AshganMohamed
01-17-2020, 02:23 AM
اللقاء المرّ
الفصل الأول
اقتحم صابر النـّار المستعرة التي كانت تلتهـم بيته، جـرّاء سقوط إحـدى القذائف الصاروخية عليه.. إذ شلّ المشهد عقله ولم يعد لديه مجال للتفكير في العـواقب والمـآلات، فالموقف عصيب.. والخطْبُ جلل، ويستدعي القيام بعمل فوري. طفق يقتحم الغُـرفَ: غرفةً غرفةً وهو في حالة هستيرية... كان ينادي بأعلى صوته: "غالية.. رغد". توقف فجأة حين رأى زوجته وابنته ترقدان في المطبخ وهما متعانقتينِ وقد تفحمتا. خرّ جاثيا على ركبتيه وأجهش بالبكاء بيد أنه لم يلبث أن أفاق من صدمته على بكاء ابنه الرضيع. هُرع إليه مناديا بصوت عالٍ: "سالم.. سالم...". وبسرعة خاطفة التقطه من على سريره، وضمّه إلى صدره، وخرج به مسرعاً.
لم يكن يحسّ صابر بالنار التي شبّت في ملابسه إذ أن المصيبة قد عطـَّلت وسائل الإحساس لديه، وبلّـدت الشعور عنده...
وما إن خرج من أتون الجحيم، وبيده ابنه، حتى وقع على الأرض مغشيا عليه. لم يفق صابر إلا وهو مُسجَّى على سرير في إحدى المستشفيات. بادره الطبيب الذي كان واقفا إلى جوار سريره حين صحا من غيبوبته قائلا:
- الحمد لله على سلامتك.. لقد أنجاك الله بأعجوبة يا صابر!
ردّ عليه بصوت خافت منهك وهو يغالب الآلام التي نشبت مخالبها في جسده:
- أين سالم؟ أين هو ابني يا دكتور؟ إني واثق بأنني أنقذته.
- لا أدري عنه شيئا. لم يحضره أحد معك إلى المستشفى.
طفق يردد والأسى يكاد يفتت مهجته:
- حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل!
ثم جعل يتحسس الضمادات التي كانت تغطي وجهه إذ لم يكن يظهر منه سوى عينه اليسرى وفمه من خلال فتحتين تركهما له الطبيب: فتحة ينظر من خلالها، والأخرى كي يتناول عبرها الطعام. خنقته العبرة وغار صوته ولم يستطع أن يكمل حديثه فلاذ عندئذ بالصمت وغرق في يمّ أحزانه وهو ينازع أوجاعه وآلامه ويبكي بمرارة في صمت...
وبعد أيام أزاح الطبيب الضمادات من على جسده ووجهه. هنالك كانت الصدمة المروعة. "يا للهول! ويا للمصيبة!! ما هذا؟! ماذا حلّ بوجهي ليحيله إلى هاته الدمامة؟! لقد شوّهت النار منظري.. وبدّلت صورتي بعدما أتت على مساحة كبيرة من جسدي، وأحرقت الجهة اليمنى من وجهي". حاول المسكين جاهدا أن يفتح عينه اليمنى.. ولكن هيهات هيهات لذلك إذ التصق جفناه ببعضهما...
أنكر صابر صورته وأصيب بالذعر وهو يرى نفسه قد تحول إلى وحش. أغمض عينه، وكأنه يريد أن يطرد تلك الصورة القبيحة عن مخيلته، وما لبث أن فتحها ليعيد النظر إلى المرآة التي أحضرها له الطبيب بناء على طلبه، فانقلب له البصر بالصورة ذاتها.. وبالمنظر نفسه. إنها الحقيقة!
قال له الطبيب، حين رأى دمعة خرجت من مقلته دون إذنه، مواسيا:
- هوّن عليك يا صابر! من الممكن التخفيف من آثار هذه التشوهات بعمليات تجميل في المستقبل.
هزّ صابر رأسه بأسى.. ونظر إليه ببلاهة.. ولم يحر جوابا...
وفي تلك الأثناء هُرعت رحيل إلى بيت أخيها عندما تناهى إلى مسامعها نبأ تعرضه للقصف، وهي لا تلوي على شيء، ولا تلتفت لأحد. انفجرت بالبكاء لمّا رأت جزءا من البيت مدمرا وبأن النار قد أتت عليه وحولته إلى ركام. لم تتمالك رحيل نفسها وأخذت تصرخ وتولول. وما إن أفاقت من صدمتها حتى قدّم لها أحد الجيران ابن أخيها الرضيع سالما وقال لها بأسى:
- لم ينج من البيت إلا هذا الطفل! وقد نقلنا صابرا إلى المستشفى في حالة جدّ حرجة بعد أن أحرقته النار.
غشيتها سحابة الحزن وأظلمت الدنيا في عينيها. ضمّت الطفل إلى صدرها، واستسلمت للبكاء...
* * * * *
كانت المدينة الثائرة محل نقمة وغضب وحش دمشق بعد أن آلى على نفسه تدميرها فوق رؤوس قاطنيها انتقاما لكبريائه.. وإرضاء لنزعة السادية في صدره.. وحقدا على أهلها ليضرب بها الأمثال ويجعلها عبرة لمن يعتبر.. ويقهر بها كل حرّ شريف قد تسول له نفسه شق عصا الطاعة. كانت الجثث تنتشر في أرجاء المدينة المنكوبة.. وتغص بها الشوارع والأزقة.. وكانت الأشلاء مبعثرة في الطرقات هنا وهناك إذ لم تتوقف آلة الدمار والتخريب العسكرية لمدة شهر تقريبا حصد فيها جيش الأسد عشرات الآلاف من أهل حماة. حينئذ لم يجد أهالي تلك المدينة بدّا إزاء تلك الوحشية من مغادرتها إلى المدن المجاورة، والقرى القريبة. كما عبر بعضهم الحدود فرارا بأنفسهم وأولادهم من انتقام الطاغية واتقاء للقذائف الصاروخية المتساقطة على رؤوسهم كالمطر.. وهربا من القتل والسحل على يد جند الوحش...
تنفست رحيل الصعداء بعد أن نجحت في عبور الحدود التركية برفقة أسرتها. بيد أن تلك المسكينة لم تكف عن البكاء منذ أن غادرت سوريا...
جلست ذات مساء كئيبة حزينة ترضع الطفل اليتيم والدموع تترقرق في مآقيها. دنا منها زوجها، وبادرها في محاولة منه للتخفيف من حزنها قائلا بحدب:
- إلى متى ستظلين تبكين هكذا يا رحيل؟
- إنك لا تحس بالنار المتأججة في قلبي!
سكتت قليلا ثم تنهدت بعمق وأردفت قائلة بمرارة:
- الله يلعن روحك يا حافظ، ويحرق قلبك كما أحرقت قلبي!
هزّ صابر رأسه وقال بلوعة:
- لقد أحرق ذلك المجرم قلوب الآلاف من أهل حماة والمدن المجاورة لها.
- ألا يوجد أحد في مقدوره ردع هذا المجنون وردّه عن غيّه، ووقفه عند حده؟
كفكفت رحيل دموعها وأردفت قائلة:
- ما يزيد نار الحزن في قلبي الصّمت الرهيب من باقي المدن.
- وماذا عساها أن تفعل تلك المدن المسبية؟
- على الأقل يخرج أهلها ليعبروا عن رفضهم للمذابح والمجازر التي تتعرض لها حماة وما جاورها.
- إنه الخوف يا رحيل! لقد زرع الطاغية الرعب في قلوب الناس بالقمع والاستبداد بعد أن فرق بينهم وجدانيا، وزرع بينهم الكراهية، حتى لم يعد أحد يشعر بأحد. ففي الوقت الذي كان طائر الموت يرفرف فوقنا يحصد الرؤوس وينشر الموت الزؤام في مدينتنا كانت مطاعم ومقاهي العاصمة وبعض المدن الأخرى تغصّ بالرّواد.
كفكفت رحيل دموعها وقالت بحرقة:
- سيدفع الجميع الثمن!
ثم وضعت سالما في فراشه بعد أن أخلد إلى النوم في حجرها وهمست بحزن:
- إن رؤيتي لهذا اليتيم الذي فقدَ أسرته جملة واحدة يعتصر فؤادي حزنا.
* * * * *
غادر صابر المستشفى خفية بعد أن تحسنت حالته الصحية بمنظر مرعب إذ لم يترك الحريق بصمته القبيحة على وجهه وجسده فحسب بل خلـّفَ جرحا غائرا في أحشائه.. وحزنا عميقا بمهجته. وما إن تناهى إليه نبأ نجاة ابنه ووصوله إلى يد أخته رحيل حتى سكنت نفسه ونزل عليه الخبر كنزول الماء على النار.
انطلق ميمما وجهه صوب تركيا للبحث عن ابنه بعد معرفته بلجوء أخته وأسرتها إليها. رفرفت سحابة الحزن فوق رأسه وأحس بانقباض في صدره بعد أن دخل التراب التركي. طفق يحدّث نفسه حين تذكر الحادث المأسوي: "المصائب لا تأتي فرادى. والمآسي تتناسل وتتكاثر، فالأسى يبعث الأسى.. والحزن يولد الحزن".
عندئذ فاضت لواعج أحزانه وثارت كوامن الشوق في نفسه بينما كانت الحافلة التي يستقلها تشق طريقها إلى اسطنبول، وتلتهم المسافة نحوها. تراءت صورة ابنه في خياله فجأة وتذكر حين وجده يبكي في سريره، واللهب يحيط به إحاطة السوار بالمعصم ويمدّ ألسنته لإلتهامه كما تمدّ الحية لسانها لسحب فريستها. هزّ رأسه وطفق يحدّث نفسه والحسرة تكاد تقطع فؤاده: "الحمد لله الذي ساعدني في إنقاذه". رنا ببصره من خلال النافذة وتوقف عن التفكير قليلا عله يريح أعصابه المنهكة بيد أن المناظر الخلابة والمشاهد الطبيعية الأخّاذة التي كانت تمر بها الحافلة لم تكن لتثير بهجته أو تحرك مهجته. سرعان ما عاد يحدث نفسه: "... أين أنت يا ترى يا بني؟ وكيف سأصل إليك يا حبيبي؟".
لدى وصوله إلى اسطنبول اتصل بابن خالته، مراد، الذي كان يقيم في تلك المدينة منذ زمن بعيد منقطعا عن الأخبار، الذي جاء إلى المحطة لاستتقباله بيد أنه ما إن رآه على تلك الحالة المرعبة حتى أصيب بالصدمة.
أخذ مراد يحملق في وجهه فاغرا فاه وقد عقدت المفاجأة لسانه وركبه الفزع. ابتدره صابر متسائلا:
- يبدو أنك لم تعرفني يا مراد؟ لقد تغير منظري كثيرا.. أليس كذلك؟
صحا مراد من ذهوله وصاح مندهشا:
- بلى! ولكن ما الذي فعل بك هذا يا صابر؟
هزّ صابر رأسه وراح يقصّ عليه بعضا من تفاصيل قصته بينما كانا في طريقهما إلى السيارة. وما إن فرغ من روايته حتى أخذ يواسيه ويعزيه والحزن يعتصر فؤاده.
وما إن صعد صابر السيارة حتى بادره بالسؤال:
- إلى أين ستأخذني يا مراد؟
- إلى البيت طبعا!
- لا أريد أن أضايقك. بإمكانك أن تضعني في أقرب فندق شعبي وسأتدبر أمري.
- لن تضايقني إنني أقطن في شقة وحدي.
سكت صابر برهة ثم قال:
- إنما جئتك كي تساعدني في البحث عن ابني سالم، إذ ليس لي في تركيا غيرك.
رد عليه مراد بعطف:
- سأبذل معك قصارى جهدي للوصول إليه، على الرّغم من أنني أعتقد أن الأمر لن يكون يسيرا فكما تعلم أن تركيا دولة كبيرة ومترامية الأطراف. على كلٍّ، عليك أن تأخذ قسطا من الراحة أولا ومن ثمّ سنشرع في البحث عنه.
- راحتي في رؤيته وضمه إلى صدري.
سكت مراد برهة ثم تنهد بعمق وقال بلوعة:
- لا أفهم ما الذي يدفع بزعيم إلى استخدام الأسلحة الثقيلة ضد شعبه بتلك الضراوة.
- إنها السادية.. والتعطش للدماء.. فالحقد الأعمى لا حدود له.
- أين الأمم المتحدة؟ وأين مجلس الأمن؟ وأين الضمير العالمي؟!!
هزّ صابرٌ رأسه بحزن وأجاب باقتضاب كأنه لا يودّ الخوض في الأمر:
- اسماء لا معنى لها حينما يتعلق الأمر بالمسلمين!
وفي اليوم التالي خرج صابر مبكرا للبحث عن عمل، إذ أنه كان في حاجة ماسة إلى المال. وبينما كان يسير، في أحد الشوارع الجانبية في مركز المدينة، يجرجر أحزان الدنيا، ويسحب حبال الألم، إذ به يجد عمّالا يعملون في بناء أحد المرّكبات السكنية الكبرى.
تردد قليلا قبل أن يبادر بسؤال أحدهم:
- هل أجد لديكم عملا؟
نظر إليه العامل باشمئزاز، وأجابه باقتضاب قائلا:
- تكلّم مع المسؤول!
- أين أجده؟
أشار بإصبعه نحو حاوية قائلا:
- إنه هناك في مكتبه.
طرق صابر الباب وظل واقفا حتى سمع صوت المسؤول، الذي كان في اجتماع مع مدير مجلس إدارة الشركة في تلك الأثناء، يدعوه للدخول. وما إن فتح صابر الباب وأطلّ بوجهه الدميم عليهما حتى انتابهما الفع. صاح المهندس غاضبا:
- اخرج من هنا أيها الرجل، فهذا ليس مكاناً للتسول!
ردّ عليه صابر بصوت حزين.
- أنا لست متسولا يا أستاذ. إنما أبحث عن عمل.
- ليس لدينا عمل! اغلقِ الباب وامضِ إلى حال سبيلك.
فجأة انقدحت في ذهن مدير الشركة فكرة. جعل يحدّث نفسه: "... إنه مناسب ولا تخطئه العين، وسيكون في مقدوره القيام بالعمل دون إثارة الشبهة إليه".
نظر إليه من فوق إلى أسفل ثم التفت إلى المهندس وقال له:
- دعه يدخل يا رجب.
ثم ابتدره بالسؤال:
- ما اسمك؟ ومن أين أنت؟
- اسمي صابر الحموي. وأنا سوري.
- وما الذي فعل بك هذا؟
راح صابر يروي قصته... وقبل أن يأتي على آخرها قاطعه عصمان قائلا:
- حسنا هذا يكفي!
وفي الحال أخرج عصمان بطاقة بياناته الشخصية من جيبه وناولها إياه، وأردف قائلا:
- تعالَ إليّ غدا في مكتبي على هذا العنوان، في العاشرة صباحا، وسأحاول أن أجد لك عملا...
وصل صابر إلى مقر الشركة قبل الموعد بخمس دقائق تقريبا. كان الأمل يحدوه في الحصول على عمل يسدّ به احتياجاته ويدعم به تحركاته كي يكون في مقدوره البحث عن ابنه.
ألف، سكرتيرة المدير منهمكة في الضرب بأناملها على لوحة مفاتيح الحاسوب بسرعة كأنها تريد أن تنجز عملا مستعجلا، لدى ولوجه غرفة الاستقبال. ظلّ واقفا ينظر إليها منتظرا فراغها من طباعة الرسالة ولم ينبس ببنت شفة.
رفعت السكريتيرة رأسها حين أحسّت بوجوده! قامت فجأة من على كرسيها في الحال وصرخت مذعورة وقد أصيبت بالفزع. أحسّ صابر بالإحراج الشديد غير أنه تدارك أمره، وبادرها متلطفا ليخفف من فزعها:
- معذرة يا سيدتي، على الازعاج!
استدركت نفسها وصحت من ذهولها.. وبذلت ما في وسعها لإخفاء خوفها ثم قالت بصوت متلجلج:
- لا.. لا.. ليس ثمةَ أيّ إزعاج! تفضل.. هل بإمكاني تقديم أية خدمة لك؟
- لديّ موعد مع الأستاذ عصمان الملاح.
