المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطريق إلى زمش


AshganMohamed
01-17-2020, 01:56 AM
الطريق إلى زمش
بقلم محمود السعدني
صفحة ( 5 )

( الفصل الأول )
وهكذا بدأت رحله الضنى والعذاب .. وأصل الحكاية ان العبد لله كان فى دمشق فى شتاء عام 1957 ، وكانت دمشق وقتئذ واحة الديمقراطية والحرية وحلبة الآراء المتصارعة فى العالم العربى ، كان فيها الحزب الشيوعى السورى برئاسة بكداش .. هو الحزب الشيوعى العربى الوحيد المعترف به فى الكرملين .
الطريق إلى ( زمش ) !

صفحة ( 6 )

صفحه خالية

صفحة ( 7 )

كانت له جريدة يومية منتشرة هى جريدة النور ، وكان هناك حزب البعث القديم بقيادته الثلاثية عفلق ، البيطار ، الحورانى ، وكان هناك الحزب الوطنى بقيادة صبرى العسلى ، وكان هناك حزب الشعب بقيادة على بوظو ، وكان إلى جانب هؤلاء يوجد الناصريون واليمينيون والذين مثل طنجة على الحياد ، كانت الصحف السورية بعدد شعر الرأس وكل منها يعبر عن اتجاهه .
وفى الحكم كان هناك الجيش السورى بفرقه المختلفة ، فرقة حزب البعث بقيادة مصطفى حمدون ، والناصريون بقيادة عبد الحميد السراج ، وكانت هناك فرق أخرى مجهولة الهوية أحيانا ومريبة الهوية أحيانا ، ثم بعد هذا وقبل هذا كان يوجد الشيوعيون بقيادة عفيف البرزى رئيس الأركان ، واستهوتنى الحياة فى سوريا وامتدت اقامتى من نوفمبر 57 إلى فبراير 58 ، وخرجت منها بصديق هو أكرم الحورانى رئيس المجلس النيابى ، وعبد الغنى قنوت أحد زعماء الفرق السياسية فى الجيش ، وأحمد جنيدى وكاظم زيتونة من زعماء القبائل العسكرية السورية ، وقدر للعبد لله أن يشهد الاجتماع التاريخى الذى تم بين بكداش وأكرم الحورانى فى مكتب الأخير فى المجلس النيابى ، جاء خالد بكداش يعلن لرئيس المجلس النيابى احتجاجه على عملية الوحدة بين مصر

صفحه (8)

وسوريا واشترط بكداش للموافقة على الوحدة السماح بقيام أحزاب فى القطرين وخصوصا الحزب الشيوعى ، واجراء انتخابات حرة مباشرة لانتخابات الحكومة فى القطرين ، وقال بكداش لرئيس المجلس النيابى ، إذا تمت الوحدة بالشكل الذى تريدونه فإن الشيوعيين سيقاتلون فى المستقبل ولكن ليس على طريقة القومية العربية .
وقال أكرم الحورانى لبكداش : الليلة هى الجلسة التاريخية للمجلس النيابى وتستطيع أن تقول رأيك كما تشاء ، وسننصت لك وسنعطيك الوقت اللازم لعرض آرائك ، وسنعرض الأمر فى النهاية على ممثلى الأمة وما تقرره الأغلبية سيلتزم به الجميع .
وقال خالد بكداش وهو يغادر المكتب : إذن إلى اللقاء فى المجلس النيابى ، وخرج من مكتب أكرم الحورانى إلى المطار واستقل الطائرة وسافر بها إلى موسكو ، وانعقد المجلس النيابى فى المساء ولم يحضره خالد بكداش ، ووافق المجلس بالاجماع على قيام الوحدة بين مصر وسوريا وانفجرت سورية من أقصاها إلى أقصاها ونام الشعب السورى فى الشوارع ورقص الجميع الدبكة ، وانطلقت الصواريخ فى السماء وتعطلت جميع المصالح والمؤسسات لمدة اسبوع ، وعاشت سوريا كلها فى عيدها الأكبر .
فى تلك الأثناء كان زعماء الحزب الشيوعى العراقى يعيشون فى دمشق هربا من جحيم نورى السعيد ، وقدر للعبد لله أن يجتمع بهم عدة مرات مع سياسى مصرى توفاه الله هو المرحوم الدكتور فؤاد جلال وكان رجلا من أخيار ، وكان أول وزير للارشاد لحكومة الثورة ، ثم صار وكيلا لمجلس النواب ، ثم رئيسا لمؤتمر الخريجين العرب ، وهو الذى جمع صفوة شباب الأمة العربية ، وقد حاول المهرجون تقليده ولكنهم لم يفلحوا حتى الآن ولكن لأن الشيوعيين العرب كانت لديهم هواية التحليل ، فقد حللوا مسأله العبد لله ، خرجوا بنتيجة تقول : إننى من كبار المسئولين فى

صفحه ( 9 )

مصر والدليل على ذلك اننى حضرت اجتماعاتهم مع فؤاد جلال ، بل وذهب بعضهم إلى حد انهم تصوروا اننى مسئول عن فؤاد جلال ورقيب عليه ، لأننى التزمت الصمت خلال الاجتماعات التى حضرتها .
وبعد فرار خالد بكداش إلى موسكو فوجئت بالأستاذ عامر عبد الله والأستاذ عزيز شريف والدكتور صفاء وهم من قادة الشيوعيين العراقيين المقيمين فى دمشق يتصلون بالعبد لله ويدعوننى إلى سهرة سياسية فى منزل أحدهم ، ولأن العبد لله هلهلى وعلى بركة الكريم فقد تصورت انها دعوة للسهر والسمر فلبيت الدعوة وبالفعل قضيت سهرة ممتعة فى حى أبو رمانة تبادلنا فيها أنخاب الشراب وتناولنا فيها شرائح اللحم المشوى على الفحم ، إلى جانب الكبة النية والنقانق وبلح الشام ، وفى نهاية السهرة قال لى عزيز شريف : نريد منك طلبا ونرجو أن نجد استجابة لديك ، وتصورت انهم يريدون اقتراض بعض النقود ، أو شيئا اشتريه لهم من القاهرة ، فقلت سأفعل على قدر ما أستطيع ولكنى فوجئت به يخرج مظروفا كبيرا وقال لى فى هذا المظروف رسالة ونريد توصليها إلى الرئيس عبد الناصر ، وفى براءه منقطعة النظير قلت لعزيز شريف : اذن سأسلمها فى الصباح للسفير محمود رياض ، ورد عامر عبد الله : نحن نعرف محمود رياض ونتصل به دائما ولو أردنا توصيلها عن طريقه لفعلنا ، ولكن اخترناك أنت بالذات لأننا ندرك ونعلم أنك تستطيع أن تفعل ذلك فلا تقع الرسالة فى يد انسان آخر ، لأن الهدف هو أن يسمع عبد الناصر صوتنا وأن تصل الرسالة إليه .
وببراءة أشد قلت : ولكنى لا أعرف عبد الناصر ولم أقابله من قبل ، وارتسمت ابتسامة على شفاه الجميع ، لقد تصوروا اننى باعتبارى من كبار المسئولين لا ينبغى لمثلى أن يكشف سره ! واننى رجل حويط أخفى عن نفسى صفتى وأخفى مقامى السامى ومنصبى الرفيع ولما ابتسموا عملت بنصيحة عمنا المتنبى فابتسمت أنا الآخر .

صفحه ( 10 )

فلما صار ود الناس خبا جزيت على ابتسام بابتسام وانتهت السهرة على خير ما يرام وذهبت إلى الفندق وقد نسيت الأمر كله ، ولكن الرسالة لا تزال فى جيبى ومرت ثلاثة أيام وإذا بالعبد لله يتلقى برقية من جريدة الجمهورية تدعونى للعودة بسرعة إلى القاهرة ، وتصورت أن هذه البرقية نتيجة منافسة بين بعض الزملاء فى الجريدة وان البعض يريد ايفاد أحد غيرى لينقل للجريدة أخبار دمشق ، ولذلك قرأت البرقية وصهينت ، ولكنى تلقيت برقية بعدها بيومين تدعونى للعودة ثانيا ، وبعد فترة أصبحت عادة أن أستيقظ كل يوم من النوم فأتلقى مع الافطار برقية من القاهرة تدعونى إلى العودة .
وفجأة وصل إلى دمشق وفد مصرى برئاسة الأستاذ أحمد سعيد المذيع الذى كان اسمه يدوى كالبطل فى أنحاء الأمة العربية وقتئذ ، وقلت لأحمد سعيد : اننى تلقيت عدة برقيات من القاهرة تدعونى للعودة وسألته المشورة ، فنصحنى بالعودة على الفور وقال : لابد أن فى الأمر شيئا ، وبعد اسبوعين من تسلمى رسالة الحزب الشيوعى العراقى وصلت إلى القاهرة ، وكان أول من التقيت به هو السيد أنور السادات رئيس تحرير الجمهورية وقتئذ وهو المسئول الوحيد من رجال الثورة الذى أعرفه ، كما أنه رئيسى المباشر ، وأخبرته بالرسالة التى فى جيبى ، وسلمته الرسالة وعندما وجدها مغلقة لم يحاول فتحها ، ولكنه اتصل تليفونيا بجهة مجهولة وطلب منها ايفاد مندوب لتسلم الرسالة التى جاء بها السعدنى من دمشق ، وبعد دقائق قليلة حضر رجل دخل الغرفة وسلم على رئيس التحرير وصافح العبد لله أيضا ثم تسلم الرسالة ومضى .
وجلست مع الرئيس أنور السادات يرحمه الله أحكى له عما شاهدته فى دمشق وعن آخر التطورات هناك ، ثم قال لى وأنا أغادر مكتبه : يلا بقى روح استلم شغلك وعاوزك تشد حيلك ، وقضيت شهر أبريل كله أشد حيلى ، وعهد إلى المرحوم كامل الشناوى بمهام جديدة فى الجريدة وأضاف



صفحه ( 11 )

إلى العبد لله أعباء أخرى ولكنى كنت حريصا على تنفيذ نصيحة رئيس التحرير وشمرت عن ساعدى وهات ياشغل كما الحمار الحصاوى ، ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان ، وكما تصور الشيوعيون العراقيون الذين يقيمون فى دمشق اننى من كبار المسئولين فى مصر ، تصورت الأجهزة فى مصر اننى من كبار الشيوعيين فى العالم العربى ، وإلا فلماذا اختارنى الجزب الشيوعى العراقى دون بقية خلق الله لكى أحمل الرسالة وأذهب بها إلى الرئيس عبد الناصر ، لابد أننى جهة أمينة وموثوق بها وعلى علاقة ود بكل الأحزاب الشيوعية فى العالم العربى ، ولابد أننى حريص وحويط وجن أزرق مفلفل لدرجة أن جميع الأجهزة المصرية لم تشعر بتحركاتى ولم تكتشف الدور الذى كنت أؤديه على مدى سنوات طويلة ، قدروها بعشر سنوات على أقل تقدير !
وفى أول شهر مايو ذهبت إلى خزينة جريدة الجمهورية لتسلم المرتب ، ولكن مسئول الخزينة الطيب انتحى بى جانبا وراح يعتذر للعبد لله عما حدث ، ولم أكن قد فهمت بعد ما هو الذى حدث ، ثم قدم لى ورقة لكى أوقع عليها ، ثم قدم لى خطابا فإذا به خطاب فصل من الجريدة .
ياقوة الله ، فى المواقف الصعبة من حياتى تنتابنى حالة غباء منقطعة النظير ، تصورت أن أعدائى فى الجريدة قد تمكنوا منى أخيرا ، وسرحت بعيدا استعرض الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا قد اشتركوا فى هذه المؤامرة لفصل العبد لله ، ولكننى اكتشفت أن آخرين محررين مثلى فى الجريدة يوقعون على نفس الورقة ويتسلمون نفس الخطاب ، وكان بعضهم فنانين شبانا كألفريد فرج ، فسألت رئيس الخزينة ، هل هناك كثيرون ، قال حوالى 60 شخصا ، وسألت على الفور ، هل منهم عبد الرحمن الخميسى ، فأجاب بالايجاب ، فضحكت ، ضحكة صافية وعميقة انتزعتها من أعماقى ، وأمسكت بسماعة التليفون واتصلت بالخميسى فى المنزل وبعد

صفحة ( 12 )

السلام والذى منه ، سألنى الخميسى أنت بتتكلم منين ؟ وأجبته من الخزينة فى الجمهورية ، فقال على الفور فى فلوس ، فلما أجبته بالايجاب قال طيب يابنى ماتمشيش من عندك أنا جايلك على طول ، قلتله أنا مستنيك بس فى حاجة عاوز أقولها لك ، قال ايه ، قلتله أنا فصلونى النهاردة ، قال بدهشة شديدة مين الحمار اللى فصلك ده ؟ قلتله مش عارف ، قال خليك ماتمشيش وانت مش ممكن تتفصل ، وان فصلوك أنا هكون معاك ولازم ترجع الليلادى ، استنانى يا ابنى .
عندما أقتحم الخميسى غرفة رئيس الخزينة كنت جالسا أرتشف ما تبقى من كوب الشاى وصرخ الخميسى فى وجه رئيس الخزينة ، الخبر ده صحيح إزاى ترفدوا الصحفى الوحيد فى الجريدة ، وقال الرجل معتذرا أنت عارف احنا ملناش لا فى الطور ولا فى الطحين ، وأنا بعتذر لك انت كمان يا أستاذ عبد الرحمن ولو تكرمت وقع على الورقه دى ، ووقع الخميسى بسرعة على الورقة ثم ناوله المظروف إياه ، فتح الخميسى المظروف وقرأ قرار فصله ، وهاج الخميسى وثار ثورة عارمة وسحبنى من يدى وراح ينزل درجات السلم بسرعة وهو يردد بصوت عال . رضينا بالهم والهم مش راضى بينا ، ناس معندهاش دم ولا أدب ، ترفدوا ناس من جواهر المجتمع المصرى ، ثم قال وبيرم التونسى كمان ده معقول ! ؟ الناس دى اتجننت ، الناس دى اتجننت ، ثم خرج إلى الشارع واستوقف تاكسيا ودعانى إلى الركوب فركبت ، وقال للسائق : اطلع بينا على ميدان التحرير ، وتصورت انه ذاهب إلى جريدة الشعب حيث كانت فى طريقها إلى الصدور وكان يقع مبناها فى شارع قصرالعينى ، ولكن الخميسى صرخ فى السائق ونحن فى ميدان التحرير ، اكسر يمين على كوبرى قصر النيل ، وقلت للخميسى انت رايح على فين ، قال أنا رايح للشعب ، قلتله الشعب كده فى شارع قصر العينى ، سألنى ايه ده ، قلتله الشعب الجريدة ، فصرخ فى وجهى جريدة ايه ومصيبة ايه أنا رايح للشعب المصرى ، قلتله

صفحه ( 13 )

لا .. نزلنى هنا وروح انت لوحدك للشعب المصرى ، أنا رايح الشعب الجريدة .
حاول الخميسى أن يمسك بى ولكنى قفزت من التاكسى وركبت سيارة أجرة إلى منزلى ، وجلست فى المنزل أفكر فى النهاية التى انتهيت إليها بعد عمل مخلص دائب لمدة خمس سنوات فى جريدة الجمهورية ، توليت فيها أمر القسم الداخلى فترة ، والشئون العربية فترة ، والمحرر المقيم فى دمشق فترة ، ورحت أفكر فى الأسباب التى أدت إلى فصلى بلا مقدمات وبلا سبب ، وخطر على نفسى ألف سبب وسبب إلا السبب الحقيقى ، وهو الخطاب الذى حملته معى من دمشق للرئيس جمال عبد الناصر ، ولم أكتشف هذه المسألة إلا بعد ذلك بزمن طويل ، ولو أنهم سألونى أو استفسروا منى لأراحوا أنفسهم وأراحونى من مشاكل كثيرة ومصائب ليس لها مثيل .
وبعد شهر من فصلى اتصل بى الأستاذ كامل الشناوى وطلب منى الذهاب إلى الأستاذ احسان عبد القدوس فى روز اليوسف لأنه ينتظرنى هناك لأمر هام ، فذهبت وقابلت الأستاذ احسان وعرض علي العمل كسكرتير تحرير لروز اليوسف ، ووافقت على الفور ، ولم أناقش معه أى تفاصيل أخرى ، اعتبرت العمل فى روز اليوسف كسكرتير تحرير لها هو رد اعتبار للعبد لله بعد الاهانه التى الى ألحقتها بى جريدة الجمهورية ، وتصورت أن الحياة صفت للعبد لله ، ولم أكن أدرك أن المصائب الحقيقية لم تبدأ بعد ، وهى مصائب ونوائب وكوارث كسرت ظهرى ولونت حياتى بعد ذلك بلون الهباب !
صفحة ( 14 )
صفحه خالية
صفحة 15
الفصل الثانى
كان العمل ممتعا فى روز اليوسف , فقد كان يعمل بالمجلة شلة من الفنانين الكبار , كل منهم مدرسة فى حد ذاته , حسن فؤاد وجمال كامل ورجائى ونيس وصلاح جاهين وبهجت بتاع الفراخ وايهاب وجورج البهجورى .
سجن المماليك !
صفحة 16 خالية
صفحة 17
وكان يشرف على توضيب المجلة عبد الغنى أبو العينين . وكان يعمل بها أثنين من الشعراء البارزين .. صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى , وكان أحمد بهاء الدين يرأس تحرير صباح الخير وفتحى غانم يشرف على تحرير روز اليوسف , وكان احسان عبد القدوس يتولى الاشراف على المجلتين , وتوجيه المسئولين عن التحرير , وأشهد انه كان أستاذا بحق , واستفاد العبد لله من خبرة احسان عبد القدوس , وكان يعمل بالمجلة عدد من الشباب بدأوا من فترة قصيرة خطواتهم الأولى على بلاط صاحبة الجلالة , كان هناك نبيل أباظة , ومحمد تبارك , وكان هناك ممدوح الليثى أحد المسئولين عن التليفزيون المصرى فى الوقت الحاضر , وكان مهمتى هى مراجعة موضوعات المحررين وحذف ما ينبغى حذفه , وإضافة ما ينبغى إضافته , والسماح بنشر ما يليق وحجب ما دون المستوى , كان عبد الستار الطويلة يكتب تحقيقات صحفية جديدة , ولكنه فى كل تحقيق كان يشطح شطحة نضالية خنشفارية عن الشواشى العليا للبرجوازية , والكمبرادوية المتعاونة مع الاستعمار الذى هو أرقى مراحل الرأسمالية , وكنت أسمح بنشر موضوعات عبد الستار على الفور بعد حذف هذه الشطحات التى ليس لها محل من الاعراب على رأى عمنا أبن منظور المصرى عليه رحمة الله .
وذات صباح والحملة على أشدها بين عبد الناصر وبين عبد الكريم قاسم ,
صفحة 18
واذاعة مصر تشن حملة لا نظير لها على قاسم العراق , ومظاهرات الشيوعين فى بغداد تشعل النار فى تماثيل صغيرة لعبد الناصر وتطلق عليه ناصر الرجعيه والاستعمار , فى هذا الجو المجنون دخل مكتبى عبد الستار الطويلة وكانت أول مره أراه شخصيا , وبعد أن مد يده وصافحنى , قدم نفسه قائلا : عبد الستار الطويلة .. شيوعى ! واندهشت جدا أن يعلن أحدهم بدون مناسبة انه شيوعى فى هذا الجو المشحون بالكراهية والعداء , فصافحت عبد الستار وقلت له . محمود السعدنى مخابرات أمريكية . وبهدوء شديد يصل إلى حد البرود قال عبد الستار الطويلة : احنا معلوماتنا أنك مخابرات انجليزية . فقلت له : الانجليز افتقروا عشان كدة غيرت
ثم جلس عبد الستار الطويلة وراح يمتدح سلوكى فى سكرتارية التحرير
لأننى لا أعطل نشر مقالات أحد بسبب خلافات سياسة أو مذهبية , وقال إن هذا السلوك من جانبك يجعلك عدوا سياسيا شريفا . كان يبدو من لهجته وهيئته انه ريفى وانه ساذج على نحو ما . وان تجربته كلها تنحصر فى العمل السرى فى التنظيمات الشيوعية التى أشترك فيها منذ كان صبيا فى الخامسة عشرة , وسألته عن الأحوال فقال ببساطة : الجو كما ترى ليس على ما يرام , والحملة ضد الشيوعين على أشدها , وبعد أيام سأكون نزيل المعتقل , وكل ما أرجوه منك هو أن تعمل بشدة من أجل ان تستمر الجريدة فى صرف مرتباتنا , وأن تقف مع قضية الديمقراطية بكل قوة . وقلت للطويلة : ما عليك اذهب الى السجن ومن الأفضل أن تقيم هناك أطول مدة ممكنة , وسأقاتل من أجلك بأشد ما تشتهى . وضحك عبد الستار وغادر مكتبى .
وفى ليلة رأس السنة لعام 1959 , شنت الأمن حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعين المصريين , واعتقلت عشرات من المثقفين اللامعين , وبعض القيادات العمالية , ولكن عبد الستار الطويلة ظل حرا طليقا يأكل ويشرب ويمشى بين الناس فى الأسواق , ولذلك أصبح عبد الستار موضع سخرية المحررين فى روز اليوسف , ولكنه كان يعدهم
صفحة 19
خيرا بأنه سيحل ضيفا على المعتقل فى القريب العاجل , ولم تحل نهاية شهر مارس حتى كانت الحملة قد بلغت أوجها بين حكومة مصر وحكومة العراق , وأشترك فى الحملة طبعا خالد بكداش إلى جانب الحزب الشيوعى العراقى .
ولما كان الشيوعين العراقيون محدثى سلطة , فقد تدنوا فى الخلاف إلى أحقر مستوى , ولم يتركوا نقيصة إلا وألصقوها بعبد الناصر . ولم تقصر أجهزة الاعلام المصرية أيضا فنسبت إلى الشيوعيين ما ليس فيهم . وأتهمتهم بالانحلال واحتقار القيم وعدم الشرف والعمل لحساب من يدفع أكثر .
كان يوم 27 مارس 1959 هو اليوم العاشر على ما أعتقد فى شهر رمضان المبارك .. فى هذا اليوم دخل مكتبى عبد الستار الطويلة , وأبلغنى أن مسألة أعتقاله هى مسألة ساعات , وانه غالبا سيكون الليلة مع الرفاق الذين سبقوه إلى المعتقل , وأوصانى مرة أخرى بأهل بيته وبحقوقه لدى الجريدة , ومرة أخرى وعدته خيرا بشرط أن يذهب إلى المعتقل هذه المرة ولا يخلف وعده كما حدث منه فى المرة السابقة . وبعد انتهاء العمل فى المساء غادرت مكتبى فى شارع محمد سعيد خلف مجلس الوزراء وذهبت إلى منزلى , ولم يكن عندى من الاطفال إلا (( هالة )) وكان عمرها عاما وبضعة شهور , وزوجتى حامل فى شهرها الثانى .
وبعد السهرة قمنا لتناول طعام السحور , ولكن جرس الباب دق عدة مرات متواصلة فقمت أفتح الباب , وفوجئت الطارق أفندى فى الثلاثينيات من عمره ومعه شخصان , وقال الرجل بأدب شديد : لدينا أذن بتفتيش الشقة . وسألته عن السبب .. فأجاب للبحث عن منشورات , ولما لم يكن لدى أى منشورات من أى نوع فقد رحبت بهم ودعوتهم لدخول الشقة , ويبدو أنهم أصيبوا بخيبة أمل لعدم العثور على منشورات فأستولوا على بعض الكتب من بينها كتب أدبية وكتب ثقافية وكتب سياسية ووقفوا طويلا أمام أحدها كان يحمل غلاف شعار الشيوعية العالمية (( المطرقة والسندان )) وهو كتاب أثرت الحرية – لكرفيشينكو ,
صفحة 20
وهو - فيما يبدو من اسمه – مواطن سوفيتى كان يعمل عميلا للمخابرات المركزية الامريكية , وتصورت أن الامر انتهى عند هذا الحد , ولكن الضابط طوسون طلب منى - فيما يشبه الرجاء – أن أصحبهم إلى مباحث الجيزة مؤكدا للعبد لله أن الامر لن يستغرق إلا دقائق . وأرتديت ملابسى على عجل وأكتشفت ان الضابط تنتظره أسفل البيت سيارة شرطة وسيارة نقل بها عدد كبير من الجنود والمخبرين . وأصابتنى الدهشة لهذا العدد الوفير من رجال الحكومة , واستبعدت أن يكون الهدف هو القبض على العبد لله . لأن فردا واحدا يكفى لهذه المهمة . وركبت السيارة البوكس إلى جانب الضابط وأنطلق الموكب بنا إلى بيت فى الدقى . وصعد الضابط بصحبة اثنين من المخبرين وغابوا فترة وعندما نزلوا كانوا قد أصبحوا أربعة . وأركبوا الزائر الجديد فى العربة اللورى ولم أتبين شخصيته إلا بعد أن وصلنا إلى إدارة المباحث بالجيزة التى كان يتولى رئاستها المرحوم حسن طلعت الذى صار مديرا عاما للمباحث فى مصر فيما بعد .
أكتشفت ان زميل الرحله هو الكاتب الكبير المرحوم أحمد رشدى صالح أحد العلامات الثقافية المضيئة فى تاريخ مصر , أكتشفت أيضا أن معه شنطة بها ملابس و(( عدة )) حلاقة وفوطة وشبشب وكأنه قرر أن يمكث فى المباحث عدة أيام , وسألته عن سبب أصطحابه للشنطة ونحن لن نمكث فى المباحث أكثر من خمس دقائق . فرد على رشدى صالح بسخرية شديدة : أنت صدقتهم ؟ وهتفت صارخا : يا خبر اسود أمال هانقعد كتير ؟ وأجاب رشدى صالح : ربك وحده هو الذى يعلم . وحبسونا فى الحجرة مع غيرنا من المعتقلين لم أتعرف على أحد منهم إلا رشدى صالح . كان مع بعضهم منشورات ومع بعضهم أجهزة ألات كاتبة , وكان بعضهم يرتدى ملابسه وبعضهم بالفانلة واللباس , وبعضهم هيئته طبيعية و البعض الأخر مضروب ضرب غرائب الابل .
وفى التتاسعة صباحا سمحوا لصلاح السعدنى شقيقى بدخول الغرفة التى يوجد بها جميع المعتقلين . كان فى السنة الاولى بمدرسة السعيدية الثانوية , وبكى عندما رأنى فنهرته بشدة وأفهمته أننا فى رحلة لمدة
صفحة 21
أسبوع نععود بعدها إلى المنزل , وهدأ صلاح وجلس بعض الوقت يتحدث مع أحمد رشدى صالح وخرج مطمئنا عندما اكتشف ان شقيقه ليس وحده فى هذه الرحلة ولكن هناك عشرات أخرين .
وعند الظهر تماما حملونا فى سيارت نقل ضخمة والحديد فى أيدينا , ولحسن الحظ جاءت قرعتى فى حديدة واحدة مع أحمد رشدى صالح . وتوقفت بنا السيارة أمام سجن القلعة , وهو سجن قديم بناه المماليك ليسجنوا داخلة العصاة من المماليك , الذين يخرجون عن طاعة السلطان , والذين يدخلون ضده معركة , فإذا نجحوا فى خلعه جلسوا مكانه , وأذا فشلوا أقاموا فى سجن القلعة !
نزلنا من السيارات وطلبوا مننا أن نجلس القرفصاء على الأرض , وقلت لرشدى صالح : الأن أدركت سر تمثال الكاتب الجالس القرفصاء عند قدماء المصريين , يبدو أنه كان هو الأخر من نزلاء سجن القلعة . وضحك أحمد رشدى صالح بفتور وقال للعبد لله : هو ده وقته !
لم تكن مباحث الجيزة فقط التى تقوم بترحيل المعتقلين إلى سجن القلعة , ولكن كانت كل مباحث جمهورية مصر تقوم بنفس العمل وفى نفس الوقت . كنت أنا ورشدى صالح فى منتصف الطابور وكان الطابور يمتد أمامنا أكثر من خمسين مترا , ويمتد خلفنا أكثر من خمسين مترا , وكان كل صف يتكون من أربعة معتقلين .
وبدأ الطابور يزحف ببطء إلى داخل السجن , فقد كانوا يأخذونا فردا بعد أخر , وعندما تصاعد أذان العصر من فوق مئذنة جامع محمد على , كان الصف الذى ننتظر فيه قد اقترب من باب القلعة , وبدأت أتبين عددا من الأشخاص الذين كانوا فى الصفوف الأمامية لحظة دخولهم من باب السجن .
كان هناك الدكتور لويس عوض , والاستاذ لطفى الخولى والصحفى فتحى خليل والفنان زهدى , ولكن الذى جعل قلبى ينقبض بشدة هو وقوع بصرى على شخص لم أتوقع وجوده فى هذا المكان على الأطلاق .
ولمحت الفنان جمال كامل وهو يدخل من الباب إلى السجن وهو فى حالة أقرب إلى الذهول . وكان من حقه أن يصاب بالذهول لأنه كان فنانا
صفحة 22
فحسب , ربما كانت له أفكار تقدمية شأنه شأن كل شباب الجيل , ولكن جمال كامل لم يكن من النوع الذى ينتمى لتنظيم أو يمارس نشاطا سريا . وعلق أحمد رشدى صالح على وجود جمال كامل بين المعتقلين قائلا : يبدو أنهم لن يتركوا أحدا فى الخارج !
ولمحنا فى الصفوف الخلفية الكاتب المسرحى الفريد فرج , والمناضل العجوز عمر رشدى الذى كان شيوعيا فى عام 1945 , وكان قد كف بالتأكيد عن أى نشاط سياسى واكتفى بالجلوس على قهوة ايزايفتش بميدان التحرير يتتكلم فى السياسة ولكنه لا يمارسها , ورحت أفتش بين الصفوف عن عبد الستار الطويلة ولكنى لم أعثر له على أثر . وظننت أنه وصل مبكرا ودخل السجن مبكرا وهو الاَن مع الرفاق الذين كان يتشوق لرؤيتهم .
كان يجلس فى الصف الذى أمامنا مباشرة أربعة أشخاص يرتدون الجلاليب , أحدهم كان مضروبا بشدة ودمه مجفف على وجهه ورأسه , وكان زميله فى الحديد رجل عجوز عرفنا فيما بعد أنه رئيس نقابة فى كفر الدوار , أما الاثنان الاَخران فقد كانا فى سن الشباب , كان أحدهما طويلا بشكل ملحوظ وكان الاَخر أقصر منه بقليل , وكان الطويل يبكى باستمرار وبصوت عال , وشعر أحمد رشدى صالح بالضيق من بكاء الرجل الطويل ونهره بحزم وطلب منه أن يكف عن البكاء قائلا له : يا ابنى عيب عليك تبقى طويل كده وتقعد تعيط . ولوى الشاب عنقه نحونا وقال لرشدى صالح : والله يا سعادة البيه أنا ما عملت أى حاجة , ورد عليه رشدى صالح قائلا : انت بتقوللى أنا , ابقى قولهم لما يسألوك , ودلوقتى بطل عياط وبلاش توجع دماغنا احنا مش ناقصين , وكف الشاب عن البكاء ومسح دموعه بطرف جلبابه , ثم ألتفت إلى رشدى صالح وقال له : احنا هنخرج أمتى يا سعادة البيه ؟ ورد عليه رشدى صالح بغضب : ما احنا بره أهه , انتظر لما تخش جوه وبعدين اسألهم هانخرج امتى .
وأضحكت نكتة رشدى صالح المعتقلين الذين كانوا بالقرب منا , وألتفت أحد الضباط لمصدر الضحك ووضع سبابته على فمه وقال :
صفحة 23
هس .. وبععد دقائق كنا أمام قائد معتقل القلعة الذى جردنا من الساعات والأوراق والأقلام والنقود وأحزمة البنطلونات ووضعها فى أظرف على سبيل الامانة , ثم وزعنا فى زنزانات وكان حظى سعيدا , لأننى دخلت زنزانة كانت تضم أربعة أشخاص بالاضافة إلى العبد لله , أما الاربعة فهم المناضل العجوز عمر رشدى والكاتب المسرحى الفريد فرج والصحفى فتحى خليل والأستاذ الكبير أحمد رشدى صالح . ولما كان بالزنزانة ثلاثة أسرة فقط فقد أفترش الفريد فرج الأرض ثم انضم إليه فتحى خليل وانضم إليهما ثالث وفد علينا فى اليوم الثانى هو الأستاذ يوسف عيسى موسى وهو مدرس لغة أنجليزية جاء من الأسكندرية . ولولاه لمتنا فى الزنزانة من شدة الكسل والقذارة . فقد تولى مسئولية النظافة ومسئولية اعداد الطعام , وكان نعم الرفيق والصديق .
ولمدة ثلاثة أيام لم يفتح فيها الباب لحظة واحدة إلا وقت تسليم الوجبات , أما بقية الوقت فالباب مغلق , والنافذة أضيق من صدر الكافر , وهكذا بدأت الرحلة الميمونة التى أستمرت خمسة أعوام بالنسبة للبعض , والتى أنتهت بنا إلى (( زمش )) أشهر وأغرب تنظيم عرفته الحركة الشيوعية فى تاريخها الحافل المثير !!
صفحة 24 خالية

صفحة 25
الفصل الثالث
ثلاثة أيام والأبواب مغلقة والمساجين مكدسون كالسردين فى الزنازين .. وأتاحت هذه الأيام الثلاثة العبد لله أن يتأمل الزنازين التى بنيت فى العصور الوسطى لينزل بها الأمراء الخارجون عن طاعة السلطان . كانت الجدران فى سجن القلعة مبنية من حجارة شبيهة بأحجار الأهرامات .
هابيوس كوربوس

صفحة 26
صفحة بيضاء
صفحة 27
وكانت سميكة إلى الحد الذى يكفى لعزل ساكنى الزنزانة عن العالم الخارجى ولم يكن فى الزنزانة أى منفذ للهواء إلا ثقب فى السقف مركب على فتحة ماسورة أشبه " شكمان " السيارة . أما الباب فهو الحديد الصلب وسمكه أكثر من عشرة سنتيمترات ، وله مزلاج خارجى يحدث صريرا عند عملية الفتح والقفل أشبه بصرير ترومواى شبرا عند الدوران .
وفى هذا السجن الكئيب عاش ومات من الأمراء والقادة والوزراء والمماليك . ونزل به عشرات من أبطال ثورة عرابى ، واستخدمته كل العهود وكل الحكومات فى حبس أعدائها والمناوئين لها والذين تحوم الشكوك حولهم . وبسبب هذا السجن لقى البطل العظيم السلطان المظفر قطز حتفه وهو راجع من معركة جالوت أن قال له الظاهر بيبرس : لقد وعدتنى بولاية حلب بعد المعركة ، وأنا الآن فى انتظار تنفيذ وعدك ، ولكن السلطان الظافر قطز ابتسم للظاهر بيبرس وقال له : إنس هذا الوعد فأنا أريدك بالقرب منى فى القلعة ، وقلبت العبارة مخ الظاهر بيبرس فما الذى يقصده قطز بعبارة " أريدك بالقرب منى فى القلعة " أن بالقلعة قصر السلطان والسجن ، وليس هناك شيء آخر ، لابد أنه يقصد السجن ولا شيء آخر . فأضمرها الظاهر بيبرس فى نفسه ، وحانت له الفرصة بالقرب من غزة عندما رمح
صفحة 28
السلطان وراء غزال يريد اصطياده ، فرمح الظاهر بيبرس خلفه ورماه برمحه فاستقر بين ضلوعه وسقط ميتا على الفور !
وعلى جدران الزنزانة نقوش كثيرة وكلمات أكثر . حديث نبوى كتبه أخ مسلم " اتقوا البرد فقد قتل أخاكم أبا الدرداء " والتاريخ نوفمبر 1948 ! على جدار آخر عبارة " تحيا لجنة الطلبة والعمال " والتاريخ 1946 ! فى جانب آخر من الجدار " تسقط الملكية الفاسدة " والتاريخ فبراير 1952 ! تحتها مباشرة عبارة " تسقط الفاشية العسكرية " والتاريخ 1954 بعدها أيضا بيت من الشعر :
ا ولست أبالى حين أقتل مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعى آ
والتاريخ 1954 ! فى جزء آخر من الجدار عبارة " عاش كفاح الطبقة العاملة " والتاريخ 1959 ! ثم عبارة أخرى " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " والتاريخ 1957 ! فى أسف الجدار عبارة " عاشت ذكرى مؤسس الأخوان الشيخ حسن البنا " والتاريخ 1965 .
عبارات كثيرة هى فى الحقيقة تاريخ الزنزانة بأقلام الذين دخلوها لقد دخلها الجميع منذ 1946 أخوان وشيوعيون وديمقراطيون وطلبة وعمال وصياع ومتآمرون ومشاغبون ، ناس ضد الثورة ، وناس مع الله ، وناس مع ماركس ، وكلهم جمعتهم الزنزانة غالبا فى عصور متعاقبة وأحيانا فى عصر واحد !
بعد أن ضاق صدرى بالحبس فى الزنزانة ناديت على عم طه الحارس ودار بينى وبينه الحوار التالى :
- افتح يا عم طه
- ويفتح عم طه الباب فيدور الحوار على النحو التالى :
- أنت قافل علينا ليه يا عم طه ، احنا عملنا حاجة .
- لا ، انتوا ما عملتوش لكن الواد اللى جنبك دى شتمنى وقل أدبه علّى .
- طيب احنا عملنا حاجة .
- لا ما عملتوش ، ولكن مافيش فتح خالص
صفحة 29
ثم يغلق عم طه الباب .
وأعود أزعق مرة أخرى بالصوت الحيانى .
- افتح يا عم طه الباب .
ويفتح عم طه الباب ويدور نفس الحوار بنفس الكلمات . ثم يغلق الباب من جديد .
وتمضى ثلاثة أيام كاملة ونحن فى الحبس الرهيب ، نأكل ونشرب ونتحاور وننام نوما متقطعا ونستيقظ على أحلام غريبة وكوابيس مزعجة ، وكان المناضل القديم عمر رشدى يحلم بكأس من الويسكى وصحن من الترمس ، وكان رشدى صالح شديد الصمت شدشد الشرود ، ولكن كان أحيانا يفصح عما فى صدره .
- تصوروا.. ثلاث مرات أعمل بيت والحكومة تهده !
كان للأسف رشدى عميقا ، فعندما ألقوا القبض عليه كان قد ابتعد تماما عن الحزب الشيوعى وكان يكتب فى الجمهورية مذكراب طالب عراقى بدون امضاء ، عن حالة القهر والتعذيب والارهاب الذى يلقاه المعتقل فى سجون عبد الكريم قاسم ولكن الدوسيهات لا ترحم والقوائم لا تغفر ، وعندما ألقت الحكومة القبض على الشيوعيين ، كان الأمر الصادر إلى رجال الشرطة بالقبض على الشيوعيين والمتعاطفين معهم ومن يوجد معهم لحظة القبض عليهم ، ولكن رشدى صالح كان لديه أمل فى الافراج عنه سريعا ، فقد كتب رسالة الى المرحوم كامل الشناوى وطلب من السيدة حرمه توصيلها إلى الأستاذ كامل فى جريدة الجمهورية ، ولكن الأيام مرت بطيئة دون أى بادرة تلوح فى الأفق عن افراج قريب .
وكان المرحوم فتحى خليل ساهما ومتشائما على طول الخط . وكان من رأيه أنها المعركة الأخيرة مع السلطة ، وأنها ستنتهى بشنق الشيوعيين على أعواد الشجر .
وكان الكاتب المسرحى ألفريد فرج نائما طول الوقت ، وعندما يستيقظ كان يردد عبارة واحدة .. احنا مش معتقلين ، أحنا يا استاذ مخطوفين فى الذرة !
صفحة 30
وجاء الفرج بعد ثلاثة أيام ، فتحوا الأبواب فخرجنا إلى الحوش وكان العبد لله هو أسبق الجميع للخروج ، وهالنى ما رأيت .
فقد كانت فكرتى عن الشيوعيين حتى هذه اللحظة أنهم مجرد مجموعة من الصحفيين والفنانين الذين أعرفهم ومجموعات أخرى من المثقفين كانوا يجلسون على قهوة ايزافيتش بميدان التحرير . ولكن الذى رأيته فى صالة السجن كان يختلف تماما عن الفكرة التى كانت فى رأسى . كانت هناك مجموعة كبيرة من العمال من بينهم رؤساء نقابات ، ورجال أعمال ، وفلاحون ومزارعون ، وعندما رأيت المرحوم الدكتور لويس عوض هرعت إليه كغريق يتعلق بقشة . كنت أعلم أن لويس عوض ماركسى ولكنه على خلاف حاد مع الشيوعيين . فلماذا ألقوا القبض عليه ؟ ولماذا ألقوا القبض على العبد لله أيضا ؟ مع أن بينى وبين الشيوعيين مساحة شاسعة !
لقد وقعت الحكومة فى نفس الغلطة التى وقع فيها الشيوعيون المصريون . فمن ليس معى قهو ضدى . وأذكر أننى ذهبت مرة إلى جردية المساء قبل اعتقالنا بعدة أيام . ورأيت فى الطرقة الضيقة مجموعة من الصحفيين يتحاورون بحرارة . وكان من بينهم الدكتور عبد العظيم أنيس وعندما رآنى قال بصوت عال حتى يسمعه كل الحاضرين :
- أهلا .. الأستاذ محمود السعدنى جى يزور الأستاذ محمد عودة .
وكانت هذه اشارة للجميع بأن يكفوا عن الكلام واندهشت لموقف الدكتور عبد العظيم أنيس ، فحمد عودة ليس مع الحكومة ولا هو فى جهاز المباحث . ولكنه كان صاحب رأى وكان يختلف عن رأى الرفاق الشيوعيين .
وكانت هذه الحالة هى احدى الأخطاء القاتلة التى وقعت فيها الحركة الشيوعية المصرية . فكل من ليس عضو فى التنظيم هو امبريالى استعمارى وعميل للشواشى العليا للبورجوازية . ولذلك لم ينفتح التنظيم الشيوعى فى مصر على الجماهير المصرية فى أى وقت من الأوقات ، ولم يستطيع التواجد فى الشارع المصرى فى أى وقت..

