منتديات روضة الكتب

منتديات روضة الكتب (http://raudabooks.com/vb/index.php)
-   الروايات العربية والعالمية (http://raudabooks.com/vb/forumdisplay.php?f=44)
-   -   الشاعر (http://raudabooks.com/vb/showthread.php?t=8126)

AshganMohamed 01-13-2020 12:22 AM

الشاعر
 
الشاعر
تأليف الشاعر الفرنسي الشهير إدموند روستان
ترجمة :مصطفى لطفي المنفلوطي





إهداء الرواية


إلى الشعراء
مؤلف هذه الرواية شَاعرٌ، وبطلها شاعر، وأكثر أشخاصها شُعراء، وموضوعها الشعر والأدب، وعبرتها أن النفس الشعرية هي أجملُ شيءٍ في العالم،
وأبدع صورة رسمتها ريشة المصور الأعظم في لوح الكائنات، وأنها هي التي يهيم بها الهائمون، ويتولَّه المتولِّهون، حين يظنون أنهم يعشقون الصور ويستهيمون بمحاسن الوجوه.
لذلك أقدمها هديةً إلى الشعراء، فهم رجالها وأبطالها وأصحاب الشأن فيها، ولا أطلب عندهم جزاءً عليها أكثر من أن أراهم جميعًا في حياتهم الأدبية والاجتماعية سيرانو دي بيرجراك.

مصطفى لطفي المنفلوطي
أول مايو سنة 1921


المقدمة

أطْلعني حضرة الصديق الكريم الدكتور محمد عبد السلام الجندي على هذه الرواية التي عرَّبها عن اللغة الفرنسية تعريبًا حرفيا،
حافظ فيه على الأصل محافظةً دقيقة، وطلب إليَّ أن أهذِّب عبارتها ليقدِّمها إلى فرقةٍ تمثيلية تقوم بتمثيلها ففعلت، واستطعت في أثناء ذلك أن أقرأ الرواية قراءة دقيقة، وأن أستشف أغراضها ومغازيها التي أراد المؤلف أن يُضمِّنها إيَّاها، فأعجبني منها الشيء الكثير،
وأفضل ما أعجبني منها أنها صَوَّرت التضحية تصويرًا بديعًا،
وهي الفضيلة التي أعتقد أنها مصدر جميع الفضائل الإنسانية ونقطة دائرتها ،فرأيت أن أحوِّلها من القالب التمثيلي إلى القالب القصصيِّ؛ ليستطيع القارئ أن يراها على صفحات القرطاس كما يستطيع المشاهد أن يراها على مسرح التمثيل.
وقد حافظت على روح الأصل بتمامه، وقيدت نفسي به تقييدًا شديدًا، فلم أَتَجَاوَّزْ إلا في حذف بعض جُملٍ لا أهمية لها، وزيادة بعض عبارات اضطرتني إليها ضرورة النقل والتحويل، واتساق الأغراض والمقاصد، بدون إخلالٍ بالأصل أو خروج عن دائرته،
فمن قرأ التعريب قرأ الأصل الفرنسي بعينه، إلَّا ما كان من الفرق بين بلاغة القلمين ومقدرة الكاتبين، وما لا بد من عُروضه على كل منقولٍ من لغة إلى أخرى، وخاصةً إذا قيَّد المعرِّب نفسه، وحبس قلمه عن التصرف والافتنان.

مصطفى لطفي المنفلوطي


أشخاص الرواية

سيرانو دي بيرجراك شاعرٌ فرنسي من شعراء القرن السابع عشر، نشأ غريبًا في أطواره وأخلاقه، منفردًا بصفاتٍ قلَّ أن تجتمع لأحدٍ من معاصريه؛ فكان جامعًا بين الشجاعة إلى درجة التهوُّر ،
والخجل إلى درجة الضعف؛ وبين القسوة إلى معاقبة أعدائه على أصغر الهفوات، والرقة إلى البكاء على بؤس البائسين من أصدقائه وأبناء حرفته،
وكان كريمًا مِتلافًا، لا يُبْقِي على شيء مما في يده، وعفيفًا لا يمدُّ يده إلى مخلوقٍ كائنًا من كان، وصريحًا لا يتردَّد لحظة واحدة في مجابهة صاحب العيب بعيبه كيفما كان شأنه، وكيفما كانت النتيجة المترتبة على ذلك،
فكان عدُوَّ الكاذبين والمرائين، والمغرورين، والسِّفْلة والمتملقين، أي إنه كان عدو اللهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها تقريبًا، كما كانت عدوَّةً له كذلك، لا تهدأ عن مشاكسته ومناوأته وابتغاء الغوائل به.
ولم يكن له من الأصدقاء إلا أفرادٌ قلائل جدا، هم الذين يفهمون حقيقة نفسه وجوهرها، ويُقدِّرونه قدره وقدر صفاته الكريمة التي كان يتصف بها.
وكان الخلق الغالب عليه من بين جميع أخلاقه خلق العِزَّة والأنََفة، فكان شديد الاحتفاظ بكرامته، والضَّنِّ بعرضه أن ينال منهما نائلٌ، أو يعبث بهما عابثٌ، وكان لا يُرى في أكثر أوقاته إلا مبارزًا أو مناضلًا، أو ثائرًا أو مهتاجًا، أو واضعًا يده على مَقْبِض سيفه، أو مُلقيًا قُفَّازه على وجه خَصْمِه، شأن الفوارس الأبطال في ذلك العصر.
وكانت بليته العظمى في حياته، ومنبع شقائه وبلائه أنه كان دميم الوجه، كبير الأنف جدا إلى درجة تَلفت النظر وتستثير الدهشة، وكان يعلم ذلك من نفسه حقَّ العلم، ويتألم بسببه تألمًا كثيرًا؛ لأنه كان عاشقًا لابنة عمه الشهيرة بجمالها النادر، « روكسان »
وذكائها الخارق، وكان يعتقد أن المرأة مهما سَمَتْ أخلاقُها وَجَلَّتْ صفاتها لا يمكن أن تقع في أحُبولةٍ غراميةٍ غير أحبولة الجمال،
ولا تُعنَى بحُسنٍ غيرِ حُسن الوُجوه والصُّور،
فكان — وهو أشجعُ الناس وأجرؤهم وأعظمُهم مخاطرةً وإقدامًا — لا يجسر أن يُفاتح حبيبته هذه في شأن حُبِّه، حياءً من نفسه وخجلًا. فكان أَنْفُهُ سببَ شقائه من جهتين؛ أنه وقف عقبة بينه وبين غرامه، وأنه كان المَنْفَذَ العظيم الذي ينحدر منه أعداؤه وخصومه إلى السخرية به والتهكم عليه،
وهو لا يطيق ذلك ولا يحتمله، فكان النزاع بينه وبينهم دائبًا لا ينقطع، وكان لا ينتهي غالبًا إلا بمبارزةٍ يخرج منها في الغالب فائزًا منتصرًا، ولكن كان كثير الخصوم والأعداء. وكان جنديا في فصيلة شُبَّان الحرس من الجيش الفرنسي،
وكان أفراد تلك الفصيلة جميعهم من الجاسكونيين مثله، وهم قوم معروفون بخشونة الأخلاق ووعورتها، وبكثرة التبجح والادِّعاء والغرور والكذب، ولهم مع ذلك فضيلة الشجاعة والصبر، والقناعة والشرف وعزة النفس،
وكان سيرانو متصفًا بحسناتهم، مترفعًا عن سيئاتهم، فكان له في نفوسهم أسمى منزلةٍ من الإجلال والإعظام، وكانوا يحبونه حبا شديدًا ويذعنون لرأيه ، ويستطرفون أحاديثه ودعاباته،
ويفاخرون به وبنبوغه وشجاعته، وجراءته وصراحته،كما كان يفخر بهم وبعصبيتهم، وكان من أسوأ الشعراء حظا في حياته، فقد قضى عمره كله خاملًا مغمورًا؛ يجهل الدَّهْمَاءُ قَدْرَهُ لأنهم لا يفهمونه، وينكر الأدباء فضله لأنهميبغضونه ويَجِدُون عليه ويَنْقِمون منه خشونته وشدته في مؤاخذتهم ونقدهم، فلم يكنيحفل بذلك كثيرًا؛ لأنه كان مُخلصًا لا يهمه إلا أن يكون عظيمًا في عين نفسه ثم لا يبالي بعد ذلك بما يكون. وكثيرًا ما كان يَنْظِمُ الرواية الجليلة ذات المغزى العظيم والأسلوب الرائق، فلا يفكرفي إهدائها إلى أحد من العظماء — ليتوسل بذلك إلى نشرها وترويجها، وحَمْل الفرقالتمثيلية على تمثيلها — كما كان يفعل الشعراء في عصره، أنفةً وإباءً، وضنا بنفسه أنيقف موقف الذل والضراعة على أي بابٍ من الأبواب كيفما كان شأنه، وربماسرق بعضالروائيين قِطَعًا من رواياته فضمَّنوها رواياتهم وانتفعوا بها، فلا يغضبه ذلك ولا يُزعجه،وكل ما كان يفكر فيه أو يسأل عنه في هذا الموقف: ماذا كان وقع تلك القطعة في نفوس الجماهير حينما سمعوها؟ إخلاصًا لم يسمع بمثله في تاريخ الحب، « روكسان » ولقد أخلص في حبه لابنة عمه فأحبها وهي لا تعلم بحبه، وتألم في سبيل ذلك الحب ألمًا شديدًا، وهي لا تشعر بألمه،
وأحبت غيره فلم يحقد ولم ينتقم، بل كان أكبر عونٍ لها في غرامها الذي اختارته لنفسها،ولم يلبث أن اتخذ حبيبَها الذي آثرتهصديقًا له، وأخلصفي مودته إخلاصًا عظيمًا، وأعانهعلى استمرار صلته بها، وبقاء حبه في قلبها؛ لأنه ما كان يهمه شيءٌ في العالم سوى أن يراها سعيدةً في حياتها، مغتبطة بعيشها، وهذا كل حظه في الحياة. ولم يزل هذا شأنه طول حياته، حتى خرج من دنياه، ولم تعلم روكسان بسريرة نفسه إلا في الساعة الأخيرة التي لا يغني عندها العلم شيئًا. روكسان ابنة عمِّ سيرانو دي بيرجراك، وهي فتاةٌ شريفة متعلِّمة، وافرة الفضل والذكاء، عاليةالهمة، عفيفة الذَّيل، مولعة بالشعر والأدب؛ إلا أنها كانت تذهب في ذوقها الأدبي مذهبالنساء المتحذلقات في ذلك العصر، أي إنها كانت كثيرة التكلف في أحاديثها وإشاراتها،وكان لا يعجبها من الكلام إلا ذلك النوع الذي يسمُّونه بالصناعة اللفظية، ولا من المعانيإلا تلك الخيالات الطائرة الهائمة على وجهها التي لا أساسلها في الحياة، ولا وجود لها في فطرة النفس وطبيعتها. وقد نشأت يتيمةً منقطعةً، لا أهل لها ولا أقرباء إلا ابن عمها سيرانو، إلا أنها كانتتعيش عيشًا رغدًا هنيئًا بفضل الثروة الواسعة التي ورثتها عن أبويها، فأحبها كثيرٌ من« الكونت دي جيش » النبلاء والأشراف، وعرضوا عليها الزواج فلم تحفل بهم، وأحبها — وهو أحد قواد الجيش الفرنسي، وكان متزوجًا بابنة أخت الكردينال دي ريشلييه —فأراد أن يستخدم نفوذه وجاهه في حمْلها على الزواج من فتًى من أشياعه اسمه الفيكونتفالفير، على الطريقة المعروفة في ذلك العهد عند الملوك والنبلاء، فدفعته عنها برفقٍوحكمة، خوفًا على نفسها منه، وظلت تماطله زمنًا طويلًا، حتى أحبها البارون كرستياندي نوفييت، فأحبته وأخلصت له إخلاصًا عظيمًا، ولم يكن في الحقيقة متصفًا بصفاتالفطنة والذكاء والنبوغ التي كانت تظنها مجتمعة فيه، لولا الحيلة الغريبة التي احتالهاعليها سيرانو حتى أوهمها ذلك، وهنا نكتة الرواية وبيت قصيدها، ثم تزوجت منه بعدذلك زواجًا سِرِّيا، ولكنها لم تكد تضع شفتها على الكأس حتى انتزعت منها، وكان هذا آخر عهدها بسعادة الحياة وهنائها.
كرستيان دي نوفييت نبيلٌ من نبلاء الريف، وفد إلى باريس ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي— كماكانت عادة الأشراف في ذلك العهد — وهي الفرقة التي كان يعمل فيها سيرانو، وكان فتًىجميل الصورة، شريف النفس، طيب القلب، إلا أنه كان أقرب إلى البلادة منه إلى الذكاء؛فوقع نظره على روكسان في حانة بوروجونيا، فأحبها وأحبته على البعد، وكان قد علممن أمرها أنها فتاة قديرة متفوقة، ذكية الفؤاد، غزيرة العلم، قوية الإرادة، لا يعجبهامن الرجال إلا الأذكياء المتفوقون، فهاب الدُّنُوَّ منها، ومفاتحتها في شأن حبه، وخشي أنيسقط من عينها سقطةً لا قيام له من بعدها، ولم يزل هذا شأنه حتى أدركه سيرانو،واحتال له تلك الحيلة الغريبة المدهشة، التي جعلت روكسان تعتقد أنها قد أحبت أذكىالناس وأسماهم عقلًا، وأبعدهم غورًا، وأطلقهم لسانًا، وأبلغهم قلمًا، لا يريد بذلك إلاسعادتها وهناءها، وهو يتهالك بينه وبين نفسه غما وكمدًا؛ لأنه وهو ظامئٌ هيمان يقدم الكأس بيده للشاربين ولا يذوق منها قطرةً واحدة. الكونت دي جيش أحد قواد الجيش الفرنسي، وهو من أصلٍ جاسكوني كسيرانو وروكسان، إلا أنه كانيذهب في حياته مذهبًا غير مذهب أبناء جلدته الجاسكونيين، في قناعتهم وخشونتهموبساطة عيشهم، بل كان رجلًا واسع المطامع، شغوفًا بالمعالي، متطلعًا إلى المناصب العلياوالمراتب الكبرى، وقد تم له ما أراد من ذلك بجده واجتهاده، فأصبح قائدًا من قواد الجيش الفرنسي، وصهرًا للكردينال دي ريشلييه. وقد رأى روكسان في طريقه مرةً فشُغِف بها شغفًا عظيمًا، وأراد أن يضمها إليه منطريق تزويجها من أحد صنائعه، فاحتالت للخروج من ذلك المأزق بحيلةٍ لطيفةٍ جدا،وتزوجت من الرجل الذي أحبته بمعونة ابن عمها سيرانو، فعاداها الكونت من أجل ذلك، وانتقم منها ومن زوجها ومن سيرانو انتقامًا هائلًا.
لينيير شاعرٌ مسكينٌ من أصدقاء سيرانو، نَظَمَ قصيدةً طويلة هجا بها الكونت دي جيش،وعَرَّضفيها بقصته مع روكسان، وفضح جريمته التي أراد أن يقترفها معها، فحقد عليهالكونت حقدًا شديدًا، ودسكمينًا مؤلفًا من مائة رجلٍ ليقتلوه عند رجوعه إلى منزله ليلًا، لولا أن أدركه سيرانو، وأعانه على أعدائه فنجا. لبريه أحد أصدقاء سيرانو المخلصين، وكان ينصحه دائمًا بالهدوء والسكينة، وينعَى عليه شدَّتهوصرامته في أخلاقه وطباعه، وينصح له باتخاذ خطةٍ في الحياة تناسب البيئة التي يعيشفيها، رحمةً بنفسه، وإبقاءً على راحته وسكونه، فلا يحفل بنصحه؛ لأن له رأيًا في الحياةغير رأيه ومذهبًا غير مذهبه، ولم يكن اختلافهما هذا في المشرب والخطة مانعًا لهما منالصَّداقة والإخلاص، ووفاء كل منهما لصاحبه، حتى ما كانا يستطيعان الافتراق ساعة واحدة. مونفلوري تأليف « كلوريز » أحد الممثلين في حانة بوروجونيا، وكان مشهورًا بحسن إلقائه لرواية وكان سيرانو يبغضه، ويستثقل حركاته التمثيلية، وينقم عليه ،« بارو » الروائي الشهير إعجابه بنفسه على قبحه ودمامته، ويأخذ عليه كثرة ترديده نظره أثناء التمثيل في مَخادعالسيدات، يحاول افتتانهن واجتذاب قلوبهن، وقد رآه مرة ينظر إلى روكسان نظرةً مُريبةً،فتعلل عليه ببعضالعلل، وأمره أن ينقطع عن التمثيل شهرًا كاملًا، فحاول الامتناع عليهوعصيان أمره، فأنزله من المسرح بالقوة وطرده برغم دفاع الكثيرين من الأشرافوالنبلاء عنه، وخاصة الكونت دي جيش.
راجنو طباخٌ مشهورٌ، يبيع في حانوته الكبير أفخر أنواع المطاعم، من شواء وفطائر وحلوى، وكانمحبا للشعر والأدب والتمثيل، عطوفًا على البؤساء من الشعراء والممثلين، وكان يستقبلهمفي حانوته استقبالًا حافلًا، ويقدم لهم على حسابه ما يقترحون من طعامٍ وشراب، وكانكل حظِّه منهم أن يجلس إليهم، ويسمع محاوراتهم الأدبية، ويلتقط ما يتناثر حولهممن مسوَّدات أشعارهم وفصولهم، ويُسمِعهم ما ينظمه من الشعر الضعيف التافه،فيتظاهرون باستحسانه والإعجاب به، إبقاءً على مودته، حتى أدركته فأفلسوأغلق حانوته، فأعانه سيرانو على شئون حياته — وكان من أكبر أنصاره والمتشيعينله — ولكن الحظ كان قد فارقه، فلم ينجح في عملٍ من الأعمال التي اشتغل بها، وظل البؤس ملازمًا له طول حياته. ليز زوجة راجنو، وهي امرأةٌ فاسدة الأخلاق خبيثة النفس، كانت تهزأ بزوجها وتسخر منه،وتنعَى عليه اشتغاله بالشعر والأدب واهتمامه بالشُّعراء والأدباء وعنايته بهم، وكانتتفضل أن تقدم هي بنفسها الحانوت كله لضابطٍ من ضباط الجيش تُعْجَب به، على أنيُقدم زوجُها راجنو لقمةً واحدةً منه لأديبٍ من الأدباء، ولما رأت تضعضُعَ حاله وانتكاث أمره، فَرَّتْ مع أحد ضباط الجيش، ولم يرها بعد ذلك. كاربون دي كاستل قائد فصيلة شُبَّان الحرس، وكان كل أفرادها من الجاسكونيين، وهو جاسكوني مثلهم،فكان يحبهم حبا شديدًا، ويعطف عليهم، وكان يعتمد في أعماله على سيرانو، ويَعُدُّهُ خيرَجنوده، والتاريخ يذكر له دفاعه العظيم بفصيلته في ميدان أراس عن الموقع الذي اختار جيش العدو مهاجمته، حتى تم النصرللراية الفرنسية على الراية الإسبانية. 16