تساءلت السكرتيرة بدهشة:
- أتقصد المدير؟
- نعم!
ثم ناولها البطاقة.. وقال:
- وهذه بطاقته يا سيدتي.
تناولت البطاقة وجعلت تنظر إليها تارة وتنظر إليه تارة.. كانت التساؤلات تتزاحم في ذهنها، ثم قالت في قرارة نفسها: "لا يمكن أن أصدق أن الأستاذ عصمان يقابل في مكتبه مثل هذا المخلوق!!".
بيد أنها استدركت نفسها وقالت:
- لحظة لو سمحت! تفضل بالجلوس، سأخبره بوجودك. هل لي أن أعرف اسمك الكريم؟
- صابر الحموي.
دلفت السكرتيرة إلى مكتب المدير لتخبره... ثم ما لبثت أن عادت إليه. أشارت إلى باب المكتب وقالت بلطف:
- تفضل يا أستاذ صابر. السيد عصمان في انتظارك!
وما إن دخل عليه المكتب حتى ابتدره صابر بالتحية.
قال عصمان:
- لقد تكلمت مع مدير شؤون الموظفين بشأنك، وما عليك إلا إحضار أوراقك مع سيرتك الذاتية للسكرتيرة في أي وقت وهي بدورها ستهتم بأمرك فقد أمرتها بذلك.
- شكرا لك يا سيد عصمان، لن أنسى فضلك!
وحين همّ صابر بالخروج من المكتب مدّ إليه حقيبة "سامسونايت" أنيقة وقال له:
- أريد منك أن تسلّم هذه الحقيبة إلى أحد رجال الأعمال إن لم يكن لديك مانع!
- بكل سرور يا سيد عصمان.
- سيلاقيك في محطة القطار.
ثم سكت برهة وأردف قائلا:
- يوجد في الحقيبة بعض المستندات المهمة.
- ولكن كيف سأعرفه؟
- لا تشغل بالك! هو الذي سيعرفك ويأتي إليك. لقد أعطيته أوصافك، ولن يخطئك أبدا. وحالما تتأكد من أنه السيد رضا آغا، أعطه الحقيبة.
غادر صابر المكتب، وشكر السكرتيرة حين رآها تنظر إليه في دهشة...
عصفت الخواطر والظنون بصابر وهو يحث الخُطى نحو المحطة. جعل ينظر إلى الحقيبة ويحدث نفسه: "لا أدري لمَ لم يأتِ الرجل لأخذ الحقيبة من الشركة بنفسه؟ ولماذا لم يرسلها مع أحد موظفي الشركة؟!". أحسّ بشعور غريب ينتابه لدى دخوله المحطة وازداد معدل خفقان قلبه...
أخذ يشجع نفسه ليخفف من ارتباكه: "على الرغم من أنني لست مرتاحا لأمر هذه الحقيبة غير أن السيد عصمان يبدو أنه يريد مساعدتي.. ومن يدري لعله يريد أن يختبرني قبل أن يوظفني عنده؟".
* * * * *
بعد أن توقفت العمليات العسكرية في مدينة حماة وما جاورها من القرى عاد النازحون إليها ليتفاجأوا بحجم الدمار والخراب الذي خلفته آلة الوحش العسكرية. بيد أن سعيدا وأسرته آثرت البقاء في تركيا مع بعض السوريين الذين رفضوا العودة لديارهم خشية القتل والتنكيل.
وذات صباح، تساءلت رحيل قائلة لزوجها:
- إلى متى سنظل بعيدا عن ديارنا يا سعيد؟
تنهد سعيد بأسى وقال:
- الله أعلم! ولكن هذا المجرم لا يؤمن جانبه، خاصة أن وضعي خاص وقد حملت السلاح ضده.
- إذن سنظل في بلاد الغربة طوال حياتنا.
- هذا قدرنا. ثم ماذا تبقى لنا لنعود إليه يا رحيل، لقد قتل أحبابنا وأصحابنا ودمّر بيوتنا. ثم أنني أحسّ بأن هذه بلادنا، لا أنني لا أومن بتقسيمات سايكس بيكو.
- أتظن أن نظام البعث سيسقط يوما يا سعيد؟
- لقد جاء العلويون للسلطة بمؤامرة غربية، واتخذ حافظ الأسد وطائفته حزب البعث كحصان طروادة لإخفاء أطماعهم الطائفية، ولا أظن أن هذه الطائفة ستترك الحكم.
هزّت رحيل رأسها ولاذت بالصمت.
الفصل الثاني
كان رجال الشرطة يراقبون صابرا ويتبعونه بأبصارهم من بعيد بهدوء كي لا يلفتوا نظره. وما إن دنا منه رجل كان يرتدي بدلة سوداء اللون، وقميصا أبيض، وربطة عنق زرقاء، ويضع على عينيه نظارة سوداء مظلمة كأنه يريد أن يخفي وراءها معالم وجهه، حتى سلّم عليه، وعرفه بنفسه. وفي الوقت الذي أراد أن يقدم صابر الحقيبة للرجل انقضّ عليهما رجال الأمن. بيد أن رضا آغا أفلح في الإفلات من قبضة رجال الشرطة وأطلق ساقيه للريح ثم استقل سيارة كانت في انتظاره.
أسقط في يدّ صابر حين وجد نفسه محاطا برجال الأمن وهم يصوّبون فوهات بنادقهم نحوه ويأمرونه بالانبطاح أرضا. جعل ينظر إلى الحقيبة التي بيده تارة.. وينظر إلى رجال الأمن تارة أخرى ببلاهة. كرّر الضابط أمره له بالانبطاح بلهجة أشدّ حزما. سرعان ما شدّ رجال الأمن وثاقه ووضعوا "الكلبشة" في معصميه قبل أن يجرجروه إلى سيارة الشرطة بقسوة تحت وابل من الشتائم والصفعات..
وما إن أُدخل على ضابط التحقيق، الذي كان في انتظاره، حتى صاح في وجهه بحنق:
- أخيرا وقعت في الفخ أيها المجرم القذر. لقد دوختنا بحيلك يا صاحب الوجه القبيح!
وبعد إتمام إجراءات التحقيق معه وانتزاع اعترافات منه بالإكراه أحيل صابر إلى المحاكمة. وبعد جلسات من المداولة.. والاستماع إلى الادعاء.. وإلى شهادات الشهود، لم تجد عندئذ هيئة المحكمة غضاضة في الحكم عليه بالسجن المؤبد. دارت به الدنيا وكاد صابر يفقد صوابه وهو يستمع إلى منطوق الحكم. وما لبثت أن هاجمته الأحزان.. وأحاطت به الأشجان، من كل جانب إذ حركت تلك العقوبة القاسية، على جريمة لم يقترفها، ولم تكن له يد فيها، مواجعه وأججت نار القهر في فؤاده.
جعل يحدّث نفسه وهو في طريقه إلى الزنزانة بصحبة أحد الحراس: "سبحان الله! هذه باكورة المحن في بلاد الغربة، لقد خرجت لأبحث عن عمل، وإذ بي أجد نفسي في غياهب السجن بلا جرم ولا جريرة. على كل حال، لقد استوت عندي السجون ولا أجد كبير فرق بين سجن كبير مملوء بالوحوش ليس له جدران، وسجن صغير تحيط به الأسوار يغص بالسجناء. على الأقل في هذا السجن يوجد نظام، مهما كان نوعه، أما خارجه فقانون الغاب هو الذي يحكم علاقات البشر، وشريعة الحيتان هي التي تُطبق. وإلاّ مَنْ ذا الذي أطلق يد عصمان الملاح وأمثاله كي يعيثوا في الأرض فسادا بلا رادع ولا رقيب، ومن يا تُرى وراء هذا الظلم المنظم في بلادنا حيث لم يعد يطبق القانون فيها إلا على الضعفاء. عجبا لضابط التحقيق الفض الذي استشاط غيظا وقام من على كرسيه وصفعني على وجهي بكل حقد، حين ذكرت له أنّ السيد عصمان الملاح هو الذي أعطاني الحقيبة، وطلب مني تسليمها لرجل يُدعى رضا آغا في المحطة، ثم نهرني الضابط بقوة وهو يصيح بحنق:
- كيف تجرؤ على اتهام الشرفاء أيها الوغد!".
أفاق صابر من تفكيره على صوت الحارس وهو يدفعه بعنف إلى داخل إحدى زنزانات العنبر رقم 7 قائلا:
- هذا المكان الذي يليق بالمجرمين أمثالك أيها الرجل البشع!
أسند صابر ظهره إلى الباب، ولم يلبث أن صفعته رائحة العرق الكريهة والرطوبة المنبعثة من النزلاء على وجهه وأحسّ بالغثيان. طفق يتصفح الوجوه البائسة.. والنفوس اليائسة وهو يحدث نفسه بلوعة: "آه.. ما أشد وقع الظلم على النفس البشرية!! ولو يعلم الظالم حرقة ناره لمَا ظلم أحد أحدا خشية أن يقع عليه مثله أو يكون ضحية لظالم. وكما قيل: الأيام دُولٌ.. وكما تدين تُدان! لقد ذقت آلام الحرق وأوجاعه، وتجرعت كأس الفقدان ولوعته، واكتوى جسدي بالنار وسعيرها، وتشوّه وجهي بألسنة لهيبها، وفقدتُ عيني، ونضارة وجهي. وفتّتَ الحرمانُ كبدي وأذاقني ويلات الفراق. كنت أظن أن كأس الألم في قلبي قد نفد، ومَعِينَ دموعي قد نضب، ولم يعد في فؤادي قطرة من شعور.. أو ذرة من إحساس.. وكنت أحسب أنه لم يعد يؤلمني في هذه الحياة شيء بعد أن تكسرت نصال الآلام في قلبي على النصال، وتبلدت وسائل الإحساس في نفسي فلم يعد بها إحساس، وكنت أحسب أنني تحصنت ضد الحزن بالأحزان.. وعن الألم بالآلام. يا ويلتاه! إن لنار الحيف حرقة في القلب لا تدانيها حرقة إذ أنها أقسى ألما، وأشد مضاضة من مناوشة الرماح، وتقطيع الجسد بالسيوف"...
أفاق من تفكيره على صوت السجناء الذين ضجّوا حين رأوه واقفا يتأملهم ويتصفح وجوههم في صمت ووجوم.
تملكهم الرعب، بادئ ذي بدء، غير أنه لم يلبث أن قام أشقاهم وأسوأهم خلقا فقال متهكما:
- أإنسان هذا يا تُرى أم شيطان؟!
ردّ عليه رجل آخر بسخرية:
- بل هو مارد من جان!!
قال ثالث:
- إنه يشبه "أحدب نوتردام" بل هو أشدّ قبحا منه!
وقال آخر:
- إنه أجمل قبحا رأيته في حياتي. بل هو أقبح من القبح نفسه!!
ردّ الأول ساخرا:
- يبدو أنه فرّ للتو من مدينة الشياطين!!
ثم علت قهقهاتهم وضحكاتهم...
بيد أن صابرا لم يعرهم انتباها ولم يكترث لسخريتهم.. ولم يعبأ لقولهم. عاد لنفسه ليحدثها: "هل سيكون هذا مثواي الأخير.. ويكون بذلك مآلي ومصيري بأن أقضي نحبي في السجن بين هؤلاء المجرمين ظلما وقهرا؟؟ وهل؟؟.. وهل...؟؟".
دنا منه نبيل، الذي أخذته به الشفقة، فربّت على كتفه، وقال هامسا في أذنه بلطف:
- لا تبالِ بما يقولون.. غدا ستتعود على كلامهم، وهم بدورهم سيتعودون على منظرك.
ثم أفسح له مكانا ليجلس بجانبه.
ردّ صابر عليه ببرود:
- لست مستاء منهم أو من كلامهم، ولا ألومهم! فجهل ملامةُ الجهلاء.. وسفه مؤاخذة السفهاء!!
أعجب نبيل بحكمته وحسن منطقه، فقال بدهشة:
- أفهم من قولك إنك لست غاضبا من قولهم!
- لا أبدا.
- على فكرة، اسمي نبيل أجاويد، فما اسمك؟
- صابر الحموي.
وما إن أوى نزلاء الزنزانة إلى مضاجعهم حتى اختلى صابر بنفسه وأخذ يناجي ربه. لم يذق غمضا في ليلته تلك إذ هجر الكرى جفنيه.. ونأى النوم بجانبه بعيدا عنه.. جعل يتقلب طوال الليل وهو يفكر في مآله ومستقبله على إيقاع أنغام الشخير والصفير الصادرة من حناجر المساجين. راح يرفرف بخياله خارج السجن وبعيدا عن السجناء ولم يلبث أن زاره طيف ابنه.
مضت تلك الليلة على مضض إذ كانت من أطول ليالي حياته حتى أنه ظن أن الصبح لن يُقبل أبدا.
وفي مساء اليوم التالي، ابتدره نبيل بلطف، حين رآه كئيبا، قائلا:
- الحزن لن يغير من الأمر شيئا يا صابر!
- إن وقع الظلم قاسٍ على القلب!
- أعلم ذلك، ولكن علينا أن نعيش الواقع ونتعايش مع الظروف، ونرضى بالقدر.. وكما ترى ها قد غربت شمس يوم آخر، ومضى يوم من الأيام بحزنه وسروره. وهكذا ستكر مسبحة الزمن يا صديقي!
هزّ صابر رأسه موافقا وقال بأسى:
- صدقت! وهكذا تنقضي أعمارنا.. وتنفرط آجالنا.
- لا ريب أن تكون الأيام الأولى قاسية عليك، غير أنك ستتأقلم مع هذه الحياة وتصير الأيام متماثلة.
- السجن المؤبد عقوبة قاسية وطويلة على رجل بريء!
- هل لك أن تخبرني ما الذي جاء بك إلى السجن يا صابر؟
- إنها قصة طويلة يا أخي.
- ولكنني أرغب في سماعها. تسليتنا الوحيدة في السجن هو سماع قصص بعضنا بعضا، وبذلك نقتل الوقت.
راح صابر يروي قصته، ويحكي حكايته بلوعة. ولمّا أتى على آخرها فاضت عينا نبيل بالدمع. ثم هزّ رأسه وقال بأسى:
- لقد عرفت الآن أنه ليس كل من في السجن بالضرورة يكون مذنبا أو مجرما، لأن غالبا ما يفلت المجرم الحقيقي من العقاب، ويدفع رجل بسيط بدله الثمن.
تنهد نبيل بعمق ثم راح يحكي قصته:
- "بينما كنت عائدا ذات ليلة إلى البيت، حيث كنت في زيارة لوالدي الذي كان مريضا. كان ذلك قبل منتصف الليل بقليل برفقة زوجتي، التي كانت حاملا، إذ رأيت برميلا، يسدّ الطريق الضيق المظلم الذي لا تسلكه كثير من السيارات في مثل ذلك الوقت المتأخر. نزلت من سيارتي لأزيحه، فإذا برجلين يخرجان من خلف الأشجار ويهاجمانني بغتة. كان أحدهما يحمل مسدسا بيده. طلبا مني أن أعطيهما ما بحوزتي من مال. لم أتردد في إعطائهما محفظتي، وساعتي وخاتمي. وفي غضون ذلك انقض الرجل الآخر على زوجتي حين رآها تحاول استعمال هاتفها النقال. أمرها بالنزول من السيارة بعد أن خطف من يدها الهاتف وسحب منها حقيبة يدها عنوة...
تنهد نبيل بعمق قبل أن يستأنف القصّ:
... كنت أراقب المشهد المؤلم رافعا يدي للأعلى بيد أنه حين رأيت ذلك الوغد يمسك بذراع زوجتي بقسوة ويجرّها وهي تصرخ وتولول وتحاول أن تفلت من قبضته.. عندئذ غلى مرجل الغضب في رأسي وفقدت أعصابي ولم أتمالك نفسي، فانقضضت على صاحب المسدس بسرعة خاطفه، ولم أبال بالنتيجة ولم أفكر في العواقب. مسكت يده بقوة بغية نزع المسدس منه غير أنه أخذ يقاومني بكل ما أوتي من قوة. سرعان ما ترك الرجل الآخر زوجتي وهُرع نحونا كي يساعد رفيقه. غير أن صاحب المسدس ضغط على الزناد فجأة دون قصد، فطاشت رصاصة فأصابت رفيقه في مقتل وسكنت صدره. أسقط في يد صاحب المسدس لمّا رأى زميله يخرّ صريعا على الأرض يتخبط في دمائه. ترك المسدس في يدي وأطلق ساقيه للريح، لواذا بالفرار وهو لا يلوي على أحد ولا يلتفت لشيء. ألقيت المسدس بسرعة بين الأشجار. وحين وصلت الشرطة ووجدت بصماتي على المسدس قبضت علي ثم تمت إحالتي إلى المحاكمة بتهمة القتل غير العمد.
