المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية سوق


AshganMohamed
01-30-2020, 10:20 PM
حكاية سوق
(رواية)
شاكر خصباك –





الطبعة الأولى
2010م




البداية





حمود الدلال – يا أهل سوق هرج.. يا أهل سوق هرج.. المتصرّفية تنذركم بإخلاء دكاكينكم وتمهلكم حتى نهاية الشهر.. المتصرّفية تنذركم بإخلاء دكاكينكم وتمهلكم حتى نهاية الشهر.
الحاج عبد العباس – (بلهجة محتدمة) اسكت يا منحوس. أأنت فرحان بهجمان بيوتنا؟
حمود الدلال – وماذنبي يا حاج عبد العباس؟ هذا قرار المتصرّفية وأنا مثلكم سينهجم بيتي.
الحاج رخيّص- الحق معه يا أبو أحمد. إنه قرار الحكومة، والحكومة دائماً خرّابة للبيوت فهي لا يهمها ماذا سيكون مصير أهل السوق وكيف سيعيشون بعد أن تهدم دكاكينهم.
حسنية – ويلي عليّ.. ويلي عليّ .. ويلي عليّ..
فليّح – وهل نسكت على هذا القرار يا إخوان؟!
بهلول – (بلهجة متعتعة) الحكومة.. حكومة.. وهي مطاعة.
الحاج عبد العباس – وهل بقدرتنا أن نعاند الحكومة؟
فليّح – ولماذا لا نعاند الحكومة يا أبو أحمد؟ المفروض أنها خادمة الشعب وليست عدوة الشعب.
الحاج رخيّص – ومتى كانت الحكومة خادمة الشعب؟!
جاسم – هدم سوق هرج معناه تدميرنا.
فليّح – وهل نسكت على ظلمها؟
علوان – سكتنا أم لم نسكت فالحكومة تفعل ما تشاء.
الحاج كمكم – في هذا القرار فائدة للحلة يا جماعة فستشق شارعاً جديداً يجمّلها وستدفع لنا تعويضاً مجزياً.
جاسم – أنت مهتم بالتعويض يا حاج كمكم وليس بجمال الحلة.
الحاج كمكم – أشكوك إلى الله يا جاسم.
علوان – حقيقة المتصرّفية تبذل كل جهودها لتجميل مدينتنا. ألم تحوّل تلّ الرماد إلى جنائن معلقة؟ ألم تحوّل الأزقة الضيقة إلى شوارع فسيحة؟! ألم تنشئ شارع الكورنيش الذي يموج بالمتنزهين والمتنزهات عصر كل يوم؟ ألم تنشئ حديقة للرجال وأخرى للنساء تطلان على النهر؟ ألم تهتم بالشوارع الكبيرة فترشها كل عصر بالماء والدي دي تي لتخلصنا من الناموس؟ وكل ذلك بفضل همّة المتصرف.
جاسم – أنت كل ما يهمك يا علوان هو حديقة النساء.. أما مصيرنا فلا يعنيك.
الحاج كمكم – ولا تنسوا ياجماعة أننا سنتخلص أيضاً من "عكد المفتي" المجاور ومن فضائحه.
العم كامل – اتق الله في عباده يا حاج كمكم.
الحاج كمكم – وهل افتأت على عكد المفتي يا حاج كامل؟! ألم يقتل شعنون أخته في الأسبوع الفائت غسلاً للعار بعد أن افتضح أمرها؟
الحاج رخيّص – وهل يهون عليك يا حاج كمكم مفارقة "مسجد الغيبة" الذي يشرّف سوقنا؟
الحاج عبد العباس – أي والله .. صدقت يا أبونا الحجّي
الحاج كمكم – لكن الحكومة ستعوضنا تعويضاً مجزياً يا حاج رخيّص.
الحاج رخيّص – أتمنى على الله أن يقبض روحي يا حاج كمكم قبل أن أشهد هذا اليوم.
جاسم – الله يطول لنا في عمرك يا أبونا الحجي. والله سوق هرج لا يسوى بدونك.
الحاج عبد العباس – لا عاب فمك يا جاسم.
العم كامل – (بلهجة متئدة) لا تقلقوا يا محترمين. إذا أغلقت الحكومة باباً أمامنا فسيفتح الله لنا باباً آخر.
حسنية – ويلي عليّ.. ويلي عليّ.. ويلي عليّ
علوان – لماذا تولولي يا حسنية؟ ماذا سيضرك تهديم سوق هرج؟ كل أهالي الحلة يحبون الباقلاء وبإمكانك أن تبيعي الباقلاء في أي سوق آخر.
حسنية – أهل سوق هرج هم أهلي وليس لي أهل غيرهم. والعم كامل لا يوجد مثله في أي سوق آخر.
جعيفر – أحسنت يا حسنية.
بهلول – هم ليسوا أهلك وحدك يا حسنية.. هم أهلي أنا أيضاً. ولكن أوامر الحكومة مطاعة.
جعيفر – أسكت يا بهلول. مالك والحكومة؟
بهلول – أليست هي حكومتي؟!
فليّح – وهل نسكت على هذا القرار المجحف بنا يا إخوان؟!
الحاج كمكم – أذكّركم يا أهل سوق هرج أن من حق المتصرّفية هدم الأسواق والبيوت من أجل المصلحة العامة ولا حق لأحد الاعتراض عليها.
علوان – (وهو يضحك) ومتى كنت تبحث عن المصلحة العامة يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – أسكت يا شيطان.
فليّح – وهذا ما فعلته المتصرّفية وهي تفتح الشوارع الجديدة. وكم من بيوت هدّمت من دون أن تسأل الحكومة ماذا حلّ بأصحابها.
علوان – ولكن يجب أن نعترف يا فليّح أنها جعلت الحلة جنّة.
بهلول – نعم .. نعم. المتصرّفية جعلت الحلّة جنّة.
جاسم – أنت يا علوان نصبت نفسك محامياً عن المتصرّفية منذ أنشأت حديقة للنساء.
علوان – أنا لا أدافع عن المتصرّفية يا جاسم وكل ما هناك أنني أقول الحق. وإلا فهل من المعقول أن يهون عليّ مفارقة سوق هرج وأنا تربيت فيه؟
الحاج كمكم – (باستهزاء) طبعاً لا يهون عليك مفارقة سوق هرج!
جعيفر – أنا لا حياة لي بدون سوق هرج.
الحاج عبد العباس – والنِعِم يا جعيفر. أنت طول عمرك تخدم سوق هرج يا أبو الشهامة.
فليّح – يجب أن نكون يا إخوان يداً واحدة في مواجهة قرار الحكومة.
العم كامل – لا تدخل هذه القضية في باب مواجهة الحكومة يا فليّح فنحن في غنى عن المشاكل. ونحن نحترم المتصرف فهو شخص نزيه خدم الحلة بكل تفان.. ولا تنسوا يا محترمين كيف كان يشرف بنفسه على تلّ الرماد ليحيله إلى جنائن معلقة وصلعته تلمع تحت وهج شمس تموز.
الحاج عبد العباس – الشهادة لله المتصرف خدم الحلة بإخلاص فعلاً. لكن هذا القرار يكسر ظهورنا يا عم كامل.
فليّح – حقوق المواطنين لا تقبل المحاباة والمجاملة يا إخوان وهذه القضية تتعلق بصميم حياتنا.
الحاج عبد العباس – والله إنها ورطة وليس لها حل.
جعيفر – حلّها عند حكيمنا عمي كامل يا أبو أحمد.
الحاج عبد العباس – صحيح .. صحيح .. أنجدنا بالحل يا حكيمنا.
العم كامل – أرى أن نتحدث مع المتصرف مباشرة ونرجوه أن ينظر بعين الرأفة إلى أهل سوق هرج وأن يلغي هذا القرار المجحف بهم.
فليّح – إسمح لي يا عم كامل أن أقول إن مثل هذا الحل مذل لنا ونحن لا نطلب منّة من الحكومة بل حقاً من حقوقنا. وعلينا أن نقف موقفاً صلباً وألاّ نجامل المتصرف على حساب حقوقنا.
الحاج كمكم – (باستهزاء) طبعاً.. طبعاً.. لكي نخرب بيوتنا بأيدينا.
العم كامل – لا يا فليّح.. مناطحة الحكومة ليس في صالحنا.
أصوات مختلطة – صدقت يا حكيمنا.
فليّح – يا إخوان التذلل للحكومة يزيدها تجبراً علينا. ولن نحلّ مشاكلنا بالخضوع لها.
العم كامل – ولن نحل مشاكلنا معها بمناطحتها يا فليّح.
جاسم – أليس هناك حل آخر ننقذ به سوقنا إذن؟
الحاج عبد العباس – الحل هو الذي قاله حكيمنا العم كامل.
الحاج رخيّص – صدقت يا أبو أحمد.. وأنت يا حاج كامل خير من يقوم بهذه المهمة.
جعيفر – أي والله يا أبونا الحجّي.
العم كامل – وأنا جاهز..
أصوات مختلطة – مشكور يا عم كامل.
حسنية – (وهي تطلق زغرورة طويلة) اللهم صلي على محمد وآل محمد.. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد
الحاج كمكم – والله ستضيعون علينا فرصة التعويض..



المؤلف
(؟؟؟)










لقد كنت حاضراً هذا النقاش وراعني الحماس الذي أبداه الجميع لسوقهم. ولا بد أن يكون لكل واحد منهم حكاية وراء هذا الحماس. وسأحاول استجلاء بعض تلك الحكايات. ثم سأقوم بصياغتها بقلمي لأرفعها إلى المتصرف لعلها تقنعه بصرف النظر عن مشروع هدم سوق هرج.











الحاج رخيّص
(أبونا الحجّي)


المؤلف – حدثني يا حاج رخيّص عن حكايتك مع سوق هرج. ويبدو لي مما سمعته أنك أشد أهل السوق تمسكاً به، وأن أهل السوق يعتبرونك أباهم.
الحاج رخيّص – وهل تستغرب ذلك يا أبني؟ ألا ترى أنني أكبرهم سنّاً؟
المؤلف – أطال الله في عمرك. والحمد لله أنك ما زلت في صحة جيدة وإن انحنى ظهرك وابيض شعرك.
الحاج رخيّص – لا يغرّنك منظري يا إبني فصحتي ليست على ما يرام. والشكوى لغير الله مذلّة. وقد ضعف بصري وأخشى ما أخشاه أن يكفّ فيتعذر عليّ الحضور إلى الدكّان.
المؤلف – لا قدّر الله . وإن شاء الله لا يحدث لك إلا كل خير. ولكن اسمح لي يا حاج رخيّص أن أتساءل.. ألا يجدر بك أن تتقاعد عن العمل ما دمت تعاني من هذه المتاعب الصحية؟
الحاج رخيّص – وهل تسمي ما أقوم به عملاً يا إبني؟ فأنت ترى أن دكاني لا يشتمل إلا على حاجيات بسيطة. فأنا في الحقيقة أوهم نفسي بأنني ما زلت قادراً على العمل. وليس لي خيار في ذلك. فإذا لم أشعر بأنني قادر على العمل فعليّ أن أمكث في الدار منتظراً ملاك الموت. وقد أضطر إلى أن أكلم نفسي لأن أهل البيت مشغولون عني ونادراً ما يفرغون للحديث معي. وقد ماتت أنيستي أمّ الأولاد التي كانت لا تملّ من الحديث معي. وأنا الآن أعيش في دار ولدي الأصغر وزوجته التي لا تجد وقتاً للتحدث معي. وصدّق أو لا تصدق أنني أشعر بأنني أصبحت بالنسبة لأولادي زائداً ولا حاجة لهم بوجودي. ويظهر أن هذا هو مصير من تتقدم به السن. فهل نشقى في تربية أولادنا لتكون هذه نهايتنا؟!
المؤلف – لا.. لا ياحاج رخيّص، أنتم الخير والبركة.
الحاج رخيّص – لكنني ما أزال شخصاً مرغوبا به في سوق هرج. والشبان يحضرون إلى دكاني دائماً ليستمعوا إلى فكاهاتي وحكاياتي عن الأيام الخوالي. وهم يعزّونني من كل قلوبهم ويتولون فتح دكاني وإغلاقه.
المؤلف – الحق معك يا حاج رخيّص إن اعتززت بسوق هرج فالكل هنا يجلّك فعلاً.
الحاج رخيّص – الحمد لله فسوق هرج بات الكل في الكل في حياتي. وهو قطعة من جسدي ورفيق عمري منذ وعيت على نفسي. واعلم يا إبني أنني لازمت سوق هرج منذ بلغت السادسة من عمري. وصدّق أو لا تصدق أن أهل السوق كانوا يعزونني وكأنني إبنهم وكنت أتنقل بينهم من دكان لدكان. وكان الباعة المتجولون يهدونني بضاعتهم بلا مقابل في غالب الأحيان. فكان فمي لا يهدأ طوال اليوم. وكل ذلك تقديراً لمكانة أبي رحمه الله في سوق هرج.
المؤلف – فاسمح لي إذن يا حاج رخيّص أن أسألك: هل ترى أن أحوال سوق هرج يومذاك كانت أفضل مما هي عليه اليوم؟
الحاج رخيّص – أهل سوق هرج اليوم ما زالوا طيبين وإن أصبحوا أشد تهالكاً على المال. وكان أهل سوق هرج القدماء أكثر منهم تعاوناً وتكاتفاً. وأتذكر أنهم في أيام الحرب العالمية الأولى حينما شح الطعام وأخذ الناس يموتون جوعاً كانوا يتقاسمون الطعام فيما بينهم. وأنا شخصياً لن أنسى إلى نهاية عمري وقفتهم معي في أيام "دكّة عاكف".
المؤلف – وما "دكّة عاكف" هذه يا حاج رخيّص؟
الحاج رخيّص – أفلم تسمع بها يا أبني؟ ولكن الحق معك فأنت لم تكن قد ولدت بعد. المقصود بها يا إبني الأحداث الشنيعة التي ارتكبها القائد التركي عاكف بأهل الحلة. وقد وقعت تلك الأحداث منذ زمن بعيد.. قبل الحرب العالمية الأولى. وكان الحاكم التركي يومذاك سيئاً مع الناس، فقرروا الانتفاض عليه. وكان يستعين بحامية من الجند الأتراك التي كانت تعسكر عند باب النجف بجوار الجبل. فتنادى أهل الحلة بالتصدي لها. وتجمع المتطوعون من محلات الحلة وأسواقها وتكونت منهم قوة كبيرة. وتطوع أبي المرحوم نيابة عن سوق هرج. وتصدت هذه القوة للحامية التركية ودارت معركة طاحنة بينهما. وكان نسوة محلة الجامعين يتسوّرن سطوح بيوتهن المشرفة على ساحة المعركة ويطلقن الزغاريد لتشجيع رجال الحلة الأبطال. فاستبسلوا في القتال وأبادوا جند الحامية التركية. وتناثرت جثثهم في ساحة المعركة. ولم يكن عدد الحامية كبيرا. وعاشت الحلة شهراً من الاحتفالات بفوزها العظيم. ولكن ما أن انقضى شهر حتى تناهت الأنباء بأن قوة كبيرة يقودها قائد متمرس اسمه عاكف في طريقها إلى الحلة للانتقام من أهلها. فدبّ الرعب بين الناس وراحوا يتسابقون إلى هجرها لائذين بريف المدينة. فكانت الطرق المؤدية إلى الريف تزدحم كل يوم بقوافل المهاجرين الفزعين ممتطين البغال والحمير المحمّلة بحوائجهم وكأنهم في يوم الحشر. وكانت غالبية القوافل من النساء والأطفال وبعض الرجال الذين اشتركوا في القتال ضد الحامية التركية. وقد ارتأى أبي أن نخرج مع الفارّين، أما هو فقرر البقاء ليحمي الدكان والبيت. وقد حاول أهل سوق هرج إقناعه بمغادرة المدينة لأنه قد يكون من المطلوبين لكنه أبى ذلك. وكان يردد: (عار عليّ أن أفرّ من مواجهة القوة التركية وسنواجهها كما واجهنا الحامية السابقة وندحرها). وما زلت أتذكر كلماته التي خاطبني بها ونحن نغادر المدينة قال: (أنت يا رخيّص أصبحت مسؤولاً عن العائلة فقد لا يقيض لي الله البقاء.. فكن رجلاً جديراً بالمسؤولية وابذل ما في وسعك لرعاية أمك وأخواتك). ولم أكن آنذاك قد جاوزت الرابعة عشرة. ولقد استقبل أهالي ريف الحلة الفارين استقبالاً كريماً وشملوهم برعايتهم وهيئوا أنفسهم للدفاع عنهم.
ولقد نفذ القائد التركي عاكف تهديداته فاستحل الحلة لأسبوع كامل وعاث جنده فيها فساداً. واستهدف كل من شارك في قتال الحامية التركية وقبض عليهم وعلق أجسادهم على باب النجف. ثم أحرق بيوتهم ودكاكينهم. وكانت أشد المحلات تضرراً محلة الجامعين. فقد كان أبناؤها في مقدمة المشاركين في دحر الحامية التركية. وتفشى الفزع والدمار في الحلة لأسابيع حتى أشبع عاكف غلّه فهجرها وهي حطام . وسمى أهل الحلة بطشه بمدينتهم "دكّة عاكف".
وبما أن من شارك في قتال الحامية كانوا في مقدمة المستهدفين فقد تلقينا نحن نصيبنا من بطش عاكف فأحرق بيتنا ونهب دكاننا. ويمكنك أن تتخيل حالي يا ابني وقد ألفيتني وأنا فتى صغير مسؤولاً عن عائلة منكوبة فقدت معيلها وخُرّب بيتها ونهب دكانها. وكدت أضيع وتضيع معي عائلتي لولا وقفة أهل سوق هرج معي. فقد تولوا ترميم بيتنا وأعادوا فتح دكاننا وأسهم كل فرد منهم في إمداده بالبضائع. وقد اعتبرت ذلك ديناً علي. وصدق أو لا تصدق أنهم رفضوا أن يقبلوا مني فلساً واحداً، ولم يكن بإمكاني يوم ذاك إدارة الدكان لوحدي. فكان يتطوع أحدهم كل يوم لمساعدتي حتى أمكنني الوقوف على قدميّ.
المؤلف – حقّاً إنه لموقف عظيم الشهامة منهم.
الحاج رخيّص- ألم أقل لك أن الناس كانوا أعظم تكاتفاً وتعاوناً في الأيام الخوالي منهم اليوم؟ وكانوا أكثر تشاركاً في أفراحهم وأتراحهم. وكانوا لا يفوتون فرصة لذلك. فاحتفالات الزواج والختان كانت تقام في سوق هرج على مدار العام. وكم كان احتفالهم بزواجي بهيجاً. ومازلت أعتبر يومه من أجمل أيام عمري.
أما مجالس العزاء على روح الإمام الشهيد فكانت تقام في سوق هرج على مدار العام. وكانت "الزيارة" إلى مرقدي الإمام علي والإمام الشهيد تجري في مواعيدها ولا يتخلف عنها أحد. وأما احتفال سوق هرج بعشرة عاشوراء فكان من أفخم الاحتفالات في الحلة.
المؤلف - يا لها من ذكريات رائعة!
الحاج رخيّص – ولقد حكيت لك الآن يا ابني عن وقفتهم معي في نكبتي. فهل تريد أن أحكي لك عن وقفتهم معي في فرحتي وهي مناسبة حجتي؟
المؤلف – أكون ممتناً لك يا حاج رخيّص. وحكاياتك رائعة فعلاً ولا عجب أن يقبل على سماعها شباب السوق.
الحاج رخيّص – إذن فاسمع حكايتي عما فعلوه معي بمناسبة حجّتي. وكنت أول شخص في سوق هرج يكرمه الله بزيارة بيته الحرام. وقد استعدوا لهذه المناسبة قبل موعدها بأسابيع. فابتاعوا جمل الرحلة وما يتطلبه من حوائج. وفي يوم السفر أقفلوا دكاكينهم ورافقوا جملي إلى باب النجف. وكانوا يحملون الرايات الخضراء ويقرعون الطبول والدفوف ويهزجون بالأغاني الدينية.
المؤلف – لا شك أنه كان احتفالاً رائعاً.
الحاج رخيّص – وإذا كان احتفالهم بتوديعي بتلك الحماسة فقد استقبلوا عودتي بحماسة أشد. فحينما شارفت قافلتنا باب النجف هبّوا يتراكضون نحوي وهم يلوّحون بالرايات. والتفوا حول جملي وهم يشبعون وجهي ويديّ لثماً وتقبيلاً وعيونهم مغرورقة بالدمع. وانكب البعض منهم على الجمل يمسحون أيديهم في كل شبر من أشبار جسده.
ثم قادوا الجمل إلى سوق هرج وهم يهللون ويكبرون. ولما بلغنا السوق بدت لي الدكاكين وقد زيّنت بأغصان الشجر وعلقت عليها الرايات. وكانت أرض السوق قد فرشت بالأبسطة من رأس السوق عند تقاطعه مع سوق الحشاشة حتى مسجد الغيبة. وكانوا يتزاحمون حولي متبركين بمسح أيديهم برأسي ووجهي. وبلغ الحماس ببعضهم أن قطعوا أجزاء صغيرة من ردائي للتبرك به. وصدقّ أو لا تصدق أنهم انقطعوا عن العمل لمدة أسبوع كامل كانت الاحتفالات أثناءه قائمة على قدم وساق. وكانت الولائم تولم فيه للزوار الذين يتوافدون من الأسواق المجاورة. وقد تكفّل بتلك الولائم المقتدرين من أهل السوق. فكان عيداً حقيقياً لسوق هرج لم يشهد له مثيلاً. ولم يكن أهل السوق والزوّار يملّون من الاستماع إلى حكاياتي عما لقيته قافلتنا من أهوال في الطريق إلى الحجاز والطريق ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكانوا يصغون إليها بشغف عظيم وهم يهللون ويكبرون.
المؤلف – اسمح لي أن أسألك يا حاج رخيّص.. هل كنت تروي لهم تجاربك الحقيقية أم كنت تبالغ ببعض تلك الحكايات؟ فمن المعروف حتى اليوم أن بعض الحجاج يبالغون في حكاياتهم عما لقوه من المصاعب والمشقات.
الحاج رخيّص – ولماذا أبالغ يا إبني؟! لقد كانت مشقات الحج في تلك الأيام عظيمة جداً. ومازالت كذلك حتى اليوم. وصدق أو لا تصدق أننا تعرضنا للموت عدة مرات فيما بين النجف الأشرف ومكة المكرمة.
والسفر عبر الصحراء بحد ذاته يا إبني أمر مخيف للغاية. وقد واجهت قافلتنا هجوم قطاع الطرق من البدو مراراً عديدة لولا بأس حرّاسنا وشجاعتهم. وكان الطريق بين مكة والمدينة أشد خطورة. فقد هاجمت عصابات قطاع الطرق قافلتنا بضراوة أشد. أما ما كنا نلقاه من معاملة شرسة على أيدي حراس بيت الله الحرام ومسجد الرسول فلا حدود لها، وخصوصاً حينما نتمسح بالحجر الأسود أو نتبرك بسياج قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. فقد كان الحراس ينهالون علينا بالسياط. ولا تسلني عما نالني من أذى تلك السياط.
المؤلف – ما أجمل حكاياتك عن الأيام الخوالي يا حاج رخيّص ولا عجب أنك تحب سوق هرج وأهله.
الحاج رخيّص – بالطبع يا ابني فسوق هرج هو حياتي ولو هدّمته المتصرّفية ضاعت مني حياتي وضاع مني ماضيي كله. وأريد أن أختم حديثي معك يا إبني بالقول أنه إذا ركبت المتصرّفية رأسها وهدمت سوق هرج فستقترف خطأ كبيراً بحق الناس عموماً وليس بحق أهل سوق هرج فحسب. فهو منذ وجد أهم سوق يتاجر بالعباءة والعقال واليشماغ وهي الألبسة الضرورية التي لا يستغني عنها أحد.
المؤلف – إن شاء الله تتراجع المتصرّفية عن قرارها وتبقي لكم سوق هرج يا حاج رخيّص.