الفصل الأول
حانة بوروجونيا

في ليلةٍ من ليالي سنة 1640 ، بدأ الناس يَفِدُون إلى في باريس، لمشاهدة
ولم يكن — « بَلْتازار بارو » وهي إحدى روايات الشاعر المشهور — « كلوريز » رواية للتمثيل في ذلك العصردورٌ خاصة به، وإنما كانوا يمثلون في الحانات أو المطاعم الكبيرة، على مسارح خاصةٍ يعدونها لذلك. وكان جمهور المشاهدين في تلك الليلة—كما هو شأنهم في جميع الليالي—خليطًا منالعمال والجنود، واللصوصوالخدم، والأشراف والعلماء والكتاب، وأعضاء المجمع العلميالفرنسي، قد اختلط بعضهم ببعضٍ، وجلس أخيارهم بجانب أشرارهم، فبينما العلماءيتناقشون في مباحثهم العلمية والأدباء يتحدثون في شئونهم الأدبية، إذا فريقٌ من الخدمقد ألصقوا شمعة بالأرض، واستداروا من حولها حلقةً واسعة، وأخذوا يقامرون بالمالالذي سرقوه من أسيادهم في ساعات لهوهم واستهتارهم، وآخرون من أبناء الأشراف قدتماسكوا بأيديهم، وظلوا يدورون حول أنفسهم راقصين مترنحين، وآخرون من الغوغاءيأكلون ويقصِفون ويتسابُّون ويتلاكمون، ويجئرون بأصواتٍ عالية متنوعة كأنهم فيسوق من أسواق المزايدة، وجماعةٌ من الجند يتلهَّوْن بالمبارزة والملاكمة، لا يبالون منيطئون بأقدامهم، أو يصيبون بشفرات سيوفهم، وفئة من الصعاليك قد اصطفوا صفا واحدًا بين يدي لص من دهاة اللصوص ومناكيرهم، يعلمهم كيف يسرقون الساعات من الصدور، ويمزقون الجيوب عن الأكياس، وكيف يتغفَّلون صاحب المعطف عن معطفه،والقبعة عن قبعته، والعصا عن عصاه، كأنه قائدٌ يدرب جنوده على الحركات العسكرية،وفتًى من المتأنقين المتظرفين يطارد فتاة المَقْصِف من ركنٍ إلى ركن يحاول إمساكهاوالعبث بها، وهي تتمَّنع عليه، وتتأبَّى تأبِّيًا أشبه بالإغراء منه بالامتناع، وجنديٌّ من جنود الحرس قد تغفَّل البواب عند دخوله وامَّلس من يده دون أن يدفع إليه شيئًا، والبواب
يطارده ويلاحيه ويأخذُ بتلابيبه، فيجادل عن نفسه بأنه حارس الملك، وحراس الملك أحرارٌ يدخلون من الأمكنة ما يشاءون، وزمرةٌ من المتأدبين قد انتبذوا ناحية من القاعة،وأخذوا يندبون الأدبَ وحظه وشقاءَ أهليه وبلاءَهم، ويقول بعضهم لبعض: أليس من« مونفلوري » مصائب الدهر ورزاياه أن يقفموقفالممثل بينهذا الجمهور الساقط أمثالُ وأن تُمثَّل على مثل هذا المسرح الحقير المتبذل روايات ،« جودِليه » و « بويريه » و « بلروز » و ؟« بارو » و « كورني » و « روترو » أكابر الشعراء الروائيين أمثال ولم يكن يضيء تلك القاعة على كبرها واتساعها إلا بضعة مصابيح ضئيلة، تتراءىتلك الجماهير على نورها كأنها الأشباح المتحركة، أو الأرواح الهائمة، وقد يسمع السامعفيها من حين إلى حين في وسط هذه الضوضاء صوتَ فتاة المقصف، وهي تصيح خلف،« عصير الرمان » ،« عصير البرتقال » ،« الحلوى » ،« اللبن » : مقصفها بصوتها الرقيق الرنان أوصوت شيخ هَرِمٍ يسب ويحتدم ويضرب الأرضبقدميه، ،« النبيذ » ،« الفطير » ،« الشِّواء » وهو عاري الرأسمنقلب السَّحْنة؛ لأن أحد الجالسين في الطبقة العليا من الملعب قد أرسلعلى شعر رأسه المستعار شصا فاجتذبه به، وظل معلقًا في الفضاء على مرأى من الجماهير الضاحكين، أو صارخًا متألمًا قد وضع يده على عينه وظل يصيح: وا غوثاه! وا ويلتاه! لأن بعضالمتفرجينصوَّب إليها حصاةصغيرة أو نواة فأصابها بها، إلى أمثال ذلك من صراخ الصارخين، وهتاف الهاتفين من جميع جوانب القاعة:
أشعلوا الأنوار، ارفعوا الستار. ولم يزل هذا شأنهم حتى دقت الساعة العاشرة من الليل، وقرب ميعاد التمثيل،
فدخل جماعةٌ من الأشراف المتأنقين يجررون أذيالهم، ويشمَخون بأنوفهم، ويتأففون لضعف الأنوار وضوضاء الجماهير، ويصيحون: الطريق الطريق أيها الصعاليك،
فتنفرج الصفوف لهم انفراجًا، حتى بلغوا مكان المسرح فصعدوا عليه، وجلسوا فيه على مقاعدَ متفرقةٍ في أنحائه جلسةً باردةً وقحةً لا أدب فيها ولا احتشام،
وكانت المقاصير في ذلك التاريخ خاصة بالنساء، لا يجلس فيها غيرهن، إلا مقصورةً واحدة بجانب المسرح كان يجلس فيها الكردينال إذا حضر، أو من ينزل منزلته من عظماء المملكة ووجوهها.
طاهي الشعراء ،« لينيير » جلسفي ركنٍ من أركان القاعة في تلك الساعة شخصان منفردان، أحدهما الشاعر وهو رجلٌ بائسٌمسكين، مغرمٌ بالشراب ومعاقرته، لا تكاد تفارق يده الكأسليله ونهاره،وهو فتًى من أشراف الريف، جميل الطلعة، ،« كرستيان دي نوفييت » وثانيهما البارون إلى باريس منذ « تورين » حسن الزي والثياب، إلا أن هندامه على الطراز القديم، حضرمن عشرين يومًا ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي، فلم يدخلها إلى صباح اليوم.فقال الشاعر للبارون: إن صاحبتك لم تحضر حتى الساعة، وها هي ذي مقصورتهاالتي أشرتَ لي إليها لا تزال خالية، وقد اشتد ظمئي، فأْذن لي بالذهاب إلى إحدى الحاناتالقريبة لأتناول قليلًا من الشراب ثم أعود إليك، فاضطرب كرستيان وتشبث بثوبه وقالله: إنك إن ذهبت لن تعود يا لينيير، وأنا في أشد الحاجة إليك، فإني أريد أن أعرف منهي؟ وما مَنْبِت دوحتها؟ وربما بدا لي أن أزورها الليلة في مقصورتها، وأتعرف إليها،وليس في استطاعتي أن أقدم على ذلك وحدي، فأنت تعلم أنني رجل جندي ساذج، حديثعهدٍ بهذا البلد وأهليه وآدابه ومصطلحاته، ويُخيَّل إليَّ — وإن لم أكن قد حادثتها أوجلست إليها — أنها فتاةٌ ذكية متوقدة، بارعةٌ في أساليب الحديث ومناهجه، وأخاف إنأنا لقيتها وحدي أن أضعف أمامها وأضطرب، أو أرتبك في حركةٍ من الحركات بين يديها،فأسقط من عينيها سقطة لا مقيل لي منها أبد الدهر، فابق معي وكن عونًا لي عليها لتتم بذلك يَدُكَ عندي. وهنا مرَّت فتاة المقصف حاملةً على يدهاصينية بيضاء، وهي تتغنى بصوتها الرقيقالشجي، فناداها لينيير فدنت منه، فسألها عمَّا عندها، فظلت تسرد عليه أسماء فطائرها« بوردو » وقدائدها وأشربتها وحلواها، وهو لا يَأْبَهُ لشيء من ذلك، حتى ذكرت له نبيذ فتهلل وجهه وتَحَلَّبَ فُوهُ، وطلب إليها أن تأتيه بالجَيِّد منه، فأتت له بما أراد، فملأ كأسه،وبدأ يشرب ويتغنى، وما هي إلا لحظة حتى قال لكرستيان: الآن أستطيع أن أبقى معك قليلًا أيها الصديق الكريم. وفي تلك اللحظة دخل القاعة رجلٌ قصيرٌ، ضخم الجثة غريب الهيئة، في ملابسالطهاة وشمائلهم، فصرخ الجماهير حين رأوه: راجنو! راجنو! فلم يأبه لهم، ولم يلتفتإليهم، واندفع مسرعًا إلى لينيير، وقال له بصوت متهدِّجٍ مضطرب دون أن يحيِّيه أو يحيِّيجليسه: ألم ترَصديقنا سيرانو يا لينيير؟ قال: لا، وما لي أراك مضطربًا هكذا، كأنك هاربٌمن معركةٍ أو مأخوذٌ بجريمة؟ قال: ما أحسب إلا أنه سيحدث الليلة في هذه القاعة حادثٌ
عظيم لا يعلم إلا الله كيف تكون عاقبته! فانزعج لينيير، وقال: أيَّ حادثٍ تريد؟ قال: قد علمت الساعة أن سيرانو كان وَجَدَ على الممثل مونفلوري منذ أيامٍ في شأن من الشئون لاأعلمه، فحكم عليه بأن ينقطع عن التمثيل شهرًا كاملًا، وهدده بالموت إن هو خالف أمره،وكنت أظن أن الرجل قد أذعن لهذا الحكم ضنا بنفسه وبحياته، ولكنني رأيته الساعةواقفًا في حجرة الممثلين، يترنم بقطعة تمثيلية، وأظن أنه سيقوم بتمثيل دوره الذي اعتادفإن فعل فقد وقعت الكارثة العظمى ،« فيدين » وهو دور « كلوريز » أن يمثله في رواية التي لا حيلة لنا ولا لأحد من الناس في دفعها، وسيرانو كما تعلم رجل مخاطرٌ جريء، لا يبالي بعواقب الأمور، ولا يفكر في نتائجها! فقهقه لينيير ضاحكًا وقال: يا له من قاضٍغريب! ويا له من حُكْمٍ عجيب! هدئ روعك يا صديقي، فالأمر أهون مما تظن، فربما لايحضرسيرانو، أو لا يمثل مونفلوري، فلا يقع شيء من المكروه الذي تتوقعه، ثم التفتإلى مرستيان وقال له: أقدِّم إليك المسيو راجنو، طاهي الشعراء والممثلين، وهو اللقبالذي اختارَهُ لنفسه، وعرف به بين الناس جميعًا؛ لأنه صديقهم المخلص الذي يحبهمويكرمهم ويذودُ عنهم، ويفتح لهم باب مطعمه على مصراعيه يأكلون منه ما يشتهون،ويشربون ما يقترحون، لا يتقاضاهم على ذلك أجرًا سوى قصيدة من الشعر يُملونهاعليه، أو قطعة تمثيلية يمثلونها بين يديه، أي أنه يملأ لهم أفواههم طعامًا فيملئُون لهأذنيه كلامًا، والأذن كما تعلم ليست طريقًا إلى المعدة كالفم، وهو فوق ذلك شاعرٌ متفننمطبوع، ينظم أكثر شعره في وصف فطائره وحلواه! فانحنى راجنو بين يدي كرستيانوقال: نعم يا سيدي، إننيصديق الشعراء والممثلين، بل عبدهم ومولاهم، وصنيعة فضلهموإحسانهم، وإن ساعةً أقضيها في حضرتهم أسمع طرائف أشعارهم، وبدائع فصولهملهي عندي ساعة الحياة التي لا أعدل بها ساعةً غيرها، فشكر له كرستيان فضله وأدبه،وأثنى خيرًا على شرف عواطفه واكتمال مروءته، وما هي إلا كرَّة الطرف حتى عاد إلىراجنو قلقه واضطرابه، وأخذ يدور بعينيه في الجماهير يفتشعن سيرانو، فقال له لينيير:إنه لم يحضرحتى الآن، وها هو ذا الوَقَّاد قد بدأ في إشعال المصابيح، وها هو ذا السِّتار قد أوشك أن يرتفع، وما أظنه حاضرًا بعد ذلك. 20
سيرانو وكان رجلٌ من الأشراف اسمه المركيز دي جيجي جالسًا على مقربة منهم يسمع حديثهموينصت لحوارهم، فوضع يده على كتف راجنو، فالتفت راجنو إليه. فقال له: أتستطيعأن تخبرنى من هو سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟ فهز راجنو رأسه كالمستغرب، وقالله: إني لأعجب لأمرك يا سيدي، فهي أول مرة سمعت فيها أن إنسانًا في العالم لا يعرفالسيد سيرانو! قال: إني أعرف عنه شيئًا قليلًا، وأريد أن أعلم أنبيلٌ هو أم صعلوك؟ قال:إن كنت تريد من النبل شيئًا غير الشرائط والأوسمة والذهب والفضة والحرير والديباج،فهو أنبل النبلاء وأشرفهم؛ لأنه جنديٌّ شجاعٌ، جريءٌ في مواقفه ومشاهده،صادقٌ في قولهوفعله، لا يُحابِي ولا يُجامِل، ولا يتذلَّل ولا يتزلف، ولا يخضع في شأنٍ من شئون حياتهإلا للحق الذي يعبده ويدين له، ولو عرفته يا سيدي لعرفت أفضل الناسخُلقًا، وأشرفهمنفسًا، وأطيبهم قلبًا، وأشدهم عطفًا على البؤساء والمنكوبين، وهو فوق ذلك شاعر مُجيد،وعالم فاضل، وناقد بارع، أما شكله فمن أغرب الأشكال وأعجبها، حتى لو أراد مصوِّرناأن يرسمه كما هو لعجز عن ذلك أو كاد، فإنَّ الناظر « فيليب دي شامبيني » العظيم إليه ليعجب كل العجب لمنظر قبعته المُحَلَّاة بالريشات الثلاث، وردائه الملون الجميل،وقُبائه الواسع المسدس الأطراف، الذي يرفع مؤخره بطرف سيفه، ثم يمشي به مختالًاكأنه طاووسٌ يجر ذَنَبَه وراءه، وله أنفٌ هائلٌ جدا، لا يراه الرائي حتى يَذْعر ويرتاع،ويقف أمامه مدهوشًا منذهلًا، يعجب لصاحبه كيف استطاع أن يحمله في رقعة وجهه،وكيف لا يلتمس السبيل إلى الخلاصمنه، أما هو فراضٍعنه كل الرضا، لا يشعر بثقله،ولا يفكر في الخلاص منه بحالٍ من الأحوال، والويل كل الويل لمن يرفع نظره إليه، أوتختلج شفتاه بابتسامة الْعَجَبِ منه أو السخرية به، فإن رأسه يطير بضربة واحدة منحدِّ سيفه. فقال له المركيز: كيفما كان الأمر فإنني أستطيع أن أقول لك — وأنا على ثقةٍمما أقول، إنه أعجز من أن يمنع مونفلوري عن التمثيل؛ بل هو لا يحضر الحفلة الليلةفرارًا من وعيده الكاذب. فقال راجنو: وأنا أراهن على حضوره بدجاجة مشوية من مطعمالشهير، ولا أرزؤك دانقًا واحدًا إن أنا ربحت الرهان! ثم أدار ظهره إليه، وجلس « راجنو » يتحدث إلى لينيير وكرستيان. « لبريه » وإنه لكذلك إذ لمح رجلًا مقبلًا على البعد. فقال لصاحبه: ها هو ذا المسيو صديق السيد سيرانو الحميم، فَأْذَنَا لي بالذهاب إليه، لعلي أستطيع أن أعلم من شأنهشيئًا، ثم تركهما وذهب إليه، فرآه يقلب نظره في الجماهير، ويلتفت يَمْنَةً ويَسْرة، فقال
الشاعر له: لعلك تفتش عن سيرانو أيها الصديق؟ قال: نعم، وإني قلقٌ من أجله جدا. قال: قد فتشت عنه قبلك فلم أجده، ثم انتحى به ناحيةً من القاعة، وجلسا معًا يتحدثان. روكسان وهنا ظهرت روكسان في مقصورتها، فضجَّ الجمهور حين رآهاضجيج السرور والابتهاج،وصاح أحد الأشراف الجالسين على المسرح: آه يا إلهي! إن جمالها فوق ما يتصوَّر العقلالبشري! وقال آخر: إنها زهرةٌ تبتسم في أشعة الشمس، وقال آخر: إنها روضةٌ يانعة يحملالنسيم رَيَّاهَا العَطِرَ إلى القلوب فينعشها، وكان كرستيان مشغولًا بأداء ثمن الشراب الذيشربه لينيير، فلم ينتبه إليها؛ ثم التفت فرآها، فارتعد واصفر وجهه وأخذ بيد لينيير وقالله: ها هي ذي، فقل لي من هي؟ إنني خائفٌ جدا يا صديقي، فضع يدك على قلبي فماأحسب إلا أنه يحاول الفرار من مكانه رهبةً وجزعًا، حدثني عنها واذكر لي كل ما تعلم من أمرها، وارفق بي في حديثك، حتى لا تقضيعلى الأمل الوحيد الباقي لي من حياتي. فقهقه لينيير ضاحكًا وقال له: بخٍ بخٍ لك يا كرستيان! لقد أحسنت الاختيار لنفسككل الإحسان، وما أحببتَ إلا أجمل فتاةٍ في فرنسا، فإن كان صحيحًا ما تقول من أنهاتمنحك من ودِّها مثل ما تمنحها، وأنها تنظر إليك بمثل العين التي تنظر بها إليها، فأنتأحسن الناسحظا، وأسعدهم طالعًا، إنها السيدة مادلين روبان، الشهيرة بروكسان، وهيفتاة عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أقرباء سوى ابن عمها سيرانو دي بيرجراك، الذي كانوايتحدثون عنه الآن، وهي على فَرْط جمالها وكثرة محاسنها، عفيفةٌ طاهرة الذيل، عاقلةرزينة، تجلس إلى أذكياء الرجال وتحادثهم، وتفتتن بتصوراتهم وأفكارهم، وتخوضمعهم في كل شأنٍ من شئون الحياة حتى شأن الحب، ولكنها لا تأذن لأحد أن يحبها أوأن يعبث بقلبها، فإن حاول ذلك منهم محاولٌ دافعته عنها برقة وأدب، ورفق وحكمة،فسَلِم لها شرفها وكرمها، ولا عيب فيها إلا أنها من فريق الأديبات المتحذلقات اللواتيأفسد الأدباء المتحذلقون أذواقهنَّ الأدبية، فذهبن مذهب التكلُّف والتَّعَمُّل في أحاديثهنوحوارهن، فلا ينطقن بكلمةصريحة خالية من التشابيه والمجازات والإشارات والكنايات،ولا يواجهن المعاني التي يُردن الإفضاء بها إلى السامعين مواجهةً، بل يدُرن حولها دوراتٍكثيرة حتى يصلن إليها، فإذا أردن أن يقلن في أحاديثهنَّ العادية: أشرقت الشمس، قلن:أو: طلعت النجوم، قلن: « هجم جيش الظلام » : أو أقبل الليل، قلن ،« ذرَّ قَرْنُ الغَزالَة » ها » : أو: ها هو ذا الكرسي فاجلس عليه، قلن ،« تجلت عروس الزنج في قلائدها الدُّرِّيَّة » أي إنهن ،« هو ذا الكرسي يفتح ذراعيه لاستقبالك فتفضل بإلقاء نفسك بين أحضانه لا يعجبهن من الألفاظ إلا المتكلف المصنوع، ولا من المعاني إلا المجلوب المختصر، ولامن الشعراء والكتاب إلا المتكلفون المتشدقون في أساليبهم وتصوراتهم، وهي سعيدة فيعيشها، مغتبطة بحياتها، لا ينغصعليها صفوها غير هذا الرجل الهمجي المتوحش الذي تراه واقفًا بجانبها الآن. فالتفت كرستيان، فرأى رجلًا رشيقًا متأنِّقًا حسن الزي والهندام، متَّشحًا بوشاحٍحريري أزرق، متقلدًا سيفًا عسكريا مرصعًا، قد أسند ذراعه إلى ظهر كرسيها كأنهيحتضنها، وظل يحادثها بصوتٍ منخفضٍكأنه يُسارُّها ويناجيها؛ فقال له وهو يرتجفغيظًا وحنقًا: من هذا الرجل؟ وكان لينيير قد ثقل، وبدأ يتمتم ويتلعثم. فقال بنغمةالفأفأة: إنه الكونت دي جيش، أحد قواد الجيش الفرنسي، وصهر الكردينال دي ريشلييهوزير فرنسا العظيم، وقد أحب روكسان وأغرم بها غرامًا شديدًا، ولما رأى أن لا سبيلله إليها من طريق المُخَالَّة؛ لأنها شريفة مترفعة، ولا من طريق الزواج؛ لأنه متزوجٌ بابنةأخت الكردينال، أراد أن يُزوِّجها من رجل ساقطٍ من أشياعه، لا تحبه ولا تأبه له اسمهطمعًا في أن ينال منها من طريقه ما لم ينل من طريقٍ آخر، فهالها ،« فالفير » الفيكونت الأمر وتعاظمها، وأبت أن تُذعن لرأيه أو تنزل على حكمه، ولكنه لا يزال يلح عليهاويضايقها، وهي تدافعه عنها بلطفٍ وأدب، وحذرٍ واحتياط، وأخاف إن استمرت هذهالحال أن ينتهي بها الأمر إلى الخضوع والإذعان؛ لأن الرجل قويٌّ جريءٌ مدلٌّ بمكانهمن قيادة الجيش، وبحظوته عند الكردينال، وليس في أنحاء المملكة جميعها من يجرؤعلى التفكير في مشادَّته أو الخلاف عليه، ولقد أثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرًا شديدًا،وأشفقْتُ على تلك الفتاة المسكينة أن يستبد بها وبمستقبلها رجلٌ حائرٌ متوحشٌ كهذاالرجل، فنظمْتُ قصيدةً رنانةشرحت فيها قصته معها، وهجوته فيها هجاءً مرا لا أحسب أنه يغتفره لي مدى الدهر، وإن شئت أن تسمع هذه القصيدة فَهَاكَهَا. وكان الشراب قد نال منه أقصى مناله، فنهض قائمًا على قدميه، وأخذ يصوِّب إلىالكونت نظرةً هائلة مخيفة، ورفع الكأس بيده، وحاول أن يتغنى بقصيدته، فأسكتهكرستيان وقال له: لا تفعل فإني ذاهبٌ. قال: إلى أين؟ قال: أفتش عن فالفير. قال: ماذاتريد منه؟ قال: أقتله! قال: إني أخاف عليك منه؛ لأنه أقوى منك وربما قتلك. قال: لاأبالي بالموت في سبيلها. قال: انظر، ها هي ذي تنظر إليك، وتحدِّق فيك تحديقًا شديدًا،فلا يشغلك شاغلٌ عنها، أما أنا فإني ذاهبٌ لشأني، فإن أصدقائي ينتظرونني في الْحَانِ،
ولا خير لي في الكأس من دونهم، فأذن لي بالذهاب، فأذن له فانصرف،
وظل هو شاخصًا إلى مقصورة روكسان، يبادلها نظرات الحب والشغف، ويفضي إليها من طريق الصمت والسكون بما عجز عن الإفضاء به من طريق الكلام.
وكان الكونت دي جيش قد نزل من مقصورتها، ومشى في القاعة يحف به جمعٌ عظيم من حاشيته وأصدقائه، يتملقونه ويداهنونه، وحسَّاده ومنافسوه من نبلاء القوم وأشرافهم يتغامزون فيما بينهم، ويرمونه بنظرات الحقد والحَرْدِ، ويسمونه القائد المغرور
مرةً، والجاسكوني الكذَّاب أخرى، حتى إذا مرَّ بين أيديهم نهضوا له إعظامًا وإجلالًا،وانحنوا بين يديه وداروا به يُصانعونه ويماسِحونه، حتى بلغ مكان المسرح، فصعد إليه هو وأتباعه، وجلس على كرسيه المعدِّ له، ثم التفت حوله وقال: أين الفيكونت فالفير؟ فأجابه: هأنا ذا يا سيدي.
قال: تعالَ بجانبي لأحدِّثك قليلًا. وكان كرستيان واقفًا مكانه ينظر إليه على البعد نظرات الحقد والموجدة، فما سمع اسم فالفير حتى ثار ثائرُه، وغلى دمه في رأسه، وعلم أنه قد وجد خَصْمَه، فوثب من مكانه وثبةً قوية، وصاح: ها قد عرفتُه، وسألطمه بقفازي على وجهه لطمةً هائلة!
ووضع يده في جيبه ليخرج قفازه منه، فدهش حين عثرت يده فيه بيد أخرى غريبة، فقبض عليها بشدة والتفت وراءه، فإذا لصٌّ قبيح المنظر، زَرِيُّ الهيئة، يحاول سرقته، فصاح فيه: من أنت؟ وماذا تريد؟
فتضعضع الرجل واستخزى، واستطير عقله خوفًا ورعبًا،ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه واستجمع قواه، وقال له: عفوًا يا سيدي، فإني ما أردت سرقتك، وإنما هو تمرين بسيط، فقد تلقيتُ الساعة أول درس من دروس اللُّصوصية على وقد بعثني إليك كما بعث غيري إلى غيرك، لا لنسرقكم أو نَحُول بينكم ،« بوار » أستاذي وبين أموالكم، بل لنستوثق من أنفسنا أننا قد حذقنا دروسنا واستظهرناها، فاعف عني واغتفر لي هذه الزَّلة،
واعلم أن في صدري سرا هائلًا جدا ينفعك نفعًا عظيمًا إن أفضي به إليك، وهو خيرٌ لك مني ألف مرة!
فضحك كرستيان طويلًا، وقال: أيَّ سر تريد؟ قال:إن صديقك الذي كان جالسًا معك منذ هُنَيْهَة — وقد نسيت اسمه الآن — هو في الساعة الأخيرة من ساعات حياته، وإن لم تسرع إلى نجدته! قال: أتريد لينيير؟ قال: نعم، فدهش كرستيان، وقال: لم أفهم ما تريد. قال: إنه كان قد هجا منذ أيامٍ عظيمًا من عظماء هذا البلد بقصيدةٍ مُقْذِعةٍ، فحقدها عليه حقدًا شديدًا،
ورأى أن ينتقم لنفسه منه، فأعد له في طريقه إلى منزله ليقتلوه، ،« نيل » مائة رجل يكمنون له الليلة في جنح الظلام عند باب وأنا أحد أولئك الرجال،
فاخرج الآن واطلُبه في الحانات التي يجلس فيها، وهي المضغط
الذهبي، والتفاحة الخشبية، والحزام الممزق، والمشاعل، والأقماع الثلاثة، واترك له بطاقةً في كل واحدة منها لتنذره بهذا الخطر الداهم. قال: ومن هو ذلك العظيم الذي دَبَّر له هذه المكيدة؟
قال ذلك سر المهنة لا أستطيع أن أبوح به! فضحك كرستيان وقال: لا حاجة بي إليك فقد عرفته، ثم خلى سبيله فذهب لشأنه، والتفت هو إلى مقصورة روكسان، فرآها متلفتة إليه لا تكاد ترفع نظرها عنه،
فألقى عليها نظرةً حزينة، وقال في نفسه: واأسفاه ! لا بد لي أن أتركها الآن، ثم ألقى على الفيكونت نظرةً ملتهبة، وقال: وأنْ أَتْرُكَهُ أيضًا؛ لأني أريد إنقاذ لينيير، ثم ترك الملعب وانصرف ليفتش عن صديقه في تلك الحانات الخمس. البطل
بدأ الموسيقيون يوقعون على نغماتهم الرقيقة الشجية، وسكنت الجماهير تنتظر رفع الستار، فهمس لبريه في أذن راجنو: ترى هل يظهر مونفلوري على المسرح الآن؟ قال : نعم، ما من ذلك بدٌّ؛ لأنه صاحب الدور الأول في الرواية،
ولأنه قد علم أن سيرانو لا يحضر بعد الآن، وأظن أني قد خسرت الرهان! قال: فليكن، فقد كنت أتوقع من حضوره شرا عظيمًا. وهنا دق الجرس ثلاث دقاتٍ ثم ارتفع الستار، فظهر مونفلوري على المسرح لابسا ملابس راعٍ، وعلى رأسه قبعةٌ محلاةٌ بالورود مائلة إلى أذنه، وفي يده أَرْغُولٌ طويلٌ ينفخ فيه،
فصفق له الجمهور تصفيقًا كثيرًا، فشكرهم بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يمثل دور فيدين، ويتغنى بهذه لاقطعة:
هنيئًا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جَهْدَهُم، بل يعتزلون العالَمَ بأَسْرِه،ويفرون منه إلى مكانٍ ناءٍ في مُنْقَطَعِ العمران، لا يرون فيه غير وجه الطبيعة الجميل … ألم أحَُرِّمْ عليك التمثيل شهرًا كاملًا » : وهنا رن صوتٌ عظيمٌ في جوانب القاعة يقول «؟ يا مونفلوري فدهش الجمهور، وجمد مونفلوري في مكانه، والتفت الناس يَمنةً ويَسرةً يفتشون عن صاحب الصوت أين مكانه، ووقف النساء في المقاصير ينظرن ماذا جرى،
وهمس راجنو في أذن لبريه، قد ربحت الرهان يا صديقي، فها هو ذا سيرانو قد حضر. فقال لبريه: ليته لم يحضر، وليتك خسرت كلشيء! وما هي إلا لحظة حتى ظهر سيرانو يتخطى
الرقاب، ويدفع المقاعد بين يديه دفعًا، ويزمجر زمجرة الرعد، حتى وصل إلى كرسيأمامالمسرح فاعتلاه، وهزَّ عصاه الطويلة في وجه الممثل وقال له: اترُك المسرح حالًا يا أحقرالممثلين، وإلا فأنت أعلم بما يكون، فسخط جمهورٌ من الناس سخطًا شديدًا، وضجوامن كل ناحية: مَثِّل يا مونفلوري، مثل ولا تخف، فتشجع مونفلوري وعاد إلى التغني«… هنيئًا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جَهْدَهُمْ، بل يعتزلون العالم بأسره » : بقطعته فقاطعه سيرانو وصاح وهو يزأر زئير الليث: كأنك تأبى أيها الغبي الأحمق إلا أن أجعلظهرك مزرعةً لعصاي هذه، فاترك المسرح حالًا، فقد أوشكت أن أغضب. فاحتدم الجمهورغيظًا، وأخذوا يصيحون: صهٍ أيها المجنون، مَثِّل يا مونفلوري، إنه فضولٌ غريبٌ، إنها«… هنيئًا للذين » : سماجةٌ نادرة، فعاد إلى الممثل هدوءه وسكونه، وعاد إلى التغني بقطعته فما نطق بأول حرفٍ منها حتى وثب سيرانو من كرسيه الذي كان واقفًا عليه إلى أقربكرسي إلى المسرح، وهزَّ عصاه في وجهه وصاح: لا تُمَثِّل أيها الدُّبُّ الهائل ولا تنطقبحرفٍ واحد، فإن فعلت ضربتك بعصاي هذه على وجهك ضربةً لا تعرف من بعدهاأين مكان أنفك منك، قد أمرتك وليس في العالم قوة تستطيع أن تعترض أمري، فطاشعقل مونفلوري وتلجلج لسانه، والتفت إلى الأشراف الجالسين على المسرح من حوله وقال:النجدة يا سادتي! فنظر أحدهم إلى سيرانو نظرة عظمة وكبرياء، وقال له: كفى هذيانًاأيها الفضولي الثرثار، فقد أزعجتنا بضوضائك، وكدرت صفونا، والتفت آخر إلى الممثلوقال له: مَثِّل يا رجل ولا تحفل بشيءٍ فأنا أحميك، وقال آخر: لقد تجاوز الحدَّ هذا الوقحُ حتى كاد يفرغ صبرنا. فاتجه إليهم سيرانو وأنشأ يخاطبهم بهدوءٍ وسكون، ويقول: يجب على حضراتالسادة الأشراف أن يلزموا أماكنهم ويحافظوا على حَيْدَتِهِمْ، فإني أشعر أن عصاي تتلهف شوقًا إلى التهامشرائطهم وأوسمتهم. فانتفض الأشراف غيظًا وتناهضوا للقيام، وهاج الجمهور هياجًا شديدًا، وأحاطجمعٌ عظيمٌ منهم بكرسيسيرانو وأخذوا يصيحون في وجهه ويولولون، ويقلدون أصواتالحيوان: كالديك والهِرِّ والكلب والحمار، فاستدار نحوهم سيرانو وألقى عليهم نظرةًهائلةً مخيفة فتراجعوا قليلًا، إلا أنهم ظلوا مستمرين في هياجهم وضوضائهم، وأخذوابرغمك يا سيرانو سَتُمَثَّلُ روايةُ كلوريز، » : يغنون بصوت واحدٍ أنشودةً هزلية يقولون فيها يكررونها مرارًا، فاستدار إليهم ثانية وزمجر في «! برغمك يا سيرانو سيمثِّل مونفلوري وجوههم، وصرخ فيهمصرخةً هائلة، وقال: ألا تستطيعون أيها السِّفْلة الأوغاد أن تتركوا
سيفي هادئًا في غمده ساعةً واحدة؟ لا أحب أن أسمع منكم هذه الأنشودة مرة أخرى، وإلاحطمتكم جميعًا! فقال له أحدهم: إنك لست بشمشون الجبار الذيضرب جمعًا عظيمًامن الناس بفكِّ كلبٍ فقتلهم، فالتفت إليه وقال: أستطيع أن أكون مثله لو أنك أعرتنيفَكَّكَ يا هذا! ثم التفت إلى مونفلوري، فرآه لا يزال واقفًا في مكانه. فقال: يا للعجب!إنه لم يُنَفِّذْ أمري حتى الآن، إنه يأبى إلا أن أجعل هذا المسرح مائدة أشَُرِّحُ عليها لحمهتشريحًا، فعاد مونفلوري إلى استنجاده واستصراخه، وظل يقول: النجدة النجدة! الغوثالغوث! فازداد غضب الجمهور وهياجهم، وأحاطوا بكرسيسيرانو من كل ناحية، وأخذوايهددونه وينذرونه بالويل والثُّبور، وعادوا إلى الترنم بأنشودتهم الأولى، وتقليد أصواتالحيوان، فاستدار إليهم فجأةً، ثم وثب من كرسيه إلى الأرض، وتقدم نحوهم بعصاه،فتقهقروا بين يديه، حتى اتسعت الدائرة من حوله اتساعًا عظيمًا، فصاح فيهم: إني آمركمجميعًا أن تسكتوا، لا ينطق أحد منكم بحرفٍ واحد بعد الآن، إني أعرف صور وجوهكمجميعها، فليس في استطاعة واحدٍ منكم أن يفلت من يدي، من ذا الذي يريد أن يكون أوَّلناطقٍ ليكون أوَّل قتيلٍ؟ ثم مر بهم يتصفح وجوههم واحدًا فواحدًا ويقول: من ذا الذييريد؟ أأنت أيها الفتى؟ أم أنت أيها الكهل؟ أم أنت أيها الشيخ الهرم؟ من منكم يحبأن يكون اسمه أول اسم في جريدة الأموات؟ لم يجبني أحد بحرف واحد! ما سكوتكم؟أجبنتم؟ ما لكم تفرون من وجهي؟ قلدوا أصوات الحيوان، غنوا الأنشودة الباردة! أرىصمتًا عميقًا وسكونًا سائدًا، لا حركة ولا إشارة! أظنهم قد ماتوا من شدة الخوف، الآنأستطيع أن أستمر في عملي! ثم اتجه إلى المسرح، وأنشأ يقول بصوتٍ خشنٍ أجشَّ: أيهاالأشراف، أيها الغوغاء، أيها الرجال، أيتها النساء، لا أريد أن أرى على جسم المسرح هذاالدُّمَّل القذر الخبيث، فإن لم ينفجر من نفسه فجرته بهذا المبضع القاتل، ولا أحب أنيعترضأحد منكم إرادتي، أو أخذت البريء بذنب المجرم، والجارَ بذنب الجارِ! ثم وضعيده على مقبض سيفه، وقد استحالت صورته إلى صورة وحشٍ هائل قد كشَّر عن أنيابه للفتك بكل من يدنو منه. فسكن الجمهور سكونًا عميقًا لا نَأْمة فيه ولا حركة. فقال مونفلوري بصوتٍ خافتٍفقال: لا شأن لك بتلك الإلهة !« تالي » متقطع: إنك بإهانتك إيَّاي يا سيدي قد أهنت الإلهة أيها الأحمق المأفون؛ لأنها إلهة التمثيل لا إلهة السخافات، ولو أنها شاهدت موقفك هذاوأنت تمثل بهذا الجسم الضخم الغليظ، وهذه الحركات الباردة الثقيلة، لتناولت منيعصاي هذه، وضربتك بها على أحقر عضوٍ في جسمك، وهأنذا أصفق ثلاث مرات، وعند
التصفيقة الثالثة لا بد أن تتلاشى من المسرح يا رأس الثور، أسمعت؟ فحاول مونفلوريأن يتكلم، فصفق سيرانو التصفيقة الأولى، فطار قلب الممثل فرقًا ورعبًا، وظلَّ يقلبنظره في الجماهير، فلم يجد بينهم معينًا ولا ناصرًا، فأنشأ يقول بصوتٍ مرتعد: سادتي!سادتي! أيرضيكم أن أهان في حضرتكم، وأن يهان الفن على مرأى منكم ومسمع؟! فصفقسيرانو التصفيقة الثانية، فاشتد اهتمام الجماهير، وتطاولت أعناقهم، وتحولوا من الهياجوالغضب إلى الاهتمام بمعرفة النتيجة، وأخذ بعضهم يهمس في أذن بعض بأمثال هذهالكلمات: سيبقى، سيخرج، سيجبن، سيقاوم، لا يستطيع البقاء، لا يليق به الفرار، فحاولمونفلوري أن يقول شيئًا آخر، ولكنه سمع التصفيقة الثالثة، فاختفى من المسرح كأنما غاصفي مهوًى عميق! فهتف الجمهور لسيرانو هتافًا عظيمًا، إلا بضعة أفرادٍ قلائل، لا، بل أخذ الكثيرمنهم يسب الممثل ويشتمه ويسخر منه، وجلسسيرانو على كرسيه جلسة الفائز المنتصر،فتقدم نحوه فتًى من المتفرجين وقال له: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: ما السبب في بغضكمونفلوري؟ فصمت سيرانو لحظة، ثم ألقى عليه نظرةً باسمةً هادئة وقال له: عندي لذلكسببان: أولهما قبح تمثيله ورداءة حركاته، وأنه يغني الشعر العذب الرقيق بصوتٍ مأخوذٍمختنق فيفسده على صاحبه، وينغصه على الناس، أما السبب الثاني فهو سِرِّي الخاصالذي لا يمكنني أن أبوح به لأحدٍ، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولكنك حرمتنا على كلوما كنا نُؤْثِر ذلك ولا نرضاه! قال: أظن أني لم أحرمك ،« كلوريز » حالٍ مشاهدة رواية كَنَثْرِه: كلاهما باردٌ غثٌّ لا يساوي شيئًا؛ ولذلك « بارو » شيئًا نفيسًا أيها الفتى، فإن نظم قد كفيتكم وكفيت نفسيمئونة سماع روايته السخيفة غير آسف عليها! فصاحت فتاة فيالمقاصير: من ذا الذي يعيب شاعرنا بارو؟ أيستطيع أحد أن يجرؤ على ذلك؟ وتكلمتفتياتٌ أخرياتٌ بمثل كلامها، فرفع سيرانو نظره إلى المقاصير، وأنشأ يخاطبهن ويقول:لَكُنَّ يا سيداتي أن تكن جميلاتٍ رائعاتٍ كما تشأن، ولَكُنَّ أن تختلبن الألباب، وتستلبنالعقول بحسنكن ودلالكن، ولَكُنَّ أن تبتسمن الابتسامات اللامعة البديعة التي تضيءبنورها ظلمات هذه الحياة، ولكُن أن تبعثن السعادة والغبطة والسرور والبهجة في نفوسالناس جميعًا، فيحيوا بفضلكن في هذا العالم حياة المسرة والهناء، ولكُن أن توحين روحالشعر إلى الشعراء، وتملينها عليهم بسحركنَّ وفتنتكنَّ فيستطيعوا أن يطيروا بأجنحتهمفي أجواء السموات العلا، ويشرقوا منها على الدنيا ومن فيها شموسًا وأقمارًا، لَكُنَّ كل هذا وَلَكِنْ ليس لَكُنَّ أن تجلسن في محكمة الشِّعر لتحكمن في قضية الشعراء!
صاحب الحان واقفًا على مقربةٍ منه. فقال له: وما رأيك يا سيدي « بلْروز » وكان في المال الذي خسرتُهُ الليلة بسببك؟ قال: هذه هي الكلمة الوحيدة المعقولة التي سمعتهاالليلة في هذا المكان، ثمضرب يده في جيبه، وأخرج منه كيسًا مملوءًا فضة، ورمى به إليه،فرحًا وابتهاجًا، وقال له: بمثل هذا الثمن آذن لك يا سيدي بالحضور كل « بلْروز » فتهلل ليلة، وبتعطيل ما تشاء من الروايات! ثم التفت إلى المتفرِّجين وقال لهم: قد انتهى التمثيل يا سادتي، فهيَّا جميعًا إلى الباب لتستردُّوا نقودكم. الأنفيات وهنا تقدم رجلٌ زَرِيُّ الهيئة قذر المنظر، تلوح على وجهه سمات المهانة والضَّعَة، ممزوجةًبالوقاحة والسماجة، وقال له بصوت خشنٍ أجش: لا يقف موقفك هذا يا سيدي ولا يجرؤعلى مثل ما جرؤت عليه إلا أحد رجلين: إما عظيمٌ، أو صنيعة رجلٍ عظيم، فهل لك أنتخبرني من هو مولاك الذي أنت صنيعته؟ فعجب سيرانو لأمره، وظل يردد نظره فيهساعةً، ثم قال له: ما أنا بصنيعة أحدٍ أيها الرجل. قال: أليس لك سيدٌ يحميك ويرعاك؟قال: لا! قال: ألا تلجأ في ساعات شدتك وحرجك إلى نبيلٍ من نبلاء هذا البلد أو أمير منمرتين، فهل ترى حتمًا لازمًا أن أقولها « لا» : أمرائه يسبل عليك ستر حمايته؟ قال: قلت لك لك مائة مرة لتفهمها؟ ثم وضع يده على مقبضسيفه، وقال: ليس لي حامٍ ولا سيدٌ غيرهذا! فقال: إذن لا تطلع عليك شمس الغد حتى تكون قد شددت رحلك وتزوَّدت زادك،وغادرت باريسإلى بلدٍ ناءٍ لا رجعة لك منه أبد الدهر! قال: لماذا؟ قال: لأن مونفلوري الذيوذراع هذا الرجل طويلة جدا ،« دي كندال » أهنته الليلة، صنيعة رجلٍ عظيم هو الدوق تتناول أبعد الأشياء، ولو كانت في قرن الشمس. قال: ولكنها ليست أطول من ذراعي حينأصلها بسيفي! قال: إنك لا تستطيع أن تزعم في نفسك أنك … فقاطعه سيرانو وصاح:أستطيع أن أزعم كلشيء أيها الفضولي الثَّرثار، فاغرب عن وجهي، واطلب لنفسك طريقالخلاصمني! فظل الرجل جامدًا مكانه يحدق فيه تحديقًا شديدًا، لا يطرف ولا يتحرك،فانفجر سيرانو غيظًا، وانقضَّعليه وأخذ بتلابيبه وقال له: اخرج من هنا حالًا أو حدِّثنيما لي أراك تنظر إلى أنفي هذه النظرة المُريبة؟ فصعق الرجل في مكانه، وظل يرتعد بينيديه، وكان يعلم الناس جميعًا أن سيرانو لا يغضب لشيء من الأشياء غضبه لأنفه، ولاينتقم لشيء انتقامه له، وقال: أنا يا سيدي! قال: نعم أنت، فما الذي تراه غريبًا فيه؟ قال:إنك واهمٌ يا سيدي، فإنني — وأقُسم لك — ما فكرت قط في شيء مما تقول. قال: أتراه
الشاعر رخوًا متهدلًا كخرطوم الفيل؟ قال: لا يا سيدي. قال: أو محدودبًا كمنقار البومة؟ قال:لا يا سيدي. قال: أويخيل إليك أن أرنبته دُمَّلٌ كبير يزعجك منظره؟ قال: أبدًا يا سيدي، وما فكرت في ذلك قط. قال: أويتراءى لك أن الذباب يمشي متزلقًا فوق تضاريسه؟قال: لا يا سيدي، لم يخطر بباليشيءٌ من ذلك، وأقسم لك. قال: أتراه أعجوبةً من أعاجيب الدهر أو فلتةً من فلتات الطبيعة؟ قال: لا يا سيدي، لا هذا ولا ذاك. قال: أترى لونه مضرا بالنظر، أو وضعه خارجًا عنالحدِّ، أو شكله مخالفًا للآداب العامة؟ قال: آه يا إلهي! إنني لم أسمح لنفسيبالنظر إليهمطلقًا. قال: ولم لا تسمح لنفسك بالنظر إليه، أتشمئز منه؟ قال: أبدًا يا سيدي وأقسملك. قال: أهو في نظرك كبير جدا إلى هذا الحد؟ قال: لا، بل صغيرٌ جدا لا أكاد أشعر به.قال: أتهزأ بي أيها الرجل؟ قال: عفوًا يا سيدي فإني لا أدري ما أقول. قال: وهل تظن أيهاالغبي الأحمق أن الأنف الصغير مفخرةٌ من المفاخر التي يعتزُّ بها صاحبها؟ نعم إن أنفيكبير جدا؛ لا يكبره أنفٌ في هذا البلد، وذلك ما أفخر به كل الفخر؛ لأن الأنف الكبير عنوانالكرم والشَّرف، والشجاعة والشمم، وأنا ذلك الذي اجتمعت له هذه الصفات جميعها، أماالوجه الكرويُّ الأملس المجرد من هذا العنوان الشريف — كوجهك هذا — فلا يستحقغير اللَّطم، ولطمه على وجهه لطمةً هائلة، ثم وكزَه برجله، ففرَّ الرجل هاربًا من بين يديهوهو يصيح: النجدة النجدة! فعاد سيرانو إلى مكانه، وجلس على كرسيه مفتخرًا معتزا،وظل يقول: هذا إنذارٌ مني لجميع الفضوليين الثرثارين الذين يحاولون أن يهزءوا بهذاالموضع الناتئ في وجهي ألَّا يفعلوا، فإن حدثتهم نفوسهم بشيءٍ من ذلك — سواء أكانوامن الغوغاء أم من النبلاء — فليعلموا أنني لا أسمح لهم بالفرار من يدي كما سمحت لهذا الجبان الرِّعديد، قبل أن أغرس ذباب سيفي في سويداء قلوبهم. فانتفض الأشراف غيظًا وثاروا من أماكنهم، وقال الكونت دي جيش: يخيَّل إليَّ أنالرجل قد بدأ يضايقنا، ثم انحدر من المسرح تتبعه حاشيته، حتى دنا من سيرانو، والتفتإلى أصحابه وقال لهم: ألا يوجد بينكم من يصلح لمقارعة هذا الرَّجل؟ فقال الكونتفالفير: أنا صاحبه يا سيدي فانتظر قليلًا، فإني سأفوِّق إليه سهمًا لا قبل له بالنجاةمنه، ثم تقدم نحو سيرانو وهو جالسٌ على كرسيه جلسة العظمة والكبرياء، وظل يرددالنظر في وجهه طويلًا، ثم قال له: إن أنفك أيها الرجل قبيحٌ جدا! فرفع سيرانو نظرهإليه بهدوء وسكون، ثم قهقه قهقهةً طويلة، وقال: ثم ماذا؟ قال: لاشيء سوى أن أقول 30
لك مرة أخرى: إن أنفك أعجوبةٌ من أعاجيب الزمان! فنهضسيرانو عن كرسيه متثاقلًا،وتقدم نحوه خطوةً، وألقى عليه نظرةً من تلكم النظرات الهائلة التي اعتاد أن يصرع بهاخُصومهُ حين يلقيها عليهم، وقال له: ثم ماذا؟ فاضطرب الفيكونت وشعر بدبيب الخوففي قلبه، وقال: لا شيء! قال: أهذا هو السَّهم القاتل الذي أردت أن ترميني به؟ لقد كنتأظن أنك أذكى من ذلك، فازداد اضطراب الفيكونت وقال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أقوللك: إن مجال القول في الآناف ذو سعةٍ، ولو كان عندك ذرَّة واحدة من الفطنة والذكاء،أو أن لك بعضالعلم بأساليب الخطاب ومناهجه، لاستطعت أن تقول لي في هذا الموضوعلو كان لي أيها الرجل أنفٌ مثل أنفك :« المتنطِّعين » شيئًا كثيرًا، كأن تقول لي مثلًا بلهجة هذا لأرحت نفسي والعالم منه بضربةٍ واحدةٍ من حد سيفي. حبَّذا لوصنعت يا سيدي لأنفك هذا كأسًا خاصةً به، فإني أراه :« المتلطفين » وبلهجة يشرب معك من كأسك التي تشرب منها. ما أرى أنفك إلا صخرةً عاتية، أو قمة عالية، أو هضبة :« الواصفين » وبأسلوب مشرفة، أو رَوْشنًا مطلا، أو رأسًا ناتئًا، أو لسانًا ممتدا. ما هذا الشيء الناتئ في وجهك يا سيدي؟ أمحارةٌ مستطيلة، :« الفضوليين » وبنغمة أم دواة للكتابة، أم صندوق للأمواس، أو علبة للمقاريض؟ أبلغ بك غرامك بالطيور يا سيدي أن تبني لها في وجهك برجًا :« الماجنين » وبلهجة خاصا بها؛ لتقع عليه كلما قطعت شوطًا من أشواطها؟ هنيئًا لك يا سيدي هذا القصرالفخم الذي بنيته لنفسك على :« المداهنين » وبأسلوب هذه الربوة البديعة. وباللهجة الشعرية: أأنفك القيثارة التي تُوقع عليها إلهة الشعر أنغامها الشجية؟ وبروح السذاجة: في أي ساعةٍ تفتح أبواب هذا الهيكل يا سيدي الحارس؟ وبالبساطة الريفية: ما هذا يا سيدي، أأنفٌضخم، أم لفتةٌ كبيرة، أم شمامةصغيرة؟ وباللهجة العسكرية: صوِّب هذا المدفع نحو فرقة الفرسان أيها الجندي. إنه يكون بلا شك النمرة ؟« اليانصيب » وباللغة المالية: أتريد أن تضع أنفك هذا في الكبرى! وباللغة التمثيلية: أهذا هو الأنف الذي أفسد تخطيط وجه صاحبه فسادًا عظيمًا؟ يا له من مجرم أثيم، ومعتدٍ زنيم! ألا تخاف أيها الرجل وأنت تنفث دخان لفافتك من :« متعجرفًا » ويمكنك أن تقول لي هذه المدخنة الضخمة أن يصيح الناس حين يرونك: الحريق الحريق!
لقد أخل هذا النتوء البارز في وجهك يا سيدي بتوازن جسمك فاحترس :« متأدبًا » و من السُّقوط. ألا يجمل بك يا سيدي أن تضع لأنفك هذا مظلةً خاصة به حتى لا يتغير :« متأنقًا » و لونه من تأثير حرارة الشمس؟ تيتلخرْ تيفيلو » إن الحيوان الضخم الذي سماه الفيلسوف أرستوفان :« متحذلقًا » و هو الحيوان الوحيد، الذي يمكنه أن يحمل في وجهه كمية من اللحم توازن « جَمَلوس الكمية التي تحملها في وجهك. ما أجمله مشجبًا لتعليق القلانس والطيالس! :« مازحًا » و ليسفي استطاعة أي ريحٍ مهما اشتد هبوبها أن تجلب لأنفك الزكام، غير :« مغاليًا » و ريح السَّمُوم! ما أجمله إعلانًا لو وضع على واجهة حانوتٍ من حوانيت الروائح :« متهكمًا » و العطرية! ما البحر الأحمر إلا الدم الذي فصد من أنفك! :« متفجعًا » و ذلك ما كان يجب أن تقوله لي لو كان في رأسك ذرةٌ واحدةٌ من الفطنة والذكاء، علىأنك لو استطعت لحال بينك وبين ذلك الخوف والرعب؛ لأنك تعلم أنني إن سمحت لنفسيبالسخرية من نفسي أحيانًا، فإنني لا أسمح لأحدٍ بالسخرية مني مطلقًا، فلقد جمعت فينفسك بين الغباوة والجهل، والجبن والخور، حتى لأحسب أنك لا تحسن هجاء كلمةٍ في اللغة غير كلمة الحماقة، ولا تحمل في رأسك معنى غير معناها! فجُنَّ الكونت دي جيشغيظًا، وقال للفيكونت: من رأيي أن نترك هذا المجنون وشأنه،فإننا ممتحنون الليلة برجلٍ لا بد أن يكون قد أفلت الساعة من يد حارس المارستان.فقال الفيكونت: إن الذي يغيظني ويؤلمني أن تصدر أمثال هذه الكلمات المملوءة كبرًاوعظمة من حقيرٍ مفلوكٍ لا يملك من متاع الدنيا شيئًا، حتى قفازًا في يده، ولا يحمل علىثوبه أي علامة من علامات الشرف! فارتعش سيرانو غيظًا، ولكنه تجلد واستمسك، وأنشأيقول بصوت هادئ رزين: نعم أعترف لك يا سيدي بأنني رجلٌ فقيرٌ مفلوكٌ، لا أملكمن متاع الدنيا شيئًا، وأنني لا أحمل على صدري أي هَنَةٍ من تلك الهَنَات التي تسمونهاشارات الشَّرف، ولكن ائذن لي أن أقول لك كلمةً واحدةً، ثم أنت وشأنك بعد ذلك: إنني لاأحفل يا سيدي بالصُّور والرسوم والأزياء والألوان، ولا يعنيني جمال الصورة وحسنها،ولا برقشة الثياب ونمنمتها، وحسبي من الجمال أنني رجلٌشريفٌ مستقيم، لا أكذب ولا 32
أتلوَّن، ولا أداهن ولا أتملق، وأن نفسي نقيةٌ بيضاء غير ملوثةٍ بأدران الرذائل والمفاسد،فلئن فاتني الوجه الجميل، والثوب الْمُفَوَّف، والوسام اللامع، والجوهر الساطع، فلم يفتني شرف المبدأ، ولا عزة النفس، ولا إباء الضيم، ولا نقاء الضمير. إن الجبهة العالية يا سيدي لا تحتاج إلى تاجٍ يزينها، وإن الصدر المملوء بالشرفوالفضيلة لا يحتاج إلى وسامٍ يتلألأ فوقه، فليفخر الفاخرون بما شاءوا من فضتهموذهبهم، وألقابهم ومناصبهم، أما أنا فحسبي من الفخر أنني أستطيع أن أمشي بينالناس برأسٍ عالٍ، وجبهة مرتفعة، ونفس مطمئنة، وثوب نقي أبيض، لم تعلق به ذرةمن غبار العار، ولم تلوِّثه شائبة من شوائب السفالة والدناءة، لا أهاب شيئًا، ولا أغضي لشيءٍ ولا أخجل منشيء. نعم، إنني لا أملك قفازًا في يدي كما تقول، ولكن أتدري ما السبب في ذلك؟ السببفيه أنني قطَّعت جميع قفازاتي على وجوه السفهاء والفضوليين الذين يعترضون طريقيمثلك، عقابًا لهم على وقاحتهم وفضولهم، ولم يكن باقيًا لي منها حتى ليلة أمس إلا زوجٌعتيقٌ جدا، احتجت إليه في موقفٍ كموقفي هذا معك، فرميت به وجه أحد السفهاء، فلصق بخدِّه، فتركته وانصرفت. فجنَّ الفيكونت غيظًا، وأخذ يهذي ويقول: صُعلوكٌ، بائسٌ، وقحٌ، حقيرٌ، سافلٌ!فانحنى سيرانو بين يديه رافعًا قبَّعته عن رأسه وقال له: تشرفت بمعرفة اسمك يا سيدي، أما أنا فاسمي سيرانو سافينيان هركيل دي بيرجراك الجاسكوني! فصاح الفيكونت: صهٍ أيها النَّذل الساقط! فجمد سيرانو لحظة، ثم انحنى على نفسه وأخذ يتلوى ويصيح، كأنما أصيب بألمٍشديد في بعضأعضائه، فظن الفيكونت أن قد عرضله عارضٌمميت، فحنا عليه وقالله: ماذا أصابك؟ فلم يجب، وظل يصيح ويتأوَّه. فقال له: ما شكاتك أيها المسكين؟قال: خدرٌ شديدٌ يؤلمني جدا. قال: في قدمك؟ قال: لا. قال: في فخذك؟ قال: لا. قال: إذنفي ذراعك؟ قال: ليته كان كذلك. قال: قل لي في أي مكانٍ هو؟ قال: في سيفي! فدهشالفيكونت وقال: ماذا تريد؟ قال: لقد طال لبثه في غمده زمنًا طويلًا، فأصابه هذا التنميل الشديد، ولا علاج له غير الامتشاق!
المبارزة الشعرية فَفطن الفيكونت لما أراد، وعلم أنها المبارزة ما من ذلك بدٌّ، فَتَشَجَّعَ وقال: فليكن ما تريد!قال: أتعلم أنني سأضربكضربةً غريبة لم يرَ الرَّاءُون مثلها؟ قال: خيال شاعرٍ كذاب.قال: إن الشاعر لا يكذب، ولكنه يقول ما لا يفهمه الأغبياء فيظنونه كاذبًا، وفي استطاعتيأن أرتجل في أثناء القتال الذي يدور بيني وبينك موشحًا لا أقول فيه شيئًا إلا فعلته،وسيكون مركَّبًا من خمس قطعٍ، يبتدئ أولها بابتداء المبارزة، وينتهي آخرها بانتهائها،أي بانتهاء حياتك يا فيكونت! فصاح الفيكونت: كذبت، وإنك لأعجز من ذلك! قال: لم أكذب في حياتي قطُّ، وها هو ذا عنوان مُوشَّحي الجديد. موشَّح القتال » : وأخذ يُلقي العنوان مادا به صوته، كأنما يمثل على مسرح، ويقول الذي دار بين السيد سيرانو دي بيرجراك، وبين صعلوكٍ من الصعاليك المتنبِّلين اسمه «. الفيكونت فالفير، في ثم جرد سيفه، وبدأ يقاتل ويلقي موشحه، ويوقعضرباته على نغماته ويقول:إنني أرمي بهدوءٍ قبعتي، وأخلع عن منكبي ردائي، ثم أجرد من غمده سيفي،ثم أتقدم نحوك رشيقًا كسيلادون، وشجاعًا كإسكاريوس، ولا بد أني في المقطع الأخيرِ أصيبُ! وكان جديرًا بك أن تضنَّ بنفسك على الموت، إن الموت لا بد آتٍ إليك، لا أدريأين أضع ذباب سيفي من جسمك؟ أَو جَنْبك تحت ثديك؟ أم في قلبك تحت وسامك؟ وعلى كل حالٍ ففي المقطع الأخير أصيبُ! ترسك يرنُّ تحتضربات سيفي، ذُبَابُ سيفي يلتهب التهابًا، قلبك يخفق منالرعب والخوف، فرائصك ترتعد وتضطرب، فلا بد أني في المقطع الأخير أصيبُ!هأنتذا قد بدأت تتقهقر؛ لأنني قد أفسدت عليك الضربة الوحيدة التي تعرفها،أوسعت لك المجال فاغتررت وهجمت، فلم تلبث أن فشلت وخُذلت، ويلٌ لك من المستقبل المظلم؛ فإني في المقطع الأخير أصيبُ! 34
اسأل لله رَحْمته وإحسانه، فها هو ذا الموت يرفرف فوق رأسك، قد سددتعليك جميع الأبواب، ولم تبقَ لك حيلةٌ في دفع القضاء، قد وعدت ولا بد أن أفي بوعدي، أنني في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير أصيب! وهنا ضربه ضربةً هائلة اخترقت صدره، فسقط يترنح من وقع الضربة، وضجَّتالقاعة بالتصفيق والتهليل، وأحاط القوم بسيرانو يباركونه ويمسحونه، وأخذت النساءتنثر عليه الورود والأزهار، وكانت روكسان أكثرهن اهتمامًا بالمبارزة وأشدهن سرورًا بنتيجتها. وظل الجماهير يصيحون بأصواتٍ مختلفة: ما أشجعه! ما أشعره! إنه بطلٌ عظيم،حادثٌ بديع، منظر جميل، شاعرٌ وبطلٌ معًا، لا يقول إلا ما يفعل، وقد أصابه في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير كما قال. وتقدم نحوه السيد دارتنيان رئيس حراس الملك، ومد إليه يده وقال له: ائذن لييا سيدي أن أشكرك وأصافحك، وأقول لك: إنك أفضل مبارزٍ رأيته في حياتي! فلم يزدسيرانو على أن ألقى عليه نظرةً هادئةً ساكنة، ومد يده إليه فصافحه بسكون، ثم أخذالناس ينصرفون من القاعة تباعًا، وكان الممثل مونفلوري لا يزال واقفًا في الطريق العام،فظلوا يسبُّونه ويشتمونه كلما مروا به، ويعيِّرونه بالجبن والفرار، حتى إذا لم يبق فيالحانة أحدٌ قال لبريه لسيرانو: هل لك في أن نتخلف هنا قليلًا أيها الصديق؛ لأني أريدأن أتحدث إليك في بعض الشئون؟ فقال سيرانو لصاحب الحانة: أتأذن لنا أن نبقى هناهُنَيْهَةً أنا وصديقي لبريه؟ قال: نعم كما تشاء يا سيدي، وسأخرج أنا وجماعة الممثلينلنتناول طعام العشاء ونتنزه قليلًا، ثم نعود بعد ساعة لتهيئة الرواية المقبلة، وصاحبالخدم: أغلقوا الأبواب وأبقوا الأنوار كما هي حتى نعود، ثم انصرف هو وسائر الممثلين. سريرة سيرانو قال لبريه لسيرانو: وأنت، ألا تريد أن تتعشَّى أيضًا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأني لاأملك نقودًا! فقهقه لبريه ضاحكًا، فدهش سيرانو والتفت إليه وقال له: ممَّ تضحك؟ قال:تذكرت ذلك الموقف الجميل وأنت تخرج كيسك من جيبك وترمي به بكل قواك إلى بلروزوتقول له: خذ هذا أيها الرجل فهو لك. قال: ألا ترى أنها كانت حركةً بديعة؟ قال: نعم،ولكنها لا تغني عن العشاء شيئًا، ولا أدري ماذا تصنع بعد اليوم وأنت لا تزال في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أحسب أن أباك يرسل إليك النفقة الشهرية مرة أخرى.
وكانت فتاة المقصف واقفةً على مقربة تسمع حديثهما دون أن ينتبها إليها، فتحركتحركةً مسموعة، فالتفت إليها سيرانو، فمشت نحوه ووضعت يدها على كتفه، وألقت عليهنظرة عطفٍ وحنو لو أنها ألقتها على وجهٍ غير وجهه لظنها الناسلجمالها ورقتها نظرةحب وغرام، وقالت له: أنت ضيفي الليلة يا سيدي، وها هو ذا الطعام بين يديك، فَادْنُمن المائدة، وتناول منها ما تشاء. فقال: شكرًا لك يا صديقتي، وبالرغم من أن عظمتيالجاسكونية لا تسمح لي أن أمد يدي لتناول أي شيءٍ من أي إنسان، فإني ألبي دعوتكإبقاءً على صداقتك وودك! ثم تقدم نحو المائدة، وتناول ثلاث حبات من العنب، وقرصًاصغيرًا، وكأسًا من الماء، وقال: هذا يكفيني. قالت له: خذ شيئًا آخر. قال: لا حاجة بي إلىشيءٍ بعد ذلك إلا إلى قُبلةٍ من يدك الجميلة، فاسمحي لي بها! وتناول يدها فقبَّلها، ووجههالقمة » : يتلهب حياءً وخجلًا، ثم وضع الطعام بين يديه، وهو يتمتم بصوتٍضعيف ويقول «! صغيرة لا تملأ معدة طفل، وثلاث حبات من العنب لا تملأ الفم، آه ما أشد جوعي ثم التفت إلى لبريه، وقال له: ماذا كنت تريد أن تقول لي يا لبريه؟ تكلم فإني مصغٍإليك. قال: كنت أريد أن أقول لك: إن هؤلاء الطائشين المغرورين الذين لا حديث لهمليلهم ونهارهم إلا حديث الطعن والضرب والمغالبة والمصارعة سيفسدون عليك عقلك،ويهدمون نظام حياتك، ولو أنك جريت معهم في هذا المضمار طويلًا لكانت عاقبتك أوخمالعواقب وأردأها، سل العقلاء أصحاب العقول الراجحة، والآراء المستحصدة ماذا كانوقْعُ حادث الليلة في نفوسهم، وخاصَّةً في نفس رجلٍ عاقل كيِّس كنيافة الكردينال؟ فقالله وكان قد انتهى من طعامه: أكان الكردينال هنا؟ قال: نعم، ولا بد أن يكون رأيه فيكسيئًا جدا. قال: لا، بالعكس؛ لأنه شاعر، والشاعر يعجبه دائمًا أن يرى بعينيه منظرسقوط رواية ينظمها شاعر آخر. قال: ولكنك قد اتخذت لك الليلة أعداءً كثيرين لا أدريماذا يكون شأنك معهم غدًا. قال: كم تظنهم على وجه التقريب؟ قال: أربعين غير النساء.قال: اذكر لي بعضهم مثلًا. قال: مونفلوري، دي جيش، دي جيجي، فالفير، باور مؤلفالرواية، الممثلون، أعضاء المجمع العلمي … قال: كفى كفى، قد فهمت، إنها نتيجة جميلةجدا، كنت أظن أن أعدائي أصغر شأنًا من ذلك! فعجب لبريه لأمره، وقال له: أعترف لكيا سيرانو أنني قد عييتُ بأمرك إعياءً شديدًا، وأصبحت لا أدري إلى أين تصل بك هذهالحالة الغريبة، وتلك الأساليب الشاذة، ولا أفهم ما هي حقيقة رأيك في الحياة؟ ولا ما هيخطتك التي انتهجتها لنفسك فيها؟ فأطرق سيرانو لحظةً ثم رفع رأسه وقال له: اسمعيا لبريه إن الخطط في الحياة كثيرة جدا، ومتشعبةٌ تشعبًا يحار فيه العقل، ولقد ضللت
[]في مسالكها برهةً من الزمان لا أعرف ماذا آخذ منها، وماذا أدع، حتى اهتديت أخيرًا إلىأبسطها وأسهلها. قال: وما هو؟ قال: هو أن أكون موضع الإعجاب في كل شيءٍ ومن كلإنسان. قال: فليكن ما تريد، ولكن علىشرط أن تكون أفعالك أشبه بأفعال العقلاء منها بأفعال المجانين. قال: لا أستطيع أن أعرف الحد الفاصل بين العقل والجنون. قال: هل لك أن تخبرني لم تضمر في نفسك هذا البغضالشديد لمونفلوري، وما أذكرأن الرجل أساء إليك في حياته قط؟ قال: أبغضه لأنه — وهو ذلك العُتُل البطين الذي لاتستطيع يده أن تصل إلى سرته — يظن نفسه رشيقًا جميلًا يستطيع أن يخلب قلوبالنساء، ويستهوي ألبابهن بخفته ورشاقته، فإذا وقف في المسرح للتمثيل ألقى عليهن فيمقاصيرهن نظراتٍ كنظرات الضفادع، بصورة تعافها الأنفس، وتندى لها الوجوه، ولقدأضمرت له في نفسي تلك الموجدة منذ الليلة التي رأيته يجترئ فيها على أن يوجه إليهانظراته الخنفسائية البشعة، فلقد خُيِّلَ إليَّ في تلك الساعة أن دودةً قذرةً سوداء قد دبتمن مكانها إلى وردةٍ نضرةٍ ناعمة فلصقت بها، فأزعجني هذا المنظر المؤلم إزعاجًا شديدًا،ولم أرَ بدا من معاقبته على جهله وغباوته، فحكمت عليه بالانقطاع عن التمثيل شهرًاكاملًا. فقال لبريه: ومن هي تلك التي تريد؟ ويخيل إليَّ أنك عاشقٌ يا سيرانو، فابتسمابتسامة المُمْتَعِضالمتألم، ثم تنفستَنَفُّسَةً طويلةً كادت تتساقط لها جوانب نفسه، وقال: نعم يا لبريه! إنني أحب حبا قاتلًا لا بد أن يسوقني إلى القبر. قال: وهل يمكنني أن أعرف من هي تلك التي تحبها؟ فإنك لم تحدثني عنها قبلاليوم. قال: أي فائدة لي من ذكرها وهي لا تحبني؟ قال: وكيف عرفت ذلك، هل فاتحتهافيشيء؟ قال: وكيف يمكنني أن أفاتحها وأنا أعلم أن هذا الأنف البشع القبيح الذي أحملهيتقدَّمني حيثما ذهبت، وأنَّى سلكت، فلا يسمح لي بالطمع في قلب امرأةٍ قبيحةٍ شوهاءفضلًا عن جميلةٍ حسناء. قال: ألا يمكنني أن أعرف من هي؟ قال: إذا عرفت أن سيرانولا يمكن أن يحب إلا أجمل امرأةٍ في العالم أمكنك أن تعرف من هي؟ فصمت لبريه هُنَيْهَةً وهو يفكر حتى عجز، فقال: لم أستطع أن أفهم شيئًا، فهل لك أن تصفها لي؟ قال: أمَّا هذه فنعم، هي الخطر العظيم الذي يحيط بالمرء من جميع نواحيه فلايعرف له سبيلًا إلى الخلاصمنه، هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليهوعقله، وجميع حواسه ومشاعره، هي الوردة النضرة الناعمة التي تكمن حَيَّةُ الحُب السامةبين أوراقها، من رأى ابتساماتها رأى الكمال الإنساني كله، ومن رأى نظراتها رأى الدعة واللطف والرقة والعذوبة، وجميع معاني الحياة الطيبة اللذيذة في كل حركةٍ من حركاتها،
وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها، إنها شمسٌ تضيء الكون وتنير ظلماته، ليسربَّة الجمال، وهي جالسة فوق علياء عرشها العظيم أن تضارعها « الزهرة » في استطاعة إلهة الحب حين تسير بخفة ورشاقة وسط « ديانا » في بهائها وجلالها، ولا في استطاعة الرياض الناضرة أن تحاكيها في مشيتها، وهي سائرة على قدميها الصغيرتين في مماشي بستانها.
فقال لبريه: حسبك يا سيرانو، فإنك تحب ابنة عمك روكسان، ولكن لا أدري لملا تُفضي إليها بذات نفسك ما دمت تَمُتُّ إليها بصلة القربى التي بينك وبينها؟
قال: ذلك ما أعجز عنه يا صديقي، فإنني رجلٌ بائسٌ مسكين، قضى الله عليَّ أن أعيش في هذا العالم بلا أملٍ ولا رجاء، تأمل في وجهي قليلًا، وانظر: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجه البشع الدميم أن يحيا في العالم حياة الحب والغرام؟ أو أن يكون له أملٌ في اختلاب الأفئدة واجتذاب القلوب؟ لقد تمر بي في بعض أيامي ساعات أشعر فيها بحاجة قلبي إلى تلك الحياة الحلوة اللذيذة التي يحياها الناس جميعًا، حياة الحب والغرام، فأدخل إحدى الحدائق العامة، وأمشي بين رياضها وأزهارها، وأتنسم روائحها وأنفاسها، فأنسى نفسي،ويخيل إليَّ أني أسبح في جو رائقٍ صافٍ من العواطف والوجدانات، فإذا رأيت في ضوءأشعة القمر الفضية امرأةً جميلة تمشي وحدها خيِّل إليَّ أني أستطيع أن أكون رفيقهاالآخذ بذراعها، وإذا رأيت فتًى وفتاةً سائرين على مهلٍ يتهامسان ويتناجيان، وتتموجأنوار الحب بينهما خُيِّل إليَّ أن بجانبي رفيقةً حسناء ترفرف عليَّ وعليها هذه الأجنحةالبيضاء التي ترفرف عليهما، ثم أستسلم لهذا التصورات والأفكار، وأستغرق فيها ساعةطويلة، حتى إذا وقع نظري فجأة على خيال وجهي في حائط الحديقة في ضوء القمر،عدت إلى صوابي وأفقت من غيبوبتي، ورجعت أدراجي إلى منزلي وبي من الحزن ما لله به عليم! ثم نكس رأسه مَلِيا وصمت صمتًا عميقًا كأنما يعالج في نفسه ألمًا مُمِضا، فحنا عليهلبريه وقال له: رحمةً بنفسك يا صديقي! فرفع رأسه وقال: نعم، إن آلامي عظيمةٌ جدالا يحتملها بشر، فليت لله إذْ خلقني على هذه الصورة الدميمة البشعة لم يخلق لي قلبًاخفاقًا، أو ليته إذْ خلق لي هذا القلب الخفاق خلق له أجنحةً يستطيع أن يطير بها في جوالحب كما تطير القلوب الخوافق، أما الآن فإنني أشعر أني وحيدٌ في هذه الدنيا، لا سند لي فيها ولا عضد، ولا أنيس ولا عشير، ولا زوجة ولا ولد! ثم عاد إلى إطراقه مرةً أخرى، وأخذ يبكي ويذرف دموعًا غزارًا في صمتٍ وسكون،فانزعج لبريه وأخذ بيده وقال له: أتبكي يا سيرانو؟ فانتفض ورفع رأسه وقال: لا يا
لبريه، إن البكاء قبيحٌ بمثلي، ولا يوجد في العالم منظرٌ أقبح ولا أسمج من منظر الدمعةالجميلة، وهي سائلة على مثل هذا الأنف الضخم الطويل، لا شيء في العالم أبدع ولا أرقولا أجمل من الدموع، وإني أضنُّ بها أن أهُينها، وأكدر صفوها وأشوِّه جمالها. فتأثرلبريه لمنظره تأثرًا شديدًا، وكاد يبكي لبكائه، ولكنه تجلد واستمسك وقال له: لا تحزنيا صديقي ولا تستسلم لهذه الأوهام، فما الحب في الدنيا إلا حظوظٌ وجُدودٌ، وقد يأتيكعفوًا ما تظن أنه أبعد الأشياء منالًا منك. قال: لا، أنت مخطئٌ يا لبريه، فإنه لا يجوز ليإلا إذا كنت، « بيرنيس » ولا في حب ،« قيصر » إلا إذا كنت « كليوباترة » أن أطمع في حب .« تيتوس » وقال: إن لله قد وَهَبك من العقل والذكاء والصِّفات الكريمة النادرة ما يقوم لكمقام الجمال، ألم تَرَ تلك الفتاة بائعة الحلوى، وهي تنظر إليك نظرات الحب والشغفعلى أثر تلك المبارزة الغريبة، التي انتصرت فيها على الفيكونت الليلة؟ كذلك كان شأنروكسان، فقد شاهدتها وهي تتبع حركاتِك أثناء المبارزة باهتمامٍ عظيم، وقلقها عليكظاهرٌ في اضطراب أعضائها، واكفهرار وجهها، حتى إذا انتصرت على خصمك كانت هيأعظم الناس سرورًا بانتصارك، فانتعش سيرانو وهدأت نفسه قليلًا، وقال: أصحيحٌ ماتقول يا لبريه؟ قال: نعم، ولا بد أن تكون تلك الحادثة قد تركت في قلبها أثرًا عظيمًا،فانتهِزْ هذه الفرصة وفاتِحْها في شأن حبك. قال: أخاف أن تسخر مني، وهو الأمر الذي أخشاه أكثر من كلشيءٍ في العالم. وهنا ظهرت وصيفة روكسان داخلةً من الباب الكبير، ولم تزل سائرةً حتى وقفتأمام سيرانو، فدهشلرؤيتها دهشة عظيمة، وخفق قلبه خفقًا متداركًا، وقال: آه يا إلهي!إنها وصيفتها! وظل يرتعد ويضطرب، فانحنت الوصيفة بين يديه مُحَيِّيَةً وقالت له: إنسيدتي روكسان تسأل ابن عمها البطل الشجاع سيرانو دي بيرجراك: متى يمكنها أن تراهغدًا على انفراد؛ لِتُحادثه في بعضالشئون؟ وأين يكون مكان الاجتماع؟ فازداد اضطرابهوارتعاده، وقال: تراني أنا؟ قالت: نعم، في المكان الذي تريده، وفي الساعة التي تراها.قال: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدِّق ذلك؟ قالت: إنها ستذهب غدًا عند تفتح زهراتففي أي مكانٍ تحب أن تقابلها بعد ،« سان روك » الصباح لسماع خطبة الوعظ في كنيسة خروجها من الكنيسة؟ فَأرُْتِجَ عليه وظل يهمهم ويتمتم، وانتشرعليه رأيه فلم يُعرفماذايقول. فقالت له: ما لي أراك مضطربًا هكذا؟ أسرع بالجواب فإنها تنتظرني. فقال بصوتٍخافتٍ متقطع: إني أنتظرها في الساعة السابعة من صباح الغد في مطعم راجنو. قالت:
وأين مكان هذا المطعم؟ قال: في رأس شارع سان أنُريه. قالت: سأبُلغها ذلك، وانحنتثانيةً بين يديه وانصرفت، فظل شاخصًا ببصره إلى السماء كالذَّاهل المَشْدُوهِ، وهو يرددبينه وبين نفسه: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدِّق ذلك؟ إنها أرسلت إليَّ وصيفتهاتسألني أن أقابلها على انفرادٍ، فليت شعري ماذا تريد أن تقول لي؟ فقال له لبريه: تريدأن تقول لك: إنها تحبك، ما في ذلك ريبٌ، ولقد تنبأت لك بذلك من قبل فلم تصدقني. قال:كيفما كان الأمر فحسبي منها أني خطرت ببالها، وأنها تعلم أن في العالم إنسانًا اسمهسيرانو! قال: ما أحسبك إلا راضيًا عن نفسك الآن، ولا بد أن تكون قد هدأت تلك الثورةالتي كانت قائمةً في نفسك. قال: لا، ما هدأت ولا فترت، بل أصبحت ثائرًا جدا، وأشعرأن قوَّتي قد ازدادت أضعافًا مضاعفةً، فلو لقيت الآن جيشًا كامل العدة والعدد لقهرتهوحدي، ويُخيَّل إليَّ أن بين جَنْبَيَّ عشرة قلوب، وأن في مِنْطَقَتِي عشرة سيوفٍ أستطيع أنأقاتل بها جميعًا في آنٍ واحد، ولا يكفيني أن أحارب الأقزام والضاوين والجبناء، كذلكالمسخ الذي حاربته الليلة، بل لا بد لي من جبابرةٍ وعمالقة أفخر بقتالهم والفَلْجِ عليهم. باب نيل وكان يتكلم بصوتٍ عالٍ رنَّان، ويصرخصرخاتٍ هائلةً مزعجة تدوِّي بها أرجاء القاعة، كأنما خُيل إليه أنه في ميدان حربٍ، وأنه يقاتل أولئك العمالقة والجبابرة الذين ذكرهم. وكان الممثلون قد عادوا من نزهتهم، وأخذوا يهيئون على المسرح الرواية المقبلة،فأزعجهم صوت سيرانو وهو يصرخ، فصاح به أحدهم: ألا تزال باقيًا هنا حتى الآنيا سيرانو؟ لقد أزعجتنا بضوضائك وصخبك، فاهدأ قليلًا لنستطيع أن نأخذ في عملنا،فابتسم سيرانو وقال: عفوًا يا سادتي، فسأترك لكم المكان مسرورًا مغتبطًا، وهَمَّ بالخروج،فما راعه إلا جماعةٌ من الجنود والضباط قد دخلوا الحانة يُحيطون برجلٍ يترنَّح سكرًا،فتأمله فإذا هو لينيير، فهرع إليه مذعورًا وقال: ما بك يا صديقي؟ قال بلهجة متثاقلة:خذ هذه الورقة واقرأها، فإنها تنذرني بأن مائة رجل يكمنون لي الليلة في طريقي إلىليقتلوني بسبب تلك القصيدة التي تعلمها، فأْذَنْ لي بالذهاب إلى ؛« باب نيل » منزلي عند منزلك لأنام فيه الليلة، فأطرق سيرانو هُنَيْهَة، وهو يهمهم قائلًا: مائة رجلٍ على رجلٍواحد؟ ما أجبنهم وأسفل نُفُوسهم! ثم رفع رأسه، وألقى على لينيير نظرة عاليةً مترفِّعةً،وقال له بهدوء وسكون: لينيير! إنك ستنام الليلة في بيتك! فلم يفهم غرضه، وقال له وهو
يترنح ويتمَطَّق: ولكنك تعلم يا سيدي أنني رجلٌضعيفٌ مسكين، لا أقوى على مقاتلة هِر ، فمن لي بلقاء مائة رجل وحدي؟
قال: إنني أنا الذي سألقاهم وأنا الذي سأقاتلهم، فخذ المصباح من يد البواب وسر أمامي، وأقسم لك أنك ستنام الليلة في بيتك، وأنني سأمهد لك فراشك بيدي، لقد كنت أتمنى منذ هُنَيْهَةٍ أن أقاتل جيشًا كامل العدة والعدد، وها هو ذا الجيش الذي كنت أتمناه قد وافاني وحده،
إنني في هذه الليلة بل في هذه الساعة على الأخص، لا يجمل بي أن أقاتل أقلَّ من هذا العدد!
فتقدَّم نحوه لبريه، ووضع يده على كتفه وأسرَّ في أذنه: ألا يستطيع هذا الرجل أن ينام الليلة في غير بيته؟ وهل ترى من اللازم الحتم أن تخاطر بنفسك دفاعًا عن مثل هذا الأبلَه المأفون!
وكان الممثلون قد نزلوا من المسرح، وأقبلوا يشاهدون الحادثة، فوضع سيرانو يده على كتف لبريه، وقال له وهو يبتسم ابتسامًا هادئًا لطيفًا: إن هذا السكير الذي لا يفيق ،بل الزِّقَّ الذي لا ينفد، هو أرق الناس قلبًا، وأجملهم حسا، وأشرفهم شعورًا، رأيته مرة وقد خرج من الكنيسة يوم الأحد، فرأى المرأة التي يحبها تتناول بيدها اللطيفة قليلًا من الماء المقدس، فظل يرقبها حتى انصرفت، فهجم على الحوض الذي وضعت يدها فيه— وما على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الماء القراح — فما زال يكرع منه حتى أتى عليه،
فصاحت إحدى الممثلات: ما أجمل هذه الحادثة، وما أرقَّ هذا الشعور! فالتفت إليها سيرانو وقال لها: أليس كذلك أيتها الفتاة؟
قالت: وا رحمتاه لهذا الرَّجل المسكين! كيف يسمح مائة رجلٍ لأنفسهم أن يتفقوا عليه؟ ألا تعلم ما السبب في ذلك يا سيدي؟
فلم يجبها سيرانو، والتفت إلى جماعة الجند الذين دخلوا مع لينيير، وقال لهم: هأن ذا ذاهبٌ إلى المعركة الليلية، فإن شئتم أن تكونوا معي فأنتم وشأنكم، غير أن لي عليكم شرطًا واحدًا فقط، هو أنكم مهما رأيتم من الخطر المحدق بي فلا يتقدم أحدٌ منكم لمساعدتي، وليكن مكانكم مني مكان مراسلي الصحف ومندوبيها في المعارك: يشاهدونها ولا يقربونها.
فقالت الممثلة: هل تأذن لي يا سيدي أن أذهب معكم حيث تذهبون؟ قال: نعم آذنُ لك، ولكل من أراد الذهاب منكم،
فصاح الممثلون والموسيقيون جميعًا: كلنا نذهبُ معك، فابتهج سيرانو وتهلَّل وجهه، وقال: يا له من موكبٍ شائقٍ بديع! ثم جرد سيفه من غمده وضرب به الهواء، وصاح صيحة القائد في جنده: ليتقدَّم الضُّبَّاط، ثم الجند، ثم الممثلون، ثم الممثلات، ثم الموسيقيون وهم يعزفون بألحانهم الحماسية، وليأخذ كلٌّ منكم في يده شمعةً أو مصباحًا،
أما أنا فإني قائدكم العام، وها هي ذي الريشة التي ناولتني إياها يد المجد والفخار ترفرف فوق قبعتي!
فأخذوا يصطفون كما أمرهم وهم يَمْجُنون ويضحكون، كأنهم ذاهبون إلى مرقصٍ، وهنا التفت سيرانو إلى الممثلة التي أعجبتها قصة لينيير، وقال لها:
قد كنت سألتني أيتها الفتاة منذ هُنَيْهَة لِمَ يتفق مائة رجلٍ على رجلٍ واحد مسكين؟ فأقول لك جوابًا على ذلك:إنهم ما فعلوا ذلك من أجله، بل من أجلي؛ لأنهم يعلمون أنِّي صديقه الذي لا يخذله، ثم أمر البواب أن يفتح الباب الكبير على مصراعيه ففعل، فتجلى أمامه منظر باريس العام في ضوء القمر الساطع، فوقف هُنَيْهَة يتأمل هذا المنظر البديع ويقول:
آه! لقد طلع البدر وتلألأت أشعته، فاختفت باريس المظلمة، وحلت محلها باريس المنيرة، ها هي ذي النجوم اللامعة تسطع في سمائها، وها هي ذي أشعة القمر تسيل على منحدرات سطوحها، وها هو ذا نهر السين يرتجف تحت أبخرته البيضاء ارتجاف المرآة السِّحرية. .« باب نيل » إن الطبيعة تهيئ لنا ميدانًا جميلًا للقتال الرهيب، فهيا بنا جميعًا إلى ثم مشى، فمشى الجميع وراءه ينقلون خطواتهم على نغم الموسيقى.


