاجباه الكثين حتى إلتقيا قائلا:
ــ ماذا رأيت بالضبط يا صغيرتي...!!
صمتت لينا لحظات وهي تتطلع في وجهه ببراءة قبل أن تجيبه بحماس:
ــ ما أن فتحت عيني في اللحظة الأولى التي بدأت فيها باستعادة وعيي، حتى رأيت جناح قوي مفرود فوق رأسي يحميني من الحجارة المتساقطة من أعلى قمة الجبل، ورأيت مخالباً تشبه في شكلها مخالب الصقور، تخترق حذاءه بانتظام، وتتشبث بقوة بصخور المنحدر ونتوءاته.
أخذ عزام كرسيا ووضعه أمامهما، وهو يطأطئ رأسه، وقد أسند ذقنه على يديه المتشابكتين أمامه، ثم دخل في تفكير عميق جداً...، حتى ظنت معه سارة أنه لن يتحدث بعدها...، ولو بكلمة واحدة...
*****
ساد المكان صمت رهيب برهة من الزمن، قبل أن يرفع عزام رأسه مجدداً في بطء وهو يدقق النظر في وجه سارة بتمعن، ثم التقط أنفاسه من اعماق صدره، وتنهد تنهيدة عميقة وقال:
ــ لقد بدأت عملية التحول الجيني لشاهين...
شخصَتْ عيون سارة في اندهاش بالغ...، وارتفع حاجباها الرقيقين إلى الأعلى بشدة وهي تغمغم بصوت مختنق:
ــ ممممـ...، ماذا...ماذا تقصد...؟؟!!
وعن أي تحول تتحدث...؟
هز عزام رأسه إيجابا بشكل خفيف، ثم نظر الى سقف المشغل لحظات قبل أن يخفضه مجددا، ويثبت نظره في عينيها وهو يقول بصوت شارد منكسر:
ــ بدأت الحكاية قبل اثنتي عشرة سنة من الآن، حينها كان إبني أدهم ــ والد شاهين ــ ، على وشك إنهاء دراساته الجامعية في ألمانيا، وكان وقتها يتهيأ لتقديم بحث التخرج في سلك الدكتوراه البيولوجية، حول موضوع، " الصفات الوراثية المشتركة بين الجوارح والإنسان". وكانت خلاصة بحثه العلمي تستند على مجموعة من الاختبارات المجهرية التي تبشر حسب نظريته العلمية، إلى إمكانية استخدام بعض المورثات الجينية للطيور الجارحة في علاج بعض الأمراض لدى الإنسان، وخاصة تلك المتعلقة بأمراض العيون، مع فرضية استعادة النظر في بعض الحالات بالنسبة لمن يعانون من العمى الكلي، وكذا علاج ضعف البصر، ومرضى عمى الألوان المعروف بالدلتونية، بالنظر إلى تميز هذه الأنواع من الجوارح بخاصيات جينية مثالية في هذا الإطار.
كان فتى مليئاً بالطموح والحماس، ومحباً كثيرا لعمله الذي كان يأمل من خلاله في أن يقدم خدمة للبشرية جمعاء، ويساهم في إيجاد حلول طبية لمرضى العيون، عن طريق نقل بعض المورثات الجينية المسؤولة عن قوة حواس الطيور الجارحة إلى الإنسان بعد معالجتها وتطويرها.
قاطعته لينا بحماس وهي تتحدث ببراءة الأطفال:
ــ أنا أيضا يا عمي أريد أن أصبح طبيبة تعالج الناس، ولن أتقاضى أجورا من عندهم.
ابتسم عزام من قولها حتى بدت نواجده وهو يقول إن شاء الله ثم يستطرد بحسرة:
ــ وبالفعل...، لقي بحثه العلمي دعماً مهماً من أساتذته، ودعما مادياً كبيرا من عديد من المؤسسات الدراسية والعلمية المهتمة بتطوير مجال البحث العلمي.
فشكل أدهم بعد تخرجه فريقاً علمياً مع بعض أساتذته، إضافة إلى علماء آخرين من مختلف التخصصات العلمية الأخرى التي تدخل في نطاق البحث، فوضعوا جدولا زمنيا، وخطة علمية ممنهجة ومدروسة بدقة، ومحددة الأهداف، للبدء في مشروعهم العلمي الذي أطلقوا عليه إسم "قطرة الدمع"، وهو الإسم الذي يطلق عادةً على شكل الصقور في حالة الانقضاض على فريسة من أعلى، حيث تبدو "كقطرة الماء".
كانت المرحلة الأولى من الخطة تقتضي انتقالهم إلى هذه البلاد المشهورة بجودة طيورها الجارحة ونقاء سلالاتها، وخبرة أهلها في تربيتها، وترويضها، والمعرفة بأسرارها، فطلبوا مني المساعدة في ذلك، بالبحث عن أفضل الجوارح وأشهرها قوة وذكاء من بين الصقور والنسور، وأكثرها قدرةً على تحمل العيش في مختلف البيئات المناخية والطبيعية الصعبة، والتكيف معها.
تسأله لينا هذه المرة بحماس منقطع النظير، رغم أن فصول الكثير من الأحداث التي جاء عزام على ذكرها لم تفهمها:
ــ وكيف تمكنت من جمع خيرة الصقور ياعمي؟
ــ صرت أجوب البلاد العربية شرقا وغربا، بمختلف مناطقها الصحراوية، والغابوية، والجبلية، والشاطئية، بحثا عن تلك الصنوف من الكواسر، وأستخدم خبرتي الطويلة في انتقاء أفضلها وأجودها من كل تلك البيئات المناخية المختلفة، حسب المواصفات المحددة مسبقاً.
وبعد ذلك...، حضر فريق البحث العلمي بمختلف تخصصاتهم إلى هذا المنزل، وأخذوا كل تلك الصقور وبعض أصناف أجود النسور إلى أحد المختبرات العلمية المتعاونة معهم هنا في هذا المشروع، من أجل الإنتقال إلى المرحلة الثانية من الخطة.
نفس تعابير الانتباه والاستغراب الشديد بدت على ملامح لينا وسارة التي بادرته بسؤال مستعجلة لمواصلته الحديث:
ــ وماذا حصل بعدها...؟؟
استدار عزام برأسه ينظر نحو قمم الجبال البادية من بعيد عبر مدخل ورشه الخشبي، كأنه يحدث نفسه قبل أن يستطرد:
ــ كانت المرحلة الثانية من المشروع تقتضي إجراء بعض الإختبارات على تلك الطيور، وانتقاء أفضلها جينياً، ثم تهجينها من أجل الحصول على ما أطلقوا عليه آنذاك إسم "الطائر الخارق"، أي الطائر الذي يجمع في خليته الجينية أقوى صفات ومميزات الجوارح بمختلف أنواعها، ومن مختلف البيئات الطبيعية.
وبعد ذلك ينتقلون إلى المرحلة المخبرية الأخيرة من المشروع، حيث يتم استخلاص الجينات المسؤولة عن تلك الصفات من الحمض النووي لمستخلص "الطائر الخارق"، ومعالجتها كيميائيا من أجل إجراء التجارب الأولية، ومراقبة نتائجها على مستوى فئران المختبر، قبل التأكد من سلامتها من أية مضاعفات أو تشوهات خلقية غير مرغوبة، ثم يتم زرعها في خلية بشرية حية لأحد المرضى المتطوعين للعلاج في المشروع، وتَتبعِ حالته...
قاطعته سارة في لهفة:
ــ وهل سار كل شىء كما كان مخططاً له...؟؟
أجابها وهو يتطلع إليها بعيون حزينة:
ــ لا...، للأسف الشديد...، تعرض أدهم وبعض أفراد فريقه البحثي إلى خدعة محبوكة، وضغوطات خارجية من جهات بحثية عسكرية مجهولة الهوية، تستخدم العلم وأبحاثه النبيلة للتلاعب بنتائجه، واستخدامها لبلوغ أهدافهم العسكرية اللإنسانية...
توقف عن الكلام لحظة وقد تضاعفت وتيرة تنفسه بسبب الغضب الواضح الذي تملكه في تلك اللحظة، قبل أن يستطرد قائلا بسخط شديد ونبرة حادة شيئاً ما:
ــ بل والأنكى من ذلك، عدم توانيهم في استخدام بعض النتائج العلمية في تدمير مجتمعات بشرية بعينها من أجل مصالح مادية رخيصة.
ثم زفر عزام بشكل عميق وهو يغمض عينيه برهة، محاولا تهدئة نفسه من فورة غضبٍ تَمَلكتْه بسبب تذكره ماحدث، ثم قال وهو يتراجع في مقعده:
ــ توالت الضغوط على أدهم وفريقه من بعض المنظمات الممولة للمشروع، والتي تختفي تحت أسماء ومعاهد علمية مزيفة، من أجل إرغامهم على تحويل اِتجاهات أبحاثهم إلى أغراض عسكرية محضة، لم تكن ضمن دائرة أهدافهم الطبية والإنسانية النبيلة.
فقرر عدم مسايرتهم في توجهاتهم التي أدرك أنها تصب لخدمة مصالح دول استعمارية، لن تتوانى في استخدام نتائج بحثه في تدمير شعوب بعينها، من أجل أطماعهم الإمبريالية ومصالح بلدانهم الاقتصادية.
مالت سارة نحوه قليلا وعلامات الاستفهام واضحة على وجهها وهي تقول بتدمر كبير:
ــ لكن لماذا لم يغادر ابنك إلى مكان آخر في العالم...، مكان أكثر أماناً وأكثر استعدادا لمساعدته في أبحاثه...؟؟!!
أجابها وهو ينظر إليها من تحت نظارته وقد إرتسمت إبتسامة صغيرة ماكرة على شفتيه:
ــ ليس أدهم من تربى على الهروب...، ولا من يتخلى عن أحلامه ووعوده لمن يحب...
فجَّر جوابه فضولها وزاد من حيرتها، فلم تتردد في سؤاله باستغراب أكبر:
ــ ماذا تقصد " بوعوده لمن يحب"...؟؟!
صمت لحظة، قبل أن يأخذ نفسا عميقا من الهواء أتبعه بزفير أعمق ويستطرد بصوت مبحوح لا يخلو من نبرة حزينة:
ــ إنها ندى...، والدة شاهين...، فتاة فلسطينية في غاية الجمال، تنحدر من مدينة يافا المحتلة، عاشت مع أهلها في مخيم تل الزعتر في لبنان، في انتظار عودتهم إلى أرض أجدادهم.
تعرضت سيارة والدها خالد إلى قذيفة دبابة إسرائيلية خلال اجتياح بيروت سنة 1982، فقدت على إثرها إثنان من أخواتها الصغار ووالدتها فاطمة، في حين فقدت هي بصرها نتيجة شدة الاصطدام الذي تعرض له رأسها بفعل قوة الانفجار، ثم انتقلت بعدها مع والدها الذي نجا بدوره من الموت بأعجوبة، للعيش والعلاج في ألمانيا، بمساعدة إحدى المنظمات الدولية لحماية ضحايا الحروب، والتي عن طريقها صارت ندى عنصرا ضمن مجموعة من المتطوعين للعلاج في جامعة برلين الألمانية، حيث كان يدرس أدهم ويتابع تطور حالة بصرها عن كثب.
صمت عزام لحظة وهو يبتسم بأسى كبير قبل أن يضيف:
ــ أحب أدهم ندى كثيرا...، وأحب روحها، وقدرتها على تقبل واقعها الجديد بإيمان كبير بقدر الله...، وتعلم منها دروسا عظيمة في الحياة...، وحب الأرض...، والوطن...، والإيثار... والتضحية بالنفس من أجل بقاء الأخرين...، وعزمها رغم المعاناة والألم على تحدي كل الصعاب...
سألته سارة في لهفة:
ــ وماذا عن المشروع العلمي...؟؟
أجابها عزام محافظا على نفس نبرة حزنه السابقة:
ــ بعد توقف الدعم لمشروعه العلمي بسبب مواقفه الجريئة، ورفضه توجيه أبحاثه لهدف عسكري، قرر أدهم مواصلة أبحاثه بإمكانيات متواضعة جداً مع قلة من زملائه الذين استمروا في دعمهم له، وذلك بعد أن تخلى عنهم معظم الباحثين الآخرين الذين أغراهم المال والثروة، وآثروا الاستمرار في البحث وتطوير الفكرة لأهداف مجهولة، لصالح جهات عسكرية مشبوهة.
مالت لينا نحوه ببراءة الأطفال وكأنها تسأله عن سر يخفيه بصوت خافت:
ــ وهل يأتي أدهم لزيارتك ياعمي...؟؟
صمت لحظة، ابتلع خلالها غصة في حلقه وهو يدافع دمعة أرادت أن تفر من معقلها الى وجنته وهو يقول بصوت مختنق:
ــ لا...، لا يا بُنيتي.
شكَّل الحفاظ على تلك الدمعة في مقلتها معركة خاسرة بالنسبة لعزام، لتنساب على وجنته بطيئة ساخنة، ثم تختفي في ثنايا لحيته الكثيفة وهو يردف:
ــ لايستطيع مغادرة الأراضي الألمانية إلى أي مكان آخر في العالم، حتى يؤدي الديون والتعويضات المالية التي تراكمت عليه نتيجة فسخ عقد الشراكة الموقع مع مركز البحوث العسكرية، الذي كان من أبرز الداعمين لمشروعه العلمي في بداياته، وهو نفس المركز الذي عرًّفَ نفسه في البداية على اعتباره مركزاً دولياً متعدد الجنسيات والتخصصات في مجال البحث العلمي.
سألته سارة بنبرة استنكار واضحة:
ــ لكن عفواً يا سيد عزام...!! فيم تم إنفاق كل تلك المبالغ المالية الضخمة التي حصل عليها أدهم من الشركات الداعمة...؟؟
نظر إليها قائلا وهو يرسم ابتسامة خفيفة على شفتيه بعدما أدرك أن كل خيوط الحكاية قد بدأت تتجمع لديها:
ــ كان طموح أدهم كبيرا جداً...، حيث أنشأ مختبراً علميا خاصا بفريقه، مجهزا بأحدث الأجهزة الطبية، وآلات البحث العلمي المخبرية، التي من شأنها مساعدتهم في التقدم السريع في أبحاثهم العلمية والحفاظ على سريتها، وهو ما كلفه إنفاق ثروة هائلة على تجهيزات المختبر، إضافة إلى اقتراضه مبلغاً مالياً مهماً من أحد البنوك الألمانية لإتمام مشروعه الطموح، قبل أن يُحْجزَ على المختبر، ويُمنع عليه دخوله بقرار قضائي، بسبب توقف السيولة المادية بعد انسحاب أدهم من المشروع، وعجزه عن تسديد الديون المستحقة عليه.
تراجعت سارة في مقعدها قليلا وهي تفرك أصابع يدها وتقول بنبرة حاولت من خلالها تلطيف جو اللقاء وتهدئة أعصابه المتوترة:
ــ وماذا عن ندى...؟؟ ماذا حدث لها...؟
رفع عزام رأسه ينظر إلى سقف الورش الخشبي وهو يردد اسمها ببطء، ثم صمت برهة، قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة صغيرة وكأنه يستعيد ذكرياتها عندما كانت معهم في المنزل، ثم استطرد قائلا بصوت يملؤه الأسى والحزن:
ــ ندى...، ندى لم تكن أقل عناداً وكبرياءً من أدهم...
فبعدما علمت ما حصل له، وما تعرض له من مؤامرة وضغوطات كبيرة من أجل التخلي عن مبادئه وقيمه الإنسانية الصادقة، ورفضه الإستمرار في المشروع مع جهات بحثية مشبوهة مقابل المال فقط، إزدادت حباً له، وتعلقاً بشخصه...، وهي التي لم تره يوما في الحقيقة بعيونها، إلاَّ بما كانت ترسمه مخيلتها عنه، لصورة شاب عربي ذي أخلاق وقيم...، يحارب من أجل قضية عادلة...، ويعدها بإيجاد دواء ناجع لاستعادة بصرها. فقررت بدورها الانسحاب من قسم المتطوعين المرشحين للعلاج التابع للجامعة الألمانية.
وهكذا...، بات أدهم بدون عمل مثقلا بالديون، وأصبحت ندى من دون علاج وبدون أملٍ في الشفاء.
راحت سارة تتابع كلامه بحس مرهف وعينين ظللتهما سحابة حزن عميق قبل أن تقول:
ــ مؤلم جداً هذا الذي حصل...، ولكن هل استسلما للواقع المفروض عليهما عند هذه النقطة...؟
أشاح عزام بنظره عن وجهها لحظة وأخذ يمسد شعر لحيته البيضاء بيده قبل أن يجيبها:
ــ في البداية تألم أدهم كثيرا لما حل بندى بسببه، وعدم قدرته على الوفاء بوعوده لها، فعاش وقتاً عصيبا جداً، وألماً داخليا قاسياً، وذلك قبل أن تعطيه ندى دعما نفسيا قوياً، وتشجعه على البحث من جديد عن بدائل أخرى.
وبعد مدة من الزمن، قرر بحماس كبير وعزم مواجهة التحديات، وعدم الاستسلام للأمر الواقع، فاستعان ببعض زملائه المخلصين، في تهريب عينات مهمة من المستخلص الجيني "للطائر الخارق" خارج المختبر المحاصر، والممنوع عليه ولوجه، فأخذ في تطويره ومعالجته كيميائيا بإمكانيات جد متواضعة.
سألته سارة بحذر:
ــ لكن عفوا ياسيد عزام...، ماعلاقة كل ذلك بالتحولات الجينية لشاهين...؟
رد عليها وكأنه كان ينتظر سؤالها:
ــ بسبب افتقاده لمختبر بحثي متخصص في إجراء تلك الأنواع من التجارب العلمية الدقيقة وأجهزة متابعتها، أجبره عناده في حالة غضب وإحباط شديد، على إجراء التجربة على نفسه، فحقنها بمستخلص "الطائر الخارق"، للتأكد من عدم وجود أية مضاعفات أو تأثيرات جانبية عليه...، وبعد إجرائه لفحوصات بسيطة، تأكد من خلالها عدم وجود أية آثار جانبية على صحته، قام بحقن ندى بالمستخلص الجيني، رغم أنها كانت تلح عليه بشدة، وتصر على أن تكون هي أول من يحقن بمادة المستخلص قبله.
وقبل إصدار المحكمة الألمانية العليا حكمها القاضي بعدم جواز مغادرته للأراضي الألمانية، لحين تسديد الديون المستحقة عليه للمؤسسات الخاصة، أو تنفيذ حكم الاعتقال المعلق في حقه، بضمانة من إدارة الجامعة وبعض أساتذته السابقين الملتزمين برسالتهم الأخلاقية في العلم، تزوج ندى...، وقاما سويا بآخر زيارة لهما إلى المغرب، وقضيا معا أياماً جميلة رغم كل المشاكل المعلقة.
تسأله لينا هذه المرة في لهفة مابعدها لهفة:
ــ وهل استعادت ندى نظرها بعد حقنها بمستخلص "الطائر الخارق"...؟؟.
أجابها عزام على الفور بنبرة تحسر واضحة:
ــ كان من المفترض حسب الدراسات والأبحاث الأولية أن تقوم الخلايا الجينية المزروعة بإعادة إنتاج الخلايا المدمرة في العصب الحسي لعيونها، وبالتالي إعادة تنشيط المنطقة الحسية المسؤولة عن الرؤية في الدماغ، والمتوقفة جزئيا عن العمل بفعل قوة الاصطدام أثناء الانفجار المشؤوم.
وبعد إجراء فحوصات طبية بسيطة تبين فعلا نجاح المستخلص في إعادة تنشيط الجزء المتضرر من دماغها، وعودة النشاط الحسي لعصب العين.
غير أنها كانت بحاجة إلى عملية جراحية معقدة في أحد المستشفيات الألمانية من أجل ترميم طبقة رقيقة من غشاء العين الداخلي، وإعادته إلى موضعه السليم. فقررا العودة معاً إلى ألمانيا، لإجراء العملية مباشرة بعد إنجاب شاهين.
مالت سارة نحوه قليلا إلى الأمام قائلة بنبرة لا تخلو من إستعجال لمعرفة الجواب:
ــ وهل ظهرت أي تأثيرات جانبية على ندى في ولادة شاهين...؟؟
نظر إليها من تحت نظارتة بدقة قائلا:
ــ توقعت هذا السؤال...!!
ثم صمت قليلا قبل أن يردف:
ــ نعم....، لم تكن ولادته طبيعية على الإطلاق...، فقد تميزت فترة حملها بجملة من الاضطرابات النفسية والعصبية غير العادية بالنسبة للمرأة الحامل. فكانت ولادته عن طريق عملية قيصرية غريبة، بحيث وجد الجنين في كيس داخل بطن أمه، في ما يشبه قشرة بيضة صقر رخوة موصولة بحبل سري، مما أثار استغراب الطبيبة المولدة التي كانت إحدى أقاربنا في العائلة، وكادت تنسحب من العملية لشدة دهشتها وفزعها، لولا إصرار والده على تحمل المسؤولية الكاملة عن سلامة الأم وجنينها، حيث اضطرت إلى إستخراج الكيس بكامله أولا، وما أن صرمت الحبل السري عن أمه حتى بدأ شاهين يضرب برجليه ويديه جدار الكيس، ثم فتحت القشرة بسرعة، واستخرجت شاهين الذي كان كثيف الشعر، يكسوه ريش خفيف على ظهره وذراعيه. وأذكر أن والده أخبرني بعد ولادته، عن إمكانية حدوث بعض التغيرات الفزيولوجية والنفسية في صفاته وسلوكه مستقبلا.
غير أنه أكد لي، عدم قدرته على معرفة حدود تلك التطورات الجينية التي تبقى مرتبطة بمراحل نموه، ومدى مستوى الاندماج الخلوي بين جيناته البشرية وجينات "الطائر الخارق".
نظرت إليه سارة في اندهاش بالغ وهي تقول شاردة وكأنها تحدث نفسها:
ــ الرؤية الحادة...! الجناح...!! المخالب...!!
إذن كل ماحصل أثناء الرحلة كان حقيقيا، بسبب التحولات الجينية لشاهين...، وما حكت عنه لينا في جدار الجبل كان صحيحا أيضاً.
ثم نظرت إلى عزام برعب وهي تستطرد قائلة بقلق واضح:
ــ لكن ماهي حدود تلك التطورات والتحولات الجينية التي يمكن أن يبلغها شاهين حسب اعتقادك...؟
تبادل الإثنان نظرات حائرة متوترة وعميقة...، وعمَّ صمتٌ مطبقٌ أرجاء المكان...، صمتٌ رهيب...، ومخيف...، عنوانه الغموض...،
وكل الغموض...
*****













الصقر شاهين
هناك على الجانب الآخر من القرية، في عمق سلسلة جبال الأطلس الكبير، حيث تقطن عمة شاهين في قرية القواسم، بمحاذاة شلالات أوزود الشهيرة ومياهها العذبة المتدفقة من قمم الجبال، كان شاهين من حيث لايدري بحوارهم، يجيب على معظم تلك الأسئلة العالقة، حول مستوى التحول الفيزيولوجي الذي يمكن أن يصل إليه، نتيجة الاندماج الكلي لمورثاته البشرية مع مورثات مستخلص سباع الطير.
تسلق شاهين الصخور بجانب الشلال إلى منتصف الجرف الصخري، البالغ ارتفاعه أزيد من ثلاتين مترا، وهو المكان الذي يشتهر بين أوساط محترفي الغطس الحر، كأحد أعلى نقاط القفز نحو المياه في البلاد.
ووقف على حافته ينظر إلى السماء، ويجوب بعينيه حول قمم الجبال المحيطة، ثم قفز نحو المياه بشكل أفقي وهو يعدل من جسده تدريجيا ليصبح بشكل عمودي. إستمر في السقوط بسرعة عالية وتركيز كبير وهو يتفحص بعينيه التغييرات التي يمكن أن تحدث له قبل ملامسة سطح البحيرة.
وفجأة...، أحس شاهين بآلام قوية في أعلى كتفيه...، ازدادت الآلام حدة وهو يشعر كأن سهماً يخترق ظهره ويشقه الى شطرين، فحاول جاهدا أن يستدير برأسه قليلا ليتفحص مايحدث له، فصدم لما رأى...، وفتح فاه عن آخره في ذهول...، وهو يلاحظ بروز ريش قوي على ظهره يخرج سريعا ويشكل جناحين يتضاعف حجمهما بشكل تلقائي مثير...
صُدمَ شاهين لذلك المشهد الغريب، وفقد معه تركيزه القوي في عملية القفز، وهي نفس اللحظة التي كان فيها جسمه قد بلغ سطح المياه، فغطس في عمقها...، وهو يلاحظ اختفاء الجناحين بشكل تدريجي.
ثم خرج من البحيرة، وجلس على جانبها وهو يضم رجليه أمام صدره بذراعيه، غير مصدق لما حدث، فلبث على ذلك الحال برهة من الزمن، قبل أن يقرر الصعود مجددا، في محاولة للقفز من مكان أكثر ارتفاعا من منصة القفز الأولى، وذلك من أجل ربح ثوان أخرى أو بعض أجزائها في عملية السقوط، لإفساح المجال الكامل للريش، لإتمام عملية التحول إلى جناحين.
صعد من جديد، ثم قفز نحو أسفل الشلال أكثر عزما على إنجاح المحاولة. وقبل ثوان قليلة من الاصطدام بمياه الشلال الهادئة، بدأ ريش قوي يشق ظهره بسرعة فائقة وقد خفت حدة الآلام هذه المرة، حتى اكتمل الجناحان في البروز بشكل كلي. وشعر شاهين باهتزاز خفيف في جسمه بفعل حركة الجناحين واحتكاكهما بالهواء، وهي نفس اللحظة التي بلغ فيها سطح البحيرة، وغطس في عمق مياهها الصافية مضموم الجناحين إلى جسده بشكل غريزي، ثم أخذ ينظر إليهما تحت الماء في ذهول بالغ...، ويتفحصهما بإندهاش مثير، وقد أصبحا على هيئة أجنحة الصقور الجارحة مكتملة النمو.
طلع شاهين من عمق مياه الشلال مبلل التياب، وأخذ نفسا عميقا من الأكسجين، ثم حاول الوصول سباحة إلى ضفة البحيرة التي تشكلت عبر السنين بفعل حث الصخور وسقوط مياه الشلال من الأعلى. فجلس على اليابسة وهو يلهث من شدة المجهود البدني والذهني الذي قام به، ثم ألقى ظهره فوق العشب الأخضر على قارعة البحيرة، وقد تمزق قميصه من دبرٍ بعد أن اختفى الجناحان بشكل كلي، فأغمض عينيه برهة...، واستغرق في تفكير عميق، وهو يحاول إسترجاع أنفاسه...، والسيطرة على أفكاره وأحاسيسه الغريبة.
وماكاد يفتح عينيه من جديد، حتى وجد يداً ممدوة إليه، تحاول مساعدته على النهوض...، فتوقف عن الحركة وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فاعتمد على تلك القبضة القوية الممدودة إليه لينهض واقفا أمامه، ويعانق صاحبها الذي ضمه إلى صدره بقوة.
وأجهش ببكاء حار...، حار جداً... ، وهو يصيح بصوت مختنق:
ــ جدي...، جدي...
في تلك اللحظة...، أدرك جده أن الوقت المناسب قد حان ليخبره بقصة والديه كاملة وصراعهما الطويل من أجل قيمهما ومبادئهما، وعن أسرار التحول في شكله وظهور الجناحين، من أجل مساعدته في توجيه قدراته الخارقة والسيطرة عليها وحسن استخدامها. وهي نفس اللحظة التي قرر فيها عزام الشروع في تدريبه على تقنيات الطيران، والتحليق والمناورة في الفضاء، والتعامل معه كصقر قوي من فصيلة الكواسر.
جلس الإثنان معاً على جانب البحيرة الهادئة، وحكى شاهين طويلا لجده ماكان يجول في ذهنه وأحاسيسه طوال هذه المدة التي قضاها بعد الرحلة المدرسية، وإدراكه بوجود أسرار لا يعلم منها شيئا، إلاَّ رغبته الجامحة في التحليق وقدرته على التحول إلى صقر جارح.
بعدها، أخذ جده يصارحه ويحكي له سبب إخفاء الأمر عليه طوال هذه السنين، بسبب عدم معرفة حدود التطور الذي يمكن أن يلحق به، وعدم رغبته في التأثير عليه قبل اكتشاف ذلك بنفسه، ومساعدته على تقبل الأمر بشكل تدريجي، بحيث لا يؤثر ذلك على نفسيته الصغيرة، أو يسبب له أية مشاكل في مسار دراسته، في حالة رفضه وتقبل وضعه الاستثنائي.
وقف الإثنان معاً، ووضع عزام يديه على كتفي شاهين برفق وهو ينظر في عينيه بحزم، قبل أن يعانقه بكل حبٍ ويطلب منه الصعود والقفز مجددا من أعلى قمة الشلال، على ارتفاع يزيد عن 120 متر، دون خوف...، أو تردد...، مشترطاً عليه التحرر من جميع القيود النفسية وحدود عقله البشري، والتركيز الجيد فقط على القدرة على الطيران...، والتفكير العميق أثناء السقوط الحر كصقر جارح يمكنه التحليق بكل عزم ويقين...، متى أراد...، وكيفما يريد...، وأنى يشاء.
اختفى شاهين لحظات بين الأشجار والأعشاب عبر فجاج الجبل...، ليظهر فجأة واقفاً وقد توسط الشلال في قمته عند نقطة انكسار المياه، متجرداً من جميع الأفكار والأحاسيس الآدمية المقيدة له.
في تلك اللحظة، بدا الأمر لجده كأن الزمن أبطأ في حركته، وتوقفت جميع الأصوات المحيطة بالمكان.
رفع شاهين رأسه إلى السماء في بطء، وهو يغمض عينيه بشكل تدريجي، وأخذ نفساً عميقا من النسيم العليل الذي بدا يداعب خصلات شعره على جبينه في قمة الشلال، ثم أفرد ذراعيه بشكل أفقي بتركيز شديد وهو يخفض نظره إلى سفح الجبل المقابل للشلال، فلبث جامدا