الحاج كامل
(العم كامل)


المؤلف – أنا مسرور يا عم كامل أن أتحدث معك في شؤون سوق هرج. وأنا لن أبدأك بالسؤال التقليدي وهو "لماذا تحب سوق هرج وتحرص عليه؟" لأنني أدرك مقدماً لماذا تحب أنت سوق هرج. فأنت شخصية محبوبة ومحترمة في السوق بإجماع الآراء. ومكانتك مناظرة لمكانة أقدم شخصية فيه وهو الحاج رخيّص. ومع ذلك يطيب لي أن تحكي لي عن حياتك وعلاقتك بسوق هرج.
العم كامل – وأنا أيضاً مسرور أن أتحدث إليك يا محترم فستكون المحامي المخلص والصادق عن السوق وأهله. فما الذي تحب معرفته؟
المؤلف – لقد علمت أن تواجدك في سوق هرج هو تفضّل منك. فأنت في غير حاجة للتكسب منه، وكل ما هنالك أنك تمضي وقتك هنا لتتاح لك فرصة مساعدة أهل السوق. وقيل لي أيضاً أنك كنت تعمل من قبل في تجارة الحبوب وأن أباك المرحوم كان من أكبر تجار الحبوب في الحلّة، وأنه ورث تجارته أباً عن جد.. أي أنك سليل طبقة التجار الكبار في المدينة.
العم كامل – أنت إذن تعرف الشيء الكثير عن حياتي. وليس عندي الكثير لأضيفه.
المؤلف – بالعكس يا عم كامل. فحياتك الحالية وعملك في هذا الدكان المتواضع يشكل لي لغزاً، وأرجو ألا يكون لديك مانع للكشف عن هذا اللغز.
العم كامل – في الحقيقة ليس هناك من لغز، ولا مانع عندي أن أحكي لك عن حياتي الماضية وإن كنت أعتقد أنها انطوت على ذنوب كثيرة أرجو أن يغفرها لي الله.
المؤلف – إن شاء الله فهو غفار للذنوب.
العم كامل – ما أخبرت به عني يا محترم صحيح. فأنا ابن عبدالستّار الراشدي الذي كان من أكبر تجار الحبوب أو تجار الطعام كما يسموننا في المدينة. وأبي قد ورث تجارته عن أبيه وعن جده. فأنا فعلاً وريث سلالة طويلة من التجار الكبار وهو أمر لا يشرفني.
المؤلف – ولماذا لا يشرفك يا عم كامل؟
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. لأن التجارة في أغلب صورها الربح غير المبرّر إلا فيما ندر، بل أحياناً الربح الفاحش على حساب الفقراء.
المؤلف – لكن التجارة ضرورية لاقتصاد البلاد وللحياة اليومية يا عم كامل.
العم كامل- بالطبع .. بالطبع. وأنا أتفق معك في أن التجارة ضرورية لاقتصاد البلاد وللحياة اليومية للناس ولكن ليس بالطريقة التي يمارسها التجار. فالغالبية العظمى منهم لا يخشون الله في تعاملهم مع الناس ولا يرون عيباً في أرباحهم الفاحشة زاعمين بأنهم يخاطرون برأس مالهم، وهي كلمة حق أريد بها باطل. فالمفروض فعلاً أن يعود عليهم استثمار رؤوس أموالهم بالربح. لكن المفروض أيضاً أن يقنعوا بنسبة معقولة من الربح لا أن تتجاوز أرباحهم أحياناً المئة في المئة. وكل ذلك على حساب المستهلكين الفقراء. فهل هذا أمر مشروع في رأيك؟
المؤلف – اسمح لي أن أقول يا عم كامل أنك التاجر الوحيد الذي سمعته يتحدث بهذا المنطق وهذا نبل منك.
العم كامل – وما الفائدة مما أقوله الآن؟ فأنا أقوله بعد خراب البصرة.
المؤلف – ولماذا بعد خراب البصرة يا عم كامل؟
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. لأنني أنا نفسي اقترفت مثل هذه الخطيئة واقترفها من قبلي أبي وأبيه وجده وبصورة ألعن. فقد كنا نتاجر بأقوات الناس، أي بطعام الفقراء. فتجارتنا إذن هي ألعن أنواع التجارة. ولقد جمعنا ثروتنا على حساب الفقراء وخصوصاً في سنين الحرب التي شحت فيها الحبوب فانتهزنا الفرص ورفعنا أسعارها رفعاً فاحشاً. ولا شك أننا كنا نمارس تجويع الفقراء. وأنا كنت أشد تعسفاً من أبي في ذلك.
المؤلف – لا تجلد نفسك إلى هذا الحد يا عم كامل.
العم كامل – مهما قسوت على نفسي يا محترم فلن أكفر عن خطاياي. فلقد كنت أسوأ مثل لهؤلاء التجار. وأنا لا أقول ذلك أمامك لأبرئ نفسي من ذنوبي أو لأتزيّى بزي الرجل الصالح. فتلك كانت حقيقتي.
المؤلف – لكنك على أية حال رفضت أخطاءك في النهاية وهو أمر يدل على صلاحك.
العم كامل – مهما يكن الأمر فلن أسامح نفسي على تلك الخطايا.. وسأحدثك الآن عن حياتي السابقة لتعرف حقيقتي. فأنا فتحت عيني في بيت يرفل بالنعمة. ولسوء حظي أنني كنت الولد الوحيد بين أربع بنات. وبوسعك أن تتصور ما حظيت به من دلال لا حدود له. فرغباتي مهما يكن نوعها ومهما انطوت عليه من شطط أوامر نافذة يسرع إلى تحقيقها الجميع. وكل شيء مباح لي. وزملائي في المدرسة الابتدائية وحتى المدرسة المتوسطة والتي كانت نهاية تعليمي أقرب إلى الخدم منهم إلى الزملاء بما كان أبي يغدق على أهلهم من الهبات. وبالطبع كانوا من أبناء الفقراء. وهكذا نشأت شخصاً فاسداً لا يميّز بين الحلال والحرام وبين الصح والخطأ. ولم يكن أحد يلومني على سلوكي مهما يكن خاطئاً وشريراً. فكانت أولى جرائمي وأنا في السادسة عشرة إغواء خادمة ريفية تخدم في بيتنا. وكان أبوها فلاحاً يعمل في أرضنا. ولما حملت وافتضح أمرها اشترى أبي صمت أهلها بمبلغ من المال. وقد قتلها أهلها فيما بعد غسلاً للعار. ألست أنا قاتلها عملياً يا محترم؟!!
المؤلف – هذا فظيع.
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. لكن أهلي لم يروا الأمر فظيعاً ما داموا قد اشتروا جريمتي بالمال. ولم يستنكر أبواي جريمتي ولم يؤنباني عليها. واعتبرتها أمي شاهداً على رجولتي المبكرة. بل إنها راحت تضلل معارفها زاعمة أن البنت هي التي أغوتني.
المؤلف – للأسف هكذا يفهم أهلنا الدلال فيجعلون منّا أعضاء معطلين في العائلة والمجتمع.
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. لكنني لم أكن عضواً معطلاً في عائلتي مع الأسف بل كنت نافعاً لها مادياً. فقد اقتنعت منذ صغري بأن المال هو مصدر سطوتنا وهو الذي يجعل الدنيا ملك يميننا وصار شعاري المثل المعروف: "الذي عنده فلوس يدوس على الرؤوس". وقد غدوت في وقت مبكر الساعد الأيمن لأبي. وضاعفت شطارتي المزعومة أرباح العائلة. فباعتبارنا تجار حبوب كنا نشتري محاصيل الحبوب من المزارعين "على الأخضر" أي قبل نضجها. وكنا نبتاعها بنصف سعرها الحقيقي لحاجة المزارعين للمال. فحينما كبرت صرت أنا الذي يتولى هذه المهمة نيابة عن أبي، وأنا الذي يفاوض المزارعين والفلاحين على محاصيلهم. فكنت أشد تعسفاً من أبي في تلك المفاوضات. وكنت موضع فخر من أبي ومعارفه وعدّوني أكثر شطارة منه. وكان أبي يقول لي: "عفارم يا كامل. أنت غلبتني بشطارتك". وليت تعاملنا مع المزارعين اقتصر على هذا الغبن لكنه تجاوز حده إلى اغتصاب أراضيهم. فحينما كنا نشتري غلتهم وندفع لهم المال مقدماً كانوا يتصرفون به. ولا بد أنك تعلم أن المواسم الزراعية ليست مضمونة دائماً. فقد يفتك الجفاف أو الجراد أو الكوارث الطبيعية الأخرى بالمحصول الزراعي فيخرج المزارع من الموسم صفر اليدين ويعجز عن دفع دينه. وهكذا يضطر إلى رهن أرضه لدينا مقابل دينه. ثم يعجز عن سداد دينه فتؤول أرضه إلينا. أفلسنا مغتصبين لهذه الأراضي عملياً يا محترم؟
المؤلف – قانوناً لستم مغتصبين يا عم كامل ولكن قد تكونوا كذلك معنوياً.
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. نحن مغتصبين لتلك الأراضي فعلاً. وأنا اليوم حينما أستذكر حياتي السابقة أستغرب من قسوة قلبي وتجردي من الرحمة. فقد كنت ألاحظ حياة الفلاحين البائسة وما يكابدونه من فقر شنيع، وأقارن هذه الحياة الشقية بحياتنا المرفهة فلا يثير ذلك في قلبي أية عاطفة للرحمة. وبدلاً من أن يحملني ذلك على التساهل معهم كنت أشد تعسفاً من أبي. وكنت أفرح لعجزهم عن تسديد ديونهم لكي تضم أراضيهم إلى أملاكنا. فماذا تسمي سلوكي هذا؟ ألم يكن سلوكاً شائناً ينم عن انعدام الضمير؟
المؤلف – لا أدري ماذا أقول لك يا عمل كامل.
العم كامل – بالطبع.. بالطبع. إنه يدل على انعدام الضمير. وإن لم تكن ترغب في مصارحتي بذلك فأنا الآن أشد صراحة مع نفسي.
المؤلف – اسمح لي أن أقول لك يا عم كامل أن سلوكك القديم لم يكن غريباً. فلم يكن هناك من يقدم لك مثالاً آخر للسلوك القويم. ودعني أكون أكثر صراحة معك فأقول إن تعاملك بهذه الطريقة مع الفلاحين كان أمراً طبيعياً وغير مناف للواقع. فهكذا يعامل الفلاحون من قبل الملاكين عموماً. وكما تعلم إن هؤلاء الفلاحين إما أن يكونوا تابعين لشيوخ العشائر الذين يتحكمون بهم وبأراضيهم وكأنهم عبيد لهم، أو يكونون تابعين لمن يسمونهم بالملاكين الغائبين وهم التجار أمثالكم. وليس هناك من حيلة للفلاحين في كلتا الحالتين سوى الخضوع لهذا النظام الإقطاعي الظالم، خصوصاً وأنكم مدعومون من السلطة. فسلوكك إذن لم يكن شاذا يا عم كامل عن بقية الملاكين بل هو سلوك التعامل الاعتيادي مع الفلاحين. فلا تسرف في لوم نفسك.
العم كامل – ما تقوله صحيح يا محترم. فنحن الوجهاء من الملاكين والتجار الكبار مدعومون فعلاً من السلطة. ولكن الذي يحيرني الآن تشددي يومذاك في استحصال ديوننا من الفلاحين في حين أنني لم أكن حريصاً على المال أصلاً. فقد كنت من أشد المسرفين والمبذرين في حياتي اليومية. وقد كنت أستأجر في بعض أيام الأسبوع سيارة تقلني إلى بغداد لأمضي فيها ليلة أو أكثر في الملاهي ودور الفسق والفجور. وكان لدي شقة في شارع أبو نواس أستقبل فيها عشيقاتي من الراقصات المصريات اللواتي كنت أغدق عليهن بلا حساب. وكنت في أحيان كثيرة أصطحب معي نفراً من أصدقاء السوء وأتكفل بالإنفاق عليهم بسخاء. ومقابل ذلك لم أكن أتساهل مع المزارعين حتى لو اختلفنا على دينار واحد. ولم يكن أهلي يرون أي شطط في سلوكي هذا. فكيف تريدني الآن أن أسامح نفسي على هذا السلوك؟ وكيف سيغفر الله لي ذنوبي مهما فعلت من خير؟
المؤلف – من رأيي أن تتصالح مع نفسك يا عم كامل ما دام الله قد هداك إلى درب الخير والصلاح. ولا تنس أن الله غفور رحيم. ولكن أسمح لي أن أسألك: كيف اهتديت إلى درب الخير والصلاح؟
العم كامل – كان ذلك هداية من الله تعالى. وكما قال عز شأنه: (وجعلنا لكل شيء سبباً). وسأحكي لك الآن كيف حدث ذلك. ففي إحدى مهامي في الريف قصدت أحد عملائنا لاستحصال دين لنا عليه. وكان قد رهن أرضه لدينا ثم عجز عن دفع دينه بسبب فشل المحصول. وبينما كان الموظف المسؤول يقوم بمهمته في الحجز على الأرض رفع المزارع يديه إلى السماء وقال بصوت خرج من أعماق قلبه: "يا رب.. يا من يجب دعوة المظلوم.. أنكبهم بأغلى ما عندهم كما نكبوني بأغلى ما عندي"). ولم أبال بدعوته هذه بالطبع. ولكن ما أن مر شهر على هذه الدعوة حتى نكبنا فعلاً بأغلى شخص لدينا وهو أبي المرحوم. فذات مساء دخل غرفة نومه وهو في أتم صحته وعافيته. وفي صباح اليوم التالي وجدناه ميتاً في فراشه.. ولم أتذكر في حينه دعوة الفلاح المنكوب واعتقدت أن وفاة أبي هي استجابة لمشيئة الخالق. وبعد بضعة أشهر تكرر الأمر مع مزارع آخر. فقد قصدته مع الموظف المسؤول لحجز أرضه. فخلع يشماغه وعقاله وألقاهما على الأرض. وشق ثوبه فبرزت عظام صدره. ثم رفع وجهه إلى السماء وعيناه مخضلتان بالدمع وهتف بصوت مجروح: "يا إلهي.. خذلي حقي من الغاصب". ولم أكترث لدعوته أيضاً. ولكن ما أن انقضى أسبوع على ذلك حتى ألم بأمي مرض بسيط. ووصف لها الطبيب الدواء اللازم مع حقنة من البنسلين. وما أن تناولت حقنة البنسلين حتى انتفخ وجهها انتفاخاً غريباً. وهرعت إلى الطبيب مرعوباً فلما فحصها قال لي وقد أظلم وجهه: "الوالدة تمر بأزمة خطيرة جداً فلم أكن أدري أنها تعاني من حساسية ضد البنسلين. وستدوم هذه الأزمة أربع وعشرين ساعة. فإذا تجاوزتها كتب الله لها الشفاء".
في تلك اللحظة تذكرت دعوة المزارع الذي صادرت أرضه قبل أسبوع. فتملكني جزع عظيم. وأمضيت تلك الليلة بجوار سرير أمي وأنا أذرف الدمع وأقرأ القرآن وأستغفر ربي على ما اقترفته من ذنوب. وعاهدت الله على هجر طريق الغواية والجبروت والفساد واتباع طريق الهداية والصلاح. وفي الصباح التالي وأنا بين النائم واليقظان سمعت أمي تناديني بصوت واهن. ولما التفت إليها رأيتها تحاول الجلوس وقد استعادت وجهها الطبيعي. ولم أصدق عيني وطرت إلى الطبيب. فلما أتم فحصها التفت إليّ باسم الوجه وقال: "مبروك.. زال الخطر عن الوالدة ومرّت الأزمة بسلام".
المؤلف – يا لها من حكاية رائعة.
العم كامل – (صمت).
المؤلف – أنا آسف إذ أثرت شجونك يا عم كامل ويؤسفني أن أرى دموعك تسح على خدّك.
العم كامل – كلما تذكرت هذا الحدث يا محترم عجزت عن كبح دموعي. وهي ليست دموع حزن بل دموع فرح. فقد امتحنني الله وهيأ لي فرصة التوبة وإلا لظللت سادراً في غيي. وقد تبت توبة نصوحاً وتغير نهج حياتي. وهجرت حياة الفسق والضلال. وفتشت عن زوجة صالحة أكرمني الله بها لكنه عاقبني على خطاياي فحرمني الخلفة. فقد كنت أصبت في أيام ضلالي بمرض الزهري فاستحال عليّ الإنجاب.
ومنذ ذلك اليوم وأنا أحاول التكفير عن ذنوبي. وقد غيّرت مهنتي وهي الإتجار بقوت الناس وامتلكت دكاناً متواضعاً في سوق هرج لكي لا أظل عاطلاً. وأنا أساعد في الوقت نفسه أهل سوق هرج وغالبيتهم من الفقراء وأحضّهم على فعل الخير. وقد بعت الأراضي الزراعية التي آلت إلينا عن طريق الرهن إلى أصحابها الأصليين بأقساط مؤجلة.
المؤلف – حكايتك يا عم كامل رائعة حقاً ولا غرابة فيما يكنه لك أهل سوق هرج من محبة وإجلال.
العم كامل – عسى أن يقدرني الله على خدمتهم. وإني أشكر الله إذ هيأ لي في سوق هرج باباً من أبواب الصلاح يطمئن قلبي ويخفف من شعوري بالذنب. وأتمنى على الله ألا يغلق هذا الباب.
المؤلف – بارك الله فيك يا عم كامل ووفّقك لعمل الخير وحقق أمانيك.










فليّح
(فليّح الشيوعي)