سكت نبيل برهة، ثم تنهد بعمق وأردف قائلا:
- وللأسف.. حكم علي القاضي بالسجن لمدة عشرين عاما.
هزّ صابر رأسه حزنا وزم شفتيه ولم ينبس ببنت شفة.
الفصل الثالث
لم يغادر خيال رحيل ذكرى أخيها لحظة ولم يغب طيفه عن فؤادها ساعة رغم مضي الأيام وتعاقب السنين. كيف تنساه وقد خلـّف لها أمانة ثقيلة. كانت كلما نظرت إلى سالم تذكرته. ترعرع ذلك اليتيم على عينها وتحت رعايتها وفي كنفها الدافئ إذ لم تالُ جهـدا في تربيته والاهتمام به، فهي لم ترضعه لبنا فحسب، وإنما أرضعته حنانا وعطفا أيضا. وحينما اشتد عوده، وقويت عظامه، وصار غلاما يافعا في مقدوره التمييز بين الجمرة والتمرة.. وباستطاعته إدراك ما حوله من الأشياء فاجأ أمه، ذات يوم، بسؤاله عن سبب اختلاف اسمه عن اسم إخوته. اعترت رحيل الدهشة.. وغشيتها الحيرة.. وعقدت المفاجأة لسانها، إذ أنها لم تعدّ لذلك السؤال جوابا، ولم يدر بخلدها بأنه سيدرك ذلك في هذه السن المبكرة. احتضنته وأخذت تقبـّله بعطف وهي تخفي ارتباكها، ثم قالت له:
- لا تشغل بالك يا حبيبي، بهذا الأمر. إنك لا تزال صغيرا!
- ولكن من حقي معرفة الحقيقة يا أماه.
اغرورقت عيناها بالدمع، وسكتت برهة قبل أن تجيبه بأسى:
- على الرغم من أن سعيدا ليس والدك في الحقيقة ولكنه هو من ربّاك صغيرا ولم يبخل عليك بشيء. كما أنه يحبك كابنه تماما ولا يفرق بينك وبين فتحي.
فرك عينيه ومسح دموعه وقال متسائلا:
- أين هو أبي إذن؟ أريد أن أراه. أريد أن أعرفه!
كفكفت رحيل دموعها ثم أردفت قائلة بصوت متلجلج:
- لقد.. توفي أبوك.. و.. وأنت لا تزال رضيعا!
- هل لديك صورته؟
ترددت رحيل قبل أن تخرج صورة أبي سالم التي كانت تحتفظ بها في حقيبة يدها،. ثم قالت:
- انظر يا سالم، إنه يشبهك تماما. لقد كان وسيما مثلك!
لم تتمالك رحيل دموعها حين رأته يقبـّل صورة أبيه والدموع تسيل على خديه. ضمّته إلى صدرها مرة أخرى وراحت تقبله...
وما إن انقلب سعيد إلى بيته عائـدا من عمله، حيث كان يعمل في مطعم صغير بقرب محطة الحافلات التي تربط بين المدن التركية، حتى أخبرته رحيل بما دار بينها وبين سالم وكيف أنه فاجأها بالسؤال واحرجها بذكائه.
هزّ سعيد رأسه وقال:
- ألا تظنين أنها كانت فرصة مناسبة لإخباره بالحقيقة يا رحيل.
- أخبره بماذا؟! وما جدوى ذلك؟
- بكل شيء.. بالحادث الذي وقع لأسرته، بوفاة أمه وأخته. فمن حقه معرفة الحقيقة.
- معرفة الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا يا سعيد.. ولم أكن لأخبره أبدا بأنك لست أباه لولا أنه لم يكن في مقدوري إخفاء الأمر عليه.
- سالم صار ناضجا.. وأعتقد أنه سيتقبل الأمر في نهاية المطاف.
ردّت عليه غاضبة:
- إنك لم تره يا سعيد! كم حزن المسكين حين علم بوفاة أبيه وكيف بكى لما رأى صورته!
سكتت برهة ثم أردفت قائلة:
- وكيف لو علم بوفاة أمه وأخته معا؟!
- معرفة الحقيقة لن تضره في شيء، وربما يحزن قليلا ثم يسلو وينسى، ولكن لعل ذلك ينفعه يوما، فالحياة مليئة بالمفاجأت.
* * * * *
شيئا فشيئا جعل صابر يتعود على حياة السجن، كما تعود السجناء على منظره البشع، غير أنه نجح في لفت نظر نزلاء السجن والعاملين فيه بدماثة أخلاقه، واستهوى قلوبهم بحسن عشرته وصبره، واستحوذ على احترامهم، إذ ضرب مثلا رائعا في قوة الإرادة.. وقهر الأحزان حتى صار مصدرَ إلهام لكثير من السجناء؛ يرفع معنوياتهم ويواسيهم...
لم يسمع منه أحد من السجناء كلمة تضجّر.. أو نأمة تبرّم.. طيلة مكوثه في السجن مما حدا بكثير من السجناء إلى اللجوء إليه لحلّ خلافاتهم والتحاكم إليه لفضّ مشاجراتهم التي تنشب بينهم بين الفينة والأخرى...
وذات مرة استدعاه مدير السجن إلى مكتبه بغية الوقوف على السر الكامن وراء شخصيته المحبوبة.. وكيف كان في مقدوره الظفر بودّ كبار المجرمين، وكسب احترامهم.
ابتدره مدير السجن مداعبا:
- أأنت ساحر يا صابر؟!
ردّ عليه مبتسما:
- لا أبدا!
- قل لي إذن: ماذا فعلت لزملائك كي تحظى بكل ذلك الاحترام والثقة، خاصة نزلاء العنبر رقم 7 الذي يعدّ أسوأ العنابر وأكثرها مشاجرات ومشاكل في السجن.
هزّ صابر رأسه وأجاب بلطف:
- المعاملة الحسنة مفتاح القلوب، والصبر مفتاح الفرج، وللكلمة الطيبة وقعا شديدا على النفس البشرية، ولربما فعلت في القلب ما لا يفعله السحر ذاته.
* * * * *
كرّت سبحة الأيام ومضت السنون يطوي بعضها بعضا، وسالم يشبّ ويكبر، ويجدّ في دراسته ويثابر.. ويتدرج في السلّم التعليمي، حتى اجتاز امتحانات الشهادة الثانوية وتحصّل على تقدير مرتفع فيها مما أهّله للإلتحاق بإحدى جامعات اسطنبول.
بيد أن ذلك لم يرق لأمه التي عارضت في بداية الأمر ذهابه للدراسة في اسطنبول التي تبعد عن انطاكية كثيرا، ولكنّها لم تجد بدا، إزاء إصراره على الذهاب لاستكمال دراسته من النزول عند رغبته والموافقة على اختياره على مضض... دأب سالم على زيارة أسرته رغم طول الشّقة.. وبعد المسافة.. وشدة المشقة.. إذ كان كلما سنحت له فرصة في السنة الأولى من دراسته الجامعية يزورها. ما لبثت تلك الحماسة خبت شيئا فشيئا جرّاء انهماكه في الدراسة من جهة وفي العمل من جهة أخرى، إذ كان يعمل في أحد المطاعم في فترة المساء لتغطية مصاريف إقامته، حتى أصبح لا يزور أسرته إلا في عطلات نهاية العام الدراسي.. أو في المناسبات الدينية.
اجتهد سالم في العام الآخير من دراسته الجامعية في البحث عن عمل مناسب في مجال تخصصه في مدينة اسطنبول، وقام بتقديم طلبات عمل لعدة شركات ومؤسسات. ومن حسن حظّه أنه تحصّل على موافقة بالعمل في "الشركة العالمية للحاسوب"، التي وافقت على توظيفه بعد أن اجتاز اختبار المقابلة الشخصية بنجاح...
انقلب عائدا إلى أسرته بعد حصوله على النتيجة النهائية من الجامعة مسرورا يحدوه الأمل وتغمره السعادة... وما إن وصل إلى بيت أسرته حتى استقبلته أمّه بحفاوةٍ بالغةٍ وهنأهُ الجميع على النجاح والتفوق.
سارعت رحيل بتقديم الحلوى والمشروبات تعبيرا عن الفرحة بنجاحه وعودته ثم جلست إلى جانبه، ولم تكن الدنيا تسع فرحتها.
ابتدره سعيد قائلا:
- ما هي الخطوة التالية يا بطل؟
- الحمد لله، لقد وُفقت في الحصول على عمل في إحدى شركات الحاسوب في اسطنبول.
صاحت رحيل مندهشة:
- ماذا؟؟.. ماذا تقول يا سالم؟؟ أتريد أن تنفق عمرك بعيدا عنا؟؟ ألهذه الدرجة لم نعد نهمك؟ أم أن المقام طاب لك في تلك المدينة البعيدة! لن أسمح لك بالعيش بعيدا عني.. يكفي السنوات الأربع التي مكثتها في اسطنبول بحجة الدراسة. لقد كنت أعدّ الأيام عدّا وأنتظر اليوم الذي تكمل فيه دراستك لتعود إلينا، وتعيش بيننا.. وها أنت تريد أن تبتعد عنّا مرة أخرى.
هزّ سالم رأسه وقال مبتسما:
- إنها فرصة كبيرة قد سنحت لي ولا أودّ أن أضيعها يا أماه. ولكن أعدك، أن أزوركم باستمرار، خاصة أنني بصدد شراء سيارة وبذلك يصير القدوم إليكم سهلا.
ترقرقت عيناها بالدمع وقالت بلوعة:
- أنت لا تفكر إلا في نفسك يا سالم، ولا يهمّك أمري البتة.
رنا سعيد ببصره نحو زوجته وقال لها بلطف:
- دعيه يشق طريقه يا رحيل، ويضمن مستقبله فقد أصبح رجلا.
ثم ألتفت إلى سالم وقال له جذلا:
- مبروك يا سالم! لا شك أن حصولك على وظيفة في اسطنبول سيفتح لك آفاقا واسعة في معترك الحياة.
قالت رحيل غاضبة:
- أرجوك لا تشجعه يا سعيد!
ثم نظرت إلى سالم وأردفت قائلة بنبرة حزينة:
- وماذا عن وفاء، بنت الجيران، التي حجزتها لك، ووعدت أمها بأننا سنأتي لخطبتها رسميا حال تخرجك من الجامعة؟!
- تعلمين أنني لست جاهزا للزواج الآن يا أماه، وأنني أحتاج إلى بعض الوقت لأستعد لذلك. ومع ذلك كله أعدك بأنني سألبي رغبتك وأبذل قصارى جهدي لذلك.
- لم أقل لك تزوجها اليوم أو غدا يا سالم! إنما فقط نريد أن نخطبها لك قبل أن يسبقنا إليها غيرك فهي فتاة طيبة وقد أعجبتني كثيرا، ولا أريد أن تطير من أيدينا.
ردّ عليها مازحا:
- لِمَ لا تخطبيها لفتحي؟
- إنها تناسبك أنت أكثر منه ثم أنه لم يكمل دراسته بعد.
قام من مكانه وطبعَ قبلة على جبهتها وقال لها:
- لقد وعدتك يا أماه.. ولا داعي للقلق.
أجهشت رحيل بالبكاء.. ولاذت بالصمت...
قال سالم مداعبا ليخفف من حزنها:
- ظننت أن اليوم سيكون يوم غبطة وسرور! وبأنك ستفرحين كثيرا بتخرجي وحصولي على عمل يا أماه!!
كفكفت دموعها، وحاولت إخفاء حزنها وقالت:
- من قال لك أنني لست سعيدة يا بني، ولكنني متضايقة من سفرك.
- ما رأيك أن تأتوا لزيارتي في اسطنبول بعد أن أرتب الأمور فيها، فلدي شقة صغيرة وهي تسعنا.
هزت رأسها وقالت:
- حالتي الصحية لا تسمح بذلك ولا أتحمل الجلوس في السيارة لمدة طويلة. على كل حال، الله معك! ولكن لا تغيب عنا طويلا.
* * * * *
عاد سالم إلى اسطنبول والآمال تدفعه والطموحات تحدوه. لم يلبث أن باشر عمله الجديد في الشركة بهمة ونشاط. لم تمض إلا شهور قليلة حتى كان في مقدوره إثبات وجوده والكشف عن جدارته في وظيفته. لذا حظي بإعجاب مدير الشركة وصاحبها، السيد فوزي الذي لفت نظره سالم بوسامته ودماثة أخلاقه. ومع الأيام هجست في ذهن فوزي فكرة.. وبدرت بخلده خاطرة. جعل يحدث نفسه: "يبدو أنه شاب بسيط.. وربما يكون مناسبا لابنتي دلال، ومن يدري لعلها تتغير على يديه، أو يكون في مقدوره انتشالها من عالمها التعيس واضطراباتها النفسية".
كان لفوزي ابنة وحيدة، تشكل له مصدر قلق عميق إذ كانت تعاني من الاكتئاب، والعُقد النفسية. كان يضايقه كثيرا رؤيتها على تلك الحالة وينغص عليه حياته بقاؤها في البيت رهينة المرض تتشاجر مع أمها طوال الوقت. كانت دلال تعيش في عالمها الافتراضي وتحلّق في فضائه الألكتروني، وتقضي جلّ وقتها على حاسوبها.. تغرد مع أقرانها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. وتتسكع بين المواقع الإلكترونية مرفرفة بجناحيها في سماء الأوهام وعالم الخيال بعيدا عن الواقع.. ولم تكن دلال تخرج من غرفتها إلا قليلا. كما أن هاتفها النقال لم يكن يغادر يدها لحظة.
لم يكن في مقدور أمها فعل أي شيء إزاء ذلك مما جعل قلبها يتقطع عليها كمدا، ويذوب على حالها حسرة. وكان كلما تناهى إلى سمعها خطبة فتاة تعرفها أو تعرف أهلها أو تُدعى لحفل زفاف يشتعل فؤادها أسى على ابنتها. وذات مرة طفح كيل الصبر لدى سوسن، فقررت أن تحسم الأمر مع زوجها، ولدى عودته من عمله استقبلته بعاصفة من اللوم والتضجر:
- لم أعد أتحمل هذه الحياة التعيسة في هذا البيت البائس: إما أن تجد لابنتك حلا.. وإما سأغادر هذا البيت!
- هدئي من روعك يا سوسن. خبِّرِيني ما الأمر يا سوسن؟ أتشاجرتي مع دلال كعادتك؟
تجاهلت كلامه ولم تجبه عن سؤاله واستأنفت حديثها بحدة:
- لا أدري إلى متى ستستمر في تجاهلك لابنتك؟ ليس لديك شغل غير العمل والصفقات!! ثم إلى متى سأبقى معها على هذه الحالة؟ إنك لا تهتم بغير نفسك ومصالحك الشخصية!
- وماذا تريدينني أن أفعل؟ لقد فعلت كل ما في وسعي لعلاجها، أنفقت على ذلك مالا كثيرا كما تعلمين؛ ألم أعرضها على أفضل الأطباء النفسانيين؟ ألم أحضر إليها أكثر الشيوخ خبرة بالسحر والقدرة على التعامل مع الجن والشياطين والأرواح الشريرة؟!!
هزّت رأسها وقالت بحزن بعد أن هدّأت من نبرتها:
- ولكن، لا الدواء أتى بنتيجة.. ولا التمائم والتعاويذ والشيوخ غيروا من حالها!
- وما الحل في رأيك يا سوسن؟
- الزواج. ربما إذا تزوجت تغيرت حالها.
وضع فوزي يده على جبينه وزمّ شفتيه واستغرق في التفكير قبل أن يردّ عليها:
- أظن أن الموظف الشاب الذي حدثتك عنه سيكون حلا يا سوسن.