صفحة 31
أما عضو التنظيم فهو المناضل الثورى الذى يملك فى يده مفاتيح الحل لكل المشاكل على وجه الخصوص . ما الآخرون فهم أما برجوازى منحل ، وأما عميل للاستعمار ، وأما كلب للسلطة ، ولذلك .. اكتسب الشيوعيون المصريون أعداء كثيرين كان يمكن كسب ودهم ، أو على الأقل تحييدهم !
ولكن .. الحق أقول .. لم يكن كل الشيوعيين من هذا النمط ، كان هناك حسن فؤاد الفنان الطيب ، الذى يصادق فى ود ، ويخاصم بدون عداء ، وكان هناك بكر سيف النصر الذى لم أصادف فى الحياة شخصا مثله. وكان هناك زكى مراد المحامى ذو القلب الكبير والعقل الراجح .
وكان هناك أسعد حليم الهادئ العمبق الذى كان يرى أن الحركة الشيوعية هى قمة الفشل لأنها حركة انطوائية . وكان هناك سيد ابراهيم الذى كان كالمرهم يداوى جروح الآخرين ويحمل همومهم ، وكان هناك على الشلقانى الفارس .
وكان هاك محمود المانسترلى الطيب الهادئ النتفائل دائما الفاهم دون ادعاء المثقف دون جعجعة . وكان هناك على الشوباشى المسالم المندهش دائنا الضاحك فى كل وقت . المهم اننى هرعت الى الدكتور لوبس عوض أسأله فى المحنة التى نمر بها ، واستفسر منه عن الوقت الذى شتنقشع فيه . كان لويس عوض – يرحمه الله - يرتدى روب دى شامبر أحمر اللون وشبشبا سويسريا " بالى " ويركن السيجارة فى ركن فى فمه ، ورد علىّ الدكتور لويس عوض تحيتى قائلا :
- هاللو
سألته عن رأيه فى المحنة التى عصفت بنا فقال :
ما تخافشى لازم نخرج بكرة أو بعده . كانت هذه أول بشارة أتلقاها من عمنا لويس عوض . ولكن لكى يطمئن قلبى عاودت السؤال :
- يعنى ..انت متأكد ..
وقال الدكتور فى ثقة تامة .
- طبعا .. هابيوس كوربوس.
صفحة 32
وقلت يا فرج الله.. لابد أن له قريبا فى المباحث العامة اسمه هابيوس كاربوس ، ولابد أن الرجل طمأنه وأكد له موعد الافراج ، لابد أن الحكومة فى ذروة الأزمة اضطرت إلى القبض على الكثيرين ، ثم بدأت فى البحث والفحص ولابد أنها ستفرج عن الذين لم يكونوا أعضاء فى الحزل الشيوعى ، وبالطبع سيخرج الدكتور لويس عوض ، وسيخرج العبد لله أيضا .. يا سلام .. هل سيكتب للعبد لله التجول فى شوارع القاهرة مرة أخرى . وندرعلى العبد لله أ، أطوف بالحوارى فى القرى والكفور ، وننام على المصاطب أو على الرصيف .. لا فرق !
وعدت أسأل الكتور لويس عوض لكى يطمئن قلبى :
- لكن هوه اللى قالك بنفسه ؟
وارتسمت الدهشة على وجه الدكتور وقال مستنكرا :
- هو مين دا ؟
- هابيوس كوربوس ، مش هوه لواء فى المباحث .
واتخذ الدكتور لويس عوض هيئة الأستاذ وقال باشمئناط :
- أنا ما عرفش مباحث وما عرفش الناس دى .
- مش انت اللى قلت هابيوس كوربوس قالك لازم نخرج بكرة أو بعده .
وقال الدكتور لويس عوض :
- هابيوس كوربوس دا يا جاهل – قانون رومانى قديم اسمه أبرز الجثة .
- قانون رومانى ! .. طيب مالنا احنا ومال القانون الرومانى ده .
- القانون دا بيقول ما يمكنش حد يقبض على مواطن أكثر من ثلاثة أيام ، بعدها لازم يظهر المواطن .. إما أمام المحكمة وإما فى الشارع ..
وقلت للدكتور لويس عوض :
- وانت مصدق الحكاية دى ؟
وقال الدكتور فى ثقة شديدة :
صفحة 33
- طبعا .
وساد الصمت بيننا برهة قطعه العبد لله قائلا :
- تصدق بالله ، لو هابيوس كوربوس جه هنا ، هيحبسوه معانا .. وهياكل ضرب ماكلوش حرامى فى مولد ، هابيوس كوربوس مين يا عمنا ، ان كان اعتمادك على هابيوس كوربوس دا ، يبقى مش هنخرج من هنا غير يوم القيامة ؟
وابتسم الدكتور لويس عوض ، وسحب أنفاسا عميقة من السيجارة ومضى فى اتجاه زنزانته شاردا ، وكأنه تأثر برأى العبد لله فى السيد هابيوس كوربوس اياه !
كان الشخص الآخر الذى لفت نظرى فى فناء السجن ، الشاب الطويل الذى كان دائما البكاء ونحن فى انتظار الدخول إلى سجن القلعة . كان منظره يختلف تماما عن منظره فى ذلك اليوم . كان يرتدى الشورت وفانلة مخططة مثل فانلات بتوع الكورة . وكان يحمل فى يداه براد شاى من الحجم الكبير ويزعق بأعلى صوته .
- مين عاوز يشرب شاى يا زملا .
وتصورت فى البداية أنه ابن بلد بحبوح يسقى المعتفلين شايا على حسابه ، ثم اكتشفت انه يبيع الشاى مقابل سجاير . لم يكن هدفه التجارة ولكن كان هدفه البحث عن سجاير أكثر بسعر أرخض . فقد كانت سعادته فى الحياة لا تتحقق إلا بوجود الشاى والسجايير ، وسيأكل ضربا خلال السجن الطويل من أجل الشاى والسجاير .
كان اسمه أحمد شوقى عبد الهادى ، وهو من سكان منيل شيحا بالجيزة ، ووالده ناظر مدرسة أولية ، وهو موظف فى مديرية التحرير ، وقد ألقوا القبض عليه مع شقيقه الطالب . وهو فى الحقيقة ليس شيوعيا ولكنه استقبل بعض أصدقائه من العاملين فى مديرية التحرير . وكانت سعادته بهم كبيرة لأنهم كانوا يجلبون معهم الدخان والمعسل والحشيش . وتكررت زيارتهم فى بيت أحمد شوقى وكانوا أثناء القعدة يتحدثون عن حزبهم وضرورة النضال ضد الفاشية . ولكن أحمد شوقى لم يجد فى هذه الأحاديث
صفحة 34
ما يلفت النظر ، فالمهم أن الجوزى شغالة ، والنار لا تنطفئ ، وبراد الشاى شغال عمال على بطال .
وذات ليلة طرق الباب كجهول . ولما سأل شوقى عن شخصية الطارق ، جاء الجواب :
- بوليس .
بوليس !! يا ليلة سودة ، كان شوقى يحتفظ معه بقطعة من المزاج فأسرع بالتخلص منها ، ثم فتح الباب بعد أن اطمأن أن كل شيء على ما يرام !
ولكنهم بالرغم من عدم عثورهم على حشيش ، فقد ألقوا القبض عليه مع شقيقه .
ولكن حديثى مع شوقى انقطع فجأة ، فقد دوت الصفافير فى أنحاء السجن تدعو المعتقلين إلى دخول الزنازين .
الصفحة 35
ومرت الأيام بطيئة ومملة فى أول الأمر ، ومر أسبوع كامل قبل أن يظهر عبد الستار الطويلة فى السجن ، وجاء متلهفاً على رؤية الرفاق والأصدقاء ولكنه كان حزيناً لوجوده فى سجن القلعة ، كان يتحرق شوقاً إلى الذهاب لسجن الواحات الخارجة حيث المناضلون الأصلاء الذين سبقونا مع بداية العام الجديد.
ولكن هناك فرق !
الصفحة 37
وعندما رآنى عبد الستار قال على الفور : لقد سمعت بنبأ اعتقالك ولم أصدق بادئ الأمر ، وعندما تأكدت أدركت أن الحملة هذه المرة شديدة ، والهجمة شرسة ، والمعركة ستكون فاصلة لأنها ستكون المعركة الأخيرة ، ثم قال : واعتذر لك عما قلته فى مكتبك بروز اليوسف ، فالحقيقة أنك برجوازى وطنى شريف . وحمدت الله وشكرته لهذه الترقية السريعة .
وجاء الفرج بعد أسبوع واحد ، انطلق صوت الشاويش طه فى الدهليز الضيق الذى يفصل بين الزنازين ينادى بأعلى صوته .. فين أحمد رشدى صالح ، وعندما أجابه الأستاذ أحمد رشدى صالح أمره بالإستعداد للرحيل ، وأوصاه بأن يجمع كل متعلقاته ، وحذره من أن يحمل معه أوراقاً أو خطابات من معتقلين أخرين .
وغاب الشاويش طه دقائق ، استعد رشدى صالح خلالها فارتدى ملابسه وجمع أمتعته وجلس ينتظر ، وجاء الشاويش طه وفتح الباب وسمح لرشدى صالح بالخروج وكان الوقت يشير إلى التاسعة مساء ، وأصوات ميكروفونات تتردد من بعيد تحمل بعض الابتهالات الدينية ، ودعاء من شيخ يدل صوته على أنه كفيف يصرخ بصوت يقطر أسى .. يا أرحم الراحمين ارحمنا ، وتمنيت لو كنت مع الشيخ الضرير فى السرادق ، أو مع جموع الناس الطيبين فى أزقة سيدنا الحسين ، أو معهم على مقاهى السيدة زينب ، أو جالساً على الرصيف مع عمنا
الصفحة 38
زكريا الحجاوى فى قهوة محمد عبد الله ، وانتابتنى حالة من الكآبة ورشدى صالح يغادر الزنزانة.
كان لدى العبد لله احساس بأن رشدى صالح خارج إلى الحرية ، وكان لديه احساس بأنه ذاهب إلى سجن آخر .. ربما إلى الواحات .. وربما إلى سجن مصر تمهيداً لمحاكمته .. وعندما أغلق الشاويش طه باب الزنزانة انتاب الجميع حالة من الشرود والصمت لم يقطعها إلا المناضل العجوز عمر رشدى الذى قال فجأة وبلا مناسبة .. سيأخذ رشدى صالح حماماً ساخناً هذه الليلة ، وبإمكانه أن يخرج إلى الشارع وأن يدخل أى بار ، وأن يطلب واحد ويسكى بالثلج وطبق ترمس ويحلق فى الفضاء العالى ، ونمنا مبكراً تلك الليلة ، وفى الصباح ساقونا جميعاً إلى الحلاق ، وعندما وضع " الموسى " على ذقن العبد لله أدركت أن الحلاقة فى سجن القلعة هى جزء أساسى من التعذيب . فلم يكن " الموسى " الذى يستعمله الحلاق " موسى " من النوع الذى نعرفه ، ولكنه كان قطعة من الصفيح الصدئ ، ويستعمل فوطة سبق استعمالها فى تنظيف مراحيض باب اللوق ، وكان فرضاً على كل معتقل أن يحلق ذقنه ، لأن إدارة السجن كانت حريصة على أن يبدو جميع المعتقلين بهيئة مناسبة تتفق مع حقوق الإنسان وحقه فى الحياة بكرامة حتى وهو خلف الأسوار !!
ولم يكن الحلاق وحده هو سبب تعاسة العبد لله ، كان متعهد الأكل سبباً آخر ، كان الإفطار مكوناً من عشر فولات ورغيف يشبه أرغفة هذه الأيام . وأحياناً كان يضيف إلى الوجبة قطعة من الجبن هى فى الواقع جزء من أصبح طباشير من النوع الذى تستعمله الكتاتيب فى الريف المصرى .
أما الشاى فيحتاج إلى شاعر عبقرى من نوع بيرم التونسى لكى يتمكن من وصفه .. أما " السجاير " فكان مسموحاً بها خصماً من أمانات المعتقل وعلى حسابه . وبالرغم من ذلك استطاع العبد لله أن يألف جو السجن ، وكانت رقة الزنزانة هى خير معين على تجاوز محنة الاحساس بالقهر . ثم جاء الفرج أخيراً وبدأوا فى استدعاء بعض المعتقلين للمثول أمام النيابة ، وأفتى بعض العارفين ببواطن الأمور ، أن الحكومة تقوم بتصفية المعتقل ،
الصفحة 39
وإنها ستكتفى بسجن الذين يثبت ضدهم اتهامات محددة ، أما الناس الذين ليسوا أعضاء فى الحزب الشيوعى المصرى، ولم يضبط لديهم ممنوعات فسيغادرون السجن بعد عدة أسابيع على الأكثر .
واطمأن العبد لله لهذه الإشاعات واعتبرتها حقيقة لا تقبل الجدل . وراح بعض الذين توهموا انهم فى الطريق إلى أعوام طويلة من السجن يوصون العبد لله بمهام كثيرة أؤديها لهم عندما أصبح خارج الأسوار . ولكن – و آه من لكن هذه – جاء مدير المعتقل ذات صباح ونادى على أسماء المعتقلين الذين سيذهبون للتحقيق أمام النيابة ، وكان اسم العبد لله على رأسهم . وبقدر الحزن الذى انتابنى لأننى سأقف أمام النيابة بقدر الفرح الذى شعرت به ، لأننى سأخرج من بوابة السجن وسأشاهد الشارع واتفرج على الناس وعلى الترمايات وعلى الأتوبيسات ، وأستمع إلى نداءات الباعة و .. يللى الهوى هزك يا مشمش ، ولا تين ولا عنب زيك يا خيار يالوبيا .. وجلست فى سيارة السجن وعيناى تلتهمان – من خلال الفتحة الضيقة – كل منظر ، حتى أسفلت الشارع صار له معنى جديد . حتى برك المياه التى تغرق الشارع كانت أجمل فى نظرى ألف مرة من بحيرات جنيف ، وغبطت كل المارين فى الشارع حتى المتسول العجوز الذى كان يقف أمام المتحف الصحى بعابدين ، تمنيت من الله أن أحل محله . يا سلام لو كان الإنسان حراً ومتسولاً : ما أجمل أن يكون الإنسان حراً وعاطلاً ، أو حراً وضائعاً ، وحبسونى فى حجرة مع معتقل آخر كان يجلس على الأرض وبجانبه مطبعة وعشرة صناديق منشورات ، وكان يرتدى جلباباً وشبشباً ، وسألنى عن المضبوطات التى معى فنفيت له ضبط أى أوراق سوى عدة كتب تباع كلها فى الأسواق فقال على الفور .. براءة ! سألته عما معه فأشار إلى أحد الصناديق الضخمة وقال : " ده منشورات وسألته : هل أنت معترف بما لديك من مضبوطات قال طبعاً ولى الشرف ، وعندما سألته عن الحكم الذى ينتظره قال : عشر سنوات لأننى أتشرف بأننى عضو قيادى بالحزب الشيوعى المصرى !
الصفحة 40
وعندما جاء الدور على العبد لله أدخلونى حجرة بها مكتب كبير يجلس عليه رئيس نيابة أمن الدولة وأعتقد أنه كان الأستاذ سمير ناجى على ما أتذكر وكان بديناً بعض الشئ ، وصاحب وجه مستدير ومريح ، وكان هادئاً ومهذباً ، ودعانى للجلوس ، ثم ألقى نظرة على أوراق بجانبه ، وسألنى هل أنت عضو بالحزب الشيوعى المصرى ؟ فأجبته بالنفى ، وسألنى عن رأيى فى المعركة الناشبة بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم . وأجبته .. عبد الكريم قاسم مخطئ ، وأعتقد أنه ينفذ مخططاً بريطانياً انتقاماً من عبد الناصرلتأميمه قناة السويس ولموقفه من حرب الجزائر ، وسألنى عن أصدقائى من الشيوعيين فأجبته بأننى صديق للكثير من الناس خصوصاً فى مجال الفن والصحافة ، ولكنى لا أعرف أن كانوا شيوعيين أو رأسماليين ولا يهمنى ذلك .. ثم وضع الرجل القلم الذى فى يده على المكتب وسألنى وهو يبتسم .. أمال همة جايبينك ليه ؟ قلت له : والله ما أنا عارف .. فى هذه اللحظة نهض رجل كان يجلس فى الحجرة على مقربة من مكتب رئيس النيابة واقترب منه ومال على أذنه وهمس بعدة كلمات لم أسمع منها إلا كلمة الحزب الشيوعى المصرى . ولم أهتم بالرجل أو بما قاله وتصورت أنه أحد مساعدى النيابة ولكنى عرفت بعد عودتى إلى الزنزانة أن هذا الرجل يدعى عشوب وكان مفتشاً للمباحث العامة فى مدينة القاهرة .
المهم أن رئيس النيابة قال للعبد لله وبلهجة تنم عن صدقه .. لو كان الأمر بيدى لأمرت بالإفراج عنك من سرايا النيابة . وسألته بسذاجة : أما الأمر بيد مين ؟ .. فأجاب أنت معتقل بقرار جمهورى . ولا يفك أسرك إلا قرار جمهورى آخر ، ثم قال على كل حال مجيئك إلى النيابة أتاح لك فسحة ليست على البال ، وزيادة فى التكريم سأبقيك هنا بعض الوقت وسأطلب لك " فنجاناً " من القهوة لكى تعدل دماغك ، وانست للرجل واطمأنت نفسى فى حضرته فسألته بود شديد : وتفتكر السجن ده لحد امتى ؟ فأجاب : علم ذلك عند ربى ، فهتفت دون وعى : يا خبر اسود ، قال رئيس النيابة ميهمكش السجن للجدعان !
الصفحة 41
عندما عدت إلى السجن أمطرنى زملاء الزنزانة بأسئلة كثيرة عن جو التحقيق وعن سلوك رئيس النيابة ، وحكيت لهم ما حدث بالتفصيل فأفتى عمر رشدى بأن هذه الحبسة ستكون أطول حبسة فى تاريخ الحركة الشيوعية المصرية ، وأن الشيوعيين لن يغادروا السجن إلا إذا غادر عبد الناصر الحياة . وقال فتحى خليل ستنتهى المعركة بتعليق زعماء الحزب الشيوعى على المشانق وتصفية القواعد وقطع دابر الشيوعية من أرض مصر ثم هز رأسه وقال : ولكن ستنتصر الشيوعية فى نهاية الأمر .. ولم يكن يشغل بال العبد لله انتصار الشيوعية أو هزيمتها . كل ما كان يشغل بالى هو الخروج من سجن القلعة إلى الشارع بأى ثمن وبأى وسيلة حتى لو أدى الأمر إلى هروبى من المعتقل ، أو وقوع انقلاب فى مصر يخرجنا بقوة السلاح ، أو بهبوط طائرة هليكوبتر فى فناء السجن تحملنى معها إلى أى مكان ولو إلى جهنم الحمراء : فقد كنت بطبعى أكره البقاء فى مكان واحد وقتاً طويلاً . وكنت دائم التنقل من مكان لآخر كالنحلة ، وكنت أسافر من القاهرة فى الصباح إلى بورسعيد ثم انتقل منها إلى دمياط ثم أعود إلى القاهرة فى مساء نفس اليوم . ولكنك فى السجن مفروض عليك أن تبقى مكانك والزنزانة ضيقة والباب مغلق على الدوام ، حتى المناقشات بيننا انتهت . حتى الكلام أصبح معاداً ولا جديد حتى السرحان خارج الأسوار أصبح محدوداً كأنما خيالنا مسجون هو الآخر مع أجسامنا فى زنزانة سجن القلعة .
ولم تكن لدى أى أخبار عن الأسرة ، لم يكن عندى من الأولاد إلا هالة وكانت فى شهرها الخامس عشر وكانت زوجتى " حامل " فى أكرم منذ شهر ونصف ، ليلة اعتقالى ، ولم يكن لهم مورد سوى مرتبى وسيارتى تركتها فى الجراج لا أدرى عنها شيئاً . وشقيقى صلاح كان فى السنوات الأولى بالمدرسة السعيدية لا حول له ولا قوة ، والوالد كان على المعاش ولا يعلم أحد ماذا يخبئه الغد لأسرتى الصغيرة !
وذات مساء همس السجن كله بأن مدير عام المباحث وصل الى السجن بنفسه ليشرف على إعداد زنزانة لاستقبال شخصية هامة فى طريقها إلى
الصفحة 42
السجن . وضرب الشيوعيين أخماساً فى أسداس ، وراحت التحليلات والتنبؤات إلى كل إتجاه ، بعض العارفين ببواطن الأمور أكدوا أن خلافاً حاداً وقع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر بشأن اعتقال الشيوعيين ، وان عبد الحكيم عامر يرفض بشدة اعتقال أى شيوعى باعتبارهم من القوى الوطنية الذين حاربوا المستعمر 1956 ! وإن عبد الناصر أمر باعتقال عبد الحكيم عامر وهو فى الطريق الآن إلى معتقل القلعة ، وقال البعض الآخر إنه المهندس عبد المنعم شتلة أحد زعماء الحزب الشيوعى المصرى الذى كان يقود النضال من مخبئه قد وقع فى أسر الحكومة . وجاء المعتقل ال vip فى منتصف الليل وحاول البعض أن يسأل حراس الليل عن اسمه أو عن شكله ولكن أحداً منهم لم يحصل على شئ يفيده . وفى الصباح كانت المفاجأة ، فالسجين الجديد ضابط فى الجيش المصرى برتبة عقيد وكان ملحقاً عسكرياً لمصر فى ليبيا ، ثم سحبوه من ليبيا لسبب أو لآخر وأبقوه فى القاهرة بلا عمل ، فلا هو عاد إلى ليبيا ولا هو عاد إلى صفوف الجيش ، فتحمس الرجل وكان من الضباط الأحرار وكتب برقية إلى زكريا محيى الدين وزير الداخلية نصها : أن السجن الصغير أحب إلى من السجن الكبير ، فكتب زكريا محيى الدين على البرقية : يجاب إلى طلبه ، فألقوا القبض عليه وحبسوه فى سجن القلعة ، لقد صار الملحق العسكرى مسجوناً مثلنا .. ولكن هناك فرقاً ! كانت الزنزانة مفتوحة الأبواب على الدوام ، والملحق العسكرى يشخط وينطر فى جميع الحراس من أول مدير المعتقل إلى الشاويش طه .. وكان الجميع يلزمون الصمت أمامه ويؤدون له التحية العسكرية ، وعندما رفض أكل المتعهد جلبوا له طعاماً من مطعم شهير فى القاهرة ، وسمحوا له بوابور سبرتو وبراد شاى وكنكة قهوة لكى يصنع لنفسه ما يشاء من مشروبات ، وكان من حقه أن يكلف الجندى بشراء أى شئ يلزمه من الأسواق . وكانت زنزانته عامرة بكل أنواع المعلبات ، كما جاءوا له بملاءات بيضاء نظيفة وبطاطين خاصة من منزله ، كما سمحوا له بجهاز راديو ليستمع إلى الأخبار ، ودخل الشيوعيين معه فى حوار ولكنه كان
الصفحة 43
أشبه بحوار الطرشان ، فهو لا يعرف الفرق بين الشيوعية والانكشارية ، وهو رجل ضبط وربط . وخلافه مع الحكومة كان خلافاً حول حقه كضابط من الضباط الأحرار فى اتخاذ القرار المناسب وعدم التقيد بالأوامر المركزية التى تأتيه من فوق . ولم يمكث طويلاً فى السجن ، جاءه مدير المعتقل فى العاشرة مساء كما فعلوا مع رشدى صالح وأمره أن يستعد للخروج ، ولكنه صرخ فى الضابط صرخة عنترية ونهره بشدة ، واتهم الحكومة إنها تدبر مؤامرة لقتله وأقسم أنه لن يغادر سجنه إلا فى الصباح وفى سيارته ومع أشقائه وأهل بيته . وقلت يا سبحان الله .. لو طلبوا من العبد لله مغادرة السجن فى منتصف الليل لوضعت ذيلى فى أسنانى وانطلقت بأقصى سرعة حافى القدمين وإلى غير مكان إلا إلى الشارع .. وبالفعل لم يخرج من سجنه إلا فى الصباح وحاول الرجل توزيع ما لديه من علب محفوظة وكميات شاى وبن على المعتقلين ولكن مدير السجن رفض ، فغادر سجنه بعد أن مر على جميع الزنازين وصافح جميع المعتقلين . وكانت لفتة طيبة من الضابط الذى رفض السجن الكبير وآثر السجن الصغير فأجيب إلى طلبه !
الصحة 44 لا توجد
الصفحة 45
الفصل الخامس
معتقل الأحلام !
عمت الفرحة جميع المعتقلين فى سجن القلعة عندما سرت شائعة بأننا سننقل جميعاً إلى معتقل الفيوم . وسر الفرحة أن سجن القلعة سجن كئيب وهو من مخلفات العصور الوسطى ، وليس فيه حوش للفسحة ، ولكن مجرد ممر للإنتقال بين الزنازين لا تشاهد فيه إلا حيطان وزفت وأبواب خشبية مطعمة بالحديد.
الصفحة 46
الصفحة خالية
الصفحة 47
ويبدو أن هذا الواقع المؤلم المرير دفع البعض إلي التحليق بعيدًا ، فتصوروا أن معتقلا في الفيوم لا بد أن يكتسب شيئًا من صفات الفيوم ، وشطح البعض بعيدًا فزعم أن معتقل الفيوم علي شاطئ بحيرة يسبح فيه البط وعامرة بكل أنواع الأسماك ، ومسموح للمعتقلين بالصيد وبالسباحة أيضًا . وصدق العبد لله الأكذوبة الكبيرة ، فرحت أعد العدة لتكوين فريق كرة قدم أخوض به مباريات الهول ضد الفرق الأخرى ، ولكي أجعل من الكورة سكينًا لقتل الوقت . ولكن فرحتي لم تدم طويلا ، فسرعان ما تبددت في المساء عندما ناقشنا الأمر داخل الزنزانة ، ورحت أستعرض أمام زملاء الزنزانة الجنية الموعودة في معتقل الفيوم ، حيث يقوم المتعهد بتوريد المواد الأولية من لحم وخضار وفاكهة ونقوم نحن بطهي الطعام بأنفسنا ، ودق لحم متبل وطواجن محوجة وفتة بالكوارع وملوخية بالأرانب وفول مدمس مهروس في زيت الزيتون . وسرح الفريد فرج في الجنة الموعودة ثم قال : - لو كده .. الواحد يقعد ويكتب مسرحية ، وعلق فتحي خليل قائلا : ما اعتقدش فيه معتقل بالشكل ده . وقضى عمر رشدي علي كل أمل في وجود معتقل من هذا النوع ، وكانت شهادته فوق كل شهادة ، لأنه زبون قديم لجميع السجون والمعتقلات . قال العجوز عمر رشدي : السجن اللي انتوا فيه ده ، هو أحسن سجن هاتشوفوه في الحبسة
الصفحة 48
كلها ، وأي انتقال من سجن إلي آخر معناه انحدار في المستوى وفي المعاملة ، وإذا ذهبت إلي معتقل الفيوم ، فستبكي دمًا علي الأيام التي قضيتها هنا ..
ولزمت الصمت بعد تعليق عمر رشدي ، وقضيت ليلة مضطربة ، فقد انتابتني حالة من القلق والإحباط . ولكن رأي عمر رشدي لم يقض تمامًا علي الشائعة ، لأنني استمعت إليها من أكثر من واحد في أنحاء السجن في صباح اليوم التالي ، وأضاف البعض أن في معتقل الفيوم صالة للألعاب الرياضية وملعبًا لكرة القدم ومستشفى صغيرًا لعلاج المعتقلين ..
وتمزقت أحلام العبد لله بين عمر رشدي وأحلام المعتقلين . وفجأة وبعد الظهر بقليل دخل السجن الرائد فوزي مدير المعتقل وبصحبته ضابط آخر بالملابس المدنية ، وأمرا المعتقلين جميعًا بالاصطفاف في طابور ، وألقى الضابط الزائر كلمة قصيرة ، قال فيها : إن الدولة قررت أن تمنح كلا منكم فرصة لتوضيح موقفه السياسي تمهيدًا لتصفية المعتقل ، ولذلك سنسمح لكل منكم أو لمن يطلب ذلك بمقابلة أي مسئول في الدولة يكون علي صلة به في الماضي . ومر الضابط بين الصفوف حاملا ورقة وقلمًا وراح يسأل كل معتقل عن المسئول الذي يريد مقابلته ، البعض قال إنه يريد مقابلة عبد الناصر ، والبعض ذكر اسم حسين الشافعي وأنور السادات وزكريا محيي الدين ، وعندما جاء دور العبد لله طلبت مقابلة النائب الأول لرئيس الجمهورية العربية المتحدة .. أكرم الحوراني . أما سر اختيار أكرم الحوراني بالذات فلأنني تعرفت به عندما أقمت في سوريا فترة من الزمان مندوبًا لجريدة الجمهورية ، وكنت لدواعي العمل قد أصبحت علي صلة بكل زعماء سوريا ، خصوصًا أكرم الحوراني وصلاح البيطار وعبد الغني قنوت ومصطفى حمدون وأحمد جنيدي وعبد الحميد السراج وعفيف البزري ، والوحيد الذي لم أستطع هضمه أو الاقتراب منه هو المرحوم ميشيل عفلق ، فقد كان أغلب الوقت نائمًا علي روحه ، إذا تكلم فكأنه يتكلم من تحت الماء . ولكن إعجابي بأكرم الحوراني كان بلا حدود ، شدتني إليه واقعيته الشديدة وعناده واستعداده للنضال في سبيل
الصفحة 49
ما يؤمن به حتى آخر لحظة في العمر ، ومن فرط إعجابي به أطلقت اسمه علي اسم ابني الوحيد أكرم . وظلت الصلة بيني وبين أكرم الحوراني مستمرة حتى بعد أن جاء للقاهرة وأصبح النائب الأول لرئيس الجمهورية . وأذكر في أول لقاء بيني وبينه في شقته الصغيرة المطلة علي نادي الجزيرة قال للعبد لله وهو يرعش حاجبيه من شدة الدهشة : إيش هدا الحال يا أخ محمود ؟ الجماعة أصحابك ها دول ما فيهم غير جمال عبد الناصر ، الباقين لا بيعرفوا سياسة ولا بيفهموا في السياسة ولا بيشتغلوا في السياسة ، ها دول عسكر وبس ..
وكان أكرم الحوراني يقصد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر . وفي آخر مقابلة تمت بيني وبينه قبل اعتقالي بأيام ، كان يبدو شديد القلق وشديد الحزن أيضًا . وأغلب الظن أنه كان يشعر بقرب انهيار التحالف بين البعث وعبد الناصر .
المهم أنني طلبت مقابلة أكرم الحوراني ، وعندما جاء الدور علي عمر رشدي طلب مقابلة العقيد حسن المصيلحي رئيس مكتب مكافحة الشيوعية بإدارة المباحث العامة . واستهزأ العبد لله بعمر رشدي والطلب الذي طلبه ، فمن يكون حسن المصيلحي ؟ وماذا يستطيع أن يفعله بالمقارنة بالكبار الذين طلب بقية المعتقلين لقاءهم ؟ ولم تنقض أكثر من 48 ساعة حتى جاء قائد المعتقل وطلب من عمر رشدي أن يستعد لمقابلة المسئول الذي طلب مقابلته ، وارتدى عمر رشدي ملابسه وجلس ينتظر حتى جاءت سيارة في الساعة السابعة مساء ، وذهبت به إلي إدارة المباحث العامة ، ولم يعد من هناك إلا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . وعندما دخل علينا الزنزانة استقبلناه بشوق كبير ورحنا نمطره بالأسئلة ، ولكن عمر رشدي لم يشف غليلنا ، قال إنه ذهب إلي إدارة المباحث والتقى بالعقيد حسن المصيلحي ، وأكد له أنه ترك الحركة الشيوعية منذ فترة طويلة وأنه قطع صلته نهائيًا بالشيوعيين ، وأنه لا يعرف جدوى اعتقاله وهو لم يشارك في أي عمل سياسي منظم ضد الدولة . وقال أيضًا : أن حسن المصيلحي وعده خيرًا ، ولم يضف حرفًا واحدًا بعد ذلك .
الصفحة 50
وانتظرنا أن تستدعينا الشرطة لمقابلة المسئولين الكبار الذين طلبنا لقاهم ، ولكن الأيام راحت تمضي تباعًا .. ولا حس ولا خبر ، ثم جاء من استدعى عمر رشدي فحمل أمتعته وغادر الزنزانة والمعتقل ومضى . ولم نعرف إلي أين مضى إلا بعد أسبوع من ذهابه ، عرفنا أنهم أفرجوا عنه علي الفور ، وأنه يجلس كل مساء علي قهوة ايزافيتش بميدان التحرير كما اعتاد من قبل . وبدأ الملل يتسلل إلي جميع المعتقلين ، فالأيام خلف الأسوار متشابهة ومتكررة ، وبدأت سلسلة من الخناقات الصغيرة بين المعتقلين علي أشياء تافهة ، ثم بدأ التناحر بين التنظيمات الشيوعية علي تجنيد المعتقلين الذين ليس لهم في الطور ولا في الطحين . وكانت عملية مضحكة للغاية ، لأن بعض الأعضاء الجدد كانوا يدخلون الحزب الشيوعي في المساء لينفصلوا عنه في الصباح ، ولينضموا بعد الظهر لتنظيم " حدتو " أو تنظيم " ط / ش " ، أو تنظيم " و / ش " ، وللأسف الشديد كانت حركة الانتقالات تتم أحيانًا طبقًا لكمية السجائر التي يصرفها كل تنظيم لأعضائه المنتمين !
ولجأ بعض المتهمين الشيوعيين إلي أساليب تعلموها من المجرمين الذين تعرفوا بهم في مختلف سجون مصر ، وكان أحدهم قد تم نقله إلي مستشفى قصر العيني بعد أن ارتفعت حرارته إلي 42 درجة ، ثم أعادوه في اليوم التالي إلي السجن بعد أن اكتشفوا أن الحرارة المرتفعة كانت نتيجة وجبة من الحلاوة الطحينية المخلوطة بالشطة !
وكان قد مضى علينا شهر بأكمله خلف أسوار سجن القلعة ، وكان شهر رمضان قد ولى ومضى العيد أيضًا ، وازدادت ليالينا في السجن مللا وظلاما ، وكنا خلال شهر رمضان نستمع إلي الحفلات الفنية والدينية التي تذيعها ميكروفونات تبث من حي القلعة ، وذات أمسية من أمسيات رمضان المبارك ، استمعت إلي صوت الشيخ مصطفى إسماعيل يلعلع عبر الميكروفونات ، وبكيت في تلك الليلة لأن الجدران الصماء والقضبان التي علاها الصدأ تحول بيني وبين صوت الشيخ مصطفى إسماعيل الذي أعشقه . وكم من ليلة تعقبته فيها وسافرت خلفه من القاهرة إلي طنطا ،
الصفحة 51
وأحيانًا إلي دسوق ، كما تعقبته في داخل القاهرة من بولاق إلي سيدنا الحسين إلي السيدة نفيسة إلي جامع الأزهر حيث كان يقرأ السورة في صلاة الجمعة . ولم أكن وحدي الذي أتعقبه ، ولكنها كانت شلة كبيرة ، من بينها الفنان الكبير صلاح منصور ، والقارئ المصري السوداني الشيخ مهدي الذي كان يومًا ما من سميعة الشيخ علي محمود ، ثم أصبح مجنونًا بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل ، ولم يترك حفلا للشيخ مصطفى إسماعيل لم يحضره .
وذات مساء أكلنا علقة في حفل ديني كانت تقيمه إحدى الطرق الصوفية في مسجد بولاق ، أعتقد أنه مسجد الخادم ، أو شيء من هذا القبيل . وكنا قد ذهبنا مبكرين لكي نضمن مكانًا بجوار الدكة التي سيجلس عليها الشيخ مصطفى ، ولكن بمرور الوقت صار المسجد يزدحم حتى ضاق بالناس عن آخره ، ومضت ساعتان ولم يحضر الشيخ حتى خيل إلينا أنه اعتذر عن عدم إحياء الحفل السنوي الكبير ، وفجأة هب رجل واقفًا وسط المسجد وصرخ صرخة مدوية .. الله حي .. الله حي ، وإذا بجميع من في المسجد يهب واقفًا .. الله حي .. الله حي ، وهم يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار في سعادة تامة ونشوة بالغة ..
لم يبق في المسجد من يفترش الأرض إلي شلتنا ، وكان منظرنا غريبًا ومريبًا أيضًا ، فها نحن أولاء في قلب القعدة الصوفية ومع ذلك لزمنا أماكننا فلم ننهض ولم نتمايل ، وأدركنا أننا أكلنا مقلبًا فضحكنا . واعتبر البعض ضحكنا مؤامرة ضد الليلة المباركة ، فانهالوا علينا بالضرب . وحاولنا الفرار ، فاصطدمنا بالحلقات المضروبة بعضها فوق بعض ، وعندما تمكنا من اختراق الحصار والخروج من المسجد ، كنا قد أكلنا علقة ولا حرامي في مولد ، وأصبحنا حفاة بلا أحذية بعد أن تركناها على باب المسجد ولم نجرؤ علي التوقف لارتدائها من شدة الضرب وقسوته ، ووقفنا علي ناصية الشارع الذي يقع فيه المسجد وأعتقد أن اسمه شارع سليمان الخادم ، وأخيرًا جاء الشيخ مصطفى إسماعيل ، واصطحبنا معه إلي المسجد ، وأصبحنا محل حفاوة وتكريم الجميع . يا لها من أيام
الصفحة 52
جميلة مرت كالحلم ، فلم ندرك قيمتها إلا بعد أن أصبحنا أسرى وراء الأسوار.
علي العموم .. أصبحت الأيام ثقيلة في السجن وبطيئة وقاتلة ، إفطار وغداء وعشاء ، ومناقشات مكررة ومعادة ، واجترار حكايات واستعادة صور . وتمنيت ذات ليلة وأنا سارح في ملكوت الله لو كنت فلاحًا في بلدنا أسرح في الغيطان علي كيفي ، وأخوض في مياه الترع علي مزاجي ، وأنام في الوقت الذي أريده ، وأجالس من أختاره ، وأعيش حياتي عيشة الوحوش الكاسرة والطيور المهاجرة . ملعون أبو المدينة وملعون أبو السياسة ، وملعون أي نظام يأخذ الناس بالشبهات ويسجنهم بدون حكم من القاضي ..
حظنا المهبب أننا ولدنا في العالم الثالث بعد المائة . لا يوجد في أوروبا مثلا مواطن مسجون لأنه ضد سياسة تاتشر ، أو لأن وجهة نظره تختلف مع وجهة نظر ميتران ، لأن هناك كل مواطن له رأي ، وكل صاحب رأي محترم حتى لو كان رأيه يخالف رأي الحكومة . ولكن ما العمل والميلاد نفسه قسمة ونصيب ؟
وإذا كانت فرنسا ليست مسقط الرأس .. فالحمد لله علي كل حال لأننا ولدنا في القاهرة ، ولا أحد يدري ماذا كان يمكن أن يحدث لو كانت زائير هي مسقط الرأس أو شيلي أو بيرو أو كمبوديا ؟ علي أيه حال جاء الفرج ونفخ في النفير وأمرونا بالاستعداد للسفر إلي المعتقل الجديد ، في الفيوم .
والغريب أننا انتهينا من الاستعداد في السابعة مساء ، ولكننا لم نبدأ التحرك إلي السجن الجديد إلا في الثانية صباحًا .. وكانت رحلة بائسة وليلة مظلمة .. مازلت أذكرها كأنها حدثت بالأمس !
الصفحة 53
الفصل السادس
كانت ليلة سوداء ولا قلب الكافر ، حشروا المعتقلين في عربات نقل ، أحكموا إخفاء من بداخلها بقماش من النوع المستعمل في صنع الخيام . وبجوار كل سائق كان يجلس ضابط برتبة رائد ، وفي مؤخرة كل سيارة كان يجلس خمسة من الجنود المسلحين بمدافع رشاشة . كانت القافلة مكونة من خمس سيارات نقل ، كل سيارة محشور فيها أكثر من خمسين معتقلا ، بعضهم يقف علي أطراف الأصابع .
عساكر الهجانة !
الصفحة 54
الصفحة خالية
الصفحة رقم 55
وكان يتقدم القافلة ثلاث سيارات نصف نقل محملة بجنود مسلحين بالمدافع الرشاشة تتقدمهم سيارة نجدة , يتقدمها اثنان من راكبي الموتوسيكلات , وفي مؤخرة القافلة كانت هناك سيارة نجدة وعدة سيارات نصف نقل تحمل جنودا مسلحين وموتوسيكل واحد . وكان العبد لله في حديدة واحدة مع الدكتور عبد الرازق حسن , وهو مستشار اقتصادي برئاسة الوزراء , كما أنه أحد العقول الإقتصادية المشهود لها علي المستوي العربي والدولي أيضا .
وعندما مرت القافلة بميدان الجيزة , واستطعت أن أخطف نصف نظرة علي الميدان وعلي قهوة عبد الله , إنتاب العبد لله حزن شديد . في هذا الميدان مارس العبد لله شقاوته مع شلة الطفولة والصبا , وشهد الميدان خطواتي الأولي في عالم القراءة والكتابة , كتلميذ صغير في ندوة قهوة عبد الله , الذي كان من بين نجومها الدكتور عبد القادر القط والأستاذ أنور المعداوي والشيخ عبد الحميد قطامش والأستاذ زكريا الحجاوي والشاعر محمود حسن إسماعيل , ثم صرت عضوا بالندوة مع الجيل الثاني .. الكاتب المسرحي نعمان عاشور والإذاعي الكبير يوسف الحطاب وفنان الكاريكاتير أحمد طوغان .. وفجأة قطع حبل ذكرياتي صوت المعتقلين في السيارة يرتفع بنشيد :
الحزب الشيوعي المصري
الصفحة رقم 56
نبنيه من عزيمتنا
ونحط الأساس خرسانة
من وحدة إرادتنا
كان النشيد ساذجا وكلماته ركيكة , مع أنه يوجد بين الشيوعيين شعراء أفذاذ وكتاب علي أعلي مستوي , ولكن الخيبة الكبري التي هي بحجم المسافة من هنا إلي شبرا , أن النشيد الذي فرض نفسه علي الحزب الشيوعي كان من وضع مهندس إنشاءات ومبان , وكان هذا واضحا في عبارة ( خرسانة ) وأعتقد أن النشيد كان يحتوي علي كلمات أخري من نفس الصنف .. رمل ودبش وخشب لطزانة .. إلي آخر المواد التي تصلح لبناء البيوت وليس لبناء الأحزاب !
أما لماذا نشيد المهندس بالذات وليس نشيد شاعر ككمال عبد الحليم أو كمال عماد أو إبراهيم شعرواي , فلأن المهندس صاحب النشيد كان يحتل موقعا قياديا في الحركة الشيوعية , وهي من الأسباب التي أدت إلي ضمور الحركة الشيوعية وعدم تجاوزها الحلقة التي ضربت حولها , فظلت دوائر ( ديدانية ) كما وصفها زعيم الحزب الشيوعي السوري – يوما ما – خالد بكداش ..
عندما انطلقت الأصوات بنشيد الخرسانة , إنطلقت في الوقت نفسه كعوب البنادق في رؤوس ووجوه المعتقلين , ثم هدأت الأصوات وتوقفت حركة الكعوب , وعادت القافلة تسير في صمت لا يقطعه إلا أصوات سارينات سيارات الشرطة لكي تفسح الطريق أمام الموكب الحزين ..
عندما اقتربت القافلة من معتقل الفيوم , كان الليل قد انسحب في هدوء وأشرقت شمس الصباح علي استحياء . وعندما أنزلونا من السيارات , تذكرت ما قاله المناضل العجوز عمر رشدي بأننا سنتدحرج إلي أسفل كلما انتقلنا من سجن إلي آخر . لأنهم لم ينزلونا من السيارة ولكنهم دفعوا بنا إلي الأرض , بينما أصوات الجند كانت تصرخ في حركة هستيرية وكأنما جحافل المغول قد هجمت علي البلاد . وأجلسونا علي الأرض بنفس الطريقة التي أجلسونا بها من قبل أمام معتقل القلعة ..
الصفحة رقم 57
كان معنا في القافلة عشرات من الأصدقاء .. لطفي الخولي وجمال كامل وفتحي خليل والفنان زهدي والفنان حسن فؤاد والدكتور لويس عوض وآخرون .
وألقيت نظرة علي معتقل الفيوم , كان في الأصل معسكرا للجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأخيرة , ويضم ثمانية عنابر مصنوعة من الخشب , في كل عنبر باب واحد في المنتصف تماما , وعلي كل جانب نافذتان , كل نافذة بعرض مترين وارتفاع متر , تسدها 6 أسياخ متينة من الحديد تحول بين المعتقلين والهروب وتسمح لأفراد الحراسة بمتابعة كل ما يجري داخل العنبر . ولكن لدواعي الإهمال والتسيب والتقشف , ضرب السوس في خشب العنابر , وجعلت الوساخة من العنبر شيئا أشبه بجدران حمام بلدي من النوع الذي كان يستخدم في إنضاج الفول المدمس . وكان يقف علي الباب ضابط شرطة برتبة صاغ , ولكن منظره يوحي بأنه كان ضابطا في جيش علي بك الكبير وبنفس الرتبة , فقد كانت هيئت تدل علي أنه يقترب من سن الستين ..
كان هذا الرجل هو مدير المعتقل , وهو ضابط من تحت السلاح واسمه منير بك – هو الذي خلع علي نفسه هذا اللقب – وراح يلقي علي مسامعنا بعض المواعظ التي تحفظنا من كل شر , وأكد لنا في وضوح أنه من النوع الذي ( لا يرحم أمه ) وأنهم جاءوا به مديرا للمعتقل لأنه صاحب دوسيه حافل بكل أنواع ( الجرائم والمضبوطات ) وأعتقد أنه كان يقصد الإنضباط .
وبعد استماعنا إلي المواعظ من الباشا المدير , كان من نصيبي الإقامة في عنبر 4 مع زميلي الدكتور عبد الرازق حسن . ووجدنا عند باب العنبر هيئة استقبال مكونة من صول تجاوز سن المعاش بكثير وأربعة عساكر شرطة درجة أولي , يمسكون في أيديهم مدافع رشاشة وأصابعهم علي الزناد , ومعهم عسكري من الدرجة الثانية برتبة عريف , أعتقد أنه كان جاموسة في الأصل , طويل عريض , ملامح وجهه تثبت أنه معتاد إجرام , وكان اسمه علي ما أذكر أحمد غطاس أو سيد غطاس , المهم أنه