على ذلك الحال برهة...، ليطلق العنان لنفسه من دون أدنى ذرة خوف، ليهوي نحو أسفل الشلال بسرعة فائقة كقطرة الدمع، قبل أن يغلق عينيه وقد انعقد حاجباه، ويدخل في حالة تركيز شديد بالرغبة في التحليق...، ولاشىء غير التحليق...، كما تحلق الصقور.
فتح شاهين عينيه فجأة في منتصف المسافة، وقد إتسعت حدقتهما بشكل كبير، وهو يصدر عقعـقة الصقور الشهيرة، وقبل ملامسته المياه بأمتار قليلة...، اكتسى جسده بكامله بريش قوي، وكان في تلك اللحظة قد تحول إلى صقر جارح قوي القسمات بشكل كلي، ففرد جناحيه معدلا وضعهما العمودي إلى أفقي بشكل غريزي من أجل التحليق.
وطار محلقاً بالموازاة مع مياه البحيرة، وهو يلامس سطحها الراكد بمخالبه الحادة، مواصلا الارتفاع نحو قمم الجبال الشاهقة في كبد السماء...، بكل حرية وليونة وانسيابية مع تيارات الهواء...، فيما ظل جده مشدود الأنظار إليه، يراقب حركاته من الأسفل، دون أن يجد الكلمات المناسبة للتعبير عن ذلك، وعيونه تفيض بالدموع...، وتعبر عن كل ما يختلج نفسه...، من هول الحدث...، وروعة المشهد.
*****




صقر العرب
مع توالي الأيام والأسابيع، زاد شاهين من مستوى التمرينات الشاقة والتدريبات المكثفة، بتوجيهات ونصائح من مروضه عزام، فصار يتمتع بسرعة استجابة عضلية وعصبية خارقة، تمكنه من إجراء عملية التحول الكلي بسهولة بالغة، وفي وقت قياسي.
كما طور من قدراته الذهنية بشكل لافت ومثير، حيث اكتسب معها عقله ذكاءً يمكنه من التفوق على جميع الخطط الاستراتيجية الدفاعية منها والهجومية، واكتسب قدرات كبيرة في اكتشاف نقاط ضعف وقوة العدو بسرعة هائلة، وسرعة بالغة في الاستجابة والتعامل مع مختلف البيئات المناخية المحيطة به والتكيف معها، كما صار بإمكانه التحليق من الأرض كباقي الصقور بمجرد العدو بسرعة عالية لمسافة قصيرة، مع تركيز ذهني كبير برغبة في التحليق، كما أصبح بإمكانه التحكم في مستوى حجمه أثناء عملية التحول إلى صقر جارح دون تأتير ذلك على فاعليته ومرونته في التحليق والمناورة.
وفي أحد الأيام...، وقبل حلول الذكرى السنوية التي تحتفل بها البلاد بيوم الكواسر في قرية العم عزام، انتظر شاهين حلول المساء، لحين انتهاء جده من عمله داخل ورشه الصغير، فجلسا الى الطاولة الخشبية العتيقة لتناول طعام العشاء، ثم بدأ شاهين يختلس النظر إلى جده بين الفينة والأخرى، وهو يحرك ملعقته بشكل دائري بطيء في صحن طعامه الخاص.
بعينين فاحصتين خبيرتين، انتبه جده لوجود أمر يرغب شاهين في التحدث فيه ومناقشته، فبادره بابتسامة ماكرة وسؤال مخادع ليفسح له مجال الحديث ويزيل الحرج البادي على ملامحه وهو يقول بمكر:
ــ يبدو أن حساء الخضراوات لهذا اليوم لا يروق الصقر الصغير.؟
نظر إليه شاهين وهو يبتسم في خجل واضح على وجنتيه، قبل أن يطأطئ رأسه وقد أدرك ذكاء جده من وراء سؤاله، فأجابه مغمغما ومتلعتماً في الكلام:
ــ لا...، نعم...، لا لا... أبدا ياجدي...، الطعام لذيذ جداً.
رمقه جده بنظرة متفحصة أخرى من تحت نظارته وقد ارتفع حاجباه الكثيفان في مكر وهو مايزال يحافظ على نفس ابتسامته قائلا:
ــ إذن...، مالي أراك شارد الذهن...؟
صمت شاهين لحظات، بدا وكأن صراعاً عنيفاً يعتمل في نفسه، قبل أن يضع ملعقته على الصحن وهو يقول بنبرته المترددة الخجولة:
ــ جدي...، لقد اقترب الموسم السنوي للاحتفال بيوم الكواسر.
رفع عزام ملعقة الحساء إلى فمه، وارتشف جميع محتواها في هدوء، قبل أن يرد عليه بذكاء:
ــ نعم...، أعلم ذلك يا بني...، وسآخذك في جولة إلى هناك يوم الاحتفال إن كنت ترغب في ذلك.
بدا شاهين هذه المرة أكثر جدية في الكلام وهو يسأله:
ــ جدي...، هل تسمح لي بسؤالك...؟
ــ بكل تأكيد...
تفضل يابني...، وقل ماشئت...
حافظ شاهين على نفس نبرته الصوتية الجادة وأردف:
ــ لماذا تركت ترويض الصقور...؟ وتخليت عن المشاركة في مسابقات الصيد بالصقور التي كنت تسيطرعلى ألقابها لسنين طويلة...؟!!
صمت جده برهة من الزمن مثبتا نظره على الصحن أمامه، حاول من خلالها الوصول الى مايهدف إليه حفيده من وراء سؤاله، حتى ظن معها أن جده ربما لا يريد الحديث في الموضوع.
ثم حرك عزام يديه ووضع ملعقته على الصحن، وضم يديه إلى بعضهما، وأسند عليهما ذقنه، وأجابه بهدوء:
ــ أخبرتك سابقا بما حدث لوالديك في ألمانيا...، وما تعرضا له من ضغوط واستفزازات من جهات بحثية مجهولة، ومشاكل كبيرة كادت تؤدي بوالدك إلى غياهب السجون.
رفع شاهين نظره في اهتمام وهو يومئ بالإيجاب:
ــ نعم...، لقد ذكرت لي ذلك ياجدي...
تناول عزام منديلا من علبة المناديل الموضوعة وسط الطاولة، ومسح به فمه واستطرد:
ــ بعد عودة والداك إلى ألمانيا، أصدرت المحكمة الألمانية حكمها القاضي بعدم السماح له بالسفر خارج ترابها، لحين تسديد ماعليه من ديون ضخمة.
نزل علينا هذا الخبر أنا وجدتك ــ رحمها الله ــ كالصاعقة...، فلم تتحمل المسكينة خبر غياب ابنها، وعدم التمكن من رؤيته...، فأصيبت بأزمة قلبية مفاجئة حادة، أدت إلى وفاتها نتيجة حزنها الشديد عليه.
تناول عزام منذيلا آخر ومسح به من تحت نظارته دمعتان انسابتا من معقلهما على خديه، وأردف بنبرة يملؤها الحزن الممزوج بالشوق والحنين لزوجته والأسى على ما أصابها:
ــ كانت تحبه حباً كبيرا...، وتخشى عليه من النسيم العليل أن يصيبه بسوء.
صمت وهو يأخذ نفسا عميقا من الهواء، واستجمع قواه مسترسلا:
ــ تألمْتُ كثيرا على فراقها...، وزدتُ حزنا على والدك الذي لم يكن بوسعي مساعدته. فدخلت بدوري في حالة إحباط شديد، وألم عميق من أجلهما، وشعرت بكآبة خرساء تقطع أوصال قلبي وتزج بي في أتون عزلة كاسحة، فلم أستطع بعدها النظر إلى الصقور التي اعتبرتها جزءًا من مأساتنا، أو هكذا اعتقدت حينها...، وعليه تخليت عن المشاركة في جميع أنواع السباقات والاحتفالات، وأفرجت عن جميع الصقور والنسور التي كنت أملكها في البرية، بعيدا عن أيادي البشر التي تعبث بالطبيعة، وتسيء إلى تلك الأصناف من الحيوانات العاشقة للحرية.
نظر إليه شاهين نظرة حزن عميقة وقد اغرورقت عيناه بالدموع، قبل أن يستعيد رباطة جأشه من جديد، قائلا بنبرة تحدي واضحة انعكست على ملامح وجهه:
ــ جدي...، لديَّ رجاء منك..!! ولا أدري إن كنت مستعداً لقبوله وموافقتي عليه...؟؟
أزال عزام نظارته هذه المرة، وأخذ يمسح زجاجها بعناية، وهو يحاول احتواء مشاعره الجياشة قبل أن يرد بصوت مختنق مكلوم:
ــ تفضل يابني…، قل ماتريد …، وسأنظر في الأمر، إن كان ممكنا تحقيقه لك…
شبك شاهين أصابع يده فوق الطاولة، ومال نحو جده إلى الأمام قليلا وهو يقول بحسم تملؤه نبرة التحدي وقد انعقد حاجباه بشدة:
ــ أريدك أن تعود هذه السنة إلى المشاركة في درع البطولة العربية للصيد بالصقور…، أريدك ياجدي أن تستعيد أمجادك وتاريخك ومكانتك بين القبائل والبلدان العربية.
صمت لحظة تأكد فيها من أن جده قد بدأ يستوعب الأمر، ثم رفع نظره إليه مع ذلك البريق الغريب الذي بدا يتطاير من عينيه، قبل أن يسترسل قائلا بحسم لم يعهد عليه في الحديث من قبل:
ــ سأكون أنا صقرك الذي ستشارك به في جميع المسابقات.
عقدت المفاجأة لسان جده عزام، فتراجع في مقعده في ذهول، وتسمر في مكانه دون أن ينبس ببنت شفة، واكتفى بتوجيه نظراته الثاقبة الحادة صوب شاهين الذي بادله بنظرات مثلها، وكأنهما دخلا في حوار صامت...، يقرأ من خلاله كل واحد منهما أفكار الآخر...
حوار عنوانه "التحدي" و"الصمود".
لبثا على ذلك الحال برهة من الزمن، لم ينطق أي طرف منهما بحرف واحد. فاستغرق عزام في تفكير عميق وتحليل سريع للموقف الحرج الذي وقع فيه، وقد أدرك أن قرار الموافقة، يعني دخول شاهين لخوض هذه المخاطرة الكبرى كصقر جارح في قتال أقوى وأشرس الكواسر على مستوى الوطن العربي.
كما أدرك من خلال تحليلاته السريعة لجميع الاحتمالاته، إمكانية عدم تقبل شاهين لقرار رفضه المشاركة، بسبب الشرر الذي بدا له يتطاير من عينيه، وعناده الموروث عن والديه، وهو مايعني دخوله لخوض غمار المسابقة منفرداً بدون دعم، أو مساندة، أو توجيه من أحد، مع ما ينطوي عليه هذا الاحتمال من مخاطر غير محسوبة العواقب والنتائج، في عالم الكواسر الذي لا يدرك شاهين الكثير من أسراره.
أخذ عزام يتفرس ملامح حفيده لحظات بنظرات جامدة، دون أن يطرف له جفن.
وفجأة..، إنبسط حاجباه وهو يومئ له برأسه إيجاباً، قبل أن يغمز له بعينه اليمنى في مكر وهو يقول:
ــ إذن علينا القيام بمزيد من التدريبات والمناورات الشاقة...، وعليك تعلم المزيد من التقنيات القتالية في الجو، والتعرف على خصائص مختلف الصقور المقاتلة الشرسة.
وثب شاهين من مقعده المقابل لمقعد جده فرحاً لموافقته على إقتراحه المبطن بقرار، فإتجه نحوه مسرعا في مكان جلوسه من الطاولة، وهو يشكره على قبول الفكرة ويعانقه بشدة، مبدياً في الآن نفسه رغبته وعزمه القيام بمزيد من التدريبات والمناورات القتالية.
وقد تحفزت كل ذرة في كيانه...، وبشدة لامثيل لها.
*****
حَلَّ يوم الاحتفال الموعود، وتشكلت حلقات متعددة لمسابقات الشعر العربي الفصيح التي تتقدم مسابقات الصقور، والتف حولها الأطفال والشباب للاستماع وتشجيع المتبارين، كجزءٍ أصيل من تراثهم وثقافتهم العربية العريقة، كما نصبت الخيام بمختلف الأحجام والأشكال، وحضرت وسائل الإعلامِ المحلية والوطنية والدولية لنقل الحدث، ورُفعت أعلامُ الدول المشاركة في مختلف المسابقات، وانطلق المهرجان باستعراضات رائعة لفرق متخصصة في الفروسية، كتعبير عن الترحيب بالمشاركين والزوار.
احتشدت الجماهير حول مساحة أرض منبسطة شاسعة، تراقب الصقور بمختلف ألوانها وأشكالها، والصقارين بمختلف جنسياتهم وأعراقهم، والخيل المسومة والخيالين لافتتاح المهرجان بجولات من فانتازيا التبوريدة الذي تشتهر بها هذه المنطقة، كجزء من تراثها العريق، لإبراز قوة الخيول الأصيلة، وكفاءة الفارس العربي في امتطاء صهوة الجواد، والمناورة بالسلاح في الهواء أثناء سباق الخيل.
وبعدها...، دقت ساعة الصفر، ولحظة المعركة بين الصقور، حيث اصطف الصقارون على جيادهم في مجموعات متتالية، تتكون كل واحدة منها من خمسة صقور مدربة محمولة على الأذرع والأكتاف.
وتقتضي شروط المسابقة الأولى في الصيد بالصقور، العدو بالفرس لمسافة محددة إلى حدود نقطة معينة، تعتبر بمثابة الإشارة لاطلاق الصقور في الجو من أجل الانقضاض على الفريسة التي تطلق من طرف الحكام من مكان بعيد، حيث يتأهل صقران إلى التصفيات الموالية عن كل مجموعة بعد محاولتين متتابعتين.
ويعتبر الصقر الذي يستطيع الحصول على الطريدة، وإحضارها إلى مدربه قبل الآخرين، والمناورة بها في الجو لحمايتها من هجمات الصقور الأخرى التي تحاول اختطافها منه، هو المتأهل إلى أدوار التصفيات الأولية والتأهيلية، وصولا إلى الشوط النهائي الفاصل لتحديد الفائز من بين أقوى وأجود الصقور المتصارعة.
كما تم استحداث مسابقة جديدة قبل سنوات قليلة، لأسرع الصقور على وجه الأرض، وهي المسابقة الثانية التي تعرف مشاركة دولية مكثفة لمشاهير الصقارين عبر أرجاء المعمور، حيث تنطلق طائرة شراعية إلكترونية متوسطة الحجم، في مناورات في الجو موجهة عن بعد من طرف لجنة التحكيم، ويتم ربط ذيلها بحبل لايتجاوز طوله ثلاثة أمتار، حيث تعلق على نهايته فريسة وهمية من أجل إثارة الصقور وتحفيزها على اللحاق بالفريسة وإمساكها، ثم العودة بها إلى الصقار. ويتم احتساب نقاط هذه المسابقة الجميلة، بناء على ماسجلته أجهزة الرادار اللاسلكي لسرعة الصقرأثناء تحليقه، حيث تعرض أرقامها بشكل مباشر على الشاشة الإلكترونية المعلقة أمام أعين المراقبين والجمهور.
وقبل انطلاق جولات الصيد بالصقور بقليل، ظهر شيخ كبير يتمنطق بعدة المهرجان، ويرتدي زيَّ المسابقة التقليدي، وهو يمتطي صهوة جوادٍ عربي أصيل، يشق به صفوف الحاضرين، وتنفسح له مجالس الناظرين، ويحمل على كتفه صقراً قوياً، ممشوق القِوام، جميل المنظر، مثيراً للإعجاب.
بدأ بعض الحاضرين يدققون النظر في ملامح الرجل جيداً وهو يقترب من جموعهم شيئاً فشيئاً، للتأكد من هويتة ومايعتقدون أنهم يشاهدونه حقاً أمامهم.
وفجأة...، تعالت صيحات أهل قرية الكواسر والقرى المجاورة بالهتاف والتهليل، لصدق النبأ العظيم، فرحا بعودة العم عزام، صاحب الخبرة الطويلة والتجربة العريقة إلى مدمار السباق، والمشاركة في مثل هذه المسابقات التراثية التي غابت عنهم ألقابها منذ اعتزاله تربية وترويض الصقور قبل سنين.
في حين امتزجت فرحة بعض أهل القرية بالاستغرب الشديد، من ظهوره مع صقر تبدو عليه كل علامات القوة والتأهب لخوض المسابقة، وهو الذي لم يشاهده أحد يربي أو يروض الصقور منذ أمد طويل.
فيما تهامس بعض قدماء الصقارين فيما بينهم، وأبدوا شكوكهم حول قدرة عزام على مقارعة التحديات المستحدثة في هذه الرياضة الشعبية، وخطورة مجابهة أقوى الصقارين المحترفين الجدد، بسبب طول مدة غيابه عن حلبة الصراع والمشاركات، وتقدمه الكبير في السن، وافتقاده بالتالي إلى مقومات النجاح الضرورية والمرونة اللازمة لتحقيق نتيجة مشرفة على أقل تقدير.
في تلك الأثناء، كان الصقر شاهين يقبض بمخالبه على كتف جده بلطف، وبفضل حدة سمعه وإدراكه لما يقال من كلام البشر، كان يستمع إلى كل تلك الإرتسامات والهمسات، ويقوم بتحليلها بسرعة فائقة، من أجل استنباط نقاط ضعفهما وقوتهما، لتجنيب جده مخاطر المسابقة في مراحل معينة من جولاتها، فصار يجوب بنظره بين حشود الجماهير وصفوف المشاركين، وبين أنواع الصقور ووجوه الصقارين.
اتَّخذ عزام وصقره موقعهما في آخر مجموعة بين المتسابقين، وأعطِيتْ إشارة الانطلاق لأول المجموعات عند نقطة البداية. فتسابقت الخيول على الأرض، وتصارعت الصقور في الجو على الفريسة بقوة وشراسة بالغة.
تبادل شاهين مع جده نظرات جانبية، أعلن كل واحد منهما خلالها استعداده للانطلاق، مع ضرورة توخي الانتباه والحذر الشديد.
تقدمت المجموعات المتسابقة الواحدة تلو الأخرى، إلى أن بلغ الدور مجموعة الثنائي عزام وشاهين، فأعطى الحكم إشارة البدء، وانطلق الجميع مخلفين من وراء حوافر الخيول سحابة من الغبار، فتسابقت الخيول فيما بينها لبلوغ نقطة انطلاق الصقور، ثم انطلقت مجموعة الصقور كالسهام تصدر عقعقات حادة نحو الهدف الذي بدا تائها في السماء، محاولا الإفلات بجلده من بين مخالب الصقور المتأهبة.
وبضربة قاتلة من أحد الصقور الشامية الخمسة، الملقب "بأسد"، أردى الحمامة البرية صريعة، وقد شقَّ صدرها بمخالبه الحادة كالسيف، فتدلت أحشائها تحت نظر الصقر شاهين الذي بدا مصدوماً من بشاعة المشهد وشراسة الصقر الشامي.
عاد شاهين ليأخذ مكانه على كتف جده عند خط الانطلاق، وهو يعيد تقييم الوضع ويدرس بعض الخطط التي من شأنها مساعدته في تحقيق نتيجة إيجابية بعد فشله في محاولته الأولى في بلوغ الهدف.
اصطف المتسابقون الأربعة من جديد على خط البداية، في محاولتهم الثانية والأخيرة للتأهل إلى المرحلة الثانية من التصفيات التأهيلية إلى الدور النهائي الفاصل في حسم اللقب. فأعطيت إشارة الانطلاقة، وتسابقت الخيول لبلوغ نقطة انطلاق الصقور التي بدت هذه المرة أكثر عزما من محاولتها الأولى.
اتسعت حدقات الصقر شاهين في شدة، وبدا أكثر حزما وهو ينطلق كالرصاصة يشق عنان السماء بجناحيه اللذين ما إن بلغا الهدف حتى طوقا الطريدة بخفة وليونة، وهوى بها نحو الأرض قبل أن تبلغه باقي الصقور، مفسحا المجال لنفسه ليعدل من وضعه الخطر، فأحكم إمساكها برفق، بمخالبه التي أحاطت بجسم الحمامة من الخارج، دون أن يتسبب لها في أي نوع من الجروح أو الكسور كما جرت العادة في هذه المسابقة الشرسة.
أحضر الصقر شاهين الهدف سالماً إلى جده، الذي سلمه بدوره إلى لجنة التحكيم والتقييم، وسط استغراب بعض أعضائها واندهاشهم من سلامتها وحمايتها من طرف صقره.
ابتسم جده وهو ينظر إليه على ساعده، ويمسح على رأسه بحنان، ويفرك جناحيه في دلال وكأنه يحدثه ويقول له:
"لقد فعلتها يا شاهين".