- وماذ تنتظر يا فوزي. لِمَ لا تتكلم معه في الموضوع بصراحة؟
- إنني انتظر الفرصة المناسبة.. إذ أنني لا أريد أن أعرضها عليه مباشرة، فكرامتي لا تسمح بذلك.
* * * * *
على الرغم من أنّ سالما لم يكن يدري ما يدور في خلد مديره ولم يعرف الأسباب التي كانت وراء اهتمامه به إلا أنه كان يشعر بالسعادة الغامرة جراء ذلك. لقد أثارت تلك المعاملة الحميمية دهشة زملائه في الشركة، فأخذوا يتهامسون فيما بينهم وينسجون في ذلك القصص والحكايات!!
وذات يوم بادر فوزي سالما قائلا:
- لا أدري ما سرّ حبي لك وثقتي بك يا سالم، حتى عدت أعتبرك كابني.
- هذا شرف كبير لي.
- على كل حال، أودّ أن استشيرك في أمر ما يقلقني كثيرا.
- كلي آذان صاغية يا سيدي!
- لا أخفيك بأن أمر ابنتي دلال التي حدثتك عنها من قبل بات يأخذ حيزا كبيرا من تفكيري خاصة بعد إصرارها على رفض الزواج. لقد تقدّم لها كثير من أبناء العائلات الكبيرة غير أنها لم توافق على أيّ منهم.
ثم سكت قليلا وأردف قائلا بابتسامة:
- أتظن أنه من حقي إرغامها على الزواج بالقوة يا سالم.. أم ماذا عساي أن أفعل؟
- أرى أن تترك لها حرية الاختيار، وفي الوقت ذاته تقدم لها النصح.
- المشكلة، أنّ أمها تطلب مني بقوة أن أضغط عليها كي توافق على الزواج من ابن أختها الذي سبق أن رفضته دلال.
- أمر طبيعي يا أستاذ فوزي، أن يحرص أولئك الشباب على مصاهرة شخصكم الكريم، وخطبة كريمتكم، فكلّ يود الظفر بهذا الشرف الكبير.
- شكرا لك يا سالم. بصراحة، كل يوم أكتشف فيك شيئا جديدا، حتى صرت أتمنى من كل قلبي أن يظفر بها شاب حكيم مثلك.
احمرّ وجه سالم وأحس بالخجل بيد أنه لاذ بالصمت ولم يحر جوابا.
الفصل الرابع
كان صابر جالسا في زنزانته، ذات صباح، يفكر في أمر ابنه الذي لم يكن طيفه يفارق خياله، ويتساءل في قرارة نفسه: "أين هو الآن يا تُرى؟ أيكون عاد إلى سوريا مع العائدين بعد أن هدأت الأوضاع واستتب الأمر للوحش عقب قضائه على خصومه السياسيين.. وأسكاته معارضيه.. وأخضاعه الشعب بالحديد والنار.. وبعد أن نجح في تحويل سوريا لمزرعة له ولطائفته...".
وبينما كان على تلك الحال إذ به يسمع صريرَ فتح باب الزنزانة فعاد بخياله إلى واقعه. رنا صابر ببصره نحو الباب ليرى سجينا جديدا يدخل عليهم. سرى الخوف في مهجة الرجل ودبّ الفزع في كيانه وأصيب بالارتباك حين وقعت عيناه على صابر. تمادى السجين الجديد في تفاديه لصابر والإعراض عنه وتجنب الحديث معه، وكان كلما التقيا أشاح الرجل بوجهه بعيدا عنه.
وذات مرة، دنا صابر من الرجل، وابتدره بالسؤال مداعبا ليخفف من خوفه:
- أأرعبك منظري إلى هذه الدرجة يا أخي؟
ردّ عليه الرجل بارتباك:
- لا.. لا أبدا!
سكت صابر برهة ثم قال بلطف:
- على كل حال، اسمي صابر الحموي. أرجو ألاّ تتردد في طلب أي شيء أو أية مساعدة مني إذ أنني أقدم السجناء في هذا العنبر.
- شكرا لك يا صابر!
استغرق الرجل في التفكير وجعل يتساءل في قرارة نفسه مندهشا: "أيعقل أنه لم يتعرف عليّ.. وأنه لم يعرفني؟"
فجأة لملم الرجل شعث كلماته المبعثرة وقال مرتبكا:
- ألم تعرفني يا صابر؟!
حملق صابر في وجهه مليا ثم ردّ عليه قائلا:
- معذرة لم أتشرف بذلك يا أخي.
- ولكنني أعرفك جيدا.
- ماذا تقول؟! أتمزح؟
- لا يا صابر أنا لا أمزح. أنا أعرفك حق المعرفة لأنني سبب وجودك في هذا السجن.
- صدقني لم أفهم شيئا!
- أتعرف أحدا باسم رضا آغا؟
سرعان ما عادت الذكريات بصابر إلى ما يقارب ربع قرن. ثم أجابه بتجهم:
- كيف لا أعرفه؟!
- أنا هو رضا آغا.
صاح صابر غاضبا:
- ماذا؟! ماذا تقول؟ أنت رضا آغا الذي...
- نعم! أنا هو.
ثم أطرق رضا برأسه برهة وأردف قائلا بندم:
- أرجو أن تسامحني يا صابر! لقد نلت جزائي العادل.
ثم سكت قليلا وراح يقصّ عليه قصته بلوعة:
- لقد عملت مع عصمان الملاح لثلاثة عقود في عصابته المتخصصة في تهريب المخدرات وبيعها غير أنه حين صحا ضميرى، وأردت أن أتوب إلى الله وأترك العمل معه أرسل إلي رجلين لقتلي حتى لا أفضح أمره إذ لدي أسراره. لكنني تمكنت من فتح النار عليهما بمسدسي دفاعا عن نفسي فأرديتهما.
قال صابر بصوت حزين:
- على كل حال، هون عليك يا أخي، فلست أنت السبب في سجني يا رضا، بل عصمان الملاح ذلك المجرم هو الذي غدر بي. لن يفلت من العقاب الإلهي فقد وكلت أمره لله، وحتى إن أفلت من عقاب الدنيا فلن يفلت من عقاب الآخرة. فالله يمهل ولا يهمل.
- على كل حال، أنني على استعداد للأعترف أمام هئية المحكمة والإدلاء بشهادتي أمامها لأثبت براءتك.
- لم تعد براءتي تقدم شيئا أو تؤخره فلم يتبق من مدة عقوبتي إلا بضع شهور.
- بل أظنها ستغير كثيرا يا صابر. لأنه إذا ثبتت براءتك عندئذ يمكنك الحصول على تعويض مالي كبير تسعين به على قضاء أمرك والقيام بعملية تجميل لما في وجهك من تشوهات. كما أن ذلك من شأنه نفي صفة الإجرام التي قد تلاحقك طيلة حياتك.
- وأين لي بالدليل على براءتي.
- لدي دليل قاطع على براءتك، وسأعلن عنه في حينه. كما أن المهندس رجب على استعداد للإدلاء بشهادته فهو رجل طيب وقد ساءه كثيرا ما وقع لك.
- ومن هو المهندس رجب؟
- مهندس مشروع المركب السكني الذي طلبت منه عملا، وكان معه ذلك اليوم عصمان، أتذكره.
هزّ صابر رأسه وقال:
- نعم أذكره.
* * * * *
دعا فوزي سالما لتناول العشاء معه في أحد مطاعم المدينة الفاخرة. جلسا على أحد الموائد المطلة على النهر في ليلة من ليالي الصيف الجميلة. لم يتمالك سالم دهشتة من روعة المكان فأرسل العنان لخياله كي يتأمله في دهشة.
قطع فوزي عليه تفكيره قائلا بابتسامة:
- الجو جميل هنا أليس كذلك؟
- بلى! لم أكن أتصور أن في الأرض أماكن بهذا الجمال وبهذه الروعة.
أشار فوزي إلى جسر جميل معلق تتلألأ أضواؤه وقال:
- أتعلم أن ذلك الجسر يربط بين قارتي أوربا وأسيا.
- نعم. تركيا من أجمل بلاد الدنيا يا سيدي! ولهذا السبب اخترت البقاء والعيش فيها.
ابتسم فوزي وقال:
- لم أكن أعلم أنك رومنسي يا سالم؟
أطرق سالم برأسه خجلا ولم يعقب...
أردف فوزي قائلا:
- على فكرة، لم أسمعك يوما تتحدث عن الزواج يا سالم، ألا ترغب في الزواج؟
- بلى! الزواج أمنية كل شاب يا أستاذ فوزي، غير أنني أشعر أن الطريق لا يزال أمامي طويلا. كما تعلم يا أستاذ، أن للزواج تكاليفه ونفقاته.
هزّ فوزي رأسه موافقا وقال:
- صدقت، ولكن هذه سنة الحياة، والوحدة قاتلة. لقد تزوجت في مثل سنك تقريبا.
- أمي أيضا تضغط علي بشدة كي أتزوج من إحدى بنات الجيران.
بلع فوزي ريقه ولاذ بالصمت...
أردف سالم قائلا:
- وعلى الرغم من أنني وعدتها بأنني سألبي رغبتها إلا أنني أعلم أن الظروف المادية لا تسمح بذلك.
- على فكرة، لم تقل لي: ماذا يعمل والدك؟
تنهد سالم بعمق وأطرق برأسه هنيهة ثم رفعه وقال بأسى:
- للأسف، لقد توفي والدي، رحمه الله، منذ كنت رضيعا فأنا لم أره في حياتي إلا في الصورة.
- أنا آسف إن كنت قد حركت أشجانك، وذكرتك بأحزانك.
- لا.. لا بأس يا أستاذ فوزي!
- على كل حال، ارجو أن تعتبرني بمثابة والدك. كما أنني على أتم الاستعداد لمساعدتك ماديا كي تتزوج.
- شكرا جزيلا. هذا من لطفك وكرمك.
- إنني لا أقول ذلك بدافع العاطفة، إنما أنا جاد يا سالم، فأنا على استعداد أن أمول مشروع زواجك بل أكثر من ذلك، أنني على استعداد لأزوجك ابنتي دلال، فأنا أحببتك من كل قلبي، وأريد أن تستمر علاقتنا إلى الأبد، وما وجدت أفضل من المصاهرة لدوام العشرة.
عقدت المفاجأة لسان سالم وطفق يبحث عن كلمة مناسبة يردّ بها على هذا العرض السخيّ الذي لم يدر بخلده قط.
تدارك سالم نفسه وقال متلعثما:
- هذا شرف عظيم أن أكون صهرك يا سيد فوزي، ولكن...
- ليس ثمة لكن... ما رأيك أن تزورنا مساء الجمعة في "الفيلا" لتتعرف على دلال أولا قبل أن تتخذ قرارك.
أجابه مرتبكا:
- بكل سرور يا سيد فوزي!
* * * * *
وفي اليوم التالي التقى سالم بصديقه محسن بطلب منه بعد انقطاع عنه دام لأسابيع.
ابتدره محسن معاتبا:
- يبدو أن العمل أنساك بأن لك أصدقاء!
- معك حق يا محسن، لقد انهمكت في العمل. أرجو المعذرة.
- لا بأس يا سالم. مالأمر الذي أردت أن تستشيرني فيه؟
تنهد سالم بعمق ثم قال بلوعة:
- إنني بحاجة لمساعدتك فقد ارتبك فكري.. ولم أعد أفهم ما يدور حولي!
- ما الأمر؟
- لقد فاجأني السيد فوزي، مدير الشركة، التي أعمل بها بعرض ابنته علي للزواج.
صاح محسن مندهشا:
- ألف مبروك! قلت لك من زمان: أنك محظوظ يا سالم!
- على رسلك يا رجل! انتظر قليلا قبل أن تحكم على الأمر.
- أين تكمن المشكلة يا سالم؟
- لست مطمئنا لهذا الزواج.
- من أية ناحية؟
أجاب مرتبكا:
- لا أدري! ولكن أحسّ أن في الأمر غموضا. ثم انني وعدت أمي بالزواج من جارتنا.
- أرى أنها فرصة جيدة لك، ولا أظن أن والدتك ستمانع. ولكن هل رأيت الفتاة؟
- ليس بعد، سأذهب غدا لرؤيتها.
- لا تتسرع يا سالم في الرفض، فالفرصة لا تتكرر.. وأهم شيء أن تكون الفتاة ذات خلق.
- وكيف أعرف أنها كذلك؟ كما تعلم أنه ليس لي أقارب في هذه المدينة.
- لا بأس، سأتيك بمعلومات عنها وعن أسرتها إن شئت.
- هذه ستكون لي خدمة كبيرة.
- أتعرف أين تسكن أسرتها؟
وما إن دله على عنوانها حتى قال:
- من حسن الحظ أنني أعرف المكان جيدا فلدي أقرباء يقطنون في الحي. امنحني بضعة أيام فقط.
- شكرا لك يا محسن!
هزّ سالم رأسه وقال متسائلا:
- وماذا عنك أنت يا محسن؟ هل وجدت عملا؟
تنهد محسن بعمق وقال:
- الحصول على عمل هذه الأيام ليس بالأمر الهين. ومع ذلك لم أيأس بعد. لقد تقدمت بطلبات لعدة شركات وأنتظر الردّ.
سكت سالم برهة ثم قال:
- على كل حال.. أعدك أن أغتنم الفرصة المناسبة لأتكلم مع السيد فوزي بشأنك.
مرّ سالم على معمل لبيع الحلويات الفاخرة مساء الجمعة واشترى علبة "شكولاتة" فيما كان في طريقه إلى بيت المدير حسب الموعد... رحّب السيد فوزي به ترحيبا حافلا، وأجلسه في غرفة الضيوف الفاخرة، وأخذ يتجاذب معه أطراف الحديث.
فجأة دلفت دلال وبيدها سفرة القهوة. رنا سالم إليها ببصره وراح يقارن بينها وبين الصورة التي في ذهنه بيد أنها مختلفة تماما. قطعت دلال عليه تفكيره حين ألقت عليه التحية ثم قدمت له فنجان القهوة ثم وضعت السفرة فوق الطاولة وانصرفت.
طفق سالم يتساءل في قرارة نفسه "أهذه هي؟! إنها تبدو مختلفة تماما عن أوصاف الفتاة التي رسم صورتها أبوها في مخيلتي ببراعة، و...".
قطع فوزي عليه تفكيره قائلا:
- تصور يا سالم، على الرغم من أنني طلبت منها بإلحاح شديد الجلوس معنا سوى أنها رفضت.
عاد سالم من شروده ورنا ببصره إلى فوزي ثم قال مجاملا إياه:
- الخجل صفة طيبة للمرأة، يا أستاذ فوزي.
- أحسنت! إنها خجولة جدا.
وما هي إلا لحظات حتى دخلت أمها الغرفة يسبقها عطرها الغابق. ابتسم زوجها حين رآها تلج الغرفة وأشار إليها وقال:
- هذه سوسن زوجتي.
ثم أشار إليه وتوجه بالحديث إليها قائلا:
- هذا هو سالم جاء لخطبة دلال!
هزّت سوسن رأسها وقالت بتكلف:
- أتشرف بمعرفتك يا سالم. لقد شوقني فوزي لرؤيتك والتعرف عليك من كثرة ما يتحدث عنك.
- الشرف لي يا خانم!
ابتسم فوزي وقال:
- سالم صار من العائلة يا سوسن.
هزّ سالم رأسه ورد عليها بابتسامة إذ عقد الارتباك لسانه ولم يعقب.
ما لبث أن انقلب سالم إلى بيته. كان طوال الطريق يحدث نفسه: "لا أدري كيف أنني لم أحسّ بشيء يجذبني نحوها؟؟ أو ما يرغبني في الزواج منها؟؟ على كل حال، علي أن أتريث وأفكر في الأمر مليا قبل أن أورط نفسي".
* * * * *
كانت رحيل في زيارة لبيت وفاء حيث لم تكن السعادة تسعها وهي تجلس إلى جانب أمّها. كانت طوال الوقت تنظر إلى وفاء وتراقب تحركاتها وتصرفاتها. لم تتوقف عن الحديث عن سالم وتفوقه ونجاحه وكيف أنه تحصّل على عمل في أهم الشركات التركية دون أقرانه.