الفصل الثاني
المتشاعرون

فتح راجنو طاهي الشعراء والممثلين مطعمه مبكرًا كعادته، والطيور لا تزال جاثمة في أوكارها، فجلس بين يدي مِنضدته ينظُمُ على ضوء المصباح قطعةً شعرية في وصف فكان يُكِبُّ على أوراقه مرة ليقيد ما حضره من الأبيات،
ويرفع عينيه إلى ،« اللَّوْزينج » السماء أخرى ليستمد من إلهة الشعر روحها، ويستلهمها وحيها، ولم يزل على ذلك ساعةً حتى بدأت الشمس ترسل أشعتها الأولى من خلال النوافذ والكُوَى، ودوت في المطبخ جلبة العمال وضوضاؤهم، وصلصلة الآنية والقدور، فألقى قلمه واعتدل في جلسته وتأوه آهة طويلة، ثم قال مخاطبًا إلهة الشعر:
وداعًا أيتها الإلهة القوية القادرة، قد انقضى الليل وانقضى سكونه وهدوءه، وجاء النهار بجلبته وضوضائه، فدعيني الآن، واذهبي لشأنك غير مَقْلِيَّة ولا مُجْتَواة، وموعدنا الليلة القابلة. ثم مشى إلى المطبخ، فرأى في مدخله إناءً من النحاس الأصفر قد ألقت الشمس عليه أشعتها الصفراء، فاشتد وميضُه ولألاؤُهُ، فوقف أمامه لحظة يتأمله ويقول:
ها هي ذي الشمس قد استطاعت أن تصنع ما لا يصنعه الكيميائيُّ الماهر، فقد حوَّلت النحاس الأصفر بشعاعٍ واحد من أشعتها إلى عسجدٍ وهَّاج، ثم قال: ما أجمل هذا المعنى وأبدعه! لا بد لي من تقييده حتى لا يفلت من يدي إذا احتجتُ إليه،
وأخرج دفتره من جيبه فقيده. ثم وقف بأحد الغلمان وهو يشق بِمُدْيَة في يده رغيفًا إلى شقَّين. فقال له:
لقد أخطأت القسمة أيها الغلام؟ فالمصراعان غير متوازنين، ورأى آخر يشوي في نصْلٍ واحدٍ وهي لا تعجبني، « مالْرب » ديكًا كبيرًا وعصفورًا صغيرًا. فقال له: إنها طريقة الشاعر فإمَّا أن يكون البيت تاما كله، أو مجزوءًا كله.
ومر بطباخ يطبخ مرقًا في قدرٍ، فتناول الملعقة وأدارها فيه ثم قال له: ما أرقَّ هذا الحساء! إنه كالشعر المهلهل، وأنا لا يعجبني إلا الجَزْلُ المتين. ووقف أحد العمال بين يديه وسأله: كم قيراطًا تحب أن يكون ارتفاع قبة الفالوذج اليوم؟
قال: ثلاثة تفاعيل! وتقدم بين يديه آخر حاملًا على يديه صينية مغطاةً بنسيجٍ رقيق، وقال له: لقد اخترعت اليوم هذا الشكل يا سيدي، فلعله يعجبك،
ثم رفع النسيج، فإذا قيثارةٌ مصنوعةٌ من الحلوى مغشاةٌ بدقيق السكر الأبيض، فتهلل وجهه فرحًا وصاح: فكرة شعرية جميلة لم يسبقك إليها أحد، وقد أعفيتك اليوم من العمل مكافأة لك على حسن تصورك وسمو خيالك، فاذهب لشأنك وخذ هذه القطعة الفضية واشرب بها نَخْب الفنون الجميلة. دواوين الشعراء ولم يزل يطوف بالعمال ويخاطبهم بهذا الأسلوب المضحك الغريب، وهم يتغامزون عليه تصفف « ليز » ويتضاحكون من ورائه،
حتى خرج فمشى إلى قاعة الطعام، فرأى زوجته على المائدة أنواع الحلوى والفطائر والقدائد والرشارش والرقائق، وقد اتخذت أوعيتها وأكياسها من صحائف الكتب الأدبية ودواوين الشعراء التي كانت تبتاعها من الوراقين لهذا الغرض، فألقى على الأكياس نظرةً حزينةً مكتئبة، وقال: أهكذا تصنعين بدواوين أصدقائي الشعراء المجيدين! لقد كنت أتمنى أن أرى وجه الموت قبل أن أرى تلك الأعلاق النفيسة والجواهر المنتقاة أوعية للفطائر والحلوى في حوانيت الطهاة والحلويين؛ فوا رحمتاه للأدب! ووا أسفا عليه وعلى عهده الزاهر النضير!
فألقت عليه نظرة ازدراءٍ واحتقار، وقالت له: إننا ما أردنا إهانة دواوين أصدقائك ولا الزراية بها، ولكننا علمنا أنها لم تخلق إلا للعُثَّة والأرََضَة، وأن شعاع الشمس لن يصل إلى مكامنها أبد الدهر،
فأردنا أن نحتال على الناس في أمرها، فنشرناها من قبورها وقدمناها إليهم لفائف للفطائر والحلوى، علَّهم يلمحونها عَرَضًا فيقرءونها، فليشكر لنا أصدقاؤك منَّتنا عليهم ويدنا عندهم! فاحتدم راجنو غيظًا وقال لها:
أيتها النملة الضعيفة، لا تهيني الثَّور العظيم فيصرعك بحافره صرعةً لا قيامة لك من بعدها!
فقالت: لعنةُ الله عليك وعلى جميع ثيرانك من عهد هومير إلى عهدك وتركته وانصرفت.
وما هي إلا هُنَيْهَةٌ حتى دخل المطعم غلامٌ صغير يطلب قرصًا من الحلوى، فتناول ولما فارق » : راجنو أحد الأكياس وتأمله قبل أن يعطيه إياه، فوقع نظره على هذه الكلمة
فأعاده إلى مكانه، وقال: شعر بديع لا أستطيع أن أسمح به، وتناول «… عولس بينيلوب فقال: ولا هذا، ووضعه في مكانه، وتناول .« إلى أبولُّون » : كيسًا آخر فقرأ عليه هذا العنوان فقال: ولا هذا أيضًا، وأراد أن يعيده إلى مكانه، .« إلى فيلبس » : كيسًا ثالثًا فقرأ عليه فالتفتت إليه زوجته فخافها وأعطاه الغلام فأخذهُ وانصرفَ. ولم يلبث أن تَغَفَّلَ زوجتَه وعدا وراء الغلام حتى أدركه في الطريق، فضرع إليهأن يرد له الكيس فارغًا، فأبى الغلام إلا إذا أخذ في مقابله قرصًا آخر أو أخذ القرصبلا ثمن، فردَّ إليه راجنو الثمن وعاد بالصحيفة فرحًا مغتبطًا يمسح عنها الدهن، الذي غَمَرَها ويضمها إلى صدره ويترنم بأبياتها! الموعد وإنه لكذلك إذ فُتح الباب فجأةً ودخل سيرانو وهو مصفر الوجه شاحب اللون على أثرتلك المعركة الليلية، التي دارت بينه وبين أعداء لينيير، فسأل راجنو: كم الساعة الآن؟قال: السادسة يا سيدي، وقدم له كرسيا فجلس عليه، ثم وقف بين يديه متأدبًا متخشعًاوقال له: أهنئك يا سيدي بانتصارك العظيم الذي انتصرته ليلة أمس، فلقد كانت تلكالمعركة أجمل معركة حضرتها في حياتي، وسيمرُّ بي زمنٌ طويلٌ قبل أن أنساها وأنسى.« بوروجونيا » حسنها وجمالها، فالتفت إليه سيرانو وقال: أي معركةٍ تريد؟ قال: معركة قال: لعلك تريد المبارزة؟ قال: نعم، أريد تلك المبارزة الغريبة التي ألَّفت فيها بين نغماتسيفك ونغمات شعرك تأليفًا بديعًا كأحسن ما يصنع الموسيقار الماهر، وارتجلت فيهاذلك الموشح الجميل الذي لم يسبقك إليه شاعرٌ من قبلك، كأن إلهة الشعر كانت مرفرفةفوق رأسك تمدك بروحها وقوَّتها. فقالت ليز وهي تشير إلى زوجها: نعم يا سيدي، إنهما زال يلهج بتلك الحادثة مذ رآها حتى الساعة، لا يفارق خيالُها يقظته ولا منامه،حتى ليخيل إليَّ أنه قد أصابه مسٌّ من الشيطان. فقال راجنو: نعم، إنها لم تفارق خياليقط، وما حسدت أحدًا في حياتي على موقف من المواقف حسدي إياك على موقفك هذا، ثممد يده إلى المائدة وتناول مُدْيةً طويلةً وأخذ يلوح بها في الهواء مقبلًا مدبرًا، متقاصرًاوفي المقطع الأخير » : متطاولًا، كأنما يمثل تلك المبارزة، ويترنم في أثناء تمثيله بهذا الشطر ثم يقول: ما أجمل هذه النغمة! وما أبلغ هذا الشعر! « أصيب، وفي المقطع الأخير أصيب وما أمتن تلك القافية! وسيرانو ينظر إليه مدهوشًا مستغربًا، حتى فرغ من تمثيله. فقال
الشاعر له: كم الساعة الآن يا راجنو؟ قال: ستٌّ وعشرون دقيقة يا سيدي. فقال في نفسه: لم يبق على السابعة إلَّا القليل. ثم وقف وأخذ يتمشى في أرجاء القاعة ذهابًا وجيئةً، فمر بليز وهي واقفة بجانبالمائدة، فلمحت في يده جرحًا داميًا. فقالت له: ماذا أصابك يا سيدي؟ وما هذا الجرحالذي في يدك؟ قال: خدشٌ بسيطٌ لا أهمية له. فقالت: يخيل إلي أنك كنت في معركة. قال:لا. قالت: أخاف أن تكون كاذبًا. قال: هل رأيت أنفي يضطرب؟ تلك هي العلامة الوحيدةللكذب في مذهبي، ثم التفت إليها وإلى راجنو وقال لهما: إنني أنتظر بعض الناسهنا، وأحب أن أكون معه على انفراد، فاتركا لي القاعة الآن، فلم يبق على حضوره إلاالقليل. قال راجنو: ولكن ماذا أصنع بشعرائي يا سيدي وهم على وشك الحضور الآن؟قال: لا بأس أن يحضروا، على شرط أن تؤذنهم بالانصراف أو بالتحول إلى غرفة أخرىعندما أشير إليك، ثم سأله: كم الساعة الآن؟ قال: ستٌّ وثلاثون دقيقة. قال: أعطنيقلمًا وقرطاسًا، فإني أريد أن أكتب، فجاءه بما أراد، فجلس على منضدة راجنو، وأمسكبالقلم وأنشأ يقول بينه وبين نفسه: ليس في استطاعتي أن أفاتحها في شيءٍ مما أحبأن أفاتحها فيه، فخير لي أن أكتب لها كتابًا أقدمه إليها بنفسي عند حضورها، ثم أتركهاوأنصرف لشأني لتقرأه وحدها، وأطرق برأسه هُنَيْهَة، ثم تنفس نفسًا طويلًا وقال: آه!لقد كنت أظن أنني شجاعٌ جريءٌ لا أهاب الإقدام على أي خطرٍ من الأخطار مهما كانشأنه، فإذا أنا جبانٌ عاجزٌ لا حول لي فيما يعرضلي من الخطوب ولا حيلة، ويخيل إليَّأن الموت أهون علي من أن أقف أمامها وجهًا لوجه، وأفضي إليها بشيءٍ مما يجيش به صدري. ثم أكب على المنضدة وحاول أن يكتب شيئًا، فازدحمت الأفكار في رأسه، وانتشرتعليه خيالاته وتصوراته، فلم يستطع أن يكتب حرفًا واحدًا، فألقى القلم من يده وقال:وأنها من فريق المتأنقين ،« المدرسة القديمة » قبَّح لله التكلف والتَّعَمُّل لولا أنها تلميذة المتشدقين المفتتنين بالصور والأساليب، لما وجد قلمي في طريقه ما يعترضه دون الوصولإلى الغاية التي يريدها، فالكتاب مسطورٌ في صدري بأكمله، وليس بيني وبينه — إنأردته — إلا أن أضع قلبي بجانبي وأستمليه ما يشعر به، فيمليه عليَّ ببساطةٍ ووضوح،ثم تناول القلم مرة أخرى وشرع في الكتابة، فإذا صوتٌ غليظٌ أجش يقعقع ناحية الباب:فرفع سيرانو رأسه، فإذا ضابطٌ ضخم الجثة، هائل الخلقة، ،« صباح الخير يا ليز » ذو شاربين كثيفين مستطيلين، فسأل راجنو: من الرجل؟ فقال: إنه ضابطٌ من ضباط
وهو كما يزعم بطلٌ من الأبطال المغاوير ،« الرجل الهائل » الجيش الفرنسي يسمي نفسه الذين لم يسمح الدهر بمثلهم في جيش من جيوش العالم، وهو صديق زوجتي ليز، ولايأتي هنا إلا لزيارتها، فألقى سيرانو على الضابط نظرة حادة، ثم عاد إلى شأنه واستمرأحبك حبا » : يكتب كتابه ويهمهم بينه وبين نفسه من حين إلى حين بأمثال هذه الكلمات يعجز القلم عن بيانه؛ لأن القلم مادة من مواد العالم الأرضي، والحب روحٌ من أرواحلا يرى الناس من عينيك الجميلتين سوى صفائهما ورونقهما، أمَّا أنا فإني » ،« الملأ الأعلى أستشفُّ من ورائهما نفسك الجميلة العذبة المملوءة رقةً وشعورًا، فإذا قال الناس: ما«! أجمل عينيها وأحلاهما! قلت: ما أجمل نفسها المترقرقة في عينيها وما أصفى أديمها إنني أعيش في هذا العالم عيش اليائس القانط، واليأس يقتل الفضائل في النفوس » ويُمِيتها، فأحييني بالأمل واخلقي مني إنسانًا جديدًا تتخذي عندي — بل عند العالمأجمع — يدًا لا أنساها لك أبد الدهر، وفي اعتقادي أن ليس بيني وبين أن أكون إنسانًانافعًا في المجتمع — بل نعمةً على الدنيا بأجمعها — إلا أن تُسْبِلي عليَّ ستر حمايتك .« ورعايتك بؤسالأدباء وظل مستغرقًا في تَصوُّراته وأفكاره التي كان يرسمها على قرطاسه، كما يرسم المصورمنظرًا بديعًا من مناظر الطبيعة على لوحه كما يراه، لا يزخرف ولا يوشي، ولا يبتدعولا يبتكر، فلم ينتبه إلى جماعة الشعراء حين دخلوا الحانوت هاتفين مهلِّلين وهملزوجها « ليز » في ملابسهم الزَّرية الغبراء، ونعالهم البالية، وقبعاتهم الممزقة. فقالت — وأشارت إليهم: ها هم أولاء صعاليكك وقاذوراتك يا راجنو! فلم يعبأ بها وقاملاستقبالهم والترحيب بهم، فعانقوه وحيوه، ودعوه بالزميل، والرصيف، والصديق، وبكلما يحب من الألقاب والنعوت، وهو فرحٌ مغتبط، فوقف زعيمهم وسط القاعة وأخذيتشمم بأنفه ويقول: ما أذكى رائحة بلاطك يا ملك الطهاة والشوائين! فانحنى راجنوبين يديه شاكرًا وقال: ما أسعد الساعة التي أراكم فيها أيها الأصدقاء الأوفياء! ثم أشارلهم إلى المائدة، فوقفوا حولها وضربوا بأعينهم في أنحائها، وظلوا يأكلون ويقصفونويمزحون ويمجنون، فيقول أحدهم ويشير إلى قطعةٍ من الحلوى ذات رأسٍ مسنَّم: إنهذه القطعة لم تُحْسِنْ وضع قلنسوتها على رأسها، فلا بد من معاقبتها! فيقول له الآخر:وبم تُعاقبها؟ فيقول: بهشم رأسها، ثم يتناولها فيهشمها كلها رأسًا وجسدًا، وينظر
آخر إلى قطعةٍ أخرى محشوة بالقشدة، ويضغطها فتبرز قشدتها البيضاء، فيقول: ماأجملها! كأنها ثغرٌ ضاحكٌ فلا بد لي من تقبيله! ثم يدنيها من فمه ليقبِّلها فيأكلها،ويقول آخر وهو ينظر إلى قيثارة الحلوى التي صنعها ذلك العامل في الصباح وأجازهراجنو عليها: كانت القيثارة قبل اليوم غذاء الأرواح، أما اليوم فهي غذاء الأجسام! ثمينقضُّ عليها فيأكلها، وراجنو واقفٌ أمامهم يبتسم ويتهلل، ويقول في نفسه: ما أجمل هذه المعاني وأبدعها! يأبى الشَّاعر إلا أن يكون شاعرًا في كل موقفٍ وفي كل مقام. ثم قال: هل تأذنُون لي أيها السادة أن أنشد بين أيديكم قصيدتي الجديدة التيوسميتها باسمه؟ فصاحوا جميعًا: نعم، نعم، ولا بد أن « اللَّوزينج » نظمتها في وصف تكون قصيدةً جميلةً جدا؛ لأن عنوانها جميل جدا! فاغتره مدحهم وثناؤهم، فرفع عقيرتهوأخذ ينشد قصيدته ويُرَجِّع في إنشادها ترجيعًا مضحكًا، وهم لاهون عنه بشأنهم لايعبئون به، ولا يلتفتون إليه إلا في الفينة بعد الفينة. فقال له الرجل الهائل: ألا تراهم ياراجنو وهم يلتهمون حلواك وأنت لاهٍ عنهم بألحانك وأغانيك؟ فمشى نحوه وانحنى عليهوألقى في أذنه هذه الكلمات: إنني أراهم أيها الغبي الأبله، ولكنني أغض الطرف عنهمرحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، فهم قومٌ بؤساء معدمون، قَلَّمَا يرون وجه الطعام الشهي إلَّا في حانوتي، وأظنك لا تجهل أن ضيوفي أولى بالتَّجِلَّة والإكرام من ضيوف زوجتي! وكانا على مقربة من مكان سيرانو، فانتبه لكلماته الأخيرة، فرفع رأسه وقال له: ادن مني يا راجنو، فدنا منه فقال له: إنك تعجبني جدا أيها الرجل، فالشعراء في هذا العالم كالشجرة الوارفة في ألْمَهْمَه القَفْر، يفيء إلى ظلها الغادون والرائحون، وهي وحدها التي تحتمل حر الهاجرة ولظاها، فرحمة لله ورضوانه على من يحسن إليهم ويتصدَّق عليهم.
ثم عاد راجنو إلى شأنه الذي هو فيه، وظل الشعراء يأكلون ويقصفون، ويبتاعون ما شاءوا من فطائر راجنو وحلواه بطرفهم الأدبية وملحهم النادرة، حتى فتح الباب ودخل عليهم أحد زملائهم، وكان قد تخلف عنهم قليلًا، فهللوا حين رأوه، وصاحوا بصوتٍ واحد: لقد تأخرت أيها الصديق!
قال: قد حال بيني وبين اللحاق بكم ازدحام قالوا: وهل حدث شيء هناك؟
قال: نعم، كان .« باب نيل » الناس ازدحامًا شديدًا عند ازدحامهم على ثمانية قتلى وجدوهم هناك مضرجين بدمائهم، ولا يعلم أحدٌ كيف قتلوا، ولا من جنى عليهم هذه الجناية الفظيعة! فانتبه سيرانو للحديث واعتدل في جلسته،
وقال في نفسه: يا للعجب! كنت أظنهم سبعةً فقط، إذن قد ربحنا واحدًا آخر. فقال راجنو للمتكلم: وما ظن الناس بهذه الحادثة؟
قال: يقول بعضهم: إن رجلًا واحدًا هو الذي قام بمفرده بمقاتلة هؤلاء اللصوص، وكانوا مائة أو يزيدون، فانتصر عليهم جميعًا وفرق شملهم، وقتل منهم هذا العدد الكثير،
ولقد رأينا العصي والخناجر والمُدَى التي كانت مع أفراد تلك العصابة مبعثرةً ههنا وههنا، وظل الناس يلتقطون القبعات التي طارت عن رءوس المنهزمين، من باب نيل إلى النهر، فمشى راجنو إلى سيرانو وقال له:
أسامعٌ أنت هذا الحديث يا سيدي؟ قال: نعم. قال: فما ظنك ببطل هذه الواقعة، تسأله: وأنت « الرجل الهائل » فرفع رأسه إليه وقال: لا أعرفه، فهرعت ليز إلى صديقها يا سيدي؟ فابتسم وفتل شاربيه وغمز بعينيه
وقال: أظنني أعرفه. وكان سيرانو قد أتم كتابه وأراد أن يوقع عليه، ثم توقف وقال: لا لزوم للتوقيع؛لأنني سأقدمه إليها بنفسي، ثم طواه ووضعه في صدره، ونهض قائمًا على قدميه، وهتف براجنو فأسرع إليه، فسأله: كم الساعة الآن؟ قال: ستٌّ وخمسون دقيقة. فقال في نفسه: لم يبق إلا عشر دقائق، وأخذ يتمشى في القاعة ذهابًا وجيئةً،
وكانت ليز وصديقها الضابط جالسين على انفرادٍ في أحد أركان القاعة، فخيل لسيرانو أنه رأى بينهما شيئًا مريبًا، فدنا منهما ووضع يده على كتف المرأة وقال لها: يُخيَّل إلي أيتها السيدة أن هذا البطل الجالس بجانبك يُدَبر خطةً للهجوم على حصنك!
فانتفضت وتظاهرت بالغضب، وقالت له: ماذا تقول يا سيدي؟ إن نظرةً واحدةً مني تكفي لهزيمة من يحاول ذلك.
قال: ولكني أرى عينيك ذابلتين متضعضعتين تلوح عليهما علائم الانكسار! فاضطربت وحاولت أن تقول شيئًا فخانها صوتها، فصمتت .
فقال لها: أيتها الفتاة، إن راجنو يعجبني جدا؛ لذلك لا أسمح لأحدٍ أن يعبث بشرفه أمامي! ثم التفت إلى الضَّابط فنظر إليه نظرةً شزراء، وقال: ؟« الرجل الهائل » ولقد سمع من كانت له أذنان! أليس كذلك أيها في أذن صديقها تقول له: إنك تدهشني « ليز » ثم تركهما واستمر في سبيله، فهمست جدا يا صديقي، ولا أعلم سببًا لسُكُوتك وصمتك، حتى ليخيل إليَّ أنك تخافه وتخشاه،قل له كلمة تؤلمه وتكسر من شِرَّتِه، أو اسخر من أنفه على الأقل، فإنه موضع الضعفمنه، فنظر إليها ذاهلًا مشدوهًا وقد سرت في جسمه رعدةٌ شديدةٌ، وقال: أنفه؟ لا،لا، ما لنا وللسخرية بمصائب الناس وأرزائهم؟ ثم تسلل من مكانه وخرج من القاعةفتبعته، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة، فصاح سيرانو: قد جاء الميعاد يا راجنو،فهتف راجنو بشعرائه: هيَّا بنا أيها الأصدقاء إلى الحجرة الثانية، فتباطئوا وتلكئوا؛ فظليدفعهم بيديه وهم يتخطفون الحلوى ويتناهبونها، حتى أدخلهم الحجرة وأغلق بابهاعليهم، ووقف سيرانو على مقربةٍ من باب المطعم ينتظر قدوم روكسان ويقول في نفسه: لا أعطيها الكتاب إلا إذا رأيت في وجهها بارقة أملٍ.
اللقاء وهنا سمع حَفِيف ثوبٍ مقبلٍ، فخفق قلبه خفقانًا شديدًا، ثم فُتِحَ الباب ودخلت روكسانووراءها وصيفتُها، وهي تخطِر في مِشيتها تلك الخطرة البديعة التي عرفت بها، وافتتنبها الناس من أجلها، وقد أسبلت قناعها على وجهها، فحيته، فحيَّاها تحيةً محتشمةتترجح بين الأدب والكبرياء، وأشار لها إلى كرسي قد أعده لها فجلست عليه، ثم تركهاوذهب إلى الوصيفة، وكانت واقفة على عتبة الباب تُقلب نظراتها في صنوف الأطعمةالمنتشرة على المائدة. فقال لها بلهجة المازح المداعب: أشرهةٌ أنت أيتها الفتاة؟ قالت: نعميا سيدي، فمشى إلى المائدة، وتناول كيسين من أكياس الحلوى وقال لها: هاك قصيدتينفخذيهما، فلم تفهم ما يريد، وقالت: وماذا أصنع ،« بنسراد » بديعتين للشَّاعر العظيم كما اتخذت غيرهما من قصائد الشعراء المجيدين أكياسًا « ليز » بهما؟ قال: قد اتخذتهما للحلوى وأوعية للفطائر، فخُديهما واجلسي خارج الباب، فإنك ستجدين فيهما من ألوانالحلوى ما تشتهين، ولا تعودي إلا بعد أن تَشْبَعي، فتلألأ وجهها فرحًا وسرورًا، وتناولت الكِيسَين وعادت أدراجها. ورجع سيرانو إلى روكسان، فوقف بين يديها حاسر الرأس، وقال لها: لقد أسديتإليَّ يا سيدتي بزيارتك هذه نعمةً لا أنساها لك مدى الدهر، وإني أفتخر بهذه الثقةالتي أوليتنيها، وأنتظر بكل شوقٍ سماع ما تريدين أن تفضي به إليَّ، فحسرت قناعهاعن وجهها، فأضاء ضوء القمر الساطع في الدجنة الحالكة، وقالت له: شكرًا لك يا ابنعمي، إنك قد أحسنت إليَّ ليلة أمس إحسانًا عظيمًا بقتلك ذلك الفتى الوقح الجريء،الذي حاول أن يعبث بك ويستهين بكرامتك، فغضبت لنفسك غضبة الأبيِّ الأنَُوف، ولمتَرِمْ مكانك حتى غسلت بدمه أثر الإهانة التي لحقت بك، أتعرف هذا الفتى يا سيرانو؟قال: لا يا سيدتي. قالت: أبارزته دون أن تعرف اسمه؟ قال: نعم. قالت: إنه الفيكونتالذي أراد أحد المغرمين بي من عظماء هذا البلد — وهو الكونت دي جيش « فالفير » — أن يزوِّجَني منه على الرَّغم مني زواجًا لا أعرف كيف أسُميه؟ قال: زواجًا اسميا!فأطرقت برأسها حياء وخجلًا، وقالت: نعم. فقال لها: ما أفظع ما تقولين! لقد أصبحتالآن راضيًا عن نفسي كُلَّ الرضا في تلك الخطة التي انتهجتها معه، والتي انتهت بانتهاءحياته، بعد ما علمت أنني إنما كنت أقاتل في سبيلك لا في سبيل نفسي، وأذود عن عينيكالجميلتين لا عن أنفي، فاستضحكت وأشارت له إلى كرسي بجانبها، فجلس عليه صامتًا ساكنًا ينتظر ما تقول.
وساد السكون بينهما هُنَيْهَة، ثم أقبلت عليه وقالت له: كنت أريد أن أقول لك كلمةأخرى يا سيرانو، فهل تسمح لي بها؟ قال: نعم، أسمح لك بكل شيء، فقولي ما تشائين.في تلك ،« بيرجراك » قالت: أتذكر تلك الأيام الماضية التي قضيناها معًا ونحن صغيران في المروج الخضراء على ضفاف البحيرة؟ فانتعشت نفسه وخفق قلبه خفقانًا شديدًا، وقال:نعم يا ابنة عمي، أيام كنت تأتين هناك مع أبويك لقضاء فصل الصَّيف في كل عامٍ.قالت: إني أذكر تلك الأوقات الجميلة كأنها حاضرةٌ بين يدي، وأذكر تلك الأعواد الشائكةالتي كنت تقتطعها بيديك من أشجار الغاب، وتتخذ منها أسيافًا صغيرة تلعب بها فيالهواء، كأنك تبارزُ أشباحًا خفية تتراءى لك. قال: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، وأذكرأنك كنت تجمعين أعواد الذرة من الحقل، ثم تجلسين على ضفة البحيرة لتتَّخذي منخيوطها شعورًا ذهبية لعرائسك الجميلة. قالت: نعم، ما كان أجمل تلك الأيام! وما كانأسعد ساعاتها! وما كان أحلى مذاق العيش فيها! لقد كان يخيل إليَّ في ذلك الوقت أنِّيصاحبة السلطان المطلق عليك، وأنك تحبني حبا شديدًا، وتهتم بشأني اهتمامًا عظيمًا،بل تأتمر بأمري في كل ما أشير به عليك، وتنزل عند جميع رغباتي وآمالي، وأظن أنيكُنت جميلة في ذلك الحين، أليس كذلك؟ فازداد خَفَقان قلبه، وخُيِّل إليه أنه يرى بينشفتيها ظل تلك الكلمة العذبة التي يتلهَّف شوقًا إلى سماعها من فمها، فرفع رأسه ونظرإليها نظرةً باسمة عذبة، وقال: نعم يا سيدتي، كما أنت الآن! قالت: وكنت كثير الشَّغفبتسلق الأشجار الشائكة والمخاطرة بنفسك في ذلك مخاطرة عظيمة، فكنت إذا أصابكجرحٌ في يدك هرعت إليك وعطفت عليك عطف الأم الرءوم على ولدها، وأخذت يدك بينيدي هكذا، ومدت يدها إلى يده فجذبتها إليها، فوقع نظرها على ذلك الجرح الدامي الذيأصابه في معركة الليل، فدهشت وقالت: ما هذا يا سيرانو؟ ثم ابتسمت وقالت: ألا تزالتتسلق الأشجار حتى الآن! فضحك وقال: نعم، لا أزال أحب اللعب حتى الآن، ولقد لعبتسفكت فيها من دم أعدائي فوق ما سفكوا من ،« باب نيل » ليلة أمس لعبةً شيطانية عند دمي أضعافًا مضاعفة. ثم حاول أن يسترد يده، فأمسكت بها وقالت له: لا، بل لا بد أن تدعها لي الآنحتى أرى الجُرح وأَسْبُرَه كما كنت أفعل في عهد طفولتي، وأعالجه بالطريقة التي كنتأعالج بها جروحك من قبل، ثم أخرجت منديلها من صدرها، وغمست طرفه في قدحٍ منالماء، وظلت تمسح به الجرح برفق وتُؤدةٍ، وتقول له: هكذا كنت أعالج جروحك التيكانت تصيبك من تسلق الأشجار الشائكة في عهد طفولتك الأولى، وهو يرتعد بين يديها
ويضطرب من تأثير ملامسة جسمها لجسمه، ويقول: نعم يا روكسان، إنها رحمةٌ لاتكون إلا في قلوب الأمهات. قالت له: قل لي: كم كان عدد أعدائك الذين قاتلتهم في تلكالمعركة؟ قال: مائة أو يزيدون. قالت: مائة! يا للشجاعة النادرة! قال: وربما كنت لاتعلمين أنها المرة الثانية التي قاتلت فيها من أجلك في ليلةٍ واحدة! قالت: من أجلي؟ لمأفهم ما تريد. قال: نعم؛ لأنني إنما كنت أدافع عن ذلك الشاعر المسكين الذي انتصرلك،وذادَ عنك ومثَّل بخصمك أقبح تمثيلٍ في قصيدته التي هجاه بها، فحقدها عليه ودسَّ لههؤلاء الرعاع ليقتلوه في جنح الظلام. قالت: ما أعظم شكري لك يا ابن عمي! وما أكبرشأن تلك النعمة التي أسديتها إليَّ! حدثني حديث الواقعة من مبدئها إلى منتهاها، فلابد أن تكون واقعةً غريبةً جدا لم يسطر التاريخ مثلها. قال: سأحدثك عنها فيما بعد،أما الآن فحدثيني أنت عن ذلك الأمر الذي جئتِني من أجله، والذي لم تجرئي على أنتفاتحيني فيه حتى الآن. قالت وهي لا تزال آخذةً بيده تمسَحها وتستغِثُّها: أما وقد ألقينانظرةً على ماضينا الجميل، وجدَّدنا عهد تلك الذكرى القديمة، وعلمنا أن الصلة التي بينناصلةٌ وثيقةٌ محكمةٌ لا تنال منها يد الدهر، ولا تأخذ منها عاديات الأيام، فاسمح لي أنأفضيإليك بسرِّي، وأن أقول لك بصراحة: إنني عاشقة يا سيرانو! فتلألأ وجهه وانتعشتنفسه، ومشت رعدةٌ خفيفة في أجزاء جسمه، وكاد منظره ينمُّ عما في نفسه، لولا تجلدهواستمساكه، وقال لها: ومن هو هذا الإنسان السعيد الذي يتمتع بنعمة حبك؟ قالت:إنه لا يعلم شيئًا مما أضمره له في قلبي حتى الآن، ولم أفض إليه بسريرة نفسي حتىالساعة، وسيكونسروره عظيمًا جدا حينما يعلم أن الفتاة التي يحبها ويموت وَجْدًا بهاتضمر له بين جوانحها من الوجد فوق ما يضمر لها! فازدادسروره وانتعاشه، وقال: ألاتستطيعين أن تقولي لي من هو يا روكسان؟ قالت: سأصفه لك لتكون أول ناطقٍ باسمه:هو شابٌّ خجولٌ شديد الحياء، يحبني حبا يملك عليه كل حواسه ومشاعره، ولكنه يكتمسِرَّه في صدره. قال: وكيف وقفت على سريرة نفسه؟ قالت: عرفتها من ارتجاف شفتيه،واكفهرار وجهه، وتَدَلُّهِ نظراته كلما رآني. قال: ثم ماذا؟ قالت: وهو ذكيٌّ نبيه، تلوحعلى وجهه علائم التفوُّق والنبوغ، فأطرق برأسه حياءً، وحاول أن يجتذب يده من يدها،وكانت قد انتهت من تضميدها. فقالت له: دعها لي الآن، فهي لا تزال ملتهبةً بالحمى، فتركها لها وهو يقول في نفسه: ما أسعدني وأعظم هنائي! واستمرَّت في حديثها تقول: وهو فوق ذلك شجاعٌ مقدامٌ،شريف النفس، عالي الهمة،يأبى الضيم ويأنف الذل، ولا يبيت على ضيمٍ يراد به. قال: هيه؟ قالت: وهو جنديٌّ في
فصيلة شُبَّان الحرس، أي في فصيلتك يا سيرانو؛ فهمهم بين شفتيه: لم يبق في الأمر ريب. قالت: أما صورته فهي أجمل صورةٍ خلقها الله في العالم! فصعق عند سماع هذه الكلمة التي ذهبت بجميع آماله وأحلامه، وتأوه آهةً شديدةً كادت تخرج فيها نفسه،
فعجبت لأمره وقالت له: ماذا أصابك يا سيرانو؟ فتراجع إلى نفسه سريعًا، واستجمع من قواه في تلك اللحظة ما يعجز أشجع الرجال وأصبرهم عن استجماعه فيها،
وقال: لا شيء،لقد أحسست بوخزٍ في يدي من تأثير الحمى، وقد ذهب الآن كل شيء، وصمت لحظة،ثم قال: نعم قد ذهب كل شيء، فتحدَّثي فإني مصغ إليك.
قالت: لقد أحببت هذا الفتى حبا ملك علي عواطفي واستغرق مشاعري، ولا عهد لي به إلا منذ أيام قلائل، كنت أراه فيها يختلف إلى قاعة التمثيل، فيجلس منفردا وحده، فأنظر إليه من بعيد؛ وقد جئتك الآن أتحدث إليك في شأنه،
فأطرق هُنَيْهَة ثم رفع رأسه إليها وقال لها بصوتٍ ساكن هادئ: ألم تتحدَّثي إليه قبل اليوم؟
قالت: لم نتخاطب إلا بالعيون. قال: وكيف عرفت جميع هذه الصفات التي ذكرتها فيه وما حادثته ولا جلست إليه؟
قالت: سمعتها منذ أيامٍ تحت أشجار الزيزفون في الميدان الملكي في مجتمع العجائز الفضوليات، لا حرمنا الله ثرثرتهن وفضولهن!
قال: وهل هو من فرقة الشبان؟ قالت: نعم، شبان الحرس
قال: أعترف لك يا سيدتي أنني قد عجزت عن معرفة اسمه، فقولي من هو؟ قالت: هو قال: لا أذكر أني سمعت بهذا الاسم قبل اليوم. قالت: « البارون كرستيان دي نوفييت » .« كاربون دي كاستل جالو » إنه لم يدخل الفرقة إلا في هذا الصباح، تحت قيادة فصمت هُنَيْهَةً، ثم نظر إليها نظرة عطفٍ وحُنُو وقال لها: ولكن يُخيل إليَّ يا روكسان أنك تخاطرين بقلبك في هذا الحب مخاطرةً عظيمة لا تدرين ما عاقبتها، وأنك تلقين بنفسك في هُوَّةٍ لا تعرفين السبيل إلى الخلاص منها،
وكانت الوصيفة قد فرغت من طعامها في هذه اللحظة، فدفعت الباب وأطلت برأسها وقالت: قد أكلت كل شيءٍ يا سيدي، فماذا أصنع؟
فالتفت إليها وقال: حسبك ذلك، فاقرئي ما على الأكياس من الأشعار، ولا تعودي إلا إذا دعوتك، فانصرفت وعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: أنت يا ابنة عمي فتاةٌ رقيقة الشعور، ذكية الفؤاد، لا يعجبك إلا التفوق والنبوغ، ولا تأنس نفسك إلا بالذكاء الخارق والفطنة النَّادرة، فماذا يكون شأنك غدًا لو أن ذلك الفتى الذي أحببتِهِ واصطفيتِهِ لنفسك كان بليدًا، أو عييا، أو ضعيف الذهن، أو خامل الفكر؟
قالت: لا يمكن أن يكون كذلك! قال: لماذا؟ قالت: لأن منظر شعره الذي يشبه في صفرته ولمعانه يدل على نبوغه وذكائه!
قال: ربما كان جميل الشعر بديع ،« أورفيه » منظر شعر أبطال
الصورة، ولكنه بليد الذهن، ضيِّق العَطَن.
قالت: لا أظن ذلك، بل يخيل إليَّ — وإن لم أجلس إليه ولم أسمع حديثه — أنه أرقُّ الناس حديثًا، وأعذبهم سمرًا، وأفصحهم لسانًا،وأغزرهم بيانًا. فقال في نفسه: نعم، كل الألفاظ جميلة ما دام الفم الذي ينطق بها جميلًا، ثم قال لها: ولكن ماذا تصنعين لو تبيَّن لك أنه جاهلٌ أحمق؟
قالت: إذن أموت هما وكمدًا. قال: هذا الذي أخاف عليك منه. وصمت هُنَيْهَة وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لها! إنها على شفا الهاوية،
ثم قال لها: وفي أي شأنٍ من شئونه تريدين أن تتحدثي إليَّ؟ قالت: قد علمت بالأمس أمرًا أحزنني جدا وأقلق مضجعي، فلم أطعم الغمض ساعةً واحدة.
قال: وما هو؟ قالت:علمت أن جنود فصيلتكم جميعهم من الجاسكونيين الجفاة، وأنهم لا يحبون أن يدخل فصيلتهم غريبٌ عنهم، فإذا دخل ناوءوه وشاكسُوه حتى يخرجوه! وربما تعللوا عليه العلل فبارزوه وقتلوه،
ففطن لغرضها، وقال: نعم إنهم يفعلون ذلك، ولهم الحق فيما يفعلون، وخاصة إذا كان هذا الواغل عليهم أحد أولئك الأغبياء الجهلاء الذين ينتظمون في سلك الفرقة من طريق الشفاعات والوصايات، لا من طريق الكفاءة والاستحقاق.
قالت: ذلك ما جئتك من أجله، فقد أعجبني موقفك الشريف الذي وقفته ليلة أمس أمام ذلك الفتى الوقح البذيء الذي حاول أن يهزأ بك، وينال من كرامتك، وامتلأ قلبي ثقة بما كنت لا أزال أعرفه لك طول حياتك من الشجاعة والحمية، وعلو الهمة وإباء الضيم، فأتيت إليك أسألك أن تتولَّى كرستيان بحمايتك.
فصمت سيرانو لحظةً ذهبت نفسه فيها كل مذهبٍ، وتمثلت له روكسان في صورتين مختلفتين، وقد وقفت إحداهما بجانب الأخرى: صورة امرأةٍ عاشقة مستهترة تريد أن تُسخِّرَه في غرضٍ من أغراضها الغرامية، وتطلب إليه أن يضع يده في تلك اليد التي قتلته، وأتلفت عليه نفسه، وأن يكون صديقًا لذلك الفتى الذي حرمه سعادته وهناءه وقطع عليه سبيل حياته، ووقف عقبةً بينه وبين آماله وأمانيه،
وصورة امرأةٍ مسكينة ضعيفة من أقربائه وذوي رحمه، قد نزلت بها نكبة من النكبات العظام، ففزعت إليه فيها تسأله أن يعينها عليها، ثقةً منها بفضله وكرمه، وهمته ومروءته، وهي لا تعلم من شئون قلبه شيئًا، ولا تدري أن هذا الذي تفزع إليه فيه إنما هي نفسه التي بين جنبيه، وحياته التي لا يملك في يده حياةً غيرها! ثم ما لبث أن رأى الصورة الأولى تتضاءل في نظره وتتصاغر حتى تلاشت واضمحلَّت، وظلت الثانية ثابتةً في مكانها بارزةً واضحة، تنظر إليه نظرة الضراعة
والاسترحام، وتبسط إليه يد الرجاء والأمل، فالتفت إليها وقد هبَّت من بين أردانه رائحة الكرم، : وقال لها بصوتٍ قوي رنان لا تتخلله رنة الحزن، ولا تمازجه نغمة اليأس وما علم أنه قد نطق في نطقه بهذه الكلمة «! كوني مطمئنةً يا روكسان، فإني سأتولَّى حمايته بحكم الموت على نفسه.
فقالت له: شكرًا لك يا ابن عمي، فسأعتمد على وعدك ما حَيِيتُ. قال: اعتمدي ما شئت. قالت: وكُنْ صديقه الوفيَّ الذي يأخذ بيده في جميع شدائده ومخاطره. قال: بل أصدق أصدقائه. قالت: وَحُلْ بينه وبين التعرض لأخطار المبارزات والمشاجرات.
قال: إنه لن يبارز أبدًا. قالت: أتقسم لي؟ قال: لا؛ لأني ما تعودت الكذب، فتلألأ وجهها فرحًا وسرورًا وقالت: الآن يمكنني أن أنصرف آمنةً مطمئنة، شاكرةً لك فضلك الذي لا أنساه أبدًا، ثم تناولت برقعها فألقته على وجهها وهي تقول: إنك لم تُتَمم لي حديث الواقعة التي جرحت فيها، فحدِّثني عنها قليلًا، يا للعجب! مائة رجل كانوا ضدك؟ إنك كفءٌ لكل عظيمةٍ يا ابن العم! لا تنس أن تقول له: أن يكتب إليَّ اليوم كتابًا، حدثني حديث الواقعة يا صديقي، مائة رجل؟ يا للشجاعة النادرة؟ إن كرستيان لا يعلم أني أحبه حتىالساعة، فكن أول من يحمل إليه هذه البُشرى، وقل لي: كيف استطعت أن تلقى وحدكهذا العدد الكثير، أو قل لي ذلك فيما بعد؛ لأنني تأخرت كثيرًا، ولا بد لي من الذهاب الآن!ثم نهضت ومدَّت إليه يدها، فقبَّلها. فقالت: إلى اللقاء يا ابن العم، إني أنتظر من كرستيان كتابًا اليوم، ثم انصرفت. فوقف على عتبة الباب يشيِّعها بنظراته، حتى غابت عن عينيه، ثم عاد يترنح هماوحزنًا، حتى وصل إلى كرسيه فتهافت عليه وهو يقول: إنها تعجب لشجاعتي في تلك المعركة، وأنا في هذه الساعة أشجع مني في كل موقفٍ وقفته في حياتي! وكان راجنو قد أحسَّ بخروج روكسان، فأطل من باب الحجرة، فرأى سيرانوجالسًا جلسته تلك، فصاح به: أيمكننا الرجوع الآن يا سيدي؟ قال: نعم، فأشار إلىكاربون » أصدقائه الشعراء، فدخلوا جميعًا، ودخل في تلك الساعة نفسها من باب المطعم قائد فرقة الحرس، وهو يهدر بصوتٍ كالرَّعد: قد عرفنا كل شيءٍ يا ،« دي كاستل جالو سيرانو، وإني أهنئك من صميم قلبي بذلك النجاح العظيم الذي أحرزته ليلة أمس علىأعدائك المائة! فنهض سيرانو متضعضعًا، وانحنى بين يدي قائده وقال: شكرًا لك ياسيدي. فقال: ما لي أراك شاحبًا مصفرا؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟يخيل إليَّ أنك قد لقيت في تلك المعركة عناءً عظيمًا! قال: نعم يا سيدي. قال: إن ورائي
الشاعر ثلاثين جنديا من أبناء فرقتك قد اجتمعوا في تلك الحانة المقابلة لهذا المطعم، وهم يريدونتهنئتك والاحتفال بانتصارك، فاذهب إليهم وقابلهم، ثم قال: لا، بل لا بد أن يأتوا همإليك بأنفسهم ليهنِّئوك، تكرمةً لك وإعظامًا لشأنك، ثم وقف على عتبة باب المطعم،وصاح بأعلى صوته: أيها الأصدقاء، إن البطل لا يستطيع الحضور إليكم؛ لأنه تعبٌ قليلًافاحضروا أنتم إليه، وما هي إلَّا هُنَيْهَة حتى أقبل الجنود الثلاثون يزلزلون الأرضبخفقنعالهم وصلصلة أسلحتهم، ويطمطمون بلغتهم الجاسكونية: سانديوس – ميل ديوس– كاب ديوس – مور ديوس – بوكاب ديوس، ثم دخلوا، ففزع راجنو عند رؤيتهم، لماهاله من طول قاماتهم وضخامة أجسامهم، وقال لهم: أكلُّكم أيها السادة جاسكونيون؟فأجابوا جميعًا بصوتٍ واحد: نعم، كلنا، ثم اندفعوا نحو سيرانو يقبِّلونه ويعانقونه،ويهزون يَدَه ويهتفون: ليحيَ البطل، لتحيَ جاسكوينا، ليحيَ الجيش، وهو يتململ في نفسه ويتبرَّم؛ ولكنه كان يبتسم في وجوههم ويستقبل تهانئهم له بالشُّكر والارتياح. وكان خبر تلك المعركة قد انتشر في أنحاء باريس جميعها، فوفد جمهورٌ عظيمٌ منصديق سيرانو، وهم يصيحون: ليحيَ البطل، لتحيَ « لبريه » الناس إلى المطعم، يتقدمهم فرنسا، ثم دخلوا جميعًا يركضون ويتدافعون، ويحطمون كلَّ شيءٍ بين أيديهم، وراجنوواقفٌ مكانه يتأمل هذا المنظر الغريب بسرورٍ وارتياح، ويقول: وا طرباه! ها هو ذا الفنُّيتوج اليوم في مطعمي! حتى بلغوا مكان سيرانو، فداروا به يهنئونه ويقبِّلونه، وكلهميناديه: أيها الأخ، أيها الصديق، أيها الزميل، فيقول في نفسه: وا عجبًا لكم أيها الناس! لم يكن لي بالأمس بينكم صديقٌ، واليوم كلكم أصدقائي! ووقفت في تلك الساعة مركبةٌ فخمةٌ أمام باب المطعم، ونزل منها ثلاثة منالأشراف، فدخلوا الحانوت، وظلوا يدفعون الناس أمامهم دفعًا حتى دنوا من سيرانو،فوضع أحدهم يده في يده وشدَّ عليها بقوة، وقال له: آه لو كنت تدري يا صديقي مقدارسروري بك وبنجاحك! فالتفت إليه سيرانو غاضبًا، وقال له: ما أنا بصديقك يا سيدي؛لأنني ما عرفتك قبل اليوم! وقال له الآخر: إن بعضالسيدات ينتظرنك في مركبتهن أمامالباب ليهنِّئنك بانتصارك، فلو تفضلت بمرافقتي إليهن لأقدمك لهنَّ! فقال له: وكيفتسمح لنفسك يا سيدي أن تقدمني إلى غيرك قبل أن تُقدِّم نفسك إليَّ؟ وقدم إليه الثالثكأسًا من الخمر وقال له: اشرب معي يا سيدي نخب بأسك وشجاعتك، فالتفت إليهوقال له: يخيل إليَّ يا سيدي أنك أشجع مني؛ لأنك قدمت إليَّ شيئًا قبل أن تعلم ما رأييفيه، ثم دفع الكأس عنه بقوة فهراقها، وجاءه أحد مراسلي الصحف وقد أمسك بيمينه قلمًا وبيسراه قرطاسًا، وقال له: قصَّ عليَّ حديث واقعتك أيها الفارس البطل لأنشرهفي جريدتي، فنظر إليه شزرًا وقال له: إنني لم أقاتل من أجلك يا سيدي، ولا من أجلجريدتك، بل من أجل صديقي لينيير، فتململ لبريه من خُشونته وجفائه، وكان جالسًاعلى مقربة منه، فجذبهُ من ثوبه وقال له همسًا: ما الذي أصابك يا سيرانو؟ وما هذهالخشونة التي تستقبل بها أصدقاءك الذين يهنئونك ويمجدونك؟ فقال له: لا تصدق كل ما تراه يا لبريه، فليس لي في العالم صديقٌ سواك. وإنهم لكذلك إذ ساد السُّكون وانقطعت الضوضاء، وانفرج الجمهور صفينمتقابلين خاشعين مستكينين، وإذا الكونت دي جيش القائد الفرنسي العظيم قد أقبليجرِّر أذياله، ويسدد أنفه إلى كبد السماء عظمةً وخيلاء، ووراءه كثير من الأشرافورجال الجيش، حتى توسط القاعة، فوقف ونادى: أين سيرانو؟ فالتفت سيرانو فرآه،فدهش وقال في نفسه: لعله جاء أيضًا ليهنئني، ولئن فعل لتكوننَّ أعجوبة الأعاجيب، ثمأجابه وهو واقف مكانه لا يتحرك ولا يحتفل: هأنذا يا سيدي. قال: أقدم إليك تهنئتيقد أمرني أن أبلغك « دي جاسيون » الخاصة، وأبلغك أن جناب القائد العام المارشال تهنئته لك، وثناءه عليك، وإعجابه بك، واغتباطه بعملك العظيم الذي قمت به ليلة أمس،وأضفت به إلى سجل الشجاعة الفرنسية صفحةً من أشرف الصفحات وأمجدها، ولقدكان في شك من صحة الخبر، لولا أن أقسم له بعض الضباط الذين صحبوك ليلة أمسأنهم شاهدوا الحادثة بأعينهم، فرفع سيرانو نظره إلى الكونت بهدوء « باب نيل » إلى وسكون، وقال له: لا شك أن للمرشال قدمًا راسخة في الفنون الحربية وأساليبها، ومثلهمن يقدِّر أقدار الرجال، فبلغه شكري، فدهش الناس لجوابه الخشن الجافي، وطاشعقل لبريه حتى كاد يتفجر غيظًا وحنقًا، إلا أنه تماسك وتجلَّد وهمس في أذُنه: إنهذا لا يليق بك مطلقًا، قل له كلمةً أجمل من هذه ردا على تحيته، واستقبل الصنيعةبمثلها، فصمت سيرانو هُنَيْهَة، ثم قال له بصوت خافت: دعني يا لبريه فإنني لا أطيقأن أشكر رجلًا جاء لتهنئتي بانتصاري عليه! فقال له: يخيل إليَّ أنك متألم يا صديقي،فانتفض سيرانو وقال: أنا! لا، أتظن أنني أتألم أمام أحدٍ مهما برَّح بي الهم وأمضَّني،أو أسمح لعدو من أعدائي أن يشمت بي ويرى بعينيه منظر بؤسي وشقائي؟ انتظرقليلًا فسوف ترى، وكان الكونت قد جلس على كرسيه المعد له جلسة العظمة والكبرياء؛فالتفت إلى سيرانو وقال له بنغمة الساخر الهازئ: إن تاريخك يا مسيو سيرانو حافلٌبالحوادث والوقائع، ويخيل إليَّ أنني رأيتك في فرقة هؤلاء الجاسكونيين الشياطين، أليس
