المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأبطال يموتون صغارا


AshganMohamed
01-18-2020, 04:50 AM
عادل سلوم


















البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awuـ dam.org


 

















من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ 2006



















الفصل الأول


ذات صيف..
كان العالم يمور بالفرح والطفولة، وكانت قريتنا المعزولة عن العالم مغروسة في قعر واد تحيطه جبال هرمة خضراء، وكان الناس يشرقون بالدمع، يحسّون مرارة سوداء تترسب في أعماقهم تاركة جراحاً لا تراها العيون وهم ينظرون إلى أكوام صغيرة من القمح الضامر تتناثر على بيدر القرية، ولا شيء غير مدى أزرق توشّحه غيمات هلامية التكوين، تسبح تحت قبّة نحاسية زرقاء أصبحت أبخل من أن تجود ببعض المطر.
في زمان ما، أيام الخصب والأساطير، تعوّد سكان القرية أن يقيموا حلقات الرقص وينشدوا الأغاني العذبة حول تلال كبيرة من القمح الأشقر الممتلئ، في زمان السحر ذاك، كانت القرية أفراحاً لا تنتهي، أغنيات تشرق من الحناجر أحلى من شمس نيسان، وصبايا يمرحن على الدروب كفراشات الربيع...
هذا العام، ومن خلال وقفة ذليلة، شعروا بالخوف من السماء التي حبست ماءها عن الأرض، فأجدبت السهول، ويبست الكروم، وأينع الذعر في العيون... ولم يجنِ أحد من الطعام السنوي غير هذه الكومات القميئة من قمح ضامر مفروش على أوساخ الأرض... هذه الكومات كانت تشع صمتاً دبقاً التصق بالرؤوس المخثّرة بالجدب، والتي أحالها تصلب القبة الزرقاء إلى جماجم مجوّفة ترنّ في فراغها أصداء مقهورة.
كان من الصعب في عام الجدب هذا، أن يصدق أحد أن شيئاً لطيفاً في العالم سيحدث غير تلك الموجات الرقيقة من نسيم رطب يهب على الوجوه، حاملاً عن سطح النهر الصغير برودة تنعش أعصاباً واجمة أمام الحصاد البخيل.
إن شيئاً كالكابوس يضغط الرؤوس والقامات المحملقة بالقمح، ولم يستطع أحد أن يتخلّص من وطأته غير امرأة عجوز ذات شعر بني ووجه مُجَعّد حفرته الأيام بشكل مقرف... لاكت كلمات تستفز بها الرجال الواجمين:
ـ ألم أقل لكم الفجور دخل القرية؟! أرسلتم أولادكم إلى المدينة ليتعلموا, فعادوا كفاراً لا يؤمنون بشيء. هذا غضب الله. لم تحصدوا شيئاً، من أين سنأكل أيها الأكارم؟.
عاد الصمت الممزوج بالعفونة البشرية يلف الرؤوس المصلوبة في الخواء دون إيماءة أو حركة، غير أصابع الرجال المعروقة التي ترتفع بين حين وآخر لتعبث بلحى أصحابها والتي لم تحلق منذ شهور.
أحسست برغبة عارمة في الضحك، بينما كان الجميع يهزون رؤوسهم مؤكدين، بقدرية تافهة، الأحكام التي تلطفت بها تلك المأفونة (منذ سنوات أوصل العلم رجالاً إلى القمر).
كان "أحمد" يقف إلى جانبي يجترّ حيرته فقلت لـه بتأفف:
ـ إذا لم تمطر السماء فذلك عائد إلى أمور مناخية وطبيعية بحتة.
التفت "أحمد" حوله بسرعة ثم همهم ضجراً وهمس بخوف:
ـ ألا تستطيع السكوت قليلاً؟ كانت العجوز تنظر إلينا عندما ألقت خطبتها عن الفجور. لو سمعك أحدهم لما انتهى يومنا على خير.
ـ لا يهمني. يوماً ما سأبصق على وجهها القذر. وجهها هذا برهان أكيد على أن الإنسان مخلوق وضيع.
ضحك "أحمد" ضحكة مخنوقة بترتها صفعة قوية لسعت رقبته وصوت مبحوح ينهره من الخلف:
ـ اسكت يا حمار. الشيخ "عبد الستار" بدأ الدعاء؟
تشنجت أصابعي فجأة...
هذا الرجل الذي لا يملك من الإيمان سوى شعر ذقنه وسبحته السوداء الطويلة، يعتقد أنه يستطيع أن يغير حياتنا بصلاته، وأن يبدل هذا الواقع بتهويمة سحر. وهو يصر دوماً على أن يدخل الله طرفاً مسؤولاً في كل مصيبة تحلّ بنا... أحياناً تنقط الأصابع شهوات عجيبة!!
وكانت تسيل من أصابعي المتشنجة رغبة عارمة بخنقه... لكنني لم أجرؤ على التطلّع إليه، بل ابتلعت رقبتي تلقائياً خوفاً من صفعة أخرى تصيبني أنا هذه المرة.
تفرّق أهل القرية تاركين كومات القمح تتخمّر بدعاء الشيخ وابتهالاته ومضوا منكسي الرؤوس وثيابهم الطويلة تزحف وراءهم تكنس الأرض الغبراء.
مشيت بهدوء، ومعي "أحمد" ثم ارتميت تحت شجرة تين هرمة تنتصب كقدر جائر على طرف البيدر، وضعت يديّ تحت رأسي ورحت أحدق بالأغصان المتشابكة بشكل بشع. هالني أن ألاحظ لأول مرة، أن ثمة أغصاناً صغيرة، نضرة باخضرارها، تحاول الخروج إلى النور، حيث الدنيا بلا حدود، لكنها تصطدم بأغصان هرمة عشش العفن فيها.
الحياة شائكة ومتشابكة...
رغباتنا بدائية ومتشابكة أيضاً. تخرج من جلودنا لترتدّ أحلاماً مائعة لجيل عاجز ومخصي يودّ أن يقلب كل شيء دفعة واحدة من خلال العمل مرة، وهدأة كسلى تكللها الأحلام العظيمة مرة أخرى. كان (أنور) يستلقي إلى جانبي بشكل أبله!!
لماذا كُتب علينا أن نحلم دوماً بالحياة وغيرنا يحيا الحياة؟
لماذا نبقى وحدنا في قعر العالم؟ حياتنا محددة بأطر مرسومة منذ الأزل، منذ أن كان الإنسان عارياً في مغاور الصخر؟!
جاءني صوت "أحمد" الذي ارتمى موهناً إلى جانبي يعلك حيرته ولوعته:
ـ سأسافر من هذه القرية. هذا قرار أخير. لا أعرف أين أذهب لكنني لم أعد أطيق شيئاً؟ هرَش أنور رأسه، ثم خلع حذاءه ووضعه تحت رأسه، وتثاءب وهو يلوك كلماته:
ـ عندما يبيع والدي إحدى بقراتنا سأسرق ثمنها وأسافر من هذه القرية بلا عودة. تفوه، من يتصور حياتي مرهونة ببقرة؟!
سكت قليلاً ثم التفت إليّ وسأل:
ـ هل تسافر معنا؟
كانت عيناي تتعلقان بأغصان التينة المتشابكة التي تحمل وريقات صفراء ميتة. لو نزل المطر لما اعتراها هذا الشحوب. المطر؟ لم يعد لدى السماء ما تعطيه والعالم فقير فقراً مراً. أين نذهب؟
التفتُّ إليهما. كانا ينتظران جوابي وفي عينيهما لهفة تافهة، وبعض التعب الذي مدّ عروقه الحمراء على أحداقٍ كانت ذات يوم بيضاء كالنقاء.
لم أجد ما أقوله. فأدرت ظهري ثم انكفأت على وجهي لعلّي أنام، لعلّي أنسى عقلي عدّة ساعات، لكن "أنور" لم يتركني وشأني، فعاد يسألني من جديد بلهجته الباردة الممطوطة:
ـ هل تسافر معنا؟
قلت بضجر حقيقي بينما كان وجهي يلامس تراب الأرض الناعم:
ـ لست أدري. كل الأمكنة متشابهة. العالم مكان مرير والحياة معاناة لا تحتمل. أنا لا أرغب بشيء. أتمنى أن أموت بسرعة ودون عذاب.
لفّنا صمت وذهول. لماذا قلتُ هذا؟
كنت أشعر في أعماقي أنني أكذب. طوال حياتي لم أختر شيئاً ولم أقرر شيئاً، وأنا الآن أهرب من الاختيار... لم أكن حراً وكل ثرثراتي تذهب هباء، أصحيح أنني أتمنى الموت؟
أبداً، لو كنت أملك مشيئة حرّة، لو تجرأت على الاختيار لما ترددت لحظة باختيار الحياة، هناك عدد صغير من الناس أحبهم وكثيرون أحتقرهم، وأتمنى بكل نجيعتي أن أبقى أطول مدة أستطيعها، ربّما لأنني أحاول أن أحب!! أبداً. ربما لأن عليّ واجبات يجب أن أؤديها لهم؟!... هذا كذب رخيص... عمري لم أفعل شيئاً طيباً من أجل إنسان لو خيرت لاخترت ولأصبحت الحياة ساحرة. هذا مهم للغاية.. أن أختار الحياة!





الفصل الثاني

أكره شجرة الصنوبر العتيقة التي تنتصب منذ عشرات السنين أمام بيتنا، وتتفرج على مآسي حياتنا بسفالة عجيبة، وقد حاولت ذات ليلة أن أقطعها في غفلة عن الجميع. أخذت فأساً ورحت أضرب الساق المجمّد الضخم بعنف وسرعة، لكن والدي استيقظ وهرول حافي القدمين ثم انهال عليّ ضرباً وشتائم بذيئة ركضت بعدها مبتعداً عن البيت وقضيت الليل كلّه متنقلاً بين البساتين الموحشة الغافية في أحضان عتمة سوداء صامتة لا يجرحها غير نباح الكلاب ونعيق بومة قذرة تختبئ في مكان ما.
كلّهم يحبّون شجرة الصنوبر.
حتى "عزيزة" تأتي كل يوم تقف قربها ثم تحملق بالساق الضخمة الناتئة مدّة طويلة تلتفت بعدها إليّ ثم تتمتم بخشوع:
ـ ألا تحبها مثلي.. إنها رمز للقدرة والبقاء؟
أبصق على الأرض وأطلق الشتائم الضخمة، فلا تجد أمي بداً من أن تقول بصوت مليء بالأسى كأنها تتفرج على جنازتي:
ـ إنه لا يحب شيئاً، قلبه مليء بالحقد على العالم. المدينة لم تعلّمه الحب أبداً. أخاف أن يموت مسموماً بالحقد.
أمي إنسانة بريئة ورائعة, تبكي دوماً من أجلي فأنا لا أفهم ما أقول ومجنون بطريقة لم يكتشفها العلم بعد، من أجل هذا، تصلي دائماً كي يغفر الله لي ولا يحاسبني على تصرفاتي الآثمة و"عزيزة" تحبني أيضاً، وتحلم بالزواج مني بعد أن أنهي دراستي في المدينة، لا لأني فتى أحلامها فقط، بل لأنني الوسيلة التي ستنقلها إلى المدينة وترى الفتيات الأنيقات، بعد أن سلبتُ لها لبَّها بالحديث عنهن، ولتدخل السينما، بعد أن صورتها لها عالماً مسحوراً أبدعه الإنسان المتمدن...
لكنّ المشكلة أنني لا أحب "عزيزة" رغم أني قبّلتها أكثر من مرة دون أن أعرف السبب لذلك, لعل مشاهدتي، للقبل في السينما والغيبوبة التي ترافقها، واللذة التي كانت ترسم معالمها على وجوه الممثلين، لعل هذا دفعني لأن أختبر هذه اللذة.
لذة؟ أشعر أنني إنسان بدائي يحمل في أعماقه صحراءه، بكل ما في الصحراء من ظمأ ورعب ما الفائدة؟ "عزيزة" مخلوق عابر لم يمنحني إلا تشنجات عصبية تافهة تدوم لحظات قليلة، أشعر بعدها بشكل عميق أنني حيوان. كانت أحياناً تثير غرائزي بطريقة وحشية ووجهها الغجري الأسمر يلسع كل حواسي, وعندما أقبلها أحس أن كل شيء في داخلي قد انطفأ, وعندما تلامس أصابعي بشرة وجهها الذي أحرقته شمس الريف حتى صار أشبه بقشرة تفاح ناضج, عندما أفعل ذلك يحملني خيالي ـ على نحو ما ـ إلى عالم آخر... المدينة... والغرفة الصغيرة و"ناديا" عارية على سريري، كأرنب مسلوخ، يهزّها الشبق وهي ترتمي على صدري ميتة لهفى، فأضيع بين يديها ساعة، أهرب بعدها إلى الشارع الصاخب، حيث أحملق هناك، بالقامات البشرية المنهوكة تزحف على إسفلت الشوارع الأسود، من قال إن عصر الزواحف قد انقرض؟
أنا مخلوق عجيب حقاً، لم استطع مرّة أن أكون واحداً من المدينة، ولم أستطع أن أنعتق من رعبي منها، لا أستطيع التخلّص من ضبابية القرية وفراغها الذي يعبئ رأسي، الأشياء تبدو بلهاء عقيمة ولا قيمة لها في المدينة والقرية على السواء؛ في المدينة ألمح عداء سافراً في العيون، وقد يكون حبي للمدينة لسبب سادي، فأنا أضيع فيها كأي فلاح تبهره الأضواء، أحب المدينة لأن الناس فيها مشغولون عني وليس لديهم أي وقت يمنحونه لي. الإنسان الوحيد في المدينة صفر، وليس ثمّة وسيلة لتحس أنك موجود سوى أن تمارس الحقد.
الحقد؟
وترتخي أصابعي عن وجه "عزيزة" البض الطريّ... في كل مرّة ألامس وجهها، أعود محمولاً على أجنحة هذه الذكريات الميتة، فأهرب من "عزيزة" كما أهرب من ذكرياتي.
إلى متى أظل هارباً؟
الصحراء لن تورق أبداً... لا شيء سوى الهجير والظمأ والسراب. لو أستطيع أن أغرس واحة واحدة. لو أستطيع! في صدري أكداس من الرغبات البدائية وكل رغبة عالم بلا حدود.
أتمنى أن أعقد هدنة مع هذا العالم.. أن أبيع المدينة شيئاً من قريتي وتردّ لي بعضاً من حقدها, أن أستبدل "عزيزة" بـ"ناديا" وأن أمنح السلام في قبو بربري معها.
أريد أن أغزو العالم, امتشق سيفاً يلمع تحت أشعة الشمس وأمتطي جواداً أبيض, أسبي العالم, أحرقه.. وأقف كما وقف نيرون فوق غيمة أغني على القيثارة ألحاناً مستوحاة من لهب النار الذي يلتهم اللحم البشري وصراخ العذارى.
أريد أن أركز رايتي في كل شارع من شوارع المدينة.. راية البطش والغزو؛ لعلّ الناس يهاجرون إلى قريتي يزرعون الكذب والنفاق فيها... لعل...
يومها لن يعيش الناس هناك، سنة كاملة، يعملون كقطيع من الحمير من أجل كيس من القمح الضامر، ثم يستغفرون الله لأنهم أرسلوا أولادهم إلى المدارس ليتعلموا الفجور.





الفصل الثالث

في الصيف تشعّ الحرارة وتشل الحواس، ولا تبقي غير رغبة عنيفة بالتثاؤب, والكَسل تحت شجرة التين عند حدود البيادر. في ظل هذه الشجرة التي عاصرت أمجاد الخصب وعرفت تفاهات الناس أيام الجدب، نلوك كل يوم آمالاً عظيمة, نقيّم العالم والإنسان، نتحدّث عن فرويد والاشتراكية والاستعمار، نفلسف الجنس والدافع الغريزي، نتحدث عن أشياء أكبر من عمرنا الزمني... ثم نتثاءب وننام حتى يفرش المساء وشاحه الأسود على القرية الصامتة.
عندها تستيقظ عيوننا وتبحث عبر سهول لا حدود لها، وفي حنايا أشجار الصنوبر الكثيفة التي تقبع بذل عند سفوح الجبال... نحس أن شيئاً ما لابدَّ أن يورق... أن يومض بأمل ما...
لا ندري كنهه، وليس لـه ظل حقيقي، وترتدّ نظراتنا الحائرة إلى أزقة القرية الوسخة تبحث من جديد، لعلّ وراء هذه الأشياء التافهة التي خلفها الزمن يختبئ ما لم نره ولم نعرفه من قبل.
مأساتنا كانت نتيجة ممارستنا لنوعية معينة من الحياة في المدينة، حيث نقضي عامنا الدراسي، ثم نعود إلى القرية صيفاً نمارس الكسل والمقت والضجر. دائماً نتوق إلى حياة أفضل، ومن أجل هذا التوق نحمل إصراراً عنيفاً لكنه لم يوصل إلى أي شيء مطلقاً، كان إصرارنا عبثاً.
لم تكن ثمّة جذور تشدّنا إلى القرية غير هذه العطلة الصيفية، وكانت مشاعرنا في الصيف حادّة ونزقة بشكل لا يطاق (عندما يعيش الإنسان في قرية فقيرة فإن أفكاراً عجيبة تزحم خياله وتضغط على رأسه) في الصيف تتبلور المأساة وتتخذ أشكالاً متعددة، ونحس أكثر فأكثر أننا نعيش واقعاً لا نطيقه بين بشر ما زالت الأساطير والخرافات سيدة حياتهم.
فجيعة، يزيدها مرارة أننا عاجزون عن تغيير واقعنا وواقع الآخرين المهترئ. الآخرون؟؟ إنهم يموتون كل يوم ألف مرة ونحن نتفرج برعب على هذا كلّه دون أن نجرؤ على البوح بحرف واحد. إن أحداً لا يريد أن يستمع إلينا. نحن اللعنة التي حلّت على القرية والتي بدأت بالجدب ولن تنتهي إلا بانتهائهم! إنهم يخافون النهاية أيضاً كأنهم يعيشون.
والدي يشعر بالندم لأنه لم يكتفِ بتعليمي القرآن لأن العلم الحديث يفسد الإنسان ويصيبه بالدوار ويظلّ مطارداً إلى الأبد بسخافات العلم.
جارتنا (أم علي القدار) التي تحفظ ألف حكاية عن الجن والعفاريت الذين يهاجمون بيتها كل ليلة، تفرست في وجهي وزعقت:
ـ أريدك أن تبتعد عن ابني (إبراهيم) ليس لي غيره، وأنت توشك
أن تخرب لـه عقله بحديثك عن الأرض التي تدور. لا تكذب، لقد سمعتك بأذني هذه.
وتجرأت السيدة (أم سالم الزير) التي يعتبرونها أبرع من وضع الحجب التي تطرد الأمراض الخبيثة من جسم الإنسان على الصراخ بوجهي:
ـ أنا سمعتك أيضاً. كنت تقول لابني (سليمان) إن القمر أرض يابسة وفيه جبال مثل (جبل الشمالي) يا كافر ألا تخاف الله؟
قال لها أنور ساخراً:
ـ لماذا لا تكتبين لـه حجاباً فقد يعود إليه عقله؟
ـ لكنه لا يؤمن. الكافر.
ـ وأنت لم تدخلي مدرسة طوال حياتك، فكيف تكتبين؟
ـ لا تتدخل في شؤون لا تعرفها. لقد علّمني أولياء الله.
أتمزق من الداخل، كيف يستطيع إنسان أن يعيش في زوبعة هذه المهازل وكيف يدخل إلى هذه الرؤوس المعتمة شيئاً من النور؟
كنا نحاول بصبر عجيب أن نعيش واقعاً من صنعنا ومن إيماننا بالإنسان، لكن هذا الواقع الذي ولد في رؤوسنا لم يكتب لـه أن يخرج إلى النور أيضاً, بقي في جلودنا.. الدمامل على جدار الروح هي ولدينا الشرعي. إن تمردنا على العادات الموروثة منذ أجيال طويلة، وعرقنا المسفوح لوأد الأفكار المائعة، كل هذا لم يكن أكثر من صرخة ملتاعة في واد مهجور، كانوا يغلقون أفواهنا باسم الأصنام المعبودة والمعتقدات العفِنة التي ألقاها العالم على مزابله منذ قرون.
قلت "لأنور":
ـ إن عذابنا أقسى من عذاب غيمة حبلى بمائها ولا تجد أرضاً مجدبة تحتها.
ظلّ "أنور" صامتاً لم يقل شيئاً... الصمت قدرنا البائس.
نعيش بصمت ونتعذّب بصمت ونحلم أيضاً بصمت. أصبحت فجيعتنا مأساة صفراء عالقة على وجوهنا. أحياناً... كان ينبجس من أعماقنا قرار مفاجئ (أن شيئاً في العالم لا يستحق هذه المعاناة وأن حياتنا تذهب هدراً رغم أننا لا نملك غيرها).
لم تكن المشكلة أن نتراجع أو أن نكون مزيفين... المشكلة الحقيقية إحساسنا أننا مسؤولون عن تكسير الأوثان الوهمية المتربعة على عرش الرؤوس، وتمزيق الكفن الذي يلفّ القرية التعيسة ويجعل من الناس فيها أجساداً مذعورة وكيانات هاربة... المسؤولية شيء قاسٍ للغاية. ولابدّ من وجود طريق ما لتحمّلها أو التخلّي عنها. حتى لا نصبح كيانات مجانيةً.
ثمّة مرفأ أمين لكل سفينة ضالّة. تعبنا. كل شيء هنا معكوس بطريقة لا إنسانية. جميع فلسفات البشر عاجزة عن انتزاع واحد من نفسه. إنهم قانعون بعيش مسلول لا يعرفون أنه يزحف كالديدان إلى مستنقع آسن مقيت. إن إيمانهم بأن هذا قدرهم إيمان عجيب ويحتفلون به بطقوس مذهلة.
فكرت مرة:
ـ لابد أن هناك خطأ في معتقداتنا. لماذا لا يهدينا الله إلى الطريق الصحيحة، ألا يستطيع أن يفعل ذلك دون أي عناء؟
نحاول أن نقوم بدور الأنبياء. ويبدو أن تعبنا وما لحقنا من فشل وإهانات قد حفر أخدوداً عميق الغور في قلوبنا، نلعق جراحاتنا الدامية بصبر وصمت كبيرين، لكن "أحمد" كان أول من تمرّد على جراحاته ورفض أن يقضي حياته عبثاً لأنه، كما قال، لم يخلق هذا العالم، لكنه خُلق فيه... فرفع وجهه مرّة إلى السماء، وكان الصحو رائعاً، وقال بحرقة مؤلمة:
ـ ربي، لماذا لا تفعل أنت ذلك؟
تململ "أنور" بضجر حقيقي وقال وهو يدفن رأسه بين ذراعيه:
ـ يبدو أن ربك قد خلق هؤلاء الناس... ثم نسيهم.
قذف "أحمد" حجراً صغيراً كان في يده، وردّ باشمئزاز واضح:
ـ لا أعرف لماذا تصرّ دوماً على أن تؤكد لنا أنك ملحد. أنا لا أهتم بآرائك لكنني واثق أن خلاص هؤلاء الناس يحتاج إلى معجزة ضخمة لا يقدر عليها إلا الله.
أدخل "أنور" إصبعه في أذنه وأجاب وهو يحكّها:
ـ لقد انتهى زمن المعجزات. هذه حقيقة. ليس على الدولة إلا أن تفتح مدرسة في القرية وتعبّد الطريق إليها. وترسل إليها كل أسبوع أحد الأطباء وأنا مسؤول بعد ذلك عن تحقيق المعجزة. وإذا لم تتحقق سأقبل أن تعلّقوا لي مشنقتي فوق أية مزبلة في القرية.
قال "أحمد" بنزق:
ـ هذا صحيح إلى حد ما. ولكن حتى تفعل الدولة هذا، حتى تتذكرنا، تحتاج إلى إلهام من الله بالذات.
عيناي معلقتان بأغصان شجرة التين المتشابكة، والنسيم العذب يمرّ على وجهي حاملاً تنفس النهر الصغير وروائح الدفلى التي تنام على ضفافه... السماء فاتنة بزرقتها، والطيور تهاجر من الشاطئ إلى كرومنا، أجنحتها مزوّقة ومناقيرها تحمل مواويل تتمناها شبابة كل راع يسرح فوق التلال. هذه متعة أتمناها كل عمري. لماذا لا تظل الحياة استمراراً لهذا؟
لماذا وجد الحزن والقهر في حياتنا؟ من الذي أوجد الحزن؟
وجدت نفسي أقع في فخ السؤال. لم أكن في يوم من الأيام ملحداً لكنني لا أصدق أن الأشياء التي منحت لنا كافية لأن نعيش بشكل شريف وكريم. وليست مبرراً مقبولاً للاستمرار.
فجأة أظلم شيء في داخلي. أحسست أن شيئاً ينهار ويتحطّم. لا أريد أن يعتقد "أنور" أنني منحاز إلى جانبه، أو أنني أقف معه عندما يطرح أفكاراً مبتذلة... لكنني وجدت نفسي منساقاً لأن أردّد بانفعال ظاهر لم أصدق أنه يصدر بهذا العنف:
ـ أتدري "أحمد". أنا لا أفهم كيف يخلق إله لطيف مثل هذا الكون القذر؟
مرّة أخرى تثور رمال الصحراء البدائية. الظمأ يهاجم كل شيء. غابات الصنوبر تتراجع. سهول الخضرة تموت وتمحي. ها أنا من جديد أرفع الراية لأركزها في مكان ما... أنا زنجي غاضب وحيد مع سوادي وغربتي أحلم بمدينة نساؤها شقراوات كالشمس... البياض الناصع منشور في كل مكان. ولا أملك من هذا البياض إلا أسناني وأظافري.
ما الذي يفعله العالم بي؟ إن مأساتي في رأسي، هذه الرأس تملك آلة حادّة تقطع كل شيء... لو أستطيع. لو أستطيع فقط أن أعيش بلا رأس.


الفصل الرابع

الشمس تتوسط القبة الزرقاء، والأرض مسرح مفتوح لحر قاتل يمرح في كل مكان كأنه نسيم عذب...
كنا نجلس فوق بساط ربيعي من الحشائش الخضراء بالقرب من بيتنا المسيّج بأشجار التوت والحور والليمون (لماذا لا تنمو في أرضناً أبداً أشجار الكرز؟ مرة زرع والدي واحدة لم تلبث أن يبست. حفر بئراً فسقط فيه ابن عمتي ومات. ردم البئر وزرع فوقه شجرة كرز لم تلبث أن أينعت وأورقت. لقد كبرت اللعينة لأنها تتغذى من الدم.
كان والدي على غير عادته ينظر إليّ كثيراً وأنا في شرودي الدائم. كنت أسترق النظر إليه بين حين وآخر فألمح في عينيه شيئاً خفياً. شيئاً يشبه الفرحة تنضح بها عيناه، بيد أنني لم أسأله شيئاً. أنا لا أسأل أبداً وليس ثمة جواب لأي سؤال.
فجأة أشعل لفافته ثم أسند ظهره إلى جذع شجرة توت وقال بهدوء بينما كانت سبابته تعبث برماد اللفافة:
ـ لقد قررت أن أزوجك!
تطلعت إلى أخي "عدنان" الذي كان يمضغ شيئاً ما في فمه، وتطلّع إليّ بدوره. ثم استمر الصمت اللزج فترة قطعه والدي بقوله عندما نظر إليّ مبتسماً:
ـ لقد أخبرني سائق السيارة أمس أنه قرأ اسمك بين الناجحين في الشهادة منشوراً في الجريدة. أنت الآن تحمل شهادة تخوّلك الدخول إلى ميدان العمل.
أوشكت أن أقول لـه إن هذه الشهادة لم تعد تساوي قيمة الورق الذي تكتب عليه، عندما تابع حديثه:
ـ لا أستطيع أن أعلّمك أكثر من ذلك. إن من حق إخوتك أن يتعلموا أيضاً.
سكت قليلاً ريثما أعاد إشعال لفافته التي انطفأت "والدي يدخن دخاناً رديئاً للغاية ولفافته تنطفئ أكثر من عشر مرات قبل أن يلقي بها" ثم تابع بلهجة الواعظ:
ـ أنا أعلم أنك ستبحث قريباً عن وظيفة لك، وستترك البيت. لكني لا أريد أن تعود إلى المدينة إلا بصحبة زوجة تنظم حياتك.
بقيتُ أنظر إلى والدي دون أن أستمع إليه. كان يتحدث عن حياتي ومستقبلي وأهوائي كأنّها لفافة من لفائفه، تنطفئ فيشعلها، وإذا ملّ منها ألقاها على الأرض.
فجأة خطر ببالي سؤال فقلت أقاطعه دون أن أدري شيئاً عمّا يقوله:
ـ أتكون قد اخترت لي ودون علمي زوجة؟
فغمز بعينه وهو يقول لي:
ـ أجل "عزيزة" هذه فتاة شريفة وهي تحبك، كما أنها تستطيع القيام بأعباء البيت خير قيام. لقد تحدثت مع والدها ووافق على الطلب وهو لا يريد منا "مهراً" ولا يريد أكثر من بيت بسيط لابنته.
شعرت بمرارة مقرفة تملأ فمي. هذه مهزلة لا أعرف كيف أجد منفذاً ضيقاً أعبر منه لأتخلّص منها. تمنيت أن أبصق. راحت يدي على غير هدى تشدّ حشائش الأرض وتقطعها. أغرس إصبعي في التراب الرطب وأحاول أن ألحق بها وأتوارى مثلها في باطن الأرض.
لم أجد ما أقوله. أحسست أن ثمة أشياء تبلغ حداً من الحقارة بحيث أن أرخص الكلمات تظل أسمى منها. أريد أن يتركني العالم وشأني بدءاً من هذه اللحظة، لكن أمي ضحكت فجأة وقررت بهدوء:
ـ لم يقل شيئاً. سكوته دليل على موافقته. ألم أقل لك إنه يحب "عزيزة"؟ لقد رأيته يقبلها مرّة في الغرفة الصغيرة، الملعون!
سعل أخي "عدنان" فجأة ثم ضحك ضحكة خبيثة، بينما كان في داخلي شيء يوشك أن ينفجر. في تلك اللحظة أحسست أنني طفل يتمنى أشياء كثيرة. أتمنى أن أتقيأ، لعلّي أبصق عن حواسي هذه الثرثرة التي نخرت عظامي. لكن والدي لم يلاحظ أي شيء على وجهي فتابع حديثه في الوقت الذي كنت فيه على وشك أن أنفجر بسيل عارم من الشتائم:
ـ أنت تلاحظ أنني أحاول أن أساعدك على بناء حياتك. الزواج دعامة الحياة ووسيلة استمرار سعيدة للإنسان، والبيت الهادئ والزوجة الوفية هما كل شيء في الدنيا، أجل كل شيء. لا تكن مغروراً بشهادتك، الشهادات اليوم لا قيمة لها، إن صاحب الدكان في القرية دخله أكثر من دخل أي أستاذ.
سكتَ قليلاً ثم سرتْ على شفتيه نوبة من النصائح:
ـ أتساءل الآن ماذا ستفعل في المستقبل؟ ستصبح موظفاً. هه؟ الموظف يتحايل على الحياة وهو وراء مكتبه. أؤكد لك أن الموظفين عالة على الحياة وعلى المجتمع، إن حضراتهم بكل بساطة ليسوا رجالاً، الرجل الحقيقي هو الذي يعمل في تراب الأرض يستيقظ في ساعات الفجر الأولى ويبدأ العمل حتى يطعم كسالى المدينة الذين يتثاءبون ساعات في أسرّتهم قبل أن ينهضوا منها ظهراً ثم يذهبون لحشو بطونهم.
عندما سكتَ والدي من جديد، مدّ يده إلى إبريق الماء وجرع منه جرعة كبيرة لم يلبث بعدها أن تجشأ وقال" الحمد لله رب العالمين" ثم التفت إليّ وتابع كأنّ هدوئي قد أعجبه:
ـ يجب أن لا تنسى أنني حرمت أخوتك من أشياء كثيرة حتى تكمل دراستك (تذكرت أنه قال شيئاً من هذا القبيل منذ لحظات) لكنّ الدراسة والشهادة لا علاقة لهما بالمستقبل... عندما تتزوج "عزيزة" ستعيش مع إنسانة متواضعة ليس لها متطلبات وبذلك توفر على نفسك الكثير من الهموم اليومية (اشتريت لناديا مرّة بثمن طعامي الشهري كله ملابس داخلية وقد شكرتني لذلك لكنها قالت إن ذوقي في الاختيار لم يكن موفقاً، لم يكن هذا مهماً. أتساءل كيف تدبرت مصاريف الشهر كلّه؟).... إن بنات المدينة، بشرفي، لا يصلحن إلا للعرض والزينة، إنهنّ لعب أنيقة وجميلة ولا ينفعنّ إلا للثرثرة والنقاش الفارغ، والطلبات التي لا تنتهي الواحدة منهنّ تمضي ساعتين كل يوم للاعتناء بأظافرها، بف، أنت تعرف ذلك دون شك.
"ناديا وسميرة ونجاح وميساء... حقاً كنّ جميعاً علباً للدفء والشبق و...".
ـ أصبحت المدينة خالية من أية امرأة حقيقية، الملعونات يبحثن دائماً عن الرجل الذي يدفع لآبائهنّ أكثر، لا يغرنّك جمالهن، الجمال المصطنع يذهب بسرعة، وأدوات التجميل تفعل العجب بوجوههنّ. اسألني أنا، لقد خدمت في الجيش الفرنسي أيام الحرب العالمية الثانية وعرفت كثيرات منهن، الواحدة منهن في النهار مثل القمر، وعندما يحين المساء تبارك اسم الله، تغسل وجهها فيزول الطلاء ويزول السحر. تعرفت في بيروت على فتاة إيطالية كانت تعمل ممرضة...
تطلّعت إليه أمي فجأة وفي عينيها وهج غريب. أوشك أن يعترف أمامها لأول مرّة بسر من أسرار حياته لم تكن قد عرفته من قبل. لكنه تراجع عن البوح به، فتابع يقول:
ـ دعنا من هذا الآن. أنت وعزيزة ستنجبان أولاداً رائعين، وتعلمّان الأولاد كيف يحبّون الأرض ويعملون فيها.
يبدو أن محاضرته قد انتهت، فتجشأ مرة أخرى واستغفر الله، ثم قرر بهدوء:
ـ هذا في النهاية شيء رائع. يجب أن تعتني بحياتك جيداً.
قهقهت أمي بحبور طفولي وسألت:
ـ ماذا تريد أجمل من هذا؟
قلت بشرود وأنا أرقب ذروة شجرة الحور الباسقة:
ـ أريد أن أموت.
سقط الصحن من يد أختي "آمال" التي كانت تنظف الصحون تحت شجرة التين الكبيرة، ووضعت أمي يدها على فمها لتمنع شهقة رعب أوشكت أن تفلت منها، ثم انسابت دموعها على خديها "لا أعرف كيف تستطيع أمي أن تبكي بهذه السهولة" ثم قالت بمرارة:
ـ لماذا لا تتحدث إلا عن الموت؟
أجبت سئماً:
ـ لأنه الشيء الوحيد الذي أريده.
ردّت أمي محتدّة:
ـ نريد أن نزوجك لنفرح بك وتكون سعيداً كبقية عباد الله وتقابل أنت هذا كلّه بالحديث عن الموت؟
تطلعتُ إلى أمي وأكدتُ بإخلاص حقيقي:
ـ لا أريد أن أتزوج!
صرخ والدي وهو يضرب الأرض الحشيشية بقبضة يده الخشنة:
ـ ما هذا يا وَلد؟ هذه رغبتي ويجب أن تتزوج!
ـ عندما يحين الوقت لذلك سأختار بنفسي.
ـ أنا أختار "عزيزة".
ـ لماذا لا تتزوجها أنت إذن؟
رفع قدمه فجأة وركلني بها ركلة عنيفة ألقتني بعيداً عنه، ثم قال وشيء كالوهج الأحمر ينبعث من عينيه:
ـ كلب. اذهب من هنا حالاً ولا تعُد إلى بيتي أبداً.
بيته؟
تطلعت إليه ببرود، بعد أن نهضت عن الأرض ونفضت عن ثيابي بعض الحشائش العالقة بها، ولأول مرة أدركت عمق الهوة التي تقف بيننا، وأي عقم تنطوي عليه علاقتنا.
أدرت ظهري وسرت مُطرق الرأس، مخلّفاً ورائي شهقات أمي، وعويل أختي، وضجر أخي الحقيقي... حتى وصلت شجرة التين، حيث كان "أحمد" و"أنور" يرقدان في ظلّها بكسلهما الدبق. ارتميت على التراب الناعم قربهما دون أن أقول شيئاً... ورحت أحدق بالأغصان المتشابكة.
إن أحداً لا يعرف لماذا تظلّ هكذا.. كلّ غصن يلقي على الآخر أثقاله بينما الفضاء الرحب يتسع للأغصان كلها؟ لماذا لا يمضي كلّ غصن إلى طريق يشمخ منه نحو العلاء؟
قال "أحمد" مبدداً شرودي:
ـ لقد ظهرت نتائج الشهادة يوم أمس وقد نجحنا.
توقّف "أحمد" قليلاً. ثم تابع بحسرة:
لم أجد إنساناً يهنئني ولم أشعر بلذة الفوز.
قال أنور ببرود مبتعداً عن حديث "أحمد".
ـ لقد باع أبي أول أمس البقرة. هذا المساء سأسرق ثمنها وأسافر بلا عودة. أخيراً تحررت حياتي بواسطة بهيمة، تفوه!
وعاد الصمت من جديد.
أوشكت أن أغمض عينيّ ضجراً، عندما سرت نوبة من الفلسفة على شفاههما. قال "أحمد":
ـ حياتنا هنا باتت مستحيلة. نحن نحسّ نوعاً من التفوّق تجاه الناس. يجب أن نرحل. لم يعد ثمّة تكافؤ... نحن ندعوهم للحياة وهم يسيرون في جنازتهم.
قال "أنور".
ـ يجب أن نرحل، أشعر بالاختناق، هذه القرية حدودها أضيق من أن تتسع لنا، لن أبقى حتى لا أبيع عمري إلى بهائم. هذا القطيع البشري لا أمتّ إليه بصلة، لم أُخيّر يوم ولدت، لكنني سأختار مكان حياتي... وسوف أحيا في طقوس احتفالية بعيدة عن هذا الإفك.
سكت "أنور" قليلاً ريثما تمخط ومسح أنفه بيده ثم قال ساخراً:
ـ كنت أتحدث منذ قليل عن الاختيار. أنا مخلوق كالبغل. ليس ثمة اختيار. كل مكان يبعث على الضجر. صحيح أن الحياة قاسية، لكنني أكره الموت لأنه يعني انتهائي وإلغاء دوري.
ـ قهقه فجأة وتابع:
ـ دوري؟ أنا أنهق كالحمار. أي دور هذا؟ تفوه... ليكن، لا أريد أن أموت. الموت يوقف الاستمرار، وأنا أريد أن أستمر دون أن أعرف السبب.
ردّ "أحمد" بألم:
ـ مأساتنا، أننا لا نستطيع أن نحدد مشاكلنا لعلّنا نرى حدود هذا العالم الذي يسحقنا. سنهرب وأنا أحب ذلك حباً جماً، لكنني أعرف أنني، في أي مكان، سأعيش حياتي معاناة رهيبة.
ـ من يدري قد نقول غداً عن حياتنا هنا، أنها كانت مغامرة أو إنها أسطورة، قد نموت في مكان مجهول لا نجد حفرة نُوارى فيها، وقد لا نجد كفناً يلفّ جثثنا. لكني لا أبالي. عندما أموت فهذا يعني انتهاء كل شيء، إنه توقف الحياة بالنسبة لي على الأقل.
ـ يجب أن نختار الحياة التي نريدها والمكان الذي نموت فيه. هذا هو نصرنا الوحيد "المحاولة" وسأبيع كلّ شيء من أجل هذه المحاولة.
أحسست بالضيق. هذه الثرثرة تثقب رأسي. لابدّ أن شيئاً عفناً يعشش في رأسيهما. لماذا لا يسكتان؟
لاحظ "أحمد" شيئاً من الامتعاض على وجهي فسأل:
ـ ما بك؟
أجبت بلا مبالاة:
ـ أنتما تثرثران بكلمات تتجاوز وجودنا. تتحدثان عن الاختيار وليس ثمة اختيار، أنا أكره القرية أيضاً، وأكره كل مكان، لكن الرحيل لا يعني شيئاً، يجب أن نخرج من أنفسنا أولاً وإلا فإن ثمّة لعنة ستظل إلى الأبد وراءنا.
بصق "أحمد" على الأرض وأعلن:
ـ أنت جبان.
تطلّعت إليه ثم ابتسمت غير مكترث، إني لا ألومه، يريد أن يجتر شيئاً ينسيه حيرته... أدرت وجهي محاولاً إنهاء هذا الجدل. لكن "أنور" عاد يعبث بكلمات كبيرة:
ـ هذا المكان معزول عن العالم بشكل كريه، ونحن معزولون عن كل ما هو حي، من أجل هذا نرى أنفسنا بلا قضية واضحة وأن الحياة مسرحية جميلة تُمثل في مكان ما. نجهل كل شيء عن المسرحية وأشخاصها، وزمانها ومكانها، ولا نرى من المسرح إلا ظلال الأنوار البعيدة.
سكت "أنور" من جديد ثم عاد ينبر بصوته وهو ينظر إليّ:
ـ صحيح أن الرحيل لا يعني شيئاً، لكن البقاء هنا لا يعني شيئاً أيضاً. على الأقل نحن نملك القدرة على الرحيل. إن الآخرين هنا قبضة هوجاء تمسك رقابنا ونحن نوشك أن نختنق... ألا تحس هذا؟
وقف عصفور مزوق على أحد أغصان شجرة التين لحظة ثم طار محلّقاً في الفضاء... راحت عيناي ترقبانه بذهول. هذا العصفور حر بشكل مطلق. إنه لا يفكر. لاشك أنه سعيد ولا يوجد شيء يشدّه إلى الأرض أو السماء. لماذا لم أُخلَق عصفوراً؟
انتزعني "أحمد" بقسوة من أحلامي عندما سألني بغتة:
ـ ما الذي يشغلك عنّا الآن؟
أجبت كاذباً وأنا أحس غماً يخنقني:
ـ والدي يريد أن يزوجني "عزيزة".
انفجر "أنور" ضاحكاً بخلاعة ثم قال مؤنّباً:
ـ قلت لك أكثر من مرة أن تبعد هذه المسطولة عن بيتكم, لكنك كنت تبحث عن حقل لتجاربك النسائية. انظر أي مأزق أوقعت نفسك به. ما الذي ستفعله الآن؟
ـ لست أدري. لقد منعني والدي من العودة إلى البيت.
ـ أنت سعيد الحظ بذلك. ولكن ماذا ستفعل؟
ـ لست أدري.
ـ هل تذهب معنا؟
ـ لست أدري.
ـ يبدو أنك تريد الزواج من "عزيزة".
ـ يبدو أنك حمار حقيقي.
انفجر "أنور" ضجراً:
ـ ماذا تريد إذن؟ تكره القرية وتكره الناس، وتكره الابتعاد أيضاً، ما الذي يدور في رأسك؟
ـ إن الهرب من هنا ليس طريقة مجدية.
صلبني "أنور" بين عينيه ثم سألني متحدّياً:
ـ ألا تحاول أن تحدد مرّة مكانك في هذا العالم. هل تعرف ماذا تريد؟
نظرت إلى بيتنا. كان أهلي يتكومون حوله كيانات كسولة تعيش منسية من العالم، يقتلها التواضع، وهي، ككل الناس هنا، حسبها أن تجد لقمتها السوداء ولو كانت معفّرة بالتراب، ثم تنام مع كل غروب، لا تعذبها أحلامها، وليس لها أية تطلعات.
إن جميع الانقلابات السياسية لم تصل حدود هذه القرية بعد. وكل القنابل الذرية المكدسة في العالم لا تعنيها، عندما مات "جيفارا" ظنّوا أنه راع كان يسرق بساتين بوليفيا، وفي "حزيران" لم يفكروا كثيراً بما حلّ، قالوا إن الساعة اقتربت... ولم يفهموا أن هذه الأمة مهدّدة بالانقراض... ما الذي يحدث في هذا العالم. لماذا لا تزورنا الشمس مرّة؟
الشمس؟؟ إن الشمس تملأ سهولنا وتزين تلالنا ولكن هذه الشمس باهتة لا تدفئ أحداً. إنها (الجوع يرضي الأسود بالجيف) هذه حقيقة. وارتج شيء في داخلي.
عاد أنور يطنّ من جديد في رأسي:
ـ ماذا تريد إذن؟
تمنيت أن أبكي أن أذرف دمعة واحدة تحمل صدى هذه اللوعة فلم أستطع. حتى الدموع تصبح حلماً قصياً عندما أحتاجها.
كان "أنور" ما يزال يحدّق بي، ولم يكن لدي ما أقوله فقررت بهدوء:
ـ أريد أشياء كثيرة لا أعرفها. وأحسّ أيضاً أنني لا أريد شيئاً من كل ما أعرفه، بيدَ أني أتمنى أن أموت بسرعة ودون عذاب.
وخيّم صمت دبق.
نحن في القرية أكذوبة لا شيء يؤكدها غير الموت. الموت فقط يؤكد أننا كنا أحياء يجب أن تمحى هذه الأكذوبة.. من يجرؤ؟
حطّ عصفور على غصن شجرة التين. نام "أحمد" بهدوء كطفل سمين ظلّ ساعة يرضع من صدر أمه. اتّكأ "أنور" بمرفقه على الأرض وراح يصفّر لحناً عذباً، لم يلبث أن راح يغنيه:
"انت وأنا، عم يسألونا كيف، منضل شو بيحلالنا نغني
أيام م بيلتقى عنا رغيف، ومنعيش ب أطيب من الجني".
تمنيت ألا يسكت "أنور" أبداً. في تلك اللحظة كنت أبيع عمري من أجل الكلمة الحلوة من أجل أي شيء يقلعني من جذوري، لكن "أنور" سكت فجأة كما بدأ فجأة، ثم مضى باتجاه "مرج القطن" راكضاً بأقصى سرعة يستطيعها، وتذكرت فوراً ما قاله لي مرة "عندما أشعر أنني ممزق من الداخل، وأن هذا اللعين، قلبي، يوشك أن يقفز من صدري ضجراً، لا أجد طريقة إلا أن أركض، وأركض بكل طاقتي البشرية، حتى أرتمي كالبهيمة الميتة، بلا حراك، عندها فقط أرتاح ولا أفكر".
من بعيد كانت ثمّة باخرة تجأر بصوتها مودعة الميناء وهي في طريقها إلى جزيرة من جزر النسيان، حيث أشجار الموز، والحر الدبق، وأطواق الزهور على صدور النساء العاريات، ليتني كنت بحاراً أنام كل ليلة على رصيف ميناء.
ليتني أسبح عارياً في بحار الجنوب الحارّة مع سمراء، غجرية الشعر، سوداء العينين، تلثغ شفتاها بكلمات لا أفهمها، من الذي اخترع الكلام؟ لقد أوصل الإنسان إلى المعرفة والمعرفة أفسدت كل شيء حتى البراءة.
العالم كهل لم يعش شبابه أبداً، أودّ أن أعيش شباب العالم.






الفصل الخامس

تحوّلت حياتنا إلى انفلات قطيعي، ليس لدينا غير أحلامنا التي قطعت الأيام حبالها.
لم يعد من حقّنا أن نحلم... كانت الأيام ملولة ضجرة... تتكرر بتلقائية فظّة.
عدت إلى البيت، لكن والدي كان يرفض أن يتحدث إلي، ويرفض الدخول إلى البيت عندما أكون فيه وقرر، كما أخبر أمي، أنه سيستمر على هذا حتى أوافق على الزواج من "عزيزة".
لم يكن هذا الموقف يزعجني لأنه أراحني من تعليقاته القاسية وأسئلته ونصائحه التي لا تنتهي، لكن الذي أزعجني فعلاً أن "عزيزة" التي كنت أراها تحمل جرّة الماء كل يوم من البيت إلى النبع، قررت هي الأخرى ألا تدخل بيتنا لأنها، كما أخبرت أمي أيضاً، لا تريد أن تفسد حياتنا، كما أنها خجلة من نفسها لأنها سمحت لي بتقبيلها، ومن أجل هذا ستتوارى في بيتها ولن تتزوج من إنسان بعدي.
لقد ساءني جداً هذا القرار. كيف يمكن أن تكون ساذجة إلى هذا الحد؟
طلبت من أمي استدعاءها إلى البيت بعد أن أخبرتها أنني أنوي مصالحتها.
وجاءت "عزيزة" خجلى ذليلة النظرات. وعندما ضمتنا الغرفة الصغيرة في بيتنا نظرت إلى وجهها الحزين وعينيها الذاهلتين برهة، ثم انفجرت في وجهها سائلاً:
ـ هل تريدين مني أن أتزوجك لمجرد قبلات تافهة تبادلناها مرة؟ ما الذي تعرفين أنت عن الحب، عن الحياة، عن كل شيء؟
عندما رفعت عينيها إليّ أحسست أنها تتسلق وجودي بنظرات تتحداني وترسل القشعريرة في أعصابي. إن في عينيها شيئاً جديداً، يرعبني ويعريني. شيئاً لم أره من قبل. هذا الشيء سمّرني إلى وجهها كأنني أراه لأول مرة، كما كانت تراني لأول مرّة على حقيقتي.
قالت لي وصوتها الهادئ يرنّ في وجودي فاسمع صداه كأنني كيان منخور مجوّف:
ـ أنا لا أعرف شيئاً مما تعرفه أنت، لكنك لا تعرف شيئاً مما أعرفه أنا. إذن نحن متساويان. يبقى فارق بسيط، أنا أقنع بكل شيء وأعيش فيه لأنني ولدت من أجل ذلك، وأنت لا ترضى به وبالتالي لا تستطيع أن تعيش.
ومضت نحو الباب، وقبل أن تخرج منه التفتت إليَّ وقالت لي، بينما كانت حيرة بلهاء تدمّرني:
ـ في يوم ما ستكتشف أنك لا تستحق القيمة التي تمنحها لنفسك. ستجد أنك لست أفضل مني بكثير. ولكن يومها يكون قد فات الأوان. فات الأوان من أجلك ستخسر حياتك ولن تجد إنساناً يساعدك.
ثم تركتني وغادرت الغرفة قبل أن أرى دموعها التي كانت تتجمع في عينيها.
بقيت وحيداً في الغرفة، أحس ثقلاً فوق رأسي كأنه يضغط قامتي لأغيب في الأرض. لم أكن أصدق يوماً أن "عزيزة" تستطيع أن تكون على هذه الدرجة من الوعي. إن لها فلسفة أكبر منها. ثم... أية فكرة تحملها عني وعن غروري حتى قالت لي "أنت لا تستحق القيمة التي تمنحها لنفسك"؟.
رحت أدور في الغرفة كثور هائج. لقد أهانتني هذه التافهة، ولابدّ أن أرد الإهانة.
وقبل أن أفكر بطريقة لذلك دخلت أمي الغرفة وسألتني:
ـ كانت "عزيزة" تبكي وهي خارجة من الغرفة. ماذا بينكما؟
تطلعت إلى أمي دون أن أقول شيئاً. أحسست أنني غريب في هذا البيت، وأنني لا أعرف أحداً، أجهل كل شيء عن الناس، إنهم مخلوقات غابيّة، وأنا لا أعرف أمي، لماذا لا أموت إذن؟
أخرجت علبة السجائر من جيبي الداخلي، حيث أخفي العلبة عن عينيّ والدي دائماً، وأشعلت لفافة ثم رحت أمتص دخانها الأزرق بشراهة واضطراب مما لفت نظر أمي فقالت بانكسار:
ـ ليتك تستطيع أن تكف عن التدخين. إنه يحرق صدرك وأنت ما زلت شاباً.
أجبت بذهول وأنا أغادر الغرفة:
ـ إن أشياء كثيرة تحرق صدري ويجب أن أتخلص منها كلها.
الريح تهبّ بقسوة. بدأت نذر العاصفة في الصحراء.
الرمال العطشى الهادئة والساكنة منذ الأبد ستثور، ستهاجر إلى البحر وترتمي في اليم السحيق.
بدأت الأكذوبة تتعرّى شيئاً فشيئاً. إما أن تملك جسداً يعيش تحت الشمس، وإما أن تموت.
وتحت شجرة التين، في ظلال الأغصان المتشابكة، عندما لم تكن أية نسمة تهزّ الأوراق الخضراء، ولم يكن ثمّة عصفور يرفّ بجناحيه، عندما كان كل شيء هادئاً، الطبيعة، والناس، والبهائم، كنا نمضي آخر ليلة لنا في القرية. تلك الليلة التي سهرنا فيها حتى أطلّت نجمة الصبح، ومشينا قبل أن تشرق الشمس إلى تلّة قريبة مطلّة على القرية، حيث ننتظر عند سفحها السيارة التي ستحملنا إلى المدينة‍‍.
القرارات المصيرية في حياة الإنسان يتخذها عادة في ساعة نحس، أو أثناء اضطراب عقلي. ليكن. هذا زمان الطوفان والجنون. إننا نودّع أيام الوجع فقط... من يأسف لذلك؟
كانت لسعة برد خريفي تأكل وجوهنا ونحن ننتظر السيارة. وكنت أشعر بانقباض في صدري وأنا أقف صامتاً في لحظة الوداع الخاشعة تلك، إن الناس يبكون عادة في مواقف كهذه، ولا أعرف كيف يستطيعون ذلك، لكنني كنت مشلول التفكير هامد الحواس أتلفت بين فترة وأخرى إلى بيتنا الملفوف بغابة رائعة من الأشجار، يخرج منها درب ضيق، كأفعوان كسول يتمطى ويتثنّى من البيت حتى يصل أمامي. من يدري متى سأرى هذا البيت مرّة أخرى؟
لم أكن أدري كنه الشعور الذي انتابني، كنت أحس بغصّة تحرق صدري كلّما نظرت إلى بيتنا الذي سأفارقه إلى الأبد. ليس ثمّة أصعب من لحظات الوداع، أن تفارق الأرض التي عشت عليها، والناس الذين فتحت عينيك على النور بينهم، ثم تمضي بعيداً تحملك أشرعة المجهول، التي قد تلقي بك فوق شطآن مهجورة لا تعيش فيها غير الغربان.
في تلك اللحظة كنت أعاني عذاباً كافراً، عذاباً لا يرحم. ولو لم تصل السيارة في تلك اللحظة، هادرة كوحش جريح، لركضت إلى البيت أعانق أبي وأمي وأخوتي وأستغفرهم، ولكن عن أي شيء أطلب المغفرة... وممن؟
لم أفعل شيئاً من هذا لأن السيارة وصلت ويد "أنور" تدفعني إليها، حتى صعدت تلقائياً، وبشكل آلي، وما إن جلست حتى تحرّك ذلك الحطام المعدني المعبأ بالبشر والطيور وسلال البيض والفاكهة، وراحت السيارة تشخر وهي تتسلق التلّة العالية، ونظرت إلى الوراء أملأ عينيّ من منظر بيتنا الذي بدأ يغيب عني شيئاً فشيئاً، والجبال الهرمة التي تسجن قريتنا الصغيرة منذ الأزل وتغرسها في هذا القعر الأرضي الضائع. كانت تتلاشى أيضاً. تضيع حدودها وتصبح زرقاء كأنها دنيا من المستحيل.
كلّ شيء ورائي كان حزيناً يذكرني بألف مأساة، لكنني أحسست، على نحو ما، أن كل مأساة كانت تحمل نكهة حنان دافئ وعجيب. بدأت أشتاق إلى تلك المآسي في الوقت الذي بدأت تتوضّح فيه أمام عينيَّ معالم دنيا جديدة.
البحر بزرقته الشاحبة، وحده اللامتناهي، والمدينة البيضاء الهادئة تتربع على شاطئه تفتح ذراعيها لكل قادم.
ماذا نريد من هذه المدينة ذات المياه البنفسجية؟
ماذا لديها لتعطينا؟
وأي شيء يخفيه لنا القدر، نحن الذين نقامر بحياتنا من أجل حياة جديدة. حياة لا تُصلب فيها آمال الإنسان وبراءته؟
ابتسم "أحمد" وهو يلقي نظره على مدّ الأفق، وقال وهو يتنفس بعميق شديد:
ـ ما أروع هواء البحر. ها نحن نعود إلى الحياة من جديد.
تطلع إليه "أنور" وعلّق بصوت مليء بيأس لم أعهده فيه من قبل:
ـ نحن ننتقل من فراغ صامت إلى فراغ مليء بالصخب.
وسكت قليلاً ثم تابع بمرارة:
ـ الحياة مقرفة. تفوه على العالم.
لماذا يبصق "أنور" على العالم دائماً؟
أشعلت لفافة، بينما كانت السيارة تهتز كامرأة خليعة سكرى، ورحت أحدق في المدينة التي تقترب منا شيئاً فشيئاً، وهي سابحة في زرقتين هائلتين، زرقة السماء وزرقة البحر، زرقة توشّحها، غيمات بيضاء ناصعة، وزرقة يمزق وجهها زحف البواخر الضخمة والأشرعة البيضاء الملوية كجناح حمامة مكسور!
كل شيء في هذه المدينة أبيض.
عدا هذه الزرقة لن تمنحنا أي شيء. إن السعادة التي تمنحنا الهدوء ليست وليدة مكان معين. والسعادة أصلاً لا تنبع من مكان معين إذا كان الصدر مغلقاً، وصدورنا صناديق مغلقة مليئة بالمآسي، ولابد من عملية سحر تشق صدورنا لننفتح على العالم أكثر من ذلك، ونتسع للحياة نعبُّ كل تناقضاتها.
هذه المدينة فارغة ولن تمنح السلام إلى قلوبنا، إذن... أنا ألعنك يا زمان العهر.
عندما توقفت السيارة بنا في إحدى ساحات المدينة، هبطنا منها ورحنا نتطلّع إلى بعضنا تارة وإلى الآخرين تارة أخرى.
كان الآخرون يمرّون بنا دون أية إلتفاتة، الناس هنا يختلفون عن سكان القرية، إن أحداً لا يلتفت إلينا ولا يحس بنا، هذه متعة جديدة، أن نشعر أننا تخلصنا من رقابة العيون.
فجأة التقتْ عيناي بعيني "أنور" ولمحت فيهما سؤالاً حائراً أجبت عليه دون أن أسمعه:
ـ لن نمكث هنا أكثر من ساعات قليلة، ثم نستقل أول سيارة ذاهبة إلى... دمشق.
قال "أحمد" متوسلاً وعلى وجهه يرف خجل تافه:
ـ ألا نبقى هنا يوماً آخر؟ أعني يجب أن نفكر أكثر. على الأقل نكتب رسالة إلى أهلنا نشرح فيها الأمر لهم... أعني نخبرهم أننا سافرنا؟
تطلعت أنا و"أنور" إليه بغضب فسكت.
بعد ساعتين كنّا نجلس في السيارة التي ستحملنا إلى... دمشق.
الصحراء تغزو المدينة، والعطش يزحف إلى الآبار الثرّة. الأشياء الصميمية تلهث بحثاً عن المستحيل.
فراغ يقود إلى فراغ، والعالم دوامة لا تنتهي. التجربة مغرية، والثمن لا شيء. إن أحداً لا يستطيع أن يطعن الوحش. أسطورة "آخيل" لن تعاد أبداً، ليس ثمّة قدم ليس ثمة قوام منتصب. الكيانات كلها هلامية تتميّع في قوالب متعددة، مرّة يصبح القدم موضع الرأس ومرّة يصبح العكس.... ومرّة يذوب كل شيء.

الطريق طويلة، والعمر رحلة لا تنتهي، بدأها غيرنا، ونستمر فيها نحن، وسيتابع الكثيرون بعدنا، اليوم نحمل ظمأ الصحراء ونرحل إلى مدينة لا نعرف عنها إلا الأساطير. اليوم نحمل جوعنا في أعماقنا ونرحل، نبحث عن اللقمة، والكلمة، والحنان، وعن معنى نستمر من أجله رغم المعاناة.
إن الإنسان يولد في أحضان الآخرين، هذا صحيح، لكنه يموت وحيداً... ولقد انتهت مرحلة طفولتنا.





الفصل السادس

أنا أسير في عالم جديد.
في الطريق إلى مقر عملي كل صباح، وقد وجدت عملاً في إحدى الوزارات، وأثناء عودتي ظهراً، في البيت، وفي شوارع دمشق النظيفة التي تتقاذفني أرصفتها... في كل مكان، أشعر أنني أسير في عالم جديد... عالم محاط بمراسم احتفالية لا أفهمها.
كل شيء غريب بشكل أو بآخر... الشمس باهتة، والهواء ممزوج بسم المعامل والسيارات، والعشب الأخضر تزرعه الدولة لتدوسه أقدام الناس، والناس...
ضحك "أنور" بانفعال وقال:
ـ الناس هنا لا يضحكون ولا يحزنون، لا يحبّون ولا يكرهون، إنهم، بشرفي، يبعثون على الضحك. لهم وجوه من حجر. يولدون ويتزوجون ويموتون، وتظل أحلامهم محصورة في أبنيتهم الجميلة. إنهم يملكون كل شيء... ونحن لا نملك شيئاً... ألسنا متساوين؟
ردّ "أحمد" بضجر:
ـ وماذا تريدهم أن يفعلوا؟ هذه هي الحياة: الولادة، والزواج، والموت... الأشياء التي تنخر رأسك لا يهتمون بها. أتريد رأيي "أنور"؟ إنهم محقّون.
هذا الحوار النزق كان شيئاً يومياً في حياتنا، لذلك لم يعد يثيرني، فأنا لست واحداً من هذه المدينة، ولا أملك فيها شيئاً، إنها مدينة الآخرين، ونحن نسبح في فراغها.
البيت الذي استأجرناه كان بسيطاً إلى حد الحقارة، وكل شيء فيه خطأ! الجدران بارزة من مكان ومقعّرة في مكان آخر، سقفه يدلف الماء في فصل الشتاء، ويهرّ التراب الناعم في فصل الصيف، وأشياؤنا مبعثرة في البيت إلى حد أن أحدنا كان يبحث عن قميصه أو حذائه أو كتابه فترة طويلة دون فائدة إلى أن يجده صدفة مرمياً في مكان ما.
لم يكن يرفه عنا في هذا البيت، الذي يبدو لي أنه بُني خصيصاً لنسكنه، غير مرح "أنور" وبرودته الدائمة، وتعليقاته اللاذعة، والرسائل الغرامية التي كان يكتبها إلى "سناء" زميلته في الجامعة، كان يعطيها الرسائل في إحدى قاعات كلية الآداب ضمن جريدة، ولم يتلقَ منها أي رد، لكن ذلك لم يزعجه بقدر ما أزعجه أن "سناء" كانت تقرأ الجريدة قبل رسالته.
كان يحلو لنا، كل غروب، أن نصعد إلى سطح البناية ومن هناك نطلّ على دمشق. بنايات هذه المدينة كالعلب الملوّنة، وسكانها محشورون في هذه العلب دائماً، ونحن نهجر بيوتنا لأن أبسط الشروط الصحية لا تتوفر فيها.
بدت لي الحياة ظالمة كثيراً ومقرفة للغاية. ولدنا محرومين من كل شيء، وعشنا لا نملك شيئاً، وليست لدينا أية فكرة عن المستقبل. الحقيقة، أن لحظات اليأس، رغم هذا، كانت قليلة في حياتنا تولد وتنطفئ كأنها لم تعبر بنا. من يدري؟ قد تكون هذه بطولتنا الوحيدة والنصر الذي نستطيعه. أجل النصر... يجب أن ننتصر على شيء ما... في يوم ما... ولو على حساب الحقيقة.
عرضت مرّة فكرة الانتقال من البيت الذي نسكنه إلى آخر أكثر إشراقاً وإنسانية، لكن "أحمد" كان يرفض دائماً ويبرر رفضه:
ـ إن ما نوفره من السكن في هذا البيت، نستطيع أن ننفقه على أشياء أخرى بعضها ضروري جداً... كالطعام.
ويعلّق "أنور" على ذلك:
ـ إن الناس لا يرون كيف نعيش هنا، لكنهم يرون ملابسنا مثلاً، أستاذ، بشرفي، الحياة كلها مظاهر، صدّقني. لا يهم أن تكون في رأسك بذور العبقريات الإنسانية كلّها، المهم أن يبدو رأسك مقبولاً. شَعر مصقول وذقن حليقة، وبف على كل شيء آخر.
وأسكت دون أن أجد جواباً لمبرراتهم المتعبة.
يبدو أنني وحيد حقاً، وأن العالم يمكن أن يخبئ لي كل هذا الرعب، وحيد بين صديقيّ الوحيدين، ووحيد بين زملائي في العمل والجامعة، وغريب متروك لنفسي بين أربعة ملايين إنسان يسكنون دمشق... ولست أفهم السر في وحدتي.
قال "أبو معروف" صاحب الحانة التي أسهر فيها أكثر الأيام:
ـ أنت تخبئ شيئاً وراء سحنتك الصامتة، عليّ الطلاق، عمري لم أرَ إنساناً مزعوجاً من العالم مثلك، يا رجل، إن وجهك سرّ من الأسرار ما بك؟
الحقيقة أن تصورات الآخرين لم تكن تزعجني، لكنني لا أفهم لماذا يظل الناس هنا مشغولين بغيرهم أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، لماذا أحسّ أنهم مشغولون بي وأنا مشغول بخنق رغباتي التي يتولّد منها ألف سؤال حائر؟
سألت "أنور" بضجر ظاهر:
ـ هل استطعت أن تفهم شيئاً عن الإنسان في هذه المدينة؟
ـ الإنسان في المدينة، مهما كان تركيبه الطبقي، يظل بورجوازي التفكير ونحن مهما حاولنا أن نتغيّر نظل فلاحين، لا تحاول أن تفهم أكثر من ذلك وإلا انفجر رأسك.
ـ البورجوازيون فقدوا ملامحهم الإنسانية، ولست أحسدهم على ما أضاعوه من أصالتهم إنها أصالة مزيفة.
ـ مجتمع المدينة صار مجتمعاً غريباً، والإنسان فيه فقد كل شجاعة. من أجل البراءة يجب أن يرتد الإنسان ويبدأ من نقطة الصفر.
ـ أين يرتدّ؟ ها نحن ننزح من الغابة، ليست لدينا أية رغبة، ولا نملك غير عمر كئيب مليء بالتفاهات، كغرفة امرأة عاهرة تتزاحم فيها الأشياء الرخيصة.
هرش "أنور" رأسه وسكت.
عندما كنت في القرية منطرحاً في متاهات النسيان الغابية، حلمت دوماً ببلد أسطوري وأشياء رائعة تلازم عمري بخلودها، أفجّر الخير للعالم بساعديّ، وأغزل خيوط السعادة من أعصابي قبل أن يوهنها العمر. ومرّات كثيرة حلمت بتدمير العالم لأركز راية حقدي على حطامه إذا كنت لا أستطيع تغيير لحظة من مسيرته القدرية.
كانت هذه الأحلام تلازمني في القرية، وعندما وصلت المدينة، هالني أن أرى كل شيء تحت الشمس يبعث على السأم، وأن الناس يعيشون في غابات الجهل أو في غابية التعقيدات الحضارية.
لابدّ من وجود بلد أسطوري ومدينة بلا حدود، ولا بشر، ولا زمان، أرتمي فيها عانياً لعليّ أخلق معجزةً صغيرة.
العالم يعذبني، والهموم تتراكم فوق صدري، والأسئلة تتكدس في رأسي المتعب، هذا الرأس الذي تمنيت دوماً أن أجد الصدر الحنون الذي أسنده عليه.
أتمنى أن ألقى إنساناً، أن أرى وجهه لا ظهره، لألقي في بحاره الهادئة شباكي التي قطعتها الأيام والريح، وأنهكها الرحيل، بعد أن فشلت من التقاط صدفة أو قطعة محار مليئة.
إن أحداً لا يستطيع أن يكون منصفاً ولا عادلاً. إن الإنصاف ينبثق من الإنسان الشريف، والمخلوق المتمدن يعاني صعوبة كبيرة ليكون نظيفاً وشريفًا، إنه بحاجة لعملية تبدّل كاملة وعليه أن يخرج من نفسه أولاً.
ردّد "أحمد" بانسحاق:
ـ نحن أكثر براءة منهم. إنهم فرائس أنفسهم، وكل أمانيهم ورغباتهم تطلّع مسعور إلى لذائذ ومتع لا تنتهي.
ـ هذا ليس صحيحاً. إنهم يتاجرون بما لديهم، يتاجرون ونحن نتاجر أيضاً ما الفرق؟
يتاجرون بقيمهم من أجل منافع شخصية ونتاجر بقيمنا من أجل منافع عامة. الأمور مختلطة بشكل كريه، هذا عام وهذا خاص، لا يوجد اثنان في العالم ينظران باتجاه واحد، كل معطيات الفكر لا تساوي حذاء عتيقاً، دعنا بربك.
ـ ها أنت تقف واعظاً وخطيباً، ولست تملك إلا قبضة تلوّح بها في وجه الفراغ. أنت لست حالماً. إن العالم لا يدور من أجلك ومن أجل صحرائك الظمأى. إن العالم ليس مديناً لك بشيء وعصا السحر التي تحملها من قريتك لن تغيّر شيئاً.. العالم يستمر والناس يولدون ويموتون وأنت وحدك تعض أصابع الغيظ حتى تنزف دمك وتبقى هيكلاً من الجلد والعظام والأعصاب الجافة. لماذا لا تعود إلى قريتك مع عصاك السحرية؟
ـ لا لن أعود. سأبقى هنا وليكن الطوفان.
قال "أحمد" بحياد:
ـ أعترف أن دمشق قد صدمتني، كنت أعتقد أن مدينة جميلة كهذه لابد أن تنكفئ على سرّ ما، أن يكون لديها أي شيء لأمثالنا. إنها أكثر فراغاً من قريتنا. أتمنى أن أعود إلى القرية. كشّر "أنور" عن أسنانه استياء ثم بصق على الأرض ولم يقل شيئاً. بينما تابع "أحمد":
ـ هذه المدينة أضيق مما تصورت بكثير. حدودها تنتهي عند أبوابها. وكل فكرة تتسرب من الخارج إلى هذه الأبواب تدخل العقول مباشرة. الناس هنا يؤمنون بالعروبة ويفلسفون الماركسية ثم يمضون إلى الصلاة. يعيشون روحانية الشرق ويسترقون النظر إلى حضارة الغرب. ما معنى هذا؟ كل إنسان قابلته أو تعرفت عليه وجدت لديه استعداداً فطرياً لاعتناق كل فكرة والدفاع عن كل مذهب.
قال "أنور" مقاطعاً:
ـ أنت تظلم هذه المدينة كثيراً.
ـ أنا لا أتحدث عن هذه المدينة بالذات، إنني أتحدث عن الإنسان في الشرق، والإنسان هنا نموذج عنه، إنني.. إنني بكل بساطة لا أفهم شيئاً.
نظرت بهدوء إلى "أحمد". كانت نذر الثورة تتولد في عينيه، وكنت واثقاً أنه يظلم الناس كثيراً من خلال هذه الآراء المرتجلة، إنهم ليسوا على هذه الدرجة من السوء والتفاهة، ثمة فئات مثقفة بدأت تعي دورها القيادي وتزحم الصفوف لتصل إلى المقدمة وتحمل راية القيادة إلى مرافئ الأمان.
قلت "لأحمد" بعد فترة صمت: "أحمد" أنت تعلم أن ما نحمله في صدورنا فيه الكثير من الزيف. إن القرية علمتنا أن نكون جبناء فقط وعلمتنا البراءة بصورة فيها الكثير من الامساخ. أنا شخصياً لا أجد ضرورة للإيمان بالناس هنا، إن العالم، إذا آمّنا أو كفرنا به، لن يسير وفق أهوائنا ولن يؤمن بما نراه صحيحاً. إذا كنا نرى أنفسنا أخلاقيين، فإن أخلاقيتنا لا تنفع هنا، لأن أخلاقهم لا تنفعنا أيضاً، أنت ترَى أننا متساويان، صحيح أن التجارب قد صلبتنا، وأن فاقة الحياة جرشت أعصابنا أكثر منهم، لكن لهم تجاربهم أيضاً، نحن نعيش الصحوة بعد التجربة، الصحوة التي نبعت من أعماقنا، أما هم فإنهم ينتظرون أن تأتيهم الصحوة من الخارج ولن نكون نحن هذه الصحوة أبداً، لماذا لا ندعهم في عالمهم ليدعونا في عالمنا؟
ـ إن مجيئنا كان عبثاً، كل العفونات التي تركناها في القرية نراها مجسدة هنا بشكل حضاري صحيح "كلنا في الهمّ شرق".
ارتفع صوت "أنور" من الزاوية حيث كان مكوّماً على نفسه ببلاهة.
ـ هذه دمشق العظيمة، من منكما كان يظن أن هذه المدينة الجميلة تستطيع أن تخبئ كل هذا الرعب؟ من منكما يتصور أن الجامعة التي تضم طليعة الشباب المثقف يمكن أن تكون على هذه الدرجة من التزمت والفراغ الفكري؟ تفوه، لقد مللت وأريد أن أتابع حياتي بلا تفكير.
قلت بضجر:
ـ لقد تشعبت حياتنا بشكل لم نعد نستطيع جمع أجزائها بسواعدنا المرهقة، ومما يزيد الطين بلة أننا نثرثر كثيراً، أعتقد أنه لم يبق أي حل إلا أن نتابع دراستنا بصمت حتى ننتهي ونبني حياتنا بأسلوب آخر.
صرخ "أحمد".
ـ ندرس؟ كيف يتم ذلك ونحن لا نستطيع حضور ربع الدروس في الجامعة بسبب وظائفنا اللعينة؟ إما أن نتفرغ للجامعة ونترك الوظيفة وأنا واثق أننا سنموت جوعاً، وإما أن نضع في حسابنا أن الشوط أمامنا ما زال طويلاً. لقد مللت أنا أيضاً.
وتركنا "أحمد" ثم أخذ سجادة الصلاة وصعد إلى سطح البيت. إن الصلاة بالنسبة لـه راحة نفسية أكيدة، والإيمان المطلق يعني الخلاص من كل عذاب.
نظرت إلى "أنور" الذي كان يرقب "أحمد" خارجاً، وهو يبتسم ابتسامة كنت أفهمها جيداً فقد كنت أفهم "أنور" جيداً وكنا، هو وأنا، نحس العذاب والغربة بشكل حاد ولم نستطع أن نتقبل كل شيء بالبساطة التي تخيلناها.
خرجت مع "أنور" من البيت وقلت لـه ونحن نتجه إلى أحد شوارع المدينة الصاخب، أنت "أنور" أكثرنا حيرة وقلقاً، تحاول أن تبدو مرحاً دائماً، لكنك أكثرنا إرهاقاً.
ـ من أجل هذا انتسبت إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب. أريد أن أدرس النفس البشرية وأسبر أعماقها أكثر، أريد أن أفهم أكثر عن هذا المخلوق الوضيع الذي يسمونه إنساناً، يجب أن أفهم وإلا انفجرت.
قلت باستياء حقيقي لا أعرف سببه.
ـ هذا ليس صحيحاً "أنور". كل فلسفات العالم لم تستطع أن تقدم أكثر من حلول هادئة وسطحية. أنا أؤمن بالثورة فقط. الثورة التي تقتلع كل شيء وتعيد خلقه من جديد.
إن الثورة فلسفة جديدة، هذه حقيقة، وما عداها ليس إلا كلاماً صفيقاً.
ـ كان عليك أن تشتغل بالسياسة. ستضيع في كلية العلوم، كما ضاع الشيخ "أحمد" في كلية الحقوق.
ـ أنت تلجأ إلى المزاح لتهرب من الإجابة، ليكن، صدقني إن كتب الفلسفة لن تزيدك إلا تعقيداً، لقد بعت نفسك إلى مجموعة من المجانين الذين زادوا الحياة تعقيداً.
لم يجب "أنور" بينما تابعنا سيرنا على غير هدى. كانت هذه النزهة من الأوقات القليلة التي نقضيها معاً، فقد فرّقنا العمل وفرّقتنا كليات الجامعة وقاعاتها، ولم نكن نجتمع في البيت إلا نادراً حيث اقتسمنا العمل فيه، كنت مسؤولاً عن الطبخ، وكان "أحمد" مسؤولاً عن شراء الحاجيات التي تلزمنا، بينما كانت كل مسؤولية "أنور" هي الترفيه عنا وسرد قصصه الغرامية مع فتيات الجامعة اللواتي بلغ عددهن ست فتيات في الأشهر الأربعة الأولى. لقد أقسم أنه كتب لهن جميعاً رسائل ملتهبة بالعاطفة دون أن يتلقى أي رد من أية واحدة.
كان بيتنا يبعد عن الشوارع الصاخبة، وكنت أحب الصمت فيه، لكن الهدوء كان كالمستحيل إن "أحمد" على قباحة صوته كان يغني باستمرار، وإذا سكت فإن "أنور" ينهمك بتأليف القصائد الشعرية التي يتمايل ويتأوه عند قراءتها بصوت عال غير عابئ بأذواقنا التي لم تستطع مرة أن تهضم ركاكة شعره وأوزانه المكسورة. عندما يتأزم جو البيت من غناء "أحمد" وقصائد "أنور" لا أجد بداً من الهروب إلى أي مكان، وكان يحلو لي دائماً أن أرقب الغروب من حديقة الجامعة، أرقب الشفق يلوّن الأفق وراء الجبل الهرم المطل على دمشق، شامخاً يحمل على ذروته ألف حكاية أسطورية. ما أروع ما يفعله منظر الغروب في قلب إنسان وحيد.
إن قذارة المدينة لن تنال أبداً من براءة الشروق وسحر الغروب، العالم بكل تفاهاته لن يفسد جمال الطبيعة. الذين خطّوا للعالم دروب الخلاص عاشوا فوق الروابي المنسية أو السهول التي لم يعكر أصداءها الضجيج الآلي أو عند شاطئ يهمس بترجيع حنون حكايا الإنسان الأول قبل أن يخترع إلهه الجديد."




