المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درنة صيف


AshganMohamed
01-30-2020, 09:23 PM
محمد الأصفر.. درنة صيف 2005



ها أنذا في درنة..
مطرقاً أسير على التراب.. يداي في جيبي.. السماء زرقاء فوقي.. حقيبتي على كتفي.. أسلاك الكهرباء تلسع الفضاء.. أسير في ظل اليسار.. في زنقة اليهود العتيقة.. يميني حائط مشمس متقشر.. أمامي باب أسود يفضي إلى سوق الظلام..
أرتدي سروالاً أزرق وتي شرت بطاطسي وحذاء بلون القار..
السروال من دون حزام..
الحذاء من دون جورب..
التـبّان لا أذكر لونه..
لكن في أعلاه فوق السرة علامة تجارية nike.






جو بنغازي منعش.. رواية شرمولة صدرت.. لوحة الغلاف عمل فني بديع.. رسمها الفنان عمر جهان.. تشكيلي ليبي كبير يعيش في القاهرة منذ منتصف السبعينيات.. إنسان طيب متواضع.. لم ألتقه.. مرة واحدة كلمته بالهاتف بضع كلمات.. سمعت قهقهته وكلمة شرمولتك لذيذة يا راجل.. سوف أترك بلاد الفول المدمس وأعود إلى بلاد الشرمولة.. قلت له تعال وسأجعل أجمل أديبات بنغازي تعد لك قصعة شرمولة على شاطئ جليانة.



اللوحة جميلة مؤثرة.. وجه ذاهل وجدت نفسي فيه.. نقاط الدماء تحوط معظم رأسي.. فمي الأصل ليس في مكانه.. وفمي الظل يقهقه.. ألوان سوداء صفراء رمادية بيضاء زرقاء تجعل بؤرة المنتصف منظورة غارقة في متاهة.. ذقني صفراء غير مضحوك عليها.. وفوق رأسي سحابة من زعفران.. وفوق فوقي بقية أرقام تصّاعد للسماء.. لوحة كحلم عصي التفسير.. ابن سيرين رفض تفسيره.. وفرويد طردني من حماه.. لوحة عظيمة تؤرخ للفن.. وتمنح الشرمولة نكهة احتراق.. كلمة شرمولة كتبت بخط اليد.. لأن الشرمولة تؤكل باليد وتهرس باليد.. كتبت بالرقعة أو خط العجل.. والشرمولة أيضا تعد على عجل.. أكلة سريعة.. تغضبك سريعاً وتشبعك سريعاً..
أنا أحبُّ هذا العمر جهان.. فهو إنسان طيب.. يعيش على الكفاف.. لا يدخن ولا يسكر ولا يزني ولا يقوّد أو يبوّق.. يرسم أغلفة الكتب فقط ويشرب الشاي مع البسكويت المملح.. وابتهاج لي أن يكون غلاف الشرمولة من بوح روحه العظيم.
الآن أكتب..
ليس هناك في الوجود حياة واحدة..
هناك حياة تعيشها..
وحياة يعيشها الناس فيك..
ما كتبته وما أكتبه هو حياة أخرى أعيشها في شخصياتي
الناس تدخل الكتب وليس الكتب تدخل الناس
الآن أكتب.. وأكتب.. وأكتب..
الآن أنا منطلق نحو السويد حيث جائزة نوبل..

لي طموح قوي أن أحصل على الجائزة.. ليس لقيمتها المادية أو المعنوية.. لكن لقيمة أخرى أجهلها.. قيمة لا تعبر عنها الحروف ولا الأحلام.. وأراها متدلية من شموس الفجر.. الذين تحصلوا على نوبل قرأت كتبهم.. بالنسبة لي هي كتب عادية.. الآن أنا منطلق.. الآن اجتزت جزيرة كريت.. شربت مع نيكوس كازنتزاكي نبيذاً قرنفلياً.. ودّعته ووعدته بإكمال حلمه في الحصول على نوبل.. وصلت أثينا حيث جبل الأولمب.. موحي دلفي ابتسم لي.. الآن لي ست روايات.. أكتب أربعاً أيضاً وسآخذ نوبل.. لقد أنبأني إمبرتو إيكو بذلك.. وأكد لي النبأ محمود البوسيفي وبوشويشة رضوان.
الروائي العالمي إبراهيم الكوني قال لي لك الإذن.. لا يمكن أن يعطوا نوبل لليبيين اثنين وصادق النيهوم الله يرحمه... وأنا لا أكتب من أجل الجوائز.. أكتب للحنين والصمت وللسعادة الداخلية.. لم أعوّل على نوبل.. ولم أكتب لها.. كتبت للإنسان وللحياة.. ربما تكون نوبل قد تلاشت مني.. لم أعرف الخلطة جيداً.. أهلت عليهم كثيراً من الرمل.. وجلدت ظهورهم بسياط السعير.. المهاري الأبلق ضل الدرب والحجر نزف في الفراغ والسحرة أبناء الكلب خدعوني والمجوس اللعنة عليهم توقفوا في نصف الطريق.. أرسلتهم للسويد فانعطفوا عنها.. أغراهم ذهب سويسرا المثلـّج.. ستون كتاب حكمة يا خوي محمد لم تجدِ مع جماعة نوبل.. ربما لحقتني لعنة الودان.. أريد أن أتطهر بنصوص صوفية صحراوية وغناوات إمزاد.. والحقيقة الآن لا أفكر في الجوائز.. لي ما يشغلني من الفجيع.. لي اهتمامات أخرى تـنخرني.. خذ هذا اللهب وانطلق يا فتى الملح المليح.. لقد التقيتك مرّة واحدة أمام مركز جهاد الليبيين في طرابلس.. رأيتك عصفوراً شهيداً وقديساً صامتاً.. لم تتصوّر معي كالآخرين.. لم تثرثر معي و تصدّع رأسي بالتفاهات أو تقول لي أين العروبة والثورة وفلسطين في رواياتك يا سي الكوني.. لم تقل إن قميصك مقلم أو ربطة عنقك عريضة كورقة موز.. صافحتني في عجالة صحبة زوجك آمال وأهديتني قرطاسك الظريف حجر رشيد.. كانت ابنتك مهجة في بطن آمال آنذاك.. تستمع لمعزوفات البهيج وتغني لليبيا وللسلام وللصمت والحنين والصحراء الخضراء في أعماق الروح.
انطلق يا تبر ليبيا الفريد واكتب واكتب واكتب.. يا أصفر.. يا رنان.. يا ذهب الروح وانتعاشة الجنان.
وها آنذا أودّع خاطر إبراهيم العزيز وأواصل الكتابة.. وها هو الشعور يأتي بشخصية قويّة.. يجسدها شاب يهودي.. سأحكي عن كليمنتي أربيب.. شاب يهودي في الثلاثين من العمر.. تاجر متجوّل يحترف بيع الأقمشة والفرش العربي.. يجلب بضاعته من الموانئ القريبة من الجبل الأخضر ومن سوقي الجريد والظلام في بنغازي.. يدور بها على النجوع البدوية.. يتكلم العبرية والعربية.. ويجيد الدارجة الليبية بطلاقة.. أستطيع القول إنه ليبي.. فمولده كان في طرابلس في منطقة الحارة وبالضبط في زقاق ظهره لزنقة كوشة الصفـّـار الشهيرة، حيث كان والده التاجر الكبير يقيم هناك قبل رحيله إلى الوطن الشرقي.. بنغازي.. الجبل الأخضر.. درنة.
لم يمكث والد كليمنتي في برقة ونواحيها كثيراً.. سرعان ما سافر صحبة زوجته إلى الإسكندرية، ومنها عبّأ باخرة بالقطن الفاخر طويل التيلة وباعها في برشلونة لتاجر إنجليزي ثم غادر في أول باخرة قصدت العالم الجديد.. في أمريكا أسس مصنعاً صغيراً للأقمشة وعاش.
كليمنتي أربيب بقي مع أخته الجميلة للاهم وزوجته الشابة سارة وطفله الصغير.. لم يتبع والده.. فتجارته كانت رائجة وزبائنه وحبيباته كثر.. استقـرَّ في مدينة باركي (المرج).. سكن بيتاً طينياً صغيراً مسقوفاً بجريد النخيل المغطى بتفل البحر الملبوخ جيداً بلزابة الطين.. البيت محاط بسور واطئ.. بيت ظريف دافئ.. غرفتا نوم.. مطبخ.. غرفة جلوس.. حمّام.. زريبة صغيرة.. باحته زرعتها زوجته ببعض الخضر والزهور.. زوجته طيبة نشيطة.. على دراية بالحياكة والتطريز والطب الشعبي.. تسدي خدماتها للجارات بثمن رمزي وأحياناً بالمجان.. امتزجت بهن.. لبست لباسهن وأجادت لهجتهن وشاركتهن أفراحهن وأحزانهن.. تعلمت إعداد المثرودة التي يشتهيها كليمنتي كثيراً، وتمهّـرت جيداً في إعداد خبز التنور، وبدورها علمت الجارات عدة أكلات يهودية من ضمنها نوع لذيذ من الحلوى.
عندما يغيب كليمنتي أياماً متوغلاً في نجوع الجبل الأخضر ودرنة لا تشعر بأي غربة أو خوف.. كل الجيران يحترمونها ويحفظون حرمتها ويمدّونها بما تحتاج إليه من عسل ولبن وزيت ودقيق وتمر.. عندما جاءها المخاض ولـّـدتها القابلة العرفيّة الحاجة مشهية.. كل الجارات حضرن إلى بيتها وزغردن لسلامتها وهدهدن ابنها الذي أسمينه موسى.. واعتنين بها.. كانت كابنتهن بالضبط.. أعددن لها العصيدة الساخنة برب التمر وزبدة الماعز وطبخن لها منقوع الحلبة المحلى بالعسل.. وأطلقن لها البخور والجاوي والفاسوخ والحلتيت طرداً للعين.. سريعاً ما شُفيتْ وقامت من الفراش.. موسى يرضع ثدييها بأمان وعندما يشبع يبتسم فتحضنه طولياً لحظات حتى يتجشأ فتقول الحمد لله وترقده في حضنها.. بعد أسبوعين أوان القيلولة جاء كليمنتي بفقيه الجامع فختـنه.. وبكى موسى كثيراً وابتسم كليمنتي بألم لرؤيته نزيف الدم وزغردت الجارات، وفي الليل أقام كليمنتي وليمة للجيران وحفلة كشك كبيرة جلب لها أحلى وأشهر حجّـالة في برقة.. أكل الناس لحم الماعز وفتات خبز التنور وشربوا اللبن حتى ارتووا، ومن يشرب الخمر تناول كؤوسه من خمر اليهود (الماحيا) وكشّك البدو بحماس حتى الفجر.. كان كليمنتي نجم الحفلة.. الحجـّالة (راقصة بدوية) ميزونة معجبة به وتعشقه.. كان سخياً جداً معها.. علق في رقبتها عقد فردغ ذهب.. وأنشد مادحاً جمالها بأجمل قصائده.. هي الآن تضع خمار الحجّالة على وجهها.. جسمها مصقول متناسق متين.. نهداها واقفان كفنجانين منكفئتين.. رائحتها فائحة ولحمها الظاهر قليله فوق حذائها الجلدي طويل العنق أبيض كجمّار.. كليمنتي يعرفها جيداً.. كثيراً ما باع لها الأردية والأقمشة وكثيراً ما أوصته على عطور باهظة الثمن يجلبها لها من سوق الجريد ببنغازي.. هي تعرفه جيداً وتواعدا أكثر من مرة.. وبينهما علاقة حميمية في الخفاء.. عندما يزور نجعها (ربعها) يتعمّد أنْ يصله براحلته عند الأصيل ليبيع ويتعشى ويبيت.. وفي منتصف الليل ترفع رواق بيت الشَّـعر وتتسلل إليه.. أنشد كليمنتي فيها أجمل قصائده ولقصيدته صرخ بدو برقة وحجّلوا على رجل واحدة حد الجنون.. وطالبوه أن يعيدها عليهم مرة أخرى فيعيد كليمنتي القصيدة بصوته النغيم الرخيم الرجولي ساحقاً بنظراته الساحرة كيان الحجّالة الذي لا يحتمله:
بيضا لبست ثوب زرنقي.. جت ترشنقي.. حاكم ويراطن بغلنقي
بيضا لبست ثوب أزرق.. وجت ترشق.. قدمها دوبه لرض يطق
تخفّ اللي عقله واثق.. يتم سلنقي.. مجروح وجرحه بعشنقي
بيضا لبست م الرومية.. خدّك ضيّة.. بارق يلعب فـوق مويّة
وإلا باشا يوم لويّة.. زق طلنقي.. ما تـمشوا بالمال عـفـنقي
بيضا لبست ما المالاس.. وحلي اكداس.. كما باشا عامد مجلاس
دوى قال لهم ها يا ناس.. الدَي وثنقي.. والخاطي منكم للشنقي
بيضا لبست ثوب حرير.. لها تصوير.. كما لير مصادف بوطير
حزام اللي في الجو تغير.. هي ما تعرنقي.. والخيل مع الخيل شرنقي
بيضا لبست ثوب نقاوه.. حاكم تاوه.. حبك في المكنون تقاوَى
خدك تحت غطا يضّاوى. برق جلنقي.. سيلا خـلا الغوط دلنقي..

بعد سنوات بدأت الحرب العالمية الثانية واجتاحت ليبيا التي ليس لها في العير ولا في النفير.. جيوش المحور والحلفاء زرعوا الألغام وعاثوا في الأرض مفسدين.. خاصة الطليان الذين أعملوا القتل والنهب في الأهالي وشنـّوا حملة اعتقالات واسعة على اليهود.. أسِـرَ كليمنتي وصودرت بضاعته ودابته.. بينما زوجته سارة وابنه موسى وأخته للاهم رَحَلوا مع أهالي برقة إلى وديان بعيدة عن الحرب.. وضعهم شيخ القبيلة الحاج بورحيل في حمايته وحذر أن يُخبِر أي كان بأمر وجودهم.. شيخ القبيلة على علاقة وطيدة بالتاجر اليهودي الكبير إبدوسا.. كثيراً ما وسّع عليه في الأزمات المالية.. وكثيراً ما باعه بالآجل من دون ربا.. وكثيراً ما جدول له ديونه وسامحه بأموال.. يقولون إنّ كليمنتي أخِـذ إلى بنغازي وهناك ضُمَّ إلى الأسرى ورحِّل إلى وجهة مجهولة ربما جالو أو جادو.. يقولون إنه تمت تصفيته في أفران النازي.. ويقولون إنه فرَّ بعد أنْ تحطمت المركب التي تنقل الأسرى قرب جزيرة كريت.. لا أحد يعلم بحكايته.. زوجته سارة صابرة وتنتظر.. تسأل كل الواصلين إلى النجع.. وعندما انتهت الحرب سجلته لدى الإدارة البريطانية من المفقودين.. وصارت تتابع أي خبر عنه.. لكن لا جديد.. فالحرب مات فيها الملايين.. موسى الصغير كبر.. علمته أمه أصول اليهودية.. وتعلم القراءة والكتابة عن فقيه النجع الحاج القزّون.. لم يشعر بأي غربة على الرغم من اختلاف الديانة..
في عام 1948م. احتل اليهود فلسطين.. كانت ردود الفعل في المدن الليبية عنيفة.. غير أنَّ موسى وأمه سارة وعمته للاهم لم يشعروا بها.. هم محبوبون في النجع.. لم يغادروا.. قرروا البقاء.. ينتظرون عودة الأب الغائب الذي لم تتأكد وفاته ولا بقاؤه على قيد الحياة.. كان التاجر ابدوسا وعدّة أثرياء يهود يساعدونهم.. كذلك شيخ القبيلة بورحيل الذي لم يقصّـر في شيء.. ومرت الأيام.. وشبّ الفتى الذي صار رجلاً.. وللاهم والأم حنّتا إلى زيارة في القدس.. أرادتا التعبّد و السياحة في المزارات الدينية الشريفة فاستأذنتا الشيخ الذي أصرّ على بقائهما بينهم حتى عودة كليمنتي من غيابه، فهما بمثابة أمانة.. للاهم رضخت لكن سارة ألحّت على الرحيل.. قالت للحاجة أم العز زوجة الشيخ بورحيل أريد أن أحج إلى القدس مثلما تحجون أنتم إلى مكة.. أريد أن أجلب لكم البخور والعطور والفساتين المقدسية والهدايا مثلكم.. لكن الشيخ الحاج بورحيل وزوجته الحاجة أم العز لم يوافقا على رحيلها.. كذلك الجارات الطيبات وكل من عرفها طيلة حياتها في وديان برقة ودرنة وشعابهما.. الشيخ بورحيل أعاد قولته: أنت امرأة أمانة لدي حتى عودة زوجك.. الصديق كليمنتي.. لا أحد يغادر المضارب.. خاصة في هذه الظروف غير المستقرة.. انهمرت دموعها ورضخت للرغبة الحميمية غير أنَّ ابنها موسى أصرّ على الترحال.. فهو شاب به من عناد الشباب الكثير.. فأذن له الشيخ الحاج بورحيل ورافقه حتى بنغازي.. وعند التاجر إبدوسا تفارقا وعيونهما طافرة بالدمع.
كليمنتي هو الشاعر المرجاوي الملقب بأبي حليقة.. الشاعر الشعبي الفحل المنصهر في المكان والزمان الليبيين.. مبدع القصائد الخالدة ذات البلاغة الناضحة بالرمز والإيحاء والإيجاز والشجا الجيّاش.. التاجر الشريف.. الإنسان الطيب.. صاحب المروءة.. الضحية البريئة التي قبضت عليها جحافل الطليان الفاشيست الذين ناصروا قوة هتلر الغاشمة، وولغوا معه في بحيرة الدم الإنساني التي صنعها شيطانه.
في بطن أحد الأودية قبضت عليه مفرزة استطلاع إيطالية.. كان قد باع بعض بضاعته.. وتعشّى وبات وأيقظته ميزونة باكراً.. أفطرته وعلفت حصانه ثم ملأت له قربة ماء عذب وودعته بعناق دافئ مع أول خيوط الشمس.. كاد يخدعهم ويتركونه.. كلمهم بالعربي.. باللهجة المحلية الليبية.. قال لهم: أنا ليبي صديق متعاون.. جدي حضر إعدام زعيم العصاة الفلاقة المحافظية الخائن عمر المختار.. غير أن جشع الطليان هو الذي كشف الأمر.. أحد الجنود فتشه بدقة وفضول.. استولى على ماله وبعض الخواتم والأقراط الذهبية المخبأة في حزامه.. وفي جيب سرّي قرب صدره تحسس الجندي مغلفاً جلدياً صغيراً.. انتزعه منه ومزقه بسكين البندقية فوجد به رقاً مدوّن فيه فقرات من العهد القديم (التوراة).. الضابط تربّى في دير سان ماركو على دراية بنصوص العهد القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) وشرع يقرأ ما في الرّق.. سفر أخنوخ الأول كلام التبريك لأخنوخ:
"فهكذا يبارك المختارين..
والعادلين الذين سيشهدون في يوم الشدة إبادة الأعداء كلهم وخلاص الأبرار.
القدوس والأكبر سيترك مسكنه..
إله الأزل سيأتي على الأرض ويمشي على جبل سيناء سيظهر وسط معسكره..
سيظهر في كامل قدرته في أعالي السموات..
الجميع سيذعرون لكن الحراس الأمناء سينشدون الترانيم السرية في أنحاء كل الأرض
أقاصي الأرض كلها ستهتز والرجفة وخشية عظيمة سيجتاحانها حتى تخومها..
الجبال العالية ستهتز وتسقط وتنهار والهضاب المرتفعة ستخفض عند ميعان الجبال.
وستذوب مثل الشمع في النار والأرض ستفتح كهاوية فاغرة..
وكل ما على الأرض سيهلك..
وستكون الدينونة على الأشياء كلها لكنه سيعقد السلام مع الأبرار.."

إلى آخر هذا السفر..
صاح الضابط فرحاً..:breo.. breo.. يهودي.. يهودي.. صيد ثمين.
وإذ عاد الدليل الليبي المتطلين من شأن ما والتقت عيناه بعيني كليمنتي، شهق ووشوش للضابط المصوّعي.. سيدي.. سيدي.. هذا الشاعر كليمنتي تاجر الأقمشة اليهودي المشهور..breo..breo.. يهودي.. يهودي.. عدو.. عدو.. فقال له الضابط المصوّعي: نعرف.. نعرف.. لكن ماذا بشأن النساء؟ هل أحضرت لنا أم سنمتطيك الليلة بالدور كالعادة؟
كبّل الشفشة المتطلين ذراعي كليمنتي أربيب بحبل غليظ وساقوه معهم صوب عربة الجيب.. حاول رشوتهم من دون فائدة فكل ماله ومؤنه استحوذوا عليها عنوة.. صبر وتبعهم راضخاً محتسباً إلى الله.. يتذكر زوجته سارة وابنه موسى وأخته للاهم.. يتذكر النجع الجميل الطيب.. يتذكر حبيبته ميزونة.. يتذكر صديقيه الشاعر عبدالهادي بونصرالله والشيخ الحاج بورحيل.. يتذكر أباه وأمه في أمريكا حيث العالم الجديد.. يشعر أنه قريب من الموت.. لو بقي في أيدي هؤلاء الفاشيست وقوّاديهم فسوف يقتلونه، ولو سُلِم إلى حلفائهم الألمان فسوف يقتلونه أيضاً، لكن ليس على هذا التراب الطاهر الذي أحبّه، إنما سيُرحّل إلى المعتقل في ألمانيا، وهناك سَـيُدفع به إلى أتون الفرن.. هو يشعر الآن بالموت قادم وتاريخ حياته يعود سريعاً يرص نفسه في المنطقة الفاصلة بين الموت والحياة.. البرزخ الدنيوي المزيف.. المنطقة واسعة والتاريخ لا يردمها.. يستـنجد بالامتلاءات فيجلب كتل كل قيمه ومبادئه وعبره ودروسه وحكمته.. لكن الموت تزداد هوّته.. وكوّة الأمل تضيق بؤرتها.. وإذ تؤنبه الحسرة.. يهزهز رأسه عاضاً على شفته السفلى.. هذا القوّاد المتطلين الذي كبله أصله غرباوي.. أجداده ذيول لباشا طرابلس التركي القره مانلي جاؤوا مع تجريدة حبيب.. واستوطنوا درنة وبعض شعاب الجبل الأخضر.. كانوا فرساناً وأصحاب مروءة وفزعة وحصّادة زرع جيدين.. لكن الطالح يخرج من الصالح.. هذا القواد الشفشة يعرفه كليمنتي جيداً.. كان يسكن نجع ميزونة قبل أنْ يطرده الشيخ درءاً للفساد.. كان يرافق البدو عندما يُحدِّرون إلى مدينة بنغازي.. يجول بهم في شارعي الشطشاط وبالة.. يعرف كل العاهرات.. يتقاضى نسبة بسيطة عن كل زبون يحضره.. هو لا ينيك لأنه مخنث.. أحياناً لا توجد عاهرات فيمنح نفسه سعيداً.. لكن المضاجع يتأفف من نتانته فيندم ويركله بغضب فور انتهاء القذف.. والآن يرافق الطليان.. يحضر لهم بدويات النجوع الجائعات.. يساومهن بعلبة زيت أو كيس مكرونة أو قطعة قماش.. وعلى الرغم من أن اليهود قد أسدوا له خدمة جليلة حيث أنقذوا أباه من موت محقق عندما أسره الطليان في بداية غزوهم لليبيا، وأرادوا أن يشنقوه لولا تدخل تاجر يهودي كبير دفع رشوة إنقاذه للمحامي.. لكن للأسف أنجب هذا الرجل الطيب عرصاً نذلاً لا يعد هذه الثمائر القديمة، ولا يتذكر الآن المعروف المصنوع في والده.. فورما رأى كليمنتي ارتقت القوادة نسغه وعلى طول قوّد موشوشاً غامزاً بريو.. بريو.. يهودي يهودي..
هم عائدون صوب بنغازي.. هابطون من عقبة الباكور الوعرة بمركبتهم الجيب الصغيرة.. الدنيا ليل.. دامسة.. باردة.. توقفوا للاستراحة والعشاء.. أوقدوا ناراً بحذر، غير أنّ الفصل خريف والعشب جاف فارتفعت النار الليلية وأحدثت بهرة كبيرة.. فجاءت طائرة منطلقة من جهة بحر توكرة متجهة جنوباً صوب سلسة جبال برقة ترمي بقنبلة قربهم وتبتعد.. جُرِحَ من جُرِحَ.. وكليمنتي وجدها فرصة سانحة للهرب فاختفى وسط غابة الباكور.. اختبأ خلف شجرة محاذية لجرف ممتـشقاً مسواق زيتون صقيل صادفه في طريقه.. القواد الشفشة تبعه.. اقتفى أثره.. في يده سلاح ربما مسدس أو هراوة.. عندما وصل قرب الشجرة ورأى الجرف الشاهق شعر بالفخ المنتظر فولّى ناكصاً صوب جماعته.. بعد ساعة من التخفي الحذر والانتقال من شجرة إلى شجرة وجد كليمنتي حماراً أشهب يحكك خطمه في خطم حمارة بيضاء.. مسّح على رقبته بحذر وقرّب من فمه خلبة عشب.. استأنس الحمار فركبه وانحدر به صوب البحر عبر درب تكلله الأشجار الكثيفة، بينما الحمارة تنهق وتضرط وتتبعهما حثيثاً بشغف الشغـف.
اتجه شرقاً مقترباً رويداً رويداً صوب البحر.. وفي خرائب طلميثة التي يخبرها جيداً اختفى يومين.. حتى إذا شعر بالأمان قصد نجعاً لقبيلة الدّرَسة كان يسكنه صديقه الشاعر عبدالهادي بونصرالله.. لم يجده ووجد عشيرته فأخبرهم بقصته وقصة القوّاد الشفشة المتطلين.. فعرفوه ورحبوا به وأخفوه في حظيرة الماعز حتى تضع الحرب أوزارها.. في الحرب يزداد انتقال الناس حسب حالة الأمن في المنطقة.. أحياناً في اليوم يغيّرون مكانهم أكثر من مرة.. استفسر عن أهله فلم يجبه أحد.. لأن أهله تركوا المرج مع قبيلة المسامير وتوغلوا إلى المناطق الداخلية.. الأخبار شحيحة والطريق تقصف بصورة شبه يومية.. المحور يظن الأهالي جواسيس للحلفاء والحلفاء العكس.. كلاهما يقيّد حركة السير والتنقل على الأراضي المسيطر عليها.. أخبرهم بتفاصيل قصة أسره وهروبه وضحكوا كثيراً عندما سرد لهم قصة القوّاد الشفشة.. قال شيخهم: العرق دسّاس.. أبوه كان رجلاً طيباً.. في كل مجلس يشيد باليهود ولا ينسى معروفهم فيه وإنقاذهم حياته.. هو لم يخدم اليهود في شيء مهم حتى يساعدوه.. أي إنه لم يقرضهم مالاً أو يبيعهم أرضاً.. لكن ذات عشية خميس في جهة سيدي خريبيش ببنغازي كان يهودي فقير يضع على رأسه طبق سعف مليئاً بالحلوى يبيعها للصغار وينادي: حلوى.. حلوى... كان يتمايل بجذعه الواهن ذات اليمين والشمال مواكباً إيقاع مناداته وفي الوقت نفسه متجنباً الزحام مفسحاً الطريق للعابرين.. أحد الشبان الثملين تعمد الاصطدام بالشيخ اليهودي فسقط الطبق من فوق رأسه وتعفرت سكرياته الطازجة بالتراب.. أخذ يلملمها المسكين وينفخها من القذى.. وكان الرجل الطيب والد الشفشة قد رأى المشهد فركض صوب اليهودي وساعده في لملمة بضاعته وشاركه مسحها بطرف عمامته النظيف وترتيبها في الطبق، ومن ثمَّ وضع له الطبق فوق رأسه ودعا له الله أن يوفقه في تجارته المتواضعة هذه ويرزقه رغداً.. وبالطبع وصل هذا التصرف النبيل المتسامح لأعيان اليهود وتجّارهم وحاخاماتهم.. فما إن سمعوا بأن الطليان قد قبضوا على هذا الرجل الطيب ويحاكمونه بتهمة مساعدة المحافظية (المجاهدين الليبيين ضد الغزو الإيطالي) حتى هرع أحد تجارهم إلى المحامي ودفع ثمن إنقاذه من الموت.. قال للمحامي لا يمكن أن نترك إنساناً لملم خيرنا من التراب لحبل حلفا يخنقه.
سألهم عن صديقه الشاعر عبدالهادي فأجابوه كعادته راحل في الأحلام.. في البرزخ الوردي.. من نجع إلى نجع ومن عرس إلى عرس.. شاب وهب حياته للشعر ومعلوم أن هذا الشاعر الشاب من أصدقاء كليمنتي الخلص.. كثيراً ما استضافه في البيت وعرفه على عائلته وحتى على أخته الجميلة للاهم التي أحبّها عبد الهادي وقال فيها الكثير من الأشعار الغزلية، وكليمنتي لم يزعل من ذلك، فهو الشاعر العارف بقلوب الشعراء، وتقبّل شعر صديقه عبد الهادي بصدر رحب وبمباركة إبداعية. يقول عبد الهادي في أخت كليمنتي للاهم:
لولا دينك ياللاهم..
بك ننساهم..
لولاف اللي صار خطاهم

وعبد الهادي بونصرالله شاب شاعر متمسك بالدين.. يضع الإسلام أولاً قبل الحب لكن لا يمنع قلبه من البوح.. أيضاً كليمنتي متمسك بيهوديته.. لا يمكنه أن يغير دينه من أجل امرأة.. الصداقة بين الشاعرين قوية على الرغم من اختلاف الدين.. فهناك روابط إنسانية جذورها راسخة في كل الأديان.. هذه الروابط موجودة في قلب كليمنتي وقلب عبدالهادي وقلب للاهم وقلوب كل البشر المتسامحين.. في الليل يتسامرون جميعاً كأسرة واحدة كليمنتي وزوجته وللاهم وعبد الهادي.. يظللهم دين واحد هو دين المودة والرحمة والحب.
بعد أيام قرر شيخ الدرسة الرحيل بالنجع إلى منطقة البيّاضة وقصر ليبيا وزاوية العرقوب وشحات ورأس الهلال والأثرون، حيث الطبيعة الجبلية الصعبة والأوشاز المعلقة العصيّة على آليات الطليان والألمان والإنجليز.. في هذه الجهات الجبلية الماء متوافر طول العام.. نبع صغير يرقرق صانعاً ساقية صغيرة.. العسل البري خلاياه منتشرة في صدوع الأجراف.. سهول ضيقة قريبة منهم يزرعون فيها خضرهم ويبذرون حبوبهم.. الفاكهة موجودة طازجة في الأشجار.. الحطب متوافر أيضاً.. سكن كهفاً مع آخرين هاربين مثله ينتظرون انتهاء الحرب.. في الليل يخرجون للصيد ولجلب المؤن أو السطو على مؤخرات الجيوش المهاجمة أو المنسحبة، وفي النهار يختفون في الكهوف كما الذئاب.
لا أستطيع الآن أن أقول إن كليمنتي يهودي.. فكلماته باللهجة الليبية ليبية خالصة.. بل كلمات قويّة ذات دلالة.. لا ينطقها أو يعبّر بها إلا من استلهم كافة تراث ليبيا الشفوي والتاريخي والحيوي.. تعبير صادق.. إلهام حقيقي.. وكلمات أو قصيدة دسمة رقيقة معبرة مليئة بكل هذه الجمل والعبارات الملعوب بها لغوياً لا يبدعها إلا ليبي من أهل هذه البلاد:
بيضا لبست ثوب زرنقي.. جت ترشنقي.. حاكم ويراطن بغلنقي
بيضا لبست ثوب أزرق.. وجت ترشق.. قدمها دوبه لرض يطق
تخفّ اللي عقله واثق.. يتم سلنقي.. مجروح وجرحه بعشنقي
بيضا لبست م الرومية.. خدّك ضيّة.. بارق يلعب فوق مويّة
وإلا باشا يوم لويّة.. زق طلنقي.. ما تمشوا بالمال عفنقي
بيضا لبست ما المالاس.. وحلي اكداس.. كما باشا عامد مجلاس
دوى قال لهم ها يا ناس.. الدَي وثنقي.. والخاطي منكم للشنقي
بيضا لبست ثوب حرير.. لها تصوير.. كما لير مصادف بوطير
حزام اللي في الجو تغير.. هي ما تعرنقي.. والخيل مع الخيل شرنقي
بيضا لبست ثوب نقاوة.. حاكم تاوه.. حبك في المكنون تقاوَى
خدّك تحت غطا يضّاوى.. برق جلنقي.. سيلا خلا الغوط دلنقي.

أنا لا أشكك في يهودية كليمنتي، فوجود سفر أخنوخ في رقبته يؤكد ذلك، ولا أشكك في ليبيته أيضاً، لأن تقويدة الشفشة فيه تؤكد ذلك.. فكل ليبي حقيقي أصيل مقود فيه لا محالة.. انظروا عمر المختار مثلاً.. من دلّ على مكانه؟ هل هم الطليان أم المصوعية أم الليبيون سكّان الوطن؟!.. أنا لا أشكك في يهودية كليمنتي أو ليبيته.. لكن أتحدث عن سطوة المكان والزمان.. بل سطوة الحياة ونبتـتها في وجدان من يعيشها بصدق.. فكلمات عربية مُدَرّجة مثل زق طلنقي أي دفع بقسم الطلاق.. أو الدّي وثـنقي.. أي الكلام تأكد.. أو جت ترشنقي أي قدمت تتمشى بغنج ودلال.. أو سيلا خلا الغوط دلنقي أي السيل الذي سببه برق بياض خدك جعل السهل دلقاً بالماء.. وغيرها من كلمات وتعابير.. لا يمكن أن تُـتعلم عن طريق اللغة والنطق والتلقين، إنما يكتسبها الإنسان فطرياً من خلال ممارسة الحياة المستمرة في المكان مذ لحظة الميلاد.
وذات ليلة باردة إذ هم في الكهف يتسامرون فاجأتهم طلقات نارية وضوء كشاف مبهر، فطار اليمام المعشش في صدوع وفجوات الكهف، وأطل من فم الكهف القواد الشفشة يمتطى محفة خشبية أنزلوه بها بواسطة حبال من أعلى الجرف.. جذب كليمنتي عصاه من قرب طابونة النار وانكمش وجماعته ملتصقين بالجدار منسحبين بهدوء إلى المخبأ المموّه في أعماق الكهف.. ومن المخبأ شقوا طريقهم مبتعدين عبر الممر السري المحفور منذ عهد القديس الليبي مرقس الإنجيلي.. أو من قبله.. لا ندري من حفر درب النجاة ذاك.. الإنسان أم الطبيعة.. وقف القواد الشفشة وخطا برجله إلى الأمام وألحقها بالأخرى فكان داخل الكهف.. لم يتقدّم خطوة ثانية.. وأطلق رصاصة تحذيرية في السقف من بندقيته ثم صاح:
آفانتي.. آفانتي.. سروال بلا موتانتي.
أي تعالوا المكان آمن.
نزلت المحفة الخشبية محملة بعنصرين من جيش الطليان الفاشيست.. وارتفعت ونزلت بالضابط المصوّعي وحيداً.. وجدوا بعض كسر خبز التنور شبه اليابسة.. وفي الجهة اليمنى لصق الجدار وجدوا ناراً خابئة.. فركسها الشفشة بعود وأخرج من جوفها ترفاسة مشوية.. نظروا في عيون بعض.. وقال الشفشة كانوا هنا.. منذ قليل.. أو هذا النهار.. الترفاسة مازالت ساخنة وشرع يلتهمها.. لابد أن نزور هذا الكهف نهاراً.. فعلى ضوء النهار سنرى إلى أين يفضي.. معلوم في منطقة الجبل الأخضر أن الكهوف كالقبائل تـُفضي إلى بعضها.. عموماً صاحبكم هنا ليس ببعيد.. لكن علينا توخي الحذر.. فهو يهودي ابن حرام.. وبحكم كونه تاجراً متجولاً وشاعراً فهو يعرف المنطقة جيداً وله علاقات متينة مع السكان الذين حتما سيقدمون له كل المساعدة، وخاصة النساء الغاويات..
قال الضابط المصوّعي: أنزلوا الأمتعة.. المكان دافئ وسأنيكك هذه الليلة هنا.

* * *

الضابط المصوّعي اسمه أنطونيو بوفنكة.. ضابط إيطالي من أب ليبي مجنّد في إرتريا.. وأم حبشية.. إبان الغزو الإيطالي لليبيا والقرن الأفريقي تمّ تجنيد عدة شباب ليبيين عنوة.. جندوا في بداية الغزو بطريقة سريِّة.. هو نفي مبكر وقاية من انضمامهم للمقاومة.. نقلوهم إلى جبهة إرتريا والحبشة للقتال جانب القوات الإيطالية.. وفي الوقت نفسه جلب الطليان أحباشاً وإرتريين إلى ليبيا للقتال معهم.. أتوا بحراً عبر ميناء مصوّع.. فسموهم بالمصوّعية.. غالبيتهم مسيحيون يضعون صليباً على صدورهم وريشة على طربوشهم الأحمر المخروطي.. يعرفهم الأهالي بجندي بوشنوارة.. كانوا أشراراً فروخ قحبة لا ذرة رحمة في قلوبهم.
عندما تمّ القبض على الشاب الليبي بوفنكة في ضاحية الظهرة نقلوه على الفور إلى الميناء.. رُصَّ مع آخرين في باخرة صدئة قذرة طافت باقي موانئ ليبيا تجمع المجندين المقبوض عليهم قبل أن تنطلق بهم إلى بر الحبش.. كان بوفنكة جندياً قوياً شرساً.. قمحي اللون.. عريض المنكبين.. وجهه مستطيل.. شعره أكرد.. عيناه ضيقتان.. ألحِقَ بالبوليس الطلياني على الفور.. وفي فترة وجيزة تمت ترقيته لإجادته تنفيذ كل المهام القاسية التي كلف بها.. كان جلاداً يشنق الأحباش والإرتريين والصوماليين المدافعين عن أرضهم.. يضع الحبل في رقابهم ويدفع الكرسي الذي تحت أقدامهم بقلب بارد.. لا يتأثر أبداً.. كان يحب النساء الحبشيات والإرتريات والصوماليات الجميلات ذوات القوام الرشيق.. ويشرب الخمر حتى الثمالة.. وذات يوم توفي شيخ قبيلة حبشي موالٍ للطليان.. فأمر قائد الجيش بعض ضباطه بتقديم واجب العزاء..
يحكون أنهم في بعض مناطق القرن الأفريقي (الصومال وإرتريا والحبشة وما جاورها) يعزّون هكذا: زوجة الميّت مستلقية على ظهرها في كوخ القش.. يدخل المُعزّي عليها وحيداً.. يضع كفـّه على فرجها كثيف الشعر ثم يخرج.
الآن أمام الكوخ طابور المُعزّين.. كل مُعزٍّ يدخل يضع كفـّه على فرجها ويخرج.. وعندما دخل بوفنكة كان مخموراً فلم يضع كفـّه إنما خلع سرواله وناكها.. تأخر في الخروج قليلاً وارتفعت تأوّهات اللذة والاستحسان من داخل الكوخ، فدخل الحراس من أبناء عشيرتها خجلين مشرعين سيوفهم وقرونهم.. انتزعوه من فوقها بغضب الغضب يريدون ضرب عنقه فوراً، لولا أنها صرخت فيهم: توقفوا يا أبناء الزنا.. أعيدوه فوقي.. فكلُّ بلادٍ وعزاؤها.
بعد تسعة شهور أرسلت الحبشية في طلبه وقدّمت له مولوداً أسمر.. خذ ابنك يا سيد بوفنكة أم نسيت يوم عزاء المرحوم.. أخذه وسلمه إلى الراهبات الأخوات اليسوعيات في الكنيسة.. وسرعان ما انتهت الحرب.. وأخِذَ الطفل إلى روما وهناك تربى في دير يتبع كنيسة سان ماركو (مرقس) ودرس والتحق بالجيش ليصير ضابطاً من ضمن قوة البوليس في الجيش الإيطالي المتحالف مع الألمان والمقاتل في جبهة شمال أفريقيا.. فرقته يُطلق عليه لقب الضابط المصوّعي.. واسم أنطونيو لا يذكر إلا في السجلات والأوراق الرسمية فقط.. ورث عن أبيه قسوة القلب والشدة والشبق وعن أمه السرعة والبشرة السمراء والأنف الأفطس واسع الفتحتين.
أبوه أبوفنكة مرض بالسفلس في بر الحبش فسرحوه من الجيش و أعادوه إلى طرابلس.. وفي منطقة الظهرة تردد طويلاً على بحر سيدي الشعاب.. اغتسل في مائه المبارك كل صباح باكر.. تعافى قليلاً.. بيد أن الملح أيقظه فانتابه ما يشبه الوسواس.. صار لا ينام الليل.. يستيقظ صارخاً مهرولاً في الشوارع.. الذاكرة تجلده بسياط الندم.. يتذكر.. يتذكر.. ويتألم.. يتذكر الناس الذين شنقهم.. يتذكر ما ارتكب من فظائع في حق الأحباش والإرتريين والصوماليين العزل.. يتذكر ما اغتصب من فتيات وغلمان.. امتنع عن الأكل.. صار يعيش شارد الذهن.. أهمل نظافته وصحته.. أدمن على الخمر والسهر ومواخير حارة اليهود.. ظلم نفسه كثيراً وأنهك صحته أكثر إلى أن وجدوه ذات فجر شتوي ميتاً بجانب سور مقبرة سيدي بوكر.
عندما وصل الضابط المصوّعي أنطونيو طرابلس سأل عن قبر أبيه.. دلوه على مقبرة سيدي بوكر.. لكن لم يتمكن من دخولها لأنه مسيحي.. فأرسل شيخاً من جامع شايب العين يترحّم له بالنيابة عنه مقابل بعض الليرات.
مكث في المدينة القديمة أياماً.. ثم استأنف عمله في قمع الأهالي وملاحقة اليهود واعتقالهم.. الرأس الذي يقبض عليه ينال عنه مكافأة مالية وملابس وخمراً وسجائر وغذاءً جيداً.. فضلاً عن الترقية التي ستمنح له إن قبض على رؤوس يهودية سمينة مهمة ذات قيمة مادية أو معنوية.
تعشى.. شرب نصف فياشكة نبيذ.. ضاجع الشفشة كالعادة وكلـّف الحرّاس باليقظة والحذر.. أمرهم أن يستيقظوا عند الفجر ثم اضطجع يوسوس.. عند الفجر سنبدأ المطاردة والتوغـّل في الكهف.. هذا التاجر والشاعر عليه تعليمات من فوق.. من القيادة العليا في روما وبرلين.. أمر من موسوليني وهتلر للقبض عليه حياً أو ميتاً.. هو عنصر خطير.. خطر على أمن القوات الإيطالية والألمانية.. أضف إلى أنه يهودي يجيد القتال بالكلمات ويمتاز بالدهاء.. لكن لن يكون داهية معي.. سأقبض عليه حياً وأنيكه.. لذيذ جداً نيك اليهود.. تصبحون على خير الآن.. كونوا يقظين ولا تناموا كلكم دفعة واحدة.. أي تقصير أو إهمال يا أبناء القحبة في الحراسة يعني الموت.. سأحلم بأمي الحبشية الآن.. أشعر أنها ليست ميتة مثل أبي.. إنها حيّة.. دموعها أجدها ملحاً في ما أشربه من ماء.. وناراً فيما أشربه من نبيذ.. لكن لا أعرف اسمها ولا شكلها.. ولا مكانها في بر الحبش.. أبي الذي كان يجب أن أسأله عنها لم ألتقه ومات.. والراهبات أكثرهن متن والحيّات لا يعرفن شيئاً.. أتى بك أبوك ملفوفاً في خرقة قذرة لكن أكيد لديك إخوة وأخوات في بر الحبش.. طبيعي أنت لست بكر أمك وأمك.. بعد شهور من وفاة زوجها تزوجت من جديد.. أنا حزين الآن.. جداً.. جداً.. أمي.. أبي.. أخوتي.. أخواتي.. اللعنة.. اللعنة.. أنا مشتت.. أين بيتي؟.. لا بيت لدي.. لا عائلة تلمني.. ولا جدٌ يحكي لي الحكايات... آه يا أمي لمن تركتني.. وآه يا أبي.. أنت لم تعزِ في زوج أمي.. لقد عزيت فيَّ وقذفتني لهذا الجحيم.. وقرّب منه أحد الجنود فياشكة النبيذ فتجرع منها قرطوعاً طويلاً ثم جذب على وجهه البطانية.
في الفجر استيقظوا.. شربوا الشاي مع البسكويت.. وأشعلوا لفافاتهم.. المصوّعي يستكشف أجزاء الكهف.. يتجول في نواحيه.. يطرق بيده على جدرانه ويضع أذنه منصتاً.. توغل بحذر إلى الداخل.. ممر ضيق يفضي إلى شبه كوّة دائرية مموّهة بحشائش جافة.. أضرم فيها المصوّعي النار وتراجع إلى الوراء.. وقف مع جنوده عند فم الكهف.. اشتعلت الحشائش وغبق الكهف بالدخان.. بعد نصف ساعة خرج كل الدخان من الكهف واتضحت الرؤية.. عاد المصوّعي وجنوده.. أمرهم بإحضار الحبال.. الكوّة تهبط إلى أسفل رأسياً لمسافة خمسة أمتار.. هي كبئر.. لكن قاعها يبدو مظلماً.. أضاؤوه بالمصابيح.. ثمّة بقعة ماء.. أنزل المصوّعي رأس الحبل إلى القاع.. ثم جذبه إلى أعلى وقاس الطرف المبلل منه.. بئر ليست عميقة.. نصف متر تقريباً.. في جدران البئر نتوءات صخرية تساعد النازل والصاعد على إتمام الأمر بسلام.. نزل الشفشة أولاً.. ثم أحد الحراس.. ثم المصوّعي.. بينما بقي الحارس الآخر عند فوهة الكوّة تحسباً لأي طارئ، وفي يده ربطة الحبال..
في القاع كانوا ثلاثة.. الضابط المصوّعي والشفشة والجندي.. تحسس المصوّعي جدران الكوّة وطرقها وأنصت.. وأشار إلى جهة الجنوب.. لكزها الحرس بحربة البندقية فانبرت له كتلة خشب مربعة.. عمل فيها الجندي دفعاً وتحطيماً حتى سقطت إلى الوراء ليتسرب إلى البئر بهرة ضوء ليست قوية، بيد أنها تغني عن استعمال المصباح.. قفزوا إلى حيث سقطت اللوحة إلى الوراء.. كهف آخر أصغر من الكهف الذي باتوا فيه.. كهف شبه مستطيل طويل يلتوي ناحية اليمين ارتفاعه متران.. في أكثر أركانه يمكن للإنسان أن يفرد طوله فيه.. تتبعوا دربه لعدة أمتار.. التووا معه حيث التوى.. الكهف طويل.. غامروا بالتقدم عدة أمتار أخرى.. بقعة ضوء في الأرض على هيئة دائرة.. نظروا أعلاها فرأوا السماء.
رفع المصوّعي يده إلى أعلى علامة التوقف و جلس على صخرة قريبة ملتصقة بالجدار لترتيب أفكاره.. إلى أين يفضي هذا الكهف.. أخرج خريطة من جرابه فردها أمامه.. وتأمل في صمت.. الشفشة يعد الشاي ويدخن والحارس يقف بجانب المصوّعي في وضع التأهب.. والمصوّعي يخرج من جرابه كتاباً صغيراً يقرأ منه صفحات ويتأمل الخريطة ملياً.. يقف مجدداً.. يعود إلى الوراء يفحص اللوحة التي كانت تغلق الكوّة.. يمسح سطحها بيده.. يكب فوقها من الزمزمية بعض الماء.. يشير للجندي فيسلـّط عليها ضوء الكشاف.. يعود إلى البئر.. يفحص جدرانه.. الجندي يمرر الضوء المبهر على الأماكن التي يريدها المصوّعي.. يصعد البئر بواسطة النتوءات إلى الكهف الأول.. يفحص جدرانه.. يلتقط بعض الأحجار من الأرض.. ينظر إلى السقف معشوشب الصدوع.. ثم يجلس على صخرة.. راحته على رأسه يفكر في النباتات المتدلية من فوق أو المنبثقة من تحت أو في أي شيء آخر جهله.. يخرج الخريطة والكتاب مجدداً.. وينظر من باب الكهف إلى الخارج حيث الشمس التي أشرقت وراحت تذيب الندى النائم على أوراق الشجر.. طيور مختلفة تملأ الأفق وتبتعد.. صوت خرير ماء قريب.. عدة نحلات تحوم حول مزق بكيس المؤن.. الشمس ترتفع وئيداً.. والمصوّعي صامت يقرأ في الكتاب الصغير وبين حين وآخر يفرد الخريطة وينظر.. الشفشة بجانبه ينشش عنه الذباب، والجنديان أمامه يدخنان وينتظران الأوامر.
بعد زمن من التأمل والتفكّر سأل المصوّعي الشفشة:
- ما اسم هذا الكهف بالضبط وفي أي مكان يقع؟!
أجاب الشفشة:
- هذا الكهف اسمه كهف بوصور والمكان وادي الإنجيل..
قفز المصوّعي واقفاً متمتماً:
- إلهي الذي في السماء.
ثم أوعز بقوة:
- ورائي يا أولاد.
نزل إلى البئر و عبر كوّة اللوحة الخشبية المفضية إلى الكهف الآخر المستطيل الملتوي ناحية اليمين.. تتبعه حتى انتهى بكتلة زرب جافة.. أزاحها الجنديان بعد عناء فوجدا ممراً صخرياً يصعد باطراد إلى أعلى.. صعدوه ليجدوا أنفسهم في كهف صغير آخر في آخره سلم حجري ارتقوه.. مازال اتجاه السير صوب اليمين.. انتهى السلم إلى كهف ضيق ارتفاعه أقل من متر وعرضه متران عبروه مقرفصين.. في نهايته فجوة مستطيلة عرضها متر تقريباً عبروها إلى كهف واسع تضيء معظمه الشمس.. أشهر الجنديان بندقيتيهما وأرادا أن يطلقا وابلاً تحذيرياً إلا أنّ المصوّعي أشار لهما بالتوقف.. الكهف واسع بعض الشيء.. طوله أحد عشر متراً تقريباً وعرضه أربعة أمتار.. المصوّعي سعيد.. يتنفس بعمق ويمسّح يده على الجدران بحميمية.. في الحيز الشرقي من الكهف انتصبت مصطبة محفورة في أصل الصخر فوقها بالضبط محفورة لصليب صغير.. المصوّعي يتأمل المشهد ويبتسم ويتمتم: marco.. marco ما اسم هذا الكهف؟
أجابه الشفشة: لا أدري دعني أولاً أنظر من فتحته للخارج لأعرف أين نحن.. أطل الشفشة من فتحة الكهف.. كبّه إلى أسفل فرأى الارتفاع حوالي عشرة أمتار.. اقترب منه المصوّعي وتأمل إلى أسفل الجرف.. ورأى عين ماء صغيرة.. تجرع جرعة ماء من الزمزمية وأخرج الكتاب والخريطة.. قرأ سطوراً وأفرد الخريطة ثم قال أعتقد أنّ هذا المكان مقدس.. طاولة حجرية فوقها صليب محفور في الصخر.. أسفل الكهف عين ماء.. نهاية الكهف جهة المدخل فراغ في الصخر يشبه الحنية.. الدائرة اكتملت.. أطفئوا السجائر يا أولاد ولا خمر غير رباني ولا موبقات هنا.. ربما نكون في كنيسة القديس مرقس الإنجيلي القديمة.. آه يا أبتاه.. بدءُ إنجيل يسوع المسيح ابن الله.. اتركوني أصلي قليلاً واستعدوا للرحيل.. من أطارده استجار بالقديس مرقس.. وأنا صغير في الدير سمعت حكايات سمحة عن هذا القديس.. كلما أتذكر أمي وأبكي تمدّني الراهبة السمراء بصليب فضي منقوش عليه أسد بجناحين أضعه على صدري فأشعر وكأنني غريق في بحر نقي، أي في لبن أمي.. أمي في الحبشة أو أين هي؟.. أبي ميت.. وأنا أقتل الناس.. لماذا؟.
جلس على حجر على هيئة كرسي قرّبه له الشفشة من الطاولة الحجرية.. أفرد خريطته وكتابه عليها.. سأل ما اسم هذا المكان الذي نحن فيه؟.. أجابه الشفشة يطلق عليه البدو كهف الإنجيل والوادي برمته اسمه وادي الإنجيل.. قال له المصوّعي ووادي مرقس أين؟ إني أراه هنا على الخريطة.. قال الشفشة ليس ببعيد من هنا.. لو أراد سيدي سرنا إليه.. صلـّى المصوّعي والجنديان في الكهف.. ظهورهم لفم الكهف ووجوهم للحنية المحفورة في الجدار.. صلبوا صدورهم وفعل الشفشة ما فعلوا من وضع اليد على جانبي الصدر والرأس ثم هبطوا بواسطة الحبال إلى تحت.. غسل المصوّعي يديه في النبع السفلي.. قال للجنديين والشفشة: في هذا النبع الواقع أسفل الكنيسة المعلقة يتم التعميد.. هنا تمّ تعميد أجيال ماضية مباركة.. من هنا شرب الكثير من الحواريين والصالحين.. الماء ماء يسقي الحي والجماد.. هذه الصخور لولا الماء لجفت وتهاوت.. هذه الجبال لولا الماء ما رقصت ولا غنت.. أحب الماء.. مانح الحياة للأزهار.. مانح النماء للمستقبل.. الماء.. ما أطيبك من بلل وما أطهرك من ضياء!
شربوا وغسلوا وجوههم وأرجلهم وأطرافهم ثم غادروا مبتهجين قاصدين وادي مرقس.. يسيرون في نشاط مرحين وكلما التفتوا إلى الوراء وشاهدوا الكهف وجدوه على هيئة صليب، وكلما ابتعدوا أكثر وأكثر وضحت أحفورته جلياَ في قلب الجبل.
لقد أضاءت الحياة.. وهاتف صداه تتناقله أرجاء الجبال يزيدني نوراً.. أنا الأسود القشرة.. الأبيض القلب.. الشفاف الروح كما تقول عني الراهبات اليسوعيات.. ستقاسي كثيراً أيها الولد.. وتتعذب روحك قبل أنْ تصل إلى السلام.. قرب نفسي أجلس.. أتمشى.. أنام.. أنام وأحلم بنفسي جالسة.. تتمشى.. تنام في سرير حلمي.. رباه.. ما الذي يحدث لي؟.. وما الذي جعلني شيطاناً فسوقاً.. لقد سلكت درب الشرطة لأكافح اللصوص والقتلة والأشرار.. لكنّ هؤلاء الليبيين الذين أركض وراءهم.. ماذا فعلوا؟.. ماذا سرقوا؟.. ما الذنب الذي اقترفوه لأعبُر البحر وأعمل فيهم القتل والتنكيل؟ هؤلاء ليبيون طيبون.. يعيشون على أرضهم.. أركض وراء حياتهم لأوقفها.. لماذا؟ لماذا؟ لا بد أنْ أجد حلاً.. لن أستمر في هذا العبث الشيطاني.. ولأتحمّل كافة النتائج.. سأحاكم بتهمة الخيانة وأعدم.. وليكن.. وليتغمّدني بعدها الله برحمته الواسعة.
تحت شجرة خروب وسط الوادي أمر الضابط أنطونيو الجنديين والشفشة بالتوقف.. قال لهم سأذهب في مهمة لوحدي من دون سلاح.. وأنتم عليكم بالعودة إلى المعسكر في شحات مع بندقيتي ومسدسي.. سوف ألتحق بكم لاحقاً إن استرحت!.. جنود انتباه.. استرح.. استعد.. انطلقوا الآن ولا تلتفتوا ناحيتي.
وغادروا الوادي يصحبهم الشفشة عبر دروب الجبال والوديان، فيما عاد الضابط أنطونيو وئيداً إلى حيث كهف الإنجيل.. شرب من ماء النبع ثم صعد إلى الكهف.. صلى وغرق في تأملات حارقة.. يسترجع حياته منذ أن وعي حتى الآن.. الشمس تنطفئ ببطء.. تغطس في البحر وتغيب.. القمر يطل متألقاً.. تحفه باقة نجوم.. الضابط المصوعي يرتل الصلوات وإذا شعر بالبرد ارتدى معطفه وأوقد ناراً شوى عليها بعض الترفاسات اللاتي التقطهن من بطن الوادي.. تجرع معهن (الترفاسات) كأس خمر ونام.
استيقظ فجراً وأطل من فم الكهف يتأمل منظر الحياة الرائع.. النور الذي ينازع الظلمة.. الضباب الكثيف المشبع بعبق الغابة الذي تخاله سماءً هابطة.. صياح الديوك وضوضاء الحشرات وخرير النبع القريب.. حفيف الأشجار وخشخشات الزواحف والسلاحف على الأوراق اليابسة.. الطبيعة تغني والضابط أنطونيو يستمع ويصلي صلاة الصباح متخيلاً ذاته في الدير.. يرتل الصلاة منفرداً بشعور جماعي.. يستمع لأصداء صوته تتجاوب في أركان الكهف.. يغمض عينيه فينبهر لرؤية الفجر هذه.. القديس مرقس نفسه يجلس إلى الطاولة الحجرية.. يدوّن الإنجيل.. (بدء إنجيل اليسوع ابن الله) بجانبه أيقونة الأسد المجنح.. بجانبه المريدون صامتون منتبهون.. وفي خياله حاضر بقوة معلمه الرسول بطرس رسول المسيح عيسى ابن مريم.. يدوّن إلى ما شاء الله.. ثم يعيد القلم إلى الدواة.. ويقف للصلاة.. وخلفه يردد المريدون التراتيل.. إحساس مبهج يغطس أحجار الجبال في مياه البركة ويجعلها تتهادى بالأناشيد.. أنطونيو لا يريد فتح عينيه ومرقس الإنجيلي لا يغادر الكهف.. حتى بعد أن أشرقت شمس التواريخ.. حتى بعد أن تقاطرت على وجه أنطونيو قطيرات عسل متسربة من صدع في سقف الكهف اتخذه نحل البراري خلية حياة.
لحس أنطونيو ما تقاطر على خدّه من دون أن يفتح عينيه.. اعتبره قرباناً مقدساً وغذاءً ربانياً أطعمه إياه القديس مرقس.. شعر أن روحه تغتسل.. واستغرق يصلي وسط هذه الحلاوات النورانية ويدعو الله ويعترف لمرقس الجالس يكتب بذنوب ثقيلة طالباً الشفاء من شذوذه ودمويته تالياً آيات بينات من إنجيل مرقس.. (ولما جاء إلى التلاميذ رأى جمعاً كثيراً حولهم وكتبة يحاورونهم. وللوقت كل الجمع لما رأوه تحيّروا وركضوا وسلّموا عليه. فسأل الكتبة بماذا تحاورونهم؟ فأجاب واحد من الجمع وقال يا معلم قد قدّمت إليك ابني به روح أخرس. وحيثما أدركه يمزقه فيزبد ويصر بأسنانه وييبس. فقلت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا. فأجاب وقال لهم أيها الجيل غير المؤمن إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟ قدموه إلى. فقدموه إليه. فلما رآه للوقت صرعه الروح فوقع على الأرض يتمرغ ويزبد. فسأل أباه كم من الزمان منذ أصابه هذا. فقال منذ صباه. وكثيراً ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه. لكن إن كنت تستطيع شيئاً فتحنن علينا وأعنا. فقال له يسوع إن كنت تستطيع أن تؤمن. كل شيء مستطاع للمؤمن. فللوقت صرخ أبو الوالد بدموع وقال أؤمن يا سيد فأعِن عدم إيماني. فلما رأى يسوع أن الجمع يتراكضون انتهر الروح النجس قائلاً له أيها الروح الأخرس الأصم أنا آمرك. اخرج منه ولا تدخله أيضاً. فصرخ وصرعه شديداً وخرج. فصار كميت حتى قال كثيرون إنه مات. فأمسكه يسوع بيده وأقامه فقام. ولمّا دخل بيتاً سأله تلاميذه على انفراد لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم). (مرقس 9: 14 ـ 29)
وتفهم أنطونيو الدرس ونوى على الصوم ومداومة الصلاة والاستقامة.. وعرف أن الخير ها هنا.. في هذا المكان من النفس الجغرافية.. ماء.. عسل.. ترفاس.. مريمية.. صعتر.. تين.. لوز.. رمان.. تمر.. زيتون.. توت.. صلوات.. نور.. مرقس.. شمس.. حياة.. وغلبه البكاء متسائلاً.. لا يدري كيف دخل هذا السلك.. كان صبياً عندما تكرّست في نفسه تلك الأمنية.. أن يكون رجل شرطة.. يحمل هراوة ومسدساً يطارد المجرمين.. في تلك المدة أثـّـر في وجدانه مشهد مثير.. كان الوقت فجراً وكانت نافذة غرفته مطلة على الشارع العام القريب من محطة القطارات.. ذاك الفجر رأى راهباً نحيلاً يحمل كيس حاجياته ويمشي ناحية الدير يرتجف من البرد.. وفجأة برز له من أحد الشوارع الفرعية شاب يمتطي دراجة نارية انتزع منه الكيس وفر هارباً بكل سرعته.. صرخ أنطونيو آنذاك.. مجرم.. مجرم.. شيطان.. حرام.. غير أن الراهب أشار له بالصمت مصلباً يديه على صدره.
مذ ذاك الفجر قرر في قرارة نفسه أن يكون شرطياً يطارد الأشرار ويحمي الناس الخيرين المسالمين من شرورهم.. عندما شب التحق بالشرطة.. لكن لم يعمل فيها سوى شهرين حتى قامت الحرب الكونية الثانية ورمت به أقدار موسوليني إلى هذه الأودية والجبال الليبية.. يطارد أناساً لم يسرقوا الرهبان أو يعتدوا على الكنائس بل فتحوا أرضهم وأوشازهم للرعايا المسيحيين إبان الاضطهاد الروماني لهم.. بل إن القديس الليبي مرقس كتب إنجيله في حماهم وفي رحاب كهف مبارك مازال قائماً حتى الآن.. لماذا أطارد هؤلاء الليبيين الكرماء الودودين؟ أرضهم خير وسماؤهم بركة.. وأشرقت الشمس التي بدأت تحرقه أشعتها.. بعض الذباب والنمل يشاكس وجهه المعفر بالعسل.. ذبابة تـفطر مطمئنة على قطرة نائية بينما بعض النملات غرقت في قطيرات العسل الكثيفة.. أخرى تحاول انتشال الغرقى فتقع معها.. وقف أنطونيو يهش الذباب ويغسل وجهه من قطيرات العسل اللزجة.. تمطـّى ثم ابتسم.. نظف المكان.. ملأ كأسه حتى حافته.. تجرعه مرة واحدة.. لبس معطفه.. انتعل حذائه.. تلقف بقية أشيائه.. ثم نزل من الكهف إلى أسفل الجبل حيث النبع فرحاً غارقاً في الحياة الطازجة المكتظة بمخلوقات الصباح.. ضفادع.. طيور.. قواقع.. سلاحف.. فراشات.. الكل يسعى إلى باب الله.. ذلك الباب الواسع.. المشرع.. الشفاف.. الخالي من الرزات والأقفال.. المفتوح لكلمة سهلة يا رب.. يا رب.