انطلقت المرحلة الثانية من التصفيات التأهيلية، ونجح الصقر شاهين مع جده مرة أخرى في التأهل إلى الدور النهائي الحاسم بكل سهولة بعدما تمكن من الإمساك بالحمامة كما فعل في المرحلة الأولى، وإعادتها سالمة إلى عزام، وسط تصفيق وتهليل الجماهير المحتشدة على جانبي الحلبة، ووسط هتاف أهل القرية باسم جده وباسم قبيلة الكواسر التي عاد شعارها ليرفرف من جديد في سماء البلاد.
في نهائي المسابقة الأولى الخاصة للصيد بالصقور، كان قد تأهل سبعة صقارين محترفين مع أشد الصقور شراسة وضراوة في الفتك بالطرائد، حيث ستجرى في هذا النهائي محاولة وحيدة للتتويج بلقب "صقر العرب".
فتآمر عليه المتآمرون بغياً من عندهم، ومكروا له مكرا تقشعر له الأبدان وتفيض له العيون. باعتباره أحد أقوى الصقور المرشحة للفوز بالمسابقة، حيث دس الصقار الفارسي لحصانه ــ على حين غرة من عزام ــ عشباً مشبعاً بمادة مخدرة، تبطئ الحركة...، وتضعف من نشاطه العصبي...، وتحدُ من همة الفرس مهما بلغت قوته وقدرته على التحمل. فيما دس له أحد الصقارين الخليجيين دبوسا مسنناً تحت سرج حصانه المزركش.
اصطف المتسابقون على خط البداية، ودخلت الخيول في سباقها المحموم لبلوغ الإشارة الأولى، مخلفة وراءها سحابة كثيفة من الغبار، وارتجت الأرض تحت وقر قوة حوافر الخيل.
غير أن حصان العم عزام، بدا هذه المرة منهك القوى، متأخراً عن بقية المجموعة بعد تعثره واختلال توازنه بسبب تأتير المخدر عليه.
صارع الجد لإحكام السيطرة على لجام حصانه، محاولاً تحفيزه على الإسراع للحاق بركب الجياد، لكن...، وقبل أن يبلغ نصف مسافة السباق، بدأ حصان العم عزام يُصدر صَهيلاً قوياً هزَّ أرجاء المكان، وأخذ يرفع رجليه الأماميتان في الهواء من شدة الألم ووخز الدبوس على صهوته، فترنح للحظات كالتائه وسط الحلبة...، ثم خرَّ على الأرض ...، وسقط من فوقه الشيخ الكبير دون حراك، فتوقفت أنفاس المراقبين، وارتفعت صيحات الهلع بين أهل القرية والمشجعين.
قفز شاهين محلقا في السماء قبل أن يصطدم جسد جده بالأرضية الترابية التي خففت من حدة الإرتطام. وبدأ يدور فوق رأسه هو يصدر عقعقة قوية وكأنه يطلب منه النهوض ليطمئن على حاله. وماهي إلا لحظات حتى بدا العم عزام يتحامل على نفسه ليقف على قدميه وقد بدت بعض الخدوش على وجهه، ثم رفع سبابته في الهواء يشير إلى الطريدة، يشحذ همة شاهين ويحثه على اللحاق ببقية المجموعة، التي ما إن بلغت جيادهم الخط المخصص لانطلاق الصقور، حتى انتفضت وأفردت أجنحتها وانطلقت كالسهام صوب الهدف.
أدرك الصقر شاهين حينها، أن مسؤولية تذليل الفارق الكبير باتت ملقاة على كاهله وحده. فانطلق كالسهم الخارق، وصار يشق الريح والسماء بسرعة لا نظير لها، محاولاً الوصول إلى الفريسة الهاربة واحتوائها قبل تمزيق جسدها في الجو بمخالب باقي الصقور الفتاكة.
وبسنتميترات معدودة عن مخالب الصقر الفارسي ، الملقب "بسيف" الذي أوشك أن يقطع أوصال الحمامة البرية ويشق صدرها الى قسمين، تمكن الصقر شاهين من بلوغ الهدف في الوقت المناسب، واحتواء الحمامة بين جناحيه بمرونة بالغة.
لكن مخالب الصقر الفارسي المدرب على الفتك بجميع الطرائد مهما كان شكلها أو حجمها، وإن اخطأت هدفها المنشود، فهي لم تخطئ جسد الصقر شاهين ، فأصيب بجرح عميق مزدوج على ظهره، وهو يصدر عقعقة قوية هزت أرجاء المكان...
ويطير مناوراً بطريدته في السماء.
غير أن باقي الصقور الجارحة هذه المرة، أبت تقبل هزيمتها والإستسلام لمناوراته، فصارت تطارده في جميع الاتجاهات، وهي تحاول اختطاف الحمامة منه بمخالبها الفتاكة، فصار الصقر شاهين يُعرض ظهره وجناحيه لضربات قوية متتالية من مخالب الصقور الأخرى مضرجا بالدماء، من أجل حماية الحمامة البرية من الأذى، والحفاظ على سلامتها.
وفيما ظلت الجماهير ترقب مايحدث بغرابة شديدة، وعيونها تفيض بالدمع ألماً على هذا الصقر المسكين ذو القلب الرحيم، ظلت فيه أنظار المتابعين والصقارين مشدودة باهتمام بالغ إلى هذا المشهد الاستثنائي العجيب في تاريخ مسابقة الصيد بالصقور، إلى أن حط بها شاهين سالمة بين يدي جده عزام.
وبصورة عفوية وتعبيرية عن ماحدث، أطلقت عليه وسائل الإعلام في تعليقاتها وعناوينها من حيث لاتدري لقب ،" الصقر الإنسان". وانطلقت من حولهما حناجر الجمهور وأهل القرية مستعرة بالهتاف والتهليل.
وهكذا، تمكن شاهين وجده من استعادة درع البطولة، ولقب" صقر العرب" في هذا الصنف من مسابقات المهرجان.

*****
دخل شاهين مع جده بعدها مباشرة إلى إحدى الخيام المخصصة لراحة الصقور والصقارين بعد كل جولة، فأخذ ينظف له الجروح النازفة التي أصيب بها في نزاله الأخير. حيث طلب منه الاكتفاء بذلك والانسحاب من مسابقة السرعة، الخاصة بالصقور السبعة التي شاركت في الدور النهائي لمسابقة الصيد بالصقور، إضافةً الى مجموعة أخرى منتقاة في اختبارات سابقة من خيرة الصقور عبر العالم، وذلك خوفا عليه من مكروه قد يصيبه بسبب جروحه، بعدما استنزف كل مجهوده وطاقته للفوز باللقب الأول.
كان شاهين مايزال على هيئة الصقر حينها، فماكاد جده ينتهي من كلامه، حتى بدأ في إصدار عقعقة قوية متكررة، وينتفض بشدة ويضرب بجناحيه على جسده بغضب فوق الغصن الذي يقف عليه.
أدرك عزام حينها رفضه المطلق للمقترح، وعزمه الدخول في المسابقة التالية لأسرع الجوارح على وجه الأرض، وقبل أن يسترسل في محاولة ثنيه عن المشاركة في هذه المسابقة الخطرة، سمع صوت يناديه بلكنة أجنبية من خارج الخيمة باسمه ويدلف إليها وهو يقول:
ــ مرحبا مسترعزام، هنيئاً لك الفوز بلقب "صقر العرب".
ــ شكرا جزيلا.
تقدم نحوه شخص طويل القامة، ممشوق القوام، أشقر الشعر، كث الحاجبين مع شارب أشقر يكاد يغطي مجمل فمه وهو يمد يده ليصافحه ويقول:
ــ آآووه...، شرف لي أن أتعرف على شخص مثلك يا مستر عزام، أنا أدعى مايكل هانس، أشتغل كصحفي لدى إحدى الجرائد الألمانية، وأقوم حالياً بإعداد تقرير صحفي حول الصيد بالصقور في البلاد العربية، وقد أرشدوني إليك باعتبارك أحد أبرز الصقارين المشهورة في تربية الكواسر وترويضها.
رمقه عزام بنظرة متفحصة من تحت نظارته وهو يحول نظره نحو الرجل الواقف بجانبه، قبل أن يرسم هانس على وجهه ابتسامة صغيرة ويسترسل:
ــ آآه...عفوا مستر عزام، هذا صديقي أليكس، يشتغل كمراسل صحفي لصالح القناة الألمانية الثانية، هو لا يتحدث اللغة العربية مثلي، لكنه يعشق كل ما يمت بصلة إلى التقاليد والتراث العربي.
عاد عزام ليثبت نظره على هانس وهو يقول بحذر:
ــ مرحباً بكما في بلادنا.
اقترب أليكس مشدود الأنظار نحو مكان الصقر شاهين، وأخذ يتفرس ملامحه بذهول، ويتفحص أطرافه باندهاش وهو يتحدث بالألمانية:
ــ يا له من صقر غريب يا هانس، لم أرى في حياتي صقراً بهذا الشكل وبهذه المواصفات.
لاحظ هانس ريبة في نظرات عزام وانزعاجه من تصرفات أليكس، فمال نحوه قائلا بصوت كالهمس:
ــ يبدو أن صديقي قد فتن بجمال صقرك وقوته، هل هذه سلالة جديدة من الصقور المهجنة...؟
ــ لا...إنه صقر عربي أصيل.
ــ وهل لديك مجموعة كبيرة منها؟
ــ إنه الصقر الوحيد الذي أملك.
ــ لكن من المعروف عليك يا مستر عزام أنك كنت من أشهر الصقارين الذين يمتلكون مجموعات كبيرة ومختلفة من أنواع الكواسر.
صمت عزام لحظة قبل أن يجيب باقتضاب:
ــ كان ذلك منذ زمن.
ــ وماهي الأسباب التي جعلتك تتخلى عن تربية الكواسر وتعود إليها في هذه السنة؟
شعر عزام بضيق من طبيعة أسئلته الخاصة، البعيدة كل البعد عن أجواء المهرجان والمسابقة، فحاول إنهاء الحديث بأجوبته المقتضبة:
ــ أسباب خاصة.
ودون أن يترك له هانس فسحة للتفكير سأله قائلا:
ــ وهل هي نفس الأسباب العائلية التي جعلتك تعود إلى حلبة المنافسة اليوم؟
رمقه عزام هذه المرة بنظرات ريبة حادة وهو يسأله بحذر:
ــ ما الذي جعلك تقول أنها أسباب عائلية؟ أنا قلت لك فقط أنها أسباب خاصة...، قد تهمني وحدي...، وهذا لايعني أنها تتعلق بعائلتي...؟
شعر هانس بحرج عزام الواضح ونبرته المشككة، فعاد ليرسم ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يهرش شعره و يقول ممازحاً:
ــ عفواً... عفواً يا مستر عزام...، كان هذا مجرد تخمين فقط.
ثم حول نظره نحو صديقة الذي بدا يتابع حركات الصقر شاهين فوق غصن الشجرة بدقة متناهية. أدرك أليكس من نظرات هانس أن دوره قد حان ليدخل على خط الحديث، فاقترب من عزام وهو يلوح بيديه في الهواء بشكل بهلواني ويشير إلى هانس بترجمة مايقول...
أطلق هانس قهقهة كبيرة بعدما انتهى أليكس من كلامه، ثم نظر إلى عزام مبتسماً قائلا:
ــ يبدو أن صديقي قد وقعَ في حب صقرك يا مستر عزام، ويقول أنه يريد شراءه منك بالثمن الذي تحدده أنت.
رمقه عزام بنظرات غاضبة قبل أن يثبت نظره على زميله وهو يقول:
ــ لو كان حقاً يعرف تقاليد تربية الصقور والتراث العربي الأصيل كما يدعي...، لما ذكر مثل هذا الكلام.
مال هانس بمكر يهمس في أذنه وكأنه يسدي إليه معروفا ويكشف له سرا:
ــ إنه رجل ثري جداً...، ومجنون بحب سباع الطير...، وسيؤدي لك المبلغ الذي ستطلبه منه دون مساومة.
انتصب عزام يتفرس ملامح الرجلين بريبة بالغة وهو يقول:
ــ الصقار الحقيقي لا يبيع صقره بمال الدنيا.
ثم أخذ ينتقل بنظره بينهما ويسترسل بغضب واضح على محياه:
ــ ثم كيف تدعيان أنكما صحفيان، وانتما لا تحملان لا ورقة أو قلم لتدوين المعلومات، أو حتى آلة لتسجيل الحوار بيننا؟ إضافة إلى نمط أسئلتكما واهتمامتكما التي لا تمت بصلة إلى ميدان عملكما كما تدعيان.
أربك جوابه هانس، فتطلع إلى صديقه لحظة قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة احتلت معظم ملامحه وهو يغمغم:
ــ كم أنت دقيق الملاحظات يا مستر عزام، وهذا ليس غريباً على شخص مثلك، لكننا تركنا أغلب أغراضنا في السيارة، ونحـ...
إرتفع صوت حكم المسابقة عبر مكبر الصوت يدعو المشاركين إلى الإلتحاق بأماكنهم، فقطع على هانس مواصلة حديثه، فيما قفز شاهين من مكانه ليرسو فوق كتف جده الذي هم بمغادرة خيمته دون أن ينبس ببنت شفة معهما.
تبادل هانس وأليكس نظرات حائرة ماكرة بينهما، فخرجا من ورائه يتتبعان خطواته من بعيد وهو يتقدم نحو مربط فرسه، ثم توجها بعدها نحو سيارتهما الرياضية، التي ما إن دلف داخلها هانس حتى أخذ يزيل شاربه وحاجبه التنكري وهو يخاطب زميله قائلا:
ــ تباً لهذا العجوز العنيد...، أعتقد أنه فطن بتنكرنا.
ثم رمى أدوات تنكره في حقيبته الصغيرة واستطرد بغضب:
ــ قطعنا كل هذه المسافة دون أن نتوصل إلى أي معلومة مهمة تساعدنا في كشف السر الذي يخفيه...
رد عليه أليكس بانبهار بالغ:
ــ ما استطيع أن أؤكده لك كخبير في الطيور، هو أن ذلك الصقر ليس كمثل جميع الصقور التي عرفتها طوال مدة دراستي للأورنثولوجيا، أو خلال مرحلة عملي الميداني مع الكواسر في مختلف بقاع المعمور.
ثم مال نحوه قائلا بحذر:
ــ هانس... ألم تنتبه إلى تصرفات الصقر الغريبة...؟
ــ أيُ تصرفات؟
ــ من طبيعة الصقور المروضة على مثل هذه المنافسات أن تُعصَّب عيونها بعد كل جولة صيد من أجل تهدئة روعها، إضافة إلى أن الصقر طار ورسَّ فوق كتف عزام حينما همَّ بمغادرة الخيمة، دون أن يشير إليه بحركة معينة أو إشارة صوتية كما هو متعارف عليه في تربية الكواسر، كما ظل الصقر يتابع حوارنا وينتقل بنظره بيننا وكأنه يفهم كل ماكنا نتحدث به...
رمقه هانس بنظرة تدمر واضحة قائلا:
ــ لست أفهم ماترمي إليه...، أكتب لي تقريرا مفصلا عن جميع ملاحظاتك وارتساماتك، من أجل إرساله غداً إلى إدارة المنظمة.
رمقه أليكس بنظرة جانبية قائلا:
ــ أنتم رجال الإستخبارات تهتمون دائماً بأدق التفاصيل، حتى وإن كانت لاقيمة لها.
رد عليه هانس هذه المرة شارد الذهن:
ــ تلك التفاصيل التي تبدو لمثلك لاقيمة لها، قد تشكل في بعض الحالات الفيصل بين قرار الحرب والسلم، وأراهنك أننا قد مررنا في هذا اللقاء على ذكر بعض تلك التفاصيل التي من شأنها كشف سر عائلة " د. الصقار"...
ثم أضاف بمرارة:
ــ من يدري...؟ ربما أتينا على ذكره من حيث لاندري...؟ أو ربما كان سره بيننا.
قبل غروب الشمس بقليل، وقف جميع المتسابقين على خط مستقيم في انتظار انطلاق الطائرة الإلكترونية، والتريث حتى تأخذ مكانها على مستوى معين من الإرتفاع، حيث تعطى إشارة الانطلاق للسباق بين الصقور، والانقضاض على الهدف الوهمي المعلق في ذيل الطائرة.
انطلقت الطائرة الإلكترونية الخفيفة الوزن من أرضٍ منبسطة، تستعرض براعتها في التحليق والانزلاق والتمايل بانسيابية عالية في الهواء، عن طريق التحكم بها عن بعد من طرف رائدها، حيث أخذت الطائرة تزيد من سرعتها عند مستوى معين من الارتفاع، ثم أعطيت الاشارة إلى مجموعة الصقور التي انطلقت كالسهام بسرعة فائقة تحاول الإمساك بالهدف، فيما ظلت الطائرة الشراعية تزيد من سرعتها شيئاً فشيئاً، وتقوم بتغيير اتجاهاتها في مناورات احترافية بين الفينة والأخرى، من أجل خداع الصقور...، وإنهاكهم بسرعتها المتضاعفة تدريجيا.
وبعد دقائق من انطلاق المسابقة، وعلى علو مرتفع نسبياً، بدأت بعض الصقور في التخلي عن ملاحقة الطائرة والعودة أدراجها بخفي حنين، بعدما أُنهٍكت قواها واستنزفت طاقتها في عملية الملاحقة، في حين استمرت نخبة من الصقور الفارسية، والأوروبية، والأسيوية، والعربية، ومن بينها الصقر شاهين في مطاردة الهدف الذي بلغت سرعته 370 كيلو متر في الساعة، كما هو مسجل على شاشة القياس بالرادار.
ارتفعت حدة المنافسة عندما بدأ الصقر شاهين يتقدم باقي الصقور ويزيد من الفارق بينه وبينهم كلما زادت الطائرة من سرعتها، وهو يكاد يلامس الهدف ويحكم قبضته عليه.
وفجأة...، هيمنت في الأفق سحابة سوداء، واستحال النور إلى ظلمة عمياء، ونشأت أمام الطائرة زوبعة رملية هوجاء، تشكلت بسرعةٍ كبيرة بفعل قوة الرياح المعاكسة، محملة بذرات ترابية، وغبار منقولة من قشرة الأرض السطحية المفككة، فصارت تتجه نحو مجموعة الصقور التي انحرفت بسرعة عن مسار الطائرة في اتجاهات مختلفة، لتجنب الزوبعة الرملية الآخذة في التضخم في حجمها والزيادة من قوتها.
توجهت الطائرة مباشرة نحو الزوبعة الرملية، بعدما فقد موجهها على الأرض السيطرة عليها بفعل قوة الرياح التي أخذت في سحبها نحو مركزها وهي تزيد من سرعتها بشكل خارج عن السيطرة، لتصل سرعتها حينئذٍ الى 395 كيلومتر في الساعة.
وهي نفس اللحظة التي برز فيها الصقر شاهين لآخر مرة وقد أمسك الهدف الوهمي بين مخالبه...، لكن قوة الرياح العاصفة كانت في أوج حدتها، فسحبت معها الطائرة والصقر شاهين داخل بؤرتها الهوجاء...
واختفى الإثنان داخل الزوبعة الرملية الهائلة...، في عين العاصفة...، دون أن يظهر لهما أثر، وخفق قلب جده بشدة...، بشدة لامثيل لها...
حبس الجميع أنفاسهم في ذهول، وران على المكان صمت رهيب، توقفت معه جميع تعليقات الصحافة والمراقبين عن الكلام...، فيما بدا جده أكثر ذهولا وخوفا من الجميع على سلامته، وعيونه مشدودة إلى السماء ترقب كل حركة أو جديد. تستعرض في بريقها شبح الحيرة والندم...
وهو لايكاد يصدق ما حصل لحفيده أمام ناظريه.
وبدأ يأنب نفسه بشدة، ويلومها على السماح له بالمشاركة من جديد، ويحمل نفسه مسؤولية ما حدث...، كل ماحدث...، وبقسوة شديدة...، شديدة للغاية...
استمرت الزوبعة الرملية في دورانها بقوة وسرعة هائلة دقائق معدودة، مرت على الجد كسنين طويلة...، اعتقد الجميع حينها فقدان الطائرة والصقر، وتهامسوا باستحالة بقائه حياً في قلب العاصفة، أو خروجه سالما من هذه الزوبعة الرملية برياحها العاتية المحملة بأطنان من الرمال.
ودون سابق إنذار...، ظهر الصقر شاهين من بعيد يخترق الجانب الأيسر من الزوبعة الرملية في منتصفها بقوة شديدة، وهو يمسك بمخالبه الطائرة الإلكترونية التي تعطلت محركاتها عن العمل بفعل قوة احتكاك الرياح بمراوحها المتوسطة الحجم، فحلق بها في الهواء...، ثم تقدم بها من فوق الجموع ليضعها وسط ميدان السباق، وهو يرفع رأسه الى السماء ويصدر عقعقة قوية هزة أرجاء المكان من جديد.
وقف الجميع في أماكنهم في ذهول شديد، وانعقدت ألسن المشككين في قدرة الصقر شاهين وجده عزام، وارتفعت أصوات التصفيق والتهليل وزغاريد النساء في سماء المهرجان، وسط حيرة بالغة ودهشة كبيرة من الحكام والمنظمين، لتحقيق الصقر شاهين رقما قياسيا خرافياً في مسابقة السرعة، وقدرته على تحدي العاصفة والنجاة من هذه الزوبعة الرملية العاتية.
فنال بذلك اللقب الثاني في المسابقة، " كأسرع الكواسر على وجه الأرض"، وبكل جدارة واستحقاق، ولتنهال على جده التهنئات والتبريكات على مجهوداته المثالية والقيمة في تطوير هذه الرياضة النادرة، والحفاظ على هذا التراث العربي الأصيل من الانذثار والاهمال.
*****












قدرات خارقة والمهمة مستحيلة
بعد مرور ست سنوات، اشتد عود شاهين وصار شاباً يافعا قوي البنية ممشوق القوام، فأنهى دراسته الثانوية بدرجة امتياز، وأتقن معها عددا من اللغات الأجنبية، وطور من أساليبه في الكتابة باللغة العربية وباقي اللغات الحية، وتفوق في الرياضيات وعلوم الطبيعية التي كان يحب دراستها كثيرا.
كما تمكن من صقل مواهبه الخارقة، وتطوير قدراته العصبية والذهنية، بخوضه لنظام تدريب رياضي مجهدٍ وشاق في قمم الجبال وسهولها، في مختلف فصول السنة وتقلباتها المناخية. حيث تمكن بفعل التدريب على عملية التركيز العالي، من التحكم بمستويات التحول في شكله الخارجي بشكل جزئي متى أراد، فصار قادرا على التحول السريع الى "الرجل الصقر"، وهو يحتفظ بهيئته الأدمية مع جناحين قويين على ظهره، وريش كالسهام يغطي معظم أجزاء جسده، مع ريش قوي حادٍ كرؤوس الإبر في ظهره، يستخدمه للدفاع عن نفسه ليشل به حركة خصومه، بوخزهم في نقاط ضعيفة من اجسادهم، كما تمكن من تطوير قدراته في التحكم بمستوى بروز مخالب حادة وقوية كالفولاذ.
وفي أحد الأيام...، مرض جده عزام مرضاً شديداً، فحن لولده أدهم وزاد شوقه إليه، وخشي أن تباغته المنية قبل رؤيته ولو للحظات قليلة قبل وفاته، أو معرفة ماحل به أثناء فترة غيابه الطويلة. فدعا شاهين إليه، وأجلسه بجانبه على سرير المرض وهو يسند ظهره بوسادة تعدل من وضعه، ثم خاطبه بصوت ضعيف منهك:
ــ يابني...، أنت ترى أنني صرت عجوزا وأصبحت لا أقوى على القيام بالعديد من الأشغال والمهام من أجلك، وأنت اليوم شاب قوي يتتميز بعدة صفات خارقة، تدرك خصائصها أكثر من أي شخص آخر. وأنت تعلم يا شاهين أنه ليس لي في هذه الدنيا سواك أنت ووالدك وأمك، وقد أخبرتك سابقا قصة ولادتك، وما أصاب والدك من مكر وخديعة أدت العائلة ثمنها غالياً، واليوم لم يعد لي هدف في الحياة سوى تحقيق رغبة جدتك رحمها الله، في إنقاذ والدك من مكر تلك المنظمات البحثية المشبوهة، التي فرقت شمل عائلتنا.
ثم أخرج عزام رسالة من تحت وسادته التي يسند رأسه عليها بجهدٍ، وأدلى بها إليه مستطردا:
ــ هذه آخر رسالة وصلتني من والدك قبل خمس سنوات...، يذكر فيها أنهم اختطفوا والدتك ندى، من أجل الضغط عليه والعودة للعمل معهم، بعدما نجح والدك في تجارب بحثية سرية تمكن خلالها من تطوير لقاح طبي فعال لأمراض البصر المزمنة، ومعالجة بعض حالات العمى الكلي، كما استطاع إنتاج مضادات حيوية أخرى تمكن جسم الإنسان من تحمل درجات حرارة متدنية جداً وحرارة الصحراء الملتهبة دون أن يؤثر ذلك على أدائه العصبي ونشاطه الحيوي.
ولذلك فقد اختطفوا ندى كرهينة بين أيديهم، للحصول على نتائج أبحاثه التي كما ذكر في آخر جملة في الرسالة، أنه يراد لها أن تدخل في الاستعمال العسكري لفرق النخبة، من أجل تطوير قدرات الجنود في وحدات جيوش دول إستعمارية معروفة، بحيث تمكنهم تلك المضادات من القيام بالعمليات الهجومية الصعبة والخطرة في مختلف بلدان العالم، والفتك بالاخرين بأدنى الخسائر في صفوف وحداتهم العسكرية.
وضع عزام الرسالة بين يدي حفيده مغمغماً بصوت مختنق مبحوح:
ــ شاهين...، أعتقد أنه حان الوقت للذهاب والبحث عن والديك اللذين تركاك بعد ولادتك مجبرين، من أجل حمايتك من عصابات صناع الحروب والمتاجرين بمآسي الشعوب.
أمسك شاهين يد جده، وأسند رأسه الى صدره، والدموع تنهمر من مقلتيه، في ألم شديد وهو يقول بصوت حزين:
ــ لكن لماذا لم تخبرني باختطاف والدتي من قبل يا جدي...؟ لماذا انتظرت كل هذه المدة الطويلة لتخبرني...؟
رفع عزام جفونه المنهكة نحوه في ودٍ وأجابه مغمغما:
ــ خشيتُ عليك من الألم النفسي...، وكنت أنتظر الوقت المناسب يابني...
ولم أشأ التأثير على مسار تحصيلك الدراسي، وأنت وقتها لم تكن تستطع فعل أي شىء من أجلهما، فانتظرت حتى يشتد عودك، وتقوى بنيتك، وتزداد ثقتك في قدراتك، وتحسن إستخدامها في ما ينفعك وينفع الإنسانية لمواجهة الأخطار والمجرمين.
ثم ضم عزام يد شاهين بين يديه ووضعها على صدره، وأردف بنبرة حسم وتحذير:
ــ ستواجه الكثير من المصاعب يابني...
لكن...، كن شديد الحرص على أن لا تستخدم سلاحك السري إلاَّ عند الضرورة القصوى.
أخذ شاهين يتطلع في ملامح وجه جده المنهكة بكل شفقة، وقد ارتفع حاجباه في حزم وهو يرد على كلامه بصوت تملؤه نبرة التحدي:
ــ لاعليك يا جدي...، سأغادر غداً صباحاً للبحث عن والدي.
ثم رفع نظره قليلا نحو نافذة الغرفة يتطلع خارجها، وقد اتسعت حدقات عينيه بشكل لافت، والشرر يتطاير منهما، قبل أن يردف محافظاً على نفس نبرته السابقة:
ــ وأعدك بايجادهما وإحضارهما إلى هنا سالمين مهما كلفني ذلك من ثمن...، فقط...، تماسك...، وكن أكثر عزماً وقوة على تحمل المرض.
أخذ شاهين الرسالة التي تحتوي على آخر عنوان كان يقطنه والداه قبل اختفائهما، ودسها في جيبه، ثم خرج وطار محلقاً على هيئته فوق قمم الجبال في عنان السماء، قبل أن يجلس على حافة أحد الجبال الشاهقة، ويدخل في تفكير عميق وهو يحوم بعينيه حول المكان.
ثم وقف على قدمية وهو يفرد ذراعيه ويرفع رأسه إلى السماء، فلبث على ذلك الحال برهة من الزمن، قبل أن يسمح لجسده في السقوط الحر بشكل أفقي، وهو يعدله إلى وضعه الرأسي نحو الهاوية السحيقة.
على بعد أمتار من سطح الأرض، أغمض عينيه في تركيز كبير، فظهر له جناحان قويان في ظهره، وأخذا يرفرفان به مجددا في قلب السماء.
توجه محلقا فوق قمة الشلالات، ثم أخذ في النزول بموازاة مياهها المتدفقة من أعلى الجبل بسرعة فائقة، قبل أن يحلق ملامساً بمخالبه سطح مياه بحيرة الشلال، وهو يدور حول نفسه بزاوية 180 درجة، ويسمح لجسمه بالغطس رأسيا في أعماق مياه البحيرة الهادئة، التي شاركته في كشف أسراره وإبراز قدراته الخارقة.
في صباح اليوم التالي، استيقظ شاهين باكراً لأداء صلاة الفجر مع جده في المسجد القريب من منزلهما، ثُم عادا سوياً إلى البيت وتناولا فطورهما، أخذ جده في إعطائه بعض النصائح والتوجيهات الواجب اتخاذها في الرحلة وأثناء فترة إقامته في ألمانيا، وكيفية التعامل مع مختلف التحديات والأخطار التي يمكن أن تواجهه في مكان غريب عن بيئته الطبيعية العذراء، التي تعَوَّدَ عليها وتربى في أحضانها.
ثم تعانق الإثنان بحرارة...، وأبت دمعتان في مقلتي عزام إلاَّ أن تنسابا على وجنتيه ساخنتين وتسقطا على كتفي شاهين، وهو الذي لم يعتد غياب حفيده يوماً عن ناظريه منذ نعومة أظافره.
وفي لحظة كلمح البصر، وثب شاهين من مكانه...، وصار يوَدِّع جده بطريقته الخاصة في التحليق فوق المنزل، ويحوم حوله بشكل دائري، فيما لبث عزام يتابعه بنظره وهو يحلق بعيداً...، بعيداً جداً...، واختفي عن الأنظار بين قمم الجبال، في أفق السماء الزرقاء.
لم يدر حينها عزام لماذا انطلق صوت مخيف من داخله يتساءل في رعب حول إمكانية نجاحه في مهمته الخطرة والمستحيلة:
ــ هل سيتمكن شاهين من إنقاذ والديه...؟ هل سأراههم جميعاً...؟ أم أن الأمور...، وقبل أن يكمل جملته...، خفق قلبه بشدة...، بشدة لا نظير لها هذه المرة.
*****