الفصل السابع

وجدت نفسي يوماً بعد يوم، منجذباً بشكل عنيف لا يقاوم نحو "براءة" زميلتي في العمل كان صمتها الدائم يخفي وراءه أشياء تشدني إليها، فهي شاردة دائماً تحدِّق بكل شيء، تريد أن تذهب بعينيها إلى أبعد وأعمق من ظواهر الأشياء.
كل شيء فيها حلو ورائع. إن في عينيها حزناً مقدساً تسجد أمامه كبرياء أي رجل.
ووجهها الأسمر ينضح حناناً فوق بشرة شبيهة بحبة القهوة المحروقة. أدركت أني أميل إليها وأنني عندما أراها أحس بشيء مغلف بالنور يثب من صدري، فأعبّ بعيني ألف آهة مبحوحة تعشش في جديلتها الكسلى الملفوفة بشوق ذبيح.
إن اندفاعي نحوها قد وصل في الآونة الأخيرة حداً دفعني أكثر من مرة أن أهمل عملي وأحدق فيها أتعبد أمام صمتها دون أن تنظر إليّ أو تعيرني أي التفات.
لماذا لا تحس بي أبداً؟
لماذا لا تجد ما تقوله سوى هذه الـ "صباح الخير" الجافة؟
شعرت بالغيظ مرة، ولا بد لكل بداية من سبب، فصممت أن أقحم عزلتها مهما كلفني ذلك. ورحت أنتظر الفرصة المناسبة لذلك.
حتى جاء يوم كانت تمسك بيدها جريدة صباحية تحمل عنواناً ضخماً مكتوباً بالخط الأحمر "المقاومون العرب ينشرون الذعر في قلب تل أبيب".
قلت بلا مقدمات:
ـ ألا تعتقدين، آنسة "براءة" أن المقاومين العرب يؤكدون للعالم اليوم أن هذه الأمة ليست قطيعاً من البقر؟
فاجأتها بسؤالي، ويبدو أنني أخذتها بقسوة من تطلعها الصامت إلى الجريدة، فحدقت بي قليلاً وقالت بلا مبالاة:
لست أدري، إنني لا أقرأ الأخبار السياسية ولا أهتم بها:
شعرت بالخيبة لكنني لم أيأس فسألتها بإلحاح.
ـ ولكن لا بد أن يكون لك رأي في قضايا هذه الأمة.
ـ هذه أمة تسير وهي نائمة.
ـ أخ. فهمت الآن. أنت متشائمة وتظنين كغيرك أننا وصلنا إلى الطريق المسدودة؟
ـ أو تظن ذلك حقاً؟ هل تستطيع أن تخبرني كيف ينتصر المقاومون العرب، وثمة حكام عرب يتآمرون مع الصهاينة عليهم، كيف ينتصرون وهم يقاتلون لحماية صدورهم وظهورهم؟
ـ أنت تذهبين بعيداً آنسة "براءة".
ـ لا أظن ذلك، إنني واقعية فقط، ولا أفهم بلعب السياسة لكنني لا أفهم لماذا لا نفعل شيئاً سوى أن نحمل جراحنا بذل، ونشتكي بذل، ولا نقدم للمقاومة سوى قصائد الشعر بينما أعادت المقاومة لهذه الأمة كرامتها. ببساطة؟ لماذا لا يصبح كل مواطن مقاوماً؟
أوشكت أن أقول شيئاً لكنها سبقتني وتابعت بانفعال:
ـ أنت تعلم أن وطننا العربي من أغنى مناطق الدنيا بثرواته الطبيعية. نحن نحارب بلقمتنا وأصحاب البترول يكدسون الذهب ويشترون الجواري. الفدائيون يموتون، والأثرياء يصدرون البيانات.
ـ أنا لا أفهم آنّسة "براءة" ما هي علاقتنا بكل ما تقولين، إن الشعب نفض يديه نهائياً من هذه الزمرة، الذين يقاتلون اليوم خرجوا من صفوف الشعب، وهذا يعني إلغاء تاماً لأدوار الصالونات الاجتماعية وشرفات الفنادق المريحة، ألا ترين أنك تخلطين الأمور ببعضها؟
نظرت إليّ "براءة" بارتياب ثم أعلنت:
ـ كنت أريد بطريقة ما أن أقول، إنني ضد المهادنة، نحن نقاتل في فلسطين وننسى حلفاء الصهاينة في الداخل، ملوك البترول، والأثرياء، وأصحاب الامتيازات، والمتمسكين بعروشهم على نعوشهم هؤلاء أعطوا سكاكين الذبح للجنرالات الصهاينة، وهم، بطريقة أو بأخرى، يعطونها اليوم للطائفيين في لبنان أنا شخصياً ضد المهادنة وضد كل وسائل الإعلام والنشر يجب أن نبدأ من منطلق جديد أو أن نصمت إلى الأبد.
عندما سكتت "براءة" أحسست أن حبي يزداد لها، هذه الثائرة الصغيرة، التي لم أكن أحسبها إلا واحدة من مدللات المدينة. وكان لا بد أن أقول شيئاً حتى لا يمتد الصمت بيننا أكثر من ذلك بعد أن نجحت باستدراجها إلى الحديث، فسألت:
ـ هل يتسنى لنا حقاً أن نخلق هذا الجيل، أعني جيل الثورة، الذي يرفع قبضته في وجه كل هذه العفونات؟
قررت "براءة" بحزم: الفقراء والجائعون والمطرودون من أرضهم فقط، هم المرشحون لخلق هذه الثورة. إن الثورة تتململ في أعماقهم ولا تحتاج إلا إلى جرأة الخطوة الأولى عندما يثور البركان, لكن المشكلة أن اللامبالاة تسحق ضمير جيلنا، ونحن نرمي بثقل القضية على جيل لم يولد بعد. هذه مأساة حقيقية.
شعرت مرة أخرى أنها تترجم مشاعري، وأنني مؤمن بكل ما قالته، لكني لم أعبر عنه مرة بالمنطق السليم الذي تحدثت به. فجأة، خطر لي سؤال ساذج ترددت في طرحه لكني لم ألبث أن قلت مبتسماً:
ـ هل أفهم من حديثك هذا أن إحساسك بالمأساة وبواقع حياتنا المؤلم، هو سبب صمتك الدائم وسبب الحزن المخيم على وجهك؟
لأول مرة أرى شفتيها تنفرجان عن أسنانها اللؤلؤية ببسمة هادئة قالت بعدها:
ـ أنا لا أجد ما أقوله أحياناً، هذه حقيقة، ثم إنني أخاف إن أنا تحدثت مرة أن أجرح شعور الآخرين بصراحتي.
ـ هذا تواضع منك آنسة "براءة". لقد أثبت أنك محدثة لبقة وبارعة.
ـ هذه المرة كانت صدفة.
ضحكنا معاً، وكانت ضحكتها أروع من كل ألحان العالم، فقد رنتّ في مسمعي صدى عذباً أكثر من عذوبة نسمة تختبئ في صنوبرة برية، أأقول لها هذا؟ أخاف أن أجرحها. أجرحها؟
ـ لقد قلت "آنسة براءة" منذ قليل إنك تخافين أن تجرحي أحاسيس الآخرين، فهل تهتمين بآرائهم؟
ـ الآخرون؟ أبداً، لكن عدم اهتمامي بهم لا يعني أن أسمح لنفسي بجرح مشاعرهم.
ـ إذا كنت غير مهتمة بالآخرين إلى هذا الحد فهذا يعني إنك لا تحبين أحداً؟
ـ إنني لا أؤمن بالحب.
شعرت بشيء حاد ينغرس في قلبي فقلت قبل أن ترى معالم الخيبة على وجهي، ألا ترين معي أن حياة الإنسان من دون حب تظل صحراء مقفرة؟
مطّت شفتها الآسرة ثم أجابت:
ـ إن مفاهيم الحب عندنا غير ناضجة بعد، والنزوات الصبيانية التي يسمونها حباً لا تتسم بالواقعية. لاحظ أن جميع العلاقات العاطفية تنتهي بالفشل، إما لخطأ في تركيبنا الخلقي أو لخطأ في تركيبنا الاجتماعي.
ـ أهذا كل ما تعرفين عن الحب؟
ـ أتريد أن أحدثك عن الحب النفعي؟ عن الحب الذي تحوله المصالح الشخصية إلى تجارة رخيصة؟ أم أقول لك كيف يلتقي النفعيون ببعضهم، فيتزوجون، ويتحولون إلى معامل لتفريخ الأطفال؟
ضحكت من هذا التشبيه وقلت لها، يبدو أنك لا تهتمين بشيء ولا
تؤمنين بشيء.
ـ إنني أؤمن بنفسي فقط.
ـ لكنك إنسانة، والإنسان يتحول إلى نزوة أحياناً، يصيب مرة ويخطئ مرات كثيرة.
ـ أنا أعبد أخطائي وأقدسها كما أقدس كل أعمالي الصحيحة، كلاهما يصدر عني.
تطلعت إليها برهة. كان من اليسير أن أصدق أنها قد تمكنت من تحطيم أصفادها، كامرأة شرقية، وانطلقت بالسهولة التي تتحدث عنها. سألتها فجأة:
ـ ما هو دور الله في حياتك؟
كان السؤال مفاجئاً حقاً، أربكها قليلاً، لكنها لم تلبث أن استعادت هدوءها وقالت: لست أدري هذه المشكلة تعذبني. لم أشعر مرة إنني مؤمنة إيماناً كافياً، لكنني لست ملحدة كما قد يتبادر إلى ذهنك فوراً. تستطيع أن تقول إنني حيادية تجاه هذا الموضوع.
ـ يبدو أن ثقتك بنفسك قد ألقتك في متاهات الغرور.
ـ هل تريد أن تقول أنني مغرورة؟
وحدقت بي. شعرت أن كل خلجة في وجهها تتحداني فأجبت بإصرار: أجل أنت إنسانة مغرورة جداً.
ـ شكراً. وأنت إنسان مهذب جداً.
ولفنّا الصمت من جديد.
ثمة كلمات لا نستطيع أحياناً أن نقولها، لكنها تظل مقدسة، ترقد في الصدر ملفوفة بهالة من الكبرياء,
وثمة كلمات نقولها دون أن نعني بها شيئاً سوى أن يرانا الآخرون نفتح أفواهنا.
ما الذي قلته "لبراءة" الآن؟
كنت أحس الجفاف في حلقي، لكن شيئاً أكثر رطوبة وروعة كان يغلف قلبي. من قال إن الرمال العطشى منذ الأزل لا تعرف الشبع؟
نظرت من جديد إلى "براءة" وأدركت من إطراقتها أنه من السخافة أن أقول شيئاً وأنه من العبث محاولة إخراجها من دوامة الصمت التي غرقت فيها, فسكت وأنا أحس نوعاً من القهر، وبقيت صامتاً حتى انتهى وقت العمل، فخرجت وتوجهت إلى البيت.
كان "أنور" قد سبقني، فحييته، وارتميت على السرير ضجراً دون أن أفكر بالطعام، وأخذت كتاباً ورحت أقلب صفحاته على غير تعيين عندما دخل "أحمد" مكتئباً وارتمى على سريره، ثم راح يطلق الشتائم والسباب على العالم كأن العالم انقلب ضده فجأة.
رحنا ننطر إليه بهدوء دون أن نقول شيئاً حتى انتهى من تدخين لفافته وهدأ قليلاً، فسأله "أنور" ببرود:
ـ ما بك؟
ـ المجتمع حقير.
ـ لم تأت بشيء جديد. قل ما بك؟
ـ وحياتنا حقيرة لا تطاق.
ـ أنا الذي علمّك هذا وهو ليس شيئاً جديداً قل ما بك؟
ـ وصلتني أخبار من القرية.
ألقيت الكتاب جانباً وقفزت من مكاني وسألت بلوعة:
ـ ما هي الأخبار؟ قل بسرعة ولا تقف هكذا كالمسطول.
بصق على الأرض وأطلق شتيمة وسخة ثم همس يائساً:
ـ لقد كان رحيلنا عن القرية مناسبة لنسج ألف قصة قذرة عنا. المصيبة أن أية قوة على الأرض لن تقنع أهلنا بالسماح لنا بالعودة إلى البيت ثانية.
سأل "أنور" مستغرباً:
ـ أهذه هي الأخبار؟ ما الذي يزعجك في الأمر؟
ـ إنني مشتاق إلى أهلي كثيراً كأنني سأموت دون أن أراهم. إنني لا أحتمل فكرة الغياب عنهم قال "أنور" بمرح مفاجئ لم يكن يناسب الجو أبداً.
ـ هذا من حسن حظ أهلك ألا يروك.
كشّر "أحمد" بقرف وأعلن:
ـ ألا تشعر أنك ثقيل الظل وأنت تحاول المزاح الآن؟
ـ إنني لا أمزح، لكنني أسخر منك لأنك عاطفي أحمق.
ـ قل ما تشاء، أنا عاطفي، لكنك ولد عاق.
انقلب الجو فجأة عندما أجاب "أنور" محتجاً:
ـ أما إنني عاق فهذه وجهة نظر شخصية لن أناقش بها. لكنني لست ولداً. أنظر يا رجل إنني ملء ثيابي، أدخن، وأسكر، وقد أصبحت موظفاً وأجيد مغازلة النساء. في وأتحدث في القضايا السياسية. أليست هذه كلها من معالم الرجولة.. يا ولد؟
نظر إليه "أحمد" برهة ثم انفجر بالضحك، وقذفه بالوسادة، وانتهى النقاش الذي خشيت أن يطول ويتطور إلى أكثر من ذلك، واستلقى كل منا على سريره دون أن يفكر بالطعام لكن "أنور" لم يلبث أن تلمظ ولحس شفتيه بلسانه ثم قال:
ـ إن فنجاناً من القهوة يزيل عن رأسي كل أوساخ العالم.
قلت له:
ـ تستطيع ببساطة أن تزيل أوساخ رأسك، إذا ذهبت إلى المطبخ وأعددت فنجان قهوة.
ـ هذه مشكلة؟ إعداد القهوة يحتاج إلى همة، ولست مستعداً لأن أبذل أية همة من أجل شهوتي الحقيرة.
ـ أنت تعرف أنك أكثرنا همة ونشاطاً.
ـ هل تعترف بذلك دائماً وخاصة أمام بنات الجامعة؟
ـ بل إنني على استعداد لأن أقسم برأسي.
قفز عن السرير إلى المطبخ، وغاب برهة ثم عاد وعلائم الخيبة
على وجهه.
ـ ما بك؟
ـ لا يوجد قهوة ولا سكر ولا شاي، يوجد بعض البرغل وعدة بصلات فاسدة في كيس من الورق قال "أحمد" مسروراً لخيبته:
ـ استرح إذن وأرحنا من شهواتك كأنك حامل في أشهرك الأولى.
جلس "أنور" على الكرسي ثم زفر زفرة عميقة وقال:
ـ أنتما مفلسان قذران. من منكما عقد صفقة أبدية مع هذا الفقر الأسود؟ منذ رأيت وجهيكما القذرين وهذا الفقر اللعين يستأجرني ويركب على رقبتي كأنني حمار.
كان كل منا، "أحمد" وأنا، نضحك بصمت، ولما لم يجد "أنور" من يجيبه، استلقى على سريره ودفن رأسه تحت الوسادة وشكا:
ـ إنني جائع إلى حد أستطيع معه أن آكل حذائي.
وانفجرنا ضاحكين ضحكاً هستيرياً، شعرت من جرائه بألم في صدري. وكنا، كلما هدأت حدّة ضحكنا، نعود إلى الضحك من جديد بينما كان "أنور" يحملق بنا مذهولاً كأنه يرثي لنا. وعندما توقفنا عن الضحك رحت أجفف دموعي وأنا أقول:
ـ أتدري "أنور"؟ إنني أحسدك. أنت إنسان لا يعرف الهموم.
تساءل "أنور" برماً:
ـ الهموم؟ لماذا؟ ألا تكفيني الحياة معكما؟
وعدنا نضحك من جديد عندما صرخ "أنور":
ـ إذا لم تكفا عن هذا الضحك العاهر سأخرج من البيت فوراً.
سكتنا رغماً عنا، لكن "أحمد" قال لـه:
ـ أنت إنسان رائع وأنا أحسد الإنسانة التي ستتزوجها.
أجاب "أنور" ساخراً!
ـ ولماذا فضيلة الشيخ؟ أنا لا أحسدها، إن مزاجي لعين جداً. أحياناً أثور بشكل وحشي.
وتصبح تصرفاتي حيوانية. ولكن إذا أحببتها.. أعني إذا تزوجت فتاة بعد تجربة حب صحيح، فسوف أعبدها.
لا أعرف ما الذي أثارني فجأة فقلت:
ـ إن الحب طفرة والسعادة الزوجية مجرد احتمال.
قرر "أنور" بحزم:
ـ إني لا أؤمن بالاحتمالات.
ـ لا تتزوج إذن.
ـ لا أتزوج؟ أنا لا أتزوج؟ تفوه. تسقط أنت وآراؤك. هذه عادتك، تتحدث عن العواطف كأنك تتحدث عن وفاء كلب سنراك غداً بعد زواجك.
وتوقف عن الحديث ثم تطلع إلي كمّن تذكر شيئاً وسألني:
ـ بالمناسبة، كيف حال "براءة"؟ أما زلت تدعوها "ذات العينين الحزينتين؟"
اصطدمت عيناي بعيني "أنور" وقد اتسعت حدقتاهما ببريق السؤال. لم أكن أريد الجواب غير أن شيئاً خفياً دفعني لأن أهمس باسمها فقلت:
ـ دعوتها يوم أمس إلى مقصف الجامعة، وقد ترددت بادئ الأمر بقبول الدعوة لأنها كما قالت لا تحب جو الجامعة، غير أنها وافقت في النهاية ونزلت عند رغبتي.
ـ رائع. وبعد ذلك؟
ـ لا شيء. شربنا القهوة وهي التي دفعت الحساب.
ـ ألم أقل لك؟ أنت مفلس قذر.
ـ لكنها اشترطت لقبول الدعوة أن تدفع هي.
ـ يبدو أنها بخيلة.
تدخل "أحمد" قائلاً:
ـ لا عجب بذلك. أليست ابنة تاجر؟
قلت مؤكداً:
ـ على العكس إنها مخلوقة بريئة ورائعة.
ضحك "أحمد" منتشياً ثم قال:
ـ لقد بدأت ترى محاسنها وتمتدحها. هذه أول علائم الحب.. أول بشائر العطش للحياة الحقة؟
قلت متردداً وأنا أحس نوعاً من الخجل:
ـ أنا لم أقل شيئاً عن الحب. إنها تعجبني وكف. قال "أنور":
ـ أي أنك تشتهيها؟
ـ أنت كالحيوان لا تفكر إلا بغرائزك.
نخر "أنور" من أنفه وهرش أذنه قليلاً وقرر:
ـ مع احترامي لك، فإن سيادتك لا تفهم شيئاً. إن الغرائز تقوم مقام العقل في مجتمعك المتمدن هذا. لو كنا نستعمل عقولنا لما أصبح المجتمع على هذه الدرجة من البشاعة.
شعرت بالغيظ لأن "أنور" خرج بالحديث إلى هذا الحد، لكنني لم أستطع السكون فقلت: إن العقل ما زال سيداً. لكن اندفاعنا الأهوج وراء غرائزنا يسيء إلى جميع معطيات العقل وأحكامه.
ـ نحن لا نستطيع أن نتجاهل غرائزنا، إلا إذا كانت آراؤك هذه دعوة إلى الموت.
ـ لماذا تحاول أن تخلط الأمور ببعضها دائماً؟ إنني لا أوافق أن تُصلب غرائزي أو تعدم إنني أحترمها وأحترم حب الآخرين لغرائزهم. هذا حق بديهي. لكن أحكام المجتمع وعاداته الرفيعة عودتنا أن نخجل من غرائزنا دوماً.
سأل "أحمد" وعلى وجهه بعض الدهشة:
ـ لكن هذه دعوة للإباحية؟
ـ لا تكن تافهاً. أنت تعلم أنني لا أعني شيئاً من هذا.
ـ ماذا تعني إذن؟
ـ إنني أرفض الاستسلام إلى أحكام المجتمع وآرائه وحتمياته.
ـ أنت تعزل نفسك عن الحياة بطريقة مؤسفة.
ـ لقد عدت إلى خلط الأمور. إنني معزول عن رقابة هذا المجتمع وآرائه، من صدري تنبع مُثُلي ووحدي الذي أضع حدودي وقيمي.
ردد "أحمد" بأسف يشوبه الخشوع:
ـ أنت وحيد وحدة مؤسفة، وأعتقد أنك بحاجة إلى تدّين عميق حتى تسترد إنسانيتك وأصالتك.
تدخل "أنور" غاضباً:
ـ أنا لا أعرف لماذا تردّ كل شيء إلى الدين. إن إنساننا العربي يحتاج إلى اقتلاع من جذوره وإعادة غرسه من جديد. الدين فضيلة وعبادة ودعوة إلى الخير، ونحن نحتاج إلى الجنون. إننا نائمون منذ أجيال ومخدرون بالخوف والأخلاق. وأنت تتحدث عن الدين.
بعد لحظة سكوت قلت معقباً:
ـ إنني أؤمن بهذا وأستطيع أن أؤكد أن الثورة الاجتماعية هي مبضع الجراح الذي يستطيع أن يضع حداً لكل الآفات التي تنهشنا. نحن مستسلمون غريزياً للقدر، لكنه لن يحل مشاكلنا إنه قدرة لا وجه لها، تولد وتموت في أماكن أخرى من العالم، وسنظل في مؤخرة العالم إذا لم نفجّر ثورة اجتماعية تضع حداً لكل الموروثات العفنة التي خلفتها الأجيال على صدورنا.
قال "أنور" بهدوء وروية حتى يضفي على حديثه شيئاً من العمق والتأثير:
ـ نحن محاصرون، وصدورنا تنوء بأثقالها، إن مجتمعنا لم يحافظ على إرث كما حافظ على الأنانية. إنه أناني حتى في تدينه، حاول أن تناقش إنساناً حول الدين، تراه يدافع عن آرائه في الدين، وإذا خالفته الرأي يثور ويتهمك بالزندقة. ناقشه بالأخلاق يعرض عليك آراءه حول الفضيلة، ما هذا؟ إن لكل منا ديناً خاصاً ومعتقداً جديداً. دعونا، إننا نعيش في عصر وثني ينتصب فيه ألف صنم.
حدق "أحمد" "بأنور" ثم قال متذمراً:
ـ أنت إنسان مهزوم. وتعتقد أن إلحادك والبهرجة اللفظية التي تعرضها تستطيع أن تغطي بها انهزاميتك.
قلت متدخلاً:
ـ لماذا تصر "أحمد" على إلصاق هذه التهم بغيرك عندما تعييك الحيلة؟ هل تعتقد أنه من المنطق أن يلصقوا الدين بنا منذ طفولتنا، دون أن نُخيّر، ثم يسلبوننا حق المناقشة به والسؤال عن أبعاده، بل والمآل الذي يوصلنا إليه؟
هزّ "أحمد" رأسه ضجراً فقلت ألاحقه:
ـ لا تهرب من سؤالي. إن "أنور" ليس ملحداً ولستُ كذلك، إننا نؤمن بالله أكثر منك، لكنني، شخصياً، أختلف عنك. إنني أفكر، أفكر أن الأديان السماوية عندما نزلت لم تكن هناك قنابل ذرية، ولم يكن هناك استعمار ولا بترول، كما لم تكن هناك قواعد عدوانية لضرب الشعوب إذا تململت في ثورة حرة. إن الأديان نزلت من أجل صلاح النفس وتهذيبها وإيصالها إلى طريق الخير، ونحن نحتاج الآن إلى ثورة، ورصاص ودم.
ضرب "أحمد" الطاولة بيده وصرخ بي:
ـ ما هذا يا رجل؟ بربي أنت تخرّف. تتحدث عن الاستعمار والبترول والقنابل الذرية كأنك في إسطبل. عندما تفهم ماهية الدين، بل عندما يصبح لديك أدنى درجات الإلمام بالدين سترى في صلب الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، آلاف الأدلّة والشواهد على أن الدين قد حضّ، وسيظل يحض على الجهاد والنضال حتى يتحرر الإنسان وتتحرر الأرض.
قال "أنور" بانشراح:
ـ هذا صحيح وأنا معك. ولكن إلى أن ندفن جميع الذين يستغلون الدين، وإلى أن ننتهي من الذين يتاجرون بالدين ويستغلون به سذاجة بعض الناس سيكون العالم قد وصل إلى القمر ونحن ما نزال ننتظر إطلالته ليباركنا يجب أن تفهم شيئاً هاماً "أحمد"، أنا لست ضد الدين، لكنني ضد تفسيراتنا لـه. نحن نحتاج إلى ثورة اجتماعية حقيقية وأنا لا أفهم لماذا لا يؤمن الناس، أن الثائر في أعمق أعماقه إنسان يمثل قمة التطلع الذي أراده الدين.
رد "أحمد" بحيرة.
ـ إنني لا أفهم ما تعني.
قلت متدخلاً:
ـ اسمع "أحمد". نحن مجتمع مشلول، نعيش نصف حياتنا، بنصف كرامة، أعطيك مثالاً:
نصف المجتمع مشلول وأعني المرأة، إنها سجينة أسوار العادات والتقاليد، هل فكر أحدنا بإيقاظ هذا النصف المشلول؟ الدين يسمح لنا بالزواج من أربعة نساء، وقد كان هذا مبرراً وسليماً عندما نزل القرآن الكريم، بسبب الغزوات والرغبة بنشر الإسلام، وإعتاق الجواري. ولكن هل تتفضل وتقول لي بأن الزواج من أربع نساء في حياتنا المعاصرة حل سليم لأية مشكلة اجتماعية.؟
احتج "أحمد" قائلاً:
ـ لكن الدين قال وإن لم تعدلوا فواحدة، ولن تعدلوا.
ـ إنني لا أتحدث عن الاحتمالات، أريد أن أقول إن بعض القائمين على أموره لم ينظروا بعد إلى المرأة كمخلوق سويّ. المشكلة لا تنحصر في تعدد الزوجات فقط، إن بعضهم يلبس زوجته أو أخته ملاءة سوداء منذ ولادتها حتى موتها، فلا ترى العالم إلا من شفافية سوداء تصبغ الدنيا أمامها بعتمة كافرة، هذا ليس من الدين بشيء كما أنه ليس حلاً عادلاً للعقد المتراكمة في صدر المرأة الشرقية، العقد التي صنعناها نحن. في عصرنا.. عصر الرجال.
ـ إن الكتب التافهة التي تقرؤها قد أفسدت رأسك. أنت لا تفقه شيئاً عن الدين وكل الذي تقوله ليس أكثر من هذيان سكران. عندما كان المسلمون يعيشون جوهر دينهم سادوا العالم كله، سياسياً واجتماعياً وفكرياً، وليس عليهم اليوم إلا أن يرتدوا إلى قواعد الدين الحقة وسترى أن هذه الأمة لا تغلب.
تضايقت من "أحمد" لأنه يبتعد عن جوهر النقاش ويصر على أن يحاضر أمامنا فقلت:
ـ دع جوهر الدين جانباً، إنه شيء سام ونبيل، ولكن يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها أخيراً.. من العار أن تظل هذه الأمة مخدرّة بالخرافات تحشو رأسها بالنفاق، إن الكهنة يفتكون بحياتنا، ويتآمرون ضد براءة الإنسان، لقد تمكنوا مثلاً، من الإيحاء لنا أن كل شيء مرسوم لنا منذ ولادتنا ولا فائدة من السعي، أليس هذا معناه أن يظل عشرات الملايين من العرب والإسلام في أحضان البؤس ينهش الجوع وعيهم وهم يقدسون نعمة الفقر، بينما تظل حفنة من العملاء في الوطن العربي تسلخ جلودنا وتنهب أرضنا ثم نقتات من الصبر والانتظار؟ وإذا تمرد أحدنا على هذا المصير المشين قيل لـه "وأطيعوا أولي الأمر منكم". إن إطاعتهم كانت واجبة عندما كانوا أمناء وشرفاء. لكنه ليس واجباً بعد أن تحول معظمهم إلى حفنة من الخونة. اسمع "أحمد" إن الله يطلب إلينا أن نستعمل عقولنا، عندما خاطب هذه العقول "واتقوا يا أولي الألباب"
كما أن جميع الفلاسفة والمفكرين خاطبوا العقل البشري دائماً. إن رؤوسنا معطلة وقد آن الأوان أن تعمل هذه العقول.
فجأة، ضحك "أنور" بخلاعة وقال كأنه يضع حداً لهذا النقاش الذي استمر طويلاً، ـ إلى هنا وكفى. لقد وصل الحديث إلى العقل والفلسفة وأرجو أن تراعي حرمة الاختصاص حاول أن تتحدث عن التحولات العلمية فأستمع إليك، أما الفلسفة فأنت لا تفهم فيها إلا ما أفهمه أنا من اللغة الصينية.
سكتُ ولم أقل شيئاً لكن "أحمد" نبر بصوته:
ـ ما زلت عند رأيي، كلاكما ملحد، والحديث معكما ضائع ولا قيمة لـه. في يوم ما ستكتشفان أن الحقيقة غير هذه السفاسف.
حاول "أنور" أن يقول شيئاً لكنني أشرت إليه أن يسكت ويجنبنا نقاشاً غير مجد فسكت.
واستمر الصمت عدة دقائق إلى أن قال "أحمد" وهو يتطلع حوله عن شيء ما.
ـ إنني جائع جداً، ولا يوجد في هذا البيت التعيس ما نأكله. هل لدى أحدكما بعض المال؟
قلت وأنا أقلب جيوبي إلى الخارج:
ـ النظافة من الإيمان، فضيلة الشيخ، لا يهم أن نظل اليوم من غير طعام طالما أننا سنقبض رواتبنا غداً نهض "أنور" وهو يقول:
ـ لدى عشرون ليرة. سأشتري علبة سجاير "حمراء" وأكل "سندويش" فلافل والباقي إلى السينما إذا بقي ما يكفي ثمناً للبطاقة.. لماذا رفعوا أسعار الدخول إلى السينما وهم يعرضون لنا اردأ الأفلام في العالم؟
ـ ونحن أيها الأناني؟
تصنع "أنور" الوقار وقال بلهجة مسرحية وهو يلف رباط عنقه:
ـ ستظل فلاحاً، لا فائدة منك ولن ترتفع إلى مراتب البورجوازيين. ألا ترى أن المدللين هنا ينامون دون عشاء من أجل الحفاظ على قوامهم الممشوق وإراحة أمعائهم الحساسة. لقد آن لك أن تصبح راقياً وتنسى قصة حشو البطن.
وسكت برهة ثم التفت إلى "أحمد":
ـ إن كلية الحقوق لم تعلمك إلا الأكل. أنا شخصياً كلما رأيت كرشاً منتفخاً أراهن أن صاحبه محام أو قاض.
وخرج "أنور" دون أن ينتظر جواباً لكنه لم يلبث أن عاد ومدّ رأسه من الباب وهمس:
ـ سأحضر اليوم فيلماً غرامياً لأحفظ بعض الجمل العاطفية أقولها لك، لعلك تغازل بها "براءة". ثم توارى. وبقيت وحدي مع "أحمد" يلفنا صمت الغرفة الكئيب. حاولت أن أفعل شيئاً فلم أجد ما أفعله. مللت من الكتاب فرميته وحاولت النوم عندما سألني "أحمد":
ـ هل تحبها كثيراً؟
ـ أحبها؟ من هي؟
ـ براءة.
سكت برهة ثم أعلنت بصدق:
ـ أحبها، ولكن لا أعرف إلى أي حد.
ـ ليتك تذوب فيها. الحب شيء رائع، إنه يضع حداً لكل مشاكلك وقلقك.
ـ إن مشاكلي لا علاقة لها بالمرأة. أحب الحياة بشكل أبعد وأعمق، إن "براءة" بالنسبة لي عالم آخر. عالم مجهول لم أكتشفه ولا أعرف سره، لكنه عالم يزينه لي خيالي بأنه أحلى من كل رحلات سندباد، وأجمل من جميع المرافئ الحارة في الجنوب.
ضحك "أحمد" بحبور طفولي وقال:
ـ لا فائدة منك. أنت شاعر، وكل شيء بالنسبة لك يقاس باللون، والكلمة، وبعض الجمل الطنانة. اسمع نصيحتي وحافظ على "براءة".
ثم أدار ظهره، وبعد دقائق كان يغط في نوم عميق، وبقيت وحدي.
الناس ينامون بشكل عجيب. العالم ليل مطلق. والسماء خرقة زرقاء مليئة بالثقوب الشقراء التي تشع نوراً واهناً مسروقاً.
ذهب "أنور" ونام "أحمد" وبقيت وحدي لا أعرف أين أذهب ولا أستطيع النوم.
لماذا أظل وحيداً؟


الفصل الثامن

كانت غبشة المساء تلم أول أمواج السواد، عندما قرع باب الغرفة قرعاً خفيفاً، وقبل أن أتحرك من مكاني كان "أنور" قد قفز من مكانه، كأنه كان ينتظر هذه القرعات بفارغ الصبر، ثم فتح الباب وانسل منه إلى الخارج، وبعد لحظات تناهى إلى سمعي همس صوت نسائي.
نهضت من سريري مسرعاً وعندما فتحت الباب رأيت امرأة تقف مع "أنور"، وقد أدركت من صوتها ومن ملامحها العامة التي تبينتها جيداً بعد أن اقتربت منها أنها تقترب من الخمسين رغم المساحيق والألوان الفاقعة التي تغطي وجهها.
سألت "أنور" بجفاء!
ـ من هذه؟
تطلع إليّ بغضب وقال:
ـ السيدة "أم فاروق"، اذهب من هنا.
ـ وماذا تريد السيدة؟
اقترب مني وراح يدفعني إلى داخل الغرفة بغيظ ظاهر وهو يقول:
ـ سأخبرك بكل شيء. ولكن توارى الآن من أمامي ولا تنتصب هكذا كاللعنة.
دخلت الغرفة مكرهاً وأنا أشتم "أنور" ببذاءة، بينما كان "أحمد" يفرك عينيه من أثر النوم وينخر من أنفه وسألني:
ـ من هذه؟
رددت عليه بغباء مصطنع وأنا أحاول أن أقلد صوت "أنور" وحركاته:
ـ السيدة "أم فاروق" اذهب من هنا.
ـ وماذا تريد السيدة؟
ـ سأخبرك بكل شيء. ولكن توارى الآن من أمامي ولا تنتصب
هكذا كاللعنة.
دخل "أنور" الغرفة ثم هجم عليّ وأمسك بطرف منامتي بقبضته بينما راح يلوح بالقبضة الأخرى أمام وجهي:
ـ لقد أوشكت أن تفسد لي كل شيء.
نزعت طرف المنامة من يده، وأمسكت قبضته التي ترتج أمام وجهي وسألته بإصرار:
ـ أنا لا أحب أحاجيك هذه، ما الذي يجري هنا؟
أفلت يده من يدي وارتمى على سريره ثم أشعل لفافة راح يمتص دخانها بشراهة، وينفثه بعصبية، ثم قال مبتسماً وهو ينظر إليّ:
ـ منذ أسبوع وأنا أسعى وأفتش حتى استطعت أن أدبر "واحدة"، لكنك كدت تفسد الأمر كله بخروجك الآن.
ـ واحدة؟ أية واحدة؟
أجاب وهو يضغط على أسنانه بنفاذ صبر:
ـ ماذا تظن أنني أقصد. دبابة؟ لقد تعرفت على "امرأة".
حملقنا به لحظة وهو ما يزال ينفث دخان لفافته ويبتسم بهدوء عجيب، ثم تطلعنا إلى بعضنا وسؤال واحد يرتج في صدر كل منا، لم يلبث "أحمد" أن قذفه بنبرة قاسية:
ـ هل تريد إحضار امرأة إلى هذا البيت؟
شبك "أنور" ساعديه فوق صدره وقال بلهجة خطابية:
ـ دعني أصحح قولك. أولاً: أنا لن أحضر امرأة، لكنها ستحضر بنفسها. ثانياً, إن حضورها ليس من أجلي فقط، ولكن من أجلنا جميعاً. أنتما تشخران وأنا أسهر حتى أجعلكما تتمتعان بالحياة، ومع هذا فأنا لا أسمع كلمة شكر منكما، أنتما عاقان.
يبدو أن "أحمد" لم يفهم بعد، فسأل بضجر:
ـ ولكن لماذا؟ ماذا ستفعل المرأة هنا؟
شد "أنور" شعر رأسه وصرخ:
ـ أفّ. يبدو إنني أعيش مع حمارين.
شعرت أنه يسيء إلينا، فصرخت بوجهه:
ـ هذه المرة اسمح لي أن أقول لك إنك تتصرف أنت، لا نحن، كالحمار. أتريد أن تقول لي إن هذه المرأة المقرفة المطلية الوجه، التي كنت تقف معها منذ قليل، ستأتي إلينا من أجل أقصد.. أنها...
قاطعني "أنور" بنشوة:
ـ السيدة "أم فاروق" صديقتي وهي التي سترسل إلينا، فتاة جميلة، عمرها لا يتجاوز العشرين عاماً. اسكت يا رجل، أنت لا تعيش. تصور، عشرون عاماً. بمائة ليرة فقط؟
يسقط الحب والتسكع وراء بنات الجامعة، هه ما رأيك؟
فجأة أصبح الصمت قدراً جاثياً فوق رؤوسنا. من المؤكد أن "أحمد" يعاني تمزقاً داخلياً حاداً فظهرت آثاره جلية على وجهه الذي اكتسى بحمرة قانية، بينما راحت أصابعه ترتجف ولا تستقر على مكان معين. إنه يواجه، لأول مرة، تجربة من هذا النوع. لقد اعترضت حياته في القرية وأثناء دراسته الثانوية في المدينة عدة مشاكل عاطفية، لكن ارتباطه بكثير من العادات، وتقديسه لعدد من التقاليد، وتدينه، كل هذا كان يقف حائلاً بينه وبين الاستجابة لأية تجربة عاطفية خاصة وأنه يحمل في رقبته وشاحاً، لا تراه العيون، مكتوباً عليه بشكل قدري "إن التعامل مع المرأة يوصل إلى طريق الزنا؟.
أما هذه المرة.. وامرأة توشك أن تدخل البيت عارضة جسدها علينا جميعاً لقاء مبلغ تافه من المال.. فإن أحداً منا لم يكن يدري شيئاً عن تفكيره الذي طال في فترة هدوء مضنٍ، لكنه لم يلبث أن مزق هذا الهدوء بكلمات قالها وهو ينظر إلى أظافره:
ـ إذا كنت مصّراً على إحضار هذه المرأة إلى البيت. فيجب أن نفترق أولاً.
كان قراره قاسياً ولم يكن أحد ينتظره. شعرت أنَّ شيئاً قد مات في صدري ورحت أرتعد من خوف مفاجئ لأن فكرة افتراقنا تسحق أحاسيسي. كيف نفترق؟
لقد فتحنا الطريق بوعينا، وأعصابنا، وكرامتنا. عشنا أحط أنواع الحياة من أجل أن نحقق غاياتنا وأن يكون كل منا "الإنسان" الذي يعيش حياته كما يفكر، والذي يجعل من رقابة المجتمع صفراً لا قيمة لـه. أينتهي كل هذا من أجل امرأة ساقطة؟ أتندحر آمالنا من أجل رغبات "أنور" الرعناء؟
قاسيت كثيراً حتى رسمت بسمة على شفتي وقلت متصنعاً الهدوء:
ـ إن الأمر لم يصل حداً يدفعنا للافتراق. كيف تسمح لنفسك "أحمد" أن تفكر هذا التفكير السخيف؟ ألم نتفق أننا نستطيع دائماً أن نجد حلاً لكل مشاكلنا؟ إن ما يربطنا أمتن بكثير من أن تمزقه حوادث يومية عابرة. قل إنك لا تعني ما قلته. قل بربك.
تدحرجت دمعتان كبيرتان على خديه وهو يقول بألم عميق إنني آسف من كل قلبي. لم أكن أعني ما قلته أبداً. لكن "أنور" دفعني إلى ذلك ويجب ألا يطعن شرف هذا البيت.
عندما رأيته يبكي، وليس ثمة أقسى من دموع الرجل، شعرت بانسحاق هائل وأن شيئاً يقطع أعصابي..
امتدّ أمام ناظري شريط سريع لصور ضبابية الرؤى. أبي وأمي وإخوتي يجلسون أمام البيت. القرية المنسية التي تسجنها جبال صامتة. البيدر الأخضر وشجرة التين عند طرفه الغربي. سكان القرية وهم ينظرون إليناً شذراً بعد سنوات القحط. أحلامنا بالرحيل والوصول إلى المدينة حيث الآفاق لا تُحد..
تذكرت كل شيء في لحظة معزولة عن الزمن، بينما كان شيء يشابه طعم الملح يتسرب بين شفتي. في تلك اللحظة تمنيت أن أحضن "احمد" و"أنور" لأحضن الطفولة والماضي والبؤس الذي أحسست أنني أعبده. حاولت أن أقول شيئاً لكن الكلمات خانتني، لأول مرة لا أستطيع التعبير، حاولت أن أقول شيئاً عن ارتباطنا، عن غربتنا في مدينة كافرة، عن الجذور التي تشدنا إلى الحياة حتى لا تبتلعنا هذه المدينة الوحش.
لم أقل شيئاً. أنا أصم منذ الأبد. كل الذي قلته في الماضي كان ثرثرة لا تعني شيئاً.
ماذا أقول؟ الأمور متشابكة بشكل كريه. أنا مع "أحمد" بأن يظل هذا البيت نظيفاً لا تدخله الساقطات اللواتي سيحولنه إلى مزبلة للجنس. لكنني مع "أنور" أيضاً بحقه في أن يعيش وفق الطريقة التي يريدها، لأنه ليس من حق أحد أن يمنعه من تحقيق أحلامه ورغباته وغرائزه.
بقيت محاولة أخيرة فسألت "أنور":
ـ أنت تعلم أن "أحمد" لا يريد أن تدخل المرأة هذا البيت. ما هو موقفك؟
سألني بنبرة حادة:
ـ ما هو موقفك أنت؟
ـ أنا لا علاقة لي بهذا الموضوع وبالتالي فلا رأي لي به.. إنها حياتك.
ـ من قال إنه لا علاقة لك بالموضوع؟ أتعني أنك لا تريد الاشتراك معي؟
على الرغم من أن الموقف كان حاداً ومتوتراً لكنني لم أتمالك نفسي من الضّحك عندما سمعت "أنور" يدعوني إلى "المشاركة" كأنها وليمة غداء، فسألني بتأفف، لماذا تضحك؟
ـ إن دعوتك لي مضحكة ولا أعتقد أنني أستطيع مشاركتك.
ـ ولماذا بحق الشيطان؟
ـ لأسباب قد لا تفهمها لكنها خاصة بي وحدي.
راح يدور حولي ويتفحصني من رأسي إلى قدمي، واستمر يدور ويدور إلى أن قلت لـه، كفّ عن هذا الدوران "أنور". لقد برمت لي رأسي.
توقف أمامي ووضع يديه فوق وركيه ثم سأل ساخراً:
ـ منذ متى سقطت في نفسك هكذا؟ هل أصبحت شيخاً مثله؟
ثم رفع صوته وزعق:
ـ لماذا لا يذهب كل منكما فيشتري جبة أو طربوشاً ويمضي إلى أقرب مسجد، يقضي حياته هناك بالوضوء وطج ركعات الصلاة؟
أوشك أن يثيرني بعد أن حشرني طرفاً في هذا الموضوع الكريه فقلت لـه:
ـ لا تحاول أن تفسر الأمور على هواك. إن رفضي لا علاقة لـه بالدين.
ـ إذن؟
ـ القضية بالنسبة لي قضية أخلاق.
ـ شكراً.
لا تكن تافهاً. أنا لا أقصد إهانتك. أنت حر بأن تفعل ما تشاء. لكنك لست حراً بأن تلزمني بآرائك ومواقفك. إنني أنظر إلى الموضوع من جهة لا تراها أنت، أنا أكره الانحدار وأريد دائماً أن أصعّد أحلامي ورغباتي.
ـ مع "براءة" طبعاً.
ـ لا تدخل "براءة" في الموضوع أيضاً، كل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أنزل إلى حضيض امرأة تتاجر بجسدها. في كل يوم تنام مع رجل جديد يمتصها ويأكل نضارتها كالجرب.
ـ لقد أصابك هذا الشيخ بعدوى لعينة. الغريب أنك أنت تتحدث عن المتاجرة. ما معنى هذا؟ بشرفي، كلهم يتاجرون، بعضهم يتاجر بأخلاقه, وبعضهم يتاجر بالكلمة, والبعض الآخر يتاجر بالشعب والوطنية, بل إن بعضهم قد تاجر بجثث الشهداء مرة. هل لك أن تفهمني ما معنى هذا؟ هناك فتيات في البيوت التي يسمونها "بيوتاً محصنة" يتاجرن بالعفة والخجل المشين. وهذه واحدة تتاجر بما لديها وماذا بعد؟ إننا لم نخترع هذا العالم، لكننا خُلقنا فيه ولنا رغبات يجب أن نحققها قبل أن نموت، وأنا أريد الآن أن أحقق رغبتي.
تدخل "أحمد" هائجاً:
ـ ولماذا لا تحقق رغباتك عن طريق شريف ومشروع بدلاً من الانغماس في هذه الدناءة؟
سأل "أنور" ببرود:
ـ ماذا تقترح؟
ـ إذا كانت غرائزك حيوانية إلى هذا الحد وتقوم مقام الكرامة، فلماذا
لا تتزوج؟
ـ أتزوج؟ أنا لست تافهاً.
ـ أنت لست تافهاً لكنك ساقط ومريض في نفسك. لم تعد تتبين الأمور بشكل سليم. غرائزك المتوحشة هي التي تسيرك، وهذا العالم أضيق من أن يتسع لرغباتك المنحرفة، ولقد آن لك أن تفكر بإسلوب جديد، أنا أعرفك منذ أيام القرية..
رفع "أنور" إصبعه مشيراً إلى "أحمد" وقال لي:
ـ قل لهذا الشيخ الخرف إنني لا أريد أن أخوض معه نقاشاً عن آرائه ومعتقداته. لقد تعبت من هذه الثرثرة. قل لي أنت فقط، ما هو موقفك؟
ـ لقد قلت لك ويبدو أنك لا تريد أن تفهم. إن امتناعي إلى أن أسباب خاصة بي.
أتريد أن تعرف شيئاً آخر؟ إنني فوق هذا أصاب بالقرف من هؤلاء النساء.
أطلق من بين شفتيه صفيراً عالياً وعلق:
ـ قرف؟ أنت تتحدث عن القرف؟ أين كانت هذه الحساسية عندما كنت تجر "عزيزة" إلى بيتكم في القرية، وتعتصر أنوثتها بيديك؟ لقد كانت تفوح منها رائحة البهائم وتطليها القذارة.
صرخت بوجهه فزعاً:
ـ كفى "أنور". أنت إنسان منحل فعلاً. إن قذارة "عزيزة" كانت رائحة العمل وهي برأيي أفضل بكثير من مفاهيم الطهر والنظافة التي تفهمها أنت وغيرك. إنني أعترض أن تتحول امرأة إلى مزبلة يلقي كل رجل فيها أوساخه. اسمع "أنور". لا فائدة من هذه السفسطة أنت تدرك الموقف جيداً. نحن لا نريد أن تأتي هذه المرأة إلى البيت، لأسباب شخصية بحتة أما زلت مصراً على إحضارها؟
ـ لن أتراجع أبداً. إنني أمارس حريتي الشخصية أيضاً.
ـ ما العمل إذن؟
ـ لماذا لا تذهب أنت و"أحمد" إلى الجحيم طيلة هذه الليلة واتركا
البيت لي؟
دعوني انغمس وحدي فيما تسميانه قذارة. إذهبا إلى أقرب مسجد أو كنيسة وتعبدا. إذهبا إلى الجحيم وافعلا كل ما تريدانه فقط دعوني أفعل ما أريده أنا.
نظرت إلى "أحمد" فأحنى رأسه موافقاً.
قمنا ولبسنا ثيابنا بصمت، وأخذنا بعض الكتب معنا، وقبل أن نخرج
قال أحمد:
ـ هذه أول وآخر مرة؟
ـ بل هذه هي المرة الأولى.
ـ ماذا تقصد؟
ـ أقصد أنك صديقي ولست إلهي أو جلادي.
سحبت "أحمد" من يده إلى الخارج قبل أن يحتد النقاش من جديد بينهما تاركاً البحث في الموضوع إلى وقت آخر يكون النقاء قد عاد إلى نفوسنا التي تعكرت هذا المساء.
حاولت أن أقول شيئاً قبل أن أترك الغرفة لعلي أستطيع التخفيف من حدة التوتر التي خيمت علينا، لعلي أستطيع أن أعيد "أنور" إلى مرحه بدلاً من تركه مهموماً تعيساً، فقلت مبتسماً وأنا أغمز لـه بعيني:
ـ يا ملعون، ستستمتع وحدك.
ـ بل إنني سأدفع المائة ليرة وحدي. يلعن حضارتك..
ثم دفعني إلى الخارج وصفق الباب ورائي حيث مضيت مع "أحمد" نجوب شوارع المدينة حتى تعبنا فمضينا إلى إحدى الحدائق، وجلسنا على مقعد خشبي صامتين.
كيف يحدث هذا؟
إن العالم يسير على رأسه. ما الذي بدّله؟... الحب؟
أبداً. إن الحب لا يفعل هذا. إنه الحقد. "أنور" يحقد على العالم، وأنا أحقد على العالم لكن الفارق بيننا هو أنه اختار، وأنا لا أجد الجرأة على الاختيار أو اتخاذ أي موقف.
إن عدوّي في الداخل لكنه يتميع دائماً، وفي كل مرة يتخذ شكلاً جديداً وملامح جديدة.
التسكع لا يجدي، صرت حمالاً في مرآب الحياة، استأجرني الشتاء ليدلف فوق رأسي، تخربت حياتي وأنا لا أجرؤ على تبديلها. إنني أرممها وأحشوها كذباً ومواقف خطابية ومواعظ.
لأنني لا أريد أن أختار. لأنني أخاف أن أختار فأندم وأظل هكذا ألعن نفسي. أظل بلا بداية ولا نهاية، لا حدود لي، أحمل في أعماقي هذا الظمأ القاتل والتوق الذي لا يُحد للحياة.. أية حياة؟
"أنور" في البيت يرسم منعطفاً جديداً لحياته، لا تهم نوعية الحياة، لقد اختار، و"أحمد" حدد منذ زمن حياته وهو سعيد لذلك كطفل يرى وجهه لأول مرة في المرآة.. وأنا؟ أنا لست حراً، لذلك لا أستطيع أن أختار..
وأستمرُ في التسكع مع "أحمد".. يلفنا خواء الشوارع، ونجتر صمتنا بمرارة إلى زمن لا نعرف متى سينتهي.




الفصل التاسع

عندما عدنا إلى البيت، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، وكان "أنور" يغط في نوم عميق، والغرفة في حالة رهيبة من الفوضى، كأنها كانت ميداناً لصراع بربري، الشراشف والأغطية مكورة، والوسائد مرمية على الأرض، وأعقاب السجاير على الكتب وبينها، وبقايا الطعام على الطاولة وبعض الفواكه وزجاجات الخمر الفارغة.. وجو الغرفة مشبع برائحة الخمر المختلطة برائحة عطر نسائي رخيص.
لم يكن أحد بحاجة إلى كثير من الذكاء ليدرك أن هذه الغرفة كانت منذ ساعات مسرحاً لدعارة رخيصة.
فتح "أحمد" النافذة للتهوية، بينما حملت أنا الصحون وبقايا الطعام إلى المطبخ، ثم نظفنا أرض الغرفة معاً وأعدنا ترتيبها.. ثم استلقى كل منا على سريره هادئاً صامتاً دون أن ينبس بحرف واحد.. ولم تمضِ غير دقائق حتى عاد جو الغرفة طبيعياً، وبدأت نسمات رطبة حنونة تعبث بالستارة فتخترق مسامها هاجمة على وجهي، تدغدغه وتتغلغل في شعري بعفوية لا تُحد. أحسست بنوع من الخدر اللذيذ، أشعلت على إثره لفاقة ثم اضطجعت جيداً على السرير وأغمضت عيني مستسلماً للتعب ولدوامة عاصفة من التفكير.
".... منذ قليل كانت امرأة هنا، لعلها كانت تنام مكاني، عارية كالحقيقة، نهدان نافران وفخذان أبيضان، وشعر أسود كالليل ينساب على بياض السرير، امرأة بلحمها ودمها تنام بين أحضان "أنور" فيروي شبقه وجوعه، ويتلمس بأصابعه كل الحقائق التي تزخم أحلامنا في ليالينا الطويلة.
".. لقد تجرأ على تحقيق ما يحلم به، وما نحلم به، خنق شيئاً ما في صدره وداس على رقابة المجتمع، بينما نحن مازلنا نحلم ونرغب لا نجرؤ على أن نحيا القضايا التي تشغل رؤوسنا. هل صحيح أن القضية، كما قلت أنا، قضية أخلاق؟ ألا أرغب المرأة كما يرغبها "أنور"؟ ما الفائدة من الأخلاق إذن وهي كالسد المنيع أمام رغباتنا؟
كل المتع التي نتوق إليها ونتمنى بكل نجعتنا الوصول إليها تمنعها الأخلاق عنّا، أليست الأخلاق ضد رغبات الإنسان إذن؟ أيهما أفضل أن أكون أخلاقياً يمزقني الحرمان والكبت، أم أعيش رغباتي وأستجيب لأبسط متطلباتي الجسدية؟ وإذا كانت هذه المتطلبات دنسة فلماذا ابتلينا بها وهي أقوى من إرادتنا أحياناً؟
وقعت في فخ السؤال الذي نصبته لنفسي..
رحت أدور في دوامة لا أستطيع الخروج منها، ولم أعرف كيف أبرر الأمر، ولكن لماذا؟
"... إن "أنور" لم يُسِىء إلى أحد، لم يغتصب امرأة. جاءت بكامل وعيها إليه منحته جسدها فمنحها ماله، واحدة بواحدة، ما هي علاقة المجتمع والقيم بهما إذا كان كل منهما راض بما أعطى؟
الشرف؟ من قال إن شرف الإنسان مربوط بملابسه الداخلية؟ لقد اشتهى امرأة فنالها لقاء مبلغ من المال هي التي حددته، إنها عملية تجارية، مقايضة، إذا كنت مقتنعاً بذلك حقاً لماذا صفعت "أنور" بمحاضرتي التافهة عن الأخلاق؟
انتهت اللفافة بين أصابعي وأحسست نارها تلدغني، فأطفأتها وأشعلت واحدة جديدة، وتمنيت في تلك اللحظة أن يقول أحدهما شيئاً لعله يخرجني من نفسي ومن زوبعة التفكير الحاد التي تلفني، لكن الصمت كان يطمس كل شيء، حتى الأصوات الأخرى في المدينة لم تكن تصل إليّ كأنَّ العالم في تلك اللحظة قد مات، كأن ثرثرة الإنسان ما وجدت أصلاً....
".... منذ قليل كانت امرأة هنا، لعلها كانت تنام مكاني، عارية كالحقيقة، نهدان نافران وفخذان أبيضان.. تحسس جسدها الناعم بيديه، ومن خلال نشوة عارمة غابا عن العالم الذي كنت أتسكع على أرصفته. كانت امرأة ساقطة، بتعبير أصح، امرأة لا أخلاقية تسير على طريق خاص شقته ونبشت ترابه بأظافرها.. من الذي أوصلها إلى هذا؟ ليس "أنور" ولا "أحمد" ولا أنا ولا أحد آخر. على الضبط، كلنا مشتركون في حياتها إنها ضحيتنا جميعاً لكنا جبناء، رميناها وهربنا ثم رحنا نحاضر أمامها عن الأخلاق والشرف.. ماذا نستطيع أن نفعل من أجلها الآن؟ إن أحدنا ليس نبياً ولا فيلسوفاً.
الفلسفة؟ ما الذي قدمه هذا القطيع البشري من الفلاسفة منذ أجيال التاريخ الأولى حتى الآن؟ ماذا قدم سوى آراء ممسوخة لم تكتب لها الحياة لأن أحداً ليس مستعداً للقراءة وكل إنسان يعيش فلسفته الخاصة مهما كانت تافهة؟ وماذا بعد؟ إما أن الفلسفة ثرثرة ضحلة لا تستطيع أن تبني جسر خلاص لذبابة صغيرة، أو أن المجتمع، منذ وجد، وهو غارق في الوحل يعوم فوق مستنقع غرائزه وأهوائه الشخصية."
انطفأت اللفافة من جديد. فالتفت أبحث عن علبة اللفائف عندما اصطدمت عيناي "بأحمد" مرتمياً على السرير يحدق بالسقف بشكل جامد لا حس فيه.. كأنه صنم.
".... ترى ، ماذا يقول الدين في هذه العلاقات؟ وإلى أي حد يسمح لنا الله بالاستجابة إلى اندفاعاتنا التي تسبق إرادتنا وتفكيرنا؟
بصراحة. لم أكن متديناً ذلك التدين العميق الذي يجعلني مسمّراً على صليب العبادة. ولا أملك غير هذه الحياة التي أعيشها، دون حرص عليها والتي لم أخير يوم منحت لي.
فجأة فكرت بسرور، أنا لم أُخيّر، فأنا لست مسؤولاً. وكيف أكون مسؤولاً عن حياة لم أطلبها وعن قيم ومثل لم أشارك بوضعها ولم يأخذ أحد رأيي بها؟
ورغم هذه العنجهية فأنا أؤمن أن الله موجود وهذا الكون لم يوجد صدفة. هناك قدرة خالقة. هذا كل شيء. أما بقية الأمور فلم أكن شديد الحماس للتفكير بها. ولكن، أيكون "أحمد" على صواب بأن هذه العلاقات دنسة... وأنها حرام علينا لأنها تلوث إنسانيتنا؟
لماذا لم يخلق الإنسان بلا غرائز؟
أحسست أنني وقعت في فخ السؤال مرة أخرى.
إذا كنا قد خُلقنا لاختبار قدرتنا على الصمود، فلماذا لا نُسَّور بصحوات خارجية؟ لماذا نُترك هكذا، حياتنا رعب لا ينتهي من شيء لا نعرفه. إن هذا العالم على كبره واتساعه لم يمنحنا شيئاً، لا نملك حجراً واحداً فيه. هذه قسوة لا إنسانية، فهل نعاني بعدها قسوة أخرى؟
هل نُعاقب لأننا حاولنا تلمس سعادة صغيرة، واشترينا لحظات دافئة تُبعد عنا صقيع العالم؟
عذابنا حاد ومضن. نأكل لقمتنا السوداء مغمسة بعرقنا المالح، وننحشر كالحيوانات في غرفة يملؤها الذل.
بدأت أشعر بالضجر فجأة.
تطلعت من النافذة التي تمتصُ موجات رقيقة من النسيم الرطب، وألقيت نظري إلى متاهات بعيدة، تجاوزت المدينة، إلى بيادر نجوم مرشوشة عند الأفق تتلألأ بسكون سادر.
لماذا لم أخلق نجمة؟
لماذا لا أكون غيمة بيضاء تدور العالم في الصيف؟ لماذا؟
"..... إن ليالٍ كثيرة ننام فيها ولا نتبلغ إلا من الصبر والجوع، إن ما نأخذه من رواتب لا يكاد يكفي ثمناً لثيابنا المتواضعة، ولقمتنا مغمسة بالملح، وهذه الغرفة التي تمتص شبابنا، رغم أننا نعمل طوال الشهر بينما غيرنا ينفق على أهوائه بسخاء دنيء، أكثر بكثير مما تصل إليه أحلامنا. حياتنا ضائعة بين مسافات الحياة التي لا توصل الإنسان إلى مرفأ خلاص. إننا لا نملك مكاناً في هذا العالم، وليس لنا غير رغبات مكبوتة، وشهوات عارمة إلى أشياء لا ظلَّ لها على الأرض.
هرمنا. نفذت طاقاتنا واهترأت أعصابنا. نحن موؤودون. الحب مات قبل أن يولد.
الأحلام البنفسجية التي زرعناها لم تورق أبداً. تحطمت عربة الحياة ومات حصانها الأصيل هذا ليس عدلاً. ولا يوجد عدل في الحياة... لا يوجد عدل.. لا يوجد عدل..
رفع "أحمد" رأسه وسألني بدهشة:
ـ لماذا تصرخ هكذا؟ عن أي عدل تتحدث؟
هدأت قليلاً، وأغمضت عينيّ ثم أعلنت مستسلماً:
ـ لا شيء. كنت أحلم.
تململ "أنور" فوق سريره ثم فتح عينيه ببطء ونظر إلينا ولم يلبث أن تثاءب وابتسم بعفوية:
ـ متى عدتما؟
لم يجب أحدنا بحرف. رحنا ننظر إليه وهو غارق في سريره بوداعة طفل بريء نام على هدهدات نغم وكان يبتسم كأنما رفتّ على جفنيه أحلام ملائكية لعوب.
أحسست أنني مثقل بكآبة لزجة، أتمنى لو سحقتها قبل أن تخرج سؤالاً تافهاً مَزقَّ هدوء الغرفة.
ـ "أنور". قل لي ماذا جنيت من هذا كله؟
فتح عينيه ثانية بتثاقل ومط شفته السفلى ثم قال باستياء:
ـ أقسم بشرفي إن هذا العالم مليء بالبهائم. يا رجل، أليس لديك غير هذا السؤال التافه؟
اسألني عن أحاسيسي وأنا أحتضن امرأة حقيقية لأول مرة في حياتي. اسألني عن نوعية الحياة التي يمكن أن نعيشها غير العمل، والجامعة، وتقييم العمل كأنه ملك لآبائنا.
انفجر "أحمد" بعنف مفاجئ لم أكن أنتظره، وقال:
ـ أجل هناك أشياء غير العمل والجامعة وتقييم العالم. هناك أشياء أكبر منك ومن وجودك كله، لو تستطيع الارتفاع إلى مستواها لأصبحت إنساناً آخر.
نخر "أنور" من أنفه وسأل ساخراً:
ـ أية أشياء هذه، فضيلة الشيخ؟
رد "أحمد" مؤنباً وصوته ما زال عنيفاً:
ـ كل شيء ينقذك من هذا المستنقع الذي تعيش فيه، مستنقع غرائزك الدنسة. الغريب أنك تعمل كل شيء يستلّ منك إنسانيتك، أنت تسكر مثلاً، لماذا؟ إن شيئاً يمزقك من داخل فتهرب من الحقيقة بهذا الشكل الجبان، تغرق في كؤوس الخمر وتدير ظهرك إلى كل شيء لا تقل إنك تبحث عن الخلاص. الخلاص من أي شيء؟ إن فقرنا ليس عاراً. العار أن ترتمي بهذا الشكل المهين لكبريائك ورجولتك. لقد جئنا هنا من أجل أن نصمد، ونبدأ من منطلق جديد، وها أنت تتهاوى وأنت.. أنت، بكل بساطة، تخيب أملي فيك.
تربع "أنور" في سريره وانطلق يصفق بشكل حاد ثم أعلن:
ـ هذا التصفيق الحاد من أجل خطبتك العصماء. يا رجل إن مواهبك ضائعة في هذه المدينة أنت كالوردة في مرحاض.
ثم التفت إليّ وسألني ببروده المعهود:
ـ عن أي شيء كان يحاضر هذا الأجدب؟
ضرب "أحمد" رجل السرير الحديدية بقبضة يده وصرخ:
ـ إنني أتحدث عنك أنت. لقد جعلت هذا البيت مزبلة، وحولته بساعات إلى خمارة رخيصة. أنت إنسان تافه. عرضت حبك على أكثر من عشرين فتاة في الجامعة باندفاع طائش. وقد فشلت عشرين مرة، وبدلاً أن تفتش عن السبب الذي جعلك مرفوضاً من هؤلاء الفتيات على اختلاف نزعاتهن وميولهن، رحت ترتمي في أحضان الساقطات. لماذا؟
سكت "أحمد" قليلاً ثم تابع وقد هدأت حدة صوته:
ـ عندما تترك استهتارك وتغادر نفسك هذه، ستصبح محبوباً من الجميع. إن الخمرة وسيلة نسيان وقتي، لكنها ليست وسيلة ناجعة وليست حلاً إيجابياً لأية مشكلة. أتريد رأيي؟ الخمرة ملجأ للجبناء، يلجؤون إليها من أجل تخثر ذهني لا قيمة لـه لأنهم ينسون معه رجولتهم.
أحسست بتفاهة اللحظات التي نعيشها، وراح رأسي يدور من النعاس، ما قيمة كل هذه الثرثرة؟ ثمة لحظات يكون الكلام فيها لا معنى لـه. لكن "أحمد" تابع:
ـ أنا شخصياً أحس مرارة الفقر وأحس أنني متشرد هنا ولا مكان لي. لكنني سأصمد. يجب أن نصمد كلنا، وأن نفسح مكاناً لنا بين الآخرين، يجب أن نجد هذا المكان بصمودنا وألا نترك هذه المدينة تهزمنا، لسنا من أفسد الناس هنا، لكننا لن نترك هذه المدينة تعبث بنا.
نهض "أنور" عن سريره، دون أن يبدو عليه أنه أُثير، وصب لنفسه كأساً من الماء، شربه، وراح يلحس حافة الكأس بلسانه، ثم التفت إلى "أحمد" وراح يتفرس بعينيه كأنه يود الولوج إلى أعمق أعماقه:
ـ منذ جئنا هذه المدينة وأنت تخطط لنا حياتنا، وترسم أبعادها، كأننا مرسومون وفق مزاجك الخاص، وقبل أن نجيء هنا وأنت تضع للحياة احتمالات رومانتيكية كأنك وحدك تفهم سر الحياة، أو كأننا ملزمون بفهم سرها.. هل لك أن تقول لي لماذا؟ أنا أملك حياتي ومن حقي أن أعيش كل لحظة فيها كما أريد أنا لا كما تريد أنت. أريد أن أكون بطلاً أو قذراً. لا يهم، لكنني لن أظل في الوسط مثلك، سأعيشها حتى أحقق ذلك أما الجوانب النبيلة التي تحشو بها رأسك، فأنا أعلم أن أجيالاً كثيرة قد أنفقت عمرها عبثاً في فهم أشيائك النبيلة هذه والتي تتشدق بها بكل بساطة أنا أريد أن أعيش حياتي لا أن أفلسفها. أنا أقرأ الفلسفة للتسلية، وحتى لا أصاب بالضجر ولأن الجامعة لم تقبلني إلا في هذا القسم. ولكن ليس لدي وقت أضيعه في التفكير بالأمور إلى أبعد من سطحها، وليس لدي لحظة أضيعها في التفكير بآرائك الشخصية، لأنها لا تساوي في عالم الواقع شيئاً ولا تستطيع أن تلزمني بها.
في هذه اللحظة تذكر "أنور" شيئاً فمد يده تحت الوسادة ثم أخرج صورة امرأة عارية الكتفين، تطلع إليها برهة ومرر أصابعه فوقها بحذر فائق ثم أعلن:
ـ أنا أحب الحياة عندما تلبي حاجاتي، ولن أرضخ أبداً لأي مانع أستطيع قهره.
أجابه "أحمد" متحدياً:
ـ أنت تلبي حاجاتك على حساب الناس وحساب قيمهم.
سأل أنور مستغرباً:
ـ أية قيم هذه؟ عندما وضعوها لم يأخذوا رأيي بها، وهي بالتالي لا تعجبني، قل لي ألست حراً؟
ـ إن حريتك تمارسها الآن بشكل طفيلي على حساب الحقيقة والمجتمع والدين.
ثار "أنور" وهو يرد:
ـ الحقيقة التي أؤمن بها هي أنني موجود. أما الدين الذي تحمل أنت رايته ولا تعي شيئاً من حقيقته، فقد ألصق بي منذ ولادتي ولم ينتظر أحد ليأخذ رأيي به، ثم... اسمع أنا لا أريد أن أخوض نقاشاً معك عن الدين. أما المجتمع "وبصق على الأرض" فإنني أنفصل عنه بكل بساطة ولا أظن أن الأمر يحتاج إلى معجزات.
تساءل "أحمد" ساخراً:
ـ لماذا تعيش وسط هذا المجتمع؟ لماذا لا تهاجر إلى غابة أو صحراء وتزرع فيها قيمك ومثلك؟
ـ إن قيمي لا علاقة لها بأحد. إنها ملتصقة بي وتولد مني. في يوم ما سأجد إنساناً يؤمن بما أؤمن به وعندها سنشكل نواة مجتمع جديد يمزق أكفانه وتعاويذه.
توقف "أنور" من جديد ليشعل لفافة، ويبدو أن الفكرة الأخيرة قد أعجبته فتلمظ وتابع:
ـ هكذا بدأت كل مجتمعات العالم. من إيمان فرد أولاً، ثم إيمان آخر.. وصارت تقليداً تتوارثه الأجيال دون محاكمة، أو شجاعة على الجدل.
ثم رفع إصبعه بوجه "أحمد" فجأة وهدر:
ـ إن الذين وضعوا قيم مجتمعك، تشدقوا بأشياء كثيرة أنا اليوم أقف ضدها وأقول عكسها.
هات فضيلة الشيخ، برهن لي أن هؤلاء الزبانية على حق وأنني مخطئ خطأ مطلقاً. اسمع لقد آن الأوان لأن نفكر برؤوسنا لا برؤوسهم. حان الوقت لأن نبدع لا أن نقلد.
توقعت أن يرد "أحمد" فوراً، لكن الصمت خيم علينا وأحاطنا بلزوجة مضنية. في تلك اللحظة لمحت من النافذة نجمة شقراء تهوي ساحبة وراءها ذيلها الملتهب "وما زالت المركبة الفضائية التي حطت على سطح القمر تعمل بانتظام وترسل إلى الأرض صوراً واضحة، كما أن أجهزتها الأوتوماتكية، تحفر سطح القمر وتحلل تربته، لتحدد نوعية هذه التربة، ومتانتها وكمية الأوكسجين فيها، ليتمكن العلماء بعد ذلك من وضع التقديرات النهائية لحياة الإنسان على القمر"
كنت أتمنى أن يستمر الصمت، لكن "أحمد" قال فجأة:
ـ إن النقاش معك يقود إلى نفس النتيجة التي يصل إليها رجل يبصق عكس الريح. إن أمثالك مستعدون لأن يلفظوا كل مبادئهم المهترئة عند أول اصطدام بالواقع. أنا واثق أنك سترتد إلى نفسك وبراءتك عندما تنمي أفكارك وتنميّ حبك لله والناس. أنت لا تحتقر الناس كما تدعي لكنك تحقد عليهم، تحقد على كل إنسان يملك أشياء تتمناها. إن تجربة حب صحيح، وهذا أضعف الإيمان، كافية لأن تقتلعك من جذورك العفنة وتعيد خلقك من جديد، صدقني، لا تضحك، إن الحب إيمان خالص. جرّب، أنت إنسان بلا مأساة، وهذه مأساتك. إن خيالك الخصب يوحي لك أن هذا العالم يجب أن يدور من أجلك وحدك.
ضحك "أنور" و تساءل ساخراً:
ـ هل تقترح أن ندعو الناس إلى ممارسة الجوع والفقر والتشرد؟ أم نعلمهم معنى الحياة في مدينة غريبة، ومعنى أن يكون الإنسان غريباً ومشرداً كشيطان تطارده لعنة؟
ـ لا تكن أحمق. أنا لا أعني شيئاً من هذا. أريد أن تفهم أنك لست متحرراً. أنت إنسان منحل والفارق كبير بين التحرر والانحلال.
ـ ليكن ذلك. أنا منحل. منحل من قيمك وقيم أمثالك. ألا يعني هذا أنني تحررت من أطواقكم الذهبية. خذوا أطواقكم اللعينة، لتكن من ذهب أو قمامة، لا يهمني فقط خذوها ودعوني.
دعوني ألا تفهم معنى هذا؟
سكت "أحمد". ونهضتُ من مكاني إلى النافذة ثم سرحت عبر مسافات
لا حدود لها، تجثم فوق صدر المدينة المليئة بالجثث النائمة والنور المخنوق.
الناس ينامون ببساطة، ونحن نتحدث عن اليقظة.
الناس يعيشون الحياة، ونحن نتحدث عن الحياة. هل لهذا أية قيمة؟
هوت نجمة أخرى ساحبة ذيلها الأشقر. النجوم تنتحر لأن أحداً لا يرى جمالها. الليل معبد جمال والناس ينامون. لم يكن لدي ما أقوله مع "أنور" أو ضده لكنني أرى اليوم أشياء لم أرها من قبل. أشياء لا أدري كنُهها ولا أعرف كيف أصفها، هلامية تنحشر في رأسي وتتميع دون أن تتخذ شكلاً معيناً ودون أن تقف عند حد، إنها عذابي الجديد، تطمس جميع أبعادي ومعالمي فلا أرى العالم إلا من خلالها. العالم؟ أنا لا أحب هذا العالم. لكنني أكره أن أرى الربيع مسحوقاً تحت أقدام الأغبياء.
ليس ثمة عدل في هذا العالم، والإنسان يتعذب كثيراً حتى يعيش. إن حياتنا توشك أن تتحول إلى مهزلة من المسؤول عن هذا؟
فجأة أحسست أن "أنور" قد وقف إلى جانبي وراح يحدق من النافذة إلى لا شيء، ولم يلبث أن تمتم عدة كلمات لم أفهم منها شيئاً ثم أطلق شتيمة بذيئة وصرخ:
ـ أتمنى لو أنني أملك قدرة خارقة لأزلزل هذه المدينة وأقلبها رأساً على عقب، ثم أحرثها وأزرع أرضها شعيراً.
نظرت إليه وهو يشعل لفافته باضطراب ظاهر. وعندما التقت عيناي بعينيه المتقدتين، لمحت فيهما لمعاناً غريباً، كأن شيئاً جديداً قد وُلد على أحداقهما. سألني دون أن ينظر إليّ: أنت لا تفعل شيئاً. تستمع وتصمت. لقد أخرجني هذا المسطول من هدوئي وأنت تتفرج علينا. هل بدأت تحصي عليّ حركاتي وسكناتي كما يفعل هو؟
هززت رأسي كأنني أنفض عنه شيئاً ما وأعلنت:
ـ في جميع مراحل دراستي كنت أغبى تلميذ في الحساب.
ـ ماذا تعني؟
ـ أعني أنني لست إنساناً حسابياً كما تظن. هذه المرحلة تجاوزتها منذ زمن بعيد، عندما أريد أن أفعل شيئاً، وأحسست برغبة فيه، فإلى الجحيم كل النتائج التي أصل إليها. إذا كان ما فعلته أنت من قناعة فلا تهتم بآراء الآخرين، وإذا كان لا بد من صحوة ما فيجب أن تولد هذه الصحوة منك، من داخل لا من خارج.
لمحت شيئاً كالفرحة في عيني "أنور" وكثيراً من الاستياء على وجه "أحمد" لكنني لم أهتم بذلك. كنت أحس الحاجة لأن أقول شيئاً أو انفجر:
ـ كنت أستمع إليكما دون أن أقول شيئاً لأن الموضوع لا يعنيني. كلاكما كان يدافع عن وجهة نظر أنا شخصياً لا أؤمن بها، أما لماذا لا أقول شيئاً فلأنني لست واعظاً، ولا أريد أن أكونه أريد فقط أن أرى الطريق بعينيّ لا بعيون الآخرين وكلاكما يرى الأمور بعيني رأسه وأعتقد أن ثرثرتكما كانت غير مجدية.
ابتسم "أنور" وكانت هذه أول بسمة في هذا الليل المضني وقال:
ـ لو أنك حلقت ذقنك اليوم لقبلتك إعجاباً. أنا أعرفك جيداً. أنت رائع وبعيد عن حقارة الآخرين. أنت تفهم الموضوع جيداً، إن السأم يمزقنا وفضيلة الشيخ يريدني أن أنهار فوق هذا السأم، لكنني لن أفعل . إن هذا لا يجدي شيئاً طالما أن العمر ينزلق نحو العدم. هل تعتقد أنني ابتعد كثيراً؟
قلت بضجر ويأس:
ـ أنت ما زلت خارج المشكلة الحقيقية. أنا ألوم "أحمد" لأنه يريد أن يطبع سلوكك بطابعه. لكنني ألومك أيضاً لأنك تريد أن تحل مشاكلك النفسية بمشاكل أخرى، هذا ليس حلاً تخرج من الساقية إلى البحر.
ـ ماذا تريدني أن أفعل؟
ـ لو كنت أدري لوضعت حلاً لقلقي. مشكلتنا تنبع من أننا محرمون من كل شيء.
الحرمان يولد الفجور والكفر. عندما كنا صغاراً علمونا أن الله يعطي من يشاء ولما كبرنا أدركنا أننا لم نكن من القافلة التي شاء أن يعطيها، لماذا؟
عندما كنا صغاراً زرعوا في عقولنا حكمة تقول إن رزق الإنسان في السماء، وإن كل ما نشتهيه حرام علينا وعندما كبرنا قرأنا "زرادشت، وفرويد، وداروين، ودوستويفسكي"
فأدركنا، متأخرين جداً، أنه علينا ألا ننتظر من الحياة شيئاً ويجب أن نأخذ كل شيء منها قسراً.
سكت بُرهة ثم التفت إلى "أحمد" وقلت:
ـ عندما شببنا في القرية كما نلمس الانحطاط الذي هوت إليه إنسانية الناس هناك. كنا نراهم وهم يكتبون الحجب التي تحمي الإنسان من الجن، وكيف يحرقون البخور للأولياء، ويعالجون المرضى بالنار. كنا نرى كيف تذبح المرأة كالبهيمة إذا تجرأت وأحبت إنساناً، وكيف كانوا يحرمون عليها الخروج إلى الشمس إلا إذا كانت ذاهبة للعمل في الحقل أو لتجمع روث الدواب وعندما كبرنا وجئنا هنا. لم يختلف الأمر كثيراً، السادة الشعراء يتغزلون بالريف وبصبايا الريف أليس هذا مضحكاً؟ بماذا تريدني أن أؤمن؟ النساء في المدينة صفقن كثيراً لـ "تيرشكوفا" عندما انطلقت بمركبتها إلى الفضاء وحطمت أسطورة "ضعف المرأة"، لكنهن كنّ يصفقن وهن إما محجبات أو خائفات من رفع أصواتهن. كيف أستطيع أن أفهم الأمور بعد هذا؟
مللت أنا أيضاً. إن حياتنا وتطلعاتنا كلها لا تساوي حذاء عتيقاً. سأخرج الآن ولا أستطيع النوم.
وخرجت من الغرفة إلى الشارع الصامت. أين يذهب كل هؤلاء الناس الذين يملؤون الشوارع نهاراً؟ أين السيارات التي تعوي طوال النهار كأن شيطاناً يتنفس بها؟ حتى الدراجات وطقطقتها المرعبة اختفت كأنها لم توجد أصلاً. القطار الحديدي الذي ينزلق كالوحش فوق القضبان السوداء ابتلعته هذه المدينة النائمة لم يكن ثمة مخلوق مستيقظ، إلا أنا والنهر الذي يشق صلب المدينة منذ الأزل. هذه المدينة الآن بادية مقفرة. لا يهم أنا أبصق على الحضارة ومخترعاتها. تذكرت "جورجيو" وساعته الخامسة والعشرين..
لقد ماتت الأرانب البيضاء حقاً. هذا هو الزمان الأخير وهذه لحظة الاحتضار.
ماتت الأرانب البيضاء عبثاً، ولم يعد ثمة من يكتب عروض حال إلى الأجيال القادمة.
تعبت من السير فجلست على درج رخامي لإحدى البنايات الجميلة. أشعلت آخر لفافة معي ورحت أحدق بالبناية مذهولاً..
كانت بناية أحد المطاعم الفخمة خارج المدينة. كيف وصلت هنا ولم أشعر؟