كذلك؟ فصاح الجاسكونيون جميعًا: نعم هو في فرقتنا، ولنا بذلك الفخرُ العظيم، فالتفتكاربون دي كاستل » الكونت إليهم، وقلب نظره في وجوههم وهم وقوفٌ بجانب قائدهم وقال: أكل هؤلاء الذين تلوح عليهم مخايل العظمة الكاذبة جاسكونيون؟ فهتف ،« جالو كاربون بسيرانو وقال له: تفضَّل أيها البطل الباسل بتقديم فرقتي بالنيابة عني إلى حضرة القائد العظيم. فمشى سيرانو نحو الكونت خطوتين، وأخذ يقدم إليه الفرقة بموشَّح بديعٍ ارتجلهفي الحال، وضمنه الثناء عليهم والتنويه بفضلهم والإشادة بذكرهم حتى أتمه، فأعجبالكونت ببداهته وحضور ذهنه، وقال في نفسه: إن اصطناع شاعر مجيد كهذا الشاعرمفخرةٌ عظمى لمن يصطنعه، وليس من الرأي أن يفلت مثله من أيدينا، ثم استدناه منهوقال له: أتحب أن تكون لي يا سيرانو؟ فانتفض وقال: لا يا سيدي، ولا لأي إنسانٍ!كثير الإعجاب بك وبأدبك، ويحب أن يراك، فإن شئت « ريشلييه » قال: إن خالي الكردينال قدمتك إليه، ولقد قيل لي: إنك نظمت منذ عامين روايةً تمثيلية جميلة لم توفق إلى تمثيلهاحتى اليوم، فلو أنك ذهبت بها إليه، ورفعتها له لعرف لك فضلك فيها، وأحسن جزاءكعليها، كما أحسن من قبلك إلى غيرك من الكتَّاب والشعراء، فهمس لبريه في أذن سيرانو:أن تمثل فليهنئك ذلك، فلم يلتفت إليه سيرانو، وقال للكونت « أجريبين » لقد آن لروايتك بنغمة السَّاخر المتهكم: أحقٌّ ما تقول يا سيدي؟ قال: نعم، والرجل كما تعلم أديبٌبارع، راسخ القدم في النقد الأدبي، وسينظر في روايتك هذه نظر الناقد البصير، وربماأجرى فيها قلم تهذيبه وتنقيحه، فجاءت آية الآيات في حسنها وجمالها. فاكفهر وجهسيرانو وتفصد جبينه عرقًا، وقال للكونت: ذلك مستحيلٌ يا سيدي، وإن دمي ليجمد فيعروقي عندما أتخيل أن إنسانًا في العالم يحدث نفسه بتغيير حرفٍ واحدٍ من قصيدة منقصائدي، وما أنا في حاجةٍ إلى الاستعانة على أدبي بأحدٍ من الناس كائنًا من كان! قال:ولكنك تعلم أنه إذا أعجبه بيتٌ من الشعر دفع ثمنه غاليًا، قال: نعم، أعلم ذلك، ولكنهلا يستطيع أن يبذل فيه ثمنًا مثل الذي بذلته؛ لأنني إنما أسكب فيه دم قلبي حارا، ودمالقلب أغلى قيمةً من الفضة والذهب. قال: إنك أبيُّ النَّفس يا سيرانو. قال: نعم، وقد كان جديرًا بك أن تفهم ذلك من قبل. وهنا دخل رجلٌ يحمل على يديه قبعاتٍ كثيرةً قذرة، كان قد وجدها في ميدانمن آثار الفارين والمنهزمين، فألقاها بين يدي سيرانو، وقال ،« باب نيل » المعركة عند له: ها هي ذي أسلاب المعركة التي تركتها احتقارًا لها وازدراءً بها، قد حملتها إليك؛ لا
لأنها تستحق عنايتك والتفاتك؛ بل لأنها دليلٌ قاطعٌ على جبن أعدائك ونذالتهم، فضحكالجمهور طويلًا وظلوا يهتفون: قبعات الهاربين! قبعات الهاربين! وقال سيرانو وهوينظر خلسةً إلى وجه الكونت: ليت شعري من هو ذلك الجبان النذل الذي جرَّد مثل هذاالجيش السافل ليحارب به شاعرًا مسكينًا؟ ما أحسبه الآن إلا خزيان نادمًا، يتمنى أنلو انفجرت الأرض تحت قدميه، فهوى في أعماقها أبد الآبدين! فصاح الجمهور من كلناحية: لا شك في ذلك، فارتعد الكونت غيظًا، واربدَّ وجهه، وصاح بصوتٍ أجش كهزيمالرعد: ماذا تقولون؟ أنا الذي جرد هذا الجيش السافل كما تقولون؛ لأنني أردت تأديبذلك الرجل الوقح البذيء، ولا يتولى تأديب سافل دنيء مثله إلا سفلةٌ أدنياء، فقهقهسيرانو ضاحكًا، وأخذ يجمع القبعات بحد سيفه، ثم دفعها تحت قدمي الكونت وقال له: إذن يمكنني يا سيدي أن أكلفك برد هذه القبعات إلى أصدقائك. فثار الكونت من مكانه غاضبًا، ونظر إلى سيرانو نظرةً ملتهبة ينبعث الشرر منقال: نعم، قرأتُهُ وأنا حاسر ؟« دون كيشوت » جوانبها، وقال له: هل قرأت أيها الرجل الرأس إعجابًا بذلك البطل الشَّريف. قال: أتذكر من قصصه قصة الطواحين الهوائية؟قال: ما رأيك فيمن يحاول مهاجمة .« في الباب الثالث عشر » ، فانحنى سيرانو وقال: نعم تلك الطواحين أو اعتراضسبيلها؟ ففطن سيرانو لما أراد، وقال: ما كنت أظنُّ أن أعدائيطواحين هوائية تذهب مع كل ريحٍ. قال: إنها تمد أذراعها الطويلة لتتناول بها منيجسرعلى مقاومتها وتقذف به في الهوة العميقة. قال: أو الكوكب العالي! فصاح الكونت: مركبتي وخدمي! فابتدر الأشراف تنفيذ أمره، وظلوا يتراكضون ويتدافعون كأنهم بعضُالخدم، وما هي إلا لحظات حتى حضرت المركبة، فخرج الكونت وخرج بخروجه جميعالأشراف والنبلاء، من حضر منهم معه، ومن حضر قبل ذلك، لا يحيون سيرانو ولايدنون منه، ولا يرفعون أنظارهم إليه — مصانعةً للكونت ومداهنةً — فمشى وراءهمسيرانو يشيعهم إلى الباب، وهو يقول لهم: ماذا دهاكم يا أصدقائي؟ ما لكم تُعرضُون عني وتفرُّون مني؟ ما لكم لا تودعون البطل الذي جئتم الساعة لتهنئته وتكريمه؟ وما زال يشيعهم بأمثال هذه الكلمات حتى ركبوا جميعًا مركباتهم وانصرفوا، فعادإلى مكانه الأول وهتف بلبريه، فلبَّاه فاستدناه منه واحتضنه إلى صدره وقال له: ألم أقل لك أيها الصديق: إنه ليس لي في العالم صديقٌ سواك؟
نفسالشاعر نكسَ لبريه رَأْسَه مليا، ثم نظر إلى سيرانو نظرةً حزينةً مكتئبة، وقال له: قل لي أيها الصديق: ماذا أعددت لنفسك من الوسائل غدًا للخلاص من هذه الهوة العميقة التي قذفت بنفسك فيها؟ واسمح لي أن أقول لك: إنك قد جننت جنونًا لا أدري كيف يتركونك بعده خارج المارستان، أليس كل ما تستطيع الذود به عن نفسك في سلوك هذه الخطة العسراء أن تقول لي — كما تقول كل يومٍ: إنك تحب أن تعيش حرا مستقلا في حياتك، لا يسيطر عليك أي مسيطرٍ من القيود والتقاليد؟
فليكن لك ما تريد، ولكن هل تستطيع أن تنكر أنك مغالٍ متطرف؟ إنني لا أطلب إليك شيئًا سوى أن تعترف لي بذلك،
فابتسم سيرانو وقال له: إن كان هذا هو كل ما يرضيك فإني أعترف لك به، فتهلل لبريه فرحًاوقال له: آه! لقد اعترفت أيها الصديق، فلزمتك الحجة التي لا قبل لك بدفعها. قال:إنني لا أنكر يا لبريه أنني رجل مغالٍ متطرف كما تقول، ولكن في سبيل المبدأ والفكرة،والتطرُّف قبيحٌ في كل شيءٍ إلا في هذا السبيل، قال: ولكنك في حاجة إلى شيء من حسنالسياسة وسعة الصدر، ولين الجانب؛ لتستطيع أن تصل إلى المجد الذي تحبه وتتعشقه.فاستوى سيرانو في مكانه جالسًا، وقد ظللت جبينه سحابةٌ سوداء من الهَمِّ،واستحالت صورته إلى صورةٍ مريعة مخيفة، وقال: ماذا تريد مني يا لبريه؟ وما هيالخطة التي تحب أن ترسمها لي لأنْفُذَ من طريقها إلى المجد الذي تتحدث عنه، وتزعم أنني أتعشقه وأصبو إليه؟ أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيمٍ من العظماءأو نبيلٍ من النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مئونة عيشي، ويحمل عني هموملا عمل لها في حياتها سوى أن ،« اللبلاب » الحياة وأثقالها، فيكون مثلي مثل شجرة تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتصمادة حياته، بدلًا من أن تعتمد في حياتها على نفسها؟ ذلك ما لا يكون. أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواقمناديًا عليها: من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء، وأصحاب الجاهوالسلطان يبتاع نفسًا بذمتها وضميرها وعواطفها، ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء؟أتريد أن أنصب نفسي سخريةً في الأندية الخاصة والمجتمعات العامة، ألعب كمايلعب القرد، وأنطق كما تنطق الببغاء، وأتلون كما تتلون الحرباء رجاء أن أجد التفاتةً من عيني أمير، أو أرى ابتسامةً على شفتي وزير؟
أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوسٍ من كثرة الانحناء! وأن تتهدل أجفاني من كثرةالإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقةٌ سميكةٌ من كثرة السُّجود والجثي بين يدي العظماء؟ أتريد أن يكون لي لسانان: لسانٌ كاذبٌ أمدح به ذلك الذي اصطنعني واجتباني،ولسانٌ أعدد به عيوبه وسيئاته؟ وأن يكون لي وجهان: وجهٌ راضٍ عنه؛ لأنه يذود عني ويحميني، ووجهٌ ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟ أتريد أن أقضي حياتي كلها واقفًا وسط دائرةٍ واحدةٍ أثب فيها وأطفر، وأتطاولبعنقي ليتوهم الناس أني طويلٌ، وما أنا بطويل؟ أو أن أتخذ لي بوقًا ضخمًا فيه ليتوهَّم السامعون أني جهوري الصوت، وما أنا إلا نافخٌ في بوق؟ أتريد أن أسير سفينة شعري في العالم بأذرع العظماء والكبراء بدلًا من المجاذيفالغانيات بدلًا من الأشرعة التي أنسجها بيدي، « الدوقات » التي أَنْحتُها بفأسي، وبشعور وبتنهدات الأميرات العاشقات بدلًا من الرياح الجارية التي يسخرها لله لي؟ أتريد أنأجعل حياتي الأدبية تحت رحمة المقرِّظين والناقدين، والراضين والساخطين، فإن شاءوا رفعوني إلى علياء السماء، وإن شاءوا هووا بي إلى أعماق الجحيم؟ ذلك ما لا يكون، والموت أهون عليَّ من ذلك. أريد أن أعيش حرا مستقلا، لا أخشىأحدًا، ولا أهاب شيئًا، لا يعنيني تهديد الجرائدالتجارية الساقطة، ولا يفرحني أن تنشر الصحف الكبيرة اسمي بالأحرف الضخمةفي أكبر أنهارها، ولا أبالي أَتَدَاوَلَ الناس قصائدي وتدارسوها، ورنت نغماتها في أرجاءالمسارح أم بقيت في كسر خزانتي أقرؤها بنفسي لنفسي، وأتغنَّى بها في ساعات وحشتي وخلوتي! أريد أن أعيش حرا مطلقًا، أضحك كما أشاء وأبكي كما أريد، وأحتفظ بنظريسليمًا، وصوتي رنانًا، وخطواتي منتظمةً، ورأسي مرتفعًا، وقولي صريحًا، أنظم الشعرفي الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد عليَّ منه فذاك، وإلاتركته غير آسفٍ عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلًا من أن أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرِّظوه، والممثلين أن يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه. أحبُّ ألَّا أنظم من الشعر إلا ما يجود به خاطري، وألَّا أنظم إلا بالطريقة التيأريدها أنا، لا التي يريدها الناس لي، وألا أمتع نظري إلا بمنظر الأزهار التي أغرسهابيدي في حديقتي، فإن قدر لله لي منزلةً في الحياة فلن أكون مدينًا بها لأحدٍ غيري، ولن
يكون فخرها عائدًا إلا عليَّ وحدي، ولا أسمح لأحدٍ من الناس — كائنًا من كان — أن يرفعني، بل لا بد لي من أن أرفع نفسي بنفسي. أريد أن أعيش حرا طليقًا، أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء،وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقًا أولئك، ولا خاشيًا هؤلاء. إن العبد المقيد بقيود الإحسان والنعم، لا يمكن أن يكون حرا طليقًا، فليُعفني الناس من أياديهم وصنائعهم؛ لأني لا أحب أن أكون عبدًا لهم، ولا أسيرًا في أيديهم. وآخر ما أقول لك: إني أفضل أن أعيش ممقوتًا مرذولًا عند الناس على أن أعيشذليلًا مُستعبدًا لهم، ولا أحب أن أرتفع ارتفاع الزيزفون والسَّرْو إذا كانت اليد التيترفعني غير يدي، وحسبي من الرفعة والشرف أن أنال منها نصيبي الذي قسم لي قدر ما تسمح به قوَّتي ومواهبي، لا أزيد على ذلك شيئًا. فقال له لبريه: عش بنفسك وحيدًا كما شئت، ولكن لا تكن عدوا للجميع. قال: ربما أكون مغاليًا في ذلك، ولكن ما دعاني إلى المغالاة في المعاداة إلا مغالاةمعشرالمتكلفين، والمُتَعَمِّلِين في المصادقة والموالاة، وتصنعهم في اجتذاب الخلان والأصدقاء،وما بغَّضإليَّ التوادَّ والتحابَّ إلا بغضيلتلك الابتسامات الباردة الثقيلة التي تنفرج عنهاشفاههم كلما قابلوا صديقًا أو عدوا،شريفًا أو وضيعًا، كريمًا أو لئيمًا، حتى أصبحت لاأحب شيئًا في العالم حبي لبغض الناس إياي، ولا أكره شيئًا كرهي لحبهم لي، وتودُّدهم إليَّ. هذا هو عيبي الوحيد الذي لا أعرف لنفسي عيبًا سواه، ولكنه عيب يعجبني جداويلذ لي كثيرًا، وإنك لا تستطع أن تُدرك مقدار ما أجده من اللذة والغبطة في نفسيعندماأسير في طريقي فأراه مملوءًا بنظرات البغض، ملتهبًا بنيران الحقد، وأرى نفسي محاطًا بنطاقٍ محكمٍ من قلوب السَّاخطين والناقمين. أما الشتائم التي أسمعها، واللعنات التي تصوب إلي، فهي أشبه الأشياء عندي بذلكالبَرَد المتساقط الذي يتناثر من الجو على ردائي، ثم ينزلق عنه إلى الأرض فأدوسه بقدمي. إن الصداقة الباردة المتفككة التي يسعى وراءها الناس أشبه شيء بالياقة الإيطاليةاللينة، التي تتهدَّل حول العنق، فيتهدل العنق معها، فهي وإن كانت لينة مريحة إلا أنها رخوةٌ مهلهلةٌ ليست لها مُسكةٌ ولا قوام.
أما العداوة فهي الدرع الفولاذية الصلبة التي تدور بالجسم فتحفظ كيانه وقوته،وتمنعه عن أن يضعف أو أن يخور، وكل عدو جديد هو حلقةٌ جديدةٌ في تلك الدرع القوية المتينة. فقال لبريه: إنني لم أرك في حياتي راضيًا عن البغضمثل اليوم، وإن نفسيتحدثني بأن كارثةً من الكوارث العظيمة قد نزلت بك فأثارت هذه الخواطر في نفسك. فاضطربَ سيرانو وخفت صوته، وهدأت تلك الزوبعة التي كانت ثائرةً في نفسه،وقال: ماذا تقول يا لبريه؟ قال: أظن أنك قد عرفت منها عندما قابلتها أنها لا تحبك،فأنت ناقمٌ على الحب، راضعن البغض، فنكس رأسه وصمت صمتًا طويلًا لا يقول فيه شيئًا، ففهم لبريه كل شيء. المعركة النفسية وفي هذه اللحظة دخل المطعم البارون كرستيان يختال في حُلَّته الجميلة، ورونقه الشائقالبديع، ورأى أبناء فرقته مجتمعين، فتقدم لتحيتهم فلم يعبئوا به، وحاول أن يداخلهمويتحبب إليهم كما هو شأن أبناء الفرقة الواحدة عندما يجتمعون في مكانٍ واحد،فانقبضوا عنه، وتسللوا من جواره، فلم يرَ بدا من أن ينتبذ مكانًا قصيا، ويجلس فيهوحده، فلم يقنعهم ذلك منه حتى أرادوا إزعاجه وإقلاقه، وكان من شأنهم — كماحدثت روكسان عنهم — أنهم لا يحبون أن يدخل فرقتهم غريبٌ عنهم، عصبيةً لأنفسهم،واحتفاظًا بجامعتهم، والجنوبيون في فرنسا ينظرون دائمًا إلى الشماليين بعين البغضوالازدراء، ويسمون تَرَفهم ونعومتهم ضعفًا وجبنًا، فمشى أحدهم إلى سيرانو وقال لهوهو يغمز كرستيان بعينه: قد كنت وعدتنا يا سيدي منذ هُنَيْهَة أن تقص علينا حديثالواقعة التي انتصرت فيها ليلة أمس على أعدائك الشماليين الجبناء، فحدثنا ذلك الحديثالآن؛ ليكون درسًا تهذيبيًا لهذا الفتى الشمالي المتأنث، وأشار إلى كرستيان، فانتفضكرستيان غضبًا، والتفت إلى المتكلم وقال له: ماذا تقول؟ وكان سيرانو مشتغلًا بمحادثةصديقه لبريه، وكان يفضي إليه بشأنه مع روكسان، فلم يشعر بشيء مما حوله، فتركهالفتى ومشى إلى كرستيان، فوَقف أمامه وقال له: عندي نصيحة لك أيها السيد أحب أنأقدمها إليك؛ لتنتفع بها في مستقبل حياتك معنا، فألقى عليه كرستيان نظرة ازدراءٍواحتقار، وأشاح بوجهه عنه. فقال له الفتى: أترى هذا الرجل ذا الأنف الكبير والسحنةالمخيفة الجالس هناك؟ إن ههنا كلمة لا يجوز لأحدٍ النطق بها أمامه مطلقًا، كما لا
يجوز النطق بكلمة الحبل في بيت المشنوق، وأحب أن لا يفوتك العلم بها ضنا بحياتك،فعجب كرستيان لأمره، ورفع رأسه إليه وقال: أي كلمةٍ تريد؟ قال انظر إلى وجهي تفهممعناها، فإنني لا أستطيع النطق بها، ثم وضع أصبعه على أنفه وهو يتلفت ويتحذر.فقال له: أتريد كلمة الأن …؟ فقاطعه الفتى وقال: صهٍ! إياك أن تتمها فيسمعها فيكونفيها هلاكك، فلم يرفع كرستيان طرفه إليه أنفةً وكبرياء، فتقدم نحوه فتًى آخر وقالله: ولا بد لك أن تعلم أيضًا أن أحدًا من الناس لا يحدث نفسه بمناوأة هذا الرجل أومخاشنته، إلا إذا كان من رأيه أن يلاقي حتفه قبل نهاية أجله، ثم وقف به آخر وقالله: احذر الحذر كله من أن تنطق على مسمع منه بهذه الكلمة أو ما يشبهها، لا تصريحًاولا تلميحًا، ولا كناية ولا تعريضًا، فقد قَتَل في الأسبوع الماضي رجلًا أخنف؛ لأنه ظنهيتخانف هزءًا به وسخرية، وقتل آخر منذ يومين؛ لأنه أخرج منديله من جيبه وأدناه من أنفه! وهكذا ظلوا يتقدَّمون نحوه واحدًا بعد آخر، ينذرونه ويتوعدونه، ويهمسون فيأذنه بكلمات مختلفة، ويشيرون بين يديه بإشارات غريبة، تهويلًا عليه وإرهابًا له، وهوصامتٌ ساكن، لا يرفع طرفه إليهم، حتى بَرِمَ بهم، فنهض من مكانه بهدوءٍ وسكون،قائد الفرقة وهو جالسٌ على كرسيه، فوقف بين يديه « كاربون دي كاستل » ومشى إلى وقال له: ماذا يصنع الإنسان يا سيدي القائد إذا رمت به المقادير بين جماعةٍ منالجنوبيين الوقحاء، وهم لا يزالون يشاكسونه ويناوئونه، ويستثيرون غيظه وحفيظتهبسفاهتهم ووقاحتهم؟ فأجابه القائد ببساطة غير محتفلٍ به ولا مكترثٍ: يبرهن لهم علىأنه، وإن كان شماليا فهو شجاعٌ مثلهم، فانحنى كرستيان بين يديه، وقال: سأفعل ما أشرت به يا سيدي، وعاد إلى مكانه الأول. وكان سيرانو قد فرغ من حديثه مع لبريه واعتدل في جلسته، فهرع إليه الجنودمن كل ناحية وأحاطوا به، وقالوا: الحديث يا سيرانو، فاتجه إليهم وأنشأ يقص عليهم قصته، ويقول: تقدَّمت نحوهم وحدي منفردًا، وكان القمر يلمع في قبة السماء لمعان القطعةالفضية في رمال الصحراء؛ ثم لم يلبث أن غشيته سحابةٌ دَكْناء، فصار الظلام حالكًا مُدْلَهِما، لا يستطيع المرء أن يرى فيه أبعد من … «. أنفه » : فقاطعه كرستيان وقال
فدهش القوم، واصفرَّ وجه سيرانو وتهالك في نفسه، ثمصرخ بصوتٍ كهزيم الرعدقائلًا: من هذا الرجل؟ وهَمَّ بالهجوم عليه ليفتك به. فقال له أحد الجنود: هو رجلٌشماليٌّ دخل فرقتنا صباح هذا اليوم، فجمد سيرانو في مكانه ذاهلًا، ومر بخاطره كلمحالبصرحديث روكسان. فقال: صباح هذا اليوم! وما اسمه؟ قال: يزعم أن اسمه البارونكرستيان دي نوفييت، فتضعضع سيرانو وتخاذل، وشعر أن نفسه تتسرب من بينجنبيه، وقال: آه، إنه هو، ثم استحالت صورته إلى صورة مرعبة مخيفة، وظلت أطرافهترتجف ارتجافًا شديدًا، فتهافت على كرسيبجانبه، وصمت صمتًا عميقًا لا حس فيه ولاحركة، ثم أخذ يعود إلى نفسه شيئًا فشيئًا حتى هدأ، فألقى نظرةً على الجنود المحيطينبه، وقال لهم: ماذا كنت أقول لكم؟ آه لقد تذكرت، كنت أقول: إن الظلام في تلك الساعة كان حالكًا جدا، حتى إن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى أبعد مما تحت قدميه. وتوقف عن إتمام كلامه؛ لأنه تذكر مقاطعة كرستيان إيَّاه عند وصوله إلى هذهالكلمة، فوثب من مكانه وثبة النَّمر الجائع، وهجم عليه هجمة ما كان عند الحاضرينريبٌ في أنها تحمل في طياتها الموت الأحمر، وهو يطمطم بلهجته الجاسكونية مورديوس– ميل ديوس، ولكنه لم يبلغ مكانه حتى جمد أمامه جمود التمثال فوق قاعدته، وظليزفِر زفيرًا متتابعًا، ثم تراجع بهدوءٍ وسكونٍ إلى مكانه الأول، والقوم يتبعونه بأنظارهمويعجبون لأمره، ويقولون في أنفسهم: ما له يُقْدِم ثم يُحْجِم! وما الذي يبدو له فيتراجع بعد اندفاعه! وما هي إلا هُنَيْهَة حتى هدأ وسكن، وعاد إلى حديثه يقول: وكنت أعلم أنني مقدمٌعلى خطرٍ من أعظم الأخطار، وأنني إنما أحارب في الحقيقة رجلًا عظيم الجاه والسلطان،لو شاء أن يسحقني بقدمه كما يسحق السائر النملة الدارجة في طريقه لفعل، بل لو شاء أن يضعني بين … «. منخريه » : فقاطعه كرستيان وقال فاهتز سيرانو في كرسيه يمنةً ويسرةً، وغلى دمه في رأسه غليان الماء في مرجله،ولكنه لم يتوقف، بل استمر في حديثه يقول: … بين شدقيه لَمَا حال بينه وبين ذلكحائلٌ؛ لأنه صهر الكردينال، والكردينال هو كل شيء في فرنسا، ومرَّت بي ساعة ضعفٍكنت أقول فيها لنفسي— وهنا نظر إلى كرستيان كأنه يخاطبه — إنك قد عرَّضت نفسكأيها الرجل المسكين بتهورك وجنونك للهلاك الذي لا بد لك منه، ووضعت أصبعك بين الشجرة ولِحائها، وليس بكثيرٍ على رجلٍ قاسٍ مستبد كهذا الرجل أن يرغم …
«. أنفك » : فقاطعه كرستيان وقال فتصامم سيرانو، وكأنه لم يسمع شيئًا، وقال: … إرادتك على ما يريد، ولكنني تجلَّدتواستمسكت، ولم أعبأ بهذه الاعتبارات جميعها، وقلت في نفسي: سِرْ أيها الجاسكونيالحر، وامض في سبيلك قُدُمًا، لا تحفِل بشيء مما يعترض طريقك، وقُم بواجبك الذيحملت عبئه وعاهدت نفسك عليه، كما يفعل الحر الشريف، وبينا أنا أفكر في ذلك، إذلمحت شقيا من أولئك الأشقياء يهيئ لي في هذا الظلام الحالك المدلهمِّ ضربة قويةً، فماهو إلا أن لمحتها حتى رُغت منها بأسرع منضربة السَّيف، فأفسدتها عليه، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي في الحال وجهًا لوجه …«. أوْ أنفًا لأنف » : فقاطعه كرستيان وقال يا لصواعق » : فزأر سيرانو زئيرًا مخيفًا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح «! السماء ورجومها فذعر القوم وأيقنوا بالشر، وأتلعوا إليه أعناقهم لينظروا ماذا يفعل، فلم يفعل شيئًا،بل استمر في حديثه يقول: وجدت نفسي أمام مائةٍ من الغوغاء الساقطين، تنمُّ ثيابهمالبالية وأزياؤهم القبيحة عن حقارتهم وسفالتهم، وتتصاعد من أردانهم القذرة روائح «. الأنف » : كريهة تملأ … فقاطعة كرستيان وقال فانفجرت شفتاه عن مثل ما تنفرج عنه شفتا الليث، ولكنه لم يلتفت إليه، واستمريقول: تملأ الجو وتزهق النفس، فلم أتردد لحظةً واحدةً في الهجوم عليهم، ففتكت باثنين منهم، ثم أتبعتهما بثالث، وإذا بأحدهم يصوب إليَّ سهمًا … «. أنفيا » : فقاطعه كرستيان وقال فلم يستطع على ذلكصبرًا، وهبَّ من مكانه هبوب العاصفة، وصرخصرخة عظيمة: اخرجوا من هنا جميعكم ودعوني مع هذا الرجل وحدي! ففروا من وجهه جميعًا يستبقون الباب ويتراكضون، ويهمس كلٌّ منهم في أذنصاحبه: إنها وثبة الأسد ما في ذلك ريب، وراجنو يُقلِّب كفَّيه حزنًا وأسفًا، ويقول:وا أسفا عليك أيها الفتى المسكين! ما أحسبها إلا لمحة الطرف حتى أراك قطعًا متناثرةً على مائدتي. فلما خلا المكان بسيرانو وصاحبه، ظلا يتناظران ساعةً في صمتٍ وسكونٍ، لايفوهان بحرفٍ واحدٍ، وكرستيان ينتظر وقوع الكارثة، ويتأهب لها تأهب الجريءالمقدام، ثم ما لبث أن رأى سيرانو يتقدم نحوه رويدًا رويدًا حتى وقف أمامه، ووضع
يده على عاتقه، فارتعد كرستيان ارتعادًا خفيفًا، وبينا هو ينتظر عاصفةً من الشر تهبعليه، إذ سمعه يناديه بنغمة لطيفة هادئة، ويقول له: سيدي كرستيان؟ فرفع طرفهإليه، فرآه باسمًا متطلقًا، فعجب لأمره وقال له: ماذا تريد يا سيدي؟ قال: أريد أن أعانقكوأقبلك أيها الصديق، فتعال إليَّ، فظل كرستيان ينظر إليه نظرًا حائرًا متضعضعًا، لايفهم من أمره شيئًا. فقال له سيرانو: تعال إليَّ وقبِّلني فإني أخوها، وقد بعثتني برسالةٍإليك فاستمعها، فازدادت حيرة كرستيان، ولم يفهم ما يريد، وقال له: أخو من ياسيدي؟ قال: أخو الفتاة التي تحبها. قال: أي فتاة تريد؟ قال: روكسان! أأنت أخوها؟وظل يقلِّب نظره في وجهه كأنه يفتش عن وجه الشبه بين الأخوين فلا يجده، ففطنسيرانو لغرضه وقال: أخوها تقريبًا، أي ابن عمها، فتلألأ وجه كرستيان سرورًا، وقال:وهل حدثتك عني؟ قال: نعم. قال: وهل أخبرتك أنها تحبني؟ قال: ربما، فازداد سرورهواغتباطه وقال له: ما أجمل هذه البشرى التي جئتني بها يا سيدي! وما أعظم شكريلك! فابتسم سيرانو وقال: ما أغرب عواطف النفوس، وما أسرع تقلُّباتها! فقال: اعفعني يا سيدي فقد أسأت إليك. قال: وما رأيك في تلك الأنفيات التي رميتني بها منذهُنَيْهَة؟ قال: إنني أستردُّها جميعها وأجثو تحت قدميك معتذرًا عنها، معتمدًا على كرمك وإحسانك! قال: الآن أستطيع أن أقول لك: إنها اعترفت لي بأنها تحبُّك حبا شديدًا وشريفًا،وتضمر لك في قلبها من الوجد مثل ما تضمر لها، وقد كلَّفَتْني أن أقول لك: إنها تنتظرمنك اليوم كتابًا. قال: وا أسفاه يا سيدي، ذلك ما لا أستطيعه. قال: ولِمَ؟ قال: لأننيرجلٌ عاطلٌ من جميع المواهب والمزايا، لا أملك حليةً من حُلي الدنيا غير حلية الصمت،فإن عطلت منها هلكت وافتضحت! قال: عجبًا لك، ألا تستطيع أن تكتب كتابًا؟ قال: لا؛لأني عييٌّ بليدٌ! قال: إنك مغالٍ جدا، وحسبك من الذكاء أنك تعرف مقدار نفسك، على أن أسلوبك في مقاطعتي ومغايظتي يدل على أنك لم تحرم فضيلة الشجاعة والذكاء! قال: أستطيع أحيانًا أن أكون شجاعًا إذا كان الحديث بيني وبين رجل، أما المرأةفإني أضعف الناس مُنَّةً بين يديها. قال: ولكنك جميلٌ، والجمال قوة يستمد منها اللسانفصاحته وبيانه. قال: لا أنكر أن لنظراتي تأثيرًا خاصا على النساء، وأنني ما مررت بهنَّإلا استثرتُ بجمالي إعجابهن ودهشتهن، ولكنني أذوب حياءً وخجلًا إذا جلست إليهنَّأو جمع الحديث بيني وبينهن، وربما استطعت في بعض الأحيان أن أتحدَّث إليهن فيبعض الشئون العامة التي لا يتحامى فيها أحدٌ أحدًا، حتى إذا وصلنا إلى حديث الحب
كان الموت الأحمر أهون عليَّ من أن أنطق بحرف واحد فيه! قال: إني لأعجب لأمرك جدايا كرستيان، ويخيل إليَّ أنني لو كان لي مثل حظك في الجمال لأحسنت الكلام في الحب.قال: ويُخيَّل لي أنا أيضًا أنني لو كان لي مثل حظك في الفصاحة لاستطعت الكلام فيه.قال: ليتني أستطيع إذا جلست إلى النساء أن أستثير بجمالي إعجابهن ودهشتهنَّ. قال: وليتني أستطيع إذا جلست إليهن أن أسترعي ببياني أسماعهن. وصمت كرستيان لحظة، ثم قال: ولقد حدثوني عنها أنها فتاةٌ ذكية متفوقة،تتعشق في الرجال الذكاء والفطنة قبل أن تتعشَّق فيهم الحسن والجمال، فماذا يكونشأني معها إذا كتبت إليها كتابًا، فقرأته فلم ترَ بين سطوره إلا عيا وركاكة وضعفًاواضطرابًا؟ فقال وهو يصعِّد نظره في وجهه ويصوِّبه، ويعجب بجماله ووضاءته: يُخيَّلإليَّ يا كرستيان أنك لو أعرتني جمالك، أو لو أني أعرتُك لساني، لتألَّف منا إنسانٌ تامالمواهب والمزايا! قال: نعم، ما في ذلك ريبٌ. قال: ألا تتمنَّى أن تكون ذلك الإنسان؟ قال:نعم، أتمنى أن أكونه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن في استطاعتي أن أنفخ فيكروح الفصاحة وأنفث في صدرك سحرها، فإذا أنت أجمل الناس وأذكاهم معًا! قال: لاأستطيع أن أتصور ذلك إلا إذا زعمت أنك من الساحرين. قال: ما في الأمر سحرٌ ولامَخْرَقةٌ، حدثني عن نفسك أولًا، هل تعجز عن حفظ ما يُلقى إليك من الجمل والكلمات،وإن لم تفهم معناه؟ قال: لا، فإن ذاكرتي قوية جدا، ولكنها كذاكرة الببغاء: تنقل ولاتعقل مما تنقل شيئًا، وأظن أني قد فهمت غرضك الآن، وإني لأعجب أشد العجب مناهتمامك بهذا الأمر الاهتمام الشديد، ومن إلحاحك في تلمُّس الوسائل للوصول إليه هذا الإلحاح كله، كأنه شأن من شئونك الخاصة التي تعنيك. قال: سأفضيإليك بسرالمسألة، فاستمع لما أقول: إن روكسان ابنة عمي وصديقتي،ورفيقة صباي وطفولتي، ليس لها في العالم من صديقٍ ولا معينٍ سواي، ويهمني جداأن أراها سعيدةً في حياتها، هانئةً في عيشها، لا يُكدر عليها مكدِّرٌ من عوادي ونكباتالأيام، ولا أكتمك أني أخاف عليها الخوف كله أن تحل بها في هذا الحب الذي اختارتهلنفسها نكبةٌ من النكبات العظام، أو فاجعةٌ من الفواجع الجسام تقضي عليها وعلىآمالها، وما أحسبك تتمنى لها إلا ما أتمناه، أو تضمر لها في نفسك إلا العطف الذيأضمره لها، خصوصًا أنَّ الصلة التي بينكما ستتحول طبعًا إلى عشرةٍ زوجيةٍ طويلة، لايقطع حبلها إلا الموت؛ لذلك أردت أن نتعاقد يدًا واحدة على إسعادها وترفيه عيشها،وحماية ذلك الحب في قلبها، وحراسته من أن تغشاه غاشيةٌ من وساوس اليأس أو
خيبة الأمل، أنت بحسنك وجمالك، وأنا بفصاحتي وبياني، تسمع صوتي ولكن من فمك،وتحس بروحي، ولكن في جسمك، وتشرب عواطفي ولكن من كأسك، وتطرب لنغماتيولكن من قيثارتك، أي إنني أتقمص في جسمك، وأتسرب بين حنايا ضلوعك، وأكمن فيقرارة نفسك، فنستحيل — نحن الاثنين — إلى شخصٍ واحد، أو تصبح أنت كل شيء،وأصبح أنا لا شيء، وما دامت سعادتها في الحياة تتوقف على أن ترى بجانبها إنسانًايجمع في نفسه بين موهبتي الفصاحة والجمال، فليتألف مني ومنك ذلك الإنسان الذيتريده وتتمناه، ولا تقل: إننا نخدعها بذلك أو نغترُّها، فإنا لا نريد بما نفعل إلا سعادتها وهناءها، هذا هو الغرضالذي أرمي إليه، ولا أرمي لغرضسواه. فارتجف كرستيان وقال: إنك تخيفني جدا يا سيرانو، ويخيل إليَّ أن عقلي يحاولالفرار مني دهشةً وعجبًا، فإنك تقترح عليَّ أمرًا ما سمعت بمثله في حياتي! قال: إنكمغالٍ يا كرستيان، والمسألة بسيطة جدا، ألم تقل لي منذ هُنَيْهَة إنك تخاف إن جالستهاأو تحدثت إليها أن تمَلَّكَ وتجتويك فتموت عواطف الحب في قلبها، فما الذي يريبكمني وأنا لا أريد إلا ما تريد؟ ولا أرمي إلا إلى بقاء عاطفة الحب حيةً في قلبها نامية،فتتمتع أنت بعطف الفتاة التي تحبها، وأتمتع أنا بسعادة الصديقة التي أجلُّها وأحترمهاوأحرص على راحتها وهدوئها. قال: وهل تشعر في نفسك أنك سعيد بذلك؟ فانتفضسيرانو انتفاضةً خفيفةً لم يشعر بها كرستيان، وقال بصوتٍ خافتٍ: سعيدٌ! وصمتلحظة، ثم قال بصوتٍ متهدج مرتعش: نعم سأكون سعيدًا يا كرستيان؛ لأنني شاعرٌ،والشاعر ممثِّلٌ بفطرته؛ يلذ له دائمًا أن يلبس ثوبًا غير ثوبه، ويتراءى في صورةٍ غيرصورته، فيمثل دور المجنون وهو عاقلٌ، ودور الشجاع وهو جبانٌ، ودور السعيد وهوشقيٌّ، ودور العاشق الولهان، وما في قلبه ذرةٌ واحدةٌ من الحب والغرام، فاسمح لي أنأمثل دور العاشق الولهان، فهو الدور الذي يلذ لي تمثيله أكثر من غيره، وكُنْ أنت المسرحالذي أمثله عليه، وأخطر في أرجائه جيئة وذهوبًا، كُن اللسان وأنا الفكر، كُن الجسم وأناالروح، كُن الجمال وأنا العقل، كُن الزهرة وأنا العطر، كُن العين وأنا النور المنبعث منها،كُن القلب وأنا حبته الكامنة فيه، فلا تكتب إليها إلا ما أمليه عليك، ولا تحدثها إلا بما ألقنك إياه، وليكن ذلك سرا بيني وبينك لا تعرفه روكسان ولا يعرفه أحدٌ من الناس. فهدأ كرستيان وسُرِّي عنه، واستقر في نفسه أن الرجل صادقٌ فيما يقول، ولكنهلو استطاع أن يفهم الحقيقة كما يفهمها بقية الناس لأدرك أن سيرانو عاشقٌ مثله لتلكالفتاة التي يحبها، وأنه لما أخفق في حبه وساء حظه فيه، وعجز عن أن يفضيإلى حبيبته
بذات نفسه وسريرة قلبه وجهًا لوجهٍ، أراد أن يتخذ منه بوقًا يهتف في جوفه بأناتهوزفراته؛ لتصل إلى آذانها فتسمعها من حيث لا تراه ولا تشعر بمكانه، لا يرجو من وراءذلك غرضًا ولا غاية سوى أن يُرَفِّهَ عن نفسه بعضهمومها وآلامها بالمناجاة والشكوى، كما يُرفِّه المريض عن نفسه آلامه وأوجاعه بترديد الأنات وتصعيد الزفرات! فقال له كرستيان: ولكن ما العمل في الكتاب الذي قلت لي إنها تريد أن أرسله إليهااليوم؟ فمد سيرانو يده إلى صدره، وأخرج تلك الرسالة التي كان يريد أن يقدِّمها إليها فيالصباح فلم يفعل، وأعطاه إياها وقال له: ابعث إليها بهذه الرسالة، فهي تامةٌ لا ينقصهاغير التوقيع، فدهش كرستيان وعاودته وساوسه وهواجسه، وقال له: وهل كَتَبْتَها منأجلي؟ وما الذي دعاك إلى ذلك؟ قال: لم أكتبها من أجلك، ولا من أجل أحدٍ من الناس،ولكننا معشر الشعراء لا تخلو جيوبنا غالبًا من أمثال هذه الرسائل الغرامية الخيالية،فإننا — وإن كنا محرومين سعادة الحب وهناءه — نتخيل أحيانًا صورًا وهمية لا وجودلها في الخارج، نخاطبها ونناجيها كما يناجي المحبُّ محبوبه؛ لنستطيع إمداد الفن الذينشتغل به بحقائق الحياة وصورها، ولقد أودعت هذه الرسالة جميع ما يمكن المحبالمفتتن أن يضمره في نفسه من لواعج الحب وخوالج الغرام، ولقد كانت أنَّاتي وزفراتيقبل اليوم طائرة هائمةً في أجواز الفضاء، لا تجد لها مستقرا ولا مهبطًا، أما الآن فقدوجدت على يدك المستقر الذي تتطلبه وتسعى إليه، وستقرأ روكسان هذه الرسالة بعدساعة، وسترى أنها الصورة الحقيقية لعواطفك وشعورك لا ينقصها شيءٌ، حتى روحالإخلاصوجوهره. قال: ألا نحتاج لتغيير شيءٍ فيها؟ قال: لا. قال: أخاف أن ترتاب بها.قال: كن على ثقةٍ من أنها ستعتقد حين تقرؤها أنها ما كتبت إلا لها، وأنها هي التي أوحت بها إلى نفس كاتبها! فتناول كرستيان الرسالة طائرًا بها فرحًا، وترامى على عنق سيرانو يقبِّله ويلثمهويضمه إلىصدره ويقول: آهٍ ياصديقي الكريم! ما أعظم شكري لك واغتباطي بصحبتك!وظل على ذلك هُنَيْهَةً، وكان القوم وقوفًا أمام باب المطعم، ينتظرون إذن سيرانو لهمبالرجوع، وهم يسمعون ضوضاء الحديث بينه وبين صاحبه، فيتوهمون أنه الجدالالعنيفُ والخصام الشديد، حتى شعروا بذلك السكون الذي ساد بينهما، فريعوا وخُيِّلإليهم أنه سكون الموت، فدفع راجنو الباب قليلًا وأطلَّ من فجوته فرأى هذا المنظر،فذُعر وخُيِّل إليه الرعب الذي لحقه أنه يرى منظر الموت، وأن كرستيانصريعٌ بين يديسيرانو، فظل يرتجف ارتجافًا شديدًا، فهمس القوم في أذنه: ماذا ترى؟ قال: دعوني،
فإني لا أجرؤُ على النظر وأكاد أموت خوفًا ورُعبًا! فدفعوا الباب جميعًا ودخلوا، ففهمواالحقيقة التي ما كانوا يتصورونها ولا يقدرونها في أنفسهم، ورأوا أن ذلك الصراع الذيكانوا يتوهمونه بين خصمين متباغضين، إنما هو عناقٌ طويل بين صديقين مخلصين،فدهشوا دهشة كبيرة، وظل بعضهم يهمس في أذن بعض: إنه يعانقه ويلتزمه كأنهأحمد لله تعالى فإن شيطاننا قد اهتدى، :« كاربون دي كاستل » أصدق أصدقائه، وقال وصاح آخر: عجبًا لك يا سيرانو! لقد أصبحت مسيحيا تقيا: إذا ضربك أحد على أحدمنخريك أدرت له الآخر، فلم يغضب سيرانو هذه المرة، ولم يكترث، بل ابتسم له وتَطَلَّقَ.فأطمعه هذا الموقف في حلم ،« ليز » صديق « الرجل الهائل » وكان بين الدَّاخلين سيرانو، وقال في نفسه: لقد فقد الرجل حميَّته وانطفأت شعلة حماسته، وأظن أنيأستطيع أن أتكلم عن أنفه الآن باطمئنانٍ، ثم أشار إلى ليز فاقتربت منه. فقال لها:سأريك الآن منظرًا من أبدع المناظر وأبهجها، وأخذ يدور في أنحاء القاعة ويتنشق الهواءبصوتٍ عال كأنما يشعر برائحةٍ غريبة، حتى دنا من سيرانو فلمس كتفه، وقال له: ماهذه الرائحة الغريبة يا سيدي؟ فصمت سيرانو ولم يقل شيئًا، فأدنى وجهه من وجهه،وأطال النظر إلى أنفه، وقال له: قل لي ما هذه الرائحة الغريبة المنتشرة في هذا الجو؟فإنك تستطيع أن تفهمها أكثر مني! فما أتم كلمته حتى لطمه سيرانو على وجهه لطمةًهائلة رنت في أرجاء القاعة، وقال: رائحة الذعر أيها الجبان! فصفق القوم تصفيقًا !« ليز » شديدًا، وأغربوا في الضحك جميعًا، حتى