الطريق إلى المجهول
طار شاهين على هيئته يطوي المسافات بسرعة فائقة ويقطع الجبال والوديان طولاً وعرضاً، إلى أن بلغ الساحل الشمالي للبلاد، فكان عليه هناك التحليق لمسافة معينة فوق البحر لعبور مضيق جبل طارق، بين شمال القارة الإفريقية وشبه الجزيرة الإيبيرية، ليصل إلى أول نقطة في البلاد الأوروبية حيث اختفى والداه.
انطلق بضع كيلومترات فوق مياه المتوسطي، قبل أن يشاهد بنظره الخارق من علوه المرتفع، قارباً خشبيا تتلاطمه المياه في عرض البحر، وترمي بمن فيه من الصيادين بين أمواجه العالية. صارع البحارة لأخذ أنفاسهم فوق المياه، لكن الأمواج المرتفعة والمتلاطمة لم تسمح لهم بذلك، فأخذ بعضهم في الإستسلام لمصيره المحتوم، بعد التعب واستنزاف قواهم في صراعهم من أجل البقاء أحياءً.
أدرك شاهين أن محاولة إنقاذهم الواحد تلو الأخر، بنقلهم إلى اليابسة لن يكون حلا سليما بالنسبة للباقين، الذين يصارعون الموت غرقا في عرض البحر، وقد أوشكت قواهم على الانهيار...
ضاعف شاهين من سرعته، واتجه كالرصاصة صوب القارب المنقلب، وغطس في مياه البحر الهائجة مضموم الجناحين الى جسده...، واختفي لثوان معدودة...، قبل أن يظهر مجددا وهو يمسك القارب من أحد جانبيه بيديه، ويضرب بجناحيه المياه بقوة من أجل إعادة المركب على قاعدته السفلية.
بعد جهد جهيد...، بدأ المركب في الارتفاع واستعادة وضعه الطبيعي، فأخذ يحمل الصيادين الخمسة، الواحد تلو الآخر مغشيا على بعضهم، ويضعهم على سطح المركب، ثم أمسك بمؤخرة القارب الذي فقد مجادفه في عمق المياه وتكسرت بعض أجزائه، ودفع به نحو اليابسة بقوة كبيرة، مخترقا أمواج البحر المتلاطمة والرياح المعاكسة العاصفة.
بدأ بعض الصيادين يستعيدون وعيهم وأنفاسهم بصعوبة، فهالهم ما رأوه أمامهم، وعيونهم لا تكاد تصدق هذا المشهد المثير، حيث أخذ بعضم يتساءل عن حقيقة مايرى، ويعتقد أن الموت أخذهم إلى عالم آخر، بدأت تفاصيله مع هذا الكائن الغريب، الذي عجزت عقولهم عن تقبله وتصنيفه...، أضمن عالم الطيور والجوارح ....، أم الانسان...!!.
وبعد دقائق قليلة...، اصطدم قاربهم بشىء يعتقدون أنهم يدركون طابعه جيدا، فاستدارو جميعهم في لهفة للتأكد من تخميناتهم بعد أن استعادوا وعيهم...، وانفجرت بينهم موجة من الصياح والفرح:
ــ الحمد لله ...، الحمد لله ...إنها اليابسة...، نحن أحياء...، إنها رمال الشاطئ الذهبية...
بدا الجميع مذهولين ومشدودي الأنظار، بعد أن يئسوا واعتقدوا أن أقدامهم لن تطأها رمال الشاطئ بعد انقلاب قاربهم.
أما شاهين فما أن تأكد من بلوغهم اليابسة بسلام واطمأن على حالهم، حتى عاد محلقا من جديد فوق مياه البحر المتوسط وأمواجه المتلاطمة، صوب هدفه المنشود، وقد ترك الصيادين من ورائه في حيرة من أمرهم، وموجة من الفرح بالنجاة، الممزوج بالدهشة وعدم التصديق لما حصل معهم وشاهدوه في عرض البحر.
تمكن شاهين من بلوغ الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فطار محلقا فوق الساحل في إتجاه الشمال، إلى أن وصل به الحال إلى قصر الحمراء، آخر قلاع المسلمين بالأندلس، هناك قرر أخذ قسط من الراحة فوق أسواره العظيمة قبل مواصلة الرحلة، فنزل في أحد حدائقة الخلابة، وأخذ يمشي سائحاً بين جدران القصر المرتفعة، وحجراته الشاسعة، ونوافيره الساحرة، بمياهها العذبة المتدفقة نحو حقول مدينة غرناطة وبساتينها.
اقترب من أحد نوافير القصر، وشرب من مياهها العذبة حتى ارتوى، ثم استظل في أحد أركانه المطلة على قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها الجميلة، وأخذ يتذكر حكايات جده له حينما كان صغيرا، عن بطولات العرب وأمجاد المسلمين في هذه البلاد، وفتوحاتهم في بناء حضارة الأندلس الخالدة، وما قدموه للعالم من فنون وعلوم، في الفلك، والطب، وفن العمارة، وتقنيات الري السابقة لأوانها، وإنجازاتهم في جميع مناحي الحياة الإجتماعية، والإقتصادية، والحضارية. فصار يتحسر على ماضاع منها، بسبب النزاعات والصراعات التي نشبت بين أفراد العائلة الواحدة، والتي أدى المسلمون ثمنها غاليا فيما حل بديارهم بعدها.
ثم قام بعد ذلك من مكانه، وتوجه نحو أحد أسوار القصر العالية، وقفز منه محلقاً في سماء الأندلس، يراقب جمال قصر الحمراء الواقع فوق تلة مرتفعة اختيرت بعناية فائقة من طرف العرب، لحمايته من هجمات الأعداء والغزاة.
ثم اتخذ مساره صوب شمال القارة الأوروبية. نحو ألمانيا...، ونحو مصيره المجهول الذي ينتظره.

****

اقتفاء الظلال
بعد يوم كامل من التحليق، بلغ شاهين نهر الراين الفاصل بين الحدود الفرنسية والأراضي الألمانية، وما كاد يتجاوزه حتى شعر بقشعريرة قوية تسري في جسده وعروقه، وأطل الشغف من عيونه، وخفق قلبه بشدة كبيرة، وهو يفكر في أن والديه يمكن أن يكونا في أي مكان من هذه الأرض المنبسطة الساشعة.
وعند بلوغه أولى المدن الألمانية القريبة من الحدود الفرنسية مع حلول المساء، فضَّل أن يبيت ليلته هناك في أحد الفنادق المتواضعة المقابلة للمزارع الفلاحية، المطلة على مشارف المدينة المضيئة.
وعندما لاحت أولى خيوط الفجر البيضاء، انطلق باكرا الى أن بلغ أولى محطاته في مدينة برلين، على الجانب الشرقي من ألمانيا، هناك حيث أنهى والده دراسته الجامعية وحصل على شهادة الدكتوراه في البيولوجيا.
في الحديقة الخلفية لأسوار الجامعة الألمانية، هبط على قدميه وهو يوضب هندامه، ويصفف شعره بأنامله بعد أن اختفى جناحيه خلف لباسه المعدل خصيصاً لبروزهما واختفائهما دون إثارة الشكوك من حوله، ثم دلف الى باب الجامعة عبر مدخلها الرئيسي، وسار في ردهته الطويلة الموصلة إلى مكتب الاستعلامات، المحاذي لمكتب آخر مخصص لطبع الكتب والمنشورات للطلبة الجامعيين.
فتقدم نحو السيدة الشقراء الجالسة وراء مكتبها الأنيق، وسألها بلغة ألمانية سليمة، عن الجناح المخصص للأبحاث البيولوجية الخاص بطب العيون، فأخبرته المشرفة بحماس عن ضرورة التوجه عبر أحد الممرات الطويلة إلى الطرف الآخر للجامعة، حيث تقع البناية المخصصة بالعلوم البيولوجية والأبحاث بمختلف مجالاتها.
دلف شاهين الى بناية الأبحاث، وسار يجوب في بعض ردهاتها، إلى أن بلغ الجناح المخصص لأبحاث طب العيون.
أمام بابها...، توقف لحظات صامتا ينظر الى تلك اللافتة الحائطية المكتوب عليها "قسم البيولوجيا"، ثم قرر اختلاس النظر إلى الداخل عبر نافذة زجاجية صغيرة على بابه الرئيسي، اقترب في هدوء، ووضع جبينه على زجاج المدخل، وأخذ يتفحص المكان في الداخل الذي بدا له يعج بالحركة، من مجموعات متفرقة من الطلبة الباحثين، وقد التفوا في حلقات صغيرة حول أساتذتهم المنهمكين في إجراء الاختبارات العملية تحت أنظارهم.
وعلى غفلة من شاهين، الذي بدا متأثراً ومشدوداً إلى تفحص وجوه الباحثين في المكان الذي كان يشتغل به والده يوما ما، إمتدت إليه يد ناعمة من الخلف، فربتت على كتفه في هدوء وصاحبتها تسأله بصوت هادئ:
ــ عفواً... هل أنت شاهين...؟
تسمر في مكانه وانعقد لسانه لذكر اسمه، كيف لا...، وهو الذي لم يمض على تواجده في ألمانيا إلا بضع ساعات فقط، فخشي من انكشاف أمره، ما قد يسبب في فشل مهمته برمتها.
فتسارعت أفكاره بين السلب والإيجاب، وأخذ عقله يحلل بسرعة فائقة خامة الصوت الرقيق تلك، ويقلب في نبراتها بين سجلات الأصوات في ذاكرته.
شعر شاهين بنوع من الألفة في صوت المخاطب، واستحسن نيته بالسؤال، فاستدار ببطء وعيناه جاحضتان عن آخرهما لمعرفة صاحب الصوت، الذي لم يكن سوى زميلته السابقة في المدرسة الثانوية لينا.
والتي مر وقت طويل على عدم رؤيتها. هدأ ذلك من روعه وأجابها مغمغما بسؤال آخر لا يخلو بدوره من نبرة الاندهاش الشديد:
ــ أأ...أنت لينا...؟! أليس كذلك...؟
رسمت على وجهها إبتسامة صغيرة وهي تومئ برأسها إيجاباً وتشير إليه بسبابتها وتقول:
ــ نعم...
وأنت شاهين...أهذا صحيح...؟
أجابها والمفاجأة ماتزال تسيطر عليه:
ــ نعم...!! هذا صحيح.
إستدارت لينا تشير بيدها إلى الممر قائلة:
ـ كنت واقفة مع صديقاتي هناك، ورأيتك تمر أمامنا في ردهة الجناح، فتفاجأت لرؤيتك بعدما تشابهت علي ملامحك.
لهذا تعقبتك لأتأكد من الأمر...
ثم استطردت وقد ارتفع حاجباها الرقيقان:
ــ هل أنت طالب جديد هنا...؟
صمت لحظة بدا فيها مترددا قليلا في إجابتها قبل أن يحسم أمره ويجيبها وهو يهرش شعر رأسه في ارتباك واضح:
أنا...، لا...، لا...، أنا هنا....أبحث عن أحد أقاربي.
ــ في قسم أبحاث طب العيون...؟!
كان هذه المرة أكثر سرعة في الرد عليها:
ــ نعم...، الأبحاث البيولوجية.
فتحت لينا فمها وارتفع حاجباها في ذهول وهي تقول بنبرة لاتخلو من الاندهاش:
ــ آوووه...
أنا هنا أدرس طب العيون منذ سنتين، وأعرف مجموعة لا بأس بها من طلبة هذا القسم...، إن شئت تخبرني باسمه، فقد يكون زميلي...أو شخصاً أعرفه...، أدلك عليه ... وأختصر عليك الطريق.
صمت شاهين لحظة، ثم نظر إليها في حرج واضح من طبيعة سؤالها الذي لا يستطيع الرد عليه، من أجل الحفاظ على سرية المهمة في بداياتها، فأجابها والإرتباك واضح على ملامحه:
ــ لا... لا ...، شكراً... شكراً. هو ليس طالبا هنا...
ثم نظر إليها بتوتر واسترسل بارتباك:
ــ أقصد... كان في السابق طالبا...، واعتقد أنه صار بعدها أستاذا باحثا متخصصاً في علم الأحياء الجزيئي.
شعرت لينا بحرجه الواضح في إجاباته المقتضبة، وأدركت أهمية الموضوع بالنسبة إليه، فحاولت تلطيف جو الارتباك الحاصل، وإزالة الحرج عنه، فقالت وهي تبتسم وتحرك رأسها يمينا ويسارا بشكل بهلواني:
ــ حسناً ياشاهين...، أعتقد أنك مازلت غريب الأطوار كما عهدتك من قبل.
ثم اكتسب صوتها نبرة جادة وهي تسترسل بحماس:
ــ أنظر...، نحن هنا ندرس جميع الأبحاث السابقة المتعلقة بطب العيون..، وندرس إمكانية تطويرها، فإن كان قريبك باحثا مجتهدا كما كنت أنت من قبل، فعساني أرشدك إليه، أو أقدم لك معلومات عن مساره العلمي، لعلك تستطيع اقتفاءه والوصول إليه...
صمت برهة يفكر ملياً في كلامها المنطقي...، واقتنع بحديثها عن إمكانية تتبع مسار والده من خلال أبحاثه ومن خلال الأساتذة الباحثين اللذين عايشوه في تلك الفترة في نفس القسم...، فرفع نظره إليها وقد حسم خياره وأجابها قائلا بصوت أقرب الى الهمس:
ــ كان إسمه أدهم...، وكان...
ــ أتقصد "الدكتور الصقار"...؟.
قاطعته بهذه الجملة وقد ارتفع حاجباها في ذهول، فانعقد لسان شاهين عن الكلام لحظة واتسعت حدقتا عينيه وهو يغمغم بصوت مختنق لا يكاد يسمع:
ــ أتعرفين "أدهم الصقار"...؟؟!!
ردت عليه لينا بحماس وحيوية واضحة:
ــ نعم...، نعم...، أقصد ... ومَنْ مِنَ الباحثين لايعرفه...؟!! إنه كنار على علمٍ في الجامعة.
ثم مالت نحوه قليلا وأردفت بنبرة جادة خافتة هذه المرة:
ـــ يعرفه جميع الطلبة الباحثين في الجامعة بلقبه "الدكتور الصقار"، و يلقبونه احياناً "بأبو الصقور".
إنه من أشهر العلماء الباحثين العرب الذين درسوا هنا في قسم علم الأحياء الجزيئي...، كما أننا ندرس له بعض نظرياته العلمية في هذا المجال إبتداء من السنة الثانية...، وأجمل ما يثيرني في أبحاثة تلك النظرية المتعلقة بتطوير لقاح لعلاج مرضى العيون بمستخلصات طيور الجوارح.
وتضيف بحسرة بالغة:
ــ تخيل معي لو كان قد تمكن من ذلك الأمر.
ظل شاهين يتابع كلامها باهتمام بالغ. قبل أن تتوقف لتزدرد خلالها غصة في حلقها وتميل نحوه وتستطرد قائلة بنبرة حزن واضحة على ملامحها ونبرة أقرب إلى الهمس:
ــ يقولون أنه اختفى في ظروف غامضة منذ سنين، ولم يظهر له بعدها أي أثر.
خفض شاهين رأسه إلى أرضية الممر في يأسٍ وحزن خيم على وجهه، وهو يومئ على كلامها بالإيجاب ويغمغم بصوت منكسر:
ــ نعم ...، هذا صحيح...، لقد اختفى...، اختفى منذ زمن...
أدركت لينا من خلال نبرته المنكسرة والحزن الظاهر على ملامحه حساسية الموقف، وأهمية القضية بالنسبة إليه، فصمتت لحظة في تخمين، قبل أن ترفع رأسها وتقول في حماس وهي تمعن النظر في عينيه:
ــ لدي فكرة...، يمكننا السؤال عنه ومعرفة بعض الأشياء التي قد تفيدك في عملية البحث، من خلال الحديث مع زملائه السابقين الذين صار بعضهم اليوم أساتذةً يُدَرسون هنا في الجامعة.
برقت عيناه بوميض خاص وهو يستحسن الفكرة قائلا:
ــ حسنا...!! هل تعرفين بعض زملائه السابقين...؟
حافظت لينا على نفس نبرتها الحماسية السابقة وقد ارتسمت على وجهها إبتسامة خفيفة وهي تجيبه قائلة:
ــ لا عليك...، أترك الأمر لي...
سأستفسر بطريقتي عن أقرب أصدقائه الباحثين أثناء فترة إشتغاله في الجامعة، وسأرتب لك موعدا لمقابلته، إن تمكنت من ذلك إن شاء الله.
نظر إليها وهو يبادلها بإبتسامة صغيرة أخرى ويقول:
ــ سأكون شاكرا لك هذا الجميل...، و....
قاطعته وهي ترفع يدها ملوحة بها في استهتار وتقول بنبرة لا تخلوا من المزاح وشىء من التهكم:
ــ ماذا تقول يا رجل...، لاتنس أنك كنت يوماً ما سبباُ في بقائي على قيد الحياة حتى هذه اللحظة...، أتظنني نسيت مافعلته من أجلي في الجبل..، والمخاطرة بحياتك من أجل إنقاذي....؟؟
أشاح برأسه عنها نحو باب الممر وهو يهرش شعره بأنامله قائلا:
ــ لاعليك...، كان ذلك منذ زمن.
ثم نظر إليها وقد اكتسى صوته نبرة جادة وهو يحاول إنهاء الحديث:
ــ حسنا يا لينا...، علي الذهاب لقضاء أمر آخر...، أراك لاحقا بإذن الله.
ثم غادر عبر الممر نحو خارج الجناح بخطوات هادئة منتظمة، فيما ظلت تتابعه بعينيها، قبل أن تتذكر أن تأخذ منه رقم هاتفه من أجل إخباره بموعد اللقاء المحتمل.
إرتفع وقع خطواتها عبر الممر وهي تهرول وراءه نحو الباب الذي خرج منه، وتعتقد أنه سيكون أمامها مباشرة بخطوات قليلة.
خرجت وهي تنظر حولها وتتفحص المكان في جميع الاتجاهات التي يمكن أن يتخذها، فلم تجد له أثرا في تلك المساحة الخضراء المنبسطة دون حواجز أو بنايات، والتي تحتاج إلى بعض الوقت لقطعها والوصول إلى المدخل الرئيسي لباب الجامعة.
رفعت نظرها قليلا إلى الأعلى، فبدا لها شىء كبير على هيئة رجل بجناحين يتجه نحو السحاب، استغربت الأمر ثم أخذت تفرك عينيها لتتضح لها الصورة أكثر، ثم نظرت من جديد إلى نفس المكان، لكن هذه المرة...، لم يظهر له أي أثر...، بعد أن اختفى في السماء الملبدة بالغيوم...
فهمهمت في حيرة بدت معها وكأنها تُحدث نفسها وهي تقول:
ــ عجيبٌ أمر هذا الفتى...، أعتقد أنه صار أكثر غرابة من السابق...، أو ربما أكثر بكثيرٍ مما أعتقد....
*****
حلَّق شاهين فوق المدينة، ثم وقف على رأس أحد أطول الكنائس في ألمانيا، وأخذ يحوم بعينيه في أرجائها وهو يتساءل عن مكان وجود أمه وأبيه.
لبث على ذلك الحال برهة من الزمن، قرر بعدها التوجه إلى آخر مكان كان يقيم به والده في العنوان المدوَّن على الرسالة الأخيرة التي بعثها إلى جده عزام.
وصل شاهين إلى تلك الفيلا الصغيرة التي تحيط بها الأشجار القصيرة والطويلة من أمام مدخلها وفي حديقتها الخلفية، وسط حي ألماني هادئ وخالٍ من المارة، فأخذ يتطلع ببصره الحاد عبر نوافذ المنزل من مكان وقوفه في محطة الحافلات المقابلة للمنزل، محاولا لمح أي شيء أو إيجاد أي علامة قد ترشده إلى مكان والديه.
لبث على ذلك الحال فترة من الزمن، لم يظهر خلالها أي شخص يتحرك داخل المنزل، أو أي شيىءٍ غريب قد يثير اهتمامه..، فَهمَّ بالإنصراف مشياً على الأقدام، وقد شارفت الساعة العاشرة مساء، وأخذت درجة الحرارة في الانخفاض الى مادون الصفر، وبدأت السماء ترسل بعض زخات المطر، التي بدت حبيباتها أكثر وضوحا وبريقاً تحت أشعة الأضواء الكاشفة الأمامية لتلك السيارة السوداء القادمة في عكس إتجاه سيره.
تجاوزته السيارة بأمتار قليلة لتوقف محركها، فاسحة المجال من جديد لذلك الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المكان.
التفت شاهين يستطلع أمر السيارة التي توقفت مباشرة أمام المنزل الذي كان يراقبه قبل قليل، فأبطأ من خطواته إلى أن بلغ شجرة صنوبر تقف شامخة على رصيف الطريق، واختفى في خفة وراءها دون أن يثير الانتباه إليه، ثم أخذ يختلس النظر نحو المنزل...، واتسعت حدقات عينيه من جديد...، وارتفعت وثيرة نبض قلبه بشكل مثير... ، مثير للغاية...
نزل من السيارة شخص متوسط القامة ذو سحنة سمراء، وعينين سوداوين يعلوهما حاجبان كثيفان، وأنف طويل مرتفع في منتصفه مع دقة في أرنبته. أقفل الرجل باب السيارة خلفه، ودلف إلى داخل المنزل دون أن ينبس ببنت شفة مع سائقها الذي أدار محركها من جديد، وانطلق في طريقه مباشرة، بعد أن تأكد من دخول الرجل الى منزله وإحكام إغلاق الباب عليه.
تريث شاهين قليلا، ثم قرر أن يطرق باب المنزل ويستفسر عن ساكنيه.
تقدم في هدوء نحو بابه الحديدي، وضغط زر الهاتف الداخلي، ينتظر أن يأتيه الرد من الطرف الآخر، لبث على ذلك الحال برهة، اعتقد خلالها أن الرجل الذي دخل لتوه ربما يكون منشغلا ببعض أموره الخاصة، التي لايمكنه تركها في تلك اللحظة، فقرر المحاولة من جديد. ثم ضغط على الزر ثانية، ووقف ينتظر...، وينتظر...، بقلق وحيرة...
وفجأة...، أتاه الرد بصوت رجل تبدو عليه علامات الانزعاج الشديد وهو يقول:
ــ ماذا تريد...؟
حاول شاهين استيعاب غضب الرجل الواضح فأجابه بصوت هادئ رصين:
ــ أريد أن أسألك سيدي عن شخص أجنبي كان يقطن في هذا المنزل، كان يقيم مع زوجــ...
قاطعه الصوت بتوتر متعجلا انهاء المحادثة:
ــ ما كان اسمه...؟
رد عليه في لهفة:
ــ أدهم...، "أدهم الصقار"..!!.
انعقد لسان الرجل عبر الهاتف الداخلي، وساد بينهما صمت رهيب برهة من الزمن...، اعتقد خلالها شاهين أن الخط ربما قد انقطع، قبل أن يرد عليه الرجل بعصبية لا تخلو من نبرة تهكم في الكلام وهو يغلق خط الاتصال في وجهه بعنف:
ــ إسمع...، هذا منزل عائلة ألمانية...، ولم يسبق لأي شخص أجنبي أن أقام هنا، فلا تحاول إزعاجي مرة أخرى.
انسحب شاهين من أمام البيت في هدوء، وهو يلاحظ وجود كاميرات مراقبة على جانبي مدخله الأساسي، فأخذ يستعيد مادار بينهما من حديث مقتضب، وقد أدرك من خلاله وجود ثغرات في كلام الرجل، وشىء ما يحاول إخفاءه والمداراة عنه.
قرر شاهين استقصاء أمر الرجل المريب بنفسه، فقفز برشاقة كبيرة الى داخل المنزل عبر حديقته الخلفية، ثم تسلق إحدى أشجارها، وأخذ يتطلع عبر النافذة الى الرجل الأسمر الذي جلس في ارتباك وقلق واضح على محياه.
وبتوتر واضح، رفع الرجل هاتفه الخلوي، وأخذ يضرب على أزراره بقلق وينتظر الرد من الطرف الآخر.
جلس شاهين يراقب حركاته المرتبكة باهتمام بالغ، ويصغي بسمعه الحاد إليه وهو يصرخ في غضب عبر مكبر الهاتف:
ـــ انتبهوا...، لقد أتى إلي شخص يسأل عن أدهم...
ثم صمت قليلا يستمع لحظة الى الطرف الآخر قبل أن يرد عليه بنفس نبرته السابقة:
ــ لا أدري من يكون...، أرجوا أن تضعوا حداً لهذا الاستهتار...
وصمت برهة قبل أن يجيب من جديد:
ــ هذا ليس شأني...، أفهمت...!!
ثم أردف بحنق شديد:
ــ لقد فعلت كل ما طلبتم مني...، اتركوني أحيا في سلام...، اتركوني في سلام.
ثم أغلق الخط في عصبية واضحة.
كانت تلك الكلمات كافية ليدرك شاهين من خلالها علاقة الرجل بقضية اختفاء عائلته...، ودون تردد...، ظهر من خلفه جناحاه القويان، وطار في الهواء على هيئته، ودخل عليه من النافذة الخلفية للمنزل واقفا على قدميه...
صدم الصوت القوي الناتج عن تحطم زجاج النافذة الرجل الأسمر، فسقط كأس الخمر الذي كان يحتسيه من يده، وشخصت عيناه في ذهول، وتراجع مذعوراً كأنه رأى شبحا أمامه، فبدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة....وهو يسأله في توتر واضح بعد أن انتصب شاهين واقفا مفرود الجناحين أمامه:
ــ ممممم......من.....،...ماذ..ماذا تريد....؟؟!
مممن.. من أنت...؟؟!!! كيف دخلت إلى هنا....؟؟!!!..
رفع شاهين يده اليمنى في وجهه محاولا تهدئته وهو يقول في حسم:
ــ لا تخف...، لن أؤذيك...، أريد فقط أن أعرف منك علاقـــ....
وقبل أن يكمل جملته، تراجع الرجل الأسمر في رعب إلى درجٍ خشبي في ركن الحجرة القريب منه، وأخرج منه مسدساً صغيراً وجه فوهته نحو رأس شاهين...، ودون تردد....، ضغط على الزناد...
وانطلقت الرصاصة نحو رأسه...
نحو رأسه مباشرة...
****












الخيانة المدمرة
وثب شاهين من مكانه بسرعة خرافية متفاديا الرصاصة الأولى فالثانية، تتبعه الرجل برصاصة أخرى قبل أن تستقر بدورها على الجدار، فصار يتجنب الرصاص وهو يثب من مكان إلى آخر بسرعة فائقة مشتتا انتباه الرجل وتركيزه في التصويب.
وقبل أن يسترسل في إطلاق مزيد من الرصاص، كان شاهين هذه المرة قد بلغ رأسه...، ونزل عليه بضربة جانبية قوية على العنق، أسقطت المسدس من يده، وأوقعته على الأرض مغشيا عليه.
بدأ الرجل بعد دقائق معدودة يستعيد وعيه فوق الكنبة، ليكتشف أنه أصبح مقيد اليدين من الخلف، وشاهين جالس على كرسي أمامه، وهو يدير المسدس بحركات بهلوانية بين أنامله.
بدا الرجل منهكا وهو يخاطبه بصوت ضعيف قائلا:
ــ من أنت...؟؟!!! وماذا تريد مني..؟؟
أجابه شاهين بحزم والغضب يتطاير من عينيه:
ــ أصغ إلي جيداً...، أمامك خياران لا ثالث لهما...، فإما أن تخبرني عن علاقتك بالسيد "أدهم الصقار"...؟ وأين اختفى...؟ ومن وراء اختفائه...؟ وإما ستصبح غداً عنوانا بارزا على الصفحات الأولى للجرائد، حول جريمة اغتيال غامضة في جنح الظلام.
أجهش الرجل بالبكاء وهو يتوسل إليه قائلا بصوت مختنق مبحوح:
ــ لا تؤذني أرجوك...، وأعدك أن أخبرك بكل ما أعرفه عنه....
ثم استجمع الرجل قواه وعدل جلسته وأردف بصوت أقرب إلى النحيب:
ــ ماذا تريد أن تعرف...؟! ماذا تريد أن أخبرك...؟
رد عليه شاهين بحزم بالغ وقد برقت عيناه بشغف:
ــ أريد أن أعرف كل شئ...؟ كل شىء...!! من اختطف زوجته ندى ؟ ولماذا اختفى أدهم...؟ وأين.....؟ و...
قاطعه الرجل الأسمر هذه المرة بصوت متردد يائس:
ــ إإإســ ...إسمع أنا... أنا أجهل الكثير من الأمور التي تسأل عنها...، ولا أستطيع بدوري فهمها أو فهم أسبابها...
لكنني سأخبرك بكل ما أعرفه عن هذه القضية الشائكة.
رفع شاهين سبابته في وجهه وخاطبه بحزم وغضب:
ــ إسمع...، لا تحاول الكذب أو المراوغة...، فقد سمعت كل كلامك عبر الهاتف.
وأقسم أنني لن أغفر لك إذا تأكد لي سوء نواياك...، فيكفي ما تكبدته عائلتي من الآلام طوال هذه السنين.