* * *

تفرق رفاق كليمنتي الليبيين في نجوع البدو بالجبل الأخضر.. كل منهم كانت لديه في تلك النواحي قـُـرْبَى.. خال أوعم أو صهر أو حويمة.. دعوا كليمنتي معهم غير أنه خاف من الوشاية به للطليان.. منحوه ما معهم من زاد.. وصعدوا في الليل إلى سطح الأرض عبر كهف خيدرا القريب من منطقتي بيت تامر وعين مارة، والبعيد نسبياً عن الطريق الساحلي المعبّد المارّة منه السيارات والدبابات وبقية الآليات العسكرية.. تركوه كلهم إلا فتى صغير يتيم.. هذا الفتى اسمه مبروك.. أبوه شنقه الطليان بتهمة قتالهم و تزويد المحافظية (المجاهدين) بالمؤن، وأمه ماتت نتيجة وباء التيفود الذي اجتاح درنة مذ سنوات والذي نجا منه مبروك.. أثناء الوباء كان مبروك يربّع عند أخواله في المرج.. يمرح مع الشياه والجديان ويلعب مع أطفال وبنات النجع الصغيرات.. هو يعرف العمّة الحنون للاهم أخت كليمنتي ويعرف الأم سارة زوجته التي كانت تقدّم له قطع المقروض اللذيذ ـ والمقروض عبارة عن قطع صغيرة من عجينة السميد محشوة من دون عنوة بمعجون التمر ومطبوخة في زيت الزيتون ومعوّمة في عسل النحل ـ تقدمه له بحب وأريحية، وكانت تشعر بالسعادة كلما رأته منهمكاً في اللعب مع ابنها موسى.. أيضاً كليمنتي يعرفه وفي أحد أعياد الفطر منحه جلابية جديدة وسروالاً وفرملة وشنـّـة حمراء هدية.
عندما دكّـت فلول الطليان والألمان درنة بالقنابل هرب مبروك مع من هرب عبر سفوح منطقة ظهر الحمر، وانتقل مع الناس الخائفة من نجع إلى نجع.. حتى كانت إحدى الليالي التي أقام فيها شيخ من شيوخ قبيلة الحاسة وليمة لهؤلاء اللاجئين.. فالتقى مع أناس من أخواله ووجد معهم كليمنتي الذي عرفه واحتضنه ونفحه من خرجه بعض التمر والشريح (التين المجفف).. منذ تلك اللحظة لازم كليمنتي.. انتقل معه من وشز إلى وشز (كهف معلق في الجبل).. ومن وادٍ إلى وادٍ.. كان كليمنتي يحسّه كابنه موسى بالضبط.. يحثه على تأدية صلواته في مواعيدها.. وفي الليل يدثره بطرف ردائه.. يتسامران.. يحكيان عن المرج.. وعن سارة وموسى والشيخ بورحيل وزوجته الحاجة أم العز.. وعندما يتطرّق مبروك للحجّالة ميزونة ورقصها الرشيق وخفة دمها يشعر كليمنتي بالحزن العميق والحنين.. يتذكر ذلك الفجر عندما أيقظته وأفطرته وعلفت حصانه ثم ودعته بعناق دافئ حميم.. يرقرق كليمنتي في الظلام.. يرى مبروك لمعان عينيه من الدمع فيكف عن نقض الجروح والقروح.
تفرق رفاق كليمنتي في النجوع وبقي معه الصبي مبروك.. وكما العادة يختفيان في النهار وفي الليل ينتقلان من كهف إلى كهف.. يتوجهان جنوباً دائماً مستدلين بالنجوم التي يفقه كليمنتي لغتها جيداً.. أحياناً يبقيان في كهف واحد أياماً.. لا يخرجان إلا عندما ينفد الزاد.. وإذ يخرجان لا يبتعدان كثيراً.. يجمعان بعض بيض الحجل ويصطادان أرنباً أو بعض الجرابيع.. ويقطفان بعض الفاكهة.. وإن رأيا نجعاً قريباً يقصده مبروك وحده، يطلب منهم بعض خبز التنور أو الدقيق أو زيت الزيتون ثم يعود إلى كليمنتي.. الأخبار لا يسأل عنها فلدى كليمنتي مذياع صغير.. قد لا يكون في تلك الفترة مذياع متداول لكن لا يهم روايتي تحتاج لوجود مذياع فطلبت من المخترع أن يعجل به.. كثيراً ما تجادلا حول مسألة الدِّين.. مبروك يحكي بعفوية لكليمنتي ما يعرف عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والقرآن.. وكليمنتي يحكي له عن النبي موسى وكيف شق البحر بعصاه فصار به ممراً برياً، وعندما تعقبه فرعون عبر هذا الممر أعاد موسى البحر إلى حالته الأولى فغرق فرعون وجيشه وحاشيته جميعها.. وقال مبروك لقد حكى لنا الشيخ العجالي عن هذه القصة وقرأ لنا عنها من القرآن الكريم، وشرح لنا كيف أنَّ الرضيع موسى لمس الجمرة ولم يلمس التمرة فنجا من الذبح.. وكيف وُضِع في صندوق ورُمِيَ في النهر..
وقال كليمنتي الله واحد..
وقال مبروك الله واحد..
وقالا معاً موسى الذي في التوراة هو نفسه موسى الذي في القرآن.. وكان في يد كليمنتي عصا الزيتون التي التقطها ساعة هروبه في غابة الباكور، يهمز بها أخاديد وفجوات الكهف باحثاً عن الممرات السريّة المموهة جيداً.. والطريف أنَّ كل الكهوف والأوشاز التي طرقوها بها ممرات سرية محفورة منذ القدم.. الإنسان دائماً يتعرض للخطر.. فلا يمكن أن يجعل لمأواه باباً واحداً.. الجرابيع تفعل ذلك أيضاً.. وفكرة أبواب الطوارئ سافرت مع الإنسان منذ الأزل حتى الآن.. في الطائرات.. في العمارات الشاهقة.. في السفن.. في الغوّاصات.. في كل شيء هناك باب طوارئ.. في الحياة أيضاً هناك باب طوارئ هو الجنون.
عصا كليمنتي تنتهي بغصن منفرج يضيق كلما ارتفع.. يستخدمها في شلِّ حركة الحيّات والثعابين.. وفي جني الفواكه وخاصة التين الشوكي الذي يحبه.. وله فيها مآرب أخرى.. دائماً يمسحها ويشذب حواشيها من الخشونة وينقش على ظهرها علامات وحروف لا يفقهها مبروك، لكن مبروك طلب من كليمنتي العصا ونقش عليها قلباً صغيراً به عينان وأنف وفم.. سأله كليمنتي: من هذه ؟ فأجابه: بنت خالتي ربيعة.. بنت خالتي اللي أريدها.. اللي مغوّيها ومغويتـني.. دائماً نرعوا الغنم في الوادي مع بعضنا.. وتحت شجرة الزيتون نجلس ونحكي بلغة صوب خليل.. وتصير بيننا أشياء سرّية.. سامحني يا عمي كليمنتي.. تعاهدنا أن لا نحكيها لأحد.. ووعد الحر دين عليه.. وأنا ما زلت حراً كما ترى حتى الآن.. ولكان ما تبعتك..
وآه يا ربيعة يا ربيعة
في سبّاك العقل انبيعا..

لكن لا أعتقد أن هناك من يشتري عقل صبي في هذا الوقت. وابتسم كليمنتي لهذه المزحة ولهذا الحب الطازج الطري.. وربت على كتف مبروك قائلاً: لو تتزوج ربيعة سأحضر عرسك وأنشد فيكما أجمل قصيدة.. قصيدة ستغنيها كل نجوع برقة والجبل الأخضر وطبرق وسرت وسوسة.. وتهزهز من أجلها كل حجالات ليبيا أوراكهن الناعمة.. قصيدة حلوة.. أحلى من المقروضة التي تقدمها لك أمك سارة.. وابتسم مبروك قائلاً: وأحلى من القصائد التي قلتها في حويمتك ميزونة الحجّالة!.. وهنا خفت كليمنتي صوته وأجاب كمن يهمس: أرجوك وليدي مبروك.. لقد وخزت لي الجرح بقسوة.. لا تذكرني بأشياء تعذبني كثيراً.. اللعنة على الطليان وعلى الألمان اللي فرقوا بينا وبين الحبايب..
وآه من الطليان السكارة..
اللي فرقوا بين الحبيب وداره..
عطهم فضيحة ما لها ستـّارة..
يبقوا ذوايح ما عليهم بنـّـة.
وزاعل علينا اليوم ريدي كنـّـا.. هل يا ترى مالناس ولا منـّـا

* * *

الشروق الزعفراني الذي يبدأ تاريخي ما عاد يروق لي.. والغروب القرنفلي لا يصلح أن يكون بداية.. والنهاية غارق فيها.. تعودت على تنفسها.. رئتاي سعيدتان بأكسجين المنتهى.. وزفيري بالنسبة للفضاء نسيم نجدة.
أذرع الشوارع بقدمين تعودتا على نـُـغَـص الحُفر والأخاديد.. وبرأس أنس ينظر أمامه وحسب.. أجلس في مقهى لبدة ببنغازي.. مقهى صغير يطل على شارع جمال عبدالناصر مقابل لمصلحة الحرس البلدي.. يرتاده مدمنو قهوة المكياتة وطلبة اللغات والحاسوب وبعض الوافدين من المغرب العربي.. أتابع الأخبارالساخنة والباردة والمكرورة.. أو أي شيء معروض في التلفاز أو مسموع من المذياع.. أرتشف القهوة تلو الأخرى راحلاً على براق خيالي، أصطاد ما استعصى من كلمات.. أغويها لارتكاب رذيلة الوسم.. الورق كثير.. الأقلام متوافرة برخص التراب.. الندرة الوحيدة أراها في القـُرّاء.. القراء كلمات تعيسة تمشي على الأرض.. تنشد النجاة من مأزقها الرهيب.. تبدأ يومها بشروق بريء وتنهيه بغروب وقح.. يسكبها في ليل بهيم يجثم على أنفاسها كحاكم مغلوب على أمره، عليه أن يبقى كي يعيش.
أجلس متأملاً سحب الدخان باحثاً فيها عن كليمنتي العزيز.. الشخصية التي أحببتها من خلال شعرها الليبي الجميل.. زوجته سارة أينها الآن؟ أخته للاهم أينها الآن؟ ابنه موسى أينه الآن؟ أنا اينني الآن؟ الآن أنا جالس في المسرح الشعبي ببنغازي أشاهد مسرحيتي.. الذي أريده كتبته على الورق ودفعت به إلى المخرج وحفظه الممثلون عن ظهر قلب.. الفصل الأول سارعلى ما يرام.. و كما أريد.. بل أفضل مما أريد.. في الفصل الثاني بدأت (المنيكة) والخروج عن النص.. من مثل (فصلاً) صار (بطلاً).. الممثلون تمردوا على كلماتي.. ما يلفظونه غير ما كتبت.. بدأت أنتف شعري وأنبههم بالإشارة.. لكن دونما جدوى والمخرج خلف الستارة لا أراه.. الممثلون مستغرقون في خروجهم والجمهور استحسن ذلك إلا أنا.. وقفت صارخاً لاعناً الممثلين والمخرج وإدارة المسرح وحتى الجمهور وسلكت كل الأنظار طريقها إلى.. سعدت بذلك فقد سرقت الأضوء.. الإضاءة الدائرية ركزت عليَّ وأنا أنتقل بين الكراسي أقفز ناحية الخشبة ثم أتراجع وأعود.. ظنونى من ضمن الممثلين الذين يحطمون الحائط الرابع.. أنا حطمت صمتي حطمت رضاي المستكين.. صرت أنط وأصرخ وأقول ليس هذا ما كتبت، وبما أنني شخصية عامة ونجم شعبي في الوسط الفني والأدبي فقد احتار الجمهور من فعلتي تلك.. لكني استحليت هذا الأمر وهبط على مَـلَـكَـتي إلهام لذيذ لم يمرّ على الرقابة، والآن لن يمنعني كائن من كان.. الممثلون صمتوا والمخرج في الغرفة يعبث مع الممثلة الماجنة التي سيأتي دورها في آخر الفصل الثالث، ومدير المسرح في مكتبه يحسب نقود الشباك ويختلس على راحته عرق المبدعين.. الجمهور الآن في حوزتى وقد سوّلت لي نفسي أن أقوده.. أن أخرج نصي بنفسي.. أشرت للممثلين بالركوع والصمت.. أنا البطل الوحيد.. أتحاور مع الجمهور.. أقلب بصري في وجوههم على مهل.. وجدت فتاة جميلة نص ونص.. وشوشت لها في أذنها أحبك فصفقت رهافة الجمهور وابتسمت الفتاة.. بل أوقفها هدير التصفيق المتواصل فقبّلت جبهتي وأظلم فني الإضاءة الصالة تواطئاً معي، فقبلتها قبلة ظلامية طويلة وعندما انتشينا.. أضاء الركح من جديد.. آنذاك كنت مبتعداً أهدهد طفلاً صغيراً تناولته من ربَّة بيت رشاها زوجها بدعوة حضور المسرحية لتريحه من كلمة تأخرت وأين كنت.. الطفل يبكي وأنا أرقـّـصه وكانت في جيبي صافرة صغيرة صفرت بها مريرات فسكت.. أعطيتها له ومثلت دور طبيب فقلت لأم الطفل عنده حرارة أكيد، تتركونه طيلة الليل من دون غطاء وأنتما تتغطيان جيداً ببطاطين النمر، لكن الطفل تغطونه ببطانية أرنب ليكبر على الخوف ولا يرى في النور.. اللى خاف اسْـلمْ وأنتما شجاعان تتغطيان ببطانية نمر، وضحك الزوج وصفق لي وأعطانى بطاقة عنوانه قائلاً: "إن كنت تريد خدمة من شركة الإسمنت فأنا الأسمنت بروح.. بالعربي أنا مدير المبيعات.. بوها وكيّالها.. حاول الممثلون الوقوف فشخطت فيهم بصرخة " كما كنت ".. وأردفت بخفوت لن أنساكم يا أعزائي.. من بيته يقطر سددت له ثقوب السقف ومن يريد بناء بيت فالإسمنت موجود ومن يريد تجهيز قبر فالإسمنت موجود ومدير المبيعات صديقي.. لقد وعدني وها هي بطاقته وهاهي زوجته شاهدة وها هو طفله الصغير كان يبكي فأسكته بالصافرة.. ابقوا راكعين فقط أيها الممثلون الأعزاء، العرض قد يطول، ففي رأسي إلهام طويل، سأجري إلى مؤخرة المسرح حيث لا عائلات.. شباب طوال يدخنون، وجريت القهقري ووجدت في آخر كرسي شاباً طويلاً طلبت منه سيجارة فقال لي التبغ مهلكة ونحن نريدك، فبيت أمى مثقوب وأحتاج إلى حفنة إسمنت أغلق بها ثقوبه قبل حلول الشتاء، لذلك لابد أن أحافظ على صحتك فأنت أمر حيوي بالنسبة لي.. وجدت بعده بعدة كراس شيخاً كبيراً طلبت منه سيجارة فأعطانى مقبص نفة وضعتها في أنفي وصرت أعطس أعطس بتواصل والإضاءة تضيء وتنطفئ مع عطساتي، وعندما أنهيت نوبة عطسي طلبت من العجوز أن أساعده فقال لي أنا وحيد.. عجوزتي توفيت وأبنائي تنكروا لي وتركوني إلى شؤونهم وأحتاج إلى من يؤنسني، والحقيقة أنّ أم بطلة المسرحية المرتدية رداءً ليبياً مزركشاً أعجبتني.. تخيلتها وهي تعد لي الشاي بعد الغداء وتقول لي تفضل ياسي الحاج، وضحك الجمهور وربتُّ على كتفه أعِـده بتدبّر أمره وأين ستجد إنساناً طيباً مثلك أقصى أمانيه طاسة شاي بعد الغداء.. لكن يا حاج تريد شاي كيس أم شاي براد؟ قال لي الذي تجيده.. أريده فقط من دون رغوة.
دخل مشاهدون جدد ووجدوا القاعة مظلمة فقدتهم إلى مقاعدهم بعد أن أخذت منهم هوياتهم. قلت لهم في نهاية العرض تأتون إلى مكتب الشرطة المسرحية فأسألكم بعض الاسئلة ومن ثم أعيد لكم أوراقكم وضحك الجمهور كثيراً.. أحد الجمهور كان في الصف الأمامي تجهم ولم يضحك فتوجهت إليه وطلبت منه هويته وسألته لماذا لم تضحك؟ ألا تعلم أنني هنا في هذا المسرح الكل في الكل؟ أنا هو مؤلف النص.. والمخرج الجبان لايجرؤ على الخروج من الغرفة ليعارضني، هو يعرفني جيداً وأنا أعرف تاريخه في السلب والقرصنة على المسرحيات العالمية ومسرحيات الكتـّاب الصغار، وربما لو خرج الآن لفضحته أمام الجمهور، فالجمهور الآن في قبضتي، وإذا لم تعط بطاقتك لهذا الرجل ـ وأشرت إلى شاب مفتول العضلات ـ فسوف أؤلـّـب عليك هؤلاء الرعاع فينـتـزعونها عنوة.. سأقول لهم إنه بصاص شفشة مزروع بينكم والأفضل أن تعطيني بطاقتك ولم أنتظر.. أشرت إلى المفتول فقفز عليه ونتش هويته من جيب، ونتيجة القفزة المفاجئة سقط أرضاً من على الكرسي وتدحرج على البلاط جسم معدنى اختفى تحت الكراسي، عرفت أين اختفى فزحفت ناحيته.. حيه على أمه.. إنه مسدس رفعته إلى أعلى وقفزت إلى الركح أشهره ناحيته طلبت منه بحزم صعود الركح فصعد مرتجفاً رافعاً يديه وخلفه الشاب الذي يساعدني، قلت له اركع مع الراكعين، وبعد ذلك عدلت عن أمري له بالركوع فقلت له انبطح، وطلبت من الراكعين حراسته وهم في وضع القرفصاء.. توجهت للجمهور قائلاً آه ما رأيكم؟ فصفقوا جميعاً والطفل الصغير توقف عن البكاء وصار يصفر بالصافرة، نزلت إلى أسفل أتجوّل بين الكراسي، طلبت جرعة ماء فأعطاني شاب من الصفوف الخلفية زجاجة رشفت منها، إنه خمر محلي "قرابا" لا بأس حتى يرتفع معدل الإلهام، والآن أنا الملك وفي يدي مسدس والجمهور حتى من دون مسدس يستلطفني، وهو مهيأ لأن يفعل أي شيء من أجلي. قلت لهم أريد أن أتزوج.. من تقبلني زوجاً لها؟ لا أريد السكن في شقة.. سأفرغ سطر كراسي لأجعله سرير نوم والليل قادم والنهار في يدي والزغاريد في حناجركم والتصفيقات في أيديكم والخمر ها هو، والشيخ الذي سيقرأ الفاتحة ها هو شيخ النفة والجود من الموجود.. وقفت فتاة من الصف الثانى كانت صامتة خجولة فبادرتها بكلمة موافق، وكان خطيبها في جنبها حاول أنْ يعترض إلا أنها صرخت فيه لقد انتظرتك كثيراً.. خمس سنوات وكل خميس انقولوا الآخر.. كل يوم تقول لي غداً وهذا البطل أعجبني.. سلب لبي.. أعرف أنه سيتزوجنى الآن ولا يقول لي غداً.. أخاف الغد.. ربما لا تشرق الشمس.. ربما أموت ويأكل الدود بكارتي.. أريد طفلاً أناغيه.. كذاك الطفل الذي يصفر.. أريد أن أعيش حياتى صحبة إنسان أنام جنبه.. ينيكني.. يأخذنى إلى المسرح والبحر والغابة والسوق.. أطبخ له الغداء وأعد له القهوة والشاي والكوبنتشينو أيضاً.. أخذت الفتاة من يدها وضعتها في كرسي آمن بعيداً عن الأوباش ورجعت لخطيبها همست في أذنه لا تزعل يا صديقي.. الحكاية كلها تمثيل في تمثيل.. ستعود إليك فتاتك.. ستعود إليك بعقلية جديدة.. ستعود إليك امراة لن تعيدها بعد العرض إلى الشارع الذي خلف بيت أبيها لأنه لن يقبلها.. ستلبس الليلة أيها الغبي!.. من قال لك ادخل مدينتي.. كلكم ملك يميني.. حتى الرجال سأتزوج منكم بعقود عرفية.. لأن بينهم من يستحق التبعبيص، وفرّغت عياراً نارياً في السقف فصمت وتسمر في كرسيه ماسكاً تكّة سرواله بكل قوته.. ذهبت للفتاة قلت لها لقد تخلى عنك.. أرهبته طلقة مسدس بينما أنا لا ترعبني طلقة ضرطة آر بي جي شفشوية.. استرحت منه.. هذا ليس رجلاً.. لو كان رجلاً ما ماطلك خمس سنوات.. خليك معاي بس.. ستنبسطين.. من تتزوج البطل تكون بطلة.. ودقي يا مزيكا.. لم تدق الموسيقا فأشرت إلى فني الصوت أن يشغل الموسيقا على هواه على مسؤوليتى، قال لي ليست مدروجة موسيقا الآن عبر هذا الحوار ولا يوجد لديه أشرطة مسجلة وما الحل ؟ طلبت إلى الجمهور أن يغني:
" الليلة الليلة الليلة.. سهرتنا حلوة الليلة "
كل الجمهور يغني وأنا أرقص مع الفتاة بين الجمهور وخطيبها متسمر، وعندما رأيت دموعه تتساقط بغزارة تيقنت أنه يحبها فعلاً فتوجهنا ناحيته وأوقفته مطمئناً إياه، وطلبت منه أنْ يرقص معها وأنا أتفرج عليه.. رقص المسكين وصارا يضحكان والجمهور يصفق وسعيد ومبسوط وفي النهاية عادا إلى مكانهما متشابكي الأيدي.. قلت له بإمكانك أن تغادر إن لم يعجبك العرض، لكنه فضل البقاء قائلاً لي أريد أن أعرف المصائر وخاصة مصير الشفشة صاحب المسدس.
في منتصف الصالة جذبتنى من ساعدي فتاة ترتدى جلباباً أسود.. همست في أذني أنا لست مخطوبة ربما انديروا أفـّاري (صفقة).. مقالبة.. (نتفق).. قلت لها أوكي.. لكن تمثيل في تمثيل.. أنا لا أتحدث جديّـاً أبداً.. قالت حتى تمثيل راضية.. نجيلي تمثيل هالغزيّل.. قلت لها أخاف أن يتحول التمثيل إلى حقيقة مثلما كتابتي لهذه المنصوصة التي تحولت إلى حقيقة وأنا من يقوم ببطولتها.. دعينا من هذه المواضيع.. فالجمهور ملّ من حكايات الرومانسية.. يريد واقعية قذرة تمس حياته مباشرة.. إن أردتِ أنْ تمثلي معي فقفي ربما أجد لك دوراً مناسباً.. دعينا الآن نتجول بين الكراسي.. نفتش عن شيء ما.. عن إحساس ضائع أو مختفٍ.. نبحث عن ذواتنا القلقة.. نهديها نفحة وجدانية أو ابتسامة عذبة أو نور قمر أمتصه فأشبع.. ها آنذا عدت للرومانسية.. أنت فتاة غاوية أوقعتني في شركك.. لكن لا بأس.. لن يخسر أي رجل في علاقته مع فتاة.. فالمرأة دائماً عناق فداء.. لكن لن أفوز عليك.. لو فعلتها سأفقد جمهوري المحبوب هذا.. سأفقد هؤلاء الطيبيين الذين أداروا أبصارهم عن عرض المسرح المصطنع ووجهوا مداركهم نحوي.. أنا البطل الحقيقي خالق هذه المناغاة.. مبدع هذه الأرواح.. مبدع هذه العلاقة التي تقوم الآن بيننا.. ما اسمك أيتها الفاتنة الفتّانة؟ لا يهم اسمك من أنت؟ أنت حمامة نسيت جناحيها في البيت.. جئتِ إلى هذه القاعة بمعية أخيك.. أخوك الآن غير موجود.. تركك في المسرح وذهب يبحث عن أشيائه الخاصة.. سيعود عند نهاية العرض.. ستجدين سيارته أمام المسرح.. تركبين معه ليعيدك إلى البيت.. وهناك ستنتظرين متى آتي لخطبتك.. ويطول الانتظار وأنساك وتنسينني ويدخل على الخط أناس جدد "وأنساهم اللى نسيوك واشقى بكبر نيران غيرهم".
والآن نريد أن نـُكْبٍر النار في هذه القاعة.. أمامك هذا الجمهور الذي يحبنا.. سيشهد الجميع على زواجنا.. سيسعدوننا.. سيبنون معنا سعادتنا طوبة طوبة.. لكن لن أتزوّجك حتى تحلمي معي.. اشربي معي جرعات قراباً.. ليحلو الحلم.. تعالي الآن.. أنت ميزة لذيذة.. وأنا أيضاً بالنسبة لك.. تجرعي ما تبقى.. ولحظ فني الإضاءة نشوتنا فأطفأ النور.. وتعانقنا بمحبة إنسانية.. وحلمنا معاً بأن تكون بعوضة.. وكانت فعلاً.. وقررت أن أكون مثلها.. وبدأت تتراءى لي وهي جالسة في المحراب ترفع كل أطرافها إلى الله، تطلب أن يحوّل أحدنا إلى جنس الآخر.. وجدتها خائفة مترددة في العودة إلى أنثى إنسان لا أدري لماذا ؟ هل تخاف من الختان المستمر؟ أم من الوأد فور اكتشاف الأنوثة ؟ وفرت عليها المجهود وقلت لها اطمئني لقد أزحت عنك قلقك الثقيل، فضحيت أنا (بآدميتي) وأجريت العملية المؤلمة، أحسست بأنني أصغر وأصغر وأصغر حتى وجدت نفسي واقفاً قرب حبّة رمان طازجة، تلمست جسمي، شعرت بالغربة، أين سروالي وسترتي وملابسي الداخلية وساعتي وخاتمي وسلسلتي؟ وبعد أن زال المخدر، واستعدت وعيي تذكرت تغيّري إلى جنس البعوض بمحض إرادتي، ولكن كنت حزيناً من البشر لأنهم سينشونني.. وأنت سيضربون بضعف جناحيك الأمثال، قبل حقني بالمخدر كانوا قد أخذوا مني كل مقتنياتي.. البطاقة الشخصية، جواز السفر، رخصة القيادة، كتيب العائلة، تذكرة الحافلة.. قالوا لي هذه ليست من حقك يا بعوض.. وودعوني ببسمة فائحة بالزيف فهمت منها أنهم ينعتونني بفاقد للرجولة..
لم أعبأ.. طرت في سعادة، ما أجمل الطيران، أول مرة أشعر أن للطيران لذة، متعة الطيران لا يشعر بها الإنسان أبداً، هناك فرق كبير بين أقدام تدوس وأجنحة تحلق! حتى وإن طار الإنسان فلا يطير إنما يطيّر بواسطة ويكون طيرانه محفوفاً بالأخطار.. آه بعوضتي تحليقي في السماء جميل، لم أربط الأحزمة ولم أخف، أصبحت واحداً منكن أيتها المخلوقات الطائرة، كنت منساباً في فاصل من الرقص تدغدغني نسائم الهواء، آه مستحيل وفوق المستحيل أن أعود إلى أصلي الخاطي على التراب… عندما شبعت تحليقاً اقتربت منك، عانقتك، قبلتك، رقصنا معاً، شاركتنا الفراشات الرقيقة، كنا متهافتين ومستعجلين ومشبوقين أيضاً على إتمام مراسم الزواج..
زوّجنا (عقد قراننا) صرصور طائر، وشهدت على الزواج إناث العناكب! وفرقة الرقص من نحل البراري، وامتطينا خفاشاً مصطولاً تجول بنا كثيراً عبر الحدائق والبساتين، ولم ينس أن يمر بنا على صيدلية أبي العلاء المعرّي لشراء حبوب منع الحمل، بعدها أنزلنا بهدوء على سريرنا الآمن قرب نافذة مفتوحة تجنباً لأي مبيد شفشي ضار..
في الصباح وبعد ليلة الدخلة القارصة والماصة والهارشة والخابشة، ليلة العزاء السعيد! وبعد أن استنفدت فيها كل ما لديك من دماء مدخرة، وبعد أن سكبت فيك كل ما امتصصت من صدمات وهموم، إذ بك تفاجئينني وتنكدين عليّ فرحتي وتحولي ومسخي، اتهمتني بتهمة قد تقوض وتزعزع أسس الثقة التي بيننا، صرخت في وجهي بعد شبعك طبعاً.. أنني لا بكارة لدي، قلت لك أنني فقدتها منذ زمن، وإن كان هذا الأمر يؤثر على علاقة زواجنا (فما زلنا قريب) ولنحضر الصرصور بعد أن ينعنش وإناث العناكب، ونُصفـّي الموضوع ودياً وكل منا يعود أدراجه الهابطة في الشقاء..
الحقيقة يا بعوضتي كنتِ بنتاً أصلاً، فهمت الموضوع واحتويت مشاعري هامسة في أذني: أنا لا أقصد ياحبيبي.. ثم غمرتني بقبلة بعوضية.. مزيج من الامتصاص والقرص والعض، كنت أعرف أن هذه القبلة تستخدمها الإناث في أوقات الطوارئ، فنسيت المشكلة، ورميت من عقلي كل العقد والسلاسل والأقفال، رميت بها بعيداً في قمامة لا يرتادها البعوض.. شعرت بالراحة فما عادت في عقلي الآن أي رواسب جاهلية، والخوف فضت بكارته أنوار التفاهم.. طرنا معاً، أيدينا متشابكة، قلوبنا متعانقة، كأننا طفلان نتراقص في غفلة من زمان الوجود.. تذكرت أطفال (فيروز) الذين دارت بهم الدار، طرنا عبر العلو وبدأنا رحلة الوخز والقرص والامتصاص، كنت سعيداً جداً و(آخر فل وتمام) لأنني أقرص الناس وأنا بعوض ولم أقرصهم وأنا إنسان.. كنت أختار الضحية، أنظر إليه من جميع الجوانب، أبحث عن أكثر عضو فيه غروراً لأقرصه، كنت أقرص داخل الأنف وأمتص نقطة دم طازجة! كنت أنتزع بعناية نقط الدم من دون أن يلوثها المخاط، وعندما أقرص دائماً أهرب في الوقت المناسب لأجعل أصابعه تذهب في (الفاشوش) بعدها أضحك ملء أوداجي، تمتعت كثيراً واستلذذت أكثر بلعناتهم واتهاماتهم لحماية البيئة بعدم رش الشوارع بالمبيدات، كنت أسمعهم يتحدثون عن الملاريا والكوليرا والسل وإنفلونزا الطيور ويحمّلون الحشرات المسؤولية، وأصرخ فيهم بمزيد من القرص إننا معاشر الحشرات بدأنا نخاف أن نصاب بسبب دمائكم القوّادة الملوثة بالسيدا والحسد والضغينة والشيء الجديد المستفحل الآن، لا أستطيع أن أصفه لكم يا أصلي السابق، إنه مثل تمسّح القطط بالعتبات ولكن تمسّح القطط ناعم ودافئ وشريف بينما تمسّحكم خشن وبليد وقذر إلى حد الوقاحة، حتى نحن سنكوّن جهاز حماية بيئة من أجل رشكم بسماد الصدق، هل تصدقون أنني أصبحت أبحث في تاريخ الضحية التي سأقرصها حتى لا أصاب؟!! حياتي البعوضية جميلة ورائعة وراض عنها تمام الرضى لدرجة تمنيت أن يحشرني الله بعوضة، سأتحمل إثم كل القرصات، ولكن هناك وسوسات تأتيني بين الحين والآخر، عندما كان النحل يرقص في زفافنا قلت لنفسي: لماذا لا أتزوج نحلة حتى تكون حياتي كلها عسل في عسل؟ ولكنني تذكرت حيوان البغل المهجّن من الحصان والحمار، خفت من هذا اللقب فتراجعت.. آسف بعوضتي أعرف أنك غيور ولكنني أخذت منك الأمان ضمنياً في بداية سردي لهذه الملسوعات..
بدأت حياتي الجديدة أقرص بشراسة، والذي يكثر رغاؤه أختار له الأوقات الحميمية جداً لأقرصه في موضع لا يتوقعه ولا تصل إليه أصابعه أبداً. أحدهم كان يحمل في يده قنينة مبيد، والأخرى (نشاشة) سعف، وكان بيته مقفلاً من جميع الجهات ويضع على نوافذه القماش الشفاف، فكرت أن أدخل إلى حصنه وهو الذي يتحدى كل البعوض، قلت لا بد من قرصه ولو ضحيت بحياتي البعوضية هذه، اختبأت له في مكان آمن لا يفتحه أبداً أبداً، أين اختفيت؟ خمنوا ؟ لقد تقرفصت له في محفظة نقوده التي لا باب لها ولا نافذة أيضاً، وبعد أن نام وبدأ شخيره يضج كصرير باب صدئ، تسللت من المحفظة على رؤوس أصابعي وقرصته بكل قوتي الآدمية، قفز عالياً كالممسوس وهرع إلى قنينة المبيد ضخ رشة قصيرة ثم نشها بالنشاشة لتتوزع في أرجاء الغرفة، بينما كنت في تلك الأثناء أعود في استرخاء إلى المحفظة السجن، خرجت في الصباح.. عندما كان في المخبز يهم بإخراج ربع الدينار بيد مرتعشة لسداد ثمن أرغفة الخبز، في المخبز كان الجو حاراً، فطرت عالياً لتقذفني المروحة الطاردة إلى الهواء الطلق.
لم أضرب بأجنحتي كثيراً. سرعان ما وجدتك تعظين الذباب بعدم الوقوف على وجوه الأطفال، وتوبخين نحلة، شارحة لها عدم جدوى امتصاص أزهار صفراء لم تنضج بعد. خفت أن يطول شرحك ووعظك ونحن في شهر العسل وحويصلاتي ممتلئة إلى "الجمام"، فأخذتك من يدك وعانقتك وقبلتك أمام الذباب والنحل والناس، كان عقلي يفكر بوساوس ما بعد الشبع، كنت أفكر كيف أتخلص منك؟ وكيف إن تخلصت منك سأفقد بعوضيتي، فأنا لا أستطيع العيش من دون قرص، ولا أحتمل أن أعود إنساناً مرة أخرى، لا أريد أقداماً أشتري لها جوارب وأحذية ولا جسداً أستره بالكتان، أريد أن أكون هكذا، يكسوني ربي بأعضاء دقيقة لا أخجل منها وجناحين يرفعاني إلى السماء.. آه أحبك يا بعوضتي.. آسف لهذه الوساوس، جسدي بعوضي ولكن نفسي مازال فيها شيء من آدم.
فكرت أيضاً أن أقرص النساء والفتيات ولكن تراجعت.. أعرف أن العفيفات منهن دمهن لذيد وطاهر، ولكن قلة قرصات الحياة لهن تجعل قرصاتي غير ذات معنى.. حلم طويل.. (أطول من ليلة بلا عشاء) سأكمل لك الباقي عندما نصل إلى المستنقع الآسن الذي سنقضي فيه شهر العسل، سنركب على ورقة توت يابسة تطفو بنا وبجانبنا الطحالب الخضراء، ستحملنا الرياح الهادئة نحو العمق، حيث السكينة والهدوء والحب الذي ننشده جميعنا ويؤرّقنا.
والآن مرة أخرى نريد أن نـُكْبٍر نار الغلاء في هذه القاعة بصورة واقعية.. أمامك يا هؤلاء الجمهور الذي يحبنا.. سيشهد الجميع على زواجنا.. سيسعدوننا.. سيبنون معنا سعادتنا طوبة طوبة.. سيتبرعون لنا بالمال والحلي.. وهل أطفال الحجارة أفضل منا في الرجم؟ ارجموا صاحب المسدس بكنادركم.. وامتلأ الركح بالأحذية اللامعة والمتسخة والممزقة.. نسائية رجالية شبابية.. وكان ذلك التعس صاحب المسدس قد شَجّت رأسه فردة كندرة طويلة العنق يابسة البوز جاءته من حيث لا يدري.. وضع أحد الراكعين قبعته على الجرح إلى حين استدعاء الإسعاف.. الجمهور الآن صار حافياً.. لن يغادر المسرح بتاتاً.. طلبت من الراكعين أن يجمعوا كل الأحذية ويخلطوها في برميل صادف وجوده ضمن الديكور.. برميل نفط مكتوب عليه السعر بالدولار الأمريكي.. وعدت إلى صاحبة الجلباب الاسود ذاته، قلت لها اخلعي هذا الجلباب، وأطفأ فني الإضاءة النور وخلعت جلبابها وعندما أضاءه كانت ترتدي فستاناً مورداً، وعندما قلت لها أمام النساء الحاضرات: هل أنت مصابة بقشرة الرأس يا بعوضتي؟ خلعت وشاحها سريعاً ورمته وسقط شعرها مسترسلاً جميلاً على حواشي رقبتها وكتفيها، والآن لابد أن أرقص معك كما في الحلم الماضي.. لا أحب زوجة لا تجيد الرقص.. لكنها المسكينة أحمرّ وجهها وتألقت الوشمة الصغيرة التي بين حاجبيها ففهمت ما تريد.. هي لا تريد الرقص في هذا الواقع المسرحي.. تريد أن تحجّل، وقلت للجمهور الذي معظمه من البدو المتمدنين هيا حوسوا فيها كشك، وعوى أحد الرجال كذئب وزغردت إحدى العجائز زغرودة نغيمة بينما الفتاة شرعت تحجّل وشتاوة صاح بها متحمّس أمسك بطرف عمامته يلويها في الهواء:
"يا ياس انريدوا غير نفس.. نروقوا كيف الناس وبس"..
وفجأة صمت الجميع.. لا أدرى ما حدث.. لكن وكأن التيار الكهربائي انقطع.. الجمهور يحملق في نقطة ما على الركح.. بالضبط في القماشة التي تغطي جدار الركح المقابل.. ركزت معهم.. ثمة شبه ماسورة طويلة ترفع القماشة ومن ثم ترتد إلى الوراء.. قفزت إلى الركح وفور ما أمطتُ الستار مجدداً جذبتها.. إنها عصاة مكنسة يعبث بها المخرج ليشرح للممثلة كيفية طعن الممثل المتقمص دور الرجل الشافط للمجاري عندما يحاول مغازلتها بسماجة.. جذبت المخرج إلى داخل الركح وكان مستغرباً لتصرفي، وصار يلف حول برميل النفط ويخرج منه الأحذية ويعددها ويتعجب ويسأل ما الأمر في صمت فأشير إليه أن يسأل الجمهور، وعندما صار مشدوهاً غمزت اثنين من الممثلين مشيراً إلى حذائه فأوقعوه أرضاً ونزعوا حذاءه وأيضاً جوربه ورموهما في البرميل وطلبت منه أن ينزل مع الحفاة أو يركع مع الراكعين فاختار أن يهبط مع الحفاة وهو في قمة الاستغراب، وعندما هبط سرعان ما تردد وصعد مجدداً منبطحاً على أرضية الركح، وأوعزت للفتاة أن تـُحجّل من جديد و أحد الاشخاص أطلق شتاوة جديدة:
"بخت العين رقد من جدّه.. دار فراش ودار مخدّة"..
وبعد شوط طويل من التصفيق الملهب للأكف شتّيت لها:
"صبي يا سمح التهميتا.. يكفينى فيك الـتـبهـيـتا.."
فتوقفت وخرجت من الحلقة.
وصفق الجميع وعادت الفتاة إلى كرسيها، ارتدت جلبابها.. بدت خفيفة وكأنها أزالت كل أحزان الدهر من فوق كاهلها.. توزع ابتساماتها على الحضور، واقترب منها شابان، تركتها وشأنها معهما.. كانت سعيدة جداً وكنت سعيداً وأنا أبتسم لمرح هذا الصنف من النساء.. ابتعدت فرحاً فقد رأيت في الصفوف الآمامية طفلة صغيرة تشير لي بالحضور.. كانت في حضن أمها فاقتربت منها وتناولتها بين ذراعي، وضعتها على مقدمة الركح فجرت إلى ناحية البرميل تلاحق فوهته، لا أدري ماذا تريد، لحقتها ووضعتها داخل البرميل ثم رفعتها وفي يدها حذاء صغير هو حذاؤها، انتعلته وجرت على الركح تلف حول الراكعين والمنبطحين.. أخذت قبعة صاحب المسدس ورمتها إلى داخل البرميل ثم أعادت حذاءها إلى البرميل، وقفزت إلى أسفل الركح تجري ناحية والديها وهي تقهقه، لا أدري ما حكاية هذه الطفلة ولا الهدف من وراء فعلتها، لكن الجمهور كان يستحسن فعلتها ويصفق.. إذن الطفلة على حق.. شعرت أنني دائخ جداً.. ترنحت وكدت أسقط.. سألت هل من طبيب بين الحضور؟ لا أحد أجاب.. الحاج العجوز الذي أخذت منه النفة قال لى انعزّمْلك فأنا فقيه متقاعد.. فرفضت.. ازداد دوخاني.. جريت ناحية الفتاة اتأمل عينيها لتظل صورتها تؤنسني في غيبوبتى.. وأنا أكاد أسقط، نزلت الطفلة من حضن أمها.. خلعت لى حذائي.. صعدت به الركح وعندما رمته في البرميل بدأ وعيي ينتعش وحالتي تستقر وتركيزى يعود وأصرخ لحفاي المزمن.
غمرني إحساس غريب لم أجربه من قبل قط.. حتى في رحلتي البعوضية.. لم أشعر الآن وسط هذا الحشد أنني مؤلف.. أشعر أنني شيء عادي لا أساوي جناح بعوضة، ويا ليتني أساويه فهو يطير على الأقل.. وإذا لاحظ الجمهور حالتي هذه.. صفـقوا لي وابتسموا لي فاكتنفتني نشوة وليدة وقوة لا أشعر أنني أمتلك زمامها.. أعطيت الطفلة المسدس وتنقلت بين الحضور من دون خوف.. الكل يرحب بي ويبتسم ويشركني طعامه وماءه وسجائره.. ظهري للركح ووجهي للجمهور.. والطفلة أراها تجري صوب باب جانبي وتختفي.. استغرقت اتأمل هذه الوجوه.. هذه الحيوات التي أشاهدها.. هذه الأحلام التي تستكتبني عنوة.. أجدها تضيف إلي معاني طازجة.. أحاول أن أجعل لها صدى يعود إليها.. لكن من دون جدوى.. كان هناك مقعد خالٍ في آخر القاعة.. تهالكت عـليه واستغرقت أفكر في كليمنتي أربيب.. وأين هو الآن.. أكيد يكون ميتاً.. لكن أين؟ وهل خلف بعده خلفاً؟ وزوجته سارة.. وابنه موسى.. وأخته للاهم.. وبقية الحياة التي تحيطهم.. كليمنتي.. أين أنت أيها الصديق؟.. أمنحنِِيِ قصيدة واحدة من قريحتك الفذّة.. أغنيها لوليفـتي الجديدة اللطيفة كوندليزا رايس التي أحسّها الآن كحذائي وأحسس نفسي جوربها اللحمي الشفاف والناعم جداً.. جداً جداً.

* * *

كوندليزا رايس تعزف على البيانو.. سمراء جميلة فيما عدا رأسها.. سأزيل رأسها لأرتشف تغريد الأنامل.. داخل صندوق البيانو أسياخ حديدية.. تتعايش في الظلام.. تـُطرَق من الخارج فتـتطارق من الداخل.. الآذان تسمع ما تـنـقشه الأنامل.. الأنامل تضغط الألواح البيضاء والسمراء.. الرأس هي الأمّارة.. والآن.. الآن أزلتُ الرأس من منصّـتها.
أذناي يا أحبائي في قلبي.. سأضع قلب كوندليزا رايس مكان رأسها وأسمع دقـّـات حنون مُـدمّـاة.. أنا أحبُّ السمراوات من دون رأس.. الشفة الغليظة ترهقني في التـقـبـيل.. الأسنان الضخمة تـخـدش شاعرية لساني.. أما الشَّـعر الأكرد فكاشط نعاسي لا محالة.. أحبُّ الحنجرة المرتعـشة بالأنين.. أحبُّ الصدر القائم بذاته.. والسُّـرة المُـنـجَّـمـة الغاطسة في جُـبِّـها.. أحبُّ الساقين المتـيـنـتـين الناعمتين المنتهيتين بقدمين صغيرتين في مداس طري.. أحبُّ كل شيء في السمراء عدا رأسها الناضخ بالبارود الذي لو شمَّ نار هـمِّي لضاع العالم أكثر مما هو ضائع.
ماذا ستـفعل كوندليزا رايس بي؟!.. ستعـتـقـلني أو بالأحرى أعْـتـَـقلُ لها.. جميل جميل.. ستعذبني أو بالأحرى أعذبُ لها.. جميل جميل.. ماذا ستـفعل كوندليزا رايس بي؟! ستـُـقفـّصُني برتقالياً في معتقل غوانتانامو.. جميل جميل.. ماذا ستفعل بي؟!.
ستعلمني بقلبها العزف على البيانو.. ستدفـئـني بحنانها في أمسيات الصقيع.. اضغط هذا الإصبع يا ولد.. صول.. ري.. مي.. فا.. اضغط هنا.. هنا علشان خاطري.. أنا لا أحبّ الضغط.. أخاف من مرض الضغط.. سأرفض الضغط على أي زناد أو زر أو إصبع.. سأتمرّد وأضغط على جبينها الوضاء.. النقي من البثور والغضون وعقد الرجف.. أغضـّـنه بيباسي المستجد.. أموّجه لتتعالى أمواج الود.. أقلع له الشمس بطريقة أجدادنا الليبيين الطيبين.. أفصده بظفري الأغـر لأخرج الغم.. الدم.. الصديد.. والدمع إن وجد.
أطهّره بأناملي النازة بالزيتون.. وأغني له بنور الشمس ودفء القمر: سيكون العالم سعيداً جميلاً من دون رؤوس.. سنزرع الأرض.. ونكتب.. نقرأ.. نرسم.. نعزف.. نرقص نغني..
سنعيش كما الآن بالضبط.. الحضارة كفيلة بمنحنا كل شيء.. الإلكترون وصلنا إليه وتجاوزناه إلى الأدق.. إلى الأفق.. سنـتـضاجع يا حبيبتي من دون قبلات.. السُّرة تـُـقـبّـل السرّة.. وحبلها يلتوي على حبلها باصقاً فيه بلل القطع وأحلام الصراخ.. وكالعادة بعد كل حول تقريباً نـتـنـاجـب.. وكل مـنـجب جديد لابد أن نـمـنـحه بـيانو يعزف عليه كما كوندليزا رايس.. نحبه كما كوندليزا رايس.. نـحـز رأسه دونما تردد.. آهٍ لو أفلتت الرؤوس.. آهٍ لو كبرت واستحالت جردلا.. آهٍ.. ثم آهٍ.. ستعيد لنا الرؤوس.. وآهٍ من الرؤوس العائدة كم هي وقحة ولا تختشي.
ستعزف لنا كوندليزا رايس على البيانو نوبة مألوف أندلسية لنتواشح معاً رائعة أبي الحسن الششتري:
طابت أوقاتي.. واجتمع شملي بذاتي
وأنا مجموع
وفي مرآتي.. نظرت عيني صفاتي
والحجاب مرفوع
وبإثباتي.. صرت فاني في حياتي
ليش نكون ممنوع
زارني بدري.. ورسخ حبّه في صدري
يا أهيل الحي
وعرف قدري.. حين عرفتو صرت بدري
ما يفوتني شي
وبدا فجري.. وانطوى شفعي في وتري
يا له من طيْ

ويضع العازفون أعوادهم وبناديرهم ومزاميرهم وأصرف شيخ النوبة إلى الخارج.. أمدد أصابعي لكوندليزا رايس.. تتأملهن.. تمررهن بمسحة خفيفة على الأصابع السوداء والبيضاء.. القصيرة منها والطويلة.. تجرهن بسرعة فيحدث البيانو صوتاً سريعاً متدرج النغمات يرحل به الصدى لا أعرف إلى أين.. لن ألاحقه في هذه المداسة.. حتماً سيرجع لي.. أتأمل وجه كوندليزتي.. تبتسم عيناها.. وتبوح أسنانها.. أنت فزّانية.. أجدادك هُجِّروا إلى أمريكا واحتفظوا بدمائهم السوداء.. حملوا طبول ومزامير أفريقيا إلى العالم الجديد أو المغتصب حسب الأيديولوجية السائدة، وغرسوها في أرض سمعك ورنين ذكراك المهتـز.. ها أنت تعزفين لحننا الأندلسي المتمايل نصفه العلوي في اتجاهين فقط.. غناء شرقي.. موسيقا غربية.. قلب إنساني.. لا نشاز.. حتى أن شيخ الفرقة انتابته الديمقراطية الموسيقية فصار يعصّد الفرقة بآلة العود.. وأحياناً أخرى يقفز ويتناول الجيتار رادحاً بكسوته العربية كما إلفيس بن برسلي ومايكل بن جاكسون.. كوندليزا تعزف على البيانو الكهربائي.. خيطه غاطس في بئر طاقة مباشرة.. يحول دفقات النفط إلى موسيقا تشتعل.. يصخب مغيبا البزق والعود وحتى القانون.. الكل يبتسم لها فتبتسم وتتأمل الوجود وتغـني معنا من اليسار إلى اليمين:
Taabt .. Aowkaty
Wagtamaa .. shamly be thate
Wa ana magmooa

ويتجدد المالوف ونحن نترك لهجتنا الليبية ونواكب لسانها مبتلع الحروف والكلمات.. فيعيش الموشح لحناً آخر.. في تاريخه ما عاشه قط.. زرياب يطل ويبتسم.. وإبراهيم الموصلي يقهقه.. نحن سعداء.. مزجنا الغرب بالشرق في سلام فني.. نغـني معاً.. أنا أحب كوندليزا رايس.. فتاة لطيفة ظريفة.. سمراء رشيقة.. تعزف على البيانو وليس على النكد.. كل المستحيلات تلاشت.. والذائقة في داخلها لعبت فيها الموسيقا.. ودوزنـتها جيداًَ على سلالم الحبّ والوجع الإنساني المشترك.. لقد كرهت حبيبات بلادي الناقلات شارداتي ووارداتي إلى القوّادين الشفشيـين.. أحبُّ كوندليزا رايس.. السمراء الصادقة.. التي دفأت أصابعي على جمر البيانو.. وخلخلت روحي من مكانها الميت إلى مكان حي.. أزعم أنني ارتحت فيه.. قلت لها هاتي كفيك أيتها السميراء.. فناولتنيهما.. وضعتهما على لطوم خدي وبكيت.
قالت لي: هكذا حـنـّـيْـتَـنِي بالدمع..
قلت لها: دمعي طاهر دافئ، وحملتها إلى أمي فنقشت لها في كل كفٍّ أيقونة تانيت.

* * *

أنا أحبُّ الشاعر اليهودي كليمنتي أربيب الذي ربما لن ألتقيه أبداً، وأحبُّ أيضا الشاعر الليبي الصيد الرقيعي الذي التقيته في مجلة المؤتمر بطرابلس مرتين.. وثالثة في الرابطة الأدبية.. ورابعة في بنغازي إبان مهرجان المدينة السادس 2005م.. وخامسة وسادسة وسابعة في الأحلام وفي الإلهام.. أحبه لأنه وجه ذاهل.. حاجباه كثيفان كما سراب أسود ينمو في الصقيع.. عيناه تبعثان دفئاً حزيناً لذيذاً به رائحة كرائحة تحميص الكاكاوية (الفول السوداني).. ابتسامته كما الهدوء وكلماته كما التواشيح الكريمة الفائحة بالعبير.. أحبّه لأنه يقرأني بحب ويفهمني بعمق ويطلب كتبي بإلحاح، وحتى الآن للأسف لم أهده أي كتاب.. فمثله في الكتاب.. والهدية صغيرة لمن كان وجدانه في المتن.. هو يحب فاتنة الجبل سالمة.. وكتب عن عينيها ديوان شعر.. وعن قلبها معلـقة منشورة في جرائد النور.. وأنا أحب كوندليزا رايس وبدأت أكتب عنها الآن رواية.. وسأكتب هذه الرواية جيدا لأن بها كوندليزا رايس.. السمراء الدافئة تحب الأصفر الدافئ.. دفء لوني يموج في جنان البهاء.. أحب كوندليزا الصريحة.. الحازمة.. نفحة السكينة ونبراس الهدوء.. سالمة بالنسبة له إيقونة وجود وكوندليزا بالنسبة لي تمرة حِنٍ وجمرة ضياء، الصدق نورها.. لكن لن أستمر في الكتابة الآن.. سأخرج عن السياق المألوف للرواية.. سأترك كليمنتي وهمومه وأفراحه، سأترك الضابط أنطونيو أيضاً والطفل مبروك.. سأترك العالم إليها.. إلى أصابع كوندليزا رايس.. تشكله بقوتها كما تريد.. وتصيغه بموسيقا الجاز والبوب كما يحلو لاهتزازت ساقيها البهيجة.. سأترك سياق السرد الطبيعي.. سأستودع الشخصيات إلى أجل يشبعني.. سأغادر الآن إلى الذكرى التي أريد.. إلى المدينة التي فجّـرتـني.. درنة.. درنة.. سأتغنى بها قليلاً.. وحتى أرتوي.. ومجنون غبي من يرتوي من الغناء.. درنة.. درنة.. سيدة الماء..
ما أروع أن تبحر في رحم كله من الماء..
أساسه صوارٍ..
وسقفه سماء..
جدرانه من المسك والعنبر..
وبابه قمقم ممسوس بمفتاح سليمان..
مملوء بالأصداف والمحار..
زاخر بالياقوت واللآليء..
ممزوج بصخب الأمواج..

أنا الآن على شاطئ بحرها.. سميرتي الدرناوية القديمة تركتني، والنوارس في الأفق تواسيني.. تصبرني بصفق أجنحتها.. ما أمرّ أن تتركك حبيبة حقيقية! لكن آه.. لقد تعودنا على تجرع المرارات حتى صارت المرارت تعتبرنا حلاوة.. كوندليزا تهزهز رأسها وترفع خصلتها من أمام عينها اليسرى.. تحملق إلي هادئة.. آه من كرمشة الجنون بين حاجبيها.. تتأملني ذاهلة من تركي لها في عنفوان الرواية.. تتأملني راضية متفهمة جنوني الخلاق.. ها هي ترتق ضعفي بنظرة تجاوز، فـيما رذاذات الأمواج العالية تتغـنى بأنزاف صديقي الصيد الرقيعي الذي يقول لي لا تزعل.. ليس الحبيبات من يجرحن فقط، حتى النوارس أيضاً، وتتسامى الأمواج ويصفعني جنون نعيشها موشوشاً في أذني شعر الرقيعي:
بين الكفوف الحمر …
ضايعْ عبير أهدابي…
وعرقْ الوجوه السمرا…
معابر…
صهيل أبوابي…

شوك المطر والليلْ…
ف قبضة الحلم الخاوي…
ظفرْ الشمع مضمارْ…
وين المرايا تسرحْ…

ما فيه شيْ قريبْ…
ولا فيهْ شيْ غريبْ…
حتى النوارس تجرحْ…

ندوسْ ع السحاب بعيني
وتحت القدمْ…
ميعادْ…
ونواري جدب ليّامْ…
في النبضْ عشبه مرّهْ…
وفي الروحْ فضلةْ زادْ…

ندي الجمر في العرجونْ…
يلامسْ جبينْ الراوي…
جناح الغديرْ قيادْ…
وين الخواطرْ تسرحْ…

مافيه شيْ بعيدْ…
ولافيهْ شيْ جديدْ...
حتى النوارسْ تجرحْ…

مديت السريرهْ نجمْ …
ف كاس الشظايا يصعدْ…
وهزّيت الشواطي غصنْ…
ف شوقْ المراسي يـبعدْ…
منظارْ حيرتي…
محرابْ…
في سفوحْ البصيرهْ يطفحْ…
واقفاص الحضورْ غيابْ…
وين الركايزْ تجنحْ…

مافيه شيْ كبيرْ…
ولافيه شيْ صغيرْ...
حتى النوارسْ تجرحْ…

لم أدرٍ أنّ النوارس تفهم تداعيات حالنا، وأن كوندليزا وجدانها ينزف الملح المغنـَّي الشافي لتلافة أعصابي.. سلكها الأسمر رتقني وأذابني أيضاً على أنغام شعرية.. وإذ هدأت الأمواج منحتني حفنة لوز يتحمص.. قالت لي أدقـقـها في مهراس همك وسفها لقاح صبر سرمدي.. فغرت فاهي وابتسمت أسأل: من أين يا كوندليزتي تعلمتِ كل هذه الوصفات الإبداعية..
غنت لي من اليسار إلى اليمين:
Ana boy men fazzan wa amy khadem(أنا بوي من فزان وأمي خادم)
Wally garaly ma graa leb nadam (واللي جرالي ما جرى لبنادم)
محمد.. أيها الروائي العظيم.. أنا أحبك حباً قوياً جارفاً غير مرتجف.. حباً حقيقياً.. غـنٍ لي من حنين درنة شيئاً يطاق.. درنة مني ولي.. آه لو تدري حكايتي أيها الحبيب.. أنا الجنوبية القادمة للاغتسال بماء شلالها المبارك المقدس على ما أحدس وأظن.. شلال أجدادي العذب.. كل الماء قادم من الجنوب.. غن لي أغاني عن أسطورة سراج وسميرة ونخلتهما المسحورة في الجغبوب.. انثر حروفهما أمامي الآن.. ولا تخف أن يسحرك أبي إن عانقتني.. فأبي ليس بساحر.. وإن فعّله الشيطان فأيقونة جدي الصليب الفضي المدفون تحت تينة أمام كهف بأبي منصور سيبطله.. كل خراء شفشي يحارب الحب مهزوم لا محالة.. ولن يفلح الساحر حيث أتى.. لا تهزهز رأسك أمامي.. وبح بالأساطير..:
في زمن بعيد جداً كان يعيش في الجغبوب أمير جميل شجاع اسمه سراج.. كان يلهب مشاعر العديد من الفتيات.. لكنه كان مغرماً بجنون بساحرة أفريقية اسمها سميرة وهي ابنة ساحر قوي أسمر.. هذا الساحر رفض زواجها من سراج لأنه كان قد وعد بها رجلاً آخر.. لكن الشابين كانا يلتقيان سراً في الصحراء بعيداً عن الأنظار.. وفي أحد الأيام بينما كانا متعانقين فاجأهما والدها الساحر فغضب غضباً شديداً فحوّل الشاب سراج في لحظة العناق مع حبيبته إلى نخلة ملتوية جميلة جداً، وانتظرت سميرة أن يعود حبيبها إلى حاله حتى يئست وذابت دموعاً دافئة تبلل جذوره، وحتى لا تفارق حبيبها تحوّلت إلى بحيرة مالحة يمكن رؤيتها حتى يومنا هذا بالقرب من النخلة الملتوية تلك في واحة الجغبوب.. وفي الليالي المقمرة تمر الرياح خلال القصبات وأمواج البحيرة عازفة ألحان حب شجيّة رائعة.. أنا استمعت إليها فروت لي الرياح هذه القصة.
غنِ لي يا حبيبي أغاني الجدود.. ففي درنة لي بواق من بقاياي.. جدّي الكبير هبط من الأسطول لجلب عرجون موز للقبطان.. فتمّ أسره من السكان المحليين.. الذين كبلوه بحبال الحلفا وسجنوه في بئر جافة لأيام.. وذات صباح أخرِِجَ وعُرِِضَ على فقيه الجامع ليقول فيه كلمته وفق شريعة الإسلام.. ظنوه عبداً آبقاً.. لكن جدي يعرف الهوسا والسواحلية وعدة لهجات افريقية فهم بعضها الفقيه الأندلسي الحاج بوعزّوز.. استحلف جدّي الفقيه بالمسيح وذكـّره بالملك الحبشي المتسامح النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد.. وأبرز له صليباً صغيراً فضياً.. فخيّره بين اعتناق الإسلام أو البقاء على دين المسيح ودفع الجزية.. فاختار دين المسيح ودفع الجزية.. قادوه إلى أحد كهوف حي بومنصور.. كهف كان به رهبان في زمن الإنجيلي مرقس وما بعده.. الصلبان المنقوشة على جدران الكهف مازالت تطل.. أمام الكهف شجرة تين ظليلة.. عاش جدي في الكهف سنوات.. يعمل طباخاً ومترجماً في الميناء والسوق.. في النهار يعمل وفي الليل يتعبّد في كهفه.. عرفه كل سكان حي بومنصور خاصة الزنوج.. شاركهم أفراحهم وأحزانهم.. ألفته محلات درنة كلها.. يعرفه الكبير والصغير.. الكل يناديه أبوسمرة.. الكل يحبه ويساعده.. وفي الأربعين من عمره اقتنع أن الإسلام والمسيحية واحد.. وأن الإسلام هو الدين الجديد.. نقاشه الديني الطويل مع الفقيه بوعزّوز والشيخ الديباني وانخراطه في متابعة الدروس في فناء مسجد الصحابة وحضوره لحلقات الذكر الصوفية ومشاركته في أعياد المسلمين، كلها أسهمت في تغيير وجهة نظره لصالح الإسلام.. والشيء المؤثر جداً الذي كان سبباً مباشراً في دخوله الإسلام هو معايشته لشهر رمضان بكافة آدابه وطقوسه.. أحب آذان المغرب.. وانتشى كثيراً بآذان الفجر المنعش بشطراته النيّرة..
الله أكبر.. الله أكبر..
أشهد أن لا إله إلا الله..
أشهد أن محمد رسول الله..
حيَّ على الصلاة..
حيَّ على الفلاح..
الصلاة خير من النوم..
الله أكبر.. الله أكبر..
لا إله إلا الله.

كان لا يأكل في النهار.. وعند آذان المغرب يتناول طعامه في فناء الجامع مع المسلمين.. وفي السحور يتسحّر معهم في قصعة واحدة ويشهد الفجر ثم ينام.. دفن الصليب تحت شجرة التين النابتة أمام الكهف وسار إلى أعلى الدرب قاصداً الاغتسال.. عند الشلال التقاها.. تسقي قطيعها الصغير.. عشرة رؤوس ماعز وعشرة رؤوس ضأن وتيس وكبش وكلب صغير وحمار هرم.. زوجها حوّات غرق في بحر خليج البمبة.. لم تنجب منه.. بقيت وحيدة.. رفضت كل أبناء عمومتها من البدو الطامعين في ميراثها البسيط.. كثيراً ما زارت مقبرة الصحابة للترحم على روح زوجها، ورأت أبا سمرة وهو يقدم جرار الماء للزوّار.. وفي مرّة حرس لها قطيعها حتى تمسّحت بقبور الصحابة زهير البلوي والزوّام والفارسي رضي الله عنهم.. هي بدوية من قبيلة العبيدات.. وهو فزّاني هُجّر أجداده إلى أمريكا، وها هو يعود إلى أرض الوطن كطبّاخ مارينز.. استلطفها واستلطفته.. سيكلم عنها الفقيه بوعزوز والشيخ الديباني، علها تقبل به.. دخل الإسلام.. وتسمّى ببلال وختنه فقيه الجامع العتيق.. وبعد شفاء الجرح زفـّت له.. قالت لنساء قبيلتها.. هذا فارس أتى لنصرتنا ودخل ديننا.. منحنا دمه فلماذا لا نمنحه دمنا؟ وعاشا سعداء.. وأنجبا البنين والبنات الخلاسيين اللطفاء.. الكهف حوّره إلى بيت صغير دافئ.. نحت في داخله سدّة للنوم.. تحتها خزانة بباب خشبي صغير.. وجعل للكهف باباً من جذوع النخل.. وفرش الكهف بجلود الصوف والماعز، جعل ركنه الغربي للنوم والجلوس والطبخ وركنه الشرقي مصلى.. كان زواجاً مباركاً ومصاهرة مفيدة خالطته بشيوخ الجبل وبرقة والواحات، ومكنته من تتبع جذوره القديمة الغائصة في طين مرزق وأوباري والقطرون.
عاد الأسطول إلى أمريكا من دونه.. انقطعت أخباره.. حتى جاء يوم في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، وطرق باب شقتنا كهل يهودي ملتح في أذنه قرط طوبي اللون على هيئة حلقة، ويرتدي اللباس الليبي التقليدي المسمى كَاطْ مَلْفْ.. قال لأبي إنه يهودي ليبي ومعي أمانة إليه من شيخ فزاني يسكن كهفاً في درنة.. وسلمه مظروفاً به مخطوط مهترئ.. قرأ فيه أبي ما سردته لك سابقاً أيها الحبيب.. آه ليتني ما كنت مستشارة ووزيرة لكنّا معاً الآن أكتب معك وتعزف معي على البيانو.. وننام في فراش الفراشات.. لكن لا تزعل.. قريباً سأستقيل وأكون مثلك رقماً عادياً في روزنامة التاريخ.. لكن آسفة.. أنت غير عادي.. أنت تكتبني وتجترني إليك بجدارة.. نهداً نهداً ودمعة دمعة..
آه كم أحبك أيها الظريف.. يا ملح حياتي وبهار معناها.
كنت يا محمد آنذاك صغيرة.. عمري أربع سنوات تقريباً.. على ظهر المخطوط رسم باهت لشجرة عائلة تبيّن منه أبي أنَّ جدي من فزان وجدتي من الحبشة.. فصار كل عام يجمعنا في غرفة الجلوس.. يفرد أمامنا خريطة أفريقيا ويحكي لنا عن فزان.. عن بلادنا.. يقدم لنا تمراً ولبن ناقة يجلبه خصيصاً بواسطة البريد السريع من الصحراء الليبية الكبرى.. التمر في طبق سعف نخيل واللبن في وعاء فخـّار.. نأكل ونشرب.. وأبي يحكي لنا عن صحراء ليبيا.. عن مرزق وتازربو وزويلة.. عن غات والقطرون وأوباري وغدامس.. يحكي ويدمع ويطلب منا الرقص على موسيقا أغنيته الأثيرة:
Ana boy men fazzan wa amy khadem (أنا بوي من فزان وأمي خادم)
Wally garaly ma graa leb nadam (واللي جرالي ما جرى لبنادم)
غنِ لي يا محمد عن درنة.. ففيها جدي وأحفاده الذين بالضرورة أن يكونوا في هذا الزمان موجودين.. سأجد الكهف.. و الذريّة.. و الذكريات.. سأجد أسطورتي القديمة في مياه الجغبوب المالحة وأجد حبيبي الذي هو أنت.. وأجد الصليب الفضي الذي دفنه جدّي تحت شجرة تين أمام الكهف.. وأجد جدتي الأصيلة عروس النيل في بر الحبش.. وأجد السعادة التي أريد.. وأجد الوجود الذي أبحث عنه.. الذي ليس تحته أرض.. ولا فوقه سماء.. أنا ريشة سوداء.. فحمة خصب تكتب النماء.. على ورق لم أجده بعد.. آه يا سيدي بومنصور.. يا مبارك.. يا نور واحة جدي وجنته وملاذه.
لا أدري كيف وصل كليمنتي أربيب إلى أمريكا.. وكيف تحصّل على مخطوط عائلة كوندليزا رايس.. وما مصير تاريخه الآن في بداية القرن الواحد والعشرين.. والأهم ما مصير شعره الذي أبدعه.. وهناك في أمريكا هل غنى حنينا لنا أم نسينا؟ وهل بقى في أمريكا أم غادر إلى فلسطين أم عاد إلى ليبيا؟ أم غادر إلى مكان تجهله بداية روايتنا هذه؟ السؤال المهم الآن هو هل غنى حنيناً لنا أم نسينا؟ وآه.. لا أعتقد أنه نسينا ولكن ما تذكرته أنامل الأحلام.
أنا لن أبحث عنه الآن فكوندليزا رايس تريدني أن أغني لها عن درنة.. وعندما أبحث وأغني أجد، وعندما أبحث في خرس لا أجد.. أنا الوتر الصاخب الملموس الممسوس بريح الجنون.. كوندليزا رايس تحب درنة.. تحب شلال الماء عازف موسيقا الهدير.. هذا الشلال العذب الذي التقى عنده جدها بوسمرة وحبيبته البدوية رقيّة.. عند الشلال أوان الأصيل وزقزقة العصافير العائدة إلى أعشاشها في أوج صخبها، قرر بوسمرة أنْ يبُوحْ فقطف وردة قرنفل قدّمها لرقيّة العبيدية محيياً حضورها بطريقة البدو الليبيين الرائعين: asslam ala bant lajwad (السلام على بنت الاجواد) أجابت رقيّة:
سلامك أوصلْ..
وعقلك حصل..
وهات ستين غنّاوة علم..
على صوب العزيز تشل.