المؤلف – كنت معارضاً يا فليّح لتوجّه أهل سوق هرج في حل مشكلته سلمياً ودعوت إلى الوقوف في وجه الحكومة. ألا تخشى على سوق هرج من غضب الحكومة؟ أفلا يعنيك مصيره؟
فليّح – لا.. لا يا أخ. أنت فهمتني خطأ. أأنا الذي لا يعنيه مصير سوق هرج؟ أنا الذي يدين لسوق هرج بدين عظيم؟
المؤلف – ومع ذلك كنت معارضاً لما اتفق عليه أهل سوق هرج في طريقة حل مشكلته بالتي هي أحسن وإنقاذه من الهدم. فما هي حكايتك؟
فليّح – حكايتي يا أخ أنني لا أقبل بتعسف السلطة ولا أقبل بطريقة تعاملنا معها وهي الإنصياع لأوامرها مهما تكن مجحفة بنا. فهذا التعامل المذل هو الذي يجعلها مستبدة لا تكترث لآرائنا. وإلا فهل فكرت المتصرّفية باستشارتنا في هذه القضية التي تمس صميم حياتنا؟
المؤلف – لكن السلطة يا فليّح غير ملزمة باستشارة أصحاب الشأن في القضايا التي تهم المصلحة العامة. والجميع يعلم أن المتصرفة قد عملت الكثير لتطوير مدينة الحلة.
فليّح – أنا أتحدث عن مبدأ عام يا أخ وهو لا مبالاة السلطة بآرائنا نحن أبناء الشعب.
المؤلف – أنت متطرف بآرائك يا فليّح على العكس من أهل سوق هرج.
فليّح – أنا لست متطرفاً في آرائي يا أخ. وكل ما هنالك أنني أعرف حقوقي كمواطن لكن بقية أهل السوق يجهلون حقوقهم. وحتى لو عرفوها يخشون التصريح بها. وأصارحك يا أخ أنهم لا يجرؤون على الإسهام في أي نشاط وطني، وهذا في رأيي عيب خطير فيهم. فمن الذي سيكبح السلطة في توجهاتها الضارة بمصالح الشعب والوطن وكبتها للحريات العامة إذا تبرقع كل فرد بالخوف؟! فقد أصبحت حكومتنا تحت هيمنة بريطانيا بما تعقده من معاهدات.. والوصي على العرش ورئيس وزرائه يأتمرون بأوامرها. ومع ذلك لا يكترث أهل سوق هرج بهذه الأمور. ولحسن الحظ أن بقية أهالي الحلة يقفون موقفاً مشرّفاً تجاه وطنهم بما يقومون به من مظاهرات دائمة في ساحة الشرطة وساحة المتصرّفية كلما دعت الأمور إلى ذلك. فلماذا لا يسهم أهل سوق هرج في هذه المظاهرات شأن غيرهم؟! فأنا أكاد أكون الوحيد بينهم الذي يفعل ذلك.
فليّح – لا تتوقع من الناس البسطاء أن يجرؤا على مواجهة السلطة يا فليّح فهم لا حيلة لهم وهم غير مؤهلين سياسياً لذلك.
فليّح – وهذا هو بيت القصيد يا أخ.. إنهم ليسوا مؤهلين سياسياً ويتصورون أنه ليس من حقهم التدخل في شؤون السلطة. وكنت مثلهم قبل أن يثقفني الحزب ويجعلني مواطناً واعياً وإن كنت قد دفعت الثمن.
المؤلف – ولماذا؟!
فليّح – أصارحك أنني كنت منتمياً إلى الحزب السري فأمضيت عاماً كاملاً في السجن بسبب انتمائي الحزبي.
المؤلف – فكيف انكشف أمرك مع أن المفروض أن حزبكم محكم التنظيم؟
فليّح – وهذا ما يحيرني حتى اليوم. فقد كنا نتخذ احتياطات ممتازة ونحيط تحركاتنا بسرية تامة. ولكن ذات يوم بينما كنا مجتمعين في أحد أوكار الحزب داهمتنا شرطة الأمن وقبضت علينا وحكمت عليّ بالسجن سبعة أعوام وتركت عائلتي بلا معيل.
المؤلف – فاسمح لي يا فليّح أن أقول إنه ما كان ينبغي لك أن تورط نفسك بالانتماء للحزب السري ما دامت ظروفك العائلية هكذا. وكان عليك الانتماء إلى أحد الأحزاب العلنية حتى تتجنب المخاطر مادمت راغباً في العمل السياسي.
فليّح – أنا لا أؤمن بجدوى الأحزاب العلنية الموجودة على الساحة السياسية يا أخ فهي لا تفعل شيئاً حقيقياً للشعب. وكل ما هنالك أنها تتخذ من السياسة سلماً للوصول إلى المراكز العليا في البلاد، عدا القليل منها طبعاً. والحكومة لا تكترث لها لكونها ضعيفة. أما حزبنا فيدافع عن أمثالنا من الفقراء المسحوقين بإخلاص ويقدم التضحيات من أجلهم. وشخص مثلي عرف الفقر والبؤس لا بد له أن يلتحق بالحزب السري رغم مخاطر ذلك.
المؤلف – فاسمح لي أن أسألك يا فليّح: هل كنت من ضحايا الفقر الساحق في طفولتك؟
فليّح – نعم يا أخ. أنا ذقت مرارة الفقر على أشده وأنا طفل. فقد كان أبي المرحوم عامل بناء، وكنا نعيش مستورين. ولكن حدث أن انزلقت قدمه وهو يحمل قفة الطين على رأسه فسقط من سطح البناء ومات. وطبعاً صرنا بلا معيل. وعشنا أسابيع على ما ادخر لنا من نقود. ثم نفذت تلك النقود فأخذ الجوع يدق بابنا. وكنت طفلاً في السابعة من عمري ولم أكن أستطيع أن أفعل شيئاً. وزاد من معاناتنا أن أمي المرحومة كانت شديدة الإباء. فكانت تكتم عن الجيران حقيقة حالنا وتجيبهم كلما سألوها عن حالنا: "مستورة والحمد لله". وكانت أغلب الأوقات تطبخ لنا نوعاً من أوراق الشجر تجمعه من بستان قريب فنتناوله مع الخبز الحاف. وكانت أمي صبورة إلى أقصى الحدود. وأعتقد أنها كانت مستعدة أن تصبر حتى الموت جوعاً دون أن تطلب المساعدة من أحد لو توقف الأمر عليها. لكن صحتي كانت تتدهور يوماً بعد يوم. فاضطرت أخيراً أن تشكو حالنا إلى إحدى جاراتها المقربات. وتطلب منها المعاونة في إيجاد عمل لها. وكان زوج الجارة يمتلك دكاناً بسيطاً لبيع الأقمشة، فاقترح على أمي أن تعمل دلالة تتكسب من بيع الأقمشة للبيوت. وتعهد بأن يمدّها بما تحتاجه من الأقمشة. فوافقت أمي على اقتراحه. وبما أنها كانت شديدة الإباء فقد عز عليها ما كان يواجهها به بعض الزبونات من ازدراء، فكانت حينما تعود عصراً إلى الدار وقد هدها الجوع والتعب تنزوي في ركن من الليوان وتستسلم لبكاء مرير كان يفطر قلبي. وأصارحك يا أخ أنني حينما أتذكر تلك الأيام المرة أشعر بقلبي ينعصر كالليمونة ألماً وحزناً.
المؤلف – كان الله في عونكم.
فليّح – ثم تحسنت حالتنا شيئاً فشيئاً بعد أن أخذ الزبونات يثمّن نزاهتها واعتزازها بكرامتها فخفف ذلك عنها. ولما كبرت اقترحت عليها أن أعمل في البناء شأن أبي كيما تستريح فرفضت بإصرار. وظللت أتجادل معها أياماً كي أقنعها فخاصمتين أخيراً. والحقيقة أن أمي كانت تحبني حباً عظيماً كما كانت تحب أبي. وقد حزنت عليه حزناً شديداً. وكانت تقول لي وهي تضمني إلى صدرها: "أنت من ريحة المرحوم الغالي يا فليّح". فظللت أشغل نفسي بِأشغال بسيطة. وفي يوم قالت لي : الآن استراح بالي يا فليّح فقد أمّنت لك عيشتك.
فسألتها : وكيف ذلك يا أمي؟
فقالت: استأجرت لك دكاناً في سوق هرج وزودته ببعض الأقمشة والألبسة. ويمكنك من الغد أن تباشر عملك فيه. وأعدك أنني سأكف عن عملي حالما تسير أمورك على ما يرام.
وبالفعل استراحت من عملها بعد أن استقرت أموري ولازمت البيت وهي هانئة البال حتى أدركها الموت رحمها الله رحمة واسعة.
المؤلف – يا لها من إمرأة رائعة.
فليّح – فأنت ترى يا أخ أننا قاسينا من الفقر ما قاسينا. فهل كثير عليّ أن أحاول الإسهام في تغيير أوضاع طبقتنا المسحوقة عن طريق السياسة؟ وهل هناك حزب حقيقي يعمل لمثل هذا الهدف بكل إخلاص غير حزبنا؟ فهل تلومني على انتمائي إليه؟
المؤلف – أنا لا ألومك على ذلك يا فليّح لكن انتماؤك الحزبي هذا كلفك غالياً. فكيف كان باستطاعة عائلتك مواصلة العيش وليس لها من معيل؟ كان الله في عونها أيام سجنك.
فليّح – نعم. كان الله في عون زوجتي وأطفالي الثلاثة. وكنت في أيامي الأولى في السجن لا يكاد يغمض لي جفن من شدة القلق عليهم، فمن الذي سيتكفل بمعيشتهم؟ فزوجتي امرأة بسيطة لا تحسن عملاً وليس لي أقرباء قريبون يتولون رعاية عائلتي.
المؤلف – وأنت تلوم أهل سوق هرج لأنهم لا يواجهون السلطة. فمن الذي يتكفل بعوائلهم لو حكم عليهم بالسجن؟
فليّح – وهذه هي القضية التي ترهب أبناء الشعب البسطاء يا أخ وتجعلهم خانعين للسلطة مهما اعتدت على حقوقهم.
المؤلف – فمن الذي تكفل بعائلتك في فترة السجن إذن يا فليّح؟
فليّح – أصارحك يا أخ أنني كدت أجن في أيامي الأولى من القلق على عائلتي ولم أكن أدري ماذا حل بها. فلم يكن يسمح لعوائلنا بزيارتنا في أشهرنا الأولى. فكنا نجهل كل شيء عنها.، ولاحظ أحد رفاقي قلقي الشديد على عائلتي فطمأنني بأن الحزب لن يتركها بلا رعاية وأنه لا بد أن يتكفل برعايتها. فهدأ ذلك من مخاوفي خصوصاً وأنني لاحظت أن رفاقي كانوا يعيشون حياة طبيعية جداً ولا يحملون همّا لشيء مما أكد لي أنهم مطمئنون على عوائلهم. وكانوا قد قسّموا أنفسهم إلى لجان، فهناك لجنة لمحو الأمية التي أنشأت صفوفاً لتعليم الأميين من السجناء القراءة والكتابة. وهناك لجنة للثقافة تلقي علينا المحاضرات التثقيفية حول مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية. وهناك لجنة للرياضة تشرف على فرق متنافسة في شتى أنواع الرياضة. وكنا بين الحين والحين نتلقى طعاماً دسماً من أقرباء لرفاقنا فنتقاسمه جميعاً. فكانت الحياة تبدو طبيعية جداً في داخل السجن. وكانت ضحكات بعض رفاقنا تدوي في القواويش وكأنها تنطلق من قلوب خلية. وكان الغناء الشعبي الشجي ينطلق من حنجرة زميلنا ناجي بين الحين والحين. وقد تنقلب بعض أغنياته إلى أناشيد حماسية. وأصارحك يا أخ أنني ارتحت لحياة السجن أكثر من الحياة خارجه لولا شوقي للعائلة والأطفال وقلقي عليهم.
وبعد أشهر سمحوا لعوائلنا بزيارتنا فأكدت لي زوجتي قناعتي وأخبرتني أن أحوالهم طيبة وأنهم غير محتاجين لشيء. ففي أوائل كل شهر يمدون بالمؤونة مع مبلغ من المال. فتأكد لي قيام الحزب بمسئوليته تجاه عائلتي. وشكرته بيني وبين نفسي من أعماق قلبي وشعرت بالفخر في انتمائي إليه.
المؤلف – إنه لأمر ممتاز حقاً أن يرعى الحزب عوائل أعضائه في محنتهم ولا يتركهم للضياع.
فليّح – لكنني اكتشفت بعدئذ يا أخ مع الأسف أن الحزب لم يكن هو المسئول عن رعاية عائلتي بل كان المسؤول سوق هرج. فقد كنت أتحدث يوماً مع أحد رفاقي وأثنيت على موقف الحزب تجاه عائلتي وما يقدمه لها من مساعدات فأثار كلامي استغرابه. وسألني: هل أنت متأكد من معلوماتك هذه يا فليّح؟
فأجبته: طبعاً، ومن غيره يقوم بذلك؟ ففي أول كل شهر تزوّد عائلتي بالمؤونة وبمبلغ من المال.
فقال: فلماذا لا يقف الحزب مثل هذا الموقف من عائلتي إذن؟ فهي تتجرع الذل من تبرع بعض أقربائي لسد عوزها.
وأصارحك أن كلام رفيقي أثار شكوكي فعزمت على استجلاء الأمر. وفي الزيارة التالية لزوجتي سألتها عن مصدر المؤونة فقالت إنها من سوق هرج. وأصارحك يا أخ أنني أصبت بخيبة أمل شديدة. فلقد كنت أعتقد أن الحزب لا يمكن أن يتخذ مثل هذا الموقف اللامبالي من عوائلنا ولا بد أنه يقوم بجمع التبرعات لها من رفاقنا. ومعنى سلوكه هذا أنه غير عابئ بتضحياتنا. فاهتزت ثقتي به وضعف ولائي له. واتجهت أفكاري اتجاهاً آخر. فقبل انكشاف الحقيقة لي كنت متأهباً لتقبل مصيري مهما طال أمده. لكن الحقيقة المخيبة أفقدتني المقدرة على تحمل السجن. وحاصرتني الأسئلة المقلقة ليل نهار.. فإلى متى سيصبر سوق هرج على التكفل بعائلتي؟
وهناك أمر آخر زاد من قلقي وهو الشخص الذي يتولى إيصال المعونة إلى عائلتي.
المؤلف – وما أهمية هذا الشخص يا فليّح؟
فليّح – أصارحك يا أخ أنني لم أكن منصفاً تجاه ذلك الشخص. فأنا أعلم أن العم كامل هو الذي يتحمل عادة العبء الأكبر لمثل هذه المساعدات وإن حاول أن يشرك أهل السوق دائماً في أعمال الخير. ومن المعروف أن يده اليمنى في ذلك هو جعيفر أبو النشامة. فلا شك إذن أنه سيوكل إليه القيام بهذه المهمة. وقد حاصرتني وساوس شيطانية تجاهه. والشيطان يلعب دائماً بعقول البشر وخصوصاً الضعفاء منهم. وأنا كنت في موقف الضعف آنذاك، مع أن جعيفر هو أفضل شاب سوق هرج خلقاً ونزاهة. وأصارحك الآن أيضاً وأنا خجل من نفسي أن الشكوك راودتني حتى تجاه زوجتي وهي أطهر من الطهر.
المؤلف – إذن ما الداعي لكل هذه الشكوك والوساوس يا فليّح؟
فليّح – الداعي لها يا أخ أن جعيفر شاب جذّاب بمظهره الطويل العريض وفحولته الواضحة، وأن زوجتي في قمة الشباب وهي جميلة وقد حرمت من زوجها وسيمتد حرمانها لسنين طويلة. فكلاهما صار عرضة لأن يلعب الشيطان بعقله. ومهما حاولت أن أقنع نفسي بأنني غاية في الضلال بشكوكي هذه لم أفلح. وبقيت الأفكار السود تطوف في رأسي وتصدني في ليالٍ كثيرة عن النوم.. علماً بأن زوجتي ذكرت لي أن شخصاً يرافق جعيفر دائماً اسمه بهلول. وكنت واثقاً أن ذلك من تدبير العم كامل الذي لم يشأ بحكمته أن ينفرد جعيفر بلقاء زوجتي، وقد هدأ ذلك من وساوسي. لكن بهلول شخص معتوه ويمكن خداعه والشيطان شاطر كما يقولون. ولقد جعلت الشكوك يوم السجن علي بعام واستحالت أيامي إلى جحيم مقيم حتى أنني لم أعد أطيق الاختلاط برفاقي. وقد أدهشهم ذلك مني وسألوني عما يضايقني لكنني كنت أتهرب من الجواب. وعشت معظم وقتي في عزلة أدور لوحدي في فناء السجن كالمسطول والسيجارة لا تفارق فمي.
وفوجئت يوماً بمأمور السجن يستدعيني. وبادلني الحديث متلطفاً واستفسر عن أحوالي. وأكد لي أنهم راضون عن سلوكي وأنهم راغبون في مساعدتي. وسألته: وكيف ستساعدونني يا حضرة المأمور؟
فقال: ستسعى إدارة السجن إلى تخفيض مدة محكوميتك وربما حتى إلى إطلاق سراحك إذا نشرت براءة من الحزب.
فقلت له: أمهلني أفكر بالأمر يا حضرة المأمور.
وأصارحك يا أخ أنني ابتهجت بعرضه أيّما ابتهاج. ولكن ابتهاجي شابه شيء من الاضطراب. ومكثت أياماً أعاني من صراع محتدم. فكيف لي أن أطعن الحزب وهو المدافع عن الفقراء أمثالي؟ لكنني اقتنعت في النهاية أن مصير عائلتي فوق كل اعتبار. ووافقت على نشر البراءة فأطلق سراحي بعد أسابيع قليلة.
المؤلف – لكنك على ما يبدو يا فليّح لم تترك السياسة على الرغم مما خلقته لك من متاعب. فأنت كنت الوحيد من أهل السوق الذي وقفت ضد الحكومة، كما أنك ظللت دائب الحركة بين الدكاكين كما يبدو تعرض المساعدة على من يحتاج إلى مساعدتك.
فليّح – أصارحك يا أخ أنني لا أستطيع الوقوف موقف اللامبالي في قضايا المصلحة العامة. كما أنني لا استطيع أن أحجب مساعدتي عمن يحتاج إليها. وقد علمني الحزب مسؤولية الدفاع عن المستضعفين ومساعدتهم ومسئوولية الدفاع عن المصلحة العامة. وكم أشعر بالأسف لأنني اكتشفت بأنني أفتقد الشجاعة الكافية لتغليب المصلحة العامة على مصلحتي الشخصية، بينما هناك أعضاء في الحزب مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل الدفاع عن مصالح الشعب العليا. وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون.
المؤلف – من حقك يا فليّح أن ترعى مصلحة عائلتك أيضاً. وأنت على أية حال أسهمت في التضحية من أجل المصلحة العامة شأن أمثال أولئك الأبطال. وكان الله في عونك على مصاعب السجن وأنت بهذا الجسم الضئيل المضعضع.
فليّح – لا تبالغ يا أخ فأنا أعرف بنفسي. أنا لا شيء بالقياس لأبطال الحزب الحقيقيين. فمنهم من مات بالتعذيب ولم يعترف على رفاقه. ومنهم من أمضى سنوات طويلة في السجن دون أن يضعف أو يتراجع. وقد قال الله في كتابه الحكيم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ما بدّلوا تبديلاً). ولولا تضحيات أمثال هؤلاء الأبطال ما خشيت السلطة من ارتكاب الانتهاكات لحقوق الشعب. وإن تضحيات أمثال أولئك الأبطال لا تذهب هدراً. وأصارحك أنني لست واحداً من هؤلاء.
المؤلف – على كل حال ليس المفروض أن يكون كل شخص بطلاً فلكل شخص ظروفه التي قد تقسره على سلوك معين.
فليّح – ولكن أمثال أولئك الأبطال يا أخ موجودون حتى في سوق هرج الذي يغلب على أهله الخوف من السلطة.
المؤلف – ومن هناك غيرك يا فليّح؟
فليّح – عبد الشهيد بن سيد عبد الحسن الرؤاف. فأبوه من أهل سوق هرج الأصليين فهو بالتالي ينتمي إلى سوق هرج. وأنا مدين له بضمّي إلى الحزب. وكان مثالاً لأولئك الأبطال. فقط خسر حياته وهو يحاول الفرار حينما داهمت الشرطة وكرنا وكان بإمكانه الاستسلام مثل بقية الرفاق. لكنه تجنب العواقب. فقد كان المسؤول عن خليّتنا ولا بد أنه يحتفظ بأسرار كثيرة عن الحزب. وقد خشي أن يضعف تحت التعذيب فيفشي تلك الأسرار وفضل الموت على ذلك. وقد جن أبوه بسبب هذه الكارثة.
المؤلف – أنا لاحظت فعلاً أن سيد عبد الحسن يتصرف تصرفات غير طبيعية. وهو يخطب في السوق خطباً ملتهبة ضد الحكومة قد تؤدي بصاحبها إلى التهلكة.
فليّح – ولذلك ترى أهل السوق يرعونه دائماً ويسمونه "أبو الشهيد". وأنا شخصياً أبذل جهدي في مساعدته.
المؤلف – مع أن المفروض أن ابنه ورّطك في السياسة.
فليّح – لا .. لا يا أخ. لا تقل ذلك. لم يورّطني المرحوم عبد الشهيد بل جعل مني مواطناً واعياً أعرف حقوقي وواجباتي. وأنا أفخر بذلك. فمهما انتقدت الحزب فإنني أدين له بنظرتي الواعية للأمور وأتصرف على ضوء ذلك.
المؤلف - على أية حال أنت يا فليّح تدين لسوق هرج بالفضل أكثر ما تدين لأية جهة أخرى.
فليّح – بلا شك. فسوق هرج هو الذي وقف معي في محنتي ورعى عائلتي. ولا يمكنني أن أنسى ذلك أبداً. وإنني لأشعر بالأمان وأنا أعيش في رحابه.
المؤلف – بارك الله بسوق هرج.










الحاج عبد العباس
(أبو أحمد)