الفصل العاشر

بعد إلحاح استمر أسبوعاً، قبلت "براءة" دعوتي لها إلى الغداء. وحددت الساعة الثانية موعداً لاجتماعنا في أحد المطاعم المنتشرة في شارع متفرع من شارع أبي رمانة، وصلتُ أنا في الثانية تماماً، وتأخرت هي نصف ساعة، فاعتذرت بكلمات عابرة. لم أكن مهتماً لتأخرها، بقدر ما كنت مهتماًٍ بالفرح الذي يولد في أعصابي وصدري شيئاً فشيئاً، وأنا أراها أمامي بكل روعتها وسحرها، جديلة شوق وينبوع حنان ثرّ يحقن أوردتي بسعادة طاغيّة. سألتها بعد دقائق من الترحيب:
ـ ماذا تشربين؟
ـ أشرب؟ هل أنا مدعوة إلى غداء أم إلى سكرة؟
ساءني رفضها فقلت قبل أن ينفجر هذا الاستياء:
ـ كما تريدين. هل أستطيع أن أطلب لنفسي كأساً قبل الغذاء؟
ـ أتريد أن تسكر؟
ـ لماذا تستعملين كلمات لها مدلولات بشعة؟ عندما أشرب كأساً لا يعني هذا أنني سأسكر!
ـ المهم إنك تريد أن تشرب الآن؟
ـ إلا إذا كان لديك أي مانع.
ـ ليس هذا مهما الآن. هل تشرب دائماً؟.
ـ لست مدمناً. ولكن لا باس من كأس بين يوم وآخر. إنها تقتل الهموم وأنا عتال هموم.
وضحكتُ، محاولاً إضفاء بعض المرح على لقائنا، لكنها عبست وقالت بنزق لم أعهده فيها من قبل:
ـ من المؤسف أنك تشرب. لم أكن أتوقع هذا أبداً.
شعرت بالارتباك لأنني لم أفهم سبباً لتصرفها. ذات يوم تحدثني عن التحدي، والثورة وعن الإنسان الذي يقيّم أخلاقه بمعزل عن الآخرين، ما الذي حدث الآن؟ لم أشأ أن أفتح مجالاً لجدل عقيم يثير ألف زوبعة في رأسي فقلت مستسلماً:
ـ ليكن ما تريدين. لن أشرب طالما أن هذا يضايقك.
قلت هذا وأنا أحس أنني تنازلت عن شيء ليس من حقها أن تطالبني به، وهذا أول موقف ضعف أبديه أمامها. ويبدو أن هذا لم يكن كافياً فقالت:
ـ أريدك أن تعدني أنك لن تشرب بعد اليوم أبداً.
ـ لا أظن أنني أستطيع ذلك، إلا إذا كنت تريدين مني أن أكذب عليك، لماذا لا تريدين أن أشرب؟
أجابت بحزن واضح:
ـ إن الخمر لا يتفق مع الأخلاق العالمية الواجب توافرها في الإنسان السويّ.
نفضت رأسي مستاء لأبعد ألف سؤال بدأ ينحشر فيه بإلحاح حاد، ثم رمقتها بنظرة فاترة وقلت:
ـ "براءة" يخيل إليّ أنني لا أعرفك أبداً وأود من كل جوارحي أن
أعرفك أكثر.
رفعت أهدابها السوداء الطويلة، ورشقتني بنظرة هادئة. لم تقل شيئاً وراحت أصابعها البضّة تعبث بعلبة الثقاب المرمية أمامها بعد أن أطرقت برأسها مرة ثانية.
وكان فرصة ثانية لي..
رحت أعبّ بعيني ملامحها الدافئة السمراء. إن أروع ما فيها شعرها المبعثر بوحشية لذيذة تتأرجح خصلاته المعبأة بشوق ذبيح، فوق جبينها الذي أحرقته الشمس فصار كلون حبة قهوة محروقة. كم تمنيت أن أريح خدي على هذا الجبين المدلل.
شعرت "براءة" بي وأنا ألتهمها بنظراتي، فرفعت وجهها الصامت إليّ وارتعشت شفتاها الكرزيتان الآسرتان بسؤال:
ـ بماذا تفكر؟
ـ إذا شئت الدقة فأنا أفكر بكل شيء.
ـ مثلاً؟
ـ إن الله الذي خلقك هو نفسه الذي خلق سكان قريتنا.
ـ لم أفهم.
ـ أنت سعيدة بلا شك، يجب ألا نفهم، إذا أردنا أن نعيش سعداء.
ـ ما هذه المعميات؟ سألتك سؤالاً واضحاً فبدأت تتحدث بالرموز.
ـ ليست رموزاً ولا ألغازاً. في الحياة أشياء كثيرة يجب ألا نفهمها. إذا رأيناها على حقيقتها تسو‍د كل زوايا الحياة في عيوننا ويصبح كل شيء تافهاً وسطحياً.
ـ ما زلت لا أفهم.
ـ في القرية التي جئت منها، كل شيء قد مات. الأشياء ماتت والناس منخورون. رجالنا هناك هم "الرجال الجوف". كنا مجوفين هناك وأوشك الموت أن يطالنا. فهربنا وانطلقنا على سجيتنا نبحث عن حياة جديدة، حياة لا يموت فيها الإنسان كل يوم، ووصلنا هنا.
الأمور واحدة والناس لا يتغيرون. المرض واحد والمأساة لا تتغير. هناك تظل المأساة جافة وهنا يستطيعون تلوينها بكثير من النفاق. الناس هنا لا يملون الحديث عن الأخلاق.
والعجيب "براءة" أن للأخلاق لدى كل إنسان عرفاً خاصاً.
هنا يثور الجسد فتنهزم الأخلاق.
وهناك تثور الكرامة فيهاجر الإنسان أو يموت.
كانت "براءة" تتطلع إلي جاحظة العينين كأن ما تسمعه كان إلحاداً لكنني تابعت:
ـ لقد جئنا هنا نفجّر طموحنا بعد أن كسرنا القيود التي تشدنا إلى كل شيء، حتى إلى أرضنا. قطعنا كل الجذور وأحرقنا المراكب، لا عودة بعد اليوم، لقد بقيت أخلاقنا بكراً مغلفة بالنقاء لكنني لا أعرف إلى متى يستمر هذا. "براءة" قولي لي إلى أي حد تتعلقين بالفضيلة؟
كان السؤال مفاجئاً فأجابت بسرعة:
ـ إلى أي حد؟ أعتقد أن التعلق بالفضيلة لا حد لـه.
ـ أنا لا أعني هذا. أود أن أعرف أين تنتهي حدودك أنت بالنسبة لها؟
تحسست خدها الناعم بيدها وقررت بشيء من الحيرة:
ـ لا أعلم. لم أتعرض بعد لتجربة عنيفة يحتك فيها إيماني بالفضيلة بالواقع. لكنني أعتقد، واعتقادي هذا بلا تجربة، أنني أؤمن بالفضيلة إلى الحد الذي تبدأ فيه بتقييدي كإنسانة تريد أن تحيا حياتها وأفكارها.
ـ أنت تعترفين إذن أن الفضيلة تقيّد حياة الإنسان وأفكاره؟
ـ ليس بالضبط. إنها لا تقيده بالمعنى الحرفي للكلمة، إنها، برأيي، تعيده إلى نفسه كلما أوشك على السقوط. إن الخروج أحياناً عما تعارف عليه الناس أنه فضيلة لا يسيء إلى الإنسان. يجب أن نفكر أحياناً بمعزل عن العرف والعادة. إن أبسط مبادئ الفضيلة مثلاً، تمنعني من الكذب على أهلي، لأنني ادعيت أنني ذاهبة إلى زيارة صديقتي حتى أتمكن من الحضور إلى موعدي معك.
وسكتت قليلاً ثم أعلنت باسمة:
ـ أتدري؟ هذه أول مرة أكذب فيها على أهلي. وهذا من أجلك.
أحسست بهزة داخلية. تأملت هذه الجميلة التي تجلس إلى جانبي ورأسها مليء بالتناقضات تلوك قشور فضيلة يعبدها المجتمع عبادة وثنية. تذكرت القرية وشجرة الصنوبر أمام بيتنا وشجرة التين الهرمة عند حدود البيدر الأخضر. ترى أما تزال أغصانها متشابكة وكل غصن يلقي أعباءه على الآخر، والفضاء فارغ من أي شيء كأيام امرأة ثكلى؟
لا فائدة من أي شيء على الإطلاق. قلت وأنا أحاول الهرب من غيظ يوشك أن ينفجر في صدري فيفلت من يدي كل شيء.
ـ إن ما تتحدثين عنه "براءة" عادة وليس فضيلة، عادة من أسخف ما يؤمن به المجتمع.
لقد قلت لي مرة إنك سيدة نفسك، لماذا لا تكون لك، إذن، فضيلتك الخاصة، أعني لماذا لا ترسمين لنفسك حدوداً جديدة للفضيلة بشكل تتكيف مع حياتك؟ ألم يحن الوقت لأن نكفر بالتقليد وتبنّي آراء الآخرين؟ آن الأوان لأن نشق طريقاً بوعينا وأظافرنا. يجب أن نعرف معنى النصر.
قالت مترددة:
ـ إنني أخاف أهوائي. ولذلك فإني أخضعها دائماً لضميري الذي لا أظنه خرج عن الطريق السوي بعد.
ـ المشكلة دوماً أن أهواءنا عبدة للضمير. لماذا لا يكون الضمير مرة عبداً لهذه الأهواء؟
أجابت وهي تحدق بي:
ـ أنت تريد أن تقلب كل شيء دفعة واحدة. ألا ترى أن ثمة أشياء يجب أن نقف عندها؟
ـ على العكس. إن الأشياء التي تعوّدنا أن نقف عندها هي وحدها التي يجب أن نعيد النظر فيها وندمرها إذا اقتضى الأمر ذلك. قولي لي من الذي وضع لنا الضمير؟
أليس الضمير عرفاً متوارثاً؟ وما هي فائدته إذا كان لا يفعل شيئاً سوى أن يقيدنا ويحرمنا؟
من أجل أي شيء يجب أن نتحمل كل هذا؟ إذا كان من أجل عالم آخر من قال إنني سأصل إليه، أم من أجل سعادة تأتي بعد الموت؟ وحياتنا هذه، ماذا نفعل بها "براءة"؟
رفعت رأسها وقالت مؤنبة:
ـ إذن هذا ما تريده، عالم بلا ضمير ولا فضائل؟
ـ أنا لم أقل شيئاً من هذا. أعني علينا أن نتعاون لخلق فضائل جديدة تلبي حاجات الناس لا أن تحبسهم في قواقع حلزونية. يجب أن نجد فضائل تقف مع الإنسان لا ضده وتساعده بالتالي على صقل حسه وبلورة مشاعره لإيجاد معنى آخر للضمير. نريد ضميراً يحث الإنسان على الحياة. قولي لي "براءة"، كيف أؤمن بفضائل تمنعك من الجلوس معي، ماذا نفعل للفضيلة الآن وكيف نسيء للضمير؟
لم تجب على سؤالي. ما زالت تعبث بعلبة الثقاب وما زالت أصابعها البضة مرمية أمامي خيوط حرير رهيّ... فقلت متابعاً وأنا أحس أن قلبي قد قفز على لساني:
ـ نحن نحس دفق الحياة في أعماقنا، نريد أن نستسلم للظل والنسيم بعد أن أتعبنا الهجير والظمأ. حبنا هذا استسلام لسعادة تولد في صدرينا. هل في هذا إساءة لأية فضيلة، أو أي ضمير؟ أنا شخصياً لا أؤمن بعرف الناس للضمير لأن هذا العرف يقف حائلاً بيني وبين توقي للحياة. منذ قليل كنت تتحدثين عن الفضيلة وأنا لا أعرف من الذي وضع مبادئها، لا أعرف لماذا يكثر الناس من الحديث عن الأخلاق... لكنني أعرف أنني أنام جائعاً، وأنني مسحوق كحشرة بينما غيري يملك الملايين وقد جمعها بكل الوسائل التي تتعارض مع ما تسميه فضيلة. لماذا لا يحدثني أحد عن الأخلاق والضمير عندما أقترّ من ثمن طعامي لأجمع أجرة الغرفة التي أسكنها مع اثنين من أصدقائي ثم ندفع ما لنا لرجل أميّ يعرف كيف يبدد أمواله في ملاهي المدينة. لماذا لا ترسل لي الفضيلة معطفاً عندما تصطك أسناني من البرد؟ هل تريدين رأيي بعد هذا؟ أنا أعتقد أن الأخلاق، والفضيلة، والضمير وكل هذه الكلمات الممطوطة، ليست غير مخدر يحقنون به البسطاء والفقراء أمثالي لنظل في غيبوبة بلهاء، بينما تظل الحياة وقفاً على الذين يعيشون ويريدون من الآخرين أن يتفرجوا عليهم ويأخذوا الحكم من أفواههم.
مطت "براءة" شفتها السفلى وهي تعصر جبهتها ثم أعلنت:
ـ أنت إنسان ثوري خطير.
ـ دعيك من هذه التسميات الكبيرة. أنا إنسان يعيش الحياة كما يفهمها. إنني، بصراحة، لا أؤمن بالمبادئ التي يضعها غيري عندما تكون ضدي وضد إرادتي.
تطلعت إليّ قليلاً وتساءلت:
ـ كيف استطعت أن تحبني من خلال هذه العاصفة التي تعيش فيها باستمرار.؟
لم أكن أنتظر السؤال حقاً. لكنني أجبت دون زيف:
ـ لقد أحببتك لأنني لمحت فيك شيئاً مني ومن حساسيتي. أحببتك لأنني أريدك إنسانة تحمل في صدرها مجد الحياة وتمحي من وجودها عفونات المجتمع وعقد الأجيال الميتة.
ضحكت بصفاء وقالت بعد أن أسندت ظهرها إلى المقعد:
ـ لقد بدأت تغازلني.
شعرت بالضيق من سلبيتها فقلت:
ـ أنا لا أغازلك، ولا أعرف كيف أفعل ذلك. وإذا كان ما قلته غزلاً فأنا لا أقول إلا ما أحس به. إنني وحيد وحدة كافرة في مدينة لا قلب لها. ومنذ وصولي إليها وأنا أبحث بكل لهفتي وتشوقي عن فتاة. عن انعكاس نقي لنفسي في صورة امرأة. وعندما وجدتك أنت لم أعد أريد شيئاً من العالم.
غمرتها تأملة هادئة وهي تتفرس بوجهي ولم تلبث أن أسبلت جفنيها السوداوين كأيامي ثم همست باستحياء:
ـ لا أعرف ماذا أقول لك. إنني أثق بنفسي لكنني أعرف أنني وقعت في حبك وأنا فخورة بهذا الحب الذي ترعرع بالمعرفة والاحتكاك والتجربة.
سكتت قليلاً لتلتقط أنفاسها الهاربة بينما علت خديها حمرة خجولة ثم تابعت وصوتها الهامس يرن في مسمعي كترنيمة وتر فاغم:
ـ أنا لم أعد أحتاج أيضاً إلى شيء في العالم قدر حاجتي إلى هذا الحب.
في تلك اللحظة أحسست أني أتوق بكل عمري إلى أن أمرر أصابعي المرتجفة بين خصلات شعرها الدافئة وأن آخذ رأسها الجميل وأريحه على صدري وأضمها بين ذراعي لأريحها وأحميها من شرور العالم.
ماذا أقول لها؟
أشعر أنني معزول عن كل شيء ولا أخشى شيئاً على الإطلاق. إنني بلا جذور تشدني إلى العالم وحياتي شراع تائه مزقه الرحيل وهو يبحث عن شواطئ الأمان. لماذا لا تكون "براءة" خلاصي واهتدائي؟ لماذا لا ألجأ كل عمري إلى حنانها الذي بدأ يلوّن حياتي؟
قلت لها وقلبي ينسفح مع كل حرف:
ـ لقد أحببتك لتكوني خلاصي وسأكون لك إلى الأبد.
ـ وسأكون معك حتى أموت.
ـ "براءة", أهذا وعد؟
ـ إنه عهد ألتزم به أمامك وأمام نفسي وأنا لم أعتد أن أتاجر بعواطفي أو بمواقفي كإنسانة.
أمسكت يدها ولثمتها بخشوع, فسحبت أصابعها الطرية من يدي بدلال وقالت محذرة:
ـ أما هذه، فلا.
ـ لماذا؟
ـ من أجل الفضيلة والضمير.
وضحكنا معاً بشكل لفت أنظار بعض الجالسين حولنا. تجاهلنا هذه النظرات ورحنا نتطلع إلى حلبة الرقص.
الهاربون من رقابة العيون، يرون في هذه الملاجئ المعتمة أرض الأمان. هنا تتشابك الأيدي وتلتصق الصدور, الخد المتعب يبحث عن خد آخر ينضح عليه معاناته. الموسيقى صاخبة، إنها ترف الجيل المعذب، يدق الراقصون أقدامهم على الأرض الملساء. ينسفحون مع آهة كمان حزين ويقفزون مع نعيق بوق مفجوع ويدورون ويدورون، يفجرون كبتهم همهمات ملوعة، وترشح جباههم عرقاً يحمل حقدهم الأسود على رقابة مجتمع يأبى أن يترك الإنسان حراً ثم.... ثم تتعالى في المكان المزين بالضوء الأحمر نقرات "جيتار" تعزف إيقاع "التانجو" هذا اللحن مجموعة أساطير عن صبية بيضاء تغفو على عتمة شعرها الإسباني حكايا حب شرود، وتنام في سواد عينيها أمجاد العرب الآفلة، وترن مع الصنوج في أصابعها أصداء سيوف "الغافقي".
قالت "براءة" فجأة تنتزعني من شرودي:
ـ ألا تنوي أن تطلب لنا شيئاً نأكله، إننا نستحق الطعام عن جدارة بعد هذا المجهود الفكري الذي بذلناه.
وعندما التفت إليها تابعت تقول بابتسام:
ـ لا أستطيع أن أتأخر كثيراً. كم الساعة الآن؟
صفقت للخادم وطلبت إليه أن يحضر لنا الطعام الذي اخترناه من اللائحة التي لم تكن تحتوي اسماً عربياً، ثم قلت:
ـ لم يمضِ على وجودنا سوى ساعة، أنت لم تتأخري بعد. يبدو أنك تخافين أهلك كثيراً؟
ـ المسألة ليست أن أخاف أو لا أخاف. لكنني لا أريد أن يعرف أحد بعلاقتنا الآن. أنت لا تعرف الناس هنا كيف يفسرون العلاقات الاجتماعية والعاطفية. كم الساعة الآن، لقد نسيت ساعتي في البيت.
أجبت وأنا أمد يدي أمامها:
ـ إنني لا أملك ساعة.
تساءلت بلامبالاة:
ـ لماذا؟
ـ لسببين: أولهما أنني لا أملك ثمن ساعة ولا أستطيع أن أوفر ثمنها إلا بعد سنة كاملة. والسبب الثاني سبب نفسي فأنا أكره أن تكون عندي ساعة حتى لا أرقب مسيرة الزمن وأرى كيف تتبدد دقائق حياتي أمامي.
ـ إن ما يحيرني فيك هو أنك تؤمن بأن الحياة غير مجدية، ولكنك في نفس الوقت تكره أن ترى حياتك تمضي ما معنى هذا؟
ـ إذا كنت أؤمن أن الحياة غير مجدية فليس معنى هذا إنني لا أحب الحفاظ على حياتي. إنني أؤمن بحياتي طالما إنني أستطيع من خلالها أن أسعى لصنع شيء ما. بمعنى آخر، إنني أتعلق بحياتي من أجل الأمل، والأمل حياة ثانية.
حضنت وجهها بيديها وتساءلت:
ـ أي أنك ترضى بالحياة من أجل أن تنتصر على شيء ما؟
أجبت متفلسفاً:
ـ إن أحداً، كما يبدو لي في ساعات اليأس، لا يستطيع أن ينتصر على الحياة، هذه الحقيرة، ولو أنني خيرت يوم ولدت لرفضت المجيء. ولو خيرت الآن لرفضت الرحيل. لا تستغربي، أنا إنسان كالآخرين تربكني التناقضات. لست أعبد الحياة. لكنني أكره الموت لأنه ليس نهاية لائقة بالإنسان.
ـ معنى هذا أنك تقبل كل شيء وترفضه بآن واحد. تقبل كل ما يأتيك ولا تندم على أي شيء يذهب منك. الحياة روتين أبدي وتكرار ممل. لماذا ترضى الاستمرار إذن؟
ـ إن استمراري هو رفض قاطع للرحيل. وإذا كان النصر مهماً بالنسبة لي، فإن ما يهمني أيضاً أن أحافظ على ما أؤمن به. قد يكون هذا كالنصر الذي تتحدثين عنه.
لوت وجهها وأعلنت وهي تتنهد:
ـ يبدو أني بحاجة إلى وقت طويل حتى أفهمك.
أوشكت أن أقول لها إن هذا ليس صحيحاً. فأنا لست لغزاً ميتافيزيقياً، إنني إنسان بسيط أقول أشيائي مباشرة ودون تعقيد. لكنني آثرت الصمت فقد أتعبني النقاش وفضلّت أن استغرق بتذوق الطعام، ويبدو أن "براءة" قرأت شيئاً ما على وجهي فقالت في محاولة لخلق جو جديد:
ـ ما رأيك أن أطلب أغنية معينة نسمعها معاً؟
وافقت فوراً واستدعيت الخادم. فكتبت لـه "براءة" اسم أغنية على ورقة صغيرة وأعطتها لـه. ولم تمضِ غير لحظات حتى ملأ المكان صوت حنون الصدى يلثغ بالإنكليزية وبعذوبة خالقة لا حد لها:
"والآن...
"وقد أصبحت حياتي بيد يديك...
إلى أين تقودني؟"
تصالبت عيوننا بوجد آسر. وذاب كل شيء في لحظة انفصلت عن كيان الزمن لتتجمد هنا، ترقب جسراً من اللهاث الهادئ تعبر عليه آهة مخنوقة بالفرح، وتنقل وعد عيون ذبحتها الغربة.
أطرقت "براءة" برأسها، وعادت إلى طعامها بينما كانت خصلات شعرها تتلاعب مع حركة رأسها فوق جبينها الأسمر.
عندما انتهت الأغنية، قلت وأنا أمضغ آخر لقمة بهدوء:
ـ "براءة". أكاد لا أعرف شيئاً عن حياتك، هل يضايقك أن تحدثيني عن نفسك؟
ابتسمت وهي تمسح فمها بمنديل رقيق ثم قررت:
ـ لا أعتقد أن شيئاً هاماً في حياتي يستحق أن يكون مادة لأي حديث. لقد عشت حياة عادية.
ـ هذا تواضع منك أنا واثق أن حياتك مليئة وذاخرة، إن أفكارك ليست من المدرسة إنها نتيجة تجارب ووعي عميق.
شربتْ كأساً من الماء ثم لحست شفتها السفلى حتى بللتها برضاب بخيل، أحال لونها إلى لون حبة كرز جبلية. ولاذت بالصمت قليلاً ثم أعلنت بتردد:
ـ لا أظن أن حياتي مشوقة إلى هذا الحد، لقد أمضيت طفولة سعيدة في البرازيل...
ـ البرازيل؟؟
ـ لقد ولدت هناك. ما أروع تلك البلاد. أمضيت فيها خمس عشرة سنة، وكان "بابا" أحد التجار المغتربين الكبار، لكنه أصيب بنكسة مادية أثرت عليه تأثيراً نفسياً عنيفاً كما أثرت على صحته حتى أصبح معرضاً للشلل. بعد ذلك تركنا البرازيل وعدنا إلى دمشق حيث بدأنا نعيش حياة عادية وتابعت دراستي حتى نلت شهادة تؤهلني للعمل، فدخلت ميدان الحياة العملية، وكان الأمر شاقاً في البداية غير أني تغلبت على هذه المشقة وأصبحت أيامي تسير برتابة محددة بين العمل والبيت ولا شيء آخر.
قلت ضاحكاً:
إن اختصارك لحياتك بهذا الشكل تخلص بارع من سؤالي. ألم تتعرضي، مثلاً، لتجربة عاطفية. تجربة حب؟؟
ضحكت "براءة" بحبور طفولي، ومدت ساقها المترفة وراحت تنقر بقدمها رجل الطاولة:
ـ كنت أعرف هذا. تريد أن تعرف شيئاً عن حياتي العاطفية؟ صدقني، أنت أول حب في حياتي، من قبل لم أعرف الحب كما تصوره الكتب وأفلام السينما. ولست أكتمك أن الكثيرين قد عرضوا عليّ عواطفهم.. بعضهم بشكل رخيص ومضحك, وبعضهم بشكل مهذب هناك تجربة واحدة ما زالت عالقة في ذهني لأنها كادت أن تخلق مأساة عائلية وتشرد امرأة متزوجة مع أطفالها دون أي ذنب؛ فقد أحبني أحد أقربائي وأوشك أن يطلق زوجته ويترك أولاده ليتزوجني, لكنني أفهمته في اللحظة المناسبة التي أدركت فيها مراميه أنني أحبه كما أحب "بابا" وأنا أحترمه وأجلس معه لأنه قريبي ولأنه صديق مخلص لـ "بابا"...
قاطعتها قائلاً:
ـ ألا يمكنك أن تتركي كلمة "بابا" هذه وتستعملي بدلاً عنها كلمة والدي
أو أبي؟
رددت مستفهمة:
ـ لماذا؟
ـ إنني أتضايق من هذه الكلمة لأنها تذكرني بالمدللين الذين لا يحسنون شيئاً إلا التلفظ بالكلام.
ـ أفّ. إن لك آراء عجيبة. ولكن دعنا من هذا. أعتبر قصة حياتي قد انتهت. فماذا تأخذ، الآن، على هذه الفئة من الناس والتي أسميتها مدللة؟
أجبت باندفاع مفاجئ وبلهجة خطابية لم ألبث أن استنكرتها:
ـ معظمهم تافهون لا يحسنون إلا استعمال ألسنتهم بكلمات أجنبية تبعث على السخرية. نحن نحتاج إلى ثوريين ومبدعين لنعيد خلق هذه الأمة، لا إلى مقلدين يهتمون بتقليم أظافرهم أكثر من اهتمامهم بحمل مبدأ شريف. إن رؤوسهم خالية إلا من الكلمات الممطوطة المقيتة.
ـ أنت لست ثورياً فقط. إنك إنسان ناقم على كل شيء، ويخيل إليّ أن الحقد على العالم يملأ قلبك.
انبثق من داخلي فجأة شيء حاد. تذكرت أمي. فقلت والشوق يذبحني إليها:
ـ "براءة". لقد قالت لي مرة أمي هذا الكلام. لكن هذا ليس صحيحاً، أقسم أنه ليس صحيحاً.
ـ إذا كنت لا تحقد على العالم فأنت تلعنه باستمرار ولا أعرف كيف استطعت وأنت مِشغول بلعن العالم أن تجد متسعاً من الوقت لتحبني؟
تأملتها بصمت خاشع وهتفت:
ـ أنت شيء آخر "براءة". إن حبي لك هو إحياء لاحتضاري. أنت لست منفصلة عني، عندما أحببتك ذبت فيك لتكون حياتي بكل طاقاتها ينبوعاً أبدي الانسكاب في أعماقك.
كانت حمرة نبيذية تصبغ وجنتيها وهي تنظر إليّ بسكون سادر، لتعب في أعماقها كل حرف يذوب على فمي. ارتعشت شفتاها قليلاً، كانت تود أن تقول شيئاً، شيئاً لم تعتد أن تقوله، غير أن حياءً مفاجئاً عقل لسانها، وذوّب الكلمات في صدرها، فأشاحت بوجهها ثم ابتسمت وقالت:
ـ حقاً، إنك شاعر.
ـ إن أي أبكم يجلس معك ويحس هذا الوجد، يتصبى الليل من عينيك الحزينتين. لا بد وأن يصبح شاعراً.
رفعت إصبعها الطرية محذرة وهمست:
ـ آ.. آ.. اخفض صوتك. الناس حولنا، لقد بدؤوا يشعرون أنك تغازلني.
قلت محتجاً:
ـ هذه المرة الثانية التي ترددين بها هذه الكلمة. ما هذا؟ إنني لا أغازلك, أنا أقول ما أحس به، أنا لا أزيف الأشياء "براءة". أنسفح أمامك بعفوية ومن دون أي تعقيد، ثم ما هي علاقة الناس بنا إذا سمعونا؟ إنني معك أبني حياتي بناء جديداً.
ـ أوه.. دعني. لو استمعت إليك كل حياتي لما أحسست إلا بنشوة عارمة ولذيذة. إن كلماتك تنقلني إلى حياة جديدة بدأت منذ اليوم أحبها، وأود أن أحطم دقائق الزمن حتى أصل إليها. ولكن دعنا الآن.
ثم رفعت يدها لترى ساعتها فتذكرت أنها لا تحملها. التفت إليّ وقالت:
ـ لا أعرف كيف أقول لك. لكنني أود أن أقدم لك ساعة هل تقبلها هدية مني؟
قلت بشكل قاطع:
ـ لا.
ـ لماذا؟ ألم تقل لي إنني أصبحت جزءاً منك؟
ـ أنا لا أناقش بهذا. كل ما في الأمر أنني لا أرغب أن تكون لي ساعة.
ـ أعرف هذا. حتى لا ترقب دقائق حياتك وهي تتبدد أمامك أليس كذلك؟
ـ هناك سبب آخر يمنعني من حمل الساعة. إنها تعقد لي حياتي وتجعل عمري مرسوماً بحركتها.
ضحكت "براءة" بغبطة وقالت:
ـ كما تريد. أعتقد أن وقت عودتي إلى البيت قد حان.
ناديت الخادم ودفعت الحساب ثم نهضنا. وقبل أن نخرج من الباب ترددت وهي تقول بإطراقة حيّية:
ـ أخاف أن يرانا الناس معاً، سأخرج أنا أولاً.
ـ كنت أتوقع ذلك.
وتبادلنا بسمة عاجلة ثم قالت وهي تخرج:
ـ أراك غداً في المكتب.
وصعدت الدرج مسرعة، رشيقة الخطا.. ثم غيبها زحام الشارع؟
المدينة تلهث. والعالم مشنوق على أعمدة الحضارة. وحدي أتصبى إطلالة من عينين مذعورتين. في يوم ما ستجف الينابيع كلها. لن تبقى ثمة واحة. سيكون السراب حلماً لا تطاله العيون ولن يجد أحد أروع من الظلال الرطبة التي أتمنى أن أتفيأها مع "براءة".




الفصل الحادي عشر

قدم لنا "أنور" صديقه الجديد قائلاً:
ـ "عدنان" زميلي في الجامعة والتشرد.
وتقدم "عدنان" منا وصافحنا ثم جلس على كرسي قرب النافذة المطلة على الحي المنهار وراح يجول بعينيه في أنحاء الغرفة كلها، يتفحص كل شيء بهدوء. كنت أتطلع إليه عن كثب وقد أعجبتني قامته الرياضية, وشعره الأشقر المصقول بعناية، وثيابه الأنيقة، وأصابعه البيضاء الناعمة التي جعلتني أفكر أن هذا الإنسان قد أمضى كل حياته في الحمام.
استمر "عدنان" يحدق بأشياء الغرفة، بالأسرّة، والكتب، والنافذة، والطاولة الوحيدة، والثياب المعلقة على الحائط و... التقت عيناي بعينيه، فسألني باتزان وهو يشير بإصبعه حوله:
ـ كيف تستطيعون أن تعيشوا... هكذا؟
أجبت مازحاً:
ـ إننا لا نستطيع أن نعيش إلا هكذا.
عقب "أنور":
ـ لا تصدقه. إن لدينا توقاً عظيماً إلى حياة أفضل. ولكن لا سبيل إليها طالما أن مجتمعنا يضم رجالاً أوغاداً كأبيك.
استفهم "أحمد" بأدب جم:
ـ وماذا يفعل والده حتى يمنعك من تحقيق أحلامك؟
يبدو أن "أنور" كان ينتظر هذا السؤال، فالتفت إليه فوراً وراح يعد بإصابعه:
ـ اسمع أيها المتصوف الذي يطج كل يوم أكثر من عشرين ركعة صلاة. أولاً, إن والده من كبار تجار المدينة. ثانيا,ً إنه يملك مزرعة لا يعرف حدودها ولا عدد العاملين فيها لكثرتهم ثالثاً إن لديه سيارة فخمة لو بعت رأسي ورأسك لما كان ثمنهما يساوي دولاباً من دواليبها عدا عن رصيد هائل في المصرف".
رد أحمد:
ـ أنا لا أرى في هذا أي مجال للتهجم أو السخرية. إن والده إنسان عظيم إذ استطاع أن يفعل هذا كله. ألا تستطيع أن تكف لحظة عن حسد الناس؟
التفت "أنور" إلى "عدنان" وقال بخبث:
ـ ألم أقل لك إنه يعيش على النيات الطيبة؟
ثم التفت إلى "أحمد" ونبر بصوته:
ـ إن هذا الثراء الفاحش مكرس لأهواء أبيه الشخصية. الأهواء التي تسميها في قاموسك المتهرئ إلحاداً ولا أخلاقية. ثم هل تصدق، فضيلة الشيخ، أن أرصدة والده المالية تزداد يوماً بعد يوم.. ما رأيك أن تذهب أنت وأخلاقيتك وتنتحرا؟
لم يجب "أحمد" على هذه السخرية المقصودة. فتطلع إلى "عدنان" الذي كان منهمكاً بحشو غليونه واستغربت أن يسمح لأي كان أن يسخر من والده فسألته:
ـ ألا يغضبك أن يتحدث "أنور" عن والدك بهذا الشكل؟
أشعل غليونه بعود ثقاب ثم نفخ على العود وراح يرقب خيوط الدخان الأزرق الذي كان يتلوى ويتمطى من العود المنطفئ ثم أعلن ببرود:
ـ ولماذا أغضب؟ إن والدي من أكبر منافقي المدينة.
تلعثم "أحمد" وهو يسأله:
ـ منافق؟ أنت تقول عن والدك ذلك؟ أكاد لا أفهم شيئاً..
رد "أنور" بسرعة:
ـ ليس هذا عجيباً. ألست طالب حقوق؟
لم تتح "لأحمد" فرصة للرد على هذه السخرية فقد تابع "عدنان":
ـ ولماذا أخجل؟ إنها الحقيقة. إن والدي لص، يسرق أتعاب غيره، الفلاحون يعملون وهو يتفرج، وفي نهاية كل موسم يتقاسم كل شيء معهم. أتصدقون، إن والدي يربي كلباً ويطعمه أحسن من خمسة رجال في المزرعة؟
لا أعرف لماذا أحسست أن "عدنان" هذا مخلوق تافه لا لأنه يتحدث عن والده بهذا الأسلوب ولكن لأنني، على نحو ما أحسست أنّه دعيّ، ونرجسي.
ـ في كل عام يضع والدي أمامه مصور العالم و ينتقي بلداً أوروبياً يقضي فيه شهراً وينفق بحقارة أمواله على عاهرات معظمهن من اليهود.
أنا مقتنع أن حلفاً غير مقدس يربط بين والدي وبين جميع الذي يتاجرون بهذا الشعب ويتآمرون عليه.
قال "أحمد" معاتباً:
ـ لا أعتقد أنه من الأخلاق بشيء أن تحقد على والدك بهذا الشكل. أنت تستطيع بوعيك أن تأخذ بيده.
ـ هذا ليس حقداً بالمعنى القاموسي للكلمة. إنه بورجوازي متغطرس انهزمت أخلاقه أمام بريق المال وفقد كل ملامحه الإنسانية. إنه نزوة لا تفكر إلا بترفها الشخصي على حساب مخلوقات آدمية جرفها تيار الاحتكار.
ـ وأنت، ألست بورجوازياً كأبيك؟
رد "عدنان" بحزم:
ـ أبداً. أنا أفخر أنني اشتراكي.
ـ أطلقت صفيراً عالياً وعلقت:
ـ هكذا إذن؟
نظر إليّ "أنور" مستغرباً وقال وهو يمضغ شيئاً ما في فمه:
ـ أين وجه الغرابة أن يكون اشتراكياً؟
ـ أنا لا أفهم كيف يكون إنسان مثله اشتراكياً.
ـ ما زلت لا أفهم السبب باستغرابك.
ـ لقد تفتحت عيناه على الترف والمال، فكيف يؤمن بقضية من أول مبادئها هدم الطبقات الاحتكارية التي أذلت ملايين الرقاب.
سأل "عدنان" بعصبية مفاجئة:
ـ من قال لك إني عبد لهذا الترف؟ أنا لا أؤمن أن المال يصنع أخلاق الناس كما أنه لا يحدد مواقفهم. أموال الأغنياء والإقطاعيين مسروقة كلها من فم الشعب. كلهم تجار وتجارتهم بدأت من بيع لواء الاسكندرون، إلى فلسطين، إلى المتاجرة بالقضايا الوطنية، إلى أن تصل نهاية القافلة التي تنتظم جميع المواقف المخجلة. ولكن ما علاقتي أنا بذلك؟
ما زلت أرى هذا الإنسان دعياً، لكنني قلت لـه:
ـ أنا لا أحاول الطعن بمبادئك أو الاستخفاف بتحمسك لها. لكنني أتساءل كيف نما عندك هذا الوعي، وقد ولدت ونشأت في بيئة مليئة بالشوائب والعقد ولم تمح من ذهنها بعدُ العفونات الطبقية والطائفية. أنت تعلم أن الاشتراكية انبثقت من آلام الجماهير وصبرها الطويل ومن القهر الذي عانته من خلال الجوع والإهمال والتنكيل.
هتف "عدنان" بغيظ ظاهر:
ـ لماذا تمضي بعيداً وتضع شروطاً مسبقة لإيمان الفرد؟ القضية بالنسبة لي قضية مبدأ إنساني وتحسس شخصي.
ـ عفواً، أنا لا أصدق أن المبادئ يمكن أن نتعلمها من الكتب. المبادئ وليدة التجارب, تجربة فرد أو طبقة, والاشتراكية ليست تجربتك ولا تجربة واحد من طبقتك. كيف تؤمن، إذن، بمبادئ لم تعشها ولم تنفعل بها حياتياً واجتماعياً؟
تدخل "أنور" وسأل بتفاهة:
ـ هل تظن أنه يدعي الاشتراكية، أو أنه يتملق الاشتراكيين عندما ينضوي تحت لوائهم.؟
ـ أنا لم أقل شيئاً من هذا؟
ـ لماذا تهاجمه إذن؟
ـ إذا كنت مصراً أن تعرف فأنا أريد أن أقول إن الاشتراكية أسيء إليها عندما صار أمثال "عدنان" يحملون علمها.
قلتها وانتهى الأمر. كانت مفاجأة لم ينتظرها أحد. لا يهم، هذه الكلمة يجب أن تقال من زمن بعيد لكثيرين من الناس وقد قلتها أنا.
نهض "عدنان" عن الكرسي واتجه إلى النافذة حيث سرح منها ببصره، وخيم الصمت لحظات علينا، بين نرفزة "أنور" وذهول "أحمد". لم أكن أشعر بالحرج فقد قلت ما أؤمن به.
التفت "عدنان" إليّ وقال وقد هدأت حدة صوته:
ـ عندما تصلب الحياة حساسية إنسان وتصقلها على نوعية جديدة من الإرهاف والحس. عند ذلك تموت أناه الضخمة في أعماقه ويرى العالم على حقيقته وأن المجتمع يحيط نفسه بقشور براقة أما الداخل فإنه أسود وحقير.
سكت من جديد كأنه يستجمع أفكاره البعيدة ثم تابع:
ـ منذ سنوات بعيدة بدأت أتشرب الحياة بنهم كبير. كنت أقف في شرفة بيتنا العالي وأنظر من الحي الفخم إلى بيوت طينية تقبع ذليلة قرب بيتنا، مليئة بالسل والجهل والفقر وبأفواج الأطفال الذين لم تتح لهم أية فرصة على الإطلاق. لقد ولدوا هناك وفرض عليهم أن يظلوا هناك كنا نعيش وهم يتفرجون علينا. منذ ذلك اليوم أدركت أن مجتمعنا قائم على أساس واه, وأن خطأ فاحشاً يرتكب فيه كل يوم بألف أسلوب وألف وجه. وأدركت أن البؤس الذي يحصد رقاب أكثرية الجماهير هو استمرار لهذا الخطأ وأن والدي وأمثاله يعيشون حياتهم وحياة غيرهم في حين أن أحدهم لم يكن جديراً بربع حياته.
منذ ذلك اليوم بدأ يولد في صدري إيمان قاطع بأن الإنسانية مداسة بالنعال.
قلت وأنا أضحك:
ـ كان عليك أن تزور قريتنا لتتعرف على الإنسانية أكثر. الناس هناك معزولون عن كل أوجه الحضارة والرقي وما زالوا يعيشون على بركة التمائم ودعوات الشيخ "عبد الستار".
ـ لا لزوم لأن أذهب إلى قريتكم. إن في دمشق نفسها بشراً ما زالوا يحرقون البخور أمام أضرحة الأولياء ويضرعون إليها. هل تصدق أن عائلتنا وحدها لها ثلاثة أطباء بينما يموت كثير من الأطفال في الأحياء الملاصقة لنا لأنهم لا يجدون ثمن الدواء؟ وهل تصدق أن معظم أمراضنا من التخمة؟
رد "أنور" ساخراً:
ـ لأنكم تأكلون أكثر من اللازم. أنتم تأكلون طعامكم وطعامنا.
لم يجب "عدنان" على سخرية "أنور" بل أشعل غليونه للمرة الثالثة وقال:
ـ إذا كنت اشتراكياً فأنا لا أدين باشتراكيتي لأحد. أنا أؤمن أن النظام الاشتراكي وحده كفيل ببعث هذه الأمة.
وتطلع إليّ برهة ثم سأل باستهجان:
ـ أي مبدأ تريدني أن أعتنقه وأنا أرى الناس يعملون كالبهائم طوال النهار من أجل الحصول على لقمتهم، بينما تظل الكروش المنتفخة تهتز في صالونات المدينة الأنيقة. أنا لا أريد أن أفلسف الاشتراكية أو أشرح مبادئها، أنا أتحدث عن مشاعري الشخصية وانطباعاتي الذاتية. إن الأنانية تفتك بالقيم. فئة قليلة من الناس تستغل شعباً كاملاً، هذا لا يجوز، وإزاء ذلك لا بد لكل واحد منا أن يحمل عقيدة ويساهم بإنقاذ مجتمع بل وإنقاذ نفسه قبل أن يداهمه السيل القذر.
عندما سكت كان كل واحد منا مشغولاً بأفكاره، وكان الصمت ثقيلاً. رحت أنظر بشكل خفي إلى هذا الإنسان الذي يرفض معطيات الحياة ليعيش قضية لا تعرف إلا الشهداء. فكرت بأشياء كثيرة، وحاولت أن أقول شيئاً، لكن "أحمد" أفسد عزمي هذا عندما مزق تلك اللحظات السكونية بصوت متردد وكلمات متقطعة:
ـ عفواً، أنا أحترم آراءك، لكنني أريد أن أسأل لماذا انتقيت الاشتراكية التي تظل في جوهرها مبدأ علمياً بعيداً عن أية روحية، أريد أن أقول لماذا لا تتعمق في فهم الدين؟ إنه المصدر لكل وحي وإبداع، كما أنه ينظم أمور الناس. إن هذا المجتمع إذا سار على ما بني عليه الدين من صدق، وزكاة، و أمانة, واستشهاد في سبيل الوطن لكان مجتمعاً اشتراكياً وإنسانياً، ومثالياً في حياته وتدينه وتعاونه. لقد مرّ على الإسلام عهد لم تكن تجد فيه محتاجاً ولا جائعاً.
قاطعه "أنور" محتداً:
ـ هل تريد أن تعود بنا إلى عبادتك؟
لقد اتفقنا أن الدين هداية وإيمان وصلاح ذاتي، وليس عقيدة سياسية، ألا تريد أن تفهم؟
ولم يلبث أن رفع صوته وانفجر غاضباً:
ـ إن سلامة النية في هذا العصر لا تنفع شيئاً. إن أجيالاً كثيرة يجب أن تموت حتى نصل إلى وضع أقدامنا على الطريق الصحيحة. الجثث وحدها قادرة على خلق هذا المجتمع من جديد هذا عصر الذرة ولم نعد في البادية بين المضارب. إن الدعوات الجاهلية لا تهيئ الإنسان لتقديم قربان واحد من أجل قضية قومية. دعنا "احمد"، قم وانظر إلى مصور العالم تر أن جميع الشعوب المستعبَدة والخاضعة للنفوذ الأجنبي، والأمم التي يقتلها الجوع والجهل، هي الشعوب التي تعتقد أن الصلاة والدعوات الخطابية قادرة على بعثها.
قبل أن يقول "أحمد" شيئاً، قال "عدنان" مكملاً حديث "أنور":
ـ إن في أمتنا العربية دولة ما زالت بلا دستور ولا قوانين، إلا قوانين السيف، وقطع اليد وجلط الرقبة. إن حاكم هذه الدولة التعيسة يدعي أنه يفعل ذلك باسم الدين. تصور؟
قال "أحمد" بهدوء لم أكن أنتظره منه في هذه المواقف:
ـ أنتما تخلطان الأمور بشكل سيئ للغاية. عندما تطبق القوانين التي نص عليها الدين تصبح هذه الأمة أسعد أمم العالم.
ـ عندما تطبق؟ ألا تفهم أننا لسنا ضد الدين، لكننا ضد استغلال الدين، ضد المهرجين الذين يدعون فهمهم للدين ويجعلون من أنفسهم أوصياء عليه.
ـ إن أحداً لا يستغل الدين. هذه ذريعة لمهاجمته. ولتغطية الفراغ الروحي الذي تحسونه.
نظرت إلى "أحمد" وأدركت أنه بدأ يهذي فقلت متدخلاً:
ـ ما هذا الذي تقوله "أحمد"؟ هل يسمح الدين باستعباد الناس؟
ـ قطعاً. لا.
ـ باسم أي شيء يبني أمراء البترول قصور الحريم؟ وباسم من تشيد معابد للجواري والغلمان؟
ـ إن الدين لا يسمح بهذا، وقد حارب هذه البدعة منذ أن أنزل وحياً.
ـ لماذا لا تقولون، أنت وأمثالك، شيئاً حول هذا؟ لماذا لا تثورون ضد الأمراء الذين يسمحون لأمريكا بسرقة بترولنا، وشعبنا يئن من الجوع؟ إن ما ينفقه الأمراء على سياراتهم أضعاف ما ينفقونه على مستشفيات البلاد كلها.
ـ أنا شخصياً لا أؤمن أن هؤلاء يمثلون الدين. إنني أدافع عن الدين لا عن أدعياء الدين و أنتم تخلطون الأمور. إن وجود هؤلاء المرضى ليس مبرراً لمهاجمة الدين.
ـ إن أحداً لا يهاجم الدين. إن تعلقك بالدين تعلق غريزي لا أثر للمحاكمة العقلية فيه أنت تتهمنا دوماً بالإلحاد والكفر لأننا لا نرى رأيك. إن ما ندعو إليه هو أن يترك الدين شيئاً روحياً سامياً بين الإنسان وربه. يجب أن يظل الدين في حياتنا وسيلة للاتصال بالله. لكن السياسة شيء آخر. إن السياسة تحتاج إلى حقد على العالم الذي ينهشنا، والرجال الذين يمتصون تعبنا، ويسرقون خيرات أرضنا للإنفاق على قوافل حريمهم.
ومرة أخرى أسرع "أنور" يقول قبل أن يتمكن "أحمد" من الرد:
ـ المشكلة أن بعض القيمين على أمر الدين ما زالوا يعيشون في خيام الجهل البعيدة عن روحية العصر وكل المنجزات الإنسانية. هل تذكر "أحمد" أن إمام اليمن كتب مرة قصيدة ضد الاشتراكية، وقال فيها إن الاشتراكية ضد الإسلام؟ كان ذلك منذ زمن بعيد ولكن في أمتنا ألف إمام مثله. ما رأيك؟ لقد كان سيادته يقفل أبواب مدينة صنعاء عند مغيب كل شمس ويضع المفاتيح في جيبه. إن الذين قتلوه بعد ذلك لم يكونوا من وراء جبل قاف. ولا من بلاد الأساطير. لقد اكتشفوا الحقيقة فقاموا يعيدون بناء الإنسان لا بمعزل عن الدين ولكن في صميمية الدين الذي يلبي حاجة الإنسان.
تطلع "أحمد" إلينا وراح ينقل بصره بيننا ثم هز رأسه آسفاً وقال:
ـ لقد اهتديتم إلى بعضكم أخيراً. كل واحد منكم يكمل الآخر، بكل أسف، لا ترون أبعد من أنوفكم. أنا أؤمن...
قاطعه "أنور" بعصبية:
ـ إن ما تؤمن به لا أهمية لـه إطلاقاً. أنت بعيد عن جوهر المشكلة، ولن تجد عاقلاً يؤمن معك أننا لا نستطيع أن نبني حياتنا ونغير واقعنا المؤلم، ونحرر أرضنا من خلال دعاء ساذج فوق منبر، أو صلاة قصيرة في كنيسة.. وحتى اللعنات التي يستنزل بها الخطباء غضب الله على الاستعمار والصهاينة والكفار، لن تنفع شيئاً. هذا زمان الحقد والموت. أفّ. حياتنا لا تطاق.
في يوم ما سيزورني الموت ويسألني لماذا أعيش. ما معنى هذا ومن قال إني أعيش؟ تفوه. تسقط الحياة والمجتمع.
يبدو أن هذا الانتقال المفاجئ قد أعجب "عدنان" فانفرجت أساريره وردد وراء "أنور":
ـ وعاشت المرأة والغرائز الجنسية.
تطلعت إليه وقلت مستغرباً:
ـ وأين المبادئ أيها الاشتراكي العظيم؟
ـ هاأنت تعود من جديد إلى خلط الأمور ببعضها. ما هي علاقة مبادئي بجسدي ومتعي الشخصية؟
رد "أحمد" وهو يحدق في بوجهه:
ـ إن الاشتراكية تحتاج إلى أخلاقيين لحمل لوائها.
تدخل "أنور":
ـ ألا تنوي ترك الجدل حول فهمك للأخلاق والفضيلة؟ ستذهب وحدك إلى الفردوس ومرابعه ومروجه الخضراء، وسنذهب نحن إلى جهنم وبئس المصير. أيرضيك هذا؟ دعنا "أحمد"، لقد تعبت ومللت.
يبدو أن "أحمد" أيضاً قد تعب فسكت ولم يقل شيئاً. عندما طال الصمت استغله "أنور" وقال:
ـ لقد كلفني "عدنان" بدعوتكما إلى سهرة خاصة في بيته، وهو يأمل أن تقبلا الدعوة. وتلمظ "أنور" وهو يعلن بمرح:
ـ إن أجمل شيء في الدنيا موجود في هذه السهرة، النساء والخمر والموسيقى.
لوى "أحمد" بوزه ثم أخذ كتابه بيده وقال:
ـ أنا أعتذر عن الذهاب. إن الامتحان على الأبواب، ولم أقرأ شيئاً بعد.
قال "أنور" متهكماً:
ـ أنت تقرأ أكثر منا جميعاً. لكنك لا تريد الذهاب لأن السهرة خالية من التسبيح. ابق هنا في هذا الوكر، تسقط أنت وحياتك.
ونظر إليّ ثم سأل:
ـ وأنت؟
ـ إنني ذاهب معكما.
ونهضت من مكاني، ثم لبست بذتي الوحيدة بعد أن نفضت الغبار عنها، وخرجنا لنستقل سيارة "عدنان" الخاصة التي كانت تنتظر في طرف الشارع.
..... العالم عتمة لا تطاق. كل طريق يوصل إلى لا شيء. أنا أيضاً مصاب بالحيرة والتمزق. منهار أنكفئ على نفسي. أتعثر بألف صنم، أبحث من خلال معاناة قاسية عن شيء لا أعرف لـه ظلاً حقيقياً.
..... "أحمد" لديه ما يؤمن به "وأنور" أيضاً يجد سعادته في العبث. "وعدنان" وجد سعادته بانتمائه إلى قافلة الاشتراكيين. أنا وحدي أعيش على الضفتين، لا أعبأ بالمياه التي أجتازها، ولا أشعر بالتعب من التنقل.
...... إن شيئاً ما لا بد أن يبزغ في حياتي. لا بد أن ألقى إنساناً يجيب على كل الأسئلة التي تلح على رأسي بقسوة لا ترحم.

الفصل الثاني عشر

كانت القاعة فسيحة و معبأة بقطع الأثاث الفاخر الذي تنيره ثريا كهربائية فاخرة تتدلى من السقف وتوزع حزم الضوء الأبيض على بلاط الغرفة الأملس حيث كانت أقدام الراقصين من شباب وفتيات تنزلق عليه بمهارة.
كانوا ينسفحون بكل حواسهم مع رنة الإيقاع الذي ترسله أسطوانة سودا تدور فوق "غرامافون" كبير متربع في إحدى الزوايا. كل شيء يرقص، الستائر الأنيقة التي يحركها النسيم وفساتين الفتيات التي ترتفع مع كل حركة دورانية لتكشف عن سيقان مترفة بضة. وسواعد الشباب تعتصر صدوراً صبية شامخة ممتلئة بعنفوان يوشك أن يفجرها.
العرق يكلل الوجوه من التعب، والعيون تتصالب مع العيون، ويزعق البوق، ويدور الراقصون، وتلتصق الخدود بالخدود، ولا شيء آخر غير غرائز فائرة في أجساد فتية تلتحم مرة وتنفصل مرة أخرى مع همهمة غريزية تنطلق من الأفواه لتتجاوب مع صخب اللحن وفجوره.
هذه أول مرة في حياتي أحضر حفلة راقصة من هذا النوع. بل إنها المرة الأولى التي أجد فيها نفسي وسط دوامة من الرقص والجمال والعطور الناعمة.
كنت أرى ذلك في أحلامي وفي الأفلام السينمائية. أما الآن، فإنني أشعر بجفاف في حلقي رغم أنني شربت كأسين من الويسكي، وأشعر أن هذا اللحن الصاخب الذي يدور الراقصون على إيقاعه يدخل رأسي كالمشارط. لم يكن ثمة وسيلة, وأنا أشعر بهذا الدوار، إلا أن أظل واقفاً وراء مقعد طويل في طرف القاعة، دون أن أجرؤ على التقدم خطوة واحدة بعد أن أحسست، دون أن أدري سبب إحساسي، أنني محط أنظار الجميع وأخاف إذا خرجت من مخبئي أن يرى الحاضرون ثيابي التي لم أكن واثقاً أنها من النوع الذي يصلح لسهرات كهذه. وليست أيضاً....
اللعنة، ماذا جئت أفعل هنا؟
طال وقوفي وراء المقعد. رحت أفتش عن "أنور" في أرجاء القاعة الفسيحة، كنت أراه لحظة، ثم يغيب عني في حركة دورانية رشيقة وهو يحتضن فتاة سمراء، شعرها الأسود الطويل يطير كالشوق المهاجر.
ـ متى تعلم الرقص هذا اللعين؟
سألت نفسي وأنا أرقب حركات قدميه تنسجم مع الإيقاع بشكل رشيق وخفيف، كأنه عاش طوال حياته ابناً مدللاً لأحد الارستقرطيين وليس ولداً منبوذاً لأحد فلاحي قريتنا المسجونة منذ الأزل بين جبال صلدة ميتة.
ـ أراك مكشراً كأنك في مأتم؟
التفت إلى "عدنان" الذي كان يقف ورائي وهو يحمل بين يديه عدة كؤوس مليئة بالويسكي جاء يوزعها على الراقصين الذين أنهكهم الدوران، وقد حلّ رباط عنقه وعلت خديه خمرة قانية:
ـ لست مكشراً. لكنني ضائع هنا وقد أخرج بقصيدة عصماء عن ضياعي.
هزّ رأسه آسفاً وأعلن:
ـ لا فائدة منك على الإطلاق. ستظل فلاحاً. خذ هذه الكأس واشربها. اسكر يا رجل لعلك تنسى خجلك الريفي.
أخذت الكأس وشربتها دفعة واحدة، ثم وضعت يدي على فمي لأمنع سعالاً حاداً تراكم في صدري.
يجب أن أسكر فعلاً.
من يدري، قد أفكر بطريقة جديدة؟
تبعت "عدنان" إلى وسط القاعة وخطفت كأساً أخرى وعدت إلى مكاني وراء المقعد، ورحت أرتشف الكأس بصمت متجاهلاً نظرات "عدنان" وابتسامته التي كانت تحمل أكثر من سؤال واستغراب.
يبدو أني لا أثمل. لقد شربت أربع كؤوس حتى الآن، وظللت أفكر بالبقاء وراء المقعد.
ظللت أفكر بثيابي التي لا تتناسب مع هذا الحفل الراقص، وأن لون رباط عنقي لا يتناسب مع لون بذتي. كم أتمنى أن أثمل وأنسى هذه المرة فقط. لكنني لا أجيد الرقص ولا أعرف كيف أبدأ الحديث مع أية فتاة هنا، وإذا استطعت ذلك لن يكون حديثي لبقاً.
بدأت عيناي تدوران. وبدأ رأسي يدور لترتعش كل خلاياي الدماغية. إن ما ينفقه "عدنان" على هذه الحفلة وأمثالها في شهر واحد يعادل ثمن طعام عشر عائلات من عائلات قريتنا طيلة سنة كاملة.
لم أثمل بعد.
ولم تفقدني كؤوس الويسكي اتزاني. ظل وعيي طافياً فوقها وبقيت أكبر من أن أذوب في حمأة دوامة يسببها الخدر.
يجب أن أشرب أيضاً.
بحثت عن "عدنان" حتى وجدته وطلبت إليه أن يحضر لي كأساً أخرى، فهرول إلى غرفة جانبية وعاد بالكأس، ثم انصرف يحتضن فتاة شقراء كانت تنتظره وهي تحدق بي مستهجنة طلبي الذي أفسد عليها بعض اللحظات.
بدأت أرتشف الكأس الجديدة وأنا أنظر إليهم في لهوهم أمامي. وفجأة ابتسمت، ثم ضحكت ضحكة قصيرة عندما تذكرت قصة كنت قد قرأتها عن التناقض الطبقي في الشرق.
"..... الناس في قريتنا يعملون في الليل والنهار، في الصيف والشتاء، يصلّون ويصومون ويزكّون من زاد يومهم، ويبيعون أحياناً من أثاث بيوتهم ليحجوا إلى بيت الله.
يؤمنون بالله والفضيلة واليوم الآخر ثم يموتون من الجوع والبرد والمرض، وتظل السماء فوقهم قبة نحاسية زرقاء لا تجود بقطرة ماء فيعيشون طوال العام على عطايا البقر والدجاج.
بدأت أرتجف. أشعلت سيجارة، وتمنيت في تلك اللحظة أن أثمل وأفقد وعيي إلى الأبد.
"..... بعض الناس هنا لا يعملون ولا يجيدون إلا البطالة. لا يصلّون وليس لهم أي موقف واضح تجاه الله والفضيلة واليوم الآخر. ومع ذلك فإن قصورهم، وحدائقهم، وسياراتهم وأموالهم التي لا تحصى، كلها تشبه الأشياء التي يحلم بها سكان قريتنا بأنَّها في الجنة.
هؤلاء بشر يعيشون، وسكان قريتنا بشر يعيشون أيضاً.. وجميعنا في جداول الدولة مواطنون يدفعون الضرائب.
تمنيت تلك اللحظة أن أبصق على جداول الإحصاء في الدوائر المدنية كلها.
من المسؤول عن هذا؟
تذكرت قول الله: ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات، ليبلوكم فيما آتاكم. لا بأس، ولكن لماذا نكون في أسفل الدرجات؟ أليس الله رحيماً؟ أليس حراماً أن تكون حياتنا مجدبة وفارغة على تلك الصورة اللاإنسانية؟
شربت ما بقي من الكأس دفعة واحدة.
لم أعد أشعر بالحرقة الكاوية التي سببتها لي الكأس الأولى. رحت ألحس شفتي وأنا أبحث عن "عدنان" بين حلقات الرقص الذي ازدادت حدته وصار أشبه بالحركات الهستيرية. إلى أن وجدته بعيداً عني ينظر إليّ مستفهماً، وعندما التقت نظراتنا، غمزني وهو يرسم لي بإبهامه وسبابته شكل كأس، فأحنيت رأسي موافقاً، وعندما أحضره لي همس في أذني:
ـ إياك أن تفقد وعيك. إذا كنت رجلاً ستحظى بكنز بعد قليل.
وقبل أن أسأله شيئاً كانت دوامة الرقص قد ابتلعته وبقيت وحدي أجتر سلسلة من الأسئلة التافهة والتعسة.
أشعلت لفافة جديدة بينما كنت أرتشف الكأس الجديدة....
"..... المجتمع تافه وأنا لا آبه به. هؤلاء الذين يرقصون كلهم حمقى وأنا أنبل منهم جميعاً. ماذا يعني إذا كنت لا أعرف الرقص؟ ما زلت شاباً والعالم لن ينتهي عند تخرجي من الجامعة. عندما أصبح أستاذاً كبيراً يقبض آلاف الليرات كل شهر، سأعوض عن كل حرماني الماضي ولن أترك لذة دون أن أمزق حرماتها. ثلاث سنوات أخرى، ماذا تعني؟ بعدها سأجعل الحياة حماراً أركبه وأعيش كل يوم بيومه دون أن أفكر بالغد الذي لا أعرف عنه شيئاً. من المؤكد أنني بعد ثلاث سنوات لن أفكر بالغد، الغد يظل غداً وقد لا يجيء أبداً!
عندما أصبح موظفاً أقبض آلاف الليرات سأعوض عن جفاف حياتي كلها. الآن أنا لا أهتم بهم هؤلاء الحمقى الذين يهزون أردافهم كالنساء الخليعات. ماذا يعني أنني لا أعرف الرقص؟ أستطيع أن أتعلم بسهولة لكنني لن أرقص بهذا الشكل الخليع....
"...... أروع ما في الويسكي لذعته المحرقة ونكهته الغريبة، إن هذا العصير البصلي لـه فعل السحر في الرؤوس. لو تذوقه أحد رجال قريتنا وغاب مع نشوته لحلق ذقنه فوراً ورماها إلى أقرب حفرة. لو جاء أحد رجال قريتنا إلى هذا الحفل، وشاهد الفساتين الحريرية ترتفع عن سيقان عاجية لفتيات مترفات لم تلامس أصابعهن تراب الأرض مرة. لو شاهد هذه القصور الفخمة التي تزخم أحلامه، لأعاد النظر في جميع معتقداته....
".... المجتمع تافه والحياة ليست عادلة لكني لن أفكر بذلك بعد الآن. تعجبني هذه الفتاة الشقراء الغافية بين أحضان "عدنان" يكلل الضوء شعرها الذهبي وظهرها المكشوف ما أنعم بشرتها، كم أتمنى أن أتحسسها بأصابعي.....
ـ أستاذ، هل تسمح بمراقصتي؟
التفت إلى الصوت النسائي الناعم الذي اقتلعني فجأة من المتاهات الضبابية التي كنت غارقاً فيها كانت مخلوقاً رائعاً حقاً. شعرها المنساب رائع كضمة من قمح حزيران، وعيناها عسليتان كنبع صافٍ في غابةِ صنوبر وارفة. سمّرت عينيَّ على وجهها المتورد ورحت أنقلهما من الشفاه الرطبة الممتلئة، إلى العنق الأبيض الأملس، إلى الصدر النافر بوحشية يكبتها فستان من الدانتيل الأزرق الذي يلف صدرها وبطنها ثم ينزلق بشهقة ثكلى فوق الردفين اللذين يرتكزان على ساقين يبدوان من الخارج آية بديعة من آيات التناسق البشري.
إنها مخلوق مجدول من السحر والفتنة والشوق المجرّح بالدعوة.
هززت رأسي وأنا أحاول أن أنتقي الكلمات المناسبة لأرد بها على سؤالها عندما ألحت عليّ:
ـ هل يسمح الأستاذ بمراقصتي بدلاً من التحديق بي هكذا؟
أجبت بلهجة مهذبة جداً لم ألبث أن هنأت نفسي عليها:
ـ سيدتي، أنا لست أستاذاً، كما إني لا أجيد الرقص.
ردت بصوت مليء بالأنوثة والدفء:
ـ لا يهم، سأعلمك.
ـ أخاف أن أدوس على قدمك، كما أني بطيء الحركة وخاصة على هذا البلاط الأملس الذي لم أتجرأ بعد على السير عليه.
قذفت رأسها إلى الوراء فتطايرت خصلات شعرها على كتفيها وضحكت ضحكة رقيقة ثم أعلنت:
ـ أنت إنسان طريف حقاً وجمَّ التواضع.
ـ تواضع؟ أنا هنا أضيع من الأيتام على مآدب اللئام وهذه أول مرة أرى فيها بشراً كهؤلاء.
ـ أنت تعجبني وهذا المهم، ألا تجلس؟
تساءلت بحيرة:
ـ ولكنك لا تعرفين اسمي بعد، وأنا أشك بهذا الإعجاب.
ـ بالعكس لقد سألت "عدنان" عنك، فأخبرني كل شيء.
ـ لكن "عدنان" نفسه لا يعرف شيئاً عني.
ـ أنتَ لست قارة جديدة حتى نحتاج إلى اكتشافها. اجلس، إن سمرتك هذه سمرة جبلية صافية.
جلست بسرعة على المقعد الطويل الذي كنت أقف وراءه منذ بداية الحفلة دون أن انتظر جلوسها أولاً، فقد كانت هذه الدعوة إلى الجلوس الحل الوحيد الذي أنقذني من ارتباكي. وارتمت إلى جانبي بكل أنوثتها وفتنتها وعطرها النفاذ الذي مشى في أعصابي فخدّرني.
راحت تحدق بي، وبثيابي، ووجهي، وشعري، وأصابعي التي سارعت إلى إخفائها في جيبيّ بنطالي، وأحسست أني بدأت أرتجف وأني أتمنى أن تنشق الأرض في تلك اللحظة لتبتلع القاعة وأندثر معها. أي موقف أحمق وضعت نفسي فيه عندما وافقت على الجلوس معها؟
ـ هاأنت تجلس قربها. ماذا تقول لها الآن أيها الأحمق؟
هذا التوبيخ لنفسي لم يضع حلاً لورطتي. أعرف أن ثيابي بسيطة، ولست أنيقاً، وأعرف أني منذ دخلت هذا البيت وأنا أتصرف بشكل تافه، وأنني، أخيراً، لا مكان لي هنا.
ولكن لماذا تحدق بي هكذا؟
ألم أقل لها إني لست واحداً من هؤلاء الناس الذين يعرفون كيف يبددون وقتهم.؟
شعرت بالحرج والارتباك، كانت نظراتها بطريقة ما تعريني، فنبرت بصوتي:
ـ إنك تنظرين إليّ وتتفحصينني كأنك تريدين شرائي؟
ـ إن صوتك مليء بالرجولة.
ـ إذا لم يعجبك يمكنك الانسحاب، أما أنا فلن أتحرك، هذا المقعد لي ومنذ بداية الحفلة وأنا أقف هنا.
أغمضت عينيها وهي تهمهم بنشوة فائقة وتعض شفتها السفلى بأسنانها النظيفة:
ـ ما أروع جرأتك. إن كلماتك الصريحة تأسرني. إن أروع ما فيكم أنكم لا تعرفون التملق.
ـ أنت تتحدثين بصيغة الجمع. من تقصدين بـ "إنكم"؟
ـ أنتم الريفيون. تتحدثون بشكل مباشر دائماً وكل شيء تسمونه باسمه. إن هذا يعجبني جداً هات أشعل لي سيجارة.
أخرجت علبة لفائفي وقدمت لها واحدة منها. وعندما أخذتها نظرت إليها ثم أعادتها لي قائلة:
ـ هذا النوع الثقيل من الدخان يمزق لي صدري. كيف تستطيع أن تدخن منه؟
ـ لأنه رخيص الثمن أولاً ولأنني اعتدت عليه ثانياً.
تركتني ثم مضت إلى غرفة الملابس، حيث كانت حقيبة يدها، وأحضرت علبة سجاير أمريكية فاخرة، أشعلت واحدة منها وراحت تدخن بهدوء، وتمتص الدخان ثم تنفثه خيوطاً ملتوية زرقاء ولم تلبث أن أسندت ظهرها العاري إلى المقعد الوثير وأغمضت عينيها وهي تدندن أغنية إنكليزية مشهورة:
"في كل مساء
أشتاق إليك يا حبيبي
في كل مساء
أشعر أني وحيدة ويقتلني الفراغ....".
ابتلعت ريقي أكثر من مرة وأنا أرقب هذه الأنوثة الملائكية مضطجعة إلى جانبي، وأحسست فجأةً أنني أشتهيها بكل غرائزي ووجودي. وأنني أتنازل عن خمس سنوات من حياتي لقاء ليلة معها.
وأحسست بالشفقة على نفسي عندما اكتشفت لأول مرة, أنني أعيش في عالم لا أعرفه، ولا أعرف عن الحياة إلا دروب الشقاء والألم.
ما قيمة تعلقي بالأخلاق؟
فاجأت نفسي بهذا السؤال، وأعجبني أنني ما زلت أستطيع التفكير.
إن الأخلاق هنا شبيهة بوردة تنمو فوق مزبلة.
أنهت أغنيتها الإنكليزية وانفرجت عيناها ببطء ثم تطلعت إليّ وسألت هامسة:
ـ بماذا تفكر؟
قلت بحيرة:
ـ ما أصعب الإجابة على هذا السؤال.
ـ لماذا هل تخجل من أفكارك؟
أجبت محتداً وقد خفت أن تكتشف ما أفكر به:
ـ إنني لا أفكر بأشياء مخجلة. ولا يحق لك أن تقولي لي هذا.
عندما رأيت بسمتها، أدركت أنها لم تقصد إحراجي، فقلت:
ـ كنت أتساءل، وأنا أرى كل ما يحيط بي، كيف تستطيع الحياة أن تكون كريمة مع البعض كرماً لا حدَّ لعطاءاته، وتكون شحيحة خاوية كالعدم مع الآخرين.
ـ عن أي شيء تتحدث؟
ـ منذ سنوات علموني أن أبتعد عن المجتمع الذي يضم المرأة السافرة والخمر، لأن هذا الثنائي عندما يجتمع يكون الشيطان ثالثه. والشيطان سائق يقود عربته إلى جهنم.
كانت تصغي إليّ بشغف يشوبه الذهول.
ـ لكنني اليوم بدأت أدرك أنني كنت ميتاً. وأنني قضيت حياتي في استشهاد لا مبرر لـه ولا جدوى منه إن الأفكار البالية، والقيم المعزولة والمنطوية على نفسها لا تستطيع أن توقف زحف الإنسان إلى حياة جديدة، يلقي ظلاله الكبيرة على جميع أبعادها ومتاهاتها.
اعتدلت في جلستها وفتحت عينيها جيداً وهي تنظر إليّ فتابعت حديثي دون الإحساس بأي حرج لقد كنت بحاجة لأن أقول شيئاً وإلا تمزقت:
ـ لقد عشت بين بشر يموتون كل يوم من الجوع والمرض، وهم يتمتمون بالدعاء والشكر على هذه النعم التي لم تبق منهم غير جلود مزرقة
وعظام ناتئة.
ـ أنت إنسان حساس جداً.
كانت ملاحظتها تافهة جداً، لكني لم أجب عليها، وتمنيت في تلك اللحظة أن يحضر "عدنان" لعل كأساً أخرى تساعدني، لكنه كان مشغولاً في دوامة الصخب...
ـ لقد تركت قريتي لأنني لا أريد أن أموت. ووجدت نفسي في مكان آخر لا يبعد عن قريتنا أكثر من ساعة زمنية في أية طائرة قديمة، لكنه من جهة أخرى بعيد جداً وعالم آخر مجهول الهوية والطابع. لقد تعلمت هناك أن الموت حق، وأنا أرى اليوم أن الموت نهاية لا لزوم لها وأن في حياتنا بشراً يموتون كل يوم من أجل لا شيء بعد أن أمضوا حياتهم في صقيع الفراغ.
توقفت قليلاً وحدقت بها. كانت تصغي إليّ والذهول المشوب بالشفقة يرتسم على وجهها:
ـ أرجو المعذرة. لا أعرف لماذا أحدثك عن هذا كله. "عدنان" لا يستطيع أن يقول لك شيئاً حقيقياً عني لأنه لا يعرفني، إن كل ما عشته من قبل كان رسوبات وسخة أغلقت تفكيري وأمسكت زمام رقبتي.
أغمضت عينيها وأعادت ظهرها إلى المقعد ثم امتصت نفساً طويلاً من لفافتها وقالت مستاءة:
ـ لم أكن أصدق يوماً أن هناك إنساناً يهتم بالحياة حتى يفلسفها بهذا الشكل. أنت تبدو إنساناً غريباً وتحس أكثر من اللازم، وهذا يعذبك عذاباً مرَّاً.
ثم استدارت نحوي وسألتني بإصرار:
ـ ذات يوم سترقد تحت التراب عيوناً مطفأة في استقرارة أبدية, لماذا لا تفكر أن هذا كله لن يفيدك شيئاً؟ لماذا لا تمزق هذه القدرية الحمقاء، وتحيا حياتك كأنَّ الزمن كله تجمد في هذه اللحظة.؟
أوشكت أن أقول لها، إن ما يعذبني هو أنني لا أهتدي إلى الطريقة التي توصلني إلى ذلك، عندما ارتفع التصفيق فجأةً وانتهى الرقص وتوقفت الألحان الصاخبة التي سببت لي دواراً.
حاولت مرة ثانية أن أقول لها شيئاً، لكن "عدنان" في تلك اللحظة وقف وسط القاعة لاهثاً والعرق يغمر وجهه ثم صاح:
ـ والآن حان وقت الطعام. لقد أعددت لكم عشاء ستأكلون معه أصابع أقدامكم.
ارتفعت الأيدي تصفق طرباً ونشوة، وبدأت زوبعة من التعليقات افتتحتها فتاة نحيلة عندما قفزت فوق مقعد وثير غاصت به حتى رسغيها وزعقت:
ـ الرقص والطعام دعامتا الحياة.
نط إلى جانبها شاب بيضوي الرأس، صفف شعره بطريقة مزرية وألصقه بعظام جمجمته ثم علق:
ـ "نهلة" تقول إن الرقص والطعام دعامة الحياة وأنا أقول إن المرأة دعامة الحياة، لولاها لكان هذا العام مقفراً من أي جمال.
صاح صوت خشن من وراء عامود ضخم:
ـ عاشت المرأة.
وعوت أصوات الرجال بضجة عجيبة، عندما هدأت صرخ "عدنان" فيهم:
ـ هس, أيها السادة المنحلون. فكروا معي قليلاً, إن قاعة الطعام لن تتسع لكم جميعاً، أنا أقترح أن يأخذ كل واحد صحنه بيده، على الطريقة الأمريكية، ما رأيكم؟
علقت فتاة أخرى وجهها مطلي بالأصباغ كأنَّه وجه دمية:
ـ عاش "عدنان" وعاشت أموال أبيه. اتبعوني.
وركضت باتجاه قاعة الطعام، فانفلت الشباب والفتيات وراءها بشكل قطيعي، وعندما غيبهم الباب ساد سكون عميق، كأنّ أحداً لم يكن في هذه القاعة منذ الأبد.
وبقينا وحدنا. الأنوثة الغافية على المقعد، وأنا إلى جانبها شوق جريح مشتت بين خصلات الشعر، وانفراج الفم، وتنهد الصدر الآسر.
أحسست براحة قصوى فقد استطعت أخيراً أن أكون وحيداً، مع نفسي ومع هذا المعبد من الجمال رحت أنظر إليها وأنا أحاول أن أذوّبها في عيني. إنها امرأة حقيقية تمنح الخلود لمن يعيش معها. رفعت كأسها إلى فمها، كنت أحسبها غافية، ورشفت منه رشفة قصيرة ثم سألتني دون أن تفتح عينيها:
ـ لماذا لم تذهب معهم. ألست جائعاً؟
ـ إن من يجلس معك ينسى كل شيء، ويصبح شفاهاً تصلي أمام هذا الجمال.
ـ أنت إنسان شاعر وقد بدأت ترى جيداً.
ـ أنا لست شاعراً، إنني الآن مصور بارع يلتقط المناظر الجميلة بأمانة.
ـ هل أعجبك؟
ـ كثيراً.
ـ لماذا لا تقبلني إذن؟
سعلت سعالاً مفتعلاً، وأحسست أن أصابعي بدأت ترتجف من جديد فوضعت يديّ في جيبيّ فوراً. إن شيئاً ما بدأ يغلي في صدري فسألت متغابياً:
ـ نعم؟
فتحت عينيها الجميلتين وصلبتني بينهما ثم قالت بإصرار:
ـ قبلني.
ـ لماذا؟
ارتجفت في مكانها فجأة. وتحول صفاء عينيها إلى احمرار لئيم ينفث حقداً لا أعرف سببه، ثم هبت واقفة على قدميها، منتصبة القامة كأنَّ كل ما شربته قد تبخر من رأسها ولم يبق لديها غير صرخة قذفتها في وجهي:
ـ أنت فلاح.. فلاح قذر.

الشيء الذي كان يغلي في صدري منذ بداية الحفلة قد انفجر الآن وانتهى الأمر. انفجر وقذف غشاوة لزجة على عيني استوت جميع الأشياء. عم الطوفان. وبدأ رأسي يدور كأنني تلقيت ضربة عنيفة عليه. لقد أهانتني هذه المرأة إهانة بالغة.
ـ أنت فلاح.. فلاح قذر.
تذكرت أمي وأبي واخوتي الصغار. تذكرت قريتنا الصامتة ونساءها. بدأت أسمع صوت الشيخ في قريتنا يتناهى إليّ من بعيد وهو يتحدث عن المرأة والعفة وغواية الشيطان.
هل نحن قذرون حقاً؟
في قريتنا تخجل الفتاة من رفع رأسها عن الأرض، إذا تطلع رجل إليها، وهنا تتبارى الفتيات بتقصير فساتينهن، وعرض أجسادهن، بل إن المسؤولين يسمحون بإقامة مسابقات لبعض التافهات يعرضن فيها أردافهن، ويقسن صدورهن، وطول قوائمهن، ليحملن ألقاباً تافهة.
هل نحن قذرون حقاً؟
هكذا قررت هذه المرأة التافهة. ولكن كيف تتلوث عفة الإنسان حقاً؟
المرأة هنا واعية ومثقفة، وهي عندما تمنح شيئاً، فإنها تفعل ذلك، وهي واعية وتعرف معرفة مسبقة كل النتائج المنتظرة.
النساء في قريتنا إذن غبيات وجاهلات أيضاً. إنهن لا يعرفن شيئاً عن العفة الحقيقية، أين تكمن هذه العفة وكيف تتلوث؟ أتكون عفة الإنسان وأخلاقه قذرة إلى حد أنها تكمن في ملابسه الداخلية، أم أنها عالقة ببصاق الإنسان وعلى شفتيه حتى يفقدها عند أول قبلة؟
هل نحن قذرون حقاً؟
لماذا أثور أنا ألأنني عفيف حقاً؟ ألم أرغب هذه المرأة وأتمنى أن أنالها بكل جوارحي؟
صحيح أني لم أرتكب معها إثماً، لكنني، على الأقل، فكرت تفكيراً آثماً. هل جرحت مبادئ فضيلتي بذلك؟ لماذا أثور وعن أي شيء أدافع؟
لست أدري ولا أريد أن أدري. كل ما أعلمه أن هذه المرأة قد أهانت كبريائي، وقد تعمدت ذلك، هذه الدمية المزوقة، أهانت كبريائي لأنني رفضت أن أكون وسيلة لنزواتها المنحطة.
لا يسكت عن الإهانة إلا السافل.
كانت قد وضعت كأسها الفارغة على طاولة صغيرة ومشت متمايلة نحو الباب، فتبعتها ووقفت أمامها أسد الطريق وهتفت غاضباً:
ـ هل تجرؤين على ترديد ما قلته منذ لحظات؟
ضربت الأرض بقدمها وقالت بغيظ ظاهر:
ـ دعني أيها السافل. أنت فلاح.. فلاح قذر.
أحسست أن جميع من في قاعة الطعام قد سمع صوتها، فجاؤوا يتدافعون نحو الباب. هذا مناخ مناسب لأن أبدي احتقاري لهم جميعاً، إن أحداً منهم لا يهتم بي ولا يعرفني، وقد آن الأوان لكي أقول من أنا، فظللت واقفاً أحدق بها وقلت:
ـ أيتها السيدة المهذبة. أنا فلاح، لكنني لست قذراً.
ورفعت يدي وأهويت بكل قوتي على خدها بصفعة أتبعتها بثانية من ظهر يدي كانت امتداداً للصفعة الأولى وقوتها. جحظت عيناها، وفتحت فمها مذهولة، بينما ارتفعت من ورائي صيحات الاستنكار وتعليقات الاشمئزاز. لم تقل شيئاً بل رفعت يدها الطرية وتحسست خدها الذي تورد فجأةً واندفع الدم إليه وظهر شيء كالوهج الأحمر تنفثه عيناها.
ـ أصدقاؤك الآن يفتحون أفواههم كالمجاديب ولا يصدقون ما يرون، انظري إليهم؟ هل تقولين لهم السبب؟ هل تقولين لهم: إنني طلبت إلى فلاح أن يقبلني فرفض، ولما حاولت إهانته صفعني؟ هل تعرفين معنى الإهانة أيتها السيدة؟ وهل تعرفين أني أرفض أن أقبلك لأن مثيلاتك يسببن القرف لي رغم عطورهن وأناقتهن.
وقبل أن أدير ظهري إليها، تطلعت إلى باب غرفة الطعام، ورأيت عشرات العيون تنظر إليّ ذاهلة كأنها ترى شيطاناً أمامها. تفرست في الوجوه متحدياً، كان ينبعث من عيني شيء لا أعرفه لكنه كان مزيجاً من الحقد والعنف والاحتقار بشكل أن معظمهم أحنى رأسه خجلاً أو خوفاً أو إشفاقاً على جنوني. أحنيت رأسي لأبصق لكن لمعان البلاط أوقفني.
انفتلت، ثم سرت بخطوات بطيئة متزنة دون أن أشعر، لأول مرة في هذه الحفلة، بأي حرج أو خجل قد يلحقني بسبب ثيابي التي لم تكن مناسبة لحفلة ساهرة.
قبل أن أصل باب الخروج كان "عدنان" و"أنور" قد لحقا بي وأمسكاني. سأل "أنور":
ـ إلى أين ذاهب؟
ـ إلى البيت، أو على الأصح إلى الغرفة التي نسميها بيتاً. دعني أريد أن أرتاح بمعزل عن ترف هذا القصر وصخب الرقص فيه.
ـ يجب أن لا تذهب بهذا الشكل، من أجل "عدنان" على الأقل.
تدخل "عدنان" قائلاً:
ـ أنت لم تتصرف منذ بداية الحفلة تصرفاً فيه شيء من الرجولة. لقد أهنتها وكانت تستطيع أن تهينك أيضاً.
ـ لا تكن تافهاً "عدنان". أنت تعلم أنها عاجزة عن إهانة مخلوق، إنها لا تشعر بمهانتها الشخصية.
ـ أتعلم من هو زوجها؟
ـ لا أعلم ولا أريد أن أعلم. إنها امرأة حقيرة.
ـ ولكن لماذا؟ ما الذي جرى بينكما؟
ـ لقد طلبت مني أن أقبلها فرفضت.
ـ ماذا؟ يا رب العالمين. اسمع يا رجل، اقبل نصيحتي هذه، اذهب
وانتحر فوراً.
ضرب خده بيده، وعبث بأذنه قليلاً ثم تابع بحدة:
ـ يجب أن تقذف نفسك تحت عجلات أول سيارة تراها، اقفز من أعلى أبنية المدينة، افعل أي شيء، لكن مت. أنت لست رجلاً. يا ملعون دينك، طلبت إليك أن تقبلها ورفضت؟ أعوذ برب الفلق، ما هذه الليلة؟
شعرت بالضجر من ثرثرة "عدنان" فقلت وقد ضايقني الوقوف عند الباب:
ـ مع احترامي لك. اسمح لي أن أقول: إن حضرتك حمار. أنا أحدثك من الغرب وأنت ترد من الشرق. دعني "عدنان" إننا لا نتكلم لغة واحدة.
ـ أي شرق وأي غرب هذا يا رجل؟ إن ألف رأس من رؤوس المدينة المحشوة مالاً تدوخ من أجل إرضائها. إن "شلتنا" تعرفها منذ سنتين، سيارات وحفلات وولائم، لكن أياً منا لم يظفر منها بأكثر من رقصة باردة.
وسكت قليلاً ريثما التفت إلى الوراء، حيث كان الجميع يقفون بين مستاء ومذهول، ثم قال هامساً:
ـ أتدري أيها المأفون؟ إنها متزوجة من مصرف متخم بالأرصدة، لكنه مصرف عجوز، يهمه أن ينال جسدها لو مرة في الشهر فقط. إنها..
اقترب مني أكثر وهمس:
ـ إنها تريد شاباً تتخذه. أقصد. أفّ.. اللعنة، إن الشيطان وحده يعرف لماذا رفضت طلبها. غادر هذه المدينة فوراً، أنت لست رجلاً.
نظرت إليه طويلاً، وتذكرت الحديث الذي دار بيننا في النهار, وتمنيت أن أصفعه هو الآخر لعله يستيقظ من هذه الغيبوبة البلهاء، لكنني لم أفعل وسكت على مضض. فسألني "أنور":
ـ لماذا رفضت هل أنت معتوه؟
ـ لست أدري. لقد فاجأتني، ولم أكن أتوقع أن المرأة سهلة.. أقصد، إنها.. لا يمكن أوه.. دعني.
ومشيت باتجاه الباب، ثم خرجت منه، فتبعني "عدنان" وسار إلى جانبي وسألني وهو يحدق بي، ويضرب كفا بكف، كأنَّه امرأة ثكلت ولدها:
ـ إنني لا أفهم شيئاً. لا شيء أبداً، أنت تختلف عن "أنور" وتختلف عن "أحمد" أيضاً، ولست بالتالي واحداً منا، وتركت قريتك لأنك لست واحداً منها، كيف تريد أن تستمر، من أنت؟
ـ مشكلتي أحياناً أني لا أريد الاستمرار. الحياة استمرار، استمرار لأي شيء؟
هبطت درجات البيت الرخامية، حتى وصلت الرصيف، فتبعني صوت "عدنان" يسأل:
ـ هل تريد أن أوصلك بسيارتي؟
ـ شكراً. سأذهب ماشياً.
عندما وضعت قدمي على إسفلت الطريق، توقفت أمام سيارة "مرسيدس" سوداء اللون، كنت مفتوناً بهذا النوع من السيارات، ورحت على غير هدى أتحسسها بيدي، عندما شعرت أن "عدنان" وقف إلى جانبي وهمس بصوت لـه مغزى:
ـ هذه سيارة "عفاف".
قلت متسائلاً بشرود:
ـ "عفاف"؟ من "عفاف"؟
شبك يديه فوق صدره، وسألني وقد أوشكت عيناه أن تخرج من وجهه:
ـ من "عفاف"؟ لقد جلست معها أكثر من ساعة، شربتما ودخنتما، وطلبت منك أن.. أن.. تقبلها، يا رجل هل معنى هذا أنك لا تعرف اسمها ولم تسألها عنه.؟
قلت وأنا أبتعد عن المنزل الفخم:
ـ ولماذا أسألها؟ ما قيمة اسمها طالما أنه "عفاف"؟
..... في يوم ما ستغزو بيوت الطين رخام المدينة..
سيقتلع الفقراء من الشوارع لافتات عبوديتهم، وينزعون الإسفلت الأسود الصلد. من الشوارع حتى تتنفس الأرض بحرية وطهر.
في يوم ما سيصبح الخجل عاراً. لن يخجل أحد. ولن يحني مخلوق رقبته بعد ذلك يومها فقط قد يهجرني الخجل، وأكتشف أزقة المدينة المظلمة. يومها؟ من يدري.. قد يضحك الناس من أعماقهم، ويرقصون بفرح حقيقي، لكنهم اليوم يرقصون خوفاً من التشنج، ويضحكون لأنهم يقاومون الدموع ويجاهدون ضد النحيب.