وقال لها بوسمرة منيلي يا حسرة ستين غناوة علم.. لدي ثلاث كلمات بس ورد اغطاهن.. فأومأت له رقيّة أن يغني كلماته الثلاث.. فقال بوسمرة ببعض الخجل:
Ya na aly menn) يا نا عليْ منـّكْ).. ويا نا علي كلمة من الدارجة الليبية تعني الإعجاب وفي سياق آخر تعني الألم.. هنا تعني الإعجاب بجمالها والتألم من حبها إن رفضته.
وحدث بعدها ما حدث من دخوله الإسلام والتسمّي ببلال وزواجه منها وإنجابه ذريّة انتشرت في كل بقاع الجبل الأخضر وطبرق وبنغازي.. حدث هذا الزواج بعد حملة إيتون وأحمد باشا على مدينة درنة بخمس سنوات تقريباً أي حوالى عام 1810م.
أبو سمرة هو طبّاخ إسحق هول قائد السفينة أرغوس المشاركة في الحملة على مدينة درنة. بعد احتلال المدينة وهرب والي درنة مصطفى باشا القره مانلي وأسر زعيم المقاومين الليبيين الشيخ محمد ليّاس الكبير، أرسله ربّان أرغوس إسحق هول لجلب بعض الموز من جنان الهنيد القريب من الشاطئ فتمّ أسره والصعود به إلى منطقة بومنصور من قبل أحد الجيوب المتبقيّة، وسردنا بعدها ما كان من أمره.. لم يقدمه شيوخ الجبل للسلطات القره مانلية حتى بعد أن أبرمت أمريكا معاهدة صلح مع يوسف القرمانلي باشا طرابلس، كان من ضمن بنودها تبادل الأسرى فوراً.. فاستلمت أمريكا بموجبها الثلاثمائة وسبعة بحاراً أسرى الفرقاطة فيلادلفيا.. واستلم الباشا أسراه القليلين عند امريكا.. من ضمن هؤلاء الأسرى كان الشيخ محمد لياس الكبير وهو أحد المقاومين للغزو الأمريكي لمدينة درنة.. حارب إيتون وحليفه أحمد باشا حتى أسر وسجن في السفينة أرجوس.. لم تعبأ أمريكا بطبّاخ زنجي.. لم تطالب به الباشا.. و سُجّل مفقوداً.
كان أبوسمرة طباخاً ماهراً مُدبِّراً.. من قليل زادٍ يُشبع أفواها كثيرة.. عندما أسر الشيخ محمد ليّاس الكبير وضع في زنزانة قذرة مظلمة في قاع السفينة.. أبوسمرة هو من يجلب له الطعام.. لا يتبادل معه أية كلمة حسب الأوامر الصارمة من إيتون نفسه.. يمنحه رغيف الخبز وصحن الحساء.. يشير له الحاج بما معناه أريد ماءً.. يقوم أمامه بتمسيح راحتيه وتخليل أصابعه في بعضها كمن يغسل يديه.. يغرف بيديه من وعاء خيالي ويرش على وجهه.. فهم أبوسمرة الأمر وصار يتسلل له في أواخر الليل محضراً له جردل ماء دافئ وبعض ثمار الفاكهة والتمر وعرجون يكنس له به الزنزانة.. ذات ليلة مقمرة زاخرة بالنجوم وجده واقفاً يصلي حِذاء نافذة القمرة الدائرية ويقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم.. والنجم إذا هوى.. ما ضلَّ صاحبكم وما غوى.. وما ينطق عن الهوى.. إن هو إلا وحي يوحى.. علّمه شديد القوى.................... حتى آخر السورة.
فانبهر بالصوت والكلمات العميقة هذه.. لو أنه يفهم العربية لفهم معانيها.. هكذا تمنّى.. بيد أنَّ الآيات استدعت لنفسه المواعظ والحكم التي يروونها عن المسيح.. والتراتيل التي يسمعها في الكنيسة ويقرأها في الإنجيل.. شعر بأن هذا الشيخ قديس صالح.. شيخ مبارك.. يدافع عن أرضه وحريته.. يرفض أنْ يؤخذ رقيقاً يباع في أسواق النخاسة.. صار كل ليلة يحضر إليه.. يهرّب له ما تيسّـر من مؤن وماء ويجلس أمام زنزانته يستمع لتلاوته للقرآن.. كان لا يشعر بأي ضيق.. بل نفسه تنشرح ويكتنفها الاطمئنان.. الموج يهدهد السفينة فيميل معها كما يميل الشيخ أثناء القراءة للأمام والخلف، والنجوم والقمر على صفحة ماء البحر الشاسعة تفعل مثلهما الشيء نفسه.. الموج أيضاً يجرف نفسه دفقات ودفقات لا تعرفه إن كان يبتعد أم يقترب.. الشيخ يقرأ من رأسه عن ظهر قلب.. وعندما يريد الصلاة يفرش حاشية جرده ويصلي.. الكلمات التي حفظها أبو سمرة تلقائياً من كثرة تكرارها أمامه هي:
السلام عليكم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. أستغفر الله.. الخناس الوسواس.. الله أكبر..
عندما ربط قاربه الصغير في نتوء صخري بالشاطئ وتسلل في غبشة الفجر إلى جنان الهنيّد ليقطف بعض عراجين الموز قفز عليه شابان قويّان أسقطا منه السكين وخنقاه بحبل فاستسلم لهما وشدّا وثاقه.. كانا يريدان قتله.. لكن الذي أوقفهما عن فعل ذلك هو ترديده لكلمات..salam alikm.. basm allh alrrahman.. alrahim.. alhamdo lallh..
وعندما نطق بكلمة alkannas alwaswas.. صاح أحد الشابين في صاحبه العن الشيطان يا شليمبو.. رانا ناخذوا رقبته.. بلكي الشويشين مسلم ولا يفهم لغتنا.. ناخذوه للشيخ الديباني يفتي لنا فيه.. خلينا نطمروه في بير ونشيّط النار في الفلوكة.
وهُزمت الحملة وانسحبت السفن إلى البحر وعاد الشيخ محمد ليّاس الكبير من الأسر البحري واستقبل بالأناشيد والزمير والتهليل وضرب الدف.. وغنت الناس فرحة بعودته ورداً على غناء الأعداء التهكمي، ومن الأغاني الطريفة المغناة ذاك الزمن غنّاوة غنتها مغنية أحمد باشا وحليفه الأمريكي إيتون تقول:
بندقهم امغير امحاش.. لا تخاف يا باشا حمد.
أي أن سلاحهم عبارة عن مناجل صغيرة حقيرة فلا تخف منها أيها الباشا أحمد وهاجمهم.. وترد عليها مغنية الفريق المقاوم للغزو:
امحاش يقلعن من الجذر.. شيل شيل يا كافر حمد.
أي إن هذه المحاش قوية ماضية تقلع الأعداء من جذورهم فارحل واحمل أمتعتك يا كافر حمد، وتقصد أحمد باشا الذي اعتبر كافراً لأنه تحالف مع الأمريكان ضد أبناء وطنه ودينه.. وعندما تمَّ أسر الشيخ محمد ليّاس من قبل جيش أحمد باشا وإيتون وتمّ سجنه في السفينة أرغوس في عرض البحر، غنّت مغنية أحمد باشا وحليفه إيتون قائلة:
اللي بيه اتكاموبا.. يا هو خذاه ديموم البحر.
أي البطل الذي تتغنون به وتعتمدون وتتكئون علي قوته وهيبته ها هو أسير في عرض البحر.. وعندما تمَّ الإفراج عن الشيخ محمد لياس الكبير واستقبل على الشاطئ بكل مظاهر الفرح من رقص وغناء وزمير غنت مغنية المقاومين:
عليه يضربن نوبات.. اللي خذاه ديموم البحر.
أي الشيخ الذي أخذ أسيراً إلى السفينة أرغوس في عرض البحر عاد إلى اليابسة معززاً مكرماً منصوراً مستقبلاً بالزغاريد والغناء والزمير والرقص من قبل كل الليبيين الوطنيين الشرفاء.
كان بوسمرة يشاهد موكب النصر هذا.. ويذرف الدمع.. الشيخ محمد لياس لم يره من الزحام وهو لم يتطفل ويقترب أكثر.. لكن بعد عدة أيام التقيا مصادفة قرب مقبرة الصحابة وجهاً لوجه.. صافحه الشيخ وعرفه ودعاه إلى الطعام في مربوعته وأخبر الجمع كيف كان يحضر له الماء الزلال الدافئ ليتوضأ ويصلي أثناء أسره في الباخرة أرغوس، وكيف كان يكنس له الزنزانة بعرجون نظيف.. ومذ تلك اللحظة ارتفع قدره عن ذي قبل وصار كل سكان المدينة يحترمونه ويقدرونه ويتوددون له ويدعونه لأفراحهم وولائمهم.. صار واحداً من المدينة.. والمدينة صارت متوحدة في حبّه.. كوندليزا رايس جدها من ليبيا من فزان من درنة.. درنة المتواجد سيفها القديم في أمريكا.. والمنقوش الآن شعاراً لجنود المارنز.. درنة التاريخ المجيد.. حاملة القيم الإنسانية الراقية.. درنة التي تحبها كوندليزا كما تحبني بالضبط وكما أحب درنة بالضبط.. درنة التي لا نمل الحديث عنها كما لا نمل من شمّ أزهارها وارتشاف مائها الرقراق أبداً.. درنة.. دارنس.. إيراسا.. درنة..
درنة الجميلة المباركة.. مدينة المساجد والمنارات الصوفية.. مدينة الصحابة رضي الله عنهم.. وتقول القصة إنّ مدينة القيروان تعرضت لغزو من الوثنيين.. فأرسل لهم خليفة المسلمين قائده الصحابي زهير بن قيس البلوي في كوكبة كبيرة من رجاله.. هزموا الوثنيين البربر وعادوا إلى المشرق.. في طريق عودتهم تعرضت درنة لغزو من أسطول بيزنطي فهرع زهير وصحبه السبعون إلى نصرتها.. أبلوا البلاء الحسن واستشهد زهير صحبة رفيقيه الصحابيين أبو منصور الفارسي وعبد الله بن بر القيس الملقب بالزوّام مع سبعين من الصحابة الأتقياء رضوان الله عليهم جميعاً.. ففضاء هذه المدينة عمّد بدم الشهداء.. وتلك الرفوات الطاهرة امتزجت بترابه وباركته.. فأنبت الأعطار.. الياسمين.. الفل.. النسرين.. البنفسج.. نوار العشية.. النعناع البرّي.. الورد.. الزهر.. الريحان.. وترددت صيحات الله أكبر في أرجاء المدينة.. تنتقش حفرة على الجبل لتعود إلى البحر.. الموج يرسلها مبللة بالطهارة رذاذاً أبدياً شفاء للمتذكرين.. مسجد الصحابة.. منارة كبيرة للعلم والعبادة.. مكتبة إسلامية تحوي عديداً من المخطوطات والكتب القيمة.. مزار يومي.. وصلاة دائمة على أرواح الموتى والمواليد.. عقود القِران تعقد بين أروقته.. وأيضا مجالس الصلح ومآتم التأبين والاحتفالات الدينية والمشاورات فيما ينفع البشر في دنياهم وأخراهم.. مازالت أرواح الصحابة تطوف.. منذ العام التاسع والستين هجرية.. عام استشهادهم وفوزهم بجنة الخلد.. أنـّت القيروان تحت وطأة غدر.. صرخت في أذن من طين خصب.. وا زهيراه.. وا زهيراه.. استجاب الزهير.. غرس في رؤوسهم لواءً من نار.. صافحه النور بابتسامة ذات مغزى.. لم يعانق.. نفض يديه.. رفض سيفه أن يجف.. أو ينام في غمده.. وكيف ينام وفولاذه من بدر.. ومقبضه عُمِّد في مؤتة.. قطراته خضراء من نور منعش.. تهفو إلى الجهاد.. تبتسم وترتعش.. فجأة ثار السيف.. انتفض الحصان.. قلب زهير بدأ الرقص.. حزامه سبعون عمامة.. الفراشات تملأ المكان.. الحمام يغـني.. : درنة.. درنة.. درنة..
انطلق الجميع.. خيل.. إبل.. رماح.. سيوف.. في هالات من نور.. دخلوا درنة نهاراً.. عانقتهم بحرارة الدفء.. كان الجو هادئاً.. والبحر لا ينذر بعاصفة.. ونداء الله أكبر يرتفع.. والتمر والعسل واللوز والزيتون والرمان يقدم بركاته الحلوة.. أكلوا.. شربوا.. صلوا.. توزعت بركاتهم على أناس السجية.. استأذنوا في الوداع.. همّوا بالرحيل.. ابتعدوا بأجسادهم عن المضارب المرئية.. الكل يطوي المكان والزمان نحو الله.. في الطريق كانت جداء تتعارك.. حمير قلقة.. بعير رغاؤه تفقع.. حمل عضّ ضرع أمّه.. كلاب تنبح.. قربة تبدد ماؤها.. شمس ضحكت.. وقوس قزح مهتز يقاطع نفسه في السماء.
الفراسة لوت الأعنّة فرجعوا إلى النصرة.. اشتبكوا مع جماجم المعتدين.. سيوف الرحمن انشطرت مئات.. تقطـّع البيزنط.. القبضات تناسخت.. تدفع الطغيان.. خُيّروا فاختاروا.. الأضواء عمّت.. الخيول لم تتحمحم.. وعقدة عنترة فيهم لم تقاتل بشرط.. تضرّج الجميع بالدماء.. كان الألم منعشاً.. والرحيل لذيذاً.. والحياة جديدة.. جديدة.. زُفَّ زهير وصحبه وسط عرق الدراونة الباكي.. وشتلات النعناع والحبق والبردقوش والريحان.. ناحية الصفاء الأبدي.. حيث الجنة.

* * *

شجرة الزيتون قصيرة.. عودها صلب.. زيتها نور.. جذرها رسوخ.. وريقاتها متجاورة.. متقابلة.. ظلها وارف.. عمرها مديد.. مديد..مبروك يمسك العصا.. ملساء.. منزوعة اللحاء.. لامعة.. مُبذرة بالذكريات.. الأشعار.. التواريخ.. العلائم.. الرموز.. له على ظهرها قلب حب رسمه في خياله ونقشه إبان تذكـّره لابنة خالته ربيعة.. حبيبته التي يريدها وتريده.. لكليمنتي على جسد العصا عدة خربشات.. بالعبرية والعربية.. له أيضاً رسومات وأمارات وخدوش وحروق.
عندما خرجا من المغارة فجراً وجدا نفسيهما على مشارف درنة.. البحر أمامهما والمدينة يمينهما.. انتظرا حتى أشرقت الشمس وتبدد الضباب واتضحت الرؤية.. بيارق الحلفاء ترفرف على المباني القليلة شبه المدمّرة.. جيوش المحور اندحرت إلى الغرب.. دارت عليها الدوائر.. وهكذا هي الحرب.. كالحياة.. سجال مضطرب.. يوم لك وآخر عليك.
اقترب كليمنتي ومبروك بحذر عبر مسارب مطروقة.. دخلا المدينة وولجا سوق الظلام حيث الازدحام.. عبرا ممراً داخل السوق أفضى بهما إلى ساحة وكالة الطرابلسي المبلطة والمظللة بعرائش العنب.. تجوّلا في أرجائها.. ساوما السلع في الحواصل الصغيرة (الدكاكين) المطلة على الفِناء.. وفي مقهى بوشوشة شمال الساحة جلسا يحتسيان القهوة ويلوكان فطيرة محلاة.
الساحة مزدحمة بالمارة.. والمقهى أيضاً مكتظ.. الناس فرحون.. وصاحب المقهى سي إبراهيم يحث النادل على سرعة جلب الطلبات للزبائن.. ويرفع من صوت المذياع.. الزبائن يرهفون ويخفضون اللغط.. ومع الاستماع يصيحون ويهتفون لانتصارات الحلفاء المتتالية على قوّات المحور.
بعد أن أتمّا شرب القهوة خرجا يتجوّلان في الشوارع والأزقة والساحات.. دلفا إلى ساحة وكالة الحصادي.. تجوّلا في حواصلها.. دكان صغير في صدارته يجلس شيخ كفيف نظيف الثياب أنيقها.. يقرض الشعر لعدة جلاس حوله.. شعر باللغة العربية الفصحى يتغنى بمدينة درنة..:
وضع درنــة جنتـــان.. عــن يميــن وشــمـال
فيهمـــا نضـاختـــان.. شـبه عدن في الجمـال
تحتها الأنهار تجري.. دار من يُجزي بأجــر
ولهـذا عــــز هجـري.. ربعهــا في كـل حـال
بلـدة تــزهــو مهابـة.. بسـنا نور الصحابـة

سألا واقفاً جنب الباب عن هذا الشاعر فاستغرب أول الأمر ثم أجاب متعرفوشي وإلا تستعبطوا؟ إنه الحيروش يا عرب.. أي الأحرش.. شاعر درنة محمد بن عبدالقادر الحصادي.. همّا بالولوج إلى الداخل والتعرف إليه خاصة أنّ كليمنتي شاعر.. تقدما خطوة إلى داخل الدكان.. لكن تراجعا.. ثمة مجموعة جنود أستراليين دخلوا الساحة محدثين صخباً وهرجاً، جمعوا الناس حولهم وانفضت جلسة الشعر فغادر مبروك وكليمنتي الساحة متجنبين المشاكل التي قد يحدثها هؤلاء الجنود السكارى المنتشون بالنصر.
عَبَراَ سوق الظلام إلى شارع السور.. ابتعدا شرقاً عبر جسر يجتاز الوادي.. وصلا شارع البحر وعرجا منه إلى شارع البساتين المسقوف بزنّور تتشابك فيه عرائش لبلاب وعنب.. تجوّلا في الزنقات القريبة.. وعادا مجدداً عبر الجسر إلى الزنقة المنبثقة من سوق الظلام.. وقفاً طويلاً في زنقة اليهود.. الكنيس متصدع من جرّاء القصف.. البيوت الطينية والحجرية الواطئة شبه خرابات.. الدكاكين كلها مقفلة ومنها المهدم.. الجالية اليهودية هُجِّرت إلى مكان غير معلوم.. يقولون الصحراء أو الواحات.. انتظر مبروك كليمنتي أمام الكنيس حتى انتهى من صلواته ومن ثمَّ واصلا السير صوب البحر.. قرب الميناء التقيا بعض الجنود المهندمين الهادئين.. تبادلا معهم التحايا والابتسامات ورجعا إلى الشمال محاذين شارع الوادي.
مبروك من نجع قريب لمنطقة ظهر الحمر.. موطن أجداده الأصلي هو المرج وفرزوغة.. لكنّ أباه كان قد استقر في رحاب أخواله العبيدات قرب درنة.. زار درنة عدّة مرات أيام السوق.. يرافق والده الذي يردفه خلفه على الحصان الخرش.. يعرف الجامع الكبير وسوق الظلام.. وزنقة اليهود.. وزنقة صوّان ودربي ومقبرة الصحابة.. وعلى دراية بدروب محلات بومنصور والمغار والجبيلة.. أمّا محلة البلاد حيث قصر الحاكم والمارستان والأسواق والمقاهي فيخبرها وكأنه ولد وترعرع فيها.
له أقرباء من جهة أمه يملكون دكاكين ومحترفات.. ابن خاله يملك محترفة حدادة بجانب ضريح سيدي علي الوشيش المطل على الضفة الغربية للوادي، بينما ابن خالته يدير سنفازاً صغيراً في شارع الفنار.
منذ شهور وهما يعيشان في الكهوف والأوشاز.. يخرجان منها في عجل وحرص.. يزحفان ويتقدمان متقرفصين بين أشجار الغابة في قلق وخوف خشية كمائن الطليان والبصاصين.. لكن هنا.. في درنة.. مدينة الأمان.. مدينة الصحابة.. فردا قامتيهما.. ومشيا باعتزاز.. يتجولان في اطمئنان.. في رعاية القدر.. وفي رعاية الظروف التي قلبت المعادلة وجعلت جيوش الحلفاء (الإنجليز والفرنسيين والأستراليين والنيوزيلنديين والجنوب أفريقيين واليونانيين والهنود وغيرهم) يحتلون مدينة درنة طاردين منها جحافل المحور.
ها هما يتجولان بارتواء.. يمنحان قامتيهما زوّادة الشموخ.. وأرجلهما اتساعات المدى.. لطالما سارا في وضع الانحناء المتعب.. ها هما يتجولان في حرية.. يتبادلان الابتسامات مع المارة.. يعيشان الوقت في سعادة.. وعندما أذّن الظهر دخل مبروك المسجد العتيق.. توضأ وصلى.. وبعد الصلاة عاد إلى مقهى بوشوشة حيث ينتظره رفيقه كليمنتي أربيب.. خرجا يتجولان من جديد.. الجنود الاستراليون يوزعون مناشير تطمئن السكان وتحثهم على التعاون بالتبليغ عن أي جندي أو سلاح يخص دول المحور.. ويلصقون بعضها على واجهات الدكاكين وعلى أبواب المباني المهمة وعلى السور القديم المتآكل.
كان جنود الحلفاء ودودين.. منحوا مبروك علبة تونة ورغيف خبز.. ومنحوا كليمنتي علبة سجائر ونصف زجاجة خمر.. وتحدّث كليمنتي مع أحد الجنود.. ومن لكنته عرف أنه من أصول عبرية.. تعارفا.. تعانقا طويلاً.. وتمتما بأدعية وصلوات يهودية.. صحبه كليمنتي من يده.. قال له: سنزور التلمود (الزغير)، وانطلقا ومبروك يتبعهما إلى زنقة اليهود القريبة من السوق.. دخلا الكنيس.. وتناول كليمنتي الزغير، قرأ منه وقبّله وقرأ الجندي أيضاً منه.. وأخرج كليمنتي الجراب الجلدي الصغير المعلق في رقبته.. فضّه وعرض محتوياته على الجندي وطفقا يقرآن معاً غائبين في حالة من الإشراق.. خرجا إلى الزنقة يمشيان ببطء ومبروك وراءهما.. أخرج الجندي من جيب معطفه زجاجة خمر قوي، رشفا منها رشفاً طويلاً ثم جلسا تحت نخلة ووجهاهما صوب البحر.. حكى كليمنتي للجندي عن خبره.. قال له أنا مطارد منذ شهور.. مطارد من الطليان والألمان والبصاصين المحليين.. وتجرّع آخر رشفة من زجاجة الخمر مستغرقاً في بكاء.. ووسط البكاء ذكر زوجته سارة وابنه موسى وأخته للاهم وصديقه الشاعر عبد الهادي الذين لا يعلم مصيرهم.. ذكر أيضاً عشيقته ميزونة الحجّالة التي كانت آخر عهده بها عندما ودعته صباحاً قبل أن يؤسر بسويعات.. وانقلب بكاؤه إلى ضحك.. وأخذ مبروك من يده.. جلسا على رمل الشاطئ.. ولحقهما الجندي الذي افترش كاغداً وجلس معهما يستمع لكليمنتي.. كليمنتي يضحك ثم يبكي ثم العكس.. ثم يعود فيخربش بشفتيه كلاماً على أسماع الفضاء وعلى شفاه الموج وألسنة الرذاذ.. يراه الجندي السكران متأرجحاً على حبل متوتر.. طرفه يشده ضحك وطرفه الآخر بكاء.. لا يسأل كليمنتي مبروك.. لا يسأل تماس التاريخ الذي ربطه في بوق البوح.. لا يسأل أياً كان.. لكن ها هو يخربش قدره بلسانه في مراهف محبيه.. بين الضحك والبكاء حائر أنا، كلاهما جميل، فللضحك بداية مبتسمة وللبكاء نهاية هادئة، وبين بهجة الابتسامة ودفء الدمعة ثمة شمعة مضيئة، هذه الشمعة تبعث الضوء للروح والزاد للجسد، أما خيط فتيلها فيتهادى بينهما كقبس في حلك الظلام…
حائر أنا كما قلت بين الضحك والبكاء، كلاهما يتنازع أشلائي. الضحك يغريني بالمرح والبكاء يغريني بالدموع، بقهقهة قوية، انتزعني الضحك وجذبني إليه، ابتسمت مثله فانشرح صدري واتسعت أساريري ورقصت أعماق روحي، وتلألأت بصيرتي، فشعرت بالسعادة الحقيقية. كانت بجانبي الورود والأزهار والظل الوارف والهواء المنعش والشذى والأريج والعسل، شعرت وكأنني في جنة تنقصها حبيبتي.. وعندما لاحت مني التفاتة إلى الناحية الأخرى رأيت البكاء يبكي ويشكو الوحدة، شفني حاله قلت له هل من المعقول أن أتركك تبكي؟ ألا يكفي أنك بكاء؟!
فررت من الضحك.. قطبت جبيني وعبست، تركت أساريري تنكمش وابتساماتي تكشر، لم أترك شيئاً مضيئاً في كياني إلا قناديل عيوني، وومضات قلبي، اتجهت مباشرة إلى رجع البكاء.
كان الضحك يحاول ملاحقتي، يبث في طريقي عدة مُلح وفكاهات وأصابع تدغدغ إبطي، لكن كان تبلدي أقوى. واصلت المسير حتى عانقت البكاء، بكيت معه بلوعة، استلذذت بدموعه وحرقته، ازداد قلبي رأفة ورحمة. ازدادت روحي هدوءًا وسكينة، تألمنا معاً، فرحنا معاً، شعرنا بالهناءة معاً، وعندما تذكرنا الضحك أردنا أنْ نشركه معنا في سرورنا الحزين، وجدناه متوتراً، يعبر عن غيرته بمزيد من القهقهة الهستيرية المجنونة، هرعنا إليه، عانقناه بقوة وحرارة، من عناقنا تصاعد الفنان ليوناردو دافنشي ليرسم كوندليزا رايس بألوان السحاب.. واللعنة على السحاب.. ها هي السماء غيّمت قليلا.. يا إلهي الشمس اختفت.. راحت فيها.. وابتسم كليمنتي لهذا المزاج المناخي ثم استغرق يتمتم، وعيناه في عيني الجندي الذي بدأ يصحو قليلاً، وأحياناً يركز بعمق في عيني مبروك.. يعيد أمواج ضحكه وبكائه.. يصطاد أسماك حزن محشورة بينهما.. يفرحهما بقهقهة غرق.. يغني لهما وفمه في صدى الإسفنج.. بين الضحك والبكاء حائر أنا.. كلاهما جميل.. وانتصب الجندي واقفاً شادّاً قوامه صارخاً في كليمنتي بمودة.. توقف.. ـ والتقط شيئاً صغيراً من الرمل ـ.. يكفينا ضحك وبكاء، سأغني في هذه المحارة التي تظنونها ماتت.. سأغني حكايتي ذات الضوع المبارك، وكشف له عن ذراعه يريه حرقاً حديث الشفاء.
استغرق الجندي يحكي عن أشجار التين.. عن شجيرة اسمها كريميسة قويدر.. شجيرة تين عتيقة على تخوم طبرق.. ظليلة وارفة.. بيد أنها لا تنتج التين.. تينة ذكر.. تلقم باقي الشجيرات رحيق النضوج.. أثناء اجتياحنا يا كليمنتي لطبرق جرحنا.. جيب منسحب من فلول غراسياني أطلق النار على فرقة استطلاعنا المتقدمة.. مات من مات.. وكنت وصديقي من الجرحى.. جرحي بليغ.. مكثت تحت كرموسة قويدر يومين.. بينما رفيقي قدمت له الإسعافات الأولية وغادر إلى الجبهة.. حيث لقي حتفه.
كان الفصل شتاء وخيمة المستشفى الميداني نصبت تحت الشجرة.. أوراقها المبللة برذاذ الفجر أضعها على خدّي.. وجبيني وصدري.. فأشم وأحس شذاها فتنخفض حرارتي.. بعد يومين تحسّنت حالتي فالتحقت بفرقتي الرابضة بمدينة درنة.
وها أنذا حالتي جيدة والحمد لله.. استعدت قواي وعافيتي بواسطة الدواء ولبخات أوراق التين المباركة.. سألت راعياً قرب المنطقة عن هذه الشجرة فقال لي: هذه كرموسة سيدي قويدر الراجل الخيرة.. وأنا كيهودي أسترالي سيدي قويدر هذا لا أعرفه.. لكن قدّر له أن يغرس كرموسة فتشفيني.
ومعلوم أن هذا الجندي الذي مُرِّض تحت كرموسة قويدر قد غادر درنة عندما اجتاحتها جيوش الألمان بقيادة رومل.. وأثناء انسحابه شرقاً لم ينس أن يمر على كرموسة قويدر ويأخذ منها بعض الأغصان.. قطعها بحربة بندقيته وترياً، وعفر مكان القطع بتراب طبرق ثم حفظها في جراب من قماش المشمع وحملها معه إلى أستراليا.
وهناك غرسها ولقم بها بعض أشجار التين الأسترالي.. وكان الثمر الناتج شهياً وذا نكهة مباركة.. وبعد انتهاء الحرب العالمية غرس الأستراليون من هذا الهجين المتوالد أشجاراً على عدد جنودهم الذين شاركوا في قتال جيوش المحور هتلر وموسوليني في جبهة شمال أفريقيا.
وصارت سُنـْـة أن يجتمع كل عام من بقي حياً من هؤلاء الجنود صحبة عائلاتهم وعائلات من فقدوا في الحرب.. ويجنون المحصول ويربّون منه مربّى لذيذا يتناولونه بلذة ويهدون منه للأصدقاء والأحباب.. وعبر مذاقه يتذكرون طعم الحرية.. وطعم الحياة.. وطعم الذكورة النباتية القادمة من تراب السلفيوم من سرة الكون ليبيا.. أرض الحضارات والمنارات.. البلاد التي بها كرموسة قويدر.. مضمدة جراح الدمار بعسل مسالم وعطر فائح يحلق بالحزن إلى عوالم لا شيء بها سوى الابتسامات.
وها أنذا أيها الأخ كليمنتي أجدك مطارداً من شوك جاف.. وها أنذا أجدك وفي يدك عصا زيتون.. وها أنذا أجد الزيتون كما التين.. كما النخيل.. كما الرمان.. كما أنت.. كما هذا الصبي الطيب مبروك.. كما ذاك الشيخ الجليل الأسمر الذي سمعته آن مروري من أمام كهفه يرتل:
بسم الله الرحمن الرحيم
"والتين والزيتون
وطور سنين
وهذا البلد الأمين....."

ولم أتوقف لأستمع إلى بقية السورة.. الشجون غزتني والدموع طفرت غزيرة فابتعدت وفي مخيلتي نقشت آيات كريمة أحالتني إلى حكايات وأخبار، كنت قد قرأت بعضها في كتب اللاهوت والأساطير بإحدى المكتبات الشرقية.. قرأت أنّ بوذا توصّل إلى مرحلة النيرفانة (الإشراق) وهو جالس يتأمل تحت شجرة تين عبقة، ويقال أيضاً بهذا الخصوص إن للتين رائحة عطرة سحرية تقوي الذاكرة وتبئّر التركيز، مما ساعد بوذا في الوصول إلى حالة الخلاص والإشراق والوجد، وفي أحد الكتب وجدت تأويلات وتحليلات وتفسيرات شتى لكثير من نصوص القرآن والإنجيل والتوراة.. من ضمنها الآيات السابقة من سورة التين.. فأحد الكتب يقول إن التين مختص ببوذا أي بالبوذية، والزيتون بعيسى عليه السلام أي بالمسيحية، وطور سنين بموسى عليه السلام أي باليهودية، وهذا البلد الأمين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي بالإسلام.. فالبلد الأمين يعني مكة المكرمة.. وتساءلت آنذاك حول وضع بوذا وديانته البوذية حيث إنها ـ كما هو معروف لدينا ـ ليست ديناً سماوياً فوجدت كثيراً من التفسيرات، منها ما استشهد بآيات القرآن الكريم تتحدث عن الرسل المعروفين وغير المعروفين.. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص.. ومنها ما استشهد بنصوص من العهدين القديم والجديد.
هيا معي أيها المطارد المضطهد.. أيها الشاعر العذب الجميل.. هيا معي إلى الأمان.. سأتحدث بشأنك إلى سيدي الضابط نيكولاس.. فهو قبل أن يكون جندياً باسلاً، شاعر كريم.. بعد ساعتين عاد كليمنتي وقد تغيّرت سحنته.. حليقاً.. ملابس نظيفة.. حذاء جديد.. ساعة يد.. عانق مبروك الذي وجد بعض الصعوبة في التعرف إليه.. ثم حكى له ما حدث.. بعدها وقف كليمنتي وقال بحزن: لا بد أن نفترق الآن.
وصار مبروك يذرف الدموع.. ولمن تتركني يا عمّي كليمنتي؟ أنا يتيم.. أريد أن أبقى معك.. أريد أن تأخذني إلى أمي سارة التي تطعمني المقروض والعسلة.. أريد أن ألعب مع وليدك موسى.. أريد عمتي للاهم تحكي لي الحكايات.. لكن كليمنتي لا يمكن أن يصحبه في ظروف الحرب هذه.. هو الآن تجند في جيش الحلفاء كمترجم.. والعمل العسكري وقت الحرب يكون في أعلى درجات الانضباط.. طمأن مبروك شاداً يده بحرارة.. ما دمت في درنة لن نفترق.. سنلتقي يومياً فور انتهاء عملي.. أنا أيضاً لا أحد لي سواك.. ومنح مبروك العصا.. أمسكها كليمنتي من طرفيها عرضياً ومدّها له، ومبروك تناولها بيده اليمنى وأوقفها بجانبه كبندقية.. قال كليمنتي: حافظ على هذه العصا المدوّنة يا مبروك.. حافظ على عصا السلام والخلاص.. وإن التقيت موسى ذات يوم أو أمه أوعمته فاقرأ لهم منها.. لا تضعها إلا في ماء مالح.. ولا تضعها كلها ـ طرفها السفلي ذا الفرعين الرقيقين فقط ـ ثم تعانقا.. وتعانقا مرة أخرى ببكاء قبل أن يختفي كليمنتي في مبنى الحاكم العسكري القريب من الجامع العتيق وسوق الظلام.
ذهب مبروك إلى ابن خاله الحدّاد.. عرفه فعانقه بحرارة وأدخله باشاً هاشاً إلى داخل المحترف.. ومازحه قائلاً: أين حصانك يا مبروك؟ وهل تريد له نعلاً؟.. فنحن كرماء أبناء كرماء.. وأنشد البيتين المأثورين اللذين قالهما الفتى حبيب ابن زعيم قبيلة العبيدات عند طلبه حذوة لفرسه من أحد الحدادين:
بالصدر ما نقرضوك.. وبالقـفـل نمشوا رضايا
اجعلك كي معطن العد.. اللي يجوك يمشوا روايا

والصدر في لغة الفرسان والعربادجية والحدادين هو نعال للأرجل الأمامية للحصان، والقفل هو نعال للأرجل الخلفية للحصان.. والمعطن معروف هو مورد الماء.
ابتسم مبروك شاكراً ولوّح له بالعصا.. هذه حصاني التي تطير وتغني ولا تمشي.
قدّم ابن الخال قدح لبن وحفنة تمر لمبروك، ووضع برّاد الشاي على كانون فخّار صغير.. واستعلم منه كيف قضى كل تلك الشهور الماضية.. حكى له مبروك كيف هجَّ ليلاً مع من هج.. وكيف انتقل من وادٍ إلى واد ومن كهف إلى كهف هرباً من القصف والغارات المتوالية.. حكى له كيف التقى جار أعمامه في المرج التاجر والشاعر كليمنتي، وكيف استبقاه معه واهتم به حتى وصلا درنة.
أودع مبروك المال القليل الذي أمدّه به كليمنتي لدى ابن خاله وخرج متجولاً في شوارع وأزقة المدينة المدمّرة.. اجتاز الوادي عبر قنطرة الخشب وتجوّل قليلا في أزقة ضفته الشرقية.. وكان الوقت عشية وأمام فندق (سوق) بومنصور للغلال ازدحام بشر حول عدّة غرائر شعير وعدة أكياس أرز ودقيق.. تجنب الزحام يسرع الخطا ليجد نفسه يدخل مقبرة الصحابة.. قرأ الفاتحة على أرواح الموتى.. هو لا يعرف قبر أمه التي اجتاحها الوباء أمّا قبر أبيه الشهيد فيقولون إنه مجهول.. فالطليان عندما يشنقون المجاهدين يدفنونهم سراً لئلا تتحوّل قبورهم إلى منارات تزورها الناس وتستمد منها قوة وصموداً.
جلس أمام روضة الصحابي زهير البلوي رضي الله عنه.. عصاه في حضنه وعيناه صوب امتداد الوادي إلى البحر.. نقش على العصا بسم الله الرحمن الرحيم.. ثم وقف وصعد جنوباً متوغلاً في حي بومنصور.. يقف عند ساقية الماء يغرف براحته غرفات يغسل وجهه.. يرتوي.. ثم يواصل المسير.
البيوت الطينية القديمة تظللها عرائش العنب وتحفها أشجار الرمان والتين والنخيل والزيتون.. الأرض ترابية وأحياناً صخرية مزدانة بشجيرات لوز ظريفة.. يقابل رجالاً مبتسمين ونساءً خجولات صحبة أطفالهن منحدرات عبر مسرب مشاة إلى مقبرة الصحابة.. كان يُحَيّيِ كل من يلاقي متأملاً المكان ومواصلاً المسير وأمام كهف في عتبة الجبل توقف.. وأطلق بصره يرى فم الكهف.. فتحته اللامنتظمة تحفها عريشة لبلاب مشذبة بعناية.. اقترب منه أكثر.. هو كالكهوف التي ارتادها صحبة كليمنتي في أودية الإنجيل ورأس الهلال وعين مارة وغيرها.. أمام الكهف شجرة تين سامقة عبقها يفعم المكان.. متبق بها بعض الثمار الناضجة.. سال لعابه فخرج من الكهف شيخ أسمر رأى مبروكاً واقفاً فرحب به.. مرحباً بالولد الطيب.. تفضّل ادخل.. الزاوية دارك.. تقدّم مبروك وصافح الشيخ بحرارة.. الذي بدوره قاده من يده إلى داخل الكهف المضاء بفتائل زيت زيتون.. أجلسه على نطع صوف وقطف له ثمرات تين غسلهن في الساقية الجارية جنب الكهف وقدمهن له في طبق سعف ملون..: كُلْ باسم الله من شجرة جدي.. التين حلو ولذيذ ومبارك.. أكل مبروك وحمد الله واستأذن ليغادر.. وأراد أن يمنح الشيخ بعض المال فأعاد الشيخ يد مبروك إلى جيبه بحزم.. عيب يا ولدنا الطيب.. إكرام الضيف واجب.. ولماذا أنت مستعجل؟ مازال بدري.. وين ماشي؟ اجلس.. خرّف لجديدك الشيخ عن حالك وأحوالك.. وبالمناسبة أنت لمن بالجودة بلا مصغرة؟
أنا مبروك العرفي.. جدّي المجاهد عيسى الوكواك الذي حارب الطليان ولم ينسحب أو ينهزم أو يهاجر.. حتى غُدِر به واستشهد.
وهلل الشيخ فرحاً وعانقه بقوة.. ومعلوم أنه بعد استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار في 16 ـ 9 ـ 1931م اجتمع زعماء المجاهدين وعلى رأسهم الشيخ يوسف بورحيل والشيخ عبدالحميد العبار والشيخ عصمان الشامي وغيرهم من القادة، وتشاوروا ولم يجدوا أمامهم بعد توقف الإمدادات وزج كافة السكان في المعتقلات الخلائية سوى الاستسلام أو المخاطرة بالهجرة إلى مصر عن طريق اختراق الأسلاك الشائكة المحروسة والاشتباك مع حراسها.
واستسلم من استسلم.. واخترق الأسلاك الشائكة الشيخ المجاهد عبدالحميد العبار مع 130 مقاتلاً بعد معركة شرسة.. واستشهد الشيخ المجاهد يوسف بورحيل المسماري بعد قتال إلى آخر طلقة.. وأسر المجاهد عصمان الشامي قرب عين غزالة.. لكن مجاهداً واحداً هو عيسى الوكواك رفض الاستسلام أو الهجرة وبقي مقاتلا في الجبل الأخضر.. أقلق الطليان وقوّض أمنهم وألحق بهم خسائر فادحة جداً في الأرواح والمعدات.. ظل عيسى الوكواك مجاهداً محارباً حتى اتصل به داود ياشي حاكم المرج عن طريق عدة وجهاء محليين وأمنه على حياته، فدخل المرج بناء على العهد وسلـّم سلاحه.. إلا أن غراسياني الحاكم العام لبرقة غدر به كعادته وأمر بإعدامه.
وأعاد الشيخ الأسمر بنبرة طفولية بين الحماسة والحزن والإجلال كلام مبروك.. أنا مبروك العرفي.. جدّي المجاهد عيسى الوكواك الذي حارب الطليان ولم ينسحب أو ينهزم أو يهاجر.. حتى غُدِر به واستشهد.
وتقدّم مجدداً معانقاً بحرارة ذارفاً الدمع، ومبروك أيضاً لم يحتمل الموقف فأعول خاصة بعد أن قال الشيخ الأسمر جدّك رفيقي أعرفه.. حاربنا معاً في الجبل الأخضر وبرقة وأكلنا مع بعضنا عيشاً وملحاً وكان سي عيسى شجاعاً فارساً فدائياً لا يخاف أبداً.. أول من يلتحم بالعدو وآخر من ينسحب، أو أقول لك لم أره منسحباً في حياتي أبداً.
يا زينك راجل عيسى.. أنت جدك البطل عيسى الوكواك وتريد تمشي.. بعيد السو.. يفتحلك ربي.. وصرخ في جوف الكهف: يا حاجة مرزوقة.. يا حاجة مرزوقة.. عندنا ضيف عزيز وغالي.. اذبحي الديك.. وخرجت من غرفة منحوتة بالكهف امرأة خمسينية.. قمحية البشرة.. ترتدي رداء (مثـقـل) ومتحزمة بحزامية حمراء وفي ذقتها وشمة عريضة مخططة أفقياً كسكة قطار.
صافحت مبروك وقبّلت جبينه وقدّمت له قدح حليب ماعز.. أوقدت النار في حطب البطوم وعندما تجمّر وضعت برمة فخار رمت بها لحم الديك الذي ذبحه الشيخ.
وحكى مبروك للشيخ والحاجة قصته ومغامراته، وبين حين وحين يمر سرب طائرات متوجهاً غرباً يطارد فلول المحور المنسحبة.. رشقات رصاص تسمع واضحة ودوي قنابل وقذائف مدافع يأتينا صداها من البعيد.. وقال الشيخ لمبروك.. هذا الكهف زاوية صوفية.. ابق معنا.. أكمل حفظ القرآن.. تفقه في الدين.. أنت يتيم.. لا أحد لك الآن سوى الله.. والحالة حالة حرب.. ابق معنا يا وليدي مبروك.. جديدتك مرزوقة ستفرح بك.. اللي بينا بيك.. ابق معنا يا مبروك إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومكث مبروك في الزاوية الصوفية.. توقظه الحاجة مرزوقة في الفجر ليؤذن للصلاة.. تقول له ذبحنا لك ديكنا المؤذن.. انهض أذّنْ مكانه نجّاك الله من كل ذبح.. يبتسم.. يشرب جرعة ماء.. يتوضأ.. ثم يؤذن بصوته الرخيم النغيم العذب.. الله أكبر.. إلى آخر الآذان حيث يمط ويطيل الشطرة التي تعجبه وهي :
(الصلاة خير من النوم).
بعد الصلاة يفطر مع الشيخ ما قسّمه ربي.. خبز تنور وزيت زيتون.. أو عصيدة سمن ورب تمر.. حليب.. زميتة.. قليّة.. أي زاد متوافر في الكهف.
بعد الفطور يشرع في حفظ القرآن الكريم مع بقية أولاد المحلة.. تستمر الدروس ما بين قرآن وإملاء وفقه حتى صلاة الظهر.. وبعد العصر يسمّع على الشيخ ما حفظه فيأمره بمحو اللوح بالطفلة اللزبة.. ويكتب له على اللوح بعد أن يجف سورة قرآنية جديدة.. ثم يأمره بإعادة الدواة والقصبة إلى رفٍ خاص منحوت في جدار الكهف.
بعد صلاة الظهر ينحدر من سي منصور إلى شارع الصحابة.. يعبر قنطرة الخشب إلى الضفة الغربية من الوادي حيث محلة البلاد.. يمر على ابن خاله يسحب من ماله إن احتاج.. ويترحم على روح سيدي علي الوشيش الراقدة في سلام.. ثم يدخل سوق الظلام يتبادل السلامات مع تجاره الذين صار يعرفهم، ويلج الممر العريض المفضي إلى ساحة وكالة الطرابلسي.. يجلس في مقهى بوشوشة.. أحياناً يجد كليمنتي قد سبقه وأحياناً يكون هو القادم أولاً.. يلتقي كليمنتي.. يشربان شاياً أخضر بالبردقوش.. يسألان بعضهما عن أحوالهما ثم يخرجان يذرعان الشوارع والأزقة.. وفي ظل نخلة أو في مقهى آخر يستفهم منه عن أخبار عائلته.. وعن صديقه الجندي اليهودي الذي ساعده في الحصول على عمل مع جيش الحلفاء.. يجيب كليمنتي.. صديقي تمام.. رجل يحب الخير.. يعامل الجميع باحترام.. أمّا موسى ابني فلا أخبار عنه.. وأمك سارة وعمتك للأهم مذ سماعي عن رحيلهما مع قبيلة الشيخ بورحيل إلى الدواخل لم أسمع عنهما شيئاً.. لا أدري أين هما يا مبروك.. أعرف أنهما في أمان وفي كنف الشيخ بورحيل لن تحتاجا شيئاً.. لكن أنا قلق.. حزين.. أشعر أن سارة تفكّر فيَّ كثيراً وتبكي، وتتألم لفراقنا وتشتت شمل أسرتنا الصغيرة وجيراننا الطيبين.. علمت أن بيتي في المرج نسفته قذيفة دبابة إيطالية ساعة انسحابهم من المرج.. آه يا مبروك.. آه يا مبروك.. يا رب اجمع شملنا وشمل كل الأحبة..
كانا يلتقيان يومياً.. يحكيان الحديث نفسه.. عن الحياة.. عن الأسرة.. عن الحرب.. عن الحب.. عصا الزيتون في حضن مبروك يقرأ منها الأشعار ويغنيها خاصة بعد أن صلحت لغته العربية قراءة وكتابة بفعل مواظبته على دروس القرآن الكريم والفقه والتصوّف.
الآن يتركان المقهى.. يصلان شارع البحر.. الآن ينظران إلى أعلى.. عريشة العنب في شارع البساتين زاخرة بالزرازير.. زقزقة منغمة تنطلق من أعلى.. تغري بالغناء.. كليمنتي يتجرّع من فياشكة النبيذ ومبروك يدقق في أبيات صغيرة نقشها ذات ليلة مقمرة في فم وشز.. مازال مبروك يذكر ميلاد نقشها عبر أنين يستجدي به كليمنتي السحاب كي لا يحجب ضوء القمر.
صارت الأبيات تستبين لمبروك الآن.. بل صار يشاكس بها كليمنتي ويذكره بزمن كتابتها ناقضاً جروح حبّه من دون رأفة.. كليمنتي يصرخ بعشم.. أرجوك مبروك.. لا تقرأ هذه الأشعار.. إنني أتأثر جداً.. لا تنس أنني شاعر قبل أن أكون إنساناً.
لكن مبروك يستلذ هذا العذاب فيغني له شعره في حبيبته الفاخرية التي صرخت ما إن سمعته قائلة لرفيقاتها عند المعطن: ننحر ناقة بيضاء إن كان هذا الشاعر يهودياً.. اليهودي ما يطلعش من فمه هالخبر بكل.
ذاك الأصيل الناعم ملأت له الفاخرية قربة الماء وسقته قدح لبن بنكهة الحلبة.. ونفحها هو عقد صدف وقنينة عطر بارزيتي.. ثم تفارقا.
كليمنتي الذي انتهى من فياشكة النبيذ يتوسل مبروك أن لا يغني هذا الحنين.. أو يذكره به.. لكن مبروك لا يعبأ بدموعه ويستغرق في الغناء بصوته الرنيم الذي صقله آذان الفجر اليومي وتلاوات القرآن المباركة.. العصافير تزقزق على عريشة العنب وسحابة تظلل الفناء بمرورها الوئيد.. ومبروك يغني من أشعار كليمنتي هذا البوح:
عـرب جارحين العين ما هنـّوهـا..
إن وعيت خفا وإن جاء النوم ايجوها
جرح امصدّد..
كاظم ابغيضه لا دما لا بدّد
وين ما يقولوا عزمها يشدّد
ايجوها على غفلات ويبكّوها

ويبكي كليمنتي فعلاً.. بل يصرخ:
كفاية يا مبروك.. قتلتني وأنا حي.. كويتني.. توقف.. أرجوك.. ارحمني.. حِـن علي خيّك كليمنتي.
لكن مبروك استفحل أمره.. ذاب في وجد لذيذ.. رحل في عباب نغيم فلم يسمع لإنس يستغيث.. صار ملاكاً ينشد الفن ولا يرى عمى الدنيا الصفيق.. لم يعد يسمع استغاثات كليمنتي المترنحة التي مسخها أزيز الطائرات المغيرة ودوي القنابل العنيف.. فيواصل السلام بترانيمه مستأنساً بعصا الذاكرة التي لا تقمع البوح.. عصا الزيتون الفنانة القاهرة المنقوش على كيان عمرها أبيات أخرى لكليمنتي أربيب وغيره.. أبيات أخرى تولد بجدارة.. تفضح حبّه لإحدى فتيات بنغازي العفيفات.. تلك الفتاة الجميلة التي وقع في حبها ذات زيارة لسوقي الجريد والظلام.. هذه الفتاة البنغازية لطيفة الدم خفيفته.. ذات الأصول اليونانية.. التقاها صحبة والدتها البدينة المترهلة تتبضّع من دكان التاجر إبدوسا، فسألته عن أيهما أفضل بصفته تاجراً: اللون الأحمر أم الأبيض لحياكة أثواب العيد لها وللصبية ؟ اختار كليمنتي للأم اللون الأبيض وللصبية الأحمر وطلب من التاجر إبدوسا تخفيض السعر لهما.
الفتاة جميلة.. ناعمة.. محمرة كمشماشة.. هادئة كملائكة.. ابنة عائلة مسلمة من جزيرة كريت اضطرت أسرتها للهجرة إلى ليبيا بعد تحرير اليونان لكريت وتقويض الحكم العثماني لها.
بعض مسلمي الجزيرة تنصّروا وبقوا فيها، والذي احتفظ بدينه الإسلامي، إن كان تركياً قتل، وإن كان يونانياً أرغم على الهجرة.. هذه الفتاة المشماشة تجيد الحياكة.. عندما قطع لها التاجر إبدوسا قطعتي القماش طلبت أن تجلس إلى الماكينة لتكفكف حواشي القماش جهة القطع.. كانت الإبرة المعشقة بالخيط تنقر القماش كمنقار مطر وكانت دقات قلب كليمنتي تنقر الشعر وتجلبه من رق الذاكرة.. لتنقش بعد أمد داخل كهف مقمر على ملاسة ناعمة لعصا زيتون مباركة.. الآن مبروك يغني ما نقش ذاك اليوم وتلك الليلة فيما كليمنتي ينوح.. يبكي.. يستمع برهافة راقصة إلى غناء مبروك:
جوهر يا جوهر من كنـزه
من بـنـغـنـزة
ريم خلا والدته عـنـزه
ويرحل كليمنتي في عَبْرة لا تخنق بينما مبروك يواصل الغناء:
رينا بنت على ماكينا
قبل اغوينا
لكن في الدين تخاطينا
وتأوّه كليمنتي: صدقت يا مبروك.. لكن في الدين تخاطينا.. والحقيقة يا مبروك أن هذا الشعر:
رينا بنت على ماكينا
قبل اغوينا
لكن في الدين تخاطينا

قاله قبلي خيي الشاعر عبد الهادي بونصرالله متغزلاً في أختي للاهم عندما رآها في بيتنا جالسة أمام الماكينة تخيط لي الثياب لأبيعها لجميلات النجوع.. هو لم يترك إسلامه من أجل أختي وأنا لم أترك يهوديتي من أجل الكريتلية المشماشة.. والماكينة تطرز إبرها الواخزة في قلبي وقلبه وفي قلوب الحياة.. أين دين الحب يا ربي؟.. أين الدين الذي يجعلنا نولد هكذا أحرارا ؟.. نعيش كما يعيش فينا الشعر والرقص والغناء.. أين دين الفن؟ أين كتابه؟ ونبيه وملائكته؟..
الذي في قلوبنا شيطانه فقط.
والآن إلى لقاء.. عملي يبدأ بعد نصف ساعة.. لابد أن أغتسل وأستبدل ملابسي.. نلتقي غداً أيها العزيز مبروك.. أين زوجتي سارة؟ ابني موسى؟ أختي للاهم؟ صديقي عبد الهادي؟ أين حجالتي ميزونة والفتاة الكريتلية المشماشة؟ أين؟ ها هم أراهم في العصا.. في الخيال.. في سبورة الألم وجدارية الوجيع.. لكن في الدين تخاطينا.. قبل اغوينا.. رينا بنت على ماكينا.. وآه.. وآه.. وآه.. وآه.. وابتعد منتشياً ضاحكاً في أدب.

* * *

أعيش في طبرق لأربعين حولاً خلت.. أستمع لفرقعات القنابل.. أشم رائحة التين.. البطيخ.. البصل.. التابير.. أنا لست في عام 2005 ولا عام 2000005 ولا عام 2000000005 ولا عام كله أصفار دون خمسة أو اثنين.
أنا في آخر الزمن.. في دقيقة مع السلامة.. الدقيقة التي ستقفل الباب وراءها وتذوب.. آلهة المرور إلى الأمام.. إلى العفن.. إلى النضج.. إلى الطزاجة التي بدايتها عفن ونهايتها عفن.. دقيقة الماء المسفوحة على خدِّ هذا اللغز.. على خدِّ هذه الأحجية الغادرة بالغبار.. الكاشطة لكل لواح يأس.. الغابقة بالحشيش والجوع والضحك والجنون والبركات.
أجلس في طبرق.. أتمشى على شاطئها الآمن.. شاطئها الصخري المشوي.. شاطئها المجوّف بالألم والحزن.. شاطئها المتخم بالمُـغر المنخورة من أبد الملح.
شاطئها الصخري.. منط فتيانها إلى أعماق المزح.. ومصطبة صياديها الهواة والمدمنين.. من فوق صخرها هذا يرمي الصيادون صناراتهم.. يصطادون البوري المتأدب الذي ما عاد يتبرز على الطعم ويهرب.. ففي البحر ظهر نبي جديد.. يدعو إلى عدم الكفر بالنعمة أو التبرز عليها.. نبي جاف كالقلم الجاف.. متى يـبـس أرميه وأقتني غيره.
هذه المقابر التي أزورها يختلف شعوري حيالها عن شعوري لدى زيارة مقابر المسلمين.. في مقابر المسلمين أقرأ سورة الفاتحة.. أبدأ بالحمد وأنتهي بالضالين.. في مقابر النصارى لا أعرف كيف يترحمون بطريقة الإنجيل.. الإنجيل الذي أهْدِيَ لي في مالطا صادرته السلطات في ميناء الشعاب.. قال لي الضابط ذو اللكنة التونسية ممنوع دخول كتُبْ السماء.. كواغد ما تمّاش.. يوك.. أنت لا تحترم القانون.. سأصادر الكتاب والجرائد الملفوفة فيها المزهريات.. كواغد ما تماش.. قلت له ليس مشكلة.. صادر كما ترغب.. غير اطلق عمك بعباته.
خرجت من الميناء بحقيبة ممزقة مبعثرة.. ومن ثـقب بأسفلها يظهر صباطي من صباطي ذي الإصبع البلاستيك.. أعدت ترتيبها على كرسي سيارة الأجرة الخلفي.. أرتب وأدندن بهمهمات غير مفهومة.. سائق الأجرة يظنني سعيداً أغني، وأنا ألعن أبو أم الجمرك والأمن والفتاشة بأنواعهم.. قلت كنت في حالة ترحم فحولتموني إلى حالة لعن.. سحقت العقب في منفضة سجائر السيارة ودفعتها أماماً لتختـفي في الطوار.. عدت إلى حالتي الأولى.. إلى المقابر الطبرقية.. الأموات كثر.. كل ميت يتبع ديناً.. كل دين له طقوس خاصة في الترحم.. في الهند يحرقون الجثث ويذرون رمادها في النهر.. كيف أترحم على موتى الهنود؟ سأسأل السمك.. السمك مشغول.. سأسأل ماء النهر.. ماء النهر مشغول.. السمك يأكل رماد الماضي.. يأكله بنهم ويرقص.. ويجن.. يأكل ولا يرى الصنارات.. يجهل الشراك الساعية إليه من اليابسة.. يابسة الفخ.. غواية الرماد تقوده إلى الموت.. تقوده إلى الحياة.. في الهند لا أعرف كيف يترحمون.. كيف يترحمون أمام أجساد تبدأ رحلة عودتها بالاشتعال.. بمنتهى الدفء.. تصل الجحيم.. الشجر الجاف يشارك الجثة الفناء.. الهواء الذي كان أنفاساً لذيذة يتنفسها الآن معاً.. في الهند لا أعرف كيف يترحمون.. أغرف بيدي من النهر.. قطرات الماء خليط آدمي.. القطرات في يدي انفعالات تبتسم وتكشر.. أزاوج بين التبسم والتكشير.. تساعدني البصمات الباقي بها دفء من مصافحة الحبيبات.. أخلـّلها في بعض كأوراق اللعب.. أقبّل الناتج من التزاوج.. أغرف مرات ومرات.. في كل مرّة أجدّ شيئاً مختلفاً.. أواصل الغرف علّني أجد في يدي إنساناً متكاملاً.. إنساناً واحداً وليس خليطاً.. إنساناً واحداً أسأله كيف أترحم عليه؟ كيف أجلب له الجنة بـنـيّـتي العاشقة للكلمات؟ بنيّتي الشاعرة كحبيبتي.. بنيتي الغارقة في دفء اللقاء واللهفة.. البصمات فراحتي مازالت دافئة.. خالدة كنقوش فزان.. أتحسسها بإبهامي.. أتتبع خطوطها الفريدة.. كل خط يفضي إلى سعادة بعيدة.. إلى خفقة تحتضر في قلبها.. تستلذ بالاحتضار الطويل.. الذي ليس بموت وليس بحياة.. وليس بشيء يمكننا وصفه.. خفقة نعاس لذيذ.. ارتخاء في حضن يحبنا.. غياب في ظلام لا لون له.. انفجار داخل بللور يمطر الفقاقيع ويتدحرج صوب حفرة ليست قبراً.
أغرف الأسئلة من النهر.. أغرف الأجوبة من الموت.. أغرف بيدي بلا توقف.. أغرف حتى ينـزح النهر وتظهر بصمات عظامه.. آه..آه.. إني أبتهج الآن.. أتألم.. أضيع.. أجد تعبي يحيطني.. يطوقني بخدر لا أحس بعده بشيء.. أحاول الانتصاب من جلستي على حافة القبر.. أعجز.. أعجز وكأنني القبر.. القبر يركض بعباءته الترابية بعيداً عني.. لا أدري أي قبر هو.. ولأي دين ينتمي.. لا أدري.. لا أدري.. أعرف قبل أن أغيب أنه ينتمي لدين الموت.. الدين الذي ليس براحته بصمات دافئة ولا باردة.. دين أصلع معتم حديب.. أغرف أغرف.. وأغرف.. يداي تعبتا من الغرف أمّا جسدي فقد ابتلَّ وعوى.
جون برايل جندي إنجليزي أسرته قوات المحور (إيطاليا ألمانيا اليابان) هو الآن في زنزانة بمنطقة البردي وطن قبيلتي الحبّون والقطعان.. أتأمل لوحته المرسومة على الجدار.. هو واللوحة أراهما كائناً واحداً.. لا أدري من منهما رسم الآخر.. من منهما وجِدَ قبل الآخر.. من منهما البيضة ومن منهما الدجاجة.. جون برايل أحْضِرَ إلى المكان.. اللوحة كانت في خياله.. نقشت تشاركه السجن على الجدار.. في الغرفة سجينان.. سجين وسجينة.. في الفن تتغير الأجناس وتتبادل.. لو كان الرسام أنثى لكانت اللوحة ذكر.. أبصارنا أبناء الرؤى.. وبنات المرائي.. رسم اللوحة بألوان بدائية.. نضيدة مذياع حطمها وسحن كربونها حتى استحال كحلاً.. كحل به عيون الجدار.. نثرات الرماد ألصقها بصمغ ارتعاشاته.. قطع حبل السرة من خياله لتطل الأشكال فاغرة البصائر.. مستغربة.. مندهشة.. لماذا أخرجنا هنا.. وألصقنا في هذا المكان.. بكت الأشكال لتركها عنوة جنان الحلم في المخيلة الكائنة جون برايل والمخيلة التي ستكون اللوحة الوليدة..
جون برايل يرسم لوحته غامساً إصبعه في الرماد: فرقة سيمفونية.. راقصات باليه.. مايسترو موسيقا.. نساء عاريات.. متفرجين.. قصاصة جريدة صادرة عام 1942م.. منضدة عليها أعقاب سجائر.. أربع ملاعق.. مثلها شوكات.. أرجل المنضدة عبارة عن روايات تشارلز ديكنز فوق بعضها.. إنجيل صغير كالذي صودر مني في ميناء الشعاب.. رسالة إلى أمه.. إطار في أعلى اللوحة يطل من بورتريه وجه ذاهل يشبه جون برايل.. الإطار مقضّب بأسياخ متداخلة..
كل تلك التفاصيل نقشها على خلفية من جماجم رمادية كربيع الشيب.
في شهر تخالـقا.. وتأملا من الداخل والخارج.. بعد شهر تمّ تحريره وحده ليلقى حتفه بعد أمد قصير في ملطمة العلمين.. وبقيت المخلوقة من دون خالق وبقي الخالق الراحل من دون مخلوقة.. وبقي خيال الحي وخيال الجماد يرسمان في عالم خارج إدراكنا.
عندما كان جون برايل يرسم لم يكن واقفاً ولا جالساً.. كان سابحاً في
الهواء.. سابح داخل زنزانته..
القضبان تردّه..
الجدران تصدّه..
السقف يهدّه..
وآه من أسقف الرماد..
رماد في سواد
ظل في ضوء في بياض
ظلام في هواء
ملح يجلبه نسيم الماء
من الأسفل يأتي الملح
من الأعلى سكّـر العسل
من المنتصف السراب
من لا حيث لا يأتي الحيث