الصفحة رقم 58
غطاس والسلام . وعلي رأس هيئة الإستقبال ضابط شاب يبدو عليه أنه إبن ناس , كان طويلا ونحيفا ووسيما , وأعتقد أنه يدعي حلمي العيسوي أو نظمي العيسوي .. المهم أنه عيسوي والسلام ..
عندما وقفنا – الدكتور عبد الرازق حسن وأنا – أمام هيئة الإستقبال , سأل حضرة الصول الدكتور عبد الرازق حسن :
- إسمك إيه ؟
ونطق الدكتور عبد الرازق حسن باسمه , ولكن يبدو أن الطريقة التي نطق بها اسمه لم تعجب سيادة العريف غطاس , فقال بطريقة مستفزة :
- إنطق إسمك زي الناس يا وله
واستشاط الدكتور عبد الرازق غضبا , وقال للسيد العريف :
- أنا مش وله .. أنا الدكتور عبد الرازق حسن , وفي الحال لهف العريف غطاس الدكتور عبد الرازق حسن قلمين من النوع السمين , وقال له وهو يستعد للدخول في معركة ولا معارك العلمين :
- مافيش هنا حاجه اسمها دكتور .. دكتور دي في بيتكم .. هنا إنت وله وبس وستين وله كمان .
وقال عبد الرازق حسن :
- أنا أحتج
ويبدو أن الدكتور عبد الرازق حسن إرتكب جريمة الخيانة العظمي في حق سيادة العريف , فانهال عليه الضابط عيسوي ضربا بالأقلام والشلاليت , وهو الذي كان يبدو عليه أنه وديع وابن ناس طيبين .
وبالطبع ساعد العريف غطاس قائده وحسم المعركه , وبشلوت واحد من نوع أرض ظهر , طرح الدكتور عبد الرازق حسن أرضا . ولأن العبد لله مربوط معه في حديدة واحدة , فقد سقطت معه أنا الآخر ونابني من الحب جانب .. قلمين .. واحد علي القفا وواحد علي الوجه . ثم دفعوا بنا داخل العنبر . إذن هذا هو معتقل الفيوم , وأول القصيدة كفر , وآخرها لا يعلم به إلا الله .
الصفحة رقم 59
جلسنا في العنبر تحيط بنا الكراهية من كل جانب , المأمور شبه أمي لا يعرف الألف من عمود النور , سأل مره الفنان زهدي :
- بتشتغل إيه ؟
وعندما قال الفنان زهدي إنه رسام كاريكاتير , عقب السيد المأمور قائلا :
- شاعر يعني !!
- والضابط العيسوي لا هم له إلا اصطياد أخطاء المعتقلين وتوقيع العقاب عليهم , والعريف غطاس من يدفع له ينجو من العقاب , ومن يرفض الدفع أو يعجز عن الدفع , فيانهار أمه أزرق , ويا ليلة أبوه أسود من أسفلت الطريق .
- ذكرني معتقل الفيوم بمعتقلات النازي التي ظهرت في أفلام هوليوود .
- أنوار كاشفة تمسح المعتقل طوال الليل , وكلاب بوليسية تنبح بحثا عن فريسة , وأصوات كئيبة تنادي علي الأسوار .. واحد تمام , وتصل إلي عشرين تمام . والعريف غطاس ينظر كل لحظة من الشباك ليشرف بنفسه علي انضباط المعتقلين , وحملات تفتيشية تفتح الباب فجأة وفي أي وقت من أوقات الليل والنهار , ثم تبدأ بحثها بين الملابس وتحت السراير , وبين الفتحات التي نتجت عن تشققات في خشب الجدار . والمعسكر في حالة استنفار دائم , ومنير بك لا يكف عن التجوال في أنحاء المعسكر .. ومتعهد الأكل حرامي يقدم طعاما لا يكفي لإشباع قطة , والمعتقلون في توتر دائم وفي خوف من المجهول ..
رأيت من خلال النافذة ذات صباح ألفريد فرج وهو في طريقه إلي دورة المياه فألقيت عليه السلام , وكان جزائي عن هذه الجريمه الرهيبة قلمين مع تهديدي بالجلد إذا عدت إلي ارتكاب مثل هذه الجريمة في قادم الأيام .
واستعانوا بعساكر من الهجانة للمساعدة في إقرار النظام داخل أسوار المعتقل .. وعندما رأينا عساكر الهجانة وهم يدخلون من باب المعتقل , أدركنا أن الموت علي الأبواب .. ولكن .. يا ميت فل علي سلوك الهجانة
الصفحة رقم 60
النبيل وعلي شموخهم وعلي اعتزازهم بأنفسهم وعلي نظافة يدهم وحسن معاملتهم للمعتقلين .
وكانت الذروة عندما طلب قائد المعتقل منير بك من أحد الهجانة أن يضرب معتقلا بالكرباج , ولكن العسكري البسيط رفض تنفيذ الأمر .
وعندما أصر البيه المدير علي تنفيذ الأمر , ألقي عسكري الهجانة بالكرباج في وجهه قائلا له :
- أنا مش جاي هنا علشان أضرب .. إن كنت عاوز تضرب .. إتفضل خذ الكرباج واضرب , وابتلع منير بيه الإهانة أمام المعتقلين , وقال لعسكري الهجانة وهو يحاول أن يخفي كسوفه .
- أنا هاوريك .. أنا هاعملك محكمة عسكرية .
ونظر إليه العسكري في استخفاف وقال له في احتقار شديد :
- إنت ولا حاجة .
وفي المغرب , غادر العساكر الهجانة المعتقل علي ضهور الجمال وفارقونا إلي الأبد , بينما كانوا يلوحون بأيديهم للمعتقلين ويرسلون لهم قبلات في الهواء . وباختفاء الهجانة إختفت نسمة طرية هبت علي المعتقل فجأة وتلاشت فجأة , لم يعد في المعتقل إلا نباح العساكر وكف طاس وصوت العيسوي الكئيب , وتسلط البيه المأمور الذي يتصور نفسه قائدا لجيش هتلر .
إختلفت المنظمات الشيوعية في العنبر الذي كنت أقيم فيه , وفوجئت بعد ثلاثة أيام من بدء الخلاف بثلاثة من نزلاء العنبر يطلبون من العبد لله أن أقدم لهم خدمة , ولخصوا الموضوع في أن لجنة الحياة العامة والتي تتولي توزيع المأكولات والسجاير , ولأنها تثق في العبد لله , قررت أن يكون العبد لله الذي هو حضرتنا مسئولا عن تخزين السلع وتوزيعها . وقبلت العرض علي الفور , وقمت بتخزين السلع تحت سريري وتوليت توزيعها كل صباح علي مندوبي الأحزاب الشيوعية ..
كان سريري في المعتقل يقع بين سرير الدكتور عبد الرازق حسن

الصفحة رقم 61
وسرير معتقل يدعي ضبع شنوده , وهو أصلا من الأسكندرية ويقيم بها , وكان يقوم بتوزيع الخبز علي المنازل في عربة يد صغيرة , ولكنه كان أحيانا يقوم بدس المنشورات الشيوعية في أرغفة الخبز . وانكشف أمره بالطبع , فذهب إلي المعتقل في عهد النقراشي , ثم دخل المعتقل في بداية الثورة , وكانت هذه المرة هي الرابعة في سلسلة غزواته للسجون والمعتقلات . المهم أن ضبع شنوده إقترب مني ذات مساء وهمس في أذني يطلب سجاير لزوم عدل الدماغ , وعندما اخرجت علبة سجائري ليلتقط منها سيجارة , قال ضبع :
- إنت يظهر مافهمتش قصدي .. أنا عاوز علبتين من الكوميونة .
وعندما ارتسم علي وجهي تعبير عن عدم الفهم أشار بإصبعه تحت سريري وقال :
- إنت مش ماسك الكوميونة دلوقت ؟
وقلت لضبع :
- هي دي اسمها كوميونة ؟
وعندما هز ضبع رأسه بالإيجاب , قلت له :
- بس انت عارف إن الحاجات دي مش بتاعتي .. دي بتاعة الزملاء .
- أيوه عارف .. بس انت مسئول الكوميونة , ومن حقك تتصرف , وعلي كل حال أنا هاردلك العلبتين .
وأعطيت العلبتين لضبع شنوده , فراح يشعل السيجارة وراء الأخري . وأحسست أنه يعاني بشدة , وربما سرح بفكره خارج الأسوار , إلي شوارع الأسكندرية وحواريها , إلي منزل الأسرة التي لابد أن ضبع افتقده كثيرا .. فقررت أن أقطع تفكيره وأشغله بشئ آخر , فسألته :
- إيه رأيك يا ضبع , وخصوصا أنك مناضل قديم وخبير بكل أنواع السجون
وكأنما انعشت كلمات الثناء نفس ضبع , فخرج من سرحته وأصغي
الصفحة رقم 62
للعبد لله بكل اهتمام , واعتدل في جلسته عندما ألقيت عليه السؤال التالي :
- تفتكر إيه بقي اللي ها يحصل معانا يا ضبع في الفترة الجاية ؟
- كنت أسأله طبعا عن مصيرنا كمعتقلين , وهل هناك أمل في إفراج قريب أم أن الحبسة ستطول وستقضي علينا في نهاية الأمر . ولكن ضبع شنوده الذي اعتدل في جلسته وتأهب للدخول في حوار طويل , راح يتكلم وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح :
- شوف لما اقولك .. العيش خاص .. والجبنة لازم حلوم و150 جرام , واللحمة يوم طشة في السمنة ويوم مسلوقة .. ولازم حلو وفاكهة .. ولازم الكفالة 6 جنيه للعامل و10 جنيه للموظف .
تصورت أنه سيحدثني عن الإفراج , فكان حديثه عن طيب الإقامة في المعتقل , ولكن الذي أرقني في حديثه هو الكفالات , فسألته :
- إحنا كمان هاندفع كفالات للحكومة ؟
- لا دي الحكومة اللي ها تدفعلنا .
- وراح ضبع شنوده يحكي للعبد لله طول الليل عن حياة المعتقلات في العهد القديم .
كان بين المعتقلين أثرياء يهود , وكانوا يتولون الإنفاق علي جميع المعتقلين , وكانت السلطة تعاملهم باحترام . وفي المعتقل الذي فتح أبوابه بعد حرب فلسطين , تذوق ضبع شنوده أصنافا من الطعام لم يسمع عنها في حياته ولم يرها في أي مكان . كان الإفطار يصل إلي المعتقل مباشرة من جروبي , وكان الغداء يأتي من الشيمي وأحيانا من الدهان , وكانت السجاير كنت وكرافن وملك مصر . وعندما أفرجوا عن ضبع شنوده بكي وهو في القطار المتجه إلي الأسكندرية كما لم يبك من قبل . لقد خرج ضبع شنوده من جنة المعتقل إلي زحام الناس ومتاعب المهنة ومشاكل الأسرة .
وقطع الحديث بيننا زميل همس في أذني بان الزملاء في جميع العنابر قرروا الإضراب عن الطعام غدا , وأن الإضراب سيبدأ من العنبر رقم 1 .
الصفحة رقم 63
الفصل السابع
كان صباحا حارا شديد الرطوبة عندما بدأ الإضراب عن الطعام في معتقل الفيوم وقد جاء الأخ غطاس وأغلق جميع النوافذ حتي لا نري ما يدور في الخارج , وكان عنبر واحد هو الذي يقف في وش المدفع ولطفي الخولي بين المعتقلين في العنبر إياه . وكان لطفي قد أصبح شخصية مرموقة في المعتقل والمأمور يعمل له ألف حساب .
العنبر رقم " 4 " !
الصفحة رقم 64
صفحة خالية
الصفحة 65

والسبب أنه وسط هذا الجو الرهيب سمحت السلطات بزيارة لطفى الخولى ، وجاء بعض أقاربه واجتمعوا به فى حجرة المأمور ، وبالرغم من جهل المأمور الذى صعد من تحت السلاح ، إلا أنه أدرك بذكائه الفطرى أن لطفى شخصية ذات وزن ، ومن الأفضل اتقاء شره وعدم الاحتكاك به . وجاء المتعهد بالطعام ولكن مندوب عنبر واحد أعلن رفض الاستلام ، وأبلغ المامور بأن العنبر مضرب عن الطعام . وتصور المأمور أنه يتعامل مع مجموعة من مهربى المخدرات فوقف يهدد ويتوعد وقال فيما قال .. انه مفوض من فوق باتخاذ كل الاجراءات إلى حد ضرب النار فى المليان . ثم أمر العنبر بالخروج فخرج جميع المعتقلين على الفور . وكأنهم كانوا يستعدون منذ فترة لهذا الموقف الرهيب . وراح المأمور يكرر اسطوانته المشروخة ، وأنا عندى أوامر بالقتل ، واللى مش هياكل سأدفنه فى المعتقل .. إلى آخر هذا الكلام الهرش مخ . ثم قال بعد أن فقد صوته من شدة الحزق .. اللى مصر على الاضراب يأخذ خطوة قدام . وتقدم اثنى عشر معتقلا خطوة إلى الأمام وفوجىء المأمور بأن لطفى الخولى من بينهم ونظر المأمور إلى لطفى وقال .. بلاش انت يا أستاذ لطفى . ورد عليه لطفى الخولى .. وبلاش أنا ليه ؟ أنا أولهم ! وزفر المأمور زفرة حارة ثم شوح بيده ، وقال .. خلاص اتفضلوا خشوا جوه العنبر ، ثم راح يحجل فى اتجاه مكتبه ، واضطر إلى التنازل فوافق على اجراء حوار مع بعض المعتقلين لعرض شكواهم على البيه المأمور .

الصفحة 66

وكان هذا الحادث الصغير سببا فى انهيار نظام المعتقل ، صار الأمر فوضى . وتراخت الأيدىالتى كانت ممسكة بقوة على زمام الأمور ، لم يبق إلا العيسوى فى حالة اشمئناط دائمة ، وغطاس فى حالة البحث عن رشوة من أى مكان .
وبعد عدة أيام كبس المعتقل عدد من رجال المباحث العامة ، وراحوا يفتشون فى العنابر ويوجهون أسئلة إلى بعض المعتقلين وعندما دخلوا عنبر 3 حيث كان العبد لله يقيم ، راحوا ينظرون هنا وهناك ، وعندما اقتربوا من سريرى القوا نظرة تحته .. ثم سألنى الضابط .. إيه كل الحاجلت ده ؟ وقلت للضابط ببراءة شديدة .. دى الكوميونة . وقال الضابط فى براءة مصطنعة .. إيه الكوميونة ده ؟ وراح العبد لله يشرح للضابط مهمة الكوميونة وكيف أننا نوزع السجاير والفاكهة والأطعمة على الغلابة المعتقلين ، وبعد أن استمع الضابط وانشكح وسألنى عن اسمى ، وقام بتدوينه على ورق قبل ان ينصرف ، ومرت أيام قليلة ثم حضر إلى السجن مفتش المباحث بالفيوم وعدد من مساعديه واتجهوا إلى مكتب المأمور وغابوا فيه قليلا ثم عادوا من حيث أتوا ، ولكن المأمور اتجه نحو العنابر وفى يده كشف طويل ثم حدثت حركة وجلبة وضوضاء فى أنحاء العنابر التى دخلها المأمور ، ثم جاء إلى عنبر 3 وراح ينادى على أسماء وكان اسم العبد لله من بينها ..
اجتاحتنى نوبة شديدة من المشاعر والانفعالات هى خليط من الفرحة والخوف والقلق ، أخيرا بدأت المياه تتحرك فى البحيرة الراكدة وهذا الذى يحدث الآن قد يكون خيرا وقد يكون شرا ، ولكنه شىء مختلف على كل حال ، أخيرا فهمنا أن المقصود من هذه الحركة هو اجراء حركة تنقلات بين المعتقلين لأسباب أمنية .. هكذا قال حضرة المامور العليم ببواطن الأمور .. ووجدت نفسى أخيرا فى عنبر 4 مع وجوه جديدة ونزلاء أخرين ، كان من بينهم الماركسى القديم أسعد حليم والمناضل القديم عزب شطا والزميل عبد الستار الطويلة ، ونفس المعتقل السابق ذكره الذى بكى ذات صباح ونحن جلوس فى صفوف منتظمة خارج باب سجن القلعة والذى

الصفحة 67

رأيته بعد ثلاثة أيام فى فناء السجن يرتدى فانلة كورة شبية بفانلة فريق الترسانة ومعه براد شاى كبير وعدة أكواب فى اليد الأخرى وينادى على بضاعته .. مين يشرب شاى يا زملا ؟ المعتقل أحمد شوقى عبد الهادى ، الذى سيلازمنى كل مراحل فترة الاعتقال ، والذى سيكون له شأن كبير فى تنظيم زمش عند تأسيسه فى سجن الواحات الخارجة .
ورحت استفسر من معتادى النضال والمترددين على المعتقلات عن سر هذا الاجراء الذى ضمنا جميعا فى عنبر واحد . وجاءت الاجابات مختلفة ومتناقضة ، البعض قرر أن هذا الاجراء هو تمهيد لبدء عملية الافراج وتصفيية المعتقل .. وأكبر دليل على ذلك هو وجود العبد لله وسط هذا الحشد من المعتقلين ، فقد كان العبد لله فى نظر هولاء بريئا من تهمة الشيوعية وأخيرا جاء دور أسعد حليم ليفسر للعبد لله هذه الظاهرة ، فقال فى هدوء شديد وفى ثقة العالم الكبير: ان تجميع هذا العدد من المعتقلين هو نذير سوء بلا شك .. وأننا جميعا فى الطريق إلى المحاكمة أو إلى التصفية الجسدية ، وعندما سألته عن سر تشاؤمه إلى هذا الحد ، أجاب بأن كل الموجودين تم اختيارهم بدقة ، فأغلبهم سبق اعتقاله أكثر من ست مرات ، وبعضهم قضى نصف حياته فى السجون وبعضهم صدر ضده أحكام من المحاكم ، وضرب أسعد حليم مثلا بعبد الستار الطويلة الذى تردد على المعتقلات أكثر من سبع مرات وعزب شطا الذى يخرج من المعتقل إلى المعتقل ، كما أنه شقيق محمد شطا أحد رموز الحركة الماركسية فى مصر ، ثم راح يعدد ويشرح ويفيض فى الشرح ، وأخيرا سألته : ولماذا أنا وسط هولاء ؟
أجاب .. هذا هو الشىء الذى يحتاج إلى تفسير .
صدقت نبوءة أسعد حليم ودخلت المعتقل فى صباح اليوم التالى قافلة من السيارات الضخمة ، وسرية حراسة مسلحة بالمدافع الرشاشة يرأسها ضابط برتبة عقيد ومعه اثنان برتبة المقدم وثلاثة برتبة رائد ونصف دسته من النقباء والملازمين ثم عدد لاحصر له من الصولات والشاويشية . وفتحوا باب عنبرنا وراحوا يقيدون المعتقلين بنوع من القيود

الصفحة 68

الحديدية يطلقون عليه اسم الحجلة وهذه الحجلة تقيد القدمين واليدين ويتصل القيد الذى فى اليد بالقيد الذى فى القدم بسلسلة طويلة تحدث صوت أثناء عملية السير وتقيد الحركة فلا تسمح إلا بخطوة قصيرة وركبنا السيارات وغادرنا معتقل الفيوم فى الصباح الباكر ، وراحت السيارات تتهادى بنا عبر طريق زراعى موحش وغير ممهد فى طريقها إلى بنى سويف ، وافتى بعض الخبراء بأننا فى الطريق إلى سجن بنى سويف تمهيدا لتقديمنا إلى المحاكمة وقرر البعض أن سجن بنى سويف هو أسوأ سجون مصر على الاطلاق ، ان لم يكن أسوأ سجون الدنيا كلها ، ولكن القافلة اتجهت إلى محطة بنى سويف وتخلصت من حمولتها هناك وأجلسونا على الأرض وأعادوا فرزنا من جديد ، ولما اطمأنوا إلى أننا ( تمام ) ولم ينقص منا أحد تركونا جالسين على الأرض ، بينما أحاط بنا العساكر والمدافع مصوبة نحونا ، بينما احتل عشرات من الجنود أسطح المحطة ، وافترش آخرون الرصيف المقابل وخيل للعبد لله أن الحلفاء القوا القبض على هتلر وزعماء النازى وقادة الجيش الألمانى وأفراد جهاز الجستابو الشهير ..
كانت شمس مايو تتوسط الأفق والحرارة شديدة والعطش يستبد بنا عندما مر من أمامى مساعد حكمدار بنى سويف واسمه على ما أذكر صدقى الغنام أو صادق الغنام ، وكنت قد عرفته فى العام 1951 ابان معركة السويس حيث كان وقتئذ برتبة نقيب وكانت له مواقف وطنية إلى جانب الفدائيين مع اليوزباشى نجم الدين واليوزباشى محمد عسل واللواء مصطفى المتولى ، ونظر الغنام للعبد لله طويلا ، واعتقد أنه وقف أمام سؤال هل الجالس وسط المعتقلين هو العبد لله أم شخص يشبهه ؟ وعندما التقت نظراتنا أسرع بعيدا عن المكان ثم اتجه نحو قائد الحراسة وألقى نظرة على كشف المعتقلين الذى يحمله ، وعندما تأكد أن الشخص الذى رآه هو العبد لله ولا أحد غيره بقى بعيدا ولم يقترب مرة أخرى من المكان ..
وبعد ساعات من الحر والعطش والجوع والانهاك الشديد وصل القطار

الصفحة 69

المتجه إلى الصعيد ، واكتشفنا أننا سنسافر فى عربات خصصت لنقل البهائم ، وبدأت عملية حشرنا داخل العربات بينما كعوب البنادق كانت تساعدنا على الاسراع فى عملية الركوب وتلقى العبد لله شلوتا فى ظهره وأنا أهم بدخول العربة وعندما القيت نظره خلفى اكتشفت أن صاحب الشلوت هو العقيد الغنام نفسه ، ولا أعرف السبب الذى دفع الغنام إلى ضرب العبد لله بالذات ربما انتابه الخوف من أن أكون قد فضفضت إلى غيرى من المعتقلين بعلاقتى السابقة أيام معركة القناة ، ربما خشى أن يكون أحد من المسئولين على علم بهذه العلاقة أراد أن ينفيها بشدة وأن ينفيها عمليا ، فأهدانى هذا الشلوت وأنا على باب عربة البهائم التى ستذهب بى إلى سجنى الجديد ، وراح القطار يزحف مغادرا بنى سويف فى طريقه إلى أبو طشت ، ولكن وقع حادث رهيب أثناء توقف القطار فى محطة صغيرة بعد سوهاج ، وكنا مربوطين كل عشرين معتقل فى حجلة واحدة . اذا أراد بعض المعتقلين من فريق حجلتنا أن يستنشق بعض الهواء النقى ، فوقف على السلم أثناء توقف القطار ، ولكن القطار اندفع فجأة إلى الأمام فسقط اثنان من المعتقلين على الأرض ثم سقط اثنان آخران أذكر من بينهم شعبان الحدق و عبد الستار طويلة واندفع القطار بهمة فى طريقه إلى الأمام ، بينما راح المعتقلون يسقطون أسفل القطار واحدا وراء الآخر ، وصرخ عبد الستار الطويلة والقطار يجرجره على الأرض .. مؤامرة .. مؤامرة يا زملا .. المخابرات المركزية .. المخابرات المركزية يا زملا ..
كان الصف الذى أمامى قد سقط على الأرض بينما انحشرت أنا وزميلى شوقى عبد الهادى عند الباب ، نحاول دون جدوى أن نتشبث بمكاننا عند الباب ولكن الحمل ثقيل والذين سبقونا إلى الأرض يجذبوننا بقسوة ، وفى هذا الوقت انطلقت عدة رصاصات فى الهواء تبعتها زخات من طلقات المدافع الرشاشة ، ويبد أن السائق انتبه إلى أن هناك شيئا يجرى فى القطار فتوقف عن السير ، وكانت وقفته المفاجئة سببا فى وقوعنا على الأرض ولكننا لم نصب إلا بخدوش بسيطة ، بينما اصيب شعبان الحدق وعبد الستار الطويلة وآخرون برضوض وجروح خطيرة ، وتوقف القطار

الصفحة 70

نصف ساعة لاعادة حصرنا من جديد ولما تأكدوا من أن عدد الجثث الحية مضبوط عاود القطار سيره فى هذا الليل إلى محطة الوصول ..
وصلنا إلى أبو طشت فى الصباح الباكر وتوقف القطار فى محطة جانبية وبدأنا فى النزول ثم الجلوس القرفصاء على رصيف المحطة انتظارا للقطار المتجه إلى الواحات ، وجاء القطار فى الحادية عشرة صباحا وبدأنا رحلة جديدة إلى واحة المحاريق وسط الصحراء ، وكان قطارا أشبه بلعبة من لعب الأطفال ومن النوع الذى يظهر فى أفلام والت ديزنى ، ولكنه كان أفضل من قطار الصعيد فيه مقاعد ونوافذ ، وامتدت الصحراء أمام أعيننا بلا نهاية ، تضاريس أشبه بتضاريس القمر التى رأيناها على الشاشة عند هبوط أول رائد فضاء على سطح القمر ، فجوات وتلال وأخاديد ورمال محترقة ورمال ناعمة وكهوف وجحور ومناظر لم تقع عليها أعيننا من قبل ، وسرحت بعيدا إلى سجن الواحات ، لابد انه سجن رهيب أقيم خصيصا لتأديب عتاه المجرمين ولابد أننا سنلاقى الشدائد والأهوال خلف أسواره ، واذا كان معتقل الفيوم كان يشبه معتقلات النازى فماذا يكون شكل معتقل الواحات وهو على بعد مئات الأميال من وادى النيل ؟
واستسلمت لنوم عميق ولم استيقظ إلا والزملاء يهزوننى بعنف لاكتشف اننا فى محطة المحاريق ، كانت المحطة أشبه بمحطات الريف مجرد رصيف وكشك ثم لاشىء بعد ذلك ، وصحراء بلا نهاية وفرقة من عساكر بلوكات النظام يحملون البنادق ، ونزلنا وسط هذه المظاهرة الأمنية الشديدة واتخذنا طريقنا على الأقدام إلى سجن الواحات ..
كان السجن عبارة عن عنبرين كل عنبر من دور واحد بناؤه يشبه بناء المساكن الشعبية ومبنى ثالث أغلب الظن أنه مبنى الادارة ولك يكن للسجن سور والعنابر منها للصحراء بلا حواجز ، وعدنا للجلوس على الأرض أمام عنبر رقم 1 ، ومن خلال قضبان باب العنبر جاءنى صوت ينادى باسمى وكان صاحب الصوت يرتدى بدلة سجن زرقاء ويضع على عينيه نظارة طبية ودققت النظرر فيه ، كان صاحب الصوت يشبه صديقى الكاتب الكبير صلاح حافظ وكان قد غاب فى السجن منذ عام 1954 ، ولم

الصفحة 71

أرد على صاحب الصوت فقد خفت من تكرار ما حدث فى معتقل الفيوم ، ولكن الصوت عاد ينادى من جديد ، ثم نادى على أحد عساكر السجن وأمره بالبحث عن محمود السعدنى وأعطاه سيجارة مشتعلة لكى يعطيها لى ، وراح العسكرى يفتش عن محمود السعدنى وسط هذا القطيع البائس فلما اقترب منى وسألنى عن اسمى أجبته فناولنى السيجارة ولكنى اعتذرت ولكن العسكرى أصر ، وناولنى السيجارة فأخذتها وأنا غير مصدق لما يحدث أمامى ، هل المعاملة هنا أفضل من المعاملة فى معتقل الفيوم ؟! وهل العساكر هنا أرق وأرحم ؟ غريبة .. هل هذا هو سجن الواحات ؟
ولم تمض دقائق حتى صرنا داخل عنبر وتلقانى صلاح حافظ بالأحضان ، ووجدت نفسى داخل حجرة لا تشبه حجرات السجون ولكنها أشبه بحجرة عادية فى بيت ..
ووجدت نفسى مع خمسة عشر معتقلا بينهم أديب ديمترى ولطفى الله سليمان صاحب المكتبة الشهيرة فى شارع عادلى وأسعد حليم وأحمد شوقى عبد الهادى ، ثم جاء الغداء ملوخية لو أتذوق مثلها منذ ماتت المرحومة ستى هدية ، وعيش لم أر مثله منذ أغلق مخبز الرمالى الشهير ولحم ليس له نظير فى محل الشيمى . وانتعش العبد لله وهتفت فى أعماقى يا سبحان الله .. أين أنت يا سجن الواحات الخارجة ؟
ولماذا تعطل مجيئنا إليك منذ يوم 27 مارس وهو يوم القبض علينا ؟
وهكذا قدر للعبد لله ان يكون واحدا من فئة الشواشى العليا المناضلين الكبار ، فليس بعد سجن الواحات مرتبة يرتفع إليها المناضل الكبير ، وهكذا أيضا قدر للعبد لله أن يتذوق طعم النوم العميق لأول مرة منذ خطفنى الضابط المهذب طوسون من بيتى فى الجيزة إلى مكتب المباحث العامة فى الدقى مؤكدا للعبد لله ان العملية لن تستغرق أكثر من خمس دقائق .. لا تزيد !

الصفحة 72

صفحة خالية



الصفحة 73

الفصل الثامن

أخيرا ..
وصلنا إلى سجن الواحات ، وأصبحنا مكافحين من الفئة الممتازة ، وهاهم عشرات من أصدقاء الصبا والشباب نلتقى بهم بعد غيبة طويلة فى صحراء المحاريق ..
على الشوباشى ، الذى اكتشفت من خلال تنظيمه أن الشيوعين فى مصر ليسوا فى تنظيم واحد ، ولكن هناك تنظيمات شتى ..
متصارعة ومختلفة ..
ومن خلال تنظيم ( و ش ) ، اكتشفت أن الحركة الشيوعية تضم عدد لا بأس به من اليهود .
فتش عن اليهود !

الصفحة 74

صفحة خالية
الصفحة 75

عرفت من بينهم عادل رفعت , الذي كان في نفس الوقت زوجا للفنانة فاتن الشوباشي , وأحمد صادق سعد , الذي كان نجما من نجوم الحزب الشيوعي , والمحامي شحاته هارون , وآخر اسمه ريمون دويك وقد اشتغل بعد المعتقل مديرا للعلاقات العامة لاتحاد الكرة , وكان لهولاء اليهود نفوذ كبير في التنظيمات الشيوعية ولكن في الخفاء , ولم يكن أحد منهم – رسميا – في قمة التنظيمات الشيوعية . وأقول رسميا , لأنهم بالفعل كان لهم نفوذ واسع ومؤثر في الحركة الشيوعية المصرية , فهم جميعا من الحرس القديم , الذين عاصروا الحركة الشيوعية في بدايتها أيام الحرب العالمية الثانية , وكانت التعليمات خلال فترة اعتقالهم بالواحات هو عدم الإعلان عن دورهم الحقيقي في الحزب , والتأكيد على أنهم مجرد أعضاء في الحزب الشيوعي المصري . وربما كان هذا الموقف هو نتيجة عقدة من اتهام الآخرين لهم بأنهم يعملون مع اليهود , وينفذون مخططا يهوديا لصالح إسرائيل..

ولقد وقع من جراء هذا الموقف حادث مضحك للغاية . فقد ذهب ريمون دويك إلى المحكمة ووقف في القفص وعندما سأله رئيس المحكمة .. هل أنت عضو في الحزب الشيوعي المصري ؟ اجابه ريمون دويك .. اتشرف بأنني عضو قيادي بالحزب الشيوعي المصري . ونطق القاضي بالحكم .. السجن مع الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات , ولو كان ريمون أجاب بأنه

الصفحة 76

عضو في الحزب الشيوعي المصري فقط من غير قيادي , لكان الحكم 5 سنوات فقط !

المهم أن ريمون دويك عاد إلى السجن وهو يحمل على كتفه حكما بالسجن مع الأشغال الشاقة مدة عشر سنوات . وفي مثل هذه الحالات يستقبل السجن العائد من المحكمة إلى سجنه بزفة , ولكن الذي حدث ان ريمون دويك عندما عاد إلى سجنه لم يجد ترحيبا من احد , ولكنه وجد محمة حزبية في انتظاره , وبعد محاكمة عاجلة , صدر الحكم ضده بالفصل من الحزب , ليه ؟ لأنه خالف التعليمات الصريحة , وقرر أمام محكمة أمن الدولة أنه عضو قيادي , وهو أمر مخالف للحقيقة ويلقي على التنظيمات الشيوعية ظلا من الشك .

الأمر الذي استرعى انتباه العبد لله أن أغلب اليهود الشيوعيين الذين كانوا معنا في سجن الواحات , أشهروا اسلامهم واكتسبوا أسماء جديدة , وان أكثرهم غرابة أحمد صادق سعد وهو مهندس , كان يرتدي في المعتقل قميصا مفتوحا وشورتا , ويقضي نهاره كله يدور ويلف حول نفسه , بينما السيجارة تتدلى من بين شفتيه , ونادرا ما كان يتبادل الحديث مع أحد , ولكني لاحظت أنه كانت تبدو عليه السعادة اذا تبادل حديثا باللغة الفرنسية :

وذات صباح خطر للعبد لله أن يمزح معه , فقلت له .. بونجور .. واذا به يلتفت للعبد لله وهات يارطن بالفرنساوي . وعندما اكتشف اني لا أعرف الفرنسية غضب غضبا شديدا . والسبب انني أثناء انهماكه في الحديث بالفرنسية كنت أهز رأسي وأردد كلمة وي .. وي , لكنه يبدو أنه ألقى على العبد لله سؤالا , فلما اجبته بالعبارة التي أرددها دائما (وي) أدرك أنني أعرف في الفرنساوي ما تعرف خالتي بهانة في اللغة اليابانية . وعندما ضحكت , ازداد غضبه , فتدخل ابراهيم العطار وحاول اصلاح ما أفسده الدهر , ولكن ناله من أحمد صادق سعد ما نالني من قبل . وكان ابراهيم العطار من الشيوعيين القدماء , وكان صاحب تاريخ في المعتقلات السابقة , وفي بداية حياته كأحد صولات الجيش في سلاح

الصفحة 77

الطيران , واتهم مع بعض زملائه باعتناق المبادئ ( الهدامة ) ولكن التحقيق معهم لم يثبت شيئا ضدهم , فاكتفوا بنقلهم إلى الواحات وكان رجلا خفيف الدم مرحا وعطوفا وطيب القلب , ولذلك توثقت الصلة بيني وبينه من أول لحظة اجتمعنا فيها داخل معتقل الواحات , وتطورت علاقتنا إلى صداقة حقيقية عندما تحالفنا معا ضد صادق سعد , ورحنا نلاحقه في الحوش بالنكت , ولكن صادق سعد لم يكلف نفسه مرة واحدة بالرد علينا , أو حتى مجرد الاهتمام بأمرنا .

لكن بعد أسبوع من بداية حملتنا ضده , تشرفت زنزانتنا بزيارة زميل جاء يقضي الليل معنا , وتصور أنه جاء لقضاء سهرة مع أصدقائه ولكنه أفصح عن سر الزيارة في منتصف الليل , عندما نظر للعبد لله وقال وعلى وجهه تعبير كبار المسئولين الذين يحملون على أكتافهم هموم البشر : اسمع ياسعدني .. أنت وابراهيم العطار بتنكتو على صادق سعد .. وعاوز أقولك ان الشيوعيين لما دخلوا شانجهاي شنقوا اللي زيك انت وابراهيم العطار . وقلت للزميل المتحمس .. على كل حال لما تخشوا القاهرة يبقى يحلها ربنا .

وهذا الزميل المتحمس تعمدت عدم ذكر اسمه لأنه انتقل إلى رحمة الله , ولأنه بعد ستة أشهر من هذا الانذار الذي وجهه للعبد لله , حمل متاعه القليل وجاء إلى زنزانتي , وصار واحدا من زعماء زمش .. الذي سيأتي ذكره بالتفصيل فيما بعد . وغير علي الشوباشي , كان معنا علي الشلقاني , وهو برنس حقيقي وفارس من عصر الفرسان . كان شديد الاعتداد بنفسه وشديد التواضع في نفس الوقت , وكان يتصرف في السجن وكانه يعيش على شاطئ بحيرة ليمان في جينيف .

وكان هناك أسعد حليم .. الهادئ الصامت الوائق من نفسه . وكنت قد سمعت بأسعد حليم من صديق مشترك هو بكر سيف النصر . الذي مات فجاة وهو في شرخ الشباب . ثم التقيت به في بيروت وفي ظروف غريبة . ففي أثناء العدوان على مصر في عام 1956 , أصدرنا نحن

الصفحة 78

مجموعة من الصحفيين المصريين الذين تصادف وجودنا في لبنان وقت وقوع العدوان , صحيفة مصرية , وبالفعل صدرت جريدة الجمهورية ( لسان حال جمال عبد الناصر ) واشترك في تحريرها مجموعة من الصحفيين والكتاب المصريين , منهم محمد عودة وسعد الدين وهبة وعبد الرحمن الشرقاوي وسامي جوهر وعلي جمال الدين طاهر . وباعتبار العبد لله هو المحرر المقيم في مكتب الجريدة , والمشرف على تحريرها مع سامي جوهر , فقد كنت اتلقى رسالة يومية تحوي مقالا يدل على ان كاتبه من الكتاب المحترفين . وكان كاتب المقال المجهول يحضر كل صباح إلى مكتب الجريدة ويسلم مقاله إلى البواب وينصرف . وكان يوقع مقالاته باسم احمد صادق , ولم أكن قد سمعت من قبل بكاتب يحمل هذا الاسم .

وذات صباح تصادف مجئ العبد لله إلى مكتب الجريدة في نفس اللحظة التي كان فيها أحمد صادق يسلم مقاله إلى البواب , فصافحته ودعوته للدخول . وجلسنا فترة نتحدث . وتشعب الحديث بنا إلى مصر , وجاءت سيرة بكر سيف النصر , وكان اسم بكر سيف النصر هو العصا السحرية التي فتحت مغاليق الكاتب المجهول أحمد صادق . واكتشفت أن الذي يجلس امامي في مكتبي المتواضع في جريدة الجمهورية في بيروت , هو المناضل القديم أسعد حليم . وكان أسعد حليم لسوء حظه في المعتقل عندما قامت الثورة , وأفرجت الثورة عن كل المعتقلين , ولكنها احتفظت في المعتقل بعدد قليل منهم , كان من بينهم أسعد حليم . وأدرك أسعد حليم المجرب الخبير أن المعتقل هذه المرة سيكون بلا نهاية . فخطط للهرب من المعتقل ومن مصر كلها , ونجح في تنفيذ الخطة بمساعدة الصديق الشهم بكر سيف النصر . وبعد أن قضى في مصر عدة أسابيع بعيدا عن العيون , استطاع الخروج منها على ظهر مركب , نقلته إلى بيروت . وعندما وقع العدوان على مصر , سارع المناضل القديم إلى حمل القلم والدفاع عن وطنه ضد المعتدين , وبعد العدوان أصدرت حكومة الثورة عفوا عن جميع المتهمين السياسيين , ودعت الذين يعيشون منهم في الخارج للعودة ,

الصفحة 79

وصافي يالبن , وفتح صفحة جديدة لبناء المجتمع الجديد .

كان أسعد حليم من أول الذين لبوا النداء وعادوا إلى أرض الوطن . ولكن عندما حانت الفرصة اعتقلت الحكومة أسعد حليم , مع أنه لم يكن عضوا في أي تنظيم شيوعي , ولم يكن له نشاط ضد الدولة من أي نوع , ولكنها الدوسيهات القديمة والملفات التي ملأها التراب , أيضا كان هناك فايق فريد .. المهندس العالم والأستاذ العبقري . كان فايق فريد في سجن الواحات كالنسمة الطرية في ليلة صيف , وكان حريصا على أن يبدو هادئا وسعيدا على نحو ما . وأخيرا كان الدكتور حمزة البسيوني .. الضاحك دائما , المتفائل بالرغم من كل شئ .

وطابت الحياة في سجن الواحات للعبد لله , فالحياة محتملة , والرفقة بعضها طيب , وأغلبها مش ولابد , ولكنها محتملة على كل حال . ثم جاء يوم وجرى توزيع المعتقلين داخل السجن على أساس الانتماء الحزبي . أعضاء الحزب الشيوعي المصري في غرف خاصة بهم , منظمة حدتو في غرف خاصة بها , وغرف اخرى مخصصة لتنظيم طش , وغرف أخرى لتنظيم وش .. وكانت المشكلة التي احتار حلها الجميع هي مشكلة المستقلين .

واصل الحكاية أن السجن كان يضم عشرات من الذين لاينتمون لأي تنظيمات شيوعية , بعضهم ماركسيون .. مثل لطف الله سليمان وأسعد حليم , والبعض منهم علاقته بالشيوعية الماركسية كعلاقة ستي هدية بعلوم الفضاء .. مثل احمد شوقي عبد الهادي , وكان هناك نوع آخر , هم الذين كانوا في تنظيم شيوعي لحظة القبض عليهم , ولكنهم خلعوا من التنظيم بعد وصولهم إلى المعتقل . وعقدنا اجتماع قمة حضره ابراهيم العطار وأحمد شوقي عبد الهادي وعبد الموجود ابراهيم أبو زيد وهو من عمال السكة الحديد , ومحمد عبد الواحد وهو رئيس نقابة عمالية كبرى .. والعبد لله .

كان الهدف من الاجتماع أن يكون لنا تنظيم خاص وبعيدا ومختلفا عن التنظيمات الشيوعية , صحيح أننا شيوعيون أمام الدولة , ولكننا في واقع

الصفحة 80

الأمر لا علاقة لنا بالتنظيمات على الاطلاق . ولكن كيف ؟ هذا هو السؤال .

كان من رأي ابراهيم العطار أن انضمامنا لأي تنظيم , حتى ولو كان تنظيما فكاهيا , سيجذب انتباه الأجهزة الحكومية , وقد تكون له عواقب وخيمة , ولكن كان لابد لنا من حل المشكلة , ولذلك قررنا أن يفكر كل منا في حل يحقق لنا الهدفين معا .. التنظيم وعدم استفزاز الحكومة . وقضينا أسبوعا في الشتات .

كان العبد لله يعيش في حجرة تضم أديب ديمتري , وهو رجل فاضل من خبراء التعليم , وكان قصير القامة , وحبكت النكتة مع العبد لله , فاطلقت عليه اسم أديب ديمللي , باعتباره أنسب لقصر قامته , ومع ذلك لم يغضب أديب ديمتري ولم يحتج ولم يوجه للعبد لله انذارا كما فعل صادق سعد , ولكنه ضحك من أعماقه , واعتبرها نكتة أشاعت في جو السجن الكئيب ضحكة صافية , كان معنا أيضا محمد المستجير , ولو كان كل الشيوعيين مثله , لحكموا العالم كله . ولكن هؤلاء الرفاق لم يمنعوا العبد لله من التفكير , وهو التفكير الذي قادني في النهاية إلى اكتشاف الحل ..ولكن ماهو الحل ؟

الصفحة 81

الفصل التاسع

المؤامرة والتفاح !

كان تنظيم زمش هو الحل لمواجهة حالة عدم الانتماء التي اوقعتنا في ورطة داخل سجن الواحات . كان اسم تنظيمنا الذي اهتديت إليه هو على وجه التحديد ( زاي ما انت شايف ) وأخذت الحروف الاولى من الكلمات الثلاث ( ز . م . ش ) ولم يكن هذا اختراعا من اختراعات العبد لله فقد كان في المعتقل تنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ولكنه كان معروفا بين الناس باسم ( حدتو ) وكان هناك تنظيم وحدة الشيوعيين الذي عرف باسم ( وش ) .

الصفحة 82
(صفحة خالية )

الصفحة 83

كما كان هناك تنظيم طليعة الشيوعيين الذي عرف باسم ( طش ) وبالفعل قامت زمش واشتهرت ودخلت تاريخ الحركة الشيوعية في مصر . وتولى العبد لله منصب سكرتير عام زمش . يعني رأسي برأس خروشوف على طول , وتولى ابراهيم العطار رئاسة المكتب السياسي , وتولى أحمد شوقي عبد الهادي مسئولية الامداد والتموين .

والحق اقول أن مهمتي ومهمة ابراهيم العطار كانت سهلة للغاية , فنحن نصدر البيانات , ونضع التحليل المناسب للحالة السياسية , اما مسئولية أحمد شوقي عبد الهادي فقد كانت صعبة للغاية . فقد كان غذاؤنا يوفره السجن لنا . ولكننا في أول الأمر كنا في حاجة إلى شاي ناشف وسكر كميات من الوقود لزوم إنضاج الشاي في الزنزانة , وقد نجح مسئول التموين في تدبير هذه المواد , بعلاقاته ببعض الشاوشية المشرفين على الكانتين وبأحد الزملاء الذين يعملون في الورشة .

ومضت الحياة بنا سهلة ومسلية ومحتملة الى حد كبير وإرتاحت أعصابنا من تدابير معتقل الفيوم الذي كان نسخة طبق الأصل من معتقلات النازي , ولقد قام تنظيم زمش بضم مجموعة من خيرة أبناء مصر . الماركسي القديم أسعد حليم صاحب الأعصاب الباردة والعقل الهادئ ولطف الله سليمان المثقف العصبي الذي ينطق عشر كلمات فرنسية في جملة من 11 كلمة , والمحامي علي الشلقاني الهادئ البسيط

الصفحة 84

الذي جعل من الزنزانة صالونا سياسيا على أرقى المستويات وكان هناك أيضا الدكتور فايق فريد . العالم الذي لولا الظروف السيئة التي تعصف بالعالم العربي منذ منتصف القرن , لكان له الآن شأن آخر . وكان معنا الحالم المحلق فوق السحاب عادل ثابت , والتحق بنا فيما بعد الكاتب الصحفي فتحي خليل عليه رحمة الله . إلى جانب مجموعة من أولاد البلد الطيبين , على رأسهم عبد الموجود أبو زيد وعباس الدبيكي من عمال السكة الحديد .

وعندما تضاعف عدد الأعضاء وازداد عدد العاطفين على تنظيمنا . اضطررنا الى توزيع بعض الأعضاء على غرف مشتركة , وتعمدنا أن تكون هذه الفرق تابعة لتنظيم ( حدتو ) لأنهم كانوا أكثر فهما للموقف السياسي وأكثر مرونة وتجربتهم أعمق بأحوال الشعب المصري , ثم حدث أول شقاق في تنظيم زمش . وكان أول المنشقين هو الأستاذ أبو الخير المحامي . وعندما دخل أبو الخير السجن كان ينتمي إلى تنظيم ( حدتو ) . ثم انسلخ عن ( حدتو ) وانضم إلى تنظيم زمش . وفي اول امتحان أعلن العصيان وخرج على زمش وأعلن نفسه مستقلا عن جميع التنظيمات . اما سبب انفصاله .. فلأن الحزب الشيوعي المصري اجرى اتصالا بالقيادة الزمشية طالبا التعاون معه في الحياة العامة , وكان معنى هذا الطلب هو التنازل عن جزء من دخلنا للحزب الشيوعي المصري .