المؤلف – اسمح لي أن أسألك يا حاج عبد العباس .. لماذا كنت متحمساً هذا الحماس الشديد لسوق هرج؟
الحاج عبد العباس – هناك أسباب كثيرة يا مولانا لحماسي لسوق هرج. وأولى الأسباب أنه هو الذي أكسبني شخصيتي الحقيقية. فقبل عملي فيه لم تكن لي شخصية مستقلة. كنت تابعاً لأخي الكبير عبد النبي فحسب. وكنت أتلقى مصروفي اليومي منه حتى بعد أن تزوجت وكوّنت عائلتي. وأقول لك يا مولانا أن أسوأ شيء هو أن تكون تابعاً لشخص آخر يتحكم فيك وليس لك شخصيتك الخاصة حتى لو كان ذلك الشخص أقرب الناس إليك. وهذا ما علمتني إياه تجربتي. وأسمع حكايتي لتتأكد من قولي هذا.
المؤلف – ولكن قبل أن تحكي لي حكايتك يا حاج عبد العباس أود أن أسألك سؤالاً شخصياً آثار استغرابي نوعاً ما.. فلماذا تبدو منحني الظهر بهذا الشكل وأنت لست متقدماً في العمر لهذه الدرجة؟!
الحاج عبد العباس – ما تراه من تهالك قوتي يا مولانا بحيث أبدو أكبر من عمري ناتج عن مصائب الدهر الذي شبعت من مرارته والذي كسر ظهري كما ستريك حكايتي. فأنا بدأت حياتي العملية مساعداً لأخي في تجارته. وكان لديه دكان لبيع الألبسة ورثه عن أبي أو على الأصح ورثناه عن أبينا. فأوكل إليّ بيع الألبسة المطلوبة في الريف وأنا لم أبلغ الخامسة عشرة من عمري. فكنت أخرج صباح كل يوم على ظهر حمار محمل بهذه الألبسة وأقضي النهار كله متجولاً في قرى الريف أيام الصيف اللاهبة وأيام الشتاء القارسة. وكنت أعود عصر كل يوم وقد هدني التعب. فماذا كانت مكافأتي على جهدي؟! قروش زهيدة لا تكاد تسدّ احتياجاتي اليومية. وكنت أعيش في بيت العائلة مع أسرة أخي. فلما بلغت العشرين ألحت علي فكرة الزواج. ولكن كيف لي بذلك وأنا لا أملك أي مال مدخر؟! فكان لا بد لي أن استعين بأخي وأنال موافقته. ولم أنل تلك الموافقة إلا بعد مماطلة طويلة. ورضيت امرأتي بالعيش معي في بيت الأهل لكنها اشترطت عليّ أن نستقل بأكلنا لكي لا تكون تابعة لامرأة أخي. ووافق أخي على ذلك بعد ممانعة واحتجاج. وقد اقتضاه ذلك زيادة مخصصاتي. لكن ذلك لم يرض امرأته، وكان مدعاة لتذمرها واستياءها. وسبحان الله! كان الود مفقوداً منذ البداية بين امرأتي وامرأة أخي. وكان المسؤول عن ذلك امرأة أخي. فقد نوت التسلط على امرأتي وأن يكون لها المكانة الأولى باعتبار أنها امرأة الأخ الكبير. ومما زاد في علاقتهما سوءا براعة امرأتي في الطبخ. وكان طعامها شهياً حتى أن أخي قال لها يوماً وهو يضحك: "ياليتك تتذكرينا يا سليمة في بعض أكلاتك الشهية". فكتمت امرأته ذلك في نفسها. وذات يوم قالت لامرأتي: "أرى أنك يا سليمة تنفقون كثيراً على أكلكم مع أن مصروف عبد العباس محدود ولا يكفي لذلك". وكان قولها هذا اتهاماً صريحاً لي بعدم الأمانة.. سبحان الله! تتهمني بعدم الأمانة بعد كل تلك السنوات في خدمة أخي! ففاض الكيل بامرأتي وأعلنت أنها لن تصبر بعد اليوم على العيش في بيت العائلة واستقر رأيها على ضرورة استقلالي بعملي. وخيّرتني بين الموافقة على قرارها أو التخلي عنها. ووقعت بين نارين.. فكيف لي تحقيق رغبتها؟ وكيف لي الاستقلال بعملي وأنا لا أملك أي رأس مال؟ ورجوتها أن تتخلى عن قرارها لكنها ركبت رأسها وفارقتني إلى بيت أهلها. وصارحت أخي بما حدث فغضب غضباً شديداً واتهمها بأنها تخطط لإحداث الوقيعة بيني وبينه. وحين طال غيابها واشتدت لهفتي إليها استجاب أخي لضغوطها بعد أن أرقت ماء وجهي من التوسل إليه. وتفضل علي بمبلغ زهيد. يا سبحان الله! كل تلك السنوات من الجهد المضني يتفضل علي بمبلغ زهيد! فأين العدالة في موقفه هذا مني؟ فالمفروض أنني شريكه وكان ينبغي له التعامل معي على هذا الأساس.
والحقيقة أنني كنت شريكه فعلاً في الدكان. فقد ورثنا الدكان عن أبينا. لكنه ارتأى أنه الوريث الوحيد لأبي في الدكان باعتباره عمل معه منذ البداية. وكان مساعداً له في تجارته. وقد أعماه جشعه وحبه للمال عن الإنصاف والعدالة.. آمنت بالله! وقد واجهت مشكلة عسيرة في المباشرة بعمل مستقل فلم يكن المبلغ كافيا. فبادرت امرأتي بحل هذا الإشكال وتبرعت بحليها. وهكذا أمكنني فتح دكان في سوق هرج لبيع الألبسة وأصبحت بذلك واحداً من أهل سوق هرج.
المؤلف – ولكن اسمح لي أن أسألك يا حاج عبد العباس: أين موقع سوق هرج من حكايتك هذه؟
الحاج عبد العباس – إنني حكيت لك هذه الأحداث من حياتي يا مولانا لأخلص إلى القول أن خلافي مع أخي هو الذي هيّأ لي أن أكون واحداً من سوق هرج الذين وقفوا معي وقفة لن أنساها مادمت حيّاً وذلك حينما أصيب ولدي البكر المرحوم أحمد بمرض السل الخبيث.
المؤلف – كان الله في عونك يا حاج عبد العباس.
الحاج عبد العباس – نعم كان الله في عوننا جميعاً. وأنا الآن عاجز عن أن أصور لك الأحزان التي كلكلت علينا ونحن نشهد حال ولدي أحمد يتدهور يوماً بعد يوم. لقد بدأ مرضه بسعال بسيط ثم تطور سريعاً فأخذ يبصق دماً ثم صار الدم يتدفق من فمه. وعجز الأطباء عن وقف التدهور في حاله. واستقر رأيهم أخيراً على ضرورة إرساله إلى لبنان لعلاجه في أحد مصحاتها. لكن ذلك العلاج كان مستحيلاً علينا. فمن أين لي بالمال الذي يتطلبه هذا العلاج؟!
وقصدت أخي عبد النبي أناشده المساعدة فرفض أن يمدني بفلس واحد واعتذر بضيق ذات اليد. تصور يا مولانا.. أنا أخوه الذي قصده ليستغيث به كي ينقذ فلذة كبده يقف منه هذا الموقف! فقد أعماه جشعه مرة أخرى عن إغاثتي. فمن الذي يغيثني في مثل هذا الموقف العصيب إذا لم يغثني أخي؟! ألم أقل لك إن ظلم ذوي القربى أشدّ أحياناً من ظلم البعيد؟! فلم يكن أمامنا سوى انتظار موت ولدنا العزيز.
وكان أهل سوق هرج يتتبعون حال أحمد ويشاركونني الحزن. وتناهى إليهم قرار الأطباء وعجزي عن الاستجابة له. وفي يوم أقبل عليّ العم كامل وهو يحمل صرّة. وقال لي: يجب أن تباشر في الحال بإجراءات سفر أحمد يا أبو أحمد. والإخوان هنا مستعدون لأي مبلغ يتطلبه علاجه. وهذه هي الدفعة الأولى.
وصعقت لهذه المفاجأة وارتج عليّ الكلام ولم أدر ماذا أقول. سبحان الله! أهل سوق هرج الضعفاء يتولون علاج ولدي!! وبعد أن قلّبت الأمر على وجوهه بدا لي أن هذا التبرع من أهل سوق هرج أكبر من إمكاناتهم. وقلت له: أنا شاكر لكم يا عم كامل لكنني لا استطيع قبول هذا المال.
فتساءل في استياء: ولماذا لا تستطيع قبوله؟! كيف سيمكنك إذن إرسال أحمد إلى لبنان؟
فقلت: ستكون تكاليف السفر والعلاج كبيرة يا عم كامل وهي فوق طاقة الخيّرين من أهل السوق.
فنظر إليّ غاضباً وقال: وهل ترفض يا أبو أحمد مشاركة أهل سوق هرج في محنتك وتترك أحمد يموت؟! إن إنقاذه واجب علينا فأحمد ابننا كما هو ابنك.
قل لي يا مولانا.. هل بإمكاني أن أنسى لأهل سوق هرج وللعم كامل مثل هذه الوقفة؟
المؤلف – إنها لوقفة نبيلة حقاً وبارك الله فيهم.
الحاج عبد العباس – لكن وقفة سوق هرج لم تنفع ولدي أحمد مع الأسف. فقد تدهورت حاله بعد أشهر على مكوثه في مصح بحنّس ومات ودفن هناك في مقبرة الغرباء.. آمنت بالله!
المؤلف – طيب الله ثراه.
الحاج عبد العباس – (صمت)
المؤلف – أنا آسف يا حاج عبد العباس أن أنكأ جراحك ودموعك هذه لتؤلمني حقاً.
الحاج عبد العباس – أعذرني يا مولانا فكلما ذكرت أحمد وما عاناه في مرضه سالت دموعي.
المؤلف – لا شك أنها كانت مصيبة عظمى لأفراد عائلته جميعاً.
الحاج عبد العباس – آمنت بالله. كانت مصيبة عظمى فعلاً أغرقتنا في حزن فاجع خصوصاً وأن المرحوم أحمد كان ابناً متميزاً لا ككل الأبناء. كان متميزاً بحنانه ووداعته وعواطفه الحارة. وكان يتحمل مرضه بصبر عجيب. لم يفقد صبره حتى في أشد حالات مرضه سوءا. ولست أنسى ما حييت آخر نوبة من نوبات مرضه قبل سفره إلى لبنان. كان الدم يتدفق من فمه كالشلال وأمّه تحتضنه فتصطبغ ثيابها بدمه وهي ذاهلة وعيناها شاخصتان إلى السماء وكأنها تستعطفها الرفق بولدها. وكنا وأنا وأخواته نحيط به ودموعنا تنهل مدراراً. وكان هو يحاول بصوته الواهن مواساتنا. فكان يقول: "ألسنا مؤمنين بإرادة الله؟! أليس ما يحصل لي هو من عند الله؟ فحتى لو مت فالله يقول في كتابه العزيز "كل نفس ذائقة الموت" فلماذا تجزعون عليّ؟ ألست ذاهباً لملاقاة رب السماوات والأرض؟"
المؤلف – يا له من فتى شجاع. ويا لها من كارثة فاجعة لعائلته أن يموت وهو في ريعان عمره.
الحاج عبد العباس – آمنت بالله. وظللنا لأشهر عديدة أسرى الحزن. ولكن مهما بلغ حزن أي فرد منا فلم يبلغ عشر معشار حزن أمه. ولبثت تعيش كالمذهولة لشهور. ولم تعد تنطق في اليوم الواحد سوى كلمات معدودة. وهجرت السرير وباتت تنام على الأرض. وأخذ حزننا يخف بمرور الأيام لكن حزنها كان يتجدد كل يوم وكأنها فقدت ولدها بالأمس.
المؤلف – لا أدري ماذا أقول لك يا حاج عبد العباس فلا شك أن فقدان أم أحمد لابنها البكر خلف جرحاً عميقاً في قلبها لم يكن من اليسير عليها التعايش معه.
الحاج عبد العباس – آمنت بالله! وكنت أنا أكثر أفراد العائلة تضرراً من حزنها. فقد هجرت فراش الزوجية ولم تعد توليني أي اهتمام. وصبرت في البداية على ذلك وعذرتها. ولكن بمضي الشهور بدأ هذا الأمر يضايقني. فمن غير المقبول أن تفرط الزوجة في حقوق زوجها مهما تكن الأسباب. وكاد احتجاجي غير المعلن على سلوكها أن يورطني في خطأ فادح. فقد وقعت في حبائل زبونة من نساء السوق وهي أرملة في الأربعينات من عمرها. وقد علمت بوفاة أحمد وربما أدركت بذكائها وضعي الجديد. وأخذت تواسيني في البداية وتظهر تعاطفها معي. واستدرجتني إلى بث شكواي مما آلت إليه حال أم أحمد. ثم صرنا تنخرط في أحاديث مطولة انتهت إلى اتفاقنا على الزواج.
ويبدو أن محاوراتنا لفتت أنظار العم كامل الذي يواجه دكانه دكاني. وكنت شكوت له ما آلت إليه حال أم أحمد، فكان يهون عليّ وينصحني بالتذرع بالصبر. وفي يوم أقبل عليّ وقال لي: أعذرني يا أبو أحمد إن تدخلت في أمر شخصي يخصك. فأنا ألاحظ أن أحاديثك مع زبونتك تطول أكثر من المعتاد وأخشى أنها تدبر أمراً خبيثاً.
فقلت له : سبحان الله يا عم كامل. فأنا رجل له حقوق على امرأته وقد أضاعتها. والله قد شرع لنا الزواج بأربع وأنت مطلع على حالي.
فقال في حزن: إذن نجحت هذه الماكرة في تخطيطها؟ مع الأسف. كان أملي فيك غير هذا يا أبو أحمد. ثم علام تريد معاقبة أم أحمد؟ على حزنها على ابنها الذي حزنا جميعاً لموته؟! مع الأسف.
وكان كلامه هذا يا مولانا كالصدمة الكهربائية التي ردت إليّ عقلي. ورحت أسائل نفسي: هل تستحق مني أم أحمد أن أعاقبها على حزنها على أحمد؟! أليس أحمد هو إبني كما هو ابنها؟ ولماذا لا أحزن عليه أنا أيضاً كما تحزن هي؟! أفليس هو ولدي وفلذة كبدي؟ لماذا ينبغي أن تكون هي أحن عليه مني؟!
قل لي يا مولانا: كيف يمكنني أن أنسى موقف العم كامل هذا؟
المؤلف – يا له من رجل حصيف العم كامل. وإنه لجدير باحترام أهل سوق هرج حقا.
الحاج عبد العباس – فعلاً. فلولاه لاقترفت خطأ لا أغفره لنفسي. فقد كانت أم أحمد دائماً نعم الزوجة لي منذ البداية إلى النهاية.. وفيما بعد قدّم لي العم كامل نصيحة غالية فاقترح عليّ اصطحاب أم أحمد إلى حج بيت الله الحرام فقد يلهمها ذلك الصبر. واصطحبت أم أحمد للحج فكان ذلك علاجاً ناجعاً لحزنها كما توقع. ولكن ولدنا العزيز أحمد ظل جرحاً دامياً في قلبينا. وأنا الآن أحب أن ينادوني بـ"أبو أحمد". ولا أفضل أن ينادوني "الحاج عبد العباس". أفليس الحق معي يا مولانا أن أتمسك بسوق هرج ولا أتصور لي حياة في أي سوق آخر؟
المؤلف – الحق معك كل الحق يا أبو أحمد.









جاســم
(جاسم المنكوب)


المؤلف – حدثن يا جاسم عن أسباب تعلقك بسوق هرج.
جاسم – إن لي حكاية طويلة مع سوق هرج يا أفندي. ولكنها على وشك أن تنتهي كما يظهر. فسأحرم من سلوتي الوحيدة فيه وهي رؤية حسنية. فماذا سأفعل لو هُدم سوق هرج وضاعت مني حسنية؟ أما يكفيني عقاباً أنني حرمت من صفية؟
المؤلف – وما علاقة حسنية بصفية؟
جاسم – صدقني يا أفندي.. حسنية هي الخالق الناطق لصفية.
المؤلف – ومن صفية هذه؟
جاسم – صفية هي ابنة عمي وتوأم روحي وحبيبة قلبي. وكانت لنا حكاية حب أمرّ من حكاية قيس وليلى. وقد انتهت بمأساة مثلها.
المؤلف – إذن كانت هناك مأساة في حياتك يا جاسم؟! لا غرابة إذن إذ سموك جاسم المنكوب.
جاسم – أنا منكوب فعلاً يا أفندي. وسأحكي لك حكايتي لتدرك مأساتي. فلقد كانت صفية زهرة حياتي اليانعة منذ طفولتي. لم نكن نملّ اللعب معاً ونحن صغار. ولكن حينما تجاوزنا الثامنة من عمرنا تنامت الحواجز بيننا ولم يعد بإمكاننا الالتقاء إلا من خلال الزيارات العائلية. غير أن عاطفة الطفولة بيننا تحولت إلى عاطفة متوهجة يضج بها قلبانا كلما التقينا فتنعكس في وجهينا المشرقين ونظراتنا المفعمة بالنشوة.
وما أن بلغت السابعة عشرة وأدركت صفية السادسة عشرة حتى أعلنت خطوبتنا وصار بإمكاننا أن ننفرد ببعضنا بعضا. وذات يوم كنا نتبادل الحديث في شأن الاستعدادات للزواج. وفجأة تسمّرت عينا كل منّا على وجه الآخر. وطالت نظراتنا الصامتة. ثم قلت لصفية وشفتاي ترتجفان: هل تدرين يا صفية أني لا يمكنني العيش بدونك؟
فقالت وقد شحب وجهها: أنا لا علم لي بقلبك يا جاسم. لكنني أدري بما في قلبي، وأعلم أن هذا القلب تعلّق بك منذ كنت صغيرة ولا حياة له بدونك.
وهكذا بدأنا نتخذ الخطوات العملية لإتمام الزواج ونحن نطير على أجنحة السعادة. ثم فوجئت بتلك الكارثة التي هزت كياني وألقتني في سعير نار لا يخبو أوارها ليلاً ولا نهاراً.. صدقني لم أكن استطيع النوم إلا ساعات قليلة في اليوم. وكان أمراً عجزت أولاً عن فهمه. فقد كنت استيقظ أكثر من مرة في الأسبوع ورداء نومي مبللاً. ولم أكن أتذكر الحلم الذي أثارني إلا نادراً. وإذا بهذه الظاهرة تختفي تماماً. ثم بدأت ألاحظ أنني لم أعد أستثار جنسياً بأي شكل من الأشكال. وفي كل ليلة كنت أبتهل إلى الله أن استيقظ من نومي فأجد ردائي مبللاً، ولكن عبثاً ما كنت أحلم به. وأخيراً راجعت الطبيب. وبعد فحص طويل وأسئلة كثيرة قال لي: أنت مصاب بعجز جنسي يا جاسم.
فسألته مرتاعاً: أتعني أنني لا يمكنني أن أتزوج يا دكتور؟
فأجابني: ليس في الشهور القليلة القادمة. لكنني لا يمكنني أن أجزم هل هو عجز مؤقت أم دائم، وسيثبت لنا العلاج ذلك. فعليك بالصبر.
وفي الأيام التالية أخذت كلمات الطبيب ترن في أذني ليل نهار. وكان رأسي يعجّ بالخواطر المعذّبة. هل سأحرم من صفية؟ وهل سأحرم من الأبناء؟! وهل سأحرم من اللذة الجنسية؟ ماذا بقي لي من الحياة إذن؟
وواجهت مشكلة صاعقة وهي تحديد موعد الزواج. وكان أهلنا يستعجلون هذا الموعد. وعجزت عن اختلاق أي مبرر معقول للتسويف فيه. وكان أبي قد لاحظ فتور همّتي في التهيؤ للزواج. فقال لي يوماً: هل اتفقت مع صفية على ميعاد الزواج يا جاسم؟
فقلت : لا يا أبي.
فقال متعجباً: ولماذا؟
فقلت : هناك موانع يا أبي.
فتساءل متعجباً: موانع؟! هذا غريب.
ولم أشعر إلا وأنا أنفجر في بكاء مكتوم. فهتف أبي مرتاعاً: ماذا بك يا ولدي؟
فحدثته بكل شيء. وصدقني يا افندي.. كانت لحظة رهيبة لكلينا. وخيم علينا صمت كالموت. ثم انطلقت من أبي زفرة جريحة وتمتم متوجعاً: لماذا يجب أن تصيبك هذه النقمة يا جاسم؟ حكمتك يا رب.
وسألت أبي أخيراً: كيف سأتصرف يا أبي حيال تأخير موعد الزواج؟
فقال بأسى: لن أدعك تحمل هذا الهمّ لوحدك يا ولدي وسيلهمني الله الأعذار التي أقنع بها عمّك شاكر حتى يتداركك الله برحمته.
صدقني يا أفندي.. صارت حياة والديّ منذ ذلك اليوم معاناة دائمة ربما تفوق معاناتي. وكانت أمي تحبس نفسها في غرفتها في بعض أيام الأسبوع وتظل تبكي وتندب حظي العاثر.
المؤلف – كان الله في عونهما. ولكن أسمح لي أن أسألك يا جاسم كيف كان تعاملك في هذه القضية مع صفية وهي الطرف الأهمّ؟
جاسم – وهذا هو السؤال الذي ظل يقرع رأسي ليل نهار. فقد كان كلانا يستعجل موعد الزواج ويحسبه بالأيام. فأي عذر يمكن أن أقدمه لها؟ ولبثت حائراً لا أدري ماذا أفعل.
وكانت أحوالي قد تغيرت فأصبحت كئيباً ضيق الصدر دائم العبوس على غير عادتي. فاسترعى حالي هذا انتباه صفية وسألتني يوماً في قلق: ما بك يا جاسم؟
فانتهزت سؤالها وقلت لها: لا بد لي أن أخبرك بحقيقة حالي يا صفية. فأنا مصاب بمرض باطني يعوق زواجنا في الوقت الحاضر. وعلاجه يحتاج إلى شهور طويلة.
فقالت بانزعاج اسم عليك يا جاسم. إن شاء الله ستشفى بأسرع وقت. وأنا لست مستعجلة على الزواج وسأنتظرك إلى نهاية عمري. وإذا أردت أن نتزوج الآن فلا مانع عندي أكنت مريضاً أم غير مريض. وسأخدمك بكل طاقتي.
المؤلف – ولكن ألم يخطر لك مصارحتها بحقيقة حالك يا جاسم؟
جاسم – وهذا ما فعلته يا أفندي بعد أن أبلغني الطبيب بيأسه من العلاج. وكان موقفاً لا يمكن لأحد أن يتخيل وقعه على كلينا. كان كابوساً مريعاً ظل يزورني في أحلامي لأيام طويلة. قلت لها وأنا أتجنب النظر في وجهها: يجب علي ألاّ أخفي عنك حقيقة مرضي أكثر مما فعلت يا صفية. فأنا لم أعد صالحاً زوجاً لك.
فنظرت إليّ بعينين مذهولتين وبدا على وجهها أنها لم تفهم ما قلت. وسألتني وهي مرتاعة الوجه: ماذا قلت يا جاسم؟
فأجبتها: قلت إننا لم نعد نصلح لبعضنا بعضا يا صفية. وأنا أحلّك من الارتباط بي. فأنا صرت غنّيناً. وتلك هي الحقيقة التي أخفيتها عنك.
فشهقت شهقة عظيمة والتزمت الصمت دقائق ووجهها يفور بالحزن. ثم رفعت رأسها أخيراً وقالت بلهجة حاسمة: اسمع يا جاسم. عنّينا أم غير عنيّنا. سأكون زوجتك مهما تكن حالك فأنت حلم حياتي منذ كنت صغيرة. وأنا مستعدة أن أخدمك طول حياتي.
ثم هبّت واقفة وغادرت الدار.
المؤلف – يا لها من امرأة رائعة!
جاسم – أنت تقول هذا عنها وأنت تجهل ماذا فعلت بعد ذلك. فماذا ستقول عنها لو عرفت بقيّة حكايتي؟
المؤلف – وماذا يمكن أن تفعل أكثر من ذلك؟
جاسم – اسمع بقية الحكاية يا أفندي وسترى. فقد كان ذلك اليوم بداية لمعاناة هائلة لكلينا. صدقني.. معاناة لا يمكن تصوّرها. وانتهت تلك المعاناة بمفارقة صفية لهذه الدنيا الوضيعة. فبعد معرفتها بالحقيقة باتت لقاءاتنا عذاباً متصلاً. وكانت في كل لقاء تحاول إقناعي بكل طريقة بالموافقة على زواجنا.. بالتوسلات.. بالكلمات المحبّة.. بالدموع. وكانت تقسم أغلظ الأيمان أنها ستكتم هذا السرّ حتى مماتها. وكنت طوال الوقت أعاني من صراع مرير.. هل أغلّب أنانيتي وأوافق على طلبها وأحرمها من التمتع بالحياة الطبيعية أم أتمسك بنزاهتي وأدع الزمن يشفيها من حبها؟ وأوشكت في بعض لقاءاتنا أن استجيب لتوسلاتها لفرط معاناتها وعذاباتها. لكنني سرعان ما كنت أستعيد تصميمي حينما أخلو بنفسي وأتخيل فداحة التضحية التي أفرضها عليها بحرمانها من الحياة الطبيعية. وصدقني يا أفندي .. لا أدري حتى اليوم إن كنت مصيباً أم مخطئاً في القرار الذي اتخذته وخصوصاً أن هذا القرار كان سبباً في مفارقتها للحياة.
المؤلف – أعتقد أنك كنت رجلاً شهماً في قرارك يا جاسم.
جاسم – لا أدري. صدقني لا أدري. كل الذي أدريه أن قراري هذا اقتضاني بعد موتها عذاباً لا حدود له. فقد اعتبرت نفسي مسؤولاً عن موتها. وكان عذابي مضاعفاً.. عذاباً لفقدان حبيبة عمري، وعذاباً لكوني المتسبب في موتها. وهذا ما لم يفهمه أقرب الناس إليّ والذين استغربوا حزني العظيم لموتها.
المؤلف – أنت كنت نزيهاً شهماً معها يا جاسم ولم تشأ أن تفسد حياتها بالعيش مع زوج عاجز. فلا مبرّر هناك للشعور بالذنب.
جاسم – ليس الأمر كذلك يا أفندي. فأنا أحمّل نفسي قصوري في إدراك عمق حبّها لي. فلم أستجب لتوسلاتها الملتاعة ولدموعها الغزيرة. وتصورت أنها يمكن أن تنسى حبها مع الزمن وتتزوج من رجل يسعدها.
المؤلف – ولكن اسمح لي أن أسألك يا جاسم: ماذا كان موقف أهلها من مماطلتك في الزواج؟
جاسم – الحقيقة أن مماطلتي بدأت تقلقهم ولم تعد حجة مرضي مقنعة. وأعلن عمي شاكر أنهم راضون بي كما أنا. فاضطر أبي في النهاية إلى مكاشفته بالحقيقة. وأخبره أننا ننتظر رحمة الله التي قد تشملني في يوم من الأيام. وبدلاً من أن تثير هذه المعلومة. تعاطفهم معنا أثارت غضبهم وموجدتهم علينا وعدّوا كتمانها عنهم خدعة لهم وتفريطاً بمستقبل صفية. واتهمونا بأننا أضمرنا مواجهتها بالأمر الواقع فيّما بعد وكسر رقبتها. وقاطعونا كليّاً. وبذل أبي جهوداً مضنية لإقناع عمي شاكر بوجهة نظرنا وبموقف صفية المؤيّد، لكنه رفض حجّته رفضاً قاطعاً. وحينما أقرّ أبي أخيراً بخطئه لإرضائه وطلب منه الصفح رفض طلبه أيضاً. وكان يطرده في كل مرة يذهب إليه مستغفراً ويصرخ في وجهه: أنت لا تعرفني يا هاشم وأنا لا أعرفك.. ونبينا قال : "من غشّنا فليس منّا". فأنس أن لديك أخ اسمه شاكر.
فكان ذلك مدعاة لحزن أبي المتفاقم. فقد كان يحب أخاه الكبير ويجله كثيراً.
المؤلف – لا شك أن عمّك شاكر كان مبالغاً في ردّ فعله يا جاسم.
جاسم – وهذا ما ضاعف حزننا يا أفندي. فقد كان أبي يتوقع أن يتعاطف معنا. وبعد انكشاف الحقيقة حرّم عمي على صفية زيارتنا. لكن أختها الصغيرة زهرة كانت تتسلل إلى دارنا بين الحين والحين وتبلغنا بأخبارها. وطبعاً ألغيت خطبتنا.
المؤلف – فماذا كان ردّ فعل صفية على قرار أهلها يا جاسم؟
جاسم – انقلبت حياتها إلى جحيم. ولم تعد تعيش بين أسرتها إلا بقدر ما تقتضيها واجباتها المنزلية. وباتت حبيسة غرفتها. وأعلمتنا أختها أنها لم تعد تتكلم طول اليوم سوى كلمات معدودة. وقد زادت حالة صفية هذه من غضب عمي شاكر وأقسم أن يزوّجها لأي خاطب يتقدم إليها شاءت أم أبت. وهكذا زفت إلى أحد الأقرباء بعد أشهر قليلة. وانتقلت إلى بيت زوجها بين دموعها الغزيرة وكأنها تحمل إلى القبر.
المؤلف – وماذا عن موقفك يا جاسم؟
جاسم – (صمت).
المؤلف – آسف أن أسألك هذا السؤال يا جاسم فاستدر دموعك.
جاسم – أنت معذور يا أفندي فلا يمكن لأحد أن يتصور الأحزان التي ذقتها في ذلك اليوم والذي كلما تذكرته سالت دموعي بدون إرادتي. صدقني يا أفندي.. لا أقدر أن أصور لك وقع ذلك اليوم على نفسي مهما حاولت. وكل الذي يمكنني قوله إنه كان أسوأ يوم مرّ عليّ في حياتي. وأمسى الحزن رفيقي الدائم. واعتبرت نفسي شخصاً يعيش على هامش الحياة. وكنت أعزّي نفسي بأن هذا الحل لمشكلتنا هو الأفضل لها. فلعلها تنسى حبّها وتعيش مع زوجها حياة طبيعية.
المؤلف – أنت على حق في هذا التفكير يا جاسم.
جاسم – ولكن للأسف لم يحدث أي من توقعاتي هذه يا أفندي. فلم ينسها الزواج حبها ولم يعير شيئاً من موقفها. وبقيت تعيش في حزن مقيم. ولست أدري كيف كانت علاقتها بزوجها، ومن المؤكد أنها لم تكن طبيعية. وكان أهلها يتحدثون همساً عن المشاحنات بينهما. ثم لم تمض سوى شهور قليلة حتى أعلن زوجها أنه لم يعد قادراً على معاشرتها. وهكذا تم طلاقهما. واستقبلها أهلها بالغضب واللوم والتجريح. وعاشت منبوذة لا تلقى من أفراد عائلتها سوى الإهمال والازدراء. وكانت أمّها الوحيد من بينهم الذي يعطف عليها ويواسيها. وبعد بضعة شهور فارقت الحياة.
المؤلف – كان الله في عونك يا جاسم.
جاسم – ألف مرة.. صدقني يا أفندي إنني أصبت بما يشبه الجنون إن لم يكن هو الجنون نفسه. وهمت في الطرقات والشوارع ليلاً ونهاراً مما سبب لأهلي شقاء عظيماً. وكنت أردد لنفسي طوال الوقت: أنا المجرم المسؤول عن كل شيء.
المؤلف – إرفق بنفسك يا جاسم ولا تجلدها. فلست ملاماً على شيء. لقد كنت شخصاً شهماً.
جاسم – لا.. لا يا أفندي. أنا الملوم عن كل شيء فعلاً. أنا الملوم عن موتها وعن كل ما رافق مأساتها من أحزان وأحداث ألمّت بعائلتها وعائلتي. أنا الملوم عما أصاب عائلتها من حزن عظيم وغضب جارف. وكان عمي شاكر أشدهم غضباً. وصب غضبه عليّ وعلى أسرتي. وخصوصاً على أبي. وبلغ غضبه على أبي أنه طرده حينما حضر مجلس الفاتحة وشتمه أمام المعزّين. وشبهه بالمجرم الذي يقتل القتيل ويمشي في جنازته. وكانت حادثة طرده وإهانته أمام المعزّين قاصمة الظهر له فلم تمض أسابيع عليها حتى فقدناه.
المؤلف – كان الله في عونك على هذه المصائب يا جاسم.
جاسم – تخيل حالي إذن يا أفندي في خضم هذه المصائب. صدقني.. لقد ذهب عقلي تماماً بعد وفاة أبي ولم أعد أملك من أمري شيئاً. وأغلقت الدكان وهو مصدر رزقنا فلم أعد قادراً على العمل. وقد زاد ذلك من معاناة عائلتي.
المؤلف – وأين دور سوق هرج في مأساتك هذه يا جاسم؟
جاسم – الحق معك إن سألت هذا السؤال يا أفندي. فقد كان لسوق هرج بالفعل دوراً مهما في التخفيف من معاناتي ومعاناة عائلتي. فحينما لاحظ أهل السوق غلق الدكان زارنا العم كامل وأبونا الحاج رخيّص. وصرفا وقتاً طويلاً لإقناعي بفتح الدكان. وأكدا لي أن الجميع مستعدون لمعاونتي. وحينما انصرفا تركا مظروفاً يحوي مبلغاً من المال. ثم أخذ يتردد عليّ آخرون أمثال جعيفر وفليّح والحاج عبد العباس. وبذل الجميع جهوداً لإقناعي بالعودة إلى العمل. ولما رضخت لإلحاحهم كان يتولى كل يوم فرد منهم معاونتي. ثم انغمرت بالعمل فتحولت مشاعري الملتاثة شيئاً فشيئاً إلى حزن هادئ. وآمنت بقضاء الله وقدره. لكنني ألزمت نفسي بالسفر كل خميس إلى النجف الأشرف لقضاء ليلة بجوار قبر صفية. ولا أزال أقوم بهذه الزيارة حتى اليوم.
المؤلف – ما أعظم وفاؤك يا جاسم.
جاسم – ثم ظهرت حسنية في سوق هرج فصارت البلسم لجراح قلبي. فهي الشبه الناطق بصفية. وصدقني إن كل نظرة إليها برداً وسلاماً على قلبي. فكيف سيكون حالي لو هُدّم سوق هرج وحرمت أهله؟!
المؤلف – عسى الله أن يحفظ لكم سوق هرج يا جاسم.