أتأمل اللوحة المرسومة بألوان بدائية وبخدوش من خرائب الضياع.. خدوش غاضبة.. منبعثة من إلهام روحه.. يبدؤها صباحا وينهيها أوان الغروب.
دقات قلبهما فرشاة.. دموعها ماء يبللها.. يطرّيها.. يطزّج روح الحياة فيهما.. الفرشاة في عينيه.. يدغدغها بأهدابه.. يغني بها على الجدار.. يعزف بها ألحان الكوّات والثقوب.. ألحان لا أوتار تنتجها.. ولا حناجر أو فجوات كالتي في الناي تسببها.. ألحان صامتة دامعة.. عابقة بضوع الصعتر والإكليل.. والمريمية وحَب العزيز.. عابقة بغنج البحر وسيلان التين وخصوبة التابير.. ألحان طبرقاوية باقية إلى أبد الأبد.. الغرفة على رأس جبل.. على أعلى نقطة سمو يمكننا تخيلها.. على مرتفع شامخ في منطقة البردي.. بجانبها جامع صغير.. تحتها هاوية.. سطحها ماء.. قاعها محار.. بخار.. بهار.. أسرار.. كل مساء يلصق وجهه بالقضبان.. يتأمل القمر في السماء.. والقمر المنعكس على صفحة الماء.. وفي لحظة يحس بارتعاشها فيعود سريعاً إلى فراشه ويغمض عينيه.. تدخل النسمة الأنثى.. عروس بحر أو جنيّة لا فرق.. تدخل رشفة المعنى الرطبة.. يجسّها.. يكلمها.. لكن لا يراها.. اللوحة تراها فتبتسم بسمة رمادية.. منطقة البردي مشهورة في كل العالم.. خاصة عند السحرة المغاربة والأفارقة واليهود.. يقولون إن سليمان الحكيم يسجن فيها مردة الجن في قماقم.. ويستودع فيها عرائس البحر هبات للعشاق الحقيقيين.. هي جميلة والأميرة براديا التي سميت باسمها المنطقة أجمل.. الأميرة براديا جميلة الجميلات.. أنا أحب براديا.. تشبه في خيالي حبيبتي.. حبيبتي منعشة في هذا القيظ.. أحسها بجانبي وأنا أكتب.. ألتهم من ارتجاف ذقنها وجبة حنان.. براديا منعشة أيضاً أحسها وكأنها طربوش آيس كريم يذوب..
جون برايل سعيد.. مسجون في قمقم حجري.. سيده سليمان.. لكن الآن سيده هتلر وموسوليني.. في الليل يتغذى بالأحاسيس.. تلك الجنيّة تنفث في روحه عمق الفن.. تدلك أصابعه المبدعة.. تمتص حلمتيه.. ترويه قبلاً ودفئاً.. ومع الفجر تغادره.. تغادر مع القمر متدثرة بكساء التماس الفاصل بين الخيط الأبيضاني والأسوداني.. تذوب في شعاع شمس وتغطس إلى حيث لا تدركها المراسيل.. في الليالي الصمّاء التي لا قمر فيها ولا نجوم.. يبكي جون برايل ويناجي أمه.. يكتب لها أمنيات على أوراق الهواء.. يغرسها دفقات.. آهات.. تطير عبر قضبان زنزانته.. يلتهمها ظلام الليل.. ويضيئها وسط بغيتها.
هو يحس بوصولها.. دقات قلبه المتضاعفة تخبره.. يلامس براحته خد أمه.. يمسح دميعاتها الثلجية.. فتتيقن أن جون برايل ابنها قد عاشها الآن.. تعانق كل طفل قريب منها.. وإن لم تجد طفلاً فتمسك أصيص الزهور وتغرس وجهها في ورده.
كانت الجنيّة تغني له أغاني موحية.. تحثه على الإسراع في إكمال اللوحة.. ما تفكر به بثه الآن.. حطم نضيدة مذياع أخرى وسحن كربونها كحلاً.. الكربون فحم محترق.. كحل امتصّه مذياع.. كحل ألم مسحوق بموت.. كلمات المذياع وموسيقاه ضاعت.. دخلت الآذان وماتت في النسيان.. قطعة الكربون في النضيدة بقيت.. كحل يلتصق في بعض ويتماوج صانعاً أشكالاً جميلة.
عندما كنت صغيراً أجلس مع حبيبتي.. ندق فحمة ونضع مسحوقها فوق طرفي مرايا، ثم نبصق معاً على الفحم ونلصق طرفي المرايا على بعضهما.. نحككهما على بعض معاً.. هي بيد وأنا بيد.. ونبعد الطرفين الزجاجيين.. ونبصر ماذا قرّب الفحم المنسحق لروحينا؟ يا الله.. هكذا تصرخ حبيبتي.. هذا عصفور.. هذه قطرة ندى.. هذه فراشة.. هذه وردة سوداء.. سوداء.
ونعيد الكرّة وعيوننا تلتهمنا.. وفي كل مرة تبصق هي وأبصق أنا.. وتظهر لنا أشكال جميلة نفلسفها بصغرنا الغض.. وفي مرّة عند الأصيل أخرجنا لوحي المرايا بسرعة متلهفين.. فجُرِحْتُ أنا وجُرِحَت هي.. وعلى طول وضعنا الفحم المسحوق فوق لوحي المرايا ولم نبصق عليه لكن خلطناه بنزفنا وحككنا اللوحين.. ويا الله.. ظهرت لنا أشكال بديعة مذهلة.. أجمل من شفق الشمس عند الغروب.. الاحمرار يختلط بالاسمرار.. وزغردت حبيبتي.. كوندليزتي.. انظر.. انظر إلى ذاك المكان أسفل اللوح.. كانت الورود النابتة حمراء.. وسيقانها خضراء غامقة.. ومنذ تلك اللحظة ازدادت جروحنا وما عاد يقنعنا الورد الأسود.
قالت له الجنيّة ارسمني.. فقال لها أحسك ولا أراك.. أعجز عن فتح عيوني.. لا أريد التفريط في حلمي الجميل هذا.. وسألها لمن تشبهين ؟ وما أوصافك..؟.. قالت له.. القمر.. الشمس.. النجوم.. أنا نور لا ملامح له.. دائرة لا تطوقها نفس.. نفس لا تتنفس في غيرها.. ماذا أقول لك؟ ضعي بصقتك بين المرايا.. أحككها وأنظر.. هاك يدي وارسم وسأجيبك وأتابعك كتمسيدة على ذراع حبيب أنهكه الكي والحرمان..
عندما رسم جون برايل فرقة موسيقية قالت له أحسنت أنا النغم فعلاً.. وعندما رسم راقصة باليه قالت له أنا راقصتك، ألا تحس رشاقتي وليونتي في قصبتك؟ وعندما رسم العملات قالت له أنا فعلاً ثمينة.. وأكثر مما يتصوّر العقل والخيال.. شبيك لبيك حبيبتك بين ايديك.. كم تريد ذهباً.. ماساً.. لؤلؤاً.. نفطاً.. وعندما رسم الإنجيل قالت له أنا مؤمنة عذراء بتول لم يطمثـني إنس ولا جان ولكان ما زرت محراب الطهر هذا وأنست وحدتك.. وعندما رسم السيجارة قالت له أنا كيفك ومزاجك ورمادك.. وعندما رسم الأشواك والملاعق قالت له أنا ماؤك وملحك وزادك.. وعندما رسم النسوة العاريات تغشته وانتفضت فيه ولبسته جلداً وعظماً ونخاعاً ومسامات وأحلاماً.. وعندما رسم رسالة إلى أمه ضمّته إليها وقالت أنا حليبك.. أنا توبتك النصوح وبكت بكاءً ليس كبكائنا.. بكاء لذيذاً بنكهة عسل الحنون المر.. بكاء الجن دموعه ليست مالحة.. ليست حلوة.. هو يرتشف شفتيها الآن وهي تخدش شغاف روحه مخلطة رماد اللون.. يرتشف وينتعش.. لا يحس أنه في حرب شعواء الآن إنما في حانة من حانات لندن.. حبيبته في حضنه.. تمسد على ذراعه المكوي وتخلل أصابعها في شعر رأسه وتوشوشه I love you.
وعندما مسخ القدر اللوحة بزنجير الجماجم الرمادية طارت الجنيّة واستغرقت في الصلاة.. ما إنْ انتهت سألته : شبيك لبيك حبيبتك بين ايديك.. كم تريد من كذا وكذا وكذا؟!
أجابها الصمت فغادرت من خلال القضبان لتبتلعها لجّـة مشاعرنا وتسفيها موجة العودة إلى أعماقها البكر.
ألصق جون برايل وجهه في القضبان.. أشعة الشمس تبزغ.. النسيم العليل يمس زغبه فيقشعرره ويجعله يعطس.. أنفلونزا البشر غير أنفلونزا الجنون.. أنفلونزا الجنون زفرات نار والبشر زفرات ثلج.. النار عرق الحروق.. الثلج عرق الحروق.. التفكير يحرق.. الغياب يحرق.. الحرق يحرق.. أنا في حيرة الآن.. أأحب الشتاء أم الصيف؟ أأحب الزمان المطقس وأرضخ؟ أم أسافر باحثاً عن جدّة الزمان المفتوح ذي الوجه الواحد؟ زمان نظيف أرتدي له ثوباً وحيداً وأزحف بسحابه بين النهود.. أنهل الحليب المرتعش السائح وديان معنى وينابيع جنون.. أنهل الدفء النابض من النعومة التي هزمت الحرير.. لن أحب الشتاء أو الصيف.. سأحب الخريف.. خريف السكر الناشف الذائب ببطء.. خريف الرمان اللزج والبطيخ الممتلئ طراوة والبلح صلب الحلاوة والتمر الحارق مراراتي.. سأحب سكاكر الخريف.. سأحب الشفتين الشقيتين الناشفتين صبراً والعينين الناعستين والخدّين الذابلين والقلب النابض بانتفاض شفيف.. أحب الخريف.. فصل الريح والتغيير والتطهير والإخصاب.. أحب الخريف الذي سأعبر به أو يعبر بي إلى جنة فواكهها خمراً مصفى.
الغرفة على رأس جبل.. على أعلى نقطة في منطقة البردي.. بجانبها جامع، تحتها هاوية، سطحها ماء، جوفها حياة، قاعها محار بخار بهار أسرار.. الغرفة على رأس جبل كأنها عمامة أو طربوش مربع مسقوف.. شجيرات واطئة.. تحفها حشائش جبلية تتسلق جدرانها الخارجية.. الغرفة الآن خاوية.. تملؤني بالذكرى والحنين وتغني بي لأزمة البداية القائلة.. أعيش في طبرق لأربعين حولاً خلت.. أستمع لفرقعات القنابل.. أشم رائحة التين.. البطيخ.. البصل.. التابير.. أنا لست في عام 2005 ولا عام 2000005 ولا عام 2000000005 ولاعام كله أصفار دون خمسة أو اثنين.
أنا في آخر الزمن.. في دقيقة مع السلامة.. الدقيقة التي ستقفل الباب وراءها وتذوب.. آلهة المرور إلى الأمام.. إلى العفن.. إلى النضج.. إلى الطزاجة التي بدايتها عفن ونهايتها عفن.. دقيقة الماء المسفوحة على خدِّ هذا اللغز.. على خدِّ هذه الأحجية الغادرة بالغبار.. الكاشطة لكل لواح يأس.. الغابقة بالحشيش والجوع والضحك والجنون والبركات.. بقعة الكرم والمفارقات والصبر.
أجلس في طبرق.. أتمشى على شاطئها الآمن.. شاطئها الصخري المشوي.. شاطئها المجوّف بالألم والحزن.. شاطئها المتخم بالمُـغر المنخورة من أبد الملح.
شاطئها الصخري.. منط فتيانها إلى أعماق المزح.. ومصطبة صياديها الهواة والمدمنين.. من فوق صخرها هذا يرمي الصيادون صناراتهم.. يصطادون البوري المتأدب الذي ما عاد يتبرز على الطعم ويهرب.. ففي البحر ظهر نبي جديد.. يدعو إلى عدم الكفر بالنعمة أو التبرز عليها.. نبي جاف كالقلم الجاف.. متى يـبـس أرميه وأقتني غيره.
أنا ثمرة التين المجفف المسماة شريح.. أفطر عليها في شهر رمضان المبارك عوضا عن التمر.. ألوكها وأمتص عتاقتها ببطء.. ثم ابتلعها وأعقبها برشفة ماء وآهة امتنان موشاة بانشراح بهيج.
الغرفة الآن خاوية.. مقفلة.. ترى اللوحة من خلال القضبان.. اللوحة سجينة والمشاهد حر.. يتمنى السجن ليلتصق بها.. السجن مهم جداً لخلود اللوحة.. لولا السجن لأوقد الزرّادة النار في الغرفة ولتشوّهت اللوحة بالحروف الأولى لدخاخين الحرب في العصر الحديث..
اللوحة مرسومة بروح النار وحبر النبض ورماد الكربون الفاقد موسيقاه وثرثرته.. في ذرّاته كذبت الآلة الإعلامية كثيراً.. وعبر موجاته روّجت الإشاعات وتغنى جوبلز وتشرشل وموسوليني وكل واقدي النار بأمجاد ثمنها خروج الروح عنوة من أجساد غضة خلقت لتعيش وتبتهج.
أتمسّك بالقضبان الصدئة والمتجددة كل عقد كطبقات الأرض.. أشاهد اللوحة من أسفل إلى أعلى والعكس ومن الجانبين.. أحاول قراءتها.. استشفافها كابتسامة مهجة أو ارتعاشة ذقن مورينا.. أبحث عن مبدعها الأم وسط زنجير الجماجم الرمادية.. أبحث عنه في مقابر الكومونولث الطبرقاوية فأجده في مقابرهم بالعلمين.
عندما رسمها كان لا يعلم أنها ستبقى وهو سيموت، ولكان التصق بها ورفض الحرية.. ورفض الفناء الخارجي وفضل الفناء الداخلي داخل عمود الرماد في النضيدة المسحوقة سفيفاً.. هذه النضائد التي يرسم برمادها مستهلكة لن تحكي قصته مجدداً.. لكن رماد حب محمد الأصفر سوف يحكيها ويؤسطرها وينبضها قلوباً مبهجة ترقص بلا توقف.. لوحته الآن تعيش.. تتقشر سطوحها فتنفث رفاته رماداً يرتق بثورها.. الرياح من العلمين قادمة كل لحظة.. رياح مشبعة بأجداث روحه تتمسح على اللوحة وحيثما وجدت صدعاً ملأته بعسل الزمن الجديد.
لوحته الآن تعيش.. تأكل وتشرب وتتناسل وتنجب وتنمو في مُخيّلات الفنانين.. تنقش حروفاً في الروايات والقصائد.. وألحاناً في الأغاني وشخوصاً في المسرحيات.. وأحلاماً متحققة في مخيلات الأمل.
في كل السجون زنزانات..
في كل زنزانة لوحات أبدعها السجناء
يطمسها الطغاة
بالأقفال.. السياط.. الترميد.. الهدم.. الطلاء.. الكهرباء
لوحات ترسم بالأظافر.. بالبصاق.. بالعطسات..
ترسم بالأحلام.. بالأماني..
لوحات جميلة تنبت في كل سجن
حتى في سجون ذواتنا.. تؤرخ لجحيم اللحظة وجنان العمر.. وتغني لفراديس لن نطولها.
لوحات تشاهدنا وتبكينا.. وتصيح في ريح الرجاء أن تأتينا وتغنينا بحناجر الرماد الطازج أغنيتنا الآملة التي فقدت ذاكرتي بقيتها:
مازالشي فيكي الرجاء ياعيني..
وتجيب العين بالدموع الصامتة كسكون الهزيع الأخير من ليل حظنا.
للتين حكاية وحكاية.. ومن التين يصنع أهل ليبيا خمراً لذيذاً.. خمر بمثابة المال.. يدفعون منه مكوس باتوس وسلالته.. شجرة ذات شذا.. شذا يلهب المشاعر.. يرفع معدلات العشق.. الحشرات تتسافد أسفلها.. الطيور في أعشاش على أغصانها.. العشاق يلتفون مسحورين تحتها.. يُصحّنون زادهم في أوراقها.. كرموسة أقويدر النابتة داخل منخفض.. تراود مخيلتي الآن.. المنخفض جراب كنغر وشجرة التين ابنه النباتي.. في الحرب جعلها الجنود الأستراليون مشفى ميدانياً وعند مغادرتهم حملوا أغصاناً منها إلى أستراليا.. غرسوها هناك ولقموا (لقحوا) منها أشجار تينهم الضخمة لتنتج لهم ثمرة جامحة لذيذة أسموها شمس طبرق.
الشمس مشرقة الآن.. لا سحاب يحجبها.. آذان الظهر ينطلق من الجامع العتيق.. تتردد أصداؤه مترحمةً.. الآذان يملك لغة عامة لا أملكها، يعرف كيف يترحم بكل اللغات.. ترجمان مشاعر يسبر غور مقاصد الراحلين.. ضحايا الحرب العالمية الثانية يصلهم في مقابرهم الست.. ويهيم شفيعاً في مقابر المسلمين.. ويغوص في مدْرس السيارات أمام نزل الجلاء حيث كانت مدفنة اليهود.. الآذان يصل مسامع الموتى.. حتى الطرش يسمعونه بمراهف الروح..
أجلس إلى طاولة على رصيف مقهى الأموي.. المسجد يميني.. الكنيستان المتحولتان إلى مكتبة ومتحف أمامي.. كنيس اليهود خلفي.. الشمس مشرقة على الأرض العارية.. أجلس إلى طاولة على رصيف تظلله شرفة خشبية قديمة مكللة بغرسات فل وورد.. فتيات المدارس والمعاهد تمر.. يتزاحمن على ظلال الرصيف.. مراهقات بدويات ذوات أبدان فائجة.. ملامح ليبية ذات سمرة القمح.. عيون واسعة.. شعر أسود حالك.. خدود نقية يتخللها بعض النمش والأخوال ذات الجمالية.. يثرثرن مع بعض ويبتسمن فتتألق مضاحكهن البيضاء الناصعة.. يسرن بخطوات واثـقة.. يتأملن واجهات الدكاكين، ولا يرددن على مغازلاتنا بالكلام إنما بالنظرات الآسرة المشحونة بالشجا والعشق الطبرقي العميق.
الشمس يشتد سطوعها.. وعبر أشعتها الدافئة تحمل سردنا هذا إلى حيث الفن.. إلى حيث المرايا الملتصقة على لعابنا ودمنا.. تحملنا شرقاً صاعدة بنا مرقاب طبرق الذي هُزِم عنده الطليان ذات يوم.. تصلنا إلى حيث محراب الفن.. إلى غرفة جون برايل ثانية وثالثة ودائماً.. تضعنا الشمس وسط اللوحة الإنسانية الرائعة الناضحة بالأمل والعبر.. تصعد لنا الجنيّة من أعماق بحر البردي.. تستقبلنا بمتعة لا تضاهى.. الجنيّة الجميلة آسرة النفوس.. جدّة المبدعين وساردة الحواديث.. وناقشة الحكايات على أعصاب المغزى.
عندما أغرقت بَحريّة المحور فرقاطة للحلفاء قرب شاطئ البردي.. نجا جنديان أستراليان.. سبحا حتى الخليج الضيق المفضي إلى وادي الراهب.. توغلا في الوادي بحذر واختفيا في الأدغال.. أنفاسهما تلهث.. تستنشق الهواء المنعش المشبّع بعبق الحرمل.. الزريقة.. القزاح.. الصعتر.. القرضاب.. الخبيز.. اللاونطا.. القميلة.. روائح لا حصر لها ينفثها المكان.. روائح عطرة مزفورة من التراب وأبنائه وأحفاده.
المكان عطر.. إذن أمان.. لا خوف.. لا رعب.. لا ألم.. هكذا تتكلم العطور أو هكذا تتكلم زفرات النحل في صدوعه الوفيرة المنفلقة في الجروف والكهوف كرمان ملّ نضجه.
الصدوع فارزة العسل ليس كالصدوع فارزة الصديد..
الصديد صديد.. والقدّيد قدِّيد.. جرح النحل للورد ليس كجرح الإنسان للحم.. العطور.. العطور.. العطور.. العطور ملأت روحي الجنديين اطمئناناً وسكينة.. لكنّ جسديهما خائفان.. يتألمان من الجروح والخدوش والبرد والجوع والمفاجآت.. الجنود الألمان يمشِّطون المنطقة للقبض عليهما واستجوابهما بوسائل الجستابو الذي لا يرحم.. الجنديان يزحفان.. بحذر وعلى بعد نصف كيلو متر شاهدا خيالين جالسين تحت شجرة تين وارفة.. أمامهما قطيع ماعز يلوك الحشائش ويتطاول برشاقة إلى الأوراق الطريّة المتدلية من الشجر.. وقف الخيالان.. تعانقا لدقائق يتبادلان القبل.. ثم افترقا مترنحين.. أحدهما ركب حماره ومضى والآخر تلقف عصاه والتحق بالقطيع يجمعه ويوجهه صوب دغل كثيف الحشائش.. اقترب الجنديان بحذر أكثر وعلى بعد 200 متر تقريباً تبيّن لهما أن هذا الخيال لفتاة ليبية، فاقتربا منها أكثر ملوحين بغصن مورق، والجندي الآخر خلع قميصه الداخلي الأبيض سريعاً يلوّح به للفتاة.. السلوقي أخذ ينبح بصخب ويُقبل ويُدبر نحوهما مكشراً متوعداً متحفزاً.. انتبهت الفتاة للجنديين شبه العاريين المنهكين الجريحين.. ارتعبت حاولت أن تبتعد مهددة بعصاها وخنجرها غير أنهما بدآ يلوحان بالقميص الأبيض المرشوق في الغصن المورق.. يلوحان بإلحاح واستعطاف.. اتجهت نحوهما بحذر في حراسة كلبها السلوقي.. شاهرة خنجرها.. وشادة بهراوتها الطويلة.. تتقدم منهما وفي كل خطوة ترى الأمان في عيونهما، فتخفض العصا وتعيد الخنجر إلى غمده وتربت على ظهر السلوقي الذي أخفض أذنيه وأقفل سجن شفتيه على أنيابه الشرسة.
هي فتاة بدوية اسمها سقاوة.. والسقاوة هي أنثى الصقر.. طائر جارح جميل يمتاز بحدّة البصر.. وقد ورد ذكر هذا الطائر النبيل في العديد من مجاريد الموروث الليبي الشجي:
مرحبتين بعد جيتينا.. ما شمّتي والي فينا
يوم سعيد اللى أنت رينا.. صفي طايحلك بالزين
صفي طايحلك ببهاوة.. ياللي عينك عين سقاوة
مركزها عالي ميلين
مركزها عالي في داره.. ولا طالوه ولا نقارة
وين ما تلحظ طير احبارة.. تسفاه اتجيبا نصين
نصين ونصين اتجيبا.. أنا مدعاي اللي شاقيبا
توصيفك يا عين الذيبة.. ياللى ما كيفك حيين
ياللى ما كيفك لا والي.. يام اعيون اسماح ذبالي
نحكيلك توا عن حالي.. جيتك نشكي مالتكوين
جيتك نشكي مالتكوينا.. ومالياس اللى جار علينا
حتى وين بعيد مشينا.. رابع يوم لفا للعين
رابع يوم لفا والقينا.. في وطن يقولوا بالسينا
قلنالا احميده هنينا.. قال بعدكم حالي شين
قال بعدكم شاين حالي.. فيكمش من عندا غالي
قلنالا ما معانا والي.. مفيت خدم سود زياتين
مفيت خادم سودا غفتها.. واخرى ما نعرف لغتها
لكن والفنا دوتها.. تم خبرنا باليدين

وإلى آخر المجرودة الشجية التي ربما سنعود أو ستعود إلينا مع سمرة كوندليزا رايس وتمبكتو وفزان وقضية الخدم والعبيد والسود الذين سيسودون في العالم بإنسانيتهم وحنطتهم ودمهم الخفيف الأخف من رائحة النسيم على كؤوس البهجات.
لكن سقاوة فعلاً جميلة وما كيفها حيين ولا ميتين ربما.. ذات بنية متينة وقوام ممشوق كلاعبات السباحة.. ونهدان واقفان.. وساقان ممتلئتان وجبين ضاوٍ وشفاه مكتنزة وخدان بلون المشمش في صهد القبلي وبمذاق الخوخ الهابز.. ترعي قطيعها لوحدها.. تفاهما معها بالإشارة وبفراستها عرفت أنهما ليسا إيطاليين.
حلبت لهما قدح لبن كبير وأعطتهما رغيف خبز مجردق وهو ليس خبز تنور.. المجردق أقل سماكة ويُعد بإلصاق العجين على صفيح ساخن.. وألصقت على جروحهما أوراق خروع وتين.
قادتهما إلى كهف الراهب.. خبأتهما فيه ريثما تخبر أهلها.. وكهف الراهب هذا غرفتان فوق بعض منحوتتان في الصخر.. يقال إن راهباً من أتباع القديس مرقس شيدهما ومكث في خلوتهما زاهداً متعبداً بعيداً عن ظلام الرومان ووثنيتهم.
أمر شيخ النجع بعض الشباب بإسعافهما وإطعامهما والتحقق من شخصيتيهما.. وبعد الأكل والراحة قليلاً أجاب الأستراليان عن الأسئلة.. عرفوا أنهما أستراليان فأمروهما بالمكوث في هذا الكهف، وعند الليل سيعودان لأخذهما إلى مكان أكثر أمناً.. بئر جافة في وادي حبون.. وادي المحبة والحنان.. ثدي المياه العذبة المرشوشة عبر أخدود ضيق على خليج صغير.. دائماً الجنيّة تنتظر في هذا الخليج وصول مياه الحب الحلوة.. عصارة نحل وادي حبّون.. تجمعها في أباريق شفافة وتوزعها على عرائس البحر في أعماق العطش.. وإذ تصعد إلى غرفة مأنوسها جون برايل عند منتصف الليل تأخذ رشفة في فمها وتفرغها في فمه فيشتعل ويتطرّى، وأمله الذي يبنيه يجد قوت زمانه ولبن مكانه وصفاء حظه.. يجد نوره المالح المبلل المحصّن ضد فيروسات الظلام.
بقيا في الكهف.. شربا الماء.. اغتسلا من عينه الجوفية الملحقة به.. صليا متوجهين للصليب المنحوت في الصخر، بعدها التصقا إلى بعضهما وناما.. استغرقا في الأحلام.. كلاهما يحلم على حدة.. كلاهما يحلم باطمئنان ولسانه يتلمظ بقايا نكهة حليب الماعز.. الأول حلم أنه في الجنة وماذا يريد؟!.. لبن.. خبز.. فتاة بهيّة خداها بلون نوّار الربيع.. لا ينقص سوى الخمر.. والخمر أمره سهل.. بل إنه يشم الآن عبقات من مريسة الزنوج.. والخمر ليس مشكلة.. فالوادي زاخر بأشجار التوت والتين والرمان واللوز والليمون والنخيل، وحيثما كانت الفاكهة كانت الخمر.. والوادي زاخر بالأشجار العطرية السامقة.. كالخروب.. والصنوبر.. والسدر.. والعرعر.. والسرو.. والكافور.. والبطوم.. هذه جنة الله.. الطيور تغرّد في أذنيه.. زيو.. زيو.. والشياه تصيح ماه ه ه.. والقطط ميو.. ميو.. والضفادع عند العين تنق.. تنق مزغردة لعرس خياله الذي أزف.. والموسيقا تأتيه تنبعث من اللوحة التي يرسمها جون برايل في علـِّيته.. والبارود والقنابل والألعاب النارية تلعلع في سماء ربي وتنزفها.. والشمس تشرق والقمر يبتسم.. والجنيّة ترقص أمامه.. تضع في حضنه أكياس التبر واللؤلؤ والمرجان.. واستغرق في هذا الحلم الجميل رافضاً أن يستيقظ، وليُقبض عليه هكذا على هذه الحالة.. وليُقبَض عليه وهو في جنته، وليَقبِض عليه الألمان والطليان واليابان وكل أبالسة العالم النتن.
والجندي الآخر حلم بالحلم ذاته بيد أنه استيقظ، فقد أحس بشيء غير مألوف.. أنفاس وخرخشة تصل مسامعه.. رائحة خمر تجوس أنفه المدمن.. رأسه مسنود على جدار الغرفة الأولى.. أصوات حركة في الغرفة العلوية.. استراب وتقاوى على خدوشه وجروحه ووقف.. في يده عصا قطعها من شجرة زيتون.. هي العصا ذاتها المرشوق بها غلالة زميله البيضاء التي لوّحا بها لسقاوة.. صعد إلى الطابق الثاني.. في آخر الغرفة آدمي أسمر يرتدي أسمالاً بالية.. وجهه للجدار وظهره للجندي.. رفع الجندي عصاه محترزا وهامسا للأسمر من أنت؟!.. استدار الأسمر رافعاً صليباً أخضر مصنوعاً من أغصان شجيرة لوز وأجاب: أخوك.
تصافحا.. وتحدّثا متعارفين إلى بعضهما.. قال الأسمر الذي هو الضابط المصوعي الهارب من الخدمة في الجيش الإيطالي: في الحرب أنت عدو.. في الدين أنت أخ.. في الحياة أنت أكثر من أخ.. وصلـّب صدره بإشارة الصليب.. قال الجندي الأسترالي وقد تبيّن مذهبه من طريقة تصليبه.. لا فرق بين مرقس ومتـّى.. كلنا أتباع يسوع.. ومعك أشعر بالأمان.. لقد كتب لنا الله حياة جديدة.. فتاة ليبية أنقذتنا وأطعمتنا وآوتنا.. اليوم نحن أحياء وغداً مجهول مصيرنا..
قال الأسمر: كنت ضابطاً إيطالياً وصرت راهباً إنسانياً.. أنا هنا منذ شهر.. أتنقل من كهف إلى كهف.. نفعتني تجربتي في ملاحقة البدو واليهود في كهوف الجبل الأخضر.. تمكنت من العيش والاختفاء عن الأنظار.. أكثر كهوف ليبيا باركها القديس مرقس وأتباعه إبان مقاومتهم للتطرف اليهودي وللوثنية الرومانية.. بثوا فيها حصوناً من أمان وحقولاً من رغيد.. كل كهف تجد قربه ماء تعميد وطعاماً ربّانياً.. أي عشب تأكله مفيد.. وفي الوقت نفسه دواء فعال.. تعال معي.. وأخذه من يده يشرح له خصائص كثير من الأعشاب.. هذا يقاوم الإسهال وهذا لوجع الرأس وهذا لديدان البطن وهذا لوجع الركبتين وهذا لانحباس البول وهذا يا فالح يزيد القدرة الجنسية يجعلك هائجا كتيس ماعز.. وضحكا بخفوت وسكب الأسمر للجندي قدحاً من خمرة الزنوج المريسة كرعه على دفعتين وانتشى سريعاً وتذكر أنثى الصقر الليبية سقاوة التي أنقذته وصاحبه.. لكنه نظر إلى صليب اللوز الأخضر في يد الأسمر وطفر مستغفراً طالباً الاعتراف الفوري.
جلس الأسمر ينصت إلى اعترافاته ويمنحه الغفران والبركة.
قال الراهب الأسمر أنت ابن أصول لا تعض اليد التي أطعمتك.. تصون العفة وترعى ميثاق الشرف.. أراه الأسمر المخبأ المموه بالحشائش في صدع طبيعي أعلى الكهف، بجانبه صدع صغير آخر يشري منه عسل النحل ويرتاده النحل داخلاً وخارجاً.. صدع اختباء وصدع حراسة وغذاء.. هنا أنام ولو أنني لم أخرج لك فلن تكتشفني أبدا وللأسف لا يتسع الصدع إلا لواحد.. إن أردته منحته لك وسرت باحثاً عن مأوى آخر.. لا أرى أي فرق بين روحي الآمنة وروحك القلقة المطاردة.. عانقه الجندي بتأثر ونزلا إلى تحت.. أيقظا الجندي الآخر وتصافحا وتشاركوا في الطعام.. صلوا معا على الرغم من اختلاف المذهب الكاثوليكي والبروتستاني.. لكن للحرب مفارقاتها وظروفها.. صعدوا إلى الطابق الثاني.. أوقدوا نارا صغيرة يتدفأون بها ويتأملون أسفل الوادي حيث سقاوة العائدة إلى النجع بقطيعها الشبعان.
أخبرت أباها بأمر الجنديين ومكانهما الجديد الذي سينقلان إليه في الظلام.. وسألها أبوها: أمتأكدة أنهما ليسا إيطاليين؟.. لقد أخبرني الشباب بذلك.. لكن أحب سماع رأيك أيتها الناجمة.. متأكدة يا أبي وليسا ألمانيين أيضاً.. لم ألحظ في ملابسهم علامة الصليب المعكوف.. وهما يا أبي بيض كالشمع.. كالشمع.
في اليوم الثاني مشطت القوات الألمانية المنطقة وعثرت على آثارهما عند شجرة التين ثم في الكهف.. جمعوا أهل النجع.. طلبوا منهم أن يخبروا عنهما.. هددوهم أولا بالشنق والذبح ثم وعدوهم بالمال والأرز والسكر والسجائر والشاي والقهوة والمعاطف.. لكن شيخ البدو كان شهماً فنص في رعيته ولم يبع الأستراليين المستجيرين بوسخ دنيا.. وتمتم: من استجارك فأجره حتى يبلغ مأمنه.
وزيادة لتحوطات الأمان أمر بتغيير مكانهما مرة أخرى إلى بئر رومانية قديمة منقورة في الصخر أكثر غوراً واتساعاً ومغطاة بطبقة سميكة من الأعشاب والشجيرات القزمة.
صارت سقاوة تتسلل إلى البئر كل ليلة.. تنزل لهما الطعام والماء بالحبل فتسمع منهما كلمات:
thank you my gad
Thank you sister
Thank you Libya
فتنقل تلك الكلمات التي أسمتها غناوي علم النصارى إلى بنت عمتها العاملة في مستوصف به راهبات نصرانيات.. تترجمها لها : يقولون شكرا يا الله وشكرا يا أخواتنا بنات ليبيا الحلوات..
في الليلة التالية أنزلت لهما الزاد والماء وجرة بها لاقبي (خمر النخيل) وانتظرت أن تسمع فسمعت منهما thank you girl فرددتها لهما بلسانها الليبي وتجاوب صداها في أرجاء البئر، وعرفت أن كل الكلام الذي سيقولانه هو كلام شكر ومدح وصداقة فحدثت الألفة على الرغم من انغلاق اللغة.. بادلتهم كلماتهما التي لا تفهمها وبادلاها كلماتها التي لا يفهمانها.. صارا ببغاوات تنضح بالإنسانية.. يقلدانها ويضحكان بحبور.. تقلدهما وتزغرد بخفوت.. وتصفق فيصفقان.. هي تضحك وهما يضحكان والصدى داخل البئر يتحول إلى وجيب فرح متواصل تغنيه لغة الآبار والينابيع.. فوهة البئر الرومانية الضيقة اتسعت واستحضرت ضحكات وارداتها من فتيات الحبّون والقطعان الجميلات.. واستحضرت المواعيد البريئة بين العشاق أبناء العمومة والخؤولة.. بعد هذا الابتهاج المتبادل صارت سقاوة تشاكسهما مازحة بالليبي:
يا نعلي منكم يا البيض لوكان نبرم عليكم اندير فيكم البصر.
ووجد الأستراليان صعوبة في نطق هذا المقطع الطويل خاصة حرف العين، وقبل أن تغادر استغرقها الوجد والانتشاء والهيام وسط النسيم الليلي العليل فما سيطرت على نفسها، وغرست سبابتها في أذنها صادحة بغناوة علم بدوية:
يرجاني وأنا نرجاه عزيز ما مشا نين قالي.
في هذه الأثناء تسمع جلبة آليات فتبتعد سقاوة عن البئر راكضة بعيداً.. ترى أسفل الجبل مفرزة دراجات نارية ألمانية ذات الراكبين تصعد الدرب حثيثاً.. فتبتعد سقاوة سريعاً عن البئر وتتوغل مختفية في الأدغال.. يمر الألمان بدراجاتهم النارية قرب البئر.. يتوقفون.. يضيئون مصابيحهم اليدوية.. يُجَوِّبون حزم ضوئها هنا وهناك.. ومن مكان ليس ببعيد يستمعون إلى نهيق حمار حاد متواصل.. يتجهون صوبه سريعاً.. يقبضون على فتى متكئ تحت شجرة تين.. الفتى اسمه غيث الله.. يسألونه ماذا تفعل هنا؟ وأين الجنديان الأستراليان؟ لا يجيب. يقول لا أعرف. يهددونه بالضرب المبرح والشنق فيكرر لا أدري عن أي جنود.. أنا هنا تحت شجرة التين أنتظر حبيبتي سقاوة.. لقد واعدتها على اللقاء عندما يتوسط القمر السماء.. ينظرون إلى أعلى.. القمر في كبد السماء حقاً كم هو القمر جميل.. كم هي غرفة جون برايل جميلة متألقة.. القمر يغمرها بهالات النور.. جون برايل قابع فيها الآن.. صحبة جنيته الجميلة.. تمسد جسده بأصابعها ذات زغب الجحيم.. تحقنه بدروب تفضي إلى أعصاب أصابعه المنتظرة أشعة الشمس.. الشمس تشرق على الكربون.. جون برايل يغمس أصابعه في الكربون المقدد والمشمس ويبدأ عزف الرماد.
في الحروب دائماً يكثر الشعراء.. ضابط المفرزة الألمانية مثل نيكولاس الأسترالي شاعر أيضاً.. شاعر متحمس لكتابات الشاعر الألماني الكبير جوته، خاصة كتابه الديوان الشرقي.. أخذ يهزهز رأسه مستحسناً كلام العاشق غيث الله.. لكن عنصر الجستابو ذا التقاطيع الجامدة لم يقتنع بهذا التبرير الحالم، فركل غيث الله بعنف ووغر فوهة المسدس في صدغه وصاح أين الجنديان يا كلب الخنازير وإلا جذبت الزناد وانتهينا.. آنذاك صاحت سقاوة لا شعوريا توقفوا.. stop.. stop وخرجت من تحت أكمة كثيفة تركض صوبه وتحتضنه صارخة في المفرزة.. اقتلوني قبل ولد سيدي (عمِّي).. اقتلوني قبل حبيبي.. اقتلوني وسيبو وليد العم غيث الله.
ابتسم الضابط الشاعر وأعاد عنصر الجستابو مسدسه ببطء إلى جرابه وغادرت المفرزة تبحث عن بغيتها في أودية غير ذي شعر.
عند الفجر رفعت سقاوة رواق بيت الشَعر واندست في مرقدها منتشية.. منهكة.. فيما غيث الله شق طريقه بمحاذاة البحر قاصداً نجوع أخواله في شط الشواعر.

* * *
هو من البرج التائه
أنا من دون برج
تسللت إلى الزمن خلسة
لم أجدها
لم تجدني
لم نتواجد أبداً في وجودهم
مثلنا وجوده في كنه الخيال
في الماء النحيل
باكورة الندى
آخورة المدى
هي القدحة
أنا البرق
الذي لم يبرق مستقيماً قط
أكتب الآن في مربوعة الصديق الحاج فريد الزوي بمدينة طبرق. هو لم يحج كبيراً.. حج صغيراً رفقة والديه.. إنسان طيب.. فقير لكنه كريم.. كريم جداً.. يقاسمك ما في جيبه من مال على الرغم من أنه مديون ويسحب مرتبه على الأحمر.. أبوه الحاج محمد كان غنياً.. وعندما رحل إلى ربه ترك لهم ثروة جيدة.. لكن ظروف الحياة وتقلبات السوق وطيبة أبنائه وزوجته الحاجة فاطمة بددت أكثر هذه الثروة.. ضاعت الثروة.. وبقيت الأصالة والإنسانية والصيت الحسن والحب.. فكل الناس تحبهم وكل أهل طبرق يعتزون بمعرفتهم.. فبيتهم يكرم الضيف ويؤوي الغريب ويواسي الحزانى.. ما إن تدخله حتى تتحول إلى إنسان مبتهج سعيد.. الكل يبتسم في وجهك ويخدمك ويلح عليك بالبقاء أطول.. يقولون لك إن إكرام الضيف في عرفنا ليس لثلاثة أيام إنما لدهر طويل.. والبيت بيتك.. تنقل حيث شئت واجلس حيث رغبت.. مااديرش غيبة يا راجل.
أكتب في مربوعة فريد الزوي.. هذا الفريد الذي سماه أبوه فريدا لأنه يحب المطرب فريد الأطرش.. أحضرت لي زوجتي آمال قرطاس كاكاوية.. وأوصيت الأخت رجعة زوجة فريد على براد شاي أخضر على الطريقة المغربية.. براد آتاي.. وآه من آتاي المغرب وحكاياته الجميلة هناك وروحه الحميمية جدا.
أفكر أن أنهي الرواية سريعاً وأسميها كوندليزا رايس كما اقترح الشاعر محمد الكيش في مقالته بصحيفة الجماهيرية عن الفصل الأول منها.. أنهيها وأرتاح.. خاصة في حالة الإفلاس المادي الذي أعيشه الآن.. أنهيها وأعود إلى رباية الذائح بنغازي أو إلى طرابلس حيث حبيبتي الشاعرة التي بدأ بندول حظها المائل يعود إلي.. لكن الكيش لا يفهم في الروايات.. يتذوقها نعم.. الرواية يا كيش ترفض أن تنتهي.. ماذا نفعل لها.. سأدعها براحتها.. برأيها كما يقول الرعاة للمواشي.. ها هي تفترس قدمي بشراسة.. تقودني إلى درنة من جديد.. وإلى الجغبوب وأكاكوس وتاسيلي وتمبكتو حيث العروس الكوندليزية التي ستزفني ابتسامة القدر إليها.. عروس الحلم.. العالم بحذافيره فيها.. الكمال الذي لم يتشقق.. تمبكتو التي بلون الكاكاو.. كوندليستي الليبية وطربي الهامس في أذني بقصيد المواسيق.. تمبكتو العروس التي أحبها.. القصيدة التي أحلم بأن تكتبها لي حبيبتي.. تجترها من أهداب تاسيلي وشاعراتها المهووسات المجنونات بالنغم والإيقاع.. حجي القادم وأغنيتي الخالدة.. تزورني بلهفة وتستقر في كياني بأبد يطول.. أغنيها كما غناها شاعر التاسيلي محمد الشريف:
تأخذني الأشواق إليها
في كل صباح ومساء
جوهرة الصحراء الكبرى
تمبكتو تلك السمراء
أتدفق بين شوارعها
أتنقل بين الأحياء
أعطيها من سحر كلامي
وأردده تحت لثامي
أحلى نشيد
أحلى قصيد
أحلى كلام
أحلى غِناء
قد صارت تسكن ذاكرتي
قد صارت تسكن في شعري
في ألحاني
في أغنيتي
صارت حبي
صارت عشقي
أنغام تسري في جسمي
فني
رسمي
تسكن اسمي
تمبكتو تلك الحسناء
دو ري فا
صول سي لا
أحلى أنغام أحفظها
من ألف النغم إلى الياء
أنغام تمبكتاوية
تطرب آذان الصحراء

سأرحل إلى تمبكتو.. عروس الحلم التي عثرت عليها وسط دمار طبرق.. التقطتها وأصابعي أحرقتها النار.. مكث ظفري القديم ونبت الجديد والأجد.. التقطت العروس الناجية نطفها من قنابل وألغام الحلفاء والمحور.. وصل جدها المجاهد محمد المعتمد العمامي إلى طبرق فاراً من ملاحقة الطليان ومجاهداً في ساحة جديدة من ساحات النضال والشرف..
بعد شهور من بداية الغزو الإيطالي إلى ليبيا 1911م اشترك هذا الجد في معركة المرقب بالخمس، وكان له دور بارز في المعركة حيث قام بتفجير الفنار الرابض على قمة الجبل.. الفنار كاشف المجاهدين المهاجمين تحت جنح الظلام ومرشد سفن الأعداء إلى الميناء المحتل والمحروس جيداً بقوة كبيرة جيدة السلاح.. هاجم الطليان صحبة المجاهدين الشجعان.. انتقل من تبة إلى تبّة.. ومن جرف إلى جرف.. تسلق بواسطة الحبال.. وبمساندة نيران رفاقه المجاهدين.. وعندما صار الفنار في مدى رمايته.. رماه.. (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)..
في معركة المرقب بالخمس اشترك كثير من أجدادنا المجاهدين من أكثر القبائل الليبية.. منهم من قضى نحبه ومنهم من طال به الزمان وخاض معارك أخرى..
بعد اندحار الطليان عن المرقب قرروا الانتقام لقتلاهم ولخسائرهم الجمّة.. وعن طريق الشفشة الذي عاد أربعين عاماً ونيف إلى الوراء عرف الطليان مفجر الفنار.. قال لهم الشفشة فجره مرابط زليطني يضرب البندير من أتباع زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر.. لاحقوه في زليطن فغادر إلى مصراتة.. ثم سرت.. ثم برقة.. لكن العيون الشفشية مازالت تتبعه فابتعد أكثر ليصل طبرق.
المجاهد محمد المعتمد العمامي طامس أنوار الطليان الموقودة بزيت زيتوننا المغتصب.. إنسان طيب عاش في طبرق وتصدى للأعداء الطليان مجددا في معركة الناظورة.. والناظورة ربوة عالية تشرف على ميناء طبرق اتخذها الطليان مرقاباً لمراقبة تحركات المجاهدين حول المدينة.. ما إن وصل طبرق حتى استقبله الأهالي والشيوخ.. دعوه إلى مناسباتهم فأقام لهم حلقات الحضرة والذكر.. كان بارعا في دق البندير ذي الوتر في المنتصف.. يصدر بواسطته إيقاعات شجية يميل معها بدو البطنان ذات اليمين والشمال ويقفزون إلى أعلى وكأنهم شباب صغار.. من كان جالساً يقف ويجدب ومن يتعب يتجرع من قارورة ماء الورد فيتجدد نشاطه.. ووسط الحضرة ترتفع الدعوات للجهاد ولمقاومة الغزاة وطردهم من أرضنا الطاهرة.. وتشتد حمى التبندير والجدب وتستـفيد الأجساد والأرواح زاداً نقياً.. ترتقيان إلى عوالم روحانية محبة.. عوالم كما الجنة والنور.. في المعركة يتقدم الصفوف.. بنديره في يد وسلاحه في اليد الأخرى.. لسانه يلعلع بأهازيج ودعوات حماسية مباركة تصهر المقاتلين وتولدهم لهباً واحداً يقهر الأعداء.. الرصاص يمر من جانب أذنيه ولا يصيبه.. وكلما تعرض إلى موقف فجائي أو مصيبة قادمة صاح: يا سيدي عبد السلام احضر. ويواصل تقدمه ورميه وذوبانه في فعاليات المعركة.
ما زالت أحلامه تذكر روعة قائد المعركة الشيخ الجليل المبري ياسين إذ أصابته طلقة غادرة.. هرع صوبه رفقة بعض المجاهدين ورآه عن كثب وهو يصارع الموت وينزع شنته الحمراء صارخاً في المجاهدين من أبناء قبيلته والقبائل الأخرى: لا تهتموا لأمري.. هاجموا العدو.. أنا حي.. موجود.. باق كتراب هذه البلاد الطاهرة.. كانت لصرخاته مفعول الإيمان.. كل المجاهدين هاجموا العدو بالسكاكين بالبنادق بالمناجل بالحجارة بالقبضات.. رصاص العدو ما عاد يرهبهم.. يحصدهم ولا يهابون.. الشيخ المبري صار طائر جنة يغني لهم وهم يتبعونه بأرواحهم.. كثيرون لحقوه إلى هناك.. إلى الجنة.. حسن الجالي.. محمد اشترته.. سالم بوعجيله.. طاهر بوابريق.. إدريس الحسنوني.. الفقيه المقرحي.. عطيوة.. بوسلوفه.. جبريل عبدالسميع.. طاهر سميع.. حمد الهنيد.. سليمان المنخنسة.. بوبكر بوارحيم.. عبدالكريم بونجم.. ومجموعة نساء زغاريد النصر أذابت أسماءهن في صهير التضحيات.
كل من تقهقر أمام نيران العدو عاد.. أعادته صيحة الإيمان من فم الشيخ المبري الذاكر لله.. نزع شنته ونادى لا تهتموا بأمري.. هاجموا العدو.. ونزع الشنة أثناء الاحتضار وتلقين الشهادتين يجعل الرضيع يقف ويهاجم، فما بالك بفرسان من الجنسين عشقوا زيتون هذه الأرض ونخيلها وتينها ورمانها وتمرها وبركتها.
كل من تقهقر عاد.. كل من ارتعب اشتعل شجاعة وإقداماً، وكل من وهنت عزيمته واضمحل بأسه أضاءه الإيمان.. ونعم الضوء هو.. كل من رأى الشيخ المبري يكابد الألم بصبر مقدس كرّ من جديد على الطليان الغزاة.. وسرعان ما أخذ أبطال الشيخ المبري الثأر له ولبقية الشهداء ولليبيا، فقذف المجاهد الشاب صالح يوسف قائد الطليان بحجر وليس برصاصة فقتله.. وهكذا هي أحجار طبرق قاتلة.. كنظرات بناتها الآسرة.. النافذة إلى أصالة النخاع وطهارة العصب.
عاش المجاهد محمد المعتمد العمامي بعدها سنوات مشاركاً في أكثر المعارك.. في البطنان والجبل الأخضر.. مانحاً روحه فداء لهذا الوطن واليوم أجدني في ضيافة أحفاده الأعزاء الكرماء.. في بيت متواضع بمنطقة الحطيّة.. بيت شعبي ظريف.. جدرانه كما يصوّره خيالي من أحجار وطين قديم.. سقفه خشب من جريد النخيل وأرضه تراب مزروع بنجيل طري.. في أركان البيت تتردد صيحات المعارك ودقات البندير وأناشيد الصوفيين المادحة لسيد الكائنات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم..:
وأول من نبدا انبادي.. بالصلاة على الهادي
وأول ما نبدا انقولوا.. بالصلاة على الرسول ُ..
وفي أجواء البيت يتضوع عبق الجاوي والفاسوخ واللبان.. شجيرة حناء أوراقها خضراء نابتة قرب صنبور المياه.. نخلة سامقة سعفها يظلل وسط البيت.. بيت جميل.. مكلل بالبركات.. حفيدته العفيفة تحكي لنا.. وتقدم لنا الشاي باللوز الأخضر.. وتقدم لنا طبق سعف به كسيرات ساخنة من خبز تنور أعدّته بنفسها.. تحكي لنا بطلاقة وحماس وإذ تتذكر جدّها تغمض عينيها وترحل في عالم بهيج غارق في الحنين.. تعود منه وتفتح عينيها ببطء فنراهما مترقرقتين بالدمع المخلوط بالكحل السائح على خديها.. سألتها هل تفكرون بالعودة إلى مدينتكم الأم زليطن ؟ فأجابت : لا.. لا.. لا أستطيع ترك طبرق.. فيها ولدت وتعلمت.. وفي أزقتها صنعت ذكرياتي وبنيت صرح أسطورتي.. زليطن مدينة أجدادي العمايم.. وطبرق مدينتي التي احتضنتني.. جدي وضعني هنا.. دقات بنديره أسمعها كل وقت.. لا أستطيع العيش من دون هذه الإيقاعات المباركة.. كلما خرجت من طبرق تلاشت هذه الدقات التي دقها جدي بأصابعه الشريفة.. أصابع جدي فجرت فنار المرقب.. وجذبت الزناد في وجوه الطليان وكتبت على اللوح آيات القرآن الكريم.. جدي وضعني هنا.. وعندما أنجبتني أمي بندر كثيراً وأطلق في أذني الآذان الله أكبر.. جدِّي مدفون هنا.. في طبرق.. جدِّي وضعني هنا.. كيف تسألني هذا السؤال ؟.. من يحبني يعش هنا.. يقتـني ملاذاً هنا.. أضحي بالعالم إلا طبرق.. لن أغادر طبرق أبداً.. قبل أن يموت جدي المجاهد محمد المعتمد العمامي كنا بجانبه فقال لنا جميعاً: الله الله في طبرق.. ثم شهّد وأسلم الروح.
الرواية لن تنتهي وكوندليزا وحدها ليست روايتي فقد دخلت عليها عوالم إنسانية جديدة ترفض أن تهاجر معي.. لكني سأطير بها.. سأقنعها.. والآن.. عليّ أن أشد الرحال خلف آهات الكلمات.. كل حرف أكتبه ينتمي إلى مكانه.. ومن مكانه أغرسه في الورق.. لو كتبت من دون زيارة المكان لا أشعر بمتعة.. أشعر بألم يحرقني.. الكتابة من دون متعة دموع لعن للقراء.. عليّ أن أرحل.. قدري أن أكون هكذا.. رحلة آدمية.. حاج مكاني.. مطر يسقي حبيباتي بسكر الوجود.. قدري أن أكون ناراً تحرق وتهشم.. تحرق هشيم الذكرى بشآبيب دافئة.. ليضيء هذا الهشيم الناعم.. النقي من الأشواك والغبار.. المبلل بزيت الزيتون وعصارة القرنفل الأسمر.. الهشيم الأكحل المنسدل على ظهر وصدر وكتفي حبيبتي.. الهشيم الذي أسند خدّي إليه فيكون لي منشفة شغف تمتص أرقي.. الهشيم الذي أمشطه بمشط أصابعي حينما أفرّجها فيه لتصل إلى ما خلفه من حياة تتنهد وتنتـفض وتسيح وتبتلع أناملي المستحيلة إلى محراث تجرجره فراشات المعاني...
وضعت الحرب أوزارها أو بالأحرى انتقلت إلى ساحات أخرى، وهنا بقيت تداعياتها.. بقيت الألغام المزروعة تحصد كل من تقودهم حظوظ معافسهم إليها.. الحلفاء والمحور تقاتلوا وذهبوا.. بقيت ألغامهم ومقابرهم.. بقيت وحشيتهم المقيتة المميتة المدفونة تحت التراب.. القبور الآن تجانب بعضها.. تتراصف كجنود نائمة.. طوابير منتظمة.. تحفها الأشواك والورود.. تحوطها الأسوار والأسرار.. ست مقابر قائمة الآن.. تقتات على بصر المكان.. تدوسه برفاتها وتصخبه بضجيج أخرس.. ست مقابر تعتلي ظهر طبرق الفاتنة.. خمس للحلفاء وواحدة للألمان.. الأرواح خرجت من الأجساد.. خرجت عنوة.. الرفاوات جمعت من كل مكان ووزعت على القبور.. الأظرف الفارغة بقيت والشظايا الحارة الحادة بقيت.. تفتتت في التراب.. التراب تـفـتت في الصراخ.. الصراخ تـفتت في الصدى النازف بدم الصمت.. العظام متداخلة.. مختلطة.. عظام حلفاء ومحور وعرب وحيوانات مع بعض.. الوجوه احترقت.. والناجية التهمها الدود الباسل وعوامل التعرية والسفور والإهمال.. العظام الآن متحدة معاً.. نخاعها ساح وجف وتهشش.. ربما اختلط النخاع بنخاع قديم لعظام قديمة اتـُخِذت مدونات.. في القديم كانوا يدوّنون على العظم الساطع بفعل الشمس.. الكلمات تتمعن أكثر إذ يكون فراشها عظماً.. العظم يسرِّي نفسه ويفرح.. ماضيه عاشه وحاضره عاشه ومستقبله يحلم به عندما كان حياً يرزق.
الكلمات تكون تاريخاً أو شعراً أو أمراً من سلطان أو رسالة عشق أو نصاً مقدساً.. أو لا تكون كلمات وتكون رسومات أو علامات أو طلاسم.. عموماً العظم سعيد بالمداد الملطخ فوقه.. وآه من سعادة العظام وصرير بهجتها.. كم هي قادحة.. العين سعيدة لأنها ترى.. الحبر سعيد لأنه نقطة تفاهم بين عين طازجة وعظم حباه الله بحمد الجفاف.
ربما اختلطت العظام بعظام حيوانات بريّة أو مائية أو جوّية أو فولاذية.. العظام الآن تتقاتل فيما بينها.. كل منها تحاول أن تتحلل وتسيح عبر التراب باحثة عن شظاياها المنثورة في الصقيع.. في مقبرة الألمان المشرفة على شبه جزيرة طبرق جُمِّعت كل العظام ودفنت في حفرة واحدة، ردمت بأحجار سوداء ثبتت عليها تماثيل لأناس ترفع أيديها للشمس.. صرح من حزن ودموع.. الصرح تحوطه جدران ذات ممرات واسعة مبلطة بالحجارة الصغيرة المستطيلة.. على الجدران نقش بحروف لاتينية منفصلة عن بعضها كفسيفساء أسماء كل الجنود الذين فقدوا حياتهم المقدسة في حرب لم يقرروها.
المقبرة تحفة فنية بابها يشرف على البحر.. بابها حديدي أسود مقفل.. مفتاح الباب مودَعٌ عند عجوز تسكن خلف المقبرة.. تمنحه لمن يريد الزيارة.. توصيهم أن يعيدوه فور الانتهاء.. وإن نسوه في ثـقب الباب تتكركر إليه وتجلبه.
في مقابر الحلفاء كل قبر على حدة.. كل شاهدة نقش عليها اسم الجندي وديانته وسيرته الذاتية.. البارود قتل الناس وتحلل وعاد للأرض ميتاً..
البارود الحي هو من يقتل الناس الآن.. الآن حي وبعد الآن حي وقبل الآن حي يموت.
نحن أرض مسالمة.. لا لنا في العير ولا في النفير.. أرض محتلة من إيطاليا.. استغل بعض أفرادنا الحرب العالمية الثانية لنيل مكاسب سلطوية فانحازوا لجيش الحلفاء، مع أن عامة الناس كانت تشجّع ألمانيا وتتعاطف معها.. العامة لا تفهم في السياسة.. تفهم في الجمال.. الألعاب الذكية البارعة.. البطولات السندبادية الباهرة.. النامة عن فطنة وحذق.. تحب ثعلب الصحراء رومل.. تحبه ولا تطمع في ذيله الأشقر الثمين.. تحبه لأنه ملتحم بحبّات رمالنا.. فهو الشجاع المتجوّل دائماً بين جنوده في الخطوط الأمامية والمحتك بالسكان المحليين.. بالفطرة أناسنا تكره الإنجليز.. تسميهم سوسة العالم.. لم تنس الناس وعد بلفور بعد.. بلفور وزير بريطاني وعد اليهود بفلسطين كوطن قومي لهم.. وعد بأرض لا يملكها.. استهان بالتاريخ والناموس والعدل الإنساني.. منح طرفاً على حساب طرف آخر ومات.
انبهر الناس بالتفاف رومل الشهير على جيوش الحلفاء التي كانت مسيطرة على المنطقة من مساعد حتى بنغازي.. انبهروا بالخطة الجريئة.. كيف تهاجم العدو من جبهته.. من الجهة الآمنة التي لا يتوقع حضورك منها.. انبهر الناس وشاهدوا بمتعة اندحار قوات الحلفاء ووقوعهم أسرى بعشرات الآلاف وتركهم أسلحتهم ومعداتهم ومؤنهم غنيمة لرومل وجيشه.. لم يبق لهم أي جيب في ليبيا سوى مدينة طبرق التي أحكم رومل حصارها ودكها فيما بعد بعنف حتى احتلها وأسر الآلاف التي بقيت حية فيها.
رومل القائد الوسيم العادل المتفهم لأخلاق الحرب ونواميسها.. المناصر للسكان المحليين والكابح بحزم ظلم حلفائه الطليان وعنجهيتهم الغاشمة.
لم يكن بين ليبيا وألمانيا أي مشكلة.. مشكلتنا مع الطليان الذين احتلو أرضنا وشنقوا أجدادنا وآباءنا وناكوا نساءنا وبناتنا.. كان الطلياني في الجبل الأخضر يأتي إلى الخيمة فيضع قبعته على وتد المدخل ويدخل.. يغتصب ما حلا له ولا يجرؤ الزوج أو الأب أو الأخ على الدخول عليه أو إزعاجه.. لأنه ليس موجوداً آنذاك، أي مشنوقاً أو مكبلاً.. أو أنه شفشة وليس رجلاً.. في المعتقلات التي زجوا بها أجدادنا فعلوها أيضاً.. كانت النساء لا تغتسل وتتعمد أن تكون قذرة حتى تـُعاف.. لكن هؤلاء الجيف الطليان الخنازير لا تعاف حتى الأتن الجرباء..
كثير من الأجيال الماضية آباؤهم طليان أو غزاة.. فالدم العربي معروف مهما امتد الزمن، والمختلط يتضح كبقع الزيت في الماء.. لكن كل هذه الأشياء لا تهم.. فالإنسان هو الإنسان.. وقيمته متساوية في كل زمن.. ومن أي نسل قدم.. أي مخلوق لم يختر قدره.. ولم يتخيّر جيناته وزمانه ومكانه.. وكثير من الوجوه الشقراء والحمراء والبيضاء وذات الطول الفارع هي من أصول غير ليبية.. لا تزعلوا أيها الغاضبون الآن.. لنفترض أن الليبيين هم من جلبوا الجواري اليونانيات والإيطاليات والتركيات والإسبانيات والمالطيات والبلقانيات وضاجعوهن على سنة الله ورسوله، أي إن البياض والاحمرار والطول والجمال والتناسق جاءنا عن طريق الأخوال وربي يخليلي خالي وخلخالي.
أحياناً أشعر أن الحروب وقوعها ضروري، ولو لم تقع فكيف سأكتب هذا الكلام؟ وكيف هي طبرق من دون مقابر الحلفاء والمحور؟ ومن دون غرفة جون برايل في البردي ومن دون الشيخ المبري ياسين والمجاهد المعتمد العمامي؟ أشعر أن الماضي ضرورة.. وقوعه ضرورة وأنا أجري أتلقفه وأغنيه على الورق.. أنا كسكاس روائي.. ستسقط من فتحاتي كل الحبيبات الرقيقة.. وتبقى حبة القلب.. مهجة الروح.. وترنيمة الجهاد والحرية.. طبرق الشعر.. طبرق القصيدة العصيّة.. طبرق الطيف الذي غذاني بهذه الكلمات.. كل طبرق الآن سأتركها وأعيش مع هذا الطيف الشاعري في منطقة انعدام الوزن.. في جنة متملصة من الرؤية.. عندما عادت قوات الحلفاء إلى درنة نتيجة انسحاب رومل التكتيكي.. رحب بها الأهالي، وبالطبع ليس كل الأهالي.. فقط من كانت لهم علاقة بالإخوان السنوسيين.. ولا أقصد هنا سنوسيي الدين، بل سنوسيي الدنيا أي السياسة.. أقاموا لهم في مقهي النخيل (جنان شنيب سابقاً) وليمة كسكسي بالموز ورقصوا وغنوا وألقوا القصائد الشعبية العصماء في مدح الانجليز والجيش السنوسي، ومثلوا لهم مسرحية خليفة الحوّات ومسرحية العباسة أخت الرشيد.. وأكثر هؤلاء الناس من الردح والتطبيل والتزمير والبسبسة لقوات الحلفاء وأذنابها من الجيش الليبي المستسلم بعد استشهاد عمر المختار وقبل قيام الحرب العالمية الثانية والمحارب عن بعد بواسطة قصاعي الأرز المصري بصلصة الفيوم.. زمّروا أيضاً للجيوش الصغيرة الأخرى التي تحالفهم من أستراليين ونيوزلنديين وهنود ومن كل الديانات.. بل تمادى هؤلاء المطبلون بقيادة بصاصهم العتيد الشفشة المتحوّل إلى أحد الأعيان بتقديم خدمات مجيدة أخرى.. فوشى إلى قوات الحلفاء بمجموعة شباب من قبيلة أزوية كانوا قد غنموا تيس ماعز من أحد معسكرات الحلفاء في الوطن الشرقي.. هذا التيس الملبلب كانت تتخذه فرقة هندية إلهاً لها.. كانوا يضمّخون جلده بالطيب والكولونيا ويطلون فراسمه بملمعات الأحذية ويطعمونه أنضر عشب وأنقى سويق قصب ويسقونه ماء المطر الهاطل في الليل فقط.. سرقه هؤلاء الفتية الجائعون.. ذبحوه وأكلوه.. وردموا بقاياه في حفرة عميقة.. في الصباح لم يجد الجنود الهنود ربهم فاحتاروا وحزنوا وأعلنوا الطوارئ وبلغوا القيادة العليا في لندن وكلكتا.
بحثوا عنه في كل مكان، واختفاؤه أثر في معنوياتهم وقدراتهم القتالية.. كانوا يصرخون.. كيف نقاتل من دون إله.. أنتم لديكم صليب.. وهؤلاء قرآن.. ونحن ماذا نفعل؟ نريد ربنا.. نريد ربنا.
وصادف أحدهم أحد الشباب الذين سرقوا التيس فسأله: ماريتش اللــه؟
فأجابه الشاب: لا ريت اللــه.. ولا عبد الله.
اشتهرت هذه القصة في درنة والجبل الأخضر والكفرة، فخزنها الشفشة في ذاكرته واستثمرها سريعاً فور دخول قوات الحلفاء للمدينة.. تقديم الجسد من دون إصبع بصاصة جريمة في عرف الشفشة.. قال في نفسه لقد أكلوا التيس من دون أن يضعوه فوقي أولا.. لابد أن أبصّ فيهم.
عندما صرف الضابط المصوعي الشفشة والجنديين اللذين معه في وادي الإنجيل عاد الشفشة إلى المعسكر في شحات.. قال لآمر المعسكر.. إن الضابط أنطونيو المصوعي تمرّد وأوقف البحث عن الشاعر اليهودي المطلوب وصرفنا، وها هي بندقيته وها هو مسدسه.. لقد تحوّل إلى راهب يتعبد في الكهوف.. لم يصدقه الآمر وأمر بجلده على مخاريقه، لولا أن الجنديين أيدا كلامه فأرسله الآمر مجدداً مع مفرزة من الجنود الأشداء للبحث عنه والقبض عليه حياً أو ميتاً.. لأن تمرد الضباط وهروبهم ساعة النفير يعني الموت وهو خطر على الجيش برمته.. خاصة وأن الضابط أنطونيو المصوعي من أصل ليبي قد يجبده العرق، فينظم للمجاهدين الليبيين المحليين الذين نشطوا مجدداً مع قيام الحرب العالمية الثانية.
لم يلتحق أنطونيو المصوعي بالمجاهدين الليبيين.. مقت القتل لأي سبب كان.. استغرق في قيم الصفح والسلام المنادي بها يسوع.. صار الرسول مرقس بارقاً أمام عينيه.. لا يغادره حتى في الأحلام.. أمضى وقته متنقلاً بين الكنائس المنحوتة في الجبال.. تنقل من كهف إلى كهف.. لا يبقى في الكهف أكثر من ليلة.. أو نهار.. هو لا يتعقب كليمنتي أربيب.. لكن في كل كهف يزوره يجد أثراً له وومضة نور تصافحه.. يحس على جدرانه أصداء لكلمات التوراة ويرى على سقفه بؤر نور لآيات قرآنية تلاها صبي منذ قليل.. يتعقبه بإصرار.. يريد أن يقابله ليفهمه أنه لا يطارده الآن.. ولا يطارد أحداً بالمرّة.. لكن لم يتمكن من الوصول إليه.. كان لكليمنتي خطوة السبق في الرحيل.. واختفت آثاره نهائياً على مشارف درنة.
لم يدخل أنطونيو درنة.. خاصة بعد أن رأى أعلام الحلفاء على بناياتها.. الحلفاء أعداؤه في لغة العسكر.. لن يصدقوا أنه هرب وقد يجبرونه على الخدمة معهم.. لن يصدقوا أنه ترهَّب وما عاد يعنيه القتال.. سيعتبرونه على أقل تقدير جاسوساً ويعدم بالرصاص ووجهه إلى كوم تراب.
حالما وصل الشفشة إلى مشارف درنة ورأى أعلام الحلفاء على بناياتها أمر مرافقيه الطليان أن يمكثوا هنا ريثما يستطلع الأمر ويعود.. قال لهم إنَّ الخائن الجبان أنطونيو هنا ليس ببعيد.. سأحضر لكم السبع من معبوصه.
تسلح بمسدس ونزل الجبل إلى تحت.. في بطن الوادي لعب لعبته.. اتصل بطريقته الأثيرة في القوادة والخساسة بفرقة الاستطلاع الأسترالية، وباعها زملاءه الجنود الطليان كعربون ولاء للحلفاء.. اتصل بهم بطريقته المخضرمة.. لم يرفع لهم علماً أبيض أو يرفع يديه ويتقدم نحوهم أو يقوم بأي طريقة من طرق الاستسلام المعروفة في العرف العسكري.. لكن اتصل بهم على طريقته الشفشوية.. خلع سرواله.. تقدم نحوهم راكعاً.. مبعره لهم ووجهه للأرض.. وإذ اقترب منهم انبطح على بطنه وذراعيه متشابكين على ظهره.. المسدس ليس معه.. هو مع سرواله.. قالوا له قف ورموا فوقه معطفاً طويلاً.. كان من بين فرقة الاستطلاع ضابط حاذق فهم الجو.. تفهم مقصده.. حاوره قليلاً ثم قادهم الشفشة بحذر إلى جنوده الطليان وسلمهم لهم غيلة وغدراً.. منحه الحلفاء وساماً وبعض الجنيهات نظير خدماته الجليلة المناصرة للحرية والمضادة للنازية والفاشية.. اكترى كوخاً واشترى من سوق الظلام بدرنة كاط مَلْفْ وجرداً.. ومن فندق بومنصور اقتنى عدة شياه وبقرة حلوباً ليصبح في أيام قليلة من أعيان درنة أصحاب الحظوة لدى الحلفاء وتابعيهم..
لازم الشفشة الحلفاء عارضاً خدماته.. شاركهم سكرهم وعربدتهم وحفلاتهم.. انسحب معهم إذ انسحبوا وعاد إذ عادوا.. ووشى بجماعة تيس الماعز زاجاً بهم في غياهب السجن.. لكن اجتياح رومل وجيشه المنطقة وانسحاب قوات الحلفاء الاضطراري كان في صالحهم.. استغلوا الربكة وبمساعدة الأهالي الوطنيين من أمثال آل لياس وبدر وبللو والعوكلي وسرقيوة تمكنوا من الفرار والاختفاء في نجع قريب.
لكن للحرب صولة.. وللحياة وجوه عدّة.. وللسجال تقلب وتمرّغ على سفيف التواريخ.. التف عليهم الثعلب من جديد.. شتت دجاجاتهم وأخرس ديوكهم النشاز.. ففروا تاركين الذي وراءهم والذي قدامهم.. فروا بجلودهم وهرب معهم أغلب الأعيان المتملقين المصفقين يوم الكسكسو.. مبروك لم يهرب.. هو لم يشترك في الحرب.. لم يناصر أحداً.. يدرس في الزاوية ويلتقي بكليمنتي كل يوم.. رباط وجداني إنساني يربطهما.. فلكل دينه.. كليمنتي هرب مع الحلفاء.. أراد أن يبقى مع مبروك.. لكن هو عسكري الآن وعليه تنفيذ أوامر النفير وإلا أعدم.
انسحب رفقة نيكولاس.. الضابط الأسترالي الذي شاركه همومه الإبداعية.. مكثا معاً في طبرق.. التقى كليمنتي ببعض يهود طبرق القاطنين في حارتهم خلف الجامع العتيق.. تعارف معهم.. زار معهم حاخامهم المدفون في المقبرة وترحم على كل موتاهم.. فتح الحصن المعلق في رقبته وقرأ منه بعضا من التوراة:
فهكذا يبارك المختارون..
والعادلون الذين سيشهدون في يوم الشدة إبادة الأعداء كلهم وخلاص الأبرار.
القدوس والأكبر سيترك مسكنه..
إله الأزل سيأتي على الأرض ويمشي على جبل سيناء سيظهر وسط معسكره..
سيظهر في كامل قدرته في أعالي السموات..