كان تنظيم زمش هو أغنى التنظيمات الموجودة داخل المعتقل . فهو يضم 25 عضوا يحصل كل منهم على الحد الأقصى المسموح به شهريا لكل معتقل . وهو مبلغ عشرة جنيهات شهريا . وعلى الفور عقدنا اجتماعا على مستوى القمة ثم أصدرنا في النهاية قرارا بالاشتراك مع الحزب الشيوعي في الحياة العامة والتنازل عن 50% من دخلنا لهذا الغرض ..وكان من رأي العبد لله ومن رأي أغلبية زمش أن المسائل المعيشية لا علاقة لها بالسياسة واذا كنا نختلف مع الحزب الشيوعي في كل شئ بالنسبة للموقف السياسي , فنحن لا نختلف مع الحزب الشيوعي المصري في أمور
الصفحة 85
الشاى والسكر والسجاير . ولكن محمد ابو الخير إعترض بشدة ووصف هذا الموقف من جانبنا بأنه خطير للغاية ، وبداية للتورط فى مشاكل لا حد لها . وقال ان السلطة ستعتبرهذا التعاون دعماً للحزب الشيوعى المصرى ، وستعامل زمش على إنه تنظيم مؤيد للحزب وموافق على سياسته ، وسنلقى أسوء مصير فى المعتقل وأمام المحاكم . ولكن العبد لله ، وباعتبارى خروشوف زمش قررت تنفيذ قرار الأغلبية وأبلغت به الزميل سيد عبد الله مندوب الحزب فى الحياة العامة . وفى هذه اللحظة قطع الاستاذ أبو الخير علاقته بزمش ، وكان حريصاً على إعلان موقفه على الملأ . وفى اليوم التالى تم تأليف اللجنة العامة التى تمثل جميع التنظيمات للإشراف على تنظيم حياة المعتقلين ، وحضر الاستاذ أحمد طه عن ( حدتو ) والاستاذ سيد عبد الله عن الحزب الشيوعى والأستاذ حمدى حمدان عن ( طش ) والأستاذ على الشوباشى عن ( وش ) والعبد لله عن زمش . وفى أول إجتماع تم إنتخاب العبد لله رئيساً للجنة لمعتقل الواحات ، وفوضنا الأستاذ سيد عبد الله والأستاذ على الشوباشى فى شراء ما يلزم المعتقلين من لوازم ومواد غذائية وسجاير . وقام الزميلان بمهمتهما على أكمل وجه . وتم تشوين المشتريات فى حجرة داخل السجن تسلم العبد لله مفتاحها بإعتبارى رئيساً للجنه العامة . واجتمعنا فى اليوم التالى للشراء للنظر فى القواعد الواجب إتباعها فى توزيع هذه المواد وحصة كل تنظيم حسب عدد أفراده ووضع نظام خاص للمرضى والمسنين . وتصور العبد لله أن مهمة اللجنة لن تستغرق أكثر من دقائق يتم بعدها توزيع المواد على المعتقلين . ولكن الذى حدث بالفعل كان أغرب من الخيال . بدأ العبد لله الجلسة بكلمة قصيرة أكدت فيها وجوب الإسراع فى توزيع المواد الغذائية ، خصوصاً أن من بينها كميات من التفاح والكمثرى وقد تتعرض للتلف إذا لم نسرع فى توزيعها على الزملاء .. ولكن الزميل سيد
الصفحة 86
عبد الله رفع إصبعه وطلب الكلمة .. وقلت لنفسى أن سيد عبد الله لديه خبرة عريضة فى المعتقلات وهو لابد لديه خطة كاملة لعملية التوزيع . ولكنى فوجئت بالأستاذ سيد عبد الله يقول فى حماس شديد وبصوت هادىء : إسمحوا لى بأن أبدأ بعرض بعض المواقف التاريخية التى حدثت فى معتقلات سابقة ، ففى الواقع أن بعض الزملاء فى معتقل أوردى أبو زعبل ماتوا بسبب سوء توزيع المواد الغذائية لأن المشرف على التوزيع كان من تنظيم ( د . ش ) وكان يخص أعضاء تنظيمه بكميات وفيرة من السلامون والجبنة البيضاء والخضراوات والخيار والطماطم ، بينما لم يصل إلى أيدى أعضاء تنظيم ( الراية ) إلا النزر اليسير من هذه المأكولات عندئذ رفع مندوب تنظيم ( طش ) إصبعه قائلاً : نقطة نظام . وحاولت إسكاته ولكنى إكتشفت ان عبارة ( نقطة نظام ) هى العصا السحرية التى تجبر رئيس اللجنة على السكوت وإعطاء الكلمة للزميل صاحب نقطة النظام ، وبدأ مندوب ( طش ) فى الكلام : الحقيقة التى يعرفها الزملاء أن المؤامرة ضد ممثلى الجماهير الكادحة لا تأتى من خارجنا فقط ولكنها وصلت إلى صفوفنا ، وهدفها الوحيد هو تزييف تاريخ الحركة الشيوعية . وهذا دليل قاطع على أن الإمبريالية والشواشى العليا للبرجوازية والطبقة الطفيلية لا تعمل وحدها ، ولكنها تعمل للأسف الشديد بالتعاون والتنسيق مع بعض التنظيمات المشبوهة التى دخلت تحت عباءة الماركسية وناضلت بإسمها ، وما قاله الزميل سيد عبد الله هو جزء من هذا المخطط الذى يؤكد أن الحركة النضالية فى الممارسة تصطدم بعقبات تلك أخطرها على الإطلاق .. وهنا رفع سيد عبد الله يده ناطقاً نقطة نظام ورغم إحتجاج حمدى حمدان مندوب ( طش )، إلا أنى أعطيت الكلمة لسيد عبد الله وقال سيد عبد الله ( فى الواقع ..) ولا أعرف ما الذى حدث بعد ذلك ولا أستطيع أن أرويه لحضراتكم ، لأن العبد لله نام أثناء المناقشة ، وعندما إستيقظت كانت الشمس على وشك المغيب ، صفارات كثيرة تدوى فى أرجاء السجن فقد حان وقت التمام ، والشاويش حسن يقف على باب الزنزانة وفى يده شىء أشبه بالحزام الجلد ، وقال لنا ( انتوا لسة بتتكلموا .. انتو مش
الصفحة 87
هتوزعوا الأكل بقا عشان ينوبنا من الحب جانب ؟ ) وسألت المجتمعين عن النقطة التى وصلوا إليها فأجابوا الرئيس الذى هو حضرتنا بأنهم اتفقوا على مواصلة الإجتماع غداً فى نفس المكان وفى نفس الوقت للإستماع إلى كلمات مندوب ( وش ) ومندوب ( طش ) ونمت ليلتى وأنا شديد القلق على مصير التفاح والكمثرى والطماطم والخيار التى إشتريناها من الكانتين والتى توشك على العطب ، ولكنى رغم الخوف والقلق حضرت الإجتماع فى اليوم التالى وحدث فيه ما حدث فى إجتماع ليلة أمس . تحدث مندوب ( وش ) وقص علينا ما حدث فى المعتقلات السابقة وعدد الأخطاء التى وقعت فيها الحياة العامة وتدخل مندوب الحزب وقال : فى الواقع ، ثم عاد مندوب ( طش ) وألقى الضوء على أبعاد المؤامرة الدولية للقضاء على طليعة الشعب المصرى ، ثم نام العبد لله كما حدث بالأمس ، وأستيقظت على ضوء الصفافير تدوى فى أرجاء السجن والشاويش حسن على الباب يطالب بحقه فى الكمثرى والتفاح وقمنا على موعد فى اليوم التالى فى نفس المكان وفى نفس الزمان . وأسبوع كامل أيها السادة ونحن نستمع إلى سرد تاريخى على ما جرى للزميل على وزة فى معتقل الزيتون ، وعن المصير الأسود الذى إنتهى إليه الزميل عبده زقلط فى معتقل روض الفرج وهى أحداث مؤسفة كان السبب فيها سوء العمل داخل الحياة العامة فى تلك المعتقلات . وعندما فاض الكيل بالعبد لله قلت لهم بالحرف الواحد : سنجتمع هنا غداً وإذا لم تصلوا إلى إتفاق سينسحب تنظيم زمش من الحياة العامة . ولكن للأسف الشديد لم يقدر لهذا الإجتماع أن ينعقد ، لا فى الغد ولا فى أى وقت بعد ذلك وما حدث يصلح أساساً لفيلم سينمائى أرشحه لجائزة أوسكار . فبعد أن فتحوا أبواب الزنازين فى السابعة صباحاً وقدموا طعام الإفطار ، وأثناء تجول المعتقلين فى أرجاء الحوش ، اطلقوا الصفافير فى العاشرة صباحاً وأمرونا بالعودة إلى داخل العنابر . وأخذوا فى حشدنا داخل الزنازين وإغلاقها ، ثم تجولوا داخل السجن لعمل التمام ، وقال بعض الخبراء من المعتقلين : إن هذا الإجراء يتم فى
الصفحة 88
حالة هروب أحد النزلاء وقال وقال الأستاذ إبراهيم العطار : لابد أن هناك كشفاً يضم عدداً من أسماء المفرج عنهم ، وأفتى أحد الزملاء وإسمه أنور بأن الأوامر وصلت لنقل بعض القيادات إلى القاهرة تمهيداً لمحاكمتهم والحكم عليهم بالإعدام ! ووسط جو التخمينات والتكهنات دخل العنبر أحد المسجونين من الإخوان المسلمين ووقف أمام نافذة الزنزانة وقال بصوت يلونه الأسى والأسف : شدوا حيلكو وإلبسوا حاجات تقيلة .. وسخرت من نصيحة الأخ المسجون وقلت معلقاً : إن الشتاء لا يأتى فى شهر سبتمبر وفى الواحات بالذات . ولكن البعض أخذ فى إرتداء جميع ملابسه من فانلات وكلسونات وجلاليب وجاكتات وبنطلونات حتى صار كل واحد منهم أشبه بالكرنبه . وجلسنا داخل الزنازين ننتظر ما تخبئه لنا الأقدار .
الصفحة 89
الفصل العاشر
الله يقطع الحنجورى ويقطع سنينه السوداء ، حرمنا من التفاح والكمثرى وأضاع علينا فرصة الإستمتاع بطبق السلطة من الطماطم والخيار ، لقد كان الأخ الذى نصحنا بإرتداء ملابس ثقيلة على حق ، فقد فوجئنا بكتيبة من العساكر كلهم من صنف الأشاوس ، طول بعرض صدور مفتوحة وعضلات منفوخة ، ولديهم رغبة غريزية فى طحن عظام جميع مخاليق الله والمساجين منهم على وجه الخصوص .
ألفية إبن ماركس
الصفحة 90
صفحة خالية
الصفحة 91
لقد حل ضيف السجن سعادة إسماعيل باشا همت ، وهو ضابط جيش تخلصت منه الثورة وألقت به إلى مصلحة السجون وصار وكيلاً لها ، ولكن فشر أن يقبل الباشا أن يكون واحداً من الوكلاء فأسس لنفسه جيشاً داخل المصلحة ، وتولى منصب القيادة ، وأحاط نفسه بحفنة من المساعدين القدامى الذين سبق لهم الخدمة مع حيدر باشا عندما كان مديراً لمصلحة السجون . وطرق أسماعنا من خلال القضبان وقع أقدام الجند وصدى كعوب بنادقهم وهى تصطدم بالأرض . ثم صاح أحدهم فى الجنود : إبعد عن الرأس والبطن وإضرب .. ثم فتحوا باب العنبر ، وأخذوا فى إخراج زنزانة وراء زنزانة ، وكان يفصل بين خروج الزنزانة والأخرى حوالى ثلاث دقائق .وخلال هذه الدقائق القصيرة كانت تصل إلينا صيحات المعتقلين تتصاعد فى الجو ، وكانت كل صرخة تختلف عن الأخرى حسب نوعية الضربة ومكانها ، أحيانا تخرج الصيحة مكتومة وأحياناً متحشرجة وأحياناً ممطوطة .. وكان وقع ضرب المعتقلين أشد وطأة علينا ونحن محشورون داخل الزنزانة ننتظر دورنا . وعندما حان الوقت كانت قلوبنا قد أصبحت فى كعوبنا ، وعندما أصبحنا خارج العنبر ، أبصرت صفاً من الجنود ، بين كل جندى وآخر مسافة لا تزيد عن متر واحد ، وفى يد كل جندى ما تيسر له من سلاح ، بندقية ، قمشة ، فرع شجرة ، كرباج سودانى ، حزام ينتهى بكتلة نحاس صفراء .
الصفحة 92
وحاول أحد الضباط حماية زنزانتنا ونجح فى ذلك خلال عبورنا فناء السجن . ولكن عند خروجنا من البوابة إنهال علينا الشوم من كل جانب ، وصاح أحد الجنود فينا : إجرى . ولم أدر فى أى طريق أجرى ولا فى أى إتجاه ، كانت الصحراء مترامية أمامى وفسيحة وبلا نهاية وعندما حاولت أن أجرى ناحية اليمين ، ردونى إلى اليسار . ولكن العساكر المسلحين بالشوم دفعونى دفعاً للجرى إلى الأمام ، ولكن أحذية الشاويشية الغليظة أرغمتنى على الإرتداد للخلف ، ثم جرنى أحدهم من شعرى إلى موضع خلف السجن ، حيث كانت هناك حفلة ولا كل الحفلات ، كانت هناك منصة يجلس عليها الباشا إسماعيل همت وقد وضع على رأسه الكاب الأحمر . وعن يمينه وعن يساره كانت تجلس مجموعة من كبار الضباط ، بينما كان المعتقلون الذين سبقونا يسجدون على الأرض عرايا كما ولدتهم أمهاتهم و مؤخراتهم نحو الباشا ورؤوسهم نحو الشرق . وأمرونا أن نخلع ملابسنا ولأن العبد لله إستمع لنصيحة الأخ المسلم ولبست كل اللى على الحبل ، فقد إستغرقت وقتاً طويلاً فى خلع ملابسى .. بينما العساكر كانوا ينهالون ضرباً على أجسامنا بالأكف والعصى والشوم ، وعندما إنتهيت من خلع ملابسى أجبرونى على السجود ثم جاء عسكرى حلاق وحلق رأسى زيرو ، ثم مر مرور الكرام على حواجبى وزيادة فى الفضل لزقنى بكفه على قفاى فإنبطحت على الأرض . ومر الشاويش ( متى ) على جموع الساجدين فى خشوع و مؤخراتهم فى مواجهة الباشا همت ، وراح يوزع ضرباته بالشومة على رؤوس وظهور ومؤخرات المعتقلين بوحشية وضراوة ، بينما كان الباشا همت يقهقه عالياً ، وزيادة فى جلب السرور على قلب الباشا ، إختاروا بعض المعتقلين وربطوهم على العروسة وجلدوهم بلا رحمة وكان الجلد يتوقف إذا فقد المعتقل وعيه ، عندئذ يفكون وثاقه ويرشونه بعدة جرادل من الماء ، وبعد أن نال الباشا كفايته من اللذة والسرور ، وزعوا علينا بدل السجن . وهى
الصفحة 93
بدل من باب الدلع ، بنطلون وقميص من الدمور المصبوغ بالنيلة ، وإكتشفنا إنها مستعملة وإنها ممزقة لا تستر عورة ولا تحمى من تقلبات الجو ، وعدنا عرايا إلى العنبر نحمل هلاهيلنا بين أيدينا . وعندما ألقيت نظرة إلى القطيع البائس وهو يقطع فناء السجن ، إنتابتنى نوبة ضحك لم أستطع مقاومتها . كان بينهم المحامى والصحفى والمهندس والطبيب والكاتب والأديب والمثقف والمفكر والعامل النقابى الذى يقود الألوف وهزنى منظر معتقل طويل كلوح خشب ، كان يدب على الأرض فى خيلاء وقد قبض على بدلة السجن بإصبعه ، وكان يدعى فخرى حبيب وكان يعمل مدرساً إلزامياً على ما أعتقد ، ولكنه كان يشغل منصباً هاماً داخل سجن الواحات ، فقد كان مسئول المنطقة وهو الذى يقود الحزب الشيوعى المصرى داخل سجن الواحات وكان داخل السجن عشرات من أساتذة الجامعة وكبار الكتاب والمفكرين والصحفيين ، ولكن كلمة المعلم الإلزامى هى العليا وكلمة الأخرين هى السفلى . وكان شديد البراعة فى علم الحنجورى ، وكان يحفظ المنافستو كما يحفظ الطالب الأزهرى النشيط ألفية إبن مالك ، ولكن خارج هذه الدائرة كان يبدو قليل الحيلة ، فلم يسبق له فى حياته قراءة كتاب خارج نطاق الكتب الشيوعية وكان لا يقرأ الجرائد، لأن لسان حال البرجوازية والإمبريالية والكمبرادوية ويفضل عليها قراءة المنشورات .. خصوصا المنشورات المكتوبة على ورق بفرة . كان منظره وهو يمشى فى فناء السجن مشية الأوزة وقد أمسك بملابسه بيده ، بينما هو نفسه يمضى زلط ملط كما ولدته أمه منظرا ينتزع الضحك من صدور الموتى . لقد كان يقوم بدور ستالين الواحات . وكان يحلم بأن يكون ستالين مصر كلها يوماً ما . ولقد تحققت أحلامه كلها بعد ذلك ،فأصبح ستالين مصر أخيراً ، ولكن بعد أن أفلس الحزب الشيوعى السوفييتى وإنهارت الأحزاب الشيوعية الورقية فى شرق اوروبا ، واضررت الأحزاب الشيوعية الأروربية التبرؤ من تهمة الشيوعية . وكانت قمة المأساة عندما حل الحزب الشيوعى البريطانى نفسه وهجر السياسة إلى الأبد و اختفى عن الأنظار .
صفحة 94
يا لها من ليلة بائسة قضيناها داخل الزنزانة فى ظلام دامس ، فقد بدأت فترة التكدير لتأديب المعتقلين وكان الأمر بالتكدير يشمل عدم إضاءة الأنوار داخل العنابر ، عدم تقديم طعام للمساجين خلاف الكرنب المسلوق ، تشغيل المعتقلين أشغالا شاقة فى الصحراء .
وفى الصباح الباكر دوت الصفافير فى كل ركن من أركان السجن ، ودخل حضرة الصول شاهين فى يده شومة طولها متر ونصف متر ، راح يسوق بها المعتقلين داخل العنبر ، كان الوقت شتاء ودرجة الحرارة تحت الصفر ، وكنا حفاة وبلا ملابس تقريباً .
وكانت حبات الرمال المدببة أشبه بالمسامير الصغيرة ووقفنا فى مواجهة الصول شاهين ، بينما كان الباشا همت وحاشيته يقفون عند باب الإدارة ، وأمرنا الصول بالجلوس ، وكنا حوالى ستمائة معتقل ، وجلسنا على الفور، ثم أمرونا بالوقوف ، وقبل أن نعتدل فى وقفتنا ، أمرنا بالجلوس ثم أمرنا بالوقوف ثم بالجلوس وبين الوقوف والجلوس . كانت عصاه تمرح على هواها تنزل على الرؤوس والوجوه ، ولم تكن عصاة واحدة ولكن كانت هناك أكثر من مائة شومة ، وانبطحت روؤس كثيرة ، وانكسرت عظاماً اكثر ، وانتابت الصول شاهين نوبة جنون فصار كالثور الهائج ، وبعد مائة قيام وجلوس أمرنا الصول شاهين بمعتدل مارش ، واتجهنا إلى البوابة ، ولكن عند البوابة بالضبط جاء الصول شاهين بأوراق معه وطلب من الضابط عبد العال سلومة أن يوقع على دفتر السجن باعتباره المسئول عن المعتقلين خارج البوابة ولكن الضابط سلومة اعتذر ، نطق بعبارة جعلت الدم يتجمد فى عروق المعتقلين ، قال الضابط سلومة وهو يشوح بيده : أنا مش حامضى على أى ورق ، هو انا موعود بالمصايب ، تأخدوهم بره تقتلوهم وانا اللى اروح فى داهية .
رنت كلمة تقتلوهم فى أذن المعتقلين كالطبل وهتف واحد خلفى : مؤامرة يا زملا
وتراجع بعض المعتقلين إلى الصفوف الخلفية وحدث هرج ومرج فى
الصفحة 95
الصفوف مما دفع الصول شاهين إلى ممارسة هوايته فراح يشوح بالشومة وقلده العساكر , وتعالت الصرخات ولم يخلصنا من هذا الموقف الرهيب إلا المأمور شنيش الذي قال للضابط سلومه :
- أنت خايف تمضي ليه
ورد عليه سلومة قائلا :
- أنا إتاكلت قبل كده , ومش مستعد أتاكل أونطة تاني .
ووقع على الأوراق المأمور شنيش , وبدأت رحلة الطابور البائس إلى المجهول , وعندما أصبحنا خارج الأسوار , تأكدنا أن هناك مذبحة على وشك الوقوع , كانت عساكر الباشا همت تحيط بنا من كل جانب وفي أيديهم مدافع رشاشة وأصابعهم على الزناد .
وعندما تأكد للعبد لله أن الرصاص سيحصدنا جميعا , وضعت يدا على قلبي , ووضعت الأخرى على رأسي وقلت بيني وبين نفسي .. إذا جاء الرصاص فليدخل في ساقي أو في بطني وسيكون من لطف الله أن تصيبنا رصاصة غير قاتله وينقلونا إلى المستشفى ويخلوصنا من هذا الجحيم , وبعد فتره من السير على رمال كامسامير وأشواك كالإبر , خيل للعبد لله أن الرصاص وحتى الموت أرحم مما نحن فيه , وكان إلى جواري معتقل إنحدرت من عينه دمعة , وقلت له :
- معلهش .. شد حيلك .
ونظر نحوي في ذهول وقال :
- أنا مش زعلان على نفسي , أنا زعلان ع الزملاء . أما العبد لله , فقد كنت زعلان على نفسي أولا ولم يكن لدي وقت للتفكير في مآسي الآخرين . ولكن بعض الناس تدعي في أوقات الشدة خيالات ليس لها صله بواقع الأمر .
كانت عساكر الباشا همت تحيط بنا إحاطة العقد برقبة الحسناء , وهبت ريح نشيطة محملة بالرمال من جوف الصحراء , حلقت في السماء أسراب نسور جائعة , لعلها شعرت بأن هناك مذبحة وشيكة الوقوع , وأن هناك مأدبة من أفضل اللحوم على الأبواب .
الصفحة 96
وكان الضابط سلومة لايزال يمشي على مقربة من الطابور وهو ينفخ من شدة القلق والغيظ , لقد مر بمأساة سابقة كلفته تجميده في رتبته عدة سنوات , وحتى المأمور كان من دفعته ولكنه سبقه بعد هذه المأساة .
وأصل الحكاية أنه كان مسئولا عن عنبر للإخوان المسلمين في سجن طره , ثم حدث تمرد من جانب الإخوان , فصدر الأمر بإطلاق النار عليهم بعد أن احتجزوا معهم بعض الضباط وهددوا بالإنتقام منهم . وقيل أن الذي أصدر الأمر باطلاق النار هو أركان حرب وزارة الداخلية صلاح الدسوقي الذي كان محافظا للقاهرة يوما ما . ولكن السيد أركان الحرب أنكر في التحقيق أنه أصدر أمرا باطلاق النار . وأنحصرت المسئولية في الضابط سلومة . وكانت النتيجة أنه تراجع إلي الخلف مائة خطوة , بينما سبقه بقية الزملاء عدة خطوات إلي الأمام .
بعد أن قطعنا عدة كيلومترات داخل الصحراء , صدر الأمر للطابور بالتوقف . ألقيت نظرة على المكان وأدركت أنه المسرح الذي أعدوه لإرتكاب المأساة . كنا جميعا في سهل منبسط تحيط به عدة تلال إحتلها عساكر الباشا همت وانبطحوا على وجههم وصوبوا مدافعهم نحو أفراد الطابور . وبينما الكل يترقب لحظة إطلاق النار , جاء ضابط إسمه صلاح طه كان مسئولا عن الشئون العامة بمصلحة السجون وكان من رواد قهوة ريش وكثيرا ما جلس بيننا ودخل معنا في نقاش طويل , وكان يبدو مهذبا على القهوة – ومثقفا على نحو ما . جاء صلاح طه ووقف في مواجهة المعتقلين وقال :
- إذا كنتم بتحبوا مصر صحيح لازم تثبتوا الحب ده عمليا , واحنا النهارده هنعمر الوادي الجديد , وأنتم هتشتركوا معنا في عملية التعمير . ثم أشار لبعض العساكر فجاءوا يحملون مئات الفئوس ومئات الغلقان , ثم قال :
- قسموا أنفسكم فرقتين . فرقة حمالة وفرقة جمالة .
أما الحمالة , فهم يملأون الرمل إلى مكان آخر بعيد . وحددت مكاني
الصفحة 97
على الفور وأصبحت مع الجمالة , وقدرت أن الجملة أفضل , لأنها تسمح بالإبتعاد عن أعين الرقباء وفيها شىء من الصياعة , بينما الحمالة سيكونون تحت عين الرقيب طول الوقت .
وكان لكلمات صلاح طه وقع موسيقى عبد الوهاب على آذان المعتقلين .
لقد توقعوا ضرب النار فإذا بهم مدعوون للإشتراك في تعمير الوادي الجديد . صحيح أن العمل شاق , ولكنها حالة أفضل من الموت .
وبدأ العمل بهمة ونشاط , وبدأنا في نقل الرمال , ولكنني إكتشفت أن تقديري لم يكن صائبا . فطابور الجمالة وراءه طابور آخر من العساكر , والضرب على ودنه من أول اللزق على القفا إلى الضرب بكعب البندقية على الضلوع . ولكن ما باليد حيلة , والحياة قسمة ونصيب . كما أنها حظوظ ومزاجات . وعندما انتصف النهار مر موكب الباشا همت من بعيد , وقهقه عاليا وهو يلقي نظرة على الحمالة وهم يملأون الغلقان وعلى الجمالة وهم يذهبون بها إلى مكان بعيد .
وثلاثة أيام وعنيك ما تشوف إلا النور , الصول شاهين نازل ضرب في المعتقلين عمال على بطال , والشاويش الممرض وقف على أهبة الإستعداد لتضميد الجروح وتجبير العظام , وقلت لنفسي : إنها النهاية لامحالة وسنموت كلنا حتما وسندفن في رمال الواحات . ولكن لأن الحياة لايثبت فيها شيء على حال فقد حدث بعد ثلاثة أيام ما هو أعجب من العجب وأغرب من الخيال .

الصفحة 98 خالية
الصفحة 99
الفصل الحادي عشر
ماحدث في ذلك الصباح كان أغرب من الخيال . ودخل حضرة الصول شاهين إلى العنبر كالثور الشرس . وعصاه الطويلة تشق له الطريق في زحام المعتقلين الذين انحشروا في سرداب السجن . ولم تشفع الصرخات والإستغاثات التي انطلقت من هنا وهناك في اقناع الصول شاهين بالإقلاع عن هوايته في كسر عظام المعتقلين .
( حكايات الصول شاهين )
الصفحة 100 خالية
الصفحة 101
وتحت ضغط عصا الصول شاهين خرج المعتقلون إلى فناء السجن وجلسوا على الأرض كما إعتادوا .. الروؤس منكسة والعيون زائغة تترقب الضربات التي تأتيها من كل إتجاه وخرج الصول شاهين كالمعتاد وعصاه في يده والشتائم تنهال من فمه لاعنا ( أبو الشيوعيين ) الكفرة القتلة الذين يستحقون القتل والدفن في رمال الصحراء , وراح يطوح بعصاه ذات اليمين وذات اليسار باطحا روؤسا ومحطما ضلوعا بينما صبيانه من العساكر يفعلون نفس الشيء وبحماس أكبر من حماس شاهين .
كان المسرح على هيئته المعتادة كل صباح , عساكر مسلحون بالمدافع يحيطون بالفناء وعساكر مسلحون بالشوم نازلين عج بالمعتقلين والصول شاهين يقود الفرقة الموسيقية بعصاه وبلسانه وبحذائه , شخص واحد فقط كان غائبا عن المسرح .. هو البيه المأمور
كان من عادة البيه المأمور الوقوف عند باب الإدارة محاطا بعدد من الجنود يشاهد النظر ويلقي أحيانا ببعض التعليمات . كان طويلا وعريضا وله هيئة ملاكم وصوته يرشحه ممثلا في المسلسلات الدينية إياها التي يذيعها التليفزيون كل رمضان . وكان شديد الحزم شديد الحسم . ولكنه والحق أقول لم يتجاوز كثيرا كما فعل غيره من ضباط السجون في الفيوم وفي أبي زعبل . ويذكر له أنه لم يقتل أحدا من المعتقلين في سجن الواحات , بينما سقط أكثر من عشرة معتقلين قتلى في سجن أبي زعبل .
المهم أن المأمور كان غائبا عن المسرح في هذا اليوم , لم يكن في مكانه
الصفحة 102
الذي أعتاد الوقوف فيه ومن أجل هذا السبب ضاعف الصول شاهين ورجاله من نشاطهم في إنتظار تشريف المأمور الذي لابد أنه سيثني عليهم ويحمد لهم عملهم , وقد يأمر بصرف مكافأة الشهر المقررة للمجيدين منهم , وهي جنيه مصري واحد لاغير , ولكن هذا الجنيه الواحد كان كفيلا بإدخال السرور والحبور على السجانين .ومر الوقت دون أن يظهر للمأمور أثر .
وفجأة .. لمح الصول شاهين عسكري قادما من بعيد يمشي مشية غير عسكرية وغير منضبطة وكأنه يعيش في عالم وحده لاعلاقة له بسجن المحاريق . وانتصب الصول شاهين ونفخ صدره بالهواء الطلق . وصرخ صرخة عسكرية ناشفة وصاح بكل ما فيه من قوة .. أنت يا عسكري يا بايظ .. سريعا مارش . ولكن العسكري ظل على مشيته غير مبال بصرخة الصول شاهين الذي أعاد صرخته وكررها عدة مرات . وعندما إقترب العسكري من طابور المساجين البائس الجالس على الأرض تبينت أن العسكري القادم هو محمود الصيفي وهو عسككري خبير في ضرب عتاة المجرمين . وإلى الدرجة التي يجعلهم فيها أشبه بالمقعدين .
كان مأمور السجن يرسل دائما في طلب محمود الصيفي إذا أراد تأديب أحد كبار المشاغبين من المساجين . وكان محمود الصيفي ينقي العصى الشوم بعد تدقيق طويل : وكان يقرب العصى من أنفه ويشمها ويختبرها بأصابعه ويقبض عليها بيده ويهزها في الهواء ثم يعيدها إلى مكانها ويختبر آخر حتى يعثر على العصى المنشودة .
ورأيته مرة يضرب مجرما من أبناء الإسكنرية كان دائم الإعتداد بقوته وكان في شجار دائم مع المساجين ومع الحرس . وكان الجميع يخشونه ويعملون حسابا له , وذات صباح ضرب أحد الصولات العواجيز بقبضة يده ونطحه برأسه في وجهه . وإنتهت المعركة الخاطفة بنقل الصول العجوز إلى مستشفى الواحات . وهناك تقرر نقله إلى مستشفى أسيوط لإجراء عملية تربنة , ولم يقدر لهذا الصول العودة مرة آخرى لسجن الواحات . وأعتقد أن النطحة أجبرته على الإعتزال .
الصفحة 103
المهم أنني شاهدت محمود الصيفي يضرب المسجون الإسكندراني بالشومة على كعوب قدميه , وبعد خمس ضربات فقد النطق وبعد إنتهاء الضرب فقد الرشد وسحلوه من رجليه إلى زنزانة التأديب . وقضى الفتوة الإسكندراني شهرا بعد العلقة يزحف على ركبته . وعندما رأيته واقفا على قدميه لم يكن هو نفس الشخص الذي كنت أعرفه من قبل !
على العموم هذه قصة جانبية لكي تتعرفوا على محمود الصيفي الذي جاء يتبختر في مشيته على الرغم من صرخات الصول شاهين . وبالرغم من إقتراب الصيفي من موقع الصول شاهين إلا أنه ظل على مشيته المترنحة وكأنه سكران أو مسطول , وعاد الصول شاهين يصرخ من جديد وقد برزت عروقه وانتفخت أوداجه وتناثر رذاذه . ولكن محمود الصيفي رد على الصول شاهين بلهجة ساخرة .. يا راجل بطل حزق ليطق لك عرق . وارتبك الصول شاهين في البداية ثم إستعاد هيئته كقائد عظيم . وشخط في الصيفي شخطة عنترية .. أنت كنت فين يا عسكري ؟ ورد الصيفي بنفس اللهجة وهو يمشي نفس المشية .. كنت في المحطة . وقال شاهين وكنت في المحطة بتعمل إيه ؟ ورد الصيفي كنت بوصل سعادة الباشا , يقصد اللواء إسماعيل همت الذي جاء لحضور حفلة التعذيب , وقال شاهين وقد غير من لهجته قليلا .. هو الباشا سافر ؟ ورد الصيفي قائلا : أهو غار في داهية . وقال شاهين .. أنت متأكد ؟ ورد الصيفي .. أنا اللي معاه من الساعة 6 الصبح ومركبه القطر وفضلت واقف في المحطة لحد ما القطر أخده وغار في داهية .
كان الصيفي قد أصبح على بعد خطوة واحدة من شاهين عندما سأله شاهين للمرة الأخيرة .. أنت نتأكد إن الباشا مشي ؟ وقال الصيفي وهو يشوح في وجه شاهين .. إحنا اللي ح نقوله نعيده . وإرتكز شاهين بعصاه على الأرض , ثم قام بترقيص وسطه في حركة بارعة أشبه بحركة تحية كاريوكا في صباها وهتف بأعلى صوته .. أعوجها .. ثم ضرب الأرض بعصاه وقال : قوموا يا شيوعية يا أولاد الكلب خلاص الرواية خلصت ملعون أبو الباشا لابو اللي جابه دي كانت أيام غم .
الصفحة 104
لم نصدق في باديء الأمر أن هذا هو نفسه الصول شاهين الذي أذاقنا العذاب لمدة أسبوع كامل , حتى تصورنا أننا في معسكر نازي وأننا سنسقط صرعى تحت ضربات عصى الصول شاهين وفريقه من السجانة الميامين .
ها هو ذا شاهين يسفر عن وجهه الحقيقي في لحظة درامية نادرة . فإذا به مصري أصيل . موقف شاهين هذا يثبت أننا لسنا أريين ولكننا مصريون وعرب ولسنا هواة تعذيب ولكنها الأوامر ورغبة المسئوليين , فإذا ما سافر المسئول وغادر مسرح الأحداث , عاد الإنسان المصري إلى طبيعته وسقطت الحواجز والفروق بين السجانة والمسجونين .
نسيت أن أقول لكم أن الصول شاهين لم يكن سجانا عاديا . فقد كان طويلا وعريضا ووجهه أحمر كأنه إنجليزي أو تركي من بلاد الأناضول . وكان شديد الشبه بالملك فؤاد . وكان دائم الحديث عن عائلة شاهين التي ينحدر منها والتي أنجبت اللواء علي شاهين حكمدار البوليس , واللواء سيد شاهين قائد حملة فلسطين , ولم يكن في فلسطين قائد بهذا الإسم .. وأحمد شاهين العمدة , كان يكتفي بذكركلمة العمدة ولكنه لايذكر القرية التي كان عمدة عليها , وكان يحكي عن أيامه الأولى في الأزهر وعن والده الذي يصر على أن يكون ولده شاهين من رجال الدين . ولم يكن بإستطاعته أن يحقق لغبة أبيه , لذلك أضطر شاهين إلى الهروب من البيت ومن ألزهر وإلتحق بالجيش , ثم خرج من الجيش وإلتحق بخدمة السجون . وهو صول منذ عشر سنوات , وفاته الدور ليحمل رتبة الضابط , وبالرغم من أن الرتبة من حقه إلا أن اللواءات يرفضون , لأن منظره أفضل من منظر أي لواء في المصلحة لذلك يحقدون عليه ويكيدون له ويمنعون عنه رتبة الضابط التي يستحقها منذ سنتين . ولكن شاهين لن يرضخ ولن يتنازل وسيظل يطالب بحقه في رتبة الضابط حتى يحصل عليها أو يموت . وخرجنا ذلك الصباح مع عم شاهين إلى الجبل ولكن على نحو يختلف عن أي يوم سابق . قطعنا الطريق إلى الجبل في جماعات ونحن ندردش ونضحك حتى وصلنا إلى موقع العمل .. وقال شاهين للمعتقلين : انتشروا
صفحة ( 105 )

فى الجبل واشتغلوا على مهلكم بس ساعة الضابط ما ييجى اشتغلوا بحق وحقيقى وأنا هنام شوية هنا واختار المعتقلون مجموعة من بينهم لمراقبة الطريق وحتى لا يفاجئنا المأمور بالزيارة ووقع الاختيار على العبد لله لتسلية عم شاهين برواية القصص والحكايات التى تساعده على النوم العميق وتوطدت صلة العبد لله بالصول شاهين .
كان من قرية تجاور قريتنا وكان كلما ذكر لى اسم احد اقاربه من الاعيان اكدت له معرفتى به ورحت امدح فى خصاله واعدد اياديه البيضاء .. وكان يبدو سعيدا كلما اسهبت فى مدح عائلته التى ليس لها وجود . وكنت احكى له عن سفرياتى خارج مصر . عن مغامراتى فى لندن وباريس والدار البيضاء ومدريد ، عن شطحاتى فى روما واثينا وبيروت ، عن جولاتى فى تونس ودمشق والخرطوم . عن سهراتى فى فينا وجنيف وبرلين ، وعندما انتهى كشف البلدان التى زرتها . رحت احكى له عن مغامراتى فى ( ريودى جانيرو ) ولاباز وفى غابات الفلبين ، وكان الصول شاهين يسمع الى فى شغف ويطالبنى بالمزيد .
والحق اقول اننى لم اتردد فى تادية المهمة ولم اقصر فى اداء عملى الذى كلفونى به . فرحت اطوف مع الصول شاهين فى كل ارجاء الارض الواسعة حكيت له عن جزيرة بالى وجزر هاواى وجزيرة مالاو ، وعندما انتهت الاسماء الموجودة على خريطة العالم ، رحت اخترع اسماء من عندى ، وعندما خيل الى اننى احكمت السيطرة على عقل الصول شاهين .. وجدت نفسى واقعا فى مطب لم استطع الخروج منه الا بصعوبة شديدة . فبعد شهرين من الحديث عن البلاد التى زرتها والبلاد التى لم ازرها . سالنى شاهين فجأه مارحتش ياجوج وماجوج ؟ وقلت له دون وعى .. ايه ياجوج وماجوج ؟ واستفزه سؤالى فسألنى فى حدة ما تعرفش ياجوج وماجوج ؟ ثم قال وكأنه يحدث نفسه .. طبعا ما انت شيوعى وابن كلب . ياجوج وماجوج مذكورة فى القرآن .. ولم اجد ما اقوله لشاهين فتوقفت عن الكلام واكتفيت بالتحديق فى وجهه .. وراح شاهين يتكلم وكأنه يخطب .. تقدر تقولى ماروحتش ياجوج وماجوج ليه ؟ اهو انت لفيت الدنيا كلها . تقدر

صفحة ( 106 )

تنكر انك شيوعى وتستاهل الحرق انا مش فاهم الناس اللى ربنا اداها عقول زيكم واتعلموا تبقى شيوعيين ازاى ؟ تصدق بالله انا كان قلبى انفتح لك لكن انت ملعون وتستحق الحرق . وقلت للصول شاهين وكاننى اعتذر عن سوء الفهم .. يا حضرة الصول شاهين انا عاوزك تعذرنى وتفهم موقفى .. انا فعلا مازرتش ياجوج وماجوج بس ده حصل غصب عنى .. انا كنت عاوز اروح بس هم مارضيوش ..
وحدق شاهين فى عينى ثم قال .. انت ح تاكل بعقلى حلاوة فاكرنى فلاح مختوم على قفايا والا فلاح مابافهمش .. يعنى ايه مارضيوش .. انت مش سافرت كل البلاد دى .. اشمعنى دول رضيوا ؟ وقلت للصول شاهين .. يا حضرة الصول شاهين انت راجل صول وتفهم فى الحاجات دى .. مش كل واحد عاوز يسافر بلد بيطلب فيزا منها .. ورد الصول شاهين .. طبعا ما احنا عارفين الحاجات دى ، قلت له .. اهو انا طلبت فيزا اكثر من مره مارضيوش .. قال شاهين وهو يضرب فخده بيده .. تعرف تقولى ليه ما رضيوش ؟ وبعد فترة صمت تعمدت ان تكون طويلة بعض الشئ .. قلت للصول شاهين : مارضيوش عشان كانوا فاهمين أن انا شيوعى .. وقال شاهين وهو ينظر نحوى فى غيظ .. يعنى انت ما انتش شيوعى ؟ واجبته .. لا انا كنت شيوعى يا عم شاهين لكن ربنا تاب على .. وكل واحد بيغلط فى شبابه واهى غلطة والحمد لله خلصنا منها .. وبدا الارتياح على وجه الصول شاهين وفرد ساقه وهو جالس على قمه التل ثم قال .. تانى مره اياك تكذب على .. ثم فتح زرار جيبه الاعلى واخرج نصف سيجارة وناولها لى وقال للعبد لله .. انا حايش لك دى فى جيبى من امبارح علشان تعرف انا باعزك اد ايه ودى سيجارة البيه المأمور نفسه كان بيشرب فيها امبارح وطفاها كبيره كده .. قلت اخدها للواد محمود .. ولعها واشربها فى السر وعمر دماغك علشان تحكى لى على اللى شوفته فى الجزيرة اللى ع البحر .. هى اسمها ايه ؟ سالته جزيرة مالاو ؟ فقال شاهين لا مش دى .. هونج كونج .. لا مش دى .. بالى .. لا مش دى .. هاواى .. ايوه الهواتى دى .. مش دى اللى فيها النسوان زلط ملط .. ايوه

صفحة ( 107 )

هى دى يا عم شاهين .. طيب احكى لى بقى اول ما ننزل من الطيارة يحصل ايه بقى ؟
ورحت احكى للصول شاهين حكايات ما انزل الله بها من سلطان وهو يستمع بشغف ويبدو على وجهه الارتياح الشديد ولم يلبث شاهين ان أراح رأسه على الوسادة التى صنعها من معطفه المبرى السميك وسرعان ما ارتفع شخيره فى الفضاء وحمدت الله على مرور الازمة مع شاخين بسلام .
فبفضل هذه القصص والروايات التى ارويها له حصل المساجين على قسط كبير من الراحة اثناء العمل فى الجبل .. بل سمحت لهم بالجلوس والدخول فى مناقشات وحوارات واصبح العمل فى الجبل اجازة مفتوحة للجميع ، كما كانت فرصة للعبد لله للحصول على بعض الاعقاب الممتازة التى يدخنها البيه المأمور شخصيا .. ودعوت الله ان يجنبنى الوقوع فى مطب اخر شبيه بمطب ياجوج وماجوج ، ولكن شاءت الاقدار ان اقع فى مطب آخر كان كفيلا بوضع حد لعلاقتى بالصول شاهين .
كنا نجلس كالمعتاد على قمة التل وكنت احكى وكان يستمع وكان حديثى فى ذلك الصباح عن استراليا التى لم ازرها حتى الان . وعندما سالنى عن افضل اكله تناولتها فى استراليا رحت احكى له عن طاجن لحم الكانجرو ثم اسهبت فى الحديث عن الكانجرو وكيف انه يجرى على قدميه الخلفيتين فقط ويضع ابناءه فى كيس داخل بطنه وهو حيوان نظيف لانه لا ياكل الا الحشائش ولكن الصول شاهين قطع حديثى فجأة وسالنى ما عندهمش فول ؟ واجبته عندهم طبعا .. بس الفول هناك بياكلوه للبهايم وقال شاهين يعنى انت قصدك تقول اننا بهايم عشان بناكل الفول هنا . وقلت للصول شاهين .. بالعكس .. ده هم اللى بهايم عشان مش عارفين قيمة الفول وارتاح عم شاهين لجوابى . وانتقلت بالحديث من طاجن الكونجرو الى لحم التمساح المسلوق . وكنت قد قرأت فى احدى المجلات ان الشعب الاسترالى ياكل لحم التماسيح الصغيرة مسلوقا ويعجب به كثيرا . ولكن شاهين بصق على وجهى وهتف فى غضب شديد .. الله يقرفك خليت معدتى لعبت .. حد ياكل التماسيح يا ضلالى ؟ فقلت له .. مش انا

صفحة ( 108 )

اللى باكل التماسيح يا عم شاهين .. دول بتوع استراليا .. فقال العم شاهين .. الله يقرفك .. ده انا حتى اسمع ان الاسترالى ده زى البغل اوعى ياوله تكون اكلت التماسيح دى ؟ وقلت معقول يا عم شاهين انا اكل تماسيح أنا اكل ملوخية اكل مسقعه اكل باميه باللحمه الضانى .. وصرخ شاهين فى غضب ما تفكرناش بقى .. احنا بقى لنا 6 شهور هنا بتاكل خره .. الله يلعن ابو السجن لابو اللى اخترعوه ، وسادت فترة من الصمت بيننا اشعلت فيها احد الاعقاب التى حصلت عليها ..
عندما اقترب من موقعنا المهندس فوزى حبشى فى ثياب السجن المهلهلة وكان من عادته العمل طول النهار فى الجبل بشكل جاد للغاية وكأنه يؤدى واجبا لابد من تأديته وكان التراب قد علا وجهه وغطى ملابسه الرثة بينما امتزجت قدماه العاريتان بالطين ونظرت طويلا الى المهندس فوزى حبشى وهو يعبر الطريق تحت التل سألنى الصول مشيرا بأصبعه نحو المهندس حبشى .. الواد ده بيشتغل ايه ؟ واجبته ده مهندس كبير قوى يا عم شاهين وموظف كبير فى الحكومة .. وعاد الصول شاهين ينظر الى المهندس حبشى ثم سألنى .. يعنى بياخد كام فى الشهر ؟ واجبته .. ياخد 150 جنيه فى الشهر وقبل ان اكمل العبارة كانت قدم شاهين التى هى فى حجم كنبه بلدى اسطنبولى تندفع نحو صدرى واذا بالعبد لله اتدحرج من فوق التل الى السفح وكأننى جلمود صخر عمنا امرئ القيس .. حطه السيل من عل ! وقال لى : الصول شاهين وانا احاول صعود التل .. تعرف لو طلعت هنا ح اقتلك .. انت واد لئيم وفاهم ان انا حمار .. بقى ده بيأخذ 150 جنيه فى الشهر ؟ اذا كان البيه المأمور بتاعنا بياخد 50 جنيه والا انت فاهم ان انا طور ..
وعلمتنى قدم الصول شاهين التريث فقد سألنى عدة مرات بعد ذلك عن مرتبات البعض من المعتقلين وكنت حريصا على عدم تجاوز مبلغ الاربعين جنيها باعتبار ان مرتب البيه المأمور خمسين جنيها كما قرر الصول شاهين ومرت ايامى بعد ذلك سهلة مع الصول شاهين حتى جاء الضابط عثمان ذات صباح واختار عددا من المعتقلين وخصصهم لاحضار


صفحة ( 109 )

الماء من نبع يبعد ثلاثة كيلو مترات عن مكان العمل . وهكذا انتهت مهمتى مع الصول شاهين واصبحت عضوا فى فرقة جلب المياه لزوم سقاية المعتقلين .. وكان بين افراد الفرقة النائب احمد طه عضو مجلس الامة عن دائرة روض الفرج واحمد شوقى عبد الهادى الشهير بالصاعقة واخرون .. وفى اول يوم ذهبنا فيه لاحضار المياه فى جرادل قذرة مثقوبة اكتشفنا ام المياه التى ذهبنا لاحضارها ليست من نبع ولا من بئر ولكنها من بركة اسنة وقذرة ومئات من العقارب الحديثة الولادة تسبح على وجه البركة وتتلعبط داخل الجرادل . ومع ذلك كان علينا ان نشرب من هذا الماء او نموت عطشا فى صحراء الواحات .