ثم بادرت أمَّ وفاء قائلة لها:
- ما شاء الله صارت وفاء صبية، وأظن أنها أصبحت جاهزة للزواج. أليس كذلك؟
- صدقت. لا أخفيك أنني لا أدري ماذا أفعل عندما تتزوج؟ فكما ترين يا أوخية، أنني أعتمد عليها في كل شيء.
- ما شاء الله.. إنها حاذقة وذكية!
- إنها تقوم بكل أعباء البيت من: طهي، وغسيل، وترتيب، كما أنها تهتم بأخوتها الصغار.
ابتسمت رحيل وقالت:
- لا أخفيك يا أمّ وفاء أنني أحبها كثيرا ومعجبة بها ولذلك تحدثت مع سالم، ابني، بشأنها وقد وعدني بأنه حين يعود من اسطنبول سيتقدم لخطبتها رسميا.
هزّت أمّ وفاء رأسها وقالت بخجل:
- أهلا وسهلا بكم، ولكن...
- ليس ثمة لكن.. لا نريد أن نستبق الأحداث، فقط أردت أن أبلغك بما ننوي فعله كي يكون لديك علم.
ثم رنت رحيل إلى وفاء ببصرها حين رأتها تدخل عليهما وبيدها سفرة الشاي، وقالت لها مبتسمة:
- تعالي يا حبيبتي. اجلسي بجانبي.
- آسفة يا خالة رحيل! لدي أعمال كثيرة عليّ إنجازها، كما أنني أريد أن أجهز نفسي للامتحانات النهائية.
- اجلسي خمس دقائق فقط.
- حاضر!
وما إن جلست وفاء حتى بادرتها رحيل قائلة:
- كيف حالك يا وفاء؟ وكيف أنت والدراسة؟
- الحمد لله بخير يا خالة! أحتاج لدعواتك فامتحانات السنة النهائية على الأبواب.
الفصل الخامس
بينما كان سالم يفكر في الطريقة المثلى التي يعتذر بها عن الزواج من دلال دون أن يجرح شعور والدها أو يثير غضبه إذ أنها على ما يبدو لم تعجبه، ولم ترق له، حيث لم ير فيها ما يشجعه على الزواج منها والاقتران بها. زد على ذلك أن المعلومات التي جمعها عنها وعن أسرتها محسن لم تكن مشجعة، فقد نصحه بالابتعاد عنها لأن أسرتها أسرة منحلة أخلاقيا وسمعة البنت بحسب ما نما لمسامعه من أكثر من مصدر سيئة. بيد أن المشكلة تكمن في عدم قدرته على مواجهة السيد فوزي بتلك الحقيقة. لذلك ودّ من أعماق قلبه بأن تبادر دلال برفضه وعدم الموافقة عليه كعادتها كي يخرج من الورطة بأقل الخسائر. وفي حالة لم تفعل ذلك عليه أن يعتذر لوالدها بأسلوب طيب.
وبينما كان سالم يفكر في مآله إذ به يرى فوزي يدخل عليه مكتبه مبتهجا. قام من على كرسيه وتقهقر للخلف قليلا ثم أشار إليه وقال بلطف:
- تفضل يا سيادة المدير اجلس هنا.
- ابقَ مكانك يا سالم. إنما مررت بك لأزف لك بشرى موافقة دلال عليك. الحمد لله أخيرا وافقت!
صاح سالم دون وعي مصدوما:
- ماذا؟ وافقت!
- نعم يا سالم! أنت محظوظ يا بني. ألف مبروك. جئت لأهنئك من أعماق قلبي!
- ولكن...
قاطعه فوزي وهو يرنو ببصره إلى ساعة يده قائلا:
- أجِّل الحديث للمساء يا سالم، فنحن في انتظارك الليلة على العشاء كي نحتفل جميعا، كما أننا سنتحدث عن الخطوة التالية. على كل حال، لدي اجتماع مهم الآن، وعلي أن أكون في مكتبي.
وما إن غادر فوزي المكتب حتى وضع سالم يده على رأسه وعاد إلى تفكيره وقد عصفت به الحيرة...
وبحلول المساء استقل سالم سيارة أجرة ميمما وجهه نحو بيت فوزي بعد أن حزم أمره.. وعقد عزمه على الاعتذار عن الزواج من دلال مهما كلفه الأمر. ولدى وصوله لفتت سيارة "مرسيديس سبورت"، فارهة فضية اللون، كانت رابضة أمام بيت فوزي، نظره. جعل يتأملها بدهشة وراح يحدث نفسه: "لا بد أنها تكون سيارة أحد الضيوف الأثرياء.. يبدو أنه دعا بعض الضيوف".
ابتسم فوزي ابتسامة عريضة حين فتح الباب ورأى سالما ينظر إلى السيارة بإعجاب شديد. بادره متسائلا:
- أأعجبتك السيارة يا سالم؟
- نعم! إنها سيارة جميلة.
- كنت أعلم أنّها ستنال إعجابك، ولهذا السبب اشتريتها لك. إنها سيارتك منذ اليوم يا سالم.
صاح سالم في دهشة:
- ماذا سيارتي؟؟ هذه سيارتي؟!!
- إنها هديتي لك ولدلال بمناسبة الخطوبة.
جلس سالم على مائدة الطعام البيضوية التي كانت تحوي كلّ ما لذ وطاب من أصناف الطعام الشهية، والمشروبات، والفواكه. أخذ ينظر إلى الصحون الموضوعة فوق الطاولة وهو يحدّث نفسه: "لم أعد أفهم شيئا مما يجري حولي ومعي، فكأنني في حلم. أظن أنه ثمة خطأ ما!! لا بد أن يكون في كلام محسن مبالغة أوخطأ ما. أو ربما الغيرة هي التي دفعته لذلك؟... على كل حال أنني لم أر من السيد فوزي إلا خيرا وإحسانا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! على كل حال لن أكون لئيما وأقابل هذا الكرم الحاتمي بالإساءة". كانت أم دلال في غضون ذلك تبذل مجهودا كبيرا لإقناع ابنتها بالنزول من غرفتها لمشاركتهم الطعام غير أنها رفضت بشدة. لم تجد عند ذلك سوسن بدا من تركها في غرفتها والالتحاق بهما على طاولة الطعام. قام سالم وسلم عليها باحترام، وبدورها رحبت سوسن به بحرارة، وما إن جلست إلى الطاولة حتى بدأ الطاهي في سكب الطعام في الصحون.
هزّ فوزي رأسه وابتدرها مبتسما:
- مثل ما توقعت تماما يا سوسن. لقد أعجبته السيارة كثيرا.
ردّت عليه بابتسامة وقالت بثقة مفرطة:
- كنت واثقة من ذلك يا عزيزي. أنا سعيدة لأنها أعجبتك إذ أنها من اختياري يا سالم.
- ذوق رفيع يا خانم.
- هذا من لطفك يا بني. كما تعلم أن دلال ابنتنا الوحيدة ولن نبخل عنها بشيء أبدا. وأنا متأكدة أنك ستعيش معها في سعادة.
رنا فوزي إليها ببصره وسألها باستغراب:
- ولكن أين هي دلال يا سوسن؟ لِمَ لم تأتِ لاستقبال خطيبها وتناول الطعام معنا.
- إنها تعتذر عن النزول بسبب المرض.
قال سالم بلطف:
- سلامات.. لا بأس عليها.
ابتسمت سوسن ابتسامة ماكرة وقالت:
- فقط وعكة خفيفة! لا تشغل بالك عنها كثيرا!
ثم سكتت برهة وأردفت قائلة:
- لقد سبق وأن اقترحت على فوزي أن نعجل بالقيام بحفل الزفاف... ففي تقديري لم يعد ثمة ما يدعو لتأخيره، فنحن جاهزون. وكما يقول المثل: خير البر عاجله.
ثم سكتت برهة وأردفت بابتسامة:
- فما رأيك يا سالم؟ ألست على حق؟!
قال سالم مرتبكا وأجاب بدبلوماسية:
- بلى! رأيك معتبر يا خانم، غير أنني ربما أحتاج لبعض الوقت لأكون جاهزا، وكما تعلمين أن أسرتي تقطن في انطاكية وأعتقد أنها قج تحتاج لبعض الوقت لترتيب إجراءات القدوم إلى هنا.
- لا تحمل همًّا يا سالم، لا أظن أنك في حاجة لترتيب شيء فكل شيء جاهز. اترك أمر الأعداد والترتيب علينا، فسنقوم بكل شيء.. ولا أظنك تحتاج أن تقوم بأي شيء غير دعوة أسرتك لحضور الحفل، وتحدد لي العدد الذي سيحضر من طرفك.
هزّ سالم رأسه موافقا وقال بارتباك:
- شكرا لكما، هذا كثير في شأني.
قالت بزهو:
- أريد أن يكون حفل ابنتي حفلا مميزا يُضرب به المثل.. وأودّ أن تتحدث عنه نساء الدنيا.
ثم التفتت إلى زوجها وقالت بزهو:
- أليس كذلك يا فوزي؟
هزّ فوزي رأسه وأجاب بابتسامة عريضة:
- بلى.. بالطبع يا عزيزتي!
ثم قدم فوزي إلى سالم مفاتيح السيارة قائلا:
- ألف مبروك يا سالم، بامكانك قيادتها منذ الآن.
- شكرا لكما.
انقلب سالم إلى شقته بسيارته الجديدة تتنازعه الهواجس وتختلط في ذهنه المشاعر. كان طوال الطريق يتأملها: ينظر إلى كراسيها الجلدية.. وإلى عدادات سرعتها.. ومؤشراتها.. وساعاتها.. ويقول في نفسه: "لم أكن أتصور أنني سأقود مثل هذه السيارة الفارهة حتى في الحلم؟!". ثم لم يلبث أن عاد به تفكيره إلى الواقع. طفق يتساءل في قرارة نفسه: "أأنا في حلم أم في علم.. أهذه مِحنة أم مُنحة؟ أأفرح أم أحزن؟ يا تُرى هل فتح لي الحظ أبوابه أم أنني ولجت عالم الوهم؟؟ ماذا دهاني، وما الذي عقد لساني.. وبدّل فكري وقلب جناني؟؟ ذهبت لأعتذر عن الخطوبة إذ بي أؤكدها. هل يا تُرى ستوافق أمي على هذا الزواج؟ وكيف سيكون وقع الخبر عليها إذا ما أخبرتها؟ لا أظن إنها ستوافق على المجيء لأن وضعها الصحي لا يسمح لها بالسفر لمسافات طويلة كما أنني أعلم أن مثل هذه الحفلات لا تروقها، فهي امرأة بسيطة تتسمك بالعادات والتقاليد وتحافظ على القيم، وجو مثل هذه الحفلات الصاخبة لن يناسبها بحال من الأحوال...".
عاد إلى نفسه يحدّثها وهو يجول ببصره في أنحاء السيارة مبهورا: "كنت أتمنى في طفولتي أن أركب دراجة جديدة، أو تكون لي لعبة كأقراني... ماذا سيقول أصدقائي وزملاء الدراسة عندما يروني أقود هذه السيارة بَلْهَ أولئك الذين كانوا يسخرون مني.. ويستهزؤون بثيابي المهلهلة.. ومن حقيبة كتبي الممزقة، وكانوا يمنعونني حتى من اللعب معهم. وماذا سيقول ذلك الولد المغرور، شاطر باشا، الذي كان لا يسمح لي بالجلوس معه، ولا يكف عن تعييري بأنني فقير وليس في مستواه؟؟.. ماذا سيقول حين يراني أقود هذه السيارة؟ وكيف سيكون شعوره؟! لقد نسي أن الكبر خطيئة وأن الأيام دولٌ.. والحياة تتقلب.. وأن الله يرفع ويخفض، فيصير الفقير غنيا.. ويغدو الغني فقيرا.. والسقيم صحيحا.. والصحيح سقيما...".
توقف عن التفكير فجأة حين رأى بواب العمارة يقترب منه. أنزل سالم زجاج باب سيارته، فاستبد بالبواب الذهول. بادره بالسؤال مستغربا:
- ما هذا يا سالم، أعثرت على كنز؟
ردّ سالم مازحا:
- الله أعلم يا عم، كنز أم مصيبة؟!
- سيارة مَن هذه يا سالم؟
- إنها سيارتي يا عمّ، متولي.
- أتمزح معي؟
- لا بل إنها الحقيقية.
هزّ الحارس رأسه وقال بدهشة:
- ألف مبروك يا سالم!
اتصل سالم حال دخوله إلى شقته بصديقه محسن كي يزفّ إليه البشرى. وما إن أخبره بأنه وافق على خطبة دلال، وأن أباها أهداه سيارة فارهة حتى ردّ عليه محسن مستنكرا:
- أغيرت الهدية رأيك؟
- بصراحة لقد تبين لي أن رأيك في الأسرة غير صحيح.
- لا ألومك فللمال بريقه.. وللهدايا مفعولها!!
- ماذا تقصد يا محسن؟ كنت أظن أنك ستفرح لي وتهنئني.
- أعلم أنك لا تريد أن تصحو من حلمك الجميل.. فهذا شأنك ولكنني أديت دوري ونصحتك!
استشاط سالم غضبا:
- أنت من يحلم يا محسن. أما أنا فأعيش الواقع والحقيقة.
ثم سكت برهة وأردف قائلا بتهكم:
- انظر لحالك لتعرف من منا يعيش الواقع! ولكن على ما يبدو أن الحسد أفقدك صوابك!
ثم أقفل سالم في وجهه السماعة...
وما إن سكن غضبه وعاد لواقع حتى جَـالَ طيف أمّه في خياله وتذكّـر أسرته. أخرج بعد تردد هاتفه النقال من جيبه واتصل بأمه بعد أن عقد العزم على إخبارها ودعوتها للحضور مجاملة...
كاد قلب رحيل يطير من الفرح حين سمعت صوته. ابتدرته بلهفة معاتبة:
- أين أنت يا سالم؟؟ لِـمَ لَمْ تتصل بنا منذ مدة؟! لقد شغلت بالي عنك!
- معذرة يا أماه فالمشاغل هنا كثيرة.
- أعانك الله يا حبيبي! متى ستزورنا؟
- إن شاء الله قريبا.
- على فكرة، لقد كنت أمس في بيت وفاء وقد أخبرت أمها برغبتك في خطبة ابنتها.
- ولكن...
- ولكن ماذا؟ أنسيت أنك وعدتني، ثم أن الخطبة لا تحتاج لكثير من المال.
سُقط في يده وأحس بالارتباك مما دفعه ذلك للعدول على فكرة إبلاغها ودعوتها شفقة عليها كي لا تُصدم بالخبر...
الفصل السادس
كرّت سبحة الأيام.. ومضت السنون تباعاً يطوي بعضها بعضا.. وانقضت مدة العقوبة بحلوها ومرّها.. وعجرها وبجرها.. وأحزانها وآلامها.. فدوام الحال من المحال. عندئذ خرج صابر من وراء القضبان.. وغادر السجن بعد أن استعاد حريته التي فقدها منذ ما يقارب ربع قرن من الزمان أمضاها في غياهب السجن ظلما. أقام له زملاؤه حفل وداع. ولدى خروجه وعده رضا آغا بأن يعمل على براءته بكل ما في وسعه بعد أن وافقت المحكمة على فتح ملف القضية من جديد وإعادة النظر في الحكم بعد الالتماس الذي تقدّم به صابر...
يممّ صابر وجهه نحو انطاكية ليستأنف رحلة البحث عن ابنه لكون بها عدد كبير من المهاجرين السوريين. تزاحمت الخواطر والأفكار في خياله فيما كان يسير في شوارع انطاكية. جعل يتصفح الوجوه وينظر إلى المارة، علّه يلتقي بأحد يعرفه، مما أثار سخط بعض الناس وفزعهم. توقف عند مطعم شعبي صغير يبيع سندويشات وأكلات خفيفة حين عضه الجوع بنابه وأضناه التعب. ولج المطعم لشراء "سندويشة" ليسكت بها جوعه.
طلب صابر من صاحب المطعم "سندويشة" الفلافل يا أخي؟
بيد أنه جعل يُحملق في وجهه مشدوها.. فاغرا فاه. كانت علامات التعجب بادية على محياه مما بعث بالفزع في صدر الرجل، فسأله بحدة مرتبكا:
- ماذا تريد؟ سندويشة!