ثم نصحهم بمغادرة طبرق لأن المحور قادمون.. وقد لا تصمد المدينة أمامهم هذه المرّة.. غادر أغلبهم ومنهم من بقي متنكراً.. كثيراً ما شاهد كليمنتي رجلاً في درنة ملبسه حسن ودائماً يبتسم بغنج المثليين.. يخيّل له أن وجهه ليس غريباً.. صادفه في السوق عدّة مرات وفي الخمّارة مرّة وأمام الجامع كل جمعة.. لم يكترث له وبادله ابتساماً بابتسام.. كان محظوراً عليه وهو الموظف في الإدارة العسكرية مخالطة المدنيين باستثناء الصبي مبروك وقاية من الجواسيس.. الآن في طبرق يراه مجدداً.. ويعصر ذاكرته مستحلفها بأعصاب آلهة الفراسة والذكاء.. فيتذكر موقفاً طريفاً في الظلام وهم منسحبون صوب طبرق.. في أحراش عين الغزالة كان جندي استرالي مخمور يضاجع أتاناً ورجل عربي حسن الهيأة يربت على كتفه ويقول له: إلواه يا ودّي ؟! واحني مامليناش عينك.
كان كليمنتي آنذاك مخموراً أيضاً لكن تلك الكلمات والهيأة مازال يتذكرهما.. إنه هو ذاته هذا العربي المأبون الذي امتطاه عدة جنود أستراليين ضخام الجثث يعشقون الضيق.. لكن الذاكرة تحضر له هيأة أخرى وأحداثاً أبعد.. وقفز كليمنتي وصار يدور على رجل واحدة.. أيعقل أنه هو الذي يتتبعنا مع الضابط المصوعي الإيطالي في كهوف ووديان الجبل الأخضر؟! ونقل معلومته هذه إلى عنصر الاستخبارات في الكتيبة الذي بدوره طمأنه بأنهم يعرفون، ويعرفون أيضاً أنه منشق جاءنا وسلم لنا عدة إيطاليين مسلحين كانوا تحت إمرته.. وهو يقدم لنا خدماته النهارية والليلية بتفان كبير.. أي إنه عنصر مفيد ولا يمكن الاستغناء عنه في ظروف قاحطة كهذه.. لكننا دائماً حذرون منه وقد نصفيه في أي لحظة إن شعرنا منه بأي لوية ذيل أو امتنع عن خلع سرواله والتـفـقـيص (الركوع)، وضحكا معاً وسأله كليمنتي وهو ينزل زجاجة الويسكي عن فمه: وهل يعرف الأستراليون التـفـقـيص؟ فأجابه الضابط الاستخباراتي سريعاً: يعرفون حتى التبـعبـيص.. استدر إن كنت تكذبني.. وغرقا مجدداً في ضحك قوي ومتواصل جعل مخاط كليمنتي يخرج من أنفه، فيما الشفشة يتأملهما من بعيد ويبتسم ويفرقع كرة علكة غطت معظم وجهه الأمرد بغشاء وردي رقيق.
كان كليمنتي يلازم نيكولاس.. خاصة في خلواته في وادي العودة الكئيب.. كليمنتي يحلم بالعودة.. العودة إلى الوطن.. إلى الشعر.. إلى زوجته سارة وعشيقته ميزونة.. إلى نجوع المرج وبنغازي والبيضاء.. إلى الدروب التي داسها مع دابته متجولاً وتاجراً وسائحاً.. أحياناً يغلبه الحزن والوحدة فيقرأ من أسفار التوراة ما تيسر مفترضاً أمامه حائطاً يبكي.. نيكولاس أيضاً يقرأ تراتيل المسيحية.. يقرأ معبراً عن همومه بعبارات مقدسة حفظها في طفولته من الإنجيل.. لا يذكر الآن أي إنجيل حفظ منه.. امتزج في خياله مرقس بلوقا بمتى بيوحنا ببطرس.. بكل القديسين المؤمنين بيسوع عليه السلام.. وعندما تشرق الشمس صباحاً يسمعان تغاريد العصافير وتبتلعهما الأشغال العسكرية اليومية، وفي المساء على ضوء قمر طبرق يقرضان الشعر.. يقول كليمنتي كان لدي عصا زيتون منقوشة بالأشعار والأماني.. الآن لدي بندقية منقوشة بالدمار.. ويبكي متذكراً عشيقته وأسرته ويرتفع نشيجه إذ يتذكر رفيقه مبروك.. الولد الطيب العذب البشوش.
نيكولاس يربت على كتفه.. خذ هذه الكأس المزدوجة يا صديقي ولا تبكِ.. ففي هذا الوادي لا يجوز البكاء.. لقد كتبت البارحة نصاً رفع منطاد معنوياتي إلى أعلى.. يومئ كليمنتي بالموافقة على الاستماع.. ينشد نيكولاس:
آهٍ أستطيع أن أشعر أنهم قادمون
أنني أملك وادي العودة الكئيب
لا أستطيع النوم ليلا
فالبراغيث تلسعني
تركتني بالحسرة والأحزان
وحيثما تطوف
لا يوجد سوى الرمال والأحجار
وكل منا يحمل السأم والضجر
آهٍ أشعر أنهم قادمون
أنني أملك وادي العودة الكئيب من جديد.

يقول كليمنتي: أنا أيضاً البراغيث تلسعني.. براغيث الفراق يا نيكولاس.. أتذكر ميزونة.. أتذكرها بجنون يا نيكولاس.. اسكب لي كأساً مزدوجة أخرى.. سأنشدك الآن من جروح عصا الزيتون ودموعها.. ليتني أحضرتها معي.. فهي تاريخي الشخصي وحبي وأمنياتي وكل شيء.. لن أطأ القدس من دونها.. زيتونها لن يعرفني.. سيقول لي أين كنت؟.. لم تولد هنا.. أين عصا زيتونك لنقرأها.. أقول للزيتون ليست معي الآن.. تركتها ليتيم.. زيتون سيصدقني.. زيتون سيكذبني.. زيتهما سيسيل صوبي.. يضيء ظلمات الفراق.. وسأنتظر اللقاء.. أين ومتى يا مبروك نلتقي.. تركت العصا لمبروك.. ليتني أخذتها معي.. لكن مبروك أكيد في حاجة إليها.. أعرف أنها أمانة لديه.. سيحافظ عليها.. لن يستعملها حطباً أبداً.. ولن يفشخها بفأس المستحيل.. سيصونها في أجربة طاهرة نظيفة.. ككتاب مقدس وأكثر.. سأتذكر ما نقشت عليها تلك الليلة المقدسة.. ليلة عبادتي الخاصة.. ليلة السبت.. حيث كان مبروك يوقد لي نار الدفء ويضيء لي سراج الرؤى، وكنت أنا أوقد النار التي ليست محرمة في سبتنا.. أوقد نار الشعر وأجرّح ساق الزيتون بعذوبات بلاغية لا تحتمل.. أذبّها بأشعار لزجة.. أستلّها من رضاب ميزونة العسلي.. أستلها بلساني المجنون رقصاً في فمها المزغرد.. أستلها بتقلبي وانغراسي في جحيمها على نعومة كليم مصراتي مزخرف وملون.. أستلها من بيوت القصيد وأغنيها خدوش هكذا من حنين:
يانا اللي صارت لي عشقا
عقلي مشقا
من بودور المشاط اشقا
يانا اللي ما فيّ انياط
غلاهم حاط
امخلف داير لي ساقاط
احزام اللي لا صار عياط
الدير طرشقا
ذبّا مالرشقة للرشقة

لم ينسحب مبروك من درنة انسحاباً عسكرياً.. لكنه أكمل قراءة كل المخطوطات الموجودة في الزاوية.. نال منها حصيلة جيدة من علوم القرآن والفقه والشعر والتصوّف والفلسفة وغيرها.. شدّه كثيرا شعر ابن الفارض ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج وأبي العلاء المعرِّي.. قرأ كل الكتب والمخطوطات التي وجدها في خزانة الزاوية.. كان كلما قرأ أكثر زاد نهمه إليهما.. مخطوطات الزاوية لم تشبع طموحه.. التهم كل ما فيها من معارف صوفية وتاريخية وفلكية وجغرافية وأدبية.. حفظ ثلثي القرآن الكريم وحصيلة لا بأس بها من الأحاديث الشريفة والقدسية.. ذهب إلى مكتبة مسجد الصحابة، لم يجد بغيته من الكتب المهمة.. ارتاد مكتبات الجامع الكبير بمحلة البلاد وكنيسة النصارى وكنيس اليهود.. مكتبة الكنيسة كُتبها باللاتينية ومعظمها حول اللاهوت.. كنيس اليهود بالعبرية.. هو يريد أن يقرأ أكثر عن ابن عربي وابن الفارض.. وجد في نصوصهما سكينته وعشقه ونفسه وترنيمة نايه المفقود.
سأل الشيخ الأسمر فأشار له بالأزهر أو مكة أو الزيتونة أو الجغبوب أو القرويين أو تمبكتو.. عندما عادت جيوش المحور إلى درنة مجدداً غادر الشيخ الأسمر وزوجته درنة إلى واحة الجغبوب فاستغل الفرصة ورافقهما.. كان الوقت ضيقاً.. الألمان قادمون وراء الحلفاء الشارعين في الهرب.. بالكاد صافح كليمنتي وعاد إلى الشيخ الأسمر ليرافقه إلى الجغبوب.. كان لقاء دامعاً مع كليمنتي الحبيب.. مبروك يشد العصا وكليمنتي يشد العصا والأشعار المنقوشة على كيانها تنظر إليهما بأسى وحزن وحنين وأشجار الزيتون الدرناوية تشهد المشهد وتتهادى جهة مبروك وجهة كليمنتي ولا تستقر على حال.. الكلمات المنقوشة على العصا ليست غائبة عن ملحمة الوداع.. الحروف تتداخل في بعضها محدثة نشيجاً حروفياً يشارك بامتنان.. كل حرف من الأشعار به عين تـغني.. بل به أبجدية إنسانية تبصرهما وتدعو لهما..
قال كليمنتي لا تنسني.. وسنلتقي.. وقال مبروك أنت في القلب.. ومن في القلب يظل ينبض دائماً.
تفارقا، حتى المضض بكى.. تفارقا ولا أحد التفت.. تفارقا في لقاء الذاكرة الأبدي.. تفارقا والريح هدأت وأشجار الزيتون اهتزت بشدة وبعضها صار يتطاير ويُقتلع، فالقصف قد اشتد الآن وهوام الدبابات تتقدم تهرّس كل شيء.
في الجغبوب واصل مبروك دراسته في معهد ديني متقدم.. نبغ في جميع المواد.. وأجمع مشائخ المعهد على تفوقه فقرروا إيفاده إلى جامعات ومنارات أرقى علماً.. الأزهر أو الزيتونة أو جامعة القرويين بفاس.. في الجغبوب لم ينعم ببهجة الصبا وحلاوات الشباب.. جلّ وقته يستغرقه الدرس والحفظ والمطالعة.. أكمل حفظ القرآن الكريم وأقيمت له حفلة ختمة كبيرة أحيتها فرقة الزاوية الصوفية للذكر والمدائح.. وقدّمت فيها الأطعمة الشهية والمشاريب المحلاة إضافة للتمر الفاخر وحليب النوق.
وألقى فيها مبروك موعظة صوفية بدأها بتفصيل لأسماء الله الحسنى.. قسمها إلى ثلاثة أقسام على طريقة الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه إنشاء الدوائر.

أسماء الذات:
الله.. الرب.. الملك.. القدوس.. السلام.. المؤمن.. المهيمن.. العزيز.. الجبار.. المتكبر.. العلي.. العظيم.. الظاهر.. الباطن.. الكبير.. الجليل.. المجيد.. الحق.. المتين.. الواحد.. الماجد.. الصمد.. الأول.. الآخر.. المتعالي.. الغني.. النور.. الوارث.. ذو الجلال.. الرقيب.

أسماء الصفات:
الحي.. الحياة.. الشكور.. الكلام.. القهار.. القاهر.. المقتدر.. القوي.. القادر.. القدرة.

الإرادة:
الرحمن الرحيم.. الكريم الغفار.. العفو الودود.. الرؤوف الحليم.

العلم:
البر الصبور العليم الخبير المحصي الحكيم الشهيد السمع... السميع البصر.. البصير.

أسماء الأفعال:
المبتدئ.. الوكيل.. الباعث.. المجيب.. الواسع.. الحسيب.. المقيت.. الحافظ.. الخالق.. الباري.. المصور.. الرزاق.. الوهاب.. الفتاح.. القابض.. الباسط.. الخافض.. الرافع.. المعز.. المذل.. الحكم.. العدل.. اللطيف.. المعيد.. المحيي.. المميت.. الولي.. التواب.. المنتقم.. المقسط.. الجامع.. المغني.. المانع.. الضار.. النافع.. الهادي.. البديع.
تناول أيضاً في موعظته تفسيراً لسورة النجم وفق رؤية محيي الدين بن عربي، مستعرضاً اختلاف بقية التفاسير القرآنية.. قبل نهاية الموعظة قاطعه أحد المتطرفين وقال: هذا الكلام مخالف لمعتقداتنا.. أعتقد أنه تجديف وهرطقة.. وانبرى له الشيخ الأسمر معلم مبروك في زاوية بومنصور بدرنة قائلاً: الشيخ مبروك تعب كثيراً في اكتساب هذا العلم الغزير واطلع على كتب لم يطلع عليها أكثرنا، ولو كان فيما قاله تجديف لفطن لذلك.. وأعتقد أن هذا المعهد ما عاد يناسبه للدراسة.. عليه بشد الرحيل إلى جامعات إسلامية كبيرة في الأزهر والزيتونة وفاس.. فهناك يوجد شيوخ أجلاء وعلماء معتبرون يمكنه أن يتعلم على أيديهم ويرتقي بعلمه إلى فضاءات أعمق.
ووقف متعصب آخر أو بالأحرى حسود.. والحسد بين طلبة العلم والأدباء والشعراء أشد وطأة منه عند الناس العاديين، وقد أثبتت لنا مدونات التاريخ ذلك.. فالمتفوق والنابغة عليه بالجهاد ضد هؤلاء المسوخ أولاً قبل التفرغ لعلمه وأدبه وإلا ضاع.. كثير من الحوادث حدثت.. وقد يصل الأمر إلى حد القتل.. فالحسد والحقد نار تلتهب تحرق الأسوت.. ولو تساءلنا من قتل الشيخ الصوفي والشاعر والفيلسوف شمسي التبريزي.. في الكتب يشكّون أن الذي فعل ذلك صديقه الحميم مولانا جلال الدين الرومي، أرسل إليه من يقتله ويرميه في البئر، ثم طفق يبحث عنه في حانات وأزقة دمشق ويصفه بالحبيب وفي هذه الحياة لا أستبعد شيئاً، فمولانا إنسان ورع وعالم وشاعر وفيلسوف لكن في النهاية هو محض بشر يحسد ويحقد ويفعل أي شيء.. قاطع هذا المتطرف أو الحاسد الشيخ الأسمر معارضاً بغضب ما قاله مبروك وما جاء به محيي الدين بن عربي في كتبه.. قال إن أفكار ومعتقدات ابن عربي وتابعيه من الضالين فاسدة فاسدة.. ومستقاة من الحلاج لعنه الله ومن الخوارج والمعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا وكل الفرق الاثنين والسبعين المارقة عافانا الله وإياكم..
أجابه مبروك بهدوء بأبيات شعر للحسين بن منصور الحلاج:
إِنّي لأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ
وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ
وَلاِسَتَحَلَّ رِجالٌ مُسلِمونَ دَمي
كي لا يَرى العِلمُ ذو جَهلٍ فَيَفتَتِنا
إلى الحُسَينِ وَوَصّى قَبلَهُ الحَسنا
لِقيلَ لي أنت مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا
يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا

ونزل من المنبر إلى حصيرة الديس وكادت تحدث مشاجرة بين مبروك وذاك الشاب المتعصب، غير أن وصول موكب لشيخ ليبي قادم من واحة سيوة فض النزاع وهرع كل من في الخلوة لاستقبال هذا الوجيه المرموق وتقبيل يديه..
قضى مبروك جل وقته في الجغبوب يدرس المخطوطات ويحققها.. كان يجلس بالمخطوط تحت شجرة النخيل الملتفة ذات الحكاية الأسطورية.. يقرأ على مهل ويتأمل ماء البحيرة المالحة.. النخلة الملتفة والبحيرة هما سميرة وسراج.. البحيرة المالحة دموعهما ودموع كافة العصافير والفراشات المتعاطفة..
في ظلها ينشد أشعار ابن عربي وابن الفارض.. وفي أوقات الأصيل يضطرب الماء ويخيّل له أن سميرة تخرج منه.. تجلس بجانبه.. تستمع له ثم تلتوي في جذع النخلة الملتوي.. يخيّل له أيضاً أنه صار أميراً يعشق هذه الحورية فيزداد التصاقه بجذع الالتواء حتى يعمّه جنون الانتشاء.
نستطيع القول إنه تخصص في أشعار ابن الفارض وفي مدوّنات ابن عربي.. درس تاريخ العصر الذي عاشا فيه.. هما يعاصران القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي.. صلاح الدين الأيوبي يمثل القوة العسكرية والاندفاع.. والمتصوفة العلماء يمثلون النأي عن الدم والنار والتحصّن بالسلام الداخلي والوجدان الملتهم للوحشة والتجهم والألم.. درس مبروك كل المذاهب ولم ينتم لأي مذهب كان.. على الرغم من أن بعضهم اشترك في الحرب الصليبية ليس عدواناً، لكن دفاعاً عن النفس.. لقد جاء الصليبيون المتطرفون إلى بلاد الإسلام ولم نذهب إليهم وعندما ذهبنا إليهم اعتبرنا نضالهم ضدنا مشروعاً، هكذا قال صوفي محارب لخيالات الحق والتاريخ.
نأى مبروك بنفسه عن الحروب الخاسرة والمجادلات العقيمة ولازم نخلة الإبداع والحنين.. يقول إن مذهبي الحقيقي هو الحب ونبعي الصافي هو الماء.. فيقول له بعض المشايخ المرحين لقد أفسد عقلك ابن عربي وأفسدتك أيضا تلك النخلة الملتوية والبحيرة المالحة الملعونة التي تلازمها صباحاً ومساء.. فيرد عليهم مازحاً:
النخلة الملتوية أفضل من المائلة.. الالتواء مستقيم صاعد إلى أعلى والميلان معوج مآله السقوط.
حتى المذهب الإباضي درسه.. لم يسمع إلحاح المالكيين بتركه وإهمال دراسته.. درسه كعلم وليس كفضول.. درس حياة مؤسسه عبدالله بن يزيد الفزاري الكوفي.. في قرية إباض.. انتصر خالد بن الوليد رضي الله عنه على مسيلمة الكذاب.. ومن قرية إباض انتشر المذهب الإباضي في مسقط وعمان وزنجبار وفي أفريقية وفي طرابلس وتيهرت بالجزائر.. سلمة بن سعيد هو الذي أدخله إلى أفريقيا.. كان شديد التعصب للمذهب.. يقول كما ذكر عنه الشماخي في كتاب السير: وددت أن يظهر هذا الأمر ـ يعني مذهب الإباضية ـ يوماً واحداً فما أبالي أن يضرب عنقي.. وهذا حال كل مستغرق في الإيمان بقضية ما.. إن دخل الإيمان فلا تراجع أبداً.. ودخول الإيمان مثله مثل دخول الحياة في المخلوق.. لا بد له من خالق حقيقي.
كان دائماً مجادلاً لأصحاب المذاهب السنية الأربعة.. المالكي.. الشافعي.. الحنبلي.. الحنفي.. ومجادلاً أيضاً نفراً من الشيعة التقاهم رفقة قافلة قادمة من الشام.. بعض المالكيين يحتدون معه في النقاش ويقولون إن المذهب الإباضي قريب من مذهب الخوارج.. فيقول لهم: لا.. لا.. لا.. حرام عليكم.. المذهب الإباضي لا علاقة له بالخوارج.. ويستشهد بقول ابن حزم في كتابه المعروف الفصل في الملل والنحل.. إن أصحاب عبدالله بن يزيد الإباضي الفزاري الكوفي أقرب أهل السنة من بقية الفرق الأخرى.. وكلما يحتدم النقاش يهمس لهم بهدوء: ألا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ فيقولون بلى، لكن.. فيقاطعهم اللكننة من الشيطان الأناني.. هم إخوتنا ونحن إخوتهم.. كلمتنا واحدة كما الله واحد.. استغفروا الله وتوبوا.. فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
بعد أن استراح الوجيه القادم من سيوة يومين من وعثاء السفر أمر بتجميع كل الطلبة في الجامع وخطب فيهم خطبة عصماء بدأت دينية وتحولت دنيوية، أي سياسية حماسية تطلب من الطلاب إلقاء المصاحف والألواح والرقوق جانبا والهجرة إلى سيوة حيث فرض العين الجهاد.. في سيوة سينخرطون في الجيش السنوسي البطل الذي سيحرر ليبيا من الطليان والألمان صحبة قوات الحلفاء الداعية للحرية والتقدم والعدالة.. اختلطت الأمور في رأس مبروك.. جيش ليبي يحارب صحبة الإنجليز والفرنسيس وبعض الجيوش المرتزقة الصغيرة من هنود ونيوزلنديين وأستراليين وجنوب أفريقيين.. الفرنسيون ذبحوا إخواننا في المغرب والجزائر وتونس والشام.. في الجزائر وحدها أزهقوا مليون روح تقريباً.. الإنجليز قتلوا من العرب ما شاء الله ومنحوا اليهود وعداً بأرض فلسطين.. وعدوا اليهود بأرض ليست ملكهم.. أولى القبلتين المسجد الأقصى سيدنس.. الإنجليز أعداء المجاهد الشيخ سيدي أحمد الشريف.. خلال الحروب الصليبية كانوا ضد المسلمين.. الطليان كانوا مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.. الآن مع الألمان الذين كانوا أعداءهم آنذاك.. إتحب تفهم إتدوخ.. عالم مجنون.. لا ينام على جنب واحد أبداً.. تحكمه المصالح والأطماع والأنانية والدماء.. عموماً لم يرتح مبروك لهذا الرسول المسيّس ذي البطن السمين والرأس الأفطح.. قرر أن لا ينخرط في هذا الجيش.. لجأ إلى نخلته الملتوية وبحيرته المالحة وحوريته الشاعرة سميرة.. قالت له:
نجك لي.. كلامك طايب ماهو نيْ..
نجك لي.. رايك صايب موش خطي..
نجك لي.. ويانا عليْ.. ويا نا عليْ

هكذا تعجبني.. أحبك.. مالك ومال الحرب؟ خلينا في الجو السمح.. والشعر.. والسهر على نور القمر.. البارود قذارة ستأخذك مني.. ابق في ظلي.. كل من ثمري.. اشرب من ندى فجري السائح على بهيج سعفي.. إلاّ الحرب يا مبروك.. لا تقتل ولا تترك مأبوناً يقتلك.. حب فقط وإلى الأبد.
تحصّن بالنخلة الملتوية.. رفض أن يتحول إلى ترس في آلة الدمار العالمية.. أقنع نفسه بمذهب الحب والسلام والشعر والغناء والحنين.. اعتبروه هرطيقاً زنديقاً مرتداً.. أحد متطرفيهم أفتى بهدر دمه معتبراً رفضه التجنيد تولي يوم الزحف.. سحب المعهد منه ترشيحه للدراسة في الأزهر وأوقفوا عنه الجراية المالية الممنوحة للطلاب.. مكث أياماً حذراً تحت النخلة الملتوية.. يطالع مدونات ابن عربي وابن الفارض.. ويناجي النخلة الملتوية.. سميرة تطمئنه والعصافير في أعشاشها على جمار النخلة تغرد له.. يقف قليلاً يتمشى متفقداً التخوم المحيطة.. ويعود إلى مربضه الآمن المهاب.. فالنخلة في نظر العامة مسحورة.. وفي نظر المتدينين المتطرفين نجاسة من رجس الشيطان.. الاقتراب منها يبطل الصلاة والحج.. الاقتراب منها خطر شديد.. يفكر ملياً فيما يفعل غداً وبعد غد وهل ستدوم هذه الحالة؟ يتكئ بظهره على جذع النخلة وينام و في يده عصا الزيتون.. يشهرها كلما شعر بخطر.. سعف النخلة يحرسه.. إن اقترب غريب تحرك السعف وتهدل على وجهه فلا يحسه إلا خصلات سميرة.. يستيقظ ويشهر عصاه.. هذه العصا الشجاعة.. كم قهر بها من قطاع طرق ولصوص وبصاصين اعترضوا طريقه.. أطاح بسيوفهم وخناجرهم وسباباتهم وضربهم بها على مؤخراتهم ففروا ضارطين.
وكم قتل بها من حيّات وعقارب غادرة وكم مزق بها من أفاعٍ متصلبة صمّاء لا تكترث لتحذيراته بآيات القرآن.
السعف يمس وجهه.. يقف شارعاً عصاه.. لا يجد أحداً.. يعود إلى مأواه.. ينظر إلى القمر المنعكس في البحيرة المالحة ويتساءل هل نوره مالح أم حلو؟.. وتجيبه سميرة سأتذوقه لك وأقول.. تتذوقه وتقول له لا أعرف طعمه لم أتبينه.. مذاقه كجنون الرطب.. مذاقه صعب التمييز.. لكن افتح فمك.. سأسكب فيه قطرة.. ويتلمظ مبروك ويقول لها حلو.. واجد حلو.. لكن ليس كحلاوة العسل والسكر.. حلاوة نورانية تضيء فحم الظلام.. حلاوة تضيئني.. تنعشني وكأنها خمر الحقيقة.. يا نا عليْ منك.. معاش تسكبي في فمي.. تكفيني سكائب الروح.
كل ليلة يتسامر مع سميرة حتى ينعس.. وتحدث تجليات عظيمة.. يعجز المداد عن تذوقها وتدوينها.. في إحدى التجليات قالت له: أنا معك حيثما رحلت.. حيثما رحلت ثمة ماء مالح.. إن نضب فسأبكي لك كما بكيت لي هذه الدمعة العظيمة.
حزم أمره وغادر الجغبوب صحبة عصا الزيتون المنقوشة بماء القريحة.. عصا الزيتون التي التقطها كليمنتي لحظة فزع وهروب من أدغال غابة الباكور.. لا ندري من غرس هذه الزيتونة.. ربما شيخ الشهداء عمر المختار.. أو رفيقه الشجاع عيسى الوكواك.. أو راعٍ رمى بعض النوى بعد إفطاره، أو عاشقان تقاسما الحَب فانغرست نواة الزيتون المبللة بريقهما في الأديم ونبتت خصبة كحبهما.. أو وليٌ صالح مررته المقادير من هناك.. أو سكير يقرض الشعر بعد انتشاء.. عصا الزيتون.. عصا الزيتون.. عصا الزيتون.. ونبتت الشجرة وأثمرت وتطاولت فروعها التي غلظت سوقاً متينة.. وكليمنتي الهارب المفزوع من هناك.. التـقط الفرع.. دافع به عن نفسه.. التقطه في لحظة فزع.. فاستحال فزعه إلى إيمان.. حتى الشفشة ومفرزته النتنة عاد ونكص.. ونبت كليمنتي بخطواته منحدراً إلى أسفل في أمان.. الحمار الذي ركب عليه استأنس بعصا الزيتون فلم يرفس وأوصل الوديعة الإنسانية، أبلغها مأمنها.. الحمير تنال الحسنات وذات مروءة والشفشات تنال السيئات وذات خساسة.. والعصا لمن عصى.. والعصا مشكلة العالم منذ الأزل.. ولليهود بالذات علاقة متينة وتاريخية مع العصا.. فحتى نبيهم موسى عليه السلام معجزته في العصا التي فلق بها البحر هارباً من فرعون وجيشه.. ونبيهم الآخر سليمان الحكيم اتكأ عليها ولم يتركها حتى وهو ميت إلى أن هوت به بعد أن أكلتها الحشرات.. وفرعون آه من فرعون يا سميرة.. ومن الفراعنة الكثيرين في جميع الأزمان.. كل فرعون عنده عصا يضرب بها رأسي.. يظن رأسي بحراً يريد فلقه ليهرب من ممره الدامي.. فرعون يطارده فرعون.. أقول له رأسي ليس بحراً، يقول لي أرى الأمواج تتمايل وتصخب على جبهتك.. أقول له تلك غضون الزمن والهموم وشمس بنغازي الحزينة.. إنها سرابٌ لحمي وليست أمواجاً يا فرعون العزيز.. يقول إنني أسمع اصطخابها والأعداء ورائي.. والرعية ورائي.. والله ورائي.. رأسك بحر سأفلقه وأنجو.
في رأسي لا شيء من الأفكار.. في رأسي مشاعر فقط تحب الكلمات الجميلة وتحب حبيباتي اللاتي دخلن حياتي.. في طرابلس ودرنة وطبرق وبنغازي وبانكوك ومراكش وتونس والجنة..
عصا الزيتون لازمت كليمنتي في حله وترحاله في اختفائه بزريبة الماعز بطلميثة.. في انكماشه داخل أوشاز الأسلاف الدافئة بالجبل الأخضر.. نقش عليها أرهف أحاسيسه الشعرية، وعندما التقى مبروكاً صارا معاً، لم يكسرها نصفين ويعطيه النصف لكن سمح له أن تكون له أيضاً.. سمح له أن ينقش عليها تاريخه وأسطورته فنقش مبروك عليها قلب حب بنت خالته ربيعة وغنى:
يا ربيعة يا ربيعة..
في سباك العقل انبيعه.

وصارت العصا لهما وليست له.. وصارت العصا لهم.. ولنا.. ولكم.. ولهن.. وللإنسانية جمعاء.. آهٍ أيتها العصا لا نريدك أن تكوني ثعباناً يتلقّف كل شيء.. فالشيء مغلوب على أمره.. مأمور.. مغسول دماغه.. لكن أفلقي لنا بحر اليأس ببصيص من أمل ولو كان نحيلاً أعوج.
ها هو يغادر واحة الجغبوب الفاتنة صحبة عصاه التي جعل لها غمداً مضفوراً من سعف النخلة الملتوية.. غمد يلتوي ولا يميل.. يرقص شامخاً.. ولا يتصلب ساقطاً.. السعف المصنوع منه الغمد سعيد.. يلامس نعومة الأشعار وينهل من نبع الأحاسيس.. والسعف الباقي في النخلة لم يحسده، إنما رقص له رقصات الحفيف.. الأوراق المقطوعة نبت بدلاً منها وريقات جديدة.. عرائس جديدة.. أعمق اخضراراً وأينع جلداً وأرق.
لم يحمل معه من الجغبوب سوى مخطوطات الفتوح المكيّة وترجمان العشاق لابن عربي وديوان ابن الفارض الوحيد ومصحف قرآني مزدان بالمنمنمات الحروفية.. قبل أن يغادر ودع شيخه الأسمر وزوجته الحاجة مرزوقة.. قبّل رأسيهما فدعيا له بالرضا والتوفيق والفلاح.. منحاه كل ما معهما من مال وتمر.. وصار الشيخ يتابعه بنظراته ويدعو له ويتأمل خطواته وآثارها في الرمال.. ويتأمل الريح الرادمة لخطواته على مهل وفي لحظة تجلٍ انتابته نادى مبروك.. مبروك يا وليدي.. اقرب هنا.. تعال.. وعانقه وقاده إلى داخل مسقف السعف.. فتح صندوقاً خشبياً وأخرج منه لفافة قطيفة خضراء بها صليب فضي أثري قديم.. صليب بحجم الكف.. قدّمه لمبروك قائلاً: احتـفظ به.. تجده في عازة الزمان.. هو كنز بالنسبة لي.. واستغرق بعينين مبللتين ينظر جهة الشمال الغربي.. ويتمتم ذات عام كان القحط قد ضرب مدينة درنة ونواحيها وفتك مرض التيفود بالكثير من العائلات.. وخرجنا جميعاً إلى مقبرة الصحابة يصلي بنا الشيخ العجّالي صلاة الاستسقاء.. ودعونا الله بقلوب صادقة ويقين منير.. فما عدنا إلى بيوتنا حتى تمزقت قربة السماء وأمطرت بغزارة، وهبط السيل إلينا يجرف كل شيء يحمل معه الصنابة والأحجار العملاقة عبر وادي الشواعر إلى البحر.. في الصباح كانت الحياة مشرقة وخرجت من الزاوية أتأمل الجوار.. شجرة التين التي أمام الكهف تكاد تقتلع.. السيل حمل ما حولها من طين.. تناولت مجرفة وبدأت أهيل على جذورها التراب والطين وازدادت الشمس إشراقاً.. أشرقت جداً جداً.. وأنا أهيل التراب لمحت شعاعاً أبيض أبهر بصري.. شيء معدني ملتصق بعروق جذور شجرة التين.. تلقفته.. إنه هذا الصليب.. قبلته ونظفته بماء العين.. ثم دسسته في الصدع.. زارني بعض النصاري المقيمين في درنة فعرضته عليهم وكانوا مرضى فقبّلوه فشفوا من التيفود، وأحضروا عائلاتهم تقبل الصليب فتشفى مباشرة، وقلت ذلك لبعض الشيوخ المسلمين وباركوا ذلك لكن امتنعوا عن العلاج بواسطته.. قالوا هذه كرامة المسيحيين ونحن ليس لنا إلا دعاء الله والطب النبوي والصبر على البلاء.. قبل رحيلنا بيوم من درنة إلى الجغبوب هاربين من القصف.. تذكرت هذا الصليب أثناء صلاة العشاء بعد أن أهملته أعواماً طويلة.. خطر ببالي وأنا أرفع رأسي للسقف وأدعو الله أن ينشر السلام.. واستمر القصف الليلي الذي تهتـز معه أرجاء الجبل والوادي.. وبعد صلاة الفجر وأنا أتهجد وأبتهل.. يا لطيف.. يا لطيف.. ارحم عبدك الضعيف.. سقط الصليب من الصدع واستقر على طرف محرمة الحاجة مرزوقة التي لففته بها وأخذته معي.. لا أدري ما سبب سقوطه من الصدع.. هل بسبب القصف أم البركة.. أعتقد أنها البركة، فالقصف لا يمطر الصلبان أبداً.. شعرت أنه يقول لي لا تتركني هنا.. خذني معك وأخذته.. وها آنذا ليس معي أبناء ولا بنات.. ليس معي إلا الله وأنت.. ليس معي أحد الآن إلا أنت.. فتقبّل هذا الصليب مني و لا تظن أنني أفتـنك.. فأنت ناضج الآن لا يخشى عليك.. لكن هذا الصليب ثمين.. مقدس.. أظهره لي ماءُ السماء وتذكرته في صلاة العشاء ووهبني نفسه عند الفجر.
انهار عزم مبروك وتفتتت عبرته وبكى، وعانقه مراراً، وعانق الحاجة مرزوقة التي صارت تولول ورحب بالهدية الثمينة.. وضعها بعناية في الخرج مع مخطوطات ابن عربي وابن الفارض ثم ابتعد، وكل خمس خطوات يلتـفت ويلوّح للشيخ الأسمر.. وكل سبع خطوات يلتـفت ويلوّح.. وهبط كثيب رمل فاختـفى الشيخ الأسمر وزوجته وصعد بعد مسافة كثيباً آخر فلاحا له نقطتين بديعتين من بياض وزرقة.
لم يتجه إلى مصر ولا إلى تونس.. غادر في حماية قافلة لقبيلة ازويّة حتى واحة جالو ثم تازربو ثم إلى معقلهم الأم الكفرة..
في الكفرة لقي كل تكريم وترحيب فمكث بها يعيش قدره وعينه تتوق وتهف إلى تمبكتو عروس الصحراء وحورية المكان وفردوسه.
طاب العيش لمبروك في الكفرة.. في الصباح الباكر يعلـّّم الصبيان القرآن والنحو والفقه والرياضيات، وفي الضحى يرتاد السوق يستعرض معروضات القوافل القادمة من تشاد والنيجر وفزان وغات وتمبكتو وبورنو.. يتحاور مع تجّارها ويتعرف إلى أعيانها ويشاكس عبيدها وجواريها.. يستعرض البضائع ويسأل عن الأثمان.. البضائع الواردة متنوعة.. ناب الفيل.. تراب التبر.. جلود التماسيح والنمور والثعابين.. الأصباغ.. الأعشاب الطبية.. البانقو.. البخور.. ريش النعام..
ويا بوجمّة ريش نعام..
ما خليت العقل ينام.

هكذا يغني قبل أن يسأل السوداني عن سعر كمية ريش تملأ وسادة.. وعندما يجد السعر غالياً.. يبتسم قائلاً للبائع سوف أتوسد ذراعها ولتحتفظ بريشك الغالي.. يسأل بعضهم عن مخطوطات وكتب.. أحياناً يتحصل على مخطوط يعجبه فيبتاعه.. أو يقايضه بشيء اشتراه سابقاً.. أحياناً يجبره فضوله فيسأل أصحاب القوافل وتابعيهم عمّا يعلقون حول رقاب دوابهم من حصون جلدية وتمائم وودع.. وحدث أن أقنع أحد السودانيين بفتح الحصن الجلدي المعلق حول رقبته.. قرأ مبروك ما حواه.. آيات قرآنية.. أسماء الله الحسنى.. رموز ومثلثات ومربعات ورسومات لم يفهم كنهها.. ذات مرة وجد في عنق جمل حصناً وطلب من صاحبه أن يفتحه ليطلع عليه.. امتنع الصومالي، لكن مبروك طمأنه وأعلمه أنه شيخ قرآن سيدعو له كي لا تلحقه أي لعنة، وكي لا تلدغه أي أفعى أو عقرب أو هامة.. وافق الصومالي وفتح الحصن.. وجد مبروك الشيء نفسه.. آيات قرآنية.. أسماء الله الحسنى.. علامات ومربعات ومثلثات شبيهة بعلامة تانيت.
القوافل بين الكفرة ومدن السودان وتشاد وفزان كثيرة وسريعة الوصول.. أوصى أحد التجار على مخطوطات قديمة فأحضر له بعضها.. قرأها مبروك واستفاد منها.. وطلب المزيد منها.. وانتشر بين القوافل ولعه بالمخطوطات فتسابق التجار على إحضارها وبيعها له.. أكثر المخطوطات هي أصول النص الأصلي.. يقرأها مبروك ويحققها ثم يهديها إلى تلاميذه المهتمين أو أصدقائه عشاق الكتب والإبداع.
كل دخله وهداياه ينفقهما في اقتناء المخطوطات تاركاً نفسه تعيش الكفاف والزهد.. وتأتينا أصداء الألم القديم حاكية لنا عن مدينة الكفرة وعلاقتها الأزلية مع المخطوطات.. كانت الكفرة منارة للعلم ومركزاً من مراكز المخطوطات القيمة والنادرة يرتادها الطلاب من كل جهات أفريقيا ومن الشام والعراق.. كانت بها مكتبة كبيرة.. كتبها في كل أفرع المعرفة.. لكن مع قدوم الغزو الإيطالي للكفرة صيف 1930م فقدت هذه المكتبة أهم مخطوطاتها.. بل دمرت بالكامل.. وفعل بها الطليان الفاشيست ما فعله التتار بمكتبة دار الحكمة ببغداد.. جعلوا المخطوطات وقوداً يطهون عليه طعامهم.. ورموا بعضها في العيون.. وتركوا بعضها في العراء تمزقه وتشتته الرياح.. عشرات الآلاف من الكتب مزقوها ورموها بالرصاص وداسوها بالأقدام هم ومرتزقتهم المصوعية والأحباش والليبيون الخونة.. قوة عنجهية غاشمة زحفت لاحتلال واحة صغيرة مسالمة.. 654 جندياً وضابطاً إيطالياً.. 3321 من المرتزقة.. 378 سيارة مصفحة.. 7000 بعير.. ثلاثة مدافع ضخمة.. 25 طائرة تقصف قنابل مليئة بالغازات السامة والنار.. كل هذه القوة الإيطالية الضخمة لمحاربة 400 مجاهد فقط مسلحين بالبنادق الرديئة.. على الرغم من التفوق لم يهرب المجاهدون وقاتلوا حتى النهاية.. بل كثير منهم عقل ركبتيه بحبل غليظ وصاح :
مرحب بالجنة.. جتْ تدنـَّى.
أبطال سيخلدهم التاريخ.. عبدالجليل سيف النصر.. صالح ليطوش.. أحمد شعيب.. عبدالسلام الكزة.. عبدالحميد بومطاري.. وغيرهم من الأبرار.. احتلت إيطاليا واحة الكفرة.. وما فعله التتار في بغداد فعلوه هم.. أحرقوا الكتب وداسوها.. قتلوا الأسرى الضعفاء.. اغتصبوا النساء والبنات.. طاردوا المستجيرين بالصحراء بواسطة الطائرات.. كلما وجدوا قافلة صغيرة قصفوها وأرسلوا إليها كتائب الهجانة ليقضوا على من بقي حياً فيها وليأسروا النساء.. لقد كتب الكاتب المناضل الأمير شكيب أرسلان بياناً حول احتلال الكفرة وزع في موسم الحج وتناقلته كل صحف العالم، ومما جاء فيه: "لقد طعن الليبيون الشرفاء في شرفهم وفي دينهم وفي دمائهم وممتلكاتهم وأموالهم وسيحل بالمسلمين ما حل بالليبيين إذا لم يدافعوا عن أنفسهم ويثبتوا للعالم أنهم أمة حية".
وآه يا واحة الخير كم رأيت من ويلات.. واحة الماء والتمر.. مبروك سعيد فيها.. نواح الكتب المحترقة والممزقة يصله.. يزرع في مداركه ما تبقى فيه من معلومات.. يسقيه بالعبر والحكمة وبالجنون الخلاق.. واحة الكفرة واحة خير.. الماء العذب متوفر زلالاً.. التمر على طول العام يساقط من النخيل أو مطمور في الرمال.. اللبن والزبدة والزيت والدقيق والقصب يحضرها له طلابه كل ثلاثة أيام.. أهل الكفرة كرام.. لا أحد ينساه منهم.. لا يتركونه وحيداً أبداً إلا إن رغب في الانقطاع والاعتكاف للتعبد والدراسة وهلة من الزمان.. دائماً يوسعون خاطره.. يسامرونه ويدعونه إلى ولائمهم ومناسباتهم السعيدة.. أما الحزينة فيجدونه في صميمها يشاركهم الحزن ويزرع لهم حنان المواساة.
يقولون عنه: هذا الشيخ الصغير ليس كمن عرفنا من شيوخ ناشفين متجهمين.. هذا المبروك البحبوح صاحب طرفة وكلامه ليس سفاهة وليس طماعاً وكرشه ليس كبيراً ولا يجلد أطفالنا بالفلقة.. هذا الشيخ ملائكته خفيفة.. ربي يحفظه مالعين وخمسة وخميس والصّـلا عالنبي عليه..
في زمن قصير أطلعه بعض الأهالي على عدد لا بأس به من المخطوطات.. مدونات ذات قيمة عالية.. في المعارف الإنسانية كافة.. طب.. شعر.. نحو.. تصوف.. فلك.. جغرافيا.. تاريخ.. هندسة.. أنساب.. سحر.. علم كلام.. منطق.. كانوا يحتفظون بها في صناديق متينة مع طابوات الأرض ومع حليهم النفيسة المتوارثة من الجدود ومع قطع سررهم الناشفة.
ولع مبروك جداً بالجغرافيا، خاصة جغرافيا الصحراء.. بهرته أخبار تمبكتو الفاتنة فتاق إلى زيارتها والتعبد والتعلم في مناراتها وجوامعها الطوبية المخروطية الشهيرة.. الطريق إليها يمر بتاسيلي.. مدينة النقوش الليبية الأصيلة.. كم تاق لتحسس تلك الإبداعات.. كم تاق لوضع خده على تلك الصخور.. كم تاق إلى التسمر أمام رمز الزمن والبقاء.. أمام الفن الذي يكبر ولا يشيخ حكمة أو جنوناً.
كانت علاقته بأعيان قبيلة أزويّة الكريمة جيدة.. كذلك بأعيان قبائل التبو الطيبين القاطنين معهم المنطقة نفسها.. يدرّس أبناءهم جنباً إلى جنب.. كان يعيش رغدا هانئ البال.. لا مجادلات مع متزمتين.. ولا حروب تسعى لقتله.. تدريس.. قراءة.. التقاط معارف من الأسواق.. زيارة أصدقاء.. تأملٌ في الصحراء ونجومها وقمرها.. جلوسٌ إلى حافة العين الجارية.. أصوات منغمة تغرقه منذ أن يؤذن الديك معلناً الفجر حتى عودة العصافير والطيور إلى أعشاشها وحواصلها ملأى أوان الأصيل.
في القيلولة يستمتع بنقنقة الضفادع الشجيّة على ضفاف العين التي يقولون إنها تزغرد للنبي صلى الله عليه وسلم.. هذه الحياة الصغيرة المتواضعة أنسته كدره السابق.. يذكر أمه وأباه بدمعة صبر.. ويذكر حبيبته بنت الخالة ربيعة بعبرة صبر، ويذكر صديقه كليمنتي أربيب بسيل من دموع.. لكن هو يحتسبهم لله ويستفيد من هذه الأحاسيس الوفية النبيلة في سبر آبار وجدانية أخرى أعمق وأبهى.
كلما ذكر صديقه كليمنتي أخرج عصا الزيتون من غمدها السعفي وقرأ أشعارها وتفحص ما عليها من علامات وحروف عبرية هو يجهلها.. يقرأ الأشعار الليبية العذبة:
بيضا لبست ثوب زرنقي.. جت ترشنقي.. حاكم ويراطن بغلنقي
بيضا لبست ثوب أزرق.. وجت ترشق.. قدمها دوبه لرض يطق
اتخفّ اللي عقله واثـق.. يتم سلنقي.. مجروح وجرحه بعشنقي
إلخ..
يقرأ أيضاً:
رينا بنت على ما كينا.. قبل اغوينا.. لكن في الدين تخاطينا
ويضيف إلى الأشعار المنقوشة نقوشاً جديدة لمختارات أعجبته من ديوان ترجمان العشاق لابن عربي ومن ديوان ابن الفارض الرقيق الشفاف.. ينقش كل هذه القصائد بجانب قلب الحب الذي يخصه مع بنت خالته ربيعة مجهولة المصير.. هل ماتت في وباء التيفود؟ أم اغتصبها الطليان فقتلت نفسها؟ أم رضخت لسُنة الحياة وتزوجت أول طارق صادفها؟ الحرب والمرض شتتاهما.. كانا يعيشان سعيدين.. يسرحان في غابة أبي مسافر الظليلة.. يرعيان الجداء المشاكسة والحملان السمينة البيضاء كالثلج.. وقت القيلولة يجلسان تحت شجرة صنوبر كبيرة زاخرة بالأعشاش.. صاخبة بالزقزقة.. تعد له الشاي على حطب ثمرات الصنوبر الجافة.. يتقاسمان طعامهما معاً.. قضمة بقضمة.. ومرّة كانت ضرسه اللبنية وجيعة فمضغت له وألقمته ممضوغها.. بعد الانتهاء من الطعام يغسلان أيديهما في الغدير ويتعانقان ويشرعان في حركات عفوية استكشافية من ضمّ وشمّ وتقبيل وتقلب على فراش الأعشاب.. آنذاك لم ينضجا بعد.. كانا يقلدان مداعبات الحمام والكلاب والقطط.. كانت بنت خالته ربيعة أكثر منه خبرة.. تقول له دعنا نفعل ما يفعله خالي لزوجته.. لقد بتُّ في خيمتهم وكانت الليلة مقمرة فرأيت كل شيء.. كل شيء يا مبروك.. واستلقت على ظهرها وأخذت مبروك أرقدته فوقها ورفعت رجليها إلى أعلى حول رأس مبروك حتى أصبحت مشطتاها كأذني أرنب.. مبروك يضحك وينتشي.. وبنت خالته تقول له: اضغط ما تهواش علي.. اضغط يا غالي علي.. هكذا تقول زوجة خالي لخالي.. وعندما بدأ مبروك الضغط بشيئه والاندفاع لأسفل صرخت بنت خالته ووه ه ه ه ووه ه ه وعـّــرررر.. نار.. يا نا علي.. والكلب صار ينبح وينطط إلى أعلى.. ويدور.. وقفاً سريعاً.. كانت خالته قادمة تناديهما.. جري يا عويلة.. جدكم الحاج جاء من السوق وجابلكم امعاه الحلوى والزمارات.. فيركضان ناحية النجع تاركين مهمة لملمة القطيع المتبعثر بين الشجر لخالته الطيبة.
هذه الحياة الصغيرة التي يستذكرها وتنعشه بلهيب دافئ جعلته يعيش هذا المناخ البهيج.. وكان لابد للحب أن يثب من رماد الأحزان ويلتهب في قلبه من جديد.. فالحب شيء حيوي في حياة الإنسان كالأكل والشرب والنوم والهواء.. ومع قراءاته لابن عربي ولابن الفارض بدأ حب جديد يخفق في قلبه.. كل ليلة يجلس إلى عين الماء الجارية يتأمل حيناً.. وحيناً يقرأ الشعر ويتطلع إلى القمر والنجوم وإلى صورهما المهتزتين على وجه الماء.
في الشعر يجد حبيبات كثيرات.. على قفا من يشيل.. يتغنى بهن.. الحبيبات لسن محسوسات.. حبيبات يحلنه إلى عوالم نورانية تبهج نفسه وتضيء روحه.. ويأتيه طيف الحورية سميرة.. تلك الشاعرة النحيلة ذات الذقن المرتعش التي أحبها دائماً بصدق.. تنزلق من النخلة الملتوية في الجغبوب.. تهمس في أذنه.. العين التي أمامك عذبة.. عذبة.. لا تملحها بالبكاء.. لا تسبخها بملح الحزن.. في هذه الربوع ابحث عن حبيبتك.. حتماً ستجدها.. فتاة قمرية.. شاعرة مثلي.. هي تراقبك وتراك كل يوم.. هي تبتسم لك وأنت تحمر خجلاً وتصفرّ غيرة من النور الملتهم لألق ابتسامتها.. دائماً تمر من أمام خلوتك.. تضع على كتفها جرّة ماء.. تبطئ إذْ تسير من أمامك.. تتعاثر بعمد العمد.. حتى تنتبه وتقول لها بيت احمد رفيق المهدوي:
اسمله مرود عيني طاح..
تلقوه ايدين الصلاّح.