صفحة ( 110 )

صفحة خالية

صفحة ( 111 )

كان العمل فى فرقة جلب المياه فرصة لالتقاط الانفاس من جحيم الواحات . فقد كانت البركة الآسنة التى نستقى منها تبعد ثلاثة كيلو مترات عن مكان العمل وكنا نذهب اليها فى سيارة السجن اذا تيسرت ، ولكن هذا الان يحدث مرة واحدة كل اسبوع ، وكان علينا ان نذهب مشيا على الاقدام . وبالرغم من الحفاء والملابس الرثة والجوع الذى يفرى الامعاء كنت اشعر بانها نزهة خلوية تجلب الراحة للاعصاب .
معركة السبارس !

صفحة ( 112 )

صفحة خالية

صفحة ( 113 )

وذات يوم عثرت على قطعة صغيرة أصغر من مشط الكبريت من مرآة محطمة وعندما شاهدت نفسى فيها انتابنى نوع حقيقى من الذهول . كان شعر رأسى قد طال فغطى قفاى ، واذناى ، وكان شعر ذقنى طويلا كأننى فرد فى جماعات الارهاب .. وظهرت هنا وهناك شعيرات بيضاء بالرغم من اننى كنت فى شرخ الشباب . ونهرنى الشاويش عم أحمد طريشة ونزع قطعة المرآة من بين اصابعى بقسوة باعتبارها سلاحا . ولكن منظرى فى المرآة جعلنى اسرح بعيدا عن المكان والزمان تخيلت نفسى مجنون ليلى عندما سرح فى بيداء نجد . وتخيلت نفسى احد الخوارج الذين هاموا على وجوههم بعد كسرتهم . وتقمصت الشخصية الجديدة بعد ان انتابنى يقين لا يقبل الشك اننى لست محمود السعدنى وان العصر الذى نعيشة ليس هو القرن العشرين .
وفى اليوم التالى قطعت منطقة العمل وجردل الماء فى يسارى وعصا طويلة كانت فى الاصل فرع شجرة فى يمينى . ورحت اصيح وسط جموع المعتقلين هنا وهناك .. صوت صارخ فى البرية ، اعدوا طريق الرب ، مهدوا سبله مستقيمة . وكان بعض المعتقلين يصيحون بى .. تفضل يا ايها السيد . ولكنى كنت اكتفى بالتلويح لهم بالعصا من بعيد ، وخيل الى فى بعض اللحظات اننى جننت بالفعل ، صوصا ان الجرب كان قد استبد بجميع المعتقلين ، ورحنا نهرش باظافرنا وبكل الادوات المتوافرة فى ايدينا من طوب وفروع شجر .

صفحة ( 114 )

وذات يوم حار شديد الحرارة احسست باننى فى حاجة الى سيجارة ، ولكن كيف الحصول على السيجارة والحصول على كنور سليمان اسهل منها بكثير . كانت السجائر ممنوعة والشاى رجس من عمل الشيطان وعلى جميع المعتقلين ان يتجنبوه . ولكن اشتياقى للسيجارة كان اقوى من كل شئ وكان لابد من البحث عن حل ، بعد ما حرمتنى التنقلات الاخيرة من سبارس عم شاهين ، واخيرا جاء الحل عندما اصدرت امرا لحزب زمش وفى جلسة تاريخية ضمت ابراهيم العطار وشوقى الصاعقة وعبد الموجود ابو زيد وعباس الدبيكى بجمع اعقاب السجائر واعادة تصنيعها .
والحق اقول ان حزب زمش ابلى بلاء حسنا فى هذه الموقعة وانطلق اعضاء الحزب يجمعون السبارس بكفاءة منقطعة النظير ، وكان اخلصهم واكثرهم نضالا هو شوقى الصاعقة الذى اكتسب اسمه الصاعقة فى هذه المعركة التاريخية ، حيث كان ينقض على عقب السيجارة كالصاعقة ، ولا يصده عن ذلك صفعات العسكر او شلاليت البيه المأمور ، لدرجة انه كاد يفقد حياتة ذات يوم عندما ارسل المأمور احد الضباط الى العنبر بعد التمام طالبا من المعتقلين الذين لهم شكاوى او مطالب لدى الادارة ان يحضروا فورا لمقابلة البية المأمور ، ولم تكن الدعوة صحيحة ولكنها كانت فخا لاصطياد مندوبى الاحزاب الشيوعية وضربهم علقة ساخنة بسبب اختراقهم حاجز الامن المفروض فى السجن ، ونجاحهم فى الحصول على رسالة هامة ارسلتها قيادة الحزب الشيوعى من القاهرة .
ولما كان الشيوعيون المعتقلون يخضعون للانضباط فقد توقع المأمور ان الذين سيخرجون لعرض الشكاوى هم مندوبو الحياة العامة وهم الذين يريدهم المأمور على وجه التحديد . وكان المأمور قد اعد مسرح عمليات خلف مكتبة ، وفى ساحة واسعة حشد فيها اكثر من ثلاثين جنديا تسلحوا بالعصا والشوم وجريد النخل . والذى حدث ان مندوبى الحياة العامة خرجوا تلبية لدعوة الضابط وهم سيد عبد الله وفوزى حبش من الحزب الشيوعى المصرى ومحمود المانستولى عن حزب طش وخرج معهم مندوب حدتو عبد العزيز بيومى ، وتحت الحاح شوقى الصاعقة وتوسله
الصفحه (114)
للضابط بأن يأخذه للبيه المأمور لأن لديه شكوى مهمة للغاية . وافق الضابط فخرج الصاعقة من الزنزانة وانضم إلى وفد المندوبين . ولم يكن لدى الصاعقة شكوى من أي نوع ولكنه رأى أنها فرصة ذهبية لكى يجمع ما يتيسر من الأعقاب من الحوش الذي خلا من المعتقلين .
وعندما خرج الضابط ومن خلفه أعضاء الوفد من الباب الرئيسي للعنبر اتجه الجميع يسارا إلى مكتب المأمور واتجه الصاعقة عكس الاتجاه فذهب يمينا ليتفرغ لجمع الأعقاب . وكان المأمور فريد شنيشن يقف على باب الإداره بقامته المديدة وجسمه الضخم . وارتاب في الحركة التى قام بها الصاعقة وظن أنه في طريقه إلى الهرب فصرخ فيه صرخة جعلت قلب الصاعقة يهبط إلى ركبته . وجعلته يعدو مسرعا في إتجاه البيه المأمور .
ولما كان المأمور لا يريده ولا يسعى إلى تأديبه فقد نهره بشدة وأمره بالعودة إلى العنبر قائلا له فى حزم : إرجع يا غبي . وحمد الصاعقة ربه على السلامة وعاد إلى العنبر وإلى الزنزانة . وسألناه عما حدث ، فأجاب بأنه غير محظوظ لأن الحوش عامر بأعقاب السجائر ولكن المأمور لمحه فعطله على أداء المهمة فاضطر إلى العودة إلينا ويداه فارغتان كما خرج .
عندما وصل الضابط ووفد المندوبين إلى حيث يقف البيه المأمور .. صاح المأمور فى وجه مندوب حدتو المحامى عبد العزيز بيومى قائلا : ارجع يا طور ! ووقف عبد العزيز بيومى حائرا لعدة ثوان ولكن المأمور أعاد الصرخة فاستدار عبد العزيز وعاد بأقصى سرعة إلى العنبر وسالته من خلال فتحة الباب عما جرى فحكى لى قصته مع المأمور وصرخته فى وجهه ارجع يا طور .. فقلت له .. يا خبر اسود ده السجن مليان جواسيس ، وسألني عبد العزيز ليه ؟! وأجبته .. عرف منين إنك طور ..؟ مش لازم حد بيبلغ .. ضحك عبد العزيز وانصرف إلى زنزانته أسفا لأنه لم يتمكن من عرض مطالب حزبه على البيه المأمور . ولكن ما حدث بعد ذلك للمندوبين الثلاثة يحتاج إلى فرقة خضرة الشريفة لكى تندب حظهم السيئ في ملحمة ولا ملحمة سعد اليتيم .. فما كادوا يفتحون المناقشة مع المأمور حتى كبس عليهم العسكر وهات يا طحن من الساعة السادسة حتى
الصفحه (115)
الساعة الثامنة مساء ..والذي أطال وقت المعركة هو إصرار العساكر على إسقاط محمود المانسترلي على الأرض ولكنه استعصى عليهم كما أنهم فشلوا فى ذلك . وعندما ذهبت في الصباح الباكر لزيارتهم في مستشفى السجن لم أتعرف على محمود المانسترلي فقد تحول إلى كتلة من اللحم الأزرق والدم !
المهم أن حزب زمش استطاع أن يجمع فى أول يوم أكثر من عشرين عقبا أغلبها لسجائر ملفوفة باليد ، وهي سجائر نحيلة ونحيفة ومسلولة ولكن الصاعقة استطاع ان يعيد تصنيعها مما أتاح لنا الحصول على أربع سجائر لا بأس بها . واجتمعت اللجنة المركزية لحزب زمش والمكونة من العبد لله وإبراهيم العطار واستمتعنا بتدخين سيجارتين وحدنا ثم شاركنا الشغيلة فيما تبقى من سجائر . وكاد شوقي الصاعقة أن يقور على القيادة ولكنى قمعته بشدة ، وبعد خمسة أيام من بدء النظام الجديد جمعنا خمسين عقبا مما أتاح لنا إعادة توزيع الدخل بشكر أرضى الشغيلة وارضى القيادة معا . ولكني فوجئت في اليوم الثالث ونحن جلوس تحت شجرة خروع نبتت بشكل شيطاني فى الصحراء .
أقول فوجئت بإثنين من غلاة الحنجوري حضرا من أجل حوار هام وحيوي وخطير مع زمش . وتكلم أحدهما فركز على ضرورة مراعاة الإنضباط أثناء فتره الإعتقال والظهور بالتماسك أمام الإداره أو التظاهر بذلك ، حيث أن المعركة في الحقيقة هي صراع إرادات بين الإرادة والمعتقلين . وبعد محاضرة طويلة عريضة قال الزميل الحنجوري : إن المسالة تحتاج إلى مراجعة وإلى إعادة تفكير . وعندما سألته عن المسألة التى يقصدها .. رد قائلا : مسألة أعقاب السجائر التي يجمعها أفراد زمش من الحوش ومن الصحراء ، وقال السيد الحنجوري .. إنك كاتب معروف ومن الواجب ان تكف عن تدخين السجائر إذا كان تدخينها عن هذا الطريق . وقلت للسيد الحنجوري .. أنا كاتب معروف وأرغب رغبة شديدة فى تدخين السجائر وليس هناك سبيل لتدخينها إلا عن هذا الطريق ، كمان إنك أنت الآن أيها الرفيق تدخن هذه السيجارة التي
الصفحه (117)
أعطيتها لك عن هذا الطريق وزميلك أيضا شفط عدة أنفاس عميقة عن هذا الطريق ، فهل العيب فى رأي الرفاق هو عملية جمعها أم عملية تدخينها ؟
وضحك الرفيق وهو يقول .. انت كل حاجة تقلبها هزار ! وقلت للرفيق الحنجوري وأين الهزار فى هذا الأمر ؟ لقد قمنا بجمع أعقاب وأنت قمت بتدخينها ، وهو أمر يؤكد إننا أكثر شيوعية من سيادتك لإننا ندخن ما قمنا بجمعه بأيدينا ، أما سيادتك فبرجوازي تدخن ما جمعه العمال أمثالنا .
وتظاهر الرفيق الحنجوري بأنه لم يسمع كلماتي واستأذن منصرفا وهو يرجو أن نعيد التفكير فى هذه المسألة . وتكررت زيارات الرفاق في الأيام التالية . جاء في اليوم التالي اربعة من الرفاق وزاد العدد حتى وصل إلى عشرة رفاق .
والحق أقول أنهم كانوا يدخنون بشراهة أثناء الاجتماعات واكتشفت بعد ذلك أن شوقي الصاعقة وهو غير منضبط حزبيا قد عمد إلى دس أعشاب وورق شجر وقليل من التراب فى السجائر التى كان يلفها لنا أثناء احتدام الحوار . ولكن الزيارات توقفت بعد ذلك عندما اضطر الحزب إلى إصدار أمر إلى جميع الرفاق بالتصرف حسب ظروف كل منهم والسماح بجمع الأعقاب إذا كان التدخين سيخفف عنهم بعض متاعب السجن الرهيبة .
وهكذا انتصرت زمش فى معركة السبارس واتضح للجميع أن خطنا السياسي كان هو الخط الصحيح . ولكن هذه النهاية التي انتهت إليها معركة السبارس كانت وبالا علينا فقد كثر عدد الذين يجمعون الاعقاب مما أدى إلى خفض دخلنا القومي . وبعد ان كنا ندخن كل يوم ما بين سبع وعشر سجائر هبط العدد إلى ثلاث سجائر . وكنت أحيانا أشد نفسا وأنا ادخن السيجارة ، ثم أتذكر فجاءة أن للعبد لله رفاقا فى حزب زمش ولكن هذا كان يحدث دائما فى الوقت غير المناسب . وعندما تصبح السيجارة مجرد عقب يلهب الأصابع وكنت أقدمها للصاعقة ولكنه كان يتنازل عنها بطيب خاطر بإعتباري القائد الضرورة والرئيس المؤسس والزعيم
الصفحه (118)
الملهم لحزب زمش ، أو هذا هو الذي تصورته من موقف الصاعقة .
ولقد اكتشفت بعد ذلك أنه كان يقوم بحركة خيانة حزبية يستحق عليها الفصل . وأنه كان يسلم الحزب ثلاث سجائر باعتبارها حصيلة اليوم ، بينما كان يدخن لنفسه سيجارتين على الأقل غير الأعقاب التى كان يدخنها فى موقع الأحداث ومن التراب إلى فمه على الفور . وفكرت فى فصله من الحزب بالفعل ولكنني ترددت فى اتخاذ القرار لأن فصل الصاعقة كان سيؤدي إلى شرخ حزبي لا تحمده عقباه .
وقد حدث ذات مساء حادث غريب للغاية .. كنا قد دخلنا إلى الزنازين بعد يوم عمل شاق عندما أخرج أعضاء الحزب حصيلتهم من الأعقاب وانهمك الصاعقة في إعدادها وإعادة تصنيعها . وابتهجنا جميعا عندما اكتشفنا أن حصيلة اليوم هي خمس سجائر ملفوفة باتقان ، وبعد مداولات حزبية شاقة قررنا أن ندخن سيجارة واحدة قبل تناول العشاء ثم سيجارة بعد العشاء مباشرة ، ثم ندخن بقية السجائر في السهرة .. ولكن حدث قبل ان نشعل السيجارة الإولى أن اقتحم العنبر عدد كبير من العساكر وهم يصرخون صرخان أشبه بصرخات المحاربين الأشاوس وهم يقتحمون موقعا للأعداء فى حرب أم المعارك . قم سمعنا صوت أبواب تفتح ووقع صربات مكتومة أشبه بعملية تنظيف سجادة أو تنجيد مرتبة ثم صرخات شديدة لا نعرف مصدرها . وقام الصاعقة مسرعا يبحث عن مكان لإخفاء السجائر فيه فقد توقع شرا بغريزته المذعورة ، ولكنه لم يجد مكانا يخفى فيه السجائر إلا جردل البول فألقاها فيه ، ولم يكد يفعل ذلك حتى اقتحم الزنزانة عشرة جنود اشداء ومعهم شوم من النوع الصلب وهات يا طحن في أى مكان وفي كل مكان . وبعد ربع الساعة من الضرب المتواصل تركنا الجنود وانصرفوا ليدخلوا زنزانة مجاورة . وبعد ان انتهوا من ضرب جميع المعتقلين ، اكتشف أن ذراعي مكسورة . وسبب كسر ذراعي هو غلطة ارتكبتها بغير قصد .
كان الذي يتولى طحن العبد لله شاويش من العصر الحجري اسمه
الصفحه (119)
متى ، كان فى الستين من عمره ولكنه كان يتمتع بصحة شاب في العشرين ، وعندما بدأ يضربني بقسوة قلت له صارخا .. ليه يا عم متى .. أنت بتضرب بقسوة قلت له صارخا .. ليه يا عم متى .. أنت بتضرب ليه يا عم متى ؟ ولكن متى استبد به جنون مفاجئ وراح يضرب بقسوة وبجنون واعتذر لي في اليوم التالي وقال لي .. أنت السبب في اللي جرى لك ، تقولي يا عم متى قدام البيه المامور .. إيه يا عم متى دي ؟ احنا أصحاب بقى .. لازم تلتزم النظام قدام البيه المأمور .. تقولي يا افندي أو يا حضرة الشاويش .. هو ده النظام .. مفهوم .. أمال متعلمين إيه ده أنتم ولا اللي جايين من ورا الجاموسه !
المهم إن البيه المأمور مر بعد العلقة وجمع المكسورين من جميع الزنازين وجاء بالطبيب لتجبير الكسور . ووقفنا في طابور طويل ، بينما جلس المأمور سألني سؤالا مفاجئا .. أنت انكسرت ؟ فلما أجبته بالإيجاب ..قال .. أحسن علشان تبطل تبقى شيوعي . وعندما قلت له إننتى لم أكن شيوعيا في أى وقت . قال متهكما .. أيوه كلكم بتقولوا الكلام ده هنا . ولكن عبد الستار الطويلة الذي كان يقف ورائي مباشرة تدخل في الحديث بدون مناسبة وقال للمأمور .. لا هو مش شيوعي وهو بيقول لك الصدق .. السعدني برجوازي وطني شريف .. وسأله المأمور .. وأنت كمان زيه كده ؟ ورد عبد الستار الطويلة .. لا أنا عضو في الحزب الشيوعي المصري . وقال له المأمور .. وانكسرت ؟ فرد عبد الستار : أيوه أنا عندى كسرين فى ذراعي .. وأجابه المأمور .. تستاهل ..الدور الجاي هاكسر رقبتك إن شاء الله .
وانتهت عملية التجبير عند منتصف الليل ودخلنا إلى الزنزانة .. واكتشفت أن الصاعقة مشغول بتجفيف السجائر التي غاصت في جردل البول . كان الدخان مبللا وتفوح منه رائحة نتنة وكان يجاول تخفيفها بالتهوية عليها بقطعة قماش في يده ، وقلت له مستنكرا هاتدخن السجائر اللي فيها بول ؟ ورد قائلا وإيه يعني .. ما احنا شربنا البول . ومرت أيام كثيرة بعد ذلك لم نغادر الزنزانة لقد حبسنا داخلها عدة أيام ومارس
الصفحه (120)
العساكر ضدنا هواياتهم فى تعذيب الناس فكانوا يأمروننا بالوقوف طول الوقت ووجوهنا للحائط وكانوا يقدمون الطعام لنا قبل أن ينضج وبدون ملح ورفضوا إعطاءنا أي دواء لمكافحة الجرب الذي أكل جلودنا وسلب النوم من أعيننا . ومرض الصاعقة مرضا خطيرا وكان يموت ولكني اكتشفت أن مرضه لم يكن بسبب عدوى إصابته ولكن لأنهم حرموه من تدخين السبارس وكان المرض أهون لديه من حرمانه من الشاي والدخان وبعد أن انقضى إسبوع كامل ونحن في الحبس الإجباري جاء الفرج وسمحوا لنا بالخروج وعدنا إلى الجبل نشترك في تعمير الصحراء ونقطع ثلاثة كيلو مترات على الأقدام لكي نأتي بمياه تسبح على وجهها صغار العقارب ونجمع السبارس لكي نعيد تصنيعها ونحولها إلي سجائر ولنكتشف أن السبب فى العلقة والتكديرة وفي حرماننا من الشمس والهواء والسبارس هو عضو قيادي في حزب طليعة الشيوعيين اسمه مجدي حمدان وهو من عائلة ثرية وقوية ويبدو أنه دخل الحركة الشيوعية من باب الوجاهة والفشخرة وتقدم في صفوف الحزب الذي ينتمي إليه الرفيق حمدان قد تلقى خطابا من قيادة الحزب في القاهرة عن طريق موظف في السجن .
وكان عدد الذين اطلعوا على الخطاب ثلاثة فقط من اللجنة المركزية ، وكان حمدان احدهم . وبعد عشر دقائق من فتح الرسالة كان خبرها قد وصل إلى البيه المأمور وكانت هي السبب في العلقة والتكديرة .
المهم أنه عندما انكشف أمره وقع عليه اعتداء من بعض المعتقلين . وكان الناقد ابراهيم فتحي أحد الذين اعتدوا عليه وسبوه سبا شديدا وفضحوه . مما اضطر الإداره في النهاية إلى نقله من عنبر الشيوعيين إلى عنبر الإخوان المسلمين .. وأسكنوه في زنزانة انفرادية .
وبالرغم من الخدمات الكبيرة التي قدمها لهم إلا أنهم لم يفرجوا عنه إلا في الدفعة الأخيرة وبعد خمس سنوات طويلة في المعتقل الرهيب ، وأغرب شئ أنه عندما غادر المعتقل قرر أن يعتزل السياسة وأن يبتعد عن
الصفحه (121)
طريق الرفاق وذهب لقضاء الصيف في مدينته الساحلية وبعد إسبوع قضاة على الشاطئ كان يحتفل مع بعض الأصدقاء بعيد ميلاده الأربعين وبعد أن أكلوا جميعا كميات كبيرة من الجمبري والسمك وقف الرفيق حمدان أمام شاطئ البحر يحدق في الفضاء ، لعله كان يستعرض الأحوال السيئة التي عاشها في سجن الواحات والتي فارقها منذ إسبوع واحد لا غير ، ولعله كان يفكر في محنته الشخصية محنة الزعيم الذي يقود الطبقة العاملة نحو جنة ماركس ولينين . فإذا به يتحول داخل السجن إلى مجرد مخبر رخيص للبيه المأمور .
لعله كان سارحا بخياله وبعقله في شئ أخر لا أحد يدري .
المهم أنه بعد دقائق من وقفته على الشاطئ محدقا في الفضاء البعيد ، سقط مجدي حمدان ميتا ، فقد حياته بعد أن فقد نفسه وذهب في الكازوزة غير ما سوف عليه !
الصفحه (122) صفحه خاليه
الصفحه (123)
الفصل الثالث عشر : مسئول الأمن .. ياللي !
وكانت فترة المعتقل التي طالت فرصته لدراسة أحوال الشيوعيين عن قرب ، وكانت دهشتي كبيرة عندما اكتشفت أن الحزب الشيوعي المصري الذي يزعم أنه ممثل الجماهير العريضة لم ينفتح في أي يوم من الأيام على شعب مصر ، ولم يعقد صلة حقيقية بينه وبين الناس ، وأن كل ما يدعيه عن تمثيله للجماهير ومعرفته بمشاكلها لم تكن إلا مزاعم لا تقوم على أساس .
الصفحه(124) صفحه خاليه