الفصل الثالث عشر

الغرف الفسيحة التي كنا نظنها طوال العام مكاناً مترفاً نتصبى فيه وجوه الفتيات، أصبحت أيام الامتحان مكاناً لجلدنا، ولوحة يتلون عليها قدرنا ومستقبلنا.
كانت الساعات تهرم من حولنا والأيام تمضي دون أن نحس بها. ولم يكن يزعجنا أثناء الدراسة إلا "الساعة" الرخيصة التي اشتراها "أحمد" ووضعها في الغرفة ليوقظنا رنينها منذ ساعات الفجر الأولى. تلك الساعة اللعينة، كان رنينها المتواصل يمرّ في رأسي كالمشارط ويعض حواسي بأنياب صغيرة كأظافر طفل.. لكن وجودها كان فيه بعض الطرافة، فعندما تبدأ بالرنين أدفن رأسي تحت الوسادة وأشد الغطاء فوقي، وعندما تذهب محاولاتي عبثاً أنفجر بثورة غضب في وجه "أحمد".
ـ ساعتك القذرة هذه ستثقب رأسي. إذا لم توقفها فوراً سأرمي بها في برميل الزبالة. "أنور"
يحتج أنور ببرود وهو مازال تحت الغطاء:
ـ ولماذا ترميها؟ دعها لي، في يوم قريب سأبيعها وأشتري بثمنها
زجاجة نبيذ.
ويهدد "أحمد" وهو يرتدي ثيابه:
ـ إن من يلمس هذه الساعة سأخلع لـه رقبته. لقد نمنا طوال السنة، وإذا لم ندرس الآن بجدّ كيف تريدون أن ننجح؟
تثاءب "أنور" وعلق ساخراً:
ـ سننجح بدعائك فضيلة الشيخ.
ـ أنت إنسان كسول عفن، ولن تتخرج من الجامعة حتى يتخرج منها حمارنا.
ثم التفت إليّ:
ـ و أنت؟ أتعلم إذا لم..
نهضت من سريري مسرعاً ووضعت يدي على فمه وقلت متوسلاً:
ـ أرجوك. أفضل ألا أنام كل حياتي من أن أسمع نصائحك المتهرئة.
ما أشنع أن يستيقظ الإنسان باكراً. وما أشنع أن تظل حياتنا هكذا، نحسبها بالدقائق والساعات وليس لدينا ما نعمله أو نفكر به إلا أن ندرس من أجل غد يبدد هذه العتمة الأبدية التي نعيش في متاهاتها الزنخة.
الغد؟ هذه كلمة مسلوخة عن وجدان بشر لم يجدوا في حياتهم ما يعملونه إلا أن يحلموا بيوم تشرق فيه شمس جديدة، تكللهم بدفئها وحرارتها بعد أن هدهم صقيع العالم.
إنني لم أؤمن بالغد أبداً ولم أؤمن بجدوى الاستشهاد من أجله. إن الغد قد لا يجيء أبداً فلماذا أعمل الآن لـه، لماذا أدرس وأتعب؟
دائماً أتوقف عند هذا السؤال.
دائماً أقنع نفسي أن الدراسة موضوع آخر يختلف تماماً عن الغد وغموضه، الدراسة الآن معركة من أجل البقاء بشكل لائق. ولا بد أن أستمر مهما أصابني من وهن رغم أني متعب...متعب حتى العياء والشفقة.
لكن هذا التعب كان يذهب ويذوب عندما كنت أسرق ساعة أو ساعتين من وقتي وأذهب إلى المكتب لأرى "براءة" وحيدة مع جمالها. هناك ألقي عند شطآن عينيها كل الوهن الذي كنت أعاني منه. إنني أعبد عينيها، أعبد الفتور الحزين فيهما، هذا الفتور الذي كان يبتسم بحبور عند رؤيتي أعبث بأوراق مكتبي بلا هدف ولا غاية فتدرك أني جئت من أجلها لا لسبب آخر.
ولم يستطع "أنور" و"أحمد" أن يكتشفا هربي اليومي إلى المكتب، ولم يفهما سرّ الفرحة في عيني أحياناً، ما أكثر ما تفعله عيناها بي.
وقد حدث ذات مساء أن رأيتها تتأبّط ذراع والدها أمام إحدى دور السينما، بينما كنا عائدين من "الغوطة" لفت نظر "أنور" و"أحمد" إليها وأنا ألاحقها بعينين ملهوفتين. وقف "أنور" وراح يقيسها بعينيه الخبيثتين ولم يلبث أن نخر من أنفه وقرر:
ـ لا بأس بها بشكل عام.. لكنها نحيلة.
أجبته مستاء:
ـ نحيلة؟ أهذه مقاييسك للجمال أيها المسطول؟ أنت تقدر الإنسان بطبقات اللحم والشحم التي يختزنها تحت جلده. إنك تحمل نفسية جزار. ولست أكثر من جلف يدرس في الجامعة.
ـ لا بد للمرأة الجميلة أن تكون ممتلئة الجسم ومتناسقة الأعضاء، حتى إذا قدر لك يوماً أن تحتضنها شعرت بدفئها كامرأة لا كهيكل عظمي مغطى بالجلد.
بصقت على "أنور" وعلى أفكاره المنحلة بينما همس "أحمد" في أذني:
ـ لا تلتفت إليه. إن لها وجهاً يطفح بالروعة والجمال.
ـ هذه شهادة من إنسان منصف وأنا أكتفي بذلك.
أروع ما في حياتنا أن جميع مشاكلنا كانت تنتهي ببسمة أو لحظة صمت. وأقسى الأيام كانت أيام الدراسة والامتحان. كانت الأيام رتيبة لكننا احتملنا كل شيء بصبر عجيب حتى آخر يوم عندما عدنا إلى الغرفة وغرقنا في عمليات الإحصاء والتقدير للمواد التي أجدنا بها والمواد التي لم يحالفنا الحظ بها، و انتهينا إلى النتيجة التي ينتهي إليها معظم التلاميذ والطلاب بأن نجاحنا مضمون إذا أنصف الأساتذة.
لكن "أحمد" كان يخالفنا الرأي بذلك، فقد برم كفه بحيرة وطعج ظهره إلى الأمام ليريح خده على يده ثم قال باطمئنان:
ـ ليس الموضوع موضوع أساتذة. لقد فعلنا ما علينا ولن يتخلى الله عنا.
تفرست بوجهه الهادئ، وأدركت أنه ليس طيباً فقط، لكنه بسيط إلى حد السذاجة وأن إيمانه بالقضاء والقدر إيمان عفوي ليس لـه أية أرضية فكرية. هممت أن أقول لـه شيئاً من هذا القبيل عندما لمحت "أنور" قد بدأ بخلع ملابسه، فسألته بسرعة:
ـ ماذا تفعل أستاذ؟
رفع "منامته" بيده وأجاب مستاء:
ـ سأرتدي هذه لأنام. من حقي بعد شهر من التعب أن أريح رأسي من الدراسة ومن "ساعة" الشيخ "أحمد". هل لديك اعتراض على نومي أيضاً.
ثم التفت إلى "أحمد" وقال لـه:
ـ وأنت؟ إننا لم نعد بحاجة إلى الاستيقاظ قبل الدواب. أوقف هذه الساعة القذرة فوراً وإلا نزعت آلاتها وجعلت منها منفضة للسجاير.
ثم تابع خلع ملابسه فقلت لـه:
ـ إذا لم تعد إلى ارتداء ملابسك فإنني سأجعل من رأسك منفضة للسجاير. ما هذا يا رجل؟ بعد شهر من الدراسة نعود مباشرة من قاعة الامتحان إلى هذه الزريبة؟ قم "أنور". يجب أن نحتفل بانتهاء الامتحان.
تساءل "أحمد":
ـ نحتفل؟ وكيف ذلك؟ ألا ننتظر ظهور النتائج؟
ـ لا تخف على النتائج ألم تقل إن الله معنا؟ قم بنا.. سنتشرد في هذه المدينة وأزقتها ونتفرج على الآخرين كيف يعيشون ويبذرون حياتهم. اللعنة على الحضارة. حياتنا زفت.
حملق بي "أنور" مشدوهاً، وقال وهو يلبس ثيابه بسرعة غريبة:
ـ لقد تبدلت. أصبحت مخلوقاً رائعاً.
ثم غمز بعينه وسأل بخبث:
ـ هل ثمة "مشروع" برأسك؟
ـ أي مشروع أيها الأجدب؟ ألا ترى أنني أدعو الشيخ "أحمد" معنا؟ عندما يكون فضيلته لا مجال لشيء إلا للصلاة وقراءةَ الشعر.
أجاب "أنور":
ـ لا بأس. سننفلت في شوارع هذه المدينة، ما أرع أن يضيع الإنسان هنا. هذه المدينة, بشرفي، لا تنفع لشيء إلا للضياع. إنها مهيأة لكل شيء ولكنها فارغة من أي شيء. هل تفهم شيئاً؟ إنها كالمرأة العاقر التي تتوحم، الملعونة، يسيل لعابها دوماً ولا تنجب شيئاً.
ليكن سنتشرد. هذه فكرة، بشرفي، رائعة ولتعش كلية العلوم من أجلك.
كان "أنور" يثرثر عندما التفت إلى "أحمد" وسألته:
ـ ألا تذهب معنا؟
أجاب وقد نهض لارتداء ثيابه:
ـ سأذهب. ولولاك أنت لما مشيت خطوة واحدة مع "أنور". هذا المخلوق المنحل.
خرجنا من الغرفة، وابتلعتنا متاهات المدينة الغابية.
تبعنا امرأة كانت تسير وحيدة في شارع بغداد، وقبل أن تدخل بيتها التفتت إلينا وبصقت:
ـ تفوه.. على شباب هذا الجيل.
دخلنا خمارة عند ضفة بردى وبقينا ساعة نشرب الخمر بينما كان "أحمد" ينتظرنا في الخارج. ركبنا باص "المهاجرين" ودفعنا ثمن تذاكر مخفضة، وعندما طلب إلينا الجابي أن نبرز هوياتنا الجامعية رفض "أنور" أن يبرز هويته فأنزلنا الجابي ولما سألته عن سبب رفضه قال:
ـ هذا الجابي حمار. يجب عليه أن يعرف أننا طلاب جامعة من سحناتنا ومنظر ثيابنا، والتعاسة البادية على وجوهنا.
سخرنا من حارس ليلي عجوز فركض وراءنا وهو يشتمنا بألفاظ نابية. ذهبنا إلى حديقة "السبكي" وتسلقنا أشجار الصنوبر فهرول حارس الحديقة وأنزلنا بعد أن ألقى علينا محاضرة عن آداب التربية البيتية.... شاهدنا صبية حسناء تقف في شرفة منزلها ولما حاولنا مغازلتها ألقت علينا بعض الأوساخ......... مررنا بالقرب من مسجد فقرأ "أحمد" الفاتحة.. حضرنا فيلماً سينمائياً تافهاً يمجد القتل والخيانة الزوجية.... خرجنا من السينما قبل نهاية الفيلم بعد أن طردنا الشرطي لأننا كنا ندخن... تابعنا السير ونحن نفصص البزر ثم أطلقنا عقيرتنا بالغناء فاكتشفنا أن أصواتنا كريهة جداً، فسكتنا. وعدنا إلى الغرفة قبل الصباح بقليل.
لم ننم إلا ساعات قليلة ثم ذهب كل منا إلى عمله....
كان غيابي عن "براءة" قد ملأني حنيناً إليها. وعندما دخلت المكتب كانت تجلس وراء طاولتها كربّة من ربّات الإغريق، فوق شعرها الرائع حزمة ضوء ترسله شمس صيفية دافئة وبين أصابعها الطرية قلم تعبث به وهي شاردة النظرات. عيناها تخترقان أشياء الغرفة لترتمي خارجها وتضيع في زخم الشارع الذي يعوي الضجيج فيه.
التفتت إليّ وردت على تحيتي بفتور ولم أكن أنتظره بعد هذا الغياب المضني. تفرست في وجهها قبل أن أجلس وراء مكتبي فلمحت في عينيها الآسرتين تعباً لم ألمحه من قبل وكانت شفتاها ترتجفان كأنها تود أن تقول شيئاً وما أن يصل إلى شفتيها حتى يتلاشى ويذوب كأنه لهاث مضن. تجاهلت هذا وقلت بمرح مفتعل:
ـ لقد اشتقت إليك كثيراً. كيف حالك؟
نظرت إليّ ثم رددت بشكل آلي:
ـ هذا لطف منك. شكراً.
لا ريب أن شيئاً قد حدث لها فقلت وأنا أجرش ارتباكي:
ـ ماذا حدث "براءة"؟ هل هناك شيء يضايقك؟
رفعت رأسها إليّ ونبرت بصوتها:
ـ ألا تدري حقاً ماذا حدث؟
ـ ما الذي يدور برأسك؟ ثم ما معنى هذا الاستقبال لي بعد غياب شهر؟ أقسم بشرفي أنني لا أعرف ما حدث.
ألقت القلم من يدها بعصبية وشبكت أصابعها ببعضها حتى أصبحت أشبه بضمة من القوالب الشمعية وقالت وهي تشير إلى آلة الهاتف:
ـ لقد سألت عنك آنسة أو سيدة، لست أدري، أكثر من عشر مرات بالهاتف.
شعرت بارتباك مفاجئ فسألت:
ـ من هي؟
زفرت بنفاذ صبر زفرة قصيرة وهتفت:
ـ من هي؟ أنا التي أوجه إليك هذا السؤال؟
قطبت حاجبيَّ مستاء، وفكرت قليلاً، ثم أعلنت بصدق خالص:
ـ لا أعرف من هي، ولا أعرف في دمشق كلها فتاة سواك.
ـ وتكذب أيضاً؟
أجبت محتجاً:
ـ أنا لا أسمح لك بهذا. أنت تعلمين أنني لا أكذب ولست مضطراً لذلك. إذا كانت إحداهن قد اتصلت معي فأنا لا أعرف من هي، ولا أعرف ماذا تريد مني، وليس لدي جواب صادق لسؤالك وأنت، بعد هذا، حرة بأن تصدقي.
وتوقفت، ثم تذكرت شيئاً، فحدقت في وجهها، وقد ازددت سأماً:
ـ لماذا لم تقولي لي شيئاً من هذا عندما كنت أتردد على المكتب يومياً؟
ـ لم أكن أريد أن أشغلك بشيء أثناء الامتحان.
ـ ما الفرق؟ لقد قذفتني الآن في حيرة عمياء. هل تقولين لي. ماذا حدث بالضبط؟
رفعت عينيها إليّ وراحت تتفرس في وجهي كأنها تحاول جاهدة أن تتغلغل إلى أعماقي ويبدو أنها آمنت بصدقي، بعد تفكير، فقالت بضجر وهي تختصر القصة بكلمات:
ـ بعد أن أخذتَ إجازتك بيومين أو أكثر اتصلت معك آنسة أو سيدة، لا أعلم، وسألت عنك، أخبرتها أنك أخذت إجازة ولما سألت عن موعد عودتك وضعت سماعة الهاتف. عاودت الاتصال بعد ذلك أكثر من مرة، وهي آخر مرة سألت عن عنوان بيتك.
ـ ألم تذكر اسمها؟
ـ لم أسألها، فقد شعرت بالمقت.
تخثر رأسي بكآبة تشوبها حيرة عقيمة لا أدري معها ماذا أفعل أو كيف أتصرف. لم تكن لدي أية فكرة عن هذه القصة، وإن تفكيري بها سيقودني إلى متاهات أكثر. لماذا لا أتصرف ببساطة وأبتعد عن تعقيد الأمور؟
ـ صدقيني "براءة"، إنني لا أعرف شيئاً يكون جواباً أو تبريراً لهذه القصة، إنني لا.. أقصد، قد تكون.. أفّ. ما هذا؟ إنني مرتبك كبغل وقع في حفرة، دعيك منها "براءة" إنني، باختصار، لا أعرف شيئاً.
لم أكن واثقاً أنها اقتنعت بهذا المنطق السطحي. لكن صمتاً كثيفاً خيم علينا، والتفت كل منا إلى أعماله، خاصة وأن انقطاعي عن العمل دفعني إلى الاطلاع على كثير من القضايا المتراكمة فوق طاولتي.... واستغرقني العمل أكثر من ساعتين، دون أن أقول شيئاً، إلى أن رنّ جرس الهاتف فجأة فمزق صمت الغرفة. رفعت "براءة" السماعة وأصغت قليلاً ثم مدتها لي وقالت:
ـ المخابرة لك.
هرعت ملهوفاً وأنا أقول:
ـ ممن؟
ـ لا أعلم.
ـ وضعت السماعة على أذني بلهفة فجاءني صوت "أنور" بارداً:
ـ مرحباً يا أخ.
ـ يخرب بيتك، أنت؟
ـ من كنت تتوقع إذن، بريجيت باردو مثلاً؟
ـ سخيف. ماذا تريد أسرع، إنني مشغول.
ـ ولماذا تزعق بهذا الشكل اللعين في أذني، أتريد أن تمارس أهميتك أمام "براءة"؟
ـ ما زلت مصراً على أنك سخيف. إذا لم تقل ماذا تريد فوراً، سأضع السماعة.
ـ كفّ عن هذا الصراخ في أذني. أنا لا أريدك ولا أريد منك شيئاً، "عدنان" هنا، في مكتبي، ويريد أن يتحدث إليك.
ـ جاءني صوت "عدنان" يلوك سؤالاً:
ـ مرحباً. أين أنت أيها الهارب؟
لم أجب على سؤاله وقلت:
ـ أهلاً "عدنان". كيف حالك؟
ـ الحالة بشكل عام زفت. أصبحت كوعد شقي فوق شفاه امرأةً كاذبة. كل شيء أصبح في دمشق سيئاً. الفتيات فرغت أكفهن من الدفء، كلما تعرفت على فتاة تطالبني بالزواج. الامتحان أنهك قواي ولن أنجح. أفراد "الشلة" ذهبوا إلى المصايف. أقضي معظم أوقاتي وحيداً.
ملاهي دمشق كلها لا تساوي حذاء عتيقاً أين يذهب الإنسان؟
أطلقت صفيراً عالياً وقلت ساخراً:
ـ الحقيقة إن مأساتك لعينة. قل لي أيها البورجوازي الذي يفلسف الاشتراكية. أتكون حياتك سخيفة إلى هذا الحد، تبدأ بالمرأة وتنتهي بها؟
رفعت "براءة" رأسها بغتة وراحت تحدق بي غير مصدقة بينما كنت ألصق السماعة على أذني، "وعدنان" يرد مستاء:
ـ أنت إنسان يبعث على الضجر. وليس لدي وقت لسماع آرائِك العجيبة. اسمع، أريد أن أراك اليوم لنسهر معاً.
صرخت فوراً:
ـ نعم؟ كل شيء إلا هذا. إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ـ سلاماً أيها المؤمن الكبير. منذ متى؟ سنسهر معاً ولن أقبل
أعذارك السخيفة.
ـ إن سهراتك تسبب لي صداعاً، لست معتاداً عليها ولا أريد أن أعتاد عليها، أشكرك سلفاً.
ـ سأنتظرك في سيارتي الساعة الثامنة مساء أمام فندق "السميراميس".
ثم وضع السماعة دون أن ينتظر جوابي.
نظرت إليّ "براءة" وسألت:
ـ من هذا وماذا حدث؟
ـ هذا.. إنه "عدنان"، أحد معارفي الجدد، وقد دعاني إلى سهرة في بيته.
ـ ولماذا امتقع لونك هكذا؟
اغتصبتُ بسمة، كنت واثقاً أنها بسمة بلهاء. وأنا أرد:
هذه الدعوة مفاجأة لي. في مرة ماضية دعاني إلى سهرة، وكانت مليئة بالصخب والرقص والخلاعة. لست معتاداً على ذلك، أنت تعلمين هذا جيداً، وقد وقعت في مآزق لا عدَّ لها سببت لي حرجاً لا يوصف.
ـ معنى هذا أنك لن تذهب هذه المرة.؟
ـ لا أعلم. ما رأيك هل أذهب؟
هتفت "براءة" باستغراب:
ـ تسألني؟ لا رأي لي بذلك. اذهب أو لا تذهب، يجب أن تتصرف وفق رغباتك.
أحسست أنها غضبت. وأن إخباري لها عن السهرة الماضية قد أزعجها فقلت مدافعاً:
ـ أنا لست واحداً منهم "براءة". ثقي بذلك، إنهم معقدون وأنا أكره زيفهم وخلاعتهم. كنت في المرة الماضية ساخطاً على نفسي لأنني ذهبت إلى السهرة، وها أنا أقع في الفخ من جديد.
تطلعت إليّ بحنان ثم قالت بصوت هادئ:
ـ أريد أن أراك سعيداًَ دائماً. لكني أخاف عليك من هذه المدينة. إنهم مزيفون كما قلت ألسنتهم لا ترحم، ولا أريد أن أراك تنغمس معهم حتى لا تتلوث براءتك وتفقد أصالتك. إن إنساناً مثلك يجب أن لا يعيش مع دُمى.
غمرتها بنظرة حنان ولهى، وتمنيت بكل عمري أن أحتضنها بين ذراعيّ. من كان يظن أن أيامي المجدبة ستورق هذا البهاء؟ من كان يظن أن هذه الروعة الإنسانية تخاف على حياتي أن تدوسها أقدام المتوحشين؟ وأن هذا الجمال الراسي فوق شطآن عينيها يخشى عليّ أن أضيع عفويتي بين مسافات الحياة الغابية هنا.؟
قلت لها، وأنا أخنق غصة فرح وثبت إلى فمي:
ـ إن شيئاً في العالم لن يغيرني ولن يلوثني، ثقي بذلك، إنني أملك مشيئتي. ولن أسقط طالما أنت إلى جانبي، سأظل الإنسان الذي تريدينه. طالما أنت تحبينني لن تستطيع قوة أن تخرجني من نفسي.
طفرت دمعتان إلى عينيها وهي ترد:
ـ لقد جئت من الريف تحمل في أعماقك صورة الإنسان الأصيل، الذي لم تفسده المدنية بعد. إنني أثق بك ثقة لا حد لها، وأحبك حباً لم أكن أتصور أنني قادرة عليه. لقد أصبحت أنت كل شيء في حياتي، وأصبحت أنا أسيرتك منذ أن طبعتني بطابعك.
وسكتت برهة، ريثما رفعت خصلة من شعرها عن جبينها، ثم تابعت باستحياء:
ـ من أجل هذا أنا أخاف عليك. وأخاف على نفسي.
كنت أتمنى أن أقول شيئاً. لكني لم أجد ما أقوله. خفت أن تشعل كلماتها جذوتي أكثر من ذلك، فحاولت تغيير الحديث وقلت ممازحاً:
ـ امسحي دموعك "براءة" أرجوك. قد يدخل أحد الموظفين فجأة ويرانا في هذا الموقف الدرامي. لا تبكِ أرجوك، ولا تجعلي شيئاً في العالم جديراً بدموعك، أنا نفسي لست جديراً بها.
مسحت عينيها بمنديلها الحريري ثم رفعت إصبعها مؤنبة:
ـ لا تتحدث بهذه الطريقة أمامي. أنت لا تعرف معنى وجودك بالنسبة لي. إنك تستحق حياتي كلها.
أجبتها مازحاً لأبتعد عن هذا الموقف الذي سبب لي جفافاً في الحلق..
ـ إذن فأنا أريد حياتك لا دموعك. هيا اضحكي لي أرجوك.
انفرجت شفتاها الرائعتان عن بسمة فاتنة كللت وجهها الحنون، فعدت إلى مكاني وراء الطاولة وأنا أحك رأسي بحيرة وقلق.
ـ ما بك؟
ـ إن ابتسامتك تدوخني. سوف أطلب نقلي من هذه الغرفة، البقاء هنا صار مشكلة لأنني أفقد إرادتي يوماً بعد يوم وأتحول تدريجياً إلى صنم يتعبد أمام عينيك. هذا لا يجوز.
ـ جرب أن تنتقل وسوف ترى أني سأتبعك كظلك.
ابتسمنا معاً. وكنت في أعماقي أحس فرحاً طفولياً يغمرني بفيض من الغبطة بقيت منتشياً بها حتى خرجنا من العمل معاً... وجاء المساء...
لم يبق على الموعد الذي حدّده لي "عدنان" غير ساعة واحدة.
ساعة واحدة فقط. فما العمل؟ رحت أتجول في الغرفة، وأنا أعصر رأسي بين يديّ ملتاعاً كأن ألف فكرة هوجاء تعصر لي دماغي وتحملني كشيء تافه صغير لتلقيني في عتمة من التساؤلات تبدأ ولا تنتهي. كان شيئاً كالفضول يدفعني كي أذهب. أريد أن أجوس بين الناس أكثر، لكن الذكريات التي نخرت أعصابي من المرة الماضية، وموقفي الأبله كلما تذكرت ثيابي، وتشنجي وراء المقعد الطويل.. كل هذا كان يرعبني ويردعني.
التفت إلى "أنور" الذي كان يدخن فوق سريره وهو يتصفح مجلة أسبوعية وسألت:
ـ ما رأيك أنت، هل تذهب؟
رد باقتضاب دون أن ينظر إليّ:
ـ أنا لستُ مدعواً؟
ـ أتعني أن "عدنان" لم يطلب إليك أن تحضر الحفلة عندما حدثني من مكتبك؟ أقصد ألم...
ـ لا تجعجع كثيراً. ليس ثمة حفلة ليدعوني إليها.
ـ هل أقام لي حفلة خاصة؟ أعني.. تفوه. لم أعد أعرف كيف أعبر.
ضحك "أنور" بهدوء وقال:
ـ أستاذ، أنت تضخم الأمور. "عدنان" يريد أن يراك لسبب لا أعرفه. لماذا لا تذهب إليه ببساطة وتسأله عما يريد؟
أدار وجهه إليّ بعد أن طوى المجلة وقال:
ـ لماذا تظل خائفاً من الناس كأنك عذراء تخاف أن تفقد عفافها؟
قذفت "أنور" بتفاحة صغيرة كانت على الطاولة، لكنه أنزل رأسه قليلاً، فطارت لتلطم وجه "أحمد" الذي كانت يستمع إلينا صامتاً وهو يستند بمرفقه إلى الوسادة.
أخذ "أحمد" التفاحة عن السرير وضرب بها الأرض هائجاً ثم صاح:
ـ لعنة الله عليك وعلى أصدقائك ومشاريعك، وعلى "عدنان" أيضاً. هذا البورجوازي العفن الذي يحاول إخفاء حقيقته الوسخة عن الناس.
ـ إنني أعتذر "أحمد". لم تكن أنت المقصود بالتفاحة. ولا لزوم لثورتك هذه.
ـ أنا لا أثور من أجل ذلك. إن علاقتك مع "عدنان" لا تعجبني. إنه إنسان وسخ وهو يحاول أن يلبس لباس الاشتراكيين ليخدع الآخرين، وقد كنت بكل أسف، أحد ضحايا هذا الخداع.
تدخل "أنور" قائلاً:
ـ لا فائدة من مهاجمته الآن من هذه الزاوية. لقد طُرد منذ يومين من الحزب.
فاجأني الخبر فسألت "أنور" عن مدى صحته، أم أنه يقول هذا ليستفز "أحمد" فقال:
ـ الخبر صحيح. لقد صدر قرار بفصله من الحزب وقد جاء في حيثيات القرار إن لا أخلاقيته تسيء إلى سمعة الحزب الذي ينتسب إليه.
ـ وكيف تقبل القرار؟
ـ تظاهر بالهدوء، لكني لا أعرف الحقيقة.
ـ يبدو أنه كان يتوقع ذلك. إن سلوكه المشين لا يتفق مع الأخلاقية التي يدعو إليها الحزب لقد كان عالة حتى على رفاقه، وإن تحسسه الإنساني وهو يرى بؤس الكادحين كما قال لن يرقى أكثر من مراتب العاطفة الشخصية.
ـ قاطعني "أنور":
ـ ولكن ما يحيرني في الأمر هو أن الحزب مازال يضم عدداً من أمثال "عدنان".
ـ إن الحزب لا يملك عصا سحرية ليحول كل شيء، ويعيد الأوضاع المقلوبة، ويتخلص عن جميع الموروثات العفنة، بتهويمة سحر واحدة. أنا واثق أن الاشتراكية في الوطن كله ستقف في النهاية بعزم وثبات، ليس الاستعمار اليوم هو العثرة الوحيدة في طريقها.. إن البرجوازين والمنحرفين والمنافقين، أمثال "عدنان" هم عثرة ضخمة أيضاً لابد أن تزول.
رد "أنور" مدافعاً:
ـ أنا لا أوافقك على ذلك. لماذا تعتبر "عدنان" بصورة أو بأخرى مسؤولاً عن أموال أبيه التي ورثها؟ إنه ثائر من نوع جديد. وأموال أبيه لا تعني شيئاً بالنسبة لـه، تخلى عنها، وقام بجميع المهمات التي أوكلها الحزب إليه. أتدري أنه اعتقل أكثر من مرة أثناء فترة النضال السري للحزب بينما كان يقوم بتوزيع المناشير التي تحض على الثورة وتعرّي الرجعية، وتعاونها مع الاحتكارات العالمية.
قال "أحمد" فجأة:
ـ وماذا يعني هذا؟ صاحبك هذا منافق من نوع جديد، أنا واثق أنه قام بالمهمة لأنه يعرف أن أحداً لن يشك بأمره. ولو كان يعرف العكس لما وزع منشوراً واحداً، دعك منه "أنور" إنه دعيّ ومزيف وهو يبيع رأسه من أجل امرأة، ولا يستيقظ من سكرته إلا ليبدأ سكرة أخرى، إنه بلا أخلاق وأنت تعلم أن القضية اليوم تحتاج إلى أخلاقيين لحمل رسالتها. الأخلاق تعني الصدق ثم التفت إليّ وتابع:
ـ أنت تعرف هذا جيداً وتعرف أن هذا المخلوق كاذب ومع ذلك فقد ربطت نفسك به بعلاقة مشبوهة وغير متكافئة، وفوق هذا، وبعد كل هذه الثرثرة سوف تذهب إليه ولو ربطناك بحبل. تدعي أنك متردد بالذهاب إليه، ولماذا التردد؟ إنه يعرف نصف عاهرات المدينة.
هتف "أنور" على الفور:
ـ فضيلة الشيخ، ألا يتنافى حديثك هذا عن "العاهرات" مع مبادئك الدينية؟
ـ اخرس "أنور" أنا غير مستعد لتحمل مزاحك السمج وتعليقاتك السخيفة الآن.
ـ إنني لا أمزح وليس فيما أقوله أي سخف، وعليك أن تستبدل كلمة "عاهرات" بكلمة أكثر تهذيباً، إن الدين يمنع إطلاق الألقاب على الناس.
زعق "أحمد" وسط الغرفة:
ـ قلت لك أن تخرس. عاهرات.. عاهرات.. وأصر على هذه الكلمة.
ـ ليكن ما تريد. وأنا أصر على أنك خالفت مبادئ الدين وهذا سيؤدي بك إلى جهنم.
خرجت من الغرفة دون أن أقول شيئاً "وبينما كانت خطواتي المرتبكة تبعدني عن البيت وتدق أقدامي أحجار الرصيف الناتئة... كان صوت نقاشهما الحاد يتلاشى ويذوب شيئاً فشيئاً، حتى وصلت الشارع العام، واحتوتني زحمته وضجيجه وأنا متوجه إلى فندق... "السمير أميس".
..... ثمة نماذج كثيرة من البشر, فئة تجيد إلقاء الأسئلة وهي بارعة بإثارة الشك., وفئة تجيد الإجابة على كل الأسئلة, وفئة لا تسأل شيئاً ولا تجيب على أي سؤال.
أشعر وأنا أفكر بذلك أني أسقط في كيس مثقوب. أنا أكره هذه النماذج، وهذا يعني تلقائياً أني أكره الناس جميعاً. أكرههم لأنهم يتكلمون دائماً في كل شيء، لا يعملون أبداً، ولكن يتكلمون..... إن حياة قائمة على الكلمات هي حياة تافهة وسخيفة.




الفصل الرابع عشر


فتح "عدنان" باب سيارته وقال باسماً:
ـ كنت أعلم أنك ستأتي. مجرد حدس. ادخل، بدأت تفكر جيداً.
دخلت السيارة، وغصت إلى جانب "عدنان" في معقدها الوثير المغطى بسجاد فاخر، وتهادت بنا تزحف على إسفلت الشوارع الأسود، وبين فترة وأخرى كان بوقها ينعق ليفرق جماعات من الناس كانوا يسيرون في عرض الشارع غير مبالين بالأنظمة والشارات الضوئية.
انعطفت السيارة من شارع بيروت وصعدت في شارع المالكي، حتى وصلنا الساحة التي أقيم في وسطها تمثال إنسان متحفز دائماً.
سألت "عدنان" وأنا أشعر بسرور خبيث:
ـ هل صحيح إنهم طردوك من الحزب؟
قطب حاجبيه، وزاد من سرعة السيارة، ثم أعلن:
ـ سيان عندي. لقد قلت لك إن إيماني بالاشتراكية ليس مرتبطاً بأية فئة أو حزب سياسي.
ـ هذه المواقف الخطابية لا تستطيع أن تقنع بها أحداً. حتى تكون اشتراكياً يجب أن تخرج من نفسك أولاً. أنت تظن أن الاشتراكية ترف فكري. ومادة للنقاش والجدل. أنت هنا تسقط في الحفرة، الاشتراكي يموت ألف مرة من أجل مبادئه، وأنت تبيع وطنك كله بجلسة مع امرأة جميلة.
ـ الغريب فيك أنك تخلط دائماً وتقارن إيماني بمبادئي، مع حقي بممارسة أهوائي.
ـ عندما تحمل لواء قضية فليس ثمة مجال لأية أهواء أخرى.
تضايق "عدنان" من صراحتي فقال بعصبية:
ـ إذا كنت تعتقد ذلك حقاً فأنت أغبى مما تتصور بكثير.
توقفت السيارة فجأة، وسمرت في مكانها، عندما برز أمامها بائع هرم كان يحمل بيده سلة كبيرة. مدّ "عدنان" رأسه من السيارة وراح يشتم البائع بكلمات رخيصة ومبتذلة.
تطلع الرجل إلينا بذهول ثم نظر إلى السيارة قليلاً ومضى في طريقه دون كلمة. أوشكت أن أنزل من السيارة لأعتذر من الرجل وأؤكد لـه أنني لست من الذين يشتمون الناس إذا اعترضوا طريق سياراتهم الأنيقة.. لكن "عدنان" لم يتوقف، بل تابع طريقه بعصبية لم أملك معها إلا أن أقول لـه:
ـ هذا الرجل كان أكثر تهذيباً منك.
ـ كان مجرد أبله عابر. لو أنني مررت فوق جثته القذرة، لاعتبروه رجلاً وحاكموني من أجله ودفع ثمن دمه.
نظرت إلى "عدنان" بتقزز هائل، وقررت أن أنزل من السيارة فوراً بعد أن أدركت أي رجل أجوف هو. إنه يتحدث بهذه البساطة عن.. ثمن إنسان! لكن السيارة في تلك اللحظة توقفت تماماً وهبط منها "عدنان" فسألته:
ـ أين تذهب بي؟
ـ لا تكن لجوجاً. سترى الآن. ثم.... لماذا لم تحلق ذقنك؟
تحسست ذقني التي لم أحلقها منذ أيام وسألت:
ـ ولماذا أحلق؟ لست ذاهباً لأقابل الملك.
ـ بل أنت ذاهب لتقابل ملكة!
وجرني من يدي إلى دار فخمة تسيجها حديقة وارفة الظلال، وتتسلق جدرانها الفستقية شجيرات لبلاب عميقة الخضرة، تستلقي وريقاتها الدقيقة بوداعة على الجدار الفستقي مرة ومرة تختلط مع أغصان شجرة الياسمين التي كانت "كالشمس" ترسل أريجها العطر.
صعدنا درجاً رخامياً أبيض، تزوقه عروق سوداء كأنها أعصاب مرهقة، ودون أن يقرع "عدنان" الجرس، دفع باباً حديدياً مزخرفاً وولجنا عبره إلى قاعة فسيحة، تتناثر فيها قطع الأثاث الأوربية التصميم، الفخمة الصنع.
وقفت وفتحت فمي مصعوقاً مما رأيت.
عمري لم أرَ أروع من هذا البيت. حتى أحلامي لا تستطيع أن ترتفع بي إلى هذه المرتبة الجمالية من الرؤية. تسمرت وسط القاعة، ورحت أجول بعينيّ في أرجائها الفسيحة وشيئاً فشيئاً، شعرت أني أضعت معالم الأشياء وأبعادها.
..... غبت وسط دوامة ضبابية من التفكير الأسود شدتني إلى أسفل وأسفل. وصلت القاع. الطنين في أذنيّ ورأسي ويسدل غشاوة قاتمة على عينيّ. لم أعد أرى أو أسمع. تجمد الزمان وارتد كعاصفة هوجاء إلى الوراء.... أنا طفل بائس أعيش مع عدد من الأطفال في غرفة حقيرة من الطين جدرانها تمتص نضارتي وجوّها المعتم يلقي ظلاله على شيخ وقور يهدر بصوته الأجش وهو يهز في يده قضيباً طويلاً من الرمان، بمعلومات أكيدة عن الجنة والجحيم وكل المتع التي وعدنا الله بها، وعن النار التي ستحرق الأغنياء الزنادقة الذين لن يعرفوا السعادة وهناءة العيش لأنهم لا يعرفون الله....
لماذا كبرت؟ لماذا لم أبقَ طفلاً؟
صرخ "عدنان" من أعلى الدرج الموصل إلى الطابق الثاني من البيت:
ـ إست.. إس.. هيه.. ألا تسمع؟
فركت عينيّ كأنني أزيل عنهما شيئاً دبقاً، بينما تابع صراخه:
ـ ما بك؟ ألا تسمع؟ ... تعال.
صعدت الدرج وثباً حتى وصلت نهايته، فتوجهنا إلى باب غرفة، نقر عليه عدة نقرات خفيفة سمعنا على إثرها صوتاً نسائياً يدعونا:
ـ الباب مفتوح.
دخلنا. فوجدت نفسي أمام... "عفاف"!
شعرت بارتباك لم أدرِ معه ما أفعل. كنت أتوقع كل شيء إلا هذا. كنت..
مددت يدي بصورة تلقائية ورحت أصلح من شكل ملابسي، تحسست ذقني الخشنة، وتذكرت أني لا أضع ربطة عنق، وكان حذائي مغبراً بشكل لا أستطيع أنا أن أعرف لونه الأصلي. كان شكلي إذا قيس بأناقة "عدنان" مزرياً. لكن هذا لم يعد ينفع الآن، فجلست قربه وهمست بإذنه:
ـ أنت إنسان قذر.
ـ شكراً. القذارة ميزة كالنظافة. ولكن لماذا؟
ـ لماذا لم تقل لي إنك ستأتي بي إلى هنا؟
ـ أليست المفاجأة لذيذة؟
ـ يلعنك ويلعن المفاجأة. إن هذا إحراج لي، ألا ترى الشكل الذي أتيت به ماذا ستقول عني؟
ـ لو أخبرتك؟ هل كنت سترتدي "السموكنج والبابيون" مثلاً؟ دعك من هذا، لا شيء أفضل من البساطة.
أثارني بروده، فوقفت محاولاً الاعتذار عندما لاحظت "عفاف" ذلك فعقبت ضاحكة:
ـ اجلس أيها المتمرد. ألم أقل لك إنك ستظل فلاحاً؟
حذرتها بصوت غاضب:
ـ هل سنعود إلى ذلك مرة ثانية؟
ربتت على ظهري مطمئنة وأعلنت:
ـ لن نعود إلى شيء. اجلس فقط. أنت لست في غابة ولا يوجد من يأكلك.
علق "عدنان" فوراً:
ـ كما أن لحمك لا يؤكل.
أجبت وأنا أحاول أن أهينه:
ـ لقد أصبح لحمي زنخاً منذ أن صافحتك أول مرة.
قهقهت "عفاف" لتعليقي ثم تقدمت مني وقدمت ليس سيجارة أمريكية، فاعتذرت عن قبولها. أشعلت لنفسها واحدة، وجلست على مقعد وثير يقابلني وضعت ساقاً فوق ساق، فانزاح الستر عن فخذين أبيضين، كأن كل مواسم الثلج في بلادي قد هطلت فوقهما.
بلعت ريقي وأطرقت برأسي إلى الأرض. إنها حقاً معبد أنوثة. كل شيء فيها يصرخ بالحياة والمتعة والدعوة. ماذا تريد مني هذه الإنسانة التي تملك الجنة في بيتها؟
ماذا تريد مني وأنا لست واثقاً إذا كنت أجلس بشكل صحيح على مقاعد بيتها العظيم؟ إنها كما قال "عدنان" متزوجة من مصرف متخم بالأرصدة، مصرف عجوز، إن أضخم رقبة في المدينة تتمنى أن تلتوي أمامها خاشعة. إنها إذا أدارت قرص الهاتف من بيتها، لتزين الليل بحكايا السهرات.
تذكرت الهاتف و"براءة". فسألت فجأة:
ـ هل اتصلت بي هاتفياً؟
ضحكت ثم أحنت رأسها ورفعت أصابع يديها:
ـ أكثر من عشر مرات؟
ـ ولكن من أعطاك رقم هاتفي؟ أعني، كيف عرفت مكان عملي، وماذا كنت تريدين من اتصالاتك الملحة؟
أشارت برأسها إلى "عدنان" واعترفت:
ـ لقد سألته عن مكان عملك "فأخبرني" وعرفت رقم الهاتف من الدليل، القضية كما ترى لا تحتاج إلى ذكاء كبير، أما لماذا اتصلت معك؟
سكتت برهة ثم رفعت كتفيها، وبسطت راحتيها واستطردت:
ـ لأني أريد أن أراك فقط.
ـ لماذا؟
ـ هذه الـ "لماذا" اللعينة التي تضعها على لسانك في كل مناسبة.. أردت أن أراك لأنك أثرت اهتمامي منذ رأيتك. أيرضيك هذا؟ عندما صفعتني أدركت أن ثمة رجالاً، مازالت كبرياؤهم ترتفع فوق غرائزهم، وأن جراحاتهم الشخصية تظل مقدسة عندهم.
أعترف أن الرد أعجبني وأرضاني، لكني أجبت:
ـ لست مجروحاً "عفاف" ولست أخجل لأني ابن فلاح.
ـ أنا لا أعني هذا. المهم أني اتصلت بك، وبهذه المناسبة، إن الآنسة التي كانت ترد عليّ وقحة جداً.
شعرت أن شيئاً طاهراً في صدري قد طُعن طعنة لئيمة، فجحظت عيناي، ونهضت من مكاني:
ـ إذا لم تعتذري عن هذه الكلمة السافلة، سأخرج من بيتك فوراً.
ـ قهقهت بخلاعة لا تتناسب مع الوقار الذي كانت تبديه وقالت:
ـ الولد عاشق. كان عليّ أن أعرف ذلك. اجلس، أنا آسفة ولست أقصد الإساءة إلى حبيبة القلب. قل لي هل هي جميلة؟
ـ هذا لا يعنيك. إنها شريفة.
ـ هذا الجواب لا معنى لـه. هل هي جميلة؟
ـ لقد قلت إنها شريفة، وهذا هو الشيء الدائم في المرأة. الجمال طفرة زمنية.
تدخل "عدنان" بعنجهية فارغة:
ـ لا يمكن أن نجد امرأة جميلة وشريفة بآن واحد.
ـ لماذا؟
ـ إن الجمال والشرف إذا اجتمعا عند امرأة واحدة، سرعان ما تفقد أحدهما. أما إذا حافظت عليهما فإنها تظل مغرورة لا تطاق. انظر أستاذ، معظم الجميلات لا يتزوجن، الجميلات الشريفات يمتن عانسات لأن رجلاً في العالم لا يوافق أهواءهن الفظة.
سألته مشمئزاً:
ـ من قال لك هذا؟ أنت تتحدث عن الناس بصورة بسيطة وسطحية كأنك أنت الذي اخترع العالم.
ـ لا لزوم لأن أخترع العالم حتى أعرف الحقيقة، وأعتقد أن هذا هو الصحيح.
ـ إن جميع ما تعتقده لا يساوي قرشاً. ولا علاقة لأحد بسخافاتك التي تظنها منطقاً. إن أمثالك كالوباء في مجتمعنا.
ضحك ساخراً ولم يجب، بل التفت إلى "عفاف" وقال وهو يفرك يديه جزلاً:
ـ هات خمراً "عفاف". لا عاش من مات صاحياً، هذا المأفون يعتقد أن العالم يجب أن يسير وفق الطريقة التي يرسمها شيوخ قريته الأميّون. أستاذ، أنت معزول عن العالم ولا تعيش في هذا العصر، كان عليك أن تولد قبل خمسة قرون أما الآن. بف، هاتي "عفاف" هاتي الويسكي ثم التفت إليّ وقرر بثقة عجيبة:
ـ أنت عاشق إذن؟ هل تريد أن أعلمك شيئاً؟ إن غريزة جديدة تحكم العالم، أتدري ما هي؟
إنها غريزة الحقد! قلت إنك لا تعرف كيف تعيش في هذه المدينة، السبب واضح، قبل أن تتعلم كيف تحب يجب أن تتعلم كيف تحقد. يجب أن يخشاك الناس من خلال حقدك عليهم، عندها تستطيع أن تجد مكاناً في هذا المجتمع، مكاناً تختاره أنت.
تفرست في وجهه وأحسست بحيرة تنهشني.
كيف يستطيع أن يكون اشتراكياً، وثرياً، وحاقداً في آن واحد؟ إنه
مخلوق دعيّ.
كانت "عفاف" تبتسم، فخطر ببالي أن أعرف شيئاً عن آرائها، إن كانت مترفة كحياتها:
ـ ما رأيك بما يقوله "عدنان"؟
قلبت لفافتها بين أصابعها وقالت:
ـ أعتقد أنه متطرف بآرائه، ولست ألومه، فهو يشعر أنه مضطهد. إن هذا الحقد الذي يتحدث عنه وليد الشعور بالخيبة، عندما حاول أن يحب الناس ويعمل من أجلهم من خلال عقيدة آمن بها..
ـ أنت تشيرين إلى طرده من الحزب؟ يجب أن تعلمي أنه لم يكن اشتراكياً حقيقياً، كان يحمل شعارات الحزب ليتاجر بها، ويمارس من خلالها برجوازيته.
ـ لا أريد أن أناقش بذلك. لقد قلت إنه حاول، ولم أقل إنه وصل أو نجح. الذي يبدو لي أنه لم يستطع أن ينتصر على نفسه وعلى ظروفه التي طبعته بها البيئة فسقط. والنتيجة المنتظرة بعد هذا السقوط هي الحقد على الآخرين. لكنه لا يستطيع أن يحل مشاكله بالحقد.
وابتسمت ثم قالت لي:
ـ وأنت لا تستطيع أن تحل مشاكلك بالحب، لأن الحب ليس وسيلة عملية للاستمرار.
لم أجب على هذا التعليق الجانبي فقلت أستحثها:
ـ إذا كنا لا نستطيع أن نحل مشاكلنا بالحب أو الحقد ألا ترين أن الثورة هي المناخ الطبيعي لخلق واقع جديد خال من الترسبات الاجتماعية؟.
ـ أنا لست مصلحة اجتماعية. ولا أعرف شيئاً عن الثورة التي تتحدث عنها. إن صلاح العالم أو فساده لا يهمني، ولست مسؤولة وهذا مبرر كاف لأن أهمل كل شيء إلا نفسي.
أوشكت أن أقول لها إنها عادت إلى اجترار أنانيتها عندما قال "عدنان":
ـ إن طردي من الحزب لم يعقدني كما خُيل إليكما. كنت أنتظر ذلك منذ زمن بعيد طالما أن أحداً لم يستطع أن يعزل أفكاري عن موجودات جيبي. لكني لا أريد بعد أن أناقش بهذا، فأنا أومن مع "عفاف" بأنني لست مسؤولاً، لكني أنتظر اليوم الذي يجد فيه كل منا الجرأة على أن يعيش أعماقه بصدق، عندها قد يولد جيل جديد كل فرد فيه شارك بالخلق.
قلت لـه:
ـ أفراد هذا الجيل الذي تنتظره، سيكونون معزولين عن بعضهم، ولكلّ منهم قضية خاصة. ولن تجمعهم بعد ذلك وحدة تراب أو لغة أو تاريخ.
ـ هذا لا يهم طالما أن قضية من قضاياهم توصل إلى الحياة الحقة.
ـ معنى هذا أننا نحتاج إلى عشرين قرناً آخر لنحقق هذه المعجزة، أنت تفترض شخصيات أسطورية تولد، وهي تحمل السحر في أصابعها، تموت عبثاً لتورث أحفادها نتائج تجارب لم تومض أبداً. هذه ليست طريقة "عدنان". أنت تضع حلولاً انهزامية.
تدخلت "عفاف" متساءلة:
ـ ماذا تقترح أنت؟
أجبت ضاحكاً:
ـ أقترح؟ كأننا نصنع العالم من جديد في بيتك الفخم؟، أنا لا أقترح شيئاً سوى الثورة الحقيقية لست مصلحاً اجتماعياً، لكن لا يمنعني أن أؤكد أننا جيل معذب, لا نقبل العالم كما هو.
والعالم لا يقبلنا كما نحن. لابد إذن من الثورة التي تبنى مني ومنك ومن الآخرين لنحطم صفاقة الواقع الذي ورثناه.
قال "عدنان" ساخراً:
ـ ولماذا الثورة؟ هناك حلول أخرى، أنا شخصياً ضد الثورات لأنني ضد العنف والدم.
هتفت محتجاً:
ـ ما هذا "عدنان"؟ أنت تعلم أنني لا أتحدث عن الثورات الدموية. الثورة أن نلقي جميع التمائم والتعويذات، أن نمزق أكفاننا ونتخطى جميع الحواجز الاجتماعية التي وضعها المشرعون من عصور الانحطاط. الثورة "عدنان" أن نولد من جديد، على تراب جديد لا أثر عليه لأقدام الدخلاء أو المستغلين أو المتخاذلين, أو بالضبط لا مكان فيه لإنسان يفكر أنه يستطيع أن يدفع ثمن بائع عجوز إذا مرّ فوقه بسيارته.
شعر "عدنان" بالحرج فقال بارتباك:
ـ هذه ليست ثورة. إنها إعلان حرب ضد العالم، وهي حرب خاسرة.
ـ أو تظن ذلك حقاً؟ لقد دخل نقاشنا مرحلة جديدة. دعني أقدم لك هذه الصورة.
قالت "عفاف":
ـ دعوني أقدم لكما كأسين وهما أفضل من هذا الكلام كله.
ـ أرجوك دعيني أكمل، أنا لا أريد أن أشرب. الثورة التي يجب أن نشعلها ليست أقسى من ثورة الجزائر مثلاً أو ثورة الحجارة في الأرض المحتلة، ثورة اجتماعية وسياسية معاً، وقد انتصروا في الجزائر ولم يكن لديهم أي سلاح سوى إيمانهم بأن الموت لابد أن يورق حياة جديدة.... تماماً كالمقاتلين اليوم في الأرض المحتلة (أطفال الحجارة) اليوم يقفون ضد أشرس عصابة عنصرية عرفها التاريخ، وليس لديهم سوى إيمانهم بأن النصر شيء قدري عندما يموت الفدائي اليوم فإنه لا يخسر شيئاً سوى خيمته، إنه لا يخسر حياته، لأنه فقدها منذ أكثر من أربعين عاماً. ماذا يستطيع العنصريون أن يفعلوا مع المقاتلين اليوم؟ لقد حاربوهم بكل الأسلحة ومازالوا يقولون لا. لقد هزل التاريخ ثلاث مرات معنا ولابد أن يخجل أخيراً.
قال "عدنان" وهو يتمعن بكل حرف:
ـ أنت تلخص الآن المشكلة العربية كلها، ومشكلة الإنسان العربي من جذورها. وتبقى المشكلة أننا نملك خطباًء أكثر مما نملك من العمال. لقد تكلمنا أربعين عاماً ثم ضاع كل شيء في عشرين دقيقة. هذه حقيقة مضحكة، لكننا يجب ألا نقف على أطلالها نبكي. لا تعتقد أنني أنا الآخر أضع حلولاً، أبداً. يجب أن نمزق خيامنا وندخل شوارع العصر. نحن معزولون ولأننا معزولون نتحدث دوماً عن البطولات الأسطورية. صحيح أن عهد الأساطير قد انتهى لكن عهد الأساطيل انتهى أيضاً. يجب ألا نخاف بعد الآن، يجب أن نفعل شيئاً، أي شيء.
أعجبني أن "عدنان" مازال يتمتع بهذا الصفاء الذهني فقلت دون أن أهتم باعتراض "عفاف":
ـ لقد حققنا حتى الآن معجزة واحدة على الأقل. تخلصنا من عقدة الخوف. لم نعد نخاف. لذلك بدأنا نقاتل. الثورة السياسية أعطت أخيراً هذا العزم والقدرة على المجابهة. ولم يبقَ إلا أن نهزَّ المثقفين هزاً عنيفاً ليتخلصوا من مرض اللامبالاة. صدقني، إذا عرف المثقفون كيف يرفعون بيرق الثورة السياسية، إذا وجدوا الجرأة، خطونا الخطوة الأولى الصحيحة.
اللامبالاة لدى المثقفين العرب تحتاج إلى عاصفة لاجتثاث جذورها. جيل الشباب اللاهي أيضاً يحتاج إلى عاصفة أخرى حتى يستيقظ ويفتح عينيه. يجب أن نصطدم بالواقع صداماً مباشراً وعنيفاً حتى نصرعه وندفن تفاهته.
نهضت "عفاف"من مكانها فجأة، وقالت تغير الحديث وعلائم الضجر بادية على وجهها:
ـ خذ هذه الكأس. اشرب. دعنا من المجتمع والثورة، يكفي أننا نعيش هذه الساعة، إن رأسي يدور من هذا الحديث، العالم لا يستحق أن نفكر به هكذا.
ـ إننا نتحدث عن أنفسنا "عفاف"، ألا تدركين هذا؟ نتحدث عن أمراضنا لا عن الآخرين.
ـ اشرب ودعك من كل هذا. أنا أرغب اليوم أن أثمل حتى الانطفاء. كأسك أيها الجبلي المتمرد، كأس الحياة.
تجرعت الكأس دفعة واحدة، وشعرت أن شيئاً كالنار يحرق صدري. أخذت الكأس الثانية والثالثة و.....
ومددت ساقي إلى الأمام، وغصت في مقعدي مستسلماً إلى خدر لذيذ ونشوة فائقة لم أشعر بمثلها في حياتي. نظرت إلى "عدنان" الذي قام ليدير جهاز التلفزيون، عندما اقتربت مني "عفاف" وهمست وهي تغمز بعينيها:
ـ هل سكرت؟
قربت فمي من أذنها وهمست:
ـ أشعر بنشوة خالقة. هذا الويسكي من صنع ساحر كان يعرف كل هموم البشر. لا يهم عندما يوجد المال تصبح الحياة هينة ولذيذة. من الذي اخترع المال"عفاف"؟ مأساتنا أننا فقراء.
تلفتت حولها لتتأكد من وجود "عدنان" قرب جهاز التلفزيون ثم قالت:
ـ سأنتظرك غداً في مثل هذا الوقت. تعال وحدك. لقد أصبحت
تعرف البيت.
ودون أن تنتظر جوابي، مضت نحو جهاز التلفزيون وأقفلته ثم وضعت اسطوانة على "البيك آب". وفجأة امتلأ جو الغرفة بلحن عذب ينداح فيه الكمان رخيماً كانسكاب جديلة نور أشقر على جسد صبية فاتنة.
أغمضت عينيّ منتشياً وفكرت"..... كم أكون سعيداً لو تظل حياتي استمراراً لهذه الساعات. بيت فخم، وامرأة فاتنة، وكأس خمر، وموسيقى رائعة، وأرصدة لا تحصى في المصرف و.. ماذا يريد الإنسان كي يكون سعيداً أكثر من هذا؟ المبادئ؟ القيم؟ لماذا رضيت أن أكون عتالاً في مرآب الحياة؟ لماذا أكون شهيداً في مجتمع لا ينسى إلا الشهداء؟
صرخت فجأة من خلال صحوة داخلية مفاجئة، بعد أن رأيت ساعة كبيرة ترصّع الجدار:
ـ "عفاف" أوقفي ساعة الحائط هذه. أوقفيها فوراً إنها تدق في رأسي. أريد أن أرى عقاربها تتوقف، أن أحس تجمد الزمن عند هذه اللحظات. أوقفيها "عفاف". لا تدعيني أرى كيف تمضي حياتي وتضيع دقائقها.
توقف الزمن... الزمن ينهار في أعماقي. والأشياء كلها تتحطم بصمت, ما معنى هذا؟
لماذا نولد ونشيخ ونموت.؟ لماذا نحاط بهذه الأشياء كلها والتي ننظر إليها كل مرة برعب واستغراب ودهشة؟
الفلاسفة الأقدمون كانوا يقولون: إن على الإنسان أن يعرف من أين أتى، وكيف يستمر، وأين يمضي...
وما زال الفلاسفة المعاصرون يثرثرون بهذا وبأشياء كثيرة تدور في فلكه.
مات الأولون وفي حلوقهم حرقة السؤال, وسيموت المعاصرون ولن يعرفوا الجواب, ما معنى هذا؟
ترى، هل كانت "عفاف" تعرف أين وصلت بي أفكاري، بينما كانت تبتسم لي، ابتسامة فاتنة، وتكشف من خلال هدأة كسلى عن ساقيها الأملسين؟





الفصل الخامس عشر


برك الضوء المخلوق التي تعبئ المدينة لا تستطيع أن تبدد الكآبة الخرساء التي تجثم فوق دمشق، في فصل الخريف.
في هذا الفصل يرحل كل شيء جميل وتبقى المدينة: بنايات ملونة، وإسفلت أسود يغطي الأرض، وضجيج ينبح في الأعصاب، وشباب يتسكعون أمام دور السينما... ولا شيء آخر. غير فتيات المدينة اللواتي يرفضن الخضوع إلى حسابية الزمن وفصوله، فتظل الزنود الناعمة عارية، والخطوات المغناجة تمرح على أرصفة الشوارع، والعيون الجائعة تفتش عن أحلام دافئة، أو نظرة إعجاب، أو إطلالة وجه أنهكه الظمأ يلقي كلمة عابرة من شفاه محرومة.
ما أحقر أن تفتش امرأة عن أحلامها على الرصيف!
لو أن المطر يغسل المدينة في الخريف.. لو أن السماء تتجهم مرة وتطوف الأرض بالماء لاغتسلت المدينة وأشجارها المصفرة، ورحلت لزوجة الصيف التي تتراكم بشكل وخيم على أذهان الناس!!
لو أن شيئاً كالمطر يغسل قلقنا وإحساسنا بالوحدة والغربة.. لماذا يشعر الغريب دوماً أنه وحيد ومعزول؟
لقد أمضينا صيفاً مملاً وتافهاً تراكمت فيه أيامنا وأشياؤنا في القاع، دون أن يعوم أي شيء جديد سوى تغييرات سطحية عبرت حياتنا....
وجدت عملاً إضافياً، ووجد "أحمد" عملاً آخر لدى أحد المحامين. تحسنت أحوالنا المادية إلى حد ما. تركنا الغرفة إلى شقة صغيرة مؤلفة من ثلاث غرف اشترينا مذياعاً وخزانة للملابس... بالتقسيط.
تعرف "أنور" على عدة نساء، وكان يقضي معظم لياليه خارج البيت، ثم يعود ليلعن المجتمع وأخلاقه المنحطة. "أنور" يكره كل شيء، والكراهية
قرف عنيف.
لم يعد "أحمد" و"أنور" يختلفان كثيراً، بسبب صمت "أحمد"، وانطوائه، كنت أصر على أن شيئاً ما قد بدل حياته، وكان يصر على أنني مخطئ.

مللت ثرثرة "أنور"، وتعبت من صمت "أحمد". لم يبق غير "براءة" تزين حياتي وتدغدغ عمري بروعة أحلى من أيام طفل مدلل لم تسألني شيئاً عن حياتي الخاصة ولم أحاول أن أخبرها بدوري، وإن كنت أحس في أعماقي أن هذه خيانة لحبي لها، لكنني كنت أخاف ألا تفهم، فلذت بصمت كان يعذبني. حاولت أكثر من مرة أن أقول لها شيئاً عن "عفاف" لكن الصمت يلجمني، لماذا يخاف الإنسان ممن يحب؟
كانت الأحداث الحياتية تتدافع.... دخلنا عامنا الثاني في الجامعة. وصلتني رسالة من أخي في القرية، الرسالة الوحيدة منذ الرحيل، كانت مختصرة تحتوي على تحياته وتحيات الأهل وتمنياتهم بالسعادة؛ إنهم لا يملكون إلا هذه الأماني التي تظل بلا رصيد حقيقي، ولا يقدمون إلا هذه العواطف السلبية التي لا تساوي في عالم الواقع شيئاً, ولكن ماذا أملك أنا من دونهم؟
ماذا جنيت بعد غربة عام في هذه المدينة الغريبة؟
لا شيء سوى السأم الحقيقي, السأم الذي كنا نعيشه في كل مكان، حتى في الجامعة التي كان "أحمد" يصر على الذهاب إليها كل يوم. كل الطلاب يذهبون إلى الجامعة سيراً على أقدامهم، إلا "أحمد" فقد كان يركض إليها ركضاً كأن شيطاناً يركبه، وما أن يدخل الباب الرئيسي حتى يذوب في الجامعة كأنه قطعة ملح ألقيت في كاس من الماء.
عبثاً كنت أفتش عنه في الحديقة، والنادي، وقاعة المطالعة، وأنتظره عند باب القاعة التي كان يزعم أن محاضرته فيها، فيخرج جميع الطلاب والطالبات، ولا أجد "أحمد" بينهم.
أين يذهب هذا المتصوف اللعين كل يوم؟
خطر ببالي مرة أن انتظره عند باب المسجد في الجامعة فلم أجده أيضاً. ظلت هذه المشكلة تحيرني شهراً، حتى وجدت "أحمد" ذات يوم بعد الظهر!
كان في حديقة الجامعة الداخلية، يقف في عتمة شجرة كبيرة قرب مستودع يحتوي جثثاً بشرية معدة للتشريح في كلية الطب، وإلى جانبه فتاة، لم أرَ وجهها، لكنها فارعة القوام، ملفوفة الجسد، تبينت من صوتها الذي تناهى إليّ عن بعد أنوثة ناعمة تخدّر الأعصاب, كانا يضحكان ويتهامسان، كأن العالم فرغ إلا منهما؛ شعرت بفرح مفاجئ يغمر قلبي، وغبطة طفولية لا حدَّ لها.
إن "أحمد" ينطلق ويكسر قيوده، لم يعد سجين غرائزه، لقد انتصر على جميع التعاويذ التي حشوا بها رأسه. إن دمشق تفعل المعجزات.
ولكن... لماذا يمثل هذا اللعين أمامنا دور التقي الورع الذي لا يأبه للمرأة، ويعتبرها دمية ملونة، ثم يتحول هنا في الجامعة إلى شرايين تنبع دفئاً وغزلاً؟؟ سأمسح به الأرض هذه الليلة.
أدرت ظهري ثم عدت، وقد حرصت أن أسير على رؤوس أصابعي كي لا يشعر أني رأيته وما أن ابتعدت عنهما قليلاً حتى التفت إلى الوراء كي أتأكد من المكان.
ألم يجد هذا الأهبل مكاناً أكثر رومانتيكية من مستودع الجثث؟ هززت رأسي ثم مضيت إلى البيت متثاقلاً. وعلى الرصيف كنت أرقب ظلي الذي يزحف إلى جانبي على الأرض. كان هذا الظل ينكمش على نفسه كلما اقتربت من عامود نور يحمل في رأسه مصباحاً مشنوقاً، ثم يعود إلى الاستطالة كلما ابتعدت عن العامود. إن التفرج على ظلي في تميعه وانكماشه يسليني، وأنا أجتر سؤالاً مرحاً ينقر رأسي طوال الطريق:
ـ إذن فقد وقع "أحمد" في الحب أخيراً؟
وصلت البيت، فرميت الكتب كيفما اتفق ورحت أفتش عن "أنور" في غرف البيت حتى وجدته في الحمام وقد غطى الصابون جسمه ورأسه, فرك عينيه، وأزال الصابون عنهما، ثم حدق بي ببلاهة لحظة وصرخ بعدها:
ـ أغلق هذا الباب القذر، أكاد أتجمد من البرد.
ولما رآني أحدق به، وضع يديه في خصره وسألني بهدوء:
ـ هل أعجبك قوامي؟
أغلقت الباب وعدت إلى غرفة النوم. استلقيت على السرير ورحت أدخن شارداً حتى عاد "أنور" من الحمام وهو يسرح شعره وينبر بصوته:
ـ كيف تفتح باب الحمام علي وأنا عار بهذا الشكل؟
ـ كنت أتملى محاسنك. لكن شكلك وأنت عار كان مزرياً كضفدع مقلوب. تضرب، اجلس "أنور" سأقول لك شيئاً هاماً، حاول أن تسمعه بهدوء دون أية سخرية.
ـ هات حدثني. لا شيء هام في الحياة، الكل باطل، باطل الأباطيل وقبض الريح.
ـ دع هذه العنجهية التافهة أتدري أن "أحمد" واقع في الغرام حتى أذنيه؟؟
ردد تلقائياً وهو يشعل لفافته:
ـ بشرفي أنا لا أصدق. إن الحمار لا يفهم العواطف.
ـ إنني أتكلم بشكل جدي ألا تفهم هذا؟
حدق بوجهي قليلاً ثم هتف:
ـ يبدو أنك جاد فعلاً؟ ولكن أية بلهاء هذه التي أحبته؟ أنا واثق أنها ترتدي ملاءة سوداء وتضع منديلاً أسود على وجهها، فلم تره إلا من خلال هذا السواد. إنني.. إنني أتنازل عن يوم من حياتي حتى أراهما يتغازلان. هذا ليس معقولاً، إنهما لن يتغازلا أبداً، لابد أنه أحبها لأنها تستطيع أن تناقشه في المذاهب الأربعة، وتقنعه بفوائد الصوم والصلاة.
سكت برهة ثم سأل بلهفة:
ـ "أحمد" عاشق؟ لا ريب أن شيئاً قد حدث في العالم. قل لي، أواثق أنت، أعني هل رأيتهما معاً؟
ـ لا فائدة منك على الإطلاق "أنور", ستظل مهووساً تثرثر كامرأة مطلقة. إن التي يحبها "أحمد" فتاة جامعية، ويبدو لي أنها رائعة وليست محجبة كما تتبجَّح، صحيح إنني لم أر وجهها لكنها تملك قواماً رائعاً وشعراً أشقر كالذهب.
فتح فمه مصعوقاً، فقلت:
ـ لا تفتح فمك هكذا كالتيس. سأحدثك بكل شيء.
ورحت أسرد عليه القصة كما رأيتها، وأنقل إليه بعض الكلمات التي سمعتها، وانتهيت قائلاً:
ـ أعتقد أن "أحمد" استطاع في النهاية الوقوف على قدميه. إن مجرد حبه لهذه الفتاة يعني أنه نبذ عفن القرية العالق برأسه، وأحرق الحجب التي يزين بها صدره ورأسه. يجب أن نساعده "أنور"، وأن ننمي هذا الحب في نفسه لأنه الوسيلة الأكيدة لإعادة خلقه، أنا سعيد لهذا الحدث ألست مثلي؟
هز رأسه، ثم قام عن سريره وهو ينخر من أنفه ويهرشه بيده ثم أجاب:
ـ لا أكاد أصدق. تصور كيف استطاع هذا الوغد أن يخفي حقيقته عنا، عني أنا بالذات ويلبس مسوح الرهبان أمامنا؟ لقد ظل حتى مساء أمس، لا يتورع عن لعني لأنني أخترق كل الحرمات وألوث طهرها.
قاطعت "أنور" بانفعال:
ـ لقد بدأت تخرّف.
ـ لماذا؟
ـ لأنك تقارنه بك وهناك فارق كبير بينكما. الحب بالنسبة لك وسيلة للمتعة، وهو يراه غاية سامية للحياة. أنا لا أعرف شيئاً عن حبه أو حبيبته، لكنني واثق أن هذا الحب من النوع العفيف الذي نما بالمناجاة الصامتة والتعبد الأخرس، إنه يحب بطريقته هو لا بطريقتك أنت.
ـ وماذا تأخذ على طريقتي؟ أنا إنسان واقعي، وطريقتي يجب أن تصبح مدرسة.
ـ أنت إنسان ماجن بكل شيء، لا شيء محرم عندك.
ـ إن الحب بشكل تلقائي غريزة مكبوتة، وإذا لم يكن هكذا فهو يقود إلى تنمية الغرائز أو إلى التفكير بها، وهذا خرق لكل ما ينادي به هو، أنا لا ألومه ولا أقول إن هذا الحب خطأ لكنه هو لم يؤمن مرة أن الحب والمرأة هما...
ـ ستعود من جديد إلى الجعجعة. أنت تعرف أن نظرته إلى الأمور قد تغيرت، ولا يجوز أن تحاسبه على أفكار أدخلت قسراً إلى رأسه عندما كان صبياً. لقد بدأ يفتح عينيه وعلينا أن نساعده لا أن نوجه إليه اللوم.
حاول "أنور" أن يقول شيئاً عندما سمعنا صرير المفتاح في قفل الباب، ودخل "أحمد".
نظرنا إليه بهدوئه التقليدي ومشيته الواثقة، وملامحه كالعادة صامتة لا تعبّر عما في نفسه وتطلع إلينا بدوره، بعد أن ألقى تحية المساء، ولما رآنا لم نجب على تحيته ونحن نحدق به تساءل ببرود:
ـ لماذا تحدقان بي هكذا كأنني شبح؟
سأله "أنور" بوقار:
ـ أين كنت؟
ـ في الجامعة.
ـ ماذا كنت تفعل؟
ـ ماذا يفعل الإنسان في الجامعة؟ هل تعتقد أني كنت ألعب طاولة زهر؟
ـ من يدري؟ هناك من يذهب للدراسة، وهناك من يذهب لعرض أناقته.
سكت "أنور" قليلاً ثم حدق بوجه "أحمد" وتابع بخبث:
ـ وهناك من يذهب لمغازلة الفتيات.
نقل "أحمد" نظره بيننا ثم تساءل بحذر:
ـ ماذا تعني؟
ـ ضحكت من أسلوبه الساذج بمغالطتنا والتمويه علينا "فنهضت من مكاني ثم طوقته من كتفيه وأجلسته على السرير:
ـ لا تغضب "أحمد". لقد أخبرت "أنور" بكل شيء.
ـ مازلت لا أفهم. أي شيء أخبرته؟
ـ لماذا تظل بعيداً عنا هكذا؟ لقد رأيتك هذا المساء في الجامعة.
شد شعره بيده وهتف بعصبية:
ـ لقد كنت في الجامعة، هه ماذا يعني هذا؟ هل قلت إني كنت في المريخ؟
عقب "أنور" وهو يضرب كفاً بكف:
ـ تصوروا الشيخ وهو يكذب؟ تفوه... لقد ماتت القيم.
وضعت يدي على فم "أحمد" قبل أن يرد على هذه السخرية وقلت لـه:
ـ رأيتك هذا المساء في الجامعة قرب مستودع الجثث، في ظل
شجرة كبيرة.
جحظت عينا "أحمد" فتابعت أَستفزه:
ـ فارعة الطول، ممشوقة القد، ضامرة الخصر، شعرها منسدل كأحلام الربيع، صوتها يفح أنوثة مخدرة.. هل أستمر في الوصف؟
تخلص من يدي وقفز عن سريره ثم هجم عليّ صائحاً:
ـ أيها الـ...
أمسكته بيده وقلبته، بمساعدة "أنور"، على السرير وقلت ضاحكاً:
ـ لقد كشفناك أخيراً، فضيلة الشيخ العاشق.
راح يتململ بيننا ويضرب الهواء بقدميه ويصرخ:
ـ أبعدا أيديكما الوسخة عني.
ضغطت يديه فوق صدره وقلت مهدداً:
ـ لن نتركك قبل أن تخبرنا القصة من أولها.
ـ قلت لكما أتركاني فوراً.
ـ سنتركك الآن، لكننا لن نتركك تنساق مع تيار عواطفك إذا لم نعرف نوعية هذه العواطف.
هدأ قليلاً، ومدد ساقيه، ثم أغمض عينيه وأعلن مستسلماً:
ـ دعوني أتنفس أولاً.
عاد كل منا إلى سريره، ورحنا نتطلع إليه وهو يفرك معصميه ويصلح رباط عنقه ثم قال:
ـ لقد آلمتني. يداك كحوافر الحمار.
سأل "أنور" وهو يبتسم:
ـ لماذا كتمت الخبر عنا؟
ـ لأنني لا أريد أن تشوها هذا الحب بآرائكما المبتذلة. أنتما تفكران
بشكل داعر.
نهره "أنور":
ـ تفوه عليك وعلى كلماتك الرذيلة، لقد أصبحت كأولاد الأزقة.
سألت "أحمد" وقد تجاهلت رأيه بنا:
ـ منذ متى وأنت تعرفها؟
مط شفتيه ثم رفع أربع أصابع من أصابعه وقال:
ـ منذ أربعة أشهر تقريباً.
ـ ما اسمها؟
التمع في عينيه فرح طفولي وتمتم كأنه يناجيها:
ـ روعة.
ـ أعرف أنك ترى اسمها في غاية الروعة، ولكن ما هو اسمها؟
ـ أنا لا أصفها، إن اسمها "روعة".
همهم "أنور" ضاحكاً وعلق:
ـ اسم شاعري حقاً، وهل هي رائعة كاسمها؟
رد "أحمد" غاضباً:
ـ أنا أحبها كما هي لا كما تفترض أنت أن تكون المرأة. أحبها كما أحب حياتي ولا يهمني إن كان الآخرون يرونها رائعة أو تافهة.
سكت برهة ثم تمتم:
ـ إنها قدري. وأريدها بكل قوتي ولن أسمح لإنسان أن يتحدث عنها أو ينال منها، مجرد حديث، إنني.. سأتزوجها.
شعرت بجفاف مفاجئ في حلقي، تخاذلت ساقاي فارتميت على السرير موهناً، وبلعت ريقي عدة مرات ثم سألته جاحظ العينين مبهور الأنفس:
ـ ماذا ستفعل أيها الجحش؟
ردد بهدوء دون أن ينظر إليّ.
ـ سأتزوجها:
قال "أنور" بضجر:
ـ لم يخطئ أبداً بوصفك. أنت جحش حقيقي.
ضربت الحائط بيدي وصرخت بوجهه:
ـ ألا تخجل من ترديد هذه الحماقة ثانية أمامنا؟
سألني ببرود وهو يعبث بطرف اللحاف:
ـ ولماذا، هل تعتبر الزواج جريمة أو عاراً؟
رد "أنور" بثورة مفاجئة:
ـ إننا لا نناقش مشروعية الزواج وفوائده، لكنني أسألك كيف تتزوج وأنت لا تستطيع أن تشتري لزوجتك قبقاباً عتيقاً؟ أم أنك تريد أن تتزوجها بالفاتحة فقط وعلى بركات الله؟
قرر "أحمد" بلهجة الواثق الذي انتهى من ترتيب أموره:
ـ سأتدبر أمري. لقد وجدنا الجوهر الذي ننسج عليه حياتنا، وهذا المهم.
قلت لـه هائجاً وقد نفذ صبري:
ـ أنت لن تتزوجها قبل أن تفك رقبتي، سأمنِّع هذا الزواج ولو مشيت على جثتك.
رفع رأسه وسألني مستغرباً:
ـ لماذا؟
ـ لماذا؟ الأبله، ولماذا تتزوجها؟ إن أعباء كثيرة تنتظرك بعد. أي شيء أنت؟ لن تتخرج من الجامعة قبل ثلاث سنوات، هذا إذا لم يتبلد ذهنك وتقضي فيها نصف عمرك. وأمامك عامان ونصف تقضيهما في الجيش، المجموع أصبح حوالي ست سنوات، ماذا تطعم زوجتك خلالهما؟ هل تطعمها عواطف؟ ثم هل تظن أن الزواج حل منطقي لمشاكلك، هل هو الشيء الذي تبحث عنه في تخبطك الأعمى؟ إن المرأة ليست نهاية المطاف، ومشاكلنا لا تحلها المرأة الآن لمجرد مشروع ورقة يكتبها الشيخ أو القاضي.
ـ هناك شيء لم تفهمه بعد. إنني أحبها ألا تفهم معنى هذا؟
رد "أنور" من زاوية الغرفة ساخراً:
ـ الحب؟ بف... إن جميع الكلمات والقصائد التي قيلت في الحب لا تصلح لأن تكون طعاماً لعصفور جائع. هيا "أحمد" أخرج من أوهامك هذه، ولا تكن سخيفاً إلى هذا الحد.
أجاب "أحمد" بثبات:
ـ أنا شخصياً لا أعاني المشاكل التي يعانيها أي منكما. لست محصوراً في زاوية مغلقة. إنني أبصر طريقي جيداً، ولست مستعداً لأن أفكر برأسك أنت. هناك فوارق جوهرية بيننا، أنت لا تقنع بامرأة واحدة، ولا تؤمن بالعواطف، وتسمي عقد الزواج "ورقة يكتبها الشيخ أو القاضي". أما أنا فإن امرأة واحدة، إذا كانت مثل "روعة"، تبدل حياتي من جذورها، إن الزواج بالنسبة لي ليس حلاً منطقياً لمشاكلي فقط، لكنه نقطة ارتكاز تريحني من هذا الدوار الأبدي. إنه نهاية طبيعية وحتمية لي لأنه يوفر لي الهدوء والاستقرار. إن الدوران في فراغات الفلسفة والتسكع للبحث عن معنى نعيش من أجله، كل هذا بدأ يثقب لي رأسي. إن مشاكل العالم بالنسبة لي، ومنذ أن رأيت "روعة"، أصبحت محلولة وواضحة.
تطلعت إليه مذهولاً غير مصدق.
لقد زين لـه خياله أن العالم جنة نعيم مقيم. لقد ذلل جميع العقبات في جمجمته وأخذ الحياة بكيفية صبيانية... ما هذا؟ كيف بدله الحب في أقل من أربعة أشهر؟ ماذا يعرف عن هذه الفتاة، من أين هي وكيف تفجر كبته مع أول بسمة منحتها له؟
ماذا يعرف عن سلوكها، وكيف رضيت أن تتزوجه بهذه البساطة وبلا معرفة صميمية، كيف يثق أنها الملجأ الذي يبحث عنه، وهل يثق أنها تفكر تفكيره وتنظر ذات النظرة وذات الاتجاه؟
أصبت بصداع مفاجئ بعد أن سحقتني هذه الأسئلة، ولكن ما جدوى
هذا كله؟
نظرت إلى "أحمد" بعد فترة صمت وسألته:
ـ كيف تعرفت بها "أحمد"، أقصد كيف بدأ هذا كله وكيف تطور.؟ حدثنا ولا تخفِ شيئاً عنا إن هذا الأمر يهمنا جميعاً، بغض النظر عن كل ما قلناه، فإن الأمر يمس حياتنا مساً مباشراً.
ـ ضحك "أحمد" لأول مرة منذ دخل الغرفة، وقام إلى النافذة فأسند مرفقه إلى حافتها وراح يعبث بطرف الستارة، وطال صمته كأنه يسترجع ذكريات عذبة، ثم التفت إلينا وقال بحبور:
ـ رأيتها أول مرة تركب باص "القصاع". كان الباص مليئاً وكانت واقفة فتخليت لها عن مكاني جلست شاكرة بعد أن ابتسمت لي. وقفت قربها أسترق النظر إلى وجهها الذي أسرني بإطلالته الطفولية، وعندما جاء الجابي، ودفعت عنها ثمن التذكرة فلم تمانع لكنها لفتت نظري إلى أنها تحمل هوية جامعية وكان عليّ أن أدفع السعر المخفض للتذكرة. عندما نزلتْ من الباص نزلت وراءها لأعرف بيتها.
قاطعته مأخوذاً:
ـ نعم نعم تابع فضيلة الشيخ.
ـ لقد رأتني أتبعها فلم تعترض. عندما عرفت البيت صرت أذهب كل يوم لأراها واقفة في الشرفة، ويبدو أنها كانت تنتظر مجيئي كل يوم في وقت معين، وآخر مرة ذهبت فيها رمت لي ورقة صغيرة من الشرفة.
قاطعه "أنور" ساخراً:
ـ يبدو أن حظك كان رائعاً فلم يكن اليوم عاصفاً، وإلا لحملت الريح ورقتك هذه إلى خارج المدينة. إنني أدفع يوماً آخر من عمري لأراك تركض وراء تلك الورقة التعيسة لالتقاطها.
لم يبال "أحمد" بهذه السخرية وتابع:
ـ قرأت الورقة وكانت تحدد لي فيها موعداً في "الموروكو". لم أعرف المكان في بداية الأمر، لكنني سألت فاهتديت، وقد وصلت إلى موعدي الأول متأخراً ربع ساعة، وكانت تنتظرني بقلق واضح. جلسنا في بداية الأمر كأننا غرباء، لكننا لم نلبث أن حطمنا جدار الخجل بيننا.
عرفت أنها جامعية في كلية الطب، وأنها من دمشق. تكررت لقاءاتنا حتى افتتحت الجامعة وصرنا نجتمع كل يوم فيها، لقد نما حبي لها بالاحتكاك والصراحة التامة. آمنت بعد التجربة أنها الإنسانة التي أحتاجها. عرضت عليها الزواج فوافقت. ومن يومها ونحن نضع الخطط لحياتنا ومستقبلنا. لقد اتفقنا على أن أخطبها وسوف تستمر خطبتنا حتى نتخرج من الجامعة وبعدها نتزوج.
سكت "أحمد" بعد أن اختصر قصة حبه قدر استطاعته.
نظرت إليه بكثير من الاشمئزاز. كيف صور لـه خياله أن الدنيا بهذه العفوية، وأن الزواج بهذه البساطة التي توصلَّ إليها مع حبيبته الدكتورة.؟
حاولت أن أقول شيئاً لكن "أنور" أشار لي أن أسكت، فسكت. وقد فهمت أنه لا فائدة من أية كلمة بعد أن شرد "أحمد" عبر النافذة وانفصل عنا بكليته.
استلقيت على السرير، وأشعلت سيجارة، أنا ألجأ إلى السجائر كلما مزقتني الهموم.
في تلك اللحظة تمنيت أن أبكي، لعلي أغسل إحساساً بالمرارة بدأ يلتصق بقلبي. "أحمد" يبتعد عنا وهو وحيد على طريق وعرة حدودها المستحيل. أحسست أن شيئاً قد انفصل عن صدري بقسوة لا ترحم. ما الذي يجري في هذا العالم؟
أحياناً نرغب بالحياة ونستعمل كل وسائل النفاق للعيش، وأحياناً نرفضها ونبحث عن الموت بأية طريقة.
أحياناً نتزوج لأننا نريد أن نستمر في حساب الزمن وحساب الآخرين، وأحياناً....
لقد وصلنا مرحلة لم نعد نرغب فيها بالحياة ولا نرغب بالموت أيضاً. إننا نترك كل شيء يجري كما يشاء، لا نملك أن نغير شيئاً، ولا نريد أن نغير شيئاً.
أصبحنا متفرجين، ومسرح الحياة كبير، والممثلون أشباح هلامية تتميع لها ألف وجه وألف لسان، وألف زمان.