وقع صدى الجملة الأخيرة كالثلج على قلب الرجل، فانعقد لسانه برهة وتراجع في حدة في مقعده وهو يتفرَّس ملامح الشاب الواقف أمامه، ثم خاطبه بصوت منكسر أقرب الى النحيب وعلامات الندم ترتسم على وجهه:
ــ هل... أنت....إبنه شاهين...؟؟!!!!!
صمت لحظة قبل أن يجيبه وهو يصارع دمعتين من النزول من مقلتيه المحمرتين:
ــ نعم...، أنا ابن "أدهم الصقار"...
إنهار الرجل لسماع ذلك، ودخل في بكاء حار رق له قلب شاهين...، فقام وفك وثاق يديه...، فسار الرجل يضرب بيديه على وجهه في ندم واضح وهو يقول:
ــ تباً لي...، تباً لما فعلت....
ثم رفع نظره في وجهه وهو يحاول استجماع قوته قبل أن يستطرد:
ــ أنا لا أستحق صداقته...، أنا هو الخائن...، أنا خائن صديقي...
أرجوك أقتلني بيدك وخلصني من هذا العذاب قبل أن أقتل بيد عُصبة المجرمين، لقد سئمت تأنيب الضمير...، لقد تعبت...، لقد تعبت...، أريد أن أكفر عن خيانتي لأعز أصدقائي.
وقف شاهين وناوله كوباً من الماء الموضوع على الطاولة. وطلب منه في أدب أن يهدئ من روعه حتى يتسنى له فهم ماحصل معه.
ارتشف الرجل جرعات من الماء بيدين مرتجفتين لا يكادان يقويان على حمل الكأس، ثم حاول بعدها أن يستجمع قواه المنهارة من جديد، فخفض رأسه وهو يشبك يديه بين رجليه قائلا بصوت مختنق ونبرة اعتراف منكسرة:
ــ أنا "الدكتور عماد"...، صديق والدك...، أو هكذا كان يعتبرني...، كان والدك أعز أصدقائي...، درسنا معاً، وتخرجنا سويا من الجامعة في نفس الشعبة، واختارني لأشاركه في أبحاثه حول تطوير لقاح يمكن من خلاله معالجة مرضى العيون وبعض الأمراض الأخرى...، كان كل شىء يسير كما كان مخططا له، حتى ظهر "الثعبان" على الخط، و...
أوقفه شاهين بإشارة من يده وهو يسأله باهتمام بالغ:
ــ من هذا الذي تتحدث عنه...؟
نظر إليه عماد بوجه شاحب، ذابل الجفون قبل أن يخفض رأسه مرة أخرى ويدرف:
ــ إنه توماس....، توماس حاييم....
رجل أعمال ألماني من أصول يهودية...، هذا ما كان يعرف به على الأقل بيننا...، غير أن هناك مجموعة من القرائن والأدلة تشير الى أنه عميل مزدوج في الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية، يجيد التحدث بعدة لغات حية، ومن بينها العربية، بارع في انتحال الشخصيات لخداع خصومه، يعمل بشكل أساسي على تزويد إسرائيل وحلفائها الغربيين، وخاصة أمريكا، بأحدث التقييمات الاستراتيجية الخاصة بمتابعة تطور البحث العلمي، والتي على أساسها تتم صياغة السياسات العامة للدولة، وبالذات على صعيد متابعة النخب العربية والعلماء العرب والمسلمين في الغرب بشكل عام، وأوروبا بشكل خاص.
يعمل تحت غطاء شركة عالمية مرخصة لإنتاج الأدوية بمختلف أنواعها وتوزيعها عبر العالم، إدعى في البداية أنه يرغب في الاشتغال مع والدك نظراً لقيمة أبحاثه العلمية. لتبدأ خيوط اللعبة في الانكشاف فيما بعد شيئاً فشيئا.
كان توماس من أكبر الداعمين المساهمين في إنشاء المختبر الذي أراده والدك أن يكون مثاليا من حيث التجهيزات والكفاءات والعطاء.
صمت لحظة يمسح دموعه على خده بيديه ثم أضاف بمرارة:
ــ تعرض والدك لخدعة محبوكة بعناية...، حيث طلب منه بعد توقيع عقد الشراكة مع الشركات الداعمة توجيه أبحاثه لخدمة أغراض عسكرية، فرفض الفكرة بشدة وأصر على موقفه، ثم انسحب من المشروع في منتصفه بعد توقف السيولة المالية عليه، ازداد عليه ضغط المنظمة التي يشتغل توماس لحسابها، ومنع من السفر خارج البلاد بأمر قضائي، فاضطر إلى العمل في إحدى المختبرات الصغيرة كمساعد لأحد الباحثين البيولوجيين. وهناك استفاذ من أوقات فراغه لتطوير بعض اللقاحات بنجاح.
صمت الرجل لحظة، فمال شاهين نحوه متسائلا في لهفة وانفعال قائلا:
ــ أعرف ذلك...، وماذا حصل بعدها...؟
زفر عماد نفساً عميقا وهو مغمض العينين قبل أن يرفع نظره إليه ويستطرد قائلا:
ــ علمت المنظمة بنجاح والدك في إنتاج لقاحات شافية من بعض الأمراض الخطيرة عن طريقي، كما أخبرتهم عن تمكنه من إنتاج لقاحات تمكن جسم الإنسان من تحمل أقسى درجات البرودة وأقسى درجات الحرارة المرتفعة دون أن يؤثر ذلك على مجهوده العصبي...، وكان هذا اللقاح أخطر ما يمكن أن يتوصل إليه باحث ما في أرجاء العالم.
لذلك أرادت المنظمة الحصول على ذلك اللقاح بأي ثمن، وبأي طريقة ممكنة من أجل الاستخدام العسكري، فزادت من إغراءاتها المادية لوالدك، وحين لم يُجدي الأمر معه شيئا، لجؤوا إلى اختطاف والدتك ندى، خاصة بعدما علموا بأمر نجاح أدهم في معالجتها وشفائها من العمى الكلي الذي لازمها مدة طويلة من الزمن.
في تلك اللحظة بالضبط...، اختلطت مشاعر الفرح والحزن لدى شاهين، وبذل جهداً خرافيا لكبح دموعه عن الانسياب، محاولا أن يخفي ذلك الانفعال الجارف الذي تموج به أعماقه، بعدما عَلِمَ لأول مرة...، ولأول مرة فقط، أن والدته ندى، قد تمكنت من استعادة بصرها بشكل كامل، بفضل اللقاح الذي طوره والده. فأبت الدمعة بعد صراع مرير، إلاَّ أن تلقي ببريقها قبل أن تفلت من معقلها، وتنساب بطيئة دافئة على وجنتيه.
لاحظ الرجل تأثره الكبير لأخبار والديه المختطفين، فرق قلبه واستطرد بصوت مختنق ونبرة تأنيب ضمير واضحة:
ــ لقد وقع اختيارهم على شخصي، باعتباري أقرب أصدقاء والدك، رفضت التعامل معهم في البداية، لكنهم تمكنوا من إغرائي بأموال طائلة من أجل التجسس على أعز أصدقائي لحسابهم. لم أكن أستطيع مقاومة ملايين الدولارات التي كنت بحاجة إليها، من أجل إخراج عائلتي من الفقر والحاجة، وهكذا صرت عينهم التي لاتنام عن حركاته وأبحاثه، أخبرهم عن جميع خطواته ونتائج تجاربه التي بات يسيل لها لعاب منظمتهم السرية...
ولما فشلت جميع وسائلهم الخسيسة في النيل من إرادته وإسقاطه في فخهم اللئيم...، قرروا اللجوء إلى أحقر الطرق، وتمكنوا من اختطاف أعز من كان والدك يحارب من أجله....
صمت لحظة ازدرد خلالها غصة في حلقه ثم أضاف بمرارة بالغة:
ــ اختطفوا والدتك ندى...
أمسكه شاهين من سترته بعد أن فقد لوهلة السيطرة على أعصابه وهدوئه، وبدأ يهزه في قوة والدموع تتساقط من عينيه بغزارة وهو يسأله بغضب:
ــ من اختطفها....؟؟ وأين هي الآن...؟؟ أخبرني ....؟! تكلم....؟!!
بدا عماد منهاراً مستسلما لتعنيفه، قبل أن يتوقف شاهين عن ذلك فجأة ويدفعه على الكنبة متسائلا في هدوء:
ــ من اختطفها...؟
رد عليه عماد بدون تردد وهو يضغط على أسنانه بفكيه:
ــ اختطفها "الثعلب" وزمرته...، واستسلم والدك في النهاية لرغبات المنظمة، من أجل إنقاذ والدتك...
ارتسمت علامات الحزن على وجه شاهين وهو يسأله محاولا لجم مشاعره:
ــ أتعرف مكانهما...؟
زفر الرجل في توتر وهو يومئ برأسه سلبا:
ــ من الصعب معرفة مكانهما...، فهؤلاء الأوغاد حريصون أشد الحرص على أن يبقى مكان إخفائهما سراً بين قيادات المنظمة فقط، وقد حاولت في السابق أن أعرف شيئا عن مكان تواجدهما...، فجوبهت برد عنيف، وتم تهديدي بالقتل إن سألت عنهما مجدداً.
اعتدل شاهين واقفا بحركة حادة يسأله وقد انعقد حاجباه بشدة:
ــ كيف يمكنني الوصول إلى "توماس"...؟
صمت الرجل لحظات وهو يطأطئ رأسه إلى الأرض...، بدا خلالها وكأنه يفكر فيما يمكن أن يقدمه من مساعدة، ثم استطرد بحزم:
ــ إسمع جيدا يا شاهين...
سأحاول طلب اللقاء مع "الثعبان" من أجل إخباره بشيء مهم، وسأخبرك بعدها بموعد اللقاء بيننا...، لتتصرف معه بطريقتك الخاصة....
ثم رفع نظره إليه قائلا بنبرة حقدٍ واضحة:
ــ سأحاول أن أوقع بهذا الوغد، حتى لو كان هذا آخر شىء أقوم به في حياتي... ، لكن...، أرجوا ألاَّ تستهين بقدراتهم...، فهم مسلحون بصفة دائمة...، وخطيرون للغاية...
أومأ له شاهين برأسه إيجابا وهو يرمقه بنظرات باردة وقد برقت عيونه في غضب، قبل أن يجيبه وهو يفكر باهتمام بالغ في خطوته التالية قائلا:
ــ حسنا سأتركك الآن...، وسأمر عليك غداً في منتصف النهار لتخبرني بنتيجة طلب اللقاء مع هذا المجرم...
ثم أضاف بحزم وبشدة كأنه يحدث نفسه:
ــ أقسم أن أقتص منه على كل هذا العذاب الذي لحق بعائلتي...
وبحركة سريعة أزال حشوة الرصاص عن المسدس، ورمى به أمام عماد في خطوة احتياطية، ثم استدار وتوجه نحو النافذة لمغادرة المنزل...
ــ توقف...!
أتاه الصوت يناديه من خلفه في حزم...، فتصلب في مكانه، وانعقد حاجباه، واستدار برأسه بحركة بطيئة يتفحص الوضع من خلفه، ويلقي عماد بنظرة جانبية، قبل أن يستطرد هذا الأخير وعيناه مغرورقة بالدموع:
ــ شاهين...، لقد أسأت إلى والدك كثيرا...، وخُنتُ صداقتنا...، وتسببتُ لك ولعائلتك في الكثير من المعاناة...، فأرجو أن تسامحني...
وإن تمكنت من اللقاء بوالدك، أخبره أنني أطلب منه الصفح...
أرجوك يا شاهين...، أرجوك...
ثم وضع يديه على وجهه مطأطأ الرأس، ينتحب بصمت مكتوم، ثم أجهش في بكاء حارٍ...، بكاء الندم...، وكل الندم...
*****










الصمت القاتل
في صباح اليوم التالي، توجه شاهين من الفندق الذي يقيم به إلى الجامعة للقاء لينا، فحلق فوق حرمها على علو مرتفع، حتى بدت له على الأرض تدلف الى ساحة الجامعة مع بعض صديقاتها، فنزل في أحد الزوايا المحيطة بسور الجامعة، وتقدم نحوها وهو يعدل من هندامه.
فأخبرته أنها تمكنت من تحديد لقاء مع الدكتور "شتاين" مساء ذلك اليوم، وذكرت له أن الدكتور كان من أخلص الزملاء لقريبه أدهم، وأحد الأشخاص الذين اشتغلوا معه في المختبر الخاص بهم، قبل أن يحجز عليه...
سُرَّ شاهين لحكيها وشكرها على مجهوداتها...، وتحمس للقاء الدكتور "شتاين"...، ثم أخبرها أن عليه المغادرة لحضور موعد مع شخص آخر، على أن يعود في المساء للقاء الدكتور.
اختفى شاهين بين أشجار الجامعة، ثم استقل هذه المرة الميترو للوصول الى منزل الدكتور عماد، الذي من المفترض أن يكون قد تمكن من طلب اللقاء بتوماس...، وتحديد موعد معه.
على بعد أمتار قليلة من الفيلا التي يقطنها عماد، بدأ شاهين يلاحظ حركة غير عادية وتجمهراً لرجال الأمن حول بابها الرئيس، وقد أحاطوا المنزل بشريط أصفر فاقع كتبت عليه "الشرطة"، وكأن المنزل بات مسرحاً لجريمة ما.
اقترب شاهين من المنزل يشق أوساط المارة من الذين احتشدوا حول الشريط مع عدد من وسائل الإعلام الألمانية...، فهاله ما رأى...، وصدم من المشهد...، بعدما أخرجت الشرطة جثة " د.عماد" مضرجاً بالدماء، محمولا على ناقلة إلى سيارة الإسعاف.
بدا المكان في الداخل يعج بالشرطة العلمية، وضباط الأمن الألمان من أجل مسح مسرح الجريمة، للبدء بإجراءات التحقيق في الحادث.
ركز شاهين سمعه بمنتهى الدقة على الحوار الدائر بين عميد شرطة المباحث وضابط آخر من الشرطة العلمية الذي بدا مهتماً جداً بتلك الرصاصات على الحائط وهو يحدثه قائلا:
ــ الغريب في الأمر أن الدكتور وُجِدَ مقتولا على سريره، بعدما تلقى خمس رصاصات قاتلة، إثنان منها في الرأس والباقي على الصدر، وهو ما يعني أن القاتل كان يملك مفاتيح الأبواب، ويدرك جيداً جميع التفاصيل داخل المنزل.
العميد يسأله وهو يتفحص الجدار:
ــ فعلا الأمر يبدو غريبا شيئا ما، فلا يمكن لضحية أن يقف ويطلق النار بعد تلك الطلقات القاتلة، وهو ما يعني أن صراع آخر ربما كان قبل ارتكاب الجريمة...!!!
إقترب منهما شرطي آخر وهو يقول بلهفة:
ــ سيدي لقد سجلت كاميرات المراقبة الخارجية دخول مجموعة مكونة من ثلاثة عناصر ملثمة إلى شقة الضحية بعد منتصف الليل، في حدود الساعة 2.15 بالضبط كما هو مسجل عندي، وغادروا المنزل مسرعين بعد أقل من عشر دقائق.
نظر إليه العميد في قلق واضح وهو يسأله:
ــ هل كانوا يحملون أية أغراض لحظة خروجهم...؟؟
أجابه الشرطي بدون تردد:
ــ لا يا سيدي.
أمسك العميد ذقنه بيده اليمنى واستغرق في التفكير لحظة وهو يغمغم بصوت خافت كأنه يحدث نفسه:
ــ إذن فالهدف المباشر كان هو اغتيال الدكتور...!!
ثم أخذ العميد يتفحص غرف المنزل الواحدة تلو الأخرى، فتوقف لحظة ينظر في تمعن إلى ذلك المصباح العلوي غير الثابت جيدا في موضعه، فوضع كرسيا خشبيا وصعد عليه يتفحصه، ثم سحبه نحوه بسهوله...، وبرقت عيناه بشغف كبير...، وهو يرسم على وجهه ابتسامة نصر حاول إخفاءها قائلا:
ــ جهاز تنصت لاسلكي...!!!
الجريمة تزداد تعقيداً...
يبدو أن الضحية كان شخصية مهمة جداً ، لهذا وضعوه تحت المراقبة الدائمة...
ثم توجه نحو زميل له وأمده بجهاز التنصت، بعد أن وضعه داخل كيس بلاستيكي، وخاطبه بنبرة آمرة:
ــ أريد معرفة جميع التفاصيل الخاصة بحياة الضحية...
مكان عمله....، طبيعته...، أصدقاؤه...، الى غيرها...
ثم برقت عيناه من جديد وأردف:
ــ جميع المؤشرات تشير الى أننا أمام جريمة تكتسي بعداً تنظيميا خطيراً...، خطيراً جداً...
ومعقداً...
تراجع شاهين خلف الحشود في بطء، مذهولا لما حصل للدكتور عماد...، وأدرك حينها أن المنظمة كانت تتجسس على كل مايقال داخل الشقة...، وأن أمره قد كشف بينهم...
بل الأسوء من ذلك...، أن الخيط الوحيد الذي كان يأمل في أن يقوده إلى معرفة مكان والديه، قد إنصرم بسرعة...
واختفى الى الأبد...، كما يختفي الجميع هنا بهدوء...
بهدوء قاتل...
*****



أباطرة العلوم
جلس شاهين ولينا على أحد المقاعد المنتشرة في ساحة الجامعة، ينتظران الدكتور "شتاين" دقائق قليلة قُبيلَ الموعد المحدد، أمام مدخل جناح الأبحاث الطبية الذي يشتغل به.
وفجأة...، وقفت لينا وهي تلكز شاهين على جانبه الأيمن وتطلب منه الوقوف، معلنةُ وصول الرجل الذي ينتظرانه....
كان رجلا ضخم الجثة...،كثُ الحاجبين..، أشعث الشعر، يشبه في تسريحة شَعره شعرَ عالم الفزياء الشهير "البيرت أينشتاين"...، تقدم نحوهما بخطوات قصيرة هادئة وقد اكتسحت لحيته وشاربه معظم وجهه.
رسمت لينا على وجهها ابتسامة خفيفة وهي تصافح الدكتور وتشكره على تلبية طلبها وحضوره، فيما هز الرجل كتفيه محاولا تجاوز كلامها وهو يمد يده للسلام على الشاب الواقف بجانبها ويخاطبهما بصوت غليظ:
ــ ماذا لو دعوتكما إلى فنجان قهوة.
ورفع يده يشير بسبابته إلى إحدى المقاهي الجامعية:
ــ هناك حيث يمكننا الحديث في هدوء.
ساروا جميعهم جنباً الى جنب يتجاذبون أطراف الحديث حول الاستعداد للامتحانات الشتوية المقبلة، إلى أن بلغوا المقهى، فاتخذوا مقاعدهم حول المائدة المستديرة، بعد أن طلب كل واحد منهم مايرغب في احتسائه، ثم نظر " د. شتاين " إلى شاهين مبتسما وهو يقول:
ــ وأخيرا...، هناك من يسأل عن الدكتور الصقار...
رد عليه شاهين وقد ارتسم على محياه طيف ابتسامة عابرة:
ــ لقد تطورت الأمور إلى نحو خطير، فصار من اللازم على أهله التدخل لمعرفة حقيقة مايحدث...
ثم ارتشف جرعة من القهوة واسترسل:
ــ أخبرتني لينا أنك كنت أحد المقربين من الدكتور الصقار...؟؟
صوب شتاين نظره نحوه وأخذ يتفرس ملامحه باهتمام كبير قبل أن يجيبه:
ــ أتسمح لي أولا أن أعرف صلة القرابة بينك وبين "الدكتور الصقار"...؟
صمت شاهين برهة وهو يخفض رأسه ويحرك قطعة السكر التي وضعها في فنجانه، ثم رفع رأسه مرة أخرى ونظر إليه نظرة جامدة وقال:
ــ إنه والدي....