صفحة 125
والاغرب من ذلك انه بسبب العزلة التي فرضها على نفسه والحصار الذي فرضته الأجهزة حوله , ابتعد كثيرا عن الناس وخاصمهم .
لم يعد يرى في الحياة الا اعضاء الحزب , وهم وحدهم المناضلون والاكفاء والمبدعون واولى الناس بالقيادة والريادة . ولذلك كان المعلم الالزامى فهمي حبيب مسئول الواحات يرى ان كل مخلوق خارج تنظيمه الحديدي هو بوليس . وكان بين المعتقلين صحفي هايف اسمه عبد الوهاب صبحي , اشار فهمي حبيب نحوه وقال في غرور وقح :
- اذا قدر للصحافة ان تنمو في مصر , فسيكون هذا النمو على يديه .
ولم يكن الاخ اياه معتقل , ولكنه كان محكوما عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات , وكان مسئول المخابئ السرية في الحزب , ويبدو انه صدق مزاعم الأخ فهمي حبيب فكان يتصرف وكأنه محمد التابعي وكان يتكلم عن مصطفى أمين وهيكل وأحمد بهاء الدين وكأنهم بعض تلاميذه الذين فشلوا في مهمتهم .. بسبب ترددهم وتطلعاتهم وقلة ثقافتهم وعدم فهمهم للصراع الحقيقي الذي هو الحياة !
وسألت المعلم الالزامى فهمي حبيب مرة بعد ان افاض في شرح الازمة الاقتصادية في مصر سألته :
- هل لديكم في الحزب الشيوعي كوادر تستطيع حل هذه المشكلات ؟
فاشار نحو رفيق حزبي كان يعمل مندوبا لاحدي الصحف بالقطعة في
صفحة 126
دوائر وزارة المالية ,وتصورت انه يهزل او يمزح , ثم كدت اجن عندما اكتشفت انه جاد تماما , وان ترشيحه للرفيق اياه كان عن اقتناع تام بأنه صانع المعجزات . وكان من بين المعتقلين صبي منجد توافرت لديه النية الطيبة في تأليف القصص , وكانت قصصه اشبه بمواضيع الانشاء التي يكتبها طلبة المدارس المجتهدين , ولكنه كان أهم كاتب قصة في مصر في دوائر الحزب الشيوعي , ولكن لأنه شيوعي فقد تأمرت السلطة في مصر لفرض الأدباء البرجوازيين على الحركة الأدبية في مصر , أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف ادريس !! واذا كان الرفيق لينين قال يوما : ان الشيوعي الجيد ينبغي ان يكون حيث توجد الجماهير , فإن الحزب الشيوعى المصري في الممارسة كان ضد الجماهير أو في مواجهتها او بعيدا عنها .
اذكر انه في شتاء 1960 وكان قد مضى على اعتقالنا حوالى العام , اننا تعرضنا لحملة تجويع منظمة , فالافطار عبارة عن دود يقدمونه تحت اسم جبنة , وفي الظهر يقدمون للمعتقلين " كرنب " مسلوقا , اما في العشاء فيقدمون للمعتقلين كمية ذباب ميت تحت اسم عسل اسود . وشعرت بهزل شديد وقررت ان استعين باصدقائى المساجين للحصول على بعض الاطعمة التي تعينني على المقاومة وتحفظني على قيد الحياة , وذهبت الى عنبر المساجين الشيوعيين في يوم الجمعة للحصول على شئ من الطعام من الاستاذ زكى مراد المحامي , والذي كان قد مضى عليه في السجن اكثر من سبع سنوات , وعندما رأني عبد الوهاب صبحي مسئول الأمان في الحزب , اطلق صيحة تحذير في العنبر ( عيسوي ) وهي شفرة تعنى ان المباحث وصلت الى العنبر , ولم يكن هذا التحذير بسبب شخصي المتواضع , ولكن السبب الحقيقي كان زكى مراد المحامي , لأنه كان زعيما من زعماء حدتو , وهو تنظيم شيوعي انشق على الحزب الشيوعي المصري , واطلقوا عليه في الحزب الأنقسام , وبادلهم تنظيم حدتو المجاملة بالمثل فاطلق على الحزب .. التكتل .
هذا البطل العظيم الذي كان مسئول الامان في الحزب الشيوعي
صفحة 127
المصري افرج عنه من السجن بعد شهر , وقد جرت العادة حينذاك على عودة المسجون المفرج عنه الى الواحات مرة اخرى , ولكن في ثياب معتقل , ولم يعد يسمع لاحد من الشيوعيين بمغادرة السجن , وعليه ان يبقى خلف الاسوار . ولكن صاحبنا الثوري المناضل اياه خرجولم يعد , مع الاعتذار للفيلم الذي قام يحيى الفخرانى ببطولته واخراج محمد خان , ولم يمضي اسبوع على خروجه من السجن حتى تعرضت الواحات لكبسة من رجال المباحث , واقتحموا عنبر المساجين , وبواسطة خريطة كانت معهم توصلوا الى كل المخابئ السرية التى كانت في عهدة البطل المغوار اياه , واستولوا على كل اوراق الحزب الشيوعى المصري في ضربة واحدة وعلمت بعد ذلك من مسئول حزبي كبير ان مندوب الامان عقد صلحا منفردا مع المباحث , تم بموجبه الافراج عنه مقابل تسليمهم خريطة تحدد جميع الاماكن السرية التى توجد بها اوراق الحزب , وقال المسئول الحزبي الكبير : لقد استطاع هذا العميل ان يخدع الحزب ويتسلل الى صفوفه , ولأنه مدرب تدريبا عاليا في جهاز المخابرات المركزية الامريكية , فقد استطاع الوصول الى مستوى القيادة , فصار مسئول الامان في الحزب الشيوعي المصري ! وكانت هذه آفة اخرى من آفات الحزب الشيوعي المصري , فقد يستخدم كلمات كبيرة لوصف احوال هايفة . وهذا الصحفي الغلبان الذي اصبح بطلا مغوارا في نظر الحزب الشيوعي المصري لم يكن اكثر من شخص عادي , نفخته عضوية الحزب الشيوعي فتحول الى بالون كبير , ولكنه انفجر وانكمش وعاد الى حجمه الحقيقي عند اول امتحان . وقد ضاع في الحياة بعد ذلك . ورأيته آخر مرة في احدي دول الخليج يلقط رزقه .. في الصحافة احيانا وبطرق اخري في أغلب الاحيان .
وهذا الغباء السياسي هو الذي اوقع الشيوعيين في شر اعمالهم وجعلنا نأكل علقة في سجن الواحات .. فشر حرامي في مولد أو حمار في مطلع , فبالنسبة لدعوة القومية العربية التى اطلقها عبد الناصر , كان تفسير الشيوعيين لها انها حركة سياسية لفتح اسواق جديدة امام الرأسمالية
صفحة 128
المصرية , وعموما والعائلات الخمس الكيرى خصوصا . وعندما سألت عن هذه العائلات الخمس الكبرى , أجابنى احدهم بطريقة محدثي البرامج الأذاعية .. بنك مصر وشركات فرغلي للأقطان وابو رجيلة وعبود والشوربجى !وعندما امم عبد الناصر كل المصالح الرأسمالية الكبرى بما فيها العائلات الخمس , أصدر الحزب الشيوعي منشورا أخر قالوا فيه : لقد اختارت الديكتاتورية العسكرية رأسمالية الدولة لأحكام السيطرة على الشعب المصري من جهة ولحماية الرأسماليين الكبار من الخسائر التي يتعرضون لها وتحميل الخزانة المصرية الخسائر بدلا منهم ! واكتشفت ان تعبير العائلات الخمس الكبرى ليس من تاليف الشيوعيين المصريين , ولكنه منقول حرفيا من دراسة الحزب الشيوعي السوري الذي كان يرأسه خالد بكداش عن الوضع الاقتصاد السوري المتدهور .
وجاء تعبير العائلات الخمس في هذه الدراسة , حيث كان الاقتصاد السوري يقع في قبضة خمس عائلات بالضبط , وهو وضع يختلف تمام الاختلاف عن وضع الاقتصاد المصري , ولكن تأثير خالد بكداش على الحزب الشيوعي المصري كان بلا حدود , كان بمثابة المعلم والرائد والامام .. ولذلك كانت خيبة املهم كبيرة عندما لطمهم خالد بكداش بقسوة في تصريح مشهور له ادلى به في عام 1960 وجاء فيه ( لا توجد في مصر احزاب شيوعية ولكنها مجرد دوائر ديدانية )هذا الغباء السياسي هو الذي ادى بهم في النهاية الى تأييد عبد الناصر تأييدا كاملا ومنحه تفويضا على بياض , وادى بهم في النهاية الى حل الحزب الشيوعي والانضمام الى الاتحاد الاشتراكى والتنظيم الطليعي .
ولكن الشيوعيين المصريين رغم هذا الغباء السياسي كانوا اكثر مرونة واشد ذكاء من جماعة الاخوان المسلمين . ولقد كان في سجن الواحات عنبران , عنبر للشيوعيين وعنبر للاخوان , ولكن ما ابعد الفارق بين نزلاء عنبر أ ونزلاء عنبر ب .
وكان الشيوعيين يسعون دائما الى فتح حوار مع الاخوان المسلمين , وكان الاخوان المسلمون يتحاشون هذا الحوار ويرفضونه بشدة , وكان
صفحة 129
الشيوعييون يؤمنون بأن الأخوان المسلمين سياسيون مجتهدون اخطأوا التحليل , بينما كان الأخوان المسلمون يرون ان الشيوعيين كفرة وملحدون ومصيرهم جهنم وبئس المصير .
اذكر ذات يوم شديد القيظ ونحن نحفر في رمال الصحراء في الوادي الجديد , وكان الشيوعيون يحفرون في جانب والأخوان المسلمون في جانب آخر . اذكر اننى شعرت بعطش شديد فعبرت الحدود ووصلت الى خطوط الاخوان المسلمين , وكان احدهم وهو شيخ طاعن في السن يجلس تحت مظلة صنعها بنفسه من فرع شجرة وخيشة وامامه جردل ماء مبطن بخيشة مبللة ومعط بقطعة شاش بيضاء , وفوق الشاشة كوز من الألمونيوم , وكانت الخيشة المبللة قد جفت دليلا على ان المياه في الجردل قد اصبحت مثلجة , وكنت الهث وانا اتجه كالطلقة الطائشة نحو الشيخ الجليل والجردل المثلج , وعندما القيت عليه السلام لم يرد وقلت له وحالي يصعب على الكافر .. ممكن اشرب من فضلك ؟ ورد في برود وفي حزم .. لا . وسألته .. ليه ؟ وقال بنفس اللهجة بنفس الطريقة .. أصل دى ميه طاهرة من غير مؤاخذة . تمالكت نفسي وقلت له بهدوء هو انا كلب هنجس الميه ؟ وقال وكأنه يقرر حيقة .. انت أنجس من الكلب . قلت للشيخ العجوز .. معقول فيه بنى أدم انجس من الكلب ؟ اجاب بشكل تقريري .. انت .. مش انت شيوعي ؟ اجبته .. لا .. أنا مش شيوعي . فقال .. يا سلام .. امال الحكومة جايباك ليه ؟ قلت له .. وهل صدقت الحكومة ؟ قال .. طبعا .. قلت له .. غريبة .. ان الحكومة عندما جاءت بك الى هنا قالت عنك انك مجرم وسفاح وقاتل وابن كلب , ولكني لم اصدقها .
عندئذ القى على العبد لله نظرة , وسألني بلهجة مختلفة .. أنت اسمك ايه ؟
وتبادلنا الحديث , وتكرم في النهاية فكشف الغطاء عن جردل المية المثلج , وملأ الكوز الالمونيوم من الجردل وقدمه للعبد لله , وجلست بجانبه وشربت , واكتشفت انه من الاسماعيلية ويدعي الشيخ طرطور , وان
صفحة 130
الحكم صدر عليه بالاعدام ثم خفف الى الاشغال الشاقة المؤبدة , وانه في السجن منذ ست سنوات .
وتوثقت صلتي بالشيخ طرطور , واكتشفت انه لا يعرف شيئا بالمرة عن الشيوعية او عن الشيوعيين , وان لديه بعض الافكار الساذجة التي كانت تنشرها اجهزة مكافحة الشيوعية في الداخل والخارج , وان لديه عقيدة ثابتة أن الشيوعيين يتزوجون بدون عقود ويمارسون زنا المحارم , وانهم مجرد افراد فاسدين ولصوص , وكان يتصور ان الشيوعيين جهلة وانهم لا يحسنون اللغة العربية ويعبدون ماركس ولينين , في نفس الوقت كان الشيوعيين يعرفون كل صغيرة وكبيرة عن جماعة الاخوان المسلمين .. عن برنامجهم واهدافهم واخطائها ايضا .
وبينما كان الشيوعيون في ذروة المعاناة داخل سجن الواحات , حدث ان عمال الشحن في ميناء نيويورك رفضوا تفريغ الباخرة المصرية كليوباترة , فردت عليهم نقابة الشحن والتفريغ المصرية بمقاطعة تفريغ وشحن السفن الأمريكية في الموانئ المصرية , وحذت النقابات العربية حذو النقابة المصرية فأعلنت مقاطعتها للبواخر الأمريكية , وفي صباح اليوم التالي خرج المعتقلين الشيوعيين جميعا واتجهوا الى ادارة السجن وطلبوا تأييد نقابة الشحن والتفريغ المصرية وتأييد موقف الحكومة المصرية من هذه القضية . وسألت الشيخ طرطور في اليوم التالي .. لماذا لم يؤيد الاخوان المسلمون موقف الحكومة المصرية من قرار مقاطعة السفن الامريكية ؟ نظر نحوي نظرة تحمل معانى كثيرة , خليط من الدهشة والاحتقار والاستنكار .. وقال : هذه الحكومة كافرة , ونحن لا نخاطب الكفار سابا أو ايجابا , وليس بيننا وبينهما إلا الثأر , اذا استطعنا ان نأخذه في الحياة الدنيا كان بها , والا فموعدنا يوم ينفخ في الصور ونقف جميعا بين يدي الله . ومن يومها أطلقت عليهم وصف جماعة الاخوان الزعلانيين .
كان موقفا سلبيا لا يمت بصلة إلى السياسة , لقد دخل الاخوان المسلمون معركة ضد الثورة , وهم الذين اختاروا مكانها وزمانها , فلما
صفحة 131
انهزموا في المعركة انكفأوا على انفسهم يلعقون جراحهم ويمضغون غيظهم وينتظرون يوم الثأر وكأنهم عصابة من عصابات الجبل الغربي وليس تنظيما سياسيا كان ولا يزال يسعي الى السلطة لاقامة ولاية فقهية .
وأعود مرة أخرى إلى حركة التجويع التي فرضها السجن على المعتقلين , استطعنا رغم الرقابة المفروضة ان نحصل على بعض الاطعمة من مصادر مختلفة . احد هذه المصادر كان مهندسا يعمل في هيئة تعمير الصحراء , وكان اخر منصب تولاه هو مسئول مدينة 6 أكتوبر . كان المهندس اياه شابا لا يزال , وكان يأتي كل صباح لموقع في سيارة جيب , وبالرغم من ان هواه كان مع الشيوعيين , الا انه كان يعطي الشيوعيين بعض الشاي من الترمس الذى يحمله , وبعض السندوتشات أيضا , وكان هناك مسجون مجرم اسمه عاشور , كان يذهب مع المعتقلين الى الجبل ليقوم باصلاح الفؤوس وترميمها وكان عاشور قد تعرض للعقوبة لاعتدائه على جندي من حرس السجن , وجاءوا به الى عنبر الشيوعيين وحبسوه في زنزانة التأديب وتأثر عاشور كثيرا بمعاملة الشيوعيين له اثناء حبسه انفراديا , فرد لهم الجميل ايام المحنة , وكان يمد البعض منهم بأرغفة خبز وبيض مسلوق وبعض السجائر , وكان المساجين الشيوعيون الذين يعاملون معاملة عادية حسب الائحة يمدون المعتقلون ببعض المواد الاغذائية , ولكن كل هذه الامدادات الضئيلة لم تشفع مع العبد لله , فهاجمتني عدة امراض مرة واحدة نتيجة سوء التغذية كان اخطرها ما اصاب لسان العبد لله , فقد تحول كله الى جروح وصديد , واصبحت عاجزا لا استطيع البلع ولا استطيع الكلام , ولما ساءت حالة العبد لله , عرضوني على طبيب الواحات , فقرر اننى احتاج الى كميات من الليمون والسكر وبعض الاطعمة والا تعرضت للموت , وهنا اصدر المأمور قرارا على مسئوليته لشراء دجاجة كبيرة على حسابي وسلقها في مطبخ السجن وشراء كيلو سكر خصما من حسابي وخمسين ليمونه , وبعد اول كوب عصير الليمون الممزوج بالسكر خفت حدة القروح , وبعد التهامى للفرخة اختفى المرض تماما , وقمت اعدو كالغزال
صفحة 132
في حوش السجن . ولكن الجوع عاد لامعائنا بعد ذلك واصابني الكرنب المسلوق بامتداد بالمصران الغليظ , ثم حدثت الكارثة الكبرى , وتعرض جميع المعتقلين للموت , بسبب اكلة اكتشفوها في الصحراء , فهجموا عليها كالمجانين , واكلوا منها حتى شبعوا , وفي المساء نقلت الغالبية العظمى منهم الى المستشفى , وجاءت الاسعاف الى السجن لرعاية الآخرين . ولكن .. كيف حصل المعتقلون على الأكلة اياها وكيف اصيبوا جميعا بالتسمم .. فهذه قصة اخرى ..
صفحة 133
الفصل الرابع عشر
كان يوما مشمسا ودافئا رغم أننا كنا في عز الشتاء وكانت قبضة عم شاهين قد خفت كثيرا , وصار الرجل نفسه واحدا من المعتقلين فهو لا يغادر السجن ليلا أو نهار ولا يعرف من الحياة الا العنبر والجبل ومكاتب الادارة .
وليمة الخروع
صفحة 134 خالية
صفحة 135
كان الصول شاهين قد بدأ يشكو من سوء أحواله الى المعتقلين , وكيف أن إبنه الذي في الجامعة لم يرحم شيبته ولم يقدر شقاه , فرسب للسنه الثانية في كلية التجارة مع أن الصول شاهين كان ينتظر من إبنه أن ينتهى بسرعة من الدراسة الجامعية لكي يعاون أباه على تربية بقية الأبناء. كان عم شاهين يحكي عن متاعبه وهو يكاد يبكي , وكيف أن إبنته الوسطى خطبها ولد أفندي معتوه ولكنه لم يكمل المشوار فهجرها وإختفى عن الأنظار , وفي ذلك اليوم المشمس الدافئ كان عم شاهين يبدو مهموما أكثرمن ذي قبل , فقد كان يطمع في الحصول على الجنيه قيمة المكافأة الشهرية لأحسن سجان ولكن المأمور تجاوز عم شاهين رغم إخلاصه وتفانيه في خدمة الحكومة . ولكنها حكومة أوباش لا تفرق بين المحسن والمسئ ! ويقسم عم شاهين بأغلظ الأيمان أنه خدم هذه الدولة عشرين عاما منذ كان حيدر باشا هو الحاكم بأمره في مصر وحتى الان وأنه تولى بنفسه ضرب كل أعداء الحكومة , الشيوعيين والإخوان والوفديين حتى الضباط المناوئين و ومع ذلك لم يأخذ من الحكومة إلا راتبه وهو ثلاثة عشر جنيها الذي لم يزد مليما , بينما المشاكل تضاعفت بشكل فظيع .
في ذلك اليوم المشمس الدافئ الذي كان فيه عم شاهين مهموما ومكتئبا وغاضبا وثائرا على كل شيء , إختار منطقة مزروعة في الصحراء لكي يمارس المعتقلون العمل فيها ونصحهم بعدم إجهاد أنفسهم والنوم تحت
صفحة 136
الأشجار بشرط أن يكونوا يقظين حتى لا يفاجئهم الضابط فيتسببوا في توقيع الجزاء على عم شاهين , وسرح المعتقلون في الواحة الصغيرة وكانت دهشتهم كبيرة عندما إكتشفوا أن الأشجار مثمرة. كانت الثمرة خضراء وطعمها مش بطال وأن الجميع قد فشلوا في معرفة حقيقة هذه الثمرة , ولم يكن المعتقلون في حاجة الى عزومة من أحد لكى يملأوا بطونهم من هذه الثمرة , فهم يعانون الجوع منذ عدة أشهر , ونزل المعتقلون على الشجر وهات يا أكل كالمجانين , وأكل الجميع حتى شعروا بالإمتلاء والراحة , وشكروا الله الذى يرزق كل حي حتى الدود في الحجر والمعتقلين في سجن الواحات , وزاد من بهجة المعتقلين أن اليوم مر بسلام فلا الضابط حضر ولا التكديرة أصابت المعتقلين ولا لحق أذى بعم شاهين , وعاد الطابور البائس إلى السجن والكل يشعر بنشوة لم يشعر بها من قبل , وعندما أغلقت أبواب الزنازين أخذ المعتقلون في الغناء , ولماذا لا يغنون وقد عرفت بطونهم الشبع بعد فترة طويلة من الجوع ؟ ولكن لم تكد تمضي نصف الساعة على دخولهم الزنازين حتى شعر البعض بمغص خفيف في البداية ثم إشتد بعد ذلك , وإنتقل المغص إلى بقية المعتقلين , ثم بدأ القئ ثم أعقبه إسهال , وكان تشخيص الأطباء للمعتقلين أنه تسمم حاد , فقد كان بعضهم يحمل في جيوبه بعض حبات من الثمر الذي أكلوه.
لقد إكتشف أحد المعتقلين وهو مهندس زراعي لم يخرج إلى الجبل في ذلك اليوم , إكتشف أن الثمرة إياها هي خروع وأن حبة واحدة منها قد تصبح دواء شافيا أما كمية منها فقد تنقلب إلى سم زعاف يقضي على من يتناوله في خلال ساعات . وبدأ المعتقلون يتصايحون داخل الزنازين ويدقون بشدة على الأبواب . وتلكأت الإدارة في البداية ثم فتحوا الأبوب واستدعوا الإسعاف , وتم نقل بعض المعتقلين الذين ساءت حالتهم بشدة إلى مستشفى الواحات ونقل البعض الآخر الى مستشفى السجن وتم إسعاف الباقين داخل الزنازين . وقام الدكتور حمزة البسيوني وهو معتقل في الوقت نفسه بدور هام في
صفحة 137
علاج المصابين وساعده الكاتب الكبير صلاح حافظ الذي كان يمارس الطب داخل السجن , ولم ينم السجن في تلك الليلة , وظلت أبواب الزنازين مفتوحة حتى الصباح , ولم يغادر المأمور العنبر حتى الفجر , وأبدى همة مشكورة وظهر عليه في بعض الأحيان أنه شديد القلق وحزين على نحو ما , ولكن أغرب شىء حدث تلك الليلة أن المعلم الالزامي فهمي حبيب الذي كان مسئول منطقة الواحات والذي صار فيما بعد سكيرتيرا عاما للحزب الشيوعي , مر على الزنازين يتفقد رعاياه , ثم قرر فجأة أن يمارس نضاله من أجل الرفاق , فوقف أمام المأمور وصرخ في وجهه " الإدارة مسئولة عن هذه الجريمة ونحملكم المسئولية إذا مات رفيق أو أكثر." ورد عليه المأمور ساخرا : وإحنا مالنا, إحنا وزعنا عليهم خروع عشان ياكلوه ؟! وعاد المسئول الهايف يصرخ في عصبية " كان لازم الصول الى معاهم يمنعهم , وده معناه إن السجن مفيش فيه ظبط ولا ربط , ومادام الصول مسئولا يبقى سعادتك كمان مسئول ! "
وفي صباح اليوم التالي فرض الصول شاهين الضبط والربط على المعتقلين وعامل المعتقلين بشئ من القسوة ولما عاتبناه على هذا الموقف , صرخ في وجوهنا بحرقة شديدة "هو انا ناقصكوا إنتوا كمان , الجدع الهايف بتاعكوا ده اللي بيتكلم باللاوندي قال للمأمور : السجن ما فيش فيه ظبط ولا ربط , طب خدوا بقه ظبط و ربط من هنا ورايح " ثم مضغ الهواء بين أضراسه وارعش حاجبه وقال وهو يتمزق غيظا " طيب أنا هاوري الأفندي الهايف ده, قال إيه عاوز ظبط طيب يا فلفوس , أما أرقعك عشر أقلام على قفاك , هتعرف الظبط والربط صحيح " وساءت العلاقة بيننا وبين عم شاهين إسبوعا كاملا بعد هذا الحادث .
كان حادث الخروع سببا في تخفيف القيود المفروضة على المعتقلين . كان الضابط نصرى وهو في رتبة نقيب قد إلتحق بكلية الحقوق لكى يتمكن من الصعود إلى أعلى رتبه في سلك الشرطة , والسبب أنه لم يكن خريج كلية الشرطة , ولكنه بدأ حياته كومستبلا في إدارة المرور ثم رقي إلى رتبة ملازم ثان , وهو في الثانية والثلاثين وأصبح نقيبا الآن وهو في الثالثة والأربعين .
صفحة 138
وسبخرج على المعاش عندما يصل إلى رتبة المقدم لذلك نصحه البعض بالإنتساب إلى كلية الحقوق لكي يحقق حلمه بالترقي إلى رتبة اللواء. وفعلا إلتحق الضابط نصري بكلية الحقوق ولكن إنشغاله في وظيفته كسجان كان يمنعه من متابعة دروسهز ولذلك كان في حاجة إلى من يساعده على إستيعاب المواد الدراسية وفهمها. وتطوع المحامي المعتقل علي الشلقانيفي مساعة الضابط على فهم دروسهز وسمحت له إدارة السجن بفتح عنبر واحد ليلا, وكان ياتي إليه كل مساء, ويفتحزنزانة العبد لله حيث كان يقيم بها علي الشلقاني. وكان الضابط التلميذ والمعتقل الأستاذ يجلسان معا داخل الزنزانة في الوقت الذي كان فيه نزلاء الزنزانة يفضلون الإنتشار في الطرقة الطويلة التي تفصل بين الزنزانازين, وفي الأيام التالية كان الضابط يحرص على أن يحضر معه عدة بواكي من شاي التموين وقرصاس سكر, وكان شوقي الصاعقة يتولى إعداد الشاي مستخدما ملابسه الميري كوقود لإعداد الشاي, سمح لللأومباشي الذي يقوم بعملية تمريض المعتقلين المرضى بالمرور على زنلزين السجن مرة كل إسبوعلحصر الحالات التي تحتاج إلى علاج وتوقفت عمليات الضرب والإهانة , وسمح لبعض المعتقلين بالتردد على عنبر المساجين, وصار العمل في الجبل متعة, وعادت المياة إلى مجاريها بيننا وبين الصول شاهين ولكنه إذا رأى الزعيم الشيوعي الهايف إياه فهمي حبيب الذي صار دكتورا وسكيرتيرا عاما في آخر الزمان. كشر عن أنيابه وإنتابته حالة عصبية تجعله يهتز بشدة ويردد في غيض شديد " الأفندي بتاع الضبط والربط اهه". ولكن لأن الحياة لا تمضي دائما على وتيرة واحدة فقد حدث ما عكر صفو المعتقلين في تلك الأيام الهادئة, فقد حدث أن هرش بعض المعتقلين في أجسامهم وأفتى بعض الرفاق أنها مجرد حساسية نتيجة إرتداء ملابس السجن على اللحم, ةلكن لم تكد تمضي بضعة أيام حتى إنتشر الهرش بين جميع المعتقلين وصار الهرش هو سيد الموقف. وإتضح أن الهرش نتيجة جرب أنتشر بين المعتقلين جميعا. وكان من المناظر المألوفة أن يشاهد عشرات من المعتقلين وقد إلتصقوا بجدار السور
صفحة 139
وهات يا هرش على ودنه. ولا يكفون عن الهرش إلا عندما تدمي جلودهم من شدة الإحتكاك بالحائط المبني بالصخور, ولكن الرفيق فهمي حبيب وجد أن الجرب فرصة لممارسة نضاله فقرر الدخول في إضراب عن الطعام حتى تصل بعثة طبية من أسيوط تتولى علاج المعتقلين وتخليصهم من الهرش, وحاول بعض العقلاء أن يقنعوه بالعدول عن فكرة الإضراب وأن يكون إضرابا مشهودا يدخل تاريخ المعتقلات من أوسع الأبواب, وإنتصر بالطبع رأي فهمي حبيب, وإستعد بعض المعتقلين لبدء عملية الإضراب بحلاقة رؤوسهم زلبطة.
بدأ الإضراب عن الطعام في سجن الواحات وجاء المأمور وحاول التفاهم في البداية ثم أصدر أمره للعساكر بإدخال المعتقلين إلى الزنازين وغلق الأبواب. ومضت خمسة أيام وبعض المعتقلين مضربون عن الطعام فقد رفض تنظيم حدتو الإنضمام إلى الإضراب بإعتبار أنه بلا سبب, وليس من ورائه أى فوائد, وأعلنت زمش بالطبع إنضمامها إلى حدتوثم عدل بعض المضربين عن إضرابهم, وإنتهى الإضراب تقريبا عندما تبينللمعتقلين مدى سخافة الزعيم الهمشري فهمي حبيب. وبعد أن فشل الإضراب جاء المأمور ذات صباح وأمر المعتقلين بالخروج إلى الحوش, ثم أمر بالإصطفاف في طابور واحد بجوار الحائط, وأفتى جناح فهمي حبيب بأن هاك حفلة تعذيب في إنتظارنا ثم إتضحت الحقيقة عندما أمر المأمور بعض رجاله بإحضار الجماعة, وجاءت الجماعة يلبسون جلاليب مهلهلة عليها بلاطي بيضاء أو كانت بيضاء ذات يوم بعيد ولم يكن مع الجماعة أدوات تعذيب كما أفتى الجناح المناضل, ولكن كان معهم جرادل مملوءة بسائل أبيض , وفي كل جردل فرشة من النوع الذي يستخدم في طلاء الجدران, ثم طلب المأمور من المعتقلين أن
صفحة 140
يخلعوا ملابسهم وأن يتعروا كما ولدتهم أمهاتهم وبعد ذلك مر أصحاب الجرادل يغمسون الفرش في السائل ثم يأخذون في طلاء أجسام المعتقلين بالسائل الأبيض الذي تمتلئ به الجرادل, وبعد أن إنتهوا من طلاء جميع المعتقلين إرتدى المعتقلون ملابسهم وإنسحبوا إلى العنابر. وأفتى جناح المتشددين بأنها حيلة خبيثة من جانب الإدارة لإمتصاص غضب المعتقلين وأن هذا الطلاء الأبيض ليس إلا ماء ممزوجا بالجير, وهو فب النهاية لا يؤدي إلى شفاء المعتقلين ولكن إلى مضاعفة عذابهم وقد يؤدي في النهاية إلى إصابة الكثير منهم بسرطان الجلد, ولكن الذي حدث بالفعل أن عملية الهرش خفت في المساء, وعندما أعادوا عملية الطلاء في صباح اليوم التالي لم يأت المساء حتى كان كل المعتقلين قد برأوا من داء الجرب وكأنهم لم يكونوا جربانين في أي وقت. وعادت الأمور في السجن عادية وعصا الإدارة ليست مشدودة وليست مرخية.
ثم حدث ما جعل الأمور تختلف كل الإختلاف, في منتصف الليل حضر المأمور ومعه ضابط والصول شاهين وبعض الجنود, وفتحوا العنبر وفتحوا الصالة الضيقة التي تفصل بين الزنازين, بينما أدي الضجيج الذي تحدثه كعوب أحذيتهم على البلاط البارد إلى فرار النوم من عيون المعتقلين وهرع العشرات منهم إلى الأبوب والنوافذ لإستطلاع الأمر, فقد توجسوا شرا لحضور المأمور في هذا الوقت من الليل, وإتجه المأمور بموكبه الصامت إلى زنزانة الأستاذ صلاح حافظ وأخرجه منها, ثم إتجه بعد ذلك إلى زنزانة الدكتور حمزة البسيوني وأخرجه منها ثم إصطحب المعتقلين معه وخرج من باب العنبر بعد أن أغلقه على المعتقلين. وضرب المعتقلون أخماسا في أسداس, فحضور المأمور إلى العنبر بعد منتصف الليل وإخراج معتقلين من السجن في هذه الساعة أمر لا شك خطير. وعلى الفور إنعقدت الحلقات وبدأ النقاش بين الخبراء في محاولة للوصول إلى تفسير لهذا الإجراء غير المألوف. وأفتي الزعيم فهمي حبيب بأنها مؤامرة لقتل أطباء المعتقلين بدعوى الهروب من السجن.
صفحة 141
وقال الرفيق إبراهيم العطار أمين التنظيم في منظمة زمش, أن الحكومة أوفدت مندوبها إلى السجن لمناقشة المعتقلين, وأن المأمور إختار صلاح حافظ وحمزة البسيوني لأنهما عاقلان وغير متشددين, وذهب الآخرون في تفسير الأمر مذاهب شتى. ولكن الحقيقة لم تظهر إلا في الصباح, وهي حقيقة ولكنها أغرب من الخيال!
صفحة 142
صفحة فارغة
صفحة 143
الفصل الخامس عشر. شاهين وأخواته
إكتشفنا في صباح اليوم التالي أن كل تحليلات الزعيم الخنفشاري فهمي حبيب باطلة. فقد جاء المأمور إلى السجن في الليلة الماضية وإصطحب معه الدكتور حمزة البسيوني والأستاذ صلاح حافظ لسبب لم يخطر على بال الزعيم الهمشري إياه.
صفحة 144
صفحة فارغة
صفحة 145
وأصل الحكاية أن المأمور فرين شنيشن كان مدعوا على العشاء في بيت محافظ الصحراء الغربية. وهو ضابط بسلاح الحدود إسمه البوريني. وإصطحب المأمور السيدة حرمه تاركا طفليه الصغيرين في المنزل تحت حراسة بعض جنود بلوكات النظام وإنتهز أطفال المأمور فرصة وجودهما في المنزل فعبثا بمحتويات المنزل. وإمتدت أيديهما الى الدولاب وإلى المكتبة وإلى الصيدلية. ويبدو أنهما تصورا أن حبوب الأدوية المختلفة هي نوع من الحلوى, فإبتلعا كمية كبيرة منها. وعندما عاد المأمور والسيدة حرمه إلى المنزل, كان الطفل الصغير في حالة إغماء. بينما الطفل الأكبر كان في حالة إعياء شديدة. ولم يكن أمام المأمور إلا الإستعانة بالطبيب المعتقل الدكتور حمزة البسيوني.ووطلب حمزة البسيوني من المأمور أن يسمح للأستاذ صلاح حافظ بمساعدته, على أساس أن المرحوم صلاح حافظ كان يدرس الطب قبل إحترافه للصحافة. ولم يعد حمزة البسيوني وصلاح حافظ إلى السجن إلا في مساء اليوم التالي وبعد أن نجحا في إنقاذ الطفلين من موت مؤكد. بعد هذا الحادث ظهر المأمور في ثوب آخر يختلف تمام الإختلاف عن الثوب الذي إعتاد الظهور به من قبل وظهر معدنه الأصيل كفلاح مصري طيب. ويبرر هو نفسه موقفه القديم بأنه لم يكن قادرا على الظهور بمظهره الحقيقي وإلا كان مصيره السجن. وقال هو نفسه للعبد, عندما قمت بزيارته ذات مرة وهو مأمور لمركز ميت غمر " لم أكن أكثر من ضابط شرظة برتبة رائد, بينما كان بين المعتقلين أساتذة
الصفحة رقم 146
جامعة ومديرو عموم ووكلاء وزارة ونواب وزراء ومستشارون برئاسة الجمهورية .
والحق أقول أن المأمور فريد شنيشن كان ضابط شرطة محترما ومسئولا ، ولم يرتكب جرائم قتل كما فعل غيره في معتقل أبو زعبل ولذلك حافظت علي زيارته بين الحين والآخر في كل المواقع التي احتلها ، منذ أن كان مأمورا لأحد مراكز الشرطة في محافظة أسيوط . ثم بعد نقله مأمورا لميت غمر ، ثم مديرا لأمن الدقهلية . ثم رئيسا لمدينة جمصة ، وحزنت جدا عندما قرأت نبأ نعيه وأنا مقيم خارج مصر في سنوات التشرد والضياع .
والحق أن شنيشن لم يكن وحده بين ضباط الشرطة الذين ظهر معدنهم الأصيل أثناء المحنة ، كان هناك ضابط في السجن إسمه عثمان وكان برتبة ملازم أول ، ولكنه كان رجلا يحمل قلبا كبيرا وحكمة أكبر من تجربته ، هذا الضابط الشاب لم تقع عيني عليه بعد خروجنا من السجن ولا أعرف أين انتهي به المصير ، وإن كنت أشك في أنه وصل إلي ما وصل إليه غيره ، لأنه كان صاحب ضمير حي ، وكان يؤدي واجبه بمنتهي الأمانة مع ابتعاده عن ارتكاب الصغائر ، وكان يعامل الجميع باحترام حتي عتاة المجرمين ..
وكان هناك الضابط عبد العال سلومة وهو برتبة نقيب ، وكانت له ظروف خاصة فرضت عليه بذل كل ما يستطيعه لكسب رضا رؤسائه في مصلحة السجون والمباحث العامة وفي وزارة الداخلية .
وأصل الحكاية أن الضابط عبد العال سلومة كان مسئولا عن عنبر الإخوان المسلمين في سجن طره عندما تمرد المسجونون من جماعة الإخوان المسلمين علي إدارة السجن وقاموا باختطاف ضابط وأحد الصولات وحبسوهما داخل العنبر . وبعد يوم كامل من القلق والتوتر . صدر الأمر باقتحام العنبر . واقتحم عبد العال سلومة العنبر . ونتج عن اقتحام العنبر مأساة . سقط عشرون قتيلا علي الأقل وأصيب عشرات بجراح خطيرة . من بينهم بعض الحراس وبدأ التحقيق في الحادث . وقرر
الصفحة رقم 147
عبد العال سلومة في التحقيق أنه اقتحم العنبر تنفيذا للأمر الصادر إليه من وكيل السجن ، وقرر وكيل السجن أنه أصدر الأمر بناء علي أمر صدر إليه من مأمور السجن . وقال المأمور أنه نفذ أمر البيه المدير . وقال المدير أنه نفذ أمر الوزارة ثم غابت الحقيقة بعد ذلك عندما بدأ تحديد معني الوزارة . هل هو مبني الوزارة الذي أصدر الأمر ؟ هل هو واحد في الوزارة ؟ ومن هو هذا الواحد ؟ هل هو الوزير ؟ هل هو الوكيل ؟ هذا السؤال البسيط لم يجد جوابا علي الإطلاق . وجاءت الطوبة في المعطوبة ، ووقعت الوزارة جزاءات علي الضباط الذين نفذوا الأمر . والذي تبين بعد التحقيقات الطويلة أنه أمر بلا صاحب . وكان جزاء عبد العال سلومة هو تأخير ترقيته ، وعندما كان وكيلا لمعتقل الواحات كان برتبة نقيب . بينما كان المأمور الذي هو أحدث منه في التخرج برتبة رائد .
ولكي يسترد عبد العال سلومة وضعه الطبيعي بين دفعته بذل مجهودا كبيرا ونجح في النهاية في تجنيد عضو اللجنة المركزية لأحد الأحزاب الشيوعية وهو في الوقت نفسه إبن شقيقة أحد مليونيرات مصر الكبار ، الذي لعب أدوارا هامة وخطيرة في الثلاثين عاما الأخيرة من تاريخ مصر ، ولكن هذا العمل لم يشفع لعبد العال سلومة . وظل في مكانه محلك سر . وقد أصيب من جراء هذا الإهمال بأمراض خطيرة ، ولقي ربه في النهاية في أحد مستشفيات لندن بعد إجراء عملية خطيرة ومات وهو لا يزال شابا وبرتبة عقيد ، وكان هناك الضابط نصري ، وهو الذي تعرضنا لسيرته من قبل . وقد بدأ حياته كونستبلا والتحق بكلية الحقوق أثناء خدمته في الواحات وساعده المعتقل الأستاذ علي الشلقاني ، وكانت فرصته طيبة لكي يفتحوا علينا الزنزانة ليلا . لنملأ صدورنا بهواء الواحات العليل ، خصوصا أثناء الليل . وهذه الفرصة جعلتني أكتشف شيئا رهيبا بالنسبة للسجون . فكل مسجون حتي المحكوم عليه بالإعدام من حقه الإستمتاع بطابور شمس أثناء النهار ، ولكن ليس من حق المسجون أن يستمتع بالليل أو يعيشه . الليل من حق الذين خارج القضبان . أما الذين وراء القضبان فليس من حقهم أن ينعموا بالليل ، ولكن طموح الضابط نصري
الصفحة رقم 148
والتحاقه بكلية الحقوق جامعة القاهرة أتاح لنا هذه الفرصة الذهبية ومع هذه الباقة من الضباط كان يعمل معهم عشرات من الحراس . كل منهم دنيا بأسرها وعالم بأكمله . بعضهم أغبي من وحيد القرن . وبعضهم يتمتع بذكاء المصري العادي ، ويحمل بين جنبيه روحا فكهة وإحساسا بمتاعب الآخرين ، ولكن كلهم .. وحتي الأغبياء منهم كانوا يتمتعون بروح طيبة ، والجميع يشتركون في لعن الظروف التي أدت بهم إلي هذه المهنة السيئة التي تجعلهم يقضون العمر كله وكأنهم يمشون علي طريق من الشوك ، واكتشفت خلال فترة السجن في معتقل الواحات أن مصلحة السجون لها فلسفة في معاملة هؤلاء الحراس ، فهي تضع هؤلاء الحراس علي صفيح ساخن طول الوقت ، وتجعلهم يمشون علي أعصابهم متوقعين في كل لحظة أن تنزل بهم الإدارة أقسي أنواع العقاب . واكتشفت أيضا أن اضطهاد هؤلاء الحراس للمعتقلين هو نوع من أنواع الإحتجاج علي الإضطهاد الواقع عليهم . وكتنت حياة أي معتقل في سجن الواحات رغم الضرب والتعذيب أفضل من حياة أي حارس حتي ولو كان برتبة مساعد أو زين كم جاكتته بأربعة شرائط ونسر . كانوا يأكلون نفس طعام السجون ، ولكنهم لا يحصلون علي فترة نوم تساوي فترة نوم المعتقل .
كان المسجون تنتهي مشاكله تماما عندما يغلقون باب الزنزانة عليه ، ولكن مشاكل الحارس كانت تبدأ بعد ذلك ، كان علي كل منهم أن يقدم تقريرا إلي الإدارة عن سير العمل في المعتقل أثناء النهار . عن المخالفات التي ضبطها أثناء العمل . عن الممنوعات التي شاهدها مع المعتقلين ، وبعد ذلك يجلس الحارس يفكر في أمر العائلة التي تقطن بعيدا عنه في القاهرة . بينما كان بعض المعتقلين ينعم أثناء الليل برشف كوب شاي . كان الحارس محروما من الشاي ومحروما من أي شيئ إلا النوم علي الأرض في خيمة يحيطها أخدود مملوء بالماء ليصد عنه غارات العقارب والأفاعي والعناكب السوداء .
كان أبرز هؤلاء الحراس بعد الصول شاهين الأومباشي حسن ، وهو رجل طويل وعريض . ويصلح لمنصب تشريفاتي في قصر أحد بشوات
الصفحة رقم 149
أسرة محمد علي . وكان طيبا ومتكلما ومتفلسفا علي نحو ما . وكان الأومباشي حسن يختلف عن أغلب زملائه الحراس . فقد سبق له العمل في معتقلات تضم الشيوعيين قبل الثورة وبعدها وكان أكثر ما يغيظه هو وجود عدد من أبناء البشوات بين المعتقلين الشيوعيين وكانت معلوماته عن الشيوعية هي أنها نظام يدعو إلي إبادة الأثرياء ورعاية مصالح الفقراء . فهل يعقل أن يدافع البشوات عن جماعة تسعي للقضاء عليهم ؟
هذا اللغز المحير أدي بالأومباشي حسن إلي الإقتناع بأن هؤلاء الشيوعيين من أبناء البشوات هم مجرد مجانين فقدوا عقلوهم وينبغي إيداعهم مستشفي الخانكة وليس معتقل الواحات .
وذات مرة ونحن جلوس أمام الكانتين وأحمد شوقي الصاعقة يوزع علينا أكواب الشاي – وكنا لا نزال في فترة الإعتقال – أشار الأومباشي حسن إلي المعتقل علي الشوباشي وقال وهو يتمزق غيظا : حد يصدق إن الراجل ده عايش في عمارة طويلة في وسط البلد وعلي بابها بواب بياخد فلوس في الشهر أكثر من الفلوس اللي بياخدها البيه الوكيل . عاوز حد يفهمني إيه اللي رماه ع المر ده ؟
وذات يوم قال الأومباشي حسن للعبد لله وأنا أعزم عليه بسيجارة كِنت ، تصدق بالله ، ماحد حقه يبقي شيوعي إلا أنا . طب أنا عندي مشاكل مش تخليني أكتب منشورات بس دي تخليني أضرب بالنار ..
ولقد شاءت الصدف أن ألتقي مرة اخري بالأومباشي حسن وبعد اثنتي عشرة سنة كاملة في سجن القناطر الخيرية . كان هو مساعدا في قوة السجن وكان العبد لله نزيلا بسجن القناطر ومحكوما عليه بالسجن لمدة سنتين في قضية ما يسمي بمراكز القوي ، وعندما وقع بصر المساعد حسن علي العبد لله قال : يا خبر اسود . إنت جيت تاني ؟ إنتوا لا مؤاخذه بقيتوا زي الحرامية من سجن لسجن تاني تعرف تقوللي إنت ضد الحكومة ليه ؟ دنا روحتلك الشغل لقيتك قاعد في مكتب ولا مكتب البيه المأمور وعندك تليفون وساعي واقف ع الباب . وقدامك جرس تدوس عليه الساعي يجيلك . يعني انت حكومة يبقي عايز إيه تاني ؟ دنا باخد
الصفحة رقم 150
عشرين جنيه في الشهر وبحمد ربنا وما بطلبش حاجة منه غير الستر ، تصدق بالله يا أستاذ . ما تآخدنيش في دي الكلمة .. إنتو تستاهلوا الحرق !
أما الشاويش نمر فكان يختلف كثيرا عن الأومباشي حسن . الأومباشى حسن كان من أبناء الغربية ، بينما كان الشاويش نمر من أبناء أسيوط وكان الأومباشى حسن أومباشى نظام . بينما كان الشاويش نمر شاويش رياضة ، وكان حسن يجيد القراءة والكتابة ، بينما كان نمر لا يعرف الفرق بين الألف و كوز الدرة . ومع ذلك كان نمر حريصا على استخدام لغة المثقفين فى الحديث ، وكان يردد بمناسبة وبدون مناسبة عبارة .. أنا أسلوبى . وكان ينطقها بفتح الألف .. وكان لا يقبل من أحد سيجارة أو شيئا من الفاكهة كما يفعل غيره من الحراس ، وكان ينفذ الأوامر دون تجاوز وبشئ من الإنسانية ، وكان يعامل الجميع باحترام ..
وكان الشاويش محمود احترام نموذجا جديرا بالدراسة ، كان غبيا إلي أقصي حد . لم يكن اسمه محمود احترام بالضبط . ولكن العبد لله هو الذي أطلق عليه هذا الإسم ، والسبب أنه كان دائم الشجار مع المعتقلين ، وكان كلما تشاجر مع معتقل ، صرخ في وجهه بكلمة واحدة يكررها عشر مرات . وكانت الكلمة هي احترام ، مع تسكين الحاء وفتح الراء . وكان لا يتورع في اتهام من يتشاجر معه بشتي أنواع الإتهامات ، أبسطها هو سب دين الحكومة والهتاف بسقوط الرئيس ! وكنت أسأل نفسي أحيانا .. هل من الممكن ان يتحول الإنسان إلي حيوان ؟ وكان من حسن حظ المعتقلين أن محمود احترام نقل من سجن الواحات إلي سجن طره قبل أن تبدأ عمليات التعذيب ضد المعتقلين ، وإلا لمات بعضهم تحت ضربات هراوته التي كان يزين مؤخرتها بقطع من الحديد .. ولكن كل الحراس كوم ، والعسكري متي كوم لوحده ..
كان العسكري متَّي عجوزا يقترب من سن الستين . وكان يعول عائلة من زوجة وسبعة أبناء ، بعضهم يعمل باليومية وأغلبهم عاطل عن العمل وكان مرتبه ثلاثة عشر جنيها في الشهر يرسله كاملا إلي أسرته ويعيش علي
الصفحة رقم 151
طعام السجن ، وكان في أحيان كثيرة يطلب كمية من الملح من المعتقلين ليضيفه إلي طعامه ، وكان متين البنيان ، وقبضة يده في حجم صخرة ، وكان طويلا وعريضا ، وكانت لطمة واحدة منه علي وجه أي مسجون كفيلة بطرحه أرضا ، وكان يبدو وكأن بينه وبين المساجين السياسيين ثارا ، ويتباهي دائما بأنه ضرب أبو الخير نجيب علقة في سجن طره وكان شقيا وتعيسا لأن الثورة حررت المساجين من أغلالهم وسمحت لهم بتربية الشعر وتدخين السجاير وكانت كل أمنياته في الحياة أن يصل يوما ما إلي رتبة عشماوي ، ويتولي بنفسه إعدام المذنبين وكان يتعجب لأن الحكومة تضع أعدائها في السجن وتقدم لهم الطعام والشراب والدواء أحيانا . مع أنها لو أنصفت لوضعتهم جميعا في ساحة واحدة وأطلقت عليهم النار وانتهت منهم بضربة واحدة وإلي الأبد ..
وقد رأيت العسكري متي بعد ذلك بعدة أعوام داخل غرفة الإعدام في سجن الإستئناف ، وكان يتدرب علي تنفيذ أحكام الإعدام . ولكنه لم يستمر ، وعاد مرة أخري كسجان إلي أحد سجون القاهرة بسبب ( اضطراب أعصابه وعدم تركيزه وارتعاش يديه أثناء عملية تنفيذ الإعدام ) وفشل متي في تحقيق أمنيته الوحيدة في الحياة ومات بعد ذلك بسنوات غير مأسوف عليه !
الصفحة رقم 152
صفحة خالية
الصفحة رقم 153
الفصل السادس عشر
في بداية الصراع بين بغداد والقاهرة ، رفع الشيوعيون المصريون شعار الإطاحة بالحكومة ، ولم يكن أكثر من شعار ، ولكنه أعطي الفرصة للحكومة للإطاحة بالشيوعيين ، وكانت ضربة قاضية ، ليس للشيوعيين وحدهم ، ولكن للشيوعيين والماركسيين ولكل باب قد تهب منه ريح عاتية .
الرقص علي السلالم !
الصفحة رقم 154
صفحة خالية
الصفحة 155

كانت ضربة ساحقة ماحقة – على رأي المعلق عادل شريف – جمعت
العاطل على الباطل والشامي على المغربي. أحد المعتقلين كان عاملا ممتازا
في شركة من شركات الغزل والنسيج. كاناسمه أحمد وشهرته الياباني،
وكان ابن بلد وشهما ومن النوع الذي يضحي من أجل صاحبه وإلى آخر
مدى، ولم يكن اسم الياباني في قائمة المعتقلين، ولكنه فوجيء بأن رئيس
نقابته الذي هو صديقه في نفس الوقت قد ساقوه إلى المعتقل، وعز على
الياباني أن يعتقل صديقه، فهو صاحب عيال وصاحب عيا. فذبح
فرختين وأخذ شوية بطاطس محمرة وكمية من الطرشي من النوع الذي
يحبه صديقه وجاء إلى المباحث وسأل عن صديقه ولكنه لم يعثر عليه هناك
والياباني حدق ويفهمها وهي طايرة، ولذلك استطاع معرفة مكان المعتقلين
من مخبر في المباحث دردش معه قليلا وعزم عليه بسيجارة، وسيجارة بعد
سيجارة رق له قلب المخبر فأبلغه بالسر، وهو السر الذي حرصت المباحث
على أن تخفيه.
من المخبر عرف الياباني أن جميع المعتقلين في سجن القلعة. وخرج
الياباني من المباحث وقفز إلى الأتوبيس ونزل في ميدان باب الخلق. ومن
هناك ركب الترام إلى القلعة، وراح يصعد الهضبة على قدميه حتى وصل
إلى سجن القلعة، وعندما اقترب من باب السجن شخطوا فيه ونهروه
بشدة وأمروه بالابتعاد. ولكن الياباني رأسه وألف سيف لابد أن يقابل
الصفحة 156

صديقه ويراه أو على الأقل يتحدث إليه من وراء الجدران، ولذلك راح
يدور ويلف حول السجن مناديا بأعلى صوته على صديقه، ولفتت الضجة
التي اثارها الياباني أسماع ضابط المعتقل فأمر بالقبض عليه واحضاره
وقبضوا عليه بالفعل وأحضروه إلى ضابط المعتقل. وبعد استجواب قصير
قرر الياباني أنه على باعتقال صديقه رئيس النقابة فذبح الفراخ وقام
بتحمير البطاطس واشترى الطرشي وجاء لصديقه بلقمة تسند قلبه في
معتقله الرهيب.
وكان من الممكن أن يأخذ قائد المعتقل الورقة الملفوفة من الياباني
ويتركه إلى حال سبيله، لولا أن الياباني ذكر عبارة استوقفت قائد
المعتقل، قال الياباني أن صديقه لم يرتكب أي جريمة ولم يصنع أي شيء
غلط، وهو يعرفه أكثر من غيره لأنهما يعملان معا طوال الوقت، لأن
الياباني عضو منتخب في نفس النقابة التي يرأسها صديقه المعتقل.
في هذه اللحظة ترك قائد المعتقل حجرته واتصل من حجرة أخرى
بالمباحث العامة. وبعد عشر دقائق جاءه الأمر باعتقال الياباني وحجزه في
سجن القلعة، وتحققت أخيرا أمنية الياباني فرأى صديقه واجتمع به
وعاش معه في الزنزانة أكثر من ثلاث سنوات، ولكن الأهم من ذلك أن
صديقه أكل من الفراخ البلدي والبطاطس المحمرة والطرشي الذي يحبه !
وقضى الياباني فترة السجن في الواحات منشغلا برش الحوش طول
النهار. وعندما ساقونا للعمل في أرض الواحات الخارجة، كان الياباني
أكثر الناس انهماكا في العمل، وأغلب الظن أن الياباني ابن البلد الشهم
لم يفهم كلمة واحدة من الحنجوري الذي كان ينطق به جهابذة الشيوعية
المعقدون .. وعلى رأسهم الجهول المتعاظم فهمي حبيب. الذي صار
دكتورا واشتغل بالتأليف في آخر الزمان.
كان هناك أيضا المحامي محمد أبو الفرج ولم يكن شيوعيا في أي يوم
من الأيام، ولكنه كان صديقا للشيوعيين ومعجبا بنضالهم وكان إذا
جمعته السهرة أو القعدة بأصدقاء أو زملاء أو معارف من غير
الصفحة 157

الشيوعيين، حاول أن يبدو أمامهم في صورة الزعيم الشيوعي
ولا ستالين ..
وكان يحفظ بعض التعبيرات وبعض الكلمات الحنجورية، وكان
يستعملها بإصرار في مثل هذه اللقاءات، وكان هؤلاء المعارف يتصورون
أن المحامي أبوالفرج هو زعيم اللشيوعية في مصر ولابد أن هذا الانطباع
قد انتقل منهم إلى المباحث، وساعد أبوالفرج على تثبيت هذه الصورة لدى
جهات الأمن، إذ كان حريصا في أي مكان، سواء في قهوة المحامين
بالمحكمة أو في المقهى الذي يجلس عليه أو حتى في الأتوبيس الذي
يركبه.
كان حريصا إذا تكلم في أي موضوع أن يبدأ حديثه قائلا: أنا
كشيوعي ! وانتقلت معه هذه العادة إلى السجن، فكان إذا تحدث مع أي
أحد نطق بنفس العبارة .. أنا كشيوعي، مع أن الجميع كانوا يعلمون انه
لا شيوعي ولا يحزنزن . ولم يفلت المحامي أبو الفرج من لسان العبد لله
فأطلقت عليه لقب رئيس الحزب الشيوعي المصري، وانكشف الاستاذ
أبو الفرج عندما عرضوا عليه الاشتراك في الحياة العامة بخمسين من مائة
من دخله في السجن (عشرة جنيهات شهريا) فرفض بشدة. ورفض أن
يتقاسم معهم السجائر التي يدخنها. ورفض أي تعاون مادي مع
الشيوعيين وحرض المستقلين على أن يسلكوا نفس السلوك. وانتهى
أبو الفرج نهاية رهيبة في سجن الواحات، نبذه الجميع وخاصمه الجميع،
اوى أبو الفرج بعيدا واصيب بالذهول، ولم يعمر طويلا بعد ذلك
فمات بعد الافراج عنه بقليل.
وكان هناك الدكتور لويس عوض، وهو ماركسي ولكنه ليس شيوعيا،
وهو أمر طبيعي باعتباره واحدا من ألمع المثقفين العرب، وقد احتمل
الدكتور لويس المحنة بشجاعة، وكان سجينا نموذجيا، وقام بتكسير
الأحجار في الجبل بكفاءة ولا كفاءة مجرم من عصابة الخط بتاع
الصعيد، ولكنه في الوقت نفسه لم يتخل عن كبريائه وشموخه واحساسه
بالتفوق.
الصفحة 158

حدث ذات يوم جمعة، وهو يوم أجازة في المعتقل، أن اقتحم العنبر
الذي يقيم فيه لويس عوض أحد الحراس العواجيز، وبعد أن ألقى نظرة
فاحصة على المعتقلين. قال: أنا عاوز واحد متعلم ونبيه ورد لويس عوض
على الفور.. أنا! وقال له الشاويش العجوز وهو يخرج من العنبر.. تعالى
ورايا.. وخرج الان معا، الشاويش في المقدمة ولويس عوض يمشي
وراءه.. وتعلق المعتقلون بنوافذ العنبر. توغل الشاويش في حوش السجن
ومن خلفه لويس عوض حتى وصلا إلى نهاية الحوش تقريبا، وأنحنى
الشاويش على الأرض ونزع غطاء البكابورت، وكان طافحا بشكل ظهر
واضحا للمعتقلين الذين كانوا يختلسون النظر عبر النوافذ, ونظر
الشاويش للدكتور لويس عوض باعتباره ولدا نبيها ومتعلما.. وطلب منه
تسليك البكابورت الطافح! وبالفعل شمر لويس عوض عن سواعده وقام
بتسليك البكابورت على أكمل وجه، ولكن المسألة التي لفتت نظر العبد لله
هي التصدي للمهمة عندمل طلب الشاويش واحدا متعلما ونبيها. هل خطر
في ذهن لويس عوض أنهم كانوا يبحثون عن واحد ((متعلم ونبيه)) لتسليك
البكابورت؟ أم أنه تصور عندما سمع الشروط المطلوبة (متعلم ونبيه)
انهم يريدونه للمشكلة عويصة في الجامعة العربية، لدراسة مشروع
جديد في وزارة الثقافة؟ انها اهانة لا تغتفر لمثقف مصري عظيم في حجم
لويس عوض.
ولكن المضحك في الموضوع أنها لم تكن مقصودة، فلم تتعمد الحكومة
اختيار لويس عوض، لهذه المهمة، ولم يكن اختياره نتيجة تدبير من
مأمور السجن أو أحد ضباطه، حتى الشاويش كان بريئا من مؤامرة
التدبير، لقد سأل الشاويش سؤالا لم يوجهه إلى أحد بالذات، وتطوع
لويس عوض بترشيح نفسه للمهمة، باعتباره متعلما ونبيها، فمن نلوم
على موقف مثل هذا قام فيه لويس عوض أحد كبار المثقفين في عصرنا
بتسليك البكابوت باعتباره متعلما ونبيها! انها مسألة تجعلنا نتساءل عن
العلاقة بين البكابورتات والتعليم!
والشيخ محمد عبد الواحد، لم يكن شيوعيا ولم يكن ماركسيا، ولكن
الصفحة 159

مشكلته التي جاءت به إلى السجن أنه كان عاملا ورئيسا لنقابة عمال،
وكان نشيطا ومشاغبا وحريصا على مصالح ء الطائفة من عمال
النسيج، ومنذ اليوم الأول الذي جاء فيه إلى المعتقل جلس وحيدا منعزلا
يقرأ القرآن، وعندما طالت مدة الاعتقال راح يقرأ الغيب، وكان يستعين
على ذلك بالمصحف الكريم ومسبحة طويلة ومفتاح عثر عليه بالمصادفة
أثناء حفره في رمال الواحات، والغريب أن الشيخ محمد عبد الواحد تنبأ
بموعد الافراج عن العبدلله وآخرين. وكان منظرا غريبا أن يتصاعد
آذان الفجر من عنبر الشيوعيين يرفعه الشيخ محمد عبد الواحد، وفي وقت
مبكر بعض الشيء عن موعد رفع الآذان من عنبر الاخوان المسلمين.
ولم يكن الشيخ محمد عبد الواحد هو الوحيد الذي يرفع آذان الفجر
من عنبر الشيوعيين، كان هناك الرفيق مشرف وهو موظف بالسكة الحديد
وغلباوي بعض الشيء ومن عشاق الكلام، وكان قد اتصل ببعض
الشيوعيين بعض الوقت، ونقل عنهم بعض أدبيات الحنجوري، وأصابه
عوج في اللسان فصار يتحدث مثلهم، مع انه في الحقيقة بينه وبينهم
مسافة أوسع من المسافة التي بين المريخ والزهرة. فقد كان حافظا للقرآن
ومحبا لسماعه، وكان يفخر دائما بأنه على علاقة بالشيخ منصور الشامي
الدمنهوري. ولكن مصيبته أنه تصور أن الحنجوري هي لغة المثقفين،
ويبدو أنه اكتسب من خلالها موقعا متميزا بين شلة أصدقائه من موظفي
السكة الحديد، ويبدو أن مشرف تصور أن الشيوعيين في الطريق إلى
السلطة فحاول بكل الطرق أن يبدو وكأنه واحد منهم. ثم جاءت الكارثة
ووجد مشرف نفسه حافي القدمين يرتدي ملابس (ميري) مهلهلة،
والضرب على ودنه، والاهانات بلا حدود، عندئذ اتجه مشرف إلى أدواته
القديمة، اعتكف يقرأ القرآن ويؤم المصلين يوم الجمعة، وكان أول من
رفع الآذان في عنبر الشيوعيين بالواحات الخارجة!
كان هناك أيضا فهد شنودة، وهو بائع عيش في مدينة ساحلية، وكان
يغادر منزله كل صباح بعد الفجر يوزع العيش على البيوت، واستغل
الحزب الشيوعي سذاجته وطبيعة مهنته، فكلفوه بتوزيع المنشورات مع
الصفحة 160

العيش، وتصور فهد شنودة انه يؤدي مهمة جليلة، ولكنه فوجيء ذات
صباح بالبوليس يقبض عليه ويلقي به في المعتقل. كان ذلك في بداية الثورة
وفي عام 1953 على وجه التحديد. وكان المعتقل السياسي لازال يعامل
باحترام. وفوجيء شنودة بالمعاملة الكريمة ووجبات الطعام الطيبة، وكاد
يفقد عقله عندما علم أنهم خصصوا له ستة جنيهات شهريا تسلم لأهله ..
بدل اعتقال. يالها من مهنة ظريفة، يجلس عمنا فهد شنودة مستريحا
في معتقله مع عدد من صفوة المثقفين في مصر، يلتهم كل يوم كميات
لا بأس بها من الفراخ واللحوم وصواني البقلاوة، ويدخن ما يوزعه عليه
التنظيم من سجاير يوميا، وهي سجائر متنوعة تبدا بالبلمونت وتنتهي
بالكنت، وستة جنيهات مضمونة تذهب إلى بيته كل شهر، ولكن بلهنية
العيش لم تستمر كالعادة، سرعان ما أفرجت عنه الحكومة بعد أن بدأت
معركتها مع الاخوان المسلمين.
خرج فهد شنودة واستأنف حياته من جديد يوزع العيش والمنشورات
كل صباح. وبحماس أشد، طالبا من الله أن يعيد اعتقاله ولمدة طويلة
فيريح جسمه المكدود ويشبع معدته التي أحرقها الفول والمخلل،
واستجاب الله لدعائه فجاءوا به إلى معتقل الواحات في عام 1959، ولكن
ما أبعد الصورة وما أعمق الفرق. الحكومة لم تعد تدفع مرتبات،
والطعام يقرف الكلب، والملابس هراديب، والأقدام عارية، والضرب على
القفا، لا تستطيع أن تحدد مصدره، واعتكف فهد شنودة في أحد
الأركان يقرأ العهد الجديدويكتب تظلمات للحكومة، على أساس انه بياع
عيش ولا يفهم في الساسة، وخرج فهد شنودة من المعتقل في
عام 1963، ولا أعتقد أن أحدا رآه بعد ذلك ويبدو أنه اكتفى بتوزيع
العيش بدون منشورات!
أما أغرب هذه الشخصيات فكان يدعى أحمد عبده، وكان من سكان
الجيزة، ولكنه ينحدر من أصول ريفية ومن طبقة فقيرة، وبعض أهله
كانوا يعملون بنظام التراحيل، وكان قد إطلع على كتب الشيوعيين
وقرأها، ولكنه لم ينضم إليهم في أي وقت، وكانت التنظيمات الشيوعية
الصفحة 161

تنظر إليه في ريبة وفي شك، وكانوا يشيعون أنه على علاقة بضباط
المباحث، وكان مسلكه يقف إلى جانب هذا الشك، فقد كان من عادته
اقتحام السرادقات العامة والهتاف بشعارات شيوعية، وكان يجلس على
المقهى ويعلن بصوت عال أنه من الشيوعيين، وكان يهدد التجار
ويحذرهم بأن يوم حسابهم قادم عما قريب..
وعندما ألقوا القبض عليه خلال الحملة الشاملة، توجس الشيوعيين
شرا من وجوده، وكان كثير الشغب في معتقل الفيوم ومع ذلك ظل في
الفيوم لم يغادرها قط، لم يتعرض للموت في أبو زعبل، ولم يذق طعم
العذاب في الواحات، وخرج بعد عامين ليواصل مسلكه نفسه في شوارع
الجيزة، وعندما قامت ثورة التصحيح انضم لها بكل قوة. وحاول أن
يعمل محررا في جريدة حزب مصر، ولكنهم فصلوه بعد أسبوعين فانقلب
عليها ثم أصابه مرض غامض، فمات بعد قليل، مات وحيدا في غرفته في
بيت متهدم في حارة كئيبة من حواري الجيزة، ولم يعثروا في الحجرة
إلا على عدة كتب وبعض المنشورات وخطاب كان ينوي ارساله للمحافظ
لمنحه شقة في المساكن الشعبية، باعتباره من أنصار الحكومة ومن أشد
المؤيدين لها !!
الصفحة 162 (الصفحة خالية)
الصفحة 163