الفصل السادس عشر

كنت أشرب الشاي مع "عدنان" في أحد مقاهي المدينة التي يرتادها الأدباء، وكان البرد شديداً، والناس المقرورون في الشوارع يهرعون إلى سيارات النقل التي ستقلهم إلى بيوتهم وكل منهم قد ابتلع رقبته في معطفه وركض مهزوماً أمام قسوة الطبيعة التي تسحق غرور الإنسان.
دخل المقهى شاب أسمر اللون، على وجهه آثار تعب معتق. تقدم نحونا ببطء وصافح "عدنان" الذي قدمه إليّ قائلاً:
ـ الأستاذ "ياسر". أحد شعرائنا، لابد أنك قرأت شيئاً له؟
صافحته ثم جلس بجانبي ورحت أتطلع إلى عينيه الساكنتين ووجهه الممتلئ. لم أكن قد قرأت لـه شيئاً، لكنني لم أقل لـه هذا ولم أقل لـه إن شعراءنا اليوم لا يعيشون حقيقة أمتهم، ينظرون إلى السماء وأقدامهم غارقة في الوحل.
مط "ياسر" سؤالاً بين شفتيه:
ـ لماذا تقيسني هكذا؟
ـ لقد أسعدني أن أتعرف بك.
ـ لماذا؟
ساءني سؤاله ولا مبالاته فقلت بقسوة متعمدة:
ـ لأنني أردت دوماً أن أتعرف بواحد من الذين يدعون أنهم عقل هذا الجيل.
وبنفس البرود سألني ثانية:
ـ وماذا وجدت؟
ـ أنت أولاً تتحدث إليّ بطريقة غير لبقة، كأن كلماتك درر تضن بها على الناس. وإذا كان كل الأدباء مثلك، فأنتم فئة مغرورة لا تنفع لشيء، من أجل هذا يعيش أدبنا من خلالكم مرحلة الموات.
رفسني "عدنان" بقدمه تحت الطاولة، فتجاهلت حركته، وتطلعت بإلحاح إلى "ياسر" الذي أحرجته كلماتي، فاحمر وجهه منها، لكنه ابتسم بتكلف وقال:
ـ إن جوابك رغم وقاحته، أعجبني. أنت صريح تقول ما تؤمن به دون أن تخشى شيئاً. وأحب أن نكون أصدقاء، هل لديك أي مانع؟
ـ أبداً.
ـ ما رأيك أن تبدأ هذه الصداقة على مائدة خمر؟
ـ ولماذا تختار هذه البداية؟
ـ لا شيء أروع من السكر. الصداقات الحقيقية تلك التي تولد وتستمر من خلال الانطفاء المطلق عندما يكون الإنسان صاحياً يظل معقداً وتافهاً، يجب أن نسكر دائماً حتى نستطيع أن نتقبل بعض الوجوه المقرفة، أنظر إلى هذا القطيع في الشارع؟ هل تفهم لماذا يجب أن نسكر حتى ننطفئ وحتى نرى الديك حماراً.؟ ما رأيك أن نبدأ الآن؟
ـ لا مانع عندي. قم بنا نرَ كيف ينقلب الديك إلى حمار.
التفتنا إلى "عدنان" لكنه اعتذر عن مشاركتنا بسبب عمل هام عليه إنجازه، ثم تركنا نغادر المقهى إلى مشرب محشور في أسفل بناية ضخمة.
هبطنا درجاً ملتوياً، وعندما دخلنا القبو الذي تزين عتمته أضواء كهربائية ملونة، لفحت وجوهنا موجة حارة من النفس المضغوط الممزوج بثرثرات السكارى وصراخهم، كانوا فئة عجيبة من الناس كل واحد متأنق بشكل رخيص في محاولة للفوز بإعجاب فتيات المشرب.
لم يعجبني الجو، لكنني قررت الاستمرار، لسبب بدا لي تافهاً، وهو أني أريد أن أتفرج عن كثب على حياة هؤلاء الذين يكتبون للناس الحكم والقصائد، ويوزعون أفكارهم ببساطة عجيبة.
عندما جلسنا حول طاولة صغيرة تلفها غيمة شاحبة من دخان اللفائف المحروقة، اقتربت منا فتاةً مطلية الوجه، في فمها قطعة لبان تمضغها بطريقة مزرية، وتسير بشكل خلاعي كأن عامودها الفقري مصنوع من نابض فولاذي.
اقتربت من "ياسر" ووضعت يدها على رقبته وقالت بدلال مقرف:
ـ أهلاً حبيبي. ماذا تشرب الليلة؟
ابتسم لها ابتسامة عريضة عرفت منها أنه أحد زبائن المشرب الدائمين، وقال:
ـ كالعادة. هاتي لنا عرقاً.
قلت معترضاً:
ـ أنا لا أشرب العرق.
ـ لماذا؟ إنه سيد المشروبات كلها؟
ـ إن لـه رائحة تثقب رأسي. ويخيل إليّ أنه مشروب فاجر يسحق الحواس.
ـ كما تريد. ماذا تشرب إذن؟
ـ سأشرب كأساً من الويسكي.
أشار للفتاة أن تحضر لنا ما طلبناه ثم التفت إليّ وقال ضاحكاً:
ـ أنت لا تشرب إلا الويسكي؟ أحم... أنت إنسان مترف.
ضحكت بعفوية لا أعرف سببها وأعلنت:
ـ مترف؟ أنا إنسان معدم. لكنني أشرب الويسكي لأنني لم أذق غيره أبداً ولا أريد أن أجرب ثم إني لا أشرب أكثر من مرة أو مرتين في الشهر. هل تسمي هذا ترفاً؟
أطرق برأسه قليلاً ثم سأل:
ـ دعنا من هذا. قل لي لهجتك غير سليمة، يبدو لي أنك لست من دمشق؟
ـ من قال إن جميع اللهجات يجب أن تكون دمشقية حتى تكون سليمة؟
ـ أنا لا أعني هذا. أعني...
ـ لا تحاول أن تفسر شيئاً. أعرف أنك تسأل فقط. أنا من قرية بعيدة في الشمال، بيوتها القليلة مرشوشة في قعر واد تسجنه الجبال المطلة على البحر.
مط "ياسر" شفته وقرر:
ـ أسلوبك في وصف قريتك أسلوب شاعري صرف. يلذ لي ونحن نشرب أن أعرف الكثير عنك، ماذا تفعل في دمشق مثلاً:
ـ حياة فقيرة يا أبا اليسر.
ـ ثم...؟
ـ ثم ماذا؟ أنا مخلوق تعيس.
ـ لماذا؟
ـ ثم. لماذا. أليس لديك غير هذه الأسئلة البليدة؟ حياة فقيرة تعني أني مخلوق تعيس لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً وفقيراً بآن واحد. الفقر والسعادة لا يمكن أن يجتمعا.
ـ أنت إنسان عجيب.. تابع...
ـ هل جئت بي هنا لأسليك؟ دعنا من هذا الآن، لست مستعداً لأن أسرد مآسي حياتي. لقد جئنا نشرب فدعنا نسكر لنرى كيف ينقلب الديك إلى حمار.
ضحكنا، ورحنا نشرب أكثر من ساعة دون أن نتبادل غير كلمات قليلة.
شعرت بتخثر في رأسي، وهمود هائل في حواسي، وراودتني فجأة رغبة بأن أراقب الوجوه حولي. عرضت الفكرة على "ياسر" فأعجبته ووافق؟
كان الجو غريباً لم أعرفه من قبل مخلوقات بشرية تقعي على مؤخرتها كالكلاب، يعبون الخمرة الرديئة ويغيبون في دوامة نشوة وضيعة. يقتلون زمنهم الضائع، ويبحثون عن طريقة للهرب والنسيان.
شعرت بالمتعة فمددت يدي وتجرعت بقايا الكأس الثاني ثم طلبت كأساً أخرى. انعزلت عن "ياسر" نهائياً وأنا أرقب عدة رؤوس تلتف حول مائدة قريبة منا. كانوا يثرثرون بأشياء لا رابط بينها... قال رجل محمر العينين، أمسك بأنبوب "نرجيلته" وراح يهزه أمام وجوه رفاقه:
ـ يا أخوان، الحياة في الشرق لا تطاق. عرفت أكثر من عشرين فتاة ولم أستطع أن أقنع واحدة منهن بالسهر معي. أسهر هنا دائماً مع هؤلاء المساطيل. تسقط التقاليد.
ردّ عليه وجه ذو جلد مطاطي مشدود إلى جمجمته شداً عجيباً:
ـ اشرب. النساء تافهات. حذاء الرجل يساوي عشر بنات.
نهض شاب ذو شارب طويل وصاح بالخادم:
ـ تعال يا ولد. تعال. ضع لنا أسطوانة "حب إيه" لأم كلثوم. هذه المرأة ملكة الطرب في العالم. يا أخوان، الذي لا تعجبه أم كلثوم جحش لا يفهم في الطرب أبداً.
خيم الصمت على الرؤوس المصلوبة والتي أفرغها العرق الرخيص من أي تفكير. أدرت وجهي قرفاً عندما بدأت الأسطوانة تدور فسألني "ياسر":
ـ ما بك، ألا تعجبك أم كلثوم؟
ـ تعجبني؟ أنا أشعر بالتسمم عندما أسمع صوتها.
ـ إنك لا تفهم في الطرب الشرقي الأصيل.
ـ قد يكون هذا صحيحاً. لكن الصحيح أيضاً أن هذه المخلوقة لم تساير تطور الفن في العالم منذ خمسين سنة وهي تصلب الناس كل يوم ساعتين أو ثلاثة لتبكي على الحبيب الذي هجر والحب الذي طُعن. إنها تغني برتابة مفجعة.
ـ لو استمعت إليها جيداً لغيّرت رأيك.
ـ إن وقتي ليس تافهاً حتى أضيع منه كل يوم ساعتين. أنا لا أفهم كيف يفقد هذا الشعب إحساسه بقيمة الزمن فيستمع إليها كل يوم وإلى نفس الأغاني التي أصبحت معادة آلاف المرات. اتركني "ياسر" هذا الشعب وقته من تراب.
لم يجب. بل شرب ما بقي من كأسه دفعة واحدة، ثم التفتنا معاً إلى صوت جاء من طاولة قريبة منا أيضاً يعلن مستنكراً:
ـ ركبت اليوم باص "المهاجرين" وقد توقف ثلاث عشرة مرة في مسافة تقل عن الخمسة كيلومترات. من يصدق هذا؟
قرر ذو النرجيلة:
ـ كلما رأيت حالة المواصلات الداخلية في هذا البلد ازددت إيماناً بأن الحمار سيظل سيداً.
علك رجل ثمل يجلس ورائي عدة كلمات وجهها إلى زميل لـه يشاركه طاولة محشورة في زاوية معتمة:
ـ جارتنا امرأة فاتنة، لكنها متزوجة من بغل أصلع.
ـ اشرب، يسقط المال. الجميلات لا يتزوجن إلا الكروش الضخمة المحشوة بالمال، ونحن نبيع شبابنا إلى عاهرات المدينة. اشرب، عاش الطفر.
ـ اشربه حتى القاع. لا ترجع منه شيئاً، الحياة زفت. هذا المسطول الذي طلب أغنية أم كلثوم، ما الذي يعجبه فيها؟
ـ الناس يا أخي أذواق. أنت معجب بعبد المطلب مثلاً وأنا أعتقد أنه لا يغني لكنه يجعر كالتيس. اشرب، أذواق الناس تعفنت.
شعرت بتقزز هائل ورغبة ملحة للتقيؤ.

نظرت إلى "ياسر" متوسلاً فابتسم وقال:
ـ يبدو أنك انسجمت جداً مع هذا الجو؟
ـ انسجمت؟ يلعنك ويلعن الانسجام. إذا لم نخرج فوراً سيغمى عليّ من الترف، هذا المكان يصلح للقطيع لا للبشر. أرجوك.
دفع "ياسر" الحساب وخرجنا. الساعة الواحدة ليلاً. المدينة مقفرة والعتمة السوداء تطبق على كل شيء والصقيع ينخر العظام سألني "ياسر" ونحن نسير في شارع "الصالحية":
ـ هل تشعر بالنعاس؟
ـ لا وأنت؟
ـ أنا لا أنام عادة قبل الساعة الثالثة صباحاً. ما رأيك أن نتسكع؟
ـ التسكع قدري في هذه المدينة. هيا بنا.
تأبطت ذراعه وسرنا ندق بأقدامنا الموهنة بلاط الأرصفة بلا هدف. المدينة معبأة بالجثث النائمة وجدران الأبنية تنضح الصمت وترشه في الخواء البارد، لا صوت غير نباح الكلاب والقطط المقرورة وطقات أحذية الحراس الرتيبة على الأرصفة. البرد يلسع كل شيء، والبرد في شهر كانون كافر لا تلمس فيه غير عويل الريح وأنينها وهي تصفع أسلاك الكهرباء أو تتسرب بين شقي نافذة محكمة الإغلاق. المدينة تنام على أقدارها ورأسي يدور. مررنا بالقرب من ملهى ليلي كانت الراقصات تخرج منه زوبعات من العطر اللئيم والأنوثة المصطنعة، وكان ثمة سكارى يقهقهون دون سبب واضح. راقني المنظر فرحت أتفرج عليهم برهة ثم سرت سئماً.
هؤلاء السكارى تخلصوا من مأساتهم الحادة بكأس من الخمر، وفقدوا الإحساس بقيمة الزمن, الراحة بالنسبة لهم شيء سهل المنال.. لابد من الانتصار على شيء ما، وهذا هو نصرهم الوحيد أن يفقدوا الإحساس بقيمة الزمن الضائع.
بف.... الحياة لا تستحق هذه المعاناة. نمتص عمرنا بتلذذ كلبي لنصل في النهاية إلى حفرة سوداء. ما أحقر أن يموت الإنسان.
سألني "ياسر" فجأة:
ـ بماذا تفكر؟
ـ أفكر أنه من الحقارة أن يموت الإنسان.
ـ أنت تتحدث عن الموت كثيراً. لماذا؟
ـ ولم لا؟ إنه شيء هام جداً ولا يحدث إلا مرة واحدة في العمر. أنت تستطيع كل يوم أن تعشق، وتكذب، وتمارس الجنس. لكنك لا تموت إلا مرة واحدة، يجب أن نتعلم كيف نموت.
لم يقل "ياسر" شيئاً، فتابعنا السير بصمت. الموت رعب الإنسان الأزلي، ولولا هذا الرعب لأصبح الإنسان وحشاً ولما استسلم إلى أقداره بسهولة. الموت انزلاق أخير إلى النهاية ما معنى المعاناة من أجل الاستمرار؟ والمصير حفرة رطبة ودود يلتهم الجسد الذي ننفق عمرنا لتغذيته والاعتناء به.
كلما أكلنا وجبة طعام أضعنا ساعتين من العمر، نحن نأكل باستمرار حتى لا تتهاوى الجثة. بصقت على الأرض ثم التفت إلى "ياسر" وشكوت:
ـ لقد تعبت جداً وأريد أن أنام.
أمسك يدي وأدخلها تحت إبطه ثم قال باستنكار:
ـ تنام؟ أنت كالعجائز. تعال.. لم يبق غير القليل وقد أوشكنا أن نصل بيتها.
ـ بيتها؟
تنهد بعمق وأعلن هامساً:
ـ "فائزة" حبيبتي، لا أستطيع أن أنام كل ليلة قبل أن أراها أو أقف تحت شرفتها.
علقت ساخراً:
ـ كنت أعتقد أن المناجاة تحت الشرفة قد انتهى زمانها منذ وفاة الطيب الذكر "روميو".؟
ـ عندما تحب إنسانة "كفائزة" تستطيع أن تغير مجرى التاريخ. تعال، لقد وصلنا.
وقفنا على الرصيف في أحد أحياء دمشق وراح يصفر لحناً خاصاً وهو ينظر إلى نافذة مغلقة في غرفة صغيرة. كرر اللحن عدة مرات دون أن يجيب أحد. انحنى على الأرض والتقط حجراً صغيراً قذفه على النافذة فأحدث صوتاً مزق هدوء الليل لكن النافذة لم تلبث أن فتحت ببطء وحذر وبرز من ورائها خيال فتاة سألت بصوت منخفض:
ـ من "ياسر".
تطلع إليّ وهمس بمرح:
ـ ألم أقل لك؟
ثم جرني من يدي حتى وقفنا تحت الشرفة تماماً:
ـ ألم تنامي بعد؟
ـ اذهب من هنا "ياسر" فوراً. أرجوك، والدتي لم تنم بعد.
تطلعت إليها محاولاً تبديد العتمة بنظرة ثاقبة لأرى ملامحها جيداً، وعندما لم أفلح بذلك تراجعت عدة خطوات إلى الوراء بينما كانت تسأل "ياسر":
ـ من هذا؟
ـ صديق جديد. سأعرفك به غداً. اسمعي "فائزة". سأنتظرك غداً الساعة الثالثة في مطعم الجامعة. هل تحضرين معك صديقتك "مها"؟
ـ "مها"؟ لماذا؟
ـ يجب أن تتعرف على صديقي هذا. إنه إنسان ممتاز. هه، موافقة؟
ـ كما تشاء. غداً الساعة الثالثة في مطعم الجامعة. اذهب الآن أرجوك أسمع صوت والدتي.
أغلقت النافذة فابتعدنا عن الشرفة بينما "ياسر" يتمتم كلمات تدل على نشوته ثم قال:
ـ سترى غداً أية إنسانة رائعة هي.
أمسكته من كتفه ثم قلت مؤنباً:
ـ أنت تتصرف بي كأنك اشتريتني. من قال لك إني سأذهب غداً إلى هذا الموعد؟ اسمع "ياسر" إن لدي فتاة أحبها ولا أستبدلها بنساء الأرض كلها.
حك أنفه وسعل سعلة خفيفة ثم سألني بدهشة:
ـ من قال لك أن تستبدل حبيبتك؟
ـ ومن قال لك أنني أريد التعرف على "مها" هذه؟
قهقه بمجون وربت على كتفي وأعلن:
ـ أريدك أن تتعرف بها، لكني لم أقل لك أن تحبها. مجرد صديقة
جميلة لك.
ـ ماذا يعني هذا؟ كيف تكون لي صديقة دون معرفة سابقة أو دون رابطة عاطفية.؟
ـ إنها فتاة. أعني، إنسان لـه صديقة، افّ لماذا لا تفهم؟ ليس مهماً أن تحبها لكنها ستسعدك.
ـ كيف تسعدني وهي لا تعرفني؟
توقف عن المشي وسألني بكثير من الجد:
ـ هل صحيح إنكم تعيشون في القرية هكذا، على البركة؟ إنك، بشرفي، لا تفهم شيئاً.
وجدت نفسي فجأة أفكر بذلك.
ما قيمة أن تعيش في المدينة دون أن تلتصق بها وبعاداتها مهما كانت نوعية هذه العادات؟ لماذا نتمسك ببدائية القرية وعتمتها، ونحن نعيش وسط الضوء المخلوق؟ ما قيمة أن تعشق الشمس في مدينة لا تعرف غير النور الشاحب؟
كانت أسئلة كثيرة تجرح حواسي وأنا أفكر بأن طفولتي وشبابي مجرد مرحلة غير مجدية في طريق لا أعرف من أين تبدأ ولا أين تنتهي.




الفصل السابع عشر

قدم "ياسر" صديقته "فائزة" و"مها" بكلمات ودودة ومختصرة.
مددت يدي مصافحاً وأنا أعلك عدة كلمات للمجاملة. جلس "ياسر" قرب "فائزة" بينما جلست قرب "مها" وأخرجت علبة سجايري, ثم قدمت لكل منهم لفافة وأشعلت اللفائف بعود ثقاب بينما كانت عينا "مها" تنغرسان في وجهي بإلحاح ساكن.
جلست مكاني صامتاً وراح كل منا يعبث بشيء ما على الطاولة، كان الجو مقبولاً لا تعكره غير طقطقة الصحون بين أيدي الطلاب الذين يحملون طعامهم بأنفسهم إلى الطاولات. أحسست أني محرج وأنا أجلس مع إنسان تعرفت عليه بالأمس وفتاتين غريبتين لا تربطني بهما أية معرفة.
ـ ماذا تقول "براءة" لو رأتني الآن؟
يجب ألا أكون سخيفاً وأترك الأوهام ترتع في رأسي. إنني لا أفعل شيئاً يسيء إليها.
رفعت عيني عن الأرض...
إن "لفائزة" عينين ناعستين يلمع عليهما بريق كله جنس ودعوة، وشعرها الفاحم كالليل ينام على رأسها بهدوء واسترسال عذب، ثم ينحدر بشهقة مجروحة حتى عنقها البض، وهناك تنتهي الأحلام فقد مزق المقص والزيف الحضاري ستار الليل عن بياض العنق.
كانت قصة شعرها غلامية لطيفة، أما جسدها فكان ممتلئاً ملفوفاً متناسق الأعضاء. لم تكن تنظر إليّ، كانت مشغولة بربط حلقات سلسلتها الذهبية، وكانت فرصة لي اغتنمها للتفرس بها، كما انتهزت فرصة غياب "ياسر" الذي ذهب يحضر الطعام وتطلعت إلى "مها" التي كانت تصلبني على أحداق عينيها بنوع من التحدي دفعني إلى النظر إليها بلا وجل.
كان وجهها يحمل ملامح دافئة تشع حناناً عجيباً، وفي عينيها حزن عابر كأنه بقايا عذاب قديم.. كأنه يأس معتق تحاول أن تبدده دوماً بابتسامة ساذجة لا تفارق وجهها.
بدت لي أصغر سناً من "فائزة" لكنها أكثر طولاً منها، وأكثر هدوءاً.
عاد "ياسر" وهو يفرك يديه مغتبطاً ثم أعلن بمرح:
ـ لقد طلبت طعاماً لنا جميعاً. أرجو أن يعجبكم ذوقي في الاختيار.
قالت "فائزة" دون أن ترفع رأسها عن سلسلتها التي تحاول إصلاحها:
ـ لاشك أننا سنأكل كل ما طلبته. إذا كان ما طلبته امتداداً لذوقك القديم فقد كان ذوقك ممتازاً.
لم تعجبني هذه الملاحظة فتطلعت إلى "ياسر" الذي اعترى وجهه غيظ مكتوم حاول معه أن يبتسم عندما قالت "مها":
ـ لقد تناولت طعامي قبل حضوري، لكنني سأشارككم قليلاً.
ثم التفتت إليّ وسألتني برقة:
ـ والأستاذ؟
أجبت مبتسماً:
ـ أنا شخصياً لم أتناول طعامي بعد. وأعتقد أنني سآكل بشراهة، فأنا لم أذق طعاماً منذ أمس.
سألت "فائزة" بلا مبالاة وهي تحيط جيدها بسلسلتها الذهبية:
ـ لماذا؟
ـ استيقظت اليوم متأخراً عن عملي ولم يكن لدي وقت لإعداد الطعام. ذهبت دون أن آكل وجئت مباشرة من العمل إلى هنا.
ـ ألا يوجد في البيت من يعد لك طعاماً؟
هززت رأسي بالنفي فسألتني بدهشة:
ـ أتعني أنك تعيش وحدك؟
ـ أعيش مع اثنين من أصدقائي، وكلاهما مصاب بمرض مزمن، الكسل. يتهربان من مسؤولية الطبخ، فلا أجد بداً من القيام بهذا العمل حتى لا نموت جوعاً.
ـ سألتني "مها" بحنان:
ـ أليس لك أهل، أستاذ؟
ـ أحنيت رأسي وقلت:
ـ لكنهم بعيدون جداً.
ـ أين مثلاً؟
ـ في قرية من القرى المنسية في الشمال.
ردت "فائزة" بقرف ظاهر:
ـ فلاح؟؟
التفت إليها وقد هالتني لهجتها الحقيرة. لكني ضبطت أعصابي وتساءلت:
ـ أرجو ألا أكون قد خيبت آمالك لأنني فلاح؟؟
لم تترك لها "مها" فرصة للرد عندما أعلنت باسمة:
ـ وأنا أيضاً قروية. فقد ولدت في إحدى قرى الجنوب.
ابتسم "ياسر" وقال وهو يحني رأسه:
ـ بورك الجنوب الذي أنجبك.
لم يضحك أحد لهذه الدعابة بل أطرقت "مها" برأسها استحياء، بينما تغير لون وجه "فائزة"، واضطربت قليلاً، ثم وجهت نظرة لئيمة إلى "ياسر" وعضت شفتها السفلى لتكبت ثورتها.. ثم سكتت.
أعتقد أن العلاقة بين "ياسر" و"فائزة" ليست علاقة طبيعية؟. سيان. ما علاقتي أنا بهذا الأمر؟
جاء الطعام ورحنا نتناوله بهدوء ممل... إلى أن سألتني "مها" فجأة وهي متشاغلة بجمع بعض حبات الأرز عن الطاولة:
ـ يبدو أن قريتكم، أستاذ، معبأة بالأحراج الخضراء؟
هذا السؤال ليس طبيعياً فاستفهمت باستغراب:
ـ أحراج خضراء؟ لماذا؟
ـ لأنني أرى انعكاس ذلك الاخضرار على عينيك.
وضعت الملعقة جانباً، وأسندت ظهري إلى الكرسي ثم شبكت ذراعي فوق صدري وحدقت بها بقحة غير مبال بوجوم "ياسر" وبالدهشة التي عقدت لساني "فائزة":
ـ آنسة "مها"، هل أفهم من هذا أنك بدأت تغازلينني؟
أخرجت من حقيبة يدها منديلاً حريرياً وتشاغلت بمسح فمها ثم راحت تنتقل نظراتها بيننا خجلة محمرة الوجه، ذابلة العينين، كأنها ارتكبت إثماً لا يغتفر، فلم أشأ أن أتركها فريسة لهذا الإحراج. تناولت ملعقتي من جديد وقلت:
ـ أعتذر، آنسة "مها" إذا كنت قد أحرجتك.
ردت "فائزة" بلؤم ظاهر وهي تعود إلى طعامها:
ـ لا تخف على شعورها. إنها لا تحرج.
التمعت عينا "مها" بغيظ واضح وصرخت:
ـ ماذا تعنين يا ست؟
لم تجب "فائزة" على سؤالها بل تابعت تقول متجاهلة الموقف الحاد
الذي خلقته:
ـ الآنسة "مها" معجبة دائماً بالأشكال الحلوة.
صرخ "ياسر" متدخلاً:
ـ كفى "فائزة". ما هذه الوقاحة؟
نظرتُ إلى "مها" التي ترقرقت الدموع في عينيها، وتمنيت في تلك اللحظة أن أصفع "فائزة" لماذا تحاول إحراج صديقتها. صديقتها؟ ما هذه الصداقة؟
يبدو أن "فائزة" تشعر بالغيرة من "مها". ولكن لماذا هل يحاول "ياسر" أن يتقرب من "مها"؟ هل.... وجدت نفسي أبتسم بعفوية.
أهذه هي قيمهم هؤلاء الذين ثقبوا رؤوس الناس بالكتابة عن القيم والأخلاق؟ إنهم يتاجرون أيضاً. يتاجرون بقدسية الحرف وطهر الكلمة. ما الذي بقي ولم يُعرض للبيع كأنه من سقط المتاع ضحكت مرة ثانية، فسألني "ياسر":
ـ لماذا تضحك؟
أجبت كاذباً:
ـ ثمة أشياء مضحكة. منها أنني تأخرت عن عملي أكثر من نصف ساعة، وعليّ أن أترككم الآن وإلا طردوني. أنت تعلم أنني محتاج إلى هذا العمل الإضافي.
ـ لن تذهب بهذه السهولة. اعتذر لهم غداً وقل إنك كنت مريضاً.
نظرت إليه ثم إلى "مها" و"فائزة" وألح عليّ فضول غريب أن أبقى وأرى نهاية هذه المسرحية التي أصبحت دون أن أدري، بطلاً من أبطالها. أدركت "فائزة" أنني مازلت متردداً بالبقاء فقالت بفتور كأنها تؤدي واجباً تكرهه:
ـ ابق معنا إذا شئت.
لم أقل شيئاً. تطلعت إلى "مها" فرأيت في عينيها توسلاً ساكتاً وشيئاً مبهماً كأنه دعوة مكتومة توشك أن تمزق صدرها ولا تستطيع أن تبوح بها. أحنيت رأسي، فانبسطت أسارير "ياسر" ونهض من مكانه ثم دفع ثمن الطعام، وطلب إلينا أن نخرج إلى مكان ما خارج دمشق لنشرب القهوة ونقضي بعض الوقت.
اقترح علينا أن نذهب إلى "الوادي الأخضر" فاعترضت "مها" قائلة:
ـ لكنا لسنا في فصل الصيف:
ردت "فائزة":
ـ سنجلس في المقصف الشتوي. أنا موافقة.
حملتنا سيارة صغيرة إلى هناك، ودخلنا المقصف الشتوي ثم انتقينا إحدى زواياه الفسيحة. رحت أنظر من خلال الزجاج إلى شجيرات حور نحيلات، غرست في أرض طينية وسخة تشقها ساقية صغيرة محرورة الماء، ويطل عليها من الخلف جبل أجرد لا أثر للنبات فيه.
بصورة ما.. وجدت نفسي أفكر بقريتي، أفكر بالجبال الخضراء العالية التي تسجنها والغابات العذراء التي لا حد لاتساعها وهي تسيج باخضرارها العميق جبالنا المنسية صرت أتصور الأنهار الثرة والينابيع الصافية الغزيرة التي تنساب بين غابات الصنوبر والبلوط بخريرها الإيقاعي العذب.
كل شيء يطبع قريتي بالجمال البكر الذي لم تدنسه قدم إنسان بعد... تذكرت كل هذا كأنه شريط سينمائي ملون يترى أمامي، ثم التفت إلى شجيرات الحور حولنا وابتسمت.
قال "ياسر" بنزق:
ـ لقد عدت إلى الابتسام من جديد. ما الذي يضحكك؟
منذ سنوات والجدب يفتك بقريتنا حتى أصبحت حياتنا مدينة لعطايا حيواناتنا. هذا مقرف للغاية. وليس شيئاً عادلاً.
قالت "فائزة":
ـ أقترح أن نجلس في الزاوية المقابلة. المنظر هناك أجمل.
نهضنا إلى الزاوية المقابلة، وقد لاحظت "فائزة" شيئاً كالامتعاض على وجهي فسألت:
ـ تبدو كأنك غير مرتاح معنا. ما بك؟
ـ أنت آنسة "فائزة"، كما بدا لي مفتونة بالمناظر الطبيعية.
ـ أكثر مما تتصور. إنني أشعر براحة عميقة بين أحضان الطبيعة.
ـ يجب عليك إذن أن تزوري قريتي.
ـ لكن المناظر هنا بديعة للغاية.
ـ أتدرين أن كل هذه التي تسمونها مناظر طبيعية، ليست أكثر من جانب صغير في غابة من غاباتنا هناك.؟ هناك سحر الطبيعة على حقيقته، وهناك الوحشة والنسيان أيضاً.
ـ أتعني أن كل هذه المناظر الخلاّبة لا توحي إليك بأي إحساس جمالي؟
حدقت في وجهها وقلت باستياء كأنها المسؤولة عن الإهمال المشين الذي لحقنا:
ـ المشكلة أنك لا ترين أبعد من عالمك هذا. يجب أن تري الطبيعة على حقيقتها كما خلقت لا كما يحاول الإنسان أن يخلقها. أنت لم تري مرة سحر الغروب عند امتداد بحر عميق الزرقة، ولم تري كيف تتعانق أهداب الصنوبر لتظلل غابة كبيرة من الزهر. إذا زرت مرة تلك الربوع أنا واثق أنك ستكفرين بعدها بكل جمال مصنوع هنا صدقيني، لو أن الدولة تهتم بتلك المناطق لأصبحت مورداً سياحياً ضخماً لها وتأكد العالم أننا لا نعيش تحت الخيام في متاهات الصحراء.
ابتسمت "فائزة" ابتسامة تافهة وعلقت:
ـ هذه دعاية ممتازة لقريتك. ومن واجب وزارة السياحة أن تستخدمك لأغراضها الدعائية.
رد "ياسر" متدخلاً:
ـ لا أظنه يبالغ أبداً. لقد زرت تلك المناطق أكثر من مرة, وأعترف أنها بلاد فاتنة وخلابة حقاً. لكن عيبها أنَّ سكانها ما زالوا جهلة إلى حد ما.
شعرت أن مدية قد حزّت رقبتي, وأن شيئاً كالصفعة اللئيمة قد لسع وجهي فالتفت إليه وأنا أحسّ غضباً عارماً يغلي في صدري.
ـ جهلة؟ "ياسر" أنت إنسان سافل. يجب أن تتعلم كيف تحترم نفسك. نحن فقراء "ياسر" لكننا لسنا جهلة.
شعر بالارتباك فتمتم معتذراً:
ـ أنا آسف جداً. آسف من أعماقي, لم أكن أريد إهانتك.
ـ أنت أصلاً أعجز من أن تهينني.
ـ لا تكن قاسياً هكذا. كان مجرد حديث عابر, لقد زرت مناطقكم أكثر من مرة وقد لاحظت أن الكثير من العادات القديمة والتأخر الاجتماعي ما زالا...
قلت مقاطعاً بعصبية:
ـ يبدو مخجلاً أنك وأمثالك مسموح لهم بالكتابة والنشر, وهم معزولون عن أرضهم وشعبهم. أنت تظن أن حدود العالم تنتهي عند حدود مدينتك؟ إن كل ما تظنه لا يساوي كومة قمامة.
تدخلت "مها" محاولة تلطيف الجو الذي تبدل فجأةً:
ـ لا تطور النقاش أكثر من ذلك, أستاذ. لقد اعتذر وانتهى الأمر.
ـ أنا لست مهتماً لاعتذاره آنسة "مها". لقد أحرجني لكنه لا يستطيع أن يجرحني. اسألي حضرته, ما الذي رآه من مظاهر جهلنا؟
تطلعت إلى "ياسر" بإلحاح وتابعت بعصبية:
ـ إن معظم المسؤولين والمثقفين لا يعرفون منطقتنا إلا على مصورات الجغرافيا, ولا يعرفون شيئاً صميمياً عنا وعن حياتنا سوى أننا مخلوقات جاهزة لدفع الضرائب, والسوق إلى الجيش, وزرع الأرض ثم تقديم محصولها إلى كروشهم المنتفخة. نحن جهلة لأننا نعيش وراء جبال منسية.
سكت بعد أن بُحَّ صوتي, فأشعلت لفافة, بينما كانت "فائزة" و"مها" مطرقتين إلى الأرض "وياسر" يعبث بغطاء الطاولة. رفعت "فائزة" رأسها وقالت محاولة الوقوف مع "ياسر".
ـ أنت عصبي مخيف. وقد طورت النقاش جداً, لم يكن "ياسر" يقصد شيئاً, إن شعوب الشرق كلها ما زالت تعتبر جاهلة وبعيدة عن روح العصر. أنا لا أعتقد أنه أساء إليك طالما أن هناك حركة تعليمية فإن جميع المشاكل ستحل.
ـ أتْدرين آنسة "فائزة"؟ إن ما تنفقه الدولة لإقامة الحدائق وقتل الذباب في دمشق وحدها يكفي لبناء مئة مدرسة هناك, هذه المدارس تستطيع أن تثقف جيلاً كاملاً وتنقذه من براثن الجهل الذي لقحتمونا به.
رد "ياسر" محاولاً إنقاذ نفسه من الورطة التي وقع بها.
ـ أنت تهاجم دمشق كأنّك حاقد عليها, وتنسى أن الدولة تهتم بكل المدن كما تهتم بدمشق.
ـ ما هذا "ياسر"؟ هل تحاول تمثيل دور الأبله؟ أنت تعلم أنني لا أعني دمشق بالذات.
إنني أعني "المدينة" وأقارن بينها وبين الإهمال المخجل الذي ألحق بالريف كله. في كل بلاد العالم يكون الريف جنة ومكاناً رائعاً لقضاء العطلات, وفي بلادنا بقي الريف رمزاً على أن الإنسان انحدر من سلالة القرود وتطور إلى بهيمة من نوع آخر.
ـ هذا ليس صحيحاً. أنت تبالغ.
ـ أبالغ؟ ألست معي أن سبعة ملايين فلاح في هذا القطر يعملون ليقدموا إلى خمسة ملايين إنسان يسكنون المدن؟
عادت "فائزة" تردد بوقاحة عجيبة:
ـ أنت إقليمي خطر. ومن المؤسف أن ثقافتك لم تنقذك من هذا التعصب.
أوشكت أن أفقد صبري فقلت بنزق:
ـ آنسة "فائزة" أرجوك" إذا كنت عاجزة عن الارتفاع إلى مستوى هذا النقاش فكرياً فأرجو أن تسكتي.
ـ أنت لست مؤدباً.
ـ لا أعتقد أن الأدب هو الذي دفعك للتكشير عندما عرفت أنني فلاح.
ـ إنك تطور الأمور إلى حد يدفعني على الاعتقاد أنك تحقد علينا جميعاً.
ـ أحقد عليكم؟ إنني لا أشعر بكم آنسة "فائزة". أنت تتهميني بالإقليمية وأنا أحتقر هذا بشدة, لكن هذا لا يمنعني من السخط على الذين حاولوا دفني ودفن الملايين معي ونحن أحياء. كيف تريدين مني أن أحكم على الأمور؟
من خلال السيارات الأنيقة والشوارع النظيفة؟ أم من خلال الأبنية الفخمة والترف الباذخ؟ نحن في القرية ما زلنا نركب على الحمير عندما نسافر إلى أي مكان. وفي الشتاء نُعزل عن العالم بسبب الأوحال لأن الطرق المعبدة لم تصل إلى قرانا بعد.
كيف تريدين مني أن أحكم على الأمور وفي دمشق وحدها حوالي ألفي مدرسة....
قاطعني "ياسر":
ـ وفي كل قرية مدرسة أيضاً. لماذا تضخم الأمور؟
أوشكت أن أضحك من هذه المقارنة السخيفة فقلت:
ـ أوتعرف شيئاً حقاً عن مدارس القرى؟ عن الغرف الطينية الحقيرة التي يعشش المرض فيها ويتكدس في كل غرفة منها أكثر من ستين تلميذاً نصفهم حفاة؟ أستاذ "ياسر" إن سيارات خاصة تنقل أطفالكم من البيوت إلى المدارس بينما يسير الطفل في القرية كل يوم تحت المطر أكثر من عشرة كيلو مترات حتى يصل المدرسة ويعود منها إلى بيته. أُتراهن أن ثمن البورسلين في مراحيض مدارسكم, أكثر مما أنفق على مدارس قرانا؟ وبعد ذلك تقول لي إننا جهلة. ألا تريدون أن نبقى هكذا حقاً؟ إن بنايات المدن الفخمة من أموالنا نحن ومن الضرائب التي كان يجبيها رجال "الدرك" منا, بالعصي والهراوات ثم يتركوننا جلوداً مزرقة وعروقاً نافرة وأمعاء جائعة.
ابتسم "ياسر" بسمة صفراء وأعلن:
ـ إن حماسك لقريتك حجب عنك الحقيقة وجعلك لا ترى الأمور على ما آلت إليه, أنت تتحدث عن عهود مضت, ولا أعلم لماذا تنسى اهتمام الدولة الحالي بالريف.
ـ هذا الاهتمام يشبه اهتمام المجامع العلمية بالحيوانات النادرة الباقية, إنه إنقاذ أخير لنا قبل أن ننقرض, نحن "الهنود الحمر" لهذا البلد. لا أريد أن أحدثك عما فعله الإقطاع بنا, هذا الموضوع صار سخيفاً من كثرة إعادته, لكني واثق, لو أنكم عانيتم ما عانيناه لأصبحتم أكثر جهلاً منا.
قالت "مها" بعد صمت طويل, وبهدوء لطيف وكلمات منتقاة:
ـ أكاد أحس بكل شيء قاله. في قريتي الجنوبية وفي كثير من القرى المحيطة بها, ما زلنا نعيش بالطريقة التي وصفها, نؤمن بالجن والعفاريت, نشعل البخور ونتبارك من الأولياء, قرانا تعزل عن العالم في الشتاء. نحن في الجنوب جهلة أيضاً أستاذ "ياسر".
إن أكثرنا لم يسمع بعجائب الطب إلا عن طريق حديث عابر ينقله أحد القادمين من المدينة.
كلمة المستشفى بالنسبة لنا كلمة سحرية تحمل أطواق الخلاص. أذكر أن الدولة بنت مستوصفاً هناك منذ سنوات, وحتى الآن لم ترسل إليه طبيباً.
قالت "فائزة" والوقاحة ما زالت تلف لهجتها:
ـ لا أعتقد أن طبيباً يغامر ويعيش بينكم.
ـ لماذا؟ أليسوا أصحاب رسالة إنسانية, ونحن بشر كالآخرين؟
ـ إن لكم عادات عجيبة لا تطاق.
قلت مقاطعاً وقد أوشكت أن أفقد صبري:
ـ ما هذا آنسة "فائزة" عاداتنا؟ كأننا نعيش على كوكب آخر, نحن فقراء, هذا كل ما في الأمر. فقراء لأن مدنكم الجشعة لا تشبع أبداً, تبتلع كل شيء لإقامة البنايات العالية والفيلات الأنيقة, وتأمين وسائل النقل, والستريوهات, ومحطات التلفزيون, وكل شيء يبدد سأمكم بينما تظل قرانا وبيوتنا غارقة في عتمة كافرة, نشرب من سيارات الصهاريج التي ترسلها الدولة فتصل إلينا مليئة بالتراب والأوساخ.
قالت "مها" معقبة:
ـ إن بقاءنا أحياء حتى الآن نوع من البطولة الفذة, لقد عانينا كل شيء, حتى الجوع. هل تعرفين معنى الجوع يا ست؟ هناك مخلوقات تموت من الجوع.
قلت بألم:
ـ نحن نؤمن أن الموت هو راحتنا الوحيدة. وعندما نموت ندفن عراة لأن أكثرنا لا يجد الكفن. أعتقد أنه من الجهل أن ندفن عراة؟
قالت "فائزة" فجأة بلهجة هادئة:
ـ لماذا لا تقوم أنت وأمثالك, الذين تتلقون العلم هنا, بثقيف شعبكم, أليست هذه مهمتكم بالأحرى... أليس هذا واجبكم؟
ـ إن أفراداً يعدون على أصابع اليد الواحدة لا يستطيعون القيام بالمعجزات. إن شعبنا هناك مذعور منذ الأزل إنه مهيَّأ ليفتح صدره لكل الرياح ولكن من واجب الدولة أن تهيىء المناخ أولاً والأرض الصلبة التي يدوسون عليها, يجب أن تخلصنا الدولة من خوفنا أولاً إن رجل الأمن, على سبيل المثال, عندما يحضر إلى القرية فإن نصف السكان يفرون إلى الغابة وهذا مفهوم من مفاهيم الشجاعة عندهم, لأن الذين يبقون عليهم تقديم الولاء لـه والعلف لحصانه وهم لا يجدون ما يعلفون به أنفسهم.
إن شعباً على هذه الدرجة من الذعر لا يستطيع أفراد قلائل أن يبعثوه من كبوته, الحل يجب أن يأتي من فوق, ونحن نصلح بعد ذلك كوسائل للتنفيذ.
أعلنت "فائزة" متفلسفة:
ـ هذه حلول غير منطقية. لقد استطاع رجل واحد أن يحرر الهند بأسرها, حررها من الخوف ومن الاستعمار, واستطاع عدة أشخاص فقط أن يحرروا الصين بأسرها, حرروها من الخِرافات والأفيون بعد أن كانت مخدرة بهما منذ قرون بعيدة, ثم تقول أنت إن إصلاح هؤلاء الناس على أيديكم بات مستحيلاً, اسمح لي أنا لا أؤمن بذلك.
ـ أنا لست مهتماً بما تؤمنين. أنت تضعين حلولاً تحتاج إلى أبطال أسطوريين. لقد انتهى زمان السحر. ثم إنك تنسين شيئاً هاماً, لم يكن في الهند أو الصين من يشعر بالتقزز من كلمة "فلاح".
بدت على وجهها معالم الذعر وحاولت أن تقول شيئاً لكنني تابعت:
ـ أنت تريدين منا أن نموت ببطولة. لكننا لا نريد أن نكون أبطالاً ميتين, إن الأموات لا يقدمون شيئاً لأمتهم. ثم دعيني أسألك لماذا يطلب إلينا أن نموت من أجل أبسط واجبات الدولة نحونا. لماذا لا تموتون أنتم؟ كل شيء لكم ونحن ندور في عدم فارغ لماذا؟ يا آنسة "فائزة" إن الأشياء التي في رأسك لا تهم إنساناً سواك, وما تؤمنين به ليس حقائق يجب أن يؤمن العالم بها.
خبط "ياسر" كفه على الطاولة فجأة وقال بنفاد صبر:
ـ منذ ساعة ونحن نثرثر, ونقيم العالم, دعونا من هذا النقاش الفارغ. لقد اعتذرت عما قلته وأعتذر أيضاً إن كنت قد أسأتْ إلى شعورك.
قلت بحدة:
ـ إن ما قلته ليس دفاعاً عن مشاعري الشخصية, ثم إن شعوري ليس من التفاهة بحيث يستطيع رجل مثلك أن يسيء إليه.
رد بغيظ ظاهر:
ـ أنت تحاول إهانتي. بل إنك أهنتني فعلاً.
ـ إنني أقول ما أؤمن به, ولا يهمني تأويلك له, افهم الأمر كما تشاء.
ـ حتى لو جرحت أحاسيس الآخرين؟
ـ كان الأجدر بك منذ البداية ألا تسخر من كرامات الناس ومن بؤسهم وفقرهم وتصفهم بالجهلة.
مدّ يده إلى علبة اللفائف وأشعل واحدة راح يدخنها بعصبية ظاهرة بينما كان يحدق بي بعينين مضطربتين, وأصابعه تعبث برباط عنقه وأزرار قميصه وبكل شيء تطاله أصابعه الممتلئة, إلى أن هدأ قليلاً واستند إلى الخلف, ثم ابتسم ابتسامة لا معنى لها وأعلن بصوت حاول أن يجعله متزناً:
ـ إن صداقتنا ما زالت وليدة ولن أفسدها من أجل خلاف بسيط في الرأي سأنسى كل ما سمعته.
نظرت إليه بحيرة:
ـ لماذا لا يدافع عن رأيه إن كان مؤمناً به؟ كيف يقبل أن ينهزم إن كان ما قاله عن قَناعة؟
ليس لديه ما يؤمن به ولو كان مبدأ ساقطاً. هذا شاعر يوزع القيم على الناس؟
لقد أصبح الأدب مجرد ثرثرة. الكلمات لا معنى لها, كل إنسان لديه ما يقولـه للآخرين وهذا ليس أدباً. المشكلة مشكلة مبادىء. إما أن يكون للأديب مبدأ. أو.. يجب ألا يسمح لأحد بأن يتاجر بالكلام. إن شيئاً سامياً يسقط إلى الحضيض.
شعرت فجأة بالضجر. لماذا تنتابني حالات الضجر هذه؟
نهضت من مكاني وأخرجت من جيبي مائة ليرة وضعتها على الطاولة وقلت:
ـ أرجو أن تعتبروا القهوة التي شربناها دعوة خاصة مني. إني مضطر للانسحاب الآن.
نهض "ياسر" وأمسكني من كتفي:
ـ اجلس ولا تتصرف بهذا الشكل السخيف, سننسى كل ما قلناه.
ـ دعني "ياسر" أرجوك. لقد تضايقت جداً ولا أريد أن أفسد عليكم
جلستكم هذه.
ثم انسحبت.
وقبل أن أصل باب الخروج التفت إليهم. كانت "مها" تشيعني بنظرات ملهوفة كأنني خرجت ومعي الكثير من أحلامها.
مشيت في الشارع وحيداً...
كان الهواء يصفع وجهي وأنا أتطلع إلى أبنية دمشق الملونة الجميلة وهي تبدأ من القاع ثم تتسلق الجبل العجوز, كانت السيارات تمر بي زوابع من الضجيج. ا لبرد قارس, والمطر أمنية مستحيلة, وحدي ألعق صديد الجراح, وحدي على الإسفلت البارد بينما البنايات علب من الدفء واللذة. إن في العالم شيئاً خفياً يكدس التناقضات اللاإنسانية, يلهو بالإنسان وأقداره.
دمشق... وحيد أنا في شوارعك الباردة, مطارد كإبليس تلتصق به اللعنة. وحيد أنا بين مخلوقاتك اللاهية, لكني جئتك غازياً.
دمشق... أنا فاتح لم تعرفه كتب التاريخ بعد. جئت أنتقم لأحزان الصنوبر في الشمال وأنقل إليك دموع البحر المزرّق من العدم والفراغ والكبت.
البرد قارس, والليل طويل, والمدينة غارقة في النور والدفء والضجيج, والضياع فيها أمنية تتمناها العيون.






الفصل الثامن عشر

أحياناً السماء تمدّ حبالاً من المطر فوق المدينة, وتختفي النجوم وراء طبقات كثيفة من الغيوم الدكناء. ويصبح البرد منثوراً في الهواء كأقسى ما يكون الجحيم.
حزم الضوء المخلوق تلون المدينة وتضفي عليها بهرجة مزيفة, ويظل "بردى" في انسيابه الأبدي, مخترقاً صلب المدينة بوهن وصل حداً أصبحت معه كل نقطة من نقاطعه المحرورة تتمنى أن ترتمي عانية على الضفاف السمر
في جحيم الشتاء, وتحت انسكاب المطر, التف بمعطي وأتسكع في شوارع المدينة الصامتة, إلا من عواء الريح وطقطقة المطر لسعة البرد.
قالت لي "براءة" بشفقة واضحة:
ـ لقد تعودت أن تبقى وحيداً.
ـ الوحدة قدرنا. وإن واحداً لا يستطيع أن يشاركنا مشاعرنا.
كان عليّ أن أقول لها, إن الوحدة تبعدني عن تفاهة الآخرين وثرثرتهم, كما أنها تقربني من نفسي أكثر. تدفعني إلى عالم الليل, فأجوب الشوارع مع الحراس المتعبين الذين يحملون على أكتافهم أعباء السنين ووطأة الشيخوخة ولزوجة النعاس, كم مرة وقفت معهم, أرقب السكارى يخرجون من الحانات ويعربدون, يحدقون بالجدران الخرساء ويتبولون عليها. يترنحون على الأرصفة ويغنون بأصوات منكرة, تشبه نباح الكلاب.
تقول "براءة" بشفقتها المعهودة ومن خلال عينين دامعتين:
ـ إنك تقتل نفسك ببطء. تسير في جنازتك دون أن تدري.
ـ لا تشفقي عليّ "براءة", أنت تعلمين أنه لا مكان لي بين هذه الزمر البشرية, لكنني أجد نفسي أتسكع معهم, أضيع في متاهات المدينة ومسافاتها الملتوية, كأنني معزول عن هذا العالم الذي لا علاقة لي بكل فضائله وشروره.
كان عليّ أن أقول لها أيضاً:

ـ في كل ليلة أتسكع وحيداً. وفي كل ليلة تضغط رأسي أحلام عاهرة. ولدت وحيداً وسأموت وحيداً. عشت وحدي وأفكر وحدي بطريقة تختلف عن تفكير الآخرين. أحبك وحدي وأتألم وحدي. وهنا, في دمشق في المدينة الحائرة بين روحانية الشرق وحضارة الغرب الآلية... في المدينة التي يملؤها الضجيج وأقبية الجنس والخمارات الحقيرة, لا يستطيع الإنسان أن يشعر بإنسانيته ولا يستطيع أن يتعاطف مع أحد, لذلك أنا وحيد في دمشق أيضاً.
كأن "براءة" تقرأ كل ما يدور في رأسي, فتسكت. إنها عاجزة عن نشر شراع أمان واحد على سفني الضالة. حتى "أنور" و"أحمد" يرفضان التعرف على المدينة عندما تصمت في الليل, يرفضان أن نسرق الفجر قبل مولده.
"أنور" مشغول دائماً مع مجموعة من النساء الساقطات.
و"أحمد" منهمك بالجامعة والصلاة و"روعة".
"عدنان" يقول إنني أصبحت نحيلاً وقد انحرفت صحتي. وأنا أشعر أنني فقدت شهيتي للطعام. أحد زملائي في العمل يعتقد أن فقدان الشهية للطعام كارثة. إن الطعام برأيه أكثر الأشياء متعة في الحياة, وعندما ينتهي من التهام كل وجبة من طعامه يتأكد أنه كسب أسبوعاً من العيش.
هذا الأبله يقضي كل يوم ثلاث ساعات من عمره في المرحاض.
لم أعد أبالي. بدأت أستشعر الغبطة لهذه النوعية من الحياة. أن أنفلت من العداء الذي تنفثه بحقارة عيون الآخرين.
كل إنسان عرفته هنا كان يسخر مني لأنني فلاح ساذج.
إذا قدّر عليّ أن أكون فلاحاً, فلماذا أكون ساذجاً؟
قالت لي "عفاف" مرة:
ـ أنت تضيع عمرك سدى. تدعو إلى ثورة من نوع جديد, لكنك وحيد في دعوتك هذه.
إن الآخرين مشغولون عنك. هذه الثورة لن توصلك إلى شيء. أنت وأمثالك تفسدون حياة الآخرين بهذه الدعوات, لماذا لا تعيش كما تريد وتترك الآخرين يعيشون كما يريدون؟
ـ إن أخلاقكم منحطة. والثورة التي أدعو إليها تمرد على هذه الأخلاق.
وتمد "عفاف" لسانها ساخرة وتغرق في قهقهة داعرة.
لا مجال للخيار..
إما أن أكون واحداً منهم وتنتحر كل القيم التي أؤمن بها..
وإما أن أعود إلى قريتي, أعيش براءة الإنسان, حيث تنمو هناك الأخلاق والطهارة جنباً إلى جنب مع الفقر والجوع والانسحاق.
لكنني من جهة أخرى أفكر: لقد ولدت ولابد لي من أن أعيش, عندما أموت لن تكون لي القدرة على الولادة من جديد. إن أحداً في العالم لا يستطيع ذلك. كل الذين ذهبوا لم يعودوا!
لست من هواة التشرد لكنني أحب الليل حتى العبادة. إنه يطمس جميع الأشياء ويتيح لي أن أحضن بعينيّ كل ما خلفّه الناس في نهارهم الراحل محاولاً أن أذهب إلى أبعد وأعمق من لفتة عابرة, عن أي شيء أبحث من خلال هذا التشرد المضني؟
سألتني "براءة" بإصرار حاد:
ـ لماذا تصر على اكتشاف مبرر لاستمرارك أو معنى يستحق أن تعيش من أجله؟ إنك تعطي الحياة عمقاً لا تستحقه وتضع حلولاً تسبب الدوار. ماذا تريد من الحياة؟ إنها لا تخصك, مرة تريد الحياة ومرة تريد الموت, مرة تعتني بالناس, ومرة تلعنهم, أنت لا تعرف ماذا تريد, قل لي ماذا وجدت بعد
عامين هنا؟
"براءة" لا تعرف ما أريد. وأنا لا أجيد التعبير عما أريد. حاولت مرة أن أجعلها قضية حياتي, بعد خمس دقائق من هذا القرار اكتشفت أن مشاكلي لا علاقة لها بالمرأة وبالتالي لا تستطيع أن تحلها, فألغيت القرار فوراً.
قرر "عدنان" في جلسة كسلى وهو يقرض أظافره التي يعتني بها دائماً:
ـ أحلامك من النوع الوضيع وتقودك دوماً إلى نفس السؤال "لماذا"؟ وفي كل مرة تقذف هذا السؤال تقع في كيس مثقوب.
"أحمد" و"أنور" رمز لطهارة قديمة أضعتها..
ماذا إذن؟
أحب التسكع في مدينة لا حدود لها. أجوس وحدي في كل عتمة وعند كل منعطف لأنسى نفسي كأنني مثقل بموضوع آخر أشد أهمية. وما أطول الليل عند غريب يرتمي بعيداً عن شطآنه الحنونة, في أرض لا رحمة فيها, ترابها لافح وهواؤها مسموم, ما أطول الليل عند ضائع يرى حياته جزءاً تافهاً من الزمن.
ومع ترجيع الصدى يلح صوت "براءة" عليّ:
ـ لقد أصبحت من القلقين المرضى بمزاجهم. ما زلت أصر على أنك تتلف حياتك.
يعتريني الوهن فألجأ إلى خيالي... هذا الخيال الموحش الرتيب كأيام عاهرة هرمة, الذي حولني شيئاً فشيئاً إلى مخلوق حيادي الجنس مرة.. ومرة أقضي حياتي في مكان منسي, أحرص على الاختباء فيه حتى يرحل الليل الأسود.
وفي الليل, عندما يضمني صمت الشارع, تنهار القصور التي شيدتها وتسقط حولي دون ضجة ولا صوت, فأتلفت حولي مرتبكاً وتبدو لي حياتي قاتمة والأشياء حولي باردة وكئيبة.
في هذه المدينة يحلو الضجر.
قال "ياسر":
ـ في هذه المدينة تحلو الكتابة, إنها نموذج فذ. كل أمراض الإنسان التي يجب معالجتها موجودة في هذه المدينة.
أجبت مستاء:
ـ إن جميع ما تكتبونه لا يقدم للإنسان أكثر من حلول سطحية من
الدرجة الثانية.
أنا وحيد ليس لدي ما آسف عليه. ماضٍ منسي في قرية منفية عن الحضارة والإنسانية.
وحاضر مغلف بأردية القلق, ومستقبل ينتصب في وجهه ألف صنم.
لماذا لا تستطيع "براءة" أن تشاركني مشاعري, وتكون مرفأ خلاص لأشرعتي التي مزقها لؤم الأيام, أنا يمزقني السأم وهي تنام وتتكدس على جفنيها أحلام بديعة عذبة.
وتصرخ "براءة" محتجة:
ـ لكنك لم تقل لي ماذا تريد مني. أحبك. ألا يعني هذا شيئاً لك؟
ـ لماذا لا تتحولين من "براءة" المرأة إلى "براءة" القضية؟
ـ ولكن كيف؟ أتريدني أن أتحول من حقيقة إلى رمز, من مخلوق
إلى شبح؟
إنني أحسدها على عفويتها وأتمنى لو أستطيع مشاركتها هذه السعادة, ولكن ليس ثمة وسيلة لأن تشارك أحداً سعادته.
النهر المحرور يشق صلب المدينة منذ الأزل, ينساب صامتاً بأوساخه, وعفونات الناس فيه يكتم خريره في أعماقه, لا ريب أنه خجل من شيء ما.
قال لي "وليد" أحد كتاب القصة في دمشق.
ـ هذا ليس صحيحاً, يجب ألا تفرض آراءك على الناس, إن أحداً ليس ملزماً بتبنيها.
أية آراء هذه؟
في يوم ما سأكتب للناس في كل ما أفكر به, إن من صميم الآراء الحرة أن ندع الفرصة للآخرين كي يتعرفوا عليها.
عقارب الساعة تدور, وعتمة الليل تزحف, ولا أشعر بالتعب, فأستمر متسكعاً أجوب الشوارع الصامتة الباردة, لا أتطلع إلى شيء ولا يستهويني
أي شيء.
ثمة خطأ في علاقتي مع الآخرين ومع الحياة.
يلسعني البرد حتى يتثاءب الفجر من وراء الأفق ويرسل إلى الدنيا ضياءه الفاضح, عندها أعود إلى عملي مباشرة, أفتح الغرفة وأريح وجهي المجهد على زجاج الطاولة, ثم أذهب في إغفاءة ثقيلة لا تعرف الأحلام, حتى تشرق الشمس وتمتليء البناية بالموظفين والموظفات, وتدخل "براءة" إلى المكتب تهزني من كتفي, ثم تنظر إليَّ بعينين يرتع عليهما ألف سؤال مبهم... إنها تتمنى أن تقول شيئاً عندما تراني نائماً في المكتب, لكنها لا تجد الوسيلة لذلك, لا تجد إلا أن تسأل بحزن واضح كأنها تشفق عليّ:
ـ لماذا لم تنم في البيت؟
لم أجد أبداً جواباً لسؤالها هذا, ولا أعرف لماذا يتحتم على الناس أن يناموا دائماً في مكان واحد.
لكن هذا لا يعفيني من الذهاب إلى البيت, لأنام بين فترة وأخرى.
ذهبت, ورحت في غيبوبة ثقيلة لم أستيقظ منها إلا عندما فتح "أحمد" الباب ودخل الغرفة ثم قذف كتبه على الطاولة كيفما اتفق وابتسم ابتسامة عريضة كللت وجهه وأضفت عليه حبوراً مستحباً:
ـ إن لدي خبراً رائعاً.
سألته ساخراً:
هل قبلّت "روعة"؟
ـ تفوه عليك وعلى تخيلاتك المبتذلة.
ـ إذا لم تقبلها فكل أخبارك الأخرى تافهة.
قال بلهجة خطابية:
ـ قررت أن أضع حداً لسأمي ومشاكلي كلها.
ـ هل تنوي الانتحار؟
ـ سأتزوج "روعة".
ـ النتيجة واحدة. عندما تنتحر فأنت تموت مرة واحدة. وعندما تتزوج فأنت تموت كل يوم.
نظر إليّ "أحمد" طويلاً ثم قرر بهدوء:
ـ إن آراءك كلها لا تساوي قشرة بصلة. لقد أصابك "أنور" بالعدوى وأصبحت ماجناً.
سكت قليلاً ثم أعلن بصوت حالم مليء بالنشوة:
ـ أنت لا تعرف ما معنى "روعة" بالنسبة لي. لقد عثرت على فتاة يصلي الوفاء في صدرها إنسانة كبيرة في عالم مليء بالأقزام, في عينيها يشرق الصباح الذي آمنت به, وعلى فمها تتولد براعم الغد الذي أريده. لقد عثرت على كنز من الطهر والإيمان. سأتزوجها ولو كان الثمن حياتي.
صفقت وقلت لـه:
ـ خطاب رومانتيكي جميل.
ارتبك قليلاً ثم أعلن:
ـ سأذْهب غداً لأطلب يدها من والدها.
حدقت فيه مذهولاً.
كنت أعتقد أنه يتحدث عن المستقبل البعيد, أما وأنه يتحدث عن الغد فلم أتردد من الصراخ:
ـ منذ متى, أيها الجحش, أصبحت عبداً لغرائزك الجنسية؟
ـ هل تسمي حبي لـ "روعة", غريزة جنسية؟
ـ بل إنه شبق جنسي من النوع القذر.
أدار رأسه كأنه يريد إنهاء الحديث لكنه لم يلبث أن قال:
ـ أنا أحلم بالسعادة والاستقرار. هذا كل شيء. أما الجنس, فهو آخر شيء أفكر به.
إنني لست مهتماً برأيك.
أجبت وأنا أغلي من الغضب:
ـ أنت تتحدث عن الزواج والسعادة والبيت كأنك تملك الوسيلة لتحقيق ذلك. كيف أقنعت نفسك أيها الأجدب إن راتبك كله يكفي ثمن أحذية وأدوات تجميل لزوجكم المصون؟ بغض النظر عن هوسها بشراء المشدات التي تجعل قوامها ممشوقاً.
هتف "أحمد" محتداً:
ـ أنا لا أسمح لك أن تقول هذا, إن "روعة" ليست فتاة مائعة حتى تستعمل هذه الأشياء.
ـ من قال لك؟ هل رأيت ملابسها الداخلية؟ لا تحدق بي هكذا, أنا لا أريد أن أطعن بها ولكن حتى تكون الفتاة منسجمة مع عصرها يجب أن تهتم بتجليس أعضاء جسمها بالمشدات والأحزمة أكثر من اهتمامها برأس أبيها أو زوجها.
ما زال "أحمد" يحدق بي مذهولاً.
ـ اسمع "أحمد" الأجدر بك أن تحاول بناء حياتك. ما زال أمامك وقت طويل حتى تتخرج من الجامعة, وبعدها عليك أن تؤدي خدمتك الإلزامية للجيش, من أين ستأكل طوال هذه المدة أنت وحرمك المصون؟
ـ أنا لم أسمع أبداً أن إنساناً قد مات في هذا البلد من الجوع.
ـ إذا كان الموت بالنسبة إليك أن تتوارى تحت التراب في حفرة قذرة, فأنت مغفل, هناك بشر أحياء لكنهم ميتون من الضجر.
ـ الزواج حل وحيد لكل ما أعانيه.
ـ أنت توافقني أن المتزوجين ليسوا سعداء كلهم؟
ـ وليسوا تعساء كلهم.
ـ إن زواجك سيكون أتعس زواج تشاهده هذه المدينة.
في تلك اللحظة فتح الباب ودخل "أنور", تطلع إلينا ورأى على وجه كل منا آثار عاصفة نفسية فسأل:
ـ ماذا يجري في هذا البيت الوسخ؟ كلما جئت إليه أرى مشكلة جديدة. هل خلقتما من أجل المقت؟
قلت لـ "أنور" وأنا أمد يدي إلى إبريق الماء:
ـ سيذهب "أحمد" ليخطب "روعة" من أبيها غداً.
توقف "أنور" وسط الغرفة ووضع يديه في خاصرتيه ثم نخر من أنفه وأعلن:
ـ دعه يفعل ذلك, ليس هناك ما يعيش من أجله. إن حياته التافهة لا تصلح إلا للزواج.
نبر "أحمد" بصوته:
ـ جئت الآن تبسط لنا فلسفتك المتفسخة عن الحياة. إنني لا أهتم برأيك, ولن أسمح بتقييم حياتي من خلال مناقشة عرضية في غرفة قذرة.
ـ إنك لن تبدع عالماً آخر بزواجك من الآنسة الدكتورة.
ـ إنني لا أفكر بخلق عالم جديد وليس هذا من شأني كما أنه لا يعنيني. أريد أن أعيش حياتي فقط.
سألت "أحمد":
ـ حياتك وحدك؟؟ يبدو أنك بترت جذورك كلها؟.. نسيت كل شيء, نسيت أننا سنعود إلى الشمال لنبدأ هناك من جديد؟
ـ أنا لست مديناً لأحد بشيء.
ـ إن حبك لهذه الفتاة قد أنساك كل شيء, حتى ذلك الإجهاض الفكري الذي كنت تسميه أخلاقاً وفضيلة. "أحمد" أنت وحش.
خيم صمت ثقيل علينا.
الغرائز المكبوتة انفجرت بكل شبقها. كل رواسب القرية وأحلام الليالي الطويلة المملة.
كل الحرمان التعس تحلل أمام أول امرأة ابتسمت لـه.
نظرت إلى "أحمد" كأنني أراه لأول مرة, صحيح أني لا أؤمن بحرف واحد مما قلت لـه لقد انتهت مرحلة الحساب من حياتي. عندما يعشق الإنسان يجب أن يغامر, أن ينشر شراعه ويقلع. لكني رغم هذا أعارض زواج "أحمد" لأنه كارثة, ولأنه لن يتم إلا من خلال مساومات حقيرة تطعن طهر الحب في أعماقه. هذا ليس حباً, إن "أحمد" فريسة نفسه وضحية كبته وهو لا ينظر إلى المستقبل إلا من خلال حرمان طويل وقاتل كما أن تقيمه لآماله خاطيء ما في ذلك شك. ماذا حدث لـه في دمشق؟
إن أي نقاش معه لم يعد مجدياً, وليس مستعداً للخروج من هذه العلبة المغلقة. إنه يحمل في أعماقه إيماناً قطيعياً بالفضائل والطهر, لا يقبل أن يسمع إن كان ثمة خطأ في العالم حسبه أن يؤمن وأن يجد إنسانة ترضى بذلك وليس مهماً أن تؤمن به.
"أحمد" سيتزوج "روعة" إذن؟ إلى أي حد يحبها, إن الإنسان لا يستطيع أن يصدر أحكاماً صحيحة على عواطف الآخرين لأنه لا يعيشها, لكني أعرف "أحمد" معرفة صميمية وأعرف أنه لا يرى من العالم إلا فضائله وجوانبه المشرقة, قد يكون هذا كافياً لأي إنسان شريطة أن يعرف شرور العالم وكهوفه المظلمة ومن ثم عليه أن يختار. ليس ثمة اختيار, حياتنا الحالية تولد رغبة بالرفض المستمر.
اقتربت منه وتصنعت هيئة الواعظ محاولاً أن أجعل لكلماتي صدى خاصاً يؤثر عليه. بيد أني أدركت عقم محاولتي وأنا ألبس رداء ليس لي, فطأطأت رقبتي وقلت كيفما اتفق:
ـ "أحمد" أنا لم أمنحك الحياة حتى أكون ديّانك, ولكن عليك أن تفكر أكثر وأن تضع أسوأ الحلول لا أحسنها, إن ما ستقدم عليه فظيع حقاً, إنك لا تدرك معنى المسؤولية كما أنك تدمر كل شيء تملكه...
ـ أنا لا أملك شيئاً حتى آسف عليه.
ـ أنت تتخلى عن كل شيء ستملكه في المستقبل لتشتري امرأة. إنني أحترم هذه الفتاة من أجلك ولكن, اسمح لي إنها لا تحبك.
قاطعني بعنف:
ـ أنت سخيف إذ تعتقد هذا. أنت تلقي أحكامك على إنسانة لا تعرفها.
ـ لا تسيء فهمي. أريد أن أقول إن الحب الصحيح لا يعرف الأنانية, وقد برهنت "روعة" على أنانيتها عندما طلبت إليك أن تخطبها. كان عليها أن تدرك أن رجلاً مثلك يعيش واقعك الفقير ليس مؤهلاً للزواج الآن, إلا إذا كنت قد أخفيت عنها حقيقتك, أو إذا كانت تريد الزواج من حطامك. قل لي "أحمد" كيف تريد أن تتزوج؟ ببيت من الشعر؟؟
مزق "أنور" هدوء الغرفة بضحكة خليعة وقال:
ـ الشعر مات. لم يعد ثمة من يقول شعراً, ولم يعد ثمة من يسمع. في الماضي كان الشعر دليلاً على السمو والتهذيب والامتلاء الإنساني, لكنه أصبح اليوم شيئاً عاهراً من سقط المتاع يلقى عند أقدام امرأة أو حذاء رجل يعرف كيف يدفع.
نهرت "أنور" قائلاً:
ـ اسكت "أنور" ودعنا من جعجعتك. ألا ترى أننا نناقش موضوعاً جدياً؟
اعترض قائلاً:
ـ ولماذا أسكت؟ هذه فرصة كي أقول شيئاً لـه قيمة أكثر من هذه الثرثرة عن امرأة, أستاذ.
الجائعون في هذا البلد هم الشعراء والمفكرون فقط افهم هذا جيداً, وزارة الثقافة دفعت حتى الآن ملايين الليرات لعشرين راقص وراقصة في فرقة الدبكة, لكنها غير مستعدة لأن تشتري أدباء هذا البلد كله بليرة واحدة. أستاذ, الفكر مات. تابع حديثك الآن عن غرام هذا المسطول.
تابعت حديثي, وقد ساءني أن يخرجني "أنور" بملاحظته عن الموضوع:
ـ أنت لا تملك شيئاً "أحمد". لا تلتفت إلى "أنور" إنه وغد. قل لي ماذا تستطيع أن تقدم لـ "روعة"؟ هل تدعو لها في صلاتك؟ لا تحتد أنا لا أطعن تدينك, لكن دمشق لا تفتش عن رجل مثلك, المرأة تريد جيباً ممتلئاً يحقق لها ترفها ويبني لها بيت العز, ولا يهمها أن يكون صاحب هذا البيت يحمل بين كتفيه جمجمة فارغة.
لوى "أحمد" رقبته ثم سعل وعلق ساخراً:
ـ بعد هذه المحاضرة الطويلة, هل تريد أن تقول لي إن زواجي جريمة ضد المجتمع؟
ـ من قال هذا؟ إنك تحاول أن تقفز فوق قدرك بسهولة, لا أعرف كيف تتخيلها؟
ـ ألا ترى أنك تناقض نفسك؟ كنت تقول دائماً إن الإنسان يصنع قدره بنفسه, وها أنت ترتد لتؤكد أن قدر الإنسان جدار من الإسمنت ولا نملك لهدمه غير أظافر واهية.
رد عليه "أنور" منفعلاً:
ـ لا تحاول أن تجعل من تفاهاتك دروساً تلقيها علينا, أنت لست غبياً لكنك خبيث لا تفهم إلا ما يلائمك إذا كنا نصنع قدرنا, فنحن نحاول وقد نسقط قبل أن ننجح. وليس معنى هذا أن نستجيب لغرائزنا المكبوتة كي نؤكد ذلك. كي نؤكد أننا نعمل ما نريد.
ضحك "أحمد" ورد بعصبية:
ـ أنت آخر إنسان في العالم يحق لـه أن يقول هذا. أيها الداعر.
ـ دع حياتي الشخصية وشأنها ولا تتخذ مني مقياسا. أنا أرى الأشياء بعيني, لكنني الآن أتحدث عن الأشياء كما تراها أنت. إنني أتحدث عن الإطار العام, عن الكل. أنت موظف تلهث كالكلب وراء القرش طوال الشهر, ليس لك مصير واضح وأنت بالتالي عاجز عن خلق ظروفك, لا تملك الجرأة على التحدي. الزواج معناه مسؤولية ضخمة أنا على استعداد لتحملها من خلال اللامبالاة, أما أنت فلا, أنت إنسان لم ينته بعد من مرحلة الاتكال والقدرية, ستتزوج من فتاة تعيش في مجتمع ما زال يضع المال فوق كل القيم, ماذا ستقول لوالدها إذا طلب إليك أن تحول عواطفك الملتهبة إلى أرقام ومبالغ تبني منها بيتاً لكريمته المدللة؟ دعنا من الذهاب إلى أبعد وأعمق. أنت إنسان حسابي, فما هو ردك على هذا السؤال؟
راح "أحمد" ينقل بصره بيننا وقد قطب جبينه بعد أن تلاشت بسمة الفرح العريضة عن وجهه, وطال صمته وتطلعه إلى أن أعلن محتاراً:
ـ قد تكونان على حق, لكنني أحب "روعة" ولن أتخلى عنها من أجل آرائكما المنحلة, أنا لا أملك وسيلتكما بالإقناع, ولا أعرف كيف أفلسف الحياة والأشياء, وأمقت جميع الذين يعقدون حياتهم بهذا الشكل المنحط, أنا أحبها, هذا هو الأساس المتين الذي سأبني عليه حياتي أما الباقي فلا أهتم به كثيراً. إن الحياة حياتي ومن حقي أن أعيشها بطريقتي وبقناعتي.
سكت قليلاً ريثما فتح النافذة القريبة منه وتابع:
ـ أعرف أن مشاكلاً ستعترض طريقي, لكن الضريبة التي أدفعها لحبي أن أواجه هذه المشاكل وأنتصر عليها, ولعل انتصاري سيضاعف من سعادتي المقبلة. أنا مؤمن أنه لا شيء أروع من الأشياء التي ننالها بعد نضال.
عندما كان "أحمد" يتحدث إلينا كنت أشعر أن صوته يأتي من مكان ناء. يرن في فراغ أزلي يحمل الوحشة والوهن. لقد ابتعد عنا, كما ضاع "أنور", وكما هربت أنا, لقد تقاذفتنا الدروب. جئنا نبحث عن الحرية فأضعنا كل شيء. أصبحنا عبيداً لأفكار وعادات وأشخاص كنا هناك أكثر حرية ولم نكن ندري أننا أحرار. الإنسان الحر لا يعرف أنه حر, كنا أحراراً لأن فكرة أن يكون الإنسان عبداً في المدينة لم تكن تشغل بالنا. كنا بشراً نقبل الحياة ونرفضها ونقبل الموت ونرفضه. ماذا ينفع هذا الآن؟ من العبث أن أقول شيئاً لـ "أحمد" ومن الفظاعة أن أحاول إقناعه. من يستطيع أن يقنعني أنا؟ مهما يكن إن من أبسط واجباتنا أن نكون معه بكل ما يريده ويحقق رغباته, ولم أجد بداً من أن أقول لـه مستسلماً:
ـ أعتقد أنه لا فائدة من المحاولة. هذه حياتك "أحمد", هل نستطيع أن نساعدك بشيء؟
رفع رأسه بغتةٍ وهتف:
ـ هل يعني هذا أنك وافقت؟
ـ وأنا مكره. أشعر أنني أسير في جنازتك.
قفز من مكانه وراح يضحك بشكل طفولي, ولم يلبث أن التفت إلى "أنور" وسأل:
ـ وأنت؟
أجاب "أنور" وهو يهرش رأسه:
ـ إنها حياتك ومن حقك أن تنتحر متى شئت.
راح "أحمد" يقفز على الأسرة, وعلى أرض الغرفة, وبعد أن تخلى عن وقاره, ولم يلبث أن راح يدندن بأغنية ريفية ساذجة وبصوت منكر أزعجني فقلت لـه كي أقطع عليه انسجامه:
ـ متى ستذهب إلى بيت "روعة"؟
ـ غداً.
ـ ومن سيذهب معك؟
ـ أنت و"أنور".
خبطت الأرض بقدمي وأعلنت محتجاً:
ـ لن أذهب معك ولو ذهبتَ شهيد عواطفك. كيف تريدني أن أذهب معك وأنا لا أعرف كيف أتصرف في مثل هذه المناسبات التافهة؟
أدار "أنور" ظهره وقال ساخراً:
ـ لا ينقصني الآن إلا أن ألبس "ملاءة" وأصبح "خطابّة".
ثم مضى إلى المرآة, حدق بها ثم بصق عليها, والتفت إلى "أحمد" وأعلن محتجاً:
ـ أنت تهين رجولتي بهذا الطلب. يجب أن تعتذر إليّ فوراً.
قلت متدخلاً:
ـ "أحمد", كان عليك أن تكلف غيرنا بهذا الموضوع, أنت تعرف جهلنا في هذه الأمور.
ـ كيف أكلف غيركما وأنا لا أعرف في هذه المدينة أحداً؟
أدرت ظهري إليه ومضيت إلى النافذة وشردت عبرها, ألقي نظري على بيوت دمشق التي تتسلق بعناء صامت سفوح الجبل الهرم. "أحمد" لا يعرف أحداً غيرنا. هذا صحيح.
نحن مرتبطون برباط غريب لا تفهمه هذه المدينة ويجب ألا تفصمه أبداً.
ولكن, ألم تمزقنا حقاً؟
ألم يذهب "أحمد" إلى الأبد؟
سيتركنا ليعيش مع زوجته, وسيأتي يوم يذهب فيه "أنور"؟ ونعيش معزولين نشكو الوحدة والضياع والصقيع.
لماذا جئنا هذه المدينة؟
إن التهالك على معرفة الجواب كان يجب أن يبدأ قبل الآن.
لقد استنفذت كل الرموز في هذه المدينة دون أن أتعمق فيها وأتوصل إلى معرفة مغزاها. لم تعد الرموز تخاطبني بطريقة حية, وأنا لم أعد أنظر إلى الأمور بطريقة مستقيمة أصبحت منخوراً, مرة أحس الاختناق ومرة أحس أني أوشك أن أطير من الخفة والفراغ. الكلمات هنا لا معنى لها, إنها أقنعة تقتل الصور أو تحجبها.
ابتلعت غصة محروقة في صدري ثم توجهت إلى الباب وخرجت بسرعة قبل أن يلاحظ أي منهما دموع القهر التي بدأت تملأ عيني.
هذا أوان التسكع في شوارع البرد والفراغ.
لم أعد أريد من هذا العالم إلا رغبة واحدة, وهي ألا تكون لي أية رغبة أبداً.
كنت أريد أن أظل لا مبالياً حتى أتحمل الحياة بصورة مرضية, لكن اللامبالاة قادتني شيئاً فشيئاً إلى الفوضى والتهالك. الفوضى تعم حياتي ورأسي.
لمن عليّ أو أؤدي حساباً؟
العالم مكان مرير لا يطاق.
عند أحد المنعطفات كانت تمر جنازة. وكان المشيعون وراءها يطأطِئوم رؤوسهم في حالة مزرية لتصنع الحزن.
فجأة أحسست برغبة عارمة للضحك.
لا أعرف كيف تولدت هذه الرغبة, لكني كنت سعيداً بها, فقد حققت لي بعض الراحة لأنني من خلالها استطعت أن أصدر حكماً سلبياً على الموت والحياة معاً.