تراجع الرجل في ذهول وهو يردد:
ــ "أدهم الصقار"!!... والدك...؟!!!
في حين انعقد لسان لينا عن الكلام، وعلامات الدهشة بادية على ملامحها، فصارت تحدق في شاهين وكأنها تتعرف عليه لأول مرة في حياتها وهي تغمغم قائلة:
ــ أنت...ابن.." د. الصقار".
ثم تلكز جبينها بيدها وكأنها تذكرت شيئا غاب عنها قبل أن تستطرد:
ــ أوووه... لقد أخبرنا جدك عزام، أن والدك كان باحثا هنا في ألمانيا، لكن لم يخطر على بالي يوما أن أدرس في نفس الجامعة التي اشتغل بها والدك، وأن تكون ابن أحد أشعر العلماء العرب.
التفت إليها شاهين ورد عليها كأنه يجيبها عن سؤال يتردد صداه في داخلها:
ــ لم تسأليني يا لينا...، ولم يكن هناك مجال لأشرح لك بعض التفاصيل الخاصة.
ساد المكان صمت رهيب للحظات، قبل أن يستطرد شاهين بنبرة حزن لا تخطئها العين وهو يعيد نظره نحو "د.شتاين":
ــ لقد غاب والدي وأمي مدة طويلة من الزمن، لم تصلنا منهما أية رسالة أو مكالمة هاتفية، وآخر ما بلغنا من أخبارهما قبل سنوات...
صمت لحظة ازدرد خلالها غصة في حلقه ثم أردف بمرارة:
ــ أنهما مختطفان من طرف منظمة سرية....
مال الدكتور نحوه يربت على كتفه وقد انعقد حاجباه وأبدا تعاطفا واضحا وهو يقول:
ــ ومن يفعلها من دونه...
ثم أردف بحسم:
ــ إسمع ما سأقوله لك جيداً يابني...، يجب أن تعلم أولا، أنك إن عزمت مواصلة البحث عنهما، فحياتك ستكون على المحك مع منظمة سرية تشتغل خارج القانون...
عقد شاهين حاجبيه بقوة وهو يضع يديه المضمومتين فوق الطاولة والشرر يتطاير من عينيه ويقول:
ــ "دكتور شتاين"...، لم آت لألمانيا من أجل النزهة...، أنا هنا من أجل مهمة علي القيام بها...، من أجلهما فقط...، فإما أن نعود معاً...، وإما أن نـ....
أوقفه شتاين بحركة من يده وهو يدقق النظر في عينيه قائلا بصوت خافت:
ــ حقاً...، كما تقولون في بلادكم العربية...، "هذا الشبل من ذاك الأسد"...، نفس نبرة التحدي ونفس الإرادة...، غير أنك تبدو أكثر عناداً وشراسة من والدك...
ثم تراجع الرجل في مقعده وهو يأخذ نفسا عميقا ويردف:
ــ والدك رجل عبقري...، كنا ندرس في فصل واحد، لكنه رغم ذلك كان بمثابة أستاذً لنا جميعا...، كان متحمسا جداً لإنجاح مشروعه العلمي...، شاركنا في أفكاره دون ريبة أو تردد، ولم يبخل على أحد منا بالمعلومات والنصائح...
آمنت بمشروعه العلمي، وبشخصه كإنسان...، آمنت بأفكاره وبطموحه.
ثم سكت لحظة ارتشف معها جرعة من قهوته التي أخذت حرارتها في الانخفاض واستطرد بمرارة كبيرة:
ــ ذنبه الوحيد...، أنه خلق في زمن غير زمانه...، زمن صارت تعتبر فيه مبادئ المرء وقيمه الإنسانية جريمة يعاقب عليها...
سأله شاهين باستغراب:
ــ لكن لماذا كل هذا...؟؟
رفع نظره إليه ومال نحوه قائلا بصوت خافت كالهمس:
ــ إسمع يابني...، رغم كل ماتشاهده في هذا الغرب من حرية وديمقراطية تبدو للشرق كجنة الله على أرضه...، فالحقيقة أننا نمارس أسمى أنواع العصبية واللامساواة في القضايا الاستراتيجية، خاصة إذا تعلق الأمر بالعلاقة مع دول الجنوب...
ثم خفض رأسه نحو فنجانه وأردف بمرارة كبيرة:
ــ وللأسف الشديد...، حتى العلم لم يسلم من هذه النظرة الشاذة، والتخوفات الراديكالية لدى صانعي القرار في الغرب، هذا الغرب المزيف في جوهره، الخاضع لقوى إمبريالية تستبد بالتقنية، والمعرفة، والعلوم التي من شأنها تغيير موازين القوى العالمية.
ثم هز كتفيه في لامبالات وهو يلوح بيديه في الهواء ويسترسل بيأس:
ــ طبعاً كل ذلك حسب اعتقادهم....
أومأ شاهين برأسه تأييدا لكلامه قبل أن يداهمه بالسؤال:
ــ نعم أوافقك الرأي يا سيد "شتاين"...، وهذا كلام سليم، نعيش تداعياته اليومية في دول الشرق...، لكن...، ماعلاقة والدي بسياسات الدول العظمى...؟؟!!
زفر الدكتور في عمق وهو يحدق في عينيه قبل أن يجيبه:
ـــ أدهم أراد تكسير قواعد اللعبة ...، واختراق المحظور...
نظر إليه شاهين باستغراب وهو يتراجع في مقعده إلى الخلف:
ــ كيف ذلك يا دكتور...؟
ارتشف شتاين جرعة صغيرة من قهوته، واستطرد وهو يضع الفنجان على الطاولة:
ــ هناك في الغرب يابني علوم صارت من المحظورات على الطلبة العرب والمسلمين...، بل وصارت برلمانات دول بعينها تصدر قوانين تحظرعليهم دراسة بعض تلك العلوم الدقيقة...، مثل الهندسة النووية...، والفزياء الذرية...، وتكنولوجيا الصواريخ والدفع النفاث...، والتقنيات الكميائية والجرثومية ...، وغيرها من تلك العلوم التي يمكن أن تدخل في الاستخدامات العسكرية...
ولا أخفيك سراً إن قلت لك، أن هناك دولاً كالولايات المتحدة الأمريكية، أصدرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عن لجنة المتابعة الأكاديمية، قراراً واضحا بمنع طلاب عدد من الدول العربية من دراسة تلك التوجهات العلمية...، وقد أخبرني بعض الطلاب العرب المسلمين من الذين غادروا أمريكا وحضروا إلى ألمانيا لإتمام دراستهم الجامعية، أخبروني كيف تعودوا أن يطلب منهم مغادرة القاعة، حينما يتعلق الأمر بالتجارب العملية داخل المختبرات الجامعية....، حيث يعتبر تعلمها، أو نقلها خطراً استراتيجياً في سياساتهم، وخطا أحمر على أمنهم القومي...
صمت برهة وأردف بمرارة بالغة:
ــ وللأسف الشديد...، حتى العلوم والأبحاث التي من شأنها أن تفيذ الإنسانية، ولا تشكل خطرا على أمنهم الاستراتيجي حسب رأيهم، فاحتكارها يبقى الحل الأسمى، للحفاظ على ما يسمونه بميزة التقدم والتفوق على الشعوب الأخرى، ضاربين بذلك كل المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية، الداعية إلى تلاقح الحضارات وتفاعلها فيما بينها، من أجل أهداف ترقى عن كل تلك الترهات والنظريات الشاذة...
عدلت لينا من وضعها بحركة حادة وهي تنظر إلى وجه الدكتور باستغراب بالغ وتغمغم:
ــ إلى هذه الدرجة...؟!!! أنت تخيفني يا دكتور...!!
ــ للأسف يا لينا...
هذه هي الحقيقة والواقع المرير لحالة العلم، في عالم الرأسمالية والصهيونية التي يمكن أن تحرق الأخضر واليابس، لكي لا تصل تلك التقنية والخبرات إلى بلدان شرقية واستثمارها...
وأظنكم تعلمون أو سمعتم في السابق عن قصص تصفيات جسدية لعدد من العلماء العرب الذين حاولوا نقل خبراتهم إلى بلدانهم، ورفضوا الخضوع إلى إملاءات المنظمات السرية متعددة الجنسيات.
مال شاهين نحوه متسائلا:
ــ وماذا عن دور الدول المصدرة للأدمغة والطلبة...؟ ألا يفترض بها التدخل لحماية أبنائها...؟
نظر إليه بابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه وهو يقول:
ــ من المفترض أن أكون أنا صاحب هذا السؤال...!! هل حاولتم الاتصال بوزارة الخارجية لبلادكم والاستفسار عن حال والدك...؟
أومأ له شاهين إيجابا بانكسار واضح:
ــ نعم...، حاولنا أكثر من مرة...، وكان يصلنا الرد دائما سلبيا...، وفي عديد من الحالات...، لا نتلقى فيها أي ردٍ أو تفسير...
لوح شتاين بيديه في الهواء قائلا:
ــ وهذا وجه آخر لمانتحدث عنه...، الأمر يتجاوز الجميع...، لأن الذي يتحكم في ذلك الشأن، ليس بالضرورة أن يكون نظام دولة معينة يمكن التواصل معه عن طريق قنوات دبلوماسية معروفة، لأنها منظمات سرية تابعة لوزارات دفاع دول إستعمارية...، تشتغل خارج القانون...، وبعضها تحت حماية بنود من القانون الدبلوماسي العالمي، وهي من تتحكم صراحة في دواليب مجالات الأبحاث العلمية والتقنية العسكرية المتطورة.
ثم نظر إلى شاهين وهو يشير إليه بسبابته ويردف:
ــ والدكتور الصقار كان ضحية لتلك المنظمات السرية...، فحينما فشلوا في إقناعه بالعمل معهم بشتى وسائل الإغراء المتاحة، إنتقلوا إلى الخطة "باء"...، وهي "الاختطاف والاحتجاز"...
وأؤكد لك يا بني، أن حياة والدك ستصبح على كف عفريت، إن علموا بأمر محاولة تحريره من بين أيديهم...
هزت هذه الجملة الأخيرة كيان شاهين، وتراجع في مقعده بحدة وقد انعقد حاجباه في غضب شديد قائلا:
ــ وما حصل ليلة البارحة يؤكد كلامك هذا فعلا يا دكتور...
نظر الإثنان إليه بحدة في نفس اللحظة وهما يتساءلان بلهفة كبيرة:
ــ ماذا حدث...؟؟!!!
خفض رأسه برهة ثم نظر إليهما وهو يقول بنبرة حزن واضحة:
ــ لقد وجد أحد زملاء والدي القدامى مقتولا هذا الصباح، بعد أن إلتقيت به البارحة في منزله، وأخبرني ببعض التفاصيل التي يمكن أن تفيدني في الوصول إلى زعماء تلك المنظمة السرية.
رفع الدكتور رأسه ونظر إليه بلهفة قائلا:
ــ ما اسم هذا الرجل...؟ طبعاً إن كان ذكر إسمه ممكناً...
رد عليه بدون تردد:
ــ إسمه " د.عماد".
فتح شتاين فمه باستغراب وتراجع بحدة في مقعده وهو يقول بذهول:
ــ الدكتور عماد...هذا الرجل كان زميلنا في الجامعة...، وصديق والدك الوفي، والغريب في الأمر أنه بدوره اختفى مباشرة بعد اختفاء والدك عن الأنظار..
أومأ له شاهين برأسه إيجابا قائلا:
ــ رحمه الله...
ثم نظر إلى شتاين واسترسل:
ــ شكرا جزيلا لك يادكتور...، فعلي التحرك بسرعة من أجل محاولة اللحاق بوالداي قبل أن يصيبهما مكروه...
تطلع إليه بنظرة باردة قائلا:
ــ من أين ستبدأ إذن...؟
صمت شاهين لحظة زفر خلالها نفسا عميقا قبل أن يجيبه:
ــ سأراقب منزل الدكتور عماد...، فالمنزل كان باسم والدي قبل أن يحجز عليه لصالح المنظمة كما أخبرني بنفسه، ولابد أن يأتي أحدهم إلى هناك.
تناول الدكتور شتاين منديلا ورقيا من العلبة الموضوعة فوق الطاولة...، وأخرج قلم حبر من جيب سترته الداخلي...، ثم دوَّن عليه إسماً وعنواناً، ودفع به إلى شاهين وهو يقول:
ــ هذا كل ما أستطيع أن أفعله من أجل "الدكتور الصقار"...، حاول أن تبدأ من هنا...
ثم قام من مقعده وودع لينا وشاهين، وسار أمامهما بخطوات منتظمة إلى أن اختفى داخل جناح البحث الطبي.
تبادل الإثنان نظرات باردة بينهما، قبل أن يبادرها شاهين بالشكر على تنظيم اللقاء، ويغادر المكان مسرعا...، ويتركها تائهة بين مجموعة من الأفكار المشوشة الخاصة به، وبحياته...، والتي ما أن بدأت في ربط خيوطها...ونسج تفاصيلها...وترتيبها...، حتى وضعت يدها على فمها وكأنها تحاول إسكات نفسها عن مواصلة الحديث، وسؤال قوي بدأ يتردد صداه في أعماقها...
ــ أيعقل أن يكون هذا...؟!!!
هل يمكن أن يكون له علاقة بأبحاث "الدكتور الصقار" ونظرياته العلمية...؟
هل مارأيته عند المنحدر كان صحيحاً...؟...هل...؟.. وسرت في جسدها قشعريرة غريبة... ، وانعقد لسانها عن الكلام...
وبقوة...
*****


المواجهـــــة
انحرف شاهين بشدة في السماء نحو المجمع الصغير الذي بدأت لوحاته الزجاجية العاكسة للصورة تلوح من بعيد، وقد أحاطت به الأسلاك الشائكة من جهاته الأربع. فحاول جاهدا استراق النظر إلى داخل المبنى، لكن زجاج النوافذ العاكسة حال بينه وبين الرؤية الواضحة، فقرر التحليق فوق المجمع من جديد، والبحث عن إحدى الثغرات التي يمكنه من خلالها التسلل إلى داخله.
لبث برهة، ثم لاحت له شجرة كبيرة تتوسط حديقة صغيرة وسط المجمع، وتحيط بها البنايات من كل جانب. اتخذ له مكانا فوق الشجرة الوحيدة، حيث تمكن من بين أغصانها، من متابعة جميع تحركات الحرس والباحثين المنشغلين بتجاربهم داخل غرف متفرقة داخل المبنى.
وفجأة...، اتسعت عيناه بشدة وهو يشاهد ولوج سيارة سوداء كالتي شاهدها تقل عماد إلى منزله، دلفت السيارة إلى الفسحة الداخلية للمبنى، وتوقفت عند مدخل أحد البنايات التي كتب عليها لافتة صغيرة تشير إلى إدارة المؤسسة.
نزل منها رجل طويل القامة، يضع على عينيه نظارة شمسية سوداء، ويرتدي بدلة سوداء داكنة اللون، ويحمل في يده علبة سجائر من النوع الراقي، حيث تبدو عليه كل علامات القوة والصرامة.
توجه الرجل الطويل مباشرة نحو باب الإدارة، ودفعه بقوة الى أن اختفى داخل الممر.
أدرك شاهين أن ذلك الرجل قد يكون له علاقة بمقتل "د. عماد" واختفاء والديه. فأخذ ثمرة خضراء من الشجرة التي يختبئ بين أغصانها، وألقى بها على زجاج إحدى النوافذ البعيدة عن مدخل الإدارة الرئيسي الذي يقوم بحراسته أحد الرجال المسلحين، توجه الحارس مسرعا نحو مصدر الصوت، وهي اللحظة نفسها التي قفز فيها شاهين كالسهم نحو المدخل واقفا على قدميه.
دلف إلى إحدى الغرف المخبرية الفارغة من الأنشطة البحثية، وارتدى بدلة بيضاء، ثم وضع على أنفه كمامة تعقيم طبية لإخفاء ملامح وجهه عن كاميرات المراقبة داخل الردهة، وسار عبرها بحذر إلى أن بلغ الحجرة التي دخل إليها الرجل الطويل ذو البدلة السوداء.
أخذ يختلس النظر من الباب المغلق عبر ثقب المفتاح، فبدا له ذو البدلة السوداء يقف أمام مكتب رئيسه الذي بدا غاضبا وهو يضرب بيده على الطاولة قائلا:
ــ لقد أخبرتكم أن تتريثوا إلى صباح اليوم التالي، وتتخلصوا منه خارج منزله حتى يبدو الأمر كحادث طبيعي...
هتف ذو البدلة السوداء في وجهه غاضبا من طريقة كلامه التي لم تعجبه في الحديث:
ــ أنا وفريقي نتلقى الأوامر فقط من السيد توماس وليس منك يا سيد راجاخان...
تراجع شاهين الى الخلف لحظة وقد انعقد حاجباه في شدة، بعد أن تناهى الى مسامعه هذا الإسم المدون على الورقة التي أمده بها الدكتور شتاين...وهو يردد في نفسه ماكتب عليها:
راجاخان...، دكتور جامعي هندي سابق، ومقامر...، يعرف بالجشع الشديد وحب المال...، المدير الحالي لمركز الأبحاث الطبية التي كان يديرها والدي...، وقبل ان يسترسل في مراجعة محتوى الورقة، بدأت حدة الصراخ ترتفع في داخل الغرفة.
فعاود النظر عبر الثقب لمتابعة الحديث الساخن الدائر بين الرجلين، حيث استطرد ذو البدلة السوداء قائلا في حزم:
ــ توماس هو الذي أخبرني بضرورة الإسراع في التحرك والتخلص من هذا الخائن عماد، بعدما تم ذكر اسمه في التسجيل الصوتي مع ذلك الرجل الغامض،حيث كان يحاول الإيقاع به...
تراجع المدير في مقعده وهو يشعل سيجاره الكوبي بغضب وينفث دخانها في الهواء بعصبية قائلا بنبرة تهكم:
ــ ماذا...؟ رجل غامض...؟ ألم تسجل كاميرات المراقبة الخارجية ملامح الرجل...؟
رد عليه ذو البدلة السوداء بدون تردد:
ــ نعم يا سيدي...، قمنا بمراجعة تسجيلات كاميرات المراقبة لحظة بلحظة، ولم نسجل دخول أي رجل عبر الباب الرئيسي، أو حتى من الخلف عبر أسوار المنزل. فقط في التسجيل تظهر صورة الشاب الذي حكى عنه عماد، وقال إنه يسأل عن "د.أدهم"، كما تظهر تسجيلات الكاميرات جسما غريباً يشبه طائراً ضخما يصطدم بالنافذة العلوية للحجرة التي يقيم بها عماد، لكننا لم نتمكن من تحديد طبيعته بسبب السرعة العالية التي اصطدم بها بزجاج النافذة.
نظر إليه مدير المكتب باستغراب، ثم مال نحوه قائلا بخبث ماكر:
ــ جسم غريب...!! هل تمزح معي...؟!!
ثم تراجع في مقعده وهو ينفث دخان سيجاره في هدوء وكأنه يحدث نفسه:
ــ من أين دخل هذا الجني إذن...؟؟!!
ــ دخلتُ من النافذة...
قالها شاهين وهو يدلف إلى داخل حجرة اجتماع الرجلين...، فاستدار ذو البدلة السوداء في خفة وهمَّ باستخراج مسدسه من جراب تحت إبطه، قبل أن يباغته شاهين بعدة لكمات قوية على الوجه والبطن، فسقط مغشيا عليه أمام زميله الذي التصق بمقعده في رعب وبدا مشدود الانتباه لما يحدث، مندهشا من سرعة الزائر المذهلة.
قفز راجا من مقعده نحو درج مكتبه، وأخرج منه مسدساً صغيراً وجه فوهته إلى صدر شاهين، وهي نفس اللحظة التي فُتح فيها باب المكتب من خلف ظهره...، فاستدار بسرعة ليجد فوهة مسدس آخر تتجه نحو رأسه، وقد تأهبت أصابع الحارس بدوره للضغط على الزناد.
ــ الآن...
كانت تلك هي آخر كلمة تفوه بها شاهين وهو واقف بين فوهتي مسدسين مصوبين إلى رأسه وصدره.
حاول الحارس جاهداً إطلاق النار، فوجد يده مشلولة عن الحركة وهو لا يكاد يصدق ما يرى، ثم التفت شاهين نحو المدير الذي كان يحاول بدوره في يأس الضغط على زناد المسدس، قبل أن يكتشف أن يده قد صارت مضرجة بالدماء، عاجزة عن الحركة بشكل مرعب، وهو يحاول فهم ماحدث في أقل من ثانية واحدة.
ففي اللحظة التي دخل فيها الحارس إلى الغرفة، أدرك شاهين موقفه الخطر بين فوهتين، فأدخل يديه وراء ظهره بسرعة خرافية، ثم أخرج منها سلاحه السري...، ريشتان كالسهام في حدتهما وقوتهما، أرسل كل واحدة منهما في اتجاه مختلف عن الأخرى، بدقة عالية وبراعة فائقة، إلى نقاط ضعف محددة من يدي الرجلين، فتوقفت أصابعهما فورا عن الحركة، وأصيبا بتشنج غريب سرى في أطراف جسدهما...
وشلت حركتهما بالكامل...
سقط الحارس مغشيا عليه من شدة الصدمة، وتعطلت بعض أجزاء جسمه عن العمل، في حين كان السيد خان يحاول يائسا التخلص من الريشة، وهو لا يكاد يقوى حتى على الصراخ بفعل نفس التأثير العصبي الذي حدث لحارس المركز.
توجه شاهين خلف مكتب راجا وهو يوجه مسدس ذي البذلة السوداء إلى رأسه قائلا بغضب شديد:
ــ إسمع جيداً يا سيد راجاخان...، إذا كانت حياة غيرك تهمك أكثر من حياتك، فلا تجتهد في تضييع وقتي، بحيث ستجد رصاصة واحدة تستقر في قاع رأسك، وإذا كنت تريد أن تحظى بفرصة أخرى لاحتساء قهوة بلدك الهندية، وتدخين السيجار الكوبي الفاخر الذي تحب، فعليك الاتصال فورا بتوماس، وطلب حضوره إلى هنا...، وأكرر لك مرة أخرى أني أقول ...فوراً.
ثم مال نحوه في بطء وهو يسحب إبرة أمان المسدس، ويضع فوهته تحت ذقنه قائلا ببرودة أعصاب بالغة:
ــ تقدير الموقف مسألة مهمة للغاية يا سيد راجا...، ولا أظنك مستعجلا في الرحيل عن هذا العالم الجميل، المدنس بالقاذورات من أمثالكم.
جحظت عينا الرجل في خوف شديد، وأخذ جبينه يتصبب عرقا وهو ملتصقٌ بمقعده ويغمغم بصوت مختنق مبحوح كالطفل الصغير الذي يخشى العقاب:
ــ حسنا...، حسنا...، سأفعل ما تطلبه مني...، شرط أن تطلق سراحي بعد مجيء توماس....
هتف في وجهه وهو يضغط بالمسدس على ذقنه بقوة مؤلمة:
ــ أنا أيها الوغد من يضع الشروط هنا....، وإن قلت لك حياتك مقابل حياة رئيسك، فسأفعل...
رفع راجا سماعة الهاتف بتوتر شديد، وأدخل بعض الأرقام بعصبية وارتباك واضحين وهو يرمق شاهين بحذر شديد، ثم انتظر لحظة الى أن جاءه الرد من الطرف الآخر يصرخ في وجهه بعنف:
ــ ماذا تريد يا هذا...؟ كم مرة أخبرتك أن لا تتصل بي على هاتفي الشخصي...
حاول راجا جاهدا أن يحافظ على هدوئه وهو يرد عليه:
ــ سيدي هناك أمر طارئ يلزمنا الحديث حوله بشكل عاجل...
رد عليه توماس دون تردد:
ــ ألا تستطيع تأجيل الأمر إلى الغد...، فأنا مشغول جدا في هذه اللحظة...
أدرك راجا خطورة الموقف إن فشل في إقناعه بالمجىء، فرفع من حدة صوته قائلا بحزم:
ــ الأمر لا يحتمل التأخير...، فهناك تطورات خطيرة في موضوع مقتل الدكتور عماد...، ولا أستطيع إخبارك بتفاصيلها عبر الهاتف....
كان ذلك الأسلوب وتلك الكلمات كافية ليرد عليه توماس بتوتر قبل أن يغلق الخط بينهما:
ــ تباً لكم جميعاً...، أنا قادم في الحال...
مرت دقائق معدودات قبل أن يلمح شاهين سيارة دفع رباعي سوداء تدخل إلى ساحة المبنى، وتُوقفُ محركها مباشرة أمام مدخل الإدارة. نزل منها رجل طويل القامة، بني الشعر، قوي البنية، شديد قسمات الوجه، بخدود بارزة، وعيون ضيقة، مع حاجبين منعقدين بشكل دائم.
وضع شاهين راجا على مقعده، وطلب منه أن يدير رأسه نحو النافذة متظاهرا بالنظر عبرها عند دخول رئيسه.
أخذت خطوات هادئة ومنتظمة ترتفع شيئاً فشيئاً عبر أرجاء الممر وهي تقترب من غرفة المدير. وفجأة...، توقف وقع الحذاء على الأرض مباشرة وراء باب الحجرة المغلق، فانتصب شاهين خلف الباب ينتظر دخول الهدف للانقضاض عليه.
وفجأة، سمع صوت طقطقة يشير الى إزالة حركة الأمان عن المسدس، فأدرك أن توماس ربما قد رابه شىء ما حول المكان، وهو يتأهب لإطلاق النار على أي خطر محتمل قد يهدده.
دفع توماس باب الحجرة برجله بعنف وهو يصوب فوهة مسدسه داخل الغرفة، ثم أخذ يتطلع بعينيه الضيقتين لحظة بحذر شديد داخلها، فبدا له راجا جالسا على مقعده، في مواجهة النافذة، فازدادت شكوكه بوجود خطر ما، وتحفزت أنامله للضغط على الزناد.
في تلك اللحظة، استدار راجا ببطء ينظر إليه في يأس واضح، وقد وُضعَ على فمه لصاق يمنعه من التفوه بأي كلمة.
وبحركة بالغة الليونة، إرتمى شاهين على الأرض أمام الباب كما يفعل حراس المرمى في حالة الامساك بالكرة، وأطلق ريشة حادة من أسفل جسد توماس الذي كان قد ضغط على زناد مسدسة بدون تردد.
إنطلقت الرصاصة من مسدس توماس بشكل عشوائي كرد فعل سريع من رجل مخابرات محترف، لتستقر مباشرة في صدر راجا الذي جحظت عيناه في ذهول، وبدأ يلفظ أنفاسه والدماء تنزف من الثقب الذي احدثته الرصاصة على سترته البيضاء.
وقبل أن يوجه توماس فوهة مسدسه نحوه من جديد، عاجله شاهين بريشة أخرى، استقرت في كتفه الأيمن بعدما شلت كامل جسده عن الحركة، واتسعت عيناه في رعب وألم شديد، حيث اكتفى بالتحديق في تلك الريشة الغريبة بعجز مطلق، دون أن تستطيع عضلاته التحرك لإزالتها.
أمسكه شاهين من سترته بقوة ودفع به داخل الحجرة، ثم أجلسه على مقعد أمام المكتب وهو ينزع عنه الريشة من كتفه، ليسري الدم في عروقه من جديد حتى يتمكن من التواصل معه.
أخذ توماس يتفرس ملامح الشاب الواقف أمامه بحنق شديد وعجز مطلق، ويوجه إليه نظرات غاضبة حاقدة، وهو يضغط على جرحه بيده لمحاولة منعه من النزيف قائلا:
ــ ستدفع ثمن مافعلته غاليا و ستـ....
وقبل أن يسترسل في حديثه، هوى عليه شاهين بضربة قوية على فكه والشرر يتطاير من عينيه، ثم هزه من سترته في عنف وهو يصرخ في وجهه بغضب شرس:
ــ ليس قبل أن اقتص منك ومن أمثالك أيها المجرم السافل...
ثم دفع به على المقعد واستطرد:
ــ ليس لدي الوقت الكافي لأضيعه مع حقير مثلك...، أريد منك معلومات دقيقة، وإلاَّ سيكون هذا اليوم آخر أيامك التي ترى فيها نور الشمس.
رمقه توماس بنظرات تقدح شررا وتفوح بحقد شديد، وقد انعقد حاجباه بغضب واضح وهو يبصق الدم من فمه على الأرض قائلا:
ــ أتظنني حقاً سأخبرك بــ....
وقبل أن يكمل جملته مرة أخرى، كانت الريشة التي انتزعها شاهين من كتفه ماتزال في يده، فهوى بها على فخده بعنف قائلا بدم بارد:
ــ إذن لا بأس من تأجيل بعض المواعيد...، ما دمت مُصراً على الاستمتاع بهذه الجلسة.
رفع توماس رأسه المترنح بصعوبة في وجهه وهو يقول بصوت خافت منهك:
ــ أنت ترتكبتُ خطأً فادحا أيها الفتى...، وليست لديك أي فكرة عن من تواجه...، سأنال منك و...
وقبل أن يكمل جملته، ارتطمت قنبلتان يدويتان ألقيتا عن طريق النافذة لتهشما زجاجها وتستقران على أرضية الحجرة بقوة وهما يصدران أزيزا مخيفا...، وملأ الغرفة غاز أعصاب قوي المفعول، أخضر اللون، انتشر بسرعة بالغة في جميع أرجائها.
خيمت سحابة كثيفة من الغاز داخل الغرفة، وصارع شاهين لحظات للحفاظ على هدوئه وثباته، بعدما لمح مجموعة من الأشخاص المقنعين بكمامات غاز تغطي معظم أجزاء رؤوسهم يدلفون داخلها، ويضعون كمامة سوداء على أنف توماس لحمايته من تأثير الغاز وهو يهتف بغضب:
ــ لقد تأخرتم أيها الأغبياء...، كاد أن يُقضى علي...
وقبل أن يسترسل هذه المرة في تفكيره وتحليل خطورة الموقف...، شعر شاهين بشلل تام وتشنجات تسري في جميع أطراف جسده، فجثا على ركبتيه أمامهم يسعل بقوة وهو يحاول مقاومة الغاز، ثم رفع رأسه في بطءٍ شديد يتفحص المكان من حوله، مع آلام حادة في عيونه، ليكتشف أربعة بنادق آلية موجهة نحو رأسه بشكل مباشرة...، ودون أن يقوى على مقاومتها...
حاول جاهداً أن يرفع يده ليزيحها عنه وقد أخذت رؤيته تزداد ضبابية، بسبب غشاوة غريبة على بصره، وتعب شديد سرى في جميع أعصابه، مع رغبة في التقيؤ مصحوبةٍ بصداع قوي شتت أفكاره وحركته.
فأخذ يحرك يديه بشكل بطيءٍ في الهواء، وهو يحاول جاهداً عدم الاستسلام لآثار الغاز على جسده، وماهي إلا لحظات معدودة...، حتى تهاوى جسده على أرضية الغرفة...، وفقد وعيه...،...
وفتحت جهنم أبوابها...
*****