فتلملم صرختها المكبوتة من الصدى ويتناثر بعض الماء من عنق جرّتها المشلوم ليبلل صدرها السخي، فترتسم رمانتاه الطازجتان واضحتين رخوتين من خلال الفستان الصيفي النبيذي اللون والمرقش بزهيرات بيضاء هادئة.. هي مائية تحب المطر والبحر والعيون والغدران والشلالات.. هي مسحورة مثلي بيد أن سحرها لم يلفها في شجيرة بعد.. ويشتد الوجد بمبروك فينادي الخلاء.. آه يا بنت خالتي ربيعة.. أينك الآن.. قرأت كل كتب السحر ولم أفلح في إيجادك.. سألت العرّافين ولا أحد أخبر.. قلبك المنقوش على عصا الزيتون ينظر إلى.. يعاتبني.. كيف أبدأ علاقة حب جديدة والقديم باق كربٍّ؟ كيف أحب وأنت نقش أبدي في قادم ذاكرتي؟ آه يا طوطمي الوجيع.. يا كرتي المبحوحة.. ياسرة النبض.. يا خلطة ندى الروح.. يا فجراً دائماً لا صبح له ولا يقدم من ليل.. وتهزّه هذه المرّة الحورية ببهرة طيف تدميه.. لا تعش على الوهم.. الحي في اللي يالاه.. هذه حياة.. أن لم نعشها عاشتنا.. ويزداد سكر مبروك الروحي فيقول للحورية سميرة وأنتِ.. وأنتِ.. شنو ايصير فيك؟.. حتى أنت أحبك مثلها وأكثر.. أنت ما تهونيش علي نتركك ونخليك ملوية في جفاف القدر.. أنت التي تشاركيني آلامي مذ تعرفت إليك في ملاهب التواريخ.. أنت خلطة حروفي.. أنت أقلامي الغارقة في قاع النوافير.. أنت روح بنت خالتي ربيعة.. أنت حبيبتي القمحية اللون.. أحببتك يا سميرة الأسطورة و يا سميرة الحياة.. فتجيبان كلاهما: لا تهتم.. أنا دائماً معك.. أنا دائماً لك.. أنا عصا زيتونتك اللامرئية.. أنا اتكاءتك الراسخة.. أنا خيال.. أسطورة.. دير روحك ما عرفتنيش.. أنا حزن.. دمع.. ملح.. أنا تاريخ لواه السحر القاتل وأكمل عليه حظ النحس الدميس.
أنا الحورية سميرة.. لي حبيب اسمه سراج.. سراج أصفر بهيج.. وضيء.. سراج غير مبال.. دائماً يبتسم.. يقرأ ويكتب.. وكل صباح يحضر لي وردة قرنفل وقارورة ماء ويقرأ لي آخر الأشعار.. يمنحني زادي الصباحي وبإصبعي أمسح عن جبينه مطر الشقاء.. الحظ فرقنا.. وقدر الأزل لم يطبخنا معا في مقلاة واحدة.. أنا معك في الحلم.. وأنت تعيش الآن في الواقع.. اسع إلى قدرك أيها الحبيب.. تمتع بوقتك ولا تهتم.. ولا تشمم نشازات العطور.. لقد سامحتك دائماً وأبداً.. عفويتك استغلها المغرضون.. لقد سامحتك لكن هنيني مع الفتاة القمرية.. لن أرضى بقبلة على الجبين.. أو اليد.. على الفم مباشرة.. اقضم شقاءها يا لعين..
ويعود بعد منتصف الليل إلى فراشه الرملي متفكراً.. جسده فائر يشتعل.. يتطلع إلى عناق انطفاء وارتخاء ما بعده قيامة.. من تكون هذه الفتاة؟ من تكون هذه الحبيبة الرطبة كالكستناء المشوية؟ من تكون هذه المتقرمشة كحواف خبز التنور في ليالي الشتاء؟ من تكون هذه الصحراوية الصافية كماء والطاهرة كسماء؟
في صباح عيد المولد النبوي الشريف ابتسم له الحظ.. أحد الصبيان الذي يعلمه القرآن في جامع أزويّة أحضر له قصعة عصيدة بالزبدة ورب التمر.
قصعة فخّار جميلة موشاة بالصدف مغطاة بقبة طبق من سعف النخيل المصبوغ.. قدّمها لمبروك وعيّد عليه مقبلاً يده ومعانقه طويلاً.. غسل مبروك يديه في ماء العين وجلس في ظل وشكة كثيفة السعف والعراجين.. رفع الطبق عن قصعة الفخار.. البخار يصّاعد من قبّة العجين والزبدة بيضاء مصفرة خاثرة.. أما الرٌّب.. فيا نا عليْ من الرُّب.. فقد نُقش به على سطح العصيدة اسمها.. خفق قلب مبروك ببهجة.. غرق سريعاً في الانتشاء اللذيذ.. تسمّر أمام العصيدة.. البخار يخجل ويخف والزبدة تتلزّج وتنعقد أكثر.. والرُّب يوشم أكثر بياض العصيدة الرخو.. احتار مبروك.. هل يأكل ويمسخ هذه اللوحة الطازجة المباركة أم يتفرّج ويأكل في الخيال من هذا اللهيب.. في أثناء حيرته مرّت أمامه.. شفتاها ترتعشان من الوميض.. وفمها تلويه لا شعورياً يساراً.. ملأت جرّتها سريعاً من العين واتجهت عائدة مارّة من أمامه.. رمقته بنظرة صحراوية آسرة.. نظرة ذاهلة من جنون السراب.. ومن ذاكرة الرجاء في نفوس الآملين.. نظرة متوحشة مشتاقة جعلت رأسه ترتفع من على عصيدة الطحين وتنغرس في عصيدة الطين.. سميرة هزهزت رأسها موافقة.. وبراق القدر عن مدارات المألوف لم ينعطف أو يتفلسف..
ابتسم لها....
ابتسمت له...
قالت له: ماذا تنتظر أيها الشيخ؟ لنأكل..
فأكلااااااااااااااااااا..
وغطسا في مياه العين الأبدية.
في العصيدة البيضاء التي ملستها أنامل رقيقة محناة مشهدية دفء.. سخونة العصيدة انسابت في عظام الأنامل.. عندما تشابكت أيديهما.. لم تكن الحرارة في اليدين.. لم تكن الحرارة في الشمس ولا في القلب.. ولا في أي شيء.. لم تكن هناك حرارة أو برودة في الأساس.. لم يكن هناك شيء من هذه الزوائد المناخية حاضراً.. عندما تشابكت أيديهما كانت رائحة التابير تتضوّع من فحولة النخيل.. رائحة الطلع ذات السر الخصيب.. التمور في النخيل تمتص حلاوتها ومتانتها من هذا العطر.. والجمّار يمتص بياضه من حرارة اللقاء.. واللاقبي في الأنساغ يعد نفسه أنخاباً للبهجات الساطعة.. عندما تشابكت أيديهما كانت السماء تمطر والصحراء تعود إلى طبيعتها الخضراء الأولى.. والحياة المؤلمة التي عاشاها في الزمن السليف صارت آنية حاضرة.. جنة ساعة التخييل والقراءة والكتابة والانتهاء والبكاء.. عندما تشابكت أيديهما كانت الأزهار تفوح والسماء تمطر والهداهد تنقل الأخبار لكل سليمان معاصر حكيم أو أبله.. رمال الصحراء كانت لهما كأعشاب غابة بومسافر.. نعومة الرمل كنعومة العشب.. ماء العين في الكفرة كماء الشلال في درنة كماء عين الشرشارة في ترهونة الحبيبة.. السكر واحد.. الحب واحد.. الإله واحد..
استغرقت الحبيبة في زغاريد النبض واستغرق مبروك في الابتسامات الحالمة المتطايرة كزغب جريح.
العصيدة بيضاء.. اختلطت حروف الرُّب بحبر الزبدة.. السواك في شفتي حبيبتي داكن أسود في اخضرار في اصفرار الزعفران.. والحناء متألقة جداً في كفيها وقدميها والأقراط تتراقص في أذنيها، تبرق حبنا وقلائد الودع في جيدها ومعصميها آية من تسابيح.
لا ندري كيف بدأت الحكاية ومن الذي أوجعه ضرسه أولا ليمضغ له الآخر مضغ الحياة.. وآه من عصيدة الزبدة والرّب متى كانت تمضغ بس؟!
الحبيبة فتاة شابة ذات حضور ملائكي طاغ وجمال فطري لا أدري من أين لبسته وانصهرت فيه.. أبوها من فقهاء المنطقة.. وأمها سمراء من سلالة تمبكتو المنحدرة من نسل الملك النجاشي الكريم.. في روحها اختلطت الدماء العربية بالزنجية.. والحليب والكاكاو إذا امتزجا بقدر روحي فتلك حلاوة أخرى.. امتزجت فيها ألحان الناي والعود والربابة بألحان الطبول الجلدية والأبواق المصنوعة من القرون.. اختلط فيها الكرم والمروءة واللين بالشراسة والشجاعة والتدبير.. الغناء بالرقص.. البرودة بالفوران.. هي فتاة ذات خليط عجيب متناسق.. تتنازعها الفصول الأربعة.. بها كل الأزمان وتتخللها كل الأمكنة.. السموات الجنان.. جحائم الجحيم.. هي شاعرة.. فارسة.. ذات فراسة وفهم بأنساب الشعوب.. درست الأديان وخاصة القرآن الكريم.. درست النحو والفقه والفلسفة والشعر وعلى دراية جيدة بالفلك والأبراج.. تعلقت بمبروك منذ قدومه إلى الكفرة.. أبهرتها شخصيته السهلة التلقائية.. عندما وصل مبروك الكفرة كانت تعيش حالة فراغ عاطفي.. فابن عمها الذي خطبت له وتحاببت إليه تركته بعد فعلته الانتهازية الشنيعة.. لقد قايض عباءة وقربة ماء بجمل كبير.. الأفارقة الهاربون من جحيم الحروب الأهلية ومن الجوع يصلون واحة الكفرة فيستقبلهم مثل هؤلاء الانتهازيين، وبدل أن يقدموا لهم الماء والطعام والمأوى والملبس تمشياً مع أخلاق الإسلام، يستغلونهم ويأخذون منهم جمل الوصول الثمين مقابل ثوب بالٍ يستر عوراتهم وبطانية مسروقة من معسكر الجيش تغطيهم..
لقد غضبت الحبيبة من هذا التصرف المخجل الذي لا يفعله رجل في وجهه قطرة ندى.. وأقسمت أن هذا النذل لن يسدل عليها رواق خيمة.. وحاول أهل الخير مع والدها الفقيه وكان رده لن أكره ابنتي على زواج لا ترغبه.. ورائي حساب يوم غد.. وتجاهلت الحبيبة كل وساطة عن طريق العجائز، وانقطعت الشعرة نهائياً عندما تقابلا عند معطن الإبل وعيّرها هذا التافه قائلا: أنت ترفضيني ياللي خوالك عبيد سود.. لترمي عليه جردل الماء فتشج رأسه..
كرهته الحبيبة قلباً وقالباً.. صارت تتكحل بالسم ولا تتكحل برؤيته.. بصقت ذكرياته في بئر قار ومحت هذا العنصري من خيالها إلى أبد الأبد.. ووصل مبروك الكفرة.. لفت نظرها عدة مرات.. وهزهز روحها بقشعريرات حالمة.. أخوها الذي يعلِّمه مبروك في الجامع ينقل لها أخباره وحركاته وسكناته بالتفصيل، وهي بالطبع لحوحة عليه بالسؤال عن كل شاردة وواردة تنم عنه.. ألهب لبّها أو خلبه إن صح التعبير.. أعجبت بنظافته ورائحة مسكه في دفاتر الصغير وطريقة تدريسه اللينة العطوف.. أعجبها عدم جلده للصغار بالفلقة.. لديه عصا زيتون جميلة لكن لا يضرب بها الصغار.. لقد جلد بها قلبها فأذابه وأحياه من جديد.. وزاد ولعها به حالما علمت أنه يريد السفر إلى تمبكتو مدينة أجدادها السلاطين.. مدينة المعرفة والتبر.. مدينة أخوالها الطيبين.. مدينة العلم والتجارة والحضارة البكر والمخطوطات النادرة ذات القيمة.. قالت في نفسها: هنا وانبات.. هذا هو صاحبي.. هذا من أريد.. إنسان عاشق للجمال والعلم والقمر والماء والنجوم والرحيل والشعر، وساحت قريحتها فأنشدت لنجوم الصحراء وقمرها ولروحه المحلقة والمعلقة في هدب روحه الآن.. وللتاريخ الذي زعزع كل أحلامها وللبارود الذي قتل أجدادها بأيدي الطليان الغزاة ولليل وللظلام وللوقت الذي ذهب هباءً وللوقت الذي أسعدها أخيرا بطيف رهيف يفهمها ويسمعها.. يضمها ويقبّل ذرات الشقاء في شفتيها.. طيف يتغشاها ويعيشها بنكهة معنى مطحونة من الأرض وغارقة في رقرقة العين.. سالت قريحتها ودياناً من موسيقا وبحار من بليغ ومحيطات من سحر يسعدنا.
لولا مبروك لظلت هذه الكلمات حبيسة.. دفينة.. الأشعار الجميلة لا تولد إلا للحب.. وها هو لسان الحب يسيل برضاب الأبجدية:
"أفلا يتنبأ وقت الأحزان*
للورد الباكي المحتقن الأجفان بربيع أبهى
كنا لا نعبأ بالتاريخ
كنا لا ندري أين ومتى وكيف
كنا كطيور.. آهٍ..
ما أروع عمر الطير وما أبهاه
وحده لا يعبأ بالتاريخ
هذا التاريخ
يا أشقى من شفتي
وأكثر بردا من ليلة في كانون
ولأي واحة سأخلد في زمن النكسات
كنا لا نعبأ بالتاريخ
لكن فراشات الأحلام تغادرنا
والمطر الفضي المتألق
لا يعرف طرْق نوافذنا
والديكة أغفلت الأسحار
والبحر على شفة الشاطئ
يغتال الصمت
والوقت مرير
ونجوم العالم أحجار صلدة
أين المعجزة الآن؟
أين يا مبروك؟
أيهذا التاريخ ألا تنطق؟
في زمن الحرابي
لم يعرف بعد الأطفال مراقدهم
وعلى الحجر الأملس
وقفوا بذهول
فلِمَ لا يؤمن بالإنسان الإنسان؟
كنا لا نعبأ بالتاريخ
لكن القدر مدَّ يديه القاتلتين
حتى أن أصابعه بارود
وعينيه جثة مدفونة
وشفتيه أبواب ضريح
علّمنا القدر
أن الزمن عيد النار
فمتى ينهار الصخر على الحفار؟
والزرقة على الحبّار؟
كنا لا نعبأ بالتاريخ
لكن حين يضيع الحب
من يسمع همس القمح
وتغريد الأنهار؟
حين يضيع الحب
فأي المسافات ستأخذنا لتمبكتو؟
جاء التاريخ
ليقبر كل ورود الألم
ليحرق كل مسامات العشق السمراء
ليسجن حتى النخّاسين
كنا لا نعبأ بالتاريخ
لكن ما الوقت الآن ؟
أتراه شروقاً يا مبروك ؟
هل عاد المغلوب ليخسر؟
ولا نجمة تزين سترته الظلماء
كنا لا نعبأ بالتاريخ
لكن يصعب أحيانا
أن يمضي الوقت ولا نفرح حتى لحظة
يصعب أحيانا
أن يمضي الوقت وتظل تجافينا البسمة
وتظل الساعة الرملية تردد.. تك..تك.. تك..
وتظل الساعة المائية تردد.. تك.. تك...تك..
وتظل ساعة قلبي يا مبروك تغني:
تكبك.. تكبك.. تكبك في زمنها الصمغي..
سنتك معا لحظة.. دمعة.. نزفة.. ريق.. نزفة دم.. ولنظل نتك.. ونتك..
كما صدقة في لوح الحفظ.. "

ولأن الحبيبة رزينة رصينة فلم تتسرع في الإفصاح عن حبها حتى ليلة المولد النبوي الشريف.. إذ زارتها في المنام فتاة جميلة كأنها حورية، أو بالأحرى هي الحورية سميرة المسجون قدرها في التواء نخلة بالجغبوب، وهمست لها أن مبروك يحبها ويهواها كثيراً لكنه خجول.. أطعميه من يديك شيئاً حلواً ساخناً إنسانياً.. في يوم العيد استيقظت فجراً على صياح الديك.. طحنت حفنات شعير وقمح بالرحى ثم ربّت حفنات من التمر الفاخر على نار حطب هادئة.. سحبت بعض الزبدة من مخض لبن عنزاتها وأعدت له قصعة عصيدة صغيرة.. عصيدة تشبع روحين لا ثالث لهما.. عصّدت العصيدة بمغرف زيتون وسكبت دفء الزبدة حول قبّة الدقيق الناضج المعصّد.. وحينما أرادت سكب الرّب انهمرت دموعها المختلطة بالكحل الحجازي وشكّلت على القبّة مطراً مالحاً اتبعته الحبيبة بسكبات انفعالية جنب بعض.. كل سكبة تعقبها عبرة.. سكبت حرفها الأول وألحقته بالثاني.. ثم الثالث.. ثم الميم حرف مبروك الأول الذي اشتدت عنده عبرة حظها، ثم بقية حروفها التي ملأت نقاطها بالرّب الحلو البذيخ.. وآه من تائية ابن الفارض لو أحصل عليها الآن.. ما أحفظه له قصيدة أخرى أجمل أنشدتها الحبيبة وهي تتأمل الرُّبّ والزبدة والعصيدة وبخار الفطور الذي سيدخل فم مبروك.. الذكرى قادمة والبخار كأنه أنفاس مبروك يمسح على وجهها المبلل بالدمع لتسيح.. وتنساب عذبة تجترّ من أعماق عينيها ألقاً وتستدعي من أحاسيسها وأحاسيس ابن الفارض لحظة الانتشاء.. وينفجر الينبوع من لبن روحها:
زِدْني بفَرْطِ الحُبّ فيك تَحَيّرا
وإذا سألُتكَ أن أراكَ حقيقةً
يا قلبُ أنت وعدَتني في حُبّهمْ
إنَّ الغرامَ هوَ الحياةُ فمُتْ بِهِ
قُل لِلّذِينَ تقدَّموا قَبلي ومَن
عني خذوا وبي اقْتدوا وليَ اسمعوا
ولقد خَلَوْتُ مع الحَبيب وبَيْنَنَا
وأباحَ طَرْفِي نَظْرْةً أمّلْتُها
فَدُهِشْتُ بينَ جمالِهِ وجَلالِهِ
فأَدِرْ لِحَاظَكَ في محاسنِ وجْهه
لو أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورةً
وارْحَمْ حشىً بلَظَى هواكَ تسعّرا
فاسمَحْ ولا تجعلْ جوابي لن تَرى
صَبراً فحاذرْ أن تَضِيقَ وتَضجرا
صَبّاً فحقّك أن تَموتَ وتُعذرا
بَعدي ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
وتحدّثوا بصَبابتي بَينَ الوَرى
سِرٌّ أرَقّ منَ النسيمِ إذا سرى
فَغَدَوْتُ معروفاً وكُنْتُ مُنَكَّرا
وغدا لسانُ الحال عنّي مُخْبِرا
تَلْقَى جميعَ الحُسْنِ فيه مُصَوَّرا
ورآهُ كان مُهَلِّلاً ومُكَبِّرا

لحستْ ما ساح من نقشها الرُّبِّي على العصيدة بسبابتها وأطالت الامتصاص.. ثم نادت أخاها الدارس عند مبروك: جرِي جرِي سلّم خيِّي شيل الفطور لشيخك..

* * *

سلامات يا درنة حلال مزارك..
راس جدنا مبني عليه جدارك.

بيت شعر معروف للشاعر سالم عبدالرازق الخادمي المشهور بالبانكة.. يترنم به سائق التاكسي المتلفع بعمامة بيضاء وهو يمخر بي شارع وسّع بالك بمدينة درنة.. شارع وسّع بالك هو شارع الشاعر الدرناوي الأصيل إبراهيم الأسطى عمر.. سمّي وسّع بالك لازدحامه الشديد بالسيارات والناس.. السيارات تطلق أبواقها: بيب بيب بيب بيبببببببب.. سائق السيارة الأمامية يلتفت معاتباً:
وسّع بالك.. ومعنى وسّع بالك هو: صبراً.. أو انتظر..
بعض الظرفاء الخبثاء لا يردّون على مطلق المنبّه وراءهم بوسّع بالك.. إنما يتمتمون وعيونهم في المرايا: اصبر كيف ما صبرت أمك تحت بوك.
السائق المتلفع بعمامة بيضاء المرتدي جلابية سمنية طويلة عليها فرملة سوداء يترنم بلازمته الأثيرة:
سلامات يا درنة حلال مزارك..
راس جدنا مبني عليه جدارك.

ويشير إلى جدار قديم يمينه.. يزعجه منبه خلفي فيلتفت قائلاً: وسّع بالك.. خليني نتمقـّـل في راس جدّي.. يتكرر المنبّه بأزعق من ذي قبل.. فيصرخ: إنْ كنت مستعجلاً انعطف يساراً إلى شارع الحبس.. ويستغرق في تأمل الجدار القديم الناتئة منه بعض الصخور الأثرية ذات اللون البني والأبيض والمتآكلة حوافها بفعل الزمن وعوامل التعرية.. هذا الجدار جزء من سور درنة القديم الذي كان يحيطها ويحميها.. يشير فأنظر حيث أشار وأستمع لشروحه وسط زوبعة المنبهات.. تحت هذا الجدار يوجد رأس جدنا الشيخ عبد المولى لَبَحّ.. وجدنا هذا مجاهد كبير.. مناصر للحق.. ثائر على الظلم.. في أيامه كانت درنة يحكمها الأتراك.. يجبون الضرائب الباهظة من الأهالي ومن كل القبائل المتاخمة لدرنة.. يجمعونها عنوة بطرق وحشية باسم الإسلام.. جدّي رفض الدفع لهم.. حرض قبيلته على عدم دفع منتوج عرقهم وشقاء نسائهم للأتراك الغزاة.. كيف بالله نشقوا طول العام.. حرث.. حصادة.. رعي.. نهار أسود.. ونعطوا منتوجنا كله للأتراك الغزاة؟ هذا ما قالش به لا الله ولا رسوله.. وكعادة كل الحكام الأتراك ألبوا عليه الأذناب وأرادوا الإطاحة به من زعامة القبيلة.. فسعوا إلى الفتنة بين قبيلته وقبيلة ليبية أخرى.. لتنشب بينهما حروب أهلية تضعفهم وتجعلهم يخنعون.. وعدوا القبيلة الأخرى بالزعامة والحظوة.. ناصروها ضده بالمال والسلاح والجاه.. صرخ جدّي في الجوامع والنجوع والوديان.. الأتراك غزاة.. كيف يدفع أهل الوطن الأتاوات للمستعمرين.. لو كانوا ليبيين اصحيحة عليهم.. لكن أتراك حمر جاؤوا من وراء البحر فحريق وضيق.. قبضوا عليه غدراً وأعدموه.. و ها هو رأسه الشامخ مدفون تحت هذا الجدار كجذر أصيل من بنيان هذه المدينة الطاهرة.. هذا الجدار هو ميزان درنة وحزامها.. هو الخميرة الباقية من درنة العريقة.. لو تهاوى هذا الجدار لخربت المدينة ولبكت البلاد.. ولتفشت الأوبئة والزلازل والبراكين.. هذا السائق يعمل مدرساً في الصباح وفي المساء يعمل سائق أجرة.. هو صاحب واشون (عائلة كبيرة).. ومرتب الوظيفة ضئيل.. والأموال التي كان ينالها أبوه كل عام من موسم الحصاد انقطعت أو تكاد.. الأمطار شحّت والأرض ما عادت تمنح الخير كما كان زمان.. أحياناً لا نتمكن من إرجاع ثمن الحرث والبذار.. نبدأ الحرث بصراع دامٍ مع أبناء العمومة الرائعين حول هذه الأرض الخراب.. وبعد أن نتـفق بطريقة أو بأخرى نحرث ونبذر ونحرس الحطيّة وننتظر.. الأمطار تتذبذب.. تسقط كل عام.. لكن لا تسقط حيث رمينا لها الحب.. تسقط بعيداً متجنبة بذور الصراع.. وفي الصيف لا نجد سنابل ممتلئة.. نجد بعض القش العابثة به الرياح.. نخورطه تبناً أو نبيعه شيلا بيلا ( جملة ) في أرضه بدريهمات معدودة.. ونعود بالحسرة والأحزان على رأي الشاعرالضابط الاسترالي نيكولاس، وبالمناسبة قصيدته تلك ترجمها الأديب الضابط الليبي سليمان محمود.. إنها البركة يا أخي.. إن نـُزعت.. نـُزعت الحياة من الماء.. والماء الميت لا يروي أسماك نظافتنا، ولا يغسل قطران حقدنا.. بلل عقيم.. وجوده كما العدم بالضبط.
جدّنا هنا.. مبني عليه جدارك.. أي هذا الجدار الذي أراه الآن مبنياً فوق رأس جدّنا.. رأس جدّنا الآن استحال تراباً.. ينظر إلينا.. فنـُـقرِئه السلام كلما مررنا من هنا.. راكبين.. راجلين.. زاحفين.. طائرين.. عند المرور من أمام الجدار لابد أن نتوقف.. من يكثر صخيبه بالمنبهات نقول له.. إن كنت عجولاً أحدر يساراً مع شارع الحبس.. والحقيقة أن كثيرين يفهمون قيمة هذه الأحجار بالنسبة لنا فيصبرون حتى ننتهي من اجترار ذكرانا.. جدّنا هنا.. نتأمله دائماً.. نتمعن في نظراته الودود.. نظراته تأمرنا بالمحبة والمحبة يا بورفيق ليست بالأمر الهين.. المحبة نار تلتهب.. المحبة يا بورفيق أن أمنحك صدقي.. والصدق صار نادراً في الأحلام فما بالك في النبوض.. عليّ أن أجد الصدق أولاً لأمنح المحبة.. الصدق في أعماقي.. يغوص ولا يطفح.. دعك يا صديقي من صدق الفلين والقوما والخشب والقش.. أعني الصدق الحقيقي الصافي كزيت زيتون أرى فيه وجه جدّي.. بشنبه الأنيق المدهون المتوتر.. بلحيته المشذبة.. أرى فيه عينيه الباسمتين.. وجبهته ذات الغضون المتماوجة كموج ساحل راس التين.. أنا عبيدي جدّي الشيخ عبد المولى لبح.. عائلتي تعمل في البحر.. مذ وعينا والبحر أمامنا.. لا نفهم إلا في الصيد والسباحة والغوص.. نصطاد الأسماك.. ونغوص للؤلؤ وللقطع الأثرية القيمة.. الزراعة والرعي ليست حرفتنا.. مانتحملوش الحر والغبار.. نحن عائلة مغامرة.. نعيش على شفير الموت لننعم بالحياة.. وطننا شاطئ البحر.. تفطرنا نسمات الصباح وتسقينا رذاذات الأمواج.. تعشينا هالات الشفق الغاربة وتسحرنا النجوم والقميرات السابحة في فضاءات الرحمن.
كل شتاء نبحث عن أرض نحرثها فلا نجد.. وإن وجدنا قليلاً فبعد عراك ومقايضات مادية ومعنوية.. نقول لهم خذوا سمكاً.. ونمنح أبناء عمومتنا أفخر أسماكنا.. فرّوج.. مناني.. مغزل.. حمرايا.. شولة.. تريلا كبيرة.. لكن لا يقبلون.. أحدهم يبرم شنبه ويقول شيلوا حوتكم بعيد.. الحوت يتعّبنا في الصبايا.. ويخلي فيهن مزفرات.. عندكم افلوس تفضلوا احرثوا.. مافيش افلوس ورونا عرض اكتافكم (إي اذهبوا إلى غير رجعة).. ونشكو إلى عمنا الشيخ عبد المولى لبح الذي ندعوه تكريماً جدنا.. فيبتسم لنا وجه متلألئ على صفحات الماء.. نراه يمين القارب فلا نجدف.. نراه يساره فلا نجدف.. نغرق ولا أغرز في رأس جدّي مجدافاً.. المجداف أصلاً يرفض أن ينغرز في صفحة الماء.. يرفض تشويه وجه سقى شجرته وأبعدها عن مواقد الأتراك.. يرفض أن يشوّه وجه جدّه كي يتقدم القارب أشباراً.. القارب يرقص ويظل مكانه.. جميل جداً الرقص في المكان.. ننتقل ذات اليمين وذات الشمال فأرى وجه جدّي.. في البحر على صفحة الماء.. في البر تحت جدار شارع وسّع بالك.. في القلب نبض دائم.. في الروح أحلام أبدية.. القارب يتراقص ويدور حول نفسه.. تيار سفلي يتلاعب به.. جدّي لا أراه يمين القارب ولا يساره.. أراه أمام الدفّة.. أجدف وجدّي يتباعد أماماً.. أجدف في الظلام ولا أضل السبيل.. أتقدم صوب الشاطئ.. صوب المرفأ.. جدّي يتباعد أماماً وأنا أجدف بهمة.. تيارات السفالة ما عادت تؤثر في.. لا أشعر بأي تعب.. أجدف.. أتقدم وكأنني لا أجدف.. أتقدم وكأن جدّي يقطرني بوشيجة مباركة.. من ربطني بها.. وكيف ارتبطت بقارب أملس الحظ.. لا إجابة سوى الصمت.. وتقدم القارب حثيثاً نحو مرفأ الآمان في مرسى رأس التين أو تين الرأس.
انتهى شارع وسّع بالك.. صار يسارنا شارع حشيشة أو البريد.. شارع حشيشة يبدأ بمبنى المصرف التجاري وينتهي في البحر.
تركنا شارع حشيشة يساراً إلى البياصة وهى وسعاية مكتظة بالبصاصين والمروجين والمقاهي والمطاعم ومكاتب المحاماة والسفريات.. تطل على البياصة عمارة كبيرة اسمها عمارة الأوقاف كان مكانها قبل أن تبنى سينما الصيفي لصاحبها سي الزنّي.. سينما في الهواء الطلق.. غير مغطاة.. تحوط كراسيها الأشجار.. أغلب شباب وأطفال درنة دخلوها ولهم بها ذكريات.. كلما يمر أي منهم ويرى هذا البناء الوقفي الشامخ تظهر في مخيلته سينما الصيفي وأبطاله المفضلون.. فريد شوقي.. رينقو لا يرحم.. سوبرمان.. طرزان.. عنترة.. وغيرهم.. كانت تعرض يوماً في الأسبوع للنساء فقط.. ذات عرض تسلل بين النساء رجل متنكر.. يتضوّع منه العطر.. يمشي بغنج.. يلف حوله فراشية بيضاء.. ينظر بعين واحدة.. حجز تذكرة وجلس قرب امرأة درناوية فائرة تتوعد الشبق بافتراس ناري.. جلس بهدوء متمتعاً بالرائحة الطيبة والأنفاس الآهيّة.. لكنه انفضح.. شمته البدوية التي جلست بجانبه من الجهة الأخرى.. عندما عانق البطل البطلة وأراد تقبيلها تأوهت الدرناوية صارخة بخفوت يا نا عليْ.. أما البدوية فخبطت صدرها بكفها ثم فردت ذراعها جانباً لتلمس صدر التي بجانبها قائلة شوفي يا دعيّة هالخبر.. يا نا علاي وكان يركب توّا.. عندما خبطت بكفها على صدره لم تجد نهداً فصرخت راجل بيناتكن يا شراميط.. وصرخت كل نساء السينما.. وفر الرجل بجلده تاركاً فراشيته البيضاء غنيمة.. صاحب السينما الزني إنسان ظريف وصاحب فكاهة.. ذات عرض جاءه اثنان أعوران وقدما له تذكرة واحدة قالا له: نحن أعوران، له عين واحدة ولي عين واحدة، لذلك ندخل بتذكرة واحدة.. فقال لهم سي الزنّي مرحباً تفضلا، لكن حطوا ترمكم (مؤخراتكم) على كرسي واحد.
بعد البياصة انعطف بي السائق يميناً بمحاذاة وادي الشواعر.. على اليمين عدّة أكشاك تبيع المشويات والبيتزا الرخيصة الموشاة بمفروم لحم البقر المجمّد.. مطاعم رصيف صغيرة جميلة خاصة في الليل.. كراسيها تتوسطها طاولات واطئة تموضعت فوقها شمعات ملونة.. حلو أكل البيتزا أو الشاورما على أضواء الشموع.. الشجر الضخم يظللها نهاراً.. وليلاً ينيرها بما تدلى منه من مصابيح.. هذه الأشجار هرمة.. شهدت أغلب تواريخ درنة الحزينة والمفرحة.. لا ندري من زرعها.. أهم الأتراك؟.. أم العرب؟.. أم الطليان؟.. الشيء المفروغ منه والمتفق عليه أنها ارتوت بماء درنة وتدفأت بشمسها الطاردة للنعاس.
صعدنا يميناً نحاذي الوادي الجاف.. وعبر جسر إسفلت انعطف يساراً مجتازاً عرض الوادي إلى ضفته الأخرى في بومنصور.. بعد أمتار من الاجتياز توقف قائلاً.. هذه مقهى النجمة التي تريدها.. وهذه أمامها مدفنة الصحابة رضوان الله عليهم وسلامه.. وان شاء الله ما ثقلنا عليك بهدرزتنا طوال الطريق.. والا انقولك.. مش مشكلة حتى أنت وسّع بالك.
كنت قد اكتريته من سوق الخضروات بالجبيلة.. نقدته دينارين.. قال حقي دينار واحد معيداً الدينار الزائد.. وبعدين أنت ضيف.. تفضل معي إلى البيت.. ما اديرش غيبة (كلفة).. شكرته وأعدت له الدينار لكنه رفض بإلحاح.. دينار واحد بركة وأشار إلى السماء.. إلى الشمس الغائبة الآن مخلفة حول قرصها نزفات من أنين أحمر، قرمز سعف النخيل وأرخى شعور عرائش العنب المتدلية من البيوت الدرناوية العتيقة.
ألححت عليه وقلت له أنت صاحب واشون.. وكل جغمة تبل الريق.. أنت لا تحرث الأرض.. أنت راقد ريح ومتكسرتلك على الشط.. خذ الدينار الآخر حلال عليك.. لكنه رفض بشدة وتمتم بكلمتين لم أسمعهما.. خمّنت أنهما.. وجه جدّي.
دخلت مقهى النجمة المقابل مسجد الصحابة.. بعض أصدقائي الأدباء والفنانين الدراونة متحولقين حول طاولة بلاستيك بيضاء، منطرحٌ فوقها مفرش قماش مورد.. أمامهم براد شاي وعدّة طاسات صغيرة.. يدخنون ويرشفون شاي البردقوش ويخوضون في حديث خليط من الأدب والفن والسياسة والنميمة.. اثنان هما الأستاذ سالم قاطش والأستاذ عاشور بريك يتناقشان بحماس عن تنظيم احتفال بمناسبة مرور 200 عام على الحملة الأمريكية على درنة 1805م. انضم لهما الأستاذ ميلاد الحصادي الصحفي الدرناوي المعروف.. كانوا يفكرون كيف يوفرون تذكرة سفر إلى طرابلس لجلب الأستاذ المتخصص في هذا الجانب عبد الحكيم الطويل من أجل إلقاء محاضرة.. انضم لهم الصحفي الشاب عادل بوجلدين باذلاً جهده، على الرغم من الأزمة المرضية الحادة التي يعاني منها.. حتى أنه أجّل العملية الجراحية إلى ما بعد الندوة.. طبعوا الدعوات ودبروا في التذكرة وحدد موعد المحاضرة يوم 15 من شهر يونية عام 2005م. سالم قاطش نشيط.. ملقب بسالم عشّة.. لأنه كلما وجد زحاماً انغرس فيه مستفسراً: ماذا هناك؟ إن كانت مشاجرة فضها.. وإن كان مريضاً أسعفه.. وإن كان الزحام حول شراء سلعة أو الحصول على قرض فتجده ينسحب ببطء ليجلس في أول ظل.
عاشور بريك أيضاً إنسان خدوم.. نشيط.. مشترك في عدة جمعيات خيرية.. يعشق العمل التطوعي.. ويحب خدمة الناس خاصة الضعفاء منهم.. مرة دخل مستشفى الوحدة فرأى طفلة مريضة تعاني الألم ولا أحد مهتم بها.. سأل الطبيب عنها فقال له لديها أنيميا حادة وتحتاج إلى عدة قنن دم.. سأل عن عنوان والدها فقالوا له في عين مارة وهي منطقة غرب درنة بحوالى 30 كيلو متر.. أراد أن يذهب إلى والدها ليعلمه، فأخبره الطبيب أن لا يتعب نفسه.. لأن والدها طلق أمها منذ مدة ولا يريد إحضار الدم كي تموت البنت وينتهي ما يربطه بطليقته.. غادر عاشور سريعاً المستشفى إلى قلب المدينة وفي كل ناصية يجد شباباً واقفين فيحكي لهم الأمر فيركبون معه السيارة للتبرع بدمهم لهذه الطفلة.. أحضر للمستشفى أكثر من القنن المطلوبة ولم يغادر المستشفى حتى حقنوا الطفلة بالدماء وحتى رأى واستمتع بابتسامتها الملائكية. سالم وعاشور تجدهما حاضرين في كل نشاط ثقافي أو اجتماعي تشهده مدينة درنة.. يبذلان جهودهما بسخاء من دون مَنٍ أو تفاخر.. حتى أنك لا تجدهما يتطفلان خلف منصة الكلمات أو أمام عدسات التصوير.. في الوقت نفسه هما لا يشربان الخمر أو يحششان.. ولا يسهران مع الأشقياء في سواني ظهر الحمر أو البلاد.. وهما أيضاً أصحاب فكاهات لذيذة.. مرّة حكى لي أحدهما فكاهة تقول: تزوج جمل من المخيلي بناقة من عين الغزالة، ودعا الجمل كل حيوانات الغابة إلا البقر لأنه خاف من عدوى جنون البقر.. وعندما كان الجمل يرغي وشاربه يتهدّل والناقة تمضغ وترفع ذيلها للسماء سمعت الحيوانات المحتفلة صخباً وهرجاً يقترب. أرهفوا السمع ودققوا النظر، فرأوا قطيع بقر يقترب حثيثاً ويغني:
حتى كان الجن اركبنا.. عرس اشورّبْ ما يهلبنا (لا يفوتنا)
تمت الندوة في موعدها بنجاح وكان الأستاذ عبد الحكيم إنساناً رائعاً ومحاضراً استطاع أن يسيطر بمادته العلمية التاريخية على كل الحضور الذين غصّت بهم قاعة المرحوم عبد العظيم شقلوف ببيت درنة الثقافي، حتى أن هناك من ظلوا واقفين في الممرات والردهات.. أغلب مثقفي درنة حضروا المحاضرة وحضرتها أيضاً زوجتي آمال وابنتي مهجة التي كان عمرها آنذاك ستة أشهر ونصف والتي قد تحضر المئوية الثالثة عام 2105 م.. ناقش الحاضرون المحاضر نقاشاً علمياً واعياً ينم عن فهم وثقافة، فاستفاد الجميع ورقصت درنة لهذه الذكرى التي تعتبر جزءاً مهماً من تاريخها.. هؤلاء شباب متحمسون يحبون مدينتهم ووطنهم ويعملون من أجل ارتقاء الثقافة والأدب والتاريخ وكل ما يسمو بالإنسان والإنسانية.
هذان الصديقان سالم وعاشور أخذاني في جولة في مدينة درنة وأوديتها وكانت لفتة كريمة.. التقطوا لي عدة صور.. بل فيلماً كاملاً.. والحقيقة أن درنة أعرفها جيداً.. ولي معها وشائج وحكايات.. وكل شارع حتى وإن جهلت اسمه فمذاقه عالق في قدمي.. ذرعتها منذ منتصف السبعينيات.. أزورها كسائح كتاجر كرياضي كعاشق ككاتب.. أحياناً أزورها على الكساد.. أي ليس لي بها أي شغل.. أركب سيارة وأجدني في درنة.. قد أبقى فيها ساعات فقط.. وأحيانا ساعة واحدة.. في درنة الزمن يحسب بالأنفاس وليس بالساعات.. ونفس واحد أستنشقه من نسيمها يجعلني منطاد فرح تستقل حوضي الفراشات وتطير، ليس بعيداً.. درنة لا يُبتَعد عنها إلا بمزيد من الاقتراب.. هي صمغ المدن.. وعسل الأزقة.. وسفيف العطر.. ومداد الاختلاجات.. درنة أعرف روحها جيداً.. أعرف ترابها الذي سيعود إليه الدوّاس والزحّاف.. لا أريد أن يأخذني أحد في جولات داخل درنة.. لا أريد أن أتعرف إلى الناس.. لا أريد أن يدعوني أحد للطعام.. أريد بعض المال فقط.. وصحراء معشوشبة بالصمت.
مقهى النجمة هذا كان مشتل زهور وقبلها كان مقهى صاخباً بالموسيقا والنرجيلا.. أقفلته البلدية بعد شكوى من هيئة الأوقاف الدينية.. قالوا ليس من السليم أن ترتفع الموسيقا فتشوّش على الآذان، وأن يتعاطى الحشيش أمام مسجد الصحابة وقبورهم الطاهرة الشريفة.. الآن فتح مجدداً كمقهى، لكن الموسيقا ممنوع والنرجيلا ممنوع.. لم يحصل أول الأمر على زبائن.. لا يجلس فيه إلا هؤلاء الأدباء والفنانون شبه المفلسين.. ومع الأيام اجتذب جلوس هؤلاء الأدباء والفنانين كثيراً من الزبائن الميسورين.. مسؤولون في الإدارات.. أساتذة جامعات مغتربون.. رياضيون.. سماسرة عقارات وسيارات.. بصاصون.. مهندسو بناء.. كتبة عموميون.. موظفو مصارف.. سائقو شاحنات.. فتحرك سوق المقهى وقرر صاحب المقهى الكريم منح الأدباء والفنانين براريد الشاي الأخضر مجاناً.
آذان المغرب يرتفع الآن.. المصلون منهم يمضمضون أفواههم من كأس الماء وينهضون والباقون أشعلوا سجائر جديدة ينفثونها بتباطؤ.. أحد الأدباء المصلين اقترب من أحد الباقين واستودعه قطعة حشيش ريثما ينتهي من صلاته.. عادوا من الصلاة.. ليس بعد نهايتها مباشرة.. هم لم يتأخروا في الجامع من أجل إتمام متممات الصلاة والتسبيح والدعاء.. لكن أخّرتهم عادة قبول العزاء.. من عادة الدراونة أن يأتوا لصلاة المغرب في مسجد الصحابة ويأتي للصلاة أيضاً كل من له ميت في ذاك اليوم.. بعد الصلاة يقف أهل الميت صفاً ويعزيهم كل المصلين.. وهذه التعزية تغني عن حضور المأتم.. الأدباء والفنانون المصلون عزوا في موتى ذلك اليوم وعادوا إلينا.. صاحب قطعة الحشيش استرد قطعته.. قلبها في يده تحت الطاولة جاساً وزنها وحواشيها.. وأعادها إلى جيب قميصه الداخلي.. احتدم النقاش مجدداً.. وشرّفت الجلسة وجوه جديدة.. وغادرت وجوه أخرى ثملت من الهذر.. الطاولة باقية والكراسي قابلة لكل المؤخرات.. جل الحديث كان عن الانقلاب الأبيض الذي أطاح بأسرة تحرير جريدة الشلال الحداثوية والمشاكسة (جريدة مدينة درنة) عائداً بالحرس القديم إلى رئاسة التحرير مجدداً.. هو ليس انقلاباً أبيض تماماً.. فبعده حدثت بعض التداعيات.. تم التحقيق مع أحد محرري الجريدة السابقين من قبل الأمن الداخلي.. وفهم ضابط الأمن أنه لا خطورة من هذا المحرر.. وأن الموقع الإنترنيتي الذي نشر فيه المقال المنتقد لأسرة تحرير جريدة الشلال الجديدة معنا وليس ضدنا، ومراسله في بنغازي صحفي معروف وأغلب كتاب ليبيا المحبين لهذا الوطن ولهذه الجماهيرية الليبية العظمى الحبيبة يكتبون فيه.
درنة مدينة صغيرة.. شمالها بحر وجنوبها جبل.. يقسمها إلى نصفين رأسياً وادٍ جاف.. الوادي قادم من الجبل ومنتهٍ في البحر.. درنة حبة تمر لها وجهان.. النواة ترمى في أرض الشلال فتنبت نخلة سعفها زوجي العدد وعراجينها أيضاً.. لا أحد يدق النواة علفاً لمزاج الحقد.. في الورد متسع من الحب.. وفي الماء طهارة لا تتبدد.. في مسجد الصحابة تجدهم صفاً واحداً.. ومع ضيوف المدينة لا تلحظ أي حساسيات.. وأمام الغزو يتوحد الكل.. والكل يطلق النار على الأعداء..
منذ زمن وفي درنة كل شيء اثنان.. الشعراء بطاو والخرم.. العوكلي والعجيلي.. المطربون بن زابيه والبتير.. كرة القدم دارنس وأفريقي.. فهيم رقص وعوض عون.. المسرح مسرحان فرقة هواة التمثيل والمسرح الوطني.. الزمارة إيقاعان.. ايقاع محلة بومنصور وإيقاع محلة المغار.. حتى الهواتف أرقامها شرق الوادي بعد الثلاثة وغرب الوادي بعد الاثنين.. جريدة الشلال جريدة وحيدة جعلوا لها شعارين.. أسرة التحرير المحافظة والمتصوفة شعارها مسجد الصحابة وأسرة التحرير الحداثوية والمنفتحة شعارها مياه الشلال.. التركيبة السكانية بدو وحضر.. لا شيء فيها اسمه امسك العصا من منتصفها.. أبيض أو أسود.. معي أو ضدّي.. إن كان دويت حسيتها.. وإن كان سكتت استحليتها.. هذا الوادي سيف حجري مزق طين البشر وغاص في بحر يتناسى.. اللهجات أيضاً لهجتان.. لهجة حضور طريّة رخوة كسكر ذائب ولهجة بدو نديّة ذات عسل حرّيق.. العيون المائية اثنان.. عين بومنصور وعين البلاد.. كل شيء في درنة اثنان اثنان.. إلا حبيبتي فواحدة فقط.
ارتفع آذان العشاء من مسجد الصحابة وكالعادة غادر المصلون لتأديتها مستودعين محرماتهم عند العصاة الباقين على الكراسي.. صلوا وعادوا.. الفنان منصور سرقيوة أمر النادل بإحضار العشاء.. قصعة كسكسي بالدجاج والسلطة الخضراء.. تعشينا وشربنا الشاي وتواصل النقاش الممتع الجميل حتى منتصف الليل.. السيارات الآن قل مرورها ورجال الشرطة بسياراتهم الجديدة المتينة في مفارق الطرق يستوقفون الرائح والجاي..
لا أدري ماذا حدث أو يحدث في هذه البلاد.. أحياناً تكون هادئة جداً وأحياناً تكتظ بالمباحث والشرطة والجيش وكأنها تعيش حالة طوارئ.
الشاعر عبد السلام العجيلي يسكن حي الزهور.. حي الزهور هو الحي الذي يعلو باطن بومنصور.. وباطن بومنصور هو التخوم الواقعة جنوب ضريح الصحابي زهير البلوي رضي الله عنه.. هي منطقة جبلية ضيقة الدروب مكتظة بأشجار النخيل والتين والليمون والتوت والرمان والخرّوب.. بها عين ماء جارية سميت عين بومنصور نسبة للصحابي الجليل أبو منصور الفارسي المدفون قرب رفيقيه زهير البلوي وعبد الله بن عبد البر رضي الله عنهم.. وبومنصور مرتفع منحدر تنتشر فيه الكهوف الطبيعية الغائرة والممتدة تحت كنه الجبال.. كهوف سكنها الناس قديماً والتجؤوا إليها هرباً من قصف الحرب العالمية الثانية.. التجؤوا إليها أيضاً هرباً من الأمطار الغزيرة وفيضانات الوادي المفاجئة.. أسفل الجبل يوجد كهف كبير غائر إلى الداخل يسمونه الجبخانة.. أي دار البارود.. كان الأتراك يستخدمونه مخزنا للأسلحة والمفرقعات.
وأنت على ربوة بومنصور ترى البحر أمامك والجبال حولك.. المباني الحديثة انتشرت في مجال الرؤية.. النخيل وبقية الأشجار متبعثرة هنا وهناك.. عندما كانت درنة خالية من المعمار الحديث يراها الرائي من أي سفح بقعة خضراء جميلة.. درنة مدينة البساتين صارت الآن مدينة الحجر.. السكان يتكاثرون يغرسون الإسمنت.. الإسمنت قوي لا يتفتت كالطين.. في الطين تنبت الأزهار.. في الإسمنت تنبت الأسياخ الصدئة.. الطين يشرب ماء المطر.. والإسمنت يزلق ماء المطر ويسفحه في دروب لا يريدها.. الموز انقرض وبقية الحشائش تقاوم يباسات الحياة.. نمتُ ليلتي في مربوعة الشاعر عبد السلام العجيلي.. تحدثنا عن الشعر والقصيدة الحديثة وعن الأدب الليبي والعربي.. والحقيقة أن عبد السلام سلم لي عليه.. مزاجه بهيج رائق وأنا مزاجي ناعس.. تركته ينظـّـر على راحته.. صال وجال بين الدواوين.. حكى لي عن مغامراته في مهرجان الشعر العالمي بمدينة لوديف الفرنسية.. حكى لي عن توبيخه للشاعر العراقي ابن المعالي.. وعن رفقته الممتعة لصديقي الشاعر خالد درويش.. حكى لي عن متحف اللوفر.. وعن لوحات جميلة تعبّد أمامها.. قرأ عليّ بعض قصائده الممتعة.. وشدّتني جيداً.. أي أذهبت بنعاسي قصيدته الكبيرة المشواشي التعيس.. هذه القصيدة التي أسكرت برج إيفل وجعلته مائلاً كبرج بيزا.. قال لي قصيدة المشواشي التعيس أخرجت من جلبابها كثيراً من القصائد ذات الخطاب المتغني بأناشيد الأسلاف.. عبد السلام ينشد تعاسته ومشواشيته:
هو ظل
فاجأه النداء
تركه
معلقاً
في آخر الزقاق
وهي عاصفة
هودجها الغبش
غناؤها
خيط من الرمل
وسعال.. قديم
فاقتربي
أيتها العاصفة
هذا النافر
وطن لأصابعي
وذلك القرمزي الصغير
نهر لمراكبي
أنا المشواشي التعيس
سليل
آلهة
الرماد
أعرف كيف أنضج
فاكهتك
العنيدة !
وكيف أرسم
الأدغال والطبول
على أغطيتك
الشتائية
أدعوك للرقص
في مواسم الجدب
وأرتديك
في ظلام الجوع
وجهاً ورغيفاً
صدري
تابوت
لألوانك البعيدة
بيني وبينك
ملح بليغ
آه
كيف أكمل
فيك أغنيتي؟!
والمدينة أهدرت قميص نومها
ووهبت نعاسها للريح
والخطى تساوم المسافات
بالوهم الذي تطاول على السفر
أنا المشواشي الجريح
العائد
من آخر الغزلان
فرشت..
لبكاء العالم
قلبي الطري
وهبطت..
إلى الغبار
أساوم
الحليب المجفف
وأبتسم لأقبح النساء
مصوّبا..
قصائدي المرتبكة
إلى عينيك البعيدتين
أنتعل
ثقباً
في الصباح
أهرّبُ
في جيب الظهيرة قُـبلتي
أقترح عظامي
حطباً
لمساءات الرحلة
فاقتربي
أيتها العاصفة اقتربي
هذا الزقاق
ما عاد يتسع لرؤوسنا
حذائي ما عاد يسمعني
بريدي
بوح
ثقيل
لا تحمله الرياح
يسقط
قبل المعارك.

قال ما رأيك نتعشى الآن أم تحتسي كؤوساً من خمرة النازلّي؟.. والنازلّي هو التين المجفف المسمى أيضا شريح.. وخمرة النازلّي من أفخر خمور درنة.. كان المستعمرون الإغريق يقبلونها من الأهالي كضريبة.. وفي درنة تعتبر النازلّي درجة أولى والدرجة الثانية هي خمرة الليمون الشفشي الذي يقطر منه أيضاً ماء الزهر.. وهناك خمرة لذيذة أيضا تقطر بواسطة الخرشوف.. كل خمرهم تدخل فيه الفواكه الناضجة من دون سماد كيماوي.. عندما تملأ القطارة القنينة يخضخضونها فإن رأوا بداخلها فقاعات شفافة مثل دحي الجران (بيض الضفادع) أو عروق ثمرة المشمش فمعنى ذلك أن الخمرة جيدة نقية لا مضرة فيها.. يختبرون الخمرة بإشعال قطرة منها فإن كان اللهب بنفسجياً شفافاً فالخمر جيد وإن كان أحمر فالخمر رديء ومغشوش.
هم لا ينتجون خمرة الطماطم المعجون المعلب ذات المذاق العفن أو خمرة الفلاش (سكر وخميرة فقط).. لا ينتجون من أجل التجارة.. بل للاستهلاك الشخصي.
تجرعنا عدّة كؤوس في صحة الشعر وصحة الأصدقاء الغائبين.. وتعشينا خفيفاً ثم لم ننم.. خرجنا نذرع حي بومنصور نشم نسيم الليل.. هبطنا من أعلى الربوة عبر دروج إسمنتية غير منتظمة صنعها والد عبد السلام المرحوم الحاج محمد الهوش العجيلي.. شيدها كصدقة جارية.. سكب الإسمنت المُحَصّى على الصخور الملساء.. تتبع بجردله فوضى التضاريس.. سكبة يميناً وسكبة يساراً.. وثالثة في المنتصف ورابعة خلفاً إلى اليسار.. المنحدر الجبلي يتعرج بجنون ومخاط الإسمنت يصنع على أنفه درباً من جفاف.. الدروج ولدت غير منتظمة لكنها توصلك إلى تحت أو إلى فوق.. دروج تتبعت مزاجات الانحدار وجنونات الصعود.. في دربها تفاجئك انعطافات فجائية واستواءات لا تدوم.. هي كقصيدة النثر لو افترضنا العمران شعراً.
يقول عبد السلام العجيلي إن أبي هو أبو قصيدة النثر.. سكب لنا دروج الإسمنت وصرنا نكتب بترنح أقدامنا شعراً خالداً لصيقاً بالحياة مشبعاً بالصورة واليومي.. تمشي في الأعلى تنحدر إلى أسفل.. الصورة أمامك لا محالة خاضعة للمنظور.. تنزل أكثر ترى أكثر وتكبر الصورة.. ترتقي إلى أعلى تصغر الصورة حتى تختفي.. أبي اكتشف قصيدة النثر وأسس لها.. الإسمنت عندما يسكب بقدر وفي أماكن مدروسة ونتيجة إلهام فذاك هو الشعر.. أبي تأثر باللحن والزوايا الصوفية وكذلك موسيقا الدنقة.. فلو تتبعت دروجه لوجدت ترانيم موسيقية.. تدوسها بأقدام قدميك فتنطق.. بيانو حجري.. معافس العالمين معافس عليه.. أبي جعل سفح بومنصور آلة بيانو نعزف عليها في صعودنا وهبوطنا.. في ليلنا ونهارنا.. في واقعنا وأحلامنا.. هذه الدرجات التي أبدعها أبي صفحات من التاريخ.. إسمنت الفتائح اختلط بزلط البحر بماء عين بومنصور المباركة.. هذا الخليط سوّاه أبي براحته الطاهرة والشمس سوّته ومنحته متانة النضج.. كل الدروج في البلاد تفتتت.. بل عمارات تهاوت وجدران تصدعت.. لكن دروج أبي.. تجعلك ترقص.. تطأ الأديم برفق.. تنزل من فوق.. تجد نفسك في الصحابة.. ترتقي إلى أعلى تجد نفسك في ماء عين بومنصور.. من طهارة مادية إلى طهارة روحية.. آه يا يا أبي.. ما فعلت من عمل على ظهر هذا الجبل ليس عبثاً.. هو فن وخير وحداثة.. وعرفت أنه حداثة عندما اعترضت البلدية على تشييد هذه الدروج.. طلبوا الخريطة وطلبوا الترخيص وطلبوا الضريبة وطلبوا الدمغة.. أحضر أحدهم بخاخة طلاء وكتب على الدروج إزالة.. وفي اليوم الثاني لم يجد الإزالة.. سأل من المجرم الذي محاها.. أحد المارة قال له عليك بالأحذية في أقدام العابرين.
سكب الحاج العجيلي الأسمنت على الصخور الملساء.. كي لا تنزلق العجائز الهابطات.. وكي لا يسقط الأطفال الذاهبون إلى مدارسهم في الأسفل.. وها نحن المنتشين ننزل بترنح رهيف.. ننزل ببطء وسط عبق أشجار التين وحشائش البردقوش ونعناع المسك الفائح جداً.. ننزل وندعو لمشيد الدروج بحب نشوتنا ورحيق ابتهاجنا.. ننزل في الليل وتحتنا مدينة من الأضواء المتناثرة.. الأضواء بهيّة عندما تتناثر.. وعندما تجتمع أوفٍ لها تصير كضوء آلة اللحام.. الدرب يلتوي ونحن نلتوي ونغني.. وندعو لكل البشر والجماد بالخلاص والسعادة.. القصائد تستفز عبد السلام.. تشاكس مخيلته وتجبره على الجلوس أعلى كهف الشياب النسّاجين.. تكتكة النسج أصداؤها تثب.. الشيّاب يصبون الشاي ويثرثرون.. يغتابون جارة أرملة تركت باب بيتها مردوداً.. أي غير مقفل بالمزلاج.. تدفعه براحتك أو برجلك ينفتح.. البيت ليس بعيداً عن منسجتهم.. ها هو هناك.. أمامه شجرة خوخ.. الشايب الشوهاي يصب الشاي للشايب النساج.. يزيح بسيف راحته عدة خيوط من المسدة ويمرق براحته طاسة الشاي للنساج الذي يتناولها مبتسما.. يرشف رغوتها ويعود إلى الغيبة من جديد يشير إلى بيت الأرملة ويغني:
الحوش اللى قدامه خوخة..
اندفه بكراعي المنفوخة.
يجيبه الشايب الشوهاي حتى الحوش اللي قدامه تل غير مقفول أسمع صريره البارحة من دون توقف.. يرشف رشفة قصيرة ويغني أيضاً:
الحوش اللي قداما تل..
اندفه بكراعي ينحل.

وآه يا كرعي.. زمان ماكانش فيه حيشان.. كانت بيوت شعر.. ارفع الرواق واركب على طول.. من يالا.. ولا وحدة تقولك لا.. المهم في الظلام وفي صمت.
يقف عبد السلام قافلاً أذنيه.. أصداء قديمة وقحة.. اللعنة على مراقبة الناس.. اللعنة على البصاصين.. عندما كنت صغيراً كنت ماهراً في لعب لعبة التصاوير.. أشتري مستكة التصاوير.. أمضغ المستكة وأحتفظ بالصورة.. الصور في حجم أوراق اللعب الآن.. هي صور لممثلين ومصارعين في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.. ممثلو كاو بوي وغيرهم.. جوني كوبر.. جون واين.. روتشا.. طرزان.. رينقوا.. الرجل مروض التمساح.. الرجل الأخطبوط.. وهناك الرجل الأبكم.. وهناك أيضا صورة نادرة قليلاً ما نحصل عليها.. أحيانا أشتري صندوق مستكة كاملاً به خمسون قطعة لأحصل على تلك الصورة النادرة.. الصورة النادرة هي صورة الرجل الأمرد البصاص.. الرجل لابس القميص المحمر الذي يشير بإصبعه وفمه يرسل ابتسامة ماكرة.. عندما أحصل على هذه الصورة لا ألعب بها.. لا أرشقها في التراب مع الصور الأخرى ليسقطها اللاعبون بالحجر المسطح.. أحتفظ بها وأستبدلها ببطلي المفضل روتشا.. لكن ليس ورقة بورقة.. إنما البصاص أستبدله بسبعة روتشا وعشرة جون واين وأربعة جوني كوبر وخمسة الشايب فوزي.. البصاص ذلك الزمان نادر.. تلك الآونة كنا نكره البصاصين لكن نحب صورته لأنها نادرة وثمينة ومعبرة عن فسادات نفتقدها، وها هو هذا الشايب يشي في الأرملة التي نسيت أو تناست بيتها مفتوحاً.. ولماذا لا يترك الناس في حالها؟ لماذا لا يترك كل واحد يزبّر أحواله؟ هو أمامه خيوط نسيج ومن خلالها يرى العالم.. فماذا لو وقف هذا الشخص على ربوة؟ ماذا لو تتبع مستقبل وماضي هذه الخيوط؟ في هذا المزاج القوادي يا صديقي لا يقال الشعر.. لن أنتج شعراً فاسداً الآن.. زد على ذلك أنني مقل.. شعري كل عام فقط.. قصائدي أصيلة نازولية.. تين مجفف يعيش أبد الدهر.. أنا لا أكتب القصائد السريعة تيك آوي.. المنتهية حال ولادتها.. الشعر حالة خير أو شر.. وأنا أبحث عن حالة الجنون.. عن حياد لا يخون.. والآن نعيش حالة شر.. أصداء الإلهام تأتيني بالبصاصين والمجرمين.. أتذكر جرائم ارتكبت في حي بومنصور.. بعض الأشقياء يسكرون ثم يضاجعون الأتن ويقودون البهيمة إلى أعلى الجرف ويدفعونها لتتحطم في الوادي.. أتذكر ذلك الآن.. قال لي بعض الأصدقاء مازحين: عبدالسلام من يفعل ذلك وأجبتهم : لا..لا.. الشعراء لايفعلون مثل هذه الدناءة لكن قد يفعلها الصحفيون.. فالفرق بين الشاعر والصحفي كبير واضح شاسع.. انظر شدوق الصحفيين ومؤخراتهم وكيف هي كبيرة من نفخ البوق والتضريط.. أكمل لي عبد السلام الحكاية منتزعني من الاستدراك اللئيم.. في العشيّة تفرجت على نصيرة الحيوانات ملكة الإغراء العالمية بريجيت باردو.. فجاءتني الجرائم المرتكبة في حق الحيوانات سريعاً.. بعض الحمير تقاوم الدفع، تتسمر أمام الجرف وتنكص عائدة رافسة كل من يقترب منها.. تغرز فراسمها في الصخر وفي الأشواك.. أحد الأشقياء اخترع اختراعاً ويا له من مجنون! تقدم بهذا الاختراع إلى المسؤولين في البلدية لتسجيل براءته باسمه.. اخترع اختراعاً سهلاً يجعل البهائم تنزلق من أعلى الجرف إلى سحيق الوادي.. لقد جورب أرجل البهائم بعلب طماطم فارغة أحكم طعجها على فراسمها بزرادية قوية.. حمير كثيرة فقدت حياتها في وادي الشواعر هذا.. انتهت هويتها كومة عظام باكية.. إن كان الوادي جافاً تحطمت على الصخور وإن كان جارياً شالها السيل إلى هويد البحر.. الحمارة تقاوم الغرق على الرغم من كسورها وجروحها وشرفها المنتهك والشقي الثمل يغني:
شيلا يا تيار..
وبلغ سلامي لبو عيون كبار..
غير شيلا يا تيار.

بعد الجريمة يشعر هؤلاء الأشقياء بتأنيب الضمير.. فيبكون ويتمرغون على صخور بومنصور وينهقون ويجرون صوب الجرف ليرموا بأنفسهم لولا أن منعهم من بعض الصاحين.. وعندما يفيقون من السكر يذهبون إلى ضريح سيدي بودربالة ويعاهدونه ألا يكرروا فعلتهم تلك.. لكن ما إن يسكروا مجدداً حتى تتلبسهم الروح الشريرة المصبوغة بها النفس فيتضبعون بوحشية وسادية.
آه يا صديقي إنني أتألم.. صدى البصاصين يغزوني.. واختراعات الدمار ترمي بشعري في مجاهل ناسية.. تجرع ما تبقى في القنينة ورماها إلى داخل الكهف المهجور فتناثر زجاجها.
التقينا صديقه المغونن.. دعانا إلى بيته قرب الزاوية.. أجلسنا تحت شجرة تين عتيقة وأشعلنا مجدداً.
قال لنا لا أحب الانطفاء.. حياتي نار متأججة.. نار متعة ولذة.. حياتي حياة يا عالم.. لا أحب الانطفاء.. عرض علي العمل في بوليس المطافئ بمرتب محترم فرفضت.. أحب الأعمال الحرّة.. أنام متى شئت وأصحو متى شئت.. وبعدين لماذا أطفئ النار؟.. لماذا أعاند القدر؟.. العالم كله نار.. والحب نار.. وأنا يا سلومة لست مهتما بنار الشواء.. يهمني نار الغلاء.. نار الغلاء.. وآه من نار الغلاء..
ونار الغلاء في القلب يا مقواها
جبت الطبيب لها وحل في داها.

رائحة التين في درنة غير التي شممتها في طبرق.. التين واحد وأنفي بفتحتين.. رائحة التين في درنة أكثر عمقاً وأشد عطراً.. لكنها غير صافية كما في طبرق.. في درنة شجرة التين أليفة.. غير شرسة.. تجدها في كل البيوت.. في كل الأزقة.. تتشابك في عرائش العنب.. تتشاجر مع عرائش اللبلاب.. تتسلق إذ يجبرها الزمن على التسلق.. تزحف إن أرغمها ميلان الوقت على ذلك.. رائحتها طيبة ذات تناويع عطرية.. ممتزجة بأطياف روائح أخرى.. خاصة الياسمين والفل.. على جذورها ينام فراش البردقوش والحبق.. يتسلل إليها مع قطرات الندى.. ينخرها صاعداً في نسغها إلى أوراقها وثمارها.. الحبق لا ينقرض والبردقوش لا ينقرض.. ثمرة تين أطاح بها ناموس النضج على التراب ينبتهما من جديد.. داخل ثمار التين حبيبات سكريّة ناشفة.. تستلذ الأسنان بغزغزتها.. هذه الحبيبات هي بذور أخرى.. بذور لأطعمة وأمواه تغذت عليها أشجار التين فصنعت منها تعملقها.. التين في باطن بومنصور صاخب الشذا.. لا يعتمد على الريح ليتضوّع.. يصنع ريحه بنفسه.. يضج داخل الأوراق الطريّة فيطير مخترقاً مسامات المشام.. لا يفرق بين أنف بشر وأنف تراب.. يضمّخ كل شيء برائحته.. يرحل هابطاً عبر الدروب الصخرية الملتوية.. يدخل روضات الصالحين.. يزاحم البخور الفائح.. يصل حيث لا يصل صنيع النار.. هو صنيع الحياة الأثير.. يتسلل إلى الرفاوات القديمة.. يمنحها عطر الأنبياء ويعود إلى مائها وعند المغرب يخرج متسكعاً يطّاير إلى أعلى.. إلى قمة الجبل.. يصل غرفة الجابية في بومنصور.. غرفة في أعلى السفح.. تتخذها النساء للغسل صباحاً ويتخذها السكارى والسمّار مجلس لهو وغناء.. من هذه الغرفة تنطلق ساقية طبيعية.. ممر مائي طويل يتعرج داخل ظلام الجبل ليصل إلى المصب الأم للعين في الجهة المقابلة من الجبل.. عند المصب الأم نخلات طوال مائلات.. وهناك دائماً أصدقاء جالسون يتسامرون ويشربون النازلّي.. ومنهم من يحشش ومنهم أيضاً المتعبدون.. محلة بومنصور محلة مختلطة.. قبائل عدّة وأجناس عدّة وديانات عدّة وأمزجة عدّة.. وأشجار عدّة.. الجابية رأت وجوهاً كثيرة وصفحتها ابتلعت وجوهاً ما لها حد.. مرايا الماء دائماً ترقص.. والرقصات تتغيّر دائماً.. الرقصات ليست جامدة أو صامتة.. من رقص الماء كسب الحاج محمد الهوش العجيلي رزقه.. كان يملك طاحونة مائية.. يطحن عنده الأهالي حبوبهم وبهارهم وبُنّهم.. طاحونة مصنوعة من الشجر.. الدواليب من شجر السدر وعود المنتصف من الخروب المتين.. الشاعر عبد السلام أطعمه عرق الماء.. أطعمه سقوط الماء على دولاب خشب السدر والخروب.. الماء في بومنصور هو الحياة والتين هو زاد الجنة.. أول أغنية سمعها عبد السلام غنّاها له الماء.. كان رضيعاً آنذاك يبكي من المغص.. وفجأة هطل المطر.. وجرت السواقي محدثة هديراً مجنوناً.. توقف عبد السلام عن البكاء.. أطل برأسه من جحر أمه.. يصيخ السمع تاركا ثدي الحليب ينقط.. أعادته أمه للثدي.. أذنه جائعة الآن.. لا حاجة لها بالحليب.. بكى مجدداً.. واحتاروا فيه.. خرجت به الأم الحنون إلى غرفة الحاجة حليمة الشريفية جدّة سكان بومنصور.. في فناء البيت الواسع سقطت على وجهه قطرات مطر فسكت فوراً وصار يتلمظ.. يمطط لسانه يجذب سفيح القطرات المهدور.. قالت الجدّة الخبيرة حليمة الشريفية.. عبد السلام يحب المطر.. اسقيه ماء المطر.. وهذا فأل حسن.. أخذته أمه وجلست به في ضريح سيدي بودربالة خلف البيت.. سيدي بودربالة ضريح صغير يحيطه سور مبيض غير مسقوف تغسله الأمطار وتغسله الشموس والنجوم.. وجدت وعاءً فخارياً قد امتلأ بماء المطر.. مسحت من مائه على وجهه.. وجن جنون عبدالسلام الصغير.. يجاهد لغرس وجهه في الإناء.. أفلت من أمه.. تملص منها على الرغم من صغره واندفع براحتيه مشلبطاً فيه.. منذ ذلك اليوم لم يبكِ.. كلما تطلع إلى السماء ألقمته أمه قطرات.. صار ينمو.. ينمو طبيعياً على الرغم من أنه لا يتناول الكثير من الغذاء.. وعندما نبت له سنان عض إصبع أمه وناغى بمناغاة ملحونة.. كلما ناغى صمت كل من في البيت.. بل في حي بومنصور.. واستمعوا للكناري البشري القادمة روحه من براحات العجيلات.. من الماء الفوّار.. من روضات الصالحين قاطعي التبيعة (النحس) سيدي بوعجيلة ومريديه هناك.. قال بعضهم هذا مطرب.. وقال آخرون هذا شيخ يجوّد القرآن.. وقال شيخ الزاوية الرفاعية عندما يكبر سأزوجه ابنتي وأضمّه إلى فريق المنشدين.. وقال هو أنا شاعر.. كلماتي مطر.. وأوزاني عطر منفوث بلا انتظام كدروج أبي التي سيبنيها لأرجلكم ذات يوم...
عندما ينقطع المطر أو يتأخر تصنع الفتيات خيالاً من أعواد التين، يجمعن الخرق المهملة ويخطن للخيال ثوباً متعدد الألوان مثل رواق بيوت الربيع.. تدور الصغيرات والصبيان يتقدمهن عبد السلام ومنصور وعدة صبيان حلوين رائعين وتزغرد لهم جدتهم الحاجة حليمة الشريفية وتدلق عليهم رشاش ماء منعش وينطلق الموكب من أمام الزاوية العروسية منشداً:
يا زرافا حطي الرافا....................
الزريعة بددناها.. حن عليها يا مولاها
والزريعة في السواني.. حن عليها يا فوقاني
والزريعة تحت الطوب.. حن عليها يا مطلوب

ينحدر إلى الأسفل.. ينشد قليلاً عند طاحونة العجيلي المائية ثم ينعطف يساراً في شارع ضيق يضعه أمام ضريح سيدي بودربالة.. ينشد أمامه قليلاً أيضاً ثم يأخذ اتجاه اليمين مع زنقة سيدي بومنصور الورانية.. ينحدر منها منشداً متلقياً رشاشات الماء من ربّات البيوت تفاؤلاً بهطول المطر.. ينتهي من الشارع فيتجول في مقبرة الصحابة ماراً من أمام أضرحة زهير وعبد الله ويتوقف طويلاً أمام قبر القاضي أبي منصور المسمى باسمه الحي.. هذا الصحابي لا يحلف به أي درناوي حانثاً أبداً.. حتى وهو في حالة سكر فله مكانة عظيمة في القلوب.. يخرجون من ناحية الصحابة ويتوجه الموكب ناشداً بأشد حماس من ذي قبل، يقوده عبد السلام العجيلي الصغير بصوته الرخيم صاعداً إلى أعلى مع زنقة بومنصور القدامية.. نساء هذه الزنقة تدلق عليهم ماءً مخلوطاً بماء الورد من مراشش عطرية يستخدمها الشيوخ في الحضاري.. يستمر الموكب حتى يعود إلى الزاوية ليجد الأطفال أطباق الحلوى والكعك في انتظارهم تقدمها لهم الراهبة إسبيرانسا.. لقد ولد مولود جديد للتو في حي بومنصور.. إسبيرانسا هذه قابلة وراهبة إيطالية اتخذت درنة وطناً لها.. أشرفت على ولادة اغلب أطفال درنة.. كل درناوي يقول أمي إسبيرانسا.. النساء مع أصابعها وتربيتاتها وابتسامتها ونيّتها الطيبة لا تتعسّر ولادتهن و لا يحسسن بألم.. قبل أن تتوفى طلبت هذه الراهبة دفنها هنا.. في هذا التراب الليبي الدرناوي.. وعندما توفيت سار في موكبها كل أهل درنة.. دفنوها في مقبرة نصارى قرب البحر.. كانت ميتة وذكراها ترد على المشيعين الطيبين.. شكراً عويلتي.. بارككم الرب.. أحد الشيوخ الدراونة كتب في الجريدة مقالاً كفر فيه كل من سار في جنازة هذه الأم الإنسانية العظيمة.. الأستاذ المتنور رمضان الفيتوري رد عليه بمقال يدحض زعمه.. وتشكلت لجنة رفعت الأمر للأزهر الشريف.. الذي بدوره أيد تشييع هذه الأم وأفتى بالحلال فلم يكفر أحداً من المشيعين.. يشاع أيضا أنها أسلمت في آخر أيامها.. والمهم هو أن الأجنة الخارجة من أرحام بطون درنة لم تتكلم.. لم تمت.. لم تلمسها أصابع ملحدة أو وثنية أو قاتلة.. تخرج من الرحم صارخة مبتسمة.. متشبثة بأصابع إسبيرانسا.. إنها الفطرة.. إنه الله.. إنه الناموس الرباني الذي جعل أينما تولي روحك فثمة نيّة طيبة.
عند المصب الأم يجلس العشاق.. يشربون ويرسلون عبر بريد الماء رسائل حب إلى نسوة يغتسلن.. أوراق تين عريضة منقوشة بالقلوب وبالحروف الأولى من الأسماء أو بعقارب الساعات.. يرسلون وروداً مقطوفة جيداً ومربوطة إلى بعض بخيوط نباتية ملونة.. يضعونها على صفحة الماء.. الماء يحملها عبر الممر الجبلي إلى حيث الجابية، تجدها من تجدها.. تفكك طلاسمها وتعي لغتها وترتقي أعلى غرفة الجابية تلوّح بمحرمتها الشولاكي مشيرة للحبيب أن الرسالة وصلت والموعد مضبوط على نجوم الليل.. فيرسل من كان هناك ثمرات تين وعناقيد عنب وتوت.. يحملها الماء برفق وأمانة وعناية.. تيار الماء كائن طيب.. يحمل فواكه العشاق.. يحاشيها الأشواك وحواف الصخور الحادة.. تستقبلها العاشقة في الجابية وتصيح في زميلاتها: شوفو خير ربي.. شوفوا الماء شنو جابلي.. وتغني:
اليوم يا امي جاني المرسول.. ومرسول الغالي مقبول
جاني في البيت..
شعلت فتيلة وجبت الزيت..
وحليت حزامي وعطيت..
أنا صغيرة ما قدرت انقول..