الفصل التاسع عشر

أمضينا أكثر من ساعة في عملية التأنق المطلوبة منا, ونحن نستعد للذهاب إلى بيت "روعة", كما نستعير ملابس بعضنا, ونتبادل ربطات العنق وكان "أحمد" أكثرنا اضطراباً وتلفهاً. إنه يومه القدري, أما "أنور" فكان يلمّع حذاءه تارة, وتارة يلعن نفسه لأنه, بكل رجولته, سيقوم بمهمة "حريمية".
أخذنا سيارة بعد أن خرجنا من البيت, ووجدنا مشقة كبيرة بالاهتداء إلى بيت "روعة".
كان الطابق الأرضي الذي يسكنونه, في قعر بناية ضخمة, يقع في حي راق من أحياء المدينة وقفنا أمام الباب وقبل أن يضغط أحدنا الجرس تطلعنا إلى بعضنا, ولم نلبث "أنور" وأنا أن ضحكنا ضحكة بلهاء باهتة, حاولنا بها أن نشد من عزيمة "أحمد" الذي كان يرتجف وهو ممتقع الوجه ينظر إلينا ببلاهة ضايقتني إلى حد أوشكت معه أن أدير ظهري وأعود إلى البيت, وإلى الجحيم هو وعواطفه.
وضع "أنور" حداً للتردد, عندما ضغط جرس الباب, وما إن فعل حتى بهتنا جميعاً, كأننا هنا لسبب آخر, ثم مدّ كل منا يده بشكل تلقائي إلى رباط عنقه وأصلحه بحركة لا معنى لها.
تثاءب الباب ببطء وسأل من خلفه صوت نسائي:
ـ من؟
سعل "أنور" سعالاً خفيفاً وأجاب بأدب جم:
ـ هل نستطيع أن نقابل "محمود بك"؟
ـ لحظة من فضلك.
انتظرنا دقيقة قبل أن يفتح الباب ويطل منه رجل في العقد الخامس من عمره, وعلى وجهه آثار سنوات من الإرهاق واليأس.
تطلع إلينا فترة قصيرة وعيناه تدوران في محجرين تحيط بهما هالة من الزرقة والتجاعيد المنمنمة, ولم يلبث أن سألنا بجفاء:
ـ ماذا تريدون؟
قال "أنور" وقد بدت على وجهه آثار الامتعاض:
ـ ألا نستطيع أن ندخل قليلاً؟
يبدو أنه أحس الخجل من موقفه الذي لا يتسم باللياقة ففتح الباب وقال معتذراً:
ـ عفواً.. تفضلوا.
دخلنا البيت, لم يكن أثاثه غالياً لكنه مرتب بشكل يدل على حسن الذوق. وفي الغرفة التي جلسنا فيها كانت ثمة لوحة زيتية رائعة تزين الجدار, تمثل عاصفة هوجاء في بحر عميق الزرقة تغلي على سطحه موجات من الزبد الأبيض, وعند الشاطىء, البعيد حطام زورق صغير وبالقرب منه جثتان... رجل وامرأة.
أعجبتني اللوحة والفكرة. رحت أتأمل ضربات الريشة الفنانة التي خلقت من مزيج الألوان عالماً من القسوة والرعب, وانسحاق الإنسان وهزيمة الآمال.
أحسست بأصابع "أنور" تقرصني بقسوة وهو يميل إليّ ويهمس:
ـ ما بك تحدق كالأبله في هذه اللوحة؟ هل تحسب أننا في معرض فني؟
أسندت ظهري إلى الخلف وأخرجت علبة لفائفي وقدمت واحدة منها إلى والد "روعة" لكنه اعتذر وهو يحدق بنا مبهوتاً:
ـ آسف. لا أدخن.
وعاد الصمت الدبق يخيم علينا إلى أن قال لنا بنفاذ صبر:
ـ لم يقل لي الأخوان حتى الآن ما يريدون؟
ردّ "أنور" بلهجة مهذبة لا أعرف من أين تعلمها:
ـ نحن "محمود بك" جئنا بيتكم العامر وكلنا أمل أنه بيت الشرف والأخلاق, الموضوع بصراحة يتعلق بصديقنا "أحمد". ونأمل أن نتمكن من بحث الموضوع معكم بهدوء وتفهم موضوعي لظروفنا خاصة وأنكم خير من يقدر ظروف الناس, وأملنا أن نعود من هنا وقد امتلأنا سعادة.
تفرس الوالد فينا برهة ثم أعلن بحيرة:
ـ عفواً. حتى الآن لم أفهم شيئاً. لا أعرف من أنتم وماذا تريدون؟
أوشكت أن أضحك لأن محاضرة "أنور" المغلفة بالنفاق قد ذهبت أدراج الرياح, لكنه ابتسم ابتسامة مرحة ثم أشار إليّ قائلاً:
ـ الأستاذ سيشرح لك الموضوع كله.
ارتجفت في مكاني وتطلعت إليه غاضباً. لقد أوقعني في مأزق ودفعني بخبث إلى تبني مشكلة لا أعرف كيف أواجهها. لو كنا في البيت الآن لبصقت على وجهه.
عندما شعرت أن عيني الوالد تحدقان بي وتنتظران مني أن أريح صاحبها وأنقذه من حيرته تصنعت الهدوء وقلت وأنا أحس شيئاً يسد حلقي:
ـ إن زيارتنا لكم زيارة غريبة. أعترف بذلك, وليس من اللياقة أن نحضر بهذا الشكل, لكن الذي يغفر لنا أنا لا نعرف أحداً في هذه المدينة, ولا نستطيع الاعتماد على أحد أو حتى إفشاء السر أمامه.
سأل الوالد باستغراب:
ـ سرّ؟ أي سرّ؟
ابتسمت في محاولة لضبط أعصابي قبل أن أقول:
ـ ليس ثمة سر كما تتصور. القضية أننا.. أننا جئنا نطلب يد كريمتكم الآنسة "روعة" لزميلنا "أحمد".
اتسعت عيناه فجأة وتغيرت ملامح وجهه فوراً, كأنه أصبح إنساناً آخر, وسأل متردداً:
ـ هل أفهم من هذا إنكم جئتم تطلبون يد ابنتي؟
ـ تماماً. إنكم تعبرون "محمود بك" عن كل ما نريد قوله دفعة واحدة.
نهض عن مقعده بعصبية وقال بشكل جازم:
ـ إن ابنتي ليست مستعدة للزواج الآن. وأمامها وقت طويل حتى تنهي دراستها الجامعية.
تطلع "أنور" بهدوء إلى الوالد وسأله:
ـ هل نفهم من هذا أنك تطردنا؟
رد الوالد بحدة:
ـ أنا لا أطردكم, إن ابنتي مخطوبة.
سألته بنفاذ صبر:
ـ أنت ترفض طلبنا إذن؟
ـ نعم.
ـ ألأنها مخطوبة, أم لأنها ما زالت في الجامعة؟
ـ من أجل السببين معاً.
ـ لكن "أحمد" يريد أن يخطبها الآن, ولن يتزوجا حتى يتخرجا من الجامعة.
ـ قلت لك إن ابنتي ليست مستعدة للزواج.
سأل "أنور" وهو ما يزال هادئاً:
ـ هذا رأيك أنت وليس رأيها هي.
تكهرب الجو فجأة. إن عاصفة توشك أن تهب. كان "أحمد" ينظر إلينا بتوسل. تطلعت بدوري إلى "أنور" وأنا أتمنى أن تبتلعه الأرض فوراً. لقد أوقعنا في ورطة لا نحسد عليها حاولت أن أقول شيئاً يلطف الموقف الحاد, عندما سمعت الوالد يقول:
ـ عجيب والله. هل جئت تطلب يد ابنتي أم جئت تحاكمني؟
قلت بسرعة كي لا أترك فرصة الرد لـ "أنور":
ـ نحن نعتذر عن سلوكه. يبدو أنه صدم عندما سمع الجواب. إننا نريد أن تتفهم الموقف جيداً. إن "أحمد" يحب ابنتكم كما أنها تبادله هذا الحب, وقد جئنا هنا بناء على طلب منها.
صرخ الوالد وقد خرج عن وقاره:
ـ كفى. حب؟ أنا لم أسمع طيلة حياتي بوقاحة كهذه. إنني... مهما يكن لن أهتم بالتعليق على كلام أولاد مثلكم. لقد انتهى وقت الزيارة. إذا سمحتم.
ثم سار أمامنا إلى الباب.
نهضنا عن مقاعدنا وتبعنا الوالد كالقطيع. وقبل أن نخرج توقفت قليلاً وقلت لـه:
ـ لقد نصبّت من نفسك جلاداً على عواطف إنسانين وحرمتهما من السعادة. أرجو ألا تندم على تصرفك هذا في المستقبل.
ـ هل تهددني يا سيد؟
ـ أهددك؟ أنا لا أعرفك, ولست مهتماً لذلك. أريد أن أقول إنه ليس من حقك أن تحرم إنسانين من السعادة ولا تملك الحق للتحكم في حياة وعواطف الآخرين.
ـ إنها ابنتي أنا. ويجب أن أضمن لها مستقبلها.
ـ المستقبل ليس حذاء تشتريه لها. إنها تملك حياتها ومن حقها أن تقرر هي, لا أنت, أسلوب حياتها. يجب أن ترى بعينيها لا بعينيك.
ـ لقد قلت لك إنني سأضمن مستقبلها ولن أدعها تقع فريسة لهذه التفاهة التي تسميها حباً, ثم هل لك أن تقول لي لماذا تجادلني, أنا أعطيت جوابي النهائي. عجيب والله.
ـ إن ابنتك نفسها لن تحترم قرارك هذا.
ـ ما شاء الله. شباب آخر زمان. يا أخي قلت لك إن ابنتي مخطوبة. ماذا تريد بعد؟
نظرت إليه بغضب لم أكن انتظر أن يعتريني وقلت:
ـ أنت تعلم جيداً أن هذا ليس صحيحاً. إن ابنتك ليست مخطوبة لأحد. إن الأسلوب الذي طلبناها به لم يعجبك. إنه أسلوب مباشر وواضح وبعيد عن التملق لكنه لا يستهويك, تريد منا أن نحضر الوسطاء أولاً, وبعد ذلك تسأل المخبرين الذين يبيعون أخلاقهم بقرش, لتعرف شيئاً عن سلوك المتقدم إلى يد كريمتكم, من تحسب نفسك؟
ـ أنت يا سيد إنسان قليل الأدب.
ـ هذا رأيك أنت, وحاول أن تحتفظ به. المشكلة أننا لا نعرف أحداً نرسله إليك. جئنا بأنفسنا لأن الموضوع يهمنا نحن ولا أحد غيرنا, الطريقة عفوية لكنها جديدة بالنسبة لك.
أتدري؟ في يوم ما سنغير هذه العادات كلها. سوف ترى. ثم... لا تقل شيئاً, نحن خارجون ولا لزوم لأن تكون مبتذلاً بكلماتك.
قبل أن نخرج من البيت التفت إلى اللوحة الزيتية, وشتمت الفنان في سري كما لعنت كل الجهود التي يبذلها المفكرون لإنقاذ هذا القطيع من زريبته.
ثم خرجنا.
ونحن على الدرج قال "أحمد" الكلمة الوحيدة التي تفوه بها منذ دخلنا
ذلك البيت:
ـ لقد ضاع كل شيء. لا أعرف إن كنتما أنتما المسؤولان عن ذلك,
أم أنا, أم عاداتنا, لكن كل شيء ضاع, ولقد فقدت في هذه اللحظة أجمل شيء عرفته حياتي المجدبة.
أحسست أن "أحمد" مخلوق يستحق الشفقة. شفقة من؟ إن هذا لن ينفعه بشيء, يجب أن ينتصب على قدميه, في النهاية. هذا هو العالم الذي كان يظنه جنة, وهؤلاء هم الناس الذين كان يظنهم ملائكة.
وماذا بعد.......
الألوان تتبدل, والناس يولدون ويموتون, يدخلون ويخرجون, ليس ثمة بداية أو نهاية الساعات تتضاعف إلى أيام, والأيام إلى شهور وسنين, حتى يمر هذا العمر الكئيب.
إنها عملية جمع وترتيب. نحن نحتل أماكن الذين ماتوا, وغداً تولد عيون جديدة تتطلع إلى أماكننا منتظرة أن تلغي دورنا واستمرارنا. هذه حياة لا تومض بأي وميض أمل...
كلها رتابة مفجعة, النور تحجّر في عيوننا والهزيمة مصلوبة على وجوهنا, وكل واحد منا يحمل على جبهته عنوان المقبرة التي ستضم جثته.
لقد شعرت بالتمزق أن أرى "أحمد" ينطوي على نفسه بعد صدمته العاطفية وقد رفض أن يقابل "روعة" في الجامعة رغم تدخلنا بذلك لأن الموضوع انتهى بالنسبة لـه ولم يعد ثمة أمل رغم تشجيعها لـه ومحاولاتها المستمرة, لقد اعتبرها مسؤولة عن سلوك أبيها: وكنا نرقبه وهو يرحل كل يوم إلى متاهات أبعد. لم يعد منا كأنه لا يعيش معنا, ولم أكن أعتقد أن باستطاعة الحب أن يفعل به ما فعل, لقد استنفد أشياءه دفعة واحدة, ولم يبق لديه عزم على حب آخر. ماتت "روعه" في أعماقه ولم يبق هناك أي شيء يستحق الجهد.
هذه مأساة خيمت على حياتنا لتنضم إلى قوافل المآسي الأخرى, لكنها لم تثن "أنور" عن حياته الخاصة بل ازداد غرقاً يوماً بعد يوم مع رفاق السوء, وحفلات الرقص, وذهب بدوره إلى متاهات بعيدة لا تدركها العيون.
كنت أحس أننا نضع أقدامنا على أول طريق النهاية, ليس ثمة مهرب,
هل تستسلم؟
لم تبق غير "براءة" أستجير بحبي لها عله يزودني بمبررات ومعان جديدة تكون زاداً لحياتي التي صرت أراها شيئاً كريهاً مغرقاً في رتابته وانحطاطه.
قالت "براءة" وكنا نشرب القهوة في "الكاندلز".
ـ لقد تغيرت كثيراً.
تفحصتها بعينين متعبتين أنهكهما السهر وقررت:
ـ أنا لم أتغير "براءة". عيناي متعبتان لكن حياتي ليست في عيني. كل ما في الأمر أنني ازدادت ضجراً من هذه المدينة.
نفخت بصوت مسموع وسكتت. فسألتها:
ـ هل ضايقتك؟
ـ أجل.
ـ لماذا؟
أمسكت فنجان القهوة الفارغ وراحت تلحس حافته وتقلبه بين يديها ثم سألتني بعصبية لم أعهدها فيها من قبل:
ـ من تحسب نفسك؟
استفزني السؤال فأجبت:
ـ أنا جيل كامل من المعذبين.
تفرست بوجهي ثم قالت وهي تضغط على كل حرف:
ـ أنت مخطىء خطأً فادحاً, إنك تجعل نفسك وصياً على العالم, لكن أحداً لا يحس بذلك.
شعرت أن كلماتها غبية ولا معنى لها فقلت:
ـ دعيني أسألك سؤالاً. لماذا تعيشين؟
أحرجها السؤال فتريثت قليلاً قبل أن تعلن:
ـ عندما أعيش لا أسأل عن السبب. لقد ولدت وأستطيع أن أسعد إذا نظرت إلى النور.
أسندت ظهري إلى الخلف وقد هالتني عفويتها:
ـ أنا لست واعظاً "براءة" ولا أريد أن أكونه, لكن هذا لا يمنعني من أن أقول لك إن حياتك بحاجة إلى هزة عنيفة تقتلعك من جذورك وتبدلك تبديلاً كاملاً لتري الواقع الذي نعيشه.
أنت إنسانة مترفة ترفاً فكرياً ضخماً. وأنا أعيش واقعاً قذراً جعلني انظر إلى الحياة نظرتي إلى شيء تافه رخيص.
ـ أنا شخصياً لا أنظر إلى الحياة هذه النظرة القاتمة.
ـ لأنك, ببساطة, لا تملكين شيئاً ولا تسمعين إلى شيء. تستمرين استمراراً تلقائياً, الحياة عندك أن يغذي الإنسان جثته ويريحها في السرير كل يوم عدة ساعات.
أطرقت برأسها إلى الأرض وقد صعد الدم إلى وجنتيها حتى صارتا مواسم تفاح شهي, فأسرعت أؤكد:
ـ لا أريد أن أمس بك "براءة". أرجوك. ولا أريد أن أفقدك قدرتك على الصمود لكنني أريدك معي. أن تفهمي أن حياتنا بكل مظاهرها ومضامينها موجهة ضد الإنسان.
نحن مزيفون, لسنا بشراً, منذ أسابيع أراد "أحمد" أن يمتن جذوره بالحياة من خلال زميلة لـه في الجامعة. آمن أن الحب والبيت الزوجي هما المنطلق الوحيد كي يقتل الإنسان سأمه إلى الأبد, أتُّدرين ماذا حصل؟
لقد طردنا والدها, والشيطان وحده يعرف لماذا فعل ذلك.
أحسست بالغضب الذي اعتراني يوم طردنا والد "روعة" فقلت بغضب فاجأ "براءة":
ـ يستطيع "أحمد" اليوم وفي أي يوم يختاره أن يأخذ هذه الفتاة من الجامعة ويضاجعها في بيته. ماذا تظنين أن والدها سيفعل بعد ذلك؟ لا شيء, بعض الخطابات المملة عن الأخلاق وبعض الشتائم الرخيصة ثم يبحث لها عن زوج يعرف كيف يدفع وتعرف هي كيف تخونه ثم... ثم ماذا, قولي لي "براءة" قبل أن أنفجر.
أعلنت بهدوء وبصوت مغلف باليأس:
ـ مأساتنا أننا لا أخلاقيون. والأخلاق هي الوسيلة الوحيدة للسمو بحياتنا.
انفجر شيء في صدري فنبرت بصوتي:
ـ ما هذا "براءة"؟ إن كلمة الأخلاق صارت أفيوناً يملأ أدمغة الناس, كأنها قطعة حشيش أعطيت لهم كي يظلوا في قيلولة أبدية لا حدود لها ولا زمان. أنا لا أقبل أن يتحطم الإنسان لنبني من آلامه وأنينه وجراحه معبداً للأخلاق.
لا أقبل أن تشاد من انهياراته كهوفاً للعادات والتقاليد. بصراحة, الإنسان أولاً ثم كل شيء ثانياً.
ـ تعني إنساناً بلا أخلاق؟
ـ أعني إنساناً يعرف ماذا يفعل بحياته. ويكون حراً بأن يعيش أبعاد حياته دون أن تلاحقه لعنة الأخلاق.
تطلعت إليّ مستاءة وسألت:
ـ أهذا ما تقترحه؟
ـ أنا لا أقترح حلولاً لمشكلة, نحن معزولون بطريقة عجيبة, معزولون عن الحياة نفسها ولا شيء يربطنا حتى أبسط العلاقات الإنسانية, إننا نعاني وحدة قاتلة.
عادت تسأل بنفس الحيرة التي تربكها:
ـ أأنْت تعاني من هذا كله؟
ـ أنا وسط دوامة شرسة تضعني دائماً أمام حلين واحد يمتن صمودي ويصعد ذاتي لكنه يبقيني وحيداً, وآخر يوصلني إلى حشد هائل من الناس يلغون وجودي. إنني أحتاج إلى شحنة هائلة من الإدراك حتى أتمكن من اكتشاف حياة أخرى أو وسيلة جديدة للاستمرار.
وابتسمت فجأة بلطف وسألت بخبث محبب:
ـ أنت تريد الاستمرار إذن؟
ـ أنا أمقت الحياة, لكنني لن أهرب حتى لا يقول الأغبياء فر!ّ.
ـ لكنك تعلن دائماً أنك لا تهتم بالآخرين. ألم تقل إنهم صفر؟
ـ عن أي شيء تتحدثين الآن؟ أنت لا تفهمين ما أعني.. إنني.. أفّ.. أنت فقط لا تفهمين ما أعني.
شربت جرعة ماء وبللت شفتيها الكرزيتين وقالت بخجل ظاهر:
ـ أحيانا أراك تعباً إلى حد أتمنى معه أن أفديك بحياتي. أتمنى أن أفعل أي شيء لأسعدك هل أستطيع؟
أمسكت يدها الدافئة وقد تلاشى ضجري فجأة. أحسست أن كلمات الحنان التي قالتها لي, قد شعّت دفئاً خدّرني وألقاني في بحار من الصحو الذهني المفاجىء وتمنيت في تلك اللحظة أن أغفو على صدرها إلى الأبد.
سألتني وهي تراني أبحر في صحو عينيها:
ـ هل يمنحك حبي شيئاً مما تريده, لا ترضيني, أتمنى أن يكون الجواب صادقاً؟
لم أستطع أن أكذب فقلت:
ـ أنت لا تستطيعين الآن منحي سوى هنيهات راحة نفسية تنسيني وحدتي. إن أكداساً من القلق تعيش في رأسي. سوف أبددها, ثقي بذلك ليكون حبك في المستقبل شاطىء الأمان لحياتي والعالم المشرق الذي تزيل شمسه كآبتي وعتمة الأسئلة المعششة في رأسي.
أطرقت برأسها وقد تركت يدها تنام بين يديّ ثم سألت بحنان:
ـ هل صحيح إنك تؤمن بالحب إلى هذا الحد؟
ـ "براءة" إن الحياة من غير حب إهانة.




الفصل العشرون

عندما خرجت من عملي ظهراً, كانت "فائزة" تقف على الرصيف بانتظاري. شعرت بحرج وأنا أسلّم عليها, فقد خفت أن تخرج "براءة" في تلك اللحظة وتراني, فمشيت مع "فائزة"
ـ منذ نصف ساعة وأنا انتظر خروجك, وكدت أذهب.
ـ لم أكن أعلم أنك بانتظاري, ولكن لماذا؟
ـ لقد قررت أن أدعوك إلى الغداء اليوم.
أطلقت صفيراً عالياً وعلقت بسخرية لئيمة:
ـ أنت بذلك تتنازلين عن الكثير من سموك وشخصيتك.
ـ ماذا تعني؟
ـ كيف تتناولين الطعام مع فلاح؟
ابتسمت بخبث وأعلنت نادمة:
ـ لا تفهم الأمر بهذا الشكل السيِّىء. أعرف أني أخطأت عندما التقينا أول مرة لكنني لم أقصد إهانتك.
ـ أنت لا تستطيعين إهانتي.
نفخت متأففة وقررت:
ـ إن لديك استعداداً ضخماً للنقاش والجدل في كل لحظة. أفّ. لن أثيرك ولن أناقش, قل لي هل نأخذ الباص أم نستقل سيارة خاصة؟
ـ إلى أين؟
ـ إلى البيت. بيت إحدى صديقاتي. لقد أعددت كل شيء هناك.
ـ أنت أعددت كل شيء مسبقاً, من قال لك إني سأوافق؟
ـ أنا واثقة من شيء واحد, أن خجلك سيمنعك من الاعتذار عن الحضور.
ركبنا سيارة صغيرة ومضت بنا إلى بيت في "شارع القصور". صعدنا الدرج حتى الطابق الأخير. كان بيتاً صغيراً مؤلفاً من ثلاث غرف, أشياؤه أنيقة ومترفة كلعب الأطفال.
ـ أين صديقتك؟
ضحكت بمرح وهي تلقي عن كتفيها معطفها الرمادي ثم أعلنت:
ـ لقد ذهبت إلى السينما, ولن تعود قبل ساعات.
ـ تقصدين أنك أرسلتها إلى السينما؟
ـ ما الفرق؟ نحن وحدنا الآن. ثم.. لماذا لا تكف عن إلقاء الأسئلة؟ ما رأيك أن تشعل المدفأة ريثما أحضر الطعام, أكاد أتجمد من البرد؟
نهضت أشعل المدفأة وأنا أبتلع ريقي بصعوبة.
أنا وحيد الآن مع "فائزة". وحيد مع امرأة لهاثها يسكرني, وبيتها علبة دفء تفوح منه الأنوثة. لقد دبرت كل هذا. ماذا تريد مني بعد هذا كله؟ أحسست أن لوني قد شحب وبدأت أرتجف وحاولت جاهداً أن أرسم على وجهي بسمة لا مبالية لأسأل:
ـ أرى صورتك على الحائط. هل هذا البيت لك "فائزة"؟
ـ لقد استأجرته أنا وصديقتي.
ـ أليس لك أهل, أعني أليس لك بيت؟
ـ أنا أعيش مع أهلي طبعاً, لكنني أحب أحياناً أن أحيا حياتي, أحب أن أكون وحيدة مع من أريد, وجو البيت ورقابة الأهل , وعاداتهم, لا توفر لي ذلك, كما أني أحب أن أفتش عن السعادة والمتعة في أتعس لحظات حياتي.
أدركت أني سأكون حماراً إذا سألت سؤالاً آخر.
الأشياء عارية حتى الصميم, ماذا أفعل؟
نخر السؤال رأسي وأحسست بدبيب النمل يسري في عروقي, إنني أواجه موقفاً عسيراً وامتحاناً صعباً لكل ما أؤمن به, بأي شيء أؤمن؟
أليست مشكلتي أصلاً أنني لم أجد, بعد ما أؤمن به؟
هتفت ملء شدقيّ لأبدد ألف سؤال بدأ يحوّم حول رأسي:
ـ أليس لديك ما نشربه "فائزة"؟
كانت تنقل صحون الطعام من المطبخ إلى طاولة صغيرة وضعتها وسط الغرفة المليئة بالدفء, والخدر. توقفت وتطلعت إليّ ثم اقتربت مني ومدت يدها الطرية لتداعب وجهي وأعلنت:
ـ لقد بدأت تعجبني. لدي زجاجة عرق في الخزانة, ما رأيك؟
ـ عرق؟ ليكن. هاتها, ولتكن خلاً. أشعر أني بأمس الحاجة لأن أشرب. أتَّعرفين من هو أروع إنسان في العالم؟
ـ أنا؟
ـ الذي صنع الخمر.
ـ إنه امرأة.
وضحكت بخبث.
بعد ساعة أحسست بتخثر ذهني هائل, وأن جميع السدود بدأت تنهار واحداً إثر آخر عم الطوفان كل شيء, لم أعد أبالي. بدأت "فائزة" تسرف بالكلام وهي تعلك كلماتها علكاً. وضعت ساقاً فوق ساق فانكشف الستر عن فخذين أبيضين بلون العاج وطراوة الزبدة.
برم رأسي بكل ما فيه من أفكار ودماغ, وقلق يستوطن هذا الدماغ وهتفت:
ـ ما هذا "فائزة"؟
نظرت إلى ساقها ثم تطلعت إليّ ومطت شفتها السفلى وقالت:
ـ أنت تتصرف كأنك لست رجلاً.
انكمشت خجلاً. لقد أهانتني, ومن يدري فقد تشك برجولتي.؟ لن تنعم بهذا طويلاً ولن أنهزم أمام هذه التجربة. تذكرت "أنور". وتذكرت هياجي كلما تصورته يتحسس امرأة بيديه. لو كان "أنور" هنا ما الذي يفعله؟ اللعنة على كل شيء. "فائزة" أمامي, امرأة ناضجة, جمالها صارخ وأنوثتها كلها دعوة. ماذا إذن؟
لابد أن أسير الخطوة الأولى.
ألقت "فائزة" كنزتها الصفراء عنها وقالت:
ـ إن حر المدفأة بدأ يضايقني.
ـ تطلعت إلى صدرها الممتلىء, وساعديها الأملسين. وابتلعت ريقي للمرة الألف.
ـ لماذا تحدق بي هكذا؟ ألا أعجبك؟
ـ ماذا؟ إن ما أراه الآن أمامي لم يحدث لي في أجمل الأحلام: "فائزة", هذه تجربتي الأولى ولا أعرف كيف أتصرف, صدقيني, رغم ثرثراتي, فأنا أجبن من أن أمد إليك يدي.
ـ لماذا؟
ـ لست أدري.
ـ أنت تحمل في صدرك رسوبات القرية كلها. ماذا علموك هناك؟ أنت تخاف من المرأة لأنك تخاف من الزنا. هكذا قيل لك أم لا؟
عندما أحنيت رأسي بالموافقة سألتني:
ـ هل تصلي مثلاً؟
ـ أبداً.
ـ ألست متديناً؟
ـ ليس لي أي موقف تجاه الدين, منذ ولدت وأنا متروك لأقدار تعيسة.
راحت تراقبني وأنا أعب كؤوس العرق وألهث إعياء كأنني أنوء وحدي بأوزار العالم.
ـ ألم تعرف المرأة من قبل أبداً؟
كان السؤال مفاجئاً, أوشكت أن أقول لها, إن تجاربي في عالم المرأة تجارب تافهة لا قيمة لها, وإن جميع الفتيات اللواتي تعرفت بهن في مدينتي المزّرقة من العدم, كن غبيات أكثر مني وكن يبحثن عندي عما أبحث أنا عنه عندهن. أوشكت أن أقول لها هذا لكنني وجدته تافهاً ولا معنى لـه فلذت بالصمت, ويبدو أنها عرفت الجواب من عينيّ وارتعاش شفتي, فهزت رأسها وعلقت ساخرة:
ـ أي أنك ما زلت محتفظاً بعفافك؟
ـ لا تكوني سخيفة.
ـ سخيفة؟ لم أكن أتصور أنني قد ألتقي برجل مثلك يوماً. لقد بلغت هذه الدرجة من العمر ولم تعرف المرأة بعد, قل لي ما هو عمرك؟
ـ على الضبط لا أعرف.
ـ لا تعرف ما هو عمرك؟
ـ إن هويتي الشخصية لا تساوي حذاء عتيقاً, لأن والدي لم يسجلني في دوائر النفوس إلا بعد خمس سنوات من ولادتي. لم يكن مهتماً بذلك, حتى قرر أن يدخلني المدرسة, يومها وضعوا لي عمراً تقديرياً في بيت المختار بعد أن فحصوا أسناني وقدرتي على جر أكبر حمار في القرية ضحكتْ بجذل عفوي لا يليق بها كأن أحداً يكركرها من خاصرتيها وقالت:
ـ أنت إنسان طريف حقاً.
ـ طريف؟ هل تعتقدين أنني أحكي لك نكتة؟
ـ ولكن لابد أن أحداً قد أخبرك عن عمرك الحقيقي؟
ـ لقد اختلفوا حتى في هذا, بشرفي "فائزة" والدي يقول إنني ولدت في نفس العام الذي ماتت فيه بقرتنا السوداء التي كانت تحلب كل يوم ثلاثة أرطال من الحليب, ووالدتي تقول إنني ولدت في العام الذي هطل فيه الثلج وأتلف كل مواسم الزيتون في قريتنا, ويبدو أن المؤرخين لا يعرفون متى ماتت بقرتنا السوداء ولا متى أتلف الثلج مواسم زيتوننا.
سكت قليلاً وأنا أشعر بمرارة تملأ فمي ثم تابعت؟
ـ أنا إنسان بلا هوية.
مدت يدها إلى الكأس وتجرعت ما فيه دفعة واحدة وقالت:
ـ أنت إنسان مسكين حقاً؟
ـ لا تكوني بلهاء. إنني لا أحتاج إلى شفقتك
ـ كما تريد أيها البطل. أنت لا تحتاج إلى شيء ولكن لا تملك شيئاً, لا تقبل مساعدة أحد ولا تستطيع أن تساعد نفسك. تكره العالم لأنه يرفض أن يجعل منك نبياً. بفّ.. من يهتم بهذا؟ أن تكون نبياً أو صعلوكاً؟ إنك تحمل قضية أكبر منك, الحياة لا تحتاج إلى هذا التعقيد كله, يجب أن تفهم أخيراً.
ونهضت بعصبية ثم خلعت تنورتها السوداء ووقفت شبه عارية أمامي.
هرشت رأسي بحيرة, وحككت أنفي, لم أدرِ ماذا أفعل فسألت بغباء:
ـ "فائزة" هل أنت "امرأة"؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تشعل سيجارتها بعصبية فقلت مستطرداً:
ـ إذن فقد سبق لك أن تزوجت؟
ردت بضجر:
ـ تزوجت؟ كم تظن أنني بلغت من العمر؟ أنا الآن في الثالثة والعشرين.
ـ هل معنى هذا أنك...
قاطعتني بفتور وهي تتفرس بي:
ـ أنا لم أُغتصب. لقد حدث كل شيء بإرادتي.
ـ لكن تعلمين....
قاطعتني مرة أخرى وهي تستلقي على السرير بقميصها الأسود الشفاف الذي يفضح جسداً أبيض, مساماته تفرز نداءات محمومة:
ـ لا أعلم شيئاً ولا أريد أن أعلم. إن هذا يحدث لكل فتاة, إما عن طريق الأهل الذين ينتقون الزوج, وإما عن طريقها هي, وقد فضلت أن يحدث باختياري لأشعر أنني حرة.
ـ لقد دفعت الكثير ثمناً لهذه الحرية.
ـ حتى أنت تقول هذا؟ تصور ظننتك متحرراً؟ تفوه... من يقنع هذا المجتمع أن بكارة الفتاة لا تعني شرفها؟ أنا أعرف امرأة ذهبت للحج مرتين وهي امرأة فذّة في نظر المجتمع ومع ذلك فهي تسرق بيوت الفقراء.
ـ إنها على الأقل رمز لاحتفاظ المرأة بعفتها وعدم تحولها إلى أداة ممتعة يشتريها كل رجل!!
قد تكون امرأة لصة.. ويمكن دراسة هذه الظاهرة ومعالجتها.. لكنها ليست مزبلة للرجال!
لم أكن مؤمناً بما قلته... لكنني أردت أن أعبر عن استيائي لأن فائزة على هذه الدرجة من الإباحية.
استوت "فائزة" في السرير وعقدت ساعديها فوق صدرها وقالت:
ـ أنت لا تؤمن بحرف واحد مما تقول, لكنك تريد أن تتاجر كالآخرين, أنت تتحدث عن العفة لكنك لا تعرف أنني لولا تمردي لباعني والدي إلى رجل في الخامسة والخمسين من عمره, من خلال ورقة رسمية تعطيها المحكمة دون أن تكلفها أكثر من قرش واحد, وباسم هذه الورقة كان عليّ أن أعيش مع جلف بشري, أتحمل نزواته الشاذة, وأقبل أن أباع كل ليلةٍ لـه, ماذا كان عليّ أن أفعل؟
إما أن أصبح كالسبايا, وإما أن أفقد بكارتي وأكسب حريتي, ماذا ترى؟
إنني أستطيع أن أسترد كل شيء أفقده طالما أنني أملك حريتي.
ـ كما تستردينها الآن مثلاً؟
ـ لا تحاول أن تجرحني, فلست أهتم لآرائك.. أنت إنسان بلا رأي.. لقد جئت هنا لأنك لا تعرف ما تريد.
ـ إن اهتمامك بآرائي لن يزيد أو ينقص من قيمتها أصلاً. أنت لستِ في وضع اجتماعي يؤهلك لحمل الآراء.
ـ كما تريد أيها البطل. ولكن دعنا من هذا الآن. أنا لم أطلب إليك أن تتزوجني, أنا أريد أن أقضي معك ساعات وجد, هذا كل ما في الأمر, وسيان عندي إن بصقت في وجهي غداً.
لم أجب. بقيت أحدق في الجسد الفائر الذي استلقى من جديد على السرير يهزه شبق محموم.
إن لـ "براءة" جسداً رائعاً.
لماذا لا أفكر بالجنس عندما أكون معها؟
أبداً. إن "براءة" غاية وليست وسيلة للاستمرار اليومي. أريد أن تظل بالنسبة لي رمزاً للطهر الذي أريده والذي أعتقد أنني فقدته, كما سأفقده الآن.
عدت من جديد أجتر هذه الكلمات الكبيرة. تحسست رأسي بيدي. أحس صداعاً رهيباً. ثمة مطارق تدقه. أجتاز الآن ساعات زمنية فاصلة. قالت "فائزة" إني لست رجلاً. لم أهتم كثيراً لرأيها. غداً سوف تخبر أصدقاءها.. إن كنت رجلاً حقاً.. ولعلها أول من سيعرف إن كنت رجلاً تذكرت شيئاً, فسألت "فائزة":
ـ هل أستطيع أن أسألك عن علاقتك بـ "ياسر"؟
فتحت عينيها وتطلعت إليّ بلؤم, ولم تلبث أن أسبلت جفنيها وأعلنت ببساطة:
ـ لقد كنت عشيقته.
ـ كنتِ؟؟
ـ عندما عرّفته بصديقتي "مها" حاول أن يغازلها خلسةً فاحتقرته وتركته كما أنه لسوء حظه لم يكسب الجولة معها.
ـ إذن فقد أضاعك, ولم يربح شيئاً مع "مها"؟
ـ أجل. بالمناسبة, لقد لاحظت أنك أبديت اهتماماً زائداً بـ "مها" هل تعجبك؟
ـ إنَّ لها عينين حزينتين متعبتين, وأنا أحب العيون المتعبة.
ـ تحب؟ ما قيمة حبك لأية امرأة وأنت تجلس أمامها عاجزاً؟
هذه الفتاة بلهاء من دون شك. إنها لا تعرف أنني رجل حتى أقصى درجات العطش.
نهضت من مكاني وأسدلت الستائر واقتربت منها, فتحت عينيها ولمحت في عينيّ إصراراً عجيباً وقبولاً مطلقاً لتحديها.
أغمضت عينيها بنشوة وهمهمت بصوت يكاد يكون مسموعاً:
ـ اقترب حبيبي. اقترب. كدت أيأس منك, كدت أيأس أنك ستفعل ذلك.
خيمت العتمة على الغرفة ولم يبق ثمة ضوء غير نور نحيل خجول يتسلل من بين شقيّ النافذة, ليرتمي على الأرض موهناً أمام خيال نار المدفأة المتراقص على أرض الغرفة.
وفوق السرير كان ثمة ضوء أحمر داعر يحدق بي ويصرخ بأنه الشاهد الوحيد, على أن جميع القيم التي آمنت بها كانت تنتحر على سرير امرأة جميلة لها جسد يشبه الحليب.
هذا وقت لا قيمة للكلام فيه.
ارتعش الظلام القائم بيننا, ضاع العطر والشذى الطيب, ولم يبق غير الصمت وشهوة امرأة تريد حباً لا تعرفه ورجلاً نشر أشرعته وضاع بين الأمواج جيلاً كاملاً, ثم عاد إلى الصحراء ليضيع في متاهاتها البدائية بحثاً عن سراب عصي.
"القطار الأخير
توقف عند الرصيف الأخير
وما من أحد ينقذ الورد".

الفصل الحادي والعشرين

شهر مضى ورأسي مثقل بهم لا أعرف كيف أحمله أو أبدده. كان هماً لزجاً تخللته ذكريات عن كل ما حدث لي, وأعترف أنه لم يمض وقت طويل حتى اكتشفت حقيقة أثارت اشمئزازي, وهي أني فقدت احترامي لنفسي.
كنت أعاني من مشاعر متناقضة كأية امرأة سخيفة, كيف حدث هذا لي؟
لم أكن مستعداً للتفكير بالأمر. كنت كل يوم أتوجه إلى عملي وأنا مثقل بإحساس جديد وهو أني آثم ألحقت "ببراءة" إهانة لا تستحقها.
كان الصباح ضبابياً, وثمة زخات لعوب من المطر تصفع وجه الأرض وتسيل رهية مترجرجة كأحلام صبية مفجوعة بحبها.
كان يعذبني أنني أصافح "براءة" بنفس اليد الذي تحسست بها جسد "فائزة".. أأنا نبي جديد؟
كان هذا عذاباً يومياً, وكنت أخاف أن تقرأ شيئاً من عذابي على وجهي, أن تفضحني عيناي. لأول مرة أشعر بالخجل من مواجهة إنسان.
لم أركب المصعد الكهربائي بل صعدت الدرج متمهلاً. كنت أفكر قبل أن أقدم على الاعتراف بكل ما يعذبني. وكنت أريد أن ألقى تبريراً أقنع به نفسي قبل أن أقنعها به. إن "براءة" لا علاقة لها بكل ما حدث لي, سأعترف لها بكل شيء وينتهي الأمر, سأقول لها إنني رجل واجه تجربة أقوى من إرادته وانهزم أمامها.
هذه أفكار سافلة يجب ألا أقولها أبداً. سأعترف ببساطة وهدوء. إنني رجل ولست نبياً. وستفهم حتماً.
دخلت غرفة المكتب, وكانت "براءة" تقف أمام زجاج النافذة تتفرج على خيوط المطر تغسل المدينة, وهي تدير ظهرها إلى الباب, شعرها الأسود ينام على كتفيها وظهرها كعتمة أبدية تخبّيء ألف موال جريح.
استدارت نحوي وابتسمت لي بنشوة خالقة ثم سألتني:
ـ لماذا تأخرت؟
لم أجب. فتقدمت مني حدقت في وجهي ولم تلبث أن هتفت:
ـ أنت مريض؟
ابتسمت متكلفاً وقلت:
ـ لست مريضاً لكني متعب.
ـ لابد أنك أمضيت سهرة مرهقة؟
تطلعت إلى وجهها مرتبكاً وقلت فوراً وقبل أن تفضحني عيناي:
ـ لماذا تقولين هذا؟
نظرت إليّ بحذر وقالت وهي تجلس وراء طاولتها:
ـ أنت لست طبيعياً اليوم. ولن أكلمك قبل أن تعود إلى صفائك.
لقد أحبتني لأنني ما زلت أحمل في أعماقي صفاء الإنسان الذي لم تفسده أدران المدينة, وصخب الحضارة, ماذا تقول الآن لو أنني.... ما هذا؟ أنا أشعر أنني عتال لأطنان من الدناءة ولا سبيل إلى الخلاص من هذا الشعور سوى أن أعترف وأرتاح...
نهضت من مكاني واقتربت منها وقلت من دون مقدمات:
ـ لدي شيء أقوله لك "براءة". لكنني لا أعرف من أين أبدأ؟
ابتسمت وقالت:
ـ البداية لا تهم. إذا كان الكلام يريحك فقل أي شيء.
أطرقت رأسي إلى الأرض وأعلنت:
ـ منذ شهر تقريباً.. حدث أني, كيف أقول هذا؟ "براءة" لقد خنتك.
ـ خنتني؟؟ كيف؟
ـ تعرفت بامرأة وذهبت معها... أعني, أنت تفهمين...
لم أستطع أن أتابع ولم أستطع أن أنظر إلى وجهها حتى لا أرى تعابير الاحتقار عليه لكني سمعت صوت القلم وهو يسقط من يدها, ثم خيمت هنيهة صمت قررت بعدها بثقة:
ـ أنا لا أصدقك. أنت تختبرني.
ضايقتني ثقتها فقلت بإصرار:
ـ لست اختبرك. إن ما أقوله لك حقيقة, لقد خنتك مع امرأة عرّفني بها أحد أصدقائي منذ مدة. عندما عرفتها تقبلت الأمر بشيء من الفتور وقلت إنها علاقة اجتماعية عابرة, ومنذ مدة خرجت من المكتب ظهراً فوجدتها بانتظاري على الرصيف, دعتني إلى الغداء, لا أعرف كيف قبلت. ذهبت معها وبقينا حتى ساعة متأخرة من الليل, وهناك حدث كل شيء.
كان وجهها خالياً من أي تعبير وأنا أنظر إليها كيف تلقّت الأمر. لم يكن على وجهها أي شيء سوى صفرة ميتة ساكنة وشفتين ترتجفان, وعينين تلهجان بسؤال مجروح. فقلت لها والسأم يمزقني:
ـ لا أعرف كيف تم هذا. ولا أعرف لماذا أقول لك, لكنني إذا لم أقله سأنفجر, منذ شهر وأما متخم بالهم. لا تسأليني شيئاً فليس لدي جواب لتبرير عملي لقد حدث الأمر ببساطة لم أكن أتوقعها.
تطلعت إلى وجهها جيداً, لأول مرة أراها مسحوقة بمشاعرها الحزينة, كانت شفتاها ترتعدان, وأصابعها ترتجف. لقد تحولت دفعة واحدة إلى كيان تعس كأنها هي الآثمة لا أنا.
حاولت أن أقول شيئاً, لكنني لم أفعل, كنت عاجزاً وكل ما سأقوله سيزيد من سفاهتي.
فجأة انفجر مرجل الصبر, وراحت تبكي بأسى.
كان بكاؤها محرقاً ومريراً, ودموعها تسيل فوق خديها كأنها فقدت كل أحلامها, أو كأنها تسير في جنازتي. أليست هذه جنازة طهري فعلاً؟
شعرت بالخزي, وأدركت أني حقير لأنني سببت لها هذا العذاب, كان يجب ألا أقول لها.
اقتربت منها مرتبكاً ووضعت يدي على كتفها فانتفضت في مكانها ودفعت يدي عنها بقسوة وصرخت:
ـ أوتجرؤ على لمسي أيضاً؟ ماذا تفعل لو عكسنا الأمر.. أعني لو خنتك مع رجل آخر؟
نهضتُ من مكانها وجففت دموعها على عجل ثم غادرت الغرفة حاملة حقيبة يدها.
مضت ساعة وأنا وحدي أنتظر عودتها بينما كانت أفكار تعيسة تنهشني بنهم كلبي. أين ذهبت ولماذا لم تعد؟
خرجت من الغرفة وفتشت عنها في جميع غرف البناية فلم أجدها إلى أن أخبرني أحد زملائي الموظفين أنها أخذت إجازة و ذهبت إلى البيت بسبب مرض ألمَّ بها فجأةً.
أصبت بشيء يشبه الدوار. وأمضيت بقية الوقت في الغرفة ساهماً. لم أكن أتوقع أن الأمر سيصدمها بهذا الشكل. ثم، كيف تذهب وهي حانقة هكذا؟ إنها لم تفهم ولم تحاول أن تسألني شيئاً. حكمت عليَّ دونَ أن تفهم معنى مشاعر إنسان جائع يقف أمام جسد امرأة عارية.
ما قيمة العلم إذا لم يكن دافعاً للتحليل والتفكير؟ شعرت أنني بدأت أكذب لأبرر تصرفي.
عندما عرفتها أول مرة كانت تتحدث عن عاداتنا وأمراضنا الاجتماعية، عن ثورة الإنسان الذي يجب أن يشق الطريق فوق هذا الركام المهترئ.
إنها اليوم تصلبني دون مراعاة لأحاسيسي. أنا لست شيئاً تملكه هي أو غيرها، إنني إنسان بكل ما فيه من مشاعر وكبرياء وغرائز.
توجهت إلى البيت حانقاً، لقد انقلبت الأمور رأساً على عقب. عند الصباح كنت ابحث عن تبرير أطلب من خلاله المغفرة. والآن أراها مدينة لي باعتذار لأنها غبية لا تفهم.
استلقيت على السرير دون أن أقول شيئاً "لأحمد" أو "أنور" ونمت نوماً متقطعاً حتى المساء. عندما نهضت كان "عدنان" يثرثر في الغرفة الثانية مع "أنور" بينما "أحمد" فوق سريره وبيده كتابه.
كنت جائعاً جداً فذهبت إلى المطبخ وأكلت. عدت إلى غرفة النوم وكان "عدنان" و "أنور" قد عادا إليها أيضاً. سألني "أنور":
ـ ما بك؟
ما قيمة الكلام؟ لم أجب. سألني "أحمد":
ـ هل فقدت لسانك؟
أشعلت سيجارة واستلقيت على السرير فعلق "عدنان":
ـ أنت متعب بشكل رهيب. سأدعوك اليوم إلى سكرة لتبدد كآبتك.
"عدنان" تافه. يعتقد أن الخمر وسيلة لحل كل المشاكل.
ـ ما رأيك هل توافق؟
نظرت إليه وأعلنت دون أن أفكر كثيراً:
ـ لماذا لا أوافق؟ إن الخمارة ليست أتفه من هذا البيت.
اقترح "أنور":
ـ لماذا الخمارة؟ نسكر هنا في البيت.
احتج "أحمد":
ـ من قال لكم إنني سأسمح بذلك؟
رد "أنور":
ـ من قال لك إننا نهتم برأيك؟
أدرك "أحمد" أنه لا فائدة من النقاش فسكت.
خرج "عدنان" وعاد بعد ساعة يحمل زجاجة ويسكي كبيرة وعدة أنواع، من الأطعمة المحفوظة. جلسنا حول المائدة وبدأنا نشرب.
كنت أشعر بالضيق يتفاقم في صدري كلما مر الوقت. لم أثمل.
ظللت أفكر.
لماذا أخبرت "براءة"؟ لمن عليّ أن أؤدي حساباً؟
كنت أعلم أني أفكر بشكل سخيف وأن الأمر لا يعدو أن يكون تفاهة لا تهم أحداً سواي، لكن الشيء الذي كان يثقب رأسي بقسوة هو موقف "براءة" من هذا كله. توقعت أن تفهم الأمر بشكل أعمق. توقعت مثلاً أن تقول لي: "إن هذا سيحدث لك في يوم ما، أنت في دمشق لا في الفردوس، وستواجه هذه التجربة لا محالة، وعليك الآن أن تواجه التجربة وتفكر كيف ينحدر الإنسان إلى الحضيض، وتبدأ بتقييم نفسك". هذا منطق مضحك لكني كنت أقبل به لأنه يفتح الباب لنقاش قد يوصلنا إلى شيء أهم من أن تحرد وتمشي. لكنها لم تفعل بل ذهبت كطفل لم تعجبه لعبته فبكى.
يحب أن أقتلع هذه الأفكار من رأسي بطريقة ما قبل أن تسممني...
التفت إلى "أنور" و"عدنان" كانا يتحدثان في الفن والسياسة والأدب والمرأة، ويقهقهان بين فترة وأخرى بين طقات الكؤوس وصمت "أحمد" الذي كان يتفرج علينا كأنه يعيش في عالم آخر.
سألني "عدنان":
ـ أنت لست طبيعياً اليوم. هذه حقيقة وأقسم عليها بكل جميلات دمشق. قل ما بك؟
علق "أنور":
ـ دعه وشأنه. هذه عادته إنه يرفض المساعدة، وسيبقى صامتاً كئيباً حتى ينسى مأساته الصغيرة التي يمر بها اليوم.
سألت "أنور" بضجر:
ـ لقد أصبحت أستاذا في علم النفس. من قال لك إني أمر بمأساة، صغيرة كانت أو كبيرة؟
ـ لا أعتقد أن سحنتك المقلوبة هذه بسبب فرح طاغ.
رفعت كأسي وجرعت منه جرعة كبيرة ثم تطلعت إلى "عدنان" وسألته:
ـ ما هو إحساسك عندما عرفت المرأة لأول مرة في حياتك؟
ـ لقد بدأ عقلك يعمل الآن. قل لي لماذا هذا السؤال اللعين؟
ـ أريد أن أعرف إن كنت عانيت ما أعانيه الآن؟
فتح "أنور" فمه وأرخى حنكه مبهوتاً. وراح "أحمد" يرمقني بغضب ويود أن يأكلني بعينيه بينما قهقه "عدنان" بخلاعة وراح يتمايل وهو يتأوه.
لقد استقبلوا الأمر بتفاهة لم أكن أنتظرها. صرخت "بعدنان" كي يكف عن هذا الضحك البذيء، فسكت وأعلن بصوت مغلف بالحبور والفرح الطفولي:
ـ هكذا إذن؟ عرفت المرأة أخيراً. الأولى بك أن تقيم حفلاً ضخماً بمناسبة أولى غزواتك إلى عالم المرأة المحصن.
راح يمص شفتيه تلذذاً بينما سألني "أنور":
ـ متى حدث هذا؟
ـ منذ شهر تقريباً.
ـ من هي؟
ـ أنت لا تعرفها.
ـ منذ شهر وما زلت تفكر بالموضوع؟ الأمر في غاية البساطة، يجب ألا تحمله أكثر من ذلك.
هتف "أحمد" من زاويته برماً:
ـ إن وجودك كله لم يعد يساوي كومة زبالة. لقد سقطت أيها المأفون الذي يحاضر عن الأخلاق. اسكر الآن مع هذين المسطولين. هذه هي النتيجة. الله يلعنك.
قاطعه "عدنان" وقال لي:
ـ لا تبتئس هكذا. كان عليك أن تخوض هذه التجربة يوماً ما. إن أحاسيس الإنسان في المرة الأولى رهيبة وقاسية، أعترف بذلك، لكنك ستتغلب عليها غداً، أعني عندما تجرب مرة ثانية سترى أن الأمر طبيعي جداً. ستتعود ألا تخجل من غرائزك لأنها جزء منك.
كنت أتمنى أن أسمع هذا من "براءة"، أما وأنها لم تقل شيئاً من هذا ولم تأخذ الأمر بهذه البساطة فإنني...
ما زلت أشعر بالتمزق والحنق. قلت "لعدنان":
ـ لن أجرب مرة ثانية.
ـ أنت تقول هذا الآن. لكنك ستجرب ثانية وعاشرة وإذا لم تفعل فأنت سخيف.
ـ لا فائدة من هذا، أنت تعلم ذلك.
ـ لا فائدة من الحياة أصلاً. نولد لنموت، ماذا تريدنا أن نفعل؟
علق "أنور".
ـ الجنس متعة، وقد آن لك أن تجد الجرأة لتبحث عنها قبل أن تنتهي خالي الوفاض. الجنس ليس غريزة عابرة في حياتنا، إنه شيء متأصل ودائم فينا، ويجب أن نستجيب للأشياء الأصيلة فينا.
عندما سكت "أنور" تذكرت أن فرويد أكد أن الكبت الجنسي هو المسؤول عن كل العقد البشرية وسوء العلاقات الاجتماعية، كما دعا كازنتزاكي إلى تفكيك عقد الإنسان بالسماح المطلق لـه بممارسة حريته الجنسية. لكن هذا كله لم يعجبني الآن. ولم أكن أريد خوض نقاش حوله فقلت مستسلماً:
ـ إننا وحيدون. هذه هي المشكلة ولا سبيل للخلاص منها بالجنس. الجنس يمنحني تشنجات عصبية رخيصة، يعقبها ندم هائل وقرف لا حدّ لوصفه.
اقترب "أحمد" منا وقال محتداً:
ـ إنك لن تتغلب على وحدتك بهذا الأسلوب، كلنا وحيدون. هذا قدرنا، لكن إحساسنا بالوحدة مختلف ووسائل تخلصنا منها تختلف أيضاً. أنت تدفع ثمناً غالياً للتخلص من إحساسك بالوحدة، إن كنت صادقاً في ادعائك، إنك تهرب من الساقية إلى المحيط.
قال "أنور" فجأة بنبرة قاسية:
ـ أنت إنسان مؤمن "أحمد". لقد وجدت طريق خلاصك وأنت سعيد وقانع.
ـ هل تعتقد ذلك حقاً؟
ـ جداً.
ـ لماذا لا تؤمن مثلي إذن؟
ـ لقد تحدثت عن قناعتك أنت ولم أقل إنها قناعتي. عندما أرى الأشياء كما تراها أنت، سأكون مثلك وسأعرف طريق خلاصي أيضاً. لكني لا أؤمن أن العالم بهذه السذاجة، أو أنه سينتهي بالعفوية التي تتصورها.
ـ مشكلتك الكبرى أنك لا تتحدث إلا عن النهاية، لماذا ترعبك؟ رعبك هذا يدفعك للهرب بكل طريقة. أنا أنظر إلى العالم كما هو لا كما يجب أن يكون. وأقبله كما هو. أنت لن تستطيع بتفاهاتك وثرثراتك أن تغير شيئاً من الواقع، لكن ليس معنى هذا أني أنظر إليه بسذاجة وعفوية وأكره التعقيد ولا أستعير للأشياء أسماء أخرى. الفارق بيننا "أنور" أنني على استعداد لأن أضحي بكل شيء من أجل أن احتفظ بإنسانيتي وشخصيتي، وأنت تبيع كل شيء، من أجل لا شيء ولا تجد الجرأة لأن تضحي. التضحية تحتاج إلى استعداد نفسي مسبق.
رد "أنور" ساخراً وإن كانت علائم الضيق بادية على وجهه:
ـ أنا لا أملك شيئاً حتى أضحي به.
ـ أنت تملك إرادتك.
ـ إنها إرادتي. ولن أضحي بها من أجل الآخرين، لن أبيع إنسانيتي من أجل آثام الناس.
ـ لقد صُلب المسيح من أجل شرور البشر. وأنت ترفض أن تكبت أهواءك لإنقاذ نفسك من الشر.
قال "عدنان" متذمراً:
ـ لكنني لست المسيح. كما أن أحدنا ليس نبياً ولا يستطيع أن يكونه.
ـ عندما تهدم جدران نزواتك تستطيع أن تتحلى بأخلاق نبي، ولكن يبدو أن هذه الأخلاق ليست هي الشيء الذي تبحثون عنه جميعاً.
عندما بدأ "أحمد" يعمم حديثه علينا أجبت باندفاع:
ـ أنت تتحدث "أحمد" عن عالم ليس عالمنا، وعن إنسان لم يولد وأشكّ أنه سيولد.
ـ لماذا لا يكون أحدنا هذا الإنسان؟
ـ ما الفائدة؟ أين تريد الوصول؟ تظل مشكلتنا أننا وحيدون. أنت مؤمن، و"أنور" غير متدين، و"عدنان" لا مبال، وأنا أتفرج على هذا كله وفي رأسي دوامة من الأسئلة.
إننا لن نتغلب على وحدتنا وعلى إحساسنا بالخيبة.
ـ أنا لا أفهم لماذا تغرق نفسك في هذه المتاهات التي لا تقود إلى شيء سوى الخيبة؟
لماذا لا تقبل العالم كما هو، لماذا تريد أن تغيره؟ يجب أن ننطلق بعيدين عن عفونات الآخرين، هذا صحيح ولكن مزودين بالأخلاق، عندها نستطيع أن نولد من جديد وعند آفاق جديدة. ونعرف السعادة الحقيقية.
قلت مؤكداً:
ـ السعادة شيء نسبي. ولا توجد سعادة حقيقية أو مطلقة.
ـ السعادة موجودة. يجب أن تؤمن بذلك لترى وجهها. لكننا نعيش لحظات تعيسة، وأنا أعتقد أن الإنسان يجب أن يفتش عن السعادة في أتعس اللحظات التي يمر بها. إذا لم نفعل ذلك ما معنى وجودنا كبشر؟
تطلعت إلى "أحمد" بإمعان.
لقد بدأ يفكر بشكل جيد، لكن نظرته إلى بعض الأمور مازالت سطحية، وما زال يحسن الظن بالناس. العالم مزبلة وهو يظنه جنة.
كان "أنور" على وشك متابعة النقاش عندما هتفت به:
ـ دعنا "أنور" أرجوك، لقد تصدعت جمجمتي. كل ما قلناه وكل ما لم نقله لا يساوي حذاء عتيقاً. هات املأ الكأس من جديد. حياتنا ضائعة بين مسافات العمر المجدب، بين إيمان "أحمد" ولا أخلاقيتك، ولا مبالاة "عدنان"، وحيرتي أنا، ماذا نريد جميعاً؟ من منكم يقول لي؟ ما الذي يجمعنا؟ لقد تهاوت كل الصروح الجديدة. كانت المرأة حتى شهر مضى، عالماً جميلاً بالنسبة لي، وعندما عرفته على حقيقته، بصقت قرفاً. لم تعد ثمة امرأة تستحق بيتاً من الشعر.. الشعراء تافهون عندما يخلعون مجد الكلمة عند قدمي امرأة. اشرب. أود أن أسكر حتى الموت. ضاجعت امرأة وذهبت لأعتذر من أخرى. من يصدق هذا؟
عندما انتهت زجاجة الويسكي كان الليل وحشة، وبرداً، وصمتاً.
ارتمى كل واحد على سريره بينما استلقى "عدنان" على سجادة صغيرة قرب المدفأة.
رحت أتفرج على عدد قليل من النجوم التي تطل بوجهها بين مزق الغيوم ثم تختفي خجلة كامرأة شرقية.
الليل في قريتي رائع بصفائه، فاتن بهدوئه، وهنا كل شيء ملوث، يتلون بألوان باهتة لكن الألوان الحقيقية ماتت والأشياء متداخلة والأضداد تلتقي.
لابد أن يأتي يوم تهرم فيه شجرة التين على بيدر قريتنا وترتمي على الأرض خشباً ميتاً لا ينفع إلا في وجاقات النار.
لا أعرف إلى متى بقيت أفكر بقريتي، ولا أعرف متى نمت. لكنني عندما استيقظت في الصباح التالي، كانوا ينامون كما تركتهم، كأن الليل لم يمض.
لبست ثيابي بسرعة وذهبت إلى العمل. كنت أذهب كل يوم قبل جميع الموظفين لا بسبب النشاط ولكن بدافع الأمل أن تكون "براءة" قد عادت وكفت عن تجديد إجازتها المرضية.
وصلت المكتب. ولم تأت كالعادة. كنت أعرف أنها ليست مريضة، وأنها مستاءة مني ولا تريد مقابلتي. ما العمل؟ قررت أن أكتب لها رسالة أشرح الأمر كله.
أعجبني القرار لأنه سيخلصني من حرج النقاش الشفهي، كما أنه يضع حداً لقلقي.
أغلقت باب الغرفة وجلست أكتب إليها:
"...حبيبتي
أكتب إليك من المكان الذي تعودت أن أراك فيه كل يوم. من الغرفة التي مازال لهاثك الحبيب يفوح في أجوائها كأحلى شذى، وأنفاسك الغالية تعطر كل شيء هنا حيث أقضي الوقت وحيداً.
وما أصعب الوحدة بعدك. إنني ألمحك في كل شيء، لكن هذا الكنز التريك لم يعد عزاء لي طالما أن هذه الجدران الشريرة تحدق بي وتسخر مني ومن وحدتي.
وحيد أنا من بعدك والعالم كافر يمزق رزانتي. وحيد ومتروك لشقائي الذي لن يبدده غير نظراتك الحنونة التي تمد لي جسر خلاص أعبر عليه كل يوم متخطياً كل العقبات........"
توقفت عن الكتابة وأعدت قراءة الرسالة فشعرت بالخجل.
يجب أن لا أبدو أمامها مراهقاً، كما أن هذا الأسلوب الصبياني الطنان في كتابة الرسائل يثقب لي رأسي. مزقت الورقة ورحت أكتب من جديد...
"... عزيزتي
يجب أن تظل الأشياء بيننا عفوية وصادقة. من أجل هذا أنا أكتب إليك. عندما أخبرتك أنني خنتك كنت أختبرك لأعرف إلى أي حد تفهمين معنى أن يكون الإنسان وحيداً لـه نزواته وشروره كنت أريد بالضبط أن أعرف مشاعرك نحوي. إنني أقدس غيرتك نحوي وعلى حبنا، لكنني لا أقبل أن أكون شيئاً تملكينه وتتصرفين به بهذا التعصب والجمود والانكماش. أريد أن أظل من خلال حبك إنساناً يملك مشيئته وحريته. أنا لم أسألك مرة عن ماضيك، ولا أريد أن أسألك الآن، لكنني أريد أن تؤمني أنني كنت أمتحن حبك........."
توقفت مرة أخرى عن الكتابة لأعيد قراءة الرسالة، فشعرت بالخزي لأنني لا أومن بحرف واحد مما كتبت ولأنني أكذب عليها وأهينها بهذا التبرير الحقير.
مزقت الرسالة الثانية وغادرت المكتب إلى البيت دون إذن من واحد. ليذهب كل شيء إلى الجحيم.
وصلت البيت وتمددت على السرير.
لم يأت أحد إلى البيت بعد. حاولت أن أنام فلم أستطع. ماذا أفعل؟ هذا البيت الحقير خال إلا من الفراغ والقذارة.
دخنت سيجارة، وثالثة، وعاشرة.....
دخل "أنور" البيت مبتسماً، وراح يصفر لحناً ريفياً تافهاً، فسألته بنزق:
ـ ما الذي يجعلك سعيداً هكذا؟
تطلع إلي، ثم مط شفتيه وهز كتفيه وأعلن:
ـ لست أدري. ولكن لم يحدث حتى الآن شيء يعكر علي يومي.
سكت قليلاً ريثما فك رباط عنقه ثم سألني:
ـ ما بك أنت؟ أصبحت مغلقاً على نفسك وحزيناً كأنك أنت الذي أفسدت العالم؟.
ـ يوم أستطيع إفساد العالم سأكون أسعد إنسان.
نبر "أنور" بعصبية:
ـ أي شيء يربكك إذن؟
أحسست برغبة عارمة كي أخبره كل شيء. كنت أتعذب بطريقة غير إنسانية. لابد أن أنفث عن صدري هذه الأدران المتراكمة.
وبهدوء واختصار قصصت عليه كل شيء، منذ تعرفت "بفائزة" حتى أخبرت "براءة" كل التفاصيل وكيف أخذت إجازة وانزوت في البيت حردة، ثم راحت تمدد إجازاتها يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع ولم تعد إلى العمل حتى الآن، ثم اعترفت لـه أنني أصبت بالضجر من هذا كله.
فكر قليلاً ثم قال بلهجة جدية لم أعتد عليها منه:
ـ أعتقد أن الوقت قد حان لتترك هذه الفتاة.
ـ أية فتاة؟
ـ "براءة" طبعاً.
ـ أنت تتكلم الآن كالبغل. ما هذا؟ إنني أحبها. ألا يعني هذا شيئاً في تلافيفك الدماغية؟
هتف "أنور" دون أن يخرج عن جديته:
ـ لقد بدأت تعيش واقعك بصدق، ولا تستطيع "براءة" أن ترتفع إلى مستوى وعيك كما أنك لا تستطيع أن تدخل عالمها الحريمي المغلق. أنتما من جيلين مختلفين وغريبين.
ـ تقصد أن "براءة" لا تستطيع الانحدار إلى حضيضي. لقد أخبرتك بكل ما حدث لي مع "فائزة". لولا أني مرتبط بحب طاهر لنظرت إلى الأمر نظرة عابرة فيها الكثير من الفكاهة لكنني أحب "براءة". أنا سقطت "أنور" ألا تفهم هذا؟ ولا أعتقد أن حقيقتي تكمن في هذا السقوط. يجب أن أسترد "براءة" لأسترد شفافيتي وحقيقتي.
أشعل سيجارة وأعلن وهو ما زال هادئاً هدوءاً أوشك أن يثيرني:
ـ أنا أعتقد العكس. إن "فائزة" كانت رمزاً لانطلاقك الجديد. كانت المدية التي قطعت بها خيوط كفنك وجذورك المهترئة. إن "براءة" بالنسبة لك موقف أخلاقي في عالم بلا أخلاق.
كان "أنور" يقترب من الحقيقة كثيراً وإن كنت لا أوافقه على بعض ما قاله. لأنني لست مهتماً بلا أخلاقية العالم، ولست ملزماً بربط سلوكي بسلوك الآخرين. أريد "براءة" لأنها منحت إنسانيتي دفئاً خالصاً واستطاع حبها أن يخلصني من نزقي ويبعدني عن آثام الشهوة، وحيث تكون الشهوة يكون الإخفاق والخيبة.
قلت "لأنور" والشوق إلى "براءة" يذبحني:
ـ لا أريد أن أناقش موقفي من "براءة" ولن أحصي حبي لها بالمواقف الأخلاقية أو الالتزام بمثل معينة أنا سعيد بحبي لها وهذا ما أبحث عنه. لقد استطاعت أن توفر لي نوعاً من الهدوء النفسي، وأبعدت عن حياتي كتل الصقيع التي كانت تحاصرني. منذ عرفتها عرفت معنى أن يكون الإنسان ملتصقاً بإنسان آخر يجسد لـه العالم آفاقاً لا تحد من الجمال والأماني البكر.
ـ قل لي. لماذا تحبها؟
فكرت قليلاً وأجبت:
ـ الحب دافع. وعندما نتوصل إلى معرفة دوافعنا فلن تكون هناك دوافع لأي شيء. ولن يكون هناك حب أبداً. سيكون العالم صحراء جربة.
نظر إليّ طويلاً وأعلن:
ـ يخيل إليّ أحياناً أني لا أعرفك. وأنا واثق أنك لا تعرف نفسك ولا تعرف ما تريد. أنت تحب "براءة" وأنا احترم موقفك هذا، لكنك تعلم أن هذا الحب لا مستقبل لـه، عما قريب ستواجه مسؤولية حبك، ماذا ستفعل؟ إن "براءة" لا تشبهك أبداً، إنها امرأة تنتهي حياتها عندما تحب إنساناً ما. غداً ستطالبك بالزواج لتلتصق إلى الأبد في بيت لا تغادره إلا في كفن, أما أنت فإنك لم تبدأ حياتك بعد، ستقفان يوماً ما على طرفيّ نقيض ويكتشف كل منكما أن الآخر كان يخدعه، في حين أن كلاً منكما كان منسجماً مع موقفه
وبيئته وأحلامه.
يجب أن تستيقظ من أوهامك. أنت تولد من جديد. وهي تودع كل شيء لتعيش معك حياة آلية في الفراش والطريق والبيت.
وتوقف قليلاً ريثما أشعل سيجارة جديدة ثم هتف بإصرار:
ـ عندما قلت لك إن "فائزة" رمز لانطلاقك الجديد، كنت أعني أنك بدأت تعيش حياتك كإنسان لا كنبي. لقد قلت لنا دائماً إن حياتك ليست من التفاهة بحيث تنتهي عند امرأة. ما الذي جرى لك الآن؟ إنك ملتزم بأكثر من قضية اجتماعية وإنسانية، أنت إنسان واقعي، دمرّ حياته في القرية ليعيش حياة جديدة، ولا يعنيني أن أعرف إن كنت قد بدأت هذه الحياة، لكن الذي يعنيني أن أفهم إن كانت جميع أفكارك التي قادتك إلى التشرد والضياع والبحث عن معان أخرى للحياة قد وجدت موئلها عند امرأة؟
كان السؤال تافهاً لكنه يحيرني في نفس الوقت، أحاول أن أجيب عليه لكن "أنور" نخر من أنفه وحك أذنه وأعلن:
ـ انظر إلى موقف "براءة" منك وحاول أن تقيمّه، اعترفتَ لها لتجعلها قريبة منك وتشاركك معاناتك وتجرها إلى الإيمان بأن الأشياء التي نريدها لا نستطيع أن نحصل عليها بالطريقة التي نحبها ماذا كانت النتيجة؟ اسمع أستاذ، أنت إنسان ذكي ولكن، بشرفي، أنت في هذه العلاقة غارق في الغباء حتى أذنيك، من هي "براءة"؟ بفّ... دعها في الحرملك الذي تريده. إن الحياة لعبة ورق. إذا لم ننجح نستطيع دوماً أن نخلط ونبدأ اللعب من جديد.
بدأ دبيب النمل في رأسي عندما سكت "أنور".
إن اعتقادي بأن لي الحق في الحصول على السعادة التي أريدها وبالطريقة التي أختارها هو أساس متاعبي. ليس ثمة إنسان لـه الحق بمثل هذه السعادة، وليس ثمة إنسان يستطيع أن يجعل حياته تسير بين خطين متوازيين بشكل هادئ ومنتظم، بعيداً عن المتاعب والقلق، ولو وجد هذا الإنسان لكانت حياته تبعث على الملل.
لقد غير موقف "براءة" الأخير كثيراً من إيماني بمواقفها وذكائها.
تطلعت إلى "أنور" كان يدخن بهدوء. لماذا يدخن "أنور" باستمرار؟ إن لـه وجهاً طفولياً سعيداً. لم أره مرة مكتئباً. يعتقد أن الحياة لا تستحق هذا التجهم والانقباض لماذا لا أكون مثله؟
بل لماذا أكون مثله؟
لم أستطع حتى اليوم أن أشق طريقي بقدرتي، ما زلت أرى الأشياء من خلال الآخرين، وما زلت أبلور أفكاري ضمن نطاق عاداتهم وتقاليدهم.
هذه حقيقة وإن كنت أتبجح عكسها.
لقد ضاجعت امرأة وانتهى الأمر، ولم يبق من ذلك غير لذة يشوبها الندم. لماذا الندم؟
لقد بلغت حداً من النضج يكفي كي أدرك أن لكل علاقة مناطق احتكاك، وأن الأشياء التي تقلقني وتمزقني تتغير مع تعاقب السنين. إذن، أنا لن أحل مشاكلي النفسية أبداً؟
شعرت بضجر قاتل ينهشني، فقمت أتجول في الغرفة.
بعد دقائق توقفت وقد صعقتني فكرة مفاجئة. لماذا لا أذهب الآن إلى... "عفاف"؟؟
أخذت معطفي وارتديته، ثم أصلحت من ملابسي أمام المرآة وبشكل سريع فسألني "أنور":
ـ إلى أين؟
ـ قد لا تصدق إذا قلت لك إنني ذاهب الآن إلى بيت "عفاف".
فتح فمه بشكل أبله وكرر:
ـ هكذا إذن؟
ـ "أنور" إن فمك مفتوح بشكل قميء وأنت ترخي حنكك بطريقة مقرفة.
ـ اللعنة عليك وعلى فمي. قل لي أين أنت ذاهب أيها الأجدب؟
كرر ثانية.
ـ لقد قلت لك إني ذاهب إلى بيت "عفاف". وأنت الذي دفعني إلى ذلك.
ـ أنا؟ أنا دفعتك للذهاب إلى بيتها؟ بماذا تخرفّ يا رجل؟ كيف حدث هذا، قل لي إكراماً لكل عاهرات العالم.
ـ ألم تقل إن الحياة لعبة ورق وإننا إذا لم ننجح نستطيع أن نخلط الورق ثانية ونبدأ من جديد؟ ببساطة أنا ذاهب لألعب من جديد.
وخرجت من البيت تاركاً "أنور" يجتر حيرته.
قبل أن أتعلم كيف أحقد وكيف أموت، يجب أن أتعلم كيف أعيش، هذا هو الوقت المناسب وإذا لم أفعله الآن فلن أفعله أبداً. إنه أمر ليس سهلاً، أمامي ينتصب جدار هائل وصخرة يحتاج تسلقها إلى أساطير من البطولة، لكنني سأقفز. سأثب دوماً. سأحرق ألف عام في ثانية واحدة وسأعيد إلى قبيلتي كبرياءها المطعون، هذا أوان الإبحار، والريح طيبة، سأزور كل مرافئ المستحيل.