ردّ صابر بصوت متلجلج:
- كأني أعرفك يا أخي؟ فملامحك ليست غريبة عني!
ثم سكت برهة وجعل يقارن بين ملامح الرجل الذي أمامه بصورة صهره، ثم قال متسائلا:
- أأنت سوري؟
- نعم!
- إذن أنت سعيد، إليس كذلك؟!
أوجس الرجل في نفسه خيفة، وهزّ رأسه وأجابه بدهشة:
- بلى! ولكن من أنت؟
صاح صابر:
- ألم تعرفني يا سعيد؟ أنا صابر!
استبدّ عندئذ الذهول بسعيد، واعتراه الأسى غير أنه تمالك نفسه وعاد به تفكيره إلى الماضي البعيد فصاح مندهشا:
- صابر! وما الذي فعل بك هذا؟
- ذلك الحريق اللعين.
- الحمد لله على سلامتك يا صابر!! لقد ظننا أنك قضيت نحبك فيه.
تنهد صابر بعمق وقال:
- كيف هي أختي رحيل؟ وكيف هو ابني سالم؟
- الحمد لله كلنا بخير.
أردف صابر بلهفة:
- أين ابني؟ أريد أن أراه؟ إنني مشتاق إليه.
- إنه في اسطنبول. لقد صار رجلا، ونجح في دراسته، وهو يعمل في إحدى الشركات الكبرى الآن.
- الحمد لله على كل حال، وبارك الله فيك على رعايته والعناية به.
ثم تنهد بعمق وأردف قائلا:
- لو كنت أعرف أنه في اسطنبول لبحثت عنه هناك قبل أن آتي إلى هنا.
- لا عليك يا صابر! سنتصل به بالهاتف من البيت وستكلمه وتسمع صوته أولا ومن ثم سنطلب منه أن يأتي إلينا ليراك. على كل حال ستكون مفاجأة سارة لرحيل أن تعرف أنك لا تزال على قيد الحياة، فقد كثيرا على فراق ولم يغادر الحزن فؤادها عليك.
زفّ سعيد النبأ إلى زوجته بالهاتف على الفور. نزل الخبر عليها كالماء البارد وتلقته بدهشة حتى كادت أن تفقد عقلها من شدة الفرح وهي تسمع أنّ أخاها عاد من وراء المجهول وهو في طريقه إليها...
* * * * *
كان سالم في تلك الأثناء مستغرقا في التحضير لحفل الزفاف، ومنشغلا بشراء احتياجاته بعد أن منحه فوزي مبلغا كبيرا من المال كي يظهر متأنقا وبمظهر يليق بمستواه.
تردد سالم قبل أن يقرر الاتصال بحسن ليعرب له عن اعتذاره عمّا بدر منه، وليؤكد على دعوته.
ردّ محسن متجهما:
- عموما شكرا على الاتصال، ولكن لا أزال مصرا على أن هذا الزواج ليس في مصلحتك. أرجوك يا سالم، اصح من حلمك واخرج من حالة الوهم التي أنت فيها قبل فوات الأوان.
- ليس لدي وقت لأضيعه في المهاترات. أريد أن أعرف: تريد أن تحضر أم لا؟
- بالطبع لا!
استبد بسالم الغضب حينئذ، فأغلق السماعة في وجهه، ثم أقفل هاتفه كي لا يتلقى أي اتصال أو أية مكالمة، ثم ألقى نفسه على سريره...
* * * * *
اعترى رحيل الذهول ودارت بها الدنيا حين رآت أخاها أمامها بتلك الحالة البائسة وذلك المنظر المرعب. سافرت فجأة بفكرها عبر الماضي لتستدعي صورته حين كان شابا وسيما ثم طفقت تقارن تلك الصورة بصورة الوحش الذي يقف أمامها. شتان بين الصورتين، عندئذ لم تتمالك نفسها فأجهشت بالبكاء. جعلت تتلمس آثار الحروق وتمسح وجهه بأناملها. اغتالت تلك التشوهات فرحتها.. وسحبت منها رونق اللقاء.. ونكّدت عليها رؤيته. سرعان ما تداركت رحيل نفسها.. ولملمت شعث قواها.. وكفكفت دموعها وجلست إلى جانبه تحدثه وتستمع إلى قصته المأسوية بكل جوارحها.
ثم قالت له بصوت حزين:
- الحمد لله على سلامتك! لا أكاد أصدق نفسي بأن الله أعاد لي أخي بعد هذه المدة الطويلة. لقد فقدنا الأمل في حياتك.
هزّ صابر رأسه وقال بأسى:
- إنها تجربة مريرة.. وقصة قاسية!
ثم التفت إلى سعيد وأردف قائلا:
- أرجوك اتصل بسالم، فإنني في شغف لسماع صوته.
حاول سعيد الاتصال به مرارا ولكن دون جدوى...
قطب سعيد جبينه وهزّ رأسه وقال:
- للأسف لا يوجد ردّ، يبدو أن هاتفه النقال مقفل.
- إذن عليّ أن أذهب إليه بنفسي، إذ لن يهدأ لي بال حتى أراه. إن صورته وهو يبكي والنار تحيط به وتزحف نحوه لم تفارق خيالي لحظة إذ أنها آخر صورة التقطتها عدسة عيني...
اغرورقت عينا رحيل بالدموع، ثم قالت مواسية:
- لا تشغل بالك عليه يا صابر، أعتقد بأنه سيتصل بنا في أية لحظة وبذلك ستكون له مفاجأة كبرى.
- لن انتظر حتى يتصل. سأذهب إلى اسطنبول لأبحث عنه.
- عليك أن ترتاح قليلا، فتبدو مرهقا، وكما تعلم أن المسافة بعيدة.
سكت صابر برهة ثم هزّ رأسه ورنا ببصره إلى سعيد، الذي كان يتابع اللقاء العاطفي عن كثب دون أن ينبس ببنت شفة، ثم قال له:
- أرجوك دُلّـني على أيّ شيءٍ يقودني إليه: عنوانه، رقم هاتفه، مكان عمله، فلن يقرّ لي قرار قبل رؤيته.
ثم سكت برهة وأردف قائلا:
- سأنطلق إلى اسطنبول في أول حافلة.
حاول سعيد الاتصال بسالم المرة بعد الأخرى، وأعاد الكرة تلو الكرة... ولكن دون جدوى إذ كان هاتفه مقفلا.
نظر سعيد إلى صابر وقال بأسى:
- على كل حال، ما دمت مصرّا على الذهاب إليه، خذ معك رقم الهاتف هذا فهو لأحد أصدقائه، وهو شاب وديع اسمه محسن، ففي حالة لم يرد سالم عليك ربما يكون في مقدور محسن مساعدتك للوصول إليه.
ثم سكت سعيد قليلا وقال مترددا:
- بصراحة، لا أخفيك يا صابر، بأنه من الأفضل أن تتريث قليلا وتنتظر حتى أتصل به وأخبره بالأمر حتى لا تكون له صدمة عنيفة حين يراك بهذه الصورة.
- أتقصد آثار الحروق التي بوجهي؟
هزّ سعيد رأسه موافقا ثم لاذ بالصمت.
* * * * *
لم ينم سالم تلك الليلة التي طالت عليه حتى ظن أنها لن تنجلي. كانت الهواجس والأفكار تتمارى في ذهنه. وما إن تنفس الصبح ولاح ضؤوه حتى خرج سالم ليكمل شراء بعض المستلزمات وكان برفقته أحد أصدقائه. التفت إليه فجأة وقال له متجهما:
- لا أدري كيف سيمر هذا اليوم. أحس بشعور غريب ينتابني يا لطفي!
- هذا أمر طبيعي كل واحد منا يمرّ بهذا الشعور. المهم أنك جاهز للحفل.
- لم يبق إلا بعض الأمور البسيطة التي عليّ انجازها قبل التوجه للصالة لاستقبال الضيوف.
ثم سكت سالم برهة وقال:
- لا أكاد أصدق ما يحدث. كأنني في حلم فالأمور تسير بسرعة رهيبة يا صديقي.
- وما الداعي لكل هذه العجلة؟ وكما يقول المثل: في التأني السلامة!
زمّ سالم شفتيه وقال بمضض:
- إنه طلب أم العروس يا لطفي! فهي التي تسير الأمور.
سكت لطفي برهة ثم قال:
- وماذا عن أسرتك هل دعوتها للحضور يا سالم؟
ارتبك سالم وأجاب بابتسمامة متكلفة:
- أنتم أسرتي هنا.
- قصدت من أقاربك.. أمك.. أهلك.. إخوتك.
- لا أحد! كان بودِّي أن تحضر والدتي على الأقل ولكن للأسف ظروفها الصحية لا تسمح بذلك، كما أن زوجها لا يستطيع أن يترك عمله، ولكن عقدت العزم على التوجه إلى انطاكية مع عروسي كي نقيم حفلا متواضعا للوالدة في حيّنا.
ثم سكت سالم برهة وقال باستياء:
- لقد اتصلت بمحسن البارحة واعتذرت له وكررت له الدعوة غير أنه رفض الحضور بطريقة فجة.
- دعك منه ولا تجعل شيئا يعكر عليك صفو فرحتك!
* * * * *
لم يجد صابر بدًّا من الاتصال بمحسن، بعد أن باءت كل محاولاته للوصول لابنه بالفشل، علّه يكون في مقدوره مساعدته في الوصول إليه والالتقاء به. سُقط في يد محسن وكاد يسقط الهاتف من يده حين اتصل به صابر وأبلغه بأنه والد سالم وقد جاء من انطاكية لرؤيته.
استدرك محسن أمره وتمالك نفسه وردّ قائلا:
- أتقصد سالم الـحـ...
قاطعه صابر في لهفة قائلا:
- نعم يا بني! سالم الحموي. أرجوك ساعدني في الوصول إليه. لقد حاولت الاتصال به على هاتفه النقال ولكنه للأسف لم يردّ علي.
ردّ عليه محسن مرتبكا وبصوت متلجلج:
- ولكن.. ولكن... لقد أخبرني أنّ أباه قد توفي منذ زمن بعيد. أيكون قد كذب علي أو أن في الأمر خطأ؟
- ثمة خطأ في الأمر يا بني. هلاّ تكرمت يا بني، وأخبرتني أين أجده، وكيف أصل إليه؟
دارت بمحسن الدنيا، وتحيّر في أمره، لعلمه أن الأموات لا يعودون للدنيا ثانية! غير أن فضوله قاده إلى معرفة الحقيقة بالإضافة إلى أنّه رقّ لحال الرجل الذي كانت نبرة صوته توحي إلى أنه في حاجة ملحة للمساعدة. فقال له:
- على كل حال، حدّد لي مكانك وسأكون معك في أقرب وقت ممكن لأفهم منك القصة.
انطلق محسن إليه في الحال. دخل المقهى الذي كان صابر ينتظره فيه وأخذ يتصفح وجوه الجالسين. فجأة قام صابر من على كرسيه ودنا منه وسأله بلطف:
- أأنت محسن؟
أوجس محسن في نفسه خيفة وأعتراه الفزع، بيد أنه تمالك نفسه وأجاب متلعثما:
- نعم أنا محسن!
قال صابر بلطف.
- أنا أبو سالم.. أنا صابر الحموي يا بنيّ.
جلس محسن واجما وعلامات الارتباك بادية على قسمات وجهه والحيرة تعصف بفؤاده. قطع صابر عليه تفكيره قائلا بصوت حزين:
- معذرة يا بني على الإزعاج. لعلني قد ضايقتك، ولكن للأسف، لم أجد طريقا آخر للوصول إلى ابني غير طريقك فقد أخبرني سعيد بأنك صديقه.
أجابه مرتبكا:
- لا.. لا أبدا يا عمّاه، ليس ثمة إزعاج. ولكن لا أخفيك أنك صدمتني.
أطرق صابر برأسه قليلا ثم رفعه وقال بأسى:
- لم أر سالما منذ أن كان رضيعا. لقد مرّ ربع قرن على ذلك.
ثم هزّ رأسه وقال والعبرة تكاد تخنقه:
- إنها مدة طويلة أليس كذلك يا بني؟!
- بلى يا عمّاه. ولكن لماذا؟؟ وما هو السبب؟
سكت صابر برهة ثم قال بلوعة:
- كان ذلك قدر الله ومراده؟
ثم راح يحكي له قصته. انتاب محسنا الحزن. ولاذ بالصمت برهة ثم أردف قائلا:
- للأسف هذه المعلومات مغايرة تماما لمَا أعرفه عنك إذ أخبرني سالم بأنك قضيت نحبك في حادث عندما كان رضيعا.
ثم وضع محسن يده على رأسه واستأنف حديثه بارتباك:
- لا أخفيك.. أنني في حيرة من أمري يا عمّ.
- لا ألومك يا بني، كما أنني لا ألوم سالما فهو أيضا لا يعرف الحقيقة. لقد انقطعت أخباري عن أسرتي بعد الحادث منذ ربع قرن مضى تقريبا، ولذلك ظنّ أفرادها بأنني فارقت الحياة في الحريق الذي اندلع في بيتي. ولكن شاء الله أن أنجو.
ثم أشار إلى وجهه وقال بلوعة:
- انظر هذه آثار ذلك الحريق اللعين لا تزال شاهدة على حجم المأساة.
- ولكن أين كنت طيلة هذه المدة؟
- هذه قصة حزينة أخرى لا يتسع المجال لسردها يا بني، ولكن لا بأس أن أرويها لك في وقت لاحق. أرجوك ساعدني للوصول إليه إذ لم يعد يهمني شيء الآن إلا رؤيته.
- يؤسفني أن أقول لك إنك جئت في وقت غير مناسب يا عمّاه.
- ماذا تقصد بذلك يا محسن؟ أثمة ما يمنع أن أراه اليوم؟.. أرجوك أخبرني! هل هو بخير؟
- لا تقلق يا عمّاه، إنه بخير، ولكن .. ولكن...
- ولكن ماذا يا بني؟ أثمةَ ما تخفيه عني؟ هل حصل له مكروه.. لا قدّر الله؟!
- لا أبدا.. ولكن الليلة هي ليلة زفافه على ابنة أحد أثرياء المدينة في أحد فنادق المدينة الفارهة. ولربما إذ علم بأنك لا تزال على قيد الحياة، ويراك بهذه الحالة ستكون له صدمة عنيفة.
قام صابر من مكانه وصرخ بأعلى صوته:
- الله أكبر! يا للقدر!!.. ليلة زفافه!! أرجوك يا بني، خذني إليه.. فلطالما دعوت الله أن ييسر لي في حضور فرحه، وأن يهيئ لي الظروف لأزفه بنفسي.
ثم سكت برهة وأردف قائلا:
- ألا ترى أن الله استجاب لدعائي.
لاذ محسن بالصمت ولم يجبه. استأنف حديثه متسائلا بعد أن أفاق من صدمته:
- ولكن لماذا لم يدعُ أحدا من أسرته؟
ردّ محسن مستنكرا:
- هذا ما لم أستطع فهمه يا عم!
تنهد محسن بعمق وأردف قائلا:
- ما رأيك يا عمّ، أن تبقى معي الليلة وغدا سنحاول الاتصال به مرة أخى وأعدك أن نذهب إليه في بيته إذا لم نسمع صوته.
- لا يا بنيّ، لم يعد في مقدوري الانتظار.. أظن أن كأس الصبر قد نفد في قلبي، أرجوك يا بني، دلني على مكانه!