سَكُّ العَقْرَب
دفع توماس الباب الحديدي بقوة ودلف إلى القاعة الكبيرة أسفل بناية الأبحاث وهو يطوي قميصه الأبيض من معصمه إلى مرفقه، قبل أن يرفع نظره إلى الطبيب ويسأله باهتمام بالغ:
ــ هل قمت بحقنه...؟!
رد عليه بلهفة وكأنه كان ينتظر هذا السؤال:
ــ نعم سيدي، لقد حقنته بجرعة مزدوجة من محلول الأتروبين والفاليوم...
لحظات قليلة وسيتمكن من استعادة وعيه بشكل تدريجي...
قال الطبيب ذلك وهو يزيل قفازات يده البلاستيكية، ويرمي بها في سلة مهملات موضوعة في أحد أركان القاعة المظلمة إلاَّ من بعض الأضواء الخافتة في أجزاء معينة منها.
تناول توماس كوباً كبيرا من الماء من فوق الطاولة، وتوجه نحو شاهين المقيد من يديه بسلسلة مشدودة إلى حلقة حديدية في سقف القاعة، وجسده يتدلى إلى الأرض، وسكب على وجهه كوب الماء وهو يهتف بغضب:
ــ ليس لدي الصبر الكافي للانتظار، لكي أعرف من يكون هذا المغامر الذي يمتلك كل هذه الجرأة والشجاعة لاقتحام سَك العقرب...
رمقه الطبيب دون أن ينبس ببنت شفة بنظرة تخفي وراءها ماتخفيه، عن قدرته في الإيقاع بأعدائه، وبراعته في استخراج المعلومات التي يريدها منهم بأبشع طرق التعذيب النفسي والجسدي الممنهج على ضحاياه. فاكتفى بمتابعته بنظرات جانبية، وهو يقوم مع أحد معاونيه بتثبيت مشابك حديدية كأسنان المشط، مربوطة بنهايات مجموعة من الأسلاك الكهربائية بأطراف الشاب المعلق على السلسلة. ثم همَّ بالخروج عبر المدخل الوحيد وهو يغمغم:
ــ اللعنة... لقد بدأت "الحفلة "...
وفي تلك اللحظة بعينها، بدأ شاهين يستعيد إدراكه ووعيه شيئاً فشيئا، بفعل الآلام القوية والمتزايدة الناتجة عن اختراق أسنان المشابك الحادة لطبقته الجلدية بمليميترات قليلة، وانغراسها داخل عضلاته، في تماسٍ مباشر مع الأعصاب الحسية والحركية من جسمه، وليكتشف أنه صار معصوب العينين، ومكبلا من معصميه بإحكام إلى الأعلى، ورجله لا تكاد تلامس أرضية القاعة.
اقترب منه توماس بهدوء ونزع عنه عصابة العيون، وأخذ يتفرس ملامحه لحظة قبل أن يبادره بالكلام:
ــ لست أدري لماذا يخاطر شاب مثلك في مقتبل عمره بمثل هذه المهمات المستحيلة، والفاشلة في تحرير رهائننا...
بادله شاهين بنظرات حادة مماثلة دون أن ينطق بكلمة واحدة، قبل أن تمتد إليه يد العميل، لتشده من شعره للخلف بقوة وهو يقول بصوت كحفيف الأفاعي:
ــ يبدو أنك لا تدري الجحيم الذي أقحمت نفسك فيه.
ثم أخذ يتفصح عيونه لحظة قبل أن يمسكه من قميصه ويَقُدَّهُ عنه بعنف ويسترسل:
ــ دعنا نكتشف أولا مصدر تلك الريشة الحادة التي استخرجتها من وراء ظهرك..!!
ثم مال برأسه أمام وجهه بشكل مسرحي وأردف:
ــ هل كانت تلك حركة من حركات الخفة...؟؟ أم أنك تحب ممارسة الألعاب السحرية...؟ أم أنه تكتيك جديد من رجل مخابرات محترف...؟!!
ثم دس يده في جيبه الخلفي واستخرج منه سكينا صغير الحجم حاد الشفرات، فتحه ووقف وراءه وهو يمرر رأس السكين على أنحاء من ظهره ويقول بنبرة ماكرة مستهزئة:
ــ من أين استخرجت الريشة...؟!! من هنااا....؟! أم من هناااا...؟!!
أمْ من هناااااا...؟!!!
هتف بهذه الجملة الأخيرة وهو يغرس نصل السكين بقوة مؤلمة في ظهر شاهين الذي حاول جاهداً كتم أنينه في كبرياء.
ثم مال نحوه من جديد يلوح بيديه في الهواء بصورة بهلوانية كالمجنون، وقد ارتسمت على وجهه بشكل تمثيلي ملامح الشعور بالألم الذي حاول أن يخفيه شاهين وهو يقول:
ــ آآآه....، عفواً...، عفواً...، سامحني أرجوك....، لقد أخطأت المكان...
وكأنه في عرض مسرحي، انقلبت ملامحه فجأة إلى تجسيد دور شخص يتكلم بجدية بالغة ويردف:
ــ أعدك...، أعدك...، أنني لن أخطئها هذه المرة...، وسأستخرج ريشتك الساحرة...
وهوى من جديد على ظهره بنصل السكين، محدثا له جرحا عميقاً... وسالت دماءٌ غزيرة من جرحه الغائر وهو يحاول كتم آلامه، رغم صوت الأنين القوي المتردد في داخله، والذي اكتسح مجمل ملامح وجهه وجبينه يتصبب عرقا، وقد صار لتنفسه السريع صوت كالزمجرة.
وبحركة حادة، قفز توماس واقفاً أمامه وهو يضع شفرة السكين الحادة على حنجرته ويسأله بغضب:
ــ من أنت أيها الوغد....؟ من تكون...؟!!
تردد صدى السؤال في داخله بعمق، وشعر شاهين من خلاله أنه ربما هو أحوج منه للإجابة عن سؤال كنهه وذاته:
ــ من أنا....؟ ومن أكون...؟!!
ودون أن يمهله مزيداً من الوقت للاكتشاف، أدار توماس للحظات زر الدائرة الكهربائية المرتبطة بأطرافه، فهز جسده تيارٌ كهربائي عنيف صرخ معه شاهين صرخة مدوية وهو يردد بغضب وحبيبات العرق تتصبب من جبينه:
ــ أنا شاهييييييين...، أنا شاهييييين...، أنا عاشق الحرية....
ثم أخذت حدة صوته في الانخفاض تدريجيا بعد أن انقطع التيار عن جسده، فلبث يردد بشكل بطيءٍ، ولهجة منهكة وهو مطأطأ الرأس أمام صدره:
ــ أناااا... عاااشق... الحرية...، أنااا... شاهييين...
ــ يبدو أن هذه الدرجة من التيار الكهربائي لا تجدي معه نفعاً، ثبتها على النصف...
قالها توماس بنبرة آمرة لمساعده الذي زاد من سرعة التيار بلهفة كبيرة وهو يقف أمام لوح التحكم، قبل أن يستطرد رئيسه في طرح أسئلته صارخا:
ــ ماهي جنسيتك...؟ و ماهي هويتك...؟ ومن تكون...؟!!!
تكلم...؟!!!
ساد الصمت بينهما برهة وهو يتطلع إلى شاهين، قبل أن يشير لزميله بالضغط على زر تشغيل الدائرة الكهربائية...، ومن جديد...
اهتز جسده في عنف للحظات بدت كسنوات، وارتعدت كل عضلاته بقوة شديد دون أن ينبس هذه المرة ببنة شفة.
ثم رفع شاهين عيونه في بطءٍ نحو توماس، وقد اتسعت حدقاتهما بشكل ملفت، واشتد إحمرارها وهو يهتف بنبرة مفعمةٍ بالتحدي، وقد ارتفعت حدة شهيقه وزفيره من جديد فصار لها صوت قوي كزمجرة الذئاب:
ــ موطني كل بلاد العرب، دمائي تمتد من أقصى المغرب الى صحراء النقب، أنا الإبن والوريث الشرعي للوطن، أنا صوت الحرية والضمير المنحاز للحق في الوطن، أنا آلُ المقاومة ضد المستعمرين والأعداء، أنا فورة التمرد وثورة الحق على أهل الاستبداد والكبرياء، أنا ابن الأرض... والبحر... والسماء...
ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه توماس وهو يرفع يديه ويصفق بها في استهتار ويقول بعدما اكتسب صوته نبرة جادة شيئاً ما:
ــ جيد... جيد...
هل تعلم...؟ أنا قارئٌ جيدٌ لكتاباتكم وإنتاجاتكم الأدبية في الشعر والمقالة وباقي الأجناس الأدبية، ولا أضنني أفشي لمثلك سراً، إن قلت أننا لدينا في إسرائيل وحدة من المستعربة، متخصصة فقط في متابعة إنتاجاتكم الأدبية بمختلف أنواعها.
ثم هز كتفيه وهو يلوح بيديه في الهواء ويسترسل متهكما:
ــ طبعاً... ليس حباً في عيونكم السوداء أو كتاباتكم، وإن كنت أستحسن بعضها، لكن لقياس مستوى الوعي والفهم لقضاياكم الاستراتيجية، والبحث عن نقاط ضعفكم لإذكائها، ونقاط قوتكم لتدميرها قبل أن تتعاظم لتشكل خطرا على أمن شعبنا ووطننا القومي.
استقبل شاهين كلامه برسم إبتسامة مستهترة بصعوبة بالغة على طرف فمه، لمقابلة نبرته المتهكمة وكلماته المستفزة، ثم رفع رأسه نحوه بجهدٍ جهيد وجبينه يتصبب عرقا بغزارة وهو يقول:
ــ هذه هي حقيقتكم أيها المستوطنون، تعيشون على أنقاض الجماجم ودماء الأبرياء، لأنكم عاجزون رغم إمكانياتكم العسكرية الضخمة التي يمدكم الغرب بمعظمها عن تحقيق الأمن والإستقرار، في بيئة تلفظ كيانكم وسياساتكم المعادية لكل ماهو عربي، ولأنكم مازلتم عاجزين عن إيجاد عقيدة حقيقية تحاربون من أجلها وهوية موحدة لأجناس شتاتكم ومرتزقتكم.
حدق فيه توماس بنظرة حقد كبير وهو يصرخ في وجهه بغضب:
ــ أنتم العرب تجيدون فنون الخطابة والإنشاء، لكنكم تعجزون عن إمكانية الفعل وامتلاك إرادة التغيير الحقيقي، حتى داخل أوطانكم المهترئة، التي يضرب الاستبداد بجذوره في بنيتها...، فكفاكم مكابرة في الكلام...!!!
رد عليه شاهين وهو يحدق في وجهه بعيون براقة شديدة الإحمرار:
ــ لأنكم تدركون أكثر من سادتكم في الغرب، أن الفاصل بيننا وبين نهضة امتنا، هي حريتنا التي تخشون منها، وتسعون مع دول الاستعمار جاهدين لمحاربتها، لإبقاء بلداننا تحت أنظمة حكم استبدادي موالية للغرب.
أجابه توماس بعد أن عاد لتقمص دور مسرحي جديد، لكن هذه المرة بنبرة المتهم البريء:
ــ نحن...؟!! نحن لا نختلق المشكلة يا عزيزي...، فيكفي أن نعثر عليها....
ثم رفع يديه في الهواء وهو يشكل من حركة أصبعيه اشارة مزدوجتين لما سيقوله:
ــ "ونساعدكم بإمكانياتنا المتواضعة جداً على استفحالها فقط"...
ثم عاد للحديث بنبرة المتهم البريء:
ــ نحن مثل المنقبين عن النفط، ننقب عنه فقط...، وما إن نعثر عليه حتى نحفر الآبار من أجل تفجيره واستثماره...، وبناء على هذا المبدأ تعمل لجاننا المختصة التي تضم عديد الباحثين من أبناء جلدتكم وغيرهم في مختلف المجالات، للتنقيب عن المشاكل الكبرى الكامنة تحت أرضكم، والمعتم عليها...، من أجل إظهارها...، وإنضاجها...
ثم ضغط على أصابعه مع بعضها محدثا فرقعة صغيرة وهو يغمز بعينه ويقول:
ــ بوووومم...، ومن ثم تفجيرها....
في تلك اللحظة بالضبط، استعاد شاهين نصائح جده التي لقنه إياها قبل سفره، حينما قال: (المعارك يابني تربح قبل خوضها، فبقدر معرفتك بعدوك وخصائصه، ودراسة قدراته وتحليلها، وإدراك نقاط ضعفه وقوته، بقدر مايمكنك التعامل معها والتفوق عليه. لأن المعرفة بعدوك هي نصف النصر، والجهل به هو كل الهزيمة).
فقرر الإسترسال في الحديث مع عميل المخابرات العسكرية الإسرائيلي الذي تحمس للنقاش وبدأ في كشف بعض جوانب السياسة الصهيونية في العالم العربي، من أجل فهم رؤية عدوه ومختطف والديه. فقال له بلهجة مستفزة:
ــ مشكلتكم أنتم الصهاينة، أنكم تكذبون وتصدقون كذبكم...، فأنتم تتحدثون وكأنكم أنتم من تسيطرون على العالم وتتحكمون في مساراته.
رمقه توماس هذه المرة بنظرة حادة غريبة وهو يتفرس ملامحه قبل أن يقول:
ــ الغريب أن معظم كتاباتكم العربية تحكي عن بروتكولات حكماء صهيون وكأنها مرجع مقدس لفهم الحركة الصهيونية وسياسات اليهود وأساليبهم للسيطرة على المنطقة العربية والعالم، وهذه من النوادر التي أستمع فيها لكلام يناقض ما يجمع عليه أغلب الكتاب والمنظرين العرب المتحمسين الى رمينا في البحر.
رد عليه شاهين بلهجة واثقة:
ــ يبدو أن مراكز مراقبتكم واستطلاعاتكم قد أغفلت أو غاب عنها، أن الشيء الثابت في حياة الشعوب هو التغيير، ولذلك فهي مازالت تبني خططها ونظرياتها الأمنية على معطيات أكل الدهر عليها وشرب.
رفع توماس يده وأخذ يشير بسبابته نحوه ويقول:
ــ أكثر ما يثير دهشتنا صراحة في العرب والمسلمين، أنكم مهما اعترفتم بضعفكم وتخلفكم الحالي، إلاَّ أنكم تصرون على امتلاك تلك القناعة الدينية العميقة بأن "الله والحق" معكم، وسأعترف لك بسر خطير، لأنني أدرك يقيناً أنك لن تخرج به حياً من هذا المكان...
وهو أننا نعترف مع أنفسنا وداخل مراكز قرارنا، أن عقيدتكم هي العقيدة الوحيدة في العصر الحديث، التي تمتلك هذه الطاقة الروحية العجيبة، في مواجهة الحضارة الغربية بكل جبروتها وعنفوانها.
ثم ضم يديه وضغط عليها وهو يهزها بشكل خفيف وكأنه يتحسر على ما سيقول:
ــ لكنكم... ولحسن حظنا لا تحسنون إستخدام تلك القوة الدفينة، التي لو إمتلكتها جيوش الغرب لفعلت بها الأعاجيب.
صار توماس يتحرك أمامه بخطوات قصيرة وهو ينظر إلى الأرض ويتحدث بأسى كبير، وكأنه يلقي محاضرة عسكرية أمام مجموعة من الضباط ورجال المخابرات قبل إلتحاقهم بمهامهم الفعلية، ويتمنى لو اجتمعت تلك الخصال في عملائه وجنوده ليغزو بهم العالم وهو يسترسل بحزم:
ــ إنها قوة حقيقية عجيبة...، تثير الحياة في النفوس...، وتدفع المحارب لاقتحام الأهوال والأخطار...، وتفجر الطاقات داخل النفس للبذل والفداء.
كما أنها ضمانة مثالية للولاء للقائد والزعيم في ميدان القتال...، وهي قوة ذاتية تدب لها العافية والحياة في الجسد المريض المنهك وإن طال سقمه. بل والأخطر من ذلك أنها شيء لايمكن دراسته وتقييمه بعلامات أو نسبٍ مئوية من طرف أعتى مراكز الأبحاث والدراسات...
ثم أضاف بنبرة إسغراب لاتخطئها العين:
ــ إنه...إنه شىءٌ لا يمكن توقع مداه وحدوده، وتلك أسؤ وأخطر أنواع المواجهة التي قد يجابه بها أي محارب في ساحة المعركة...
نظر إليه شاهين بريبة وهو يسأله بحذر:
ــ إذن لماذا تصرون على تدمير عالمنا إن كنتم تدركون أن حربكم مع أبنائه وشعوبه خاسرة في نهايتها، رغم انتصاركم في بعض المعارك والجولات...؟!!!
تطلع توماس في وجهه لحظات بشىءٍ من التردد، قبل أن يحسم أمره ويجيبه وقد ارتسمت على طرف فمه ابتسامة خبيثة وهو يقول:
ــ هناك قاعدة تاريخية وعسكرية إستراتيجية تقول " لايمكن القضاء على الحضارات العظيمة بفعل العامل الخارجي، قبل أن تقضي هي على نفسها من الداخل"...
لهذا فإننا قررنا اللجوء إلى الحل السحري لتدمير أية عقيدة عنيدة مشاكسة...، أي من خلال المؤمنين بها أنفسهم...
ثم أخذ نفسا عميقا و أضاف بحقد شديد:
ــ نعم... تدميركم من الداخل بتوفير الأدوات اللازمة لذلك فقط...
ولقد نجحنا أخيرا في بلوغ مرحلة متقدمة من الخطة. بعدما توصلت لجان باحثينا التي تضم مسلمين ومتخصصين بالإسلام، إلى أهم خطوة من أجل ذلك، حيث تمكنا من خلق قطبين متناحرين يشقان دينكم وصفوفكم في الصميم على مبدإ طائفي، وهكذا يتسنى لنا التغلغل وتدمير العالم الإسلامي بأقل الخسائر في صفوف جنودنا وجيوش الدول الصديقة والحليفة لنا، وبذلك تحافظ أمتنا اليهودية على نقطة التفوق العسكري والعلمي والإستراتيجي في قلب عالمكم العربي كحقيقة مطلقة، وكواقع فعلي على الأرض...
بادله شاهين هذه المرة بنظرة استهتار وهو يقول:
ــ هذه حقيقة نسبية تعتقدونها وتأملون بها...، لأن الحقيقة التي لاتجرؤ على ذكرها وتخشون منها، هي أن وجود كيانكم بحد ذاته مرتبط بمصالح غربية فقط ، وعصركم سينتهي بانتهاء النفط في الجغرافيا العربية. وهذا الغرب بدوره يستخدمكم للحفاظ على مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، بمغازلة مشاعر من هم مثلك من القادة العسكريين المتطرفين، وإيهامهم بالدعم المطلق وضمان أمن ما تسمونه بوطنكم القومي الخالص لليهود، وبنفس الوقت يتخلص من إزعاجات اليهود وعدائهم التاريخي للمسيحية وللغرب بصفة عامة، من خلال تحويل هذا العداء ناحية العرب والمسلمين، بعدما عاشوا قرونا طويلة في أكناف العالم الإسلامي، وظلوا في تقارب وتحالف مع أبنائه، وساهموا في صنع حضارته من الشرق الى الغرب.
وما كيانكم الذي تدعي أنك تحارب من أجله، سوى جزء من تلك الخطة الجهنمية التي تهدف الى تفريغ العالم الاسلامي من جميع أقلياته الدينية اليهودية والمسيحية، من أجل مواجهته واتهامه بالتخلف والتعصب ومعاداة الآخرين، لإقناع شعوبهم ونخبهم السياسية والمثقفة بالسيطرة على مقدراته وثرواته، وتبرير جرائمهم بحق شعوب المنطقة...
ــ سيدي...، لقد تمكنا من تحديد هوية الشخص الذي كان يقف عند باب منزل "د.عماد" قبل اغتياله ويسأل عن "د.أدهم"...
قال ذلك رجل قصيرالقامة يحمل ملفاً في يده وهو يدلف إلى القاعة ويناوله الى توماس.
أخذ عميل المخابرات يتفحص صورة الشخص داخل الملف، قبل أن ينتقل بعينيه نحو شاهين ويقول باستغراب:
ــ إذن أنت هو من كان يسأل عن "د.أدهم" وزوجته.
ثم نظر الى العميل الواقف أمام اللوح الكهربائي والذي كان يتابع كل حديثهما بشغف بالغ، وأشار إليه قائلا بحزم:
ــ على أقسى درجة...
واهتزت عضلات جسد شاهين المفتولة في عنف بالغ من جديد للحظات، وكادت معها عروق دمه الظاهرة على ذراعيه وعنقه وصدره أن تنفجر من شدة ضغط الدماء داخلها...
ثم انفجر مزمجرا زمجرة قوية ممزوجة بعقعقة الصقور هزت أرجاء المكان وهو مغمض العينين وقد رفع رأسه للسماء...
وفجأة...، اتسعت عيون توماس وزميله في ذهول بالغ...، وهما يشاهدان تلك التصدعات والتشققات التي بدأت تحدث في منطقة الجدار العلوي الذي رُبطت في نهايته السلسلة الحديدة المعلق بها شاهين...، فانعقد لسانهما عن الحديث، وتراجعا في رعب وكأنهما يشاهدان أدمياً يتحول الى شبحٍ أسطوري أمامهما...
ولم يخطئا في تقديرهما...
فتح شاهين عينيه وقد اتسعت حدقاتهما بشكل غير مسبوق واشتد احمرارهما، فصارتا كجمرتين ملتهبتين تتوسطهما كرة سوداء، وبرزت من يديه ورجليه مخالب وحشية كأسنة الرماح في حدتها وصلابتها، وأخذ ريشٌ قوي يشق قميصه ويغطي كافة أطراف جسده، وبقوة خارقة تمكن من انتزاع السلسلة الحديدة عن موضعها، وأخذ يلوح بها في الهواء، وهي تكسر كل ما تصادفه من تجهيزات إلكترونية ولوحات كهربائية في حركة دورانها حول جسده، وارتفعت حدة شهيقه وزفيره فصار يزمجر بقوة مخيفة أفزعت كل من يشاهده...
تحركت يد توماس في رعب وتوتر تتحسس مكان المسدس في غمده الموصول بحزام أسود وراء ظهره، فنظر إليه شاهين وهو يعقعق بقوة قبل أن يرسل إليه ريشة قوية من ظهره شلت حركته من جديد. وقبل أن يستجمع العميل الآخر شتات فكره وتتحرك يده للضغط على زناد مسدسه، عالجه شاهين بريشة حادة أخرى استقرت في عنقه، فسقط مغشياً عليه من هول الصدمة وشدة الألم.
ومن دون سابق إنذار، دلف الى القاعة أربعة عملاء مدججين بأسلحتهم الرشاشة من فرقة القوات الخاصة لحماية زعيمهم توماس، ووجهوا فوهات أسلحتهم الى صدره ورأسه...، ومن دون أي ذرة تردد....، أو انتظار أمرٍ لإطلاق النار...، انطلق الرصاص من كل صوب وحدب نحو هدفهم المنشود...
نحو شاهين...
بدا المشهد في رمته كزوبعة هوجاء عصفت بالقاعة للحظات، وبسرعة البرق، قفز شاهين من مكانه كإعصارٍ مدمر نحوهم، فدار حول نفسه دورة كاملة في الهواء لتجنب سيل الرصاص، وقبل أن تطأ قدماه أرضية المكان، كان قد وجه الى إثنين منهما ريشتين نحو نقاط ضعيفة محددة بدقة متناهية من أجسادهما، فسقطا على إثرها دون حراك، بعدما شُلت حركتهما، وتشنجت جميع أعضائهما الحيوية، وماكادت قدماه تلامس الأرض، حتى هوى بلكمة فولاذية على وجه العميل الثالث، مزجت بين لحم أنفه وعظام فكه، فأظلمت السماء أمامه وأسدلت جفوفه أبوابها في اضطراب، وبركلة هوائية نصف دائرية معقدة، كالتي يستعملها لاعبو رياضة الكارتي في قتالهم، امتدت رجله كالمطرقة لتضرب صدر الرجل الرابع قوي البنية، الذي انتفض جسده في قوة وترنح على إثرها خطوات إلى الوراء وهو يحاول إستعادة توازنه المختل، قبل أن يعالجه بقنبلة أخرى من يده غاصت في بطنه، لتعيد خلط اوراق أحشاءه وقد احتقن وجهه بالدماء، وجحظت عيونه في ذهول وهو لا يكاد يصدق مايحصل له...، قبل أن يخرَّ على الأرض مغشياً عليه.
ثم توجه نحو توماس المستلقي على الأرض، والذي اكتفى بمتابعة كل ذلك أمام ناظريه بشكل خرافي في ذهول مطلق.
بدت عينا شاهين صارمتين وهو ينظر في عيني توماس مباشرة بعدما أمسكه من سترته ورفعه أمام رأسه مسنداً ظهره على الجدار وهو يسأله بغضب شرس:
ــ أين أخفيت "د.أدهم" أيها الوغد...؟!!!
أجابه بحنق ونبرة تحدي مقابلة:
ــ أفضل الموت على أن أكشف لك مكان وجودهما أيها الـ....
وقبل أن يكملها، إهتز رأسه على وقع لكمة ساحقة من أسفل ذقنه، ارتج لها دماغه وزاغ سواد عينيه عن مكانهما لحظة، فرفع ذراعه يحاول أن يحمي به وجهه في ذعر كالذي يخشى العقاب، وشاهين يصرخ في وجهه بصوت قاس مخيف:
ــ لقد حددت خيارك بنفسك...
وامتدت يده خلف ظهر توماس ليستخرج مسدسه، ووجهه الى رأسه وهو يزيل عنه مسمار الأمان ويردف بنبرة باردة هادئة:
ــ سررت بالحديث معك....، وداعاً أيها العميل الـ...
ــ ليست لديك أية فكرة عن الخطر الذي تواجهه بطلبك هذا...، فلن يسمحوا لك بالدخول إلى قاعدة عسكرية، دون تصريح عسكري، يستحيل حصولك عليه.
قالها توماس مطأطأ الرأس بنبرة استسلام واضحة. وباغت جوابه شاهين الذي حصل على أول خيط في طريق البحث عن والده، فتحمس لمعرفة المزيد من أخبارهما والاستفادة ما أمكن من لحظة ضعف خصمه وإنهياره، فهزه إليه من جديد وهو يسأله بغضب:
ــ وأين أخفيت والدتي ندى أيها الوغد...؟!!! أنت من اختطفها...!! تكلم ...، أين أخفيتها....؟!!!
اتسعت عيون توماس عن آخرها في رعب، وهو ينتقل بنظره بين شاهين والريشة المثبتة على فخده باستغراب، قبل أن يفتح فمه بصعوبة وكأنه يحدث نفسه:
ــ مستخلص..الطائر... الخارق...، يعني...
ثم رفع رأسه في حدة يحدق في شاهين من جديد مستطرداً:
ــ أنت...، كنت أنت الصقر الذي شارك به عزام في المنافسات قبل سنوات...
ثم أضاف بمرارة بالغة:
ــ تباً لي...، قلت يومها أنها هي التفاصيل التي تكمن الأسرار في ثناياها. ولم أنتبه حينئذٍ إلى تقرير عالم الطيور الذي رافقني للإستطلاع من أمر جدك، حيث أنهى تقريره بكثير من علامات الإستفهام حول تصرفاتك كصقر بالخصوص.
ثم تفرس ملامحه برهة قبل أن يستطرد بيأس:
ــ أنت إذن هو السر الذي كان أدهم يحافظ على كتمانه طوال هذه السنين...، والإندماج الجيني بين جينات الإنسان والصقور لم يكن مجرد نظرية فحسب...، بل صار حقيقة واضحة.
ثم خفض رأسه في استسلام تامٍ لمصيره وهو يقول بصوت مختنق منهك:
ــ إنهما داخل قاعدة "باومهولدر" العسكرية الأمريكية جنوب غرب ألمانيا، في مركزالأبحاث العلمية التابع للقاعدة...، في عمق الجبال، وسط الغابة السوداء....
لكنهم لن يسمحوا لك بالدخول أبداً....
نظر إليه شاهين بحزم وهو يرفعه إليه من سترته ليقف على قدميه، قائلا بغضب شديد وعيون محمرة براقة:
ــ هذا صحيح...، أما أنت فيمكنك التجول هناك أيها العميل.
لوهلة لم يفهم توماس ما يصبو إليه شاهين من وراء كلامه...، وفجأة اتسعت عيونه في ذهول...، ذهول بالغ... ومخيف...
*****
لقاءٌ أسطوري
انطلقت سيارة الدفع الرباعي السوداء عبر الطريق السيار المتجه جنوب ألمانيا، يقودها العميل توماس، وشاهين يجلس خلف مقعده مباشرة وهو يوجه فوهة مسدسه إلى ظهره.
استغرقت الرحلة بضع ساعات شعر خلالها شاهين بالارتباك كلما فكر في قرب المسافة بينه وبين والديه...، وإمكانية اللقاء معهما لأول مرة في حياته.
كان مجرد التفكير في الأمر، يشعره بقشعريرة غريبة تسري في كامل أعضاء جسده، ورغبة جامحة في احتضانهما بين ذراعيه، فصار ينتظر لحظة اللقاء غير آبهٍ بجميع الأخطار التي تحيط به، في محاولته الخطيرة لدخول إحدى أكثر القواعد العسكرية تحصينا ومراقبة في العالم.
ــ لقد اقتربنا...
قالها توماس وهو ينعطف بسيارته عبر منحرف غابوي، لينتزع صوته الخشن شاهين من عالم الخيال الجميل والآمن الذي يحلم به مع والديه، ويعيده إلى عالم الواقع الشرس أمامه مباشرة...
اعتدل بحدة في مقعده الخلفي وهو يوجه المسدس من جديد إلى ظهر توماس قائلا بحزم:
ــ لا أحتاج لأن أذكرك...، فأي خطأ صغير في الخطة التي اتفقنا عليها أو محاولة للخداع...، ستكون أنت أول من سيدفع ثمنها غاليا...
توقفت السيارة أمام المدخل الرئيسي للقاعدة العسكرية، فاقترب من السيارة حارسان بزيهما العسكري يشهران سلاحهما في اتجاهها، أخرج توماس بطاقة خاصة بقسم الأبحاث العسكرية في وجههما، فتفحصها أحدهما وردها إليه وهو يحاول النظر إلى داخل السيارة عبر زجاجها الأسود العاكس للصورة، قبل أن يداهمه توماس بحزم وغضب قائلا:
ــ أسرع في فتح الباب...، فلدي بعض المستخلصات الطبية في الخلف، وعلي الإسراع في وضعها داخل ثلاجة المختبر قبل أن تضيع وتفقد خصائصها...
تفرس الجندي ملامحه للحظة جيداً، ثم أعطى إشارة لزميله داخل حجرة المراقبة برفع الحاجز وفتح الباب الحديدي الإلكتروني الكبير.
تقدمت السيارة داخل القاعدة العسكرية، واتجه بها توماس إلى مرفأ السيارات بجانب المختبر العسكري...
نزل شاهين من الخلف وهو يرتدي بدلة الأطباء الباحثين، ويضع على عينيه نظارة سوداء، ويحمل بين يديه ثلاجة يدوية زرقاء صغيرة مغطاة بمنديل، للتمويه على المسدس المصوب إلى توماس.
ثم سار متخلفاً عنه بنصف خطوة، من أجل السيطرة على الوضع وعدم إثارة الانتباه إليهما...، فعبرا الممر الطويل المؤدي إلى المختبر العلمي الكبير الذي يشتغل داخله أدهم، وسط متابعة دقيقة من كاميرات المراقبة لكل خطواتهما وسكناتهما.
أخذ شاهين يتفحص الغرف بنظره الحاد عبر زجاجها الشفاف، فصدم لما رأى، واتسعت عيناه في ذهول كبير...، كائنات غريبة ليست بحيوانات ولا بشر، أقرب في أشكالها إلى وحوش أفلام الكرتون الخيالية، وقد وضعت في قنينات زجاجية ضخمة. وأجسام غريبة الشكل تظهر موصولة بمجموعة من الأنابيب، محبوسة داخل أحواض مائية كبيرة.
أدرك فور رؤيتها، أنها نتيجة عمليات الإستنساخ والتهجين الفاشلة، وبسبب التلاعب العلمي بجينات مختلف الكائنات الحية على وجه الأرض بطرق غير سليمة، من أجل أهداف عسكرية سرية محضة.
دلف الإثنان داخل المختبر، واتجه توماس صوب رجل قمحي البشرة، متوسط القامة، عريض المنكبين، يضع على عينيه نظارة بصرية، ويرتدي بذلة بيضاء، بدا لونها لوهلة ينسجم في اتساق مثالي مع خصلات شعره البيضاء التي أخذت في اكتساح معظم أجزاء شعره الأسود. مع جبين عريض بدأ الزمن يرسم عليه خطوطه الأزلية ويزيده شموخاً وإباء، تظهر لرؤيته الأولى كل علامات الوقار والأنفة على محياه، رغم مسحة الحزن والإنكسار الواضح في عيونه، والتي يخفي من ورائها ثورة كامنة على جور الزمان وغربة المكان وخيانة الخلان.
بدا أدهم منشغلا بتفحص بعض العينات البيولوجية تحت مجهره الآلي، فانتصب شاهين في مكانه على بعد خطوات قليلة من والده، وأومضت عيناه الحسيرتان ببريق أمل وضَّاء، وأخذ يدقق النظر إليه من وراء نظارته السوداء. التفت إليه توماس طالبا منه التقدم بهدوء دون إثارة انتباه الآخرين.
ثم اقترب توماس من أدهم وخاطبه بصوت هادئ منخفض:
ــ سيد أدهم...، تعال معي لآخذك لرؤية زوجتك ندى...
أجابه وقد رفع رأسه في حدة نحوه وأخذ يتفرس ملامحه لوهلة قبل أن يسأله باستغراب:
ــ هذا ليس وقت الزيارة....!!! وانت لم تتعود على مصاحبتي لرؤيتها...!!! أتخطط لشىء جديد أيها الـ.....؟؟!!
قاطعه توماس وهو يميل برأسه نحوه قائلا بهدوء بالغ:
ــ سيد أدهم...
هناك أمر طارئ يجب أن تعرفه...، وأنصحك بأن تتفضل معي لو سمحت دون مشاكل...
امتقع وجه أدهم في تلك اللحظة رعباً، ووقف في حدة يغمغم بصوت مختنق لا يكاد يسمع:
ــ هل أصاب ندى أي مكروه...؟؟!!! أخبرني أيها الوغد...؟
ــ لا..، إنها بخير...
أجابه وهو يعدل من وقفته ويتجه يشق طريقة نحو باب المختبر لمغادرته. قبل أن يسمع أمراً بالتوقف من شاهين، فتجمد في مكانه دون حراك.