جعيفر
(جعيفر أبو الشهامة)


المؤلف – أحك لي حكايتك مع سوق هرج يا جعيفر.
جعيفر – حكايتي مع سوق هرج يا أغاتي وتاج راسي إنه منقذي من حياة التشرد والبؤس. وهو كل حياتي. وأنا لا أتصور حياتي بدونه.
المؤلف – ولكن لماذا هذا التعلق بسوق هرج يا جعيفر مع أن بإمكانك العمل في أي سوق وجسدك الرياضي يعينك على احتراف أية مهنة تشاء؟!
جعيفر – تسألني لماذا هذا التعلق بسوق هرج فأجيبك لأن عمي كامل موجود فيه. وأنا مدين له بكل شيء.
المؤلف – أتعني يا جعيفر أن بقيّة أهل سوق هرج لا اعتبار لهم عندك؟!
جعيفر – لا .. لا يا أغاتي وتاج راسي. أنا لم أقل ذلك. فالكثيرون منهم بمثابة إخواني الكبار. وبعضهم بمقام أبي المرحوم. وأنا حاضر لخدمتهم بكل طاقتي.
المؤلف – هذا واضح ولا عجب إذ سمّوك أبو الشهامة. ولكن لماذا تفضل العم كامل على الجميع وتعتبر نفسك مديناً له؟
جعيفر – مادمت تريد أن تعرف السبب فاسمع حكايتي إذن من أولها إلى آخرها. فأنا يا أغاتي وتاج راسي نكبت وأنا صبي ففقدت أبي وأنا في الثالثة عشرة من عمري. فعرفت اليتم وصرت لا حول لي ولا طول. وقد مات أبي وخلف وراءه عائلة من أربع أطفال أنا أكبرهم والولد الوحيد بينهم. ولم يكن لأبي مهنة معينة أو دكان نعتاش منه. فقد كان يلقط رزقه. وقد مات فجأة وهو في كامل صحته.
المؤلف – فكيف مات إذن؟
جعيفر – مات قتلاً ظلماً وعدواناً. فقد كان أبي رجلاً مسالماً.
المؤلف – فلماذا قُتل إذن؟
جعيفر – قُتل أخذاً بالثأر. فنحن ننتمي إلى العشائر التي تستوطن كريطعة وبالتالي تخضع لتقاليد وقوانين العشيرة.. مع أن أبي ترك ديرة العشيرة واستوطن الحلة وهو فتى. لكن العشائري كما تعلم لا خيار له ويظل خاضعاً لقوانينها شاء أم أبى.
المؤلف – الحق معك يا جعيفر فنحن ما نزال نعيش كما كان يعيش أجدادنا قبل آلاف السنين. ولكن ما ذنبكم لتدفعوا هذا الثمن الباهظ؟
جعيفر – وهذا ما كان يدور في خاطري من تساؤلات مع أنني كنت صبياً صغيراً. فقد كنت أسائل نفسي: لماذا ينبغي أن يقتل أبي المسكين الوديع بدون أي ذنب ارتكبه؟! ولماذا يجب أن يحكم علينا نحن أطفاله باليتم والجوع وندفع ثمن جريمة لا علاقة لنا بها؟
المؤلف- كان الله في عونكم يا جعيفر.
جعيفر – ولقد وعيت بوادر تلك المأساة يا منذ بدأت ألاحظ أن طباع أبي تغيرت فجأة. فبدلاً من أن يكون ضاحك الوجه كعادته صار حزيناً مهموماً طول الوقت. وسألته يوماً: لماذا تبدو مهموماً يا أبي؟ أنا مستعد أن أوعاونك في الشغل إذا كنت تعبانا.
فنظر إلي بعينين حزينتين وقال: ليس بقدرتك معاونتي في هذا الأمر يا جعيفر. إنه فوق طاقتك.
فقلت له: أنا قوي يا أبي ويمكنك أن تعتمد عليّ.
وكنت بالفعل يا أغاتي وتاج رأسي أتميز عن أقراني بقوّتي. لذلك كنت أتصدرهم في المعارك التي كانت تدور بين محلتنا والمحلات المجاورة والتي كان سلاحنا فيها "المعجال" والحجارة والزجاج. وأنا على العكس من أبي طويل القامة ضخم الجسم جهوري الصوت. أما أبي فكان ضئيل الجسم ولا تبدو عليه القوة. وكان بطبعه مسالماً يتجنب المشاكل مع الآخرين حتى لو كانوا هم المعتدين.
سألته: إذن لماذا أنت مهموم يا أبي؟
فقال لي: قد لا تفهم ما سأقوله لك الآن يا جعيفر لكنك ستفهمه عندما تكبر. أنا يا ولدي أصبحت مطلوباً للثأر. فقد قتل أحد أفراد عشيرتنا شخصاً من العشيرة المنافسة فأصبح شباب عشيرتنا كلهم مطلوبين للثأر وأنا واحد منهم.
فسألته: ولكننا لا نعيش مع العشيرة يا أبي فما ذنبنا نحن؟
فقال: هذه هي قوانين العشيرة يا إبني ولا فكاك منها وستفهمها حينما تكبر. فأنا الآن مرشحاً للقتل خصوصاً وأنني هدف سهل فلست مسلحاً مثل أفراد العشيرة ولست قوياً لأواجه خصمي. وإني حزين عليكم يا ولدي. فكيف ستعيشون من بعدي وأنا لن أترك لكم أية ذخيرة تعتمدون عليها؟ لكم الله يا ولدي.
وصارت حياة أبي منذ ذلك الحين عذاباً متصلاً حتى أنه لم يكن ينام في الليل إلا ساعات قليلة. وكثيراً ما كنت استيقظ من نومي في الليل فأراه يدور علينا أنا وأخواتي ويقبلنا واحداً بعد الآخر. فلقد كان أبي يحبنا كثيراً وخصوصاً أنا. وكان يجلب لنا دائماً في آخر النهار حامض حلو وحلويات أخرى. وفي أيام الأعياد كان يصحبني إلى باب النجف حيث تقام احتفاليات العيد فأشبع من الحلويات والكرزات ومن ركوب المراجيح والحمير ودولاب الهواء.
وكانت أمي أثناء ذلك قد زادت حياته جحيماً بشجاراتها المستمرة معه ولومه على أنه ينتمي إلى العشيرة. وأنه لا يملك صنعة. وأنه لم يكن يستجيب لرغبتها في "الزيارة" إلا بطلوع الروح.. مع أنه كان في الحقيقة يصحبها لزيارة النجف وكربلاء كلما توفر له المال. وأخذت تلح عليه أن نهجر الحلة ونهرب إلى أية بلدة أخرى. فكان يرد عليها قائلاً: "وكيف أعرّضك وأعرّض أطفالي للتشرد في بلدات غريبة لا نعرف فيها أحداً؟". وأخيراً اقتنع بوجهة نظرها. وبدأنا نستعد للرحيل وإذا به يحمل إلينا في مساء أحد الأيام وهو جثة هامدة. فصرنا بعد وفاته نعيش على عطايا الجيران. فمرة نحظى بالطعام ومرات يفترسنا الجوع. وكم من ليال غلب فيها علي إخواتي الصغار النوم وهن يبكين من الجوع.
المؤلف – كان الله في عونكم.
جعيفر – وكانت أمي امرأة قليلة الحيلة، وكسولة، وكانت ولوعة بحضور مجالس "القراية" للنساء. فكانت تبدأ نهارها بالولولة وندب حظها. وما أن يحل العصر حتى تتهيأ للخروج لحضور مجالس "القراية" والتي لم تكن تفوت أية واحدة منها. فأظل أنا وأخواتي الجوعى ونحن في أبأس حال. فعزمت أخيراً أن أكون أنا سند العائلة وأن أحترف أي مهنة لإعالتها. وهكذا قادتني قدماي إلى سوق هرج. وبما أن جسدي ضخم وقوي بالنسبة لعمري فقد نويت أن أعمل حمّالاً. وقد سرّت أمي لذلك كثيراً. وجعلت أجول في سوق هرج طولاً وعرضاً من أول الصباح حتى المساء وأنا أعرض خدماتي على أصحاب الدكاكين. وفي البداية لم يكن أحد منهم يكترث بي. فقد كانوا يرونني صغيراً على مثل هذا العمل. فلما جربني بعضهم ووجدني قادراً على حمل البضائع اقتنع الآخرون بي. وكانوا يرفقون بي بسبب صغر سني فلا يكلفونني بأحمال ثقيلة. تم أقبلت اللحظة الحاسمة في حياتي وهي تلك التي لفت فيها نظري عمي كامل أغاتي وتاج راسي. فاستدعاني يوماً وسألني: لماذا تقوم بهذا العمل الصعب الذي لا يتناسب مع سنك يا بني؟ أليس لك أب يتولى الإنفاق عليكم؟
فأجبته: لا يا عمي. أنا يتيم وأنا المسؤول عن إعالة عائلتي.
ثم حكيت له حكايتي. فقال لي: أنت ولد شاطر يا جعيفر وبارّ بأهلك. لكن عملك هذا صعب على صبيّ في سنك. ومن اليوم ستعمل "صانعاً" عندي في الدكان.
فكان ذلك اليوم هو اليوم الذي عرفت فيه أنبل شخص في سوق هرج. والحقيقة أن عمي كامل ليس من أهل سوق هرج في الأصل. فأهل سوق هرج أناس فقراء عموماً. أما هو فشخص مقتدر. وكان من أكبر تجار الحبوب في الحلة ويمتلك أطيان واسعة. لكنه فضل أن يعيش عيشة الفقراء بسبب نبل أخلاقه. وأنا لا أمتدحه أمامك كذباً يا أغاتي وتاج راسي وبإمكانك أن تسأل أي واحد من سوق هرج فسيقول لك عنه نفس كلامي. وسيقولون لك إنه شخص وقور لم ينطق يوماً بكلمة غلط ولا يتكلم إلاّ إذا كان هناك داع لكلامه. وهو يساعد كل من يحتاج إلى المساعدة وهو يعلم أهل السوق كل ما فيه خير وصلاح لهم وللسوق. وهو يهتم بنفسه بنظافة السوق ويؤجر على حسابه كنّاساً يكنسه كل يوم و"سقّا" يرشّه بالماء أيام الصيف.
المؤلف – الظاهر أنك متأثر به كثيراً يا جعيفر.
جعيفر – وكيف لا أتأثر به؟ إنه أستادي الذي علمني مكارم الأخلاق. هو الذي علمني أن أساعد كل من يحتاج إلى المساعدة.. هو الذي علّمني أن أسخّر قوتي لنصرة الضعيف ولا أستخدمها في الشر ولولاه لأصبحت من المجرمين. فحينما قُتل أبي عزمت على أن أقوّي جسمي بالرياضة ولا أكون ضعيفاً مثل أبي وأن أنتقم من قاتله. لكن عمي كامل هداني إلى الخير واجتناب الأعمال الشريرة. وهكذا تراني أمارس الرياضة بأنواعها مثل رفع الأثقال والمصارعة والركض ليكون جسمي مؤهل تماماً عند الحاجة. ولدي "جفرة" في بساتين النبي أيوب ألعب فيها زورخانة. وأنا أركض كل أسبوع من هنا إلى باب المشهد أو إلى بابل أو حتى إلى الكفل أحياناً. وأنا رهن إشارة كل محتاج من أهل سوق هرج ومستعد للقيام بكل المهمات التي تعهد إليّ.
المؤلف – وما هي المهمات التي يعهد بها إليك أهل سوق هرج يا جعيفر؟.
جعيفر – أنا يا أغاتي وتاج راسي أقوم بكل ما أكلف به في المناسبات. فمثلاً في حفلات زواج غير المقتدرين أنا الذي يتولى الاتصال بأهل الطرب وأنا الذي أهيئ ما تحتاجه هذه المناسبات من استعدادات. وفي مناسبات العزاء والفواتح أنا الذي يتولى إعداد كل ما تتطلبه "الفاتحة" سواء أقيمت في مسجد الغيبة أو في بيت المتوفي. أما مجالس "القراية" على الحسين الشهيد التي تقام عادة في مسجد الغيبة فأنا الذي يعد كل متطلباتها. وأنا الذي أهيئ السيارات حينما يقوم أهل السوق بزيارة "مرد الراس" وغيرها من الزيارات لكربلاء والنجف.
المؤلف – أنت لولب سوق هرج حقاً يا جعيفر.
جعيفر – لكن أحب المناسبات إلى نفسي هي مناسبة عشرة عاشوراء.
المؤلف – ولماذا هي أحبّ المناسبات إلى نفسك يا جعيفر؟
جعيفر – لأني أجد فيها متعة عظيمة. فكما تعلم أنه أثناء أمسيات الأيام التسعة الأولى من عاشوراء تنطلق مواكب العزاء من ساحة الجسر الصغير أو ساحة المتصرّفية وهي تهزج بالأشعار عن مأساة الحسين متجهة إلى بيت السيد القزويني. وهناك تلقى "القراية" عن المأساة. ومن المعلوم أن كل موكب من مواكب العزاء يتخذ الاستعدادات اللازمة لهذه المناسبة قبل موعدها. فأنا المسؤول عما يحتاج إليه موكب سوق هرج من استعدادات. وكنت المسؤول عن متطلبات "المشعل" الذي كان يتصدر الموكب قبل استبداله بـ"البرقي". وأنا الذي كان يتولى حمله. ولا أبالغ إذا قلت لك أن "مشعل" سوق هرج كان أضخم المشاعل. وكنت أنشغل طوال الشهر السابق لمحرم في جمع ما يحتاج إليه "المشعل" من وقود من الخرق البالية وما أشبه.
المؤلف – لا شك أنها كانت مهمة صعبة عليك يا جعيفر.
جعيفر – لكنني كنت أجد متعة عظيمة فيها. وكنت أشعر بالفخر وعيون النساء اللواتي يتجمعن على امتداد جانبي شارع الجبل المؤدي إلى "بيت السيد" ترمقني بإعجاب. بل إن صواتهن يرتفع أكثر من المعتاد حينما يمر موكبنا أمامهن. وكنت أستطيع بوضوح أن ألمح نظراتهن المعجبة في صباح العاشر من عاشوراء "يوم الطبك". فنحن نعرّي النصف الأعلى من أجسادنا كما تعلم لكي نلطم بحمية، فتبرز عضلاتي المفتولة وصدري العريض. وكنت أتحمّس في اللطم حينما ألاحظ نظراتهن المعجبة وصواتهن الحماسي.
المؤلف – يا بختك يا جعيفر ويا بخت سوق هرج بك وأنت تؤدي لأهله كل تلك الخدمات.
جعيفر – فأنت ترى يا أغاتي وتاج راسي أن حياتي ارتبطت بسوق هرج ولا حياة لي بدونه. كما ارتبطت بعمي كامل الذي صرت أعزه كما كنت أعز أبي.
المؤلف – ومع ذلك تركت العمل في دكانه واستقللت بدكان خاص بك يا جعيفر.
جعيفر – أقسم لك بأنني لم أكن راغباً بذلك بل عمي كامل هو الذي ألح عليّ وأجبرني على تعلّم صنعة فتعلمت صنع العقال وبرعت فيه. ولكن إعلم يا أغاتي وتاج راسي أن تواجدي في دكاني أقل من تواجدي في دكان عمي كامل. فدكاني كما ترى قريب من دكانه. وإن عينيّ معلقتان طوال الوقت بدكانه، فما أن أرى زبوناً واقفاً أمام دكانه حتى أقفز نحوه لأتولى عملية البيع، كما أني أتولى فتح الدكان وإغلاقه. وما زال عمي كامل يعتمد عليّ في إيصال مساعداته المالية للمحتاجين من أهل السوق وغيرهم. بل إنه لا يعتمد على غيري إذا احتاج إلى إيصال حاجة إلى بيته. وهو يعزّني كما لو كنت ابنه ويتخذني الساعد الأيمن له. فكيف يمكنني مواصلة حياتي بدون سوق هرج وأهله؟
المؤلف – بورك فيك يا جعيفر وهنيئاً لسوق هرج بك.