الفصل الثاني والعشرين

عندما فتحت "عفاف" الباب غمرتني بنظرة حيرى ثم ابتسمت دون أن يرفّ لها هدب كأنها كانت تتوقع زيارتي.
دخلت وأنا أتطلع إليها وقد لفت نظري شعرها المبعثر بشكل غجري، كل خصلة من خصلاته الدافئة تخبئ حكايا تمرد على وثنية الواقع.
جلست في مقعد يقابلني ووضعت ساقاً على ساق وقررت:
ـ كنت أعلم أنك ستعود ذات يوم.
حدقت في وجهها الجميل برهة واعترتني رغبة لا أعرف سببها، بصفع هذا الوجه الجميل بيد أني لم أحرك ساكناً ولم أقل شيئاً، كنت أنظر إليها دون أن أفكر بشيء معين سوى ساقها البض وأساطير الشوق الذبيحة الغافية فوقه، هذِه الساق أتمنى أن ألعق طراوتها بلساني.
ـ لا فائدة منك. أنت تمثال صامت ولا سبيل لإخراجك من نفسك. ما رأيك بكأس؟
مشيت وراءها إلى غرفة أنيقة يحتل إحدى زواياها "بار" مليء بالزجاجات الملونة. صبت كأسين قدمت لي واحداً منهما، ارتشفت منه جرعة كبيرة ثم وضع الكأس جانباً قرب كأسها، واقتربت منها محدقاً في وجهها الذي ارتسمت عليه علائم الدهشة. هذا أوان النصر وسأغرس رايتي في القمة. لم أتركها تفكر كثيراً، كنت أحس أتوناً ملتهباً في أعماقي.
مددت يدي إلى شعرها أداعبه وأعبث به، ألفه على أصابعي ثم أتركه. وفجأة أمسكت ضمة من شعرها الذي يشبه أهداب القمح، وجذبت رأسها إليّ، فارتمت على صدري تسلمني شفتيها وهي تتأوه.
فَقَدَ معبد الأنوثة قدسيته. أين "عدنان" ورفاقه المدللون الآن؟
كان ثمة شيء كالحقد في داخلي يغلي، كنت أبدد استيائي بطريقة ما. أريد أن أهين الأشياء التي أحس بقزميتي أمامها قبل أن تفضحني.
ظلت عينا "عفاف" مغمضتين فترة ثم تمتمت بشفتين كالشفق يلوثهما رضاب رائع:
ـ ما أروع هذا.
ودون أن تفتح عينيها استلقت على ظهرها ووضعت رأسها على ساقي ثم أمسكت بيدي وراحت تلثمها بخشوع ناسك يتعبد أمام صنمه.
استغرقتنا لحظات سكونية، كانت أصابعي خلالها تتغلغل في دفء شعرها. وعيناي تشربان بنهم الحمرة القانية التي لونت وجهها. فتحت عينيها وتطلعت إليّ بصمت.
عيناها مواعيد تمزقها اللهفة، وشفتاها ترتجفان برغبة مخنوقة. لم تكن بحاجة لأن تقول شيئاً. ولم أكن بحاجة إلى ذكاء كبير كي أفهم.
وفي غرفة وردية اللون عرفت امرأة حقيقية، عطاؤها بلا حدود، وروعتها أكبر من أن ينالها أي خيال لاهث.
وبعد ساعات، عندما خرجت من بيتها، واجهت عالماً صامتاً ومدينة صامتة.
الصمت قدر المدينة. كل الثرثرات التي يطلقونها ويملؤون بها الفراغ. ليست إلا وسيلة يبددون بها استياءهم. أنا مستاء أيضاً. مستاء من كل شيء. لكنني أتحايل على الحياة بطريقة ما.
أحس أن اللقمة التي أكلتها مسروقة من فم يتيم وأن الثياب التي أرتديها كانت كفن ميت ونقلت إلى جثة ميتة.
الدروس التي أتلقاها ليست أكثر من تعاليم مهرجين، والبيت الذي أسكنه قبو ذليل يدوس العالم فوقه بنعال قذرة.
إن أحداً لا يستطيع أن يساعدني. ولست أملك إلا تطلعات، كلما قلبتها أحس الدهشة وأغرق في متاهات حيرتي.
قالت "براءة" بحزن واضح على وجهها كعادتها:
ـ إنك تفسد حياتك بشكل مريع. سوف تكتشف يوماً أن العالم لا يستحق كل هذا الزخم.
أجبتها:
ـ إنها حياتي. وسوف أدمرها إذا لم أستطع أن أجعل منها شيئاً أناله وبسهولة. أنا لم أولد لأتعذب فقط.
ردد "عدنان" وهو يبلغ جرعة كبيرة من الويسكي:
ـ هذه ليست تطلعات مثالية، إنها أفكار تقود إلى تأملات مبتذلة ويجب أن تطلقها إلى الأبد أنت تحفر قبرك باكراً، وعليك أن ترتد إلى الحياة، أنت خائف دائماً لأنك تفكر دائماً.
قلت لـه بانسحاق:
ـ الحيوانات لا تفكر، ومع ذلك فهي تخاف أيضاً. إن خوفنا خوف واع وخوفها غريزي، هذا هو الفارق الوحيد. ولكن ليست هذه مشكلتنا. إن حلولك سطحية لا تنفذ إلى الأعماق أبداً.
قرر "أنور" بجفاء وقرف:
ـ استدنت ألف ليرة بالفائدة من أحد المرابين دفعت حوالي نصفها رسم التسجيل في الجامعة وفي نفس الليلة رأيت ذلك المرابي يخرج مخموراً من أحد ملاهي المدينة في الساعة الثالثة صباحاً وبصحبته إحدى العاهرات. اسكت يا شيخ. العالم كلب يقعي على مؤخرته، وأنت تظنه جواداً أصيلاً. الكلب لا يصبح جواداً، هذه حقيقة، اسمح لي أن أقول لك، إن سيادتك لا تستعمل عقلك.
قلت لـه:
ـ أنت تفرغ العقل البشري من كل فكر ومحتوى. آراؤك ضحلة ومهزومة سلفاً. إنك تعيش حياة قطيعية تقود إلى النتيجة التي وصلت إليها. أنا أبحث عن شيء آخر، لا تسلني عنه، لأنني لا أعرفه بعد.
ضحكت "فائزة" وهي عارية بجانبي بعد أن هزّها الشبق:
ـ كنت أعتقد دائماً أن التكالب على الحياة والتعلق بها شيء مأساوي وغير أخلاقي أبداً، وعندما بدأت أعيش حياتي ولحظاتها السعيدة، آمنت أنهم أذكياء أولئك الذين يزداد حبهم للحياة يوماً بعد يوم... أفّ... الإنسان يجب أن يناضل ضد الشيخوخة والموت فقط.
أجبت بيأس وضجر:
ـ أنت تتحدثين الآن من خلال إحساسك بالنشوة. والنشوة تمكننا من تحمل الحياة فقط. وعندما نلقي ضوءاً عليها وعلى مظاهرها وأسبابها، تضمحل وتصبح شيئاً تافهاً يبعث على السأم، إن الرغبة بالحياة إذا كان مبعثها الشهوة فقط فهي رغبة رخيصة وحيوانية أيضاً. إن لحظاتك السعيدة الآن سوف تتبدد وتحل محلها غريزة من نوع آخر. هل سمعت بإنسان اسمه "فرويد"؟ كلا؟ لقد أسمى هذه الغريزة "النيرفانا". أنا شخصياً لا أعرف ماذا يعني هذا لكني أعتقد أنها الشهوة إلى الموت والبحث عن الراحة.
قال "ياسر" بعد أن قرأ أمامي قصيدة عاطفية كان قد انتهى من تأليفها:
ـ الشعر فقط، إنه خلاصنا. عندما لا تجد أحداً يفهمك تلجأ إلى الكلمة. الكلمة شيء مقدس وثمين. ببيت من الشعر تتزوج، وببيت آخر يقربك من الدولة وببيت ثالث تسقط أكبر دول استعمارية في العالم. اسمع هذه النصيحة مني. بشرفي لم يبق غير الأدب وسيلة للحياة.
قلت باشمئزاز:
ـ الأدب يضعك دائماً أمام حلين، إما الغرور وهذا يعني الفشل. وإما النجاح، وهذا يعني أنك تستطيع أن ترفع من معنوياتك لتحمل الحياة فقط. لكن القراء يظلون مشمئزين منك.
قالت "عفاف" وهي تعيد ترتيب الذي بعثرت خصلاته بأصابعي:
ـ إن شاعراً كبيراً من شعراء المدينة قال عن ساقي أجمل قصائده ولم أشعر نحوه ونحو شعره إلا بالقرف. زوجي يبعثر المال على حياتي ويعرف أني أخونه دائماً فيزداد حبه لي وازداد احتقارا لـه. أجمل الألحان الموسيقية لا تحرك شعرة في رأسي، إن جميع الفنون تصيبني بالدوار، كلها عبث ولا فارق بين رسام وماسح أحذية كلاهما يستعمل الدهان ليعيش مارست الجنس مع شاب في مقتبل العمر، وبصقت عليه قبل أن أغادر السرير.
تفرجت على أجمل بلاد الدنيا، فوجدت البشر هناك كالبشر هنا، تعيسين ووحيدين.
لا أعرف ماذا أريد بعد، أتدري لماذا أحترمك أنت؟
أنت مثلي، لا تعرف ماذا تريد، مصاب مثلي بالدوار، تدور أنت، وأدور أنا، وندور كلنا.. لكن مأساتنا تظل أننا نحس أكثر من الآخرين.....
عندما خرجت من بيتها واجهت عالماً صامتاً ومدينة صامتة، وفي فمي مذاق عذب لم أعرفه من قبل. لماذا التعاسة إذن؟
لو أنني أستطيع أن أعيش في الجوهر دائماً وأترك التفاصيل. التفاصيل؟؟
يقولون لي كن بطلاً. لكنني لست بطلاً. ولا أريد أن أكونه على حساب الحقيقة.

يقولون لي عش وفق خط الحياة واتجه معه كيفما اتجه.
المشكلة نبعت أصلاً من أن أحداً لا يعرف ماذا يعني هذا، وليس هناك من يفهم إلى أين تتجه الحياة.
لو أنني أقبل الحياة، لو أنني لا أحددها، لانتهى الجانب المظلم من المشكلة. الحياة غير محدودة والذكاء الإنساني محدود.
لماذا لا أقبل بذلك؟ لماذا نترك حياتنا قائمة على الافتراض؟
هذا رهان خاسر. لأنه ليس قائماً على اليقين، لمن نراهن، وضد من، وضد ماذا؟
هذه الأسئلة ظلت تنخر رأسي عدة أيام. ومن دون أن أدري كنت واقعاً تحت سيطرة فكرة عجيبة هي أن الإنسان لا مستقبل لـه في هذه المدينة.
ويبدو أن "أحمد" كان يحس هذا أيضاً: وصلت حياته هنا إلى الطريق المسدودة ولم يعد هناك ما يستهويه للحياة.
مدد ساقيه أمام المقعد الخشبي في حديقة "السبكي"، وكان الفصل ربيعاً والوقت قبيل الغروب ثم تأفف قليلاً وأعلن:
ـ سأسافر غداً إلى القرية.
لوى "أنور" بوزه وهرش رأسه ثم قرر بنزق:
ـ هذه الأرض مليئة بالبهائم.
خرجنا من الحديقة واتجهنا إلى شارع "أبي رمانة" حيث يمرح مدللو المدينة دائماً، يسيرون على الأرصفة، يحدقون ببعضهم، ويرتدون آخر الأزياء العصرية والدنيا من حولهم موجات عطر. أحنى "أحمد" رقبته وأعلن:
ـ سأسافر غداً إلى القرية.
عبرت بنا فتاة شقراء ترتدي "الميني جوب"، ساقاها عاج ترّف الشهوة عليهما، قلت وأنا ألاحقها بنظراتي.
ـ كان: "البير كامو" يعتقد أن جميع حقائق العالم لا تساوي خصلة من شعر امرأة وأنا أقول إن جميع حقائق العالم تتنقل مع خطوة ساقين جميلتين.
علق "أنور" فوراً:
ـ في يوم ما سأكتب قصيدة رائعة أمتدح بها كل من أسهم بتصميم
"الميني جوب".
ـ ذلك الأجدب، جميل بثينة، كان يرى أصابع حبيبته فيكتب قصيدة من مائة بيت عن لوعة قلبه. لو عاش حتى اليوم ورأى امرأة تلبس "الميني جوب" لأصيب بانفجار شعري في أوردته.
ـ عجيب. كل شيء تغير لكننا بقينا تيوساً. تفوه.
توقف "أحمد" ثم تطلع إلينا وأكد:
ـ سأسافر غداً إلى القرية.
كان يتعذب، ولم يكن باستطاعة أحد أن يساعده، ماذا أقول؟ الكلمات أحياناً لا تجدي لقد أفرغ حياته من أي مضمون أو معنى منذ أن انكفأ على نفسه. لقد منح حياته لفتاة لا تستحق حرفاً واحداً من كلمة الحب. ولم تنفع معه كل النصائح لأن العواطف برأيه ليست تجارة، الحب كالموت لا يحدث إلا مرة واحدة، كانت تجربته الوحيدة وستبقى حبه الوحيد تذكرت شيئاً فسألته وكنا ما نزال نسير فوق أرصفة الشارع:
ـ ما الذي ستفعله في القرية؟
ـ لست أدري. أحس رغبة عارمة كي أرى كل شيء هناك. أصبح الماضي حلماً لا يصدق أريد أن أعود لأتحسس كل شيء بيدي وأؤكد لنفسي أنني ما زلت إنساناً وأنه بمقدوري أن أتصرف كإنسان. يجب أن أعود، لقد مضى عامان على وصولي دمشق وما زال كل شيء في دماغي مختلطاً. من يصدق هذا، كأن شيئاً لم يكن؟
قلت وأنا أحس غيظاً مفاجئاً:
ـ أنت تعرف "أحمد" إن "روعة" قد تزوجت؟
رفع رأسه بغتة كمن لدغ ثم قال "بمرارة:
ـ أعرف هذا.
ـ تعرف هذا مازالت معتوهاً كالتيس. أتعرف أيضاً أنها تركت الجامعة لتتزوج من صاحب بقالية وأنها داست عليك وعلى كل كلمات الحب التي كانت تلقيها في أذنيك؟ اسمع "أحمد" صاحب البقالية هذا يعرف كيف يحشو جيوبها بالمال ويملأ كرشها بالطعام لقد كانت تضحك على ذقنك فضيلة الشيخ، وهاأنت اليوم تضحك على نفسك وتفتك بها.
رد "أحمد" بهدوء لم يكن منتظراً:
منذ عام وأنت تقيّم سلوكي من خلال علاقتي "بروعة". وقد آن الأوان لأقول لك إنك مخطئ خطأ فادحاً. لقد أصبح الأمر مختلفاً، أحس أني مهزوم، هذا كل ما في الأمر، تركنا كل شيء من أجل لا شيء، لماذا جئت هنا، بل لماذا جئنا جميعاً؟
سكت قليلاً ريثما ألقى نظرة عاجلة على الشارع ثم سأل:
ـ هذه هي أبنية دمشق، جميلة كلعب الأطفال، من منا يملك حجراً منها؟ هؤلاء الناس الذين يعبرون بنا من هم؟ ولماذا تظل ملامحهم هكذا؟ لماذا لم نستطع أن نتخذ صديقاً من هذه المدينة حتى الآن؟ أنت تظن أننا لسنا منهم، الحقيقة أنهم هم لا ينتمون إلى أحد ساعات الوجد في حياتهم معدومة، كلهم أصحاب أعمال ونحن من دون عمل. التفكير بالنسبة لهم عملية صعبة تفسد الحياة ونحن لا نفعل شيئاً إلا التفكير.
في تلك اللحظة مرت بنا عدة فتيات جميلات كن يتهامسن ويضحكن ضحكاً مغناجاً فرحت ألاحقهن بنظراتي عندما شدني "أحمد" إليه:
ـ وهذا أيضاً لن تنال منه شيئاً إلا النظر ثم الحسرة.
ـ هنا بدأت تخطئ. إنني أنال أكثر من النظرة.
ـ إن ما تناله ليس أكثر من شيء حيواني، ومع نساء يمنحن أجسادهن لك ولغيرك بنفس العفوية التي تدخن بها سيجارة. يجب أن نستيقظ، إننا نسقط، ألا تفهم هذا، نسقط؟ جئنا هنا من أجل ما كنا نسميه قيماً جديدة وإنساناً جديداً. كنا نسخر من سكان القرية ومن عاداتهم وحياتهم المنهارة، لو أننا أضعنا هناك نصف ما أضعناه هنا لانتهى كل شيء إلى أفضل، لو أننا قبلنا ربع الإهانات التي وجهت إلينا هنا لعشنا هناك في جنة.
سكت للمرة الثانية فتكدست في رأسي ألف فكرة تمنيت أن أناقشها معه دفعة واحدة لكنه عاد إلى الحديث مرة أخرى:
ـ يوم يتأبط كل منا شهادته، ماذا سيفعل؟ نحن نبرر الآن استمرارنا هنا من أجل الدراسة، بعد ذلك ما الذي نفعله؟ نعيد رتابة حياتنا المملة ونصبح أفراداً آليين في قطيع بشري، أو نعود إلى هناك لنبدأ من جديد.
بصق "أنور" على الأرض وأعلن محتجاً:
ـ أنت تتحدث عن الإنسان كأنه بهيمة. إما أن يعمل ليأكل. أو يرسل إلى المسلخ للذبح أسكت "أحمد" أنت إنسان خائب لا يعرف شيئاً إلا أن يمزق الصور الجميلة. الحياة مليئة بالألم ولكن يجب أن نواجهها بشجاعة.
تذكرت أني قرأت مرة شيئاً من هذا القبيل "الحكمة القريبة المنال تخرج من أفواه البسطاء" هذا ليس صحيحاً الآن. "أنور" ليس بسيطاً، لكنه قال شيئاً رائعاً وحكيماً، يجب أن نواجه الحياة بشجاعة. ولكن كيف؟
ـ كيف؟
هز "أنور" رأسه برماً وقال:
ـ الشجاعة تعني التفاؤل. الأمر ليس خارقاً كما ترى، وليس مفروضاً أن تشمر عن ساعديك وتعارك حتى تعيش.
قلت بجفاء:
ـ "أنور" أنت تجعجع الآن، لقد بدأت جيداً ثم انتهيت إلى الثرثرة. دعنا. لا أريد أن أفكر.
قلت هذا وأنا أحس أن الأمور عادت فاختلطت في أذهاننا. التفت إلى "أحمد" وسألت:
ـ أما زلت مصراً على السفر؟
ـ سأسافر غداً.
ـ ومتى تعود؟
ـ لست أدري. قد أعود وقد لا أعود. هذا أمر يعنيني وحدي سأكون مسؤولاً بكل أعصابي عن عودتي أو بقائي. الألوان في رأسي مختلطة ويجب أن أميزها. لا أستطيع أن أستمر هكذا حتى أموت. سأسافر غداً. ولا أريد أن يودعني أحد منكما، أكره لحظات الوداع.
بقينا نسير صامتين حتى وصلنا البيت. جلسنا مرهقين من التعب وحولنا هالة من الصمت المضني، لكن "أحمد" لم يلبث أن قال:
ـ قبل أن أسافر أريد أن تفهما شيئاً أقوله الآن وأنا مسؤول وواع لكل حرف فيه. إن سفري ليس بسبب"روعة"، هذه الإنسانة أصبحت موضوعاً آخر، كانت مرحلة لابد من المرور بها. قد لا تصدقان إذا قلت لكما، إنني كنت سعيداً أقصى السعادة لمعرفتي بها، أنا أنكفئ على نفسي، هذا صحيح، ولكن ليس بسببها وحدها بل بسبب كل شيء. نحن هنا أشباح، أو على الضبط نحن أكاذيب، أكاذيب من صنع أنفسنا، وأريد أن أهرب قبل أن أبدأ بعبادة أكاذيبي.
صمت "أحمد" وأصبت بالذهول.
من قال إن الصحراء لا تنبت الورد؟ من قال إن الأعماق المجدبة لا تعرف كيف يعرش الياسمين على أسطحة القرميد؟ من قال...؟؟
تطلعت إلى "أحمد" وهتفت بلوعة مجروحة:
ـ أنت تسافر غداً وكلنا في النهاية نسافر وحيدين. ما الفائدة، لقد جئت هنا وكان مجيئك محاولة لاسترداد إنسانيتك من بين أشداق الوحش. أنت ترى الآن أن المحاولة كانت خاطئة ولكن ضاعت منك وإلى الأبد اللحظة الحاسمة التي كان بوسعك من خلالها أن تمتنع عن الإقدام. لقد جرفك التيار كما جرفنا ولم يعد في مقدورك أن تفعل شيئاً. لو يعرف الإنسان متى يجب أن يخطو الخطوة الأولى لتغيرت أشياء كثيرة في هذا العالم.
رد "أحمد" بإصرار:
ـ هذه المدينة لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لي، إنها معلقة بين السماء والأرض كل شيء فيها ثابت. البيوت والشجر والسماء صافية لكنها بعيدة المنال. أنا هنا كذبة كبرى وقد عشت عامين لكنني عشت على السطح، لا أحب أحداً، ولا أكره أحداً. أطوي أحلامي على قرية صغيرة يسيجها الصنوبر. قريتي أراها أينما تطلعت. جئت الجامعة أدرس الحقوق لكن هذا لا معنى لـه، كان من الممكن أن أعلم الأولاد هناك، أن اشتغل في الزراعة، أي شيء آخر، كلها وسائل لكسب اللقمة، ليس هناك أحسن ولا أسوأ. سأسافر غداً.
نهض "أنور" من مكانه فجأة وقال:
ـ أنتما تسممان حياتي. الناس يعيشون حياتهم بعفوية، ونحن ندمر أيامنا بالتفكير من أجل لا شيء. من أجل يوم لن يجيء. تفوه... هذه ليست حياة.
وخرج من البيت وبقينا وحدنا.
تطلعت إلى "أحمد" الذي كان يتطلع إليّ بدوره.
والتقت عيوننا في لحظة مطفأة. لأول مرة أرى في عينيه معاني لم أعرفها من قبل كان في عينيه شيء كالتحدي والاستسلام، كالخيبة والإصرار، ما زالت الألوان مختلطة. وما زلت مخلوقاً بدائياً كأنني أغادر كهفي الحجري لأول مرة.
نهض "أحمد" من مكانه بصمت وغادر البيت وبقيت وحيداً.
استلقيت على السرير وأشعلت لفافة ورحت أتفرج على خيوط الدخان الأزرق كأنني لا أعاني أية مشكل. السماء في دمشق صافية وزرقاء دائماً.
لماذا لا يهطل المطر في هذه المدينة أكثر من أيام معدودات في السنة؟
لو ينزل المطر لصارت السماء رمادية كالتراب. المطر أمنية الظامئين وحلم الذين ذبحهم العطش فلم يجدوا غير السم يحقنون به شرايين التاريخ.
هذه أرض اليأس، لكن أحداً لا يموت.
هنا ولد الشعر، لكن أحداً لا يغني.
الإنسان يُمسخ، هذا زمان الإملاق، والإنسان يموت. في أعماقنا ظمأ أزلي. منذ أيام التاريخ الأولى والإنسان يحس الظمأ القاتل كلما ارتوى من نبع تفجرت ينابيع أخرى.
من القائل "شربنا شرب قوم ظمئوا من عهد عادِ"؟ لا يهم. الألم قديم والمأساة واحدة. لو ينزل المطر.
كانت هذه الأرض تنبت الأنبياء، فإذا كان الأنبياء بشراً، فهذا يعني أن هذه الأرض على اتساعها، عقيمة لأنها لم تنبت غير بشر معدودين.
أطفأت اللفافة ووقفت.
أين أذهب الآن؟
لا يوجد عدل في هذه الدنيا. هربت من أمطار قريتي التي تنزل دائماً في غير مواعيدها، وهاأنا أحن إلى المطر من جديد، كنت هناك أحن إلى شمس ساطعة وسماء صافية، وهاأنا أمقت الشمس التي تظل ملتهبة في كبد السماء.
أين أذهب والعالم لا يتسع لي ولا لطموحي. أي طموح؟
أنا وحيد وأعيش في غابة. غداً يسافر "أحمد"... وفي القرية سيقف عند شجرة التين ويرى عروقها الضاربة في الأرض. سيشعر أنه ليس قشة حقيرة في مهب الرياح وأنه، كتلك الشجرة، مخلوق لـه أصول وجذور وهدف.. بل إنه خلق لنفسه جذوراً وهدفاً.
هل من الضروري أن تكون لنا أهداف حتى نستطيع العيش، أليست الحياة هدفاً؟

الفصل الثالث والعشرون


دخلت المكتب صباحاً كالعادة وفوجئت "ببراءة" وراء طاولتها ساهمة، مشتتة الذهن إلى حد لم تسمع معه تحية الصباح التي ألقيتها.
جلست وتطلعت إليها ثم سألت:
ـ ما بك "براءة" وجهك ليس طبيعياً؟
نظرت إليّ ولم تجب فسكت وأنا أشعر بالضيق، تشاغلت بأوراقي قليلاً وكنت أسترق النظر إليها بين فترة وأخرى، كان ذلك عبثاً، إن "براءة" تعاني من وطأة شيء ثقيل فبددت صمت الغرفة بسؤال قلق:
ـ "براءة"، قولي ما بك، تعرفين أني أتمزق إذا رأيتك حزينة؟
تطلعت إلي مرة أخرى ولم تجب.
شعرت بالضيق والغيظ، منذ حدثتها عن علاقتي "بعفاف" وهي منطوية ومغلقة لا تعرف البسمة طريقاً إلى وجهها. منذ حدثتها ما أحسستَ بحنانها مرة يزخ عليَّ أمطاره قلت لها بضجر:
ـ ذلك الماضي يجب أن ننساه "براءة" لقد صلبتني كفاية، منذ ذلك اليوم ونحن غريبان. لقد أصبحت إنسانة خالية من السعادة، ماذا فعلت لك؟ لقد سقطتُ مرة وانتهى الأمر، يجب أن تعودي إلي، معاً نستطيع أن نفعل كل شيء، قولي ما بك؟
أطرقت إطراقة حيّية وقالت بفتور:
ـ لا أريد أن أرتد إلى تلك الذكرى اللعينة. إنها تفتك بي. مشكلتي اليوم من نوع آخر.
ـ هيا قولي "براءة"، حاولي أن تريحي صدرك من هذا الهم.
ـ جاء أحد أقاربي ليخطبني يوم أمس، وقد أمضيت ليلة تعيسة.
ـ هل يريد والدك إجبارك على الزواج؟
ـ والدي لم يقل شيئاً، ترك الخيار لي.
ـ معنى هذا أنه لم تبق أية مشكلة، "براءة" أنت لي لقد وعدت بذلك.
ـ أنت لا تفعل شيئاً البتة.
ـ أفعل؟؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟
ـ منذ زمن بعيد وأنا أنتظر أن تحدثني بموضوع الزواج. أن تذهب إلى أهلي، أن تفعل أي شيء مثلاً.
أحسست باهتزاز مفاجئ وعنيف في أعماقي. أتزوج. أنا أتزوج؟
هناك آفاق كثيرة في العالم جديرة أن أزورها ولم أفعل بعد. ثمار كثيرة لم أذقها عمري ويجب أن أقطفها. سجل عمري مليء بالصفحات البيضاء يجب أن أكتب فيها أفكاراً واضحة بخط جريء أتزوج؟
أحسست بصحوة مفاجئة، لكن الصحوة جاءت هذه المرة من الخارج، هذا أوان الخصب وعلي أن أزرع شيئاً في أعماق هذه المدينة. أن تكون لي جذور هنا وبعدها أصول وفروع. أمن أجل هذا أحببت "براءة"؟ أبداً. الحب شيء آخر.
ـ أجل، الحب شيء آخر.
ـ وفي النهاية، هل نظل نجتر حبنا إلى الأبد، هل تظل حياتنا رعباً وتخفياً من العيون هذا الحب يجب أن تكتب لـه الحياة. ومن دون زواج سنظل طفلين يعبثان بكلمات جوفاء.
ـ "براءة" تعرفين جيداً أنني لا أستطيع أن أتزوج الآن. أعني لست مهيئاً لذلك نفسياً ومادياً واجتماعياً.
حدقت إلى وجهي مذعورة وهتفت:
ـ كنت تضحك علّي إذن؟ تتسلى بعواطفي؟
صرخت محتجاً:
ـ لا تكوني سخيفة، أنت تعرفين أن هذا ليس صحيحاً، أنت بالنسبة لي حقيقة مليئة بالمعاني وهدأ صوتي قليلاً وأنا أتابع:
ـ كل شيء حدث في حياتي قبل أن أعرفك كان نفاقاً. وكل شيء فعلته معك كان اعتذاراً لأنني لم أعرفك منذ ولدت. أنت تمثلين حقيقة أعبدها، لكنني لا أستطيع الزواج الآن لأنني لا أملك شيئاً. أنا ببساطة إنسان لا مستقبل لـه.
ـ أستطيع أن أساعدك بكل شيء. نستطيع بتعاوننا أن نبني قصراً، أنا لا أريد منك شيئاً سوى أن تقدم على الخطوة الأولى، بعدها ندبر كل شيء.
الخطوة الأولى؟
هنا يكمن الرعب، أنا أقف وسط حديقة مليئة بالأشباح والأشياء الزئبقية. "براءة" تريد الزواج مني، وأنا أحبها لكنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا أعرف كيف أبرر سلبية موقفي.
أأقول لها ما قلته "لأحمد" مرة؟ عن المسؤولية وارتفاع تكاليف الحياة والراتب القليل و..
عامين ونصف في الجندية.
هذا تبرير سخيف لن تؤمن به طالما أنها مستعدة لأن تشترك معي بكل شيء. كيف أقول لها إنني سندباد متسول التقى بغجرية بائسة في مدينة يقتلها الحزن. وأن حبنا نضال عنيف ضد الحزن والنحيب فقط؟
كيف أفهمها أن حياتي ينبوع حزن، يفرز المرض حوله، وأن الحزن عدوي أصابت قبيلتي من ألف عام، وأنا لا أفعل اليوم شيئاً سوى أن أهيج كوامن الداء، حتى يستفحل أكثر ويقتل أكثر؟؟
قالت؟ "براءة" فجأة:
ـ أنت تهينني بهذا الصمت. لا أريد أن أفسد حياتك، ولا أريد أن تفهم أنني أفرض نفسي عليك. كنت أعتقد أنك تحبني لكنك تخجل من البدء فقط، أحسست من واجبي أن أشجعك، وهاأنا أرى شيئاً آخر. لقد جعلتني أشعر بالخزي. إنس كل ما قلته، إنسَهُ أرجوك. هذه ثاني مرة تجرح فيها كبريائي وتدوس كرامتي.
وسكتتَّ. ثم انخرطت في بكاء مرير لم أسمع كل حياتي نحيباً افجع منه. بكت حتى ظننت أنها لن تكف عن البكاء أبداً.
في تلك اللحظة أحسست أن حياتي كلها، بماضيها وحاضرها ومستقبلها تكثفت في لحظة واحدة، ليس لها بدء وليس لها منتهى.
هنا يتجمد الزمن. كل شيء لا قيمة لـه.
أصبحت مداناً بتهمة لا أعرفها. قاعة المحكمة فسيحة والنظارة يضحكون من خلال أسنان منخورة صفراء. المحامون كثيرون وكلهم يطالب برقبتي. القاضي يحدق بي حاقداً "وبراءة" جثة هامدة فوق بلاط القاعة البارد" أيها القاتل، قتلت حمامة المدينة، يجب أن تموت، أيها القاتل أيها الذئب"
هنا يتجمد الزمان، كل شيء لا قيمة لـه.
أنا الغازي الذي جاء من الشمال، هذا ميدان القدر ولن أعود منه سالماً، أصبحت قرصاناً، و"براءة" ساحل الهلاك "أيها القاتل، أيها الذئب"
نظرت إلى "براءة"، وكانت ما تزال تبكي:
ما الذي جرى؟
كانت تبكي لسبب لا أعرفه، وكنت أتعذب بطريقة لا أفهمها. لم أكن أطيق هذا العذاب أبداً كما لم أكن أطيق دموعها، أشعر أننا فلكان ضائعان في سديم الفراغ الكبير، وقد التقينا الآن في ساعة نحس.
المشكلة أنها لا تفهم. فقط لا تفهم أنها تصلبني دون ذنب جنيته, وأني من جراء ذلك، أحس في رأسي كلاماً كثيراً أستطيع أن أقوله لكنها لا تفهم:
ـ "براءة" إننا ننظر إلى الموضوع من جهتين مختلفتين. أنا أحبك وأنت تعرفين هذا جيداً، لكن الزواج معناه وأد هذا الحب. سأظل طول حياتي عتالاً لهموم أكبر مني، إن الزواج ليس بالسهولة التي تتخيلينها، الزمن لم يتخطانا بعد، ويجب أن نفهم بعضنا أكثر ونبني شيئاً نقيم عليه صرح هذا الحب. أقصد، كيف أعبر لك؟ ما الذي تفهمينه أنت عن المسؤولية؟ بعد عام واحد فقط سنحس الضجر ونقضي العمر في هم أسود. إننا لا ننظر ذات الاتجاه، نحن طلبة مدارس بعد، يوم لا نأكل نبكي من ألم الجوع. كيف نتزوج الآن وبعد عام أو عامين تبدأ هموم الأولاد؟ اسمعي "براءة" إن حياتنا ليست تافهة حتى نقبرها على هذه الصورة. لماذا لا نترك كل شيء للزمن؟ الأيام كفيلة بحل كل هذه التناقضات وهي كفيلة برسم الدرب الصحيح أمامنا.
ما زالت "براءة" تبكي، وما زالت مشتتة الذهن، لكنها لم تلبث أن جففت دموعها وحملت حقيبة يدها، ثم قالت بهدوء مصطنع:
ـ أنت مخلوق فارغ. وخال من السعادة تماماً. رأسك مسموم بطريقة لا يعرفها العلم ولا تستطيع أن تنسى سوداويتك أبداً. ستموت وحيداً ولن يحس بك أحد.
غادرت الغرفة وبقيت وحيداً.
كل شيء انقلب الآن رأساً على عقب، تداخلت الأشياء ببعضها من جديد واختلطت الألوان نهضت من مكاني ووقفت وراء زجاج النافذة ورحت أتطلع إلى دمشق ببلاهة.
أحسست أن هذه المدينة صارت امرأة عجيبة، امرأة لها رموز ونداءات محمومة غامضة. لم أعد أفهم شيئاً. ظمأ الشمال ضاع في متاهات الجنوب.
لمجرد أني أبن فلاح خارج من غابات الصنوبر في الشمال، بعضهم يراني بدائياً لا تنفع معه كل مظاهر الحضارة والرقي، وبعضهم يراني إلهاً وثنياً يستحق العبادة، أهذا ما يسمونه مدنية؟
"براءة" تراني مخلوقاً بدائياً يستحق الحرق، وأني خنت جميع عواطفها وقيمها ونكلت بكرامتها. و"عفاف" ترى في إنساناً رومانياً يشهر في يده سيف الغزو وتتدلى من عنقه أوسمة الفرسان فترتمي النساء على قدميه.
"ياسر" يراني تافهاً وأفكاري تقود إلى عهر اجتماعي لا يستطيع أي مجتمع منحل أن يقبله. "وعدنان" يرى في مخلوقاً يفكر بأسلوب جديد ويعمل على صنع إنسان تمحي من حياته كل عفونات الشرق.
أين العدل في هذا التقييم؟
لماذا تتعقد الحياة بهذا الشكل الكريه الذي لا تستقيم الأمور معه؟
فجأة اعتراني هم غريب. هم من نوع لم آلفه من قبل، ترافقه رغبة شرسة بأن أرتد إلى طفولتي. أن أعود طفلاً يعبث بالأشياء ويلثغ بالكلمات. لماذا نكبر؟
ولماذا تسير الحياة بهذا الشكل المقلوب، كأن كل قوانين الأرض وجدت لتحد من رغبات الإنسان؟
لماذا لا نستطيع الإجابة على الأسئلة؟
"براءة" تسألني إن كنت سأتزوجها، وليس لدي جواب.
الحب؟ أنا أحبها، لكن الحب موضوع آخر. كيف أقول لها إن لي رسالة هي هذه الحياة أريد من خلالها أن أثبت إنسانيتي؟
كيف أقول لها إنني أتعلم لأعود إلى قريتي أثير الزوابع فيها ليستيقظ الناس على وهج النور الذي غمر العالم.؟
كيف أفهمها أن المسؤولية تقتلني الآن ولا أريد أن أخسر هذا الحب بعد أن يصيبني السأم من رتابة الحياة الزوجية؟
بل كيف أقول لها إنني واحد من جيل متعب يحاول أن يجعل من نفسه جسراً تعبر عليه الملايين إلى الضفة الأخرى؟
أحسست بصداع في رأسي. هذه الثرثرة لا تنتهي. إن أحداً في العالم لا يدري لماذا تجري الأمور هكذا. أحس أني أحمل مسؤوليات أكبر مني، تتخطاني، وأنني إذا لم ألتزم بمسؤوليتي هذه أكون قد مت، كما ولدت، دون اختياري، "براءة" تقدم لي دعوة شهية إلى بيوت المدينة النظيفة. إنها تدعوني إلى الخروج من كهوفي وعتمتي، ولكن......
حتى تصبح الأرض ملكاً للفقراء والمشردين والضاربين في متاهات الرمل وحتى يموت آخر مراب يستدين منه "أنور" ليدفع قسط الجامعة...
حتى يدفن آخر كاهن يحشو رأس "أحمد" بالحديث عن الجن والشياطين والحياة الرائعة التي تنتظر الفقراء والزاهدين بالمتع.
وحتى يظهر ناقد أدبي صادق يقول "لياسر" إن زمان الشعر مات، وهذا أوان العمل والعرق والأكف الحجرية المشققة التي بدأت تقرع باب الحياة بعنف بعد أن كانت تقرع باب الطغاة بذل.
حتى تؤمن "عفاف" أن العهر ليس وسيلة إلا لمتعة الجسد بينما الفكر يظل على الهامش وحتى تؤمن "فائزة" أن لحظاتها السعيدة يجب ألا تكون على حساب قيم الإنسان.
حتى يأكل الحمل والذئب في أرض واحدة، ويركب الطفل على ظهر النمر، وتسرح كل الحكومات جيوشها، ويعيش العالم في أمن دائم...
حتى يجيء زمن السعادة هذا.....
سأظل أسير في أزقة المدينة المظلمة، أعبر من كهف مظلم إلى قبو أكثر عتمة، أعبر عن حياتي بكل الطرق والوسائل التي أستطيعها وأملكها.
حتى يجيء زمن السعادة هذا سأصل القمة حيث أغرس بيارقي، عندها أرتاح من معاناة اللهاث والظمأ، وأستجم في نشوة لا تعادلها نشوة. عندها فقط، أستطيع بكل حواسي أن أكون لـ "البراءة" أعيش معها إنسانيتي وحبي، هذا الحب الذي اعتقد أن حياتي من دونه صحراء مجدبة، لا ينبت الكلأ فيها، وعمري فارغ من معان كثيرة.

الفصل الرابع والعشرون

ظل الثلج يهطل يومين متواليين، حتى أصبحت الأرض بساطاً أبيض كرداء ملائكي.
دخل "عدنان" بيتنا باكراً، وكان البرد قارساً، وعندما فتح "أنور" الباب لـه صرخ:
ـ أيها الكسالى. في مثل هذا الطقس لا تنام إلا البهائم. هيا انهضا، سنقضي يوماً رائعاً في "بلودان".
قلت وأنا مطمور تحت اللحاف:
ـ لن أغادر هذا الفراش اليوم ولو كانت ملكات جمال العالم هناك.
سحب "عدنان" اللحاف عني وتعاون مع "أنور" لسحبي من السرير، فارتديت ثيابي وأنا أشتم وأطلق السباب.
ركبنا سيارة "عدنان" واندفعت بنا إلى "بلودان".
الطريق المفروشة بالثلج، والسيارة المعبأة بالدفء، وبعض الأنغام الموسيقية الهادئة المنبعثة من راديو السيارة، والتطلع إلى متاهات البياض التي لا تنتهي.... كلها نشوة عبأت صدري بفرح طفولي لذيذ دفعني إلى الغناء. كنت أغني أغنيات حديثة وريفية وأجنبية غير عابئ باحتجاجهما وسخطهما على قباحة صوتي. بقيت أغني حتى وصلنا "بلودان".
أوقف "عدنان" السيارة عند جانب الطريق وهبطنا منها نتراكض على الثلج ونصرخ كأطفال صغار عثروا على علبة حلوى. أخرج "عدنان" من السيارة زجاجة ويسكي ورحنا ننقلها من أيدينا إلى أفواهنا، ولم تمض غير دقائق حتى قذفتها على تلة قريبة بعد أن انتهت. كان بشر كثيرون حولنا، شباب وفتيات، كبار وصغار. رأيت "فائزة" تركض أمام شاب أسمر اللون وهو يلاحقها بكرات الثلج على رأسها وظهرها. عندما وصلت إلى جانبي توقفت فجأة وحدقت بي قليلاً. كان وجهها أحمر قانياً، وعيناها صافيتين كالعسل. حاولت أن تقول شيئاً فأدرت ظهري ومشيت.
أشعر بتشنج يسري في أعصابي كلما رأيت هذه الفتاة. ولا أريد الآن أن أمد جسراً لأي لقاء جديد.
فجأة أحسست بضربة عنيفة على مؤخرة رأسي. التفت بسرعة فرأيت "فائزة" تحدق بي وتضحك بينما يداها منهمكتان بتكوير كرة أخرى من الثلج لتضربني بها. اقتربت منها وصفعتها صفعة أليمة على خدها. رفعت قدمها ورفستني على ركبتي. تغير لونها وأصبحت كاللبوة المتحفزة. أمسكتها بشعرها من الخلف وأدرت ظهرها باتجاه صدري ثم سحبتها على الثلج غير عابئ بصيحات الاستهجان والزعيق التي أطلقها معظم الحاضرين. ركض الشاب الأسمر الذي كان يلاعبها وأمسكني من صدري. تركت "فائزة" وأنهلت عليه بالضرب حتى أوقعته أرضاً ركض الناس باتجاهنا ووصل "أنور" معهم حيث أخذني من كتفي وأبعدني عن المكان:
ـ ما بك؟ ما الذي فعلته؟ مجنون؟
كانت "فائزة" تنفض الثلج عن ثيابها وهي تردد:
ـ وحش. حيوان.
وصل "عدنان" وسألني بنزق:
ـ ماذا جرى لك؟ هذه عادة في دمشق. عندما يهطل الثلج يصبح وسيلة للتسلية بين الناس. كلهم يتبادلون الضرب به. هل جننت؟ كيف تسحب الآنسة من شعرها على الأرض هكذا؟
قلت متهكماً وأنا ما زلت أرتجف:
ـ آنسة؟ اسكت "عدنان". أنت أبله. هذه "فائزة".
أطلق صفيراً حاداً وأعلن وهو يحك رأسه:
ـ هذه "فائزة"؟ يا ملعون الوجه، إنها تحفة من عاج. كيف تركتها؟ أنت مخلوق كالجحش إنسانة "كفائزة" تستحق العبادة.
ـ مشكلتك أنك لست رجلاً. إن أحقر امرأة تذوب لك دماغك. تضرب أنت "وفائزة".
مشيت باتجاه السيارة حتى وصلتها وكان "عدنان" و"أنور" قد تبعاني.
قاد "عدنان" السيارة بينما الصمت يلفنا كلنا. كنت أتابع انسياب السيارة على خطين أسودين بين تلال الثلوج، وفجأة خطر ببالي شيء فقلت:
ـ لماذا لا تعلمني قيادة السيارة؟
التفت إلي وحدق بي برهة ثم قال بهدوء:
ـ في مثل هذا الطقس وهذا الطريق لا يمكن. سأعلمك في مكان آخر عندما يذوب الثلج.
وصلنا "بلودان" وذهبنا إلى أحد المطاعم هناك.
كانت الإطلالة ساحرة من شرفة المطعم على سهل الزبداني الفسيح والجبال المحيطة به بينما البياض يغمر كل شيء. طلبنا زجاجة نبيذ وبعض الطعام، ورحنا نأكل بعد أن عاد إلينا صفاؤنا. ومن دون أي سبب قال "عدنان" متفلسفاً:
ـ إن الحياة لا تمنح الإنسان أكثر من فرصة. أما أنت فإن الحياة ترهبك، تخاف منك، وقد منحتك عدة فرص. أنا أعرف مثلاً إلى أي حد تعلقت بك "عفاف"، وأعرف أن "براءة" متيمة بك، وهاأنا أرى "فائزة" اليوم. أنت تملك مجموعة نادرة من التحف، ومع ذلك تظل منغلقاً على نفسك. يوم تكبر ستبكي دماً على كل دقيقة تضيعها الآن. الزمن هو العدو الحقيقي للشباب، وأنت لا تحس وطأة الزمن. يا رجل أنت لا تعرف كيف تعيش.
علق "أنور":
ـ لا تخف عليه، إنه يعيش بشكل جيد. لكن مأساته أنه يفكر بما سيأتي كثيراً. لو يستطيع أن ينسى عقله. تلك هي المشكلة.
أجبت وأنا أحس أن هذا الحديث لا معنى لـه:
ـ كلاكما يتحدث عن الفرص التي تمنحها الحياة. أين هذه الفرص؟ هل تسمي معرفتي لعدة فتيات فرصاً حياتية ذهبية؟ دعونا مازلنا جميعاً على السطح.
اقترب منا خادم المطعم وقال لي وهو يشير إلى رجل يدير ظهره إلينا.
ـ إن السيد الجالس عند الطاولة القريبة يريد مقابلتك.
نهضت من مكاني وأنا أحس نوعاً من الفضول، وعندما رأيته فوجئت.
كان أحد رؤساء الإدارة السابقين حيث أعمل، عرفته بعد مشادة كلامية معه بعد أن وجه لي إنذاراً مرة لتأخري عن الدوام، وقد رفضت الإنذار يومها وكان هذا الرفض سبباً في نقاش حاد أذكر أني قلت لـه أثناءه: إنني موظف ولست آلة، ولا أقبل بالتالي أن أعامل كعبد. إن تأخري عدة دقائق لن يسيء إلى العمل فأنا أملك ضميراً وإذا لم يكن هذا الضمير كافياً لمراقبتي فلا يستطيع أحد أن يراقبني.
تطلع إلي وابتسم ثم قال:
ـ اجلس. أما زلت تتأخر عن عملك صباحاً ثم تحاضر عن الضمير؟.
أجبت وقد تذكرت كل شيء دار بيننا.
ـ كالعادة. الاستيقاظ باكراً مشكلة بالنسبة لي. أما عن رقابة الضمير فأنا مرتاح من هذه الناحية لأنني أنجز عملي كله خلال ساعتين ويبقى الموظفون (العصمليون) ينكشون أنوفهم فوق الأضابير ساعات طويلة بعد أن يأخذوا عدة شمات من علبة "العطوس".
ضحك هو ومن معه بحبور ثم قال:
ـ لن آخذ من وقتك كثيراً، لكني عندما رأيتك تذكرت شيئاً. ابنة أحد أصدقائي ستتقدم هذا العام إلى امتحان البكالوريا. إنها فرنسية ولغتها العربية ضعيفة جداً، أتمنى أن يتسع وقتك لإعطائها دروساً خاصة كل أسبوع مرة أو مرتين.
فاجأني الطلب فقلت:
ـ شكراً من أجل ثقتك بي أولاً وأرجو أن تثق أن وقتي لا يتسع لذلك مطلقاً.
ـ أنا لا أريد من وقتك أكثر من ساعتين في الأسبوع، بمعدل عشر دقائق كل يوم. هذه ليست مشكلة مهما كانت أعمالك كثيرة، إن والدها صديقي وقد طلب إلي ذلك منذ مدة وأريد مساعدته.
قلت مستسلماً:
ـ كما تشاء، سأخصص لها ساعتين كل أسبوع.
ـ أشكرك جداً. سأنتظرك غداً في الساعة السادسة مساء في بيتي ومن هناك نذهب لتتعرف على أهلها.
ودعته وعدت إلى الطاولة حيث ينتظرني "أنور" و"عدنان". عندما جلست سألني "أنور":
ـ من هذا؟
ـ أحد مدراء الإدارة السابقين حيث أعمل.
ـ بفّ. وماذا يريد سيادته؟
ـ طلب إلي أن أساعد ابنة أحد أصدقائه بإعطائها بعض دروس اللغة العربية.
ـ ولماذا اختارك أنت بالذات؟
ـ لست أدري. اعتقد أنها مجرد صدفة.
ـ وفي أية سنة حضرتها؟
ـ ستتقدم هذا العام إلى امتحان البكالوريا. قال إن لغتها العربية صفر لأنها فرنسية.
ضرب "عدنان" الطاولة بيده وقرر:
ـ ألم أقل لك؟ إن الحياة تخاف منك. تفضل سيدي.. هذه فرصة أخرى، فرصة من ذهب.
ونحن نكش الذباب عن أنوفنا طوال النهار. تسقط الحياة. ليتني ولدت فلاحاً من المؤكد أن حظي مع النساء كان أفضل.
ـ ما هذا "عدنان"؟ أنت تخرف بلا شك. إن الرجل يطلب مني أن أعطيها بعض دروس اللغة العربية. وهذه ليست دعوة إلى الرقص كما أعتقد؟.
ـ اسكت يا رجل بربك. أنت لا تفهم، اسألني أنا عن تلميذات المدارس. اسألني عن الدروس الخاصة في الغرف المغلقة. آخ.... أستاذ، تلميذتك هذه ستعرفك غداً على جميع زميلاتها، وخلال شهر واحد فقط ستصبح مثل هارون الرشيد. تتكئ حوله الجواري. اسمع، سأظل صديقك رغماً عن أنفك.
ـ أنت إنسان مهووس والنقاش معك عقيم.
هرش "أنور" رأسه بيده وكشر قليلاً ثم قال:
ـ أنا لا أحب تلميذات المدارس. إنهن غبيات في الجنس.
رد "عدنان" بعنف:
ـ أنت غبي لا تفهم شيئاً عن الحياة. تلميذات المدارس يتعلمن من المجلات الجنسية أكثر من كل ما تعرفه أنت وأكثر مما يتعلمن من كتب الدراسة.
ـ أنا لا أؤمن بهذا. كلما تعرفت على تلميذة وبدأت بمغازلتها وطرح بعض الكلمات العاطفية أمامها، أعطتني عنوان بيتها لأذهب إلى أهلها وأخطبها. إنهن لا يفكرن إلا بالزواج. أفّ لقد أصبحن مملاّت. يسقط عصر الذرة. لقد قتل كل الأشياء الجميلة وطمر الأحاسيس الرومانتيكية.
قلت بنزق:
ـ تضرب أنت ورومانتيكيتك. أنت تخلط دوماً بين التحرر والانحلال "عدنان" يعتقد أنني كلما صافحت امرأة أصبحت عشيقتي ما هذا؟ لقد أصبحت أفكاركما منحلة ومقرفة. دعونا من هذا.. أريد أن ننتهي ونغادر هذا المكان. جئنا نتفرج على الثلج، فوقعنا في ألف ورطة. دعونا نذهب ركبنا السيارة وعدنا إلى دمشق صامتين صمت الثلج الذي غطى أوساخ الأرض فهرع الناس إلى إلقاء أوساخهم عليه.
أوصلنا "عدنان" بالسيارة إلى البيت ثم تركنا.
حدقنا ببعضنا "أنور" وأنا ثم سألته:
ـ هل لديك فكرة عن عمل ما نقوم به بدلاً من اجترار الصمت الكريه؟
هز "أنور" رأسه بالنفي، فاستلقى كل منا عل سريره.... وبعد ساعة كنت أغط في نوم عميق.
لكني لم ألبث أن استيقظت مذعوراً بعد حلم مخيف. لست أدري كم الساعة نمت لكني لم أجد "أنور" في البيت، ولم أشعر به عندما خرج رغم الضجيج الذي يحدثه عادة كلما خرج من البيت.
بدلت ثيابي وخرجت أيضاً.
أحسست أن المدينة صامتة رغم ضجيج السيارات والآلات. في مثل هذا الوقت من المساء تستوي الأشياء كلها... ليس ثمة حدود. ملامح الناس تضيع مرة في سديم العتمة ومرة في الضوء المخلوق الذي يصفعها فتتلون بصفرة ميتة.
أحسست برغبة جامحة بأن أشرب حتى الانطفاء.
توجهت إلى زقاق متفرع من شارع "العابد"، وأخذت طاولة صغيرة في "بارفريدي" ثم طلبت كأساً من الويسكي رحت أرتشفه بهدوء وأنا أحس بالضجر القاتل. حاولت أن أتسلى بمراقبة الوجوه، لكن الوجوه كانت قميئة ومقرفة، وجوه سكارى فقدوا إحساسهم بكل شيء.
كانت في البار فتاة تتحدث الإنكليزية مع شاب أشقر يجلس معها، وتضع ساقاً فوق ساق كان حديثهما هاماً وناعماً كساقها البيضاء التي تفح أنوثة وتضج بالنداءات المحمومة التي تنزلق عليها رغبات العيون الملتاعة. كانت المرأة الوحيدة في البار وكنا أكثر من عشرة رجال.. الوجوه كلها بسبب الخمرة أو بسبب آخر، بشوشة من النشوة، عندما أراهم في نشوتهم العفوية هذه أحس أن العالم طفولة لا تنتهي وأن الحزن مرفأ مجهول في بحار لم يعرفها إنسان بعد.
طلبت كأساً ثالثة من الويسكي.
مشكلتي اللعينة أنني لا أثمل، ولم أفقد وعيي مرة، رغم أن علاقتي مع الخمر في الآونة الأخيرة أصبحت علاقة غير إنسانية.
مضت ساعة وأنا في البار فأحسست بالضجر.
خرجت ثم توجهت إلى شارع "بيروت". كان الظلام كثيفاً ثقيل الوطأة كأن النور لم يوجد أصلاً.
إن أحداً في العالم لا يعرف لماذا أتشرد هنا. من قال إن العالم يمور بالطفولة؟ قد يكون هذا صحيحاً، لكنها طفولة شريرة، تحمل فوق كاهلها منذ ولادتها معاناة مليئة بالذعر ليس التشرد مشكلتي فقط. إنني سندباد رقيق يباع في أسواق النخاسة وكل حكاياه وسفن رحيله ليست غير لوحات ملونة في أزقة مدينة الطاعون.
المشكلة تنبع أصلاً من أنني نصف حقيقة في عالم يؤمن بالأكاذيب.
وأنني أكذوبة كاملة في عالم لا يعرف شيئاً عن الحقيقة.
ما معنى هذا؟! أين أذهب الآن وقد عاد الضجر يفتك بي؟
العالم صغير جداً، وهذه المدينة نكتة كبيرة. قبل أن تعرفها تحسب أن لديها شيئاً تقدمه من أجل الإنسان أو خلاصه. وشيئاً فشيئاً تكتشف أنها خالية إلا من الأسرار والسراب والرموز. من الذي يبحث عن الرموز الآن والأشياء الواضحة نفسها مملة؟
تذكرت "أحمد"...
حتى الآن لم يكتب لنا، لم يقل كيف وصل القرية، وماذا شاهد، وكيف أصبح الناس وهل ما زالت شجرة التين واقفة كالقدر عند حافة البيدر؟ لماذا أسموها (تينة النذر) أكاد أحسد "أحمد"...
أحسده؟ لماذا لم أذهب معه إذن؟
أنا بطريقة ما، لا أعرف ماذا أريد. إذا ذهبت إلى القرية ماذا أفعل، وإذا بقيت هنا ماذا أربح؟
ماذا أفعل في هذه المدينة، والوظيفة، والجامعة، والبيت.؟ وجودي لم يعد مبرراً. أنا شخصياً لم أعد أقبله، حياتي لحظات عابرة ومنفصلة عن الزمن، زمن الآخرين، كان من الممكن أن أدرس العلوم في الجامعة، أو أتخصص في البيطرة، أو أصبح بائع فواكه! كان حبي "لبراءة" صدفة، فقد كان من المحتمل أن أتعلق بعاهرة تعرف كيف تسلب لبي بإغرائها وعطاءاتها الجنسية.
كل هذا لا معنى لـه ولا قيمة.. "وداعاً لما سوف تأتي به الأمكنة".
المشكلة أنني أقيم حياتي، وأدرس كل ظاهرة تحيط بي، وبعد ذلك أصاب بالدهشة لأن هذا كله يحدث لي وحدي، بينما الآخرون لا يدهشهم شيء ولا يستفزهم شيء. حياتهم مرسومة ومحضّرة، لا يعرفون كيف يفرحون في الفرح، ولا كيف يحزنون في ساعات القهر.
إذا ضحك أحدهم لسبب لا يعرفه يقول فجأة "اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم" وحين يبكي يقول "اللهم أعف عنا".
في القرية أيضاً إذا ضحك أحدهم دون سبب يقول "اللهم أعطنا خير هذا الضحك" وإذا بكى يندبون حوله ويرددون "استغفر الله العظيم".
ما الفرق بين هؤلاء المتمدنين، وبين البدائيين في قريتنا؟
أصبحت مصاباً بمرض مزمن. تجارتي مع هذه المدينة كاسدة، كانت الصفقة التي بعت عمري من أجلها خاسرة... في قريتي الغافية بين أحضان الصنوبر الحزين كنت أحب الأدب وأتحدث في الدين وروحانية الشرق.
وما زلت في المدينة المزوقة بالنور أحب الأدب، وأتحدث في الفلسفة، والجنس وأتهم روحانيات الشرق بألف تهمة لأنها تسحق الإنسان.
ارتطمت قدمي بعصا ملقى على الأرض فالتقطتها ورحت ألهو بها وأضرب الرصيف وأنا أبتعد عن المدينة شيئاً فشيئاً.
كنت أغوص في الظلام أكثر، مخلفاً ورائي الضوء والمدينة المخنوقة بالثرثرة، لم أكن أعرف أين أذهب. كنت أريد أن أتحرك وابتعد أكثر، لأحس بوحدتي، وأتلمس قبساً ما من خلال الصمت في الطبيعة التي تستمر ببساطة عجيبة.
عند أحد المنعطفات كان ثمة طريق ترابي وقفت عليه سيارة صغيرة وبداخلها رجل وامرأة كانا يضحكان بحبور عجيب، فقد هربا من المدينة وأضوائها ورقابة العيون فيها. إنسان هارب بطريقة ما ولسبب ما. إن أحداً لا يعرف وميض الأمل، أية حياة هذه؟.






الفصل الخامس والعشرون

وصلتني رسالة من القرية يقولون فيها، إن أخي بعد زواجه من ابنة عمي قد ساءت العلاقة بينه وبين أهلي كثيراً لأن زوجته قد فرضت سيطرتها عليه ودفعته لقطع كل علاقاته العائلية وأصبح والدي من جراء ذلك حانقاً عليه ويردد بين الفينة والأخرى أن رحيلي من القرية هو السبب المباشر الذي دفع إخوتي جميعاً للخروج عن طاعته.
شعرت بالاستياء من الرسالة فمزقتها.
كنت أعرف أن أخي وابنة عمي قد عاشا قصة حب بطريقة ما. لكنني لم أكن أتصور أنها تفعل ذلك ولم أكن أصدق بالتالي أن أخي قد يصبح تابعاً لها غير مهتم بكبريائه كرجل.
كيف يحدث أن تنقلب الأمور هكذا؟
عندما يتزوج الرجل في القرية، يقف ليلة العرس على سطح بيته ويضرب عروسه عند عبورها الباب بصحن مليء بالحلوى وقطع النقود. وقد حدث أكثر من مرة أن شجَّ الرجل رأس عروسه وأسال دمها. هذه عادة قديمة لتأكيد سيطرة الرجل على المرأة. قد تكون عادة سخيفة لكن الحقيقة أن الرجال في قريتنا "قوامون على النساء" فعلاً وهذه شجاعتهم الوحيدة.
في قريتنا تعمل المرأة طوال النهار في الأرض، ومع البهائم، ثم تعود في الليل لتتعرى في فراش زوجها وترضي غرائزه.
وفي المدينة تجلس المرأة طوال النهار في البيت تتجمل، وتعتني بطلاء وجهها وترتيب شعرها، حتى يجيء الليل وعندها... وتحت الأضواء الملونة، وفوق الأسرة الناعمة، من خلال انسياب الموسيقى، وكلمات الغزل الرقيقة، يهزها الشبق، وترتجف أوصالها جوعاً حتى تكلل بسمة الرضى شفتيها في
آخر الليل.
الحياة، على نحو ما، ليست عادلة ولا تسير بشكل صحيح.
كنت صريع هذه الأفكار عندما رن جرس الهاتف في مكتبي فجأة، رفعت السماعة:
ـ مرحباً. يبدو أنك نسيتنا؟
تذكرت صوت مدير الإدارة السابق وتذكرت أني أخلفت موعدي معه فقلت مرتبكاً:
ـ أرجو أن تعذرني. منذ أسبوع لم أغادر الفراش إلا اليوم، وكنت أود أن اتصل بك الآن هاتفياً لأعتذر.
لا أعرف إن كان قد صدق كذبي لكنه قال:
ـ لا بأس، الحمد لله على سلامتك. هل أنتظرك اليوم لنذهب سوية؟.
ـ سأكون عندك في الساعة السادسة تماماً.
كيف نسيت موعدي معه؟ إنني أعيش حياتي بشكل قطيعي بحت. إن شيئاً ما قد حدث في رأسي حتى أصبحت أيامي على هذه الدرجة من التفاهة والاضطراب.
انتهى وقت العمل فذهبت إلى البيت. كان "أنور" قد سبقني وأعد بعض الطعام فجلست آكل دون أن أقول شيئاً.
إن وجهك كريه وأنت صامت.
قلت باستياء:
ـ اسكت "أنور". وصلتني اليوم رسالة من القرية. الأحوال سيئة جداً بين أخي وأهلي.
ـ لماذا، ما الذي جرى؟
ـ لا أعرف الحقيقة، يقولون إن زوجته أقامت سداً منيعاً بينها وبين العائلة كلها وهي تعيش حياتها بشكل أكبر من واقع أخي حتى تراكمت الديون عليه ولا يجرؤ أن يقول شيئاً.
أجاب "أنور" بانفعال:
ـ كنت أنتظر هذا منذ تزوج من ابنة عمك. إن أخاك ليس رجلاً، وزوجته لا يمكن أن تكون إلا صورة عن أمها.
ـ وماذا تأخذ على أمها؟
ـ إن عمك متزوج منذ ثلاثين سنة من امرأة تركبه في رقبته، والنتيجة المنطقية أن تربي بناتها وتطبعهن بأخلاقها.
ـ لا أظن هذا صحيحاً. إن تفاهم عمي مع زوجته قد يكون دليل حب أو احترام متبادل لا دليل ضعف.
زعق "أنور":
ـ حب؟ إن كل إنسان في القرية يعرف أن زوجة عمك تستطيع أن تقفل الباب في وجه زوجها وتتركه ينام في الخارج دون أن يقول إلا كلمته الخالدة "آمنت بالله، ما هذه الليلة" تفوه...... رجال عائلتكم عالة على الرجال، إنهم يختلفون عن جميع الرجال في العالم... الواحد منكم يتزوج ويصبح طوال حياته عتالاً يسير وراء زوجته.
كنت أؤمن أن "أنور" يثرثر وأن ما يقوله ليس صحيحاً.
لقد كان والدي يضرب والدتي باستمرار كلما شعر بالضيق، أو كلما أراد أن ينبهنا إلى شيء وزوج عمتي جلد زوجته مرة بعد أن ربط يديها ورجليها بحبل متين لأنها تسببت بإتلاف محصول خمسة كيلو غرامات من الدخان.. وأن أحد أقرباء والدي ظل يضرب زوجته حتى أغمي عليها لأنها نسيت أن تطبخ لـه "مجدرة" كما طلب منها.
"أنور" كان يثرثر، إن عمي فقط بين الرجال العائلة كلها الذي يقول لزوجته بين فترة وأخرى "ماذا تريدين أن أفعل؟" والرجل في قريتنا تعود أن يقول لزوجته" سأكسر عظام ظهرك يا بنت الكلب".
كل هذا لا معنى لـه الآن ولا يجدي شيئاً.
"أنور" يحدق بي. لعله ينتظر أن أقول شيئاً. أنهيت طعامي، وغسلت يدي "ثم مضيت إلى السرير وتمددت عليه.
حمل "أنور" الصحون إلى المطبخ وعاد إلى سريره ثم اضطجع عليه وفتح الراديو.
كانت إحدى محطات الإذاعة العربية تقدم تعليقاً سياسياً وكان المذيع ينبر بصوته وهو يتحدث عن "الإمبريالية والصهيونية والتروستات التي تتحكم بمصائر العالم الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتدعم جبهة المعتدين الذين جعلوا من النابالم شريعة العصر".
أقفلت الراديو بعصبية فسألني "أنور" بدهشة،
ـ ما بك لماذا أقفلت الراديو؟
ـ هذه الفوقية بمخاطبة الجماهير لا أحبها. إن أحداً لا يعرف ماذا يقولون. الاستعمار دوماً ضمير غائب "هو". من هو؟ لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية؟ لماذا لا تتوجه الحكومات العربية إلى ا لجماهير توجهاً مباشراً. وجهاً لوجه؛ لقد حان الوقت كي تطرح الأشياء ببساطة وعفوية. دعنا "أنور" أشعر بالقرف.
عقب "أنور" بهدوء:
ـ أنا أؤيدك بذلك. لقد ضاع جيلنا في متاهات الكلمات. بعض القادة العرب لا يملكون اليوم إلا التلويح بأعلام خالد بن الوليد وطارق بن زياد، وهذا لا ينفع شيئاً البتة. المجتمع الذي نبنيه لا يقوم أساسه على الكلمات، هناك شيء آخر، يجب أن تطلق العقول كي تبدع، إن جميع سيوف العالم اليوم لا تقف أمام مدفع واحد، وكل خيول العرب الأصلية لا تجرؤ على الاقتراب من دبابة أو طائرة. نحن ما زلنا نعيش بعقلية سكان الخيام في الصحارى. تفوه.. تسقط كل حضارة تقوم على الكلام، يجب أن نسكت قرناً كاملاً ونتفرغ للعمل.
سكت "أنور" وسكت معه.
أحد أساتذة الجامعة قال لنا منذ أيام "أنتم جيل خائب" وعندما أجبته "إننا جيل الضحية" انطلق في محاضرة طويلة عن القومية والنضال، والثورة والثورة المضادة... حتى ضعت في عتمة الأشياء التي طرحها من شاطئ المتوسط حتى البحر الكاريبي.
عندما قلت "لأنور" هذا قهقه ضاحكاً وقال:
ـ لقد أصبح الزمان عاهراً والتاريخ قواداً.
عندما خرجنا من البيت اقترح "أنور" أن نذهب إلى السينما، لكنني اعتذرت لارتباطي بموعد هام.
تركته وذهبت إلى بيت السيد المدير في الموعد المحدد، فاستقبلني ببشاشة وبعد أن قدموا لي القهوة ركبنا سيارته وتوجهنا إلى بيت صديقه.
كان البيت بسيطاً لكنه أنيق وهادئ. استقبلتنا سيدة عليها مسحة من بقايا جمال قديم وقالت بلغة عربية ركيكة:
ـ أهلاًَ وسهلاً.
بدأنا نتبادل الحديث بشكل مرح ومقبول حتى حضر الزوج فصافحنا وجلس في زاوية الغرفة وانطلق يروي الأحاديث الطريفة والنكات اللاذعة التي أضحكتنا كثيراً.
بعد ساعة شعرت بالضجر فتطلعت إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار؟ لاحظت السيدة هذه الالتفاتة فعقبت فوراً:
ـ عفواً أستاذ. لقد حان موعد عودة "جانيت"، لن تتأخر كثيراً، ويجب أن تتعرف على تلميذتك.
أجبت ببعض كلمات المجاملة التي أدركت سخفها فوراً فسكت.
بعد ربع ساعة دخلت "جانيت".
ـ هاي مامي. أهلاً عمو.
صافحت والدها وقبلت أمها، ثم صافحتنا وجلست قرب والدها.
ـ تطلعت إليها بشكل جانبي. إنها تلميذة عجيبة حقاً، تضحك باستمرار، وتتحرك بلا سبب يدعو إلى ذلك، وتقوم بحركات مفتعلة وكلماتها لا معنى لها إطلاقاً.
قالت أمها:
ـ "جانيت"، هذا هو الأستاذ.
ـ هاي أستاذ.
أوشكت أن أضحك. هذه مخلوقة طريفة حقاً، تصلح مادة للتفرج والتسلية.
قال والدها بأدب:
ـ أرجو أن يجد الأستاذ راحته المطلقة هنا وأن يعتبر نفسه في بيته. أنا أشكر الأخ المدير لاهتمامه "بجانيت"، وأشكرك لأنك ـ ستتحمل بعض المشقة بتعليمها. المشكلة أستاذ أن لغتها العربية ضعيفة جداً، وعليها أن تتقدم إلى البكالوريا هذا العام.
قلت بشكل آلي لا عاطفة فيه:
ـ أرجو أن أتمكن من مساعدة الآنسة.
قالت "جانيت" ضاحكة.
ـ ميرسي أستاذ.
مرة أخرى أحسست برغبة عارمة في الضحك عندما قالت أمها:
ـ ما رأيك أستاذ أن تذهب مع "جانيت" إلى غرفتها وتتعرف على معلوماتها باللغة العربية؟
قبل أن أقول شيئاً نهضت "جانيت" ووقفت أمامي وقالت:
ـ تفضل أستاذ.
سرت وراءها إلى غرفتها حتى وصلناها.
كان سرير نومها غير مرتب، ومنامتها الحريرية الشفافة ملقاة بإهمال عليه، وطاولة الدراسة والمكتبة محشوة بالكتب الأجنبية.
ـ أعتذر، أستاذ، لهذه الفوضى. لو كنت أعرف أنك ستحضر اليوم لاعتنيت بترتيب الغرفة. غرفتي مهملة دائماً لأنني لا أسمح للخادمة أن تدخل إليها.
ـ لا تهتمي لذلك من أجلي، الفوضى شيء صميمي في حياتي. أين أجلس الآن؟
ـ في أي مكان تريده.
ـ لكني لا أرى غير كرسي واحد عليه أكداس من الكتبَ.
ـ تفضل هنا على السرير.
جلست على السرير بعد أن أخذت منامتها عنه. هذه الأسرة الطرية تعرف أحلام المراهقة ومعاناة الليل. الغرفة لا تحتاج إلا لضوء أحمر، وبعض العطر حتى تصبح أحلام الصبية شيئاً كالمتعة.
إن شيئاً رهيباً يفترس المراهقين في الليل.
ـ هل أعجبتك غرفتي أستاذ؟
التفت إليها بغتة وقد خفت أن تكون قرأت على وجهي شيئاً مما يدور في صدري:
ـ يمكنك أن تناديني باسمي مجرداً، فأنا لا أحب لقب الأستاذ كثيراً.
ـ كما تريد أستاذ.
حدقت بها ولم نلبث أن ضحكنا معاً ثم قالت:
ـ ما رأيك بمكتبتي؟
ـ جيدة. لمن تقرئين؟
ـ رامبو، بودلير، ديكنز، هوجو، سارتر، شكسبير...
ـ أكثرهم فرنسيون وكلاسيكيون.
ـ لا أعرف إلا الفرنسية.
ـ والعربية؟
ـ قليلاً. غير أني لا أثق بالأدباء العرب.
أحسست بانفعال مفاجئ:
ـ كيف تحكمين على الأدباء العرب وأنت، كما قلت، لا تقرئين لهم؟
ـ مجرد تخمين. قرأت مرة قصة عربية وأحسست أنها تافهة وتعالج موضوعاً رخيصاً.
الأدب العربي لم يصل بعد إلى مستوى إنساني والأدباء العرب تافهون.
أنت، آنسة "جانيت" لا تعرفين ما تقولين. إن تخمينك هذا يظل مؤرجحاً بين الشك واليقين حتى تدعمه الحقيقة. وليست لديك أية حقيقة إلا رأيك الشخصي.
أجابت بغرور:
ـ إن آرائي سليمة دائماً.
ـ أنت مجرد طفلة نزقة لا تعرف ما تقول.
جحظت عيناها وهتفت بانفعال:
ـ ما هذا أستاذ؟
ـ لقد طلبت إليك أن تتركي كلمة أستاذ هذه. أنت لا تعرفين كيف تحترمين الآخرين. إن المدارس الأجنبية التي تعلمت فيها حشت رأسك بالأكاذيب. الكتب التي قرأتها كانت نفاقاً لإبعادك عن أصالة التراب الذي تعيشين عليه.
قهقهت بانفعال ظاهر وأعلنت:
ـ هذه أطرف طريقة للتعارف بين اثنين. تصور أننا منذ الدقائق الأولى اكتشفنا أن خلافاتنا عميقة، ومع ذلك فسوف تكون أستاذي، أليس هذا طريفاً؟
ـ إنه مؤلم وليس طريفاً.
ـ لماذا؟
ـ لأنني لا أحب هذه المهمة، ولن أكون سعيداً بها إطلاقاً.
تغير لونها فجأة وبدأ الارتجاف يهز أوصالها. تطلعت إلى الأرض قليلاً ثم قالت بقحة غريبة:
ـ أنا لم أر إنساناً في حياتي مثلك. هل تحسب أني أتسول معلوماتك؟ إن أي أستاذ في هذه المدينة يتمنى أن يجلس إلى جانبي. أرجو أن تثق أن أحداً لم يأخذ رأيي بك أما وقد عرفتك على حقيقتك فأنا لا يسعدني أن تكون أستاذي.
أحسست براحة قصوى في أعماقي. لقد لمست الوتر المريض في صدرها. هذه واحدة من مدللات المدينة تحس بقزميتها أمامي فتخرج أظافرها دون أن تطالني.
قلت وأنا أضحك بحبور:
ـ لقد حللتني من وعد كان يطوقني بشكل كريه. مهما يكن أنا سعيد لمعرفتي بك.
صعقتها المفاجأة فسألت:
ـ لماذا؟
ـ أرجو ألا يضايقك ذلك، لكنني أصبحت واثقاً الآن أكثر من أي وقت مضى، أننا شعب مظلوم. إن مدارسكم أوكار للتجسس وتشويه التاريخ، تاريخنا نحن.
يا يسوع العظيم. بماذا تخرف أنت؟ تجسس؟ أنتم شعب عاق، نحن الذين علمناكم الحياة الحقة. ثقافتنا وحضارتنا أخرجتكم من خيامكم ومغاوركم". الضوء الذي تنعمون به نحن الذين خلقناه. السيارات التي تركبونها نحن اخترعناها. إن كلامك هذا دليل على أن كل ما قدمناه لكم لم ينفع شيئاً ولم نفلح بعد بإخراجكم من عباءاتكم.
في تلك اللحظة كنت أسمع هدير الدبابات وهي تزحف على أرضنا بعد "سايكس بيكو" وأسمع أصوات المدافع التي تدك بيوت الآمنين في عام 1945، كنت أسمع أنين الأرامل وهن يقفن أمام المشانق التي علقت الأحرار في أيار.
ما الذي قدموه لنا حقاً؟
أحسست أن شيئاً في أعماقي ينفجر فقلت:
ـ أنتم آنسة "جانيت لم تقدموا لنا أي شيء. لقد سرقتم أرضنا ولم تخرجوا منها، لكننا طردناكم. أية حضارة هذه التي نقلتموها لنا؟ وصلتم أرضنا أول مرة غزاة تحملون الرصاص لا الخبز. أقمتم السكك الحديدية في بلادنا لنقل المدافع لا الدواء. المدارس التي افتتحتموها كانت غايتها أن تعلمنا كيف ننحني أمامكم ونقول لكم بشكل مهذب "نعم". لقد أفسدوا عقلك لتفسدي عقول الآخرين. أية حضارة نقلتم لنا؟ الضوء الذي خلقتموه كان نتيجة لخوفكم من أن نقتلكم في الظلام، والطرق التي عبدتموها كانت مهمتها أن توصلكم إلى كنوز أرضنا. أنت آنسة، بكل بساطة، مخلوقة فاسدة العقل والتفكير ولم يشرفني أبداً التعرف بك.
خرجت من باب الغرفة وتوجهت إلى حيث يجلس أهلها وودعتهم بطريقة جافة ثم تركتهم جاحظي العيون وخرجت من البيت كله.
أحسست أن شعبي كان يهان في ذلك البيت، وأن تاريخي كان يشوه والموجودين حفنة من الأقزام الذين يحاولون نهش أقدام هذا الشعب.
من يجرؤ أن يقول شيئاً؟ سيتهمونه بالطبقية أو الطائفية أو العزلة الحضارية. ما هذا! إن شيئاً في داخلي يلتهب. شعرت بالندم لأنني لم أصفع تلك التلميذة اللعبة.
أحد الشرفاء العرب في الجزائر صفع السفير الفرنسي مرة ليرد الإهانة عن شعبه فجاءت الأساطيل الحضارية وجثمت فوق الأرض العربية أكثر من مائة وعشرين عاماً تنكل بالناس وتسرق الأرض وتشوه التاريخ. لو أنني صفعت هذه الدمية اليوم لكنت جزائرياً آخر يرفض كل العقوبات التي أرسوها على شاطئ هذا الشعب. لماذا لم أصفعها؟
في داخلي شيء يحترق. أصبحت، وأنا أدق أقدامي الموهنة على إسفلت الطريق، مخلوقاً بدائياً في داخله تمور أفكار شريرة وتنزّ من أنيابه شهوة الدم.
لماذا لم أصفعها؟
قال لي والدي مرة "....عندما لا تستطيع التفاهم مع امرأة، عليك أن تستعمل يدك. الملعونات لا يشعرن بالمتعة إلا إذا حملت العصا أو رفعت يدك أكثر من صوتك، عندها يسجدن احتراماً لرجولتك..."
ـ في يوم ما كنت أعتقد أن والدي مخلوق سخيف. هذا لا يصح أبداً والدي ليس سخيفاً والأشياء التي يؤمن بها على عفويتها لها جذور عميقة في تربة الإنسان.
ـ والدي لم يكن سخيفاً أبداً. كان يستطيع بسهولة أن يهتدي إلى الفضائل الصغيرة المحزنة التي تدل على أن الإنسان شرير وحيوان ووغد. وإذا رسم صورة للحياة ولو بشيء من القسوة، فسرعان ما تثير لوحته في أعماق الإنسان خجلاً انتقامياً ورغبة شديدة للهرب من الحياة.
ـ بت أؤمن أن والدي جدير بالإجلال. إنه جزء من التاريخ.
بعد عدة أيام اتصلت بالمدير هاتفياً وأبلغته اعتذاري عن تدريس تلك الدمية ولم أنتظر لأسمع منه أي سؤال.. فقد وضعت السماعة.. وشعرت بكثير من الارتياح.