وتنهي الأغنية بزغرودة داعرة وتشاركها الزميلات الزغاريد ويشتركن في التهام الثمار المغسولة وهي تجري.
كانت النساء ترتاد هذه الجابية لغسل أجسادهن وملابس أسرهن من دون أن يحملن معهن زاداً.. فالماء يحمل الغذاء ببراءة أو بنيّة.. الماء يحمل الطهارة والحب والانتعاش وكل شيء.. وعند المساء يجتمع فتية بومنصور الرائعون في غرفة الجابية أو كما يسمونها غرفة السكير.. يجلسون على حافتها.. يمرجحون أرجلهم داخل الماء.. ومن هناك عند النخيلات.. خلف قبة الجبل المنحدرة جنوباً.. يضع لهم الأصدقاء الثمار في الماء ومع وصول أول عنقود عنب يقفز العجيلي في ماء الجابية.. يعترض المصب بشبّاك من أعواد القصب.. يصطاد الثمار القادمة مع التيار.. يقدمها للأصدقاء.. قبل الأكل يتفقدون بعضهم.. ربما هناك غائب عن الجلسة.. يصيح العجيلي.. منصور.. منصور.. وينك يا خيي.. تعال.. تعال.. فيطل منصور بمندافه من وراء شجرة ليمون.. يصعد إليهم.. يأكلون ويحمدون الله ثم يقفون أعلى غرفة الجابية متأملين النجوم والقمر والفضاء السماوي المنعش و البيوت الواطئة أسفل الجبل في بومنصور والمغار والبلاد والجبيلة.. ومع كل إشارة يغادر واحد منهم إلى أن يخلو المكان ويغيب الكلام ويهدأ الضحك ولا يعاد يسمع سوى خرير الماء وصفير الحشرات الليلية.
كل يذهب إلى عشيقته أو حبيبته ومنهم من يذهب إلى فتيات شوارع حشيشة أو الفنار أو زنقة البحر.. الكل يذهب إلا المغونن الذي يعود إلى بيته في باطن بومنصور بخطوات وئيدة واثقة.. فهو لا يذهب إلى حبيبته.. لكنها تهبط إليه.. تسكن خفقة نجمة في السماء.. ينام في سقيفة البيت.. ما إن تراه مستلقياً حتى تتدلى إليه كعنقود توت ناعس أسكرته الفراشات.. تتمسح على خديه ولحيته المحنـّاة.. تنزلق إلى شفتيه تنظفهما من سواد التبغ.. تصعد إلى جبهته.. يستيقظ المغونن.. يجدها نائمة بجانبه فيعانقها وينسى العالم.
للماء في بومنصور قيمة كبيرة.. كل السكان تفتـّحوا على هديره.. الماء ينبع من عين بومنصور وراء الجبل.. يسير عبر سواقٍ طبيعية محوّرة.. يدخل كل البيوت.. الوالي محمد بيْ هو من نظم حركة الري بهندسة عجيبة.. وعيّن مسؤولا يسمى وكيل الساقية.. يوزع الماء على البساتين في حصص متساوية.. لا بيت محروم من الماء ولا شجرة تبيت عطشى.. المنطقة لها علاقة كبيرة بالماء.. وفلسفة الماء وعلم الماء.. حفر الآبار لا يتم عشوائياً.. هناك عدة طرق في اختيار موقع الحفر.. يأخذ الخبير فتح الله الصايغ عود رمان.. يمسك طرفيه عرضياً بسبابتيه.. سبابات تجد الماء.. يمسك العود بلمسة خفيفة ويسير متقدماً حامداً وشاكراً وداعياً الله.. عندما يكون هناك ماء قريب في الأرض.. العود يميل من الطرف المقطوع تلقائياً فيتوقف ويحس أن الله قد فتح جوف خيره.. ويعلّم المكان بنبشة دائرية بعود الرمّان ثم يبدأ الحفر.. بعد أمتار قليلة يجد الماء.. إنها حكمة ربنا.. العود يميل إلى غذائه.. إلى أصله.. هو مغناطيس نباتي.. هناك حنان متبادل بين الخضرة والبلل.. حنان لا نفهمه.. آه لو انتشر بيننا يا حبيبتي.. سأبقى أنا الماء في الأرض وأنت عود الرمان.. لكن من يمشي بك؟ أين هي السبابات النظيفة الطاهرة في هذا الزمان؟ كُـوني الماء وأنا سأحتمل قذارتهم وخبثهم.. أنا عود الرمان في شجرة الحياة.. اقطعيني أيتها الحبيبة لأبدأ البحث.. أنت لا تستطيعين الإمساك بمنجل وقطعي.. أنت عاجزة.. عاجزة.. إذن سأنتظر الرياح.. فقط التقطيني وارمي بي في منطقة بومنصور.. هناك كل الناس تحب الرمان.. هناك لا يضعون أعواد الرمان في مواقد النار إنما في الجنة الحانية.
أكتب الآن في مقهى صغير اسمه مقهى العتيق في ساحة وكالة الطرابلسي.. ساحة جميلة على الطراز الأندلسي.. تتوسطها نافورة ماء وتحف جوانبها شجيرات البرسيانا والدفلي والجهنمية.. تفتح إلى داخل الساحة حوالي عشرة دكاكين أغلبها مقفل.. العامل منها ثلاثة محلات فقط.. مقهى صغير يديره ليبي شاب.. يقدم القهوة المزبوط والشاي الأخضر بالنعناع.. مطعم سيدي عبد الكريم الطرابلسي.. وهو كهل أبيض الشعر.. وسيم الوجه.. صارم الملامح.. يعد للزبائن شطائر لذيذة محشوة بالتونة وجبن الشرائح ومهروس الفلفل وحبيبات الزيتون.. بين المقهى والمطعم يوجد محل أثري قديم بابه أخضر من النوع المسمى بوخوخة.. مدخله على هيئة قوس وهو محل للطب الشعبي.. صاحبه الدوّاء الحاج محمد كحّيل.. يرتاده عدّة شيوخ وحتى شباب رياضيون.. يعرّون ظهورهم المنهكة من البرد.. فيضع لهم الحاج (المغائث) وهي علب معدنية بحجم طاسة الشاي توقد داخلها ناراً، وتكفأ على الظهر بإحكام فيمتص اللهب المحتضر داخلها قبل أن يخبو بعضاً من فسادة الدماء.
تناولت شطيرة تونة حارة ساخنة وطلبت من النادل قهوة مزبوط وكوب ماء.. أنا حزين لأن الشطيرة لذيذة وزوجتي آمال وابنتي مهجة ليستا معي.. وغداً ربما سأغادر درنة.. أو يقفل هذا المطعم الحرس البلدي الذي بدأ يحوس بكثافة في السوق.. الشطيرة لذيذة والأكل كان بمفردي.. مطعم الأستاذ عبد الكريم الطرابلسي دكان قديم جدرانه من طين وسقفه برميلي مغطى بسعف النخيل.. أثاثه بسيط.. مقاعد من أعواد القصب والجريد.. يعمل واقفاً ويبادل الزبائن الكثيرين السلامات والابتسامات.. الدكان مزدحم وهو يعمل لوحده.. يقطع قليلاً من رأس رغيف الخبز.. يشق بطنه.. يلحّسه بمهروس الفلفل.. يحشوه بالتونة المخلوطة بزيت الزيتون وشرائح الطماطم.. ثم يزيل غشاء البلاستيك عن شريحة الجبنة ويضعها في الرغيف.
الزبائن كثر.. جلهم شباب ليبيون من أصحاب محلات سوق الظلام ومن سكان البلاد والجبيلة وبومنصور، وحتى من الجهات البعيدة في نواحي إمبخْ وشيحة وباب طبرق والساحل الشرقي.
لا يعطل أحداً.. صاحب شطيرة واحدة لا يجعله ينتظر طويلاً.. يمنحه شطيرته ونظرة شهامة للآخرين.. يعمل بخفة ومهارة ما شاء الله عليها.. يعمل كعاشق يعامل حبيبته بود.. لا زيت يسيل من الشطيرة.. لا اعوجاج في شق بطنها.. البنطلون أبيض نظيف.. القميص أزرق بلون السماء.. الشعر حليق.. النظارة قهوية شفافة.. الأظافر مشذبة.. محارم الورق مصطفة فوق بعضها.. وسفر التقديم لامعة موردة ترى فيها وجهك.
الزبائن تتناول إفطارها ثم تغسل أيديها بماء النافورة الظليلة بفروع برسيانة الورد الأحمر الممتدة دونما انتظام.. الحرس البلدي يحوس، يخالف الدكاكين يقفلها بأقفال برونزية ذات شكل مربع.. في المكتب طلب الضابط من فرد حرس بلدي قفل مطعم الطرابلسي.. فرْدُ الحرس البلدي رفض.. هدده الضابط بإنزال الرتبة والطرد والسجن.. لكنه رفض تنفيذ الأمر.. قال فلأطرد من الحرس البلدي فلأسجن.. ليس مهماً.. مطعم أثري نظيف مثل هذا لن أقفله.. لا تعني لي الأوراق شيئاً أمام إجادة الصنعة.. هذه المحلات هي وجه البلاد.. لماذا نقفلها أو نسبب لها القلاقل؟ الراجل يعمل وماشي حالة تمام.. مأكولاته نظيفة.. وزبائنه يحبونه.. والمدينة تحبه.. تخيل ساحة الطرابلسي من دون مطعم عبد الكريم أو من دون دكان الحاج محمد كحيل.. ستكون بائسة.. أنا أحب الوطن.. أنا لا أزرع البؤس والكآبة في أزقتنا العتيقة.. علينا أن نمنح هذا المطعم والدكاكين التي مثله جائزة.. لا أن نقفلها.. أنا رافض.. لم أرفض أمراً يتعلق بأمن الوطن.. رفضت أمراً من الممكن تدارسه وتبديله.. نحن لسنا في حرب.. نحن في مرحلة بناء.. العراقة لا بد أن نحافظ عليها.. لا نمس أي شي جميل بسوء.. عندما أقفل هذا المطعم، كيف سأفطر فيه في اليوم الثاني؟ لن يعد لي سي عبد الكريم الشطيرة بحب.. سيقدم لي طعاماً بشعاً.. اعذرني أيها الضابط.. هناك أمور خارجة عن إرادتي.. حتى إن أرسلت أحداً غيري سأحاول أن أثنيه عن الذهاب.. هؤلاء الحرفيون مبدعون.. حتى الأخ القائد معمر القذافي يطالب دائما بتكريمهم وتشجيعهم.
في العشية عدت إلى المكان ذاته.. دخلت دكان الحاج محمد كحّيل.. قلت له أشعر بدوخة.. أجلسني على مقعد من الجريد.. عرّى قميصي وكفأ على ظهري أربع طاسات.. أول مرة شعرت بألم اللهب الحارق الفظيع.. ألم كألم الكي.. بعدها لم أعد أشعر بالألم.. واستغرقت في متابعة حكاياته عن درنة وعن ذكريات الصبا الجميل.. قدّم لي طاسة شاي أخضر.. قال هذا ليس كشاي المقاهي.. كانت طاسة معتدلة الحلاوة والمرارة.. طاسة على شفير المذاق وتماس اللذاعة.. طاسة بنكهة البردقوش.. نكهتها مازالت عالقة في حبر قلبي.. بعد ربع ساعة نزع عن ظهري طاساته الأربع المدمّاة.. أغمضت عيني بشدة فقد شعرت بألم عظيم.. ألم كألم فراقي لسميرة ذات عشية مسروق نسيمها.. مسح لي مكان الحرق بمنديل مطهر ودعا لي بالشفاء.. لم أرَ الطاسات الأربع المخضلة بدم الفراق الفاسد.. واراها عني بحزم.. وإذْ طلبت رؤيتها كان قد انتهى.. لقد غطسها في دلو الماء الذي تورد.
في شارع الكنيسة يوجد بيت درنة الثقافي.. مبنى أثري من طابقين.. سابقاً كان كنيسة.. ساحة العبادة حوّرت إلى مسرح.. في الشارع نفسه توجد الزاوية العيساوية المشيدة عام 1625م.. بجانبه مغسلة وخياط ومعطرة ومحل عصافير.. في أحد الشوارع الفرعية المقابلة يوجد كنيس اليهود.. الآن حوّر إلى زاوية تتبع الطريقة التيجانية.. في شارع آخر يتفرع من شارع الكنيسة يوجد الجامع العتيق أو الكبير.. به شعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أهديت إليه من السلطان بإسطمبول.. اختفت الشعرة في العقود القريبة الماضية.. السفاح موسيليني سبق أن زار هذا الجامع الكبير وأهداه ساعة حائطية وبعض المال.. الجامع الكبير مسجد جميل تعلوه عدة قباب.. أعتقد ثمان أو عشر.. لم أتعود على عد القباب الأكثر من اثنتين.. بنيانه عالٍ شامخ رفع على أعمدة إغريقية ورومانية جلبت من مدينة سوسة أبولونيا القريبة.
زنقة سيدي علي الوشيش وزنقة الجامع العتيق وزنقة كنيس اليهود وزنقة زقاق صوّان كلها تفضي إلى سوق الظلام.. في هذه الشوارع بقية باقية من بيوتات قديمة مصانة حديثاً.. عرائش العنب القديمة مازالت تدلي بسوالف حكاياتها من واجهات وشرفات المباني.. أشجار التين الضخمة تجدها في كل شارع.. فروعها المورقة تمتد بغنج التمطي وتتمايل صانعة للمارة سحابة ظل معطر.. ولبلبة شجر مرغبة في المسرّات.
بيت درنة الثقافي أو الكنيسة سابقاً أو أي شيء مستقبلاً، بناء جميل.. أنا الآن في باحته المستطيلة.. تحيطني أصص الزهور والنباتات الصبّارية.. أصص ذات جمالية.. جرّة بها وردة واحدة.. زير بني ضخم تتدلى الورود على شحمتي أذنيه وفوهته.. مصبوبات جبسية تنفر منها حشائش كثة.
في منتصف الباحة حوض حجري تنبثق منه نخلة طويلة ترتفع معوجة بقدر وكأنها ترقص متجاوزة طول البناء ذي الطابقين.. نخلة ذات سعف أخضر ناصع وعراجين مثقلة بالثمار.
تنبثق من الحوض أيضاً شجيرة ياسمين تلتف على خصر النخلة صاعدة عدّة أمتار إلى أن تغيّر مسار علوها حبال تفضي بها للالتفاف على إحدى عرصات الجوانب المربعة.
فرقة مسرحية تجري التجارب في الداخل.. ممثلة شابة تخرج من المسرح.. تقرئني السلام وتصافحني.. تعود إلى المسرح وتعود إلي بطاسة شاي أخضر بالبردقوش.
أرتشف الشاي متأملاً الجمال النباتي في النخلة والوريدات والشجيرات، والجمال الفلكي في السماء الزرقاء، والجمال البشري في الصبية المنتظرة فراغي من رشف الطاسة.. الوقت أصيل.. والجو تمام التمام.. الفتاة الدرناوية دخلت قلبي.. وقلبي منحها حفنة دقات.. قد نلتقي يوماً ما.. ففي ذاكرتها رشفي.. وفي ذاكرتي ابتسامتها المغناة.. وفي قلبي مكان لها.. لقد منحها قلبي كحواء حفنة انبساط.. لن أبقى في هذا البيت الثقافي أكثر من ذلك.. سأخرج أذرع أزقة صوان ودربي وأعود عبر شارع وسّع بالك إلى سوق الظلام.. ألج زنقة العطارين الآن ـ اليهود سابقاً ـ أنحرف يميناً وأدخل زنقة الجامع العتيق.. أدخل سوق الظلام مجدداًً وأخرج من بابه الجنوبي.. أعود إلى شارع الكنيسة عبر زنقة سيدي علي الوشيش.. أتجاوز الزاوية العيساوية القديمة يساري عائداً إلى زنقة اليهود.. أشم رائحة طبخهم الشهية.. أنير ظلمات سبتهم الذي ذهب.. تاريخهم في درنة طويل.. القدر أتى بهم إلى هنا.. تاجروا وعاشوا.. وانصهروا مع الليبيين في نسيج إنساني رحيم.. لا أعرف بالضبط متى أتوا درنة.. أنا لا أحب الضبط والضباط.. أحب الضابطات فقط وأكره المضابط بأنواعها.. حتى الساعات لا أضعها في يدي ولا على الكوميدينو.. والأيام لا أحسبها في عمري.. لا أدري متى أتوا درنة وقد أخمّن أنهم وطؤها في القرن الأول الميلادي.. إبّان ثورة اليهود على المستعمر الروماني.. التي قمعها أباطرة الرومان سريعاً بمذبحة رهيبة طالت حتى الأهالي الليبيين الذين لا ذنب لهم.. هناك يهود هربوا من المذبحة والتجؤوا إلى الكهوف والكهف الكبير بباطن بومنصور الذي صار فيما بعد زاوية سنوسية.. يقولون إنه كان معبداً يهودياً.. يقولون أيضا إنه كان به حواريون مسيحيون.. والآن هو مسجد تحت مسمى ليس بعيداً عن مونولوج الأديان السماوية.. هو الآن مسجد القدس.. المدينة التي تلتقي فيها الديانات التوحيدية الثلاث.. وكل شيء جائز.. ولا أستطيع استبعاد شيء.. فهذا الكهف الواسع المتعدد المغارات بقعة تعبد شريفة ترحب بكل العبادات.. وتستوعب كافة الاعتقادات التعبدية التوحيدية.. المسألة هي مسألة تاريخ فقط.. وصولة وجولة.. فالدين الذي تضرب معه.. أي تكون الأيام معه يتخذها معبداً له.. ويسميها وفق شرعته.
لا فرق بين بيعة وكنيسة وجامع.. كلها واحات سلام وجنان بركة.
زنقة اليهود بالمدينة القديمة بدرنة ليست عريضة.. طويلة ومتعرجة.. عرضها كعرض زنقة أربع عرصات بحارة طرابلس.. في المعبد كان كتابهم المقدس التلمود المكتوب على ورق البردي و الملقب بالزغير.. في الأربعينيات من القرن العشرين اختفى الزغير.. حزن اليهود في درنة وبكوا، فهو لهم بمثابة القرآن لنا.. يقولون إنه سُرق.. ويقولون إنه أخذه ناحوم.. والعلم طبعاً عند ربي.. لكن سرقة الكتب المقدسة جريمة شنيعة والعبث بها أشد إجراماً وشناعة.. يقولون إنه أخذه ناحوم.. وناحوم هذا تاجر يهودي بزغ نجمه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. كان ينتقل بين نجوع ومدن بنغازي والجبل الأخضر ودرنة وطبرق.. يؤجر العمال ويحرض الناس العوام الليبيين على جمع الرابش (الحديد والنحاس ومخلفات الحرب العالمية الثانية من حطام دبابات وطائرات وبوارج وقنابل وصواريخ).. الناس تجمعها له وهو يشتريها منهم مباشرة أو بواسطة وسطاء محليين جشعين بدراهم معدودة، ويصدرها في بواخر ضخمة إلى أمريكا وأوربا.. وقيل إلى الصهاينة في فلسطين المحتلة لتُصنّع من جديد ويُضربُ بها العرب والمسلمون.
كثير من القبائل الليبية القادمة من غرب الوطن اشتغلت في جمع الرابش مثل العجيلات والرياينة.. كان الرياني وهو يفكك القنبلة يناجيها قائلاً:
يا اتعشي بيّا يا انتعشا بيك.
وهذا دليل على الثمن البخس الذي يمنحه ناحوم لهؤلاء البؤساء الجياع.. يخاطرون بحياتهم في سبيل وجبة عشاء بائسة يمنّ بها تاجر جشع على أبناء الوطن.
كثير من هؤلاء الليبيين الفقراء قضت عليهم الألغام والقنابل الغادرة.. منهم من تشوّه وفقد أحد أطرافه.. الصديق إصويلح فقد ذراعه وإحدى عينيه.. هو لا يلم الخردة أو يفكك الألغام والقنابل لاستخراج النحاس والبارود.. لكنه يرعى غنمه في وديان لملودة.. وذات رعوي هاجم قطيعه ذئب أشقر شرس فتصدّى له بهراوته الغليظة.. ركض خلفه حتى ابتعد.. قطيعه نجا من الافتراس وهو عاد منتصراً منتشياً ناظراً صوب النجع ومتخيلاً وقع الخبر على محيّا حبيبته وهي تحكي لصويحباتها حبيبي إصويلح قتل الذئب.. وفجأة كرّ الذئب ومعه ثلاثة ذئاب أخرى فتصدى لها إصويلح وكلبه السلوقي.. ركضوا خلفها.. هشم رأس أحدها والثلاثة الباقية هربت لاهثة تتقي نيوب السلوقي.. وهو عائد إلى القطيع يختصر الطريق من درب غير مطروق داس على لغم.. استشعر غدر النار تحت قدميه.. لم يرفع رجله.. هذه اللحظات تحتاج إلى تركيز شديد.. بعد أن عاد إليه الهدوء صفر للسلوقي.. التقت نظراتهما.. عيون أربع ترقص رقصات الحياة وتتلألأ بفعل الشمس مضيئة سبيل النجاة.. صفر إصويلح للسلوقي صفرة استغاثة.. وبانحناء رأسه إلى الوراء وإلى الأسفل فهم الكلب الأليف والمدرب عمله.. حفر بمخالبه خلف إصويلح نبيشة صغيرة.. حفر بجنون وحرص.. لكن الحفرة ليست عميقة.. ليست كافية للنجاة.. عمقها نصف متر فقط.. صفر كقبر فقط.. صفر له إصويلح صفرة متقطعة خاصة.. لابد له من إحضار نجدة من النجع.. أوصاه بلغة إنسانية أن لا يجعل حبيبته تراه.. لو رأت الكلب وحيداً في النجع ستصرخ معتقدة أن إصويلح في مأزق خطير.. تسلل السلوقي إلى النجع ورفع رواق خيمة ابن العم بريدان الذي فهم الأمر وتبع السلوقي بمعداته.. بدأ الحفر خلف إصويلح.. عمق ما حفر الكلب وبعد دقائق صار العمق متراً ونصف والعرض مترين.. ابتعد بريدان والسلوقي.. بريدان يقرأ القرآن والسلوقي صامت يتأمل صاحبه إصويلح.. إصويلح يقرأ القرآن ويدعو الله كثيراً، ويدعو لحفظ حبيبته ويدعو بالخير للنجع ولكل الناس.. وفي لحظة تجلٍّ تصاعد الدعاء وانكفأ إصويلح إلى الوراء واقعاً في الحفرة وناض مع انكفاءته اللغم موزعاً شظاياه في الأرجاء.. شظية اختارت الهبوط أسفل.. كان هبوطها أسرع من انكفاءته.. بترت يده.. وأخرى صغيرة فقأت عينه.. بقية الشظايا الصغيرة تناثرت على وجهه وجسمه محدثة خدوشاً وجروحاً سهلة، أزالها بريدان بأوراق الخروع والتين.. ولحس الكلب حرقانها بلعابه النقي.. أعيد إصويلح إلى النجع على ظهر فرس.. وأكمل إسعافه ومداواته هناك.. أغرقت ذراعه المبتورة في زيت زيتون ساخن.. وضُمّخت لأسابيع بعسل النحل.. عينه عصبت بمحرمة الحبيبة الفائحة فتلاشى ألمها وأضاءت.. أكتب في مكتبة الصحابة والآن ارتفع آذان صلاة الظهر.. الله أكبر.. الله أكبر.. كانت حبيبته تشرف على تمريضه.. تفطره بيض الحجل والترفاس وتطعمه مرق الجداء الربيعية.. وتشربه لبن النوق الطازج ونقيع الحلبة وسحلب القصب.
والآن ها هو يتذكر بحسرة.. مهما عوّض من مال لن يساوي ذراعه المفقودة ونور عينه المنتزع منه عنوة.. من حق أطفاله أن يعانقهم بذراعين.. من حقه أن يصفق لهم عندما ينجحون في المدرسة.. اللعنة على الحرب وعلى الألغام وعلى البارود.. إصويلح رفض كل التعويضات المادية.. يريد التعويض الحقيقي.. يريد أن تكون بلاده حرة دائماً وقوية.. لا يعبث أي مستعمر بترابها ويفخخه بالقنابل والألغام.. إصويلح يتألم الآن.. لكنه يصبر على القضاء والقدر.. هو الآن يعيش حياة سعيدة في درنة.. في شقة على شاطئ البحر.. صحبة زوجته الطيبة وأطفاله الرائعين.. يقود سيارته بيد واحدة ويرى الطريق بعين واحدة.
تأقلم مع الوضع.. صار يمارس حياته بصورة طبيعية متجاهلاً ما فرضه عليه جنون البارود من ألم ومتاعب.. يجالسني كلما التقيته.. نتجاذب حكايات طويلة جميلة عن الحب وغناوي العلم في النجوع.. وعندما نملّ من هذه الحكايات أو نشبع منها نفتح التلفاز على قناة الجزيرة الرياضية.. نشاهد مباراة كرة قدم لفريق برشلونة أو ريال مدريد.. نتابع اللمحات الفنية لللاعب البرازيلي رونالدينهو.. نعجب بشعره المتهدل وبابتسامته الأمازونية الساحرة.. أحاسيسه تزداد رهافة عندما يضيّع هدفاً أو يخطئ في تمريرة لزميل.. يكسوه أسى وحزن لذيذ.. حسرة وليس ندماً.. يشاركنا ابنه الظريف الجلسة ويشاكس أباه قائلاً : الدنيا حظوظ.. رونالدينهو يا باتي إصويلح قدماه قادتاه إلى المال والمجد وأنت قدماك قادتاك إلى الألغام.
الناس من الفقر تلم خردة الحرب.. وناحوم يصدرها ويجمع المال.. وبعد أن صدّر كميات ضخمة من المعدن غادر البلاد تاركاً الألغام مزروعة مكانها تحصد الناس منذ ذلك الزمن حتى الآن.. عندما غادر كان تلمود اليهود الزغير قد اختفى.. ربما يكون قد أخذه معه وباعه لإحدى المنظمات الصهيونية المتطرفة.. ففي عرف التجار يجوز بيع أي شيء.. فالتجّار دينهم المال ولا شيء غيره.. في زنقة اليهود هطلت دموع كثيرة.. عندما ضاع الزغير بكت نساؤهم وخبطن صدورهن بعنف.. لكن الدموع الكثيرة جداً هطلت عندما أحبّت إحدى بناتهم شاباً مسلماً درناوياً جميلاً، ولتتزوّج منه اضطرت أن تترك دينها اليهودي وتعتنق دين الإسلام.. أرجوحة الحب المجنونة نقلتها من دين سماوي إلى دين سماوي آخر.. سماء تلعب بالمشاعر.. وسحابة تسبح بالعاشقين.. القلب انتقل من دين إلى دين.. فأين المشكلة إذن؟ زفّت هذه العروس فوزية في عربة وبجانبها عريسها الدرناوي.. الطبول تحفهما والتصفيق والزغاريد صاخبة حولهما.. والأحاسيس المتعاطفة تبرقش آمالهما بخفقات الطزاجة.. العرس جميل.. والموكب حي.. لكن الأغنية التي يرددها الموكب كانت في غير محلها.. فعلاً أغنية تؤلم القلب وتجرح الروح.. كانوا يغنون:
طيّح سعدك يا رحمين..
فوزية فازت بالدّين.

كان رحمين يسمع الغناء من نافذة بيته.. يعانق زوجته ويبكي بحرقة وقهر.. يتمنى الآن أن ينتزع ابنته من الموكب.. لو غنوا للحب لما تأثر.. لكن لماذا طيّح سعدك يا رحمين ؟.. وما ذنب بخت رحمين وسعده..؟.. هل لأنه أنجب بنتا جميلة أحبّت المكان وما عليه بصدق فتجاوزت الشعائر إلى شعائر أخرى منبجس نورها من المشكاة نفسه.. إنها العنصرية المقيتة والتعصب الأعمى الحقير.. يحدث مثل هذا في مباريات كرة القدم وفي الانتخابات وفي كل شيء أركانه اثنان.. هذه الأحاسيس المتطرفة هي التي قادت أكثر من مرة إلى الحروب العنصرية والتطهير العرقي.. أنا أحب رحمين هذا لأنه بكى وأحب كليمنتي لأنه أنشد شعراً ليبياً إبداعياً وأحب أخته للاهم لأنها تعزف على الماكينة أغاني اللباس وأحبّ الشاعر خالد النجار لأنه يقرأ روحي.. وأحب سميرة لأنها تعجبني.. وأحب مبروك لأنه عشق الورق والحبر وساح وراء المخطوطات، وأحب الضابط المصوعي لأنه عاد إلى رشده ونبذ الحرب.. وأحب الشفشة لأن وجوده في الحياة ضرورة.. وماذا لو كانت هذه الرواية من دون شفشة.. سينقصها شيء حتماً.. وأحب كل الكلمات التي أكتبها هنا وهناك وفي كل زمان ومكان وأحب كل شمس مشرقة.. وأحب الفتاة الدرناوية التي ناولتني كوب الشاي بالبردقوش.. وأحب كوندليزا رايس.. الفتاة السمراء النحيفة ذات النظرة الثاقبة والابتسامة الموسيقية.. أحب أصابعها العازفة على البيانو مذ كان عمرها أربع سنوات.. ضلوعي أصابع بيانو.. لو تلمسها لصخبت الدنيا بالألحان.. اعزفي على أنين روحي لحنك الأبدي.. لحن الحياة أو الموت لا يهم.. جبهتك جميلة.. وراءها جنة من كل شيء.. عصافير أجنحتها من عسل وفراشات تسبح في الماء.. ابتسمي لهذا العالم الذي أنا فيه.. وامطري أرضه بشآبيب الإبداع.. أنت أيتها الفزانية الطيبة.. يا تمرة سائحة من النضج.. لقد كبلوك فيما مضى وجرّوك صوب العالم الجديد.. وها أنت من جديد تطلين وتعودين إلى أرضك الأم البكر.. أرض الماء والصحراء.. تتركين فولاذك ونياشينك وأضواءك وتعزفين بأصابعك على أضلاع أفريقيا الناتئة لألحان الشبع.. لا صوت تصدره الأضلاع.. إنها تأكل الآن.. أظافرك تقطع لها اللحم وأصابعك تهرس لها البطاطس المحلاة.. تبتلع من دون مضغ.. فطعامك طيب طري.. المعدة تجذبه سريعاً من الأفواه.. روحك المحنّاة كريمة.. تقدم الشراب زلالاً دافئاً.. وتقدم الألحان صافية من النشاز.. داخل البيانو زوبعة من طبول وعواصف من مزامير.. وصرخات تقاوم الأصفاد والأغلال.. وصرخات فرحة بالخلاص.. اقتربي مني الآن.. لا أريد طبع قبلة.. فقد مللت التعبير بتقريرية الشفتين.. أحبُّ فأقبل.. أفٍ.. أكاد أتقيأ.. اقتربي أيتها السميراء المستصاغة.. سأعبر بطريقة تختلف.. أريد أن أوسمَ خدك بوشوم مستعرضة وطولية.. سأوسم جبينك وحسب بعلامة تانيت.. مثلث صغير ضيع قمته في بحار العرق فصار كسراب يمارس التمارين الليبية.. المثلث كي يصغر ويصير بؤرة لابد أن تقصر أضلاعه.. أن يعود كما كان نقطة ضئيلة لا يغويها التمدد.. نواة نور.. دائما أجد نقطة حبر.. نقطة عسل.. نقطة ماء.. ولم أجد أبدا مثلثات مبتلة.
ويا للحظ المتسكع في حدائق الأمنيات.. كوندليزا رايس تسمعني الآن.. أو بالأحرى تقرؤني.. وتعود بوابل الحروف إلى الوراء.. لتلملم بالموضوع.. مشاغلها كثيرة.. لكن للقلب دائما أولوية استذكار.. فمنه تنطلق حرائق الدقات.. أنا الممزق الآن.. أيتها الجميلة السمراء ألا رتقت جرحي.. آه يا كوندليزتي الغالية.. يا ترنيمة بوحي وشهيتي الظامئة.. وجداني يسبح في جحيم النواقص.. وجداني الآن ينقصه ملح.. ووجدان كوندليزا رايس ينزف الملح المغـنـَّي الشافي لأعصابي.. سلكها الأسمر رتقني وأذابني على أنغام درناوية.. وإذ هدأت الأمواج منحـتـني حفنة لوز يتحمص.. قالت لي أدقـقـها في مهراس همك وسفها لقاح صبر سرمدي.. فغرت فاهي وابتسمت أسأل.. من أين يا كوندليزتي تعلمتِ كل هذه الوصفات الإبداعية؟
غنت لي من اليسار إلى اليمين :
Ana boy men fazzan wa amy khadem (أنا بوي من فزان وأمي خادم)
Wally garaly ma graa leb nadam (واللي جرالي ما جرى لبنادم)
محمد أنا أحبك حباً قوياً غير مرتجف.. حباً حقيقياً.. غـنٍ لي من حنين درنة شيئاً يطاق.. درنة مني لو تدري حكايتي أيها الحبيب.. أنا الجنوبية القادمة للاغتسال بماء شلالها المبارك المقدس على ما أحدس وأظن.. شلال أجدادي العذب.. كل الماء قادم من الجنوب.. غن لي أغاني عن أسطورة سراج وسميرة ونخلتهما المسحورة في الجغبوب.. انثر حروفهما أمامي الآن.. ولا تخف أن يسحرك أبي إن عانقتني.. فأبي ليس بساحر.. وإن فعّله الشيطان فأيقونة جدي الصليب الفضي المدفون تحت تينة أمام كهف أبي منصور سيبطله.. كل خراء شفشي يحارب الحب مهزوم لا محالة.. ولن يفلح الساحر أو القوّاد حيث أتى.. لا تهزهز رأسك أمامي.. وبح بالأساطير.. في زمن بعيد جداً كان يعيش في الجغبوب أمير جميل شجاع اسمه سراج.. كان يلهب مشاعر العديد من الفتيات.. لكنه كان مغرماً بجنون بساحرة أفريقية اسمها سميرة وهي ابنة ساحر قوي أسمر..هذا الساحر رفض زواجها من سراج لأنه كان قد وعد بها رجلاً آخر.. لكن الشابين كانا يلتقيان سراً في الصحراء بعيداً عن الأنظار.. وفي أحد الأيام بينما كانا متعانقين فاجأهما والدها الساحر فغضب غضباً شديداً فحوّل الشاب سراج في لحظة العناق مع حبيبته إلى نخلة ملتوية جميلة جداً، وانتظرت سميرة أن يعود حبيبها إلى حاله حتى يئست وذابت دموعاً دافئة تبلل جذوره، وحتى لا تفارق حبيبها تحوّلت إلى بحيرة مالحة يمكن رؤيتها حتى يومنا هذا بالقرب من النخلة الملتوية تلك.. وفي الليالي المقمرة تمر الرياح خلال القصبات وأمواج البحيرة عازفة ألحان حب شجيّة رائعة.. أنا استمعت إليها فروت لي الرياح هذه القصة.
غنِ لي يا حبيبي أغاني الجدود.. ففي درنة لي بواقٍ من بقاياي.. جدّي الكبير هبط من الأسطول لجلب عرجون موز للقبطان.. فتمّ أسره من السكان المحليين الذين كبلوه بحبال الحلفا وسجنوه في بئر جافة لأيام.. وذات صباح أخرِِجَ وعُرِِضَ على فقيه الجامع ليقول فيه كلمته وفق شريعة الإسلام.. ظنوه عبدا آبقا.. لكن جدي يعرف الهوسا و السواحلية وعدة لهجات أفريقية فهم بعضها الفقيه الأندلسي الحاج بوعزّوز.. استحلف جدّي الفقيه بالمسيح وذكّره بالملك المتسامح النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد.. وأبرز له صليباً صغيراً فضيّاً.. فخيّره بين الدخول إلى الإسلام أو البقاء على دين المسيح ودفع الجزية.. فاختار أن يبقى على دين المسيح وأن يدفع الجزية.. قادوه إلى أحد كهوف حي بومنصور.. كهف كان به رهبان في زمن الإنجيلي مرقس وما بعده.. الصلبان المنقوشة على جدار الكهف مازالت تطل.. أمام الكهف شجرة تين ظليلة.. عاش جدي في الكهف سنوات.. يعمل طباخاً ومترجماً في الميناء والسوق.. في النهار يعمل وفي الليل يتعبّد في كهفه.. عرفه كل سكان حي بومنصور.. شاركهم أفراحهم وأحزانهم.. ألفته محلات درنة كلها.. يعرفه الكبير والصغير.. الكل يناديه بوسمرة.. الكل يحبه ويساعده.. وفي الأربعين من عمره اقتنع أن الإسلام والمسيحية واحد.. وأن الإسلام هو الدين الجديد.. نقاشه الديني الطويل مع الفقيه بوعزّوز والشيخ الديباني وانخراطه في متابعة الدروس في فناء مسجد الصحابة وحضوره لحلقات الذكر الصوفية ومشاركته في أعياد المسلمين، كلها ساهمت في تغيير وجهة نظره لصالح الإسلام.. والشيء المؤثر جداً الذي كان سبباً مباشراً في دخوله الإسلام هو معايشته لشهر رمضان بكافة آدابه وطقوسه.. أحب آذان المغرب.. وانتشى كثيرا بآذان الفجر المنعش بشطراته النيّرة.. الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمداً رسول الله.. حيَّ على الصلاة.. حيَّ على الفلاح.. الصلاة خير من النوم..الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.
شكراً شكراً يا كوندليزتي الغالية.. حضورك الآن عبر السطور الماضية أنعشني.. حصلت على بعض المال من أصدقائي الكتاب الدراونة الرائعين.. سأشترى قطنا وبودرة لابنتنا مهجة وعصير عنب وشكولاتة للدلوعة آمال.. سأواصل الآن الركض وراء الكلمات.. سأحب كل شيء.. سأحب الفتاة الدرناوية التي سقتني طاسة الشاي بالبردقوش في بيت درنة الثقافي.
في اليوم الثاني سألت الأصدقاء عن فتاة جميلة في بيت درنة الثقافي تشارك الفرقة تجاربها المسرحية.. قالوا لي لا توجد فتاة في الفرقة.. هل يعقل أن تكون هذه الفتاة عاشقة الدموع الحورية سميرة؟! أم أنها كوندليزا رايس.. أم أنها الفاتنة فوزية اليهودية بنت رحمين.. أنا متأكد جداً من وجود فتاة.. وشاي أخضر بالبردقوش.. متأكد من وجود حب في قلبي.. متأكد مئتين في المليون..
فقلبي قلب.. وليس مخلاة.
في هذه الكنيسة حدثت جريمة قديمة ربما عام 1903 إبّان الحكم العثماني لدرنة.. تمّ قتل الأب جيوستينو باشيني.. اتهم بقتله رجل أسود.. قبض عليه في طبرق.. وأرسل إلى سجن بنغازي ليموت بعد ستة أشهر.. إيطاليا اتهمت الأتراك بالتواطؤ في قتل هذا الراهب وجعلت هذا الأمر سبباً من أسباب غزوها إلى ليبيا.. اتهم في قتل هذا الراهب أيضا اليهود من أجل تعميق الفتنة بين طوائف الأديان الثلاث.. لكن التحقيقات النزيهة التي أجريت فيما بعد أثبتت أن الرجل الأسود بريء وأن القاتل راهب آخر، والسبب المنافسة على حب راهبة جميلة.. قبر هذا الراهب جيوسيني باشيتي مازال موجوداً في جدار الكنيسة قرب المذبح مغطى بالرخام الأبيض يشهد الندوات والتراتيل وكل الزمن الراكض وراء لحظة الموت التي عاشها.
الذي تزوج فوزية بنت رحمين هو الأستاذ بريك.. اشترى لها أزياء جميلة من دكان شراكة يملكه اليهودي حواتو والليبي الحاج إصويدق.. دكان كبير في منتصف سوق الظلام.. يبيع مستلزمات الأعراس للطوائف الدينية الثلاث.. مع الملابس الفاخرة التي اشتراها الأستاذ بريك خاطت فوزية بيديها الماهرتين عدة أثواب ناعمة مزجت فيهن خصوصية الأزياء الليبية باليهودية.. أثواب تحمل ألوان درنة البهية.. أثواب تندلق من رقبتها لتصل أسفل قدميها محدثة تماوجاً شبيهاً بانهدار ماء الشلال بين ثنايا الصخر المعشوشب.. عندما لبست أحد هذه الأثواب وتجولت به في زنقة اليهود وسوق الظلام ووكالة الطرابلسي غنى لها الفنان فتحي الشويهدي الجالس أمام مقهى بوشوشة أغنية:
تهتز من راسها حتى قدمها
حزامها حكمها
مشي العوج ما قبل حوتك قسمها
ابتسمت له ومنحته وردة فانشرح الشويهدي، وقهقه وطلب نرجيلا تفاح وشاياً أخضر وأوراقاً للرسم.. لم يطلب ألوانا فالأجواء في ساحة وكالة الطرابلسي ملونة.. أزهار البرسيانا الحمراء تغازل أزهار الياسمين البيضاء وأزهار الجهنمية القرنفلية تلوّح لبقايا شمس الغروب الغاطسة في تشابيك عرائش العنب الدرناوية.. غمس قلمه في خلطة دمعه ونقش الجسد الطازج لفوزية الحالمة بفردوس قريب.. أول ما بدأ نقش سرتها ومن سرتها تفرعت الخطوط في كل أرجاء الجسد.. لم يعتبر نهاية شعرها الطويل هو نهايتها ولا أصابع قدميها هي نهايتها.. فتحي لا يؤمن بالقواعد.. كل قاعدة يعتبرها قابلة للتشقق والتصدع والتهاوي.. قاعدته سابحة.. لا يراها غيره.. يمسكها بيديه ويرمي بها على هيئة بيت شعر لإحدى حسناوات درنة أو اليهود أو المسيحيات.. يرمي بها علي هيئة ابتسامة.. على هيئة تخربيشة إبداعية على أوراق السماء.. دائما فتحي يجلس أمام الساقية قرب البحر.. الساقية القادمة من عين البلاد في المغار ومن عين بومنصور في الضفة المقابلة.. هذا المجرى المائي مليء بالحكايات والأسرار.. طعامه يأتيه عبر الماء.. عناقيد عنب.. أرغفة مبللة.. قطع بطيخ.. طعام مغسول طاهر.. أحياناً تأتي إليه نقود.. أو حُلي.. فيلتقطها ويبحث عن أصحابها متتبعاً مجرى الساقية في الاتجاه المعاكس.. يسلم النقود الضائعة أو الذهب إلى أصحابه.. وينال المزيد من الابتسام.. في مرة وجد كمشة جنيهات.. هو فقير ومنكسرة فيه.. يحتاج إلى بعض الخمر والشواء له وللأصدقاء.. لم يأخذ النقود على الرغم من حاجته.. لكن تتبع المجرى.. ليرى الغسيل من أي بيت قادم.. وجد آثار رغوة صابون في الحشائش الكثيفة عند موضع ما فطرق باب البيت.. فتحت له الباب مطلقة ثلاثينية جميلة.. تفضل.. مد لها النقود.. شكرته.. قالت له أخي عاد من العمل، غسلت له بدلته العربية في الساقية من دون أن أفتشها.. شكراً لك.. أنت إنسان أمين.. هذه حصيلة عمله في الصحراء طيلة شهر.. ضيفته على كوب عصير برتقال.. وكانت جميلة للغاية مستحمة منذ قليل ومتعطرة بعطر شعبي فوّاح.. كانت متحررة بعض الشيء.. حضرية بنت بلاد.. مدت له بعض المال مكافأة على أمانته فرفض فتحي المال وقال لها اعطيني إحبيبة بس (قبلة).. لم تعطه إحبيبة.. قالت له آسفة أيها العزيز.. أنا مرتبطة الآن.. ولن أخون.. ليتك جئت قبل شهر.. الآن العرس قريب.. وحرام.. خطيبي رجل طيب.. بكى فتحي وخرج سعيداً إلى مجرى الساقية في الأسفل يتلقى ما يجود به الماء من هبات.. غسل وجهه واستند على جذع كرموسة وغرق في سبات.. جاءته المرأة المطلقة نفسها في الحلم.. وضاجعته بعنفوان الظمأ حتى رفع راية الاستسلام.. لم تقبل منه الاستسلام وأعادت هجومها عليه مرة أخرى حتى نزح وأغمي عليه.
استيقظ من جفاف المني على شعر عانته وشدة هرشه للمكان ومن حرقان الشمس على جبهته العريضة، فالشمس قد تحولت عن شجرة التين إلى قفاها الآخر.
خلع فتحي ملابسه ورمى نفسه في البحر المنعش عند مصب مياه السواقي العذب يغسل نفسه براحتيه، غرفة من المياه المالحة وغرفة من المياه العذبة.. يغتسل ويغني.. ما أجمل الاغتسال بغرفتين لهما مذاقان مختلفان.. جلدي يحب السكر.. جلدي يحب الملح.. والخصيتان.. آه من الخصيتين.. تقودان إلى الجحيم وإلى الجنة.. سأجري بينهما قرعة.. أرميهما فوق وأنتظر أين ستقعان.. ويترك هذا العبث ويسترسل مع قصيدة أم كلثوم.. يرتفع صوته بأراك عصي الدمع شيمتك الصبر.. يغني حتى يشعر بألم في حنجرته.. يواصل الاغتسال وكد جلده بالطحالب الخضراء التي يعتقد أنها تزيد الجلد نضارة والخصيتين قوة ومتانة.. يغتسل ويتأمل أعلى الوادي في بومنصور.. يتوعده بغارة بعد منتصف الليل.. لكن عليه أن ينتبه وأن يخطط للأمر جيداً، فإن ضبط أي مغامر داخل بومنصور بعد منتصف الليل فمصير مؤخرته يتحدد في ظلام الجبخانة.
لكن فتحي شاب خطير يغزو ولا يقع.. يتملص من المطاردين كالزئبق.. فهو من منطقة طَـب الكلب.. أو طبق الكلب.. الواقعة قرب زنقة البساتين في شارع البحر التاريخي.. طب الكلب هي جملة متعارف عليها بين الأشقياء كلما أرادوا اصطياد ضحية: رجلاً، امرأة، صبياً، حيواناً.. عندما تدخل الضحية المنطقة المتشابكة بالأشجار يقول أحدهم طب الكلب.. فينقضون عليه ويُعمَل فيه أي شيء.. أحياناً تهرب الضحية وتلمس جدار جامع البساتين أي تستجير به فيتركها الأشقياء.. وتعتبر حرّة غير مطاردة..
شارع البحر أو شارع الحرية من الشوارع القديمة في مدينة درنة.. يفصله عن شارع وسع بالك الجسر القديم الذي يجعلك تعبر الوادي.. يبدأ شارع البحر من الميناء وينتهي في البياصة أمام شارع حشيشة وعمارة الأوقاف سينما الزنّي سابقاً.. مازالت طرقاته تخبر عن عفسات حافية لبحارة يونانيين ومالطيين.. يخرجون من بواخرهم.. يمشون في شارع البحر، يمتدون مع شارع وسّع بالك، ينعطفون صوب شارع الفنار، يضاجعون المومسات ومن جهة سوق الظلام يشترون الخبز وعناقيد العنب ويعودون عبر شارع البحر، إلى الميناء.. مازال مشهدهم جلياً في الذاكرات.. أذرعهم الموشومة العارية.. بشرتهم المحمرة المحترقة من الشمس.. قضمهم للخبز الطازج وهم عائدون.. فمهم يقضم قضمة خبز.. يدهم تمنح الفحم عدة حبيبات من عنقود العنب الباذخ.. يسيرون والخبز بأيديهم في متناول فمهم والعنب في اليد الأخرى يرتفع للفم كلما رأى كسيرة خبزة تُمضَغ.. فتحي من هنا.. ولم يأت من البادية ليقع في الفخ وينيكوه.. أضف إلى ذلك أنه لا يغتصب أي واحدة.. كل شيء يتم بالرضا.. وإن أحبتك فتاة أدخلتك ولو إلى غرفة أبيها.
شارع البحر اسمه شارع 17 أكتوبر وهو ذكرى احتلال الإيطاليين درنة وشارع الحرية.. لكن الاسم الراسخ في الذاكرة هو البحر.. وهل هناك أوسع من البحر أو أقوى.
في نهاية شارع الفنار توجد المنارة.. ويوجد ولي صالح اسمه سيدي بوعزة.. المنارة اسمها منارة سيدي بوعزة.. ما ضاعت سفينة رأت نورها.. الولي سيدي بوعزة مزار معروف.. تقصده الناس من المدينة وضواحيها حول الجبال.. خاصة أيام الأزمات والشعور بالضيق أو الخوف.. في روضته شموع تنصهر فوق بعضها، وبخور ناره لا ينطفئ أبداً.. عندما ينجح الطلاب يأتون إليه بأُسرهم يعدون في باحته الشاي بالكاكاوية ويتعشون وقد يبيتون.. مكانه مكان مستور وآمن.. حتى أن البحر الذي وراءه مباشرة توجد به جابية طبيعية كبيرة تسبح فيها النساء من دون أن يجرؤ أي مخلوق على مراقبتهن.. الآن وراءه بالضبط على البحر.. يوجد إنسان حر.. يعيش حياته كما يريد.. يوجد الأستاذ رافع.. شاب وسيم.. كان متزوجاً ببريطانية.. مكث في بريطانيا حوالي 25 سنة.. بعدها لعدة أسباب خاصة بالحكومة البريطانية وعلاقتها بالشرق الأوسط تمّ إبعاده إلى ليبيا.. لم يعش في بيوت عائلته العريقة الميسورة.. اختار البحر.. اختار حفرة طبيعية.. قرب مسبح النساء القديم.. في الليل يرمي الشباك.. وفي الفجر يجر رزقه إلى موقد حطب.. هو مستريح الآن.. سعيد.. عائلته تلح عليه أن يتزوج.. هو سعيد حر يوقد النار.. يشرب الشاي.. يشوي السمك.. الشمس تشرق أمامه وتغرب أمامه.. لا يريد بيع حريته للزواج.. يريد الحرية والغناء والرقص ومخاطبة السماء والبحر.. هو زوربا درنة.. زوربا الإنسان المتواضع الواقعي.. النابذ لكل شيء من زخرف الحياة ورتوشاتها.. رجل عشق الغربة والعزف والصمت والتأمل العميق.
في الماضي كان هناك الفنار وشارع الفنار وعاهراته الرائعات الطيبات وجابية النساء.. والآن جابية النساء لا ترتادها النسوة.. فالنسوة صرن يستخدمن الدوش والبانيو المليء بالرغاوى وصوابين التزلفيط.
الأثواب التي خاطتها العروس فوزية جميلة ومختلفة.. كل ثوب ينسيك الآخر.. وكلها برقشتها بأسلاك السمنطو اللامعة وجعلت لها أزراراً عاجية بيضاء كأسنانها.. ثوب الزفاف جعلت له زراً ذهبياً فقط على هيئة فراشة بملايين الأجنحة.
العروس فوزية مثل أخت كليمنتي للاهم خياطة ماهرة.. لكن عريسها بريك ليس كعبد الهادي بونصرالله حبيب للاهم الذي غنّى لها عندما رآها جالسة إلى آلة الحياكة:
رينا بنت على ما كينا.. قبل اغوينا.. لكن في الدين تخاطينا

وغنى لها أيضاً:
لولا دينك يا للاهم.. بك ننساهم.. لولاف اللي بان خطاهم
العريس بريك ليس مثله.. عندما أحبها لم يجعل الدين حجر عثرة كما فعل بونصرالله.. اقترح عليها إجراء قرعة والكاسب يأتي إلى دين الآخر.. رميا ليرة ذهب إلى السماء وانتظرا سقوطها فلم تسقط.. نظرا إلى السماء الملتهمة لقرعتهما.. قال بريك لفوزية.. لا أفهم لغة النجوم.. ماذا يعني اختفاء الليرة الذهب؟.. نظرت فوزية للسماء وقالت ولا أنا أفهم لغة النجوم.. وغمزته.. أفهم لغة العيون فقط.. لكن سأختصر الأمر.. أنا يا حبيبي بريك سأدخل دينك فالليرة الذهبية المفقودة لي.. السماء تقول لي اخسري الذهب يا فوزية ولا تخسري حبيبك بريك.
كثيراً ما تشاجر اليهود في درنة فيما بينهم فيدعون على بعضهم الله يعطيك الكبّارة.. وقد يدعون أيضا بالله يعطيك فقر المسلم اللي من العيد للعيد غالب في عيده.. يحكون عنهم أيضا أن اليهودي عندما يستيقظ صباحا يتناول ملعقة عسل نحل وينظر في ليرة ذهب ثم يخرج من البيت.. كل من يوبخه أو يشتمه يرد عليه الله لا يذوقك ما ذوقني ولا يوريك ما وراني.. هو شعب مثلنا له مميزات وعيوب.. هو من البشر ونحن من البشر.. بعض العائلات اليهودية لم تغادر ليبيا.. أسلمت وانصهرت في الشعب الليبي العظيم.. وجوههم مثل وجوهنا.. كلامهم مثل كلامنا.. يحبون مثلما نحب.. يكرهون مثلما نكره.. يأكلون الكسكسي والبازين مثلنا.. في مزرعة بللو الصغيرة كانت سهرة جميلة.. عدّة أصدقاء أدباء وفنانين يتسامرون ويشربون خمرة النازلّي.. الفنان الكبير شحات يعزف على آلة العود ويغني.. الجو رطب منعش والبهجة تشع في براءة وفطرة الوجوه.. قال الفنان شحات وهو يتجرع كوب كبير من النازلّي أنا من أصول يهودية.. اسمي شحات واسم الدلع شحتة.. شخصية مرحة ومحبة.. تأملته طويلا فرأيت على غضون جبهته سطور حب ليست من سراب.. سطور ماء كلها ندى فجر.. قال لا أشعر بأي ضيق من أصولي الإنسانية.. بل أفخر كما يفخر كل مخلوق بأصله الأم.. هو يعزف على العود والفنان فتحي الشويهدي يغني:
أعطني الناي وغنِ
فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود

أعاد شحات الكأس فارغة إلى الموزع المغونن وقال.. أحب أنين الناي.. أحب جضيضه الآسر.. جضي يا قصبة بومنصور.. جضي يا عيّاطة وليمزق ترنيمك جدران الجبخانة.. جضي واردمي إلى أبد الأبد مارشات الحروب.. سأخترع آلة جديدة.. أجعل ذراع العود ناياً أهزهز أوتاره بأهداب الآهات.. أنا أكره الأصابع يا إخوتي.. أكرهها حتى وإن كانت عازفة للموسيقا.. الأصابع سراب اللحم وقار العظام.. سأكرهها لأنها تخنق.. تضغط أزرار الدمار.. سأعزف بالآهات ألحان دفئي.. ألحاناً صوفية مباركة تلامس شغاف القلوب.. تنبع من خفقات البهاء والهدهدة.. تسقينا وتنعشنا وتحمّر خدودنا مثل خمرة النازلّي، وصاح في صديقه المغونن: صح أم لا يا مغونن؟ فوقف المغونن يرقص في منتصف البراكة ويوزع أزهار الفلّ البيضاء على كل الحضور، وما تبقى في يديه نثره للسماء.
غزت إيطاليا ليبيا عام 1911م.. غزتها عن طريق البحر.. انسحبت الحاميات التركية الضعيفة إلى الدواخل.. في درنة غادرت الحامية التركية قلعتها على شاطئ البحر إلى سفح بومنصور وربوة ظهر الحمر.. تنادت القبائل الليبية وانضمت إلى هذه الحامية الصغيرة.. لتبدأ المقاومة وحرب التحرير.. تلاشى العداء بين الحكام الأتراك في درنة وقبائل البلاد.. صارت المسألة مسألة دين.. فالغازي مسيحي كافر قدم إلى البلاد من وراء البحار.. هو عدو للاثنين.. بعد معركة يوم الرحيل التي انتصر فيها المجاهدون الليبيون على جحافل الطليان وصل تخوم درنة الضابط التركي القدير أنور باشا صحبة كوكبة من الضباط والجنود الأتراك من بينهم رئيس أركانه الضابط المعروف مصطفى كمال (أتاتورك).
شكر أنور باشا المجاهدين على جهودهم وبطولاتهم في معركة يوم الرحيل وسرّه الانتصار.. شعر أنه مع مجاهدين حقيقيين لن يخذلوه أو يعصوا أوامره..
نظم أنور باشا المقاومة في درنة وطبرق والجبل الأخضر.. درّب أدوار (معسكرات) المجاهدين على ما توافر لديه ولديهم من سلاح.. هم جيدون شجعان يجيدون ركوب الخيل والتصويب من وضع الحركة.. يتقدمون ولا يرون أمامهم سوى الجنة.. درَّبهم أنور باشا وضباطه على الخطط العسكرية الحديثة وعلى أصول السوق والتعبئة.. لم يقتصر اهتمام أنور باشا على الأمور العسكرية.. اهتم أيضا بالأمور المدنية ذات العلاقة.. فتح مدرسة لتعليم أبناء المجاهدين في كل دور.. أسس مستشفيات ميدانية.. صك عملة حفاظاً على الهويّة الوطنية والإسلامية.. درّب الصغار على الأعمال المساعدة البسيطة مثل نقل قرب الماء للمقاتلين ونقل البريد بين الأدوار ومساعدة النساء في تمريض الجرحى.. شجع الفنّ فكانت الأغاني النابعة من حناجر البدويات خير معين لصمود الرجال في الميدان.. أثناء المعركة النساء تغني فتلتهب الحماسة في النفوس ويتحول المقاتلون إلى عمالقة لا يهابون الجبروت.. غناء بدوي مرزقاوي تركي.. كل نبرة منه تؤجج الروح وتجعلها تتسامى وتنسى نفسها.
كل من في الدور يتدرب بحماس.. الروح المعنوية عالية جداً، في السماء السابعة، في سدرة المنتهى، على لجّة الماء، في الجنة.
أنور باشا هذا محبوب من كل القبائل.. نسيت القبائل صراعاتها حول الكلأ والماء.. نست أيضاً عداءها القديم للأتراك.. فتغاضت عن ممارساتهم البشعة في تحصيل الضرائب.. الآن عدوهم واحد.. الآن يقاتلون من أجل الحياة ومن أجل نصرة الدين.. الذي جعل أنور باشا مقبولاً لجميع القبائل.. عبيدات.. براعصة.. حاسة.. وغيرهم هو مباركة المجاهد سيدي أحمد الشريف الذي خصّه بعدّة رسائل تطلب من المجاهدين الالتفاف حوله والانصياع لقيادته.. اجتمعت القبائل للجهاد في بومنصور وظهر الحمر بكامل أفرادها وحيواناتها.. نصبت خيامها على سفوح الجبال وفي الوديان.. لم يتركوا في مضاربهم شيئاً.. حيّ على الجهاد.. الله أكبر.. الله أكبر.. هذا ما بقي في أمكنتهم الأصلية من أصداء.
الرجال على الجبهة والنساء والأطفال في خيامهم بالخطوط الخلفية.. كان المعسكر مثل الدولة.. له إدارة ومسؤولون.. الصلاة تقام في أوقاتها.. المرافق تفتح في ساعة معينة وتقفل في ساعة معينة.. في الحرب النظام أساس الحياة وجالب للنصر.. في الأدوار يحتفلون بالأعياد الدينية والوطنية.. في هذه الأعياد تقام المسابقات الرياضية.. خاصة سباق الخيل (الميز) الذي اشترك فيه أبرز فرسان القبائل.. أقيم السباق بمناسبة عيد السلطان العثماني.. وحضره أنور باشا ومصطفى كمال وكوكبة من الضباط والأعيان والضيوف.. والصحفيون من مصر وفرنسا.. حضرته أيضاً الممرضة الفرنسية الجميلة التابعة للهلال الأحمر التي تقدم خدمات إنسانية جليلة للجميع.. فاز بالسباق فارس عملاق من قبيلة البراعصة اسمه أبوجرد.. قلده أنور باشا وسام النصر وصفق له الجميع وغنّت له حسناوات البادية أعذب غناء متمنيات الزواج منه.. كان بعضهن يصرخن ويهمسن آه لو يركب عليّ هالعتربي (العملاق) ليلة وحدة بس.
في الليل يتسامر المجاهدون على ضوء القمر.. يتسامرون ويراقبون التخوم منتبهين لأي اختراق إيطالي فجائي.
الجيش الإيطالي كله متحصن بالساحل قرب بوارجه وسفنه.. والمجاهدون على قمم الجبال المحيطة بدرنة.. الإيطاليون في مدى رمايتهم لكن سلاحهم قصير المدى وضعيف.. يتسامرون ويحكون في أمور شتى.. منهم من يحكي عن الزرع ومنهم من يحكي عن الرعي والتجارة.. ومنهم من يحكي عن الجهاد والحرب.. ومنهم من يحكي عن الحب.. وآه من الحب.. كل مجموعة ولها مهمومة تطرقها بمتعة.. في بعض حلقات الحكي يوجد مثقفون.. درس بعضهم في جامعات وجوامع إسطمبول.. بعضهم درس في الزيتونة أو القرويين أو الأزهر.. بعضهم درس في مدرسة الفنون والصنائع بطرابلس.. ما إن بدأت الحرب حتى عاد معظم طلبتنا وأساتذتنا من الخارج كل إلى مدينته وقريته منخرطين في أدوار الجهاد.
أكثرهم عاد لكن منهم من بقي في تركيا تنفيذاً للأوامر العسكرية، فحارب مع الأتراك في الحرب العالمية الأولى معتبرين أن دولة الإسلام لا تفرق بين أرض وأرض، وأن جيش السلطان واحد، نداؤه الله أكبر.
هؤلاء الفتية الدارسون في إسطمبول والعائدون لساحات الجهاد في بلادهم ليبيا كانوا مقربين من أنور باشا ومن قائد أركانه مصطفى كمال.. كثيراً ما يستشيرهم وكثيراً ما يطلب مساعدتهم في الترجمة وفي تدوين الأوامر والرسائل.. وفي عدة أمور أخرى تحتاج إلى قدراتهم العلمية.. بعد الانتهاء من العمل يعودون إلى مضارب قبائلهم في الأدوار.. وبعد صلاة العشاء يجتمعون كما كل ليلة للسمر والحوار.. كان حديثهم جله أدبياً.. ينشدون الأشعار لبعضهم خاصة شعر المعلقات.. يستهويهم الملك الضليل امرؤ القيس.. ينشدون له معلقته ويستغرقهم التجلي في الظلام إذ يستمعون إلى هدير البحر وأمواجه صافعة بوارج الطليان دون جدوى.. يترك منشد الشعر وصف الفرس ويقفز إلى وصف البحر في المعلقة فيغني بلحن عثماني هادئ:
وليل كموج البحر أرخى سدوله.. عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
يتمتعون أيضاً بقصائد عنترة وزهير.. وأحد الطلاب يصعد سدّة الحديث فينقله إلى الإيمان بالله وإلى الله والرسول الكريم.. فيتلو لهم من القرآن آيات بينات بصوته الرخيم، وعندما يؤمّنون لتلاوته يضيف لهم يا إخوتي يعجبني هذا البيت من الشعر.. هذا البيت الذي أشاد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يصمت الجميع وينشد بيتاً للشاعر لبيد بن ربيعة العامري:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويضيف أحد الحاضرين: جميل البيت وكل نعيم لا محالة زائل إلا نعيم الجنة.. هكذا قال علي كرّم الله وجهه على ما أعتقد.
ويصيح الجميع الله اكبر.. الله أكبر..
لكن الحديث عن الأدب والدين ليس هو الغالب.. فأحدهم يخفف وتيرة الحماسة والإيمان والقتال قليلاً، فيستدرجهم نحو الإيمان الصوفي والقتال التأملي عبر أشعار ابن الفارض وابن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي وأبي العلاء المعرّي، فيعم الهدوء ويرتقي الإحساس بالكلمات وتمتزج أنفاسهم بآهات يبثها الليل من جنان ظلامه.
أكثر من مرة جالسهم رئيس الأركان مصطفى كمال وحاورهم في مثنوي جلال الدين الرومي.. لكن مصطفى كمال لا يميل إلى الأدب كثيراً.. نقاشه معظمه يتحمس ويطول إن تطرق للسياسة والإصلاح وهموم الأمة المزمنة.. استعرض معهم آراء مصلحين وأدباء.. تناقشوا طويلا في مخطوطات عبدالرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وأحمد فارس الشدياق وشكيب أرسلان وحتى إبراهيم الأجدابي وابن غلبون والثعالبي.
كان مصطفى كمال يصمت ويستمع لآراء الفتية بتركيز ثم يبتسم.. يحكك لحيته الصغيرة ولا يبدي رأياً، متجنباً الانحياز والاستحسان..
صرامة عسكرية تكسو وجهه وبريق غامض ينطلق من عينيه.. في هذه الجلسات الأدبية يتخلى قليلاً عن صرامته وملامحه الجامدة.. يبتسم قليلاً.. يستمع أكثر مما يتكلم.. يكتفي بهزة رأس علامة الاستماع والاستحسان.. وإن لم يفهم ما قيل يطلب إعادة الحديث مرة أخرى وتوضيح المنغلق منه بكلمات تركية.. عند منتصف الليل يلقي مصطفى كمال أوامره النهائية ويعود إلى خيمته.. يمكث فيها قليلاً.. ويخرج بملابسه المدنية يتفقد الحراسة في الربوات المهمة ويختلف إلى خيمة الممرضة الفرنسية.. يمكث بها ساعة أو ساعتين فقط.. يتسامر معها ويشاركها تناول عدة كؤوس من النازلي أو اللاقبي.
عند الفجر يكون مستيقظاً مرتدياً ملابسه العسكرية ليبدأ عمل يوم جديد.. يحدث ذلك معظم الليالي.. الفتية يرون المشهد ويبتسمون من دون اكتراث.. لكن الشفشة.. آه من الشفشة.. كان يتألم كثيراً.. احتمل أول مرة وثاني مرة وثالث مرّة منعه من الوشاية تشبعه بأحاسيس الجهاد واستماعه للأحاديث الدينية طوال اليوم.. وفي اليوم الرابع لم يحتمل.. لابد أن يبص وإلا مات.. إنه مدمن.. مريض.. لكل إنسان مأزق ولكل إنسان شذوذ علينا أن نحترمه.. هو بطولته وأسطورته انحسرت في هذه المواهب الإصبعية.. استجمع خبرته الماضية وشق طريقه صوب خيمة أنور باشا في الوقت نفسه الذي دخل فيه مصطفى كمال على الممرضة.. أريد أن أثبت الجريمة.. هكذا قال الشفشة في نفسه.. بعد محادثات أقنع الحراس بإيقاظ أنور باشا وأخبره بالأمر.. قال له أنور باشا في الحرب القلم مرفوع.. ولا أرى هذا الأمر يمثل خطورة على سلامة الجيش.. هذا الوقت من ساعات راحة رئيس الأركان.. يمكنه أن يقضيه حيثما يشاء.. وأنت أخبرني هل رأيت عملية الزنا؟ هل رأيت دخول السلك في ثقب المرود كما ينص قضاء الفقهاء؟ وأين الأربعة شهود؟.. اذهب سلم خوي.. خلي الناس في حالها.. إن كنت وطنياً وشجاعاً تسلل إلى قوات الطليان وأحضر لنا معلومات عنها.. انتهت المقابلة وتصبح على خير.. وبخ ضباط الحراسة الشفشة وأحضروا مبخرة كبيرة مليئة بالجاوى والفاسوخ بخروا بها خيمة أنور باشا وما حولها.
عند الفجر تسلل الشفشة إلى المدينة ووصل خطوط الطليان، لكن افتضح أمره.. بص عليه شفشة آخر في طور التتلمذ.. شمه سريعاً فخاف على حظوته عند المستعمر.. قبض عليه المصوعية اليابسون وناكوه ثم أرادوا قتله فوراً لكنه صرخ قائلاً أريد السيد نقولا هارون.. معي معلومات مهمة عن المخربين الليبيين والأتراك.. حملوه إلى بيت نقولا هارون.. ونقولا هارون هذا قبطي مزيّف وصل درنة في نهاية العصر العثمانى الثانى، وهو عميل كبير للقوات الأجنبية.. استقبله نقولا.. ونكث له الشفشة كل الجوال.. قال له لا أحب الليبيين المجاهدين.. أحب الطليان والمصوعية الحلوين اليابسين.
في المعركة التالية تكبد المجاهدون خسائر كبيرة في الأرواح.
ليس الأدب والسياسة هما محور الحديث لدى هؤلاء الشباب.. أيضاً يتحدثون كثيراً عن الشعر الشعبي وعن التغزل في جميلات ليبيا الرائعات، وتزداد آلامهم كلما فكروا في الجيش الإيطالي الذي لو انتصر عليهم سيستبيح هؤلاء الحسناوات.. قبل الحرب كان في مضارب كل قبيلة بيت جلاس وهو صالون أدبي بالمفهوم الحديث.. يسمح فيه بالتقاء الفتيان بالفتيات والحديث عن الأدب والشعر.. فينشدون الأشعار ويغنون القصائد.. ويعزفون على الناي أو المزمار.
البقاء في هذا البيت يتم بمباركة أهل الفتاة.. وغالباً ما يكون البيت بيت الفتاة.. تستمر الجلسات ساعات طوال.. كثيراً ما توافق في هذا البيت فتى وفتاة.. أحبا بعضهما وتزوجا.. لا يهم أن يكون الملتقون من عائلة واحدة أو من قبيلة واحدة.
بيت الجلاس بيت جميل.. خيمة موردة نظيفة مفروشة بجلود الخراف البيضاء.. مؤركة بأرائك وثيرة.. تفصل بينها وسائد ناعمة.. في الزوايا تجد طنافس جلدية عالية موشاة بالأصداف.. في منتصف الخيمة مبخرة بخورها يضوّع باستمرار.. أمام الخيمة موقد صغير للقهوة والشاي.. خيمة مريحة هادئة.. لكن غير ميسر دخول بيت الجلاس لكل فتى.. لابد للفتى أن يلفت إليه الأنظار.. أن يكون نجماً أو شاعراً أو عازف مزمار أو مغنٍ شجيّ لأغاني العلم.. أو ابن شيخ قبيلة.. كل ما يحدث في بيت الجلاس ينتشر بين القبائل على هيئة غناء.. قد يهزم الفتى أمام الفتاة فيلحقه العار المعنوي ويتحول إلى طرفة تهكمية تستعرض في الجلسات.. وقد تهزم الفتاة فيتعاطف معها الكل ويستحلبون لها المبررات.. وإن كان اللقاء الأدبي متعادلاً.. بيت شعر ببيت شعر.. أحجية بأحجية.. فيكون الأمر جميلاً.. وغالباً في هذه الحالة التعادلية ما تعشق الفتاة الفتى.. خاصة إن كانت ضاربة روحها بعصبة، أي متكبرة ومغرورة لنسب أو مال أو جمال أو شذوذ.. وآنذاك على الفتى أن يحطم هذه المرعوبة البيضاء المدخنة بفأس التجاهل وعدم الانصياع، لتزداد أسهمه في قلوب فتيات أجمل وأنقى في النجوع البدوية الأخرى.. في هذه البيوت عاشت حكايات وماتت حكايات.. وتداولت الذاكرة عبق الدفء والشعر والفروسية والمروءة.. وانتقشت التواريخ الماضية والقادمة في ذاكرة الوجدان.. كلما عقد بيت الجلاس يدعون له عدة شعراء مشهورين للتحكيم ولإثراء الجلسة بقصائدهم الجديدة.. ذات مرّة في أواخر الثلاثينيات حضر الشاعر كليمنتي أربيب جلسة لبيت جلاس في إحدى ضواحي سوسة.. كانت الفتاة الكريتلية جميلة جداً.. خداها بلون المشمش في أوج نضجه.. ذكّرت كليمنتي بالفتاة التي التقاها في أسواق بنغازي مع أمها.
كان الفتى الذي يحاور هذه الإكريتية من بدو برقة، وتحديداً من دواخل سلوق.. كلماته جديّة خشنة جافة.. بلاغتها جيدة وعميقة لكنها ليست طريّة.. سرعان ما هزمته بموج بحر سوسة وأصيلها المحتار بين الانحياز للبحر أو الجبل.. لم يثرها لهيده على الحصان وسبقه الجميع.. قالت له البحر.. البحر.. وقال لها أنا من أهل البر.. لا دراية لي بالبحر وتياراته.. أفهم في العجاج والغبار.. أفهم في القعمول والتمير وصيد الجرابيع.. يا مرعي صب في القطرة اميّة وراه ينتق الجربوع من عندك.. قالت له أنا عذراء بنت بحر.. عليك ببنات البر والغابة.. الغناوي تتناقل بينه وبينها بتلك المعاني السابقة.. عجز عن الغوص واستخراج اللآلئ فأعلن الاستسلام مبكراً قبل انتهاء المعركة كما في لعبة السيزا.. مفسحاً الطريق لغيره من الشباب الحاضرين.. لكن لا أحد تقدم.. فهذه الإكريتلية بليغة جداً.. أبلغ من كلمة في نواة بيان.. كان كليمنتي يستمع لكلماتها الأخيرة.. تحكي قصة أجدادها.. البدوي البرقاوي فخر بقبيلته.. وهى فخرت بقبيلتها.. حكت عن أجدادها اليونانيين في جزيرة كريت،.. حكت عن عقيدتهم الإسلامية الراسخة.. عندما أعاد اليونانيون أرضهم من الأتراك قتلوا كل الأتراك المسلمين في جزيرة كريت أما اليونانيون المسلمون فخيروهم بين التنصر أو الهجرة.. أهل هذه الفتاة المسلمة اختاروا الفرار بدينهم والهجرة في أرض الله الواسعة.. جاؤوا إلى سوسة الواسعة.. بولونيا ميناؤهم القديم.. سوسة الجميلة المتوسدة الجبل والوادي والمادة رجليها في حوض الملح..
عاشوا في سوسة وانصهروا مع السكان الليبيين.. صاروا نسيجاً واحداً.. عندما هاجمت إيطاليا ليبيا مستبيحة أرضها وعرضها انخرط هؤلاء الإكريت في الجهاد مع الليبيين وسقط منهم الشهداء الأبرار.. قال القاضي الإيطالي لأحد أسراهم أنتم أوروبيون أقرب لنا نحن الطليان من البرابرة العرب.. قال له الليبي الإكريتلي إنه الإسلام.. الحق.. الدين أقرب من المكان أيها المعتدون.. ونحن في الأصل ليبيون.. هاجرنا في زمن ما هرباً من بطش الفراعنة ومن بعدهم الرومان.. كريت احتضنتنا.. أطعمتنا زيتونها وتينها وسقتنا لبن ماعزها الرشيق.. والحقيقة ليس الإكريتليون من حارب مع الليبيين فقط في حربهم ضد الطليان.. فهناك الأتراك الذين بقوا أو عادوا بعد إبرام تركيا معاهدة سلام ومصلحة مع إيطاليا متخلين عن مرتباتهم المجزية ورتبهم الكبيرة.. ولا ننسَ اليهود بالطبع ففي معارك الجهاد ضد الطليان لهم بطولات ومغازي.. وهاهو ليبي يهودي من مواليد درنة يقاتل مع المجاهدين في معركة القرقف ويستشهد بشرف.. كان يقاتل ويغني لأمه المدفونة في مقبرة الموحشة اليهودية بدرنة.. يقول لها أنا قادم إليك الآن.. يطلق الرصاص صارعاً الطلياني تلو الآخر.. يقاتل ويغني أغنيته التي بقيت حيّة حتى الآن وما بعد الآن.. يغني لأمه:
الوطن اللي جبتيني فيه
لبوبرطلّه ما نعطيه (البرطلة قبعة أوروبية)

هذه الفتاة الجميلة فخورة بأصلها وبجمالها وشعرها ودينها.. لم يتقدم كليمنتي لمبارزة هذه العناق أو المهرة شعرياً رأفة بها وبطموحها العنفواني المندفع.. أشاد بها وسمّاها خنساء البنتبوليس لأنها مثل خنساء العرب.. فقدت أخوتها وأباها.. استشهدوا جميعاً في الجهاد ضد الطليان المعتدين وبكتهم شعراً شعبياً يمزق القلوب بعبرات الصبر.
عندما انتهت الجلسة الشعرية بانتصارها على فتى سلوق التعيس طلب الحضور من كليمنتي إنشاد قصيدة.. لكن استوقفتهم قائلة الآن تناولوا العشاء أولاً.. مد السماط.. قصعات من اللوح مليئة بالمثرودة ولحم الجداء المسلوق مع كؤوس لبن رائب.. بعد العشاء تناولوا طاسات الشاي المنكهة بالورد.. وبعد راحة قصيرة للتدخين استؤنفت القعدة الشعرية وكرر الحضور طلبهم من كليمنتي إلقاء قصيدة.. امتنع أولاً واعتذر.. لكن نظرة من عيني الإكريتلية أرغمته على القبول.. بادل كليمنتي الفتاة النظرة ثم نقل بصره إلى فتية سوسة الجالسين الرائعين وقال مازحاً: لكنها قصيدة في جميلتكم.. ربما تغارون.. وضحك الجميع وصرخوا له عليك الأمان.. ومنحته الفتاة الإكريتلية زغرودة تشجيع.. فأنشد كليمنتي شعره وراء صدى الزغرودة مباشرة.. بل غنّاه صحبة زمّارة القصبة القصيرة ذات النبرة المجنونة التي لا هي صوت ناي ولا مزمار مألوف.. نبرة النبض والشجا والخفق والتحليق في الملكوت..
غنى كليمنتي أربيب رائعته الحيّة الباقية:
سمار نوم الناس ما نا مَنـّا.. حزانى على لابس جديد الرّنا
ما نحسبك تنسيني
ديني علي دينك، ودينك ديني
ولا حسبت رايك عادم
ميتين باني، ما يكيدوا هادم
شرفتن ع الروشن
وعاد خاطري يبرم تقول مدوشن
بعد قولتك يا مناي تسوى عيني
نمشي معاك للنار دون الجنة
ولا تاخذي فيا كلام بنادم
حجايج الخطا ساس الغلا هدّنا
نين قابلن مالح بماه اجوشن
برام الجنين اللي مفارق حنّـا

وتصايح كل من في الجلسة وزغردت نساء النجع المنصتات من خلف الأروقة وتجاوب الطرب في أرجاء وديان الإنجيل والأثرون وراس الهلال.. وخرج القديسون بصلبانهم يحيون الإبداع ونما الترفاس والتفاح الذهبي والسلفيوم.. والأشجار ثقلت بالثمار فترنح ظلها وسال على جنون الشمس والزيتون منح زيته مجاناً لكل فتائل الظلام.. وجميلة سوسة الإكريتلية لم تتمالك نفسها وجرت صوب الكهل كليمنتي تعانقه وتقبل جبينه وتقول لكل من في الخيمة والله لو ما هو يهودي ما اروّح معاه إلا الليلة.. تقصد تتزوجه..
والطرب يحدث في النفس سحراً لا سيطرة لنا عليه.. التي جرت صوب كليمنتي وقبلت جبينه أمام الملأ ليست الفتاة إنما إحساسها الصادق وذوقها الرفيع الذي غنى الأغنية وأبدعها وزمّر لها ليس كليمنتي أو عازف المزمار.. إنه السحر.. السحر المبدع المنغرس في ثمار الموهبة والنافث عطره أينما حل.
هؤلاء الفتية يحكون الآن عن لقاءاتهم تلك.. عن بيوت جلاس شبيهة لبيت سوسة الذي حضر فعالياته الشاعر كليمنتي.. يستذكرونها بلهفة وحنين.. الشعر الغزلي هو الغالب على أحاديثهم..خاصة الشعبي منه.. وإذا رأوا مصطفى كمال قادماً فيتحولون سريعاً إلى الشعر الصوفي وخاصة شاعر الأتراك العظيم جلال الدين الرومي.. يبتسم مصطفى كمال ويفهم تواطئهم مع غربته فيجالسهم ويشاركهم شرب الشاي بالنعناع المعطش.. وبعد لحظات يستأنسون به فيقف أحدهم ويلبس طربوشاً تركياً أحمر ويبدأ في الدوران ورأسه مائل قليلاً وذراعاه ممدودتان كأنه يطير مثل المولوية.. والآخر ينشد من أشعار جلال الدين الرومي وآخر يضرب الدف.. ومن منتصف المعسكر يرتفع رواق خيمة الآمر أنور باشا البيضاء ينهل من المشهد ملياً ويبتسم.
الفتيان الذين درسوا في إسطمبول هم من يقومون بهذه الرقصة الصوفية.. يسّرون بها على قادتهم الأتراك.. في نهاية الوصلة يصفق مصطفى كمال وأنور باشا وكل من كان يستمع.. يشعل مصطفى كمال لفافته ويبدأ معهم حديثاً جدياً حول السياسة والإصلاح والأخطار المحدقة بالأمة الإسلامية.. يقلبون الأمور الراهنة بأفكارهم الغضة.. وفي النهاية يصلون جميعاً إلى نتيجة واحدة ويشيرون إلى جبهة القتال ويذكرون سلاح الطليان المتفوق عليهم عدداً وناراً.
طالب ليبي نبيه مفوّه يجيد التركية هو من يناقش الضابط كمال كثيراً.. أحياناً يحتدم النقاش بينهم.. تبرز في صدغيه العروق وتحمر في رقبته الأوداج.. أحياناً يكون هادئاً بطيئاً.. بين كل كلمة وكلمة برهة صمت وشساعة تأملات.. هذا الطالب من قبيلة العرفة.. عائلة الوكواك.. يقول له أصدقاؤه مازحين كيف من عائلة الوكواك وتتحدث عدة لغات من دون وكوكة.. هو يدرس في جامعة إسطمبول ويرتاد حلقات الدرس في جامع آيا صوفيا.. تفوّق في دراسته في مدرسة الفنون والصنائع وفي زاوية سيدي عبدالسلام الأسمر فأرسلته حكومة الباشا للدراسة في الأستانة.. أجاد التركية سريعاً وغرق في دراسة كل ما وصلت إليه يديه من مخطوطات.. اعتكف في مكتبة إسطمبول ومتاحف توب كبي، سافر إلى أنقرة وبورصة وأزمير.. وفي إحدى مكتبات إسطمبول التقى بها.. فتاة تركية تسكن منطقة لالالي.. معلمة قرآن وكتابة في مدرسة حديثة.. اسمها رابعة.. تحابا.. وتزوجا.. لكن عندما غزت إيطاليا ليبيا عاد في أول مركب إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية براً إلى درنة.. ترك زوجته رابعة حاملاً في إسطمبول.. ودعته بدموع ساخنة وابتسامة راضية.. زوجته جميلة.. بشرتها بيضاء نقية.. محرمتها وردية هافتة.. جلبابها قرنفلي.. كفاها رقيقتان طويلتا الأصابع.. أظافرها حادة تخبش الاقتراب بشدة.. قالت له لو ظروفي الصحية تسمح لسافرت معك للجهاد.. ما إن أضع حملي حتى ألتحق بك.. أنا في انتظارك هنا أو هناك أو في الجنة.. كانت مؤمنة وصبورة.. كانت عفيفة جميلة.. تدرس الطالبات مجاناً وتعمل عشية في معمل حياكة جوارب لصالح إحدى الجمعيات الخيرية.. في الليل تقرأ الشعر مع مفتاح على ضوء القناديل.. حياة جميلة هادئة.. القدر لم يتركها تستمر.. ناكها.. حرّك بوارج وبواخر الطليان إلى وطن آمن.. لتنقلب معادلات السعادة في البعيد العثماني إلى شقاء ليبي قريب.. تركت الأجنة في البطون وسافرت النطف التي من المفترض أن تقذف سعادة إلى وطن الحرمان.. مفتاح الوكواك ليس قلقاً على زوجته رابعة وعلى كل التركيات فإسطمبول أمان.. لا خطر يتهددها.. لكنه قلق على بنات بلاده البدويات العفيفات الجميلات ذوات أوشام الذقون الخضراء.. ذوات الصراخ العذب والغناء المفتت للألباب.. الطليان الهمج لن يتركوهن بسلام.. سيلوثون عفتهن ويقذون طهارتهن بعكارة لا تزول.. بعد سنوات من الجهاد حدث المحظور.. الكثيرات اضطررن لبيع أجسادهن من أجل الطعام.. خاصة في المعتقلات حيث زج الطليان فيها أغلب أبناء القبائل الليبية.. ساقوهم من أماكن بعيدة في ظروف مناخية قاسية حفاة جوعى.. شيوخ ونساء وأطفال ورجال.. من يتخلف في الطريق ويعجز عن المشي يقتله المصوعيّة الزوامل برفسات أحذيتهم وحراب بنادقهم الصدئة.
حشروا الناس في المعتقلات الرهيبة ليمنعوهم من تقديم الدعم للمجاهدين.. الحرب قذرة والجوع كافر لا يرحم.. أحد الرجال ماتت زوجته من الجوع.. ماتت ولديها أطفال صغار.. منهم من يرضع ومنهم من بدأ يمشي قليلاً.. وجد الأب الصغار يبكون بحرقة.. يبكون حزناً على أمهم.. وبكاؤهم الأكثر كان من الجوع.. ولا طعام في الخيمة.. الطعام عند الطليان لا يخرج إلا عن طريق زبوبهم.. نظر هذا الأب في عيني ابنته الشابة الجميلة الناهدة ذات الستة عشر عاماً وقال لها : يا بنت وكلِي خوتك!
الطليان في المعتقلات يجوعوننا وينيكون بناتنا ويقتلوننا.. ومن هذا الألم تستمد القصائد العظيمة شرعيتها ومعانيها الخالدة وحياتها الأبدية.. فنرى قصيدة دائمة النبض تقتات على هدير الذاكرة، تقول نفسها عبر صرخات عذراواتنا المغتصبات.. تؤرخ مرضنا.. تنتجه وشماً أخضر.. يمنحنا العزاء المحفز لنيل حرياتنا.. وينوح الشعر عبر أنين الشاعر في فجر الغبار والدمار الذي جلبه لنا الطليان متترسنين بشوفينية تاريخهم الوثني وأحلام أباطرتهم الرومان الشواذ.. لقد أنتجت هذه المداسة الأفكار الخالدة والقصائد العظيمة المدفون في أنسجتها قرابين أليمة من الألم والهوان والمرض.. القصيدة باقية طالة بجنونها الخلاق صادحة في هذا العالم الآن بعد مئات وآلاف وملايين السنين:
ما بي مرض غير دار العقيلة
وحبس القبيلة
وبعد الجبا في بلاد الوصيلة

وتحاور مفتاح مع مصطفى كمال كثيراً.. لازمه خيمته ورافقه في جولاته الاستطلاعية.. وشرب معه عدة كؤوس نازلّي سكبتها لهما الممرضة الفرنسية.. هوالوحيد الذي يستطيع أن يتجرأ ويقول فكاهة أمام رئيس الأركان مصطفى كمال.. وهم منتشون في حضرة الممرضة طلبت الممرضة فكاهة ليبية.. فقال لها مفتاح.. تخاصم ليبي مع زوجته الليبية.. صار كل منهما ينام في غرفة.. بعد عدة أيام من الحرمان شعر الزوج برغبة جنسية جامحة فأخذ يدعو في حجرته بصوت مسموع يا سيدي عبدالسلام جيبها (احضرها) يا سيدي عبدالسلام جيبها.. والزوجة أيضا رغبتها متأججة لكن ذات كبرياء.. ما إن سمعت المبادرة من زوجها حتى جرت نحوه وارتمت فوقه صارخة: وين شايلني يا سي عبدالسلام اتركني يا سي عبدالسلام.
وضحك مصطفى كمال وارتمى على الفرنسية صارخاً: وين ناقلني يا سي عبد السلام، وتملصت الممرضة في خجل هامسة لم ادعُ أي مرابط.. مازلت زعلانة يا سي مصطفى.. لن أمنحك شيئاً حتى تطرد الطليان من ليبيا.
في أوقات الجد يستعرض مصطفى كمال مع مفتاح الليبي الأفكار النيرة واتجاهات الحرية والديمقراطية في الأحزاب التركية الجديدة.. مفتاح لديه أفكار سياسية.. ومتعاطف جداً مع سياسات ومناهج حزب الاتحاد والترقي.. يقول لكمال.. في تركيا أدرس العلم.. في ليبيا الآن أجاهد.. ينتهي الجهاد أعود إلى العلم.. الجهاد علم متحرك.. العلم جهاد ساكن.. السكون تحركٌ في جنان الصمت.. والتحرك صخب جامد.. يقول كمال لم افهم منك شيئاً أيها الفيلسوف.. لكن أختصر لك الأمر ما دمنا لم نمتلك أسلحة فعالة مثل أسلحة الطليان والألمان فلن ننتصر.. هذه الحرب التي نحن فيها خاسرة.. لديكم بصاصون كثيرون.. خونة ينضمون للجيش الطلياني ويبيعوننا في وضح النهار.. نظفوا دمكم أولاً.. أنا هنا في ليبيا من أجل تنفيذ الأوامر العسكرية فقط.. لكن القوة غير متكافئة.. الطليان أقوى منا بكثير.. معظم وقتي أستغرقه في تنظيم أفكاري المستقبلية.. خاصة السياسية.. في حي بومنصور أشعر بالراحة وبالقدرة على التركيز.. رائحة التين تغذي بحار حكمتي ورائحة الليمون تبعد عن روحي مسارب العفن.. المكان هنا هادئ.. كهوف مقدسة.. وماء عذب بارد نقي.. توت.. رمان زيتون.. تمر.. هذا المكان لم يخلق للحرب.. خلق للسلام.. هو واحة تأمل وراحة وتحصيل.. لكن الحرب.. للحرب نواميسها.. وأعود لأقول إن القوة غير متكافئة.. أنا لا أدعو للاستسلام.. أدعو لتطوير المقاومة بالعلم والتحصيل وامتلاك السلاح الرادع الذي سيقلب المعادلات.
ويوافقه مفتاح في كثير من أفكاره المنحازة للواقع.. بعد شهور من الحرب تخلت تركيا عن الصراع مع إيطاليا ووقعت معها معاهدة سلام.. غادر بموجبها أنور باشا ومصطفى كمال وكل الجنود الأتراك إلا قليلاً منهم قرروا البقاء مع الليبيين ومواصلة الجهاد..
أنور باشا غادر إلى وطنه ليلقى حتفه في معركة قرب بخارى.. ومصطفى كمال ابتسم له الحظ.. عاد إلى تركيا واشترك في عدة معارك على جبهة البلقان وانخرط في العمل السياسي صحبة الأحزاب التركية التي أطاحت بالسلطان.. ليصبح مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية.. فأسس تركيا الحديثة على أسس علمانية.. فصلت الدين عن الدولة.. وأبدت اهتماماً كبيراً بالعلوم التطبيقية المادية.. متخلية عن كل التراث النظري القديم.. حتى الحروف العربية ألغاها واستبدلها باللاتينية.. تخلى عن كل العلوم الأخرى المنبثقة من الفلسفات القديمة ومن تعاليم الأديان بتفسيراتها المتشابكة والمختلفة مع روح العصر وظروفه.. قال لا أعرف شيئاً سوى 1 + 1 = 2.
من ليبيا نهل مصطفى كمال أتاتورك أفكاره.. وشجاعته.. في ليل ليبيا تحت قمر بومنصور وظهر الحمر حسب حسبته.. ضرب أخماسه في أسداسه.. ورتب أفكاره.. مفتاح منحه مفتاح الجدل المثمر والتمحيص اليقيني.. حفزه بأسئلة مستفزة تنشد أقصى براحات الحقيقة من دون اتكاء على أي وتد أو مسلمة.
رائحة التين أضاءت فكره ورائحة الليمون طهرته من الملح الفاسد.. قدره جميل أن يأتي إلى ليبيا.. بلاد التاريخ والبركة.. بلاد السلفيوم والنخيل.. بلاد الخير والمطر والشمس والقمح.. في ليبيا لم ينقصه شيء.. الممرضة الفرنسية تسرّيه.. والبدويات لم ينقطعن عن خدمته.. وخمرة النازلّي واللاقبي دائماً في جرّته.. اللبن.. العسل.. السمن.. لو أخطأ مصطفى كمال قدره ولم يأت إلى هنا لمات في أحد الحروب التي حاصرت السلطنة في آخر أيامها.. في ليبيا تمكن من التأمل وإعادة ترتيب الأفكار.. في ليبيا التقى فتية نابهين وتنفس هواء الحكمة.. القدر به مقود يتغير فجأة.. يأتي بمصطفى كمال إلى ليبيا.. يعيده إلى تركيا.. سنوات قليلة ويصير أبو الأتراك أتاتورك ورئيس دولتهم.. قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية يموت.. أكثر من حزن لموته هو أدولف هتلر.. لو كان أتاتورك حياً لانضمت تركيا للمحور ولانتصر المحور.. تركيا لها وزن استراتيجي.. ستمكن هتلر من الانتصار في جبهة روسيا القريبة منها وتمكنه من الانتصار في جبهة أفريقيا أيضاً، والسيطرة على قناة السويس.. لو قدر لأتاتورك أن يعيش حفنة سنوات لتغيرت خارطة العالم.. لن يحتل الصهاينة فلسطين.. عالم غريب عجيب.. دمار فوق دمار.. الضعيف دائماً ضحية.. العرب سيكونون ضحية دائماً في كل الحالات مادام المنتصر غيرهم.. عندما رفض من جاء بعد أتاتورك التحالف مع هتلر في حربه المجنونة صرخ هتلر قائلا : بعد موت أتاتورك لا يوجد في تركيا رجال.
هتلر كلامه صح.. هو سفاح ومجرم لكنه غير منافق.. بعد موت أتاتورك ازداد تمسح تركيا بالغرب الأوروبي والأمريكي.. من أجل الدخول للاتحاد الأوروبي أهدرت تركيا كرامتها.. صارت ذيلاً مستقيماً للغرب.. حورت في مناهجها.. عدلت قوانينها القضائية.. ضحت بأصدقائها العرب وقضيتهم الأم فلسطين.. لو طلبوا منها حتى أن تتنصر علناً فسوف تتنصر.. لو كان أتاتورك حياً الآن لما حدث ذلك.. هو يحب تركيا.. يريدها رأساً وليس ذيلاً.. لكن نعود إلى القدر وحكمة ربنا.. ولوح الأزل.. والضبط الإلهي لنواميس الحياة.
غادر مصطفى كمال أتاتورك ليبيا في باخرة عبر ميناء بنغازي وبقي صديقه مفتاح في وطنه ليبيا يجاهد الطليان.. لم يعد إلى زوجته في تركيا.. فالوطن كان لديه أكبر من امرأة ونسل وأشسع من لذة طافية.. زوجته رابعة تفهم هذه الأمور.. تفهم قضيته الأم.. لو عاد إليها ناكصاً على عقبيه قبل الانتصار على الطليان وطردهم من ليبيا الطاهرة لبصقت على وجهه ولاعتبرته جباناً مخنثاً غير جدير بأنوثتها الصارخة النقية.
الأتراك معظمهم غادروا في سلام عبر البحر.. هم جنود وعليهم تنفيذ الأوامر.. وطنهم الأم مهدد جداً.. فالحرب العالمية الأولى بدأت وتركيا طرف أساس في الحرب ضد الحلفاء.
من بقي من الأتراك يشارك الليبيين جهادهم وجد كل تكريم.. زوجوه ومنحوه مالاً وأرضاً ورتبة عسكرية رفيعة.. منهم من استشهد ومنهم من امتدت به الحياة فعاش وأسرته في ليبيا حتى الآن.
مفتاح حارب ببندقيته وقلمه وعلمه.. لم يترهبن.. فكر بواقعية مثل تفكير صديقه مصطفى كمال أتاتورك.. تزوج من امرأة بدوية كانت تقاتل معهم.. امرأة نفّاقة.. والنفّاقة هذه نظام ابتكره المجاهدون، فقسموا الدور إلى مجموعات صغيرة تنفعهم في التنقل والاختباء وحرب العصابات.. وجعلوا مع كل مجموعة صغيرة امرأة تغسل لهم وتطبخ لهم وتمرضهم.. قد تكون النفّاقة أخت أحدهم أو أمه أو زوجته أو ابنته.. وقد تكون لا تمت لهم بصلة قرابة.. كل مجموعة أربعة نفر ونفاقة أو خمسة نفر ونفاقة.. يقاتلون ويختبئون وينتقلون بسرعة من وادٍ إلى وادٍ حسب ظروف الحرب.. مفتاح أحب هذه النفاقة.. تكلم مع أفراد فرقته في الموضوع.. أحدهم صار مأذوناً شرعياً وأحدهم صار ولياً للنفاقة.. والاثنان الآخران شهوداً.. دين سهل.. يتكيف مع الظروف.. لا تعقيد.. ولا أزمات.. تمّ الزواج والدخول بها في كهف صغير.. زفوها إليه وابتعدوا عنهما للقتال.. في اليوم الثاني عاد الرفاق بشاة ضأن هدية من أحد شيوخ المجاهدين.. شووا منها وقددوا الباقي وأطعموا من اقترب من الكلاب.
أنجب مفتاح من هذه النفاقة ولداً أسماه مبروكاً.. لأنه وجه بركة.. يوم مولده انتصر الليبييون في معركة كبيرة وغنموا مئات البنادق ومدفعين.. وتواصل الجهاد إلى أن تمّ أسر مفتاح نتيجة وشاية شفشوية.. حوكم بواسطة المحكمة الطائرة واستشهد شنقاً.
في الجهة الأخرى من البحر كانت زوجته رابعة وابنته فيروز تتمشيان في باحة جامع آيا صوفيا.. تطعمان الحمام قصباً مكتنزاً وتتأملان السحابات اللاتي بدأت تجتمع فوقهما وتمطر..
الحمام تناول الحب واحتمى بحواف قبب ومآذن مسجد آيا صوفيا.. ورابعة وفيروز دخلتا مصلّى النساء.. تسبِّحان وتدعوان وتتذكران مفتاح الفرج.. مفتاح الوكواك الليبي رب أسرتهما الصغيرة.. لم يطل الوقت حتى ارتفع آذان المغرب وتناولت رابعة تمرة حلّت بها صيامها.
مفتاح هو والد مبروك الذي يريد الذهاب إلى تمبكتو.. الذهاب إلى تمبكتو صعب.. أولاً الجو حار.. والإبل لا نجيد ركوبها.. والطريق نجهلها.. والحداة قد يصمتون والأدلة قد يبيعوننا للسراب.. من لم يكن دليل ذاته فلا يسافر.. أخاف على حبيبتي من قطاع الطرق ومن القدر ومن الشمس اللاهبة.. أنا ابن مدينة وهي بنت واحة.. أبي شنقه الطليان.. أختي هناك في تركيا لا تعرف.. زوجة أبي رابعة أحسّت وأشفقت عن إخبار فيروز.. فيروز تبني على أبيها آمالا كبيرة.. عودته لها هي الجنة.. متأثرة به جداً.. قالت لأمها ماذا يحب أبي؟ فأجابتها الكلمات.. من تلك اللحظة صارت الكلمة همها تترجمها وتغنيها وتحتفظ بها متلألئة في بلور ذاكرتها.. أبي مثقف كبير.. صاحب مصطفى كمال في ظهر الحمر وبومنصور.. فكره نيّر.. درس في طرابلس وإسطمبول.. تزوج أمي النفاقة.. أشعر أنني تكونت كليلة دخلتهما.. بي أنفاس الجبل وهو يهتز لذة ومرحاً.. في جسدي نبتت أعشاب عطرية ومن روحي سال العسل فأغرقني.. قبل أمي كان قد تزوج في إسطمبول من تركية جميلة.. رابعة العالمة معلمة القرآن.. في تركيا لي أخت اسمها فيروز.. زوجة أبي تأتيني في الأحلام.. لا تخاطبني بربيبي لكن بابني.. أختي أراها في كل الكلمات التي أقرأها.. أختي فيروز كلمة حب تحرق رماد البصائر.. تمطر ندى.. وتفوح ببخور كمبوديا المجنون.. ألعب مع اختي الشابة الجميلة.. أختي البيضاء.. الناهدة.. ماضغة اللبان.. المبتسمة.. الشامخة.. الحزينة إبان كل أصيل.. السائلة أمها.. متى يعود أبي مفتاح؟! متى يعود؟ أو أين أجده؟
فيروز جميلة جداً.. أب ليبي وأم تركية.. وإرث جيني مشترك.. الكلمة روحه والموسيقا دقات قلبه.. هي تحب اللوز الأخضر.. ليس لضعف في أسنانها.. لكن لأن اللوز الأخضر فاكهة شاعرية مثل ثمار التوت.
بعد الحلم بأختي وأمي زوجة أبي أعود إلى واقعي.. إلى حبيبتي وزوجتي فتاة الكفرة.. الفتاة الطين.. الرمل.. الحصباء.. ذات لون الكاكاو في مناطقها العارية وذات لون المرمر في المناطق المغطاة.. لقد تزوجنا منذ شهور.. ومازلنا نعد العدّة للسفر إلى تمبكتو.. الأحلام تزرع الخوف وتحثني على التراجع.. تدفعني عاليا إلى أختي العظيمة.. الأحلام التمبكتاوية تبتسم لي وتتوعدني بصحراء وردية.. جفافها عطش عطري وبللها فجر نقي.. وأنساق للحبيبة الكفروية.. فندخر زاد الرحلة.. درهماً فوق درهم.. واتفقنا على عدم الحمل لمشقة الطريق.. استعملت طباً عشبياً يمنع الحمل.. وعندما سبب لها مضاعفات منعتها من تجرعه وقررت أن أقذف خارجاً..
فيروز تتعلم جيداً في إسطمبول.. دخلت الجامعة وتخرجت في قسم اللغة الإنكليزية.. وشرعت في ترجمة مثنوي مولانا جلال الدين الرومي للإنجليزية.. أمها رابعة تابعت عملها في المدارس والجمعيات الخيرية.. تعلم أن زوجها لن يعود.. لكن لم تتزوج ثانية.. لم ترغب في تحطيم صورة المثل في مخيلة ابنتها.. كانت لها أماً وأباً.. وكل شيء.
الطريق إلى تمبكتو طويلة كالسفر في الحياة نفسها.. جنين الرحيل ولد في مبروك.. وفي حبيبته.. يرضع من ثدي مبروك طموح وعنفوان اللبن ويرضع من ثدي حبيبته ريث ورزانة الحليب.. يحبو مستعيناً بأذرع أربع وأرجل أربع.. يحبو على رمال الصحراء.. فيرى من البعيد حقيقة واقعة.. يمشي هكذا وجبينه إلى الشمس وأقدامه منغرسة في الأرض كآبار ماء حفرتها الرياح.. يجري أسرع من المهاري العاشقة.. كما الريح العاصفة.. قد يأخذ اتجاهاً مستقيماً وقد يتعرج حسب الظروف، وقد يجن فيتزوبع محدثاً دوّامة جذرها في الأرض وثمارها دورات هوائية في السماء.. من بعيد ترى ومن قريب تطير بكل من أوقعه حظه فيها.. تدوره عالياً وترمي به وتتمدد في ارتخاء عائدة إلى كينونتها المنعشة المنطلقة الغناءة.
حبيبة مبروك لم أختر اسمها.. ولدت هكذا من دون اسم.. فيها كل النساء.. كل الأسماء.. كل الألوان.. كل المذاقات.. كل الحياة.. مبروك في حضنها لا يغادره.. هي أمه في عالم الأمهات وهي أخته وصديقته و زوجته وحبيبته في العوالم الأخرى.. امرأة تضعها على الجرح يبرأ.. هي المرأة المثل في حياته.. هي أول امرأة يلجه فيها.. هي ربيعة الصبية.. هي كوندليزا رايس الناضجة.. هي سميرة المرتجفة.. هي آمال الحانية.. هي أخته فيروز.. هي سقاوة البدوية الفائرة.. هي للاهم أخت كليمنتي.. هي ميزونة الحجالة الناعسة.. هي فوزية اليهودية العاشقة.. هي الماء.. التمر.. الرمان.. الزيتون.. التين الطازج والمجفف.. امرأة مسماة بالكل تزوجها مبروك.. ومبروك هذا ليس أنا.. مبروك شخصية روائية.. لها حرية.. تنطلق حيث شاءت.. تأخذ معها من شاءت.. تقول ما شاءت.. وأنا شخصية حقيقة.. والحقيقة دائماً زيف وعجز وخداع.. أكتب إليكم بحذر.. وأكتب لنفسي بحرية.. عاجز عن جمع كل هذا الكم الأنثوي.. عاجز عن تحقيق آمالي في الحياة وفي الموت أيضاً، وما بعد الموت أيضاً.. كتبت مبروكاً.. صنعته في البداية حسب رغبتي.. مارست حريتي على مادته الخام.. لكنه استيقظ.. يبدو أنني خلقته حياً.. استيقظ وتمرد على حبري.. فرّ مني.. أنا لا أريد الذهاب إلى تمبكتو.. لم أزرها من قبل.. لم أحلم بها حتى.. لا أعرف الصحراء.. مرة واحدة سافرت إلى صحراء سبها.. لعبت مباراة كرة قدم ضد ناديها القرضابية.. فزنا عليه ثم عدنا إلى رباية الذائح بعد يومين.. هو يرغب في الذهاب.. حبيبته ترغب في زيارة أخوالها.. كيف أذهب إلى مكان مجهول بالنسبة لي ؟ وماذا أقول هناك.. قرأت عدة كتب عن تمبكتو ووجدت الأمر صعباً.. مازال البوح في القاع.. ليست الصعوبة في الكتابة.. لكن في اختلاف الرغبات.. رغبتي أن أذهب إلى مكان آخر.. رغبة مبروك تمبكتو.. حبيبته تمبكتو.. لن أتبع الشخصيات.. لن أسمح لها بالتمرد علي.. سأستدرجها برفق إلى مكان أعرفه مكان جميل وله علاقة بهما الآن.. لكن ماذا لو رفضت.. ماذا أفعل ذلك الحين ؟.. كيف أقنعهم بالموافقة ؟.. كيف يا أميرة الديمقراطية.. كيف يا كوندليزتي الغالية.. أنا حائر وسوادك الناعم ملاذي.. ماذا أفعل يا كوندليزا رايس العذبة.. أنجديني يا دفء الشتاء.. أنجديني بفكرة من عقلك الثاقب.. من كرمشتك الليبية اللذيذة بين الحاجبين.. سأتذكرك الآن وأنت تصوغين العالم على مزاجك الأسمر السائد في قمم الحياة الآن.. تنتقلين من عاصمة إلى عاصمة.. كفراشة من لهب جهنم.. تملين رغباتك.. الكل يرضخ لك.. ما تريدينه يكون.. حرب حرب.. سلام سلام.. النقود في يدك والسلاح في يدك.. والعالم كما جبله الخالق كتلة جبن وهشاشة انحطاط.. حرب حرب.. سلام سلام.. والدولة الرافضة تدقين رأسها بعصا المهراس.. قد تحتلينها وترمين بقادتها ورموزها في الزنزانات.. لا مجال للهرب في عالم هواؤه بصاصون.. كل العالم راكع يلمّع حذاء كوندليزا.. وقد تعقدين مع الدول المتمردة صفقة فترضخ لك.. أنت لا تريدين الحرية للشعوب.. لا تحبين لغيرك ما تحبين لنفسك.. أنت طاووسة تريدين المال والقوة والنفوش.. لا تهاجمين إلا الدول الغنية التي تستطيع تغطية المصاريف.. تهتمين بالبيض على الرغم من سوادك.. وإن اهتممت بالسود فلابد أن يكونوا أمريكيين أو غربيين.. لكن الجميل فيك أنك تتقبلين النقد.. أكرهك أحياناً وأحبك دائماً.. وأعشقك دائماً.. أحيانا أراك ملائكة.. أحيانا أراك شيطانة.. وعمري ما رأيتك لا شيء.. كوندليزا حبيبتي الرائعة.. الماتعة.. أنجدي قلبي الذي أحبك بحزمة بوح.. امنحيني شعاع إلهام أعبر به مأزق السرد هذا.. أريد الخروج من عنق الزجاجة ومتاهة التاريخ.. نقودي نفدت.. وأريد العودة إلى بنغازي.. سأكمل النص بأي طريقة كانت.. كل طرقي إبداع حقيقي يقودني إلى جنان الجحيم.. دقات قلب تسكب الخمر للبائسين.. قوديني للنهاية يا كوندليزتي.. فالنهاية بالنسبة لي بداية بكر.. أنجدي روحي أيتها الفحمة المتصوفة.. مانحة النضج والدفء للآخرين.. آه من كرمشة جبينك إذ تبتسمين أو تغضبين.. كل ملامحك تتغير إلا تلك الحفرة الليبية الناتجة من قلعة شمس لجدك الفزاني القديم.. قد يتغير فيك كل شيء.. قد تغيرك المراحل الجينية والظروف.. لكن تلك الجلدة المدعوكة.. وسم تانيت باق فيك.. أنا أراه الآن وأبتسم له وهو يسيح يستطيل قليلاً في شبه ابتسامة ويتذكر في جبهة من يكون فيعود إلى صرامته التي نحبها.. لن أقبل شفتيك.. لكن سأقبلك بين الحاجبين وأهمس في أذنك يا نا عليْ من ساقيك.. من عرصات الوجود.. من برجيك الأبنوسيين اللذين للحب وليس للتجارة. وليس للتفجير.
أنجديني يا ذات الساقين السمراوين الناعمتين.. اجعليني جورباً أصفر على بشرتك.. لو دخلت النار فسوف أحلم بك لأنسى الألم.. ولو دخلت الجنة فسوف أطلبك لأرقص معك.. ولتعزفي لي ألحاناً فزانية مرسكاوية.. أنا بوي من فزان وامي خادم.. واللي جرالي ما جرا لبنادم.. غناؤك بترول لن ينتهي.. ستردده عصافير الجنة ذات المحركات.. وستنقله حناجر الهداهد إلى بارود الجحيم.. أنت ريح الأغاني وبرق النشيد.. أراك في التلفاز فأشعر بالإطمئنان.. أراك في الأحلام فأشعر باللذة.. ينقطع عني الشخير.. وكيف أشخر يا وسادتي الواطئة الوثيرة.. ما أحلى أن تتوسد ذراعاً به أصابع تعزف الموسيقا.. كلما غزاك كابوس طرده إصبع كوندليزي.. الكوابيس اللذيذة بالخنصر والكوابيس الخبيثة فنغزة حاسمة بالوسطى.
أنام ورأسي مستريح.. ذراعاك ريش نعام.. سلام.. وأنفاسك دفء أفريقي مشبّع برائحة الصندل والعود ومسك الغزلان.. أنت غزالة سمراء تركض في فيافي العالمين.. عيناك كحيلتان بدمع حنون.. بارقتان كقنديلي قديس.. أنت تسيرين وأنا أسير جنبك.... كتفي تلامس كتفك فتمدين ذراعك صوبي.. تطوقين جذعي المترنح فيستقيم.. أنا في درنة الآن.. في مربوعة العزيز الشاعر أحمد بللو.. حتى هو يحب سمراء ليبية تشبهك.. شاعرة لطيفة تحمص اللوز في سحاباتها الممكنة.. مربوعة أحمد بللو مشرحة.. نافذتها تطل على مبنى رسمي.. كان فيما قبل بهو ضباط للجنود الطليان ثم الإنجليز.. السكون يعم الآن.. وليل درنة البهي يبتسم لنا كحله.. أنفاس سمورتي تصلني من خلف الجبل.. وأنفاس حبيبتي آمال وابنتي مهجة تصلني من القريب.. أنا في منطقة البطحة.. منطقة جبلية مرصوفة حديثاً.. أتطلع من النافذة إلى الحياة الساكنة.. الساعة تجاوزت منتصف الليل.. والمربوعة مليئة بالكتب والمجلات المتناثرة.. أحمد بللو يدخن ويقرأ في كتاب وأنا أكتب في ورقة واحدة تتسع كلما سودتها أكثر.. ما هذا يا كوندليزا رايس.. يا بنت فزان.. يا رحيقاً ليبياً سرقته دبابير الحديد.. قال بللو.. كل سطرين أجد كوندليزا رايس.. كل سطرين أجد سميرة.. كل سطرين أجد فوزية.. سقاوة.. آمال.. مهجة.. للاهم.. ربيعة.. انتبه للرواية حرام تفسد العمل.. انتبه للاكتظاظ.. ستضيّع نوبل بهذه الفوضى.. وكلامي في النهاية خذه أو اتركه.. عندما ناولني الكأس المخلوط بمشروب البيتر صودا قلت له سآخذ كلامك وكأسك أيضاً.. أمدني بكأس ثانية وثالثة.. وتذكرت الصديق الناقد محمد المالكي الذي لا يحب حذف أو تغيير شيء.. النص وكتابته مقدس بالنسبة له.. لأبتلع نقد المالكي في هذه اللحظات تجرعت كأساً مزدوجاً.. وواصلت التأمل في الحياة.. التأمل في الهدوء الذي يعم الخارج.. هل الهدوء هو السكون ؟ أعتقد لا.. الهدوء حي.. والسكون ميت.. أحياناً أحتاج إلى السكون.. وأحياناً أحتاج إلى الهدوء.. والآن مزجت منهما زمناً لذيذاً أعاد لي كثافة البوح.. القلم يركض الآن.. يلملم ثنايا الرواية.. يرتبها سحائب فوق بعض.. يكويها بمكوى القراءة ويلبسها أنيقة في خيالات الروح.. كوندليزا رايس جذبها العرق الأسود.. سألتني عن مصير أنطونيو الضابط المصوعي الذي تحوّل إلى راهب.. لم نقتله أو نرحله.. مازال حياً بيننا.. ترك كهف الراهب بالبردي.. بعد الحرب هدأت الأمور فنزل إلى طبرق ودرنة وبنغازي.. يرتدي الكساء القديم نفسه.. علق صلباناً وأهلة وشمعدانات وعلب صفيح دقها لتمنح شكلاً ذا دلالة.. عاشر الزنوج إينما وجدهم.. شاركهم حفلات الدنقة واحتساء المريسة.. كان يغني جيداً.. ويضرب الدف جيداً.. ويزمّر أيضاً جيداً.. وماهر جداً في الرقص والشطيح.. اعزفي له الآن يا كوندليزا على البيانو الخاص بك.. لكن أنصحك ألا تتوقفي.. إن توقفتِ وشعر بالعطش الموسيقي صرخ وسقط أرضاً يرغي ويزبد نقول عنه ناض عليه البوري (حالة وجد).. هو راهب وقت الرهبنة ووقت المرح مرح جداً.. يحب الأطفال ويغني لهم ولا يزعل من سيرهم وراءه طوابير طويلة صائحين:
وين حوش بوسعدية
مازال القدام شوية

لكن الأطفال يتوقفون ولا يتبعونه إلى بيت هويته المتشظي الضائع بين الحروب والأديان والألوان.. هو حي يرزق متناسخ فينا ترينه في كل مدننا.. نحن لا نقتل الضيوف وفى النهاية هو ليبي أبوه طرابلسي وأمه حبشية من جداتك القديمات.. رشاقتك منها وتكرميشة جبهتك بين الحاجبين من أجدادك الليبيين الفزازنة.. وآه لو يتم الوصال معك ويدوم.. سأتنازل عن نوبل.. وحتى الجنة.. يا سمارة نضجي.. يا مهجة الكون وبهجته.
تعلقت بكوندليزا رايس ورافقتها إلى أمريكا.. بحثت عن كليمنتي أربيب.. أجد عنوانه في مكان.. أذهب إليه أجده قد غادره.. دار الولايات ولاية ولاية.. وجدت أباه أربيب تاجر السلاح رفقة زوجته أم كليمنتي وشريكه ناحوم تاجر الخردة.. يصدرون السلاح لدول العالم الثالث.. تتبعهم عدة منظمات على علاقة بأجهزة المخابرات الدولية.. تتبعه عدة جرائد وأحزاب ومرتزقة مهمتهم إذكاء نار الحرب حيث عم السلام.. ابن كليمنتي موسى يعمل مع جده وغارق في المخدرات.. يعقد صفقات الدمار.. يصدر البارود إلى الجنان الخضراء.. فقد ذاكرته بسبب المخدرات والكحول.. ناحوم سعيد.. هو غني جداً الآن.. ماله دماء وذهبه أرواح تلعن.. هو مستريح الآن ما عاد يبحث عن الخردة النادرة.. فكل العالم الآن صار خردة.. تأتيه في مكانه.. تأتيه دولاً وممالك.. العالم صار قرية صغيرة.. صار طلقة بندقية إصبع زنادها دائماً يملكه فرد.. كل الأنظمة السياسية على قمتها فرد.. الزناد الذي لا يضغطه إصبع واحد مازال يعيش في الأحلام.. الكلام موجود.. النظريات موجودة.. الخير موجود.. لكن الأصابع.. الأزرار.. العقل المغرور.. الآفات الإنسانية جميعها.. جعلت تلك التنظيرات الذي أجهد الإنسان فكره من أجل الوصول إليها عديمة الجدوى.. وجد كليمنتي المال وكل شيء عند والده التاجر وأمه.. لكن لم يجد الحياة.. لم يجد الصخب الشعبي ورقص الحجالات.. لم يجد الأمان والحميمية واقتسام كسر خبز التنور وارتشاف اللبن تحت شجرة بطوم في قدح واحد مع الرفاق.. لم يجد الحياة التي عاشها وأراد أن يعيشها.. غادرهم إلى فلسطين.. وهناك وجد ما هو أبشع.. لم يحتمل قتل رفاقه الليبيين من الجبل الأخضر ودرنة وبنغازي الذين تطوعوا للقتال مع الفلسطينيين ضد المعتدين الصهاينة وأذنابهم الإنكليز.. أوجعه موت رفاقه الذين يعرفهم وله معهم ذكريات رائعة.. تألم لفقدانهم.. هو شهد كل شيء.. رأى محاربين أوروبيين بيضاً يقتلون أناساً من لونه لوحتهم الشمس.. قال كليمنتي هذا الدم ليس وطني وغادر سائحاً في بلدان الله.. بعد مدة عاد إلى ليبيا متنكراً.. اطمأن على زوجته سارة في ربوع الشيخ بورحيل في برقة.. كان لقاءً تاريخياً دامعاً.. وجد زوجته وفية له تنتظره بشغف.. ووجد أخته للاهم وقد تزوجت من حبيب جديد وأنجبت بنتين وولداً.. بارك زواجها وبارك انتقالها إلى دين الإسلام.
عندما سأل رفاقاً عن عشيقته الحجّالة ميزونة أخبروه بألم أنه بعد هروبه من الطليان في عقبة الباكور عادوا إليها.. استجوبوها واغتصبوها بوحشية من دون توقف حتى ماتت.. لم يصدق أنها ماتت. شعر أنها حية.. فتح الحصن الذي في رقبته وقرأ منه آيات من التوراة ترحماً على روحها.. أحس أنها تقرأ معه وتبتسم.. بل تحجّل له وخصر روحها يهتز كما في حفلة الكشك.. لم يشعر أنها ماتت.. شعر أنها حيّة فيه.. أنها سميرة.. وربيعة ورابعة وفيروز وللاهم وكوندليزا رايس وسارة وسقاوة وآمال ومهجة.. شعر أن ميزونة خفيفة جداً.. تسبح في روحه كما وبرة حياة تتسلق الشوك وتنبت المعاني.. وبرة تضحك وتتفتح في جلد العالم الأجرب.
صحب كليمنتي زوجته سارة وغادر ليبيا في مركب يوناني قديم.. استقله من سوسة.. صحبه في المركب عدة عائلات كريتلية.. من بينهن عائلة الفتاة التي غنى لها في بيت الجلاس.. هي تزوجت من ابن عمها وسيم وقررا السفر لقضاء شهور في جزيرتهم الأم كريت.. الآن العلاقة مع اليونان جيدة.. تسمح للمهاجرين اليونانيين بسبب الدين بالعودة.. أبحرت السفينة إلى وطن نيكوس كازنتزاكي.. أبحرت تدفعها رياح القبلي جالبة الخصب لنهود اليونانيات والنضج لثمار تينهم.. في كريت تعرض الفتيات صدورهن لريح القبلي القادمة من ليبيا.. يعرضن صدورهن لترتفع وتشمخ وتبرز الحلمات.. من ليبيا تأتي آهات السلفيوم إليهن.. أقام لها كليمنتي حفلة شعرية في عرض البحر.. رقصت فيها سارة ورقصت العروس.. ورقص البحارة كلهم رقصات ليبية يونانية يهودية.. كانت حفلة لا تنسى.. قال فيها كليمنتي قصائد خاصة للعروس وللبحر وكريت.. في كريت عاش كليمنتي واستراح من عناء الرحلات.. عينه على الوطن الذي ولد فيه.. ما عادت تعنيه فلسطين بهذه الدماء.. حنينه إلى الجبل الأخضر.. في كريت يقف على صخرة فيرى أضواء سوسة وشحات وطلميثة.. يسمع زغاريد الأعراس وتصفيق حفلات الكشك.. كل صباح يجلس على ربوة عالية ينتظر الفرج ويرقب وطنه الليبي البعيد.. وطنه الذي ناسه تكرهه لأنه يهودي.. التراب بريء لكن البشر مذنبون.. يجلس متأملاً الحياة يقرأ يانيس ريتسوس ونيكوس كازنتزاكي.. زوجته سارة تعد له الشاي.. يصطاد السمك ويتأمل البحر الليبي.. الجبل يقترب منه.. الجبل يصير بحراً.. يصير الربوة الجالس عليها على شاطئ طلميثة.. يقرض الشعر مع صديقه الشاعر عبدالهادي بونصرالله الدرسي.. يمازحه عبدالهادي قائلا اعطيني اختك للاهم أحبها.. يجيبه كليمنتي خذها لكن أحدكما يغيّر دينه.. عبدالهادي بونصرالله ينشد الشعر عن ضفائر للاهم الطويلة الشقراء الناعمة:
انتي دورك ماح مزنكل
طوال اشعل
تقول نخل
مثيل البل
اللي ترسل
على منهل
شرابه في ديموم يشل

فيرد عليه كليمنتي بالروي نفس والقافية نفسها:
انت جوفك جوف منعل
خماس متل
ربط في ظل
بين سلاسل
عليه اسمل
وين تخايل
تنفض تل
بهن بالكل
قند خلاخل
وين صهل
الى آخر القصيدة

هو في كريت الآن وعبد الهادي بونصرالله في برزخ الموت.. وأخته للاهم في ليبيا ترعى أو تتضاجع تحت شجرة أو تخيّط على الماكينة.. هو في كريت الآن.. يأكل التين الذي أنضجته الأنفاس الليبية.. التين المختلف عن تيننا الذي حمل ذكورته جنود نيكولاس إلى أستراليا.. يمتص التين الإكريتلي الحلو كشفاه العروس.. ويتأمل البحر الليبي العظيم.. ميزونة تخرج له من البحر.. كما الجنيّة التي تخرج لجون برايل الجميل.. جون برايل يأتيه من البردي.. يمنحه بارقة ألوان نور.. يعلمه كيف يرسم الحياة على الصخور.. ينقش كليمنتي حياته على صخور كريت البحرية.. ينقشها للمرة الثانية بعد أن نقشها أولاً على عصا الزيتون التي ساعدته في الهرب.. الصخور مرفأ أمان.. عصا الزيتون سلاح وتاريخ.. يرسم بصخب وينتقل من صخرة إلى صخرة.. رسم كل صخور الشاطئ ولم تنتهِ مدونة الحياة.. الحياة لا تنتهي.. قد تنتقل من مكان إلى مكان.. الزمن لا ينتهي ولا يتوقف.. قد يركض أماماً أو يعود إلى الخلف.. المد يرتفع مغرقاً ما رسم.. ينتقل إلى صخرة أعلى.. يغمرها المد أيضاً.. لكن سرعان ما يأتي الجزر.. ينهزم المد ويعيش الرسم جافاً جميلاً.. خاصة عندما تصليه شمس ليبيا فتجلوه أكثر وتجعله مرايا للسماء.
هو وسارة سعيدان.. هو وميزونة سعيدان أيضاً.. سارة مثل آمال تحبه.. ميزونة مثل كوندليزا رايس وسميرة وسقاوة وربيعة وللاهم تحبه.. في الحياة تتوحد الزوجات والعشيقات والعشاق والأزواج.. كلمة الحب فالتة مثل رائحة التين.. شمك يشم ثم يخبر عقلك.. لكن دائماً هناك نوايا طيبة وثقة مبصرة.. وصدق أثير.. ميزونة تخرج من البحر.. هي عروس بحر ليبية.. ترقص له كما في أعراس برقة وهو ينشد الشعر.. وسارة تصب له كأس الخمر.. في يوم السبت لا أحد يوقد له النار سوى ميزونة.. توقد له نار الطهي ونار النور ونار القلب.
مبروك يحب أنثاه الكفروية.. يحب أخته التي في تركيا.. أنثاه جدودها في تمبكتو.. لكن ما إن حكى لها وقرأت ما مضى من كلمات حتى تاقت إلى زيارتهم هناك.. والبحث عنهما.. فحتى تركيا بلاد تزار.. لها تاريخ عظيم.. وعندما حكى لها السرد عن كليمنتي في كريت أحبت كريت أيضا وتأكدت الرحلة.. ألحت عليه أن تلتقي بكليمنتي وزوجته الطيبة سارة.. ولم تنتظر إجابته وتناولت عصا الزيتون، أخرجتها من جرابها السعفي.. وبمرودها الذهبي نقشت حروف اسمها متبعثرة على كيان العصا.. فوق وتحت وفي المنتصف وفي الخلف..
قالت لمبروك أختك فيروز المترجمة ستجمعها.. ستصهر بعثراتها في كنه واحد.. فعلت ذلك يا حبيبي كي لا يأخذ كليمنتي منا العصا.. ماذا لو واصلنا سفرنا من دون عصا؟
كليمنتي سيقرأ الكلمة المبعثرة.. لأنه هو من أسس العصا واقتطعها من أرضها ونقشها.. هي التي جعلته يغادر الدمار ويعيش في واحات البحر والليمون والزيتون.. سيقرأ كليمنتي بعثراتي فيباركنا ويترك عصاه معنا.. عندما يرى كليمنتي العصا سيغني ويقول الشعر طازجاً من جديد.. مبروك سنسافر الآن.. لا يمكن أن نؤخر ميلاد الشعر.. فالعالم من دون شعر ضياع في ضياع.
سافرا في سفينة إسبانية.. وصلا كريت.. واستقبلهما كليمنتي استقبالاً حافلاً.. عاشا أسعد أيام حياتهما صحبة كليمنتي وزوجته سارة وشاركهما البهجة الكاتب الجميل نيكوس كازنتزاكي.. حكوا باللهجة الليبية.. وقال كليمنتي لنيكوس كازنتزاكي أنا كليمنتي وليس زوربا.. أنا لا أرقص فلدي راقصات ماهرات.. قفي يا سارة ارقصي.. قفي يا فتاتنا الكفراوية ارقصي.. وتهادت ميزونة من السماء ترقص إليهم.. وانتشى نيكوس كازنتزاكي.. وشرب كأس نبيذ آخر.. ومد لكليمنتي ولسارة ولمبروك ولحبيبته.. وشرب الجميع نخب ليبيا والسلفيوم والحياة.. وقال كليمنتي أنا لا أعزف على الألحان الوترية كبطلك زوربا.. أنا أنفخ الحياة في القصب.. وعزف على مزمار من قصب ليبيا.. فرقصت كل الجزر اليونانية وشبَّ ماء البحر يسمع ويبتهج وفجأة أظلمت الدنيا على الرغم من أن الوقت مازال بداية العشية.. كان الشفشة مع مفرزة من الجنود اليونانيين.. قال لهم هؤلاء ليبيون.. حتى هذا الذي اسمه كليمنتي ليبي.. شوفوا زبه.. إنهم اعداؤكم المختونون.. يتآمرون عليكم.. هم أقارب للمرأة والفتاة اللتين قبضتم عليهما في المركب المتسلل من بحر إيجا إلى حدودكما الإقليمية.. هم أخوة لفيروز الباحثة عن الاسم المتبعثر.. ألم تقل لكما فيروز باليونانية أنها مسافرة صحبة أمها إلى كريت؟ هؤلاء أعداء أيها اليونانيون الطيبون.. يا أتباع يسوع السلام.. هؤلاء المختونون يريدون إعادة الإسلام إلى جزيرتكم المحررة من الأتراك.. يقولون على فلاسفتكم العظام هراطقة ووثنيون.. يريدون إطفاء شعلتكم في الأولمب، ولأثبت لكم وفائي وصدقي أقول: لديهم سلاح في قاع البحر.. لديهم أيضاً جراب به صليب فضي مسروق من كنيستكم وكتب هدامة لمحي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، ومعهم قرآن كريم وآيات من التوراة في رقبة اليهودي.. و لديهم قنابل وسلاح فتّاك.. ولديهم عصا مسحورة.. عصا مسحورة.. تلك.. تلك.. التي تمسك بها الفتاة المتبعثر اسمها.. عجلوا وعجلوا وأحرقوا العصا.
ارتجف كليمنتي وارتجفت سارة وارتجف مبروك..
نيكوس كازنتزاكي على الربوة يرقب المشهد ويبتسم لنهايته..
الفتاة غرست عصا الزيتون في البحر فانفلق ممراً مشجراً ينفث عبق التين والسلفيوم والليمون والزيتون والرمّان والنخيل والحب على طريقة البرازيل 4 - 2 - 4 الإبداعية.
تمت
بنغازي / طبرق / درنة / بنغازي
2 / 7 / 2005 م