علوان
(شيطان السوق)


المؤلف – أحب أن أسألك أولاً يا علوان لماذا يسمونك "شيطان السوق" وما علاقة ذلك بسوق هرج؟
علوان- الذي سمّاني كذلك وتجنّى عليّ يا سيد هو الحاج كمكم لعنه الله. وهو لم يتجنّ عليّ وحدي بل يتجنّى على جميع شبان سوق هرج. وهو يتقول عليهم دائماً مدّعياً الدفاع عن الدين والأخلاق مع أنه أسوأ شخصية في سوق هرج. فهو شديد البخل ولا يشترك أبداً في المساعدات الخيرية مع أنه يعد من أغنياء السوق وإن تظاهر بالفقر. وتديّنه ما هو سوى وسيلة لخداع الآخرين.. وحتى حجّته لم تكن إلا من أجل الوجاهة. لذلك تراه ينزعج إذا ما قالوا لأحد "يا حاج" وهو ليس بحاج حقيقي. فيهتف: "وماذا كنا نفعل نحن؟! أكنّا نأكل خراء؟!!" وباختصار إنه شخص غير محبوب في السوق. وقد سمّاه البعض "أبو هوجة" لأنه إذا تثاءب ارتج السوق لتثاؤبه.
المؤلف – المهم لماذا أسماك شيطان السوق يا علوان؟
علوان – لأنني محبوب نساء السوق يا سيد.
المؤلف – ولماذا أنت محبوب نساء السوق من دون رجال السوق جميعاً؟
علوان – لأن الله أنعم عليّ بنعمة الجمال. أفتنكر ذلك يا سيد؟
المؤلف – لا.. فهذا أمر واضح.
علوان – إذن إذا عرف السبب بطل العجب. ولست مبالغاً إذا قلت لك إن نساء السوق هن اللواتي بدأن التحرش بي منذ صباي.. ربما منذ بلغت الخامسة عشرة من عمري. فأنا إذن لم أكن البادئ بإغوائهن. وسأحكي لك الآن حكايتي معهن بكل صراحة لتدرك الحقيقة. فلقد كانت المرأة التي قادتني في هذا الطريق إحدى عميلاتنا التي كانت تمدّنا بالغزول. وكان أبي يرسلني إلى بيوت العاملات لإحضار البضاعة منهن إن لم يجلبنها بأنفسهن. وهكذا عرفت تلك المرأة. وكانت أرملة تعيش لوحدها في بيتها بعد وفاة زوجها. فكانت تدعوني للدخول إلى منزلها لاستلام البضاعة. وكنت في البدء أرفض الدخول متهيباً فكانت تغريني بشتى الطرق. وهكذا اعتدت الدخول إلى منزلها والانفراد بها. ولك أن تتخيل ما أعقب ذلك وقد تدربت على يديها.
المؤلف – ويبدو أنها كانت مدربة ماهرة.
علوان – فعلاً. وكانت مولعة بي ولعاً عظيماً. ولم تكن تشبع مني.
المؤلف – لا عجب في ذلك.
علوان – وهي التي قادتني في طريق الغواية وجعلتني مولعاً بالجنس منذ بداية مراهقتي. بل هي التي قدمتني بصورة غير مباشرة إلى النساء الأخريات من عميلاتنا. ويبدو أنها كانت تحدثهن عن مغامراتها معي فتثير شهواتهن.. خصوصاً وأنهن كن من المتزوجات برجال كبار في السن. فتكالبن عليّ. وفي البدء كنت أرفض تحرشهن. لكنني أمسيت فيما بعد منساقاً لرغباتهن دون كلل أو ملل، بل صرت مدمناً على الجنس. وصار لي هوايتان في الحياة وهما الإقبال على مشاهدة الأفلام المصرية في سينما الحمراء وممارسة الجنس مع النساء.
المؤلف – ولكن ألم تكن تشعر بتأنيب الضمير يا علوان وأنت تمارس الجنس مع نساء متزوجات، أي أنك كنت تحرضهن على الخيانة الزوجية؟
علوان – ولماذا يجب أن أشعر بتأنيب الضمير وأنا لست البادئ بإغراء أولئك النساء أكن متزوجات أم غير متزوجات؟ فالمفروض أنهن المسؤولات عن الخيانة. بل إنهن في الواقع كن يجرمن بحقي ويعرضن حياتي للخطر بسبب تهافتهن عليّ. وقد تعرضت لخطر الموت فعلاً في إحدى تلك المغامرات.
المؤلف – وكيف ذلك؟
علوان - ذات يوم بينما كنت في السرير مع إحداهن تتابع الطرق على باب المنزل وتعالى صوت زوجها يناديها لفتح الباب. واعترف لك أنني أصبت بهلع عظيم وأيقنت أن نهايتي قد حانت. ولشدة عجبي كانت المرأة رابطة الجأش ولم يبدو عليها أي اكتراث. بل راحت تضحك عليّ وهي تراني أرتجف رعباً. ودعتني للاختباء تحت السرير ومضت لتفتح الباب. ثم فوجئت بها تسحب زوجها إلى السرير وهي تقول بغنج: اشتقت إليك يا عبوسي.
واستلقيا على الفراش وانهمكا في الجنس. واشتد بي الرعب حتى عجزت عن السيطرة على أعصابي فصدر عني ضراط عال. وسمعت زوجها يتساءل بعجب: ما هذا الضراط يا فطيمة؟ إنه والله لم يصدر مني.
فأطلقت ضحكة فاجرة وقالت بغنج: ومن قال لك إنه صدر منك؟ إنه صدر مني يا عبوس فأنا في غاية الاستمتاع.
وبعد أن فرغا قالت لزوجها: اشتهيت الكباب يا عبوس فاحضر لنا شيئاً من السوق.
فقال لها: ولكن ألا يمكن أن نؤجل الكباب إلى الغد؟ فأنا تعبان يا فطيمة.
فقالت بغنج: أنا اشتهيه الآن يا عبّوسي. فهل تستكثره علي؟
فلبى طلبها وخرج إلى السوق. وهكذا غادرت المنزل بسلام وأنا غير مصدق أنني نجوت من القتل.
المؤلف – فاسمح لي أن أسألك إذن يا علوان: هل كن نساء السوق البادئات دائماً بإغوائك ولم يكن لك في ذلك يد أبداً؟!
علوان – أعترف لك أنني كنت البادئ مع الشابات من بنات الحيّاك الذين يعملون لحسابنا. وإنصافاً أقول كان البعض منهن يترددن طويلاً قبل الرضوخ لرغبتي ثم يستسلمن لي. وفيما بعد يصبهن ما يشبه الهوس بي.
المؤلف – في ظني أنك لا تقول الحقيقة كاملة يا علوان. فلم يكن جمالك هو الجاذب الوحيد لهن. ولعلك كنت تعدهن بالزواج أو تستغل فقرهن وتغريهن بالمال.
علوان – أعدهن بالزواج؟ لا.. لا يا سيد. هل هذا معقول؟! أتزوج امرأة تنام معي بالحرام؟! مستحيل مستحيل. لكنني أعترف لك بأنني كنت فعلاً أغريهن بالمال. وكنت سخياً دائماً مع الصبيّات. فكن يفرحن بالمال. وأقول لك الحق أنه حتى النساء المتزوجات كن يفرحن بالمال. وكن في جميع الحالات يحققن هدفين: الاستمتاع الجنسي والحصول على المال. وكانت البنات أعظم جرأة أحياناً من النساء المتزوجات. فلم يكن يخشين من الاختلاء بي في حجرة المخزن في خان السوق مع أن ذلك قد يعرضهن للفضيحة. فأنت ترى يا سيد أنني لا يمكن أن أُلام على مغامراتي بل الملام هو شيطاني المتواري وراء جمالي أولاً وانقياد النساء لشهواتهن ثانياً. والنساء يا سيد كما دلّتني تجاربي يجازفن بحياتهن إذا استهواهن الرجل ولا يبالين بشيء. وهن أكثر جرأة من الرجال في الخضوع لشهواتهن.
المؤلف – وماذا عن موقف أبيك المرحوم من مغامراتك مع عميلاتكم من النساء؟ ألم تكن تبلغ سمعه فيستنكرها ويردعك عنها؟.
علوان – هذه قصة طويلة ومحزنة يا سيد. ولا أدري إن كان ينبغي لي أن أحكيها لك أم لا. وربما كانت هي أصل بلائي.
المؤلف – تذكر يا علوان أنك وعدتني بأن تحكي لي بصراحة عن كل شيء.
علوان – كما تشاء يا سيد. فإذن أقول لك إن أبي ربما كان مسؤولاً عن اندفاعي في طريق غواية النساء هذا.
المؤلف – وكيف ذلك؟
علوان – أنت تذكرني بهذا السؤال بطفولتي التعسة يا سيد. ولقد قلت لك قبل قليل بأن الله أنعم عليّ بنعمة الجمال. والحقيقة أنها كانت نقمة عليّ في أيام طفولتي وليست نعمة. فمنذ بلغ عمري الثالثة كان جمالي مبهراً لكل من يراني وخصوصاً النساء. فكانت نساء الجيران يهتفن وعيونهن مسمرة على وجهي: "تبارك الخلاّق". وكان ذلك يرعب أمي فقد كانت تؤمن بالحسد إيماناً قوياً. فكانت تتطيّر من انبهار نساء الجيران بي. وكانت حينما تطرق إحداهن الباب تسرع إليّ وتخبئني في إحدى الغرف. وكانت تقول أحياناً متوجعة: "لماذا خلقت ولدي يا رب بهذا الجمال ولم تخلق أخواته بجماله؟" فأخواتي كن ذوات جمال عادي. وكنت بالنسبة إليهن دمية مبهرة لا يمللن من حملها واللعب بها.
وأخذت مأساتي تتضخم كلما كبرت. فصار وسواس أمي المرعب هو احتمال اختطافي من قبل الأولاد الكبار للاستمتاع بجمالي. لذلك لم تكن ترفع عينيها عني حتى وأنا أتجول داخل المنزل. ولم تكن تطمئن علي حتى وأنا في عهدة أخواتي. فكانت تصحبني معها حيثما ذهبت ولم تكن تتركني في عهدة أخواتي إلا مضطرة. ولم تكن تسمح لي بالخروج إلى الطريق واللعب مع أطفال الجيران إلا بصحبة إحدى اخواتي. ولما بلغت الخامسة حرّمت عليّ نهائياً اللعب في الطريق. وحينما أدركت السابعة وصار من الصعب عليّ أن أظل حبيس البيت طلبت من أبي أن يصطحبني إلى الدكان شريطة ألا يغفل عني أبداً. وهكذا عرفت سوق هرج في سن مبكرة. وقد تولى أبي حراستي ولم يكن يسمح لي بالابتعاد عن الدكان لأي سبب كان. ولكن حينما بلغت الخامسة عشرة وتبلورت شخصيتي بدأ يعتمد عليّ في قضاء بعض المشاوير التي يتطلبها عملنا. وكنت ألاحظ الابتسامة تغطي وجهه وهو يرى انبهار عميلاتنا بي. وكان يتظاهر بعدم الانتباه إلى ما يدور بيني وبينهن من همس. وأنا واثق أنه كان يتمنى أن تنعقد الصلة بيني وبينهن لكي أبتعد نهائياً عن عالم الأولاد. وكان يشجعني على مراجعة عميلاتنا في بيوتهن. وأعتقد أن مغامراتي معهن كانت تبلغ مسامعه. وكانت تسرّه أكثر مما تسوؤه. وحتى أمي اتخذت نفس موقفه، ولا بد أنه كان يحدثها بتلك المغامرات. فكانت تودعني كل صباح وهي مبتهجة بعد أن ترقّيني من عين كل حسود.
ولم يدب القلق إلى والديّ إلا حينما ظهرت على وجهي وجسمي ثمار الإفراط في ممارسة الجنس. فقد دب النحول إلى جسمي والشحوب إلى وجهي. فقرّ عزمهما على تزويجي لعل الزواج يخفف من غلوائي. لكن الزواج لم يؤثر على هوسي الجنسي كثيراً وإن خفف منه نوعما.
المؤلف – فماذا كان موقف زوجتك من خيانتك لها؟
علوان – لا.. لا يا سيد. لا تسمي مغامراتي خيانة. فالله قد حلّل لنا الزواج مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا. ثم أنني لم أكن أقصر تجاهها. فأنا أمتلك طاقة عظيمة والحمد لله. وليس من حق المرأة أن تعترض أو تتدخل في شؤون زوجها الشخصية.
المؤلف – ولكن لا بد أنها كانت تغار من مغامراتك فهي امرأة بعد كل شيء ولا يمكن أن ترضى أن تشاركها في قلب زوجها امرأة أخرى.
علوان – وما علاقة هذه المغامرات بالقلب؟ وبالفعل كنت أقول لها: "مغامراتي ليست سوى أمور عابرة يا مليحة". فكانت ترد عليّ قائلة: "وماذا يهمني منها ما دام قلبك لي؟" وهكذا ترى أن نساءنا يغضضن الطرف عن مثل هذه المغامرات ما دام الزوج لا يقصّر في مسؤولياته تجاههن وما دام يغدق عليهن الملابس والحلي. وأعترف لك أن مغامراتي لم تعد كثيرة كما كانت وأنا في أوج شبابي. فقد تقدم بي العمر ولم تعد طاقتي كما كانت. وقد قلّت مغامراتي على نحو الخصوص منذ الحادثة المحزنة التي وقعت للمرحومة زنوبة. وكانت زنوبة بنتاً لحائك يعمل لحسابنا. وقد أغرمت بي من كل قلبها حتى أنها لم تكن تقبل مني مالاً. وقد اضطرتني إلى ممارسة الجنس معها على نحو طبيعي مع أنها كانت بنتاً باكرا. وكانت تطمئنني بأنها اتخذت الاحتياطات لتجنب الفضيحة. وأعترف لك أنني لم أكن مرتاحاً أبداً لذلك الوضع. فلم تكن علاقاتي بالبنات البكر على هذا النحو. وفي يوم أخبرتني زنوبة أنها حامل فاسقط في يدي ولم أدر ماذا أفعل. وسألتها: ماذا سيكون موقف أهلك يا زنوبة إذا افتضح أمرك؟
فأجابت بعدم اكتراث: أنا لا يهمني شيء. أنت عندي أغلى من كل شيء في الوجود.
وكانت قد أخبرتني أن لها أخ في السادسة عشرة من عمره يمكن أن يخشى جانبه. وذات يوم كنت أعالج فتح باب حجرة الخان وإذا بفتى يندفع نحوي وهو يشهر سكّينه. وكاد يصيبني بمقتل لولا أنني تحاشيت ضربته. وأمسكت بيده وانتزعت منه السكين وطرحته أرضاً وبركت على صدره. وصرخت به: من أنت؟ ولماذا حاولت قتلي يا مجرم؟!
فقال لي: أنت المجرم الذي غدر بأختي.
فقلت له: لم يغدر أحد بأختك وهي التي غدرت بنفسها.
وما أن أفلته حتى ولّى هارباً. وقد قتلت زنوبة فيما بعد غسلاً للعار فحزنت عليها.
المؤلف – أهذا كل ما عندك لتقوله عن تلك الفتاة المسكينة؟
علوان – وماذا تريدني أن أفعل إذن؟ أنا لم أجبرها على شيء وهي التي اختارت مصيرها بنفسها.
المؤلف – يجب أن تعترف يا علوان أنك استغللت جمالك ومالك للإيقاع بالنساء المسكينات اللواتي كن يدفعن ثمناً باهظاً لمغامراتك معهن حين يفتضحن ألا وهو الموت. ولا شك أنك قد قارفت ذنباً عظيماً.
علوان – لا.. لا.. أرجوك يا سيد. لا تحمّلني مثل هذا الذنب وتجعلني أندم على أنني حكيت لك حكايتي بكل صراحة واعترفت لك بكل شيء.
المؤلف – على كل حال كل الذي استطيع قوله يا علوان أن الحاج كمكم لم يتجن عليك حين سمّاك "شيطان السوق". وعسى الله أن يحفظ سوق هرج لأهله الطيبين.














الحاج كمكم
(أبو هوجة)