* * * * *
الفصل السابع
طفق الضيوف يتوافدون على صالة فندق الهيلتون، التي لبست حلة مزخرفة، وتزينت بالبالونات.. والأضواء الملونة.. والألوان الزاهية، وتهيأت لحفل زفاف سالم ودلال. كان فوزي وزوجته في غضون ذلك واقفين لدى باب الصالة في استقبال الضيوف... فيما كان سالم يجلس إلى جانب عروسه على المنصة يستقبلان التهاني من الحاضرين. كان سالم يتكلف الابتسام وهو يحي الحاضرين، بيد أن طيف أمّه لم يبرح خياله لحظة. جعل يحدّث نفسه حينما جَال طيفها في خياله: "أرجو أن تسامحيني يا أماه..." ثم أخذ يتساءل في قرارة نفسه: "بماذا سأعتذر لها يا تُرى وهل ستقبل اعتذاري؟ لطالما انتظرت المسكينة هذا اليوم.. على كل حال، الحمد لله أنني لم أدعوها لكوني أعلم مسبقا أن هذا الجو الصاخب لا يروقها ولا يناسبها. كما أنني لا أودّ أن تراني هي والعمّ سعيد في هذه الحالة". وأما دلال، التي كانت ترتدي فستانها الأبيض، كانت في تلك الأثناء تسبح في بحر أحلامها وأوهامها أذ أنها كانت في عالم آخر لا علاقة له بالزواج، غير أنها كانت بين الفنية والأخرى تخرج هاتفها النقال من حقيبة يدها وترمقه بسرعة خاطفة ثم تعيده مرة أخرى إلى مكانه. كانت تحدث نفسها: "لا أدري متى ستنتهي هذه الليلة؟ إنني لم أوافق على الزواج من هذا المعتوه إلا مرضاة لوالدي.. ولأقطع لسان أمي التي لم تكن تتوقف عن الكلام والتوبيخ..."...
وفي غضون ذلك تقدم فوزي نحوهما برفقة رجل تبدو عليه آثار النعمة كأنه استقر في هذه الحياة إلى الأبد: أوداجه منتفخة، وشعره مصبوغ باللون الأسود الفاحم، وكانت تتقدمه كرش كبيرة، وبالكاد كان يمشي. كانت ترافقه امرأته، التي كانت تضع كمية كبيرة من المساحيق لتغطي التجاعيد التي على وجهها، وتمسح آثار الزمن الذي تركه عليه، كانت تمسك بذراع "البرنس"...
أشار فوزي إليهما وقال للرجل بخشوع:
- إنه لشرف عظيم يا سيادة الوزير، أن أقدم لك سالما صهري، ودلال ابنتي؟
قال الوزير بثقة وتعال:
- بالرّفاء والبنين، يا أستاذ سالم. وألف مبرك لك يا أميرة دلال.
كان سالم ينظر إلى الضيوف ويراقب تصرفاتهم الهوجاء وهم يتمايلون على أنغام الموسيقى الصاخبة في الوقت الذي علت فيه قهقهاتهم وارتفعت أصواتهم، بعدما لعبت الصهباء برؤوسهم.
* * * * *
راح صابر يروي قصة غيابه طوال المدة باختصار لدى وصوله إلى بيت محسن، وما إن أتى على آخرها حتى ترقرقت عينا محسن بالدمع، إذ حركت في مهجته الأشجان.. وبعثت في فؤاده بجنود الأحزان.
طفق محسن يضرب يدا على يد ثم جعل يردد:
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
سكت برهة ثم أردف قائلا:
- إنني لا أصدق أن كل هذا يحدث لرجل!! قصتك هذه أغرب من الخيال يا عمّاه، وأشبه ما تكون بالروايات الخيالية.
- لا شكّ أنّ كثيراً من القصص والروايات الخيالية مستوحاة من الواقع يا بني. على كل حال لقد نسيت كل ذلك ولم أعد أفكر إلا في ابني سالم فلم يتبق لي غيره.
أثار أبو سالم الشفقة في قلب محسن فتناول عندئذ هاتفه النقال واتصل بسالم مرة أخرى...
ثم رنا إلى صابر ببصره وقال متأسفا:
- إنّ هاتفه مشغول، يبدو أنه يتحدث مع شخص آخر.
ثم لم يلبث أن غرق محسن في بحر تفكيره: "أنا أعلم أن سالماً في عالم آخر، وهو في حلمٍ لا يودُّ أن يصحو منه، ولكن ماذا عساي أن أفعل يا تُرى؟ والده مُصرّ على اللقاء به...".
قطع عليه أبو سالم تفكيره قائلا:
- أرجو أن تحاول مرة أخرى.
أعاد محسن الاتصال مرات ومرات. فجأة انبسطت أساريره ونظر إلى صابر بعد أن وضع يده على السماعة وهمس مسرورا:
- الحمد لله هاتفه يرنّ...
نظر سالم إلى شاشة هاتفه فوجد أن المتصل هو محسن. قال في نفسه: "ماذا يريد مني هذا المعتوه؟.. ليس لدّي وقت لسماع النصائح والإرشادات! ولا أريده أن يعكر عليّ صفو مزاجي."...
أعاد محسن الاتصال به مرارا وتكرارا ولكن دون جدوى. هزّ عندئذ محسن رأسه وقال بأسى:
- يبدو أنه لا يريد الردّ على مكالماتي.
قال له صابر بلوعة:
- ليتني أسمع صوته على الأقل كي أطفئ لهيب الشوق في صدري.
وحين أوصدت جميع الأبواب للوصول إليه.. وسدت كل الطرق أمامهما قرّر محسن تحت ضغط وإلحاح أبي سالم أن يصحبه إلى صالة الفندق.
* * * * *
دنا أحد حرّاس الفندق وهمس في أذن سالم بخشوع قائلا:
- سيد سالم.. يوجد لدى الباب رجلان يدّعيان أنهما يعرفانك، وهما يريدان التحدث معك. أحدهما يُدعى محسن.
سكت هنيهة، واستغرق في التفكير: "محسن! ما الذي جاء به يا تُرى...؟".
لم يمهله الحارس طويلا حتى سأله:
- ماذا أقول لهما يا سيدي؟
هزّ سالم رأسه وقال مرتبكا:
- دعهما يدخلان!
وما إن أطلّ صابر برأسه على الحاضرين حتى توقف الجميع عن الكلام، وعن الضحك، وتسمّر كل واحد منهم على حالته التي كان عليها.. وسكن في موضعه الذي كان فيه. اتجهت الأنظار جميعها إلى الرجل القبيح في آن واحد. عمّت الفوضى جراء الفزع الذي ملأ الصالة وكسا الوجوه.. وتوقفت الفرقة الموسيقية عن العزف.. واضطربت الصالة.. ومارت النساء وماجت، وجعلن يصرخن في حالة هستيرية حيث ظن بعضهن أنه ربما يكون أحد المجانين قد نجح في الفرار من مستشفى الأمراض العقلية.. أو ربما يكون مجرما جاء لمهاجمتهم.
أسرع إليه فوزي غاضبا. أمسكه من ذراعه بقبضته ثم أخذ يجرّه بقسوة نحو الباب وهو يصرخ في وجهه غاضبا:
- هيا أخرج من هنا أيها الأحمق!
- أرجوك لا تدفعني.. اترك يدي. دعني أوضح لك الأمر.
- لا أريد أن أسمع منك كلمة.
وفي غضون ذلك هُرع إليهما سالم وقد اشتعل قلبه حقدا على الرجل بغية مساعدة صهره في إخراج ذلك الرجل القبيح.
حملق فوزي في وجه سالم وسأله غاضبا:
- هل دعوتَ هذا الوغد إلى هنا يا سالم؟؟ أتعرف هذا الرجل البشع؟
- لا.. أبدا.. لم أدعه.. ولا أعرفه!
- إنه يدّعي بأنه أبوك!
سحب صابر ذراعه بقوة من يد فوزي حين علم أن الذي يقف أمامه هو ابنه وتقدم نحوه فاتحا ذراعيه ليعانقه بيد أنّ سالماً دفعه بقوة فأرداه أرضاً ثم صرخ بأعلى صوته على الحراس قائلا باشمئزاز:
- اخرجوا هذا الأحمق الدّميم!
استبد بمحسن الغضب لمّأ رآه يدفع أباه ويشتمه بطريقة مهينة. هُرع نحوه وصاح في وجهه غاضبا:
- كيف تفعل ذلك بأبيك أيها الأحمق؟!!
استبدّ الغضب بسالم عندئذ.. وركبه الحمق.. فسدّد لكمة قوية إلى وجهه فأوقعته أرضا...
قام صابر من مكانه متثاقلاً وقال بصوت مُنهكٍ حزينٍ وهو ينظر إلى سالم ليثيرَ شفقته:
- ألم تعرفني يا سالم؟! إنني أبوك يا بُني!!
نظر الجميع في دهشة إلى سالم، الذي جعل يصرخ بصوت حانق.. وفي حالة هستيرية في وجه الحرّاس الذين كانوا واقفين يراقبون الموقف المرتبك عن كثب وفي وجوم.
- ماذا تنتظرون أيّها الأوباش؟ اخرجوا هذا المعتوه من أمامي. هيا بسرعة!
ثم أشار إلى محسن، وقال غاضبا.
- والحقوا به هذا السافل!
ثم نظر إلى محسن شزرا، وكان الشرر يتطاير من عينيه. صاح في وجهه:
- سيكون لي معك حساب آخر أيها الوغد.
ثم رنا ببصره نحو الفرقة الموسيقية التي كان أفرادها يتابعون المشهد بذهول ثم صاح:
- لِمَ توقفتم عن العزف؟ هيّا واصلوا العزف.
الفصل الثامن
عصف الغضب بفوزي، وهو يرى صرح كبريائه يتحطم أمام الملأ. ركبه الحمق وهو يشاهد الضيوف يغادرون الصالة زرافات ووحدانا غاضبين. التفت فوزي إلى سالم وكالَ له الشتائم والسباب، كما اتهمه بالكذب والنّصب بيد أن ذلك على ما يبدو لم يكن كافيا ليروي غليله ويطفيء نار الحقد في قلبه، عندئذ دنا منه ووجّه له صفعة على وجهه على حين غرة ثم جعل يصيح في حالة هستيرية:
- ستدفع ثمن ذلك غاليا أيها النذل!
ذهبت تلك الصفعة بلبّ سالم، الذي جمع قبضته.. وزمّ شفتيه غاضبا.. وتهيأ ليسدد له لكمة والغيظ يكاد يمزق فؤاده. حملق سالم في وجهه ملياً قبل أن يكون في مقدوره السيطرة على غضبه، فعدل عن ذلك في آخر لحظة.
قال سالم غاضبا وهو يحبس دموعه:
- لولا أنك في سنّ والدي لرددتها عليك.
رد عليه فوزي متهكما:
- ولكنك لقيط.. ولا أبّ لك!
عند ذلك اشتعل أوار الغضب في رأس سالم فهجم عليه، إلا أن الحرس مسكوه وأحالوا بينهما.
أخرج سالم في تلك الأثناء مفاتيح السيارة التي كانت بجيبه ورماها نحو فوزي وصاح غاضبا:
- خذ مفاتيحك أيها الوغد. وابنتك البلهاء، طالق ثم طالق ثم طالق.
* * * * *
أظلمت الدنيا في عيني سالم، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو يغادر الفندق ماشيا على قدميه يجرجر حبال المهانة والخزي. جعل يحدث نفسه والدموع تترقرق في عينيه: "ما أسرع تبدل الأحوال وتقلب الدنيا.. لقد ذهبت إلى صالة الفندق بسيارة فارهة تسبقني طموحاتي وآمالي، وها أنا أعود إلى بيتي ماشيا على الأقدام أجرّ حبال الخيبة والشؤم بعد أن فقدت كلّ شيء في طرفة عين؟!!".
وما إن وصل سالم إلى البيت حتى رمى بجسده المنهك على السرير. نفث الشيطان في روعه على الفور: "كيف يهدأ لك بال.. وينام لك جفن.. قبل أن تثأر لكرامتك من ذلك الوغد.. لقد أعمى الحقد والغيرة قلبه فاستأجر مجرما ليقلب حياتك رأسا على عقب. عليك به. إذ لم يتبق لك شيء تخشى عليه.. لقد دمر ذلك السافل مستقبلك.. وهدّم صرح طموحاتك".
فجأة استوى جالسا على طرف السرير حين انقدحت في ذهنه فكرة الانتقام. أخذ يحدث نفسه والحقد يحدوه: "يجب أن يدفع محسن الثمن باهظا، وألاّ يمر صنيعه هذا دون عقاب.. عليّ أن أنتقم لكبريائي منه. سألقنه درسا قاسيا. لم يعد لدي ما أخاف عليه بعد أن ضاع الأمل.. وتبخر الحلم.. وفقدت كل شيء"... "ليتني أعرف من أين جاء بذلك الوحش وكيف بدرت الفكرة الشيطانية في ذهنه؟!
قام من سريره وذهب إلى المطبخ فأخذ منه سكينا وخرج على جناح السرعة تحدوه نزعة الانتقام بعد أن أعمى الحقد بصيرته. اختبأ سالم خلف شجرة كانت قريبة من بيت محسن متخذا من ظلمة الليل البهيم سترا له. لم يلبث أن عاد محسن إلى بيته بعد أن ودّع صابراً الذي أبى إلا العودة إلى انطاكية. لم يدر بخلد محسن قط أن طائر الموت يحوم فوق رأسه. وما إن وصل إلى بيته حتى أوقف سيارته وترجل منها. فجأة أحس بطعنات غادرة من الخلف تمزق جسده. صرخ صرخة مدوية ووقع على الأرض. أطلق سالم ساقيه للريح ولاذ بالفرار تاركا إياه يتخبط في بركة من الدماء وهو ينازع الموت.
* * * * *
وصل صابر إلى بيت أخته، بمزيد من الأسى والحزن إذ أظلمت عليه الدنيا حيث مزقت إهانة ابنه قلبه، وفقأت دُملة الأحزان في صدره... قرأت رحيل ذلك في وجهه حين رأته. ما لبث أن أمطرته بوابل من الأسئلة:
- ما بك؟! ماذا حصل؟ هل التقيت به؟ كيف هو؟ وأين هو الآن؟ ولماذا لم يتصل بنا؟!
لاذ صابر بالصمت ولم يحر جواباً ولم يلقِ لأسئلتها بالاً مما زادها حيرة على حيرتها، فأجهشت بالبكاء ثم قالت بلوعة:
- ماذا حصل لسالم يا صابر؟ هل حصل له مكروه؟ أرجوك! أجبني.
هزّ صابر رأسه بأسى وقال:
- ليتني لم أره يا رحيل! ليتني لم ألتقه.. يا ليتني متُّ قبل هذا اليوم!
- أريد أن أعرف: هل هو بخير أم ماذا؟! لقد أشعلت نار الخوف في صدري.
تنهّـد صابر بعمق ثم قال متحسرا:
- لقد اغتال ذلك الولد النزق الأمل في صدري.
- والله، لقد حيرتني يا أخي، حتى أنني لم أعد قادرة على التحمل أكثر. أرجوك قل لي: ما الأمر؟
استأنف كلامه والعبرة تكاد تخنقه قائلا:
- ... لقد أهانني أمام الناس في حفل زفافه الذي عشت على أمل أن أحضره...
صكت وجهها وقاطعته قائلة:
- ماذا تقول يا صابر؟ حفل زفافه! أتقصد أنّ سالماً قد تزوج؟ أمتأكد أنت؟!
هزّ رأسه وقال بأسى:
- نعم!
ثم راح يحكي لها ما جرى معه في قاعة الفندق بحسرة ولوعة... لم تصدق رحيل قول صابر، أو ربما لم ترد أن تصدقه إذ أنها غرقت في حالة إنكار شديدة وهي تحدث نفسها: "مسكين أخي يبدو أن حبّه لابنه أصابه بالجنون وجعله يتوهم".
رنت ببصرها إلى زوجها الذي كان يراقب الموقف العاطفي عن كثب وغمزته ثم التفتت لأخيها وقالت له بشفقة:
- على كل حال، يبدو أنك بحاجة للراحة يا أخي!
- لست متعبا جسديا.
ثم سكت هنيهة واستأنف حديثه والعبرة تكاد تخنقه:
- ... تصورا، أنه لم يكتفِ بطردي أمام الناس بل تعمد إهانتي حتى بعدما أخبرته بأنني أبوه... لقد دفعني بقوة، عندما أردت أن أضمَّه إلى صدري، فوقعت على الأرض!!
قالت رحيل لتخفف من حزنه:
- لا بد أن يكون ثمة خطأ ما يا صابر. فأنا أعرفه جيدا، وقد ربيته على حسن الخلق. ولا أظن أنه يقدم على فعل ذلك بحال من الأحوال.. ولا يمكن أن يتزوج دون علمي!!