الفصل الثالث
حُرْفَة الأدب

منزل روكسان
منزلٌ جميلٌ أنيق، تمتد أمام بابه شرفةٌ عالية بديعة، قائمة على ساريتين ضخمتين، تتسلق فوقهما أغصان شجرة ياسمين مغروسة أمام الباب حتى تصل إلى الشرفة، فتنتشر في أنحائها، ويقابل هذا المنزل منزلٌ آخر يشبهه في شكله ورونقه، ولا يختلف عنه بشيءٍ سوى أن حلقة بابه ملفَّفة بقطعة من نسيج كأنها أصبعٌ مجروحةٌ مضمدة، وبين المنزلين ميدانٌ واسع يتوسطه مقعد مستطيلٌ من الرخام،
جلست عليه وصيفة روكسان وراجنو الشوَّاء يتحدثان، فمسح راجنو دمعةً كانت تترقرق في عينيه، وقال لها: ولقد حزنت كثيرًا لفرارها مع ذلك الضابط الخبيث، وبكيت ما شاء الله أن أفعل؛ لأنها كانت سلوة حياتي، ومعينتي على أمري، وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى تكشف الغطاء عن ذلك الإفلاس العظيم الذي كان كامنًا في حسابي، والذي كنت أستره بجدِّي وجدِّها، وتراكمت عليَّ الديون، وعجزت عن الوفاء، فلم أرَ بدا من الانتحار،
فخلوتُ في حانوتي ليلة أمس، وألقيت آخيَّةً في عنقي، وما هو إلا أن صعدت على الكرسي، ووضعت قدمي على حافته لأدفعه من تحتي، حتى دخل سيرانو، فهاله الأمر وتعاظمه، وفهم للنظرة الأولى كل شيءٍ، فابتدر الحبل فقطعه بسيفه وقال: ماذا أصابك أيها المسكين؟
فنفضت له جملة حالي وبثثتُه همي، فأشفق عليَّ، وجذبني من يدي حتى جاء بي إلى هنا،
وقص على روكسان قصتي، وقال لها: إن راجنو صديقنا، وصاحب اليد البيضاء علينا وعلى الأدباء جميعًا شعرائهم وكتَّابهم، وهو وإن لم يكن من نوابغ الشعراء المجيدين، فهو أديبٌ متفنن، محسنٌ إلى رجال الشعر والأدب، ضنينٌ بهم وبكرامتهم، فلم أحفل كثيرًا بتلك الغمزة التي غمزنيها في حديثه، وما زال بها حتى استثار عطفها وشفقتها،فبكت رحمةً بي واستدنتني إليها، وواستني ببعض الكلمات الطيبة، ثم عهدت إليَّ بهذا الشأن الذي أقوم به في منزلها كما تعلمين.
فاستعبرت الوصيفة باكيةً وقالت: لقد كان يُخيَّل إليَّ يا راجنو أنك سعيد الطالع في أعمالك، وأنك تربح كثيرًا، فما الذي دهاك وجرَّ عليك هذا البلاء؟
قال: يا سيدتي، فقد كنتُ أحب رجال الشعر، وكانت ليز« أبولُّون » يأكل ما يشاء، ثم يلقي ما تبقى منه إلى « مارس » تحب رجال السَّيف، فلم يزل حتى نزل بي ما ترين. فرثت الوصيفة لحاله، وظلت تلاطفه وتواسيه حتى هدأ وسكن، ثم نهضت من مكانها واتجهت جهة الشرفة
وظلت تنادي: سيدتي روكسان، أسرعي فقد دنا ميعاد المحاضرة، فأجابتها سيدتها من داخل البيت: هأن ذي آتية فانتظري قليلًا. فقال لها وأشارت إلى — « كلومير » راجنو: أية محاضرة تريدين؟ قالت: سيحضر الساعة إلى منزل ليلقي ؛« ألكاندر » ذلك المنزل المقابل لمنزل سيدتها — رجلٌ من العلماء الباحثين، اسمه محاضرة عن الحب، وقد دُعيت سيدتي لاستماعها، وسأذهب معها بالطبع، فضحكراجنو وقال: ما سمعت قبل اليوم أن الحب فنٌّ من الفنون التي تلقى فيها المحاضرات. قالت وهي تبتسم: ليس في الفنون ما هو أحق بالمحاضرات من الحب! وهنا سمعا صوت قيثارةٍ آتية من بعيد فالتفتا وراءهما، فإذا سيرانو مقبل ووراءهغلامان صغيران يحمل كل منهما في يده قيثارة يوقع عليها، وهو ينهرهما ويتغيظعليهما كأنهما طالبان بين يدي مُؤدِّبهما، ويقول لهما: قد أمرتكما أيها البليدان أنتثلثا النغمات، وأنتما تأبيان إلا تثنيتها. فقال له راجنو: بخٍ بخٍ يا سيرانو! متى كانعهدك بمعرفة المثالث والمثاني! قال: عهدي بها منذ ذلك اليوم الذي جَثوت فيه بينيدي جاصندي الموسيقي العظيم، وما أنا إلا تلميذه وخريج مدرسته، ثم التفت إلى أحدقد » : الغلامين وانتزع منه قيثارته، واستقبل شرفة روكسان، وأخذ يغني هذه القطعة جئت أسَُلم على ياسمينك، وأقدم تحياتي لورودك، وألثم بخضوعٍ وخشوعٍ أوراق زنابقكفسمعت روكسان صوته، فخرجت إلى الشرفة فرأته. فقالت: هأنذي قادمة «… البيضاء يا سيرانو، وكانت قد فرغت من زينتها ولباسها، فنزلت فحيته وقالت له: ما هذا المنظرالغريب! ومَن هذان الغلامان الصغيران؟ قال: هما ولدان موسيقيان قد ربحتهما اليومفي مسألة نحوية « داسوسي » في رهان، فضحكت وقالت: أي رهان؟ قال: قد جادلت اليوم واشتد بيننا اللجاج ساعة، فاستحمق وأشار إلى هذين ،« الفرق بين لا، وبلى » : موضوعها الغلامين — وكانا واقفين بين يديه — وقال لي: سأراجع المسألة الآن في مظانِّها منالكتب، وليكونن هذان الغلامان طوع أمرك ليلةً كاملة تذهب بهما حيث تشاء، ويغنِّيانكما تريد، إن كان الفوز لك فيه، ثم قام إلى خزانة كتبه فراجع المسألة، فكان الحقُّ في
جانبي، فأخذت الغلامين وسرت بهما يغنيانني ويأتمران بأمري في كل ما أقترحه عليهما من الضروب والألحان حتى وصلنا إلى هنا.
قالت: وهل أنت راضٍ عنهما؟ قال: إنهما يجيدان بعض الإجادة، وقد طربت لنغماتهما ساعةً ثم سئمتها، ولا أدري ماذا أصنع بهما الآن، وأحسب أني لا أستطيع احتمالهما حتى مطلع الفجر. وصمت هُنيهةً ثم ابتسم، والتفت إليهما وقال لهما: أتعرفان منزل مونفلوري الممثل البطين؟ قالا: نعم.
قال: اذهبا إليه وقفا تحت نافذة مخدعه الذي ينام فيه، واضربا لحنًا طويلًا مزعجًا مضطرب النغمات يذهب براحته وسكونه، ويملأ صدره غيظًا وحنقًا، ثم عودا إليَّ بعد ذلك. فانحنى الغلامان بين يديه وانصرفا،
فالتفت سيرانو إلى روكسان وقال لها: قد جئت أسأل سيدتي كما أسألها كل ليلة: ما رأيها في حبيبها كرستيان؟ ألا تزال تراه إنسانًا كاملًا خاليًا من العيوب والهنات حتى الآن؟
قالت: نعم، ما في ذلك ريب، فلقد جمع الله له بين فضيلتي الجمال الباهر والذكاء النادر، وقلما اجتمعا لإنسانٍ سواه.
قال: أترين أنه ذكيٌّ إلى هذا الحد؟ قالت: نعم، بل أذكى من كل من عرفت في حياتي، حتى أنت يا سيرانو!
فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطًا عظيمًا، ولكنه تظاهر بالتبرم والاستياء، وهز رأسه كالمرتاب وقال: ربما!
قالت: ولقد بلغ من الذكاء والفطنة تلك المنزلة التي يتكلم فيها المرء بأشياء غريبةٍ مدهشة يظنها السامع لأول وهلة أنها لا شيء، والحقيقة أنها كل شيء، ولقد يضعف نور ذكائه أحيانًا ويشرد ذهنه حتى يخيل إليَّ أنه عييٌّ أو غبيٌّ،ولكنه متى عاد إلى نفسه صاغ بلباقةٍ ومهارةٍ تلك الجواهر البديعة، التي لم أرَ مثلها في حياتي!
قال: وهل يحسن الكلام عن القلب؟ قالت: إنه لا يقنع بالكلام عنه حتى يحلله تحليلًا دقيقًا. قال: وما رأيك في كتابته؟
قالت: إنه يكتب أحسن مما يتكلَّم، وكأن أسلوبه خُذي من قلبي ما شئت، فسيبقى لي منه ما يكفيني إن كان لا بد لك من أن تحتفظي » » وما أجمل كلمته التي يقول فيها : الماء النمير المترقرق على بياض الحصباء، ألا ترى أنه معنى بديع؟ قال: لا بأس به. ،« : قالت: واسمع هذه الجملة أيضًا وقل لي ما رأيك فيها بقلبي لديك فأعيريني قلبك بدلًا منه، فإني في حاجةٍ إليه لاحتمال ما ألاقيه في سبيلك من فقال وهو يكاد يطير في نفسه فرحًا: إنه يناقض نفسه بنفسه، وأحيانًا «! الآلام والأوجاع يغالي، وأحيانًا يكون غير وفي! ولا أدري ماذا يريد بقلبه، فتململت روكسان وقالت: إنك تُضايقني كثيرًا يا سيرانو، وما أحسبك إلا غيورًا، فانتفض سيرانو وخُيِّل إليه أنها قد ألمت بسريرة نفسه: فظل ناظرًا إليها ذاهلًا لا يدري ماذا يقول، حتى قالت له: وكذلك أنتم
—معشر الشعراء — لا يطيق أحدكم أن يسمع كلمة ثناءٍ على رفيقه! فهدأ روعه وعلمأين ذهبت في حديثها، ثم قالت له: واسمع هذه الجملة أيضًا فهي غاية الغايات في قوَّتهالو كان في استطاعتي أن أرسم قبلاتي على صفحات قرطاسي، لقرأت كتابي » : ومتانتها ما رأيك في هذه أيضًا؟ هل تستطيع أن تجد فيها مأخذًا؟ قال: «! بشفتيك بدلًا من عينيك لا أنكر أنها جميلة بديعة، لولا ركة في بعضأجزائها، فاربدَّ وجهها غيظًا وقالت له: إنكعنيدٌ يا سيرانو، فاسمع هذه القطعة أيضًا، فهي خيرٌ من جميع ما مضى، فقاطعها وقاللها: وهل بلغ الاهتمام بأمره أن تستظهري كلماته وتعيها في صدرك؟ قالت: نعم. قال:ما يطمع كاتبٌ من الكتَّاب في منزلةٍ أعظم من هذه يا سيدتي. قالت: إنه نابغةٌ عظيم مافي ذلك ريب، فاحمرَّ وجهه خجلًا كأنما خيل إليه أنها قد ألمت بسريرة قلبه، وأنها إنما تعنيه بكلامها، وقال: إنك تغالين يا روكسان. وإنهما لكذلك إذا أقبلت الوصيفة مسرعةً وقالت: قد جاء الكونت دي جيش،فاضطربت روكسان وقالت لسيرانو: لا أحب أن يراك هذا الرجل عندي، فأنت صديقكرستيان، وأخاف إن رآك هنا أن يدرك سر غرامي فيفجعني فيه، فادخل المنزل ولاتظهر له حتى ينصرف لشأنه. قال: سأفعل كل ما يرضيك يا روكسان، ودخل المنزل ودخلت الوصيفة وبقية الخدم وراءه. دهاء المرأة أقبل الكونت دي جيش، فرأى روكسان واقفةً وحدها في مكانها، فانحنى بين يديهاوحياها وقال لها: قد جئتك اليوم يا سيدتي مودعًا، وربما كان الوداع الأخير! قالت:بعد بضع ساعات « أراس » أمسافرٌ أنت؟ قال: نعم، قد صدر الأمر إلى الجيش بالسفر إلى لنخلصها من يد العدو، ويظهر لي أن نبأ سفري لم يؤثر عليك أقل تأثيرٍ. قالت: لا تظنذلك يا سيدي الكونت. قال: أما أنا فإني حزينٌ لفراقك حزنًا شديدًا، ولا أدري ما للهصانعٌ بي بعد اليوم؟ هل كتب لي في لوح مقاديره أن أراك مرة أخرى؟ أم هو الفراقالدائم الذي لا لقاء من بعده؟ وأطرق برأسه حزينًا مكتئبًا، ثم قال لها: وهل علمت أنالملك قد عهد إليَّ برئاسة أركان حرب الجيش؟ قالت: ما كنت أعلم ذلك من قبل، وإنهِ دَّرُّك! قال: أي إنني أصبحت صاحب السلطان المطلق ?? لنجاحٌ باهرٌ يا سيدي الكونت، ِ على الجيش بأجمعه بعد القائد العام، وفي استطاعتي أن أنتقم لنفسي في ميدان المعركة
من جميع أعدائي وخصومي، خصوصًا ذلك الرجل الوقح الجريء ابن عمك سيرانو، وأن أحاسبه حسابًا غير يسيرٍ على جرائمه وآثامه. فذعرت روكسان وخفق قلبها خفقًا شديدًا، لا خوفًا على سيرانو، بل على كرستيان؛لأنها فهمت من كلامه أن فرقة شبَّان الحرس ستسافر مع بقية فرق الجيش. فقالت له: أتذهب فرقة شبان الحرس إلى الحرب؟ قال: نعم، كما تسافر جميع الفرق، فاصفر وجهها وتخاذلت أعضاؤها، ومدت يدها إلى المقعد فاعتمدت عليه، وهي تقول بصوتٍ خافتٍ متهافت: آه يا كرستيان! فعجب الكونت لأمرها وسألها ما بالها؟
قالت: إن هذا السفر يحزنني جدا، خصوصًا عندما أتصور أن الشخص الذي يهمني أمره أكثر من كل إنسان في العالم يخوض تلك المعامع المهلكة، التي يرفرف عليها طائر الموت، ولا أعلم هل أراه بعد اليوم أم هذا آخر العهد به؟ فافترَّ ثغره، وتهلل وجهه بشرًا وحُبُورًا، وخُيل إليه أنها إنما تعنيه بكلامها، وأنه هو الشخص الذي يشغلها ويعنيها، والذي تخشى عليه أن تُلِمَّ به تلك الكارثة العظمى.
فقال لها: ما كنت أعلم يا روكسان قبل اليوم أنك تُضمرين لي في نفسك هذا الحب كله. فصمتت لحظة، ثم التفتت إليه وقالت: وهل أنت مصمم على الانتقام من سيرانو؟قال: نعم، إلا إذا كنت تكرهين ذلك. قالت: لا، بل لا أريد غير ذلك! قال: هذا ما أعتقد، ثم قال: ألا يزال هذا الرجل يختلف إلى منزلك حتى اليوم؟ قالت: لا، إنه لا يزورني إلا نادرًا جدا، وليته لا يفعل، ولولا صلة القربى التي بيني وبينه ما أذنته بزيارتي! قال:قد حدثوني عنه أنه منصرف في هذه الأيام إلى مرافقة جندي نبيلٍ من الحرس الطارئين، ويقولون: إنه لا يكاد يفارقه ليله ولا نهاره.
قالت: ومن هو هذا الجندي النبيل؟ قال: قد نسيت اسمه الآن، وهو كما وصفوه لي: فتى طويل القامة، مشرق الوجه، أصفر الشعر،تلوح على محياه مخايل العز والنعمة، وتلمع في صفحة وجهه بارقة خفيفة من الجمال؛ ولكنه عييٌّ بليد، ولا أفهم حتى الآن ما هي الصلة التي بينهما؟
فصمتت روكسان صمتًا طويلًا ذهبت نفسها فيه كل مذهب، ثم التفتت إليه بغتةً،وقالت له وهي تبتسم ابتسامة غريبةً لا يفهم معناها إلا من فهم سريرة المرأة، واضطلع بغرائزها وسجاياها، وقالت له: أتظن يا سيدي الكونت أنك تكون قد انتقمت لنفسك منه إذا عرَّضته لنار الحرب التي يحبها ويعبدها، ولا يقترح شيئًا سوى أن يصطلي بها ويخوض غمارها؟ هذه هي المرة الأولى التي رأيتك فيها تنظر في أمرٍ من الأمور نظر الغرارة والسَّذاجة!
قال: آه! لقد فاتني أن أتنبه إلى ذلك، فما العمل؟ قالت: عاقبه
بحرمانه من أمنيته التي يتمناها، فذلك أقتل له من القتل، وأنكى له من الموت، فليسا فرالجيش بأجمعه وليتخلف هو وحده، بل لتتخلف معه فرقته جميعًا، فإنها كما علمت مؤلفةٌ من أشرارٍ متمردين يذهبون مذهبه في أخلاقه وطباعه، ويساعدونه في كل جرائمه وآثامه، ولتكن حجَّتك في ذلك إن شئت: أن باريس في حاجة إلى فرقة من الجيش تتخلف فيها للدفاع عنها وقت الحاجة، وأنك قد اخترت لها هذه الفرقة للدفاع عنها، وهكذايموت الرجل هما وكمدًا، وتتمزق أحشاؤه غيظًا وحنقًا، ويغرب نجم شهرته غروبًا لا طلوع له من بعده، فيصبح بطل الطرق والشوارع، لا بطل الحروب والمعامع! فابتهج الكونت ولمعت أسارير وجهه، ووضع يده على كتفها وقال لها: لله درك يا «! لا يحسن الانتقام من الرجل مثل المرأة » : سيدتي! لقد صدق من قال ثم حنا عليها وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان! فنظرت إليه نظرةً باسمةًمتلألئة، وأطرقت برأسها ولم تقل شيئًا، ففسر ابتسامتها التفسير الذي أراده، وابتسامةالمرأة لفظٌ مشتركٌ يحتمل جميع المعاني وضروبها، من الحب القاتل إلى البغضالعميق،ثم قال لها: ذلك ما كنت أقُدِّره يا روكسان مذ عرفتك حتى اليوم، فلم يخطئ ظني،ثم أخرج من جيبه كتبًا مغلفة، معنونة بعناوين فرق الجيش، فأمرَّ نظره عليها إمرارًا،حتى عثر بكتاب فرقة شبان الحرس، ففصله عن بقية الكتب ووضعه في صدره وهويقول: ما أشد دهاءك يا روكسان، وما أوسع حيلتك! نعم إن مزاج الرجل حربي متوقد،فلا يقتله ولا يفت في عضده، ولا يلصق أنفه بالرُّغام غير حرمانه من ميدان الحرب،وتركه في شوارع باريس يتسكع فيها تسكع العاطلين المتبلدين، ثم نظر إليها باسمًاوقال لها: أهذا شأنك دائمًا يا روكسان: أن تكيدي للناس أمثال هذه المكايد؟ فابتسمت، وقالت: لا، بل لا أفعل ذلك إلا عند الضرورة. فأطرق برأسه وصمت طويلًا، وقد أخذت شفتاه تختلجان وترتجفان، كأنما تحدثهنفسه بشيء يحاول أن يقوله لها فلا يستطيعه، ثم تشجع وقال: بقيت لي كلمة أحب أنأقولها لك يا سيدتي، فهل تسمحين لي بها؟ قالت: قل ما تشاء فأنا مصغيةٌ إليك. قال:إنني أحببتك يا روكسان من عهدٍ بعيد كما تعلمين، وكان كل أملي في حياتي أن أعيشبجانبك عيش القانع بك عن جميع متع الحياة ولذائذها، فحالت بيني وبينك الحوائلالتي تعلمينها، وقد كنت أظن أنني سلوتك وغنيت عنك بغيرك، ونفضت يدي أبد الدهرمنك، ثم ما لبثت أن علمت أنني واهمٌ فيما ظننت، وأن ذلك الداء القديم لا يزال كامنًابين أنحاء ضلوعي، فسمج في نظري وجه الحياة، ومرَّ في فمي مذاقها، وأصبحت حائرًا
قلقًا لا يهدأ لي روعٌ ولا يستقر بي مضجعٌ، ولا أدري حين أراك وأرى ابتساماتك اللامعةالمضيئة، ونظراتك العذبة الجميلة، هل تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر؟أو أنها المصانعة والمجاملة ومجازاة الود بالود والرجاء بالتأميل؟ وما زال هذا الشكيساورني ليلي ونهاري حتى رأيت الآن بعيني تلك الرجفة الشديدة التيسرت في أعضائكعندما أنبأتك نبأ سفَري، فعلمت أنك تحبينني، وما كشف أسرار الحب، ولا هتك السترعن مخابئه ومكامنه مثل مواقف الوداع! وهأنذا الآن على وشك السفر ولا أعلم هل هوفراق وشيك أم هو السفر الدائم الذي لا رجعة من بعده؟ فأسألك أن تزوديني بقليل منالزَّاد أستعين به على مشقة السفر ووحشة الطريق، حتى إذا دنت الساعة الأخيرة تمثلتصورته في ذهني فهانت عليَّ آلام الموت، فإن سمحت به فائْذني لي أن أتخلف الليلة عنالسفر مع الجيش، على ألا تطلع شمس الغد حتى أكون قد امتطيت جوادي، ولحقت به في المكان الذي وصل إليه. فارتجفت روكسان وقالت: ولكن ماذا يقول الناس إذا رأوا رئيس أركان حرب الجيش قد تخلَّف عن جيشه، وبقي في باريس لغرضٍمن أغراضه الغرامية؟ قال: ذلك ما لم يفتني النظر فيه والحيطة له، يوجد بالقرب من هذا المكان ديروله قانون غريب، يقضيبألا « أتاناس » في شارع أورليان، أسسه رئيس الكابوشان الأب يطأ أرضه أحدٌ من الناس سوى رُهبانه وقساوسته، وأنا وإن لم أكن راهبًا ولا قسِّيسًاولكنني صهر الكردينال ريشلييه رئيس الكهنوت الأعظم، ولا شك أن الذين يخافونهويخشون صولته لا يستطيعون أن يرفضوا نزولي بديرهم بضع ساعاتٍ، بل ليس فياستطاعتهم إن أردت أن يمتنعوا عن أن يخبئوني تحت قلانسهم، أو في ثنايا طيالسهمأو فروج أكمامهم؛ لأنها واسعةٌ جدا لا تضيق بمثلي؛ وهأنذا ذاهبٌ الآن إلى ذلك الديرالمقدس لأكمن فيه بضع ساعات، حتى إذا انتصف الليل لبست قناعي، وجئتك متنكرًا في جنح الظلام، فلا يشعر أحد بمقدمي ولا منصرفي. فاستطير عقل روكسان وجن جنونها، ودهمها من الأمر ما لا تعرف وجه الحيلةفيه، ولا طريق المخرج منه، ثم ما لبثت أن رجعت إلى نفسها، وملكت زمام عواطفها،وقالت له بهدوء وسكون: إن مجدك وعظمتك يا مولاي يأبيان عليك ذلك الإباء كله،ولئن استطعت أن تكاتم الناس أمرك، فإنك لا تستطيع أن تكاتمه نفسك أو تخادع فيه ضميرك. إن فرنسا تطالب بطرد العدو عن أرضها واستنقاذها من يده القاهرة المسيطرة،فليكن هذا هو كل ما تفكر فيه، ولا يشغلك عنه شاغلٌ من شهوات نفسك ولذائذها، ولا تسمح لأحدٍ من الناس أن يتحدث عنك، لا بل لا تسمح لنفسك أن تحاسبك علىباكية حزينة تضطرب بين يدي « أراس » ليلةٍ قضيتها لاهيًا ناعمًا في بيت امرأة تحبها، و قاهرها اضطراب الحمامة الوديعة في مخالب الصقر الجارح، وتصرخصرخاتٍ مؤلمات أنت أول يا مولاي من يسمعها ويضطرب شعوره لها. سريا سيدي على رأس جيشك، وكن نجمه الذي يهتدي به في ظلماته، وملجأه الذييأوي إليه في شدته، واعلم أنك لن تستطيع أن تنزل منزلة الحب والكرامة في نفوس الذين يحبونك إلا إذا كانت فرنسا أحب إليك منهم، بل من نفسك التي بين جنبيك. فاستخزى لكلماتها وتضعضع، وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان؟ قالت:كيف لا أحب من صميم فؤادي من خفق قلبي خفقة الحزن والألم جزعًا لفراقه،وإشفاقًا على حياته؟ فصاح: وا طرباه! وا فرحتاه! سأنزل على حكمك في كل ما تريدين،وسأسافر الساعة طوعًا لأمرك؛ فاذكريني دائمًا ولا تنسيني. قالت: لا أستطيع أن أنساك أبدًا! فتناول يدها وقبلها، وانحنى بين يديها وانصرف. وكانت روجينا وصيفة روكسان مختبئة وراء سارية الشرفة تسمع حديثهما وتفهممغزاه، فما أبعد الكونت إلا قليلًا حتى برزت من مخبئها، وهي تغرب في الضحك وتقول:ما أشد حزني لحزنك يا سيدتي! فضحكت روكسان وقالت لها: اكتمي كل شيءٍ عنسيرانو، فإنه لا يغفر لي أبد الدهر حرماني إياه من الحرب، فوا رحمتاه له! ثم هتفت به، فخرج من المنزل وهو يقول: ما أكثر الذين يحبونك يا روكسان! قالت: نعم، ولكنني لا أحب إلا واحدًا منهم! ثم قالت له: قد دعيت الليلة إلى هذا المنزل — وأشارت إلى منزل لسماع المحاضرة التي يلقيها عن الحب، فأذن لي بالذهاب وابقَ أنت هنا، فإذا جاء كرستيان فقل له ينتظرني حتى أعود. « ألكاندر » كلومير المقابل لمنزلها — قال: سأفعل إنشاء الله، ولكنَّك لم تخبريني كعادتك في أي موضعٍ من مواضيع الحب تحبين أن يتحدث كرستيان الليلة إليك؟ قالت: فليكن حديثنا ،« عن موقف الوداع لقد كان حديثنا بالأمس عن » لا بل اتركه على ،« الأمل الضائع » لا بل عن ،« الغيرة » لا بل عن ،« النظرة الأولى » اتركه الليلة عن سجيَّته، لا تُحَدد له موضوعًا خاصا حتى لا يستعد، فإنني أريدُ أن أختبر بديهته كما وكفى. ثم حيته وانصرفت، وتبعتها « الحب » اختبرت رويته من قبل، فقل له يحدثني عن وصيفتها. وكان كرستيان مقبلًا في تلك اللحظة، فسمع آخر كلماتها.
فقال: ما الرأي يا سيرانو؟ قال: عد بنا إلى المنزل لمذاكرة الدرس الجديد، وما هي إلا ساعةٌ أو بعض ساعةٍ
حتى نكون قد فرغنا وعدنا قبل عودتها، فصمت كرستيان هُنَيْهَة، ثم رفع رأسه وقال: لا،لا أريد الليلة دروسًا ولا مذاكرةً، فإني أذوب شوقًا لرؤيتها! قال: ولكنك لا تعرف كيف تحادثها؟ قال: دعني وشأني فقد شببت عن الطوق وتجاوزت تلك السِّن التي يعجز فيها المرء عن أن ينطق إلا بما يلقنه إياه أبواه وأظآره. فقال: إنك تخاطر بنفسك مخاطرةً عظيمة.
قال: فليكن ما أراد الله، فقد استحييت من نفسي لكثرة ما مثلت من هذا الدور الشائن المعيب، دور الآلة الموسيقية التي يوقع عليها ضاربها، فتنبعث منها نغماتها المطربة دون أن تشعر بنفسها وبما ينبعث منها، على أنني قد استفدت من دروسك الماضية ما يسمح لي بمحادثتها ومذاكرتها والإفاضة معها في كل شأن من الشئون التي أريدها، وما أنا بغبي إلى الدرجة التي تتصورها، فسأكلمها بنفسي، وسأشرح لها جميع عواطفي التي تختلج في صدري، وما أحسبها تطالبني بأكثر من ذلك!
قال: وهل أنت على ثقةٍ من نفسك؟ قال: كيفما كان الأمر فقد تجاوزت الصلة التي بيني وبينها حد الذرائع والوسائل، إلى الخالص المتين الذي تُغتفر معه الهفوات، وتستحيل فيه السيئات إلى حسناتٍ، ولئن عجزت عن أن أحُدِّثها بلساني فسأحدثها بلسان القبلات واللثمات. في جمع عظيم من « كلومير » وهنا سمع صوت روكسان، وهي خارجة من منزل النساء. فقال سيرانو لكرستيان: قد فات الأوان فأذن لي بالذهاب،
فذعر كرستيان واستطير عقله، وقال: بل ابق معي يا صديقي! قال: لا، فقد أصبحت غنيا بنفسك عني! وتركه وانصرف. ولكنه لم يبعد إلا قليلًا حتى عاد متسللًا من حيث لا يشعر به أحدٌ، واختبأ وراء حائط الحديقة يتسمَّع حديثهما. الشرفة قالت روكسان لكرستيان — وقد جلسا معًا على المقعد الرخامي في وسط الساحة: لم أدرك من المحاضرة الغرامية التي ألُقيت في منزل شيئًا، إلا ختامها، فلم أستفد منه « كلومير » فحدثني أنت عن الحب وأطلق لنفسك العنان فيه ما شئت، وها هو ذا الليل قد أظلنا بسكونه وهدوئه، وها هي ذي باريس قد أوت جميعها إلى مضجعها، فتحدث فإنِّي مُصْغيةٌ إليكَ.
فارتجف كرستيان ارتجاف الطالب الضعيف في موقف الامتحان، ولكنه لم يرَ له بدا من أن يتكلم، فانثنى إليها وقال لها: أحبُّك يا روكسان! وصمت فقالت له: وأنا أحبُّك
أيضًا يا كرستيان، ثم ماذا؟ فلم يفتح الله عليه بكلمة أخرى؛ فعاد إلى نغمته الأولى وقال لها: أحبك يا روكسان حبا جما، وسكت. فقالت له: هذا هو النسيج فوشِّه وطرِّزه، فازداد ارتباكه واضطرابه، وقال: آهٍ ما أشد حبي لك يا روكسان!
قالت: ما شككت في ذلك قط، ولكني أريد أن تقول لي كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا ما أحبه أحدٌ من قبلي أحدًا. قالت: صور لي عواطفك وشعورك.
قال: ليتك تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر لك.
قالت: إنك تقدم لي من اللبن مخيضه وأنا لا أريد إلا زبدته، قل كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا يعجز لساني عن التعبير عنه؛ لأنه فوق طاقتي.
قالت: ولكنني أريد أن تُعَبر لي عنه وأن تلمس بيدك أوتار قلبي، وتملك عليَّ عواطفي وشعوري.
قال: آه لو استطعت أن ألْثُم جيدك الفضيَّ الجميل! فجزعت وانحرفت عنه قليلًا، وقالت: كرستيان، إنك قد جننت!
قال: ما أشوقني إلى لثمةٍ من فيك أبرِّد بها غليلي! فنهضت قائمةً وقالت: إنك تضايقني الليلة كثيرًا يا سيدي! وأرادت الذهاب، فأمسك بثوبها وقال: عفوًا يا روكسان فإنَّ ذنبي عظيم، وما زال يضرع إليها بنظراته المنكسرة حتى هدأت وجلست.
فقال لها: آه لو تعلمين كم أحبك! قالت: أهذا كل ما عندك؟ وأرادت النهوض مرة أخرى، فأمسك بيدها وقد طار صوابه والتاث عليه أمره وظل يقول لها: لا، لا تغضبي يا روكسان فإنني لا أحبك! فضحكت وقالت له: ذلك خيرٌ لي، فانتبه إلى هفوته وقال: لا تصدقي ما قلت لك فإني أردت أن أقول لك إنني لا أحبك فقط، بل أعبدك وأدين بك، فتململت
وقالت: لقد ضاق صدري! قال: أعترف لك بأني قد أصبحت بليدًا لا أفهم شيئًا. قالت: ذلك ما يحزنني كثيرًا، فالبلادة عندي والدمامةُ سواءٌ، فاذهب الآن واجمع شتات ذهنك ثم عد إليَّ الليلة الآتية، ونهضت قائمة: فتشبث بها وقال: انتظري قليلًا فإنني سأقول لك شيئًا جميلًا، انتظري يا روكسان فإنني أريد أن أقول لك.
فقاطعته وقالت: تريد أن تقول لي: إنك تحبني وتعبدني، وتموت وجدًا بي؛ فلقد عرفت ذلك ولا أريد أن أسمع منه شيئًا فاذهب لشأنك فقد ضقت بك ذرعًا. ثم تركته ودخلت المنزل،
فجن جنونه وظل واقفًا مكانه يتحرَّق ويتغيظ، ويقول:آهٍ! ذلك ما كنت أخافه، أين أنت يا سيرانو؟ فما أتم كلمته حتى رأى سيرانو مُقبلًا عليهي بتسم ابتسامة المتهكم، ويقول له: أهنئك بالنجاح العظيم الذي أحرزته يا كرستيان!فانتفض وقال: أنت هنا؟ ثم ترامى بين ذراعيه وقال: الرحمة يا صديقي، فإني أكادأموت غما! قال: وما الحيلة بعد الذي كان؟ لقد انقضىكل شيءٍ فلا سبيل إلى الرجوع!قال: إن لم ترَ لي الساعة رأيًا قتلت نفسي؛ إنني لا أستطيع أن أنصرف من هنا وهي واجدةٌ عليَّ، فارحمني واتخذها عندي يدًا لا أنساها لك مدى الدهر!
فصمت سيرانو وهو يعالج في نفسه ألمًا مُمِضا لا تستشف مكانه من أعماق قلبه غير عين واحدة، وهي عين الله تعالى؛ ثم قال له: ها هو ذا الظلام حالِكٌ لا يلمع فيه نجم،وها هي ذي الطريق مقفرةٌ لا يطرقها طارقٌ؛ فاستمع لما ألقي عليك. فاستطير كرستيانفرحًا، وتناول يده فقبلها وقال: آه يا سيدي، يخيل إليَّ أنك قد رأيت لي رأيًا. قال: نعمإن ائتمرت بما آمرك به. قال: ما عصيت لك أمرًا قبل اليوم. قال: قف هنا أمام الشرفة،وسأقف أنا من تحتها على قيد خطوة منك من حيث تراك روكسان ولا تراني، ثم نادها فإذا أشرفت عليك فسألقنك همسًا ما يجب أن تقوله لها. وإنهما لكذلك إذ أقبل الغلامان الموسيقيان اللذان كان أرسلهما سيرانو لإزعاجمونفلوري في مرقده. فقال لهما: أفعلتما ما أمرتكما به؟ قالا: نعم، ما زلنا نضرب اللحنالمضطرب المشوش زمنًا طويلًا، حتى طاش عقله وجُن جنونه، فأطل من النافذة وظليشتمنا ويسبُّنا ويستعدي رجال الشرطة علينا حتى انصرفنا. قال: أحسنتما، فارجعاالآن وقفا على رأس هذا الشارع، وليكمن كل منكما وراء ساريةٍ من سواريه، وارقُباالطريق، فإذا رأيتما سوادًا مقبلًا فاضربا لحنًا قصيرًا. فقالا له: أيَّ نوعٍ من الألحان تريدأن نضرب؟ قال: اضربا لحنًا محزنًا إن كان القادم رجلًا، ومفرحًا إن كان امرأة، فعادالغلامان أدراجهما ووقفا حيث أمرهما، ودفع سيرانو كرستيان وأقامه أمام الشرفة،ووقف هو من تحتها على مقربة منه، وقال له: نادها واخفضصوتك ما استطعت، فاتجهكرستيان إلى النافذة ونادى: روكسان! روكسان! فما لبثت أن فتحت الباب الموصل إلىقال: كرستيان. ؟« أنا » الشُّرفة وخرجت إليها وقالت: مَنْ يناديني؟ قال: أنا. قالت: ومن قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أكلمك. قالت: ذلك مستحيلٌ؛ لأنك لا تحسن الكلام! قال:أضرع إليك. قالت: إنك لا تحبني، ولو كان في قلبك ذرةٌ واحدة من الحب لأحسنت الكلامفيه. قال وسيرانو يلقنه: يا لله! إنها تتهمني بأنني قد سلوتها في الساعة التي أتجرع فيها كأس الموت وجدًا بها! وكانت قد همت بالدخول، فاستوقفتها هذه الكلمة وقالت: وكيف تحبني؟ قال: قداتخذ طفل الحب من نفسي الجائشة المضطربة أرجوحةً لينةً يلهو فيها ويلعب، وينموويترعرع، حتى إذا شب وأيفع وبلغ أشده، عقها وغدر بها وجازاها شر الجزاء على صنيعها، وقسا عليها القسوة التي يقسوها الطفل على عصفوره الضعيف المسكين. فَأَصْغت إليه، وشعرت أن في حديثه روحًا جديدة لم تكن فيه من قبل. فقالت له:ولِمَ لم تخنقه في مهده قبل أن يشب ويترعرع؟ قال: ما كنت أستطيع ذلك؛ لأنه ولد
الشاعر جبارًا قويا متنمرًا، حتى إنه استطاع وهو لا يزال يلعب في أرجوحته أن يصارع شيطان الكبرياء فيَّ حتىصرعه وألقاه جثة هامدة بين يديه. فاتكأت روكسان على حافة شرفتها، وقد أطربتها هذه النغمة الجديدة، وقالت: ماأشد سواد هذا الظلام! إنني لا أتبين موقفك جيدًا يا كرستيان، ولكنني أشعر أن كلامكينير لي مكانك، فتكلم فإنك تُطربني كثيرًا، ولكن ما لي أرى نغمة حديثك تصدر عنكمتقطعة، كأنما قد أصبت بالنقرس في مخيلتك، وكان عهدي بك قبل الآن طلق اللسانمتدفقًا كالسَّيل المنهمر! فذعر سيرانو وخاف أن ينكشف الأمر، فجذب كرستيان إلى ماتحت الشرفة، ووقف هو في مكانه، وانثنى إليه وأسرَّ في أذنه: قد أصبح الموقف حرجًاجدا فاصمت أنت، وسأتكلم أنا عنك بصوتٍ يشبه صوتك، ثم أنشأ يجيب روكسان علىسؤالها مقلدًا صوت كرستيان، ويقول: ذلك لأن كلماتي تتخبط في هذا الظلام الحالكأثناء صعودها باحثةً عن أذنك الصغيرة جدا، فلا يستقيم مسيرها! قالت: ولم لا تضطربكلماتي في هبوطها اضطراب كلماتك في عروجها؟ قال: لأنها تنحدر إلى قلبي مباشرة،وقلبي رحبٌ واسعٌ فلا تضل طريقها، على أن كلماتي صاعدة وكلماتك منحدرة، والنزولأسهل من الصعود. قالت: ما أبدع هذا المعنى! ويخيل إليَّ الآن أن كلماتك قد انتظممسيرها، فإنها تصل إلى أذني بأسرع من ذي قبل! قال: ذلك لأنها ألفت هذه الحركةوحذقتها، فصمتت لحظة، ثم دارت بعينيها في الفضاء وقالت: حقيقة إنني أتكلم من علوشاهق. قال: إذن فاحترسي، فإن كلمةً واحدةً قاسية تُلقينها عليَّ من موقفك هذا كافيةلقتلي! فاستضحكت وقالت: لا تخف يا كرستيان، فإني آتيةٌ إليك لأحدثك وجهًا لوجه،قال: لا تفعلي، بل ابقي في مكانك. قالت: لم؟ قال: لأن هذا الموقف جميلٌ جدا، يعجبنيويطربني، فلنتحدث كما نحن كأننا روحان هائمتان في أجواز الفضاء، تُفتِّش كلٌّ منهماعن صاحبتها فلا تكاد تعثر بها، دعينا نتحدث كما نحن وبيننا هذا الموج المتلاطم منالدُّجنة الحالكة، لا ترين مني إلا سواد معطفي المسبل عليَّ، ولا أرى منك إلا بياضثوبكالصيفي الجميل، فأنت تمثلين الكوكب الساطع في سمائه، وأنا أمثل الظلام المخيم على سطح الغبراء! إن لهذا الموقف الشعري الجميل في هذه الساعة الساكنة من الليل أعظم الفضلفي صفاء ذهني، وانتعاش ويقظة قلبي وانطلاق لساني من حبيسته وجموده، فكونيكما أنت ولأكَُنْ كما أنا، لا تشعرين مني بغير خفقان قلبي، ولا أشعر منك بغير أشعةجمالك، أناجيك كأنني أناجي لله في علياء سمائه، وتصغين إلى نجائي إصغاء الملائكة الأبرار إلى أنَّات البائسين وزفراتهم على ظهر الأرض!
وكان قد غلبه الموقف على أمره واستلهاه حسنها، وجمالها واستغرق شعورهووجدانه، فنسي أنه يتكلم بلسان غيره، فأطلق لنفسه عنانها، وأصبح يحدثها بنغمةٍغريبة لا هي نغمته ولا هي نغمة كرستيان، بل نغمة النفس الوالهة المعذبة المتألمة، فنالتمن نفسها منالًا عظيمًا، وقالت له: إنك تُحدِّثني الآن يا كرستيان بلهجةٍ غير لهجتك حتىليُخيل إليَّ أنك قد تبدلت من نفسك نفسًا أخرى غيرها! قال: نعم؛ لأن كلامي قبل الآن لم يكن صادرًا من أعماق قلبي؛ لأنني إنما كنت أحَُدِّثك بلسان … فاستدرك هفوته، وقال: بلسان الدهشة والحيرة « كرستيان » : وكان يريد أن يقول والاضطراب، الذي يلم بكل من يجرؤ على أن يقف موقفي هذا بين يديك، أما الآن فنفسيهادئة، وجأشي ساكنٌ، وروحي مطمئنة، حتى ليُخيَّل إليَّ أنني أناجيك للمرة الأولى في حياتي! قالت: صدقت، ويخيَّل إليَّ أنا أيضًا أنك تتكلم بصوتٍ غير صوتك الأول. قال: نعم؛لأنني استطعت في هذا السكون السائد والظلام الحالك الذي يحجبني عن العيون أن أكون أنا نفسي، وأنا أناجيك من طريقي لا من طريق … فشعر بهفوته وحاول أن يصلحها فلم يستطع، فتلعثم « غيري » : وأراد أن يقول وتلجلج. فقالت له: طريق مَن؟ قال: عفوًا يا روكسان إنشرد لُبِّي واضطرب جناني بين يديك، فقد سحرني وملك عليَّ عقلي هذا الموقف الجديد الذي لم أقفه مرةً في حياتي. فعجبت لأمره وقالت: جديد؟ قال: نعم جديد؛ لأنه أول موقف استطعت فيه أنأكون صريحًا في كلامي، حرا في أفكاري، جريئًا في حديثي، أطلق العنان لنفسي فتهيم،وتنبعث حيث تشاء، لا يحول بينها وبين الغاية التي تريدها حائلٌ. قالت: وهل لم يكنذلك شأنك من قبل؟ قال: لا؛ لأن خوفي من هزئك بي، وسخريتك منِّي كان يزعجنيجدا، ويملأ قلبي رعبًا وخوفًا! فدهشت وقالت: سُخريتي؟ ولماذا؟ قال: تسخرين منتطرفي واندفاعي وتبسُّطي في الإفضاء بمكنونات نفسي، فقد كان قلبي دائمًا مُتسربلًابسربال عقلي، والعقلسربالٌ ضاغطٌ لا يطيقه القلب، وكنت كلما هممت أن أترك السبيللعواطفي أن تفيض، وتنساب حيث تشاء أدركني الحياءُ والخجل، فَتَلَوَّمت واحتشمتووقفت دون الغاية التي أريدها، ولا ألبث أن أتطلع إلى الكوكب النائي في سمائه، وأخطوالخطوات الأولى إليه لتناوله واستنزاله من فلكه، حتى أشعر بالخجل من نفسي، فأعودأدراجي قانعًا من حظي بزهرةٍ صغيرةٍ أجدها في طريقي من زهرات حديقة السماءفأقتطفها. قالت: إن الزهرة جميلة أحيانًا. قال: ولكنني لا أريد الليلة ولا أقنع بها. قالت:
إنك ما كلمتني قط يا كرستيان بمثل هذه اللهجة البسيطة التي تكلمني بها الآن. قال:نعم، وليتنا نستطيع دائمًا أن نحتقر في مواقف الحب توافه الأشياء وحثالاتها، وأن نتركالتأنُّق والتجمل في صلاتنا وعلائقنا، ونطلق العنان لأنفسنا لتعبر عن مشاعرها وعواطفها بالصورة التي تريدها، بدلًا من أن نقيدها بتلك القيود الثقيلة التي تحبسها في محبسٍ ضيقٍ لا سبيل لها إلى التفلُّت منه. فلنطرح بعيدًا عنا هذه الكأس الذهبية الصغيرة، التي نتعاطى بها شرابنا قطرةقطرة، فلا نكاد نشعر بلذَّة ما نتعاطاه، ولنندفع معًا إلى ذلك الغدير المترع المتدفق، فنجثو على ضفَّته ونكرع من مائه العذب حتى نرتوِي. البلاغة قالت: ولكنني أحب البلاغة يا كرستيان. قال: إني أجلُّ هذا الليل الساكن الهادئ، وهذاالموقف الجليل المهيب، وهذه النفحات العطرية المترقرقة، وهذه القبة الجوفاء المرصَّعةبمصابيحها اللامعة، أن أهينها بهذا الشيء الذي يسمونه البلاغة، أو أن يكون حديثيمعك بتلك اللغة التي يتفكَّه بها العشاق الكاذبون في رسائلهم الغرامية، فلنتحدث بماتوحيه إلينا ضمائرنا، لا بما توحيه إلينا دواوين الشعراء ورسائل الكتَّاب، ولنهدم تلكالحواجز المادية القائمة بين نفسينا حتى تتلامسا وتتماسَّا، وتستحيلا إلى نفسٍ واحدة،فإنني أخشى إن نحن ظلننا نشتغل زمنًا طويلًا بهذه التجارب الكيميائية أن تتبخرعواطفنا، وتتلاشىفي أجواز الفضاء، وأن يكون فيما نظنه كلشيء القضاء على كلشيء.قالت: ولكن البلاغة جميلةٌ جدا. قال: وأنا أكرهها في الحب، وأرى أن من أكبرالجرائم وأفظعها أن نشتغل عن أنفسنا ومطارح آمالنا ومسارح عواطفنا بإدارة هذهالمعركة اللفظية التي لا طائل تحتها، وأن تكون تلك المحاولات التي لا فائدة منها هي غاية مقصدنا من الحب، ومنتهى أملنا منه، والثمرة الأخيرة التي نجنيها من حياتنا. إننا ما اجتمعنا هنا لنرى كيف نتحدَّث، بل لنتحدث ونتناجى، وما وقفنا هذا الموقفالجليل المهيب بين أحضان هذه الطبيعة الحلوة العذبة؛ لنشتغل بتهذيب اللغة وابتكارالأساليب واختراع المعاني، ولا ليقول كلٌّ منا لصاحبه: ما أبلغك! وما أسمى خيالك، وماأبدع تصوراتك وأفكارك! ولا لنتدارس البلاغة وأصولها وقوانينها، ولا لنتحدَّى الشعراءوالكتاب في أساليبهم ومناهجهم، بل ليسكب كلٌّ منا نفسه في نفس صاحبه فإذا هما 86
نفسٌ واحدة، تشعران بشعورٍ واحدٍ، وتحسان إحساسًا واحدًا، حتى لو استطعنا أن نصل إلى هذه الغاية، ونحن سكوتٌ لا نتكلم ولا ننبس بحرفٍ واحد فعلنا. هذه هي البلاغة وهذه هي حقيقتها، أما الإغراق في التخيُّل، والمبالغة في الوصف،وخلق الصور والأساليب التي لا وجود لها في الخارج، ولا أساس لها في الذهن، وابتكارالمعاني الغريبة التي تنبعثشرارتها من شعلة الذكاء، ولا تتفجر من ينبوع القلب، فهيوإن كانت جميلةً محبوبة تستلهي الخاطر وتستوقف الناظر، لكنها ليست من البلاغة في شيءٍ. نريد أن نفارق هذا العالم المملوء بالأكاذيب والأباطيل، والصور والتهاويل، إلى أفقٍطاهرٍ نقي، صافٍ مترقرق، نتكاشف فيه ونتراءى، ويتحدث كلٌّ منا إلى صاحبه بلغةٍتشبه في جمالها وحسنها، وبساطتها وطهارتها، ورقتها وعذوبتها، ذلك الأفق الجميلالذي نسبح فيه، ونطير في أجوائه؛ فيكون مثلنا مثل الكوكبين الهائمين في أجواز الفضاء، يتحادثان بلسان الضوء، ويتناجيان بلغة الأثير. قالت: وماذا تقول لي لو أردت أن تحدثني بتلك اللغة؟ قال: ألُقي إليك بكل مايخطر ببالي من الكلمات مبعثرًا غير منتظم ولا مرتَّبٍ، كما تتناثر أوراق الزهر عنأغصانها، فأقول لك مثلًا: أحبك يا روكسان حب العابد معبوده، لا أستطيع أن أصبرعنك لحظة واحدة، أصبحت على وشك الجنون بك، وربما أكون قد جننت من حيث لاأدري، كأن قلبي معبد وكأن اسمك ناقوسه، فإذا وقع نظري عليك ارتعدت وارتجفت،فرنَّ اسمك في قلبي رنين الناقوس في المعبد، قد احتملت فيك فوق ما يستطيع أن يحتملهبشر، فما شكوت ولا تألمت، أحببت فيك كلشيءٍ، وأحببت من أجلك كلشيءٍ، أحببت فيكحتى كبرياءك، وأحببت من أجلك حتى شقائي، يخيل إليَّ أن الشمس على جدار قصركأجمل منها على جدران القصور الأخرى، وأن الروض الذي تخطرين فيه أبدع رياضالدنيا والآخرة، لا أستطيع أن أنساك أو أنسى حالةً من حالاتك أو حركة من حركاتكمهما طال عليها الزمن، رأيتك صباح الأحد الماضي، وأنت خارجة من بيتك وقد غيرتنظام شعرك الذي أعرفه لك، فأصبح لامعًا متألقًا يدور بوجهك دورة الهالة بالقمر،فبهرني هذا المنظر، وارتسم في شبكة عيني، فأصبحت أراه في كل ما يقع عليه نظريمن المنظورات، كما يرى الناظر إلى ضوء الشمس هالةً بيضاء في كل ما يتناوله بصرهمن الأشياء، وسمعتك منذ أيامٍ تضحكين، فما غرَّد طائرٌ على فننٍ ولا رنت قطرات الغيثعلى صفحات الماء، ولا مرت النسائم بين خمائل الأشجار، إلا خيل إليَّ أنني أسمع رنين تلك الضحكة في كل ما أسمع من هذه الألحان.
نعم، » : وهنا اضطربت روكسان، واشتد خفوق قلبها، وقالت بصوتٍ خافتٍ متهدج «. هذا هو الحب قال: نعم، هو الحب الذي غالب قلبي حتى غلبه واتخذه أسيرًا عنده، وهو حبٌّشرسٌ غيورٌ، يتوقد حدَّةً وحرارةً، وإنه على ذلك متواضع بسيط، خالٍ من الأثرة وحبالنفس، إنني لا أستطيع أن أخلص لنفسي يا روكسان كما أخلص لك، إنني في سبيلهنائك أجود بهنائي كله وإن لم تشعري بذلك، حسبي من الدنيا أن أسمع من بعيدٍ رنينضحكاتك، فأعلم أنك سعيدةٌ مغتبطة، وأن ما ضحَّيت به لك من سعادتي وهنائي كانهو السبب في هناء عيشك وراحة نفسك، كلُّ نظرةٍ من نظراتك تثير فيَّ فضيلةً جديدةكانت كامنةً بين أطواء قلبي لا أهتدي إلى مكانها، وتبث في نفسي خلق الشجاعة والإقدام،مِمَّ أخاف إن كنت راضيةً عني، وبم أعتبط إن كنت ساخطةً عليَّ؟ وهل الدنياشيء سواك في إقبالها وإدبارها؟! قالت: ما أعذب كلامك يا كرستيان! إن قلبي يخفق له خفقانًا شديدًا. قال: أرأيت الآن كيف أن الكلمات الصادرة من القلب بلا تكلُّفٍ ولا تصنُّعٍ، لايستطيع حائلٌ أن يحول بينها وبين قلب سامعها؟ ألا تلمسين بيدك نفسيالحزينة، وهيصاعدة إليك في هذا الظلام الحالك؟ ألا تسمعين خفقان قلبي وهو يرنُّ في جوف هذاالليل البهيم؟ آه! ما أحلى هذه الساعة وما أجملها! إنها الساعة الوحيدة التي ذقت فيهاحلاوة السمر والمناجاة، ما كنت أصدِّق أن أقف يومًا من الأيام هذا الموقف العظيم بينيديك: أتكلم وتسمعين، وأبثك ما في نفسي وتنصتين، ولم يبقَ لي من أربٍ في الحياة بعداليوم، فليأتِ الموت إليَّ فقد بلغت جميع أمانيَّ وآمالي، ها هي ذي يدك ترتجف الآن منتأثير كلماتي كما ترجف الورقة الخضراء بين النسمات المتناوحة، ولقد نَمَّ عليك غصن الياسمين الذي تمسكين، فقد مشت فيه تلك الرجفة حتى وصلت إلى يدي! ثم انحنى على طرف الغصن في يده فلثمه في صمتٍ وسكون. فقالت روكسان: نعم، إنني أرتجف وأبكي؛ وما بلغ امرؤ مني في حياته ما بلغتمني، ولقد سحرني حديثك وملك عليَّ لُبِّي حتى أصبحت أشعر أنني قد أصبحت ملك يدك، ولا شأن لي في أمر نفسي. قال: فليأتِ الموت إليَّ إذن، فقد بلغت من حياتي ما كنت أرجو وأتمني، وليُهْننيأنني أنا الذي قدمت إليك بيدي تلك الكأس التي أسكرتك وأخذت بلبِّك، فلم يبقَ لي مما أتمناه غير شيء واحد. قالت: ما هو؟
وهنا نطق كرستيان وهو في مكانه تحت الشرفة بعد هذا الصمت الطويل، وقال: «! قُبلة » فذعر سيرانو وقال له بصوتٍ خافتٍ: لقد تسرعت في الطلب! قال: لا، إنها الآن ذاهلةٌ مسحورة، فلأنتهز هذه الفرصة التي لا تواتيني في كل حين. «. أريد قبلة » : فقالت روكسان: ماذا قلت؟ فقال كرستيان فوكزه سيرانو برجله، وقال: اسكت يا كرستيان، فسمعت روكسان كلمته. فقالتله: مع من تتحدث؟ وهل كرستيان شخصٌ سواك؟ قال: أتحدث مع نفسي، فقد ندمتعلى تطرفي واندفاعي في هذا المقترح الذي اقترحته، وقلت لنفسي: اسكت يا كرستيان،فحسبك منها أنها أصغت إليك، وسمعتصوت قلبك، وأذرفت من أجلك دمعةً من دموعها الغالية، فلا تطمع فيما وراء ذلك! وهنا رنَّ صوت قيثارتَي الغُلامين من بعدٍ. فقال كرستيان على لسان سيرانو: ادخلي الآن يا روكسان، فإني أسمع صوت قادمٍ، ثم عودي إليَّ بعد قليل. فدخلت روكسان غرفتها وأقفلت باب نافذتها، وأصغى سيرانو إلى الصوت، فسمعفي آنٍ واحد لحنين مختلفين: لحنًا مفرحًا، وآخر محزنًا. فقال: يا للعجب! إن القادم ليس برجل ولا امرأة، فلا بد أن يكون قسيسًا! وما أتم حتى أقبل قسيسٌ شيخٌ وبيده مصباحٌ ضئيلٌ، وجعل يمر بأبواب المنازلبابًا بابًا ويدني مصباحه منها ليتبينها، كأنه يفتش عن منزلٍ يقصده، فتقدم نحوهسيرانو وقال له: إنك تعيد لنا أيها الشيخ عهد ديوجين، فهل تفتش عن منزل السيدةمادلين روبان الشهيرة بروكسان، فانبرى له كرستيان وهو يقول في نفسه: إن الرجليضايقنا في مثل هذه الساعة، ولم ننتهِ من أمر القُبلة! وأمسك بيده وأشار له إلى جهةبعيدة، وقال له: هناك أيها الشيخ، هناك، فسِرْ أمامك لا تعطف يمنةً ولا يسرة حتىتجد المنزل الذي تريده! فشكر له الشيخ فضله وعاد أدراجه. فقال كرستيان لسيرانو:لا أستطيع أن أبرح هذا المكان حتى أنال القبلة التي أريدها! قال: لا تعجل يا صديقي،فستوافيكما سريعًا تلك اللحظة السِّحرية العجيبة، لحظة الذهول والاستغراق التيتثملان فيها بخمرة الحب، وتذهلان فيها عن نفسيكما، فإذا شفتاكما ذاهبتان وحدهماكل منهما إلى صاحبتها حتى تتلامسا، وصمت لحظة ثم قال في نفسه: ما دامت تلكاللحظة آتية لا ريب فيها فخير لي أن أكون صاحب الفضل فيها، ثم قال له: نادها ياكرستيان، فستنال منها القبلة التي تريدها: فناداها، ففتحت النافذة، وخرجت إلى الشرفة
وهي تقول: أباقٍ أنت يا كرستيان حتى الآن؟ فقال كرستيان على لسان سيرانو: لقدجاء الساعة هنا كاهنٌ شيخٌ يسأل عن منزلك، فلم تعجبني زيارته في مثل هذا الوقت،فأضللته عن الطريق وأظن أن في يده كتابًا، فذعرت روكسان واضطربت مخافة أنيكون الكونت دي جيش قد أخلف وعده، وتخلف عن السفر واختبأ في الدير، وأن يكونهذا الكاهن رسوله، ولكنها ما لبثت أنسرت عن نفسها، وأنساها موقف الغرام كلشيءعداه، وقالت: أظن أننا كنا نتكلم عن … وتلعثم لسانها؛ فقال كرستيان: عن القبلة، ومالك لا تجسرين على النطق بها كأنها تحرق شفتيك؟ فإذا كان هذا شأنك مع لفظها،فكيف يكون شأنك مع معناها؟ تجلدي يا روكسان ولا تجزعي، فلقد تحولت منذ هُنَيْهَةمن الدُّعابة إلى الاضطراب، ومنه إلى الخفقان، ومنه إلى التنهد، ومنه إلى البكاء؛ وليس بين الدموع والقبلة إلا رجفة. القبلة فارتعدت روكسان وقالت: لا أمنحُك إياها حتى تصِفَها لي! قال: هي الميثاق الذي يعطىعن قربٍ، والوعد الصادق الذي لا ريبة فيه، والاعتراف بالحقيقة الواقعة، والنقطةالمرقومة تحت باء الحب، والسر العميق الذي يصل إلى القلب من طريق الفم، واللحظةالأبدية التي يقصر زمنها وتدوم حلاوتها، واتفاق الخاطرين على معنى واحد، والطريقالمختصر لاستنشاق رائحة القلب، وتذوق طعم النفس على الشفاه، لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها! فاضطربت روكسان وقالت: حسبك يا كرستيان! فقال: إن القبلةشريفة يا سيدتي،حتى إن ملكة فرنسا لم تبخل بها على نبيلٍ من نبلاء الإنجليز، وكلاهما شريف وعظيم.قالت: اسكت ولا تزد. قال: أنت الملكة التي أعبدها، وأدين لها أكبر مما دانت فرنسالملكتها، وأنا اللورد بوكانجهام في صدقه وإخلاصه وألمه وحزنه. قالت: وفي جماله أيضًا!فانتفض سيرانو وشعر بوخزة الألم في قلبه، وقال: نعم، وفي جماله، ولقد كنتلذلك ناسيًا. فقالت له: اصعد أيها السعيد المجدود لاقتطاف تلك الزهرة التي لا نظير لها! فأخذ سيرانو بيد كرستيان، وقال له بصوتٍ خافتٍ: اصعد وتناول القبلة التيتريدها، فجبن وتلكأ وقال: ما أشد خجلي وحيائي! قال: اصعد أيها الحيوان، وتناولالقبلة التي لا يستحقها منها غير شفتيك الورديتين! ثم دفعه بيده، فتسلق أغصان
الياسمين حتى بلغ مكان روكسان على الشرفة، فألقت رأسها الجميل على عاتقه،فاحتضنها إليه ورسم على شفتيها تلك القبلة التي لها دويُّ النحل في صوتها، ومذاقالعسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها، وسيرانو واضع يده على قلبه يتلوى فيمكانه تلوِّي الملسوع، ويتأوه آهات خفيات مضمرات؛ ولكنه ما لبث أن ارعوى وتجمَّل،ولجأ إلى سلوته التي اعتاد أن يلجأ إليها كلما عظمت آلامه وهمومه، وأخذ يعزي نفسه،ويقول: يا مأدبة الحب العظيمة التي أنا صاحبها ومحييها، هنيئًا للذين يذوقون طعامك،ويتناولون ثمارك، ويرتشفون كئوسك، أما أنا فحسبي منك هذا الفتات الذي يتناثر عليَّمن مائدتك، فإنَّ روكسان لا تقبِّل شفتي كرستيان، بل تقبل عليهما كلماتي التي ألقيتُها في أذنها وسحرتها بها! وهنا رنَّ صوتُ قيثارتَي الغلامين بلحنين مختلفين: لحنٍ مفرحٍ وآخر محزن،فسألت روكسان: ما هذا؟ فقال لها كرستيان: لعله سيرانو يتمشى في الطريق مع غلاميهالموسيقيين، فانفتل سيرانو من تحت الشرفة إلى موقف الغلامين فحدثهما قليلًا ثم أشارإليهما بالانصراف، ومشىيترنح في مشيته كأنه شارب ثمل، ويتغنى ببعضالألحان كأنهقادمٌ الساعة، فما وقع نظره على كرستيان حتى تظاهر بالدهشة، وقال له: أباقٍ أنتهنا يا كرستيان حتى الآن؟ قال له بصوتٍ عالٍ تسمعه روكسان: نعم، أحُدث روكسانوتحدثني، وإلى أين أنت ذاهبٌ؟ قال: لقد مللت هذين الغلامين وسئمت ألحانهما وتعبتمن طول المسير، فعزمت على الرواح إلى المنزل. فأشرفت عليه روكسان عندما سمعتصوته وقالت له: انتظرني يا سيرانو فإني قادمة إليك، وأقفلت باب الشرفة، وفي هذهاللحظة أقبل الكاهن بمصباحه وهو يحدث نفسه ويقول: ما زلتُ على رأيي الأول، فإن المنزل هنا في هذا الميدان! وهنا ظهرت روكسان على عتبة بابها يتبعها كرستيان وراجنو، فلما رأت الكاهنذُعرت واضطربت، فتقدم نحوها وحياها ومد يده إليها بكتابٍ. فقالت له: ما هذا؟قال: كتاب بعثني به إليك السيد الصالح التقي الكونت دي جيش، صهر سيدنا ومولاناولا بد أن يكون ،« أتاناس » صاحب القداسة الكردينال دي ريشلييه، من دير القديس مشتملًا على غرضٍمن الأغراضالشريفة المقدَّسة، أو مكرمةٍ من المكارم العليا، فاقرئيه، فتناولته وقرأت فيه على مصباح راجنو وهو صامتة، هذه الكلمات: سيدتي الطبول تدق، وقد أعد الجيش عدته للرحيل، والجميع يظنون أني في مقدِّمته؛ولكنني تخلَّفت وعصيت أمرك؛ لأنني لم أستطع السفر دون أن أتزود منكبذلك الزاد القليل الذي سألتك إياه؛ فاغتفري لي ذنبي، فإنني ما أذنبت إلا فيسبيلك، وهأنذا قادمٌ إليك بعد قليل، فَمَهِّدِي لي سبيل زيارتك، إن ثغرك قدابتسم لي اليوم ابتسامًا جميلًا، ولا أحب أن أفارقك قبل أن أراه مرة أخرىيبتسم لي تلك الابتسامة البديعة المؤثرة، وقد بعثت إليك بكتابي هذا مع قسيسأبله لا يفهم من شئون الحياة شيئًا سوى إقامة الصلوات، وتعزية المحتضرين، ومباركة المتزوجين، فلا يعنيك من أمره شيء. دي جيش وهنا برقت عيناها ببارقٍ غريبٍ، والتفتت إلى الكاهن وقالت له: اسمع يا أبتِ نصالكتاب، فهو بمثابة أمرٍ صادرٍ إليك، وأخذت تقرأ بصوت عالٍ ما لا وجود له إلا في مخيلتها، وتقول: سيدتي يجب عليك إطاعة أمر قداسة الكردينال، وهو يأمرك أن تتزوجي الليلة سرامن البارون كرستيان دي نوفييت، وأنا وإن كنت أعلم أنك غير راضيةٍ عنهذا الزواج، وأنك لا تحبين هذا الفتى ولا تجدين في نفسك ارتياحًا لمعاشرته،فإنني أرى لك أن تخضعي لأمر الكاهن الأعظم وتذعني لرغبته، فالخير كلالخير فيما يراه ويشير به، فاصبري على قضاء لله وقدره، وانتظري حُسْن المثوبة منه والجزاء الأوفى. وقد بعثت إليك بكاهنٍ من أفضل الكهان وأتقاهم وأحفظهم للأسرار؛ليقوم بعقد هذا الزواج السري بينكما في منزلك، فاقرئي عليه كتابي هذاوبلِّغيه أمري، وكوني على ثقة من إخلاصيلك واحترامي الدائم لمقامك الكريم.دي جيش
ثم طوت الكتاب وهي تتظاهر بالأسف والحزن، وتقول: آه! ما أسوأ حظي وأعظم شقائي! ثم همست في أذن كرستيان قائلةً له: ألا ترى أنني أحسن قراءة الرسائل؟ قال: اسكتي، فإنني أكاد أموت فرحًا! أما الكاهن فقد تهلل وجهه وانبسطت أساريره، وظل يقول: له لله من سيد نبيلكريم! ما خاب ظني فيه وفي حسن مقاصده وشرف أغراضه! ثم رفع المصباح إلى وجهسيرانو وقال له: لعلك الزوج يا سيدي؟ فامتقع لون سيرانو، وأشاح بوجهه عنه، فتقدمنحوه كرستيان وقال: لا، بل أنا يا سيدي! فأدنى المصباح من وجهه، فرأى وجهًا جميلًامشرقًا، فظل يهز رأسه كالمرتاب، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: يخيل إليَّ يا سيدتي أنمصيبتك في هذا الزواج ليست عظيمة كما تتوهمين! فارتعدت وخفق قلبها خفقًا شديدًا،مخافة أن يكون قد فهم شيئًا، ثم ما لبثت أن عرفت وجه الحيلة في ذلك، ففتحت الكتاببلهفة وقالت: لقد فاتني يا أبتِ أن أقرأ عليك الحاشية التي كتبها الكونت في كتابه، وهي تتعلق بديركم المقدس فاستمعها، وقرأت ما يأتي: ويأمرك صاحب القداسة أيضًا أن تتبرعي للدير من مالك الخاصبعشرة آلاف فرانك، فائتمري بأمره، وادَّخريها يدًا عند لله صالحة. فتلألأ وجه الكاهن واستطير فرحًا وسرورًا، ولم يبق لتلك الريبة التي خالجته أثرٌفي نفسه، وقال لها: لا مناصلك يا بنيتي من الإذعان لأمر صاحب القداسة، ولله يتولَّاكبرعايته. فقالت: سأذعن لأمره وأمرك يا أبتِ، ثم هتفت براجنو، فأمرته أن يمشيأمامهمبمصباحه ففعل، فدخلوا المنزل جميعًا، وتراجعت روكسان قليلًا قبل دخولها، فجذبتسيرانو من يده وأسرت في أذنه قائلة: أما أنت فابق هنا حتى يأتي الكونت فامنعه منالدخول ودافعه بكل حيلةٍ، وترفق في الأمر ما استطعت حتى يتم عقد الزواج. فقال:سأفعل ما يرضيك يا روكسان، فكوني مطمئنةً، فتركته ولحقت بالقوم، وبقي هو وحده يفكر في الطريقة التي يمنع بها الكونت من الدخول إذا جاء. سياحة في القمر وما هي إلا هُنَيْهَة حتى رأى شبح الكونت مقبلًا من بعيدٍ، فخلع سيفه والتفَّ بمعطفهوأنزل قُبعته على عينيه، وتسلق شجرة الياسمين وكمن بين أغصانها، وأقبل الكونتواضعًا على وجهه نقابًا أسود وهو يتلمَّس الطريق في هذا الظلام الحالك، ويقول: ليتشعري أين ذهب ذلك الكاهن المنحوس؟ وماذا صنع بالرسالة التي بعثته بها؟ لا بد أن يكون قد بلَّغها روكسان وانصرف لشأنه، ولا بد أنها تنتظرني السَّاعة داخل المنزل! واتجه جهة الباب، فما دنا منه حتى سقط جسمٌ عظيم بين يديه سقطةً هائلةًدوت بها جوانب الميدان، كأنما هو هابطٌ من علياء السماء؛ فتأمله، فإذا هو رجل متلفعٌملثمٌ، فذُعر وتراجع وقال: من هذا؟ فتقدم نحوه سيرانو بخطواتٍ بطيئة متثاقلة، وقالله بنغمة أشبه بنغمة الحالم المستغرق: كم الساعة الآن أيها الإنسان؟ فقال له: من أنت؟قال: أنا رجلٌ من سكان كوكب القمر، سقطت منه من زمنٍ لا أعلم مقداره، هل هويومٌ أو ساعة أو دقيقة أو عام أو أعوام؛ لأن صدمة السقوط أذهلتني عن نفسي فلم أفُقإلا في هذه اللحظة، ولا أعلم هل سقطت في كوكب الأرض أم في كوكب آخر غيره، فقللي أين أنا؟ وفي أي عام وفي أي يوم وفي أي ساعة؟ فعلم الكونت أنه مجنونٌ أو ثملٌ،فأراد ملاينته ومداورته. فقال له: اسمح لي بالمرور أولًا وسأخبرك فيما بعد عما تريد.قال: يخيل إليَّ أنك تظنني معتوهًا أو مخبولًا، فاعلم أنني لا أحدثك عن خيالٍ، بل عنحقيقة لا ريب فيها، وأنني قد سقطت من كوكب القمر سقوطًا اضطراريا لم أملك فيهالخيار لنفسي، فظللت أتخبط بين الكواكب والنجوم والمذنبات والشهب، حتى وقعت في هذا المكان الذي أجهله ولا أعلم أين موقعه من العالم! ثم رفع نظره إلى وجه الكونت وصرخصرخةً هائلة، فزع لها الرجل وتراجع بضعخطواتٍ، وظل يسأله: ما بالك؟ فقال: دلَّني سواد وجهك وظلمته على أنني قد سقطتفي خط الاستواء بين قبائل الزنوج! فوا أسفاه! ووا سوء حظاه! فلمس الكونت وجههبيده، وكان قد ذهل عن نقابه، فحسره عنه وقال له: لا تخف، إنما هو نقابٌ أسود كنتأسدلته على وجهي لبعضالأسباب الخاصة، فهدأ سيرانو قليلًا وقال له: عفوًا يا سيدي،إذن أنا في فينيسيا أو فينا، فقل لي: في أي المدينتين أنا؟ فضجر الكونت، وقال له: سواءأكنت في هذه أم في تلك فدعني أمرُّ، فإن إحدى السيدات تنتظرني! فقال: آه! لقد فهمتالآن، لا بد أن أكون في باريس بلد الوعود والمقابلات، والأسياد والسيدات، فالحمد لله علىذلك! ومد يده إلى ردائه وظل يمسحه كأنما ينفض الغبار عنه، ثم وقف متأدبًا وأحنى 94
رأسه بين يديه وقال له: اغفر لي يا سيدي مقابلتي إيَّاك بهذه الملابس الرثة المغبرة، فقد كان سقوطي مع الزوبعة الأخيرة، فانتشر غبار الأثير على ملابسي، وامتلأت عيناي بذرَّات ثم مد يده إلى نعله كأنما ،« النسر الطائر » الضوء، وعلقت بنعلي بضع ريشات من ريش يتناول ريشةً عالقةً بها، وظل ينفخها في الهواء. فازداد غيظ الكونت وعظم ضجره، وقال له: تنحَّ عن طريقي يا سيدي، فإني أريد الدخول، وظلَّ يدفعه أمامه حتى بلغا الباب،
فترامى سيرانو على الأرض ومد ساقه في الدب » مدخل الباب وكشف عنها، وقال له: انظر يا سيدي إلى ساقي، فقد عضَّني فيها عضَّة مؤلمة لا يزال أثرها باقيًا حتى الآن، ولقد وقع لي ذلك في الساعة التي « الأكبر برمحه المثلث الأسنَّة، وما أفلتُّ من مخالب الدب« السِّمَك الرَّامح » كان يطاردني فيها حتى سقطت فوق حُمَةِ العقرب، فلدغتني في ساقي الثانية، وانظر ها هو ذا أثرها، ومد ساقه الثانية أيضًا، فاستحال على الكونت المرور،
ثم قال له: وأؤكد لك يا سيدي أنني لو عصرت أنفي الآن لجرى منه سيلٌ دافق يغمر هذا الميدان جميعه، أتدري لماذا؟ قال:فظللت أسبح فيه حتى أعياني الجهد، ولولا « المجرَّة » لا؛ لأني سقطت بعد ذلك في نهر مد يده إليَّ فأنقذني لما نجوت، واعلم أنه لم يفعل ذلك تكرمةً منه « الدُّب الأصغر » أن وتفضلًا، بل كان يريد أن يعضني أيضًا كما عضني أخوه من قبله،
فعجز عن ذلك؛ لأن« القيثارة » أسنانه صغيرة جدا كأنها حَبَبُ الكأس، فاستطعت الإفلات منه، وانحدرت إلى فاخترمتها وعلقت يدي بوترٍ من أوتارها فانقطع، وظل معي حتى الآن، وسأريكه إذا أردت، ومد يده إلى جيبه كأنما يريد أن يخرجه، ثم قال: لا لزوم لذلك الآن، فقد عزمت أدون فيه هذه الرحلة جميعها، وسأرصِّع « سياحة في القمر » على أن أؤلف كتابًا أسميه دفَّتَيْه بالشُّهب الصغيرة التي اصطدتها في معطفي من غابات السماء!
فاشتد جزع الكونت ونفد صبره، وقال له: ثم ماذا؟ قال: أظن أنك تريد أن تعرف الآن شيئًا من أخبار سكَّان ذلك الكوكب، الذي عشت فيه حقبةً من الزمان …
فقاطعه الكونت وقال: لا، لا أريد أن أعرف شيئًا، فدعني أمرُّ، فإن بيني وبين أصحاب هذا المنزل ميعادًا لا بد لي من الوفاء به! قال: ولكنك وقد عرفت كيف نزلت من السَّماء لا بد لك أن تعرف كيف صعدت إليها، إنني صعدت إليها بطريقة عجيبة جدا، أنا الذي اخترعتها ولا إلى الحمامة البلهاء ،« رجيومونتانوس » وابتكرتها، فلم ألجأ إلى النسر البليد كما فعل … « أركيتاس » كما فعل وكان دي جيش مولعًا بعض الولع بعلم الفلك ولوع الكثير من الأشراف والنبلاء،الذين يزاولون بعض الفنون تجمُّلًا وتلهيًا بدون أن يدركوا من أسرارها شيئًا. فقال في
نفسه: إن الرجل وإن كان مجنونًا فهو واسع الاطلاع غزير المادة، واستهواه حديثه فبدأ ينصت له، واستمر سيرانو يقول: … ولم أقلد أحدًا من الطيَّارين الذين سبقوني، بل خطرت على بالي ستُّ طرقٍ لاختراق أطباق السموات لم تخطر على بال أحدٍ من فحول علم الفلك ونوابغه، فدهش الكونت وقال: ست طرق؟ قال: نعم، هل تعدني أن تصغي إليَّ حتى أسردها عليك جميعها؟ قال: نعم أعدك بذلك، فتكلَّم وأوجز.
قال: تعال إذن معي إلى هذا المقعد لنجلس عليه قليلًا، فقد انتفض عليَّ جُرحي الذي في ساقي! ثم جذبه من ردائه فأجلسه بجانبه وظل يقول له: أولها: أن أتجرَّد من ثيابي وأدير حول جسمي بضع قاروراتٍ بلوريَّةٍ ملأى بقطر الندى، ثم أقف تحت الشمس فتمد إليَّ خيوط أشعتها فتجذبني إليها، كما هو شأنها في امتصاص الأبخرة والأنداء حين تشرق عليها. وثانيها: أن أعمد إلى صندوق كبير، فأفرغه من الهواء بواسطة حرارة المرايا المضلعة، ثم أملؤه بالأهوية المتصاعدة، وأجلس فيه فيصعد إلى العُلا.
وثالثها: أن أصنع جرادةً من الصلب ذات أذرع كبيرة، وأضع في جوفها بارودًا ملتهبًا، ثم أمتطيها، فكلما فرقع البارود اندفعت صاعدةً في جو السماء. بالدخان، والدخان كما تعلم يطلب العُلا دائمًا، فأركبه فيصعد « بالونًا » ورابعها: أن أملأ بي حيث أشاء. أي القمر، من الأرض « فيبيه » وخامسها: أن أدهن نفسي بنخاع الثَّور، فإذا دنا كوكب — وهو كما تعلم مولع بامتصاصهذا الدهن — امتصَّني معه. وسادسها: أن أركب لوحًا من الحديد وأمسك بيدي قطعةً من المغناطيس وأقذفها فيالهواء، والمغناطيس كما تعلم يجذب الحديد، فإذا سقطت تلقفتها وقذفتها مرة أخرى، وهكذا حتى أصل إلى غايتي! فأعجب الكونت بذكائه وفطنته، وقال له: حسبُك ذلك، وائذن لي بالذهاب، وتأهبللقيام، فانزعج سيرانو وتشبَّث بردائه، وقال له: ولكن فاتك يا سيدي أن تسألني عنالطريقة التي اخترتها من بين تلك الطرق، واعتمدت عليها في هذه الرحلة القمرية؟ قال:قل لي وأسرع، قال: لم أختر واحدةً منها، بل اخترت طريقةً سابعة هي أغرب الجميعوأعجبها! قال: قل ما هي وعجِّل؟ قال: أراهن أنك لا تعرفها، ولو فكرت فيها ثلاثة
أيام! فضاق صدر الكونت وقال: أعترف لك أني عاجزٌ عن معرفتها، فقل لي ما هي فقدضقت بك ذرعًا، وثار من مكانه غاضبًا، فوثب سيرانو واعترض سبيله وقال له: ها هيذي فاستمعها، ثم مد ذراعيه إلى الأمام وظل يلوِّح بهما في الهواء كما يفعل السابح علىسطح الماء ويقول: هُو، هُو، هُو! فدهش الكونت وقال: ما هذا؟ قال: الموج المتلاطم.قال: لا أفهم ما تريده. قال: المدُّ والجزر. قال: لا أفهم شيئًا، فقل ماذا تريد؟ قال: بماأني أعلم أن القمر هو السبب في حركة المد والجزر، فقد نمت على ضفة النهر ساعة المدحتى غمرني الماء، وظللت منتظرًا ساعة الجزر، وما هي إلا لحظات حتى دنا القمر مناللُّجَّة فجذبها وجذبني معها، ولم أزل صاعدًا أخترق حجب السماء حجابًا حجابًا حتى،ومدَّ صوته بها طويلًا. فقال له الكونت بضجرٍ شديد: حتى ماذا؟ وكان سيرانو قد سمعجلبة القوم وهم مقبلون من داخل المنزل، فعلم أن الأمر قد انتهى. فقال له: حتى تمت حفلة القران! وألقى عنه رداءه ورفع قبعته عن رأسه، فَظَهَرَ وجهه وفي مقدمته ذلك الأنفالضخم العظيم، فانتفض الكونت، وقال: سيرانو! ثم التفت وراءه فرأى العروسينمقبلين في ملابس عرسهما، وأمامهما الشموع، ووراءهما القسيس والخدم، ففهم كُلشيءٍ، وصاح: ماذا أرى؟ يخيل إليَّ أني جننت! وأخذ يدور بعينيه ههنا وههنا كالذاهلالمخبول، ثم مشى نحو روكسان فانحنى بين يديها وقال له: لِله درُّك يا سيدتي! إنك منأمهر الماكرات! ثم التفت إلى سيرانو وقال له: أقدم إليك تهنئتني أيها المخترع العظيم علىتفوقك ونبوغك، وسيكون مؤلَّفك الجليل أعظم مؤلفٍ نافع للمجتمع، ولا تنسَ أن تُرصِّعدفتيه بتلك الشهب الذهبية التي اصطدتها في معطفك من غابات السماء! قال: سأفعل إن شاء لله يا سيدي، وسأقدم الكتاب إليك تذكارًا لهذه المهزلة البديعة! فأعرض عنه والتفت إلى القسيس، وقال له متهكمًا: لقد أديت الرسالة أيها الشيخأحسن تأديةٍ فلك الشكر على ذلك! فلم يفهم القسيس غرضه وقال له: لعلك راضٍ عنييا مولاي! قال: نعم كل الرضا! ثم أخذ يخطو في تلك الساحة خطوات واسعةسريعة، ثموقف ورفع رأسه بعظمةٍ وخيلاء، وقد لبس وجهه تلك السحنة العسكرية القاسية، ونظرإلى روكسان نظرةً جامدةً مخيفة، وقال لها بصوت قاسٍ شديد: ودِّعي زوجك يا سيدتي!فذعرت واصفر لونها، وقالت: لماذا؟ قال: لأن فرقة الحرس ستسافر الآن مع بقية فرقالجيش! وأخرج من ثنايا قميصه ذلك الكتاب الذي كان قد فصله عن بقية الكتب منذساعة، ونادى كرستيان بصوتٍ هائلٍ رنان، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: خذ هذا الكتاب وسلمه بنفسك إلى قائد فرقتك! فقالت روكسان: ولكنك كنت وعدتني أن تتخلفهذه الفرقة! فقاطعها وقال لها: قد غيرت رأيي عندما علمت أنك إنما كنت تكيدين ليلا لابن عمك سيرانو، فصمتت وقد نال من نفسها منالًا شديدًا، وملأ قلبها حزنًا وشجنًاأنها لم تكد تلمس بفمها شفة الكأس حتى انتُزعت من يدها، ثم ترامت بين ذراعيزوجها، وظلت تقبِّله وتبكي بكاء مرا، فضمها إلى صدره وظل يبكي لبكائها، فصاحالكونت: حسبكما ذلك فأمامكما ليلة الزفاف، ولعلها قريبة جدا! ثم تركهما وانصرفليصدر بعض أوامره إلى الجيش، وهو يرمي سيرانو بنظرات هائلة لو رمى بها أحدًاغيره لصعق لها، على أن سيرانو كان في شاغلٍ عنه بما كان يُعالجه في أعماق نفسه منالألم الممضعند رؤية تلك القبلات الجميلة المتبادلة بين هذين العاشقين الجميلين، وظليقول في نفسه: يا له من سعيدٍ! ويا لي من شقي! كلانا يحبها، وكلانا يموت وجدًا بها؛ولكنه استطاع — لأنه جميل — أن يلثمها ويقبِّلها؛ ولم أستطع — لأني دميم — أن أنالمنها شيئًا في حياتي أكثر من أن أقبِّل طرف الغصن الذي كانت واضعة يدها على طرفهالآخر من حيث لا تدري، وها هو ذا الآن يضمها إلى صدره ضمَّة الوداع، ويتزود منهاالزاد الذي يعينه على سفره الطويل وشُقَّته البعيدة، أما أنا فكل زادي منها هذه الدمعة التي تترقرق في عيني، ولا أستطيع إرسالها مخافة أن تراها! وهنا دقت طبول الجيشمؤذنةً بالرحيل، فدنا منها سيرانو وقال لكرستيان: حسبكذلك الآن فهيا بنا، فلم ينتبه كرستيان إليه، واستمر في شأنه، فظل يجذبه من يده ويقول:هيا بنا فقد دقت طبول الرحيل. فقال: أمهلني قليلًا يا سيرانو، فإنك لا تعلم ما يصنعالفراق بقلوب العاشقين! قال: أعلم ذلك حق العلم فهيا بنا، فالتفتت إليه روكسان،وقالت له: إني أكِل إليك أمره يا سيرانو، فَعِدْني ألا يهدد حياته شيء! قال: سأجتهدإن شاء لله تعالى، قالت: وَعِدْني أن يكون حذرًا متيقظًا. قال: سأحاول ذلك. قالت: وألايتألم من البرد والصقيع في تلك الأجواء الثلجية الباردة! قال: سأفعل ما في وسعي. قالت:وأن يكون لي وفيا مخلصًا. قال: أظنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك. قالت: وأن يكتب لي دائمًا. قال: أما هذه فأعدك بها!


الفصل الرابع
الميدان

بدأ الفجر يرسل أشعَّته الأولى إلى جوانب الميدان، وكانت فرقة الحرس نائمةً في سفح تل مرتفع يحميها ويحمي مواقعها؛ وكانت قد مرت على الجنود ثلاثة أيام لم يذوقوا طعامًا،ولم يتبلَّغوا بشيءٍ، حتى ساءت حالهم، وشحبت ألوانهم، وخارت قواهم، فاستيقظ أحدهموهو يَتَضَوَّر جوعًا، ويقول: آه! ما أشد ألمي! فاستيقظ بعض رفاقه على صوت أنينهوظلوا يتضورون مثله، فشعر قائدهم بحركتهم، وكان واقفًا على قمة التل ليله كله يتولىحراسة الموقع بنفسه، فانحدر إليهم وقلب نظره في وجوههم، ثم قال لهم: ناموا يا أولاديفالنهار لا يزال بعيدًا! فقال له أحدهم: وكيف لنا بالنوم، وقد أقلق الجوع مضاجعنا،وحال بيننا وبين الغمض؟ فنكس رأسه وصمت، وقد أضمر بين جنبيه لوعةً لا يعلم إلا لله مكانها من أعماق نفسه. وإنهم لكذلك إذْ سمعوا من ناحية العدو بضع طلقاتٍ نارية، فثاروا جميعًا وابتدرواهدِّئوا روعكم يا إخواني والبثوا :« لبريه » سيوفهم فجردوها من أغمادها، فصاح فيهم في أماكنكم، فإن سيرانو قد عاد من رحلته التي اعتاد أن يرحلها سَحَرَ كل ليلة، وأظنأن الأعداء قد لمحوا شبحه من بعيدٍ فأطلقوا عليه بعض المقذوفات، وأرجو ألا يكون قدأصابه منها شيء! فسكن جأشهم وعادوا إلى مضاجعهم، وما هي إلا هُنَيْهَة حتى ظهرسيرانو على قمة التل، فهرع إليه صديقه لبريه متلهفًا وقال له: هل جرحت؟ قال: لا؛لأنهم يخطئونني دائمًا! قال: ولكني أخاف عليك إن أخطئوك اليوم أن يصيبوك غدًا.قال: وماذا أصنع، وقد وعدتها عنه أن يكتب إليها كثيرًا، ولا بد لي من الوفاء بعهدي!قال: إنك لم تخبرني حتى الآن عن الطريقة التي اتخذتها للتنكر والتواري عن عيونالأعداء وأرصادهم قال: لقد اهتديت من زمنٍ إلى مسلكٍ خفي وراء هذا الجبل، لا تنالهأنظارهم، ولا تمتد إليه خواطرهم، فأنا أسلكه برفقٍ وحذر حتى أصل إلى الموضع الذي
الشاعر أجد فيه من يتولى توصيل الكتابٍ إلى روكسان. قال: إذن يمكنك أن تأتينا كل ليلة بشيءٍمن القوت نسد به جوعتنا. قال: ليتني أستطيع ذلك، بل ليتني أستطيع أن أَقُوت نفسي،إننا جئنا هنا لنحاصر الأعداء في أراسَ، فأصبحنا محصورين خارجها، وقد أحاط بناجيش العدو من كل جانب، وأخذ علينا شعاب الأرض، فلا سبيل لنا إلى أي شيءٍ حتىإلى القوت! وأطرق برأسه هُنَيْهَة ثم قال: ولقد وقفت الليلة أثناء عودتي على حركةٍ فيجيش العدو هائلة جدا، ويخيل إليَّ أن الغد يحمل في طياته أعظم حادثة مرت بنا في هذا الميدان، فإما نجا الجيش الفرنسي من مخالب الجوع، أو هلك من أوله إلى آخره! فاصفر وجه لبريه وقال له: قل لي ماذا رأيت؟ قال: لا أستطيع؛ لأني لست علىيقينٍ، فدعني وشأني وأستودعك لله. قال: إلي أين؟ قال: إلى خيمتي لأكتب إلى روكسان رسالة الغد، وربما كانت الرسالة الأخيرة! ثم مشى إلى خيمته ولبريه يتبعه بنظراته الحزينة الدامعة ويقول: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين! الوطن نشرت الشمس رايتها البيضاء في آفاق السماء، فاستيقظ الجنود من نومهم يتألمونمن الجوع ويترنَّحون ضعفًا وإعياءً، فتقدم نحوهم قائدهم، وحاول أن يعزيهم ويهونعليهم آلامهم، وهو إلى التعزية والتهوين أحوج منهم، فلم يأبهوا له، وأخذوا يرمونهبنظرات السخط والغضب، فأمرهم أن يتقلدوا أسلحتهم ويأخذوا أهبتهم، فأعرضوا عنهولم يحفلوا له، ومشى بعضهم إلى بعضٍ يتهامسون ويتغامزون، ومرت بأفواههم كلمةوهي الكلمة الهائلة التي تأتي دائمًا في ترتيب قاموس الحياة بعد كلمة الجوع! ،« الثورة » فانتفض القائد واستطير رعبًا وفزعًا، وهرع إلى خيمة سيرانو فهتف به، فلبَّاه.فقال له: أدرك الجنود يا سيرانو، فقد نال منهم اليأس أو كاد، حتى نطقوا بكلمة الثورةالمخيفة! فخرج إليهم سيرانو، وأخذ يخطو بينهم خطواتٍ هادئة مطمئنة، ويسارقهممن حينٍ إلى حينٍ نظرات العتب والتأنيب، حتى سكنوا وهدءوا، وغضوا أبصارهم حياءًمنه وخجلًا، ثم أخذ يمازحهم ويداعبهم ويَفْتَنُّ في مفاكهتهم ومطايبتهم، حتى سرَّىعنهم بعض ما بهم، فقال له أحدهم: أما في هموم الحياة وآلامها ما يشغلك عن الفكاهةيا سيرانو؟ قال: لا، ولو أن لامرئ أن يختار لنفسه الميتة التي يريدها لاخترت لنفسي أنأموت في ليلةٍ صافية الأديم متلألئة النجوم تحت قبة السماء، بأجمل سلاح وهو السيف، 100
وفي أجمل بقعة وهي الميدان، وأن يكون آخر ما أنطق به ملحةً لطيفةً يتحرك بها فمي في الساعة التي يلمس فيها ذباب السيف قلبي. فلبَّاه جنديٌّ شيخٌ قد أوفى على الستين من عمره. فقال ،« برتراندو » ثم هتف: يا له: أخرِج نَايَكَ من كِيسك، وَغَنِّ لهؤلاء الأطفال الشرهين تلك الأغنية الجاسكونية، التيتذكرهم ببلادهم ومعاهد طفولتهم ومغاني صباهم، فأخذ الرجل يغنيها ويجيد فيتوقيعها، وسيرانو يغني معه، فأطرق الجنود برءوسهم وقد تمثلت لهم بلادهم كأنهاحاضرةٌ بين أيديهم، يرون جبالها ووديانها وغاباتها وأحراشها، ويرون الرعاة السُّمْربقلانسهم الحمراء يسوقون أمامهم قطعان البقر والأغنام، والفتيات الجميلات في أثوابهنالقصيرة حاملات جرارهن على رءوسهن وهن ذاهباتٌ إلى الغدران أو صادرات عنها،فأخذت مدامعهم تتحدَّر على خدودهم، فيمسحونها بأطراف أرديتهم في صمتٍ وسكونٍ.فقال القائد لسيرانو: إنك تُهَيج أشجانهم وتستثير آلامهم بهذه الذكرى. قال: فليبكواوليتألَّموا، علَّهم يتلهَّوْن قليلًا عن آلام الجوع التي يكابدونها، وليت جميع آلامهم تنتقلمن أمعائهم إلى قلوبهم فيستريحوا! قال: إني أخاف على حميَّتهم أن تفتُر وتتضعضع،قال: لا يُخفك ذلك يا سيدي، فإن بكاءَهم على وطنهم الصغير لا ينسيهم واجبهم لوطنهم الكبير، وإن أردت أن تكون على بيِّنة من ذلك فانظر ماذا أصنع، ثم أشار إشارةً خفية إلى حامل الطبل أن يدق طبله دَقة الهجوم، ففعل، فانتفض الجنود من أماكنهم وثارواإلى أسلحتهم يتقلدونها. فقال للقائد: انظر يا سيدي إلى هؤلاء الأطفال الباكين كيفاستحالوا في لحظة واحدة إلى ليوثٍ كواسر، عندما سمعوا نداء وطنهم! ثم التفت إليهم فهدَّأ روعهم وقال: لا عَدِمتكم فرنسا يا أبناء جاسكونيا! وإنهم لكذلك إذ هتف الحارس القائم على رأس التَّلِّ باسم الكونت دي جيش رئيس أركان الحرب، فما سمع الجنودُ اسمه حتى وَجَمُوا وامتعضوا ، وانتشر على وجوههم الألم والانقباض، وأخذ بعضهم يقول لبعض: ما أثقل ظله! ما أسمج وجهه! إنه فاسد الذوق، يلبس الشفوف الرقيقة فوق الدرع، ويلبس الحذاء اللامع في ميدان الحرب؛ ما أكثر تملُّقه! إنه لم ينجح في حياته إلا من طريق المداهنة، حسبه أنه صهر ذلك الرجل الذي يأكل في اليوم أربع أكلاتٍ في الوقت الذي لا نكاد نظفر فيه بأكلةٍ واحدة في الأربعة أيام! وقد سمع حديثهم، وقال لهم: ،« كاربون دي كاستل » فانتهرهم قائدهم ولكن لا تنسوا أنه جاسكوني مثلكم، فقال له أحدهم: نعم، ولكنه جاسكوني عاقل، وما خلق الجاسكوني إلا ليكون مجنونًا!
فقال سيرانو: نصيحتي إليكم يا إخواني أن تتجلدوا أمامه، وتكتموا في أعماق نفوسكم همومكم وآلامكم، ولا تسمحوا له بالشماتة،« بكم، أما أنا فسأجلس هناك قليلًا على هذه الصخرة لأقرأ شيئًا في كتاب دي كارت حتى ينصرف ذلك الرجل لشأنه،
فأسرعوا بمسح آثار الدموع من خدودهم، واستداروا حلقات صغيرة، وأخذوا يلعبون الورق، ويتضاحكون كأنهم لا يشكون هما ولا ألمًا،فدخل
الكونت دي جيش متجهم الوجه مكفهر الجبين، وكان قد سمع آخر حديثهم، وقرأ على وجوههم ما يضمرون له من البغضاء بين جوانحهم، فصاح فيهم: لقد سمعتبأذني بعض ما تقولون أيها الأشقياء، فعلمت أنكم لا تتركون فرصة تمر بكم دون أنتتناولوني بألسنتكم، وتنالوا مني، فتسموني تارةً متملقًا، وأخرى منافقًا، وتعيبوا عليَّحسن هندامي ونظافة ملبسي، كأنما ترون أن الجاسكوني لا يكون صحيح النَّسب إلا إذا تصعلك وتشعَّث، وأصبح من البائسين المفلوكين. وكان يتكلم والجنود مقبلون على ألعابهم يتشاغلون بها كأنهم لا يسمعون ما يقول.فقال لهم وهو يشير إلى قائدهم: ولقد كنت أريد أن آمر قائدكم بمعاقبتكم، ولكنني … فقاطعه القائد وقال له: لو أنَّك فعلت ذلك يا سيدي لما أذعنت لأمرك! فاصفرَّ وجه الكونت وقال: ولماذا؟ قال: لأنني دَفَعت للقيادة العامةضريبة الرئاسة،وهي تجعلني صاحب السلطان المطلق على فرقتي، لا ينازعني فيها منازعٌ ولا أخضعفي أمرها لإرادةٍ غير إرادتي، وبعد، فليس من الرأي أن يحاسب القائد جنوده على الحبوالبغض والرضا والسخط، أو أن يطلب إليهم شيئًا سوى الطاعة والإذعان لأوامره ونواهيه! فوجم الكونت ولم يستطع أن يقول شيئًا، ولكنه التفت إلى الجنود وقال لهم: إنيأحتقركم جميعًا أيها السُّفهاء الثرثارون، وأحتقر مطاعنكم ومغامزكم؛ لأنني أعرف مكانة نفسي، كما أن الناس جميعًا يعرفونها، وأعلم أنني جنديٌّ شريفٌ مقدامٌ لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، وقد رأيتم جميعًا موقفي العظيم في الليلة الماضية، وهجومي بنفسي ثلاث مرات على رجال الكونت الهزيمة التي تعرفونها. دي بكوا حتى ألجأتهم إلى ،« »
وكان سيرانو لا يزال مكبا على كتابه يقرأ فيه؛ فقال له وهو مطرق برأسه لا يرفعه:وما رأيك في وشاحك الأبيض يا سيدي؟ فدهش الكونت واصفرَّ وجهه وقال له: ومن أين لك علم ذلك؟ نعم، وقع لي ليلة أمس أنني بينما كنت أجول في أنحاء الميدان لأجمع رجالي استعدادًا للهجوم الثالث، إذ لمحت فصيلةً صغيرةً من فصائل جيش العدو تتقهقر على مقربة مني، فطمعت فيها واندفعت وراءها اندفاع اليائس المستقتل لا ألوي على شيءٍ مما ورائي، فما هو إلا أن أدركتها وأعملت سيفي في ساقَتِها، حتى رأيتني بعد قليل وسط خطوط جيش العدو الأكبر، وإذا الخطر محدقٌ بي من كل جانبٍ فخفت الأسر، لا من أجل نفسي بل من أجل الجيش الذي أقوده وأدير حركاته، وكان الظلام حالكًا جدا فلا ينم علي شيءٌ سوى ردائي الأبيض، فأسرعت بإلقائه إلى الأرض لأستطيع أن أتوارى عن عيون الأعداء، فيخفى عليهم مكاني، ثم انسللت من بينهم، وغادرت صفوفهم آمنًا مطمئنا، وما هو إلا أن بلغت مأمني حتى جمعت رجالي وكرَرْت عليهم كرةً هائلةً،فكانت الواقعة الثالثة التي أحرزنا فيها ذلك النصر العظيم، فماذا تقولون في هذه الحيلة الغريبة؟
وكان الجنود لا يزالون مكبين على ألعابهم لا يرفعون إليه أنظارهم، يستمعون القصة وكأنهم لا يسمعونها، حتى انتهى منها، فأمسكوا عن اللعب وشخصوا بأبصارهم إلى سيرانو ليروا ماذا يقول.
فقال له: إن هنري الرابع يا سيدي ما كان يرضى لنفسه— مهما كان الخطر المحدق به عظيمًا — أن يتنازل عن ريشته البيضاء لأعدائه! فتهلل الجنود فرحًا وانبسطت أساريرُهم وعادوا إلى جلبتهم وضوضائهم. فقال له الكونت: ذلك لا يعنيني، إنما الذي يعنيني أنني قد حقنت دمي، واستبقيت حياتي لوطني، وسلبت العدو يومًا كان يريد أن يَعُدَّهُ من أيام مجده وفخاره.
قال: أما الفكرة فبديعة جدا لا أرتاب فيها، ولكن الذي أعلمه أن الجندي ما خلق إلا ليموت، فمن العار أن يخسر هذا الشرف بأي ثمنٍ كان، وأقسم لك يا سيدي أنني لو كنت حاضرًا معك في تلك الساعة ما هان عليَّ أن أرى وشاحك العظيم في يد أعدائك دون أن أقاتل عنه حتى أفتديه ولو بحياتي.
قال: قسم ضائعٌ لا قيمة له؛ لأنك لم تكن معي! قال: بل كنت معك يا سيدي، وقاتلت عن وشاحك حتى استنقذته من يد أعدائك، وها هو ذا.
ومد يده إلى جيبه فاستخرج منه الوشاح وألقَى به بين يديه، فاربدَّ وجه الكونت وانتفض غيظًا، وألقى على سيرانو وعلى الجنود نظرةً شزراء ملتهبة، وقال لهم: أتدرون ماذا أصنع الآن بهذا الوشاح؟ قالوا: لا.
قال: سألوِّح به في الجو تلويحًا لا يسركم ولا يهنؤكم، وصعد إلى التل ولوح به ثلاث مراتٍ في الهواء، والجنود يعجبون لأمره ولا يدرون ماذا يريد، ثم نزل وهو يقول: أمَا وقد انقضى كل شيء، فسأفضي إليكم بسر من أسرار الحرب ما زلت أكتمه في صدري حتى حان وقته، فاستمعوه: لقد اتفقت منذ أيامٍ مع جاسوس من جواسيس العدو على أن يكون عونًا لي على قومه فيما أريد، وأن يكون مخلصًا لي مؤتمرًا بأمري …
فقاطعه سيرانو وقال له: ولكنك تصطنع رجلًا خائنًا يا مولاي.
قال: ومن أصطنع إن لم أصطنع الخائنين؟ فهو يدلني على مَقَاتِل قومه وعوراتهم ومكامن أسرارهم، من حيث لا يدلهم على شيء إلا على ما أريد أن يدلهم عليه،أي إنه يخدعهم ويضللهم من حيث يظنون أنه ينصحهم ويصدقهم، وقد جمع قائدنا العام مجلسه الحربي صباح أمس، ونظر في كارثة الجوع التي نزلت بنا، فاستقر الرأي ليجلب ؛« » على أن يسافر هو بنفسه خلسةً على رأس فرقتين من فرق الجيش إلى أورلنس منها المئونة والذخيرة، فسافر من حيث لا يشعر العدو بمكانه، وترك بقية الجيش هدفًا للهجوم العام.
فقال له كاربون: أخاف أن يعلم العدو بذلك فيكون الخطب عظيمًا، قال:قد علم فعلًا وهو يتأهب منذ الأمس لمهاجمتنا! فهمس سيرانو في أذن لبريه: ذلك ما حدثتك عنه صباح اليوم، واستمر الكونت يقول: وقد بعثوا جاسوسهم هذا ليتفقد لهم خطوط جيشنا، ويدلهم على أضعف نقطة فيها ليهاجموها، فاتفقت معه على أن يدلهم على النقطة التي أريدها وأعطيه الإشارة منها، مضمرًا في نفسي أن أغريهم بالهجوم على أقوى فرقة في الجيش؛ لتستطيع مشاغلتهم ومطاولتهم زمنًا طويلًا حتى يتمكن قائدنا من العودة بجيشه إلى مركزه آمنًا سالمًا، ولما كانت فرقتكم هي أقوى فرق الجيش وأمضاها عزمًا، وأصلبها عودًا، فقد رأيت أن أجعلها هدف ذلك الهجوم، وإن كنت أعلم أنها ستموت عن آخرها، وقد كنت أمرت ذلك الجاسوس أن يقف وراء هذا التل؛ لينتظر إشارتي فيذهب بها، وها أنتم أولاء ترون أنني قد أعطيته إياها بخفقة ذلك الوشاح، فاستعدوا للموت، فقد انقضى كل شيء.
فقال له سيرانو: أهذا كل انتقامك يا سيدي؟ إنك قد أحسنت إلينا من حيث أردت إساءتنا، فالجاسكوني لا يخاف الموت، بل يخاف الحياة مع الذل والعار! قال: ما شككت في شجاعتك قط يا سيرانو، فإن من يقاتل مائة رجلٍ وحده فيغلبهم لا يبالي بخطرٍ مهما عظم شأنه!
ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: لا أكتمكم أنني كنت أستطيع أن أختار لاستقبال هذه النازلة فرقةً أقل شجاعة من فرقتكم، لو أنني أحببتكم ورضيت عنكم وحمدت عشرتكم وسيرتكم، أما الآن فقد استطعت بعملٍ واحدٍ أن أؤَُدي واجبي وأشفي غليلي!
فقال له سيرانو: وشيءٌ آخر يا سيدي. قال: وما هو؟ فمشى نحوه خطوةً وأسرَّ في أذنه: أن تترمل روكسان! فارتعد الكونت ونكس رأسه وتسلل من مكانه دون أن يقول شيئًا.
فالتفت سيرانو إلى الجنود وقال لهم: لقد آن أيها الأصدقاء أن نضع على شعار جاسكونيا ذي الألوان الستة، لونًا دمويا أحمر كان ينقصه ليكون أجمل شعارٍ في العالم، فكونوا عند ظنِّي وظن فرنسا بكم، واعلموا أنه ما من ميتة في العالم أفخر ولا أمجد من هذه الميتة التي ستموتونها اليوم!
فهتفوا جميعًا بحياة جاسكونيا وحياة فرنسا، وابتدروا أسلحتهم يشحذونها ويصقلونها. الدمعة والتفت سيرانو فرأى كرستيان واقفًا وراءه مطرقًا جامدًا، وقد انتشرت على وجهه غبرةٌ سوداء من الحزن، فتقدم نحوه وقال له: أخائفٌ أنت يا كرستيان؟
قال: لا، بل حزينٌ لأني سأفارقها، فانتفض سيرانو عند سماع كلمة الفراق، ووضع يده على قلبه، ورفع عينيه إلى السماء، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئًا، وصمت هُنَيْهَةً ثم قال له: هون عليك الأمر يا صديقي، فرحمة الله أوسع من أن تضيق بنا.
فقال: كنت أريد على الأقل أن أكتب لها كتاب وداعٍ أبثها فيه خواطر نفسي ولواعجها في ساعتي الأخيرة. قال: لقد حدثتني نفسي ليلة الأمس — ولا أعلم كيف كان ذلك — بهذا المصير الذي سنصير إليه الآن، وأن هذا اليوم هو آخر أيامنا على وجه الأرض، فكتبت إليها على لسانك الكتاب الذي تريده،وسأبعث به إليها الآن.
قال: أرنيه. قال: ها هو ذا، وأخرج الكتاب من جيبه فأعطاه إياه، فأخذ يقرؤه حتى وصل إلى سطرٍ من سطوره الأخيرة، فتوقف ذاهلًا مدهوشًا وقال:غريبٌ جدا! ما هذا الذي أرى؟ قال: ماذا؟ قال: نقطةٌ بيضاء على الورق كأنها دمعة! فاختطف سيرانو الكتاب من يده وقال: أرني، وظل يتأمل فيه مصعدًا منحدرًا كأنه يفتش عن النقطة فلا يراها.
فقال له كرستيان: إنها دمعةٌ يا سيرانو ما في ذلك ريب ولا شك، فهل كنت تبكي؟
فانتفض، إلا أنه تجلد وتماسك وقال: نعم! قال: وما الذي أبكاك؟
قال: ذلك شأن الشعراء دائمًا، لا يتناولون موضوعًا من الموضوعات المحزنة للكتابة فيه عن لسان غيرهم، حتى يتأثروا به كأنهم أبطاله، وأصحاب الشأن فيه، ولقد بدأت في كتابة هذا الكتاب، وأنت ماثلٌ في ذهني لا تفارقه، فما زال يمتد بي الخيال ويطير بي في أجوائه، حتى تمثل لي أنني أنا الحزين المتألم والمفارق المفجوع، وأن الذي أصفه إنما هي هموم نفسي وآلامها، فانحدرت من عيني بالرغم مني هذه الدمعة التي تراها!
فنظر إليه كرستيان نظرة غريبة، واختطف الكتاب من يده، وقال له: دعه معي الآن! ثم طواه ووضعه في ثنايا قميصه وانصرف.