المؤلف – أنت كنت يا حاج كمكم غير متحمس لبقاء سوق هرج خلافاً لبقية أهل السوق. فما هي حكايتك؟
الحاج كمكم – ولماذا تسألني مثل هذا السؤال؟
المؤلف – لأنني مؤلف وأريد أن أكتب عن الضرر الذي يحدث لأهله إذا ما هدمته المتصرّفية.
الحاج كمكم – عجائب! أي ضرر يمكن أن يحدث في هدم سوق هرج؟ على العكس.. سينتفع أهله من ذلك. فإذا هدمته الحكومة فستدفع لنا تعويضاً مجزياً. بل إن من الأفضل لنا أن نتخلص من سوق هرج وامتداده سوق الصفافير الذي يدوّخنا العاملون فيه بضجيجهم طوال النهار. وسنتخلص أيضاً من مجاورة "عكد المفتي" السيء السمعة. فماذا سنخسر إذن بهدم سوق هرج؟
المؤلف – لكنك قد أمضيت سنين عديدة فيه يا حاج كمكم وصار أهله جزء من أهلك بلا شك وستحزن إذا فارقتهم.
الحاج كمكم – جزء من أهلي!! استغفر الله.. استغفر الله. لا تقل ذلك أرجوك. أنا بريء منهم ولن أحزن إذا فارقتهم.
المؤلف – هذا غريب! فكل من تحادثت معه عبّر عن حبه الشديد لسوق هرج وأهله.
الحاج كمكم – لا تصدق كل ما قيل لك يما مؤلف. فمعظمهم يكره بعضهم بعضاً بسبب حسدهم وتنافسهم على اجتذاب الزبائن. وكثيراً ما اندلعت المشاحنات بينهم بسبب ذلك.
المؤلف – كلامك غريب يا حاج كمكم. فقد أكد لي الجميع وجود التضامن والتكافل بينهم وخصوصاً وقت الملمّات. وهم مستعدون لتقديم المساعدة لمن يقع في ضائقة.
الحاج كمكم – الحاج كامل هو الوحيد بينهم الذي يقدم المساعدة وهو يفعل ذلك من أجل كسب ولاء أهل السوق السذّج فهو رجل منافق.
المؤلف – كيف تقول عنه ذلك يا حاج كمكم؟! فقد عبّر لي جميع أهل السوق عن احترامهم الشديد له وهم مجمعون على أنه رجل صالح ذو أخلاق فاضلة.
الحاج كمكم – لو كان رجلاً صالحاً حقاً ما تخلى عن لقب "الحاج" وهو أعظم لقب يكسبه المسلم. فهو يفضل أن ينادوه بالعم كامل. وهو بتصرفه هذا يشجع شباب السوق غير الصالحين على التقليل من شأن هذا اللقب.
المؤلف – وهل هناك شباب غير صالحين في سوق هرج يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – يوه..! كثيرون.. كثيرون.. وعلى أشكال عديدة. فأولاً هناك من له صلات مشبوهة بأشخاص من خارج السوق من ذوي السمعة السيئة. وثانياً هناك من له صلات مشبوهة بأشخاص من خارج السوق من ذوي السمعة السيئة. وثانياً: هناك من لا يؤدون صلاة الظهر والعصر في مسجد الغيبة مع أنه من أطهر المساجد وبقعته من أطهر البقاع فقد غاب فيها صاحب الزمان. وتصوّر يا مؤلف أنني حين ألومهم على ذلك يقولون لي: أنت لست قيّماً على الدين في سوق هرج يا حاج كمكم. ولن تحاسب نيابة عنّا في يوم القيامة!!.
المؤلف – قد يكون للعم كامل رأي آخر في مثل هذه الأمور يا حاج كمكم وهذا لا يعني أنه منافق. وأنت تتحامل عليه أكثر من اللازم.
الحاج كمكم – عجائب! أنا أتحامل عليه لكوني أقول الحقيقة؟ فمادام أهل سوق هرج يعتبرونه حكيمهم فعليه أن يتحمل مسؤولياته. ومن واجبه ألا يتغاضى عمن يخرج عن الدين والأخلاق الفاضلة. وهناك الكثير من المخازي التي تجري في سوق هرج والتي تخالف الدين والأخلاق الفاضلة وهو يغضّ الطرف عنها.
المؤلف – مثلاً يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – مثلاً المخازي التي يقوم بها شيطان السوق. ألم تسمع به؟
المؤلف – اتقصد علوان؟
الحاج كمكم – نعم. فهذا الشخص لا يعفي أية امرأة تتردد على دكانه من محاولة إغوائها والفجور بها. وعينه تطارد كل امرأة تمر في السوق. فكيف يسكت عنه الحاج كامل؟!
المؤلف – وماذا بيده أن يفعل سوى أن ينصحه؟ فعلوان بعد كل شيء واحد من أهل السوق شأنه شأن الحاج كامل.
الحاج كمكم – وإذا قلت لك أن هناك من الفاسقين من هم ليسوا من أهل سوق هرج أصلاً؟!
المؤلف – ومن تقصد؟
الحاج كمكم – أقصد حسنية بائعة الباقلاء. فهي أكبر مفسدة في سوق هرج. ومع ذلك يتساهل معها الحاج كامل بل ويبسط حمايته عليها.
المؤلف – وما جريرتها؟
الحاج كمكم – هذه المرأة هي فتنة للسوق يا مؤلف وهي تحاول إغواء الشبان وحتى الشيوخ من أهل السوق. ولا استبعد أنها تقيم علاقات مشبوهة مع بعض الشبان والذي يسمونها حسنية الحلوة. وزيادة على ذلك فإنها تخلق مشاكل دائمة للسوق.
المؤلف – وماذا فعلت مثلاً؟
الحاج كمكم – مثلاً حاولت أن تغري عبود الدلال ليطلق زوجته وأم أولاده ويتزوجها. وهناك أمور كثيرة أخرى من تحركاتها الشيطانية. وكان ينبغي للحاج كامل أن يطردها ويخلّص السوق من شرورها.
المؤلف – لعله يعتقد أنها مسكينة وعلى باب الله ولا يجوز إيذاءها يا حاج كمكم.
الحاج كمكم – ولكن ليس على حساب الأخلاق الفاضلة. غير أن المهم لدى الحاج كامل أن يظهر نفسه بمظهر راعي الفقراء ولا يهمه أكانوا فاسقين أم صالحين.
المؤلف – وهل هناك فاسقون آخرون في سوق هرج يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – طبعا.. هناك مثلاً فهورهود الجايجي.
المؤلف – وماذا فعل هذا الرجل المسكين؟
الحاج كمكم – هذا الرجل المسكين هو أكبر خارج على شرع الله. وهو يحلّل ما حرّم الله. فهو يحتفظ بمعزى في دكانه ويفسق فيها. وهو لا يخجل من اصطحابها معه وهو يحمل الشاي للزبائن.. أي على عينك يا تاجر! وكلما كلّمت الحاج كامل بشأنه ردّ عليّ قائلاً: "اتق الله في عباده يا حاج كمكم".
المؤلف – الحق مع العم كامل يا حاج كمكم فلا يجوز قطع رزق هذا المسكين لمجرد الظنون. وهناك أناس يحبون الحيوانات حبّاً شديداً كالقطط والكلاب وهذا لا يعني أنهم يفسقون فيها.
الحاج كمكم – عجائب! حتى أنت تدافع عنه أيضاً! ماذا يعني إذن أن تبيت المعزى معه في دكانه الذي يتخذ منه مسكناً وهو شخص عازب؟
المؤلف – ربما لكي تؤنس وحدته. ولا يحق للآخرين أن يعاقبوه لمجرد احتفاظه بالعنزة في دكانه. والآية الكريمة تقول "إن بعض الظن إثم".
الحاج كمكم – لا.. لا يا مؤلف. لا تدنّس الآية الكريمة. ففرهود الجايجي إنسان فاسق شأنه شأن علوان وحسنية وغيرهم من شباب السوق الفاسقين. وأنا أحمّل الحاج كامل مسؤولية التساهل تجاه الأخلاق الفاضلة في سوق هرج. تصور أنه يتساهل حتى مع شخص مثل فليّح الشيوعي الذي كان يجب طرده من السوق وإن كان من أهله الأصليين.
المؤلف – وماذا فعل فليّح حتى يستحق طرده من السوق؟
الحاج كمكم – عجائب! أفلا تعلم أنه حكم عليه بالسجن سبع سنوات بتهمة الشيوعية؟ وبدلاً من أن يدعو الحاج كامل أهل السوق لطرده دعاهم إلى التبرع لعائلته أثناء وجوده في السجن.
المؤلف – أسمح لي يا حاج كمكم أن أسألك: لماذا تحقد على فليّح إلى هذه الدرجة مع إنه لم يسيء إلى أي أحد من أهل السوق؟
الحاج كمكم – عجائب! فليّح الشيوعي لم يسئ إلى أحد من أهل السوق؟! يحاول أن ينشر بينهم آراءه الشيوعية التي تدعو إلى نبذ الدين والفسق بالأم والأخت وارتكاب كل المحارم وتقول أنه لم يسئ إلى أحد من أهل السوق؟!
المؤلف – لن أردّ على أقوالك هذه يا حاج كمكم إلا بالعبارة التي يرد بها عليك العم كامل وهي: "اتق الله في عباده".
الحاج كمكم – طبعاً ترد عليّ بهذه العبارة. فأنت قد تأثرت بأقوال أهل السوق السذج عن الحاج كامل لأنه يخدعهم بما يقدمه لهم من مساعدات مالية يخدعهم بها.
المؤلف – وهل هذا عيب فيه إذن يا حاج كمكم؟ هل الذي يساعد من يحتاج إلى المساعدة يرتكب خطأ؟
الحاج كمكم – طبعاً. لأن الحاج كامل يهدف بتلك المساعدات إلى سلب عقول أهل السوق كما حاول أن يسلب عقل ابني فاضل.
المؤلف – وكيف ذلك يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – لقد رغب ابني فاضل مواصلة الدراسة العالية بعد أن أنهى دراسته الثانوية. ولم يكن هناك موجب لذلك لأنه سيتوظف بشهادة الثانوية ويصبح راتبه بعد سنوات مثل راتب خريج الكلية من دون أن يتغرّب وينفق المال. فلم أستجب لرغبته طبعاً. فعرض عليه هو أن يقدّم له قرضاً يمكّنه من مواصلة دراسته.
المؤلف – وأين الضرر في عرضه هذا يا حاج كمكم والهدف منه تلبية طموحات ابنك؟
الحاج كمكم – وما دخله في شؤون عائلتي حتى يقدم لابني هذا العرض؟! هل أنا عاجز عن الانفاق على ابني لو كنت أرى ذلك في مصلحته؟ فأنا أبوه وأعرف بمصلحته. فليس هناك من داعٍ لأن يعيش في بغداد بعيداً عن أهله. وربما تعرّض للفساد باختلاطه هناك مع الشبان الفاسدين. وربما اجتذبه مع أهل السياسة فيكسرون رقبته كما كسروا رقبة عبد الشهيد بن سيد حسن الرواف. فعرض الحاج كامل على ابني ظاهره خير وباطنه شر. ولو تعلم كم سبب لي هذا العرض من متاعب مع أفراد عائلتي.
المؤلف – وكيف ذلك يا حاج كمكم؟
الحاج كمكم – أنا يا مؤلف ربيت أبنائي على طاعة أوامر الله وتعاليم ديننا الحنيف. وهي أوامر واضحة بخصوص الوالدين. فلا يجوز أن يعترض الأبناء على الآباء، ويقولوا لهما أفّ أو يرفعوا أصواتهم عليهما مهما تكن الحال. هكذا علّمنا ديننا الحنيف وهكذا ربيت أبنائي وعودتهم على الاحترام والطاعة المطلقة لرب العائلة وعدم عصيان أوامره أو حتى مناقشتها مهما تكن. لكن تدخل الحاج كامل في قضية فاضل جعل أبنائي يعصون أوامري. وبدأ بذلك فاضل الذي أخذ يناقشني في أسباب رفضي لمواصلة تعليمه. ولما أفهمته بالأسباب رفض قبولها وراح يرد أقوال السفهاء من أهل السوق عني. وجرّأت أقواله إخوانه وأخواته وحتى أمه التي اعترضت على إرادتي وتوسلت إليّ أن أوافق على مواصلة تعليمه. ولما أمرتها ألا تتدخل فيما لا يعنيها خاصمتني وخرجت عن طوعي لأول مرة في حياتها.. تصور! وهكذا قلب تدخل الحاج كامل في شؤوني العائلية كيان عائلتي رأساً على عقب. وأخذ أبنائي يتحدثون فيما بينهم عن حرصي المفرط على المال بالرغم من ثرائي، وأن هذا الحرص جعلهم يعيشون حياة الفقراء البائسين في أكلهم وملبسهم وطريقة حياتهم. وصاروا يرددون نفس الكلام الذي يتداوله عني السفهاء من أهل السوق بأنني أعدّ من أغنياء السوق لكنني أتظاهر بالفقر بسبب بخلي. واضطروني في النهاية إلى أن أبذّر المال عليهم وعلى البيت بطريقة لا يرضاها الله. حتى أنهم اضطروني أخيراً إلى إدخال الكهرباء إلى البيت وإن اكتفيت بغرفة واحدة. ولا أدري ما العيب في الفوانيس واللمبات حتى يُبذّر المال على الكهرباء!.
المؤلف – ولكن اسمح لي أن أقول يا حاج كمكم أنك لست مضطراً للتقتير على عائلتك إلى هذه الدرجة ما دام الله قد وسّع في رزقك.
الحاج كمكم – عجائب! وهل تعتقد أنت أيضاً يا مؤلف أن الله حينما يوسع علينا في الرزق يدعونا إلى أن نبذر المال يميناً وشمالاً؟ ألم تسمع بقول الله تعالى : "إن المسرفين إخوان الشياطين"؟
المؤلف – ولكن هذه نصيحة وليست فرضاً نحكّمه في حياتنا بالطريقة التي تسير عليها أنت يا حاج كمكم.
الحاج كمكم – بل هي فرض من الله وعلينا إتباعه ويجب أن نحكّمه في حياتنا. والحق معك لأنك لم تجرّب القول المأثور "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود". إسالني أنا فقد جرّبته بكل مرارته. وسأحكي لك ما جرى لي لعلك أنت أيضاً تتعظ كما أتعضت أنا. فأبي المرحوم لم يكن من الذين يهتمون بأمثال هذه الأقوال الحكيمة. فكان يصرف علينا كل ما كان يكسبه من دكان القصابة ولم يكن يحسب حسابه للمستقبل أبداً. فكان يرى أن من الضروري مثلاً أن يشتري لكل أبنائه ثياباً جديدة في العيد حتى وإن كانت ثيابهم ما تزال جديدة. وكان يحمل إلى البيت طعاماً يزيد عن حاجتنا ويتصدق بالباقي على جيراننا الفقراء. وكانت أمي تحتج عليه وتطلب منه أن يدخر شيئاً للمستقبل. لكنه كان يرد عليها قائلاً: "الرزق على الله يا أم محمود، والمثل يقول أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب".. لقد كان مسرفاً حقاً. ثم صبّ الله غضبه على أمثاله من المسرفين فأتاهم يوم أثناء الحرب العالمية الأولى صاروا يتساقطون فيه موتى في الطرقات من الجوع. ولم يكن لهم من حيلة سوى الدعاء في الجوامع التي ازدحمت بهم لعل الله يرأف بهم. وأتذكر أننا كنا كل بضعة أيام نودّع أحد أفراد عائلتنا إلى القبر حتى لم يبق سواي. فهمت في الطرقات شأن بقية الأطفال الذين لم يبق لهم أحد، ثم سقطت وأنا بين الحياة والموت. فالتقطني العم محسن وأنقذني من موت محقق. وكان العم محسن مقطوعاً من شجرة ليس له ولد ولا تلد. فاتخذني ولداً ورعاني بما يرضي الله. والحمد لله أنني كنت ابناً باراً ومطيعاً له كما كان يريدني فقد اشترط عليّ منذ البداية أن أطيعه طاعة مطلقة كما يأمر بذلك ديننا الحنيف. وكان رجلاً تقياً يخشى الله. وكان يمتلك دكان عطارة بسيط. ولم يكن يرضى بالربح الحرام. فكان لا يغش في الميزان أبدا. حتى أنه كان يمسح ميزانه الصغير اللمّاع عدة مرات قبل أن يزن السكّر والشاي لئلا يثقله ما علق به من غبار. وكان رجلاً حكيماً ولم يكن يبذّر المال أبداًَ. وكان أسعد أوقاته حينما يخرج الليرات الصفر التي يخبئها في إحدى مخابئ البيت ويعدها متمهلاً ويتأملها في ابتهاج. وكان يقول لي: "علينا أن نحب المال يا بني ولا نبذره فهو نعمة من الله". وقبل أن يموت أخذ عهداً عليّ بأن ألتزم بوصيتي من وصاياه وهما التمسك بتعاليم ديننا الحنيف والمحافظة على المال. وقد ورثت ليراته القليلة لكنني وجدت حرفته لا تأتي بالربح الوفير فاستبدلت بها تجارة سوق هرج. وأشكر الله على نعمائه. فأنت ترى يا مؤلف أن أغلى ما ورثته عن عمي محسن هي التمسك بديننا الحنيف وعدم الإسراف وتبذير المال. ثم أريد أن أسألك أخيراً يا مؤلف: ما دخل أهل سوق هرج فيما أفعله بمالي؟! هل هم الذين تعبوا في جمعه؟ ولكنني أعلم لماذا يتدخلون في شؤوني الشخصية فهم يحسدونني على نعمة الله. لذلك تراني دائماً أردد الآية الكريمة: بسم الله الرحمن الرحيم "قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد". صدق الله العظيم.
المؤلف – لم أعد مستغرباً الآن يا حاج كمكم من عدم حماسك لسوق هرج بعد الذي سمعته منك.
الحاج كمكم – وإن شاء الله تنفذ المتصرّفية قرارها يا مؤلف فننعم بالتعويضات.









حسنية
(حسنية الحلوة)


المؤلف – هل أنت خائفة حقيقة يا حسنية على سوق هرج أم أنك تجاملين أهل السوق؟
حسنية – بشرفي الذي لا أملك غيره يا عيني إنني أحب سوق هرج مثل أي واحد من أهله وحياتي صارت مربوطة به. والساعات التي أقضيها فيه مثل العيد عندي.
المؤلف – ألهذا الحدّ تحبين سوق هرج يا حسنية؟
حسنية – وأكثر يا عيني.. وأنا سمعت أنك تكلمت مع أهل سوق هرج المعتبرين وطلبت منهم أن يحكوا لك حكاياتهم لتعرف لماذا يحبون سوق هرج وغايتك أن تقنع الحكومة ألاّ تهدمه.
المؤلف – هذا حدث فعلاً يا حسنية.
حسنية – فأنا أيضاً عندي حكاية مثلهم عن سبب حبي لسوق هرج. فهل عند وقت لسماع حكاية امرأة بسيطة مثلي ليست من أهل سوق هرج أصلاً؟
المؤلف – يسرّني أن أسمع حكايتك يا حسنية.
حسنية – أنا ممنونة لك يا عيني وسأكون صريحة جداً في حكايتي فأنت بمقام أبي.
المؤلف – تفضلي يا حسنية.
حسنية – أنا يا عيني تربيت يتيمة. فأبي وأمي ماتا وعمري ليس أكثر من ست سنوات حينما هدمت سيول الأمطار بيتنا الطيني. وبقيت وحيدة. وكم افتقدتهما فقد كانا يحبّاني ويدللاني كثيراً. ولم يكن لي من الأقرباء سوى خالتي وهي امرأة ضعيفة الحال ليس لها سوى ولد واحد هو مدلول وهو الذي يقوم بإعالتها. فأخذتني في بيتها الخرابة. وصرت أقوم بكل ما يحتاجه البيت من خدمة. وكانت خالتي تلحّ على مدلول بالزواج لكنه كان يرفض. ويظهر أنه وضع عينيه عليّ حتى أكبر وأكون صالحة للزواج. ولم يكن يسمح لي بالخروج من باب الدار أبداً. ويوماً طلبت مني خالتي أن أحضر لها حاجة من بيت الجيران وكان لهم ولد في عمري فلعبت معه. وبينما كنا نلعب حضر مدلول. وما أن رآني مع الولد حتى هجم عليّ وجرّني من شعري إلى البيت وضربني ضرباً قوياً ونهاني أن ألعب مع الأولاد أبدا. وكلما كبرت كان مدلول يزداد غيرة عليّ ويحرّم عليّ الخروج من الدار. فعشت كالحبيسة في الدار.
المؤلف – يا لك من طفلة مسكينة يا حسنية.
حسنية – أي والله عيني.. كنت طفلة مسكينة أتحسر على اللعب في الطريق. ولما وصل عمري إحدى عشرة سنة تزوجني مدلول. ويا لهول ما لقيته على يديه. ولم أكن أفهم لماذا يفعل بي ذلك. فكنت أتعذب على يديه ثلاث أو أربع مرات في الليلة. وكانت تلك الدقائق كالكابوس عليّ.
المؤلف – هذا فظيع. لا تبك يا حسنية.
حسنية – أعذرني يا عيني إذ تراني أبكي فكلما تذكرت أيام طفولتي فاض قلبي بالحزن. وليت حياتي مع مدلول اقتصرت على ليالي العذاب هذه لكنه جعلني سجينة في البيت. وكان يغار عليّ غيرة جنونية ولا يرضى أبداً أن أتخطى عتبة الباب. وكان يبيع الباقلاء واللبلبي في عربة جوالة. فكان يحضر إلى البيت مرات عديدة في اليوم وفي أوقات مختلفة ليطمئن إلى وجودي خصوصاً وأن خالتي صارت شبه كفيفة. وكثيراً ما تمنيت على الله لو خلقني قبيحة لكي لا يشعر مدلول بمثل هذه الغيرة عليّ. وبدلاً من أن يكون حسني مفيداً لي كان ضرراً عليّ. فالله خلقني بحظّ أسود وإلا ما يتّمت وأنا طفلة وحرمت من حنان الأبوين ولما تزوجت من رجل مثل مدلول. وليس من حقي معاندة الله فتلك إرادته.. آمين يا رب العالمين.
المؤلف – كان الله في عونك يا حسنية.
حسنية – ثم مات مدلول وهو عائلنا وانقطع رزقنا إلا ما يتصدق به علينا الجيران. ولم ندر ماذا نفعل وكيف نعيش. وعرضت على خالتي أن أقوم مقام مدلول فأبيع اللبلبي والباقلاء بعربته الجوالة لكنها غضبت لذلك. وقالت إنها لن توافق حتى لو متنا جوعاً فسأكون مطمعاً لكل رجل يشتري مني. وقالت لي أيضاً إن آخر وصاياً مدلول لها أن تجعلني أصون شرفه ولا أضيعه منه وهو في القبر. وكانت تتوسل إليّ وتبوس رأسي ويدّي أن أحافظ على وصية مدلول وألاّ أفرّط بشرفي. وكانت تقول لي: "نحن الفقراء يا حسنية لا نملك غير شرفنا الذي قد يسلبه منّا أهل المال. فإذا ضاع منّا شرفنا ضاع كل شيء". وكانت مهووسة بذلك كما كان مدلول من قبلها. ولما هدّنا الجوع ارتأت أن تقوم هي ببيع الباقلاء في العربة الجوّالة. فكانت تتجوّل في الشوارع والأسواق القريبة. وكانت تقفل عليّ باب الدار وتتركني حبيسة حتى تعود. ولكونها شبه كفيفة عجزت عن تدبير أمرها. فكان الأطفال يسرقون منها الباقلاء والكبار يسرقون ما لديها من نقود. فكانت تعود في نهاية النهار بكسب ضئيل بالكاد يسدّ حاجتنا إلى الطعام.
وفي يوم أقبلت عليّ وهي متهللة الوجه وقالت لي: وجدت حلاً لمشكلتنا ياحسنية فأنا عاجزة عن تدبير أمري.
فسألتها: وما هذا الحل يا خالتي؟
فقالت: أن تقومي أنت ببيع الباقلاء.
فلم أصدق سمعي وشعرت أنني أطير من الفرح. وقلت لها: أنا حاضرة لكل ما تأمرين به يا خالتي.
فقالت : ولكن يجب أن تبيعي الباقلاء في مكان معين وهو سوق هرج القريب منا. فقد استقصيت عن هذا السوق وعرفت أن فيه رجلاً يحمي الضعفاء اسمه العم كامل. وذهبت إليه وقلت له: "أنا دخيلتك يا عم كامل فأعطني الأمان". فقال: "لك الأمان". فحدثته عن حالنا. فقال لي: "إبعثي بزوجة ابنك وستكون تحت حمايتي".
وهكذا اطمأنت خالتي إلى سلامتي من اعتداء الرجال وأنا أبيع الباقلاء في سوق هرج. ومع ذلك فهي تحمّلني أغلظ الأيمان كل يوم وأنا أغادر البيت في أن أصون شرفي وألا أفرّط فيه مهما عرضوا عليّ من مال، وألاّ استسلم لإغراء أي رجل. ثم تعيد عليّ القسم فأطبّ القرآن عند عودتي. وبالرغم من هذا القسم الذي يكسر الظهر فأنا أشعر بسعادة عظيمة وأنا أتخذ موضعي كل صباح في رأس سوق هرج عند تقاطعه مع سوق الحشاشة. فأين مني الحبس في البيت أيام مدلول!
المؤلف – فأنت مستمتعة إذن بوجودك في سوق هرج يا حسنية؟
حسنية – طبعاً أنا مستمتعة يا عيني. وإن ظل حسني ضرراً عليّ في سوق هرج كما كان ضرراً عليّ في بيت خالتي. فأنا تعبت كثيراً في بداية وجودي في السوق من طمع الرجال وإغراءاتهم أكانوا شباباً أم كباراً في السن.
المؤلف – أتعنين يا حسنية أن بعض أهل السوق من كبار السن يطمعون فيك كما يطمع الشباب؟
حسنية – بشرفي الذي لا أملك غيره يا عيني أنا أقول الصدق.
المؤلف – ومن هم يا حسنية؟
حسنية – لا تضطرني لذكر الأسماء يا عيني.
المؤلف – سرّك في بئر يا حسنية.
حسنية – فأعلم إذن إنه الحاج كمكم.
المؤلف – الحاج كمكم؟! لكن المعروف أنه حريص على الأخلاق والدين في سوق هرج يا حسنية.
حسنية- الحاج كمكم حريص على الدين والأخلاق؟ هذا الرجل الذي تخرّّ رهوالته على لحيته الطويلة البيضاء كلما رآني؟! أنه كذاب. وكم ألّح عليّ في أن أوافق على أن "يستكعدني". ووعدني أن يؤجر لي غرفة بدل الخرابة التي أسكن فيها مع خالتي.. وحلف لي أنه سيتزوجني حسب شرع الله زواج متعة. واحترت كيف أتخلص منه.
المؤلف – ولماذا لم تشكه للعم كامل فأنت تحت حمايته؟
حسنية – لا.. لا يا عيني. أنا لست حمل المشاكل. والحمد لله أنه يئس مني أخيراً وانصرف عني. لكنه ظل يحرّض أهل السوق عليّ ويقول إنني فتنة الشيطان وإنني أخلق المشاكل للسوق.
المؤلف – وأية مشاكل يمكن أن تخلقيها للسوق يا حسنية وأنت امرأة مسالمة على باب الله؟
حسنية – أقول الصدق يا عيني إنني سببت بعض المشاكل لسوق هرج فعلاً.
المؤلف – وكيف ذلك؟
حسنية – مثلاً كان هناك شاب من سوق الحشاشة المجاور اسمه خلف يتردد علي كل صباح ليتناول فطوره. وطوال الوقت كان يسمعني كلمات عشق معيبة ويحاول إغرائي بمال كثير. وحاولت أن أصده بالعيني والآغاتي فلم ينفع معه. فهددته بأن أشكوه إلى جعيفر. فكان يرد عليّ: "ومن هو جعيفر؟ والله لو تحرش بي لسحقت رأسه". فشكوته أخيراً لجعيفر فكسّر له ضلوعه.
المؤلف – ولكن لا يمكن لأحد أن يلومك على ذلك يا حسنية ولم يكن لك ذنب فيما حصل.
حسنية – كيف لم يكن لي ذنب؟ فلو لم أكن حلوة ما تعرض لي خلف ولما حدثت مشكلة وعراك في السوق. وأقول لك الصدق إنه لم يلمني على ذلك أحد. فخلف كان غريباً عن السوق. ولكن حدثت لي مشكلة أخرى مع واحد من أهل السوق هو عبود الدلال. فقد ابتلاه الله بعشقي مع أنه متزوج وله أولاد. وكان في كل صباح يسمعني كلمات عشق حلوة وهو يقعد بجانبي يتناول فطوره أو وهو يدلل على البضاعة رائحاً غاديا. وكان غرضه شريفا معي فقد كان راغباً في الزواج مني. وقال لي إنه مستعد أن يطلق امرأته ويتزوجني. وبشرفي الذي لا أملك غيره لم أشجعه أبداً. وكنت أقول له دائماً: كيف يهون عليك يا عبود أن تكسر بخاطر امرأتك وأولادك؟! وهل من المعقول أن أصوم وأفطر على بصلة؟ أتزوج رجلاً يكبرني بعشرين عاماً وأترك الشباب؟!
المؤلف – فأين المشكلة إذن يا حسنية؟
حسنية – المشكلة يا عيني أن امرأته اكتشفت عشقه لي. وفي يوم من الأيام لم أشعر إلا وامرأة تهجم علي كالمجنونة. فكفأت قدر الباقلاء وكفشتني من شعري وطرحتني على الأرض وأخذت ترفسني وهي تشتمني متهمة أياي بمحاولة سرقة زوجها. وبقيت بين يديها كالنعجة لولا أن خلصني منها جاسم وجعيفر. أما زوجها فوقف ينظر إلينا وهو كالمسطول. وقد غضب جاسم عليه واسمعه كلاماً قوياً. ومن يومها اختفى عبود ولم يظهر في السوق ثانية.
المؤلف – أنت لست مسؤولة عن هذه المشكلة ياحسنية مادمت لم تشجعيه.
حسنية – لكن الحاج كمكم وجدها فرصته للانتقام مني. ففي صباح اليوم التالي أقبل عليّ هائجاً وصرخ في وجهي: إبعدي عن السوق يافتنة الشيطان.. ابعدي عنا.. كل يوم تخلقين لنا مشكلة.
ثم رفس قدر الباقلاء وكفأه على الأرض. فقفز إليه جاسم وقال له بقوة: ما أنت إلا متدين كاذب يا حاج كمكم. وإلا ما سمحت لنفسك بالاعتداء على امرأة ضعيفة.
وقال له أبونا الحجي: على مهلك يا حاج كمكم فليس من شيمة أهل سوق هرج الاعتداء على الضعفاء.
وكان العم كامل يراقبنا من دكانه فقال له: اتق الله في عباده يا حاج كمكم.
وأسرع إليّ جعيفر وأخذ يجمع الصحون المتناثرة ويعيد القدر إلى موضعه وهو منزعج.
المؤلف – على كل حال لا أحد يرضى من أهل السوق بأذيتك يا حسنية. ولا أظن أن الشبان يفكرون بمضايقتك جدياً وهم يعلمون أنك تحت حماية العم كامل.
حسنية – لا.. لا يا عيني. لم يعد أحد من الشبان يضايقني خصوصاً بعد أن تأكدوا بأنني لا يغرّني المال.. وكيف يمكن أن يغريني المال وأنا أقسم كل يوم على القرآن؟! حتى علوان أبو عيون الزائغة يئس مني بعد أن كان يتصور أنه قادر على إغوائي بجماله وماله. ولكنهم جميعاً طامعون بي ويريدونني بالحرام. ولا أدري لماذا لا يفكرون بي بالحلال. فماذا يعيبني؟ هل ذنبي أنني فقيرة أتعيش من بيع الباقلاء ولم يخلقني الله ابنة لأحد المعتبرين؟! لكن حظي أسود كما قلت لك. وهناك نساء أقل حسناً مني وتزوجوا من رجال أغنياء وعاشوا في قصور.
المؤلف – على كل حال أنت امرأة شريفة يا حسنية ولا يعيبك كونك فقيرة تتكسبين من بيع الباقلاء فهو أمر مشرف لك. والمهم أن شبان السوق لم يعودوا يضايقونك وأنت تستحقين كل خير.
حسنية – آمين يا رب العالمين. وأقول لك الصدق إنه لم يعد يضايقني أحد من الشبان. ولكنهم مازالوا يسمعونني كلمات عشق حلوة. وكلماتهم الحلوة تسرني وأشعر لها بالسعادة بيني وبين نفسي.
المؤلف – فاسمحي لي يا حسنية إذن أن أسألك ألم يمل قلبك إلى أي واحد منهم؟
حسنية – أقول لك الصدق يا عيني إن قلبي يميل فعلاً إلى واحد منهم هو جعيفر أبو الشهامة. وإني أحلم أن يكون من نصيبي في يوم من الأيام. فهل ترى أنت أنه كثير عليّ أن أحلم برجل مثل جعيفر أبو الشهامة وهو فقير مثلي؟
المؤلف – بالعكس يا حسنية، من حقك أن تحلمي بجعيفر أو بغيره حتى لو كان من الأغنياء.
حسنية – لا .. لا يا عيني. أنا لا أريد أن أحلم برجل غني. فكل واحد يأخذ نصيبه من الدنيا. ونصيبي الذي كتبه لي الله أن أكون فقيرة. فأنا لا أريد غير جعيفر. لكن حظي الأسود جعله خلاف غيره من شباب السوق. فهو لم يسمعني كلمة عشق أبداً مع أن قلبه يميل إليّ.
المؤلف – فكيف عرفت إذن أن قلبه يميل إليك يا حسنية وهو لم يقل لك كلمة عشق يوماً؟
حسنية – أقول لك الصدق يا عيني إنني تعمدت أن أشاغل قلبه أحياناً وأن أجعله يغار عليّ. فكلما جاءني ليتناول فطوره شكوت له من الشبان الذين يطمعون بي. وكنت أقول يا ليت عندي رجل يحميني فيكفّون عني. فكنت ألاحظ على وجهه التأثر من قولي. لكنه لم يبرّد قلبي يوماً بكلمة عشق حلوة. وكل ما يقوله لي إنني يجب ألا أخشى من أي أحد ما دمت بحماية العم كامل.
المؤلف – فلماذا لا يفكر في الزواج منك يا حسنية ما دام قلبه يميل إليك؟
حسنية – إنني سألته يوماً: "لماذا لم تتزوج حتى الآن يا جعيفر وأنت تتمناك كل امرأة؟" فقال لي: "أنا لن أتزوج يا حسنية إلا بعد أن تتزوج أخواتي فهن أمانة في رقبتي ولا أريد أن أعرضهن لمناكفة امرأتي". لكنني لن أيأس منه يا عيني أبدا. وأنا أدعو الله ليل نهار أن يجعله من نصيبي فأنا عشقته من كل قلبي.
المؤلف – إن شاء الله يكون من نصيبك يا حسنية.
حسنية – آمين يا رب العالمين، وأقول لك الصدق يا عيني أن هناك شخص آخر أشعر أنه يميل إليّ لكنه لم يكشف عن قلبه أيضاً يوما وهو جاسم. فكلما انتبهت إليه رأيت عينيه مركزة على وجهي. فلماذا يفعل ذلك إن لم يكن قلبه يميل إليّ؟! وهو يغضب إذا تعرّض لي أحد بسوء. وأقول لك الصدق إنه حينما يأخذ فطوره مني لا ينطق إلا بكلمات قليلة. وإن أمره ليحيرني. وهو لا يتكلم إلا قليلاً. فهو شخص هادئ ولا شأن له بأحد. ويغلب على وجهه الحزن. وسمعت بعض شباب السوق يسمونه "جاسم المنكوب".
المؤلف – وهل تقبلين به زوجاً يا حسنية لو عرض عليك الزواج؟
حسنية – لا.. لا يا عيني. لن أقبل بأحد غير جعيفر أبو الشهامة فهو الوحيد الذي عشقه قلبي. وإن شاء الله يكون من نصيبي يوماً.
المؤلف – عسى الله أن يحقق لك حلمك يا حسنية.
حسنية – آمين يا رب العالمين.
المؤلف – أنا أدرك الآن يا حسنية لماذا تتمسكين بسوق هرج وتحبينه.
حسنية – أنا أحبه وأحب أهله وإن شاء الله يحفظه من شرور الحكومة. آمين يا رب العالمين.
المؤلف – عسى الله يستجيب لدعائك يا حسنية.