الفصل السابع عشر
التنظيمات السرية عادة تجتذب
إليها المؤمنين بالفكرة إلى حد
الجنون، وتجتذب أيضا أصحاب
العاهات وضعاف العقول.
والسرية - كما يقولون – جلباب
يخفي ما تحته، ولذلك ازدحمت
التنظيمات الشيوعية السرية
بعباقرة ومجانين، وعلماء وحمير،
ومثقفين وأشباه مثقفين وجهلة أجهل
من البعير، ومن سوء حظ
الشيوعية، أو إن شئت الدقة من
حسن حظ الشعب المصري، أن عددا
من هؤلاء الحمير والبعير والمجانين
تسللوا إلى موقع القيادة، وأصبح
منهم القوميسار ومسئول التنظيم
ومسئول التثقيف.
الرفيق
إعدام
الصفحة 164 (الصفحة خالية)
صفحة 165
هؤلاء كانوا السبب فى تحجيم الحركة الشيوعية وتقزيمها واقصائها عن حركة الجماهير ونبضها وبعض هؤلاء القتلة قتلوا الحركة الشيوعية بحسن نية وبعضهم ارتكب جريمته مع الترصد وسبق الاصرار الذين قتلوها بحسن نية قادة مصريون من امثال فخرى حبيب اما الذين قتلوها عن عمد فأغلبهم كانوا يهودا ومعظمهم كانوا غير مصريين وهذه الحقيقة نتيجة مشاهداتى وتجاربى مع الشيوعيين فى الحياة وفى سجن الواحات الخارجة كما انها شهادة زعيم من زعمائهم لا يرقى اليه اى شك وهو فى النضال دفع ثمنا باهظا لم يدفعه من الشيوعيين الا قلائل لا يزيدون على عدد اصابع اليد الواحدة الزعيم الشيوعى الذى يقصده العبد لله هو مصطفى طيبة وهو يعمل بالصحافة الان وفى مؤسسة اخبار اليوم وقد اصدر عدة كتب ضمنها تجربتة الطويلة الرهيبة فى التنظيمات الشيوعية المصرية والتى ادت به الى قضاء 13 عاما متصلة خلف اسوار السجن يقول مصطفى طيبة انه قبل حرب فلسطين بأسابيع وقبل قيام دولة اسرائيل صدر الرفيق يونس وهو الاسم الحركى للمليونير اليهودى هنرى كوريل وكان يقود تنظيما شيوعيا سريا يدعى الحركة المصرية وكان مصطفى طيبة هو انبغ تلاميذه واخلص اعوانه واقربهم اليه اصدر تقريرا وزعه على كوادر
صفحة 166
التنظيم يتضمن الموافقة على حق اليهود القومى فى تكوين دولتهم على ارض فلسطين ووصف التقرير الحرب الدائرة فى فلسطين بأنها صراع بين طليعة مثقفة وتقدمية (اليهود ) ضد الرجعية العربية المتعفنة ويقول مصطفى طيبة ان هذا احدث صدمة فى دوائر الحزب وكان السبب فى اعتزال اغلب الكوادر للعمل السياسى واستقالتهم من عضوية التنظيم يقول مصطفى طيبة وفى خلال فترة زمنية قصيرة لم يبق فى صفوف التنظيم من بين 270 عاملا فى منطقة شبرا الخيمة الا 70 عاملا فقط لا غير هذا العمى السياسى الذى كان يلوى ذراع الحقيقة لتخدم اهداف الزعماء اليهود فى الحركة الشيوعية المصرية هو الذى ادى الى انفصال الحركة الشيوعية عن بحر الشعب المصرى ولم تتوقف حلقات الوكسة السياسية التى ارتكبتها الحركة الشيوعية احيانا بقصد واحيانا بدون قصد ولكنها اخذت تتواى واحدة تلو الاخرى كموج البحر فبعد حريق القاهرة بساعات اصدر الحزب الشيوعى المصرى منشورا اتهم فيه الوفد والاخوان والاستعمار بالتأمر ضد الشعب المصرى وخلع على النحاس باشا وصف المضلل واتهم حزب الوفد بأنه حزب البرجوازية الوطنية التى خانت الثورة والقت بعلم الوطنية فى الوحل ثم دمغ قيادة الوفد بالخيانة هكذا ببساطة وكأن شىء لم يكن وبراءة الاطفال فى عين الحزب الشيوعى المصرى وبعد قيام ثورة 23 يوليو بأيام اصدر الحزب الشيوعى منشورا وصف فيه حركة الجيش بأنها انقلاب عسكرى فاشى جاء ليجر الشعب الى الحرب الثالثة التى يستعد لها المستعمرون ضد الاتحاد السوفيتى وطن الاشتراكية وحصن السلام ونصير الشعوب وفى ذروة خلاف عبد الناصر مع حلف بغداد كتبت راية الشعب ان الخائن عبد الناصر دعا الحكومات العربية لاقناعها بدخول الحلف حسب الخطة الاستعمارية الانجليزية وعند سفر عبد الناصر الى باندونج كتبت راية الشعب تقول ان
صفحة 167
الفاشستى المفلس جمال عبد الناصر يبحث عن المجد فى باندونج وظلت الاحزاب الشيوعية المصرية على موقفها المعادى لثورة 23 يوليو الى حد رفع شعار اسقاط الحكومة الشريك الاصغر للاستعمار وبعد عام 1962 بدأت الحركة الشيوعية تنتقل بسرعة الوعل من خندق معاداة عبد الناصر الى خندق تأييده وتدرجت من الاشادة بالنظام الذى يسلك الطريق اللارأسمالى للبلاد المستقلة حديثا حتى انتقلت الحركة الشيوعية عدة خطوات الى الامام فوصفت النظام بأنه استفاد من تجاربه وتجارب الشعوب الصديقة وبدأ فى سلوك طريق التطور الذى يقود فى النهاية الى الاشتراكية ثم جاءت النهاية الدرامية بالزحف على تنظيم طليعة الاشتراكيين الذى اسسته القيادة السياسية الناصرية بعد ان حل الحزب الشيوعى تنظيمه المستقل ويزعم العبد لله ان هذه المسيرة الطويلة من الاخطاء والعثرات لا يمكن ان تكون لوجه الله كان وراءها تدبير مقصود وكان وراءها ايضا حركات جنونية قام بها بعض الجهلاء وانصاف المتعلمين وبعض المجانين الذين كانوا يبحثون عن دور للزعامة وللقيادة وابرز هؤلاء كان فهمى حبيب الذى تخصص فى احداث الانقسامات داخل الحركة الشيوعية والتشنيع على القيادة الاشد صلابة والافضل نضالا والاقرب الى نبض الشعب المصرى وكما حدث مع مصطفى طيبه نفسه الذى اتهمه الزعيم العنترى اياه بعد 13 عاما خلف الاسوار بأنه اتفق مع المباحث العامة على اطلاق سراحه مع وعد منه بالكف عن النضال والابتعاد نهائيا عن صفوف الحركة الشيوعية ثم عاد الى الاعتذار ولكن مصطفى طيبه رفض اعتذاره فقد علمته تجربته الطويلة الى الحركة الشيوعية تضم فى صفوفها عشرات من هذا المدعى المخبول والحق اقول ان الزعيم الهمشرى اياه كان جهولا للغايه فى الوقت الذى يعتقد فيه انه عبقرى الجيل وانه مبعوث العناية الالهية لانقاذ مصر ووضعها على الطريق الصحيح
صفحة 168
اما جهله النشيط فكان واضحا للجميع فهو لا يعرف اى شىء عن تاريخ مصر وجغرافيتها كما كان مقطوع الصلة تماما بالمجتمع العربى ولا يعرف عن جنس العرب الا ما يعرفه الخواجات والمستشرقين كل ما كان يعرفه هو كتاب رأس المال الذى حفظه عن ظهر قلب وبعض كتب الرفيق لينين التى قرأها ليس للفهم ولكن للحفظ اما الادب فلم يكن على علاقة به من قريب او بعيد ولم يقرأ اى شىء له صفه الادب الا عدة صفحات من رواية الام التى كتبها مكسيم جوركى وفيما عدا ذلك فقد كان يخضع كل شىء واى شىء للنظرية التى يحفظها والقوالب الجامدة التى اعدها سلفا وكان يعتقد انه يملك مفاتيح المعرفة وعنده سر الكون اما يوسف ادريس فهو مجرد برجوازى صغير وزكريا الحجاوى مشروع مناضل خانه شعبه ونجيب محفوظ انتهازى يجيد وصف تفاصيل حياة الطبقة الوسطى المتفسخة وكان غباؤه يصور له انه قائد تاريخى على نفس المستوى الذى يضم لينين وستالين وتروتسكى وكان تحليله المريض يتنبأ بأن الثمرة نضجت وحان قطافها وانه سيصبح رئيسا للدولة خلال السنوات الخمس القادمة ولانه لبس هذا الدور واقتنع به فقد كلف خمسة من اعضاء الحزب بالسعى للحصول على سجاير له فأذا تعذر وجود السجاير فلا بأس من جمع الاعقاب لزوم مزاج الزعيم الذى سيقود مصر فى القريب العاجل والعجيب انه كان بين الخمسة المكلفين بجمع اعقاب السجاير للزعيم صحفى ومحام ومحترف ثورى واثنان من عمال النسيج ومن نفس قماشة الزعيم المخبول اياه كان هناك عشرات ابرزهم الرفيق ضياء وكان عضو لجنة منطقة كان متشائما وكئيبا ويعتقد اعتقادا جازما بأن الحزب الشيوعى المصرى هو هدف كل اجهزة مخابرات العالم الغربى وكان يؤمن ايمانا راسخا بأن المخابرات المركزية والمباحث الفيدرالية والاسطول السادس الامريكى وسكوتلانديارد والمكتب الثانى الفرنسى كلهم بلا استثناء لاهم لهم الا تعقب خطوات الرفيق ضياء ومحاصرته تمهيدا لتصفيته جسديا حتى
صفحة 169
يخلو لهم الجو من بعده ولتتولى اخضاع المنطقة العربية ومن صنهاجه الى صنعاء فى البداية تصورت ان الرفيق ضياء يمزح او يبالغ ولكنى بعد وقت قصير من وصولى الى سجن الواحات تأكدت بأنه جاد جدا وانه يؤمن ايمانا لا يتزعزع بأنه هدف كل اجهزة المخابرات الرجعية وكان من عادة المرحوم العطار نائب رئيس تنظيم زمش الخروج يوميا من بوابة السجن والتحديق فى الافق البعيد ليكون اول من تقع عيناه على قافلة السيارات القادمة لترحيل المعتقلين الذى تقرر الافراج عنهم وكنا جميعا نضحك من تصرف ابراهيم العطار وفى الوقت نفسه كنا نتمنى من اعماقنا ان تتحقق نبوءته بقرب الافراج عن المعتقلين فى الواحات ولكن كل القتلة فى الحزب الشيوعى كانوا ينظرون الى مسلك ابراهيم العطار باحتقار شديد وكان الرفيق ضياء هو اشدهم احتقارا لهذا السلوك واكثرهم جرأة على اعلان رأيه ويوما بعد يوم تكاثر انصار ابراهيم العطار الذين يذهبون معه كل صباح الى الباب الخارجى والقاء نظرة على الصحراء العريضة لرؤية قافلة الافراج كان من بين هؤلاء احمد شوقى الصاعقة وعبد الموجود ابوزيد وعباس الدبيكى ومحمد عبد الواحد ومشرف والعبد لله وذات يوم ونحن عائدون من رحلتنا اليومية قرب الباب التقينا بالزعيم ضياء يقوم بجولته المعتادة فى الحوش وقد تجهمت اسايره وبان الغضب على وجهه وراح ينفخ بشدة وهى عادة عند الزعيم اياه وليست حالة طارئة وسألنا ضياء متهكما الافراج وصل ؟ ورد عليه ابراهيم العطار الميعاد بكرة ان شاء الله ابقا قابلنى اذا بكرة جه ووجدناها فرصة لمناقشة الزعيم الهمشرى اياه وجلسنا على الارض وجذبناه بشده لكى يجلس معنا ورحنا نسأله عن سر تشاؤمه وضجره
صفحة 170
وقرفه من الناس والحياة وانطلق الزعيم الهمشرى يتدفق فى حماس شديد قال وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح الفرق بينى وبينكم اننى ارى المصير واضحا امام عينى بينما انتم مصابون بالعمى لا ترون شيئا ولا تدركون هول الكارثة التى تنتظر الجميع انتم تتصورون ان الافراج على الابواب بينما نحن فى الحقيقة نخوض المعركة الاخيرة ضد قوى الرجعية والتخلف وستنتهى المعركة عما قريب بشنق كل القوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية وتتخلص القوى العميلة من جميع مشاكلها بضربه واحده والى الابد ورد عليه ابراهيم العطار بأننا سنخرج من السجن وسيفرج عنا جميعا ووعده ابراهيم العطار بزيارته فى المقهى التى يجلس فيها بعد الافراج ونظر ضياء نحونا بأشفاق وقال وهو ينهض من مكانه موجها كلامه الى ابراهيم العطار ستكون فى اول دفعة من المعتقلين تواجه الاعدام وسيتم ذلك فى القريب العاجل وسأرثى لك وانت معلق على حبل المشنقة وابتعد ضياء عنا مسرعا ولكننا خرجنا من الحديث بنتيجة لابأس بها واضفنا الى اسمه لقب اعدام واصبح ضياء اعدام ورد علينا باضافة كلمة افراج الى اسم ابراهيم العطار فصار ابراهيم افراج ومضت بنا الحياة فى سجن الواحات على هذا النحو نحن مع الافراج وهوفى صف الاعدام وكانت انباء الافراج التى تصل تذيعها احيانا وكالة واس تثيره بشده وكان دائم الدخول فى معارك مع الزملاء الذين يشيعون جوا من التفاؤل داخل المعتقل ثم مضت الايام وخرج الجميع الى الحياة العريضة واجتمع العبد لله فى اجتماع حزبى مع الاخ ضياء ووقف فى حماس شديد والقى خطبة عصماء ووصف الحكومة الفاشستية العميلة بأنها حكومة العمال والفلاحين ورائدة الاشتراكية فى الوطن العربى واتهم خصومها بالعمالة والخيانة وطالب بالاعدام للجميع نموذج اخر يدعى نوح وكان على باب الله عامل سريح يبيع
صفحة 171
الخضراواتفى احدى مدن محافظة الشرقية وكان اميا لايجيد القراءة والكتابة ولكنه كان لماحا شديد الذكاء وكان يحفظ عن ظهر قلب بعض العبارات الخنفشارية التى تعلمها من التنظيمات الشيوعية كان يصف الشيوعيين المعتدلين بالتيتاوية ويصف غير الشيوعيين بالعملاء والتنظيمات المعادية لتنظيمه بأن جميع افرادها جواسيس وعملاء للمباحث اما فهمى حبيب المسئول الاول فى تنظيم نوح فهو المعلم والرائد والمدافع الشرس عن حقوق الكادحين ولم يكن يقبل اى نقاش فى هذه البديهيات التى يؤمن بها فالناس عنده اما تيتوى واما مباحث واما خائن وعميل ولم يكن يعلم اى شىء عن مصر او غير مصر ولم يكن يعرف احجا من رجال الثورة الا ثلاثة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر والراجل بتاع الداخلية زكريا محى الدين وكان يعتقد اعتقادا راسخا لا شبهة فيه ان الجيش المصرى يحكم مصر بمعنى اخر يتعين على كل مواطن لكى يحصل على حق من حقوقه عليه ان يحصل على تأشيرة بالموافقة من احد ضباط الجيش وعندما حاولنا تصحيح معلوماته الخاطئه نظر الينا فى غضب وقال هو انتوا عارفين حاجة تعالوا شوفوا البلا اللى احنا فيه ساكن نواحينا واحد ضابط ابوه كان غلبان النهاردة عقبالكم عربية بتوديه وعربية بتجيبه وكل يوم وهو مروح بيشترى جوافة وعنب وبطيخ وكان اذا ضاق بنا وبالمناقشة اسرع الى جردل البول وجلس عليه وراح يقضى حاجته ناشرا روائح كريهة فى جو الزنزانة فأذا حاول احدنا ان يلفت نظرة الى قضاء حاجته فى دورة المياه قبل موعد التمام نظر الى السقف وانهمك فى الغناء وكان غناؤه اسوء بكثير من رائحة فضلاته وكان يغنى اغنية واحدة مبتورة وبصوت اشبة بصوت البقرة التى على وشك الوضع كان صوته غالبا يبعد النوم عن عيون العساكر فيهبون من النوم ساخطين لاعنين ابو الايام التى حكمت عليهم بالمجىء الى سجن الواحات حيث لا يوجد شىء فى هذا المنفى البعيد الا تعب القلب ووجع الدماغ
صفحة 172 فاضية
صفحة 173
فى ذلك الصباح جاء العساكر وفتحوا ابواب الزنازين كالعادة ولكنى لاحظت اختلافا عميقا فى الاسلوب فتحوا الابواب بلطف غير معهود ثم القوا علينا تحية الصباح بشكل مهذب لم نعهده فيهم خلال الشهور الطويلة الماضية ولم يدفعونا دفعا الى دورة المياه ولم يتعجلوا خروجنا للعمل واكثر من ذلك منحونا اجازة من العمل فى ذلك اليوم مفتى الديار الشيوعية
صفحة 174
خالية
الصفحة 175
وساد السجن موجة من التخمينات , وأفتى الزعيم فهمي حبيب بأن السلطة اضطرت تحت الضغط الشعبي والزحف الجماهيري الى تغيير أسلوب تعاملها مع الشيوعيين وستضطر مرغمة في الأيام المقبلة إلى الافراج عنهم والدخول معهم في جبهة بعد أن وجدت نفسها في طريق مسدود بسبب سياستها الخرقاء المعادية لمعسكر اليسار والاشتراكية , ولكن عرفنا سبب المعاملة الحسنة والسلوك الطيب من جانب ادارة السجن , وسر منع تشغيلنا في حمل الرمال وشق المصارف في الصحراء, عندما اذاعت وكالة (واس) التي كان يديرها عبد الستار الطويلة أن حادثا مؤسفا وقع في سجن أبو زعبل أودى بحياة الأستاذ شهدي عطية وكام المرحوم شهدي عطية احد المثقفين المصريين القلائل المعروفين على المستوى الدولي. وقد بدأ حياته مدرسا للغة الانجليزية بوزارة المعارف بعد تمصير هذه الوظائف. وقد دخل السجن قبل الثورة واعُتقل أكثر من مرة , وعندما اعتقل في المرة الأخيرة كان أحد قادة تنظيم حدتو, الذي كان يرى أن عبدالناصر وطنيا يحقق مصلحة الطبقة الوسطى ومصالح الطبقات الدُنيا ويعادي معسكر الاستعمار والأحلاف العسكرية.
وكان تنظيم حدتو يختلف اختلافا جوهريا عن الحزب الشيوعي المصري, الذي كان يتهم عبدالناصر بالعمالة والرجعية والفاشية ويرفع
الصفحة 176
شعار الاطاحة به وبحكومته ! ولكن ادارة سجن أبوزعبل لم يكن لديهم الوقت الكافي للتفرقة بين شيوعي و آخر , ولذلك جاءت ضربتهم في الموضع الخطأ. وانهالت هراواتهم على رأس المرحوم شهدي عطية ولم تتركه إلا جثة هامدة. وكان الرئيس عبد الناصر في ذلك الحين في زيارة ليوجوسلافيا , وكان يحضر جلسة للبرلمان اليوجوسلافي عندما فوجئ بأح\ الاعضاء يدعو المجلس الى الوقوف دقيقة حدادا على المناضل شهدي عطية الذي سقط شهيدا في أحد السجون المصرية. وفي المساء... طلب عبددالناصر تقريرا عاجلا عما حدث في سجن أبو زعبل , ثم طالب بالتحقيق الفوري مع المسئولين عن الحادث , ثم انتهى التحقيق بطرد مصطفى عشوب مدير المباحث العامة فرع القاهرة , واحالة المسئول عن معتقل لابو زعبل الى الاستيداع وتوقفت على الفور كل الاجراءات الاستثنائية في المعتقلات الشيوعية. كما تقرر تصفية معتقل أبو زعبل ونقل جميع المعتقلين الى سجن الواحات تحت سيطرة المأمور فريد شنيشن, الذي فرض النظام على السجن ولم يرتكب جريمة واحدة.. وبدأت الحياة تصفو داخل المعتقل , وطرأ تحسن خفيف على انواع الطعام الذي يقدمها السجن , خصوصا في الخبز.
عاد الشيوعيون الى عد المؤتمرات ومناقشة الاحوال خارج الأسوار واحتدم الصراع بين المنظمات الشيوعية , وجرت عمليات انتقال للأفراد من تنظيم الى آخر , وكان الربيع في أوجه ونسائمه تذكرني بروعة الحياة في ريف مصر , وسألت الله أن يخرجنا من هذا القبر الذي انحشرنا فيه , وتمنيت أن تسمح لنا ادارة السجن بمغادرة الزنازين ليلا لكي نعيش ليل الواحات في ذلك الجو الرائع . ولكني سرعان مانسيت كل شئ واندمجت في جو السجن من جديد , وساعدني على ذلك سلسلة المحاضرات القيمة التي كان يلقيها بعض المعتقلين أصحاب الخبرة والعلم , وقد استفدت كثيرا من محاضرات قيمة للغاية للأستاذ أديب ديمتري والأستاذ فايق فريد والأستاذ أسعد حبيب والأستاذ على الشلقاني والمرحوم محمود المانسترلي , الذي كشف في محاراته القيمة عن دورة في تنظيم الضباط
الصفحة 177
الأحرار وعن سبب خلافه مع قادة الثورة . وكانت هذه المحاضرة سببا في وقوفي على حقائق جديدة كنت أجهلها عن ثورة 23 يوليو , كما كانت سببا ايضا في أنني ظللت أحمل تقديرا كبيرا للمرحوم المانسترلي , فقد كان يستطيع-لو أراد – أن يصل إلى أعلى المناصب وأن يحظى بصولجان السلطة وينعم بكل أبهتها , ولكنه أثر ان يقول رأيه وتحمل نتيجة هذا المووقف سجنا وتعذيبا وتشريدا وبقاء في الظل حتى مات يرحمه الله .
وكما في أفلام السينما تقع الكوارث عندما يشعر البطل انه صار في أمان ويأتي الفرج عندما يتصور البطل ان كل الابواب أُغلقت وكل المنافذ سُدت وكل الانوار أُطفئت . عندما علمت أن المعتقلين في أبو زعبل في طريقهم إلى الواحات , تصورت اننا سنقضي العمر كله هناك , وطبيعي أن تتحسن المعاملة مادامت الاقامة ستطول , وانتابني غم شديد , فقد كنت في الواحدة والثلاثين يوم اعتقالي وهانذا على أبواب الثالثة والثلاثين والنظام في القاهرة يبدو قويا وعنيفا , ورجال الثورة جميعا في سن الشباب , وسنموت قبلهم لا محالة.
عندما عششت في مخي هذه الفكرة البائسة , حدث مالم يكن في الحسبان . وصل قطار الواحات في الخامسة مساءا ونزل منه خمسة عشر جنديا وأربعة ضباط بينهم ضابط عظي برتبة عقيد , وعندما وصلوا إلى بوابة السجن , انظلقت الصفافير , وانتشر الحراس في الفناء , وداخل العنبر يحشرون المعتقلين داخل الزنازين . ولم تلبث الأنباء أن وصلت إلى العنبر بأن الحملة جاءت ومعها كشف من تسعة أسماء سيتم ترحيلهم في الغد , وأفتى الزعيم فهمي حبيب وعلى الفور بأن التسعة المطلوبين من زعماء الحزب الشيوعي المصري , وسرح بخياله بعيدا فحدد أسماء التسعة ووضع اسمه على رؤوس قائمة الزعماء المطلوبين ,.وأفتى الرفيق فهمي حبيب بأن النظام بدا في تنفيذ الخطوات الفعلية لتصفية المعتقل , وانه سيبدأ بقتل الزعماء , وهؤلاء التسعة هم طليعة الشهداء . ولم يخجل الزعيم الهمشري فهمي حبيب عندما فتحوا العنبر في التاسعة مساءا وبد أوا في تلاوة أسماء المطلوبين .
الصفحة 178
كان أول اسم في القائمة هو اسم الحاج محمد عبد الواحد زعيم نقابة الغزل والنسيج بكفر الدوار , وكان الاسم الثاني هو اسم أحمد شوقي الصاعقة مسئول الأمن الغذائي في تنظيم زمش وكان اخر اسم في الكشف هو اسم العبدلله , وسرت في أنحاء العنبر نسمة تفاؤل , فهي نقطة بداية لتصفية المعتقل وقد بدأت الرحلة بالافرج عن العناصر الاقل خطورة , وهو وضع طبيعي يبشر بالخير. والتف الرفاق حولنا يزفون إلينا التهنئة ويتمنون لنا حياة سعيدة خارج الأسوار. ولكن الزعيم فهمي حبيب والرفيق نور اعدام وواحد اسمه عبدالله شامل كان مسئول التنظيم في الحزب الشيوعي , كان هؤلاء الثلاثة كأنهم في مأتم , وحزنوا حزن غرائب الابل , لان جميع تحليلاتهم طلعت على فشوش . وانتاب العبدلله نوع من الذهول , لانني كنت بالرغم من تفاؤلي الظاهري , كنت شديد التشاؤم في داخلي , وكان لدي احساس عميق بأنني لن أرى شوارع القاهرة مرة أخرى ولن تكتب لي العودة الى المنزل في يوم من الايام .
وكان يؤرقني هاجس سيطر على تفكيري طويلا , ان ينتابني مرض خطير فأتوفى بسببه إلى رحمة الله , أو يلدغني ثعبان طريشة فأنتقل الى الدار الاخرة والموت حق , وهو لا يخيف العبد لله لأننا كلنا سنذوقه , ولكن الذي كان يخيفني حقا هو ان تدفن جثتي في الواحات الخارجة , فلا يزور قبري أخد ولا يمر به انسان . ولذلك عندما سمعت اسمي يردده الضابط انخلع قلبي وطار عقلي شعاعا ورحت أهدوك امجنون من جانب الى جانب آخر. وصراخي يسبقني بكلام ليس له معنى ولكني أذكر أنني رددت في سياق هذه الهلوسة التي انتابتني أسماء فهمي حبيب وضياء اعدام.
كان إبراهيم العطار هو أكثر الناس ابتهاجا بما حدث مع انه لم يكن ضمن كشف الافراج . وتوقعنا لانفسنا سهرة طيبة داخل العنبر حيث سيحتفل بنا الرفاق , خصوصا رفاقنا في زمش وفي حدتو ومن أعضاء الحزب الشيوعي المصري الذين لا يؤمنون بالتحليلات الغبية لأخينا فهمي حبيب, ولكن فرحتنا لم تدم , فقد دخل العنبر فجأة الضابط عثمان
الصفحة 179
وأبلغنا بأننا لن ننام اليلة في العنبر ولكن في خيمة نصبت لنا خصيصا في فناء السجن , لأننا سوف نستيقظ في الرابعة صباحا لكي نلحق بالقطار الذي سيغادر الواحات في الخامسة صباحا. وشعرت بالحزن لأننا سنحرم من قضاء الليلة الأخيرة مع بقية الرفاق , ولكننا نفذنا الأمر بالطبع , بعد ان طفت على اعضاء زمش وودعتهم جميعا فردا فردا ثم أصدرت قرارا بتعيين ابراهيم العطار خلفا للعبدلله لزعامة تنظيم زمش.
قبل أن أغادر العنبر للمرة الأخير , لمحت محمود المانسترلي وسيد عبدالله يسرعان نحوي , وكنت احترم الاثنين وأشعر نحوهما بود عميق , فتلقيتهم بالأحضان وهنأني المانسترلي ثم قال لي بود عميق :لي عندك رجاء اتمنى ان تحققه لي. وقال سيد عبدالله : وأنا أيضا أضم صوتي إلى صوت الرفيق محمود . وأصغيت باهتمام شديد إلى محمود المانسترلي , فهمس لي وعلى وجهه البشوش ابتسامة طيبة .. أرجوك يا محمود .. لا تشنع علينا في الخارج . قلت للانسترلي ضاحكا .. دا طلب صعب قوي يا عم محمود . فأجاب محمود والابتساة لا تفارق شفتيه .. أنا لست معتوها لكي أطلب منك عدم التشنيع مدى الحياة ولكني اطلب منك عدم التشنيع علينا أثناء وجودنا خلف الاسوار . قلت له جادا .. هذا الطلب مقبول وسأنفذه لك . ولكن بعد الافراج عنكم قريبا باذن الله , سيصبح التشنيع على الكيف يا عم محمود , ورد المانسترلي وسيد عبدالله في وقت واحد : اتفقنا ..
خرجنا إلى الحوش وكنا في التاسعة مساء على وجه التقريب , والجو رائع والطقس بديع والبدر يتوسط السماء , ووقفت كالمذهول اتأمل المنظر وكان بصري لم يقع على الطبيعة من قبل. واستولى علي شعور غريب هو مزيج من الدهشة والفرحة والرغبة في البكاء . السكون الذي يلفنا ليس له مثيل في أي مكان , فلا توجد هنا ضفادع ولا حتى حشرات و ومنظر الصحراء الممتدة الى آخر الدنيا يجعل الخيال يشطح في كل اتجاه . ولكن سرعان ما تبدد السكون وأقبل علينا الضابط عثمان وبصحبته أحد الصولات وموظف يحمل عدة دفاتر وجندي عجوز يبدو انه نهض لتوه
الصفحة 180
من النوم. وفتح الموظف دفاتره ووزع على كل منا قيمة الامانات التي كانت له ولم تسلم اليه على مدى أربعة عشر شهرا. كان للعبدلله مائة وأربعون جنيها وتسعة جنيهات وعدة قروش , تسلمت منها مائة وأربعين جنيها فقط , ثم اعتذروا لعدم وجود فكة لديهم , وأعطوني بثمنها مأكولات وعلب محفوظة من الكانتين . وفعلوا نفس الشئ مع الاخرين.
ولما كنا في طريقنا الى الحرية , فلم نكن في حاجة إلى هذه المأكولات فستأذنت الضابط عثمان أن نترك ما معنا من مأكولات للمعتقلين , ولكنه اعتذر لأن الأوامر صريحة , المهم, توسلت للضابط عثمان أن يعفينا من حمل هذه الأثقال ويسمح لنا بمنحها هدية منا للعساكر .. لكنه رفض !
طلبت منه أن نعطيها للمساجين في قضايا جنائية وفكر قليلا ثم وافق. طلبت منه أن يستدعي المسجون عاشور لكي نسلمه هذه المأكولات . كان عاشور هو أشرف مسجون في سجن الواحات , وكان قد حكم عليه بالسجن المؤبد لقتله جنديا انجليزيا في منطقة القناة. صحيح أنه حرامي ولكنه حرامي معسكرات , وهو اضطر إلى قتل العسكري عندما ألقى القبض عليه وهو داخل المعسكر ولكن الذي حدث بعد ذلك أن عبدالناصر اصدر قرارا جمهوريا بالافراج عن المسجونين في جرائم ضد قوات الاحتلال... باعتبار أن جريمة الاحتلال تجب كل الجرائم. وخرج من السجون عدة مئات , ولكن عاشور وحده هو الذي تركوه خلف الأسوار والسبب أن عاشور ارتكب جريمة داخل السجن , عندما قتل احد الحراس بسبب غبائه ورغبته في تعذيب المساجين وحدث في سجن الواحات أن اعتدى بالضرب على حارس آخر وأصابه بارتجاج في المخ وقد صدر ضده الحكم بالجلد ونقلوه من عنبر المساجين الى عنبر المعتقلين وحبسوه في زنزانة انفرادية لا يفتح بابها الا لتسلمه الطعام والشراب.
حدث في تلك الأثناء وهو محبوس حبسا انفراديا لا يرى فيه الشمس ولا ضوء النهار , انني أثناء مروري بالزنزانة أجريت معه حديثا منم وراء الباب وعرفت أنه من الاسماعيلية وعلى علاقة ببعض الذين أعرفهم هناك
الصفحة 181
ثم بعد أن انتهى الحديث القيت له بعلبة سجاير من خلال قضبان الباب. ثم قمت بنفس الشئ عدة مرات خلال الشهر الذي قضاه في زنزانة التأديب وعندما تدهورت أحوالنا في المعتقل , رد عاشور الواجب بصورة مضاعفة, فمدنا بالسجاير والطعام وكان اعطاؤه مامعنا من مأكولات هو رد لجميله الذي لا أنساه.
جاء عاشور الى الفناء والدنيا بين الليل والنهار وعندما رآني ارتدي البدلة الملكي لم يتعرف على العبدلله وظن أنني أحد رجال الشرطة فعظمني بحرارة وناداني بسعادة الباشا ولما عرفته بنفسي بكى من شدة الفرح وهتف قائلا : الحمدلله اللي فك سجنك وعندما اعطيته ما معنا من ماكولات بكى مرة أخرى وأصر على أن يذهب معنا إلى المحطة ولكن الصاغ عثمان رفض طلبه بالطبع واعاده من حيث جاء.
ركبنا قطار الواحات بشكل لا يبشر بخير . كل معتقل منا مربوط في حديد مع عسكري , والضباط الأربعة أحاطوا موكبنا بشكل يدل على اننا لا يمكن أن نكون في الطريق إلى الافراج وبقية العساكر اختبروا أسلحتهم ووقفوا يحرسون أبواب العربة التي نجلس فيها.
وعندما وصلنا إلى محطة أبو طشت تأكد للعبدلله اننا في طريقنا إلى الاعدام كان أكثر من مائة عسكري يحتلون المحطة وكلهم مسلحون بالمدافع الرشاشة والبنادق السريعة الطلقات. وعندما جاء القطار الذي سيحملنا إلى القاهرة منعوا المسافرين من الاقتراب من العربة التي سنركبها ووضعونا في اول عربة خلف القاطرة , وهي من عربات الدرجة الاولى وعلى طول طول الطريق كانت الحراسة مشددة في جميع المحطات التي مر بها القطار اما المحطات التي توقفنا بها فكانت أشبه بميدان حرب : عساكر مسلحون وضباط يحملون المسدسات في أيديهم والقوة كلها تحت قيادة لواء.
وفي محطة أسيوط حدث فصل مضحك رغم الظروف البائسة.. دخل العربة لواء جيش صرخ عندما وقع بصره علينا فقد كان منظرنا لا يسر
الصفحة 182
عدوا ولا حبيبا.. ملابس مهلهلة كانت مركونة في المخزن لمدة 14 شهرا وأحذية معطوبة ومجروحة ووسخة إلى الحد الذي يجعل من يراها يتصور ان صاحبها قضى شهرا على الأقل يخوض في منطقة مستنقعات.
المهم أن اللواء صرخ فينا يأمرنا بالخروج على الفور . لقد تصور الرجل الطيب أننا مجرمون من عصابة في الجبل الغربي ولكن الضابط المسئول جاء على عجل وهمس في أذن اللواء بعدة كلمات غادر على أثرها العربة وانتقل إلى عربة أخرى.
عندما غادرنا القطار في فجر اليوم التالي بمحطة الجيزة , كانت المحطة والساحة الممتدة أمامها تبدو كأنها ميدان حرب . عساكر منم بلوكات النظام وعساكر درجة أولى و وعربات نجدة وعربات شرطة ومدافع وبنادق على كل لون وسارت بنا سيارة شرطة من النوع الذي يستخدم في نقل العساكر , وأمامنا وخلفنا سيارات حراسة من كل الانواع واخترقت شوارع الجيزة. عندما وصلنا إلى ميدان الجيزة , حاولت ان ألقي نظرة عليه لكني فشلت. فقد كان الجزء المفتوح من السيارة مسدودا تماما بعساكر الحراسة. وأخيرا توقفت بنا السيارة أمام سجن القلعة ونزلنا من السيارة ونحن في شوق إلى دخول السجن لكي نشرب شايا ونستريح. ولكم مأمور السجن رفض تسلمنا لأنه ليس لديه أوامر بذلك وجلسنا على دكة أمام باب السجن , وبعد اتصالات أجراها المأمور مع المباحث العامة عدنا إلى السيارة من جديد في طريقنا إلى معتقل الفيوم.
عندما وصلنا إلى معتقل الفيوم وجدنا الضابط العيسوي في استقبالنا . كان قد تغير كثيرا , ويبدو أنه تغير لان الاوامر تغيرت , ويبدو أنه تغير لان الاوامر تغيرت .. ! استقبلنا بود وعاملنا بلطف شديد . وكان المعتقل قد تغير أيضا . فلا شتائم ولا تعذيب, والابواب مفتوحة طوال النهار . والمعتقل حر يخرج ويدخل على كيفه , واكتشفنا وجود بعض المعتقلين لم يغادروا الفيوم في أي وقت . منهم المعتقل أبو حليقة و الدكتور محمد الخفيفي . ولما كان مسموحا بممارسة الرياضة , فقد انضمت على الفور إلى فريق كرة القدم . وبدا أن الحياة ستبتسم للعبد لله من جديد !
الصفحة 183
الفصل التاسع عشر
و الجماهير .. آه ياني!
كانت القعدة في معتقل الفيوم بمثابة اجازة سعيدة بعد فترة التعذيب الطويلة التي قضيناها بمعتقل العزب بالواحات الخارجة. كان بالمعتقل الدكتور محمد الخفيف المشرف على طابور الصباح .
الصفحة 184 صفحة خالية
الصفحة 185
و كان يحلو له معاملة المعتقلين الذين يؤدون التمارين الصباحية بنفس الاسلوب الذي كان يعاملهم به الشاويش محمد غطاس في الفترة الاولى من المعتقل. و كنا نداعب الدكتور الخفيف بالاضراب عن طابور الصباح , و احيانا كنا نهتف بسقوطه و سقوط غطاس.
كان غطاس الذي فقد نفوذه و فقد دخله الوفير الذي كان يحققه عن طريق فرض الجزية على المعتقلين ة الا تعرضوا للهلاك على يديه , قد مارس اضرابا صامتا عن العمل , فكان يقضي النهار كله على مقعد بجوار دورة المياه لاعنا الزمن النكد الذي أوقف عملية التعذيب ضد المعتقلين. و كان ينفخ أحيانا من شدة الضيق اذا مر به بعض المعتقلين و هم يلقون النكت و يضحكون . و كان احيانا لا يستطيع السيطرة على اعصابه , فيهتف و كأنه يحدث نفسه .. اتفو على دا زمن ..
و بعد طابور الصباح و التجول في فناء المعتقل نقوم بزيارة بعض المعتقلين من الاصدقاء في العنابر البعيدة, ثم نعود الي عنبر (1) لتناول طعام الغداء .. كنت اتناول طعام الغداء مع شوقي الصاعقة , و كان يعد الطعام لنا زميل ماركسي دخل المعتقل من أجل طبقة واحدة تسود المجتمع كله و تقود المسيرة الى الجنة الموعودة حيث لا سيد و لا طباخ ! و لم نكن وحدنا الذين اتاحت لنا الظروف طباخا ماركسيا يعد اطايب الطعام بشرط ان نوفر له جميع المواد الخام التي تحتاجها مائدة عامرة بكل ما لذ و طاب .
الصفحة 186
كان ينضم إلينا على مائدة الغذاء المعتقل إبراهيم أبو حليقة.. وكان يحضر معه طعامه الذي طبخه زميل شيوعي اسمه أحمد فازيكا. وكان الدكتور محمد الخفيف يشاركنا الطعام أيضاً بعد أن يحضر معه ألواناً شتى من الأطعمة طبخها زميل ماركسي ثالث اسمه سعفان. كنا نحن البهوات المعتقلين نجلس على مائدة واحدة نتناول الطعام، وفي الناحية الأخرى يجلس الطباخون المعتقلون يتناولون الطعام و يثرثرون بأحاديث عن رأس المال و فائض القيمة والتناقض بين الثورة و الدولة!
أغرب شيء أن التيار الذي يدعو إلى عالم بلا طبقات وسيق أفراده زرافات إلى المعتقل، لم يستطع أن يخلق هذا العالم خلف الأسوار، لقد انقسمنا داخل المعتقل إلى يساريين بهوات و يساريين أجراء. كان معنا نقود ولم يكن معهم شيء فاشتغلوا في خدمتنا لكي يضمنوا الطعام و السجاير والشاي، يالها من صورة مضحكة و لكنه ضحك كالبكاء، وسمعنا و نحن في الفيوم أن التليفزيون المصري بدأ إرساله و أن
نظام الحكم المحلي قد بدأ تطبيقه، وأن هناك حركة تعمير كبرى تجري على قدم و ساق في مختلف المحافظات.
وأكد لنا معتقل حديث أن ملامح المجتمع الجديد بدأت تظهر بوضوح وأن هناك حالة من الإزدهار والإستقرار آخذة في النمو والإنتشار في كل أنحاء البلاد وعلى جميع المستويات. ولكن بعض الزملاء المعتقلين هبطوا على معتقل الفيوم قادمين من الواحات وقرروا أن النظام في احتضار وأن الجماهير الشعبية غاضبة وأن الثورة الشعبية على الأبواب!!
إذاً لا تزال نظرية عبدالستار الطويلة هي السائدة في الحزب الشيوعي المصري وهي التي أفصح عنها عبدالستار الطويل حين سألته عن الطريقة التي ستخرج بها من المعتقل فأجاب بثقة شديدة.. سنخرج بزحف جماهيري يحطم أسوار المعتقل ويأخذنا على الأعناق إلى الحرية وإلى السلطة وإلى حيث يجب أن نكون!
و أذكر أنني يومها ألقيت نظرة على الخارج من خلال نافذة السجن ثم
الصفحة 187
صحت في وجه عبدالستار.. لا أثر هناك لأي زحف جماهيري ، العساكر فقط هم الذين يزحفون!
ومرت الأيام بنا بطيئة في معتقل الفيوم ولكنها مرت في هدوء وهزتنا من الأعماق أغنية جديدة للعندليب عبد الحليم حافظ ( ع الشوك مشاني زماني ) ولم يكن الزمان في الحقيقة هو الذي مشى بنا على الشوك ولكنه التحليل الخاطيء للحزب الشيوعي المصري وهو الذي أدى بالحزب إلى الإنضمام لجانب عبدالكريم قاسم بحماس و بجنون والوقوف ضد عبدالناصر بنفس الحماس والجنون أيضاً.. وعلى أساس أن عبدالكريم قاسم هو ممثل اليسار العربي ضد عبدالناصر ( الفاشستي الصغير و عميل المخابرات الأمريكية ) وليس أدل على الطفولة السياسية التي كانت طابع الحزب الشيوعي المصري أنه في الوقت الذي كان الحزب يؤيد فيه عبدالكريم قاسم، كانت السلطة في بغداد تعادي الجميع.. رجعيين ووطنيين وقوميين وشيوعيين.
كانت سجون بغداد والموصل والبصرة تضيق بألوف النزلاء السياسيين من جميع الإتجاهات ولكن.. أخطر سلبيات الحزب الشيوعي المصري أنه لم يكن لديه معلومات إلا المعلومات التي يحصل عليها من خلال الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوري أيضاَ. وأخطر شيء في السياسة أن نشتغل بها بدون معلومات حقيقية ولكن مشكلة المعلومات لم تكن في دائرة الحزب الشيوعي المصري، وهذا هو السبب الحقيقي وراء الأحكام الخنفشرية التي أصدرها الحزب الشيوعي وآمن بها فترة من الزمان، فالزعيم عبدالناصر عميل أمريكي.. كدة وبس! و النظام المصري فاشستي.. ممنوع الإعتراض! ونظام عبدالكريم قاسم بالعراق هو الذي سيملأ الأرض زهوراً ووروداً وسيفجر الأرض بالعسل والسمن واللبن الحليب.. ومفيش مناقشة! وهو الأسلوب الذي أدى بالحزب إلى اتهام ماركسي مصري هو الأستاذ فيليب جلاد – وهو بالتأكيد من أشرف من عرفتهم في حياتي - اتهمه الحزب بأنه
الصفحة 188
جاسوس للمباحث العامة، والسبب أن عملية القبض عليه تأخرت بعض الوقت.
كان الأستاذ فيليب قد تمكن من الهرب والإختفاء عدة أشهر قبل أن تصل إليه يد الشرطة وتأتي به إلى المعتقل! كان أغلب الشيوعيين الذين استقروا في معتقل الفيوم ولم يغادروا إلى أي معتقل آخر.. كانوا من النوع مكسور الجناح وكان بعضهم على علاقة ببعض أصحاب النفوذ فأبقوهم في الفيوم وأنقذوهم من الموت في أبو زعبل ومن العذاب الشديد في الواحات، وكانت قلة قليلة منهم على علاقة بأجهزة الأمن قبل المعتقل وبعده.. من بين هؤلاء المدعو أحمد عبده الذي كان يحرص على أن يبدو متطرفاً أكثر من لينين نفسه. وكان يتعمد جرجرة الآخرين إلى النقاش حول النظام المصري، وكان واضحاُ أنه يريد الإيقاع ببعض المعتقل ولكن محاولاته كانت مكشوفة ولذلك كان أغلب نزلاء العبر ينامون أو يتناومون عندما يبدأ أحمد عبده المناقشة!
ولكن رغم تشاؤم الحزب الشيوعي و إصراره على الإطاحة بالنظام كانت هناك بعض الإشارات في طريقها إلى الإنفراج ، فقد أخذت كلمة التعاونية تتردد على ألسنة بعض المسؤولين من الصف الثاني. كما وصلت إلينا أخبار من سجن الواحات بأن ضابطاً كبيراً في جهاز المخابرات اجتمع أخيراً مع بعض قادة التنظيمات الشيوعية بالواحات وأبلغهم بعد مناقشة طويلة أن الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين تقرر بصفة مؤكدة ، وأن المسألة مسألة وقت.
حدث أيضاً أن دخل معتقل الفيوم ضابط مباحث وألقى كلمة قصيرة في المعتقلين وأعلن فيها أن لديه أوامر بنقل المرضى بأمراض خطيرة إلى المستشفيات. ووجدها العبدلله فرصة فادعيت أنني مريض بالسل ولم أكن مريضاً بالسل ولا حتى بالإنفلونزا ولكنني كنت أطمع في الخروج من المعتقل والبقاء في أحد المستشفيات. وبالفعل نقلونا ذات صباح في سيارة لوري بمقاعد مكسوة بالقماش وذهبوا بنا إلى مستشفى الفيوم العام وهو مستشفى لأن على بابه يافطة تشير إلى ذلك وبعد أن كشفوا طبياً علي
الصفحة 189
صدرونا وعلى قلوبنا عادوا بنا في العصر إلى المعتقل، ولكنني مازلت أتذكر هذا اليوم وأعتبره من أجمل أيام حياتي. فهذا هو الشارع وهذا هو الأسفل بعد غيبة طويلة وراء الأسوار. وواحد بتاع خيار واقف عالناصية يغني ولا صوت محمد طه .. يا خيار قشة يا بتاع الجنانين يالوبيا.. تمنيت في لحظتها أن أكون بائع خيار سريحاً أتجول في الشوارع وأتوقف عند النواصي وأطلب واحد وكرسي معسل من أي مقهى يصادفني ولو كان في عشة صفيح..
وها هو ذا الشعب المصري الذي ينتظر الشيوعيين زحفة المقدس ليحملهم إلى الأعناق إلى الحرية والسلطة، ها هو الشعب المصري.. ولا هو هنا! كل إنسان مشغول بنفسه و مهموم بحاله .. و الحوار الذي يشغل وقت الناس هو سعر التلفزيون وحجمه وماركته والراديوهات مفتوحة علي الاخر في الدكاكين وفي المنازل والأغاني لعبد الحليم وأم كلثوم وفريد تتصاعد من حولنا في الجو. والدنيا ربيع والجو بديع وقفلي على كل المواضيع !
حدث في مسشفى الفيوم أن سألني أحد الممرضين العجائز عندما دخلت غرفة الأشعة .. انت قطعت تذكرة ؟ فلما أجبته بالنفي, قال بسخرية.. ليه ؟ انت على راسك ريشة .. فلما أبلغته بأنني لا أملك نقودا قال في دهشة .. أفندي و معكش فلوس! أخيراً أخبرته بأنني نزيل في معتقل العزب بالفيوم .. فنظر نحوي نظرة طويلة وقال .. انتوا لسة قاعدين هناك؟
علشان كدة الحشيش سعره ولع! فقد تصور الممرض أنني تاجر مخدرات, فقد كان معتقل العزب بالفيوم ولسنوات طويلة سجناً لتجار المخدرات الذين لم يصدر ضدهم أحكام لحرصهم الشديد ولعدم وجود أدلة ضدهم .. والفيوم كلها كانت تعلم عن وجود هذا المعتقل وعن هوية المعتقلين الذين يوجدون فيه .
لا حول ولا قوة الا بالله, تعليق الممرض دليل علي أن شعب الفيوم لم يسمع أن وظيفة المعتقل تغيرت وتغيرت أيضا صفة النزلاء المقيمين فيه , هذا هو السر اذن وراء تأخر الزحف الجماهيري للافراج عن الشيوعين ,
الصفحة 190
فالناس لم تعلم بعد أن الشيوعين في المعتقل ولو عرفوا لبدأوا الزحف المقدس في الساعات المبكرة من الصباح للإفراج عن الرفاق المناضلين!!
قضيت تلك الليلة ساهراً على فراشي بالمعتقل. انتابتني مشاعر شتى هي مزيج من السعادة لرؤية الشارع واختلاطي بالناس مع مشاعر الإحباط الشديدة لأنني كنت متصوراً أن اعتقالنا يمثل أزمة ولو صغيرة للحكومة وأن قضيتنا تحتاج لمكان ولو متواضعاً في هموم الشعب، ولكن ها هي ذي رحلة المستشفى تثبت للعبد لله أننا لا في العير ولا في النفير، وأن إعتقالنا لا يشغل أحداً إلا أهالي المعتقلين.
ياله من شعور بالإحباط القاتل عندما تدرك أنك مجرد نملة على الطريق، أين هي الجماهير الكادحة وقد رأيتها تكدح بالفعل ولكن على أكل عيشها وتقاتل من أجل لقمة العيال وهي في النهاية سعيدة لأنها عثرت على عمل وعلى شقة وعلى تليفزيون 12 بوصة.. ولكنه أحسن من مفيش.
يالها من ليلة طويلة لم يغمض للعبدلله فيها جفن إلا مع إشراقة الصباح!
الصفحة 191
الفصل العشرون:
( المأمور و الشاعر! )
وجاءنا نبأ تأميم الصحافة و نحن في معتقل الفيوم. ولكن كيف يكون تأميم الصحافة؟ قال واحد من دراويش الماركسية و زميل معتقل الفيوم في الوقت نفسه: إن الحكومة لم تأمم الصحافة ولكنها أممت الرأي.. و إن العصابة الفاشستية أسفرت عن حقيقتها بهذه الخطوة التي ليس لها مثيل في التاريخ..
الصفحة 192
لم يشغل للعبدلله هذا التفسير الخنفشاري للزميل اياه، خصوصاً أنني بعد يومين فقط اكتشفت أن هذا التحليل من وضع المحللاتي فهمي حبيب أكبر حمار أنجبته أمة آدم!
ولكن الذي شغل بال العبدلله هو موقف أمثالنا بعد التأميم. لقد كنت أعمل قبل المعتقل سكرتيراً لتحرير روز اليوسف هي قطاع خاص و سيدة التحرير روز اليوسف هي التي تدير كل الأمور.. تحريرية و مالية. فما هو الوضع بعد التأميم؟ هل نعود لأعمالنا في حالة الإفراج عنا؟ و صرفت ذهني عن التفكير في هذا الأمر حتى لا أكون مثل صاحبنا الذي باع جلد الدب قبل صيده. فالمهم أن يفرج عنا أولاً ثم بعد ذلك.. فليكن ما يكون.
والحق أقول أن الذي صرف ذهني عن هذه المشكلة و غيرها من المشاكل هو تسرب أنباء العبدلله عن مرض ابنتي هالة. أخطأ أحدهم وهو يتمنى للعبدلله حياة سعيدة بعد الإفراج وقال في نهاية حديثه.. و إن شاء الله تعالج هالة و تشفى. أول مرة أسمع إن هالة مريضة.. ولذلك سألت بصوت أشبه بالفحيح.. هية هالة مريضة؟ و انتبه الرجل إلى أنني أجهل كل شيء عن مرض هالة، فبدا عليه الإضطراب، ثم قال وهو يتصنع الضحك.. انت ماعرفتش إنها كانت عيانة بالحصبة؟ و هل الحصبة مرض ينتظر الإفراج عني لكي أسعى في شفائه؟ ثم راح يقسم بأغلظ الأيمان أنه سمع من أحد الزملاء المعتقلين أنه كان في زيارة لبيتي و أنه رأي هالة مريضة بالحصبة، و أن هذا كل ما في الأمر.
الصفحة 194
لم أنم طوال الليل أفكر في هالة وفي مرضها. ما الذي ألم بهذه البنت التي كانت كالوردة.. آخر بهجة و آخر عفرتة؟ لقد تركتها و عمرها عام و نصف العام كانت تحاول الكلام و المشي.. و كانت تقلدني، إذا شتمتها شتمتني. ولكن لهجتها مضحكة و مشيتها أقرب إلى مشية البهلوان. ما هو المرض الذي يصيب بنتا كالوردة و ينتظر خروجي من المعتقل لكي تشفى بإذن الله تعالى. هل عميت هالة؟ كانت عيناها جميلتين وواسعتين رموشها طويلة و مدببة كأسنان المشط، و لكن ما الذي عماها؟ هل أصيبت بالرمد و أهمل علاجه؟ هل احترق وجهها فأصيبت بالعمى؟ وطردت هذه الأفكار السوداء أو حاولت ذلك وفي الصباح كلفت أحد عساكر المعتقل و كان في طريقه إلى أجازة لمدة يومين عند أسرته في الجيزة بالمرور على منزلنا و الإستفسار عن ابنتي هالة.
ذهب العسكري و غاب يومين ثم عاد و معه صورة هالة و عليها إهداء.. واضح ان أمها هي التي كتبته.. إلى بابا الحبيب.. أنا بخير.. و الإمضاء هالة.
كانت في الصورة حلوة و جميلة ووجهها كالقمر في ليلة تمام. الحمدلله لم يحرق وجهها ولم تفقد عينيها. كانت إذن مريضة بالحصبة كما أبلغني الزميل. وربما فلتت منه العبارة التي أرقتني زيادة منه في المجاملة. ولكني عدت أفكر من جديد في أمر الإهداء، لماذا لم تذكر لي شيئاً عن أبي؟ هل هو مريض؟ هل لا يزال على قيد الحياة؟ ما الذي جرى له و جرى به بعد الإعتقال؟
عشت أسبوعاً في جحيم حقيقي. فأنا لا أعلم شيئاً عما جرى لأسرتي ولم أتسلم منهم خطاباً واحداً منذ جرى اعتقالي لأن الخطابات ممنوعة، وممنوع عليهم معرفة المكان الذي نوجد به و تمنيت في تلك الأيام الأخيرة من إقامتي في معتقل الفيوم أن تقوم ثورة وتقبض على زكريا محيي الدين وكمال الدين حسين. الأول كان وزيراً للداخلية، و الثاني لأنه كان رئيس وزراء الإقليم الجنوبي.
ويقبض معهما على مدير المباحث العامة وعلى العقيد حسين المصيلحي وعلى كل ضباط معتقل الواحات و معتقل القلعة ومعتقل الفيوم، و أن يوضع
صفحة 195
الجميع في معتقل بعيد داخل الصحراء ثم يصدرقرار بتعيينى مديراً للمعتقل . والف خيوب على العبدلله اذا لم يجعل كلا منهم ينسى نفسه .. لا اقتلهم ولا اتركهم احياء .
فكرت في الذين سأقوم بانتدابهم للعمل معى داخل المعتقل الرهيب .. واخترت اوسخ العساكر الذين صادفتهم في المعتقل لمعاونتي على اداء هذه المهمة . ولكني طردت هذه الفكرة من رأسي وفكرت في الهروب من مصر عقب خروجي من المعتقل . اذهب إلى بلد بعيد واقيم بعيداً حيت لا تستطيع يد السلطة ان تمتد نحوى ..
افكار كثيرة مرت بالعبد لله ولكنها كانت افكاراً كثيرة مؤقتة نتيجة التعذيب النفسى والضغط العصبى على العبد لله بعد هذه الشهور الطويلة التى مرت بنا في السجن . وليته كان سجناً .. فالمسجون له حقوق , ولكننا اشبه بالمخطوفين , فلا احد يعرف مكاننا , ولا حقوق لنا , ولا احد يعرف متى يكون الخروج من هذه الكارثة ! وقبل يوم واحد من مغادرتى لمعتقل العزب بالفيوم , وقعت حادثة غريبة كان ضحيتها " عسكري " من بلوكات النظام . وانطلقت رصاصة من مدفع كلاشنكوب فى قلب العسكري الذي كان يحمل المدفع فسقط ميتاً .
ادخلونا العنابر على الفور واغلقوا الابواب لاول مرة . وجاء ضباط كبار من الخارج , وقضوا النهار كله , يحققون في اسباب الحادث , ثم طووا اوراقهم وغادروا المعتقل . ولكن العسكري ظل مطروحاً على الارض مغطى بالجرائد ولم يرفع من مكانه الا في المساء , عندما حضرت السيارة لوري اشبه بسيارة الزبالة حملت العسكري المسكين الى المشرحة . ليس اعداء الدولة وحدهم هم الذين تصيبهم الاهانة من الدولة , ولكن الاهانة تصل ايضا الى رجالها . وهاهو ذا العسكرى ينقل في عربة زبالة بعد ان تركوه جثة هامدة على الارض طول النهار !
حدث شئ اخر في المعتقل جعلنى اسرح بعيداً عن المعتقل الى امور الخلق والخالق . كان في المعتقل مأمور برتبة رائد , كان في الاصل ( عسكري ) ويبدو انه خدم ايام الانجليز وكان مواليا لهم مؤمناً بهم الى
صفحة 196
حد بعيد ويبدو انهم كافأوه الى رتبة صول . ثم ترقى بعد ذلك لانضباطه وغبائه حتى وصل الى رتبة رائد . وكان الرائد الجهول يتصور ان المعتقل فرصة للوصول الى اعلى الرتب . فحول المعتقل الى معسكر اعتقال ولا معسكرات النازى . وأذكر في الفترة الاولى التى قضيتها في المعتقل اننا كنا نقف في صفوف في الفناء عندما جاء الينا حضرة المأمور ليستعرض الطابور البائس .
وكان اثناء مرورة بين الصفوف يتفضل ويتوقف عند احد المعتقلين ويستفسر منه عن اسمه ومهنته . وتوقف امام الفنان زهدى رسام الكاريكاتير الشهير وسئله عن اسمه ثم عن مهنته , فلما اجابه بأنه رسام كاريكاتير قال مصححا .. اه شاعر يعنى ! ورد عليه زهدي .. لا أنا رسام كاريكاتير . فشوح المأمور بذراعه وقال فى حدة .. شاعر يا جاهل .
حضرة المأمور الذى كان يخطو نحو الستين من عمره راح يمارس كل أنواع الاضطهاد في المعتقلين وينزل بهم كل أنواع العذاب , على أمل أن يتعطف عليه المسئولين بالداخلية , فيرقوه الى رتبة المقدم ويتركوه في الخدمة حتى يبلغ سن المعاش , ولكن القاعدة التى كان يعامل بها هذا الصنف من الضباط هى ترقيته الى رتبة المقدم وفي الوقت نفسه يجرى احالته على المعاش ..
وذات صباح دخل حضرة المأمور الى المعتقل واختفى فترة ثم خرج من مكتبه يتقدمه عسكري مراسلة وقد حمل بدلة ميرى وقميصاً وجلباباً وبعض الأوراق .
وكانت هذه هى كل متعلقات حضرة المأمور وغادر سعادته المعتقل لآخر مرة . فقد حصل على رتبة المقدم وخرج من الخدمة . في نفس الوقت لم تشفع له خدماته الكثيرة ومحاولاته المستمرة لتحويل حياة المعتقلين الى جحيم . لم يهتم احد باستغاثاته التلغرافية وتوسلاته الشفهية لكي يبقوا عليه في الخدمة . امتصوه كالليمونة ثم القوا به على الطريق , هل يتعظ الاخرون ؟ بالعكس جاء من بعده ضابط مؤهل اسمه التونسى وراح يمارس
الصفحة 197
نفس اسلوب سابقه مع بعض التطور . ولا اعرف اين ذهب التونسى بعد ذلك , ولكن لم اصادفه حتى الآن في أى مكان .
المهم ان هذا الضابط الذى طردوه من الخدمة زارني بعد ذلك بسنوات في دار روزاليوسف . وبعد ان جلس يستعرض امامى مآثره وأياديه البيضاء علينا ! طلب منى ان اسعى لتوظيفه في المؤسسة . ولما ابديت اعتزاري لعدم وجود وظيفة تليق بمقامه العالى في المؤسة ابدى استعداده لقبول اى وظيفة , فكل الوظائف تليق بعد الخروج من الخدمة ! وبعد ان قضى في مكتبي فترة طويلة قال للعبد لله :- ماهو كل الناس الى كانوا فى المعتقل بيشتغلوا هنا . وحبكت النكتة مع العبد لله فقلت له .. مظبوط .. بس الى كانوا في العنابر .. مش في الادارة !
المهم .. جاء اليوم الذى انتظرته طويلا .. حضر حلمى العيسوى في المساء الى العنبر ونادى على اسمين من المعتقلين . محمد عبد الواحد رئيس نقابة عمال الغزل والنسيج والعبدلله . ثم طلب منا احضار ملابسنا ومتعلقاتنا لأننا سنرحل في الصباح الباكر الى القاهرة . سألته .. إلى اين ؟ فرد باقتضاب .. ماعرفش . حملنا حقائبنا وذهبنا خلفه .. فاذا به يضع كل منا في زنزانة منفردة من زنزانات التأديب . زنزانة انفرادية بلا نور وارضيتها تراب , ودبيب الحشرات تلتقطه الأذن بوضوح , وكان للحجرة شباك مغطى بأسياخ حديد , ولكنه كان يسمح لشاغل الزنزانة بالتحدث الى الواقف خارجها . وجاء الضابط حلمى العيسوى في الليل وراح يتجاذب الحديث مع العبد لله . اعدت سؤاله عن المكان الذى سنذهب اليه قال .. علمى علمك .. وراح يسألنى عن الخلاف بيننا وبين الحكومة . فأجبته بأنى لم أكن مختلفاً مع الحكومة . وحتى في موقفها مع عبد الكريم قاسم لم اختلف معها , ولكنني لم اكتب حرفاً في صفها وأثرت الصمت لأني كنت ادرك ان الخلاف ليس في مصلحة احد , وان الهدف الوحيد من الخلاف هو تدمير عبد الكريم قاسم وتدمير عبد الناصر في نفس الوقت .
سألنى .. لماذا قبضوا عليك ؟ اجبته بأنى لا اعرف السبب , ولم اسئل
صفحة 198
احدا في الحكومة حتى هذه اللحظة . وقلت له ضاحكاً .. لقد جاء الى بيتى ضابط اسمه طوسون وطلب منى أن اذهب معه الى مكتب المباحث العامة بالجيزة , اخبرنى بأن المهمة لن تستغرق ساعة على الاكثر .. ولكن الساعة اصبحت ساعات , واليوم اصبح اياماً , والشهر صار شهوراً , والشهور صارت عاماً , والعام اصبح اعواماً . وابتسم العيسوي ابتسامة بلا معنى وقال .. مسائل غريبة !
وبالطبع لم انم طول الليل .لأن زنزانة التأديب التى حشرونى فيها لم تكن تسمح بالنوم . وفى الخامسة صباحاً دخلت المعتقل عربة بوكس ووضعوا ايدينا في الحديد , ووضعونا خلف العربة في حراسة نصف دستة من العساكر , بينما جلس الضابط برتبة نقيب بجوار السائق . وكان الظابط مسلحا بمسدس ايطالي سريع الطلقات . واخترقنا الطريق الصحراوي من الفيوم الى القاهرة . وفي وسط المسافة توقفت السيارة ونزل الضابط ليقضي حاجته في الصحراء . وطلبت منه ان نفعل نفس الشئ ولكنه رفض . ثم شرح الامر بعد ذلك .. بأن قضاء الحاجة بالنسبة لي يستلزم فك الحديد وهو أمر ممنوع في كل الظروف وحسب التعليمات ! .
المهم اننا وصلنا الى الجيزة في نهاية الامر واخترقنا ميدان الجيزة . وانقبضت نفسي بشدة عندما القيت نظرة على قهوة عبد الله ورأيت العمال يضربون فيها معاولهم والجزء الاكبر منه تحول الى انقاض ورأيت المجنون عبادة يذرع الميدان في خطوات عسكرية وقد ازداد جنونا واتسخت ملابسه وصارت ذقنه في حجم المكنسة . يا سبحان الله .. تغير كل شئ , حتى الميدان نفسه تغير . اختصروا ارصفته ووضعوا بعض الاسوار الحديدية القصيرة حول المناطق الصغيرة المزروعة بالنخيل على جوانب الميدان , ونظموا سوقا للباعة الجائلين على ناصية الميدان من نهاية شارع عباس .
ولكن على رأي تشارلز ديكنز .. من أنا الذى يعيب على المدينة لأنها تغيرت , وقد عدت اليها أنا نفسى وقد غيرتني الايام !
صفحة 199
الفصل الحادى والعشرين
عندما دخلت مبنى المباحث العامة لمحت الدكتور لويس عوض واقفا في الممر الضيق المظلم الذى يفصل بين المكاتب . كان يرتدى بدلة مكسرة وقميصا مكرمشا , وكان واضحا ان شعر راسه لم يعرف طريقه الى الحلاق منذ شهور طويلة , وكانت نظارته الطبية مغبشة , وكرافتته مطوية وملفوفة كانها حبل غسيل .
وعندما اقتربت من المكان الذى يقف فيه الدكتور لويس عوض , بادرته قائلاً .
" المصيلحى "
أول مرة !
صفحة 200 صفحة فاضية
صفحة 201
صباح الخير يا دكتور
فأجاب قائلا :
- جود مورنج سعادة البيه
وادركت انه لم يعرفنى , فقد كان منظر العبد لله يختلف تماما عن منظر الشخص الذى اسمه محمود السعدنى , ولم اشأ ان اصدمه بعد ان تصور اننى في حال يسمح باطلاق لقب البيه على شخصي الضعيف , وبعد خطوات من المكان الذي كان يقف الدكتور لويس , اصدر الضابط امرا للعسكرى الذى كان مربوطا معى بالتوقف والانتظار , وتركنا الضابط وغاب طويلا وبعد حوالي نصف الساعة خرج من احد المكاتب شخص متوسط الطول اسمر البشرة تنبت على خده حسنة كبيرة , اتجه نحونا مادا يده وهو يهتف بحرارة :
- اهلا سعدنى بيه
لم اتمالك نفسي فاجبته بمنتهى الغيظ :
- بيه .. بيه ايه ونيله ايه .. فين البيه ده ؟
وقال ويده مازالت ممدودة في الهواء :
- طبعا بيه ونص كمان
قلت وانا انظر نحو الكلبش الذى يقيد معصمى :
- انا اسف لانى مش هاقدر اسلم عليك علشان ايدى مربوطة بالحديد وصرخ الرجل في العسكري .
صفحة 202
- فك الحديد يا عسكري
رد العسكري ببرود :
- لا مافكش حد أنا .
وعاد الرجل صرخ فى وجه العسكري بشدة
- أنا العقيد حسن المصيلحى .. ولما اقولك فك الحديد .. تفك الحديد على طول .
وعاد العسكرى يقول بنفس الهدوء .
- أنا مابخدش أوامر من حد الا من الضابط الى معايا .
وفى تلك اللحظة التى تأزم فيها الموقف بين العقيد والعسكري وصل الضابط المكلف بمهمة ترحيلنا الى مبنى المباحث , وعندما اصبح في مواجهة العقيد , دق الارض بكعبه وضرب تعظيم سلام للبيه العقيد , وعلى الفور انهار العسكرى ومال على يد العقيد لتقبيلها , ولكن العقيد سحب يده بشدة وأمر الظابط بأن يأتى بى وبالعسكرى الى مكتبه . وفي الطريق إلى مكتب البيه العقيد راح العسكري يولول كامرأة فقدت سبعها , لاعنا اليوم الذى كلفوه فيه بهذه المهمة الصعبة . وعندما اصبحنا في حجرة البيه العقيد حاول العسكرى ان يعتذر للبيه , ولكن العقيد نهره وامره بالصمت , ثم فتح درج مكتبه واخرج منه ورقتين من فئة العشرة جنيهات ومد يده نحو العسكرى قائلا له :
- خد دول مكافأة علشانك .. انت عسكري ميرى .. واوعى تسمع كلام اى حد وتفك مسجون الا اذا امرك الضابط الى معاك .
ثم نظر المصيلحى الى الضابط وقال له اديله امر يفك الحديد .
واصبحت يدى طليقة لاول مرة منذ غادرنا معتقل الفيوم في الفجر .
وبعد ان امر الضابط والعسكرى بالانصراف دعاني الى الجلوس وطلب لى فنجان قهوة مضبوطا ثم عزم على بسيجارة , ثم اشعل لنفسه سيجارة وراح يدخن في هدوء .
جلست اتأمل الرجل الذى يجلس امامى , اذن هذا هو حسن المصيلحي , الرجل الذى سمعت عنه قصصا اشبه بالاساطير في جميع
صفحة 203
السجون التى نزلت بها , هذا الرجل الضئيل الذي تبدو على وجهه الطيبة هو بعبع الحركة الشيوعية في مصر , لقد تصورت من خلال ما سمعته عنه انه طويل القامة مفتول العضلات له وجه قاتل محترف . وبعد فترة صمت طويلة نظر نحوي نظرة فاحصة ثم قال :
- تعرف ان مصر كلها كلمتني عنك
سألته على الفور :
- انت اعتقلتنى ليه ؟
- انت ذكى وحتعرف لوحدك
- انا مش عارف اي حاجة
- لزم الصمت فترة وراح يعبث ببعض الاوراق التى امامه ثم سألني :
- اخبار زمش ايه ؟
- زى ما انت شايف
قهقه عاليا ثم قال :
- عارف ان حزبك ده دخل تاريخ الحركة الشيوعية وعملنا له ملف عندنا في المباحث .
- معقول ؟ بقولك دي يعنى زى ما انت شايف .
- ما انا عارف .. بس الشيوعيين خدعوك وكثير منهم دخلوا زمش .
هتف مدافعا عن اعضاء الحزب :
- ولا واحد واتحدى .
قال وهو ينقر بسن القلم على المكتب :
- حتى اسعد حليم ؟
- حتى اسعد حليم
- مش بقولك انت رئيس حزب طيب .. عارف اسعد حليم ده مالوش علاقة فعلا بالشيوعيين المصريين .. عارف ليه ؟ لانه بيحتقرهم .. لأن مستواه من مستوى خروشوف وماوتسي تونج ومولوتوف .. ومين تانى في الحزب مش شيوعي ؟ عبد الموجود ابراهيم ابو زيد ؟
صفحة 204
- دا راجل طيب بتاع ربنا
رد ساخرا :
- ما كلنا طيبين .. عارف ده انا جبته هنا في مكتبي قبل ما اعتقله وقلت له انت عندك عيال بطل الى بتعمله .. عارف كان بيعمل ايه ؟
- أنا في الحقيقة عرفته في السجن بس .
- كان بيوزع منشورات في العنابر , والمصيبة انه عامل حدق وفاهم انى نايم على ودانى يوزع الف منشور في العنابر ويجبلي خمسة ويقوللى انا لقيت دول .
ساد الصمت بيننا بعض الوقت .
قطعه هو قائلا :
- وأحمد شوقى عبد الهادى بتاع منيل شيحة .. راخر طيب ؟!
- دا مش طيب بس .. دا راجل غلبان كمان
- شفت بقى ازاى انك رئيس حزب طيب وزى الزوج اخر من يعلم .. عارف شوقي ده كان بيعمل اجتماعات في بيته وضم أخوه الصغير للتنظيم .. وبعدين دا أخطر واحد لأنه دخل الشيوعية في قرية صغيرة ..
- وعلشان يحرم هايكون اخر واحد يخرج من المعتقل .
قلت لمصيلحي :
- لو قعد شهر تاني حيموت .
- لو مات يبقى مصلحة .. الراجل ابوه طيب وحافظ كلام ربنا .. ولو مات ده يبقى فايدة لابوه ؟
سألنى اذا كنت أرغب في فنجان قهوة اخر , فشكرته وطلبت منه ان يسمح لي بالانصراف اذا كان قد تقرر الافراج عنى قال لي وهو ينهض من مكانه :
- أنت حر منذ دخلت مكتبى , وتستطيع أن تذهب الى بيتك أو تذهب الى مكتبك , وأنت منذ هذه اللحظة مواطن حر لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات . ومد يده الى مصافحا , ثم استدعى احد المخبرين وأمره بأن
الصفحة 205
يحمل البقجة التي كانت معي حتى الشارع . وبالفعل وجدت نفسي في الشارع أحمل في يدي بقجة ومنظري يوحي لمن يراني انني كنت نائما بالبدلة تحت كوبري عباس . .
وقفت عدة دقائق في الشارع اتلفت حولي غير مصدق انني اصبحت حرا , واستنشقت نفسا عميقا ودخل صدري كمية ضخمة من الهواء المختلط بعادم السيارات , ومع ذلك كان انقى هواء دخل صدري منذ حوالي عامين !
عبرت شارع نوبار الى الرصيف الأخر , واتجهت الى مكان عصير قصب وطلبت كوبا من العصير لم اكن في حاجة اليه الحقيقة , ولكني كنت فقط اريد ممارسة حريتي في الشراء واستخدام الفلوس كغيري من البشر . كان أمام الدكان جمع من الناس نظروا نحوي نظرات مستريبة مما جعلني اتناول الكوب واشرب نصفه بسرعة ثم اترك الكوب بما فيه واهرع مسرعا في اتجاه ميدان الأزهار .
حاولت أن استوقف أكثر من تاكسي , توقف بعضها بالفعل , ولكن كانت أول نظرة من السائق نحو العبد لله كفيلة بتغيير رأيه ليسرع بالفرار .
اخيرا وصلت الى ميدان الأزهار ( باب اللوق ) ووجدت سيارة تاكسي راكنة على رصيف وبدون سائق , ركبت في المقعد الذي بجوار السائق انتظر , بعد قليل جاء السائق , وبعد أن فحصني بنظرة شاملة سألني بدون مبالاة :
- أي خدمة ان شاء الله .
اجبته :
- فيه جماعة جنبنا هنا هايروح معاك مشوار بعيد .
- وما خدتش تاكسي من هناك ليه ؟
- لأن أنا ساكن هنا وضربو لي تليفون عاوزين تاكسي .
مد يده نحو البنديرة وكسرها وقال :