جواز المرور

وقامت في هذه اللحظة ضجةٌ في المعسكر، وسُمِعَتْ أجراس مركبةٍ قادمة من بعيد،وصائح يصيح من رجال الحرس بصوتٍ غليظٍ أجش: من القادم؟ فصعد سيرانووكرستيان وبعضرجال الحرس إلى التل لينظروا ماذا جرى، فرأوا مركبةً مقفلة جميلةتحمل شارة من شارات الشرف، ويجلس بجانب حُوذيِّها غلامان حسنا الزي والهندام،فما شك الجميع في أنها قادمة من باريس، وأن راكبها رسولٌ من قبل الملك يحمل أمرًامن أوامره؛ فاصطفوا صفين متقابلين، وسكنوا سكونًا عميقًا لا حسَّ فيه ولا حركة،حتى وقفت المركبة على مقربة منهم، فأتلعوا إليها أعناقهم وشخصوا بأبصارهم لينظروامن القادم، ثم فتح بابها فإذا سيدة باهرة الجمال مشرقة الطلعة قد وثبت منها وثبةالجُؤْذُر من خميلته؛ فصاح سيرانو وكرستيان معًا بصوتٍ واحدٍ: روكسان! وكانت كمايقولون، فصعدت إلى التل بخفَّةٍ ورشاقة حتى بلغت قمته، وقالت: صباح الخير أيهاالأصدقاء، لعلكم جميعًا بخير! فرفع الجنود قبعاتهم وأحنوا رءوسهم وعقدوا حولهانطاقًا منهم ومن أنظارهم، وظلوا باهتين لمرآها ذاهلين، وكأنما أدركهم الخجل منهالرثاثة ملابسهم وتشعُّث هيئاتهم، فظلوا يمسحون لحاهم، ويفتلون شواربهم ويقلِّبونالنظر في أعطافهم؛ ليروا هل لصق بها أو خالطها ما تقذى به عيون السيدات الجميلات،ومرت بهم روكسان في مواقفهم تحييهم واحدًا فواحدًا بابتساماتها اللامعة المتلألئة،وكلماتها العذبة الجميلة، حتى بلغت موقف كرستيان، فألقت نفسها بين ذراعيه. فقاللها وهو ذاهلٌ مدهوش: ما الذي جاء بك يا روكسان؟ قالت: أنت الذي جئت بي يا زوجي العزيز. وكان سيرانو واقفًا مذ رآها وراء إحدى الربوات موقف الذَّاهل المشدوه، يرعدويضطرب ويغالب في نفسه ثورةً هائلةً تتوثب نارها بين أضالعه، ثم ما لبث أنسمع صوتها تناديه، فانتبه من غشيته وتقدم نحوها، وانحنى بين يديها، فابتسمت لهوصافحته مصافحةً طويلةً وقالت له: لعلك بخير يا ابن عمي! قال: نعم، وأشكر لكتفضلك بزيارتنا، وإن كنت أرجو أن تكون زيارةً قصيرةً! قالت: لماذا؟ قال: لأننا في ميدانحربٍ وأخشى أن يصيبك من شرها شيءٌ! قالت: بل سأبقى معكم أطول مما تظنون،فأعدوا لي مقعدًا أجلس عليه، فابتدر الجنود تلبية أمرها، ولم يبقَ بينهم حامل طبلأو صاحب صندوق إلا قدمه إليها، فجلست وهي تقول: ما أطول المسافة بين باريسوأراس، لقد كنت أظنها أقصر من ذلك، ولقد مررت في طريقي ببلاد شملها الخراب 1والدمار، ورأيت بعيني منظر الجائعين والمتألمين والصارخين، وما كنت أحب الحرب تنالمن الإنسانية هذا المنال العظيم، والحق أقول يا أصدقائي: إن العاطفة التي جاءت بيإلى هنا أجمل وأرق من العاطفة التي جاءت بكم، فكم بين من يأتي ليُقبل حبيبه، ومنيأتي ليقتل عدوه؟! والتفتت إلى كرستيان، وقالت له: أليس كذلك يا زوجي العزيز؟قال: بلى. فقال لها سيرانو: ولكن كيف استطعت اختراق خطوط العدُو، وتجشُّم هذهالمخاطر كلها، قالت: لقد كان ذلك سهلًا جدا يا ابن عمي، واسمحوا لي أيها الأصدقاءأن أقول لكم: إن أعداءكم الإسبانيين قومٌ ظرفاء أرقَّاء، لم تسمح لهم شهامتهم وشرفنفوسهم أن يطلقوا النار على امرأةٍ عزلاء، فلقد كنت كلما مررت بحارسٍ من حراسهمفتحت نافذة مركبتي وأشرفت عليه، وابتسمت في وجهه ابتسامةً لطيفةً، فلا يلبث أنجواز » يستقبلني بمثلها، ويتنحى لي عن طريقي، فأمضيفي سبيلي، فكانت الابتسامة هي الذي فتح لي جميع الأبواب الموصدة أمامي، حتى وصلت إلى هنا. قال: ألم يسألك « المرور أحد عن وجهتك التي تقصدينها؟ قالت: كان إذا سألني أحدهم قلت له: إنني ذاهبةلرؤية عشيقي! فتقع هذه الكلمة العذبة الجميلة من نفسه موقع الماء من مهجة الظامئالهيمان، فيبشُّ في وجهي ويحييني بإحناء رأسه ويتركني وشأني، فقاطعها كرستيانوقال لها: ولكنني لست بعشيقك يا سيدتي، بل زوجك. قالت: ما ارتبت في ذلك قط يازوجي العزيز، ولكن كلمة العشيق تنال من نفس العاشق المفارق — وكلكم ذلك الرجل — ما لا تنال منها كلمة الزوج، فسامحني واغفر لي ذنبي. وهنا دخل الكونت دي جيش رئيس أركان حرب الجيش، فرأى روكسان واقفةًموقفها هذا بين الجنود، فدهش دهشةً عظيمة إذ رآها، ودنا منها فحياها وقال لها:ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيدتي؟ قالت: جئت لأرى زوجي؛ لأنني لم أتمتع برؤيتهبعد زواجي منه إلا تلك اللحظة القصيرة التي تعلمها، فاربدَّ وجهه غيظًا وقال لها: لقدأخطأت بعملك هذا خطأً عظيمًا، وليس من الرأي أن تلبثي هنا بعد الآن لحظةً واحدة،فأعدي عدتك للرجوع من حيث أتيت، قالت: لماذا؟ قال: لأن المعركة ستدور بعد ساعة أوساعتين، ولا مكان للنساء في ميادين الحروب. فقال كرستيان: وسنموت في تلك المعركةيا سيدتي عن آخرنا؛ لأن الكونت أراد ذلك، فذعرت روكسان واصفر وجهها، والتفتتإلى الكونت وقالت له: أصحيحٌ ما يقول يا سيدي؟ إنك إذن تريد أن أصبح أرملة. قال:لا، وأقسم لك. قالت: ألا تعلم أنه إذا قُدِّر لي هذا المصير كان ذلك آخر عهدي بالدنياونعيمها، واستحال على عين الشمس أن تراني بعد اليوم، إلا إذا استطاعت أن تخترق بأشعتها صفائح القبور! قال: أقسم لك يا سيدتي أنني …
فقاطعته وقالت: كيفما كانالأمر فمحالٌ أن أغادر هذا المكان؛ لأنني أريد أن أموت مع أبناء وطني، فهتف سيرانوبصوتٍ عالٍ: لقد نطقْتِ بكلمة الأبطال يا سيدتي فأهنئك، فابتسمتْ وقالت: ذلك لأنني ابنة عمك يا سيرانو، فصاح الجنود جميعًا بصوتٍ واحدٍ: سنُدافع عنك يا سيدتي إلى الموت.
قالت: شكرًا لكم يا أصدقائي، ذلك أملي فيكم، وفي الدم الجاسكوني الذي يجري في عروقكم، فتقدم نحوها قائد الفرقة كاربون وانحنى بين يديها، وقال لها: أما وقد أصبحت شريكتنا في حظنا ومصيرنا فائذني لي أن ألجأ إليك في طلبةٍ واحدة.
قالت: وما هي؟ قال: أن تفتحي يدك القابضة على هذا المنديل الحريري الجميل. فلم تفهم ما يريد،
ولكنها فتحت يدها فسقط المنديل على الأرض، فالتقطه وقال لها: إنَّ فرقتي يا سيدتي ليست لها رايةٌ، وسيكون منديلك هذا رايتها التي تقاتل في ظلها، واعلمي أن جنوديسيموتون جميعًا دفاعًا عن الراية التي قدمتها لهم أجمل فتاةٍ في فرنسا! ثم عقد المنديلبسنان رمحه الطويل، وركزه على قمَّة التل؛ فظلت الريح تعبث به، وظل الجنود ينظرون إليه نظر السائر إلى نجمة القطب الخافقة في كبد السماء. الوليمة فالتفتت روكسان إلى الجنود باسمةً وقالت: ألا تقدمون لي شيئًا من طعامكم وشرابكمأيها الإخوان، فإني أكاد أموت جوعًا! فنظر القوم بعضهم إلى بعضٍ، وقد مشت فيوجوههم صفرة الموت، ودهمهم من الأمر ما لم يكن يخطر لهم ببال، فشعرت روكسانلنتناول ؛« راجنو » بحيرتهم واضطرابهم، فابتسمت وقالت: أو قوموا بنا جميعًا إلى مطعم عنده من الطعام ما نريد، فقال لها أحدهم: إنك تهزئين بنا يا سيدتي، فأين نحن منراجنو ومطعمه؟ قالت: إذن لا أستطيع أن أتصوَّر كيف يكون سروركم واغتباطكم، إذا علمتم أنني قد نقلت لكم هذا المطعم وصاحبه من باريس إلى هنا؟ وتركتهم ذاهلين مدهوشين لكلامها، وصعدت إلى التل وصاحت: راجنو! راجنو!هاتِ لنا غداءنا، فما أتمت كلمتها حتى أقبل راجنو، والغلامان الخادمان يحملون علىأيديهم سلال الخبز، وصناديق الخمر، وأفخاذ اللحم الناضجة، وأنواع الفطائر والحلوى،فهتف الجنود: راجنو، راجنو! وداروا به يحيُّونه ويعتنقونه، ويجاذبونه أثوابه، فصاحفيهم: دعوني أيها الكسالى، واذهبوا إلى المركبة واحملوا الطعام الذي جئناكم به بأنفسكم،فحسبنا ما حملنا لكم، فهرعوا إلى المركبة وعادوا بما بقي فيها من لحم وخمر وحلوى
وفاكهة، فرحين مغتبطين، وهم يقولون: كيف غفلت عيون الأعداءِ يا راجنو عن هذا الطعام الشهي؟ قال: لأن عيون روكسان الجميلة كانت أشهَى إليهم منه. وما هي إلا هُنَيْهَة حتى استداروا حلقاتٍ واسعةً وأنشئوا يأكلون ويقصفون،وروكسان قائمةٌ في خدمتهم؛ تقدم لهذا كأسًا، ولهذا رغيفًا، ولهذا سكينًا، ومدامعهاتتلألأ في عينيها رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، وسيرانو واقفٌ ناحية ينظر إليها نظرةالسرور والغبطة، ويردد بينه وبين نفسه: يا ملاك الرحمة والإحسان! يا أجمل نسمةطاهرة على وجه الأرض! يا نفسًا نفية صافية لم يخلق لله لها مثالًا بين نفوس البشر!حسبي منك أن أراك، وأن ينفذ شعاعٌ من أشعة جمالك إلى قلبي المظلم الحالم، فيضيء ظلمته ويشرق في جوانبه. وإنهم لكذلك إذ سمعوا صوت الكونت دي جيش مقبلًا من بعيد. فقال بعضهملبعض: محال أن ينال هذا الرجل البغيض لقمةً واحدة من طعامنا، فلنطوِ عنه كلشيء حتى ينصرف لشأنه! وما هي إلا كرة الطرف حتى اختفى كل شيءٍ في ثنايامعاطفهم وفروج أكمامهم، ووراء صناديقهم، ثم دخل الكونت وهو يقول: ما هذهالرائحة الجديدة؟ فصمت الجنود ولم يقولوا شيئًا، فظل يقلب النظر في وجوههم فيرىالحمرة التي سرت فيها من حرارة الغذاء ونشوة الشراب، فيعجب لها عجبًا شديدًا؛ثم قال: ما لي أراكم منتعشين متهلِّلين، وعهدي بكم قبل هذه اللحظة تتهافتون جوعًا،وتتساقطون ضعفًا وإعياءً! فقال له سيرانو: إنها صحوة الموت يا سيدي! فأشاح بوجههعنه، والتفت إلى روكسان، وقال لها: أباقيةٌ أنت هنا حتى الآن يا سيدتي؟ قالت: نعم،وما أنا ببارحةٍ هذا المكان حتى أعود بكم أو أموت معكم! فأطرق هُنَيْهَة ثم رفع رأسهوهتف بكاربون، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: إنك ستدير المعركة المقبلة بالنيابةعني يا حضرة القائد. قال: وأنت يا سيدي؟ قال: أما أنا فباقٍ هنا لأدافع عن روكسانبنفسي؛ لأني لا أستطيع أن أترك امرأةً في خطرٍ، فأكبر القوم جميعًا هذه الشهامة الكبرىوالعظمة النفسية، وهمس بعضهم في أذن بعض: إن الرجل لا يزال يجري في عروقهالدم الجاسكوني! فقال لهم سيرانو: إذن يمكننا أن نقدم إليه شيئًا من طعامنا وشرابنا،فاندفعوا جميعًا نحوه ومدوا إليه إيديهم بما معهم من الطعام والشراب، فألقى عليهمنظرة عالية مترفعة، وقال لهم: نعم، إنني أموت جوعًا وَسَغَبًا، ولكن الجاسكوني الشريفلا يأكل فضلات طعام غيره، فصاح سيرانو: شهامة أخرى أيها الأصدقاء لا تنسوها له!وهتف: ليحيَ الكونت دي جيش! فهتف الجند بهتافه، فشكرهم الكونت بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يخطب فيهم خطبة الحرب، ويلقي عليهم الأوامر العسكرية، حتى قال لهم، وهويشير إلى مدفعٍ جاثم بين يديه: إنكم ما تعودتم إطلاق المدافع قبل اليوم، فاعلموا أن المدفعيتراجع بشدةٍ عند خروج القذيفة منه، فكونوا على بينة من ذلك واحذروه، فصاح أحدهمبصوت عال: إن مدفع الجاسكونيين مثلهم يا سيدي لا يتراجع أبدًا! فابتسم له وشكره،وقال: لا يخيبن أملي فيكم يا أبناء وطني، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: تعالي معييا سيدتي لتشاهدي منظر استعراضالجيش، فأعطته يدها فصعدا معًا إلى قمة التل. وما أبعد إلا قليلًا حتى مشى سيرانو إلى كرستيان، وقال له همسًا: كلمة واحدة أريدأن أقولها لك يا سيدي، فامشِ معي قليلًا، فمشى معه فقال له: ربما فاتحتك روكسانفي شأن الرسائل التي كانت ترد عليها منك، وستقول لك إنها كانت تتلقى منك كل يومٍرسالةً؛ فلا يدهشك ذلك، ولا ترتبك لئلا يفتضح الأمر. قال: وهل كنت تكتب إليها كليوم؟ قال: نعم؛ لأنني تعهدت لها عنك قبل سفرنا — كما تعلم — أن تكتب إليها كثيرًا،فلم أرَ بدا من الوفاء، وما كان يكلفني ذلك أكثر من التعبير عن شعورك وخوالج نفسك،وذلك ما لا ينقصني العلم به، فإذا فاتحتك في هذا الشأن فلا يكن لك فيه قولٌ غير الذيقلت لك. قال: وكيف كنت تستطيع توصيل هذه الرسائل إليها وقد حصرنا العدو منكل جانبٍ وذادنا عن كل شيء، حتى عن طعامنا وشرابنا؟ قال: الأمر بسيط جدا: كنت أخرج في سَحَر كل ليلة متنكرًا تحت جنح الظلام، فأكمن تارةً وأظهر أخرى … فقاطعه كرستيان وقال له: وهل هذا بسيط جدا، الحقَّ أقول لك يا صديقي: إننيأصبحت أعجب لأمرك كثيرًا، ولئن استطعت أن أفهم كل شيء فإنني لا أستطيع أن أفهم اهتمامك بهذا الأمر هذا الاهتمام كله إلى درجة المخاطرة بحياتك في سبيله. قال: ما في الأمر مخاطرة ولا مجازفة، فقد كان يلذُّ لي كثيرًا أن أقوم لك بهذه الخدمة،وأن ألاقي ما ألاقي من الأخطار في سبيلها. قال: وما الذي كان يعجبك من ذلك؟ قال:التمثيل. قال: أي تمثيل؟ قال: تمثيل عواطفك وشعورك، فإنني مذ أخذت نفسي بتمثيلدورك في هذه المأساة المحزنة لم يزل يستهويني التمثيل ويُهيمن على نفسي، حتى أصبحتأتخيل أنني صاحب الدور الذي أمثله، وأنني أنا المعنيُّ دونك بكتابة هذه الرسائل،والعناية بها والتذرع بكل وسيلة إلى توصيلها إليها. قال: وهل تبلغ لذة التمثيل بامرئٍ،هذه المبالغ كلها؟ قال: نعم، وكثيرًا ما ذرف الممثلون دموعًا لم يذرفها العاشقون أنفسهم. ثم التفت فرأى روكسان مقبلةً فقال له: قد فهمت الآن كل شيءٍ، فكن حكيمًا حازمًا. ثم تسلل إلى خيمته، وتركه واقفًا مكانه.
حقيقة الجمال قال كرستيان لروكسان وقد جلسا معًا على بعض المقاعد: هل لك أن تحدثيني ياروكسان: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فإنني لا أزال أعجب لأمرك كل العجب، ولا أكادأصدق أن الحب يُجَشِّم صاحبه هذه الأخطار التي جشمتها نفسك في سبيله. قالت: لقدسحرتني وملكت عليَّ لبي رسائلك العذبة الجميلة التي كنت ترسلها إليَّ صبيحة كليومٍ وتُودِعها شعور قلبك، وهواجس نفسك، وتكتبها بتلك اللغة الغريبة المؤثرة التي لولامست الصخر الأصم لانفجر وتناثرت شظاياه في أجواز الفضاء، وقد حاولت كثيرًا أنأَثْبُت لها وأقاوم تأثيرها على نفسي بكل سبيل، فغلبتني على أمري وقادتني إليك كما تراني. قال: أمن أجل بضع رسائل بسيطة …؟ فقاطعته وقالت: لا تقل بسيطة، بل هي الوحي الإلهي الذي ينزل على نفوسالملهمين من البشر، بل هي القوة الغيبية التي تهيمن على العالم، وتُحيط به من جميعأقطاره دون أن يدرك أحدٌ مكانها أو يعرف مَأْتَاها، ولقد كان يُخيل إليَّ وأنا أقرؤها أننيأرى صورتك فيها، كما يرى الناظر صورة البدر من وراء السحب الرقيقة، فأهُْوِي إليها بفمي لأقبلها، فإذا أنا أقبل السطور والكلمات! فأطرق كرستيان برأسه، وقد ألم بنفسه من الهم والكمد ما لله عالم به، واستمرتروكسان في حديثها تقول: إنني ما أحببتك يا كرستيان حبا صادقًا متغلغلًا في أعماقنفسي إلا منذ تلك الليلة التي رأيتك فيها واقفًا تحت شرفتي تناجيني نجاء عذبًا رقيقًابتلك النغمة الرقيقة المؤثِّرة، وتفضيإليَّ بذات نفسك، كأنك قد ألمستني فؤادك، ووضعتيدي على قلبك، ثم توالت عليَّ رسائلك بعد ذلك، فكنت أسمع فيها دائمًا تلك النغمةالموسيقية الخلابة، وكأنك لا تزال واقفًا أمامشرفتي تناجيني فلا أستطيع أن أملك نفسيتلك « عولس » وردت عليها من زوجها « بينيلوب » دون البكاء والحنين، وأقسم لك لو أن الرسائل التي وردت عليَّ منك لما أطاقت صبرًا على فراقه، ولألقت بنسيجها الذي عرفت به في التاريخ، وذهبت تفتش عنه بين سمع الأرضوبصرها حتى تلقاه. فقال ونفسه تذُوب حسرةً وكمدًا: ما كنت أقدِّر يا روكسان أن تلك الرسائل الصغيرةتبلغ من نفسك هذه المبالغ كلها. قالت: لقد كان سلطانها على نفسي عظيمًا جدا، وكنتأعيد قراءتها مراتٍ كثيرةٍ، حتى تتشربها نفسي وتتمثلها روحي، وحتى كان يخيل إليَّ
أن كل كلمةٍ من كلماتها ورقة تطير إليَّ من أوراق روحك، فما لبثت أن شعرت أنني قدأصبحت ملكًا لك، وأسيرةً في يديك، وأن أمر نفسي قد خرج من يدي، فلا حول لي فيه ولا حيلة. فاكتأب كرستيان وتقبض وجهه، وقال لها: أهذا كل ما جاء بك إلى هنا؟ قالت:نعم، جئت لأستغفرك من ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، فقد أحببتك لأول عهدي بكلجمالك ورونقك وقسامة وجهك، كأن الجمال هو كل فضائلك ومزاياك، فأهنتك بذلكإهانةً عظمى، أما الآن فإني أجثو بين يديك، لا بجسمي — فإنك لا تلبث أن ترفعنيبيدك — بل بروحي التي لا يمكنك أن تغير مكانها منك أبدًا، طالبةً صفحك وعفوك عنتلك الجريمة التي اقترفتها، وما أحسبك تضن عليَّ بذلك في هذه الساعة التي نقف فيها جميعًا على أبواب الأبدية، ونودع فيها الحياة الوداع الأخير. فانتفض كرستيان وشخص في وجهها ساعة، ثم قال لها: هذا شأنك في الماضي، ثمماذا كان بعد ذلك؟ قالت: كنت بعد ذلك أكثر تعقلًا وَرَوِيَّةً، وأبعد فكرًا ونظرًا، فامتزجفي نظري جمال صورتك بجمال نفسك، فاستحالتا إلى صورةٍ واحدة فأحببتها. قال:والآن؟ قالت: أما الآن فقد انتصرتْ نفسُك عليك انتصارًا عظيمًا، فأصبحت لا أحب منك سواها، ولا أشعر بسلطانٍ لغيرها على قلبي. فاصفر وجهه اصفرارًا شديدًا، وأطرق برأسه، وظل يقول بينه وبين نفسه: إنها ما أحبتني في حياتها لحظة واحدة! واستمرت هي في حديثها تقول: فَلْيُهْنِكَ ذلك الحب الثمين يا زوجي العزيز، فإنأسعد الناس حالًا في هذه الحياة، وأحظاهم بنعمة العيش فيها أولئك الذين منحهم للهنفسًا جميلة شعرية تتعشقها القلوب، وتتشربها النفوس، وتهفو لها الأحلام، وتقوملهم في كل موقفٍ ومقامٍ مقام الجمال الجثماني إن فاتهم، أو نزلت به كارثةٌ منكوارث الدهر، وما الجمال الجثماني إلا سحابة رقيقة تطير بها برودة الهواء، أو هضبةثلجية تذيبها حرارة الشمس، وما أحبَّ المحبون قط في الصور الجميلة جمالها ورونقها،بل جمال النفوس الكامنة في طياتها؛ ولا أبغض المبغضون في الصور الدميمة قبحهاودمامتها، بل قبح النفوس المستكِنَّة فيها، فإذا اختلف العنوان عن الكتاب في إحدىالحالتين كان الفوز العظيم للجمال النفسي على صاحبه، وإني أعترف لك يا كرستيانبأني ما أحببتك عند النظرة الأولى إلا لجمالك؛ لأني ما كنت أرى في سماء حياتك كوكبًامشرقًا سواه، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذ ذلك الكوكب يتضاءل أمام عيني شيئًا
فشيئًا بجانب تلك الأشعة الباهرة، التي كانت تتدفق من ينبوع نفسك الجياشة الفياضة، حتى أصبحت لا أراه ولا أشعر به. فازداد اضطرابه واصفراره، وظل ينظر إليها نظرًا غريبًا حائرًا. فقالت له: ما ليأراك حزينًا مكتئبًا، كأنك في شك من هذا الانتصار العظيم الذي تم لنفسك عليك؟ فنظرإليها نظرةً ساكنةً جامدةً، ثم قال: اسمعى يا روكسان، إنني لا أحفل بهذا الحب ولاأغتبط به، ولا أريد إلا أن تنظري إليَّ دائمًا بتلك العين التي نظرت بها إلي لأول عهدك بي.قالت: إني أعجب لأمرك كثيرًا يا كرستيان، فإن الحب الذي تؤثره وتغتبط به حبٌّ تافهٌ لاقيمة له ولا ثبات لظله، أما الآن فإني أحبك لصفاتك الكريمة النادرة التي قلما اجتمعتلمخلوقٍ سواك: أحبك لذكائك الخارق، وفطنتك النادرة، وشرف عواطفك، ورقة شعورك،ولطف حسك، وسعة خيالك، وذلك البيان الرائق الصافي الذي يشفُّ عن جوهر نفسكشفوف الغدير الساكن عن لآلئه وجواهره، أحبك من أجل ذلك كله حبا ثابتًا راسخًالا تعبث به صروف الدهر، ولا تنال منه عاديات الأيام، حتى لو استحالت صورتك إلى صورةٍ أخرى غيرها لما نقص حبي إياك ذرةً واحدة! فارتعد كرستيان وشعر أن نفسه قد بدأت تتسرب من بين جنبيه، فمدَّ يده إليهاضارعًا وقال: الرحمة يا روكسان! قالت: بل لو ذهب جمالك بحادثة من حوادث القضاء، فأصبحت بشع الصورة دميم الخلقة … فقاطعها وصاح: دميم الخلقة؟ قالت: نعم، وأقسم لك على ذلك يا زوجي العزيز، ويا أحب الناس إلي. فظل يرتعد ويضطرب اضطرابًا خُيِّل إليها أنه نشوة الحب وسكرة السرور. فقالتله: أسعيد أنت الآن يا كرستيان؟ فنظر إليها نظرةً غريبةً لا يعلم إلا لله ما يكمن وراءها،وقال: نعم سعيدٌ جدا، ومن هو أولى بالسعادة مني؟ ونهض قائمًا يريد الانصراف.فقالت له: إلى أين؟ قال: لم يبقَ بيننا وبين المعركة إلا لحظات قليلة، ولا بد أن يكون هذاآخر اجتماع لنا، فالوداع يا روكسان وداعًا لا لقاء بعده! فاضطربت وقالت: ولِمَ يغلبيأسُك على رجائك، ورحمة لله أوسع من أن تضيق بك؟ قال: إن السعادة أضن بنفسها من أن تثبت زمنًا طويلًا في مكانٍ واحد! فالوداع يا روكسان! وأخذ يبتعد عنها شيئًا فشيئًا دون أن يضع يده في يدها أو يقبلها قبلة الوداع،فمشت وراءه وهي تعجب لأمره وتقول: ما بالك يا كرستيان؟ قف قليلًا لأقول لك كلمةًواحدة ثم اصنع ما شئت، إنك لم تفهم غرضي! وأقسم لك أنك لو فهمته لعلمت أنني
أحببتُك حبا ما أحبَّه أحدٌ من قبلي أحدًا. قال: حسبك يا روكسان وعودي إلى هؤلاء الجنودالمساكين البائسين، فإنهم يفكرون في مثل ما أفكِّر فيه، ويودِّعون الحياة كما أودِّعها،فاذهبي إليهم، واجلسي بينهم قليلًا، وعزيهم بابتساماتك العذبة الجميلة عن همومهم وآلامهم، أما أنا فذاهبٌ لقضاء بعض الشئون، وربما عدت إليك بعد قليل. ثم اختفى عن نظرها. المكاشفة دخل كرستيان على سيرانو في خيمته شاحب اللون، مكفهر الجبين. فقال له سيرانو:ماذا بك يا صديقي؟ قال: إنها حدثتني الآن حديثًا طويلًا علمت منه أنها لا تحبني، بلما أحبتني قط في يوم من أيام حياتها! قال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: وأقول أيضًا إنها تحبك أنت، ولا تحب في الدنيا أحدًا سواك. فانتفض سيرانو انتفاضةً شديدةً كادت تتطاير لها أجزاء نفسه، وقال: أنا؟ قال:نعم؛ لأنها اعترفت لي بأنها لا تحب مني إلا نفسي، وأنت نفسي التي تكمن بين أضالعي،فهي تحبك حب العابد معبوده، وما جاءت هنا إلا من أجلك، وما أشك في أنك تضمر لها في قلبك من الحب مثل ما تضمر لك. فصرخ سيرانو وقال: لا، وأقسم … فقاطعه كرستيان وقال: لا تفعل، فلقد نَمَّتْ عليك تلك الدمعة التي رأيتها بعينيفي كتاب الوداع الذي كتبته إليها، وما هي بدمعة الشعر كما تقول، بل دمعة الحب، وما كنت تكتب إليها عن لساني كما تزعم، بل عن لسانك أنت، فاعترف بأنك تحبها. فأطرق سيرانو هُنَيْهَةً ذهبت نفسه فيها كل مذهبٍ، ثم رفع رأسه وقال: نعميا كرستيان، أعترف لك بأني أحبها، وأقسم لك أنني ما طمعت فيها قط. قال: نعم،أعلم ذلك، فوا رحمتاه لك ولتلك الآلام الطوال التي قاسيتها في ماضي حياتك، أما الآنففي استطاعتك أن تطمع فيها كما تشاء، ولا يوجد في العالم شيء يحول بينك وبينها.قال: لا أستطيع، فإن من يحمل وجهًا مثل وجهي لا يطمع في حياة الحب والغرام.قال: إنها أقسمت لي أنني لو كنت بشع الخلقة، دميم الوجه لما نقص حبها إياي ذرةًواحدة، فانتعش سيرانو وقال: أوقالت لك ذلك؟ قال: نعم، ما زالت تقوله لي حتى أملَّتنيوأضجرتني! قال: لا تحفل بقولها، فهي فتاة شعرية الأفكار والتصورات، تقول بلسانهاغير الذي تضمره في أعماق نفسها، فابق محبوبها الجميل كما كنت، ولأبقَ أنا لسانك
الناطق بين يديها حتى يقضي لله فينا جميعًا بقضائه! قال: ذلك مستحيل بعد الآن،فإني أشعر في أعماق نفسي بخجل ما أحسب إلا أنه سيقضيعلى حياتي قبل أن تقضيعليها القذيفة التي تنتظرني في ساحة القتال، فاذهب إليها واعترف لها بكل شيء، وقللها: إن الرجل الذي أحببته من أجل ذكائه وفطنته وذلاقة لسانه وقوة بيانه كاذبٌ، عاشينتحل مواهب الناس وفضائلهم لنفسه، وليس له فيها من الحظ شيء! قال: ذلك فوقالاحتمال يا كرستيان. قال: لا بد من ذلك، فليس من العدل أن أَقْتل هناءك من أجل أنالطبيعة جملتني بهذه الحلية البسيطة من الجمال. قال: وليس من العدل أن أفجعك فيسعادتك؛ لأن الطبيعة منحتني شيئًا من القدرة على التعبير عن عواطفي. قال: لا بد أنتفاتحها في موضوع حبك، فأنت محبوبها الحقيقي، أما أنا فَخِلْعَتُكَ الجميلة التي تلبسهاوتتجمل بها، فانزعها عنك، وتقدم إليها بأي ثوبٍ تريده، فهي لا تبالي بجمال الأثوابوزخرفها، إنني ضقت ذرعًا بهذه النفس الغريبة التي أحملها دائمًا بين جوانحي، حتىأعُييتُ بأمرها إعياءً شديدًا، ولا راحة لي إلا في الخلاص منها! قال: إنك تريد شقائي ياصديقي: قال: لا، بل سعادَتك، فاذهب إليها وقُصَّعليها القصة من مبدئها إلى منتهاها،واترك لها الخيار في أمرها، فإن اختارتك فقد أنصفتك، ولقد كان عقد الزواج الذي جرىبيننا عقدًا سريا لا تحفل به الكنيسة، ولا يعبأ به الناس، فما أسهل التخلص منه، وإناختارتني لا أكون غاشا لها ولا خادعًا. قال: ستختارك أنت بلا شك. قال: أرجو أن يكونكذلك، وها هي ذي مقبلة فاشرح لها كل شيء، أمَّا أنا فذاهبٌ إلى نهاية الخط لشأنٍ من الشئون لا بد لي من قضائه، وربما عدت إليك بعد قليلٍ. فارتاب سيرانو في أمره، وأمسك بيده وقال له: إنني أقرأ على جبينك آية اليأس ياكرستيان، فهل تُقسم لي أنك لا تقتل نفسك؟ قال: أقسم لك ألا أقتل نفسي، ثم التفتفرأى روكسان على مقربة منه. فقال لها: سيُحدثك سيرانو حديثًا خطيرًا فاذهبي إليه. ثم وضع يده على مقبض سيفه فجرده من غمده، وهرع إلى ساحة القتال وهو يقول: الوداع يا نور السماء!

الفاجعة

فدنت روكسان من سيرانو وقالت: ما باله؟ إني أعجب لأمره كثيرًا، ولا أدري ما الذيدهاه، فما هو ذلك الحديث الخطير الذي تريد أن تحدِّثنيه؟ قال: لا شيء، إنه يهتمبأصغر الأمور وأبسطها، فلقد كان يروي لي تلك المحادثة التي دارت بينك وبينه منذهُنَيْهَةٍ. قالت: نعم، ويخيل إليَّ أنه لم يفهم غرضي، أو أنه في شك مما أفضيت به إليه؛وأؤكد لك يا صديقي أنني ما قلت له إلا الحقيقة التي أعتقدها، فإنني أصبحت — بعداطلاعي على تلك الرسائل البليغة التي كان يرسلها إليَّ كل يومٍ من ميدان الحرب —مفتتنةً بعقله وذكائه أكثر من افتتاني بحسنه وجماله، حتى لو استحالت صورته إلىصورة أخرى غيرها، أو ذهب بجماله حادثٌ من حوادث الدهر فأصبح … ثم سكتتحياءً وخجلًا. فقال: دميمًا؟ قالت: نعم، ولو أصبح كذلك. قال: وبشع الصورة؟ قالت:نعم. قال: ومشوَّه الوجه؟ قالت: نعم. قال: وضُحْكَةَ الناس وسخريتهم؟ قالت: إن من كان له مثل عقله ولسانه لا يكون ضُحْكَةَ الناس وسخريتهم. وهنا سمعا أوَّل طلقةٍ من طلقات المعركة، فلم يحفلا بها، واستمر سيرانو في حديثهيقول: أتحبينه برغم كل شيء؟ قالت: نعم برغم كل شيء، فقد غمر جمال نفسَه جمالصورته حتى أصبحت لا أراها ولا أشعر بها، فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطًا عظيمًا،وعلم أنه قد أشرف على السعادة التي ظل ينتظرها أعوامًا طوالًا، ولم يبقَ بينه وبينها إلا كلمة أخرى ينطق بها، فإذا هي بين يديه.
» في هذه اللحظة أقبل لبريه من ناحية الميدان مسرعًا، وأسرَّ في أذن سيرانو قد قُتل كرستيان » : « فانتفض وقال: وكيف قُتل؟ قال: بأول قذيفة من قذائف «! الكلمة المعركة، فاصفر وجهه وارتعدت فرائصه، وغشت على عينيه غمامة سوداء، فعجبتروكسان لأمره وقالت له: ما بك يا سيرانو؟ قال: لا شيء! قالت: أتمم حديثك، ماذاكنت تريد أن تقول لي؟ فصمت وأطرق هُنَيْهَة، وظل يقول بينه وبين نفسه: قد انقضىكل شيءٍ، فلا أستطيع أن أقول شيئًا، ولقد كان كرستيان صديقي وعشيري، فليسفي استطاعتي أن أبني سعادتي على أنقاض شقائه! فظلت روكسان تنظر إليه ذاهلةًحائرةً، وتقول: ليت شعري ماذا جرى؟ وسيرانو مطرقٌ لا يرفع رأسه، حتى أقبل جماعةمن الجنود يحملون على أيديهم شيئًا مسجى يشبه الجثة، فوضعوه ناحيةً، فارتعدتْروكسان، وكأن نفسها حدثتها بما كان، فظلت تنظر إلى ذلك الشيء باهتةً مدهوشة،
وتقول: انظر يا سيرانو! ما هذا الذي أرى؟ أتدري ماذا يحمل هؤلاء الرجال؟ فانتبهإليها وقال: دعيهم وشأنهم يا سيدتي، واستمعي بقية حديثي، وحاول أن يجمع شتاتذهنه المبعثر فلم يستطع، فأخذ يتكلم كلامًا مضطربًا متقطعًا، ويقول: كنت أريد أنأقول لك … آه، ماذا كنت أريد أن أقول؟ لا أستطيع أن أقول شيئًا، فقد انقضىكلشيء،كنت أريد أن أقول … آه، قد تذكرت: أقسم لك يا روكسان أنكِ صادقةٌ فيما قلت، نعمكان كرستيان كما قلت: فتًى … فقاطعته وصرختصرخةً عظيمة وقالت: كان؟! يُخيَّللي أنك ترثيه! ودفعته بيدها دفعةً شديدة، وهرعت إلى الجثة، وكشفت الغطاء عنها، فإذا كرستيان في سكرة الموت. فألقت بنفسها عليه، وقد أصابها مثل الجنون، وظلت تبكي وتنتحب انتحابًامحزنًا، وتصرخصرخاتٍ مؤلمة، ثم لمحت في صدره الجرح الذي ينبعث منه الدم، فمزقتقميصها واقتطعت منه قطعةً، وهرعت إلى موضع الماء لتبللها، ففتح كرستيان عينيهفي تلك اللحظة وتأوه آهةً طويلة، فدنا منه سيرانو وأكبَّ عليه وهمس في أذنه: أبشر ياكرستيان، فقد بُحت لها بكل شيء وخيرتها بيني وبينك، فاختارتك من دوني، وهي لا تحبُّ أحدًا سِوَاك! وعادت روكسان وفي يدها القطعة المبللة، فظلت تمسح بها الجرح، وتقول: إنهلا يزال حيا، وسيلتئم جرحه بعد قليلٍ، وسيعيش بجانبي دهرًا طويلًا، أليس كذلك ياسيرانو؟ ثم وضعت خدها على خده، فشعرت ببرودة الموت تسري في جسمه، فاصفرتوتخاذلت أعضاؤها، وظلت تناجيه نجاءًا محزنًا مؤثرًا، وتضرع إليه أن يعيش من أجلها؛لأنها في حاجةٍ إليه، ولا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعده، ثم وضعت يدها على صدره،فعثرت بذلك الكتاب الذي كان قد أخذه من سيرانو، فأمرَّتْ نظرها عليه فوجدته معنونًاباسمها، ورأت عليه نقطة من الدم، وتلك القطرة من الدمع. فقالت: وا رحمتاه له! إنه كان يحدث نفسه بهذا المصير الذي صار إليه! واحتضنته إلى صدرها وظلت تقبِّله وتلثمه، ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فحاول أن يتحرك فلم يستطع، فشهق شهقةً كانت فيها نفسه!

المعركة

وكانت المعركة قد اشتدت، ودوَّى الميدان بصرخات الجنود وصيحاتهم، وقعقعة السلاحوأزيز الرصاص، وهتاف القواد بالجند أن تقدموا، ولا تتقهقروا أيها الأبطال البواسل،وانتزعوا النصرمن بين مخالب أعدائكم انتزاعًا، فهاج الموقف نفس سيرانو، فجذب يدهمن يد روكسان — وكانت آخذةً بها — ليهجم مع الهاجمين، فاستوقفته وقالت له: ابقَمعي قليلًا يا سيرانو، فلقد مات كرستيان، وليس في العالم من يُعينني على نكبتي فيهسواك، لقد كنت الرَّجل الوحيد الذي عرفه حق المعرفة، وأدرك ما اشتملت عليه نفسهمن الفضائل والمزايا، فقل لي: ألم يكن في حياته عظيمًا؟ قال: بلى. قالت: وذا هِمَّة عاليةلا تسمو إليها همم الرجال؟ قال: بلى. قالت: وذا نفس عذبة صافية كأنها قطرة الندىالمترقرقة في الزهرة الناضرة؟ قال: بلى. قالت: وشاعرًا عبقريا لم تطلع الشمس على مثلهفي عهد من عهودها الخالية؟ قال: بلى. قالت: لقد هوى ذلك الكوكب المنير من سمائه،وانحدرت تلك الشمس المشرقة إلى مغربها من حيث لا رجعة لها، فوا أسفا عليه! ثمصَرَخت صرخةً تتقطع لها نياط القلوب، وألقت بنفسها عليه، وظلَّت ترثيه وتندبه،وتذرف فوق جُثته جميع ما أودع لله عيونها من دموع، فوقف سيرانو وجرَّد سيفه من غمده وقال: إنها الآن تبكيني في بكائها على كرستيان؛ فيجب أن أموت! وكان رصاص الأعداء يحصد الجاسكونيين حصدًا، فيتساقطون تساقط أوراقالشجر الجافة أمام الزوبعة الهائلة، وهم لا ينثنون ولا يتحلحلون، والكونت دي جيشفي مقدمتهم يصيح بصوتٍ عال: ها هو ذا جيش قائدنا قد اقترب، فاصبروا ساعةً أخرىيتم النصر لفرنسا، فصرخ سيرانو: الوداع يا روكسان! واندفع إلى قمة التل، فاستقبلهالكونت، واعترض طريقه وقال له: قف مكانك، لا تُلقِ بيدك إلى التهلكة، فقد آن أوانالهزيمة أو هلك الجنود جميعًا. قال: إن الجاسكونيين لا يتراجعون ولو أمرتهم بذلك،فَكِلْ أمرهم إليَّ ودعني وشأني، فإنني ناقمٌ موتورٌ أريد أن أنتقم لصديقي الذي ثكلته!وهنائي الذي فقدته، فاذهب أنت إلى روكسان ودافع عنها كما وعدتها حتى تبلغ مأمنها!ثم صاح في الجنود: تشجَّعوا أيها الأصدقاء ولا تتقهقروا، فالحياة أمامكم، وليستوراءكم، فَتَقَدَّموا أيها الأبطال وموتوا جميعًا، فما في الموت شيءٌ سوى أن تنقلوا مكاناجتماعكم من الأرضإلى السماء، موتوا فالموت أهونُ عليكم من أن تروا وطنكم ذليلًا فييد أعدائكم، وقد مات أصدقاؤكم ورفقاؤكم، فما بقاؤكم في الحياة من بعدهم؟ رفرفعلينا أيها العلم الصغير المطرَّز باسمها، وابعث في قلوبنا جميعًا روح القوة والشجاعة لنموت عن آخرنا تحت ظلك الخافق!
فظل الجنود ثابتين في أماكنهم ومنجلُ القضاء يحصدهم حصدًا، حتى وصل جيشالعدو إلى قمة التل، وصاح قائدهم: ألقوا بأسلحتكم أيها القوم، فستموتون جميعًا إنلم تُسَلِّموا ولا يجدي عليكم الموت شيئًا! فأجابه سيرانو: لا يُسَلِّم إلَّا الأذلاء الجبناء، ومافينا جبانٌ ولا ذليلٌ! الهجمة الأخيرة أيها الأبطال؛ فها هي ذي طبول القائد الأعظم تدنو منا وتقترب، وليس بينكم، وبين النصرإلا كرَّةٌ واحدة. وكان الأمر كما يقول، فما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى أشرف جيش القائدالعام، وهاجم الأعداء من خلفهم، فالتحم الجيشان، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى تمالنَّصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية، ولكن بعد أن تلاشى الجنود الجاسكونيون في المعمعة جميعًا!