بهلول
(العريف حمود)


المؤلف – أنت متحمس للحكومة يا بهلول كما لاحظت مع أنك إنسان بسيط يكاد الفقر أن يسحقك. فملابسك رثة وأنت تعيش على ما يتصدق به عليك أهل السوق. فما حكايتك؟
بهلول – ولماذا لا أتحمس لها؟ أليست هي حكومتي؟
المؤلف – ولكن ما هذا! أنت تتكلم بصورة طبيعية ولا تتعتع في كلامك يا بهلول.
بهلول – اسمع يا أستاد. سأقول لك الحقيقة لأنني سمعت بمشروعك للدفاع عن سوق هرج. ولكن قبل أن أفعل عدني بأنك ستكتم ما سيدور بيننا من كلام.
المؤلف – أعدك.
بهلول – إذن فاعلم يا أستاد أن اسمي ليس بهلول. فأهل سوق هرج هم الذين أطلقوا عليّ هذا الاسم لاعتقادهم بأنني معتوه. أما اسمي الحقيقي فهو حمود عبد الحسين. وأنا برتبة عريف في مديرية الأمن.
المؤلف – هل هذا معقول يا عريف حمود؟ وترضى أن تحيى على هذا النحو وتعامل على أنك معتوه؟
بهلول – لا حق لنا يا أستاد في الاعتراض على أي عمل يوكل إلينا. وفي الحقيقة إن عملي هنا سهل. فهو يقتصر على التجسس على أحاديث أهل السوق ورفع تقارير عنها. وأحاديثهم أصلاً بعيدة عن السياسة. وقبل هذا العمل أوكل إليّ أن أكون مساح أحذية في سوق التجار لأرصد تحركاتهم. ويمكنك أن تتصور ما في هذا العمل من قرف.
المؤلف – فاسمح لي يا عريف حمود إن أقول أن مهمتك الحالية هي إيذاء أهل سوق هرج. وأنت بذلك تجازي إحسانهم إليك بالإساءة.
بهلول – (صمت)
المؤلف – لماذا لا ترد على قولي هذا يا عريف حمود؟
بهلول – في الحقيقة إن قولك هذا يوجعني.
المؤلف – وكيف ذلك؟
بهلول – لأنني بالفعل لا يفارقني الشعور بالذنب تجاههم. فهم مواطنون بسطاء وطيبون ولا يستحقون مني الإساءة. وهم مشغولون بهموم عيشهم. ولكن ما بيدي حيلة. فعملي يقتضيني رفع تقارير دائمة عن أنشطتهم التي قد تنطوي على كيد للحكومة. لكنني أحاول جهد استطاعتي ألا أوقع الأذى بأي أحد منهم.
المؤلف – أتعنى أنك لم تؤذ أي أحد منهم فعلاً؟
بهلول – في الحقيقة لا أستطيع قول ذلك. فحين باشرت عملي هنا كنت متحمساً لرفع تقارير أسبوعية لرئيسي عن كل شاردة وواردة في السوق. وكنت أبالغ في ذلك. وكنت عظيم النشاط أذرع السوق طولاً وعرضاً طوال اليوم. وكان لا يفوتني حوار بين اثنين. فكلما لمحت شخصين يتحاوران أسرعت إليهما وعرضت خدماتي عليهما فيكلفانني ببعض الخدمات. وإن لم يفعلا تربعت على الأرض بجوارهما. ولم يكن أحد منهم يتحرج من التحدث أمامي حتى في قضاياه الشخصية الصميمة لاعتقادهم بأنني معتوه. ولم يشك أحد بأمري.
المؤلف – أنا أيضاً يا عريف حمود لم أشك بأمرك. ولا ريب أنك ممثل بارع.
بهلول – في الحقيقة إنني اكتسبت خبرة جيدة أثناء ممارستي لعملي. وأنا أحاذر الوقوع في أية هفوة تكشف عن هويتي. وأتذكر أنني في بداية عملي في سوق التجار كمساح أحذية وقعت في هفوة عرّضتني لانتقاد رئيسي. فقد كنت محبّاً لتدخين سجائر "غازي" الغالية الثمن. وتصادف مرور رئيسي في السوق وأنا أدخن هذه السجائر فوجّه إلي نقداً لاذعاً. وقال عني بأنني مخبر فاشل. فكيف لمسّاح أحذية أن يدخن تلك السجائر الغالية؟ فكان ذلك درساً قاسياً لي. لذلك حاولت منذ بداية عملي في سوق هرج أن أشعر أهله بأنني إنسان مسكين بائس فكسبت عطفهم. وأخذوا يجودون عليّ بالطعام والملابس وحتى ببعض النقود. وكثيراً ما أمضيت ليلي في مسجد الغيبة فتنهال عليّ الأطعمة الشهية خصوصاً في المناسبات الدينية فأهلك من الشبع. وكم كنت أتمنى أحياناً أن آخذ معي هذا الطعام الشهي إلى الأولاد وأمّهم وأفرّحهم به.
وأمضيت شهوراً أتجسس على الجميع دون أن أخرج بنتيجة ترضي رئيسي. فكان يتساءل دائماً في شيء من السخرية والاستنكار. "هل من المعقول يا حمود أن سوق هرج بكليته بدون نشاط سياسي؟" وكان تساؤله ينطوي على التشكيك بكفاءتي. ثم واتتني الفرصة يوماً لإثبات جدارتي حين بدأت ألاحظ ظاهرة غير طبيعية تجري في السوق وهي تواجد عبد الشهيد ابن سيد عبد الحسن الرواف فيه بصورة شبه دائمة. ولم يكن يفعل ذلك من قبل. ولم يكن يجلس في دكان أبيه بل يتنقل من دكان إلى آخر وخصوصاً بين الشباب. وكان يبادلهم أحاديث مطوّلة وبصوت خافت دائماً فأثار ذلك شكوكي. وزادت شكوكي حينما لاحظت أنه كان يصمت حينما يراني أظهر أمامه فجأة عارضاً خدماتي. وشيئاً فشيئاً أقتصر عبد الشهيد على التواجد في دكان فليّح. وكانا يمضيان وقتاً طويلا وهما يتهامسان. وكانا يكفان عن الكلام حالما أظهر أمامهما. فإذا ما تربعت بجوار الدكان رفع عبد الشهيد صوته متحدثاً في قضايا عامة. أما فليّح فلم يكن يهتم بتواجدي باعتباري شخص معتوه. ومرة سمعت عبد الشهيد يقول لفليّح حينما دنوت منهما: "الاحتياط واجب يا فليّح". ويوماً بعد يوم ازددت اقتناعاً بأنهما يخوضان في السياسة الممنوعة. وهكذا أقبلت عليّ الفرصة لإثبات كفاءتي فركزت جهدي في مراقبتهما. وامتدت مراقبتي لهما خارج سوق هرج وخصوصاً وقت المساء. وكنت أتبع شتى الوسائل التنكرية التي أتاحت لي رصد تحركاتهما. وتبين لي أنهما كانا يجتمعان عند المساء مع شبان آخرين في مقهى تقع في طرف المدينة بعد الجسر الكبير. وهذه المقهى تطل على النهر وتمتد من ورائها البساتين على مد البصر. ولم يكن يرتادها إلا عدد ضئيل من الزبائن. وكانت خافتة الضوء دائماً. وكانت مجموعة الشبان توحي لروّاد المقهى أنهم يرتادونها من أجل السباحة في النهر. وفي الحقيقة كانوا يفعلون ذلك في جزء من وقتهم. وذات مساء لاحظت أنهم نهضوا جميعاً وتسللوا وحداً بعد الآخر، فتبعتهم من بعيد. وعبروا الجسر، واتجهوا إلى محلة "الكلج" ثم انتهوا إلى دار متواضعة تواروا فيه. فأدركت أن هذا الدار وكر حزبي. وأبلغت مديرية الأمن بذلك، فأخذت تعدّ خطة محكمة لاقتحام الوكر. وبعد أسابيع من المراقبة المحكمة داهمت قوة من الأمن الوكر الحزبي وقبضت على الموجودين مع مستمسكاتهم الحزبية. وكان فليّح وعبد الشهيد ضمن الموجودين. لكن عبد الشهيد حاول الإفلات فأطلق عليه رجال الأمن النار وأردوه قتيلاً. وقد كوفئت على نشاطي هذا ونلت ترقية. وأصبحت من رجال الأمن الأكفاء.
المؤلف – لقد أخبرني بعض أهل السوق أن مقتل عبد الشهيد ذهب بعقل أبيه، أي أنك يا عريف حمود المسؤول عن موت عبد الشهيد كما أنك مسؤول عن جنون أبيه.
بهلول – أنا لست مسؤولاً عن موت عبد الشهيد يا أستاد بل هو المسؤول عنه. فلو استسلم لرجال الأمن شأنه شأن أعضاء خليّته الآخرين لما فقد حياته. وكان موته في الحقيقة خسارة لمديرية الأمن. فقد اعترف بعض أعضاء خليّته أنه رئيس خليّتهم. فقدت دائرة الأمن بموته حلقة الوصل مع الخلايا الأخرى.
المؤلف – أهذا كل ما يهمك من الأمر يا عريف حمود؟ خسارة حلقة الوصل مع الخلايا الأخرى ولا يهمك مقتل شاب في عنفوان عمره ذنبه الوحيد أنه يبتغي خدمة وطنه وشعبه بطريقته الخاصة؟
بهلول – لا تنس يا أستاد أنني رجل أمن وواجبي هو الحفاظ على أمن الدولة من عبث العابثين. وأنت تعلم ولا شك أن رفاقه من المتطرفين أوشكوا أن ينجحوا في تحويل أهل الحلة إلى شيوعيين.
المؤلف – وهل يرضى ضميرك بقتل مواطنين أبرياء لم يرتكبوا جرماً سوى أنهم يؤمنون بعقيدة معينة!؟
بهلول – يجب أن تعلم يا أستاد أنني لست إنساناً آلياً فلي قلب أيضاً. وقد حزنت على أبيه سيد عبد الحسن فعلاً. لكنني لم أحزن عليه. فهو بلا شك كان يقدر عواقب الانغمار في السياسة المحظورة. لكن فقدان سيد عبد الحسن لولده وهو على وشك التخرج يمثل له كارثة فادحة. لذلك تراني أغض النظر عن خطبه النارية التي يلقيها ضد الحكومة ولا أذكرها في تقاريري.
المؤلف – ألم تقل إنه فقد عقله يا عريف حمود فكيف يمكن محاسبته على تلك الخطب؟.
بهلول – لكنه يخطب ضد الحكومة وأنا مسؤول عن التبليغ عن مثل هذه الأمور. والحقيقة إنه شخص هادئ عادة ومكب على عمله. ولكن ما أن يذكر أحد أمامه ابنه حتى يهب واقفاً ويندفع في خطبة نارية يمزق بها الحكومة ويدعو جدّه رسول الله للأخذ بثأر ابنه. وفي الحقيقة يا أستاد أنا أتشاءم من خطبه وخصوصاً دعوته لجدّه رسول الله للانتقام له من قاتلي ابنه. وهي تشعرني بوجع الضمير، بل وتجعلني أرتجف رعباً أحياناً وأنا أتخيل جده رسول الله غاضب علي. فأهتف "يا ربّي: ما لي وهذه الطركاعة؟".
المؤلف – فاسمح لي أن أسألك إذن يا عريف حمود: ألا تشعر بوجع الضمير لما فعلته بفليّح وعائلته التي تركت بلا معيل؟
بهلول – في الحقيقة إنني شعرت بوجع الضمير فعلاً لما فعلته بفليّح وعائلته خصوصاً وأنه كان يحسن إليّ كثيراً. بل إنني ظللت أسائل نفسي هل أرتضي لعائلتي أن تلقى نفس المصير دون أن أكون ارتكبت جريمة حقيقية؟! وكنت في بعض الليالي أظل اتقلب في فراشي لساعات وأنا أفكر به وبعائلته. وكان يتراءى لي أحياناً وهو ينظر إليّ بعتاب ويقول لي: "لماذا فعلت بي ذلك يا بهلول؟ أهذا هو جزاء إحساني إليك؟ ألا تخاف الله؟!" وكانت أمّ الأولاد تسألني: "مالك يا حمود؟ لماذا لا تنام؟" فأرد عليها "نامي يا خضرة".. نامي. أنا أفكر في الشغل". لكنني كنت أعود فأذكّر نفسي أن ما فعلته معه هو ما تفرضه عليّ وظيفتي وإلا كنت خائناً لواجبي.
المؤلف – ولماذا خائناً لواجبك يا عريف حمود؟ فهل من المفروض أن تتجسس الحكومة على المواطنين وتسلبهم حرياتهم التي يضمنها لهم القانون؟
بهلول – كيف ما الداعي لتجسس الحكومة على المواطنين يا أستاد؟ من المسؤول إذن عن المحافظة على هيبة الدولة واستقرارها وصيانتها من عبث العابثين؟ ولكن مهما كان الأمر ظل ضميري يوجعني ولم أدر كيف يمكنني أن أساعد عائلة فليّح. وكنت أحس بالارتياح حينما كنت أستمع لأهل السوق وهم يناقشون أمر مساعدة عائلته. وكان أكثر المهتمين بذلك العم كامل. وبعد مداولات اتفق رأيهم على أمداد عائلته بالمؤونة في أول كل شهر. ولم أصدق سمعي من شدة فرحي حينما أقترح العم كامل عليهم أن يتولى جعيفر إيصال المؤونة وأن أقوم أنا بمرافقته. فكنت أنتهز الفرصة فأدس في يد زوجته مبلغاً من المال. وفي الحقيقة كانت مساهمتي البسيطة هذه تشعرني بارتياح عظيم.
المؤلف – بارك الله في ضميرك يا عريف حمود. ولعلمك يا عريف حمود إنني كثيراً ما فكرت بأنكم لا شك تشعرون بوجع الضمير وأنتم توقعون الأذى بمواطنين أبرياء كل ذنبهم أنهم يحاولون خدمة بلدهم وشعبهم بالطريقة التي يرتؤونها. فلستم بعد كل شيء سوى بشر تخفق قلوبهم بالعواطف الإنسانية.
بهلول – شكراً لك يا أستاد. وأؤكد لك بهذه المناسبة أنني ظللت موجع الضمير لما سببته لفليّح وعائلته من أذى. وكنت دائم التفكير بطريقة يمكن أن أساعده بها مساعدة حقيقية. وكانت الحكومة قد فكرت باجتذاب أمثاله من المتطرفين وإعادتهم إلى جادّة الصواب. واشترطت أن ينشروا براءة من حزبهم. ومقابل ذلك أبدت استعدادها للتخفيف من أحكامهم أو حتى إطلاق سراحهم. وكان قد حكم على فليّح بالحبس سبع سنوات، ولم يكن قد انقضى منها سوى عام واحد. فبذلت جهوداً موصولة مع رئيسي ليقنعوا فليّح بنشر براءة وبالتالي التخفيف من حكمه أو إطلاق سراحه إن أمكن. وأكدت له أن مثل هذه الخطوة ستكون كسباً لنا في سوق هرج. واقتنع رئيسي بوجهة نظري، وتم أطلاق سراح فليّح بعد نشر براءة. وكم شعرت بسرور لذلك.
المؤلف- بارك الله فيك يا عريف حمود. وقد أثبت أنك إنسان قبل أن تكون رجل أمن.
بهلول – وفي الحقيقة يا أستاد لم تعد مهمتي في سوق هرج كرجل أمن مفيدة. فلم يعد بوسعي إيذاء أحد منهم والإيقاع به بكتابة تقارير باطلة عنه. ولا أبالغ إذا قلت لك إنني أشعر الآن بأنني أصبحت واحداً منهم يسرني ما يسرهم ويسوءني ما يسوؤهم.
المؤلف – بارك الله فيك يا إنسان.
بهلول – ودعني أختم حواري معك يا أستاد بإخبارك أنني أفكر جدياً بالتخلي عن مهمتي التجسسية والانتقال إلى ديوان المديرية لأعمل كاتباً في الإدارة. وسيحرمني ذلك طبعاً من مزايا مالية. كما سيحرمني من أهل سوق هرج الذي صرت أعتبرهم مثل أهلي. وإني لأتمنى على الله ألا ينكبوا بسوقهم وألا تنفذ المتصرّفية قرارها بهدمه.
المؤلف – بارك الله فيك يا عريف حمود وكثّر من أمثالك.


النهاية









ملاحظة:


لقد وجدت هذه المخطوطة في ركن مهمل من مكتبة أبي. ويبدو أنه قدم النسخة الأصلية إلى المتصرف كما وعد أهل سوق هرج فأثمرت مع لقاء العم كامل له في صرف النظر عن مشروع هدم السوق.










صدر من الأعمال الإبداعية للدكتور/ شاكر خصباك

1 حكايات من بلدنا رواية
2 الدكتاتور مسرحية
3 كتابات مبكرة كتابات أدبية
4 عهد جديد مجموعة قصصية
5 صراع مجموعة قصصية
6 السؤال رواية
7 حياة قاسية مجموعة قصصية
8 ذكريات أدبية سيرة حياة
9 التركة والجدار مسرحيتان
10 هيلة رواية
11 الغرباء واللص مسرحيتان
12 القهقهة مجموعة مسرحيات
13 العنكبوت والغائب مسرحيتان
14 الهوية رواية
15 بيت الزوجية مسرحية
16 الشيء مسرحية
17 تساؤلات خواطر فلسفية
18 القضية مسرحية
19 امرأة ضائعة رواية
20 البهلوان مجموعة مسرحيات
21 قصة حب والطائر روايتان
22 الخاطئة رواية
23 موت نذير العدل رواية
24 أوراق رئيس رواية
25 نهاية إنسان يفكر رواية
26 خواطر فتاة عاقلة رواية
27 الرجل الذي فقد النطق مجموعة مسرحيات
28 عالم ملكية رواية
29 الفصول الأربعة رواية
30 الأصدقاء الثلاثة رواية
31 أين الحقيقة؟ والواعظ مسرحيتان