أثار ذلك الأمر استغراب والده الذي لم يتعود رؤية الزعيم توماس يتلقى الأوامر بهذه الطريقة، فتسمر يتابع حالة العميل المزرية بعينيه لحظة، قبل أن ينتقل بنظره نحو ذلك الشاب الواقف أمامه...، ويثبت نظره عليه...
انتصب شاهين في مكانه برهة من الزمن وهو يتطلع إلى والده...، فسرت في جسمه قشعريرة غير مسبوقة، هزت كيانه وكل خلية من خلايا جسده بقوة غريبة. غريبة للغاية...
تبادل الإثنان نظرات عميقة، وأحاسيس عجيبة برهة من الزمن، توقفت خلالها الحركة وجميع الأصوات، وصار المشهد برمته بينهما كأنه صورة شمسية في تلك اللحظة التاريخية من حياتهما.
ــ هل سنبقى طويلا على هذا الحال...؟!
قالها توماس مخاطبا الإثنين قبل أن يستدير ليواصل سيره نحو باب المختبر.
إستجمع شاهين تفكيره التائه، ونظر إلى عميل المخابرات العسكرية ودمعتان تنهمران من تحت نظارته. وما أن لمح أدهم تلك الدموع الحارة تنهمر من مقلتيه، حتى أدرك وجود شىء غريب في هذا اللقاء، فصار يتفحص بعينيه مايحاول ذلك الشاب الحفاظ على حمله بين يديه منذ أن رآه....
وتوقف للحظة مصدوما، لما رأى المسدس وقد بدت بعض أجزائه من تحت المنديل...، وفوهته تتجه صوب توماس...، وأصابع الشاب أمامه متحفزة للضغط على الزناد في أية لحظة...
رفع رأسه ينظر إلى شاهين من خلف ظهره، وتهيأ له لبرهة أنها قد تكون محاولة لتحريره مع زوجته ندى من طرف جهات استخباراتية ما، أو جهة أخرى غير معلومة...، وتسارعت الأفكار فيما بينها...، وبدأ يفكر في كل الاحتمالات الواردة...، كل ما يمكن أن يتقبله عقله...
إلاَّ إحتمالا واحداً...، لم يخطر على باله أبداً...، ولا حتى في أحلامه التي لم يعد لها وجود... وفجأة...، ودون سابق إنذار، خفق قلبه بشدة...، ولمعت عيناه الحزينتان ببريق غريب.
وتذكر دموع الفتى...، وهز كيانه شعور غريب لأول مرة...، ولأول مرة منذ زمن عادت بعض تلك الأحلام لتغازل عقله وتهزَّ كيانه، تحمس للفكرة التي بدأت تدغدغ مشاعره شيئا فشيئا، والأمل بدأ يلوح أمامه من بعيد للعودة إلى...، إلى ماذا...؟ ربما...
لكن...، ليس قبل أن يخرج حيا مع زوجته، من قلب هذه القاعدة العسكرية التي تراقب ذبدبات النمل وحركات الجميع داخلها.
بلغ الثلاثة حجرة في آخر الردهة الطويلة المتعرجة على الطرف الآخر من القاعدة، فأمر توماس حارس الحجرة بفتحها ومغادرة المكان، فما كان من هذا الأخير إلا أن لبى أوامر عميل المخابرات بدون تردد أو استفسار...
وفُتح باب الحجرة....


داخلها جلست امرأة شرقية، تتطلع الى القادم نحوها بتعب ونظرات صبر ممزوجة بالأمل، تائهة تكفكف الدمع قبل أن يسقط ويهزم جمال عيونها، تتألم بصمت وتداري عليه بابتسامتها العذبة المطمئنة لمن يراها ويحبها. خائفة...فزعة في أعماقها على من تحب وتنتظر رؤيته طوال عمرها، لكنها موج هادر وسيل من المقاومة التي تعجز الجموع عن رسمها.
دخل "د. أدهم" أولا فعانق زوجته بحرارة والدموع تنهمر من مقلتيها...، وما إن دلف توماس وشاهين داخل الحجرة، حتى هوى هذا الأخير على مؤخرة رأسه بضربة قوية أسقطته مغشيا عليه.
صرخت ندى صرخة رعب وهي تنظر إلى العميل توماس يسقط على الأرض فاقد الوعي، ثم رفعت نظرها ببطءٍ شديد نحو ذلك الشاب المنتصب أمامها، والدموع تنهمر من تحت نظارته بغزارة.
تقدم أدهم نحوه بخطوات بطيئة، وعلامات الاندهاش بين عينيه، وبريق الدمع يرسل وميضه داخلها من الحزن والتعجب، ثم أخذت ندى تتقدم...، وتتقدم...
تتقدم بخطوات قصيرة من خلف زوجها، وهي ماتزال تمسك بيده بقوة، ثم ارتفعت يد أدهم اليمنى نحو وجه شاهين، محاولا انتزاع نظارته الشمسية السوداء عن عيونه...
انتزعها في بطء شديد، ويداه ترتجف من هول ما يفكر به في تلك اللحظة الاستثنائية في حياته.


أخذت الدموع تنهمر من مقلتيه كسيل عرم...، ولسانه لا يكاد يقوى على ذكر إسم ذلك الشاب...، فيما تقدمت ندى نحوه في ذهول، وعيناها شاخصتان، محمرتان تفيضان بالدموع في صمت رهيب مطبق...، وانتفض جسدها بقوة...، وخفق قلبها بشدة....، بشدة لا نظير لها...
وارتعشت شفتاها وهي تغمغم:
ــ إ.. إ... إنه... ولدي....
إنه... ولدي... شــ... شاهين...
إنه شاهــيـ....
وقبل أن تكمل ذكر إسمه مرة أخرى، تهاوى جسدها الضعيف نحو الأرض مغشيا عليها من هول المفاجأة...، وصدمة اللقاء...
وليس أي لقاء...
وثب شاهين بخفة لامثيل لها من مكانه، وامتدت يده في سرعة بالغة ممسكا بظهرها، مانعاً رأسها من الاصطدام بالأرض، وقد انتفضت كل ذرة من ذرات جسده...، وأجهش في بكاءٍ حار...
حار جداً...، وهو يردد بصوت أقرب إلى النحيب:
ــ أمي...، أبي...

نظر إليه والده في ذهول وهو يعانقه ويقبله على وجنتيه...، وبعد لحظات بدأت والدته في استعادة وعيها وهي تنطق باسم ولدها الذي افتقدته منذ نعومة أضافره وتحتضنه بكل قوتها، ويد شاهين تحيط بها بكل حب وحنان.
وعم المكان من جديد صمت رهيب، وأحاسيس غريبة...، ومشاعر حب جياشة...، جياشة للغاية...
وملأ المكان شعور الأبوة والبنوة الذي افتقدته العائلة منذ زمن طويل....، طويل جداً...
ــ لا أحد يتحرك...، سأطلق الرصاص....
نطق توماس تلك الكلمات وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مكر خبيثة، وانبعث من عينيه بريق وحشي يوحي بالكثير، وهو يوجه فوهة المسدس إلى ظهر شاهين الذي كان يحمله قبل أن يقع من يده سهوا، عندما وثب ليحمي والدته من الارتطام على الأرض.
تحفزت أصابع العميل للضغط على الزناد، وقد ارتسمت على ملامحه ابتسامة نصر وهو يقول باستهزاء مستفز:
ــ لقد دخلت جحر الأفعى هذه المرة بقدميك أيها الصقر اليافع...، سأجعل منك حقلاً للتجارب، بعدما أستخلص من دمائك ما أحتاج إليه، وسيقضي والدك بقية حياته في خدمتنا...
ــ ليس مرة أخرى أيها الجبان...
قالها شاهين وهو يفرد جناحيه بسرعة فائقة في غضب...، فأحاط أحد جناحيه بوالديه ليحميهما من أية رصاصة طائشة قد تصيب أحدهما...، في حين اتجه جناحه الآخر بحركة نصف دائرية ليضرب بطرفه رأس توماس...
غير أن الرصاصة هذه المرة كانت قد انطلقت من معقلها...، واستقرت عميقاً في ساق شاهين...، دون أن يقوى على الصراخ...، أو إظهار الألم...فكتم أنينه... واحتوى ألمه بشدة خرافية.
تراجع أدهم وندى في ذهول من مشهد ابنهما بجناحين قويين يشقان ظهره...
ثم قام شاهين من مكانه واقفا وقد أخذ جناحاه في الاختفاء بشكل تدريجي، وهو يطلب من والديه مغادرة المكان في أسرع وقت قبل أن يثيروا انتباه الحراس، فتوسطت ندى كل من شاهين وأدهم، وهما يسندانها على أكتافهما، ويسرعان بها عبر الممر الطويل خارج البناية.
وقبل أن يبلغوا باب المدخل بأمتار قليلة...، رصدت كاميرات المراقبة محاولتهم هروبهم تلك...، وارتفع صوت صفارات الإنذار بقوة في كل أرجاء المكان. وفي لحظات...، انقلب الصمت المخيم على ردهات المكان، الى صخب...، وهرج...، وصياح...
لحق بهم الحراس يطلقون الرصاص عليهم من الخلف، فاستدار شاهين نحوهم ورمى بريشتين من جناحه الحارسين اللذان يتعقبانهم. فسقطا كالذباب بعدما أصابتهما الريشتين في نقاط حيوية من جسمهما، تشل العصب الحسي وتبطل الحركة.

خرج الثلاثة إلى ساحة كبيرة، اصطفت فوقها مجموعة من الدبابات والطائرات الحربية وناقلات جنود...، ثم طلب شاهين من والديه الاختفاء والبقاء في أحد أركان القاعدة العسكرية الآمنة، في حين واصل جريه بين أرتال الآلات العسكرية محاولا تمويه الجنود عن مكان اختبائهما من أجل الحفاظ على سلامتهما.
بدأ الجنود في تعقبه واطلاق الرصاص عليه من كل صوب وحدب، فما كان منه إلاَّ أن فرد جناحيه وحلق فوقهم، على مرأى من الجميع، ووسط ذهول بالغ بينهم...، فصار يناور في الجو في جميع الإتجاهات متفاديا وابلا من الرصاص.
ثم حلق برهة فوق المعسكر، يحلل ويدرس طريقة الهروب المثالية التي يمكن أن يخرج بها والديه سالمين، قبل أن يرى من بعيد حوامة تابعة للقاعدة العسكرية تتجه صوب مدرجها، وتستعد للنزول بشكل عمودي...، وانطلق نحوها كالسهم...
وبدون تردد...
*****

التحريـــــر
فتح قائد الحوامة فاه عن آخره باندهاش بالغ، وهو ينظر إلى ذلك الجسم الغريب الذي دخل عليه من الباب الخلفي المفتوح، وبضربة قوية من يد شاهين، سقط زميل الربان مغشيا عليه، وأخذ مسدسه من جيبه، قبل أن يطلب من قائد الحوامة تحت تهديد السلاح التوجه بالطائرة إلى الجزء الجنوبي من القاعدة، حيث يقبع والداه في الانتظار.
ماكان من خيار آخر أمام قائد الحوامة إلاَّ الانصياع إلى طلبه وتنفيذ أوامره. وماهي إلاَّ لحظات، حتى نزلت الحوامة على بعد أمتار من مكان اختباء والديه، ثم طلب من الربان في حزم مصاحبته إلى مكان اختبائهما وسط ضجيج مراوح الطائرة الذي يعم المكان.
وبسرعة صعد أدهم وندى إلى الحوامة التي تركت على أهبة الاستعداد للانطلاق بها من جديد، بينما جلس شاهين بجانب القائد طالبا منه التوجه بهم إلى أقرب نقطة ممكنة من الحدود مع فرنسا، التي تبعد عن القاعدة العسكرية الأمريكية "باومهولدر" بحوالي 60 كيلومتر فقط.
اكتشف الجنود خطته للهروب بالطائرة...، فصاروا يطلقون النار بشكل كثيف على الهيلكوبتر وهي في حالة صعود، فأدرك الربان أنه صار بدوره هدفا لرصاص زملائه، فأخذ يناور بمهارة عالية متجنبا صواريخ الأرض جو، وقاذفات (الآر، بي، جي) التي تستهدف طائرته الحوامة...

وما هي إلا لحظات معدودة، حتى ارتفعت الطائرة في السماء مبتعدة عن خطر نيرانهم الكثيفة، باستثناء بعض الإصابات في هيكل الحوامة الخارجي.
وبعد دقائق من التحليق، ذكر قائد الحوامة لشاهين أنه قد بلغ أقصى نقطة يمكنه الاقتراب منها، وإلا قد تتعرض الحوامة من جديد لخطر إطلاق النار من الجانب الآخر على الحدود...، تفهم شاهين كلامه وطلب منه الهبوط وسط مساحة أرضية خالية من الأشجار بجانب الغابة.
ثم دخل الثلاثة وسط الغابة، من أجل الاختفاء عن رادارات مراقبة القاعدة، وصاروا يشقون طريقهم بين أدغال الغابة العذراء ووديانها، وبعد دقائق من المشي سمع الجميع صوت كلاب وهي تنبح من خلفهم وحوامات فوق رؤوسهم تطلق النار من أجل إرغامهم على الخروج من مكان اختبائهم لاعتقالهم.
صار شاهين يسند والدته بكل قوة من أجل تحفيزها على مواصلة السير، قبل أن ينتبه والده إلى إصابته بطلق ناري في رجله نتيجة رصاصة توماس التي حمى بها والديه من الإصابة، فطلب شاهين من والده مواصلة السير وإسناد ندى، ثم عاد هو إلى الخلف لمواجهة الجنود من أجل تأخير تقدمهم السريع، لإفساح المجال أمام والديه للوصول أولاً إلى الجانب الآخر الآمن من الحدود.
اختفى شاهين بين الأشجار، وهو يوجه لهم ضربات قاضية من سلاحه الفتاك ويشل حركتهم، وصار يطبق عليهم مجموعة من حيل حرب الأدغال التي تعلمها في الجبال والغابات، ويفاجئهم بجملة من الخدع والكمائن الطبيعية التي علمه جده إياها في تربية الجوارح وحيوانات الجبل المفترسة، فبدؤوا يتساقطون الواحد تلو الأخر وسط إندهاش ورعب بعضهم من الذين فضلوا الانسحاب والتراجع في مواجهة "الطائر الشبح"، كما أطلقوا عليه في حواراتهم ونداءات الإستغاثة مع قادتهم العسكريين في القاعدة العمليات.
أمَّن شاهين بكفاءة عالية ومهارة خارقة وصول والديه سالمين إلى الحدود الفرنسية...، وعند نقطة معينة منها، إتصل بلينا التي سبق ونسق معها بشأن عملية التحرير، ليخبرها بمكان تواجدهم تحت سقف إحدى القناطر الصغيرة، وبعد بضع دقائق من الاتصال، حضرت مرفوقة بمجموعة من رجال الدرك الفرنسيين. وأخذوا الجميع إلى مكان مجهول تحت حراسة مشددة من قوات الأمن الخاصة.
وبعد أيام من شفاء شاهين من طلقات الرصاص التي أصيب بها، ومع تعافي والدته من إصاباتها أثناء عملية الهروب، توجه أدهم إلى محكمة العدل الأوروبية، وكشف لهم سر مجموعة من المنظمات السرية بأسمائها الوهمية، التي تستغل الطلبة الباحثين من مختلف بقاع العالم، للزج بهم في مختبرات علمية غير شرعية، وإجبارهم على العمل والبحث في أمور تتنافى مع القوانين الدولية والقيم الإنسانية، تحت سلطة السلاح والاختطاف والتصفية الجسدية.
ووضع أمامهم مجموعة من الوثائق والصور التي تم تهريبها وإخفاؤها في فترة اشتغاله معهم، كأدلة مادية تثبت أقواله وتدين الجناة في كل تلك الأحداث.
ففتح تحقيق دولي في القضية، وتمت تبرئة أدهم من جميع التهم التي نسبت إليه، وتعويضه عن الضرر الذي لحق به وبعائلته، كما تمت متابعة وإدانة مجموعة من المنطمات السرية وتوقيفها، ليسافر بعدها شاهين ووالديه بكل أمانٍ إلى بلدهم الأصلي، لزيارة جده عزام الذي كان ينتظرهم على أحرِّ من الجمر...
وكان يوم اللقاء أسطوريا...، أسطورياً بكل ماتحمله الكلمة من معنى...
لكن... ، ورغم كل ذلك...، نجح جنرالات الحروب الدمويون، في العودة للاشتغال خارج سلطة القانون والعدالة الدولية، وبنفس وسائلهم الخسيسة، تحت مسميات منظمات سرية جديدة...
أكثر شراسة للبطش بخصومهم...
والانتقام من أعدائهم...
وبأي ثمن.

 انتهى 








الفهرس
اللغز 4
من أكون...؟ 7
أسرار الجبل 21
الحقيقة الغامضة 49
الصقر شاهين 70
صقر العرب 76
قدرات خارقة والمهمة مستحيلة 105
الطريق إلى المجهول 110
اقتفاء الظلال 113
الخيانة المدمرة 129
الصمت القاتل 139
أباطرة العلوم 143
المواجهـــــة 155
سَكُّ العَقْرَب 166
لقاءٌ أسطوري 184
التحريـــــر 198
















Email : hichamacharq@hotmail.es
Facebook : hicham zaytouni
Tél (I) : (0034)+646918829 / Tél (M) : 06 95 52 22 21


الساعة الآن 11:44 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها