المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العودة لمسمار


AshganMohamed
01-15-2020, 06:57 AM
رواية
العودة لمسمار
حاتم بابكرعوض الكريم

























التكوين:

رايت لافتة في مدخل المدينة عند مفترق الطرق حيث تتاسقط المفاهيم القديمة التي تحاصر الروح بالهتافات التي ذبلت في عقلي وصارت جارحة تهز جسدي هزات متتالية.مكتوب في اللافتة عبارة صريحة خفية:"اول العتمة غيوم بيضاء اموجها متلاطمة تلد الظلام حين تجتاح تخوم الفوضى شواطىء الهزيان".خلف اللافتة تتراكم المدينه كانهاغرفة مغلقة لاأضوء فيها ولااثاث ولامخارج عدا سلم الخروج الذي يمد لسانه هازئا بالمقدسات كانه يهيئ لمعركة فاصلة في عالم الغيب تتناسل منها الطرق لصحراء الجامدة اولتفضي لغيبوبة تامة.
الساعةالثانيةعشر ليلا ينتهى دوام العمل فيصير قلبي كومة قلق فيتحول وجهي ناحية الذبول فيغدو شاحبا كنسمة راكضة في حقل الذكريات المفخخة بالفشل كغمامة متسكعة تخشى الليل مصادرة من رعب اخبار النهار فتبتلعها رعشة الخوف العاجزة عن الصراخ حين نحط الرؤوس على وسادة الهلوسة الاستسلام لعنف السلطات فتنفجر في الاوردة كل اغاني الموت القديمة الجديدة العاجزة عن تعليل جذر الخراب وانهيار "علوة" وتلاشي "سوبا" و تفرق ذهب " شيبون"في المساحات الممتدة في الارض اليباب واجهدنا انفسنا بصناعة الاكاذيب"الطازجة" حتى لاترحل الابتسامات الندية والاغاني الدافئة الى سواحل البوح المتمهل ارتباكا في جغرافيا الثرثرة وحنين "الامير "الذي يحمل عنا التزامتنا ويرفع قصورنا وعجزنا دون مبالة " بعقل جامد" اوبمخالب مقوسة داكنه تنشد المال والخضوع فتنسج ضفائر الريح العابثة اغاني راقصة لاهية بهدوء يقودها الى الممر الخفي بعد الذاكرة فتهرب الوقائع ويسافر العقل فيفضي كل عنفوانه للحانة واناخب الخمور الرديئة التي تصيد الرؤوس الحليقة بالتطلعات والانتفاخات الغبية الواهمة هنا حيث المفاهيم القاصرة منذ ان كانت "هضبة الحبشة" تحمي "بيضة الايمان" من الايادي المرتخية الفاجرة جميعها .. كانت خارج الحدث لكنها الحدث عينه حين صنعت قوانين التطور والارتقاء لذلك انفقت جبال الساحل الغربي النهار جله تنسج خيوط الخضوع منكبةعلى اسطح المكاتب الفارغة من غير رؤية فتظل نقطة عمل عيشه وتكسب ككل الابنية الحكومية ودور العبادة لقديمة والجديدة التي ماانفكت تسترجي بالاكاذيب الارض البكر العنيدة و تمايل الظلال بالاحابييل والدفء القاتل والاحلام الخبيثة التي حطمت الاستقرار واورثت"سواجن" و" مصوع" و" مقديشو" بعض وهجها او قل لحظات الهدوء النادرةحين يعجز الاستبداد عن جر عربة الحياة المثقلة بالتاريخ العميق الى المزبلة و"مكب القمامة".
"النخاس " في ساحل غرب المالح مازل يسرق الاطفال ويتوارى عن الاعين كفراشة تدور حول النار كان عقلي مسجون في داهليز الهزيمة مضطربا و كان جهي يتحول لمسخ غريب ككل الوجوه الغريبة التي دمرت"مروي" و" اكسوم" و" بلاد بنط" اعرفها اولااعرفها هذا ليس جوهر القضيةذلك لاني اخذت اصيح بصوت ساذج لذيذ رتيب غير مسموع بفعل رياح الهبابي العاتية فكم مرة كررته دون انقطاع :"لاغالب ولامغلوب..لامنتصر ولامهزوم...كلنا جزء من الفضيحة الانهيار" في الوقت المعروف من غيبوبتي ايام "منقستو وسياد بري وجعفر" كانت تهرب من ذاكرتي الصور الاغاني وتضمحل المعاني فاجد نفسي انكش الوثائق القديمة ،فلم اجد لنفسي وثيقة صادقة تعرفني من انا؟ ومن هم ؟ومن هؤلاء،؟ غير ورقة بيضاء مكتوب عليها فهمي وضيقي ومظالمي بقلم من الحزن والدموع والدماء ،بهذا القلم حاولت مرارا ان اشرخ صدر الحائط الباكي كي اجد النور المرتسم في مخيلتي واكمل مراجعة الكتب القديمة والجديدة من ثم افلت الى الابد من هيمنة الجاذبية الارضية المحتشية بالعواطف فلا اشرح تاريخي "المغامرة العظيمة "التي لم اختارها مطلقا الحق الحق اقول اني احاول دوما اصعد للغيبوبة بعربة التفائل الوردية حتى لااهبط خارج سلطة الليل الذي يسكن قلبي بلا اجنحة اوقنابل عنقودية في زمن" الرصاص المسكوب" وعلو كف العجز والتطاول لحظة "احتلال العراق" وبلا مقدمات صارت تسير عقارب التاريخ متراجعة للهاوية وبالسرعة الملائمة للانتحار او الانكفاء الى الدوخل في غيمة العتمة انها حالة العجز القديمة الجديدة.
في ساحل بحر المالح الغربي اترك لك عقلي التارحج على ارجوحة الطريق المتعرج كزوايا الظلمة في العقل والممرات الضيقةفي النفس الانسانية التي تنتشر منها الروائح النتنة كالاشاعة بان الحرية سهلة عادية كماء المطر الهاطل دون انقطاع في عروض الاستواء فيصبح سيلا ياخذ كل شىء ولايبقى امامي الا الصراحة حين اسال عن بيتي القديم الذي استولى علية الضيوف الذين سمحنا لهم باعمار المساحة الخالية التي كان اطفال الحي يلعبون وسطها ،سيطر علينا الاستسلام وهزمنا رغم ذلك لم ارتكب جرما فنبشت باظافري الجرح وتركته ينزف هاهو "بوب ساندر" امير ايرلندا المقاتلة يمضي الى حتفه دون ان يستسلم او يعلن نهاية اضرابه عن الطعام اوتخرج ايلندا من المملكة القديمة التي لاتغرب الشمس عنها رغم سقوط شعره بعد ان اصابة العجز في اخضاع المراة الحديدية " مارجريت تتاشر"التي تعلمت الصلابة القاسيةفي ساحل بحر المالح الغربي-الخرطوم واديس ومقديشو- يوم تمسكت انجلترابسواجن ومصوع ولم تسلمها "للدراويش" الذين شيدوا بالدماء والدموع "ام درمان"........... تكونت من رواسب الطمي الذي حمله النيل أرض صالحة للزراعة فابتدع الإنسان العمل فتطورت "تانحسي" و"اكسوم " بلاد بنط"بعيداً عن سلطة "طيبة الفرعونية" مع الاحتفاظ معها بصلات عميقة عبر الحروب والتجارة والاتفاقات هنا يكمن جذر رغد العيش والعمران ، فانتظم وادي النيل حيويةً تشكلت خضرة وأتاحت فرص الرعي أكثر مما هو عليه في العصور السابقة تلك النعم امتدت إلى الجنوب الذي انتظم جبال الامهر والتقراي والبجا حتى شلال السبلوقة وملتقى الأنهار حيث تقطن قبائل "أرثن" فصار وادي النيل "قبطي" بالكامل فأنتشرت "الفرعونية "ثقافة وديانه ومعابد وطرق دفن للموتى فصنع الفخار والأواني الخزفية فصار أدنى النيل محدود المجال كشريط ضيق على الشواطئ يتسع إلى حد ما في بعض البقاع ويضيق أحيانا جراء تراكم الصخور النارية . اندلعت النزاعات ودارت الصراعات فشهدت تلك الصخور الانتصارات والهزائم وإراقة الدماء لعقود طويلة في حقب متباينة فتأثر سكان الوادي وجبال البحر الغربية فغزت حياتهم الروح الاستهلاكية الناعمة بتلك الحروب ولدت المدائن فصاروا يتذكرونها كحلم مؤلم فقد دون ذلك في كتابات قديمة سماها بعض القدماء "توراة البركل" اوبألاسفار البريئة التي جمعت عن الذين عاشوا وطأة الحروب بحماس مثقل بالأوهام الشخصية فمن مما ورد في تلك الإسفار أن مَنْ في الصحراء والجبال والنيل لم يسألوا أنفسهم من يحاربون ولأي شيء تدور الحروب ؟ فإنسان الصحراء الأمر عنده سيان لديه وكذلك اهل الجبال ،لان شح الموارد وسلطة الطبيعة أنجبا التهور القاتل ومن بعده نما الحقد الذي أغشى العيون وأعماها بالكراهية فتشكلت سحابة صارت غشاوة دموية غطت على العقول فترك الصبيان والصبايا المعاول وهجروا الأرض وامتشقوا السلاح وتزاحموا على ساحات الموت فطحنتهم الة العنف وأدمي وادي النيل جبال البحر وهضبة الحبشة دون أسباب معقولة أكثر من مرة لان شباب الصحراء والجبال أدهشتهم الأسلحة والأنظمة العسكرية والانطلاق عبر ا الاوديةالبائسة بأغاني بسيطة ساذجة فاحشة كتبت في القديم دون بحث وتنقيب صبور يتطلع لمعرفة مكونات شخصية إنسان الساحل الجبلي و النيل بقواسمة المشتركة وتناقضاته وعقده القديمة والجديدة .
لا يذكر في الاسفار القديمة متى أصبح الكون مسكوناً بقضايا وموضوعات الوادي ومن ثم الساحل الجبلي ولا يعرف لماذا اهتم بتلك القضايا بصفة محددة فبحسب الاسفار القديمة البالية لايقين حوله انما يُقرَّب ذلك تقريباً على أساس "طيبة" التي تبدو في ميدانها الرئيسي كواحدة من أروع وأفخم المدائن فكل شيء مبني بصورة عظيمة ليترك انطباعا بالفخامة والثراء . لكن بالنظرة الأقرب تتضح حقيقة مختلفة تماماً كانت مدائن اخرى في"غندر" و"سواجن" و" مصوع" و" مقديشو". فخلف عظمة المباني الرسمية تكمن "العشش" المنهارة و مدن الفقر المدقع ومبالغات القيادة القاسية . فاغلب الظن إن كاتب الاوراق القديمة تحمس لمعرفة تفاصيل حياة وادي النيل وساحل البحر الغربي فسجلها في سجله بلغته ايام اشتد البرد والجوع بالأجساد المرهقة من جراء المشي الطويل في الظلمة لقد تعود أن يذهب في الظلمة إلا أنه ضل طريقه تماماً واخذ يدور حول نفسه ولم يعد يهمه أن يعثر على مفتاح حل للواقع المحيط به لكنه يتوق جاهداً لمخرج من هذا التيه ذلك بإيجاد منظور يفسر له لماذا وادي النيل وجبال الاحمر منهكة قاحلة برغم المطر ؟ لماذا الإنسان هنا فريسة في شبكة من الصراعات والانقسامات والخلافات والممارسات الخاطئة ؟ لماذا يُستخدم الإنسان ألعوبة في عبث مصالح الكبار حتى ضربت الزلة الجاهلة على الوادي والجبل من أعلاه إلى أدناه ؟ يُرجح كاتب الاوراق في كتاباتهم التي جمعوها أن كل ذلك يرجع إلى ثقل سلاسل الظلم الذي وقع على أطفال المجاعات التي ضربت الوادي مراراً وتكراراً بسبب العصيان والسيل والفيضان ، قد يكونوا كتبوا تصوراتهم على ضوء ما جمعوه من معلومات لكنهم اظهروا اعتقاد خاطىء يرى ان وادي النيل وارض الجبل يقطنهما اقواماً لا أمل فيهم لأنهم بلغوا درجة من الشَّر لا يستطيعون معها أن يتغيروا فصاروا سفاحين مغتصبين أقطاب الإرهاب قساة مملئين حقداً وكراهية فالمهم الذي يدعونا إلى إعادة النظر في الاسفار ليست قيمتها العلمية المعرفية او ان هناك من يعتقد فيها ،بل لأنها كتبت بمهارة عالية تجذب الانتباه فتلك الاسفار تناولت ارض النيل والصحراء وجبال البجا, وكشفت أسس علاقات وصداقات مع عشائر بعيده لا ارتباط بينها سوى التبادل والمعاشرة فاهم ماكشفته أن الإنسان واحد مهما اختلفت القبائل وان البدايات الحقيقية لكل الوجود واحدة قبل بداية الكون المادي في روح الالهة قبل ان تحدث الانقسامات والصراعات والممارسات الخاطئة التي قسمت الناس إلى جزائر متحاربة فطبيعي أن يتشطى وادي النيل والجبال إلى جزائر مبعثرة بعد أن تعمقت الجراحات من أقصى شمال الصحراء وساحل البحر إلى حيث لا يُعلم له نهاية فقد أعترفت الاسفار القديمة وتحديدا في الاسفاره الاخيرة قبل تدخل الاجيال الجديدة مهاراتها في المعالجة والترقيع فهذه ناموس الحياة كل عمل روتيني معرض للمراجعة والتشكيك والثقة فمن مماحواه هذا الكنز من مادة خام مهولة عن الإنسان فقد توصلت الاجيال الجديدةأن الاسفار مجرد انطباعات شخصية وقصص عاطفية ووقائع معممة وأخيلة حافلة بالمزاجية وأفكار شخصية جامحة فكل ذلك مادة غنية غير أنها ليست كافية للبناء عليها أو التعويل على صدقيتها وأن تكن تصلح للنظر فيها بعين الحكمة القادرة على المراجعة لارض الوادي وساحل بحر المالح فقد تتكرر في الكتابات مفردات" النهايات" و"البدايات" "المنبع" و"المصب" فقد يصلح مجازاً استخدام مفردة المصب أن يكون نهاية غير النهاية المتخيلة عن الكون فلا يعقل منطقاً أن يكون المنبع نهاية بأي حال لأن المنبع يوحي فيما يوحي باحتياج إنسان أصيل للانتماء خلافاً للنهاية التي تعني الموت والاختفاء بالرغم من كثافة المادة التي تعرضها الكتابات غنية إلا أنها مشحونة بكلمات متهورة تخترق الهواء دون أن يلقي لها بالاً معظم الذين تعاطوا معها في فترة الاضطرابات فالمهم أن الاسفار تحوي جهداً صبوراً على المراقبة المستمرة المرتكزة على حق كل البشر في إعمار الأرض والتمتع بخيراتها لهذا نعرض جزء مهم من الاسفار للاهمال والابعاد والتجاهل فقررنا ان نقطع منها هذه الأجزاء مقاطع تكشف الحدس الإنساني العميق والرغبة المحبة للتواصل والعمل المشترك من الامن والسلام وراينا ان نرصد رحلة العودة الى هيا ومسمار المكتوبة في الاسفار فمما وجدنا في هذه الاسفار رصدا لرحلة العودة لمسمار

الاباء الاولون
صعد اوهاج اوشيك ايلا قمة اعلى جبل في "مسمار" مخاطباً جموع البجا المحتشدة في الهزيع الرابع من الليل في (ليلة الخلاص ) محطماً كل الثوابت والقواعد التقليدية متجهاً لهدفه دون مواربة وبعيداً عن صناعة الكلام ونسج الأساطير لتخرج من فمه عبارات واضحة محددة تصل إلى سامعيه هكذا ( ياأبناء البجا أهتفوا معي بصوت العزم فلا يغرنكم استسلام االنيل وخضوع" كرمة" و"اكسوم" و"بابل" فأنتم رجاء المسكونة والساكنين فيها فقد آن آوان بناء "سواجن" المشرئبة للسماء تطاولاً وعلواً فعليكم تشييد ملجأ الخائفين ومأمن الودعاء فانفضوا عن أياديكم الكسل والتواكل وتابعو انبثاق الحياة لتتجدد هضبة غرببحر المالح المنهكة من الفوضى والمجاعات والحروب . فعلى أيديكم تنكسر الأقواس وتضيع معاول العمل لن يكون ذلك قبل ان يهاجر "الكواليب" و"المساليت" و"الجمنغ" و"التامة" بقية الخروج من أطواق العزلة وسلاسل الظلمة الكريهة ..هذا يعني نفض غبار الأزمنة القاسية بروح الحب المتطلع لنور العدل الذي جاء زمانه فقط أطلت عليكم النبوءات وحان حصاد الوصايا المترعة بالرجاءات . فلا تهنوا في مطاردة الثعالب حتى اوجارها الباردة ) .
خرج صوت من بين الجموع هاتفاً محتجاً على دعوة اوهاج اوشيك ايلا للهجرة لكنه تلاشى في جوفه الهتافات المساندة لاوهاج دون تحفظ فعاد صوت اوهاج قوياً مخاطباً الجموع المحتشدة )... لا خلاص لكم ولا نجاة بدون الهجرة لارض النور فتعبروا النيل كما جاء في النبوءة القديمة الى" ارض الكنانة" فتدفعوا بالثعالب لتعود إلى اوجارها وتشيدوا حصن الودعاء في "جبل الداير" وواحة"جالا" و"اوجلا" و"طرابلس" فينبثق النور من قرن الشمس ليملئ الأرض فرحا من أقصاها لأقصاها فلا تتراخوا وعجلوا معي بالهجرة منذ الغد "لمصوع" و"عصبط و"دنكاليا" و"اسمرا" و"اديس" والزحف لعبور الصحراء وبلاد اطلس) .
تحركت رياح "الخماسين" "الهبباي" فالتجأ الناطقين بالبجا إلى الجبال الوعرة يتجادلون حول الهجرة والبقاء في "هيايا "و"مسمار" فظلوا هكذا في الجبال طوال موسم الرياح الغربية لا ينزلون للسهول إلا في أوقات نادرة بحثاً عن الطعام أو لملاقاة القوافل البحرية النازلة من ساحل البحر الشرقي حاملة الطعام والرجاءات وألوان قوس قزح التي تسربت رويداً رويداً للجبل مثلما تسربت في القديم مع الرياح الشمالية من "بحر القلزم" حتى "بحر الظلمات" حتى أدركت "الاندلس" في "شبونه" و"مدريد" عند شبه "جزيرة إيبيريا" . مع رائحة المطر وردت البهائم النيل وانتشرت أريج بخور "الطلح" و"الجاو" و"العدنَّي" فقبل شروق الشمس خرجت نساء البجا ينشدن أهزوجة سهلة اللحن في المقدمة الجدة خديجة نصف عارية رافعة يدها للسماء ومتوكئة بالأخرى على عصا غليظة مُخِفيَّة قوامها الفارغ فعند منتصف الجبل رفعت الجدة رأسها الضخم فظهر انفها المستقيم فخرج من أعماقها صوتُُ حاد عليه حشرجات الانفعال وضغط العبرات مخاطباً الجموع التي احتشدت : (.. يا أبناء البجا لا تهاجروا وتتركوا أرض أجدادكم فهنا ولدنا.. فولد على ذات البقعة أبناءنا وقبلهم ولد الأسلاف الأقدمين فعاشوا وعشَّنا من عطاء الأرض في اكتفاء فاتركوا خدعة اوهاج الذي يقودكم بها "للسبي" و"الشتات" فلا تخدعنكم كلماته المعسولة ففي جوفها العنف والحروب فأنا أقف أمامك باسم أمهات الرجال الذين سوف يدفعهم اوهاج للموت ياأبناء البجا أكاد اسمع صيحات الأرامل والثكالى وانكسارات القلوب وتمزق الأرواح . أتركوا اوهاج يرحل وحده ولا تعطوه أولادكم فيقودهم للهلاك..) .
للجدة أسلوبها في الكلام فلسانها قادر دائماً على تبسيط الأمور وفضحها فهي (تطعن في الفيل لا في ظله) كما أنها بارعة في عبارات التشجيع التي تفيض لطفاً ووداعة فأسلوب الجدة قوي ناعم يتسرب إلى شقاق الروح فيملكها ويبعد عنها غبار داكن خالي من الذرات في ظاهرة الأمل في جوفه الدمار لهذا استقبل البجا كلمات الجدة بفرح كالرقص على الحان (المردوم ) ، ( والجراري) وشعر الصحراء .
عادت الجدة لدحض دعوة الهجرة التي أطلقها اوهاج (... اوهاج هذا يدعوكم لهجر لانهاية لها انه يقودكم لملاحقة أسراب الطيور المهاجرة من المحل للمحل بعد انقضاء فصل المطر وتلك خيانة عظمى فإذا حملتنا الأرض في لحظات ضعفنا فلم لا نحملها في لحظات ضعفها وغضب الطبيعة فحتى أسراب الطيور عادة ما تهاجر من (السافل) إلى (الصعيد) واوهاج هذا يريدنا ان نهاجر من" الشمال "الى "الجنوب" فالطيور تهاجر ملتمسة رزقها فلماذا يريدنا اوهاج أن نهاجر كي نلبي حلمه ونبوءته فلا تستسلموا لأوهامه لا تهجروا أرضكم فتجعلوها مرتعاً للثعالب لا تطيعوا اوهاج فهو منذ ميلاده يعيش القلق وعدم الاستقرار لم يرض عن نفسه ولا عنكم انتم قومه فهو دائماً يبحث عن قوم آخرين وعن أرض أخرى فاحذروا الضياع والخروج خلفه فلن يرحمكم الخراب فمن أراد الحياة وطاعة أرواح الأجداد عليه تجاهل دعوة اوهاج وإلا فأن المصير الوبال الوبال.. ).شعر اوهاج أن الجدة قد فرغت مشروعه من كل مضمون حتى أنها أظهرت فكرة الهجرة فكرة عبثية خرساء لهذا أراد اوهاج أن يرد على الجدة بإظهارها لا تعي ما تقول من فرط الشيخوخة وأن فكرة الهجرة من نبوءاتها وأنها تتنكرت لها من تأثير الهرم .
(... كلكم تعلمون أن الجدة قد بلغت من العمر عتيَّا فطبيعي أن تصاب ذاكرتها فهي من غرس فينا حلم الهجرة فقد جرعتنا نبوءة الهجرة منذ نعومة الأظافر فكم مرة حدثتنا عن الخبر السار (خبر الهجرة ) عندما يطل النور ويظهر في الشمال أبلج ظاهر كنداء للعدل فقد أكدت أن الأحياء وحدهم يتركوا كل شيء فيهاجروا للنيل وارض الكنانة وساحل المتوسط احسب ان البجا هم أول من يلبي النداء وينصروا النور ويرسخوه فما نقوله الآن لا يعدو كونه حديث أملته عليها الشيخوخة فالجدة قد فقدت ذاكرتها فصارت تنسى كل شيء فالحقيقية التي لا جدال حولها أن الجدة امرأة صالحة لكن الكبر قد أشتغل شغله في عقلها فلو كانت بكامل قواها العقلية لما رضيت لنا بالقعود والانتظار دون مناصرة "الربيع وثورة الياسميم"النور الذي صار يشع ليملأ غداً الدنيا كلها من جبل " الكرد" و"التركمان" الى "جبال الكواليب" حتى "جبل الزيتون" فيا أبناء البجا انتم أحرار في اختيار الهجرة أو البقاء في "طوكر" و"سواجن" و "مسمار" فأنا قررت الانطلاق من الغد فمن أراد منكم الحياة فليرافقني غداً الى دنيا النور أما من اختار البقاء والانتظار راكداً ساكناً فلينتظر مع الجدة وأخوتي اسياس واوشيك فلن أحزن عليه ..) اختار اوشيك اوهاج معارضة فكرة الهجرة التي دعا لها والده فهو على قناعة بصحة عقل الجدة كما أنه يؤمن أن لا مستقبل للبجا بعيداً عن هيا ومسمار وأي تطلعات نيلية في "ارض الكنانة" هي عبث وأن أفكار والده لا تشكل له حلم شخصي فحسب بل أن ما علمه له الواقع والجدة قولها يكفي لأن يجعل كل الكتب تصغر تفقد محتواها وتنزوي في المتاحف أو تتبخر أفكارها ونبوءاتها فتصبح تاريخ هذا ما فرض عليه أن يصرّح برأيه أمام جموع المتحدثة بالبدويت المحتشدة في اجتماع "التوما والتمايا" قرب حوض طوكر:(..لا يهمني مطلقاً أن كان أبي جاداً في الهجرة أما أنها مجرد دعوة طيبة فانا أتمنى له التوفيق والسداد لكني عزمت الإقامة في مسمار ولن أهاجر مهما حدث من دقة للامال ولن أطيع فكرة أو نبوءة حتى وان صدرت من أبي لأني أومن أن كرامة الإنسان تعادل تمسكه بأرضه فالأرض هي الحياة لهذا سأظل في الأرض مع من أحبوها فسابقي مع عمي اوشيك الذي هجر الأوهام إيماناً بالواقع المحسوس ولا يحترم الا الماورائيات المؤثرة على الحياة ..) .
من مبادئ "جبال بحر المالح الغربية" العتيقة تجنب الجدال في القضايا التي يمكن أن تهدم بناء الوحدة وتزرع الاختلاف والانقسام لهذا تجاهل البجا كلمات الجدة وانسحبوا بهدوء صامت أما اوشيك اوهاج واوشيك ايلا فما زالا مماسكان برابط الجأش فتحركا عائدين يسندان الجدة كل واحد يقبض على ذراعها متمدرجان معها من هابط الى صاعد محاولان إرجاعها لكوخها وبعد جهد خارق دلفا باب الكوخ الموارب ليجدوا اوهاج اوشيك نفسه وفقد وجد اوشيك انه وجهاً لوجه مع أباه اوهاج الذي بادره بالانتقاد السَّمح كعادة البجا في تلك الأحوال :
- ( أشعر بأنك يااوشيك سددت لي طعنة نجلاء قاتلة )
- ( لا ابدا يا أبي لم اقصد جرحك فانا لم افعل الإ ما علمتني من أخلاق هذه الجبال بأن لا أخالف اتجاه قلبي وأنَّ لا أنطق بلساني إلا ما أومن به لهذا صرحت برغبتي في البقاء في مسمار ..يا أبي كنت أتمنى أن أكون معك في هجرتك ولكن "هذا ما كان فليس بالإمكان أفضل مما كان" ،فحقاً من كل قلبي أتمنى أن تحقق من هجرتك أهدافك وما ترجوه وتتمناه ..)
أحس اوشيك بأنه أثقل على أبيه فشعر بالذنب فالإباء عند البجا لهم احترام خاص تحفهم القداسة والتبجيل في كل الأحوال والاختلاف معهم يعتمد على حزمة من القيم الأخلاقية التي لا يُسمح بتجاوزها لهذا أجتهد اوشيك في إرضاء أباه بالوداعة والحنوّ والرأفة :
- ( أبي إني أشعر بالأسف عن كل كلمة لم تكن موفقة قلتها كما أن قلة الحيلة تجعلني اندم لأني لم أكون معك في هجرتك فأنت تعرف أن شهوة قلبي خدمتك ورعايتك بسبب هذا يسيطر عليّ الضعف والقصور )
- ( لا عليك يأبني فأنا اعتدت على مواجهة المصّاعب وفوق كل هذا أنا احترم قرارك وأستطيع أنَّ أتدبَّر أمري )
تملك اوشيك الارتياح بعد أن اطمئن لتفهم أبوه بقراره بالبقاء في مسمار رغم الارتباك الذي بدأ عليه، وحاول اوهاج أن يبدده بإسداء النصح لاوشيك عبر قصة مناقشة بائع المطر وصاحب الحكمة فسأل اوشيك أبيه اوهاج ان يعيد له حوار الرأي الذي دار بين بائع المطر وصاحب الحكمة.
رد اوهاج بتفهم متواضع في لحظة وجدانية فريدة يعيشها الوالد مع ولده .
- عرضاً سمعتك تتحدث عنها مع العم اوشيك باختزال مختصر دون تفاصيل .
- حسناً سأرويها لك واترك لك مضمونها وصيتي لك وأنْتَ ستكون هنا في مسمار :ـ
ساد الجفاف وأنقطع المطر فاصفرت الأشجار ومات العشب وانتشرت رائحة المجاعة فظهر في الجبل جفاف مادي طال كل شيء وانعكس جفاف في الأرواح والنفوس في تلك الفترة بالتحديد في الأوقات التي ساد فيها الخوف والرعب والموت والاختفاء جراء تبدَّل الأحوال فتغيرت قيم الناس وأفكارهم انحصرت في نطاق ضيق ويبست أجسادهم وتحجرت عباراتهم وانتشرت المخاصمات وباختصار عجز الناس عن ممارسة حياتهم الطبيعية وكان لابد أن يكون لبائع المطر وصاحب الحكمة رأي وموقف باعتبارهما الرعاة الروحيين للبجا ومحل ثقتهم الروحية لهذا بادر صاحب الحكمة مناقشة بائع المطر حول أحوال البجا.
-(انقطاع المطر أحرق الأرض وأهلَك الضَّرع )
- ( أنقطع المطر لسوء أعمال الناس وعصيانهم وطغيانهم فلن يهطل المطر ليغير الناس أحوالهم البائسة )
-( أتفق معك على الإنسان في ضَّلال فما ذنب المخلوقات ؟)
- ( لا ذنب للمخلوقات تحمل اثر أخطاء الناس فلا تستحق الأشجار المثمرة والبهائم البكماء وسوام الأرض التي تحفظ التوازن أن تحرم من الماء فتهلك )
- ( لما لا ندعو ونصلي للمطر ؟)
- ( سأضمن لك أن المطر سيهطل إذا وجدت مئة رجل صالح قلوبهم صافية كقلبك وأرواحهم شفافة كروحك )
- برغم الضلال لابد أن نفعل شيء من أجل الناس فصعب انتظار صلاح الناس دون عمل من أجل هطول المطر فالماء هو الحياة فالبذرة الصغيرة الطيبة تولد نبته تشق طريقها عبر الصخور حتى تصل إلى عين الماء فمحاولاتها تعبير عن السعي للاحتفاظ بحياتها فوجود الماء وانعدامه هو الخط الفاصل بين الموت والحياة فتلك النبتة تظل مثابرة طوال حياتها القصيرة دون أن تصاب بالقنوط فمن المهم أن يعمل الناس لرفع البلاء وليس المهم عدد المتضرعين من اجل رفع الوباء واستعادة رونق الحياة .
- ( بالنسبة ليَّ أن العبادة عمل روحي يطرد قوات الظلمة ويقهر المخاوف ويحرك الثقة والرجاء في المسيطر العظيم لكن التنازلات الأخلاقية والروحية تعتبر عمل فيه مخاطرة بجوهر الإيمان لهذا يسود الجفاف لأن القنوك تنازلوا عن معتقداهم بالادعاء بأنهم يودون المواكبة كي يطهروا العقول فأرى أن ذلك سبب انقطاع المطر )
- ( أرى ما قلت فيه كثير من المنطق لكني لا اعتقد أن ذنوب الناس وحدها سبباً لهطول الأمطار أو عدم هطولها فالجفاف له أسبابه فالأشياء خلقت من العدم قبل أن يوجد شيء في الأرض فكل ما في الكون وجد بتصور يعكس طبيعة الصانع العظيم ففكرة أن انقطاع المطر جاء كردة فعل لخطابي الإنسان وقوع صريح في مصيدة أن الكون وليد الصدفة وتشكل عبر بلايين الأعوام من التطور وفي هذا إنكار لحقيقة واضحة : أن كل شيء موجود مرئي أو غير مرئي إنما هو دليلُ قاطع على تصميم متماسك شديد الترابط والدقة وليس فيه انفعالات مزاجية لصانع واعي مسيطر على كل شيء )
- إنه لا خلاف جوهري بيننا في ذلك وحتى نتفق لابد أن نعترف أن بشارة
"ود تكتوك" التي أطلقها في هيا وسنكات أقترب مجيء المخلص لإنشاء (المُلك الالفى) الذي يسود فيه العدل وتنتهي فيه معاناة الإنسان ويتزن نظام الكون فانقطاع المطر عن مسمار والجبال أراه جزء من تلك المعاناة التي تجعلنا أكثر قرباً من نبوءة مجيء المخلص وانتهاء الألم إلى الأبد فالألم من الجفاف هو خطوة نحو السعادة الأبدية حين ياتي المهدي ومن بعده المسيح.) إشتاط صاحب الحكمة غيظاً وبدت في ردوده اللاحقة على بائع المطر شيء من القسوة والحَّدة والانفعال .
( يا رجل اترك الأوهام وتعامل مع القضايا الواقعية فعدم هطول الأمطار يجعل الإنسان والحيوان والنبات يموتوا فما الفائدة عندما تتحقق النبوءة يجيء المهدي والمخلص ويملان الارض عدلا بعد احتشت جورا ثم يكتشفان فراغ الارض من السكان فاذا لم يهطل المطر سيجدان الأرض خالية من المخلوقات وتدمرت فيها الحياة وهلك الزرع والضرع ؟ وما فائدة أن يكون هناك (مُلك ألفي) على الخراب ؟ في ذات الوقت لا أتفق مع فكرة هطول المطر مربوطة بالرشاوى التي يقدمها الإنسان من قرابين وذبائح بأنها ترفع الغضب فأن كان لهذا الكون صانع فليفعل به ما يشاء وأفعالنا لا تؤثر في خططه وتقديراته فالافعال لن تجلب للإنسان السعادة اوالشقاء )
- ( لا أتفق معك فيما توصلت إليه فعلينا فعل أي شيء يجعل المطر يهطل ويمنع هلاك الناس فلا ضرر من الدعاء والصلاة لأجل المطر فإن لم تأتي بالمطر فإنها تبعث الأمل حتى وإن كانت الأشياء مكتوبة ومؤسسة منذ الأزل وإلى الأبد على رؤية تفصيلية واضحة لا تغير فيها بمؤثرات مزاج الإنسان وأهوائه مهما كانت إيجابية أو سلبية )
أعتقد أنك مثلي يااوشيك وجدت في تلك المناقشة المدهشة كيف يدار الاختلاف دون حقد أو كراهية بين بائع المطر وصاحب الحكمةكل منهما يهمه هطول المطر ولكنهما مختلفان في الكيفية لهذا يديران الاختلاف بموضوعية دون أن يجعلا من الاختلاف مصدراً للتباغض والمتاعب فلا معنى للحياة نفسها إذا لم يدار بذاكرة متسامحة تغرق بين التصادم والتكامل في التعاطي مع الرؤى المتباينة فالتسامح يكون بمثابة الصمغ الذي يلصق الناس في علاقتهم يبعضهم البعض فالاختلاف حينئذ يظل من الذكريات المشتركة التي لا تثير الحنق والحقد والكراهية بل تفهم على أنها جزء من علاقتنا بالوجود الذي يعايش بصدق وإخلاص محب للآخر هذا يعنى أن هناك بوناً شاسعاً بين الاختلاف والتضاد لهذا لابد أن نكون ممتنين لبائع المطر وصاحب الحكمة لأنها أكدا لنا أن هناك غيرنا من البشر يختلفون معنا ومع غيرنا دون افتراض إن ما يرونه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه .
يبدو أن إعادة اوهاج اوشيك لسرد مناقشة بائع المطر وصاحب الحكمة قد جردته هو وابنه اوشيك من أي روح للغضب جراء المواجهة التي دارت بينهما بسبب الهجرة باعتبار أن المناقشة أبرزت الرأي المختلف لا يلغي القيم الراسخة وعلى رأسها المحبة والحرية باعتباره في قضايا الرأي ليست هناك اختيارات خاطئة فمن حق الكل اكتشاف طريقة نحو المعرفة من زاوية شخصية تستند على وعيه وخبرته فمن المهم أن يعرف الشخص كيفية عرض رأيه بوسائل لا تهضم الآخرين حقهم في الرأي . فالمناقشة التي عرضها اوهاج على ابنه اوشيك هي بحث دءوب عن المثل والمثاليات كما أن فيها جوع للشفافية وإشباع لرغبة التواصل الايجابي بين الناس ذلك التواصل الذي يحترم الاستقلالية وحرية الاختيار فهي تساهم النماء الفكري والروحي للفرد والجماعة .
أنصرف اوشيك اوهاج و اوشيك ايلا للقاء المهاجرين الذين تدافعوا لمسمار من "حوض القاش الكبير" ومروا "بطوكر "من كل حدب وصوب بحثاً عن الأمان والاستقرار وهرباً من تقلب الطبيعة وثوراتها المميتة فقد جاءوا "لهيا" و"سنكات" و"سواجن" و"مسمار" المهاجرون كالأحجار لحظة ارتطامها بالجسد المُسخن بالجراح فقد سكن المهاجرون سفوح الجبال في البقاع التي تتكاثف فيها الأمطار عادة فطاب لهم المقام ونسوا عذابات الهجرة لذا صارت الصيّحات تعلو على الصيّحات بين قراهم برغم من هجمات الذئاب التي ظلوا يتعرضوا لها بين الحين والحين فالذي دعا اوشيك للذهاب إليهم هو أنهم صاروا موضوعياً جزء من "هيا"و"مسمار" لهذا يسعى اوشيك لمواجهتهم حول موقفهم من قتل الذئاب والذباب فيعتقد المهاجرون أن القتل من اكبر الخطايا سواء كان المقتول إنساناً أو حيواناً فما يعرفه البجا ونشأ عليه اوشيك أن الحياة في الجبال تحتاج إلى قدر عالي من الصرامة والشَّدة فلكي يحافظوا على الأطفال والأبقار لابد من أن يقتلوا الذئاب المهاجمة لهذا اشترط اوشيك على المهاجرين للإقامة تعلم كيفية نصب "الفخاخ" فان لم يهتموا بنصب "الفخاخ" و"المصائد" "للذئاب" و"الذباب" فأن "الذئاب" سوف تصطاد أغنامهم وأطفالهم و"الذباب" سيورثهم الأمراض لهذا لن يجدوا الحماية من البجا لأن اوهاج لا يعرف للدفاع عن النفس وسيلة افعل غير "المصائد" و"الفخاخ" لحمايتهم من خطر "الذئاب" و"الذباب" . فتلك الكائنات الوحشية إذا شعرت بالتساهل توحشت وصارت خطراً على الجميع وبعد طول جدال وضرب أمثال علمية متقنة اتفق الغرباء والبجا بأن ا"لذئاب" و"الذباب" خطر لابد من لجمه بالقوة. الحق يقال تراجع المهاجرون عن اتجاهاتهم حتى لا تهلك القطعان والأطفال من هجمات "الذئاب" و"الذباب" وأباحوا قتلها مع الكراهية و عند الضرورة القصوى اي انهم خضعوا لقوانين الواقع بضرورات .
************************************************** **


الاسفار القديمة كانت مشحونة بحياة البجا وطاقتهم اللا محدودة في استيعاب الهجرات التي وفدت إليهم من اعالي الحبشة وأعالي الأنهار وتأثرهم بالهجرات وتأثيرهم فيمن هاجر إليهم فمما جاء في الاسفار عن أديم طوكر أنه يشبه حجر العقيق الأزرق هذا ما جعل حياة البجا تتجلى بريقاً بالعمل لهذا السبب ولغيرة لا يهتمون بالهجرة منهم وإليهم فمن يهاجر منهم يحسبونه تنازل عن مكانته المرموقة كبجاوي وتخلى عن بناء "هيا" مدينة السماء و"مسمار " مدينة الانبياء والاحلام الراسخة و تخلى الى الابد عن استقرارهما على الأرض مما يورث اللعنةكما في اعتقادهم .هذا الشعور أباح به البجا لاوهاج ومن سار معه في مشروع هجرته إلى جبال "دنكاليا" "ومصوع" و"عصب" وشهيدي" و"تسني" برغم هذا الرأي المشترك انسكبت دموع الفراق وطالت جلسات المؤانسة ففي اليوم الأول من الشهر الذي هاجر في نهايته اوهاج اوشيك وأتباعه "لمنبع النيل" و"ارض الكنانة" أجتمع اوهاج مع أبنه وابن شقيقه اوهاج اسياس فعندما حضرا وجدا اوشيك اوهاج مستلقياً على سرير خشبي صنع من أشجار "المهوقني" ونسج بجلود الأبقار فجلسا القرفصاء واضعين أيديهم على صدريهما فأعتدل اوهاج من إستلقائته جالساً على السرير مشبكاً قدماه فقال :
- ( مرحباً بكما فقد جئتما في الوقت المناسب فأردت أن اسمع رأيكما )
ردا بصوت واحد
- ( فيما تريد أن تسمع رأينا؟)
- ( نحن مقبلون على حدثٍ جلل فيه انقسام للأسر ، وبعضنا قد لا يعود من معارك روحية طاحنة لا استسلام فيها فالانتصار فيها موت والهزيمة فيها موت..الان سيهجر من اجلها بعضنا هيا الجميلة التي نزلت من السماء وقطعاً سيصارع بعضنا قوى أخرى لها أهدافها الشريرة فتلك المستجدات لها تأثيرها في كل الأسر المقيمة في هضاب ساحل بحر المالح الغربي وتحديداً على أسرتنا نحن في مسمار فماذا ستفعلان وأنتم الحاضر المستقبل ؟
رد اوهاج اسياس بهدوء الصارم المعهود .
- ( أنا قطعت أمري بالهجرة معك وسأعمل ألا ينسى البجا "مسمار" و"طوكر" أبداً مهما حدث من نصر اوهزيمة)
أشار اوهاج الكبير إلي ابنه اوشيك بقوله :
- ( ماذا عنك يااوشيك )
- ( أنا سأبقى في مسمار مع عمي اسياس وجدتي خديجة نرعى مطالب البجا ونبني مياء جديد عن "باضع" ونصلح مرسى "عقيق")
- يعتقد اوشيك أن علاقته بأبيه في تلك الأيام التي سبقت الهجرة عن هيا و مسمار قد صارت أكثر عمقاً والتصاقاً فقد لاحظ أنه أخذ يعمل بكل طاقته ليشد عزم أبيه فكانت المحصلة النهائية أن أباه قد شدد عزمه وأعاد الثقة في نفسه كي يواجه متغيرات ما بعد الهجرة وفي ذلك يقول اوشيك اوهاج اوشيك ايلا الابن :
- ( ذكرني حنَّو والدي علىَّ في الأيام الأخيرة قبل هجرته اهتمامه بيّ عندما ألَّم بيّ مرضُ عضال"الدرن الرئوي" فقد ظل إلى جانبي يحنوَّ علىَّ كأنني ولده الوحيد فقد ظل إلى جانبي لا يفارقني حتى برئت فقد كان أبي في تلك الظروف العصيبة يمسح وقرَّ جبهتي ويشد من عزمي ويقوي من إرادتي كي أتحلى بالصبر والتماسك فقد لعب معي كالأطفال حتى اني كنت ارى البهجة في قلبه فهو من منحني الإحساس بالتمسك بالحياة وهزيمة المرض والآن اشعر بالفشل لأني لم استطيع أن أمنحه ذات الحب الحاني الذي أعطاني إياه وهو يستعد لرحلة خطر احتمالات العودة فيها صفراً هذا ما يفرض شحنه بالحب والتضامن ويزرع الشجن والشوق .)
ففي الشهر الأخير الذي سبق خروج اوهاج اوشيك ايلا الاب من مسمار مهاجراً باحثاً عن الأحلام والنبوءات ضغط اوهاج على أبنه البكر اوشيك اوهاج حتى حفر في ذاكرته وصاياه فقد صار اوشيك صورة طبق الاصل من اوهاج فقد كرر له مرارا :
(... الاعتصام بالحكمة والتجمل بالصبر والتحلي بطول الأناة والمقاومة بضبط النفس ، كن مسيطراً على القوة وليست القوة مسيطرة عليك ، تعطر بالمحبة والرحمة واجعل أريجهما يفوح منك صباح مساء ، تحرر من القلق الذي ورثته عنيّ وتمسك بالمحسوس ولا تجعل الأحلام تستدرجك بعيداً عن مسمار وهضاب ساحل البحر الاحمر الغربية...)
ظل اليوم الأخير من الشهر الاخير لااوهاج اوشيك ايلا قبل هجرته عن مسمار راسخاً في ذهن اوشيك الابن ففيه تمت طقوس الوداع التقليدية فشاع البكاء والعناق فالأسر انقسمت بين الهجرة والاقامة إلا أن الجلسة المنفردة بين اوهاج واوشيك تركزت جوهرياً حول الاعتناء بالغرباء القادمين من عمق الصحراء ودمجهم في البجا وتفهم عباداتهم القاسية وأخلاقهم الناعمة التي لا تسمح لهم بالقتل حتى الحيوان الوحشية الكاسرة )
ففي هضاب البحر الغربية عند هيا و مسمار أمتزج أبناء الصحراء الذين وفدوا إلى النهر من واحات "جالا" ـ "سليمة" ـ "اوجلا" ـ "الداخلة" ـ "حقبوب" وجبال الحساونة فزرعوا الوادي بالذرة والقمح وتضاعفت الاغنام وضاق السهل بالماعز والماشية والخيل بعد تضاعفها فقد جددوا "سنكات" و"سواجن" و"هيا" كما تنبأ بذلك اوهاج الاب قبل رحيله فقد امتزجت في هضاب ساحل البحر الغربية الدماء وتناغمت الأرواح فأينعت نبته صغيرة على شاطئ النيل عند "مروي"، فارورقت فصارت شجرة عالية فروعها في السماء وجذرها على الأرض فأثمرت المحبة والإخاء والثقة والاستعداد لاستيعاب الآخر بالبحث له عن أعذار إذا اخطأ والشد على يديه إذا أصاب كل تلك التبدلات أعطت مجلس البجا الحق في اتخاذ قرار جري بتنصيب اوشيك اوهاج الابن زعيم بدعم من عميه اسياس والاخر اوشيك ايلا الاخ غير الشقيق لاوهاج الاب فمن انجازات اوشيك الابن انه غير مجلس تقاليد البجا في يوم احتفالهم بنهاية المطر ودخول الصيف فقد حوله لمجرد احتفال بمواسم للأفراح تعمل فيه الأمهات والآباء من اجل إنشاء الأسر العديدة فقد أصبح الاحتفال موسماً للتزاوج والتناسل فقد حظر مجلس البجا نشر الإشاعات أو التعصب والقتل واراقة الدماء والعنف حتى الاصرار لفكرة مهما كانت والعمل على نشرها في الاحتفال كما أباح مجلس البجا الاختلاط واقباس الرقصات في وبدل الرقصة التي يمنطق فيها الفتيان والفتيات احقائهم بجلود البقر ويرتدي الكهول ثياب من جلود الحيوانات الوحشية الكاسرة وبعدها يرقص الجميع على إيقاعات الطبول الى افاعل عادية لاصلة لها بالحروب كما كانت. فالأهم من كل ذلك ادخل فقرة الحكي في الاحتفال التي بدأها سعيد بن ميمون كبير أبناء الصحراء الذين ذابوا في البجا حيث حكي قصة هجرتهم من "الاندلس" للصحراء و"جبل الحساونة "إلى "مسمار" الى "هيا" ففي الاحتفال السنوي رواها بروايات كثيرة في عدة مناسبات وبأساليب عديدة وروايات صحيحة وغير صحيحة إلا أن أشهرها هذه الرواية الشائعةبين البجا وكل ساكني الهضاب الغربية لساحل البحر الاحمر:
( روى ليَّ جديَّ عن أبيه عن سعيد بن ميمون العاشر الذي اعتقد جازما انه لم يقل كل مايريد.. أن الصحراء صارت أكثر تصحراً فالواحات جفت ونضب ماؤها فصارت الحياة مستحيلة فكان الخيار الأوحد لأبناء الصحراء الذين تجمعوا من كل بقاع "الاندلس" بعد الهروب العظيم من اوربا ومن ثم دخول افريقيا الاصطدام بالحروب والرحيل من العنف بحثا عن منابع الأنهار التي جاءهم خبرها من كتاب الاخضري (أصل البلدان وتجمع السكان ) فبدأنا رحلتنا شرقاً من و"احة الخارجة" التي تجمعنا فيها من كل الصحراء خلال ثلاثة أعوام ففي العام الرابع بدأنا مسيرتنا في قافلة ضمت الرجال والنساء والأطفال وكل زوج من الحيوانات التي استئناسها في الصحراء او جئنا بها من اوربا فسارت القافلة المثقلة بالمعاناة تصارع قسوة الطبيعة واحتمالات الموت الراجحة جراء قلة الماء والغذاء برغم ذلك كان الرجاء هو طاقتنا للوصول إلى منابع النيل لهذا تعالت الأناشيد والأغاني والترانيم فكنا نسير ليلاً نلوذ من شمس الصحراء نهاراً حتى أدركنا بقعة تناثرت فيها شجيرات "طلح" و"حراز" و"هشاب" و"سدر" فشعرت القافلة بالتفاؤل بقرب الوصول للماء لان وجود الأشجار يعني الاقتراب من مجرى النيل وان المنطقة تهطل فيها الأمطار وفي جوفها ماء فمن فرط الفرح قررنا الإقامة مؤقتً في تلك البقعة التي أطلقنا عليها (دار انتظار )فأويت مثلي مثل الجميع تحت ظل سدرة ومن فرط الإنهاك ظللت نائماً "ربع قرن" حسبتها بعد ما استيقظت غفوة صغيرة لكني أدركت كم من الزمن نمت حين وجدت أخي "ديسم" يأمر القافلة لتصهر كل ما عندها من حديد لتصنع منه معاول كي تحفر بها للوصول للماء فتذمرت القافلة بأن لا طاقة لها بالحفر والمنطقة ليست مقصدهم من الرحلة فالهدف منبع النيل فاستعمل العنف وأجبرهم على الحفر الذي طال دون الوصول إلى الماء فعندما استيقظت على المشاجرة سألت أخي "ديسم":
- ( لماذا فرضت رأيك على القوم ؟ هل هو العقل والحكمة أم هي الرغبة المتسلطة المستبدة ؟)
- ( حسبت أن في الأرض ماء لأن بها أشجار )
- (إلا تعلم أين كان الهدف من هذه الرحلة ؟)
- ( أعرف أنه منابع النيل )
- (لماذا عملت على تحطيم حلم القافلة ؟)
- ( لأني أؤمن بالعالم الجديد يمكن ان يقوم في اي مكان وليس بالضرورة عند منابع النيل )
- (لماذا صادرت حق الآخرين في الاختيار ؟) صمت فكررت له السؤال واعدته له بصيغ مختلفة :
- ( أليس للآخرين حق في اختيار مستقبلهم ؟)
صمت "ديسم" بعد تلك المناقشة المكشوفة أمام القافلة بأكملها ولم ينطق بعدها كلمة واحدة حتى مات من الصمت بعد عدة أعوام رغم إنيّ حاولت معه كثيراً فحكيت له الحلم الغريب الذي أفزعني وأيقظني فقد رأيت جماعة من الكهول ذوي اللحى البيضاء ترتدي ثياب ناصعة البياض مشرعين أياديهم إلى السماء بعضهم يصعد ويهبط إلى للسماء في مسيرة مهرجانية ملئها الهتاف وفي صعودهم وهبوطهم ينثرون قطعاً مكعبة من الجليد ويذبحون كل كافر بهم دون رحمة . فعندما حكيت لديسم هذا الحلم كنت أحاول استنطقه وان أجد عنده تفسير لذلك الحلم الكابوسي الذي صار رفيقي لكنه ظل صامتاً ولم يتفوه بكلمة .
حادثة تسلط "ديسم" على عرضيتها قد أشعلت في القافلة وفي نفسي خطر تسلط "الفرد المطلق" لهذا قررنا إنشاء مجلس يدير شئون القافلة ولا يسمح بالتسلط لان السلطة صارت للمجلس فهو المعني بتحديد المسار هذا ما أشاع التفاؤل من جديد فسارت القافلة بسرعة اكبر بعد أن أعطت المجلس لكل فرد حقه في التصرف في شئون القافلة دون أن يكون لأي فرد مهما كان الكلمة النهائية المطلقة في مصير القافلة فعبرنا الفلوات والوهاد القاحلة حتى جاء إلينا صدى أصوات اتجهنا نحوها بتصميم الباحثين عن الحياة برغم وعثاء السفر وإنهاكه فقد حركتنا الأماني بالحياة القادمة المختلفة فالتقينا "بالجلابة الهواره" الذي أطعمونا وزودونا بالمياه وأرشدونا إلى "وادي هور" الذي تزودنا فيه بالأخبار والطريق "لدنقلا والخندق "التي قدرنا أن ندركها بعد بضع ليال قبل اليوم الذي ستكون مشغولة فيه بلقاء رجال الطريق وأهل السّر الذين ينتشرون على النهر البركة والتسامح فأسرعنا الخطى نحو "دنقلا" .
ففي الطريق لم نكن وحدنا فقد التقينا برجال الحل والعقد الذين جاءوا من كل فجاج الأرض فتعرفنا على (ود أم مريوم ) ، (مريم البتول) ، (مريم النشابة ) ، (رابحة الكنانية) ، ( أم سلمه الحجازية ) (الأمام السحيني )، ( عبد الباقي أزرق طيبة)، ( مرفعين الفقراء )، (مرفعين الضيفان ) ، (حمدالنيل) ، (ود النيل) ، ( المجمر) (ابوجبه) ، (ابوفركه) ، (احمد التجاني) ، ( وغلام الله بن عايد) وصاحب السَّر ومركز الحكمة (محمد احمد) كما يشاع .
صاحب مسيرنا إلى دنقلا شيء من الإسراع والإبطاء والصمت والقلق حتى أدركنا النهر فوجدنا النساء والرجال والأطفال في استقبالنا بالطعام والأناشيد الرطبة اللينة:
(... الحب هو طريق لمنابع الماء
تحركوا لا تتقاعسوا
اطرقوا يفتح لكم
... الدهر مفتاحه الثقة والأمان
أحسنوا إلى مبغضيكم
سامحوا الذين يسيئون إليكم
جبل اللداير مركز الامل
منه منابع النيل
لا تركنوا للشلالات رغما فيها ماء غسل القلوب
بشراكم بشراكم لأنكم تجتازوا طنين ذباب الخريف )
أدركت القافلة النهر عند الغروب في اللحظة التي اكتست السماء بالنور ملء الأفق صدى (النوبات الطبول) فاكتست النفوس بالراحة والأمان بعد طول معاناة وترحال شاق في الطريق الصحراوي المفضي إل النهر وعلى حين غرة ارتفعت اصوات الانشاد :
مرحباً بالعابرين إلى المنابع
مرحباً بالعازمين على صقل الإرادات
أروحنا ترتجف فرحاً وحبور
قلوبنا تنادي فتهتز نوائبنا حين نرى معكم النور
عقولنا تدعوكم للإقامة لأننا ننتظركم قبل بدء العصور
أدركتم نهر الحياة
بمراكب الشمس الذهبية سنصعد للمنابع
فيحضنكم الدغل "الغابة" بوحوشه لأنكم عبرتم بالطريق الآمن ففي دنقلا عند حلقات الذَّكر في خضم إيقاعات الطبول رأيت وجه أمرآة حسبت أني أعرفها فوجهها مألوف ليَّ تماماً حاولت التركيز على وجهها فلم افلح في هضم تفاصيلها برغم أني رأيتها بوضوح عرفت أنها من سيطرت على مخيلتي في صحوي ومنامي فتركت كل شيء واقتربت منها فاتجهت إليها دون التفاته فتفرست فيَّ كمن تعرفني قبل الف عام وعندما حدثتني عرفت أنها المختارة فلم أجادلها لأنها كانت تمتطي صهوات خيول الغناء فنظرت إلى عينيها فأخبرتني بأنها خديجة الام أنها المختارة التي صارت زوجتي التي ارتبطت بها من أول نظرة والتصقت بيَّ والتصقتُ بها فأنجبت ليَّ أبنائي ألاثني عشر الذين كنت احلم بهم وأنا في الصحراء وفي طوال الطريق إلى النهر والى جبال البحر لم أكن اصدق أن في زواجي سيجتمع فيه رجال الطريق :
"بانقا الضرير" ـ "المشّمر" ـ "الشاذلي" ـ "الدسوقي" ـ "الجيلاني" ـ "بطران" ـ "ود فطومة" ـ "ودكنان بشرى" و"تمساح فجر عبد الرحمن" فتملكني إحساس أن ضفتي النهر فرحتا بفرحتي فقد ارتفعت الأثقال عني حين اندلق عطر البخور الفواح ففي حفل العرس غنى الفتية والفتيات أغاني عديدة فصلتها ليَّ خديجة الام (النَّم)، (الشاشاي)،
(الدوباي) و(الجراري) فرقصنا مع قبائل النيل على إيقاعات الطبول سبعة ليالي بعدها حملنا عروسنا وركبنا ظهر النيل في اتجاه المنابع حتى وصلنا ملتقى الانهار فرأينا ثلة فتيات وفتيان يركضون خلف الأبقار فسألتهم مرشدنا ودليلنا خديجة عن اتجاه المنابع بأسلوب لم نعهده :
- ( سلام "ياجنيات")
- ( مرحب بيكم في ديار "حمالين الشيل" ، "حلالين شبك أهل الحارة")
( "البكان ده وين" )
- ("دياركم انزلوا على الفريق ")
كنا مهتمين أكثر ما يكون بمعرفة المكان لكن الفتية أصروا على الاستضافة ثم يفصحوا لنا عما نريد من معرفة .
( "انتو في بلد الدَّيار والعَّمار" )
سألتهم خديجة بإلحاح وتصميم جاد لكنهم كانوا أكثر منها تصميماً إنزالنا ضيوفاً عندهم .
(("البكان ده وين" ))
(دم محل "التاتيبه" و"القسيبة" و"الرحَّا" و"المطمورة" "تعالوا قربوا عليَّ الضَّرَّا ""خلوا الكلام الخير عندنا كثير ") اعادت خديجة على الفتية السؤال بأكثر من طريقة وظلوا على إصرارهم بالاستضافة ثم الإرشاد
("بتقولوا على دياركم دي شنو؟" )
("انتو" في "السَّرف" و"الجمام" و"المترة" و"الحفير" و"السَّد")
أخيراً تخلت القافلة عن سؤال المكان وقبلوا الاستضافة التي استمرت لسبعة أيام فيها تعارفنا وتحاورنا وأخذت الحوارات مسارات عديدة لامست كل شيء حتى رحلتنا للمنابع ففي كل ذلك عزفت قيثارة أصدرت الحان تعلن عن إتقان أنغام شجية مؤثرة جعلت الأرض تتفاعل بروح لم تعهده قبل ذلك ولا بعده ، فقدموا لنا "مالم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر" ففي تلك الأيام السبعة التي قضتها القافلة عند ملتقى الانهار أقيمت لنا الولائم والاحتفالات وعند الرحيل زودوا قافلتنا بالذبائح والعطايا والهدايا كما أرشدونا للطريق حتى هيا ومسمار وساحل هضاب البحر الاحمر.
أدركت القافلة "شندي" بعد رحلة شاقة كابدت فيها الذباب والناموس وأفراس البحر ووحوش الدغل فعند شندي انقسمت القافلة فبعضها عبر الصحراء وتجاوزوا الوهاد إلى جبال البحر الشرقية وبعضها اتجه نحو الحبشة نحو جبال البحر وأغلبية القافلة تحركت في اتجاه "مسمار "حيث نزلنا بهدوء في موسم المطر وانتشار الذبابه الرملية التي تسببت في مقتل البعض بعدها تعرضنا لخطر الذئاب والثعالب الممنوعون من قتلها أو اصطيادها فقد حرم علينا الاباء الاولون صيدها ظللنا هكذا في ظروف قاهرة إلى ابعد الحدود حتى إلتقينا اوشيك اوهاج الذي اهتم أن يدمجونا في البجا فانصهرنا فيهم وتصاهروا بنا فصرنا كلنا بجا لا نتميز عن بقية البجا فتعلمنا الاوشام وتقاليد احتفال السَّبر واطلقنا شعر الراس امتنعنا عن الحلاقة )
منذئذٍ صارت الحكايات فقرة ثابتة في احتفال يوم (البجا الكبير ) والحكايات تهدف إلى شحذ النفوس بالعَّبر والقيم وتحريك الأذهان للتفكير في الماضي تطلعاً للمستقبل وتأكيداً على أن البجا هم مزيج من الناس هنود وزنزج ويهود وعرب تعاهدوا على الحياة المشتركة منذ الأزل وإلى الأبد حسب قانون الاخاء .
************************************************** **


تزوج عبد الكريم البرقاوي عوضية شقيقة اوشيك اوهاج في زمن القحط الذي أصاب ساحل غرب المالح من ميناء بربرا الى سواجن فغير نمط الحياة وطبْاعَ الناس فاجتاحت النفوس أحزان عميقة تتفجر في أوقات الغضب ، فالجفاف يجعل المشاعر داكنة ليس فيها مساحات لبراءة فعندما حلَّ بجبال البحر المحل ضيقاً ثقيلاً لم يترك شخص إلا وخلف في قلبه بقعة حزن لا تمحى أثارها ، هذا ما ملأ النفوس بالهواجس التي لم ينتبه إليها الأطفال إلا بعد أن تبدل طعامهم كماً ونوعاً فالمُدخر من الأقوات يتجه للنفاد فكما زرع الجفاف الجوع بين الناس فأنه أصاب الطبيعة في مقتل فانتشر العطش وجف "العطبراوي" وصار شريطاً ضيقاً لا يلبي حاجيات الناس والأشجار والأبقار فمسمار تعتمد على المطر فيزرع البجا الذرة الرفيعة وتعيش أغنامهم على حشائش الخريف ونباتات النهر هذا الواقع هو الذي جعل هضاب غرب المالح تفتح زراعيها للمهاجرين فهي في حاجة دائمة للأقوياء الذين يعملون في المراعي والمزارع فمسمار في ملامحها العامة لا تعدو كونها بلدُة متواضعة تستقبل الغرباء فهي في هذه الناحية لا تختلف عن البلدات المنتشرة على طول مرتفعاتت البحرمن أقصاها إلى أدناه .
الرعاة في هذا الجزء من العالم صفتهم البراعة فالراعي الفرد يهتم بقطيعه الذي قد يضم مئات الأغنام يعرفها واحدة واحده بألوانها وصفاتها وسلوكها هذا ما يجعله على علاقة خاصة بكل شاة متى ولدت ؟ ومتى تلد؟ ومن عاشرها من الذكور ؟ فوق كل ذلك يهتم رعاة مسمار بالغ الاهتمام بمواقع الحشائش الطيبة والمراعي المعشبة هذا ما يعطي رعاة مسمار صفة الإتقان التي اكتسبوها من واقع الحرية التي يتمتعوا بها في الجبال العريقة فيحق لهم دخول كل البيوت دون شعور بالجوع أو صدود سالب من أرباب البيت هذه الحرية تعززها صفة الوداعة والمسالمة التي يتمتع بها رعاة الجبال الذين هم في استعداد دائم لحماية أغنامهم مدججين بأدوات القتال الكاملة فهم لا يستعملون السلاح إلا لحماية الأغنام فرعاة الجبال لا يتورطون في المعارك إلا إذا تهددت سلامة أبقارهم ، فعادة ما تدور حولهم المعارك والمشاجرات دون أن يلتفتوا لها فهم دائما مستغرقون في الثرثرة ونسج الحكايات الطريفة المسلية عن أغنامهم أو عن معارك الذكور من الاغنام مع الوحوش البرية فبرغم الجفاف لم يصمت رعاة مسمار لكنهم جعلوا الغناء سلواهم ظناً منهم أن الغناء يجعل الماعز والاغنام و الأبقار تحتمل وطأة الجوع .
تدهورت أحوال الرعاة إلى أقصى مدى في زمن الجفاف لكنهم ظلوا صامدين لم يهجروا المراعي ولم يتركوا أغناممهم مثل معظم سكان الجبال الذين هجروها للبحر الى "عيذاب" و"سواجن" و"باضع" و"راس محمد" فتحولوا إلى البحر لصيد الأسماك وكسب أقواتهم فقد صمم الرعاة على البقاء مع أغنامهم يعزفون لها قيثارات الصبر ومزامير السيطرة على النفس في أيام شحت فيها الأمطار وانعدمت الحشائش وصارت المحافظة على النفس مسئولية غاية في التعقيد ناهيك عن المحافظة على حياة كائنات بكماء ففي أوقات الجفاف تنعدم الأقوات ويصير الحصول على خبز الكفاف أمراً شاقاً عسيراً يكلف بحثاً مضني من اجل لقمة لا تسد الرمق تلك الظروف حريُُ بها نشر المخاوف واليأس وتعميق الأحزان والاحباطات ففترة المحل ترسم ملامحها في جوف الأطفال نحول وضعف وتغير مفرداتهم فتصبح مسمومة بالسَّباب والشتائم أما الكبار فتكتسي كلماتهم الجفوة والحدة ويلحظ على سلوكهم الجنوح نحو القنوط والتوتر أما النسوة فلا تنقطع عن عيونهن الدموع المعلنة عن الألم والفشل برغم من قسوة تلك الأيام فان اوشيك اوهاج زوج شقيقته لعبد الكريم ـ ربما ليزرع الامل المخرج في مسمار التي صارت تعج بانين الرعاة ـ العجزة ـ والأطفال فلم يبخل اوشيك فصار بيته قبلة الجياع في تلك الأيام المؤلمة حتى أطلق عليه ( فير مان"راجل النار" ) التي تعني فيما تعني في البداويت ملاك النار دليل على أن النار لا تنطفئ في بيته مهما ساءت الظروف وضغطت عليه الأحوال المعيشية . فزواج عوضية كان بسيطاً مفعم بالبذل والسخاء فقد دعا اوشيك مسمار وكل الجبال عن بكرة أبيها لوليمة عظيمة ذبحت الذبائح وأخرج لها المدخر من الحبوب فصنعت النساء مالذ وطاب من مأكول ومشروب فقد طعمت الارض ورقصت حتى كاد الناس نسيان الجفاف بوطأته القاسية .
اختلفت هضاب البحر الاحمر حول أصل عبد الكريم فالبعض يحسبه حضر إلى هيا من الغرب البعيد مع المزارعين الذين يعملون في زراعة المانجو في "الباوقة" و"بربر" و"مروي" فالأغلبية تعتبره من البجا قبيلة الغرباء المهاجرين المحافظين على شبابهم دون تبدل ، فالمتفق عليه أن عبد الكريم راعي من رعاة الجبال الموثوق فيهم يقيم مع اوشيك ويرعى له أغنامه وماشيته فعبد الكريم موفق حاذق صبور يؤكد لاوشيك في أحاديثهما الخاصة انه من ودّايّ(اهل العلم والراي) لهذا أطلقوا عليه عبد الكريم البرقاوي فمن سماته الشخصية أنه شديد الصمت ميال للعزلة واجتناب الاحتكاك ببغية الرعاة لهذا فأخباره شحيحة فعندما يأتي ذكره عرضاً يمر الحديث سريعاً ما ينفك المتحدثون ينتقلوا لموضوع غيره أو لشخص مثير للاهتمام وباعث على الثرثرة وبرغم ذلك فمسمار كلها تعرف أن عبد الكريم جاء إليها منذ خمسة وعشرين عام فاندمج في البجا وعمره خمسة عشر عام جاء إلى الجبال طفل هزيل ترتسم في عيناه علامات الخوف وحب الانزواء وصار اليوم رجلُُ فارع الطول عريض المنكبين حاد النظرات له انحناءة خفيفة تبرز قوة ساعديه فعبد الكريم بصفاته تلك لا تخطئة العين بين الجموع فعاش عبد الكريم في بداياته في هيا حياة الضياع والتشرد والبؤس حتى احتضنه اوشيك ونقله لمسمار ،و لصمت عبد الكريم اعتقد الكثيرون في مسمار انه معتوه لذا صاروا يتجنبوه عكس اوشيك الذي منحه الحنوَّ والثقة ففي بدايات عمل عبد الكريم مع اوشيك تسرب إليه القلق من ميل عبد الكريم للعزلة والانطواء والابتعاد عن الأسر إلا للضرورات لكنه بدل رايه بعد متابعته الدقيقة توصل بصعوبة إلى أن الناس هم الذين يتجنبوه لتشائمهم من ثيابه السوداء التي يرتديها في كل الفصول رغم حرصه على نظافتها إلا أنها سربت الارتباك في تصورات أهل البحر الاحمر الذين تحركهم معتقداتهم الغريبة لهذا كونوا رايا سالبا عن عبد الكريم دون ان يعايشوه وما لمسوا منه خطا واحد واكتفوا بما تعارفوا عنه من غلظة تظهر بجلاء في حدة نظراته كما أنه كان حاد اللسان قاسي العبارة يطلق الكلمات جافه دون تجميل مشحونة بالحسرة والتبرم واللوم فاعتقد البجا أن عبد الكريم مملوء بروح حقودة لهذا حسبوا أن عزلته دليل اختلاله وجنونه انه ممسوس بجن الجبال ولهم الحق فحياة البجا صاخبة تغلي كالمرجل لا مجال فيها للعزلة والانطواء .
توصل اوشيك اوهاج بعد طول معاشرة لعبد الكريم اتسمت بدقة الملاحظة والرصد المتابع أنه رجل حاد نقي يتفق معه في معظم المفاهيم والتصورات التي تتعلق بالحياة ومستقبل القطيع وشيء فشيء صار اوشيك يعتقد أن طباع عبد الكريم فيها شيء من طباعه شخصياً حتى انه بات يرى أن عبد الكريم خلق من ذات الطينة التي خلق منها فاتجه لتبرير انطواءه وعزلته بأنه لابد تعرض لظروف قاسية في طفولته تراكمت كأسرار دفنْت عميقاً في نفسه وروحه وحتما هي ما قاده للعزلة أو أن انطواءه يرجع لأي أسباب معقولة أو غير معقولة حتماً ستنكشف مع المعاشرة وبناء الثقة والتخلص من ثقل الهموم وتحرير النفس من الأثقال هكذا رسم اوشيك نظرته الجديدة لعبد الكريم فصارا على اتصال دائم حتى أن عبد الكريم أزال الحواجز المعروفة عنه في مسمار فأخذ يتحرك بحرية في بيت اوشيك وفي حياته مهتما بقطيع أبقاره هكذا نشأت بين الرجلين صداقة حقيقية فلم يعد عبد الكريم عند اوشيك مجرد راعي يقوم برعاية الاغنام والابقار بل يعده شخص من أفراد أسرته وعبد الكريم يبادله ذات الشعور حتى انه تنازل له عن أجرته طواعية دون مناقشة أو ادعاء طوال فترة المحَّل فقد فعل ذلك تعبير عن تضامنه مع اوشيك في الظروف الصعبة التي تمر بها عادة جبال البحر الاحمر الغربية الوسومة دائما بالجفاف انها محاولة متواضعة منه للمساهمة مع اوشيك في معالجة شئون البيت الكبير والتزاماته العديدة فعادة لا يفعل ذلك راعي لا سيما في أوقات القحط حيث يصير الرعاة حادي المزاج على حقوقهم فانهم يدافعون عن ابسط الالتزامات بأعنف الوسائل فعادة لا يجامل الرعاة في أجورهم فيأخذونها أغنام ومواشي صغيرة يفصلونها عن القطيع والامهات بصرامة، وفي أوقات المحّل غالباً ما تكون صغيرة ولدت لتوها فيحملونها على صدورهم ليقايضوا بها الحبوب والسَّكر والملابس أو لإقناع "الجلابة" على المقايضة وحدها كوسيلة للمعاملات لان "الجلابة" فقدوا الثقة في هطول الأمطار وانتهاء المحّل فهم يأخذون نظير ما يفدون به من أقمشة وحبوب وسّكر ومصنوعات يدوية وحريرحتى لو ولدت لتوها . لم يكن اوشيك يستغَّرب تغير سلوك الرعاة فهو يدرك تماماً كم هي أحوال الرعاة متردية وقاسية لا تطاق فقد صاروا ضعفاء مكسوري الخواطر مفجوعين من رؤية الحياة تموت أمام أعينهم فالأغنام والماشي التي يحبونها ويفنَّوا أرواحهم لأجلها تنفق وتموت كل ساعة فكان طبيعي أن يبدل الجفاف أحوال الرعاة فالذي أدهش اوشيك أن أحوال عبد الكريم لم تتغير بل صارت أكثر رأفة وإنسانية ورحمة هذا ما أكد أصالة معدنه هذا ما جعله محل نظرات عوضية أيضاً التي صارت تراقبه بجدية في غدوه ورواحه .
في أصيل ايام القحط ظَّل اوشيك وعبد الكريم يترددان على الجزء المخصص لعوضية في البيت الكبير ففي احد الأيام حضرا من المرعى تبدو على وجهيهما إمارات الكدَّر والعبوس وثقل الهموم فأعدت لهما عوضية طعاماً وشراباً رفضاه من فرط ضيقهما بالأحوال التي آلت إليها مسمار فأصَّرت عوضية أن يطعما وتحت ضغطها استسلما لإلحاحها وبعد ان فرغا من تناول الوجبة البائسة وأكملا مناقشتهما حول أهمية الرحَّيل غادر عبد الكريم إلى كوخه . حاولت عوضية أن تبدد لشقيقها همومه وهي لا تعلم انه لا سبيل لطرد الحزن في لحظة تموت فيها الحياة لراعي شغله رعاية الحياة ففي تلك الظروف تتكاتف المشاعر السالبة التي تلقي بظلالها على التفاصيل اليومية ففي محاولات عوضية الهروب من مناقشة اتون الظروف المعيشية وقهرها وجدت نفسها تنزلق في الحديث عن عبد الكريم رفيق اوشيك فقد كان مادة مناسبة فلم تتوانى في تناولها فدلفت في ذلك بنية حسنة :
- أرى أن عبد الكريم مفرَّط الحساسية يذرف الدموع إذا مات فحل غنم أو هلكت شاة .
- عبد الكريم أكثر من راعي أنه صديقي .
- كيف تفهمه وهو دائم الصمت ؟
- ليس صامتاً اقتربي منه تجديه متحدثاً بارعاً فعنده روح وثابه وقلب حي حاضر يفيض نقاء فإذا أذرف الدموع لأنه يحب الأغنام ولا يرجو هلاكها لهذا لا يحتمل نفوقها .
- كيف اقترب منه ونحن في هذا الوّحل المحزن ؟
- الحياة تستمر مهما فعلت بنا الأيام فانا لا استطيع أن افعل شيء وهو لا يستطيع أن يفعل شيء وأنت أيضاً لا تستطيعي فعل شيء لهذا لا تربطي شيء بشىء مهما كان صغيراً لاسيما أحوالنا وقسوة الجفاف .
- ماذا تعرف عنه ؟
- عبد الكريم صديقي رغم انيَّ اكبر منه بعشرة أعوام .
- من أين جاء إلى مسمار ؟
- قال من "أبشيط في "دار ودّاي" أنها مسيرة شهور من هنا .
- تعني أن المسافة بعيدة فلماذا يقطع إنسان تلك المسافة أن لم يكن هناك أمر جلل قد مر به ودفعه لهذه الهجرة الطويلة ؟
- هو لا يكذب فهو إنسان ذو ضمير حي وعقل ثاقب ولا فائدة أن كذب وانأ أثق انه ليس من تلك النوعية الباحثة عن السلامة الشخصية .
- لكنهم يقولون انه مخبول منصرف عن الناس ؟
- هذا ما يقولونه عنه وانأ أقول غير ذلك ويجب إن يكون لك ما تقولينه عنه دون تأثير من احد حتى مني شخصيا .
- ماذا تعرف عنه ؟
- معرفة الصديق لصديقه تلك المعرفة التي لا تحتاج إلى معلومات فهو رجل طيب مثل ابن عمنا اوهاج الذي عاد إلى مسمار مؤخرا بعد اشتراكه مع جدنا اوهاج في حروبه ومعاركه في "تسني" و"كرن" وتذوق طعم الهزيمة في "مقديشو"من الثعالب الجارحة القادمة من الدنيا الباردة فهو معنا وليس معنا لأنه مازال في تلك المعركة لم يخرج منها بعد .
- ماذا عرفت عنه بالضبط قصَّ عليَّ الأمر ؟
- كنا في المرعى مع الأغنام أنا وعبد الكريم ودون مقدمات سألني في لحظة صفاء هل تعرف يااوشيك كيف وصلت إليكم هنا ؟
- كان رديّ صادقاً :
- لا علم لي فكيف حدث ذلك ؟
- حضرت إلى هذه الجبال قاصد "بيت الله الحرام" بحثا عن الامان هاربا من الموت ماشيا على الأقدام قل راكضاً من "أبشيط في "دار ودّي" ووجدت الحياة مسالمة في هيا لهذا لم احتاج لعبور بحر المالح واكتفيت بالعمل والاقامة هنا........
- هل قتلت احد ؟ أو هل سرقت مال احد ؟ اقصد لماذا راكضت كل تلك المسافة الخرافية لااشك انك كنت خائفا فزعا؟
- لا لم افعل أي افعل شيء ينتهك الكرامة ويمثل جريمة فقد كنت صغيراً غير مؤهل لارتكاب جريمة اواطمع في مال غيري....!
- فماذا حدث إذن ؟
- بعد معركة "الكبكب" مات أهلي وأحبابي ودمرت ديارنا ــــ
- ماذا تعني "بالكبكب" ؟
- (الكبكب معركة أبيد فيها البرقو بالساطور ) لهذا سميت المعركة بمعركة "الكبكب" لان ا"الساطور" عند البرقو هو "الكبكب"
- كيف نجوت ؟
- في سوق "أبشي" سمعت خبر هزيمة سلطان وداي على يد "الفرنسيس" ولم أكن أتوقع إن جيوش الغزاة سوف تجتاح المدينة فعلى حين غرة هجم الجنود "الفرنسيس" على كل شيء فهرولت مع الفارين ولم أتوقف إلا في "منواشي" حيث سمت إن "البرقو" هزموا وصاروا غربان طاروا في السماوات لكي لايقعوا اسرى في يد "الفرنسيس" .
- بعد ما سمعت حكاية عبد الكريم كما رواها اوشيك أخذت عوضية تتفهم اثر الطفولة القاسية على حياة عبد الكريم فأخذت تتفق مع اخوها بأن تلك الظروف مسئولة عن عزلته وانطواءه قبل تعيد عوضية في عقلها ما دار بينها وبين شقيقها من امر عبد الكريم انتبهت أن الأطفال قد اصطنعوا مشاجرة فكان لابد من تدخلها فهي مسئولة عن الأطفال أما اوشيك فقد انصرف نحو الجزء المخصص لزوجته رقية لايفكر الا في قسوة المحل .
- ************************************************** **
كهنة البحر
الحروب تقتل الامال وتزرع الخوف بكفها الطويلة وتغلق نوافذ البوح وتقود الاذكياء الى مناطق الثرثرة المباحة التي تتجاوز شواطىء الهزيان الى بقاع تجبر الالسن المنطلقة بالفطرة على الصمت .. لاتترك لك فرصة للحديث عن ظل حجر او طائر اوشجر او مخالب وحش جبلي كاسر فيظل السهل يلعن الهزيمة مختفيا وسط عتمة جبال المالح العتيقة بحثا عن العمر الضائع في جوف الاحلام التائهة في الرغبات المجهضة المسجونة في هرطقات الماضي التي انزوت مع الافكار المراهقة التي ظلت تعلن عن عمق اللاشىء لا مساحة فيها للحديث عن الاهل الذين طحنتهم الحروب لا فرص فيها لمناجاة الاخوة الذين لا نعرفهم من الام التي لم نشعر بها او من الاب الذي لا نذكره الذي جاء بعد المحل الدوري الذي يحضن هضاب بحر المالح الغربية من"بربره" الى"سواجن" فلا يوجد رشيد يحدثنا عن الطفولة التي لم نعشها او عن الصبا الذي لم نمر بمرحلته او عن المنازل التي هدمتها القنابل حين تورطنا في الحروب وحملنا مسؤلية فقرنا لبعضنا البعض فانفجرت الدماء من الوريد للوريد ولم نحزن عليها فالمشاعر تاهت وسط الطريق والليالي القاسية في الغربة والتشرد حين دفنت الاحلام التي حلمناها ذات يوم ولم نحققها مطلقا لاننا ظللنا تائهون عن سبيل عودتنا فحبسنا انفسنا متاهة تشير للفراغ من الفراغ بعد ان عدنا للشوارع والارصفة والمدن المحقونة بداء العنصرية والفقر والسل وسلطة الدكتاتور القاسي هنا بعد فوات الاوان الحياة ابرزت لي قصة العمر الذي يمضي مندفعا نحو نهاية النهاية دون نتائج يمكن حسابهابمنطق الفكر والاخلاق.
كانت جبال المالح مختفية وسط ضباب الجبال المغطي الفجوة بين ضفتي البحر في الشرق الارض المقدسة حيث دارت دورت النفط فاحدثت النهضة والعمران والاستقرار والانطلاق الا نهائي فتبدلت الحياة راسا على عقب عبر القرون من الفقر الى الثراء والتاثير في مجرى الاحداث وصياغة الاماني والتطلعات ..امافي الساحل الغربي الاحوال تجمدت ولم تتحرك خطوة الى الامام فمازالت الغيبوبة بفقرها وعجزها واقتتالها تسيطر على المسكونة والساكنون فيها فتلد العنف والنواح الذي يهجم النفوس فيتحول الانسان الى مسخ كالماعز الجبلي المتوحش فكل فرد من اقصى الجبال الغربية الى اقصىها يرتقب طعنة خنجر تاتي اليه في اي منعطف او يموت في حرب لايعرف اسبابها ففي هذا الحيز من العالم في الجبال التي تفصلها عن النيل الصحراء يرضع الناس دموع التماسيح وتكف السماء عن البكاء مطر لعقود وعقود فبين البحر والنهر فاصل من البجا والصحراء تبرز فيه جبال ووديان مدن وقرى وقلاع من الشمع الكذوب وفواصل من الشائعات التي تتحرك كالرمال التي تدخل من النافذه فتتسلل الى الاجساد النحيلة تغطيها تماما فلا سبيل لاغلاق الابواب فتصبح المنازل صامته لاتسمح بنفض الغبار على ساحل البحر الاحمر الضيق المتمرد سيد الاخلاق فهو الذي لايسمح بالحياة العادية فلا يجد الفقراء هناك مناص من النفخ ضدالسماء والعقل او ينفخوا الغبار فيطير ثم ينفخوا الحجر ولايخرج سوى صخور اشد صلادة او يضرب بعضهم كف على كف فيظنوا وهما ان لهم هذا الفضاء رغم انهم اسرى البحر والساحل والصحراء والجدب المستمر من الابد الى الازل ففي جبال المالح مدن باكملها تضج فيها الاشباح والخيالات المريضة ولا تعلن عن راحة الموت الصامته كاللعنة فليس لسكانها متسع من الوقت لعد الخراف الناقصة فقد تركت عمدا في عمق المتاهة انها العزلة الدائمة
مغموسةجذور الفجر في جوف الجبال حين تحمل شعوب البجا والتقراي والامهرا والقلو والعيسى على اكتافها ثقل جبال المالح وفي ذراها تتارجح الذاكرة شوكا للنار حين تصنع القهوة على لوهج ايام عادية لا احداث حقيقة او خلخلة عظيمة تجعل "مسمار" و"سنكات" و"مقديشو" و"عصب" و" مصوع" تلعق الدماء والدموع فالايام في هذا الجزء من الكون قاسية فتخرج الظلمة العجز من جوف الجبال سكانا ظلوا لقرون في غياهب النسيان عظاما نخرة لايشعرون بزرقة البحر او الشمس حين تطل بمحياها المقدس و حين تعانق السماء عارية بلا اكاذيب او اوهام لاتحتمل خبث الاعداء الذين ظنوا انهم صادروا ذاكرة" البجا" و"البني عامر" و"الحلنقة" و"العفر" هناك تستسلم امي للحقيقة كطفل متعب يسند راسه على كتف الامل وتغوص بهدوء دون مقدمات في رحم قصص الانبياء والمرسلين الذين صنعوا المعجزات في الضفة الاخرى وهنا لم يخرج غير "ابرها الحبشي" عاجز عن اطفاء البراكين اوتذوب المصابيح الرخامية تراخيا مع الريح التي تدفع شراعا مبحر نحو المنفى اي منفى غير الوطن ياخذ من قشور الزوايا متكا ينزوي حين يصادق البحر والجبال انثى عنكبوت تجمع عيدان النباتات والجذوع الميته لترص الصخور الصغيرة حتى تسمح للديدان ان تنقسم الى جزاين متماثلين دون ان تموت هناك سابني خلية جديدة لملكة النحل"لملكة سبا" ام الامهرا فينزوي التغابن الى حين تقرر الصخرة الاولى في جبال المالح ان تبقى في مكانها صامته تتفرج على العالم المتصارع حول التاريخ كانه جرف ضخري انجبه زلزال رهيب انها تتفرج على العالم في الماضي والحاضر والمستقبل و من ثم تضحك حين تشاهد الحمام الزاجل يبحث عن سلام في ارض الحروب الدائمة والغبن المستمر يحلق الغراب اعلى زرقة البحر فتسال البوم نفسها هل يحمل حمام الزاجل ماذا يحمل في منقاره اكذوبة لاتعرفها هضاب بحر المالح الغربي؟اوالى اي الطرق هي متجهالحمامات بقصن الزيتون؟ وكيف ستعود لمن ينتظرها في عتمة الليل البهيم؟
يحمل البحر الحيتان والطيور ميته فياكلها العجزة فساحل البحر مقبرة مفتوحة على الدوم تحمل الحيوانات الميتة والنباتات الميتة والبشر الميتين..في الماضي تصورت الجبال امواج البحر معتمة كالليل ..لذلك اندفعت نحو طيف البحر وهو قد توارى خلف وحشة المكان هكذا اصبحت موجات البحر للجبل الشاهق عجز ودكتاتوريات كالفراشة التي تحوم حول النار تنتظر الفجر او تحلم بالسلام والاماني والاغاني عند اطلالة الحمام.
الصيد في بحر المالح
دارت معارك طاحنة في منطقة جبال بحر المالح الغربية وامتد القتال إلى" الصومال" و"جبوتي" و "سنكات" و"هيا" ثم أدرك القتال "مسمار" و"اسمر" و"مصوع" و"عيذاب" و"باضع" و"شلاتين" و"راس محمد" باختصار عم الموت والاحتراب كل جبال البحر وهضبة الحبشة فوجد الناطقين بالبداويت أنفسهم متورطين في ذلك الاحتراب الدامي فقتل في المعارك اوهاج اوشيك ايلا الابن وعشرة من أولاده الذكوَّر ولم يبق على قيد الحياة من أبناءه إلا اثنين هما ابو فاطمة اوشيك الثالث و اماندوم اوشيك وهما الأصغر من أبناء اوهاج اوشيك ايلا الابن من زوجته علوية الحجازية بعد تلك الأحداث المريرة التي فقد فيها البجا أبناءهم وثرواتهم انتقلت قيادتهم تلقائياً إلى اماندوم اوشيك الذي أصبح همه الأساسي معالجة الفقر لهذا دعا البجا إلى صيد الأسماك واستغلال بحر المالح وبدأ بنفسه فصنع له قارب من خشب الأبنوس ثم نزل البحر ر وأستخدم اماندوم مهارته في توطيد علاقة البجا بالبحر ومنها موهبته في الحكي فظَّل يقضي الساعات الطوال في تلك الحكايات التي يقصها لجلساته عن الامال الموعودة في البحر وحتى يحررهم من خوف البحرو و هنا ناخذمن حكاياته هذه الحكاية التي نختزلها هنا بتصريف عالي لتاكيد اماندوم بالبحر واستغاله:
فقدنا معظم أغنامنا وابقارنا في الحروب والقحط الذي ضرب جبال البحر الغربية اعوام متتالية لهذا أدعو كل القادرين على العمل للنزول للبحر وصيد السمك لم اكتف بهذه الدعوات فقد ركبت بقاربي البحر فاكتشفت في عمق أعماقه كنوز أجدادنا صناع الامجاد فالكنوز التي وجدتها واعرف مكانها جيداً واحتاج للرجال الأقوياء لاستخراجها فلم يركب معي البحر احد فالبجا من نقاط ضعفهم خوفهم من البحر لهذا أثاروا انتظار ما يحدث ليَّ ، صمت اماندوم اوشيك برهة تكفي لتغير جلسته وتصويب عيناه للسماء حتى لا يظهر غضبه الذي يبرز اصدق ما يكون من وهج عيناه فيتمدد الخدر إلى قلوب سامعيه إستقرغ ذلك منيهه ثم واصل حكايته مع البحر :
(برغم تقاعث البداويت عن ركوب البحر الذي اتخذته صديق أبثه أحزاني ولا سّر في ذلك فأخذ البحر يكشف ليّ المخبوء في جوفه من كنوز وأسرار الأجداد الذين كم التمسوا عنده الرجاءات ففي إحدى المرات انطلقت بقاربي هدفي الوصول لقلب البحر كان ذلك بعد الغروب فقطعت معظم المسافة بين الشاطئ وعمق البحر فسيطرت عليَّ الهواجس فهززت راسي سبع مرات عامداً كي اطرد الأشباح والهواجس هذا ما جعلني فاتح عيناي على مصراعيهما فدهشت من منظر السمك خارجاً من البحر وحداناً وجماعات فيحط في قاربي وظللت طوال الليل أشكو للبحر ضياع ثروتي وموت أغنامي والفقر الذي أصاب البجا اهلي وانا عائلهم الوحيد ) .
عندما أدرك اماندوم التعبير عن أحوال البجا اعتدل مجدداً في جلسته ثم صوب جلسائه بنظرة معبرة مركبة كأنه يحاول أن يعرف وقع حديثه على سامعيه وبحصافته المعهودة أدرك انتباههم لما يقول من عمق نظراتهم الدَّهشة المتوترة فواصل حكايته مع النهر .
( ظهرت ليَّ فتاة بارعة الجمال ناقشتني في حياة البجا وفي همومي الشخصية وأحلامي ومسئولياتي الذاتية وأسرار أجدادي وكنوزهم وثرواتهم المخبوءة في البحر فكانت الكلمات تسيل من شفتاها كالمياه الجارية فتشق صدري وتغوص لأعماق عميقة في وجداني ولكي تؤكد ما تقول أخذتني من يدي إلى جوف البحر فعرضت عليّ ثروات الأجداد وأعطتني إشارة توحي لي بالإمكان العودة ومعي البجا كي نحمل الثروات فرجعت إلى بيتي أحلم بلقائها فعدت في اليوم الثاني للنهر ولم أجدها فظللت مرتبطاً بالنهر عسى أن التقيها لمرة ثانية ظللت أعود خائب الامل دون أن أحقق حلمي في العثور عليها أو الوصول للبقعة التي وجدت ثروة الأجداد إلا أنني كنت أفاجأ بأن قاربي مليء بالأسماك فظننت أنها أرادت أن تعلمني صيد السمك فانقلب اعتقادي رأس على عقب حين ظهرت ليَّّ من جديد فقادتني إلى عمق أعماق البحر فعبرت بيّ أخدود بين صخرتين أتسربت فيه ثم أتسربت خلفها فأحسست انَّي أسقط من علو شاهق ثم وجدت نفسي في ارض صلبة تحت الماء ثم قادتني إلى قصر ضيق أجلستني على مقربة منها وشرحت ليّ أمور حادثة وأعلمتني بأمور ستحدث وكشفت عن ثروات الأجداد وعن عوالم أعماق الأرض فعرفت مالم يخطر على عقلي وشدّت علىَّ ان يظل الامر سر ا و الا اكشف ما علمتني لكائن من كان ولانكم اهلي لااخفي عليكم سرا فباطني عندكم كظاهري لذلك أبشركم بمعرفة ما أعرف وأكثر إذا صعدتم معي على ظهر البحر وان كل منكم سيجد ضالته )
ساله احدهم بلغة مستغربة
- ( الم ينتابك شيء من الخوف في رحلتك تلك ؟)
- صوت جهوري جاء من احد جلساء اماندوم
- رد اماندوم على اسئلة الحضور بصبر وحكمة:
- ( دون شك كنت خائف ولا أخفي عليكم حاولت التراجع أكثر من مرة لكن جمال الفتاة شدَّني للسير أكثر من الخوف لهذا دخلتُ معها مدينة مبنية بالجواهر الخضراء والبيضاء فاجتزنا بوابة يحرسها عمالقة لكنها كانت تمسك بيدي حتى دخلنا إلى صحن القصر في دار بيضاء فخلعت حذائها ففعلت مثلما فعلت فإذا بنا وجه لوجه أمام الآباء والأجداد كل منهم يمسك كتابه في يده اليمنى مدوناً فيه أحلامه التي لم يحققها والأفعال التي يتمنى أن يعطى فرصة كي يحققها أو يتمنى أن يحققها غيره نيابة عنه فأخذت أحفظ وصايا كل واحد منهم حتى ضربني تيار من الهواء كثيفا جافا خالي من الذرات فدار راسي ولف لفاً سيطرت عليه بعد مقدار من الزمن صعب علي تقديره فصار تيار الهواء جامدا لا هو بالمتحرك ولا هو بالساكن فاندفعت للباب ابتغي الهرب فانفتح الجدار لي من تلقاء نفسه فإجتزته لأجد نفسي في ذات المكان الذي تركته قبل لحظات سابحاً في ريح زكية معطرة بأريج عطور الصندل والياسمين الفاكهة المزهرة )
تأوه اماندوم فاخرج دخان ساخن من صدره ثم لاذ بالصمت فحاول جلساءه دفعه للمزيد من الحديث عن تجربته مع البحر وغموضه واسراره إلا انه عاد فأكد لهم أنه لن يكشف لهم أكثر مما أخبره به الأجداد من معلومات تتصل بحضارهم ومستقبلهم ثم قال لهم : ( من أراد منكم أنَّ يعرف أيَّ شيء عن تلك الأحداث فليذهب للبحر فيدرك أنيَّ قلت ما يُسمح ليَّ بانّ أقوله فأنا عاهدتُ نفسي إلا اكشف ما رأيتُ وسمعتُ ولمستُ لكي لا أغضب أرواح الأجداد وتكون عاقبة ذلك مصائب للبجا والامهرا والتقراي ومجاوريهم من الربطاب والارومو واولادهم واغنامهم لهذا لن يعرف أحدكم ما أعطاني إياه أجدادي من وصايا وأسرار ليّ شخصياً وهذا ليس للإعلان ومن أراد منكم أن يعرف المزيد فليركب قاربه وينزل البحر فسيجد ما وجدت بل اكثر واعظم مماوجدت فالبحر هو الحرية المطلقة .)
لم يهتم اماندوم للقصص التي أخذت تتوالد بسرعة هائلة من حكاياته مع البحر فقد استدار نحو بيته كأن قوة خفية تدفعه برفق نحو شباكه ورماحه كي يتفقدها قبل أن يأخذ قيلولة دورية اعتادها بعد الظهيرة فيغفو قليلاً وينام هانئا دون قلق استعدادا لركوب البحر عند الأصيل حيث يظل يصارع امواج البحر حتى الهزيع الثالث من الليل.
الخروج
لك ياحلمي ان تدخل في ذراعي وتصعد الى اعلى الممرات الخفية من عقلي حيث الصمت يستظل بشجر صائف يناهض الاحلام ولايسمح بتناول قهوة الصباح في ظله هناك هناك اخيط قاربي من الذكريات للخروج من امواج العزلة القائمة منذ القديم غبارا احمر وازرق فتحتم على ان انفض من غبار العزلة ثيابي واشد وثاقي على شجرة سدر خضراء طول العام في صحن الدار فاثرثر مع جدتي عن متاهة الحياة. فجدتي عمياء مسكونة بضوء عينيها الخفي لذلك تجلس في ظلامها خانعة وتسرد قصة الخلق علينا فلا نمل اوننام او نحوقل او نتمتم او نفيق فنسلمها العقل والفكر والروح. تروي لنا جدتي وعيناها منغرستان في ظلمة الفراغ المتاهة احاديث المناطق البعيدة النائية التي زارتها مع جدي عندما اشترى السلاح من "الهند" و"الصين" ادعت انها رات اناس يعرفون كيف يحلون مشكلة الحياة ويغيرون اقدارهم بالعمل والاجتهاد واعمال الاراردة. ظهرت لها مدن كبيرة قائمة "بالطوب" و"الحجر" ومدن صغيرة سكانها خليط من كل الاعراق هندوس وقبط وعرب ويهود،مبنية من "الخشب" و"الصفيح" معظم شورارعها نظيفة مغسولة بالصابوب والروائح المعطرة فيها الكنائس والمساجد والمعابد فالمساكن في المدن الصغير رغم انها من الخشب والصفيح الا ان بعضها او قل معظمها من طابق او طابقين تختلف عن " هيا" و"سواجن" و" مصوع" فجميع هذي تشبة الى حد ما قرية في ضواحي "مكة" التي راتها جدتي في موسم الحج الاخير يوم عبرت المالح للشرق لنجد وتهامة.بحسب جدتي ان " هيا" مهما عظمنا من حجمها وشانها فهي مجرد قرية ابعد منها لمدينة فلا تحمل من ملامح المدن شىء رغم انها تعج بعدد مهول من رجال الشرطة وجباة الضرائب وموظفي دواوين الحكومة وممرضي المشفى ومعلمي مدرستي البنين والبنات. ولان "هيا" من المدن النائية فان خدمة الحكومة فيها رابحة مجزية الى ابعد الحدود.ترى جدتي ان سكان هيا بسطاء لاتعصف برؤسهم افكار "الثورة" او "اعلاء قيم الدين" و"تطبيق شرع الله".لهم عادات رسخها الزمن. مظم الاعمال في هيا يقوم بها الوافدون الذين يمكن ان نسميهم بالطبقة النبيلة فيها و هم اناس هاجروا من الداخل من مدن "النيل" و"كردفان" و"دافور". اناس قادمون من العواصم البعيدة يحدوهم الرتب الكبير والامتيازات والمخصصات التي تعطيها الحكومات للذين يعملون في مناطق "الشدة" فيمكثون فيها بصفة دائمة ويستقرون في مدن ساحل بحر المالح الغربي الى الابد.اما ذوي الحظ العاثر يعجزوا عن التكيف ما يلبسوا ان يساموا ويضجروا ويعصرهم الندم لقبولهم التكليف والمجىء الى هذه البقاع القاسية فيعودوا الى "حلفا" و"دنقلا" و"نيالا"و"الابيض" و"الفاشر" و"الخرطوم" و"ودمدني" متذمرين لهم قصائد طوال وفي نقد الحياة وقدحها ويهزئون بها ويسخرون منها وفي تقديري انهم مخطئون فارض ساحل بحر المالح الغربي رغم جفافها ومناخها السيىء انها ارض الفرص الدائمة فالتجارة فيها ناجحة والنساء فيها جميلات والصداقات لاتنشا بسهولة ولكنها عميقة والناس في هذة البقاع يحتسون القهوة والسمك طاعم مدهش والناس لايحملوا في قلوبهم كراهية لمطلق بشر لهم ارتباطهم القديم المتوارث مع الاغنام والماشية فهم رعاة بالفطرة انائية يتعلم منهم الناس الصبر.
حدثتني جدتي عن جارهم الذي قضى في مجاورتهم عشرين عام يعمل حملا في الميناء يوم اراد العودة الى دنقلا اخذ يودع معارفه وهو شيخ هرم لقد جاء الى هيا شابا،غير عابىء بشي، غير مبال بشىء لايفكر الا في نفسه وكيفة ارضائها، وقد نال من كل ما ارد ولم يؤسس لنفسه اسرة، وهو الان عائد الى دياره اشيب الشعر، حزين الوجه، عابس الاسارير، لقد طاف على البيوت المجاورة صامتا، فكان كلما دخل بيت بكى وحيا اهل البيت تحية عميقة، راجيا الا يحفظوا عنه ذكرى سيئة. قالت جدتي:(لم ار في وجهه الخجل او اي شعور بالعار بل شىء خفي لايمكن تفسيره) سالتها ببرائة
-ماهو ذاك الشىء يا جدتي ؟
كان ردها صادما وعنيفا
"انت عديم الحيا.......يارذيل "
قالت لي اختي خديجة بصوت خافت لاتسمعه الجدة:
-( لاتهتم فالجدة احيانا تبالغ في تصويرها للاحداث)
سمعتنا الجده وارادت ان تبرز لنا انها تعرف كل شىء ففي سياق حديثها قالت:
-( انا لا ابالغ فقد كان هذا الجار عابثا سكيرا لم يقبل بالاندماج في الناس فالذي كنت اراه في عينيه تسرب العمر من بين يدية دون اسرة اة اطفال)
شعرنا بالحرج والارتباك لم تهتم لتلعثمنا ومحاولتنا الاعتذار فقالت
-(كانت حياته شديدة العزلة شديد الهدوء)
كانت جدتي عجوز قصيرة نحيلة حادة النظرات ليس في وجهها اي شلوخ كمعظم النساء الائي هن في عمرها تتوتر من اي مقاطعة عندما تحكي حكايات الحي او الاشياء التي مرت بها في صباها .. ولانها شعرت بننا قمنا بمقاطعتها فانها غضبت من غضبا شديدا وطردتنا تحركنا من جوارها الى غرفة اخرى في المنزل الذي يتكون من فضاء واسع نخشاه ليلا ولانخرج اليه مطلقا دون صحبة شخص قادر على حمايتنا، الغرف في المنزل متتابعة كانها غرف في فندق رغم انها محدود غرفة النساء وغرفة الرجال والاستقبال وغرفةالاولاد وغرفةالبنات وغرفة الجدة باب منزلنا كان من الخشب فالارض مالحة لاتحتمل المعادن ، بدل ابي طلائه عشر مرات في هذا العام ومازال اثر المالح ظاهر في الباب فالشمس دوما في السواحل تفسد الطلاء ، طلى ابي الباب من جديد لاستقبال العيد الذي يعود مكررا لاامل ولا رجاء فيه بعد عاد الوافدين من الداخل للساحل الى مدنهم وقراهم واصبحت هيا هادئة خالية من الضجيج، بعد ان طردتني الجدة حاولت ان اعمل مع ابي في طلاء الباب الخارجي للمنزل ولاني شديد العبث نهاني ابي عن الاستمرار في اللهو بالطلاء وطلبن مني الابتعاد قليلا فابتعدت وجلست في زاوية اراقب ابي فباصبعي رسمت على الهواء فراشات ظلت عالقة في ذهني افسدت علي فرحة العيد صبا صباحا قبل ان تصحو الاشياء وتشرق الكلمات . الان وبعد كل تلك السنوات القاسية التي قضيتها بعيدا عن المنزل بل بعيدا عن مدائن ساحل البحر اتذكر حادثة الطلاء ومعاكستي لجدتي اني اشتاق لرائحة البن وطعم القهوة فاظل مسكونا بالزرقة مع امواج البحر الغمامات التي تغطي السماء عند الغروب .الان احتاج شىء من الثقة في النفس اطارد الطير واصطاد السمك و اتابع حركة المياة المصادمة للجبل محدثة في ذهني صورة للوجود لم تفارقني ابدا طوال حياتي فتظل دوما مدخلا لفتوحات قلبي في صورة الارض وملاحظات القوية التي ودلت عندي البحث عن الجديد و الخروج من الشرنقة البائسة الى ذاك البهاء الانيق الذي عدت فيه الى رحاب الكون الوسيع دون اوهام او امجاد او حتى نشيد
الدنيا الجديدة
الأستاذ موسى ابو فاطمة اوشيك نشأ في ظروف غير تلك التي عاش فيها إسلافه الاوائل من البجا فهو من الأجيال التي ولدت بعد الحروب التي فتحت العيون لتجاوز الانغلاق المفرّط إلى التواصل والارتفاع عن سلطة الخصوصية عبر اكتشاف قوة الزمن وما يحدثه من علاقات متشابكة تتصل بالقلب من الممارسة الحياتية بمعناها الواسع فالحروب لم تنتصر فيها قوة متقدمة في إمكانياتها المادية على قوة محلية تقليدية فحسب بل هي نقطة فاصلة لكل الذين يقطنون جبال المالح في نظام حيواتهم ومعيشتهم فقد إنتقلو من أزمنة العزلة إلى زمان الانفتاح هذا ما جعل البجا يضعّوا على طاولة التشريح كل حياتهم بقية التكيف مع الأوضاع المختلفة بتجريد حاد فإن الحروب أطلقت العنان للعقول للجدل فتورط سكان جبال البحر في البحث عن الذات فاكتشفوا انهم بشر معزولين فقد ظَّلوا هكذا حقباً بمنأى عن ضجيج الدنيا وبمنجى منها وبهرجها رغم ذلك جرتهم اليها جرا بعد أن رأى الناس رأي العَّين ثمار الازدهار في الشمال البعيد في ارض "الشام" و"العراق" و"مصر" و" الحجاز" و"تركيا" و" ايران" فقرروا الايفوتهم عيد الارتقاء والتقدم ومهرجان النجاحات في غرب اسيا والخليج وتحديد في المملكة السعودية ـ فالناس هناك تحبة ناعمة حياةُ بأقل إرهاق ثَّم فيها إلغاء الزمن والمسافات بفعل استخراج "الزيت" لهذا التحق بتلك البقاع المعروفة بالثروة في الساحل الشرقي لبحر المالح جيل الأستاذ موسى من ابناء غرب المالح وهضاب الحبشة هاجروا لتلك البقاع المشعة بالامل الحق يقال فعل ذلك في الماضي الجيل السابق لجيل موسى و كما هاجرت فيما بعدالأجيال اللاّحقة لذلك الجيل المعتق فالهجرة دائما ماعبرت عنها حركة السفن الصاعدة والهابطة في "سواجن" و"عيذاب" و"باضع" و"عقيق" فسكان هذا الجزء من ساحل غرب بحر المالح قد آمنوا و صدقوا مقولة اللورد سليسبري الذي وصفهم بدقة وتابع مسارهم وفسر مجىء الاجانب من اوربا للسيطر على مقدراتهم المادية اي اوضح لماذا عبر الاوربيون الفيافي وقطعوا والمحيطات البحار الى هذ الجزء افريقيا الفقيرة التعيسة فماهدفهم وماغايتهم من تلك الحروب والرحلة الشاقة: ( نظامنا فرضته علينا التزاماتنا فهو محاولة لإزالة ما بين الشعوب من حواجز وإقامة رابطة من المعَّونة الفكرية ونشر الثقافة الإنسانية ) الحياة في الشمال الاوربي المنتصر الغالب تخطت اشباع الحوجات فهي ما زالت تنمو وتزدهر بمعدلات تخطت القياس وفوق معدلات القياس فكانت هجرة العقول اليها هربا من الضغط المفروض على العقول الجادة كعقل الأستاذ موسى ابوفاطمة ..فهو من العقول الراجحة المكرسة للعلم كان قراره هو اللحاق بالدنيا الجديدة والانتماء إليها بهذا القدر أو ذاك نقصد أن التطور فرض على سكان جبال المالح تحديات جسام على رأسها كسر قيود العذٌّلة والمهانة فخاضوا المعارك حتى انتصروا فعندما انتصروا في تلك المعارك وجدوا أنفسهم أمام تحدي مواجهة التخلف هذا يعني التصدي للنفس والحقائق التي كشفها ضوء العلم الساطع بعد ان صمتت الاسلحة واشرقت شمس الحقيقة عن الفقر والجهل والمرض والضعف والعجز.
الأستاذ موسى من جيّل ولد بعد أن دَمُّلت الجراح وتجددت الأرواح وتغيرت الرؤى والمخيلات وأشرق التسامي على نمط الحياة القديمة فارتفعت التصورات عن الجذور وطبيعة الظروف الموروثة من الأجداد لذلك اتجهت أماني الترقي للاندماج في خطوط التطور التي وضعها " مستر كري" بعد الحروب الاخيرة هادفاً لخلق طبقة من الصُّناع المهرة ونشر المعرفة بين العامة بالقدر الذي يجعل سكان النهر يفهمون التطور وإدارة شئون حياتهم . وبعد أن أنتج نظام التعليم ما أراد ـ تشكيل جيل وجد في نظام "كري" فرصة للتحرك نحو المستقبل فاخذ هذا الجيل ينظر إلى نفسه وللشمال البعيد فوجد الهوة سحيقة والبون شاسعُ ليس فقط في الحياة المادية بل في نوعية إنسان الشمال الأقصى الذي وجدوه يختلف نوعياً في عقليته وسلوكه عن إنسان جبال المالح وبالبديهه أدركت تلك الأجيال أن إنسان الشمال لا يختلف عنهم بيولوجياً فنقطة تميزه ليس تركيبه الفسيولوجي بل لأنَّه واصل النضال من اجل العلم والمعرفة بعد أن سخَّر العقل والفكر للرفاهيه لهذا آثر البعض الهجرة والانتماء للشمال البعيد هذا ما خطف بصر موسى ابوفاطمة منذ طفولته حين ابتدأ في المدارس الأولية وتدرج في الأقسام الثانوية حتى جاء اليوم الذي هاجر فيه إلى الشمال فوجد الإنسان القاطن حوَّل ا الجبال على الساحل الغربي فاشل كرامته مهدرة لأنه مكبل بقيود ثقيلة من التراكيب المختلفة والحياة المعيشية المزرية فكلما أمعن موسى النظر بعمق وجد أن الذين جاءهم مهاجرا مستقيمين حسب المواقع العصبية الاخلاقية ونقطة قصورهم انه فما زال عندهم التميز بين الناس مؤسس على لون البشرة والمنبت العرقي ـ كما وجد اوربا وغيرها اي الناس الذين يعيش بينهم تجاوزوا الفوارق الشكلية في المظهر الى التباين الجوهري فاتجهوا للتعامل مع الإنسان على أساس ما يمتلكه من فوارق وميزات في بناء الحياة الأفضل بالمفاهيم والافكار والتصورات الإنسانية تعرض ابوفاطمة الى صدمة فكرية ظلت مسيطرة على وعيه بنفسة وبإنسان الشمال البعيد لهذا وجد نفسه يعاني الم الاغتراب الذي يشتهر به المغتربين الى تلك البقاع البعيدة غير انه كان يظهر قبطته وحبوره بانه وجد هناك فرصته في التقدير حتى أنه موسى وجد مقعده في التاهيل والتدريب فاصبح أستاذاً جامعياً في دمشق .
كان ابو فاطمة يدعو البجا لتعميق اتصالهم بالدنيا الجديدة كما دعا عمه اماندوم اوشيك من قبل البجا وكل ساكن ساحل البحر الاحمر الى صيد السمك كان ذلك حين دعاهم لركوب البحر كي يتجاوزوا حياتهم التقليدية فهو داعية للتطور والتجديد كما كان ابائه من المجددين الذين سحبوا البجا للبحر وصيد السمك من خلال دعوات اماندوم اوشيك العم المباشر لموسى ابوفاطمة وحكاياته واحترافه مهنة صيد السمك بديلاً عن رعي الأغنام في الجبال فاسرة ابو فاطمة هي من غرس في ساحل المالح حب البحر واستثماره فجرع تلك الرغبة أبنائه فكان الارتباط بالواقع فقد أثمر هذا التشجيع الداعي للتطور والارتقاء في موسى فتشكل تكوينه النفسي الذي جعله متعلقاً بالارتقاء بحياته وحياة غيره من البجا منذ أن كان لا يعرف من الجغرافيا الا "مسمار "و"هيا" و "راس محمد" و"طوكر" "القولد" فأبعده ابوه عن أي مسئولية في إدارة حياة البجا مفضلاً دمجه نهائياً في معرفة الفضاء الاوسع الغامض له شخصيا فقد كان يرى فيه خصائص شقيقة اماندوم الذي رحل شابا يحمل سلوكه ومواقفه من علامات العبقرية و وسمات الذكاء ما اقنع البجا بركوب البحر واحتراف صيد السمك .فقد كان موسى مندهشاً بمظهر (الأفندي الخواجة) الذي كان يفِّد إلى والده في "مسمار" فمظهر ذلك الغريب كان يُشعر موسى بأنه يفتقد إلى شيءما او ينقصه شىءما ..شىء غامض لا يجده فيرجال ساحل البحر الغربي حتى عند مثله الأعلى ابوفاطمة اوهاج وعمه العبقري الراحل اماندوم اوشيك الذي كان يعامل ذلك الغريب دائماً في كِبَّر وتعالي فقد كان الغريب المهاب يغلق نفسه تحت نظارته ولغته "العجيبة" غير المعهودة فعندما سأل موسى والده عن سر هذا الرجل فأشار إلى قوة العلم وسلطته في للتطور وتجاوز القديم المتخلف البالي .
يقول الأستاذ موسى ابو فاطمة : ( كنت اشعر أن في ذلك الغريب المتكبر شيء خفي لا افهمه برغم اني إلان اعرف ماكنت اجهل سابقا فمن ملاحظتي ان ذلك الغريب انه كان يظهر تجاهي من الرقة ما لم اعهده حتى اني اعتقدت ان رقته تصل حد التذلل الذي يدعو إلى الدهشة في بيئة لا تقيم وزناً للأطفال ولا تقدِّر بأي مستوي مشاعرهم وانفعالاتهم وقد لاحظت أن سلوك هذا الغريب لم يكن تجاهي وحدي بل مع كل الأطفال في "مسمار" و"هيا" فهو يُظهر لهم الحنَّو والتواضع والمحبة المترأفة التي كنت احسبها شيء من التملق والتذلل والضعف الذي لايليق بالرجال حتى أشار لي والدي بأن هذه المشاعر التي يظهرها لي ذلك الغريب أصيله وحقيقة ليس فيها اصطناع او زيف وانه ناضج واعي وحاد غليظ شديد الخطورة. ثَّم أدركت فيما بعد جوهر الامر واختلاف البيئة الثقافية بعد أن التقيت بإناس اخرين تعلمت منهم كيف اتعايش مع أناس يختلفون في الشكل والجوهر والنظرة والتطلعات والاهداف والخبرات حدث لي ذلك لاحقا عندماَ اضطرتني الأوضاع للتعايش بعيدا عن محيطي الاسري مع اشخاص لم التقيهم من قبل تلزمني الاعراف والتقاليد للإجابة عن أسئلتهم فعرفت ان كوكب الارض عالم فسيح اوسع يحده حدود ساحل البحر الغربي اي عالمي القديم في "هيا" و"مسمار" و"طوكر " و"سواجن" و"سنكات "و"عقيق" و"عيذاب" و"راس محمد" "شلاتين" و"ابورماد"....)
************************************************** **
الأستاذ موسى ابوفاطمة عاش في دمشق حياة العزَّلة رغم أن منزله كان يعج بالحيوية بعد أن صار مقصد المهاجرين من أبناء جبال المالح الغربية وارض الحجر وبلاد اكسوم لا سيما في أيام المنتدى الذي يرعاه موسى بنفسه فيتخذ مجلسه بين الحضور بقامته المديدة وهندامه الأنيق متابعاً موضوعات المنتدى ونقاشات الحضور وانفعالاتهم بحكمة وروية أعطته خبرة معالجة الخلافات وفضَّ الاشتباكات والتوفيق بين الآراء المتعارضة بطريقته الناجزة العميقة المعبِّرة عن فكر ثاقب وعواطف ناضجة تنبع عن قلب مروض بالارادة المحبة الحكيمة.
منتدى الأستاذ موسى المنزلي لم يكن منبر لعرض الأفكار وحسب فقد كان يصنع المبادرات والمبادءات التي تمس عملياً المشكلات حتى صَّار المنتدى يوُصف بأنه يقود الحملات الشعرية المتظاهرة أو المعتصمة أو الجامعة للتبرعات أو الداعمة مادياً ومعنوياً للقضايا في ارض جبال المالح الغربية من "ارتريا واثيوبيا "حتى "جبوتي" و"الصومال" بل كانت الحملات تمتد على طول وعرض افريقيا فالمنتدى كان يتبنى كل القضايا التي تخص الذين يعيشون في ظروفٍ إنسانية قاسية فقد نحج منتدى الأستاذ موسى في جمع الأنماط المختلفة والآراء المتعارضة في بوتقة واحدة وبين ذلك العدد الهائل من الحضور كان هناك بضعة أشخاص لهم علاقات شخصية بالأستاذ موسى الذي ما انفك محافظا على المسافة بينه وبين الآخرين لا لأي سبب واضح فاغلب الظن مرد ذلك للتقسيم المسبق الصارم لوقته فمن عادات موسى الراسخة أنه لا يجامل مطلقاً في اختلال الزمن فيومه مقسم بتفصيل حازم بين القراءة والتدريس في الجامعة والأعمال المنزلية والتحضير لفعاليات المنتدى .
عرف الأستاذ موسى بنشره الثقة بين طلابه فقد عمد إلى أن يغرس فيهم احترام التباين والإيمان بالمستقبل وقدرة العلم على الإجابة عن كافة الأسئلة وحل المعضلات لهذا يعتبر من الذين غرسوا في أذهان الأجيال الجديدة الحداثة والاستنارة و فكرة النهوض من وهدة الإظلام الثقيلة فمنذ نعومة أظافره قد أخذ يشجع البجا والامهرا والتقراي على بناء السلام وزرع الهدوء وتحقيق الاستقرار فكم مره أعلن بلا مواربة رفضه الحاسم الاحتكام لفوهات البنادق فالعنف عند الأستاذ موسى ضار مرفوض في كل الأحوال ولا يفلح في معالجة مشكلة لأنه يحمل غمامة داكنة خلفها غبار جاف حارق حانق مُفرغ للحياة لهذا أخذ الأستاذ موسى في نشاطه تعرَّية الإرهاب كفعل عدمي ضد الحياة يكشف المسكوت عنه من خدع واحابيل كاذبة مترسخة في أذهان أدعياء الغايات السامية انهم يعيشوا في غيبوبة تجعلهم يصنعون المعاناة لكل البشر دون احصاء وتمييز لهذا السبب عزف منتدى الأستاذ موسى الحان السلام و دعا الى بناء دنيا خالية من الإرهاب واعنف ودعم ضحايا الارعاب معنويا ففضح مرجعياته ، فقد ظلت تلك محاور المنتدى الفكرية الموافقة لكل مشارب المنتدى المتعددة بتناقضاتها وتبايناتها في أمالها فالقاسم المشترك بين رواد المنتدى دفاعهم المستميت عن الاستقرار وبناء افريقيا الجديدة ومناهضة الحرب والتحرر من أثارها الثقيلة المؤلمة وبناء السلام ودعم الامن والاستقرار فقد لامس المنتدى بهدوء ما يدور من عنف وإنفجارات في " ارض البحيرات" ومجاعات في" القرن الافريقي "دون أن يتحول المنتدى لقاعة مبهرجة بالسراميك تفرغ فيها الشعارات الجوفاء والرؤى الغامضة الكسولة لهذا بالضبط التزم المنتدى بصوت صارم يعترف بحق الأنسانية في الحياة الحرة الكريمة وتقرير مصيرها لهذا السبب تحديداً ناهض منتدى الأستاذ موسى الإقصاء والتصارع فمن شعارات المنتدى:" الحياة حق والاستقرار واجب أسمى من الرغبات الذاتية". لهذا أكد منتدى الأستاذ موسى بتوجيه الرجاءات لكي تثمر فعل بناء يتجاوز الأنانية فقد تناول المنتدى المتغيرات البيئية وإسراف الإنسان في استهلاك الطبيعة وتدمير كوكب الارض الذي بلغ مرحلة من الانهاك تهدد الحياة الانسانية برمتها فصارت من أولويات المنتدى الاستقرار وسلامة البشرية واصاح البيئة وضبط استهلاك الكربون فساند المنتدى رؤى الإنسانية المتكاملة بإيقاعاتها المختلفة فقد سرب المنتدى رؤى الإنسانية والحرية وحقوق الانسان بايقاعتها المختلفة كما سرب المنتدى الفرح الطفولي الحار إلى دمشق المجروحة بسبب التوتر الدائم فترسبت تلك الإيقاعات المتناغمة لأعماق الأرواح محققة شيء من التجانس المتوثب للسلام من راود منتدى موسى الذين لهم حلمهم بعالم مستقر مناهض للحرب يدعو لتجاوز أثارها المؤلمة فقد تجرأ المنتدى على فضح الإنفجارات في " ارض البحيرات " والحروب في" غرب افريقيا" والمجاعات في " القرن الافريقي". فعل ذلك بحرص حتى لا يتحول المنتدى لمعمل لإنتاج الشعارات والهتافات فلامس المنتدى أماني المستقبل بحراك المستقبل بتفاعل عميق يتجاوز الجزئيات العادية متسربا للمسكوت عنه كاشفاً خواء فكرة السلطة الاحادية وعدم جدوى الحرائق المزمنة لهذا أستضاف منتدى موسى المنزلي أنماط عديدة من دعاة السلام "يهود" و"عرب" و"فرس" و" امركان" و" روس" فصار قبلة مناهضي الحرب وداعية للسلام و وتجمع لصناع الراي العام من اهل الفكر والصحافة والمهتمين بالقضايا الساخنة فظَّل الأستاذ موسى يحفظ توازن المنتدى بحكمته الموضوعية التي استطاع بها ضبط المنتدى والارتقاء به وحمايته من رواده لكي لا يتحول إلى "نحاس يزَّن "وضنج يطن" بالشتائم والغليان العدمي المغامر او عبارات البيانات الفرغة المكررة"ندين ونشجب" و" نحتفظ بحق الرد المناسب".
فقناعات الأستاذ موسى واضحة في هذا الشأن : المواقف المرتبكة المهزوزة لا تفلح إلا في تعميق التشويس وتنكأ الجراحات وتفجر الخلافات وتزيد وتائر العنف .كما انه يرفض الحوارات غير المدينية التي تقود دائماً أما للفشل أو للتراجع المرهق الذي يفضي للاحتقار والسخرية ويؤكد غياب العقل من هنا صار منتدى الأستاذ موسى في دمشق ميزان لصَّدق دعوة حماية للإنسان من نفسه والتواصل الإنساني غير المشروط كما أنه يؤكد صدق الإرادات الملتزمة بالقضايا الحيَّة في بحثها عن السَّلام والاستقرار بعيداً عن العبث والتخريب وفوضى الأفكار المدرسية والشعور المكثف بالذات دون الوعي بوجود الاخر الحق يقال ان المنتدى يشبه الى حد ما طبيعة الأستاذ موسى الذي لم يكن لين العريكة منحصر في حياة التنعم التافهة فهو دائماً يرفض الطيبة الكريهة المؤسسة على السخافة والمزاجية موسى ابوفاطمة ترعرع في ارض البجا على ضبط النفس والقيم والنظافة لهذا ظَّل منزله تعطره رائحة الصابون ويسوده إلى حد التشبع بالدقة فحياة الأستاذ موسى يسيطر عليها التخطيط المسبوق المحسوب بدقة فحتى أوقات فراغه النادرة ينفقها في إعادة ترتيب غرف منزله فلا تبغّى غرفه على حالها فيقلبها رأس على عقب فعمليات الإبدال والاحلال التي يقوم بها موسى في أوقات فراغه دائماً ما تعكر مزاج زوجته الدكتورة سارا فتجهد نفسها في صراع مع محاصرة قلقها بالانزواء مع كتاب اوكاتمة في نفسها اجتاجاها الناعم اللطيف الذي يعبر عن مودة حلوة تجعل منزلها الاصغر في المدينة الجامعية المتفاعلة المنزل الأكثر دفئاً في دمشق المدينة الحبلى بالمفاجئات والابتكارات.
مازال الأستاذ موسى يشعر بالفخر والاعتزاز بأنتمائه إلى البجا ويتحدث في منزله بلغة "البداويت" لا لأن أثار تقاليد البجا مرتسمة على شعره ووجهه وسلوكه بل لانه يعتقد ان من حق لغة البجا المقاومة. استاذ موسى كان لايحلق شعره مطلقا فله اعتقاد بان شعره يعطيه المهابة فالبجا هم الجماعة الوحيدة على كوكب الارض التي لاتحلق شعور رجالها ولا تتركها منسدلة ، الاستاذ موسى ظل ثابت لايتغير لان قيم وأخلاق البجا جزء من لحمه وعظمه ودمه بل صاغت مفاهيمه ومزاجه فصار صارم وفيُّ لمخططاته وبرامجه التي لا يسمح لها بالاختلال فقد ظّل موسى يمارس الرياضة التي عادة ما يبتدئ بها يومه مقاوم التراخي مستعد للتجديد بالموسيقى وتأمل الطبيعة بمناظرها ومخلوقاتها فمازال موسى محافظ بثبات على تناوله الحليب الذي يتجرعه في لحظات الهدوء والسكيَّنة كأنه طقّسُ تعبُّدي روحي تحضر فيه ذاكرة موسى القديمة المتجدده فيعيد تنسيق أولوياته ومهامه الخاصة والعامة صحيح أنَّ حياة الأستاذ موس أسَّاسها الحياة العملية إلا أنها لم تكن جافة خالية من الحيوية الأسرية والاجتماعية فقد تعود موسى ممازحة سارا التي تفاجأ بطرائف موسى المبتدعة فتثور وتخرج من طورها فيعلو وجهها الغضب فيعمل وهو على استرضاءها بالملاطفة والمؤانسة ـ قطعاً لم تؤثر عزَّلة موسى عن مجتمع دمشق في نظام حياته أو مشاعره فالأستاذ موسى يراه زملائه وطلابه في الجامعة نموذج للوداعة المتفاعلة كما أنَّ الأستاذ موسى كائن منزلي في معظم الأحيان لا يغادر منزله لأي سبب بعد أن قررت الأستاذة سارا مقاطعة المنتزهات ومناطق التسلية والترفيه لأنها تحسبها نمط من أنماط الحياة الصناعية غير البريئة فقد عشقت سار الحياة المنزلية التي كثيراً ما عبرت عنها هكذا :
( اجزم أن روح بحر المالح تسيطر على منزلي المملوء تفاعل فمنزلي مركز الوفاء والسعادة لأنَّه أفضل بقاع الأرض لقلبي لأنني أحسُ فيه الأمان وأعرف فيه طعم الطيبة لذا لا أرغب مطلقاً في مغادرته أو الخروج منه مضّطرة فشعوري أن الكون بأثره في حالة فوضى وعدم استقرار إلا منزلي هذا اراه الكون مصغرا في هدوئه واتزانه..)
************************************************** **
روّتين الحياة العملية في الاغتراب يوّرثُ برودة الأرواح فتيبس الأجساد ويتسرب إلى النفوس القلق الذي ماينفك يكبر متحول لتوتر وارتباك يشبعان حاله من حالات عدم التماسك تظهر كضيق واضطراب في الأفكار التي تتجه في ذلك الحين للآمال التي لم تتحقق مطلقاً والرجاءات المجهضة هذا ما أخذت تشعر به الدكتورة سارا منذ فترة حتى أنها صارت تبدو تصف ما كان يملأ نفسها من حيوية عاطفية فالحياة زجت بها في تغيَّر الانفعالات فمالت للحساسية المتوترة فتكفي ذرة غبار لتزيل صفاء مزاجها ويحل محله الكدَّر والاستياء فمن حظ الدكتورة سارا أن مشاعر اليأس والإحباط أقل سرعة في حركتها نحو التلاشي فلم تكن الأستاذة سارا قاسية مطلقاً فهي رقيقة كنسائم الصباح فالملاحظ مؤخراً بدأت تظهر عليها علامات ضيق الصدر وعدم الاحتمال للدعابات العرضية مما يؤشر إلى أن حالة من ثقل الدم صار تتلبسها بهذا القدر أو ذاك فقد صارت حادة المزاج تنتقي الردود الجاهزة المفحمة المفخخة بالاشارات الخفية وتستعمل الكلمات اللاسعة المنتحية للصرامة المصادمة هذا ما لاحظه موسى " شريك حياتها" فصارحها بذلك فصارت تتهرب من إطالة لحظات الصمت فتشغل نفسها بأي شيء يمكن ان يصرف ذهن موسى بل اخذت تتجنب الجلوس معه فتلمت لها عادات جديده منها عادة الانزواء في غرفة النوم بعد عودتها من عملها في الجامعة فلاتظهر لها حركة الا بعد بحث مضني من موسى.
منزل الأستاذ موسى في دمشق يضم ثلاثة حجرات رئيسية إضافة إلى حجرة رابعة مخصصة للمنتدى فالحجرات الأخرى إحداها غرفة طعام ومطبخ يلتئم فيه شمل الأسرة كما جرت العادة في وجبتي الإفطار والعشاء أما الحجرة الوسطى فقد تم تهيئتها لتكون غرفة نوم فيها سريران ملتصقان أرضيتها مفروشة بسجاد "أيراني" ففي ناحية الغرفة اليمين دولاب للملابس "تركي" فيه صفان من الأدراج وتتناثر في الحجرة عدة طاولات صغيرة ومناضد عليها مزهريات إما الحجرة الثالثة فهي غرفة المكتب ففيها تحتفظ الأسرة بمكتباتها المقروءة والمسموعة ، كما تلعب الغرفة دور استديو التسجيلات السمعية والبصرية هذا لا ينفي أن الغرفة بسيطة التأثيث فيها مكتبان متقابلان على ظهر كل منهما جهاز حاسوب صيني الصنع والعديد من اجهزة التسجيل والكمرات والسماعات.
سارا إمراة ذات جمال هادي يتسرب إلى عمق الشرايين مع نغمات صوتها الرخيمة وجاذبية بشرتها الناعمة وصفاء عينياها المملوءتين تعابير تكشف عن أسنانها البيضاء فسارا أنثي من طراز فريد فهي تمتلك جسد لادن تظهر روعته أجمل ما يكون في اختيارها لألوانها فسارا تهتم بالجاذبية في ملبسها وحتى في طلاء منزلها بالجملة سارة إمراة مثيرة للإعجاب عصرية متحررة من ثقل التقاليد وقهر التخلف فسارا منذ نعومة أظافرها تمتلك قراراها وتحترم الفكرة الواضحة العقلانية وتعتقد أن الحظ كان إلى جانبها في كل الأوقات فقد كانت موفقة في حياتها الأكاديمية فنالت أعلى الدرجات العلمية في مجتمع البجا الذكوري لا يمنح كل الرجال فرص النماء الأكاديمي والمهني كما أنها اختارت بحرية مطلقة رفيق حياتها ولم تجد ممانعة تذكر في مجتمع زواجه داخلي في الأغلب الأعم برغم كل تلك المميزات التي لعب فيها القدر دوراً أصيل إلا أن وجهها تبدو فيه سحابة داكنة من القلق حتى أن موسى منذ سنوات لاحظ توترها واحباطها المتنامي نحو الاكتئاب فأخذ يناقشها في إرهاقها لنفسها بأعمال المطبخ والأعمال المنزلية وفي عزلتها الدائمة في غرفة النوم فإذا لم تجد لنفسها عمل تستغرق نفسها بإخراج ثيابها وإعادة ترتيبها في حركة دائرية تعني القلق والمزيد من القلق الذي يجعل الحياة قاسية مرة لاتطاق بل خليط من الالم واجترار المواقف المؤلمة.
دخل موسى غرفة الطعام فوجد سارا تطبخ في كباب كفته فقد انتهت لتوها من خلطها اللحمة المفرومة والدقيق والبصلة المفرومة المضاف إليها البقدونس فقد كانت "تتبل" و"تعجن" في الخليط عندما فتح موسى معها النقاش حول اوضاعها فسارا لم تترك ما تعمل بل أخذت تناقش موسى و هي تصنع كباب الكفتة :
- ماذا بك ياعزيزتي أشعر أن أحوالك متبدله بعض الشيء ؟
- إنها قسوة دمشق تفُّت عظامي وتستهلك روحي وتجمد عقلي من تعصب المتعصبين وتطرف المتطرفين واصحاب النفوذ في الجامعة .
- انا ايضا أشعر بما تشعرين ولكنك مؤخراً أصبحت مستغرغه في العمل فما الحكاية ياسارا ؟
عندما طرح موسى اسئلته أخذت سارا تشكل خليط اللحمة المفرومة والبصل والدقيق على شكل أصابع وتقلتيها في الدهن
- أشعر يا موسى بضيق في صدري من روتين الحياة العملية باختصار أحس بالفراغ وعدم الجدوى انا في حاجة لطفل يجعل لحياتي معنى!.
كلمات سارا الصريحة جعلت موسى ينتابه شيء من الحرج من عدم تفكيره في الاطفال ففي تلك الأثناء وضعت سارا أصابع الكفتة في "صينية" كي تمرر عليها تيار من الهواء الجاف قبل اكمال الطبخ.
- ماذا تعتقدي علينا أن نفعل ؟
- لا أعرف بالضبط ولكن لدى أفكار عديدة واقتراحات ربما تفيد في الارتقاء بحياتنا! .
وضعت سارا الصلصة في صينية الكفتة المرصوصة في شكل أصابع كما قطعت حلقات من البصل والطماطم على الكفتة وأضافت الملح والفلفل ثم أدخلت "الصينية" الفرن .
- ماذا تقترحين ؟
- أن نصنع برامج جديدة كفيلة بأن تحقق لنا شيء من التغير بها نسترد بعض الوهج لحياتنا العادية التي أضعناه مع ضغط الروتين وتراكم ازمات الحياة .
بعد خمسة عشر دقيقة أخرجت سارا "صينية "كباب الكفتة من الفرن في تلك الاثناءكانت مواصل المناقشة الوجدانية مع موسى رغم ان المناقشة أخذت مسارات عديدة مركبة حيث ناقشا المقترحات التي قدمتها سارا. الغربيب في الامر انها مازالت صارمة :
- نحن محتاجين نخرج من أجواء ضغط الشهور الماضية التي أتسمت بالضيق والتوتر وثقل الحياة العملية مما أوجد حاله من التذمر والشعور بالغربة .
- كيف نفعل ذلك ؟
- لا أعرف أعتقد أنت تقدر تصميم برنامج يحمل في جوفه فعل سريع نتجاوز به الركوض والروتين الذي يؤثر على حياتنا وربما تتغير حياتنا الى التفاعل.
اعدت سارا وجبة الغداء وهيئت المائدة وهي مازالت تناقش موسى عن اهميت حقن الدفء في حياتهم بالبارده جراء الروتين بالحكمة والعقلانية والابتعاد عن ازمات الشرق الاوسط المتكررة العدمية..................
- لماذا لا نعطي حياتنا محتوى جديد؟
- كيف نفعل ذلك ؟
- بان نرفع رؤوسنا من الرمال ونتعامل مع الحقائق لأننا في حاجة لهجر النمطية لأنها مصدر الملل والضياع .
- لن يتيسر لنا فعل خطوة عملية دون استيعاب المسألة نظرياً بذلك تصبح حياتنا ذات معنى ومضمون .
- أرى ان نعود إلى ديارنا ونترك هذا المكان العنيف الذي يتناحر اهله منذ خلق الانسان وظهر الاديان وعرفت الحضارة فالاس هنا يقتل بعضهم البعض دون اسباب كافة ويدمر الناس بعضهم البعض دون اسباب منطقية غير زراعة الخوف والارعاب ابراز سوء السلوك.
- لكن إذا رجعنا في الوقت الراهن فستنهار كل مشاريعنا ومخططاتنا وعشنا الذي نظمنه ستدمر حياتنا التي لأجلها أفنينا فيها زهرة الشباب سنتدمر ماديا ونفسا بل سنرجع لنقطة الضياع القديم .
- كيف نحتمل البقاء هنا والظروف واضحة العنف في كل مكان لايميز بين الناس المقاتل وغير المقاتل بل المسالم هو الضحية في اغلب الاحيان .
بعد أن تناول موسى وسارا وجبة الغذاء أعدت هي الشاي الأسود فأخذ موسى يصبه في الأكواب بعد أن وضع ملعقتان من السَّكر في كل كوب لخصت هي القضية في كلمات:
( مهما تحدثنا واقترحنا فإن حياتنا تحتاج لشيء من التجديد حتى نكسر حلقة التكرار هذا يعني أن نفك سلطة الحياة العملية بروتينها ومللها او نخسر سلامنا واستقرارنا ..)
أخذ الاستاذ موسى في تأمل حياته بهدوء وروية في غرفة المكتب محاولاً الابتعاد عن الانحياز الانفعالي للذات فأقرَّ بأن سارة لها الحق في التحرك من أجل تبديل حياتهما الأسرية التي ضربها الروتين والتخشب وصارت خاضعه الى حد كبير طاحون العنف الدائرة منذ شهور ففي غمرة تأملاته في جزيئيات حياته أدرك أنه يتعرض لموقف مفصلي لهذا أدار الحاسوب ومن ثم فتح بريده الالكتروني فوجد رسالة من اتحاد أدباء بيروت بين طياتها دعوة للمشاركة في احتفال بداية السنة الجديدة شعر موسى بالارتياح لأنه وجد في تلك الدعوة فرص لتبديل أحوال أسرته فالاستمتاع بهواء ساحات بيروت ربما يحقق لسارا بعض السلام لهذا وافقت سارا على الفكرة عندما عرضها عليها .
(علينا قبول الدعوة لندفن بيروت غمامات الروتين الذي احاط حيتنا بالقلق و التوتر بل شحن حياتنا بالكدَّر فإذا كان قدرنا في هذه الحياة في عمق الازمة المتفاغمة فلابد من إيجاد نوافذ السعادة التي أراها ممكنة في تلبية مثل هذه الدعوة )
-( لا بأس في ذلك لكننا نحتاج لوقت كي لا نقع في حبائل الدهشة في بيروت فعلينا التدبير والتخطيط فنحن سوف نسافر الى مدينة غير معروفة لنا تماما )
-هناك وسيلة سهلة للتعرف على ابعاد جديدة لأي بقعة وذلك من خلال النزول إلى قاعها بذهن جديد والتجوال في أزقتها وحواريها بروح جديدة غير تلك الروح القديمة التي كان يصرف بها العمل وحياته اليومية).
صارت الدكتورة سارا تشعر بالغثيان من مصطلحات علم الاقتصاد الذي برعت في تدريسه خلال العشر سنوات الماضية في جامعات العالم –شرقيها وغربيها حتى أنها لم تعد تبذل جهدها في إظهار طول الأناة والسيطرة على النفس كما في السابق عندما يطرح عليها طلابها أسئلتهم اللحوحة التي تبرز شىء من شغف الشباب فهي تعرف أكثر من غيرها أن هذه الأسئلة موضوعية تعبر عن محتوى التغيرات التي أصابت العلوم في صميمها وعلى وجه التحديد علم الاقتصاد الذي ظهرت فيه نظريات وأفكار جديدة لا يمكن تناولها باقتصاب عجول برغم إدراكها ذاك فانها صارت متسلمة للروتين فكم مره تعمدت اختصار الأسئلة التي تلاحق المستجدات. فهي تعتقد أنها كإنسانة نسيت مشكلاتها الخاصة في زحمة المصطلحات وقاعات الدراسة وجدل الطلاب ومناقشات الأساتذة فلم يعد من المجدي تفريغ شحنات قلقها في متابعة التطورات النفسية والروحية لشخصية من شخصيات رواية عربية فهي في حاجة للولوج لعوالم تجربة إنسانية تدخلها في البحث من جديد في فرض إنجابها وما تتصوره هي يتضمن التحول من طور جسماني مختلف باستصحاب أحداث تكشف طاقتها في الصبر واحتمال ثقل الانتظار لهذا تشعر بأن حياتها الناجحة كأستاذة للاقتصاد القياسي لا تغنيها عن ممارسة الأمومة بل على العكس أمام نجاحها العملي والاجتماعي فانها تشعرها بالفشل في تحقيق وظيفتها كأنثى. تشتهي ممارسة الأمومة هذا ما يشعرها بالفراغ والضيق ولاجدوى المعاناة في الغربة والابتعاد عن الديار.
الأستاذة سارا فكرت ملياً بموضوع الإنجاب وبحثت عن كل الوسائل التي تحقق لها هذا الهدف فقد ظلت تترد على عيادات الأطباء الذين عرضوها هي وزوجها لكل أنماط الفحوصات والتحاليل التي جاءت نتائجها إيجابية فقد تناولت كل أنماط الأدوية فلم تجدي شيئاً وأخذت أخيراً تعول على تبديل المكان ربما يأتي بنتيجة لم تحققها الأدوية يبدو أن هذا الموقف جاء بسبب حالتها المستعصية لهذا تحمست لتلبية دعوة الاحتفال ببداية العام الجديد في بيروت فقد كانت لها رغبة دفينة في نفسها أن تكون الرحلة الجسر الحاسم الذي تعبر به من حالة العمل الروتيني إلى أجواء الهدوء بل الى انجاب طفل يدخلها عالم الامومة .
اجتاحت سارا موجه من الفرح الطفولي بعد سماعها خبر دعوة أدباء بيروت رغم انها عاشت في بيروت ايام قبل بداية الحرب الاهلية في منزل اسرة من طائفة الدروز وكانت لها صديقات مسيحيات مارونيات من بيروت الشرقية كان ذلك قبل ان تنفجر انهار الدماء و ويظهر بوضوح وجلاء عنف اللبناني ضد اللبناني . المهم ان سارا كانت تعتقد أن الرحلة الى بيروت ستوفر لها فترة من السلام تعيشها بعيداً عن روتين الحياة العملية في دمشق ففي قرارة نفسها كانت تعتقد ان بيروت ستوفر لها انطلاقة مختلفة تجعلها تستعيد لنفسها الفرحة المخبوئه في الانهاك من ضغط العمل الروتيني وفوران العنف اليومي الذي يظهر اوضح مايكون في الحرم الجامعي حتى أن الأستاذ موسى أخذ يحدث نفسه ويخبئ في سريرته التغيير الذي شهدته حالة زوجته الحبيبة :
(أتستطيع الإجازة لسارا كحلم قادم أن تحدث كل هذا التغير الوجداني الذي يطلق أنهار الحيوية من الفرح دون كابح؟ .. ما أقوى سلطان الكلمة حاملة الرجاء فإنها تكشف أبعاد من الروح الإنسانية كانت مثقلة بأعباء المعاناة والضيق فالكلمة قادرة على إعادة صياغة الإنسان إيجاباً وسلباً فالكلمة فكرة والفكرة تهزم القوى................. )
لم يلاحظ الأستاذ موسى أن سارا بقبولها فكرة قضاء عطلة نهاية العام وبداية العام الجديد في بيروت يشوبها حزن غامض أو قل بتعبير آخر او شيء من عدم الرضا فقد ألحت سارا على نفسها في إخفاء ذاك الشعور باجتهادها في إظهار تحمسها مخفية قلقها الحقيقي من شيء اكبر من التخلص من ثقل الروتين وكآبة الاغتراب فعلى الرغم من أن رحلة بيروت بشرتها بالتغير الذي تنشده للتخلص من وطأة الروتين المنفجر في وجدانها قلق وارتباك إلا أن فكرة الرحلة أيقظت في أعماقها مطلبها القديم بالأمومة والدخول في تجربة الإنجاب ورعاية الأطفال فالذي جعل موسى لا يشعر بقلقها هو تركيزه الجاد على الإعداد لتفاصيل الرحلة فقد اهتمت هي بكل معلومة شاردة أو وارده عن الوضع في بيروت بعد الحرب الاهلية التي عمقت الانقسامات المذهبية الطائفية العرقية الدينية فجمعت معلومات جديدة عن اصدقاء قدامى بل عن كل منطقة بيروت الغربية والشرقية حتى أن مفكرتها الشخصية التي كانت خالية فاضت بها عناوين الأصدقاء والمعارف حتى أنها اتصلت ببعضهم فالحقيقة التي أثرت على رايها لاحقاً حول الرحلة أنها كانت تتحرك تجاه الرحلة بآمال ظاهرية وأخرى خفية تعلمها هي وحدها فقد اتخذت قرار يتصل بهذا الرحلة ستعمل على اقناع موسى به في خاتمة المطاف لم تفصح عنه خلال الرحلةبل لم تناقشه مع موسى مطلقا.
************************************************** **
من البديهيات المدركة للأستاذ موسى والتي رددها مراراً أن الأجيال الأولى من المهاجرين الاوائل من ساحل بحر المالح لساحل المتوسط الشرقي من أبناء البجا والارومو والامهر والتقراي كانت لهم طاقة هائلة لتسجيل تجاربهم في بحثهم عن الثروة كخيار لا يقاوم خارج القيم والاخلاق فقد كان معظم أولئك المهاجرين فقراء وغير متعلمين ويجهلون الكتابة بأية لغة ولم يكونوا مدربين على مهنة معينة مستعدين للعمل في كافة الاعمال الشاقة المرهقة . الان بوصفهم عمال غير ماهرين ، بعد أن تعلموا مبادئ اللغة العربية والانجليزية أصبح بوسعهم العمل في المزارع والمصانع والمناجم والمطاعم والاسواق غير أن مثل تلك الأعمال كانت مرهقة ورتيبة والأهم من ذلك لم تتح لهم فرصاً لجمع الثروة بالسرعة المطلوبة ذلك هو الهدف الأصلي لهجرات أبناء المالح للمتوسط فشكلت الانغماس في الزراعة لهم صعوبات إضافية على نحو العزلة والوحدة والظروف الجوية السيئة كما أن المهاجرين من غرب البحر الاحمر كانوا ولا زالوا يعتبرون أنفسهم غرباء عن منطقة الشرق الاوسط يتطلعون الى إقامة مؤقتة بعدها يرحلوا الى اوربا او الى ماوراء البحار في اميركا واستراليا أي أناس يعيشوا كغرباء لاصلة لهم بالانماج لانهم يعتقدوا بانهم ليسوا جزء من المكان الجديد فارواحهم معلقة بالديار القديمة فحياتهم تتأثر لأقصى حد بما يدور في بلدانهم الأصلية بل يعمدوا بإصرار منقطع النظير لتقليد حياتهم القديمة في الارض الجديدة من حيث الجوهر والفكر والأسلوب لأنهم كانوا بعيدين مؤقتاً عن ديارهم فتركزت حياتهم على ما يدور في مدنهم وقراهم القديمة هذا لم ينحصر في الهجرات الأولى بل حتى الهجرات اللاحقة التي ضمت مهندسين وأطباء وطلاب وأساتذة جامعيين ومستويات علمية وأكاديمية نادرة فقد ظلوا في عزلة وحالة من الاغتراب .يعيشوا اضطراب القيم وتبدل الأحوال فبعضهم عكس ثقافات مشلولة عن مجتمعهم القديم ـ أو ظهروا كتقليدين محاصرين بالسلبية ـ أو عنصريين يشعروا بالكراهية لغيرهم الذين ينالوا عن قصد او غير قصد من جذورهم فالسؤال الذي ماانفك يضغط على ذهن الأستاذ موسى لماذا اختار أبناء ساحل المالح الغربي دمشق في شرق المتوسط أن يكونوا مقيمين مؤقتين بدل أن يخطو خطوات فعلية ليصبحوا مندمجين فيها ؟ يعرف الاستاذ موسى أن أبناء البجا والتقراي والامهرا لهم خلفياتهم ثقافية تقليدية عشائرية منعزلة تدور حوَّل تعميق الصلات بالأقارب هذا لا يعني ازدراء الجذور كما لا يعني تجاهل حقيقة المجتمعات الجديدة فبرغم دعوة موسى للانصهار إلا أنه لم ينتابه مطلقاً الازدراء بتنشئته في القرية ولم يشعر بالخذي من إملاق القرية والصعوبات التي عاشها في "مسمار" و" سواكن" و" سنكات" تلك البقاع التي تغيب عنها مياه الشرب في الصيف والطرق المعبدة والتيار الكهربائي والسكن الجيد فقد ظل ساحل غرب المالح على الحالة الاولى التي خلقه الله عليها وحتى الان دون إصلاحات منذ أن خُلقت الأرض فبرغم ارتباط موسى بها فان مخيلته تحتمل فكرة الاندماج لافتراضه أن هناك قوى حقيقية تصارع من اجل جعل الاندماج واقع لا مناص منه .
أطبق الصمت على سارا وموسى وهما على متن الطائرة المتجهة إلى بيروت ربما يرجع ذلك لطبيعة الأفكار والمشاعر المتناقضة التي تدور في مخيلتهما فسارا تفكر في رغبتها في أنجاب طفل فهي تعتقد أنها مثل كل المهاجرات تتعرض لاختلال التوازن وما يستصحبه من تغير في السلوكيات على نحو الاختلال في أنماط الأكل ومستويات النشاطات الذهنية والجسمانية وما يترتب على كل ذلك من القرارات الخاطئة التي تثير خطر الإصابة بمرض معين لهذا تعتقد سارا أن للعوامل السلوكية أو الغذائية لها دور مهم في اختلال ساعتها البيولوجية بالتالي عدم إنجابها فهناك ثمة فروقات بين مجتمعها القديم ومجتمعها الجديد في الأحوال الجسمانية والبدنية المتأثرة بهذا القدر أو ذاك بكميات الكولسترول والدهون واللحوم التي يتم تناولها هنا وهنا في الاطعمة والوجبات واتجاهات تصريفها فالحقيقة الواقعية لأن معظم المهاجرات في مختلف المستويات والخلفيات القادمات من ساحل المالح يتعرضن لزيادات مخيفة في الوزن بالقدر الذي لا تنفع فيه الحمية الغذائية في خلق التوازن الضروري وذلك لأنهن معرضات للبقاء في المنازل طوال اليوم في مشاهدة شبه دائمة لأجهزة التلفاز وتناول المسكرات والعصائر والفطائر والمثلجات حتى أن الوجبات الغذائية يشجع فيها واقع الشام على تناول السكر والحلويات فملاحظة الأستاذة سارا الأولى عن حالة المهاجرات من بنات بحر المالح أنهن يعانين من داء السكر وارتفاع الكولسترول وارتفاع ضغط الدم فهي نفسها تعتقد أنه مع تقدمها في السن تعاني من بعض أعراض تلك الأمراض أو أمراض غيرها برغم تأكيدات الكشف الطبي الدوري عن سلامتها من أي مرض أو علة جسدية من ذات العينة تربط سارا الأعراض التي تنتابها بتبدل سلوكيات معينة أو أنماط محددة أثرت في نظام غذائها فالعلم يؤكد أن السلوك وأنماط الآكل مؤشر على أخطار الإصابة بالأمراض الأكثر شيوعاً والتي تتصل بالافتقار إلى التمارين الرياضية والنظام الغذائي العالي الدهون فقد حاولت هي جاهدة المحافظة على الأنماط الغذائية الموروثة لكي لا يحدث لها اختلال إلا أن صرامتها تحولت بمرور الوقت إلى التكيف مع النظم الغذائية السائدة فانزلقت للتخسر في محاولتها للتطبيع الثقافي لهذا ترى في رحلة بيروت فرصة للتغير المكاني الذي ربما يساعد على تحقيق حاله نفسية ربما تهيئها هي وزوجها للإنجاب واستقبال ضيف انتظارته ان يمليء حياتهما بالابتهاج فطوال الرحلة إلى بيروت لم تتخلص من تلك الأفكار والمشاعر بل لم تبارحها الانفعالات المتضاربة التي أثقلت على ذهنها ووجدانها أما الاستاذ موسى فقد ذهب ذهنه إلى مشكلات العمل التي تحاصر حياتهما لغة المسيطر كشكل للمقاومة وميل الأفكار العنصرية إلى إدراج اختلافات التفكير والسلوك إلى النظرة البيولوجية القاصرة التي تعري التفضيل الاجتماعي لبياض البشرة وعزي الفشل والإخفاق إلى سواد السحنة فتلك الأفكار العنصرية تمثل قطعاً تركه كولونيالية فما يحذُ في ضمير موسى استمرار تلك النظرة العنصرية المناهضة لأبناء بحر المالح التي تعبر عنها أوساط نافذة بكل جلاء فاضح في دمشق والجزيرة العربية وبغداد فحتى السياسات المرتكزة إلى تلك النظرة التميزية عندما تكتشف قصورها تبدلها بسياسات أخرى تقود التحولات إلى المزيد من أتساع الفجوة بين النظريات والأفعال الحقيقة المطبقة على مستوى الواقع فمثلاً عندما تتحرك السلطة في تفكيك قوانين العمل الايجابي لصالح المهاجرين تنفذ سياسات مناهضة الإرهاب والمسئولية الشخصية التي تمارس من خلالها أقسى أنواع التميز ضد المهاجرين هذه الحياة المركبة تقود رأساً إلى ممانعة الانصهار في المجتمعات فتجىء النتائج عكس كما يعتقد المُشرع إلا ان ما يحدث هو شعور المهاجرون بالعزلة فلا خيار لهم سوى البقاء لأنهم في حاجة أكثر للعمل بجد من اجل صورة أفضل لأنفسهم وتراثهم وثقافاتهم وأهلهم الذين مازالوا في المناطق التي جاءوا منها هذا ما يفرض عليهم بذل جهد اكبر في تنظيم حملات تعريف بخلفياتهم وتقاليدهم ومبادئهم وثقافاتهم وتراثهم هذا ما كان يقوم به منتدى موسى المنزلي الذي الذي بذل جهد خارق في تلك المحاور فالذي وصل إليه أخيراً الاستاذ موسى أن هذا الجهد على أهميته لا يتجاوز حالة نستولوجية أو حنين للوطن الأم ولا يعبر بأي حال عن فعل حقيقي للاندماج الانصهار في حوض المتوسط لان تلك الجهود تعبر أن أبناء بحر المالح مازالوا جالية تقيم مؤقتاً في الشرق الاوسط لذا هم في حالة عزلة تفرض عليهم العمل بجهد خارق للمحافظة على سماتهم لهذا فهم يقيمون في مستوطنات سكنية خاصة بهم يشجعون فيها أعضاء تلك الجالية على الزواج من الأقارب ممتدحين مزايا تلك الزيجات موضحين مساوي الزواج من فتيات من أصول مختلفة عربية اويهودية أوربية أو هندية فالاستاذ موسى يرى أن المنتدى أخفق في مهمته في تسهيل عملية الاندماج الثقافي حتى هو ربان المنتدى وهو في طريقه إلى بيروت يسيطر عليه الحنين إلى "مسمار"و"هيا" هرباً من ثقل الاغتراب الذي ينتابه كإحساس بالفراغ وعدم الجدوى فينحاز إلى طفولته هناك عندما كان طفل يافع يعيش ببراءة وهدوء لاهي مع شقيقتة عوضية التي كانت تطالبه أن يصعد للسماء على ثورهم الأبيض ليأتيها بالنجم الأحمر الذي كان يملئ الكون بوهجه في الليالي المظلمة فعندما وصل موسى لاستعراض طفولته في هيا ومسمار ارتجفت وجنتاه وتساقطت من عينية الدموع التي مرت تحت نظارته حتى أدركت شاربه فلاحظت سارا دموع موسى التي لا تتقاطر عادة في أحلك الظروف فالدموع عند البجا تعتبر "عيب" بالنسبة للرجال فهي مظهر ضعف غير محتمل لهذا لاحقت سارا موسى بحزمة من الأسئلة الوجدانية الدقيقة التي تختلط فيها مشاعر الحب والشفة والدهشة:
-(مابك ياموسى ؟)
- ( لاشيء لاشيء! لاشىء مطلقا!)
- (هل تشعر بعلة جسدية ؟ هل عاد إليك الصداع ؟)
- (مجرد تفاعل مع ذكريات بريئة عابرة !)
- (هل للدموع علاقة برحلتنا إلى بيروت؟ )
- ( لا انه الحنين إلى "هيا" و"مسمار" ولزرقة مياة البحر في الساحل الغربي للمالح ولشقيقاتي والأهل............ )
************************************************** **
الاغتراب عن الوطن الأم رسخ علاقة موسى وسارا الزوجية فقد بدأت حياتهما كعلاقة تقليدية نشأة كما تنشأ علاقات الأزواج في كل هضاب بحر المالح الغربية تحت مباركة الاسر والاباء والامهات رغم ان حياتهما لها بنية شخصية تعبر عن علاقتهما تذكرهم بأمور الواجبات الملقاة على عاتق الزوج والزوجة وتحسهما لهم الشعائر الدينية والدنيوية للبجا إلا أن ما تعرضا له من ظروف غير مواتية مستدامة جعلت حياتهما مفعمة بالحيوية وصارت سرّ تكيفهما التدريجي مع تقاليد المتوسط الجديدة التي اختاراها مع إنهما قررا التماهي مع أصلهما العرقي والكدح المثابر مع مستقبلهما فقد أنتقدا الانهيار الذي يعيشه وطنهما القديم وأعربا عن سخطهما على انعكاساته في ظروفهما المحلية وبالتصاقهما فظهرا أقل ذهلاً أو الأقل ضياعا في فقداناً للاتجاه ذلك لانهما صارا يعرفان بعضهما البعض للدرجة التي تكفي فيها نظرة واحدة متبادلة ليعرف كل منهما ما يدور في خاطر الاخر فيتجاوزان الظاهرة المدركة ليغوصا بالفهم والانسجام والتناغم إلى أعماق حياتية ملئها الوضوح الشفاف لهذا أدرك الاستاذ موسى ما ترمي له سارا من أسئلتها القلقة فكان موسى واضح حتى لا يسمح لخيالها بالتحليق بعيداً عن سرب معطيات ما يدور في ذهنه ووجدانه لأنه يعرف طاقاتها في التفكير فهي تتناول أي قضية بطريقة معقدة متداخلة فتجعلها مشكلة متشابكة خاضعة للبحث الذي تعمل فيه المناهج والآليات الصارمة فمن عادات موسى التصاقه بزوجته أنه يلجأ دائماً للوضوح الذي يحصن علاقتهما من الهزات والاختلالات فالوضوح عادة ما يثمر في علاقتهما تفاهم وتناغم فالحقيقة أن الصراحة والوضوح حصَّنا علاقة سارا وموسى من عاديات الزمن ورياحه ومشكلاته العاصفة .
- ( كل مافي الأمر سيطرت عليَّ رغبة في العودة الى "هيا" و"مسمار" والتمتع بالحرية في سماء بحر المالح هنا مع اهلنا "البجا" و"البني عامر" و"الرشايدة" فأحس الان بأنيَّ مختنق من الوحدة والغربة )
- -( أتفق معك في هذا لاشعور والحنين إلى دفء الديار في جبال البحر في "قرورة" و" اركويت" و" عروسة" )
- ( أحس أني هنا في هذا المكان المتناقض فقدت انتمائي للبجا وتورطت في ثقافة غرور لا تحترمني وتميزني بلون بشرتي وتفرض على ضغوط قاسية لاحدود لها............)
- ( نعرف منذ ان جئنا إلى هنا ، أننا سوف نصطدم بالنظام القانوني وعالم القيم والمفاهيم هؤلاء الناس لايشبهونا فجذورنا واصولنا ستظل مشكلة دائمة لايمكن تجاوزها ...ربما سوف تتبدد عند الأجيال القادمة حين تموت العنصرية ويعرفوا اننا بشر مثلهم)
- ( الم تلاحظي من حضور المنتدى أن الجيل الأول من المهاجرين من ابناء الهضاب المالح الغربية يميلون إلى الانصهار في العلاقات الجديدة وان الأجيال الجديدة تميل للتجمع والعزوف عن الاندماج )
- ( لا خيار لنا سوى تحديد مشكلاتنا ومعالجتها كما فعل الجميع عبر تاريخ الانسان في الماضي فهذا الربط مهم ومفيد)
- ( لا اختلف معك انه لا خيار لنا سوى المشاركة النشيطة في التغلب على مشكلاتنا كما فعل غيرنا وتبقى أثار الظروف التي نعانيها هنا تلاحقنا الى الابد)
تتعرض حياة سارا و موسى إلى أزمات خفية جراء الثقافة المختلفة وواقع الحروب الاهلية والازمات التي تجتاح المنطقة مما فرض عليهم الانكفاء تلك الغلينات هي التي اوجدت وعيهما بنفسيهما فيها تغيرا وتالما برغم نضجهما الفكري ووعيهما الثقافي المتماسك فهما يعملان في التعليم الذي يرتكز بحده على الثقافة المتغيرة عبر النظام المدرس الذي يناهض المورث الثقافي الذي يميل إلى الضغط على حقوق الجماعة والتسلسل الهرمي للسلطة ضمن الأسرة ومنها العلاقة الزوجية الأقل اتساماً بالمساواة برغم أن علاقة موسى وسارا قامت في الأصل على التكافؤ والاختيار الحر إلا أنهما لم يتصالحا مع النزعة الفردية والحقوق الخاصة والطموحات المسيطرة خارج منزلهما فقد عمد موسى وسارا للإبحار في الثقافة الجديدة محاولين عدم الاستغراق فيها بالدرجة التي تنتزعهما من تقاليد مازالا يثقا فيها ويعتزان بالانتماء إليها ويعيشانها في السر والعلانية.
في كافتريا المطار ركز موسى على اللوحات المعلقة على جدران الكافتريا فقد كانت بين اللوحات لوحة مميزة بحجمها وموقعها بل بمضمونها الذي يجسد السيد المسيح على الصليب فنظرة موسى الممعنة في اللوحة بالدرجة التي يحاول أن يقوص في عقل الرسام الذي صنعها أثر في تعابير وجهه ولفت إليها نظر زوجته فنظرت إليه وللوحة فأخذت تناقش معه اثر اللوحة عليه :
- ( أعتقد أن هذه اللوحة تحمل معاني عميقة اعمق من الرموز الدينية )
- ( ربما ، ربما فانا لا افهم في مثل هذه اللوحات التي يدفع فيها البعض الأموال الطائلة لذلك ...)
- ( نعم يعكف عليها الخبراء بالدراسة والفحص والتنظير فيكتبوا عنها المجلدات في محاولة للوصول للمعاني )
- (لم يعد من الممكن تعريف اللوحات بكلمات على شاكلة جيد ورديئة )
حوار موسى وسارة الذي دار حول اللوحة أعطاهما فرصة للتأمل والتفكير حتى أن سارا أحست أنها مستعدة للتأملات الفكرية العميقة لذلك نقلت الحوار نقلة أساسية :
- ( أعتقد أن هذه اللوحة نسخه مقلده من لوحه أصلية رأيتها في "سواجن" تعبر عن نبي شعبي صلب في مدينة باضع قبل الف عام )
- ( مهما يكن فاعتقد إنها نسخة ممتازة للرسائل الروحية )
- ( برغم عدم تخصصي في الفن والاديان الا اني استطيع الجزم بأن النسخة الأصلية فيها تعبير موحي أكثر من هذه النسخة المقلدة التي نراها في مسيح يختلف عن مسيح البجا )
- ( هل تعتقد أن الذائفة الجمالية متساوية وامعتقدات واحدةعند الكل..........؟ )
- ( لا اعتقد ذلك فالذائفة الجمالية تتأسس على الوعي المعرفي الذي يصيغ الوجدان صياغة مختلفة بين الأفراد فلوحة المسيح العبري تتصل بموضوع المسيح الناصري الذي يعتقد اليهود انه لم ياتي بعد وآخرين " النصارى" يعتقدو انه جاء ومات وصلب وقام من الاموات والمسلمين لهم ايمانهم بانه جاء ولم يمت ولم يصلب وصعد السماء وقد حان اوان عودته بعد المهدي الذي يمهد لجىء " المسيا")
- ( يرى البعض في مثل هذه اللوحة رسالة تؤثر بهذا القدر أو ذاك في الاعتقادات حتى يفقد البعض إيمانه ويزدادآخرون اكثر ايمانا.......... )
- ( ماذا تقصد يفقد الشخص إيمانه ويزداد آخر بايمانه....؟)
- ( اقصد أن بعض اللوحات بها تكثيف عقائدي روحي بل تناقضات لاحدودها تعمق الارتباك وتشد المشاعر للمواجهة....... )
- ( مهما حملت اللوحات من رسائل فهي لوحات فقط نختلف أو نتفق معها في أبعاد الجمال والإتقان دون هواجس أو أفكار مسبقة اما مسالة المسيح هي اصل المشكلة في هذه البقعة من العالم.........)
- ************************************************** **

في الطريق لمنزل الأستاذ عدي الخازن صاحب الدعوة ظلت سارا تطالع صحيفة شعبية تتحدث عن الفن أما موسى فما زال في صمته تستبد به ذكريات طفولته التي ماانفكت تتحرك في ذهنه صوراً ولوحات باهتة يغطيها ضباب الشتاء في ساحل المتوسط وتتضح شيء فشيء مع تكثيف مشاعره فجأة انتقلت سارا لصفحة الموسيقى فقرأت خبر عن الموسيقى بصوت جهوري كأنها تحاول إعادة التواصل مع موسى الذي ركز بعيدا جوهر الخبر يتصل بتبيان الاختلاف بين (المودرن ميوسك ) و(الكلاسيك ميوسك)(الموسيقى الشرقية) و(الموسيقى الغربية)............
-( المودرن ميوسك )(الموسيقى الغربية) تلمس عمق أعماق روحي وأشعر أنها إنسانية أما (الكلاسيك ميوسك)(الموسيقى الشرقية) فباردة تدفع للنوم وتورث البلادة والغباء)
-( لكني رغم ذلك أحس فيها ايقاعات البجا فمضمونها عذب قوي يقوم داخلي )
- ( رأيك عاطفي منحاز لهضاب البحر الاحمر )
-( هل نملك إلا أن ننظر لأي موضوع بعيداً عن العاطفة فهي مكون اساسي من تكويننا كبشر فاي امر عقلاني معرفي لابد ان يكون بقدر ما عاطفي........)
- ( نعم لا يمكن إسقاط العاطفة كمكون مهم لحساب التطور المادي والوعي الجماعي والنضج الروحي ولكن التعويل عليها يقود لاختلال النتائج )
- ( التطور في الشمال البارد متعدد الأبعاد وهو خبرة لكل البشر لهذا أُرجح أن اجمل ماسمعت من ايقاعات سمعته من البجا )
بعد أن سكنت الضوضاء نظر موسى في عيني سارة فرأى كل أنوار الدنيا تبرق منها معلن عن أشواق عميقة مخزونة فقدر أن ذلك هو الانسجام فسكن للخمول والكسل لكن التفاعل باغته حين سألت سارةا:
- ( متى استمتعنا بمثل هذا الهدوء ؟)
- ( بصراحة لا اذكر ..)
- ( أرجوك تذكر )
- ( نعم تذكرت عندما كنا نستمع ل"بوب مالي" في منتجع "عروسة" )
- ( لماذا تذكر "بوب" الآن ...)
- ( لا اعرف ربما كأثر للحنين الطاغي لجبال البحر و" لهجر" و"مسمار" و" "جبيت" تلك البقاع التي أحس بقوتها عندما انظر في عينيك حبيبتي )
- ( فماذا في ذلك ..؟)
- ( لن أطيل عليك ولن أزيد فمن الواضَّح إنك مازلت مسجوناً بين النظريات الجافة أرجوك لا تفسد علينا هذه العطلة التي وجدناه بشق الانفس بعنيف الافكار والاراء... )
- ( لن افسد العطلة بالكتب والنظريات والكلام المدرسي والأطروحات العقلية الثقيلة لانَّي لا أرى إلا عينيك الكتاب المفتوح فعيينيك تلهماني وتفرحاني وتدهشاني ولا أحتمل غضبتهما.........)
- ( لكنك حائر بين واقعنا المكاني وحنينك لمشروعك الانساني "لمسمار" و"هيا" ومراعي الاغنام وحفر الجبل وصيد البحر في " سواكن" و" بورسودان".......)
- ( عندما تكوني بقربي لا فرق عندي بين "بورسودان" و"بيروت" )
- ( دائماً تنتصر علىَّ "يابعلي "ولهذا أحبَك وأحتمل الحياة الممزوجة برائحة الدم والعنف الاهوج معك لانك صمام الامان لي حبيبي)
******************************
الاستاذ موسى ابوفاطمة متصالح مع نفسه لأنَّه أختار بإرادته الحرَّة الإقامة في دمشق لهذا فنفسه دائماً مبتهجة لا ينقَّصّها القلق المرتبك فقد تعلم صعوبة تحدي الحنين "لمسمار" و"هيا" باستكانة الحياة في دمشق بضجيجها وصخبها وغموضها ومحتواها الاقتصادي المستهدف الأرباح واكتناز المزيد من الدولار الأمريكي وتناقضات المذاهب والطوائف والاديان . فالاستاذ موسى منذ أيامه الأولى أدرك أن حياته في وطنه الجديد تعتمد على مخطط تفصيلي ليس فيه احتمالات الصَّدف لأنه اختار العمل في المكان الأكثر نشاطاً وحيوية ففي هذا المكان لا يمتلك المرء ساعة فارغة بصورة كاملة الكل يركض خلف نوافذ البيع والمضاربات وتبادل الصكوك كما أن الحياة مسيطرة عليها وسائل الاتصال وحركة الطيران وازدحام الشوارع بالسيارات القادمة من وإلى مواقع الإنتاج والاستهلاك .
تعرض موسى إلى مشكلة التكيف في مجتمع سريع الإيقاع مشحون بعوائق الازمات والصراعات فالواقع الحياتي يعجل من نشأته سؤال حرج في ذهن موسى يتصل بالخصوصية والهوية فهو مولد في مكان بعيد متناغم منسجم تناقضاته اولية منحصره في حالة انقسام داخلي بسيط محدود غير مرئي الان أكتشف انه يعيش في مجتمع تناقضاته عميقة مركبة معقدة فادرك أنَّ حياته في بلاد الفُرص النادرة هي ليست سهلة كما اعتقد بل هي أيضاً ملأى بالصعاب ولا تفرش له الحياة بساط الترحيب كما لم تفعل من قبل لأي كائن من كان بل تواجهه بالاهانات وتهم التخلف وأنماط الضغوط غير المتخيلة هذا ما يجعله دائماً في حالة دفاع عن النفس والهوية والخصوصية بحثاً عن لغة دقيقة رسمية تجعله يواجه التحدي والشعور بعدم الاطمئنان عن وضعه العرقي وخلفيته الاثنية الثقافية مما يزلقه دون إرادته في معارك قانونية لضمان وضعه في قالب التعايش .، فالإقامة في دمشق كما في كل مدن الشرق الاوسط تحتاج يقظة وحسن تدبير لاتحتمل البساطة والعادية فالناس هنا تقاس افعالهم لابفائدتها للانسان بل لماتعبر عنه من محمولات مسكوت عنها تتصل بالبحث عن هوية فكرية أو دينية أو سياسية تتناسب مع الوضعه والموقف غير المحدد فقد كان موسى يعرف نفسه مَنْ هو ؟ وكان لديه شعور قوي بانتمائه الشخصي لارضه وجذور اجداده البجا فهو من قرن الشمس من "ديار اكسوم "و"جبال البجا" و" بلاد البهار بنط" حيث تحرق الشمس الأجساد فتميل للسواد فهناك تشكلت شخصية تحت ظل سلطة العائلة والقبيلة وقبل كل شيء في ارتباط بالعشائر والقبائل والشعوب برغم أن الرابطة القومية عنده تتجه نحو الشرق الاوسط فظلت مجرد مشاعر لم تتشكل فقد ظلت حالة مائعة غير متبلورة ومتحولة من اتجاه إلى آخر بسهولة دون اختلال نفسي فعرف موسى في دمشق العلاقة الفردية هي العلاقة التي تتأسس عليها رابطة العلاقات التي هي أكثر صلابة وتماسك ورسوخ ولو لا أدراكه وفهمه الواعي للتباين المختلف بين مجتمعه القديم ومجتمعه الجديد فأنه لكان طبيعياً أن يتعرض إلى الاختلال النفسي والتشظي الوجداني فالغريب انه كانت تسيطر عليه الأشواق "لمسمار" و"هيا" و"جبيت" فعمقت قدرته على الصمود والتماسك.. ذلك الشوق الذي لا ينحرف إلى حنين غير سوي فانتماءه لهضاب البجا لم يمنعه من ترجيح قراره الشخصي بالانتماء الكليّ لأرض الفرَّص النادرة دون التفات إلى المشكلات التي ما انفكت تتوالد في مواجهته فقد واجه صعوبات جمة في الاندماج في أعماقه فقد شعر بتنازع عميق بين وطن يسكن فيه ووطن يسكنه في وجدانه هذا ما يفرض المعاناة من أجل التوفيق بينهما فأشواقه مع موضوعيتها تصطدم بقرار فوري جريء بأن يصبح مستوطن في الشرق الاوسط هذا يعني أنه منذ البدء حسم أمره بالا يعيش كمقيم مؤقت فقد قرر الانتماء لوضعه للشرق الاوسط كأستاذ جامعي في مدينة التاريخ دمشق فهو يعلم استحالة انجاز مهنته إذا ما أصر على العمل في مكان بشعور توصيفه من الأجانب الذين يعيشوا مؤقتين في دمشق بقية جعلها نقطة تنطلق منها الهجرة لاوربا لماوراء البحار في استراليا وامريكا فقد حسم موسى أمره بالتحول من مقيم مؤقت إلى مستوطن دائم هذا استلزم منه تغييرات في طريقة تفكيره وسلوكه هذا يعني أنه قرر أن يصْبح مواطن فقد بذل هو جهود جاد هو وزوجته سارا في برامج التدريب على المواطنة واتقان اللغات وبناء القدرات ، والتعاطي مع مفاهيم وقيم المجتمع الشرق اوسطي المعقدة هذا من جانب أما في الجانب الآخر فقد حاصرت موسى أشواقه "لمسمار" و"هيا" و" جبيت" حتى انه صارت تبدو حالة عدم الاستقرار كتصادم هويتين المهم قد حسم أمره للانتماء للهوية الجديدة التي تجعله يحيا بمقاييس التطور والارتقاء فهو لن يستكتف أن يكون رسول إلى وطنه القديم حاملاً بشارات السوق وتداول رأس المال والديمقراطية وحقوق الإنسان .
"جبيت" و"مسمار" و "هيا" عند موسى ليس مكاناً بل هوية تجري في دماءه ولغته وذاكرته الشخصية وملامحه ولون بشرته وشعر راسه ولكي يوازن الدكتور بين الماضي والحاضر أظهر اهتمامه بالتعبير عن الإنسانية بكل انكساراتها وإخفاقاتها وسقطاتها وانتصاراتها وإنجازاتها ، سار موسى في الطريق الضيق مصَّمماً ألا ينزلق في الدعاوي الجوفاء إلا تعبر عن نفسها كاصوات هائجة بمعادلة الشرق الاوسط وانسان الشمال البعيد وإنهاء لسلطة رأس المال وأكاذيب التحرر من القهر والاضطهاد فالحقيقة التي لابد نبرزها هنا هي أن موسى لم يقاطع أي دعوة أو فكرة بل أنشأ لحوار الأفكار منبراً حُرَّاً لكي تحاكم وتحتكم الأفكار والدعاوي عند سلطة العقل باختبارها بأسئلة الذهن في إطار النقاشات الموضوعية ، هكذا تحول منتدى استاذ موسى المنزلي إلى قاعدة تعصف الأذهان برغم أن الاساذ أهتم بأن لا يتحول المنتدى إلى منبر يناصر أيدلوجيات العنف على نحو تلك الأماني كان يحملها البعض من رواد المنتدى بأن يتحول إلى قاعدة للتعبير عن نظرات معادية "للكنونيالية" و"قوانين السوق"" ثقافة الاستهلاك" ومنازلة الشمال الانتصار للعقائد بتغير عقائد الناس القائمة بأثرها حرص موسى أن تتحول أشواقه إلى مسقط رأسه إلى فعل عدمي يسيء إلى وطنه الجديد و مصائبه القانونية والأخلاقية باعتبار إيمانه بالتحول رهين بالتفاعل الثقافي لا بالتسلط الثقافي ففي قناعاته أن الفكرة قادرة على التأثير في النفس البشرية باعتبارات والدوافع والأماني والتطلعات كمركزها عاطفي وجداني من هنا أهتم بتقديم ارض البجا لكل الدنيا باعتبارها عالم مختلف عن العالم المتناقض المتصارع المتحارب فقد استطاع أن يبرز ارض البجاكبيت كبير معزول مهجور منفصل عن الدنيا الواقعية في طريق جبلي واحد تسلكه القوافل للوصول لأرض الأحلام . يعترف موسى بأنَّه لم يفلح في عرض "مسمار" و"عقيق" و"هيا "كما هم عليه لأنه يؤكد أنَّه أهتم في منتداه الذي أستضاف فئات عديدة عرضت قضايا عديدة إلا أن موسى يعتقد انه لم يوفق في عرض مرتفعات المالح الغربية بطبيعتها ولغتها في المنتدى لأنه اهتم بدحض الصور المتخيلة عن " الحبشة " والصومال "و"الفلاشا" والبجا وإبراز الواقع دون إدعاءات واتهامات من هنا نقرر أن منتدى موسى ابو فاطمة استطاع أن يعبر عن حياة هضاب بحر المالح الغربية بتعقيداتها بل أن المنتدى أعطاها عمقاً إنسانياً جعلها جزء من الذاكرة الإنسانية هذا ما أعطى موسى موقعاً خاصاً في الذاكرة الثقافية لدمشق الجامعة باعتباره مهتم بعكس صلات أبعد من الحدود المنعزلة لهوية المنتمين للمنتدى باعتبار أن المنتدى أبرز الهوية خارج الخطوط العرقية إذ أن هوية الجنوب هدفاً نهائياً يحتفل به ، بل الوقوف عندها لنقطة تحول يعاد منها تحديد مفاهيم الإنسانية كمستوى أعلى للانتماء .
تبدو دعوة أدباء بيروت للأستاذ موسى بالاحتفال معهم بنهاية العام المنصرم وبداية العام الجديد تعتمد على ما رشح عن هويته العرقية الثقافية وما يعكسه منتداه المنزلي من تنوع ثقافي فالحقيقة التي لا جدال حولها أن منتدى موسى قد أصطاد بنشاطه اهتمام الصحافة الأدبية والثقافية فرسخ اسم المنتدى في ذاكرة الرأي العام ، هذا ما حقق شُهرة لا حدود لها للدكتور موسى فصار اسمه يملأ الأفاق حتى أن وقائع جلسات المنتدى مادة تتناقش حولها فضائيات الثقافة باعتبار أن المنتدى منبر يناقش قضايا تهم كل الناس . فالحضور الإعلامي لمنتدى الاستاذ موسى ربما قادت اتحاد أدباء بيروت لدعوته فما يؤكد ذلك كثافة المقالات التي اهتمت بالمنتدى وبالاستاذ موسى شخصياً ومنها هذا المقال التي نقطف منها مقاطع على سبيل المثال لا الحصر بل لتأكيد دور الأعلام في التأثير على المشهد الثقافي في الشام الكبرى(منتدى الاستاذ موسى هو المنتدى البارز للفكر في دمشق فهو يقدم اتجاها منهجياً للاندماج والتواصل في آنٍ معاً ، فالموضوعات التي عرضت فيه خلال هذا الموسم الثقافي تعكس اتجاه المنتدى الفكري الذي يقف خلفه الاستاذ موسى فمثلاً فأن أربعة عشر موضوع ناقشت قضايا اهل هضاب بحر المالح الغربية وهذه ليست صدفة محضة من مجموع مائة موضوع فالموضوعات الأخرى ناقشت قضايا إنسانية ووجودية وأدبية واجتماعية مما يعني أن هذا المنتدى يأطر لسؤال محوري يدور حوَّله منهج المنتدى : كيف نتفاهم مع هذا العالم الذي ليس لنا حياد فيه إلا أن نكون جزء منه ؟ .. الاستاذ موسى قد لا يعرف أكثر وعيا من بقيتنا ماذا يفعل غير أنه يعرف أكثر من معظمنا كيف يجعل أناس مختلفون يعيشون في مكان واحد فمن خلال المنتدى ي الذي يدعو للاندماج الانساني فانه يكشف يدور في دواخلنا جميعاً الاهو ابرز الحاجة إلى التغيير بل المنتدى يتيح فرصة نادرة لأناس مختلفين كي يفكروا معاً في الوسائل الممكنة للتعايش دون خصومات او عداء اي ان المنتدى يدعو لقيم الانسانية التي تجعل امكانية تقبل الاغلبية في بيوتهم الاختلاف والتعدد والتنوع اي أناس على نحو متنوع لهم الرغبة في الحياة المشتركة والحفاظ على الحياة ) مثل تلك الكتابة مسئولة عن اهتمام أدباء بيروت بمنتدى الاستاذ موسى ابو فاطمة وبه شخصياً بالدرجة التي أرسلوا له بطاقة دعوة للمشاركة معهم في احتفالات رأس السنة واعياد الميلاد في بيروت ليس ذلك فحسب بل لأن المنتدى صاغ موقف الإنصات لمشكلات حية يعيشها الناس عبر العلاقات المختلة التي تتأثر بحدود العَّرق والقومية وجنس الشخصية على الرغم أن تلك العلاقات شخصية إلا أنها تقدم أساس الروابط التي تتخذ رنيناً مجازياً كما أن أدباء بيروت اهتموا ببناء الجسور بين الكتاب ذوو الثقافة الثنائية الواعون للتراث والمهتمون به والذين لهم اشواق لمجتمع انساني خالي من التطرف بكافة انماطه واشكاله، فالاستاذ موسى قطعاً من هذه الفئة التي لاتستندعلى العَّرق في ابراز نفسها رغم انه لاينفي انه من العرق يمكن ان تتشكل قاعدة انسانية لنفسها غير أنها لا بد ان لا تقصر على ميراث رابطة الدّم فحسب بل تهتم بمستوى اكبر بعمليات التدفق والتبادل : مثلما يؤشر الخفقان إلى تدفق الدّم عبر الجسم فيشير العرَّق لدى منتدى الاستاذ موسى إلى الانتقال والتبادل فهو يرى أن التراث مهم ، ليس بسبب ما يتصل به عن الهويات بل من أجل تفاعل كل البشر فما يعتقد فيه هو :
(... على الرغم أنَّ العّرق لا يوفر إجابات مسبقة إلا أنه يمكّن من توجيه أسئلة ضرورية ولو أن من غير الممكن الاجابه عنها دائماً ..)
فالحضور الاعلامي للمنتدى وطريقة إدارته ومنهج الاستاذ موسى الفكر ي كلها تجمعت كحزمة واحدة للفتت النظر للاستاذ موسى باعتباره يستمد من خلفيته العرقية الطاقة لمد الجسور وإقامة الصلات الأبعد من حدود العرق والهويات الخاصة فقد عبر المنتدى عن ذلك بتقديمه مجموعات متباينة من وجهات النظر فالمنتدى يهدف من ذلك إلى الإعلان عن قابلية التحرك أبعد من الحدود التقليدية بينما يكرَّم المنتدى الهويات التي ترسم الحدود وتقيَّم الحواجز من هنا اكتسب المنتدى صفة تحدي للحدود الجامدة فالمنتدى يعمل على مقاربة وجهات النظر المتباينة فمنتدى الاستاذ موسى استضاف شخصيات مختلفة لها وجهات نظر متعارضة المنطلقات متضاربة الافكار كما قُدمت في المنتدى هناك أوراق فكرية تناقش قضايا في غاية الخطورة كما تناول المنتدى التجارب الشخصية والسير الذاتية فعلوا كل ذلك بإصرار منهجي لا يحترم الوحدة المصطنعة بل يدفع للوحدة الانسانية الاكبر في اطار التنوع غير المحدود فالأمر المهم هنا هو مهما تهرَّبنا منه هو ان مشروع استاذ موسى هو السلام الدائم والوحدة الدائمة التي تنبنى على أساس الاختلاق والتنوع .
*****************************
مدينة بيروت تعتبر اهم حواضر الشرق الاوسط بل اهم مدائن غرب اسيا فهي منطقة تمازج الافكار والثقافات ففيها تتعايش المذاهب والديانات برغم ذلك لا تختلف عن غيرها من المدن الاوسطيةالتي تمتاز بطابعها المعماري المتسم بروعته الإبداعية في المساجد والكنائس والمعابد وحياطان الدور التي تعلن عن الحقب والازمة وخبرات الانسان المتوارثة لانجد فرق في ذلك بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية .
في بيروت نزل موسى وزوجته سارا في مسكن عدي الخازن أمين عام اتحاد الكتاب الذي يتخذ موقعاً وسطاً من مركز المدينة الحيوي برغم من أنه مسكن متواضع مصرعيه يطلان على ساحة مهمة محاطة بمجموعة من المساكن الأنيقة المميزة بشرفاتها ذات الألوان الخضراء التي تشر للحقبة الرومانية فمسكن الخازن يشابه تلك المساكن من الخارج إلا أنه من الداخل يظهر الذوق المعماري الرفيع الذي يبرز لوحة حداثية تنضح بالجمال والترتيب والنظام . فأثاث المسكن منسجم مع طلاء الحوائط والسقوفات والأرضيات المغطاة بالسجاد الإيراني كما تتناثر شرفات المسكن بالمزهريات والتحف واللوحات كأن المسكن معرض دائم للجمال ـ قطعاً يعكس مسكن عدي حس الفنان التشكيلي في اختياره وترتيبه فالمسكن مصمم بحيث يسع أكثر من آسرة في آن واحد لهذا وجد موسى وسارة السكينة والرَّاحة حيث قرر موسى أن يستلقي في مقعد وثير أما سارا فقد دلفت إلى الحمام فاغتسلت من وعثاء السفر ثم استلقت على سجادة الغرفة ومن ثَّم غطت في نوم عميق أما موسى لم يوفق في النوم فما زال يحاول ترتيب ذهنه بمراجعة الأسئلة الضاغطة عليه بقسوة :
( هل هذا العالم الذي نعيش فيه قائم على العنصرية ويحتقر البشرات السوداء؟ هل للون البشرات تأثير على مكتسبات الوعي والثقافة ؟ هل بالضرورة أن أصحاب البشرات السوداء لهم عقول سوداء وقلوب سوداء ؟ لماذا تصدر مراكز الدراسات والخطابات السياسة القانونية العنصرية ؟ لماذا يحاكم السلوك السياسي للأفراد السود من خلال نظريات توتر الهوية ؟ لماذا لا يحاول المنظْرون الثقافيون الوقوف ضد السلوكيات العنصرية ؟ لماذا لا تصاغ هويات هجينة وقاربة لدمج الخطوط الفاصلة عرفياً وتسمح للناس العرقيين بالتفاوض على أرضية ثقافية اجتماعية حرَّة دون كراهية تتصل بالهويات الاولية ؟ لماذا لا يعمل المهمشين والمنفيين والأقليات لبناء واقعاً يقدم القدرة الكامنة حقيقية لثقافة إنسانية غير عنصرية ؟ لماذا الإصرار على واقع ظالم عنصري ؟ إذا كانت الهوية شيئاً يمتلكه المرء أقل أهمية من تحديدها كشيء يفعله المرء هذا ما يفرض سؤال ما موقع البيض من السود هل هم محقرين ام يجدوا الاحترام والتقدير؟ وهل يصنف السود مع الملونين أم مع اليهود أم العرب أم هم يظلوا سلعة تستخدم في الحروب لدعم هؤلاء ضد أولئك أي تحولوا إلى رقيق من نوع جديد يتصل بالتطور العلمي التكنولوجي؟) باختصار ظل موسى سابح في بحر متلاطم من الأسئلة المتشابهة والمتناقضة والمتعارضة دون أن يستقر على قرار غير انه توصل إلى أن هناك مشكلة خاصة به أهم من المشاكل العامة فهو يعتقد أنه اخفق في واجب أخلاقي تجاه لغته الأم البداويت إذا كان بمقدوره أن يلعب دوراً ايجابياً في تعريف العالم بها لاسيما أنها تحمل في مفرداتها ثراء لا محدود يمكن أن يكون أساس لترياق لكثير من جذور الصراعات الدامية هذا ما يجعله يعتقد أنه مدين لليداويت بواجبات لم يجد بعد متسع من الوقت ليقوم بها لكنه مصمم على القيام بها طال الزمن أم قصر فهو يعتقد انه لابد أن يستعين بدفء " جبيت" "مسمار" و"هيا" في تحريك القضايا والموضوعات المؤجلة منذ عهود طويلة ومازالت تحتاج للأرواح الصادقة والضمائر النقية فتلك هي الطريقة الأمثل لنقل القضايا من الغرف الباردة المعبقة بروائح العَّته للشوارع والمسارح والساحات والمساجد والكنائس والمعابد فلابد أن تحقن النفوس المضطربة من قرن الشمس لتأخذ الطاقة الحيوية القادرة على أخراج الأفعال من سكونها وعبثيتها وإعطاءها عمق وروح حركة الإنسان الفاعلة المتحركة نحو التموجد .
طرد موسى الأسئلة من ذهنه كي يهيئ نفسه لبرنامج أدباء وكتاب بيروت الذي لم يكتبوه تفصيلاً كما هو معتاد في تلك الاحتفالات لذلك وجد صعوبة غير محدودة في الاستعداد فاكتفى بالتركيز على تقديرات سارا التي دارت حول البحث عن اصَّطياد البساطة والسكينة من زيارة بيروت فمن أولوياتها التخلص من نمطية ضغط العمل اليومي وتفاصيل الدوام الأكاديمي بمستجداته المرهقة التي تبعث الإنهاك الإجهاد الذهني لهذا تحديداً قررت ان تجعل من وجودها في بيروت موقف ضد الرتابة والروتين لذا وضعت نصب عينها هدفها الاول ان تتعمق فيه حد التحقق دون أن تحيد عن هدفها من زيارة بيروت " قيد انملة" .
واضح جداً أنَّ موسى اهتم بدعوة الكتاب و الادباء لامر خاص به واسرته فقد كان يعَّول عليها ان تعمق انسجامه هو وزوجته كلا حسب رؤيته في تجديد حياتهما الأسرية باعتبار إنَّ الدعوة غير تقليدية ليست مهتمة بالبرامج التفصيلية ففيها شيء من الحرية هذا بالضبط ما يربك موسى ويسعده في ذات الوقت فهو لا يدري ما سوف يقدمه خلال الاحتفالات من برامج عند الافتتاح والختام وجلسات المناقشة طالما هو ضيف شرف سيكون مطالب بعرض اعماله وافكاره وانتاجه الابداعي لكنه وطن نفسه على قراءات قصصية القصيرة وإعادة طرح ورقته الفكرية التي قدمها الأسبوع المنصرم في المنتدى عن الاندماج الثقافي والخصوبة بين النظرية والتطبيق .
تعرض الاستاذ موسى إلى انتكاسة صحية جاءته كأثر للإرهاق المنهك الذي تعرض له في زيارته الأخيرة إلى بيروت ، فيعتقد أن وعكته تلك ليست أزمة جسمانية وحسب بل يميل إلى ان من أسبابها الحقيقية الإرهاق النفسي فقد أباح لسارا أنه يعاني من ضغط القضايا العامة أكثر من إحساسه بالإرهاق الجسماني ، فما يعتقد فيه موسى أنه مرتبك أبعد الحدود من تنامي الصراعات الدموية الحمقاء في الشرق الاوسط والحروب الاهلية المتكرةالتي مازالت تمزق مصر ولبنا وسوريا والعراق وغزة واسرئيل ، ومما يزيد عنده الأمر سوءاً أن الميديا الاعلامية العالمية مازالت تقدمها كمادة تجارية تدعم أحد الفاعلين في الحريق من هذا الطرف أو ذاك لا تهتم بالإنسان الذي يحصد ناتج الأفعال العابثة لذا يشعر هو بالمسؤولية لضآلة اهتمامه بإطفاء هذا الحريق الازلي الهائل وانشغاله بقضايا الثقافة والتحول الفكري التي يمكن تصنف شؤوناً خاصة تماماً على نحو قضايا "الجندر" والقضايا الشخصية التي تتصل " بحقوق فاعلية الرجل والمرأة في الحياة "، "العرقية وحقوق السكان الأصليين" و"حقوق الأقليات" و"القوة السوداء" إضافة إلى قائمة طويلة تشمل "حقوق الفئات العمرية" ـ "حقوق الأطفال "و"الشباب والمسنين" ـ و"خصوصية حجرة النوم "و"الأسرة أنشطة الأقليات" التي تتوق إلى ذاتية أفرادها كأشخاص لا مجرد تابعين تحت مسمى المواطنة . بالطبع تلك قضايا متشعبة ينظر إليها الناس في الغالب نظرات متعارضة برغم ذلك فقد كان الاستاذ موسى واضحاً فيها وطن موقعه فيها موطن الكفاح المتواصل لإسناد تلك القضايا بايجابية متحملاً ردود الفعل الأكثر قسوة والتي تعارض تلك القضايا او تنظر اليها بحيادية وبسبب مواقفه المنحازة تلقى موسى الضربة تلو الضربة على المستويين الحقيقي والافتراضي فاثرت الاقتراحات التي اقترحها في صحته وسمعته مما أضطره في أحيان عديدة إلى مجابهة منهج تسيس تلك القضايا بإعادة صياغة المفاهيم التي يستظل بها بعض الضالعين في الفعل العام أولئك الذين استعادوا من ازدهار تكنولوجيا المعلومات وأسواق الأسهم المالية مواقع في ذاكرة المستقبل . الحقيقة أن الاستاذ موسى لم يهمل قضايا الاحتراب العربي اليهودي و مشكلة العراق والصحراء الغربية وتنامي الارهاب في الجزائر أنما تزامن مع تصاعد وتأثره بالاحتراب "الاثيوبي الارتري "و مع موجة ضلوع الاستاذ موسى في القضايا الإنسانية الاكثر تعقيدا فاعتقد أنه انشغل عن العنف الحقيقي الذي دمر الساحل الغربي للبحر الاحمر و الهضبة الاثيوبية وأعاق فيها فرصة أن يخاطب الناس بعضهم وشيدت المتاريس وبنيت الحواجز حتى تبادرت إلى ذهنه انعدام اي فرصة للتفاعل الايجابي الذي سيلجم أيادي العنف والتطرف التي كثفت أعمالها العدوانية التي ادرتها بمكر ودهاء لتعزيز كل عناصر إيقاد الحروب واستمرار الحريق ربما هذا ما يجعله يعتقد في قرارة نفسه أنه هرب من الازمات للازمات , فاثر السلامة وابتعد عن موطنه الاصلي وصار يغني له بكل شوق ورغبة وحنين .حتى أنه صار في كل نقاش ، أو حوار صريح مع نفسه يجد روحه واقع على خط الرماية الأول فلا خيار له سوى أن يقرر انه محاكم وموبخ ومدان باعتباره هارباً من معركة وقودها دماءه إلى معارك خيالية في التناقضات الاجتماعية الثقافية التي ليست في حاجة إلى تقصي الحقائق في الواقع و لا تحظى بالاهتمام الضروري فتلك القضايا من الطراز القديم الذي يمكن تحديدها بسهولة دون جهد من نواتج عمليات الضغط اليومي التي تعرض لها مباشرةاو غير مباشرة .
الاستاذ موسى له اعتقاد راسخ بأنه لم يستخدم موهبته الفردية في فض النزاعات التي أسست للحرب في محيطة الجغرافي التقليدي ساحل غرب المالح أي انه لم يلعب دور في حل الأزمة القديمة بمعالجة جديدة تحترم الوجود الواقعي للناس والهجرات وتنفذ الى عمق مشكلة "هضبة اثيوبيا" و"الصومال" و" السودان" و"هضبة البحيرات" كل ذلك المجال الذي يعاني من موجات التطرف والتشنج وأخذ الحقوق بالعضلات يبدو أن الاستاذ موسى يعرف أن جذور الانهيار عميقة تمتد إلى عقود وعقود فمن غير المنطقي أن توجد في ذهنه وصفة سحرية لبناء السلام او تطيح على عجل بواقع ثقافة الحرب هذا لا يعني بالضرورة أنه يقف ويشاهد الحريق كما لا يعني أن يتهم نفسه بالتقصير والهروب عن مواجهة الأوضاع الواقعية ومصارعة القضايا الافتراضية التي تلد الحروب والعنف لا ادري على أي معّيار تقسم القضايا إلى واقعية وافتراضية على أساس وجودها وأثرها أم على أساس أنها قضية حوار ذهني أم غير ذلك على كل حال شعور الاستاذ موسى بالذنب تجاه حياة الناس في" هضاب غرب بحر المالح" تلك في حد ذاتها خطوة إيجابية تعني انه مازال مهموم بالذين يعيشون تحت ظلال العنف وعنف الحروب تحديدا ويستهلكهم الارهاب المتطرف وانه يتمنى أن تنتهي فوضى العنف المنظمة التي جعلت الحياة تموت من تلقاء نفسها فقد هلك الإنسان والزرع والضرع وأجدبت الحقول وتمددت الصحراء على الأرض وفي العقول .
حاولت سارا أن تخفف عن موسى إحساسه بثقل المسئولية في دوران آلة العنف بالتقاعس عن التدخل لإلجامها فقللت من معنى إدانته لنفسه بافتراض أنه أهمل ساحل البحر الغربي وتركها تواجه المآسي وتتخبط في مزالق التوتر فدور المثقف التدخل لإعلاء شأن العقل هذا إذا كانت الأمور تحسم بالعقول فالمواقف العقلانية هي الأسلحة أكثر تاثيرا من الحكمة بهذا أشارت سارا لكي لا يحمل نفسه مسئولية اختلال أنظمة الحياة التي هي أصلاً مختلة منذ الأزل وإلى الأبد ففي تقديرها أن كان هناك من هو مسئول عن تدهور حالته الصحية فهي المسئولة لأنها ضغطت عليه أكثر من اللازم ولم تراع تاريخه المرضي . لم يرض عن كلماتها التي تلوم نفسها فيها وقرر هو الآخر أن تدهور حالته لم يكن مفاجئاً له شخصياً لأنَّه منذ زمن أخذ يخالف إرشادات الأطباء فهو يعرف تمام المعرفة أن مرض القلب كالصديق إذا أحسنت التعامل معه أحسن التعامل معك وكسبته وإذا فشلت في التعامل معه خسرته وخسرت نفسك أيضاً لأنه يعرف نقاط ضعفك وسيضغط عليها بقوة .
تبدد الارتباك الذي غشي حياة سارة وموسى نتيجة للتناصح الذي يلف حياتهما كنوع من أنواع المعرفة الضمنية غير المكتوبة التي تقوم عليها حياتهما ودربا نفسيهما عليها برغم انه يصعب لفظها كجمل نظرية إلا أنها من العمق بحيث تصل عادة في سياقات شديدة الخصوصية وهي نمط من المعرفة التي تتم بين أي زوجين في حياتهما الخاصة وبإمكانهما تطويرها وإعطائهما محتوى جديد فيها يدركان لغتهما المميزة المشتركة فهذا النمط من المعرفة يعتمد على ادراكهما ان مايتبادلانه بينهما هو معرفة غير مصقولة القوالب وعادة ما تكون حدسية ارتدادية الفعل فهي أفضل سبيل إلى اليقين باعتباره يقدم النموذج التطبيقي فالمبادرة التي قامت بها سارا تقع ضمن تلك الخبرات المتراكمة في حياتها الزوجية وشكلت لكليهما مهارة خاصة في التواصل العميق فمنذ الوهلة الأولى لهما في بيروت أدركت سارا أن موسى ليس له مشكلة في المعلومات فما عنده من معلومات جديدة شديد الحرارة عن الاحتراب واحتراق هضبة اثيوبيا فما يحتاج إليه الرأي حول موقعه من تلك المعلومات أي أنه في حاجة فهم المعلومات للتوصل لأحكام موضوعية لهذا كان نقاشها وموسى يساعد في تحسنه النسبي باعتبار التوتر الحاد الذي يضغط علىه ليس لنقص المعلومات والإفصاح عن ما يدور في أعماقه هذا استطاعت أن تفعله ثم عبرت عنه في ما يمكن أن نطلق عليه تبادل المعرفة الضمنية بين الزوجيين.
***********************
تأسست موافقة سارا لزيارة بيروت على فكرة التحرر من الضغط النفسي والارتباك الفكري والقلق الروحي المتنامي في دمشق جراء الوحشة التي تدور في الشرق الاوسط وروتين العمل وحنينها الشخصي للأمومة . فلم تكن سارا ترغب في الاحتفال برأس السنة الجديدة ، ولا التورط في أعمال الأدباء وندواتهم ومحاضراتهم فقد كانت تبتغي التغيير فكان لابد لها أن تشهد كل ذلك والصبر على الصداقات الجديدة والتعايش مع أناس جدد طالما ترغب في التجديد وهي تدرك أن دعوة الأدباء تجعل ذلك ممكناً فهي تتعامل مع حضور الفعاليات مهما كانت ثقيلة ومملة تأبى تحت بند الإذعان ان تتجاهلها لأنها محتاجة لشيء من التبدل في حياتها . شعرت سارا بطغيان رغبة التغير في بيروت لحظة دخلت عليها ميمي ابنة عدي الخازن ففي تلك اللحظة التي وقعت عيَّنا سارا عليها اتشح وجهها بوشاح الارتباك وغطته غمامه من الهموم القلقة . أعتقد موسى أن تلك الحالة الفجائية من اثر النوم فقد نهضت سارا من الأريكة لتفتح باب المدخل الرئيسي الذي كان جرسه يقرع لحظتئذٍ إلا انه أدرك خطا اعتقاده مما تفوهت به سارا من جمل وكلمات حادة لم تكن جزء من طباعها وطريقتها في التعبير بعد تلك الحادثة العرضية دخلت سارا في ذهول أو قل شرود ذهني فيه تكثيف لشعور عميق بالضياع كأنها تحيا تحت ظلال أشجار ميتة آيلة للسقوط من طول التخشب ونخر السوس فما يرعب أن الاشجار يمكن تسقط عليها في أي لحظة فهي لها مطلب قديم من الحياة يمكن ان نلخصه في قضية الأطفال وهي الموضوع المركزي في سلوك واهتمامات سارا منذ اعوام واعوم فهو الخيط المتين الذي يربط الإنسان بالمستقبل ـ الاطفال مطلب مطلق إنسان وهو العنوان الذي يربطه بتفاصيل الحياة وزخمها فالأطفال هم الذين يجعلون أمهاتهم وإبائهم يحتملون قهر الحياة اليومية بعنفها المستبد الطاغي فالإنجاب بالنسبة لها هو الخيط الذي يربطها بطغيان الواقع فمن دوافعها الخفية المعلنة لرحلة بيروت الشوق للإنجاب إذ أن الأطباء أشاروا عليها ربما يكون تغير المكان فيه بارقة أمل لحدوث الممكن المستحيل . ربما لهذا تحديداً توترت أو امتقع لونها واحتدت عبارتها فربما ذكرتها صورة ميمي وهي تطل من الباب بمطلبها القديم المسكوت عنه في نفسها بضبط الإيمان القدري أو ربما ظهور ميمي حركت فيها مشاعر غاية في التناغض يصعب احتباسها فانفجرت، الراجح أنها عندما رأت ميمي تحركت فيها طاقة داخلية لا محدودة في البقاء كتأكيد لوجودها الأنثوي فالتعبير المتوتر المنفعل يؤكد طموحها الدفين في إعادة إنتاج نفسها من خلال كائن يخرج من أحشائها ربما هذا يفسر الإرباك الذي اتسم به سلوكها في تلك اللحظات وأتصل معها طوال اليوم فكل كائن بشري سوف يتخلى يوماً عن حياته الزاخرة بالهموم والمتاعب وهي أيضاً للفناء سيكون ذلك قبل أن توفق في إنجاب بذرتها التي تحفظ نوعها ومن خلال تلك البذرة تترسخ تلك المبادئ والقيم التي آمنت بها وميزتها عن كل شيء حتى منتجات الاقتصاد الصناعي ووحدات اقتصاد المعرفة وكل الكائنات التي لها قيم اقتصادية بدرجة ما لذلك كانت ردة فعل سارا من مشاهدة ميمي التقوقع بالتراجع لداخل نفسها هذا ما تفعله الوحوش البرية حين تفضل الانزواء مرتابة من أساليب التعزية التي يوفرها لها من حولها . لم يكن وقع ميمي عليها نذير شؤم كما يبدو من الوهلة الأولى فالحقيقة نظرتها للطفلة أعاد إليها فكرة يأسها من الإنجاب حيث وجدت نفسها في موقف دفاعي ضد الشفقة مما يفرض عليها تلقائياً التفاعل القسري . فعلى الرغم من وعيها وصلابتها إلا أن موقفها الحاد المتوتر كأسوأ مما اعتاد عليه موسى منها في أحرج الظروف وأكثرها إرباكا برغم اعتياده على ردات فعلها الصاخبة فمنذ فترة صارت حساسة تجاه رؤية الأطفال أو الحديث عنهم فهي تحس بالتحطم والفشل يلفها بالرغم من أنها منذ دعوة بيروت تركت كل شيء ولم تعد تلاحقها تلك المشاعر ربما لأنها كانت تحلم بان تغير المكان سوف يعيد إليها الامل لهذا قطعت صلتها بالانكسار الجريح داخل قلبها وانفتحت للتحقيق شىء من السكينة .
سارا في يومها الأول في بيروت اعتقدت أنها اصبحت أقوى من ذي قبل وهي تترك في دمشق هواجسها وتطلعاتها وفكرة الإنجاب فما كانت تحلم به صار واقعاً فما عليها إلا أن تعيشه بثقة وضبط نفس إلاَّ أنها تفجرت مشاعرها بخوف يؤشر إلى هشاشة قناعاتها بان التغير وحده لا يكفي لإنهاء صداع الإنجاب الكابوسي .

******************************
حاولت سارا في غمرة اضطرابها أن تعيد تقييم ردود فعلها ونظامها الفكري وبتنسيق مشاعرها فسالت نفسهاهل توترها بعد رؤية ميمي كان منطقياً ؟ هل سلوكها لم يكن متزن للدرجة التي لاحظه موسى ؟ هل انتبه موسى لما يدور في داخلها ؟ هل يمكن أن تنقله أفكاره لموضوعات لم تدر في ذهنها برؤيته ردة فعلها الحادة؟ وهل يمكن أن يكون توصل إلى أسباب قلقها المرتبك ؟ لكل ذلك ولشيء يدور في نفسها نقلت أفكارها إلى مستوى المصارحة بوضع ما يدور في داخلها من غليان بين يدي موسى فبادرته في المساء الذي لم يكن لهم فيه التزامات بمناقشه اختبارية استكشافية قائلة :
- ألا تعتقد يا موسى أن حياتنا هكذا بائسة معقدة مشحونة بالفراغ . وان حياتنا سوف تشهد مزيد من التعاسة إذا لم نرزق بأطفال ؟
- رد موسى كمن مسه تيار كهربي في رأسه
- لماذا الآن تفكيرك يتجه لموضوع الاطفال فهذا الموضوع اعتقد اننا توصلنا فيه لفهم محدد نهائي لايحتمل منك ان تطرحيه بهذا الاسلوب القاسي
- أنا لم اترك لحظة تمر إلا وكنت أفكر في موضوع الاطفال فهو شغلي الشاغل منذ أن التقيتك وأنت تعلم ذلك ياحبيبي؟
- أنت تعلمين أننا فعلنا كل شيء فالأطباء أكدوا أن لا مشكلة لدينا الأمر بمجمله موضوع زمن وآخر اقتراحهم تبديل المكان فما المشكلة إذاً في موضوع الاطفال؟
- المشكلة أنك مازلت متمسك بأرض الأحلام الخائبة-الشرق الاوسط- هذه فإذا كان ضروريا أن يكون لنا أطفال فأفضل أن نغادرها ونعود الى ديارنا في "هيا" و"جبيت" و"سواجن" و"عقيق" و"طوكر"... ؟
- الأطفال لا يولدون بقرار أو أمنية جامحة فمجيئهم خارج الإرادات والتخطيط وأنت كان لك اعتراض على التخصيب الصناعي فاصبري قليلاً سيكون لنا أطفال ألم تكن تلك أفكارك وقناعتك فماذا استجد او ماذا حدث لك هل أعياك الانتظار ولم تعودِ قادرة على الاحتمال ؟ أم فقدني الصبر بان اجمل الاطفال حتما قادمون قادمون............. ؟
- لم أغير قناعتي وأفكاري فانا محتاجة لطفل يخرج من أحشائي لأعيش تجربة الأمومة لهذا رفضت فكرة الأنابيب والتخصيب الصناعي أنا في حاجة لحظي كأنثى ومازلت وسأظل في انتظاره ولن افقد الصبر ولكي اكون جزء من دنيا تحكمها قواعد وتقاليد ولا تستطيع أنت أن تكون خارج نظام التقاليد التي تحكم الكون لهذا اقترح أن نجد لنا حلاً عمليا لمعالجة حوجة الاطفال..؟
- ماذا تقترحي ؟
- ليس لدى حل محدد غير أني أرى من الصعوبة الاستمرار في التصالح مع تقاليد وقيم لا نعبَّر عنها ولا تقبلنا بل تترك في أعماقنا ألماً مراً وجراح لا تندمل.....
- افهم من كلامك انك تقترحي العودة لارض البحر وجبال بحر المالح وهضبة الحبشة.............؟؟
- إذا كان الأمر بيدي والقرار لي لا أرى شيء ثمين لنتمسك به هنا في هذه الدنيا العنيفة المتشنجة التي تتوالد سرطانيا حروب وكوارث عنيفة..............
- العودة فيها شرط استقرار جديد ولانه ليس الأفضل لك ولي لاننا سنكون بلا عمل فماذا نفعل هناك في جبيت وهيا ومسمار.........؟
- يكفي أن نعانق قرن الشمس فسنجد الأطفال في انتظارنا لنلعب معهم ونبني ونهدم ونحكي لهم حكايات الأجداد ونغني معهم أغاني الأصيل . الأطفال هناك أحرار فكل شيء حر لا سلطان يتدخل وفوق كل هذا وذاك نفي بوصية الجدة "مريم النشابة" التي كادت أن تورثنا العقم .........!!
- منذ متى أنت تعتقدين في الأوهام ووصايا الاجداد؟
- أبدا أنت تعرف أني لا اعتقد في الأوهام لكنك قلت ليّ أن وصايا لها تأثير مباشر على حياتنا نحن البجا وكل الذين يرتبطون بنا فطبيعي أن اربط عدم إنجابي بوصايا الأجداد وغيرها الست انا بجاوية.!؟.
- أحس موسى بعنف كلمات سارا فاضطرب مذهولاً كمن أطلق عليه مارداً من مردة قصص القرون الأولى برغم ذلك حاول ضبط نفسه مرتكزاً على المنطق .
- هل افهم انك لم تنسي أفكار والدتي التي ألحت عليك في الوفاء بوصايا الجدة مريم النشابة وكرر الفكرة ذاتها كاهن معبد الجبل فهل صارت تلك عقائدك فانا لن افعل ما أرادوا لانَّي لا أطيع الأوهام . أفكارك هذه جديدة عليَّ وتخالف القواعد التي قامت عليها حياتنا ياسارا .
- ما أعبر عنه مجرد فكرة للتوازن بين أفكارنا والتصالح مع الأشياء من جوانا وهذا لا يعني تراجع عن ما قامت عليه حياتنا من تفكير واضح فانا لا اقصد أن لوصايا مسئولية ما في إنجابنا لكني في حاجة لفعل اي شىء يعبر عن احترامي للتقاليد كما انَّي أود أن أزيل مجرد التعليل النفسي لعدم إنجابي فانا لست من الذين يزرعون الأوهام فأنا في حاجة للأطفال وفي سبيلهم سأفعل كل شيء.
من العادة أن يقاوم الناس معظم تراثهم وتقاليدهم بحجة الانتماء لمناهج تفكير جديد منادية بتجاوز التقاليد والتراث لافتراض أن التقاليد التي يطلق عليها بدائية لا تتصالح مع مذاهب الفردية العقلاني والطبيعية الواعية ولأنهما يعلَّمان معارف ومهارات لا تحترم المكتسبات القديمة فالذهن الذي يتعامل مع التراث يعتبر ذهناً تقليدياً سلبياً والذهن الذي يتصالح مع الأفكار والمهارات الجديدة ذهناً تقدمياً حديثاً فمن نافلة القول أن نؤكد أن حياة سارا وموسى قامت على قواعد الحداثة التي تقدر نوع واحد من المعرفة فمن القواعد التي قامت عليها حياتهما هو عدم التصالح مع التخلف والبدائية تلك النظرة قد حرمتهما في تقديراتهما من الاعتماد على التفاعل بين الإحساس والتفكير لذا ظَّلت حياتهما اقل مسامية ويعوزها الالق لافتقادها التوازن بين التفكير الاستدلالي والتفكير النقدي أي أنهما لا يسمحان بأي مساحة تربط بين التفكير والتجرَّيب فقد ولدت علاقتهما على عملية خطية من التفكير العقلاني فالآن بعد أن فجرت سارا قضية ووصايا الأجداد ـ فقد أوصاها كاهن الجبل بتقديم ديك وسبع دجاجات وسبعين بيضه جميعها من الذهب الخالص وفي حجم الديك والدجاج المنزلي ـ للفقراء في يوم "عاشورا" في حضرة كاهن الجبل وإذا لم تفعلي وصايا الأجداد لن تنجحي أبداً ولن تحملي في رحمك حمل . هذا الإصرار على تنفيذ وصايا الأجداد يعني أنها تصر على التجريب بديلاً للاستسلام المطلق للتفكير المحض فهي محاولة للربط بين الأسلوبين أي أنه خروج على قواعدهما القديمة لذا حاول موسى على مضض أن يتفهم وجهة نظرها بعد أن ناقشا موضوع وصّايا الأجداد نقاشاً مستفيضاً .
****************************
وهج المزامير
كنت ابحث عن آخر جهة في هذه المتاهة العميقة يغمرني الليل بعويله واوهامه الاسطورية ونباح الحاجات المتواصل التي تختزل طعنات كثيرة متشابهة فتكبسلت في نقوش مختلفة لقصص غير مكتملة تؤشر لنعومة راحتيك،لقد كانت هضاب المالح، منذ بدا الخليقة هي هي،مكان تنزل الديانات وسجل حديث السماء مع الارض،فيها ولد التدوين وعرف الانسان الابجديات فقد ورثوا الخبرات الاقدم والاعرق في "اثينا" و"طيبة" واحلام النيل وتطلعات الرافدين حين ابدعت الصورة " الهيلينية" للتاريخ الانساني التي فاجاتني بالحقيقة الاصلية ايام كانت الانسانية تفكر وتتحدث ببراءة المسيح حين امر بادارة الخد الايمن بعد الصفعة على الخد الايسر فسقط في التناقض مشروع الخلاص حتى اني لم اعد افيق لرؤية السذاجة فقد صرت انزف الاوهام واضحك من شدة النزيف فضلت الغيبوبة لكي لا احرق الكون المترامي بالهرطقات بكذبة جديدة لاشك انها ستستغل الفراغ ومن ثم تتناسل كالغدد السرطانية التي تنهك الاجساد الصحيحة بالبحث عن اصل العلة فتهبط في كل زاوية بصمة تخفي سلطة الطبيعة الساطعة كرعونة الفجر لحظة الخرج من عمق الظلام.فلماذا هذا العشب يربك خطوات الهواء المفرغ من وجدان عقلي يؤشر لمتسكع الحارات الداجنة بالعنف الطائفي فقد قال الشيوخ من كل الطوائف لامكان في هذة المدينة لعازف على آلة موسيقية او راو يتمم حكاياته الناقصة هذه الرياض التي تموجدت من حقول النفط والتعاون الامريكي ومناهض الاحتراق المذهبي فقد تتماوج بالافكار الراسخة في الذكرة كانك الخيال او انت الخيال ذاته. يظهر الغزاة في الظلماء على هيئة الحقيقة هكذا خضراء وحمراء كمن يغرس راسه في الموت ويغتسل بدماء حمامة بيضاء كمن يفرك اسارير الذهول بكين ناعمين كالحرير ويصعد سلالم هواجسه مدفوعا بقوة الهزيمة التي تقود الى اسفل سافلين. هناك اتفرج على لصوص المقابر وهم يتسللون ليليا حاملين على رؤوسهم اجسادا ملفوفة بخرق حمراء ويقفون عند حائط الكهف الجبلي في سلسلة هضاب المالح. ان وجود العائق الاساسي الذي يعاني منه التاريخ في هضبة بحر المالح ان "ايلات" و"خليج العقبة" تربطان بين "المتوسط" و"بحر المالح"فتظل الكهوف مفتوحة على اشكال هلامية تتحرك في كافة الاتجاهات تتحسس عمق المتاهةفي فناء فارغ جامد الحواس.
في بيروت
أظهرت سارا توترها العاطفي بعد اليوم الأول من وصولهما بيروت حيث ضغطت بحده على وجدان موسى موظفة طائفة من الأسئلة القوية المقدمة بمهارة فائقة تؤكد أنها مرت فيها وفي نتائجها فأنزلتها دفعة واحدة هكذا :
هل تعرف ياموسى أنك الرجل الوحيد من آسرتك الذي ليس له نسل ؟ أبناء أبيك لهم عشرات البنين والبنات إلاّ أنت هذا أن ذكرك سينتهي برحيلك ؟ هل تعرف أن أهلك غاضبين عليّ لأنك الوحيد الذي له زوجة واحده عقيم ؟ لماذا لا تتزوج من تنجب لك الأولاد يهودية أم عربية أم من البجا او منالامهر؟ سأكون سعيدة لو رأيت لك أولاد حتى لو كانوا من امرأة غيري فأنا لا ارضي أن تنتهي ذكراك بسببي؟
أحتمل موسى بصبر تساؤلات سارا المنطقية او غير المنطقية مبدياً اشمئزازه من فكرة معاشرة امرأة غيرها مهما كان السبب لاسيما إرضاء لتراث أهل "جبيت"و "هيا" و"مسمار" السذج الذين مازالوا يعتقدن أن قيمة المرء في عدد زوجاته وأبنائه لا في موقفه من خير الإنسان وتفاصيل الحياة ..يبدو أن سارا مازالت تحرك في عقله الصَّور المحفورة في ذاكرتهما عن تراث وقيم البجا لكي تكشف أعماقه ومدى تأثره بعدم الإنجاب ورغبته في الأبوة فقد صاغت كل ذلك في قالب مهم هكذا انك تعرف أن البجا ليس لهم أهرامات يخلدون بها أنفسهم كالنوبة والفراعنة او لهم هيكل كاليهود وإنما يفعلون ذلك بإنجاب الذكور ويتداولون الثروة بإنجابهم للإناث اللائي هن وسيلة البجا في تحقيق التوازن الاقتصادي .
بنظرة ثاقبة قرأ موسى ما تخفيه سارا من اضطراب وتوقع الكارثة في تساؤلاتها واستدعاءها تراث وقيم البجا ففاجئها يقوله: ليَّ ثقة انك يوماً ما ستنجبين ليَّ أجمل الأطفال وإذا لم تفعلي فانا لا ابحث عن الخلود بالإنجاب فإذا كان ليَّ في المستقبل ذكر بين الناس فلن يكون أبداً عبر التناسل فأنت ياسارة تعرفين ذلك قبل غيرك أنا لست في حاجة للأبوة إذا لم تأت منك انت ، لأني أحبك وأعرفك واثق أنك لا ترغبين في الأمومة إلا منيَّ والاّ لماذا بقيتي معيَّ إلى هذا اليوم ؟ وإذا كنت تؤمنين بتلك الأفكار لماذا أصبح بيتك بمثابة بيت لكل صاحب فكرة ورأي وله قضية فكم حضر إلى بيتك أصحاب الرأي ليتناقشوا في كل شيء وأنت تسمعين الأصوات المتجادلة حولك كأنها صادرة من مكان بعيد فقد كنت لا ترغبين في الجدال وشيء فشيء بداتي بالتقاط ما يدور حولك ثم التعبير عن رأيك بصوت مكتوم بعدها بمقاطع من جمل متباعدة فدعابات عميقة تجبر أحياناً الحضور على إبداء رأيهم قطعاً تكيفتي مع هذا الطريق الذي لم يكن جزء من اهتمامك لأنه جزء من اهتمامي هكذا صار اهتمامي اهتمامك فتبدل صمتك وتحول إلى محادثات حيوية تطرحين فيها أفكارك بجرأة فانا منذ آن التقيتك عشت معك سلسلة مصادمات غيرت صمتك إلى أراء معلنة تعلمت منها الابتكار والانتقال من فكر لفكرة ومن وضع إلى وضع فأخذت تنمو وتتطور عزيمتي .سارة لنكن واقعيين أنا ارغب دائماً فيك ولا ارغب في سواك وليَّ قناعة تامة انك ترغبين فيَّ ولا ترغبين في سواي فإذا كان للإنجاب سلطة تعلو على قرارنا في الاندماج المنصهر في بعضنا البعض لانفصلنا من اعوام ، يقيناً أنت ، نسيتي حكاية جدنا اوهاج صوجان التي أعدنا كتابتها انا وانت مسرحية قدمتها الإذاعة الوطنية فجوهر الحكاية أن فكرة الخلود لا تتم ولا تتحقق من خلال التناسل بل من خلال الاقتناع بألافكار وجدواها .
استرجعت سارا حياتها برمتها منذ أن التقت موسى وهما في ريعان الشباب هذا ماجعلها تتلجلج حيث أرادت توضيح رأيها فيما ذكره عن اوهاج صوجان الذي اشر لها عن فكرة النهضة المخبوءة في عمق التراث فهي تؤمن أن حكاية اوهاج صوجان دعوة للتحرر من إقفال الماضي التي تفضي رأساً للخيبة لأنها تدعو بعدم الاندماج في عجلة البدائية وترفض بإصرار تغذية مراكز القوت ولأنها تجعل الأغلبية المنتجة في موقع ضعيف تابع لهذا اتجهت سارا لتحقق من حالة التوتر التي نشأت جراء تعبيرها المفرَّط عن دواخلها . فقد أكدت لموسى أنها لم تقصد تضيع ثقته فيها أو حتى تضعه موضع الاختيار لانه عندها مصدر الطاقة الممكنة لتجاوز الذات والتحقق إلى إمكانية الاندماج الطوعي بعصهما ببعض لهذا قالت: ( ما تعلمناه من اوهاج صوجان أن الإنسان يحقق إنسانيته بالصراع من اجل توسيع الهوامش المتاحة بين قوى الأمر الواقع وقوى الاعتراض عليه ، فتعجز قوى الأمر الواقع عند تتسلح قوى الاعتراض بالهامش المتاح الذي يصبح قوى خطيرة إذا كان تراثنا تاريخياً أو روحياً فقد يخلق ذلك تناقضاً جزئياً مع مصالح مؤثرة لكنه يبقى متاحاً يمكن الاستفادة منه في تحقيق تراكمات بطيئة تؤدي مع الوقت إلى حدوث التراكم النوعي المرتجى فقد انتصر اوهاج صوجان على فكرة الشرّ بإعلاء قيم الفداء المحب الرافض للانتقام كفعل وكفكرة لهذا تلاشى اوهاج صوجان عند جبل "مسمار" بدلاً من الانتقام من مريم "النشابة" هكذا هلك الجسد وأنفذت الروح التي صعدت على السموات السبع مثلما صعد اخنوخ بن ادم او كما تدعي الكتب المقدسة . اوصعود المسيح للسماوات السبع وعودته الحتمية بعد ظهور المهدي او حسب التصورات المتباينه المتفقة على المسيح المنتظر...... )
*********************
حكاية اوهاج صوجان لها رواية أخرى لم تسمعها سارا أراد موسى أن يحكيها لها مستفيداً من فرصة نقاشه لها فاجئها بعد الصَّمت بعد تجاوزها انفعالاتها بقوله :
- هل تدرين أن حكاية اوهاج صوجان لها وجه آخر غير الذي سمعناه من الجدة خديجة الاولى التي قدمت المشرق من الحكاية وتجاهلت تفاصيل أخرى .الان أرغب أن تسمعي الرواية الأخرى رغم خشية أن تملأ علينا الحكاية برنامجنا بالتفاصيل والاستطراد والمناقشات والتحليل والاستنتاجات فتفسد الرحلة والعطلة معاً لهذا نتركها لوقت اخر هل هذا يناسبك؟
- لا ابد لايناسبني أنا مهتمة لسماع الرواية الثانية للحكاية بالدرجة التي استطيع أن التزم الصمت بعد سماعها دون إبداء رأي أو إثارة الأسئلة والمناقشات .
- لا خيار ليّ إلا أن ارويها لك كما سمعتها من الجد اوشيك ايلا الاول : ( اهتز جبل "مسمار" هزة اهتزت لها الأرض بساكنيها فتطايرت الشظايا حمراء وصفراء فبلغت أطراف الأرض فاختفت الشمس مره أو هكذا تخيل الناس فتفجرت ارض هضاب المالح الغربية أخاديد جرت فيها المياه فصارت الانهار والخيران فانحدرت حتى التقت في "هيا" و"خور اربعات" فاتجهت إليها الأنظار للقاء الصاعد النازل من السماء بروح العَّدل فهتف البداويت بهذا النشيد:
النور دواء الجراح ومشعلُ الأماني
ومخلصُ النفوس
النور معّبرُ الحب
لتجاوز انهار الدماء
النور سلم الصاعد الهابط من السماء
النور قبس من نور النور الذي يمحو الدياجر الظلماء
النور مرتجى الودعاء والفقراء
تواصل الانشاد وتداخلت ايقاعات الطبول ودوي النحاس تعبير عن ابتهاج بحر المالح الذي تحرر من قيوده فانطلقت الخيول والحمير على ظهورها الصبيان والصبايا فبرزت الصحراء برمالها الوحشية التي عندها تخور القوى تضج النفوس بلا خوف صيد الصائدون .بعد أن غطى الغروب ارض المالح وغشي الليل النهار تقدم نحو البجا المحتشدين موزعاً لهم ثمار المانجو فإضاءة الجهات السبعة بالنور واكنشفت عورات المسكونة وتبخرت الأحلام الوردية فانفصلت الأرواح عن الأجساد أو كادت فاهتزت الأرض من جديد وصارت ارض المالح خراباً فتلاشى اوهاج صوجان رغم انه كان يمكنه فعل الكثير فعادت الحناجر تنشده نشيداً جماعياً ملأ الأفاق الأربعة :
غطت الأرض السكينة
فانهارت الحواجز ...
فأصبح الرجاءات أطفال في الوداعة
وعزفت مزامير الصفاء
وتبخر الخبث وانحرفت الأسفار المقدسة
لأنه لم تعد هناك ضرورة لنبوءات
فبدأ الناس الكتابة من جديد
صمت موسى منيهات فسارعت سارا بسؤاله لماذا أوقفت الحكاية هل اكتلمت ؟
- نعم اكتملت ولم يبق منها حرف
- اعتقد أنها قصيدة أكثر منها حكاية لكنها مختلفة عّما سمعت سابقاً فهذه الرواية الجريئة لمست فيَّ جانباً قيمياً كادت أن تغمره رمال الحياة العابثة وإيقاعات الغرائز ومزالق الزمن التي لاترحم .
أدركت سارا بحكم خبرتها أنّ التعامل مع الماضي تحيط به مخاطر داهمة فدائماً ما يقود الماضي للإبقاء على جذوة الحزن بديلاً عن تجاوزه بالانتماء إلى ما سيحدث وما يتوقع حدوثه وما هو حادث فالحزن يدفع المرء نحو إيقاظ النقاط السوداء فتصبح مؤثرة فيه فسارة عندما استرجعت مع موسى حكاية اوهاج صوجان كيف تناولاها في الماضي فحزنت لفترة طويلة أُهدرت دون إثمار في حياتهما الزوجية فقد أدركت أنها خسرت في علاقتها الزوجية مع موسى الأشياء العادية التي أعتادا أن يفعلاها معاً ولم يفعلاها معاً هذا ما نتج منه أنها عاشت الفترة الأخيرة بذهن شارد لأنها لم تمارس هي وموسى عادة تهذيب أفكارهما هذا ما جعل ذهنها يفكر فيما يشاء وقتما يشاء ربما هذا ورطها في إدمان العمل الأكاديمي الذي اثر عليها بالإرهاق والمداومة على العمل الأكاديمي الذي له أثره أيضاً فعادة ما يكون الإنسان متعباً للغاية تهاجمه الهواجس فتهتك مقاومته حتى يبدو المرء كأنه مصاب بقصور ذهني فالقراءة تتعذر عليه فذلك شيء طبيعي لان القراءة مرتبطة بالفهم ارتباطاً وثيقاً حتى أنها كانت ترى أن الكلمات صفحات الكتب أو على شاشة الحاسوب لكن عقلها لا يساعدها على التجميع والتركيز باعتبار ان الإرهاق لا يسمح بفهم الأشياء كما هي هذا ما ولد شعور بخيبة الامل كاد أن يؤثر على رحلة بيروت التي عولت عليها كثيراً فتتحول إلى وقت مشوش لولا أن موسى أعاد لهاحكاية اوهاج صوجان التي أشارت إليها بوضوح كي تنعم بالاستقرار وان عليها أن تترك الأمور التي في الماضي وان تتقدم نحو الأمام للمستقبل فلم يعد الماضي هو الحياة فعليها أن تفعل ما هو مختلف .
********************************
سارا وموسى حافظا على حياتهم الزوجية لأنهما كانا دائماً قادرين على تحسين علاقتهما بتفاصيل مذهلة هذا ما أباح لهما أن يستمتع كل منهما بالآخر فعلا ذلك لإدراكهما المستمر للتباين بينهما في النظرة واتجاه التفكير فلقد تعلما أن يحسنا علاقتهما بأساليب وطرق لم يكن آباؤهما يعرفونها قط ، وقطعاً لم يكونوا قادرين على اكتسابها منها فما يميزهما أنهما دائماً يشتركان في مناقشة نظراتهم ورؤاهم بذلك أصبحت علاقتهما أكثر ثراء بقدرتهما الذاتية في تخطي الإحباط وخيبة الأمل ، فكلما فقدا مشاعرهما الدافئة قررا التوقف ليفكرا معاً ليقلصا نقاط الاختلاف بإعمال الذهن وإخضاعها للتفكير يجدا نفسيهما وقعا في الحب مره أخرى فتنهض علاقتهما الزوجية بشكل مثير للعجب فيتطلعا للمستقبل لقضاء بقية حياتهما معاً فالمحاوره الفكرية التي دارت بينهما ركزت على حكاية اوهاج صوجان وأعادت لها الانسجام و ليشهدا بروح واثبة احتفالات بداية العام الجديد التي حضرا إليها بغية أن ينفضا فيها غبار الروتين وصدأ الإرهاق وضغط العمل اليومي حتى أن موسى عبر لزوجته عن قبطته في بيروت في قوله ( اعتقد أن هذا الاحتفال قد أيقظ وجداني وأنعش روحي ونفض عن دواخلي غبار الزمن واجلي عن مخيلتي الصدأ الذي راكمته الغربة حتى أني اشعر بأني صرت شاباً أكثر . اشعر باني عدت عقدين إلى الوراء عندما كانت الحياة بكراً نضرة فتفاصيل الأعمال المسرحية التي شاهدناها حملتني إلى "سنكات" و"مسمار" عندما كنا نحس بدفء بحر المالح واكتمال الطبيعة إثماراً وعطاءاً حين يتفاعل الناس) .الحق يقال أن المحاور الذهنية التي دارت بين سارا وموسى نتج عنها إزالة الحواجز التي نشأت من الإحباط وخيبات الآمل ففتحا قلبيهما لبعضهما فأثمر ذلك تسامح أعظم ودافعية متزايدة لكليهما لتقبل الأفعال المحبة والمساندة فالمحاورة جعلتهما يكتشفا استراتجيات جديدة لإنماء حياتهما دون أن يقصدا فقد تجاوزا الضغوط النفسية لذلك كان حوارهما عن مشاهد إحدى المسرحيات بأنها شاهدت هذا العرض واقعياً ضمن قول ذكي طويل تختزله في :
( أكاد اجزم أني شاهدت مثل هذا العرض في مسقط رأسي في طفولتي في "طوكر" فهناك اعتاد الناس أن يقوموا بمثل هذا العرض كاحتفال للحصاد فيه يسير الشبان والشابات في موكب يطابق هذا المشهد المسرحي )
تدخل موسى مقاطعاً سارا بقوله :
(اعتقد أن المشهد المسرحي يعبر أيضاً عن مواسم الحصاد ، وحركة الشباب تعبر عن اجتياز الحقول بالثمار فكيف يكون المشهد على الواقع هل تذكرين حبيبتي؟).
ردت سارا كمن أتيحت لها الفرصة للإطناب :
( حدثني الراسخون أن هذه الاحتفالات يبدأ الاستعداد لها في أعقاب مواسم الزراعة مباشرة فيعلم الكهول ذوي الخبرة الشباب أهازيج الاحتفال ثم يختاروا شباب قيادة الموكب بشروط محددة أولها يكون والديه على قيد الحياة وتربى على أحضانهما علاوة على تمتعه بموهبة القيادة ومشهود له بحسن السيرة وفوق كل ذلك يتميز الشباب المختار بطول الانانه وقدرته على السيطرة على نفسه )
- ما مسار الموكب وما هي ميزة الاشتراك فيه ـ
( عادة ما ينطلق هذا الموكب من سوق القرية ويطوف بأسواق القرى المجاورة وينهى بنقطة انطلاقه . ويعتبر هذا الموكب للمشاركين فيه حدثاً مهماً لمستقبلهم فهو يمثل لهم بداية الدخول في طور الرجولة فعندما يصل الموكب لنقطة النهاية يحلق الأعمام رؤوس أبناء إخوانهم إعلاناً بأن الأولاد صاروا رجالاً بالغين يحق لهم ارتياد الحانات وخطبة النساء ).
طوال الأشهر الثلاث السابقة لرحلة بيروت كانت سارا تعتقد أن موسى منصرف عنها لشؤون غامضة لا تعلمها لكنها طمئنت نفسها بان موسى يعلق دائماً في التفاصيل الروتينية فقد لاحظت انه صار مجهداً منهك لا يحتمل المشقة والإهمال من كل ذلك عاجز عن منحها ما تعودت عليه من الاهتمام والانتباه فلم يكن في مقدروها الاحتجاج فتقبلت ذلك الانقلاب الذي اجتاح حياة موسى باعتبار أيام عصيبة ستمضي لحال سبيلها فالذي أزعجها وأرقها أن موسى طال سكونه الصامت فمن سمات شخصيته انه لا يتكلم عن المشاكل بصوت عالي إلا نادراً فهي لا تعرف كيف تشعره بتعاطفها فهو صامت لا يتكلم في القضية التي ينبغي أن تكون معه فيها بتعاطفها إن لم يكن بفكرها . لم تكن سارا قلقة فأنها مدركة تماماً لطبيعة موسى فهي لا تعترض مطلقاً أن موسى لا يهتم بها أو أن عاطفته تجاهها قد همدت فموسى لا يفرغ ما بجوفه من أزمات وقضايا إلا بعد أن يشعر على قرار فيظل يتعايش مع الضغط حتى ينتصر عليه لهذا لا تتوقع هي أن يفتح لها صدره ويبوح بالضغط الذي ينقص عليه حياته ودون شك حياتها هي الأخرى فبرغم من ثقل ذلك فهي تظل هادئة غير منزعجة بل متفهمة لإسرافه في اهتماماته الرياضية الاجتماعية باعتبارها طريقته في إيجاد رئات صناعية ينفس بها عن الضغط فهي حافظه لسلوكه عن ظهر قلب بل فعله وردود فعاله في كافة الظروف والأحوال فهي تعرف متى يكون موسى منفتحاً سهلاً مهيأ للاستجابة الايجابية ففي لحظات الضغط الحاسمة فهي لا تتوقع أن يكون على صلة بمشاعره وعاطفته إلا بعد زوال الضغط ففي لحظات الضغط تعرف أنه في تفكيره يميل إلى نسيان آو تجاهل كثير من تفاصيله الحياتية فيهمل أصدقاءه الذين يقدر أنهم محملون بالمشاكلات أو هم غير فعالين ففي مثل هذا الضغط الذي يعيشه موسى اتجاهات تفكيره تتجه إلى أن الأولوية الاهتمام بالنفس فقد تعلمت س من فهمها له ومن استقرار حياتهما أن لا تقاومه وتتجاهل انصرافه عنها لأنها تستطيع آن تفسر جيد ردة فعله تجاه الضغط فلا تُحمل الأشياء فوق ما تحتمل على نحو يجعله فسيرها تفسيرا سلبياً فهي لا تعتبر التغير في سلوكه إشارة لمشاعره تجاهها ففي تلك الأوضاع النادرة النشوء في حياتهما تبدأ بالتعاون معه ، وتقلل من الحوارات العميقة وتتجنب نقل الأخبار المركبة فعادة ما تحصل على ما تحتاج إليه منه دون ممانعة فتقديراتها مبنية على أن الاستاذ موسى يمتلك من الوعي ما يكفي ليقدر أثر صحته على حياتهما فمن حقه أن يتعاطى ايجابياً مع الضغط الذي يواجه فهو يعرف تعامله مع تلك التحديات الجديدة قد اثر على حياته الداخلية وزاد ضغط الاكاديمات عليها فمن الطبيعي أن تفسر انطوائه على نفسه تجاهل لها انه لم يعد مهتم بها هذا ما يجعل النساء انتقاديات وكثيرات المطالب فهي امرأة بارعة في تأكيد حضورها في حياة زوجها بالطريقة المناسبة فتستطيع في الظروف الطارئة أن تجعله يدرك صدق مشاعرها دون أن تتكلف جهداً زائداً فهي تعرف أنه يمكن أن يتبدل بتطرف من كونه فعال دافئ إلى كونه خامد غير متجاوب فعندما تحل عليه الظروف الضاغطة لا يعي كيف يبدو موقفه غير المكترث لهذا ظلت تحرص على كتمان مشاعرها فلم تسأله حتى بالخطأ قائلة :إنك لا تستمع ليّ لأنها تعرف انه منصرف عنها وعن كل شيء بغية معالجة القضية المسيطرة على ذهنه . ففي هذه الظروف لا تتناول سارا تغيرات موسى بل تتجاهل التبدل الحادث في مزاجه وسلوكه وتتجنب قدر الإمكان مطالبته بالإيضاح أو حتى بالإيحاء فهي تدرك خطورة أن تقول له : اشعر كما لو انك هنا ... انت لا تهتم بيّ ... أحس أني لست مهمة إليك . ففي لحظات الضغط لا تميل هي للمواجهة السالبة بان تقول له : انت ليس لديك أي مشاعر آنت محروم من التعاطف الايجابي. فقد وطنت سارا نفسها عندما تكون محتاجة للأحاديث الدافئة تتناول المشاعر والأحاسيس من زاوية حالة الاستاذ موسى لأنها تعلم انه واقع تحت الضغط هكذا تهتم بأنه تحت الضغط لا يفكر في أحاسيسها لأنها تعلم أنه في تلك الأثناء يكون مُستلباً تمتاماً من الضغط لهذا تجده في هذا آلآون أفضل تجاوبا في مثل هذه الظروف بالامتناع عن الكلام أو إثارة الموضوعات التي تفتح تعكر المزاج .
************************************
أعطت دعوة أدباء بيروت سارا فرصة لتكتشف أن معاناة الاستاذ موسى في الفترة الأخيرة ليست جراء الضغط بل لكثافة التفكير في قضية يحبسها في صدره فكانت تتمنى لو صارحها بها برغم ذلك فقد تصرفت كمن هو في مشكلة فراعت أولوياته وعملت على معالجة المشكلات التافه كما تجنبت اقتناص التصالح مع نفسها بالتعبير عفوياً دون نظام عن مشاعرها وابتعدت كلياً عن الميل لمناقشة المشكلات المحتملة دون التركيز على حلول على نحو تناول مشكلات ماضية ـ مشكلات مستقبلية ـ مشكلات محتملة وحتى عن مشكلات مستعصية لا حل لها. ذلك لأنها تعرف من خبرتها إن كثرة الحديث في أوضاع غير طبيعية سوف تجعلها هي تتحسن لكنها ستوتر علاقتها به و ربما تجعلها تسوء لأنها سوف تكون استسلمت للراحة بالثرثرة التفصيلية بتطرقها للمشكلات المتنوعة فإذا كان الطرف المستمع مهيأ للاستماع سيتلاشى توترها ففي الأوضاع المواتية الطبيعية تتحدث عن موضوع واحد ، وتتوقف برهة ثم تنتقل للذي يليه ثم تتوسع في أمور ومشكلات مثيرة للقلق مخيبة للآمال وربما محبطة وقد تكون القضايا غير مترابطة منطقيا فيحتمل موسى ويتجاوب بتفاعل أما حين يكون هو منصرفاً بذهنه في قضية ما فهي تحرص كل الحرص على تقليل المناقشات كماً ونوعاً ففي هذا الوضع تفهم أنه لا يتحدث في المشاكل أو يفترض في الآخرين الحديث عنها إلا لأسباب موضوعية اقلها الحوجات التي تتصل بنظام الحياة اليومي اوانه يود أن يلوم شخصاً أو أنه يلتمس نصحاً فهو عادة ما يبدو أكثر هدوء وصفاءاً وفاعلية مع الحلول مادام غيره طلب منه ذلك فيتطوع بالتقدم بالإجابات والحلول ولكن عندما يشعر أن إجاباته وحلوله رفضت يشعر في قرارة نفسه بأنه غير مقدر حق قدره وما تعرفه سارا عن موسى انه يسكت فيفرغ في الصمت مشاعره .
من ملامح علاقة موسى وسارة أنهما يتبادلان باستمرار مواقع الدعم لبعضهما البعض فتشعر سارا بالدعم لان يبرز لها استماعه لإحباطها وخيبة أملها فهو يفهم أنها تحتاج فقط إلى أن تتحدث ومن ثَّم تشعر بالتحسن فسارة لا تتحدث عن مشكلات حياتها الأسرية أو عن ايجابية تواصلها بتفاصيل دقيقة فهدفها في الأصل ليس البحث عن إجابات وحلول فهي تتحدث لأنها تبحث عن رعايته وتفهمه ودعمه . بإدراكها أن الإنصات عملية صعبة لهذا تحرص عدم بث مشاعرها المؤلمة في حديثها لكي لا تكون متورطة عاطفياً في مشاكل عاطفية معه ولكي يربط الحديث منطقيا بينهما لأنها تعرف أنه يبحث باستمرار في أي محادثة عن النتيجة النهائية برغم ذلك يستمع هو إلى كل التفاصيل باهتمام لأنه يعلم أن التفاصيل تجعلها تتحسن وكذلك هي دائماً ما تحرص على عرض النتيجة النهائية قبل الإبحار في أمواج التفاصيل المتلاطمة وذلك لإدراكها عبر التجربة أنه لا يحتمل الانتظار والقلق المترقب . هذا الانسجام والتناغم هو ما جعل الحياة هادئة بينهما فمضت الأيام مثمرة دون أزمات عاطفية تؤثر على قواعد البيت رغم إ قرارهما الدائم أن حياتهما ينقصها الكثير من الأشياء المادية ذلك لأنهما كانا يحترمان اختلافاتهما فالتفكير والاستجابة للمؤثرات ولانه تعلم ان يحترم فيها رغبتها في الحديث بالاستماع الذكي ليجعلها تشعر بالتحسن فكان يجاريها في الحديث حتى لو لم يكن لديه ما يقوله أو رغبة في الاستماع لهذا النمط من الموضوعات فقد تعلم موسى أنه بالإنصات يمكن أن يكون معيناً إيجابياً لزوجته . كما تعلمت سارا احترام رغبة زوجها في لحظات تركيزه أو ضغطه للانسحاب لذاته ليتعايش مع الضغط أو ينتصر عليه فهي في بيتها تعتقد أنها محبوبة ومرغوبة ومسموعة منه ففي إطار حياته الزوجية تعلم موسى أن يستمع دون شعور بأنه ملوم أو مسئول مع الزمن أصبح الاستماع أكثر سهولة لأنه وجد فيه طريقة مُثلى لنسيان المشكلات اليومية ويحقق نتيجة الرضَّا بالنسبة لها حتى أنه أخذ يوقد شهيتها في الحديث كلما رآها همدت فيفتح الموضوعات التي تتلذَّ بها فقد حدثها في بيروت عن انه تلقى خطاباً وجدانياً عميقاً من ابو امنة ابن أخته عوضية إلا أن الخطاب أشاع في نفسه القلق إذ أنه لمس من مفردات الخطاب أن ابوامنة له مشكلات مزمنة إذ انه يشعر بعدم الأمان وأنه غير راضي عن نفسه ويفتقر للفرح فمن لغة الخطاب توصل الاستاذ موسى أن ابو امنة قد عانى من آلاماً نفسية وجسدية قاسية وذلك من تعمده استعمال مفردات الرفض الصارم والايزاء الشديد لغيره فابوامنة ليس في سن اليأس فهو في سن البحث عن القبول والإعجاب والاستحسان كما اقرَّ هو أنه لمس من كلمات خطاب ابن اخته أنه لم يحاول التغلب على الشعور بالرفض وأما قابليته للانسجام مع غيره صفراً ربما مرد ذلك لأنه ولد في يام الحروب فعاش كل مزالق التوتر وشهد لحظات الدمار المختلفة واكتوى مثله مثل كل الناس في جبال ساحل البحر الغربية بالحروب القاسية ، يعتقد الاستاذ موسى أن الظروف القاسية التي ولد وترعرع فيها ابو امنة حفرت في نفسه الشعور بالعجز مما اكسبه عادة إدمان الشكوى وتوهم الرفض وتعمد إيذاء غيره . أعتقد موسى أن ابو امنة يحتاج إلى من يؤكد له ويطمئنه أن الحياة جديرة بأن تعاش بعيداً عن الأسباب الحاضرة والماضية وأنه كإنسان مؤهل عليه أن يثبت ذاته في أي مكان على الأرض وأنه كشخص مقبول ومحترم ومحبوب . أباح موسى لسارا في نهاية كلامهم عن ابو امنة أنه أرسله إليه ليحضر إلى دمشق ليعيش معهما ليكمل دراسته بدافع تغيير مشاعره الجريحة التي التمسها في مفردات خطابه . أدركت سارا أن كلمات موسى كانت في مجملها تحفيز لقبول ابوامنة ولم تكن في حاجة لذلك التشجيع لأنها تعتقد أن دافع موسى في دعوته لابن أخته إيجابية فالحقيقة أنها لم تكن في حاجة إلى محفزات أو مبررات ليكون ابو امنة معها في بيتها تعطيه رعايتها ومحبتها واهتمامها لأنها فطرياً كانت مستعدة لاستقبال شخص ترعاه يشعرها بالأمومة فابوامنة ربما كان في عمر اولادها لو انجبت بمجرد تزوجها بالاستاذ موسى .
******************************
تصادف أن تقدمت طائرة ابو امنة القادمة إلى دمشق عن ميعادها المقرر فأصبح وصولها أبان زيارة الاستاذ موسى إلى بيروت لهذا برزت مشكلة استقبال ابو امنة في دمشق فلم يكن بمقدوره استقبال ابن اخته فقد أعياه التفكير وشعور بخوار العزيمة لهذا ناقش سارا في المشكلة التي تواجهه فأشارت عليه بالاتصال بالاستاذ الطاهر عبد الله لكي يستقبله في منزله بدلاً من إقامة الفنادق . اقتراحها وجد ارتياح كبير في نفس الاستاذ وأزاح عن كاهله عبئاً ثقيلاً وأتاح له فرصه نادرة لتعميق علاقاته المتصلة بدكتور الطاهر لتصبح أكثر عمقا لهذا لم يتوانى في الاتصال بدكتور الطاهر عبر هاتف منزله . لم تمر ثواني حتى جاء من الطرف الثاني صوت يستوضح عن المستقبل :
- دكتور الطاهر أنا موسى ابوفاطمة
- أين آنت يا رجل قطعت عنا أخبارك ؟
- أنا الآن في بيروت أقضي العطلة هناك............
- أعتقد أنها فرصة جيدة لاستنشاق هواء نقي نظيف خالي من التوترات والازمات والمعارك واخبار الصرعات وعمل المحاضرات ...........
- دون شك هي فرصة لتحلل من ثقل روتين العمل المنهك بقضاء أيام في استضافة أدباء وكتاب بيروت .
- فرصة للسباحة بين ضفاف الأدب قطعاً ستمنعكم من الاستمتاع بالسكينة والامان في بيروت . هل ليَّ أن أساعدك بشيّ هنا في دمشق ؟
- سيصل غداً ابن أختي إلى دمشق احتاج إليك لاستقباله معك في البيت لاني استطيع استقباله فقد نعود في الغد وبعد غدا!.
- "بسيطة عندما تعود ستجده معنا" .
- لم تستمع إلى مميزاته وتفاصيله .
- أي مميزات الأمر ساهل كما تعلم لن أجد غيره بشبه وان حدث فالأمر أيضاً بسيط أنا اعتبر أن مسالة أبن أختك منتهية .
- بصراحة أنا محظوظ لأنك بجانبي في دمشق.
- ماذا تعني باطلاقك هذه العبارة التي تكشف فتورك وإحباطك وضيقك صححني إذا لم أكن صائباً !!.
- الأمر ليس كما وصفت فقط أشعر برغبة جامحة تضغط علىَّ للعودة إلى ارض بحر المالح فانا في شوق للشمس والناس والاغنام والنيل.
- يبدو أنك ياصديقي أخذت تتحرر من الإنهاك ولن اقلق بشأنك طالما لعواطفك كل هذه المساحة من الحرية .
- الوقائع تفرض أننا نكون سلبيون للغاية إزاء مشاعرنا إذا تعارضت مع الوقائع العملية وخططنا ومشاريعنا التي تحتاج كل الجهد للتماسك والصمود
- سمعت كثيراً مثل عباراتك تلك طاوع مشاعرك مرة ولن تندم .
- يبدو أنك عزمت يا استاذ أن تضغط على أعصابي بأسلوبك ..
- عفواً موسى أتحدث معك بصراحة لأنني أحترمك وأنت تعلم أن الاختلاف أصل كل شيء وأعرفك أنك تصارع في داخلك أفكار كثيرة ورأيت أن أساعدك برأي ............
- اختلافنا في الرأي لا يمنع أني في نفسي أخاف أفكارك الخطيرةحول الاتزان
- الاتزان عندي هو قمة الحرية من ثقل أي مسيطر يعوق الإرادة .
- هذا يعني أنك تفرض أن الخطط والبرامج والمشاريع سيطرة
- دون شك هي أنماط من السيطرة السلبية فأنها تساوي عندي التسلط والاستبداد
- مازلت أحس كلامك سهام التطرف .
- لن أظن انك تحمي نفسك بالعدوان التعويضي حين تهاجمني لتحمي شيء آخر في نفسك لم تبوح به.............
- تدرك يا استاذ انك لمست في نفسي حاجة الإرادة وتحديد المصائر .
- تعرف رأي في "الأيدلوجية" أنها سرطان قاتل لإرادة الإنسان فأنا محصن ضد داء "العقائدية الوبائي" .
- المهم أنيَّ احترم دعوتك للحرية طالما إنها لن تتحول إلى فكرة تحكمية قمعية
- المهم ياصديقي أن تهتم بموضوع ابو امنة في غمرة اهتمامك بحرية الإرادة فالولد طائرته ستهبط في دمشق اليوم الساعة السابعة مساء سيكون في الطائرة الغربية القادمة من "سنكات"..............
- موضوع ابو امنة منتهي فأنا أعرف الإجراءات ما هي أخبار سارا توافقك رأي العودة إلى هضاب بحر المالح الغربية؟
- هي نائمة الآن لكنها شعرت بطعم التغيير
- أحس أنيَّ حولت الاتصال لحوار فكري فلك العتبى حتى ترضى ففي النهاية ستجدني في انتظارك بأفكاري ولن يكون لك خيار غير احتمالي .
- يا طاهر لا تضخم الأمور فالمحبة التي بيننا تحتمل كل شيء وتغفر كل شيء فلا بأس من الاختلاف فأنت أخي وصديقي اشعر بالفراغ إذا لم أجادلك لهذا استعنت بك في أول محطة شعرت فيها حوجتي لمساندة آخر .
هل أصبحت شاعر .. على كل حال ابوامنة ستجده في انتظارك أرجو أن يكون أكثر مرونة واقل هدواً منك .
- اللقاء
- اللقاء
********************************
تجول موسى وسارا في كافة أنحاء بيروت برغم حرصهما الشديد بالتركيز على بقاع بعينها يعرفاها بالتفصيل لكي لا يستهلكا نفسيهما في كثرة الطواف والزيارات إلاَّ أنهما تورطا إلى ابعد الحدود في بيروت كمدينة وفي برامج اتحاد الادباء والكتاب فأتاحت لهم الفعاليات الاحتفالية فرصاً نادرة للتعرف بأناس جدد فحظيا بأصدقاء كثر حتى أن موسى كتب مذكراته اليومية بصعوبة هذا القول عن مضيفهما الأستاذ عدي الخازن:
(صديقي الجديد كاتب وشاعر عمل سياسي لهذا يعرف جيداً الأوساط الرسمية وشروط الحياة وأخلاق هذه المنطقة من خلاله تعرفنا على بيروت الحقيقية لا بيروت التي يتردد اسمها في نشرات الاخبار ولا بيروت المباني والشوارع والملاهي والمقاهي ففي طوافنا على المدينة كانت معه دائماً زوجته رغده امرأة شابه ذات لكنة عراقية عذبه تنطق الانجليزية والعربية بطريقة اهل العراق ، لن نجد دليلً أفضل منهما بغيرهما سنكون أنا وسارا مجرد زنجيان في مدينة عربية نائية فكنا في وجهة نظر عدي ورغده مثقفان يهمهما ادارك كنه المدينة فأمتعانا فهما يعتبران مرافقتنا تسلية جميلة . كان عدي يشرح ليَّ أن مهنة المحاماة من مهنة الكتابة فهي مهنة حرة تسمح بالدفاع عمّن تريد الدفاع عنه مع الاحتفاظ بخصوصيتك فهو يحاول آن يقول أنه مازال شاعر ومحامي برغم من اهتمامه بمناكفة العدل ليل نهار في محاولته الحفاظ على حقوق أناس متعارضة أو متفقة مع فكرة النظام القضائي..)
دعا عدي وزوجته موسى وسارا للعشاء في مطعم يطل على أحد الشوارع الرئيسية فانتهوا من العشاء التاسعة وقرروا حضور أمسية أدبية خاصة في صالون عدي فاستمعوا لأشعاره مما أتاح لموسى التسرب في عوالم عدي الشعرية فتلذذ بكلماته وأفكاره حتى حفظ الكثير من شعره حتى أنه أصبح يردد هذا المقطع :

حمقاء أيتها الأرض
لأنك طمرت وادي الغجر باللعنات
برغم ذلك لم تحافظي على ماكياج القوانين
فغمرتك طوفانات الفوضى
لذا ادعوك بنبوءات إسرائيل
أن تنفضي الصدأ وتخاصمي الوهم
وتعبقي طرقات اورشليم وحواري بيت لحم
بالعنبر وبخور الصندل
أدعوك بتوراة موسى أن تكفي عن الحمق
وتزرعي البراءة في الغناء البدوي وتنزعي عنه التهور
أيتها الحمقاء لما لم تحطمي الحوادث البونابرتية وقصائد
الجنرالات الدموية فتوقدي مشاعل الحق وتملى الكؤوس
بالخمرة الجيدة لما مازلتى حبيبتي تتجرعي الخمرة الرديئة
أيتها الأرض الساكنة أنت موعودة بالبروق والرعود
والزلازل لما لا تشتري الفرح قبل السقوط الأخير
أيتها الأرض لأنك قاسية ومكابرة أجدبتي وظل البحر
غارق في أوهامك والسماوات تسخر من جهلك وتكبرك
يا أيتها الأرض ياصانعة الإلهات والاله لما لا تتوبي وترجعي
للوادي المقدس من جديد لأنك حمقاء علمتي أولادك
العبث بالسنابل العنقودية فاعتمدوا على قهر الفسفور
ياأرض متى تفرحي بصدق ومتى تنشري الأمان ؟ ولما تأسريني
بالكلمات الملونة والأماني الوردية وأسوار خيال بنيل أغلال
وقيود ودماء فجرعتيني الكرى والآهات الباكية ودموع الدماء
أيتها الأرض
لما لا تنطقي الكلمة الأخيرة بعد أكثر بنوك الأحاديث النبوءات
هل مازلت قادرة على تمييز صوت الحق بعد أن اختلطت الأصوات
وارتفعت صيحات الهزائم والانتصارات
أيتها الأرض
يا أمنا وأم كل البسطاء الودعاء
أدعوك باأبناء يعقوب وبالأنبياء وبمحمد والمسيح
أدعوك بموسى وأنبياء إسرائيل أن تحطمي صورة البعل
حتى لو غمرتي نفسك من جديد في طوفان نوح
فالناس اكتسوا بالغازورات والأوساخ ولابد من الطهارة
ياأرض انفضي عن نفسك غبار الحماقة وأكاليل الزيف الدموية
يا أرض طهري نفسك من الانكسارات والألم والأحزان
وضمدي جراح الحزانى حتى أرتجي عند قدميك زاد المسير الطويل
المقطع طويل لكن موسى جعل منه ترنيمة دائمة يكررها دون ملل على مسامع سارة حتى أنها حفظته فصارت تردده في خلوتها فالمقطع ينتهي بهذه الكلمات :
ما أروعك ما ابهاك يا جبل الزيتون
الأرض وملئها
المسكونة والساكنين فيها يشتهوا الحج إليك طمعاً في الأمان
يا جبل الزيتون لست وحدي أرمي ألامي وهمومي في ذرى
سهلك ورباك فكل من وطء الثرى يشتهي الصعود
إلى علاك
يا "جبل الزيتون" يا "جبل التجلي" يا"جبل صهيون" ما أجملك وما أروعك
ما أبهى صخورك حين ترشد عابري الصحراء اليك كملاك .
****************************************
تلذذ سارا وموسى بالتجوال في تفاصيل بيروت ثم جاءت ليلة الاحتفاء بالدكتور موسى التي عرضت فيها تفاصيل القضايا التي يتناولها منتداه وتجربته مع الكتابة فلم يكن أمامه متسع من الخيارات لرفض طلبات الحضور بأن يقرأ لهم نماذج من مجموعته القصصية أطفال على "جبل البركل" التي تحدث عنها النقاد باهتمام وتفصيل شمل لغتها المتحررة ومن قوالب العربية الجمالية ومن الصور التقليدية .وبعد إلحاح أرسل موسى صوته الجهوري ممتطيا صهوات خيول المفردات مندفعا كبناء حازق أحصى النققة فبني هيكلاً شامخاً من المفردات فقرأ موسى قصصاً عديدة عرض في بعضها أغاني الحرب والسلام ـ الحنين إلى "هيا" و"مسمار" و"جبال بحر المالح الغربية" ثم قرأ القصة الرئيسية في المجموعة التي نختزل منها الجزء :
( .. آه من رياح الليل التي أوصدت الطرق بين "الناصرة" و"وادي الملوك" فدفعتني الرياح العاتية كي أخرج من جوانحي الخبايا وأسدل على غطاء نفسي الهموم. فماذا وراءك يارياح الليل الثقيلة من أمنيات تبرق في الأفاق كما تبرق المياه على ظهر النيل "الكرستالي" المخبوء بالكنوز وخيرات الأجداد . ويحك أيها الليل العتيق الملبد بالقيود إلاَّ تعلم أنيّ في انتظار "قطار الشمال" وأنت تلفحني بزمهريراتك الثقال أليس لك التفاته عابرة حتى تدرك أنيّ ما زلت في أول الطريق مصطلي بحرارة الدواخل وبرد "العتامير" ؟ قل ليَّ ياقطار الشمال ماذا أصابك هل وهنت قواك أم تخلفت عن ميعادك بضغط رياح الليل الثقال أم هل انغرست في دفء الصحراء واستسلمت للرَّمال ؟ ألاَّ تعلم أن قلوبنا اكتشفت نفسها عند عبورك "الشلالات" و"الجنادل" و"مصوع" و"عصب" ؟ ألا تدري انك ياقطار الشمال عندما تعبر الجبال السمراء تصبح طفلاً غراً كما "النيل" وديعاً سهل الترويض ... ألاّ تعلم أنه لا خيار لك إلا التوجه بالتضرع للسماء ونسيان الأرض هناك عند "اورشليم السماوية" لماذا لا تنزل من علاك ياقطار الشمال لتلمس معنا الثرى فتجترع عصير المانجو كما تجرعت عصير العنب في القديم أو تتناول معنا صدى المواقف الأحداث الخضراء في وجبة طعام خضروات و"كايمود" .. ألاَّ تدري ياقطار الشمال عندما تلتفت إليك الجموع هاتفة فإنها حقاً تهتف لك بأن لا تتراجع وتتقهقر فتكبح جماح اندفاع النيل الدفاق فتمنح الشمس الى "القاهرة ". ياقطار الشمال السريع أوعدنا بفجر جديد وأصيل هاديء فتهرب "الثعالب" الجائعة إلى "اوجارها" الصحراوية النتنه حتى تعود البسمة إلى "مروي" معانقة "قرن الشمس" قبل الغروب . ياقطار الشمال قل لنا متى موعدك فقد طال الغياب ولابد من شروق تبلج فيه الشمس تطلعات تطارد وحوش البرية فتنحدر صعيداً باحثين في كهوف "البركل" عن الذهب والحديد والنحاس .
رياح الليل المغامرة جعلت فرح الأصيل في المصب مخنوقاً لقرون في أحلام الودعاء برغم أن عجلات قطار الشمال تجرجر الآمال العابره بها الوهاد والأودية متجاهلة صيحات العسس ومجررة عجلات الهكسوس وصائدي البشر وغطرسات "أشوباني بال" ورعونة مطاردي الصبايا وملتوي الالسنه المعبرين عن الفراغ أولئك الذين لم يشيدوا هرماً ظل باقياً كحبل النور ففي هذي الأيام السوداء فاض" النيل دماء" قانية ابتلعت الأرض وما صنعه الإنسان ونشرت الروائح الكريهة فلم تبق وقتئذ يابسة هذا يطابق نبوءات اسفار الصحراء الجافة الجارحة التي قادت البؤساء للعبث وإراقة الدماء ففاض نهر الهاربين من القيود والسلطان الاخرف وخرج "كهنة أمون" حفاة حلقاء الرؤوس من قبل "جبل البركل" توقاً للنجاة بعد أن ضاقت بهم الكهوف والمغارات ولم يعد يحتمل "جبل التجلي" "جبل صهيون" المزيد من الصراعات والبكاء وانهارت سراديب مغارة "جبل وادي الملوك " التي يلجأ إليها كهنة أمون عند الأزمات فتلك السراديب تحفظ إسفار "جبل الزيتون" التي قيل أنه مكتوب فيها "الطريق المستقيم" الذي يربط اتجاهات الدنيا الأربعة فيمر تحت "البركل" فمنهم يأخذ الناس سلالهم مملوء عسلاً ولبن وطيور برية قبل هطول عتمات الليل الثقال فتحجب أشعة الروح النافذة التي تطلي "معبد جبل التجلي" فتضاء الدنيا كلها .. ففي الهزيع الرابع من الليل يبرق البرق بضوء ناري فتنحسر المياه ويتراجع الظلام اللهيب الضوئي أمام الأشعة الخارجة من جوف "جبل الزيتون" وقتئذ يصل الناس وحداناً وجماعات دون نظام فتتراجع ساحات الأعماق اليابسة في دواخلهم وقتئذ ينكمش الظلام وتتمدد الخضرة في كل الأرض نوراً وتكسو "الجيزة" ومدينة "الاسكندر" المقابلة "جزر البحر المتوسط" فتعيد الحقول اليباب حيويتها وتهرب خيول التسلط إل ما وراء الظلام .. برغم إعياء الصبر تنحسر رويداً رويداً بدءاً من "وادي الملوك" و"هرم الملك الكبير" "خوفو" هذا ما يعطي "مروي" اشراقات الفرح للحياة التي تظل متمددة ببطء يقاوم الححم "الخرسانية" وتوحش الإنسان بصناعاته وتسلط الفسفور فينطلق من جديد رشيقاً ، قطار الشمال يجبر المكسور ويضمد الجروح ويجمع الشظايا فتبدد عن الأرض الظلمات التي أعمت الأرض وساكنيها من أقصاها إلى أقصاها وتزيل تلوث "هيكل الأرض" بعد أن دفق النيل دفقته المرتجاة التي جعلت الصخور الصماء تتراجع عن المجرى فمياه النيل غسلت الضغائن وبذلك انفتح الطريق لقطار الشمال بين الأرض والسماء .)
مراثي الزمن اللئيم
كيف جلست المدينة الكثيرة الشعب يقلقها ضمور القيم عندما تستخدم الاجساد لفرض الارادات عندما لا تتحرك الذاكرة نحو كشف المستور "فالنعام" كان من الطير ولانه مغرور اعتقد انه لايوجد ما يجعله او يضطره الى الطيران فضمرت الاجنحة. اشتكي قدري المنكود وضيق افقي مثل النعام حتى ان الريح تعلقت بطرف ثوبي والاشجار البازخة صارت مجوفة بالصدى، تتنازل عن عروشها المقدسة تركتها لاسراب الحمام العائد من رحلته الطويلة حين انزوى في ابراج تسكنها الاشباح الهاربة من خيول الحدس التي تبعثرت حول عجز النعام المقاوم دوامة الريح العابثة فيظل راسي عالقا بهذه الضوضاء الفضائحية فتتسلق خيوط ارقي كما يتسلق الهواء اشجار النخيل في "جبل البركل" او عند" نوري البتول". انت وحدك تظل متارجح ككرة عنيدة لاتقوى على الثيبات ازاء حركة اللاعبين فاظل انا انهش شعري من التوتر كالسوس حين يتسلل الى جوف الخشب، اتعرف عليك الان ايها الاثر فانا نكرة لم اتوقع ان تكون لي اي بصمة او اثر او اي علامة في هذه المينة المحشوة بالهواجس والمتناقضات قبل ان اراك ايها الملاك الشفيف الحزين تعبر حدود وجودي وقانون توتري الى الضفة البعيدة من محك النقائص وكارثة العجز المتوارث عبر الاجيال.حدسك شهاب يصيب الذاكرة رغم انه يبعث الطمئنينة لسقف الفحولة: اتناقض،اي تناقض لا اتشابه مع قوانين الماء الساقط شتاء على جبال المالح البكر البتول. دون شك تتناقض شمس وشمس- للخريف شموس تحجب ضباب الشتاء وغموض الصيف وتكلس مفردات القواميس المحنطة مما يجعلني اكسر راسي فوق اعتاب يومي كي ابلور مجدي ومقابض راياتكم الآفلة حتى لا اقول اتبعوني فاصبح كلمة وانت صمتها وهي تخلع التوهان في دهاليز الحرية المجاز فاصبح طائر خرافي جناحاه من لهب لم تحشه ازهار اعياد "الفرنجة" قبل الهجرة التي بدلت "اوربا العجوز".
سريري رماد رغم ذلك اظل نائما اتقيا ابعاد تاريخي الازمة الغبراء الافلة فيبرز لي حطامي المسجون في ذاكرتي الفسيحة المرهقة وجداني بالسهاد فاخذ ظلي الي واد من غير ضوء فتصبح نفسي تاكل نفسي بتسبيحة عذبة تتطل مع هتافات "الخواء الاول"ى التي ظلت عبر التاريخ تبارك معاركنا وتمنع عنا الاوسحين فتحافظ على بنادقنا "القديمة الفارغة" على الارض المدثر بالرعونة وغرام المتصوفة حتى ينطلق فمي الذي كان ماسورا في الصلصال مبلولا باولى النداء فاحصيت عجزي وهزيمتي ورغم حنان الحشود وهتافها بقيت وحيدا في مسمار بعد الخراب ورحيل الثعالب الصغيرة للمنافي الباردة.
ابو امنة في دمشق
إنحدرت الأمال لدركاً سحيق في خضم العنف الذي ضرب منابع النيل فلم تسمو الامال وضمرت التطلعات مما أدى لانهيار الإرادات وانتشار وباء الوهم وسرطان الاستسلام الناجم عن العجز، فتراجعت الرجاءات إلى قاعات سحيقة فوجدت الخرافات لها مسارات خفية فتفجرت الذواكر القديمة فصارت الحياة لوحات رقطاء يطغى فيها اللون الرمادي الداكن بخداعه فانفجرت كل أنماط العنف مما جعل البدايات والنهايات تستوي او تختلط حتى أن فكرة العودة للبدايات صارت تمثل تطلعاً عاماً للمساومة والتسوية الجبانة، فجمدت المواقف وتصلبت الأرواح والإرادات وانعكس ذلك تكلساً للمواقف واصفرت حقول التفائل الخضراء وكان الانزلاق العظيم من الضياع للضياع بذلك تصدعت نظرات حاسمة ورؤى قائمة كانت متماسكة حتى الأمس الغريب فتلبسها الشعور بالفشل هكذا كانت أعماق ابو امنة تغلي كمرجل وهو حاضر في رحلته إلى دمشق جسداً فارغاً محاصراً بسيل جارف من الذكريات المؤلمة التي لم تفارق مخيلته فهولم يستطيع أن يتحرر من دوي الرصاص ويد العنف التي طاردته وهو بعد طفلُ بريء! حين عمَّ الموت دون مقدمات !يومئذٍ كان الهدوء مسيطراً على "مسمار" المكسوة بالخضرة في خريف الشرق الشتوي من أثر المطر. تبدد ذلك المنظر الخلاب مع أحذية المقاتلين التي حاصرت هضاب المالح من "ارخبيل الصومال" فانشرت الدماء وغطت أصوات الرصاص على الأذهان السوية ومن ثم التهب حريق هائل التهم كل شيء حتى أن الجد اوهاج دفع ابو امنه للابتعاد عن مسمار مبعداً إياه من موتٍ محقق بعد ان وصلت السنة اللهب العمياء الغاضبة إلى المساكن فلم تتبق نسمة حياة فهرب ابو امنة فقد ظل هروبه ذاك راسخاً في ذهنه مؤثراً إلى حد بعيد في سلوكه فقطعاً هذا ما أثر في ذهنه فصار يميل نحو المواقف المتطرفة المحتده ربما مرد ذلك لشعور عميق بالضيم والظلم . فالحقيقة أن ابوامنة لم يغادر مسمار وحده فقد فعل ما فعل مع الجموع فماذا يعني إذا أطلق أعزل ساقيه للريح هل هذا جبن فقد ركض ابو امنة بخوفه إلى "طوكر" التي أدركها بعد جهد بآخر أنفاسه فقد سقط مغشياً عليه فاقد الوعي وأمه تحاول استنطاقه في "هاكوتا"لتعرف منه ما حدث بالضبط : فعوضية لم تكف عن لجاجة الأم مابك ياولد ؟ ماذا أصابك ؟ أين تركت جدك وجدتك ؟ من الواضح أن حادثة مسمار قد زرعت بعمق الخوار النفسي في عمق أعماق ابوامنة فهو يحمل نفسه المسئولية لأنه لم يدافع عن جده وجدته بما يكفي ولم يبادر لحمايتهما فهل كان بإمكانه أن يفعل شيء انه استخدم قدراته الفطرية في التخيل هو لا يقصد مطلقاً أن تتحول إلى صفه ملازمة له طوال حياته فقد أعتاد أن يلوم نفسه مبكتاً إياها فمن تخيلاته أنه كان بإمكانه أخذ زمام المبادرة وأن ينجي جديه من الهلاك فالحقيقة أنه استسلم للأكاذيب التي صورها له خياله ولم يختبرها بذهنه فمن غير المنطقي أن يغير طفل في عمره آنئذٍ مسار هجوم حتمي لقوة مسلحة منظمة فهو لم يكن مؤهل لتغيير ما حدث فببساطة لا يمتلك القدرات والإمكانات التي تهزم العقل العدواني مهما كان فعالاً وثابتاً فأن حاول ابوامنة بتلك المقدرات الدفاع عن جديه فإنه يكون قد وقع في مغامرة فاشلة كانت ستلحقه بعداد الموتى لهذا ما كان له أن يعمق في نفسه الشعور بالذنب لأنه مجرد طفل أعزل لا يملك أي شيء يجعله يسيطر على العنف أو يحول دون وقوعه فهو مجرد ضحية لم يشارك في صناعته وغير مؤهل لإيقافه هذا من جانب فمن الجانب الآخر فليس مجدياً على الإطلاق اعتبار أن حادثة مسمار قد حددت سماته هذا القول فيه شيء من المبالغة إذ لا يعقل أن حالة الرعب التي سيطرت عليه ودفعته للهرولة إلى طوكر ظلت تتحكم فيه دون تتبدل فلكي نعرف ابو امنة ليس كافياً النظر إليه من هذه الزاوية الضيقة لأنها تقدم صوره غير حقيقية له فحادثة مسمار مهما بدت عميقة فإنها مجرد حادثة سطحية محدودة الأثر فهو في يوم حادثة مسمار عندما أصبح في حضُن أمه سيطر عليه شعور طاغي للامان حتى أنه في لحظات أخرى أنكر كل ما شاهده أعتبره كوابيس تتفاوت في عمقها وأتساعها غير أن علامات الفزع المرتسمة في ووجود الناس في طوكر تؤكد الحادثة المروعة ولا تقلل المكابرة من حدوثها كما أن تساؤلات عوضية عن مصير بقية الأسرة التي لم يعرف عنها أحد شيء بعد ذلك ابدا ، لم تسمح له بمزيد من المكابرة فقد عاد ابو امنة للواقع الذي فرض عليه الانسجام والتركيز الذهني وقد تراجع عن حالة المغالطة للنفس التي أوجدتها لحظات الأمان فأدرك أن لا سبيل سوى مقاومة فكرة سيطرة الرعب ويبدأ ذلك بالاعتراف بوقوع الحادثة فلا سبيل لمواصلة الهروب والاختباء من الحادثة التي فرضت عليه ولم يكن بمقدوره أن يفعل إزاءها شيء ولا ذنب له فيها وفي نتائجها المأسوية .
****************************************

عاد الاستاذ موسى من بيروت بروح مستعدة للتعاطي مع الحياة فهو يشعر بأنه استعاد طاقته واستجمع قدراته لمواجهة الضجر والروتين حتى أنه يحسب أن دمشق صار لها رونق خاص وبريق وهاج يلمسه في أعماقه هذا ما جعله ينظر للمدينة بعين مختلفة فوجدها كحبيبة تاهت منه وسط الزحام فلم يمل البحث عنها ولم يتحسر عمَّا أنفقه من وقت وطاقة كي يجدها أكثر بهاء فاكتشف موسى أن السعادة لا تأتي من خارج الناس بل من دواخلهم فالسعادة قرار إرادي واختيار مجرد يتخذه المرء بنفسه في كل ما يحياه فإما أن يمتلئ بالبؤس أو يمتلئ بالفرح فيعيش السعادة فالأيام القلائل التي قضاها في بيروت أزالت عنه حواجز كادت تفصل بينه وبين زوجته سارا كما أن أنسام بيروت أكسبتهما حيوية جعلتهما في شوق لدوامة الأعمال اليومية التي هربا منها بحثاً عن التغييرَّ فما الذي حدث لهما فلم تتبدل دمشق ولم تتغير الأشياء فيها فالأشياء كما هي الأشياء عنف وتقاتل وتصارع مواقف وارادات لكن هما تغيرا فقد وجدا متسعاً من الوقت للتحاور والتصالح وتفهم إيضاحات بعضهم البعض فزالت كل الأسباب التي تزرع الإحباط الذي إذا لم يواجهانه في الوقت المناسب فكان سوف يتحول إلى شعور بخيبة الأمل وغالباً ما يتحول إلى امتلاء بالبؤس لذا أصبحا يعتقدان أن إيقاع الحياة بعد عودتهما مختلف حتى أنهما اعتقدا أن حركة الناس في الطرقات لها تعبير لذيذ ممتع فتفاعل السابله في الطرقات خيل لهما من فرط سعادتهما أنه افعل من المعتاد وذا دلالات أعمق مما هو ظاهر فالتغيير الذي حدث في حياتهما وفي داخل كل منهما كبير وعميق لذا صارت نظرتهما لما حولهما منفتحه تغوص لعمق أعماق الأمور بعد أن تركا النظرة الجافة المرهقة التي ودعا بها دمشق قبل ايام.
تغير أسلوب حديثهما فصار دافئاً عذباً يميل لأنغام الموسيقى ويبتعدا بهذا القدر أو ذاك عن لغة البشر المعتادة المشحونة بالقلق والتوتر فمن فرط السعادة تملكهما شعور بالتفرد المميز الذي أعاد إليهما حرارة أيام ماضية محفورة في ذاكرتيهما وقد رحلت تلك الأيام مع غبار الحياة القاسي ربما لازمهما ذلك الشعور الذي المؤلم الذي سيطر عليهما وهما يهبطان دمشق لأول مره مملوئان بالتطلعات والطموحات والآمال فاندهشا بالمدينة وشوارعها الهادئة وحركة السابله الغامضة وقتئذ بدت لهاما أن الشوارع مضاءة بأضواء متباينة فبعض الشوارع بدت ضيقة وبعضها الآخر أكثر اتساعاً يومئذ تحركت في لغتهما كل الانفعالات فعندما دلفا ذلك الشارع الرئيسي المشهور بمطاعمه ومحلاته السياحية وبتصرف لا إرادي ودون أن تصدر منهما كلمة اتجها ناحية المنعطف فسارا في صمت وهما يداعبان بعضهما كما لو أنهما يسيران تحت تأثير قوة جذب مغنطيسية لا يستطيعان الفكاك منها بل تجعلهما يسيران هما نائمين إلا أن حالة الابتهاج جعلتهما خارج زمن الواقع المركب بعنفه المنفلت عن اي احتمال للسيطرة أي أنهما دخلا زمنهما الخاص الذي يفوح عطراً معبقاً بأريج الأزاهر حتى خطاهما صارت تغني للبراءة فتخطيا السابله في الطرقات وتجاوزا السيارات فقد سيطر عليهما وقتئذٍ شعور الانتماء للمستقبل فأدركا المدخل المفضي للحديقة العامة الواقعة خلف او امام المسجد الاموي العتيق لا ادري فتخطياها بعد توهان فوجدا نفسيهما منفردين تلفهما رغبة التمتع بالحياة وارتشفا معانيها الموغلة في التداخل والتعقيد واثبات الوجود .
****************************************

أستيقظ موسى من النوم بشعور عميق بالرضي بعد أن تجاوز أثار الوعكة التي ألمت به في بيروت فاستجمع طاقته وغادر فراشه للحمام فهو محتاج ليريق في جسده الماء ففي الحمام وهو تحت الماء أخذ يتأمل في أحوال بيته بعد مجيء ابوامنة وما يتوقعه من تبدل نفسي في سلوك سارا فمن الراجح أنه شخصية سلبيه وانها يؤرقها الشوق للولد وربما يكون العكس بالنسبة لابو امنة فسارة فيضغط عليها مطلب الأمومة بإلحاح أكثر وتقديراتها في قبول ابو امنة لها كام تعتمد على أنه ربما يكون لها هو ابن فما عرفه موسى من خطابه انه حاد النظرة صعب التكيف لشعوره العميق بعدم الأمان هذا يعني أنه يفتقر إلى الفرح فهو واحد من جيل عانى آلاماً قاسية بسبب الحروب فسيطر عليه شعور عميق برفض الآخرين فهو من الذين يبحثون عن إعجاب الناس واستحسانهم تعمق فيه ذلك كردة فعل طبيعية للتغلب على الشعور بالرفض والاضطراب الذي تسرب في جيله عميقاً مما اكسبهم شعور بالعجز والوحدة كل ذلك وغيره جعل موسى يتشكك في أن يكون هو تعويض لساراعن حلمها بالولد فيغطي حياتها بالدفء والحيوية كما أنها ربما لا تتفهم اختلافاته من حيث نشأته ونظام حياته حتى أن موسى نفسه لا يعرف عنه الكثير إلا ما استنتجه واستنبطه استنباطا من خلال رسائله التي اوحت له أنه نقي السريرة ـ حي الضمير له نظرة ثاقبة وجريئة وصلبة في إبداء الرأي فتلك الملامح الايجابية في شخصية ابو امنة قد تصبح عامل عدم انسجام مع سارا فما تحلم به هي أن يكون لها ابن سهل وديع مطيع تشكله كما تشاء فتصادقه على طريقتها الأمومية فهي تحلم بأن تتدخل في نظراته وتطلعاته وأحلامه فتخطط له برامجه ومستقبله فقطعاً لن يكون ذلك ممكناً مع رجل مكتمل الشخصية كابوامنة . فما يجعل موسى مطمئناً معرفته الدقيقة بسارا فمما تتميز به أنها تمتلك قدرات غير محدودة في تفجير إمكانيات من حولها ذلك لطاقتها العاطفية المتسقة فحتماً مع فكرها ستفعل شىء ايجابي عظيم.. سيلتصق بوجدانها لهذا بعد تفكير مرهق توصل موسى أن وجود ابو امنة معهما سيكون مصدر سعادة له ولها وعنصر إثراء لحياتهما .
كانت سارا مسترخية في حديقة المنزل تتصفح مجلة نسائية منسجمة مع مزاجها الهادي فهي في مثل هذا الظرف المزاجي تكون مستعدة لإرضاء غيرها بالإجتهاد من أجل راحتهم . جلس استاذ موسى مقابل لها وبعد المقدمات الروتينية التقليدية سألها بوضوح وصراحة :
- كيف سينسجم ابو امنة مع حياتنا المركبة ؟
كانت سارا صادقة ومحدده.
- ليس لدي خطة ولكن سأعمل على استيعابه في تفاصيل حياتنا .
- هذا يعني أنك ستسرضينه على حساب مبادئنا ونظام حياتنا.
سأُعِامله كابني الضال الذي عاد إليَّ ليملأ حياتي بالحبور .
- ألا تخشي أن تقعي تحت سيطرة ابو امنة وتحكمه وربما استغلاله اذا اظهرت له العواطف الدافئة العميقة المتنازلة..............!!!
- إذا تحررت من الخوف فلا أخشى غضب الآخرين وعدم تقبلهم لذا فأنا لا أقع فريسة السيطرة والاستغلال.
- أفهم وجهة نظرك لكن ابو امنةشخص محمل بمرارات الحروب والقحط والمجاعات وكل انماط الكراهية .
- مهما يكن فأنا متفائلة أنه سيملأ حياتي بمعاني ومشاعر أنا في امس الحاجة إليها حتى ولو كان بينها التوتر والغضب !!.
- فليكن ما يكون كل الذي يهمني ويشغل بالي أن تشعري بالحرية وأنت تمارسين اتخاذ قراراتك المتصلةبضيفنا وأن لا تشعري بالذنب لعدم إرضاءه !!
- أنت تعرف أنيَّ لا أعاني من التردد أو الخجل فأنا لا أعمل إلا ما أومن به لأن رأي حول نفسي أهم عندي من أراء غيري فيما أفعل فهو عمليا ابني ايضا فامه اختك وابو قريبي من الدرجة الثانية ...........
- أخشى أن يكون ابوامنة من صنف البشر الأناني الذي يسرق الأحلام ويزرع الشقاق ؟ قد لا يتفهم هو حياتنا أو قد لا يتفق معنا...........!؟
- لا تخشى شيء فالحياة ستسير من أفضل لأفضل إذا تفاءلنا وتركنا التشاؤم جانباً ................
****************************************
من كثرة حديث موسى عن تأثر ابو امنه بأوضاع الحروب والقحط والمجاعات والعنف توقعت سارا أن يكون ابوامنة شارد الذهن غير قادر على التركيز فيما يدور حوّله من قضايا مما رسخ لها ذلك الانطباع معرفتها أن ضحايا الحروب يقضون سنوات حياتهم بأذهان شاردة غير قادرة على التركيز حتى أن بعضهم يبدو كمن أصيب بقصور ذهني . المفاجأة أنها عندما تعرفت على ابو امنة عن قرب صرفت النظر عن كل تصوراتها عنه فوجدت فيه شخصية حيوية ذات تأثير هادي قدرت أنه يملأ مساحة خاصة في دواخلها تعمق عندها هذا الإحساس عندما حدثها هو عن أمه عوضية وقلقه عليها لأنه تركها مريضة فقد اوجد ذلك الحديث الهامس في نفسها انطباعاً يلخص شخصيتة الوديعة العطوفة باعتبارها شخصية مسالمة لا تبدو عليها علامات الخلل أو الارتباك التي تحدث عنها استاذ موسى بعد رسائل ابو امنة الأخيرة لذلك أصبحت هي مترددة تسال نفسها بإلحاح ايمكن أن يكون موسى مبالغاً في توصيفه لحالة ابن اخته ؟ أم أن ابوامنة في حالة ذهنية مثالية عارضة تظهره في حالته الطبيعية فيعود منقلباً رأساً على عقب ؟ ربما أن موسى أعتاد التطرف في الاستنتاجات والاعتماد على الشكوك والانتقادات في النهاية قدرت أن ابو امنة شخص طبيعي وأن تعبير موسى عنه أرتكز على طريقته المعتادة في تناول الموضوعات بالاعتماد على الخلفيات والملابسات المرتبطة بالموضوع . فمن حديث ابو امنة فهمت سارة مدى تشوه الصورة التي رسمتها عنه قبل أن تلتقيه لهذا ظلت لوقت طويل تعمل على تصحيح كل فكرة خاطئة رسمها ذهنها عنه قبل أن تلتقيه من خلال السلوك العملي فحررت نفسها بهدوء من كل التصورات التي رسمتها مسبقاً عن ابو امنة وقررت التعامل معه بعقل مفتوح وروح نقية. المدهش أن سارة توصلت إلى أن ابو امنة له رأي متماسك عميق حول كل شيء حتى تفاصيل ثوبها الذي ترتديه هل يناسبها أم لا . لم يترك ابو امنة فرصة ليعبر فيها عن رأيه في لون وخامات وتصميمات ثيابها إلا ووظفها بشكل أفضل مما كانت تظن وتحلم .
ظلت سارا تراقب عن كثب حوارات استاذ موسى وابو امنة باهتمام للتعرف على الضيف الكريم فالحقيقة أنها تأثرت بكلماته التي تسربت في أعماقها فقد ظلت طوال حياتها تشهد له بتفكيره المركز المحدد رغم أنها لاحظت طابع الحزن المرتسم في نبرة صوته واختياره للمفردة اللاسعة فأنها تأكدت أنه يعيش في سلام داخلي لثقتها من الاتجاه الذي يسلكه في تصريف تفاصيل يومه فقد أصبحت تعرف طريقة تفكيره واتجاهه في اتخاذ القرارات أدركت كل ذلك من استراقها السمع لمناقشاته مع استاذ موسى التي تتخللها حكاياته التي تصور معاناة هضاب بحر المالح مع الحروب المستمرة التي لاتنتهي ابدا فقد كان ابو امنة يسرد حكاياته بعفوية تفصيلية مدهشة ثم أن استاذ موسى كان يحتملها بصبر لا لأنه لم يكن شغوفاً بتفاصيل الحكايات يبدو أنه كان يحاول الولوج إلى ذهن ابن اخته عبر الأسئلة والمقاطعات التي أتاحت لابو امنة الاستطراد في التفاصيل الجزئية هذا ما أتاح لموسى التعرف على ذهن ابن اخته وطريقة تناوله للقضايا فالذي كان يجبر موسى على الصبر أن ابو امنة كان يعبر بوضوح عن امتلائه بالمخاوف والقلق والاضطراب وفي ذات الوقت أن سلوكه هادئاً مستقراً مما يعبر عن ذهن صارم هادي مطمئن فالحقيقة التي توصل لها موسى عن ابن اخته أن نبرة الحروب لا تعدو كونها إطار خارجي لذهن متماسك معتمد على المعرفة العقلية فابو امنة لا يعظم المسافة بين انفعالاته كإنسان والواقع الموضوعي بكل قسوته فابو امنة يعرف الموازنة وبين لمعطيات و الآمال الممكن تحققها أو التي يمكن الاستفادة منها فهو لا يسمح بأن يجعل من ذهنه أرض معركة فالتطلعات والآمال إذا لم تخضع لعمليات ارتقاء وتهذيب تقضي لإرباك للذهن يتحطم ذاتيا بإمكانياته لانه لاشك يرهق نفسه بأمور غاية في الاستحالة لا طاقة له بها فقد استطاع ابو امنة أن يحافظ على صموده وتماسكه على أن يكون ذهنه حرَّاً منفتحاً هل أدرك هو هذا المستوى سيسير دون معاناة ؟ فالحقيقة أنه تعلم تهذيب أفكاره وأماله وتطلعاته بكلفة باهظة حتى أدرك المستوى الذي جعل ذهنه يحافظ على سلامته يقظاً بعيداً عن الانشغال بأمور لا طاقه له بها فمن ملاحظات سارا عنه أنه يرهق نفسه بجدية لكي لا يفقد اتزانه فيظل يلاحق قضايا الواقع الزاخرة بالمدهش فقد لاحظت هي أنه لا يهتم ولا يتوقف عند الإحداث الطارئة والتناقضات الموضوعية والتفاصيل الإجرائية فقد اعتاد ابو امنة أن يعطي ذهنه التدريب والتمرين والترهيب الضروري الذي لا يجعل ذهنه يتحرك دون هدف محدد أدركت هي ذلك عندما لاحظت أن موسى وابن اخته أصبحا يفهما بعضهما البعض دون زيف أو تصورات مسبقة فمراقبة سارة لتطور علاقة الرجلان قد احدثت في نفسها انشغالاً وعصفاً ذهنياً حين راتهما يغوصان عميقاً بلا تحفظات في شخصية بعضهما البعض كما أعطتها الإشارة في التفكير فيما تشاء وقتما تشاء لكنها تحررت من نظرتها لضيفها باعتباره قابعاً في زوايا العنف والضغط وجاء محمل بروح الحروب والقحط والمجاعات فهو عندها الان أصبح يعني رجاحة العقل رغم قناعتها بأنه مازال في حوجه للمزيد من التدريب العملي للتخلي عن كثير من عاداته القديمة وتشكيل عادات جديدة بالجملة شعرت هي أنها ناجحة في استيعاب ابو امنة في حياتهما الأسرية .
****************************************
استفاد ابوامنة من منتدى الاستاذ موسى المنزلي فقد حوله للمنبر الذي يعرض فيه أفكاره وينتقد فيه أفكار وتصورات غيره بمنهج غرائبي ينصرف بعيدا عن تناول مفهوم الظواهر ويظل مرتهن إلى وتائر نتائجها ظهر ذلك بجلاء عندما قدم الاستاذ موسى ندوة فكرية تناول فيها ظاهرة "الإرهاب الأصول والجذور "تجاهل ابو امنة أطروحات الاستاذ موسى فقدم ورقة موازية اعتبر فيها أن الإرهاب ناتج للحالة العالمية التي سيطرت على كافة الامم جراء احتكار الثروات من الشركات متعددة الجنسيات كما اعتبرها الطور الراهن لدينامية ثقافية ابتدأت قبل أربعة قرون مع بزوغ آليات التوسع التجاري والهيمنة الملاحية ومن ثَّم أدت هذه الدينامية إلى توسع اشتمل فيه السيطرة المباشرة والإشباع الاقتصادي فأحدث ذلك انقلاب في القيم المعرفية فترتب على هذا الوضع توجهات عامة وجدت ترجمتها في دول حديثة لا تمتلك مقومات البقاء وصارعت من أجل أولويات الدولة ثم جاءت مرحلة تصارع الكتل فانتصبت مفاهيم الحرية كلغة سادت العالم ثم انحسرت هذه النزعات المتفائلة أمام الهزائم المتتالية والنتائج البائسة للتجارب التي نفذت على أرض الواقع عملياً كل ذلك وغيره أدى إلى تحول بالغ السرعة يظن البعض أن ذلك تراجع عن الأوضاع القديمة لأنظمة الرعايا فتقلص دور الدولة في كافة المجالات أدى هذا إلى تهميش ونبذ أفكار التخطيط واستعيض عنها بترتيبات التعديل الهيكلي وإيلاء مهام الدولة إلى منظمات غير حكومية بذلك انتصرت فكرة السوق فتم تجريد الفرد واستلابه بشبكة من العلاقات الوحشية في سوق دائرية مجرده من أي مسئوليات أدى هذا إلى نزوع متزايد نحو المحافظة وتغذية الانطوائية الدفاعية المنبعثة من أسباب الانهيار فارتدى هذا النوع لباساً دينياً سلوكياً مظهرياً فتعمق الادعاء بأن للمجتمعات طبائع سابقة على التاريخ تتمثل في أوهام الفرد والخصوصية والأصالة الاستمرار مع الماضي ونبذ كل المكتسبات الجديدة وأن المجتمعات والحضارة تتباين تباين النباتات دونما جامع تاريخي بينها في سياقاتها فالعالمية بهذا الفهم تعني حركة رأس المال الذي تحول إلى وحش في غياب البدائل هذا ما خلق الممانعة الثقافية باسم الدين والتراث باعتبار أن أقصى ما يمتد إليه بصر الإنسان لا يتجاوز حد الموت المضمون فالموت يضع حداً لكل تدابير البشر وأمالهم وأفراحهم ، هذا ، والعقل البشري لا يستطيع أن يهتك أسراره أو تعلن أسراره ، فالآراء التي فاقت الحصر لم تستطيع أن تبدد ظلامه الحالك ، أنها سحابة كثيفة قاتمة تخيم على العقول ، وليس إلى اختراقها سبيل من هنا تأسست فكرة الإرهاب التي تقود إلى الموت فأصبح الحوار حول قضايا الحياة مؤسس على الموت لأن الناس تخلوا تخلياً مطلقاً أو محدوداً عن فكرة أن كل الناس سواء أكانوا أبراراً أو أشراراً هم خالدون بالوراثة ، وعليه عند الموت تنطلق نفوسهم إلى عالم الخلود كما تركوا فكرة أخرى تدعي استحالة خلود النفس الوراثي أو الطبيعي وهم يعتقدون بأن الخلود هبه مجانية لا ينالها إلا الذين يقبلونها بالإيمان ، فالمؤمنين هم وحدهم الذين سيظفرون بالخلود ، وأبعد من ذلك أن الذين لا يحصلون عليه من هذا الطريق فليس لهم خلود قطعاً ولن يكون لهم هذا الامل مما يعني أن لا احد في الأرض بات يؤمن أن الإنسان حياته ذات قيمة بل العكس يرونها وجيزة زائلة بالتطور العلمي والهندسة الوراثية فأصبح بوسع الإنسان الضعيف المتداعي أن يقول : أيضاً أنا حي إلى الأبد فهل الإرهاب جاء ليثبت عكس ذلك بأن "لا خلود للإنسان البقاء لله الواحد" وما الإنسان إلا هالك يستمد حياته لحظة بلحظة من الله فالإرهاب ليس فكرة وليدة الجنوب أو الشمال أنما هو ابن شرعي للخصخصة الاقتصادية التي صارت خصخصة ثقافية فانسحب حكم الأولي على الثانية على صورة متسرعة ميسره حقاً فقد انشطرت الثقافة في دول الجنوب الفقيرة كما انشطرت الثقافة في دول الشمال باعتبار أن الثقافة نصاب طبيعي يرتكز على تحولات التاريخ الكامن في سجايا غرائزية ثم افترض الغرائز المنسوبة هنا يمكن التقاط أطراف عدم التجانس والعصيان وتختزل إلى الدين فيؤدي على العموم إلى الإلهام بذاكرة ثقافية دينية متعصبة تترجم تلقائياً إلى عنف يوظف العلوم الاجتماعية والتقنية للبحث عن عصر الإيمان الذهبي وما لهذه الدعاوي من إشعاعية جمالية وقيميه فتتراجع الحساسية تجاه البيئة التي يراد لها الحماية من التلوث فتلك الذاكرة المتسلطة قطعاً تتماشى مع اتجاهات الإيغال في الخصوصية فتتسع دائرة الاشتطاط لعنف مؤسس باعتبار لغة الحوار الوحيدة فحديث الخصوصية هو أنجب العنف الإرهاب الذي هو اعتراف ضمني بممانعة هذه المجتمعات للترقي القيمي . وهنا جذر أخر للإرهاب هو استبدال الشأن العام بالشأن الخاص إلى عام ومن ثم يتضعضع البناء الوطني بالمخصصات دون اعتبار للأهلية كما أنه يفتح المجال للعنف والعنف المضاد باعتبار أن السلطة المجردة تصبح هدفاً في ذاتها هذا ما يجعل أصوات "الهوسا" و"الأقباط" و"الامازيع " و"اليهود"و"الأكراد" و"الأرمن" تتعالى فيتأسس العنف على الهوية فيتحطم الوضع الطبيعي للمجتمعات فتلد الفوضى العنف والعنف المضاد فلا أمل في نهاية الإرهاب وتوظيف الفشل لمقاصد خاصة أو كسر إدارة الخصم باسخانه بالموت مالم يتأكد للناس كل الناس أن الموت ليس تعديلاً يطرأ على الحياة . وليس هو استمرار الحياة في حالة أخرى وليس هو تحرير من قيد الجسد إلى حياة أوفر. ليس الموت بحياة الشقاء أو الهناء فالموت ليس حياة على الإطلاق بمعنى أن يعرف الناس أن الموت هو نهاية الحياة ـ الانقطاع التام عن الحياة وأسبابها. فيفهم الناس أن الموت لا يعني بحال الانتقال إلى "النعيم" او"الجحيم" إنما يعني انقطاع الحياة فحين يموت الإنسان لا يعيش في مكان ما ، في "السماء "أو في "الجحيم" لا يعيش على الإطلاق ـ لا روحاً ولا نفساً مع التأكيد أن بعض الناس سوف يعود إلى الحياة في المستقبل . إلا أن تلك الحياة المقبلة تكون استمرار لهذه الحياة الحاضره انما حياة جديدة حياة أخرى لا تبدأ بالموت إنما عند "قيامة الأموات" اذا قاموا من موتهم .
تشعبت المناقشات بين ابو امنة وهاله حول مداخلته التي صرح بها في المنتدى حوَّل جذور الإرهاب مختلفاً مع ورقة الاستاذ موسى ولم تكن مناقشات هاله وابو امنة وليدت الصدفة فقد ترسخت بينهما الصداقة وتمددت بينهما خطوط الثقة أبان الفترة التي قضاها ابو امنة في استضافة دكتور الطاهر حتى أنه لم تعد هناك أسرار تفصل بين هاله وابو امنة ـ حتى أن هناء ابنة الدكتور الطاهر أخذت تبتعد عن مجالستهما ومحاورتهما لاعتقادها أن حياة هاله وابو امنة جافه ـ صارمة ـ واقعية أكثر مما يجب ولا تناسب تطلعاتها وأن نمط حياتهما تحسبه ضرباً من العبث الذي يستهلك الوقت والطاقة دون ناتج عملي واضح كما أن هناء لا تهتم بالقضايا الذهنية المركبة باعتبارها قضايا ثقيلة حسب اعتقادها .كانت الغرفة تستطع من الداخل فقد كان الجو رطباً في الخارج . وقف ابو امنة يراجع مع هاله أفكاره التي أفضى بها في المنتدى كان ينظر من النافذة إلى الحديقة المخضرة يغمره إحساس بسعادة لا متناهية لم يكن يفكر فيما يحصل الآن فقد كان يفكر في أن الحجج التي أطلقها في مداخلته كانت دامغة حتى أن هاله تشجعت لمواجهته فهو يعتقد أن أفكاره أثرت فيها كما أثرت في غيرها . لو كان ابو امنة يفكر قبل اللحظة لموقع رأيه على غيره فأنه كان سيعتبر ذلك مضحكاً . فلا مجال له في إبداء الرأي في "هيا" و" جبيت" و"مسمار" فالوضع التراتبي يفرض عليه أن يضع أصابعه في فاهه بل يبتلع لسانه فالكلام مسموح به للعجائز من النساء والرجال . لكن ابوامنة الآن هو في دمشق حيث يحق لرجل مثله في مقتبل العمر أن يعبر بحرية عن أفكار حول مطلق موضوع وقضية دون القلق لراي غيره من الناس . كذلك فتاة فاتنة رائعة كهاله يمكنها أن تتفهم رأيه ذو قيمة قابل للمناقشة والحوار أن كان في "مسمار " لو تجرأ وتحدث بجرأته التي تحدث بها في المنتدى لسمع من بعض ذوي التأثير في مثل هذه الحالة "عليك ابتلاع لسانك قبل أن يقطع".. "نرجو إلا تصرفنا عن عظائم الأمور بنقاشاتك ولغوك الموغل في لزوجته" ربما كانت ستنتابه رغبة في الضحك فيظهر خبثاً بائن فيتساءل كيف لرجل في كامل رجولته يمكنه أن يستسلم لمثل هذا النوع من الحماقات مع ذلك لم يتجرأ على إبداء رأيه لأنه يعرف القوانين ولا يمتلك القدرة على مخالفة التقاليد فهو فرد من القطيع لا يحق له الشذوذ عنه . القدر قاسي حقيقة والإنسان مخلوق في غاية الضعف أمام المحن التي يصنعها أو يصنعها غيره فتصبح سجناً مؤلماً لا يعرف سبيل للفرار منه.
انصب نقاش هاله حول فكرة الموت التي عرضها ابو امنة بقالب متيولوجي يفترض أن الإنسان لا يستوعب فكرة الموت والخلود لهذا يعبث بأرواح الناس ويقرر إعدَّامهم وإعدَّام نفسه ليحث أثراً ما في أعداءه فيتراجعوا عن مواقفهم كاستجابة لما فعله من عمل دموي في غاية القسوة لا يحترم اهتمامات المحكوم عليهم بالموت من قبل أن يلفظوا بكلماتهم المهمة التي تعرض أحاديث الخلق والخالق والحياة ومقارعة الظلم من الواضح أن الذين انغمسوا في لعبة الموت الفاشلة لا يعرفون ما يقولون وإنما يلفظون الكلمات دون معاني أو دلالات محدده.
الأفكار التي طرحتها هاله كانت في جوهر اهتمامات ابو امنة ومشروعه لذلك استطرد معها وتناولا الموضوع من كل جوانبه وإبعاده وأصوله وجذوره ونتائجه وتداعياته ـ إلا أن الذي خطر بذهن ابوامنة حقيقة أثر اختلاف المكان ، فإذا صرّح بأفكاره التي القي بها في المنتدى في بلدته النائية "مسمار" فإن طريقته الموضوعية في الدفاع عنها كانت ستكون التنازل عنها والتضرع بالعفو من جمهور المستمعين لأصبح التعبير عن الرأي الأكثر ابتذالاً عن السعادة . كان ذلك هو الموقف الجديد ـ خصوصية المكان ـ جعلت مساحات اليأس تتضاءل في داخله . لقد اهتمابو امنة برأيه واكتملت المعجزة فعبر عنه بسهولة لذا كان سعيداً في دخيلته. هذا الشعور لم يجروء على الإفصاح عنه فيكشف ما يدور في دواخله لهاله ـ ربما لم يكن مطمئناً تماماً للنتيجة التي توصل إليها ـ أنه في مكان مختلف عن مكان نشأته فعليه أن يتجنب التعميمية ـ فهاله نفسها هي في دمشق لأنها لم تكن تقدر اختلاف الأجواء فقد كانت تعرف من خلال دراستها في علم الآثار تأثير "الشمال" في "الجنوب" هذا جذر" مروي" فكتبت أطروحتها في نهاية دراستها ، لم تكن تطابق النتيجة إلتي تتمناها بعد ان قررت الاستهداء بالحفريات الأخيرة مع رأي الأستاذ المشرف وخلال مناقشة عقائدية بينها وعميد القسم اعترضت على تصوراته ومسلماته هذا كان سبباً لتعطيلها وإرسالها للعمل في المتحف للعناية بالآثار وحتى تدرك مسلمات العميد وافتراضاته . لم تستطيع بعد ذلك أن تجد وظيفة إلا بعد وساطة خاطبت "الرئيس". لم تكن تتوقع أن تطرد من الوظيفة وتدان بوصفها عميلة إستخاريه "للشمال" ومعادية لمشروع الحضارة . لقد تعرضت هاله لصعوبات عديدة خلال سبع سنوات قضتها في "سجن النساء" قبل أن تبرئها المحكمة الإيجازية لعدم كفاية الأدلة اوقلة الأدلة للتحقق من الاتهام. قالت عندما عادت لقريتها القديمة التي منها هربت الى دمشق.
- لا فرق كل العالم محشو بالصعوبات والمرارات لابد أن أجد ليَّ مكان على ظهر هذا الكوكب بعد أن منحت فرصة جديدة للحياة .
سردت هاله قصتها لابو امنة عندما كان يعاني أسوأ حالات الإحباط والتضعضع النفسي ـ في تلك الفترة تغيّب عن الجامعة وساءت حالته هذا ما أثار انزعاج سارا التي تابعت منذ فتر تكرار كوابيسه التي كانت تنتابه أثناء نومه فكم مرة أيقظته كي يكف عن الصراخ الذي يملأ البيت فزعا وخوفا فتسأله مابك يابو امنة عادة كان يجيبها باختزال هروبي :
مجرد أحلام مجرد أحلام.
ألحت سارة على ابو امنة بالحقيقة بعد أن تكررت الكوابيس . فافضى لها بكل شيء فاستعانت سارة بهاله أول أصدقائه في دمشق . فقد التقاها في منزل الاستاذ الطاهر الذي عرفه بأنها ابنة أخيه أستاذ مساعد في كلية الآداب

قسم
علم النفس العملياتي
.
حضرت هاله لمنزل الاستاذ موسى للقاء ابو امنة بعد أن افتقدته عدة مرات فلم يشاء مقابلتها فقصت لها سارا معاناته مع الكوابيس والاحلام المزعجة فظلت تتردد عليه حتى التقته في غرفته التي كان مظهرها بائساً يعبر عن حالة الإحباط وخيبة الأمل التي كانت تحاصره . تطرقت هاله لموضوع الكوابيس التي كانت تحاصره في نومه لم يحكيها لها . بدا عليه الهم والخجل والارتباك.
- هي مجرد أحلام تكررت لي مؤخراً فأصبت بالرعب فاستيقظت لأجد سارا قربي مؤكده ليَّ أني كنت أصرخ .
- ما تفسيرك أنت لتلك الأحلام ؟
- ليس عندي تفسير منطقي أو غير منطقي !
- هل تعتقد أنه حديث العقل الباطن ؟
- لا استطيع أن اجزم بشيء ........
- هل يمكنك أن تعرض عليَّ تفاصيل تلك الأحلاَّم.
- لا أرغب أن انقل إليك قلقي واضطرابي بسردي الأحلام
- إذا حكيت ليَّ أو لم تحكي فأنا قلقة عليك فالأفضل أن أعرفها.
- خلاصة الأمر أنها ثلاثة أحرم تتكرر في تعاقب ممل فالحلم الأول : (أراني وسط حريق هائل أكُل أجساد الموتى أسخر من جدتي خديجة) أما الحلم الثاني ( أجد نفسي في كهف في الجبال مملوءة بالأفاعي فتطلق أحدهما سمها في عيني فأصاب بالعمى ) أم الحلم الثالث (أراني أتبرز في العراء عند سهل الجبل فاخذأكل برازي ومن ثم تتضخم شفتاي فيزداد حجم لساني حتى أنه يخرج من فمي فلا استطيع السيطرة عليه فأحاول الصراخ فلا أفلح......... )
- هي حقاً أحلام مزعجة أنصحك بأن لا تحاول تفسيرها سيكولوجياً أو ميتوفيزقياً قبل استشارة أخصائي نفساني.
- هل تعرفي شخص مناسب قادر على تقديم الاستشارة الضرورية ؟
- دون شك أعرف الدكتورة باربرا .
- هل لك معرفة وطيدة بها .
- هي من أشرفت على علاجي من التبول اللاإرادي الذي أصبت به بعد خروجي من "سجن النساء".
- هل كنت في "سجن النساء" في يوم من الأيام وخرجت بأمراض؟ .
- هل الفترة كانت قاسية وطويلة إلى هذا الحد ؟
قصت هاله قصتها كلها على ابوامنة الذي أصغى إليها باهتمام ودهشة ففي ختام حوارهما أكد لها أنه متحرر من أي فكر تقليدي سلبي يتخوف أو يتشكك من الطب النفسي لكنه أبرز لها رهبته من مقابلة الدكتورة باربرا باعتبارها له تجربة خاصة معها أبان عملها مع "منظمة أطباء بلا حدود" في "أبشىَّ" فقد ساعدتها في تجاوز علتها . أتفق ابو امنة وهاله على زيارة الدكتورة باربرا للتعارف ومناقشة تجربتها مع علاج هاله فإذا شعر ابو امنة بالارتياح عرض عليها موضوع كوابيسه.
****************************************
عرض الاستاذ موسى ورقته التي قدمها في منتداه المنزلي التي ناقش فيها جذور الإرهاب بمقوله مفتاحيه : أن علاج جزء من البناء المائل ليس يهدم كل البناء ـ فإذا كان الهم لدول "الجنوب" الارتقاء وتأكيد تحررها مادياً وروحياً ، فإن التجليات المباشرة لهذه العملية الجريئة تمس ، أو تحطم أحياناً ، قناعات ، وأحلام وعناصر التكوين النفسي ، كلها التي تحولت بفضل الممارسة والزمن ، إلى تقاليد وعقيدة جامدة هذا ما يدفع البعض للدعوة إلى إلغاء تلك التقاليد والعقائد الجامدة بالعنف والهدم ويتجلي جانب الهدم في هذه العملية كعنصر جذب للقوى بمقاييس أكبر , وأوسع من البناء من هنا يتراكم الالتباس ويزداد القلق لدى أوساط حيوية لا تنطوي مواقفها على أي نية سلبية إزاء عملية الارتقاء أو ضرورتها لكنها تفتح الباب لأصوات لا تتورع من إثبات دول "الجنوب" فشلت في إعمال قدرتها واستغلال إمكانياتها فحقيقة لم تفلح الدول حديثة الاستغلال في استغلال المساحات والعمق والقوى المحركة القوى البشرية والمواد الخام ورأس المال فكل تلك مازالت رهينة لدول "الشمال "التي تفتقر لها مما ينجب أفكار التطرف والمواجهة.
فمما عرضه الاستاذ في ورقته : أن دول الجنوب ضعيفة الأداء مما يولد لا مبالاة الشعوب وحاجتها الدائمة لمن يقودهم ويوجه خطاهم عبر العقائد أو العقائد السياسية مما يبرز مظهراً من تحكم دول "الشمال" بل محافظه على الاستبداد والتخلف مما يرفع من قيمة دعاوى إبراز الذات ولضيق الأفق تميل للوسائل "العدوانية العدمية "كل ذلك يلد العنف هذا أخذنا في الاعتبار أن دول الشمال تعيش عملياً حرية الوطن والمواطن كما دول الشمال عملت على تحقيق كفاية الإنتاج وعدالة التوزيع وتتجه ناحية استدامة الرفاهية هذا ما تغذي مشاريع دعاوى العنف من منظورات التباين الاقتصادي والثقافي والروحي بحجة أن الصوت الانتخابي في دول الشمال أساسه لقمة العيش الحرة كما أن الشمال دولاً ومجتمعات تقوم على التخطيط لصالح الدولة والفرد بلغ ذلك مبلغاً ووصل إلى تهذيب رأس المال بالتامين والضمان الاجتماعي وإقرار حقوق العاملين .
تعرض موسى في مجمل ورقته إلى تفاصيل قضايا دعمت دعاوى العنف وأسست لظاهرة العنف السياسي التي يطلق عليها الإرهاب ومن تلك القضايا ما يجيء في هذه الفقرة لا يختلف اثنان في عجز الدول حديثة الاستقلال عن تحقيق انسجام ثقافي وتماسك اجتماعي كما عجزت في بناء واقع اقتصادي كما فشلت في "الحياد الايجابي" لهذا جاءت الدعاوي صارخة التطرف المستهدفة كامل البناء باعتباره بناء غير أصيل مستورد من الخارج والعودة للتأصيل بإلغاء البناء القديم كلياً للرجوع للحظة الاولى المستلهمة ما في الذاكرة للبداية فهذه النظرة تركز على إعلان الحرب للانفكاك من أغلال الخارج هكذا عجزت دول الجنوب عن إبراز شخصيتها وتحقيق مستوى الاستقرار الداخلي قائم على تماسك بناء مؤسسي شرعي يستمد ثقته من الشعوب فالاستقرار الزائف الذي يسود الجنوب هو استقرار غير حقيقي وبالتالي يحدث تماسك شكلي ناجم عن القهر والبطش والاستبداد فالذي تشهده كل السلطات التي جاءت في دول الجنوب بعد حقبة السيطرة المباشرة أنها كانت عاجزة وقاصرة ومرتبكة في إدارة الشئون العامة وبناء المؤسسات ودارت حول نفسها مصارعة على السلطة ولا تحترم الخيار الشعبي مقابل ذلك أهملت الشعوب لا تملك آليات الضغط لأجل مصالحها هنا كانت الصدمة فاجعة في الحاضر فاختلطت القضايا وتاهت المفاهيم وفقدت الافكار مضامينها ناهيك عن تجددها بذلك اختلت آليات السيطرة على توجهات الشعوب فلم يعد من الممكن معرفة الأحاسيس التي تعتمل في نفوس إلا النخب المؤثرة فأضحت العلاقة بين الدولة والمجتمع في حالة تغير والعلاقة بين الحاكم والمحكوم في حالة سيولة ومفاهيم السلطة كلها مائعة أو هي في طور التبدل كل ذلك أعطت الميديا الحديثة قدرة ماده دسمة تعرضها ليل نهار مصور العنف والاستبداد وبطولات سفك الدماء لهذا كانت تفاصيل التحولات الدراماتيكية في الاختلاف بين الشمل والجنوب ودفعه لأن يصبح اشتباك فوضوي عدمي .
تعرض الاستاذ موسى في ورقته عن الصدمة على المستقبل فعرض وجهة نظره هكذا : الفاصل بين طبيعة العقائد ووظيفتها قد شكل قلقاً وجودياً لقطاعات واسعة تحس بالفجيعة على المستقبل المحدود في الحياة الدنيا وفيما بعدها فأصبح القلق متنامياً وعاماً وممياً وتبددت الثقة في اليقينيات فصار المستقبل شغلاً فردياً لقطاعات واسعة برغم ذلك وضع الحساب لعدة حوادث حدثت وغيرت طريقة التفكير واتجاهات النظر فرعت من قيمة سؤال لم يتم الاهتداء لوضع في الحساب ولما لم يتم التنبوء بها يرى الدكتور موسى تلك معطيات تشكل أفاق ما يميز ظاهرة الإرهاب التي في جوهرها حالة فوضى ذهنية وروحية واجتماعية فهو يعتقد أنه لم يهتم الاشتغال بفهم المستقبل بموضوع أثر الثروة المتركزة في أيدي قلة مغامرة عبثية جاهليه لا تحترم الحياة الموجودة وبهمها المستقبل بعد الموت كل ذلك وغيره عرض الاستقرار لخطر وجودي مما أنجب ظاهرة موازية ممثلة في انكفاء على النصوص الماضوية استدعاء ذاكرة الأجداد لتعالج مشاكل الحاضر ذلك لأن المنشغلين بالمستقبل تجنبوا الأمور التي تثير حساسيات السلطان الفاعلة مع أنهم كانوا يعلمون خطورتها على المستقبل فنسجو السيناريوهات لكنهم لم يستطيعوا استحضارها فيها لا لعدم تقديهم لخطورتها فحصروا أنفسهم في التأرجح بين اتجاهات التغيير إلى أسوأ واتجاهات التطور للأفضل هنا كان العجز الذي أنجب الإرهاب .
الاستاذ موسى يرى أن الإرهاب وليد شرعي للعجز عن التنبوء بما سيكون عليه المستقبل مع التقيد بالواقعية فقد أنجب العجز التطرف في الركون للإرادة والاعتماد عليها في التحولات والركون للإرادة في تشييد المستقبل لا انطلاقاً من المعطيات التي يتشكل منها الواقع الراهن في دول الجنوب كله متغيرات مؤقتة لم تحصر الورقة جذور الإرهاب في الفشل في أدارك المتغيرات بل تتهم المخطط للمستقبل أنه ووقع في هوى العامة والمزاج فئة عقائدية لها طموحاتها وتطلعاتها التي من أجلها مستعدة للتضحية والحركة والفعل والضغط فاستسلموا لتشييد المستقبل بنفاذ الإرادات لا بالتوازنات الكمية والنوعية الحقيقية تعبرها عن نظام كوني ملامحه في التنافس مع التزام التداخل والتفاهم والصراحة وواقعية بعيد عن المزايدة . جاء في ورقةالاستاذ موسى : الإرهاب مسئولة عنه محاولات فرض الإرادات لتشكيل المستقبل بمعنا المحاولة المفرطة لتكيف المستقبل مع الرغبات بفرض الإرادات فالمستقبل الذي دائماً مايأتي على غير ما يتوقعه الناس فالمهم ليس استدعاء الإرادات لبناء المستقبل كل ذلك ألهب نيران العنف في كل الكون . كما يتحمل المسئولية أيضاً الذين يرون أن إرادة المستقبل ليست مجرد استشراقة وبناء التمنيات حوله و حشد الطاقات وإحداث الاشتباكات للتأثير في المستقبل بتفعيل الإرادة .
يرى الاستاذ موسى أن الإرادة يجب أن تبعث في العقول والقلوب والسلوك لأنه ليس من بديل لكل الناس سوى إعادة صياغة قواعد ردة الفعل في ظل تطور إمكانيات الإفناء والتدمير والقتل لأنه دون تهذيب طريقة رد الفعل لمعظم الناس الفاعلين فالنتيجة الاضمحلال والفناء . لهذا فالإرادة عندما تشغل الأفكار والعقول فأن ذلك الاهتمام بالمستقبل وتوظيف الماضي بصورة عقلانية ذلك بالاستفادة من أسباب النجاح التي أحصى بعضها الاستاذ موسى على هذا النحو : التقدم في مناهج البحث وأدوات التحليل ـ توثيق التجارب ـ ودراستها واكتساب قناعات منها تفرض نفسها فرضاً .
يرى الاستاذ موسى في ورقته أن العالم وحدة واحده في تغير مترابط ولم يعد واقعاً في القرون الماضية فالأطراف القاطنة الأرض لابد أن تتفاهم حول مستقبلها ذلك وحده ما يضحض الوهم الذي يروجه دعاة الإرهاب الزاعمين أن حملات السيطرة المباشرة ستكرر عليهم أن يدركوا أن استنتاجهم عبارة عن خمول ذهني وسذاجة.
تحدثت ورقة الاستاذ موسى عن التحديات ومواجهتها بتدخل العقل لمعالجة الإرهاب : قطعاً ستكون هناك تحديات ستكون مختلفة عن المعهود تفرض مسئوليات مختلفة عن ما تعارفوا عليه تحتاج المواجهات الجريئة فهل الحياة شيء غير مواجهة التحديات هذا لا يعني هدم البناء لأن جزء منه مائل فإذا فعل الناس ذلك فإنهم يكونوا قد وقعوا في حبائل أدعياء استخدام إرادة القوى لتحديد ملامح المستقبل فلا خيار سوى تدخل العقل في كل المعادلات فهذا ما يستهدفه الإرهاب تعطيل العقل لأنه تدخل العقل انهزم الإرهاب فلا معنى للتبرير تأجيل التداول السلمي بأوهام الواحد ذو الرأس الحامل بادعاء أنه الخيار الأنسب المحتوم .
كما ناقشت ورقة الاستاذ موسى التطرف كمله واحده. المستقبل المرتقي بالإنسان لا يحتمل التطرف أي كان نوعه وموضوعه ومصدره. فلا يحتمل التطرف في استعمال السلطة وتوظيفها لمصالح عابثة . هذا يطابق التطرف في الدين أو في التعبير عن اليأس بحجة الرفض ، فالرفض ليس سنة الحياة بل هو ظاهرة مؤقتة يفعل فيها الوقت فعله . فالمستقبل ستجدده إرادة الممارسة العقلانية بتخطيطها الصبور وتمسكها بالرجاء فمناهضة الإرهاب تبدأ من مناهضة الرفض والتطرف هي تعني تهذيب النظر للأمور وإخضاعها للفعل والواقع . ومعالجتها بنظرة تجمع بين الموضوعية وهدف إعادة بناء الحياة.
تطرق الاستاذ موسى في ورقته إلى أن جذور الإرهاب تكمن في التقسيم إلى "نحن" و"الآخر" بمعنى رفض النظرة التي تحرك قضايا قديمة تهرب من إعمال العقل أو تناول قضايا جديدة بنظرة قاصه مأزومة فالجذر الرئيس للإرهاب هو العجز عن استخدام العقل والاعتماد على التلقين مما يعطي الإشارة للتطرف. كما أن ورقة الاستاذ موسى قررت أهمية تأسيس الوعي للمستقبل بنظرة موضوعية بعيداً عن التبرير والتطرف وتغيب العقل ولن يكون ذلك إلا بتجاوز سلوك الجمود واعتماد الإجابات السهلة التي تستدعي العنف هذا يعني إعمال العقل والاهتمام بالسلوك التجديدي ينظر للبشر أجمعين ككتلة واحدة لا تقبل التجزئة العدوانية والتوقف عن طرح الأسئلة المزايده والمزيفة .
****************************************
الفترة الزمنية التي قضاها ابو امنة في منزل الدكتور الطاهر عمقت علاقته بهاله كما افادتة في أن يتعلم كيف يصبح أقل اندهاشاً من اقتحامات هاله وهناء لحياته ومناقشة سلوكه وأفكاره معه . ففي الحفل الأسري الذي شهده منزل دكتور الطاهر كانت هاله تتابع ابو امنةحتى خلت به فبادرته:
من فضلك ابوامنة هل بإمكاني دعوتك للرقص ، فلدي بعض الأسئلة التي تدور في ذهني التي أود أن أناقشها معك .
وافق ابو امنة بعد أن أطلق تنهيده طويلة .
ابو امنة شاب اسمر فارع الطول وجهه نحيف لكنه مليء بالحيوية مما يعكس عمره اكبر مما هو عليه . عندما استقام ظهرت ساقاه من بنطاله الذي أرتفع ، فمشى نحو هاله بخطى رشيقة متزنة .
- يقولون أنك شهدت في "مسمار" معظم سنوات الحر وب في ارض المالح.
- كسبت منها الانطواء عن الناس ، لكنني لم أصل بعد إلى العزلة الكلية فمازلت أريد تحقيق الصمود والتماسك بدليل أني مازلت احتمل الجلوس في الحفلات أراقصك الان!.
- تقصد أنك لا تحب المشاركة في حفلنا هذا .
- عفواً الأمر ليس لهذا الحد كل ما في الأمر أني أبحث عن أفعال تلمس بصدق وجداني ............. .
- تعني أنك لا تحس بالفرح معنا!
- الشعور بالفرح لا يحتاج لحفل ليسكن في أعماقنا......
- واضح أنك كونت رأي سلبي عنا!
- شعوري تجاهكم أنكم عائلتي ولا أحمل أي موقف سلبي تجاه مطلق إنسان
- أتفاعل مع أي مكان توجدني فيه الظروف لأني لا أحفل كثيراً بموطن أصلي غير مستقبلي الشخصي الذي أنشده.
- أرى أنك إنسان غير عادي لك مشروع تعمل من اجله..........
- بالطبع لا انا اكثر من عادي ، نعم ليّ خطط مسبقة ونعم لدي مشروع محدد وأنا في المحصلة النهائية إنسان أكثر من عادي .
- هذا يعني أنك غير راضي عن وجودك معنا فواضح أنك تبني الفواصل بيننا.
- أبتسم ابو امنة ابتسامة غريبة وواصل الرقص مع هاله كأنه يعطي نفسه فرصة ليفكر فيما قالته او انه يتهرب من كلامها بالرقص ............
- لا أسعى للانفصال عن عالم الناس رغم أني لا أحب المجاملات ولا أتعامل مع النفاق الاجتماعي فما الذي دفعك لتكوين انطباعات عنيَّ بهذا التطرف.؟
- من ملاحظتي لك من أول يوم إلتقيتك فيه ..برغم ذلك فالانطباعات تبقى مادة قابلة للمناقشة فأنت تحاصر نفسك بالعزلة تبحر في عوالم بعيدة مما يعني أنك تفكر في عائلتك . هل حقاً مازلت تفكر بأفراد عائلتك.؟
- بإمكانهم تلبية حاجاتهم في فهم ناتج العنف والقسوة فالحريق أكل منهم كما أكل هضاب بحر المالح الغربية فسيكيفون أوضاعه كما فعلوا من قبل .......
- تعني أنه ليس لديك أي قلق تجاههم ، فقد ألمحك حاصراً نفسك بين الكتب والراديو و تظل دوما في شرود حتى أني اعتقدت أنك تعاني من هموم تركتها هناك في مسمار..........
- تركت أناس سلبهم العنف كل المستقبل وفصلهم عن هدوء الأجداد فشوه حاضرهم فالضياع هناك الواقع اليومي يكشر عن أنيابه ففقدوا ا الاغنام والابقار فأنا تعلمت من ايلا عثمان شقيقتي أن تستمر الحياة مهما حدث من الجراح العميقة التي تسمم اجسادنا ولم يعد لها علاج .
- هل أورثتك أحداث العنف في هضاب بحر المالح كل هذا القلق العنيف والكراهية.
- برغم كل الألم لم أتعلم الكراهية لأني لا أحسب أن المسألة محصورة في أحداث بعينها أنها مصائب كل "الجنوب" من الاقصى للاقصى.
- استنكرت هاله أن يرى أحوال "الجنوب" مصيبة أي كارثة فأوضح ابو امنة أنه لا يقصد جنوباً لقطر محدداً أنه يقصد كل "جنوب الدنيا" الواسعة وكل مكان يعيش فيه الإنسان في الأقطار مسلوب الإرادة ينتظر الإغاثة والمعونات فهل هناك كارثة أو مصيبة أكثر من هذه هكذا سأل ابو امنة هاله؟
- إذن أنك تتحدث عن "جنوب المتوسط" فنصف العالم يعيش على العطّايا والحسنات التي يجمعها "الشمال" بطريقته المعقدة وتنفق بطر فوضوية ولا تصل إلى ذوي الحاجات والذين جمعت من أجلهم صراحة تذهب للمنظمات والخدمات التي تقوم بها الهيئات الدولية من اجل ايصال المساعدات الكاذبة .
- عبرت هاله عن أن حسنات المحسنين لا تصل إلى مستحقيها فالناس تغيروا وأصبحوا سيئين فمردود العطايا والحسنات أقل من عمل التسول الذي جمعت به فلا تخفف قسوة الواقع القاسي بعد أن صارت الظروف سيئة في كل الجنوب فعدد الذين يأكلون قليل وكلهم يعملون ليألوا فقط الإعانات المالية تصل المناطق الأكثر التهاباً وهي لا تكاد تذكر .
- أتفق قمعك أن القضايا الكبيرة مهما كانت عامة إلا أن لها وقعاً خاصاً يكتوي به من يقف على جمرها ..أهذا ما يجعلك منعزلاً منصرفاً شارداً .؟
- هذا هو القدَّر ، أجاب ابوامنة بكثير من الصفاء والهدوء .
- أرجوك ياابو امنة لا تفكر في الموضوع بأكثر مما يستحق و لا تحمله أكثر مما يحتمل ..........
- عفواً هاله لا أملك من الأمر شيء! فالظروف هي أثرت طبيعتي .
- كيف ذلك .......؟
- كنت في "مسمار" أحلم بانتعال حذاء رياضي شاهدته في مباراة كرة قدم عرضها سواح جاءوا إلى مسمار بسينما متجولة عرضت كثير من أفلام مباراة كرة القدم وأخذت ألح على أمي لكي تشتري ليَّ واحد لم تشريه ليَّ وأُكرها برغبتي في الحذاء بعد أحداث هضاب البحر الغربية............
- ماذا حدث في مسمار بالضبط ؟
- في ذاك الصباح كانت الطيور تلهو وتغرد في هضاب المالح ، ووسط زقزقة القماري سمعت "بلومه" تهسهس لحناً جميلاً وهي مخبئة قلقة بين أوراق شجر كثيفة كنت اللعب تحتها ومعي الرفاق من الأطفال فقد كان الصمت مسيطراً وظهر بين الحشائش مجموعة شباب يلبسون قمصان عسكرية نظراتهم تظهر أنهم عاشوا حياة تقشف لزمن طويل ويبدو من هيئاتهم أنهم مجرد رعاة عسكروا قسرا فصاروا يحملون أسلحة نارية فصاروا شديدي البأس فزرعوا في مسما وكل تلك الانحاء الموت والخوف إلى عمق أعماق القلوب فتصدعت النفوس وتمزقت الأسر وحلت الايام السود وهرب السكان إلى الشتات اقصد للمجهول فتفجرت أنهار من الدماء والدموع فصار الموت صديقاً دائماً ثقيلاً لتلك البقاع التي كانت آمنة في يوم ما ذهب ولن يعود مطلقا.....
****************************************
في مناسبات مختلفة سمعت هاله من ابو امنة حكاية أحداث الموت المستمر في هضاب المالح الغربية بتقليص حاد لأنه كان مهتم بانتقاد مثقفي "القرن الافريقي" الذين مازالوا يعيشوا فيها والذين هجروها إلى الخارج فهو يراهم أنهم تجاهلوا ارضهم برغم إعترافه أن المعلومات عن المثقفين شحيحة إلا أن أراءه مالت إلى العمومية الناقدة فإهتم إلى حد كبير بتقديم صورة لا تتخطى موقفه الانفعالي فالحقيقة ان مثقفي هيا ومسمار كمجموعة ضعيفة ومشتتة الصفوف ، تتمسك لا بل تعلق أهمية كبرى ، بشكل خاص ، على مسألة إنتشار المبادئ الاجتماعية كما انشغلت بممارسة السحر والشعوذة فابو امنة يعتقد أن مثقفي القرن الافريقي ينظرون إلى أهلهم في هضاب المالح بأناس عاشوا خارج التاريخ بذلك ساعدوا في إستدامة الجهل فكان حريَّاً بهم أن يلعبوا دوراً في التعريف بالارض وما تأثرت به من أحداث وما تفرضه من حاجات الناس المستمرة برغم ذلك فقد اظهروا حماسه لم تترجم لإرادة منظمة وعمل فقد ظلت أماني حسنة وأفكار عامة فاهتمام المثقفين اتسم بالمحدودية وتوظيفهم أوقات فراغهم من هنا كان حنق ابو امنة الذي يراهم يدورون حول أوهام المثالية فالحقيقة أن مثقفي القرن الافريقي فعلوا كل ما هو مفيد فكل ما فعلوه لم يكن يفي مطلقاً بتطلعات ابو امنة فهو يعتقد أن أحداث العنف كانت تتطلب موقفاً موحداً محترفاً يخوض معركة البناء في كل أبعادها فلم يفعلوا ذلك فمن رأي امنة أنهم هربوا من معاركهم إستنشاق الهواء المنعش ملء رئاتهم، وقطبوا حواجبهم ، فقرروا بتلقائية بعرض الأحداث ونشرها وكشف المخفي منها وتوضيحها لكنهم لم يكونوا بحجم الحدث مسئولياته فقد تركوا الارض متألمة دون أن يصدر عنها صوت فاكتفوا بأن يكونوا لها صوت ولكنهم لم ينزلوا من علاهم إلى تلك "الرمضاء" الغبراء الخبيثة التي تركتها أحداث العنف الدامية . لم تتفق هاله مع ابو امنة حوّل إدانته للمثقفين كما لم تستسلم لإنتقاداته الانفعالية التي تحمل مثقفي القرن الافريقي مسئولية تدهور الأحوال برغم أن ابو امنة حاول أن يكون موضوعياً إلا أن هاله دحضت تصوراته فقد أشارت أن ما قاله تنقصه الوقائع ويميل إلى للتعميم والاستنتاجات المتسرعة وإطلاق الأحكام فقد رفضت بشدة فكرته أن الاستاذ موسى لم يتفاعل بإحداث الارض ولم يفعل شيء لضحاياها فقد أكدت هاله ان استاذ موسى هنا في دمشق يعرفه الناس بانتمائه للقرن الافريقي بسبب أحداث العنف وبشكل عام هزمت هاله افتراضات ابو امنة التي لا تعززها الوقائع وصرحت له أن ما يطرحه ثرثرة . حاول ابو امنة الدفاع عن أفكاره بالمناورة .
- يبدو أنني لم أعرض أفكاري بالطريقة المناسبة فانا لا أقصد تجريد مثقفي القرن الافريقي من إنجازاتهم ودورهم أو الأدعاء بأنهم يفتقرون للأعمال الرائدة فما أردت قوله في انتقاداتي لهم أني أعتقد بالذي قاموا به إبان الأحداث محدود وليس كافياً وكان يمكن أن يكون دورهم اكبر فحتى كتابات الاستاذ موسىعن أحداث العنف هناك كانت هاربة من الواقع وتتمسح بمفردات التاريخ والجغرافيا وتميل إلى الذكريات فكأنها إنطباعات شخصية لا علاقة لها بأحداث هضاب بحر المالح الغربية.
- برغم من أن ابوامنة وظف كل مهاراته في الشرح والإقناع إلا انه لم يصل لعقل هاله التي رأت في تبريراته إصرار على التطرف لذلك ردت عليه بحده لم تستخدمها معه من قبل أو من بعد ذلك :
- يكفي يا ابو امنة !!ـ كف عن التطرف !!فهناك مقاييس ومعايير للآراء غير أمزجتنا وأهوائنا ورغباتنا الجامحة ...!!.
- كانت هاله ترافق ابو امنة وتناقشه بصرامة عندما عبرت له عن إختلافها معه حوّل فهمه لمبدأ المسئولية الفردية تجاه المجتمع فهي تعتقد أن المسئولية الفردية تعني بالضرورة إلتزام أخلاقي تجاه تصور ما.. وتفكير ما ...فالمبادئ تراها هاله إذا لم تكن منطقية موضوعية فإنها تعنيم مشروع حروب وإكراه لغير الذين يتصالحون معها .........
- بيد أن هاله في مناقشاتها لابو امنة كانت متأثرة إلى حد بعيد بحالتها النفسية فعندما التقت هالهابو امنة في الحديقة العامة كان ذلك صدفه فقد كانت تشعر بالوحدة والأسى جراء ضغط العمل والدراسة وردود فعل من حولها حتى أنها توصلت إلى فكرة حادة أن الجميع في الدنيا الجديدة ينظر إلى النساء القادمات من الجنوب أنهن أضعف وأنهن بحاجة دائمة إلى الحماية لهذا كانت مهيأة ذهنياً وشعورياً للاختلاف واثبات وجهة نظرها حتى أنها عبرت عن أفكار صارمة هكذا :
- أنك لا تحترم ما أقول لأنك رجل ـ فأنتم الرجال إخترعتم الأفكار والحديث وما أنا إلا مجرد امرأة وأنك رجل عليَّ ان أخضع لأفكارك دون فحص فماذا تعني. أن هذا السؤال لا يخصني وانيّ إستخدم منهج غيري في تناول قضايا القرن الافريقي؟ هل تعني أن الرجل هو صانع المواقف والأفكار والمرأة تكرر ما يقوله الرجل؟
- حاول ابو امنة التراجع عن المفردات التي استخدمها أنه حاول الاعتذار عنها:
أرجوك هاله أن تفهمي وجهة نظري كما هي دون تأويل أو استشفاف معاني خفية ـ فالواضح أن هناك خطأ في عرضي لفكرتي جعلتك تفهمي ما أقول على غير ما أريد فلكي لا يحدث لبس فأنا انطلق في نظرتي لكل شيء من خلال منظار الإنسانية لا انظر للآراء من خلال هواجس النوع وليس أفكار معادية للمرأة فعندما أناقش معك قضايا مسمار فذلك لإعتقادي الراسخ أننا شركاء في أعمال الكون ويهمنا تحقق مطالب مطلق إنسان، وإشباع حاجياته الأولية وفي مقدمتها إعمال العقل . أرى أن الحق فيما توصلت إليه فهناك المثرثرين الذين مازالوا بلغوهم يحطمون التراص الموضوعي خلف القضايا بإثارتهم للموضوعات الهامشية الهلامية الواهمة .
- لم ينتهي الجدل بين هاله ابو امنة باعتذار الأخير فقد أخذ النقاش وقتاً اكبر من الافتراضي وتناول كل الأبعاد الدفء ـ البرود ـ النفور ـ الاتفاق ـ الاختلاف ـ الأفكار ـ المشاعر ـ الانسجام والتباعد حتى أدركت هاله فلسفة ابوامنة التي تنظم تفكيره فقد أعجبت هاله بطريقته فأصبح ذلك اللقاء العابر العاصف حجر الزاوية الذي شيدا عليه انسجامهما فانزرعت جذور الصداقة . فتلك المصادفة كانت المحطة التي تحركت منها أحلام كثيرة إشتركا فيها فأصبحا يعملان معاً ويجمعان بين أهدافهما حتى يراهما من لا يعرفهما شخص واحد فقد ربطت بينهما رابطة التفكير الواحد الذي وجد في الصراحة لبنه قاعدته الأولى ربما ساعدت المناقشة تلك لدفعه لخطوات أوسع لا يمكن بيسر تتبع أثارها.
****************************************
الرؤيا
كعادته إستقبل الاستاذ موسى يومه بمتابعة مستجدات الأخبار بهديرها المثقل بالأحداث المتكررة كالمجاعات والحروب والزلازل وأنماط العنف التي تزكم الأنوف فمتابعة الأخبار تجعل الاستاذ يعيد ترتيب أولوياته دون إسغراغ في التفاصيل تسمر موسى أمام الخبر الذي أورده موقع "ساوث اون لاين" فمحتوى الخبر ينذر باتساع دائرة الجفاف والمجاعة لتشمل معظم جنوب المتوسط وتحديدا القرن الافريقي فقد ربط ذلك الإنذار بالتغيرات المناخية الناجمة عن الإحتباس الحراري وإتساع ثقب الأوزون فملخص الخبر أن ملايين الناس حياتهم مهدده بالهلاك جراء تلك التحولات الكونية العاصفة . شعوب وفئات بأكملها مهدده بالفناء فقد كانت حتى الأمس القريب وادعة هادئة لا تعرف القلق والاكتئاب . الخبر كان صادماً قاسيا موّتراً بالنسبة للاستاذ لذلك اعتبره رسالة موجهه له شخصياً ليحدث تغيراً جوهرياً في حياته يتناسب مع حجم التحدي ، لذلك دخل إلى غرفة الطعام بقرار محدد أراد أن يشارك به سارا وابوامة فقراره يحمل بين طياته تصور محدد يفرض إستبدال الأوليات لأسرته فتسرع معه في تنفيذ خطة عمل مستوحاة من الواجبات التي يفرضها الخبر لاسيما تلك الواجبات العاجلة . الحقيقة أن موسى قد أتخذ قرار ما ربما يعود هو وأسرته إلى ساحل بحر المالح الغربي للمساهمة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه .
جلس الاستاذ موسى على مائدة الإفطار برؤية تتضمن مناقشة الخبر وما يفرضه من تبدل في أولويات أسرته ، كانت سارا تجلس في يمينه وفي اليسار ابو امنة وفي وسط المائدة إبريق الشاي وأصناف الطعام لم يكن الاستاذ واثقاً من إستجابة آسرته مع تصوره للواجبات برغم ذلك طرد موسى عن ذهنه الهواجس والظنون والقلق لأنه قرر أن يحدث عصفاً ذهنياً كبديل للتدرج في عرض الفكرة وإتخاذ القرار فالعصف الذهني في تقديره يحقق نتيجة اتخاذ القرار الجماعي يعرض كل وجهات النظر .
كانت ساراا تعلم بخبر الجفاف والمجاعات التي ستضرب القرن الافريقي لهذا كانت البادئة بتناول القضية كمحاولة للمشاركة الذهنية وتحقيق مستوى الانسجام في الإفطار اعتادت أن تفعله .المهم تناول منها موسى الموضوع ليؤكد أن الخبر ليس خبراً عرضياً أنها حياة ملايين الناس سوف يعيشون في ظروف إستثنائية فإذا لم تكن التدابير حاسمة فإنهم لن يكونوا في عداد الحياة فأوضح موسى الواجبات التي تفرضها هذه الظروف الاستثنائية لا تتعلق بإمكانيات الحكومات والمنظمات أنها تحتاج جهد اكبر من ذلك يصل إلى تكثيف معظم الطاقات هذا يعني التدخل الفوري من كل إنسان قادر على الفعل بتقديم كل أنماط المساعدات وليس المساعدات المالية وحسب فسوف تكون هناك حوجه متعاظمة للإيواء وتحقيق الاستقرار لأناس خارجين لتوهم من يد الكارثة كل ذلك وغيره يفرض أهمية إبراز التضامن الإنساني وأن البشر أسرة واحدة في السراء والضراء .
ركزت سارا في مناقشاتها على إبراز وجهة النظر المتخصصة باعتبارها خبيرة اقتصادية فأشارت إلى عدم جدوى الهجرة الجماعية لموقع الأحداث فضربت مثلاً إذا أراد الطبيب معالجة مريض فليس ضرورياً أن يرقد معه في ذات السرير كي يساعده في العلاج فترى سارا أنه ليس ضرورياً العودة إلا في أطار خطة متكاملة . كما أن إرسال معونات ومساعدات لن يجدي مع واقع فوضوي إستبدادي يعمق من تعطيل العقول في غياب القواعد والمعايير التي تجعل الصفات الحمية تتحول بسرعة هائلة نحو الأسوأ فتصبح الحماسة والمبادءة والمبادرة خبثاً والفصاحة وخطابة قضايا المنكوبين ثرثرة وكلاماً محنطاً . والارتياب الخفيف نفاقاً واحتيالاً وعبثاً وحب الخير دعوة للكسب ـ حسن المعاشرة والرغبة في الاختلاط جبن وضعف وتراجع فإذا وضعنا في الاعتبار إنتشار التعفن فعندما لا يملك السياسي الثروة شخصية ولا أية مصادر مالية أخرى كافية فإنه يتمسك بقوة وصلابة بالذي بين يديه لأسباب اقتصادية بحته فينهي مال المساعدات والإعانات والإغاثات على شيء من أشياءهم ، أو ملكاً من ممتلكاتهم فالحقيقة أن جنوب المتوسط لا يضربه الجفاف والمجاعة وحدهما فقبل ذلك الفساد فقدرت الاستاذة سارا أن إرسال المساعدات إذا لم يتم في إطار تخطيط متكامل ينطلق من جوهر المشكلة مع أهمية مضاعفة الجهود لفحص الواقع وضمان سلامة قنوات وصول المساعدات هذا يعني الاعتناء بجمع المساعدات ومتابعتها حتى تصل لمن هو في حوجه لها حتى لا تضل طريقها في الدهاليز التي تسكنها القطط السمان .
وافق ابوامنة سارا أنه لا ضرورة للعودة الفورية لموقع الأحداث لكنه أكد على وجود فريق عمل متكامل بالمعلومات والدراسات وقنوات توصيل المساعدات حتى المحتاجين بأقصر السبل هذا يعني ضرورة تكثيف الاتصال بالانقياء الذين هم في موقع الأحداث والذين هم هنا في الأرض الجديدة . بعد نقاشات جدية توصل موسى وسارا وابوامنة إلى خطة عمل بسيطة للتعاطي مع أحداث الجفاف بإطلاق صرخة استغاثة مهمتها تسليط الضوء وجمع المعونات وتوصيلها لذوي الحاجات العاجلة من خلال مهتمين :
الاتصال بالذين هم تحت ثقل الكارثة وتصنيف إحتياجاتهم وكيفية التعاطي معها
تشكيل موقف رأي إنساني عام يبدأ بحزب أفضل عقول أبناء الجنوب والقرن الافريقي وإقناعهم ينضمون للصرخة الإنسانية وإزالة كل العقبات التي تعترض قنوات توصيل المساعدات ومن ثم يبدأ العمل ؟ وكيف يبدأ متى يبدأ؟ فأستقر رأيهم أن يبدوا من الحلقة الضيقة في دمشق وتوجيه منتدى الاستاذ المنزلي كي يكون قاعدة إنطلاق ثم يتسع الأمر من خلال دائرة عمل سارا وموسى في الجامعة .
لم يهدر موسى وقته فقد اتصل بزملائه أساتذة لجامعة ودعاهم لاجتماع عاجل في منزله لمناقشة كيفية التعاطي مع مخاطر الجفاف التي تحدق بجنوب المتوسط ومسقط راسه تحديد في مسمار.
تحمس أبناء الجنوب من البجا والامهرا والتقراي والعفر والعيسى لدعوة الاستاذ موسى فابدوا استعداد للتعاطي مع قضية الجفاف فثارت النقاشات، وقدمت الآراء، وخطط العمل القصيرة والطويلة، فعقدوا اجتماعا عاماً أنقسم فيه الآراء فظهر البون شاسعاً بين أراء الأبناء والآباء فتحمس الأبناء للتحول الجذري العميق مفضلين المواجهة المتكاملة حتى وأن أفضت إلى قطيعة مع القيم القديمة والسلطات . أما الآباء فقد إتجهت أفكارهم لإعادة بناء الهياكل وضبط الإمكانات والتصالح مع القديم الكائن وإستلهام التراث بالاصلاح والارتقاء والتطوير . هذا التباين أفضى لإنقسام الاجتماع إلى جماعتين الشباب يساندهم الشباب المتحرر الليبرالي اصاحب مشروع التغيير والآباء يدعمهم المحافظون من الأستاذة والكتاب الذين ينشدون الاصلاح واعادة البناء .. لم تقف الأمور عند حد الانشطار والانقسام بل تعداه إلى حملات إعلامية ودعائية تجاوزت قضية التصدي لخطر الجفاف والمجاعة فتدخلت دوائر البحث العلمي والمراكز المالية تدعم من تشاء بما تشاء فكان من الطبيعي أن ينتج من كل هذا الحراك العميق بعض الاحتكاك وإبراز جدوى الأفضلية فاتجهت كل فئة إلى تعميق مسارها بالأنشطة العلنية والسرية فكانت المناظرات ففي أحداها تحدثت الاستاذة سارا منطلقة من رؤية الآباء منتقدة أفكار الأبناء ودعوتهم للثورة والتغيير( قبل كل شيء لابد من تعرية الأفكار المغامرة الطفولية باعتبارها موقف يساري انفعالي يتجه لتزييف الحقائق والاستهانة بالوقائع فلا يمكن تجاهل التراث فلا يمكن إقامة نظام جديد على قوائم العلم المحض والفصل التام للواقع لا في الماضي ولا في الحاضر ولا حتى في المستقبل القريب فذاكرة الإنسان أحد المكونات لبناء الحياة والنهوض بها ففكرة تجاهل التراث والواقع الاجتماعي السياسي القائم هي في حد ذاتها مشكلة ستزيد الحرائق اشتعالاً وتدفع لمزيد من التآكل وسيادة لغة العنف ودون شك ستسمح للأوهام والأساطير بالانتعاش فالمحظور مرغوب فهذا يعمق الجمود، هذا يعكس ان التجديد عملية واهمة زائفة فأنه لا يقوم على الموائمة بين ما هو كائن والعلم لإحداث الترقي المتدرج ) كما تحدث ابوامنة في إحدى المرات عارضاً أفكارهم هكذا ..( التحية لكل الذين إنفعلوا بقضايا الجنوب ومناطق ساحل بحر المالح النائية وكبدوا أنفسهم المشاق ليعرفوا أحوال بقاع تسيطرة عليها الدكتاتوريات والحروب والجفاف والتخلف والدَّجل وتُجارب العلم والعلماء فالإنسان هنا في حاج للتحرر من سلطة الطبيعة فضروريات الحياة هناك تغلق أبواب العلم والمعرفة لهذا نرى إغلاق كل أبواب الأوهام والخرافات الاعتماد على العلم في ألبناء والتغيير والتجديد بذلك نتجاوز المتاريس الوهمية التي تدعي الاصلاح والتقويم وقد حالت الافكار بين أولئك المنهكين وبين الوثوب نحو الحاضر وقطعاً هي ذاتها كافكار انانية ستفصلنا عن المستقبل فالقضية قضية تغيير جذري وليست اصلاح او تحديد ترقيعي لتطبيقات شائهة فالمطلوب إجابات جديدة وسلوكيات جديدة ناجعة حاسمة وليس مسكنات تعيد انتاج الازمة ونظل في "محلك سر ")
لم تتأثر علاقة موسى وابوامنة بتدافع الآراء وتباينها الحاد الذي مازال يدور بين الآباء والأبناء برغم التصلب في المواقف هنا وهناك ففي إحدى جلساتهما المسائية دار هذا الحوار الذي أبتدره موسى:
- إلى أين يقود تجاهل الواقع لدى جماعة التغيير فحتماً سيدفعنا جميعا للهاوية فالواقع حقيقي لا يمكن إلغاءه أو تجاوزه بالهتافات إلا سوف يقود الى الاستبداد الكريه والتسلط الممقوت.
- قد يسود التسلط لان التغيير قد ياتي فجائيا صادما كفترة إنتقالية لمعالجة بعض الظواهر السالبة وتهيئة الأوضاع للتغير الديناميكي والتطور الموضوعي المتدرج ." لابد من فترة المستبد العادل" و بعدها يتحقق التصالح مع الفكر والمعرفة والعلم والديمقراطية وحقوق الانسان.
- من يضمن الفترة الانتقالية لا تصبح الأصل والمرجع ويسود التسلط وتسود الكتاتورية ويصبح تكميم الافواه قاعده والتزام وتهدر الحريات ويفرط في الكرامة وبسم العدل يسود الظلم والقهر والمحسوبية وينهار النظام وتزداد الدولة عجز على عجزها وقصورها .
- لالا نحن نحترم الحريات وسوف نضمن حرية التعبير لكن قبل ذلك الكفاية المادية والاستقرار الاقتصادي بعدها كل يمكن ادراكه بالحوار والتصالح والتعايش والتكيف........ .
- ياابو امنة عليك أن تعرف أن الوصفات السحرية المتدثرة باسم العلمية التي تأسس الاستبداد الظلم انكشفت واصبحت مفضوحة ولاتتناسب مع هذه اللحظة من التاريخ فأرجو أن تعدلوا من إتجاهكم الايدلوجي المتطرف الواهم الذي هو مسؤل عن هذا الفشل والانهيار ترجعوا قبل فوات الأوان .
رغم تباين الرؤى لصرخة إستغاثة الجنوب ودعم القرن الافريقي إلا أنها أوجدت لها موقع في ذهنية الرأي العام فتكونت صناديق الدعم والمعونات والمشاريع والشركاء والداعمين والمساندين.
ففي تلك الظروف المتباينة تزوج ابوامنة الدكتورة باربرا وقررا العودة الفورية لأرض ساحل غرب بحر المالح من اجل تنسم هواء الجنوب فتعبق منزل استاذ موسى بعبق الأغاني ورائحة جبيت وهيا مسمار وأصبحت تفاصيل الحياة في منزله يعبر عنها هذا المقطع :
الفرح رائحة الحليب تسامحاً
والثيران البدوية تعانق طمي النيل تواصل
ما أروع الارض البقرة الحلوب
ما أجمل القطيع العابر صفحة النهر الصافية .
عادت العصافير المهاجرة تطارد الفراشات في مسمار
الأرض وملوءه المسكونة والساكنون
يعانقون البحر بالأغاني والأماني والتهاني
ما أروع أيادي الأطفال الغضة حين تعانق الجبال
من مدينة "الاسكندر" إلى "سنكات"
فغناء أبناء "أسيوط" و" المنيا"يلمس الشمس في كبدها
فتشرق فرحاً كونياً في " قاهرة المعز"
وجد موسى وسارّا نفسيهما جزء من مجموعة عرقية فهما لم يكونا جزء من أقلية في وطنهم القديم فقد اعتبروهم من الملونين ، لم يهدم ذلك التصنيف الذي لسع تطلعاتهما التي فرضت عليهما الهجرة لما وراء البحار للعلم وبحثاً عن أحوال معيشية أفضل فتصالحا يرغمهما مع ظروف مركبة وعوامل متناقضة شكلت هويتهما الجديدة التي اتاحت لهم العمل في جامعة دمشق وصاغت تصوراتهما عن المستقبل فقد كانا يتكلمان في منزلهما بلغة خاصة البداويت التي تختلف عن لغة العمل ولغة الناس في الطرقات والمقاهي فصارا يتصرفان في حدودهما حسب قواعدهما المورثوه التي تتصل بجذرهما الثقافي الذي تركاه وراءهما، فالحقيقة التي تشهد بها حياتهما أنهما نقلا عن وطنهما كل شيء ولم يسمحا لقيم الوطن الجديد تاخذ منهما ملامحهما وأن تتسرب إليهما في ارواحهما برغم وعيهم بضرورة المواكبة والتكيف فهما لم يعودا هما كما كانا في مسمار فقد تبدلت شروط حياتهما ومشاعرهما ومعلوماتهما حتى تضامنهما مع الآخرين الذي كان قائم على عوامل أسرية ومنطقية أصبح محدداً بشروط بالفكر والوعي وصلاح القضية.
عندما حضرا سارا وموسى إلى الشرق الاوسط اعتبرهما موظفي الهجرة من العرق الأبيض أستمر ذلك على الأقل في السنوات الثلاثة الأولى أو نحوها ثم قرر موظفي الهجرة دون مقدمات إعتبارهما من الملونين. أعتقدا أن ذلك تشكيك في هويتهما فكان رد فعلهما نفي ما اعتبروه تهماً جارحة غير صحيحة تحط من مكانتهما وتخصم من أوضاعهما، فجادلا وقدما الاسترحامات والاحتجاجات والالتماسات إلى أعلى السلطات واعتمدا على الوثائق والفحوصات الجينية التي تؤكد أنهما من البيض أو في تساوي معهم في الانتماء إلى ادم ولم يستسلما لذلك الإيذاء ذلك لشعورهما العميق بعزَّة النفس فعمدوا لمقاومة تلك الاتهامات المربكة التي وصمتهم بأنهم أقل شأناً وأنهم بشر من طبقه أقل مرتبة هذه الممانعة في التكيف مع الوضع الراهن جعلتهما يعيشان بثقافتين ثقافة خاصة في المنزل وثقافة رسمية في كل تفاصيل الحياة الأخرى . هذا ما جعلهما يتمسكان بخيط رفيع واهي أنهما ينتميان إلى موطن التفوق الروحي والكمال الوجداني وان الأوضاع المعيشية دفعتهما دفعاً لما وراء البحار حيث الحياة الصناعية الآلية وللحقيقة أن ابوامنة لم يكن يشارك سارا و موسى هذا الشعور ولا يتفق معهما في أسطورة التفوق الروحي فكان يجهد نفسه للتكيف مع وضعه كملون معني بإثبات ذاته ففي أحيان كثيرة صرح لموسى وسارا بعدم اتساقه مع الغموض وتعدد الشخصية والانزواء عن ردود الفعل العامة تجاه نمو حياتهما الداخلي الذي يجعلهما محل سخرية الآخرين وازدراءهم وعنفهم هذا لا يعني أن ابوامنة كان يفتقر لميزة الافتخار العلني بتراثه وثقافته فلم يقع ولا مره في خطيئة الاستسلام للتحيز وتشويه سمعة عرقه وتراثه وخلفيته الثقافية بقية إستدرار العطف والعكس من ذلك فهو متحرر جزئياً من الشعور بالإذلال والخذلان بفضل توثيق علاقته ببابرا فكم مرة وجد نفسه مناهضاً لمسلك أبناء جلدته الذي يضعهم في قوالب سلبية ساخرة فكان لا يملك شعوراً رافضاً للاندماج في حياته الجديدة التي اختارها بنفسه والانصهار فيها لحد الذوبان.
إعتقدت سارةامحاولة ابوامنة الاندماج الكلي في الدنيا الجديدة نوع من المكابرة لهذا قدرت أن إرتباطه بباربرا سوف يقوده إلى الإحباط لأن ذلك الإرتباط الشاذ في تصور سارّا لن يكون خارج الصورة النمطية المشوه السلبية التي تتخطى حواجز الثقافات فخبرتها أن المهاجرين إلى الشرق الاوسط و الى ما وراء البحار من الأصقاع النائية لن يسلموا من وطأة النظرة العرقية الموجه ضدهم باعتبارهم عدو أجنبي بربري متوحش فسارّا لم تكوّن نظرتها من فراغ فبحكم أنها أستاذة جامعية تعرف أن النظرة السلبية للملونين رسمت نفسها من جملة وقائع منها سوء معاملة الملونين لنسائهم وتشددهم تجاه أطفالهم وإنحصارهم في الذكريات وروحهم العدائية المفرطة وغير ذلك من التقديرات المزعومة فالحقيقة أن تحفظها على علاقة ابوامنة وباربرا فيه خشية حقيقية أن لا تحتمل باربرا أن تكون موضوع إزدراء وتميز وعداء بسبب قبولها الإرتباط بملون منبوذ كابوامنة كما أن سارة تأخذ في حسبانها تجربتها الشخصية فقد وجدت نفسها في إحتكاكات غير ضرورية ومشكلات عاصفة بسبب إحتفاظها بشخصيتها قبل الهجرة فالوقائع تؤكد خطأ مزاعمها التي تأثرت إلى حد كبير بوضعيتها كممانعة عنيدة للاندماج الكلي في الدنيا الجديدة فقد كانت غير مستعدة ذهنياً ونفسياً لاستحسان أو تبني بعض القيم الثقافية الجديدة التي تنتقل للتواصل بالتعبير العلني عن المحبة والتفاعل الحر في العلاقات فلم تتورع يوماً في التعبير عن قناعتها بأنه لا توجد ضرورة موضوعية للاندماج والتكيف في مجتمع غير مستعد لاحترامها فقد كانت تحسب ذلك نوع من النفاق التنازل غير المبرر فقد عبرت عن أفكارها تلك بجدية ووضوح في المنابر الجامعية والمنتديات التي يقيمها الأساتذة فقد أكدت أن مشكلة العنف المنزلي حاله إنسانية فوق الثقافات والعقائد تتعلق بوعي الفرد وأنها لا تميل مطلقاً للمزاعم الرائجة عن أن سوء معاملة المرأة والأطفال مرحلة من ثقافات معينة تتصل بالتخلف في افريقيا وأن هذه الفرضية غير دقيقة وخيالية وتفتر إلى الجذر الأخلاقي الموضوعي باعتبار أن العنف الموجه ضد المرأة يرتكز إلى فكرة أن شرف العائلة هو المرأة وأن حمايتها تقتضي قهرها وإذلالها مما ينجم عنه تصرف المرأة المنحط والملتصق بالحشمة في لجنس والحب لا علاقة له أن تكون المرأة مصدر فخر أو عار للعائلة بقدر ما يعني عدم تفهم للتراث المختلف من قبل قوى غير متحاورة وغير متعاونة والأمر يعتمد على الوعي لا على الجغرافيا او الاحكام الجاهزة .
****************************************
لطبيعة الهواجس التي تدور في ذهن سارّا كانت تعتقد أن إحتمال نجاح إرتباط ابوامنة وباربرا ضئيل لا لأن باربرا امرأة بيضاء ملتزمة بتراثها الثقافي بل لأن باربرا ستجد نفسها في أوضاع غير مريحة لها إنسانياً حين ترافق زوج ملون يعاني من أحساس عميق بالتهميش ويحاول عبثاً التصرف بأسلوب مختلف عن حقيقة إعتقاداته العقلية والثقافية فهي تعتقد أن ابو امنة لن يُحدث لها تحول في أعماقها مهما حاول التكيف والاندماج في دنيا باربرا بل أن المحكات اليومية سوف تجعله مضطراً للعمل على تأكيد ذاته الثقافية ومزاجه العرقي مما يجعل علاقته بها مغامرة كبيرة غير محسوبة العواقب أو حالة إنتهازية وصولية لتحقيق غايات خاصة لا تخدم فكرة بناء أسرة كل ذلك وغيره من تقديرات ستدخل ابوامنة في مشكلات متوالدة لا حدود لها وتعمق الضغوط عليها تجعلها في حالة غير متوازنة يسيطر عليها التوتر المربك ويدمر سلامها الشخصي ففي إعتقاد سارة أن ابوامنة واقع تحت تأثير حالة عاطفية مؤقتة سرعان ما تزول حين يصطدم بالواقع الصخري في تغييرات قدرات استيعاب المجتمع المضيف المعول ان يقسوا عليهما تؤمن سارا أن أي نجاح لهذه العلاقة يتصل بهذا القدر أو ذاك بمقدرة باربرا في استيعاب ابوامنة ومساعدتها الواعية في عملية دمجه تماماً وانصهاره في واقع الدنيا الجديدة باعتبار التكيف هو الموقف الأسهل والممكن الأقل عناء أما الانصهار والاندماج فيحتاج إلى قناعات مشتركة أما إذا لم يكن لبارابرا دور فأن عملية الدمج القسري سينتج عنها ضغط ذهني ونفسي على ابوامنة يجعله يتصرف دون وعي أو بوعي ضد الاندماج مما يوجد له واقع متأزم يدفعه حتماً للتوتر والارتباك وقطعاً سيعرض العلاقة الوليدة لحظر الانهيار .
وجدت سارا نفسها تنفذ في خطة محكمة للالتصاق ببارابرا بقية الولوج لأعماقها لمعرفة إعتقاداتها الفكرية وتصوراتها عن المستقبل وفي لحظة انسجام خاصة صارحتها عن خشيتها على ابوامنة في حالة ارتباطه بها لأن سارا تعتقد أن أي ارتباط بين شخصين يحتاج إلى قدر على من الوعي والوضوح وإدراك التباين الطبيعي والمكتسب من أثر الثقافات وفي حالة تجاهل ذلك تعتقدأن أي ارتباط من هذا النوع سيقود في نهاية الأمر إلى بناء حياة زوجية متوترة فاشلة مأزومة تهدم استقرار كل منهما .. كانت باربرا واثقة من نفسها ورفضت من حيث المبدأ احتمال أن يكون مستقبل علاقتها بابوامنة عالق في التوتر ويدفعهما للتأزم والفشل لأنها تؤمن أنهما أنشأ علاقتهما المعرفة والتفكير وأن المعرفة البشرية إبنة التفكير المنظم وأن علاقتهما به لا تنفصل عن مسيرة الأرتقاء الإنساني ومستوعبة لكل تبايناتهما وتناقضات في حاضريهما وماضيهما فلا ترى باربرا أن حركة ارتقاء أي علاقة إنسانية يسير في خط مستقيم مطرداً إلى قمة محددة مرسومة مسبقاً فمسار العلاقات في تصور باربرا المسار متعرج فيه انحدارات ومنعطفات هنا وهناك تظهر كنقاط كاريثية يعالجها مستوى التواصل الوجداني الذي ليس له مقاييس أو معايير معينة.
ذُهلت سارا من وضوح رؤى باربرا فأدركت أن ابوامنة إرتبط بشخصية تتسم بقدر عالي من الاستقلال الفكري كما أدركت أن باربرا تحمل ثقافة خاصة تؤمن بوحدة النوع البشري وأن أعمار كوكب الأرض يرجع في وجهة نظرها إلى جماعة من العقلاء واجهت توحش وبربرية الإنسان عبر الحقب بإيقاظ سلطة العقل مقاومة العاطفية الأغلبية التي لا تسعها طاعة العقل والامتثال لأوامره ونواهيه فكان هولاء العقلاء يشعرون في كل الأزمنة أنهم محاطين بالجنون والارتباك لهذا عمدوا منذ البدء لتحصين أنفسهم من عدوي فيروس العاطفية الجنوني المتنامي إنتشاره ذلك بترويض أذهانهم وتهذيب أفكارهم وتحسين مشاعرهم الوجدانية لم يحبط هولاء العقلاء من أنهم بلغوا مرتبة من التماسك العقل مضطرين للتعامل مع عقول لم تتيح لها فرص النمو ففي تقدير باربرا أن هذا الاحتكاك بين القوى العاطفية والعقلانية هو الذي أنجب الترقي والتطور الذي غير حياة البشر وأثبت أن لا فرق بين البشر مهما تباينوا فمن اعتقادات باربرا التي توصلت لها سارّا بعد طول مثاقفة وإلتصاق شبه تام والتي جعلتها تحترم استقلالها الثقافي وإعتقادها أن إرتقاء وتطور البشرية يرجع في الأصل لحكماء انقياء علموا الناس كيف يفكروا بحرية دون قيود باعتبار أن التفكير جوهر التطور لأنه يقوم بهذا القدر أو ذاك على التربية التي قطعاً تدوم ما دامت الحياة . لأنه لا حياة دون أن يستمتع الإنسان بأعلى طاقة قواه الذهنية ويعمد إلى تهذيبها تهذيباً نهائياً فتلك الجماعة النواة إهتمت بتهذيب الذهن لهذا إخترعت الموازنة الأولى -إما كذا وإما كذا- التي تعتبر بداية الانطلاق في أفاق الحرية الذهنية تعتقد باربرا هنا أن الوعي الإنساني بدأ يعرف السلام والاستقرار بعد أن تزاوجت حكمة الحكماء والأنظمة التي ابتدعها العقل فهذا التزاوج هو سر تطور وارتقاء الإنسان لأنه ابرز الدقة والحريات الفردية كقيم إنسانية راسخة في بناء قواعد العيش المشترك .
****************************************
تلقت سارا تعليمها العالي في "دايتون" و"سنسناتي" و"اوتاوا" قبل إستقرارها هي وزوجها موسى في دمشق فقد تعرفت هناك على تجارب لزيجات متعددة الثقافات حدث ذلك عندما أقاما علاقة صداقة مع أسرة في "دايتون" عندما كانا يديران مطعماً عملا فيه مع تلك الأسرة التي إنهارت بسبب تباين الخلفيات الثقافية مما عرض المطعم لاحتمال الانهيار بسبب ذلك واجه موسى صعوبة في الدراسة أثناء العمل . فطول ثلاثة أعوام عمل ثماني عشرة ساعة كل يوم كمدير مطعم كان يطبخ الفلفل ويقطع اللحوم وينظف ويلمع ألآت الطبخ كان يعود متوتراً حتى كادت حياتهما الأسرية تتأثر بذلك الوضع الشاذ الطارئ . شجعه صديق آخر على مشاركته في المطعم فحصلا على قرض من البنك لكن الشركة الجديدة تعرضت للانهيار بعد أن أنشأ الصديق الجديد علاقة مع فتاة بيضاء كل ذلك أثرت في وجهة نظر سارا في الفتيات البيضاوات بل جعلها تشك في أي علاقة تقوم على تجاوز التباين الثقافي فقد كانت تلك الفتاة في العشرين ، عاملها الرجل كأخت ثم غيرت رأيها وأصبحت ميالة له عاطفياً أحبها غير أن فارق السن كان كبيراً علاوة على تباين التقاليد تسبب في انهيار العلاقة وإفلاس المطعم وبعد تسديد قرض البنك أضطر موسى وسارا للمغادرة إلى الشرق الاوسط الى دمشق ـ فقد تشاجرا عند الإفطار سألته : لماذا قال........... لأنه لم يكن يريد تناول لحم الخنزير . تصاعد الشجار لأنها لمست نقطة قلق عقائدي عندها . طلقته في المحكمة لاختلاف العقائد.دفعت أم الفتاة نفقات الطلاق لأنها لم تكن تستطيع أن تحتمل أن تعيش ابنتها مع رجل ملون جاء من الكاريبي.
****************************************
شاركت سارّا باربرا باعتقاداتها وخبرتها حول الزيجات التي تتخطى الثقافات كان لباربرا أفكار عميقة تجاوزت التناول السطحي ففهمت سارا أنها ترى أن البراعة والبناء القويم كلها ثمار حية لإزالة غبار العقل وإحترام قدرات الذهن بإعتبار أنها تؤمن أن حكاية الحياة حكاية تفكير وتعلم تتم في إطار تجديد النظرات مما يعني ضرورة تناول الأحداث على أنها أحداث عقلية يتضح مغزاها الكلي في مقاومة التطرف العاطفي فالحياة عند باربرا سجل لحرب فكرية غرضها السيطرة على الأذهان عندما أفل نجم الحكمة وهذا ما فك تزاوج الحكمة والقوى حيث ازدهرت مذاهب التطرف العاطفي التي تحمل في طياتها إغراء لا حدود له لذوي الأذهان الساذجة فتستسلم للخضوع لأنها غير متبصرة تحمل خليط من الرؤى المتناقضة بعضها صحيح وبعضها مخطئ ولا تقف عند هذا الحد فتؤثر في النفوس بما فيها من جرأة تزعمها من قدرتها الظاهرية على تفسير المشكلات تفسيراً عقلياً ناجزاً فلا مناص إن كان للبشر مستقبل فأنه رهين بعودة تزاوج الحكمة والقوى فحتماً ستتبدل الأحداث وتلبس لباس التوافق وتنعم الارض بالسلام والاستقرار.
رغم أعجاب سارا بأفكار باربرا إلا أنها لم تتخلص من انطباعاتها السالبة عن الزيجات المختلطة التي تتخطى الثقافات فسارا تعتقد أنها تنجب أشخاص غير أسوياء يميلون إلى التطرف العاطفي لهذا سردت عليها بتفصيل حكاية طالبها في جامعة"أوتاوا" الذي درس اللغة الانجليزية سنة واحدة في كلية كاثوليكية . ترك الدراسة في كلية الاقتصاد بعد عامين ليتفرغ للعمل . أتسم أسلوب حياته في أوتاوا بخاصيتين عادته في العمل بلا توقف وتجنبه الأشخاص من خلفيته الثقافية عندما التقته استاذته سارا بعد ثلاثة أعوم كان منهمكاً في عمل تجاري إعلاني أنه يقوم بمشروع تسويقي بمفرده يجمع المنتجين والمجهزين أبلغها أنه يخطط ليصبح مليونيراً بيد انه صانع قرارات مبرج . كان واضحاً أنه بدأ مساره بعد دخل لعبة اللقاءات مع الفتيات بحماسه بعد أن سئم الفتيات الطائشات اللائي يأتين اليوم ويرحلن غداً فتزوج بتلك الفتاة التي وصفها بأنها غير متحزبه وذات تربية عائلية ومحافظة يحسب نفسه مستوعباً الثقافة الجديدة ولأن زوجته كاثوليكية فقد سألته سارا إن كانا قد ناقشا أسلوب تنشئة أبنائهما.
تحدثا عن تنشئتهم وفقاً لتقاليد الأم.يعتقد أنه ليست هناك أي مشكلة بشأن تربية أبنائه بوصهم كاثوليكيين فهو يذهب أيضاً إلى الكنيسة أحياناً ولو أنه يقر بعدم إيمانه بها ويوافق على تنشئة الأولاد وفق الأخلاق نفسها التي نشأت عليها زوجته .. سألت سارا طالبها السابق بمعرفة عن مشاعرها نحو الأديان قال احترم كل الأديان ليس أي منها على خطأ ثمة من يسيئون استخدام الدين . أنا ملحد إرتابت زوجته وقالت لسارا بعدئذ يتبدل زوجها أنه ملحد غير أنه فيه من التدين أكثر مما يتصور .
عقد قرانه في كنيسة لوثرية صغيرة كان زواجاً ذا نطاق محدود لم يحضره سوى عشرون شخص منهم صديقه الوحيد لكن لم يحضر أبوا العروس اللذات لم يوافقا على الزواج .
في لحظة صراحة قال : كان يشار إليه بالأضحوكة تعرض لمضايقات عديدة ووجهت له أسئلة رسمية كبيرة وفتشت حقائبه بدقة فحصوا حتى حذاءه كان غاضباً هرب من "أوتاو"ا ترك زوجته وأولاده تعولهم الكنيسة.
****************************************
تعتقد باربرا أن التطرف حقيقة أزلية ترتبط وثيقاً بجموح العاطفة التي تحتال على الوقائع وتطوعها لصالحها ولا تصمد لمواجهتها عندما شهد لذلك لم يفلح الإنسان في مناهضة الفلو العاطفي ولن يفلح إلا عند ما يقرأ الأحداث الدائرة في الحياة اليومية على أنها جزء من عملية مركبة متصلة لمقاومة جموح العاطفة البشرية ولن يكون ذلك إلا بإيقاد الذهن عند الاستسلام للعاطفة ويمكن ذلك إذا استوعب الإنسان أن هناك حوافز متشعبة لا حد لتنوعها تقود إلى إيقاد الذهن وإيقاظه من استسلامه للعاطفة فيتبين الطرق المتعددة في التفكير التي يسلكها الذهن الإنساني . بمقدار استخدام الذهن يتباين الناس في الإحاطة بالقرارات المرتجاة في حياتهم فأحدى الحقائق التي تؤمن بها باربرا وركزت عليها : عظمة عقل الإنسان الذي ما أنفك يهدي ويرشد ويخترع لا لأنه نشأ في بقعة معينة بل لأنه استخدم الاستخدام المطلوب فالرجال العظماء هم عظماء لأنهم استخدموا أذهانهم استخداماً أمثل فهم قد بدأو حياتهم على منهج عادي أو حتى في أحوال غير مواتية ثم حلقوا بأجنحتهم متسامين فوق الأصول التي انطلقوا منها لذلك تعتقد باربرا أن تطور البشرية المادي والروحي ضلعه أناس بسطاء قد يكونوا من الحثالة أو من قاع المدن لكنهم تعلموا إعمال أذهانهم بعد أن سهروا ليعلموا أنفسهم تأهباً لعمل عظيم كان يتراءى لهم غامضاً بعيد المنال فالمصاعب مهما كانت لا تمنع من فعل الصواب لأن الصعوبات مهما عظمت لا تعرقل نمو العقل ربما تساهم في إخماده عند البعض لكن المصاعب ذاتها تحفز العقل تحفيزاً غير محدود عند آخرين حتى الرتابة ليس في وسعها أن تدمر خطط العقول الجادة .
المشاركات التي إنتظمت بين باربرا وسارة كانت حداً فاصلاً في حياة ابوامنة دون أن يعلم لأنها أعطت إختيار حقيقي لإمكانية إنسجام باربرا معه وأسرته كما أبرزت باربرا امرأة مشتغلة بإعمال العقل ومؤمنة بإمكانياته في تخطي أزمات العلاقات المحتملة بين الأزواج وغيرهم فتلك المشاركات أكدت تفهمها أن الارتباط بشخص يهيئ لصلات أبعد وأوثق تبدل موقف سارا السلبي من إرتباط ابوامنة وباربرا لأنها فهمت عبر التصاقها العميق بها أنها امرأة موضوعية لا تتواني في إبراز إعتقادها في قوة العقل غير المحدودة في كل المشكلات باعتبار أن العقل يملك طاقة هائلة غير محدوده تعتبر إلى حد كبير لغز غامض لا يعرف أحد ما يحتويه فدائماً هناك جانباً من نشاطات العقل الدائب خفية سرعان ما تظهر نفسها عند الضرورة. أدركت سارا بعد طول حوار مع باربرا أنها تعتمد في تقديرها للأمور كلها على العقل فباربرا لا تهتم بالتنبوء والاستقراء والتكهن بل تسخر نشاط العقل الداخلي في حل المعضلات وفوق كل هذا أو ذاك يرجع تبدل موقف سارا أنها أدركت أن قرار باربرا الارتباط بابو امنة لا علاقة له بالتمرد كما كانت تعتقد سارة بل أن باربرا اتخذت قراراها عن تفكير عقلاني رصين يدركه تماماً أوضاع ابوامنة الشخصية وأوضاع الملونين في الدنيا الجديدة . فبحكم أنها طبيبة نفسية تعرف أن الملونين يعانون من مشكلة صراع أجيال بين الأبناء والآباء الذين يتولون تربيتهم فالوضع الطبيعي هو تعاقب الأجيال إلا أن النظرات المعاكسة التي يحملها كل من الجيلين جعلته صراع أجيال فالآباء يبجلون الماضي ويؤكدون على الاستقرار والتماثل أما الأبناء يهمهم المستقبل وليس الماضي فعمليات الرصد التي قامت بها باربرا أبرزت لها أن نظام الأسرة لمعظم الملونين في الدنيا الجديدة يسير على خط ابوي ذلك النظام الذي يتمتع فيه الفرد بحقوق معينة عن طريق الأب كما ينتمي تلقائياً إلى مجموعة محددة عن طريق الأب فضمن هذا النوع من التنظيم الأسري يعرف الأشخاص جميعاً إلى أي مجموعة ينتمون أنها تحدد بشكل صارم عند الولادة . وينتج من هذه العضوية شعور بالأمن وهي فكرة ظهرت باستمرار أثناء نقاشات باربرا مع المراهقين والآباء والأمهات الملونين فهمت باربرا أن من أوضاع الملونين الراسخة أن للرجال والنساء حقوق وعليهم واجبات كما أن أعمال الأفراد في الأسرة ممثلة للأسرة سواء تصرف الأفراد في الأسرة على نحو إيجابي أو سلبي فأن الأسرة كلها تصبح متورطة فأفراد الأسرة مرسومة لهم بدقة مسئوليات معينة لهذا بالضبط تميل الأسرة عند معظم الملونين كما أوضحت بحوث باربرا إلى اتخاذ شكل الأسرة الممتدة فتضم الأبوين والأطفال والأعمام والأخوال والعمات والخالات والجدود وربما يقطنون جميعاً في منزل واحد ولهم التزامات متبادلة في جوانب الدعم المالي والاجتماعي والعاطفي فالحقيقة التي أكدتها باربرا أنها لا تمانع أن تنضم لمثل هذه الأسرة مع علمها أن السمات المشتركة ضمن الأسرة الممتدة أسم الأسرة وسمعتها وهما جانبان مهمان في هوية الأفراد الملونين كما أن مشاعر الأمن التضامني تبلور عبر هوية الفرد الأسرية لأن الأعضاء ضمن الأسرة الممتدة يهتم أحدهم بالأخر فالذكور مسئولون عادة عن إعالة الأسرة اقتصادياً بينما الإناث مسؤلات عن شرف الأسرة فالأنثى مهمة في الأسرة الممتدة انطلاقاً من الاهتمام بشرف الأسرة فقيمة الأنثى أنها شيء يصان ويحمي برغم ذلك لا تمانع من الارتباط بابوامنة برغم معرفتها أن المرأة المنتمية للأسرة الملونة مقيدة بمفهوم الشرف الذي يرتبط مباشرة بعفة إناث الأسرة وعلى وجه محدد فأن سلوك المرأة الملونة الجنسي هو موضوع حماية واهتمام الذكور تعرف باربرا أن مسئولية وعضوية الأسرة مستمدان من أبوة الطفل فالعفة والشرف هما السمات الأساسية للأنثى الملونة ولا تبالي لذلك فقد قبلت الارتباط بابو امنة وهي مدركة لطبيعة الفروقات بين بيئتها وفهم الملونين بين الذكور والإناث ضمن الأسرة فقد استنبطت من مناقشات لمجموعات من الفتيان والفتيات الملونين : أن علاقة الأسرة تؤثر إلى حد كبير في تكوين الهوية العرقية بين المراهقين ، فقد أثارت الفتيات باستمرار السلوك المختلف الذي تتحمله أسرهن وكن في أحوال كثيرة حائرات بين السلوك المتوقع وأسلوب التصرف الذي تتحمله أسرهن فقد كن في أحوال كثيرة حائرات بين السلوك المتوقع وأسلوب التصرف الذي يرغبن فيه فالفتيات مقيدات في الأسرة الملونة والذكور يتمتعون بالإباحية التي يكتسبوها لكونهم ذكور . تفهم باربرا أن الأسرة الملونة عصية للاندماج في الدنيا الجديدة لأنها تفهم أن الحد الفاصل بين الاندماج وعدم الاندماج في الدنيا الجديدة هو سلوك الإناث ففي تقديرها أن الإناث من أصول ملونه هم دائماً عرضه للتوتر لأنهن ليس في وسعهن أن يفعلن ما يردن على ارتداء الملابس المثيرة أو يضاجعن الرجال بلا حدود أو ضوابط أو يدعون أصدقائهن إلى غرفهن في منزل الأسرة أو يحبلن خارج نظام الأسرة التقليدي ، فالفتاة الملونة إذا ضاجعت رجل خارج نظام الأسرة التقليدي تسوء سمعتها فالفتيات الملونات في صراع على صورة المرأة خارج إطارهم يصورها الإعلام متحررة من القيود والآباء لا يكترثون بالأفعال المخزية لبناتهم فالمرأة لا قيود عليها في جوانب الجنس والإباحية تعرف باربرا من رصدها للأسرة الملونة أن الأشقاء لهم تأثير حاد في حياة شقيقاتهن فالأشقاء هم الأشخاص الذين يوبخون شقيقاتهم أو يهددوهن أكثر من الآخرين إذا أسأت التصرف أو تصرف على نحو يسيء لسمعة الأسرة تدرك باربرا طبيعة الاختلافات التي ستعيشها بارتباطها بابوامنة لكنها تعتقد أن الانتماء لمجموعة ذات خصوصيات لا تحول دون الاندماج في الدنيا الجديدة لا إذا تحول الموقف لشخصي إلى سلوك دعائي يسعى صاحبه لفرضه على الآخرين ففي تقديرها أن القناعات الخاصة التي تتحكم في السلوك الشخصي وحتى الأسري لا تعلو على قناعات عامه ملزمة للكل حتى للذين يرفضونها جملة وتفصيل وهنا تصبح قضية فرض القناعات قضية باعثة للتوتر لأنها تجعل الفرد في تصادم مع مجموعة الأفراد ومجموعة العمل ووسائل الاتصال الجماهيري فمعظم الملونين مازالوا يحتفظوا بأخلاق مجتمعاتهم القديم التي تميل إلى الضغط على حقوق الجماعة والتسلسل الهرمي لبناء الأسرة فالعلاقات الزوجية التقليدية أقل اتساماً بالمساواة فينعكس ذلك سلوك الناشئة في الأسرة الذين يميلون للطاعة ولا يحاولون الاستقلال فقد تصبح للمصلحة العامة أسبقية على المنفعة الشخصية تدرك باربرا تماماً أن كل ذلك يناقض ثقافتها التي نشأت عليها باعتبارها تؤكد الحقوق الفردية ويستجيب الآباء والأبناء للتحولات كما أن باربرا تربت في ظل النظام المدرسي الذي يؤكد النزعة الفردية والعلاقات المتساوية والاعتماد الذاتي برغم من ذلك تعتقد باربرا أن علاقتها بابوامنة سوف تحقق الفلاح باعتبار أن العقل إذا حضر في أي علاقة استحال العسل لأن العقل بإمكانياته الهائلة قادر على وزن المواقف .
****************************************
امل الخلاص
بيني وبينك امتداد جراح الماضي النازفة وباقي مفردات البوح المتجمدة في شفتي بسب كلمات الاسف المسجاة في انفي كطعم الغار في صحراء المشاعر المضمخة بالمرارة فتكتسي الارض معاني الهزيمة حين يسود اللون الارجواني وتلتهب الاحاسيس كعنف "نارالله الموقدة".رسخت صورة حبيبتي في ذاكرتي يوم لقاء الامهات في وادي الضياع ، وانا مصلوب على نافذة الصبر احدق في المدى كي ارى الكلمات الحبلى بالهمسات الراقصة بملامح المستقبل المشوش بفرح الارواح المسجون في رحم القبل.. حبيبتي مازلت اهمس في اذنيك كل صباح:" لاتنسي ان الليل لك وحدك وهو اللقاء بلا ميعاد" وسنقول غدا ونحن نفطم جرح الالم النازف:" تجاوزنا ثقل الماضي وحاضرنا الماضي ومستقبلنا القابع في جوف الجدب الزاحف كصوت الكذب الراجف من لقاء الاحبة على حد السكين"...نكات حبيبتي جراحي فما اوقفت نهر الالم وماتفيئت ظل الحق وما عادت لي كرامة تتحرك بعرض الكلمات المهتوكة في معمودية الماء والنار وكتاب الاماني الطيبة المبسطة رغم ذلك تلاقح ذهنينا وتفتحت الابواب الموصدة فذابت الحدود وضافت الشكوك فليتني اسال عن ذاتي عن الماضي المهجن بالاكاذيب الصريحة وسطوة المنتصر المغرور...لم يكن لي خيار غير قراءة ذاكرتي ومسح اوراق الاهمال وعجز المدن المريضة بداء السل المتطرف المسجون في الخصوصية والاختصاص والمخاصصة والخصخصة لا اصدق ايمكن ان يقال بعد ارتفع لهيب الشهوات في رحم النسيان وعهر القمم فصار الحرف اخضر والحق ازهر والكذب صلاة في الحب.. اعمق ما في الانسان طاقته غير المحدود للنسيان بغيرها كان سيسبح في الذكريات وظلمات الماضي وتبخر الاحلام الكبرى يلتمس بفايا حروف عالقة في الحناجر نبضها يعلن الضياع وامتداد خرائط الموت الرخيص حين تعزف الرياح مرثية الخريف......
حدق اولا تحدق فالحقائق لاتحتاج قاموس الغرب غرب قبل معرفة الاتجاهات والشرق شرق قبل ان يشير الى الصلاة لهذا انا اخط تاريخ عجزي وانكساري في الرمل فتمحو الريح الوقائع وتبقى على شفتي بقايا ابتسامة ساخرة من كتابتي في الماء ورسم خريطي للغد الاتي الذي لن ياتي ابدا..وانا اخجل منه ولا ارغب ان ياتي الصباح فلم اعد قادرا على مواجهة الشمس حين تتساقط الاشياء من حولي وينهزم الصباح خلف المفردات البليغة الراجعة بقطار التصلب لرحاب النرجسية فتكثر التمتمة بالذي يكون والذي كان والذي ياتي بحثا عن العمر الضائع عن الاحلام عن الاوقات عن الرغبات عن الماضي عن الحاضر عن الافكار الهلام عن الاهل الذين رحلوا عن المشاعر التي تاهت في جوف الصحراء عن ليالي الشبق التي سهرت فيها وحدي..ومشيت وحدي اعزف لحني الوحيد الذي اجيد عزفه ضد همس القلوب حين يحضن العشب اللقاء على دروب الشوق وبشاشات القمر الوضاء في سماء من الطائرات المقاتلة فيسرج الليل نفسي فتنحني في عتمة الغروب هذه الليلة غرفتي في انتظار الذي ياتي اتساقا مع لحن العناد المتمرد فتذهل الفرحة وتنداح المشاعر شوقا للتلاقي.
احلامي ابكيك على استحياء فتنشق السماء معلنة وهمي ويضيع في الافق البعيد ندائي حين قبرت الاحلام الكاذبة وسرت دون توقف في رحلة الصمت السحيق النائي فتفجر في نفسي الاسى وعيون فوارة بالالم النزيف. كان التاريخ اسود لايقبل احتمال التعايش والتاخي وتطبيب المشاعر فالوطن كان مختفيا وسط الضباب والرؤس العبقرية تيطر عليها الدوخة فيسود النواح واظل انا قابع في جوف عجزي متسلقا خيوط ارقي كما يتسلق الهواء اشجار النخيل عند ارخبيل النيل في ارض النوبة
التطبيع
تميز حفل قران باربرا وابوامنة بالحيوية فقد أظهر الحضور المتباين تفاعلاً مع الممارسات التراثية المنقولة من البلد الأصلي فقد كان حفل القران في منزل الاستاذ موسى فرصة سانحة لإظهار التضامن فتوقفت الحملات الكلامية التي تصاعدت بين الآباء والأبناء أبان التصدي للجفاف الذي ضرب جنوب غرب البحر الاحمر . فقد أطلقت هاله حنجرتها بالغناء . فعلى إيقاعات الطبول رقص الشيب والشباب مؤجلين التوتر الذي تصاعد بينهم بسبب التراث العرقي الذي لا يرغب الشباب في طاعته والارتباط به أما الآباء فلهم تعلقاً قوياً بالتراث المختلف والموروث عن الأجداد من خلاف ولهم حديث يطول عن السلوك المناسب وفقاً للدين والأسرة والتقاليد فمازال الآباء يبدون قلقهم العميق على مستقبل الأبناء ويحذرون أبناءهم مراراً من الممارسات غير المرغوبة على نحو الحفلات الماجنة والحرية الجنسية وزواج الاجنيات خصوصا اليهود.
إنسحب ابو امنة وباربرا من جوقة المهنئين بإشارة من سارا التي أعدت لهم متكئاً مثالياً يناسب ليلة العمر ، فخرجا عبر مدخل خفي يفضي للشارع الرئيسي فقد أقلتهم سارا بسيارتها لمنزل قديم مشيد من الخشب بصورة كاملة يطل على ساحة واسعة محاطة بمجموعة من الفنادق واضح أن سارا اختارت هذا البيت التراثي ليكون مكاناً يجد فيه العروسين مساحة من الهدوء والراحة بعيداً عن النظرات الفضولية وتوتر المدينة وضوضاؤها كانت غرفة النوم مؤثثه بأثاث خشبي غاية في الروعة والمتانة لكن العروسين تجاهلاه مفضلين الاستلقاء على أرضية الغرفة لمصارعة قطتهما المشاكسة التي صارت لأول مرة موضوع تواجدهما المشترك فقد اعتادا الالتقاء لكل شيء ـ مناقشة قضية ما ـ الاستماع لشريط كاسيت أو مشاهدة فيديو لم يكن موضوعهما حوار الأجساد لكنها ليلة العمر التي تلتقي فيها الأرواح وتسكن الأجساد لبعضها البعض لا ينبغي أن تكون فيها مساحة لقضايا ذهنية ساخنة أو باردة ففي الغرفة اكتمل الحوار الذهني الذي أفضى تلقائياً للإعداد لحوار الأجساد أو ما يعرف بليلة العمر ربما كل ذلك يخلق أجواء من التوتر ناجمة عن التركيز في فكرة معينة مفهومة يبدو أن باربرا حاولت الخروج من حالة الترقب فلمست بجدية قضية هيا ومسمار لقناعتها الراسخة أنه موضوع مثير لاهتمام ابو امنة فهو يفضل تناولها في كل حين طالما كان له استعداد للمناقشة والونسة . أظهر ابوامنة لأول مرة امتعاضه من قضية ارض المالح والإكثار من التحاور في الموضوعات القاسية فتهرب من إثراء المناقشة أولاً ثم أعلن لها توسله للابتعاد عن القضايا الساخنة فهو يخشى فساد ليلة العمر فقال : ( عزيزي أشعر أن هذه القضية لا تناسب ليلتنا هذه فقد تحدثنا عنها كثيراً وبتفصيل ممل لا أعتقد يوجد ما يضاف )
كانت باربرا مصممة على الاستمرار في تناول قضيةارض المالح وإستدعاءها لسرير نومهما متجاهلة إنزعاج ابو امنة الذي وقع في حالة توتر وذهول فبدء يظهر عليه الانفعال كأنه قد حُجز في ممر ضيق لا يسعه لحظة ذروة التفاعل المروري فيفشل في الخلاص فيجد نفسه في ورطة .
لم تسمح باربرا لابو امنة بالتروي وإعادة النظر في قضية ارض المالح لكي يرتب ذهنه بل ضغطت عليه أكثر بقولها :
( عزيزي لماذا أنت منزعج من قضية ارض المالح؟ فمازلنا نعيش في الأرض بكل ظلماتها ومشكلاتها فلم تتاح لنا فرصة الصعود للسماء لنحيا النعيم الأبدي فمازلنا في عمق الأزمات نعم تزوجنا ولكن هذا لا يجعلنا مغتربين نعيش الوهم فمازال علينا إعداد أنفسنا للمواجهة والمصارعة والتعامل مع كل المتناقضات من حولنا . عزيزي لا سبيل للتوقف فمن المهم أن نعد أنفسنا لكل الظروف الهادئة والقاسية لهذا افتح معك قضية مسمار في هذه الليلة المميزة التي تصلح لما نريد وكل شيء أيضاً .
فأنت تعرف أن قضية ارض المالح أثرت فيك وبدلت ما بنفسك وغيرت نظرتك للحياة والبشر كما أنها جعلتك متكئاً على جدار السلبية أنت تعلم أني ربطت نفسي بك إلى الأبد ومن حقي في أول خطوة لي في حياتي الأبدية أن اعرف طبيعة معاركك وإلى أي مدي تؤثر فيك . أرجوك لا تكرر عليَّ بإثارتي لقضية مسمار افسد ليلتنا فأنا اعتقد العكس فتناولي لها يتصل بسلامنا ومستقبلنا لهذا تهمتي رؤية الأشياء بوضوح في النور فأنت تعلم إني أكره الظلمة وأفضل حدَّة ومرارة الحقائق وصدمتها بدلاً عن اللف والدوران المتوتر حول النواقص والعيوب .
شعر ابوامنة أن تصوراته غير متماسكة والأرض بأركانها الأربعة تهتز تحت قدميه فمنطق باربرا الواضح قد حسم نهائياً مسار الليلة الأولى في حياته الزوجية لكنه قرر المقاومة فاتجه لاختزال القضية فسرد أحداثها بكبسله تثبت الأحداث كأحداث وتعرضها بأسلوب يتناسب مع تصوراته لخصوصية الليلة فقال :
( قضية ارض الملح هي في النهاية حكاية الإنسان مطلق إنسان في صراعه مع ذاته المتطلعة للتطور والسيطرة فدائماً ما يجد نفسه معولاً على الوهم حينئذ يتعالى على منطق الأشياء فيتمسك بالبدائية والركون للغة العنف في محاولة فاشلة منه لتجاوز قطار الإنسانية المسرع بقفزه في الظلام . أنها ممانعة القديم التي تقود إلى أحداث مأسوية ذلك ما حدث في ارض المالح فمن نقاط ضعف الإنسان أنه لا يتورع في سبيل تحقيق طموحاته وذاته من أن يدوس على أشلاء البسطاء هكذا أتقد الحريق ثم ذاد اشتعالاً وكانت مسمار غير متأثرة به فقد ظلت في مأمن من ألسنة اللهب لكن الحريق ازداد اشتعالاً في موجه أخرى وتطور لاحق بعد أن ظهرت المكابدة حول المصالح وخصخصة الخصوصيات بين مشعلي الحريق في كل المواقع والمستويات فاستلهموا أحلام أجدادهم وقناعات تراثهم التي أهملوها لقرون فزاجوا بها في المحرقة النازية بعد أن إدعوا أنهم البشر وحدهم ونزعوا عن الآخرين الالتصاق بالبشرية فكان من الطبيعي أن يزداد الحريق اشتعالاً فكانت الممانعة فكان لابد من أن يصل الحريق مسمار ويهلكها فالشيء الغريب في هذا الحريق أنه علم جميع أطرافه ببطء أنه لا يملكون القدرة لنزع حق الحياة من الناس وأن العيش المشترك يفرض على الجميع في نهاية النفق الجلوس للاتفاق على التعايش دون مرارات أو ضغائن فما تزال الحياة باقية طالما فيها متسع لاختلاف وتباين النظرات فمن حق الكل أن يعيشها كما يشاء دون أن يمنع الآخرون أن يحيوا كما يشاءون فيدركوا أنه لا جدوى من تواصل العنف فمن حق المخلوقات البكماء التي تلتهمها الحرائق بلا ذنب أو جزيرة أن تجد حظها في العيش كما أن الطاقة المهدرة في البناء فالكل أحوج لها في مناهضة الطبيعة المتسلطة التي تحتاج إلى فك طلاسمها فمازال الإنسان عبداً عبد للطبيعة تقهره وتغير نمط سلوكه وتجعله أكثر توحشاً وبربرية ومازال طريق الإنسان للوصول لأهداف متشعب بالآمال والرجاءات يمر بإدارته لطاحونة العنف الرهيبة لهذا لابد أن تحل أزمات بالعقل والجلوس لسقيا شجرات التفاعل الذابلة فما تعلمته من قضية مسمار هو أن الإنسان دائماً في حاجة إلى تحسين مهاراته في ممارسة الحياة ومعرفة قيمتها .)أفرغ ابو امنة ما في كنانته من سهام فصمت فأخذ ينظر لباربرا نظرة توحي بأنه بذل جهد ولا يستطيع المزيد فناشد باربرا بما يفهم منه : أما آن لنا أن نرجع لقضيتنا وترك القضايا القديمة التي لا تتأثر بالأحاسيس والمشاعر فأظهر ابو امنة رغبته في التمتع بحقه في المشاعر الايجابية وممارسة المحبة . يبدو أن باربرا لم تظفر بجديد من كلمات ابوامنة لكن الكلمات ذاتها فضحت ما بداخله من ناحية أخرى شعرت باربرا انه أنهكت ابوامنة وضغطت عليه من أجل هذا ترى أن ابوامنة يستحق إن تقدم له الإيضاحات التي تكشف له أسباب إقحامها قضية مسمار في ليلتها الأولى فقالت : ( أنت مدين ليَّ باعتزاز بعد أن أرهقتك بإثارتي قضية ارض المالح فالحق الحق أقول لك مازلت مهتمة بالطمأنينة وبناء الاستقرار لحياتي الأسرية من أجل هذا تحتم عليَّ معرفة طبيعة الصراع الدموي الذي دار ويدور في هيا ومسمار أنه صراع قاسي يطحن الناس واخشي أن يفتح نافذة نومي بالألم دون أن أكون مستعدة فالسؤال الذي فرض عليّ إثارة قضية مسمار هو إلى أي مدى نحن متورطون في هذا التفاعل ؟ وما الدور الذي علينا أن نلعبه فيه أن كان لا مناص مستمر أعني من هم الأعداء والأصدقاء إلى أي مدى مستعدون لتحمل تبعات صداقتنا. أجد نفسي أفكر في كل ذلك لأنيّ ببساطة محتاجه للمحافظة عليك ويهمني أن تكون دائماً في حضني لأنيَّ لا أحتمل بعادك وفراقك منذ أن اتحدت قلوبنا . أشعر أن أروحنا واحده وارى أم مصيرنا صار واحد فما أحلم به أن نعيش العمر كله بلا فراق ملتصقة بك فنصير نفساً وروحاً واحده نحيا معاً أو نموت معاً. فأنا أنثى تؤمن بضرورة مشاركة زوجها كل شيء حتى معاركه التي اختارها بالطبيعة أو تلك التي اختارته بوعي وإدراك ) من عادات ابوامنة الراسخة أنه بفضل التركيز على الحقائق مبتعداً عن الخيال . فأنه يرى جذور المآسي البشرية واحده مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة فقضية هيا ومسمار أو المجاعات أو الحروب المنتشرة كالطاعون فهي مصائب حقيقية لكنها في جانب آخر تدفع بالإنسان والحياة للارتقاء . قد يرى البعض ما يعتقده ابو امنة دعوة لامتشاق القوة لكن القوة هي لغة العروض الدافئة التي أنجبت ابو امنة ولا يمكنه تجاهلها حتى أنه لا يحمل مجرد أمل بالسلام لأنه يعتقد أن السلام يجلب المصائب التي يستثمرها الأقوياء في غابة قانونها "أنا وأخي ضد ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغرباء" أنها عقلية العنف المتأصلة في الناس وناتج مشين للحروب والنزاعات المسلحة لكنه لا يستطيع أن يكون مشاهداً للحروب فهناك من الدوافع الضاغطة عليه التي تجعله متورطاً في النزاعات فهو غير محايد فما تعرفه باربرا عن ابوامنة أن يبذل طاقته في مناهضة الرَّق وتحطيم مؤسساته التي أوجدت لها النزاعات مبررات وجود فموقفه أخلاقي إنساني هذا يظن نفسه دائماً في مواجهه لأنه في تقديره أن نظام الاسترقاق بصورته الجديدة تستفيد منه كل قواعد النظام المروع .
وجد ابوامنة الفرصة سانحة للعودة لليلته عندما صمتت باربرا لهنيهات قلائل فأشار لها بقوله :
أعتقد أنه قد آن الأوان أن نستريح من وعثاء الأحاديث القاسية فقد ذهب حل الليل ونحن في حاجة للغوص في دواخل بعضنا البعض فأنا في حاجة لأثبت لك أنك وحدك بصيرتي ولحن أغنياتي وسراجي الذي استمد منه الضوء في الظلمات .
كانت باربرا مهيأة لإنهاء الحوار والالتصاق بابو امنة الذي شعر بالانهاك الموتر لضغطه على أعصابه فقالت:
- لا مانع لدي قبل أن نبحر في حوارنا الذي انتظرناه لابد لنا من تناول شيء من الحليب
كان ابو امنة قد استنفذ طاقته في المناقشة وأصبح في توق لإختصار المسافة فقال :
- لست في حاجة لشيء في حضورك فأنت أمنيتي ومشتهاي
- لن أرضي إلا إذا تناولت معي الحليب
كان الليل خارج البيت الخشبي الذي يقضي فيه العروسين ليلة العمر هادي ينساب نسائم طيعات متحركات في كل الاتجاهات كان شعورهما بهدئة الليل وحركة النسائم عندما فتحت باربرا نافذة البيت فعبرت النسائم الداخل .
ركبت باربرا خيول الغناء حتى شرد لب ابوامنة فأعادته من جديد بقولها :
- أشهر سيفك وأقطع به الصمت .
تحسس ابو امنة جسد باربرا وحركه فيها كثافة ما يدور في داخله فانسدل شعرها على وجهه فعملت باربرا على تجميع شعرها في لفة واحده في قمة الرأس .
قالت باربرا ببراءة ليس فيها حسرة
- يبدو أنيَّ أضعت الليل في أحاديث الحريق
ضحكت باربرا وف يدها كأس الحليب فقدمته لابوامنة وهي تقول له :
تناول هذا الكأس سيرفع عنك حالة التوتر .
رد ابوامنة بتكاسل بعد أن سيطر عليه النعاس
لا أريد حلي يكفيني أن أنام قليلاً .
لن أدعك تنام إلا إذا تناولت هذا الكأس فالوقت مازال مبكراً على النوم أيها الشاب الكسول .
في الهزيع الثالث من الليل غاب القمر وبزغت أضواء الفجر تسلل رويداً رويداً فانطفأ السراج وأحل ضوء الشمعدان فقالت باربرا :
- ماذا أصابك اشعر أن حرارتك ترتفع وتنخفض دون مقدمات هل أنت مريض ؟
- لا أرهقني النقاش فأنا لا أتحمل ضغط التفكير والسهر تتشابك علىَّ الأشياء فلا أعرف ما أرغب فيه وما لا أرغب فيه.
- لم أفهم قل ليَّ ماذا بك؟
- أنها حالة عارضة لا تشغلي نفسك بالتفكير سأتحسن غداً فأنت أعلم بيَّ أكثر من نفسي فأنا واثق مما أريد وما لا أريد
- أرجوك ابوامنة أن تكون صريح معي وان تقول ليّ الحقيقة ولا تخفي أفكارك وراء الكلمات النمطية فأنا ثقتي فيك بلا حدود لأنيَّ أؤمن أنك قادر أن تعطي حياتي قيمة وحيوية .
ذابت الكلمات في الصمت مع ضوء الشمعدان فانقطعت الكلمات وتلاقت الأرواح مع أشعة الفجر المتسربة عبر النافذة ففاحت روائح العطور ودفء الحيوية .
قرأت هاله أمام الحضور في حفل قران ابوامنة وباربرا قصيدة أثارت جدل عميق مع ابنة عمها هناء التي ركزت على المقطع من القصيدة :
صمتت طبول الحب في قيح الجراح
فاستيقظ المصلوب ضعفاً في أعماقنا
فتحرك..........................
............فتقدم...............
...................فلمس أحلامنا
فلم ندرك الصباح ولم نتجاوز البطاح
فوهنت القلوب ولم نبلغ حب الفداء
فلاذت العيون بالبكاء متكئة على الخرائب الكئيبة
يا مطر الصحراء أهطل فقد آن الأوان
يا مطر الصحراء حطم ألحان الأغنيات الهلامية
يا مطر الصحراء أطلق حمامات الروح
لتعبر المدائن متجاوزة البحيرات الراكدة
يا رياح الاستواء الغامضة حركي النفوس
امنحيها آيات الأمل وأماني الانتصار
كان نقاش هاله مركزاً في نقطة واحدة تفترض أن هاله كتبت القصيدة تحت تأثير فشل علاقة حب مجهضة يبدو أنها تصورت أن هاله كانت على علاقة حميمة بابوامنة تسبب في صدمتها مما تسبب في تعبيراتها الحزينة أفكار هناء كانت مفاجئة لهاله فلم تكن تتصور سوء تقديرها لقصيدتها يقودها إلى الاتهامات غير المحددة . يبدو أن هناء كونت اعتقاد خاطئ من للتواصل العميق الذي ساد بين هاله وابوامنة . لم تكتفي هاله بإستيعاب طريقة هناء لكنها دخلت معها في مناقشة هدفت منها تصحيح إعتقاداتها.
- القصيدة تبوح بمشاعرك التي سكتي عنها فلم أتصور أنك تفتقري لضبط النفس فتكتشفي مشاعرك بهذا القدر الواضح .
ردت هاله على هناء باستغراب
- لم افهم شيء مما تقولي ماذا تقدي ؟
- تحمل القصيدة مشاعر كثيفة مجهضة وهي تصور شكل علاقة منهارة لأن فيها عاطفة حب قوية تبكيها الكلمات أشعر أمك مجروحة تعاني من أثار علاقة فاشلة .
- يبدو أنك قاسية أكثر مما تصورت ! لولا اني على ثقة انك لاتعرفي شيء لكان لي راي اخر هل انت واثقة من توهمك؟
- الكلمات تفوح منها المشاعر المحبطة والعواطف المهزومة ولا أجد معنى لكلمات "صمت طبول الحب في قيح الجراح" ـ غير أنها تعبر عن عاطفة مجروحة
- اعتقد أن طريقتك في تناول الأدب فيها إسقاط الذاتي على الموضوعي
- ما علاقتك بابو امنة ؟
- ابوامنة مجرد صديق أنظر إليه كأخ ولا أعتقد أن في ذلك مشكلة تستدعي كل تلك التصورات الغامضة !
- لنكون صريحتين أليس بينك وابوامنة علاقة عاطفية ؟
- ما هذا اللغو الغريب ، كيف تفكري هكذا ؟
- الم تكن تربطكم علاقة إعجاب تطورت إلى حب فارتباط ...!!
- قد يكون هناك إعجاب وقد يكون هناك حب أخوي لكن لم تخطر ببالي فكرة ارتباط به فأنا كنت طرفاً في علاقته وباربرا حتى توجت بهذا القران.!
- ماذا عن القصيدة ؟
- هذه القصيدة تتناول موضوعات متباينة ذات صفات وجودية ليس فيها ما يتصل فيها بالمشاعر الشخصية اقدر أنها لا يخرج عن المشاعر والعواطف الأخوية العادية...........
- اعتقد أن القصيدة تحمل معاني الحزن والصدمة في الحبيب !!!.
- لا أعرف أنك ناقدة جيدة للشعر ولكنك تحاولين التعبير عن ملاحظة قديمة تتمثل في تفاعلي وانفعالي مع ابو امنة فقدرتي خطأً أنها مؤشرات علاقة عاطفية مهما يكن تهمتي معرفة لما يدور بخاطرك فالأمر غير ذلك.
- في تقديري أن التفاعل لا يشكل مادة جيدة للاتهام لكني كما قلتي لاحظت إهتمامك بابو امنة فقدرت أنه تطور إلى صداقة فتطورت إلى حب يبدو أني نظرت إلى قصديتك بهذه الخلفية وحسبت أنك ضبطي عواطفك فظهرت في القصيدة !!.
- الأمر على عكس ذلك لم نسمح لصداقتنا أن تتجه أي اتجاه غير الحب الأخوي وظلت هكذا دون تبدل فالحقيقة الموضوعية أن باربرا وابوامنة صارا زوجان فلنتمنى لهما التوفيق والفلاح وننسى الهواجس!!!.
****************************************
.....لاشتغال باربرا بالطب النفسي فقد كانت تتعامل مع مرضاها وتتفهم آلامهم ذلك لم يكن السبب الوحيد فهي ابنة الألم والمعاناة فقد اختبرت العذاب في مراحل مختلفة من عمرها لذلك وضعت في قمة أولوياتها مساندة الذين هم في ظروف المعاناة فباربرا أدركت الم فراق الأحبة عندما طالت يد الموت أسرتها الصغيرة فخطف الموت أخويها الأكبران عندما أصيبا بالملاريا الخبيثة المنتشرة في روديسيا التي ولدت فيها فقد كان والدها يقضي فترة عمل طوعي في روديسيا مكافحاً الأمراض الاستوائية مما يضطره إلى الذهاب إلى الأرياف النائية كجزء من أعمال "جمعية التراحم الدولية" التي تعلم في مجال رعاية الطفولة ومكافحة الإمراض المستعصية . كان رحيل إخوتها الأكبر نقطة تحول حادة في شخصية أمها التي ما انفكت تبكي وتبث حزنها حتى أن باربرا صارت تعتقد أن الموت قريباً جداً من أفراد أسرتها بل هو الحقيقة الأكثر موضوعية حتى أنها لم تصاب بالدهشة عندما زاد الألم جرعته على أسرتها حين احترق أبوها في طائرة كان يستقلها للوصول إلى المرضى في القرى النائية تصادف أن كانت الظروف الجوية غير مواتية بسبب الأمطار الاستوائية فتحطمت الطائرة لم تكن باربرا صغيرة جداً بالدرجة لا تعرف فيها معنى الموت لكنها لم تكن كبيرة بالدرجة التي تفهم فيها لماذا جاء بهم أبوها من "كوبيك" في كندا إلى غابات إفريقيا فالذي أدركته فيما بعد أن أباها كان يتقاضى راتباً جيداً من جمعية التراحم الدولية ينفق معظمه على الفقراء وشراء الأدوية والأغذية لمرضاه فقد كان مسيحياً مؤمناً "سبتيا" يؤمن بالتوارة كله لذلك عاش حياة مختلفة للحد الذي يعيش فيه هو واسرته الكفاف فما عرفته من أمها أنهم لم يكونوا في حاجة للمال أبداً فقد اعتاد سكان القرى المجاورة أن يمدوهم باحتياجاته من الخضر والفواكه من أفضل ثمار مزارعهم فتقبل الأسرة تلك العطايا بقلوب راضية بدون حساسية . كانت باربرا ابنة العاشرة حين مات أبوها فقد استيقظت على الأصوات الضاجة فقد كانت أمها تبكي بحرقة جاثية على الأرض نابعة من عينيها أنهار من الدموع الساخنة وهي تردد كلمات روحية توحي بالحزن كانت بريسكا جارتهم زوجة الطبيب الفرنسي التي تعمل معلمة في مدرسة "الإرسالية اليهودية الداخلية" تحاول شد عزمها بطريقتها الصارمة المميزة فقد كانت بريسكا امرأة ضخمة الجثة مستديرة الرأس انفها مستقيم بارز وجهها فيه نمش لم يكن أمام باربرا الصغيرة مجال سوى التورط في العويل والبكاء فاستجابت لحالة الحزن التي أحاطت بالمنزل بصرخة داوية جعلت بريسكا تترك الأم وأمسكت بالطفلة الصغيرة فشعرت باربرا بنعومة المرأة الأربعينية المترهلة وأحاطتها بذراعها فاستسلمت لها واكتفت بمواكبة أمها في البكاء مؤلفة نغماً مركباً منسجماً على حين غرة اندفعت بريسكا بباربرا وسط الرجال الذين جاءوا يحملون التابوت الذي كان يرقد فيه والد باربرا كان الذين يحملون التابوت خليطاً من البيض والملونين والسود الفلاحين وذوي المعاطف الرسمية ما تذكره باربرا عن ذلك اليوم الحزين أنها كانت تشعر بالضيق من كثرة الناس الذين جاءوا بالتابوت أكثر من إدراكها لمعنى فراق الأب فقد حدثتها بريسكا أن أبوها انتقل للسماء ليلاقي إخوتها ومريم ويسوع . أمرتها بريسكا أن تنظر إليه لتودعه الوداع الأخير حتى تلتقي به في السماوات مع القديسين كانت بريسكا تثرثر معها :
- لقد رحل أبوك في عز صباه فقد رحل يافعاً شاباً .
انهمرت الدموع من عيني باربرا فأخذت تردد ما تعلمته من أدعية وصلوات .
"أبونا السماوي ليكن أسمك مقدساً لتكن مشيئتك في الأرض كما هي في السماء اغفر لنا ذنوبنا كما تغفر لأعدائنا فلك القوة والمجد إلى الأبد ".
"لتكن معك نعمة المسيح ومحبة الله وشركه الروح القدس" .. "طوبى للحزانى فأنهم يعزون" ..
سايرت باربرا بريسكا في كل ما تفوهت به من جمل دينية من الانجيل والتوراة:
"الرب أعطى والرب أخذ "لا حزن لمن رحل إلى السموات .
كانت باربرا خائفة غير مهتمة بتعابير من حولها وهي لا تعرف مدرسة الإرسالية الداخلية ركزت باربرا على جثمان أباها المسجي في التابوت فآخر عهدها به عندما فارقهم ووجهه يفيض بشراً وسعادة فالآن تشاهد للمرة الأخيرة جسداً متفحماً محترقاً تكاد تنكره حاولت أن تلتصق به وتقبله أمسكتها بريسكا وأبعدتها عن التابوت ومازالت باربرا تكرر مع بريسكا كلمات دينية :
"أبونا السماوي لتدم فينا نعمة المسيح ومحبة الله وشركة الروح " "لتحفظك ياجون أرواح القدسيين والعذراء مريم " "فلتكن رحمة الله العي معك ترفعك إلى الجالس في المجد لتدخل ملكوت السموات حتى تنعم بشركة المسيح والرسل والشهداء والقدسيين ".
****************************************
عادت باربرا إلى "كويبك" بعد رحيل راعي الأسرة تعلمت بقسوة التعامل مع ثقل الألم . كانت باربرا كلما كبرت اكتشفت افتقادها ليد الأب الرحيمة الحانية فازداد الحزن عليها عندما رحلت الأم وباربرا مازالت طالبة في أول عتبات مدرسة الطب يبدو أن اختيارها القاسي مع الألم جعلها تهتم بمعاناة مرضها بتفصيل دقيق .
اهتمت باربرا بابوامنة وتفهمت ظروفه الخاصة بعد ان التقته في دمشق باعتباره عائداً من عمق الحريق فقد أعطته مساحة خاصة في نفسها كل ذلك وغيرة حرك في أعماقه مشاعر مختلفة جعلت من باربرا محور حياته ومدار تفكيره فصارت غرفة باربرا لابوامنة غرفة تجميع الطاقة لمواجهة الحياة حتى أنه أعتاد أن يرسل لها الرسائل الالكترونية عندما يجدها مشغولة أو لا يتسع وقتها للقائه . من تلك الرسائل الالكترونية تعرض أجزاء محدده ورد باربرا عليها لنتابع علاقة ابوامنة وباربرا من خلال الظروف التي أحاطت بها :
عزيزتي باربرا كنت معك في الفجر وهانذا اكتب إليك لأعرض عليك ما استجد عندي رأيت أن أشاركك فيها .
قال المتشائمون لا خلاص أمر إلا بالتخلص من حياتهم . سيدتي أتعتقدي مثلي أن الحياة عبث وشقاء وأنها تفضي من العدم إلى ضياع لا محدود فالإنسان يعيش وهم التعمير والبناء فيحاول أن يقنع نفسه بأنه المالك للوجود وهو الفقير التافه ـ فلأجل تطلعاته الدنيئة يقتر ويحرق ويحطم كل شيء بلا استثناء فهل نحن ـ أنا وأنت خارج هذا القانون أم ترانا نعيش وهماً أكبر محاولين صياغة الكون وفقاً لهوانا فنجد أنفسنا تمارس عبثاً أحمقاً أكبر مغلفاً بأهداف نبيلة فلا تتاح لنا الفرصة حتى نجد أنفسنا نكرر ما فعلناه في القديم ويفعله عتاة الطغاة الآن فنحطم مخالفينا بالقوة الناعمة أو بنعومة القوى أرى أننا كلنا في الوهم سواء فكلنا سجناء في دواتنا حيث الخيارات الرديئة .بنظرة ثاقبة نحن جميعاً متشائمون بدرجة كا لذلك علينا التخلص من ثقل الأجساد ورهقها.
عزيزتي حفت شجرة الحياة وتساقطت أوراقها وتخشبت الساق والفروع حتى الجذور يبست فلم يعد يؤثر فيها الماء لأنها صارت متعفنة ميتة فكيف نفهم إنسانية من يوزع السموم للأطفال أو يطلق قنبلة على حافلة ركاب أو يطلق صاروخ على بيت عبادة معبد أو كنيسة أو يدمر مقهى أو ملهى أو مستشفى ؟ أرى الزمن الذي نحيا فيه مأقوناً ملوثاً بخيوط الآثم الناعمة لأن الناس صلبوا العقل بعيداً عن القرار فلم يعد بمقدورهم اللجوء للذي تركوه في الصليب ليخلصهم من رغباتهم لأن به وحدة الخلاص.
من عادات باربرا أنها لا تتجاهل رسالة من ابوامنة فكانت ترد على كل ما يرد في الرسالة بوضوح جاد دون مجاملة هذا ما أثرى علاقتها به فهي تعتقد أن الحوار أفضل وسيلة لتهذيب الأفكار ومعالجة الاختلافات يؤسس قاعدة راسخة للتصالح . ما يميز رسائل باربرا إلى ابوامنة أنها كانت محشوة بالاطمئنان لأنها تعتقد أنه حاصر نفسه في التفكير في ذاته ولا سبيل له إلا بتبديل أفكاره ونظراته كانت تعرف باربرا تميزابوامنة وقدرته على التفاعل مع من حوّله فكتبت له رسائل عديدة نأخذ منها مايلي:
عزيزي مازلت أقر رسائلك التي دائماً ما أجد فيها من الجديد ما يبعث الثقة فيك فالذي أرفضه أنيّ أشعر أنك تعيش في دوامة من اليأس تعبر عنها كلماتك فالإحباط أدخلك في دائرته اللانهائية التي تخترق الكون الواسع العريض بأبعاده المختلفة صار عندك ضيقاً كحذاء ذاك الجندي الأحمق الذي أكتشف ضيق لحذاء فلم يجرؤ على تغييره محتفظاً به في رجله لأنه معجب بلمعان طلائه فظل في رجله الحذاء حتى عرضه للهلاك لأنه أعاقه عن التركيز فوقع في حقل ألغام تسبب في بتر ساقه.
عزيزي أعجبتني طريقتك في التفكير ولكن أحذرك من أن تظل قابعاً متحصناً بالعزلة التي حتماً ستدفعك للاستسلام للأغلال والقيود فأنت في حاجة إلى استنفار إرادتك فأن فعلت فسيكون من الميسور عليك تحرير إرادتك بالانفتاح . عزيزي أحيانا ينتابني شعور بأنك تهوى تعذيب ذاتك فالبديهي أن تفعل ما يسعدك لكني أراك تفعل ما يربكك ويقلقك يبدو أنك مستسلم للمانعة غير الضرورية فمن المهم قبل أن نسلك بحرية أن نفكر بحرية ونتعامل مع كل المعضلات الشائكة ببساطة بعد ذلك ستجدها في مكانها الصحيح.
عزيزي لا أختلف معك أن الحياة قاسية لكنها ليست بتلك القسوة التي أجدها في تعابيرك عزيزي أدعوك لإعادة النظر في كل قضية مره ومرتين ستجد أن هذه الدنيا بكل عيوبها رائعة بسيطة فإذا نظرت بعين الرضا تكون الأشياء بسيطة وسهلة أما إذا أردت تغير الدنيا من حولك فلن تفلح في التعاطي معها لهذا أرجوك تغير زاوية نظرك فستجد الدنيا من حولك متغيرة فأنت تستند في تبرير تشاؤمك على الظروف القاسية التي عشتها في لحظة ما إذا كانت تلك الفرضية صحيحه فآنت تعلم أني عشت الألم نفسه وتجرعت بصعوبة المعاناة لكن بالصبر أعدت تشكيل نظراتي للأمور بإنفاذ الإرادة تجاوزت أن أكون إنسانة متشائمة متحطمة كان ذلك عندما أعدت ثقتي في الناس وفي نفسي فصرت انتقل من قوة إلى وعي عزيزي ابو امنة أرجو أن تعيد النظر في سلوكك ومواقفك فستجد أنه لا مبرر للقلق على مستقبلك الشخصي أو مستقبل البشرية أو مستقبل الدنيا فالذي يقلق هو أن تترك نفسك فريسة اليأس والإحباط فملاحظتي الدائمة أكررها لك : أنك بإصرار غير المبرر تدور في دوائر الحزن والتشاؤم ولا خيار لك إلا أن تنظر للدنيا بقلب مفتوح واثق من الوصول لكل ما تريد دون جهد أو عناء فإذا فعلت فستجد الأشياء هي التي تبحث عنك وتسير إليك لا أنت الذي تذهب إليها باحثاً .
****************************************

تواصل باربرا وابوامنة تتطلب تصديهما ومشاركتهما وتقريب فهمهما لبعضهما البعض فقد ظل هو دفاعياً مما خلف أجواء من التوتر والمعارك غير الضرورية فباربرا كانت تبحث عن التفاهم والثقة وأن تجد عنده التطمينات.أما هو فقد كان يميل للتبريرات والتفسيرات الروتينية لأنه دائماً ما يحاول حلها بقوة إرادته فكان يفترض أن باربرا تقمع مشاعرها أو تحبسها في إطار تصوراته أو حتى تغيرها لتطابق تصوراته لكنه تغير بعد أن أبحر في مزالق المواجهات والمناقشات والحوارات التي تتناول كل القضايا المعلنة والمسكوت عنها ففي أحداها همست باربرا في أذن ابوامنة :
( كنت أشك عن أنك جاد في رغبتك في التخلص من نفسك لانيَّ أعرف أنك تؤمن أن الكون متناقض ولا أمل في انسجامه أما بعد أن أنصت إليك عرفت أنك لا تعبر عن خيبة الأمل والسأم فقد كنت أعتقد أنك مشوش تماماً لأنيّ شعرت من كلماتك أنك تميل في تفكيرك أن تجعل من المال الحل لكل المشاكل صحيح أنه عصب الحياة وقيمتها ولكن اعتباره جوهر المشاكل ربما يدفع لارتكاب حماقة أو مغامرة يخسر فيها بعض الناس حياتهم. هذا ما يدفعني لدعوتك للتراجع عن تلك الفكرة القاتلة كما أرجو منك عدم الإصرار على رأيك كما أرجوك إلا تكشف انطباعات لغيرك حتى يصل مستمعك فكرتك ولا يتصور أنك لا تملك القدرة على مسامحة نفسك والمغفرة لغيرك أو أنك مستعد أن تدفع كل شيء لتجاوز الشعور بالذنب.
نشأت علاقة باربرا وابوامنة في مساحة من التفاهم الذهني الصارم ذلك لأنها تأسست كعلاقة تطورت من صداقة واسعة ضمتها هي وهاله وابوامنة فالحقيقة أنهما كانا أكثر انسجاماً وتواصلاً مما حقق أرضية لحوار ذهني جاد هيأ لباربرا أن تكون جزء من هذه الوحدة الفكرية القائمة على الحوار التفاعلي المناهض للظلامية بدأ هذا الترابط عندما قررت هاله أن تعرف ابو امنة باربرا فقد اسحبا من اجتماع رابطة الطلاب بهدوء واتجها لشقة الدكتورة باربرا كي يعرضا عليها كطبيبة نفسية معاناته مع الكوابيس فقد كان ابوامنة مضطرباً بشكل صارخ ففطنت هاله لحالته فلم يكن من المجدي تناول حالته مباشرة لأن ذلك لن ينتج عنه تهدئتها وتطمينها وتفريغها من ارتباكها وقلقها بإعمال طريقتها الخاصة في صرف ذهنه وتوجيهه نحو الموضوعات العامة . فاتجهت به لموضوعات مهتم بها مثل تحرك المثقفين بعيداً عن التقوقع باعتبار أن الهوية العرقية لا يمكنها بحد ذاتها أن تشكل دائماً قاعدة للتلاقي لقوى مقاومة برغم أنها توفر مصدر دعم وقوة فتفاعل ابوامنة تحدث بانطلاق لسان فهذا ما أرادته هاله من تلك الإيماءة الفكرية فقد ناقشت ابوامنة في تلك القضية أكثر من مرة وعبر بصرامة عن اعتقاده حول مثقفي القرن الافريقي الذين يفترض أنهم يعانون من ترهل في علاقتهم بهوياتهم وأنهم جزء من المشكلة بصمتهم وعجزهم وانصرافهم فهم في اعتقاد ابو امنة ليسو جزء من حل المشكلة لانهم من صنع المشكلة وجد ابوامنة نفسه يناقش هاله بحماسة زائدة حتى أنه نسي قلقه وارتباكه حين عبر عن أفكاره بقوله :
الاهتمام بالهوية لا يعني مجرد الاحتفال بالتراث فللهوية معاني تتضمنها النشاطات الملتزمة في مفهوم ثقافي متعدد ليس فيه خصوصية عازلة للجنوب والشمال كجغرافية او ثقافة او منظومة قيم اخلاقية ودينية .
عندما أوضح ابوامنة فكرته حول الترهل الفكري والجمود في نظرات مثقفي القرن الافريقي كانا قد أدركا المبنى الذي تقع فيه شقة باربرا فاجتازا بوابة المبنى وصعدا لموقع شقة باربرا في الطابق الثاني فقرعت هاله الجرس فكانت باربرا تستقبلهم عند مدخل الشقة فدلفا معها لصالة الاستقبال وجدا باربرا فتاة لبقة تجيد فن الاستضافة فعرضت على ضيفيها المشروبات الغازية والشاي فبادرت هاله بإبداء رغبتها في مشروب البيبسي وطلب ابوامنة مشروب الكوكاكولا .. منذ ذلك اللقاء تطورت علاقة باربرا وابوامنة طردياً وتخطت كل الحدود والتقديرات فلم تقف تلك العلاقة عند حدود طبيبة ومريض فاتجهت لأعماق أكثر بدأ الأمر حين عبر ابوامنة عن قلقه هكذا:
( أشعر بالتعب الذهني من الصراعات الحمقاء التي تجتاح الدنيا بأسرها وتمزق الأفراد والمجتمعات، فأجد نفسي في جدال ومحاورات محكوم عليها بأني مدان وموبخ بانتظار الادانه.. آمل عبثاً أن يأتي من هو قادر على قلب مجرى الأحداث فيتدخل بحماسة وكرم ليخرجني من هذا التوتر الناجم عن الأوضاع المتردية لكنه قطعاً إذا ظهر لن يوجه نظره إلينا فالآن اعترف بسوء تقديري إذا أني أنفقت أفضل أيام العمر ابحث عن شيء لا وجود له فانزلق في التوتر هو حظي ونصيبي ولا يملكون شيء لتغييره فيقولون أنه المكتوب)
****************************************
أثناء تواجد باربرا في باريس لحضور مؤتمر طبي تعتقد أنه سوف يؤثر على ارتقاءها المهني فهو يعد حدثاً في غاية الأهمية لأنه المناسبة التي ستعرض فيها بحوثها في تلك الأثناء اضطر ابوامنة ان يمطر بريدها الالكتروني بوابل من الرسائل الوجدانية ذات العواطف الكثيفة حتى أن باربرا تشككت في أنها أطلعته على أهداف رحلتها العلمية فلليقين الذي لا يقبل الشك أنها أرسلت له رسالة قصيرة جاء فيها مايلي :
ابوامنة
حاولت ألتقيت فلم أوفق ـ عزمت السفر لباريس لمؤتمر أطباء بلا قيود فهناك سأقدم أطروحتي التي توصلت لها من خلال بحوثي حول إثراء الأسبوع الأول في حياة الطفل على مجمل حياته وقراراته فهي مادة علمية جديدة كفيلة بهدم نظريات علمية راسخة وتعتبر انتصار للانسانية وعلم النفس فيدراسة الطفولة المبكرة.
هذا المؤتمر بالنسبة لي هو دفعة ضرورية انتظرها لتحقيق بعض أحلامي . حافظ على نفسك حتى أعود إليك.
في الفترة التي قضتها باربرا في باريس أدرك ابوامنة معاني الألم والمعاناة ففهم إنهما حبيبان وهذه حقيقة عليه مصارحته بها ولا يجدي الهرب منهما ربما لهذا أو لأسباب أخرى في نفسه أمطر بريدها بالرسائل الالكترونية التي تحمل في طياتها الكثير المقلق المربك فقد طرح في رسائله أفكاره بروح وديعة تعني أنه يعيش ألم البعاد فصار يشكل حياته منجذباً نحو أبعاد عاطفية لم تكن في تصوره واهتمامه فقد أصبح يشعر بأنه أكثر حوجه لباربرا. يبدو أن باربرا عندما ابتعدت لباريس وصارت المسافة بينها وبينه اكبر أدرك ابوامنة أهمية دورها في حياته وأن غيابها شكل له فراغ لا يعوض وفجوة لا ردم لها لكنه يعتقد أن الرسائل تعوض بعد المسافة لهذا أثر أن يبوح بما يشعر من خلال البريد فأرسل رسائل عديدة نختار منها هذه الرسالة كعينة :
عزيزتي باربرا
افتقدك بعد أن اخترت الطريق المفضي للأعماق لهذا أحاول أن أتجرأ فأبوح إليك بما توصلت إليه فاني بعت كل شيء واشتريت نفسي أقصد انتمائي لك . عزيزتي غيابك علمني أن أتحرر من عبادة نفسي وطاعة أحلامي ولن يكون ذلك غلو في الاعتراف بما في داخلي فلم تعودي بالنسبة لي طبيبة وصديقة فقد أدركت أنك طاقة الشجاعة عندي واتجاه الترقي باختصار أنت كل شيء في حياتي ودون أن ادري نمت في قلبي بذرة حبك فلم انتبه لها إلا بعد أن صارت شجرة عظيمة لها ثمارها الناضجة فقد اختبرت الم البعاد حتى أني عرفت لا سبيل للسعادة إلا بقربك فوجدتك أنت وحدك من يعمل في أعماقي القلقة ويرتب أفكاري المرتبكة .عزيزتي أتعلمين أني كنت أحمقاً ساذجاً حين أطعت التردد فصار حاجزاً فاصلاً بيننا ثم اتسعت المسافة لهذا أول ما ابدأ به هو أني احبك احبك احبك . عزيزتي من صبرك عليّ وطول أناتك تعلمت معنى الحب غير المشروط اذكر جيداً انك رويتي لي قصة الرجل الذي مات لأجل قطه لأنه كان مستعداً أن يدفع بحياته ثمناً لحياة القطة فبعد أن انقذ كل أثاث بيته وزوجته وأطفاله أدرك أنه مازال في البيت من يستحق الإنقاذ قطته الصغيرة فدخل البيت بحثاً عن القطة كان مستعداً أن يدفع حياته ثمناً لحياة القطة فالحب لا معنى له إذا لم يفهم أنه العطاء والبذل والتحرر من رغبات الذاتية الأنانية تفاعلاً مع الآخرين .
عزيزتي باربرا أن بريق عينيك يسيطر عليّ كلياً حتى أني لا املك القدرة في التفكير إلا فيك . أين أنت ـ؟ ماذا تفعلي الآن؟ متى تعودين ؟هل تعلمين انك تسربت في دواخلي رويداً رويداً حتى أني بت اشعر بك في وجدني؟ فما تكنه لك نفسي من مشاعر أبوح إليك بحبي تجاوزاً لسلطان الخوف فالحق أقول لك لم اعد قانع بالصداقة والاهتمام الأخوي ارغب في الانتماء إليك بالكامل .
عزيزتي مشاعري تجاهك كبرت وتعاظمت للدرجة التي أعجز فيها عن ابتلاع لساني لن ارهن مشاعري للقلق والمخاوف لا لن استسلم للصمت الجبان فأنا احبك احبك وحدك لا سواك .
باربرا كانت تعلم بحقيقة مشاعر ابوامنة لهذا ركزت في ردها على رسائله بإبراز مشاعرها تجاهه نختار هذه الرسالة من مجموعة الرسائل المتبادلة بين باربرا وابو امنة
عزيزي ابو امنة
لا أدري ما أكنه لك من مشاعر أهي مشاعر الحب أم شيء أعمق من الحب ، فالحقيقة أني احبك لكن المهم أن تعرف أني إنسانه عادية جداً لا أتميز عن بنات حواء بشيء إضافي إن لم أكن أنقصهن الكثير من المميزات فانا لا ينقصني الجمال ولكني لست فاتنة أو جذابة بالقدر المبالغ فيه فما املكه في عمق قلبي الحب الذي استطيع أقدمه لكل الناس العدو قبل الصديق . أنا أحب الناس دون شروط ربما يرجع ذلك لشعوري باني قاسيت الوحدة والحرمان وعرفت أهمية الحب أدركت بعد صراع مرهق أن الحياة زقاق ضيق لا يحتمل كل تلك المشاعر الأنانية التي يخبئها الإنسان في جوفه فمنذ أن أدركت ذلك لم أكلف نفسي البحث عن قلب يحتملني لأنيَّ قررت أن افتح قلبي للكل فوجدت نفسي في قلوب الكل لا أعاني المزاحمة ـ منذ أن أدركت ذلك لم اعد أركض خلف الأماني السراب .
عزيزي ابو امنة افعل مثلي اترك كل شيء وبادل الناس جميعاً الحب فانا تركت كل شيء وبدأت أعيش الحياة بقلب صادق وضمير مخلص فما ندمت أبداً فإذا فعلت ستجدني دائماً معك في قلبك كما أنت في قلبي.
في رسالة أخرى كتبت باربرا لابوامنة :
عزيزي أهنئك لأنك إستطعت أن تحل عقدة لسانك فعبرت عن مشاعرك تجاهي فكتبت ما تشعر به فنحن بحاجة لنتحدث نعم بدلاً عن الكتابة . أنا لا أتهرب لكن ابحث عن قالب أفضل نسمي فيه مشاعرنا أقول لك أني احبك ولكن لا اعرف من أين أبدأ ولا املك أسلوبك في التعبير ولم أتعلم تنميق المفردات لهذا أود أن التقيك لأحدثك بمصطلحاتي العادية البسيطة .
من خلال علاقة ابوامنة بباربرا أدرك أنه كان عالقاً في الأوهام حيث الشعور بالذنب فالحب غرس في أعماقه الأمل الرجاءات ففارقه الخوف الارتباك والقلق .
تسربلت الدكتورة سارة في رحلة العودة إلى مسمار بالتفكير العميق الذاهل . نظرتها كشفت أبعاد القلق والارتباك اللذان يدوران في أعماقها ربما أنها تتعامل مع مشروع العودة لمسمار كانزلاق حاد في منحنى التوتر . ضغطت سارة يدي موسى دون قصد نقلت ما تعانيه من اضطراب وتوتر لكن ارتجافاتها غير المعتادة فضحته وكشفت ماتعانيه فلمهم أن لمستها كشفت لها أعماقه فانصرفت عما يدور في خاطرها . فرسمت على محياها ابتسامة فارغة خالية من المحتوى حاولت جاهدة أن تخفي وراءها مشاعرها المتناقضة المتعارضة بين الاشتهاء والقلق لذا كانت كلماتها تتأرجح بين الغموض والدعابة وخشية انتكاس موسى وتدهور صحته.
- أشعر بارتفاع درجة حرارتك وارتجافك ما بك ياموسى ؟
- لا شيء لا شيء ربما صرنا عجوزين وربما القلق من معانقة الشمس .
- أنت وحدك من صار عجوزاً منهكاً من رهق الاندماج في الحداثة .
- خلال رحلة العودة إلى مسمار وهيا التقي موسى وسارة بأنماط متباينة من الشباب والرجال والنساء العائدون منالشرق الاوسط.
كان هنالك شباب ملتحي جالسين قبالة سارة وموسى كانت أحاديثهم هامسة وحركاتهم غامضة متوترة . تسرت بعض ما يدور بينهم فأوحى إلى سارة وموسى شعورهم الحاد بالفراغ وتمسكهم الصارم بالعواطف المغالية التي تفضح قصة فشلهم وهزيمتهم . هم الذين اضطرتهم ظروف البؤس والعطالة والحرمان إلى الهروب إلى "بلاد الضي" والحرية يبدو أن هؤلاء الشباب كانوا مشحونون بالرفض للدنيا الجديدة التي عاشوا فيها باستقباح قيمها ذات البعد الإنساني كما يحملون معارضة لدنياهم القديمة التي يتهموها بالذيلية يظهر أنهم يرسمون لها صوراً شقيه تدور حول حالة التخلف المتزايدة فملاحظاتهم كانت أكثر حدة في التعبير عن قيمة وصلاحية القوانين التي يصفوها بأنها حبر على ورق .
قدرت سارة أن هولاء الشباب المحطمين فشلوا في الاندماج مع قيم االشرق الاوسط الجديدة التي استقبلتهم واحترمتهم وأعطتهم العلم وتجارب استخدام العقل لم يدركوا أنه أعطتهم ولادة جديدة لأنهم ببساطة كانوا مثقلين بهموم ومشاغل دنياهم القديمة التي جاءوا منها وهاهم يعودون الآن إليها منكرين لها بأرواح محطمة وقلوب منكسرة موشاة بالصدمة مما يجعل تعابيرهم محشوة بالمغالاة التي تطبع سلوكهم الذي للتراجع عبر القرون إلى أزمنة التأسيس أو إلى أزمنة الفتوحات والامتدادات بصعودها وانحطاطها كانت كلمات الشباب التي أدركت مسامع سارة وموسى لم تتجاوز شرعية السماع للموسيقي وجواز الغناء والرفض أو عدم جوازهما اعتبار ما هو خارج من إيقاعات الطبول عملاً من أعمال الشياطين أي أنهم يرفضون كل شيء من الإبداع .
جلست في المقاعد الخلفية لمقعدي موسى وأسرة عائدة إلى دنياها القديمة دارت بين أفرادها مناقشات كشفت لسارة وموسى مدى الضياع والتمزق اللذان يعانون منها فقد كانت أراء أفراد الآسرة تتأرجح بين المحافظة على القيم الأصلية والتصالح مع القيمة التي وجدوها في مفهيم الشرق الاوسط الجديدة . برز أنهم عاجزون عن الاستمرار مع هذي أو تلك يبدو ما يتبناه هولاء الشبان سيكون عائقاً للاتقاء لما فيه من وصاية وحجر انفلاقي جاء كردة فعل للموقف المعاكس الاندماجي يراه الشباب رأياً انتقادياً اتهامياً بالهروب إلى الماضي والاستقواء بجيوش الجهل العاطفية .
اهتمت سارة وموسى بمناقشة دارت بين بنتي الأسرة بدأت المناقشة بتعليق أحداهما على قراءة الأخرى لصحيفة دولية واسعة الانتشار تصدر بلغات عديدة كان التعليق عصبياً انفعالي يظهر ذلك من الجدية التي سألت بها البنت أختها بامتعاض عن التصاقهما بالصحيفة مما فجر مناقشة أبرزت مباراة بين عقل الجمود والتقوقع في مقابل عقل القدرية المتصالح مع صورة الشرق الاوسط الجديدة فتبنى تصور خاص للحرية والانفتاح يظهر في أثواب بالية لاتنسجم مع العقل .
- لماذا أنت مع هذه الصحيفة فهي ككل الصحف فارغة لا تحمل ما يفيد؟
يبدو أن ندي لم تكن مندهشة بأفكار أختها سامية فقد ردت :
سامية : لماذا انتم هوسه بالعداء لهذه الصحيفة والصحف ؟ وكيف عرفت أنها "زباله"؟ من أين لك بالأحلام القاطعة النهائية؟ حاولي إلا تعتمدي على الآراء المسبقة!.
ندى : هذا النمط من الصحافة أصبح ذكرى ولا مستقبل له بعد أن عجز عن تقديم خدمة فاعلة .
سامية : ماذا تقصدين ؟
ندى : أقصد أن الانترنيت تجاوزه الزمن وحل المشكلة!فالصحافة الالكترونية صارت صحافة الحاضر المفضيه للمستقبل الواعد بكل غريب وجديد ..أمام هذه الصحف التي صارت أبواق للشائعات والثرثرة ومصدر للتجهيل الا ان اقول عنها "زبالة" .
سامية: لا اعتقد أن هناك فرق بين الصحافة الورقية والالكترونية في جمع المعلومات وتوظيفها فضلاً عن الأخيرة لن تصير شعبية لعقود قادمات !. ليكن في معلومك أن الصحافة الورقية مازالت تحمل هموم الناس !!.
ندى : تقدري أن هذه الصحف تعبر عن قضية أنها لا تحمل شيء أنها مجرد استهلاك يتأرجح من الفراغ للفراغ !!.
كانت سامية عكس أختها ندى لها ثقة في دور الصحف في صياغة الوعي العام وترتيب اهتمامات الناس لذلك أكدت قناعتها بخبر من الصحيفة .
سامية: هنا خبر مهم يتحدث عن تهجير الفلاشا إلى إسرائيل .
ندى : خبر قديم جداً .
سامية : هل عندك معلومات عن تلك الهجرات إلى إسرائيل .
ندى : ليس في ذلك الخبر جديد فالهجرة من وإلى إسرائيل لم ولن تنقطع منذ أن تدمر هيكل سليمان في بدايات المسيحية على يد الحاكم الروماني الوثني . اهتمام بهذه الأخبار ثرثرة فارغة إلا ترى أنها صحف بائرة قديمة تدار تحرر بعقلية القرون الأولى بطريقة صحف المطابع الحجرية .
سامية : أنت تنظرين لهذه الهجرة بهذا التبسيط لأنك مغتربة ذهنياً ومندمجة كلياً في دنيا غير دنياكي فهذه الهجرة من الخطورة بما كان لأن أثارها اختلال في توازنات القوى الكونية التي تؤثر في المناطق الحيوية بل هذه الهجرة ربما يكون لها أثر في أمن وسلام واستقرار كل البشر .
ندى: يا بنت اتركي المبالغة هذه قضية عادية تحدث من الأذل إلى الآبد ليس فيها جديد تكررت الف مره ومازال كل شيء على حاله ما قرأتي ياسيدتي مجرد إعلان صحفي لجهات يائسة أنتي اعلم مني بعجزها اتركي ضغط الأعصاب وتعاملي حاسوبك تجدي نفسك مع الأحداث.
كان الأب يتابع بحياد المواجهة بين نظرات بتيه حتى استدرجه تصاعد وتأثر النقاش لتقديم وجهة نظر غير منحازة تبريرية .
( اعتقد أن اكبر مشكلة نواجهها الآن وفي المستقبل ليس مميزات نوعية الصحافة المتداولة أو إلكترونية إنما سيادة نمطي التحرير التقليدي والمغترب الرافض لكل ارتقاء والذي يحاول فاشلاً إخضاع إيقاعات الحياة لمزاج مجموعة صغيرة موهومة تدعى الكمال فلا ينبغي أن نتوقع صحافة حية إلا إذا كفت الصحف على اختلافها عن مناهضة تطوير الإنسان ولحياته ومظاهره ووجوده
- أنت تكف عن طاعة الاملاءات .)
- لم تتورع ندى من معارضة وجهة نظر أبوها .
- ندى : ( أبي لنكن واقعيين ما تحدثت عنه نظرية توفيقية يؤمن بها أنت ولا تقبل المناقشة وبالتالي غير قادرة على التأثير في حياة الناس ومواقفهم وتصوراتهم وظروفهم . علينا أن نتجاوز هذه المعركة الوهمية بين الصحافة التقليدية والالكترونية ـ إلى عمق الموضوع هل نحن قادرون على المحافظة على تصوراتنا ومواكبة إيقاعات الحياة فإذا فحصنا وجهات نظرنا نجدها مازالت تصر على المحافظة على البدائية باستدعاء لتقاوم التطور إلا يكشف ذلك بعدنا عن عصرنا ؟)
- تدخلت سامية لتعرف اتجاه المناقشة إلى نقطة فصائل (انظر أبي الم اقل أن هذه البنت مسحورة بتيارات الحداثة ، هذه البنت ستجلب لك كارثة )
- ندى: انظر أبي لفعل بنتك هذي الجامد الذي لا يعرف ابسط مبادئ استثمار الممكن ويتهم الناس كل الناس بالجهل أنها طريقة تفكير موبوءة بالهواجس والشك لن تقدم بل ستؤخر كثيراً)
- سامية: ( واضح جداً أنك صرت مغتربة الفكر والروح مشوشة العقل تنظرين إلى كل شيء من خلال فكرة الاستثمار والمصالح ونظريات الاستهلاك أرجوك ياندى أن تجدي لك حلاً فإذا لم تفعلي ستجدي حالتك في تطور مستمر إلى ما لا يحمد عاقبته)
- تدخل الأب بسلطته القابضة حاسماً للمناقشة التي رآها دخلت في طريق مسدود لا قدرة له في التأثير في مجرياته .
- ( كفاية كفاية أرجوكما إيقاف هذه المناطحة البائسة حتى نعود إلى بيتنا...)

وجد موسى نفسه منساقاً لسماع حكايات التشرد والألم والضياع في جبال التوتر ، أخذت تلك الحكايات ترهق ذهنه وتسمم أعماقه فشعر بالتوتر والانقباض في أمعاءه . فمن أكثر تلك الحكايات تأثيراً فيه الحكاية التي قصتها عليه شقيقة ايمان الذي كان يسترجع معه تجربته في المعانّاة إبان الحرب عندما كان يعمل معلماً في ارتريا فقال عن ذلك: ( ... رسمت لنفسي هدف صغير محدد لا أحيد عنه بأي حال مهما حدث تمثل في إبتعادي عن المشاركة في الحرب مع إصراري الاستمرار في مهنة التعليم لأنني وطنت نفسي على أن أبذل جهدي في خدمة تعليم الأطفال مبادئ الكتابة والقراءة والحساب. عاهدت نفسي على ذلك بعد أن أغلق دخان الحرب أبواب المدارس وتشرد الأطفال بعد أن إنغمس الكبار في لعبة الاقتتال . كنت متصالحاً مع نفسي أعيش في هدوء برغم فقري ومعاناتي من إنجاز أعمالي اليومية التي وهبت نفسي لها ـ حتى جاء ذلك الأصيل بغيومه الداكنة فهاجمت منطقة دنكاليا كلها من أعلاه إلى أدناه جماعة مسلحة من الجهات الأربعة ، كتيبة الجراد ـ فجمعت تلك القوى المسلحة كل الذكور ووضعتهم تحت أعمال السخرة ففرضت عليهم حمل صناديق الأسلحة والذخائر وأمتعة الجنود . لقد جعلونا نقوم بمهام الدواب والناقلات يبدو أن الأمطار تحول دون حركة السيارات والدواب لهذا حملنا ذخائرهم .وأمتعة الرجال والأطفال ، سرنا على أقدامنا الأيام أم الشهور لا أعلم مقدارها بعدها فرضوا علينا بناء مرساة عند نهر القاش لترسو عليه القوارب المطاطية الصغيرة . قمنا بركم شاطئ النهر بالتراب والأحجار الضخمة والصلدة فاكتمل بناء المرساة الذي أستخدم بفعالية في نقل الأخشاب والأغذية لمعسكر التدريب في ضفة النهر الأخرى . كانت تجربة مؤلمة ليّ أنا الذي أناهض الحرب أجد نفسي مكرهاً على الخضوع للتدريبات العسكرية كان معسكر التدريب على سطح جبل في عمق الغابات محاط بالخنادق والاستحكامات القتالية . ينتشر في كل شبر من أرض المعسكر الجنود المسلحين بالبنادق الآلية . وجدت نفسي مع الأطفال والرجال والشباب مجبراً على طاعة الأوامر العسكرية كنا نزيد أو نقل عن عشر ألف من البؤساء الذين فرضت عليهم الحرب والانزلاق لأتونها والتحول لجنود،كنا نفترش الأرض وتغطينا السماء تفوح من أجسادنا روائح العرق النتنة كثيرون منا نسوا أسماءهم والمناطق التي جاءوا منها فامتلأت أذهانهم بمقولات قادة الحرب وأناشيد الموت. في معسكر التدريب كهذا تعرفت على فتى جريء كان مقاوماً لمحو الأدمغة وإلغاء الذاكرات بصرامة يحسد عليها . كان فتى الخامسة عشرة من عمره يتميز بإرادة صلبة تعلمت منها أنا القدرة على الصمود والتماسك اكتشفت صلابة عوده ـ أصالة موقفه وقوة إرادته ـ صدقه عندما دخلت في مشادة كلامية مع الجنود ساند موقفي دون اهتمام بتبعات مساندته مؤكداً عادية رفضي لطاعة أوامر الجنود فقد ظل بعد ذلك إلى جانبي يضمد جروحي التي خلفها ضرب وركل الجنود . أصيب زمنجل بمرض جلدي فتقرحت أطرافه ولم يعد قادر على المشي ـ ظن الجنود أنه يتمارض تهرباً من جلب الماء من النهر لمطبخ المعسكر . اعتبروه متمرداً على الأوامر لرفضه جلب الماء بحجة المرض فأوسعوه ضرباً فركلوه بالأحذية الثقيلة . جاء تقرير الطبيب مؤكداً مرض زمنجل. لأني كنت إلى جانبه شيئاً فشيئاً توطدت علاقتنا . كان دائم الغناء له صوت شجي يستخدمه ببراعة في إبراز ما يدور في أعماقه كان مصراً على ممانعة عمليات طمس الذاكرة التي ترسخها الجندية . كان يردد هذا المقطع دون ملل:
أيتها الطيور أحسدك أحسدك
فأنت حرة في إنطلاقك في الفضاء الممتد
لا جنود يراقبونكِ ...................
أنتِ دائماً ملكة الفضاء ..............
ما أعظم الحرية التي تستمتعين بها .......
أنت لست في حاجة لسلاح ِ
أحسدك لأنك لا تخضعي لإستبداد الطغاة
ما أتعسني
ما أتعس البشر
ما أقصر قامة الإنسان
إنه أسير مكبل بالأوهام والقيود
ما أطول قامتك أيتها الطيور الحرة الطليقة
جلسنا أنا وزمنجل تحت شجرة نستعرض واقعنا في جحيم المعسكر فقررنا الفرار لأن البقاء يعني أيضاً الموت البطيء . وضعنا خطتنا بتمهل للهرب كانت الخطة بسيطة تعتمد على التحرك السريع ليلة إختفاء القمر أجرينا حساباتنا بدقة فحددنا الميعاد وأعددنا العدة للهرب بهدوء . تسللنا تحت عتمة الظلام إبتعدنا عن مواقع الحراسات إجتهدنا للإبتعاد عن حقول الألغام المزروعة على طول وعرض المعسكر . عبرنا الجبل ناحية البحر في اتجاه عقيق . أدركنا آثار قرية محروقة أشار إلىَّ زمنجل بأن تلك الآثار آثار بلدتهم . تجاوزنا منطقة جبلية حجارتها مسننة لأنه لا خيار أمامنا فالأرض السهلية صارت مزروعة بالألغام . كانت مغامرة قاسية شعرنا بعدها بطعم السعادة لنوالنا الحرية . قضينا ليلة عند بركة مياه في طريق مهجورة بعيدة عن الخيران الموسمية التي تغذي "العطبراوي" التي يرتادها رعاة الاغنام الجبلية في منتصف الليل سمعنا نواح جوقة من النساء كانت الأصوات بعيدة تحركنا تجاهها وجدنا نساء حزينات يبكين إباءهن وأزواجهن ـ أبناءهن أو أقاربهن ـ جلسنا إليهن فحدثونا عن أنماط الألم ـ التشرد الجوع ـ التحرشات الجنسية والركل ـ الاغتصاب العنيف كان حديثهن يؤكد تجرعهن كؤوس المرارات.إنهن نساء قابعات في منـزلقات التوتر يعانين من الاكتئاب و الأسى . كانت وجوههن تكتسي بغمامات الحزن كانت أفعالهن أقرب منها للجنوب من الوعي والعقل ـ تلك تنادي نائحة بصوتها المبحوح من حدة البكاء ـ فلذة كبدها عقوس. أخرى تحاول جاهدة إرسال رسالة لأبنها ألا ينسى إسمه في منـزلق التوتر فكانت تكرر ببلاهة ملحه زمنفز تعال إلىَّ لا تبتعد رافقناهن إلى لهيا ومسمار فتفرقنا كل في حال سبيله . ألتحق زمنجل بالمدرسة وصبر على دورة التعليم حتى صار معلماً للغات لاحقاً أثبت تفوقه وبراعته وربما يسافر الاسابيع القادمة للندن).

ـــــــــــــــــــــ

العودة لمسمار
مغروسة جذوري في قلب الجبال فقد رايت الجبال في ارض المالح تحملها الشعوب على اكتافها وفي اعلى الاعالي عند ذراها تترجح الذاكرة المصدومة بالتحولات شوكا للنار من اجل القهوة..هناك في سنكات اجد ذاكرة شعبي الذي يسمونه"البجا" واسمية انا الانسان الحر النموزج .رغم الخلخلة التي اجتاحت البجا والشعوب المجاوره لهم من بني عامر وحلنقة وتقراي وارومو وامهرا بفعل الزمن اومن الاقدام الطفيلية الصاعده والهابطة عليه من اجل الذهب والالماس في"ارياب" حيث سمعت فرقعات عظام المعذبيين منذ ماقبل التاريخ ومعرفة الكتابة فاسالت نفسي متي وكيف تسلقوا الجبال؟ كم عدد الجيوش التي عبرت العقبة الى "سواجن" " وباضع" و" مصوع" و" عصب".عند زرقة البحر السماء تغير محياها كل منيهة ولحظة وثانية.. مياه البحر المالحة لايهمها احتفاء الاعداء بالبعيد لانها من صنع ذاكرة "البجا" من حجارة الجبال وصلابة الارض بل من مياه المالح الزرقاء هي من وضع الجبال على اكتاف الرجال ورفع ذاكرة الشعوب الى ذراها كي تتارجح شوكه تشعل نار تصلح للقهوة فقط. ياجبال غرب المالح كلما مضيت في طريق رايتك امامي تتسللين لقلبي المثقل اصلا بالاوهام فيصبح وهمك هو الوهم الاعرق في اعماقي موكب عرس الطقوس ذاتها عندما عبرت البحر شرقا للخليج فجاة انتشرت رائحة البخور من زوايا "السنباك" ومركب الصياد العجوز كانت مواجات البحر اقوى من "الدروع" يسالني قومي عن بيتنا القديم عن الاياد الخفية التي بدلت تاريخه واطلقته للريح العجولة التي كان اولاد الحي يلعبون بها اوتلعب بهم مع مروحيات الورق يطلقون منها الكرات البلورية الحارقة فاحرقت خيمتي. كنا نلهو مع الفتيات ثم ننظر اليهم من خطوط الصمت الذابلة حتى نتسلق اعالي الشجرة الهرمة حتى نستقر في حضنها نداعب العصافير والغربان والنسور الجبلية نراقب المراكب في جوف زرقة المياة وقطرات المطر تهطل رزاز هادي في رؤوس الصائدين ونسب لاعنين جذر الشجرة اللعينة التي انهكها السوس والاهمال واختلاف اللصوص وقوانين السوق التي لاتستقر على حال. جعلت من الصخرة في القمة مقعدي والليل صديقي قد قال لي:" مالم بقله مالك في الخمر" واخذ يطارد اللحظات الماضية وسنا ضوء خفي في قلبي يطارد شراعا وعبيرا في عمق البحر في عجل.كنت كالغجري اشدو في انبثاقات الفرح واطلق الاضواء للسماء اماني واغاني ومعاني وورود تتحرك من نبع طروب منشرح فلا يصبح امامي خيار غير الموقف الجاد الاصيل المتحرك نحو السلام و الغناء للجمال والمياه العذبه من اربعات فقد كنت اثب وامرح كالفراشات اهيم من مغنى لمغنى ابحث عن ليالي الوصال فاجدها مع زرقة البحر وانتظار الشروق كي اعانق الشمس في قرنها الغربي الجموح.
ضد العزلة
يدرك موسى تماماً أن الحكايات التي سمعها بعد عودته إلى مسمار كانت تعرفه بطبيعة التبدل الذي حدث لكنها في المقابل كانت تضغط على وجدانه بنقل المآسي التي عاشها ويعيشها الناس الى الضمير الانساني فالحقيقة أن موسى وسّارا عادا باستعداد لتفهم أحوال الناس وظروفهم . لكنهما كانا مجرد رجل وامرأة عاشا في الاغتراب لعقود ثم عادا إلى ديارهما كل شيء كان غريباً عنهما كما تركاها فالواقع يقول أن سّارا موسى عادا إلى مسمار هاربين من جحيم التوتر وقسوة السلوك العنيف من دمشق ليجدوا ذات العنف في مسمار فلم يكن في تقديرهما أن مسمار صارت فارهة هكذا تفوح من أزقتها روائح المسرات الساذجة ـ إعلانات المصارف وشركات الطيران العابرة للقارات ـ يتحدث سكانها عن كل شيء عن أثقال الحرب وصفقات السوق السوداء ومن سيجلس في البيت الأبيض ومن يخلف"بان كي مون" في مقعد الامين العام للمنظمة الدولية . يقول موسى في معرض تعليقه على ما شاهده في مسمار:
( مسمار توشحت بوشاح الرهبة والغموض ـ ففيها تلتقي منتجات التكنولوجيا وآثار الإنسان البدائي تحت شمسها الساطعة دوماً تلتقي غابات الأسمنت ومدن الصفيح كل ذلك يرسل أشعة صفراء فأرجوانية تجعل مسمار كعروس غجرية ترفل في مسرات الطفولة التي كانت تميزها حين كانت مجرد مراعي للأغنام ووادي للصيد . كان التبدل في مسمار ضخماً تعمقه حركة الحكايات التي كان يسمعها موسى وسارَّا التي وفرت لهما القدرة الضرورية على الفهم كذلك مادة دسمة للثرثرة وتبادل الأفكار فقد تغيرت بيئة هيَّا ومسمار فتلوث البحر بمخلفات المصانع والنفايات الكيمائية المدفونة عند ساحله فأصيبت الأغنام بالأوبئة المجهولة . الحكايات كانت فرصة جادة لموسى وسارا لاختبار مصداقية الأخبار التي كانت تصلهم في دمشق عن القرن الافريقي فقد وجد أن الأخبار التي كانت تصلهم أما أنها غير حقيقية تماماً لأنها تصور مسمار ما زالت رابضة في أصالته العذرية ـ أو أنها تفتقر للدقة ومبالغة في تصوير ما يحدث في ارض المالح فتبرزها كالتي إنفضت بكارتها وصارت مكان يقطنه الجن والأباليس والشر الذين جاءوا إليها من كوكب مجهول . طالت الثرثرة التي دارت بين موسى وسارَّا سكان هيا ومسمار الجدد من أين جاءوا؟ وكيف إكتشفوا هيَا ومسمار وعمرو الارض ماذا فعلوا فيها وعلى هامش الثرثرة لامسا التحولات وحكاية ايمان مع معسكر التدريب الذي صار بورسودان :
- كأني سمعت حكاية أخي ايمان
- ليس فيها جديد أنها تكرار لمعظم الحكايات التي كنا نسمعها في دمشق.
- أتفق معك لكن أحتاج لفهم ما يدور في مسمار.
- لكي تبدأ عليك استيعاب التحول الذي مسمار عليك أن تبدأ من أنها تبدلت أنها أضحت تؤثر فينا أكثر من رغبتنا في التأثير فيها .
- مسمار وهيا صارتا في قمة جبال التوتر
سيطر على موسى وسارا شعور مباغت بأن ثمة خلل ما قد حدث في هواء مسمار فلم يعد كما كان نقياً منعشاً . فساحل البحر العتيق الذي تعودا الجلوس على رصيفه تبدل فحركة السابلة على جنبات مسمار صارت صاخبة ضاجة كما هي الحركة في دمشق. والقوارب الخشبية لصائدي الأسماك التي كان تمخر مياه البحرإختفت وظهر بديلاً عنها القوارب المطاطية واللنشات الميكانيكية فصار البحر مفعماً بالحيوية الزائفة والضوضاء وعبث الصبية والصبايا . فساحل البحر ارتسم بالتناسق الصناعي ـ معارض التسوق ـ مزارع البطاطا ـ بساتين النخيل والكثبان الرملية لم يعد لها وجود . الحقيقة أن مسمار صارت أكثر حزناً بعبث الصبايا والصبية لأنها حتى اللحظة غير قادرة على احتمال تجوال الفتيات اليافعات بثياب السباحة فتصدمهن بهتافات كرة القدم يعتقد موسى أن ارض المالحباردة تسيطر عليها أكاذيب رجال الدين وأوهام العرفات كان رأيه حاسماً قاسياً بأنها لم تعدهي هي فقد تبدلت تبدلاً لم يكن في تصوراته لذلك سأل نفسه بجرأة لماذا تغيرت ارض المالح كل هذا التغير؟ هل لأنها صدمت بعجزها في الإرتقاء الذاتي ؟ هل لأنها صارت جزء من السوق وعلاقاته الأخطبوطية ؟ الواقع يقول أن ارض المالح تحررت من كل أوهامها وأحزانها ومحاسنها القديمة فحطمت قيود عزلتها وهشمت قلبها المتعصب حين طاردت الأنوار الساطعة المنسكبة عليها من ثريات االشرق الاوسط الجديدة لكنها ظلت كما هي متحجرة قاسية لم تهذب أفكارها ولم ترتب مشاعرها برغم إنها إعتادت نشر الزهور في كل مكان في مواسم وغير مواسم . يرى موسى صورة غير حقيقية صورة شاحبة لشوارع رخامية ـ منازل سيراميكية ـ غابات أسمنت ـ زهور في كل مكان أَضواء تسطع ليل نهار وسيارات شرطة تهدر في الشوارع في كل اتجاه عاجزة عن صنع الأمان رغم أن ثلث سكان ارض المالح صاروا من منتسبي الشرطة السرية. كانت انطباعات سارا تتفق مع موسى حين عبرت عنها في قولها : ( حقاً صارت ارض مركز للضوضاء والخوف ، أنها مركز التوتر أنها تشد الأعصاب وتلد من العدم الإحباط فأطرفها تعيش منذ زمن الانقباضات اللعينة فارض الحجر أحس بأنها كئيبة خاوية من أي مضمون لا تعرف إلا العبث ولا تعريف لها إلا بالحركة الإعطباطية ودخان المصانع المسموم القابض للأنفاس ) . قالت سارا ما قالت تعبير عن شعور عميق باليأس والإحباط تلبسها من تقرير دولي تحدث عن أن 70% من نساء ارض المالح مصابات بداء سرطان الثدي أو هن في طريقهن لتاكيد الإصابة بالمرض اللعين كما تتحدثت التقارير عن أثر أبخرة المصانع الكيمائية في زيادة حالات السرطان كذلك تحدث عن تضاعف حالات الإجهاض في المناطق الريفية التي دفنت فيها مخلفات المصانع الكيمائية في وسط الجبال كذلك أكدت التقارير أن نسبة التلوث الكيميائي بلغ55% في مياه الشرب الجوفية جراء تسرب السموم . كل ذلك وغيرة جعل موسى يتحدث بصرامة لأعيان البجا الذين طلبوا مساعدته في بناء نصب تذكاري لاوهاج اوشيك مع ساحل البحر قرب "سواجن" أشهر نظار البجا على مر التاريخ المعاصر . وجد موسى الفرصة فحدثهم عن أشياء عديدة منها : ( ... أنا لا أنتمي لأي شيء له صلة بارض المالح فالذي أراه فيها هو عبث شياطين وبشر خبثاء فأثقلوا عليها بالفساد فكل شيء هنا عندي منكراً وحشياً لئيماً فهذه الارض الآن كريهة رتيبة يعيش فيها أناس تافهون تسيطر عليهم فكرة الجنس وتبهرهم الأنوار . إنها تجرهم للقاع للصفقات النتنة وعمليات القتل القسري ومخططات مافيا المخدرات ـ أنا بصراحة لا أنتمي لهذه االارض المتختلفة القابعة في عمق جبال التوتر لأني أراها جثة هامدة موبوءة بالروائح الكريهة والعنف البدائي . فارض المالح التي ولدت فيها وحضنت أرضها رفات أجدادي كانت مزرعة الحب والأمان نهي الناس من الحقد والضغائن تقدم التطبيع والتعايش والسلام).
كانت سارا تنظر بذهول لغابات الأسمنت المنتشرة في بورسودان وسواكن ومصوع وكل ارض المالح الغربية وسط بيوت الطين تشمخ عمارات السيراميك متراصة متجاورة تتعايش مع الروائح الكريهة المتصارعة مع أكياس النفايات المتناثرة في المجاري، بوعيها أدركت سارا مدى التباين في المستويات فقد لاحظت أن البيوت العادية والفنادق الخشبية يقطنها العمال والبؤساء والعاهرات ورجال الشرطة السريون ـ أما الفلل والعمارات السيراميكية والأبراج الشاهقة واللاجئات والهاربين من القرى السياحية فيعرف طرقاتها الطفيليون والموظفين الأجانب وتهدر فيها جيئاً وذهاباً سيارات " اليو إن" ووكالات الامم المتحدة إضافة لسيارات حفنة من الضباط أرفع رتبة من الكونيل. فصورة ارض المالح جعلت سارا تفقد الثقة في كل المعلومات التي كانت تصلها هناك في دمشق فالإذاعة تتعمد في نشر الفوضى بالإخبار غير الدقيقة ـ الفضائيات تدبلج صوراً مغشوشة هدفها الكسب لا الحقيقة ـ فرسائل الأصدقاء التي كانت تصل سارا في "حيفا" و"دمشق" "بيروت" و" اوتاوا" و"دايتون" تتسم بالمبالغة فيما يؤكد افتقار تلك الرسائل للمصداقية هذا المقطع تحتفظ به سار شهادة علي السلوك التضليلي المشحونه به الرسائل التي كانت ترد إليها من ارض المالح:
(مسمار صارت سائبة غارقة في الفوضى وقسوة الطبيعة ونشك أن تعود قريباً إلى أمانها بعد أن بكت السماء أمطاراً حمراء وخضراء بلا توقف ففعلت فعلها فهدمت ودمرت ثم تحرك الفوضويون الذين اجتاحوا المناطق كالطوفان فنهبوا وسرقواـ وصارت مسمار مكان للأشباح بعد أن انحدرت المياه سيولاً من تلال البحر الجنوبية . كان ذلك عندما أرتفع منسوب المطر ففاضت الخيران فيضانها المدمر فاجتاحت المياه طوكر وهيا ومسمار وسنكات جرت المياه كالطوفان فانهدمت المنازل ودفنت الحياة ـ المشافي ـ المعامل ـ والأسواق . تدمرت ارض المالح لم يبق منها غير أشباح بشر خرجوا في تظاهرات أعقبتها المداهمات الليلية والاعتقالات وأنشطة الشرطة السرية. فر الناس للجبال للكهوف والخرابات في الأطراف الغربية حيث الجوع والملاريا والعنف الريفي وهجير الصحراء. فإذا لم تعينونا على إعادة بناء ارض المالح فإنكم لن تجدوها ثانية ..) ورد هذا المقطع في رسالة ثلة من أصدقاء سارا أرادو حثها على دفع مشاريعهم الإنسانية فعندما عادت وجدت إفتقار تلك الرسائل للصدقية . شعرت سارة بالندم لأنها تعاملت مع تلك الرسائل المضللة بالجدية فاهتمت بجمع المعونات وإرسال الإغاثات فقد تسولت في إقناع طلاب الجامعات والمنظمات المانحة الأن تشعر أنها تعرضت للاستغلال غير الأخلاقي من قبل المنظمات والمانحين والطفيلين من اهلها.


عندما غادر موسى ارض المالح إلى الشرق الاوسط كانت بيوت مسمار متشابهه فكلها مبنية من الطوب الأخضر أو قصب الذرة كانت البيوت متناثرة على طول الجبل كانت البيوت تربط أعالي الهضاب الصفراء بالسهل حيث مرعى الاغنام. كانت بعضها يوازي الطرقات المرصوفة بالأحجار السوداء المتجهة إلى عمق الصحراء الى النيل اوللواحات في "بيوضة". كان موسى يتذكر منظر آثار قديمة في وحل الخريف بعد المطر وهو يداعب أخوته ببراءة الأطفال . كانت البيوت تطلى من الخارج بروث البهائم . خلف الأبواب الموصدة ينق الدجاج وهو يلتقط حبيبات الذرة الرفيعة وعند ساحل البحر يجلس الصبيان على المراكب الخشبية وهم عراة كما ولدتهم أمهاتهم . كانت ارض المالح معزولة تستطع عليها الشمس فتضيء زواياها الأربعة بالبساطة والنور . كانت تلمع على جنبات البيوت حبيبات الرماد المنثور بعناية لطرد الأرواح الشريرة والتأثيرات السيئة . كان موسى يتفاءل بهذا الرماد ليس لأسباب روحية كما هو حال أهل مسمار فمصدر تفاؤل موسى بالرماد أنه كان يعطيه أحساس بالسكينة والطمأنينة . كانت ارض المالح مشحونة بالبساطة والتعقيد في آن معاً ـ البساطة كانت في أن ساحل البحر يحتشي بأحاديث السحر الذي تشتهر به عصبة من نساء عجائز طيبات مكروهات وقد كن يشربن الكحول البلدية ـ العرقي ـ لذلك كان يخشاهم الرجال الذين يتعاطون خمر الذرة ـ المريسة ـ لأنهم يعتقدون أنهن ورثن من أسلافهن شفاء الأمراض الخطيرة والقدرة على معاقرة الخمر . كن يقمن بتنفيذ طقوس الزواج والجنائز كما كن يعالجن الأسرار الخاصة بين النساء والرجال وفوق كل ذلك كن يقرأن الطالع ويتكهن بالحظوظ . أما تعقيدات ارض المالح تتمثل في إباحة الرجال لأنفسهم إقامة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج . كما تعود الشباب إستدارج الفتيات بأغاني الحب فيضّربوا معهن المواعيد الغرامية في دهمه الليل بعد ذلك تحدث القصة المعروفة فغالباً ما تجد الفتاة نفسها مضطرة لمعاشرة أكثر أو أقل من ثمانية شباب فيمرون على جسدها بالتناوب بحجة اختبار رجولتهم ويطلقون على هذه المعاشرة الوحشية " فتة" وهي ممارسة قديمة الشيوع في ارض المالح تغطيها ادعاءات القداسة والطهرانية كذلك صمت الفتيات المغتصبات اللائي غالباً لا يحتملن هذا السر القاسي فيمتن بالانتحار أو الاكتئاب فيموت سرهن معهن . الحقيقة الفتيان برعوا في إبتداع الحيل الماكرة لاستدراج البريئات كما أنهم يملكون سلاح السخرية البذيئة الذي لا تستطيع احتماله أي فتاة مهما إمتلكت من رباط الجأش فقد اعتاد هؤلاء الصبية الاستهزاء والسخرية التي لا تخلو من وحشية التحرشات الجنسية . أعتقد أن الفتيات في ارض المالح مصابات بخوف مرضي من الذكور حتى أن بعضهن يكرهن كونهن إناث . تلك حقيقة تتسترت عليها مسمار بوشاح الفضيلة وقناع الاحتشام .
عادت سارا وموسى من الشرق الاوسط فوجدا ارض المالح ترفل في البهارج والأنوار الساطعة التي تحيط الأبراج الضخمة و البنايات السيراميكية التي تنعكس على سطح مياهالبحر. بعد أيام قليلة من عودة موسى أدرك أن الثراء العمراني يخفي في باطنه إنحطاط في المفاهيم القيمية فتفاجأ بأن عمليات الاغتصاب الوحشي ما زالت تحيا بعد أنتجت نفسها على أصعدة أخرى تتناسب مع مظهر الثراء العمراني لكنها لا تختلف عنها كممارسة نشأة في طفولة ارض المالح عند هيا ومسمار ومصوع وسواجن في المراعي الخضر في أحضان فتوة الطبيعة بين مراعي الاغنام في سنكات فيسهر الفتيان والفتيات على أريج دخان الطلح ردعاً للذبابة القاتلة روت خولة أحدى شقيقات موسى وهي تنتحب حكاية صديقتها التي تعرضت لاغتصاب في سنكات ملخصة ذات الحكاية القديمة الساذجة حين أجتمع جماعة من الفتيان في بقعة خلوية في انتظار الفتى الوسيم الذي يستدرج فتاة فيعيدوا ذات الحكاية المقرفة . الشاهد هنا أن موسى أصيب بخيبة أمل حقيقية حين أدرك الارتقاء المعماري يوازيه تخلف في الأفكار والنظرات وطرق التفكير استمر هو يتحدث إلى سارا عن صدمته في ارض المالح . كان في أيامه الأخيرة في دمشق يمني نفسه بالهدوء والسكينة في مسمار باعتبارها نقطة كمال الطهارة والفضيلة في ذاكرته:
- سنكون قريباً في أرضنا أرض البحر والنيل فندفن القلق والمعاناة .
- احتاج أن أكون في مسمار في دنيا البداوة والنسائم والبراءة والهدوء .
- لا يهمني شيئاً بعد ذلك اذا تضمتني أحضان الطبيعة في حضرة أحبائنا في هبا ومسمار .
الان يشعر موسى أن عودته إلى ارض المالح مغامرة غير محسوبة خلفت في أعماقه خيبة أمل بالغة فقد صدم بالمحافظة على العادات البالية والقيم المهترئة برغم ذلك أخذ يعزي نفسه بأن العودة إلى ارض المالح كانت ضرورية حتى لمجرد معرفة الحقائق كما هي فيستمد القوة لمصارعة مسمار تأرجحاً بين الهمجية والتحضر وتتعايش الثراء والفقر الخلقي في ازدواجية مدهشة . أقر ان الحياةلم تعد كما كانت هادئة بسيطة فقد أضحت ضاجة بالحركة والعمران والأسواق مع تمسكها بالعادات الراكدة .
دهش موسى جداً لبورسودان ولسواكن الجديدة ولحركة الناس وهم يركضون في الطرقات ركضاً لإدراك تفاصيل حيواتهم اليومية هذا ما أكد قناعته أن ارض المالح لم تعد بريئة تسطع فيها أشعة الشمس ويظل الناس في نوم عميق . فأعظم صدمة تعرض لهاموسى كانت وهو في طريقه لأحد معارض التسوق في " ترانسيت" فتعرضت سيارته لحادثة أحدث أضرار بليغة بالسيارة إرتعبت سارا التي كانت برفقته كانت مفاجئته لاسعة حين نزل صاحب السيارة التايوتا الذي صدم سيارته من الخلف وهو هائج متوتر فطالب بتراخيص القيادة والسيارة فعندما وجدها سارية المفعول طالبهما بوثيقة تثبت أنهما أزواج. بالسلوك المكابر كان يبرز إتكاء صاحب السيارة المخالف لقانون المرور على موقعه في السلطة كان موسى ينتظر منه اعتذار إلا أن صاحب التايوتا ألقى في وجههما حزمة من الأسئلة التجريمية ذات الطابع الجنائي لم يترك شيء لم يسألهم عنه فقد بدء بالتدقق في الهوية ثم عرج لأسباب وجودهما في المنطقة في هذه الساعة بالذات ؟ كانت الأسئلة من تلك النوعية المفحمة المستفزة التي تجعل المرء يفقد صوابه وتضغط على أعصابه وتنقله إلى ذروة التوتر وحتماً تقوده إلى المشاحنة والمشاجرة . رغم أن هذا الحادث يعتبر عرضياً يصنف كسلوك شاذ من موظف حكومي غير سوي لا يعرف كيف ينفذ القانون إلا أن ما صدر منه من أقوال وزمجرة ووعيد وتهديد أكد لموسى حقائق جديدة كانت غائبة عن ذهنه لحظة عودته ولم يحدثه عنها الأهل والأصدقاء فما توصل إليه أن ارض المالح تعاني من توجس مرضي من الغرباء وإحتقان داخلي مزمن فما يحدث في هذه البقعة من العالم من وجهة نظر موسى أعمق من سوء تنفيذ القانون أنه حالة شلل تام يظهر في النظرات والأقوال وروح الحنق المعادية للآخرين بلا أسباب منطقية وجيهة بعد " لّت وعجن" تابع موسى وسارا سيرهما لمنـزلهما بعد إدراك قسم الشرطة رغم تأسف رجال الشرطة وإعتذارهم فقد أثار الحادث حنقه حتى أنها حاولت جاهدة ان تمحو عن ذهنه، أثار الحادث العرضي قائلة (.. علينا أن نتجاوز ما حدث من عبث غير بريء لأننا لابد أن نوقد شموع زواجنا العشرين بقلب صافي وعقل غير مشغول إلا بما نريد ونشتهي ونريد ..).
كان موسى بطبيعته المتسامحة مستعد لتجاوز حالة التوتر وطئ صفحة الموقف العرضي فكان رأيه في نهاية المناقشة يعبر عن هدوءه المعهود : ( لا بأس فلنترك ذلك الموقف ونتجه بأفكارنا لحفلنا وضيوفنا) .
___________________________________________
في محاولة لمعالجة مشكلات ارض المالح التي سيطرت على ذهن موسى برزت فكرة العمل على تهذيب العادات والتقاليد والارتقاء بها لتواكب حالة الارتقاء المادي الذي تشهده المنطقة فدعا لندوة أدبية وجدت إستحسان وأسع ومن ثم إستجابة غير متصورة من المهتمين وغير المشتغلين بأعمال الذهن والفكر والثقافة . إستمرت الندوة أكثر من أسبوع عرضت فيها طائفة من القضايا والموضوعات المتناقضة التي تم تناولها من خلال أفكار متعارضة وبأساليب مناهج متباينة إلى أقصى مستويات التعارض والتباين ـ فالبعض ناقش تبدل الأحوال في ارض المالح من وجهة نظر خاصة ذاتية فأكد أن ما يجري في الواقع يحسبه عملية تجدد وإرتقاء للأفضل ؛ والبعض الآخر كانت له وجهة نظر معاكسة لتلك فيرى ما يحدث فيرى تحولها لمجتمع المستهلك أي أنها استوردت كل العيوب الجديدة مع إحتفاظها بعيوبها القديمة فصارت الأفاق متكلسة . قادموسى بصبر يحسد عليه النقاشات التي دارت في الندوة لكي تثمر وتصبح إتجاه تفكير كما عمد إلى التوفيق بين الأطروحات دافعاً إيّها نحو التلاقي في النتائج والخلاصات . كان هو يعرف أن ما طرح في الندوة خليطاً من الخبرات الذاتية ـ الانطباعات الشخصية ـ السير الفردية ـ الأفكار المزاجية والسرد الموضوعي العقلاني الأكاديمي الصارم . كان موسى طوال إنعقاد الندوة يعمل بهمة لا تتناسب مع عمره على ربط الأفكار ويوائم بين الاتجاهات المتناقضة فقد كان حريصاً على إرساء مبادئ الصراحة والشفافية ـ والنقد الموضوعي للظواهر الأكثر إثارة للجدل والحق يقال أنه كان منفتحاً حتى للنقد الانطباعي العاطفي غير المتماسك فقد سمح بعرض مساهمات عديدة تميل للابتذال في إبراز العيوب والثغرات كما خصصت الندوة إحدى جلساتها لموضوع الآثار المترتبة على الكوارث الطبيعية التي ضربت ارض المالح وكيف صورتها الميديا الإعلامية وما حدث في الواقع. الحقيقة أن الموضع قسم الحضور إلى قسمين كما أحدث عصفاً ذهنياً قاسياً لصرامة الأرقام مما أوجد جواً ضاغطاً فرض ضرورة شيء من التغير لهذا قدمت مساهمات من نوع مختلف تميل إلى البساطة فقدم يعقوب موسى مساهمة اهتمت بإبراز الحوار مع الذات في تشكيل حالة تماسك لوعي الفرد الحقيقة أن مساهمة يعقوب موسى تركزت حول تجاربه الذاتية نعرض هنا ملخص مكبسل لها ولما دارفيها من أفكار :
( التوقع الأخروي إنتشلني من ظلمات الذاتية للإحساس بمن هم حولي فأيقنت أن هناك دنيا غير هذه الدنيا وعالم آخر غير هذا العالم سيذهب إليه الناس بعد الموت . فالمواقع والمستويات في تلك الدنيا الأخروية تعتمد على السلوكيات والمواقف في الحياة الحالية الحاضرة الأمر برمته يتعلق بإله أرسل مختارية من الرسل والأنبياء الذين جاءوا في سلسلة مترابطة واحدة تعلن صوت الإله ـ أوامره ـ نواهيه ـ مباحاته ومحرماته كانت كل الرسالة واضحة عندي إلا أنني وجدت صعوبة في التقاط فكرة الخلق الذكية في محتوى تلك الموضوعات المتداخلة ففي النهاية وجدت من أفهمني أن الإله منصف ومحب دون أن يكون في ذلك تناقض فقد كنت اعتقد في استحالة وجود الصفات الكلية معاً في آن واحد . فإذا كانت صفات العدل والإنصاف استحالت وانتفت تلقائياً صفات الرحمة والمحبة والعكس بالعكس . المهم بعد اختبار شخصي غاية في الغرائبية صرت افهم بنحو ما إمكان اجتماع الصفات الكلية في آن معاً دون تناقض في حالة الافتداء المطلق لأن الإله يتعامل شخصياً مع كل شخص بطريقة لا تتفق دائماً مع القوانين المدرسية . عرفت أن الإله يمكن أن يتعامل بخصوصية مع يائس يعاني القهر وخيبة الأمل لهذا تجاوزت الحكايات الساذجة المشوسه على نحو تلك القائلة :
( أن شخص تقي بات ليلة ببيت المقدس فلما كان الليل نزلت عليه الملائكة فحدثته بأن الله أحط درجاته لأنه أشترى تمراً بالبصرة فوقعت تمرة على التمر الذي إشتراه ليست من حقه فلم يردها لصاحب المتجر او يطلب منه العفو والسماح والغفران . فقام من فوره فعاد إلى البصرة قاطعا المسافة من بيت المقدس للعراق ماشا فرد التمره إلى صاحبها ثم عاد إلى بيت المقدس بعد سنوات ليقضي حوائجه فإذا بالملائكة تعود لتبشره بأن الله رد درجاته التي فقدها بسبب التمرة لانه اعاد الحق الى اصحابه ) لا شك أن هذه الحكاية تتحدث عن قيمة الوفاء بالحقوق لكنها تتحدث عن معجزة لقاء الملائكة كما تقود إلى الغلو في الطهرانية بالدرجة التي لا تخدم السلوك الفردي لما فيها من مبالغة تقود حتماً إلى التطرف . على كل حال لن نقصد تشريح ماتحويه من قيم ولانهتم لإبراز سذاجة هذه الحكايات التي يرددها البعض دون اتقان ما لم نستعرض أخرى تقول :
( غسل شخص ثوبه في الصحراء وكان معه صاحبه فقال له صاحبه تُعلق ذلك الثوب في ذاك الجدار ليجف فقال له لا ـ لا تقرز الوتد في الجدار فقال تُعلقه في الشجرة فقال لا أنه يكسر الأغصان فقال تبسطه على العشب فقال لا أنه عَلق الدواب لا نستره عنها . لهذا ولى ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره حتى جف جانب ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر فمات من داء السحائي ). ما يعاب على مثل تلك الحكايات التطرف في الطهرانية بإدعاء المصالح أكثر من الإله الذي اهتم بالتيسر فأنشئ الحياة على الفطرة كما أن هذه الحكايات تتعامل مع الأوامر الإلهية بصمم وعمى فتظهر كأنها أفكار بشرية تدافع بغلو عن الأسرة المقدسة والأمة المقدسة والشخصيات المقدسة وسيل عرمرم من الأوهام المقدسة التي لانهاية لها وتحمل في جوفها الحماقات والهرطقات الكاذبة كما أن المعجزات تصورها قضية بسيطة تحدث كل يوم مع كل شيء بسبب وبدون سبب فبعد جهد فهمت أن المعجزات أفعال إلهيه خاصة تحدث في ظروف خاصة ولأسباب خاصة في أزمنة محدده عن الخالق فلا توجد معجزات متكررة وأن وجدت فهي حتماً ليست أبدية تستدعي منى أراد البعض اولم يريدوا . المهم أني بدأت أتناول المسائل الروحية بعقلانية وواقعية لهذا واجهتني العقبات والعوائق والتوتر ذلك للزُوجة في فهم النصوص وخواء الرجاءات . شأن الظروف أن يقف تطوري في تلك التجربة الروحية ذلك لانشغالي باستكمال دراساتي الأكاديمية لأني كنت أعرف أن الدراسة ستمهد لي امتهان مهنة تحقق لي العيش الكريم ، المهم أن الدراسة فرضت علىّ تعلم طاعة التعليمات والخضوع للأوامر ومجارات الكلامية . بعد خيبة أمل في التطور الأكاديمي وامتهان مهنة بدأت أحس بضعف تطوري الروحي وانزلاقي بعيد عن الإيمان الأخروي على التفاصيل اليومية والمضامين الغيبية . شعرت أن ذهني كاد أن يتجمد حين إستعصى عليه إدراك طبيعة النار المتقدة في الأذهان فبدأت نفض الغبار عن ذهني وروحي فظهر لي عدم انسجامي مع الاعتقادات الشائعة يبدو أن ذلك يرجع إلى مراقبتي لتكويني الداخلي بغية تشكيل فضاءاتي المعرفية الذاتية رويداً وجدت نفسي أعارض الواقع الحياتي الذي صرت أراه لا يتأثر بالأمور الظاهرة لهذا صرت لا أتفاعل معها ولم اعد أؤمن بأن هنالك تنازع بين الحياة والتوقع الأخروي الذي يفترض فيما يفترض انهار من لبن وعسل وانهار من عطور المسك والعنبر تمنيت أن تكون حاضرة هنا لتزيل الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف من عبث العابثين ، هذا يمثل الخيط الذي يربطني بالحياة الموضوعية القاسية التي لا ترحم الفقراء والبسطاء وكل ذوي الإمكانيات المحدودة الذين تتعامل معهم كنفايات لهذا بالضبط اعتقد أنَّي متزن لخشيتي السقوط في حب الحياة مع كل خطوة أخطوها ليل نهار . المهم في الأمر أني وجدت نفسي أحبو كطفل علي يداي وقدماي هذا ظهر لي كالانحطاط نحو الزوايا الخبيئة في الأعماق التي لا تطالها الرياح ولا تؤثر في طبقة الكريستال السميكة فمما يدور في أعماقي قلق وإضطراب فبرغم ذلك الارتباك الذي كان من حول يحسبوني منسجماً متزناً ذلك لأني كنت أحقق نجاحات ملحوظة في التعبير عن نفسي بدرجة أكاد اجزم فيها تقلص التباين بين تعابيري المنطوقة وتلك التي تدور في أعماقي فما أعيبه على نفسي تعثري في إبراز عواطفي ربما ذلك لاندفاعي الذي تجده مراعاة شعور الآخرين وما يفرضه الحال فأبدو متلعثماً إلى حد ما وينعقد لساني فيتعذر على الدفاع عن نفسي فتظهر مواقفي مرتبكة مهزوزة . في لحظة تطور أخرى بسبب عوامل مستحدثة لم تكن في حسباني اهتممت بإصلاح أعماقي ورتق كل فتق في وجداني فصرت متصالحاً مع الجميع دون شروط ـ مستغلاً لأحوالي كافة فالحقيقة كنت خائباً فاشلاً فاصلاً ما يدور في دواخلي وما يتحرك خارجها فالنتيجة عجزي عن الاستفادة من كم هائل من المعطيات والوقائع الظرفية المجانية فكان لابد من الموازنة للنفسيه داخل العقل وخارجه فوجدت نفسي أنطلق في التعبير عن الأشياء كما هي بلا قيود أو حدود مسبقة لألتزم بها فتحررت من الانطوائية والعزلة والانبساطية). علق الاستاذ موسى على معظم الموضوعات التي طرحت في الندوة بطريقته المعهودة التي تلخص القضية وتستنتج التوصيات أما في حول ما طرحه يعقوب موسى قال :
(أراك أخ يعقوب تصعد ثم تهبط في ذات الوقت تدول حول نفسك دورات متداخلة فلا أبنت لنا بالتفصيل ما تود قوله ـ انك لم تجمل فنعرف فكرتك فالوقائع تقول : أنك تحدثت عن كل شيء كما لم تتحدث لأنك لم تمهل نفسك لعرض فكرتك فتقفز للنتائج بلا معلومات حتى أسقطت على نفسك نتائج هائله لا مقياس لوجودها حتى تتأكد علي حقيقتها لذلك لم تراع الفاصل بين الأشياء وأثرها فما سمعته مجرد حديث يؤكد أنك ما زلت تكافح لكي تثبت أنك موجود . اعتقد أن تعابيرك فيها سكون رهيب ومعنى اعتذاري لا ضرورة لهما لأنهما جعلا صوتك متكسراً على حوائط الجمود برغم ذلك استطيع أن اقر أن مفرداتك فيها صفاء مخادع يدعي أن كل طاهر نقي مائه الحيوية والعذوبة وكل المطلقات المنعدمة أصلاً في الأرض . ما سمعته كلمة خاصة حالمة تحتفي بالمتناقضات التي تجعلها خاوية جوفاء تفتقر للوقائع والمعالجات الذهنية التي لا غنى عنها مما يدخلها في أبواب الشعر العاطفي ).
___________________________________________
حاولت سارا أن تخرج موسى من صدمته من تبدل ارض جبال بحر المالح الغربية ذلك من خلال تأكيد تغيير الأحوال من طبيعة الأشياء وأن ما شهده القليل بحسب الاعتقاد الإيماني الذي يتحدث عن دمار لا حدود له لكل الأرض فتجف الزروع وتخرب المدن ويغلق الناس ديارهم .فتعتقد سارا أن ما حدث من تحول فيارض المالح طبيعي وليس مزيجاً مخيفاً كما هو النواة القديمة فقرأت لموسى ما هو مكتوب في الكتب القديمة :
(تنجست الأرض بسبب سكانها لأنهم خالفوا الشائع ، وتعدوا على الفرائض ونقضوا العهد الأبدي لهذا اللعنة تأكل الأرض ويحل العقاب سكانها لهذا يحترق سكان الأرض ولا يبقى منهم غير عدد قليل وتجف الخمر وتذبل الكرمه بين كل الفرحانين ليصمت طرب الدف ويسكت صوت المرحين ويتوقف عزف العود . لا يشربون الخمر على الغناء ويكون المسكر مراً لشاربيه تخرب المداين ، تعم الفوضى ، يغلق الناس ديارهم لكي لا يخزل أحد يصرخون في الشوارع طلباً للخمر يغيب كل فرح ويزول كل سرور على الأرض ولا يبقى في المدينة غير الخراب ويصير باباها محطماً فتكون الشعوب في وسط المرض كزيتونة جمعت حباتها أو كبعض العنب المتروك بعد الحصاد) قالت سارا أن سلوك الناس هو الذي يقود في نهاية المطاف إلى الخراب لهذا لا أشعر بالقلق من مظهر مسمار وما يحدث فيها من تطور وعمران يوازيه إنحطاط في القيم التي تسميها الكتب القديمة نجاسة لذلك لن أقول دع القلق على مسمار وأبدأ الحياة ولكن أقول لك أفهم النبوءات تجد فيها الإجابة الواضحة لما يحدث أمامك من تحولات وتبدلات قد تبدو مخيفة للذي لا يغوص في مرامي النصوص فيدرك إبعادها العصية .
- يا سارا أنا احترم إيمانك بالنبوءات ولكن النبوءة التي قرأتيها تتحدث عن الدمار والخراب وما يحدث في مسمار عمران وتطور خالي من الروح فكيف تفسرين هذا التناقض الجوهري .
- النبوءة تتحدث عن خراب في نفوس الناس ومخالفة أمر الله وشرائعه وهذا ما أراه جديداً في مسمار وسوف يصل مداه كما في كل الأرض .
- كلامك هذا فيه كثير من التعقيد أحتاج لإيضاح أكثر .
- التطور المادي القائم على رؤية بشرية محدودة تصاحبه تدهورات في الأخلاق والمبادئ وهذا ما يسبب غضب الله فيدمر الأرض .
- ما اعببه على فكرتك أنها تطوع نص قديم ليخدم فكرة جديدة هذا ما سيزيد الهاربين من الإيمان ؟
- لا أتفق معك فالنص قديم للذين لا يؤمنون به وجديد لكل من يؤمن به ففيه يجد الإجابة .
- فما قولك في تعاظم البناء .
- قبل الكسر الكبَّر
- لكن أنا لا أؤمن أن النبوءات تتحقق هكذا ربما خيالي لا يساعدني للنظر للأمور كما تنظرين .
- أنه إيماني وطريقتي في فهم النص وإنزاله للواقع .
- أنا أعرف إيمانك ولا أعارضه لكن ليس مرجعيتي النص الذي تؤمنين به .
- هذا شأنك .
- أعترف أن هناك مشكلة أخلاقية ربما تسبب دمار عظيم واحتاج لجهودك معي .
- ستجدني دائماً بجانبك متى ما رأيت ذلك في كل ما هو ايجابي .

___________________________________________

من عادات البجا وكل سكان غرب بحر المالح الاحتفالات الطقوسية الذي يطلق عليها اسماء عديدة على ان يكون الاحتفال حداً فاصلاً لمواسم الإنهاك في العمل والدخول لمواسم الإثمار والتزاوج ففي هذا الاحتفال يلعب الكهنة والسحرة والعرافون والعرافات دوراً متقدماً فيتقمص الأبناء أرواح الأجداد فيعلنوا الوصايا كما تستحضر الأرواح وتظهر المعجزات فينال أصحاب الحاجات ما يريدون فيشفى المرضى ويبصر العمى وتعطى النساء العاقرات البشارات بالبنين والبنات ويقوم " بائع المطر" بأمر المطر فتهطل الأمطار لترتوي الأرض وتشبع الأنعام يقام هذه الاحتفالات الطقوسية تضم زعماء بطون قبائل البجا واصهارهم وحلفاءهم من قبائل البني عامر والحباب والبشارين والتقراي والامهرا في موسم "عينة الخرسان" عندما يكتمل القمر الثالث قبل نهاية مواسم الأمطار كان موسى من مقرري الاحتفالات الطقوسية بحكم أنه أحد أبناء زعماء البجا الذين كان لهم تأثير عظيم في حياة الجبال والهضبة الاثيوبية ـ فقد دعي موسى للاجتماع الذي كان متردداً في حضوره . لكن سارا شجعته لحضور الاجتماع لأنه يمكن من خلال الاجتماع تنفيذ فكرته في الاصلاح القصدي بدل ترك مسألة التحولات للصدق او للتغيير الدموي . وطن موسى نفسه على أن يعمل على تجريد فكرة الإحتفال من الأوهام والعادات البالية والموروث الثقيل ليصبح الاحتفال فرصة للمرح والمودة والتواصل الإنساني . كانت أخر مرة حضر فيها مثل هذا الاجتماع قبل هجرته "لأوتاوا" من اجل الدراسات العليا عندما كان في مقتبل العمر كانت له أفكار راديكالية حول الاجتماع ملؤها التشكك في جدواه.الآّن يحضر موسى الاجتماع هذه المرة برؤية واضحة لهذا أبدى اعتراضات وجيهة لأنه قرر العمل الايجابي فمما قاله : ( أن عصرنا الحاضر هذا هو عصر المعرفة حيث تتسع فيه سلطة العقل دوراً ووظيفة ونحن البجا لسنا أقل من غيرنا فعلينا أن نكون أيضاً من صناع المستقبل . علينا أن نقر بضرورة المواكبة للعلم والمعرفة ولن نواكب إذا لم نغير سلوكنا ونجعل عاداتنا وتقاليدنا في تناغم مع العقل والعلم ). كانت الأفكار التي طرحها موسى تجد مساندة فورية من الشباب المتحمس . أما الشيوخ فقد كانوا واجمين ينظرون بجزع لما يدور حولهم . توصل الاجتماع إلى قرارات غاية في الأهمية منها أن يكون الاحتفال في أي مكان بأي عدد من الناس دون أهمية للكهنة العرافين والعرافات فقد اقترح أن يبدأ التغيير باختيار صالة فندق الهيلتون للاحتفال الطقوسي هذا العام. كما أقر المجلس ذبح ذبيحة واحدة بديلاً لمئات الذبائح . كما تساهل المجلس في الأزياء التي يرتديها البجا فأبيح لهم ارتداء أي ثياب في الاحتفال بدلاً عن الأزياء الطقوسية المصنوعة من جلود الوحوش كما حظر المجلس في الاحتفال حمل أي أداة قتالية لأي سبب كما بدل فقرات الاحتفال فاسقط المجلس كل الفقرات التي تتصف بالوحشية والعنف وحوّر بعضها المتصف بالسذاجة إلى فقرات فكاهية تميل للفرح والبهجة فالأهم من كل ذلك أعيد النظر في دور بائع المطر او كاهن المطر وكل الكهنة والسحرة والعرافين والعرافات فأصبح دورهم شكلياً صورياً لاخصوصية فيه .
ـــــــــــــــــــــ
وجد موسى نفسه موضع المسئولية بعد أن كلفه مجلس البجا وآخرين بالإعداد للاحتفال الطقوسي بعد التعديلات الجوهرية التي ادخلها المجلس . هذا الوضع فرض عليه الاهتمام بتفاصيل التفاصيل كما أتاح له الالتقاء بكل أشقائه وشقيقاته ففي إثناء حركة موسى الدائبة افتقد شقيقته عوضيةأم ابوامنة الذي كان معه في دمشق . فسأل عنها الكل فتهربوا من سؤاله أو لاذوا بالصمت واضعين أيديهم في أفواههم . ازداد قلق موسى على عوضية فكثف أسئلته وبذل جهداً اكبر فعرف أنها في طريقها لابوامنة وزوجته باربرا اللذان فرضت عليهما الإقامة الجبرية في اديس ابابا بعد أن ألقت عليهم القبض جماعة مسلحة تسيطر على أعالي الهضبة الاثيوبية في تطور مصاحب للصراع الاثيوبي- الارتري فتدخلت اديس وفرضت عليهم الاقامة الجبرية من اجل حمايتهم. كان وقع الخبر قاسياً على موسى ليس بسبب موضوع الإقامة الجبرية بل لأن الكل أخفى عنه الخبر وعرفه بالصدفة حين دلف "لبرج الواحة" القائم خلف "ساحة تهراقا" حيث محطة الحافلات . صعد موسى طوابق البرج وثباً على السلالم حتى الطابق السابع لأن المصعد كان معطلاً إتجه إلى مكتب صديقه سلمان وزوجته نادية اللذان يعملان معه في "جمعية التراحم الدولية". فتحت نادية باب المكتب الشقة أو الشقة المكتب . إكتسى وجه نادية بمسحة غريبة فيها مزيج من الأسى والحزن . كانت نادية من ذلك النوع من النساء القادرات على ضبط أعصابهن فتحدثت مع موسى حول كل شيء ثم دلفت لموضوع ابوامنة :
- كنت أتوقع سؤالك عن أخبار ابوامنة وباربرا ؟
- ما بهما؟ لا أعلم عنهما شيء منذ أن تركتهما في دمشق .
- ألا تعلم أنهم تحت الإقامة الجبرية في اديس ابابا؟
- منذ متى هذا الأمر؟
- منذ الخريف .
- كيف حدث ذلك ؟
- كانت مهمة باربرا وابوامنة إغاثة ملاجئ الأطفال في الجبال الغربية لاثيوبيا بعد الصراع الحدودي الاثيوبي- الارتري بإيصال الأغذية والمواد التموينية لها.
- لماذا هم تحت الإقامة الجبرية ؟
- متهمان بالإخلال بالأمن وتخطي الأنظمة المتعارف عليها في عمليات الإغاثة من قبل اديس ابابا كما عصابة من المجرمين تحاول ابتزازهم والسلطات المحلية تحميهم.
- كيف عرفتم الخبر ؟
- من خلال جمعية التراحم .
- هل أم ابوامنة تعلم ذلك؟
- بالطبع والدته إلتقت سلمان قبل أن تغادر لاديس ابابا.
دارت الدنيا أمام ناظري موسى وضبط نفسه حتى لا يفضح ما بنفسه لذلك لم يوفق في سماع المحاضرة السياسية الغامضة التي ألقتها نادية على مسامعه فقد أسرفت في الحديث عن الحقوق الإنسانية والحرية الفردية برغم ذلك رسخ في ذهنه المثل الذي تطرقت له نادية ( جو يساعدو في دفن ابو دسَّ المحافير ) . غادر موسى مكتب سلمان فسار بإحباط من كل شيء حوله فكان مسرعاً يتخطى أدراج السلم درجتان درجتان أخيراً أدرك الشارع . الحقيقة أن و موسى كان يتمكلة شعور عميق من السأم والحزن لأن كل الذين سألهم يعلمون أن ابوامنه مفروضة عليه الإقامة الجبرية في اديس ابابا وأن عوضية كانت تبحث عن سبيل للاتصال به . عرف ذلك بعد أن ناقش كل من سألهم عن أشول لذلك إعتكف موسى في منزله مفضلاً العزلة لا يقابل أحد لا يدخل غرفته أحد إلا سارا . إستطاعت سارا أن تخرج موسى من حالة الإحباط بعد أن أقنعته بضرورة إكمال عمله للإعداد الاحتفال الطقوسي . إلتقى موسى بشقيقته عوضية فشكا لها حزنه من إخفاءها حال ووضع ابوامنة وباربرا . يعتقد موسى أن مَنْ حوله عاملوه بجفاء وحسبوه من الغرباء بافتراضهم أن هجرته للدنيا الجديدة قد غيرت انتمائه الأسري . لم يكن موسى مواكباً ما هية التغيرات التي أصابت النقوك فقد أضحى المسكوت عنه في حياتهم أكثر من ذلك المعلن في أقوالهم وسلوكهم ، فحياة النقوك تحولت لسلسلة من الألغاز صارت نسيج مترابط من الأسرار فحتى التفاصيل العادية يتعاطونها بتوجس وحذر شديدين فموسى لم يكن يعلم كل ذلك حتى إلتقى شقيقته عوضية التي حدثته عن ما تبدل في حياة ال بجا قائلة :
( أراك صدمت لأنك لا تعرف ما آلت إليه حياتنا وما طالها من تبدل فلم نعد نحن أولئك البجا الودعاء البسطاء فقد تغيرت ظروفنا وصارت حياتنا مشحونه بالغموض والألغاز حتى أني اعتقد أننا لا نحيا حياة حقيقية لكثرة الأوهام التي تحيط بنا . فالناس هنا يضعون أقنعة تخفي حقائقهم . هل تدري أن البجا إعتادوا إبتلاع ألسنتهم وتحوير لغاتهم البداويت فزوروا اللغة الأم بعبارات التزلق والمراوغة وكل الكلمات المطاطية المتحزلقة الأنانية فالصمت صار فضيلة في حياة البجا بديلاً للوضوح والصراحة ـ فخلف الصمت هناك الخوف المروع من القضايا التي لا يمكن تصورها . طغت على سلوكهم الفردية فالانغماس في الهزل والسطحية ) كان وقع حديث عوضية قاسياً على موسى للحد الذي شعر بأن الدنيا أظلمت أمامه ، لكنه تيقن أن الواقع لا يشبه المعلومات التي كانت ترده في دمشق. قسوة كلمات عوضية وصراحتها كانت دافعاً قوياً للعزم لإنفاذ ابوامنة وباربرا فقد شرحت عوضية له طبيعة الأوضاع في اديس ابابا وأكدت له أهمية تدخله المباشر بالشهادة عن باربرا وابوامنة .
- موسى أنا اعتمد عليك في إنهاء إقامة ابوامنة وباربرا الجبرية فشهادتك كما علمت كافية لاطلاقهما.
- حباً وكرامة . فلتسامحيني لأني لم أبذل جهدي منذ أن سمعت الخبر .
- لا اعتقد أن هناك وقت إهداره علينا أن نبذل كل الجهد .
كانت سارا مهتمة بموضوع باربرا و ابوامنة لعلاقتها الخاصة بهما ولأن هذا الموضوع صار الشغل الشاغل لموسى فكان يشاورها في كل خطاه لمعالجة هذه القضية إلا أنه أظهر لها يأسه وإحباطه من دائرية الإجراءات وتعدد الجهات المسئولة عن هذه القضية طرح موسى على سارا سؤال مباشر :
- أتعتقدي يا سارا أننا قادرون على فعل شيء يسهم في إنهاء إقامة باربرا وابوامنة في اديس ابابا في ظل التعقيدات الإدارية ؟
- لا شك عندي رجاء عظيم في أن الصبر وطول الأناة سيثمران خيراً .
- أخذت اشك أن ابوامنة ربما ارتكب جريمة أعظم لهذا هو في هذا الوضع .
- لا أعتقد أن هناك شيء مما قلت لأني أثق في ابوامنة يمتلك الحكمة الكافية لتجاوز كل موقف ولن يرتكب جريمة مهما حدث.

___________________________________________

سارا امرأة تعرف تماماً كيف تصنع الهدوء في مملكتها الصغيرة لأنها تعرف كيفية استدامة السكينة بين افراد اسرتها. كانت سارا إلى جانب موسى في هزائمه وإنتصاراته فهي امرأة قادرة للغوص عميقاً إلى عمق أعماق القضايا فتسبر غورها فتصل إلى جذورها فهي دائماً تعرف العمل المطلوب في اللحظة المناسبة فهي امرأة تعودت استخدام ذهنها بحثاً عن توطين الطمأنينة في بيتها الذي أنشأته على قواعد التفاهم والتقاط الرؤى الخلاقة القادرة على إخضاع كل جديد وترويضه ففي قضية ابوامنة أشارة سارا على موسى بأهمية الاستعانة بكل المتاح من العلاقات وتوظيف كل القدرات وتحريك كل الإمكانيات لأن ساحل غرب بحر المالح لم تعد الحياة فيه سهلة كما كانت ففيها من المتناقضات ما يهدم كل بناء ويدمر كل جهد . الحقيقة أن سارا لا تعول على أمل زائف واهم دون أفعال حقيقية لأنها تؤمن ذلك يقود رأساً إلى الإحباط لخصت وجهة نظرها في قولها :
( صحيح أن اتفاق المتحاربين قضى بتحرير كل السجناء والذين هم تحت الإقامة الجبرية هذا لا يمنع التحرك السريع الجاد الحاسم لإطلاق سراح ابوامنة وباربرا بتأكيد أنهما من دعاة السلام وما جاء بهما إلى جبال الحبشة الغربية هو إغاثة ومساعدة الناس لتسود لغة السلام ويتحقق التعايش ).
كانت سارا تحلم بأن تعود مسمار إلى طفولتها . إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه بريئة لا تعرف الاحتراب والصعوبات وينتفي فيها التوتر . كانت سارا تعرف إستحالة العودة للوراء لذلك الزمن الجميل دون إعادة بناء هيكل الأسرة الذي يتغير مع تبدل الأحوال . فقد كانت مسمار تعرف نمطاً واحداً للأسرة والآن فيها عدد قليل من الأطفال ينشأون مع كل من الأم والأب ، فهناك الكثيرون الذين يربيهم الأجداد أو أحد الأقارب الآخرين، بينما هناك في مسمار أطفال يربون على يد أحد المعارف ولم يلتقوا بوالديهم ابدا ، حيث أنفصل الزوجان وارتبط كل منهما بشخص آخر فإحساس الأطفال أن البالغين لا يحبوهم ويعتبرونهم كائنات جاءت إلى الدنيا برغم إرادتهم . فيشعر الأطفال بقلة عدد المهتمين بهم برغم أن القاعدة الإنسانية السوية تقول : كلما زاد عدد المحبين والمهتمين في حياة الأطفال يستفيدون من التواصل المستمر والعرضي مع الأسرة الممتدة والأصدقاء والأقارب . ففي فهم سارا أن إعادة تماسك الأسرة في مسمار رهين بموقف عملي من العقل أى إعتراف بأن العقل على ما يحيط به من حدود، وينطوي فيه مخاطر هو القوى التي لا غنى للإنسان عنها في الارتقاء باعتباره المكان الذي تسجل وتخزن فيه الذكريات والعادات والغرائز وضروب القدرة والشهوة وكل تلك الحسابات التي تفوق التصور فالعقل يحمل حوافز ملحة وحشية غير مصقولة لا تهذب إلا بالعلم لهذا كانت تصر سارا أن خلاص مسمار يكمن في العلم والعقل فتقول سارا : ( أن العقل في ذاكرته يحتفظ بصوت همسة سمعها من أربعة عقود ما يحتفظ بمشاعر البغضاء منذ طفولته وكل لحظات البهجة التي لم ينلها تظل عالقة بذاكرته لا ينفك يتخيلها كل شيء مخزون في الذاكرة ـ عطر ـ حديقة ـ صلوات ـ مخترعات ـ جرائم ـ ملاحم ـ قصائد ـ نكات ـ مشكلات لم تحل ـ انتصارات عفي عليها الزمن وحتى الخوف من الجحيم نجده حاضر في الذهن ، فأي اتجاه للارتقاء بالقيم في مسمار أو في أي مكان لابد أن يشمل عملية تهذيب للعقول بالقدرة على إخضاع الأفكار وتوجيهها وممارسة التفكير الذي يروض الأذهان فالفارق بين التخلف والتقدم عند سارا هو فارق في الإنسان الذي يستعمل عقله ويلتقط دوماً حزماً من الأفكار الحافزة لتحسين حياته وحياة من حوله من البشر هذا يعني ضرورة احترام المعرفة والذين يدونونها والذين ينقلونها ففي رأي سارا أن ما يحول بين مسمار والارتقاء هو أنها مصابة بداء تكبيل العقول . صرحت سارا بتلك الأفكار في محاولة لتحمل بعض الأثقال عن كاهل موسى الذي أُرهق تماماً بقضية ابوامنة وباربرا التي يعتقد موسى أنها ليست حادثاً عرضياً يمر فيه شخصياً هذا ماجعله يمتحن أحلام الذين حملوا السلاح ليغيروا ساحل غرب المالح فما فعلوا شيئاً غير التمرد على الظلم والاستبداد ليمارسوه هم أيضاً الظلم والعنف والاحتراب . كان موسى يطلق عليهم ضحايا رغبة الاستئثار بنيابة الشعب كانت سارا تؤكد أن الذين أشعلوا الحروب مهما كانت دوافعهم تنطبق عليهم وصفة المثقف الكلاسيكي الذي تراه سارا ذلك الرجل الذي يمتلك قوة تحت أمره أو تحت طلبه في أي وقت يريد فهو يمتلك القوة والمعرفة فيحولها بنفسه بلا عقلانية إلى قوة تدمير ذاتي بسبب الهواجس الفصامية التي تجعله في حالة شعور دائم أنه ليس الشخص الذي يريد أن يكون فمن أجل هدفه الخاص يصادر حق غيره في التفكير ليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يدعي أنه مفوض ليفكر للشعب الذي عليه أن يتبعه ويطيع أوامره دون مناقشة أو إبداء رأي يعتقد موسى أن تلك النـزعة التسلطية الاستبدادية هي التي تهدم أي نظام إجتماعي مهما كان، ناهيك عن حالة ساحل غرب المالح التي فيها النظام الاجتماعي ضعيف وهش لغياب منظمات التفكير الفردي والجمعي التي تنظم التعبير عن المثقف الكلاسيكي في تقدير سارا المثقف الكلاسيكي ناقد جيد لكل شيء فهو يستفيد من ضميره المعذب فيتحول إلى إنسان يتكلم للناس فيستمتع بتصفيقهم من ثم يتحول إلى محارب نيابة عن الجميع لأنه يعتقد أنه يفهم مصالح الجميع أكثر من الجميع بذلك يهدم حياة الجميع ولا يقدم لهم سوى المعاناة والألم وفي الوقت ذاته يستفيد من كل الأوضاع فمثل هذا النوع من الناس لا يتورع من صناعة أبشع الأسلحة والدعوة للعنف والإرهاب وتوفير مقوماتها، كل ذلك لا يمنعه من التبجح في إجتماع عام أمام الجميع أنه ضد العنف والإرهاب . يعتقد موسى أن هذه الشخصية المأزومة المتوترة تشكلها ظروف خارجها وأزمات غير محسومة تعرف علي هذا النمط من الشخصيات المأزومة وهو بعد تلميذ في المرحلة الأولية فقد أحب معلمته ، أنها معلمه العلوم ، كان ذلك لا يتعدى كونه إحساس ولد صغير ، لقد إنجذب لصوتها قوامها الفارع وعيناها الزرقاوان برغم من أن مادة العلوم كانت عصية على الأذهان وبلا طعم ، فقد كان يجاوب على الأسئلة الصعبة بهمه عالية ومثابرة فائقة ، ذات يوم لم يحصل إلا على خمس درجات من خمس وعشرين درجة في الامتحان ، ما جعله يفرغ الدموع ويفقد أعصابه فينهار في الصف أمام زملائه أثناء توزيع الأوراق فصرخ بأعلى صوته،إستعادة المعلمة ورقته وهي تقول أنها ستعيد النظر فيها فأعطته بعض الدرجات قال موسى أنه لن يمد يده فرمى ورقته على الأرض أمام زملائه في الصف ولم يمنع نفسه من البكاء بمرارة حسبها الكل بكاء لإخفاقه في الامتحان والآن بعد مضي كل تلك السنوات يعترف أنه كان يبكي لعواطفه ومشاعره الجريحة فقد كان نموذج لنفسية المثقف الكلاسيكي فلم يعر موسى معلمته انتباهاً بعد تلك الحادثة كأنه لم يهتم بها مطلقاً برغم أنه أحب فيها مظهرها الموحي بالشرف والفضيلة .

___________________________________________

كان العنف يمليء ارض المالح الفاصلة برغم ذلك إنطلقت حافلة صغيرة من مسمار في إتجاه اديس ابابا لا تبالي بعد أن صعد فيها رجل وإمرأة هما موسى وساراّ كان عليهم الإدلاء بشهادتيهما للسلطات المحلية في اديس ابابا حول شخصيتي باربرا وابوامنة . كانت الرحلة شاقة من لحظة الإنطلاق من موقف الحافلات فقد ظلت الحافلة التي كانا على متنها عالقة بين الطرق الجبلية الداخلية في زحام المركبات التي تضج به مرتفعات البحر الغربية . بعد جهد جهيد إجتاز السائق وتجاوز عبر الشوارع الجانبية ظلت الحافلة تدور في الطرقات حتى دخلت الطريق الجبلي غير المعبد متجه إلى اديس . مرت الحافلة بتسعة وتسعون حاجز يتم تفتيشهم فيها تفتيشاً شخصياً دقيقا ومن ثمً التحقق من هوياتهم وأسباب رحلتهم لاديس ابابا قالت سارا :
(... كثرة الحواجز توحي بأنهم يبحثون عن شيء ما ) فقد كان هذا هو الإجراء الروتيني لمتحصلي الجبايات ورسوم العبور أما التدقيق في التفتيش يهدف لتأكيد هيبة السلطات المحلية العديدة.
كان الركاب يتذمرون وكان السائق الأكثر ضبطاً لأعصابه فهو يعلم ما يحدث في مثل هذه الأحوال كان يتعامل مع رجال المرور بحصافة . كان بعض الركاب ثقيلي الدم وحادي المزاج يمطروه بالشتائم واللعنات لأنه لم ينـزل من الردمية إلى شارع الجبال . كان السائق يعرف طريقه ومسئوليته، عبر راكب كان مستعد للشجار متخطياً المقاعد الأمامية متجهاً للسائق . متذمرا ويأمر السائق بإتباع أوامره مهدداً السائق بأصبعه :
- أوقف الحافلة .
ينفذ السائق الأمر بلا تردد ربما يكون مسلحاً أو رجل نافذاً في السلطات العديدة في هذه المناطقة النائية التي تبرز فيها السلطة حالة شخصية مزاجية نفعية تتصل بالعنف والارهاب .
بعد حوار غريب برر السائق خط سيره وأبرز له حسن نيته أنه يمكن أن ينزل في نقطة قريبة جداً من مصوع طالما كانت هي مقصده، تحت تضرعات وإلحاح الراكب عاد المسافر لمقعده يهدد ويتوعد ويسبب كل من في الأرض والسماء ثم عادت الحافلة لسيرها المتذبذب بين الحركة والسكون عند الحواجز .

___________________________________________

في اديس بحث موسى عن ابوامنة وباربرا بروح الصبر وطول الأناة لأنه أصبح يدرك ما جرى في جبال المالح الغربية من تقلبات الزمان ويفهم لِاي عمق أن الأمور لا تسير هنا حسب المنطق أو أنها لا تجري كما يشتهي كان يتوقع رحلة سريعة يوثق فيها هو وسارا شهادتهما عن باربرا وابوامنة ثم يلتقي بهما فيعودا إدراجهما كانت الصدمة عظيمة عندما إستحال عليهما مقابلة الضابط المسئول عن قضية باربرا وابوامنة تفاجأ عندما لقاءهما بكثيرين يبحثون عن ذويهم لذات الأسباب التي جاءت بهما إلى اديس. أنصت موسى لشكواهم باهتمام بالغ بعد أن أدلى هو وسارا بشهادتيهما كان لابد من لقاء ابوامنة وزوجته . كان ذوى المحجوزين في اديس جلوساً تحت شمس ساطعة يسيطر عليهم الاشمئزاز والضجر من تحرشات الحراس، شيئاً فشيء تحول الاشمئزاز إلى حقد، لأنهم يفصلون بينهم وبين ذويهم . كان يمكن أن تحدث معركة لولا حادث عرضي غير إتجاه مشاعر الحشود حيث انفجرت أنبوبة غاز في أحد المطاعم المجاورة وبلغ الحريق محطة للوقود فأشعل الحريق السوق كله وتكثفت القوات المسلحة عند مباني المقاطعة التي طارت بعض نوافذها بعد سبعة أيام سمح لزوي المحجوزين من الإقامة الجبرية بمقابلة ذويهم لمدة خمس دقائق في وجود المحامي العام للمقاطعة . عندما التقى موسى وسارا ، ابوامنة وباربرا لم تكن هناك فرصة للشكوى أو إبداء الحزن لأن كل شيء واضحاً لا يحتاج للبكاء على مواثيق جنيف لمعامله الاسرى وضحايا الحروب . قال ابوامنة أنه لم يتوقع كل الذي عايشه وشاهده وسمعه ولمسه .
ردت سارا بهدوء :
- ليست الحياة عادلة تماماً .
تناول موسى الحديث مخاطباً ابو امنة .
- ما هي قضيتكم بالضبط ؟
- إتهام بعد التعاون مع الاجانب وتحريض السكان وتوزيع مواد تموينية دون استشارة السلطات المحلية التي تفضل أن تذهب للجنود.
- والذي ينبغي أن يحدث في ظل الحروب والإرهاب ؟
- لاشيء غير الذي حدث
- ما الذي عليك فعله حتى نكمل إجراءات إطلاق سراحكما
- لا شيء غير الصبر وانتظار الفرج.
كان صوت الحارس يعلن إنتهاء المقابلة التي نجحت في التخفيف عن باربرا وابوامنة وشرحت لموسى ما يحدث بالضبط
عاد موسى وسارا إلى مسمار وهما يعرفان ماذا يفعلان لمساندة باربرا وابو امنة فتحت الضغط الشعبي تم ترحيل ابوامنة وباربرا ضمن مجموعة كبيرة من الذين فرضت عليهم الإقامة الجبرية في اديس إلى مسمار فبعد إعادة التحقيق في القضية أُطلق ساح باربرا وابوامنة بعد أن أُسقطت عنهم التهم الموجه إليهم بعد أن أكد القاضي إنسانية وطوعية نشاطهما . برغم قرار المحكمة ظل ابوامنة وباربرا تحت الإقامة الجبرية في منزل الاسرة إلى حين إكمال الفحص الأمني الذي تجريه السلطات الأمنية المحلية ، في ظهر أحد الأيام رن جرس الهاتف في منزل الدكتور موسى فرفعت سماعة الهاتف سارا :
- أهلاً وسهلاً هذا منزل الاستاذ موسى
- ليّ أن أتحدث للاستاذ؟
- الدكتور في الجامعة الآن هل من خدمة يمكن أن أقوم بها نيابة عنه أنا زوجته ؟
- أنا صديق قديم يهمني أن يعلم أن ابو امنة وزوجته رفعت عنهما الاقامة الجبرية
- هل أنت متأكد مما تقول
- كل التأكيد
- كيف عرفتا
- لقد إلتقيتهما بعد أن تجاوزا البوابات الأمنية ولولا بعض الصعوبات لكنت حملت الخبر للاسناذ موسى
- من أنت؟
لا يهم المهم أن يعلم استاذ موسى أن هناك فاعل خير قد أزف لكم البشرى برفع الحظر عن حركة ابوامنة وزوجته
- أطمئن استاذ موسى سيكون على علم وشاكر لتعاونك ودعمك واهتمامك.
___________________________________________


الانجاب
تقطعت انفاس الاستاذ موسى في صدره وهو يلاحق مكاتب الحكومات المحلية من اجل الخدمات والارتقاء بمسمار فقد انتخب رئيس لجنة تطوير مسمار هذا الالتزام جعله يشعر بحماسة عظيمة، ومع ذلك فان الاشياء لم تسير كما يريد رغم اندفاع الاستاذ القوي فانه كان يحس بانه عاجز عن تحقيق كل احلامه في معالجة ازمات البلدة الصغيرة رغم ذلك لم يستسلم فقد كان يشعر ان قوة مستقلة عنه تجره جرا للاندغام في ازمات مسمار المعقدة فقد اعتبرها قضية حياته كان حلمه ان يوحد بين صورة المدينه في الواقع ورسمها الحاضر املا في مخيلته صحيح انه كان يعرف استحالة اجراء تغيير كبير في وقت محدود مع ذلك نستطيع ان نؤكد انه استطاع ان يشد معظم طاقات الشباب الى مشروعات تطوير مسمار ولو اكتفى بهذا القدر يكون قد حقق نصر عظيما من اجل المدينة التي لم تعرف من قبل العمل الطوعي والاندية الاجتماعية ومشروعات الترفيه العام . لم يشعر الاستاذ موسى بالرضا عن نفسه فقد افترض ان الجميع متواطئون عليه وانه مازال واقفا لايقبل بالهزيمة،لا... انه لم يهزم... انه يحقق انجازات عظيمة...ذلك شىء يحسه... هو مستعد لان يصارع من اجل مسمار... الواضح انه متحمس اكثر من الطبيعي يحلم بتحقيق نتائج سريعة انه كان على يقين منه انه لو اعطى لجنة تطوير مسمار كل وقته فان النتائج ستكون افضل فالذي دار في نفسه غير ذلك هو " لو اعطى الجميع وقتهم للجنه كما يفعل هو لهزم المستحيل" فالخطر واضح من اعتقاده هذا اللجنة لاتقوم بعملها وانه لابد ان يضاعف جهد لانجاز مهام عادية كان يمكن ان يجيزها غيره بقليل من الجهد والتوتر... شعوره بان واجبه يحتم عليه متابعة كل شىء ومراعاة التفاصيل المملة جعلته يهمل متابعته لاسرته الصغيرة فقد كانت سارا تعاني من الوحدة رغم انه قربها وقد صارحته بذلك فجمدت الكلمات على لسانه، انب نفسه اشد التانيب عندما فاجئته بما يدور في نفسها فسرعان ما اتهم نفسه بالحقارة والوضاعة الانانية واعترف بانه اعطى كل وقته للجنة وانه سوف يعود يهتم بها ويعطي البيت كل وقته ولكن هذا الاعتراف وهذا الالتزام لايقدم ولا يؤخر فانه سرعان ما يعود الى الانشغال بامور مسمار ويهمل سارا التي تعودت منه طوال عقود ان تكون شغله الشاغل فالان انه يحس احساسا عميقا بانه لابد في هذه الفتره من حياته ان يقدم لمسمار كل طاقته ، كان يحس ايضا بانه مستعد لان يدفع ثمن اغترابه وهجرته بمضاعفة جهوده وتبديل احداثيات واقع الحياة والعمل في مسمار.
وجدت سارا نفسها قادره على مراجعة تفاصيل حياتها فادركت انها امضت عمرها تصارع الحياة منذ ان اتمت الرابعة عشرة حين مات ابوها فهي مازالت تعتقد ان طفولتها كانت اسعد فترات حياتها. لقد بدات طفولتها في ضاحية صغيرة قرب طوكر تعيش حياة هادئة سعيدة كانت صبية شديدة النشاط كثيرة الحركة تقضي وقتها راكضة بين الحقول لم تكن مركز اهتمام الاسرة فقد كان يتفق لها ان تخرج من البيت في ساعة مبكرة من الصباح فتمضي للجبال او الحقول تذهب لتناجي الطبيعة فعندما تعودللبيت كانوا يؤنبونها ويقرعونها وهي لاتهتم ولاتبالي ولكن الاسرة غادرت الريف وهي مازالت طفلة في الثانية عشر الى مسمار شعرت بالحزن ابان الاستعداد الى السفر!ما اشد الحزن الذي شعرت به! وما اكثر مازرفت من دموع حين ودعت كل ما كان حبيبا الى قلبها! ارتمت على صدر ابيها متضرعة مسترجية ن يتركها في القرية بعض الوقت.غضب منها ابوها ، واخذت امها تبكي واكدت لها ضرورة السفر الذي لامناص منه من اجل الاعمال والرزق والعيش، انتقلت الى مسمار ليعمل ابوها في التنقيب عن الذهب في الجبال، مات ابوها بعد فترة وتدهورت احوالهم ولقيت في تلك الفترة من العناء مالقيت حتى تتكيف مع حياة اليتم وفقدان الاب العائل فاصبحت امها تعمل و لاتملك من وقتها دقيقة واحدة ونسيتها هي نسيانا تاما، ما اشد الحزن الذي اعتراها حين نهضت من نومها بعد الليلة الاولى التي قضتها في منزلهم الجديد! فالبيت صغير خشبي نوافده تطل على حائط لونه اصفر باهت فالمنطقة قذرة تفوح منها كافة الروائح النتنة ففي ذلك المنزل يرين الضجر وتسود الكابة من الصباح الى المساء. لم يكن لهم اصدقاء او اقرباء، وكثيرا ما كان يجيئهم زوار لاعمال. كان هؤلاء الزوار يحملون الى المنزل شجارا وصياحا وتهورا، كانت الام لاتحدثها عن طبيعة هؤلاء الزوار لكن الام بعد كل زياره لهم تصبح مكفهرة الوجه سريعة الغضب ثم تدخل في سجن من الصمت الطوبل . كانت سارا تجلس في ركن مع كتاب من الكتب المدرسية، لاتتحرك مخافة ان تلفت الانتباه اذا تحركت. نجاحها في امتحانات الشهاده المتوسطة اهلها للدخول لمدرسة داخلية، شعرت بصعوبة في التكيف مع اوضاع المدرسة كان كل شىء معاديا باردا، فالمعلمات وظيفتهن الصياح طوال الوقت، والبنات لاينقطعن عن السخريةمنها والاستهزاء بها . تشكلت سارا في تلك الاجواء متوحشة شديدة التوحش . تعلمت في المدرسة كل شىء يجري على نظام دقيق ومواعيد ثابته جامدة ظلت لشهور تبكي طوال الليل كانت تجىء امها في يوم الخميس لتاخذها للمنزل فعلت ذلك حتى انتقالها للدراسة الجامعية حيث رحلت الام بعد ان اكدت لابنتها ان الحياة في هذا العالم تحتاج قدر عال من الصبر وتحمل المشاق فعندما توفت امها كانت قد بلغت العشرين من عمرها على ابواب التخرج من كلية الاقتصاد ترسخت في ذهنها وصيت امها بضرورة مواصلة النجاح وان لاتصبح "بقرة" تلد الاطفال الذين هم كارثة للفقراء يبدو ان ايام الفقر والاملاق التي عاشتها سارا والالم الذي تحملته في المحافظة على حياتها خلقت جميعها موقفا نفسيا معاديا للانجاب قابع في قرارة نفسها لاتشعر به رغم انها تحاور نفسها قاتلة:(.. مازالت أناجي نفسي لأواسيها لعدم إنجابي من يشاركني قلقي نفسي فالاطفال مخرجي من عزلتي ، لا أحد يستطيع ان يهدم كهف عزلتي إلا طفل يخرج من أحشائي ويشاركني كل شيء يجعل لحياتي طعم ولون.. طال مطلبي للانجاب كرغبة عميقة في وجداني وهي تعني توقي للأمومة باعتبارها هدف حياتي ، هي كل أمنياتي التي لا أتجرأ الإفصاح بها فهي ليست سوى حلم فأنا الان صرت لا احتمل الوحدة واراني أكبر في السن وتضيق فرصتي في إنجاب من يسمع حديثي لقد قبلت حظي وما زلت أحيا بخيالي انتظاراً لحدوث معجزة ميلاد طفل يرثني واورثه جيناتي . لم أعد أميز بين ما هو واقعي وما هو خيالي إذا كنت أنا نفسي غير قادرة على التميز بين ما عشته وما الم بي من انطباعات فإن ميلاد طفل سيقوي تجربتي و ويشحذ خيالي ففي إثناء ترحالي تجمعت عندي كل لحظات السعادة والشقاء التي أود أن احكيها لشخص يخرج مني، يشبهني تماماً ولا يكرر أخطائي ويستوعب نجاحاتي )
كان ذلك ما يدور في داخل سارا رغبة جامحة للامومة منطلقة من عقلها فروحها ونفسها تمانعان دون ان تدري بحكم خلفية ظروف التنشئة التي مرت بها والمعاناة التي عاشتها امها في رعايتها فاللا وعي ينهاض الانجاب بحكم فترات الالم التي مرت بها فالمشكلة التي كانت تحول دون انجاب سارا لاتتعلق بوضعها الجسماني كما اكد لها الاطباء جاهزيتها للانجاب فهي شكلت موقفا وجدانيا رافضا للاطفال والارهاق المصاحب لهم هذه القضية الروحية النفسية لاتحل بالمواعظ والارشاد وابداء الراي او اسداء النصائح بل تحتاج لمراجعة ذاتية تتصل بمعالجة الوضع اليائس في دواخلها الذي يتلون بالوان حية من الخوف من المستقبل المجهول وتهاويل صارخة من مصير الطفل ، انها تحتاج البرهنة لنفسها ان حياة اي شخص يولد على الارض ليست رهينة بحياة ومصير والديه فالحقيقة ان سارا كانت تعاني مازقا يتصل يتهويل معاناة الولادة والرضاعة والتربية والتنشئة ولا احد يستطيع ان يناقش معها المكبوت في نفسها الا نفسها حتى هي نفسها لم تناقش جاهزيتها للامومة واستعدادها لكفالة طفل ... الحق الحق اقول لكم عندما راجعت سارا حياتها شعرت بحزن رهيب بل احست ان قلبها يكاد ينخلع من مكانه لحظة ادراكها انها عاشت حياة مؤلم قاسية لاترغب في ان يعيشها غيرها لاسيما من تحب اي الذين يخرجوا منها.. صحيح احست بكآبة ثقيلة تجسم على صدرها لانها في اعماقها لاترغب في الاطفال خشيت ارهاقهم بالالم والمعاناة .. راجعت حالتها التي بدت لها كنبوءة لاتفسير ولاتعليل لها اقعدت بها فقررت التحرر منها . شرحت سارا حالتها للطبيب المشرف عليها فنصحها بتغيير تفكيرها ومراجعة مفاهيمها الروحية والان سارا في الاسبوع العاشر من توقف اخر "طمس" الحقيقة الان في المشفى هي تتعرض لتجربة الانتظار فكان عليها إحتمال إنتظار نتائج الفحوصات التي خضعت لها مؤخراً بعد انقطاع دورة"الطمس" الشهرية"، فطبيبها المعالج كان يعتقد في إحتمال أن رحمها يحمل جنيناً لهذا أجرى لها تلك الفحوصات المعقدة ليتأكد من فرضيته التي افترضها ،سارا قامت بالفحوصات دون مشاعر بالرجاء في الانجاب قامت بالفحوصات كإجراء روتيني كانت المفاجأة لها وللطبيب بعد بأن أظهرت نتائج العينة الأولى بانها حامل فقد أكدت الفحوصات ايجابية الحمل لهذا كان على سارا الانتظار بضعة ايام بمشاعر جديدة ايجابية تراجع نفسهاحتى لاتصاب بالخذلان وخيبة الامل التي اعتادت عليها في فحوصات اختبار الحمل طوال سنوات . لم تشارك سارا موسى برأي الطبيب في البداية اي انها حامل لأنه كان منشغلاً بقضية ابوامنة اولا وقضايا لجنة تطوير مسمار المتشعبة ثانيا. المهم ظلت سارا تتكتم على خبر ما في رحمها خشية خيبة الأمل عندما يظهر انه حمل كاذب كما اعتقدت.
بعد مضي الشهور الاربعة الأولى كان موسى قد تجاوز أزمة ابوامنة وباربرا وشعر بالملل من العمل الاجتماعي في تطوير مسمار الذي عادة كاي كعمل طوعي وتائرة بطيئة فإنتبه تماماً للتبدل في سلوك سارا التي لم يسعها الاستمرار في كتمان خبر مهم كان ينتظره موسى ايضا منذ إرتباطهما . نسي موسى معاتبة سارا على كتمانها الخبر السار في غمرة فرحته بتحقيق حلمه , أمضى موسى الليالي ساهراً على سارا يحكي لها الحكايات ويؤانسها بالطرف القديمة والحديثة لأنه يعتقد بأن الحالة النفسية للأم في أشهر الحمل المختلفة تنعكس على سلوك المولود مستقبلاً . الحقيقة التي لا جدال حولها أن موسى تجاوز أحزانه وكل المشكلات التي كانت تسيطر عليه فأضحى همه إنتظار مولوده المنتظر لعقود في أحلامه حتى اصابه اليائس وترك الامر للاقدار. كان موسى يذهب مع سارا لمعارض التسوق لشراء ضروريات الطفل والولادة فقد أعدا له غرفه مجهزة من كل شيء فقد اهتما بكل شيء بعد أن ظهر الحمل واقعاً لا تخطئه أعين الناظرين استولت على سارا رغبة عارمة في مشاركة كل من حولها بأسباب الرجاء الذي فيها كانت تفعل ذلك بالكلام وأيضاً من خلال إهتمامها بمظهرها فالحق يقال :
إن سارا غطت وجهها بنضرة خاصة وحيوية ظاهرة لم تعرف بها من قبل، شهد بذلك كل من يعرفها وكانت تؤكد أنها وجدت شهوة قلبها وأنها تنتظر إكتمال تحقق أمنيتها . كان موسى يعتقد أن إدراك السعادة التي يرجوها هو معجزة من معجزات العصر بعد أن فقد الرجاء لذلك شاركه أقاربه وأحبائه على طول وعرض ارض جبال المالح . ففي الشهر السابع أعد موسى حفلاً شاركه فيه الأهل والأصدقاء وبعض خواصه من البجا والتقراي والارومو والامهرا. ظل موسى تحت سلطان قهر القلق طوال أشهر حمل سارا ففي لحظة الانتقال لمستشفى الولادة إستبد به القلق وكاد أن يفقد أعصابه لولا أنه يدرك أثر ذلك على سارا فمصدر قلقه أن سارا تحمل في رحمها توأم ولا خيار سوى العملية القيصرية ذلك لإنتفاء إحتمال الولادة الطبيعية . كانت سارا في غرفة العمليات تستعد لإجراء العملية برغم ذلك تتبادل النكات القفاشات مع باربرا التي كانت حاضرة بخبرتها الطبية. وفي خارج غرفة العمليات كان موسى مركزاً على الباب الرئيسي للغرفة تركيزاً لم يعهده في نفسه فبعد نصف ساعة خرج الطبيب في وجهه البشر والسرور دون أن يقول شيء النسوة اطلقن زغاريدالفرح ثم نطق الطبييب كلمته التي انتظرها موسى منذ عقود طويلة :
- مبروك مبروك رزقتم بتوأم
- شكراً لله، وشكراً لك ولكن ما هو حال سارا
- في أحسن حال
- هل ليّ أن اراها
- بعد نصف ساعة تستطيع أن ترى سارا أما الطفلان فستجرى لهما عملية عاجلة فهما ملتصقان من الأطراف ولابد من انهاء الالتصاق الان وهم في هذا العمر لكي تنمو الاعضاء صحيحة .
- هل عملية الفصل خطرة على حياتهما؟
- لا خطورة ابدا، العلم حل الصعوبات ولم تعد هناك مشكلة فنسبة نجاح العملية ألف في المية .
(.. هكذا بدء وهج الشمس واضحاً في نظرات موسى كما بدت له مسمار مختلفة عن مسمار القديمة قبل ميلاد ولديه ـ انه لاول مرة يشعر بروح مسمار التي عاد إليها من دمشق مشحونا بالرغبات والاماني إذا أنه وجد لأول مره مسمار التي أنجب فيها أولاده من صلبه. هنا تيقن موسى أن الرجاء قادر على تغير التاريخ واعادة صياغة مفردات الكون . فالان هو يتنفس هواء عليل نقي صافي من التوتر والارتباك ترك الانزعاج من عدم اهتمام الاعضاء في لجنة تطوير مسمار بالمواعيد. على كل حال لا ارى ضرورة للتكرار فلن اوغل في التفاصيل فمن بديهيات واقع حياة استاذ موسى أن ميلاد التوأم فجر في أعماقه فجراً صادقاً أنهى له والى الابد التوهان في غياهب انتظار الأمال والأماني المستحيلة ليطل التفائل في الإقبال على الحياة بقلبٍ صادقٍ وضميرٍ نقي مؤمن بالفعل المباشر الذي هو عنصر تحقق الأمان وتجاوز المخاوف التي مصدرها "احساس خفي بعد الجدوى).
تكيف موسى وسارا مع هيا ومسمار وتجاوزا المعاناة القديمة الممثلة في صعوبات الإندماج في ارضهم التي تبدلت وتغيرت كما تحررت سارا والى الابد من الخوف من المستقبل واصبحت تؤمن بالمثل الشعبي" عايرها واديها سوط" ....... صراحة لم تعد تهمهما تبدلات وتحولات ساحل غرب بحر المالح او اي مكان من العالم فاصبح اعتقادهما ان التطور والتغيير الدوري هما إيقاع هيا ومسمار فكرسا جهدهما لتفاصيل الأسرة التي أخذت في التتمدد والاتتساع كما وكيفا في إتجاهات دائرية غير مكرره لتناقضات عشيرتهم البجا ومخاوفهم وهواجسهم من العنف المستوطن كالدرن في المكان.. يبدو ليّ ان موسى وسارا وجدا في العودة الى مسمار جسر العبور من قهر التوتر الى رحاب السلام والتعايش المستقر .





نوفمبر 2007
وادي سيدنا ـ أم درمان

حاتم بابكر عوض الكريم