الفصل الخامس
بعد خمسة عشر عامًا

لدير الراهبات بباريس فناءٌ واسعٌ قد غرست في أنحائه بِضْعُ أشجارٍ ضخمة باسقة،قد تناثرت من تحتها أوراقها الساقطة الصفراء، ووضع في وسطه مقعدٌ حجريٌّ هلالي الشكل، فخرجت الراهبات بعد أداء صلواتهن في محاريبهن، يتمشين في ذلك الفناء،ويتحدثن بأحاديث مختلفةٍ، لا يخلو بعضها من ذكر العالم الدنيوي وشئونه، والحياة ووقائعها، كأن ذلك الحجاب الحجري الذي أسُدل دونهن من الأسوار والجدران لم يستطع أن يقطع الصلة بينهن وبين الحياة التي هجرنها واطَّرحنها، وأقسمن بين يدي الله أن ينسينها أبد الدهر.
فلم يزل بين جوانحهنَّ بصيصٌ ضعيفٌ من تلك الذكرى يلمع من حينٍ إلى حين؛ لأنهن لا يستطعن — مهما بلغن من قوة اليقين ورسوخ الإيمان وثبات العزيمة —أن ينتزعن الطبيعة من بين جُنوبهنَّ، كما يرفعن قبعاتهن عن رءوسهن وأرديتهن عن أكتافهن، ويرمين بها وراء تلك الأسوار والجدران، كما أرادت منهنَّ ذلك الشرائع النظرية:« التي لا صلة بينها وبين حقائق الحياة وطبائعها.
فقالت الأخت كلير للأخت « مارت لقد رأيتك اليوم واقفةً أمام المرآة مرَّتين، ورأيت في يدك مشطًا تحاولين أن تمشطي به شعرك، وسأرفع أمرك إلى الرئيسة!
قالت: إنك لا تستطيعين أن تفعلي إلا إذا استطعت أن تحدثيني عن تلك الأغنية الغرامية، التي كنت تتغنين بها ليلة أمس في غرفتك بصوتٍ » خافتٍ شجي، كأنك تتذكرين بها عهدًا قديمًا! فابتسمت الأخت
مارت وقالت: إنني « إن أعفيتك من الشَّكوى إلى الرئيسة، فلن أعفيك من الشكوى إلى المسيو بيرجراك عند حضوره!
قالت: كأنك تأبين إلا أن نصبح ضحكة الناس وسخريتهم؛ فسيرانو رجلٌ شديدٌ قاسٍ، يكره الحركات النسائية المتطرفة، وينعى عليها نعيًا شديدًا.
قالت: ولكنه يذهب في نقده مذهب التهكم البديع المستطرف، فهو إلى الفكاهة أقرب منه إلى الجد.
فقالت الأخت مارجريت الحقَّ أقول يا أخواتي، إنني لم أرَ في حياتي أظرف من هذا الرجل، ولا أعذب منه لسانًا، ولا أحلى مجونًا، ولا أطيب قلبًا، ولا أنقى سريرةً.
» فقالت لها » :« كلير أصحيح يا أختاه أنه يختلف إلى هذا الدير منذ اثني عشر عامًا قالت: بل أكثر من ذلك،مذ هجرت ابنة عمه الأخت روكسان العالم الدنيوي، ونزلت بنا كما ينزل الطير الحزينوسط الطيور البيضاء، ومزجت سواد رهبانيتها بسواد حدادها، وسيرانو هو الشخصالوحيد الذي يستطيع أن يعزِّي نفسها، ويمسح دموعها، ويخفف أحزانها الكامنة فيولكنه، ويا للأسف غير متمسكٍ بواجباته الدينية، وهو إلى :« مارت » أعماق قلبها. فقالت أظن أننا نستطيع أن نهديه إذا نحن حاولنا :« كلير » الإلحاد أقرب منه إلى الإيمان. فقالت منه ذلك. وهنا أقبلت الرئيسة، وقد سمعت هذه الكلمة الأخيرة، فعلمت أنهن يتكلمن عنسيرانو. فقالت: إني أمنعكنَّ جميعًا عن مفاتحته في هذا الأمر، فَدَعْنَهُ وشأنه، ولله يتولىولكنه مكابرٌ عنيدٌ، لا يزال يولع بمحادَّتي ومغايظتي كلما رآني؛ :« مارت » : أمره. فقالت فقد قال لي يوم السبت الماضي عند حضوره: إنه أكل بالأمس لحمًا ودسمًا، فلم أطقاستماع ذلك منه وكدت أختصمه، قالت: لا تصدقيه يا بنيتي، فإنه حينما جاءنا في المرةالماضية كان قد مرَّ به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز! فدهشت الراهبات جميعًا،ونظرن إلى الرئيسة باهتاتٍ مذهولات. فقالت لهن: لا يدهشكنَّ ذلك يا بنياتي، فسيرانوعجيب جدا! من :« مرجريت » رجلٌ فقيرٌ معدمٌ، لا يملك من متاع الدنيا شيئًا. فقالت لها قالت: ألا يساعده أحد؟ قالت: لا؛ لأنه لا يريد ذلك. .« لبريه » أخبرك بذلك؟ قالت: صديقه وإنهن لكذلك إذ أقبلت روكسان من ناحية باب الدير في لباسها الأسود، وبجانبهاالكونت دي جيش، وكان قد وصل في مجده الدنيوي إلى الغاية القصوى التي لا غايةالدوق ماريشال دي » وراءها، فأصبح القائد العام للجيش الفرنسي، وأصبح يدعى وكان قد أشرف في ذلك الوقت على سنِّ الشيخوخة، فهدأت في نفسه تلك ،« جرامونت العواطف القديمة الثائرة، عواطف الشرور والشهوات، فأخذ نفسه بزيارة روكسان فيديرها من حينٍ إلى حينٍ للتعزية والوفاء والتكفير عن سيئاته الماضية إليها، فلم يزل سائرًامعها حتى بلغا ذلك المقعد فجلسا عليه، ثم نظر إليها نظرةً حزينةً مكتئبة، وقال لها:أهكذا تعيشين دائمًا يا روكسان في عُزلتك هذه، لا تفكرين في شأنٍ من شئون الحياة، ولاتأسفين على عهدٍ من عهودك الماضية؟ قالت: نعم دائمًا، لا أذكر غيره، ولا يمر بخاطريشيء سواه! قال: وهل غفرت لي ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، أم لا تزال في قلبك بقيةٌ
عامًا من العتب والموجدةِ عليَّ؟ فاغرورقت عيناها بالدُّموع وصمتت هُنَيْهَةً، ثم رفعت نظرهاإلى صليب الدير العظيم الماثل أمامها وقالت: ما دمتُ في هذا المكان، وما دام هذا ماثلًاأمام عينيَّ، فأنا أغتفر جميع الذنوب، حاضرها وماضيها. قال: وا رحمتاه لذلك الفتىالمسكين! ما كنت أظن أن نفس إنسانٍ في العالم تشتملُ على مثل الصفات التي كانتتشتمل عليها نفسه، لولا أنك أقسمت لي على ذلك! قالت: إنك لو عرفته معرفتي إياهلامتلأت نفسك إعجابًا به، وإعظامًا له، ولكان حزنك عليه عظيمًا كحُزني! قال: وهل لاتزالين محتفظةً بكتابه الأخير حتى اليوم؟ قالت: إنه لا يفارق صدري قط، كأنه الكتابالمقدس. قال: أتحبينه حتى بعد الموت؟ قالت: يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنه لم يمت؛ لأن مكانهمن قلبي لا يزال باقيًا كما هو، وكأن روحه ترفرف علي وتتبعني حيثما سرت وأنَّىحللت، ولا تزال ترن في أذني حتى الساعة تلك النغمة الجميلة التي كان يحدثني بها ليلةالشُّرفة، كأن لم يمر بها إلا يوم واحد. قال: وهل يأتي سيرانو لزيارتك أحيانًا؟ قالت:نعم، يَفِدُ إلي دائمًا يوم السبت من كل أسبوع، في ساعة معينة لا يتأخر عنها ولا يتقدم،فإذا حضر رآني جالسة أمام منسجي، فيجلس على مقربة مني فوق مقعد يُعِدُّونه له،الحركة الدائمة » ويبدأ حديثه معي بالهزل والمجون والسخرية بي وبمنسجي، ويسميه فإذا فرغ من ذلك أخذ يقص عليَّ حوادث الأسبوع يومًا فيومًا كأنه ،« التي لا نهاية لها جريدة أسبوعية، واعلم يا سيدي أن ذلك الصديق القديم والأخ الوفي هو الشخصالوحيدالذي يستطيع أن يسرِّي عني بعضهمومي وآلامي، ويحمل عني الشيء الكثير من أثقال هذه الحياة وأعبائها، ولولاه لَمِتُّ في عزلتي هذه هما وكمدًا. فتقدم نحو روكسان فحياها. فقالت له: كيف « لبريه » وهنا فتح باب الدير ودخل حال صديقك يا لبريه؟ قال: في أسوأ حالٍ يا سيدتي، فإن غرابة أخلاقه، وشذوذ طباعه،وتهوره في ميوله وآرائه، وصلابة عُودِه في خصوماته ومناظراته قد بلغت به المبلغ الذيكنت أتوقعه له من عهدٍ بعيد: الفقر والعُدْم، والشقاء والبؤس، والخصوم الألِدَّاء، والأعداءالثائرين المتنمرين الذين يكيدون له ليلهم ونهارهم لا يهدءون ولا يفترون، وهو في غفلةٍعن هذا كله، لا يعجبه ولا يطربه ولا يلذ له غير الانتقاد المرِّ، والتهكم المؤلم بالأشرافوالنبلاء ورجال الدين، والأدباء والصحفيين، والشعراء والممثلين، لا يهادنهم ولا يواتيهم،ولا يهدأ عنهم لحظة واحدة، فيَنعَى على القسيس نظرةً واحدة يلقيها عرضًا على وجهٍجميلٍ، وعلى الشاعر معنًى بسيطًا يسرقه من شاعرٍ مُتقدمٍ، وعلى النبيل مشية الخيلاءيمشيها في طريقه، وعلى الصحفي نشر إعلان خمرٍ في جريدته أو خبرٍ مكذوب، كأنه 123
الشاعر موكَّلٌ بهداية البشر، وتقويم اعوجاجهم وتهذيب أخلاقهم، وكل ما يعتذر به عن نفسهإنْ لَامَه في ذلك لائمٌ أنه يقول ما يعتقد، وينطق بما يعلم، كأنما لا يوجد في العالم كله منيعلم ما يعلمه سواه، وما أظن الهيئة الاجتماعية التي يُشاكسها ويثاورها، ويزعم أنهقادرٌ على تقويم معوجها وإصلاح فاسدها تستطيع الصَّبر عليه طويلًا، ويخيل إليَّ أنانتقامها منه سيكون هائلًا جدا، وأنه سيموت عمَّا قليل شهيدَ ذلك الشيء الذي يسميه .« الحرية الفكرية والنقد الصحيح » فقالت روكسان: ولكنَّ سيفه القاطع يحميه من هؤلاء جميعًا. قال: ربما يحميه،ولكنني أخشى عليه عدوا واحدًا هو أشد عليه من جميع أعدائه. قالت: ومن هو؟ قال:الجوع، فإنه يقاسيمن آلامه ما لا يستطيع أن يحتمله بشرٌ، وكثيرًا ما قضىاللياليَ ذواتالعدد شادا مِنْطَقَتَه على بطنه من السَّغَب، لا يشكو ولا يتبرم، ولا يسمح لنفسه أن يمُديده إلى أحدٍ غير خالقه، إلى أن تتيسر له اللقمة التي يعتقد أنها معجونة بعَرَق جبينه،فلا يَمْتَن بها عليه أحدٌ، حتى ذبل جسمه، وشحب لونه، وعرقت عظامه، وأصبح أشبه بالهيكل منه بالإنسان! أما اللباس فقد أصبح عاريًا منه إلا قليلًا، ولقد باع في الأسابيع الأخيرة جميع ثيابه،فلم يبقَ له منها إلا رداءٌ واحدٌ من الصوف الأسود يتعهده بالترقيع من حينٍ إلى حين، ولاأدري ماذا يكون شأنه غدًا إذا نزل به ضيف الشتاء القادم، فلا يجد في غرفته المظلمة الباردة بصيصًا ولا قبسًا! فقال الدوق: إنك تبالغ كثيرًا يا لبريه في الحزن عليه والرثاء له، فسيرانو رجلعظيم، لا يكترث بآلام الحياة ومصائبها، ولا ينظر إليها بمثل العين التي تنظر بها إليها،ولقد عاش طول حياته حرا مستقلا في آرائه ومذاهبه، غير مبالٍ بما يلاقيه في هذهالسبيل من المكاره والآلام، ولا يزال شأنه في حاضِرِهِ مثله في ماضيه، فاعْجَبُوا به كل الإعجاب، ولا تُهينوه بالتألم له والبكاء عليه! فدهش لبريه وظل ينظر إلى الدوق نظرًا حائرًا مضطربًا؛ لأنه ما كان يتوقع منهبعد الذي كان بينه وبين سيرانو أن يجري لسانه بكلمة ثناءٍ عليه أو إعجابٍ به؛ فقالله الدوق: لا تَعْجَبْ يا لبريه، فإنني وإن كنت أعلم أنني قد نِلْتُ من حياتي كل شيءٍ،وأنه قد حرم كلشيءٍ فأنا أعتقد أنه خيرٌ مني، وأن نفسه تشتمل على أفضل مما تشتملعليه نفسي، وليتني أستطيع أن أستغفره ذنبي الذي أذنبته إليه، وأن أضع يده في يدي فأصافحه مصافحة الصَّديق للصديق. 124
بعد خمسة عشر عامًا ثم نهضقائمًا وقال: أستودعك لله يا روكسان، فنهضت روكسان لتوديعه، ومشتمعه تشيِّعه إلى الباب. فقالت له وهي تسايره — وكان ذيل ردائها يجر معه كثيرًامن أوراق الشَّجر الجافة المتساقطة، فيحدث صوتًا أشبه بالحَفيف: أتقول الحقيقة عنسيرانو يا سيدي أم أنت تتهكَّم به؟ قال: لا، بل أقول الحقيقة التي أعتقدها، وأقسملك يا روكسان إنني كثيرًا ما غبطته بيني وبين نفسي، وتمنيت أن أكون مثله! فدهشتوقالت: ولكنك عظيم يا مولاي! قال: إن المرء حينما يصل إلى ذروة العظمة في الحياة لابد أن تمر به ساعات — مهما كان طاهرًا وبريئًا — يشعر فيها ببعض آلام خفيَّةٍ تلدغنفسه وتؤلمها، وربما لا تبلغ في قوتها وتأثيرها مبلغ تبكيت الضمير، ولكنها على كل حالٍتزعجه وتقلقه، وتستولي على شيء من راحته وسكونه، وهل استطاع العظماء أن يكونواعظماء إلا أنهم ارْتَقَوْا سُلَّمًا بُنيت درجاته من جماجم الموتى وأشلائهم، أو أن ينامواملء جفونهم؛ إلا لأنهم أسهروا كثيرًا من عيون البائسين والمعدمين في سبيل راحتهموهنائهم، أو أن يمشوا في طريقهم رافعي الرءوس شامخي الأنوف؛ إلا لأن وراءهم كثيرًامن المطرقين الصامتين، الذين لا تفارق أنظارهم الأرض هما وكمدًا، وربما لا يشعرونبشيءٍ من تلك الجرائم التي يقترفونها وهم في نشوة عزهم وضوضاء عظمتهم، ولكنهممتى خلوا إلى أنفسهم، وأووا إلى مَضَاجعهم، وساورتهم تلك الآلام الخفية اللاذعة التيلا يشعر بمثلها الجائعون والظامئون، والمرضىوالْمُعْوِزُون، لا تصدقي يا سيدتي أن فيالدنيا سعيدًا واحدًا قد خلت كَأْسُهُ التي يشربها من قذًى ينغصها عليه، ولا بد للعظيموهو صاعدٌ إلى قمة عظمته أن يشعر أن ذيل معطفه المسبل وراءه يجر معه كثيرًا منأنَّات الباكين، وصرخات المتألمين الذين بنى عظمته على أنقاض شقائهم، فيسمع لها خشخشةً كخشخشة الأوراق الجافة التي يجرها وراءه ذيل معطفك الآن! ثم وقف في مكانه وأطرق برأسه طويلًا، فنظرت إليه روكسان ذاهلةً، ووضعتيدها على عاتقه وقالت له: أتتألم يا مولاي؟ قال: نعم، فما نحن سعداء إلَّا في أنظارالناس واعتباراتهم، ولو كشف لهم من خبايا نفوسنا ما كشف لنا منها، ولمسوا بأيديهممواقع الألم من أفئدتنا، لرثوا لنا أكثر مما نرثي لهم، ولرأوا أننا أولى الناس بالرحمةوالإشفاق منهم، وليتهم يقفون على هذه الحقيقة فيعلموا أن السلامة والنجاة وراحةالنفس وهدوءها في القناعة والإقلال، فيستريحوا من هموم الأحقاد وآلامها، فإنهم ماحسدُونا، ولا اشتعلت بين جوانحهم نيران الحقد والموجدة علينا؛ إلا لأنهم ظنوا أنناسعداء، ولو نظروا إلينا بالعين التي ننظر بها إلى أنفسنا لضرعوا إلى لله تعالى أن ينجيهم مما ابتلانا به، ويريحهم من همومنا وشقائنا!
ثم مدَّ يده إليها فصافحها وقال: أستودعك لله يا سيدتي، والتفت وهو منصرف إلىلبريه، وكان لا يزال واقفًا في مكانه، فهتف به فلبَّاه. فقال له: لي كلمة أريد أن أقولها لك،فتعالَ معي، فمشىوراءه، فالتفت إليه وقال له: نعم إن صديقك سيرانو بطلٌ شجاعٌ كماتقول روكسان، ولكنني علمت من طريقٍ خاص لا أستطيع أن أبوح لك به، أن بعضأعدائه قد عزم على قتله غِيلةً، فاذهب إليه وحذِّره، ولْيُقَلِّلْ من الخروج من منزله مااستطاع. قال: ذلك مستحيل يا سيدي؛ لأنه لا يهاب شيئًا، ولا يخاف أحدًا! قال: لا تفارقهلحظة واحدة، فحياته في خطر عظيم. قال: سأفعل ما أستطيع يا مولاي، وسأشكر لك فضلك ما حييت، ثم تناول يده فقبَّلها وانصرف. مقبلًا عليه، يولول ويستغيث، فسأله ما بالُهُ؛ « راجنو » فما سار إلا قليلًا حتى رأى فقال: خَطْبٌ عظيم يا لبريه! قال: أي خطب؟ قال: قد أصيب صديقنا. قال: سيرانو؟قال: نعم. قال: قل كل شيءٍ وأوجز. قال: خرجت اليوم من منزلي ذاهبًا إليه لزيارته فيمنزله، فلما وصلت إلى رأس الشارع الذي يسكنه رأيته خارجًا من المنزل، فهرعت إليهلأدركه، حتى إذا لم يبقَ بيني وبينه إلا بضع خطواتٍ، إذ سقط على رأسه من نافذةأحد المنازل المهجورة جذعٌ عظيمٌ، يخيل إلي
ّأنه لم يسقط عفوًا، بل تعمده به متعمدٌ!فصرخ لبريه: يا للنذالة والجبن! ثم ماذا؟ قال: فدنوت منه، فرأيت، وياهول ما رأيت!رأيت ذلك الصديق الكريم، والرجل العظيم، والشاعر النابغة الجليل، ملقًى على الأرضمضرجًا بدمائه، وقد فتح في رأسه جرحٌ كبير. قال: وهل مات؟ قال: لا، ولكن حالتهسيئة جدا، فحملته إلى منزله، أو إلى ذلك الجحر الضيق الذي يسمونه منزلًا … قال:وهل يتألم؟ قال: لا؛ لأنه فقد رشده فلم يعد يشعر بشيء! قال: ألم يزُرْه طبيب؟ قال:أشفق عليه طبيبٌ من جيرانه فزاره. قال: وا رحمتاه لك أيها الصديق المسكين! لا تخبرروكسان الآن بهذا الخبر، وماذا قال الطبيبُ؟ قال: لم أفهم من كلامه شيئًا، فإنه أخذيردد كلماتٍ كثيرةً، حُمَّى، التهاب، أغشية … إلخ، آه يا سيدي لو رأيته وقد دارت برأسهالأربطة والضَّمائد، وأصبحت صورته أشبه شيءٍ بصور الموتى في قبورهم! هيا بنا نذهبإليه، فهو وحيدٌ في غرفته، وأخاف أن يحاول القيام من فراشه فيسقط ميتًا، ثم ذهبا يعدوان ويتلهَّفان.النغمة

النغمة

جلست روكسان أمام منسجها في فناء الدير تنتظر حضور سيرانو، وكان قد جاء ميعاده الذي يحضر فيه من يوم السبت من كل أسبوع، وأخذت تقول: ما أجمل هذا اليوم!
إن الخريف يخفف عني كثيرًا من آلامي التي يهيجها الربيع ويستثيرها، فحمدًا لك يا إلهي على ما منحت، وصبرًا على ما ابتليت، ولك المنة العظمى في حَالَيْ رضاك وسخطك، ونعمائك وبَأْسائك! ما أعظم شكري لك يا سيرانو! إنك رسول العناية الإلهية إليَّ، والعزاء الباقي لي في هذه الحياة بعد ما فقدت كل عزاءٍ وسلوى، فليت الله يتولى جزاءك عني، فإني لا أستطيع أن أقوم بشكرك!
وهنا حضرت راهبتان تحملان بين أيديهما المقعد الذي اعتاد سيرانو أن يجلس عليه عند حضوره، فوضعتاه وراء مجلس روكسان، فشكرتهما وانصرفتا،
ثم دقت الساعة الرابعة، فأصغت إليها روكسان حتى انتهت دقاتها، ثم قالت: إنه سيأتي الآن!
وأخذت تردد نظرها جهة الباب هُنَيْهَة، فلم يحضر، فمدَّت يديها إلى علبة إبرها وخيوطها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: قد دقت الساعة الرابعة منذ دقائق ولم يحضر، أين خيوطي؟
ها قد وجدتها، هذا يدهشني جدا! إنها المرة الأولى التي تأخر فيها عن ميعاده منذ خمسة عشر عامًا، أين كُسْتِبَاني؟ لا بد أن تكون الأخت مارت قد أزعجته بنصائحها وعظاتها، ليت شعري ماذا حدث له؟ قد أوشك الظلام أن يخيم، وألوان الخيوط قاتمة فلا أستطيع التمييز بين متشابهاتها، إنه ما تأخر عن زيارتي قبل اليوم، ولكن لا بد أن يحضر الآن!
وهنا سقطت ورقةٌ جافةٌ من الشجر على منسجها، فاصفرَّت وقالت: ورقةٌ ميتةٌ قد انقضى أجلها فهوت إلى مستقرِّها! يا الله! إن الأوراق الجافة المتساقطة تزعجني جدا، لا يمكن لأي شيءٍ مهما كان أن يحُول بينه وبين الحضور!
وما أتمت كلمتها حتى وقفت راهبةٌ على رأس السُّلم وصاحت: السيد بيرجراك! فانتعشت روكسان وقالت: ليدخل! فدخل وهو مصفر الوجه، يتوكأ على عصاه ويمشي ببطءٍ شديدٍ، وقد أسدل قبعته على جبينه فسترت الضمائد المحيطة برأسه،
وكانت روكسان مشتغلةً بترتيب خيوطها، وإصلاح منسجها، فلم تلتفت إليه حتَّى جلس على مقعده وحياها.
فقالت له بنغمة العاتب دون أن تلتفت إليه: هذه أوَّل مرة تأخرت فيها عن ميعادك منذ خمسة عشر عامًا يا سيرانو!
فأجابها بصوتٍ قاتمٍ مظلم يحاول أن يجعله ضاحكًا رنانًا: نعم يا سيدتي، يا لغرائب الدهر! ما كنت أظن أن شيئًا في العالم حتى الموت، يستطيع أن يحول بيني وبين الحضور إليك في ميعادي، آه! إني أكاد أموت، غيظًا وحنقًا، ما أخرني عنك إلا ضيفٌ ثقيلٌ — يريد الموت — جاء لزيارتي في وقتٍ غير مناسب، وما كنت أتوقع أن يفد إليَّ في مثل هذه الساعة!
قالت: وكيف تخلَّصت منه؟قال: لم أتخلص منه حتَّى الآن، وكل ما في الأمر أني اعتذرت إليه وقلت له: إنَّ اليوم يوم السبت، وهو الميعاد الذي يجب عليَّ فيه أن أقوم بزيارة صديق كريم لا يمكن أن يحول بيني وبين زيارته في هذا الميعاد حائلٌ، فاذهب الآن وعد إلي بعد ساعةٍ واحدة!
قالت: إذن سيطول انتظاره لك إذا عاد إليك؛ لأني لا أسمح لك بالخروج من هنا قبل المساء!
قال: ربما اضطررت للذهاب قبل ذلك! وأغمض عينيه وأطرق برأسه،
وكانت الأخت مارت مارَّة في تلك اللحظة، فأومأت روكسان إليها برأسها فحضرت. فقالت لسيرانو، إنك لم تمزح مع الأخت مارت وهي لا تزال مشتغلة بترتيب خيوطها: كعادتك يا سيرانو، فانتفض ورفع رأسه، فدهشت « مارت » عند رؤيته وفغرت فاها، وحاولت أن تتكلم فأشار إليها بالصمت، فلم تفهم « مارت » شيئًا ولكنها صمتت.
فقال لها بصوتٍ ضخمٍ مُضحكٍ: اقتربي مني أيتها الأخت، مالك تُعرضين عني يا ذات العينين الجميلتين؟ هاتي يدك البيضاء لأقبلها باسم البركة والعبادة لا باسم الحب والغرام! واقتربي مني لأخبرك خبرًا غريبًا جدا.
قالت وهي ترثي له ولحاله: وما هو؟ قال: قد أكلت بالأمس لحمًا ودسمًا، فما رأيك؟
فهزت رأسها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: وا رحمتاه له! إنه يكذب عليَّ، وربما مر به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز كما فعل في المرة السابقة،
ثم قالت له: أحب أن تزورني في غرفتي قبل خروجك من هنا، فسأقدِّم إليك هديةً من الحلوى جميلة جدا. فقالت له روكسان: احذر أن تذهب إليها يا سيرانو، فإنها تريد أن تعظك!
فقال سيرانو: أظن أن عظاتك الماضية يا مارت قد أخذت مأخذها من نفسي، فقد أصبحت أقرب إلى الإيمان مني إلى الكفر؛ ولذلك أسمح لك أن تصلي الليلة في معبدك من أجلي! فدهشت وقالت: « مارت ماذا تقول؟ أتهزل أم تَجِدُّ؟
قال: قد فات وقت الهزل، ولم يبقَ أمامي إلَّا الجدُّ! فانصرفت لشأنها، وهي تعجب لأمره كلَّ العجب، وأقبل هو على روكسان، وقال لها وهي لا تزال مكبَّةً على منسجها: ليت شعري هل أعيش، وهل يعيش العالم حتى يرى ختام هذا النسيج؟
قالت: كُنت في انتظار سماع هذه الكلمة منك يا سيرانو، إن نسيجي لا ينتهي حتى تنتهي مُلَحُك وأحماضك! وفي هذه اللحظة هبَّت ريحٌ شديدة، فتساقطت على الأرض أوراقٌ كثيرة من أعالي الأشجار، فانقبضت روكسان وقالت: إن تساقط هذه الأوراق يحزنني جدا.
قال: أما أنا فعلى عكس ذلك؛ لأنه يعجبني منها كثيرًا أنها برغم حزنها على فراق أغصانها التي تركتها، وبرغم فزعها من الفناء الذي يستقبلها على وجه الأرض، فهي تتساقط برقَّة ورشاقةٍ، وتقضي هذه السياحة القصيرة بين الحياة والموت مائسة مختالة، كأنها في حفلة رقصٍ أو مجمع شراب!
فقالت: إني أسمع منك نغمة حزنٍ يا سيرانو؛ فهل أنت حزين؟قال: لا، وليس من عادتي أن ألجأ إلى الحزن في أي موقفٍ من المواقف، حتى في الموقف الذي يحزن فيه الناس جميعًا.
قالت: فَلْنَدَعِ الأوراق تتساقط كيفما تشاء، وأسمعني جريدتك الأسبوعية فإني في شوقٍ عظيم إليها.
قال: اسمعي يا سيدتي، وكان الألم قد نال منه منالًا عظيمًا، وبدأ الذهول يخيم على عقله، فأنشأ يقول: ،« سيت » يوم السبت: أصيب الملك بمرض الحمى على أثر ثماني أكلات أكلها من عنب فحكم الطبيب على مرضه بطعنة مبضعٍ في قلبه لاقترافه جريمةَ الاعتداء على صاحب الجلالة! يوم الأحد: أشعلوا ليلة الحفلة الكبرى في قصر الملك ثلاثًا وستين وسبعمائة شمعةبيضاء. يقولون: إن جيوشنا قد انتصرت على جيوش جان النمسوي، شُنق أربعة من الصغير. « داتيس » السحرة، حقنوا كلب السيدة فاعترضته روكسان وقالت: ما هذه الأخبار يا سيرانو؟ فاستمرَّ في كلامه يقول: استبدلت بعشيقها … « ليجدامير » يوم الاثنين: لا شيء سوى أن فتململت روكسان وقالت: ما هذا الذي تقول؟ إنك تمزح يا صديقي، فلم يلتفت إليها وظل يقول: .« فونتنبلو » يوم الثلاثاء: انتقل البلاط كله إلى «. لا» : للكونت دي فيسك « دي مونتجلا » يوم الأربعاء: قالت السيدة ملكة على فرنسا، أو ما هو في معنى ذلك. « فانسيني » يوم الخميس: تُوِّجت «. نعم » : للكونت دي فيسك « دي مونتجلا » يوم الجمعة: قالت السيدة وهنا ثقلت عيناه، واحتبس صوته، واهتز هزةً شديدةً، ثم سقط رأسه على صدره،وساد من حوله سُكونٌ عميق، فاستغربت روكسان سكوته، والتفتت وراءها فرأته علىهذه الحالة، ولم تكن قد نظرت إليه قبل هذه اللحظة، فارتاعت وهرعت إليه، ووضعت
يدها على عاتقه ونادته: سيرانو! فانتفض ورفع رأسه، وظل يدير يديه حول قُبعتهويضغطها ضغطًا شديدًا، ويقول: لا شيء، لا شيء، أؤكد لك يا سيدتي أن الأمر بسيطٌجدا. قالت: قل لي ما بك يا سيرانو؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ قال: لالا يزال يعاودني من حين إلى « أراس » شيء، إنه الجرح القديم الذي أصبت به في معركة حين، حتى الآن، فتنهدت، وأرسلت بصرها إلى السماء، ثم قالت: كلٌّ منا له جرح قديم ياسيرانو، غير أن جرحك في جسمك، وجرحي هنا دائمًا لا يندمل أبدًا، وأشارت إلى قلبها،ثم قالت: هنا كتاب الوداع الأخير الذي كتبه إليَّ قبل موته، قد تشعَّث وتقبَّض واصفر ورقه، ولا تزال آثار القطرتين: قطرة الدمع، وقطرة الدم ظاهرة فيه! فارتعد سيرانو وقال: كتابه الأخير؟ وشخص ببصره إلى السماء كأنما يتذكر شيئًابعيدًا، ثم قال: ألا تذكرين يا روكسان أنك كنت وعدتني مرةً باطلاعي على هذا الكتاب؟قالت: نعم، أذكر ذلك. قال: هل لك أن تفي بوعدك الآن؟ قالت: ها هو ذا، ومدَّت يدهاإلى صدرها فأخرجت الكتاب من كيسٍ صغيرٍ حريري معلقٍ في عنقها، وأعطته إياه، ثم عادت إلى مقعدها. وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله على أكناف الدير، فأخذت روكسان ترتب خيوطهاوإبرها لتضعها في علبتها، وأخذ سيرانو يقرأ الكتاب بصوت عالٍ رنَّان، كأنما هو يخطب أو يهتف أو يناجي، ويقول الوداع يا روكسان، فإني سأموت عما قليلٍ، وربما كانت » : هذه الليلة آخر لياليَّ في الحياة! وكنت أرجو أن أعيش بجانبك لأتولى حراسة سعادتك التي عاهدت نفسي على أن أكفلها لك ما حييت، فحالت المقادير بيني وبين ذلك، فليت شعري ماذا يكون حالُك من بعدي؟ إنني لا أخاف الموت من أجلي، بل من أجلك، ويخيل إليَّ أنك ستقضين من بعد موتي أيامًا شديدةً عليك، وعلى نفسك الرقيقة الحساسة، وهذا كل جزعي من الموت، فوا «! رحمتاه لك أيتها الصديقة المسكينة
وكانت روكسان تصغي إلى قراءته ذاهلةً مدهوشة، وتقول بينها وبين نفسها: ما أغرب صوته وما أعظم تأثيره! إنه يقرأ وكأنه يحدثني ويناجيني، ويخيَّل إلي أن وراء هذه النغمة الغريبة التي ينطق بها سرا كامنًا في أعماق نفسه! : واستمر هو في قراءته يقول ستغتمض عيناي بعد قليلٍ، وستنطفئ تلك النظرات التي كانت مرآتك الصقيلة التي تتراءى فيها صورتك البديعة الساحرة، وترتسم فيها بعد خمسة عشر عامًا دقائق حسنك وأسرار جمالك، فمن لك بمرآة ترين فيها نفسك بعد أن تمتلئ عينايبتراب القبر! إن بين جنبي كنزًا ثمينًا من حُبك لم أستطع أن أكشف لك إلا عن مقدارٍقليلٍ من جواهره ولآلئه، وكنت أود أن أفرغه جميعه بين يديك قبل موتي، ولكن ماذاأصنع وقد أعجلني الموت عنه ولا حيلة لي في قضاء لله وقدره! الوداع يا روكسان، الوداعيا حبيبتي، الوداع يا أعز الناس عليَّ، وآثرهم في نفسي! إن قلبي لم يفارقك لحظةً واحدةفي حياتي، وسيبقى ملازمًا لك بعد مماتي، فليكن عزائي عنك أن روحي سترفرف عليك،وتحوم حولك في كل مكانٍ تكونين فيه، فكأننا لم نفترق، وكأنَّ حجاب الموت المسبل دوننا «! وهمٌ من الأوهام، وباطل من الأباطيل
وكان قد ذهل عن الكتاب الذي في يده وعن كل ما يحيط به من الأشياء، ولم يبقَ في خياله سوى أنه يناجي المرأة التي يحبها، ويفضي إليها بأسرار نفسه، ويودعها الوداع الأخير، فأغمض عينيه واستغرق في شعوره ووجدانه، واستحال صوته إلى صوت غريب لا يشبه الأصوات في رنته ونغمته؛ لأنه صوت الروح وهتافها ونفثاتها المتصاعدة إلى آفاق السماء،
فظلت روكسان تضطرب وترتعد، وتقول بينها وبين نفسها: إنها نغمة غريبةٌ جدا، تذكرني بنغمةٍ مثلها سمعتها في ساعةٍ من ساعات حياتي الماضية، فليت شعري متى كان ذلك؟ وكان الظلام قد نشر ملاءته السوداء على أكتاف الدير، فالتفتت إليه وحدَّقت النظر فيه، فلمحت بياض الكتاب في يده، فعجبت له كيف يستطيع القراءة في هذا الظلام الحالك، فنهضت من مكانها، ومشت نحوه تختلس خطواتها اختلاسًا حتى بلغته، فوقفت بجانبه، فرأت عينيه مغمضتين، ورأته لا يزال مستمرا في قراءته، فاشتدَّ ذعرها وخوفها، ووضعت يدها على كتفه، وقالت له: كيف تستطيع القراءة والظلام حالِكٌ وعيناك مغمضتان؟
فانتفض انتفاضةً شديدة، فسقط الكتاب من يده، وسقط رأسُهُ على صدره! وساد بينهما سكونٌ عميقٌ ذُهِلَ كل منهما فيه عن نفسه، ثم أخذت روكسان تستفيق شيئًا فشيئًا، وتقول بينها وبين نفسها: آه، ماذا أرى؟! إن الأمر هائلٌ جدا إن النغمة التي أسمعها منه الآن هي بعينها النغمة التي كانت ترنُّ في أذني ليلة الشرفة منذ خمسة عشر عامًا! لا بد أن يكون هو صاحبها!
آه ما أعظم شقائي! لقد فهمت الآن كل شيءٍ، وليتني ما فهمت شيئًا! ثم وقفت أمام سيرانو صامتةً مطرقةً حتى استفاق من غشيته، فتقدمت نحوه، وأخذت بيده وقالت له: لا تُخْفِ عني شيئًا يا صديقي، فقد علمت الحقيقة المؤلمة التي لا ريب فيها، لقد كُنت أنت الذي ناجاني ليلة الشرفة، وحدَّثني عن الحب، وكشف لي عن خبايا القلب الإنساني!
فقاطعها وهو يرتجف ويرتعد، وقال: لا، لا، لم أكن أنا. قالت: وكان الظلام في تلك الليلة حالكًا جدا فلم أستطع أن أتبيَّنك لأعلم أنك أنت الذي يحدثني ويناجيني!
فصاح: لا، وأقسم لك. قالت: وكانت تلك الكلمات العذبة الجميلة التي سحرتني وملكت عليَّ شعوري ووجداني كلماتك!
فصرخ: لا، بل كلماته. قالت: وذلك الصوت الموسيقي الذيكان يرنُّ في أذني رنين القيثارة الإلهية في آذان سكان السماء، كان صوتك! قال: لا.
قالت: وتلك الرسائل البليغة المؤثرة التي جشمتني مشقة السفر من باريس إلى أراس،كانت رسائلك! قال: لا. قالت: وذلك الكتاب الذي قرأته الآن بتلك النغمة العذبة الجميلة،كان كتابك!
قال: لا تصدقي ذلك يا سيدتي، فما أذكر أنني أحبَبْتك في حياتي قط! قالت: أحببتني ولا تزال تحبني حتى الساعة! قال: ذلك مستحيل؛ لأن مثلي لا يجرؤ على أن يحب مثلك!
قالت: ذلك ما حملك على كتمان أمرك وتمثيل هذا الدور المحزن الأليم!
قال وقد بدأ صوته يضعف ويتهدج: إنك واهمةٌ يا روكسان. قالت: ما أنا بِوَاهِمَةٍ ولا مخدوعة، ولِمَ كتمْتَ أمْرَك عني هذه السنين الطوال ما دمت تحبني، وما دام هذا الكتاب كتابك وهذه الدمعة دمعتك؟
قال: ولكن الدم دمه. قالت: قد اعترفت من حيث لا تدري، فوا رحمتاه لك أيها البائس المسكين! وأطرقت برأسها إطراقًا طويلًا لا يعلم إلا الله ماذا كانت تحدثها نفسها فيه، وإنهما لكذلك إذ دخل لبريه وراجنو وهما يصيحان ويولولان حتى دنوا من سيرانو.
فقال لبريه: ماذا صنعت بنفسك أيها المسكين؟ ولماذا جئت إلى هنا وقد أوصاك الطبيب بملازمة فراشك لا تبرحه لحظة واحدة؟
فصاحت روكسان: الطبيب! ولماذا؟ قال لبريه: ألا تعلمين ما حل به يا سيدتي حتى الآن؟ قالت: لا أعلم شيئًا، فأراد أن يقص عليها القصة،
فقاطعه سيرانو وقال له: أتدري يا لبريه لم جئت إلى هنا برغم أوامر الطبيب؟ قال: لا.
قال: لأتلو على روكسان الجريدة الأسبوعية التي اعتدت أن أتلوها عليها يوم السبت من كل أسبوع، ولا أستطيع أن أخلف وعدي لها!
ثم التفت إلى روكسان، وقال لها: إنني لم أتمم لك جريدتي الأسبوعية، فاسمحي لي بإتمامها،
ثم أنشأ يقول: وفي يوم السبت الثالث والعشرين من شهر مايو سنة 1655 ، قتل المسيو سيرانو دي بيرجراك! وهنا حسر قُبَّعته عن رأسه فظهرت الأربطة والضمائد المحيطة به مضرَّجةً بالدم: فذعرت روكسان وحنت عليه، وقالت: ماذا صنعوا بك يا صديقي؟
قال: كنت أتمنى طول حياتي أن أموت في ميدان حربٍ بضربة سيفٍ من يد بطلٍ، فقضى الله أن أموت في زقاقٍ ضيقٍ بجذع شجرةٍ من يد خادم، لأكون قد حرمت من كل شيءٍ في حياتي، حتى الميتة التي أحبها!
وأطرق برأسه ثانية، وظل على ذلك ساعة وقد ساد من حولة سكونٌ عميق لا تسمع فيه إلا معمعة الأحشاء المتقدة في قلوب الجاثين حوله. ثم استفاق قليلًا، فرفع رأسه وفتح عينيه، فرأى راجنو جاثيًا تحت قدميه يبكي وينتحب، فقال له: لا تبك يا راجنو، وقل لي ما مهنتك اليوم، فإن لك في كل يوم مهنة
قال: أنا الآن خادمٌ عند موليير ولكني سأترك خدمته منذ الغد. قال: لماذا؟ ،
قال: لأنه لصٌّ من لصوص الأدب، وهم عندي أقبح اللصوص وأسفلهم!
قال وهو يبتسم:،« أجريبين » هل سرق من شعرك شيئًا؟ قال: لا، بل من شعرك أنت، فقد سطا على روايتك التي مُثِّلت ليلة أمس.
قال: « إسكابين » وأخذ منها موقفًا كاملًا وضمنه روايته الجديدة لقد أحسن فيما فعل، وماذا كان وَقْعُ ذلك الموقف في نفوس الجماهير؟
قال: ما زالوا يضحكون حتى رحموا أنفسهم. قال: ذلك كل ما يهمني، فلقد قُدِّر لي طول عمري أن يكون دوري في رواية الحياة دور الملقن، الذي لا يعده الجمهور شيئًا وهو كل شيء!
ثم التفت إلى روكسان وقال لها: أتذكرين تلك الليلة التي كنت أحدثك فيها بلسان كرستيان؟
قالت: نعم، أذكرها ولا أذكر شيئًا سواها. قال: إنها رمز حياتي من أولها إلى آخرها، صعد كرستيان منذ خمسة عشر عامًا إلى شرفتك؛ ليتناول القبلة التي سمحت له بها مكافأة له على تلك الكلمات البليغة المؤثرة التي أنا صاحبها ومبتكرها، واليوم بهتاف الجماهير، وتهليلهم إعجابًا بتلك القطعة الهزلية البديعة التي « موليير » يتمتع خَطَّهَا قلمي، وما أنا بآسفٍ على ذلك ولا وَاجدٍ، فكرستيان فتى جميل، فيجب أن ينال هو القُبلة، وموليير شاعر شهير، فيجب أن يكون هو صاحب القطعة! والتفت حوله فرأى الراهبات داخلات إلى الكنيسة في ملابسهن البيضاء، وهن يرتلن فأصغى إلى أصواتهن ساعةً ثم تأوه طويلًا وقال: آه، ما ،« الأرغن » صلواتهن على نغمات كنت أعبأ بالحياة، ولا آسف على شيءٍ فيها لولا الموسيقي وروكسان؛ ولئن كان صحيحًا ما يقولون من أن في السماء موسيقي كما في الأرض، وأن الصديقين اللذين يفترقان في هذه الدار يلتقيان في الدار الأخرى غدًا، فليس ورائي ما آسف على فراقه!
فصاحت روكسان: ابْقَ في الحياة يا سيرانو فإنني أحبُّك! قال: ذلك مستحيل، إلا إذا استطاعت كلمتك هذه أن تمحو قبحي ودمامتي، كما رووا في بعض الأساطير أن أميرًا دميم الخلقة سمع مرةً من يقول له: إني أحبك، فتلاشى قبحه بتأثير تلك الكلمة، وأصبح جميلًا وضيئًا، ولو أنني عشت بعد اليوم ألف سنة ما نقص ثقل أنفي قيراطًا واحدًا!
فبكت واشتد نشيجها، وقالت: اغفر لي ذنبي يا سيرانو، فقد كنت السبب في جميع ما حل بك في حياتك من المصائب. قال: لا، بل بالعكس، فلقد قضيت حياتي كلها محرومً الذة عطف المرأة وحنانها، حتى إن أمي كما حدثوني لم تكن تستطيع أن تراني جميلًا كما يرى الأمهات أولادهنَّ المشوهين،
ولو كانت لي أختٌ أو عمةٌ أو خالة لكان شأنهن معي ذلك الشأن، ولم أرَ يومًا من الأيام في عيون النساء جميعًا — جميلاتٍ كُنَّ أو دَميماتٍ— غير نظرات الهزء والسخرية والنفور والاشمئزاز،
وأنت المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تتخذني صديقًا، واستطعت أن ألجأ من عطفها ورحمتها إلى ظل ظليل، فما أعظم شكري لك!
فقالت: عِشْ يا سيرانو فإني أحبك، بل ما أحببت في حياتي أحدًا سواك، وما لبست ثوب الحداد خمسة عشر عامًا إلا من أجلك!
قال: لا تحاولي الغدر بكرستيان يا سيدتي، واحذري أن يخف حزنك عليه، وبكاؤك على مصرعه، فإنه صديقي، وكل ما أطلبه إليك أن تضمي إلى شارات حدادك شارةً صغيرةً من أجلي؛ ليكون حزنك عليَّ جزءًا من حزنك عليه.
فصاحت: آه ما أشقاني! لقد أحببت في حياتي حبيبًا واحدًا ففقدته مرتين!
وكان كوكب الليل قد أشرق من مطلعه، فانبسطت أشعته في فناء الدير، فانتعش سيرانو حين رآه وقال: ها هو ذا صديقي قد أرسل إليَّ أشعته لتحملني إليه، « فيبيه » فشكرًا له على ذلك، سأصعد الليلة إلى السَّماء على نعشٍ جميلٍ من تلك الأشعة الفضية اللامعة، بدون أن أحتاج إلى تلك الآلات الرافعة التي سَرَدْتُها على الكونت دي جيش،وسيكون مقامي هناك في ذلك الكوكب الجميل مع تلك النفوس العظيمة، التي أحبها وأجلها: سقراط، وأفلاطون، وغاليلي، وجميع الذين ماتوا ضحايا صدقهم وإخلاصهم! وهنا انتحب لبريه وقال: وا أسفا عليك أيها الصديق الكريم! وما أشد ظلمة الحياة من بعدك! فانتبه إليه سيرانو وقال له: لا تحزن عليَّ كثيرًا يا لبريه؛ فإني ذاهبٌ لملاقاة صديقيكاربون دي كاستل، وسائر أبناء وطني الذين ماتوا ميتة الشرف والفخار في ميدانأراس، وسيكون مجتمعنا هناك جميلًا جدا لا يكدره علينا ممثلٌ ثقيل، ولا نبيلٌ جاهل ولا شاعرٌ مغرور! وصمت صمتًا طويلًا كان يعاني فيه من الآلام ما لا يحتمله بشرٌ، ثم ثار من مكانههائجًا مضطربًا، وجرَّد سيفه من غمده وأخذ يصيح: لا لا، لا أريد أن أموت على هذا
المقعد ميتة العاجز الجبان! فذعر أصدقاؤه ونهضوا بنهوضه، وحاول راجنو أن يمسكه، فدفعه عنه، وأسند ظهره إلى شجرة ضخمة، وقال: دعوني فإني أريد أن أموت واقفًا. وأخذ ينظر أمامه ويحدق النظر، كأنما يرى شبحًا مقبلًا عليه، ثم قال: تعالَ أيهاالموت! تقدم ولا تَخَفْ! فقد أصبحت رجلًا ضعيفًا خائرًا، لا قبل لي بمواثبتك ومغالبتك،تقدم، فما أنا بسيرانو دي بيرجراك، إنما أنا خياله الماضي وصورته الضئيلة، فهل بلغبك الجبن أن تخاف الصور والخيالات؟ لقد ضعف في يدي ذلك السيف الذي كنت أقاتلكبه، وأصبح رأسيثقيلًا ويداي مغلولتين، وكأن قدمي مصبوبتان في قالبٍ من الرصاص،أقبل ولا تخف، ما لي أراك تنظر إلى أنفي نظر الساخر الهازئ؟ أشماتة هي أيها الساقطالجبان؟ ماذا تقول؟ تقول: إنك أقوى مني؟ نعم، ما أنكرت عليك ذلك، ولكني على هذاسأقاتلك وأثبتُ؛ لا لأني أطمع في أن أنتصر عليك؛ بل لأني أريد أن أموت ميتة الأبطال من قبلي! ثم أخذ يدير عينيه يمنةً ويسرةً ويقول: من هؤلاء؟ مرحبًا بِكُنَّ أيتها الرذائل، لقدعرفتكن يا أعدائي القدماء؟ ما أكثر عددكن، وأقبح وجوهكن! نعم، سأموت، ولكن بعدأن شفيت منكن عليلي ومثلت بكنَّ أقبح تمثيلٍ، اغربن من وجهي، قبَّحكن لله وقبَّح صوركن وأزياءكن. وظل يطعن بسيفه يمينًا وشمالًا، وأمام ووراء، ويقول: خذ أيها الكذب، خذ أيها الطمع، مت أيها الغدر، تبا لك أيتها الخيانة! وظل يدور حول نفسه ساعة حتى بلغ منه الجهد، فسقط بين أذرع لبريه وراجنو،وظل على ذلك هُنَيْهَةً، ثم فتح عينيه وحدق النظر أمامه طويلًا، وقال: تقدم أيها الموتوخذ ما تريد مني؛ أتدري ماذا تستطيع أن تسلبني؟ إنك تستطيع أن تسلبني حياتي،وجسمي، وهذا السيف العزيز عليَّ، وهذه الريشة التي وضعتها يد الفخار في قبعتي، بلجميع ما تملك يدي، ولكن شيئًا واحدًا لا تستطيع أن تسلبنيه، وسيرافقني في سفرتيالتي انتويتها إلى السماء حتى أقف به بين يدي لله تعالى رافع الرأس عزةً وفخارًا، وهو … وهنا عجز عن النطق، فحاول أن ينطق الكلمة التي أرادها فلم يستطع، فانحنتعليه روكسان وقبَّلته في جبينه، وأرسلت دمعةً حارةً على وجهه، وقالت: وما هو يا سيرانو؟ ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فابتسم وقال: حريتي واستقلالي! ثم خفق قلبه الخفقة التي لم يخفق بعدها!
وكذلك انقضت حياة هذا الرجل العظيم كما تنقضي حياة أمثاله من العظماء؛ لم يتمتع يومًا واحدًا برؤية مجده وعظمته، حتى إذا قضى سمح له التاريخ بعد مماته بما ضن به عليه في حياته! أما روكسان فلم يعلم الناس من أمرها بعد ذلك شيئًا سوى أن مقعدها الذي كانت تقعد عليه أمام منسجها قد أصبح خاليًا مقفرًا، فلم يعرفوا ألزمت جوف محرابها تدعو الله تعالى ليلها ونهارها أن يلحقها بصديقها، أم رقدت بجانبه في مقبرة الدير الرَّقدة الدائمة!


تمت


الساعة الآن 06:35 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
أنت تقرأ من منتديات روضة الكتب فانسب الحقوق إلى أهلها