- إنها الحقيقة يا رحيل. صدقيني، هذا ما وقع لي معه.
أفاقت رحيل عندئذ من حالة الانكار التي تلبستها وأجهشت بالبكاء وهي تقول:
- سامحك الله يا سالم.. أتتزوج دون علمي؟؟ أهذا جزاء سهري عليك وتربيتي لك؟
ثم نظرت إلى أخيها وأردفت قائلة والدموع تسيل على خديها:
- ... لقد حرمني من أجمل أمنية في حياتي. لقد كنت أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
ثم قامت من مكانها ودخلت غرفتها كي تطلق العنان لنفسها لتبكي وقد غرقت في بحر أحزانها.
نظر صابر إلى سعيد وقال:
- هبْ أنني كنت كاذبا أو مجنونا كما دعاني أمام الناس يا سعيد! ألم يكن من باب أولى أن يشفق عليَّ ويرحم سني.. وضعف قوتي. ثم لنقل أنه لم يعرفني، أو أنه أنكر منظري.. وضايقه قبحي ودمامتي.. وأنني لست أباه.. أكان له مبرر أن يتصرف معي بتلك الوحشية، وتلك القسوة؟!
قال سعيد بلطف ليهوِّن من حزنه:
- هوّن عليك يا صابر! كما تعلم أن سالما قليل الخبرة بالحياة، وربما لم يستوعب الأمر وكانت مفاجأة له أن يأتيه رجل بهيئتك ويخبره أمام الناس في ليلة زفافه أنه أبوه، الذي ليس لديه شك أنه قد توفي من زمن بعيد...
ثم سكت سعيد برهة وأردف قائلا:
- على كل حال دعنا ننتظر وسنعلم الحقيقة. إنني على يقين أنه سيأتي إليك معتذرا حين تنقشع عن عينيه الغشاوة.
* * * * *
عاد سالم إلى شقته بعد أن نفذ جريمته خائفا يترقب. استلقى على كرسي الصالون وهو يلهث ثم لم يلبث أن هاجمته الهواجس والظنون من كل جانب. أخذ يحدث نفسه: "أخيرا أخذت بثأري وانتصرت لكرامتي من ذلك الوغد. وعليّ أن أشفي غليلي في المرة القادمة من ذلك الرجل القبيح، الذي ادّعى بكل وقاحة بأنه أبي وأحرجني أمام الناس. على كل حال، ليس من الصعب العثور عليه، فصورته القبيحة لا تخطئها العين أبدا".
وما إن لاح الصبح حتى اتّصل بلطفي ليجسّ النبض، ويتحسس الأخبار. بادره لطفي قائلا بلوعة:
- لقد ساءني ما حصل البارحة في الحفل يا سالم، لأول مرة أراك فيها غاضبا إلى هذا الحد.
- لو كنت مكاني فكيف ستتصرف؟ ولكن ما لم أستطع فهمه هو لمَ فعل محسن ذلك معي؟؟ وكيف خطرت عليه تلك الفكرة الخبيثة؟ وأين عثر على ذلك الشيطان؟!
- ألم تسمع ماذا حصل له؟
- وما الذي سيحصل لذلك الوغد؟
- لقد تعرض إلى هجوم عنيف البارحة بعد عودته إلى البيت.
قال في ارتباك:
- ماذا؟؟ ومن الذي هاجمه؟
- الله أعلم! ولكن يبدو أن الذي طعنه كان يريد أن يجهز عليه.
- وهل ألقت الشرطة القبض على الجاني؟ وأين هو الآن؟
- إنه يرقد في غرفة العناية الفائقة، وهو بين الحياة والموت، وربما يفارق الحياة في أية لحظة! فحالته في منتهى الخطورة.
ثم تنهد لطفي بعمق وقال:
- المشكلة أنه إذا ما فارق الحياة ستكثف الشرطة من البحث عن الجاني، وربما يحققوا معنا، خاصة أنت جراء ما وقع بينكما في ليلـ...
قاطعه سالم مرتبكا لينهي المكالمة قائلا:
- يبدو أنه لدي اتصال آخر يا لطفي. سأتصل بك لاحقا. مع السلامة!
أقفل سالم سماعة هاتفه، ثم أسند ظهره إلى الحائط. سرعان ما تزاحمت الأفكار في ذهنه.. تذكر أمه وأسرته، وصحا من سكرته وأخذ يتخيل نفسه في زنزانة السجن ينتظر تنفيذ حكم الإعدام في حقه.عندئذ قرر العودة إلى انطاكية كي يبقى بعيدا عن مسرح الجريمة، ريثما تهدأ الأوضاع وتتوقف الشرطة عن البحث، ثم لم يعد لديه ما يفعله في اسطنبول بعد أن خسر فيها كل شيء...
لم يلبث أن حزم حقيبة ملابسه على عجل وتوجه إلى محطة الحافلات...
انقلب عائدا إلى انطاكية يجرجر حبال الأسى والحزن وراءه، والخوف يكاد يقتله، واليأس يغمر قلبه. تنفس الصعداء وسكن خوفه قليلا حين تحركت الحافلة وطفقت تتهادى بين السهول والوديان والجبال. كان سالم طوال الطريق شارد الذهن، مشغول الفكر، هائم الخيال، يفكر في مآلات فعلته والعواقب التي قد تترتب عنها إذا ما اكتشف أمره وأمسكت به الشرطة. جعل يفكر في مبرر مقنع يردّ به على تساؤلات أمه وأسرته التي لا شك بأنها ستتفأجا بعودته المباغثة؟
وما إن لاحت علامات المدينة حتى جعل يحدث نفسه: "ما أسرع هذه الرحلة". كان يودّ أن لا تنتهي تلك الرحلة أبدا. وكان كلما يدنو خطوة من بيبته يزداد معدل دقات قلبه خفقانا...
أخيرا توقفت الحافلة ووصلت إلى وجهتها وأخذ الرّكاب ينزلون منها الواحد تلو الآخر. عند ذلك تناول حقيبته ونزل من الحافلة متثاقلا. أخذ يسير نحو البيت الذي لم يكن بعيدا عن المحطة.
* * * * *
الفصل الأخير
توقف سالم حينما لم تعد تفصله إلاّ خطوات معدودة عن البيت. أخرج مشطا من جيبه وأخذ يصفف شعره، ويرتب هندامه. ثم طرق على الباب ووقف منتظرا. كان يحاول جاهدا إخفاء ارتباكه. اعترت رحيل الدهشة حين رأت سالما يقف أمامها. عانقته وأجهشت بالبكاء، ثم ابتدرته بصوت يمتزج فيه الحنان بالعتاب قائلة:
- الحمد لله على سلامتك يا بنيّ!
أشارت إلى داخل البيت قائلة:
- تفضل. ادخل!
وقف مشدوها يحدث نفسه في وجوم بيد أن المفاجأة كانت فوق تصوره: "يا للهول!! ويا للمصيبة!! ماذا يصنع هذا الرجل هنا في بيتنا؟. ما الذي يجري يا الله؟! أفي حلم أنا أم في علم.. لم أعد أفهم شيئا". ثم طفق يحملق في وجهه فاغرا فاه.. صامتا، وقد عقدت المفاجأة لسانه. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة كأن الذئب قد أكل لسانه، إذ لم يخطر بباله البتة.. ولم يدر في خلده لحظة أن يجد هذا الرجل في بيتهم.
أطرق صابر برأسه وقد استبد به الغضب حين رأى ابنه يقف أمامه يحملق في وجهه ببلاهة. لم يعره انتباها.. ولم يكترث لقدومه. وضع سالم الحقيبة التي لا تزال بيده أرضا ببطء ثم رمى بنفسه على الكرسي الذي كان خلفه ووضع يده على جبهته كي يخفف من الصداع الذي ألمْ به ...
خرقت رحيل الصمت الحزين قائلة والدموع تسيل من مقلتيها:
- أصحيح أنك تزوجت يا سالم؟! أهذا جزائي؟ تتزوج دون علمي!!
لم يعرها سالم انتباها ولم يجبها عن تساؤلاتها ورفع رأسه رويدا رويدا ثم جعل ينعم النظر في وجه والده مشدوها، والحيرة تعصف بقلبه.
أردفت رحيل قائلة:
- ماذا تنتظر يا سالم؟ لماذا تنظر لأبيك هكذا كالأبله؟! هيا قم وقبل رأسه واعتذر مما بدر منك!
أفاق سالم من صدمته ونفض رأسه بشدة ليعيد برمجته وقال مستنكرا:
- أبي؟! أبي؟.. ماذا تقولين يا أماه؟ ألم يمت أبي منذ زمن بعيد؟! أنسيت أنك من قال لي ذلك؟!.
قالت له وهي تغالب عبرتها:
- إنها الحقيقة يا بني! إنه أبوك.
وضع سالم يده على رأسه ثم صاح وهو يغالب عبرته:
- لم أعد أفهم شيئا! أكاد أجن يا أماه!!
كفكفت دموعها وقالت بحزن:
- نعم، لقد كنت أظن أنه قد توفي. على كل حال، إنه أبوك، والذي تراه في وجهه من تشوهات وحروق إنما كان بسببك.
سكت قليلا ثم التفت إلى أبيه وأخذ يحدق إليه النظر في ذهول. ثم ما لبث أن تذكر كيف شتمه ودفعه بعنف أمام الملأ وعلى رؤوس الاشهاد.
تدارك سالم نفسه وقال متسائلا بنبرة حزينة:
- بسببي أنا!! وما علاقتي بالأمر!
- هيا اطلب منه الصفح، ومن ثمّ سأقص عليك خبره.
- أودّ أن أعرف الحقيقة أولا.. أريد أن أسمع القصة. لم أعد أحتمل أكثر.. ولم أعد أفهم شيئا، كأنني أصبت بالجنون.
لا قام صابر من مكانه ودخل غرفته حزينا كئيبا حين راحت رحيل في سرد القصة: "منذ ربع قرن من الزمان تقريبا شبّ حريق هائل في بيتكم جراء سقوط قذيفة صاروخية عليه أطلقتها قوات الهالك، حافظ الأسد، عام 1982 في هجومه الشرس على مدينة حماة. هرع أبوك الذي كان خارج البيت حين رأى النار تلتهمه ورمى بنفسه في أتونها دون تردد، واقتحم سعيرها دون تأخير بغية إنقاذكم. ولكن قدّر الله أن يجد أمك وأختك قد فارقتا الحياة حرقا...
قاطعها وهو يغالب عبرته مذهولا:
- ماذا؟ ماذا تقولين؟! وأنتِ أيضا لستِ أمي!! يا إلهي!
- إنها الحقيقة يا بُني!.. لقد توفيت والدتك رحمها الله، ولكنني أنا عمتك وأمك في آن واحد فقد أرضعتك من لبني كما أرضعتك حنانا وعطفا.
- ولكن.. لماذا أخفيتِ عليّ الحقيقة طوال هذه المدة.
- لم أشأ أن أشوش فكرك وأجعلك تعيش رهين الماضي بأحزانه ومآسيه فقد ظننته قد مضى وانتهى...
ثم سكتت برهة وأردفت قائلة:
- ".... على كل حال، كادت النار تلتهمك في تلك الأثناء لولا أنه اقتحمها ليخرجك منها غير مبال بالعواقب. لقد ضحى المسكين بحياته لتحيا.. وأحرق وجهه ليظل وجهك نضرا.. واغتال مستقبله من أجل مستقبلك.. وأسرع إليك حين سمعك تبكي في الوقت الذي كانت النار تحيط بك من كل جانب كإحاطة السوار بالمعصم. لم يتردد في اقتحامها، ولم يبال بلهيبها وحرّها.. ولم يكترث بالنار التي شبّت في ثيابه إذ لم يكن يفكر في شيء حينها إلا في إنقاذك من براثن السعير.
اغرورقت عينا سالم بالدمع ولحق بأبيه ودخل عليه الغرفة، فوجده جالسا على طرف السرير يضع يده على رأسه. رمى سالم نفسه عليه وطفق يقبل وجهه ويديه، وجلس تحت قدميه وهو يطلب منه العفو والصفح.
لم يستطع عندئذ الأب مقاومة عواطفه فقال له بلطف:
- سامحك الله يا بني!
أجهش سالم بالبكاء وجلس إلى جانبه وجعل يقول والعبرة تكاد تخنقه:
- سامحني يا أبتاه. لقد كنت مجرما في حقك تلك الليلة. لقد ظننتها مؤامرة من محسن وأنه استعان بك لتدمير مستقبلي...
ما لبثت أن دخلت عليهما رحيل ووقفت تنظر للمشهد العاطفي ودموعها تترقرق في مآقيها.
رنا سالم ببصره إلى أمه ثم استأنف حديثه والأسف يكاد يفتت كبده:
- ... وللأسف زين لي الشيطان الانتقام منه وقتله.. ولم يتركني حتى طعنته بخنجر في ظهره.
شهق صابر شهقة كادت تخرج معها روحه، وصرخ غاضبا:
- ماذا قتلته؟! قتلت محسنا.. قتلت الوفاء.. قتلت الرجل الطيب.
هزّ سالم رأسه وقال والندم يعصف بمهجته.
- لم أتأكد من وفاته، ولكنني طعنته لأقتله. لم أكن أفكر حينئذ إلا في الانتقام.
صكت رحيل وجهها وأجهشت بالبكاء واخذت تقول:
- إذن سيكون مصيرك السجن، أو الإعدام! يا الله! لا أدري متى ستنتهي المأساة!
ثم رفعت يديها إلى السماء وأخذت تبتهل إلى الله وتدعوه أن يجعل له مخرجا من هذه المصيبة.
أطرق صابر برأسه برهة ثم رفعه وقال معاتبا إياه بقسوة:
- أين كان عقلك يا سالم؟ كيف سولت لك نفسك قتله دون جريرة؟
- كنت أظن أنه تآمر معك من أجل إفساد حفل زفافي، وتدمير مستقبلي.. خاصة أنه كان ضد زواجي من تلك الفتاة!
- لأنه كان يريد لك الخير. ثم هب أنه فعل ذلك بأي دافع آخر. ألا تعلم أنه لا يجوز لك بحال من الاحوال إزهاق روح برئية.
* * * * *
كان الأطباء في تلك الأثناء يسابقون الزمن لإنقاذ حياة محسن. ومن حسن الحظ أن العمليات الجراحية التي أجريت له لوقف نزيف الدم قد نجحت. أخيرا صحا محسن من غيبوبته واستعاد وعيه وخرج من مرحلة الخطر.
حاول صابر الاتصال به مرارا إلا أنه في كل مرة كان يجد هاتفه النقال مقفلا. وفي المساء انبسطت أسارير صابر واستبشر خيرا حين سمع هاتف محسن النقال يرن.
ردّ محسن بصوت متهدج لا يكاد يسمع:
- ألو.. من معي؟
صاح صابر فرحا:
- الحمد لله على سلامتك يا ولدي؟ كيف أنت الآن يا محسن؟
- الحمد لله بخير!
- على كل حال، أرجو أن ترتاح وسأتي لزيارتك في المستشفى في أقرب وقت. فقط أريد أن أعرف في أي مستشفى أنت؟
- لا تتعب نفسك يا عمّاه. لقد أبلغني الطبيب أنه في مقدوري مغادرة المستشفى بعد يومين.
- إذن سأزورك في البيت إن شاء الله. على كل حال، الحمد لله فقد اطمأننت على حالك يا بني!
أقفل سماعة الهاتف ثم خرّ صابر ساجدا، ثم رنا إلى سالم ورحيل ببصره وقال مغتبطا:
- ما أرحمك يا رب!! ما أكرمك يا إلهي! الحمد لله قد نجا.. قد نجا.
صاحت رحيل وسالم بصوت واحد:
- الحمد لله!
تنهد صابر بعمق وقال:
- سأنطلق إليه بعد ثلاثة أيام إلى اسطنبول، وسأقص له الحقيقة وأطلب منه أن يسامحك!
قال سالم
- إذن سأذهب معك يا أبتِ، وأعتذر منه بنفسي.
أسقط في يد محسن حين أخبره صابر قصة طعنه، ولم يصدق أن سالما هو الذي فعل ذلك بيد أنه صفح عنه إكراما لوالده الذي جعل يتوسل إليه حتى رق قلبه.
* * * *