الفصل السادس والعشرون

أخيراً وصلت رسالة من "أحمد".
ـ فتحتها بأصابع مرتجفة ورحت أقرأ سطورها الهادئة:
ـ "أيها العزيزان البعيدان"
مضت أشهر قاسية دون أن أكتب إليكما، وقد امتصت هذه الأشهر الكثير من شجاعتي. وليس تقصيري بالكتابة إليكما ناجم عن الكسل، إنما بسبب المشاكل اليومية من جهة والرغبة العارمة بأن أنسى كل أيامي في دمشق من جهة ثانية بعد أن أوشكت على التراجع كلما ذكرتها.
ـ أقول هذا بعد أن اتخذت قراري النهائي بألا أعود إليها أبداً. لن أعود إلى الجامعة أيضاً لأنها لم تعد تعني شيئاً بالنسبة لي، ولن أفتش عن أية وظيفة طالما أنني أملك شبراً من الأرض أستطيع العمل فيه.
أنا سعيد جداً اليوم، لا تستغربا. السعادة ليست وهماً إنها إحساس حقيقي فعلاً وعمري ما شعرت بالغبطة التي أحسها اليوم. أستيقظ كل صباح مع الشروق وأسرح في كل مكان كنت أعرفه من قبل، الغابة القريبة من القرية اكتشفتها لأول مرة، إن فيها أزهاراً رائعة، لها ألوان لا أعرف كيف أصفها، النهر الصغير أسمع خريره بعذوبة لم آلفها من قبل، إن الشمس تنعكس على صفحة هذا النهر بشكل أخّاذ. الناس البسطاء في القرية يمثلون قمة ما أحلم به من صفاء.
ـ كيف لم أكتشف هذا من قبل؟
ـ أعتقد إن فكرة النزوح إلى المدينة كانت تسلب عقلي فلم أكن أقبل أية فكرة بعيدة عن أرصفة المدينة وإسفلت شوارعها الأسود.
تركت الحشائش الندية إلى أرض اليباس. خلفّت مساقط المياه إلى متاهات السراب. هاجرت من الشواطئ إلى صحارى الجذب. أقول هذا بثقة لأنني أستعيد نفسي وأستعيد قدرتي على تقييم الأشياء. أنا لم أخلق من أجل الحياة التي تعيشونها، وأرجو أيها العزيزان أن تثقا أنني لا أحاول أن أحرض أحدكما ضد نفسه، لقد اختلفت دروبنا وأختار كل منا طريقه. النتيجة برأيي ليست مهمة، المهم أن نكون سعداء بطريقة أو أخرى.
منذ شهرين بدأت أعرق وبدأ كفي يتشقق من العمل، صرت أشم رائحة التراب الحقة، إنني أعمل في الأرض التي يملكها والدي، ولقد أعددتها هذا العام إعداداً ممتازاً لموسم الخضرة والدخان، وأرجو أن يكون محصولي منها وافراً.
لم أعد أحس الانسحاق الذي كنت أحسه في دمشق. أصبحت حياتي بسيطة وتطلعاتي عفوية أعمل في النهار في أرضي، وأعود مساء إلى بيتي تشاركني هذه الحياة زوجتي. لقد تزوجت من "فاطمة" ابنة الشيخ "صالح" وأنتما تعرفانها جيداً، عفوية وجميلة، لا تفهم الفلسفة ولا تجيد القراءة ولا تتساءل لماذا تظل السماء زرقاء، تكرس حياتها لإرضائي والدعاء لي.
أمر كل يوم بالقرب من شجرة التين على البيدر، أتطلع إليها وأتذكر أيامنا في ظلها لقد كبرت شجرة التين واخضرت عروقها أكثر بعد أن أمضيت يوماً بقصها وتشذيبها، كيف لم أفعل هذا من قبل؟ كيف لم أكرم هذا المخلوق الحارس على بيدر قريتنا منذ قرن تقريباً؟
موسم القمح هذا العام بسبب الأمطار المعتدلة رائع والناس هنا متفائلون بموسم القطن والدخان أيضاً. أكثر شباب القرية يستعدون للزواج بعد أن عاد الخصب إلى الأرض.
ـ الصبايا يمرحن في القرية وعلى طريق العين بثياب ملونة أحلى من ألف مهرجان للضوء. أصوات الغنم والماعز والديكة صباحاً شيء لا تستطيع أن تفهمه إلا إذا عشت في أجوائه العالم ليس مظلماً كما خيل إليّ يوماً، والقرية ليست هذا المكان القذر والعقيم. الجريمة التي كنا نرتكبها أننا كنا نقيّم القرية من خلال معرفتنا السطحية للمدينة. هذا خطأ فادح أيها العزيزان، القرية قرية والمدينة مدينة، كل مكان لـه خصائصه وناسه. إنسان القرية الذي عاش تحت الشمس وأسند رأسه إلى الصخر وفتح صدره دائماً للريح والغبار، لا يمكن أن يعيش في دوامة الضوء المخلوق والمدينة المعبأة بالنفس المضغوط والنفاق.
أطلت عليكما ولا أعرف السبب رغم أني كنت أحس الضجر عندما بدأت الكتابة، الضجر من الكتابة لا من الحياة أرجو أن أسمع أخباركما دائماً وأن تكتبا لي. وأرجو أن تثقا أنني سعيد في حياتي الجديدة. لقد تخليت عن الأحلام التي كنت أظنها كبيرة، إن أصحاب الأماني الكبيرة لا يجدون مكاناً يناسبهم في هذا العالم. أنا أثق أننا سنلتقي مرة أخرى، هنا في القرية التي يشرق عليها كل يوم صباح جديد، وتودع مع كل غروب يوماً عتيقاً.
لكما تحياتي وأشواقي
«بإخلاص أحمد»
عندما أنهيت قراءة الرسالة أحسست بشيء يشبه طعم الملح يتسرب بين شفتي. كنت أبكي وكانت أعذب دموع عرفها وجهي المتعب.
نظرت إلى "أنور" الذي استمع إلى الرسالة وأنا أقرؤها بصوت عال. كان وجهه أصفر بلون الموت وعيناه لا تستقران على مكان واحد، كأنه يحتضر ويحاول أن يقول شيئاً فلا يجد الكلمات التي ترصد هذه اللحظات الرهيبة.
حملت كرسياً ووضعته قرب النافذة وحدقت إلى لا شيء.
من قال إننا لا نستطيع الاختيار؟
لقد أصبح "أحمد" الآن شيئاً ثابتاً وسط عالم يغلي بالحركة، أليس هذه اختياراً؟
لقد اختار العمل في الأرض والغبار، والانطواء وراء جبال تعزلها الأساطير والحضارة وترك الجامعة لإيمانه بعقم العلم في عصر تفككت فيه العلاقات الإنسانية، وهذا أعظم عمل تراجيدي قام به في حياته. وقد توج هذا العمل بزواجه من إنسانة لا تنتمي إلى جيله متخطياً لحظات التشنج والأنين التي كنا نظن أنها تدمره يوم كان في الجامعة.
أنا هنا أصاب بالدهشة لأن الآخرين لا يدهشهم شيء. "وأحمد" يفتح فمه كل يوم ألف مرة مدهوشاً لأنه يرى الشمس لأول مرة تلمع على صفحة النهر، ولأنه اكتشف في الغابة أزهاراً برية لم تستطع كل عبقرية العلم أن تصنع أزهاراً لها رائحتها العبقة.
لقد تخلى "أحمد" عن العلم في الجامعة. هل صحيح أنني هنا من أجل العلم؟ هذا إفك رخيص. كانت سفني تبحر نحو الهلاك فقررت الخلاص بالاتجاه نحو شواطئ ظننت الأمان فيها، وليس ثمة أمان هنا. كنت في القرية أحضّ الناس على التعلم وأحاول أن أفتح أذهانهم كي يطلقوا طاقاتهم المحبوسة، وأنا أدرك الآن أنني كنت أمنع عنهم الحرية، لأنني لم أتركهم سعداء في عتمتهم. لماذا لا نترك الآخرين سعداء حتى في جهلهم؟ لماذا؟
تطلعت إلى "أنور". كان يدخن بشراهة عجيبة ووجهه ما زال أصفر وعيناه لا تستقران على شيء معين.
خطر ببالي فجأة أننا، أنا وهو، مخلوقان بائسان نستحق الشفقة حقاً، وأن كثيراً من البلادة تتراكم حول مشاعرنا، جاء وقت ظننا فيه أننا بسطاء وأبرياء نسكب الفجر على جبين الأرض فيورق العالم كنوزاً أدركت الآن بكثير من القسوة أن هذا لا معنى لـه أيضاً.
اغتصبت بسمة بلهاء من صدري المنقبض وأعلنت بعدها:
ـ وهكذا ترى.
تساءل بقلق.
ـ ماذا؟
ـ الأرض يرثها الضعفاء!
حدق بي قليلاً ونفض رماد سيجارته ونخر من أنفه ثم قال بهدوء كأنه استعاد سيطرته على أعصابه
ـ أجل! الضعفاء يرثون الأرض، ولكن بعد أن يملّها الأقوياء.
ـ هذا ليس صحيحاً. أنت الآن تشفق على نفسك وتدرك أنك تواجه موقفاً حاداً مثلي تماماً. لقد علمنا "أحمد" درساً قاسياً دون أن يدري.
ـ الشفقة الآن عاطفة غير مضمونة العواقب.
ـ ماذا تعني؟
ـ أعني أن البساطة ليست كل شيء، وليست غاية مقبولة لدى إنسان يؤمن بكرامته. "أحمد" يقبل أن يعمل برميلاً تحت مزاريب الشتاء، يحتوي في أعماقه كل القذارات، وأنا أريد أن أجعل من الحياة حماراً أركبه. هذا هو الفرق، إن فهمه يخترق الواقع بصعوبة ويلمس صغائر الحياة لمساً رقيقاً.
ـ هل تظن أن هذا يوصل إلى شيء؟ نحن لا نملك إلا حياة واحدة نعيشها، ما قيمة الوسائل؟ النتائج هي المهمة. لقد أكد "أحمد" دون أن يحاول ذلك أن السعادة ليست وهماً. الذين نسميهم بسطاء أمثاله يقدمون ألف دليل كل يوم أن كل فلسفات العالم مجرد عبث رخيص بأعصاب الإنسان. إن ما نقوم به نحن وسيلة للوصول إلى النتيجة التي وصل إليها هو دون أن يعقّد حياته ويفتك بروحه كما نفعل نحن.
ـ هل تقترح أن نحزم حقائبنا ونعود إلى القرية لننضم إلى قافلة السعداء التي يشكلها؟
ـ أنا لا أقترح شيئاً، أنا أتحدث عنا. نحن كباقي البشر نحلم كثيراً، مرة تصدق أحلامنا ومرة تخيب، لكن هذه الخيبة لا تعلمنا شيئاً. إن بقاءنا في دمشق لم يعد مجدياً ولا مبرراً، لكن المشكلة أننا لم نعد نستطيع التحرر من أطواق دمشق الذهبية. هذه فجيعة جديدة لم تكن تخطر ببالك. "أحمد" كان شجاعاً، هذا كل ما في الأمر. الشجاعة هي التي تنقصنا.
قرر "أنور" بعصبية:
ـ كل إنسان شجاع بطريقة أو أخرى إذا أتيحت لـه الفرصة.
ـ الشجاعة تعصب. وكل إنسان متعصب بطريقة أو بأخرى. علينا أن نحزم أمرنا في النهاية. يجب أن نتعصّب لشيء ما وننحاز إليه.
نحن متعصبون لقريتنا ولبراءة الإنسان فيها ونوجه اللوم والسباب إلى كل إنسان هنا لأنه ليس صافياً كسكان قريتنا. ومع ذلك فنحن لا نطيق الارتداد إليها.
ونحن متعصبون لدمشق أيضاً ولا نستطيع التحرر من أطواقها، هذا تشتت فكري مفجع قل لي بعد هذه التناقضات، ما نحن وماذا نريد؟ وكيف نجد الجرأة أخيراً على تقييم "أحمد" وتحديد حياته بأطر جاهزة سلفاً ونحن لم نصل إلى أدنى مراتب الشجاعة لديه؟
سكت "أنور" ريثما أشعل لفافة جديدة. كان وجهه ما يزال أصفر. لقد سرت كلمات "أحمد" في دمه كالسم, حقنت شرايينه بحقد لا وجه لـه. انتظرت أن يقول شيئاً منطقياً بعد هذا الصمت الدبق، لكنه فاجأني بكلمات باردة:
ـ أنا لا أقر "أحمد" على موقفه هذا. يريد أن يجعل من وجوده الطبيعي ظاهرة لا يستغني الناس عنها، إنه يعطي ما يعطي للحياة والناس طمعاً بالثمن.
ـ لقد أصبحت القيم البشرية بفضل مفاهيمك البهلوانية أكثر اختلاطاً من ألوان هذه المدينة الضوئية. ما هذا "أنور"؟ إنسان اختار الحياة التي يريدها فتحكم عليه بالأنانية؟
ـ أنا لا أفهم لماذا تدافع عنه بهذا الشكل الحار، أنا معك أنه عاش حياته وسيستمر أيضاً متنسكاً وورعاً. إنه قديس من نوع جديد, لكنه قديس يطلب ضحايا وقرابين.
حدقت في وجه "أنور" مذهولاً. إن رسالة "أحمد" أخرجته عن حدود العقل وبدأ يهذي يريد أن يقول شيئاً ما كي يبرر مواقفه المنهارة، يريد أن يشدد من عزيمته وعزيمتي أيضاً.
ـ أنت تخرف "أنور". تخرف هذا كل ما في الأمر. تريد أن تتحايل على الواقع. لأنك ترفض أن تصدق أن إنساناً استطاع أن يهتدي إلى أشيائه بنفسه إن الذي يهزك في الأمر هو أنه صدر عن "أحمد" هذا الذي كنت تنعته في مطلع كل شمس بالبلاهة.
لا تقل إني لست سليم العقل. دعك من هذا. أنا أعرف ماذا أقول وأعرف كيف تفكر أنت.
أحنى "أنور" رقبته وفكر قليلاً ثم أعلن متفلسفاً.
ـ عندما نفكر لماذا يموت الإنسان وكيف يموت ماذا يحدث لنا نحن الأحياء؟ لا شك أن حياتنا سترتمي في تيارات من التشنج والسوداوية والقلق. وعندما نفكر لماذا يعيش الإنسان وكيف يعيش نضحك ملء أشداقنا. أنت لا تفهم ما أعني، لا يهم. المهم أنني سعيد، هكذا أفكر أحياناً، لأنني لم أخلق حماراً أو بغلاً، لا تعجب أنا أعبد "زوربا"، الحمير والبغال تعيش لتأكل. تعمل طوال النهار، وفي آخره يقودونها إلى الإسطبل، ثم بعض العلف والشعير و.. هش، ثم ترقد آمنة! أجل أنا وزوربا المخلوقان الوحيدان في العالم السعيدان لأننا لم نخلق حميراً.
نهض عن كرسيه فجأة ودار في أرجاء الغرفة قلقاً ثم أعلن بانفعال:
ـ كل هذا عبث. العالم يسير وفق طريقتك أو طريقة "أحمد" أو طرق الآخرين. أنا لي أيضاً طريقتي. العالم سيسير بمشيئتنا أو رغم أنوفنا. تفوه.. دعني لقد مللت.
حاول الخروج لكنني أمسكت به وقلت لـه:
ـ اجلس "أنور". إننا لن نحل مشاكلنا بالهرب منها. نحن نبحث عن الحقيقة، وليس ثمة حقيقة مجردة. تلك هي المشكلة. لقد وجد "أحمد" طريقه، هذه حقيقة يجب أن نتعود عليها، لقد كان نبيلاً ومعزولاً بطبعه. إن النبل معناه اليأس من الآخرين.
ـ النبل يأس، والحب يسير في طريق مسدودة، والجنس يوصل إلى القرف، والعلم لا مستقبل لـه. ما فائدة هذه الثرثرة، ما الفرق أن نعيش هنا أو في القرية إذن؟
ـ أنا لم أقل إننا يجب أن نعود إلى القرية، أنا أصر على تحديد موقف ما.
ـ لماذا، ما الفائدة؟
ـ هذا سؤال غبي.
ـ المجتمع هو الغبي وليس السؤال. ما الذي تنتظره من هذا المجتمع الذي يعيش ضد العلم ويستمر ضد المنطق والتفكير السليم.؟ إن "أحمد" لم يفعل شيئاً، وأنت لن تفعل شيئاً، وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً. نحن في عصر السرعة، أليس كذلك؟ العالم يركض من أجل الوصول إلى الكواكب الأخرى، وكل بيت تدخله في هذه المدينة تصفع وجهك لافتة كتب عليها "العجلة من الشيطان" ما هذا؟ ماذا نستطيع أن نفعل؟ دعني.. أنا ذاهب لأسكر.
خرج "أنور" وبقيت وحدي.
أخذت رسالة "أحمد" وقرأتها ثانية وثالثة..." إنسان القرية الذي عاش تحت الشمس وأسند رأسه إلى الصخر، وفتح صدره دوماً للريح والغبار لا يمكن أن يعيش في دوامة الضوء المخلوق والمدينة المعبأة بالنفس المضغوط والنفاق......"
من الممكن أن يكون "أحمد" أكثر ذكاء منا.
ومن الممكن أن يكون أقل ذكاء، لكنه على أية حال ليس مثلنا.
لقد ارتاح من عناء البحث، وهذا كل ما في الأمر، فما الذي نبحث عنه نحن في هذه الزوايا؟
السعادة ليست وهماً، كيف وأين؟
أن أتزوج من "فاطمة" أخرى تفنى من أجل خدمتي والدعاء لي؟ ومن يهتم بالدعاء؟
أن أترك الجامعة وأشد الرحال إلى القرية أسند رأسي إلى الصخر، وأفتح صدري للرياح وأتفرج على أزهار الغابة؟
أن أعترف أن "عفاف" ليست نهاية صحيحة وأن "براءة" ليست موقفاً؟
أن أفقد إيماني بحتمية الحياة في المدينة بعد أن أصبحت العلاقات الإنسانية فيها متداخلة كالأسيقة فيها؟ هذا ليس حلاً.
أنا في أعماقي لا أبحث أصلاً عن الاستقرار. الاستقرار تكثيف أبله لكل عنفوان أحس به.. لم تعد البراءة هي الشيء الذي يستهويني. صدري صار مقبرة للطهر طالما أن العفة آخر عملة تتداولها المدينة. إن الأرض التي أدوسها بحذائي مغطاة بالقذارة، هذه ليست أرضاً بكراً، وأنا لا أستطيع أن أعيد إليها بكارتها. مازلت طفلاً في قيمي وتطلعي.
الناس هنا كصخور أزلية مكدسة منذ أيام التاريخ الأولى تئن من ثقب ما في صميمها. ما العمل الآن وهذه الوحدة تفتك بي؟
الوحدة في هذه المدينة جرعة خمر مسكرة، تقلب الأفكار الطفولية البريئة إلى كابوس مرهق يشعر الإنسان معه أنه مدان بتهمة لا يعرفها.
تطلعت إلى أشياء البيت التي أعانقها من دون حب، والتي أنظر من خلالها نظرة غائرة موحشة إلى قعر العالم ثم أنفعل، أصمت دهراً ثم أنفجر دون سبب حقيقي.
لماذا يحدث هذا لي؟
العلاقات الإنسانية لم تعد تعنيني. لم أستطع أن أكسب صديقاً، ولم أستطع أن أشد "براءة" إليّ، عندما كنت بحاجة إليها لتقف إلى جانبي كانت تتكئ إلى قيودها، والعالم من حولها ضجة فاجرة، ظلت صامتة كالقدر وقلبي وحده كان يخفق مع إيقاع ذلك الصمت الرتيب، ولم يستطع أحدنا أن ينجو من الهواء المسمم المحيط بنا. أنفاس الناس سممت الهواء.
في القرية لم تكن ثمة نظافة غير نظافة الهواء القادم عن صفحة النهر المنساب بعذوبة الأبد والهواء هنا أصبح شيئاً آخر لا يمت إلى الهواء بصلة.
مرة يأتي حاراً من الصحارى الموحشة فيخنقني، ومرة يأتي من فوق الأرض المغروسة بالحراب والنابالم فيحمل إليّ نكهة الدم ولحم الأطفال المحروق. ومرة يأتي من صوب البحر حيث البراءة هناك طفل يتيم.
البحر؟ لقد أحببت البحر دائماً، البحر متاهة كالعدم والعدم لا يعطي شيئاً أبداً.
إن هذا يثيرني كما تثيرني هذه المدينة المشقوقة الصميم بنهر يجف عاماً بعد عام.
كل شيء أصبح يثيرني. الناس درسوا فلسفة اللؤم قبل أي شيء آخر. وحدي بقيت بسيطاً بساطة وصلت حد الغباء، ولم أعد ألمس إلا العقبات تقف في وجهي، صحيح إنني بسيط وتشرق عليّ الحقيقة مباشرة، لكن هذه الحقيقة لا تعني شيئاً ولا تقدم أي حل. لماذا أبحث عن الحلول؟
"أنور" ذهب ليسكر، لماذا لا أتبعه أنا، ماذا أستطيع أن أفعل غير هذا؟
هذه المدينة شنقت حريتي.
ولا يجوز أبداً أن تلغى شخصية إنسان ثم تشنق حريته فوق رأسه ويقولون لـه: عش! كيف يعيش؟

الفصل السابع والعشرون

بعض الناس يولدون في الظل وبعضهم الآخر يموت في الظل، وفي كلا الحالين لا تكون الحياة عادلة هنالك من يولد في صباح مكدس بالفرح وأكوام الذهب، وهناك من يولد في صباح القيظ وتعب الحصاد وهذا ليس عدلاً أيضاً.
أنا وحدي لا أعرف أين ولدت. لم أولد في الظل ولم أعرف الشمس أبداً. لم أر أكداس الذهب أبداً ولم أشعر بتعب الحصاد.
أنا إنسان بلا هوية، ليس لي جذور في الماضي، وجميع تطلعاتي للمستقبل لا تساوي شيئاً في هذا الواقع الوغد الذي جعل الرموز آلهة معبودة.
أصبحت حياتي في الآونة الأخيرة مثل إخطبوط لـه ألف ساق.
أحببت "براءة" بطريقة لم أعرف أبداً كيف أعبر عنها.
ومنحتني "فائزة" جسداً سلب عقلي ومتعة لم أكن أحلم بأروع منها أيام الحرمان والجدب النفسي.
تغلغلت "عفاف" تحت جلدي، كانت الأكاذيب تتدفق على لسانها كلما اجتمعنا كأنها أشرف المعاني. تكذب في أبسط الأشياء، وتحدثني عن قصص غريبة حدثت لها، وعن رجال قابلتهم لا يمكن أن يصدقها عاقل، وكان هذا يعجبني كثيراً لأنه يسليني ويبعد الضجر عني والضجر مأساتي المزمنة.
توطدت علاقتي مع "ياسر" من خلال الشعر، كان يقرأ أجمل قصائده وأنا غارق في الضحك، أدخن وألهو وأفكر بالجنس وبكل شيء يبعدني عما يثرثر به.
أصبحت علاقتي مع "عدنان" علاقة عجيبة لا تكافؤ فيها، لكنها كانت تسليني أيضاً وتتيح لي فرصة من ذهب لألمس حقيقة رائعة وهي أن في أعماق كل إنسان مستنقع راكد وكنت أملك القدرة على تحريك هذا المستنقع وإثارة الزوابع فيه.
"أنور" هو المخلوق الوحيد الذي كان يشدني إلى الحياة برباط غريب. الوحيد الذي كان يذكرني بالماضي، والطهر الذي ذبحناه على ساقي هذه المدينة الفاجرة.
كان نقاشنا المستمر في البيت يتيح لكل منا كثيراً من فترات الصحو الذهني، نستعيد أنفسنا، ونرتد إلى مواقع فقدناها ونقرر بعد كل نقاش أن ننظف حياتنا من جديد وإذا كنا لا نستطيع الغفران لأنفسنا ما نفعله فسوف نحاول النسيان.
النسيان؟؟
ـ نسيان أي شيء "أنور"؟ ألا ترى أن زمام الأمور قد أفلت من أيدينا، هذا زمان الرق، لقد اشترتنا هذه المدينة ولن تعتقنا حتى نموت. نحن بحاجة إلى معجزة لكن زمن المعجزات انتهى.
رفع "أنور"ساقيه ووضعهما على الطاولة وراح يهز الكرسي إلى الأمام والخلف ثم مسح وجهه بيده ونكش أذنه وأعلن وهو يرفع يده:
ـ أترى هذه اليد؟ لن أمدها بعد اليوم إلا لأداعب بها جسد امرأة، أو لأقبض راتبي، أو لأضرب إنساناً يحدق بي بطريقة لا تعجبني. هذا العالم الذي حاولنا إصلاحه هزمنا، ماذا تريدني أن أفعل؟
ـ أنت تسكب على هزيمتنا يأساً جديداً. أنا لم أفقد الأمل بعد، هناك دائماً طريق توصل إلى الأمان.
ـ من قال لك إني أبحث عن الأمان. لقد أعلنت الحرب على هذا العالم إما أن أعيش أو يصرعني.
ـ ستموت على سفوح العالم كالجيفة وستدفن في مكان ناء لا تعرفه إلا الغربان.
ـ لقد أصبحت تتحدث مثلهم. من قال لك إني مهتم للمكان الذي سأدفن فيه؟ هؤلاء الحمقى الذين يتلمظون بالكلمات الكبيرة يجب أن يعيشوا في الجحيم الذي عشناه ليعرفوا معنى الله والشيطان. من يهتم بهم. أنا شخصياً أحس نحوهم بتفوق كبير، التطلع اللئيم وجد أصلاً من أجلنا، إنهم يدرسوننا كظواهر شاذة. نحن في الربع الأخير من القرن العشرين ومع ذلك فهم ينظرون إلينا كأننا نخرج من الغابة لأول مرة.
لقد تفتح ذهن "أنور" بشكل وقاد وانقلبت لا مبالاته إلى فكر واعٍ قلت لـه بقلق:
ـ أنت "أنور" كالقمر تشع بالنور. لكنه نور مسروق يشع واهناً ولا يدفىء أحداً. قم بنا نتسكع.
خرجنا إلى شوارع المدينة المعبأة بالضجيج والقامات البشرية والسيارات التي تزعق وهي تزحف على إسفلت الشوارع الأسود.
اقترحت أن نذهب إلى السينما فوافق "أنور" على ذلك.
دخلنا السينما، وتركت "أنور" خلال فترة الاستراحة، وذهبت إلى المقصف لاحتساء فنجان من القهوة وتدخين سيجارة. عندما جلست كانت أمامي فتاة تحدق بي بإلحاح، بدأت أفكر. هذا الوجه ليس غريباً عني، لابد أني رأيتها في مكان ما، إنها....
نهضت من مكاني واقتربت منها:
ـ أنت مها، أليس كذلك؟
هزت رأسها وهي تبتسم. فقلت:
ـ هل تسمحين لي بالجلوس معك؟
ـ تفضل بكل سرور.
جلست وطلبت من الخادم أن يحضر لي فنجان القهوة ثم سألتها:
ـ مضى زمان طويل على لقائنا الأول والأخير؟
ـ عام ونصف تقريباً. أتذكر؟
ـ ما أكثر ما يمر الزمن بسرعة، كأنها بالأمس. عام ونصف فقط، لكني أحس أني كبرت مائة عام.
ـ كلنا نكبر. هذا قدرنا ولكن دعنا من هذا وحدثني عن نفسك، أما زلت عصبياً تثور لأن الآخرين يقولون إنك فلاح؟
ـ لقد مللت ذلك حقاً "مها". حاولوا أن يجعلوني أخجل من ذلك، يحاولون النيل مني. من منبع الكبرياء عندي.
في تلك اللحظة رن الجرس إيذاناً بابتداء الفيلم، حدقنا ببعضنا قليلاً،
ثم أعلنت:
ـ إن الفيلم أصلاً لا يعجبني، ولا يهمني حضوره.
أحنت رأسها ووافقت:
ـ وأنا أيضاً، لا يهمني أن أحضر الفيلم، لقد جئت أقتل ساعتين من وقتي ويسعدني أن أقضيهما معك.
قدمت لها سيجارة فقبلتها شاكرة وعلقت:
ـ مازلت تدخن نفس الدخان.
ـ أما زلت تذكرين؟
ـ أذكر كل شيء. كان لقاؤنا الوحيد من أكثر اللقاءات العاصفة في حياتي، خلال ساعات قليلة غيرّتني دون أن تدري، وأنا مدينة لك بالكثير، من يومها استعدت ثقتي بنفسي.
ضحكت بقلق وقلت:
ـ أقسم أني لا أعرف عن أي شيء تتحدثين، أعتقد أن هذه مجاملة منك.
ـ قبل أن ألتقي بك كنت أخجل أن أقول إني فلاحة، ومنذ ذلك اليوم اختلف الأمر.
ـ المشكلة أصبحت كما يلي: استعدت أنت ثقتك، وأصبحت أنا أخجل أن أقول إني فلاح.
ـ لماذا؟
ـ لقد عقدتني هذه المدينة، لم أعد أثق بنفسي.
ـ لم أعد أستغرب شيئاً. الحياة كلها تبدلت، من يستطيع أن يكون بطلاً ويعيد الأشياء إلى أصالتها؟ لا أحد.
لاحظت في إصبعها خاتماً ذهبياً فسألتها:
ـ مخطوبة؟
ابتسمت ابتسامة صفراء وأعلنت:
ـ سأتزوج بعد أسبوع من إنسان لا أعرفه ولم أره بعد، تصور؟
ضحكت بجذل مفاجئ فقالت معلقة:
ـ لا تستغرب. هذه الأِشياء مازالت تحدث في عالمنا. الأبنية الجميلة والألوان البراقة قشور الحضارة والتمدن فقط، نحن نسكن الأبنية الجميلة لكن عقولنا ما زالت في بدائية الخيام.
ـ طالما أنك تعين الأمور بهذا الشكل، لماذا لا ترفضين؟
ـ عندما رفضت في البداية ظللت ثلاثة أشهر عرضة للضرب والإهانات من والدي، ماذا تريدني أن أفعل؟ فكرت أن أهرب ولكن أين أذهب ؟ لا أحب أن أنتهي على أرصفة المدينة، وليست لي أية قضية عاطفية فقبلت الزواج، إنه أحد أقرباء والدتي في الأردن، خطبني دون أن يحضر شاهد صورتي فقط، وبعد أسبوع سيأتي ليأخذني إلى عالم لا أعرف عنه شيئاً. أذكر أنك قلت مرة إن زمن الرق والنخاسة لم ينته وهذا صحيح، ولكن لا يهمني، إذا لم يعجبني زوجي سأخونه.
أحسست بالذهول فهتفت:
ـ ماذا تقولين "مها"؟
ـ ألم تقل أنت مرة إننا لا نملك غير حياة واحدة ويجب أن نعيشها؟ إذن، أنا لم يتيسر لي أن أقرر مصيري، وسأعيش حياتي.
قلت بانفعال:
ـ يبدو لي أنك قيّمت حياتك كلها على أساس أقوالي أنا، وهذا لا يجوز أبداً. يجب أن يكون لك وعيك الخاص للأمور. كما أني أحياناً، لا أكتمك، لا أؤمن بحرف واحد مما أقول، إنهم يهولون وأنا أهول معهم.
ـ لكنك برأيي تظل إنساناً مثالياً، وأتمنى لو أنني التقيت بإنسان مثلك. أنت من جيل غريب.
نظرت إليها بإمعان. عيناها تدبران لي أمراً لا أفهمه ووجهها معجون بالشمس والخمر والدم.
وأنظر إليها وأتحداها.
على صفحة وجهها الهادئ تتعانق الألوان في رغبة ملحة للاستشهاد. وأتحداها.
عيناها غابة من النور الأسود، على سوادهما أصلب إحساسي بالغربة والعذاب وأنا أتعس من ضاع في غابات العيون. وأتحداها.
ـ ماذا تريد مني هذه أيضاً؟ فرغت كفي من الدفء ولم أعد أملك حتى مشيئتي، لقد امتصت هذه المدينة كل شيء دون أن تعكس شيئاً منه.
نظرت إليها بعناد فأرخت عينيها وقررت:
ـ لا تنظر إليّ هكذا أنت تفهم الأمور بشكل مقلوب. أنا معجبة بك كرجل يفعل ما يريد لكنني لم أقل إنني متيمة بك. نحن لم نلتق غير مرة لكنها كانت كافية لأعرف أي نوع من الرجال أنت. أقول هذا لأنني لا أخجل من أحاسيسي ولكن ما الفائدة؟ عندما رأيتك أدركت أني تأخرت بالتعرف عليك. لن أبكي من أجل هذا وإن كان يؤلمني.
أحسست بكثير من الإنبساط والغرور وأنا أستمع إليها.
ـ ها أنا من جديد أستعيد ثقتي بنفسي، أركز رايتي في القمة وأحس أني فارس من فرسان الإغريق أحرق المدن وأقيم في ساحاتها الخيام وأملؤها بالسبايا الممزقات الصدور والوجوه. نظرت إلى "مها" فتلاشى سروري فوراً وحل محله إحساس عنيف بأني وغد وحيوان.
هذه المخلوقة العفوية التي لا تخجل من مشاعرها تعاني الوحدة والعذاب والتعاسة. تحس أنها تباع كالبهيمة إلى رجل لا تعرفه ليمتص شبابها ونضارتها كالوحوش.
جاءت إليّ شاكية لأن العالم يعتصرها، فرحت أتلذذ لعذابها وأتلمس أهداب نرجسيتي.
لم أعد إنساناً بالمرة. أصبحت وحشاً أنا أيضاً. المدينة صقلت أظافري وأنيابي وبدأت أحس الشهوة إلى الدم والفرائس.
رفعت عينيّ إلى "مها" وقلت بانسحاق:
ـ هل أستطيع أن أساعدك بشيء؟
ابتسمت ابتسامة مفاجئة وساحرة وهتفت:
ـ لو كنا نكتب قصة أدبية أو نمثل فيلماً سينمائياً لقلت لك بلا تردد، لقد تعبت من الحياة، تزوجني، لكننا، للأسف، نعيش واقعاً وسخاً ينكر علينا أبسط أحاسيسنا. دعنا من هذا، لا أريد في النهاية أن تشفق عليّ. الشّفقة مهما كان مصدرها لا تنفعني شيئاً.
ـ لا تظني أني بعد هذه المقدمة الميلو درامية أقف إلى جانبك. بوسعك أن تتمردي. إن ما تقامرين به هو حياتك وليس شيئاً آخر. تستطيعين أن تعملي، أن تلوذي بأحد أقربائك أو قريباتك أي إنسان يتفهم الأمر بشكل إنساني. اسمحي لي أنا لست معك. إذا قدر علينا أن نصطدم بعقلية أهلنا فليس معنى هذا أن نصبح عبيداً لنزواتهم. إن ما تقدمين عليه إهانة لكل إنسان يحس الكبرياء.
ـ مشكلتي أصبحت تتلخص بما يلي: لقد تعبت. ولم أعد أهتم بشيء.
نظرت إليها، وأدركت أنه من الصعب أن تفهم إنساناً بهذه البساطة، لكنني كنت واثقاً من شيء واحد. أن في تكوينها الداخلي بقعة مظلمة، لقد أضاعت أروع طاقة يملكها الإنسان وهي الصراع. لقد فقدت إيمانها بالحياة لأنها لم تلق الحب الذي تريده. لو أنها أحبت مرة واحدة فقط لما وصلت إلى هنا.
ـ إنها مستعدة لأن تخون زوجها إذا لم يعجبها، لو أنها تحبه لما حدث هذا. الحب قضية أخلاقية بحتة. مهما تكدست التفاهات فوقها لا يمكن أن تكون مبرراً لأي إثم، لا يمكن أن تكون مبرراً للسقوط.
خطر ببالي سؤال فقلت: ألم تعرفي الحب أبداً "مها"؟
حدجتني بنظرة قاسية ثم أعلنت:
ـ ماذا تظن إذن؟ إنني إنسانة وقد عرفت الحب بكل تأكيد، ولكن ما الفائدة؟ كل الظروف كانت ضدي، مرة كان والدي يراقبني، ومرة كانت التقاليد تمنعني، ومرات كثيرة كانت الأمور تتداخل ببعضها إلى حد يدفعني للقرف، باختصار لم أستطع أن أنجح حتى وصلت إلى ما تراه الآن.
أوشكت أن أقول شيئاً لكنني أدركت عقم المحاولة من جهة، وأدركت أنني سأكون سخيفاً أيضاً إذا حاولت أن أقف ناصحاً أو واعظاً. لقد قررت وانتهى الأمر.
قلت لها وأنا أحاول الابتسام:
ـ دعينا من هذا "مها". هذه آخر مرة نلتقي فيها، ولا أريد أن تذهبي وأنت تحملين عني أي انطباع سيّيء، الحياة لا تحتمل هذا الزخم الفكري، يجب أن نعيش، هذا هو المهم. لا يهم أن تكوني شريفة أو ساقطة، ولا يهم أيضاً أن تكوني زوجة تاجر أو زوجة زبال، المهم أن تكوني حية فوق الأرض لا تحتها.
ـ ألم أقل لك؟ أنت إنسان رائع، تفكر بطريقة مذهلة، وأنا سعيدة لأنني عرفتك.
أحسست فجأة أن هذه المخلوقة تافهة ولا تستحق أن أمنحها شيئاً من وقتي. مددت يدي إلى جيبي. دفعت ثمن ما تناولناه ثم قلت بلا مقدمات:
ـ أرجو أن تسمحي لي. أشعر بالضجر.
ـ إنني أفهمك. تستطيع الانصراف، ووداعاً.
أكره لحظات الوداع لكنني مضيت دون أن ألتفت إليها. هذه القصة يجب أن تنتهي الآن. وقد انتهت. وبينما كنت أهبط الدرج، شاهدت "أنور" وهو يخرج من السينما، عندما رآني زعق بصوت عال:
ـ لقد انتهى الفيلم أيها الأجدب وسيادتك لم تدخل السينما. ماذا جرى لك؟
أمسكته بيده ثم قلت:
ـ دعنا نخرج "أنور" إذا لم أنس ما يدور في دماغي الآن، سأنتحر اليوم، خدني إلى أي مكان تريده أو تعرفه. أرجوك.
تأبط ذراعي بعد أن هرش رأسه ومشينا في الطريق معاً، لا شيء غير الضجر ورغبة عارمة بأن أنسى خيبتي من جهة وأن هذه المدينة قد هزمتني من جهة ثانية.
نظرت إلى "أنور" الذي كان يبتسم دون سبب وسألته:
ـ لماذا تضحك؟
ـ لأنني لا أجد شيئاً آخر أفعله.
سكت وأنا أحس أن خيبتي تتعمق في صدري وتحفر نفقاً بين شراييني. إن أحداً لا يستطيع أن يشاركك سعادتك فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالحزن؟
إن أطناناً هائلة من الورق قد أتلفت للكتابة عن المشاركة الوجدانية والعلاقات بين البشر وكل هذه المترادفات البلهاء. لماذا يحدث هذا لي من بين البشر جميعاً؟
لماذا لا أكون كالآخرين، أحشو بطني باللحم والخضار وعدد من الحشائش ثم أتحول إلى مخلوق يعرف ماذا يقول في الأفراح، وكيف يذرف الدموع عند أحزان الآخرين، أزور الناس في بيوتهم وأفتح لهم بيتي، نتحدث في السياسة وعن أفضل الطرق لجمع المال وأشتم معهم الفتاة التي تعصي أوامر والديها، أصوم رمضان، وأصلي كل يوم خمس مرات، أدخل على رئيسي في العمل وأقف كالأبله أمامه بعد أن أناديه أكثر من مرة بألقاب التعظيم والتبجيل؟
لماذا لا أنسى قصة فساد العالم، وسقوط الإنسان إلى مراتب البهائم، وأحيا الحياة الوحيدة التي أملكها؟
تطلعت من جديد إلى "أنور" وسألت:
ـ ما الذي يجري هناك "أنور"؟
ـ أين؟
ـ هناك. فوق؟
ـ بشرفي أنت مخلوق عجيب، ويجب أن تُدرس كظاهرة اجتماعية تافهة. كيف تريدني أن أعرف وأنا لم أذهب هناك أبداً كما أن جميع الذين ذهبوا لم يعودوا؟
توقف عن المسير لحظة ثم حدق بي قليلاً وأعلن:
ـ أنت تعاني من أشياء الإنسان فظيعة اليوم.
منذ متى وأنت تهتم لما يجري فوق؟
يجب أن يهتم الإنسان بشيء ما وإلا لما كان لحياته معنى.
ـ ما رأيك أن تهتم بحياتك؟ أليس هذا أكثر نفعاً من التطلع إلى فوق طالما أن قدميك في الوحل؟
ـ لم تعد حياتي تعنيني إلى هذا الحد.
نخر من أنفه ثم بصق وقرر:
ـ على الرغم من احترامي لك، اسمح لي أن أقول لك إنك أصبحت مملاً. ما الذي يدور في رأسك؟ تطلعت إلى واجهة أحد المحلات المزينة بالنيون وشدتني الألوان إليها لحظة قلت بعدها:
ـ قوانين الطبيعة والقوانين الخارجية كلها غير أخلاقية وغير إنسانية. لماذا لا نستطيع إخضاع كل شيء إلى قوانين الروح الداخلية، لماذا لا نستطيع أن نقهر الحاجة والضرورة؟
ابتسم "أنور" وهتف:
ـ نحن على الرصيف الآن، ولست أعتقد أن المكان مناسب لهذا السؤال.
ـ لا توجد أماكن معينة لأسئلة معينة. قل لي "أنور"، ما الذي تقوله كتب الفلسفة التي تقرؤها؟
ـ الفلسفة؟ بف. إنها مجموعة من الأفكار التي تتحدث عن قلق الإنسان فقط دون أن تقدم لـه الحلول.
ـ إذا كانت كتب الفلسفة التي تكدسها في البيت لا تفعل شيئاً إلا أن تتحدث عن القلق فسوف أقذفها غداً في برميل الزبالة. لسنا بحاجة إلى من يفلسف لنا قلقنا.
ـ أنت مزعج اليوم.
ـ أنا تافه اليوم ومن التفاهة ألا تكون لنا تفاهات.
ـ لماذا لا تسكت وتكف عن إلقاء الأسئلة إذن؟
ـ ما هو برأيك أكثر المخلوقات غباء؟
ـ الحمار. هكذا أفترض.
ـ إذا كان صحيحاً أن الأرواح ستبعث بعد الموت، وأن الإنسان سيحاسب على كل ما فعله في حياته فأنا واثق أن جميع الحمير الموجودين في العالم اليوم كانوا من قبل بشراً مثلنا، أهملوا حياتهم وراحوا يفكرون بالعالم وماهيته، وكيف خلق ولماذا إلى أن ماتوا ثم بعثوا حميراً.
أغمض "أنور" عينه اليسرى وقهقه ثم أعلن:
ـ أنت تتحدث عن العالم وكأنه إسطبل.
ـ بالضبط. هذا ما أريد قوله. هذا العالم إسطبل، نحن الحمير وهم الرعاة. نحن نعلف بدلاً عن الشعير والتبن، مأكولات من نوع آخر، وبدلاً من أن نسرح في المراعي نسرح على صفحات الكتب. لقد قلت لي مرة إنك سعيد لأنك لم تخلق حماراً، وأنت واهم أيها المسكين. أنت حمار حقيقي؟
ـ لا يهم أن أكون حماراً أو إنساناً. المهم أن أعيش. كان "أحمد" يفسد لي حياتي بحديثه عن الحياة الأخرى، وعن الجنائن الموجودة هناك، وها أنت اليوم تحاول أن تفسد لي حياتي بحديثك عن الحمير والإسطبلات. وماذا تريد من هذا العالم على الضبط؟ ألا يكفي أنك تعيش؟
ـ عندما كنت أنت منذ ساعات في السينما تقهقه كنت أجلس مع فتاة في البوفيه.
ـ ما الذي جرى؟
ـ ستتزوج بعد أسبوع من إنسان لا تعرفه وهي مصممة على خيانته.
ـ هذه ليست ظاهرة غريبة. الخيانة الزوجية أصبحت نوعاً من أنواع الرقي والتحرر.
ـ حاول أن تفهم ما أقوله لك. هذه الفتاة ليست من هنا. لقد جاءت المدينة من إحدى قرى الجنوب.
ـ ماذا يعني هذا؟
ـ يعني أن العالم واحد وأن الإنسان واحد. الطهر مات في كل مكان وأن النضال من أجل إنسان نقي لم يعد مجدياً. نحن ننحدر. هذا كل ما في الأمر.
توقف "أنور" وتوقفت معه. نظرت إلى البناء الذي وقفنا بجانبه. كان أحد ملاهي المدينة الفخمة والمشهورة. ابتسم "أنور" بقلق وهمس بلوعة:
ـ الملاهي مكان جميل. إنه يعج بالفاتنات. ويبدو لي أن النساء من صنع الشيطان.
ـ كيف هذا؟
ـ لأننا نشتهي النساء دائماً، وكل الشهوات من صنع الشيطان. النساء والخمر والجنس. لو كان "أحمد" هنا لاستغفر الله. لا يهم أنا أستغفره أيضاً. لكن العجيب أن الله لم يخلق لنا غير المشايخ والرهبان، والنساء القبيحات، ولم يسمح لنا إلا بشرب الشاي ومنقوع الحشائش. وهو يريد منا أن نصوم ونصلي، وأن نغمض عيوننا.. انظر إلى الجمال حولك.. يجب ألا تراه.. من خلقه ولماذا إذن؟ّ
ـ سبق لك "أنور".أن قلت لي شيئاً من هذا. لم أقل لك لكني قرأته لك. ألم أقل لك إنني معجب بزوربا؟ أنا وهو فقط المخلوقان الوحيدان في العالم السعيدان لأننا لم نخلق حميراً. أنت تقول إنني حمار. كما تريد لكنني لا
أظن ذلك.
في تلك اللحظة هبت نسمة ربيعية فتنفست ملء رئتي.
تابعت السير مع "أنور".
لا فائدة على الإطلاق... أنا أنهار من داخل... كل هذا بسبب الآخرين.
"مها" ستخون زوجها. و"فائزة" تتاجر بساقيها. و"عفاف" تتحدث عن الشرف وهي تتعرى على أسرة الآخرين. و"جانيت" تشتم هذا الشعب وهذه الأرض. و"عدنان" يهتم بتلميع أظافره أكثر من اهتمامه بأخلاقه. و"ياسر" يكتب الشعر عن الوطن والحب والمثل العليا وهو في أعماقه إقليمي متعصب ولا يعرف الحب إلا من خلال السرير والضوء الأحمر.
من هذه الدوامة أطل برأسي أنا ألعن العالم لأنه يرفض أن يجعل مني نبيه المنتظر.
أحسست بالقرف فجأة فقلت "لأنور":
ـ "أنور" اتركني وحدي. أرجوك.
ـ كنت على وشك أن أطلب إليك نفس الشيء. أشعر بالملل وأريد أن أكون وحيداً.
مضيت وحدي....
عندما أكون وحيداً أشعر بالراحة. يبدو لي أحياناً أن هذه الوحدة مردها إلى أنني لا أجد من أحدثه، ومن يناقض آرائي. ولكن ما قيمة الآراء؟ إنها كلمات والكلمات تخلق الفوضى من جهة والإبهام والغموض من جهة أخرى. لماذا لا أسكت إلى الأبد إذن؟
أدرت ظهري ثم قفلت عائداً إلى الملهى.
في الساعة الثالثة صباحاً كنت قد شربت أكثر من خمس كؤوس من الوسكي. أصبح رأسي في مكان آخر. كنت سعيداً. لم أكن أفكر، هذا أوان النشوة والنسيان فلتبحر قوافلي إلى مرافئ المجهول. هذا هو الربيع فليجر النسغ في عروقي الجافة. الليل أسود والعالم نائم والضجر تبخر من رأسي أشعر بحنين جارف إلى صدر أمي، أنا اليتيم الوحيد في مدينة تضم ملايين البشر. يتمي لم يعد مشكلة ولم تعد غربتي ووحدتي تعذبني. أشعر الآن بمتعة ما بعدها متعة وهذه المخلوقة الشقراء إلى جانبي، ساقاها كالحليب، ووجهها عليه الكثير من العربدة والوحشية، إنها.. ولكن
ـ ما هو اسمك؟
ـ لا قيمة للاسم. سمني أي اسم يعجبك.
ـ سأسميك شهرزاد. أيعجبك الاسم؟
ـ إذا كان يعجبك فهو يعجبني.
ـ من أين أنت؟
ـ من كل مكان ومن لا مكان. لا تسأل كثيراً ألا أعجبك؟ هذا يكفي.
ـ أنت تتكلمين الإنكليزية؟ ولست إنكليزية.
ـ أنا أجيد أربع لغات.
ـ إن مهنتك أفضل من نصف جامعات العالم.
ـ قد يكون هذا صحيحاً. المهم أنها تسليني. من خلالها أكتشف نماذج عجيبة عن الإنسان.
ـ ما رأيك بي؟
ـ أنت إنسان وحيد.
ـ لم تعد الوحدة مأساة.
ـ أنت تعزي نفسك.
ـ أنا مثلك كثيراً. الحياة تسليني, أكتشف كل يوم نماذج عجيبة من البشر. هذه النماذج لم تذكرها الكتب.
ـ أنت تفكر كثيراً. وهذا لا معنى لـه.
ـ أدفع لك ألف ليرة إذا ذهبت معي إلى البيت. قد يكون قليلاً ولكن هذا كل ما أملكه.
ـ لماذا؟
ـ أنت تعجبينني وأنا أشتهيك.
ـ اتفقنا. قم بنا.
لم أعبأ كثيراً بانزعاج "أنور" عندما طلبت إليه أن يترك لي غرفة النوم.
لم تحتج إلى مقدمات أو كلمات. عندما أصبحنا وحدنا خلعت ثيابها ووقفت أمامي عارية. أحسست بجفاف في حلقي. منذ الأزل وأنا أحس الظمأ. كل جفاف الصحراء وجدبها في أعماقي، وهذه هي الينابيع الثرة تتفجر أمامي ماذا أنتظر؟
كان في عينيها لمعانٌ غريب وهي تحدق بي. حاولت أن أقبلها فظلت باردة كالثلج فقلت بانفعال:
ـ لم أعدك بالزواج أليس كذلك؟
ـ أنا لا أريد المبلغ الذي وعدتني به. أريد هذه؟
وأشارت إلى صورة "براءة" الموضوعة ضمن إطار جميل على طاولة صغيرة. شعرت برعشة باردة هتفت معها:
ـ هذه؟ لماذا تريدينها؟ إنها صورة إنسانة أحبها.
ـ أريدها!
ـ ولكن لماذا؟ ما الذي ستفعلينه بها. أرجوك.
ـ أريدها. ولن تنالني إذا لم آخذها.
كانت تتكلم ببرود وإصرار وفي عينيها وهج غريب فيه الكثير من الجوع والتشفي. ما زال الجفاف في حلقي وما زلت أحس الظمأ الأزلي. في تلك اللحظة تمنيت أن أبكي من أعماق قلبي لكني لم أستطع رفعت رأسي إليها. في تلك اللحظة لو طلبت حياتي لما بخلت بها من أجل إنسانة لا أعرف اسمها. في تلك اللحظة أدركت أنها تستطيع أن تفعل بي ما تريده هذه المجهولة القادمة من كل مكان ومن لا مكان. ماذا أفعل؟ إنها أمامي حقيقة وليست سراباً. ودون أن أفكر أحنيت رأسي بالموافقة.
عندما وافقت قفزت كاللبوة المفترسة من مكانها وانقضت على الصورة ثم قذفتها إلى الأرض حتى حطمت إطارها ثم أخذت الصورة بين يديها ومزقتها إلى قطع صغيرة ثم راحت تدوسها بأقدامها بانفعال بينما كانت ترشح عرقاً وغضباً وشهوة. تلك الشهوة، شهوة الدم، عمري لم أر مثلها على وجه مخلوق بشري، وبعد أن انتهت توجهت إلى السرير وعلى وجهها معالم الانشراح ثم استلقت عليه وهمست:
ـ تعال حبيبي. تقدم.
أدرت ظهري وأنا أحس أن شيئاً في أعماقي يتصدع وينهار في هدوء مرعب.
ـ تعال حبيبي. تقدم.
ـ لا فائدة لم أعد أريدك.
ـ ماذا؟
ـ قلت لك لم أعد أريدك. افعلي ما تشائين. اذهبي إلى الجحيم إذا شئت.
ـ هل تسمح لي أن أقضي ليلتي هنا؟
لم أجب بل فتحت الباب وذهبت إلى الغرفة الثانية حيث تمددت على سجادة صغيرة وغرقت في نوم عميق.





الفصل الثامن والعشرون


جالساً في ركن قصي من البيت.. أعد حبات الزمن الملول.. تماماً كما كنت أعدّ حبات الرمل في زمان العدم لقد جنحت حياتنا إلى دروب لا نهاية لها.
لماذا بدأنا هذه المسيرة المفجعة التي تبدو لي أنها بدأت من المجهول.. لتمضي إلى المستحيل؟
دخل "أنور" البيت كعاصفة هوجاء وأطلق شتيمة بذيئة على الناس والمجتمع ثم استلقى على السرير صامتاً برهة ثم أعلن بعدها:
"ـ إن لنا حياتنا الخاصة. طيب. لذلك يجب أن تكون لنا قوانينا الخاصة التي تحكم هذه الحياة. كيف السبيل إلى ذلك؟
لم أجب. كنت اشعر بضباب اليأس يغزو رأسي ويدبّ إلى مسام جلدي كدبيب النمل المنظّم ليقرض نصف العمر ونصف الزمان ونصف المكان.
ضحكت في سري. نحن نعيش نصف حياة ونصف حقيقة، وها هو اليأس قادم لينهش الباقي.
لم نكن بحاجة إلى هذه الطقوس الجنائزية التي تحيط بنا لندرك لعبة الحياة.
كان الصمت ثقيلاً في البيت عندما مزّقه صوت "أنور":
"ـ أخيراً انتهينا من الجامعة. أول أمس كنت خائفاً. وأمس كنت فرحاً.
اليوم لست مهتماً. ما الفارق بين الأمس واليوم؟ كيف يمكننا أن نجمع مشاعر الخوف واللامبالاة في صدر واحد وزمان واحد هذه ليست صدفة. عندما خرجنا من القرية لم ندرك أننا خرجنا من أجسادنا قل لي، ما العمل؟ أهذه نهاية المطاف؟
كنت أفكر"ببراءة" أخبرتني منذ أيام أنها ستسافر إلى أمريكا.
"ـ ماذا ستفعلين هناك "براءة"؟
"ـ لست أردي. لي قريب هناك أخبرني أنني أستطيع التدريس في إحدى مدارس الجالية العربية.
"ـ ولكن لماذا أمريكا؟
"ـ لأنها آخر الدنيا.
ـ ليس صحيحاً. هنا آخر الدنيا. هنا الأرض التي لم يكتشفها أحدٌ بعد.
ـ إنها لا تتسع لنا معاً. إما أنت وإما أنا.
ـ لقد مللت الرحيل وأتعبتني الغربة. هذه المدينة كالجرب بدأت تأكل جسدي.
ـ إذن سأجرب حظي أنا. لم أعد أملك شيئاً أخاف عليه.
ـ هل أراك قبل أن تسافري؟
ـ لست أدري. ذلك مرهون بوقته.
ـ أنت تتصرفين "براءة" وكأنك إله. كان من الممكن لحبنا أن يستمر وينمو ويعيش.
ـ لا أريد أن أرهن حياتي لهذه "الممكن" لقد أحببتك بصدق مطلق ولن يحتل أحد مكانك في قلبي. هذه مغامرة. لكنها حياتي. إما أن أعيش معك أو أعيش مع ذكرى حبك.
صرخ "أنور":
ـ إس. إس. هيه. أين أنت يا أخ؟ أين شردت؟ إنني أتكلم كالمسطول وحدي وأنت لا تصغي إليّ. يلعن حضارتك.
ـ "أنور" دعني وشأني.
خلع حذاءه وقذف به باب الغرفة وقرر بعصبية:
ـ وجوه وأحذية فقط. أو أحذية ووجوه لا فرق. هذه هي الحياة. نحن أحذية أستاذ. غداً سوف يلبسونك بأقدامهم.
تطلعت إلى "أنور". وسألته بهدوء:
ـ قل لي "أنور". لو كنت مكاني ماذا كنت تفعل؟
نهض عن سريره وبصق من النافذة ثم قال:
ـ سأستمر أبصق من هذه النافذة حتى أصيب إنساناً في أم رأسه.
ـ لم تجبني على سؤالي؟
ـ أنا لا أجيب على أسئلة سخيفة. كما أني لا أريد أن أكون مكانك. لا يمكن لأحد أن يكون بديلاً للآخر. كل الأمكنة متشابهة في حقارتها.
ـ لقد بدأت تهذي كالتيس. سألتك سؤالاً محدداً، لو كنت مكاني ماذا كنت تفعل؟ "براءة" تضعني أمام هذا الخيار الفظ: إما أن أتزوجها أو أنها تتركني وترحل إلى الغياب الأخير.
ردّ متفلسفاً:
ـ كما أنه لا يوجد حضور مطلق، كذلك ليس هناك غياب مطلق. لو كانت تحبك أستاذ لما سافرت. ألم أقل لك وجوه وأحذية تريد أن تنتعل حضرتك، إن تلبسك بقدمها.
ـ أنا أحبها "أنور".
ـ لو كنت تحبها لما تركتها تسافر أيضاً. أنتما جزء من كذبة كبيرة. كيف أجعلك تفهم؟ أف. دعني لقد مللت. أريد أن أنام وأحلم لم يبق لنا غير الأحلام أصبحت اليقظة تسبب لي نوعاً من الغثيان.
ثم وضع الوسادة فوق رأسه وسكت.
نخرج من حلم وندخل في آخر. كل الأحلام توصل إلى عالم من التيه واليباب. لا نقبض إلا على الريح وهذه الطقوس المقرفة حولنا. إنها أشبه بالمآتم أصبحت أشعر أن للغربة طعماً يشبه المرارة في الفم. لاشك أن الحياة كريمة معنا أحياناً إنها تترك لنا خيارات متعددة. إما إن نهتدي إلى ضوء ما.. أو نفعل شيئاً.. أو ننتحر!!
سألت "أنور" وأنا أعلم أنه لم ينم بعد:
ـ ألا تعتقد "أنور" أن "أحمد" سعيد في القرية؟
ردّ من تحت الوسادة بصوت مخنوق:
ـ ربما لماذا لا تجرب العودة إلى القرية لتعرف الحقيقة؟
ـ لن أجرب ذلك. لكني أعتقد أن أحمد إنسان حرّ لأنه استطاع أن يختار. أنا وأنت شيء آخر. نحن نرى الحياة امرأة جميلة يجب أن نضاجعها كل ليلة. لكننا ندخل في حسرة لنخرج من حسرة. نجتّر المعادلة كل يوم دون ملل. ألم تمل من الملل "أنور"؟
رفع الوسادة عن رأسه ثم نظر إليّ طويلاً ولم يلبث أن نهض عن سريره ثم توجه إلى المرآة. تطلع إليها برهة ثم بصق عليها وعاد ليجلس إلى جانبي ثم سألني ضاحكاً:

ـ قل لي: كيف حال"عفاف"؟ هل صحيح أنها طردتك من حياتها؟
أجبت بانفعال:
ـ إن المرأة التي تطردني من حياتها لم تولد بعد. كل ما في الأمر أنني لم أعد أراها. إذا كان "عدنان" قد قال لك غير هذا يجب أن تثق أنه يكذب. ليس لدى "عفاف" أي شيء تعطيه لي. وأنا فقير هذا الزمن ليس لديّ ما أهبه لها. إنها امرأة خالية الوفاض منذ الأزل. أنا الذي أختصر المسافة الموصلة إليها فلم أعد أذهب إليها. هذا هو الموضوع كله نفض "أنور" رأسه مرتين وحك أذنه ثم أعلن بضجر:
ـ إنني لا أفهم فقط أنا لا أفهم ثم خرج عن طوره وصرخ وهو يرفع يديه:
ـ هل لك أن تختصر لي بجملة واحدة، على أن تكون جملة قصيرة وواضحة، ما الذي تريده؟
ـ لو كنت أعلم ماذا أريد لما كنت هنا.
ـ أين ستكون إذن؟
ـ لست أدري. ربما في القرية. ربما انتحرت ضجراً من حضارة العبيد هذه. ربما تزوجت "براءة". ربما كنت حذاء, كما قلت أنت, تلبسه "عفاف" عندما تريد. وربما حاولت إيقاف الانهيار المريع لحياة "مها" ربما أطلقت النار على "عدنان" وربما عملت بائع خمور لأظل ثملاً لا أعرف الصحو. كلها أشياء واردة. المشكلة أنني أشعر أنني أقف على أرض غير مستقرة ولهذا لا أعرف ماذا أريد.
نهض "أنور" والتقط حذاءه لينتعله فسألته:
ـ إلى أين أنت ذاهب؟
ـ لست أدري. لكنك أصبحت كالوباء. إنك تحمل في أعماقك بذور مرض قاتل يميت كل من يقترب منك. لقد بدأت خلايا دماغك تتعفن. أنت لم تعد تصلح لشيء إقبل نصيحتي وانتحر. تفوه على حضارتك ثم غادر البيت وبقيت وحدي ملفوفاً بصمت دبق.
من جديد عدت أعدّ حبات الزمن الملول. تراكم الضجر على مساحة القلب. بيني وبين الفرح دهر من الانتظار. فأين المفر؟ خرجت من البيت مسرعاً. كأن شيطاناً يطاردني أحسست برغبة عارمة أن أكون بين الناس إن أرمي نفسي في الضجيج والصخب دفعة واحدة. أريد أن أحس حرارة الوجوه التي لم تمت بعد.
هذه دمشق. مدينة التاريخ والناس الذين لا يتعبون. ما الذي يربطني بهذه المدينة التي جئتها حائراً فازدادت حيرتي منها وفيها؟ ماذا أريد منها وأنا لا أعرف ماذا أريد من نفسي؟
شعرت أنني أطرح أسئلة سخيفة ومعادة.
توجّهت إلى مقهى "الهافانا" طلبت فنجاناً من القهوة ورحت أتفرج على وجوه الناس العابرين من وراء الزجاج. اكتشفت فجأة أن منظر الناس وهم يعبرون أمامي مثير للضحك. هذا رجل يسير مسرعاً وهو مطرق الرأس. رجل آخر يسير إلى جانب صديق أو زميل وهو يثرثر. رجل يتأبط ذراع امرأة جميلة وهو باشّ الوجه غارق بحديث نصفه كذب. بائع ينادي على بضاعته دون أن يلتفت إليه أحد. رجل مرور ينكش أنفه بإصبعه وهو واقف وسط الشارع. شاب في مقتبل العمر يركض وراء باص يرفض بأن يتوقف في المحطات المخصصة لـه. فتاة جميلة ترتدي ثياب الفتوة تحمل كتبها المدرسية على يدها، لابد أنها هاربة من المدرسة إلى موعد غرامي خائف وبعيد عن رقابة العيون. بائع دخان مهرّب يعرض على المارّة علباً ملونة يخرجها من صدره.
فجأة فتح باب المقهى ودخل "عدنان". جلس إلى طاولتي وطلب فنجاناً من القهوة، ثم راح يتفرج معي على الناس العابرين دون أن يقول شيئاً.
استرقت النظر إليه. كان مقطب الجبين على وجهه أمارات تأمل ساكن. كان ينقر الطاولة بعصبية بينما حمل بيده الأخرى قداحة فاخرة من الذهب راح يفتح غطاءها ويغلقه بعصبية.
قلت له بلا مبالاة:
ـ إن هذه الأرض تدور ولن تستطيع إيقافها.
أخذ رشفة من فنجان القهوة. ثم طلب فنجاناً آخر وقال بهدوء عجيب:
ـ سأسافر إلى جنوبي لبنان!
ابتسمت هذا الأفّاق أطلق للتو كذبة ضخمة. لقد فرغت شرايينه من الدماء وها هو يبحث عن شيء لا يعرفه. يريد أن يجعل من نفسه ظاهرة ما لكنه لا يعرف من أين يبدأ.
أنني لم أصدقه أحسست أن أية كلمة أقولها ستكون من دون معنى فسكت. عاد يحدق في وجهي وقد استفزه هدوئي:
ـ لماذا لا تقول شيئاً؟
أجبت بحياد مطلق:
ـ أنت أحد إنسانين: إما أنك كاذب وهذا لا يعنيني. أو أنك صادق وهذا لا يفيد جنوبي لبنان ولا ثوار البوليساريو أيضاً.
ـ على الرغم من أن رأيك هذا مجاني لا أشتريه بنكلة عتيقة، سوف أسافر إلى جنوبي لبنان. هناك نماذج جديدة من البشر أريد أن أعرفهم كما أنهم يصنعون لهذه الأمة النائمة حياة جديدة أريد أن أعرفها أيضاً.
ـ هذه حياتك.. من حقك أن تختار موتك في المكان الذي تريده، طالما أنك فشلت في اختيار الحياة التي تريدها.
ـ لقد أصبحت إنساناً فاسداً كأن هذا الوطن لا يعنيك؟
قلت بعصبية مفاجئة:
ـ الوطن؟ لا تقل إنك ذاهب للدفاع عن الوطن.. أو إنك ذاهب لبنائه؟
ـ ولماذا لا؟
ـ بعد أن مات طارق بن زياد أصبحنا من دون وطن. هذه الأمة أمة خرعة. مائتا مليون جثة تعيش فوق تراب منهوب. ما الذي تستطيع أن تفعله أنت؟
ـ أنت لم تعد إنساناً يائساً فقط. لقد أصبحت عالة على الوطن. قل لي ما الذي تريده من كل هذا؟
ـ قد تستغرب إذا قلت لك إن ما أريده هو عكس ما تريده تماماً.
ـ أتدري؟ أنت مخلوق لا يطاق؟ لقد بدأت أندم لأنني عرفتك.. إن لديك قدرة عجيبة على تخريب أنبل المشاعر.
تركني في المقهى ثم غيبه زحام الشارع.
ما هذا؟ كل الذين يعرفونني يجمعون على أنني أملك قدرة عجيبة على تمزيق الأشياء الجميلة. هل أصبحت مخرّب الأعماق؟
لا يعجبني هذا الاستنتاج. كما لم تعجبني الجرأة التي دفعتني لطرحه. تركت المقهى وتوجهت إلى البيت. أحسست بتعب مفاجئ. كان عليّ إن أريح هذه الجثة. غداً ينتظرني يوم حافل يوم من أيام القدر. في المطار.. وقفنا وجهاً لوجه "براءة" وأنا. لفنا صمت خاشع. ما باحتْ بشيء يعبّر عن ألمها.. وما قلتٌ شيئاً يفضح حيرني:
ـ وهكذا تسافرين؟
ـ هذه أفدح تضحية أقدمها من أجل حبي لك. أنت إنسان جزّار لكنني أحبك.
ـ هذا موقف ينضج ميوعة لا مبرر لها.
ـ إنه موقف على أية حال.
ـ لكنه موقف غامض ومجاني.
ـ لست أنت الذي يقول ذلك. طوال عمرك وأنت غامض وبفضل غموضك كان حبنا يدور في متاهة مغلقة.
ـ "براءة" هل تحبينني؟
ـ أنا أعتقد أن الكلمات مجرد هواء تخرجه الرئة فيحرك الحبال الصونية.
ـ هذا ليس جواباً واضحاً!
ـ وأنتَ لم تسأل سؤالاً واضحاً!
أحسست أن ظليّ بدأ يتكسّر. خسرتُ مع "براءة" معركة القدر. ها هي في النهاية تسافر حاملة على صباح عينيها حناناً كان يدثرني كلما عصفت أعاصير الحياة بي..
ـ "براءة" متى تعودين؟
سمّرت عينيها في عيني في لحظة خاشعة معزولة عن الزمان والمكان. ثم ترقرقت عيناها بالدمع وقالت:
ـ أعود عندما تريد أنت؟
ـ أنا لا أريدك أن تسافري. لماذا لا تصدقيني "براءة"؟
تطلعت إليّ برهة ثم جففت دموعها وقالت:
ـ سوف أصدقك عندما تصدق أنت نفسك.
ثم مدت يدها الطرية السمراء وقالت وهي تتصنع الابتسام:
ـ أعرف أنك تكره لحظات الوداع وهذا ليس وداعاً، أنت تعيش معي أنىّ رحلت وفي كل لحظة أعيشها.
لم أستطع مد يدي.. فأسقطتْ يدها. ونظرت إليّ برهة ثم أدارت ظهرها وتوجهت إلى باب الممر المؤدي إلى باحة المطار..
بقيت أرقبها وهي تصعد سلم الطائرة.. ثم ابتلعها باب الطائرة ولم أعد أراها..
كانت شمس الظهيرة حارقة.. تميع الإسفلت الأسود.. وأحسست أن شيئاً ما قد همد في أعماقي.. لم أعد أشعر بضجيج الناس. ومرت لحظات لم أكن أرى فيها شيئاً..
ها هي "براءة" ترحل أخيراً إلى الغياب الأخير.. رحلت وكأنها لم تكن. لماذا؟ هل صحيح أنني جزار كما قالت؟
ضايقني السؤال. لأنه أحرجني. ولأنني بعده لم أستطع العودة إلى نفسي. كانت المدينة تتدلى من النوافذ. رخوة مائعة كثديي امرأة مومس.. هذه المدينة تحتاج إلى بحر كي تغتسل.. أو إلى نهر يشقّ صلبها.. يجب أن تتطهر.. ويجب أن أتطهر.. ويجب أن أتطهر من رجسها.. لابد في النهاية من ذلك..
أكره المناطق الوسطى ولذلك بت أكره نفسي.. أنا أقف في المنطقة الوسطى بين العهر والفضيلة.. بين الخير والشر.. وبين الموت والحياة.
لا أستطيع الاختيار.. وربما لا أريد أن أختار، يرعبني أن أعرف مكان قبري, وأصاب بالهلع إن بقيت هكذا لقد أصبحت عارياً حتى مني. رحلت "براءة" وها أنا أشعر بوجع من خلعوا عضواً من أعضائه. عيناها كانت تمدني بالعزيمة فأشعر أنني فارس نسيته القرون الوسطى على حلبة هذا العصر الذليل.. ما العمل؟
قالت "فائزة" وبريق غريب يلمع في عينيها:
ـ تعال إليّ مساء. أريد أن أقضي معك آخر ليلة لي في هذه المدينة.
ـ لماذا؟
ـ بعد أيام سأتزوج وأسافر مع زوجي إلى القاهرة.
ـ أنت أيضاً تسافرين؟
ـ ولماذا هذه الـ "أيضاً" هل ودّعت أحداً؟
أحسست أنني رجل خائب. فتركتها وحيدة في الكافيتريا التي كنا نجلس فيها. أحسست وأنا أخرج أن عينيها كانتا كفوهتي بندقية مسددة إلى ظهري.
وكان هذا آخر عهدي "بفائزة".
المدينة تنسى أبناءها.. كما نسيت القرية أبناءها أنا إنسان منسيّ.. ألقتني أمواج النسيان على شاطئ الهلاك. لماذا أطالبُ أن أكون شاذاً عن الطبيعة البشرية؟
لماذا أريد أن أكون شاذاً عن هذا النسيج الاجتماعي المتشابك؟
هذه شهوة.. لكنها لا توّلد غير الشهوة.
بدأ المطر ينزل على المدينة. مطر لا يتوقف. وجسد لا ينتهي.





الفصل التاسع والعشرون

كل السنوات التي مرت من حياتي هنا حتى الآن ضاعت سدى.. وكلما أتلفت ساعة من عمري أتساءل، وماذا بعد؟
إن العالم لا يخصني غير أني أمارس فيه الرتابة بشكل مفجع.. وأكثر ما يعذبني أنني أصبحت واحداً من الناس الذين يطلبون كل شيء مقابل لا شيء، وأقايض الحياة والناس طمعاً بالثمن..
من يصدق؟ منذ سنوات كانت كل أحلامي أن أعيش في مدينة أبنيتها ملونة وشوارعها مفروشة بالإسفلت ونساؤها عاريات الزنود والحب فيها هو الطعام اليومي لكل الناس، كنت أحلم بكل هذا بعد أن مللت بيوت الطين والقذارة وفظاظة الرجال في القرية.. واليوم أبيع عمري كي أتنفس في تلك المناخات التي تنتصب فيها قامات الصنوبر وتفوح منها رائحة التراب
كل الأشياء حولي تتبدل بسرعة.. والأمور تنقلب بطريقة بهلوانية خارقة.. إن الأشياء التي لم أكن أصدق أنها تحدث، هي الأشياء الوحيدة الحقيقية هنا، لكنني حتى الآن لم أستطع التعود على هذه الفجاجة أي أن أصدق ما لا يمكن تصديقه.
أصبحت وحيداً بطريقة كريهة.. تمزقت كل الصور الجميلة في رأسي وعلي أن أواجه الأمور وحدي.. منذ فترة طويلة و(أنور) غائب عني، أنه غارق حتى أذنيه في حب عجيب، كأنه يحب شبحاً لا وجه لـه ولا مكان وربما كانت كياناً من خارج الزمان.. لم يمن يعيش ساعات الوجد التي تستحق العاشق كان يحب بطريقة لم يصدقها ولم يكن هو نفسه يجد تبريراً لها، لكنه كان يفلسف حبه ويعطيه شحنة من المبررات لا يقبلها عاقل:
ـ هذه الفتاة اشتهيتها كما لم أشته امرأة في حياتي، وهذا يعني أنني أحبها حباً حقيقياً خالصاً.
ـ أنت تشتهي كل امرأة تصادفها في الطريق. (أنور) أنا لا أصدقك.
ـ لا يهمني، هذه الفتاة أصبحت جزءاً من قدري.
قدره؟ لم أعد أؤمن حتى بالأشياء التي يقول عنها أنها حقيقية وواقعية بل إن هذه الأشياء كثيراً ما تثير قرفي، هل اختلفت كثيراً عن (أنور) وعنهم جميعاً؟
لماذا أحيط نفسي بهذه الطقوس الجنائزية عن الأخلاق والقيم وأنا لا أشعر بالمتعة إلا عندما أكذب في أبسط الأشياء؟ أمارس الجنس بنفس البساطة والعفوية التي أذهب بها إلى عملي من دون إحساس بالندم والإثم.. لقد سقطت، نتيجة لذلك، كل الشهوات التي كنت أحبها وأحلم بها.. لم أعد أؤمن بالمستقبل لأنه انتظار غير مجد.. ترسب في أعماقي يقين فظ أنني إنسان من دون مستقبل وأصبح الحب بالنسبة لي مشكلة حقيقية فأنا أحب (براءة) لكنني لا أطيق فكرة الزواج..
ولماذا يجب أن أتزوج؟
أريد أن أحلم.. أن أنتظر شيئاً لا أعرفه، قد تكون أحلامي من النوع الذي يسميه الفلاسفة أحلام اليقظة... هذا لا يهم، أنا سعيد بهذه الأحلام لأنني من خلالها أنصب نفسي ملكاً على العالم، أحاكم المرتشين، وأعدم الخونة وأجلد المخنثين وأقدم الطعام للجياع مجاناً وأعطي مسكنا لكل إنسان وربما أساعده على امتلاك سيارة... حساباتي في أحلام اليقظة لا تخطئ أبداً كلها تولد وأنا أرقب الناس من زاوية ضيقة من خمارة أو مقهى.
في أحلام اليقظة أسافر إلى أجمل بلاد الدنيا، أتعرف على النساء الجميلات وأضاجعهن في بيوتهن الأنيقة ثم أبصق عليهن وأعود إلى بيتي في دمشق.
من قال إن أحلام اليقظة هي تصورات إنسان مهزوم؟ إن أحداً لم يهزمني بعد لم أنازل أحداً، هذا ميدان الصراع.. منذ ولدت وأنا أجول فيه كالثور الهائج، لكنني لم.. هذا إفك رخيص فيه الكثير من الفظاظة أيضاً، إنني أكذب على نفسي لأنني مهزوم في أعمق أعماقي.. هذه خيبة جديدة تضاف إلى كل أحاسيس العفن في صدري.
لو أنني ألقى (أنور) لوجدت إنساناً أشكو إليه، منذ عشرة أيام وهو غائب عن البيت والعمل والجامعة.. بحثت عنه في كل مكان أعرف أنه يرتاده، سألت عنه جميع أصدقائه الذين أعرفهم، لكن عبثاً.
شعرت بانزعاج فظيع. خفت أن يكون قد حدث لـه مكروه ما خاصة وهذه أول مرة يغيب فيها عن البيت، لقد تعودنا على تأخره لكننا لم نتعود على غيابه.. فجأة فكرت أن أتصل بالشرطة، لكن هذا التفكير لم يدم طويلاً، هذه تفاهة مني. استلقيت على سريري ورحت أحدق في السقف ببلاهة ساعات طويلة عندما دخل (أنور) حدقت في وجهه برهة وصرخت به وإن كنت في أعماقي أتمنى أن أعانقه حباً وشوقاً:
ـ أين كنت أيها المسطول؟
تثاءب بشرود ثم قال دون أن يجيب على سؤالي:
ـ ألا يوجد في هذا الوكر ما يؤكل؟
أسرعت إلى المطبخ وأحضرت لـه بعض الطعام، وكررت:
ـ لم تقل لي أين كنت، أوشكت أن أتصل بالشرطة للبحث عنك.
قهقه بخلاعة وأعلن وفمه ملي بالطعام:
ـ لم يكن ينقص إلا هذا. لو أنك فعلت هذا كنت أديت لها خدمة على طبق من ذهب:
ـ أديت لها؟ من هي؟
ـ تلك المسطولة التي .. التي كنت أحبها.
ـ كنت تحبها؟ ما الذي جرى؟
ـ تريدني أن أتزوجها لمجرد أني ضاجعتها ليلة واحدة.
ـ ضاجعتها؟ يخرب بيتك.. هل، هل .. أعني أليست فتاة؟
ـ كانت فتاة..
ـ أخ يا حمار.. لقد وقعت هذه المرة.
ـ لقد تم كل شيء بموافقتها.
ـ هل تريد أن تقنع العالم بهذا المنطق الأخرق؟
ـ إن العالم لا علاقة لـه بغرائزي..تصور أن يتدخل أحد بذلك؟
ـ ولكن كيف ستتصرف. ثم أين كنت طوال هذه المدة؟
ـ لست أدري كنت أتشرد وأفكر. يبدو أن الأمور سيئة للغاية هذه التافهة سببت لي الكثير من الإزعاج.
ـ (أنور) لقد ارتكبت خطأ فظيعاً. كان عليك أن تفكر كثيراً قبل الإقدام. تصور الأمور كيف ستكون إذا عرف أهلها.. هنا يذبحون الفتاة بنفس البساطة التي يذبحون فيها دجاجة. قل لي كيف ستواجه هذه المشكلة؟
حدق في وجهي قليلاً ثم أعلن بتردد:
ـ لا أعرف إن كان علي أن أخبرك بالأمر لكنني سأفعل، ولكن لا تقلق سأواجه الأمر وحدي بشجاعة.. الموضوع باختصار إنها إحدى زميلاتي في العمل، موظفة معنا، جميلة لكنها تافهة أحببتها لأنني اشتهيتها، كانت تغريني بطريقة لا أعرفها ولا أحتملها.. بدأت أكذب عليها حتى أنالها وقد جعلتها تصدق كل القصص التي رويتها لها.
سكت قليلاً وعلت شفتيه بسمة عجيبة ثم قال بشرود كأنه يسترد نفسه:
ـ سحرتها بكلمات لا أعرف كيف كنت أنتقيها، لم أقل لها إنني ابن فلاح لأنها كانت تحتقر كل فلاحي العالم.. لقد ساءني ذلك في البداية لكنني تناسيت الأمر، تناسيته بعد أن أقنعتها أنني من مدينة حمص وأن والدي واحد من رجالات المدينة المعروفين بثرائهم، أنت تعرف طبعاً أنني لا أعرف مدينة حمص إلا على الخارطة.
أشعل سيجارة وهرش رأسه قليلاً وأعلن مستاء:
ـ تفوه.. المجتمع لا يحتاج إلا إلى طبيب بيطري يملك ملايين المسامير ثم يقوم بعملية تركيب (حدوات) للجميع ثم .. هش... دعني .. لقد مللت..
نبرت بصوتي وقد شعرت بغيظ مفاجئ:
ـ تابع (أنور) ما الذي حدث بعد ذلك؟ إن الأمر ليس بالبساطة التي تتصورها، يجب أن تواجه العالم كله نتيجة لما قمت به.
ـ لقد ضاجعتها وانتهى الأمر.
ـ الأصح أن تقول إنك غررت بها وانتهى الأمر.
ـ ما هذا؟ لقد بدأت تهذي كالأجذب.. لماذا لا تقول إنها غررت بي، من الذي أوجد هذه الأعراف الحقيرة؟ لقد ظلت طوال ستة أشهر تغريني، رأيت ساقيها وملابسها الداخلية عشرات المرات.. ماذا تظن؟ هذه أعصاب حية أستاذ وليست جذوراً ميتة، أنا لا أعرف من القائل (عندما يثور الجسد تنهزم الأخلاق) لكنه كلام شجاع، لهذا أنا أعتقد أنها مسؤولة عما حدث، مثلي تماماً.. نحن متساويان ويجب أن أحاسبها عن كل العذاب الذي سببته لي خلال عشرة أيام.
ـ دعني أسألك، لماذا لم تكتف بمداعبتها، أعني أكان من الضروري أن تعتدي على عفافها؟ زعق بوجهي:
ـ تفوه.. إني أبصق على كل مفاهيمك، لقد أصبحت تتحدث كواحد من مشايخ القرية، هذا مؤسف للغاية.. نحن لم نعد نتحدث لغة واحدة.. أتدري، عندما ضاجعتها لم أكن ضمن حدود الزمن، خيل إلي في لحظة أنني أضاجع جميع نساء المدينة، وأنني أقبل جميع اللواتي يشعرن بالقرف من رؤية الفلاحين، كنت أضاجعها وفي داخلي جميع الغرباء والمنبوذين في المدينة الذين تطاردهم لعنة لا يعرفون سببها، لا تحدق بي كالأبله هكذا، أنا لا أشعر بالندم، عندما ضمنا سرير واحد كنت أتطلع إلى عينيها وأحس أنني أمد رأسي من كوة مطلة على الجحيم، كان في عينيها شيء يتحداني، وقد قبلت التحدي.
لقد أصبح (أنور) مخلوقاً لا ينتمي إلى العالم الذي أعيش فيه، يعتقد أن أشياء فوقية لا تعرفها المخلوقات العادية، يريد من الآخرين أن يكتشفوه كأنه علامة بارزة في حياتنا.. أثر تاريخي لـه قيمة عظيمة.. كل هذا لا معنى لـه، من يهتم بالتاريخ أو بالأشياء العظيمة، إن (أنور) غرر بفتاة ما قادها إلى حظيرة نسائه الأخريات بكلمات معسولة منمقة، ثم جاء يفلسف الحياة والجنس والتاريخ، وأنا لا أهتم كثيراً بالعفة والأخلاق وجميع المترادفات السخيفة التي يجترها الناس، لكنني أعرف أن (أنور) يريد، بطريقة ما، أن يتحدث الآخرون عنه.. أن يستمر في حياتهم بطريقة فيها الكثير من الأنانية والتعصب، يريد أن يخلق تاريخه الشخصي بنفسه وعلى الآخرين أن يخلدوا هذا التاريخ، أنا شخصياً ليس لدي وقت للإصغاء إلى هذه المهزلة، كل صفحات التاريخ لم تعد تساوي كومة قمامة.. وكل عظماء العالم أصبحوا صوراً باهتة معلّقة على الجدران في دمشق.. من يهتم بالماضي ومن يعمل للمستقبل؟ لا أحد، وهذا الأهبل يريد أن يدوس الأكاذيب والحقائق معاً ليصل إلى .. إلى أين؟
ـ أنور.. لقد تغيّرنا بشكل كريه.. خنّا مبادئنا وأهدافنا، ما الذي جرى لنا؟ أصبحنا مخلوقات أخرى.. عندما كنا نسمع عن هذه الأمور لم نكن نصدق وعندما كنا نقرأ عنها في الكتب لم نكن نؤمن بما نقرأ.. كنا نظنها خيالاً عاهراً.. ماذا جرى (أنور)؟
لوى وجهه بحركة بائسة وقرر:
ـ هذا سؤال لا معنى لـه، عندما كنا نشاهد الغروب في القرية كنا نظنه دما مسفوحاً على وجه السماء ثم يهل القمر فنصلي أمام روعته وقدسية جماله.. ماذا حدث بعد ذلك؟
معتقداتنا كلها خاطئة.. يجب أن نتحرر من خلال الجنس، من خلال المرأة وطالما ظلّت الحصون والتقاليد قائمة بيننا وبين الحياة الحقة، سنظل معقدين مفككي الشخصيات، أرواحنا سقيمة نتصرف دائماً بارتباك حتى نصل إلى ما وصلت إليه أنا وما ستصل إليه أنت مع (براءة).
ـ براءة حبيبتي وليست محطة عابرة في حياتي.
ـ لا تصدق هذا إنك تخدع نفسك.. أنت تعيش في جحيم لو لامس الصخر لتفتت من الأنين.
أحياناً يستطيع (أنور) الولوج إلى أعماقي إلى حد لا يصدق، تمنيت في تلك اللحظة أن أقول لـه (إن براءة لم تعد حبيبتي، أصبحت الغول الذي يريد أن يفترس العنقاء. أجل إن الأمور معها مقلوبة لكنني لن أبقى قابعاً في مكاني كالأبله، سأهرب من طريقها، لقد حمّلتها من الآلام أكثر مما تستطيع احتماله، لم أقصد أن أفعل ذلك بها، لكنها تعتقد أنني أهنتها ولا تبرر لي أي تصرف من تصرفاتي، سوف تشحذ أظافرها قريباً، لكن عنقي لن تنام تحت أي مخلب)
في تلك اللحظة أحسست أن ذهني أصبح قاطعاً كحد السكين، أحسست بتوثب في أعماقي تمنيت أن أصارع، أن أتحرك، أن أفعل أي شيء غير هذا السكون المقيت بيننا:
ـ أتدري (أنور).. هذه ليلة طيبة.. في مثل هذه الليلة يخيل للإنسان أن الصعود إلى السماء شيء ممكن.
ـ لست مهتماً بالذهاب إلى هناك.
ـ أنا لا أريد أن أفقد إحساسي بأن الأمل شيء ممكن، يجب أن نخضع الحياة لإرادتنا بطريقة أو بأخرى، يجب أن نهزم الفقر والقهر ونتخلص من أحاسيس الجبن والارتباك أمام المرأة، وأعتقد أنه من واجبنا أن نضع قوانين جديدة للنضال والأخلاق.. قل لي أنور، هل تستطيع؟
ـ لم أفكر بذلك من قبل، إن الأمر لا يعنيني،أريد أن أعيش حياتي بطريقتي ووفق قناعاتي دعك من هذا.. من يستمع إلى حديثك سيؤكد أنه لا تنقصك غير الجبة واللحية والصوت الهادئ حتى تكون نبياً.. قل لي هل هذا يسليك؟
ـ يسليني؟ أتدري أنور؟ في هذه اللحظة أتمنى أن أموت. كل المبررات التي أعيش من أجلها انهارت فجأة. لم يعد ثمة شيء يستحق أن أتعب من أجله.. علاقتنا مع هذه المدينة لم تعد علاقة إنسانية، ووجودنا هنا نوع من العهر الاجتماعي، ماذا تريد أن تثبت ولمن؟
ـ لماذا لا تنتحر؟
ـ أنتحر؟ أنا أجبن من أن أفعل ذلك.
ـ عليك أن تسكت إذن.. منذ نيف وعامين ونحن نفلسف الأمور بشكل رديء. لا نستطيع أن نعيش وحيدين، ولا نستطيع أن نعيش مع الآخرين، ماذا تريد؟ كنا في القرية نؤمن بالله، لكن الوحدة كانت تطحننا.. وفي المدينة نسينا الله وما زلنا نحس الوحدة والانسحاق..
في القرية كان الكبت والشوق إلى المرأة يذبحنا.. وهنا، من خلال الفجور الجنسي والانفلات القطيعي أصبحنا أسرى المجتمع ورقابته ومقاييسه.
هربنا من القرية، وسنهرب من المدينة، ولكن إلى أين؟
ليس هناك جنة ولا جحيم هناك دائماً الآخرون، والآخرون ليس أنت أو أنا، والجدار قائم دائماً والتعاسة قدرنا.. دعني، أريد أن أنام..