الصفحة 206
- طيب ما فيش مانع . . بس انتظار كثير هناك يفتح الله ؟
ثم قال :
- انتظرني شوية لحد ما اشرب الشيشة .
وغاب عشر دقائق قبل أن يعود , وقاد السيارة بمحاذاة سكة حديد حلوان وبين الحين والأخر كان يختلس النظر نحو ملابسي المهلهلة وخذائي المخيط في أكثر من موضع , ثم سألني سؤالا ونحن نقترب من من سعد زغلول
- بتشتغل ايه من غير مؤاخذة ؟
- على باب الله
- المهم الصحة والستر
توقفت بنا السيارة أمام مؤسسة روزاليوسف , تركت البقجة في السيارة وغادرتها وعندما حاولت الدخول استوقفني عم حسين البواب وسألني بحدة .
- انت رايح فين ؟ بوابة من غير بواب , توقفت امامه برهة ثم قلت له :
- ازيك يا عم حسين . . انت مش عارفني ؟ دقق طويلا في وجهي ثم هتف :
- يا خبر . . ازيك يا سعادة البيه . . انت لسه طالع من السجن دلوقت . . ازي الاستاذ فتحي والاستاذ زهدي والاستاذ حسن فؤاد . . حمد لله على السلامة يا بيه
صعدت على السلالم المتهالكة ودخلت صالة التحرير ولم يكن بها الا صلاح جاهين , كان يرسم كعادته . وشدني صلاح ودخل بي مكتب الاستاذ احسان . الذي فوجئ بمنظري فصاح مندهشا :
- ايه ده ؟ انتوا محبوسين ببدلكم ؟ قضيت فترة في مكتب الاستاذ احسان واتصلت تليفونيا بصديقي الرسام طوغان لكي يمهد لعودتي عند زوجتي ووالدتي , ثم غادرت روزاليوسف بعد نصف ساعة وعندما لمحني

الصفحة 207
السائق ترك مقعده مسرعا وفتح لي الباب الخلفي , ولكني آثرت الجلوس بجانبه وراح يعتذر وهو في طريقه إلى الجيزة , وعرفت انه سأل حسين البواب وراح يسألني عن احوال المعتقلين وعن عددهم , وهل كلهم من الصحفيين والمحامين والفنانين . ثم قال :
- ما تأخذنيش يا بيه . . اللي ما يعرفك يجهلك . .
وعندما وصل الى بيت طوغان رفض ان يتقاضى مليما واقسم بالطلاق انه لن يتقاضى اجر هذه التوصيلة قائلا :
- ده أقل شئ نعمله يا بيه .
ثم تركني وانصرف بعد وعد منه بزيارتي في مكتبي بروزاليوسف هأنذا في بيت طوغان اخيرا . وبعد قليل سأكون في بيتي , لقد انتهت رحلة الضنى والعذاب . . أو هكذا تصورت !

الصفحة 208
صفحة خالية
الصفحة 209
الفصل الثاني والعشرون
أجمل سنوات العمر !
لحظة دخلت بيتي لأول مرة بعد هذا الغياب الطويل ورؤيتي لأفراد أسرتي , أدركت أن طريق الضنى والعذاب قد بدأ . كانت ابنتي هالة قد أصيبت بالشلل أثناء وجودي في السجن .

الصفحة 210
صفحة خالية
الصفحة 211
أما الشقة التي كانت تقيم بها أسرتي الصغيرة , فقط اضطروا الى تركها بعد ثلاثة أشهر من سجني ولجأت الأسرة الى بيت والدي . أما الوالد نفسه فقد سقط طريح الفراش نتيجة انفجار في المخ , تركه مجرد جثة متحركة , ومخلوق بين الحياة والموت . وبدأت على الفور في رفع الانقاض التي تساقطت فوق رأس الأسرة . وعندما اصطحبت معي العبقري انور المفتي لفحص والدي , ترك لي شيئا اشبه بالروشتة , ولكني اكتشفت بعد مغادرته المنزل ان الذي كتبه كان شهادة وفاة , ولكن لأن مسألة الحياة والموت من شأن الخالق الأعظم , فقد بقى الوالد على قيد الحياة ثلاث سنوات كاملة , يعيش على السوائل ولا يغادر الفراش , ولا يتكلم ولا يسمع , ثلاث سنوات وهو مجرد جثة ينقصها الدفن .
أما ابنتي هالة فقد قرر طبيب الأطفال العالمي علي عبد العال ضرورة اجراء عملية جراحية لها في بريطانيا واشار باجرائها عند الدكتور ( أوزمان كلارك ) وسافرت إلى لندن بالفعل وعرضت الأمر على الدكتور المذكور ولكنه اعتذر عن عدم اجراء العملية , واشار باجرائها عند دكتور بروكس . وقابلت الدكتور بروكس الذي وافق على اجراء العملية وحسبت الحسبة فوجدت انني احتاج ألف جنيه مصري . وعندما عدت الى القاهرة اكتشفت ان الحصول على هذا المبلغ دونه قطع الرقاب , وكتبت مقالا في روزاليوسف بعنوان ( عبقري للبيع ) وابديت استعدادي لبيع نفسي لأي
صفحة 212
راغب في الشراء مقابل ألف جنيه أعالج بها هالة , وقلت في المقال أن البضاعة حاضرة والتسليم على الفور , واستعرضت مواهبي وقلت : أنا أستطيع أن أرقص وأغني وأطبخ أيضاً وأكتب أحياناً وأتشقلب وأعمل عجين الفلاحة مقابل الألف جنيه.
وفي الصبح زارني في مكتبي زائران يرتديان نفس الملابس وعلى وجهيهما نفس السمات , وقدما نفسهما للعبدلله بأنهما من رئاسة الجمهورية , وقلت لنفسي : يا فرج الله يبدو أن العقدة انحلت وكل شيئ سيكون على ما يرام . ولكني اكتشفت بعد دقائق أنهما جاءا للحديث معي , فكيف يكتب مثل هذا الكلام ؟ وما هو الهدف على وجه التحديد ؟ وهل الهدف هو التشنيع على النظام ؟ ثم سألني أحدهما سؤالاً محدداً : هل تقدمت بطلب إلى رئاسة الجمهورية لعلاج ابنتك في الخارج ؟ ولما أجبته بالنفي أشار بإصبعه على الورق الذي أمامي و قال اكتب طلباً الآن , وكتبت الطلب و سلمته له . وانصرفا بعد أن أوصاني أحدهما بعدم الخوض في هذا الحديث مرة أخرى . ولم أتلق رداً منهما حتى هذه اللحظة , ولكن الذي حدث بعد ذلك أن يوسف السباعي يرحمه الله اتفق مع إحسان عبدالقدوس على تسهيل بعض المصاعب , فأصدرا لي تذكرتين للسفر إلى لندن على الطائرة الهندية مقابل نشر إعلانات لها بروزاليوسف , واشترت مني المؤسسة كتاباً في سلسلة الكتاب الذهبي على أن أكتبه بعد ذلك , وصرفوا لي ثلاثة شهور مقدماً من مرتبي و اشترى مني الدكتور سعيد قدري أربعة كتب للأطفال في سلسلة كانت تصدرها منظمة اليونسكو , وليلة السفر زارني صديق لا أنسى جميله , وهو الكاتب الإسلامي الشهير محمود شعبان , وأعطاني مائة وخمسين جنيهاً استرليني وقال : هذه هديتي لهالة في رحلة علاجها . و استطعت قبل السفر الحصول على شقة في عمارة حديثة , رفض صاحبها الطبيب تقاضي أي خلو رجل أو مقدم من أي نوع , ولم تكن هذه الحالة مع العبدلله وحده , ولكنه فعل ذلك مع كل السكان .
سافرت إلى لندن مع هالة و في ذهني أن ملكة إنجلترا ستكون على رأس




صفحة 213
المستقبلين في مطار لندن , باعتباري من كبار المستثمرين ولكني اكتشفت هناك أن المسألة ليست سهلة كما تصورت وأن شفاء هالة سوف يتم , ولكن بعد خمسة عشر عاماً , يجري خلالها عدة عمليات لهالة في الحوض وفي الركبة وفي القدم . المهم أن هالة شفيت في النهاية وتم علاجها مرتين بعد ذلك بأمر من الرئيس جمال عبدالناصر و على نفقة الدولة , وعولجت بعد وفاة عبدالناصر لمدة سنتين على نفقة الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية , و أجريت لها عملية صعبة في مستشفى ( دولس هل ) على نفقة الشيخ سلطان بن محمد حاكم الشارقة , ووعدت حكومة الثورة الليبية بعلاجها في عام 1975 , ولكن يبدو أن انشغال الدولة الليبية بجلائل الأعمال حال بينها و بين تنفيذ هذا الوعد , وللحقيقة وللتاريخ فإن آخر عملية أجرتها هالة في لندن غطى تكاليفها الرئيس صدام حسين رئيس العراق , وبهذا تكون هالة تحولت من مجرد مريضة إلى رمز قومي !
كل شيء والحمد لله بعد فترة السجن صار على أحسن وجه , وعندنا دخلت السجن في عام 1971 جاءني مندوب من وزارة الصحة في سجني وطلب مني رد المبالغ التي صرفت على هالة في لندن في عهد جمال عبدالناصر وقلت لمندوب وزارة الصحة ساخراً : إن علاج هالة تم بناء على قرارات جمهورية أصدرها جمال عبدالناصر رئيس جمهورية مصر العربية حسب الدستور والقانون ولم تعالج بقرار صادر من مهرب الحشيش كتكت , وعلى العموم .. فليس أمامك إلا اللجوء إلى القضاء لاسترداد هذه الفلوس مني , حيث أنني مفلس و سجين وحتى عفش بيتي تحت الحراسة !!
انتهت أيام السجن بكل متاعبها ولكن متاعب ما بعد السجن كانت أخطر . ولكن العبد لله استطاع بفضل الله أن ينتصر على كل المتاعب وأن يتجاوزها .
تبقى هنا كلمة لابد من قولها فهذه الفترة التي قضيتها في سجن الواحات , وسجن القلعة , وسجن الفيوم كانت من أخصب فترات حياتي تعرفت على تيار سياسي كان له وجود في الساحة المصرية واكتشفت وسط




صفحة 214
هذا التيار مجموعة لآلئ كان يمكن أن يكون لها شأن كبير في مصر لولا اهتمامها بالعمل السياسي وإصراها على أن تقول كلمتها رغم كل الظروف .. العالم الإقتصادي الكبير عبدالرازق حسن . والكاتب الأديب الفنان محمود أمين العالم , والإقتصادي العالمي إسماعيل صبري عبدالله وزميله فؤاد مرسي , رجل القانون اللامع علي الشرقاني , الناقد الكبير حسن إبراهيم فتحي , العالم الكبير الدكتور فايق فريد , الأديب الموسوعي الدكتور لويس عوض , الصحفي اللهلوبة عبدالملك خليل , المطرب النوبي الكبير محمد حمام , والذي اكتشفنا موهبته في السجن , وكان أول اشتغاله في الفن في مسلسل تلفزيوني من تأليف العبد لله و وعشرات من الصحفيين والكتاب الحقيقيين , من أول لطفي الخولي إلى فتحي خليل إبراهيم وفتحي خليل عبدالفتاح و عبدالستار الطويلة وألفريد فرج وغالي شكري وفيليب جلال ومصطفى طيبة وعشرات من الفنانين على رأسهم وليم الملك وعشرات من السياسيين على رأسهم شهدي عطية ومحمود المانسترلي وأحمد طه وفوزي حبشي ومحمد شطا والدكتور حمزة البسيوني وأديب ديمتري وسيد عبدالله إلى جانب عشرات من أصدقائي من فنانين ومفكرين .. على رأسهم الفنان الذي فقدته مصر حسن فؤاد والفنان جمال كامل والفنان الكبير زهدي , وكانت سعادتي بلقاء هؤلاء خلف الأسوار لا يعادلها إلا الحسرة على إهدار كل هذه الطاقات المبدعة بسبب غباء البعض وغرور البعض , من أمثال فهمي حبيب . والذي يدعو إلى الحسرة أن أمثال فهمي حبيب لا تستطيع أن تضعهم في أي خانة , فلا هم صحفيون ولا هم فنانون ولا هم مفكرون ولكنهم وكما أثبتت التجارب من سقط المتاع , مجرد نبت شيطاني , وجدوا في التنظيمات السرية مجالاً لاجترار حقدهم وفك عقدهم بالسيطرة على كل هذا الطابور الطويل من الموهوبين .
كانت مقاليد الأمور في التنظيمات السرية في يد هؤلاء وأضاعوا زبدة مصر في معارك وهمية محكوم عليها بالفشل . وتحت ثوب السرية الواسع , تسرب المئات من الجهلاء و الصياع كان وجودهم في التنظيم




صفحة 215
ضرورياً لحسم الصراع لصالح القادة أمثال فهمي حبيب الذين هم من سقط المتاع وتبددت أربعون سنة من العمر في شعارات جوفاء وكلمات فارغة من أي مضمون , وعبارات مسبوكة .. أمثال الحنجوري المتنامي في اللانهائي المترامي عند الشفق لحظة الغسق المتأجج بفعل أنفاس الشغيلة وعرق العمال من أجل عالم يسوده الرخاء والماء والهواء . والجلاء بالدماء , من أجل تأصيل المبادئ و تسديد البنادق في الخنادق ثم بعد ذلك يمكن شرب الكبتشينو في الفنادق !
ما أعظم التضحيات وما أبخس النتائج ودفع الشيوعيون المصريون دم قلبهم من أجل الحصول على لا شيئ وبددوا العمر من أجل تحقيق لا شيئ وخرج الجميع من المولد بلا حمص . واكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم لم يكونوا في المولد .. ولكنهم كانوا في سوق لم يستفد منها أحد إلا فهمي حبيب وأمثاله حيث صار البعض منهم دكاترة وأغلبهم حصل عليها من المنطقة الحرة في مطار تشيكوسلوفاكيا وبعضهم حصل عليها من سوبرماركت في هولندا , وكان الثمن ضياع عشرات ومئات من المواهب المصرية الحقيقية .
يا لها من فترة رهيبة , فترة بدأت خلال الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى سقوط الإتحاد السوفيتي . لكن والحق أقول استطاع هذا التيار أن يقاوم ويقاتل . وإن كان قتالاً أشبه بمعارك فارس السيف الخشبي ضد طواحين الهواء . ولكن الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه هو إيمان القيادات إياها بأنهم وحدهم الذين يملكون مفاتيح الحقيقة وهم وحدهم الذين لديهم الحلول الجاهزة لكل المشكلات وهم وحدهم المثقفون و بقية خلق الله جهلة وأنهم المناضلون الوحيدون على هذه الأرض وماعداهم جواسيس وعملاء المخابرات المركزية ومرشدون لأجهزة المباحث ولم ينج من هذا الإتهام أحد حتى أشرف الناس من أمثال محمد عودة والمرحوم فيليب جلاب والمناضل الوطني مصطفى طيبة , خطأ قاتل أدى بهم إلى العزلة و التقوقع والابتعاد عن دنيا الناس . حتى الكاتب الشاعر عبدالرحمن الخميسي اتهمه أحد الصياع في سجن أبو زعبل بأنه مدسوس على المعتقلين لمعرفة أخبارهم




صفحة 216
لحساب جهاز المباحث .
وفاض الكيل بعبدالرحمن الخميسي ذات صباح فصرخ في وجوده مجموعة من المعتقلين من أمثال الصايع إياه .. يا حشرات .. أنا عبدالرحمن الخميسي , دوري في مصر أهم بكثير من دور أغلب الوزراء الذين حكموا مصر , أنتم تتهمونني بأني أتجسس عليكم لحساب المباحث ومن أنتم ؟ أنتم مجموعة من الأوباش لو عرضوكم في سوق ما دفع أحد فيكم فلساً واحداً !
ولكن يبقى من التجربة المرة عشرات من هذه النماذج الرفيعة والمواهب العظيمة التي ذكرنا بعضها من قبل , ويبقى أيضاً أن الغالبية العظمى منهم يغفر لهم أنهم من أصحاب النوايا الحسنة والهمة العالية وأنهم تعرضوا للتعذيب وللتشرد وليس من أجل مصلحة شخصية ولكن من أجل ما تصوروا أنه لمصلحة مصر وكانت الغالبية العظمى من هؤلاء الشرفاء والقلة فيهم من الأغبياء أصحاب النظرة القصيرة والحقد على كل موهبة .
وعلى كل حال , بقدر العذاب الذي عانيناه في السجن مع الشيوعيين فإن الفائدة التي خرجنا بها كانت بقدر المعاناة وهي فترة بالرغم من كل شيئ أفخر وأعتز بها . ولو عادت الأيام من جديد , لتمنيت أن أخوضها وكما حدثت من قبل .. بالتمام و الكمال ..
والحقيقة أن الفترة التي قضيتها معهم قد أثرت تجربتي وأضافت إلى ثقافتي , كما أنها أنضجتني كسياسي وجعلتني أعمق فهماً وأشد صبراً وأطول نفساً مما كنت عليه . باختصار خرجت من سجن الواحات سعدني آخر غير الذي كان .